وأين منابذة الوعّاظ، من جهابذة الألفاظ، بل أين أشعار (1) الكراسي، من قول (2):
= ما في وقوفك ساعة من باس = ...
(الكامل)
والعبد يسأل الأمراء عنه، ليتلطّف في ارتجاع ما انتزع منه، فقال: اذهب وإيتني بيقين، أدفع عنك بوادر الظّنون، وثاور (3) في النّصرة وانتصح واستعن بقومك وصح: (تام البسيط)
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم (4)
وما انتفاع أخي الدّنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
وقد كان بلغني أنّه امتدح في هذا العام، شكرا لبعض سوابغ الأنعام، بقطعة تليق بالحال، وتأنف من تلفيق المحال، أنشدت من أمداحها بعد الثناء على افتتاحها (5):
كيف لا آمن العدى وكريم ال ... ملك لي من نوائب الدّهر جار
(تام الخفيف) ماجد حلّ في سماء المعالي ... غاية لا تنالها الأبصار
فإذا رامت الجياد مداه ... صدّها عنه عثير وعثار (6)
أريحيّ إذا اجتدته الأماني ... صغرت عن نداه وهي كبار
تتعادى من فيض راحته السّح ... ب وتمتار من يديه البحار (7)
__________
(1) ج: الأشعار، وهو غلط.
ولعله يقصد بأشعار الكراسي: الوعظ الذي يلقى فوق المنابر.
(2) صدر مطلع قصيدة لأبي تمام سبق أن خرجناها في الصفحة 284الحاشية 6وهو في الوافي بالوفيات 5/ 117 وإدراك الأماني 13/ 51.
(3) ثاوره مثاورة وثوارا: واثبه وساوره. (اللسان: ثور).
(4) البيتان للمتنبي من قصيدة في عتاب سيف الدولة مطلعها:
واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم
وهي في ديوانه 3/ 374362، والبيتان في إدراك الأماني 13/ 51.
(5) ج: لفتاحها، وهو غلط.
والأبيات في إدراك الأماني 13/ 5251.
(6) العثير: العجاج الساطع. والعثار: مصدر عثر بمعنى كبا وسقط (اللسان: عثر)
(7) ج: وتمتر، وهو غلط.
تتعادى: تتباعد. تمتار: تجلب الطّعام. (القاموس: عدا، الميرة).(2/185)
وترى ماله بعين جواد ... لم يفتها نزاهة واحتقار
عجب النّاس إذ رأوا لك صدرا ... يسع الأرض كيف تحويه دار
أيّ دار تغير فيها المعالي ... حلبة فهي للعلى مضمار
كل يوم بجانبيها من العل ... م بحار لفيضها تيّار
ومناجيد في مناهبة الفض ... ل إذا ما تناظروا أنظار
وربيع من ربعه زاهرات الرّ ... وض فيها الأخماس والأعشار
فلآي القرآن فيها مجال ... يقتضيه الإعذار والإنذار
والتّقى والأناة والمجد والسّؤ ... دد والحلم والنّهى والوقار
مجلس فيه من مناقبك الغرّ ... جلال عن غيره وازورار
نزل الفضل منك منزلة الأه ... ل تحامي عن سرحه وتغار
قد غرست المعروف في كلّ كفّ ... فاجتن الحمد يا هناك الثّمار (1)
ومن مدح بهذا الشعر النفيس، فما حاجته إلى المدح البئيس، ومن بنى بهذه الأبكار، نبا سمعه عن هذه الأذكار: (تام البسيط)
والحمد لا يشترى إلّا له ثمن ... ممّا يضنّ به الأقوام معلوم (2)
فقلت: يا أبا تمام، إنّ سيدنا الرئيس قد أصبح له مجلس جعله موسما لأعلاق (3)
الثّناء، وميسما بأعناق السّناء، وسوقا لكلّ شاكر حامد، محفوفا يبيع المناقب فيه والمحامد، مجلوبا إليه نفائس الأفهام، مجلوّا عليه عرائس الأقلام، وليس بهذا
__________
(1) هناك الثّمار مخفف هنأتك الثّمار أي كانت هنيئا بغير تعب ولا مشقة (اللسان: هنأ).
(2) البيت لعلقمة بن عبدة من قصيدة في الفخر مطلعها:
هل علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
وهي في ديوانه 7750والمفضليات 404396والبيت في إدراك الأماني 13/ 52.
(3) ج: علاق، وهو غلط، وقد ترك الناسخ بياضا مكان الألف.(2/186)
المجلس ولا فيه، إلّا من أوجب الشّكر لصاحبه على فيه، فكلّهم قد أغناه عن الدّهر وأفقره (1) إلى المسألة (2) (بالقهر) ولما كان المنظوم أنبه ذكرا والموزون أنبل (3)
شكرا، وما كلّ (4) أحد يسلكه النظم سبيله، (5) {= وَمََا عَلَّمْنََاهُ الشِّعْرَ وَمََا يَنْبَغِي لَهُ =}
عدل المقلّ إلى المكثر، وعوّل المحتاج على الموسر، ورجع إليك في النّفقة وما ينقص مال من صدقة (6):
وإنّ امرأ قد ضنّ عنّي بمنطق ... يسدّ به فقر امريء لضنين (7)
فقال: اسمع ما لا يدفع، إذا كان الأمر على ما ذكرت، ووقع اعترافي، بما أنكرت، فلم وقع هذا الذّنب على بختي؟ وكيف تستلب ملابس تحتي؟ ولم خصّني بإدالة مصوني، وغصّني بتجفيف غصوني، وهلّا تصدّى بالنّهب لمدائح ابني وهب (8)، وهما غماما الزّمن الجديب، وهماما اليوم العصيب، وما هذا الانفراد ببناتي، والحصاد لناضر نباتي، والانقضاض على قصائدي، والاقتناص من حبائل مصائدي: (تام الخفيف)
سرقات منّي خصوصا فهلّا ... من عدوّ أو صاحب أو جار (9)
وألا عدل عن شومي (10)، إلى شعر ابن الرومي، وهلّا كان يجتري، بمثل هذا
__________
(1) ج: وفقره، وهو غلط.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) ج: بياض عوض كلمة (انبل).
(4) ج: كان، وهو غلط.
(5) سورة يس 36/ 69.
(6) إشارة إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (ما نقصت صدقة من مال) رياض الصالحين 299.
(7) البيت لدعبل بن علي الخزاعي من مقطعة في بيتين أولها:
خليليّ ماذا أرتجي من غد امريء ... طوى الكشح عنّي اليوم وهو مكين
وهي في ديوانه 191وزهر الآداب 2/ 696ومعجم الأدباء 11/ 111ونسبت في الأغاني 20/ 122لأبيه، والبيت في إدراك الأماني 13/ 53.
(8) هما أبو أيوب سليمان بن وهب وزير المهتدي الخليفة العباسي، وأخوه الحسن بن وهب كاتب محمد بن عبد الملك الزيات.
انظر الوفيات 2/ 418415.
(9) ج: وصاحب، وهو غلط.
والبيت في الوافي بالوفيات 5/ 118وإدراك الأماني 13/ 53.
(10) أي شؤمي: خفّفه للسّجع.(2/187)
على البحتري، وكيف آثر قربي، على القرب من المتنبي، وليته قنع ورضي، بشعر الشريف الرّضي، أو يستدرك ما فاته، بديوان ابن نباته، أو انتحل الاختيار، من أشعار مهيار، إلى مثل هؤلاء الفضلاء، أيوجب عليّ الزكاة، وليس في الشعر نصاب، ويقرّر عليّ أمر الزكاة، وليس على فكري اغتصاب: (تام المتقارب)
وإن أتصدّق به حسبة ... فإنّ المساكين أولى به (1)
فقلت: إنّ هذا الرجل لم يكن للقريض بلصّ، ولكنه قريب عهد بحمص، وكان أقام بها جامح العنان، طامح اللّسان، لو أضاف قلادة الجوزاء إليه، لم يجد من ينكر عليه، فهو يقول ما شا (2) من غير أن يتحاشى: (تام البسيط)
لأنّهم أهل حمص لا عقول لهم ... بهائم أفرغوا في قالب النّاس (1)
ولم يزل كذلك حتى انتدب له من سراة جندها من بحث عنه ونقّب، (3) {(فَخَرَجَ مِنْهََا خََائِفاً يَتَرَقَّبُ)} فلما ورد دمشق، رمى في أعراضها (4) بذلك الرّشق: (الطويل)
وما يستوي المصران حمص وجلّق ... ولا حصن جيرون بها والقبنجك (5)
فكانت غادة مصر تخدعه، وسادة دمشق تردعه، حتى كوشف وقوشف (6)، ورجع به القهقرى، ودفع في صدره من ورا، وقيل له: أين يذهب بك؟ وما هذه الشّقشقة في غببك (7)؟ إلى مجلس هذا الشريف قدره، المنيف صدره، الغالي
__________
(1) البيت في الوافي بالوفيات 5/ 118وإدراك الأماني 13/ 53.
(2) أصلها شاء، ولكنه السجع!
(3) سورة القصص 28/ 21.
(4) ج، والوافي بالوفيات 5/ 118: أغراضها.
(5) ج: والقبنحك: ش: والقبنجق. وفي الوافي بالوفيات 5/ 118: والقنيحك، وفي إدراك الأماني 13/ 53، والقبنجك.
جلّق هي دمشق أو غوطتها (القاموس: الجوالق). حصن جيرون في دمشق. معجم البلدان 2/ 199القبنجك: لم أعثر على هذا المكان في المظان.
والبيت في الوافي بالوفيات 5/ 118وإدراك الأماني 13/ 53.
(6) قوشف: دفع إلى حياة القشف أي رثاثة الهيئة وضيق العيش. (اللسان: قشف).
(7) أب ج ش: عيبك، وهو غلط، والتصحيح من الوافي بالوفيات 5/ 118.
والشّقشقة: جلدة حمراء كالرّئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج وهدر. الغبب: الجلد الذي تحت الحنك الأسفل وهو ما تغضّن من جلد منبت العثنون الأسفل. (اللسان: شقق، غبب) ويقصد ابن القيسراني بذلك أن هذا الرجل يتشدق في الكلام كالبعير الهائج الذي يهدر.(2/188)
ذكره، العالي شكره، تبهرج لبائس الأيام، وتبرز عرائس الكلام، وتطرّي من القوافي ما خلق ورثّ، وتورّي (1) منها ما أنهكه العثّ (2). ولم يزل يضطرّك كثرة التّوبيخ، وقلة النّاصر والصريخ إلى أن أشهد على نفسه منذ ليال بالبراءة من أناشيده الخوالي والتّوالي، وأذعن للإقرار، بما دافعت عنه أيدي الإنكار: (تام السريع)
ومذهب ما زال مستقبحا ... في الحرب أن يقتل مستسلم (3)
وأزيدك، فيما أفيدك، أنّ هذا الرّجل من الانحراف، عن شعرك على شفا، وكأنك به عنك قد انكفا، لعلمه أنه أخلق (4) منه ما جدّد، وإلى متى هذا الكعك المردد، وقد كان طالبني منذ أيام بإعارة شعر ابن المعتز، مطالبة مضطرّ إليه ملتزّ (5)، وقد استرحت من شرّه (6) وضيره، والسّعيد من كفي بغيره: (تام الخفيف)
ربّ أمر أتاك لا تحمد الفعّ ... ال فيه وتحمد الأفعال (7)
فقال: إن كان الأمر على ما شرحت، فقد أشرت بالرأي ونصحت، ولكن متى إنجاز هذا الوعد، والخلف منوط بخلق هذا الوغد، فإنه يحول وأنت تعرف ما يلي (8) {«فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ»} ولو أمكن إقامة هذا الأمر المشاد، بحضرة ابن أبي دؤاد (9)، لبرئت عند الجمهور ساحتي، وعدت من رحمة الله إلى مستقرّ راحتي، ولكن دون الوصول إلى الحاكم عقبة كؤود، ولا حاجة بنا إلى الاضطرار بالشهود وإذ قد ضمنت عنه ما ضمنت، وأمّنت منه (10) (عليّ) ما أمّنت، فلي حاجة
__________
(1) ج ش: وتروى، وهو غلط.
(2) العثّ: السوسة أو الأرضة التي تلحس الصّوف وتأكل الجلود (اللسان: عثث).
(3) البيت في الوافي بالوفيات 5/ 119وإدراك الأماني 13/ 54.
(4) أب ج ش: خلق، وهو غلط والتصحيح من الوافي بالوفيات 5/ 119.
(5) ملتزّ أي ملحّ في طلبه ملازم له. (اللسان لزز).
(6) أب ج ش: شعره، وهو غلط، والتصحيح من الوافي بالوفيات 5/ 119.
(7) البيت في الوافي بالوفيات 5/ 119وإدراك الأماني 13/ 54.
(8) سورة النساء 4/ 59.
(9) سبق التعريف به في الصفحة 486الحاشية 1.
(10) ما بين القوسين ساقط من ح.(2/189)
إليك، (1) {«وَمََا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ»،} وهو أن تعدل بنا في القضية، إلى الحالة المرضية، وتفضّل عليّ، وتسديها يدا إليّ، وتسفر (2) لي في إنشاد أبيات مدحت بها هذا الرئيس، قلتها خدمة له وقربة إليه. لعلمي بنفاق الأدب عنده وعليه، فإذا هززته بها هزّ الحسام، وانثالت عليك من البرّ أياديه الجسام، اقترح عليه أحسن الله إليه أن تكون الجائزة خروج الأمر العالي بإحضار الخصم، إلى مجلس الحكم، وأن يوكّل به من أجلاد جلاوزته السّاخرة (3)، من يسيّره معي إلى الدار الآخرة، لأبرأ بإقراره لي عند قاضي القضاة، بما شهدت به هذه المقاضاة. وليسلم عند الخلفاء الراشدين عرضي، ويحسن على الله تعالى عرضي (4) {«وَمَنْ عََادَ فَيَنْتَقِمُ اللََّهُ مِنْهُ، وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ».} فضمنت له عن سيدنا ما اشتهى، وانتهيت من اقتراحه (5)
إلى حيث انتهى، ولم يزل يكرّر عليّ أبياته حتى وعيتها وربّ سائل ما هي، وقائل ها هي (6): (تام المنسرح).
يا معمل اليعملات في ظعنه ... سرى وسيرا محالفي قرنه (7)
يجوز جوز الفلا به أملي ... جاف جفون الوسنان عن وسنه (8)
لا يمتطي ساكن المطيّ ولا ... يبيت طيف الخيال من سكنه (9)
__________
(1) سورة القصص 28/ 27.
(2) سفر له يسفر أي كان له سفيرا. (اللسان: سفر)، ويقصد أنه طلب منه أن يتوسّط له عند هذا الرئيس لينشده مدحه.
(3) الساخرة: الذين يكلّفون الناس ما لا يريدون ويقهرونهم (القاموس: سخر).
(4) سورة المائدة 5/ 95.
(5) أب ج: أفراحه. ش: أفراخه، وكلاهما غلط والتصحيح من الوافي بالوفيات 5/ 120.
(6) الأبيات في الوافي بالوفيات 5/ 121120وإدراك الأماني 13/ 5655.
(7) اليعملات جمع يعملة وهي الناقة السريعة المطبوعة على العمل. القرن: الجمل المقرون بآخر. (اللسان: عمل، قرن).
(8) ج: عن سكنه. (سكنه) غلط.
ومعنى البيت أن أمله يجوز به كما يجوز المرء بالفلاة المخيفة فيجفوه النوم.
(9) ومعنى البيت أنه لا يركب إلّا المطايا الجيدة السريعة ولا يشغله طيف الحبيبة ويقصد بذلك أن له همّة عالية فلا تشغله سفاسف الأمور.(2/190)
إذا استنان السّراب خادعه ... عاد بفيض النّدى على سننه (1)
وإن أجنّ الظّلام مقلته ... أمسى صباح النّجاح من جننه (2)
يبيت عرف الكرام في يده ... ينسيه عزف الجنان في أذنه (3)
إن باعدته الأرزاق قرّبه ... جود ابن عبد الرزّاق من مننه (4)
قف بمحلّ العلى وقل يا كري ... م الملك قول البليغ في لسنه (5)
يا مشتري الفاخر النفيس من ال ... حمد بأغلى العطاء من ثمنه
عمّرت ربع النّدى لرائده ... بعد وقوف الرّجاء في دمنه (6)
ثنى لسان الثّناء نحوك ما ... أحييت من فرضه ومن سننه (7)
خلقا وخلقا تقسّما فكري ... ما بين إحسانه إلى حسنه
عدّ معدّ النّدى لوارده ... لا يحوج المستقي إلى شطنه (8)
فرع سماء تبيت أنجمها ... تلوح لوح الثّمار في غصنه
__________
(1) ش: استاز، أب ح: استنار، وكلاهما غلط، والتصحيح من الوافي بالوفيات 5/ 120.
استنّ السراب استنانا: اضطرب. (اللسان: سنن) ويقصد أن السراب إذا خدعه فإنه يعود محمّلا في طريقه بالعطايا والنعم. أي أنه إذا خاب ظنّه في نيل الجود مرّة فإنه لا يرجع في طريقه إلّا وهو محمّل بفيض الجود.
(2) أجنّ الظلام مقلته: سترها. والجنن جمع جنّة وهي السّترة. (اللسان: جنن) ويقصد أنه إذا ستر الظلام عينيه ومنعه من الرؤية فإن صباح النجاح والفوز يقيه شرّ الظلام والمعنى أنّ النجاح يبعد عنه الظلام ويفتح عينيه ويقيه الشّرور والأحزان.
(3) عرف الكرام: جودهم. الجنان جمع جنّ، والجانّ جمع جنّان. (اللسان: جنن، عرف). ويقصد أن عطايا الأجواد وإكرامهم ينسيه عزف الجنّ، حين اجتيازه الفلوات إلى الممدوح.
(4) أب ج ش هـ و: جودي عبد الرزاق. الوافي بالوفيات: جود ابن عبد الرزاق.
وعبد الرزاق لعله هو الممدوح بهذه القصيدة. ولم أعرف من هو.
المنن جمع منّة وهي الإحسان. (اللسان: منن).
(5) اللّسن: الفصاحة. (اللسان: لسن).
(6) الرائد: الذي يرسل في التماس النّجعة والكلإ. الدّمن جمع دمنة وهي آثار النّاس وما سوّدوا. (اللسان: دمن، رود).
ويقصد أن الممدوح جواد سخيّ فقد عمّر المربع بسخائه لكل من يبتغي جوده بعد أن توقّف الرجاء وكاد اليأس يعمّ الناس.
(7) ثنى لسان الثناء نحوك: أي عطفه (المعجم الوسيط: ثنى) ويقصد أنه اثنى عليه ومدحه.
(8) الماء العدّ: الدائم الذي لا ينقطع. الشّطن: الحبل الذي يستقى به من البئر. (اللسان: شطن، عدد). ويقصد أن الممدوح جواد سخي فهو كالبئر الممتلئة بالماء لا تحوج قاصدها إلى حبل ليستقي منها.(2/191)
إذا اجتنته أيدي العفاة رأت ... أقرب من ظلّه إلى فننه (1)
ينافس الوشي في جلالته ... منه ثياب التّقى على بدنه
يرى بعيني قلب له يقظ ... مستقبل الكائنات من زمنه
أروعه ندبه مهذّبه ... ثاقبه ألمعيّه فطنه (2)
مقتبل الوالدين بورك في ... ميلاده والصّريح من لبنه (3)
فاجتل هذي الرّياستين فقد ... أفصح فيها القريض عن لقنه (4)
واستغن بلبّه عن غانية ... تلهيك عن لهوه وعن ددنه (5)
والبس لباس الثّناء مقتبلا ... يسحب من ذيله ومن ردنه (6)
برد علا ليس من معادنه ... صناع صنعائه ولا عدنه (7)
يأنف أن ينتمي إلى يمن ... الأرض وإن كان من ذرى يمنه (8)
انتهت الرسالة بحمد الله وحسن عونه. وبالله تعالى التوفيق.
__________
(1) العفاة جمع عاف وهم الأضياف وطلّاب المعروف (اللسان: عفا).
والمعنى أنّ طلاب المعروف إذا قصدوا الممدوح لنيل عطاياه وجدوها قريبة سهلة المنال
(2) الأروع من الرجال: الذي يعجبك وجهه وهو الرجل الكريم ذو الجسم والجهارة والفضل. ورجل ندب: خفيف في الحاجة سريع ظريف. الألمعيّ: الذكيّ المتوقّد الحديد اللسان والقلب. (اللسان: روع، لمع، ندب).
(3) اقتبل الرجل إذا كاس بعد حماقة، ورجل مقابل مدابر: محض من أبويه، وقيل كريم الطرفين من قبل أبيه وأمه. لبن صريح: خالص محض. (اللسان: صرح، قبل) ويقصد بمقتبل الوالدين كريم الوالدين.
(4) اجتلى الشيء: نظر إليه. اللّقن: مصدر لقن الشيء يلقنه أي فهمه (اللسان: جلا، لقن) وقد فتح القاف للضرورة الشعرية.
(5) الدّدن: اللهو واللعب. (اللسان: ددن).
(6) الرّدن: مقدّم كمّ القميص. (اللسان: ردن) وقد ضمّ الدال للضرورة الشعرية.
(7) ج: برد على. (على) غلط.
رجل صناع اليد: أي صانع حاذق (اللسان: صنع). صنعائه عدنه يريد صنعاء وعدن المدينتين اليمنيتين المشهورتين، ويقصد أنه يفوق صناع اليمن الحاذقين، ومن المعلوم أن أهل اليمن اشتهروا منذ القدم بمهارتهم في صناعة الثياب والبرود.
(8) من ذرى يمنه: أي من ذرى قبائل اليمن في النسب.(2/192)
97 - الحريري صاحب المقامات (1)
هو الشيخ أبو محمد القاسم بن عليّ بن محمد بن عثمان الحريريّ البصريّ الحرامي (2)، كان إماما في علوم العربية من النحو واللغة وغيرهما متبحّرا (3). في الأدب فصيحا مفوّها. رزق الحظوة التامة في المقامات، لم يلحقه أحد ممّن بعده، وتقدم هو فيها من قبله، وممّن عمل المقامات (4): البديع الهمدانيّ المتقدّم الذّكر (5)، وهو الذي فتح الباب، وعلى منواله نسج الحريريّ لكن (6) (التي) للبديع أربع مائة (7) في الكدية وهي قصار إلى الغاية، تجيء كلّ أربع وخمس منها مثل مقامة الحريريّ، وشمس الدين الجزريّ المعروف بابن الصّيقل (8)، وأبو العباس يحيى بن سعيد النصرانيّ البصريّ (9)، وهي المقامات المعروفة بالمسيحية، وأبو الفرج ابن الجوزي (10) والقاضي الرشيد الآتي ذكره (11)، وهي عشرون مقامة،
__________
(1) (449هـ 515هـ) ترجمته في الأنساب للسمعاني 4/ 9695، 121ونزهة الألباء 381379والمنتظم 9/ 141ومعجم الأدباء 16/ 293261وإنباه الرواة 3/ 2723ومرآة الزمان 8/ 109والوفيات 4/ 6863وتاريخ ابن الوردي 2/ 4947وعيون التواريخ 12/ 139113ومرآة الجنان 3/ 221213والبداية والنهاية 12/ 193191والنجوم الزاهرة 5/ 225وبغية الوعاة 2/ 259257ومعاهد التنصيص 3/ 277272والشذرات 4/ 5350والخزانة 3/ 118117 (بولاق) وإدراك الأماني 2/ 139133والأعلام 5/ 178177.
(2) أب ج ش هـ و: الحراني، وهو غلط، والتصحيح من معجم الأدباء 16/ 261وإنباه الرواة 3/ 23والوفيات 4/ 63.
والحراميّ نسبة إلى سكة بني حرام، وهي أحد محالّ البصرة مما يلي الشطّ، وبنو حرام قبيلة من العرب سكنوا في هذه السكة، فنسبت إليهم. الوفيات 3/ 67ومرآة الجنان 3/ 220والنجوم الزاهرة 5/ 225.
(3) ب: مستبحرا.
(4) أش هـ و: مقامات.
(5) سبقت ترجمته برقم 74.
(6) ما بين القوسين ساقط من ج.
(7) لم يصلنا منها سوى خمسين مقامة ونيف، انظر مقاماته 1.
(8) هو معد بن نصر الله أديب شاعر ونحويّ لغويّ له (المقامات الزينية) (701هـ) بغية الوعاة 2/ 294وكشف الظنون 2/ 1785والأعلام 7/ 266والمقامات الزينية 322305.
(9) هو طبيب منشئ، كان بارعا في الطبّ والأدب، له ستون مقامة، على نسق مقامات الحريريّ (589هـ) النجوم الزاهرة 5/ 364وكشف الظنون 2/ 1791والأعلام 8/ 147.
(10) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد صاحب (المنتظم)، اشتهر بالوعظ والتفسير له مقامات حقّقها الدكتور علي جميل مهنا وحققها أيضا الدكتور محمد نغش. وتوفي ابن الجوزي سنة (597هـ). مرآة الزمان 8/ 503481 (وهو فيها عبد الرحمن بن محمد بن علي) والوفيات 3/ 142140ونفح الطيب 5/ 165161والأعلام 3/ 317316ومجلة معهد المخطوطات مجلد 28جزء 1/ 290257.
(11) سترد ترجمته برقم 100.(2/193)
والمقامات اللزومية لأبي الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي (1) وهي خمسون مقامة، ومقامات الشريف الرّندي (2) عشرون مقامة، ومقامات خطير الدولة حسين ابن إبراهيم البغدادي (3) إحدى وخمسون مقامة، والمقامات التي لمحمد بن منصور الواعظ الموصلي (4) المعروف بابن الحداد صاحب المنظومة الرائية في مذهب الشافعي وهي أربعون مقامة وغيرهم ممّن يطول ذكره (5).
وصنّف الحريريّ رحمه الله مقاماته للوزير شرف الدين أبي نصر أنوشروان بن خالد، وزير المسترشد بالله، وقيل إنه صنّفها لصاحب البصرة، والذي للشريشي (6)
في شرحه لها أن الذي أشار على الحريري بإنشائها هو المستظهر بالله العباسيّ، وكان في زمن الملثمين (7) بالمغرب. قال: (8) وحدثني الشيخ الفقيه المقريء النحويّ
__________
(1) يعرف بابن الأشتركوني، وهو وزير من الكتّاب الأدباء اللغويين، عارض الحريريّ في مقاماته والتزم فيها ما لا يلزم (538هـ) بغية الوعاة 1/ 279ونفح الطيب 1/ 291وكشف الظنون 2/ 1785والأعلام 7/ 149.
(2) أب ج ش هـ و: الزيدي وهو غلط.
والشريف الرّندي هو صالح بن يزيد شاعر أندلسي وقاض له (مقامات) في أغراض مختلفة وله (الوافي في نظم القوافي) توفي سنة (684هـ). الذيل والتكملة 4/ 139136ونفح الطيب 4/ 490486والأعلام 3/ 198. وقد حقق كتاب الوافي في نظم القوافي الأستاذ محمد الكنوني رحمه الله بكلية الآداب بالرباط وقدمه لنيل دبلوم الدراسات العليا من نفس الكلية.
(3) لم أعثر له على تعريف في المظان.
(4) من الوعاظ له (البدور التامات في بديع المقامات) وقد كان حيا سنة 673هـ انظر كشف الظنون 1/ 231ومعجم المؤلفين 12/ 5251.
(5) للمزيد انظر عيون التواريخ 12/ 133. وقد ألف الشيخ أحمد بن عبد الحي الحلبي أصلا والفاسي توطنا (الحلل السندسية في المقامات الأحمدية)، فرغ منها عام 1094هـ عارض بها مقامات الحريري في المدائح النبوية انظر إيضاح المكنون 3/ 418، وألف خير الدين بن تاج الدين إلياس المدني (1127هـ) (المقامات الجوهرية على المقامات الحريرية) وقد شرع في تحقيقها الطالب حمي بو جمعة لنيل دبلوم الدراسات العليا بكلية الاداب جامعة محمد بن عبد الله بفاس في الثمانينات من القرن الماضي ولا أدري هل أنجزها أم لا.
(6) هو أبو العباس أحمد بن عبد المومن القيسيّ الأندلسيّ النحويّ اللغويّ من العلماء بالأدب والأخبار، أشهر كتبه (شرح المقامات الحريرية) (619هـ) التكملة لابن الأبار 1/ 112111وبرنامج شيوخ الرعيني 9190والذيل والتكملة 1/ 1/ 270268والوافي بالوفيات 7/ 158والمنهل الصافي 1/ 355354وبغية الوعاة 1/ 331ونفح الطيب 2/ 116115والأعلام 1/ 164.
(7) يقصد بالملثمين دولة المرابطين وقد حكمت المغرب ابتداء من سنة 463هـ إلى سنة 540هـ المعجب 149والاستبصار 228.
وعن علاقة المستظهر بالله العباسي بالمرابطين انظر الكوكب الثاقب 816.
(8) شرح المقامات: 1/ 3، 9، 10بتصرف.(2/194)
أبو بكر ابن أزهر (1) رحمه الله ببلدة شريش في سنة اثنتين وثمانين [وخمس مئة] في المسجد الذي كان يقرئ فيه ابن جهور (2)، عن ابن جهور أن الحريريّ ألّف المقامات كلّها على الركاب (3)، وذلك أن المستظهر بالله لمّا أمره بعملها أمره بالخروج من بغداد كالحافظ على العمال، فكان يخرج في البريد، يتمشى في ضفتي دجلة والفرات، ويصقل خاطره بنظر الخضر والمياه، فلم ينقض فصل العمل إلّا وقد اجتمع له مائتا مقامة فخلص منها خمسين وأتلف الباقي وحرّر الكتاب ورفعه إلى المستظهر بالله، فبلغ عنده أعلي المراتب.
قال: وكان ابن جهور إذا وصف الحريريّ يقول: أقبح النّاس صورة. وكان قليل شعر العارضين لا خلقة ولكن كان مولعا بنتفهما، كان لا يجلس أبدا في موضع إلا ويده تعبث في لحيته وما رئي في العراق من زمن الجاحظ إلى زمن الحريري أقبح منها صورة، ومتى وصف في مقاماته السروجيّ بصفة قبيحة فإنما يعني نفسه، ولذلك قال: أنا في العالم (4) مثلة.
قال: وحدثني الشيخ الأستاذ النحويّ أبو عبد الله ابن السقاط (5) بمدينة فاس أنّه رأى في مكة حفيده لابنته، فسأله عمّا كان ينتحل، فقال له كان نشّاء، يريد أنه كان ينشئ الرسائل ويعطيها لكتاب الملك يكتبونها بأيديهم، وكان لا يكتب بيده إلا قليلا. انتهى.
__________
(1) أبو بكر ابن أزهر الحجريّ هو أحد شيوخ الشريشيّ، ومن أهل بلده، وأول من أخذ عنه رواية مقامات الحريريّ، وقد كان قاضيا. انظر شرح المقامات 1/ 3والتكملة لابن الأبار، 1/ 111وبرنامج شيوخ الرعيني 90ونفح الطيب 2/ 115.
(2) هو أبو القاسم ابن عبد ربه القيسيّ صهر أبي بكر ابن أزهر السابق الذكر، فقيه محدث ورواية من أعلام الأندلس وقد روى المقامات عن الحريري انظر شرح المقامات 1/ 3.
(3) الرّكاب للسّرج: ما توضع فيه الرّجل (المعجم الوسيط: ركب)، ويقصد أنه ألّف المقامات وهو راكب على دابته
كالحافظ على العمال.
(4) ج: فالعالم، وهو غلط. والمثلة هي تقطيع أطراف الإنسان وتشويهه. (اللسان: مثل) ولعله يقصد بهذه الكلمة هنا أنه مشوّه الخلقة قبيح الملامح.
(5) لم أعثر له على تعريف له في المظان.(2/195)
وقال ياقوت في معجم الأدباء (1): = حدثني من أثق به أن الحريريّ لما صنع المقامة الحرامية وتعانى الكتابة فأتقنها، وخالط الكتّاب أصعد إلى بغداد، فدخل يوما إلى ديوان السلطان وهو منغصّ بذوي الفضل والبلاغة، متحفّل (2) بأهل الكتابة والبراعة، وقد بلغهم ورود ابن الحريري، إلّا أنهم لم يعرفوا فضله، ولا اشتهر بينهم ببلاغته (3)
ونبله، فقال له بعض الكتاب: أيّ شيء تتعانى (4) من صناعة الكتابة حتى نباحثك فيه؟ فأخذ بيده قلما وقال: كل ما يتعلق بهذا، وأشار إلى القلم. فقيل له: هذه دعوى عظيمة، فقال: امتحنوا تخبروا، فسأله كلّ واحد منهم عمّا (5) يعتقد في نفسه إتعابه به، من أنواع الكتابة، فأجاب عن الجميع أحسن جواب، وخاطبهم بأتّم خطاب، حتّى بهرهم، فانتهى خبره إلى الوزير أنو شروان بن خالد فأدخله عليه، ومال بكلّيته إليه، والتزمه ونادمه فتحادثا يوما حتى انتهى الحديث إلى ذكر أبي زيد السّروجيّ فأورد ابن الحريري المقامة الحراميّة التي صنعها فاستحسنها أنوشروان جدا، وقال:
ينبغي أن تضاف هذه إلى أمثالها، وينسج على منوالها عدّة من أشكالها. فقال أفعل ذلك مع رجوعي إلى البصرة. فصنع أربعين مقامة ثم أصعد إلى بغداد، وهي معه وعرضها على أنوشروان فاستحسنها وتداولها النّاس، واتّهمه من يحسده بأن قال: ليس هذه من عمله لأنها لا تناسب رسائله، ولا تشاكل ألفاظه وقالوا: كلّ هذه من صناعة رجل كان استضافه ومات عنده فادّعاها لنفسه. وقال آخرون (6):
بل العرب أخذت بعض القوافل وكان ممّا أخذ جراب لبعض المغاربة باعه العرب بالبصرة، فاشتراه ابن الحريري وادّعاه، فإن كان صادقا أنّها من عمله فليضع مقامة
__________
(1) معجم الأدباء 16/ 266264إلى قوله: = وعلموا أنها من عمله = ببعض الإيجاز.
(2) متحفّل من تحفّل المجلس تزيّن وكثر أهله. (القاموس: حفل).
(3) ج: لبلاغته، وهو غلط.
(4) تتعانى: من عناء وتعنّى: نصب وتعنّى العناء: تجشّمه (اللسان: عنا) ولعلهم يقصدون سؤاله عن الفن الذي يبذل فيه جهدا كبيرا ويبرع فيه من صناعة الكتابة.
(5) ج: مما، وهو غلط.
(6) الخبر في الوفيات 4/ 65ومعاهد التنصيص 3/ 273(2/196)
أخرى، فقال: نعم سأضع، وجلس في منزله ببغداد أربعين يوما، فلم يتهيّأ له ترتيب كلمتين، ولا الجمع بين لفظتين، وسوّد كثيرا من الكاغد، ولم يصنع شيئا فعاد إلى البصرة والناس يقعون فيه، فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى الأربعين وأصعد بها إلى بغداد فحينئذ بان فضله، وعلموا أنها من عمله.
وقد واخذه ابن الخشاب (1) في مواضع منها وأجابه عنها ابن برى (2)، وكذلك أجابه عنها المسعودي (3). وممّن حطّ عليه وتنقّصه ابن الأثير الجزري في المثل السائر (4)، وردّ عليه الصلاح الصفديّ في كتابه (نصرة الثائر (5) على المثل السائر)، وذكر هناك فصلا في فضل المقامات.
وللنّاس عليها شروح كثيرة منها شرحان لابن ظفر (6) صغير وكبير،
__________
(1) هو عبد الله بن أحمد المشهور بابن الخشّاب، كان عالما مشهورا في الأدب وعلوم الدين، من كتبه (نقد المقامات الحريرية) توفي ببغداد سنة 567هـ. إنباه الرواة 2/ 13399ومرآة الزمان 8/ 289288والوفيات 3/ 104102وبغية الوعاة 2/ 3129.
(2) هو عبد الله بن أبي الوحش، من علماء العربية المشهورين في النحو واللغة والرواية له كتاب في الرد على ابن الخشاب (582هـ) الوفيات 3/ 109108وبغية الوعاة 2/ 34.
(3) هو أبو سعيد محمد بن عبد الرحمن الخراساني الفنجديهي، فقيه شافعي صوفي، وأديب اعتنى بالمقامات الحريرية فشرحها وأطال شرحها وكان يعلّم الملك الأفضل أبا الحسن عليّ بن السلطان صلاح الدين (584هـ) شرح المقامات 1/ 3والوفيات 4/ 392390ومرآة الجنان 3/ 429428ولسان الميزان 5/ 256.
(4) المثل السائر 1/ 278.
(5) أ: السائر على، وهو غلط. ج: السائر إلى، وهو غلط.
انظر ردّ الصفدي في نصرة الثائر 6356، ويقول الصفدي في الوافي بالوفيات ج 27 (ميكروفيلم) في ترجمة نصر الله بن محمد أبي الفتح الجزري المشهور بضياء الدين ابن الأثير = وولع بالحطّ على الأوائل الكبار مثل الحريري والمتنبي [كلمة غير واضحة] والقاضي الفاضل ووضعت أنا كتابا سمّيته نصرة الثائر على المثل السائر، وانتصفت منه للفاضل والحريري والمتنبي =.
(6) هو محمد بن عبد الله الصقليّ المكيّ المالكيّ أديب رحّالة مفسّر له تصانيف كثيرة مها (الحاشية على درة الغواص) للحريري وشرح المقامات للحريري وسمّاه (التنقيب على ما في المقامات من الغريب) وهما شرحان كبير وصغير (565هـ) الوفيات 4/ 397392ولسان الميزان 5/ 371وكشف الظنون 2/ 1788والأعلام 6/ 231230.(2/197)
وشرحان للمسعودي (1)، وشرح لابن الأنباري (2)، وشرح لأبي البقاء (3)، وشرح للمطرّز (4). وشرحان للشريشي (5) كبير وصغير، ويقال: بل ثلاثة صغير وكبير ووسط ولم أقف له إلا على شرحين لكنّ من أثبت مقدّم على من نفى، وشرح لصفي الدين عبد الكريم اللغوي (6) وشرح لأبي الخير سلامة الأنباري (7) الضرير النحوي وشرح لمحمد بن أسعد بن نصر الله البغدادي (8) الحنفي، وشرح للقاسم بن القاسم الواسطي (9) على حروف المعجم، وله أيضا شرح آخر على ترتيب آخر، وشرح لابن الواسطي الحلبي (10)، وشرح لأحمد بن داود الغرناطي (11) وغير ذلك من الشروح (12).
__________
(1) سبق التعريف في الصفحة السابقة الحاشية 3.
(2) هو عبد الرحمن بن محمد أبو البركات النحوي من علماء اللغة والأدب وهو فقيه زاهد له تفسير غريب المقامات الحريرية (577هـ) الوفيات 3/ 140139وبغية الوعاة 2/ 8886والأعلام 3/ 327.
(3) هو عبد الله بن الحسين العكبريّ البغداديّ وهو فقيه حنبليّ، عالم في الأدب واللغة والنحو، له تصانيف كثيرة، منها شرح ديوان المتنبي وشرح المقامات الحريرية (616هـ) الوفيات 3/ 102100وبغية الوعاة 2/ 4038والأعلام 4/ 80.
(4) هو ناصر بن عبد السيد بن علي المطرزي الفقيه الحنفي الأديب الخوارزمي له مصنفات منها شرح المقامات للحريري (610هـ) الوفيات 5/ 371369، والفوات 4/ 183182وبغية الوعاة 2/ 311.
(5) سبق التعريف به في الصفحة 497الحاشية 6.
(6) هو عبد الكريم بن حسن اللغوي البعلبكي له شرح المقامات الحريرية. انظر كشف الظنون 2/ 1789.
(7) هو سلامة بن عبد الباقي أديب عالم بالقراءات من أهل الأنبار سكن مصر، ومات بها له (شرح مقامات الحريري) (590هـ) نكت الهميان 160وبغية الوعاة 1/ 593والأعلام 3/ 107.
(8) محمد بن أسعد هو أبو المظفر الحليمي، ويعرف بابن حكيم الحنفي واعظ من فقهاء الحنفية، روى المقامات عن الحريري، من كتبه (تفسير القرآن) و (شرح المقامات الحريرية) (567هـ) الدارس 1/ 538وكشف الظنون 2/ 1788والأعلام 6/ 31.
(9) هو القاسم بن القاسم بن عمر، أديب نحوي، وعالم بالعربية مولده بواسط ووفاته في حلب من كتبه (شرح اللمع) لابن جني و (شرح المقامات الحريرية) (626هـ) معجم الأدباء 16/ 316296والفوات 3/ 196192.
وبغية الوعاة 2/ 261260وكشف الظنون 2/ 1789وتاريخ حلب 4/ 369358ومعجم المؤلفين 8/ 111والأعلام 5/ 180.
(10) لعله كمال الدين الواسطي كما في كشف الظنون 2/ 1791. ولعله علي بن الحسن بن عنتر المعروف بالشّميم الحلّي من العلماء النحاة اللغويين المعاصرين لياقوت الحموي، كان مشهورا بالكبر له شرح مقامات الحريري. انظر معجم الأدباء 16/ 269267، 13/ 7250.
(11) هو أبو جعفر الجذامي من أهل باغة بالأندلس، وهو أديب لغوي له (شرح المقامات الحريرية) (597هـ) الذيل والتكملة 1/ 1/ 115وبغية الوعاة 1/ 306والدراسات اللغوية 198والأعلام 1/ 123.
(12) للمزيد انظر عيون التواريخ 12/ 134وكشف الظنون 2/ 17911788. وقد قام د. حمد ناصر الدخيل الأستاذ المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، بوضع دراسة عن شروح مقامات الحريري، وقد وجد أن عدد الشروح حوالي 60شرحا. انظر أخبار التراث العدد 14ص 14، شوال ذو القعدة 1404هـ (يوليوز غشت 1984).(2/198)
وكان الحريري يوما جالسا بمجلس بعض الأكابر فجرى قول البستي في رجل بخيل شرير: (1) «إن لم يكن لنا طمع في درك درّك، فأعفنا من شرك شرّك». فلم يبق أحد إلّا استحسنها وأقرّ بالعجز عن الإتيان بمثلها، فقال ابن الحريري في الحال (2): إن لم تدننا من مبارك مبارّك فأعفنا من معارك معارّك.
وله من التصانيف غير المقامات: درّة الغوّاص في أوهام الخواصّ، وملحة الإعراب، وله ديوان شعر، وديوان رسائل. وليس شعره ولا رسائله من نمط المقامات، حتى كأنّ قائلها غير قائل تلك الرسائل وتلك الأشعار. قيل إنّ مسوداتها كانت حمل جمل. قال الصفدي (3): وهذه مبالغة من القائل. وللشعراء فيها أمداح. من أحسنها قول إمام أهل البلاغة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري المعتزلي فيما نسب إليه (4): (تام السريع)
أقسمت بالبيت وآياته ... ومشعر الخيف وميقاته
أنّ الحريريّ حريّ بأن ... نكتب بالتّبر مقاماته
وسمع الحريريّ رحمه الله من أبي تمام، ومحمد بن الحسين بن موسى المقريء (5)، وأبي القاسم الفضل القصباني (6) الأديب وغيرهما. وتفقه على
__________
(1) انظر هذه القولة في شعر البستي 102واليتيمة 4/ 307306والإعجاز 120وعيون التواريخ 12/ 136.
(2) القول في عيون التواريخ 12/ 136.
(3) انظر نصرة الثائر 57ولم ترد فيه هذه القولة، ولعل صحة العبارة هكذا: قاله الصفدي. وربما كانت القولة = وهذه مبالغة من القائل = لمؤلف الكوكب الثاقب.
(4) البيتان في النجوم الزاهرة 5/ 225وبغية الوعاة 2/ 258والخزانة 3/ 117.
(5) من الشيوخ القراء الذين حدّث عنهم الحريري وأخذ عنهم، مرآة الزمان 3/ 214والشذرات 4/ 50.
(6) أب ج ش: القاسم بن الفضل. (بن) غلط، والتصحيح من معجم الأدباء 16/ 218، 261وبغية الوعاة 2/ 246.
وأبو القاسم هو الفضل بن محمد بن علي البصري، كان واسع العلم إماما في النحو واللغة والأدب، أخذ عنه الحريري والخطيب التبريزي (444هـ) نزهة الألباء 352ومعجم الأدباء 16/ 218ونكت الهميان 227وبغية الوعاة 2/ 246والأعلام 5/ 151.(2/199)
أبي نصر الصباغ (1)، وأبي إسحاق (2) الشيرازي. وقرأ الفرائض والحساب على أبي الهمداني (3) وغيره.
وروى عنه أبو القاسم ولده (4)، وأبو العباس المتوكل الماندائي (5)
الواسطي، وأبو الكرم الكرابسيّ (6)، والوزير عليّ بن طرّاد (7)، وأبو علي ابن المتوكل (8)، ومنوجهر تركان شاه (9)، وغيرهم (10). وممّن روى عنه بالإجازة أبو طاهر بركات الخشوعي (11).
وكان (12) أعني الحريريّ غنيّا، له ثمانية عشر ألف نخلة (13)، وقيل إنه كان قذرا في نفسه، وشكله ولبسه، وكان بخيلا. ولد بالبصرة سنة
__________
(1) هو عبد السيد بن محمد المعروف بابن الصباغ الشافعي، كان فقيه العراقين في وقته، يضاهي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي (477هـ) الوفيات 3/ 218217والأعلام 4/ 10.
(2) ج: وأبي الحسن، وهو غلط.
وأبو إسحاق الشيرازي سبق التعريف به في الصفحة 306الحاشية 7.
(3) لم أعثر له على تعريف في المظان.
(4) يقصد ولد الحريري المترجم له.
(5) أب ج ش هـ و: الميداني، وهو غلط والتصحيح من نزهة الألباب 380ومعجم الأدباء 2/ 231وعيون التواريخ 12/ 134وبغية الوعاة 1/ 297.
والماندائيّ هو أحمد بن بختيار بن علي، عالم في النحو واللغة والأدب قرأ على الحريري وتفقه بواسط على مذهب الشافعي وولي قضاءها وقضاء الكوفة (552هـ) معجم الأدباء 2/ 233231وبغية الوعاة 1/ 297.
(6) لم أعثر له على تعريف في المظان.
(7) هو أبو القاسم الزّينبيّ الهاشميّ نقيب النّقباء، وكان فقيها بارعا في مذهب الإمام أبي حنيفة، من العقلاء العارفين بسياسة الملك وتدبيره، وزر للخليفة المسترشد بالله (538هـ) الوفيات 5/ 73والنجوم الزاهرة 5/ 274273والأعلام 4/ 296.
(8) لم أعثر له على تعريف في المظان.
(9) هو أبو الفضل منوجهر بن تركان شاه الكاتب البغداديّ أديب حاذق سمع المقامات الحريرية من مؤلّفها ورواها عنه (575هـ) معجم الأدباء 19/ 196والوفيات 4/ 341.
(10) للمزيد انظر عيون التواريخ 12/ 134.
(11) هو ابن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن طاهر محدّث ومن بيت الحديث انفرد بالإجازة من الحريري (598هـ). شرح المقامات 1/ 3والوفيات 1/ 269والشذرات 4/ 335.
(12) انظر عيون التواريخ 12/ 134.
(13) أب ج هـ وش: محل، وهو غلط، والتصحيح من تاريخ ابن الوردي 2/ 47وعيون التواريخ 12/ 134. ومرآة الجنان 3/ 221والشذرات 4/ 53.(2/200)
ست وأربعين وأربع مائة، وتوفي في سادس شهر رجب سنة ست عشرة وخمس مائة، وخلّف ولدين: نجم الدين عبد الله قاضي قضاة البصرة، وضياء الدين والإسلام عبيد الله.
ومن شعره في غير المقامات قوله، وقد بلغه أن صاحبه أبا زيد المطهّر بن سلار (1) الذي حمل عنه المقامات قد شرب مسكرا، فكتب إليه (2): (الطويل)
أبا زيد اعلم انّ من شرب الطّلا ... تدنّس فافهم سرّ قولي المهذّب
ومن قبل سمّيت المطهّر، والفتى ... يصدّق بالأفعال تسمية الأب
فلا تحسها كيما تكون مطهّرا ... وإلّا فغيّر ذلك الإسم واشرب
فلما بلغت أبا زيد الأبيات، أقبل حافيا إلى الحريري وبيده (3) مصحف وأقسم به أن لا يعود إلى شرب مسكر، فقال له الحريري: ولا تحاضر من يشربه.
وقوله (4) فيمن جاءه ليأخذ عنه، وكان لم يره قبلا، فلما رآه استقبحه، ففهم الحريري، فلمّا التمس منه الشعر قال له: اكتب (5): (تام البسيط)
ما أنت أول سار غرّه قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدّمن
فاختر لنفسك غيري إنّني رجل ... مثل المعيديّ فاسمع بي ولا ترن
__________
(1) أب ج ش هـ و: سلام، وهو غلط، والتصحيح من إنباه الرواة 3/ 276والوفيات 4/ 64وعيون التواريخ 12/ 248ومرآة الجنان 3/ 214. وابن سلار هذا هو المشهور بأبي زيد السّروجي، كان تلميذا للحريري بالبصرة وقد أنشأ الحريريّ مقاماته على لسانه وقد رواها عنه، كما روى ملحة الإعراب، انظر المراجع المذكورة أعلاه.
(2) الأبيات والخبر في معجم الأدباء 16/ 272وعيون التواريخ 12/ 137، 248وإدراك الأماني 2/ 137.
(3) ج: ومعه.
(4) الخبر في الخزانة 3/ 117 (ط. بولاق).
(5) البيتان في الوفيات 4/ 6766وتاريخ ابن الوردي 2/ 47وعيون التواريخ 12/ 139ومرآة الجنان 3/ 216والبداية والنهاية 12/ 192ومعاهد التنصيص 3/ 275والشذرات 4/ 52والخزانة 3/ 117 (ط. بولاق) وإدراك الأماني 2/ 137.
خضرة الدّمن: يشير إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: = إياكم وخضراء الدّمن، قيل: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال المرأة الحسناء في منبت السّوء = شبّهها بالشجرة الناضرة في دمنة البعر (اللسان: خضر).
المعيديّ: رجل يضرب به المثل، فقد كان نابه الذّكر قبيح المنظر، ونص المثل: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه = المستقصى 1/ 371370.(2/201)
فخجل الرجل وانصرف.
وقوله يوصي ابنه (1): (تام الكامل)
خذ يا بنيّ بما أقول ولا تزغ ... ما عشت عنه تعش وأنت سليم
ولا تغترر ببني الزّمان ولا تقل ... عند الشّدائد لي أخ ونديم
جرّبتهم فإذا المعاقر عاقر ... والآل آل والحميم حميم
قال ياقوت (2): قرأت في كتاب لبعض أدباء البصرة: قال الشيخ أبو محمد (3)
حرس الله نعمته معاياة (4): (تام الخفيف)
ميم موسى من نون نصر، ففسّر ... أيّهذا الأديب ماذا عنيت؟
وتفسيره: ميم الرجل إذا أصابه الموم، وهو (5) البرسام، ويقال إنّه أشدّ الجدريّ.
ونون نصر: حوته، والنّون السّمكة، يعني أنه أكل سمكة نصر، فأصابه الموم. قال الصفدي: وله (6) في مثله: (تام الخفيف)
باء بكر بلام ليلى فما ين ... فكّ منها إلّا بعين وهاء
باء أي أقرّ واعترف، واللّام: الدّرع، فلمّا أقرّ ليلى بها لزمته، فما ينفكّ منها إلّا بعين الدّرع، وهاء أي خذي (7).
__________
(1) الأبيات في معجم الأدباء 16/ 271وعيون التواريخ 12/ 136وإدراك الأماني 2/ 137.
(2) معجم الأدباء 16/ 270269وإدراك الأماني 2/ 137.
(3) يقصد الحريريّ فكنيته أبو محمد انظر أول ترجمته.
(4) المعاياة: أن تأتي بكلام لا يهتدى له. (اللسان: عيا).
والبيت في معجم الأدباء 16/ 269ومعاهد التنصيص 3/ 276وإدراك الأماني 2/ 137.
(5) ج: وهذا، وهو غلط.
(6) أب ج ش: ولي، وهو غلط، والتصحيح من معجم الأدباء 16/ 269، ولا يعقل أن يكون البيت التالي للصفدي (764697هـ) فقد أورده ياقوت الحمويّ (626هـ) في معجم الأدباء 16/ 269وهو قد مات قبل أن يولد الصفدي. والبيت أيضا في إدراك الأماني 2/ 137.
العين: المال والنّقد. هاء بمعنى خذي (اللسان: عين، ها)
(7) الخبر في الوافي بالوفيات 4/ 221220وإدراك الأماني 2/ 137.(2/202)
ومما ينبغي أن نختم به هذه الترجمة تكميلا للفائدة وتكثيرا للعائدة ذكر مسألة نحوية وقعت في بيت من المقامات الحريرية فجرى في إعرابها خلاف (1) بين رجلين من الأعيان: صلاح الدين الصفديّ والمولى شرف الدين حسين بن زيان (2)، وهي قوله في المقامة العشرين المنسوبة إلى ميّافارقين (3): (تام السريع)
فلم يزل يبتزّه دهره ... ما فيه من بطش وعود صليب (4).
فذهب المولى شرف الدين في إعراب = ما = في قوله: = ما فيه = إلى أنه في موضع نصب على أنه مفعول ثان، وذهب صلاح الدين إلى أنه بدل اشتمال من الهاء في قوله: = يبتزّه =، فكتب شرف الدين في ذلك سؤالا من صفد وجهّزه إلى الشيخ كمال الدين (محمد) (5) بن الزملكاني رحمه الله تعالى وهو: ما تقول السادة علماء الدّهر وفضلاء هذا العصر، لا برحوا لطالبي العلم الشريف قبلة وموطن السؤال (6)
[ومحلّه] (7) (8) ونحلة، في رجلين تجادلا في مسألة نحوية، وهي في بيت من المقامات الحريرية، وهو:
فلم يزل يبتزّه دهره الخ ذهبا إلى أن معنى = يبتزه = يسلبه = وكلّ منهما وافق في هذا مذهب خصمه مذهبه، وموطن سؤالهما الغريب، إعراب قوله = ما فيه من بطش
__________
(1) الخبر في الوافي بالوفيات 4/ 221220وإدراك الأماني 2/ 137.
(2) الوافي بالوفيات 4/ 220والغيث المسجم 1/ 360، 2/ 100، 219 (ط. العلمية): أبو عبد الله الحسين بن ريان (بالراء المهملة). وأبو عبد الله الحسين بن ريان شاعر وقاض معاصر للصفدي وقد وعد الصفدي في الوافي بالوفيات 4/ 220أن يترجم له، ولم أعثر له على ترجمة فيه، ولعلها في الجزء الثالث عشر الذي لم أعثر عليه بعد.
(3) ميّافارقين: مدينة مشهورة بديار بكر، قريبة من آمد، معجم البلدان 5/ 238235.
والبيت للحريري في شرح المقامات 1/ 238والوافي بالوفيات 4/ 220وإدراك الأماني 2/ 138.
(4) ج: طيب، وهو غلط.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.
وابن الزملكاني سبق تعريفه في الصفحة 452الحاشية 4.
(6) أب ج هـ: ولموطن النوال. ورجّحنا ما في الوافي بالوفيات 4/ 220. ش: ولمن ظن النوال. (ولمن ظن) غلط).
(7) زيادة من الوافي بالوفيات 4/ 220.
(8) بياض في: أب ج ش هـ و.(2/203)
وعود صليب =، لم يختلفا (1) في نصبه، بل خلافهما فيما انتصب به، فذهب أحدهما إلى أنه بدل اشتمال، من الهاء المنصوبة في = يبتزّه =، وله على ذلك استدلال، وذهب الآخر إلى أنه مفعول ثان ليبتزه، وجعل المفعول الأول هاء، واختلفا في ذلك وقاصديكم جاءا، وقد سألا الإجابة عن هذه المسألة فقد اضطرّا في ذلك إلى المسألة».
فكتب الشيخ كمال الدين رحمه الله في الجواب: كلّ من المختلفين قد نهج نهج صواب، وأتى بحكمة، وفصل خطاب، ولكلّ من القولين مساغ في النظر (2)
الصحيح، ولكن النظر إنما هو في الترجيح، وجعل ذلك مفعولا أقوى توجيها في الإعراب، وأدقّ بحثا عند ذوي الألباب. أما من جهة الصناعة العربية، فلأنّ المفعول متعلّق الفعل بذاته التي هي بوقوع الفعل عليها معنيّة، والبدل مبيّن يكون الأول معه مطّرحا في النّية، وهذا الفعل بهذا المعنى متعدّ (3) إلى مفعولين، = وما فيه من بطش = هو أحد ذينك الاثنين لئلا يفوت متعلّق الفعل المستقلّ، والبدل بيان يرجع إلى توكيد (4) بتأسيس المعنى مخلّ، وأما من جهة المعنى فلأنّ المقام مقام تشكّ، وأخذ بالقلوب، وتمكين هذا المعنى أقوى إذا ذكر ما سلب منه مع بيان أنه المسلوب، فذكر المسلوب منه مقصود كذكر ما سلب، وفي ذلك من تمكين المعنى ما لا يخفى على ذوي الأدب، ووراء هذا بسط لا تحتمله هذه العجالة، والله تعالى أعلم. كتبه محمد بن علي. قال الصفدي (5): لا أعلم أحدا يأتي بهذا الجواب [غيره] (6) لمعرفته بدقائق النحو وعلمي المعاني والبيان ودرايته بصناعة الإنشاء، وأما صورة الخط الذي نقلت منه هذه الفتيا، فما كانت إلّا قطعة روض تدبّجت أو هوامش عذار على طرس الخدّ تخرّجت. رحمه الله وأكرم مثواه، وجعل الجنّة منقلبه وعقباه.
__________
(1) ج: يتخلفا، وهو غلط.
(2) ج: القول.
(3) ج: معتد، وهو غلط.
(4) ج: تأكيد.
(5) الوافي بالوفيات 4/ 221.
(6) زيادة من الوافي بالوفيات 4/ 221.(2/204)
98 - الأمير دبيس (1).
هو أبو الأغر نور الدولة دبيس ابن سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس ابن علي بن مزيد الأسديّ صاحب الحلّة (2) المزيديّة ملك العرب. تمكّن في خلافة المسترشد أيّ تمكّن واستولى على كثير من بلاد العراق، وكان جوادا كريما له معرفة تامة بالأدب، قلّ من أنجب مثله من أمراء العرب، وكا شيعيّا مثل والده.
كتب إليه أخوه بدران وهو نازح عنه (3): (الطويل)
ألا قل لمنصور وقل لمسيّب ... وقل لدبيس: إنّني لغريب
هنيئا لكم ماء الفرات وطيبه ... إذا لم يكن لي في الفرات نصيب
فكتب إليه دبيس (4): (الطويل)
ألاقل لبدران الذي حنّ نازحا ... إلى أرضه والحرّ ليس يخيب
تمتّع بأيّام السّرور فإنّما ... عذار الأماني بالهموم يشيب
ولله في تلك الحوادث حكمة ... وللأرض من كأس الكرام نصيب
قصده بعض الشعراء وهو معتقل وامتدحه بقصيدة، ولم يكن بيده شيء يعطيه إياه فوقّع له رقعة وفيها مكتوب (5): (تام البسيط)
الجود فعلي ولكن ليس لي مال ... وكيف يفعل من بالقرض يحتال
__________
(1) (529هـ) ترجمته في المنتظم 10/ 5352وشرح المقامات 2/ 161160والكامل لابن الأثير 11/ 30 والوفيات 2/ 265263وعيون التواريخ 12/ 302301والبداية والنهاية 12/ 209والنجوم الزاهرة 5/ 256وإدراك الأماني 17/ 218216والأعلام 2/ 336.
(2) أب ج ش: المحلة، وهو غلط، والتصحيح من معجم البلدان 2/ 294والوفيات 2/ 263.
وحلّة بني مزيد مدينة بين الكوفة وبغداد، أول من عمّرها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي، معجم البلدان 2/ 294.
(3) البيتان في الوفيات 2/ 264وعيون التواريخ 12/ 301وإدراك الأماني 17/ 217.
(4) أب ج: حل نازحا. (حل) غلط. ش: حان، وهو غلط، والتصحيح من المصادر المذكورة في الحاشية السابقة والأبيات فيها كذلك.
(5) البيتان والخبر في عيون التواريخ 12/ 302وإدراك الأماني 17/ 217(2/205)
فهاك خطّي إلى أيام ميسرتي ... دينا عليّ فلي في الغيب آمال
فلما أطلق لقيّه هذا الشاعر فطالبه بدينه، فقال: ما أعلم أنّ لأحد علينا دينا، فأراه خطّه، فلما رآه عرفه، وقال: إي والله دين وأيّ دين، وأعطاه مائة دينار وخلعة.
وهو من بيت كبير تزوّج السلطان مسعود (1) ابنته. وأمّها شرف خاتون بنت عميد الدولة (2) ابن فخر الدولة ابن جهير (3)، وأمّ شرف خاتون المذكورة زبيدة بنت الوزير نظام الملك (4).
كان (5) دبيس في خدمة السلطان مسعود بن ملكشاه السلجوقي، وهم نازلون على باب المراغة من بلاد أذربيجان، ومعهم المسترشد (6) فهجموا على خيمته وقتلوا المسترشد، وكره السلطان أن تنسب القضية إليه، وأحبّ أن تنسب إلى دبيس فتركه إلى أن جاء [إلى] (7) الخدمة وجلس على باب خيمة السلطان. فسيّر إليه من جاءه من ورائه وضرب رأسه بالسيف فأبانه، وأظهر السلطان أنّه إنّما فعل
__________
(1) هو مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي أحد سلاطين السلجوقية المشهورين (547هـ) الوفيات 5/ 202200والشذرات 4/ 145. والخبر في الوفيات 2/ 265وعيون التواريخ 12/ 302.
(2) هو أبو منصور شرف الدين محمد، كان ينوب عن أبيه فخر الدولة الآتي بعد، في وزارة المقتدي بأمر الله، ولما عزل أبوه تولى الوزارة مكان أبيه بعد استرضاء نظام الملك. اشتهر بالوقار والهيبة والعفّة وجودة الرأي، خدم ثلاثة من الخلفاء ووزر لاثنين (492هـ) الوفيات 5/ 128، 133131.
(3) فخر الدولة هو أبو نصر محمد بن محمد بن جهير، مؤيد الدين الموصلي الثعلبي، كان ذا رأي وعقل وحزم وتدبير، تولّى نظارة الديوان بحلب ثم وزر للأمير نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ميّافارقين وديار بكر ثم لابنه نظام الدين ثم ذهب إلى بغداد وتولى وزارة الإمام القائم بأمر الله ثم وزارة حفيده المقتدي بأمر الله ثم عقد له السلطان ملك شاه على ديار بكر (483هـ) الكامل 10/ 183182والوفيات 5/ 134127والوافي بالوفيات 1/ 124122.
(4) هو أبو علي الحسن بن علي الملقب نظام الملك قوام الدين الطوسي من أولاد الدهاقين اشتغل بالحديث والفقه ثم خدم السلطان الب أرسلان عشر سنين ثم خدم ابنه ملك شاه وأصبح الأمر كلّه له، ولم يعد للسلطان سوى التخت والصيد لمدة 20سنة وتوفي سنة 485هـ. الكامل لابن الأثير 10/ 210204والوفيات 2/ 131128، 5/ 128، 134وطبقات السبكي 3/ 145135.
(5) الخبر في الوفيات 2/ 265وعيون التواريخ 12/ 302
(6) يقصد المسترشد بالله الخليفة العباسي.
(7) زيادة من الوفيات 2/ 265وعيون التواريخ 12/ 302.(2/206)
ذلك انتقاما منه بما فعل في حقّ الإمام. وذلك بعد قتل الإمام بشهر. قيل إنّ قتلته كانت سنة تسع وعشرين وخمس مائة. فقيل إنّها كانت على باب خويّ (1) وقيل على باب تبريز كذا قال الصفدي في وافيه (2) ولا يخفى ما فيه، ولعله أشار بصيغة (3) التمريض في تاريخ وفاته إلى عدم ارتضائه له، فإنه لا يصح مع ما سيأتي في ترجمة الطغراني (4) من أنّ نكبة السلطان مسعود كانت في سنة ثمان عشرة وخمس مائة. فكيف يمكن أن يكون قتله لدبيس في التاريخ المذكور مع تقدم انتثار سلك ملكه وسبقه لذلك بأعوام وشهور، فليحرّر النقل في ذلك.
وكان (5) دبيس قد أحسّ بتغير السلطان عليه منذ قتل المسترشد وعزم على الهروب (6) مرارا والمنية تثبّطه، وولي بعد قتله ابنه أبو كامل منصور.
ودبيس هذا هو الذي عناه الحريريّ في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله (7):
«حتى خيّل إليّ أنه القرنيّ أويس (8)، أو الأمير دبيس» وفي بعض روايات المقامات: أو الأسدي دبيس. ولم يعرّف به أحد ممّن وقفنا عليه من شرّاحها بل ذكر الشريشيّ في شرحه (9) لها أنه لم يجد من عرّف به بعد البحث عنه وسؤاله من لقيه من الشيوخ عنه، فلم يعرفوه ولا زمنه. قال: غير أن الفقيه الأستاذ أبا ذرّ (10)
__________
(1) أب ج ش: جوى، وهو غلط والتصحيح من الوفيات.
وخويّ: بلد مشهور من أعمال أذربيجان. (معجم البلدان 2/ 408).
(2) لم أعثر على هذا القول في الوافي بالوفيات.
(3) أج ش: التمريض. ب: التعريض.
(4) الترجمة التالية مباشرة رقم 99.
(5) الخبر في الوفيات 2/ 265وعيون التواريخ 12/ 302.
(6) ج: الهرب.
(7) شرح المقامات 2/ 160.
(8) هو أحد التابعين الزهاد العابدين، كان مع علي في وقعة صفين (37هـ) طبقات ابن سعد 1/ 27والتاريخ الكبير 3/ 174157وشرح المقامات 2/ 160وميزان الاعتدال 1/ 282278ولسان الميزان 1/ 475471 والأعلام 2/ 32.
(9) لم يذكر الشريشي شيئا من ذلك في شرحه للمقامات الذي رجعت إليه.
(10) هو مصعب بن محمد بن مسعود الخشنيّ يكنى أبا ذرّ ويعرف بابن أبي ركب، من العلماء بالحديث والسّير والأدب والنحو، وهو أحد العلماء الذين روى عنهم الشريشي المقامات، واطّلع على شرحه وأمره بتكميله (604هـ) زاد المسافر 148147وشرح المقامات 1/ 3والتكملة لابن الأبّار 2/ 702700.(2/207)
أخبره أنه كان أميرا يعرف بابن مزيد، وكان أميرا لبني العباس، وقد ذكره الصفدي في تاريخه الكبير المسمى بالوافي بالوفيات (1)، ومنه اختصرنا ما ذكرنا، ولخصنا، ما نصصنا، وأبدينا للمستفيد محيّاه فرحمنا الله وإيّاه.
99 - الطغرائي (2)
هو مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الأصبهاني الطّغرائي نسبة إلى الطّغرى بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة، وفتح الراء، وهي لفظة أعجمية تتضمن علامات الملوك الخاقانية، الموقعة على منشوراتهم السياسة، كذا قال بعض من شرح لامية العجم (3). وقال الصفدي في وافيه (4): إنّه منسوب إلى الطّغراء (5) بضم الطاء وسكون الغين المعجمة، قال:
وهي الطّرّة التي في أعلى المناشير والكتب فوق البسملة. كان بالموصل وزيرا للسلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي (6)، واستمر على وزارته قائما بها وبأمر الطّغراء أتمّ قيام وأكمله، وأحسنه وأجمله إلى أن انتقض ما بين السلطان مسعود وأخيه محمود (7)، ما كان بينهما من المواثيق والعهود، واشتعلت بينهما نار الحرب، وكاد أكثر عسكرهما يفنى فيما بين طعن وضرب، ثم آل الأمر إلى أن كانت النصرة لمحمود على أخيه، ودارت الدائرة على مسعود وذويه، فقبض السلطان
__________
(1) لم أعثر بعد على الجزء الذي ترجم فيه الصفدي له.
(2) (513هـ أو 515أو 518هـ) ترجمته في معجم الأدباء 10/ 7956ومرآة الزمان 8/ 9492والوفيات 2/ 190185والوافي بالوفيات 12/ 438431والغيث المسجم 1/ 6316 (ط. العلمية) وعيون التواريخ 12/ 10193والبداية والنهاية 12/ 190والنجوم الزاهرة 5/ 221220وإدراك الأماني 2/ 9590. وهدية العارفين 5/ 312311.
(3) لم أهتد إلى هذا الشرح المشار إليه.
(4) الوافي بالوفيات 12/ 43والغيث المسجم 1/ 16.
(5) ب ج: الطغرى. أش: الطغراي، وهو غلط، والتصحيح من الوافي بالوفيات 12/ 43.
(6) سبق التعريف به في الصفحة 509الحاشية 1.
(7) هو أبو الفتح الملقب غياث الدين أحد الملوك السلجوقية المشهورين (547هـ) زبدة التواريخ 235207والوفيات 5/ 202200.(2/208)
محمود على الوزير المذكور وأوثقه في سجنه عدة من الشهور. ثم امتن عليه بإطلاقه، وتخليصه من وثاقه، فقال قصيدة يذكر فيها بعض أحواله وما جرى عليه، ويشكو من الزمان سوء صنيعه معه ويتأسف (1) ممّا آل أمره إليه، فوشى به بعض حاسديه إلى السلطان محمود، فقتله غير مشكور في فعله ذلك ولا محمود، وفاز المحدّث عنه بالشهادة، لما سبق له في الأزل من سابقة السعادة، وذلك سنة ثمان عشرة وخمس مائة.
وقصيدته التي قالها في ذلك فسقته كأس الحتوف وأوردته هاتيك المهالك، هي من غرر القصائد، ووسائط القلائد، التي رمت في ثغرة البيان بسهم مصيب، وفازت (2) من البراعة بأكمل حظّ وأوفر نصيب وأحرزت من قداح البلاغة معلاها والرقيب، لما تضمنته من المعاني الغريبة، والألفاظ المنتخبة العجيبة، واحتوت عليه من الأمثال والحكم، وهي الموسومة عند أهل الأدب (3) بلامية العجم، فمن ثمّ اعتنوا بها، حفظا وفهما وأكثروا الثناء عليها نثرا ونظما، ووضعوا عليها عدة شروح (4)، ونزلوها من أجسادهم منزلة الروح، فكان أحدهم لا يغدو إلا بها ويروح، فرحم الله ناظمها وأحسن إليه، ونوّله في دار كرامته، من الرّضوان ما لا مزيد عليه، بمنّه وفضله وكرمه وطوله. والقصيدة (5) المذكورة هي قوله): (تام البسيط)
أصالة الرّأي صانتنى عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
__________
(1) هـ: صنيعه ويترجع ويتأسف. و: صنيعه ويتضجر ويتأسف.
(2) حاشية هـ: وأحرزت.
(3) ب ج: الأدباء.
(4) من أشهر هذه الشروح شرح صلاح الدين الصفدي المسمى (الغيث المسجم) وشرح أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري المتوفى سنة 616هـ وشرح كمال الدين محمد بن موسى الدميري (بعد 769هـ) وشرح ابن جماعة النحوي سعيد بن مسعود الماغوسي (1016هـ) المسمى (إيضاح المبهم من لامية العجم) وشرح علي بن قاسم الطبري (683هـ) والمسمى (حل المبهم والمعجم في شرح لامية العجم) وشرح الشيخ جمال الدين محمد بن عمر بن مبارك الحضرمي (930هـ) المسمى (نثر العلم في شرح لامية العجم) وشرح حسين الكفوي وشرح جلال بن خضر الحنفي المسمى (نبذ العجم عن لامية العجم) وقد ألفه سنة 962هـ. انظر كشف الظنون 2/ 15381537.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.
والقصيدة في ديوانه 309301ومعجم الأدباء 10/ 6860والوفيات 2/ 188185والوافي بالوفيات 12/ 439436والغيث المسجم 1/ 44163، 2/ 4385وإدراك الأماني 2/ 9491.(2/209)
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع ... والشّمس رأد الضّحى كالشّمس في الطّفل (1)
فيم الإقامة بالزّوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي؟ (2)
ناء عن الأهل صفر الكفّ منفرد ... كالسّيف عرّي متناه من الخلل
فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي
طال اغترابي حتّى حنّ راحلتي ... ورحلها وقرى العسالة الذّبل (3)
وضجّ من لغب نضوى، وعجّ لما ... ألقى ركابي، ولجّ الرّكب في عذلي
أريد بسطة كفّ أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قبلي
والدّهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الكدّ بالقفل (4)
وذي شطاط كصدر الرّمح معتقل ... بمثله غير هيّاب ولا وكل (5)
حلو الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت ... بشدّة البأس منه رقّة الغزل
طردت سرح الكرى عن ورد مقلته ... واللّيل أغرى سوام النّوم بالمقل (6)
__________
(1) شرع أي سواء. رأد الضّحى: الرّأد هو وقت يلي الإشراق وقبل الضحى. الطّفل آخر النهار عند غروب الشمس (انظر الغيث المسجم 1/ 88).
(2) الزّوراء: بغداد سمّيت بذلك لانحراف قبلتها، السّكن: ما يسكن إليه الإنسان من زوج وغيره. لا ناقتي فيها مثل يضرب في التّبرّي عن الشيء. (الغيث المسجم 1/ 109107). الخلل جمع خلّة وهي بطائن كانت تغشّى بها أجفان السّيوف منقوشة بالذهب وغيره. (الغيث المسجم 1/ 129) واللسان: (خلل).
(3) الراحلة: الناقة التي تصلح لأن يوضع عليها الرّحل وهو المركب الذي يوضع على ظهرها. القرى والقارية من السّنان أعلاه. العسّالة جمع عسّال وهو الرمح المهتزّ المضطرب. الذّبل جمع ذابل وهو الرمح الدقيق الصلب.
اللغب واللّغوب: التّعب والإعياء. النّضو: البعير المهزول. عجّ: رفع صوته، الرّكاب: الإبل التي يسار عليها.
الغيث المسجم 1/ 161، 180179.
(4) ويقنعنى بالقفل فيه معنى المثل المشهور في قول امرئ القيس:
وقد طرّقت في الآفاق حتّى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
شطاط: قامة معتدلة. ومعتقل من الاعتقال وهو أن يضع الفارس رمحه بين ساقه وركابه. الوكل: العاجز الذي يكل أمره إلى غيره. الغيث المسجم 1/ 232، 253252.
(5) ج: لمثله، وهو غط.
(6) ج: سوام الليل، (الليل) غلط.
السّرح: المال السائم، السّوام والسائمة بمعنى، وهو المال الراعي. ميل جمع أميل وهو الذي لا يستوي على السّرج. الأكوار جمع كور وهو القتب، رحل الناقة وهو كالسّرج وآلته للفرس. الطّرب: الذي يطرب. الغيث المسجم 1/ 289، 290واللسان (كور).(2/210)
والرّكب ميل على الأكوار، من طرب ... صاح وآخر من خمر الكرى ثمل
فقلت أدعوك للجلّى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل
تنام عيني وعين النّجم ساهرة ... وتستحيل وصبغ الليل لم يحل (1)
فهل تعين على غيّ هممت به ... والغيّ يزجر أحيانا عن الفشل
إنّى أريد طروق الحيّ من إضم ... وقد حماه رماة الحيّ من ثعل
يحمون بالبيض والسّمر اللّدان به ... سود الغدائر حمر الحلي والحلل
فسر بنا في ذمام اللّيل معتسفا ... فنفحة الطّيب تهدينا إلى الحلل (2)
فالحبّ حيث العدى والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل
نؤمّ ناشئة بالجزع قد سقيت ... نصالها بمياه الغنج والكحل
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ... ما بالكرائم من جبن ومن بخل (3)
تبيت نار الهوى منهنّ في كبد ... حرّى ونار القرى منهم على القلل
يقتلن أنضاء حبّ لا حراك بهم ... وينحرون كرام الخيل والإبل (4)
يشفى لديغ العوالي في بيوتهم ... بنهلة من غدير الخمر والعسل
__________
(1) صبغ الليل: لونه. لم يحل: لم يتغير. الطّروق: المجيء ليلا. إضم: جبل بأرض المدينة. ثعل: أبو حيّ من طيء.
وبنو ثعل مشهورون بإتقان الرّمي. اللّدان جمع لدن وهو الرّمح اللّيّن. الغدائر: ظفائر الشّعر واحدتها غديرة. الحلي:
ما تتحلّى به المرأة من خاتم وسوار وقلادة الحلل جمع حلة وهي البردة اليمانية ويقصد بحمر، أن حليهن من الذهب ولباسهن من الحرير الأحمر. الغيث المسجم 1/ 338، 355، 356، 363، 367.
(2) الذّمام: الحرمة. معتسفا: أي ماشيّا على غير طريق. الحلل جمع حلّة وهي بيوت القوم. الحبّ: الحبيب. الكناس مولج الظّباء تستكنّ فيه من الحرّ. الأسل: الرّماح الطويلة المستوية. نؤمّ: نقصد. ناشئة أي فتاة ناشئة. الجزع: منعطف الوادي. الكحل: سواد يعلو جفون العين مثل الكحل من غير اكتحال. (الغيث المسجم 1/ 373، 381، 382، 395واللسان: أسل، كنس).
(3) ج: طيبها، وهو غلط.
(4) الأنضاء جمع نضو ويقصد بهم العشاق الذين أسقمهم الهوى وأنحلهم. العوالي: الرماح. ويقصد بالخمر والعسل رشف رضاب الفتيات اللآتي تقدم ذكرهنّ. (الغيث المسجم 1/ 426، 441، 442).(2/211)
لعلّ إلمامة بالجزع ثانية ... يدبّ منها نسيم البرء في عللي
لا أكره الطّعنة النّجلاء قد شفعت ... برشقة من نبال الأعين النّجل
ولا أهاب الصّفاح البيض تسعدني ... باللّمح من خلل الأستار والكلل (1)
ولا أخلّ بغزلان تغازلني ... ولو دهتني أسود الغيل بالغيل
حبّ السّلامة يثني همّ صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتّخذ نفقا ... في الأرض أو سلّما في الجوّ فاعتدل (2)
ودع غمار العلى للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهنّ بالبلل
رضى الذّليل بخفض العيش يخفضه ... والعزّ عند رسيم الأينق الذّلل (3)
فادرأ بها في نحور البيد جافلة ... معارضات مثاني اللّجم بالجدل
إن العلى حدّثتني وهي صادقة ... فيما تحدّث أنّ العزّ في النّقل
لو أنّ في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشّمس يوما دارة الحمل (4)
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا ... والحظّ عنّي بالجهّال في شغل
لعلّه إن بدا فضلى ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبّه لي
أعلّل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل (5)
__________
(1) الصّفاح جمع صفيحة وهي السيف العريض. تسعدني: تعينني. الخلل جمع خلال وهو الفرجة بين الشيئين. الكلل جمع كلة وهي السّتر الرقيق يخاط كالبيت يتوقّى به من البقّ. أخلّ بمركزه: تركه، وغاب عنه. وأخلّ به: لم يف له.
الغيل: الأجمة وهو موضع الأسد. الغيل: الغوائل. الدواهي. (الغيث المسجم 2/ 22، 35، 36واللسان:
خلل).
(2) ب ج: فاعتزل.
وفي البيت أخذ من قول الله تعالى: {«فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمََاءِ»} الانعام 6/ 35.
(3) الخفض: الدعة، الرسيم: ضرب من سير الإبل. الأينق جمع ناقة. الذّلل جمع ذلول أي طائعة سهلة القياد. ادرأ: ادفع.
جافلة: مسرعة. معارضات: تقول عارضته في المسير إذا سرت حياله. مثاني جمع مثنى أي مثنى مثنى. الجدل:
جمع جديل وهو زمام الناقة المجدول من أدم. (الغيث المسجم 2/ 7271، 79، 81).
(4) الحمل: أول برج من بروج الكواكب. (الغيث المسجم 2/ 103).
(5) حاشية ج: خ أقصر.(2/212)
لم أرتض العيش والأيّام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولّت على عجل (1)
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
وعادة النّصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل (2)
ما كنت أوثر أن يمتدّ بي زمني ... حتّى أرى دولة الأوغاد والسّفل
تقدّمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي إذ أمشي على مهل (3)
هذا جزاء امرىء أقرانه درجوا ... من قبله فتمنّى فسحة الأجل
وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشّمس عن زحل (4)
فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدّهر ما يغني عن الحيل
أعدى عدّوك أدنى من وثقت به ... فحاذر النّاس واصحبهم على دخل (5)
فإنّما رجل الدّنيا وواحدها ... من لا يعوّل في الدّنيا على رجل
وحسن ظنّك بالأيّام معجزة ... فظنّ شرّا وكن منها على وجل
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل
وشان صدقك عند النّاس كذبهم ... وهل يطابق معوجّ بمعتدل (6)
إن كان ينجع شيء في ثباتهم ... على العهود فسبق السّيف للعذل (7)
يا واردا سؤر عيش كلّه كدر ... أنفقت صفوك في أيّامك الأول
__________
(1) حاشية أج: لم أرض بالعيش.
(2) حاشية ج: خ السيف.
(3) حاشية ج: خ عدوهم.
(4) حاشية ج: فان في انحطاط.
انحطاط الشمس عن زحل: يقصد ارتفاع السّفّل وانحطاط الكرام لأن الشمس في الفلك الرابع وزحل في السابع.
(الغيث المسجم 2/ 248).
(5) الدّخل: المكر والخديعة. معجزة مصدر من العجز، وهو ضد القدرة. (الغيث 2/ 310، 334).
(6) حاشية ج: «خ يقابل».
(7) سبق السيف العذل مثل انظر فصل المقال 67والغيث المسجم 2/ 362. والعذل والعذل: اللّوم والتّعنيف. السّؤر:
البقية، ومنه سائر بمعنى الباقي. (الغيث المسجم 2/ 363، 374).(2/213)
فيم اقتحامك لجّ البحر تركبه ... وأنت تكفيك منه مصّة الوشل (1)
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والخول
ترجو البقاء بدار لا بقاء لها ... فهل سمعت بظلّ غير منتقل (2)
ويا خبيرا على الأسرار مطّلعا ... أصمت ففي الصّمت منجاة من الزّلل
قد رشّحوك لأمر إن فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل (3)
ومن شعر الطغرائي رحمه الله قوله (4): (الطويل)
سأحجب عنّي أسرتي عند عسرتي ... وأبرز فيهم إن أصبت ثراء
ولي أسوة بالبدر ينفق نوره ... فيخفى إلى أن يستجدّ ضياء
ومنه قوله (5): (الطويل)
ونفس بأعقاب الأمور بصيرة ... لها من طلاع الغيب حاد وقائد
وتأنف أن يشفي الزّلال غليلها ... إذا هي لم تشتق إليها الموارد
ومنه قوله (6): (تام الكامل)
إني لأذكركم وقد بلغ الظّما ... منّي فأشرق بالزّلال البارد
وأقول: ليت أحبّتي عاينتهم ... قبل الممات ولو بيوم واحد
__________
(1) حاشية أج هـ: «خ اعتراضك»
الوشل: الماء القليل. الخول، خول الرّجل: حشمه مفرده خائل (الغيث المسجم 2/ 390، 396).
(2) حاشية ج: = خ لاثبات =.
والبيت في حياة الحيوان 2/ 677.
(3) حاشية أج هـ: = خ لو فطنت =.
والبيت في حياة الحيوان 2/ 677.
الهمل: الإبل بلا راع. (الغيث المسجم 2/ 438).
(4) البيتان في ديوانه 41والوافي بالوفيات 12/ 434والغيث المسجم 1/ 222 (ط. العلمية).
(5) ج: وقوله.
والبيتان من قصيدة في شكوى الزمان مطلعها:
فؤاد على كرّ الحوادث مارد ... وعزم على جور النائب قاصد
وهي في ديوانه 131123والبيتان في الوافي بالوفيات 12/ 434وإدراك الأماني 2/ 94.
(6) ج: وقوله.
والبيت الأول مطلع مقطعة في تسعة أبيات في الغزل، وهي في ديوانه 141، والبيت الثاني لا يوجد في ديوانه. والبيتان مع ثلاثة أبيات أخرى في مرآة الزمان 8/ 93وهما في الوافي بالوفيات 12/ 435وإدراك الأماني 2/ 94.(2/214)
ومنه قوله (1): (تام الخفيف)
خبّروها أنّي مرضت فقالت: ... أضنى طارفا شكا أم تليدا
وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتتني في خفية وهي تشكو ... ألم الوجد المزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت عليّ عطفا وجيدا
ومنه قوله (2): (تام البسيط)
تالله ما استحسنت من بعد فرقتكم ... عيني سواكم ولا استمتعت بالنّظر
إن كان في الأرض شيء غيركم حسنا ... فإنّ حسنكم غطّى على بصري
ومنه قوله في الشمع (3): (تام الكامل)
يحيا بما يفني به من جسمه ... فحياته مرهونة بفنائه
ساويته في لونه ونحوله ... وفضلته في بؤسه وشقائه
هب أنّه مثلي بحرقة قلبه ... وسهاده طول الدّجى وبكائه
أفوادع طول النّهار مرفّه ... كمعذّب بصباحه ومسائه
وترجمته أوسع من هذا رحمنا الله وإياه.
__________
(1) أول مقطعة في سبعة أبيات في الغزل، وهي في ديوانه 142141والأبيات في إدراك الأماني 2/ 94.
(2) ج: وقوله.
والبيتان في ديوانه 172والوافي بالوفيات 12/ 435وإدراك الأماني 2/ 94.
(3) ج: وقوله في الشمع.
والأبيات من مقطعة في سبعة أبيات أولها:
ومساعد لي في البكاء مساهر ... بالليل يؤنسني بطيب لقائه
وهي في ديوانه 42والأبيات في إدراك الأماني 2/ 95.(2/215)
100 - القاضي الرشيد (1)
(2) هو أبو العباس أحمد بن علي بن إبراهيم بن الزبير الغسّاني الأسواني المصري كان شاعرا فقيها نحويا لغويا عروضيا منطقيا مؤرخا طبيبا منجما، موسيقيا، إلا أنه مع جلالته كان أسود جهم الوجه ذا شفة غليظة، وأنف مبسوط، سمج الخلقة، قصيرا. ففيه يقول محمود بن قادوس (3) يهجوه: (مجزوء الكامل)
إن قلت: من نار خلق ... ت، وفقت كلّ النّاس فهما
قلنا: صدقت فما الذي ... أضناك حتّى صرت فحما؟!
وفيه يقول (4): (تام السريع)
يا شبه لقمان بلا حكمة ... وخاسرا في العلم لا راسخا
سلخت أشعار الورى كلّها ... فصرت تدعى الأسود السّالخا
من شعر القاضي المذكور (قوله) (5): (الطويل)
لئن خاب ظنّي في رجائك بعد ما ... ظننت بأنّي قد ظفرت بمنصف
فإنّك قد قلّدتني كلّ منّة ... ملكت بها شكري لدى كلّ موقف
لأنّك قد حذّرتني كلّ صاحب ... وأعلمتني أن ليس في الأرض من يفي
__________
(1) (562أو 563هـ) ترجمته في خريدة القصر 1/ 202200 (شعراء مصر) وطبقات فقهاء اليمن 168167ومعجم الأدباء 4/ 6651ومرآة الزمان 8/ 106105والوفيات 1/ 164160 والوافي بالوفيات 7/ 225220وإدراك الأماني 10/ 188187والأعلام 3/ 98.
(2) من الوافي بالوفيات 7/ 222220بتصرف، وفيه = أبو الحسن = بدل = أبو العباس =.
(3) هو أبو الفتح الدمياطي محمود بن إسماعيل بن حميد الفهري المعروف بابن قادوس، كاتب الإنشاء بالحضرة المصرية له أشعار محكمة النسج (551هـ) خريدة القصر 1/ 234226 (شعراء مصر) والفوات 4/ 101100والأعلام 8/ 166 والبيتان في معجم الأدباء 4/ 60وخريدة القصر 1/ 229 (شعراء مصر) والوفيات 1/ 163والوافي بالوفيات 7/ 223وإدراك الأماني 10/ 188.
(4) البيتان في خريدة القصر 1/ 226 (شعراء مصر) والوفيات 1/ 163والوافي بالوفيات 7/ 223وإدراك الأماني 10/ 188.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج
والأبيات في خريدة القصر 1/ 201 (شعراء مصر) والوفيات 1/ 162والوافي بالوفيات 7/ 221وإدراك الأماني 10/ 188.(2/216)
وقوله من قصيدة (1): (تام الكامل)
لا ذنب لي في الحبّ أعرفه سوى ... أنّي حفظت العهد لمّا خنتم
وأقمت حين ظعنتم وعدلت لمّا ... جرتم وسهرت لمّا نمتم
وامتحن رحمه الله محنة عظيمة، فكان ينشد (2): (تام الكامل)
إن كان عندك يا زمان بقيّة ... ممّا تهين به الكرام فهاتها
ثم قتل مظلوما في محرم سنة اثنتين وستين وخمس مائة (3) رحمه الله وأرضاه.
101 - القاضي المهذب (4)
هو أبو محمد الحسن بن علي (5) (بن إبراهيم) بن الزبير وهو أخو القاضي الرشيد المتقدم ذكره آنفا، كان شاعرا مجيدا، من محاسنه قوله، وفيه تضمين (6):
(تام البسيط)
أقصر، فديتك، من لومي ومن عذلي ... أولا فخذ لي أمانا من ظبى المقل
__________
(1) من قصيدة مطلعها
رحلوا فلا خلت المنازل منهم ... ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم
يجيب فيها أخاه القاضي المهذب عن قصيدة أولها:
يا ربع أين ترى الأحبّة يمّموا ... هل أنجدوا من بعدنا أو أتهموا
بعضها في الوافي بالوفيات 7/ 221220والفوات 1/ 341340والبتان في إدراك الأماني 10/ 188. وسيذكرها المؤلف في ترجمة أخيه الآتية برقم 101.
(2) البيت في الوافي بالوفيات 7/ 224وإدراك الأماني 10/ 188.
(3) جاء في الوفيات 1/ 168أنه قتل سنة 563هـ وانظر تفاصيل قتله في الوافي بالوفيات أعلاه.
(4) (561هـ) ترجمته في خريدة القصر 1/ 225204 (شعراء مصر) ومعجم الأدباء 9/ 7047 والوفيات 1/ 161والفوات 1/ 341337والوافي بالوفيات 12/ 138131وإدراك الأماني 10/ 241240والأعلام 2/ 202.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.
(6) أول قصيدة في المدح، وهي في خريدة القصر 1/ 208206 (شعراء مصر) والأبيات في معجم الأدباء 9/ 6867والفوات 1/ 338والوافي بالوفيات 12/ 133132وإدراك الأماني 10/ 240(2/217)
من كلّ طرف مريض الجفن ينشدني ... يا ربّ رام بنجد من بني ثعل (1)
إن كان فيه لنا وهو السّقيم شفا ... «فربّما صحّت الأجسام بالعلل» (2)
وقوله في مليح رفّاء (3): (الطويل)
بليت برفّاء لواحظ طرفه ... بنا فعلت ما ليس يفعله النّصل
يجور على العشّاق والعدل دأبه ... ويقطعني ظلما وصنعته الوصل
وقوله يرثي صديقا له وقع المطر يوم موته (4): (الطويل)
بنفسي من أبكى السماوات فقده ... بغيث ظننناه نوال يمينه
فما استعبرت إلّا أسى وتأسّفا ... وإلّا فماذا القطر في غير حينه؟
وقوله (5): (تام السريع)
لا ترج ذا نقص وإن أصبحت ... من دونه في الرّتبة الشّمس
كيوان أعلى كوكب موضعا ... وهو، إذا أنصفته، نحس
__________
(1) في الشطر الثاني تضمين لصدر بيت امرئ القيس:
ربّ رام من بني ثعل ... متلج كفّيه في قتره
وهذا البيت مطلع قصيدة في الصيد في ديوانه 127123.
وبنو ثعل من طيء مشهورون بجودة الرمي. الغيث المسجم 1/ 356 (ط. العلمية) متلج كفّيه في قتره أي مدخل كفّيه فيها. والقتر جمع قترة وهي حفرة يكمن فيها الصائد لئلا يفطن له الصّيد فيفرّ (القاموس: تلج) و (اللسان:
قتر) ولم يرد في اللسان (تلج وأتلج) بهذا المعنى.
(2) الشطر الثاني تضمين لعجز بيت للمتنبي من قصيدة في المدح مطلعها:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلبّاه قبل الرّكب والإبل
وصدر البيت:
لعلّ عتبك محمود عواقبه
والقصيدة في ديوانه 3/ 8874.
(3) البيتان في الفوات 1/ 338والوافي بالوفيات 12/ 133والثاني في معجم الأدباء 9/ 65.
(4) البيتان في خريدة القصر 1/ 222 (شعراء مصر) ومعجم الأدباء 9/ 68والفوات 1/ 338والوافي بالوفيات 12/ 133وإدراك الأماني 10/ 240.
(5) البيتان في خريدة القصر 1/ 224 (شعراء مصر) ومعجم الأدباء 9/ 69والفوات 1/ 338والوافي بالوفيات 12/ 133وإدراك الأماني 10/ 240.
وكيوان هو زحل ويقال إنه في السماء السابعة (اللسان: زحل، كون)، وهو عند العرب كوكب النحس والشؤم. انظر المدخل إلى علم الهيئة 58وخريدة القصر 1/ 224الحاشية 2 (شعراء مصر) ومعجم الأدباء 9/ 69الحاشية 1.(2/218)
وقوله (1)، وكتب به إلى الداعي باليمن يستعطفه لما قبض على أخيه الرشيد فأطلقه (2): (تام الكامل)
يا ربع أين ترى الأحبّة يمّموا ... هل أنجدوا من بعدنا أو أتهموا؟
نزلوا من العين السّواد وإن نأوا ... ومن الفؤاد مكان ما أنا أكتم
رحلوا وفي القلب المعنّى بعدهم ... وجد على مرّ الزّمان مخيّم
رحلوا وقد لاح الصباح وإنّما ... تسري إذا جنّ الظلام الأنجم
وتعوّضت بالأنس روحي وحشة ... لا أوحش الله المنازل منهم
يقول فيها:
إنّي لأذكركم إذا ما أشرقت ... شمس الضحى من نحوكم فأسلّم
لا تبعثوا لي في النسيم تحية ... إنّي أغار من النّسيم عليكم
إنّي امرؤ قد بعت حظّي راضيا ... من هذه الدنيا بحظّي منكم
فسلوت إلّا عنكم وقنعت إلّا ... منكم وزهدت إلّا فيكم
ما كان بعد أخي الذي فارقته ... ليبرح إلّا بالشّكاية لي فم
هو ذاك لم يملك علاه مالك ... كلّا ولا وجدي عليه متمّم (3)
أقوت مغانيه وعطّل ربعه ... ولربّما هجر العرين الضّيغم
ورمت به الأهوال همّة ماجد ... كالسّيف يمضي غربه ويصمّم
يا راحلا بالمجد عنّا والعلى ... أترى يكون لكم علينا مقدم؟
يفديك قوم كنت واسط عقدهم ... ما إن بهم مذ غبت شمل ينظم
جهلوا فظنّوا أنّ بعدك مغنم ... لمّا رحلت وإنّما هو مغرم
ولقد أقرّ العين أنّ عداك قد ... هلكوا ببغيهم وأنت مسلّم
__________
(1) من الفوات 1/ 340
(2) أول قصيدة منها سبعة وثلاثون بيتا في معجم الأدباء 9/ 5750والوافي بالوفيات 12/ 138136ومنها أربعة وعشرون في الفوات 1/ 341340.
(3) مالك ومتمّم ابنا نويرة، وكان مالك فارسا شاعرا صاحب خيلاء وكبر قتل في حروب الرّدة فرثاه أخوه متمّم ووجد عليه كثيرا. انظر طبقات ابن سلام 1/ 209205والتعازي 2113والأغاني 15/ 312298.(2/219)
وهي طويلة يقول في آخرها يخاطب الداعي المذكور:
مع أنّني سيّرت فيك شواردا ... كالدّرّ بل أبهى لدى من يفهم (1)
تعدو، وهوج الذاريات رواكد ... وتبيت تسري، والكواكب نوّم (2)
وترجمتهما (3) أوسع وفيما ذكرناه منهما (4) مقنع، رحمنا الله وإياهما.
102 - القاضي الأرجاني (5)
(6) هو ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين بن علاء الشيرازي الأرّجاني بتشديد الراء وفتح الجيم، كان أديبا بارعا حسن العبارة لطيف الإشارة غوّاصا على المعاني، إذا ظفر بمعنى لم يدع لمن بعده فيه فضلا، قال أبو القاسم هبة الله بن الفضل الشاعر (7): كان الغزّيّ (8) صاحب معنى لا لفظ، وكان الأبيورديّ (9) صاحب لفظ لا معنى، وكان القاضي أبو بكر الأرّجاني قد جمعهما. وكان فقيها شاعرا، ففي ذلك يقول (10): (تام الكامل)
أنا أفقه الشعراء غير مدافع ... في العصر لا بل أشعر الفقهاء
__________
(1) شوارد جمع شاردة ويقصد أبياتا وقصائد سائرة في البلاد كما يشرد البعير. (اللسان: شرد)
(2) هوج جمع هوجاء وهي الريح الشديدة الهبوب. الذاريات: الرياح التي تذرو التراب وتطيره. (اللسان: ذرا، هوج) ويقصد بذلك أن تلك الأشعار التي مدحه بها تسير بسرعة بين القبائل في الوقت الذي ركدت فيه الرياح الهوج الذاريات، وذلك منه مبالغة في شدة انتشارها بين الناس.
(3) ج: وترجمتها، وهو غلط. ويقصد بترجمتهما ترجمتي القاضي الرشيد وأخيه القاضي المهذب.
(4) أج هـ: منها، وهو غلط، ولعل الصحيح ما أثبتناه اعتمادا على السياق. ش: وترجمتهما أوسع من هذا رحمنا الله وإياهما.
(5) (544هـ) ترجمته في المنتظم 10/ 140139والوفيات 1/ 155151وذيل مرآة الزمان 1/ 240220والوافي بالوفيات 7/ 378373وحياة الحيوان 2/ 112111ومعاهد التنصيص 3/ 4641وإدراك الأماني 2/ 189187ومقدمة ديوانه 1/ 526.
(6) من الوافي بالوفيات 7/ 373بتصرف إلى قوله = قد جمعهما =
(7) شاعر بغدادي مشهور يعرف بابن القطان اشتهر بالهجاء والمجون (558هـ) خريدة القصر 2/ 288270 (شعراء العراق) والوفيات 6/ 6153والأعلام 8/ 75.
(8) هو إبراهيم بن عثمان الذي سيترجم له المؤلف بعد قليل برقم 104.
(9) هو محمد بن أحمد الشاعر المؤرخ اللغوي المشهور (507هـ) ترجمته في الوفيات 4/ 449444والوافي بالوفيات 2/ 9391ومقدمة ديوانه 1/ 217.
(10) من قصيدة في معاتبة الماء استعارة مطلعها:
صدر الرّعاء وما سقيت ظمائي ... أفلا يخور جنان هذا الماء؟
وهي في ديوانه 1/ 4441والبيت في الوفيات 1/ 152والوافي بالوفيات 7/ 374ومعاهد التنصيص 3/ 42وإدراك الأماني 2/ 187.(2/220)
فمن (1) شعره قوله وهو غريب المعنى (2): (الطويل)
رثى لي وقد ساويته في نحوله ... خيالي لمّا لم يكن لي راحم
فدلّس بي حتّى رأيت مكانه ... وأوهمت إلفي أنّني عنه حالم (3)
وبتنا ولم يشعر بنا النّاس ليلة ... أنا ساهر في جفنه، وهو نائم
وقوله (4): (تام الوافر)
أحبّ المرء ظاهره جميل ... لصاحبه، وباطنه سليم
مودّته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودّته تدوم؟
(5) وهذا البيت الثاني يقرأ من آخره، كما يقرأ من أوّله، فهو كقول الحريري (6):
«كبّر رجاء أجر ربّك» ونظرائه.
وقوله يصف الشمعة، وهي قصيدة طويلة أحسن فيها كلّ الإحسان مطلعها (7): (تام البسيط)
نمّت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للنّاس من فيها
__________
(1) ج: من.
(2) من قصيدة في المدح مطلعها:
أتلك رياض أم خدود نواعم؟ ... وفيها أقاح أم ثغور بواسم؟
وهي في ديوانه 3/ 12491239والأبيات في الوفيات 1/ 153والوافي بالوفيات 7/ 374ومعاهد التنصيص 3/ 42وإدراك الأماني 2/ 188.
(3) حاشية ج: ع أريت.
(4) أب ج ش: ظاهره سليم وباطنه سليم. = سليم = الأولى غلط، والتصحيح من الديوان والوفيات والوافي بالوفيات فيما يلي.
والبيتان من قصيدة في المدح مطلعها:
لأيّ وميض بارقة أشيم ... ومرعى الفضل في زمني هشيم؟
وهي في ديوانه 3/ 12391231، والبيتان في الوفيات 1/ 154والوافي بالوفيات 7/ 374وحياة الحيوان 2/ 111ومعاهد التنصيص 3/ 43والبيت الثاني في الغيث المسجم 2/ 456 (ط. العلمية).
(5) الخبر في الغيث المسجم 2/ 456 (ط. العلمية) وحياة الحيوان 2/ 111.
(6) شرح المقامات 1/ 191والغيث المسجم 2/ 456 (ط. العلمية)
(7) في المدح في مئة بيت وهي في ديوانه 3/ 15361524ومنها (46) بيتا في الوافي بالوفيات 7/ 377375: والأبيات في معاهد التنصيص 3/ 43وإدراك الأماني 2/ 189188.(2/221)
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلّا ترقّيه نارا من تراقيها (1)
سفيهة لم يزل طول اللسان لها ... في الحيّ يجني عليها ضرب هاديها
غريقة في دموع وهي تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظّيها
تنفّست نفس المهجورة ادّكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها
تخشى عليها الرّدى مهما ألمّ بها ... نسيم ريح، إذا وافى يحيّيها
بدت كنجم هوى في إثر عفرية ... في الأرض فاشتعلت منه نواصيها (2)
كأنّها غرّة قد سال شادخها ... في وجه دهماء يزهاها تحلّيها
أو ضرّة خلقت للشمس حاسدة ... فكلّما حجبت قامت تحاكيها
واحدة بشباة الرّمح هازمة ... عساكر اللّيل، إذ حلّت بواديها
ما طنّبت قطّ في أرض مخيّمة ... إلّا وأقمر للأبصار داجيها
لها غرائب تبدو من محاسنها ... إذا تفكّرت يوما في معانيها
فالوجنة الورد إلا في تناولها ... والقامة الغصن إلّا في تثنّيها
قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكفّ إن أهويت تجنيها (3)
ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت ... وما على غصنها شوك يوقّيها
صفر غلائلها، حمر عمائمها ... سود ذوائبها، بيض لياليها
إلى آخرها، وهي كلّها على هذا النمط البديع، والأسلوب الغريب والتشبيه المتمكّن، وفيما ذكرناه منها ما ينبّه على ما لم نذكره.
__________
(1) أب ج ش والوافي بالوفيات 7/ 375: إلّا ترقّيه. الديوان: ألا ترى فيه.
(2) ج: عقرية، أب ش هـ و: غفرته، وكلاهما غلط، والتصحيح من الديوان والوافي بالوفيات 7/ 376.
عفرية جمع عفاري وهو الشيطان والعفريت. (اللسان: عفر) وفي البيت إشارة إلى بعض معنى قوله تعالى {= وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَجَعَلْنََاهََا رُجُوماً لِلشَّيََاطِينِ =} سورة الملك 67/ 5.
شدخت الغرّة تشدخ شدخا: انتشرت وسالت وطالت فملأت الجبهة فهي شادخة. الدهماء: الليلة الشديدة الظلام. زهاه الشيء يزهاه: استخفّه. شباة الرّمح: حدّه. طنّب الخيمة شدّ أطنابها أي حبالها الطّوال. (اللسان: دهم، زها، شبا، طنب).
(3) أب ج ش هـ و: هويت، وهو غلط لا يستقيم معه الوزن، والتصحيح من الديوان والوافي بالوفيات ومعاهد التنصيص.(2/222)
وكان (1) القزوينيّ صاحب (تلخيص المفتاح) (2) يعظّم الأرجّانيّ هذا، ويعدّه من مفاخر العجم. واختار شعره وسمّاه الشّذر المرجانيّ من شعر الأرجاني (3). وهو أي القزويني أحد شيوخ الصلاح الصفدي، وذكر أنه أجاز له في سنة ثمان وعشرين وسبع مائة. قال: وتوفي يعني القزويني سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة. رحمنا الله وإياهم أجمعين بمنّه وكرمه أمين.
103 - القاضي ابن أبي حصينة (4)
هو أبو زكريا يحيى بن سالم بن أبي حصينة، من شعراء الديار المصرية، يلقب رضي الدين. له شعر جيد من أحسنه قوله (5): (تام الكامل)
كفّ الملام فليس شأنك شاني ... إنّ الشّجيّ إلى الخليّ لشاني
__________
(1) من الوافي بالوفيات 3/ 243والخبر في الدرر الكامنة 4/ 122.
والقزويني هو جلال الدين أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن المعروف بخطيب دمشق، وهو أحد علماء العربية، فقيه أصوليّ ومحدّث له: الإيضاح في علوم البلاغة، وتلخيص المفتاح (739هـ أو 738) الوافي بالوفيات 3/ 243242والدرر الكامنة 4/ 123120والنجوم الزاهرة 9/ 318وبغية الوعاة 1/ 157156ومعجم المؤلفين 10/ 146145والأعلام 6/ 192.
(2) كتاب في البلاغة لخص فيه القزوينيّ كتاب مفتاح العلوم لأبي يعقوب السكاكي (626هـ) وقد طبع مرات أنظر معجم المطبوعات 2/ 1509والإيضاح 66.
(3) انظر عن هذا الكتاب الوافي بالوفيات 3/ 243والدرر الكامنة 4/ 122ومعجم المطبوعات العربية 2/ 1509 ومعجم المؤلفين 10/ 146145. وسمي في بغية الوعاة 1/ 157والأعلام 6/ 192: «السّور المرجانيّ من شعر الأرجاني».
(4) (بعد 580هـ) ترجمته في خريدة القصر 2/ 157 (قسم مصر) والمغرب في حلى المغرب 339 (قسم القاهرة) والفوات 4/ 275272وإدراك الأماني 8/ 75.
وهناك شاعر آخر بهذا الاسم وهو ابن أبي حصينة الأمير أبو الفتح الحسن بن عبد الله السلمي المعري، له ديوان سمعه وشرحه أبو العلاء المعري حققه ونشره في جزأين محمد أسعد طلس، مطبوعات مجمع دمشق العربي المطبعة الهاشمية دمشق 13771375/ 19571956.
(5) الأبيات في إدراك الأماني 8/ 75وما عدا الخامس، في الفوات 4/ 275274.
إن الشجيّ الخ فيه معنى المثل العربيّ: ويل للشّجيّ من الخليّ. والشجيّ: الحزين، والخليّ الفارغ الذي ليس له ما يحزنه، ويقصد بالشّجيّ هنا المتعلّق بحبّ امرأة، وبالخليّ ضدّ ذلك. شاني (الثانية) من شنئ الشّيء وشنأه يشنؤه:
أبغضه. يخلص بالملامة مغرم: المغرم: المولع بحبّ النساء، أي أنّ الملامة لا تنجي المغرم ممّا به من حبّ. غيلان هو ذو الرمة الشاعر المشهور وميّ هي مية صاحبته، انظر الترجمة رقم 13و (اللسان: خلا، شجا، شنأ، غرم).(2/223)
لو كان يخلص بالملامة مغرم ... ما سلّطت ميّ على غيلان
ولما غدت أسد الرّجال يصيدها ... عند اللقاء لواحظ الغزلان
بانت أمامة والغرام مخيّم ... عندي وبان لبينها سلواني
ولكم كتمت عن العواذل حبّها ... فوشى لهم دمعي على كتماني
وإذا سطا جيش الغرام على امرىء ... نقل الذي في السّرّ للإعلان
أسكنتها قلبي فبان خرابه ... والقلب يخربه أذى السّكّان
تسطو بجفن كلّ منبت شعرة ... من هدبه محسوبة بسنان (1)
وكأنّما أجفانها إن حكّمت ... في القلب أجفان لكلّ يماني
حسنت فهلّا أحسنت بوصالها ... والحسن منتسب إلى الإحسان
وكان هذا القاضي رحمه الله أحدب. وفي حدبته يقول الوجيه الذّرويّ (2) وهو في غاية التّهكمّ بأحدب (3): (تام الخفيف)
يا أخي كيف غيّرتنا اللّيالي ... وأحالت ما بيننا بالمحال
حاش لله أن أصافي خلا ... فيراني في ودّه ذا اختلال
زعموا أنّني نظمت هجاء ... معربا فيه عن شنيع المقال
__________
(1) يقصد بالسّنان: سنان الرّمح أي حدّه الماضي. أجفانها جمع جفن وهو غطاء العين، ويقصد عينيها. وأجفان اليماني أي أجفان السيف اليماني جمع جفن وهو الغمد. (اللسان: جفن).
(2) أب ج ش: الدورى، وهو غلط، والتصحيح من خريدة القصر 1/ 187 (قسم مصر)، والمغرب في حلى المغرب 333، 334 (قسم القاهرة) والفوات 3/ 113.
والوجيه الذّرويّ هو القاضي أبو الحسن عليّ بن يحيى ابن الذّرويّ أديب وشاعر مجيد، أصله من المعرة (577هـ) الروضتين 2/ 27وخريدة القصر 1/ 188187 (قسم مصر) والوفيات 4/ 145، 6/ 253 والمغرب في حلى المغرب 336333 (قسم القاهرة) والفوات 3/ 117113.
(3) الأبيات في الفوات 4/ 273272وإدراك الأماني 8/ 75وما عدا الأبيات 8، 1513في خريدة القصر 1/ 188 (قسم مصر) مع بيت آخر، ومعظم الأبيات في الروضتين 2/ 72والمغرب في حلى المغرب 334 (قسم القاهرة) مع أبيات أخرى.(2/224)
كذبوا إنّما وصفت الذي حز ... ت من الفضل والنّهى والكمال
لا تظنّنّ حدبة الظّهر عيبا ... هي في الحسن من صفات الهلال
وكذاك القسيّ محدودبات ... وهي أنكى من الظّبا والعوالي
ودناني القضاة وهي كما تع ... لم كانت موصوفة بالجلال (1)
وإذا ما علا السّنام ففيه ... لقروم الجمال أيّ جمال
كوّن الله حدبة فيك إن شئ ... ت من الفضل أو من الإفضال
فأتت ربوة على طود حلم ... أو أتت موجة ببحر نوال
ما رأتها النّساء إلّا تمنّت ... لو غدت حلية لكلّ الرّجال
وأبو الغصن أنت لا شكّ فيه ... وهو ربّ القوام والاعتدال
عد إلى ودّنا القديم ولا تص ... غ لقيل من الوشاة وقال
وتذكّر لياليا حين ولّت ... أودعت حسنها عقود لآلي
أترى بالدّعاء يجمع شملي ... أم دعائي مضيّع وابتهالي
وإذا لم يكن من الهجر بدّ ... فعسى أن تزورنا في الخيال
سامحنا الله وإياهما بمنّه وكرمه.
__________
(1) الدّناني جمع دنية، وهي قلنسوة شبّهت بالدنّ وهي محدّدة الأطراف يلبسها القضاة والأكابر، شرح المقامات 1/ 108وتاج العروس (دندن).(2/225)
104 - ابراهيم الغزي (1)
هو (2) أبو إسحاق أو أبو مدين ابراهيم بن عثمان الكلبي الغزّي غزّة الساحل (3)، كان شاعرا فصيحا مشاركا في كثير من العلوم. من شعره قوله يهجو بعض الوزراء (4): (تام البسيط)
من آلة الدّست لم يعط الوزير سوى ... تحريك لحيته في حال إيماء
فهو الوزير ولا أزر يشدّ به ... مثل العروض لها بحر بلا ماء
وقوله من بعض غزلياته (5): (تام البسيط)
أمط عن الدّرر الزّهر اليواقيتا ... واجعل لحجّ تلاقينا مواقيتا
فثغرك اللّؤلؤ المبيضّ لا الحجر ال ... مسودّ، لاثمه يطوي السّباريتا
قابلت بالشّنب الأجفان مبتسما ... فطاح عن ناظريك السّحر منكوتا
فكان فوك اليد البيضاء جاء بها ... موسى، وجفناك هاروتا وماروتا (6)
__________
(1) (524هـ) ترجمته في التاريخ الكبير 2/ 231229ونزهة الألباء 387وخريدة القصر 1/ 753 (قسم الشام) والمنتظم 10/ 1615ومرآة الزمان 8/ 134133والوفيات 1/ 6257وتاريخ ابن الوردي 2/ 5857والوافي بالوفيات 6/ 5451ومرآة الجنان 3/ 231230والبداية والنهاية 12/ 201 والنجوم الزاهرة 5/ 236والشذرات 4/ 6867وإدراك الأماني 9/ 151150والأعلام 1/ 50.
(2) من الوافي بالوفيات 6/ 51بتصرف.
(3) يقصد المدينة الفلسطينية المشهورة القريبة من عسقلان على الحدود المصرية. انظر معجم البلدان 4/ 203202 والوفيات 1/ 6160.
(4) البيتان في خريدة القصر 1/ 38 (قسم الشام) والوفيات 1/ 59والوافي بالوفيات 6/ 52وإدراك الأماني 9/ 150.
الدّست: الديوان ومجلس الوزارة والرئاسة. انظر الوزراء للصابي 452وتاج العروس (دست).
(5) من قصيدة في المدح معظمها في خريدة القصر 1/ 118 (قسم الشام) والأبيات في الوافي بالوفيات 6/ 5352وإدراك الأماني 9/ 150وأولها مع بيتين آخرين في تاريخ ابن الوردي 2/ 57 السّباريت جمع سبروت وهي الأرض التي لا ينبت فيها شيء. (اللسان: سبرت).
(6) ش: فوك. ج: فوك (بترك بياض مكان الواو). أب هـ و: فاك، وهو غلط.(2/226)
جمعت ضدّين كان الجمع بينهما ... لكلّ جمع من الألباب تشتيتا
جسما من الماء مشروبا لأعيننا ... يضمّ قلبا من الأحجار منحوتا
ونشر ذكراك أذكى الطّيب رائحة ... ونور وجهك ردّ البدر مبهوتا (1)
فضحت بالغيد الغزلان ملتفتا ... ولم يكن عن صيال الأسد ملفوتا
عذرت طيفك في هجري وقلت له ... لو استطعت إلينا في الكرى جيتا
وهو القائل (2): (تام الكامل)
قالوا: هجرت الشّعر، قلت: ضرورة ... باب الدّواعي والبواعث مغلق
خلت الدّيار فلا كريم يرتجى ... منه النّوال ولا مليح يعشق
ومن الرّزية أنّه لا يشترى ... ويخان فيه، مع الكساد، ويسرق
وما أحسن قول شرف الدين عبد العزيز الحموي (3): (تام الكامل)
وأغنّ أصدق في صفات جماله ... لكنّ وعد وصاله لا يصدق
راجعت فيه الشّعر كهلا بعد ما ... باينته ولماء وجهي رونق
ولئن فقدت به كريما يرتجى ... فلقد وجدت به مليحا يعشق
ولما توفي الغزّي المذكور، قال أبو علي ابن طباطبا العلوي (4) يرثيه: (تام الوافر)
همومي في فراق إمام غزّه ... هموم كثيّر لفراق عزّه
رحمنا الله وإياهما (5) [بمنه وكرمه].
__________
(1) ج: مثل الطيب.
الغيد صفة العنق التي مالت وتثنّت من النعومة واللّيونة. ملفوتا: من لفت وجهه عن الشيء صرفه. (اللسان: غيد، لفت). جيتا: تخفيف (جئت) مع إشباع الحركة الأخيرة للوزن.
(2) الأبيات في التاريخ الكبير 2/ 230ونزهة الألباء 387وخريدة القصر 1/ 6 (قسم الشام) والمنتظم 10/ 16ومرآة الزمان 8/ 134وتاريخ ابن الوردي 2/ 57والوافي بالوفيات 6/ 52والبداية والنهاية 12/ 201والنجوم الزاهرة 5/ 236 والشذرات 4/ 68وإدراك الأماني 9/ 150والبيتان الأولان في مرآة الجنان 3/ 231.
(3) هو شيخ الشيوخ شرف الدين الحموي شاعر ذكره الصفدي في الغيث المسجم وأورد له كثيرا من الأشعار انظر الغيث المسجم 1/ 158، 201، 223، 2/ 35، 171، 366365، 441وصفحات أخرى (ط. العلمية).
والأبيات في الوافي بالوفيات 6/ 52وإدراك الأماني 9/ 150.
(4) لم أعثر على تعريف له في المظان.
والبيت في الوافي بالوفيات 6/ 54وإدراك الأماني 9/ 151.
وكثيّر وعزّة سبق الحديث عنهما في الترجمة رقم 12.
(5) زيادة في ج.(2/227)
105 - ابن صابر (1)
هو نجم الدين أبو يوسف يعقوب بن صابر القرشيّ المنجنيقيّ الحرّانيّ (2) ثم البغدادي، كان شاعرا مفلقا. له شعر منسجم من أحسنه قوله (3): (تام الكامل)
قبّلت وجنته فألفت جيده ... خجلا ومال بعطفه الميّاس
فانهلّ من خدّيه فوق عذاره ... عرق يحاكي الطّلّ فوق الآس
فكأنّني استقطرت ورد خدوده ... بتصاعد الزّفرات والأنفاس
وقوله يخاطب شيخ الرّباط (4)، وقد بات عنده جماعة من الفقراء فاستنفدوا ما عنده من الطّعام (5): (تام السريع)
مولاي يا شيخ الرّباط الذي ... أبان عن فضل وعلياء
إليك أشكو جور صوفيّة ... باتوا ضيوفي وأودّائي
أتيتهم بالخبز مستأثرا ... وبتّ تشكو الجوع أعضائي
مشوا على الخبز ومن عادة الزّ ... هاد أن يمشوا على الماء
وقوله (6): (الطويل)
تعلمت علم المنجنيق ورميه ... لهدم الصّياصي وافتتاح المرابط
وعدت إلى نظم القريض لشقوتي ... فلم أخل في الحالين من قصد حائط
__________
(1) (626هـ) ترجمته في الوفيات 7/ 4635والبداية والنهاية 13/ 125والشذرات 5/ 120. وإدراك الأماني 9/ 4138والأعلام 8/ 199.
(2) ج: الحراث، وهو غلط.
(3) الأبيات في الوفيات 7/ 36وإدراك الأماني 9/ 38.
ألفت جيده وتلفّته أي لواه. الميّاس: المتمايل والمتبختر. عذار الرجل شعره النابت في موضع العذار أي خط لحيته.
الآس: ضرب من الرياحين دائم الخضرة (اللسان: أوس، عذر، لفت).
(4) يقصد به شيخ الزاوية والطريقة الصوفية، ويقصد بالفقراء المريدين من طلاب الزاوية والزهاد.
(5) الأبيات في الوفيات 7/ 39وإدراك الأماني 9/ 3938.
الأودّاء جمع ودّ ووديد وهم الأحبّة. (اللسان: ودد).
(6) البيتان في الوفيات 7/ 37والفوات 4/ 153والشذرات 5/ 120وإدراك الأماني 9/ 39.
الصّياصي جمع صيصة وهي الحصون. (اللسان: صيص) قصد حائط: يقصد أنه يعود خائبا دون غنيمة.(2/228)
وقوله (1): (تام الخفيف)
لا تكن واثقا بمن كظم الغي ... ظ اغتيالا وخف غرار الغرور
فالظّبى المرهفات أقتل ما كا ... نت إذا غاص ماؤها في الصّدور
وقوله في جارية حبشية كان يهواها (2): (تام المتقارب)
وجارية من بنات الحبو ... ش ذات جفون صحاح مراض
تعشّقتها للتّصابي فشب ... ت غراما ولم أك بالشّيب راض
وكنت أعيّرها بالسّواد ... فصارت تعيّرني بالبياض
وقوله (3): (تام المتقارب)
وجارية عبرت للطواف ... وعبرتها حذرا تدمع
فقلت: ادخلي البيت لا تجزعي ... ففيه الأمان لمن يجزع
سدانته لبني شيبة ... فقالت: ومن شيبة أفزع
وقوله في ابن بشران المنجم، وكان يكثر الأراجيف ببغداد ثم صار يقعد على الطريق ينجّم (4): (تام الكامل)
إنّ ابن بشران على علّاته ... من خيفة السّلطان صار منجّما
طبع المشوم على الفضول فلم يطق ... في الأرض إرجافا فأرجف في السّما
__________
(1) ج: غاض ماؤها.
والبيتان في الوفيات 7/ 37وإدراك الأماني 9/ 39.
الغرار حدّ الرّمح والسيف والسهم، ويقصد به هنا مكر الغرور وشرّه. والغرور ما غرّك من إنسان وشيطان وغيرهما.
(اللسان: غرر)
(2) الأبيات في الوفيات 7/ 37وإدراك الأماني 9/ 39.
(3) الأبيات في الوفيات 7/ 38وإدراك الأماني 9/ 39.
السّدانة هي خدمة الكعبة وتولّى أمرها وفتح بابها وإغلاقها. (اللسان: سدن). بنو شيبة أبوهم هو شيبة بن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وهو الذي دفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة. جمهرة الأنساب 127.
ويقصد الشاعر = بشيبة = في الشطر الثاني الشيب أي أن صاحبته تخاف وتفزع من الرّجال الذين شابوا.
(4) البيتان في الوفيات 3/ 40وإدراك الأماني 9/ 39.
المشوم هو المشؤوم، خفّفت الهمزة.(2/229)
وقوله يذمّ الشّيب (1): (تام الكامل)
قالوا: بياض الشّيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء
حتّى سرت وخطاته في مفرقي ... فوددت أن لا أفقد الظّلماء
وعدلت أستبقي الشّباب تعلّلا ... بخضابها فصبغتها سوداء
لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء
وقوله لما كبر وصار يحمل العصا (2): (مجزوء الكامل)
ألقيت عن يدي العصا ... زمن الشّبيبة للنّزول
وحملتها لمّا دعا ... داعي المشيب إلى الرّحيل
وقوله (3): (تام الكامل)
قالوا: نراه يسلّ شعر سباله ... وعذاره مستهزئا بزواله
فتسلّ عنه وخذ حبيبا غيره ... فأجبتهم: لا زلت عبد وصاله
هل يحسن السّلوان عن حبّ يرى ... أن لا يفارقني بنتف سباله
وقوله في مليح يسبح في تبّان (4) أزرق، وقد شدّ بوسطه شكوة منفوخة (5): (تام الكامل)
يا للرّجال شكايتي من شكوة ... أضحت تعانق من أحبّ وأعشق
جمعت هوا كهواي إلّا أنّها ... تطفو ويثقلني الغرام فأغرق
ويغيرني التّبّان عند عناقه ... أردافه فهو العدوّ الأزرق (6)
__________
(1) الأبيات في الوفيات 7/ 40وإدراك الأماني 9/ 39.
(2) البيتان في الوفيات 7/ 40وإدراك الأماني 9/ 40.
(3) أب ج ش: حديثا غيره، أب ج ش: من حبّ، وكلاهما غلط والتصحيح من الوفيات 7/ 39.
والأبيات في الوفيات 7/ 39وإدراك الأماني 9/ 40.
السّبال جمع سبلة وهي شعر الشارب. وعذار الرجل: شعره النابت في موضع العذار أي خط لحيته. (اللسان: سبل، عذر)
(4) التّبان: سراويل قصيرة إلى الركبة أو مافوقها تستر العورة، وقد يلبس في البحر (المعجم الوسيط: تبن).
(5) الأبيات في الوفيات 7/ 38وإدراك الأماني 9/ 40.
(6) هـ و: البان، وهو غلط.
العدوّ الأزرق: أي شديد العداوة. انظر الوفيات 7/ 38.(2/230)
ومن شعره ما كتب به إلى الخليفة الإمام الناصر أحمد (1) يعرّض بالوزير القمّي (2)، وكان يدّعي أنه شريف علويّ (3): (الطويل)
خليليّ قولا للخليفة أحمد ... توقّ وقيت الشّرّ ما أنت صانع
وزيرك هذا بين أمرين فيهما ... صنيعك يا خير البريّة ضائع
فإن كان حقّا من سلالة أحمد ... فهو وزير في الخلافة طامع (4)
وإن كان فيما يدّعي غير صادق ... فأضيع ما كانت لديه الصّنائع (5)
فكانت هذه الأبيات سببا لتغيّر الخليفة على الوزير المذكور. فخرج إليه مملوكان مسرعان، فهجما عليه في داره، وضرباه على رأسه بالدواة وحمل إلى المطبق (6)، فكتب إلى الخليفة (7): (تام الخفيف)
ألقني في لظى فإن غيّرتني ... فتيقّن أن لست بالياقوت
عرف النّسج كلّ من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت
فكتب إليه الخليفة (8): (تام الخفيف)
نسج داود لم يفد صاحب الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السّمند في لهب النّا ... ر مزيل فضيلة الياقوت
اخترناك، فصرّفناك، واختبرناك، فصرفناك، والسلام.
__________
(1) هو أبو العباس الناصر لدين الله الخليفة العباسيّ أحمد بن المستضيء بأمر الله الحسن بن المستنجد (622هـ) الكامل لابن الأثير 12/ 440438والأعلام 1/ 110.
(2) هو محمد بن محمد بن عبد الكريم وزير من أكابر الكتاب (630هـ) الوافي بالوفيات 1/ 147والأعلام 7/ 28.
(3) الأبيات في الغيث المسجم 1/ 90 (ط. العلمية) وإدراك الأماني 9/ 40.
(4) في الشطر الثاني خرم (فعولن) أصبحت عولن.
(5) ج: إليه الصنائع.
(6) المطبق: هو اسم سجن مشهور ببغداد، انظر تاريخ الطبري 7/ 607، 8/ 117، 9/ 182، 185، 218
(7) البيتان في الوفيات 7/ 41وإدراك الأماني 9/ 40ونسبهما ابن خلكان لجماعة من الشعراء.
قوله: ألقني في لظي. الخ أي أنّني لا تؤثّر فيّ المصائب والنّكبات مثل الياقوت فمن خاصيته أنّ النار لا تؤثّر فيه.
انظر الوفيات 7/ 43. وداود عليه السلام مشهور عند العرب بإجادة نسج الدّروع وإتقان صنعها.
(8) نسب ابن خلكان في الوفيات 7/ 41هذين البيتين لابن صابر في الردّ على نسج داود الخ يقصد أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر مع أبي بكر رضي الله عنه لم يفده نسج الحديد والدروع وإنما أفاده نسج العنكبوت الذي غطى باب الغار الذي اختبأ فيه عن المشركين الذين تتبعوا أثره إلى الغار، لكنهم رجعوا عندما رأوا نسج العنكبوت. السمند والسمندل ذكروا أنه طائر يقع في النار فلا تؤثّر فيه. (اللسان: سمندل) والوفيات 7/ 43.(2/231)
106 - ابن مجبر الأندلسي (1)
هو أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مجبر الفهري المرسي ثم الإشبيلي، أحد فحول الشعراء المجيدين في كل فن، المبدعين في كل معنى. من محاسنه الفائقة وأشعاره الرائقة قوله (2): (المديد)
أتراه يترك الغزلا ... وعليه شبّ واكتهلا؟
كلفا بالغيد ما علقت ... نفسه السّلوان مذ عقلا
غير راض عن سجيّة من ... ذاق طعم الحبّ ثم سلا
أيها اللّوام ويحكم ... إنّ لي عن لحيكم شغلا
ثقلت عن لومكم أذن ... لم يجد فيها الهوى ثقلا
تسمع النّجوى وإن خفيت ... وهي ليست تسمع العذلا
نظرت عيني لشقوتها ... نظرات وافقت أجلا
غادة لمّا مثلت لها ... تركتني في الهوى مثلا
هي بزّتني الثّبات فقد ... صار في أجفانها كحلا (3)
__________
(1) (588هـ) ترجمته وشعره في زاد المسافر 5751وبغية الملتمس 494493والوفيات 7/ 1413 والبيان المغرب 3/ 165164، 174173، 178177، 179 (ط. تطوان) ورفع الحجب المستورة 1/ 7271، 199، 2/ 155والفوات 4/ 277275والإحاطة 4/ 421418 (وفيها ابن مجير). والحلل الموشية 145ونفح الطيب 3/ 240237، 4/ 88، 162161، 336335والشذرات 4/ 295 (وفيها ابن مجير) والإعلام لابن إبراهيم 10/ 210206وإدراك الأماني 11/ 3129والأعلام للزركلي 8/ 152 (وهو فيهما ابن مجير).
(2) أب ج ش: العذلا، وهو غلط، والتصحيح من زاد المسافر والوفيات والفوات فيما يلي.
والأبيات من قصيدة طويلة عدد أبياتها منة وسبعة أبيات في مدح المنصور الموحدي يعقوب بن يوسف منها اثنان وثلاثون بيتا في الوفيات 7/ 1413وإدراك الأماني 11/ 3029، وثلاثون بيتا في الفوات 4/ 277275وتسعة أبيات في زاد المسافر 5655.
(3) أب ج ش: الشباب، ولا معنى لها هنا، واستظهرنا (الثبات).(2/232)
أبطل الحقّ الذي بيدي ... سحر عينيها وما بطلا (1)
عرضت دلا فإذ فطنت ... بولوعي أعرضت خجلا
وبدا لي أنّها وجلت ... من هنات تبعث الوجلا
خشيت أنّى سأحزنها ... إذ رأت رأسي قد اشتعلا (2)
يا سراة الحيّ مثلكم ... يتلافى الحادث الجللا
قد نزلنا في جواركم ... فشكرنا ذلك النّزلا
ثم واجهنا ظباءكم ... فلقينا الهول والوهلا
أضمنتم أمن جيرتكم ... ثمّ ما أمّنتم السّبلا (3)
وأردتم غصب أنفسهم ... فبثثتم بينها المقلا
ليتنا خضنا السّيوف ولم ... نلق تلك الأعين النّجلا
عارضتنا منكم فئة ... أحدثت في عهدنا دخلا
ثعليّات جفونهم ... وهم لم يعرفوا ثعلا
أشرعوا الأعطاف ناعمة ... حين أشرعنا القنا الذّبلا
واستفزّتنا عيونهم ... فخلعنا البيض والأسلا (4)
ورمتنا بالسّهام فلم ... نر إلّا الحلي والحللا (5)
نصروا بالحسن فانتهبوا ... كلّ قلب بالهوى خذلا
__________
(1) أب ج ش: تبديه لي، وهو غلط لا يستقيم معه الوزن، والتصحيح من الوفيات 7/ 13والفوات 4/ 276.
(2) تضمينا لقوله تعالى: {= قََالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً =} سورة مريم 19/ 4.
سراة الحيّ: خيارهم وأشرافهم. الوهل: الفزع. (اللسان: سرا، وهل).
(3) أب ج ش هـ: أمر، وهو غلط، والتصحيح من الوفيات 7/ 14والفوات 4/ 276.
الأعين النجل جمع نجلاء، وهي الواسعة الجميلة. الدّخل: الفساد والعيب. ثعليات أي تنتسب إلى ثعل، وهو أبو حي من طيء وهو مشهور بإتقان الرّمي وإصابة الهدف. (اللسان: ثعل، دخل، نحل). ويقصد بقوله: «ثعليّات جفونهم» أنّ جفونهم ساحرة تفتن فهي تصيب من رأته كما تصيب سهام بني ثعل أهدافها.
(4) ج: فجعلنا، وهو غلط.
البيض جمع بيضة وهي الخوذة. الأسل: الرّماح. (اللسان: أسل، بيض).
(5) ج: تر، وهو غلط.(2/233)
عطّلتني الغيد من جلدي ... وأنا حلّيتها الغزلا
حملت نفسي على فتن ... سمتها صبرا فما احتملا
ثمّ قالت سوف نتركها ... سلبا في الحبّ أو نفلا
قلت أمّا وهي قد علقت ... بأمير المومنين فلا
ما عدا تأميلها ملكا ... من رآه أدرك الأملا
فإذا ما الجود حرّكه ... فاض في يمناه فانهملا
ومن شعره قوله وقد حضر مع عدوّ له جاحد لإحسانه، وكانت أمامهما زجاجة سوداء فيها خمر، فقال له حسوده: إن كنت شاعرا فقل في هذه، فقال ارتجالا (1):
(الطويل)
سأشكو إلى النّدمان أمر زجاجة ... تردّت بثوب حالك اللّون أسحم
نصبّ بها شمس المدامة بيننا ... فتغرب في جنح من اللّيل مظلم
وتجحد أنوار الحميّا بلونها ... كقلب حسود جاحد يد منعم
وكان (2) أبو العباس الجراوي (3) في حانوت وراق بتونس، وهناك فتى وسيم كان يميل إليه فتناول الفتى سوسنة صفراء وأومأ بها إلى خدّه، فقال الجراوي ارتجالا (4):
(تام الوافر)
وعلويّ الجمال إذا تبدّى ... أراك جبينه بدرا أنارا
__________
(1) الأبيات والخبر في نفح الطيب 3/ 206وإدراك الأماني 11/ 30.
(2) الخبر في نفح الطيب 4/ 8887وإدراك الأماني 11/ 30والإعلام لابن ابراهيم 7/ 364.
(3) أب ج ش هـ و: القراوي. ويكتب في أغلب المصادر: الجراوي، وفي بعضها القراوي والگراوي. وهو أحمد بن عبد السلام الجراوي، شاعر وأديب أصله من تادلة، ونسب إلى جراوة، سكن مراكش ودخل الأندلس مرات، اشتهر بهجائه حتى قيل عنه حطيئة المغرب (409هـ) زاد المسافر 5149والوفيات 7/ 137136والغصون اليانعة 10398والوافي بالوفيات 7/ 61والإعلام لابن إبراهيم 1/ 344342والأعلام للزركلي 1/ 150 والنبوغ المغربي 1/ 179.
(4) البيتان في نفح الطيب 4/ 88وإدراك الأماني 11/ 31والإعلام لابن ابراهيم 7/ 364.
العرف: الرائحة الطيبة. (اللسان: عرف).(2/234)
أشار بسوسن يحكيه عرفا ... ويحكى لون عاشقه اصفرارا
فحدّث بعض الطلبة بمراكش أبا بكر يحيى بن عبد الجليل بن مجبر بالقصة، وسأله أن يقول في تلك الحال فقال (1): (تام السريع)
بي رشا وسنان مهما انثنى ... حار قضيب البان في قدّه
أودع في وجنته زهرة ... كأنّها تجزع من صدّه
وقد تفاءلت على فعله ... أنّي أرى خدّي على خدّه
توفي رحمه الله ليلة عيد النحر سنة ثمان وثمانين وخمس مائة.
107 - ابن زيدون (2)
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون القرشيّ المخزوميّ الأندلسيّ القرطبيّ فريد عصره، ووحيد دهره، أدبا وظرفا ورقّة ولفظا. قال بعض الأدباء (3): من لبس البياض وتختّم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو (4)، وتفقّه
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب 4/ 88وإدراك الأماني 11/ 31وهي في الإعلام لابن ابراهيم 7/ 365مع بيت آخر.
(2) (463هـ) ترجمته في جذوة المقتبس 122121وقلائد العقيان 8673 (ط. التقدم) والمختار من الشعر 6756والذخيرة 1/ 1/ 428336وخريدة القصر 2/ 7148 (ق. المغرب والأندلس) وبغية الملتمس 175174والمطرب 168164، والمعجب 164154والوفيات 1/ 141139والمغرب في حلى المغرب 1/ 6963، 181180والوافي بالوفيات 7/ 9487وتمام المتون 216والنجوم الزاهرة 5/ 88ونفح الطيب 1/ 632627، 3/ 287271، 566565، 4/ 23، 10099، 211205، 270264وإدراك الأماني 7/ 9086وتاريخ الأدب لبروكلمان 5/ 138 والأعلام 1/ 158.
(3) القول في الوافي بالوفيات 7/ 91وتمام المتون 13ونفح الطيب 3/ 566وإدراك الأماني 7/ 86.
(4) ج: لأبي عمر، وهو غلط.
وأبو عمرو هو أبو عمرو بن العلاء عالم العربية المشهور، وهو من أصحاب القراءات.
وقرأ لأبي عمرو: أي قرأ القرآن الكريم وفق قراءة أبي عمرو.(2/235)
للشافعي، وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظّرف. من غرر شعره وفرائد درّه قوله من قصيدة عيدية يمدح بها المعتمد بن عباد (1): (الطويل)
ولمّا قضينا ما عنانا قضاؤه ... وكلّ بما أوليت داع فملحف
رأيناك في أعلى المصلّى كأنّما ... تطلّع من محراب داود يوسف
وقوله فيما كتب به إلى ولادة (2): (تام البسيط)
أضحى الفراق بديلا من تدانينا ... وآن من طيب دنيانا تجافينا (3)
بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا ... شوقا إليكم، ولا جفّت مآقينا
يكاد، حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سودا، وكانت بكم بيضا ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تآلفنا ... ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الأنس دانية ... قطوفها، فجنينا منه ما شينا (4)
ليسق عهدكم عهد السّرور، فما ... كنتم لأرواحنا إلّا رياحينا
من مبلغ الملبسين بانتزاحهم ... ثوبا من السّقم لا يبلى ويبلينا:
__________
(1) مطلعها:
أما في نسيم الريح عرف معرّف ... لنا هل لذات الوقف بالجزع موقف؟
وهي في ديوانه 498479في مدح المعتضد لا في مدح المعتمد. وقسم منها في خريدة القصر 2/ 6159 (ق. المغرب والأندلس). والبيتان في إدراك الأماني 7/ 87.
(2) القصيدة في ديوانه 148141ونفح الطيب 3/ 277275وقسم منها في جذوة المقتبس 22وقلائد العقيان 8684والمعجب 161156والذخيرة 1/ 1/ 362360وخريدة القصر 2/ 7066 (ق. المغرب والأندلس) وبغية الملتمس 175174والمطرب 164والمغرب في حلى المغرب 1/ 6866وإدراك الأماني 7/ 8887.
(3) الرواية المشهورة لهذا البيت هي:
أضحى التنائي ... وناب عن طيب
انظر نفح الطيب 3/ 275.
(4) أب ج ش هـ و: منها، وهو غلط لا يستقيم معه الوزن، والتصحيح من الديوان وخريدة القصر والمطرب.(2/236)
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغصّ، فقال الدّهر: آمينا
فانحلّ ما كان معقودا بأنفسنا ... وانبتّ ما كان موصولا بأيدينا
بالأمس كنّا وما يخشى تفرّقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
لم نعتقد بعدكم إلّا الوفاء لكم ... رأيا، ولم نتقلّد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنّا يغيّرنا، ... إذ طالما غيّر النّأي المحبّينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا ... منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا
ولا استفدنا خليلا عنك يشغلنا ... ولا اتّخذنا بديلا منك يرضينا
يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والودّ يسقينا (1)
ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيّتنا ... من لو على البعد حيّا كان يحيينا
منها:
لسنا نسمّيك إجلالا وتكرمة ... وقدرك المعتلى عن ذاك يكفينا
إذا انفردت وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا
كأنّنا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسّعد قد غضّ من أجفان واشينا
سرّان في خاطر الظّلماء يكتمنا ... حتّى يكاد لسان الصّبح يفشينا
لا غرو أنّا ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النّهى وتركنا الصّبر ناسينا
إنّا قرأنا الأسى يوم النّوى سورا ... مكتوبة، واتّخذنا الصّبر تلقينا
نأسى عليك إذا صبّت مشعشعة ... فينا الشّمول وغنّانا مغنّينا
لا أكؤس الرّاح تبدي من شمائلنا ... سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحرّ من دان إنصافا، كما دينا
فما استعضنا خليلا عنك يصرفنا ... ولا اتّخذنا حبيبا عنك يسلينا
__________
(1) ج: والورد، وهو غلط.(2/237)
وفي الجواب قناع لو شفعت به ... تمضي اللّيالي التي ما زلت تولينا (1)
عليك منّي سلام الله ما بقيت ... صبابة منك نخفيها فتخفينا
واشتهرت (2) هذه القصيدة إلى أن صارت محذورة، يقال ما حفظها أحد إلّا مات غريبا. وقد عارضها غير واحد من الأدباء فقصروا عنها. منهم أبو بكر ابن الملح (3)، قال من قصيدة أولها (4): (تام البسيط)
هل يسمع الرّبع شكوانا فيشكينا ... أو يرجع القول مغناه فيغنينا
يا باخلين علينا أن نودّعهم ... وقد بعدتم عن اللّقيا فحيّونا
قفوا نزركم وإن كانت فوائدكم ... نزرا ومنّكم بالوصل ممنونا
سترتم الوصل ضنّا لا فقدتكم ... وكان بالوهم موجودا ومظنونا
إلى آخرها. وقد خمّسها بعض علماء المغرب (5) فقال: (تام البسيط)
ما للعيون بسهم الغنج تصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا
تألّف كان يحيينا ويضنينا ... تفرّق عاث في شمل المحبّينا
أضحى الفراق بديلا من تدانينا ... وآن من طيب دنيانا تجافينا (6)
ما للأحبّة دانوا بالنّوى ورأوا ... تعويض عهد اللّقا بالبعد حين نأوا
__________
(1) أب ج هـ و: زالت، وهو غلط لا يستقيم معه الوزن والتصحيح من الديوان 148وخريدة القصر 2/ 70والمغرب في حلى المغرب 1/ 68.
(2) من الوافي بالوفيات 7/ 9290بتصرف.
(3) هو محمد بن إسحاق الوزير الكاتب الشاعر (500هـ) الذخيرة 2/ 1/ 473452وقلائد العقيان 215214 (ط. تونس) وخريدة القصر 3/ 467466والمغرب في حلى المغرب 1/ 384383ونفح الطيب 4/ 7170، 149148، 263.
(4) الأبيات في الذخيرة 1/ 1/ 362والوافي بالوفيات 7/ 92وإدراك الأماني 7/ 88.
(5) جاء في نفح الطيب 3/ 278أنه وقف على تسديس لها لبعض علماء المغرب ثم أورد الأبيات ولم يعزها لأحد.
والأبيات أيضا في إدراك الأماني 7/ 88.
(6) أب ج ش: تلاقينا، وهو غلط، والتصحيح من نفح الطيب 3/ 278.(2/238)
رعاهم الله كانوا للعهود رعوا ... فغيّرتهم وشاة بالفساد سعوا
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغصّ فقال الدّهر آمينا
قال في نفح الطيب (1): ولم يحضرني الآن منها (2) (إلّا) ما ذكر.
ومن شعر ابن زيدون (3): (الطويل)
ألم يان أن يبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثأري البرق منصلت النّصل؟
وهلّا أقامت أنجم الزّهر مأتما ... لتندب في الآفاق ما ضاع من نبلي (4)
أمقتولة الأجفان مالك والها ... ألم ترك الأيّام نجما هوى قبلي؟
ولله فينا علم غيب، وحسبنا ... به، عند جور الدّهر، من حكم عدل
وفي «أمّ موسى» عبرة إذ رمت به ... إلى اليمّ في التابوت فاعتبري واسلي (5)
ومن بديع شعره قوله في ولّادة وكان يهواها ثم مالت عنه إلى أبي عامر ابن عبدوس وكان أبو عامر يلقّب بالفار (6): (تام البسيط)
أكرم بولّادة علقا لمعتلق ... لو فرّقت بين بيطار وعطّار
قالوا: أبو عامر أضحى يلمّ بها ... قلت: الفراشة قد تدنو من النّار
أكل شهيّ أصبنا من أطايبه ... بعضا، وبعضا صفحنا عنه للفار (7)
__________
(1) نفح الطيب 3/ 278.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) مطلع قصيدة يشكو فيها ألم السّجن، وهي في ديوانه 273261وقسم منها من الذخيرة 1/ 1/ 353351 والأبيات في الوافي بالوفيات 7/ 94وتمام المتون 16وإدراك الأماني 7/ 8988والأبيات الثلاثة الأخيرة في الغيث المسجم 2/ 301 (ط. العلمية).
(4) ج: نجم، وهو غلط.
(5) ج: هوت به.
وفي الأبيات إشارة إلى قوله تعالى {= أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التََّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسََّاحِلِ =} سورة طه 20/ 39
(6) هو أحمد بن عبدوس ولي الوزارة بقرطبة وكان يدّعي حفظ الشّعر وقرضه (472هـ) الفوات 4/ 252ونفح الطيب 3/ 269268، 4/ 100، 207، 208وديوان ابن زيدون 790 (ت. علي عبد العظيم).
ج: كرم وهو غلط.
والأبيات أول مقطوعة في أربعة أبيات في ديوانه 196وتمام المتون 12والأبيات في الفوات 4/ 252وإدراك الأماني 7/ 89.
(7) ج: قد أصينا، وهو غلط.(2/239)
وقوله فيها (1) أيضا: (تام الخفيف)
قد علقنا سواك علقا نفيسا ... وصرفنا إليه عنك النّفوسا
ولبسنا الجديد من خلع الحبّ ... ولم نأل أن خلعنا اللّبيسا
ليس منك الهوى ولا أنت منه ... اهبطي مصر أنت من قوم موسى
أشار بقوله: اهبطي مصر الخ إلى قول أبي نواس (2): (تام الوافر)
أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزّحام
فيا من ليس يكفيها خليل ... ولا ألفا خليل كلّ عام
أظنّك من بقيّة قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام!
وفي أبي عامر ابن عبدوس المذكور قال ابن زيدون رسالته المشهورة (3).
وأما ولادة (4) (فهي بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر لدين الله (5)، وكانت) واحدة زمانها، المشار إليها في أوانها، حسنة
__________
(1) ج: أنت فيه، وهو غلط.
والأبيات في الديوان 195وقد نقلها محقق الديوان، كما يقول، عن الكوكب الثاقب. وهي في الفوات 4/ 253 وإدراك الأماني 7/ 89.
(2) من مقطوعة في أربعة أبيات في هجاء امرأة أولها:
ومظهرة لخلق الله نسكا ... وتلقاني بدلّ وابتسام
وهي في ديوانه 542، والأبيات في ثمار القلوب 40والفوات 4/ 253وإدراك الأماني 7/ 89. والبيتان الأخيران في أحسن ما سمعت 30.
قوله: = بقية قوم موسى = يضرب بهم المثل في الملال، وقلة الصبر لأنهم لا يصبرون على طعام واحد، انظر ثمار القلوب 40. وفي البيت تضمين لقوله تعالى: {= وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نَصْبِرَ عَلى ََ طَعََامٍ وََاحِدٍ فَادْعُ لَنََا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنََا مِمََّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهََا وَقِثََّائِهََا وَفُومِهََا وَعَدَسِهََا وَبَصَلِهََا، قََالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى ََ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مََا سَأَلْتُمْ =} سورة البقرة 2/ 61.
(3) هي الرسالة الهزلية التي كتبها على لسان ولادة يسخر فيها من ابن عبدوس وقد شرحها جمال الدين ابن نباتة المصري (768هـ) وسمّاها (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون) وحقّقها محمد أبو الفضل إبراهيم ونشرها في دار الفكر العربي القاهرة 1383هـ 1964م.
(4) ما بين القوسين ساقط من ج.
والخبر من تمام المتون 11بتصرف، وهو في نزهة الجلساء 101والفوات 4/ 251.
وترجمة ولادة (484هـ وقيل بعد 500هـ) في الذخيرة 1/ 1/ 432429والصلة لابن بشكوال 2/ 657 والفوات 4/ 253251.
(5) هو صاحب قرطبة من ملوك الأمويين (316هـ) جمهرة الأنساب 101100والمغرب في حلى المغرب 1/ 5554والأعلام 6/ 191190.(2/240)
المحاضرة، مشكورة المذاكرة، كتبت (1) بالذهب على طرازها الأيمن (2):
(تام الوافر)
أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وكتبت (1) على الطّراز الأيسر (2): (تام الوافر)
أمكّن عاشقي من صحن خدّي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها
وكانت (3) مع ذلك مشهورة بالصّيانة والعفاف، وفيها خلع ابن زيدون عذاره، وقال فيها القصائد والمقطعات. وكانت لها جارية فظهر لها أنّ ابن زيدون مال إليها فكتبت إليه تعاتبه (4): (تام الكامل)
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جاريتي ولم تتخيّر
وتركت غصنا مثمرا لجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنّني بدر السّما ... لكن ولعت، لشقوتي، بالمشتري
وكتبت لابن زيدون لمّا أولع بها بعد طول تمنّع (5): (الطويل)
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي ... فإنّي رأيت الليل أكتم للسّرّ
وبي منك ما لو كان بالشّمس لم تلح ... وبالبدر لم يطلع وبالنّجم لم يسر
ووفت له بما وعدت، وعند انصرافها قال ابن زيدون (6): (تام الرمل)
ودّع الصّبر محبّ ودّعك ... ذائع من سرّه ما استودعك
يقرع السّنّ على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيّعك
__________
(1) ج: كتب، وهو غلط.
(2) البيت في الذخيرة 1/ 1/ 429، 430وتمام المتون 11والفوات 4/ 251ونزهة الجلساء 101ونفح الطيب 4/ 205وإدراك الأماني 7/ 89.
(3) الخبر في تمام المتون 11والفوات 4/ 252251ونزهة الجلساء 102101ونفح الطيب 205.
(4) الأبيات في الذخيرة 1/ 1/ 432431وتمام المتون 11والفوات 4/ 252251ونزهة الجلساء 102101ونفح الطيب 4/ 205وإدراك الأماني 7/ 90.
(5) البيتان في الذخيرة 1/ 1/ 430ونفح الطيب 4/ 206ونزهة الجلساء 105وإدراك الأماني 7/ 90.
(6) الأبيات في ديوانه 167 (تحقيق علي عبد العظيم) وفي ديوانه 12 (تصنيف كامل كيلاني) وقلائد العقيان 74 (ط. التقدم) والذخيرة 1/ 1/ 371، 431وخريدة القصر 2/ 5251 (قسم المغرب والأندلس) والوفيات 1/ 140والمغرب في حلى المغرب 1/ 65وإدراك الأماني 7/ 90. ونسبت في نفح الطيب 4/ 206لولادة.(2/241)
يا أخا البدر سناء وسنا ... حفظ الله زمانا أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بتّ أشكو قصر اللّيل معك
سامحنا الله وإيّاهما، وعفا عنّا وعنهما بمنّه وكرمه.
108 - ابن باجة (1)
هو (2) أبو بكر (3) (محمد) بن باجة أو ابن يحيى بن باجة التّجيبيّ الأندلسيّ السّرقسطيّ ويعرف بابن الصائغ. قال صاحب القلائد (4) في حقّه:
«رمد جفن الدّين، وكمد قلب اليقين، نظر في تلك التعاليم، وفكّر في أجرام الأفلاك و (3) (حدود) الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم، ونبذه وراء ظهره ثانيا (5) من عطفه، وأراد إبطال ما (6) {«لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ»} واقتصر على الهيئة، وأنكر أن يكون لنا إلى الله معاد وفيئة» (7). ولعمري ما خلا كلامه هذا من حظّ نفس ولقد بالغ. وقد ذكر الشيخ صلاح الدين الصفديّ
__________
(1) (533هـ) ترجمته في قلائد العقيان 306300 (ط. بولاق) وخريدة القصر 2/ 334332 (قسم المغرب والأندلس) والوفيات 4/ 431429والمغرب في حلى المغرب 2/ 119والوافي بالوفيات 2/ 242240 والإحاطة 1/ 417414، وجذوة الاقتباس 1/ 257256وبغية الوعاة 1/ 475وإدراك الأماني 7/ 162160والأعلام 7/ 137.
(2) من الوافي بالوفيات 2/ 240إلى قوله: «ولقد بالغ» بتصرف وانظر بعض ذلك في الوفيات 4/ 429.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) هو الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان مؤرّخ وكاتب مشهور بكتابه (قلائد العقيان) (528هـ أو 529هـ) المطرب 25والوفيات 4/ 2423والمغرب في حلى الغرب 1/ 255254والذيل والتكملة 5/ 529 531والأعلام 5/ 134.
والقول في قلائد العقيان 301300 (ط. بولاق)، 347346 (ط. باريس)
(5) ج: وراءه ثانيا.
(6) سورة فصلت 41/ 42
(7) يشير الفتح بن خاقان بهذه المطاعن إلى اشتغال ابن باجة بالفلسفة وعلم الفلك ويتهمه بالإلحاد.(2/242)
رحمه الله سبب هذا القدح في ترجمة الفتح ابن خاقان من كتابه الوافي بالوفيات (1). (2) وقد ناقض الفتح ابن خاقان ما قاله الكاتب البليغ أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان الأنصاريّ (3) في كتاب «سمط الجمان وسقط الأذهان» حيث ذكر ابن باجة فقال في حقّه: الوزير الأديب، الكاتب الماهر الطبيب، الفيلسوف الجهبذ (4) الأريب أبو بكر الصائغ سرّ الجزيرة إذا تهندست، وجهبذها إذا تنطّست (5)، ومنير محاسنها إذا ادلهمّت وعسعست (5)، لولاه ما سفرت عن شريق، ولا اهتدت إلى الرياضات سمت طريق، ولا ضربت بعرق في البرهانيات عريق، به شاركت في الدقائق الرفاق، وعليه فيها وقع الاتّفاق، وعنه عرف ثقيل الحجاز وخفيف العراق (6)، وأما آدابه فالرياض العرائس، وأعلاق النّفائس، وأما أقلامه فالرّماح الخطّية والغصون الموائس، أطلعت لهاذمها (7) كلّ غريب، وأسمعت أغصانها شجو الورقاء وطرب العندليب. وما عسى أن يقال في الفتح، وسيرة تصغر عن الثّلب (8) والقدح غير أنه لما أرهف شباته (9) وأحضر أقلامه ودواته، جعل نفسه الخبيثة مرآته فأرته معايبه، ونثلت (10)
__________
(1) الوافي بالوفيات: لم أعثر على الجزء الذي ترجم فيه الصفدي للفتح ابن خاقان.
(2) الخبر في الوافي بالوفيات 2/ 242241.
(3) أديب ومؤرخ من القرن 6هـ ألف كتابا في التراجم يعدّ ذيلا لما ألّفه الفتح بن خاقان وابن بسام، وصل فيه إلى سنة 550هـ وكتابه هذا مفقود وهو (سمط الجمان وسقط الأذهان) انظر دائرة المعارف الإسلامية ط. الجديدة 3/ 831 وإيضاح المكنون 2/ 27.
(4) الجهبذ: النقّاد الخبير (القاموس: الجهبذ).
(5) تنطّست أي حذقت الطّبّ وغيره. عسعس الليل: أقبل بظلامه (اللسان: عسعس، نطس)
(6) يشير إلى براعته في الموسيقى والألحان. انظر المغرب في حلى المغرب 2/ 119.
(7) لهاذم جمع لهذم، سيف لهذم: حادّ قاطع ويقصد بها هنا رؤوس الأقلام (اللسان: لهذم).
(8) ج: اثنان، وهو غلط.
(9) شباة كلّ شيء حدّ طرفه. (اللسان: شبا)
(10) ج: ونثرت.
ونثل كنانته: استخرج ما فيها. (اللسان: نثل)(2/243)
بين يديه مثالبه، فسطّرها في كتاب، ونسّقها نسق (1) حساب، وما شعر أنّه أخّر وقدّم، وكم غادر من متردّم، ولربّما لم يتستّر عن إتيان نكره، وعرّض بما صرّح به هو في صحوه القبيح وسكره، واعتمد القمر بنباحه، ورجم (2) المعالي بسلاحه، (3)
ولكنّهما قد صارا أثرا بعد عين، والحاكم بين الرجلين، بيت أبي الطيّب أحمد بن الحسين، وسأثبت من كلامه الرّقيق، ونظامه الرّائع الأنيق، ما ترتدي به ذكاء، ويودّ لو يجتذيه في روضته المكّاء (4) ويقيم به سوقه للطّرب المستفزّ والبكاء.
ثم أورد من كلامه ما ياتي بعضه. وأشار بقوله: والحاكم بين الرجلين الخ إلى قول المتنبي (5): (تام الكامل)
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأنّي كامل
تغمدنا الله وإياهم برحمته.
فمن لطيف شعر ابن باجة قوله (6): (الطويل)
خليليّ لا والله ما القلب صاحيا ... وإن ظهرت منّي شمائل صاح
وإلّا فما بالي ولم أشهد الوغى ... أبيت كأنّي مثخن بجراح
وقوله (7): (تام الكامل)
ضربوا القباب على أقاحة روضة ... خطر النّسيم بها ففاح عبيرا
لا والذي صاغ الغصون معاطفا ... لهم وصاغ الأقحوان ثغورا
ما مرّ بي ريح الصّبا من بعدهم ... إلّا شهقت له فعاد سعيرا
__________
(1) ج: نساق.
(2) ج: ورمى.
(3) السّلاح: النّجو. (الغائط الرقيق). (اللسان: سلح).
(4) المكّاء: طائر في ضرب القنبرة يجمع يديه ثم يصفّر فيهما صفيرا حسنا. (اللسان: مكا)
(5) من القصيدة التي خرجناها في الصفحة 448الحاشية 6.
(6) البيتان في خريدة القصر 2/ 333 (قسم المغرب والأندلس) والوافي بالوفيات 2/ 242وإدراك الأماني 7/ 162.
(7) الأبيات في الوفيات 4/ 431430والوافي بالوفيات 2/ 241240وإدراك الأماني 7/ 162.(2/244)
وقوله (1): (الطويل)
هم رحلوا يوم الخميس عشيّة ... فودّعتهم لمّا استقلّوا وودّعوا
ولمّا تولّوا ولّت النّفس معهم ... فقلت: ارجعي، قالت: إلى أين أرجع؟
إلى جسد ما فيه لحم ولا دم ... وما هي إلّا أعظم تتقعقع
وعينين قد أعماهما كثرة البكا ... وأذن عصت عذّالها ليس تسمع
وأورد له صاحب القلائد (2): (الطويل)
أسكّان نعمان الأراك تيقّنوا ... بأنّكم في ربع قلبي سكّان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا اؤتمنوا خانوا
سلوا اللّيل عنّي مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت لي فيه بالنّوم أجفان (3)
وهل جرّدت أسياف برق سماؤكم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان
قال الصفديّ وغيره (4): وهذه الأبيات موجودة في ديوان ابن حيوس (5).
ومحاسن ابن باجة كثيرة وحسبنا منها ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
__________
(1) الأبيات في خريدة القصر 2/ 333 (قسم المغرب والأندلس) وإدراك الأماني 7/ 162.
(2) من الوافي بالوفيات 2/ 240. وهذه الأبيات غير واردة في قلائد العقيان المطبوع. وهي في الوفيات 4/ 430 وإدراك الأماني 7/ 162وما عدا البيت الأخير في الوافي بالوفيات 2/ 240.
(3) ج: سالوا، وهو غلط.
أجفان جمع جفن وهو جفن العين، وأجفان الثانية (في البيت الموالي) أجفان السيوف أي أغمادها. (اللسان: جفن).
(4) الوافي بالوفيات 2/ 240والقول أيضا في الوفيات 4/ 430.
(5) الأبيات في ديوان ابن حيوس 2/ 645ومعها بيت آخر.(2/245)
109 - ابن مطروح (1)
هو جمال الدّين أبو الحسين يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين، شهر بابن مطروح، له الأشعار الفائقة والمعاني الرائقة، منها قوله (2): (تام الكامل)
عانقته فسكرت من طيب الشّذا ... غصنا رطيبا بالنّسيم قد اغتذى
نشوان ما شرب المدام وإنّما ... أمسى بخمر رضابه متنبّذا
كتب الجمال على صحيفة خدّه ... يا حسنه لا بأس أن يتعوّذا
يا ناظري أما وقد شاهدته ... تا لله لا رمدا تخاف ولا قذى
أضحى الجمال بأسره في أسره ... فلأجل ذاك على القلوب استحوذا
مهما اكتحلت بخدّه وعذاره ... لم تلق إلا عسجدا وزمرّذا
وأتى العذول يلومني من بعد ما ... أخذ الغرام عليّ فيه مأخذا
لا أرعوي لا أنتهي لا أنثني ... عن حبّه فليهذ فيه من هذى
والله لا خطر السّلوّ بخاطري ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
إن عشت عشت في هواه وإن أمت ... وجدا به وصبابة يا حبّذا (3)
وقوله (4): (تام المتقارب)
خذوا بدمي من أسير الكلل ... ويا عجبا لأسير قتل
وقولوا عليّ إذا نحتم ... طعين القدود جريح المقل
__________
(1) شاعر من أهل صعيد مصر، ومن أصدقاء ابن خلكان (649هـ) ترجمته في مرآة الزمان 8/ 789788 والوفيات 6/ 266258وذيل مرآة الزمان 1/ 190189، 220197ومرآة الجنان 4/ 120119 والنجوم الزاهرة 7/ 27وحسن المحاضرة 1/ 271. والشذرات 5/ 249247وإدراك الأماني 12/ 5856 والأعلام 8/ 162.
(2) أول قصيدة في الغزل وهي في ديوانه 304203والأبيات في إدراك الأماني 12/ 57.
(3) يجب إشباع تاء (عشت) الثانية للضرورة الشعرية.
(4) أول قصيدة في الغزل والمجون وهي في ديوانه 217والأبيات في إدراك الأماني 12/ 57.
الكللّ جمع كلّة وهي السّتر الرقيق (اللسان: كلل) ويقصد بأسير الكلل صاحبته، لأن الكلل يستتر فيها النساء، وهي موضع الحريم.(2/246)
وما كان يعلم أنّ العيون ... وأنّ القدود الظّبى والأسل
ولي جلد عند بيض الظّبى ... وبالأعين السّود ما لى قبل
وبي قمر ما بدا في الدّجى ... وأبصره البدر إلّا أفل
يضلّ بطرّته من يشا ... ويهدي بغرّته من أضل
ويا فرحة الظّبي لمّا غدا ... شبيها به في اللّمى والكحل (1)
وقد أخجل الشّمس من حسنه ... ألم تر فيها احمرار الخجل
وقد عدل الحسن في خلقه ... على أنّه جار لمّا عدل (2)
فعمّ معاطفه بالنّشاط ... وخصّ روادفه بالكسل (3)
وجاد الزّمان به ليلة ... وعمّا جرى بيننا لا تسل
فأنحلت قامته بالعناق ... وذبّلت مرشفه بالقبل
وكم تهت في غور خصر له ... وأسريت في نجد ذاك الكفل
وأذّنت حتى تجلّى الصّباح ... بحيّ على خير هذا العمل
وقد علم الناس أنّي امرؤ ... أحبّ الغزال وأهوى الغزل
وها أثر المسك في راحتي ... وهذا في فيه طعم العسل (4)
(5) (ومحاسنه كثيرة)، وفي هذا القدر منها كفاية (6) (لمن اكتفى) والله ولي التوفيق والهداية (7) [والبداية والنهاية] (8) (والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى).
__________
(1) اللّمى سمرة الشفتين واللّثات يستحسن. الكحل في العين أن يعلو منابت الأشفار سواد مثل الكحل من غير كحل.
(اللسان: كحل، لما)
(2) ج: عدل الدهر.
(3) ج: وحض، وهو غلط.
(4) ج: وما أثر، (وما) غلط.
(5) ما بين القوسين ساقط من هـ.
(6) ما بين القوسين ساقط من ج هـ.
(7) زيادة في ج.
(8) ما بين القوسين ساقط من ج.(2/247)
110 - ابن الوكيل (1)
(2) هو صدر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصّمد، يعرف في الشام (3) بابن الوكيل، من عيون شعره، ونفثات سحره قوله (4):
(تام الكامل)
عيّرتني بالسّقم، طرفك مشبهي ... وكذاك خصرك مثل جسمي ناحلا
وأراك تشمت إذ أتيتك سائلا ... لا بدّ أن يأتي عذارك سائلا
وقوله (5): (تام الكامل)
تلك المعاطف أم غصون البان ... لعبت ذوائبها على الكثبان
وتضرّجت تلك الخدود فوردها ... قد شقّ قلب شقائق النّعمان (6)
ما يفعل الموت المبرّح في الهوى ... ما تفعل الأحداق في الأبدان
أخليل قلبي وهو يوسف عصره ... قلبي الكليم رميت في النّيران (7)
قطّعته مذ كان قلبا طائرا ... ودعوته فأتى بغير توان
يا نور عيني لا أراك وهكذا ... إنسان عيني لا يراه عياني
__________
(1) شاعر من العلماء بالفقه، اشتهر بقوة حفظه وسرعته، ولد بدمياط بمصر (716هـ) ترجمته في الوافي بالوفيات 4/ 284264والفوات 4/ 2613والبداية والنهاية 14/ 8180والنجوم الزاهرة 9/ 235233 وإدراك الأماني 19/ 9594والأعلام 6/ 314.
(2) من الوافي بالوفيات 4/ 264بتصرف.
(3) ج: بالشام.
(4) البيتان في الوافي بالوفيات 4/ 270والفوات 4/ 17والنجوم الزاهرة 9/ 234وإدراك الأماني 19/ 94.
(5) الأبيات في الوافي بالوفيات 4/ 271والفوات 4/ 18وإدراك الأماني 19/ 94.
(6) ج: وتدرجت، وهو غلط.
(7) يشير إلى جمال يوسف عليه السلام كما في قوله تعالى {= فَلَمََّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حََاشَ لِلََّهِ مََا هََذََا بَشَراً، إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ =} سورة يوسف 12/ 31.(2/248)
وقوله (1): (تام الكامل)
أخفيت حبّك عن جميع جوانحي ... فوشت عيون فالوشاة عيون
ووددت أنّ جوارحي وجوانحي ... مقل تراك وما لهنّ جفون
ووددت دمع الخافقين لمقلتي ... حتى عزيز الدمع فيك يهون
يا ليت قيسا في زمان صبابتي ... حتّى أريه العشق كيف يكون
وقوله (2): (تام الخفيف)
قال لي من أحبّ والبدر يبدو ... من خلال السّحاب ثم يغيب:
ما حكى البدر؟ قلت: وجهك لمّا ... يختفي، عندما يلوح الرّقيب
وقوله (3): (الطويل)
وبي من قسا قلبا ولان معاطفا ... إذا قلت: أدناني، تضاعف تبعيدي
أقرّ برقّ إذ أقول أنا له ... وكم قالها أيضا ولكن بتهديدي
وقوله في مليح به يرقان (4): (مخلع البسيط)
رأيت في طرفه اصفرارا ... سبى فؤادي فقلت: مهلا
أيا مليك الأنام حسنا ... العفو من سيفك المحلّى
وقوله (5): (تام الوافر)
تغنّت في ذرى الأوراق ورق ... ففي الأفنان من طرب فنون
وكم بسمت ثغور الزّهر عجبا ... وبالأكمام كم رقصت غصون (6)
ومحاسنه كثيرة رحمنا الله وإياه.
__________
(1) أب ج ش: وماء هن جفون، (ماء هن) غلط والتصحيح من الوافي بالوفيات والفوات فيما يلي.
والأبيات في الوافي بالوفيات 4/ 272271والفوات 4/ 18وإدراك الأماني 19/ 9594
(2) البيتان في الوافي بالوفيات 4/ 272وإدراك الأماني 19/ 95
(3) البيتان في الوافي بالوفيات 4/ 274والفوات 4/ 19وإدراك الأماني 19/ 95.
(4) اليرقان داء يصيب الناس فيتغيّر منه اللون إلى صفرة أو سواد (محيط المحيط: يرق، أرق).
والبيتان في الوافي بالوفيات 4/ 270والفوات 4/ 17وإدراك الأماني 19/ 95.
(5) والبيتان في الوافي بالوفيات 4/ 274والفوات 4/ 19وإدراك الأماني 19/ 95.
(6) ج: قد رقصت.(2/249)
111 - ابن العفيف (1)
هو (2) شمس الدّين محمد بن عفيف الدّين سليمان التلمسانيّ، شاعر مجيد غوّاص على المعاني، من محاسنه قوله (3): (تام السريع)
أسير أجفان بخدّ أسيل ... كليم أحشاء بطرف كليل
في حبّ من حظّي كشعر له ... لكن قصير ذا وهذا طويل
ليس خليلا لي ولكنّه ... يضرم في الأحشاء نار الخليل
يا ردفه جرت على خصره ... رفقا به ما أنت إلّا ثقيل
وقوله (4): (تام الوافر)
أعزّ الله أنصار العيون ... وخلّد ملك هاتيك الجفون
وضاعف بالفتور لها اقتدارا ... وإن تك أضعفت عقلي وديني
وأبقى دولة الأعطاف فينا ... وإن جارت على القلب الظّعين
وأسبغ ظلّ ذاك الشّعر يوما ... على قدّ به هيف الغصون
وصان حجاب هاتيك الثّنايا ... وإن ثنت الفؤاد إلى الشّجون
__________
(1) ولد بالقاهرة وولي عمالة الخزانة بدمشق، شاعر عرف برقّة شعره واشتهر بالشاب الظريف (688هـ) ترجمته في الوافي بالوفيات 3/ 136129والفوات 3/ 382372والبداية والنهاية 13/ 315والنجوم الزاهرة 7/ 382381، 8/ 3129والشذرات 5/ 405وإدراك الأماني 3/ 173172والأعلام 6/ 150 ومقدمة ديوانه 193.
(2) من الوافي بالوفيات 3/ 129.
(3) أول مقطوعة في ثمانية أبيات في الغزل، وهي في ديوانه 235والأبيات في الوافي بالوفيات 3/ 131130 والفوات 3/ 375والبيت الأخير في الغيث المسجم 1/ 288 (ط. العلمية).
الخدّ الأسيل: الأملس المستويّ، السّهل اللّيّن. «(اللسان: أسل). نار الخليل يقصد بها النار التي أوقدها المشركون لإحراق إبراهيم الخليل عليه السلام وقد أشار إليها القرآن في قوله تعالى {«قََالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فََاعِلِينَ. قُلْنََا يََا نََارُ كُونِي بَرْداً وَسَلََاماً عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ»} سورة الأنبياء 21/ 6968.
(4) أول مقطوعة في سبعة أبيات في الغزل وهي في ديوانه 277، والأبيات في الوافي بالوفيات 3/ 130والغيث المسجم 2/ 162 (ط العلمية) والفوات 3/ 374.(2/250)
وقوله (1): (تام السريع)
أسكرني باللّحظ والمقلة ال ... كحلاء والوجنة والكاس
ساق يريني قلبه قسوة ... ساق ولكن قلبه قاس
وقوله (2): (مجزوء الكامل)
قامت حروب الزّهر ما ... بين الرّياض السّندسيّه
وأتت جيوش الآس تغ ... زو روضة الورد الجنيّه
لكنّها كسرت لأنّ ... الورد شوكته قويّه
ومحاسنه كثيرة (3) رحمه الله وأرضاه.
112 - ابن النبيه (4)
هو كمال الدّين أبو الحسن عليّ بن محمد بن حسن بن النبيه، له شعر رائق (5) (شريف وجيه نبيه، من غرره ونفائس درره) قوله في الصبوح (6):
(تام الكامل)
طاب الصّبوح لنا فهاك وهات ... وامزج كؤوسك يا أخا اللّذات
كم ذا التّواني والشّباب مطاوع ... والدّهر سمح والحبيب موات
قم فاصطبح من شمس كأسك واغتبق ... بكواكب طلعت من الكاسات
__________
(1) البيتان في ديوانه 150.
ساق ولكن قلبه قاس: أي إذا قلبت كلمة (ساق) فإنها تصبح (قاس) والمعنى أنه ساق يسقي ولكن قلبه قاس.
(2) الأبيات في ديوانه 292والوافي بالوفيات 3/ 133.
(3) ج: رحمنا الله وإياه.
(4) شاعر وكاتب من أهل مصر (619هـ) ترجمته في الوفيات 5/ 334، 336والفوات 3/ 7366والنجوم الزاهرة 6/ 243والشذرات 5/ 8685وإدراك الأماني 16/ 10299وتاريخ الأدب لبروكلمان 5/ 6665والأعلام 4/ 331.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.
(6) أول قصيدة في المدح وهي في ديوانه 129123والأبيات في إدراك الأماني 16/ 100وما عدا البيت السابع والبيتين الأخيرين في الفوات 3/ 7170.(2/251)
صفراء صافية توقّد بردها ... فعجبت للنّيران في الجنّات
ينسلّ من قار الظّروف حبابها ... والدّرّ مجتلب من الظّلمات
عذراء واقعها المزاج أما ترى ... منديل عذرتها بكفّ سقاة (1)
وتريك خيط الصّبح مفتولا إذا ... مرقت من الرّاووق للطّاسات
يسعى بها عبل الرّوادف أهيف ... خنث الشّمائل شاطر الحركات
يهوى فتسبقه أساود شعره ... ملتفّة كأساود الحيّات
يدري منازل نيّرات كؤوسه ... ما بين منصرف وآخر آت
لو قسّمت أرزاقنا بيمينه ... عدل الزّمان على ذوي الحاجات
حظّي من الزّمن القليل وهذه ... نفثات فيّ وهذه كلماتي
وقوله (2): (تام الكامل)
قم يا غلام ودع نصيحة من نصح ... فالدّيك قد صدع الدّجى لمّا صدح
خفيت تباشير الصّباح فسقّني ... ما ضلّ في الظّلماء من قدح القدح
صهباء ما لمعت بكفّ مديرها ... لمقطّب إلّا تهتّك وانشرح
والله ما مزج المدام بمائها ... لكنّه مزج المسرّة بالفرح
وضحت فلولا أنّها تروي الظّما ... قلنا شرار أو سراب قد طفح
هي صفوة الكرم الكريم فما بدت ... سرّاؤها في باخل إلّا سمح
من كفّ فتّان القوام بوجهه ... عذر لمن خلع العذار أو اطّرح
قمر شقائق مرج وجنته حمى ... ما شقّها سرح العذار ولا سرح
__________
(1) ج: عذرها بكف. (عذرها) غلط.
(2) أول قصيدة في المدح. وهي في ديوانه 213208وإدراك الأماني 16/ 100وما عدا الأبيات 4، 5، 8في الفوات 5/ 73.
قدح القدر: غرف ما فيها. (اللسان: قدح).(2/252)
ولّى بشعر كالظلام إذا دجا ... وأتى بوجه كالصّباح إذا وضح
يهتزّ كالغصن الرّطيب على النّقا ... ذا خفّ في طيّ الوشاح وذا رجح
النّرجس الغضّ استحى من طرفه ... وبثغره زهر الأقاح قد انفتح
وكأنّه متبسّم بعقوده ... أو بالثّنايا قد تقلّد واتّشح
قال شهاب الدين القوصي (1) رحمه الله: دخلت أنا وعلي ابن النبيه على الوزير صفي الدين ابن شكر (2) [رحمهم الله (3)] وقد حمّ بقشعريرة في بعض أمراضه، فأنشده ابن النبيه (4): (مجزوء الرجز)
تبّا لحمّاك التي ... أضنت فؤادي ولها
هل سألتك حاجة ... فأنت تهتزّ لها
ومن شعر ابن النبيه (5) (قوله): (الطويل)
وفي الكلّة الحمراء بيضاء طفلة ... بزرق عيون السّمر يحمى احورارها
أثار لها نقع الجياد سرادقا ... به دون ستر الخدر عنّا استتارها
__________
(1) هو إسماعيل بن حامد محدّث وفقيه له إلمام بالأدب، كان وكيل بيت المال بدمشق (653هـ) لسان الميزان 1/ 397 والأعلام 1/ 312.
(2) هو عبد الله بن علي وزير مصري وفقيه مالكيّ اشتهر بدهائه وقسوته (622هـ) الفوات 2/ 196193 والأعلام 4/ 106105.
(3) زيادة في ج
(4) البيتان في ديوانه 418وإدراك الأماني 16/ 101.
الوله: الحزن. (اللسان: وله)
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.
والأبيات من قصيدة في المدح مطلعها:
لمن شجر قد أثقلتها ثمارها ... سفائن برّ والسّراب بحارها
وهي في ديوانه 115110والأبيات في إدراك الأماني 16/ 101.(2/253)
لها طلعة من شعرها وجبينها ... تعانق فيها ليلها ونهارها (1)
لها من مهاة الرّمل جيد ومقلة ... وليس لها استيحاشها ونفارها
وما سكنت وادي العقيق ولا الغضا ... ولكن بعيني أو بقلبي دارها
إذا ما الثّريّا والهلال تقارنا ... أشكّك هل ذا قرطها أو سوارها؟
فأيّ قضيب جال فيه وشاحها ... وأيّ كثيب ضاق عنه إزارها (2)
وما كنت أدري قبل لؤلؤ ثغرها ... بأنّ نفيسات اللآلي صغارها
هي البدر إلّا أنّ عندي محاقه ... هي الخمر إلا أن حظّي خمارها
أيا كعبة من خالها حجر لها ... بعيد علينا حجّها واعتمارها (3)
فإن بلغتها النّفس يوما بشقّها ... فقلبي لها هدي ودمعي جمارها
وقوله (4): (تام السريع)
سواي في سلوته يطمع ... فعنّفوا إن شئتم أو دعوا
أوضحتم الرّشد فمن يهتدي؟ ... وقلتم الحقّ فمن يسمع؟
في ضيّق العين وإن أطنبوا ... في الحدق النجل وإن أوسعوا (5)
الليل من شعر له مسبل ... والشّمس من طلعته تطلع
وقوله (6): (تام الخفيف)
جدّ وجدي بحبّ لاه وأودى ... بفؤادي تذكاره وهو ناسي
__________
(1) ج: وجيبها، وهو غلط
(2) فأي قضيب يصف قامتها الرشيقة. وأي كثيب يصف اكتناز أردافها.
(3) أيا كعبة جعل صاحبته بمثابة الكعبة المكرمة، وجعل خالها بمثابة الحجر الأسود.
(4) ج: هواي في سلوته. (هواي) غلط.
والأبيات أول قصيدة في المدح. وهي في ديوانه 148142والأبيات في إدراك الأماني 16/ 101.
(5) أب ج هـ و: في أضيق، ولعل الصحيح ما في (ش) والديوان والغيث المسجم 2/ 19 (ط. العلمية).
في ضيق: أي أن ما به سببه المحبوب الضيق العين كما سيتضح ذلك في الأبيات التالية.
(6) من قصيدة في المدح مطلعها:
ويح قلب المحبّ ماذا يقاسي ... كلّ قلب عليه كالصّخر قاس
وهي في ديوانه 407403والأبيات في إدراك الأماني 16/ 102101والثالث في الغيث المسجم 2/ 19 (ط. العلمية).(2/254)
من بني التّرك ليّن العطف قاسي ال ... قلب سهل القياد صعب المراس
ضيّق العين وهي من صفة البخ ... ل فإن جاد كان ضد القياس (1)
وقوله (2): (تام الوافر)
أمانا أيّها القمر المطلّ ... ففي جفنيك أسياف تسلّ
يزيد جمال وجهك كلّ يوم ... ولي جسد يذوب ويضمحلّ
وما عرف السّقام طريق جسمى ... ولكن دلّ من أهوى يدلّ
يميل بطرفه التّركيّ عنّي ... صدقتم إن ضيق العين بخل (3)
إذا نشرت ذوائبه عليه ... ترى ماء يرفّ عليه ظلّ
وفي معنى قوله: يميل بطرفه التّركيّ عنّي البيت يقول الصفدي (4):
(تام السريع)
أترك هوى الأتراك إن شئت أن ... لا تبتلى فيهم بهمّ وضير
ولا ترجّ الودّ من وصلهم ... ما ضاقت الأعين منهم لخير
ومن شعر ابن النبيه قوله من قصيدة (5): (تام الكامل)
والنّهر خدّ بالشّعاع مورّد ... قد دبّ فيه عذار ظلّ البان
والماء في ساق الغصون خلاخل ... من فضّة، والزّهر كالتّيجان
ومحاسنه رحمه الله كثيرة. وبالله تعالى التوفيق.
__________
(1) ج: صدر القياس (صدر) غلط. هـ: كان من ضد (من) زائدة غلطا.
(2) أول قصيدة في المدح وهي في ديوانه 260255والأبيات في الفوات 3/ 71، وإدراك الأماني 16/ 102 والأبيات 1، 2، 4مع بيتين آخرين في الشذرات 5/ 8685والبيت الرابع في الغيث المسجم 2/ 19 (ط.
العلمية).
(3) ج: إلى ضيق. (الى) غلط.
(4) البيتان في الغيث المسجم 2/ 21 (ط. العلمية) وإدراك الأماني 16/ 102.
(5) من قصيدة في المدح مطلعها:
مالي وللتّشبيب بالأوطان ... لي شاغل بجمالك الفتّان
وهي في ديوانه 286276والبيتان في الغيث المسجم 1/ 297 (ط. العلمية) وإدراك الأماني 16/ 102.(2/255)
113 - الذهبي (1)
هو بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذّهبيّ الدمشقيّ كان والده (2) (لؤلؤ) عتيقا لصاحب طرابلس، يقال إنّه كان له دكان باللبادين، وله به قفص على العادة فيه خواتم وغيرها، فجاءه مملوك من مماليك النّاصر (3) صاحب الشام فقال له: هل عندك خاتم على قدر أصبعي؟ فقال: بل عندي أصبع على قدر خاتمك! فرفعت الواقعة إلى النّاصر فاستظرفه، وكان ذلك سبب اتصاله به، وكان من فحول الشّعراء ومقدّميهم، له محاسن كثيرة فمنها (4) قوله، وقد توالت الأمطار بدمشق (5): (تام الرمل)
إن أقام الغيث شهرا هكذا ... جاءنا الطوفان والبحر المحيط
ما هم من قوم نوح يا سما ... أقلعي عنهم فهم من قوم لوط
وقوله في غلام بوجهه حبّ الشباب (6): (الطويل)
تعشّقته لدن القوام مهفهفا ... شهيّ اللّمى أحوى المراشف أشنبا
وقالوا: بدا حبّ الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجها إلينا محبّبا
__________
(1) (680هـ) ترجمته في تالي كتاب الوفيات 134133ومرآة الجنان 4/ 193والفوات 4/ 383368 والنجوم الزاهرة 7/ 351والشذرات 5/ 370369وإدراك الأماني 3/ 112108والأعلام 8/ 246.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج
(3) هو أحمد بن محمد بن قلاون من أمراء الشام وسلاطينه المشهورين تولّى الملك بالديار المصرية (745هـ) الوافي بالوفيات 8/ 9086والبداية والنهاية 14/ 193، 195194والدرر الكامنة 1/ 296294 والنجوم الزاهرة 10/ 7250.
(4) ج: منها.
(5) البيتان في شعره 65والفوات 4/ 377والشذرات 5/ 369وإدراك الأماني 3/ 109.
(6) البيتان في شعره 66والفوات 4/ 377والغيث المسجم 2/ 228 (ط. العلمية) والنجوم الزاهرة 7/ 352وإدراك الأماني 3/ 109.
غلام مهفهف: خميص البطن دقيق الخصر. اللّمى: سمرة الشّفتين واللّثاث يستحسن. أحوى: أسمر الشّفة. المراشف جمع مرشف ويقصد به الشفة، من رشف الماء تناوله بالشفتين. أشنب: عذب الرّيق بارده. (اللسان: حوا، رشف، شنب، لما، هفف)(2/256)
وقوله في طبيب كحل غلاما حسنا غدوة فمات الطبيب عشيّة (1): (تام الكامل)
يا قوم غلط الطبيب وما درى ... في كحله الرّشأ الغرير وطبّه
وأراد أن يمضي نصال جفونه ... ويحدّها لتصيبنا فبدت به
وقوله (2): (تام الكامل)
رفقا أذبت حشاشة المشتاق ... وأسلتها دمعا من الآماق
وأحلته من بعد تسويف على ال ... صّبر الذي لم تبق منه بواقي
وطلبت منّي في هواك مواثقا ... والقلب عندك في أشدّ وثاق
قلب بعين قد أصيب وعارض ... فأعده لي فالدّمع ليس براق (3)
ألقي الدّموع على الدّموع وليلتي ... أدرى بما ألقى بها وألاقي
لا تلتقي فيها الجفون وإنّني ... لا أرتجي منها ومنك تلاقي
أشقيق بدر التّمّ طال تلهّفي ... وأطال فيك العاذلون شقاقي
أنفقت من صبري عليك وإنّه ... لرضاك لا لتملّق ونفاق
فارفق بقلب فيه ما يكفيه من ... فرق الصّدود فلا ترع بفراق
فحرارة الأنفاس قد دلّت على ... ما في الحشا من لاعج الأحراق
وصبا بعثت بها إليك فلم تعد ... وأظنّها حالت عن الميثاق
وتشوّق سطّرته في مهرق ... فمحاه واكف دمعي المهراق (4)
__________
(1) البيتان ليسا في شعره وهما في الفوات 4/ 377وإدراك الأماني 3/ 109.
فبدت أي بدأت، حذفت الهمزة للضرورة الشعرية.
(2) مطلع قصيدة في الغزل وهي في شعره 6160وإدراك الأماني 3/ 110109وما عدا الأبيات 5، 6، 129في الفوات 4/ 369368.
(3) أب ج ش هـ و: قلب معنى. (معنى) غلط والتصحيح من شعره والفوات.
العارض: ما يعرض للإنسان من الهموم والأحزان. ليس براق أي براقئ. ورقأ الدمع: جفّ وانقطع. (اللسان:
رقأ، عرض).
(4) المهرق: الصحيفة البيضاء يكتب فيها. دمع مهراق: مراق. المتحمّلون: الراحلون والمسافرون من الأحباب. (اللسان:
حمل، هرق). حجازي وعشاق: دوران موسيقيان. انظر كتاب الأدوار 95.(2/257)
وبمهجتي المتحمّلون عشيّة ... والرّكب بين تلازم وعناق
وحداتهم أخذت حجازا بعد ما ... غنّت وراء الرّكب في عشّاق
وتنبّهت ذات الجناح بسحرة ... في الواديين فنبّهت أشواقي
ورقاء قد أخذت فنون الحزن عن ... يعقوب والألحان عن إسحاق (1)
قامت على ساق تطارحني الهوى ... من دون صحبي بالحمى ورفاقي
أنّى تباريني جوى وصبابة ... وكآبة وهوى وفيض مآقي
وأنا الذي أملي الهوى من خاطري ... وهي التي تملي من الأوراق
وقوله (2): (السريع)
هلمّ يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا همّه
نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمّه
وقوله (3): (مجزوء الرجز)
وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا
من حين ضاع زهرها ... دار عليه وبكى
وقوله (4): (مجزوء الرمل)
ربّ ناعورة روض ... بات يندى ويفوح
تضحك الأزهار منها ... وهي تبكي وتنوح
__________
(1) يقصد بيعقوب، يعقوب والد يوسف عليهما السلام وحزنه على ابنه لمّا رماه إخوته في الجبّ. وإسحاق هو إسحاق بن إبراهيم الموصلي المغنيّ المشهور وقد سبقت ترجمته برقم 35.
المآقي جمع المؤقي والمأقي. وهو مؤخّر العين وقيل مقدّمها. (اللسان: مأق).
(2) البيتان في وصف روضة وهما في شعره 62والفوات 4/ 377وإدراك الأماني 3/ 110.
(3) البيتان في وصف دولاب روضة وهما في شعره 65والفوات 4/ 378والنجوم الزاهرة 7/ 352وإدراك الأماني 3/ 110.
الدّولاب جمعه دواليب، وهو على شكل النّاعورة يستقى به الماء. ضاع زهرها فاح طيب زهرها. (اللسان: دلب، ضوع).
(4) البيتان في وصف ناعورة روض وليس في شعره وهما في الفوات 4/ 378وإدراك الأماني 3/ 110.(2/258)
وقوله (1): (تام السريع)
باكر إلى الرّوضة تستجلها ... فثغرها في الصّبح بسّام
والنّرجس الغضّ اعتراه الحيا ... فغضّ طرفا فيه أسقام
وبلبل الرّوض فصيح على ال ... أيكة والشّحرور تمتام
ونسمة الرّيح على ضعفها ... لنا بها مرّ وإلمام
فعاطني الصّهباء مشمولة ... عذراء فالواشون نوّام
واكتم أحاديث الهوى بيننا ... ففي خلال الرّوض نمّام
وقوله (2): (مخلع البسيط)
عرّج على الزّهر يا نديمي ... ومل إلى ظلّه الظّليل
فالغصن يلقاك بابتسام ... والرّيح تلقاك بالقبول
وقوله (3): (مجزوء الكامل)
الرّوض ألطف ما رأي ... ت إذا تكاملت الهموم
تحنو عليّ ضلوعه ... ويرّق لي فيه النّسيم
وله في زهر اللوز (4): (تام السريع)
أنظر إلى اللّوز تجد غصنه ... أحوى رشيق القدّ مياسه
بزهره تعبث ريح الصّبا ... وقصدها تأخذ أنفاسه
__________
(1) الأبيات في وصف روضة وهي في شعره 6766والفوات 4/ 378وإدراك الأماني 3/ 110.
(2) البيتان في شعره 63والفوات 4/ 380وإدراك الأماني 3/ 110.
(3) البيتان في شعره 67والفوات 7/ 379وإدراك الأماني 3/ 111.
(4) البيتان ليسا في شعره وهما في إدراك الأماني 3/ 111.(2/259)
وقوله في مليح اسمه داود (1): (تام الكامل)
قد كنت جلدا في الخطوب إذا عرت ... لا تزدهيني الغانيات الغيد
وعهدت قلبي من حديد في الحشا ... فألانه بجفونه داود
وقوله في مليح يلقّب بالشّهاب (2): (تام الخفيف)
يا قضيب الأراك عند التّثنّي ... هزّ عطفيه حين ماس الشّباب
عجبا لك كيف ضلّ المحبّو ... ن بليل الأسى وأنت شهاب (3)
وقوله فيمن أراد تقبيله في فمه فامتنع فقبّله في خدّه (4): (الطويل)
منعت ارتشاف الثّغر يا غاية المنى ... فزحزحتني منه إلى خدّك القاني
لئن فاتني منه الأقاح فإنّني ... حصلت على ورد جنيّ وريحان
وقوله في مليح خصي (5): (مجزوء الكامل)
وأغنّ مهضوم الحشا ... كالظّبي لكن لا يصاد
أمن البياض بخدّه ... من أن يكون به سواد (6)
وقوله (7): (تام الكامل)
ومعذّر قد بيّتته جماعة ... ولووا بما وعدوه طول الليل
واكتاله كلّ هناك وما رأى ... منهم سوى حشف وسوء الكيل (8)
__________
(1) البيتان ليسا في شعره وهما في الفوات 4/ 381وإدراك الأماني 3/ 111.
فألانه بجفونه داود يشير بذلك إلى داود عليه السلام المشهور بتطويع الحديد وصناعة الدّروع كما في قوله تعالى:
{= وَأَلَنََّا لَهُ الْحَدِيدَ =} سورة سبأ 34/ 10وقد شبه الشاعر غلامه داود في تأثيره في قلبه بداود عليه السلام في تليين الحديد.
(2) البيتان ليسا في شعره وهما في الفوات 4/ 382وإدراك الأماني 3/ 111
(3) ج: بليل السهى. (السهى) غلط.
(4) البيتان ليسا في شعره وهما في الفوات 4/ 382وإدراك الأماني 3/ 111
(5) البيتان ليسا في شعره وهما في إدراك الأماني 3/ 111
(6) ج: البياض نحره، (نحره) غلط. و: له سواد.
(7) البيتان ليسا في شعره وهما في الفوات 4/ 380وإدراك الأماني 3/ 111
(8) ج: واثنا له كل (واثنا) غلط.(2/260)
وقوله في مليح اقتحم جيشا (1): (تام الكامل)
يا حسنه في الجيش حين غدا ... يختال بين السّمر والقضب
لم ألق أحلى من شمائله ... في العين لمّا صار في القلب
وقوله (2): (مجزوء الكامل)
رفقا بصبّ مغرم ... أبليته صدّا وهجرا
وافاك سائل دمعه ... فرددته في الحال نهرا
وقوله (3): (المجتث)
يا عاذلي في هواه ... إذا بدا كيف أسلو
يمرّ في كلّ وقت ... وكلّما مرّ يحلو
وقوله (4): (مجزوء الكامل)
إنّ الذين ترحّلوا ... نزلوا بعيني النّاظره
أسكنتهم في مهجتي ... فإذا هم بالسّاهره
وقوله (5): (تام البسيط)
إنّي أذكّر مولاي الأمير وما ... أظنّه ناسي الوعد الذي ذكّرا
الدّوح يبدي الجنا لكنّ أغصنه ... لو لم تهزّ لما ألقت لنا ثمرا
توفي سنة ثمانين (6) وست مائة عن ثلاث وسبعين سنة يرحمنا الله وإياه.
__________
(1) ج: أحسن من شمائله.
والبيتان ليسا في شعره وهما في إدراك الأماني 3/ 111.
القلب: يقصد به قلب الجيش، خلاف الميمنة والميسرة. كما يقصد به قلب الإنسان العضو المعروف، وقد استعمله الشاعر بالمعنيين معا. (اللسان: قلب)
(2) البيتان في شعره 64والفوات 4/ 378والنجوم الزاهرة 7/ 352وإدراك الأماني 3/ 112111.
نهرا: يقصد به النّهر أي الوادي الذي يجري فيه الماء، كما يقصد به نهرا أي صدّا من نهره ينهره بمعنى صدّه (اللسان: نهر)
(3) البيتان في شعره 63والفوات 4/ 378والغيث المسجم 1/ 269 (ط. العلمية) والنجوم الزاهرة 7/ 352 وإدراك الأماني 3/ 112.
(4) البيتان ليسا في شعره وهما في إدراك الأماني 3/ 112.
(5) البيتان في التذكير بوعد وليسا في شعره وهما في الفوات 4/ 382وإدراك الأماني 3/ 112.
(6) أب ج ش هـ: ثمان، وهو غلط والتصحيح من الفوات 368والأعلام 8/ 246.(2/261)
114 - ابن الخيمي (1)
هو شهاب الدين أبو حفص محمد (2) بن عبد المنعم بن محمد بن الخيمي الأنصاريّ اليمنيّ الأصل، المصريّ الدار، كان شاعرا فصيحا غوّاصا على المعاني، مبدعا فيها، وكان معاصرا لشرف الدين ابن الفارض (3) المتوفى (4) [رحمه الله] سنة اثنتين وثلاثين وست مائة، وله محاسن كثيرة، منها هذه القصيدة الفريدة (5):
(تام البسيط)
يا مطلبا ليس لي في غيره أرب ... إليك آل التّقصّي وانتهى الطّلب
وما طمحت لمرأى أو لمستمع ... إلّا لمعنى إلى علياك ينتسب
وما أراني أهلا أن تواصلني ... حسبي بأنّي فيك اليوم مكتئب
لكن ينازع شوقي تارة أدبي ... فأطلب الوصل لمّا يضعف الأدب
ولست أبرح في الحالبن ذا قلق ... نام وشوق له في أضلعي لهب
ومدمع كلّما كفكفت أدمعه ... صونا لذكرك يعصيني فينسكب
ويدّعي في الهوى دمعي مقاسمتي ... وجدي وحزني فيجري وهو مختضب
كالطّرف يزعم توحيد الحبيب ولا ... يزال في ليله للنّجم يرتقب
__________
(1) (685هـ) ترجمته في الوافي بالوفيات 4/ 5650والفوات 3/ 424413والنجوم الزاهرة 7/ 369 370وإدراك الأماني 5/ 104101والأعلام 6/ 250.
(2) أب ج ش: أبو حفص عمر، (عمر) غلط، والتصحيح من الوفيات 2/ 106والوافي بالوفيات والفوات والنجوم الزاهرة والأعلام فيما سبق.
(3) هو عمر بن علي الشاعر المتصوّف المشهور بابن الفارض، يلقّب بسلطان العاشقين (632هـ) الوفيات 3/ 456454ولسان الميزان 4/ 319317والأعلام 5/ 5655.
(4) زيادة في ج.
(5) القصيدة في الوافي بالوفيات 4/ 5351وما عدا البيت 18في الفوات 3/ 416414وما عدا البيت الثاني في درة الحجال 1/ 157154والأبيات 1، 10، 11، 13في الغيث المسجم 1/ 381والبيتان 1، 23في الإحاطة 2/ 449448ومن القصيدة بيتان في نفح الطيب 2/ 619، 5/ 262.(2/262)
يا صاحبي قد عدمت المسعدين فسا ... عدني على وصبي لا مسّك الوصب (1)
بالله إن جزت كثبانا بذي سلم ... قف بي عليها وقل لي هذه الكثب
ليقضي الخدّ من أجراعها وطرا ... في تربها ويؤدّي بعض ما يجب
ومل إلى البان من شرقيّ كاظمة ... فلي إلى البان من شرقيّها طرب
وخذ يمينا لمغنى تهتدي بشذا ... نسيمه الرّطب إن ضلّت بك النّجب
حيث الهضاب وبطحاها يروّضها ... دمع المحبّين لا الأنواء والسّحب
أكرم به منزلا تحميه هيبته ... عنّي وأنواره لا السّمر والقضب
دعني أعلّل نفسا عزّ مطلبها ... فيه وقلبا لغدر ليس ينقلب (2)
ففيه عاينت قدما حسن من حسنت ... به الملاحة واعتزّت به الرّتب
دان وأدنى وعزّ الحسن يحجبه ... عنّي وذلّي والإجلال والرّهب
أحيا إذا متّ من شوق لرؤيته ... بأنّني لهواه فيه منتسب
ولست أعجب من جسمي وصحّته ... في حبّه إنّما سقمي هو العجب
والهف نفسي لو أجدى تلهّفها ... غوثا وواحربا لو ينفع الحرب
يمضي الزّمان وأشواقي مضاعفة ... يا للرّجال ولا وصل ولا سبب
يا بارقا بأعالي الرّقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشّنب
ويا نسيما سرى من جوّ كاظمة ... بالله قل لي كيف البان والعذب (3)
وكيف جيرة ذاك الحيّ هل حفظوا ... عهدا أراعيه إن شطّوا وإن قربوا
__________
(1) ج: يا صابني وهو غلط.
الوصب: الوجع والمرض. ويقصد به هنا ألم الحب. أجراع جمع جرع وهي الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل. (اللسان:
جرع، وصب).
(2) ب هـ و، هامش أ: لغير.
(3) ج: جرى من جو.
البان ضرب من الشجر واحدتها بانة. والعذب جمع عذبة، وعذبة الشّجر: غصنه. (اللسان: بون، عذب)(2/263)
أم ضيّعوا ومرادي منك ذكرهم ... هم الأحبّة إن أعطوا وإن سلبوا
إن كان يرضيهم إبعاد عبدهم ... فالعبد منهم بذاك البعد مقترب
والهجر إن كان يرضيهم بلا سبب ... فإنّه من لذيذ الوصل محتسب
وإن هم احتجبوا عنّي فإنّ لهم ... في القلب مشهد حسن ليس يحتجب
ما ينتهي نظري منهم إلى رتب ... في الحسن إلّا ولاحت فوقها رتب
وكلّما لاح معنى من جمالهم ... لبّاه شوق إلى معناه منتسب
أظلّ دهري ولي من حبّهم طرب ... ومن أليم اشتياقي نحوهم حرب
(1) لمّا حجّ نجم الدين ابن اسرائيل (2) الشاعر رأى ورقة ملقاة في بعض أزّقة مصر، وفيها هذه القصيدة، فأعجبته فادّعاها لنفسه، ثم إنّه اجتمع هو وناظمها ابن الخيمي بمحضر جماعة من الأدباء، وجرى بينهما الحديث فتحاكما إلى شرف الدّين ابن الفارض، فقال: ينبغي لكلّ منكما أن ينظم أبياتا على هذا الوزن والرويّ فنظم ابن الخيمي (3): (تام البسيط)
لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... جنوا عليّ ولمّا أن جنوا عتبوا
يا ربّ هم أخذوا قلبي فلم سخطوا ... وإنّهم غصبوا عيشي فلم غضبوا
هم العريب بنجد مذ عرفتهم ... لم يبق لي معهم مال ولا نشب (4)
شاكون للحرب لكن من قدودهم ... وفاترات اللّحاظ السّمر والقضب
__________
(1) الخبر في الوافي بالوفيات 4/ 5150والفوات 3/ 414ولسان الميزان 5/ 197والنجوم الزاهرة 7/ 283، 370369.
(2) هو محمد بن سوّار بن إسرائيل، نجم الدين أبو المعالي الشيبانيّ الشاعر الغزل المشهور، اقتدى بابن الفارض في التصوف، طاف البلاد ومدح الرّؤساء والقضاة (677هـ) الوافي بالوفيات 3/ 145143والفوات 3/ 389383ولسان الميزان 5/ 197195والنجوم الزاهرة 7/ 283282والأعلام 6/ 153.
(3) القصيدة في الوافي بالوفيات 4/ 5654والفوات 3/ 417416وإدراك الأماني 5/ 103والبيتان 8، 11في لسان الميزان 5/ 197.
الجرعاء: الأرض ذات الحزونة تشاكل الرّمل. (اللسان: جرع).
(4) ج: الغريب.
النّشب: المال الأصيل من الناطق والصامت (المال والعقار) (اللسان نشب).(2/264)
فما ألمّوا بحيّ أو ألمّ بهم ... إلّا أغاروا على الأبيات وانتهبوا
عهدت في دمن البطحاء عهد هوى ... إليهم وتمادت بيننا حقب
فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا ... لكن لغيري ذاك الحفظ قد نسبوا
من منصفي من لطيف منهم غنج ... لدن القوام لإسرائيل ينتسب (1)
مبدّل القول ظلما لا يفي بموا ... عيد الوصال ومنه الذّنب والغضب
تبين لثغته بالراء نسبته ... والمين منه بزور الوعد والكذب
موحّد فيرى كلّ الوجود له ... ملكا ويبطل ما ياتي به النّسب (2)
فعن عجائبه حدّث ولا حرج ... ما ينتهي في المليح المطلق العجب
بدر ولكن هلالا لاح إذ هو بال ... ورديّ من شفق الخدّين منتقب
في كلّ مبسمه من حلو ريقته ... خمر ودرّ ثناياه لها حبب (3)
فلفظه أبدا سكران يسمعنا ... من معرب اللّحن ما ينسى به الأدب
تجني لواحظه فينا ومنطقه ... جناية يجتنى من مرّها الضّرب (4)
حلو الأحاديث والألفاظ ساحرها ... تلقى إذا نطق الألواح والكتب
لم تبق ألفاظه معنى يروق لنا ... لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب
فداؤه ما جرى في الدّمع من مهج ... وما جرى في سبيل الحبّ محتسب
__________
(1) يعرّض ابن الخيمي بنجم الدين ابن إسرائيل. اللّثغة: ثقل اللسان بالكلام، والألثغ الذي لا يستطيع أن يتكلم بالراء المين: الكذب. (اللسان: لثغ، مين).
(2) أب ج ش: موجد، وهو غلط، والتصحيح من الوافي بالوفيات 4/ 55والفوات 3/ 417ولسان الميزان 5/ 197.
(3) أب ج ش: في كل، ولعل الأصح ما في الوافي بالوفيات والفوات: كأس. ش: معرب اللحن. أب ج: مغرب اللحن. (مغرب) غلط.
(4) الضّرب: العسل الابيض الغليظ. (اللسان: ضرب).(2/265)
ويح المتيّم شام البرق من إضم ... فهزّه كاهتزاز البارق الحرب (1)
وأسكن البرق من وجد ومن كلف ... في قلبه فهو في أحشائه لهب
وكلّما لاح منه بارق بعثت ... ماء المدامع من أجفانه سحب
وما أعادت نسيمات الغوير له ... أخبار ذي الأثل إلّا هزّه طرب (2)
واها له أعرض الأحباب عنه وما ... أجدت وسائله الحسنى ولا القرب
ونظم ابن إسرائيل قصيدة أولها (3): (تام البسيط)
لم يقض في حبّكم بعض الذي يجب ... قلب بعزّة ذكراكم له يجب
يقول فيها:
أحبابنا والمنى تدني زيارتكم ... وربّما حال من دون المنى الأدب (4)
ما رابكم من حياتي بعد بعدكم ... وليس لي في حياة بعدكم أرب
قاطعتموني فأحزاني مواصلة ... وحلتم فحلا لي فيكم التّعب
رحتم بقلبي وما كادت لتسلبه ... لولا قدودكم الخطّيّة السّلب
يا بارقا ببراق الحزن لاح لنا ... أأنت أم أسلمت أقمارها النّقب (5)
__________
(1) إضم: اسم جبل، الحرب: أن يسلب الإنسان ماله. (اللسان: اضم، حرب). ويقصد بالحرب هنا سلب الحبيبة قلبه وطمأنينته.
(2) أب ج ش: اعدت اخا بذي، وهو غلط، والتصحيح من الوافي بالوفيات 4/ 55والفوات 3/ 417.
الغوير: اسم ماء لبني كلب. ذو الأثل: مكان يكثر فيه هذا النوع من الشجر. (اللسان: أثل، غور).
(3) الأبيات في الوافي بالوفيات 4/ 5453والفوات 3/ 416.
(4) ج: تدري، وهو غلط.
(5) البراق جمع برقة وهي الأرض (الغليظة المختلطة بحجارة ورمل. النقب جمع نقاب وهو ما تستر به المرأة وجهها.
(اللسان: برق، نقب)(2/266)
منها:
أقسمت بالمقسمات الزّهر يحجبها ... سمر العواليّ والهنديّة القضب
لكنت تشبه برقا من ثغورهم ... يا درّ دمعي لولا الظّلم والشّنب (1)
فلما وقف على القصيدتين ابن الفارض أنشد لابن إسرائيل:
... لقد حكيت ولكن فاتك الشّنب
حكم بالقصيدة لابن الخيمي، رحمنا الله وإياهم أجمعين بمنه وكرمه (2) [آمين].
115 - الكلاعي صاحب السيرة (3)
هو (4) (الإمام) أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميريّ الكلاعيّ من أهل بلنسية (5)، كان رحمه الله حافظا للحديث مبرزا في نقده، تام المعرفة بطرقه، ضابطا لأحكام أسانيده، ذاكرا لرجاله، خطب ببلنسية واستقضي بها فسار في أحكامه بأجمل سيرة وأحمد طريقة من العدل والتّثبّت (6) والفضل، وكان حسن الهيئة والملبس والمركب والصورة، كريم النّفس يطعم الفقراء من الطلبة وينشطهم ويتحمل مؤونتهم. وكان قد تجوّل في بلاد الأندلس والمغرب فأخذ عن آخر الحفّاظ بها
__________
(1) الظّلم: ماء الأسنان وبريقها. (المعجم الوسيط: ظلم).
(2) زيادة في ج.
(3) (634هـ) ترجمته في المقتضب من كتاب تحفة القادم 194191والمغرب في حلى المغرب 2/ 317316 والذيل والتكملة 4/ 9583وتذكرة الحفاظ 4/ 14201417والفوات 2/ 8180والمرقبة العليا 122119والإحاطة 4/ 309295والديباج المذهب 123122ونفح الطيب 4/ 476473وإدراك الأماني 21/ 145140والأعلام 3/ 136.
(4) ما بين القوسين ساقط من ج.
(5) بلنسية كورة ومدينة مشهورة بالأندلس تقع شرقي قرطبة وهي برية بحرية معجم البلدان 1/ 491490.
(6) ج: والتثبيت.(2/267)
القاسم ابن رشد (4) وغيرهم. وكان حسن الخطّ (5) (لا نظير له في الإتقان والضّبط مع الاستبحار في الآداب والاشتهار بالبلاغة) فردا في إنشاء الرسائل فصيحا مفوّها (6)، وله تواليف مفيدة شهيرة في فنون شتى منها (7): كتاب «الاكتفا بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازي الثلاثة الخلفا» في أربعة مجلدات و «المسلسلات من الأحاديث والآثار والإنشادات»، وكتاب = نكتة الأمثال ونفثة السّحر الحلال = و = تحفة الورّاد ونجعة الرّوّاد = و = الإعلام بأخبار البخاري الإمام = وجنيّ الرّطب في سنيّ الخطب = وديوان رسائله سفر وديوان شعره سفر، إلى غير ذلك.
فمن شعره رحمه الله ما كتب به إلى أبي بحر صفوان بن إدريس المرسيّ (8)
عقب انفصاله من بلنسية سنة سبع وثمانين وخمس مائة (9): (الطويل)
أحنّ إلى نجد ومن حلّ في نجد ... وماذا الذي يغني حنيني أو يجدي
(1) هو عبد الرحمن بن محمد الأنصاري الأندلسيّ المرسيّ المشهور بأبي القاسم ابن حبيش قاض وإمام حافظ، برع في النحو، وكان أحد أئمة الأندلس في الحديث وغريبه ولغته، له (المغازي) مجلدات. (584هـ). الإحاطة 4/ 301 وبغية الوعاة 2/ 85والأعلام 3/ 328327.
(2) هو محمد بن عبد الله بن يحيى بن مفرج بن الجدّ الفهريّ الإمام الحافظ المقرئ من محدّثي اشبيلية (586هـ) تذكرة الحفاظ 4/ 13611360والإحاطة 4/ 302301.
(3) هو محمد بن سعيد أبو عبد الله الأنصاري الإشبيلي محدّث وفقيه مالكي (586هـ) تذكرة الحفاظ 4/ 1360 والأعلام 6/ 139.
__________
(4) هو محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسيّ القاضيّ والفيلسوف المشهور (595هـ) المرقبة العليا 111والأعلام 5/ 318.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.
(6) ج: مفهوما، وهو غلط.
(7) انظر مسردا لمؤلفاته في الذيل والتكملة 4/ 8785وتذكرة الحفاظ 4/ 418والفوات 2/ 81والمرقبة العليا 119والإحاطة 4/ 297296ونفح الطيب 4/ 495.
(8) شاعر وأديب أندلسيّ له مؤلفات عديدة منها (زاد المسافر) (598هـ) المغرب في حلى المغرب 2/ 261260 والذيل والتكملة 4/ 143140والفوات 2/ 121117والإعلام لابن إبراهيم 7/ 372361والأعلام للزركلي 3/ 205.
(9) الأبيات في الإحاطة 4/ 298297ونفح الطيب 4/ 476وإدراك الأماني 21/ 141140وبعضها في الديباج المذهب 123.(2/268)
وقد أوطنوها وادعين وخلّفوا ... محبّهم رهن الصّبابة والوجد
تبيّن بالبين اشتياقي إليهم ... ووجدي فساوى ما أكنّ الذي أبدي
وضاقت عليّ الأرض حتى كأنّها ... وشاح بخصر أو سوار على زند
إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى ... وبعض الذي لاقيته من جوى يردي
فراق أخلّاء وصدّ أحبّة ... كأنّ صروف الدّهر كانت على وعد
فيا سرحتي نجد نداء متيّم ... له أبدا شوق إلى سرحتي نجد
ظمئت فهل طلّ يبرّد لوعتي ... ضحيت فهل ظلّ يسكّن من وجدي (1)
ويا زمنا قد بان غير مذمّم ... لعلّ لأنس قد تصرّم من ردّ
ليالي نجني الأنس من شجر المنى ... ونقطف زهر الوصل من شجر الصّدّ
وسقيا لإخوان بأكناف حاجر ... كرام السّجايا لا يحولون عن عهد (2)
وكم لي بنجد من سريّ ممجّد ... ولا كابن إدريس أخي البشر والمجد (3)
أخو همّة كالزّهر في بعد نيلها ... وذو خلق كالزّهر غبّ الحيا العدّ
تجمّعت الأضداد فيه حميدة ... فمن خلق سبط ومن حسب جعد
أيا راحلا أودى بصبري رحيله ... وفلّل من عزمي وثلّم من حدّي
أتعلم ما يلقى الفؤاد لبعدكم ... ألا مذ نأيتم ما يعيد ولا يبدي
فيا ليت شعري هل تعود لنا المنى ... وعيش كما نمنمت حاشيّتي برد
عسى الله أن يدني السّرور بقربكم ... فيبدو منّا الشّمل منتظم العقد
__________
(1) ضحيت وضحيت: برزت للشمس. يقال لكلّ من كان بارزا في غير ما يظلّه ويكنّه. حاجر: منزل في طريق مكة.
(اللسان: حجر، ضحا).
(2) ضحيت وضحيت: برزت للشمس. يقال لكلّ من كان بارزا في غير ما يظلّه ويكنّه. حاجر: منزل في طريق مكة.
(اللسان: حجر، ضحا).
(3) ج: ولك ابن، وهو غلط.
وابن إدريس هو صفوان بن إدريس، السابق الذكر في مقدمة هذه الأبيات. الزّهر: النجوم. (اللسان: زهر).(2/269)
ومن شعره رحمه الله وأرضاه (1) (قوله) (2): (الطويل)
إذا برمت نفسي بحال أحلتها ... على أمل باد فقرّت به النّفس
وأنزل أرجاء الرّجاء ركائبي ... إذا رام إلماما بساحتي اليأس
وإن أوحشتني من زماني نبوة ... فلي بالرّضى بالله والقدر الأنس (3)
وقوله قدّس الله روحه (4) [ونوّر ضريحه]: (الطويل)
أمولى الموالي ليس غيرك لي مولى ... وما أحد يا ربّ منك بذا أولى
تبارك وجه وجّهت نحوه المنى ... فأوزعها شكرا وأوزعها طولا
وما هو إلّا وجهك الدائم الذي ... أقلّ حلى عليائه يخرس القولا
تبرّأت من حولي إليك وقوّتي ... فكن قوّتي في مطلبي وكن الحولا
وهب لي الرّضى ما لي سوى ذاك مبتغى ... ولو لقيت نفسي على نيله الهولا
(5) مولده بخارج بلنسية أول ليلة الثلاثاء مستهل رمضان سنة خمس وستين وخمس مائة، وسيق إلى بلنسية وهو ابن عامين، فنشأ بها إلى أن استشهد بكائنة أنيشة (6)، على ثلاثة فراسخ منها، مقبلا غير مدبر، والراية بيده، وهو ينادي المنهزمين: أعن الجنّة تفرّون؟ إلى أن قتل رحمه الله وذلك ضحى يوم الخميس
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
(2) الأبيات في المرقبة العليا 119وإدراك الأماني 21/ 141.
(3) ج: نكبة.
(4) زيادة في ج.
والأبيات في الذيل والتكملة 4/ 87والإحاطة 4/ 299ونفح الطيب 4/ 474وإدراك الأماني 21/ 141وما عدا البيت الثاني والثالث في الديباج المذهب 123.
(5) الخبر في المرقبة العليا 119وبعضه في نفح الطيب 4/ 473.
(6) أب ج ش: أقيشة، وهو غلط، والتصحيح من المقتضب من كتاب تحفة القادم 191والذيل والتكملة 4/ 89 والمرقبة العليا 119والإحاطة 4/ 303.
وأنيشة قرية قريبة من بلنسية انظر الروض المعطار 4241.(2/270)
الموفي عشرين لذي الحجة سنة أربع وثلاثين وست مائة (1) (وهو ابن سبعين سنة إلّا شهرا) وفقد في تلك الكائنة الشّنعاء من المسلمين عالم كثير، بين قتيل وأسير.
(2) وكان رحمه الله كثيرا ما يقول: إن عمره سبعون سنة، لرؤيا رآها في صغره، فكان كذلك. ولتلميذه الإمام أبي عبد الله ابن الأبار (3) في رثائه والإشارة إلى من فقد معه في تلك الوقيعة من العلماء والفضلاء منظوم بديع في معناه أوله (4):
(الطويل)
ألمّا بأشلاء العلى والمكارم ... تقدّ بأطراف القنا والصّوارم
وعوجا عليها مأربا وحفاوة ... مصارع غصّت بالطّلى والجماجم (5)
نحيّ وجوها في الجنان وجيهة ... بما لقيت حمرا وجوه الملاحم
وأجساد إيمان كساها نجيعها ... مجاسد من نسج الظّبى واللهاذم
مكرّمة حتّى عن الدّفن في الثّرى ... وما يكرم الرّحمان غير الأكارم
هم القوم راحوا للشّهادة واغتدوا ... وما لهم في فوزهم من مقاوم
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
(2) الخبر في الذيل والتكملة 4/ 89والإحاطة 4/ 303.
(3) هو محمد بن عبد الله المشهور بابن الأبار العلامة الحافظ والمؤرّخ الأديب الذائع الشهرة (658هـ) اختصار القدح 195191والمغرب في حلى المغرب 2/ 312309وذيل مرآة الزمان 2/ 73والوافي بالوفيات 3/ 358355، 8/ 137والفوات 3/ 407404وأزهار الرياض 3/ 207204ونفح الطيب 4/ 121119وعنوان الأريب 1/ 67والأعلام 6/ 233.
(4) القصيدة في ديوانه 284275والذيل والتكملة 4/ 9590والإحاطة 4/ 309304وإدراك الأماني 21/ 145142وما عدا الأبيات 27، 4842في المرقبة العليا 122120ومنها أربعة أبيات في نفح الطيب 4/ 473.
(5) ج: وجوها عليها، (وجوها) غلط.
الطّلى جمع طلاة وهي العنق: النجيع: الدّم. (اللسان: طلى، نجع)(2/271)
تساقوا كؤوس الموت في حومة الوغى ... فمالت بهم ميل الغصون النّواعم (1)
وهان عليهم أن تكون لحودهم ... متون الرّوابي أوبطون التّهائم
ألا بأبي تلك الوجوه سواهما ... وإن كنّ عند الله غير سواهم
عفا حسنها إلّا بقايا مياسم ... يعزّ علينا وطؤها بالمناسم
لئن وكفت فيها العيون سحائبا ... فعن بارقات لحن منها لشائم
ويا بأبي تلك الجسوم نواحلا ... بإجرائها نحو الأجور الجواسم (2)
تغلغل فيها كلّ أسمر ذابل ... فجدّل منها كلّ أبيض ناعم
فلا يبعد الله الذين تقرّبوا ... إليه بإهداء النّفوس الكرائم
مواقف أبرار قضوا من جهادهم ... حقوقا عليهم كالفروض اللّوازم
أصيبوا وكانوا في العبادة أسوة ... شبابا وشيبا بالغواشي الغواشم
فعامل رمح دقّ في صدر عامل ... وقائم سيف قدّ في رأس قائم
ويا ربّ صوّام الهواجر واصل ... هنالك مصروم الحياة بصارم
ومنقذ عان في الأداهم راسف ... ينوء برجلي راسف في الأداهم (3)
أضاعهم يوم الخميس حفاظهم ... وكرّهم في المأزق المتلاحم
سقى الله أشلاء بسفح أنيشة ... سوافح تزجيها ثقال الغمائم
__________
(1) ج: تساق، وهو غلط.
التهائم جمع تهامة وهي الأرض المتصوبة إلى البحر. السّواهم: جمع ساهم، ووجه ساهم، متغيّر من الهمّ. المياسم جمع ميسم وهو الجمال. شائم من شام البرق إذا نظر إلى سحابته أن تمطر. (اللسان: تهم، شيم، وسم). ويقصد بالتهائم هنا المنخفض من الأرض.
(2) بإجرائها أي يجريها نحو الثواب الجسيم، ويقصد به الاستشهاد. جدّله. صرعه على الأرض. الغواشي جمع غاشية وهي الداهية. الغواشم جمع غاشم ظالم غاصب. عامل الرّمح: صدره. قائم السيف: مقبضه. قدّ: قطع. قائم: أي يقوم الليل للصلاة. (اللسان: جدل، عمل، غشا، غشم، قدد، قوم).
(3) أب ج: راسب ينوء برجلي راسب. ش: راسب راسم، وكلاهما غلط، والتصحيح من الذيل والتكملة 4/ 91 والمرقبة العليا 120والإحاطة 4/ 305.
عان: أسير. الأداهم جمع أدهم، وهو القيد، سمي كذلك لسواده. سوافح أي مسفوحة. تزجيها: تسوقها وتدفعها برفق. (اللسان: دهم، زجا، سفح، عنا) ويقصد الدعاء لهذه الأشلاء بالسّقيا بأمطار مسفوحة تحملها رياح ثقيلة الغمام(2/272)
وصلّى عليها أنفسا طاب ذكرها ... بطيّب أنفاس الرّياح النّواسم
لقد صبروا فيها كراما وصابروا ... فلا غرو أن فازوا بصفو المكارم
وما بذلوا إلّا نفوسا نفيسة ... تحنّ إلى الأخرى حنين الرّوائم (1)
ولا فرقوا، والموت يتلع جيده ... بحيث التقى الجمعان، صدق العزائم
بعيشك طارحني الحديث عن التي ... أراجع فيها بالدّموع السواجم
وما هي إلّا غاديات فجائع ... تعبّر عنها رائحات مآتم
جلائل دقّ الصّبر فيها فلم نطق ... سوى غضّ أجفان وعضّ أباهم
أبيت لها تحت الظّلام كأنّني ... رميّ نصال أو لديغ أراقم
أغازل من برح الأسى غير بارح ... وأصحب من سأمي البكا غير سائم (2)
وأعقد بالنّجم المشرّق ناظري ... فيغرب عنّي ساهرا غير نائم
وأشكو إلى الأيّام سوء صنيعها ... ولكنّها شكوى إلى غير راحم
وهيهات هيهات العزاء ودونه ... قواصم شتّى أردفت بقواصم
(3) (منها):
وبين الثّنايا والمخارم رمّة ... سرى في الثّنايا طيبها والمخارم (4)
بكتها المعالي والمعالم جهدها ... فلهف المعالي بعدها والمعالم
__________
(1) الروائم جمع رائم وهي الناقة التي تعطف على ولدها وتلزمه. فرقوا: خافوا وجزعوا. يتلع جيده أي يخرجه ويبرزه.
(اللسان: تلع، رأم، فرق) ويقصد أن الموت أخرج عنقه ورأسه بساحة المعركة وهم شجعان صادقو العزيمة.
(2) أب ج ش: أعازل، وهو غلط، والتصحيح من الديوان 278والذيل والتكملة 4/ 92والمرقبة العليا 121 والإحاطة 4/ 305.
البرح: إلحاح المشقة والشر والعذاب الشديد. غير بارح: غير زائل. من سأمي: من مللي وضجري. (اللسان: برح، سأم).
(3) ما بين القوسين ساقط من ش.
(4) أب ج ش: طيها، وهو غلط، والتصحيح من الديوان، والذيل والتكملة والمرقبة العليا والإحاطة.
الثنايا: جمع ثنيّة وهي الطريق في الجبل. المخارم جمع مخرم وهو منقطع أنف الجبل وقيل الطريق في الجبل وأفواه الفجاج (اللسان: ثنى، خرم).(2/273)
كأن لم تبت تغشى السّراة قبابها ... ويرعى حماها الصّيد رعي السّوائم
سفحت عليها الدّمع أحمر وارسا ... كما تنثر الياقوت أيدي النّواظم
وسامرت فيها الباكيات نوادبا ... يؤرّقن تحت اللّيل ورق الحمائم
وقاسمت في حمل الرزيّة قومها ... وليس قسيم البرّ غير المقاسم
فوا أسفي للدّين أعضل داؤه ... وأيأس من أسر لمسراه حاسم (1)
ووأسفي للعلم أقوت ربوعه ... وأصبح مهدود الذّرى والدّعائم
قضى حامل الآثار من آل يعرب ... وحامي هدى المختار من آل هاشم
خبا الكوكب الوقّاد إذ متع الضّحى ... لنخبط في ليل من الجهل فاحم (2)
وخابت مساعي السّامعين حديثه ... كما شاء يوم الحادث المتفاقم
فأيّ بهاء غار ليس بطالع ... وأيّ سناء غاب ليس بقادم
سلام على الدّنيا إذا لم يلح بها ... محيّا سليمان بن موسى بن سالم
وهل في حياتي متعة بعد موته ... وقد أسلمتني للدّواهي الدّواهم
أخو العزّة القعساء كهلا ويافعا ... وأكفاؤه ما بين راض وراغم
تفرّد بالعلياء علما وسؤددا ... وحسبك من عال على الشّهب عالم
متى صدم الخطب الملمّ بخطبه ... كفى صادما منه بأكبر صادم
له منطق سهل النّواحي قريبها ... فإن رمته ألفيت صعب الشّكائم
وما الرّوض حلّاه بجوهره النّدى ... ولا البرد وشّته أكفّ الرّواقم
بأبدع حسنا من صحائفه التي ... تسيّرها أقلامه في الأقالم
أتاه رداه مقبلا غير مدبر ... ليحظى بإقبال من الله دائم
__________
(1) ج: حاشم، وهو غلط. أسر لمسراه حاسم أي أن هذه الهزيمة بمثابة الأسر الحاسم لانتشار الدين وسيره.
(2) متع الضّحى: ارتفع وبلغ غايته. (اللسان: متع).(2/274)
هنيئا لك الحسنى من الله إنّها ... لكلّ تقىّ خيمه غير خائم (1)
تبوّأت جنّات النّعيم ولم تزل ... نزيل الثّريّا قبلها والنّعائم
لعمرك ما يبلى بلاؤك في العدا ... وقد جرّت الأبطال ذيل الهزائم
وبالله لا ينسى مقامك في الوغى ... سوى جاحد نور الغزالة كاتم
لقيت الرّدى في الرّوع جذلان باسما ... فبوركت من جذلان في الرّوع باسم
وحمت على الفردوس حتّى وردته ... ففزت بأشتات المنى فوز غانم
عدمتك موجودا يعزّ نظيره ... فيا عزّ معدوم ويا هون عادم (2)
ورمتك مطلوبا فأعيا مناله ... وكيف بما أعيا منالا لرائم
فأبكي لشلو بالعراء كما بكى ... زياد لقبر بين بصرى وجاسم (3)
وأعبد أن يمتاز دوني عبدة ... بعلياء في تأبين قيس بن عاصم (4)
__________
(1) الخيم: الخلق والسّجيّة والطبيعة. غير خائم: أي غير ناكص من خام عنه يخيم أي نكص وجبن. (اللسان: خيم).
(2) ج: فيا عزّ موجود. (موجود) غلط.
(3) زياد هو النابغة الذبيانيّ، والإشارة إلى قوله في رثاء النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني:
سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم ... بغيث من الوسميّ قطر ووابل
والبيت من قصيدة مطلعها:
دعاك الهوى واستجهلتك المنازل ... وكيف تصابي المرء والشّيب شامل
وهي في ديوانه 122115.
بصرى هي قصبة كورة حوران من أعمال دمشق، وهي أول ما فتح المسلمون بالشام، وقد فتحت صلحا في عهد أبي بكر رضي الله عنه. معجم ما استعجم 1/ 253ومعجم البلدان 1/ 442441والوفيات 3/ 67، 7/ 214واللسان (بصر) جاسم: قرية بينها وبين دمشق ثمانية فراسخ، تقع بين دمشق وطبرية قريبة من بصرى. معجم ما ستعجم 2/ 357 ومعجم البلدان 2/ 9594والوفيات 2/ 17والغيث المسجم 1/ 100 (ط. العلمية) واللسان: (جسم).
(4) عبدة هو عبدة بن الطبيب السعديّ شاعر مخضرم، شارك في حرب الفرس بالمدائن مع المثنّى بن حارثة والنعمان بن المقرّن، وكانت له في ذلك آثار (نحو 25هـ) الشعر والشعراء 2/ 732731 وتاريخ الطبري 3/ 413412والأغاني 21/ 2725والأعلام 4/ 172.
العلياء: رأس الجبل المشرف. وقيل كل ما علا من الشيء (اللسان: علا). وقيس بن عاصم شاعر فارس شجاع حليم كثير الغارات مظفّر في غزواته، أدرك الجاهلية والإسلام فساد فيهما، وقد صحب الرسول عليه السلام، وهو ممّن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية. المعارف 301والأغاني 14/ 9069ومعجم الشعراء 324والأعلام 5/ 206
والإشارة إلى رثاء عبدة بن الطّبيب لقيس بن عاصم في قصيدته التي يقول فيها:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما
والبيت في المعارف 301والشعر والشعراء 2/ 732والأغاني 14/ 83، 21/ 25(2/275)
قوله: وأعبد أي آنف. وهذه القصيدة تزيد أبياتها على مائة بيت وخاتمتها:
وهذي المراثي قد وفيت برسمها ... مسهّمة جهد الوفيّ المساهم (1)
فمدّ إليها رافعا قدر قائل ... أكبّ عليها خافضا فم لاثم (2)
وهذا ما أثبته (3) منها القاضي أبو محمد عبد الله بن الحسين النباهيّ الأندلسيّ المالقيّ في كتاب المرقبة العليا فيمن يستحقّ القضاء والفتيا في ترجمة أبي الربيع الكلاعي المذكور رحمنا الله وإياه بمنّه وكرمه.
116 - ابن جحدر (4)
هو الشيخ أبو الحسن عليّ بن جحدر الأندلسيّ الإشبيلي كان شيخا ظريفا أديبا، فيه دعابة ومزاح. (5) دخل يوما أبو العرب ابن منظور (6)، ووجهه يومئذ بكلّ لحظ منظور، على جماعة فيهم ابن جحدر المذكور. قال ابن سعيد المغربيّ (5):
فقمنا له وتحرّك بعضنا له، ولم يتحرّك ابن جحدر، ففهم الإنكار من الصّبيّ (7)
فأنشد ارتجالا (8): (مخلع البسيط)
أعذر أباك المسنّ واطلب ... بالأدب المستحبّ غيري
فما يطيق القيام منّي ... شيء إذا جئت غير أيري
__________
(1) المراثي المسهّمة: الموشّاة والمزيّنة، من قولهم: برد مسهّم أي مخطّط فيه وشي كالسّهام. (اللسان: سهم).
(2) الديوان والذيل والتكملة والمرقبة العليا والإحاطة: رافعا يد قابل. أب ج ش: خافضا يد لائم. (يد) غلط.
والتصحيح من الديوان والذيل والتكملة والإحاطة.
(3) لم يثبت في المرقبة العليا سوى 60بيتا من أصل 66بيتا نقلها عبد القادر بن عبد الرحمن السلاوي في كتابه هذا.
ولعله اعتمد على نسخة أخرى من المرقبة العليا أوردت 66بيتا.
(4) هو أحد أئمة الزّجل في الأندلس، اشتهر بحفظه للنّكت، له تعلّق بالأدب وما يستحلى من الشّعر (638هـ) اختصار القدح 172 والمغرب في حلى المغرب 1/ 262وأزهار الرياض 2/ 216ونفح الطيب 7/ 15، 16وإدراك الأماني 9/ 232.
(5) من اختصار القدح 172إلى آخر الترجمة.
(6) لم أعثر له على تعريف في المظان. ولعله أحد جدود ابن منظور أبي بكر محمد بن عبيد الله بن محمد الإشبيلي قاضي مالقة المتوفى بالطاعون عام 750هـ وهو من بيت مشهور، ويكفي للدلالة على ذلك، الكتاب المسمّى الروض المنظور في أوصاف بني منظور) انظر تاريخ قضاة الأندلس 155154والدرر الكامنة 4/ 37.
(7) هو أبو العرب ابن منظور الذي ذكره المؤلف قبل قليل.
(8) البيتان في اختصار القدح 172وإدراك الأماني 9/ 232.(2/276)
فخجل الصبيّ وقال: (مخلع البسيط)
لا بارك الله فيك شيخا ...
فقلنا له: هذا موزون. فقالت الجماعة:
... ما عنده موضع لخير
ولا أقام الإله أيرا ... يسير إن قام شرّ سير
توفي ابن جحدر هذا سنة ثمان وثلاثين وست مائة، عفا الله عنا وعنه بمنّه وكرمه.
117 - البوصيري (1)
هو شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري، منسوب إلى بوصير، من أعمال مصر، كان عالما كبيرا مشتهرا بالأدب، معروفا بالبلاغة، له محاسن كثيرة، منها قوله فيمن اسمه غمر (2) وعلى عينه بياض (3): (تام البسيط)
سموه غمرا فصحّفنا اسمه عمرا ... فبيّن الدهر منّا موضع الغلط
فأصبحت عينه غينا بنقطتها ... وطالما ارتفع التّصحيف بالنّقط
وقوله فيه أيضا (4): (مجزوء الكامل)
انجد تجد لله في ... عينيه سرّا أيّ سرّ
طمس اليمين بكوكب ... وسيطمس اليسرى بفجر
__________
(1) (696هـ) ترجمته في الوافي بالوفيات 3/ 113105والفوات 3/ 369362والشذرات 5/ 432وإدراك الأماني 16/ 188187ومقدمة ديوانه وخاتمته، والأعلام 6/ 139وجمهرة الأولياء 2/ 252.
(2) أب ج ش: عمر، وهو غلط، والتصحيح من معنى البيتين التاليين.
(3) ج: فصفحنا، وهو غلط، حاشية ج: منه.
والبيتان في ديوانه 276والوافي بالوفيات 3/ 107والفوات 3/ 364.
(4) ج: اليمن، وهو غلط.
والبيتان في ديوانه 277والوافي بالوفيات 3/ 111والفوات 3/ 367.(2/277)
وقوله (1) على لسان حمارة له كان استعارها منه ناظر الشرقية فأعجبته فجهزّ له ثمنها مائتي درهم، فكتب إليه: المملوكة حمارة البوصيري تنشد (2):
(تام المنسرح)
يا أيّها السيّد الذي شهدت ... ألفاظه لي بأنّه فاضل
أقصى مرادي لو كنت في بلدي ... أرعى بها في جوانب السّاحل
ما كان ظنّي يبيعني أحد ... قطّ ولكنّ سيّدي جاهل
لو جرّسوه عليّ من سفه ... لقلت غيظا عليه يستاهل (3)
وبعد هذا فما يحلّ لكم ... بيعي فإنّي من سيّدي حامل
فردّها إليه، ولم يأخذ الدّراهم.
ومن محاسنه التي لا يجارى فيها ولا يبارى قصيدته الهمزية المشهورة (4).
وكذلك قصيدته الأخرى الموسومة بالبردة (5).
قال البوصيري رحمه الله (6): كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما كان اقترحه عليّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير (7) ثم اتّفق بعد ذلك أنه أصابني فالج أبطل نصفي، ففكّرت في عمل
__________
(1) من الوافي بالوفيات 3/ 110.
(2) أول مقطعة، وهي في ديوانه 248237والأبيات في الوافي بالوفيات 3/ 110والفوات 3/ 367.
(3) أب ج ش: جرروه، وهو غلط، والتصحيح من الديوان والوافي بالوفيات والفوات. أب ج ش: يحل لمسلم (لمسلم) غلط. والتصحيح من المصادر السابقة.
جرّسوه عليّ من سفه: أي حكموا عليه بالسّفه لما فعل بي. (اللسان: جرس).
(4) مطلعها:
كيف ترقى رقيّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
وهي في ديوانه 7749.
(5) مطلعها:
أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وهي في ديوانه 249238
(6) من الوافي بالوفيات 3/ 113112إلى الأخير. والقول في الفوات 3/ 369368
(7) هو يعقوب بن عبد الرفيع القرشيّ الزبيريّ وزير مصري من الفضلاء الشعراء استوزره الملك المظفّر قطز ثم الملك الظاهر (668هـ) انظر مقدمة ديوان البوصيري 14والأعلام 8/ 200.(2/278)
قصيدتي هذه البردة فعملتها واسشفعت به (1) إلى الله تعالى أن يعافيني، وكرّرت إنشادها وبكيت ودعوت وتوسّلت به ونمت فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمسح على وجعي بيده الكريمة وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدت بيّ نهضة فخرجت من بيتي ولم أكن أعلمت بذلك أحدا فلقيني بعض الفقراء، وقال: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أيها؟
فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها، والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيته صلى الله عليه وسلم يتمايل وأعجبته وألقى على من أنشدها بردة. فأعطيته إيّاها. وذكر الفقير ذلك فشاع المنام إلى أن اتّصل بالصّاحب بهاء الدين وزير الظاهر (2) فبعث إليّ واستنسخها (3) ونذر أن لا يسمعها إلّا قائما حافيا مكشوف الرّأس، وكان يحبّ سماعها هو وأهل بيته ثم إنّه بعد ذلك أدرك سعد الدين الفارقي الموقّع (4) رمد أشرف منه على العمى فرأى في المنام قائلا يقول: اذهب إلى الصاحب وخذ البردة واجعلها على عينيك تعاف بإذن الله (5) (تعالى)، فأتى الصاحب وذكر منامه، فقال: ما أعرف عندي من أثر النبيّ صلى الله عليه وسلم بردة، ثم فكّر ساعة وقال: لعل المراد قصيدة البردة، فأمر الخادم ياقوتا بإخراجها من حقّ العنبر فأتاه بها فأخذها سعد الدين ووضعها على عينيه فعوفيتا، ومن ثم سمّيت البردة والله تعالى أعلم.
__________
(1) ب: بها.
به: أي برسول الله صلى الله عليه وسلم. بها: أي بالقصيدة.
(2) هو بهاء الدين بن حنّا عليّ بن محمد المصري، كان من أكابر الرجال في عصره حزما ودهاء استوزره الملك الظاهر وابنه (677هـ) الفوات 3/ 7876والأعلام 4/ 333.
(3) ج: واستحسنها.
(4) هو سعد الله بن مروان بن عبد الله، كان منشئا بليغا وشاعرا مجيدا، حدّث بمصر ودمشق (691هـ) الفوات 2/ 4847والشذرات 5/ 418.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.(2/279)
118 - ابن الجزار (1)
هو (2) جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى الجزار، كان بديع المعاني حسن التّورية عذب التّركيب، فصيح الألفاظ حلو النّادرة صاحب مجون، وكان قليل الهجاء محتملا (3) متودّدا إلى الناس، حسن التّعريض، واحتاج في آخر عمره إلى الاستجداء بغير شعر. وكان مسرفا على نفسه كثير التبذير لا تكاد خلّته تستدّ (4) وله كتاب (فوائد الموائد) (5)، عمل عليه بعض الفضلاء علائم الولائم. وجمع قطعة من شعره سمّاها (تعاطيف الجزار) (5) ولم يكن في عصره من يقاربه في جودة النّظم غير السّرّاج الورّاق (6)، قيل إنه لما كان صغيرا نظم أبياتا قلائل وكان أديب ذلك الزمان ابن أبي الإصبع (7) فأخذه والده وتوجّه به إليه، وقال له: يا سيدي قد عمل هذا الولد شعرا وأشتهي أن يعرضه عليك، فقال:
قل، فلما أنشده، قال له: أحسنت والله، إنّك عوّام مليح، فراح هو ووالده وعمل والده بعد أيام طعاما وحمله إلى ابن أبي الإصبع فقال له: لأيّ شيء فعلت هذا؟
فقال: لشكرك ولد (8) المملوك، فقال: أنا ما شكرته، فقال: ألم تقل أحسنت
__________
(1) (679هـ) ترجمته في المغرب في حلى المغرب 1/ 348296 (قسم مصر) وتالي كتاب الوفيات 173171 ومسالك الأبصار 1/ 368367والوافي بالوفيات ج 27ميكروفيلم (ترجمة النصير أحمد الحمامي المناوي) والفوات 4/ 293277، والبداية والنهاية 13/ 293والنجوم الزاهرة 346345وحسن المحاضرة 1/ 272والشذرات 5/ 365364وإدراك الأماني 11/ 7971والأعلام 8/ 153.
(2) من الفوات 4/ 279277بتصرف إلى قوله: «غير ما رأيتم فضحكوا منه».
(3) ج: متحملا.
محتملا من احتمل الشيء والأمر: حمله وصابر عليه. (المعجم الوسيط: حمل).
(4) الخلّة: الحاجة والفقر. تستدّ أي تنجبر وتنصلح حالته. (اللسان: خلل، سدد)
(5) الأعلام 8/ 153.
(6) سترد ترجمته برقم 119.
(7) هو عبد العظيم بن عبد الواحد العدوانيّ المصريّ الشاعر المشهور والإمام في الأدب (654هـ) الفوات 2/ 366363والنجوم الزاهرة 7/ 3837والأعلام 4/ 30.
(8) ج: والد، وهو غلط.(2/280)
إنّك عوّام مليح؟ فقال: ما أردت بذلك إلّا أنّه خرج من بحر ودخل في بحر، فاستحيا هو ووالده. ثم لم يزل يتهذّب حتى فاق أهل عصره، وصار من فحول الرّجال. حكي أنه اجتمع يوما هو وأصحابه وأرادوا النّزهة، فأخرجوا من بينهم دراهم، وأخذوا منها عشرة دراهم وجاءوا بها إلى جزار في باب زويلة (1) فوقفوا عليه، وقالوا (2) (له): أتدري من هذا الواقف عليك؟ قال: لا، قالوا: هذا الشيخ جمال الدين أبو الحسين الجزّار، أديب الدّيار المصرية وإمامها، فباس الجزار السكين وقدّمها لأبي الحسين وقال: يا سيدي والله ما يدخل يقطع هذا اللّحم إلّا أنت، فدخل أبو الحسين وجعل يقطع لهم الرقبة والعرقوب (3) والمراقّ والعظام والمطاميط (4)، وأصحابه ساكتون لا يكلّمونه حتى فرغ وأخذوا اللّحم، فقالوا له:
أمّا الرجل فخلاه الذّمّ وعداه اللّوم (5)، لأنه مكّنك من أطايب اللّحم، وأما أنت، فلم فعلت بنا هذه الفعلة؟ فقال: بالله اعذروني والله إنّي لمّا رأيت نفسي وأنا خلف القرميّة والسّاطور (6) وبيدي السكين جاءتني لآمة الجزارين وما قدرت أفعل غير ما رأيتم، فضحكوا منه.
__________
(1) ج: زويليه.
وباب زويلة أحد أبواب القاهرة. معجم البلدان 3/ 160والوفيات 1/ 238.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) أب ج ش: يحط لهم الرقبة والعروق. (يحط)، (العروق) غلط، والتصحيح من الفوات 4/ 279.
(4) المراقّ: ما رقّ من البطن ولان وسفل عند الصّفاق أسفل من السّرّة. (اللسان ومحيط المحيط: رقق). المطاميط: لم أعثر عليها في المظان. وهي كلمة عامية يقصد بها قطع اللحم الرديئة.
(5) ج: اللؤم.
(6) القرميّة أصل الشجرة الداخل في الأرض. (محيط المحيط: قرم) ويقصد بها هنا الخشبة التي يقطع عليها الجزار اللحم.
الساطور هو سيف الجزار. (اللسان: سطر).(2/281)
وله محاسن كثيرة، منها قوله في صناعته (1): (تام السريع)
أصبحت جزّارا وفي البيت لا ... أعرف ما رائحة اللّحم
جهلته فقرا فكنت الذي ... أضلّه الله على علم
وقوله (2): (الهزج)
ألا قل للّذي يسأ ... ل عن قومي وعن أهلي
لقد تسأل عن قوم ... كرام الفرع والأصل
يريقون دم الأنعا ... م في حزن وفي سهل
وما زالوا لما يبدو ... ن من بأس ومن بذل
يرجّيهم بنو كلب ... ويخشاهم بنو عجل
وقوله (3): (تام البسيط)
إنّي لمن معشر سفك الدّماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي
تبيت أنعامهم منهم على وجل ... إذ شملها بهم يفضي إلى ضيق
تزداد بالدّم إشراقا عراصهم ... فكلّ أيامهم أيام تشريق
وقوله من أبيات (4): (تام البسيط)
لا غرو أن نفروا منّي لجهلهم ... لأنّني أنا جزّار وهم بقر
__________
(1) من قصيدة حسب المغرب في حلى المغرب، والبيتان مع أربعة أبيات أخرى في المغرب في حلى المغرب 1/ 316315 (قسم مصر). والبيتان في الفوات 4/ 286وإدراك الأماني 11/ 172.
وفي الشطر الثاني من البيت الثاني تضمين لجزء من الآية. أفرايت من اتّخذ إلهه هواه، وأضلّه الله على علم = سورة الجاثية 45/ 23=
(2) الأبيات في الغيث المسجم 1/ 101وإدراك الأماني 11/ 172.
(3) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 72والأول والثالث في الفوات 4/ 288، والغيث المسجم 1/ 102 (ط.
العلمية).
أيام التشريق: أيام عيد الأضحى. (اللسان: شرق).
(4) البيت في إدراك الأماني 11/ 72.(2/282)
وقوله (1): (تام الكامل)
لو يقبض الجزّار أرواح العدى ... في يوم عيدك كنت أوّل قانص
لكنّهم أمنوا مداي لنقصهم ... إنّ الضحيّة لا تكون بناقص
وقوله (2): (تام الخفيف)
لا تلمني يا سيّدي شرف الدّي ... ن إذا ما رأيتني قصّابا
كيف لا ألزم الجزارة ما عش ... ت حفاظا وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجّي ... ني وبالشّعر كنت أرجو الكلابا
وقوله معرّضا بالمتنبي (3): (تام المتقارب)
تعاظم قدري على ابن الحسين ... فذهني كالعارض الصّيّب
(وكم مرة قد تحكّمت فيه ... لأنّ الخروف أبو الطيّب)
وقوله يصف حاله من شدّة الفقر وضيق العيش (4): (تام الخفيف)
لي من الشّمس خلعة صفراء ... لا أبالي إذا أتاني الشّتاء
ومن الزّمهرير إن حدث الغي ... م ثيابي، وطيلساني الهواء
__________
(1) البيتان في إدراك الأماني 11/ 72.
مدّى: جمع مدية وهي الشّفرة الكبيرة (المعجم الوسيط: أمدى).
(2) الأبيات في المغرب في حلى المغرب 1/ 316 (قسم مصر) وتالي كتاب الوفيات 171وإدراك الأماني 11/ 73، كتب بها إلى شرف الدين ابن الخيمي ناظر البيوت بمصر، بعد أن علم معاودته حرفة الجزارة.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
والبيتان في الغيث المسجم 2/ 433 (ط. العلمية) وإدراك الأماني 11/ 73.
والعارض: السّحاب الذي يعترض في أفق السماء. والصّبب: السحاب الممطر. (اللسان: عرض، صوب).
(4) ج: بدار وسقف. (بدار) غلط.
والأبيات من قصيدة، حسب المغرب في حلى المغرب، في مدح صدر الدين عبد الرحمن بن القرمسيني ناظر ثغر الاسكندرية، والأبيات في المغرب في حلى المغرب 1/ 310309 (قسم مصر) مع سبعة عشر بيتا آخر. والأبيات في إدراك الأماني 11/ 73والأبيات الأربعة الأولى في الفوات 4/ 287.(2/283)
بيتي الأرض والفضاء به سو ... ر مدار وسقف بيتي الفضاء
لو تراني في الشمس والبرد قد أن ... حل جسمي لقلت إنّي هباء
لي من الليل والنّهار على الطّو ... ل عزاء لا ينقضي وهناء
فكأنّ الإصباح عندي لما في ... هـ حبيب رقيبه الإمساء
إنّ فصل الشّتاء منذ نحا جس ... مي أبدت بيانه الأعضاء
فيه عظّمني المبرّد إذ عزّ الكسائيّ واحتمى الفرّاء (1)
وقوله في زوجة أبيه لما مات أبوه (2): (تام المتقارب)
أذابت كلى الشّيخ تلك العجوز ... وأردته أنفاسها المرديه
وقد كان وصّى لها بالصّداق ... فما في مصيبته تعزيه
لأنّي ما خلت أنّ القتي ... ل يوصي لقاتله بالدّيه
ومن بديع شعره قوله (3): (الطويل)
أحمّل قلبي كلّ يوم وليلة ... هموما على من لا أفوز بخيره
كما سوّد القصّار في الشّمس وجهه ... حريصا على تبييض أثواب غيره
وقوله (4): (تام السريع)
إن كنت ممّن راعه هجركم ... أو ضاق ذرعا بتجنّيكم
فلا أدام الله لي سلوة ... وردّ قلبي عاشقا فيكم
__________
(1) المبرد هو محمد بن يزيد. والكسائي هو علي بن حمزة. والفرّاء هو يحيى بن زياد وكلهم من علماء اللغة والنحو المشهورين.
ويقصد الشاعر بالمبرد البرد، وبالكسائي الكساء، وبالفراء بائع الفرو. ومعنى البيت أنّ البرد أنحل جسمه وأظهر عظامه (عظمني) لندرة الكساء والغطاء وامتناع الفراء من إعطائه أكسية الفرو، وهي المصنوعة من الوبر والصوف.
(2) الأبيات في الفوات 2/ 292وإدراك الأماني 11/ 73.
أذابت كلى الشيخ: أرهقته بالجماع، جاء في اللسان: (كلا): الكليتان هما منبت زرع الولد.
(3) البيتان في تالي كتاب الوفيات 172والنجوم الزاهرة 7/ 346والشذرات 5/ 365وإدراك الأماني 11/ 73 القصّار: المبيّض للثياب (المعجم الوسيط: قصر).
(4) البيتان في المغرب في حلي المغرب 1/ 342 (قسم مصر) وإدراك الأماني 11/ 73(2/284)
وقوله (1): (الطويل)
تكلّفنى نفسي أمورا عظيمة ... يقصّر جاهي دونهنّ ومالي
وأحمل همّ الناس شرقا ومغربا ... كأنّ جميع العاملين عيالي
وقوله فيمن أهدى له قمحا رديا مغلوثا (2): (تام الوافر)
أتاني برّك المقبول برّا ... وقصدا في الثّناء وفي الثواب
فكدّر صفوه الكيّال حتّى ... غدونا منه في أمر عجاب
وجدناه عتيقا وارتضينا ... به إذ عاد وهو أبو تراب
(3) وأهدى إلى الصاحب كمال الدين ابن العديم سجادة خضراء وكتب معها:
المملوكة سجادة أبي الحسين تقول (4): (تام الخفيف)
أيّها الصاحب الأجلّ كمال الدّ ... ين لا زلت ملجا للغريب
كن مجيري فإنّني قد تغرّب ... ت لكوني وقعت عند الأديب
أنا سجادة سئمت من الطيّ ... فهب لي نشرا فنشرك طيبي
طال شوقي إلى السجود وكم لي ... من شروق في بيته وغروب
وإذا ما أتاه ضيف أراني ... منه عند الصّلاة وجه مريب
لم يرقه اخضرار لوني وهيها ... ت، وما راعه اسوداد الذّنوب
فأقل عثرتي ووفّر بإحسا ... نك من وجهك الكريم نصيبي
واجبر اليوم كسر قلبي فلا زل ... ت مدى الدّهر جابرا للقلوب
__________
(1) البيتان في إدراك الأماني 11/ 7473.
(2) مغلوثا: من غلث الشيء بالشيء يغلثه: خلطه (المعجم الوسيط: غلث).
والأبيات في المغرب في حلى المغرب 1/ 319 (قسم مصر) وإدراك الأماني 11/ 74.
في قوله: = أبو تراب = تورية، وهي كنية علي بن أبي طالب، ويقصد أن هذا القمح خلط بالتراب
(3) من الفوات 4/ 293292إلى آخر الخبر.
وابن العديم هو عمر بن أحمد بن هبة الله العقيلي الحلبي محدّث حافظ ومؤرخ من الكتاب المشهورين (660هـ) معجم الأدباء 16/ 575والفوات 3/ 129126والأعلام 5/ 40.
(4) الأبيات في الفوات 4/ 293292وإدراك الأماني 11/ 74.(2/285)
إن حسن في الآراء الصاحبية الكمالية أسعدها الله أن ينصب محرابي إلى القبلة بعد رفعه، ويخفض عيشي بالتّسبيح والتقديس بعد جزمه وقطعه ويجعلني بين يديه، مؤهلة لصالح الأعمال، ويؤمّنني العثّ الذي يعتري الصوف لعدم الاستعمال، فعل (1)، جاريا على قواعد اصطناعه، سالكا (2) (سبيل) كريم أخلاقه وطباعه.
وكان أبو الحسين يتردّد إلى الصاحب ابن العديم هذا إذا أتى الدّيار المصرية ويلازمه، فقال فيه بعض من يحسده (3): (تام الكامل)
يا ابن العديم عدمت كلّ فضيلة ... وغدوت تحمل راية الإدبار
ما إن رأيت ولا سمعت بمثلها ... تيسا يلوذ بصحبة الجزّار
وكتب إلى السراج الورّاق يداعبه (4): (تام الخفيف)
أيّها الشاعر الذي ذكره غرّ ... ب في أبعد البلاد وشرّق
والذي لم يزل صديقي وإن كا ... ن لغيري فهو العدوّ الأزرق
أنت حسّان نجدة واجتراء ... وامرؤ القيس عفّة والفرزدق
وإذا ما عطست ما بين أترا ... ك يقول جميعهم لك يشمق
ولئن كنت قد علقت حبيبا ... موصليّا فأنت بالعلق أعلق
__________
(1) (فعل): جواب (إن حسن) قبلها. جاريا: أي عملا ومعروفا جاريا.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) البيتان في الفوات 3/ 127وإدراك الأماني 11/ 74.
(4) أب ج ش هـ و: بشمق، وهو غلط.
والأبيات في إدراك الأماني 11/ 75.
أنت حسان الخ تعريض به، فقد عرف حسّان بن ثابت بجبنه وخوفه في الحرب، حتى قيل إنّه كان يختبئ مع النّساء.
كما يعرّض بفسوقه وزناه عند ما يقول له أنت امرؤ القيس والفرزدق عفّة، لأن هذين الشاعرين عرفا بالفسق والفجور.
يشمق كلمة تركية بمعنى الحياة، واللّفظ الحقيقي لها هو: يا شامق أفادني بذلك أستاذي الجليل الدكتور عزة حسن.
موصليا أي ينتمي إلى الموصل، ويقصد بالحبيب الموصلي أنه كثير الوصال. العلق: دويدة حمراء تكون في الماء تعلق بالبدن وتمصّ الدّم. (اللسان: علق)، وقد سكن اللام للضرورة الشعرية.(2/286)
فأجابه (1): (تام الخفيف)
أنت في شعرك الصريع ومن سا ... جل يدريك حين يطفو وتغرق
والصريع الذي توهّمه الجا ... هل غير الذي أردت محقّق
ذاك لا شكّ مسلم والغواني ... لم يكن حبلها بحبلك يعلق
أنت في دينك الحطيئة لمّا ... قسّم المال في بنيه وفرّق (2)
أنت كابن الحباب في حفظك الجلّاس ... وابن الحباب ذا لن يصدّق
أنت ذو عارض متى ما نظرنا ... هـ نظرنا إلى الندى والمحلّق
__________
(1) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 75.
الصريع: المنهزم المغلوب. ساجل الرجل: باراه وسابقه في مساجلة ومفاخرة. يدريك من درى الصّيد دريا أي ختله.
(اللسان: درى، سجل، صرع) مسلم أي مسلم بن الوليد المشهور بصريع الغواني المترجم له برقم 27.
(2) ج: فبنيه، وهو غلط.
وفي البيت إشارة إلى وصية الحطيئة بأن يعطى للأنثى في الإرث مثل الذكر انظر الصفحة 46. كابن الحباب: يقصد والبة بن الحباب وقوله:
قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من راسي
ونم على وجهك لي ساعة ... إنّي امرؤ أنكح جلاسي
انظر الصفحة 170. العارض: الخدّ، (اللسان: عرض) ويقصد بالعارض هنا الوجه. ويشير الشاعر في البيت إلى قول الأعشى في مدح المحلّق بالجود:
لعمري قد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرّق
تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النّار النّدى والمحلّق
ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه ... الخ
انظر ديوان الأعشى 275274 (ط. الرسالة)
يزيد سليم هو يزيد بن أسيد بن زافر من بني سليم، وهو وال من رجال الدولة العباسية على أرمينية، وكان قد قصده ربيعة بن ثابث الرّقّيّ، ومدحه فأجازه بعطاء استقله، وذهب إلى يزيد بن حاتم الأزدي والي إفريقية فبالغ في الإحسان إليه، فقال ربيعة قصيدة يفضّل فيها يزيد الأزديّ على يزيد سليم منها:
لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى ... يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم
فهمّ الفتى الأزديّ إتلاف ماله ... وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدّراهم
انظر خبر ذلك في الأغاني 16/ 254والوفيات 2/ 306، 6/ 323322وشعر ربيعة 60. والسّراج في أبياته يسخر من صديقه ابن الجزّار ويداعبه!(2/287)
أنت يوم الندى يزيد سليم ... لا يزيد الأزديّ ما أحسن الحق
أنت تزري بالحارث بن هشام ... في الوغى والكماة عنها تفرّق (1)
أنت تزري بحاتم وبمعن ... مذ رأيناك بالنّدى تتخلّق
أنت ممّن رأيت دونك كعبا ... والثّرى من دماء جزرك تشرق (2)
أيّها الشيخ قد رجعت عتّاهيّا ... وقالوا: صلّى، وقالوا: تصدّق
وتبسّطت فوق سجّادة زر ... قاء، فالسامريّ فيك مصدّق
وسمعت الحديث أيضا وقال النّ ... اس: قد صار شيخنا يتغرنق
وأرى سائلي عن اسمك قد ل ... جّ وكان السّكوت عن ذاك أليق
قلت: يحيى، فقال لي: ابن زياد ... قلت: لا، قال لي: أراه تزندق (3)
ما ترى كيده وقد جاء بالقا ... ف رويّا فجئت بالقلب أعلق
قلت: دعه فالشيخ أقول منّا ... قال: بالدال، قلت: قولك أصدق!
__________
(1) ج: هاشم، وهو غلط.
والحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ هو أخو أبي جهل، وكان هرب يوم بدر، وقتل أخوه، فعيّره حسان بن ثابت لفراره بقوله:
إن كنت كاذبة بما حدّثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام
انظر ذلك في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 188والاستيعاب 1/ 301.
وحاتم هو حاتم الطائي المشهور بالجود في الجاهلية. ومعن هو معن بن زائدة الشيباني من القواد الأجواد المشهورين.
(2) ح: دماء بدنك.
وكعب هو كعب بن مامة الإيّاديّ، وهو أحد الأجواد المشهورين انظر الصفحة 105. عتاهيا أي تسلك سلوك أبي العتاهية في الزّهد والتّقوى والتدين. السامريّ هو ذلك اليهوديّ الذي فتن اليهود وصنع لهم عجلا من ذهب عند ما ذهب موسى عليه السلام للقاء ربّه كما في قوله تعالى: {= قََالَ فَإِنََّا قَدْ فَتَنََّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُّ =} سورة طه 20/ 85. يتغرنق أي يتشبّه بالغرانق وهو الشابّ الحسن الشاعر الجميل الناعم (اللسان: غرنق) وهو يسخر منه لأنه أخذ يطلب الحديث بعد أن شاخ.
(3) يحيى بن زياد هو يحيى بن زياد بن عبيد الله الحارثيّ شاعر ما جن يرمى بالزندقة، وهو ابن خال السفاح، من أهل الكوفة (160هـ) أمالي المرتضى 1/ 144142 (ت. أبي الفضل) والأعلام 8/ 145.(2/288)
وكتب أيضا إلى السّراج في يوم نوروز مداعبا (1): (تام البسيط)
استعمل العفص يوم الدّبغ مقلوبا ... لتغتدي طالبا طورا ومطلوبا
واسكر من الرّاح وافهم ما أشرت له ... فليس تحتاج لا كأسا ولا كوبا (2)
واحمل على القوم واحلم إن هم حملوه ... فأنت ما زلت غلّابا ومغلوبا (3)
لك الجوادان فاركب ما تشاء ودع ... ما لا تشاء مع الغلمان مجنوبا
قد أدّبتك نواريز مفرّقة ... حتّى لقد صرت لا تحتاج تأديبا (4)
وطالما استصلح الجزّار نحرك في ... يوم الأضاحي ولم يستصلح النّيبا
اذكرتنا أزدشير إذ ركبت وإذ ... أصبحت بالتّاج تاج الخوص معصوبا
فاستوف غير ضجور بالإمارة ما ... على جبينك قدما كان مكتوبا
والق الأيادي واقبل من هديّتها ... ما كان من قوص أو إخميم مجلوبا (5)
يا شاعرا لم يفته اليوم راوية ... يروي المجون إذا لم يرو تشبيبا (6)
لو أنّه أدرك الشّيخ الصريع فتى ال ... قصّار لم يرو إلّا عنك أسلوبا
__________
(1) الأبيات في الفوات 4/ 283282وإدراك الأماني 11/ 7675.
العفص ثمار شجر العفص تصبغ به الثّياب ويتّخذ منه الحبر. (اللسان: عفص). ويقصد بالعفص مقلوبا: الصّفع.
(2) ج: محتاج، وهو غلط. ويقصد بالرّاح راحة اليد أي الضرب بها.
(3) ج: انهم حملوا. (انهم) غلط.
ويقصد بالجوادين رجليه. لأنه فقير لا مركوب له. مجنوب من جنب الفرس يجنبه جنبا فهو مجنوب أي قاده إلى جنبه.
(اللسان: جنب).
(4) نواريز جمع نوروز، ويقصد أن السنين والأعوام هي التي أدّبته. النّيب جمع ناب وهي النّاقة. (اللسان: نيب).
(5) قوص: قصبة مدينة كبيرة في صعيد مصر، كان أهلها في القديم أرباب ثروة واسعة إذ كانت محطّ التجار القادمين من عدن. معجم البلدان 4/ 413والقاموس (قوص). إخميم: بلد قديم على شاطئ النيل بصعيد مصر، بها آثار قديمة عجيبة، وقد عرفت ازدهارا في القديم. معجم البلدان 1/ 124123.
(6) ج هـ: المجنون، وهو غلط. أب ج ش هـ و: النسخ، وهو غلط، والتصحيح من الفوات.
والشيخ الصريع هو محمد بن عبد الواحد القصّار صريع الغواشي، اشتهر بالمجون والهزل ترجم له برقم 83. ويقصد أن صريع الغواشي المشهور بالمجون لو أدرك زمن ابن الجزار لكان راويا لأسلوبه في المجون والهزل.(2/289)
فأجابه (1): (تام البسيط)
قتلت يا شيخنا الأشياء تجريبا ... بأكلك العفص بعد القلب تدريبا
وصار جلدك مدبوغا به عجبا ... وما طهرت ومن يحصي الأعاجيبا؟
يا مستلذّا بأكل الرّاح هاك يدي ... وخلّ من يستلذّ الرّاح مشروبا
أبا الحصين محال أن تروغ وقد ... صوّبت ثعلب رمحي اليوم تصويبا
ولست ذئبا فأخشى أن تخاتلني ... وإنّما أنت شيء يشبه الذّيبا (2)
ومن شعر أبي الحسين قوله، وقد نفق حماره أي مات (3): (تام الكامل)
ما كلّ حين تنجح الأسفار ... نفق الحمار وبارت الأشعار
خرجي على كتفي وها أنا دائر ... بين البيوت كأنّني عطّار
ماذا عليّ جرى لأجل فراقه ... وجرت دموع العين وهي غزار
لم ننس حدّة لقسه وكأنّه ... لمّا تسابقه الرّياح يغار
منها في وصفه (4):
ويشير في وقت المسير برأسه ... حتّى يحيد أمامك الخطّار
وإذا بدا في الأرض منحدرا غدا ... كالسّيل منحدرا به التّيّار
ويقول من أضحى يراه مصعدا ... أترى له عند الكواكب ثار
لم أدر عيبا فيه إلّا أنّه ... مع ذا الذّكاء يقال عنه حمار
__________
(1) ج: فأكلك، وهو غلط.
والأبيات في الفوات 4/ 284283وإدراك الأماني 11/ 76.
أبو الحصين: غيّر السراج الورّاق كنية صاحبه من (أبي الحسين) إلى (أبي الحصين) وهي كنية الثعلب. (اللسان: حصن).
(2) ج: الدنيا، وهو غلط.
(3) ج: حدة نفسه. (نفسه) غلط.
والأبيات في إدراك الأماني 11/ 76والأبيات 1، 2، 8، 12، 13في الغيث المسجم 2/ 235 (ط. العلمية) اللّقس: الحرص والشّره، ويقصد به حرص حماره على المشي والسّباق. (اللسان: لقس)، وسكّن القاف للضرورة الشعرية.
(4) ج: ويسير أمامنا، وكلاهما غلط.
والأبيات في إدراك الأماني 11/ 7776.(2/290)
منها:
عثرت به رجلاه عثرة ميّت ... والموت ليس يقال فيه عثار
شهدت له الخيل السّوابق أنّها ... تبع له إذ حازها المضمار (1)
رجعت وما ظفرت بشقّ غباره ... ما للبروق إذا لمعن غبار
ولقد تحامته الكلاب وأحجمت ... عنه وفيه كلّ ما تختار
ورعت لصاحبه عهودا قد مضت ... لما سمعن بأنّه جزّار
وقال فيه أيضا (2): (المجتث)
كم من جهول رآني ... أمشي لأطلب رزقا
وقال لي صرت تمشي ... وكلّ ماش ملقّى
فقلت مات حماري ... تعيش أنت وتبقى
وفيه يقول شرف الدين البوصيري (3): (تام المتقارب)
فلا تأس أيّهذا الأديب ... عليه فللموت ما يولد
إذا أنت عشت لنا بعده ... كفانا وجودك ما نفقد
وقال فيه غيره (4): (تام المنسرح)
مات حمار الأديب قلت لهم ... قضى وقد فات فيه ما فاتا
من مات في عزّه استراح ومن ... خلّف مثل الأديب ما ماتا
__________
(1) ج: المضرار، وهو غلط.
(2) الأبيات في الغيث المسجم 2/ 235234 (ط. العلمية) وإدراك الأماني 11/ 77.
(3) البيتان ليسا في ديوانه، وهما في الغيث المسجم 2/ 235 (ط. العلمية) وإدراك الأماني 11/ 77.
(4) ج: فاتنا، وهو غلط.
والبيتان في الغيث المسجم 2/ 235 (ط. العلمية) وإدراك الأماني 11/ 77.(2/291)
وما هجي أحد من شعراء زمانه ما هجي ولا ثلب كما ثلب، فممّن هجاه مجاهد الخياط (1) حيث يقول فيه (2): (تام السريع)
مرّ بنا ينصب أحبولة ... للرّزق أو يدفن أفخاخا
وهو إذا سافر مع نحسه ... يحتاج فرّاشا وطبّاخا
وواحد أعمى إلى جانبي ... ما زال للتّاريخ نسّاخا
يقول لي: ويحك من ذا الفتى ... أراه صيّاحا وصرّاخا
فقلت: قالوا إنّه شاعر ... يأكلها بالشّعر أوساخا
هذا هو الجزّار، قال الذي ... قد كان قبل اليوم سلّاخا
فقلت: هذا في الصّبا، قال لي: ... وهو بتلك العين لو شاخا
وفيه يقول قطب الدين عمر الواعظ (3)، وذلك بعد وفاته: (مجزوء الكامل)
الشاعر الجزّار ما ... ت فبيس ما ضمّ التّراب
قد وافق العقلاء ر ... بّهم عليه فهم غضاب
ولبخله بالعظم ما ... حزنت لموتته الكلاب
وكانت وفاته (4) بالفالج سنة تسع وسبعين وستمائة. ولما توفي، رثاه (5) السّراج الورّاق بقوله: (تام الوافر)
أغايتنا لهذا يا فلان ... تأمّل ليس كالخبر العيان
__________
(1) هو مجاهد بن سليمان التميمي المعروف بالخياط، كان من كبار أدباء العوامّ اشتهر بهجائه لأبي الحسين الجزار، له شعر وظرف وأخبار (672هـ) الفوات 3/ 237236والنجوم الزاهرة 7/ 243242والأعلام 5/ 278.
(2) ج: إذا سفر. (سفر) غلط.
والأبيات في الفوات 4/ 280وإدراك الأماني 11/ 77.
(3) لم أعثر له على تعريف في المظان.
والأبيات في الفوات 4/ 279وإدراك الأماني 11/ 78.
(4) ب: موتته.
(5) ج: قال السراج الوراق يرثيه.
والأبيات في إدراك الأماني 11/ 7978وما عدا البيت الحادي عشر في الفوات 4/ 282281، والبيتان 7، 8في الغيث المسجم 2/ 417 (ط. العلمية).
ليس كالخبر العيان مثل انظر المستقصى 2/ 303وفيه ليس الخبر كالعيان.(2/292)
أمانيّ النّفوس لها خداع ... وليس من الحتوف لها أمان
ومن بعد الحراك لها سكون ... وصمت بعد ما مرح اللّسان
أيا من جدّ للآمال ركضا ... تأنّ ففي يد الأجل العنان
تروقك زهرة الدّنيا ومنها ... جنى تمر الرّدى إنس وجان
ويخدع لامس فيها بلين ... أيؤمن إذ يمسّ الأفعوان؟!
بلغت أبا الحسين مدى إليه ... لمستبق ومسبوق رهان
وكنت وطالما قد كنت أيضا ... تقول عن الأولى سبقوك: كانوا (1)
أقول لمن نعاك ولا امتناع ... لأحزاني عليك ولا امتنان
ألا عزّ القوافي اليوم عمّن ... بكته البكر منها والعوان (2)
وشقّت عند منعاه جيوب ... عليه والبيان لها بنان (3)
لها إيطاء حزن بعد حزن ... وإكفاء لدمع لا يصان (4)
وإقواء برفع فوق نعش ... وخفض في اللّحود له مكان
وناح النّحو بعدك والمعاني ... لها مع كلّ نائحة حنان
فلا بدل بخلّ عنك يرجى ... ولا عطف لمن غدروا وخانوا
__________
(1) أب ج ش: سبقوا فكانوا، وهو غلط، والتصحيح من الفوات 4/ 282والغيث المسجم 2/ 417 (ط. العلمية)
(2) العوان: النّصف والمتوسطة في سنها من النساء (اللسان والمعجم الوسيط: عون)
(3) أب ج ش هـ و: معناه جيوب. (معناه) خطأ، والأرجح أن الكلمة مصحفة عن منعاه، والمنعى والمنعاة خبر الموت (اللسان: نعا).
(4) الإيطاء والإكفاء والإقواء كلّها من عيوب القافية ويقصد الشاعر أن الشعر أصبح يعاني من هذه العيوب بعد موت ابن الجزار. ويلاحظ أن الشاعر استعمل هذه الكلمات بمعناها العروضي واللغوي معا. والإيطاء في اللغة الموافقة على شيء واحد وفي الشّعر أن تتّفق للشاعر قافيتان على كلمة واحدة معناهما واحد، وذلك يدل على العجز إذا كان بين الأولى والثانية أقل من سبعة أبيات. والإكفاء من أكفأ الإناء وكبّه أي كفأه وكبّه ليفرغ ما فيه، والإكفاء في الشعر أن يخالف الشاعر بين قوافيه فيجعل بعضها ميما وبعضها نونا وغيرهما من الحروف المتقاربة في المخرج. والإقواء في اللغة من أقوى الحبل والوتر جعل بعض قواه أغلظ من بعض، ومنه الإقواء في الشعر وهو أن تختلف حركات الرّويّ فبعضها مرفوع، وبعضها مجرور، (اللسان: عون، قوا، كفأ، وطأ).(2/293)
ولو نزفت بحور الشّعر دمعا ... وكان على الخليل لها ضمان (1)
لمّا وفّته لا والله حقّا ... ولو بسلوكها نظم الجمان
كفاها ذوقه التّقطيع فيما ... يجوّزه ويأباه الوزان (2)
ولجّج سالكا في كلّ بحر ... عزائمه جواهره الحسان
فنالت منه فاصلة الرّزايا ... ودائرة الحمام ولا اعتنان
فيا أسف البديع على بديع ... لكلّ فنونه منه افتنان
إذا التفت استطال على جرير ... وأخرس من فرزدقه اللّسان
فلا تقسن به سحبان يوما ... ولا قسّا إذا ذكر البيان (3)
ولو هرم رآه سلا زهيرا ... وكان له عليه ثمّ شان
جمال الدّين أنت جميل ظنّ ... بربّك جلّ ديّانا يدان
وعفو الله أكبر من ذنوب ... لنا وعلى الشّفيع لنا الضّمان
عفا الله عنهما ورحمنا وإياهما بمنّه وكرمه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم (4).
__________
(1) الخليل هو الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض والعال اللغوي المشهور.
(2) الوزان: الوزن (اللسان: وزن).
(3) ب هـ و: تقسا.
وسحبان سبق التعريف به في الصفحة 369الحاشية 2.
وقسّ بن ساعدة سبق التعريف به في الصفحة 371الحاشية 1.
وهرم هو هرم بن سنان المرّيّ، وزهير هو زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي المشهور وقصته مع هرم مشهورة جدا.
(4) ب: نبينا محمد واله وصحبه وسلم تسليما. ج: على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم. و: ورحمنا وإياهما بكرمه وصلى الله علي نبينا محمد وآله وسلم.(2/294)
119 - السراج الوراق (1)
هو سراج الدين أبو حفص عمر بن محمد بن حسن، شهر بالوراق، كان شاعرا بليغا بديع القول رقيق حاشية البيان، لطيف المعاني، يكاد كلامه يسكر بلا شراب ويطرب بلا سماع، له محاسن كثيرة منها قوله يتغزل (2): (تام الكامل)
ما حلّ عزمي مثل عقد قبائه ... بدر يعدّ البدر من رقبائه
مرح المعاطف تائه بجماله ... واها لصبّ واله في تائه
يجلو مقبّله وبرد رضابه ... «كالأقحوان غداة غبّ سمائه» (3)
في شعره وجبينه لي موقف ال ... حيران بين ظلامه وضيائه
يتشبّه الغصن النظير بقدّه ... يا غصن حسبك أنت من نظرائه
وقوله (4): (تام البسيط)
لا تحجب الطّرف إنّي عنه محجوب ... لم يبق منّي لفرط السّقم مطلوب
ولا تثق بأنيني إنّ موعده ... بأن أعيش للقيا الطّيف مكذوب
هذا وخدّك مخضوب يشاكله ... دمع يفيض على خدّيّ مخضوب
وليس للورد في التشبيه رتبته ... وإنّما ذاك من معناه تقريب
__________
(1) شاعر مصر في عصره (695هـ) ترجمته في مسالك الأبصار 1/ 369366، 371370والفوات 3/ 146140والوافي بالوفيات ج 27ميكروفيلم (ترجمة النصير بن أحمد المناوي الحمامي) والنجوم الزاهرة 8/ 8483والشذرات 5/ 432431وبغية الوعاة 2/ 223وإدراك الأماني 11/ 180 184وتاريخ الآداب لجرجي زيدان 3/ 127وتاريخ الأدب لبروكلمان 5/ 104والأعلام 5/ 63.
(2) الأبيات في الفوات 3/ 145144وإدراك الأماني 11/ 180.
(3) الشطر الثاني صدر بيت للنابغة الذبياني تتمته:
جفت أعاليه وأسفله ندي
وهو من قصيدة، في المتجردة امرأة النّعمان بن المنذر، مطلعها:
أمن آل ميّة رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزوّد
وهي في ديوانه 9789.
(4) أ: يحجب، وهو غلط.
والأبيات في النجوم الزاهرة 8/ 8483وإدراك الأماني 11/ 181180.(2/295)
وما عذارك ريحانا كما زعموا ... فات الرّياحين ذاك الحسن والطّيب
تأوّد الغصن مهتزّا فأنبأنا ... أنّ الذي فيك خلق فيه مكسوب
يا قاسي القلب قد أعراه رقّته ... جسم من الماء بالألحاظ مشروب
أرحت سمعي في حبّيك من عذلي ... إذ أنت حبّي إلى العذّال محبوب
وقوله (1): (تام البسيط)
أجناك من عارض في خدّه لاحا ... ريحانة جاورت من ريقه راحا
وما كفاه الشّذا المسكيّ بينهما ... حتى جلا من خضيب الخدّ تفّاحا
مقرطق ترك النّدمان من يده ... صرعى وقد حثّ أحداقا وأقداحا
حبابها كشعاع الشّمس كم جعلت ... أضواؤها آية الإمساء إصباحا
خلنا الحباب عليها وهو يشربها ... نظام مبسمه في صفوها لاحا
وقوله (2): (تام الكامل)
فضيّ مبتسم وخدّ مذهّب ... هل عنهما لعديم صبر مذهب
وقضيب بان في كثيب أثمرا ... قمرا جلاه من الغدائر غيهب
حلو الدّلال يذوب فرط لطافة ... فيكاد بالألحاظ منّا يشرب
أشكو ضناي فيستدلّ بخصره ... ويقول أيّكما إليّ الأقرب
وإذا شكوت لهيب قلبي قال لي ... أو ليس خدّي مثله يتلهّب
هيهات أنت بما تقول منعّم ... وأخو الغرام بما يقول معذّب
لو قلت إنّ الورد خدّك أو قضي ... ب البان قدّك كان حقّك تغضب
لا تحسبنّي أدّعي لك مشبها ... وهواك أنت أجلّ ممّا تحسب
__________
(1) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 181.
أجناك ريحانة: مكّنك من اجتنائها. الراح: الخمر. مقرطق: أي يلبس القرطق وهو القباء (ما يلبس فوق الثياب).
(اللسان والمعجم الوسيط: جني، راح، قبا، قرطق).
(2) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 181.(2/296)
ومن نفثات سحره، ونفيسات درّه، قوله (1): (تام الخفيف)
شمت برقا من ثغرها الوضّاح ... والدّجى نسره مهيض الجناح
فتمارى شكّي به ويقيني ... هل تجلّى الصباح قبل الصباح
فأجابت: متى تبسّم صبح ... عن حباب أو لؤلؤ أو أقاح؟
ومتى كان للصّباح لمى كال ... مسك أو نكهة كصوب الرّاح (2)؟
سل بثغري المسواك تسأل خبيرا ... باغتباق من خمره واصطباح (3)
قلت: ما لي وللسّكارى؟ فقالت ... أنت أيضا من الهوى غير صاح
حجة من مليحة قطعتني ... هكذا كلّ حجّة للملاح
لا ولحظ كفترة النّرجس ال ... غضّ وخدّ كحمرة التّفّاح
ما تيقّنت بل ظننت وما في الظّ ... نّ يا هذه كبير جناح
وكثيرا شبّهت بالبدر والشّم ... س وسامحت فارجعي للسّماح
واجعلي ذا من ذاك واطّرحي القو ... ل اطّراحي عليك قول اللّاحي
ومما يسكر بلا شراب ويطرب بلا سماع قوله (4): (تام الكامل)
أحداقه صرعتك أم أقداحه ... ورضاب فيه ليس يمزج راحه
وعذاره المخضرّ أم ريحانه ... وأسيله المحمرّ أم تفّاحه
قمر بطرّته يجرّ مساءه ... شمس بوجنته يضيء صباحه
كتم الزيارة حجله وسواره ... ووشى عليه نطاقه ووشاحه
__________
(1) الأبيات في الفوات 3/ 145وإدراك الأماني 11/ 182181.
(2) ب ش هـ و: كصرف. حاشية أج، إدراك الأماني 11/ 182: «خ كصرف».
(3) ج: هل بثغري، (هل) غلط.
(4) لم ترد الأبيات في إدراك الأماني ولم أعثر عليها في المظان.(2/297)
بي (1) جوهريّ الثّغر شنّف مسمعي ... من فيه ما أملت عليه صحاحه
وافى لتكملة الملاحة عارض ... منه بخدّ بيّن إيضاحه
عذّبت طرفي بالسّهاد فليله ... قد مات عنه تعيش أنت صباحه
وألحّ سائل أدمعي فحرمته ... ولكم أضرّ بسائل إلحاحه
وقوله (2): (تام السريع)
يا لحظة أثخنت قلبي جراح ... كأنّ قتلي لك أمر مباح
يا مهجة العشّاق ماذا جنت ... عليك في الحبّ عيون الملاح
غرّتك من أجفانه فترة ... وكيف تغترّ بلين الصّفاح (3)
أما على الألحاظ في قتلنا ... من حرج أو قود أو جناح؟!
وقوله (4): (تام المنسرح)
جاء العذار الذي أهيم به ... فجدّد الوجد أيّ تجديد
وظنّه آخر الغرام به ... مفند جاهل بمقصودي
وما درى أنّ لام عارضه ... لام ابتداء أو لام توكيد
وقوله (5): (تام الكامل)
قال الوشاة وكنت نكّرت الذي ... أهوى لآمن لوعة التّعنيف
ألف القوام ولام خطّ عذاره ... دلّا عليه بآلة التّعريف
__________
(1) ج: في، وهو غلط.
(2) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 182.
(3) ج: فكيف يغتر، وهو غلط.
(4) الأبيات في الفوات 3/ 146145وإدراك الأماني 11/ 182.
(5) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 182.(2/298)
وقوله (1): (الطويل)
لهجت بلو وجدا بلام عذاره ... وواو بصدغ منه لا يعرف العطفا
وليت فلى أنس بها وبأختها ... لعل، ولذات التّمنّي بها تكفا
وقال: أما وافاك طيفي زائرا ... فقلت: ومن ذاق المنام ومن أغفى؟!
وقوله (2): (تام الكامل)
يا ساكنا قلبي ذكرتك قبله ... أرأيت قبلي من بدا بالسّاكن
وجعلته وقفا عليك وقد غدا ... متحرّكا بخلاف قلب الآمن
وبذا جرى الإعراب في نحو الهوى ... فإليك معذرتي فلست بلاحن
وقوله (3): (الطويل)
بكيت دما يوم الوداع وبيننا ال ... تزام حكى منّا سوارا لمعصم
ومحمرّ دمعي فوق محمرّ خدّها ... يقول إلى كم تغسل الدّم بالدّم
وقوله (4): (تام المتقارب)
أقول وكفّي على خصرها ... وقد كاد يخفي سقاما علي
أخذت عليك عهود الهوى ... وما في يدي منك يا خصر شي
وقوله (5): (تام الوافر)
سألتهم وقد حثّوا المطايا ... : قفوا نفسا فساروا حيث شاءوا
وما عطفوا عليّ وهم غصون ... ولا التفتوا إليّ وهم ظباء
__________
(1) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 182.
وليت فلي أنس بها: أي أنه يأنس بكلمة (ليت). وكذلك (لعل) لأنها تكافئها وتماثلها في معنى التمنّي والتّرجّي.
(2) ج: وندا جرى. (وندا) غلط.
والأبيات في إدراك الأماني 11/ 183.
بدا بالساكن: يشير إلى القاعدة المشهورة وهي أنّ العرب لا تبدأ في قراءتها بحرف ساكن، وجعلته وقفا متحركا:
يشير إلى القاعدة المشهورة وهي أن العرب لا تقف على متحرك.
(3) ج: يكتب، وهو غلط.
والبيتان في إدراك الأماني 11/ 183.
(4) البيتان في الفوات 3/ 146وتمام المتون 256وإدراك الأماني 11/ 183.
(5) البيتان في الفوات 3/ 144والشذرات 5/ 432431وإدراك الأماني 11/ 183.(2/299)
وقوله (1): (تام البسيط)
أعارت اللّين عطف البانة النّضره ... هيفاء كالغصن فوق الدّعص مؤتزره
يكاد ماء الشباب الغضّ يقطر من ... أديم وجنتها من رقّة البشره
يا خجلة الورد من تلك الخدود ويا ... تفتّت المسك من أنفاسك العطره
كالغصن مائسة والظّبي ناعسة ... والشّمس سافرة والبدر معتجره
تقبّل الأرض قامات الغصون إذا ... ماست وتطرق منها وهي معتذره
وتشتهي الورق لو تحظى بقامتها ... عن بان نعمان لو كانت لها الخيره (2)
لو أنّها أدركت عصر الكليم رأى ... أجفانها حشرت مع جملة السّحره
تغرّنا بانكسار من لواحظها ... ولا تزال على العشّاق منتصره
واحرّ قلبي من نار بوجنتها ... واحرّ قلبي لبرد الرّيقة الخصره
لم أنس طيفا لها ما زلت ألثمه ... ألفا وألفا وفي نفس المحبّ شره
وسمته رجعة لو كنت ذا جدة ... من الكرى فتواعدنا إلى نظره
وقوله (3): (الطويل)
وكنت على وعد من الطّيف برهة ... فلمّا بدا لي بعد مطل بدا له
وأعرض إعراض الحبيب كأنّني ... أرى ميله في طيفه وملاله
وولّى ودمعي خلفه وهو لا يرى ... كعادته في الحبّ لا لي ولا له
ومحاسنه رحمه الله كثيرة (4) [ومياه بحار آدابه زاخرة غزيرة] وحسبنا منها ما ذكرنا (5) وبالله تعالى التوفيق (4) [وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم] (6) (لا ربّ غيره ولا مؤمّل إلّا خيره).
__________
(1) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 183.
(2) ج: كان، وهو غلط.
نعمان: واد وراء عرفة، (القاموس: النعيم)
الكليم هو موسى عليه السلام. ويقصد بالسّحرة، السحرة الذين أحضرهم فرعون لتعجيز موسى.
(3) الأبيات في إدراك الأماني 11/ 184.
(4) زيادة في ب.
(5) ب: ذكرناه.
(6) ما بين القوسين ساقط من ج.(2/300)
120 - ابن خلكان (1)
(2) هو قاضي القضاة شمس الدّين أبو بكر أو (3) أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلّكان البرمكيّ الإربليّ الشافعيّ، سكن مصر مدة وناب بها في القضاء عن القاضي بدر الدين السنجاريّ (4)، ثم قدم الشام على القضاء منفردا بالأمر، ثم أقيم معه في القضاء شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الحنفيّ (5) وشمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر الحنبلي (6)، فاجتمع بدمشق ثلاثة قضاة لقب كلّ واحد منهم شمس الدّين، وكان لقاضي الشافعية نائب يلقّب شمس الدين أيضا، فقال في ذلك بعض الأدباء الظرفاء (7): (منهوك المنسرح).
أهل دمشق استرابوا ... من كثرة الحكّام
إذ هم جميعا شموس ... وحالهم في ظلام
__________
(1) (681هـ) ترجمته في تالي كتاب الوفيات 65والوافي بالوفيات 7/ 316308والفوات 1/ 118110وطبقات السبكي 5/ 1514والبداية والنهاية 13/ 301والنجوم الزاهرة 7/ 355353وقضاة دمشق لابن طولون 76والشذرات 5/ 373371وإدراك الأماني 5/ 175172 ومقدمة الوفيات 7/ 1075والأعلام 1/ 220.
(2) من الوافي بالوفيات 7/ 310308بتصرف.
(3) ح: أبو بكر وأبو العباس (سقط ألف = أو =)
(4) هو أبو المحاسن يوسف بن الحسن قاضي القضاة بمصر، المعروف بقاضي سنجار (663هـ) الوفيات 6/ 262، 266 والشذرات 5/ 313.
(5) هو المعروف بالقاضي عبد الله الأذرعي، كان أول من ولي قضاء الحنفية بدمشق مستقلا، كان إماما فاضلا، له مشاركة في أكثر الفنون تولى القضاء بدمشق، وحدّث ودرّس وأفتى (673هـ) البداية والنهاية 13/ 268وقضاة دمشق 189187والفوائد البهية 106.
(6) هو أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد، أول من ولي قضاء الحنابلة بدمشق ثم تركه، وقد سمع الحديث الكثير، وكان من علماء الناس، وأكثرهم ديانة وأمانة في عصره (682هـ) البداية والنهاية 13/ 302 وقضاة دمشق 273والشذرات 5/ 377.
(7) البيتان في الذيل على الروضتين 236والوافي بالوفيات 7/ 309.(2/301)
وقال أيضا (1): (مجزوء الرمل)
بدمشق آية قد ... ظهرت للنّاس عاما
كلّما ازدادوا شموسا ... زادت الدّنيا ظلاما
ثم عزل القاضي ابن خلكان عن القضاء بعزّ الدين ابن الصائغ (2) فقدم مصر فدخلها دخولا لم يدخلها غيره مثله من الاحتفال، وكان يوما مشهودا ثم ولي قضاء دمشق ثانيا فدخلها لثامن سنة من عزله، فقال في ذلك رشيد الدين الفارقي (3)
يخاطبه: (تام الخفيف)
أنت في النّاس مثل يوسف في مص ... ر وعندي أنّ الكرام جناس
ولكلّ سبع شداد وبعد السّبع ... عام فيه يغاث النّاس
وقال في ذلك أيضا نور الدين ابن مصعب (4): (مخلع البسيط)
رأيت أهل الشام طرّا ... ما فيهم قطّ غير راض
نالهم الخير بعد شرّ ... فالوقت بسط بلا انقباض
وعوّضوا فرحة بحزن ... مذ أنصف الدّهر في التّقاضي
وسرّهم بعد طول غمّ ... قدوم قاض وعزل قاض
فكلّهم شاكر وشاك ... بحال مستقبل وماض
__________
(1) البيتان في الذيل على الروضتين 236والوافي بالوفيات 7/ 309.
(2) هو محمد بن عبد القادر أبو المفاخر الأنصاري المشهور بابن الصائغ، قاضي قضاة دمشق (683هـ) البداية والنهاية 13/ 304والفوات 1/ 110، 111، 2/ 368، 3/ 196، 293والنجوم الزاهرة 7/ 364وقضاة دمشق 7876والشذرات 5/ 384383.
(3) هو عمر بن إسماعيل الربعيّ الشافعيّ النحويّ الأديب العلّامة المفتي والمناظر (689هـ) الوفيات 3/ 131129 وبغية الوعاة 2/ 216.
والبيتان في الوافي بالوفيات 7/ 109والفوات 1/ 111والنجوم الزاهرة 7/ 354وإدراك الأماني 5/ 173.
ويوسف المشار إليه هو يوسف عليه السلام وتفسيره الحلم في قوله تعالى {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ سَبْعٌ شِدََادٌ يَأْكُلْنَ مََا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلََّا قَلِيلًا مِمََّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ عََامٌ فِيهِ يُغََاثُ النََّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ =} سورة يوسف 12/ 4847.
(4) هو علي بن مصعب حسب ما في النجوم الزاهرة 7/ 354وانظر نتفا من شعره في: الفوات 1/ 111، 246ولم أعثر له على تعريف في المظان.
والأبيات في الوافي بالوفيات 7/ 310والفوات 1/ 111والنجوم الزاهرة 7/ 355354.(2/302)
كان القاضي شمس الدين رحمه الله نسيج وحده إتقانا ومعرفة، له خبرة تامة بالتّاريخ والأدب شاعرا مفلقا، له شعر (1) رائق، جمع من الحسن كلّ معنى فائق، فمنه (2) قوله في ملاح يسبحون في الماء (3): (الطويل)
وسرب ظباء في غدير تخالهم ... بدورا بافق الماء تبدو وتغرب
يقول عذولي والغرام مصاحبي ... أما لك عن هذي الصّبابة مذهب؟
وفي دمك المطلول خاضوا كما ترى ... فقلت له {«ذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا»} *
وقوله مضمّنا (4): (تام الكامل)
كم قلت لمّا أطلعت وجناته ... حول الشقيق الغضّ دوحة آس
لعذاره السّاري العجول بخدّه ... «ما في وقوفك ساعة من باس»
وقوله (5): (تام السريع)
لمّا بدا العارض في خدّه ... بشّرت قلبي بالنّعيم المقيم
وقلت هذا عارض ممطر ... فجاءنا منه العذاب الأليم (6)
وقوله (7): (تام السريع)
انظر إلى عارضه فوقه ... لحاظه ترسل سهم الحتوف
تشاهد الجنّة في وجهه ... لكنّها تحت ظلال السّيوف
__________
(1) ج: شاعر، وهو غلط.
وقد جمع الدكتور إحسان عباس بعض شعره في مقدمة الوفيات 7/ 10791.
(2) ج: منه.
(3) أب ج ش: تخالعوا بدور، وهو غلط، والتصحيح من شعره 95والفوات 1/ 114ج: فقلت لهم (لهم) غلط.
والأبيات في شعره 9695والوافي بالوفيات 7/ 313والفوات 1/ 114والشذرات 5/ 372.
{= ذَرْهُمْ يَخُوضُوا =} * من قوله تعالى: {= فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتََّى يُلََاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ =} * سورة الزخرف 43/ 83وسورة المعارج 70/ 42.
(4) البيتان في شعره 96والوافي بالوفيات 7/ 313والفوات 1/ 114. والشطر الأخير صدر مطلع قصيدة لأبي تمام سبق أن خرجناها في الصفحة 284الحاشية 6.
(5) البيتان في شعره 96والوافي بالوفيات 7/ 313والفوات 1/ 114.
(6) معنى هذا البيت مأخوذ من قوله تعالى في سورة الأحقاف 26/ 24: {«فَلَمََّا رَأَوْهُ عََارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قََالُوا هََذََا عََارِضٌ مُمْطِرُنََا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهََا عَذََابٌ أَلِيمٌ».}
(7) البيتان في شعره 96والوافي بالوفيات 7/ 314313والفوات 1/ 115.(2/303)
وقوله في ملاح أربعة يلقب أحدهم بالسّيف (1): (تام البسيط)
ملّاك بلدتنا في الحسن أربعة ... بحسنهم في جميع الخلق قد فتكوا
تملّكوا مهج العشّاق وافتتحوا ... بالسّيف قلبي ولولا السّيف ما ملكوا
وقوله (2): (تام البسيط)
أحبابنا لو لقيتم في إقامتكم ... من الصّبابة ما لاقيت في ظعني
لأصبح البحر من أنفاسكم يبسا ... والبرّ من أدمعي ينشقّ بالسّفن
وكان (3) له ميل إلى بعض أولاد الملك محمود، وكان قد تيّمه حبّه، فيقال إنّه أول يوم جاء إليه بسط له الطّرّاحة (4) وقال له: ما عندي أعزّ من هذه طأ عليها، فشاع أمرها، وعلم به أهله فمنعوه الرّكوب، فقال شمس الدين (5): (تام الكامل)
يا سادتي إنّي قنعت بحقّكم ... في حبّكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطّفا ... ورأيتم هجري وفرط تجنّبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من ألم إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
قسما بوجهك وهو بدر طالع ... وبليل طرّتك التي كالغيهب
وبقامة لك كالقضيب ركبت في ... أخطارها في الحبّ أصعب مركب
وبطيّب مبسمك الشّهيّ البارد ال ... عذب النّمير اللّؤلئيّ الأشنب
__________
(1) البيتان في شعره 9897والوافي بالوفيات 7/ 314والفوات 1/ 115.
(2) البيتان في شعره 97والوافي بالوفيات 7/ 314والفوات 1/ 114.
(3) من الوافي بالوفيات 7/ 311. والخبر في الفوات 1/ 112وتزيين الأسواق 2/ 337.
(4) الطّرّاحة: فراش مربّع يجلس عليه. ملحق المعاجم العربية لدوزي (طرح).
(5) من قصيدة منها سبعة عشر بيتا في طبقات السبكي 5/ 15، والأبيات في شعره 95والوافي بالوفيات 7/ 112 والفوات 1/ 113112وما عدا البيت 8في تزيين الأسواق 2/ 338337ومنها عشرة في الشذرات 5/ 372.(2/304)
لو لم أكن في رتبة أرعى لها ال ... عهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذّ لي ... خلع العذار ولو ألحّ مونّبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جنّ هذا الشيخ في هذا الصّبي
فارحم فديتك حرقة قد قاربت ... كشف القناع بحق ذيّاك النّبي (1)
لا تفضحنّ محبّك الصّبّ الذي ... جرّعته في الحبّ أكدر مشرب
وقال أيضا (2): (مجزوء الخفيف)
أنا والله هالك ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
(3) يقال إنه سأل بعض خواصّ أصحابه عمّا يقوله فيه أهل دمشق فاستعفاه فألحّ عليه فقال: يقولون إنّك تكذب في نسبك وتأكل الحشيشة وتحبّ الغلمان، فقال:
أما الكذب في النّسب فإذا كان لا بدّ منه فكنت أنتسب إلى العباس أو إلى عليّ ابن أبي طالب أو إلى أحد من الصحابة، فأمّا النسب إلى قوم لم تبق لهم باقية وأصلهم فرس مجوس فما فيه فائدة؟ وأما الحشيشة فالكلّ محرّم، وإذا كان لا بدّ فكنت أشرب الخمر لأنّها ألذّ، وأما محبّة الغلمان فإلى غد أجيبك عن هذه المسألة.
مولده بإربل (4) سنة ثمان وستمائة ووفاته سادس عشر شهر رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة. وفيه يقول ناصر الدين أحمد بن المنيّر (5) يمدحه: (الخفيف)
ليس شمس الضحى كأوصاف شمس الدّ ... ين قاضي القضاة حاشى وكلّا
تلك مهما علت محلا ثنت ظلّا ... وهذا مهما علا مدّ ظلّا
(6) (رحمنا الله وإياهما بمنّه وفضله)
__________
(1) أب ج ش: قرحة، وهو غلط، والتصحيح من شعره والوافي بالوفيات وتزيين الأسواق.
(2) البيتان ليسا في شعره وهما في الوافي بالوفيات 7/ 312والفوات 1/ 113. ونسبا في الشذرات 3/ 118لابن سكّرة.
(3) من الوافي بالوفيات 7/ 312بتصرف، والخبر في الفوات 1/ 114113.
(4) إربل قلعة حصينة ومدينة كبيرة تعدّ من أعمال الموصل أكثر أهلها أكراد قد استعربوا. معجم البلدان 1/ 140137.
(5) هو أحمد بن محمد قاضي الاسكندرية وعالمها، وهو أديب وشاعر (683هـ) الوافي بالوفيات 8/ 130128 والنجوم الزاهرة 7/ 362361، 364363.
والبيتان في الوافي بالوفيات 7/ 316، 8/ 129، والنجوم الزاهرة 7/ 362.
(6) ما بين القوسين ساقط من و.(2/305)
121 - ابن فرح (1)
(2) هو الشيخ الإمام الحافظ الزّاهد بقية السّلف شهاب الدّين أبو العباس أحمد بن فرح، بالفاء أخت القاف، والراء والحاء المهملتين، ابن أحمد بن محمد اللخميّ الإشبيليّ. قدم مصر سنة بضع وخمسين وستمائة، وتفقّه على الشيخ عزّ الدّين بن عبد السلام (3) قليلا وسمع من شيخ الشيوخ شرف الدّين الأنصاريّ الحمويّ (4) والمعين أحمد بن زين الدين (4) وإسماعيل ابن عزّوز (4)، والنّجيب بن الصّيقل (4) وابن علاق (4) وسمع بدمشق من ابن عبد الدائم (5) وخلق. وعني بالحديث وأتقن ألفاظه ومعانيه وفقهه، وصار من كبار الأئمّة، إلى ما فيه من الورع والصّدق والديانة وعرضت عليه مشيخة دار الحديث بالنورية (6)، فامتنع وكان يتزيّا بزيّ الصّوفية، سمع منه الشيخ شمس الدين الذهبيّ (7)، واستفاد منه، وسمع منه قصيدته الغزلية التي في ألقاب الحديث وسمعها منه أيضا الحافظ
__________
(1) (699هـ) ترجمته في الوافي بالوفيات 7/ 287286وتذكرة الحفاظ 4/ 1486ونفخ الطيب 2/ 531528والشذرات 5/ 444443وإدراك الأماني 25/ 6159والأعلام 1/ 195194.
(2) من الوافي بالوفيات 7/ 287286ونفح الطيب 2/ 531528بتصرف.
(3) هو عبد العزيز بن عبد السلام السلميّ الدمشقيّ شيخ الإسلام الملقب سلطان العلماء فقيه شافعيّ بلغ درجة الاجتهاد (660هـ) الوفيات 2/ 352350والأعلام 4/ 21.
(4) لم أعثر له على تعريف في المظان.
(5) من كبار علماء دمشق، سمع عن علماء كثيرين انظر قضاة دمشق 62، 85، 86، 87، 203، ولم أعثر له على تعريف واف في المظان.
(6) بنى هذه الدار الملك العادل نور الدين (569هـ) بدمشق فسمّيت باسمه انظر الوفيات 5/ 185.
(7) هو الإمام الحافظ محمد بن أحمد الذّهبي محدّث ومؤرخ مشهور صاحب تذكرة الحفاظ، وسير أعلام النبلاء (748هـ) الفوات 3/ 317315وذيل تذكرة الحفاظ 3834والأعلام 5/ 326.(2/306)
الدّمياطيّ (1) والحافظ اليونينيّ (2) والبرزاليّ (3) والمقاتليّ (4) والنابلسيّ (5) وأبو محمد بن الوليد (6) وغيرهم وهي (7): (الطويل)
غرامي صحيح والرّجا فيك معضل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل
وصبري عنكم يشهد العقل أنّه ... ضعيف ومتروك، وذلّي أجمل
ولا حسن إلّا سماع حديثكم ... مشافهة يملى عليّ فأنقل
وأمري موقوف عليك، وليس لي ... على أحد إلّا عليك المعوّل (8)
ولو كان مرفوعا إليك لكنت لي ... على رغم عذّالي ترقّ وتعدل
وعذل عذولي منكر لا أسيغه ... وزور وتدليس يردّ ويهمل
أقضّي زماني فيك متّصل الأسى ... ومنقطعا عمّا به أتوسّل
وها أنا في أكفان هجرك مدرج ... تكلّفني ما لا أطيق فأحمل
وأجريت دمعي فوق خدّي مدبّجا ... وما هي إلّا مهجتي تتحلّل
فمتّفق جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترق صبري وقلبي المبلبل
ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ... ومختلف حظّي وما فيك آمل
__________
(1) هو عبد المومن بن خلف المشهور بالدّمياطي، محدث كبير، وفقيه شافعيّ مشهور (705هـ) تذكرة الحفاظ 4/ 14791477والفوات 2/ 9/ 41140، والأعلام 4/ 170169.
(2) هو محمد بن أحمد المشهور بالحافظ اليونيني، من كبار حفّاظ الحديث، فقيه حنبليّ (658هـ) الذيل على الروضتين 207وتذكرة الحفاظ 4/ 14411439والأعلام 5/ 322.
(3) هو محمد بن يوسف المشهور بالبرزالي الحافظ الرحّالة الكبير العدول (699هـ) تذكرة الحفاظ 4/ 1488والوافي بالوفيات 5/ 252، 264.
(4) أب ج ش هـ و: والمقابلي، وهو غلط والتصحيح من الوافي بالوفيات 7/ 287ونفح الطيب 2/ 529.
ولم أعثر له على تعريف في المظان.
(5) هو الإمام الحافظ الأديب أبو المظفر يوسف بن الحسن المشهور بالنابلسي محدّث ثقة، ولي مشيخة دار الحديث بالنورية (671هـ) تذكرة الحفاظ 4/ 14631462والأعلام 8/ 224.
(6) لم أعثر له على تعريف في المظان.
(7) القصيدة بتمامها في نفح الطيب 2/ 531530وإدراك الأماني 25/ 60ومنها 18بيتا في طبقات السبكي 5/ 1312والبيت الأول في الوافي بالوفيات 7/ 286وقد استعمل فيها المؤلف ألفاظ الحديث ومصطلحاته في معان غزليّة، ومن هذه الألفاظ، صحيح ومعضل ومرسل ومسلسل انظر معرفة علوم الحديث 12225.
(8) أب ج ش: وأثري موقوف. (واثري) غلط، والتصحيح من نفح الطيب 2/ 530.(2/307)
خذ الوجد منّي مسندا ومعنعنا ... فغيري لموضوع الهوى يتحلّل
وذي نبذ من مبهم الحبّ فاعتبر ... وغامضه إن رمت شرحا أطوّل
عزيز بكم أضحى ذليلا لعزّكم ... ومشهور أوصاف المحبّ التّذلّل (1)
غريب يقاسي البعد عنكم وماله ... وحقّك عن دار القلى متحوّل
فرفقا بمقطوع الوسائل ماله ... إليك سبيل لا ولا عنك معدل
ولا زلت في عزّ منيع ورفعة ... ولا زلت تعلو في التّجنّي فأنزل
أورّي بسعدى والرّباب وزينب ... وأنت الذي نعني وأنت المؤمّل (2)
فخذ أوّلا من آخر ثم أولا ... من النّصف منه فهو فيه مكمّل
أبرّ إذا أقسمت أنّي بحبّه ... أهيم وقلبي بالصبابة مشعل
فهي عشرون بيتا، وقد اعتنى بشرحها غير واحد من الأئمّة، منهم عزّ الدين ابن جماعة الشافعيّ (3) وشمس الدّين التّتائيّ المالكيّ (4) وغيرهما (5). ولد ناظمها رحمه الله بإشبيلية سنة خمس وعشرين وستمائة وأسره الفرنج سنة ستّ وأربعين وخلّص فقدم مصر سنة بضع وخمسين ومات بالإسهال بتربة أمّ الصالح وشيّعه الخلق سنة تسع وتسعين وستمائة رضي الله عنه وأرضاه.
__________
(1) ج: الجيب التذلل. (الجيب) غلط.
(2) أب ج: اروي، وهو غلط، والتصحيح من ش وإدراك الأماني.
(3) هو عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الحموي الأصل حافظ ولي قضاء مصر وأصبح قاضي قضاتها (767هـ) ذيل تذكرة الحفاظ 4341، 364363، والأعلام 4/ 26.
(4) هو محمد بن إبراهيم بن خليل التّتائي فقيه مالكيّ اشتهر بإتقان علم الفرائض وتولى قضاء مصر (942هـ) نيل الابتهاج 336335والأعلام 5/ 302.
(5) انظرهم في معرفة علوم الحديث (مقدمة يط).(2/308)
122 - ابن دقيق العيد (1)
هو الشيخ الإمام القاضيّ تقيّ الدّين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن دقيق العيد القشيريّ المالكيّ الشافعيّ، كان عالما بالفقه بصيرا بالأحكام حافظا للحديث مبرّزا في نقده، عارفا بمعانيه وفقهه ذاكرا لرجاله ضابطا لأحكام أسانيده، كثير الأدب ناظما ناثرا، حسن العارضة، وكان مقتّرا عليه من الدنيا في أوّل أمره، كما يفصح عنه ما نثبته له من بعض شعره كقوله (2): (الطويل)
لعمري لقد قاسيت بالفقر شدّة ... وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشّكوى هتكت مروءتي ... وإن لم أبح بالصّبر خفت مماتي
فأعظم به من نازل (جلّ) علّة ... يزيل حيائي أو يزيل حياتي (3)
وقوله (4): (الطويل)
تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا ... بضاعتهم موكوسة الحظّ في الثّمن
وقالوا عرضناها فلم نلف طالبا ... ولا من له في مثلها نظر حسن
ولم يبق إلّا رفضها واطّراحها ... فقلت لهم لا تعجلوا السّوق باليمن
وأرسل بها إلى صاحب اليمن فلما وصلته، بعث إليه بمائتي دينار، واستمرّ يرسلها إليه كلّ سنة إلى أن مات صاحب اليمن.
__________
(1) (702هـ) ترجمته في تذكرة الحفاظ 4/ 1481والوافي بالوفيات 4/ 209193والفوات 3/ 450442 ومرآة الجنان 4/ 238236وطبقات السبكي 6/ 222والديباج المذهب 325324والنجوم الزاهرة 8/ 207206وحسن المحاضرة 1/ 145143والشذرات 6/ 65وإدراك الأماني 4/ 119115 والأعلام 6/ 283وجمهرة الأولياء 2/ 253.
(2) الأبيات في ديوانه 158والوافي بالوفيات 4/ 202والفوات 3/ 446445وإدراك الأماني 4/ 116115.
(3) ما بين القوسين بياض في أب ج هـ و، وساقط من ش. حاشية أب: جل.
الديوان والوافي بالوفيات والفوات: بملمّة يزيل.
(4) الأبيات في ديوانه 184والوافي بالوفيات 4/ 206وإدراك الأماني 4/ 116.(2/309)
ومن شعره رحمه الله (1): (تام البسيط)
الحمد لله كم أسعى بعزمي في ... نيل العلى وقضاء الله ينكسه
كأنّني البدر أبغي الشّرق والفلك ال ... أعلى يعارض مسراه فيعكسه
قال الصفدي (2): وهذا مثل قول الأرّجاني (3): (تام الكامل)
سعيي إليكم في الحقيقة والذي ... تجدون عنكم فهو سعي الدّهر بي
أنحوكم ويردّ وجهي القهقرى ... دهري، فسيري مثل سير الكوكب
فالقصد نحو المشرق الأقصى له ... والسّير رأي العين نحو المغرب
ومن شعر القاضي تقي الدين أيضا قوله (4): (تام السريع)
قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثلما يرتضي
فقلت لمّا لم يكن ذا تقى ... تعارض المانع والمقتضي
وقوله (5): (تام الوافر)
عطيّته، إذا أعطى، سرور ... فإن سلب الذي أعطى أثابا (6)
فأيّ النّعمتين أعدّ فضلا ... وأحمد عند عقباها إيّابا (7)
__________
(1) البيتان في ديوانه 162161والوافي بالوفيات 4/ 198والفوات 4/ 443وإدراك الأماني 4/ 116.
(2) الوافي بالوفيات 4/ 199وإدراك الأماني 4/ 116.
(3) من قصيدة طويلة في المدح مطلعها:
أحبتي الشاكين طول تغيّبي ... والذاهبين من الهوى في مذهبي
وهي في ديوانه 1/ 209199والأبيات في الوفيات 1/ 153والوافي بالوفيات 4/ 199وإدراك الأماني 4/ 116.
(4) ج: تقي الدين رحمه الله.
والبيتان في ديوانه 178والوافي بالوفيات 4/ 199والشذرات 6/ 6وإدراك الأماني 4/ 116.
(5) الأبيات في ديوانه 155والوافي بالوفيات 4/ 201والفوات 3/ 445وإدراك الأماني 4/ 116والصحيح أنها لمحمود الوراق، وهي من مقطوعة في ستة أبيات أولها:
ومنتصح يردّد ذكر نشو ... على عمد ليبعث لي اكتتئابا
وهي في ديوانه 4140، ونسبت إليه في العقد الفريد 3/ 282281وتاريخ بغداد 13/ 88.
(6) ج: سلت، وهو غلط. هامش أ: أخذ (والإشارة إلى كلمة (سلب)).
(7) هامش أ: أعز. (والإشارة إلى كلمة (أعد)).(2/310)
أنعمته التي كانت سرورا ... أم الأخرى التي جعلت ثوابا
(1) (كذا نسبها له الصفديّ في وافيه (2)، وليس بصحيح، لأنّ الصحيح أنّها لمحمود الورّاق (3)، وإليه نسبها الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتابه بهجة المجالس (4)، وذكر فيه أنه قالها لما أصيب بجارية له تسمى نشوى، كان علّمها وخرّجها، وأعطي فيها مالا كثيرا، فجاءه بعض من يعزّيه عنها، وهو عنده أنّه شامت، فجعل يعذله على ما كان يحمل إليه من ثمنها ويطنب في وصفها فقال محمود (5): (الوافر)
ومنتصح يكرّر ذكر نشوى ... على عمد ليبعث لي اكتئابا
فقلت، وعدّ ما كانت تساوي ... سيحسب ذاك من خلق الحسابا
عطيّته إذا أعطى سرور ...
(الأبيات الثلاثة) وذكر بعدها رابعا وهو:
بل الأخرى وإن نزلت بكره ... أحقّ بشكر من صبر احتسابا
وكانت وفاة ابن عبد البر بشاطبة سنة ثلاث وستين وأربع مائة قبل وجود ابن دقيق العيد بأكثر من مائتي سنة، فكيف يصح أن ينسب الأبيات إليه؟ والكمال لله وحده).
ومن بديع إنشائه (6) ما كتب به إلى قاضي القضاة شمس (7) الدين أحمد
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج. إلى قوله: «الكمال لله وحده».
(2) الوافي بالوفيات 4/ 201.
(3) هو محمود بن الحسن الوراق من شعراء العصر العباسي أكثر شعره في المواعظ والحكم (230هـ) طبقات ابن المعتز 367366وتاريخ بغداد 13/ 8987والفوات 4/ 8179والأعلام 7/ 167.
(4) بهجة المجالس 2/ 358.
(5) الأبيات في العقد الفريد 3/ 282281وبهجة المجالس 2/ 358.
(6) من الوافي بالوفيات 4/ 197وهو في إدراك الأماني 4/ 117116.
(7) أب ج ش هـ و: شهاب، وهو غلط، والتصحيح من المصادر الآتية.
وشمس الدين أحمد بن خليل بن سعادة الخوييّ هو قاضي قضاة الشافعية بالشام، من العلماء بالكلام، وله معرفة بالطب ولد سنة 583هـ وتوفي سنة 687هـ طبقات السبكي 5/ 8 (توفي فيها 687هـ) والوافي بالوفيات 6/ 376375والأعلام 1/ 121 (توفي فيهما سنة 637هـ)(2/311)
ابن الخليل شافعا ومتشوّقا: نخدم المجلس العالي لا زال حافظا أحكام الجود، محفوظا بضمان الله في ضمير (1) السّعود، محروس العزم من دواعي الهوى، والعزّ من عوادي الحسود، مقابل وجه الرأي بمرآة الحق مولّي جناب الباطل جانب الصّدود، ولا برح يمطر على العفاة سحائب كرمه ويروي الرواة من بحار علوم تمدّ من قلمه، ويجلو أبكار الأفكار مقلّدة بما نظم السّحر من حليّ كلمه، ويبرز خبيئات المعاني منقادة بأيد (2) ذهنه وأيدي حكمه، ويسمو إلى غايات المعالي حتى يقال إن سموّ النّجم من هممه، ويسبغ من جمال فضله وجميله ما يبصره الجاهل على عماه، ويسمعه الحاسد على صممه، وينهى العبد من ولائه ما يشهد به ضميره الكريم، ومن ثنائه ما هو أطيب من ودائع الرّوض في طيّ النّسيم، ومن دعائه ما يقوم منه بوظيفة لا تهمل، ويجري منه على عادة إذا انقضى منها ماض تبعه الفعل في الحال والعزم (3) في المستقبل، غير خاف عليه، أنّه (4) {«لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ»} ولكلّ مقصود أسباب، ولم يزل يهمّ بالكتابة والأيام تدافع، ويعزم على المخاطبة فتدفع في صدر عزمه الموانع، حتى طلع بهذا الوقت فجر حظّه، فاستناب منافثة قلمه عن مشافهة لفظه، وقال لخدمته هذه: ردي موردا غير آمن، وتمنّي محاسن لا تشبهها (5)
المحاسن، وتوطّني المحلة المسعودة، فكما يسعد الناس فكذلك تسعد الأماكن، وشاهدي من ذلك السيد صدرا بشره بالنّجح ضامن، وشهابا ما زلنا نعدّ السيّارة (6) سبعة حتى عزّزت (7) لنا منه بثامن. وكان السبب في ذلك أنّ القاضي
__________
(1) هـ و: ضمن، هامش أب: ضمن.
(2) رجل أيّد: قويّ. (اللسان: ايد).
(3) ج: والعز، وهو غلط.
(4) سورة الرعد، 13/ 38.
(5) ج: يشبهها، وهو غلط.
(6) يقصد الكواكب السيارة وهي سبعة.
(7) ش: عجزت، وهو غلط.(2/312)
نجم الدين بمحلّة منف (1) لما قدم القاهرة أقام بحيث نقيم، وحاضرنا محاضرة الرّجل الكريم، ونافث منافثة لا لغو فيها ولا تأثيم، ولازم الدّرس ملازمة لولا أنها محبوبة لقلنا هي ملازمة غريم، وتلك حقوق له مرعيّة، ومعرفة أسبابها مواضعة العلوم الشرعية، وقصد هذه الخدمة إلى المجلس وكان ذلك من واجب حقّه، وذكر ثناء عليه، فقلنا: رأيت الحقّ لمستحقّه وسيدنا حرسه الله أهل لتقليد المنن ومحلّ لأن يظنّ به كلّ حسن، والعلم برؤية لا يقبل تشكيك المشكّك (2) وأبوّته تقتضي أن يرتقي من بعروة ودّه يستمسك، والله تعالى يرفع شأنه، ويعلي برهانه، ويكتب له يوم إحسانه إحسانه، ويطوي على المعارف اليقينية جنانه (3) ويطلق بكلّ صالحة يده ولسانه، بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
قال الصلاح الصفديّ رحمه الله (4): ما أعرف بعد القاضي الفاضل (5) من كتّاب الإنشاء مثل القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر (6) وما له مثل هذه المكاتبة، علم ذلك من علمه أو جهله من جهله.
وحدث عنه تلميذه الشيخ المدرّس الحاجّ الرّحال أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الرباطيّ التازيّ (7) نزيل مدينة فاس حرسها الله، قال، أنشدني شيخنا تقيّ الدّين ابن دقيق العيد: (8): (الطويل)
ولله قوم كلّما جئت طارقا ... رأيت شخوصا كلّها ملئت فهما
__________
(1) ج: منفا، وهو غلط. ومنف: اسم مدينة فرعون بمصر، ويقال إنها أول مدينة عمّرت بعد الطوفان وبينها وبين الفسطاس ثلاثة فراسخ وبينها وبين عين شمس ستة فراسخ. معجم البلدان 5/ 214213.
(2) ج: الشك، وهو غلط.
(3) ج: جنابه، وهو غلط.
(4) الوافي بالوفيات 4/ 198.
(5) هو أبو علي عبد الرحيم بن علي المشهور بالقاضي الفاضل وزير الملك الناصر صلاح الدين، برز في صناعة الإنشاء (596هـ) الوفيات 3/ 163158والنجوم الزاهرة 6/ 158156والأعلام 3/ 346.
(6) هو عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان المصريّ الكاتب الناظم شيخ أهل التّرسّل في عصره قاض ومؤرّخ (692هـ) الفوات 2/ 191179والأعلام 4/ 98.
(7) وردت ترجمته في جذوة الاقتباس 1/ 295وهي لا تخرج عمّا ذكر هنا. ولم أعثر له على تعريف واف في المظان.
(8) حاشية ج = ط قف على الكلام على هذه الأبيات في أزهار الرياض للمقري =. ولم أعثر في أزهار الرياض على هذه الأبيات ولا على الكلام عليها، ولا في نفح الطيب.
والأبيات ليست في ديوانه، وهي في جذوة الاقتباس 1/ 295وإدراك الأماني 4/ 118.(2/313)
إذا اجتمعوا جاءوا بكلّ طريفة ... ويزداد بعض القوم من بعضهم علما (1)
تساقوا كؤوس العلم في روضة التّقى ... فكلّهم من ذلك الرّيّ لا يظما (2)
نفوس على لفظ الجدال قد انطوت ... فتبصرها حربا وتعقلها سلما
أولئك مثل الطّيب كلّ له شذا ... ومجموعه أذكى أريجا إذا شمّا
قال (3): وكان يقول إذا أنشدها كانت عسلا بهم فتعلقمت بنا.
ويحكى عنه رحمه الله ورضي عنه أنه تفكّر يوما في شؤون الفقهاء وأحوال الصوفية واشتبه عليه حال العزلة والصّحبة فخرج إلى الأزهر متحيّرا فمرّ بالسيد ابن وفا (4) رضي الله عنه، وهو واقف بباب مقامه، فدعاه للضيافة فأجابه مؤمّلا نيل مرامه، فدخلا معا فجلسا ثم أمر بإحضار الطعام، فقدّم فأكلوا ثم طيّبوا بأنواع الطّيب ثم رفع بصره إلى عود معلّق، وقال: هل لك أن تسمع؟ قال: نعم إن حرّكته يد القدرة وحدها، فقال: تكلّم أيّها العود، وذكّرنا العهود، فأنطقه الله تعالى وتحرّك قائلا: (5) (تام المنسرح)
ذكّرني العهد بالحمى الوتر ... فهمت وجدا وما انقضى الوطر
وتيّهتني ألفاظ مقوله ... وحيّرتني والدمع منحدر
__________
(1) حاشية ج: = بكل فضيلة =.
(2) حاشية ج: = تعاطوا كؤوس =.
(3) جذوة الاقتباس 1/ 295.
(4) ب هـ و: وفاء.
والسيد ابن وفا هو محمد بن محمد المعروف بالسيد محمد وفا الشاذلي المولود سنة 702هـ والمتوفى سنة 765هـ أي أنّه ولد سنة وفاة ابن دقيق العيد، فلا يمكن أن يكون قد مرّ به وجرى له معه ما جرى، ولعل المقصود هنا هو والد ابن وفا وهو المسمى محمد الأوسط ابن محمد النجم الصوفي الذي قدم أبوه محمد النجم من تونس إلى الاسكندرية وأصله من تونس. انظر الطبقات الكبرى للشعراني 2/ 2221والأعلام 7/ 3837وجمهرة الأولياء 2/ 255254.
(5) الأبيات مع الحكاية في إدراك الأماني 4/ 119118.(2/314)
ومذ غدا ينشد الرّبوع ضحى ... مهيّجا لي تناثر الدّرر
وعيل صبري وضقت من أرق ... ذرعا ولان الحديد والحجر
وحار سكّان ذا الحمى قلقا ... وتيّهت كلّهم وما صبروا (1)
وراقبوا الدجن في هوى وضنى ... وزمزموا إذ علاهم الضّجر (2)
وهيّمتهم لألاء غرّة من ... سعت إليه الظّباء والشّجر
وحيّرتهم أوصاف طلعته ... وحالهم ذا الجمال والخفر
وشمس حسن غدا لطلعتها ... برغمة الأنف يركع القمر
وبان قدّ يميس منعطفا ... بروضه إذ بدا له الزّهر
وصبح وجه صبا لغرّته ... ظبا فلاة قد زانها الحور
يا حسنه إذ يتيه من خفر ... بين المهى، والملاح ما سفروا
نقاب حسن ولا اهتدوا لهدى ... مذ قام ذاك الجمال يبتدر (3)
فليته منّ باللّقا كرما ... للصّبّ حتّى يمتّع النّظر
ونال وصلا من حبّه وشفى ... غليله ثم ينفذ القدر (4)
فدهش الإمام، وقال: من يسمع فليسمع هكذا. ثم أرسل الشيخ إلى عالم فأحضره، وقال: للفقراء عليك حقّ فوثب قائما جزعا، وقال: بل لنا عليهم حقوق. ثم أرسل إلى كبير من الصوفية، فأدناه وقال: أنصف إخوانك ممّا لهم عليك من الحقّ، فقال:
نعم، ثم قام إلى أنعلتهم فجمعها في قفّة وجعلها على عنقه ثم برك
__________
(1) أب ج ش هـ و، وإدراك الأماني: وتيهت كلهم.
والمعنى: وتيهتهم كلّهم، أي جعلتهم حيارى، والضمير يعود على الألفاظ في البيت الثاني.
(2) ج: هو وضنى (هو) غلط. أب، إدراك الأماني: وزحزحوا، وهو غلط.
زمزموا من الزّمزمة وهي صوت خفيّ لا يكاد يفهم. (اللسان: زمزم).
(3) ج: قد قام. (قد) غلط.
(4) ج: وقال وصلا (وقال) غلط.(2/315)
على ركبتيه، وقال: من له حقّ فلينتصف وليصفع العنق بنعله، فإنه منّي في حلّ إذ لم يفعل ذلك بغير أهله، فالتفت لتقي الدين وقال: ماذا ترى؟ فبكت عيناه، وقال: المحيا محياكم، والممات مماتكم، وربّ الورى. وانقطع إلى الله من حينه إلى أن توفي حادي عشر صفر سنة اثنتين وسبع مائة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه وعقباه بمنّه وكرمه.
123 - ابن البناء (1)
(2) هو الإمام أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزديّ المراكشيّ شهر بابن البنّاء لأنّ والده كان يحترف بالبناء، وحلّ هو بمدينة فاس، فكان يقرئ بمدرسة العطارين وأخذ من علوم الشريعة حظّا وافرا، وبلغ في العلوم القديمة الغاية القصوى، وكان شيخا وقورا حسن السيرة مهذّبا فاضلا لا يمرّ بأحد إلّا ويسلّم عليه، وكان محبوبا عند العلماء والصّلحاء، حريصا على إفادة الناس بما عنده، وكان قليل الكلام جدا، لا يتكلم إلّا بالعلم في الغالب، وكان ينظر في أحكام النّجوم، وكان يلازم الشيخ الوليّ الصالح أبا زيد عبد الرحمن الهزميريّ (3) وطريقته فأعطاه ذكرا من الأذكار ودخل به الخلوة مدة من سنة ودعا له، وقال له: مكّنك الله من علوم السماء، كما مكّنك من علوم الأرض فأراه ليلة وهو متيقّظ دائرة الفلك مشاهدة (4)
حتى عاين مجرى الشّمس فوجد في نفسه هولا عظيما فسمع قول الشيخ أبي زيد
__________
(1) (721) ترجمته في الدرر الكامنة 1/ 298297وجذوة الاقتباس 1/ 152148ودرة الحجال 1/ 65ونيل الابتهاج 6865وإدراك الأماني 12/ 165163والاستقصا 3/ 179والإعلام لابن إبراهيم 1/ 384375والأعلام للزركلي 1/ 222والنبوغ المغربي 1/ 223.
(2) من جذوة الاقتباس 1/ 149148بتصرف، والخبر في نيل الابتهاج 65والإعلام لابن إبراهيم 1/ 377376
(3) هو أحد مؤسسي الطريقة الهزميرية الصوفية، من أهل أغمات وكانت له حلقة تدريس بأغمات، وتتلمذ عليه ابن البناء وتوفي بفاس سنة 706هـ جذوة الاقتباس 2/ 410.
(4) ج: لمشاهدة، وهو غلط.(2/316)
الهزميريّ وهو يقول أثبت يا ابن البنّاء حتى رأى ما رأى مستوفى فلمّا أصبح قال له الشيخ الهزميريّ مبتدئا له: إنّ الله قد فتح لك فيما أراك. فأخذ من ساعتئذ في علوم الهيئة والنجوم حتى أدرك منه الغاية، وكان في أوّل أمره لم يصحّ عنده العلم بالكائنات، قبل كونها، فاستعمل الصوم والخلوة طلبا لتصحيح مراده فدام في الخلوة أياما فرأى بين يديه في صلاة كان يصلّيها صورة قبّة من نحاس مصنوعة بصنعة لم ير مثلها في عالم الحسّ، والقبة محبوسة في وسط الهواء وفي داخلها شخص يتعبّد، فها له ذلك، ولم يثبت له جأش لما كان يرى من صور مفزعة حفّت بها، ويسمع أصواتا هائلة تناديه: أن ادن منّا يا ابن البنّاء فلم يقدر على الثبات (1) إلى أن أغمي عليه، وبلغ خبره الشيخ أبا زيد فوصل إليه ومسح على رأسه وصدره، وأزال عنه ما صنعوا له من الدّواء، ورجع في الحين إلى حسّه، فقال له الشيخ أبو زيد: أنا كنت ذلك الرجل الذي في القبّة وأمرت أن أخبرك في ذلك المقام ثم إنّك لم تقدر وها أنا (2) (قد) أمرت أن أخبرك به في عالم الحس ثم إنّه أخبره بما طلب.
ومما يحفظ له في ذلك أنّ السلطان أبا سعيد بن يعقوب بن عبد الحق المرينيّ (3) سأله عن زمن موته، فأجابه أنّ موته يكون عند اشتغاله ببناء موضع في قبلة تازة يقال له: تازروت فكان ما قال له حقّا.
وحكى ابن شاطر (4) أنّه كان معه بمراكش بدكّان طبيب فجاءه رجل، فقال له:
يا سيدي، إنّ والدي قد توفي وكان متّهما بالمال، ولم يترك لي شيئا، وقيل لي إن
__________
(1) ج: اثبات، هو غلط.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) هو عثمان بن يعقوب أحد ملوك الدولة المرينية من مآثره مدرسة العطارين بفاس (731هـ) الحلل الموشية 179178وجذوة الاقتباس 2/ 457456والأعلام 4/ 215.
(4) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شاطر الجمحيّ المراكشيّ اشتهر بظرفه ومليح حديثه، صحب عبد الرحمن الهزميريّ وأحمد بن البناء (757هـ) جذوة الاقتباس 1/ 303302ونيل الابتهاج 248ونفح الطيب 5/ 249248.(2/317)
ماله مدفون بداره فنحبّ خاطرك معي (1)، لوجه الله تعالى، فنظر الشيخ في نفسه برهة، فقال للرجل: صوّر لي صورة الدار في الرّمل، فصوّر له الدار من غير أن يدع منها شيئا، ثم أمره أن يزيل صورتها، فأزالها، فأمره بإعادتها ثانيا ففعل فأمره بإزالتها وبإعادتها ثالثا، ففعل، فقال له: إنّ مالك ها هنا منها، فانصرف الرّجل، فبحث فوجد به المال. وأخباره في هذا الباب كثيرة لا يحيط بها حصر. وله تواليف عديدة ذكرها (2) في جذوة الاقتباس (3)، وأنشد له من نظمه (4): (تام الوافر)
قصدت إلى الوجازة في كلامي ... لعلمي بالصّواب في الاختصار
ولم أحذر فهوما دون فهمي ... ولكن خفت إزراء الكبار
فشأن فحولة العلماء شاني ... وشأن البسط تعليم الصّغار
وقال: إنه توفي عشية يوم السبت الخامس من شهر رجب عام أحد أو ثلاثة وعشرين وسبع مائة، ودفن بباب أغمات عن يسار الخارج منه، رحمنا الله وإياه بمنّه وكرمه.
124 - أبو عبد الله المسفر (5)
هو الشيخ الإمام الكبير العلّامة الدّرّاكة النّحريريّ، قاضي بجاية (6) أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهليّ الشهير بالمسفر كان متوسّعا في الرواية متبحّرا في
__________
(1) تعبير عامي معناه: أن تقف معي وتساعدني.
(2) كذا في أب ج ش وحقه أن يقول: ذكرها صاحب جذوة
(3) جذوة الاقتباس 1/ 152150وانظر ذلك أيضا في نيل الابتهاج 66والإعلام لابن إبراهيم 1/ 379378.
(4) الأبيات في جذوة الاقتباس 1/ 152، 303ودرة الحجال 1/ 6ونيل الابتهاج 67وإدراك الأماني 12/ 165 والأعلام لابن إبراهيم 1/ 382والنبوغ المغربي 3/ 151.
(5) (744هـ) ترجمته في الديباج المذهب 332وجذوة الاقتباس 1/ 297296ونيل الابتهاج 240ونفح الطيب 5/ 250وإدراك الأماني 25/ 147146.
(6) بجاية مدينة على ساحل البحر بين إفريقية والمغرب اختطّها الناصر ابن علناس بن حماد بن زيري في حدود سنة 457هـ.
معجم البلدان 1/ 339.(2/318)
الدراية له معرفة تامة بعلوم العربية أديبا بليغا جيّد النّظم ذكر (1) الشيخ أبو إسحاق الشاطبيّ (2) رحمه الله في إنشاداته قال: حدثنا شيخنا الأستاذ العالم النظار أبو عبد الله الزواويّ (3) أكرمه الله، قال: قدم شيخنا الشهير أبو عبد الله المسفر مدينة فاس في بعض المسائل، فلما خرج بقصد الإياب شيّعه جماعة من فقهائها وأدبائها وسألوه أن ينشدهم شيئا من شعره فأنشدهم هذا الفذّ (4):
(تام الكامل)
شرّق لتجلو عن فؤادك ظلمة ... الشمس يذهب نورها بالمغرب
وله (5) رحمه الله قصيدة بارعة نظمها في معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاها (نظم فرائد الجواهر في معجزات سيد الأوائل والأواخر)، أجاد فيها ما شاء، مطلعها (6): (الطويل)
تبدّت فغابت واختفت فتجلّت ... فشاهدتها حالي حضوري وغيبتي
وهي طويلة ذكر فيها من معجزاته صلى الله عليه وسلم شيئا كثيرا، وغير ذلك من المحاسن.
دخل مدينة فاس ولقي بها الشيخ أبا الحسن الصّغيّر (7) المعروف عند أهل إفريقية بالمغربي صاحب التقييد على المدونة، وتحدّث معه في الفقه، وردّ عليه كلمة
__________
(1) الخبر في جذوة الاقتباس 1/ 296.
(2) هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخميّ الغرناطيّ الشهير بالشاطبيّ إمام حافظ أصوليّ، كان فقيها مفسّرا ولغويا بيانيا (790هـ) نيل الابتهاج 5046ومعجم المؤلفين 1/ 118والأعلام 1/ 75.
(3) هو محمد بن يعقوب بن يوسف المنجلاتي البجائيّ يعرف بأبي عبد الله الزواويّ، كان حافظا مستبحرا في الفقه ولي قضاء بجاية (730هـ) نيل الإبتهاج 234233ونفح الطيب 5/ 250، 395.
(4) هذا الفذ: أي هذا البيت الفذّ. انظر ذلك في جذوة الاقتباس 1/ 296.
والفذّ: الفرد الواحد. يقال عن الناقة إنّها مفذّ أي ولدت ولدا واحدا (اللسان: فذذ).
(5) الخبر في جذوة الاقتباس 1/ 296ونيل الابتهاج 240.
(6) البيت في جذوة الاقتباس 1/ 296ونيل الابتهاج 240.
(7) هو عليّ بن محمد بن عبد الحقّ الزرويلي المعروف بأبي الحسن الصغير فقيه ولّاه السلطان أبو الربيع القضاء على فاس (719هـ) الديباج المذهب 213212وجذوة الاقتباس 2/ 272 (وهو فيها علي بن عبد الحق) ومعجم المؤلفين 7/ 207.(2/319)
ملحونة، فلمّا فارقه الشيخ أبو الحسن، قال لبعض أصحابه: بم (1) يدرك هذا؟
فقالوا له: بمعرفة كتاب الفصيح لثعلب فحفظه أبو الحسن في ليلة واحدة، ذكر ذلك الشيخ أبو العباس ابن القاضي في جذوة الاقتباس (2)، في ترجمة أبي عبد الله الباهلي المذكور، وقال: إنه أخذ عن الشيخ أبي علي ناصر الدين المشدّالي (3)
راوي مختصر ابن الحاجب (4) عن ابن الحاجب. ثم قال: إنّه توفي يعني أبا عبد الله المذكور سنة أربع وأربعين وسبع مائة رحمنا الله وإياهم أجمعين.
125 - أبو حيان (5)
(6) هو الشيخ الإمام العلامة أثير الدّين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسيّ الغرناطيّ، نزيل مصر، كان أولا يرى رأي الظاهرية، ثم تمذهب للشافعي. وهو الذي جسّر النّاس على مصنّفات الإمام جمال الدين ابن مالك (7)
ورغّبهم في قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججها، وفتح لهم مغلقها، وكان يقول عن مقدمة ابن الحاجب (4): = نحو الفقهاء =. والتزم أن لا يقرئ أحدا إلّا
__________
(1) ج: ثم، وهو غلط.
(2) ج: ذكر ذلك صاحب الجذوة في ترجمة
(3) هو منصور بن أحمد فقيه حافظ مشارك في المنطق، وعلوم العربية رحل إلى المشرق (731هـ) نيل الابتهاج 345344ومعجم المؤلفين 13/ 10.
(4) هو أبو عمرو عثمان بن عمر المشهور بابن الحاجب، فقيه مالكي من كبار العلماء بالعربية، له مؤلفات منها (مختصر في الفقه) و (مختصر منتهى السّول والأمل) (646هـ) الوفيات 3/ 251248والأعلام 4/ 211.
(5) (754هـ) ترجمته في الوافي بالوفيات 5/ 283267ونكت الهميان 286280والفوات 4/ 7971 وذيل التذكرة 2723والدرر الكامنة 4/ 310302وبغية الوعاة 1/ 285280ونفح الطيب 2/ 584535والشذرات 6/ 147145وإدراك الأماني 13/ 183178والأعلام 7/ 152.
(6) من الوافي بالوفيات 5/ 283267بتصرف. والخبر في نكت الهميان 281280ونفح الطيب 2/ 541.
(7) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله النمريّ المشهور صاحب التسهيل والألفية في النحو (672هـ) الوافي بالوفيات 3/ 364359والفوات 3/ 409407وبغية الوعاة 1/ 137130ونفح الطيب 2/ 233222.(2/320)
إن كان في كتاب سيبويه أو في التّسهيل لابن مالك (1) (أو) في تصانيفه. وكان شاعرا بليغا، حسن العارضة، له نظم بديع، فمنه قوله في صفات الحروف (2):
(تام الخفيف)
أنا هاو لمستطيل أغنّ ... كلّما اشتد صارت النّفس رخوه
أهمس القول وهو يجهر سبّي ... وإذا ما انخفضت أظهر علوه
فتح الوصل ثم أطبق هجرا ... بصفير والقلب قلقل شجوه
لان دهرا ثم اغتدى ذا انحراف ... وفشا السّر مذ تذكّرت نحوه
وقوله (3): (تام الخفيف)
سبق الدّمع بالمسير المطايا ... إذ نوى من أحبّ عنّي نقله
وأجاد السطور في صفحة الخدّ ... ولم لا يجيد وهو ابن مقله؟
وقوله (4): (تام الوافر)
يقول لي العذول ولم أطعه ... تسلّ فقد بدا للحبّ لحيه
تخيّل أنّها شانت حبيبي ... وعندي أنّها زين وحليه
وقوله (5): (تام البسيط)
شوقي لذاك المحيّا الزّاهر الزّاهي ... شوق شديد وجسمي الواهن الواهي
أسهرت طرفي ودلّهت الفؤاد هوى ... فالقلب والطّرف منّي السّاهر السّاهي
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
(2) الأبيات في ديوانه 233والوافي بالوفيات 5/ 269ونكت الهميان 282ونفح الطيب 2/ 553.
(3) البيتان في الغزل وهما في ديوانه 473والوافي بالوفيات 5/ 269ونكت الهميان 282والفوات 4/ 72وبغية الوعاة 1/ 283ونفح الطيب 2/ 546والشذرات 6/ 147.
وابن مقلة هو محمد بن علي الكاتب والوزير العباسيّ المشهور، يضرب بحسن خطه المثل (328هـ) الوفيات 5/ 118113والأعلام 6/ 273.
(4) البيتان في ديوانه 418والوافي بالوفيات 5/ 269ونكت الهميان 282والفوات 4/ 73ونفح الطيب 2/ 553.
(5) أول مقطوعة في سبعة أبيات في الغزل وهي في ديوانه 403والأبيات في الوافي بالوفيات 5/ 270269 والفوات 4/ 73ونفح الطيب 2/ 553.(2/321)
نهبت قلبي وتنهى أن أبوح بما ... يلقاه وشوقه للنّاهب النّاهي
بهرت كلّ مليح بالبهاء فما ... في النّيّرين شبيه الباهر الباهي
لهجت بالحبّ لمّا أن لهوت به ... عن كلّ شيء فويح الّلاهج الّلاهي
ومنه ما أنشده في تفسير قوله تعالى بسورة النّمل (1): {«قََالُوا تَقََاسَمُوا بِاللََّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مََا شَهِدْنََا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ»} بعد أن أورد ما ذكره الزمخشريّ في تفسيرها، قال (2): «وهذا الرّجل وإن كان قد أوتي من علم القرآن أوفر حظّ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللّفظ، ففي كتابه (3) = التفسير = أشياء منتقدة. وكنت قريبا من تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيدا في شغل الإنسان نفسه بكتاب الله تعالى فاستطردت إلى مدح كتاب الزمخشري، فذكرت أشياء من محاسنه، ثم نبّهت على ما فيه ممّا يجب تجنّبه، ورأيت إثبات ذلك هنا، لينتفع بذلك من يقف على كتابي ويتنبّه لما تضمّنه من القبايح، فقلت بعد ذكر ما مدحته به (4): (الطويل)
ولكنه فيه مجال لناقد ... وزلّات سوء قد أخذن المخانقا
فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا ... ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
ويشتم أعلام الأئمة ضلّة ... ولا سيّما أن أولجوه المضايق
__________
(1) سورة النمل 27/ 49.
(2) انظر كتابه في التفسير: (البحر المحيط) 7/ 84.
(3) هو المشهور باسم = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل» للإمام محمد بن عمر الزمخشري.
(4) من قصيدة مطلعها
لزمت انفرادي إذ قطعت العلائقا ... وجالست من ذات الصديق الموافقا
وهي في ديوانه 329324.(2/322)
ويسهب في المعنى الوجيز دلالة ... بتكثير ألفاظ تسمّى الشّقاشقا
يقوّل فيها الله ما ليس قائلا ... وكان محبّا في الخطابة وامقا
ويخطئ في تركيبه لكلامه ... فليس لما قد ركّبوه موافقا
وينسب إبداء المعاني لنفسه ... ليوهم أغمارا وإن كان سارقا
ويخطئ في فهم القرآن لأنّه ... يجوّز إعرابا أبى أن يطابقا
وكم بين من يؤتى البيان سليفة ... وآخر عاناه فما هو لاحقا
ويحتال للألفاظ حتى يديرها ... لمذهب سوء فيه أصبح مارقا
فيا خسره شيخا تخرّق صيته ... مغارب تخريق الصّبا ومشارقا
لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يرى للكافرين مرافقا
وقوله (1): (تام السريع)
راض حبيبي عارض بدا ... يا حسنه من عارض رائض!
وظنّ قوم أنّ قلبي سلا ... والأصل لا يعتدّ بالعارض
وقوله في مليح أبرص (2): (الطويل)
وقالوا: الذي قد صرت طوع جماله ... ونفسك لاقت في هواه نزاعها
به وضح تأباه نفس أخي الحجا ... وأفظع داء ما ينافي طباعها
فقلت لهم: لا عيب فيه يشينه ... ولا علة فيه نروم دفاعها
ولكنّها شمس الضحى حين قابلت ... محاسنه ألقت عليه شعاعها
__________
(1) البيتان في الغزل وهما في ديوان 252والوافي بالوفيات 5/ 270ونكت الهميان 282والفوات 4/ 73والدرر الكامنة 4/ 305وبغية الوعاة 1/ 283ونفح الطيب 2/ 554والشذرات 6/ 147.
راض: من أروضت الأرض أي ألبست النّبات. العارض: الخدّ. (اللسان: روض، عرض) ويقصد بالعارض هنا شعر الخدّ. والمعنى أن شعر خدّ حبيبه قد بدا.
(2) الأبيات في ديوانه 457والوافي بالوفيات 5/ 275ونفح الطيب 2/ 555.(2/323)
وقوله في مليح نوتي (1): (الطويل)
كلفت بنوتيّ كأنّ قوامه ... إذا ينثني خوط من البان ناعم
مجاذيفه في كلّ قلب مجاذب ... وهزّاته للعاشقين هزائم
وقوله في مليح أسود (2): (تام البسيط)
علقته سبجيّ اللّحظ حالكه ... ما ابيضّ منه سوى ثغر حكى الدّررا
قد صاغه من سواد العين خالقه ... فكلّ عين إليه تقصد النّظرا
وقوله في مليح فحّام (3): (الطويل)
وعلّقته مسودّ عين ووفرة ... وثوب يعاني صنعة الفحم عن قصد
كأنّ خطوط الفحم في وجناته ... لطاخة مسك في جنيّ من الورد
وقوله في مليح أعمى (4): (تام البسيط)
ما ضرّ حسن الذي أهواه أنّ سنا ... كريمتيه بلا شين قد احتجبا
قد كانتا زهرتي روض وقد ذوتا ... لكنّ حسنهما الفتّان ما ذهبا
كالسيف قد زال عنه صقله فغدا ... أنكى وآلم في قلب الذي ضربا
__________
(1) ج: ينثني خطوط. (خطوط) غلط. ج ش هـ و: مجاذيبه.
والبيتان في ديوانه 477والوافي بالوفيات 5/ 275ونفح الطيب 2/ 547546.
الخوط: الغصن الناعم. (اللسان: خوط).
(2) أول مقطعة في تسعة أبيات وهي في ديوانه 176175والبيتان في الوافي بالوفيات 5/ 274ونكت الهميان 282ونفح الطيب 2/ 536.
سبجيّ نسبة إلى السّبج وهو خرز أسود، دخيل معرّب. وسبجيّ اللّحظ أي أسوده (اللسان: سبج).
(3) البيتان في ديوانه 441440والوافي بالوفيات 5/ 275والفوات 4/ 74ونفح الطيب 2/ 555.
الوفرة: الشّعر المجتمع على الرأس. (اللسان: وفر).
(4) الأبيات في ديوانه 428427والوافي بالوفيات 5/ 275ونفح الطيب 2/ 547.(2/324)
وقوله (1): (تام الخفيف)
سأل البدر هل تبدّى أخوه ... قلت: يا بدر لن يطيق طلوعا
كيف يبدو وأنت يا بدر باد ... أو بدران يطلعان جميعا؟!
وقوله (2): (الطويل)
عداتي لهم فضل عليّ ومنّة ... فلا أذهب الرّحمن عنّي الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وقوله (3): (تام البسيط)
لا ترجونّ دوام الخير من أحد ... فالشرّ طبع وفيه الخير بالعرض
ولا تظنّ امرءا أسدى إليك يدا ... من أجل ذاتك بل أسداه للغرض
وقوله (4): (تام البسيط)
يا فرقة أبدلتني بالسرور أسى ... وأسهرت نظرا لي طالما نعسا
ألا يكون اجتماع بين مفترق ... جسم بمصر وقلب حلّ أندلسا
وأشعاره الرائقة ومعانيه الفائقة كثيرة، وما ذكرناه منها غيض من فيض وقلّ (5)
من كلّ، فرحمه الله وأرضاه، وجعل الجنّة منقلبه وعقباه (6) (مولده في أخريات شعبان سنة أربع وخمسين وست مائة)، وتوفي في أوائل سنة خمس وأربعين وسبع
__________
(1) ج: تطيق، وهو غلط.
والبيتان في الغزل وهما في ديوانه 270والوافي بالوفيات 5/ 276ونفح الطيب 2/ 555.
(2) البيتان في الحكمة وهما في ديوانه 415والوافي بالوفيات 5/ 274والفوات 4/ 74وبغية الوعاة 1/ 283ونفح الطيب 2/ 536والشذرات 6/ 147.
(3) البيتان في ديوانه 252ونفح الطيب 3/ 438.
(4) البيتان في فراق الأحباب وهما في ديوانه 224.
(5) أ: وقل ومن. (الواو) زائد.
والقل خلاف الكثر. (اللسان: قلل).
(6) ما بين القوسين ساقط من ج.(2/325)
مائة بالقاهرة، وصلّي عليه بجامع بني أمية بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الأول. ولما توفي رثاه تلميذه الشيخ صلاح الدين الصفدي بقوله (1):
(تام السريع)
مات أثير الدين شيخ الورى ... فاستعر البارق واستعبرا
ورقّ من حزن نسيم الصّبا ... واعتلّ في الأسحار لمّا سرى (2)
وصادحات الأيك في دوحها ... رثته بالسّجع على حرف را
يا عين جودي بالدّموع التي ... تروي بها ما ضمّه من ثرى
واجري دما فالخطب في شأنه ... قد اقتضى أكثر ممّا جرى
مات إمام كان في علمه ... يرى أماما والورى من ورا
أمسى منادى للبلى مفردا ... فضمّه القبر على ما ترى
يا أسفا كان هدى ظاهرا ... فعاد في تربته مضمرا
وكان جمع الفضل في عصره ... صحّ فلما أن قضى كسّرا
وعرّف الفضل به برهة ... والآن لما أن مضى نكّرا
وكان ممنوعا من الصّرف لا ... يطرق من وافاه خطب عرا
لا أفعل التّفضيل ما بينه ... وبين من أعرفه في الورى
لا بدلا عن نعته في التّقى ... ففعله كان له مصدرا
لم يدّغم في اللّحد إلّا وقد ... فكّ من الصّبر وثيق العرا
بكى له زيد وعمرو فمن ... أمثلة النحو وممّن قرا
__________
(1) أول قصيدة وهي في الوافي بالوفيات 5/ 283281ونكت الهميان 285284وحسن المحاضرة 1/ 257255وبغية الوعاة 1/ 285283ونفح الطيب 2/ 540539.
(2) أب ج ش هـ و: ورق من حسن. (حسن) غلط، والتصحيح من الديوان والوافي بالوفيات ونكت العميان ونفح الطيب.(2/326)
ما أعقد التّسهيل من بعده ... فكم له من عسرة يسّرا (1)
وجسّر النّاس على خوضه ... إذ كان في النّحو قد استبحرا
منها:
أفديه من ماض لأمر الرّدى ... مستقبلا من ربّه بالقرى
ما بات في أبيض أكفانه ... إلّا وأضحى سندسا أخضرا
تصافح الحور له راحة ... قد تعبت في كلّ ما سطّرا
إن مات فالذّكر له خالد ... يحيا به من قبل أن ينشرا
جاد ثرى واراه غيث إذا ... مسّاه بالسّقيا له بكّرا
وخصّه من ربّه رحمة ... تورده في حشره الكوثرا
126 - القاضي ابن فضل الله (2)
هو شهاب (3) الدين أبو العباس أحمد بن فضل الله، أحد شيوخ الصلاح الصفدي، كان وحيد عصره، وفريد دهره (4)، أدبا وإتقانا ومعرفة ومشاركة في كثير من العلوم. من محاسنه ما كتب به إلى فاطمة بنت الخشاب (5)، قال: بلغني
__________
(1) (التسهيل) كتاب لابن مالك، وقد كان أبو حيان يدرسه للطلبة ويشرحه لهم. انظر أول ترجمته هنا.
(2) هو أحمد بن يحيى بن فضل الله العمريّ صاحب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)، كان شاعرا وكاتبا بارعا، ولد بدمشق سنة 700وتوفي سنة 749هـ. ترجمته في تتمة المختصر 2/ 503502والوافي بالوفيات 8/ 270252والفوات 1/ 161157ومرآة الجنان 4/ 288 (وفيها وفاته سنة 433هـ) والبداية والنهاية 14/ 229والدرر الكامنة 1/ 333331والنجوم الزاهرة 10/ 235234وحسن المحاضرة 2/ 6564والدارس 1/ 480447والشذرات 1606وإدراك الأماني 24/ 159156وتاريخ الآداب لجرجي زيدان 3/ 239237والأعلام 1/ 268.
(3) ج: ابن فضل الله هو القاضي شهاب.
(4) ج: وحيد دهره وفريد عصره.
(5) لم أعثر لها على تعريف في المظان ولا لأبيها.(2/327)
عنها، وقد سكنت قريبا منّي، أنها تجيد النّظم، فكتبت إليها لأمتحنها في شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مائة (1): (تام الكامل)
هل ينفع المشتاق قرب الدار ... والوصل ممتنع على الزّوار
يا نازلين بمهجتي وديارهم ... من ناظري بمطمح الأبصار
هيّجتم شجني فعدت إلى الصّبا ... من بعد ما وخط المثيب عذاري
إنّي اهتديت وليلتي مسودة ... وضللت حين أضاء ضوء نهاري
عهدي بأنّي لا أخاف من الرّدى ... فحذار من لحظ العيون حذار
لا أرهب اللّيث الهزبر مجاورا ... داري وأرهب من جوار جواري
الصّائبات بلحظهنّ مقاتلي ... هل للسّهام لديّ من أوتار
يا جيرتي الأذنين حقّي واجب ... إن كنتم ترعون حقّ الجار
ليلي بكم أبدا الزّمان مقسّم ... ما بين تسهيد إلى أفكار
يا جيرة جار الزّمان ببعدهم ... وهم بأقرب منزل وجوار
إني سمعت صفاتكم فسكرت من ... طربي بغير مدامة وخمار
وهويت بالأخبار حسنكم كما ... تهوى الجنان بطيّب الأخبار
يا معرضين وما جنيت إليهم ... ذنبا سوى وجدي وقرب دياري
ميلوا إليّ فللغصون تمايل ... حتّى تقبّل أوجه الأنهار
وتلفّتوا نحوي التفات أوانس ... إنّ الأوانس غير ذات نفار
واجلوا محاسنكم لأحظى بالذي ... قد كنت أسمعه من الأخبار
لا تحسبوا أنّ السّفور نقيصة ... أو ما ترون مطالع الأقمار
__________
(1) الأبيات في إدراك الأماني 24/ 157156.(2/328)
أو تحسبوا أنّي أضيّع سرّكم ... وأنا المعدّ لمودع الأسرار
أيجوز أن أظما وورد نداكم ... صفو من الأقذاء والأكدار
وأموت من داء وفي أيديكم ... طبّي من الأسقام والأخطار
ولقد عرفتم في الأنام بمنطق ... عذب المذاقة طيّب المشتار
فحويتم حسن الصّفات مؤيّدا ... بمحاسن الأقوال والآثار
بمحاسن تهب العييّ براعة ... وبلاغة تدع المفوّه عار
أخرستم الفصحاء إذ أنطقتم ... من لا يجيز القول بالأشعار
فبعثت من نظمي قلادة أدمع ... نثرت لآلئها بلا استعبار
نفثات مصدور الفؤاد متيّم ... عجزت موارده عن الإصدار
قال: فكتبت الجواب إليّ (1): (تام الكامل)
إن كان غرّكم جمال إزاري ... فالقبح في تلك المحاسن واري
لا تحسبوا أنّى أماثل شعركم ... أنّى تقاس جداول ببحار
لو عاصر الكنديّ عصركم رمى ... لكم عوالي راية الأشعار
أقصى اجتهادي فهم ظاهر نظمكم ... لا أنّني أدعي دعاء مجاري (2)
من قصّرت عنه الفحول فحقّه ... أن ليس يبلغه لحاق جوار
ولربّما استحسنت غير حقيقة ... فإذا سفرت أسأت بالأبصار
لست الطّموح إلى الصّبا من بعد ما ... وضح المشيب بلمّتي كنهار
__________
(1) الأبيات في إدراك الأماني 24/ 158.
(2) أدعي أصلها أدّعي خفّفت للضرورة الشعرية. ويقصد أنّها لا تدّعي القدرة على مجاراة القاضي ابن فضل الله في نظم الشّعر. ليس يبلغه لحاق جوار: أي لا تستطيع الجواري أن تلحقه في الشعر، وقد عجز عن ذلك فحول الشعراء.(2/329)
قال صلاح الدين (1): هذا الشعر كثير من امرأة في مثل هذا الزمان، ولعلّها أشعر من ذكران كثيرين في عصرنا، وممّن تقدّمنا (2) أيضا. قال: وما أحسن ما استعملت لفظ (جوار) هنا في القافية، رحمنا الله وإياهم.
وفي القاضي شهاب الدين هذا، يقول بدر الدين الحسن (3) بن عمر (4) بن الحسن بن حبيب الدمشقيّ ثم الحلبيّ (5) يمدحه، وهي من عيون القصائد وغررها (6): (تام البسيط)
جوانحي للقا الأحباب قد جنحت ... وعاديات غرامي نحوهم جنحت (7)
وعبرتي عبرة للنّاظرين غدت ... لأنّها بجفوني إذ جرت جرحت
يا حبّذا جيرة سفح النّقا نزلوا ... آيات حسنهم، ذكر الحسان محت
صدّوا فطرفي لبعد الدّار ينشدهم: ... يا ساكني السّفح كم عين بكم سفحت
آها لعيش تقضّى في معاهدهم ... وطيب أوقات أنفاس بهم نفحت (8)
حيث الحواسد والأعداء قد صدرت ... والسّعد من فوقنا أطياره صدحت
والدّهر قد غضّ طرف الحادثات لنا ... والزّهر أعينه في الخضرة انفتحت
__________
(1) لم أعثر على هذا القول في الأجزاء التي استطعت العثور عليها من الوافي بالوفيات. ولعله في أعيان العصر للصفدي.
وهو في إدراك الأماني 24/ 158.
(2) ج: تقدما، وهو غلط.
(3) ج: الحسين، وهو غلط.
(4) ش: عمرو، وهو غلط.
(5) هو أحد المؤرخين الكتّاب المترسلين له (نسيم الصبا) و (درة الأسلاك في دولة الأتراك) (779هـ) الوافي بالوفيات 12/ 198195والدرر الكامنة 2/ 3029والنجوم الزاهرة 11/ 190189والشذرات 6/ 262 والأعلام 2/ 209208.
(6) القصيدة في الوافي بالوفيات 12/ 198196وإدراك الأماني 24/ 159158وأولها في النجوم الزاهرة 11/ 190.
(7) جنح إليه يجنح: مال (اللسان: جنح) ومنه قوله: جنحت للقا الأحباب. وجنح الليل: أقبل. (اللسان: جنح) ومنه:
جنحت عاديات غرامي نحوهم.
(8) ج: أنفاس أوقات.(2/330)
والورق ساجعة والقضب راكعة ... والسّحب هامعة والغدر قد طفحت
والعود عودان عود نشره عطر ... وذا بألحانه أحزاننا نزحت
والرّاح تشرق في الراحات تحسبها ... أشعّة الشمس في الأقداح قد قدحت
أكرم بها بنت كرم كفّ خاطبها ... كفّ الخطوب وإسداء النّدى منحت
مظلومة سجنت من بعد ما عصرت ... مع أنّها ما جنت ذنبا ولا اجترحت (1)
كم أعربت عن سرور كان مكتمنا ... وكم صدور لأرباب الهوى شرحت
تديرها بيننا حوراء ساحرة ... كأنّها من جنان الخلد قد سرحت
ألحاظها لو بدت للبيض لاحتجبت ... وقدّها لو رأته السّمر لافتضحت
ظلّامة للكرى عن مقلتي حبست ... أما تراها ببحر الدّمع قد سبحت
وربّ عاذلة فيمن كلفت بها ... تكلّمت لملامي في الهوى ولحت
جاءت وفي زعمها نصحي وما علمت ... أنّي أزيد غراما كلّما نصحت
بالرّوح أفدي من النّقصان عارية ... تسربلت برداء الحسن واتّشحت (2)
عيني إلى غير مرأى حسن طلعتها ... وغير فضل ابن فضل الله ما طمحت
ذاك الرئيس الذي أيدي عنايته ... للظّلم قد منعت والرّفد قد منحت
لولا رئاسته ما كانت اتّفقت ... على تقدّمه الأيّام واصطلحت
إمام علم له الأعلام قد خضعت ... شهاب دين به الدّنيا قد انصلحت
غوث الوجود وغيث الجود ذو نعم ... تولي قريحة من يرجوه ما اقترحت
إلى آخرها، وهي طويلة. وبالله تعالى التوفيق.
__________
(1) أب ج ش: سحبت، وهو غلط والتصحيح من الوافي بالوفيات 12/ 196.
المكتمن: الخافي المضمر. (اللسان: كمن).
(2) أب ج ش: غازية، وهو غلط، والتصحيح من الوافي بالوفيات 12/ 197.(2/331)
127 - ابن المرحل (1)
هو أبو الحكم مالك بن المرحل الأندلسيّ المالقيّ ثم السبتيّ، استوطن مدينة فاس، وأقام بها إلى أن توفي، وكان شاعرا بليغا حسن العارضة، مليح النادرة، متفنّنا، له قصائد تسمّى المعشّرات، رتّبها على حروف المعجم. والتزم فيها التزامات، تشتمل كلّ قصيدة منها على عشرة أبيات. وقصائد أخر في كلّ واحدة منها عشرون بيتا رتّبها على حروف المعجم أيضا تسمى العشرينيات، والتزم فيها أيضا التزامات. ونظم الفصيح لثعلب (2) في اللغة، أجاد فيه ما شاء، وقد وضع عليه بعض أصحابنا شرحا حفيلا أحسن فيه كلّ الإحسان، وهو الفقيه النّحويّ اللغويّ الأديب أبو عبد الله محمد بن الطيب الشرقي (3) نزيل طيبة (4) المشرّفة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من تواليفه (5) ومبدعاته وأوضاعه ومخترعاته وهو الذي اعتنى بالبحر المولّد المسمّى بالدوبيت فحصر أعاريضه وضروبه وجعله مثمّن الأجزاء مركبا من فعلن، بسكون العين، متفاعلن فعولن فعلن بتحريك العين، وجعل أعاريضه خمسا وضروبه
__________
(1) هو مالك بن عبد الرحمن المشهور بابن المرحّل (699هـ) ترجمته في تذكرة الحفاظ 4/ 1489والإحاطة 3/ 324303وغاية النهاية 2/ 36وبغية الوعاة 2/ 271وجذوة الاقتباس 1/ 333327وإدراك الأماني 23/ 6360. والأعلام 5/ 263والنبوغ المغربي 1/ 236235.
(2) يسمى هذا النظم ب (الموطأة) وهو مخطوط بالخزانة الصبيحية بسلا في نسختين تحت رقمي: 71، 249.
(3) هو الفقيه المالكيّ المحدّث العلّامة باللغة والأدب، مولده بفاس ووفاته بالمدينة المنورة، وهو شيخ الزّبيدي صاحب تاج العروس، من مؤلفاته: (موطئة الفصيح لموطأة الفصيح) شرح به (نظم فصيح ثعلب) لابن المرحل، وله (إضاءة الراموس) طبعت منه وزارة الأوقاف المغربية ثلاثة أجزاء، وهو حاشية على قاموس الفيروز آبادي (1170هـ) تاج العروس 1/ 3 (مقدمة) ودليل المؤرخ 1/ 246والأعلام 6/ 178177والنبوغ المغربي 1/ 301والتيارات السياسية 223222.
(4) طيبة من الأسماء التي خلعها النبيّ صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة، واسمها من الطيب وهو الرائحة الحسنة أنظر الجامع الصحيح 4/ 522ومروج الذهب 3/ 69ومعجم البلدان 4/ 5453واللسان (طيب).
(5) انظر أمثلة لمؤلفاته في جذوة الاقتباس 1/ 328.(2/332)
سبعة وحرّر الكلام في ذلك وبيّنه بيانا شافيا، وله محاسن كثيرة منها (قوله) (1): (تام البسيط)
طاف الخيال بوادينا فما زارا ... إلا وواقع سرب النّوم قد طارا
لا ذنب للنّوم بل للعين تدفعه ... بل للحشا بل لمن حشا الحشا نارا
لا واخذ الله أحبابي بما صنعوا ... إنّ المحبّ لمحمول وإن جارا
وإنّ من حكمة المولى ورحمته ... أن لا يحمّل أهل الحسن أوزارا
من أين للقوم ذنب إنّما امتحنوا ... بأعين تجتني الأنوار نوّارا
من قيّد اللّحظ في روضات أوجههم ... من أرسل الدّمع فوق الخدّ مدرارا
من قال للقلب في طيّ الجوانح طر ... فطار، والله لم يخلقه طيّارا
يجني المحبّ بعينيه منيّته ... عمدا ويطلب من أحبابه الثّارا
قد كان يبصر ما ياتيه من خطإ ... لن يجعل الله للعشّاق أبصارا
وقوله، وفيه تشبيه حسن إلى الغاية (2): (تام الكامل)
وعشية سبق الصّباح عشاءها ... قصرا فما أمسيت حتّى أسفرا
مسكيّة لبست حلى ذهبيّة ... وجلا تبسّمها نقابا أحمرا
وكأنّ شهب الرّجم بعض حليّها ... عثرت به من سرعة فتكسّرا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
والأبيات في إدراك الأماني 23/ 61.
(2) الأبيات في إدراك الأماني 23/ 61والنبوغ المغربي 3/ 109.(2/333)
وقوله (1): (تام الخفيف)
ربّ ربع وقفت فيه وعهد ... لم أجاوزه والرّكائب تسري
أسأل الدّار وهي قفر خلاء ... عن حبيب قد حلّه منذ دهر
حيث لا مسعد على الوجد إلّا ... عين حرّ تجود أو ساق حرّ
وساق حرّ (2) (هو) ذكر القماري (3)، ولا يخفى ما فيه من حسن التّورية. وقوله لمّا بلغ ثمانين سنة (4): (تام السريع)
يا أيّها الشيخ الذي عمره ... قد زاد عشرا بعد سبعينا
سكرت من أكؤس خمر الصّبا ... فحدّك الدّهر ثمانينا (5)
وقوله يصف مدينة سبتة أعادها الله دار إسلام (6): (تام السريع)
اخطر إلى سبتة وانظر إلى ... جمالها تصبو إلى حسنه
كأنّها عود الغناء وقد ... ألقي في البحر على بطنه
قال الشيخ أبو العباس ابن القاضي في كتاب (جذوة الاقتباس فيمن حلّ من الأعلام مدينة فاس) (7): لا شك سبتة شكلها في المنظر شكل عود الغناء موضوعا في البحر على بطنه رأسه وموضع مفاتله موضع القصبة وهي المعمورة بالنّصارى اليوم، وهو الذي يوالي البرّ وسائره يدور به البحر من كلّ مكان، والعمران كان فيه من أوّل العنق إلى آخره وليس بالبطن العالي منه عمران، وبه
__________
(1) الأبيات في إدراك الأماني 23/ 62والنبوغ المغربي 3/ 257.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) الأنثى قمريّة والذكر ساق حرّ والجمع قماري، وهو طائر يشبه الحمام القمر البيض (اللسان: قمر).
(4) البيتان في الإحاطة 3/ 317وجذوة الاقتباس 1/ 329وإدراك الأماني 23/ 62والنبوغ المغربي 1/ 235، 3/ 257256.
(5) الإحاطة: أكؤس. أب ج ش: أكواس.
(6) البيتان في جذوة الاقتباس 1/ 328وإدراك الأماني 23/ 62والنبوغ المغربي 3/ 109.
(7) جذوة الاقتباس 1/ 329.(2/334)
النّاظور (1)، وهي مدينة بهيجة رائقة الحسن ساطعة البياض تخطف الأبصار إذا طلعت الشمس عليها، أعادها الله دار إسلام بمنّه وكرمه. انتهى منه بلفظه.
وكانت وفاة ابن المرحّل بمدينة فاس سابع وعشرين (2) شهر رجب سنة تسع وتسعين وستمائة، ودفن خارج باب الجيسة في الروضة الثانية عن يمين الخارج، وقبره هناك مشهور، وقد زرناه مرارا ورأينا هنالك (3) أبياتا مكتوبة، يقال إنها من نظمه وهي (4): (مجزوء الخفيف)
زر غريبا بمغرب ... نازحا ماله ولي
تركوه موسّدا ... بين صخر وجندل
ولتقل عند قبره ... بلسان التّذلّل
يرحم الله عبده ... مالك بن المرحّل
رحمه الله وأرضاه.
__________
(1) الناظور: الناطور، وهو حافظ الكرم ونحوه. (المعجم الوسيط: نطر نظر) ولعل المقصود به المنارة التي يراقب منها البحر والسفن. وأما الناضور فهي مدينة تبعد عن سبتة بمسافة كبيرة (475كلم) وهي قبالة مدينة مليلية المحتلة.
(2) الإحاطة 3/ 324: التاسع عشر. جذوة الاقتباس 1/ 333: السابع عشر.
(3) هذا القول ليس في الغالب لصاحب الكوكب الثاقب لأن مؤلف جذوة الاقتباس المتوفي قبله سنة 1025هـ يقول عن هذه الأبيات الأربعة إنها كانت = في مربعة على قبره، ذهبت الآن أذهبتها أيدي الزمان = جذوة الاقتباس 1/ 333.
(4) الأبيات في الإحاطة 3/ 324وغاية النهاية 2/ 36وجذوة الاقتباس 1/ 333وإدراك الأماني 23/ 63.(2/335)
128 - ابن رشيق السبتي (1)
هو أبو علي الحسن بن عتيق بن الحسين بن رشيق التغلبيّ مرسيّ الأصل سبتيّ الاستيطان، منتم إلى صاحب الثورة (2) على ابن عباد، كان نسيج (3) وحده إتقانا ومعرفة ومشاركة في كثير من الفنون اللّسانية والتعاليمية، متبحّرا بالتاريخ ريان من الأدب، شاعرا مفلقا عجيب الاستنباط، قادرا على اختراع الأوضاع، وبرز عدلا بمدينة سبتة أعادها الله دار إسلام، وكتب عن أميرها. وجرى بينه وبين الأديب مالك بن المرّحل الذي تقدم ذكره آنفا من الملح والمهاترات أشد ما يجرى بين متناقضين آلت به إلى الحكاية المشهورة، وذلك انه نظم قصيدة مطلعها (4): (تام الكامل)
لكلاب سبتة في النّباح تدارك ... وأشدّها عند التّهارش مالك
شيخ تفانى في البطالة عمره ... وأجلّ فاكهه الكلام الآفك
متهمّم بذوي الخنا متذمّم ... متهازل بذوي التّقى متضاحك
__________
(1) (نحو 680هـ) ترجمته في الوافي بالوفيات 12/ 422421والإحاطة 1/ 484480 (وهو فيهما الحسين بن عتيق) وجذوة الاقتباس 1/ 182180وإدراك الأماني 23/ 177176والأعلام 2/ 343 (وهو فيه الحسين بن عتيق) ودليل المؤرخ 1/ 166.
وهناك شخص آخر يشتبه به، اسمه الحسين بن عتيق بن الحسن بن رشيق عاش في مصر انظر الوافي بالوفيات 12/ 422421والديباج المذهب 105.
(2) أب ج ش هـ و: الثروة، وهو غلط والأرجح الثورة.
ولعل صاحب الثّورة على المعتمد بن عباد هو عبد الله بن رشيق، وهو أحد أمراء الجند في مرسية، ولعل ابن رشيق السبتي ينتمي إليه انظر المعجب 181، 195
(3) ش: شيخ، وهو غلط.
(4) أول قصيدة في هجاء مالك بن المرحّل. وهي في الإحاطة 1/ 483481والأبيات في جذوة الاقتباس 1/ 181 وإدراك الأماني 23/ 177176.
الفاكه أي الكلام الفاكه وهو المازح من الفكاهة والمزاح. متهمّم من تهمّم الشيء طلبه. متذمّم بصاحبه أي يحفظه ويرعاه حتى لا يلام الماعك أي المذلّ المهين. (اللسان: ذمم، فكه، معك، همم).(2/336)
أحلى شمائله السّباب المفترى ... وأعفّ سيرته الهجاء الماعك
وألذّ شيء عنده في محفل ... أمر لأستار المحافل هاتك
يغشى محاضره اللئيم تفكّها ... ويعاف رؤيته الحليم النّاسك
وهي طويلة تشتمل من التعريض والتّصريح على كلّ غريب قبيح، واتّخذ (لها) (1)
كنانة كأوعية الكتب وكتب عليها «رقّاص (2) معجّل، إلى مالك ابن المرحّل» وعمد إلى كلب وجعلها في عنقه وأوجعه ضربا حتى لا يأوي إلى أحد ولا يستقرّ، وطرده بالزّقاق متكتّما بذلك، وذهب الكلب يجري في أزقة المدينة وخلفه من النّاس أمّة، وقرىء الكتاب وحمل إلى أبي الحكم (3) بعد نزعه من عنق الكلب، ودفع إليه، فلم يغب عنه أنّها من حيل ابن رشيق، وفي بعض أجوبته عن ذلك يقول (4): (تام المتقارب)
كلاب المزابل آذينني ... بأبوالهنّ على باب داري
وقد كنت أوجعتها بالعصا ... ولكن عوت من وراء الجدار
واستدعاه بأخرة أمير المسلمين (5) أبو يعقوب المرينيّ (6)، فاستكتبه وكان معه بمدينة فاس. واستكتب أبا الحكم مالك بن المرحّل. وله تواليف وأوضاع، وله التاريخ الكبير وميزان العمل وغيره. وكان حيّا سنة أربع وسبعين وست مائة (7).
ذكره ابن الخطيب (8) ونقله عنه صاحب الجذوة (9)، رحمنا الله وإياهم أجمعين.
__________
(1) زيادة في ح.
(2) رقاص من الرّقص وهو نوع من الخبب (اللسان: رقص) ويقصد بالرّقاص هنا الرّسول حامل الرسائل كما يعبّر عنه في العامية المغربية انظر جذوة الاقتباس 1/ 181الحاشية 242.
(3) كنية مالك بن المرحل.
(4) البيتان في الإحاطة 1/ 483وجذوة الاقتباس 1/ 181وإدراك الأماني 23/ 177.
(5) ج: المومنين.
(6) هو السلطان يوسف بن يعقوب الناصر من ملوك الدولة المرينية (706هـ) الحلل الموشية 177وجذوة الاقتباس 2/ 249547والأعلام 8/ 259258.
(7) أب ج ش: وسبع مئة، وهو غلط والتصحيح من الإحاطة 1/ 484وجذوة الاقتباس 1/ 182.
(8) الإحاطة 1/ 484.
(9) جذوة الاقتباس 1/ 182.(2/337)
129 - ابن الخطيب السلماني (1)
هو الإمام الشهير، العلّامة النحرير، الوزير الكبير، محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلمانيّ، نسبة إلى سلمان، بفتح السين وإسكان اللام، حيّ من مراد من عرب اليمن، يكنى أبا عبد الله، ويلقّب لسان الدين، قرطبيّ الأصل، وطليطليّه، ثم لوشيّه (2) ثم غرناطيّه. كان أسلافه قديما يعرفون ببني الوزير، ويعرفون حديثا بلوشة ببني الخطيب، وأبوه عبد الله، كان من أهل العلم والأدب والطبّ (3). وسعيد جدّه الأقرب كان على خلال حميدة من خطّ وتلاوة وفقه وحساب وأدب خيّرا فاضلا صدرا، ونشأ هو على حالة حسنة سالكا سبيل أسلافه فقرأ القرآن على الشيخ الوليّ الصالح أبي عبد الله العوّاد (4). ثم على أستاذ الجماعة أبي الحسن القيجاطيّ (5)، وقرأ عليه العربية.
__________
(1) (776هـ) ترجمته في الإحاطة 4/ 640438 (ترجم لنفسه) ونثير الفرائد 292242وتاريخ ابن خلدون 7/ 697689، 710707وجذوة الاقتباس 1/ 311308وأزهار الرياض 1/ 336186ونفح الطيب 5/ 6057، 6/ 5175، 7/ 4055وإدراك الأماني 6/ 139124.
(2) نسبة إلى لوشة وهي على مرحلة من غرناطة في الشمال. انظر أزهار الرياض 1/ 204.
(3) الخبر في أزهار الرياض 1/ 187ونفح الطيب 5/ 8.
(4) هو الفقيه المقرئ مجوّد القرآن بالقراءات السبع أبو عبد الله ابن عبد الولي العواد، ذكره ابن الخطيب وأثنى عليه. انظر الإحاطة 1/ 210، 4/ 458457وأزهار الرياض 1/ 187ونفح الطيب 5/ 384383.
(5) هو عليّ بن عمر بن حسين المعروف بالقيجاطيّ الأستاذ الخطيب كان يقرئ بمسجد غرناطة الأعظم الفقه والعربية والأدب والقراءات. تولى القضاء (730هـ) الإحاطة 4/ 458والكتيبة الكامنة 4037والذيباج المذهب 207، وبغية الوعاة 2/ 180ونفح الطيب 5/ 509507والأعلام 4/ 316.(2/338)
وقرأ على الخطيب أبي القاسم ابن جزيّ (1) ولازم قراءة العربية والفقه والتفسير على الشيخ الإمام أبي عبد الله ابن الفخار (2) شيخ أبي إسحاق الشاطبيّ (3)
شارح ألفية ابن مالك، وعلى الفقيه الجليل رئيس العلوم اللسانية بالأندلس أبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسنيّ (4) شارح الخزرجية (5) ومقصورة (5)
حازم المتوفى سنة إحدى وستين وسبع مائة، وعلى الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر الوادي آشي (6) المتوفى سنة تسع وأربعين (7) وسبع مائة، وعلى الإمام العلامة قاضي القضاة بحضرة الخلافة فاس المحروسة أبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر المقّريّ (8) بفتح القاف المشددة القرشيّ التلمسانيّ ثم
__________
(1) هو محمد بن أحمد بن جزي الكلبيّ فقيه حافظ له مشاركة في العربية والأصول والقراءات والأدب والتفسير، له مؤلفات في فنون مختلفة (741هـ) الكتيبة الكامنة 4846، والديباج المذهب 296295ونثير الجمان 295294ونيل الابتهاج 239238وأزهار الرياض 3/ 187184ونفح الطيب 5/ 540514.
(2) هو محمد بن علي بن الفخار الإلبيريّ عالم بالنحو والعربية وله مشاركة في الفقه والعروض والقراءات والتفسير (754هـ) الإحاطة 4/ 458والكتيبة الكامنة 7170وبغية الوعاة 1/ 175174ونفح الطيب 5/ 359355، 382378.
(3) سبق التعريف به في الصفحة 622الحاشية 2.
(4) هو القاضي العالم النحويّ الأديب، ولي ديوان الإنشاء والخطابة، له ديوان شعر سمّاه (جهد المقل) وله شروح في الأدب والنحو (760هـ) الكتيبة الكامنة 156155والمرقبة العليا 177171والديباج المذهب 291290 وكتاب الوفيات 362361وبغية الوعاة 1/ 39ونفح الطيب 5/ 199189.
(5) الخزرجية قصيدة في العروض للخزرجي. وشرح أبي القاسم يسمى (رياض الأبي في شرح قصيدة الخزرجي). ومقصورة حازم قصيدة للإمام أبي الحسن حازم بن محمد القرطاجنيّ الأندلسيّ في مدح السلطان أبي عبد الله محمد الحفصيّ، وشرح أبي القاسم عليها يسمى (رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة). وقد حققه الأخ محمد الحجوي ونال به دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب بالرباط سنة 1986. انظر المرقبة العليا 176والديباج المذهب 291290.
وأزهار الرياض 3/ 174172ونفح الطيب 5/ 189والأعلام 2/ 159 (ترجمة حازم).
(6) محدث وفقيه وشاعر أندلسيّ رحّال، وهو من شيوخ ابن خلدون وابن الخطيب (749هـ) الديباج المذهب 313311ونفح الطيب 5/ 202200والأعلام 6/ 68.
(7) أب ج ش: وسبعين، وهو غلط، والتصحيح من الديباج المذهب 313ونفح الطيب 5/ 202والأعلام 6/ 68.
(8) فقيه من علماء المالكية وأديب متصوّف (758هـ) الإحاطة 2/ 226191ونفح الطيب 5/ 350203 والأعلام 7/ 37(2/339)
الفاسي جد الشيخ أبي العباس المقّري مؤلف نفح الطيب، وتأدّب بالرئيس أبي الحسن ابن الجياب (1) وأخذ الطبّ والتعاليم، وصناعة التعديل (2) عن الإمام أبي زكرياء يحيى بن هذيل (3)، ولازمه، وعن غيرهم ممّن يطول ذكره.
كان رحمه الله وحيد دهره، وفريد عصره أدبا وشعرا وكتابة وطبا ومعرفة بالعلوم على اختلاف أنواعها حسن الفكاهة مليح النادرة، عارفا بأحوال الملوك، سريع الجواب حاضر الذّهن، فممّا يؤثر عنه في حضور الجواب ما حكاه عن نفسه، قال (4): حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان (5) في بعض وفاداتي عليه، وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما اعتقدته في إطراء ذلك العدوّ وما عرفته من فضله فأنكر عليّ بعض الحاضرين، فصرفت وجهي وقلت: أيّدكم الله تحقير عدوّ السّلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء، بل غير ذلك أحقّ وأولى، فإن كان السلطان غالب عدوّه، كان قد غلب غير صغير وهو الأولى بنخوته، وجلالة قدره، وإن غلبه العدوّ، لم يغلبه صغير، فيكون أشدّ للحسرة وآكد للفضيحة، فوافق السلطان رحمه الله (6) [تعالى] على ذلك واستحسنه، وشكرني عليه، وخجل المعترض.
__________
(1) هو عليّ بن محمد بن علي بن الجياب الأنصاريّ الغرناطي ذو الوزارتين وهو كاتب شاعر، وهو شيخ طلبة الأندلس وإمام في الفرائض والحساب والبلاغة والأدب (749هـ) الكتيبة الكامنة 193183والإحاطة 4/ 152125 والديباج المذهب 208207ونثير الجمان 242239ونيل الابتهاج 205204ونفح الطيب 5/ 464434.
(2) صناعة التعديل فن من فنون علم الفلك. ويقصد به معرفة حال الحركات السماوية انظر منهاج الطالب 217، 236 والنجم الوهاج 197وتقاييد على منهاج الطالب 331. وموسوعة اصطلاحات العلوم 4/ 10231018.
(3) هو يحيى بن أحمد بن هذيل التجيبيّ، شاعر وطبيب من أهل غرناطة له مشاركة في الفلسفة والحساب والهندسة والنجوم والأصول والأدب (753هـ) الإحاطة 4/ 401390ونثير الفرائد 323320ونفح الطيب 5/ 497487والأعلام 8/ 136.
(4) الخبر في أزهار الرياض 1/ 287ونفح الطيب 5/ 8079.
(5) هو فارس بن علي، أحد ملوك بنى مرين المشهورين (759هـ) الحلل الموشية 179وجذوة الاقتباس 2/ 510508والأعلام 5/ 127.
(6) زيادة في ج.(2/340)
ولد في الخامس والعشرين من شهر رجب الفرد الحرام عام ثلاثة عشر وسبع مائة، وقتل خنقا في أوائل سنة ست وسبعين وسبع مائة في خبر طويل ذكره قاضي القضاة ابن خلدون (1) وغيره، ولله الأمر من قبل ومن بعد، لا إله إلا هو، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ودفن خارج باب الشريعة (2) أحد أبواب محروسة (3) فاس، وقبره هناك مشهور، فرحمه الله وأرضاه وبوّأه من الفردوس الأعلى أعلاه بمنّه وفضله.
وله محاسن كثيرة منها قوله، وأنشده في كتابه الموسوم بالصّيّب والجهام (4):
(الطويل)
أشارت غداة البين من خلل السّجف ... بناظرتي ريم وسالفتي خشف
وأبصرت التّوديع حقّا فلم تطق ... غداتئذ كتما لبعض الذي تخفي
أماطت عن الخدّ اللّثام فأطلعت ... هلالا على غصن، وغصنا على حقف
وقالت لأتراب لها قمن دونها ... فقائلة سحّي وقائلة كفّي
أخلّاي، هل طعم أمرّ من النّوى ... وأفظع خطبا من مفارقة الإلف
ولم تك إلّا ساعة وتسنّمت ... ظهور المطايا كلّ فاتنة الطّرف
ودارت على الرّكب الصّوارم والقنا ... وجرد المذاكي من أمام ومن خلف (5)
__________
(1) تاريخ ابن خلدون 7/ 710707والخبر في أزهار الرياض 1/ 229ونفح الطيب 5/ 110.
(2) نفح الطيب 5/ 156: = وهو يسمى الآن باب المحروق =.
(3) ج: مدينة فاس.
(4) أول قصيدة في مدح السلطان أبي الحجاج يوسف في يوم النوروز، وهي في الصّيّب والجهام 628624وفي شعره 513511.
السالفتان: جانبا العنق. (اللسان: سلف).
(5) المذاكي: الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان أي أنها تجاوزت الخامسة من عمرها. (اللسان: ذكا، قرح)(2/341)
أمالوا السّرى قصد العراق وأزمعوا ... على مهمه تسفي به الرّيح ما تسفي
ودلّ عليهم من تخلّف منهم ... بما أودعوا، طيب النسيم من العرف
فلا عهد إلّا بالخيال وبالمنى ... ولا وصل إلّا بالرّسائل والصّحف
بكيت دما حتى توهّم صاحبي ... بأنّي غداة البين أرعف من طرفي
وكم رمت أن يجدي البكاء فلم يكن ... ليجدي ورجّعت الحنين فلم يشف
أيا قاتل الله الغواني فإنّما ... طلاب الرّدى وقف على ربّة الوقف (1)
تغادر ذا الجأش القويّ جفونها ... ضعيف انتصار وهي بيّنة الضعف
إذا ما غرسن الورد في روضة الهوى ... جنيت على أغصانه ثمر الخلف
ترى من أحلّ الغدر وهو محرّم ... وحرّم غضّ الأقحوان على الرّشف!
سأصرف عن قلبي مساعدة الهوى ... فقد كان في حولين من ذاك ما يكفي
وأذهب من صبري إلى كلّ مذهب ... وكلّ كريم لا يقيم على خسف
وأفزع من دهري إلى ظلّ يوسف ... فلله من ركن منيع ومن كهف
زجرت القوافي والمطايا شواردا ... إلى واحد في الرّوع يغني عن الألف
وقور إذا الأبطال طاشت حلومها ... وأقدم في الهيجاء صفّ إلى صفّ
إذا ذكر الأملاك يوما فيوسف ... لما شئت من جود وما شئت من عطف (2)
وبالسّيف سفّاح وبالهدى مهتد ... وبالرّعب منصور، وبالله مستكفي
__________
(1) الوقف هنا هو الخلخال والسّوار المصنوع من الفضة أو العاج (اللسان وقف).
(2) هو يوسف بن إسماعيل أبو الحجاج النّصريّ سابع ملوك بني نصر في الأندلس (755هـ) الإحاطة 4/ 438318والأعلام 8/ 217.
سفاح، مهتد، منصور، مستكفي: يوري الشاعر هنا ببعض الخلفاء العباسيين فالسّفاح هو أبو العباس عبد الله بن محمد أول خلفاء بني العباس انظر أول الباب التاسع فيما ياتي، والمهتدي هو محمد بن هارون الواثق انظر أواسط الباب التاسع، والمنصور هو أبو جعفر عبد الله ثاني خلفاء بني العباس انظر أول الباب التاسع والمستكفى هو أبو القاسم عبد الله بن علي تولى الخلافة بعد المتّقي لله إبراهيم بن المقتدر انظر أواخر الباب التاسع وانظر شعر بن الخطيب 512الحاشية 7.(2/342)
هو الدّهر لكن عدله وسماحه ... يردّ صروف الدّهر راغمة الأنف
هو البدر إلّا أنّه، الدّهر، كامل ... إذا عيب نور البدر بالنّقص والخسف
من العرب الشّمّ الأنوف إذا احتبوا ... تبوّأت في جار مجير وفي حلف (1)
كرام إذا ما الغيث في الأرض لم يكف ... بصوب حيا كانت أكفّهم تكفي
فإن حملوا أفنوا أو استصرخوا حموا ... وإن بذلوا أغنوا عن الدّيم الوطف
وإن مدحوا اهتزّوا كما هزّت الصّبا ... على كلّ ممطور من البان ملتفّ
لعمري لئن هاجت عزائمك العدى ... كما بحثت عن حتفها ربّة الظّلف (2)
وغرّتهم الحرب السّجال وقلّما ... يدلّ غرور القول إلّا على الحتف
فقد آن أخذ الدّين منهم بثأره ... وما كان جفن الدّهر في مثلها يغفي
ودون مهبّ العزم كلّ مهنّد ... وخطّيّة سمر وفضفاضة زغف (3)
وأسد غضاب إن تذكّرن يومها ... عضضن بأطراف البنان من اللهف
أمولاي زارتك القوافي كأنّها ... هديّ تهادتها القيان إلى الزّفّ
عليها عقود من ثنائك نظّمت ... مناسبة التّأليف محكمة الرّصف
أتاك بها النّوروز معترفا بما ... لملكك فيه من نوال ومن عرف
فهنّيته والدّهر طوعك والمنى ... توافي بما تهواه ضعفا على ضعف
تمهّدت الدّنيا بملكك بعد ما ... أقامت زمانا لا تقرّ من الرّجف
ورضت صعاب الدّهر وهي شوامس ... فذلّلتها من غير جهد ولا عنف
__________
(1) ج: اجتبوا، وهو غلط.
(2) يشير إلى المثل المشهور: = كالباحثة عن حتفها بظلفها = وأصله أن رجلا وجد شاة فأراد ذبحها، فلم يظفر بسكين، وكانت مربوطة، فلم تزل تبحث برجليها حتى أبرزت سكينا كانت مدفونة فذبحها بها، المستقصى 2/ 207.
(3) أب ج ش هـ و: زعف، وهو غلط، والتصحيح من الديوان. الزّغف: الدّرع المحكمة الطويلة، وقيل اللّيّنة. الهديّ:
العروس (اللسان: زغف، هدى).(2/343)
وكم صرف التّأميل نحوك آمل ... فصيّرته بالعدل ممتنع الصّرف (1)
وكم من يد أوليتنيها كريمة ... يقلّ لها نظمي ويعيا لها وصفي (2)
فأسبابك الوثقى وصلت بها يدي ... ونعمتك الكبرى وصلت بها كفّي
فإن أنا لم أمحضك منّي بخالص ... من الودّ صاف في قرارته صرف
وآت بحرّ المدح فيك لغاية ... ترى دونها الأبصار حاسرة الطّرف (3)
فلا صاغ معنى يستضاء بنوره ... جناني ولا خطّت بناني في حرف (4)
وهذه القصيدة قالها يمدح بها أمير المسلمين (5) بالأندلس أبا الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرح بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الأنصاريّ الخزرجيّ ويهنّيه بيوم نوروز (6)
ومن محاسنه أيضا قوله (7) مادحا للسلطان المذكور ومهنّيا له: (تام البسيط)
زارت ونجم الدّجى يشكو من الأرق ... والزّهر سابحة في لجّة الأفق
والليل من روعة الإصباح في دهش ... قد شاب مفرقه من شدّة الفرق
وأوشكت أن تضلّ القصد زائرة ... لولا أتتني في باق من الرّمق
قالت: تناسيت عهد الحبّ قلت لها: ... لا، والذي {«خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ»} (8)
__________
(1) ممتنع الصّرف: يقصد أنه يصبح غير محتاج لأحد، والشاعر يوري بمصطلح الصرف في النحو انظر شعره 513الحاشية 7.
(2) و: ويعيا له. (له) غلط. الديوان وشعره: ويعيا بها.
(3) ج: حاشرة، وهو غلط.
(4) أب ج ش هـ و: لنوره وهو غلط، والتصحيح من الديوان.
(5) ج: المومنين.
(6) ج: نيروز.
(7) ب ج هـ و: = ما أنشده في الكتاب المذكور = وقد وردت هذه العبارة في (أ) ثم شطّب عليها وكتب عوضها = قوله = ثم كتب ما شطّب عليه بعد ذلك.
والقصيدة في ديوانه 639634وما عدا البيت الثامن عشر في شعره 524521.
(8) سورة العلق 96/ 2.(2/344)
ما كان قطّ تناسي العهد من شيمي ... ولا السّلوّ عن الأحباب من خلقي
ولا ترّحلت عن مغناك من ملل ... قد يترك الماء يوما خيفة الشّرق
كم ليلة بتّها والطّيف يشهد لي ... لم تطعم النّوم أجفاني ولم تدق
أشكو إلى النّجم وهنا ما أكابده ... حتّى شكا النّجم من وجدي ومن قلقي
يا لائميّ أفيقا من ملامكما ... فإنّني مذ سقيت الحبّ لم أفق
هل تذكران ليالينا وقد نفحت ... ريح الصّبا في رياض للصّبا العبق
وإذ نعمنا برغم الدّهر فيه وقد ... عضّ الأنامل من غيظ ومن حنق
بكلّ ساحرة الألباب آيتها ... أن تطلع الشّمس في جنح من الغسق
تنازع الغصن لدنا في تأوّده ... وتخصم الرّيم في الألحاظ والعنق
والرّوض يجلو عذاريه وقد لبست ... عقائل الورق ديباجا من الورق (1)
كأنّما الغصن فيه شارب ثمل ... بكأس مصطبح في الأنس مغتبق
فكلّما ارتاح هزّ العطف من طرب ... وجاد زهوا بمنثور من الورق (2)
كأنّما الدّوح، والأغصان جائلة ... قد جادها كلّ جهم الغيم مندفق
أحبّة راعها والشّمل منتظم ... داعي الوداع فمن باك ومعتنق
كأنّما الطّلّ إذ طلّ الشقيق به ... خدّ بصفحته رشح من العرق
همّت ثغور الأقاحي أن تقبّله ... فللبنفسج وجه الواجم الحنق
كأنّ أوراقه والرّيح تعطفها ... سواعد رفعت خضرا من الدّرق (3)
كأنّما الآس آذان الجياد وقد ... شعرن بالرّوع في قفر من الطّرق
__________
(1) هـ ش: عذاره. أب ج و: عذاراه، وهو غلط، والتصحيح من شعره.
(2) ج ش: وزاد زهوا.
(3) الدّرق جمع درقة وهي ضرب من التّرسة تتّخذ من الجلود (اللسان: درق).(2/345)
كأنّما النّهر في أثنائه أفق ... والورد في الشّطّ منه حمرة الشّفق
أو سيف يوسف يوم الرّوع سال به ... نجيع أعدائه المحمرّ في الزّرق
إمام عدل يحبّ الله سيرته ... عفّ الغيوب كريم الخلق والخلق
أقام للدّين قسطاسا فأمّنه ... ما سامه الجور من بخس ومن رهق
وعمّ بالرّفق هذا القطر فابتدرت ... تنمي مآثره جوّابة الأفق
أقول للرّاكب المزجي مطيّته ... يحثّها السّير بين النّصّ والعنق (1)
يا زاجر العيس أنضاء مضمّرة ... كأنّها أسهم يمرقن عن فوق
أهلّة ما لها عهد بمنزلة ... من كلّ منخسف الجثمان منمحق
أرح ركابك قد أوردت في نهل ... وقد ظفرت بحبل الله فاعتلق
حللت بالمنزل المجلوّ نائله ... بباب ملك لباب البرّ مستبق
نمته أملاك صدق بل ملائكة ... من كلّ محتزم بالحزم منتطق
آثارهم في سماء الملك لائحة ... تهدي، وذكرهم مسك لمنتشق
وحلّ من محتد الأنصار منتسبا ... في معشر صبر عند الوغى صدق
حزب النبيّ الألى إن روعة دهمت ... ملء الفضا لم تهن ذرعا ولم تضق
يا قائد الخيل تردي في أعنّتها ... هزل الأباطن والأنساء والصّفق (2)
من كلّ أحمر ورديّ تنازعه ... ظباء وجرة في الألوان والخلق
وأشهب في سماء النّقع مخترق ... كأنّه قاذف يهوي لمسترق (3)
__________
(1) المزجي مطيّته أي الذي يسوقها. والنّصّ: ضرب من السّير شديد وسريع. العنق: ضرب من السّير مسبطرّ. والفوق من السّهم: موضع الوتر. (اللسان: زجا، عنق، فوق، نصص).
(2) تردي الخيل أي تعدو وتسرع. الأنساء جمع نسا وهو عرق من الورك إلى الكعب. والصّفق جمع صفاق، وهو الجلد الأسفل الذي دون الجلد الذي يسلخ. (اللسان: ردى، صفق، نسا) ويقصد أنّ هذه الخيل السريعة هزّل في موضع الأنساء والصّفق، وذلك كناية عن سرعتها وجودتها.
(3) قاذف بمعنى مقذوف أي كأنّه شهاب مقذوف على الشياطين التي تسترق السّمع، وفي ذلك إشارة إلى قوله تعالى: {= إِلََّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهََابٌ مُبِينٌ =} سورة الحجر 15/ 18. اليقق: الشديد البياض ناصعه. (اللسان: يقق).(2/346)
وأدهم اللّون إن أبداك غرّته ... تخال زنجيّة تفترّ عن يقق
كأنّه وهو بالظّلماء مشتمل ... خاضت قوائمه نهرا من الفلق
وأبلق شغفت حور العيون به ... كأنّما عطفتها نسبة الحدق
تشارك اللّيل في إحكام صنعته ... واليوم، واتّفقا فيه على البلق
أنت الذي خاصمت فيك السّيوف إلى ... أن خلّص الحقّ رهن الملك من غلق
قد عاودت دولة الإسلام جدّتها ... والكفر مشتمل بالواهن الخلق
فأقلق البيض واهزز كلّ غالبة ... فالدّين في مرح والكفر في وهق (1)
حتّى إذا الرّوم رامت فرصة ونزا ... يوما منافقها الأشقى عن النّفق
فاهزز برعبك قبل الجيش ما جمعوا ... واضرب بسعدك قبل الصّارم الذّلق
واستقبل الفتح والنّصر الذي نطقت ... آثاره بصحيح غير مختلق
وإن شكت مرهفات البيض من ظمإ ... فسقّها عللا صرفا من العلق (2)
وإن هم جنحوا للسّلم واعتلقوا ... منها بمستحكم الأسباب والعلق
فاجنح لها بكتاب الله مقتديا ... إذ ذاك واستبق فلّا من ظباك بقي
واهنأ بقابل أعياد مواسمها ... منظومة ككعوب الرّمح في نسق
في ظلّ مملكة من دون ساحتها ... ردء من الله يحمي حوزها ويقي
مولاي دونكها عقدا فرائده ... تزهي بمنتظم الإبداع متّسق
يودّها الدّوح في أغصانه زهرا ... غضّا وتحسدها دارين في العبق (3)
__________
(1) الوهق حبل في أحد طرفيه أنشوطة. نزا: وثب. النّفق: السّرب في الأرض (اللسان: نزا، نفق، وهق) ويقصد أن منافق الرّوم كان مختبئا فلما وجد الفرصة وثب من نفقه يريد الهجوم.
(2) العلق: الدّم، وقيل الدم الغليظ الجامد. والعلق: ما يتعلّق به ويمسك به (اللسان: علق).
= فاجنح لها = من قوله تعالى: {= وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ =} سورة الأنفال 8/ 61. الفلّ:
المنهزمون. (اللسان: فلل).
(3) دارين اسم مرفأ بالبحرين ترسو فيه السفن القادمة من الهند بأنواع الطيّب، فيقال مسك دارين وطيب دارين. معجم ما استعجم 2/ 538ومعجم البلدان 2/ 432.
الطّلق: الشّوط والغاية التي يجرى إليها الفرس. اللّحق من النّاس: قوم يلحقون بقوم بعد مضيّهم. (اللسان: طلق، لحق).(2/347)
يزري بطيب أواليها أواخرها ... كذلك السّبق يبدو آخر الطّلق
لو جئت في حلبة العرب التي سبقت ... ما كنت في القوم إلّا حائز السّبق
وإن تأخّر بي عن جيلهم زمني ... فربّما جاء معنى الصّبح في اللّحق
والعقل كالبحر إن هالتك هيبته ... فالشّعر يسبر منه منتهى العمق
فإن وفيت بمعنى المدح فهو جنى ... روض بإنعامك السّحّ الغمام سقي
وإن عجزت فعن عذر وثقت به ... من رام عدّ الحصا والقطر لم يطق
وإن وفيت ببعض القصد ربّتما ... يكفي من العقد ما قد حفّ بالعنق (1)
ومن محاسنه أيضا قوله يستدعي إلى مجلس أنس، وأنشده في الكتاب المذكور (2): (الطويل)
هلّم فجفن الدّهر قد لاذ بالغمض ... وأمكن ميدان التّصابي من الرّكض
إلى مجلس حيّى مقاصيره الحيا ... وراح به الرّيحان في الطّول والعرض
ويوم كأخلاق الصّبيّ إذا بكى ... حبته من الصّحو السّماء بما يرضي
فيضحك أحيانا ويعبس تارة ... فمن ضحك ياتي ومن عبرة تمضي
وروض دنت للهاصرين قطافها ... فكان كلام القوم بعضا إلى بعض
أهذي التي كنّا وعدنا بنيلها ... وجنّة عدن في السّماء أم الأرض
كأنّ الصّبا جاءت تخبّر قضبها ... سحيرا بأنّ الوقت ضاق عن الفرض
فأسرعت الأغصان تبتدر الثّرى ... وتعمر باقى الوقت منه بما تقضي (3)
وسالت دموع الطّلّ عند سجودها ... كما بكت العباد من خشية العرض (4)
__________
(1) ج: ببعض القول.
(2) القصيدة في ديوانه 606605وما عدا البيت السادس عشر في شعره 487486.
(3) ج: منها، وهو غلط.
(4) العرض: يقصد به يوم الحشر.(2/348)
ونامت جفون النّرجس الغضّ بينها ... كأنّ خطيب الطّير قال لها: غضّي
فمن أبيض كالدّرّ حفّ بأصفر ... هناك ومصفرّ يحفّ بمبيضّ
ترى النّحل في أثنائهنّ كأنّها ... صيارف عاشت في الدّراهم بالقرض
ومرضعة طفلا من العود ثديها ... ولا درّ إلّا الدّرّ من أدب محض
كأنّ أباه الدّوح ورّد خدّها ... بما جاده النّيسان من ورده الغضّ (1)
وتطلب أحيانا بفرض رضاعه ... فيبتزّ من تلك الدّراهم بالفرض
إذا لمسته بالبنان تخالها ... طبيبا من الحذّاق جسّ على نبض
وتدني إليه السّمع تصغي كأنّه ... يحقّق قدر البسط فيه من القبض
وراح إذا ناجيت في الكأس روحها ... رأيت اتّصال الرّوح بالعالم الأرضي
إذا طلعت مفترّة في سعودها ... تبشّر أحكام السّرور بما تقضي
إذا سمح الدّهر الضّنين بساعة ... فعضّ عليها جاهدا أيّما عضّ (2)
فإن لم يساعدك الزّمان فإنّما ... وجودك في الأيام كالعدم المحض
ومن محاسنه أيضا ما كتب به، وهو بالمحلة، وأنشده في الكتاب المذكور (3): (الطويل)
سلوا عن فؤادي بعدكم كيف حاله ... وقد قوّضت عند الصّباح رحاله
ولا تحسبوا أنّي سلوت على النّوى ... فسلوان قلبي في هواكم محاله
وما حال من شطّت بغرب دياره ... وفي الشّرق أهلوه، وثمّ حلاله
ولكنّني وطّنت نفسي، وإنّها ... سجيّة من طابت وجلّت خلاله
__________
(1) النيسان هو شهر إبريل، ويقصد أن نيسان ورّد خدّها، وهو يشير بذلك إلى تفتح الأنوار والزّهور في شهر إبريل، وهو من شهور الربيع.
(2) ج: فغض، وهو غلط.
(3) القصيدة في ديوانه 574572وما عدا البيت الثالث والعشرين في شعره 371329ومنها بيت في نفح الطيب 6/ 494.(2/349)
وعلّلت نفسي باللّقاء فإنّني ... لآمل فضل الله جلّ جلاله
وما الحرّ إلّا من يعاني ضرورة ... فيبدو عليها صبره واحتماله
سجيّة آباء كرام ورثتها ... بحقّ، ويبني المجد للمرء آله
توارثت عزّ الملك عن كلّ ماجد ... سما في المعالي بأسه ونواله
صهيل الجياد الصّافنات غناؤه ... وتحت البنود الخافقات ظلاله (1)
سل الدّهر عن أبناء نصر وإن تشأ ... فسل عنهم الدّين الذي هم رجاله
عسى جبل الفتح الذي بجنابه ... حللت بقرب الفتح يصدق فاله (2)
نسائل أنفاس النّسيم إذا سرى ... عسى خبرا عنكم تؤدّي شماله
ونرجو مزار الطّيف في سنة الكرى ... ومن لي بنوم فيه يسري خياله
بنفسي غزال قد غزتني لحاظه ... وتيّم قلبي حسنه وجماله
هو البدر والجوزاء قرط معسجد ... وجنح اللّيالي فرعه ودلاله
تقرّبه الأوهام منّي وإن نأت ... منازله عنّي وعزّ مناله
وأسأل عن أخباره كلّ وارد ... فيا ليت شعري كيف عنّي سؤاله
ألا في سبيل الله قلب مقلّب ... على البعد لا يخلو من الوجد باله
وبالجانب الشّرقىّ سرب من الدّمى ... بغير الكرى ما إن يصاد غزاله
تقنّصت منه ظبية الأنس فانثنت ... رهينة حبّ أوثقتها حباله
أفاتكة اللّحظ الذي بجوانحي ... على غرّة منها استقرّت نباله (3)
يطيع الورى ملكي امتثالا لأمره ... وأمرك مكتوب عليّ امتثاله
__________
(1) الصافن من الخيل القائم على ثلاث قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر. (اللسان: صفن).
(2) جبل الفتح: هو الصّخرة المقابلة لمدينة سبتة وطنجة على الضّفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط وهو معروف بجبل طارق. انظر الإحاطة 1/ 148، 194وتاريخ ابن خلدون 4/ 363، 379والموسوعة المغربية (معلمة المدن) 167.
(3) أب ج ش هـ و: عزة، وهو غلط والتصحيح من الديوان.(2/350)
لئن غبت عنّي فشخصك حاضر ... يلازم فكري شكله ومثاله
وإن نقّلت عنك اللّيالى ركائبي ... فؤادي فشيء ليس يخفى انتقاله
إذا ما حدت ريح الزّفير مدامعي ... تسحّ فتروى، من دموعي، رماله
وتالله ما اعتلّ الأصيل وإنّما ... تعلّم من شجوي فبان اعتلاله
تذكّرت ليلا بالحبيب قطعته ... وشملي على كلّ الأماني اشتماله
تحيّر فيه الفجر أين طريقه ... وفوق ذراعي بدره وهلاله
وعاطيته من خمره ورضابه ... شرابا به منه عليه انتقاله
وعانقت منه الغصن مالت يد الصّبا ... به فسباني لينه واعتداله
ترى! هل يعود الشّمل كيف عهدته؟ ... ويبلغ قلبي ما اشتهى ويناله
سقى الله من غرناطة متبوّءا ... غماما يروّي ساحتيها سجاله
وربعا بحمراء المدينة آهلا ... أميطت على بدر السّماء حجاله (1)
وغابا به للملك أشبال ضيغم ... يروع الأعادي بأسه وصياله
لئن هاجني شوق إليها مبرّح ... إذا شمت برق الشّرق شبّ ذباله
فكم لي على الوادي بها من عشيّة ... يقلّ لها ذكر الفتى ومقاله (2)
عسى الله يدني ساعة الفرج التي ... بها يتسرّى عن فؤادي خباله
صرفت إلى الله الرّجاء ضراعة ... وما خاب يوما من عليه اتّكاله
ومنها قوله، وقد أنشده في الكتاب المذكور (3): (الطويل)
إذا أنا لم أوثر هواي على عزمي ... فنفسي في طوعي وأمري في حكمي
__________
(1) حمراء غرناطة هي دار الملك لبني الأحمر انظر الإحاطة 1/ 38، 178، 560، وأزهار الرياض 1/ 62، 202، 207.
(2) لعله يقصد وادي شنيل وهو النّهر الذي تقع عليه غرناطة انظر الإحاطة 1/ 124.
(3) قصيدة أنشدها في عيد المولد النبوي الشريف وهي في ديوانه 578575، وشعره 405403.(2/351)
وإن أنا أرجأت الأمور إلى غد ... طعنت بغرب العجز في ثغرة الحزم
وإنّ أحقّ النّاس باللّوم لامرؤ ... يضلّ طريق الرّشد وهو على علم
كتمت اشتياقي، والنّحول ينمّ بي ... كأنّي أحلت الكتم منّي على جسمي
وقلت لجفني إن دعيت لعبرة ... فساعد بها، مطل الغنيّ من الظّلم (1)
ولم لا؟ وقد حلّ الرّكاب بيثرب ... وبؤت بشحط الدّار منها على رغم
تذامر أقوام إليها وضمّروا ... مخيّسة تهوي بأجنحة العزم (2)
وقام خضمّ الماء دون مرامهم ... فلم يحفلوا منه بهول ولا لطم
إذا النّفس أبدت فيه ظنّا بحسمه ... تقول لها الأشواق: ألقه في اليمّ
فما كان إلّا أن أتوا معهد الهدى ... وشيكا كما أغفيت في سنة الحلم
وفازوا بما حازوا كراما فإنّما ... زيارة خير الخلق من أعظم الغنم
كأنّي بقومي حين حلّوا حلالها ... وأعينهم، إذ ذاك، أجفانها تهمي
يكبّون للأذقان في عرصاتها ... سلاما وتقبيلا على ذلك الرّسم
فيعفى عن الأوزار في ذلك الحمى ... وتغتفر الآثام في ذلك اللّثم
فلله درّ القوم فيها وقد غدوا ... ضيوفا بمثوى سيّد العرب والعجم
أقام لهم حيّا أمانا من الرّدى ... وقام مقام الغيث في شدّة الأزم
وحلّوا به ميتا فكان قراهم ... خفارة ذي روع وتأمين ذي جرم
رسول أتى حكم الكتاب بمدحه ... وأثنى عليه الله بالصّدق والحلم
أحبّ من المحيا وأجدى من الحيا ... وأهدى لمن ضلّ السبيل من النّجم
قريع صميم المجد في آل هاشم ... أولي النّسمات الغرّ والآنف الشّمّ (3)
__________
(1) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم = مطل الغنيّ ظلم = انظر سنن ابن ماجة 2/ 803
(2) تذامر القوم: تحاضّوا أو حثّ بعضهم بعضا. خيّس الدابة فهي مخيّسة أي راضها وذلّلها بالرّكوب. (اللسان: خيس، ذمر) ألقه في اليمّ: من قوله تعالى {= فَإِذََا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَلََا تَخََافِي وَلََا تَحْزَنِي =} سورة القصص 28/ 7.
(3) الآنف جمع أنف وهو المنخر. (اللسان: انف).(2/352)
أتى، رحمة، والنّاس في مدلهمّة ... يروحون في غيّ ويغدون في إثم
فصدّق من قادته سابقة الهدى ... وساعده الإسعاد في سالف الحكم
وصدّ عن الآيات من سبقت له ... شقاوته في سابق القدر الحتم
وأعجز من أعمى الضلال يقينه ... عمى، قد تحدّى من معاجزه العقم
فروّى لهام الجيش منه بأنمل ... جرى الماء في أثنائها سائغ الطّعم (1)
ولمّا دعا بالبدر شقّ لحينه ... وأقبل منه الشّقّ يهوي إلى الكمّ
وكلّمه ضبّ الفلاة مخاطبا ... ومستفهما في القول تكليم ذي فهم
وخاطبه الصّخر الجماد محدّثا ... وحذّره ما في الذّراع من السّمّ
وفي الختم منه للنّبيّين آية ... رأينا بها معنى البداية في الختم
سرى نوره في أوجه نبويّة ... مقدّسة ينميه أكرم من ينمي
ولم تشك ثقل الحمل آمنة الرّضى ... ولا دهيت منه بكرب ولا غمّ
وفي ليلة الميلاد منه بدت لها ... شواهد لم تخطر لنفس ولا وهم
وبشّرها الأملاك أنّ وليدها ... إمام النّبيئين الكرام أولي العزم (2)
إلى أن تفرّى الليل عن نور وجهه ... كما شفّ سحب عن سنا قمر تمّ
فخرّت له الأصنام صرعى وزلزلت ... بمكّتها أجرام أجبالها الشّمّ
فرام استراق السّمع رائد عائف ... من الجنّ فانقضّت له شهب الرّجم (3)
__________
(1) جيش لهام: كثير. (اللسان: لهم)
وفي البيت إشارة إلى معجزة النبي صلى الله عليه وسلم عندما جرى الماء من بين أصابعه، فسقى الجيش لما أصابه الظمأ. انظر الفتح الرباني 22/ 5453.
وفي الأبيات التالية إشارات إلى بعض معجزات الرسول الأخرى. انظر عن انشقاق القمر: الفتح الرباني 18/ 290289، 20/ 222، 22/ 43، وعن تسليم الصخر على الرسول انظر الفتح الرباني 22/ 48 والجامع الصحيح 5/ 593وعن الذراع المسموم انظر الفتح الرباني 21/ 124123.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {= فَاصْبِرْ كَمََا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ =} سورة الأحقاف 46/ 35.
(3) استراق السمع: انظر الصفحة 649الحاشية 3. والعائف: المتكهّن. شقّ: اسم كاهن من كهان العرب في الجاهلية.
(اللسان: شقق، عيف).(2/353)
وإيوان كسرى أسرعت شرفاته ... وقد عاينت ما عاينته إلى الهدم
وأخبر شقّ أنّ في الأرض عندها ... طلوع نبيّ طاهر الأب والأمّ
رسول من الرحمن يدعو إلى الهدى ... ويدعو إلى دار السّلامة والسّلم
فلله منها ليلة بركاتها ... سحائبها تنهلّ بالنّعم العمّ
أشاد أمير المومنين بفضلها ... فأحيا سبيلا دارسا لأولي العلم
وآثر تقوى الله منها فلم يكن ... بمشتغل عنها بزير ولا بمّ (1)
تقيّ حذا حذو الخلائف واقتدى ... بهم مثل ما خطّ الكتاب على الرّسم
إذا همّ أمضى عزمه، وإذا سطا ... فلا عدّة تغني ولا عدّة تحمي
وإن جدّ يوما لم يبت دون غاية ... وإن جاد ما ذو العصر يوما بمهتمّ (2)
وإن طلب الصّعب الممنّع ناله ... بمدركه الأقصى ومنزله العصم
إذا ما دجا روع فغرّة يوسف ... تضيء بها الآفاق في الحادث الجهم (3)
وإن زمن يوما عرته زمانة ... فراحته برء الزّمان من السّقم
فيا ناصر الإسلام دم في حلى العلى ... وجارك في أمن وقطرك في سلم
ولا برحت آثارك الغرّ تكتسي ... بدائع ممّا صاغ في رصفها نظمي
وإنّي بنعماك التي ملأت يدي ... فأصبحت من إحسانها وافر القسم
لأخلق من جفني المسهّد بالكرى ... وأليق بالسّرّ المصون من الكتم
__________
(1) أب ش هـ و: بزور، وهو غلط والتصحيح من ج. حاشية أهـ: أسماء أوتار العود (والإشارة إلى = زير = و = بم =) الزير من الأوتار: الدقيق، وما استحكم فتله. البمّ: الوتر الغليظ من أوتار المزهر. (اللسان: بمم، زور).
(2) العصر: المطر. (اللسان: عصر) ويقصد بالعصر الجود والسخاء.
(3) يوسف هو الممدوح أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل الأنصاري وهو أمير المسلمين بالأندلس وهو سابع ملوك بني نصر (755هـ) الإحاطة 4/ 438318والأعلام 8/ 217.(2/354)
ومنها ما كتبه في صدر رسالة لبعض أصحابه يستدعي المزيد من آدابه، وقد أثبتها برمتّها في الكتاب المذكور (1): (الطويل)
دعوتك للودّ الذي جنباته ... تداعت مبانيها وهمّت بأن تهي
وقلت لعهد الوصل والقرب بعد ما ... تناءى: أأسلو عن حياتي وأنت هي؟
ومن شام من جوّ الشبيبة بارقا ... ولم تنهه عن النّهى كيف ينتهي؟
ومنها ما كتبه مخاطبا لكافة المسلمين بالمغرب عن أهل الأندلس عند كلب العدوّ الكفور، وظهوره على بعض الثغور، وأوردها بجملتها في الكتاب المذكور (2):
(الطويل)
أإخواننا لا تنسوا الفضل والعطفا ... فقد كاد نور الله بالكفر أن يطفا
وإذ بلغ الماء الزّبى فتداركوا ... فقد بسط الدّين الحنيف لكم كفّا (3)
تحكّم في سكّان أندلس العدى ... فلهفا على الإسلام ما بينهم لهفا!
وقد مزجت أمواهها بدمائها ... فإن ظمئت لا ريّ إلّا الرّدى صرفا
وجاست جيوش الكفر بين خلالها ... فلا حافرا أبقت عليها ولا ظلفا (4)
أنوما وإغفاءا على سنة الكرى ... وما نام طرف في حماها ولا أغفى
أحاط بنا الأعداء من كلّ جانب ... فلا وزرا عنهم وجدنا ولا كهفا
__________
(1) الأبيات في ديوانه 656وشعره 561ونثير فرائد (الجمان 251وأزهار الرياض 1/ 304303ونفح الطيب 2/ 498.
وهى الشيء ووهي يهي: ضعف. (اللسان: وهي)
(2) القصيدة في استنفار أهل المغرب لنصرة أهل الأندلس وهي في شعره 515514وما عدا البيت الرابع في ديوانه 630628.
(3) بلغ الماء الزّبى من المثل العربي المشهور: بلغ السّيل الزّبى، يضرب لما جاوز الحدّ. والزّبى جمع زبية وهي حفرة تحفر للأسد. وأصلها الرابية لا يعلوها الماء، فإذا بلغها السّيل كان جارفا مجحفا. انظر مجمع الأمثال 1/ 91.
(4) هـ: الكافرين.
فلا حافرا ولا ظلفا: الحافر من الدواب يكون للخيل والبغال والحمير. والظّلف: ظفر كلّ ما اجترّ، وهو ظلف البقرة والشاة وما أشبههما. ويريد الشاعر أن العدوّ لم يبق شيئا من هذه الحيوانات. (اللسان: حفر، ظلف)(2/355)
ثغور غدت مثل الثغور ضواحكا ... أقام عليها الكفر يرشفها رشفا
فمن معقل حلّ العدوّ عقاله ... ومن مسجد صار الضّلال به وقفا
ومن غادة بكر جلتها يد الجلا ... ولم تدر إلّا داية قطّ أو سجفا (1)
ومن صبية حمر الحواصل أصبحت ... تقلّب ذعرا بين أعدائها الطّرفا
ومن نسوة أضحت أيامى حواسرا ... تعاين في أعيانها الوهن والضّعفا
وسيلتنا الإسلام وهي أخوّة ... من الملإ الأعلى تقرّبنا زلفى
أخوفا وقد لذنا بجاه من ارتضى ... وذلا وقد عذنا بعزّ من استصفى (2)
فهل ناصر مستبصر في يقينه ... يجير من استعدى ويكفي من استكفى
ومستنجز فينا من الله وعده ... فلا نكث في وعد الإله ولا خلفا
وهل بائع فينا من الله نفسه ... فلا مشتر أولى من الله أو أوفى
أفي الله شكّ بعد ما وضح الهدى ... وكيف لضوء الصّبح في الأفق أن يخفى
وكيف يعيش الكفر فينا ودوننا ... قبائل منكم تعجز الحصر والوصفا
غيوث نوال كلّما سئلوا النّدى ... ليوث نزال كلّما حضروا الزّحفا
إذا كتبت يوما فأقلامها القنا ... وإن أرسلت كانت صفائحها الصّحفا (3)
فقوموا برسم الحقّ فيها فقد عفا ... وهبّوا لنصر الدّين فيها فقد أشفى (4)
وها نحن قد لذنا بعزّ حماكم ... ونرجو من الله الإدالة واللّطفا (5)
من كافة المسلمين الذين نبا وطنهم، وضاق بالعدوّ عطنهم (6)، ونزحت دارهم وقلّ اقتدارهم، إلى المجتمعات والمحافل، والكتائب والجحافل، ومقام الفرائض
__________
(1) الجلا أي الجلاء وهو الخروج عن الوطن. الدّاية: الظئر وهي المربّية والحاضنة. السّجف. السّتر. (اللسان: دوا، سجف، ظأر). والمعنى أن كثيرا من الفتيات الأبكار قد كشفهنّ الجلاء بعد أن كنّ محجّبات لا يرين سوى المربيات والحجاب.
(2) استصفى الشّيء: اختاره. استعداه: استنصره واستعانه. (اللسان: صفا، عدا)
(3) الصفائح ج صحيفة وهي وجه كلّ شيء عريض كوجه السيف أو اللوح أو الحجر (المعجم الوسيط: صفح).
(4) الديوان: برسم الحق فينا الدين فينا.
(5) الإدالة: الغلبة. (اللسان: دول).
(6) العطن: الوطن. (اللسان: عطن).(2/356)
والنوافل، وكافة المسلمين بالمغرب وصل الله إسعادهم، وأنجز في النّصر على أيديهم ميعادهم، وألهمهم من نصر إخوانهم، والغضب لأديانهم، لما يمهّد دنياهم، ويؤمّن معادهم، سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله ذي الطّول، العميم المنّة، الذي جعل الجهاد بابا من أبواب الجنّة، ووعد المجاهدين بنيل درجاتها العالية ونعمها المتوالية، تحت ظلال بيض السّيوف وزرق الأسنّة، وندب إلى سلوك سبيله الأهدى، نفوسا في هفوات الضلال تتردّى، فقال: (1) {«يََا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ»} والصلاة على سيّدنا ومولانا محمد رسوله المنبعث (2) إلى الإنس والجنّة، المؤتمن على وحيه مبرّأ فيه من الظّنّة، الذي خاطب الأمم بلسانه، وفي آذانهم وقر (3)، وعلى قلوبهم أكنّة، حتى قادهم قود الإبل في الأزمّة، والجياد في الأعنّة، وأعمل في جهادهم كلّ باتر ومرنّة (4)، والرّضى على آله وأصحابه الذين اتّبعوا ما فرضه عن الله وما سنّه، وآزروه ونصروه، وقد توفّر الخوف بكلّ مظنّه، فإنّا كتبناه إليكم معشر المسلمين من الصّقع الذي كلب (5) العدوّ على أرجائه، وانقطع إلّا من (6) (فضل) الله سبب رجائه، وسدّ سبيل خلاصه، ومدّ الصّليب ذراعيه لاستخلاصه، جزيرة الأندلس تدارك الله رمقها، ودافع (7) (عنها) الخطب الذي طرقها، حيث الرّوع قد باض وفرّخ، والبحر
__________
(1) سورة الفجر 89/ 27.
(2) ج: المبعث.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: {= وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً»} * سورة الأنعام 6/ 25وسورة الإسراء 17/ 46. الوقر: ثقل في الأذن، وقيل ذهاب السّمع كلّه. أكنّة جمع كنّ وهو السّتر والغطاء. (اللسان: كنن، وقر)
(4) المرنّة: القوس المرنّة من أرنّت القوس إذا صوّتت عند الرّمي. (اللسان: رنن)
(5) كلب العدوّ: اشتدّو ألحّ. (اللسان: كلب)
(6) ما بين القوسين ساقط من ج.
(7) ج: ودفع. وما بين القوسين ساقط من هـ.(2/357)
قد أصمت من استصرخ، والعدوّ في العدوان مستبصر، والرّدى محلّق، وحزب الهدى مقصّر، والجنوب (1) نابية عن فروشها، والقرى خاوية على عروشها (2)، والطاغية قد احتشد واحتفل، واختال في حلل رياضها المخضرّة ورفل، ورماها بشؤبوب شرّه، وأصبحت فريسة بين غربان بحره وعقبان برّه (3)، فمعاهدها الآهلة طلول، ودم الإسلام جبار مطلول، (4) ونحن نحمد الله إليكم في شتّى الأحوال، ونفزع إلى الحصن الحصين من رجائه في اشتداد الأهوال، ونحتسب في جنبه سبحانه ما أصابنا من فناء النّفوس وذهاب الأموال، فما خاب من توسّل إليه بإخلاص النّيّة وإخلاصه السّؤال، وأنتم إخواننا في الله الكرام الجلّة، الذين نمتّ إليهم بولاء الإسلام وإخاء الملّة، ونعوذ بعزّ عزائمهم عند طروق الضّيم ونزول الذّلّة، ونمدّ بجموعهم العديدة، وحملاتهم الشديدة، منّا جمع (5) القلّة، فلا نزال نتمسّك بذممهم، ونلجأ إلى حفائظهم الثائرة وهممهم، ونمدّ يد الافتقار إلى نوافلهم وديمهم، وقد اتّصل بالحاضر والبادي، وقرع أسماع المحافل والجحافل والنوادي، ما أطرقت له الأبصار ونكست (6) الهوادي، من إشفاء هذه البلاد على الهلك، وانتثار ثغورها انتثار جواهر السّلك، فما من علم (7) إلّا وللكفر به علم خافق، ولا غور إلّا وللعدوّ
__________
(1) الجنوب جمع جنب وهو شقّ الإنسان. (اللسان: جنب) وذلك من قوله تعالى: {= تَتَجََافى ََ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضََاجِعِ =} سورة السجدة 32/ 16.
(2) من قوله تعالى {= أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى ََ قَرْيَةٍ وَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا =} سورة البقرة 2/ 259أو من قوله تعالى {= فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ََ مََا أَنْفَقَ فِيهََا وَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا =} سورة الكهف 18/ 42أو من قوله تعالى {= فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا وَهِيَ ظََالِمَةٌ فَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا =} سورة الحج 22/ 45.
(3) أصبحت فريسة بين وعقبان بره أي فريسة بين الجيش البحريّ والجيش البريّ.
(4) الجبار: الهدر، يقال: ذهب دمه جبارا أي هدرا، ودم مطلول أي هدر ليس له طالب يأخذ بثأره. (اللسان: جبر، طلل)
(5) ونمدّ بجموعهم جمع القلّة: أي نستعين بأعدادهم الكثيرة لنقوّي بها جمعنا القليل.
(6) ج: ونسكت، وهو غلط.
والهوادي جمع هادي وهو العنق. (اللسان: هدى).
(7) علم هنا جبل.(2/358)
به سيل دافق، ورأي كلّ منافق نافق، وعزم كلّ موافق للدّين واهن السّواعد والمرافق، وقد حجبت بالقتام عنّا السماء وتلاطمت أمواج الحديد، والبأس الشديد، فالتقى الماء، ولم يبق للإسلام إلّا الذّماء (1)، فمن مساجد كانت الرّكائب توافيها، والملائكة والروح تتنزل فيها، قلبت قبلتها شرقا (2)، وأصبحت جماعتها خلافا وفرقا، ونزح عنها الدين مفلولا مغلوبا، ومثّل بها المسيح مقتولا مصلوبا، وأديل بها التوحيد بالتّثليت، والطّيّب بالخبيث، ولعبت الأيدي الكافرة بأجزاء الكتاب وكتب الحديث، ومن معاقل كانت النجوم تناجيها، والنفوس في الشدائد ترتجيها، أصبحت مفضوضة الأقفال، منهوبة الحريم والأطفال، فمن بكر كأنّها الظبي، تملّكها السّبي، وأباحها صرف الدّهر، قبل انعقاد المهر، وأبرزها من ستر الحجاب إلى الجهر (3)، ومن عان يرسف في صفده، ويحجل فيخرّ لفيه ويده ومريض ممنوع إقامة أوده، وبطل صار له أدهم الحدّاد مركبا، فكلّما ركض كبا فيالله ويا للمسلمين كتاب الله بيننا الشّفيع، ونبيّه الذي له القدر الرّفيع، وكلاهما وسيلة لا تضيع، أين الحمية في الدّين، أين الغضب لله ورسوله وللمومنين، ما للعزائم لا تراش (4) والله باريها، ما للفلك لا تمتطى والله مرسيها ومجريها (5)، ما للنفوس لا تباع والله مشتريها (6)، مشتر وفيّ، وربح لا غائب ولا خفيّ، أين الصواهل؟ ما لها لا تسرج؟، ومن مرابطها لا تخرج؟
أين المناصل ما لها لا تصقل أين الذوابل (7) مالها لا تعتقل،
__________
(1) الذّماء: بقية النّفس، بقية الرّوح في المذبوح. (اللسان: ذمي)
(2) الشّرق: الغصّة. (اللسان: شرق).
(3) ج: الحجر، وهو غلط.
(4) راش السّهم يريشه إذا ركّب عليه الرّيش. وبرى السّهم يبريه أي نحته (اللسان: برى، رشى) وهو يتساءل عن سبب عدم عقد النية على حرب الأعداء.
(5) من قوله تعالى: {= وَقََالَ ارْكَبُوا فِيهََا بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا وَمُرْسََاهََا =} سورة هود 11/ 41.
(6) من قوله تعالى: {= إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ =} سورة التوبة 9/ 11.
(7) الذّوابل أي الرّماح الصّلبة. اعتقل رمحه: جعله بين ركابه وساقه. (اللسان: ذيل، عقل) ويقصد بذلك الاستعداد للحرب والذهاب إليها.(2/359)
كتاب الله يدعوكم في أخراكم، فهل من سميع، ومنادي الدّين يناديكم وأنتم جميع وصراخ إخوانكم يوافيكم من كلّ رفيع (1)، فأغيثوهم بغوث سريع، فهم بين عان وصريع، ومحصور ليس له طعام إلا من ضريع (2)، يا معشر الأبرار وشيوخ القبائل الكبار ووجوه العشائر الأحرار، دونكم طلب الثّأر، وتخليد الآثار، أقيموا فرض الجهاد فقد تأكّد الفرض، (3) و {«سََارِعُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ»} تالله لولا هبوب الرّيح، وعرض المهامه الفيح لسمعتم رنّة الثّاكل وأنّة الجريح، ولولا لجب البحر المحيط لسمعتم صواهل العدوّ المستشيط، وقلقتم للصّراخ المتتابع والغطيط، ونظرتم إلى إخوانكم المسلمين، وقد ارتفع لله، ثم لكم صراخهم، وضجّت أفراخهم، ينظرون إلى طريقكم وينتظرون طلوع فريقكم، ويرتقبون إيّاب رسولهم بإسعاف سولهم، فإن عطفتكم الحميّة، والهمم الأبيّة، والنّفوس التي لا تختلجها الدّنيّة فكّ الوثاق، وانعقد الميثاق، ورجيت الكرّة، وارتفعت عن المسلمين المعّرة، وإن كانت الأخرى ومعاذ الله أن تكون، (4) {«وَيَأْبَى اللََّهُ إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ} (5)» محيّت الكلمة، وهلكت هذه الفئة المسلمة، وقد مددنا إليكم يد الافتقار والاحتياج، يا أسود الهياج، وعذنا من دخيلكم الذي لا يخبو بأحصن السّياج، وقعدنا على ثنيّة الارتقاب، مشرئبّي الرّقاب، والله يجبر بكم القلوب، ويبلغ بمساعدتكم، من فضله، المطلوب، اللهمّ اعطف لنا قلوب عبادك، وهزّ لنصرنا أقاصي بلادك، وامددنا اللهمّ بمعونتك وإنجادك، وقوّ على مظاهرتنا عزائم آسادك، وصل سببنا الواصل بأسبابك، ولا تردّنا خائبين من بابك،
__________
(1) رفيع أي مكان رفيع. (اللسان: رفع)
(2) من قوله تعالى: {= لَيْسَ لَهُمْ طَعََامٌ إِلََّا مِنْ ضَرِيعٍ =} سورة الغاشية 88/ 6الضريع: نبات أخضر منتن يرمي به البحر.
وقيل هو العوسج الرّطب. (اللسان: ضرع).
(3) سورة آل عمران 3/ 133.
(4) سورة التوبة 9/ 32.
(5) أب ج ش هـ و: المشركون، وهو غلط، والتصحيح من القرآن الكريم.(2/360)
فلا انتصار إلّا بك، ولا عزّ إلّا من جنابك، والسلام الأتمّ عليكم معشر المسلمين، تداركنا الله بلحاقكم (1)، وعرّفنا نتيجة إشفاقكم، وأطلع علينا النّصر من آفاقكم، ورحمة الله تعالى وبركاته.
قلت (2)، وقد أذكرني بعض فصول هذه الرسالة ما كتب به أبو المطرّف ابن عميرة (3) لبعض إخوانه من العلماء الأعلام، يعلمه باستيلاء الرّوم على بلنسية (4) أعادها الله دار إسلام، فرأيت إثباته هنا لنفاسته ومناسبته المقام، وهو قوله (5): بالله أيّ نحو تنحو (6) ومسطور تثبت أو تمحو، قد حذف الأصل والزّائد، وذهبت الصّلة والعائد، وباب التّعجّب طال، وحال اليأس، لا تخشى الانتقال، وذهبت علامة الرّفع، وفقدت سلامة الجمع، والمعتلّ أعدى الصحيح والمثلّث (7) أردى الفصيح، وامتنعت العجمة من الصّرف، وأمنت زيادتها من الحذف، ومالت قواعد الملّة، وصرنا إلى جمع القلّة، والسلام.
ومحاسن ابن الخطيب، رحمه الله جمّة ومعرفة أخباره من الأمور المهمّة، فقد كان آية الله علما ونباهة وبلاغة وبراعة وحكمة وجلالة ونزاهة (8) وقد استوفى ترجمته بما لا مزيد عليه الشيخ الإمام العلّامة الهمام، سيدي أبو العباس المقّريّ التلمسانيّ في نفح الطيب (9) فليرجع إليه من أراده رحمنا الله وإياهما، ورضي عنهما وأرضاهما، (10) (بمنه وكرمه) (11) [أمين].
__________
(1) أ. بلحقاكم.
(2) القائل هنا هو المؤلف عبد القادر بن عبد الرحمن السلوي.
(3) هو أحمد بن عبد الله بن محمد بن عميرة المخزوميّ أديب وشاعر أندلسيّ تولى القضاء والكتابة في الأندلس والمغرب وإفريقية (658هـ) اختصار القدح المعلى 5242والمغرب في حلى المغرب 2/ 364363والذيل والتكملة 1/ 180150وعنوان الدراية 302298والإحاطة 1/ 186179وأبو المطرف للدكتور محمد بن شريفة.
(4) بلنسية: سبق التعريف بها في الصفحة 570الحاشية 5.
(5) وردت هذه الرسالة في الذيل والتكملة 1/ 156والإحاطة 1/ 182وإدراك الأماني 6/ 139.
(6) الذيل والتكملة والإحاطة: ننحو نثبت أو نمحو.
(7) المثلث: الكلمات التي تروى بالحركات الثلاث مثل ذروة وذروة وذروة (اللسان: ذرو)
(8) ب ج ش هـ و: ونباهة وجلالة وحكمة وبراعة ونزاهة.
(9) لقد كاد المقريّ يخصصّ الجزء الخامس والسادس والسابع من نفح الطيب لترجمة ابن الخطيب.
(10) ما بين القوسين ساقط من ب.
(11) زيادة في ج.(2/361)
(قال المؤلف (1)، تاب (2) الله عليه، وعفا عنه وأحسن إليه، قد أوردنا بحمد الله في هذا الباب من محاسن الشّعراء وأخبارهم ما يحسن إيراده وتستحسن روايته ودرايته (3) ويطرب سماعه وإنشاده وأودعناه من تراجمهم المهمّة، ما يقرب من مائة وثلاثين ترجمة (4)، وأفردنا كلا ممّن ذكرناه منهم بترجمة ليكون ذلك أظهر لمحاسنه، وأرشد للنّاظر فيها إلى استجلاء بدره من مطالعه، واستجلاب درّه من معادنه، وألمحنا فيه بذكر وفاة كثير منهم تكميلا للفائدة وتتميما للعائدة، ولم نلتزم ذلك في سائرهم لأنّه ليس من غرضنا بالقصد الأول وبالذات، وإن انجرّ الكلام إليه بالقصد الثاني وبالعرض في بعض الأوقات.
وإذ قد فرغنا من ذلك فلنصرف عنان العناية إلى غيره من بقية الأبواب، الموعود بها في أول الكتاب، فنقول ومن الله سبحانه أستمدّ (5) (الإعانة و) التوفيق والهداية إلى سواء الطريق.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من و (إلى آخر الترجمة).
(2) هـ: عفي.
(3) هـ: ويستحسن رواية سماعه وإنشاده.
(4) ترجم لتسعة وعشرين ومائة فضلا عمن ترجم لهم عرضا واستطرادا.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.(2/362)
الباب الثالث في الحرب وتدبيرها وما ينبغي من الحزم (1) (والتيقظ) لمن يباشرها من مقدمها وأميرها
اعلم أرشدنا الله وإياك أنّ (2) النّاس قد وضعوا في تدبير الحرب كتبا ورتّبوا فيها ترتيبا قد لا يسع سائر أهل الأقاليم إذ لكلّ أمة في الغالب نوع من التّدبير وصنف من الحيلة وضرب من اللّقاء، ولكن نصف لك من ذلك أشياء لا تكاد يختلف في أنّها أزمّة (3) الحروب. ونبدأ من ذلك بما ذكره الله سبحانه في كتابه العظيم، فنقول، قال الله تعالى (4): {«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبََاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللََّهِ وَعَدُوَّكُمْ»} قال المفسرون في تفسير القوة (5) أي من كلّ ما يتقوّى به في الحرب، من كلّ ما هو مقدور للبشر من العدّة والآلة والحيلة.
وفسّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالرّمي إذ مرّ بقوم يرمون فقال (6): «ألا إنّ القوة الرّمي، ألا إنّ القوة الرمي، ألا إنّ القوة الرّمي» وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر (6): «ألا إنّ القوة الرمي، قالها ثلاثا، فالحديث صحيح، ولعلّه إنّما خصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الرمي بالذّكر لأنّه أقوى ما يتقوّى به كقوله صلى الله عليه وسلم: (7) («الحجّ عرفة». (8) وينبغي لمريد الحرب أن يقدّم بين يدي اللقاء عملا صالحا من) صدقة وصيام وردّ مظلمة وصلة رحم ودعاء مخلص
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج ش.
(2) من سراج الملوك 141إلى آخر الحديث النبوي الشريف، والقول في المستطرف 1/ 216.
(3) أزمة جمع زمام وهو المقود. (اللسان: زمم).
(4) سورة الأنفال 8/ 60.
(5) تفسير ابن كثير 2/ 321.
(6) صحيح مسلم 6/ 52وسنن ابن ماجة 2/ 940وتفسير ابن كثير 2/ 321.
(7) ما بين القوسين ساقط من ج. والحديث في الفتح الرباني 12/ 119.
(8) من سراج الملوك 1/ 141والقول في المستطرف 1/ 217216.(2/363)
وأمر بمعروف ونهي عن منكر وأمثال (1) ذلك، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يامر بذلك ويقول «إنّما تقاتلون بأعمالكم». وروي أنّ بريدا ورد عليه بفتح، فقال له عمر رضي الله عنه: متى لقيتم عدوّكم؟ قال: أول النّهار، قال:
فمتى انهزموا؟ قال: آخر النهار، فقال عمر: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أو قام الشّرك للإيمان من أول النّهار إلى آخره، والله إن كان هذا إلّا عن ذنب أحدثتموه بعدي، أو أحدثته بعدكم. ثم إنّ الشّأن كلّ الشّأن في استجادة القوّاد وانتخاب الأمراء وأصحاب الألوية، فقد قالت حكماء العجم: أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد. وحينئذ فلا ينبغي لمتوّلي أمر الحرب أن يقدّم على الجيش إلّا الرجل الحازم ذا النّجدة والبسالة والشجاعة والجرأة ثبت الجنان، صارم القلب جريئه رابط الجأش، صادق البأس، قد جرّب الحروب، ومارس الرّجال، وقارع الأبطال، ونازل الأقران، عارفا بمواضع الفرص خبيرا بمواقع القلب والميمنة والميسرة من الحروب وبالذي يجب سدّه بالحماة والأبطال، بصيرا بصفوف العدوّ ومواقع الغرّة منه، ومواضع الشّدّة معه، فإنه إذا كان كذلك وصدر الكلّ عن رأيه، صار جميعهم كأنّه (2) مثله، فإن رأى لقراع الكتائب وجها (3) (قارعها)، وإلّا أمسك وردّ الغنم للزّريبة، ولا يغفل مع ذلك.
واعلم أن (4) = الحرب خدعة = عند جميع العقلاء، فينبغي له أن يبثّ جواسيسه في عسكر عدوّه يستعلم أخباره في كلّ الأوقات، ويستعلم (5) رؤساءهم وقادتهم
__________
(1) أب ج ش هـ و: في أمثال. وهو غلط، والتصحيح من سراج الملوك 1/ 141، والمستطرف 1/ 217216.
(2) ب ش: كأنهم.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) صحيح مسلم 5/ 143وسنن ابن ماجة 2/ 945والعقد الفريد 1/ 132ومجمع الأمثال 1/ 197واللسان (خدع)
(5) كذا في أب ج ش هـ و، وجاء في المستطرف 1/ 215: ويستميل.(2/364)
وذوي الشجاعة منهم ويدسّ إليهم، ويعدهم وعدا جميلا، ويوجّه إليهم بضروب الخدعة، ويقويّ أطماعهم في أن ينالوا ما عنده من الهبات الفخمة، والولايات (1)
السنيّة، فإن رأى وجها لمعاجلتهم بالهدايا والتّحف فعل، ويسومهم (2) إمّا الغدر بصاحبهم وإمّا اعتزاله وقت اللّقاء، وينشىء على ألسنتهم كتبا مدلّسة إليه يبثّها في عسكرهم، ويكتب على السّهام أخبارا مزوّرة ويرمي بها في جيوشهم، فإنّ جميع ذلك ممّا تنفق فيه الأموال.
ومن (3) الحزم المألوف عند سوّاس الحروب أن تكون حماة الرجال وكماة الأبطال في القلب، فإنّه مهما انكسر الجناحان فالعيون ناظرة إلى القلب، فإذا كانت راياته تخفق وطبوله تضرب كانت حصنا للجناحين يأوى إليه كلّ منهم (4)، وإذا انكسر القلب تمزّق الجناحان ولا يضرّ كثرة انكسار جناحي العسكر مع ثبات القلب، ثم يرجع الفارّ إلى القلب، ويكون الظفر لهم، وقلّ عسكر انكسر قلبه فأفلح أو تراجع (5) اللهم إلّا أن تكون مكيدة من صاحب الجيش فيخلي القلب قصدا، ولا يغادر به كبيرا، فإذا توسّطه العدوّ واشتغل بنهبه أطبق عليه الجناحان، فقد فعله رجال من أهل الحرب وظفروا.
ومن أعظم مكائد الحرب الكمناء (6) (ولا يحصى كثرة من استبيحت بيضته وفلّ غربه من العساكر بالكمناء)، وذلك أن الفارس لا يزال جادّا في الدّفاع وحمى
__________
(1) ج: والأوليات، وهو غلط.
والولايات جمع ولاية وهي الخطّة كالإمارة. السّنيّة: الرفيعة. (اللسان: سنا، ولي).
(2) يسومهم من السّوم وهو عرض السلعة على البيع (اللسان: سوم) ويقصد بها أن يجاذبهم الحديث على الغدر بصاحبهم أو اعتزاله مقابل الهدايا والتحف.
(3) من سراج الملوك 142بتصرف إلى آخر البيت. والخبر في المستطرف 1/ 218217.
(4) كذا في أب ج ش هـ و. وفي سراج الملوك والمستطرف: منهزم.
(5) كذا في أب ج ش هـ و، ولعل الأصح: انكسر قلبه أو تراجع فأفلح اللهم
(6) ما بين القوسين ساقط من ج.(2/365)
الذّمار (1) حتى يلتفت فيرى وراءه بندا منشورا أو يسمع صوت الطّبول فحينئذ ليست همّته إلّا في خلاص نفسه.
ولتكن همّته، وعليه مدار الحرب، في استصناع (2) الشّجعان واختيار الأبطال فليصطنع ذوي البسالة والإقدام والجرأة، ولا عليه أن لا يكثروا فقد قيل (3): (تام الرجز)
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنى
(4) وقد بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معدي كرب الزّبيديّ (5) وطليحة ابن خويلد الأسديّ (6) إلى سعد بن أبي وقاص (7) وهو بالقادسية ممدّا له بهما، وكتب إليه: قد أمددناك برجلين كلّ واحد منهما بألف فشاورهما في الحرب ولا تولّهما شيئا بل جرّب ذلك، فوجد الواحد خيرا من عشرة آلاف. وسأحكي لك من ذلك ما تقضي منه العجب، حدّث الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في سراج الملوك (8) أنّ المستعين الصغير ابن هود (9) التقى مع الطاغية ابن رذمير النّصرانيّ على مدينة وشقة أحد
__________
(1) الذّمار: ما يجب على الرّجل حمايته وحفظه وإن ضيّعه لزمه اللّوم (اللسان: ذمر)
(2) استصناع أي اصطناع وجعلهم صنيعته.
(3) البيت لابن دريد من مقصورته التي خرجناها في الصفحة 310الحاشية 1، والبيت له في كشف الخفاء 2/ 170 والاستقصا 69وهو غير منسوب في سراج الملوك 142والمستطرف 1/ 218.
عنى الأمر يعني: نزل. (اللسان: عنا)
(4) الخبر في الأغاني 15/ 215.
(5) هو أحد الصحابة المشهورين بالشجاعة وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم في وفد زبيد فأسلم سنة تسع للهجرة شارك في حرب القادسية ونهاوند، وهو شاعر مجيد انظر الأغاني 15/ 244208 والاستيعاب 3/ 12051201.
(6) وطليحة أحد الشجعان الأبطال ارتدّ بعد وفاة الرّسول صلى الله عليه وسلم ثم عاد فأسلم وأبلى بلاء حسنا في القادسية (21هـ) الاستيعاب 2/ 773والأعلام 3/ 230.
(7) وسعد هو أحد الصحابة المقربين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أسلم مبكّرا فكان سابع مسلم، وهو أحد القواد المشهورين، شهد كلّ المشاهد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة (55هـ) الاستيعاب 2/ 610606والأعلام 3/ 87.
(8) سراج الملوك 142والمستطرف 1/ 218.
(9) هو أحمد بن يوسف رابع ملوك الدولة الهودية من دول طوائف الأندلس، كانت له وقائع مع الإفرنج، وكانت في أيامه وقعة وشقة سنة 489هـ واستشهد في معركة مع العدوّ بظاهر سرقسطة سنة 503نفح الطيب 1/ 441، 641، 642، 3/ 266، 268والأعلام 1/ 273.(2/366)
ثغور بلاد الأندلس وكان العسكران كالمتكافئين كلّ واحد منهما (1) يراهق عشرين ألف مقاتل بين خيل ورجل. قال: فحدثني رجل من الأجناد ممّن حضر الوقعة، قال: لما دنا اللّقاء، قال ابن رذمير لمدبّر حروبه: استعلم لي من (2) في عسكر المسلمين من الشجعان الذين نعرفهم كما يعرفوننا، ومن غاب منهم ومن حضر، فذهب ثم رجع، فقال: فيهم فلان وفلان حتى عدّ سبعة رجال فقال: انظروا الآن من في عسكري من الرّجال المعروفين بالشجاعة ومن غاب منهم فعدّوهم فوجدوهم ثمانية رجال لا يزيدون، فقام الطاغية ضاحكا مسرورا، وهو يقول يا بياضك من يوم. ثم ناشب الحرب، فلم تزل المصابرة من الفريقين، ولم يولّ أحدهم دبره ولا تزحزح عن مقامه حتى فني أكثر العسكرين، ولم يفرّ واحد منهم، قال: ولما كان وقت العصر نظروا إلينا ساعة ثم حملوا علينا حملة وداخلونا مداخلة ففرّقوا بيننا وصيّرونا شطرين وحالوا بيننا وبين أصحابنا وصاروا بيننا، فكان ذلك سبب وهننا وضعفنا، ولم تقم الحرب إلّا ساعة ونحن في خسارة منهم فأشار مقدّم العسكر على السلطان أن ينجو بنفسه وكسر عسكر المسلمين، وتفرّق جمعهم، وملك العدوّ مدينة وشقة. فليعتبر ذو العزم والبصيرة وليعجب من جمع يحتوي على أربعين ألف مقاتل ولا يحضر فيه من الشّجعان غير خمسة عشر رجلا وليعتبر بضمان العلج بالظفر والغنيمة لمّا زاد في أبطاله رجل واحد (3).
وحدث أيضا قال (4): سمعت أستاذنا القاضيّ أبا الوليد الباجي (5) رحمه
__________
(1) أب ج ش هـ و: منهم، وهو غلط والتصحيح من سراج الملوك والمستطرف.
يراهق: يقارب. (اللسان: رهق).
(2) أب ج ش هـ و: ما، هو غلط، والتصحيح من سراج الملوك.
(3) أب ج ش هـ و: رجلا واحدا، وهو غلط، والتصحيح من سراج الملوك.
(4) سراج الملوك 143142والخبر في المستطرف 1/ 219218.
(5) هو سليمان بن خلف فقيه مالكيّ من علماء الأندلس، وحفّاظها، رحل إلى المشرق وبقي مدّة طويلة ثم عاد إلى الأندلس، وتولى القضاء وصنّف كتبا كثيرة (474هـ) الوفيات 2/ 409408والمغرب في حلى المغرب 1/ 404 405والمرقبة العليا 95.(2/367)
الله يحكي قال: بينما المنصور ابن أبي عامر (1) في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع، فرأى جيوش المسلمين بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقد ملؤوا السّهل والجبل، فالتفت إلى مقدّم العسكر وهو رجل يعرف بابن المصحفي (2)، فقال له المنصور: أفي هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة؟
فسكت ابن المصحفي، فقال له المنصور: ما سكوتك؟ أليس في هذا الجيش ألف مقاتل؟ قال: لا، فتعجّب المنصور، ثم عطف عليه، فقال: أفيهم خمس مائة رجل من الأبطال المعدودين؟ قال: لا، فحنق المنصور ثم قال: أفيهم مئة رجل؟ قال:
لا، قال: أفيهم خمسون من الأبطال؟ قال: لا، فسبّه المنصور، واستخفّ به، وأمر به فأخرج على أقبح صفة. قال: فلمّا توسّطوا بلاد المشركين اجتمعت الروم وتصافّ الجمعان، فبرز علج من الروم بين الصفين، شاكّ (3) في سلاحه يكرّ ويفرّ وهو ينادي:
هل من مبارز؟، فبرز له رجل من المسلمين، فتجاولا ساعة فقتله العلج، ففرح المشركون، وصاحوا، واضطرب لها المسلمون، ثم جعل العلج يمرح بين الصفين وينادي:
هل من مبارز اثنين بواحد؟ فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة، فقتله العلج، وجعل يكرّ ويحمل وينادي هل من مبارز، ثلاثة بواحد فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج، فصاح المشركون وذلّ المسلمون، وكادت تكون كسرة، فقيل للمنصور:
مالها إلّا ابن المصحفي، فبعث إليه، فحضر، فقال له المنصور: ما ترى ما يصنع هذا العلج الكلب منذ اليوم؟ قال: بعينيّ ما جرى، قال: فما الحيلة فيه؟ قال: وما الذي تريد؟ قال: أن تكفي المسلمين شرّه، قال نعم، الآن إن شاء الله.
__________
(1) هو محمد بن عبد الله المعافريّ أمير الأندلس في دولة المؤيد الأموي اشتهر بحزمه ودهائه وبحروبه وغزواته ضد الإفرنج (392هـ) الحلة السيراء 1/ 277268والإحاطة 2/ 108102والمرقبة العليا 8280 والأعلام 6/ 226.
(2) هو أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفيّ الحاجب الوزير، وكان ابن أبي عامر يصحبه معه في الغزوات، وقد قتل سنة 372هـ. الحلة السيراء 1/ 267257.
(3) شاكّ في سلاحه: داخل فيه، وهو اللّابس السّلاح التام. (اللسان: شكك).(2/368)
ثم قصد إلى رجال يعرفهم، فاستقبله رجل من رجال الثغور على فرس قد نشزت أوراكها هزالا وهو يحمل قربة ماء بين يديه على فرسه، والرجل في نفسه وفي حليته غير متصنّع، فقال له ابن المصحفي: ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم؟
قال: قد رأيته، فماذا تريد فيه؟ قال: أريد رأسه الآن، قال: نعم، فحمل القربة إلى رحله ولبس لأمة حربه وبرز إليه، فتجاولا ساعة، فلم ير الناس إلّا المسلم خارجا إليهم يركض ولا يدرون ما هنالك، وإذا الرجل يحمل رأس العلج فألقى الرأس بين يدي المنصور، فقال له ابن المصحفي: عن هؤلاء الرّجال خبّرتك، إنّه ليس في عسكرك منهم ألف ولا خمس مائة ولا خمسون ولا عشرون ولا عشرة، فردّ ابن المصحفي إلى منزلته وأكرمه وأحسن إليه.
وحدث أيضا (1) أنه كان بسرقسطة (2) (فارس) يقال له ابن فتحون، قال (3): وكان يناسبني من جهة أمّي فيقع خال والدتي وكان أشجع العرب والعجم قال: وكان المستعين (4) أبو المقتدر بالله (5) يرى له ذلك ويعظّمه وكان يجري له في كلّ عطية خمس مائة دينار، وكانت النصرانية بأسرها قد عرفت مكانه وهابت لقاءه، حتى كان الروميّ إذا سقى فرسه فلم يشرب، يقول له: اشرب أو رأيت ابن فتحون في الماء؟ فحسده نظراؤه على كثرة العطاء ومنزلته من السلطان، وأوغروا به صدر المستعين، فمنعه بعض ما كان يعطيه من العطاء، ثم إنّ المستعين أنشأ غزوة إلى بلاد الروم، فتواقف المسلمون والمشركون صفوفا ثم برز علج إلى وسط الميدان ينادي: هل من مبارز؟ فخرج إليه فارس من المسلمين، فتجاولا ساعة، ثم
__________
(1) سراج الملوك 146بتصرف والخبر في المستطرف 1/ 219.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) المتكلم هو أبو بكر الطرطوشي صاحب سراج الملوك.
(4) المستعين هو سليمان بن أحمد بن هود الجذامي أحد ملوك الطوائف من الدولة الهودية كان ملكا على سرقسطة (438هـ) البيان المغرب 3/ 9591، 220والمغرب في حلى المغرب 2/ 436.
(5) المقتدر هو أحمد بن سليمان عميد بني هود ورئيسهم اشتهر بغزواته وهو صاحب مملكة دانية (475هـ) البيان المغرب 3/ 224. والمغرب في حلى المغرب 2/ 437436.(2/369)
قتله الروميّ، فصاح المشركون سرورا، ثم خرج الروميّ يكر على فرسه، ويقول:
اثنان بواحد، فخرج إليه فارس من المسلمين فتجاولا ساعة، فقتله الروميّ، فصاح المشركون سرورا، وجعل ينادي: ثلاثة بواحد، فلم يستجرئ (1) أحد من المسلمين أن يخرج إليه، وبقي الناس في حيرة، فقيل للمستعين: مالها إلّا أبو الوليد ابن فتحون، فدعاه واستلطفه وقال له: أما ترى ما يصنع هذا العلج؟ قال: هو بعيني، قال: فما الحيلة فيه؟ فقال ابن فتحون: فماذا تريد؟ قال: تكفي المسلمين شرّه. قال: الساعة يكون ذلك إن شاء الله، فلبس غلالة كتان، واستوى على سرجه بلا سلاح، وأخذ بيده سوطا طويل الطرف، وفي طرفه عقد معقودة، ثم برز إليه فعجب منه النّصارى، وحمل كلّ واحد منهما على صاحبه، فلم تخط (2)
طعنة النصراني سرج ابن فتحون، وإذا ابن فتحون متعلّق برقبة الفرس أو نزل بالأرض لا شيء منه في السرج، ثم ظهر على سرجه وحمل عليه وضربه بالسوط على عنقه وأخذه بيده من السّرج فاقتلعه من سرجه وجاء به يجرّه فألقاه بين يدي المستعين، فعلم المستعين أنّه كان أخطأ في صنعه معه، فأكرمه وردّه إلى أحسن أحواله.
واعلم (3) أنّ من أعظم موجبات الظّفر عدم الاختلاف على الأمراء، فلا ظفر مع اختلاف ولا جماعة لمن اختلف عليه. قال الله تعالى (4) {= وَلََا تَنََازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا إِنَّ اللََّهَ مَعَ الصََّابِرِينَ =} أي لا تنازعوا باختلاف الآراء، والاختلاف على الأمراء فتفشلوا وتضعفوا وتذهب ريحكم أي دولتكم، استعيرت
__________
(1) أب ج ش هـ و: يستجز، وهو غلط.
(2) مخفف (فلم تخطىء) فلم تخط.
(3) من سراج الملوك 146إلى قوله: = فكان ما كان من أمر الحكمين =. بتصرف.
(4) سورة الأنفال 8/ 46.(2/370)
الرّيح للدّولة من حيث أنّها في تمشّي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفاذها، أو (1) المراد بالرّيح حقيقتها، فإنّ النّصرة لا تكون إلّا بريح يبعثها الله كما روي عن قتادة، قال: لم يكن نصر قطّ إلّا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدوّ. ويؤيّده الحديث (2): = نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور =. فأوّل الظّفر الاجتماع وأوّل الخذلان الافتراق، وعماد الجماعة السّمع والطّاعة. وإنّما أتي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوم صفين من قبل الاختلاف عليه، فقد كان ظهر أهل العراق على أهل الشام، وتضعضعت صفوف معاوية، فأحسّ بالشّرّ وأنه مغلوب، فقال لعمرو ابن العاص: اذهب فخذ لنا الأمان من عليّ، فأدار عمرو الحيلة وأمرهم أن يرفعوا المصاحف في أطراف الرّماح وينادوا: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، فلمّا رأى ذلك أصحاب عليّ رضي الله عنه كفّوا عن الحرب، فقال لهم عليّ كرّم الله وجهه:
أي قوم، هذه مكيدة منهم، فلم يبق في القوم دفاع فعصوه وتركوا القتال، فكان ما كان من أمر الحكمين ممّا ياتي الإلمام به عند الكلام على أول ملوك بني أمية إن شاء الله تعالى (3).
وقد جمع الله (4) [سبحانه] لنا في هذه الآية الكريمة آداب الحرب إذ قال عز سلطانه (5): {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللََّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ، وَلََا تَنََازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللََّهَ مَعَ الصََّابِرِينَ =.}
وأوضح (6) لنا علّة النّصر في آية أخرى من كتابه، فقال عزّ من قائل (7)
__________
(1) سقط الف (أو) من ج.
(2) فتح الباري 2/ 520وصحيح مسلم 3/ 27.
(3) انظر الباب الثامن من الكتاب.
(4) زيادة في ج.
(5) سورة الأنفال 8/ 4645.
(6) من سراج الملوك 144143إلى قوله: = فكانت مقتلة أحد =
(7) سورة محمد 47/ 7.(2/371)
{«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللََّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدََامَكُمْ»} أي إن تنصروا دين الله (1) (ورسوله) ينصركم. وبيّن لنا علّة الهزائم والفرار وهي المعاصي فقال عز سلطانه (2): = {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعََانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطََانُ بِبَعْضِ مََا كَسَبُوا =} أي بشؤم ذنوبهم وتركهم المركز الذي رسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام رتّب الرّماة يوم أحد على ثلمة الجبل ليمنعوا قريشا أن يخرجوا عليهم كمينا من ذلك الموضع ثم التقى المسلمون والكفّار، فانهزم الكفّار، فقال للرّماة (3): لا تقوموا للغنائم، فأقبلوا على الغنائم وتركوا المركز الأول فخرجت خيل المشركين من هناك وأقبلوا على المسلمين فكانت مقتلة أحد.
وممّا (4) ينبغي في حقّ قائد الجيش وأمير العسكر أن يخفي العلامة التي هو مشهور بها ورايته، ولا يعلم خيمته ليلا ولا نهارا، وليبدّل زيّه ويعمّ مكانه حتى لا يلتمس عدوّه غرّته، وإذا سكنت الحرب فلا يمش في النّفر اليسير من قومه خارج عسكره، فإنّ عيون عدوّه قد أذكيت عليه. وعلى هذا الوجه كسر المسلمون جيوش افريقية عند فتحها، وذلك أنّ الحرب سكنت في وسط النّهار فخرج مقدّم عسكر العدوّ يمشي خارج العسكر، فجاء الخبر إلى عبد الله بن أبي سرح، وهو نائم في قبّته فخرج فيمن وثق به من رجاله فحمل على العدوّ فقتل الملك وكان الفتح.
ولما عبر طارق، مولى موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس، ليفتحها وموسى إذ ذاك بإفريقية خرجوا في الجزيرة الخضراء وتحصّنوا في الجبل العظيم الذي يسمّى
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
(2) ج: جل جلاله. والآية من سورة آل عمران 3/ 155.
(3) ج: الرماة، وهو غلط. والحديث في فتح الباري 7/ 249.
(4) من سراج الملوك 144إلى قوله = الجواهر التي لم ير مثلها = بتصرف. والقول في المستطرف 1/ 220219.(2/372)
اليوم بجبل طارق وهو في ألف وسبع مائة رجل، فطمعت الروم في جمعهم (1)، فاقتتلوا ثلاثة أيام، وكان على الرّوم تدمير استخلفه لذريق ملك الرّوم، وكان قد كتب إلى لذريق يعلمه بأنّ قوما لا يدرى أمن أهل الأرض هم أم من أهل السّماء وصلوا إلى بلادنا، وقد لقيتهم فانهض إليّ بنفسك فأتاه لذريق في سبعين ألف عنان ولقيّهم طارق وعلى خيله معتب الروميّ مولى الوليد بن عبد الملك فاقتتلوا ثلاثة أيام أشدّ قتال، فرأى طارق ما النّاس فيه من الشّدة فقام فحثّهم على الصّبر ورغبّهم في الشّهادة ثم قال لهم: «أين المفرّ، البحر من ورائكم والعدوّ من أمامكم، فليس إلّا الصبر منكم والنّصر من ربّكم، وأنا فاعل شيئا فافعلوا كفعلي، والله لأقصدنّ طاغيّتهم فإمّا أن أقتله وإمّا أن أقتل دونه» فاستوثق طارق من خيله وعرف حلية لذريق وعلامته وخيمته، ثم حمل مع أصحابه عليه حملة رجل واحد، فقتل الله تعالى لذريق بعد قتل ذريع من العدوّ وحمى الله تعالى المسلمين، فلم يقتل منهم كبير شيء، وانهزمت الرّوم، فأقام المسلمون يقتلونهم ثلاثة أيام، فانظر (2) [أكرمك الله] ما يتأتّى على الملوك من لزومهم مكانا واحدا وزيا واحدا. وأخذ طارق رأس لذريق فبعث به إلى موسى، وبعث به موسى إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان. وسار معتب إلى قرطبة وسار طارق إلى طليطلة، ولم يكن لهم همّة إلّا المائدة التي يذكر أهل الكتاب أنّها مائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فدفع (3) إليه ابن أخت لذريق المائدة والتّاج فقومّت المائدة بمائتي ألف دينار بما فيها من الجواهر التي لم ير مثلها.
__________
(1) أب ج ش: جميعهم، وهو غلط.
(2) زيادة من ج.
(3) ج: فرجع، وهو غلط.(2/373)
وبهذه (1) الحيلة قهر ألب أرسلان السلجوقيّ (2)، ملك التّرك ملك الرّوم (3)، وقبضه، وقتل رجاله وأباد جمعهم وكانت الرّوم قد جمعت جيوشا يقلّ أن يجمع من بعدهم مثلها، وكان مبلغ عددهم ستمائة ألف مقاتل، كتائب متواصلة وعساكر مترادفة، وكراديس (4) يتلو بعضها بعضا كالجبال الشّامخة لا يدركهم الطرف ولا يحصيهم العدد، وقد أعدّوا من الكراع (5) والسّلاح والمجانيق والآلات المعدّة لفتح الحصون في الحروب ما يعجز الوصف عنها. وكانوا قد قسّموا بلاد المسلمين: الشام ومصر والعراق وخراسان ودياربكر، ولم يشكّوا أنّ الدولة دارت لهم وأنّ نجوم السّعد قد خدمتهم، ثم استقبلوا بلاد المسلمين، فاضطربت لهم ممالك الإسلام، فاحتشدوا للقاء ألب أرسلان التركيّ وهو السلطان محمد بن داود الملقّب بسلطان العالم (6)، فجمع جموعه بمدينة أصبهان، واستعدّ بما قدر عليه، ثم خرج يؤمّهم، فلم يزل
__________
(1) من سراج الملوك 145144إلى قوله: = فعزلته الروم وكحلته بالنار = بتصرف، والخبر في المنتظم 8/ 265260 والكامل لابن الأثير 10/ 6765والبداية والنهاية 12/ 101100والمستطرف 1/ 220.
(2) هو السلطان محمد بن داود جغري بن ميكائيل بن سلجوق، وقد بدأ حكم ألب أرسلان عام 455هـ بعد عمّه طغرل بك، وقد كان من سلاطين السلاجقة الذين ناصروا الخليفة العباسيّ وقاد السلاجقة من العراق إلى شمال الجزيرة وسيطر على القبائل الكردية والأرمينية وقد اشتهر بانتصاره على الأمبراطور البيزنطي ارمانوس سنة 462هـ في معركة ملازكرد التي تذكرها المصادر الأجنبية باسم (مانزيكرت)، وقد كان هذا السلطان كريما عادلا عاقلا وقد اتّسع ملكه جدا حتى لقّب بسلطان العالم (465هـ) المنتظم 8/ 277276والكامل لابن الأثير 10/ 7573والبداية والنهاية 12/ 107106والقاموس الإسلامي 1/ 67وصلاح الدين للعسيلي 40.
(3) هو الأمبراطور البيزنطي أرمانوس، ويقال له رومانوس انظر الكامل لابن الأثير 10/ 65، 67والبداية والنهاية 12/ 100وصلاح الدين للعسيلي 2220.
(4) الكراديس جمع كردوس، وهو القطعة من الخيل العظيمة (اللسان: كردس)
(5) الكراع: الخيل. (اللسان: كرع).
(6) أب ج ش هـ و: = وهو سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب الذي يلقب بالملك العادل =، وهو غلط، وذلك لأن هذا الأخير هو أخو صلاح الدين الأيوبي فهو ليس سلجوقيا، وقد ولد سنة 540هـ وتوفي سنة 615هـ انظر ترجمته في الوفيات 5/ 7974والوافي بالوفيات 2/ 238235والنجوم الزاهرة 6/ 173160والأعلام 6/ 47. ولا يعقل أن يشارك سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب في معركة وقعت سنة 462هـ أي قبل ميلاده ب 78سنة والصحيح أن الذي خاض هذه المعركة هو ألب أرسلان محمد بن داود السلجوقيّ كما سبق ذكره في الحاشية 2 وانظر صلاح الدين للعسيلي 2219.(2/374)
العسكران يتدانيان إلى أن عادت طلائع المسلمين إلى المسلمين، فقالوا لألب أرسلان: غدا يتراءى الجمعان، فبات المسلمون وجلين، بما دهاهم، والقوم في عدد لا يحصيهم إلّا الذي خلقهم، وما لهم في المسلمين إلا أكلة جائع، وكانت تلك الليلة ليلة جمعة، فلمّا أصبح المسلمون صباح يوم الجمعة، ونظروا إلى عسكر الروم هالهم ما رأوا من كثرة العدوّ وقلّتهم وآلتهم، فأمر الب المسلمين أن يعتدّوا، فبلغوا اثني عشر ألف تركي وإذا هم منهم كالرّقمة (1) في ذراع الحمار فجمع ذوي الرأي من أهل الحرب والتّدبير والشّفقة على المسلمين والنظر في العواقب فاستشارهم في استخلاص صواب الرّأي، فتشاوروا برهة ثم اجتمع رأيهم على اللّقاء، فتوادع القوم وتحالفوا (2) وناصحوا الإسلام وأهله ثم تأهبّوا أهبة اللّقاء، وقالوا لألب أرسلان:
باسم الله نحمل، فقال لهم: يا معشر المسلمين، تمهّلوا فهذا يوم الجمعة، والمسلمون يخطبون ويدعون لنا على المنابر في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا زالت الشمس وفاءت الأفياء (3)، وعلمنا أنّ المسلمين قد صلّوا وصلّينا عملنا أمرنا. فصبروا إلى أن زالت الشمس، فصلّوا ودعوا الله تعالى أن ينصر دينه وأن يربط على قلوبهم بالصّبر وأن يوهن عدوّهم (4)، ويلقي في قلوبهم الرّعب. وكان ألب أرسلان قد استوثق من خيمة ملك الرّوم وعلامته وفرسه وزيّه، ثم قال لرجاله: لا يتخلف أحد أن يفعل كفعلي ويضرب بسيفه، ويرمي بسهمه حيث أضرب بسيفي وأرمي بسهمي، ثم حمل وحملوا حملة واحدة إلى خيمة ملك الرّوم، فقتلوا من كان دونها
__________
(1) جاء في الحديث = ما أنتم في الأمم إلّا كالرّقمة في ذراع الدّابة = والرّقمة الهنة الناتئة في ذراع الدابة من داخل، وهما رقمتان في ذراعيها أي أثران بباطن ذراعيها. (اللسان: رقم).
(2) ش: وتخالفوا وهو غلط.
(3) فاءت الأفياء أي تحوّلت، والأفياء جمع فيء وهو ما بعد الزوال من الظّلّ. (اللسان: فيأ).
(4) أب ج هـ و: عدوه وهو غلط، والتصحيح من ش وسراج الملوك.(2/375)
وخلصوا إليه وقتلوا من حوله، وأسروا ملك الرّوم، وجعلوا ينادون بلسان الرّوم: قتل الملك، قتل الملك، فسمعت الرّوم أنّه قتل الملك، فتبدّدوا وتمزّقوا كلّ ممزّق، وعمل السيف فيهم أياما، وأخذ المسلمون أموالهم واستحضر ملك الرّوم بين يدي ألب أرسلان بحبل في عنقه، فقال له ألب أرسلان: ماذا كنت تصنع بي لو أخذتني؟ فقال: وهل تشكّ أني كنت أقتلك؟ فقال ألب أرسلان: وأنت أقلّ في عيني من أن أقتلك، اذهبوا به، فبيعوه، فكان يقاد بالحبل في عنقه وينادى عليه: من يشتري ملك الروم؟ فما زالوا يطوفون به حتى باعوه من إنسان بكلب، فأخذ الذي تولّى ذلك من أمره الكلب والملك وحملهما إلى ألب أرسلان، فقال: قد طفت جميع العسكر وناديت عليه، فلم يبذل أحد فيه شيئا إلا رجل واحد دفع لي فيه كلبا، فقال ألب أرسلان: قد أنصفك لأنّ الكلب خير منه، فاقبض الكلب ثم ادفع إليه هذا الكلب، ثم إنّه أمر بعد ذلك بإطلاقه، فذهب إلى قسطنطينية فعزلته الرّوم وكحّلته بالنّار.
(1) (وفي الملك العادل (2) هذا يقول شرف الدين أبو المحاسن محمد بن نصر الله بن عنين (3) يمدحه: (تام الكامل)
ماذا على طيف الأحبّة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من و، إلى البيت:
قداح زند المجد لا ينفكّ من ... نار الوغى إلا إلى نار القرى
والخبر من الوافي بالوفيات إلى آخر بيت ابن عمار.
(2) الصحيح أنّ ابن عنين مدح السلطان الملك العادل سيف الدين أبا بكر محمد بن أيوب المتوفى سنة 615هـ وهو أخو السلطان صلاح الدين الأيوبي انظر معجم الأدباء 19/ 87والوفيات 5/ 16، 76والوافي بالوفيات 2/ 236 والنجوم الزاهرة 6/ 163ولم يمدح ألب أرسلان السلطان محمد بن داود المتوفى سنة 465هـ كما مر معنا في الصفحة 677الحاشية 2لأنّ ابن عنين لم يولد إلا بعد ذلك بما يقرب من قرن سنة 549هـ انظر الوفيات 5/ 18 والحاشية التالية.
(3) شاعر مشهور في عصره بالهجاء وثلب أعراض الناس فنفاه السلطان صلاح الدين من دمشق، فطاف الشام والعراق واليمن والهند وخراسان وخوارزم ثم عاد بعد وفاة صلاح الدين وتولى الوزارة للملك المعظم (630هـ) معجم الأدباء 19/ 9281والوفيات 5/ 1914والوافي بالوفيات 5/ 127122والأعلام 7/ 126125.
والأبيات أول قصيدة وهي في ديوانه 83والأبيات في الوافي بالوفيات 2/ 237ومنها 18بيتا في معجم الأدباء 19/ 8684والنجوم الزاهرة 6/ 164163و 14بيتا في الوفيات 5/ 1716، 7776.(2/376)
جنحوا إلى قول الوشاه وأعرضوا ... والله يعلم أنّ ذلك مفترى
منها في المديح:
وله البنون بكلّ أرض منهم ... ملك يقود إلى الأعادي عسكرا
من كلّ وضّاح الجبين تخاله ... بدرا، وإن شهد الوغى فغضنفرا (1)
متقدّم حتى إذا النّقع انجلى ... بالبيض عن سبي الحريم تأخرا
قوم زكوا أصلا وطابوا محتدا ... وتدفّقوا جودا وراقوا منظرا
وتعاف خيلهم الورود بمنهل ... ما لم يكن بدم الوقائع أحمرا
يعشو إلى نار الوغى شغفا بها ... ويجلّ أن يعشو إلى نار القرى
منها:
العادل الملك الذي أسماؤه ... في كل ناحية تشرّف منبرا
وبكلّ أرض جنّة من عدله الض ... افي نداه أسال فيها كوثرا
ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شكّ يريب بأنّه خير الورى (2)
سيف صقال المجد أخلص متنه ... وأبان طيب الأصل منه الجوهرا
بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثّريّا والثّرى
نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا (3)
ملك إذا خفّت حلوم ذوي النّهى ... في الرّوع زاد رصانة وتوقّرا
ثبت الجنان تراع من وثباته ... وثباته يوم الوغى أسد السّرى
يقظ يكاد يقول عمّا في غد ... ببديهة أغنته أن يتفكّرا
__________
(1) الغضنفر: الجافي الغليظ (اللسان: غضفر).
(2) أبو بكر هو الممدوح الملك العادل انظر التعريف به قبل قليل في الصفحة السابقة الحاشية 2.
(3) ج: نسجت، وهو غلط. ج: خفيت حلوم. (خفيت) غلط. ج: زاد صانة. (صانة) غلط.(2/377)
حلم تخفّ له الحلوم، وراءه ... عزم ورأي يحقر الإسكندرا (1)
يعفو عن الذّنب العظيم تكرّما ... ويصدّ عن قول الخنا متكبّرا (2)
لا تسمعنّ حديث ملك غيره ... يروى فكلّ الصّيد في جوف الفرا (3)
وهي طويلة هائلة جارية في البلاغة جائلة.
وقوله: وتعاف خيلهم الورود (البيت) قال الصفدي (4): أخذه من قول المتنبي فقصر عنه حيث قال (5): (الطويل)
تعوّد أن لا تقضم الحبّ خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق (6)
ولا ترد الغدران إلّا وماؤها ... من الدّم كالرّيحان تحت الشّقائق
قال: وجمع في قوله يعشو إلى نار الوغى (البيت): بين نار الوغى ونار القرى تشبيها بقول ابن عمار (7) فقصر عنه أيضا حيث يقول (8): (تام الكامل)
قدّاح زند المجد لا ينفكّ من ... نار الوغى إلّا إلى نار القرى)
__________
(1) أب ج ش هـ و: يخف، وهو غلط، والتصحيح من الوفيات 5/ 77.
(2) ج: وتصد، وهو غلط.
(3) كلّ الصّيد في جوف الفرا: مثل سبق شرحه انظر الصفحة 389الحاشية 6.
(4) الوافي بالوفيات 2/ 238.
(5) من قصيدة في مدح سيف الدولة مطلعها:
تذكّرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق.
وهي في ديوانه 2/ 331317، والبيتان في الوافي بالوفيات 2/ 238.
(6) ج: جيوب.
«العلائق جمع عليقة وهي المخلاة. جنوبها: نواحيها، وجيوبها: ما فتح من أعلاها. وجيب المخلاة: فمها.
الشقائق: نور أحمر واحدته شقيقة. والمعنى أن خيله تعودت ألا تأكل الشعير إلا إذا رفعت علائقها على رؤوس الرجال القتلى لكثرتهم حولها كما أنها تعودت ألا ترد الغدران إلا إذا كان ماؤها الأخضر بفعل الطحالب التي شبّهت بالريحان، قد امتزج بدم الأعداء»، انظر ديوان المتنبي 2/ 330.
(7) هو ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار الأندلسيّ الشاعر المشهور وزير المعتمد بن عباد ومستشاره، ثم عيّنه أميرا على مرسية فثار عليه فقتله (477هـ) المعجب 190164والمغرب في حلى المغرب 1/ 391389 والوفيات 4/ 429425والوافي بالوفيات 4/ 234229والأعلام 6/ 311310.
(8) من قصيدة في مدح المعتضد بن عباد أولها:
أدر الزجاجة فالنّسيم قد انبرى ... والنّجم قد صرف العنان عن السّرى
منها 13بيتا في الوافي بالوفيات 4/ 231230و 12بيتا في المغرب في حلى المغرب 1/ 391و 9أبيات في المعجب 173170و 5أبيات في الوفيات 4/ 426.(2/378)
وبمثل (1) الحيلة المذكورة وقع الظّفر للمقتدر بالله ابن هود (2) ملك شرق الأندلس، وذلك أنّه خرج من سرقسطة، أحد ثغور بلاد الأندلس للطاغية رذمير، عظيم الروم، وكان كلّ واحد منهما قد احتشد بما في ميسوره من ذلك، فالتقى المسلمون والكفّار ثم تنازلوا وتصافّوا ودام القتال بينهم كثيرا من (3) [أوّل] النّهار، وكان المسلمون في خسارة، فأفزع المقتدر ذلك، وفرق المسلمون من شؤم ذلك اليوم، فدعا المقتدر رجلا من المسلمين لم يكن في الثغور أعرف منه بالحرب يسمّى سعادة، فقال له المقتدر: كيف ترى هذا اليوم؟ قال: هذا يوم أسود. وكان زيّه زيّ الروم وكلامه كلامهم لمجاورتهم وكثرة مخالطتهم، فانغمس في عسكر الكفار ثم قصد إلى الطاغية رذمير فألفاه شاكيا في السّلاح، متكفّنا في الحديد، لا تظهر منه إلّا عيناه، فجعل يترصّد غرّته إلى أن أمكنته الفرصة، فحمل عليه فطعنه في عينه، فخر صريعا لليدين وللفم، ثم جعل ينادي بلسان الروم: قتل السّلطان يا معشر الرّوم. وشاع قتله في العسكر، وتخاذلوا وولّوا منهزمين، وكان الفتح بإذن الله تعالى. فانظر رحمك الله ما يجري على الملوك إذا عرفوا في الحرب من الحيلة والمكيدة، فليحذر ذلك وليتحفّظ منه، وقد علمت بما قصصناه عليك من الحكايات وجلوناه عليك من واضح الآيات صحة ما أشرنا إليه قبل، من أنّ الرجل الواحد من ذوي النّجدة والشّجاعة والإقدام والجرأة والمعرفة بالحروب وتدبيرها خير من ألف رجل ممّن ليس بتلك المثابة، بل خير من عشرة آلاف (4) فتذكّر ولا تكن من الغافلين.
__________
(1) من سراج الملوك 145إلى قوله: = وكان الفتح بإذن الله = بتصرف.
(2) سبق التعريف به في الصفحة 672الحاشية 5.
(3) زيادة في ج.
(4) انظر الصفحات 673669.(2/379)
ومن أمثالهم في هذا الباب قولهم (1): «الحرب خدعة». وبعضهم (2) يرويه حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقالوا (3): «الحرب أوّلها شكوى ووسطها نجوى، وآخرها بلوى»، وقالوا (4): «الحرب أوّلها الكلام وآخرها الحمام». وقالوا: (5) الحرب غشوم، سمّيت بذلك لأنّها تتخطّى إلى غير الجاني، كما قال الشاعر (6): (تام الخفيف)
لم أكن من جناتها علم الل ... هـ وإني بحرّها اليوم صال
وكما قال الآخر (7): (الوافر)
رأيت الحرب يجنيها أناس ... ويصلى حرّها قوم براء
وقالوا: الفتنة (8) تلقح بالنّجوى وتنتج بالشّكوى. ومن هنا والله أعلم أخذ نصر ابن سيار (9) قوله فيما كتب به إلى مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية (10):
... وإن الحرب أوّلها الكلام
__________
(1) المثل في مجمع الأمثال 1/ 197.
(2) انظر الصفحة 667الحاشية 4.
(3) القول في العقد الفريد 1/ 94وسراج الملوك 143.
(4) القول في سراج الملوك 143وري الأوام 37.
(5) القول في العقاد الفريد 1/ 95ومجمع الأمثال 1/ 206وسراج الملوك 143.
(6) البيت للحارث بن عباد وهو في الأصمعيات 71والأغاني 5/ 47، وهو غير منسوب في سراج الملوك 143.
والحارث بن عباد البكريّ فارس جاهليّ حكيم اعتزل حرب تغلب وبكر يوم قتل كليب، وأرسل ابنه بجيرا، ليصلح بينهما فقتله المهلهل، فقام الحارث وتزعّم حرب تغلب. الشعر والشعراء 1/ 304والاشتقاق 356 (ط. بغداد) والأغاني 5/ 4946والأعلام 2/ 156.
(7) البيت في أبيات الاستشهاد 150وسراج الملوك 153واللسان (برأ) غير منسوب.
(8) ج: الفتية، وهو غلط.
والقول في بهجة المجالس 1/ 468.
(9) هو أمير من الدّهاة الشّجعان، وشاعر خطيب تولّى إمارة خراسان للأمويين ويعدّ من أصحاب التدبير وشدّة الرأي (131هـ) البيان 1/ 4847وتاريخ الطبري 7/ 159154والوفيات 3/ 150149والأعلام 8/ 23.
(10) هذا عجز بيت كما في الصفحة التالية.(2/380)
وهو بعض أبيات يقول فيها (1): (الوافر)
أرى خلل الرّماد وميض جمر ... حقيق أن يكون لها ضرام
وإنّ النّار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام
فقلت من التّعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
وعن (2) عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعمرو بن معدي كرب (3):
أخبرني عن الحرب. قال: مرّة المذاق إذا قلصت عن ساق، من صبر لها عرف ومن ضعف عنها تلف، وهي كما قال الشاعر (4): (تام الكامل)
الحرب أول ما تكون فتيّة ... تسعى بزينتها لكلّ جهول
حتّى إذا اشتعلت وشبّ ضرامها ... عادت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء جزّت رأسها وتنكّرت ... مكروهة للشّمّ والتّقبيل
ومن أغرب مكايد الحرب وخدعها ما يحكى عن المختار بن أبي عبيد الثقفى (5)
وذلك أنه (6) كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر (7) يسأله الخروج إلى
__________
(1) أول مقطوعة في سبعة أبيات، وهي في ديوانه 4140منها ستة أبيات في العقد الفريد 4/ 478، 1/ 94 وأربعة في عيون الأخبار 1/ 128والأبيات الثلاثة في البيان 1/ 158والأخبار الطوال 340وتاريخ الطبري 7/ 369وبهجة المجالس 1/ 468.
ونسبت الأبيات لأبي مريم عبد الله بن إسماعيل البجلي الكوفي في الوفيات 3/ 150149كما نسب البيت الأول له في اللسان (ضرم).
(2) الخبر في عيون الأخبار 1/ 128127والشعر والشعراء 1/ 380والعقد الفريد 1/ 9493ومروج الذهب 2/ 326.
(3) سبق التعريف به في الصفحة 669الحاشية 5
قلصت عن ساق: أي شمّرت (المعجم الوسيط): قلص).
(4) الأبيات من الشعر المنسوب لعمرو بن معدي كرب، وهي في شعره 143142ونسبت أيضا لامرىء القيس، وهي في ديوانه 353. وهي غير منسوبة في عيون الأخبار 1/ 128127والعقد الفريد 1/ 94ومروج الذهب 2/ 326وسراج الملوك 143، ونسب البيت الأول لعمرو بن معدي كرب في اللسان (خدع).
(5) من زعماء الشيعة الثائرين على بني أمية، دعا إلى إمامة محمد بن الحنفية فكثر أتباعه، فتتبّع قتلة الحسين بن علي رضي الله عنه (67هـ) الفرق بين الفرق 3731والاستيعاب 4/ 1465والأعلام 7/ 192.
(6) ش: الثقفي من انه. ج: وذلك من أنه، وهو غلط.
والخبر من الكامل 3/ 269267إلى قوله: = فأتوه بالنيران فإذا هو عبيد الله بن زياد =
(7) قائد شجاع من أصحاب مصعب بن الزّبير، ثم أصبح من مناصري المختار الثقفي في قتاله للأمويين، فقتل قائدهم عبيد الله بن زياد (71هـ) تاريخ الطبري 6/ 2215، 4745، 9286، 158والوافي بالوفيات 1/ 99والأعلام 1/ 58.(2/381)
الطلب بدم الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأبى عليه إبراهيم إلّا أن يستأذن محمد بن علي الذي يقال له ابن الحنفية (1) فكتب إليه يستأذنه، فعلم محمد رضي الله عنه أنّ المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم أنّه (2) ما يسوءني أن يأخذ الله بحقّنا على يد من شاء من خلقه فخرج (3) مع المختار إبراهيم ابن الأشتر فوجّهه نحو عبيد الله بن زياد (4) وخرج يشيّعه ماشيا فقال إبراهيم:
اركب يا أبا إسحاق، فقال: إنّي أحبّ أن تغبرّ قدماي في نصرة آل محمد، فشيّعه فرسخين ودفع إلى قوم من خاصّته حماما بيضا ضخاما، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها. وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله وإن حصتم حيصة (5) فإنّي أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين الصّواب: أنّ الله ممدّكم بملائكة غضاب تاتي في صور الحمام دوين السّحاب.
فلما صار ابن الأشتر بخازر (6) وبها عبيد الله، قال: من صاحب الجيش؟
فقيل له ابن الأشتر، فقال: أو ليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة؟ قالوا:
بلى، فقال: ليس بشيء وعلى ميمنة ابن زياد حصين بن نمير السّكوني (7)
__________
(1) هو ابن علي بن أبي طالب عالم وفقيه شديد القوّة، وكانت الكيسانية من الشيعة تعتقد إمامته، وكان المختار الثقفيّ يزعم أنّ ابن الحنفية هو المهديّ (81هـ) طبقات ابن سعد 5/ 11691والمعارف 216ومروج الذهب 3/ 117116وطبقات الفقهاء 62وصفة الصفوة 2/ 7977والوفيات 4/ 173169 والوافي بالوفيات 4/ 10299وطبقات الشعراء 1/ 31.
(2) الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 99وتاريخ الطبري 16/ 14.
(3) الخبر في ثمار القلوب 92 (ت. أبو الفضل).
(4) هو أحد قواد الأمويين وأمرائهم على العراق، من بني تيم اللآت بن ثعلبة يعد أحد فتّاك العرب في الإسلام، احتزّ رأس مصعب بن الزبير، ودخل به على عبد الملك بن مروان (67هـ) المعارف 347ومجمع الأمثال 1/ 386والأعلام 4/ 193
(5) حاص يحيص عن العدوّ: انهزم ورجع. (اللسان: حيص).
(6) خازر: نهر وموضع بين إربل والموصل كانت عنده موقعة بين عبيد الله بن زياد وإبراهيم بن مالك الأشتر. انظر تاريخ الطبري 6/ 86ومعجم البلدان 2/ 337.
(7) هو أحد المنافقين الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كما أغار على تمر الصدقة فسرقه، وهو أحد قواد الأمويين تولى حصار مكة على ابن الزبير وضرب البيت الحرام بالمجانيق وأحرق الكعبة قتل مع عبيد الله ابن زياد (67هـ) المعارف 343، 351ومروج الذهب 3/ 7271، 82، 97.(2/382)
وعلى مسيرته عمير بن الحباب (1) فارس الإسلام. قال حصين بن نمير لابن زياد:
إنّ عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج (2)، وإنّي لا أثق لك به، فقال ابن زياد:
أنت لي عدوّ (3) [قال حصين]: ستعلم. قال ابن الحباب: فلما كان في الليلة التي نريد أن نواقع ابن الأشتر في صبيحتها، خرجت إليه، وكان لي صديقا، ومعي رجل من ترمذ (4)، فصرت في عسكره فرأيته وعليه قميص هروي (5) وملاءة، وهو متوشّح السيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى فالتزمته من ورائه، فو الله ما التفت إليّ، ولكن قال: من هذا؟ فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحبا بأبي (6)
المغلّس، كن بهذا الموضع حتّى أعود إليك أرأيت أشجع من هذا قطّ؟ يحتضنه الرجل من عسكر عدوّه لا يدري من هو، فلا يلتفت إليه ثم عاد إليّ فقال: ما الخبر؟ وهو في أربعة آلاف، فقلت (7): القوم كثير والرّأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السّيوف وأطراف القنا، فقلت: (8) (أنا) منخزل عنك بثلث النّاس غدا، فلمّا التقوا كان على أصحاب إبراهيم في أوّل النّهار، وأرسل أصحاب المختار الطير فتصايح الناس: الملائكة الملائكة فتراجعوا ونكّس عمير بن الحباب رايته، ونادى يا لثارات المرج (9) وانخزل بالميسرة كلّها وفيها قيس فلم يعصوه،
__________
(1) هو رأس القيسية في العراق وأحد الأبطال الدّهاة، كان يقاتل إلى جانب الأمويين ثم انضمّ إلى إبراهيم بن الأشتر وناصره في قتاله لعبيد الله بن زياد (70هـ) تاريخ الطبري 6/ 86، 89، 90ومروج الذهب 3/ 97والأعلام 5/ 88
(2) هو مرج راهط بالشام على بعد أميال من دمشق كانت فيه وقعة عظيمة أوقعها مروان بن الحكم ومن معه من اليمانية وأهل الشام على الضحاك بن قيس الفهري ومن معه من قيس ونزار وسائر مضر. تاريخ الطبري 5/ 534، 535 ومروج الذهب 3/ 8887، 97ومجمع الأمثال 2/ 446.
(3) زيادة من الكامل 3/ 268.
(4) ترمذ: مدينة مشهورة بخراسان من أمّهات المدن، تقع على نهر جيحون. معجم البلدان 2/ 26.
(5) هروي: نسبة إلى هراة، وهي إحدى مدن خراسان المشهورة معجم البلدان 5/ 396والوفيات 1/ 27.
(6) ج: يا أبي، وهو غلط.
(7) الخبر في تاريخ الطبري 6/ 87.
(8) ما بين القوسين ساقط من ج.
منخزل: منفرد (اللسان: خزل) والمقصود أنه سيخذل عبيد الله بن زياد ولا يحارب ابن الأشتر.
(9) المرج: سبق شرحه في الحاشية 2. وانخزل: انفرد (اللسان: خزل)(2/383)
واقتتل الناس حتى اختلط الظلام وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد ثم انكشفوا ووضع السّيف فيهم، حتى أفنوا، فقال ابن الأشتر (1): لقد ضربت رجلا على شاطىء هذا النهر فرجع إليّ سيفي وبه رائحة المسك، ورأيت إقداما وجرأة فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق ورجلاه قبل المغرب فانظروه، فأتوا بالنيران، فإذا عبيد الله بن زياد.
(2) وقد كان عند المختار كرسيّ قديم العهد فغشّاه بالدّيباج، وقال: هذا الكرسيّ من ذخائر أمير المومنين عليّ بن أبي طالب فضعوه (3) في براكاء الحرب، أي في موضع اصطدام القوم، وقاتلوا عليه، فإنّ محلّه فيكم محلّ السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى ذلك الكرسيّ من نجار بدرهمين.
وكان المختار هذا من شياطين الإنس، وممّن (4) لا يوقف له على مذهب، كان أولا خارجيا ثم صار زبيريا ثم صار رافضيا في ظاهره، وهو الذي ادّعى النبوة وكان يدّعي أنّه يلهم ضربا من السّجع لأمور تكون ثمّ يحتال فيوقعها، فيقول للناس هذا من عند الله، فمن ذلك قوله ذات يوم (5): لتنزلنّ من السماء نار دهماء، فلتحرقنّ دار أسماء، يعني أسماء بن خارجة (6). فبلغ ذلك أسماء بن خارجة فقال: أقد سجع بي أبو إسحاق؟ هو والله محرق داري، فتركه والدار، وهرب من الكوفة، وقال في بعض سجعه (7): أما والذي شرع الأديان وجنّب الأوثان وكرّه العصيان
__________
(1) الخبر في تاريخ الطبري 6/ 90.
(2) من الكامل 3/ 269والخبر في تاريخ الطبري 6/ 8562وثمار القلوب 92 (ت. أبو الفضل).
(3) ج: فوضعوه، وهو غلط. البراكاء: ساحة القتال (اللسان: برك).
(4) الخبر في الكامل 3/ 264وثمار القلوب 9190 (ت. أبو الفضل).
(5) القول في الكامل 3/ 264والفرق بين الفرق 3534.
(6) هو أحد الأجواد من الطبقة الأولى من التابعين من الكوفة، ساد الناس بمكارم الأخلاق، وكان مقدّما عند الخلفاء (66هـ) الأغاني 20/ 373362والفوات 1/ 169168وإدراك الأماني 8/ 113والأعلام 1/ 305.
(7) القول في الكامل 3/ 265264والفرق بين الفرق 33.(2/384)
لأقتلنّ أزد عمان (1)، وجلّ قيس عيلان (2) [وتميما] أولياء الشيطان، حاشا النجيب ظبيان (3). ومن شيطنته ما يروى (4) أنه كان واليا لابن الزبير على الكوفة فاتّهمه ابن الزبير فعزله عنها، وولّى مكانه رجلا من قريش، فلمّا أطلّ قال المختار لجماعة من أهلها: أخرجوا إلى هذا المغرور فردّوه فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد؟
والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنّك المختار، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير: إنّ صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع، فما أدري ما الذي ردّه! فغضب ابن الزبير على القرشيّ وعجّزه وردّه إلى الكوفة فلما شارفها، قال المختار: اخرجوا إلى هذا المغرور فخرجوا إليه، فقالوا (5) [له]: إنّه والله قاتلك، فرجع، وكتب المختار إلى ابن الزبير مثل كتابه الأول، فلام القرشيّ، فلمّا كان في الثالثة فطن ابن الزبير، وعلم بذلك المختار. وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية في خمسة عشر رجلا من بني هاشم، فقال: لتبايعنّ أو لأحرقنّكم، فأبوا بيعته، وكان السّجن الذي حبسهم فيه يدعي سجن عارم، وكان (6) ابن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بعض أهله، وكان يحسده على أيده (7)، يقال إنّ عليا رضي الله عنه استطال درعا فقال:
لينقص منها كذا وكذا (8) (حلقة) فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها ثم جذبها فقطعها من الموضع الذي حدّه أبوه، فكان
__________
(1) لعله هدّد أزد عمان بالقتل لأنهم من اليمانية التي خرجت على عليّ كما كانت اليمانية تناصر معاوية والأمويين. تاريخ الطبري 6/ 214وجمهرة الأنساب 330، 484
(2) ما بين المعقوفين زيادة من الكامل 3/ 264.
ولعله هدّد قيس عيلان لأنهم من المضرية التي ناصرت الأمويين وقائدهم الحجّاج. انظر جمهرة الأنساب 247.
(3) هو ظبيان بن عمارة التميمي، وهو أحد قواد المختار الثقفي انظر تاريخ الطبري 6/ 62، 76، 77.
(4) من الكامل 3/ 265إلى قوله: = سجن عارم = والخبر في تاريخ الطبري 6/ 76ومروج الذهب 3/ 7776.
(5) زيادة في ج ش.
(6) من الكامل 3/ 266إلى الأخير، والخبر في الوفيات 4/ 170.
(7) أب ج ش هـ و: يده، وهو غلط، والتصحيح من الكامل 3/ 266.
والأيد: القوة. (اللسان: أيد).
(8) ما بين القوسين ساقط من ج.(2/385)
ابن الزبير إذا حدّث بهذا غضب واعتراه له أفكل (1). فلمّا رأى المختار أنّ ابن الزبير قد فطن لما أراد، كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصيّ محمد بن عليّ أمير المومنين رضي الله عنه إلى عبد الله بن أسماء، ثم ملأ الكتاب بسبّه وسبّ أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهار طاعة ابن الزبير يدسّ إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته إياهم، ويخبرهم أنّه على رأيهم، وأنّه سيظهر ذلك عما قليل ثم وجّه جماعة. تسير اللّيل وتكمن النّهار حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا من به من بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم. وهذه أمور خارجة عن مسائل الباب، ذكرناها على سبيل الاستطراد، لما اشتملت عليه من الفوائد، والله تعالى أعلم بالصواب.
الباب الرابع في الشجاعة والجبن وآلات القتال وما للشعراء في ذلك من بديع المقال.
(2) الشجاعة كما قال بعضهم قوّة القلب وثباته على ما يوجبه العدل والعلم (3) ويعبّر عنها أيضا بالصّبر وبقوة النّفس، وهي أصل لجميع الفضائل فإنّها كلّها مستمدّة منها ومتفرّعة (4) عنها إذ (5) بها يصابر امتثال الأوامر واجتناب الزواجر وبها يصبر الجليس على أذى الجليس وجفاء الصاحب والصديق والأنيس وبها تكتم الأسرار ويدفع العار، وبها تقتحم الأمور الصّعاب، وبها تحمل أثقال المكارم (6)،
__________
(1) الأفكل: الرّعدة. (اللسان: أفكل).
(2) القول في سراج الملوك 139.
(3) القول في سراج الملوك 138والمستطرف 1/ 216.
(4) ج: ومفترعة، وهو غلط.
(5) من سراج الملوك 139بتصرف إلى قوله = أكفا نرى قطعها = وبعض القول في بدائع السلك 1/ 408.
(6) كذا في أب ج ش هـ و، وجاء في سراج الملوك: المكاره.(2/386)
ويصبر على أخلاق الرّجال، وبها تنفّذ كلّ عزيمة أوجبها الحزم والعدل والعقل، وبها يضحك (1) الرّجال في وجوه الرّجال، وقلوبها مشحونة بالضّغائن، كما قال أبو الدرداء (2) رضي الله عنه: إنّا لنكشر في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتلعنهم، وكما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (3): إنّا لنصافح أكفا نرى قطعها. والحاصل أنّ كلّ فضيلة تجتلب، وكلّ رذيلة ومنقصة تدفع أو تجتنب، لا تدرك ولا تنال، ولا تكتسب إلّا بقوّة القلب. ألا ترى (4) أنّ من همّ أن يمنح شيئا خار طبعه ووهن قلبه وعجزت نفسه فشحّت به، فإذا حقّق عزمه وقوّى قلبه وقهر ذلك العجز أخرج المال المضنون (5) (به)، وعلى قدر قوّة القلب وضعفه يكون طيّب النفس بإخراجه، أو كراهته لإخراجه مع إخراجه. وقس على هذا سائر الفضائل، فإنّها ما (6) لم تقارنها قوة القلب لم تتحقق، وكانت معدومة أبد الآبدين. فالشجاعة إذا قوة قلب الإنسان على ما يوجبه العدل والعلم لا أن يكون لجوجا في الباطل صبورا على التّعب جلدا عند الضرب مصمّما على التّهوّر والتغرير فإن ذلك من صفة الحمر والخنازير، ولكن أن يكون صبورا على أداء الحقوق التي عليه، صبورا على سماعها عند إلقائها عليه غالبا لهواه، قاهرا لشهواته، ملتزما للفضائل جهده، عاملا في ذلك على الحقيقة التي لا يحيله عنها حياة ولا موت، حتى يكون عمره مؤيّدا على الخير الذي أشار به العلم وأوجبه العدل، ومن ثم كان رسول صلى الله عليه وسلم أشجع الناس على الإطلاق، إذ هو أقواهم قلبا، وأثبتهم جأشا، وأجمعهم للخصال
__________
(1) أج هـ و: يضحك (بالياء، والتاء معا). ب: يضحك، ش: تضحك.
(2) هو عويمر بن عامر الأنصاريّ صحابيّ من الحكماء الفرسان، اشتهر بأبي الدرداء تولى قضاء دمشق، وهو من الذين جمعوا القرآن حفظا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (32هـ) الاستيعاب 3/ 12301227، 4/ 16481646والأعلام 5/ 98.
والقول في مجمع الأمثال 1/ 59.
(3) ج: رضي الله عنه وكرم وجهه.
(4) من سراج الملوك 139بتصرف إلى قوله: = لم تتحقق وكانت معدومة =.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.
(6) أب ج ش: مهما، وهو غلط.(2/387)
الحميدة والخلال المجيدة وصفات الكمال العديدة، اعترف بذلك أعداؤه ومحادّوه (1)
ومناوئوه ومضادوه. وما من شجاع إلّا وقد حفظت عنه عثرة، وأحصيت له جولة وفرّة، ولو مرّتين أو مرة، سواه صلى الله عليه وسلم، كما تضافرت (2) بذلك صحاح الأخبار، ورواه أئمّة الحديث وعلماء الآثار. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (3): كنّا إذا حمي الوطيس واشتدّ البأس واحمرّت الحدق اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه. قال: ولقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولقد (4) رأيته يوم حنين (5) حين التقى المسلمون والكفار وولّى المسلمون مدبرين فطفق صلى الله عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفار، والعباس (6) آخذ بلجامها وأبو سفيان (7) يعني ابن الحارث آخذ بركابه وهو يقول (8): (منهوك الرجز)
أنا النّبيّ لا كذب
أنا ابن عبد المطّلب
وقال أنس رضي الله عنه (9): = كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود
__________
(1) محادّوه أي مخالفوه والذين يعادونه من المحادّة أي المخالفة والمعاداة (اللسان: حدد).
(2) ح: تظافرت به صحاح.
تضافرت تظافرت. (المعجم الوسيط): ضفر، ظفر)
(3) فتح الباري 6/ 163وصحيح مسلم 7/ 72وإحياء العلوم 2/ 338.
(4) الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 18.
(5) حنين واد من أودية تهامة من جنب ذي المجاز، وكانت به غزوة حنين سنة 8هـ انظر السيرة 2/ 442وتاريخ الطبري 3/ 70.
(6) سبق التعريف به في الصفحة 457الحاشية 6.
(7) هو المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم أحد الأبطال الشعراء هجا الرسول والإسلام ثم أسلم يوم فتح مكة وحسن إسلامه وأبلى بلاء حسنا في وقعة حنين وهو أخو الرسول من الرضاع (20هـ) معجم الشعراء 368 والاستيعاب 4/ 1677والأعلام 7/ 276.
(8) فتح الباري 6/ 69، 164وصحيح مسلم 5/ 169168والجامع الصحيح 4/ 200199.
(9) فتح الباري 6/ 95، 163وصحيح مسلم 7/ 72وسنن ابن ماجة 2/ 926واللسان (روع) وبدائع السلك 1/ 410.(2/388)
الناس وأحسن النّاس وأشجع، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق النّاس قبل الصوت، فتلقّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري (1) والسيف في عنقه وهو يقول = لن تراعوا لن تراعوا = وعن أنس أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (2): = فضّلت على النّاس بأربع: بالسماحة والشّجاعة وكثرة الجماع وشدّة البطش = وأخباره صلى الله عليه وسلم كثيرة في هذا الباب، ومن تتبّع كتب المغازي والسّير وقف من ذلك على العجب العجاب، وكذلك كانت عامة أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، شهد لهم بذلك أعداؤهم من الكفار حتى وصفهم غير واحد منهم بأنهم رهبان باللّيل وأسد بالنّهار، وحتى قال فيهم آخرون منهم: = إنّا لقينا رجالا ما ندرى أمن أهل الأرض هم أم من أهل السماء، لما قام بهم من قوة القلب وثباته النّاشىء عنه ما رأوه (3) من إقدامهم وجرأتهم وصبرهم في الحرب ومصابرتهم، ومن صدقهم عند اللقاء. والحقّ ما شهدت به الأعداء.
وممن اشتهر منهم بذلك: طلحة بن عبيد الله القرشيّ التيميّ (4) أحد العشرة الكرام المبشّرين بالجنّة على لسان نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام. قالت عائشة رضي الله عنها: كان (5) أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كان كلّه لطلحة، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أوجب طلحة، أي وجبت له الجنّة.
__________
(1) أبو طلحة هو زيد بن سهل الأنصاريّ أحد الصحابة المجيدين للرّمي، قتل يوم حنين 20مشركا، وأخذ أسلابهم (34هـ) الاستيعاب 1/ 555553، 4/ 16991697والأعلام 3/ 5958.
(2) من الأحاديث الضعيفة وهو في العلل المتناهية 1/ 175وميزان الاعتدال 1/ 543ولسان الميزان 2/ 303.
(3) ج: رواه منهم من. (رواه منهم) غلط.
(4) صحابي شجاع من الأجواد يسمى طلحة الجود وطلحة الخير، وطلحة الفياض وهو أحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثمانية السابقين للإسلام قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة (36هـ) المحبر 151وفضائل الصحابة 114113 والاستيعاب 2/ 770764ومجمع الأمثال 1/ 249والأعلام 3/ 229.
(5) الخبر في الجامع الصحيح 5/ 644والكامل 3/ 281والاستيعاب 2/ 756(2/389)
وأبو قتادة الحارث بن ربعي (1) في أشهر الأقوال في اسمه الأنصاريّ السلميّ بكسر اللام عند المحدثين، والنحويون يفتحونها. قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) يوم ذي قرد: أبو قتادة، سيّد الفرسان بارك الله فيك، بارك الله فيك يا أبا قتادة، وفي ولدك وفي ولد ولدك وفي ولد ولد ولدك.
(3) وأبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاريّ (4) أخو بني ساعدة، أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد سيفا، وقال (5): = من ياخذ هذا السيف بحقّه، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة، فقال: وما حقّه يا رسول الله؟ فقال: أن يضرب به في العدوّ حتى ينحني، فقال أنا آخذه يا رسول الله بحقّه، فأعطاه إياه =. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل. فلما أخذ السيف أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول إذا اعتصب بها، وجعل يتبختر بين الصّفّين فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم (6):
= إنّ هذه لمشية. يبغضها الله إلّا في مثل هذا الموطن» فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلّا قتله. وكان في المشركين رجل لا يدع جريحا من المسلمين إلّا دفّف (7)
عليه، فجعل كلّ منهما يدنو من صاحبه، فالتقيا، فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتّقاه بدرقته فعضّت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله.
__________
(1) هو أحد الصحابة الشجعان يدعى فارس رسول الله (54هـ) الاستيعاب 1/ 289، 4/ 17331732.
(2) فتح الباري 7/ 463وصحيح مسلم 5/ 194.
وذو قرد: موضع وماء على ليلتين من المدينة، بينها وبين خيبر وقعت فيه غزوة ذي قرد. (اللسان: قرد).
(3) من السيرة 2/ 6966بتصرف إلى قوله: = وضربه أبو دجانة فقتله = والخبر في الأغاني 15/ 189
(4) أحد الصحابة الشجعان شهد بدرا. وله مقامات محمودة في الغزوات، وهو من كبار الأنصار، استشهد يوم اليمامة (11هـ) الاستيعاب 1/ 652651، 4/ 1644والأعلام 3/ 139138.
(5) صحيح مسلم 7/ 151والحديث في السيرة 2/ 6766والأغاني 15/ 189.
(6) الحديث في السيرة 2/ 67والمستطرف 1/ 223ونثر الدر 1/ 244.
(7) دفّف على الجريح: أجهز عليه. (اللسان: دفف).(2/390)
وجلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كلّهم (1) (كان) على هذه الحالة، وبهذه المثابة، وأشهرهم بذلك أمير المومنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم وجهه، عن سلمة بن الأكوع (2) رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر (3): = لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرّار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا، وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك = قال: فخرج والله بها يهرول هرولة وإنّا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فما رجع حتى فتح الله عليه. وعن أبي رافع (4) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده فتناول بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ قال: فلقد رأيتني في نفر معي سبعة وأنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه. وعن بعض العرب أنه قال:
ما لقينا كتيبة فيها عليّ بن أبي طالب إلا أوصى بعضنا إلى بعض.
فالشجاعة ما ذكر من قوّة القلب الخ لا أن تكون لجوجا في الباطل إلى آخر ما مرّ. وإذا عرفتها عرفت الجبن إذ هو ضدّها، وبضدّها تتبيّن الأشياء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، وبعضهم يرويه موقوفا على عمر رضي الله
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
(2) هو سلمة بن عمرو صحابي من الذين بايعوا تحت الشجرة غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، كان من الشجعان الأبطال، وكان راميا عدّاء (74هـ) الاستيعاب 2/ 640639والأعلام 3/ 113.
(3) السيرة 2/ 334وفتح الباري 7/ 70، 476وصحيح مسلم 5/ 195، 7/ 120، 121وسنن ابن ماجة 1/ 4443، 45والجامع الصحيح 5/ 638وفضائل الصحابة 8381والاستيعاب 3/ 11001099 ودول الإسلام 1/ 19.
(4) هو أسلم القبطيّ مولى رسول الله أعتقه الرسول وزوّجه سلمى مولاته. وقد شهد أحدا والخندق وما بعدهما من المشاهد.
المعارف 145والاستيعاب 1/ 8583وإسعاف المبطأ 947(2/391)
عنه أنه قال (1): = الشجاعة والجبن غرائز يضعها الله فيمن يشاء من عباده، فالجبان يفرّ عن أبيه وأمّه، والشجاع (2) يقاتل عمّن لا يبوء به إلى رحله (3) (أي لثبات (4) جأشه وقوّة قلبه وضعف قلب الجبان وعدم ثباته. وكون هذا الأثر موقوفا على عمر هو الأصحّ الأظهر وهو الذي اقتصر عليه الإمام في الموطأ، ففيه عن يحيى ابن سعيد (5) أن عمر بن الخطاب قال (6): «كرم المومن تقواه، وحسبه دينه، ومروءته خلقه، والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث يشاء، فالجبان يفرّ عن أبيه وأمّه، والجرىء (7)، يقاتل عمّن لا يبوء (8) به إلى رحله)، والقتل حتف من الحتوف، والشهيد من احتسب نفسه على الله» هذا لفظه.
ومثل الشجاعة والجبن في ذلك الجود والبخل، فالجواد يسخو بماله مع من يعرف ومن لا يعرف، والبخيل يبخل عن أبيه وأمّه بل حتى عن نفسه كما قال القائل (9): (الطويل)
يفرّ جبان القوم عن إبن أمّه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الكريم عدوّه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه
__________
(1) الموطأ 372371وبهجة المجالس 1/ 473والغيث المسجم 1/ 352منسوبا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ونسب في سراج الملوك 139للرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) ب ش: والجريء يقاتل.
(3) ما بين القوسين ساقط من ب هـ و، إلى قوله: = لا يبوء به إلى رحله =.
(4) ج: أي شبات. (شبات) غلط.
(5) هو ابن قيس الأنصاري وهو قاضي المدينة ثم قاضي قضاة المنصور، حدث عن أنس بن مالك وغيره، وحدث عنه مالك وشعبة وغيرهما، وهو فقيه جليل حافظ ثقة (143هـ) تذكرة الحفاظ 1/ 139137وإسعاف المبطأ 943 والأعلام 8/ 147.
(6) الموطأ 372371وبهجة المجالس 1/ 473.
(7) ج: والجرأة، وهو غلط.
(8) الموطأ وبهجة المجالس وسراج الملوك والغيث المسجم: يؤوب.
(9) البيتان في العقد الفريد 1/ 139غير منسوبين، وهما مع آخر في رسالة ابن القارح 23لأبي بكر العرزمي، وهما في بهجة المجالس 1/ 473لأبي يعقوب الخريمي، والأول في عيون الأخبار 1/ 172وبدائع السلك 1/ 410غير منسوب.
وأبو بكر العرزميّ هو محمد بن عبيد الله شاعر من حضرموت كوفيّ أدرك أول الدولة العباسية، وجلّ شعره آداب وأمثال (155هـ) معجم الشعراء 417والأعلام 6/ 258.(2/392)
وقد قيل في الجبن (1): إنّه غريزة يجمعها سوء الظّنّ بالله تعالى. وفي الشجاعة أنّها حالة متوسّطة بين الجبن والتّهوّر، وسئل عنها الأحنف بن قيس (2)
فقال: الشجاعة صبر ساعة. وسئل عنها أبو جهل عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة، فقال هي الصبر على حرّ السّيوف فواق ناقة (3) وهو ما بين الحلبتين، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لبعض بني عبس (4): في كم كنتم يوم كذا؟ قال:
كنّا مائة لم نكثر فنتواكل، ونفشل، ولم نقلّ فنزلّ، قال: فبم كنتم تظهرون على أعدائكم، ولستم بأكثر منهم؟ قال: كنا نصبر بعد النّاس هنيهة. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال (5): لا تتمنّوا لقاء العدوّ، فإذا لقيتموه فاثبتوا =.
واعلم (6) أنّ الشجاعة عند اللّقاء على ثلاثة أوجه أحدها رجل إذا التقى الجمعان وتقارب الزّحفان برز من الصفّ إلى وسط المعترك يحمل ويكرّ وينادي:
هل من مبارز؟ والثاني إذا ناشب القوم القتال وصاروا مختلطين ولم يدر أحد من أين ياتيه الموت، يكون رابط الجأش ساكن القلب حاضر اللّبّ لم يخامره الدهش ولا خالطته الحيرة فيتقلّب بقلب القائم على نفسه، المالك لأمره (7) (الثالث) إذا انهزم أصحابه يلزم السّاقة ويضرب في وجوه العدوّ ويحول بينه وبين أصحابه فيرجّي الضّعفاء ويقوّي قلوبهم بالكلام الجميل ويشجّع (8) نفوسهم، فمن وقع أقامه ومن
__________
(1) من سراج الملوك 138إلى آخر قول أبي جهل، بتصرف.
(2) سبق التعريف به في الصفحة 53الحاشية 4.
والقول في سراج الملوك 138.
(3) فواق ناقة أي فترة إفاقة ناقة وهي ما بين الحلبتين، يريد مالها من انتظار. قال عيادة المريض قدر فواق ناقة (اللسان:
فوق) ويقصد مدة يسيرة جدا.
(4) بهجة المجالس 1/ 466.
(5) الفتح الرباني 14/ 58وفتح الباري 6/ 156وصحيح مسلم 5/ 143وكشف الخفاء: 2/ 349
ج: تتموا، وهو غلط.
(6) من سراج الملوك 139بتصرف إلى قوله = وراء الغافلين = والقول في بدائع السلك 1/ 408.
(7) ما بين القوسين ساقط من ج.
(8) ج: ويسجى، وهو غلط.(2/393)
وقف حمله ومن سقط عن فرسه كشف عنه، حتى ييأس منه عدوّه، وهذا أحمدهم شجاعة وأعلاهم مرتبة وبينه وبين الآخرين بون بعيد وتفاوت شديد لا يخفى على من له بصيرة وقّادة ونظر سديد، وعن هذا قالوا: المقاتل خلف الفارّين كالمستغفر من وراء الغافلين. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعمرو بن معدي كرب (1): اخبرني عن السّلاح، قال: سل عمّا شئت، قال: الرمح، قال: أخوك وربّما خانك، قال: النبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب، قال: التّرس؟ قال:
(2) (ذاك) المجنّ وعليه تدور الدّوائر. قال: الدّرع؟ قال: مشغلة للرّاجل متعبة للفارس، وإنّها لحصن حصين، قال: السيف؟ قال: ثمّ نازعتك أمّك على الثّكل.
فقال عمر: بل أمّك. وفي رواية أنّه لمّا سأله عن السيف، قال ذاك ذاك لا أمّ لك.
(3) وبلغ أبا الأغر أنّ أصحابه وقع بينهم شرّ، فوجّه إليهم ابنه الأغرّ، وقال له: يا بني كن يدا لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف، فإنّه ظلّ الموت، واتّق الرّمح فإنّه رشاء (4) المنيّة ولا تقرب السّهام فإنّها لا تؤامر من يرسلها. قال:
فبماذا أقاتل؟ قال بما قال الشاعر (5): (الطويل)
جلاميد أملاء الأكفّ كأنّها ... رؤوس رجال حلّقت بالمواسم
__________
(1) عمرو بن معد يكرب سبق التعريف به في الصفحة 669الحاشية 5.
والخبر في العقد الفريد 1/ 180179وبهجة المجالس 46791والمستطرف 1/ 222.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) عيون الأخبار 1/ 131والعقد الفريد 1/ 182وبهجة المجالس 1/ 467وأبو الأغرّ التميميّ من أنصار عليّ في وقعة صفين انظر عيون الأخبار 1/ 180ولم أعثر له على تعريف واف في المظان.
(4) الرّشاء: الحبل. (اللسان: رشا).
(5) الأبيات لجرير في هجاء بني نمير أولها:
تغطّي نمير (كما ياتي بعد قليل).
وهي في ديوانه 1040وهي غير منسوبة في الكامل 2/ 177وبهجة المجالس 1/ 469ونسبت في ذيل الأمالي 117116لنافع بن خليفة الغنويّ والرابع والخامس في البيان 3/ 15غير منسوبين. والأول في عيون الأخبار 1/ 131غير منسوب، والخامس في العقد الفريد 1/ 182غير منسوب.(2/394)
وهذا البيت من شعر لبعض العرب يقول فيه:
تغطّي نمير بالعمائم لؤمها ... وكيف يغطّي اللؤم طيّ العمائم
فإن تضربونا بالسّياط فإنّنا ... ضربناكم بالمرهفات الصّوارم
وإن تحلقوا منّا الرؤوس فإنّنا ... حلقنا رؤوسا بالّلحي والغلاصم (1)
وإن تمنعوا منّا السّلاح فعندنا ... سلاح لنا لا يشترى بالدّراهم (2)
جلاميد أملاء الأكفّ كأنّها ... رؤوس رجال حلّقت بالمواسم
وعن أبي عمرو بن العلاء قال (3): وقع بين نفر من بني سليم وبين نفر من بني فراس بن كنانة حرب فقتلت بنو فراس رجلين من بني سليم ثم ضرب الدهر ضربانه فخرج نبيشة بن حبيب (4) غازيا فلقي ظعنا من بني كنانة بالكديد (5) فقال: هؤلاء بنو سليم يطلبون دماءهم، وبصر بهم نفر من بني فراس فيهم الحارث بن مكدّم (6)، فقال له أخوه ربيعة بن مكدّم (7): أنا أذهب وآتيكم بخبرهم، فانطلق تعدو به فرسه، فحمل عليه بعض القوم فقتل منهم رجلا ثم طعنه نبيشة فرجع إلى قومه وقال لأمه: شدّي على يدي عصابة، فشدّته، واستسقاها ماء، فقالت له: إنّك إن شربت الماء متّ، فكرّ راجعا إلى القوم، يشدّ عليهم، فأثخن ونزفه الدم،
__________
(1) الغلاصم جمع غلصمة وهي الحجرة التي على ملتقى اللهاة والمريء. (اللسان: غلصم).
(2) و: يشتري (بالياء والتاء معا). ج: تشتري.
جلاميد جمع جلمود وهو الصخر وهو ما تحمله بيدك قابضا على عرضه ولا يلتقي عليه كفّاك جميعا. أملاء جمع ملء.
(اللسان: جملد، ملا)
والمقصود أنّ هذه الصخور تملأ الأكفّ. ويقصد بالمواسم موسم الحجّ وغيره من الأسواق.
(3) الخبر في الأغاني 16/ 56.
(4) من بني سليم وهم من فرسان العرب في الجاهلية، كان مع امرىء القيس الشاعر حين خرج إلى قيصر ملك الروم، وهو الذي قتل ربيعة بن مكدّم حامي الظعن انظر معجم ما استعجم 4/ 1120والتاج (كدد) والأعلام 8/ 8
(5) الكديد موضع بين مكة والمدينة على بعد اثنين وأربعين ميلا من مكة انظر معجم ما استعجم 4/ 11201119 ومعجم البلدان 4/ 442والتاج (كدد) والأعلام 8/ 8.
(6) هو أبو الفارعة أخو ربيعة بن مكدّم، وكان يومئذ مجدورا يحمل في محفة، وقد قتل في هذا اليوم هو وأخوه. انظر الأغاني 16/ 56، 58.
(7) سبق التعريف به في الصفحة 362الحاشية 8.(2/395)
فقال للظّعن سوف أقف (1) دونكم على العقبة وأعتمد على رمحي، فلن يقدموا عليكم لمكاني، فارجعوا إلى أدنى بيوت الحيّ، ففعلوا ذلك فنجوا إلى مأمنهم واعتمد على رمحه وهو واقف على متن فرسه، وما أقدم القوم عليه، فقال نبيشة ابن حبيب: إن الرجل لمائل العنق وأظنّه قد مات، فأمر رجلا من خزاعة أن يرمي فرسه فرماها فزالت عن موضعها فمال عنها ميّتا، فانصرفوا عنه وقد فاتهم الظّعن.
وعن (2) عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعمرو بن معدي كرب الزبيدي: أخبرني عن أشجع من رأيت؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لأخبرنّك عن أحيل النّاس وأشجعهم وأجبنهم: إنّي ركبت يوما فرسي وآليت لا ألقى أحدا إلّا قتلته فرأيت فتى فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك، فقال: والله ما أنصفتني يا أبا ثور، أنا كما ترى أعزل ولا ترس معي فأنظرني حتى آخذ ترسي ونبلي أمتنع بها عنك، فقلت: خذها، قال: والله أو تعطيني عهدا أنّك لا تروّعني حتى آخذها، فأعطيته العهد، فقال: وإله قريش لا آخذها أبدا، فسلم مني وذهب. فهذا أحيل النّاس، ثم مضيت حتى اشتمل عليّ الليل وأنا أسير في قمر زاهر فإذا فتى على فرس وهو يخرج حنظلة من مخلاته ويرمي بها نحو السماء فلا تبلغ الأرض حتى ينظمها بمشقص (3) من نبله، فصحت به، خذ حذرك فإنّي قاتلك، فمال عن فرسه، فإذا هو على الأرض، فدنوت منه وصحت به ويلك ما أجهلك! فما زال عن موضعه، فشككت بالرّمح في إهابه فإذا به ميّت فمضيت وتركته فهذا أجبن الناس.
فلما أصبحت نظرت إلى أبيات فعدلت إليها فإذا فيها جوار (4) ثلاث كأنّهنّ
__________
(1) ج: اقذف، وهو غلط.
(2) الخبر من الأغاني 16/ 7168بتصرف.
(3) المشقص: نصل السّهم إذا كان طويلا غير عريض (اللسان شقص)
(4) ج: جرار، وهو غلط.(2/396)
النجوم، فلما رأينني بكين، فقلت ما يبكيكنّ؟ فقلن لما رأينا (1) منك، ومن ورائنا أخت لنا هي أجمل منا، فأشرفت على المكان فإذا غلام يخصف (2) نعله، فلمّا نظر إليّ وثب على فرسه ثم ركضها وسبقني إلى البيوت فلحقته، فقال لي أتطردني أم أطردك فقلت: بل أطردك، فركض وركضت في أثره، حتى إذا مكّنت السّنان من ظهره اتّكأت عليه فإذا هو والله مع لبب فرسه ثم استوى في سرجه فقلت: أقلني، فقال اطرد، فتبعته حتى ظننت أنّ السّنان بين ناصيتيه فاعتمدت عليه فإذا هو والله قائم على الأرض والسّنان زالج (3) فاستوى على فرسه، فقلت:
أقلنى، قال: اطرد فطردته حتى إذا مكنت السّنان من متنه اتّكيت عليه وأنا أظنّ أنّي قد فرغت منه، فمال في سرجه حتى نظرت إلى يديه في الأرض ومضى السّنان زالجا ثم استوى على فرسه وقال: أبعد ثلاث تريد ماذا؟ أطردني ثكلتك أمّك، فولّيت وأنا مرعوب منه فلما غشيني وجدت حسّ السّنان، فالتفت فإذا هو يطردني بالرّمح بلاسنان فكفّ عنّي، واستنزلني فنزلت ونزل والله فجزّ ناصيتي وقال:
انطلق، فإنّي أنفس بك عن القتل، فكان ذلك (4) (والله) يا أمير المؤمنين عندي أشدّ من الموت، فذلك أشجع من رأيت وسألت عن الفتى فقيل لي ربيعة بن مكدّم الفراسي (5) من بني كنانة.
وكان عمرو (6) هذا من شجعان العرب المعدودين وأبطالهم المشهورين، وفرسانهم المذكورين، وله الوقائع (7) العظيمة في الجاهلية والإسلام، وكان ممّن
__________
(1) الأغاني 16/ 70: لما ابتلينا به منك.
(2) خصف النّعل يخصفها خصفا: ظاهر بعضها على بعض وخرزها. (اللسان: خصف).
(3) الزالج من السّهام هو الذي إذا رماه الرّامي قصر عن الهدف وزلق (اللسان: زلج.).
(4) ما بين القوسين ساقط من ج.
(5) سبق التعريف به في الصفحة 362الحاشية 8.
(6) يعني عمرو بن معدي كرب الذي كان يروي الخبر السابق.
(7) ج ش: المواقع.(2/397)
حضر مع سعد بن أبي وقّاص في القادسية، فأبلى بلاء حسنا. روى (1) أنه نزل عن النّهر يوم القادسية، وقال لأصحابه: إنّي عابر على الجسر وقادم على العدو، فإن أسرعتم مقدار جزر الجزور وجدتموني وسيفي في يدي أقاتل به تلقاء وجهي وقد عقر بي (2) القوم وأنا قائم بينهم، وإن أبطأتم وجدتموني قتيلا بينهم، ثم حمل على القوم، فانغمس فيهم فقال بعضهم لبعض: يا بني زبيد علام تدعون صاحبكم، والله إنّا لنرى أن تدركوه حيّا، فحملوا فانتهوا إليه وقد صرع عن فرسه، وقد أخذ برجل فرس من أفراس العجم فأمسكه وإنّ الفارس ليضربه فما يقدر الفرس أن يتحرّك. قالوا: فلما غشيناه رمى الرجل بنفسه وخلى فرسه، فركبه عمرو، وقال:
أنا أبو ثور، كدتم والله تفقدوني، قالوا: أين فرسك؟ قال: رمي بنشّابة (3) فعار وشبّ فصرعني، وفي رواية أنّه قال: قد هلك بعد ما قتلت عليه ما ينيف على ثلاثين رجلا، وروى (4) أنه حمل يوم القادسية على رستم، وهو الذي قدّمه يزدجر ملك الفرس يوم القادسية على قتال المسلمين فاستقبله عمرو وهو أي رستم راكب على فيل، فضرب عمرو الفيل بسيفه فقطع خرطومه وعرقوبيه فسقط رستم وسقط الفيل عليه، مع خرج كان عليه فيه أربعون ألف دينار فقتل رستم فانهزمت العجم وأخذت العجم قطعة الخرطوم مع العرقوبين فعلّقوها في كنيسة لهم استغرابا لها، بحيث أنه لم يسمع بضربة مثلها قطّ. وقيل إنّ الذي قتل رستم رجل يقال له زنيم ابن فلان، فالله أعلم أيّ ذلك كان. وقد قدّمنا لك، في الباب قبل هذا (5) ما كتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رحمه الله من
__________
(1) الخبر في الأغاني 15/ 217وسراج الملوك 140والمستطرف 1/ 223222.
(2) أب ج ش هـ و: عقرني وهو غلط والتصحيح من الأغاني 15/ 217.
عقربي القوم: أي عقروا فرسي وتركوني راجلا (اللسان: عقر).
(3) نشابة: مفرد نشّاب: النبل. عار الفرس يعير عيارا: ذهب كأنّه منفلت من صاحبه. (اللسان: عير، نشب).
(4) الخبر في الأغاني 15/ 218وسراج الملوك 140وحياة الحيوان 2/ 410409.
(5) انظر الصفحة 669.(2/398)
قوله فيه وفي طليحة بن خويلد: قد أمددناك برجلين كلّ واحد منهما بألف، فتذكّر.
ومن أمثال العرب في هذا الباب (1): الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة، وقالوا: ربّ حياة سببها التعرّض للوفاة ووفاة سببها طلب الحياة، ومن حرص على الموت في الجهاد وهبت له الحياة. وفي كتاب أبي بكر الصديق إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما (2): احرص على الموت توهب لك الحياة. وقال خالد بن الوليد عند موته (3): لقد لقيت كذا وكذا زحفا وما في جسدي موضع قدر شبر إلّا وفيه طعنة وها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي فلا نامت عيون الجبناء، ورحم الله القائل (4): (الطويل)
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدّما
وقالوا: لكلّ أحد يومان لا بدّ منهما: أحدهما لا يعجّل عليه، والثاني لا يقصر عنه فما للجبان والفرار: (تام الرجز)
في أيّ يوميّ من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر (5)
__________
(1) الأقوال في العقد الفريد 1/ 100وسراج الملوك 139وبدائع السك 1/ 410.
(2) القول في العقد الفريد 1/ 100والغيث المسجم 1/ 352 (ط. العلمية)
(3) القول في العقد الفريد 1/ 139ومجمع الأمثال 2/ 266والمستطرف 1/ 222.
(4) البيت للحصين بن الحمام المرّي وهو في العقد الفريد 1/ 104والأغاني 12/ 267والفرج بعد الشدة 1/ 41 وزهر الآداب 2/ 1067منسوب له. ونسب إلى يزيد بن المهلب بن أبي صفرة في عيون الأخبار 1/ 125، والأصح أنه للحصين، وكان يزيد بن المهلب يتمثل بالبيت فقط. انظر ذلك في العقد الفريد 1/ 104، ونسب في الأغاني 12/ 281إلى شبيب بن البرصاء، وهو غير معزو في مروج الذهب 4/ 193والوساطة 388والصناعتين 320 وبهجة المجالس 1/ 466وإدراك الأماني 11/ 184.
والحصين بن الحمام المريّ فارس مقدّم وشاعر من المقلين، ومن الأوفياء يلقّب (مانع الضيم) وهو مّمن نبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية (نحو 10ق هـ) الأغاني 14/ 161والمؤتلف 91والخزانة 7/ 497 (ت. هارون) وإدراك الأماني 11/ 192184والأعلام 2/ 262.
(5) نسب البيت في وقعة صفين 450وحماسة البحتري 45والعقد الفريد 1/ 105، 5/ 274، 287للإمام علي.
وجاء بعده في العقد الفريد 1/ 105البيت التالي:
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجي الحذر(2/399)
(1) وكان معاوية رضي الله عنه كثيرا ما يتمثل (2): (تام المتقارب)
أكان الجبان يرى أنّه ... سيقتل قبل انقضاء الأجل؟!
وقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشّجاع البطل
ومن الأشعار المختارة في هذا الباب قول نهشل بن حرّيّ (3) بن ضمرة، وهو من أحسن ما قيل في الصبر عند اللقاء (4). (الطويل)
ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم تكن نار قيام على الجمر
صبرنا له حتّى تقضّى وإنّما ... تفرّج أيّام الكريهة بالصّبر
وقول الآخر (5): (الطويل)
بكى صاحبي لمّا رأى الموت موفيا ... مطلّا كإطلال السّحاب إذا اكفهر
فقلت له: لا تبك عينيك إنّما ... يكون غدا حسن الثّناء لمن صبر
فما أخّر الإحجام يوما مقدّما ... ولا عجّل الإقدام ما أخرّ القدر
وقول أبي نعامة قطريّ بن الفجاءة الخارجيّ (6)، وهو من أحسن ما قيل في
__________
(1) من بهجة المجالس 1/ 478.
(2) البيتان في عيون الأخبار 1/ 165غير معزوين، ونسبا في الكامل 3/ 413لمعاوية وهما في بهجة المجالس 1/ 478غير منسوبين، ونسبا لمعاوية أيضا في شعر الخلفاء 93.
(3) أب ج ش هـ و: جزء، وهو غلط والتصحيح من طبقات ابن سلام 2/ 583والشعر والشعراء 2/ 641والاشتقاق 244 (ط. بغداد).
ونهشل بن حرّيّ شاعر مخضرم بقي إلى أيام معاوية، وقد حارب مع الإمام علي في حروبه، وقتل أخوه مالك بصفين فرثاه بمراث كثيرة، وقد جعله ابن سلام في الطبقة الرابعة من فحول الإسلام (45هـ) طبقات ابن سلام 2/ 584583والشعر والشعراء 2/ 642641والإصابة 6/ 501والخزانة 1/ 152151 (ط.
بولاق) والأعلام 8/ 5049
(4) البيتان في طبقات ابن سلام 2/ 584والشعر والشعراء 2/ 641وعيون الأخبار 1/ 125والعقد الفريد 1/ 107وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 391وبهجة المجالس 1/ 469والخزانة 1/ 152151 (ط. بولاق)
(5) الأبيات في عيون الأخبار 1/ 125وبهجة المجالس 1/ 469غير منسوبة.
(6) شاعر مشهور من رؤساء الخوارج الأزارقة خرج زمن مصعب بن الزّبير لمّا ولي العراق، نيابة عن أخيه عبد الله بن الزبير، وبقي قطري عشرين سنة يقاتل ويسلّم عليه بالخلافة، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي يسبّر إليه جيشا بعد جيش وهو يردّهم منهزمين، وهو خطيب فصيح (78هـ) البيان 1/ 342341وأمالي المرتضى 1/ 638636 (ت. أبو الفضل) والوفيات 4/ 9593والأعلام 5/ 201200.(2/400)
التحريض على القتال (1): (الوافر)
أقول لها، وقد طارت شعاعا ... من الأبطال: ويحك لن تراعي
فإنّك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عزّ ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع (2)
سبيل الموت غاية كلّ حيّ ... وداعيه لأهل الأرض داع
ومن لم يعتبط يهرم ويسأم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع
منها:
وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عدّ من سقط المتاع
وقوله أيضا (3): (تام الكامل)
لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوّفا لحمام
فلقد أراني للرّماح دريئة ... من عن يميني مرّة وأمامي
حتّى خضبت بما تحدّر من دمي ... أحناء سرجي بل عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام
__________
(1) مقطعة في سبعة أبيات وهي في ديوان شعر الخوارج 123122وأمالي المرتضى 1/ 637636وبهجة المجالس 1/ 370ولباب الآداب 224والوفيات 4/ 94والتذكرة السعدية 5049وحياة الحيوان 2/ 628 والبيتان الأولان في عيون الأخبار 1/ 126، 2/ 193وحماسة البحتري 10والعقد الفريد 1/ 105.
(2) الخنع: الخضوع والذل. اليراع القصب. يعتبط: يموت شابا. (اللسان: خنع، عبط، يرع). والمقصود باليراع هنا الجبان الذي لا عقل له ولا رأي.
(3) أول مقطعة في ستة أبيات وهي في ديوان شعرا الخوارج 126والأبيات في الأمالي 2/ 190والفرج بعد الشدة 1/ 4140وزهر الآداب 2/ 1028وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 138136وبهجة المجالس 1/ 473472ومنهاج البلغاء 183182وما عدا الثالث في التذكرة السعدية 51.
الدريئة: (مهموزة) الحلقة التي يتعلّم عليها الطعن وهي فعيلة بمعنى مفعولة من درأت أي دفعت. جذع البصيرة أي فتيّ الاستبصار، أي وأنا على بصيرتي الأولى قارح الإقدام أي متناه في الإقدام. الأمالي 2/ 191190.
أحناء جمع حنو، وحنو السّرج: كل عود معوجّ من عيدانه. (اللسان: حنا).(2/401)
وقوله أيضا (1): (تام البسيط)
يا ربّ ظلّ عقاب قد وقيت بها ... مهري من الشّمس والأبطال تجتلد
وربّ يوم حمى أرعيت غلوته ... خيلي اقتصارا وأطراف القناقصد
ويوم لهو لأهل الخفض ظلّ به ... لهوي اصطلاء الوغى أو ناره تقد
مشهّرا موقفي والحرب كاشفة ... عنها القناع وبحر الموت يطّرد
وربّ هاجرة تغلي مراجلها ... نحوتها بمطايا غارة تخد
تجتاب أودية الأفزاع آمنة ... كأنها أسد يقتادها أسد
فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمدا ... على الطّعان وقصر العاجز الكمد
وقول الطائي (2): (تام الرمل)
ودنونا ودنوا حتى إذا ... أمكن الضرب فمن شاء ضرب
تركوا القاع لنا إذ كرهوا ... غمرات الموت واختاروا الهرب
__________
(1) أب ج ش هـ و: خيلى قصادا اصطلاء الهوى. (قصادا)، (الهوى) غلط. والتصحيح من المصادر الآتية.
والأبيات أول مقطعة في ثمانية أبيات وهي في ديوان شعر الخوارج 124123والأمالي 1/ 266265وزهر الآداب 2/ 10281027وأمالي المرتضى 1/ 638. والأبيات في بهجة المجالس 1/ 473والثلاثة الأولى في لباب الآداب 225.
العقاب: الراية. تجتلد = تتقاتل. الغلوة: قدر رمية بسهم والغلوة أيضا الغاية مقدار رمية. اقتصارا: اكتفاء.
قصد جمع قصدة وهي القطعة من الشيء إذا انكسر، يقال: القنا قصد، ورمح قصد أي مكسور. نحوتها: قصدتها.
تخد: تسرع. الأفزاع جمع فزع وهو الذّعر والفرق. قصر العاجز: غايته وحسبه. (اللسان: جلد، عقب، غلا، فزع، قصد، قصر، نحا، وخد) والشاعر في هذه الأبيات يعدّد مفاخره فهو يقي فرسه براية الحرب كناية عن خوضه المعارك دون خوف، ورب يوم حمى أرعى خيله ساحته والحرب في أشدّها وقد تكسّرت أطراف الرّماح قطعا الخ.
(2) البيتان ليسا في ديوان أبي تمام (ت. عبده عزام) ولا في ديوانه (شرح محي الدين الخياط) ولا في الجزء الأول والثاني من شرح الصولي لديوانه وهما في بهجة المجالس 1/ 474، وليس كذلك في ديوان البحتري.(2/402)
وقال دريد بن الصمة (1)، ويقال إنها لعمرو بن معدي كرب الزبيدي (2):
(الوافر)
أعاذل إنّما أفنى شبابي ... ركوبي في الصّريخ إلى المنادي
مع الفتيان حتى سلّ جسمي ... وأقرح عاتقي حبل النّجاد
ومن أشعار الجبناء قول أيمن بن خريم (3): (الوافر)
يقول لي الأمير وقد رآني ... تقدّم حين جدّ بنا المراس
فما لي إن أطعتك غير نفسي ... ومالي غير هذا الرّاس راس
كذا نسبهما أبو عمر ابن عبد البر في (بهجته) (4): لأيمن بن خريم، ونسبهما المبرد في كامله (5) لأبي تمام، وإن المهلب قال له في حرب الخوارج: تقدّم فكرّ على القوم، فقال، وأنشدهما هكذا: (الوافر)
يقول لي الأمير بغير علم ... تقدّم حين جدّ به المراس
__________
(1) هو شاعر فارس مشهور من ذوي الرأي في الجاهلية شهد يوم حنين، فقتل مع المشركين (8هـ) السيرة 2/ 439437، 454453والشعر والشعراء 2/ 756753وتاريخ الطبري 3/ 7270، 79 والاشتقاق 292 (ط. المثنى بغداد) والأغاني 10/ 403وجمهرة الأنساب 270والمؤتلف 114وإدراك الأماني 14/ 7553والأعلام 2/ 339.
(2) سبق التعريف به في الصفحة 669الحاشية 5.
والبيتان لدريد بن الصمة أول مقطعة في خمسة أبيات في الفخر بالشجاعة وهي في ديوانه 60والأغاني 10/ 26، والبيتان في بهجة المجالس 1/ 474له. ونسبت الأبيات في العقد الفريد 1/ 120مع أبيات أخرى لعمرو بن معدي كرب، وهي من قصيدة أولها:
أعاذل عدّتي بدني ورمحي ... وكلّ مقلص سلس القياد
وهي في ديوانه 6560.
الصّريخ: المستغيث (اللسان: صرخ)، ولعل الصريخ هنا بمعنى صوت الاستغاثة مصدر على فعيل.
(3) هو شاعر بني أسد، أسلم يوم الفتح، كان أثيرا عند عبد العزيز بن مروان بمصر، رفض أن يقاتل ابن الزبير برغم إغرائه بالمال (80هـ) الشعر والشعراء 1/ 550548والأغاني 20/ 314307 والاستيعاب 1/ 130129والأعلام 2/ 35.
والبيتان في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 4/ 1839غير منسوبين، وهما في شعر أيمن بن خريم 78وبهجة المجالس 1/ 480479.
(4) بهجة المجالس 1/ 479.
(5) الكامل 3/ 398وجاء فيه أن المهلب قال لحبيب بن أوس: كرّ على القوم، فلم يفعل، قال: وأورد البيتين. وليسا في ديوان أبي تمام.(2/403)
فمالي إن أطعتك من حياة ... ومالي غير هذا الراس راس
فالله أعلم.
وقول الآخر (1): (تام البسيط)
أضحت تشجّعني هند وقد علمت ... أنّ الشجاعة مقرون بها العطب
للحرب قوم أضلّ الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أبغي فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السّلب
لا والذي جعل الفردوس رحمته ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب
(2) وقول الآخر (3): (تام الكامل)
وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي
فتركتهم تقص الرّماح ظهورهم ... من بين منجدل وآخر مسند
ما كان ينفعني مقال نسائهم: ... وقتلت دون رجالهم، لا تبعد
__________
(1) الأبيات في عيون الأخبار 1/ 164والعقد الفريد 1/ 141، 3/ 197وبهجة المجالس 1/ 479478 والمحاسن والمساوئ غير منسوبة. ونسبها محقق بهجة المجالس 1/ 479الحاشية 3لأبي الغمر محمد بن أبي حمزة.
(2) من بهجة المجالس 1/ 481480إلى قوله: = مع عبد الملك بن مروان =.
(3) هو الفرار السلميّ حيان بن الحكم أو حبان، وهو شاعر مخضرم صحابي كان صاحب راية بني سليم يوم الفتح، انظر الإصابة 2/ 13.
ج: لبست بكتيبة. (لبست) غلط.
والأبيات في عيون الأخبار 1/ 164وحماسة البحتري 4140 (ط. شيخو) والعقد الفريد 1/ 140139.
وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 192191وبهجة المجالس 1/ 480.
لبّستها: خلطتها. نفضت اليد من فلان: إذا وكلته إلى نفسه، كناية عن الإعراض عنه، ويقصد بذلك أنه أشعل الحرب ثم انسحب وتركهم يقاتلون. تقص: تكسر. منجدل: ملقى على الأرض قتيلا. المسند: الذي أمسك إلى ما يسنده وبه رمق. لا تبعد: لا تهلك. يقول: أي شيء كان ينفعني قول النوادب لي: لا تبعد وقد قتلت شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 192191و (اللسان: جدل، لبس، وقص).(2/404)
وروي أن مروان بن الحكم، دعا أيمن بن خريم (1) إلى القتال بمرج راهط (2)، فقال له: إن أبي وعمي شهدا بدرا وإنهما عهدا إليّ أن لا أقاتل مسلما ثم أنشأ يقول (3): (الوافر)
ولست بقاتل رجلا يصلّي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعليّ إثمي ... معاذ الله من سفه وطيش
أأقتل مسلما في غير جرم؟! ... فليس بنافعي ما عشت عيشي
وقيل إن هذه القصة جرت لأيمن بن خريم مع عبد الملك بن مروان، فالله أعلم.
قيل (4) لأسلم بن زرعة (5): إن انهزمت من أصحاب مرداس (6) غضب عليك الأمير عبيد الله بن زياد، فقال: لأن يغضب عليّ وأنا حيّ، أحبّ إليّ من أن يرضى عنّي وأنا ميّت. وأسلم هذا هو القائل وقد عبّأ جيشا عظيما ليفزع به الخوارج، فلمّا رآهم لم يفزعوا وجعلوا يقبلون إليه (7)، قال لهم: عزمتم خار (8) الله لنا
__________
(1) سبق التعريف به في الصفحة 706الحاشية 3.
(2) سبق التعريف به في الصفحة 686الحاشية 2.
(3) الأبيات في شعره 140والشعر والشعراء 1/ 549والمعارف 340والاستيعاب 1/ 130وبهجة المجالس 1/ 480.
(4) من بهجة المجالس 1/ 483481إلى آخر أبيات أبي الغمر، والقول في الوفيات 7/ 69.
(5) أسلم بن زرعة الكلابي هو أحد الولاة الأمويين على خراسان، ولّاه عبيد الله بن زياد أمير البصرة على خراسان سنة 55هـ الكامل 3/ 253252وتاريخ الطبري 5/ 209، 300، 306، 307، 471.
(6) هو مرداس بن حدير التميمي أبو بلال، ويقال له مرداس بن أدية، من عظماء الخوارج وأحد الخطباء العباد انتصر على الجيش الأموي بآسك ومعه أربعون خارجيا (61هـ) تاريخ الطبري 5/ 313312، 471470وجمهرة الأنساب 211، 223والأعلام 7/ 202.
(7) ج: يغلبون عليه، وهو غلط.
(8) ش: كان.
خار الله لك: أي أعطاك ما هو خير لك. (اللسان: خير)(2/405)
ولكم. وضرب وجوه أصحابه وانصرف عنهم. ولما هزمه مرداس قال شاعرهم (1)، وكانوا أربعين وأسلم بن زرعة في ألفين: (الوافر)
أألفا مؤمن منكم زعمتم ... ويهزمهم رجال أربعونا؟!
كذبتم ليس حالكم كذاكم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
لما وجه أبو جعفر المنصور روح بن حاتم (2) إلى قتال بعض الخوارج لقيه أبو دلامة (3) فقال له روح: يا أبا دلامة لو خرجت معنا في هذا الوجه فقاتلت فأبليت، لذكرت (4) بالشجاعة كما ذكرت بالشّعر، فضحك، وقال: اسمع أبا خالد، فقال:
هات فأنشأ يقول (5): (تام البسيط)
إني أعوذ بروح أن يقرّبني ... إلى القتال فتشقى بي بنو أسد
__________
(1) هو عيسى بن فاتك أحد بني تيم الله بن ثعلبة، من شعراء الخوارج المشهورين. انظر الكامل 3/ 253وتاريخ الطبري 5/ 314والأغاني 18/ 108. والأبيات من مقطعة في ثمانية أبيات أولها:
فلما أصبحوا صلّوا وقاموا ... إلى الجرد العتاق مسوّمينا
وهي في ديوان شعراء الخوارج 6968وأغلبها في الكامل 3/ 253والأبيات في تاريخ الطبري 5/ 314 وبهجة المجالس 1/ 482والأول والثالث في العقد الفريد 1/ 149.
(2) أب ج ش هـ و: روح بن زنباع، (زنباع) غلط، والتصحيح من بهجة المجالس 1/ 482والوفيات 2/ 323.
وروح بن حاتم المهلبي من أحفاد المهلّب بن أبي صفرة الأزدي، كان من الكرماء الأجواد، ولي لخمسة من الخلفاء العباسيين: السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد، ولي الكوفة والسّند والبصرة وفلسطين وافريقية (174هـ) الوفيات 2/ 323306305والأعلام 3/ 34.
وأما روح بن زنباع فهو أمير فلسطين وسيد اليمانية في الشام وقائدها وخطيبها وشجاعها، وكان وزير عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المشهور (84هـ) تاريخ الطبري 5/ 496، 531، 536والاستيعاب 2/ 503502 والوفيات 2/ 30، 31، 3/ 95والأعلام 3/ 34.
وبناء على ما سبق لا يصح أن يوجّه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسيّ روح بن زنباع القائد الأموي لمحاربة الخوارج وهو قد توفي في العهد الأموي (سنة 84هـ). انظر معجم الأدباء 11/ 167والوافي بالوفيات 14/ 216.
(3) سبقت ترجمته برقم 43.
(4) ج: فذكرتي، وهو غلط.
(5) أول مقطوعة من خمسة أبيات في ديوانه 44والبيتان في الأغاني 10/ 244وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 2/ 378وبهجة المجالس 1/ 482والوفيات 2/ 323والوافي بالوفيات 14/ 216والغيث المسجم 1/ 252 (ط. العلمية) والأول في عيون الأخبار 1/ 164وطبقات ابن المعتز 57.(2/406)
إنّ الدّنوّ من الأعداء نعلمه ... ممّا يفرّق بين الرّوح والجسد
فضحك روح وأمر له بجائزة.
ولأبي الغمر (1): (تام البسيط)
ظلّت تشجّعني ضلا بتضليل ... وللشّجاعة خطب غير مجهول
هل غير أن عذلوني أنّني فشل ... فكلّ هذا نعم فاغروا بتعذيلي (2)
الحرب تعقب من يصلى بها حزنا ... يتم البنين وإرمال المثاكيل
هاتي شجاعا بغير القتل مصرعه ... أوجدك ألف جبان غير مقتول
والله لو أنّ جبريلا تكفّل لي ... بالنّصر خفت على علمي بجبريل
الله خلّصني منهم وفلسفتي ... حتّى تخلّصت مخضوب السّراويل
والآخر (3) يخاطب امرأته وقد قالت له: افترض في الجند، لمّا رأت فقره بعد ثروته (4): (تام البسيط)
مالي ومالك قد حمّلتني شططا ... حمل السّلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلا ... أمسي وأصبح مشتاقا إلى التّلف
أرى المنايا على غيري فأكرهها ... فكيف أسعى إليها بارز الكتف
أخلت أنّ سواد الليل غيّرني ... أو أنّ قلبي في جنبي أبي دلف
__________
(1) أبو الغمر المدني هو هارون بن موسى ويقال هارون بن محمد، وهو كاتب الحسن بن زيد العلوي أمير المدينة انظر معجم الشعراء 185وبهجة المجالس 1/ 479، 481والمحاسن والمساوئ 2/ 144. ولم أعثر له على تعريف واف في المظان، والحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب هو شيخ بني هاشم في زمانه استعمله المنصور على المدينة خمس سنوات ثم عزله (168هـ) تاريخ بغداد 7/ 313309وميزان الاعتدال 1/ 492والأعلام 2/ 191.
والأبيات في بهجة المجالس 1/ 483482وهي مع أبيات أخرى في المحاسن والمساوئ 2/ 145144.
(2) أب ج ش هـ و: (بسل فكان ماذا). وهو غلط، والتصحيح من بهجة المجالس 1/ 483والمحاسن والمساوئ 2/ 145.
(3) هو أبو عبد الله أحمد بن صالح بن أبي معشر، وكنيته أبو فنن، مولى بني هاشم وهو شاعر مجيد مطبوع، كان فقيرا أسود مشوّه الخلق، توفي بين الستين والسبعين والمئتين للهجرة انظر طبقات ابن المعتز 397396وزهر الآداب 2/ 10131012وتاريخ بغداد 4/ 203202والوفيات 4/ 75والوافي بالوفيات 6/ 423 والفوات 1/ 70.
(4) الأبيات في شعر أحمد بن أبي فنن 178177ونضرة الإغريض 111والأغاني 8/ 256والوفيات 4/ 75، 6/ 39ونسبت الأبيات في المحاسن والمساوئ 2/ 145لقطرب النحوي.(2/407)
فحدث الرواة أن أبا دلف (1) لمّا بلغته هذه الأبيات وصل قائلها بخمسمائة دينار ولم يره.
قلت: هذا كالذي (2) دخل على قوم يشربون فسقاه بعضهم من غير الشراب الذي كان بين أيديهم فقال (3): (المتقارب)
نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر
فلو كنت تفعل فعل الكرام ... فعلت كفعل أبي البختري
تتبّع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ على المكثر
فاتّصل قوله هذا بأبي البختريّ (4)، فوصله بألف دينار، ولم يره.
وكان أبو البختريّ هذا أحد الأجواد، واسمه وهب بن وهب، أتاه بعض الشعراء، فأنشده قوله (5): (الطويل)
لكل أخي فضل نصيب من العلى ... ورأس العلى طرّا عقيد النّدى وهب
وما ضرّ وهبا قول من غمط العلى ... كما لا يضرّ البدر ينبحه الكلب
فثنى إليه الوسادة وهشّ إليه ورفده، وحمله وأضافه، فلمّا أراد الانصراف لم يخدمه أحد من غلمان أبي البختري ولا عقد له ولا حلّ معه فأنكر ذلك، مع جميل
__________
(1) سبق التعريف به في الصفحة 235الحاشية 8.
(2) هو محمد بن عبد الرحمن بن عطية العطوي، وقد سبق التعريف به في الصفحة 219الحاشية 6.
والخبر في الأغاني 8/ 256255والوفيات 6/ 3938.
(3) الأبيات لمحمد بن عبد الرحمن العطوي، وهي في شعره 36، ولم تعز في الأغاني 8/ 255وزهر الآداب 2/ 1012 والوفيات 6/ 38ونسبت له في نضرة الإغريض 111والوفيات 6/ 39، والبيت الثاني والثالث في تاريخ بغداد 13/ 452له.
(4) هو القاضي وهب بن وهب بن كثير، من قضاة الرشيد، كان فقيها أخباريا نسّابا، وكان جوادا ممدّحا، ولي قضاء عسكر المهدي ثم قضاء المدينة توفي ببغداد سنة 200هـ طبقات ابن سعد 7/ 232والمعارف 516وتاريخ بغداد 13/ 457451ومعجم الأدباء 19/ 260والوفيات 6/ 4237ومرآة الجنان 1/ 464463وميزان الاعتدال 4/ 354353وحياة الحيوان 1/ 451ولسان الميزان 6/ 234231والشذرات 1/ 360.
(5) البيتان مع آخر في تاريخ بغداد 13/ 451. وهما في مرآة الجنان 1/ 463مع بيت آخر غير معزوين.(2/408)
ما فعل به مولاهم، فعاتب بعضهم فقال له (1): إنما نعين النازل على الإقامة، ولا نعين الرّاحل على الفراق فبلغ هذا الكلام جليلا من القرشيين فقال:
والله لفعل هؤلاء العبيد على هذا العهد أحسن من رفد سيّدهم.
الباب الخامس في الجود والسخاء والإيثار (2) (وما يؤثر في ذلك من عجيب الحكايات وغريب الآثار)
(3) الجود والكرم والسخاء والإيثار كلّها بمعنى واحد عند بعضهم، قال: إلا أن الباري سبحانه وتعالى إنّما يوصف بالأوليين، فيقال: جواد كريم دون الآخرين لعدم التوقيف من الشارع، كما أنّه جلّ وعلا يوصف بالعلم ولا يوصف بالعقل لذلك. وقال:
وعند بعضهم المراتب ثلاث: السخاء ثم الجود ثم الإيثار، فمن أعطى البعض فهو صاحب سخاء. ومن بذل الأكثر فهو صاحب جود، ومن آثر غيره بالحاضر وبقي في الجهد ومقاساة الضرّ، فهو صاحب إيثار. قال بعضهم: حقيقة الجود أن لا يصعب عليه البذل.
وقيل للأحنف بن قيس (4): ما الجود؟ فقال: بذل النّدى وكفّ الأذى (5). وقيل (6)
ليزيد بن معاوية: ما الجود؟ فقال: إعطاء المال من لا تعرف فإنّه لا يصل إليه حتى يتخطّى من تعرف. وسئل عنه الخليل بن أحمد (7)، فقال: الجود بذل المجهود، وقال غيره: هو أن تكون بمالك متبرّعا وعن مال غيرك متورّعا.
__________
(1) القول في المستطرف 1/ 164والرسالة القشيرية 115.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) من سراج الملوك 72بتصرف إلى قوله: = ومقاساة الضر، فهو صاحب إيثار = وبعض الخبر في الرسالة القشيرية 112 والمستطرف 1/ 156.
(4) القول في بهجة المجالس 1/ 624.
والأحنف بن قيس سبق التعريف به في الصفحة 53الحاشية 4.
(5) ج: الندى، وهو غلط.
(6) من الكامل 2/ 168.
(7) هو الخليل بن أحمد الفراهيدي العالم المشهور.
والخبر في بهجة المجالس 1/ 624وفيه = بذل الموجود = ولعلّه أولى. وهو في المحاسن والمساوئ 1/ 145كذلك، معزوّا للمأمون.(2/409)
وهو بإجماع العقلاء من أشرف الخلال وأفضل الخصال، وأجمل ما تتحلّى به الرّجال، إذ به تسترقّ الأحرار، وترفع الأقدار ويدرك الثّأر (1)، وتستمال الأعداء وتستكثر الأودّاء (2)، وتحقن الدّماء، ويجمل الذّكر ويحسن الثّناء، ويملك البعداء والقرباء، وتسود في غير عشائرهم الغرباء. قال (3) بعض الحكماء أصل المحاسن كلّها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النّفس عن الحرام، وسخاؤها بما ملكت علي الخاصّ والعامّ، وجميع خصال الخير من فروعه. (4) وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب:
صاحب الجود لا يقع وإن وقع وجد متّكا. وقال غيره: المعروف كنز لا ينفد من برّ ولا فاجر. (5) وقال حكيم بن حزام (6): ما أصبحت قطّ صباحا لم أر ببابي صاحب حاجة إلّا عددتها مصيبة أرجو ثوابها. وقال زيد بن أسلم (7): يا ابن آدم أمرك الله أن تكون كريما وتدخل الجنّة، ونهاك أن تكون لئيما وتدخل النّار، وأحسن من هذا ما روي عن جعفر بن محمد (8) رضي الله عنهما أنه قال، قال الله عز وجل:
__________
(1) حاشية أ: = خ. وتدرك الأوتار =.
وانظر بعض هذه الأقوال في بدائع السلك 1/ 419.
(2) الأودّاء المحبّون جمع ودود. (اللسان: ودد).
(3) من سراج الملوك 77.
(4) من سراج الملوك 75ونسب هذا القول في مجمع الأمثال 2/ 455لابن عباس رضي الله عنه.
وأكثم بن صيفي سبق التعريف به في الصفحة 437الحاشية 4.
(5) من سراج الملوك 74.
(6) حكيم بن حزام من سادات قريش في الجاهلية والإسلام، كان صديقا للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام وهو ابن أخي خديجة أمّ المومنين، كان جوادا كريما (54هـ) الاستيعاب 1/ 363362والأعلام 2/ 269.
(7) فقيه مفسّر، من أهل المدينة كان مع عمر بن عبد العزيز أيام خلافته، كان محدّثا ثقة كثير الحديث (136هـ) تذكرة الحفاظ 1/ 133132وميزان الاعتدال 2/ 98والأعلام 3/ 5756.
والقول في سراج الملوك 74وبدائع السلك 1/ 422.
(8) هو أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين الهاشمي القرشيّ أحد الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية وإليه تنسب الجعفرية، كان من أجلّاء التابعين، أخذ عنه الإمامان: أبو حنيفة ومالك (146هـ) المعارف 215وتاريخ اليعقوبي 2/ 330320والوفيات 1/ 328327، 436434، 472471 وتذكرة الحفاظ 1/ 167166وميزان الاعتدال 1/ 415414والأعلام 2/ 126.
والقول في بهجة المجالس 1/ 624وإحياء علوم الدين 3/ 214.(2/410)
= أنا جواد كريم لا يجاورني في جنّتي لئيم». ومثل هذا عند المحدثين حكمه الرّفع (1) لأنّه ممّا لا يقال بالرّأي. (2) وروي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت (3): (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السّخيّ قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنّة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، والجاهل السّخيّ أحبّ إلى الله من العابد البخيل» فالجود من أفضل (4) ما يتحلّى به الإنسان، وأحقّ خلق الله به من كان مفتقرا إلى صرف الوجوه إليه وعطف القلوب عليه من الملوك والحكام وولاة الأحكام، قال الشاعر (5): (الطويل)
إذا سست قوما فاجعل الجود بينهم ... وبينك تأمن كلّ ما تتخوّف
وإن خفت من أهواء قوم تشتّتا ... فبالجود فاجمع بينهم تتألّف
إذا كشفت عنك الملمّات عورة ... كفاك غطاء الجود ما يتكشّف
وقالت الحكماء: الجود أنصر من الجنود.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم منه بالمحلّ الذي لا يقاس به أحد من الناس كما جاء التصريح به في غير ما حديث كحديث أنس وابن عباس، قال أنس رضي الله عنه (6): «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، أجود الناس وأحسن الناس وأشجع
__________
(1) حكمه الرّفع أنّ ذلك الكلام هو ممّا لا يصدر إلّا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنّه من الأمور المغيّبة التي لا يقال فيها برأي مطلق النّاس، وإنما تستند إلى الوحي، إذن فحكمه الرّفع إلى الرسول عليه السلام. أنظر الباعث الحثيث 43 ورسالة الأستاذ عبد الله كنون في الملحق.
(2) من سراج الملوك 73إلى آخر الحديث، والخبر في الرسالة القشيرية 112والمستطرف 1/ 157.
(3) الحديث في الجامع الصحيح 4/ 342والبخلاء للبغدادي 47، 48وإحياء علوم الدين 3/ 213212، 220 ولباب الاداب 83وبدائع السلك 1/ 419. وهو حديث ضعيف انظر ذلك في اللآلئ المصنوعة 2/ 9291 وتذكرة الموضوعات 63والفوائد المجموعة 1250وسلسلة الأحاديث الضعيفة 184.
(4) ج: أحسن.
(5) الأبيات في بهجة المجالس 1/ 638غير معزوة، والأول والثالث في الأمالي 1/ 239وبدائع السلك 1/ 420 لأعرابي في النعمان لما توّج ملكا.
(6) صحيح مسلم 7/ 72وسنن ابن ماجة 2/ 926.(2/411)
الناس» (الحديث) وقال ابن عباس رضي الله عنهما (1): (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيعارضه القرآن. فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الرّيح المرسلة» وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه ردّ على هوازن سباياها، وكانوا ستة آلاف بين النساء والأبناء وأنه صلى الله عليه وسلم (2) أعطى جماعة من المؤلفة قلوبهم مائة بعير يتألفهم بذلك (3) (ويتألف) قومهم بهم لأنّهم كانوا أشرافهم. وأعطى رجالا من قريش ما دون المائة، وأعطى آخرين خمسين خمسين، وأعطى عباس بن مرداس السلمي (4) أباعر فسخطها وقال يعاتبه صلى الله عليه وسلم (5): (تام المتقارب)
كانت نهابا تلافيتها ... بكرّي على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع النّاس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
إلّا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمه الأربع (6)
__________
(1) فتح الباري 1/ 30وصحيح مسلم 7/ 73وسنن النسائي / 298. والخبر في السيرة 2/ 490488.
(2) من السيرة 2/ 494492إلى قوله: (فكان ذلك قطع لسانه) والخبر في الشعر والشعراء 1/ 306والعقد الفريد 1/ 277276.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 108الحاشية 1.
(5) الأبيات في ديوانه 8584والسيرة 2/ 494493وتاريخ الطبري 3/ 91وبعضها في الشعر والشعراء 1/ 306والعقد الفريد 1/ 276والأغاني 14/ 308.
النّهاب جمع نهب وهو الغنيمة التي تنهب في الحرب. الأجرع: المكان الواسع الذي فيه خشونة. العبيد: اسم فرس عباس بن مرداس: (اللسان: جرع، عبد، نهب).
عيينة هو عيينة بن حصن الفزاريّ من الأعراب الجفاة أسلم قبل الفتح، وقيل بعده، كان سيد قومه، وهو من المؤلفة قلوبهم. انظر الاستيعاب 3/ 12511249والأقرع هو الأقرع بن حابس التيميمي من أشراف بني تميم. صحابيّ شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنينا والطائف، وهو من المؤلفة قلوبهم (31هـ) الاستيعاب 1/ 103والأعلام 2/ 5.
ذو تدرا: أي ذو هجوم لا يتوقّى ولا يهاب، ففيه قوة على دفع أعدائه (اللسان: درأ).
(6) الأفائل صغار الإبل، بنات المخاض ونحوها جمع أفيل (اللسان: أفل).(2/412)
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان شيخي في مجمع (1)
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
قال صلى الله عليه وسلم (2): (اذهبوا فاقطعوا عنّي لسانه) فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه، وأراد بقوله (3): (بين عيينة والأقرع) عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التميمي وكانا ممّن أعطاهم (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير مائة بعير، فكأنه وجد في نفسه لذلك، فحمله على ما قال.
وإنه صلى الله عليه وسلم (5): أعطى رجلا منهم أي من المؤلفة قلوبهم غنما بين جبلين وأنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه مال البحرين مع أبي عبيدة بن الجرّاح (6) بثّه في النّاس، وأعطى (7) عمّه العباس منه من الذهب ما لم يطق حمله.
وأنه صلى الله عليه وسلم لما ردّ (8) على هوازن (9) سباياها، وذلك بالجعرّانة (10)
__________
(1) حصن هو والد عيينة السابق الذكر. وحابس هو كذلك والد الأقرع. يفوقان شيخي: يقصد والده مرداسا.
(2) الحديث في السيرة 2/ 494.
(3) السيرة 2/ 493.
(4) أب ج ش: أعطاه، وهو غلط.
(5) صحيح مسلم 7/ 74، 75والجامع الصحيح 3/ 53، 54.
(6) هو عامر بن عبد الله بن الجراح القرشيّ المشهور بكنيته أبي عبيدة أحد الصحابة المبشّرين بالجنة شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدرا وما بعدها من المشاهد كلها وقد دعاه الرسول بالقويّ الأمين. عيّنه عمر بن الخطاب على الشام لما عزل خالد بن الوليد (18هـ) الاستيعاب 2/ 795792، 4/ 17111710والأعلام 3/ 252.
(7) فتح الباري 6/ 168167، 268.
(8) الخبر في السيرة 2/ 488، 492وتاريخ الطبري 3/ 82، 89وإحياء العلوم 3/ 220واللسان. (هزن).
(9) هوازن قبيلة من قيس. (اللسان: هزن).
(10) الجعرّانة هكذا يقول العراقيون، والحجازيون يخفّفون فيقولون الجعرانة بتسكين العين وتخفيف الراء، وهي ماء بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أدنى وبها قسم رسول الله غنائم حنين، معجم ما استعجم 2/ 384ومعجم البلدان 2/ 142.(2/413)
منصرفه من غزوة حنين (1) ركب فاتّبعته حفاة الأعراب يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا الإبل والغنم وكانت شيئا كثيرا لا يدرى ما عدّته، وألحّوا عليه صلى الله عليه وسلم. (حتى) (2) ألجؤوه إلى شجرة فاختطفت رداءه (3)، فقال صلى الله عليه وسلم (4): ردّوا عليّ ردائي أيّها الناس فو الله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما (5) لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا. ثم عمد صلى الله عليه وسلم إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فرفعها ثم قال: أيّها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلّا الخمس والخمس مردود عليكم، الحديث بطوله.
فتأمّل هذا الكلام. وما اشتمل عليه من كرمه وحلمه عليه الصلاة والسلام.
وأخباره صلى الله عليه وسلم في الجود والإيثار ممّا لا تحتمله لكثرته المجلّدات والأسفار، وإنّما افتتحنا أخبار الكرام بما ذكرناه منها تبرّكا بآثاره وتيمّنا بأخباره وتطفّلا على كريم بابه، وتعلّقا بعظيم جنابه، وإشعارا بأنه صلى الله عليه وسلم سيّد الأكرمين وأسوتهم وإمامهم وقدوتهم، مع الجزم بأن ليس أحد منهم يقاربه في كرمه صلى الله عليه وسلم أو يضاهيه، فضلا عن كونه يساويه:
ليس التّكحّل في العينين كالكحل (6): (تام البسيط)
هذا وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز أصحاب نبيّه صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سبق التعريف بها في الصفحة 691الحاشية 5.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) تاريخ الطبري 3/ 89: فاختطفت الشجرة عنه رداءه.
(4) تاريخ الطبري 3/ 89: والبخلاء للبغدادي 30.
(5) النّعم واحد الأنعام وهي المال الراعية: قال ابن سيده: النّعم الإبل والشّاء يذكّر ويؤنث (اللسان: نعم).
(6) عجز بيت للمتنبي من قصيدة في المدح مطلعها
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلبّاه قبل الرّكب والإبل
وهي في ديوانه 3/ 8874. وصدر البيت هو:
لأنّ حلمك حلم لا تكلّفه ...
وعجز البيت مثل من الأمثال المشهورة انظر الغيث المسجم 2/ 401 (ط. العلمية).(2/414)
بالإيثار، ووصفهم به، فقال بعد أن ذكر المهاجرين منهم مشيرا إلى الأنصار (1):
(2) {(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هََاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلََا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حََاجَةً مِمََّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).} (3) روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّي جائع فأطعمني، فبعث صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه يلتمس له شيئا، فقلن والذي بعثك بالحقّ ما عندنا إلّا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم ما عند رسول الله ما يطعمك. ثم قال: من يضيف هذا، هذه الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فحمله إلى منزله، وقال لامرأته:
هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه، ولا تدّخري عنه شيئا، فقالت: ما عندنا إلّا قوت الصّبية، فقال: قومي فعلّليهم عن قوتهم حتى يناموا، ثم أسرجي السراج وابرزي فإذا أخذ الضيف يأكل فقومي كأنك تصلحين السّراج فأطفئيه وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلت، فجعلا يمضغان ألسنتهما، والضيف يظنّ أنهما يأكلان. وباتا طاويّين، فلما أصبحا ونظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الرجل تبسّم، وقال: لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة، ونزلت:
{«وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ»} الآية.
وعن أنس رضي الله عنه قال (4): أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي، وكان مجهودا فوجّه إلى جار له فوجّه به الجار إلى بيت آخر، فتداولته سبعة أبيات حتى عاد إلى الأول، فنزلت {(وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ)} الآية.
__________
(1) ج: للأنصار.
(2) سورة الحشر 59/ 9.
(3) من سراج الملوك 7372إلى قوله: (ثم رجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات) والخبر موجزا في إحياء العلوم 3/ 223
(4) الخبر في إحياء العلوم 1/ 62، 3/ 223.(2/415)
وعن (1) حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك (2) أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق، سقيته فإذا أنا به بين القتلى، فقلت له: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فإذا رجل يقول آه! فأشار ابن عمي: أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص (3)، فقلت له: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام: أن انطلق إليه فجئته، فإذا هو قد مات، ورجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي، فإذا هو قد مات، رحمهم الله تعالى.
(4) وفي الموطأ (5) أن مسكينا سأل عائشة رضي الله عنها، وهي صائمة وليس في بيتها إلّا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدي لنا شاة وكفنها، تعني ملفوفة بالرّغفان فقالت لي عائشة: هذا خير من قرصك.
(6) ومن أعجب ما يحكى في الإيثار ما ذكر أبو محمد الأزديّ، قال: لمّا احترق المسجد بمصر، ظنّ المسلمون أن النصارى أحرقوه، فأحرقوا خانا لهم، فقبض السلطان جماعة من الذين أحرقوا الخان وكتب رقاعا فيها: القطع والقتل والجلد، ونثرها عليهم، فمن وقعت عليه رقعة فعل به ما فيها، فوقعت رقعة فيها القتل بين يدي رجل، فقال: والله ما كنت أبالي لولا أمّ لي، وكان بجنبه بعض الفتيان، فقال له: برقعتي الجلد وليس لي أمّ، فخذ رقعتي وأعطني رقعتك، ففعل، فقتل ذلك الرجل وخلص الآخر.
__________
(1) الخبر في المستجاد 180والاستيعاب 3/ 1084وإحياء العلوم 3/ 224والمستطرف 1/ 157156وبدائع السالك 1/ 423.
(2) اليرموك: واد بناحية الشام ينتهي إلى نهر الأردن كانت به معركة مشهورة بين المسلمين والروم سنة 13هـ. تاريخ الطبري 3/ 393ومعجم ما استعجم 4/ 13941393ومعجم البلدان 5/ 434وأيام العرب في الإسلام 214199.
(3) هو أخو عمرو بن العاص القرشي، من المسلمين الأوائل وهاجر إلى أرض الحبشة، استشهد يوم اليرموك سنة 13هـ الاستيعاب 4/ 15401939والأعلام 6/ 86.
(4) من سراج الملوك 74إلى آخر الخبر.
(5) الموطأ 846والحديث في اللسان (كفن).
(6) من سراج الملوك 74إلى آخر الخبر، والخبر في المستجاد 43والمستطرف 1/ 157.(2/416)
وعن الفضيل بن عياض (1) رحمه الله، قال: بلغني أنّ رجلا وامرأته كانا يعيشان بغزلها فانطلق به إلى السوق يوما فباعه بدرهم ثم مرّ برجلين يختصمان، فسأل فيم يختصمان، فقيل في درهم، فدفع درهمه إليهما، فقالت امرأته: أصبت ووفّقت فذهب في اليوم الآخر بمثله، فلقي بائع سمكة فاشتراها منه بغزله فوجدت امرأته في بطنها درّة فباعها بمائة وعشرين ألف، فوقف سائل على الباب فشاطره. فذهب ثم رجع، وقال: أنا رسول ربّك فقد ابتلاك في الضّراء فوجدك صبورا كريما وفي السّراء فوجدك شكورا حليما وأعطاك بالدرهم الذي أعطيت أربعة وعشرين قيراطا، عجّل لك قيراطا واحدا، وذخر لك ثلاثة وعشرين قيراطا يعطيكها في الآخرة.
وكان طلحة بن عبيد الله القرشيّ التيميّ (2) الصحابيّ رضي الله عنه أحد الأجواد المشهورين في الإسلام. جاءه (3) رجل فسأله برحم بينه وبينه، فقال له:
هذا حائطي بمكان كذا، وهذه ستّ مائة ألف درهم يراح عليّ بها العشية، فإن شئت فالمال، وإن شئت فالحائط. وبعث (4) إليه رجل بجارية فوافته بين أصحابه وكانوا ثمانين رجلا فقال: قبيح بي أن آخذها لنفسي وأنتم حضور، وأكره أن أخصّ بها بعضكم وكلّكم له حق وحرمة وهي لا تحتمل القسمة. فأمر لكلّ واحد منهم بجارية أو وصيف. (5) وقال زياد ابن جرير رأيت طلحة بن عبيد الله فرّق عشرة آلاف درهم بمجلس، وإنّه ليخيط إزاره بيده. وقال قبيصة بن جابر (6) صحبت طلحة بن
__________
(1) هو أحد كبار الصوفية والزّهاد في العصر العباسي، كان يغلظ الكلام لهارون الرشيد عندما يأتيه يطلب أن يعظه (187هـ) المعارف 511وطبقات الصوفية 146وحلية الأولياء 8/ 13984والرسالة القشيرية 9وصفة الصفوة 2/ 139134وشرح المقامات 2/ 57والوفيات 4/ 5047ومرآة الجنان 1/ 417415 وميزان الاعتدال 3/ 361وتذكرة الحفاظ 1/ 246245وتهذيب التهذيب 8/ 297294والطبقات الكبرى للشعراني 1/ 6968والشذرات 1/ 318316والأعلام 5/ 153.
(2) سبق التعريف به انظر الصفحة 692الحاشية 4.
(3) من سراج الملوك 73بتصرف إلى قوله: «بجارية أو وصيف» والخبر في المحبر 151والمستطرف 1/ 158.
(4) الخبر في الرسالة القشيرية 113وانظر كشف الخفاء 2/ 231حديث: «من أهديت له هدية»
(5) من سراج الملوك 76إلى قوله: «وإنه ليخيط إزاره بيده» وفيه «مئة ألف» بدل عشرة آلاف.
(6) تابعي من رجال الحديث الفصحاء يعدّ من الطبقة الأولى من فقهاء أهل الكوفة بعد الصحابة (69هـ) تهذيب التهذيب 8/ 445344والأعلام 5/ 188.(2/417)
عبيد الله فما رأيت أحدا أعطي لجزيل من غير مسألة منه، ومن ثمّ سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلحة الجود وطلحة الفيّاض (1) لكثرة بذله الأموال، وقال فيه وفي الزبير رضي الله عنهما: إنهما جاراي في الجنّة. وكان الزبير بن العوام القرشيّ الأسديّ الصحابيّ رضي الله عنه أحد الأجواد المشهورين والشجعان المعدودين، ولما (2) مات وجد عليه مائتا ألف دينار (3) (كما تضافرت الأخبار بذلك).
وكانت عائشة أمّ المومنين رضي الله عنها من أجود النساء وأكرمهن، دخل (4) عليها المنكدر (5) فقال لها: يا أم المومنين أصابتفي فاقة: فقالت: ما عندي شيء، ولو كانت لي عشرة آلاف درهم لبعثتها إليك، فلمّا خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف درهم، مع خالد بن أسيد (6) فقالت: ما أسرع ما ابتليت، فأرسلت (7) بها في أثره، فدخل السوق فاشترى جارية بألف درهم فولدت له ثلاثة أولاد فكانوا عبّاد أهل المدينة، وهم محمد (8) وأبو بكر وعمر بنو المنكدر. وقال عروة بن الزبير (9): بعث معاوية إلى عائشة مرّة بثمانية آلاف. فو الله ما
__________
(1) حاشية أ: «خ وطلحة الخير»
(2) نسب هذا الخبر في سراج الملوك 74إلى حكيم بن حزام.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) من سراج الملوك 76إلى قوله: «وهم محمد وأبو بكر وعمر بنو المنكدر» والخبر في إحياء علوم الدين 3/ 215 والمستطرف 1/ 158157.
(5) المنكدر بن عبد الله القرشيّ التيميّ هو والد محمد بن المنكدر وإخوته، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت له صحبة، ولكنه ولد على عهد الرسول عليه السلام انظر الاستيعاب 4/ 1486والإصابة 6/ 226.
(6) أحد الصحابة قرشيّ أمويّ، أسلم عام الفتح وكان فيه تيه شديد وهو من المؤلفة قلوبهم. انظر الاستيعاب 2/ 431 والإصابة 2/ 226225.
(7) ج: فأرسلتها.
(8) محمد بن المنكدر القرشيّ التيميّ المدنيّ زاهد من رجال الحديث أدرك بعض الصحابة وروى عنهم، قال عنه مالك: كان سيّد القرّاء (130هـ) المعارف 461وتذكرة الحفاظ 1/ 128127والأعلام 7/ 112.
(9) هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، أبوه الزبير بن العوام أحد الصحابة العشرة المشهود لهم بالجنة. كان عروة رجلا صالحا عالما بالدّين زاهدا في الدنيا (93هـ) المعارف 222والوفيات 3/ 258255وتذكرة الحفاظ 1/ 6463 والأعلام 4/ 226.(2/418)
أمست (1) حتى فرّقتها، فقالت لها مولاتها: لو اشتريت لنا منها بدرهم لحما، فقالت: ألا قلتها (2). وقال سعيد بن عبد العزيز الدمشقيّ (3): قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشر ألف دينار. وروى عروة أنه رآها تتصدّق بسبعين ألفا، وإنّها لترقّع جانب درعها، وروى (4) محمد بن المنكدر عن أمّ ذرّة قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين (5) يكون مائة ألف، فدعت بطبق فجعلت تقسّمه في النّاس، فلما أمست قالت: يا جارية هاتي لي قرصي، فقالت أمّ ذرّة: يا أم المومنين أما استطعت أن تشتري بدرهم لحما ممّا أنفقت؟ قالت: لا تعنّفيني، لو ذكّرتني لفعلت.
وكان (6) قيس بن سعد بن عبادة (7) رضي الله عنهما أحد الأجواد مرض مرّة فاستبطأ إخوانه في العيادة فسأل عنهم (8) فقيل له: إنّهم يستحيون ممّا لك عليهم من الدّين، فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان الزّيارة، ثم أمر من ينادي:
من كان لقيس عنده مال فهو في حلّ، فكسرت عتبة بابه العشيّ، لكثرة العوّاد.
وقيل
__________
(1) ج: أمسيت، وهو غلط.
(2) ج: قلت لي.
(3) هو أبو محمد التنوخي فقيه دمشق في عصره محدّث ثقة شديد الحفظ وكان لأهل الشام كمالك لأهل الحجاز في التقدم والفقه (167هـ) تذكرة الحفاظ 1/ 220219والأعلام 3/ 97.
(4) الخبر في المستجاد 13ولباب الآداب 162والمحاسن والمساوئ 1/ 144.
ومحمد بن المنكدر سبق التعريف به في الصفحة السابقة الحاشية 8.
وأم ذرّة هي امرأة كانت تخدم عائشة رضي الله عنها انظر طبقات بن سعد 8/ 486والمستجاد 13ولباب الآداب 126.
(5) الغرارة واحدة الغرائر: الجوالق وهو وعاء من الأوعية. (اللسان: جلق، غرر).
(6) من سراج الملوك 74بتصرف إلى آخر الخبر، وهو في المستجاد 176والاستيعاب 3/ 1293والرسالة القشيرية 113وحياة الحيوان 1/ 323322والمستطرف 1/ 158.
(7) قيس بن سعد الأنصاريّ الخزرجيّ من كرام الصحابة وأسخيائهم ودهاتهم ومن أصحاب الرأي والمكيدة في الحروب مع النّجدة والبسالة، وكان شريف قومه غير مدافع، وكان من النبي صلى الله عليه وسلم مكان صاحب الشرطة من الأمير (60هـ) المعارف 259، 547، 593والاستيعاب 3/ 12931289والأعلام 5/ 206.
(8) ج: عليهم.(2/419)
له (1): هل رأيت قط أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا مرّة بالبادية على امرأة فحضر زوجها، فجاء بناقة فنحرها، وقال شأنكم، فلمّا كان من الغد جاءنا بأخرى فنحرها، وقال شأنكم، وفعل ذلك أياما فقلنا له يوما: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلّا اليسير، فقال: إني لا أطعم أضيافي الغبّ (2)، فبقينا عنده أياما والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة:
اعتذري عنّا إليه ومضينا، فلما ارتفع النّهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيّها الرّكب اللّئام، أعطيتمونا. ثمن قرانا، ثم قال: والله لتأخذنّها وإلّا طعنتكم برمحي فأخذناها وانصرف.
وكان (3) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (4) رضي الله عنه وعن أبيه أحد الأجواد، خرج يوما إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيها غلام أسود يقوم عليها، فأتي بقوته ثلاثة أقراص. ودخل كلب فدنا من الغلام، فرمى إليه بقرص فأكله، ورمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما وعبد الله ينظر، فقال له: يا غلام، كم قوتك كلّ يوم؟ قال: ما رأيت قال: فلم أثرت هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب، وإنّما جاءني من مسافة بعيدة جائعا فكرهت ردّه، قال: ما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال ابن جعفر: ألام على السخاء، إنّ هذا لأسخى منّي، فاشترى الغلام والحائط وما فيه من الآلات وأعتق الغلام ووهب ذلك له.
__________
(1) من سراج الملوك 73بتصرف إلى قوله: (وإلّا طعنتكم برمحي، فأخذناها وانصرف) والخبر في الرسالة القشيرية 113 والمستطرف 1/ 157.
(2) الغبّ من الطعام ما بات ليلة فسد أو لم يفسد، وخصّ به بعضهم اللّحم (اللسان: غبب).
(3) من سراج الملوك 7574بتصرف إلى قوله: (واعتق الغلام ووهب ذلك له). والخبر في المستجاد 1817وإحياء العلوم 3/ 223والمستطرف 1/ 159وحياة الحيوان 2/ 496.
(4) هو أحد الصحابة ولد بأرض الحبشة لمّا هاجر أبواه إليها، كان كريما جوادا ظريفا سخيّا يسمّى بحر الجود، ويقال إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه، وكان أحد الأمراء في جيش علي يوم صفين (80هـ) المحبر 150147والمعارف 206 والاستيعاب 3/ 882880والفوات 2/ 171170والأعلام 14/ 76.(2/420)
وامتدحه (1) نصيب فأمر له بخيل وإبل وأثاث ودنانير ودراهم فقيل له:
أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال! فقال: إن كان أسود فإنّ شعره لأبيض، وإنّ ثناءه لعربيّ، ولقد استحقّ بما قال أكثر ممّا نال، وهل أعطيناه إلّا ثيابا تبلى، ومالا يفنى، ومطايا (2) تنضى، وأعطانا مديحا يبقى، وثناء يروى.
وقيل له (3): إنّك تبذل الكثير إذا سئلت، وتضنّ بالقليل إذا توجرت، فقال إنّي أبذل مالي وأضنّ بعقلي (4). ومرّ يوما ومعه عدة من أصحابه بمنزل رجل قد عرس، وإذا مغنية تغنّي (5): (المنسرح)
قل للكرام ببابنا يلجوا ... ما في التّصابي على الفتى حرج
فقال عبد الله لأصحابه: لجوا فقد أذن لنا القوم، فنزل ونزلوا، فدخلوا، فلمّا رآه صاحب المنزل تلقّاه وأجلسه على الفراش، فقال للرجل: كم أنفقت على وليمتك؟
قال: مائتي دينار. قال: وكم مهر امرأتك؟ قال: كذا وكذا، فأمر له بمائتي دينار ومهر امرأته، ومائة دينار بعد ذلك معونة واعتذر إليه وانصرف.
ويروى (6) أنّ أعرابيا قدم على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المومنين إنّ لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله وشكرت، وإن أنت لم تقضها، حمدت الله وعذرتك، وإنّ الحياء يمنعني أن أذكرها. فقال له: خطّها في الأرض، فخطّ فيها: إنّي فقير، فقال لغلامه: أكسه حلّتي فكساه إيّاها فقال (7): (تام البسيط)
كسوتني حلّة تبلى محاسنها ... فسوف أكسوك من حسن الثّنا حللا
__________
(1) الخبر في زهر الآداب 2/ 707706والاستيعاب 3/ 882.
(2) ج: وعطايا، وهو غلط.
(3) الخبر في الرسالة القشيرية 113.
(4) الخبر في التطفيل 36وهو في العقد الفريد 6/ 20ببعض الاختلاف.
(5) البيت في التطفيل 36والعقد الفريد 6/ 20.
(6) الخبر في العمدة 1/ 29وسراج الملوك 7776والمستطرف 1/ 162.
(7) الأبيات في سراج الملوك 76والمستطرف 1/ 162وما عدا البيت الثاني في العمدة 1/ 29.(2/421)
إن نلت حسن ثناء نلت مكرمة ... ولست تبغي بما قد نلته بدلا
إنّ الثّناء ليحيي ذكر صاحبه ... كالغيث يحيي نداه السّهل والجبلا
لا تزهد الدّهر في عرف بدأت به ... فكلّ عبد سيجزى بالذي فعلا
فقال عليّ كرّم الله وجهه للغلام: زده مائة دينار، فأعطاه إيّاها، فلمّا ولّى الأعرابيّ قال قنبر (1): يا أمير المومنين، لو فرّقتها في المسلمين لأصلحت (2) بها من شأنهم، فقال علي رضي الله عنه: مه (3) يا قنبر، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (4): «اشكروا لمن أثنى عليكم، وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» كذا في رواية، وفي أخرى أنه لمّا أنشده الأبيات أمر له بخمسين دينارا، وقال له:
الحلّة لفاقتك والخمسون لأدبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (5):
«أنزلوا النّاس منازلهم» وهي التي اقتصر عليها ابن رشيق في عمدته (6).
وكان (7) الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أحد الأجواد، سأله رجل فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال له: إيت بحمّال يحمله لك، فأتاه بحمّال فأعطاه طيلسانه، وقال: ليكن (8) كراء الحمّال من قبلي. وسمع رجلا يقول (9):
__________
(1) هو غلام علي بن أبي طالب ومولاه وحاجبه انظر حياة الحيوان 2/ 424.
(2) ج: فأصلحت.
(3) مه: اسم سمّي به الفعل معناه اكفف أو اسكت. (اللسان: مهه).
(4) الحديث في نثر الدر 1/ 163والعمدة 1/ 29وسراج الملوك 7776والمستطرف 1/ 162والمقاصد الحسنة 32، 489وجزؤه الأخير في تاريخ بغداد 12/ 39وموضوعات الصغاني 63.
(5) الحديث في العمدة 1/ 29وسراج الملوك 7776والمستطرف 1/ 162.
(6) العمدة 1/ 29.
(7) من سراج الملوك 77بتصرف إلى قوله: «كراء الحمال من قبلي» والخبر في المستجاد 1110والرسالة القشيرية 114وإحياء العلوم 3/ 215ولباب الآداب 126والطبقات الكبرى للشعراني 1/ 26.
(8) أب ج ش هـ و: ليكون، وهو غلط.
(9) الخبر في سير أعلام النبلاء 3/ 260.(2/422)
اللهم ارزقني عشرة ألاف درهم، فانصرف إلى منزله، وبعث بها إليه. وخرج (1) رضي الله من ماله مرّتين وقاسم الله تعالى ماله (2) ثلاث مرات رضي الله (عنه) (3) وأرضاه.
(4) وعن شهر بن حوشب (5) رحمه الله قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله (عنه) الشّام طاف بكورها حتى نزل حمص: فقال: اكتبوا فقراءهم، فرفعوا إليه الرقعة فإذا فيها سعيد بن عامر (6)، فقال: من سعيد بن عامر؟ فقالوا:
أميرنا، فعجب عمر رضي الله عنه، وقال: كيف يكون أميركم فقيرا؟ قالوا: إنّه لا يمسك شيئا. فبكى عمر رضي الله عنه وبعث إليه بألف دينار يستعين بها في حاجته، فجعل يسترجع (7)، فقالت له امرأته: مالك، أصابك أمير المومنين بشيء؟
قال: أعظم من ذلك، أتتني الدّنيا، دخلت عليّ الدنيا، وإنّي سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم (8) يقول: «إنّ فقراء المسلمين يدخلون الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين عاما» فو الله ما يسرّني أنّي حبست عن الرّعيل الأول وأنّ لي ما طلعت عليه الشّمس. قالت: فاصنع فيه ما شئت، قال: هل عندك معونة؟ قالت نعم، فأتته بخمارها فصرّ الدنانير فيها صررا ثم جعلها في مخلاة وبات يصلّي ويبكي حتى أصبح فاعترض جيشا من جيوش المسلمين فأمضاها كلّها، فقالت له امرأته:
رحمك (9) الله، لو حبست منها شيئا تستعين به، فقال: سمعت النبي صلى الله
__________
(1) الخبر في سير أعلام النبلاء 3/ 267.
(2) ج: ماية، وهو غلط.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) من سراج الملوك 107بتصرف إلى قوله: «اختار كن عليهن، فسكتت» والخبر في حلية الأولياء 1/ 246244.
(5) شهر بن حوشب الأشعريّ فقيه قارئ من رجال الحديث شاميّ الأصل، سكن العراق لا يوثق بحديثه، وبعضهم يوثّقه (98هـ) المعارف 448وميزان الاعتدال 3/ 285283والأعلام 3/ 178.
(6) أحد الصحابة، أسلم قبل خيبر وشهدها وما بعدها من المشاهد، كان خيّرا فاضلا زاهدا ولاه عمر حمص لما فتح الشام (19هـ) حلية الأولياء 1/ 247244والاستيعاب 2/ 625624والأعلام 3/ 97.
(7) استرجع: قال: {«إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ»} (اللسان: رجع)
(8) سنن ابن ماجة 2/ 13811380وفيه (بنصف يوم: خمس مائة عام). وفي الاستيعاب 2/ 625. (بتسعين عاما). وبعضه في اللسان (خرف).
(9) ج: يرحمك.(2/423)
عليه وسلم يقول (1) لو اطّلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأتها من ريح المسك» وإني والله ما أختاركنّ (2) عليهنّ، (3) (فسكتت).
ويروى (4) أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل على حمص رجلا يقال له عمير بن سعد (5)، فلمّا مضت السّنة كتب إليه أن يقدم، فلم يشعر له عمر أن قدم ماشيا حافيا، عكّازته في يده وإداوته ومزوده وقصعته على ظهره، فلمّا نظر إليه قال له: يا عمير، أخنتنا أم البلاد بلاد سوء؟ فقال: يا أمير المومنين.
أما نهاك الله أن تجهر بالسّوء (6) وعن سوء الظّنّ وما ترى من سوء الحال وقد جئتكم بالدّنيا أجرّها بقرابها (7)؟ قال: وما معك من الدّنيا؟ قال: عكازة أتوكأ عليها وأدفع بها عدوّا إن لقيته ومزودي أحمل فيه طعامي وإداوتي أحمل فيها ماء شربي وصلاتي، وقصعتي هذه أتوضأ فيها وأغسل فيها رأسي وآكل فيها طعامي، فو الله يا أمير المومنين ما الدنيا بعد إلّا تبع لما معي، فقام عمر رضي الله عنه من مجلسه إلى قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه فبكى ثم قال:
اللهم ألحقني بصاحبيّ غير مفتضح ولا مبدّل ثم عاد إلى مجلسه، فقال: ما صنعت في عملك يا عمير؟ فقال: أخذت الرّقّة (8) من أهل الرقة والإبل من أهل الإبل،
__________
(1) الحديث في الفتح الرباني 14/ 14. رجاء في حلية الأولياء 1/ 247 «لو أنّ حواء أطلعت أصبعا من أصابعها لوجد ريحها كلّ ذي روح».
(2) أب ج ش: أختاركم، وهو غلط.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) من سراج الملوك 108107بتصرف.
(5) صحابي من الأنصار يقال له نسيج وحده، كان من الزّهاد العابدين، وليّ لعمر حمص قبل سعيد بن عامر (السابق الذكر قبل قليل) وقيل بعده (نحو 45هـ) الاستيعاب 3/ 12171215والأعلام 5/ 88.
(6) يشير إلى قوله تعالى {(لََا يُحِبُّ اللََّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ)} سورة النساء 7/ 148وقوله تعالى: {(الظََّانِّينَ بِاللََّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دََائِرَةُ السَّوْءِ)} سورة الفتح 48/ 6.
(7) القراب هو شبه الجراب يطرح فيه الراكب سيفه بغمده وسوطه وقد يطرح فيه زاده من تمر وغيره. (اللسان: قرب).
(8) الرّقّة يقصد بها المعز. انظر اللسان (رقق).(2/424)
وأخذت الجزية من أهل الذّمّة عن يد وهم صاغرون، ثم قسّمتها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فو الله يا أمير المومنين لو بقي منها شيء عندي أتيتك به، فقال عمر رضي الله عنه: عد إلى عملك، فقال عمير: بالله يا أمير المومنين أن تردّني إلى عملي (1) ولم أسلم منه حتى قلت لذمّيّ أخزاه الله: ولقد خشيت أن يخصمني (2) محمد صلى الله عليه وسلم ولقد سمعته يقول: (3). «أنا حجيج المظلوم فمن حاججته حججته» ولكن ايذن لي أن آتي أهلي. فأذن له فأتى أهله.
فبعث عمر رجلا يقال له حبيب بمائة دينار، فقال له: ايت عميرا فانزل عليه ثلاثا فإن يك خائنا لم يخف عليك في عيشه (4) وحال أهل بيته، وإن لم يكن خائنا لم يخف عليك فادفع له المائة، فأتاه حبيب فنزل عليه ثلاثا فلم ير له عيشا إلّا الشّعير والزّيت، فلمّا مضت ثلاث، قال له: يا حبيب إن رأيت أن تتحوّل إلى جيراننا فلعلّ أن يكونوا أوسع عيشا منّا. أما نحن فو الله لو كان عندنا غير هذا لآثرناك به، فدفع إليه بالمائة، وقال: بعثها إليك أمير المومنين، فدعا بفرو (5) خلق لامرأته فصرّها الخمسة والستة والسبعة فقسمها. فقدم حبيب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له: يا أمير المومنين جئتك من عند أزهد النّاس وما عنده من الدنيا قليل ولا كثير، فبعث إليه عمر رضي الله عنه أن يقدم، فلمّا قدم، قال له: ما صنعت بالمائة يا عمير؟ قال: لا تسلني عنها، قال: لتخبرنّي عنها. قال: قسّمتها بيني وبين إخواني من المهاجرين والأنصار. قال: فأمر له عمر بوسقين (6)
__________
(1) يرجوه أن لا يردّه إلى عمله.
(2) خصمه يخصمه خصما: غلبه بالحجّة (اللسان: خصم).
(3) رواه الشيخان برواية «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه يوم القيامة» وهو في سراج الملوك 108107
(4) ج: عشية، وهو غلط.
(5) الفرو والفروة جلدة عليها صوف أو وبر، وقيل هي القناع أو الخمار الذي تضعه المرأة على رأسها ووجهها (اللسان: فرا).
(6) الوسق والوسق مكيلة معلومة، وقيل: هو حمل بعير وهو ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم (اللسان: وسق).(2/425)
من طعام وثوبين. قال: يا أمير المومنين، أما الثوبان فأقبل، وأمّا الوسقان فلا حاجة لي بهما، عند أهلي صاع من برّ هو كافيهم حتى أرجع إليهم.
وروي (1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صرّ أربع مائة دينار، وقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرّاح (2) ثم تلكّ (3) ساعة في البيت حتى ترى ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، وقال له يقول لك أمير المومنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال وصله الله ورحمه. ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السّبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفدها (4). ورجع الغلام إلى عمر، فأخبره ووجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل (5) وقال: اذهب بها إلى معاذ وتلكّ (3)
في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع فيها، فذهب بها إليه، وقال: إنّ أمير المومنين يقول لك: اجعل هذه في حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، ثم قال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا، فقالت امرأة معاذ: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلّا دينار، فرمى به إليها. فرجع الغلام فأخبر بذلك عمر، فقل عمر: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
وهذه كانت سيرة عامّة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته في البذل والإيثار. وأخبارهم في ذلك كثيرة شهيرة عند علماء الآثار: (تام البسيط)
من تلق منهم تقل لقيت سيّدهم ... مثل النّجوم التي يسري بها السّاري (6)
رضي الله عنهم أجمعين، ونفعنا ببركاتهم، وحشرنا في زمرتهم بمنّه وكرمه آمين.
__________
(1) من سراج الملوك 108بتصرف إلى آخر الخبر، وبعضه في اللسان (لها).
(2) سبق التعريف به في الصفحة 622الحاشية 2.
(3) كذا في أب ج ش هـ و، وأصلها تلكّأ أي تباطأ. (اللسان: لكأ)، وجاء الخبر في اللسان (لها) وفيه تلهّ ساعة
أي تشاغل وتعلّل.
(4) أنفدها: أفناها من نفد ينفد (المعجم الوسيط: نفد)
(5) سبق التعريف به في الصفحة 261الحاشية 6.
(6) لم أعثر على هذا البيت في المظان.(2/426)
وحدث (1) الأصمعيّ قال: كانت حرب بالبادية ثم اتّصلت بالبصرة، فتفاقم الأمر فيها حتى مشي بين النّاس بالصّلح فاجتمعوا في المسجد الجامع، قال:
فبعثت (2) وأنا غلام إلى القعقاع بن ضرار (3) [من بني] (4) دارم، فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت، فإذا هو في شملة (5) يخلط نوى لعنز له حلوب فخبّرته بمجتمع القوم، فأمهل حتى غسل القصعة ثم قال: يا جارية غدّينا فأتته بزيت وتمر، قال: فدعاني فقذرته أن آكل معه حتّى إذا قضى من أكله حاجته وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يده ثم صاح: يا جارية، اسقينا ماء، فأتته بماء فشرب ومسح بفضله على وجهه ثم قال: الحمد لله ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام، متى نؤدّي شكر هذه النّعمة، ثم قال: عليّ بردائي فأتته برداء، فارتدى به على تلك الشّملة. قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحا لزيّه فدخل المسجد فصلّى ركعتين ومشى إلى القوم فلم تبق حبوة إلّا حلّت إعظاما له، ثم جلس فتحمّل جميع ما كان بين الأحياء من الديات في ماله، وانصرف.
وكان (6) إمامنا مالك بن أنس رحمه الله أحد الأجواد، قال الشافعي:
رأيت على باب داره دوابّ من أفراس خراسان جاءته هدية، ما رأيت قطّ أحسن منها، فقلت: ما أحسن هذه! فقال: هي هدية منّي إليك، فقلت: دع لنفسك منها دابّة تركبها، فقال: إنّي لأستحيي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة.
__________
(1) من سراج الملوك 76بتصرف إلى آخر الخبر وهو في عيون الأخبار 3/ 333332والكامل 1/ 139والمستجاد 209208وجاء في ثمار القلوب 532 (ت. أبو الفضل) أن الذي أرسل هو قتيبة بن مسلم إلى هزار بن القعقاع.
(2) ج: فبعث، وهو غلط.
(3) أب ج ش هـ و: ضرار بن القعقاع بن دارم، وهو غلط والتصحيح من المستجاد وجمهرة الأنساب 233.
(4) زيادة من الكامل 1/ 139.
(5) الشّملة: كساء يشتمل به (اللسان: شمل).
(6) الخبر في إحياء العلوم 1/ 25وسرح العيون 262.(2/427)
وكان (الإمام) (1) الليث بن سعد (2) أحد الأجواد، بعث إلى الإمام مالك رضي الله عنهما مرة ألف دينار وأهدى إليه مرّة أحمال عصفر (3)، وكان يصله كلّ سنة بمائة دينار وأعطى ابن لهيعة (4) لمّا احترق منزله ألف دينار (5)، (ووصل منصور بن عمار الواعظ (6) بألف دينار). وجاءته (7) امرأة بسكرّجة تطلب منه عسلا، فأمر لها بظرف عسل، فقيل له في ذلك، فقال: إنّها سألت على قدر حاجتها، ونحن نعطي على قدر نعمتنا. كان رضي الله عنه يعدّ من الأبدال (8)
وكان دخله في السنة ثمانين ألف دينار، (9) وما وجبت عليه زكاة قط، وفي مثله رضي الله عنه قيل (10): (الوافر)
ملأت يدي من الدّنيا مرارا ... فما طمع العواذل في اقتصادي
ولا وجبت عليّ زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على الجواد؟!
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
والخبر في المستجاد 175.
(2) الليث بن سعد الفهميّ إمام أهل مصر في الفقه والحديث، أصله من أصبهان قال عنه الشافعي: أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به (175هـ) الوفيات 4/ 132127والأعلام 5/ 248.
(3) العصفر نبات يستخرج مه صبغ أحمر. (اللسان: عصفر).
(4) ش: ليعه، وهو غلط.
وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة الحضرميّ المصريّ قاضي الديار المصرية وعالمها ومحدّثها ولاه أبو جعفر المنصور قضاء مصر، احترقت داره وكتبه فبعث إليه الليث ألف دينار (174هـ) المعارف 505والوفيات 3/ 3938 وميزان الاعتدال 2/ 483475والأعلام 4/ 115.
(5) ما بين القوسين ورد في (ج) بعد قوله: نعطي على قدر نعمتنا.
(6) منصور بن عمار الواعظ كان المنتهى في بلاغة الوعظ وترقيق القلوب وتحريك الهمم، وعظ ببغداد والشام ومصر، وبعد صيته واشتهر اسمه، وهو من المحدثين أيضا، انظر طبقات الصوفية 136130والرسالة القشيرية 18وميزان الاعتدال 4/ 188187والطبقات الكبرى للشعراني 1/ 8483.
(7) من سراج الملوك 77بتصرف إلى قوله: = نعطي على قدر نعمتنا = والخبر في الرسالة القشيرية 114وإحياء العلوم 3/ 217.
السّكرّجة إناء صغير يوكل فيه الشيء القليل من الأدم. الظّرف. وعاء كلّ شيء. (اللسان: سكرج، ظرف).
(8) الأبدال جمع بدل وبدل وهم الأولياء والعبّاد سمّوا بذلك لأنهم أبدلوا من السّلف الصالح. (اللسان: بدل).
(9) الخبر في المستجاد 175.
(10) البيتان لبكر بن النطاح، وهما من مقطعة في أربعة أبيات في عتاب قرّة بن محرز الحنفي لمّا لامه على تبذير ما يعطيه من مال أولها:
ألّا يا قرّ لا تك سامريّا ... فتترك من يزورك في جهاد
وهي في شعره 170والأغاني 19/ 110والبيتان له في عنوان المرقصات 39والفوات 1/ 221، وهما غير منسوبين في العقد الفريد 1/ 237وسراج الملوك 176.(2/428)
وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ رحمه الله موصوفا بالجود يروى (1)
أنّه لما قدم من صنعاء إلى مكة كان معه عشرة آلاف دينار، فقيل له: ألا تشتري بها ضيعة؟ فضرب خيمته خارج مكة وصبّ الدنانير، فكلّ من دخل عليه أعطاه منها قبضة، فلمّا جاء وقت الظهر نفض الثوب وقام وليس بيده منها شيء.
وكانت البرامكة ممّن عرف بالجود واشتهر به، فكانوا في ذلك لغيرهم أسوة ولمن بعدهم فيه قدوة حتى قيل في حقهم (2): (تام الكامل)
إنّ البرامكة الكرام تعلّموا ... فعل الجميل وعلّموه النّاسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لا يهدمون لما بنوه أساسا
وإذا هم صنعوا الصّنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا
(وأخبارهم (3) في ذلك شهيرة)، مدح بعضهم بعض الشّعراء بقوله (4): (الطويل)
سألت النّدى: هل أنت حرّ فقال: لا ... ولكنّني عبد ليحيى بن خالد
فقلت: شراء؟ قال لا، بل وراثة ... توارثني من والد بعد والد
فأمر أن يعطى بكلّ حرف من حروف البيتين ألف (درهم) (3) فعدّت حروفها فوجدت سبعين فانصرف بسبعين ألف درهم، وقد فعل ذلك غير واحد من خلفاء بني العباس كالرشيد والمامون مع شعرائهم كمروان بن أبي حفصة (5) ومحمد بن وهيب الحميري (6)، كما مرّ الإلمام بذلك في ترجمته.
__________
(1) من سراج الملوك 78بتصرف إلى آخر الخبر، وهو في المستجاد 179والرسالة القشيرية 114وإحياء العلوم 3/ 118
(2) الأبيات أول مقطعة في خمسة أبيات منسوبة للعطوي وهي في شعره 60، ونسبت الأبيات الثلاثة لأبي نواس وهي في ديوانه 582ونسبت في الوفيات 5/ 95لهما معا.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) البيتان في مدح يحيى بن خالد البرمكي وهما في العقد الفريد 1/ 228والمستطرف 1/ 162غير منسوبين.
(5) سبق التعريف به في الصفحة 188الحاشية 1.
(6) سبقت ترجمته برقم 33، الصفحة 233224.(2/429)
(1) (وكان معن بن زائدة الشيباني (2) أحد الأجواد المشهورين، حدث الإمام أبو خالد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (3)، فقيه مكة رحمه الله، قال: خرجت إلى اليمن قاصدا معن بن زائدة في دين ركبني قال: فلما نزلت عليه رحّب بي وسهّل (4)، وقال: ما أقدمك هذه المرّة؟ قلت: دين ركبني لم تف به جائزة أمير المومنين، فضاق ذرعي به ولم أر له سواك، فخرجت إليك، فقال: قدمت خير مقدم يقضى دينك وتنصرف محبورا إلى وطنك. قال: فأقمت عنده شهورا في أحسن مثوى وأكرم ضيافة، فإني لخارج من عنده يوما إذ رأيت النّاس يتأهّبون إلى الحجّ، فأدركتني وحشة ولم أملك العبرة، وحنّت نفسي إلى الوطن، فرجعت إليه وقد اغرورقت عيناي بالدّموع، فقال لي: مالك؟ قلت: رأيت النّاس في أهبة إلى الحجّ والخروج إلى مكة، فذكرت أبياتا لعمر بن أبي ربيعة حملتني على ما ترى، وحرّكتني إلى الوطن. قال: وأيّ أبيات عمر؟ قلت قوله (5): (تام البسيط)
هيهات من أمة الوهّاب منزلنا ... إذا نزلنا بسيف البحر من عدن
واحتلّ أهلك أجيادا فليس لنا ... إلّا التّذكّر أو حظّ من الحزن
بل ما نسيت غداة البين موقفها ... وموقفي وكلانا ثمّ ذو شجن
وقولها للثّريا وهي باكية ... والدّمع منها على الخدّين ذو سنن
بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا تريد بطول المكث في اليمن؟
إن كنت حاولت دنيا أو رضيت ... فما وجدت لترك الحجّ من ثمن
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (و) إلى قوله: = لا آخذ على معروف صنعته ثمنا» والخبر في الوفيات 3/ 64موجزا.
(2) من قواد بني أمية ثم خصّ بالمنصور العباسي وقلّده اليمن ثم أنفذه إلى الخوارج بسجستان فقتل هناك (سنة 151هـ) أسماء المغتالين 196195ومعجم الشعراء 401400وأمالي المرتضى 1/ 227212والوفيات 5/ 254244والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم.
(3) أحد العلماء المشهورين ويقال إنه أول من صنّف الكتب في الإسلام كان إمام أهل الحجاز في عصره، وهو من المحدثين الثقات (150هـ) طبقات الفقهاء 71والوفيات 3/ 164163وتذكرة الحفظ 1/ 171169وميزان الاعتدال 2/ 659والأعلام 4/ 160.
(4) أي قال له أهلا وسهلا.
(5) أول قصيدة غزلية وهي في ديوانه 285283.(2/430)
فقال: أتعزم على الرّحيل والرجوع إلى وطنك؟ قلت: نعم، قال: صحبتك السلامة ورزقت العافية. وخرجت من عنده، فما وصلت إلى موضعي حتّى سبقتني خمسة عشر بغلا عليها عصب (1) اليمن ودراهم وضروب من الحبر. فقضيت ديني وتأثّلت منه كثيرا ممّا بيديّ اليوم.
كان معن هذا أمير العراقين أيام بني أمية، وجرت بينه وبين بني العباس حروب شديدة، فلمّا انتقلت الدولة إليهم جعل فيه أبو جعفر المنصور الجعائل لمن (2) يأتيه به قال معن (3): فاضطررت لشدّة الطّلب إلى أن تعرّضت للشمس حتى تغيّر وجهي وخفّفت عارضيّ وركبت على جمل وعليّ ثياب رثّة، وخرجت إلى البادية لأقيم بها، قال: فلمّا خرجت من باب حرب أحد أبواب بغداد، تبعني أسود متقلّدا سيفا فأمهلني حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي، فقلت: مالك؟ قال: أنت طلبة أمير المومنين! فقلت: ومن أنا حتى أطلب؟ قال: أنت معن بن زائدة، فقلت يا هذا، اتّق الله، وأين أنا من معن؟
فقال: دع هذا عنك، فو الله إنّي لأعرف بك منك قال: فلمّا رأيت منه الجدّ، قلت له:
هذا جوهر قد حملته معي أضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي، فخذه ولا تكن سببا في سفك دمي. قال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر إليه ساعة ثم قال: صدقت في قيمته ولست قابله منك حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني خلّيت سبيلك، فقلت: قل: قال إنّ الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني، هل وهبت ما لك كلّه؟ قلت: لا،
__________
(1) ج: عصف، وهو غلط.
والعصب: ضرب من برود اليمن يعصب غزلها أي يجمع ويشدّ ثم يصبغ وينسج. الحبر جمع حبرة وحبرة وهي ضرب من برود اليمن مخطّط. تأثّل مالا: اكتسبه واتّخذه وثمّره. (اللسان: أثل، حبر، عصب)
(2) ج: لم، وهو غلط.
والجعائل جمع جعيلة أو جعالة: ما جعله له على عمله. الأجر الذي يجعل للإنسان مقابل القيام بعمل. (اللسان:
جعل)
(3) الخبر في الفرج بعد الشدة 2/ 372والوفيات 5/ 246245والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم.(2/431)
قال: فنصفه؟ قلت: لا، قال: فثلثه؟ قلت: لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت فقلت: قد فعلت. قال: فأنا رزقي من الخليفة كلّ شهر عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته ألوف (1) دنانير، وقد وهبته لك ووهبت لك نفسك لجودك ولتعلم أنّ في الدنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك. ثم أرسل خطام البعير وانصرف، فقلت له: يا هذا قد والله فضحتني ولسفك دمي أهون عليّ ممّا فعلت فخذ ما دفعته لك، فضحك، وقال: والله لا آخذ على معروف صنعته ثمنا).
وكان الحكم بن المطلب (2) أحد الأجواد أعطى جميع ما كان عنده، فلمّا نفد ركب فرسه وأخذ رمحه وخرج يريد الغزو فمات (3) بمنبج (4) فأخبر بعض أهل منبج قال (5):
قدم علينا الحكم وهو مملق لا شيء معه فأغنانا فقيل له: كيف أغناكم وهو مملق؟
فقال: ما أغنانا بمال ولكنّه علّمنا الكرم فعاد بعضنا على بعض فاستغنينا.
وكان (6) الأستاذ أبو سهل الصعلوكي (7) أحد الأجواد، وكان إذ أعطى أحدا شيئا لا يناوله بيده وإنّما يضعه في الأرض فيتناوله الآخذ من الأرض ويقول:
الدّنيا أقلّ خطرا من أن ترى من أجلها يدي فوق يد آخذيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم (8): (اليد العليا خير من اليد السّفلى). كان (9) رحمه الله يوما
__________
(1) ج: الف، وهو غلط.
(2) أب ج ش هـ و: المهلب، وهو غلط والتصحيح من الأمالي 3/ 216وسراج الملوك 73.
والحكم بن المطلب بن عبد الله بن حنطب من سادة قريش ووجوهها في العهد الأموي، كان على صدقات المدينة اشتهر بجوده وسخائه انظر لباب الآداب 9996والفوات 4/ 199.
والخبر من سراج الملوك 73وهو في الرسالة القشيرية 112.
(3) ج: مجاب، وهو غلط.
(4) ومنبج بلدة بالشام بين حلب والفرات. أنظر معجم البلدان 5/ 207205والوفيات 6/ 29.
(5) الخبر في الأمالي 3/ 216.
(6) من سراج الملوك 75بتصرف إلى قوله: (يلومونه على البذل) والخبر في المستطرف 1/ 158.
(7) أبو سهل هو محمد بن سليمان المعروف بالصعلوكي وهو فقيه شافعيّ مفسّر وأديب نحوي وشاعر عروضي (369هـ) اليتيمة 4/ 419وطبقات الفقهاء 115والوفيات 4/ 205204والأعلام 6/ 149.
(8) الفتح الرباني 17/ 61، 63.
(9) الخبر في الرسالة القشيرية 114.(2/432)
يتوضأ في صحن داره فدخل عليه إنسان فسأله شيئا، فلم يحضره شيء، فقال له:
اصبر حتى أفرغ فلما فرغ قال: خذ هذه القمقمة (1) واخرج. فلمّا هرج وعلم أنه قد بعد، صاح وقال: دخل إنسان وأخذ القمقمة، فمشوا خلفه، فلم يدركوه. وإنّما فعل ذلك لأنّهم كانوا يلومونه على البذل.
وروي (2) عن امرأة من العابدات أنّها قالت لحبّان (3) بن هلال وهو في جماعة أصحابه: ما السخاء عندكم في الدنيا؟ قال: البذل والإيثار. قالت: فما السخاء في الدين؟ قال: أن تعبد الله سبحانه سخيّة بذلك نفسك غير مكرهة.
قالت: أتريدون على ذلك أجرا؟ قالوا نعم، لأن الله تعالى وعد الحسنة بعشر أمثالها. قالت: فإذ أعطيتم واحدة وأخذتم عشرا فبأيّ شيء سخيتم!؟ إنّما السّخاء أن تعبدوا الله متنعمّين متلذّذين بطاعته غير كارهين لا تريدون بذلك أجرا، أما تستحيون أن يطّلع الله على قلوبكم، فيعلم منها أنها تريد شيئا بشيء!؟
قال أحمد بن أبي دؤاد (4): من نال دنيا فلم يرفع وليّا ولا وضع عدوّا فليس بكريم. وقال (5) ميمون بن مهران (6): من طلب مرضاة الرّجال بلا شيء فليصحب أهل القبور. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (7): لا يتمّ المعروف إلا بثلاثة أشياء: بتعجيله وتصغيره وستره، فإذا عمله فقد هنأه وإذا صغّره فقد عظّمه وإذا ستره
__________
(1) القمقم والقمقمة ضرب من الأواني يسخّن فيه الماء من نحاس وغيره (اللسان قمم).
(2) من سراج الملوك 75بتصرف إلى «شيئا بشيء»
(3) أب ج ش هـ و: لحيان، وهو غلط التصحيح من سراج الملوك 75.
وحبّان بن هلال البصري محدث حافظ ثقة حجة وحديثه في الكتب الستة (216هـ) تاريخ الطبري 4/ 434، 5/ 53وتذكرة الحفاظ 1/ 365364.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 425الحاشية 1.
(5) من سراج الملوك 73إلى آخر قول ابن عباس.
(6) ميمون بن مهران الرّقّي عالم أهل الجزيرة روى عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس، استعمله عمر بن عبد العزيز على خراج الجزيرة وقضائها، كان ثقة في الحديث كثير العبادة (117هـ) تذكرة الحفاظ 1/ 9998والأعلام 7/ 342
(7) القول في بهجة المجالس 1/ 303ونسب في الوفيات 1/ 471لجعفر بن محمد الصادق.(2/433)
فقد تمّمه. وقال (1) المغيرة بن شعبة (2) [رحمه الله] (3): في كلّ شيء سرف إلّا في المعروف، وقيل (4) للحسن بن سهل (5): لا خير في السّرف، فقال: لا سرف في الخير، فقلب اللّفظ واستوفى المعنى. وقال: زياد ابن أبيه (6): من منع ماله سبل الحمد أورثه من لا يحمده. وقال بعض الحكماء (7): أيّها الجامع لا تخدعنّ فالمأكول للبدن والموهوب للعباد، والمتروك للعدوّ. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (8): «ابن آدم، إنّما لك (9) من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال (10): ما جمعت من المال فوق قوتك، فإنّما أنت فيه خازن لغيرك! (الطويل)
إذا كنت جمّاعا لمالك ممسكا ... فأنت عليه خازن وأمين (11)
__________
(1) من سراج الملوك 73.
(2) المغيرة بن شعبة الثقفيّ صحابيّ شهد بيعة الرّضوان والحديبية وما بعدها وفتوح الشام واليرموك والقادسية، وهو من دهاة العرب، وذوي الرأي منها، وكان يقال له في الجاهلية والإسلام مغيرة الرأي (50هـ) طبقات ابن سعد 4/ 286284 والمعارف 295294هـ وتاريخ الطبري 5/ 255254والاشتقاق 306 (ط. بغداد) والأغاني 16/ 10179
وتاريخ بغداد 1/ 193191والاستيعاب 4/ 14471445وسير أعلام النبلاء 3/ 3221والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم فيلم والإصابة 6/ 200197وإدراك الأماني 5/ 162والاعلام 7/ 277وله أخبار مطولة في الباب العاشر من الكوكب الثاقب.
(3) ما بين المعقوفتين زيادة في ج.
(4) من سراج الملوك 73، والقول في خاص الخاص والمتشابه 12والوفيات 2/ 121والمستطرف 1/ 157.
(5) الحسن بن سهل السّرخسيّ هو وزير المامون، وأبو زوجته بوران وهو أحد القادة والولاة في عصره، اشتهر بالذكاء والأدب والفصاحة (236هـ) الوفيات 2/ 123120والأعلام 2/ 192.
(6) هو أمير من الدهاة القادة الفاتحين الولاة، اختلفوا في اسم أبيه فقيل عبيد الثقفي وقيل أبو سفيان، ولدته أمه سمية جارية الحارث بن كلدة الثقفي في الطائف وتبناه عبيد الثقفي مولى الحارث بن كلدة، وقد تولى إمرة فارس ثم ألحقه معاوية بنسبة وولاه البصرة والكوفة وسائر العراق، كان حازما خطيبا فصيحا (53هـ) تاريخ الطبري 5/ 180176، 226214، 237234ومروج الذهب 3/ 3726والوفيات 6/ 367356والأعلام 3/ 53.
والقول في بهجة المجالس 1/ 625.
(7) من سراج الملوك 72إلى آخر القول.
(8) سنن النسائي 6/ 238.
(9) ج: إنما مالك ما أكلت
(10) من سراج الملوك 74إلى آخر القول وهو في المستطرف 1/ 157.
(11) لم أعثر على هذا البيت في المظان.(2/434)
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي (1) في سراجه (2): قرئ على القاضي أبي الوليد وأنا أسمع لبعض الشعراء الحكماء هذه الأبيات (3): (تام السريع)
ويحك يا أسماء ما شاني ... كأنّ فعلي فعل نشوان
قد كنت ذا مال فلا والذي ... أعطاني المال وأغناني
ما قرّت العين به ساعة ... إلّا تذكّرت فأشجاني
علمي بأنّي صائر للبلى ... وفاقد أهلي وجيراني
وتارك مالي على حاله ... نهبا لشيطان ابن شيطان
أما تريني والهوى قائدي ... أجمّع المال لأختاني
لامرأة ابني ولزوج ابنتي ... يالك من غيّ وخسران
وثالث أغيظ من ذا وذا ... ينعم فيه زوجك الثاني
يسعد في مالي وأشقى به ... قوم ذوو غلّ وشنآن
إن أحسنوا كانوا لهم أجره ... وخفّ من ذلك ميزاني
والكلام في هذا الباب طويل الذّيل منهمر السيل، وحسبنا منه ما ذكرنا وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
__________
(1) هو القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي القرطبي المالكي المشهور بالطرطوشي من علماء الأندلس وحفاظها، جال ببلاد المشرق نحو 30سنة (474هـ) الوفيات 2/ 409408والمغرب في حلى المغرب 1/ 405404والفوات 2/ 6564والمرقبة العليا 95والديباج المذهب 122120والأعلام 3/ 125
(2) سراج الملوك 9إلى آخر الأبيات.
(3) الأبيات، ما عدا البيت الخامس، في سراج الملوك 9غير معزوة.(2/435)
الباب السادس في الشح والبخل وما ينبغي من تجنبهما لأهل الفضل
(1) اختلف في الشّحّ والبخل أهما بمعنى واحد أم بينهما فرق فذهب قوم إلى أنّهما بمعنى واحد وهو منع الفضل، قالوا لقوله صلى الله عليه وسلم في بعض أدعيته (2): «اللهم إنّي أعوذ بك م شحّ نفسي ووساوسها» ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر (3) [رضي الله عنه]: «اتّقوا الشّحّ فإنّ الشّحّ أهلك (4) من كان قبلكم، حملهم على أن يسفكوا الدّماء، ويستحلوا محارمهم» وذهب آخرون إلى أن بينهما فرقا فقالوا: الشح أشّدّ من البخل، فإنّ البخل أكثر ما يقال في النفقة وإمساكها، كما قال تعالى (5): {«سَيُطَوَّقُونَ مََا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ»}
وقال (6): {«وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمََا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ»} وقال في الشح (7): {«أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، أُولََئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا»،} وقال جل وعلا (8): {«وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».} * فهو ينبئ عن الكزازة والامتناع ويكون في جميع منافع البدن، بخلاف البخل، وقيل (9): الشّحّ أن يطمع الإنسان فيما ليس له، وهو المرويّ عن عبد الله
__________
(1) من سراج الملوك 7877بتصرف إلى آخر قول طاوس.
(2) لم أعثر على نص هذا الحديث وجاء في عمل اليوم والليلة للنسائي 199أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الشح والجبن، وفتنة الصدر، وعذاب القبر.
(3) زيادة في ج.
ونص الحديث في عون المعبود 5/ 115وبهجة المجالس 1/ 623، 2/ 245وإحياء علوم الدين 3/ 219 وبدائع السلك 1/ 426.
(4) ج: فإنه أهلك.
(5) سورة آل عمران 3/ 180.
(6) سورة محمد 47/ 38.
(7) سورة الأحزاب 33/ 19.
(8) سورة الحشر 59/ 9، وسورة التغابن 1664.
(9) القول في إحياء علوم الدين 3/ 221.(2/436)
بن عمر (1) رضي الله عنهما إذ قال لمن سأله عنه: ليس الشّحّ أن يمنع الرجل ماله، إنّما الشّحّ أن يطمع فيما ليس له. وقيل: الشح أن تأكل مال أخيك ظلما. وهو المنقول عن ابن مسعود (2) رضي الله عنه إذ قال له رجل (3): يا أبا عبد الرحمن، إنّي أخاف أن أكون هلكت، سمعت الله تعالى يقول: {«وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} * وإنّي رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال له: ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله تعالى، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما. إنّما ذلك البخل وليس الشّحّ البخل. فانظر كيف فرّق بينهما. وقال طاوس (4): البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشّحّ أن يشحّ على ما في أيدي النّاس، ويجب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام ولا يقنع (5). وأيّا ما كان فهما وصفان مذمومان وخلقان مشؤومان، ورذيلتان في صاحبهما ومذلّتان في المتّصف بهما من برّ أو فاجر، أو مومن أو كافر.
عن عبد الله بن عمر (6) رضي الله عنهما قال: استعمل فرعون هامان على حفر خليج ببعض نواحي مصر فأخذ في حفره فجعل أهل القرى يسألونه أن يجري الخليج تحت قريتهم، ويعطوه مالا ففعل، فكان يذهب به من قرية إلى قرية من
__________
(1) عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد الصحابة الأجلاء أسلم مع أبيه وهو صغير، كان من أهل الورع والعلم كثير الاتباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد التحرّي والتوقّي (73هـ) الاستيعاب 3/ 953950 والوفيات 3/ 3128والأعلام 4/ 108.
(2) ج: عبد الله بن مسعود.
وابن مسعود هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عباس صحابي جليل، شهد بدرا وجميع المشاهد تولى قضاء الكوفة لعمر ابن الخطاب. (32هـ) المعارف 249والاستيعاب 3/ 994987.
(3) الخبر في بدائع السلك 1/ 426.
(4) طاوس بن كيسان عالم اليمن وأحد العباد، ومن سادات التابعين بمكة (106هـ) طبقات الفقهاء 73والوفيات 2/ 511509وسير أعلام النبلاء 5/ 4938وحياة الحيوان 2/ 159156.
والقول في بهجة المجالس 1/ 639638وسير أعلام النبلاء 5/ 48وبدائع السلك 1/ 426.
(5) ج: يقع، وهو غلط.
(6) من سراج الملوك 103بتصرف إلى آخر الخبر.(2/437)
الشرق إلى الغرب، ومن الشّمال إلى القبلة ويسوقه كيف أراد فاجتمع له من ذلك أموال عظيمة فحملها إلى فرعون وأخبره الخبر، فقال له فرعون: ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده ويفيض عليهم من خزائنه وذخائره ولا يرغب فيما بأيديهم، ردّ على أهل القرى ما أخذت منهم، فردّ عليهم أموالهم. فانظر إلى صنع هذا الكافر الذي لا يومن بالله واليوم الآخر، كيف عاب على عامله، وكافر مثله، أخذ ما أخذه من الأموال على معروف أبداه، وإحسان أسداه، ورأى ذلك ممّا يقدح في السيادة ويخدش في وجه الرياسة ويطعن في ثغرة المجادة (1)، وهو مع ذلك لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا، فكيف يجب أن تكون حالة من يومن بيوم الحساب، ويرجو الثّواب، ويخاف العقاب، فليعتبر العاقل بذلك وليسأل الله المعافاة من الوقوع في هوّة رذيلة البخل ومذلّة الشحّ وغيرهما من سائر المهالك.
وروي (2) أن كسرى قال يوما لأصحابه: أيّ شيء أضرّ بابن آدم. قالوا:
الفقر، قال: لا، الشّحّ أضرّ من الفقر لأن الفقير إذا وجد اتّسع، والشحيح لا يتّسع أبدا. ويكفي في قبح الشح (3) (والتنفير عنه وذمّه، والتحذير منه قول النبي صلى الله عليه وسلم (4): «إياكم والشح) فإنّه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا»، وقوله عليه الصلاة والسلام (5): = لولا ثلاث صلح أمر الناس: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب (6)
المرء بنفسه =.
__________
(1) المجادة مصدر مجد أي كرمت أفعاله. (اللسان: مجد).
(2) من سراج الملوك 78إلى قوله: = والشحيح لا يتسع أبدا =.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) الحديث في عون المعبود 5/ 115وبهجة المجالس 1/ 623.
(5) سنن ابن ماجة 2/ 1331وبهجة المجالس 1/ 623وإحياء علوم الدين 1/ 14، 3/ 219وكشف الخفاء 2/ 289، ونسب هذا الحديث في العقد الفريد 2/ 257لعمر بن الخطاب ونصّه: «أخوف ما أخاف عليكم: شحّ مطاع»
(6) ج: وأعجب، وهو غلط.(2/438)
(1) وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار يوما: من سيّدكم قالوا: الجدّ (2) بن قيس على بخل فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: وأيّ داء أدوى من البخل؟ بل سيّدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح» (3).
وروي (4) أنّ امرأة مدحت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
صّوامة قوّامة إلّا أنّ فيها بخلا: فقال: صلى الله عليه وسلم: فما خيرها إذن؟! وقيل (5) لمّا خلق الله عز وجل الإيمان قال: اللهم قوّني فقوّاه بحسن الخلق والسّخاء، ولما خلق الله عز وجل الكفر، قال: اللهم قوّني فقوّاه بالبخل وسوء الخلق.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال (6): البخل جلباب المسكنة. وربّما دخل السّخيّ بسخائه الجنّة. قال (7): ومن البخل ترك حقّ قد وجب لخوف شيء لعلّه لا يقع. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال (8):
= الجاهل السخيّ أحبّ إلى الله تعالى من العالم البخيل =. ذكره البستيّ (9) في تفسير قوله تعالى (10): {= الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرََّاءِ وَالضَّرََّاءِ =.} وذكر الإمام أبو الليث السمر
__________
(1) الخبر في السيرة 1/ 461والعقد الفريد 1/ 226وبهجة المجالس 1/ 602والاستيعاب 3/ 1169وإحياء العلوم 3/ 220وشرح المقامات 2/ 150وبعض الحديث في نثر الدر 1/ 163وكشف الخفاء 2/ 340.
(2) أب ج ش هـ و: الحر، وهو غلط، والتصحيح من المصادر السابقة. والجدّ بن قيس الأنصاريّ السلميّ ممّن يظنّ فيه النّفاق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد ساد في الجاهلية جميع بني سلمة فانتزع الرسول سؤدده، وسوّد فيهم عمرو بن الجموح، توفى في خلافة عثمان. انظر السيرة 1/ 461، 2/ 516والاستيعاب 1/ 267266.
(3) هو أحد سادات بني سلمة في الجاهلية، وشريف من أشرافهم ثم أسلم وحسن إسلامه، شهد العقبة وبدرا وقتل يوم أحد شهيدا (3هـ) السيرة 1/ 453452، 2/ 9190، 98والاستيعاب 3/ 11711168والأعلام 5/ 75.
(4) الخبر في إحياء العلوم 3/ 222.
(5) لم أعثر على هذا القول في المظان.
(6) القول في بهجة المجالس 1/ 624.
(7) القول في العقد الفريد 1/ 227وبهجة المجالس 1/ 624.
(8) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة 714الحاشية 3.
(9) ج: السبتي، وهو غلط.
والبستيّ لعله الإمام الحافظ أحمد بن محمد الخطابي، له (بيان إعجاز القرآن) وهو مطبوع. وقد سبقت ترجمة البستي برقم 75.
(10) آل عمران 3/ 134.(2/439)
قنديّ (1) أحد أئمة الحنفية في باب الجود والسخاء من بستانه (2) أنّ الشابّ الفاسق السخيّ أحبّ إلى الله من الشيخ العابد البخيل. وعن إبراهيم بن أبي عبلة (3) قال: سمعت أمّ البنين أخت عمر بن عبد العزيز تقول: أفّ للبخل (4)! والله لو كان طريقا ما سلكته ولو كان ثوبا ما لبسته. وقال أسماء بن خارجة (5): لو لم يدخل على البخلاء في بخلهم إلّا سوء ظنّهم بربّهم في الخلف لكان ذلك عظيما.
ولعمري لقد صدق، فإن (6) البخل إنّما يكون من سوء الظنّ بالله تعالى أن لا يخلف ولا يثيب. وهذا ممّا يوهن التّصديق بما تكفّل الله به ويطرق الخلل إلى جميع الأوامر بين العبد والحقّ، وبين العبد والخلق، في ترك معاونتهم والنّصح لهم، فهو من أجل البليات وأعظم الرّزيّات، بل هو شرّها كما قيل (7): (الطويل)
إذا جمّع الآفات فالبخل شرّها ... وشرّ من البخل المواعيد والمطل
__________
(1) هو نصر بن محمد الفقيه المشهور بإمام الهدى، من علماء الحنفية وأئمتهم، له تفسير القرآن والنوازل والعيون والفتاوي، وبستان العارفين وغير ذلك (373هـ) الفوائد البهية 220والأعلام 8/ 27.
(2) لا وجود لباب الجود والسخاء في بستان العارفين للسمرقندي أو على الأقل في الطبعة التي رجعت إليها.
(3) هو إبراهيم بن شمر بن يقظان الرمليّ وقيل الدمشقيّ، من رجال الحديث الثقات، له أدب ومعرفة وكان يقول الشعر الحسن (152هـ) تهذيب التهذيب 1/ 143142.
والقولة في بهجة المجالس 1/ 625وإحياء العلوم 3/ 221والمحاسن والمساوئ 1/ 144.
(4) ج: للبخيل، وهو غلط.
(5) سبق التعريف به في الصفحة 687الحاشية 6.
والقوله في بهجة المجالس 1/ 626له. ونسب بعضها لكسرى في شرح المقامات 2/ 150، ونسبت لعبد العزيز ابن مروان في المحاسن والمساوئ 1/ 145.
(6) من سراج الملوك 78إلى قوله: = في ترك معاونتهم والنصح لهم =. والقول في العقد الفريد 1/ 225والتمثيل والمحاضرة 440.
(7) البيت في العقد الفريد 2/ 253غير منسوب.(2/440)
ومن أمثالهم في هذا الباب (1): «بشّر البخيل بحادث أو وارث» وأنشدوا (2):
(الطويل)
وما النّاس إلّا كاسب غير منفق ... يورث مالا منفقا غير كاسب
يظلّ ككلب الصّيد يمسك ساغبا ... فريسته حفظا على ساغب (3)
ومنفعة المثري البخيل بماله ... كمنفعة الموتى بندب النّوادب
وأنشدوا (4) (أيضا): (تام البسيط)
مال اليخيل أسير تحت خاتمه ... فليس يطلق إلّا يوم مأتمه
والأشعار في هذا المعنى كثيرة.
وممّن اشتهر بالبخل وعرف به أبو الأسود الدؤلي (5)، ذكروا أنّه كان ياكل طعامه، فوقف عليه أعرابيّ يعرف بابن الحمامة، فقال له: السلام عليك، فقال له أبو الأسود (6) [الدؤلي]: كلمة مقولة قال له: أأدخل؟ قال: (7) «وراءك أوسع لك». قال: إنّ الرّمضاء أحرقت رجلي، قال: بل عليها، أو ايت (8) الجبل يفيء عليك! قال: هل عندك شيء تطعمنيه؟ قال: نأكل ونطعم العيال، فإن فضل شيء فأنت أحقّ به من الكلب. فقال الأعرابي: ما رأيت ألأم منك! فقال أبو الأسود: بلى قد رأيت ولكنّك أنسيت، قال: أنا ابن الحمامة. قال: كن ابن طاوسة
__________
(1) قاله ابن المعتز وهو في التمثيل والمحاضرة 440ومجمع الأمثال 1/ 120والإعجاز 90، ونسب في الإعجاز 28 للإمام علي.
(2) لم أعثر على هذه الأبيات في المظان.
(3) ج: ككلب السوء.
(4) ما بين القوسين ساقط من ج.
والبيت لم أعثر عليه في المظان.
(5) سبق التعريف به في الصفحة 39الحاشية 6.
والخبر في الأغاني 12/ 304له، وهو في سرح العيون 278، ونسب في شرح المقامات 2/ 237للحطيئة.
(6) زيادة في ج.
(7) مجمع الأمثال 2/ 370.
(8) أب ج ش هـ و: أرأيت، وهو غلط، والتصحيح من الأغاني 12/ 304.(2/441)
وانصرف! فقال: أسألك بالله إلّا أطعمتني ممّا تأكل، فألقى إليه أبو الأسود ثلاث رطبات، فوقعت إحداهنّ في التراب فأخذ يمسحها بثوبه، فقال له: أبو الأسود:
دعها فإنّ الذي تمسحها منه أنظف من الذي تمسحها به، فقال: إنّي كرهت أن أدعها للشّيطان، فقال له أبو الأسود: لا، والله ولا لجبريل وميكايل تدعها.
وذكروا (1) أنّه كان له على باب داره دكان مرتفع على الأرض إلى قدر صدر الرّجل، فكان يجلس عليه، ويوضع بين يديه خوان على قدر الدكان، فإذا مرّ به مارّ، وهو يأكل فدعاه إلى الأكل لم يجد موضعا يجلس به فينصرف، فمرّ به ذات يوم فتى، فدعاه إلى الغداء فأقبل وتناول الخوان فوضعه أسفل: ثم قال: يا أبا الأسود، إن عزمت على الغداء فانزل، وجعل يأكل وأبو الأسود ينظر إليه مغتاظا حتى أتى على الطعام، فقال له أبو الأسود: ما اسمك يا فتى؟ قال لقمان الحكيم. قال: لقد أصاب قومك حقيقة اسمك.
وأبو الأسود هذا، هو الذي وضع علم النحو، يقال (2) إنّه أتى زيادا (3) إذ كان أميرا على البصرة، فقال له: إنّ الأعاجم قد خالطت العرب فغيرت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع كتابا يعرفون به كلامهم. قال: لا، ثم إنّ رجلا أتى زيادا فقال:
أصلح الله الأمير توفي أبانا (4) وخلّف بنون، فقال زياد يحكيه تعجبا: توفي أبانا وخلّف بنون! علي بأبي الأسود، فأتي به (5) (فقال): افعل للناس
__________
(1) الخبر في الأغاني 12/ 322.
(2) الخبر في الأغاني 12/ 299.
(3) سبق التعريف به في الصفحة 639الحاشية 12.
(4) أب ج ش هـ و: أبونا، وجاء في الأغاني 12/ 299: = أبانا = وهو أولى وأنسب للسياق.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج.(2/442)
ما كنت نهيتك عنه، ففعل. وقيل: (1) إنّ الذي أشار عليه بوضع علم النحو وأمره به أمير المومنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في حكاية مشهورة وهو الأصح.
وهو أحد بخلاء العرب الأربعة، وقد مرّ ذكرهم في ترجمة الحطيئة (2).
وأبو الأسود كنيته (3) واسمه ظالم وأبوه (4) عمرو بن جندل.
ومما قيل في البخلاء بالطعام (5): (الطويل)
فبتنا كأنّا بينهم أهل مأتم ... على ميّت مستودع بطن ملحد
يحدّث بعض بعضنا بمصابه ... ويامر بعض بعضنا بالتّجلّد
آخر (6): (تام المنسرح)
فتى على خبزه ونائله ... أشفق من والد على ولده
رغيفه منه حين نسأله ... مكان روح الجبان من جسده
آخر (7): (تام الخفيف)
إنّ هذا الفتى يصون رغيفا ... ما إليه لناظر من سبيل
هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في شملتين في منديل
في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل
__________
(1) الخبر في الأغاني 12/ 298.
(2) سبقت ترجمته برقم 2.
(3) ج: كنية.
(4) ج: وهو ابن عمر، (عمر) غلط.
(5) البيتان في العقد الفريد 6/ 190وري الأوام 212.
(6) البيتان في ري الأوام 212غير معزوين.
(7) الأبيات في العقد الفريد 6/ 190وري الأوام 212.(2/443)
آخر (1): (تام السريع)
طعامه النّجم لمن رامه ... وخبزه أبعد من أمسه
كأنّه في جوف مرآته ... يرى ولا يطمع في لمسه
آخر (2): (مجزوء الكامل)
إن كنت تطمع في كلامه ... فارفع يمينك من طعامه
سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
أبو نواس (3): (الطويل)
على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حلّ في دار الأمان من الأكل
وما خبزه إلّا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون ولا السّهل
وما خبزه إلّا كعنقاء مغرب ... تصوّر في بسط الملوك وفي المثل
يحدّث عنها النّاس من غير رؤية ... سوى صورة ما إن تمرّ ولا تحلي
وما خبزه إلّا كليب من وائل ... ليالي يحمي عزّه منبت البقل
وإذ هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدّ ولا هزل
فإن خبز إسماعيل حلّ الذي به ... أصاب كليبا لم يكن ذاك عن بذل
ولكن قضاء ليس يستطاع دفعه ... بحلية ذي ذهن ولا فكر ذي عقل
__________
(1) البيتان في ري الأوام 214غير معزوين.
(2) البيتان لأبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي من مقطعة من سبعة أبيات في هجاء بخيل أولها:
استبق ودّ أبي المقا ... تل حين تأكل من طعامه
وهي في شعر اليزيديين 83ومعظمها في عيون الأخبار 2/ 3736وغرر الخصائص 297دون عزو. والبيتان في العقد الفريد 6/ 191وبهجة المجالس 1/ 637غير معزوزين، ومنها بيتان في ري الأوام 213غير معزوين، ونسب البيت الثاني في محاضرات الأدباء 2/ 663والوفيات 6/ 188لليزيدي النحوي يحيى بن المبارك.
(3) مقطعة في ثمانية أبيات في هجاء إسماعيل بن سهل بن نيبخت وهي في ديوانه 516515وديوان المعاني 1/ 204وبهجة المجالس 1/ 631630.
ابن آوى هو الثعلب، ولا يفصل (آوى) عن (ابن) لأن (آوى) لا وجود له. والعنقاء المغرب: كلمة لا أصل لها:
ويقال إنها طائر عظيم لا ترى إلّا في الدهور. وقال الزجاج: طائر لم يره أحد. وفي المثل: طارت به العنقاء المغرب، وألوت بهم العنقاء المغرب. تحلي من أحليت إحلالا بمعنى حليت به. استتبّ الأمر: تهيّا واستوى واستقرّ. (اللسان:
أوا، تبب، حلا، عنق) ويقصد بقوله: تمرّ ولا تحلي أن صورتها تمرّ في الذهن بسرعة دون أن تحلّ به أو تمكث فيه.(2/444)
وكليب (1) هذا المذكور في هذا الشعر هو ابن ربيعة بن سنان الوائليّ أخو مهلهل بن ربيعة الشاعر المشهور وخال امرئ القيس. وكان رئيس بكر وتغلب ابني وائل، وقائد معدّ كلّها، اجتمعوا عليه وجعلوا له تاج الملك ثم دخله زهو شديد وبغي على قومه حتى بلغ من بغيه أنّه كان يحمي مواقع السّحاب فلا يرعى حماه، ويقول: وحش كذا في جواري فلا يهاج ولا توقد نار مع ناره، ولا يجتبى في مجلسه ولا يتكلّم إلّا بإذنه. ففي ذلك يقول أخوه مهلهل بعد قتله (2):
(تام الكامل)
نبئت أنّ النّار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
وتكلموا في أمر كلّ عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا
وكان إذا حمى حمى لا يدخله إنس ولا بهيمة، فحمى حمى ذات مرة فرأى فيه يوما البسوس، وهي ناقة لخالة جساس بن عمه فخرق ضرعها بسهم، وقتل فصيلها، حيث دخلت الحمى بغير إذنه، ثم طرد إبل جساس، ونفاها عن المياه، نفاها عن غدير يقال له شبيث (3) ثم عن آخر يقال له الأحصّ (4) حتى بلغ غدير الذّنائب (5)، فجاءه جساس بن مرة فقال له: نفيت مالي عن المياه حتى كدت
__________
(1) خبره في الأغاني 5/ 6434وشرح المقامات 1/ 233232وأيام العرب في الجاهلية 168142.
وكليب سبق التعريف به في الصفحة 338الحاشية 5.
(2) البيتان في الكامل 1/ 317والحيوان 3/ 128والعقد الفريد 3/ 298وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 2/ 929928وبهجة المجالس 1/ 631ومجمع الأمثال 2/ 42والبيت الأول في الأمالي 1/ 95والصناعتين 209.
(3) شبيث: ماء لبني تغلب بنجد كانت به منازل ربيعة ثم منازل ابني وائل بكر وتغلب. معجم ما استعجم 3/ 780 وديوان ابن أبي حصينة 1/ 65ومجمع الأمثال 1/ 145ومعجم البلدان 1/ 115112.
(4) أب ج ش هـ و: الأخص، وهو غلط، والتصحيح من الأغاني 5/ 37والمصادر التالية. والأحصّ ماء لبني تغلب بنجد كانت فيه بعض وقائعهم وبه قتل جساس بن مرّة كليب بن ربيعة. معجم ما استعجم 1/ 118وديوان ابن أبي حصينة 1/ 65ومجمع الأمثال 1/ 145ومعجم البلدان 1/ 115112وأيام العرب في الجاهلية 146.
(5) أب ج ش هـ و: الأثائب، وهو غلط، والتصحيح من الأغاني 5/ 37وشرح المقامات 1/ 233وأيام العرب في الجاهلية 146. والذنائب: مكان بنجد عن يسار ولجة للمصعد إلى مكة وبه قبر كليب. معجم ما استعجم 2/ 614ومعجم البلدان 2/ 87.(2/445)
تهلكه عطشا، فقال: نحن للمياه شاغلون، فأقبل عليه جساس فطعنه، فلما أحسّ بالموت قال: يا جساس اسقني ماء، فقال (1): = تجاوزت شبيثا والأحصّ. وكان كليب تغلبيّا وجساس بكريّا، وبكر وتغلب ابنا وائل، فوقعت الحرب بين الحيين أربعين سنة وهي المسماة بحرب البسوس. وكليب هذا هو المراد بقول النابغة الجعدي (2): (الطويل)
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم
والمعنيّ بقول الحريري في المقامة التاسعة عشرة (3): (تام السريع)
إن حمّ لم يغن حميم ولا ... حمى كليب منه يحميني
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) مجمع الأمثال 1/ 145.
(2) من قصيدة في تهديد عقال بن خويلد العقيلي لأنه أجار أعداء قومه مطلعها:
أيا دار سلمى بالحرورية اسلمي ... إلى جانب الصّمّان فالمتثلّم
وهي في ديوانه 147137وبعضها في العقد الفريد 5/ 215والبيت مع آخر في الحيوان 1/ 322والتمثيل والمحاضرة 62وبهجة المجالس 1/ 631وشرح المقامات 1/ 233ونهاية الارب 3/ 71.
(3) شرح المقامات 1/ 232.(2/446)
الباب السابع في السفه والحلم وما قيل إن أحق الناس بالحلم (1) الولاة وأولو العلم
(2) الحلم من أشرف الأخلاق وأفضلها وأحسنها وأجملها وأحقّها بذوي النفوس الأبيّة، والهمم العلية، لما فيه من جلب الحمد وإزاحة الشرّ، ومن حسن الثّناء وجميل الذّكر. وأحقّ الناس به من ولّاه الله شيئا من أمور الأنام، من العلماء والمفتين والقضاة والملوك، وغيرهم من سائر الولاة والحكام، وذلك لأنّهم منصوبون لإقامة أود الحقّ، وفصل الخصومات فيما بين الخلق، وإنما يغشى الناس أبوابهم حين (3) تنازعهم وخصوماتهم وتكدّر نفوسهم، وضيق صدورهم، فإن لم يكن مع أحد منهم حلم يردع (4) به بوادرهم، ويقمع به سفههم وقع تحت حمل ثقيل وخطب جليل. قال الشعبيّ (5) رحمه الله: زين العلم حلم أهله. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (6): ما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة. وكان (7) كسرى أنو شروان ذا حلم وأناة، فكان يقول: فيّ خصلتان لولا أنهما ظاهرتان عند الرّعيّة لضقت بهما درعا، يعني الحلم والأناة. وفي الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأشجّ عبد القيس (8):
__________
(1) ج: الناس به الولاة.
(2) من سراج الملوك 66بتصرف، ومثله في مجموع خزانة ابن يوسف 29.
(3) ج: حتى، وهو غلط.
(4) حاشية أ: = خ يرد =
(5) سبق التعريف به في الصفحة 115الحاشية 4.
والقولة في بهجة المجالس 1/ 615.
(6) ج ش: رحمه الله.
والقولة في بهجة المجالس 1/ 616، وهي غير معزوة في إحياء علوم الدين 3/ 161
(7) من سراج الملوك 66، والقول في بدائع السلك 1/ 429.
(8) هو المنذر بن عائذ العصريّ العبديّ، ويقال له أشجّ بني عصر، كان سيّد قومه وقائدهم إلى الإسلام وفد على النبيّ صلى الله عليه وسلم في وفد عبد القيس. الاستيعاب 1/ 141140، 4/ 14491448 وأسد الغاب 1/ 9796والإصابة 6/ 216.
والحديث في سنن ابن ماجة 2/ 1401وفضائل الصحابة 178والاستيعاب 1/ 141140وبهجة المجالس 1/ 615وإحياء العلوم 3/ 154وأسد الغابة 1/ 97وبدائع السلك 1/ 429.(2/447)
يا أشجّ أو قال: يا منذر! فيك خلقان يرضاهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال:
يا رسول الله! أشيء جبلني الله عليه أم شيء اخترعته من قبل نفسي؟ فقال: بل شيء جبلك الله عليه، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلق يرضاه الله ورسوله =.
وعن معاوية بن أبي سفيان أنه قال لعمرو بن العاص (1): (رضي الله عنهم) (2)
من أبلغ الناس؟ قال: من ترك الفضول واقتصر على الإيجاز، قال: فمن أصبر الناس؟ قال: من بذل دنياه في صلاح دينه، قال: فمن أشجع الناس؟ قال: من ردّ جهله بحلمه. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (3): = وجبت محبّة الله لمن أغضب فحلم =. وروي (4) أن يحيى بن زكرياء لقي عيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام فقال: يا روح الله، أخبرني بأشدّ الأشياء في الدّارين؟ قال:
غضب الله تعالى، فقال: يا روح الله، وما ينجي من غضب الله تعالى، قال: ترك الغضب. قال: يا روح الله، وكيف بدء الغضب؟ قال: التّعزّز والتّكبّر والفخر على الناس. وفي (5) الأخبار أنّ إبليس لعنه الله يقول: إنّ الحديد من الرّجال لم نيأس منه، وإن كان يحيي الموتى بدعائه لأنّه تاتي عليه ساعة يجهل فيها فنصير منه إلى ما نريد. وقال أكثم بن صيفي (6): الصبر على تجرّع مرارة
__________
(1) هو أحد الصحابة أسلم قبل فتح مكة سنة ثمان من الهجرة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلى الشام ثم وجّهه في غزوة ذات السلاسل ثم ولاه على عمان. وقد كان داهية حازما شجاعا وهو صاحب معاوية في صفين وأحد الحكمين (43هـ) الاستيعاب 3/ 11911184والوفيات 7/ 215212والأعلام 5/ 79.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
والقولة في بهجة المجالس 1/ 615.
(3) الحديث في سراج الملوك 66.
(4) لم أعثر على هذا الخبر في المظان.
(5) من سراج الملوك 66إلى آخر القول.
(6) سبق التعريف به في الصفحة 437الحاشية 4
والقول من سراج الملوك 67إلى آخر القول.(2/448)
الحلم أعذب من جني ثمرة النّدم. وكان الأحنف بن قيس (1) إذا عجبوا من حلمه قال: إنّي لأجد ما تجدون ولكني صبور. وسئل عن الحلم فقال: هو الذّلّ والصّبر.
وقال (2): وجدت الحلم أنصر لى من الرّجال، وقال (3) (أيضا): ما نازعني أحد إلّا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضّلت عليه. وأخذ هذا المعنى محمود الورّاق (4) فقال: (الطويل)
سألزم نفسي الصّفح عن كلّ مذنب ... وإن كثرت منه عليّ الجرائم
وما الناس إلّا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثلي مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وألزم فيه الحقّ والحقّ لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... مقالته نفسي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زلّ أو هفا ... تفضّلت إنّ الحلم بالعزّ حاكم (5)
وقال الحسن البصريّ (6) رحمه الله: ما سمعت الله عز وجل نحل عباده شيئا أقلّ من الحلم، فإنّه قال (7) {= إِنَّ إِبْرََاهِيمَ لَأَوََّاهٌ حَلِيمٌ =.} وقال (8): {فَبَشَّرْنََاهُ بِغُلََامٍ حَلِيمٍ =.}
__________
(1) سبق التعريف به في الصفحة 53الحاشية 4.
والخبر من سراج الملوك 68إلى قوله: = أنصر لي من الرجال = وهو في بهجة المجالس 1/ 616والوفيات 2/ 501
(2) بدائع السلك 1/ 429.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
والقول في بهجة المجالس 1/ 604وسرج العيون 111ومجموع خزانه ابن يوسف 48.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 614الحاشية 3.
والأبيات في ديوانه 115والعقد الفريد 2/ 284283وبهجة المجالس 1/ 604وإحياء العلوم 3/ 155 وسراج الملوك 67ونسبت الأبيات للخليل في مجموع خزانة ابن يوسف 48.
مقاوم: مساو في القيمة والقدر.
(5) حاشية أ = خ بالفضل =
(6) سبق التعريف به في الصفحة 91الحاشية 5.
والقول في بهجة المجالس 1/ 605.
(7) التوبة 9/ 114.
(8) الصافات 37/ 101.(2/449)
وسأل (1) عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كبيرا من كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم سيرة، فقال: لأزدشير قصب السّبق، غير أنّ أحمدهم سيرة أنوشروان فإنّه كان أغلب أخلاقه عليه الحلم والأناة، فقال عليّ كرم الله وجهه: هما توأمان نتيجتهما علوّ الهمّة، وقال (2) عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ثلاث من اجتمعت فيه فقد سعد، من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحقّ، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا قدر عفّ (3) وكفّ. ويروى (4) أن جعفر بن محمد (5) رحمهما الله دخل على الرشيد وقد استخفّه الغضب. فقال له: يا أمير المومنين إنّك إنما تغضب لله فلا تغضب له بأكثر من غضبه لنفسه. وسئل (6) رحمه الله عن حدّ الحلم، فقال:
وكيف يعرف فضل شيء لم ير كماله في أحد. وقال الأحنف بن قيس لابنه (7):
يا بنيّ إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه، فإن أنصفك وإلّا فاحذره.
وكان سلم (8) بن نوفل سيّد بني كنانة في زمانه فوثب رجل على ابنه وابن أخيه فجرحهما، فأتي به سلم، فقال: ما أمّنك من انتقامي منك؟ قال: فلم سوّدناك إذا إلّا لتكظم الغيظ وتحلم عن الجاهل وتعفو عن الجاني وتحتمل المكروه في النّفس والمال. فخلّى سبيله. وفى سلم هذا يقول الشاعر (9): (الطويل)
تسوّد أقوام وليسوا بسادة ... بل السّيّد المعروف سلم بن نوفل
__________
(1) من سراج الملوك 67، 70والخبر في لباب الآداب 38.
(2) من سراج الملوك 67إلى آخر القول. ونسب في مجموع خزانة ابن يوسف 52إلى الأحنف بن قيس.
(3) حاشية أ: = خ عفا =.
(4) من سراج الملوك 66إلى آخر القول.
(5) جعفر بن محمد سبق التعريف به في الصفحة 713الحاشية 8.
(6) من سراج الملوك 6867بتصرف إلى قوله: = أعظم الناس سلطانا على نفسه =
(7) نسب هذا القول إلى لقمان عليه السلام في مجموع خزانة ابن يوسف 52. والأحنف بن قيس سبق التعريف به في ص 53ح 4
(8) ذكر في الكامل 1/ 128باسم سلم. وفي الأغاني 13/ 276275والإصابة 3/ 160باسم سلمى، وفي بهجة المجالس 1/ 603باسم سالم.
والخبر في مجموع خزانة ابن يوسف 53. وذكر فيه سلم بن نوفل الديلمي. وأبو قرعة سلم بن نوفل الكنانيّ كان في آخر العهد النبوي ابن تسع أو نحوها، وهو جدّ مطيع بن إياس الشاعر المشهور في الدولتين الأموية والعباسية، وكان أبو قرعة جوادا، ولذلك ساد قومه. الأغاني 13/ 276275والإصابة 3/ 160.
(9) البيت في الكامل 1/ 128والعقد الفريد 2/ 288والأغاني 13/ 276وبهجة المجالس 1/ 603وسراج الملوك 67والإصابة 3/ 160ومجموعة خزانة ابن يوسف 53.(2/450)
ومن أمثال العرب (1): = احلم تسد =. وقال رجل من كلب (2) للحكم بن عوانة (3):
إنما أنت عبد، فقال: والله لأعطينّك ما تعطيه العبيد، فأعطاه مائة رأس من السّبي. ويروى أنّ هشام بن عبد الملك غضب يوما على رجل من الأشراف فشتمه فوبّخه الرجل وقال: أما تستحيي أن تشتمني وأنت خليفة الله في أرضه، فاستحيا هشام فقال: اقتصّ منّي، فقال: إذا أنا سفيه مثلك، قال: فخذ عوضا من المال.
قال: ما كنت لأفعل. قال: فهبها لله تعالى، قال: هي لله ثم لك، فنكس هشام رأسه، وقال: والله لا أعود لمثلها أبدا.
أنشد ابن عائشة القرشي (4): (تام البسيط)
لا يبلغ المجد أقوام وإن كرموا ... حتّى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا عفو ذلّ ولكن عفو إكرام (5)
في أبيات. وأنشد غيره (6): (الطويل)
وجهل رددناه بفضل حلومنا ... ولو أنّنا شئنا رددناه بالجهل
رجحنا، وقد خفّت حلوم كثيرة ... وعدنا على أهل السّفاهة بالفضل
__________
(1) عيون الأخبار 1/ 282وبهجة المجالس 2/ 195. وفي مجموع خزانة ابن يوسف 44من حلم ساد =
(2) كلب: قبيلة من كهلان، مشهورة بالقوة وتأييد الأمويين في الشام. الوفيات 7/ 108والأعلام 5/ 230.
(3) الحكم بن عوانة من عمال الأمويين على خراسان والسند في عهد هشام بن عبد الملك انظر تاريخ الطبري 7/ 49 والوفيات 7/ 105.
(4) هو عبد الرحمن بن عبيد الله، وعائشة أمّه، من تيم قريش: شاعر عباسي خليع من أهل البصرة (227هـ) طبقات ابن المعتز 338337والأغاني 17/ 114وتاريخ بغداد 10/ 260259والأعلام 3/ 315.
والبيتان في عيون الأخبار 1/ 287والعقد الفريد 2/ 279والأمالي 3/ 41وبهجة المجالس 1/ 603ولباب الآداب 324وسراج الملوك 68وبدائع السلك 1/ 430ومجموع خزانة ابن يوسف 47ونسبا لابراهيم بن العباس الصولي في غرر الخصائص 368ونسبا في سمط اللآليء 3/ 22لأبي عبيد الله ابن زياد الحارثي والأول في ري الأوام 209غير منسوب.
(5) حاشية أ = خ كاسفة لا صفح ذل = حاشية هـ: = كاسفة ولكن صفح =
(6) البيتان في سراج الملوك 68.(2/451)
وقال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان (1): صف لي الأحنف بن قيس (2)، فقال:
يا أمير المومنين، إن شئت أخبرتك عنه بثلاث وإن شئت أخبرتك عنه باثنتين وإن شئت بواحدة، قال: أخبرني عنه بثلاث، قال: كان لا يحرص ولا يجهل ولا يدفع الحقّ إذا نزل به. قال: فأخبرني عنه باثنتين، قال: كان يؤثر الخير ويتوقّى الشرّ، قال: فأخبرني عنه بواحدة، قال: كان أعظم الناس سلطانا على نفسه. وعن (3)
عبد الله بن عمر (4) رضي الله عنهما قال (5): إنّ رجلا كان قبلكم استضاف قوما فأضافوه، ولهم كلبة تنبح فقالت: والله لا أنبح ضيف أهلي الليلة، فعوى أجراؤها في بطنها، فبلغ ذلك نبيا لهم، فقال: مثل هذا مثل أمّة يكونون بعدكم، تظهر سفهاؤها على (6) حلمائها. وعن الأحنف أنه قال: إياكم ورأي الأوغاد، قالوا: وما رأي الأوغاد؟ قال: الذين يرون الصفح والعفو عارا. (7) وقال خالد بن صفون (1): شهدت عمرو بن عبيد (8) ورجل يشتمه، فقال: آجرك الله على ما ذكرت من صواب وغفر لك ما ذكرت من خطإ، قال: فما حسدت أحدا حسدي عمرو بن عبيد على هاتين الكلمتين. وسبّ (9) الشعبيّ (10) رجل، فقال: إن كنت كاذبا فغفر الله لك، وإن كنت صادقا فغفر الله لي.
والآثار في هذا الباب أكثر من أن تحصى بعدّ، أو تضبط برسم أو حدّ. وقد اقتصرنا منها على ما اشتهر بين أهل الأدب. وكان في العرب قوم كثيرون
__________
(1) سبق التعريف به في الصفحة 39الحاشية 7.
(2) سبق التعريف به في الصفحة 53الحاشية 4.
(3) من سراج الملوك 68بتصرف إلى قوله: = يرون الصفح والعفو عارا = والخبر في حياة الحيوان 2/ 535.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 739الحاشية 1.
(5) نسب هذا القول للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الفتح الرباني 23/ 30.
(6) ج: عن، وهو غلط.
(7) الخبر من بهجة المجالس 1/ 606.
(8) سبق التعريف به في الصفحة 152الحاشية 3.
(9) من سراج الملوك 68إلى آخر الخبر، وهو في عيون الأخبار 1/ 283وبهجة المجالس 1/ 606ومجمع الأمثال 2/ 457والوفيات 3/ 14ومجموع خزانة ابن يوسف 52.
(10) سبق التعريف في الصفحة 115الحاشية 4.(2/452)
مشهورون بالحلم منهم قيس بن عاصم المنقريّ (1)، وله في ذلك أخبار (2) (كثيرة) مستوفاة في محلّها من كتب الأخبار، ومنهم الأحنف بن قيس بن معاوية السعدي (3) واسمه صخر، وإنما قيل له الأحنف لحنف كان في رجله أي عرج، فكانت أمّه ترقصه وهو صغير، وتقول (4): (مشطور الرجز)
والله لولا حنف في رجله
ما كان في فتيانكم من مثله
فجرى عليه الأحنف. ومعاوية بن أبي سفيان بن حرب، واسم أبي سفيان صخر، وهما المعنيان بقول من قال (5): (تام الكامل)
دع ذكر صخر وابن صخر بعده ... أنت الحليم وغيرك المتحلّم
فصخر هو الأحنف بن قيس وابن صخر معاوية بن أبي سفيان، وسيأتي لهذا الباب بعده إن شاء الله تعالى تتمة ومزيد بيان (6).
ويروى (7) أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سافر سافر معه بسفيه فقيل له في ذلك فقال: إن جاءنا سفيه ردّ عنّا سفهه، إنّا لا ندري ما نقابل به السّفهاء. ومن أمثالهم (8): = لا بدّ للفقيه من سفيه =.
__________
(1) سبق التعريف به في الصفحة 83الحاشية 1.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) أب ج ش هـ و: معدي كرب الكندي، وهو غلط والتصحيح من جمهرة الأنساب 217والاستيعاب 1/ 144 والوفيات 2/ 499.
والأحنف بن قيس سبق التعريف به في الصفحة 53الحاشية 4.
(4) ج: صبيانكم. حاشية أ: = خ صبيانكم =.
والبيتان في مجمع الأمثال 1/ 219وسرح العيون 105.
(5) أ: المحتلم، وهو غلط.
والبيت لم أعثر عليه في المظان.
(6) انظر الباب التالي في الحديث عن معاوية بن أبي سفيان. الصفحة 786778.
(7) الخبر في بهجة المجالس 1/ 619وسرح الملوك 70، 99وبدائع السلك 1/ 431.
(8) التمثيل والمحاضرة 167ومجمع الأمثال 2/ 290.(2/453)
ابن المعتز (1): (تام الكامل)
والعاقل النّحرير محتاج إلى ... أن يستعين بجاهل معتوه
آخر (2): (تام الكامل)
ولربّما اعتضد الحليم بجاهل ... لا خير في يمنى بغير يسار
آخر (3): (الطويل)
وليس الحليم بالذي كلّ ساعة ... به غضب في أنفه يتوقّد
وإذا أمن الجهال جهلك لم تزل ... عليك بوادي جهلهم تتردّد
وإنّ عقاب الجاهلين لذاهب ... بحلمك فانظر أيّ هذين تعمد
آخر (4): (الطويل)
ولا خير في عرض امرىء لا يصونه ... ولا خير في حلم امرىء ذلّ جانبه
آخر (5): (تام البسيط)
قل ما بدا لك من زور ومن كذب ... حلمي أصمّ وأذني غير صمّاء
البحتري (6): (الطويل)
أرى الحلم بؤسا في المعيشة للفتى ... ولا عيش إلّا ما حباك به الجهل
__________
(1) لم أعثر على هذا البيت في شعره (تحقيق د. يونس السامرائي) ولا في ديوانه (مشيل نعمان). وهو في بهجة المجالس 1/ 620.
(2) البيت في بهجة المجالس 1/ 620غير معزو.
(3) الأبيات في بهجة المجالس 1/ 620غير معزوة.
(4) البيت في عيون الأخبار 1/ 329وبهجة المجالس 1/ 620غير معزو.
(5) البيت في بهجة المجالس 1/ 620غير معزو.
(6) من قصيدة طويلة في مدح الفتح بن خاقان مطلعها:
ضمان على عينيك أنّي لا أسلو ... وأن فؤادي من جوى بك لا يخلو
وهي في ديوانه 3/ 16171611. والبيت في بهجة المجالس 1/ 620.(2/454)
صالح بن جناح (1)، وتروى لغيره: (الطويل)
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنّني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
(وبعده) (2):
ولي فرس بالخير للخير ملجم ... ولي فرس بالشّرّ للشّرّ مسرج
فمن رام تقويمي فإنّي مقوّم ... ومن رام تعويجي فإنّي معوّج
(3) (وإن قال بعض النّاس فيّ سماجة ... فقد صدقوا، والذّلّ بالحرّ أسمج)
مروان بن الحكم (4): (الطويل)
إذا أمن الجهال جهلك مرّة ... فعرضك للجهّال غنم من الغنم
وإن أنت نازيت السفيه إذا نزا ... فأنت سفيه مثله غير ذي حلم (5)
فلا تقرضن عرض السّفيه وداوه ... بحلم فإن أعيا عليك فبالصّرم
ومن عاتب الجهّال لم يشف غيظه ... ولكنّه يزداد سقما إلى سقم
فدع عنك في كلّ الامور عتابه ... فإنّك إن عاتبته صار كالخصم
__________
(1) شاعر دمشقي من الحكماء، أدرك التابعين له كتاب (الأدب والمروءة). نشره الشيخ طاهر الجزائري. تهذيب ابن عساكر 6/ 368367والأعلام 3/ 190ويعتقد بعض الباحثين أن صالح بن جناح هو صالح بن عبد القدوس الشاعر العباسي المشهور، وقد أخفى نفسه بالاسم الأول خوف الطلب انظر لباب الاداب 28الحاشية 1وصالح بن عبد القدوس البصري لعبد الله الخطيب 155وصالح بن عبد القدوس الجذامي شاعر حكيم، كان متكلّما يعظ الناس في البصرة وشعره كلّه أمثال وحكم وآداب، اتّهم بالزندقة فقتله المهديّ العباسي (نحو 160هـ) طبقات الشعراء 89 92والأغاني 14/ 177174وتاريخ بغداد 9/ 305303وتهذيب ابن عساكر 6/ 376371 ومعجم الأدباء 3/ 155154، 12/ 106والوفيات 2/ 493492والفوات 2/ 116 117ولسان الميزان 3/ 174172والأعلام 3/ 192.
والأبيات في تهذيب ابن عساكر 6/ 367مع بيتين آخرين، منسوبة لصالح بن جناح اللخمي وهي في العقد الفريد 3/ 14مع بيت آخر، غير منسوبة، وهي في عيون الأخبار 1/ 289منسوبة لمحمد بن وهيب وهي في ديوان صالح بن عبد القدوس 156155منسوبة لصالح بن جناح اللخمي، ونسبت الأبيات الثلاثة الأولى في معجم الشعراء 430429لمحمد بن حازم الباهلي وهي في ديوانه 43، ونسب البيتان الأول والرابع في بهجة المجالس 1/ 618 لصالح بن جناح، والبيت الثاني مع آخر في محاضرات الأدباء 1/ 241غير منسوب.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج ش.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج ش.
(4) الأبيات في بهجة المجالس 1/ 621له.
(5) نازيت السفيه: واثبته. (اللسان: نزا).(2/455)
وعمّ عليه الحلم والجهل والقه ... بمنزلة بين العداوة والسّلم
فيرجوك أحيانا ويخشاك تارة ... وتاخذ فيما بين ذلك بالحزم
فإن لم تجد بدّا من الجهل فاستعن ... عليه بجهّال فذاك من العزم
وبالله سبحانه (1) (وتعالى) التوفيق لا إله غيره ولا مؤمل إلّا خيره.
الباب الثامن في ذكر ملوك بني أمية وابتداء دولتهم
أول ملوكهم معاوية بن أبي سفيان رحمه (2) الله تعالى، وذلك أنه لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان (3) الناس قد نقموا عليه أشياء منها استعمال قرابته، فسار إليه أهل مصر فحصروه وسألوه أن يسلم إليهم مروان بن الحكم كاتبه وقريبه، وقد عثروا له على كتاب بخطّه عن عثمان في شأنهم، يحملهم على الصّعب من الأمر، فأنكره عثمان رضي الله عنه وأبى إسلامه (4) إليهم، فتسنّموا جداره، وتسوّروا بعد الحصار داره، وقتلوه والمصحف الكريم في حجره، كما كان أخبره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه سيقتل والمصحف (5) [الكريم] في حجره وأن دمه سيقطر على قوله تعالى (6): {= فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللََّهُ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ =} فكان ذلك من أعلام نبوءة نبيّنا صلى الله عليه وسلم ودلائل رسالته.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
(2) ج: رحمهما.
(3) من رقم الحلل 1110بتصرف إلى قوله: = والمصحف الكريم في حجره =.
(4) أب ج ش: وأبى من اسلامه. (من) زائدة.
(5) زيادة في ج.
والخبر في الاستيعاب 3/ 1046وتمام المتون 190.
(6) البقرة 2/ 137.(2/456)
بويع يوم مقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو (1) يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين في دار عثمان بن محصن الأنصاري، ثم بويع البيعة العامة من الغد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتخلّف (2) عن بيعته نفر، فلم يكرههم، وقال: أولئك قوم قعدوا عن الحقّ ولم يقوموا مع الباطل. وكان (3) ممّن تخلّف عن بيعته: سعد بن أبي وقاص (4) وعبد الله بن عمر (5)، وأسامة بن زيد (6)، وخالف أمره طلحة بن عبيد الله (7). والزّبير بن العوام (8)، فخرجا إلى مكة مع عائشة أمّ المومنين، وحملاها على الطّلب بدم عثمان، فخرجت تحرّض النّاس.
وتوّجه عليّ رضي الله عنه إلى البصرة، فوقعت بينه وبين حزب عائشة وقيعة يوم الجمل، وذلك يوم الخميس، لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وبرزت عائشة على الجمل قد غشّته الدّروع حتى استحرّ (9) في حزبها القتل وعقر الجمل، وقتل من أصحاب الجمل ثلاثة عشر ألفا، ومن أصحاب علي خمسة آلاف.
وكانت أمّ حبيبة بنت أبي سفيان قد بعثت إلى أخيها معاوية بقميص عثمان
__________
(1) حاشية أ: خ وذلك.
(2) الخبر والقول في الاستيعاب 3/ 1121.
(3) من رقم الحلل 1110بتصرف إلى قوله: «وخرجت عليه الخوارج منكرة للتّحكيم» وفيه: سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف (عوض عبد الله بن عمر). وأسامة بن زيد.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 740الحاشية 7.
(5) سبق التعريف به في الصفحة 739الحاشية 1.
(6) وأسامة بن زيد بن حارثة من أحبّ الصحابة إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم أمّره الرسول على الجيش ولم يبلغ العشرين (54هـ) الاستيعاب 1/ 7775والأعلام 1/ 291.
(7) سبق التعريف به في الصفحة 692الحاشية 1.
(8) الزبير بن العوام أحد الصحابة المبشّرين بالجنة، لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم الجمل (36هـ) الاستيعاب 2/ 516510والأعلام 3/ 43.
(9) استحرّ القتل: اشتدّ. (اللسان: حرر)(2/457)
مخضّبا بدمه وحرّضته على طلب ثأره، فدعا إلى نفسه من بأرض الشام وهم شوكة جيش المسلمين، فسار إليه عليّ كرّم الله وجهه من الكوفة، وكان مسيره (1) إلى لقائه لخمس خلون من شوال، من السنة، فعبّأ الجيوش إلى الشام في تسعين ألفا، وسار إليه معاوية، فكان اللّقاء على صفّين، بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء المكسورة، موضع قرب الرقّة على شاطئ الفرات فأقام بها مائة يوم وعشرة أيام، وقتل بها سبعون ألفا من الطائفتين، فمن أهل الشام خمسة وأربعون ألفا، ومن أهل العراق خمسة وعشرون منهم عمّار بن ياسر (2) رضي الله عنه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قال له: (3) «إنّك تقتلك الفئة الباغية» فكان ذلك من إخباره بالغيب وأعلام نبوءته صلى الله عليه وسلم.
وكانت وقيعة صفين في غرة صفر سنة سبع وثلاثين، ولما شارف عليّ رضي الله عنه الفتح، وقد طحنت الحرب كثيرا من أعلام الرّجال نادت مشيخة أهل الشام: يا معشر العرب، الله الله في الحرمات، ورفعوا المصاحف، ونادوا: كتاب الله بيننا وبينكم، فأشار الناس على علي بقبول ما دعوا إليه، واتّفقوا على رجلين من الفريقين يحكمان بما يزيل الفتنة، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص (4)، داهية العرب، واختار أهل العراق أبا موسى الأشعريّ (5)، واتّفق الحكمان على خلع
__________
(1) ج: سير، وهو غلط.
(2) أحد الصحابة الأجلّاء نعته الرسول عليه السلام بالطيّب المطيّب، وهو من السابقين إلى الإسلام، شهد بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرّضوان، شهد مع علي صفين، وهو من الشجعان ذوي الرأي (37هـ) الاستيعاب 3/ 11411135والأعلام 5/ 36،
(3) فتح الباري 7/ 74وأنساب الأشراف 168، 169والاستيعاب 3/ 1139، 1140وشذرات الذهب 1/ 45 وكشف الخفاء 2/ 346.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 751الحاشية 1.
(5) هو عبد الله بن قيس صحابي مشهور ولّاه عمر البصرة ولم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان ثم ولي على الكوفة ثم كان منه في صفين وفي التحكيم ما هو مشهور (44هـ) طبقات ابن سعد 4/ 116105 والاستيعاب 3/ 981979، 4/ 17641762والأعلام 4/ 114.(2/458)
معاوية وعليّ. وحمل عمرو أبا موسى على التّقدّم إيثارا له في ظاهر الأمر، فلما خطب وخلع عليّا قام عمرو فأقرّ معاوية واختاره فاضطرب الأمر، وتمّت الحيلة، واختلّ أمر عليّ، فانصرف معاوية إلى دمشق، وسار عليّ يؤمّ الكوفة، وخرجت عليه الخوارج منكرة للتّحكيم، فكفّروه وكلّ من معه، إذ رضي بالتّحكيم، والله يقول (1): {= إِنِ الْحُكْمُ إِلََّا لِلََّهِ =،} * فنصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدّماء، وقطعوا السّبل فخرج إليهم ورام رجعتهم فأبوا إلّا القتال، فقاتلهم بالنّهروان (2) فظفر بهم (3) واستأصلّ جمهورهم، وكان عدد من أصابه منهم بالنهروان ألفين وثمانمائة فيما قال المبرد أنّه الأصحّ (4) وقال: كان عددهم ستة آلاف، وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممّن يسرّ أمره، ولم يشهد.
ولما (5) كانت سنة أربعين اجتمع بمكة جماعة من الخوارج، وتذكّروا ما النّاس فيه من الحرب والفتنة، فتعاهد ثلاثة منهم على احتساب أنفسهم في إراحة النّاس من عليّ ومعاوية وعمرو، وتواعدوا في ليلة سبع عشرة (6) من رمضان، فانطلق رجل منهم يلقّب بالبرك (7) إلى معاوية فطعنه بخنجر وهو يصلّي فأصاب أليته، وانطلق آخر يعرف بزاذويه (8) فقتل بعمرو بن العاص قاضي مصر خارجة
__________
(1) سورة يوسف 12/ 40، 67والأنعام 6/ 57.
(2) النّهروان: بليدة قديمة واسعة بين بغداد وواسط بالقرب من بغداد، معجم البلدان 5/ 327324والوفيات 2/ 111.
(3) ج: فظفرهم، وهو غلط.
(4) الكامل 3/ 187.
(5) من رقم الحلل 111، 112إلى قوله: = وقتل بعد موت علي = والخبر في الكامل 3/ 196ومروج الذهب 2/ 411 وتمام المتون 197196.
(6) أب ج ش هـ و: سبع وعشرين، وهو غلط، والتصحيح من تاريخ الطبري 5/ 144، 151ومروج الذهب 2/ 411. وفي الكامل 3/ 196ومروج الذهب أيضا 2/ 411: 21رمضان.
(7) هو الحجاج بن عبد الله الصريميّ المشهور بالبرك من بني سعد بن زيد مناة من تميم ثائر من أهل البصرة كان أوّل من عارض في التحكيم قتله معاوية (40هـ) الكامل 3/ 188187، 201196وتاريخ الطبري 5/ 143، 144، 149والأعلام 2/ 168.
(8) هو عمرو بن بكر التميمي مولى بني العنبر بن عمرو بن تميم أحد الخوارج الثلاثة تعهد بقتل عمرو بن العاص، فقتل صاحب شرطته وقاضي مصر خارجة بن حذافة (40هـ) الكامل 3/ 196، 202وتاريخ الطبري 5/ 143، 144، 149ومروج الذهب 2/ 411، 417والأعلام 5/ 74.(2/459)
ابن فلان (1) لشبهه به، وانطلق الأشقى عبد الرحمن بن ملجم المراديّ (2)، حليف لهم، وهو من السّكون (3)، وقيل من حمير، وكان فاتكا ملعونا، فأخذ على عليّ بعض زوايا المسجد وكمن به، فلما خرج عليّ إلى الصلاة ضربه ابن ملجم بالسيف على رأسه، فقبض عليه وقتل بعد موت علي رضي الله عنه، واحتمل عليّ رضي الله عنه إلى منزله فاعترته غشية ثم أفاق فدعا الحسن والحسين رضي الله عنهما، فقال لهما (4): أوصيكما بتقوى الله (5) (تعالى) والرّغبة في الآخرة والزّهد في الدنيا، ولا تأسفا على ما فاتكما منها، اعملا الخير وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا. ثم دعا محمدا وقال: أما سمعت ما أوصيت به أخويك؟ قال: بلى، قال:
فإنّي أوصيك به، وعليك ببرّ أخويك، وتوقيرهما، ومعرفة فضلهما، ولا تقطع أمرا دونهما. ثم أقبل عليهما، فقال: أوصيكما به خيرا، فإنّه شقيقكما (6) وابن أبيكما، وأنتما تعلمان أنّ أباه كان يحبّه فأحبّاه، ثم قال: يا بني أوصيك بتقوى الله في الغيب والشهادة، وكلمة الحقّ في الرّضى والغضب والقصد في الغنى والفقر والعدل على الصديق والعدوّ والعمل في النشاط والكسل والرّضى عن الله في الشّدة والرخاء، يا بني ما شرّ بعده الجنة بشرّ، ولا خير بعده النار بخير، وكلّ نعيم
__________
(1) هو خارجة بن حذافة السهميّ، وهو رجل من بني سهم بن عمرو بن هصيص رهط عمرو بن العاص وهو صحابيّ من مسلمة الفتح من الشجعان، تولّى قضاء مصر في عهد عمر وعثمان (40هـ) الكامل 3/ 202وتاريخ الطبري 4/ 253، 5/ 149ومروج الذهب 2/ 417والاستيعاب 2/ 419418الإصابة 2/ 222والوفيات 7/ 218216والأعلام 2/ 293.
(2) هو أحد الفرسان الشجعان أدرك الجاهلية وأحد القراء، قرأ على معاذ بن جبل وأحد الخارجين على علي (40هـ) طبقات ابن سعد 3/ 35والكامل 3/ 200196وتاريخ الطبري 5/ 146143، 149148 (وهو فيه عبد الرحمن بن عمرو) ومروج الذهب 2/ 413411وتمام المتون 200ولسان الميزان 3/ 440439والنجوم الزاهرة 1/ 120119والأعلام 3/ 339.
(3) السّكون: قبيلة عظيمة من كندة، وحيّ من اليمن، الاشتقاق 368وجمهرة الأنساب 429، 477واللسان (سكن).
(4) من سراج الملوك 23بتصرف إلى آخر الوصية. وبعض الوصية في الكامل 3/ 243وتاريخ الطبري 5/ 148147ومروج الذهب 2/ 413ونهج البلاغة 422421.
(5) ما بين القوسين ساقط من ج
(6) أب ج ش هـ و: سيفكما، وهو غلط، والتصحيح من الكامل.(2/460)
دون الجنة حقير، وكلّ بلاء دون النار عافية، يا بني من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سلّ سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن كشف حجاب أخيه هتك عورة بنيه ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تكبّر على النّاس ذلّ، ومن خالط الأرذال احتقر، ومن دخل مدخل السّوء اتّهم، ومن جالس العلماء، وقّر، ومن مزح استخفّ به، ومن أكثر من شىء عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه، قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النّار، يا بني الأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين، يا بني، العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في الصّمت إلّا عن ذكر الله، وواحد في ترك مجالسة السّفهاء، يا بني، زينة الفقر الصبر، وزينة الغنى الشّكر، يا بني، لا شرف أعلى (1) من الإسلام ولا كرم أعزّ من التّقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية. يا بني، الحرص مفتاح التعب ومظنّة النّصب، التدبير قبل العمل يؤمّنك الندم، بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد، طوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه وحبّه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وقوله وفعله.
ثم توفي رضي الله عنه ليلة إحدى وعشرين من رمضان سنة أربعين (2)، فغسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر (3)، وكفّن (4) في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وحنّط بحنوط فضل من حنوط رسول الله
__________
(1) ج: أغلى
(2) أب ج ش هـ و: إحدى وأربعين، وهو غلط، والتصحيح من تاريخ الطبري 5/ 143، 151، ومروج الذهب 2/ 411والاستيعاب 3/ 1122ومعجم الأدباء 14/ 42ودول الإسلام 1/ 19وهناك اختلاف في ليلة وفاته فقد ذكرت ليلة 11، 13، 18، 17، 21، 27والمرجّح 17رمضان. انظر المصادر السابقة.
(3) سبق التعريف به في الصفحة 723الحاشية 4.
(4) الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 37وتاريخ الطبري 5/ 148.(2/461)
صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه ابنه الحسن ليلا في المسجد، وكبّر أربعا وقيل سبعا، واختلف (1) في موضع دفنه، فقيل في قصر الإمارة بالكوفة عند المسجد الجامع، وعمّي قبره، وقيل في رحبة الكوفة، وقيل إنّه نقل إلى المدينة، ودفن بالبقيع (2). واختلف (3) في مبلغ سنّه يوم قتل، فقيل ثلاث وستون سنة، وقيل سبع وخمسون، وقيل ثمان وخمسون، واختلف (4) هل ضرب بالسيف في الصلاة أو قبل الدّخول فيها، وهل استخلف من أتمّ بهم، أو هو الذي أتمّها، فالأكثر على أنه استخلف جعدة بن هبيرة (5)، فصلّى بهم تلك الصلاة. كنيته أبو الحسن، ويكنى (6)
أيضا أبا تراب كنّاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وجده نائما في المسجد فجعل ينفض التراب عنه، ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب، في القصة المشهورة، (7) وأبو طالب كنية أبيه واسمه عبد مناف، وقيل اسمه كنيته ابن عبد المطلب، واسمه شيبة، ويقال له: شيبة الحمد ابن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصّي. وأمّه رضي الله عنها (8) فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
__________
(1) الخبر في المعارف 209والاستيعاب 3/ 1122وتمام المتون 199والنجوم الزاهرة 1/ 120وتاريخ الخلفاء 165.
(2) البقيع هو مقبرة أهل المدينة. وهي داخل المدينة. معجم البلدان 1/ 473واللسان (بقع).
(3) الخبر في المعارف 209وتاريخ الطبري 5/ 151والاستيعاب 3/ 1122وصفة الصفوة 1/ 334وتمام المتون 199.
(4) الخبر في تمام المتون 197.
(5) جعدة بن هبيرة المخزوميّ هو ابن فاختة أخت الإمام على الذي ولاه خراسان وسكن الكوفة انظر جمهرة الأنساب 37، 141وأسد الغابة 1/ 285وتهذيب التهذيب 2/ 81.
(6) الخبر في فتح الباري 1/ 535، 7/ 70وصحيح مسلم 7/ 124والاستيعاب 3/ 1118.
(7) الخبر في الاستيعاب 3/ 1089.
(8) ج ش: عنها، أب هـ و: عنهما.(2/462)
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله (1): أحسن ما رأيت من صفته أنّه كان ربعة (2) من الرّجال أدعج العينين عظيم البطن، عريض المنكبين شثن الكفّين، أغيد، كأنّ عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلّا من خلفه، كبير اللحية، لمنكبيه مشاش كمشاش السّبع لا يبين عضده من ساعده، قد أدمجت إدماجا، إذا مشى تكفّأ، وإن أمسك بذراع رجل لم يستطع أن يتنفّس، وهو إلى السّمن (3) [ما هو]. إذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، قويّ شجاع منصور.
قال ابن إسحاق (4): وهو أول من آمن من الرّجال، وهو قول الزهريّ (5) إلّا أنّه قال: من الرّجال بعد خديجة. وهو قول الجميع في خديجة، كما نقل الاتفاق عليه الثعلبيّ (6) وغيره، وكذا قال ابن عباس أنه أول من آمن من الناس بعد خديجة، قال الحافظ ابن عبد البر (7): والصحيح أنّ أبا بكر رضي الله عنه أوّل من أظهر إسلامه. قاله مجاهد (8) وغيره. وسئل (9) محمد بن كعب القرظيّ (10) عن أوّل من
__________
(1) الاستيعاب 3/ 1123وانظر وصف الإمام علي في طبقات ابن سعد 3/ 2725.
(2) رجل ربعة: أي مربوع الخلق لا بالطّويل ولا بالقصير، الأدعج: الشديد سواد العين، شثن الكفّين أي غليظهما، ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشدّ لقبضهم، ويذمّ في النّساء. الأغيد: المائل العنق، اللّيّن الأعطاف، المشاش: رؤوس العظام مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين (اللسان: دعج، ربع، شثن، غيد، مشش).
(3) زيادة من الاستيعاب 3/ 1123.
(4) السيرة 1/ 245وطبقات ابن سعد 3/ 21والاستيعاب 3/ 1090. والخبر في الجامع الصحيح 5/ 642.
(5) هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المشهور بالزهريّ من المحدّثين الحفاظ الكبار قال عنه عمر بن عبد العزيز: لم يبق أحد أعلم بسنّة ماضية من الزهريّ (124هـ) الوفيات 4/ 179177وتذكرة الحفاظ 1/ 113108والأعلام 7/ 97.
(6) هو أبو إسحاق أحمد بن محمد المفسّر المشهور كان أوحد زمانه في علم التفسير، كثير الحديث والشيوخ، صحيح النقل موثوق به. (427هـ) الوفيات 1/ 8079وبغية الوعاة 1/ 356والأعلام 1/ 212.
(7) الاستيعاب 3/ 965، 1092.
(8) هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المخزوميّ المكيّ المقرئ المفسّر الحافظ، أخذ التفسير عن ابن عباس ولزمه مدة وقرأ عليه القرآن (103هـ) تذكرة الحفاظ 9392والأعلام 5/ 278.
(9) الخبر في الاستيعاب 3/ 1092.
(10) هو أبو حمزة، من المحدّثين الرواة، يروي عن ابن عباس وابن عمر، كان من فضلاء أهل المدينة يقال إنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (108هـ) المعارف 459458والاستيعاب 3/ 1377واللباب في الأنساب 3/ 2726وتهذيب التهذيب 9/ 422420.(2/463)
أسلم، أعليّ أم أبو بكر الصديق؟ فقال: سبحان الله، عليّ أولهما إسلاما، وإنّما اشتبه على النّاس لأنّ عليا أخفى إسلامه من أبي طالب وأظهر أبو بكر إسلامه.
قال: ولا شك عندنا أنّ عليا أولهما إسلاما، وقال سلمان الفارسيّ (1) رضي الله عنه: أول هذه الأمة ورودا على نبيها الحوض أولها إسلاما عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن إسحاق (2): أسلم عليّ وله عشر سنين، وعن الحسن أنّ عمره كان خمس عشرة سنة. وعن ابن عمر من وجهين جيدين (3): أنه كان ابن ثلاث عشرة. قال ابن عبد البر (4): وهذا أصحّ ما قيل فيه، وقيل غير ذلك.
قال ابن إسحاق (5): ولم يتخلّف عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا تبوك (6) فإنّه خلفه على المدينة وعلى عياله، وقال له (7): أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي وهذا الخبر من أثبت الأحاديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة منهم سعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبو سعيد (8) وجابر (9) وأمّ سلمة (10)
__________
(1) هو أحد الصحابة المقدّمين أصله من مجوس أصبهان، قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: = سلمان من أهل البيت = تولى المدائن في عهد عمر، فكان من النساك الزهاد، يتصدق بعطائه وياكل من كسبه خبز الشعير (36هـ) تاريخ الطبري 3/ 171ومروج الذهب 2/ 307306والاستيعاب 2/ 638634والأعلام 3/ 111، 112 والقول في الاستيعاب 3/ 1090.
(2) الاستيعاب 3/ 1093.
(3) الاستيعاب 3/ 10941093.
(4) الاستيعاب 3/ 1095.
(5) الخبر في السيرة 2/ 520519وفضائل الصحابة 74والاستيعاب 3/ 1097وصفة الصفوة 1/ 308.
(6) تبوك: موضع بين وادي القرى والشام، وبينها وبين المدينة اثنتا عشرة مرحلة. معجم البلدان 2/ 1514.
(7) الحديث في فتح الباري 7/ 71وصحيح مسلم 7/ 120، 121وسنن ابن ماجة 1/ 4342والجامع الصحيح 5/ 638، 641والسيرة 2/ 520519وطبقات ابن سعد 3/ 23وفضائل الصحابة 74، 78والاستيعاب 3/ 1097، 1098ودول الإسلام 1/ 19وتاريخ الخلفاء 157وكشف الخفاء 2/ 382.
(8) هو سعد بن مالك الخدريّ الأنصاريّ، من الصحابة الحفاظ المكثرين العلماء العقلاء (74هـ) الاستيعاب 2/ 602، 4/ 16721671، والأعلام 3/ 87.
(9) هو جابر بن عبد الله السّلميّ وهو أحد الصحابة غزا مع رسول ثمان عشرة غزوة وهو من المكثرين الحفاظ للسنن (74هـ) الجامع الصحيح 5/ 640والاستيعاب 1/ 220219والأعلام 2/ 104.
(10) هي هند بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرات إلى الحبشة (60هـ) الاستيعاب 4/ 19211920، 19401939والأعلام 8/ 9897.(2/464)
وأسماء بنت عميس (1) رضي الله عن جميعهم، وروى أبو هريرة وجابر والبراء (2) وزيد بن أرقم (3) وغيرهم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال (4): من كنت مولاه فعليّ مولاه. زاد بعضهم: = اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. = وروى جماعة من الصحابة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (5) «لأعطينّ الراية (6) (غدا) رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، ليس بفرّار، يفتح الله على يديه». ثم دعا بعليّ، وهو أرمد فتفل في عينه وأعطاه الراية ففتح الله عليه.
بارز رضي الله عنه يوم بدر ويوم الخندق، وفي غير مشهد، ولم يبارزه أحد إلّا قتله.
بعثه رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهو شابّ ليقضي بينهم، فقال: يا رسول الله، إنّي لا أدرى ما القضاء، فضرب صدره بيده فقال (8):
__________
(1) أسماء بنت عميس الخثعمية هي أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرات إلى الحبشة (40هـ) الاستيعاب 4/ 17851784والأعلام 1/ 306.
(2) لعله البراء بن عازب الأنصاريّ صحابي وقائد من أصحاب الفتوح أسلم صغيرا وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة وشهد مع علي الجمل وصفين والنّهروان، روى له البخاري ومسلم 305حديث (71هـ) الاستيعاب 1/ 155، 157والأعلام 2/ 4746.
ولعله أيضا البراء بن مالك الأنصاري أخو أنس بن مالك، شهد أحدا وما بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الأبطال الأشداء، قتل من المشركين مئة رجل مبارزة (20هـ) الاستيعاب 1/ 155153والأعلام 2/ 47.
(3) زيد بن أرقم الخزرجيّ الأنصاريّ، غزا مع الرسول سبع عشرة غزوة، وشهد صفين مع علي (68هـ) الاستيعاب 2/ 536535والأعلام 3/ 56.
(4) فتح الباري 7/ 70، 476وصحيح مسلم 5/ 195وسنن ابن ماجة 1/ 4443، 45والجامع الصحيح 5/ 633والسيرة 2/ 334وفضائل الصحابة 8381والاستيعاب 3/ 1099وحياة الحيوان 1/ 475وتاريخ الخلفاء 158.
(5) السيرة 2/ 334وفتح الباري 7/ 70، 476وصحيح مسلم 5/ 195، 7/ 120، 121.
(6) ما بين القوسين ساقط من ج.
(7) ج: النبي.
والخبر في الاستيعاب 3/ 1100وقريب منه في الفتح الرباني 23/ 133132.
(8) سنن ابن ماجة 2/ 774والاستيعاب 3/ 1100وتاريخ الخلفاء 159ومعنى الحديث في طبقات ابن سعد 2/ 337.(2/465)
= اللهمّ اهد قلبه وسدّد لسانه»: (1) (قال) فو الله ما أشكلت عليّ مسألة بعدها في قضاء بين اثنين. وروي في حديث مرفوع (2): «أقضاكم عليّ». وقال عمر رضي الله عنه (3) = عليّ أقضانا وأبيّ (4) أقرؤنا = قال ابن المسيّب (5): كان عمر رضي الله عنه يتعوّذ من معضلة ليس لها أبو حسن (6). وقال أبو الطفيل (7): شهدت عليّا وهو يخطب، يقول: سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء إلّا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلّا وأنّا أعلم أبليل أنزلت أو نهار، أم في سهل.
أم في جبل. وروي عنه أنه قال: لو أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضع على الفاتحة وقر سبعين بعيرا (8) لفعلت، ولقد صدق رضي الله عنه وكيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة العلم (9) وعليّ بابها» ونقل
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ج.
(2) الحديث المرفوع هو الحديث المضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا. انظر الباعث الحثيث 43 والصفحة 621الحاشية 2والحديث في سنن ابن ماجة 1/ 55والاستيعاب 3/ 1102.
(3) طبقات ابن سعد 2/ 339وفتح الباري 7/ 74والاستيعاب 3/ 1103، 1104وتاريخ الخلفاء 160وهو من قول النبي صلى الله عليه وسلم انظر الاستيعاب 1/ 68.
(4) أبيّ بن كعب الأنصاريّ من بني النجار، وهو أحد فقهاء الصحابة وأقرؤهم لكتاب الله. قال عنه الرسول: = اقرأ أمّتي أبيّ = وهو من كتّاب الوحي (22هـ) الاستيعاب 1/ 7065والأعلام 1/ 82.
(5) هو سعيد بن المسيب المخزوميّ القرشيّ، سيد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزّهد والورع، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته حتى سمّي راوية عمر (94هـ) طبقات ابن سعد 5/ 143119والوفيات 2/ 378375والأعلام 3/ 102.
والقول في طبقات ابن سعد 2/ 339والاستيعاب 3/ 11031102وصفة الصفوة 1/ 314وتاريخ الخلفاء 160.
(6) أبو حسن كنية الإمام علي، انظر الصفحة 765.
(7) هو عامر بن وائلة الكنانيّ المكيّ المشهور بأبي الطفيل، ولد عام أحد، وأدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين وهو من شعراء الصحابة، ومن شيعة علي، ويثني على الشيخين أبي بكر وعمر، ويترحم على عثمان (100هـ) الأغاني 15/ 154146والاستيعاب 4/ 16971696والأعلام 3/ 256.
والقول في الاستيعاب 3/ 1107وبعضه في طبقات ابن سعد 2/ 338والأغاني 15/ 148وتاريخ الخلفاء 173.
(8) يقصد أنه يستطيع أن يشرح الفاتحة ويكتب عليها حمولة سبعين جملا.
(9) ج: علم.
والحديث في الجامع الصحيح 5/ 637، وهو بلفظ = أنا دار الحكمة وعليّ = وهو في الاستيعاب 3/ 1102 وأحاديث القصاص 78وتاريخ الخلفاء 159، وهو حديث منكر ضعيف.(2/466)
عنه في كلّ علم العجب العجاب، حتى افتتنت به طوائف من المبتدعة وادّعى بعضهم (1) فيه ما ادعاه النصارى في عيسى عليه الصلاة والسلام كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له (2): يهلك فيك رجلان محبّ مطر وكذّاب مفتر. وقال له (3): = تفترق فيك أمّتي كما افترقت بنو إسرائيل في عيسى =.
ومن عجيب أمره رضي الله عنه أن معضلات المسائل التي لا يتوصّل إلى جوابها إلّا بالأنظار الدقيقة في السنين المتطاولة إذا سئل عنها أجاب بديهة من غير تأمّل ولا تعظيم لشأنها، حتى كأنّها عنده من الأمور الضرورية ككون الاثنين أكثر من واحد مثلا، وقضاياه في ذلك معلومة كالمسألة المعروفة عند الفرضيين بالمنبريّة التي سئل عنها رضي الله عنه وهو على المنبر وهي زوجة وابنتان وأبوان، فقال على البديهة: صار ثمنها تسعا، ومضى على خطبته. وكذا فتواه (4) في رجلين لأحدهما ثلاثة أرغفة ولآخر خمسة هجم عليهما ثالث فقدما إليها ما معهما واستوعبوا ثلاثتهم ذلك أكلا، فلما قام عنهما أجازهما بثمانية دراهم، فقال صاحب الثلاثة هي بيننا نصفين، وقال الآخر بل هي على عدد أرغفة كلّ واحد. فحلف الأول أن لا يأخذ إلّا ما أعطاه صميم الحقّ، فرفعه إلى علي رضي الله عنه، فقال له: خذ ما أعطاك، فقال: إن كان بصميم الحق، فقال عليّ بديهة: إذا ليس لك إلّا درهم واحد، فقال: كيف؟ فقال: أكلتم ثلاثتكم ثمانية أرغفة وقدر ما أكل كلّ واحد منكم غير معلوم فتحملون على السواء، وثمانية على ثلاثتكم تباينها فتضرب
__________
(1) يقصد طوائف الشيعة المغالين وبخاصة السّبئية التي ألّهت عليّا رضي الله عنه انظر الملل والنحل 1/ 174173.
(2) الحديث في الاستيعاب 3/ 1101وتاريخ الخلفاء 162ونسب الحديث في المحاسن والمساوئ 1/ 29للإمام علي، وقريب من هذا الحديث في الفتح الرباني 23/ 134معزوا للإمام علي.
(3) لم أعثر على هذا الحديث ويبدو أنه من الأحاديث الموضوعة. وجاء في الاستيعاب 3/ 1130: = عن الشعبي قال:
= قال لي علقمة = تدري ما مثل عليّ في هذه الأمة؟ قلت: ما مثله؟ قال: مثل عيسى بن مريم، أحبّه قوم حتى هلكوا في حبّه، وأبغضه قوم حتى هلكوا في بغضه = وقريب منه في الفتح الرباني 23/ 134.
(4) الخبر في الاستيعاب 3/ 1105والغيث المسجم 2/ 214 (ط. العلمية) وتاريخ الخلفاء 168167.(2/467)
فيها، فتصير أربعة وعشرين. تضرب أرغفة كلّ واحد منكما فيما ضربت فيه الثمانية المجموع، فلك ثلاثة تضرب فيها الثلاثة التي ضربت فيها الثمانية، فلك تسعة أكلت منها ثمانية بقي لك واحد، ولصاحبك خمسة تضرب في الثلاثة فذلك خمسة عشر أكل منها ثمانية بقيت له سبعة (1) (فقد أكل لك الوارد تسعا ولصاحبك سبعة) وإنّما وهبكما لذلك. اقسما ما منحكما على قدر ما منحتماه.
وكذا ما روي عنه أيضا من أنه (2) جاءته امرأة تشكو له: قد مات أخي وخلف ست مائة درهم ولم يعطوني إلّا درهما واحدا، فقال لها على الفور: لعل أخاك خلّف من الورثة كذا وكذا. وفي رواية (3) (أنه) قال لها: لعل أخاك خلف زوجة وأما وابنتين واثني عشر أخا؟ فقالت: نعم. فقال: ذلك حقّك، لم يظلموك. ومثل هذا ممّا روي عنه كثير خارج عن حدّ الحصر. ومناقبه رضي الله عنه جليلة وفضائله كثيرة. قال الإمام أحمد (4): لم يرو في فضائل الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في فضائله مع قدم إسلامه. وأفضل الصحابة الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ، وقيل بتقديم عليّ على عثمان، وهو أحد قول ابن معين (5) ورأي ابن خزيمة (6)، وقال الإمام أحمد: هذا قول لا أعرفه. وسئل (7) الإمام مالك رضي الله عنه عن خير الناس بعد نبيهم فقال: أبو بكر ثم عمر ثم قال: أو في ذلك شك؟ فقيل: فعلي وعثمان، أيهما أفضل فقال: ما أدركت أحدا ممّن أقتدي به يفضّل أحدهما على صاحبه، ويرى الكفّ عنهما، ومثله عن يحيى القطان (8). ولما مات رضي الله عنه كان أفضل من على وجه الأرض بالاتفاق.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ش.
(2) لم أعثر على هذا الخبر في المظان.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) القول في الاستيعاب 3/ 11161115وتاريخ الخلفاء 157.
(5) القول في الاستيعاب 3/ 1116.
وابن معين هو يحيى بن معين سبق التعريف به في الصفحة 212الحاشية 1.
(6) ابن خزيمة هو محمد بن إسحاق بن خزيمة السلميّ الحافظ الكبير وإمام نيسابور في عصره فقها وحديثا له مؤلفات تزيد على 140هو ثقة ثبت (311هـ) تذكرة الحفاظ 2/ 731720والأعلام 6/ 29.
(7) الخبر في الاستيعاب 3/ 11181117.
(8) هو يحيى بن سعيد بن فروخ القطان البصريّ من حفاظ الحديث الكبار، كان إمام أهل زمانه وهو حجة ثقة، من أقران الإمام مالك (198هـ) المعارف 514وميزان الاعتدال 4/ 380وتذكرة الحفاظ 1/ 300298والأعلام 8/ 147.(2/468)
وتولى الخلافة بعده ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما بايعه أكثر من أربعين ألفا، وفيهم كثير ممّن تخلّف عن بيعة أبيه، وممّن نكث بيعته. فبقي خليفة حقا خمسة أشهر وخمسة وعشرين يوما تكملة الثلاثين سنة التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها مدة الخلافة بعده (1)، وبعدها يكون ملكا عضوضا أي يعضّ الناس بجور أهله، وعدم استقامتهم، فلما تمّت تلك المدة سار إلى معاوية (2)
في أهل الحجاز والعراق لينتزع منه الشام، وسار إليه معاوية، فلما تقارب العسكران، وذلك بمسكن من أرض الأنبار، نظر الحسن رضي الله عنه إلى الجيشين وفكر فيما يكون بينهما من القتل فعلم أنه لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فرأى رضي الله عنه أن المصلحة في جمع الكلمة وترك القتال وحقن دماء المسلمين. فأرسل إلى معاوية يخبره أنه يسلّم إليه الأمر على شرط أن لا يطلب أحدا من أهل الحجاز ولا المدينة ولا العراق بشيء ممّا كان في أيام أبيه وأن يكون وليّ الأمر من بعده وأن يمكنّه من بيت المال يأخذ منه حاجته، ففرح معاوية وأجاب إلى ذلك إلّا أنه قال الأعداء لا أؤمّنهم، فراجعه الحسن فيهم، فكتب إليه معاوية: آليت على نفسي أنّي متى ظفرت بقيس بن سعد بن عبادة (3) أن أقطع لسانه ويده، فراجعه الحسن (4) (رضي الله عنه) فقال: إني لا أصالحك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة قلّت أو كثرت، فبعث إليه معاوية برقّ أبيض، قال: اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه، فاصطلحا على ذلك، فكتب الحسن رضي الله عنه كلّ ما اشترط عليه من الأمور المذكورة والتزم ذلك كلّه معاوية. فخلع الحسن رضي الله عنه نفسه تورّعا وقطعا للشرّ وإيثارا للعافية وإطفاء لنائرة (5) الفتنة وحقنا لدماء المسلمين،
__________
(1) القول في الفتح الباري 7/ 58وفضائل الصحابة 84وتهذيب ابن عساكر 4/ 219والوفيات 2/ 66.
(2) الخبر في الاستيعاب 1/ 376375وسير النبلاء 3/ 278277وحياة الحيوان 1/ 110109.
(3) سبق التعريف به في الصفحة 722الحاشية 7.
(4) ما بين القوسين ساقط من ج.
(5) نار الحرب ونائرتها: شرّها وهيجها. (اللسان: نور)(2/469)
فسميّ (1) ذلك العام عام الجماعة لاجتماع الناس على إمام واحد وذلك في شهر ربيع الأول وقيل في جمادى الأولى من سنة إحدى وأربعين، فيقال إنّ الحسن رضي الله عنه لمّا صالح معاوية على ما ذكر صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال (2): أيّها النّاس إنّ الله (3) (هداكم) بأوّلنا وحقن دماءكم بآخرنا، وقد كانت لي في رقابكم بيعة تحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت وقد سالمت معاوية (4) {«وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتََاعٌ إِلى ََ حِينٍ»} ثم نزل.
ولقد حقّق الله فيه رجاء نبيّه صلى الله عليه وسلم إذ قد روي (5) في الحديث الصحيح أنه رحمه الله رقي المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فأمسكه وجعل يقبل على النّاس مرّة وعليه أخرى، ثم قال (6): «إنّ ابني هذا سيّد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكان رضي الله عنه سيّدا كريما متواضعا، حليما، تزوج سبع مائة امرأة (7)
وفي رواية ثلاث مائة امرأة، وذلك في حياة أبيه فأمر مناديا ينادي في النّاس (8):
لا تزوّجوا الحسن فإنّه مطلاق. فما من أحد إلّا قال: نزوّجه، فما رضي أمسك وما كره طلّق، وما طلّق امرأة إلّا وهي تحبّه. وأمتع امرأتين بعشرين ألفا ونيف، فقالت إحداهما (9): متاع قليل من حبيب مفارق.
__________
(1) الخبر في الاستيعاب 3/ 1418ودول الإسلام 1/ 21.
(2) تاريخ الطبري 5/ 163والاستيعاب 1/ 388، 389والوفيات 2/ 66وحياة الحيوان 1/ 107.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) سورة الأنبياء 21/ 111.
(5) الخبر في حياة الحيوان 1/ 108107.
(6) فتح الباري 7/ 94والجامع الصحيح 5/ 658وفضائل الصحابة 90والاستيعاب 1/ 384، 386والتاريخ الكبير 4/ 220، 206ودول الإسلام 1/ 20والوافي بالوفيات 12/ 108وتاريخ الخلفاء 176.
(7) كذا في أب ج ش هـ و: وجاء في التاريخ الكبير 4/ 216وسير النبلاء 3/ 253ودول الإسلام 1/ 25: سبعين امرأة.
(8) الخبر في التاريخ الكبير 4/ 216وسير النبلاء 3/ 253.
(9) التاريخ الكبير 4/ 216وسير النبلاء 3/ 262وحياة الحيوان 1/ 108، 2/ 597.(2/470)
وكان يقول: إنّي لأستحيي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى (1)
خمسا وعشرين مرة من المدينة إلى مكة علي قدميه والجنائب تقاد بين يديه، ومرّ بصبيان معهم كسر خبز فاستضافوه أدبا معه، فنزل وأكل معهم.
وعن عاصم بن المصطلق (2) قال: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي فأعجبني سمته فأثار منّي الحسد ما كان يجنّه (3) صدري من البغض لأبيه، فقلت له: أنت الحسن بن علي (4) (بن أبي طالب)؟ قال: نعم، فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إلى نظر عاطف رؤوف، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم بسم الله الرحمن الرحيم (5) {«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذََا مَسَّهُمْ طََائِفٌ مِنَ الشَّيْطََانِ تَذَكَّرُوا، فَإِذََا هُمْ مُبْصِرُونَ»} ثم قال: خفّض عليك أستغفر الله لي ولك، إنّك لو استعنتنا لأعنّاك ولو استرشدتنا لأرشدناك. قال: فندمت على ما فرط مني، فقال: (6) {«لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ»} أي لا عتب عليك (6) {«الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ».} أمن أهل الشّام أنت؟ قلت: نعم. قال: حيّاك الله وبيّاك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجد عندنا أفضل ظنّك إن شاء الله. قال عاصم: فضاقت عليّ الأرض بما رحبت ووددت أنها قد ساخت بي، ثم انسللت منه لواذا أي ذهبت مختفيا، وما على الأرض أحبّ إليّ منه ومن أبيه رضي الله عنهما.
__________
(1) الخبر في سير النبلاء 3/ 153، 287ودول الإسلام 1/ 25وحياة الحيوان 1/ 108وتاريخ الخلفاء 177والطبقات الكبرى للشعراني 1/ 26وفي سير النبلاء أنه حجّ خمس عشرة مرة.
(2) لم أعثر له على تعريف في المظان. وجاء في الوفيات 2/ 6867أنه رجل من أهل الشام. والخبر في الوفيات 2/ 6867.
(3) جنّ الشيء يجنّه جنّا: ستره. (اللسان: جنن).
(4) ما بين القوسين ساقط من ج.
(5) سورة الأعراف 7/ 201199.
(6) سورة يوسف 12/ 92.(2/471)
ثم (1) إنّ يزيد بن معاوية دسّ إلى جعدة بنت الأشعث الكندية زوجة الحسن رحمه الله أن تسمّه ويتزوجها، وبذل لها مائة ألف، ففعلت، فلمّا مات الحسن رضي الله عنه، بعثت إلى يزيد تسأله فيما وعدها، فأبى، وقال: «إنّا لم نرضك للحسن فنرضاك لأنفسنا! = وعن (2) عمير بن إسحاق، قال: دخلت أنا ورجل على الحسن نعوده، فقال له: يا فلان سلني، قال: لا والله لا أسألك حتى يعافيك الله تعالى، قال: ثم دخل وخرج إلينا، فقال: سلني قبل أن لا تسألني. قال: لا بل حتى يعافيك الله تعالى، قال (3): قد ألقيت طائفة من كبدي، وإنّي قد سقيت السّمّ مرارا فلم أسق مثل هذه المرّة. قال: ثم دخلت عليه من الغد، وهو يجود بنفسه وأخوه الحسين عند رأسه، فقال: يا أخي، من تتهم؟ فقال: لتقتله؟ قال: نعم فقال: إن يكن الذي أظنّ فالله أشدّ بأسا وأشدّ تنكيلا، ولا إن يكن ذلك فلا أحبّ أن تقتل بي بريئا، ولما (4) احتضر رضي الله عنه، قال لأخيه الحسين: إنّ أباك اشرأبّ لهذا الأمر المرة بعد المرة، فصرفه الله عنه إلى الثلاثة قبله، ثم ولّي فنوزع حتى جرّد السيف، فما صفت له، وإنّي والله ما أرى أن يجمع الله فينا النبوءة والخلافة، وربّما يستخفّك سفهاء الكوفة فيخرجونك. وكانت مدة مرضه أربعين يوما.
وتوفي رضي الله عنه لخمس ليال خلون من ربيع الأول سنة خمسين على قول الأكثر، ودفن بالبقيع، فياله من قبر ما أكرمه، ومن سيّد ما أجلّه وأعظمه. وعن أبي العباس المرسيّ (5) رحمه الله: أن أول الأقطاب مطلقا الحسن بن علي رضي الله عنه،
__________
(1) الخبر في البدء والتاريخ 6/ 5والإستيعاب 1/ 389والوفيات 2/ 66وسير النبلاء 3/ 275274والوافي بالوفيات 12/ 110وحياة الحيوان 1/ 108وتاريخ الخلفاء 179ببعض الاختلاف.
(2) الخبر في سير النبلاء 3/ 273.
(3) الخبر في الاستيعاب 1/ 390والوفيات 2/ 66وحياة الحيوان 1/ 108والطبقات الكبرى للشعراني 1/ 26.
(4) الخبر في الاستيعاب 1/ 391وسير النبلاء 3/ 278وتاريخ الخلفاء 181180.
(5) هو أحمد بن عمر المرسيّ الأنصاريّ المالكيّ، وهو فقيه متصوّف من أهل الاسكندرية يعد علّامة زمانه في العلوم الإسلامية، وأصله من مرسية في الأندلس (686هـ) النجوم الزهرة 7/ 371والأعلام 1/ 186.(2/472)
ونفعنا بمحبته، وحشرنا في زمرته، بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وذريته.
وخلص الأمر لمعاوية (1) (2) [فهو أول ملوك الإسلام وهو معاوية] بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، فهو قرشيّ أمويّ، يلتقي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصيّ الأب الخامس له، والرابع للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر بن (3) (مالك بن) النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. يكنى (معاوية) أبا عبد الرحمن وهو (4) وأبوه وأخوه يزيد من مسلمة الفتح، وقيل (5) إنه أسلم في عمرة القضاء (6) وكتم إسلامه.
وذكره ابن عبد البر (7) وأباه في المؤلّفة قلوبهم، وذكر ابن قيتبة (8) أن أباه صخرا ذهبت إحدى عينيه يوم الطائف والأخرى يوم اليرموك، ومات في خلافة عثمان أعمى. وأمّه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد
__________
(1) ترجمته في المعارف 345344، 350349، وتاريخ اليعقوبي 2/ 241216وتاريخ الطبري 4/ 162160، 263258، 325321، 345342، 351348، 553550، 562560 574571، 5/ 10697، 136130ومروج الذهب 2/ 402372، 3/ 533والاستيعاب 3/ 14221416والوفيات 2/ 6966، 6/ 350347، 361355، 7/ 218214 والمختصر في أخبار البشر 1/ 189184والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم وحياة الحيوان 1/ 109والإصابة 6/ 155151والأعلام 7/ 262261.
(2) زيادة في ب ح، ولها أصل في أ، ثم شطّب عليها، ووردت بعد ذلك، ش: خلص الأمر لمعاوية وهو ابن أبي سفيان.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) الخبر في الاستيعاب 3/ 1416والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم.
(5) الخبر في الاستيعاب 3/ 1416والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم والإصابة 6/ 151
(6) عمرة القضاء هي العمرة التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرته التي صدّه عنها المشركون. السيرة 2/ 370والكامل في التاريخ 2/ 227.
(7) ذكر ذلك في كتابه الاستيعاب 3/ 1416والخبر في المعارف 342.
(8) المعارف 344.(2/473)
مناف بن قصيّ، تلتقي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصيّ الأب الرابع لها وللنبي صلى الله عليه وسلم. أسلمت (1) يوم الفتح، يوم أسلم زوجها أبو سفيان فاقرّ على نكاحها، وشهدت أحدا كافرة مع زوجها أبي سفيان فيقال (2):
إنها التي مثّلت بحمزة رضي الله عنه، واستخرجت كبده فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها. فلفظتها. وكان حمزة رضي الله عنه قد قتل أباها يوم بدر، وقيل: إنّ الذي مثّل بحمزة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس جدّ عبد الملك بن مروان أبو أمّه، وقتله النبيّ صلى الله عليه وسلم صبرا مرجعه من أحد، ثم إنّ الله تعالى هداها للإسلام، فحسن إسلامها حتى قالت للنبي صلى الله عليه وسلم فيما قالت له (3): والله يا رسول الله ما كان على الأرض أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلّوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم على الأرض أهل خباء أحبّ إليّ أن يعزّوا من أهل خبائك، أو كما قالت، قال السهيليّ (4) رحمه الله: وكان من حديثها يوم الفتح أنها بايعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو على الصفا وعمر دونه بأعلى العقبة، فجاءت في نسوة من قريش يبايعن على الإسلام وعمر يكلّمهنّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا أخذ عليهنّ أن لا يشركن بالله شيئا، قالت هند: قد علمت أنّه لو (5) كان مع الله إله غيره لأغنى عنّا، فلمّا قال: ولا يسرقن، قالت: وهل تسرق الحرّة؟! ولكن يا رسول الله (6)، أبو سفيان رجل مسّيك، فربما أخذت من ماله بغير علمه ما يصلح ولده، فقال عليه الصلاة
__________
(1) الخبر في الاستيعاب 4/ 1922.
(2) حاشية أ: = خ فيروى =
والقول في فتح الباري 9/ 508، والاستيعاب 4/ 1923.
(3) فتح الباري 7/ 141، 9/ 508، 13/ 139138.
(4) الروض الأنف 4/ 114والخبر في الاستيعاب 4/ 1923.
(5) ج: لم. وهو غلط.
(6) الخبر في فتح الباري 7/ 141، 13/ 139138والروض الأنف 4/ 114.(2/474)
والسلام (1): «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. ثم قال: أئنّك لأنت هند؟
فقالت: نعم يا رسول الله، اعف عنّي عفا الله عنك، وكان أبو سفيان حاضرا، فقال: أنت في حلّ ممّا أخذت، فلمّا قال: ولا يزنين، قالت وهل تزني الحرّة يا رسول الله؟! فلما قال: ولا يعصينك في معروف، قالت: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأحسن ما دعوت إليه! فلمّا سمعت: ولا يقتلن أولادهنّ. قالت: والله لقد ربّيناهم صغارا حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كبارا! قال: فضحك عمر من قولها حتى مال. توفيت (2) رضي الله عنها في خلافة عمر في اليوم الذي توفي فيه أبو قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وكانت وفاته في المحرم سنة أربع عشرة.
ولي (3) معاوية الشام لعمر بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما وأقرّه عثمان رضي الله عنه، قال ابن إسحاق (4): كان أميرا عشرين سنة ثم لمّا مات عثمان كانت الفتنة فحارب عليّا أربع سنين. قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم (5): إن ملكت فاعدل. ودعا له، فقال (6): اللهمّ علمه الكتاب والحساب وقه العذاب = وهو (7) أحد كتّاب الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره على أخته أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وناهيك بذلك شرفا وفضلا، وكان كريما حليما عاقلا سائسا، كامل السّؤدد ذ دهاء ورأي كأنّما خلق للملك، وكان يقول (8): أنا أول الملوك. ولما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام ورآه قال (9): هذا كسرى العرب.
__________
(1) فتح الباري 9/ 504، 507والاستيعاب 4/ 1923والروض الأنف 4/ 114.
(2) الخبر في فتح الباري 9/ 508والاستيعاب 4/ 1923.
(3) الخبر في فتح الباري 7/ 104والاستيعاب 3/ 1416والوافي ج 26ميكروفيلم (في ترجمة معاوية)
(4) الاستيعاب 3/ 1418والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم.
(5) في الفتح الرباني 22/ 356، 23/ 172: = يا معاوية إن ولّيت أمرا فاتّق الله عز وجل واعدل = وفي تاريخ الخلفاء 182: = إذا ملكت فأحسن =.
(6) الدعاء في الفتح الرباني 23/ 172والاستيعاب 3/ 1420والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم (ترجمة معاوية) وتاريخ الخلفاء 181.
(7) الخبر في الوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم (ترجمة معاوية).
(8) القول في الاستيعاب 3/ 1420والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم.
(9) الخبر في تاريخ الطبري 5/ 330والاستيعاب 3/ 417والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم والاصابة 6/ 153.(2/475)
قال الشعبيّ (1): وقعت الفتنة ودهاة العرب ستّة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص (2)، والمغيرة بن شعبة (3)، وزياد بن أبيه (4)، وقيس بن سعد بن عبادة (5)، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ (6). وقال قبيصة ابن جابر (7):
ما رأيت أعطى لجزيل مال بغير سلطان من طلحة بن عبيد (8) الله ولا رأيت أثقل حلما ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرّجال ولا أبدههم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سرّا بعلانية من زياد، ولو أنّ المغيرة كان في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلّا بالمكر لخرج من أبوابها كلّها. وقال (9)
الأصمعيّ: كان معاوية يقول: أنا للأناة وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم. وعن معاوية رحمه الله أنه قال يوما لبعض جلسائه: لقد كنت ألقى الرجل من العرب أعلم أنّ لي في قلبه ضغنا فأستشيره في الأمر، فيثور إليّ منه بقدر ما يجده في نفسه، فما يزال يوسعني شتما وأوسعه حلما حتى يرجع إليّ صديقا أستنجده فينجدني. وروي عنه أنه كان يقول (10): إنّي لأستحيي أن يكون ذنب أعظم من عفوي أو جهل أعظم من حلمي أو عورة لا أواريها بستري أو أرى فقيرا فلا أجبره مما ملكت يميني. وروي عنه أنه قال (11): ما وجدت عندي
__________
(1) الخبر في الاستيعاب 4/ 1446وسراج الملوك 55والإصابة 4/ 22، 6/ 198وتاريخ الخلفاء 190189.
(2) سبق التعريف به في الصفحة 751الحاشية 1.
(3) سبق التعريف به في الصفحة 737الحاشية 2.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 737الحاشية 6.
(5) سبق التعريف به في الصفحة 722الحاشية 7.
(6) صحابي أسلم مع أبيه قبل الفتح وشهد حنينا والطائف وتبوك، وكان سيّد خزاعة وقاتل مع الإمام علي في صفين حتى اشتشهد (37هـ) الاستيعاب 3/ 874872والإصابة 4/ 2221والأعلام 4/ 73.
(7) سبق التعريف به في الصفحة 720الحاشية 6.
(8) ج ش: عبد، وهو غلط.
وطلحة بن عبيد الله سبق التعريف به في الصفحة 692الحاشية 4.
(9) القول في سراج الملوك 55.
(10) القول في تاريخ الطبري 5/ 335وبهجة المجالس 1/ 615وسراج الملوك 61والكامل في التاريخ 4/ 12 (ط. صادر) وبدائع السلك 1/ 445ومجموع خزانة ابن يوسف 5453.
(11) تاريخ الطبري 5/ 336وبهجة المجالس 1/ 371ومجموعة خزانة ابن يوسف 57.(2/476)
شيئا ألذّ من غيظ أتجرّعه. ولم يعرف قيمة الأبّهة من لم يجرّعه الحلم غصص الغيظ. وأغلظ (1) له رجل في القول فحلم عنه، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال إنّي لا أحول (2) بين النّاس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا. وقيل له (3): هل ذممت عاقبة الحلم أم هل حمدت عاقبة إقدام؟ فقال: ما حلمت عن لئيم إلّا أعقبني ندما ولا أقدمت على كريم وإن كان عدوا لي إلّا أعقبني أسفا.
ومن أعجب (4) ما يوثر من أخباره في الحلم وسعة الصّدر ما يروى أنّه قدم عليه شيخ أعرابيّ يستحمله (5)، وكان قد نصب في طريقه، فرأى جماعة من الناس على معاوية مقبلين، فلم يقدر على كلامه، فدار من خلفه، فقعد من خلف السّتر، وجعل يخفق (5) برأسه لما لقي من تعبه فنام. وتفرّق الناس عن معاوية، فلما أمسوا خرج معاوية لصلاة المغرب، ثم رجع فتعشّى وخرج لصلاة العشاء، والشيخ نائم لا يعلم حتى ذهب هدء من الليل، فدخل معاوية إلى أهله. فانتبه الشيخ لمّا أصابه برد الليل، فإذا هو بالسّرج (6) وليس في البيت أحد سواه فرام الخروج من الدار، فإذا الباب مغلق، فاسترجع (7) وقال: جئت أطلب الخير فالآن أوخذ (8)
ويظنّ أنّي جئت أغتال معاوية فجعل يطلب مكانا يختبئ فيه إلى أن يصبح، فدخل
__________
(1) الخبر في تاريخ الطبري 5/ 336والكامل في التاريخ 4/ 13 (ط. صادر).
(2) أب ج ش هـ و: إني لا حول. (لا حول) غلط، والتصحيح من تاريخ الطبري.
(3) لم أعثر على هذا الخبر في المظان.
(4) الخبر في سراج الملوك 62
(5) استحملته نفسه: حمّله حوائجه وأموره. قال زهير:
ومن لا يزل يستحمل النّاس نفسه ... ولا يغنها يوما من الدهر، يسأم
خفق يخفق أي ينام حتى يسقط ذقنه على صدره (اللسان: حمل، خفق).
(6) السّرج جمع سراج وهو المصباح (اللسان: سرج)
(7) استرجع أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. (اللسان: رجع)
(8) حاشية أ: = خ أوخذ =. أب ج: أواخذ.(2/477)
تحت سرير، فلما ذهب وهن من الليل إذا معاوية قد أقبل متوشّحا ملحفة حمراء، فقعد على السرير، والشيخ ينظر وهو يسترجع في نفسه، ويقول: الآن أقتل، ثم قال معاوية يا غلام فأتاه، بعض الوصفان، فقال: انطلق إلى بنت قرظة فادعها إليّ، يعني زوجته، واسمها فاختة وقرظة (1) كرقبة وهو بالظاء المعجمة المشالة، وهو ابن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف بن قصيّ، قال: فأتاها الغلام، فقالت:
لا أستطيع المسير إليه، فردّه إليها، فقال: عزمت عليك إلّا أتيت، فجاءت تمشي مع جوار تتهادى بينهنّ حتى صعدت معه على السرير ورجعت الجواري، فتحدّث معها معاوية ساعة، ثم قال لها: عزمت عليك إلّا نزلت فمشيت بين يديّ وأشفيتني من محاسنك، وما فضّلك الله به، ثم رمى عنها ثيابها وبقيت في درع رقيق من قزّ يبدو منه جميع جسدها، فمشت بين يديه، فقال: أقبلي، فأقبلت ثم قال: أدبري فأدبرت والشيخ ينظر، ثم أقبلت، فإذا هي ببريق عيني الشيخ من تحت السرير فصاحت وا غوثاه، ثم استحيت، وقالت: افتضحت والله ثم إنّها تقنّعت ببردتها فقام معاوية إليها فقال مالك ويحك؟ فقالت: رجل تحت السرير جالس.
فأدخل معاوية يده فأخذ برأسه فإذا شعيرات، فجعل لا يقدر يقبض على شعره، فعلم أنه شيخ كبير فتركه بموضعه، ثم لبست بنت قرظة ثيابها وانطلقت إلى بيتها، وخرج الشيخ إلى معاوية، فقال له: ويحك ما شأنك؟ فقص عليه القصة من أولها، فقال له: لا بأس عليك وجعل يضحك منه ويتعجّب من حديثه، فلما أصبح معاوية دعا غلاما له محبوبا، فقال له: خذ بيد هذا الشيخ فأدخله على بنت قرظة وقل لها: إنّ هذا الذي تجلّاك (2) البارحة وللجلوة نحلة فأعطيه نحلته وخلّي سبيله. قال: فأدخله عليها وأخبرها بما قال معاوية. فصاحت بالخادم فخرج وأجلست الأعرابيّ، وقالت ويحك ما قصّتك؟ فقصّ عليها القصّة فأوقرت له
__________
(1) الكامل 1/ 65، 4/ 111وتاريخ الطبري 5/ 329والكامل في التاريخ 4/ 10.
(2) تجلّى الشيء: نظر إليه. (اللسان: جلا).(2/478)
راحلته ثيابا وغيرها، وقالت له: إذا خرجت من عندي فلا تقيمنّ في هذه البلاد ساعة، فإنّك إن أقمت بها أخذتك فنكلت بك فانصرف من ساعته.
ومن ذلك أيضا ما روي (1) أنّ قوما من قريش اجتمعوا ذات يوم فقالوا: ما نظن أنّ معاوية أغضبه شيء قطّ فقال: بعضهم، بل إذا ذكرت أمّه غضب، فقال مالك بن أسماء المنى القرشيّ (2)، وأسماء أمّه، وإنما قيل لها المنى لحسنها وجمالها: والله لأغضبنّه إن جعلتم لي جعلا فجعلوه له، فأتاه وقد حضر معاوية ذلك العام الموسم، فقال: يا أمير المومنين، ما أشبه عينيك بعيني أمّك هند، فقال له معاوية: تانك عينان طالما أعجبتا أبا سفيان يا ابن أخي انظر ما أعطيته من الجعل فخذه، ولا تتّخذنّا متجرا. قال: فرجع الغلام إلى القوم فأخذ جعله، فقال له رجل منهم: لك ضعف جعلك إن أتيت ابن الزّبير فشبّهته بأمّه فأتاه، فقال له:
يا ابن الزبير، ما أشبه وجهك بوجه أمّك، فأمر به فضرب حتى مات فبعث معاوية بديّته إلى أمّه وقال (3): (الطويل)
ألا قل لأسماء المنى أمّ مالك ... فإنّي لعمر الله عاقلت مالكا
ومن (4) ذلك أيضا ما حكي أن عقيل بن أبي طالب (5) رضي الله عنه وفد عليه فأمر له بمائة ألف درهم، فلمّا أراد الانصراف رأى في الطريق جارية بأربعين ألف درهم، فرجع إلى معاوية فأخبره بذلك، فقال له: وما تصنع بها قال: تلد لي غلاما، فإن أغضبتني يضرب مفرقك بالسّيف، فأمر له بها، فابتاعها فولدت مسلم ابن عقيل (6) ثم قدم مسلم الشام فابتاع منه معاوية ضيعة فبلغ الحسين بن عليّ
__________
(1) لم أعثر على هذا الخبر في المظان.
(2) لم أعثر له على تعريف في المظان.
(3) لم أعثر على هذا البيت في المظان.
(4) من سراج الملوك 63إلى آخر الخبر.
(5) هو أخو الإمام علي من أبيه، كان أسنّ منه، صحابيّ شهد غزوة مؤتة، وكان عالما بأيام قريش وأنسابها وأخبارها، غاضب أخاه عليّا وخرج إلى معاوية وأقام معه (60هـ) الاستيعاب 3/ 10791078والأعلام 4/ 242.
(6) تابعي من ذوي الرأي والعلم والشجاعة انتدبه الحسين بن علي ليتعرف له حال أهل الكوفة حين وردت عليه كتبهم يدعونه ويبايعون له فرحل مسلم إلى الكوفة فبايعه اثنا عشر ألفا لكنّهم سرعان ما تفرّقوا عنه عندما قدم عبيد الله بن زياد الذي قتله (60هـ) تاريخ الطبري 5/ 381347. والأعلام 7/ 222.(2/479)
الخبر فكتب إلى معاوية إنّي لا أجيز بيع مسلم فأرسل معاوية إلى مسلم، فقال:
هذا كتاب الحسين يامر بردّ المال، فقال مسلم: أما دون أن أضرب مفرقك بالسيف فلا. فضحك معاوية، وقال: والله لقد تهدّدني أبوك بذلك قبل أن يشتري أمّك، وسوّغه المال فقال الحسين حين بلغه ذلك: غلبنا معاوية حلما وجودا. حكى ذلك كلّه الإمام أبو بكر الطرطوشي في سراج الملوك (1).
وحدث أبو الفرج الأصبهاني في أغانيه (2) بسند له يبلغ به الهيثم بن عدي قال: حجّ معاوية حجّتين في خلافته، وكانت له ثلاثون بغلة يحجّ عيها نساؤه وجواريه قال: فحجّ في إحداهما فرأى شخصا يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال من هذا؟ فقالوا: سعنة بن غريض (3) وكان من اليهود، فأرسل إليه يدعوه فأتاه رسوله فقال: أجب الأمير، قال: أو ليس قد مات أمير المومنين؟ قيل فأجب معاوية فأتاه فلم يسلّم عليه بالخلافة فقال له: معاوية: ما فعلت أرضك التي بتيماء (4)؟ قال يكسى منها العاري ويردّ فضلها على الجار، قال:
أفتبيعها؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بستين ألف دينار، ولولا خلّة أصابت الحيّ لم أبعها. قال: لقد أغليت قال أمّا لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار، ثم لم تبل. قال: أجل، فإذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه فقال: قال أبي (5): (تام الكامل)
يا ليت شعري حين أندب هالكا ...
__________
(1) سراج الملوك 63.
(2) الأغاني 3/ 130.
(3) سعنة أو سعية بن غريض شاعر جاهلي، له شعر يغنّى به، كان معاوية كثيرا ما يتمثل ببعض شعره، عمّر حتى أدرك عهد معاوية. الأغاني 3/ 132129، 22/ 125122والأعلام 3/ 104.
(4) تيماء بليدة في بادية تبوك إذا خرج الإنسان من خيبر إليها تكون على منتصف طريق الشام. معجم البلدان 2/ 67 والوفيات 2/ 481، 4/ 388.
(5) الأبيات في الأغاني 3/ 131منسوبة لغريض اليهودي والد سعنة ونسبت الأبيات 1، 2، 4مع ستة أبيات أخرى في طبقات ابن سلام 1/ 288285لسعية بن العريض ونسبت أيضا الأبيات، 1، 2، 5في الأغاني 3/ 129لسعية.
الأنواح ج نوح: النساء يجتمعن للحزن. (اللسان: نوح)(2/480)
وفي رواية:
يا ليت شعري حين يذكر صالحي ... ماذا تؤبّنني به أنواحي
أيقلن لا تبعد فربّ كريهة ... فرّجتها بشجاعة وسماح
ولقد ضربت بفضل مالي حقّه ... عند الشّتاء وهبّة الأرواح
ولقد أخذت الحقّ غير مخاصم ... ولقد رددت الحقّ غير ملاحي
وإذا دعيت لصعبة سهّلتها ... أدعى بأفلح مرة ونجاح
فقال له معاوية أنا كنت أولى بهذا الشعر من أبيك قال كذبت ولؤمت، قال: أما كذبت فنعم، وأما لؤمت فلم؟ قال: لأنّك كنت ميّت (1) الحقّ في الجاهلية وميّته (2) في الإسلام. أما في الجاهلية فقاتلت النبيّ صلى الله عليه وسلم والوحي حتى جعل الله كيدك المردود، وأما في الإسلام فمنعت ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلافة، وما أنت وهي! وأنت طليق ابن طليق، فقال معاوية رحمه الله:
خرف الرّجل فأقيموه، فأخذ بيده فأقيم.
وسعنة (3) بسين وعين مهملتين فنون أو مثناه تحتيه وهما اسمان معروفان في اليهود وهو من رهط السّموءل بن عادياء (4) الغسانيّ اليهوديّ صاحب الحصن بتيماء، ومن رواه شعبة بالشين المعجمة والباء الموحدة فقد صحّفه. وأخبار معاوية رحمه الله في الحلم وسعة الصدر والصبر والاحتمال ممّا يضيق عنه فضاء التعبير ويتّسع فيه مجال المقال: (تام البسيط)
وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل (5)
__________
(1) ج: مميت.
(2) ج: ومميته.
(3) أهـ و: وسعنة (كتبت ياء فوقها نقطة لكي تقرأ سعية وسعنة معا) وكذلك في المرة السابقة.
(4) حاشية أ: صح ابن ابنه.
(5) البيت للمتنبي من القصيدة التي خرجناها في الصفحة 336الحاشية 7والبيت في الخزانة 4/ 100.(2/481)
وكان رضي الله عنه يقول (1): أعنت على عليّ بأربع: كنت رجلا أكتم سرّي، وكان رجلا ظهرة، وكنت في أطوع جند وأصلحه، وكان في أخبث جند وأعصاه، وتركته وأصحاب الجمل، وقلت: إن ظفروا به كانوا (2) أهون عليّ منه، وإن ظفر بهم اعتدت بها عليه في دينه، وكنت أحبّ إلى قريش منه (3) [لأنّي كنت أعطيهم وكان يمنعهم] فيا لك من جامع إلىّ ومفرّق عنه.
فمعاوية رحمه الله هو أول ملوك بني أمية، بل أول ملوك الإسلام وهو أول (4) من جعل في صحته ابنه وليّ العهد خليفة بعده، وأول من أمر بهدايا النيروز والمهرجان، وأول من اتّخذ المقاصير في الجامع، وأول من أقام على رأسه حرسا وأول من قيّدت بين يديه الجنائب (5)، وأول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، واستمر في الملك إلى أن هجمت عليه منيته، في شهر رجب، لأربع بقين منه سنة ستين (6) قال الليث بن سعد (7) قيل إنه عاش ثمان وسبعين سنة، وكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة ونيفا، وقيل إنه مات في رجب سنة إحدي وستين، وله ثمانون سنة. ولما حضرته الوفاة رفع يديه وقال متمثلا:
(الطويل)
هو الموت لا منجى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع (8)
__________
(1) القول في الاستيعاب 3/ 422والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم (ترجمة معاوية)
(2) أب ج ش هـ و: كان، ولعل الصحيح ما أثبته.
(3) زيادة من الوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم.
(4) الخبر في الاستيعاب 3/ 1420وحياة الحيوان 1/ 109.
(5) الجنائب جمع جنيبة وهي الناقة. (اللسان: جنب)
(6) انظر ذلك في تاريخ الطبري 5/ 325324.
(7) سبق التعريف به في الصفحة 731الحاشية 2.
(8) البيت في العقد الفريد 3/ 180ومروج الذهب 3/ 49وبهجة المجالس 2/ 370والوافي بالوفيات ج 26 ميكروفيلم غير معزو.(2/482)
ثم قال (1): اللهم أقل العثرة واعف عن الزّلّة، وعد (2) بحلمك على من لا يرجو غيرك، ولم يثق إلّا بك، فإنّك واسع المغفرة، تعفو بقدرة، وما وراءك مذهب لذي خطيئة موبقة، يا أرحم الراحمين، وفي خبر آخر عن سعيد بن المسيب (3) قال:
لما احتضر معاوية قال: أقعدوني، فأقعد، فجعل يذكر الله وقال: يا ربّ ارحم الشيخ العاصيّ ذا القلب القاسيّ، وعزّتك إن لم تغفر لي لقد هلكت، ثم غشي عليه، فبكى أهله، ثم أفاق فأنشأ يقول (4) (متمثما): (الطويل)
لعمري لئن عمّرت في الملك برهة ... ودانت لي الدّنيا بوقع البواتر
وأضحى الذي كان منّي يسرّني ... كلمح مضى في السالفات الغوابر
فيا ليتني لم أغن في الملك ساعة ... ولم أغن في لذات عيش نواضر
وكنت كذي طمرين عاش ببلغة ... من الدّهر حتى زار ضيق المقابر
ثم مات رحمه الله وكان موته بدمشق، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير، وقيل دفن أولا بمقبرة باب الصّغير، ثم نقل (5) ودفن تحت حائط جامعها في قبلته في القبر الذي يسمّى بقبر هود عليه السلام، ثم أخفي قبره كما أخفي قبر عليّ بالعراق خشية عليه.
__________
(1) الدعاء في مروج الذهب 3/ 49وبهجة المجالس 2/ 370والوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم.
(2) كذا في أب ج ش هـ و، وجاء في مروج الذهب وبهجة المجالس: وجد.
(3) سبق التعريف به في الصفحة 769الحاشية 5.
والخبر في بهجة المجالس 2/ 370.
(4) ما بين القوسين ساقط من ج.
والأبيات في بهجة المجالس 2/ 370غير معزوة. ونسبت لعبد الملك بن مروان في تاريخ الخلفاء 206205 ونسبت لمعاوية في شعر الخلفاء 87والثالث والرابع في العقد الفريد 3/ 232والثالث والرابع في مروج الذهب 3/ 50.
(5) الخبر في الوافي بالوفيات ج 26ميكروفيلم.(2/483)
وفي كون قبر هود بهذا المكان نظر، فإنّه لم يقدم الشام فيما ذكره المؤرخون، وإنّما كان بحضرموت، ومات بها، وقيل إنه مات بمكة ودفن بها، وأوصى (1)
معاوية رضي الله عنه أن يكفّن في ثوب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأن يجعل شعره وظفره على فمه وعينيه ومواضع السجود منه ففعل ذلك به، والملك الدائم لله جلّ وعلا فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه.
فتولى بعد معاوية ابنه يزيد بولاية العهد من أبيه فساءت سيرته، وأبدى من الخبث والمخازي ما أكنّته سريرته: (مزدوج الرجز)
وحاد عن نهج الصواب وعدل ... فما وفى في أمره ولا عدل (2)
وهو أول (3) من شرب الخمر جهارا من ملوك الأمة واتّخذ الملاهي واستحلّ محارم الله تعالى.
ولما ولي اتّفق رأي أهل المدينة على خلعه وإخراج من بها من بني أمية، وجعلوا الأمر في ذلك إلى عبد الله بن حنظلة (4) الراهب فجهزّ يزيد الجيوش إليهم بنظر (5) مسلم بن عقبة (6) فأحاط بالمدينة فغلب عليها وقتل عبد الله بن حنظلة وانتهبت المدينة ثلاثة أيام، وعطّلت الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) الخبر في تاريخ الطبري 5/ 327والاستيعاب 3/ 1419وبهجة المجالس 2/ 369. والوافي بالوفيات ج 26 ميكروفيلم وحياة الحيوان 1/ 110وبعضه في تاريخ الخلفاء 185.
(2) من أرجوزة ابن الخطيب في ذكر دولة بني أمية بالمشرق، وأولها:
أوّل أملاكهم معاوية ... آثاره في الفضل غير خافيه
وهي في كتابه رقم الحلل 1512.
(3) من رقم الحلل 16، 17بتصرف إلى قوله: = في وقعة شهيرة =. والخبر في تاريخ الطبري 5/ 480ومروج الذهب 3/ 67.
(4) عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاريّ هو أحد القادة الفضلاء المقدّمين عند الأنصار، كان خيّرا عابدا شجاعا (63هـ) تاريخ الطبري 5/ 480، 482، 487، 489، 495، ومروج الذهب 3/ 69والاستيعاب 3/ 894892 والأعلام 4/ 99.
(5) أج ش: لنظر، وهو غلط.
(6) مسلم بن عقبة المرّيّ أحد القادة القساة الدّهاة، كان مقربا إلى معاوية وحارب معه في وقعة صفين، وهو قائد الجيش الأموي، على عهد يزيد في موقعة الحرة حيث انتقم من أهل المدينة لخلعهم عامله (63هـ) تاريخ الطبري 5/ 323، 496483، 498ومروج الذهب 3/ 69والأعلام 7/ 222.(2/484)
وسلم، وبلغ عدد من قتل من قريش والمهاجرين والأنصار ووجوه الناس فيما روي ألف رجل وسبع مائة (1) ومن سائر الناس عشرة آلاف رجل سوى النّساء والصبيان، ولم يبق بعدها بدريّ من الصحابة.
وفي أيامه السّود قتل مولانا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وذلك أنه لما مات معاوية أرسل أهل الكوفة إلى (2) الحسين بن علي رضي الله عنهما فلحق بمكة ووجّه مسلم بن عقيل بن أبي طالب (3) إلى الكوفة فتوجه نحوها واتّصل الخبر بيزيد فكتب إلى عبيد الله بن زياد (4) يأمره بالخروج إليه فخرج من البصرة مسرعا حتى لحق بالكوفة، فقتل مسلم بن عقيل، ورحل الحسين رضي الله عنه يريد الكوفة ولا علم عنده بقتل مسلم بن عقيل (3) يوم قتل، وهو الثامن من ذي الحجة سنة ستين (5) فلقيّته خيل عبيد الله بن زياد بكربلاء (6)
وكاثرته العساكر، فلم يزل يقاتل حتى قتل رضي الله عنه، وقتل (7) معه سبعة وثمانون من أهل بيته الشريف، وذلك في يوم عاشوراء، واحتمل نساؤه أسارى على الإبل، وبعث إلى يزيد برأسه فوضع بين يديه فعبث به فقالت بنت عقيل بن أبي طالب (8) (رحمها الله): (تام البسيط)
ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم؟
__________
(1) أب ج ش هـ و: ألف رجل وسبع مئة رجل. ولعل الأولى: ألف رجل وسبع مئة، أو ألف وسبع مئة رجل.
(2) أب ج ش: في، وهو غلط.
(3) سبق التعريف به في الصفحة 782الحاشية 6.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 685الحاشية 4.
(5) أب ج ش هـ و: ثلاث وستين، وهو غلط والتصحيح من تاريخ الطبري 5/ 378ومروج الذهب 3/ 60.
(6) كربلاء: موضع قريب من الكوفة في طرف البرية. معجم البلدان 4/ 445والوفيات 6/ 303.
(7) الخبر في مروج الذهب 3/ 61.
(8) ما بين القوسين ساقط من ج.
والأبيات في عيون الأخبار 1/ 212وتاريخ الطبري 5/ 390ومروج الذهب 3/ 68وبهجة المجالس 1/ 777 والكامل 4/ 36والكامل في التاريخ 4/ 89 (ط. صادر) والمختصر في أخبار البشر 1/ 191 (ط. دار المعرفة) والبداية والنهاية 8/ 198والبيتان الأولان في تاريخ الطبري 5/ 467والبدء والتاريخ 6/ 12.(2/485)
بعترتي وبأهلي بعد منطلقي ... منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بدم (1)
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
وما أحسن قول القائل (2): (الطويل)
فإنّ قتيل الطّفّ من آل هاشم ... أذلّ رقاب المسلمين فذلّت
ألم تر أنّ الأرض أضحت مريضة ... لقتل حسين والبلاد اقشّعرّت
وأراح الله سبحانه من يزيد عن كثب لأربع عشرة خلت من ربيع الأول سنة أربع بعدها (3) وقد مرّ طرف مما يتعلق بأخباره في ترجمته من الباب الثاني (4). وترك عهده إلى ولده أبي ليلى معاوية بن يزيد بن معاوية وهو ابن عشرين سنة فلبث أربعين يوما محتجبا، وكان زاهدا منقبضا، ثم خرج فجمع الناس وترك لهم خلافتهم وقضى لأيام (5) رحمه الله، فقام بالأمر بعده مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين وهو ابن اثنتين وستين سنة وانحازت عنه قيس إلى الضحاك بن
__________
(1) ج: أسارى ومنهم ضرّجوا.
(2) هو سليمان بن قتة التميميّ مولى تيم بن مرة وهو محدّث وشاعر مقلّ، كان منقطعا لبني هاشم، وكان حيا سنة 120هـ الشعر والشعراء 1/ 68وأنساب الأشراف 1/ 395، 586والكامل 1/ 223والتعازي 78وتاريخ الطبري 7/ 141.
والبيتان في مروج الذهب 3/ 64والاستيعاب 1/ 394وسير النبلاء 3/ 319318والوافي بالوفيات 12/ 429ورقم الحلل 16والبيت الأول مع أبيات أخرى في الكامل 1/ 223والتعازي 79وزهر الآداب 1/ 94 والكامل في التاريخ 4/ 91 (ط. صادر). ونسب البيتان لأبي دهبل الجمحي، وهما من قصيدة في رثاء الحسين ابن علي مطلعها:
مررت على أبيات آل محمد ... فلم أرها أمثالها يوم حلّت
وهي في ديوانه 6360، ومنها خمسة أبيات في معجم البلدان 4/ 36.
الطّفّ: سبق التعريف به في الصفحة 440الحاشية 1.
(3) يقصد سنة 64هـ انظر تاريخ الطبري 5/ 499ومروج الذهب 3/ 7271.
(4) ترجم له برقم 4صفحات 6053.
(5) ج: الأيام، وهو غلط.
قضى: مات (المعجم الوسيط: قضى).(2/486)
قيس (1) فسار إليه مروان فالتقيا بمرج راهط (2) فهزم الضحاك وقتل في وقعة شهيرة.
وكانت في أحكام مروان شدّة ففي كتاب الجامع من العتبيّة (3) قال: قال مالك: حدّثنا (4) يحيى بن سعيد (5) أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار (6) فلمّا نزلت قرقرة عرض لها رجل من أصحاب الحمر فنزل إليها ثم أرادها عن نفسها فكشفت ثيابها فامتنعت منه فرمته بحجر فشجّته، ثم صاحت، فذهب فأتت مروان ابن الحكم، وكانت فيه شدّة في الحدود، فذكرت ذلك له، فسألها عن اسمه فلم تعرفه، وقال لها: أتعرفينه (7) إذا رأيته؟ قالت: نعم، فأدخلت بيتا ثم قال إيتوني بالمكارين الذين يكرون الحمر، وقال: لا يبقى أحد أكريتموه إلّا جئتموني به. فأتوه بهم. فجعل يدخل عليها رجلا رجلا، فتقول: ليس هو، حتى دخل عليها به مشجوجا (8)، فقالت: هو هذا، فأمر به مروان فحبس في السّجن، فأتى أبوه
__________
(1) الضحاك بن قيس الفهريّ القرشيّ أحد أعوان معاوية الشجعان، شهد صفين إلى جانبه، وتولى الكوفة له، ولما خلع معاوية بن يزيد نفسه دعا إلى بيعة ابن الزبير بدمشق فحاربه مروان بن الحكم وقتل في مرج راهط (65هـ) تاريخ الطبري 5/ 541530ومروج الذهب 3/ 2827، 8887والأعلام 3/ 214.
(2) مرج راهط: موضع في الغوطة من دمشق، على بعد أميال، مروج الذهب 3/ 87ومعجم البلدان 3/ 21، 5/ 101.
(3) لعله الكتاب المسمّى (المستخرجة العتبية على الموطأ) في فقه مالك، وهو لمحمد ابن أحمد العتبي الأمويّ الأندلسيّ، وهو فقيه مالكيّ نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان بالولاء (255هـ) جذوة المقتبس 3736وترتيب المدارك 4/ 254252والديباج المذهب 239238والأعلام 5/ 307. وجاء في هدية العارفين 2/ 16أنّ المستخرجة من الأسمعة المسموعة في الحديث والمسائل الفقهية على مذهب مالك تعرف بالعتبية. وجاء في مراجع تحقيق (كتاب الحوادث والبدع) 216أن المستخرجة العتبية تأليف محمد بن أحمد العتبية القرطبي، مخطوط باريس رقم 1055عن بروكلمان 300301،. .. وقد نسبت المستخرجة إلى أحمد بن مروان الرصافي الأندلسي المتوفى سنة 286هـ. وقد ألف أبو محمد بن أبي زيد القيرواني (تهذيب العتيبة) انظر الصفحة 851الحاشية 1من الكوكب الثاقب.
(4) أج ش هـ و: مالك نايحيي. (نا) اختصار كلمة (حدثنا).
(5) سبق التعريف به في الصفحة 695الحاشية 5.
وانظر هذا الحكم في الموطأ 630موجزا، وقد نسب لعبد الملك بن مروان
(6) الحرار جمع حرة وهي أرض ذات حجارة سود نخرات كأنها أحرقت بالنار، القرقرة أرض مطمئنةّ لينة. (اللسان: حرر، قرر).
(7) ج: تعرفينه.
(8) ب: به عليها مشجو. (مشجو) غلط. ج: به عليها مشوجا.) (مشوجا) غلط. هـ: عليها به مشجو. (مشجو) غلط.(2/487)
فكلّمه فيه، فقال مروان (1): (تام الكامل)
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصّحاح مبارك الجرب
فلربّ مأخوذ بذنب عشيره ... ونجا المقارف صاحب الذّنب
فقال أبوه: ليس كذلك، إنّما قال الله عز وجل (2): {= وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ =} * فقال مروان: لا ها الله إذا لا يخرج منه (3) حتى ينقدها ألف درهم بما كشف (4) عليها، فقال أبوه: هي عليّ، فأمر به مروان فأخرج. فقيل لمالك: أترى هذا من القضاء الذي يوخذ به؟ فقال: ليس من القضاء، ولكنه على غلظة من مروان، ولقد كان مروان يؤتى إليه بالرّجل وقد قبّل المرأة فينزع ثنيته (5) انتهى كلام العتبية.
وكان (6) مروان قد أخذ البيعة لنفسه ولخالد (7) بن يزيد بن معاوية بعده، ثم أراد (8) أن يضع منه بنكاح أمّه فاختة بنت هاشم بن عتبة، فجرى بينهما يوما كلام، فقال له مروان كلاما مفحشا من جهتها، يقال إنه قال له: يا ابن رطبة العجان (9)، فدخل يزيد على أمّه فعاتبها فيما جنت عليه، فقالت له = والله لا
__________
(1) البيتان في العقد الفريد 5/ 15وشرح المقامات 2/ 191وروضات الأزهار 12 (ظهر) غير معزوين، ونسب البيت الأول في الاشتقاق 202 (ط،. بغداد) والضائع من المعجم 58لذويب بن كعب بن عمرو من تميم، ونسب له البيت الأول مع بيتين آخرين في المستقصى 2/ 4948ونسب الأول في جمهرة اللغة 1/ 208لعوف بن عطية بن الضرع التيميّ. والبيت الأول في اللسان (جنى).
(2) الأنعام 6/ 164والإسراء 17/ 15وفاطر 35/ 18والزمر 39/ 7والنجم 53/ 38.
(3) ب ج ش هـ و: منها، وهو غلط. وقد كتب في أ (منها) ثم كتب فوق الهاء (هـ).
(4) ج: كشفت، وهو غلط.
(5) ثنيتيه.
(6) من رقم الحلل 17بتصرف إلى قوله (تسعة أشهر وأيام)
(7) أب ج ش، رقم الحلل: وليزيد بن خالد بن معاوية، وهو غلط، والتصحيح من تاريخ الطبري 5/ 610ومروج الذهب 3/ 89.
(8) الخبر في تاريخ الطبري 5/ 611610ومروج الذهب 3/ 89.
(9) العجان: الدّبر، وقيل هو ما بين القبل والدّبر. (اللسان: عجن).(2/488)
يعيبك بعدها، فوضعت على وجهه وسادة وهو نائم، وقعدت عليها حتى هلك.
وكانت مدته تسعة أشهر وأيام (1) فولي الخلافة بعده ابنه عبد الملك:
الملك النّدب الجليل القدر ... الشامخ الملك المطاع الأمر (2)
أبو الملوك وصاحب السياسة.
روي (3) أن معاوية بن أبي سفيان قال يوما للأحنف بن قيس (4) في بعض ما حدّثه به: إن الحكم بن أبي العاص (5) كان أحد من قدم مع أختي أمّ حبيبة) (6)
لما زفّت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي تولى نقلها إليه، فجعل. رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّ النظر إليه، فلما خرج من عنده، قيل له: يا رسول الله، لقد أحددت النظر إلى الحكم، فقال: ابن المخزومية ذلك رجل إذا بلغ ولده ثلاثين أو أربعين ملكوا الأمر بعدي، يقول معاوية: فو الله لقد تلقاها مروان من عين صافية، فقال له الأحنف: لا يسمعنّ هذا أحد منك فإنّك تضع من قدرك، وقدر ولدك بعدك، وإن يقض الله عز وجل أمرا يكن، فقال له معاوية: فاكتمها عليّ يا أبا بحر إذا فقد لعمري صدقت ونصحت.
__________
(1) ج: وأياما، وهو غلط.
(2) من أرجوزة ابن الخطيب التي خرجناها في الصفحة 787الحاشية 2.
(3) الخبر في الإصابة 2/ 105.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 53الحاشية 4.
(5) هو عمّ عثمان بن عفان وأبو مروان بن الحكم، كان من مسلمة الفتح أخرجه الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة وطرده عنها لأنه كان يفشي سرّه للكفار فنزل الطائف هو وابنه مروان (32هـ) أنساب الأشراف 151وتاريخ الطبري 4/ 177176ومروج الذهب 3/ 180والاستيعاب 1/ 360359ونكت الهميان 147146والإصابة 2/ 106104والأعلام 2/ 266.
(6) هي رملة بنت أبي سفيان تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها، وكانت من المهاجرين إلى الحبشة (44هـ) الاستيعاب 4/ 18461843، 19311929والأعلام 3/ 33.(2/489)
وكان (1) عبد الله بن الزبير قد دعا لنفسه من بالحجاز وما يواليها وذلك في أيام مروان بن الحكم واستقامت له الخلافة، فلما ولي عبد الملك بن مروان بعث (2) إليه الحجاج بن يوسف فحاصر مكة ورمى البيت بالمجانيق، ودخلها لخمسين ليلة من حصاره، وقاتل عبد الله بن الزبير بإزاء البيت حتى قتل يوم الثلاثاء لأربع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وصلب الحجاج جثّته.
وكان (3) عبد الملك بن مروان قد خلف بدمشق عمرو بن سعيد بن العاص (4) فدعا لنفسه من بها، وغلبه عليها سنة تسع وستين ثم لاطفه عبد الملك وأمّنه ثم قتله غدرا. يقال إنّه بعث إليه يوما خاليا فعاتبه على أشياء قد عفاها عنه، ثم وثب إليه فقتله، ويقال: إنه ذبحه بيده، وعمرو هذا هو الملقّب بالأشدق، وكان أحد أشراف بني أمية أمه أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص فهو ابن أخت مروان بن الحكم وكان قد ولي المدينة لمعاوية وابنه ثم طلب الخلافة بعد، وزعم أن مروان جعله وليّ عهد بعد ابنه عبد الملك. كان يسمى لطيم الشيطان وكان جبارا شديد البأس، وهو الذي خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فرعف حتى سال الدم إلى أسفله، فعرف بذلك معنى حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي روي عنه (5): = كأنّي بجبار من بني أمية يرعف الدم على منبري حتى يسيل الدم إلى أسفله = أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) من رقم الحلل 17بتصرف إلى قوله = وصلب الحجاج جثته =.
(2) الخبر في تاريخ الطبري 6/ 192187ومروج الذهب 3/ 115112.
(3) الخبر في تاريخ الطبري 6/ 148140ومروج الذهب 3/ 104102.
(4) هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية. وهو أحد التابعين يلقّب بالأشدق، وكان ذا فصاحة وبلاغة وإقدام، ولي مكة والمدينة لمعاوية وابنه يزيد، وناصر مروان بن الحكم عند توليه الحكم على أن يجعل له ولاية العهد بعد ابنه عبد الملك، ولكن عبد الملك أراد خلعه، فثار عليه عمرو فقتله عبد الملك (70هـ) طبقات ابن سعد 5/ 238237 وتاريخ الطبري 5/ 399، 465، 610، 6/ 148140ومروج الذهب 3/ 104102والإصابة 5/ 294وتهذيب التهذيب 8/ 3937والأعلام 5/ 78.
(5) الفتح الرباني 23/ 182.(2/490)
قال ابن سعد (1): وقتل الحسين رضي الله عنه وهو على المدينة فبعث إليه.
برأس الحسين فكفنه ودفنه بالبقيع إلى جنب قبر أمّه فاطمة رضي الله عنهما، وكانت وفاة عمرو هذا سنة تسع وستين كما مرّ وقيل سنة سبعين. وفي تاريخ ابن قانع (2) سنة سبع وستين.
وكان (3) عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس (4) قد دعا لنفسه ومنع طاعة عبد الملك فوجه إليه الحجاج فالتقيا بدير الجماجم (5)، ثم كانت الدائرة على ابن الأشعث بعد نيف وثمانين وقعة تفانى فيها الخلق. وفي أيام عبد الملك افتتح المغرب وهو ما وراء الاسكندرية. وتوفي عبد الملك بدمشق، يوم السبت لأربع عشرة مضت من شوال سنة ست وثمانين رحمه الله، فقام بالأمر بعده ابنه الوليد، وكان ملكا عظيما، فارس بني أمية وهو الذي أفرد موسى بن نصير بولاية افريقية وأغزاه المغرب الأقصى وأجاز البحر مولاه طارقا فنزل الجبل المنسوب إليه يوم الخميس لخمس خلون من شهر رجب سنة اثنين وتسعين، وكانت (6) وفاة الوليد بدير مران (7)، ودفن بدمشق منتصف جمادى الآخرة سنة ست (8) وتسعين، عفا الله عنه.
__________
(1) هو محمد بن سعد، وقد سبق التعريف به في الصفحة 169الحاشية 5. والخبر في طبقات ابن سعد 5/ 238.
(2) هو عبد الباقي بن قانع الأمويّ بالولاء البغداديّ، وهو قاض من حفاظ الحديث ومن أصحاب الرأي، كان يرمى بالخطأ في الرواية له كتاب معجم الصحابة (351هـ) تذكرة الحفاظ 3/ 884883ولسان الميزان 3/ 384383 والأعلام 3/ 272.
(3) من رقم الحلل 18بتصرف إلى قوله: = وكان صاحب أكل كثير =.
(4) سبق التعريف به في الصفحة 143الحاشية 8.
(5) دير الجماجم: بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها على طرف البر للسالك إلى البصرة. معجم البلدان 2/ 504503.
(6) أ: وكان.
(7) ج: مروان، وهو غلط.
ودير مران بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق تاريخ دمشق 2/ 1/ 41ومعجم البلدان 2/ 534533والوفيات 6/ 295ومسالك الأبصار 1/ 353.
(8) أب ج ش هـ و: ثلاث، وهو غلط، والتصحيح من تاريخ الطبري 6/ 495ومروج الذهب 3/ 173.(2/491)
فتولى بعده أخوه أبو أيوب سليمان بن عبد الملك وكان قيما برسوم الشريعة، فارسا شجاعا فصيحا مفوّها وكان صاحب أكل كثير، قال فيه ابن الخطيب بعد أن ذكر أخاه الوليد (1): (مزدوج الرجز)
حتى إذا أسرع نحو لحده ... قام سليمان بها من بعده
أخوه وهو بهمة من البهم ... وآية الرحمن في فرط النّهم
بأكله من بعده جرى المثل ... مائة رطل شبعه إذا أكل
روي أنه ليس أفخر ثيابه ومسّ أفضل طيبه، ونظر في مرآته، فأعجبته نفسه، فقال: أنا الملك الشابّ، وخرج إلى الجمعة، وقال لجاريته كيف ترين؟ فقالت (2):
(تام الخفيف)
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه النّاس غير أنّك فإني
فأعرض بوجهه، ثم خرج فصعد المنبر وصوته يسمع من آخر المسجد فركبته الحمّى، فلم يزل صوته ينقص حتى ما سمعه من حوله، فصلى ورجع بين اثنين يسحب رجليه. فلمّا صار على فراشه، قال للجارية: ما الذي قلت لي في صحن الدار وأنا خارج؟ فقالت: ما رأيتك، ولا قلت لك شيئا وأنّى لي بالخروج إلى صحن الدار، فقال: إنا لله وإنا لله راجعون، نعيت إليّ نفسي ثم عهد عهده وأوصى وصيته فلم تدر عليه الجمعة إلّا وهو في قبره. وكانت (3) وفاته سنة تسع وتسعين
__________
(1) من الأرجوزة السابقة التي خرجناها في الصفحة 787الحاشية 2.
البهمة: الشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له، من شدة بأسه وجمعه بهم (اللسان: بهم)
وأنظر عن نهم سليمان بن عبد الملك. مروج الذهب 3/ 175والوفيات 2/ 422.
(2) البيتان والخبر في مروج الذهب 3/ 176وسراج الملوك 15والوفيات 2/ 421وحياة الحيوان 1/ 121والبيت الأول في رسالة الغفران 503.
(3) من رقم الحلل 18، 19إلى قوله = بلغت الحلبة في عهده أربعة آلاف =.(2/492)
رحمه الله، فقام بالأمر بعده عمر بن عبد العزيز (1) بن مروان بن الحكم وأمّه أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب (2) (رضي الله عنه فهو جدّه لأمّه) فكان ثانيه في العدل والصلاح (3) والزّهد والورع والفضل. ومناقبه رضي الله عنه أشهر من أن تذكر، وأوضح من أن تشرح. توفي (4) رحمه الله بدير سمعان (5) من أعمال حمص في أخريات رجب سنة إحدى ومائة وقبره هناك مشهور يغشاه الناس.
ولما حضرته الوفاة قال: اللهم (2) (إنك) أمرتني فقصّرت ونهيتني فعصيت، وأنعمت علي فأفضلت، فإن عفوت فقد مننت، وإن عاقبت فما ظلمت، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. ثم قضى رحمه الله.
فولي الخلافة بعده يزيد بن عبد الملك بن مروان وكان الغالب عليه اللهو وملكت زمامه جاريته سلامة (6)، وقال في حقه ابن الخطيب (7): (مزدوج الرجز)
لا يقبل النّصح ولا الملامه ... ولا يفيق من هوى سلامه
ولما توفي قام بعده بأمر الخلافة أخوه هشام بن عبد الملك، وكان ملكا حازما
__________
(1) انظر أخباره في الأغاني 9/ 268254وحياة الحيوان 1/ 125121.
(2) ما بين القوسين ساقط من ج.
(3) ج: الصلاح والعدل.
(4) الخبر في تاريخ الخلفاء 228.
(5) دير سمعان: بكسر السين وفتحها بنواحي دمشق في موضع نزه وبساتين محدقة به. تاريخ مدينة دمشق 2/ 1/ 42 ومعجم البلدان 2/ 517.
وجاء في مسالك الأبصار 1/ 352351أن دير سمعان ليس بنواحي دمشق بالقرب من الغوطة كما يظنّ وإنما هو في قرية تعرف بالبقرة من قبلة معرة النعمان «وليس يسمع بدمشق لهذا الدير نابسة ولا يعرف لمكانه في غوطتها خضراء ولا يابسة = وهذا الرأي هو الأرجح لأنه يوافق، ما في الكتاب = دير سمعان من أعمال حمص = ولأن معرة النعمان مدينة قديمة من أعمال حمص، انظر معجم البلدان 5/ 156.
(6) هي مولّدة من مولدات المدينة تدعى سلامة القسّ، أخذت الغناء عن معبد وابن عائشة، واشتراها يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان. انظر الأغاني 8/ 351334.
(7) من الأرجوزة السابقة التي خرجناها في الصفحة 787الحاشية 2.(2/493)
فطنا جمع الأموال وعمّر الأرض واصطنع الرجال، وكان موثرا للخيل بلغت الحلبة في عهده أربعة آلاف: (مزدوج الرجز)
وكان ذا بخل شديد شانه ... ما أجمل الجود وأعلى شانه (1)
(2) ولما حضرته الوفاة نظر إلى أهله يبكون حوله، فقال: جاد لكم هشام بالدّنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما حمل، ما أعظم منقلب هشام، إن لم يغفر الله له، ثم قضى فتولى بعده (3) الوليد بن يزيد الأول فهشام بن عبد الملك عمّه وكان صاحب شراب وبطالة ولهو، وبلغ من عبثه وانهماكه أنّه قرأ في المصحف (4): {= وَاسْتَفْتَحُوا وَخََابَ كُلُّ جَبََّارٍ عَنِيدٍ =} فجعل المصحف غرضا لنشّابه، وأقبل يرميه لما توعدّه به. وقد مرت ترجمته أول الكتاب (5) في أخبار الشعراء، ثم قتل فتولّى بعده يزيد وهو ابن الوليد الأول المتولّي عقب أبيه عبد الملك فبطش (6) بالوليد امتعاضا للدين فقتله غيلة في خبر طويل وولي، بعده وكان خيّرا (7) [ديّنا] ذا رأي سديد وعدل تام ونسك وورع، وكان جمّاعا للأموال شديد البخل، وهو الملقب بالناقص، لقّب بذلك لكونه نقص الجند (8) [أرزاقهم] وكانت ولايته خمسة أشهر وليلتين ثم هلك. فولي بعده أخوه إبراهيم بن الوليد، وكانت أيامه كثيرة الهرج ولم تطل ولايته فما لبث أن خلع وقام (9) بالأمر بعده
__________
(1) من الأرجوزة السابقة التي خرجناها في الصفحة 786الحاشية 2.
(2) من سراج الملوك 23إلى قوله: = ما أعظم منقلب هشام، إن لم يغفر الله له = والخبر في بهجة المجالس 2/ 371ولباب الآداب 112.
(3) من رقم الحلل 19بتصرف إلى قوله: = عظيم الدعاء عارفا بالسير والأخبار =.
(4) سورة إبراهيم 14/ 15.
(5) سبقت ترجمته برقم 6الصفحة 7166.
(6) أب ج ش هـ و: بطش، وهو غلط.
(7) زيادة في ج
(8) زيادة من مروج الذهب 3/ 221والغيث المسجم 2/ 109 (ط. العلمية).
(9) الخبر في مروج الذهب 3/ 226.(2/494)
مروان بن محمد بن الحكم، أقبل من الجزيرة فدخل دمشق، وقتل إبراهيم وصلبه لأربعة أشهر من ولايته، وكان مروان هذا شهما مجرّبا للأمور، عظيم الدّهاء وعارفا بالسير والأخبار، رام ضبط الأمور وهي مدبرة، فلم تساعده الأقدار، وهو الملقب عندهم بالحمار لأنه (1) كان يخرق (2) في الحرب فلقّب بذلك (3) (لذلك)
لقي (4) الإمام إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس (5) الذي دعت إليه دعاة العباسية، فظهر عليه فسجنه ثم قتله، فانهال عليه كثيب الدّولة العباسية، ولقيهم فكانت عليه الهزيمة، ومضى إلى الموصل فمنعه أهلها وأظهروا شعار السواد، فرحل بأهله وسائر بني أمية وتبعه صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس (6) فلحقه ببوصير (7) من أرض مصر فبيّته وهجم عليه، فنادى العباسيون يا لثارات إبراهيم: فقتل مروان تلك الليلة، ليلة الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة وظهر في خزائنه على ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم من البرد والقعب (8) والقضيب والمخضب. وانتهى أمر بني أمية وابتدأت الدولة العباسية، فسبحان من يوتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء (9) لا إله إلا هو يفعل ما يشاء (10) ويحكم ما يريد (11).
__________
(1) ج: انه
(2) خرق يخرق خرقا فهو أخرق إذا حمق. (اللسان: خرق) ويقصد أنه لا يحسن الحرب ولا الرأي فيها.
(3) ما بين القوسين ساقط من ج.
(4) من رقم الحلل 2019بتصرف إلى قوله: = وانتهى أمر بني أمية =
(5) هو زعيم الدعوة العباسية، وهو الذي وجه أبا مسلم الخراساني واليا على دعاته وشيعته إلى خراسان (132هـ) تاريخ الطبري 6/ 437435والأعلام 1/ 59.
(6) هو أمير هاشميّ وعم السفاح والمنصور، وأول من ولي مصر من قبل العباسيين بعد أن تعقّب مروان وقتله، ثم ولي الشام كلّه (151هـ) تاريخ الطبري 7/ 441440، 459، 460، 465، 467، 473، 496، 511، والكامل لابن الأثير 5/ 427425، 449، 454، 463، 483، 486، 508، 589 (ط. صادر) والأعلام 3/ 193192،
(7) بوصير: قرية من قرى صعيد مصر. مروج الذهب 3/ 223ومعجم البلدان 1/ 509.
(8) ج: والعقب، وهو غلط. والقعب: القدح الضخم، والمخضب: شبه الإجّانة يغسل فيها الثياب، وهي المركب ومنه الحديث، انه قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: اجلسوني في مخضب، فاغسلوني. (اللسان: خضب، قعب)
(9) من قوله تعالى: {«قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشََاءُ»} آل عمران 3/ 26
(10) من قوله تعالى: {«اللََّهُ يَفْعَلُ مََا يَشََاءُ»} آل عمران 3/ 40.
(11) من قوله تعالى: {«إِنَّ اللََّهَ يَحْكُمُ مََا يُرِيدُ»} المائدة 5/ 1.(2/495)