يريد، أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا. وقوله: يأطر متنه، أي يثني يقال: أطرت القوس اطرها أطرا وهي مأطورة، وعلوى فرسه. ومما سأله عنه قوله عز وجل: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (1) فقال ابن عباس: غير مقطوع.
فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول:
وترى خلفهنّ من سرعة الرج ... ع منينا كأنه إهياء
قال أبو العباس منين يعني الغبار، وذلك أنها تقطّعه قطعا وراءها، والمنين الضعيف المؤذن بانقطاع. أنشدني التوّزيّ عن أبي زيد:
يا ريّها (2) إن سلمت يميني ... وسلم الساقي الذي يليني
(ولم تحنّي عقد المنين)
يريد الحبل الضعيف فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوّزيّ في كتاب الأضداد أن المنين يكون القويّ يجعله فعيلا من المنة، والمعروف هو الأول. وقال غير ابن عباس:
{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (1) لا يمنّ عليهم فيكدّر عندهم. ويروى من غير وجه، أن ابن الأزرق أتى ابن عباس فجعل يسائله حتى أملّه، فجعل ابن عباس يظهر الضجر.
من قصائد عمر بن أبي ربيعة
وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس وهو يومئذ غلام فسلّم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئا من شعرك فأنشده:
أمن ال نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجّر
__________
(1) سورة التين: الاية 6.
(2) يريد ما أشد ريها.(2/187)
بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذرا والمقالة تعذر (1)
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا نأيها يسلى ولا أنت تصبر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها ... نهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكّر
إذا زرت نعما لم يزل ذو قرابة ... لها كلّما لاقيته يتنمّر (2)
عزيز عليه أن أمرّ ببابها ... مسرّ لي الشحناء والبغض مظهر
ألكني إليها (3) بالسّلام فإنه ... يشهّر إلمامي بها وينكّر
باية ما قالت غداة لقيتها ... بمدفع أكنان (4) أهذا المشهّر (5)
قفي فانظري يا أسم هل (6) تعرفينه ... أهذا المغيريّ الذي كان يذكر
أهذا الذي أطريت (7) نعتا فلم أكن ... وعيشك أنساه إلى يوم أقبر
فقالت نعم لا شك غيّر لونه ... سرى الليل يحيي نصّه (8) والتهجّر (9)
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت ... عن العهد والإنسان قد يتغيّر
لئن كان إياه لقد حال بعدنا ... فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر
حتى أتمها، وهي ثمانون بيتا، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش
__________
(1) المقالة تعذر: أي تقطع العذر وتقيم الحجة على الخصم.
(2) يتنمر: أي يغضب ويسوء خلقه كأنه النمر.
(3) ألكني إليها: أي بلغ رسالتي إليها من الألوكة والمألكة وهي الرسالة، يريد أن يبعث إليها بالسلام ولا يذهب إليها فإن زيارته لها تظهر وتشهر بها وتخرجها من حال تسرها إلى حال تكرهها.
(4) مدفع أكنان: موضع.
(5) المشهر: الذي ظهر أمره في شنعة.
(6) يا أسم: أي يا أسماء فرخم الاسم والمغيري كأنه منسوب إلى جده المغيرة.
(7) أطريت: الاطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.
(8) النصّ التحريك بالرجل ونحوها حتى يستخرج أقصى سير الناقة أصل النص أقصى الشيء وغايته ثم سمي به ضرب من السير السريع.
(9) التهجر: السير في هاجرة النهار، وهذا طباق.(2/188)
فينشدك سفها فتسمعه؟! فقال: تالله ما سمعت سفها، فقال ابن الأزرق أما أنشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشيّ فيخسر
فقال: ما هكذا؟ قال: إنما قال فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر قال: أو تحفظ الذي قال. قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردّها لرددتها، قال فارددها، فأنشده إياها.
في تفسير أبيات عمر
وروى الزبيريون أن نافعا قال له: ما رأيت أروى منك قط، فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من عليّ. وقوله: فيضحى يقول:
يظهر للشمس، ويخصر يقول في البردين، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّكَ لََا تَظْمَؤُا فِيهََا وَلََا تَضْحى ََ} (1)
والضحّ الشمس وليس من ضحيت، يقال: جاء فلان بالضّحّ، والريح يراد به الكثرة، قال علقمة:
أغرّ أبززه للضحّ راقبه ... مقلّد قضب الريحان مفغوم
له فغمة، أي رائحة طيبة يعني إبريقا فيه شراب.
بعض ما ذكر عن رسول الله
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان وقد أعدّت كلّ واحدة منهما من طيب ثمر بستانه ومهّدت له في ظل، فقال: أطلّ ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضحّ والروح! ما هذا بخير. فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر تخلّفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلّا قال: دعوه فإن يرد الله به خيرا يلحقه بكم. فقيل ذات يوم: يا رسول الله
__________
(1) سورة طه: الاية 119.(2/189)
نرى رجلا يرفعه الال (1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة فكان هو. وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى، مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول. وذكرت الرواة أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج وبحضرته يزيد بن أبي مسلم مولاه، وكان يستسرّ برأي الخوارج، فكلّم الحجاج المرأة فأعرضت عنه، فقال لها يزيد بن أبي مسلم الأمير: ويلك يكلمك فقالت: بل الويل والله لك يا فاسق الرديّ.
والردّيّ عند الخوارج هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه.
إعجاب عبد الملك برجل من الخوارج
وذكروا أن عبد الملك بن مروان أتي برجل منهم فبحثه فرأى منه ما شاء فهما وعلما، ثم بحثه فرأى ما شاء أربا ودهيا (2)، فرغب فيه واستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه، فراه مستبصرا محقّقا فزاده في الإستدعاء، فقال له:
لتعنك الأولى عن الثانية وقد قلت فسمعت فاسمع أقل. قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزيّن له من مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بيّنة ومعان قريبة. فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كاد يوقع في خاطري، أن الجنة خلقت لهم وأني أولى بالجهاد منهم. ثم رجعت إلى ما ثبّت الله عليّ من الحجة وقرّر في قلبي من الحق. فقلت له: لله الآخرة والدنيا وقد سلطني الله في الدنيا، ومكّن لنا فيها وأراك لست تجيب بالقول! والله لأقتلنّك إن لم تطع. فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان.
(قال أبو العباس): كان مروان أخا يزيد لامه أمّهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وكان أبيّا عزيز النفس فدخل به في هذا الوقت على عبد الملك باكيا لضرب المؤدّب إياه، فشقّ ذلك على عبد الملك فأقبل عليه الخارجي. فقال له: دعه يبك فإنه أرحب لشدقه وأصحّ وأذهب لصوته، وأحرى ألاتأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة ربه، فاستدعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد
__________
(1) الال: خاص بما يكون في أول النهار.
(2) الدهى والدهاء النكر وجودة الرأي.(2/190)
الملك، فقال له متعجبا: أما يشغلك ما أنت فيه، وبعرضه عن هذا (1)؟ فقال: ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء. فأمر عبد الملك بحبسه وصفح عن قتله، وقال بعد يعتذر إليه: لولا أن تفسد بالفاظك أكثر رعيتي ما حبستك.
ثم قال عبد الملك: من شكّكني ووهّمني حتى مالت بي عصمة الله فغير بعيد أن يستهوي من بعدي، وكان عبد الملك من الرأي والعلم بموضع.
وفادة أحدهم على معاوية
وتزعم الرواة أن رجلا من أهل الكتاب، وفد على معاوية وكان موصوفا بقراءة الكتب. فقال له معاوية: تجد نعتي في شيء من كتب الله؟ قال: أي والله لو كنت في أمّة لوضعت يدي عليك من بينهم، قال: فكيف تجدني؟
قال: أجدك أول من يحوّل الخلافة ملكا والخشنة لينا ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم. قال معاوية، فسرّي عني. ثم قال: لا تقبل هذا مني ولكن من نفسك فاختبر هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون منك رجل شرّاب للخمر سفّاك للدماء، يحتجن الأموال (2) ويصطنع الرجال ويجنب الخيول ويبيح حرمة الرسول. قال: ثم ماذا؟ قال: ثم تكون فتنة تتشعّب بأقوام حتى يفضي الأمر بها إلى رجل أعرف نعته يبيع الآخرة الدائمة بخط من الدنيا مخسوس (3)، فيجتمع عليه من الك وليس منك، لا يزال لعدوّه قاهرا وعلى من ناوأه ظاهرا، ويكون له قرين (4) مبير (5) لعين، قال: أفتعرفه إن رأيته؟ قال: شدّ ما.
فأراه من بالشام من بني أميّة، فقال: ما أراه ههنا. فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله فإذا عبد الملك يسعى مؤتزرا في يده طائر، فقال للرسل: هذا
__________
(1) بعرضه: بالتحريك وهو ما يعرض للأنسان من مرض ونحوه.
(2) يحتجن الأموال أي يحسبها.
(3) مخسوس: منقوص دنيء.
(4) قرين: أراد به الحجاج بن يوسف الثقفي.
(5) مبير: أي مهلك يسرف في إهلاك الناس.(2/191)
هوذا. ثم صاح به إليّ أبو من؟ قال، أبو الوليد. قال: يا أبا الوليد إن بشّرتك ببشارة تسرّك ما تجعل لي؟ قال: وما مقدارها من السرور حتى نعلم مقدارها من الجعل؟ أن تملك الأرض، قال: مالي من مال ولكن أرأيتك إن تكلّفت لك جعلا أأنال ذلك قبل وقته؟ قال: لا، قال: فان حرمتك أتؤخره عن وقته؟
قال: لا، قال: فحسبك ما سمعت. فذكروا أن معاوية كان يكرم عبد الملك ليجعلها يدا عنده يجازيه بها في مخلّفيه في وقته. وكان عبد الملك من أكثر الناس علما وأبرعهم أدبا وأحسنهم في شبيبته ديانة، فقتل عمرو بن سعيد وتسمّى بالخلافة، فسلّم عليه بها أول تسليمة والمصحف في حجره فأطبقه.
وقال: هذا فراق بيني وبينك.
قال أبو العباس: وحدثنى ابن عائشة عن حمّاد بن سلمة في إسناد ذكره أن عبد الملك كان له صديق، وكان من اهل الكتاب بقال له يوسف، فأسلم، فقال له عبد الملك يوما، وهو في عنفوان نسكه. وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المرّيّ، من مرّة غطفان، يريد المدينة: ألا ترى خيل عدوّ الله قاصدة لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له يوسف: جيشك والله إلى حرم رسول الله أعظم من جيشه، فنفض عبد الملك ثوبه، ثم قال:
معاذ الله! قال له يوسف: ما قلت شاكّا ولا مرتابا وإني لأجدك بجميع أوصافك. قال له عبد الملك. ثم ماذا؟ قال: ثم يتداولها رهطك، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان.
قال: وحدّثت عن ابن جعدبة قال: كنت عند أمير المؤمنين المنصور في اليوم الذي أتاه فيه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن قال: فغمّه ذلك حتى امتنع من الغداء في وقته وطال عليه فكره. فقلت: يا أمير المؤمنين أحدّثك حديثا: كنت مع مروان بن محمد وقد قصده عبد الله بن علي فإنّا لكذلك إذا نظر إلى الاعلام السود من بعد فقال: ما هذه البخت المجلّلة؟
قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها؟ قلت: عبد الله بن علي بن
عبد الله بن العباس. قال: وأيهم عبد الله. فقلت: الفتى المعروق (1) الطويل الخفيف العارضين الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد فسألتني عنه فنسبته لك فقلت: إن هذا الفتى لتلقّامة (2). قال: قد عرفته، والله ووددت أن عليّ بن أبي طالب مكانه، قال: فقال لي المنصور: الله، لسمعت هذا من مروان بن محمد؟ قلت: والله لقد سمعته منه. قال: يا غلام هات الغداء. قال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل عليا ولا أقاتل معه. فتواصوا في ما بينهم وتعاضدوا وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم. فقام منهم قائم يقال له المستورد من بني سعد بن زيد مناة فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا بالعدل تخفق رآياته معلنا مقالته، مبلّغا عن ربه، ناصحا لأمته حتى قبضه الله مخيّرا مختارا. ثم قام الصدّيق فصدق عن نبيّه وقاتل من ارتدّ عن دين ربه، وذكر أن الله عز وجل قرن الصلاة بالزكاة فرأى أن تعطيل إحداهما طعن على الاخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفورا. ثم قام الفاروق ففرق بين الحق والباطل مسوّيا بين الناس في إعطائه لا مؤثرا لاقاربه ولا محكّمأ في دين ربه. وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: {وَفَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ عَلَى الْقََاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (3). فكل أجاب وبايع فوجه إليهم عليّ بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعيا، فأبوا فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس:(2/192)
قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها؟ قلت: عبد الله بن علي بن
عبد الله بن العباس. قال: وأيهم عبد الله. فقلت: الفتى المعروق (1) الطويل الخفيف العارضين الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد فسألتني عنه فنسبته لك فقلت: إن هذا الفتى لتلقّامة (2). قال: قد عرفته، والله ووددت أن عليّ بن أبي طالب مكانه، قال: فقال لي المنصور: الله، لسمعت هذا من مروان بن محمد؟ قلت: والله لقد سمعته منه. قال: يا غلام هات الغداء. قال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل عليا ولا أقاتل معه. فتواصوا في ما بينهم وتعاضدوا وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم. فقام منهم قائم يقال له المستورد من بني سعد بن زيد مناة فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا بالعدل تخفق رآياته معلنا مقالته، مبلّغا عن ربه، ناصحا لأمته حتى قبضه الله مخيّرا مختارا. ثم قام الصدّيق فصدق عن نبيّه وقاتل من ارتدّ عن دين ربه، وذكر أن الله عز وجل قرن الصلاة بالزكاة فرأى أن تعطيل إحداهما طعن على الاخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفورا. ثم قام الفاروق ففرق بين الحق والباطل مسوّيا بين الناس في إعطائه لا مؤثرا لاقاربه ولا محكّمأ في دين ربه. وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: {وَفَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ عَلَى الْقََاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (3). فكل أجاب وبايع فوجه إليهم عليّ بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعيا، فأبوا فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس:
يا أمير المؤمنين لا تخرج في هذه الساعة فإنها ساعة نحس لعدوّك عليك.
فقال له عليّ: توكلت على الله وحده وعصيت رأي كل متكهّن. أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان، إني توكلت على الله ربي وربكم،
__________
(1) المعروق: قليل اللحم.
(2) إن هذا الفتى لتلقامة: عظيم اللقم.
(3) سورة النساء: الاية 95.(2/193)
(ما دابة إلا اخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) (1). ثم سار إليهم فطحنهم جميعا لم يفلت منهم إلا خمسة منهم المستورد وابن جوين الطائيّ وفروة بن شريك الأشجعيّ. وهم الذين ذكرهم الحسن البصريّ فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في اذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحنا. وفيهم يقول عمران بن الخرب:
إني أدين بما دان الشراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب
وقال الحميريّ يعارض هذا المذهب:
إني أدين بما دان الوصيّ به ... يوم النخيلة من قتل المحلّينا
وبالذي دان يوم النهر دنت به ... وشاركت كفّه كفّي بصفّينا
تلك الدماء معا يا ربّ في عنقي ... ومثلها فاسقني امين امينا
سؤال أصحاب النخيلة في سبأ
وكان أصحاب النخيلة قالوا لابن عباس: إذا كان عليّ على حق، لم يشكك فيه وحكّم مضطرّا فما باله حيث ظفر لم يسب؟ فقال لهم ابن عباس:
قد سمعتم الجواب في التحكيم، فأما قولكم في السباء: أفكنتم سابين أمّكم عائشة! فوضعوا أصابعهم في اذانهم وقالوا: أمسك عنا حرب لسانك يا ابن عباس فإنه طلق ذلق غوّاص على موضع الحجة. ثم خرج المستورد بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة وهو والي الكوفة، فوجّه إليه معقل بن قيس الرياحيّ فدعاه المستورد إلى المبارزة. وقال له: علام يقتل الناس بيني وبينك؟
فقال له معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه فقال: ما كنت لابى عليه. فخرج إليه فاختلفا ضربتين فخرّ كلّ واحد منهما ميتا. وكان المستورد كثير الصلاة شديد الاجتهاد وله اداب يوصي بها وهي محفوظة عنه، كان
__________
(1) سورة هود: الاية 56.(2/194)
يقول: إذا أفضيت بسرّي إلى صديقي فأفشاه لم ألمه لأني كنت أولى بحفظه.
وكان يقول: لا تفش إلى أحد سرا وإن كان مخلصا إلا على جهة المشاورة.
وكان يقول: كن أحرص على حفظ سرّ صاحبك منك على حقن دمك. وكان يقول أول ما يدلّ عليه عائب الناس معرفته بالعيوب ولا يعيبب إلا معيب.
وكان يقول: المال غير باق عليك فاشتر من الحمد ما يبقى عليك. وكان يقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد. وكان يكثر أن يقول:
لو ملكت الأرض بحذافيرها ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت.
قال، وخرجت الخوارج واتصل خروجها، وإنما نذكر منهم من كان ذا خبر طريف واتصلت به حكم من كلام وأشعار.
أول من خرج بعد مقتل علي
فأول من خرج بعد قتل عليّ عليه السلام حوثرة الأسديّ فإنه كان متنحيّا بالبندنجين فكتب إلى حابس الطائيّ يسأله أن يتولّى أمر الخوارج حتى يسير إليه بجمعه فيتعاضدا على مجاهدة معاوية. فأجابه، فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة، ومعاوية بالكوفة حيث دخلها مع الحسن بن علي صلوات الله عليه بعد أن بايعه الحسن والحسين عليهما السلام وقيس بن سعد بن عبادة. ثم خرج الحسن يريد المدينة فوجّه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم، فقال الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين وما أحسب ذلك يسعني، أفأقاتل عنك قوما أنت والله أولى بالقتال منهم، فلما رجع الجواب إليه وجّه إليهم جيشا أكثرهم من أهل الكوفة ثم قال لأبيه أبي حوثرة: اكفني أمر ابنك. فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى، فأداره فصمم، فقال له: يا بنيّ أجيئك بابنك فلعلّك تراه فتحنّ إليه. فقال: يا أبت أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلّب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني، فرجع إلى معاوية، فأخبره فقال: يا أبا حوثرة عتا هذا جدّا، فلما نظر حوثرة إلى الكوفة قال: يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدّوا سلطانه، واليوم تقاتلون مع معاوية لتشدّوا سلطانه! فخرج إليه
أبوه فدعاه إلى البراز فقال: يا أبت لك في غيري مندوحة ولي في غيرك عنك مذهب. ثم حمل على القوم وهو يقول:(2/195)
فأول من خرج بعد قتل عليّ عليه السلام حوثرة الأسديّ فإنه كان متنحيّا بالبندنجين فكتب إلى حابس الطائيّ يسأله أن يتولّى أمر الخوارج حتى يسير إليه بجمعه فيتعاضدا على مجاهدة معاوية. فأجابه، فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة، ومعاوية بالكوفة حيث دخلها مع الحسن بن علي صلوات الله عليه بعد أن بايعه الحسن والحسين عليهما السلام وقيس بن سعد بن عبادة. ثم خرج الحسن يريد المدينة فوجّه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم، فقال الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين وما أحسب ذلك يسعني، أفأقاتل عنك قوما أنت والله أولى بالقتال منهم، فلما رجع الجواب إليه وجّه إليهم جيشا أكثرهم من أهل الكوفة ثم قال لأبيه أبي حوثرة: اكفني أمر ابنك. فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى، فأداره فصمم، فقال له: يا بنيّ أجيئك بابنك فلعلّك تراه فتحنّ إليه. فقال: يا أبت أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلّب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني، فرجع إلى معاوية، فأخبره فقال: يا أبا حوثرة عتا هذا جدّا، فلما نظر حوثرة إلى الكوفة قال: يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدّوا سلطانه، واليوم تقاتلون مع معاوية لتشدّوا سلطانه! فخرج إليه
أبوه فدعاه إلى البراز فقال: يا أبت لك في غيري مندوحة ولي في غيرك عنك مذهب. ثم حمل على القوم وهو يقول:
اكرر على هذي الجموع حوثره (1) ... فعن قليل ما تنال المغفره
فحمل عليه رجل من طيّىء فقتله، فرأى أثر السجود قد لوّح جبهته فندم على قتله، ثم انهزم القوم جميعا.
خبر المستورد والخارجي وادابه
وأنا أحسب أن قول القائل:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب
إنما أخذه من كلام المستورد قال رجل للمستورد: أريد أن أرى رجلا عيّابا قال: التمسه بفضل معايب فيه. وقال العباس بن الأحنف يعاتب من اتهمه فإفشاء سره!
تعنّيت تطلب ما أستحقّ ... به الهجر منك ولا تقدر
وماذا يضرّك من شهرتي ... إذا كان سرّك لا يشهر
أمنّي تحاف انتشار الحديث ... وحظّي في ستره أوفر
ولو لم تكن فيّ بقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
مما جرى مع رسول الله
ويروى من حديث محمد بن كعب القرظيّ. قال: قال عمّار بن ياسر خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات العشيرة (2) فلما قفلنا نزلنا منزلا فخرجت أنا وعليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه ننظر إلى قوم يعتملون (3)،
__________
(1) حوثرة: يريد حوثرة ينادي نفسه.
(2) ذات العشيرة: موضع بناحية ينبع غزوتها معروفة.
(3) يعتملون: أي يعملون بأنفسهم ويعملون أراءهم والاتهم.(2/196)
فنعسنا فنمنا، فسفت علينا الريح التراب. فما نبّهنا إلا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعليّ: يا أبا تراب لما عليه من التراب، أتعلم من أشقى الناس؟ فقال:
خبّرني يا رسول الله، فقال أشقى الناس اثنان، أحمر ثمود الذي عقر الناقة، وأشقاها الذي يخضب هذه. ووضع يده على قرنه. ويروى عن عياض بن خليفة الخزاعي قال: تلقّاني عليّ صلوات الله عليه في الغلس، فقال لي:
من أنت؟ قلت: عياض بن خليفة الخزاعي، فقال: ظننتك أشقاها الذي يخضب هذه من هذا ووضع يده على لحيته وعلى قرنه. ويروى أنه كان يقول كثيرا، قال أبو العباس أحسبه عند الضجر بأصحابه: ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا! ويروى عن رجل من ثقيف أنه قال: خرج الناس يعلفون دوابهم بالمداين وأراد عليّ المسير إلى الشأم. ووجّه معقل بن قيس الرياحيّ ليرجعهم إليه، وكان ابن عم لي في اخر من خرج، فأتيت الحسن بن عليّ عليه السلام ذات عشية فسألته أن يأخذ لي كتاب أمير المؤمنين إلى معقل بن قيس في الترفيه عن ابن عمي فإنه في اخر من خرج. فقال: تغدو علينا والكتاب مختوم إن شاء الله تعالى. فبتّ ليلتي ثم أصبحت والناس يقولون قتل أمير المؤمنين الليلة، فأتيت الحسن وإذا به في دار عليّ عليه السلام فقال: لولا ما حدث لقضينا حاجتك، ثم قال: حدثني أبي عليه السلام البارحة في هذا المسجد. فقال: يا بنيّ إني صليت ما رزق الله ثم نمت نومة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد فقال: ادع الله أن يريحك منهم فدعوت الله، قال الحسن: ثم خرج إلى الصلاة فكان ما قد علمت.
وحدّثت من غير وجه أن عليّا لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية. ثم أفاق فدعا الحسن والحسين فقال: أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا ولا تأسفا على شيء فإنكما منها. اعملا الخير وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا. ثم دعا محمدا فقال: أما سمعت ما أوصيت به
أخويك. قال: بلى. قال: فإني أوصيك به وعليك ببرّ أخويك وتوقيرهما، ومعرفة فضلهما ولا تقطع أمرا دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيرا. فإنه شقيقكما وابن أبيكما وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبّه فأحبّاه.(2/197)
وحدّثت من غير وجه أن عليّا لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية. ثم أفاق فدعا الحسن والحسين فقال: أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا ولا تأسفا على شيء فإنكما منها. اعملا الخير وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا. ثم دعا محمدا فقال: أما سمعت ما أوصيت به
أخويك. قال: بلى. قال: فإني أوصيك به وعليك ببرّ أخويك وتوقيرهما، ومعرفة فضلهما ولا تقطع أمرا دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيرا. فإنه شقيقكما وابن أبيكما وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبّه فأحبّاه.
فلما قضى عليّ كرّم الله وجهه. قالت أم العربان:
وكنا قبل مهلكه زمانا ... نرى نجوى رسول الله فينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وأكرمهم ومن ركب السفينا
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فلا قرّت عيون الشامتينا
ويروى أن عبد الرحمن بن ملجم بات تلك الليلة عند الأشعث بن قيس بن معدي كرب، وأن حجر بن عديّ سمع الأشعث يقول له: فصحك الصبح. فلما قالوا قتل أمير المؤمنين، قال حجر بن عدي للأشعث: أنت قتلته يا أعور. ويروى أن الذي سمع ذاك أخو الأشعث عفيف بن قيس وأنه قال لأخيه: عن أمرك كان هذا يا أعور. وأخبار الخوارج كثيرة طويلة وليس كتابنا مفردا لهم لكنا نذكر من أمورهم ما فيه معنى وأدب أو شعر مستطرف او كلام من خطبة معروفة مختارة.
خروج قريب مرة وزحاف الطائي
خرج قريب مرّة الأزديّ وزحّاف الطائي، وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد، واختلف الناس في أمورهما أيّهما كان الرئيس، فاعترضا الناس، فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه، وكان يقال له: رؤبة الضبعي. وتنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت: الحرورية (1)! الحرورية! انج بنفسك، فنادوه: لسنا حرورية، نحن الشرط. فوقف فقتلوه وبلغ أبا بلال خبرهما فقال:
__________
(1) الحرورية: فرقة من الخوارج. ويريد بالتكرار هنا إثارة الانتباه والتحذير.(2/198)
قريب لاقربه الله من الخير وزحّاف لا عفا الله عنه ركباها عشواء مظلمة (1)
يريد اعتراضهما الناس، ثم جعلا لا يمرّان بقبيلة إلّا قتلا من وجدا حتى مرّا ببني عليّ بن سود من الأزد، وكانوا رماة وكان فيهم مائة يجيدون الرمي فرموهم رميفا شديدا فصاحوا: با بني عليّ البقيا (2) لا رماء (3) بيننا. فقال رجل من بني علي:
لا شيء للقوم سوى السّهام ... مشحوذة في غلس الظلام
فعرّد (4) عنهم الخوارج، وخافوا الطلب فاشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها. فجاءهم ثمانون، وخرجت إليهم بنو طاحية بن سود، وقبائل مزينة، وغيرها فاستقتل الخوارج فقتلوا عن اخرهم.
ثم غدا الناس إلى زياد فقال: ألّا ينهى كلّ قوم سفهاءهم، يا معشر الأزد! لولا أنكم أطفأتم هذه النار لقلت إنكم أرّئتموها (5). فكانت القبائل إذا أحسّت بخارجية (6) فيهم شدّتهم وأتت بهم زيادا فكان هذا أحد ما يذكر من صحة تدبيره. وله أخرى في الخوارج أخرجوا معهم امرأة فظفر بها فقتلها ثم عرّاها فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكنّ إذا دعين إلى الخروج قلن:
لولا التعرية لساراعنا. ولما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية امرأة المختار (وليس هذا من أخبار الخوارج) أنكره الخوارج غاية الإنكار ورأوه قد أتى بقتل النساء أمرا عظيما لأنه أتى ما نهى عنه رسول
__________
(1) ركباها عشواء مظلمة: يريد أنهما لم يذهبا مذهب الصواب ولم يهتديا في أمرهما وركبا على غير بيان والعشواء في الأصل الظلمة.
(2) البقيا: بالضم اسم من قولك ابقيت على فلان إبقاء إذا رحمته واشفقت عليه.
(3) الرماء من رامى، وهي المراماة.
(4) عرّد: قوي جمسه وانتصب بعد المرض، طلع وارتفع.
(5) ارثتموها من التأريث وهو إيقاد النار واذكاؤها.
(6) هنأت البعير: اهنؤه إذا أطليته بالهناء بالكسر وهو القطران.(2/199)
الله صلى الله عليه وسلم في سائر نساء المشركين وللخواصّ منهن أخبار، فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
إنّ من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول (1)
قتلت باطلا على غير ذنب ... إن الله درّها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جرّ الذيول
قال: وكانت الخوارج أيام ابن عامر أخرجوا معهم امرأتين يقال لأحداهما كحيلة والاخرى قطام، فجعل أصحاب ابن عامر يعيّرونهم ويصيحون بهم: با أصحاب كحيلة وقطام يعرّضون لهم بالفجور فتناديهم الخوارج بالدفع والردع، ويقول قائلهم: لا تقف ما ليس لك به علم. ويروى عن ابن عباس في هذه الاية: {وَالَّذِينَ لََا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذََا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرََاماً} (2) قال: هي أعياد المشركين، وقال ابن مسعود: الزور الغناء، فقيل لابن عباس: أوما هذا في الشهادة بالزور؟ فقال: لا إنما اية شهادة الزور ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤلا.
قتل امرأة من الخوارج في البلجاء
عاد الحديث إلى أمر الخوارج، وكان من المجتهدات من الخوارج ولو قلت من المجتهدين وأنت تعني امرأة كان أفصح لأنك تريد رجالا ونساء هي إحداهم. كما قال الله عز وجل: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمََاتِ رَبِّهََا وَكُتُبِهِ وَكََانَتْ مِنَ الْقََانِتِينَ} (3). وقال جل ثناؤه: {إِلََّا عَجُوزاً فِي الْغََابِرِينَ} منهم (4) البلجاء، وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم من رهط سجاح التي كانت تنبّأت. وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله.
__________
(1) العطبول: بالضم، المرأة الفتية.
(2) سورة الفرقان: الاية رقم 72.
(3) سورة التحريم: الاية رقم 12.
(4) سورة الشعراء: الاية رقم 171.(2/200)
أخبار مرداس بن حدير
وكان مرداس بن حدير أبو بلال، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة تعظمه الخوارج، وكان مجتهدا كثير الصواب في لفظه فلقيه غيلان بن خرشة الضبّيّ فقال: يا أبا بلال إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء وأحسبها ستؤخذ، فمضى إليها أبو بلال فقال لها: إن الله قد وسّع على المؤمنين في التقيّة (1) فاستتري فإن هذا المسرف على نفسه الجبار العنيد قد ذكرك، قالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحبّ أن يعنّت (2)
إنسان بسببي. فوجه إليها عبيد الله بن زياد فأتى بها فقطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق، فمر أبو بلال والناس مجتمعون فقال: ما هذا؟ فقالوا:
البلجاء، فعرّج إليها فنظر ثم عض على لحيته وقال لنفسه: لهذه أطيب نفسا عن بقية الدنيا منك يا مرداس. ثم أن عبيد الله تتبع الخوارج فحبسهم وحبس مرداسا. فرأى صاحب السجن شدة اجتهاده وحلاوة منطقه، فقال له: إين أرى لك مذهبا حسنا وإني لأحبّ أن أوليك معروفا، أفرأيت إن تركتك تنصرف ليلا إلى بيتك أتدّلج (3) إليّ؟ قال: نعم. فكان يفعل ذلك به. ولجّ عبيد الله في حبس الخوارج، وقتلهم فكلّم في بعض الخوارج، فلجّ وأبى وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم. لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع.
فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلا من الشرط. فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلّما أمرت رجلا بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله، لأقتلنّ من في حبسي منهم. فأخرج السّجان مرداسا إلى منزله كما كان يفعل وأتى مرداسا الخبر فلما كان السحر تهيأ للرجوع. فقال له أهله: إتق الله في نفسك فإنك إن رجعت قتلت! فقال: إني ما كنت لألقى الله غادرا، فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك فقال: أعلمت ورجعت؟!
__________
(1) التقية: الخفية.
(2) أن يعنت: أن يدخل عليه الضرر.
(3) اتدلج: بالتشديد: أتسير في الليل.(2/201)
ويروى أن مرداسا مرّ بأعرابي يهنأ بعيرا [7] له فهرج البعير (1) فسقط مرداس مغشيا عليه، فظن الاعرابي أنه قد صرع فقرأ في أذنه. فلما أفاق قال له الاعرابي:
قرأت في أذنك. فقال له مرداس: ليس بي ما خفته عليّ ولكني رأيت بعيرك هرج (2) من القطران فذكرت به قطران جهنم فأصابني ما رأيت. فقال: لا جرم والله لا فارقتك أبدا. وكان مرداس قد شهد صفّين مع عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وأنكر التحكيم وشهد النهر ونجا فيمن نجا، فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج. فقال لأصحابه: إنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفصل. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم ولكنّا ننتبذ عنهم ولا نجرّد سيفا ولا نقاتل إلّا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا منهم حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصريميّ، فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثا فأبى فولّوا أمرهم مرداسا. فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصارييّ. وكان له صديقا، فقا له: أين تريد؟ قال: أريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. فقال له: أعلم بكم أحد؟ قال: لا. قال فارجع. قال أو تخاف عليّ مكروها؟ قال نعم وأن يؤتي بك، قال فلا تخف فإني لا أجرّد سيفا ولا أخيف أحدا ولا أقاتل إلّا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل اسك وهو ما بين رامهرمز وأرّجان فمر به مال يحمل لابن زياد وقد قارب أصحابه الأربعين، فحطّ ذلك المال فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وردّ الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم إنما قبضنا أعطياتنا فقال بعض أصحابه فعلام ندع الباقي فقال: إنهم يقسمون، هذا ألفي، كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم.
ولأبي بلال أشعار في الخروج اخترت منها قوله:
أبعد ابن وهب ذي النزاهة والتقى ... ومن خاض في تلك الحروب المهالكا
__________
(1) هرج: تحير من شدة الحر وثقل الحمل.
(2) النزاهة: البعد عن النقائص والتجافي عن المعاصي.(2/202)
أحبّ بقاء أو أرجّي سلامة ... وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا
فيا ربّ سلّم نيّتي وبصيرتي ... وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكا
قوله: وقد قتلوا ولم يذكر أحدا (1)، فإنما فعل ذلك لعلم الناس أنه يعني مخالفيه وإنما يحتاج الضمير إلى ذكر قبله ليعرف. فلو قال رجل: ضربته، لم يجز، لأنه لم يذكر أحدا قبل ذكره الهاء. ولو رأيت قوما يلتمسون الهلال فقال قوم: هذا هو، لم يحتج إلى تقدمة الذكر لأن المطلوب معلوم، وعلى هذا قال علقمة بن عبدة في إفتتاح قصيدته:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذا نأتك اليوم مصروم
لأنه قد علم أنه يريد حبيبة له. وقوله: حيث ألاقي ولم يحرك الياء فقد مضى شرحه مستقصى. ويروى أن رجلا من أصحاب ابن زياد قال: خرجنا في جيش نريد خراسان، فمررنا باسك فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلا، فصاح بنا أبو بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم؟ وكنت أنا وأخي قد دخلنا زربا (2)، فوقف أخي ببابه فقال: السلام عليكم. فقال مرداس: وعليكم السلام. فقال لأخي: أجئتم لقتالنا؟ فقال له: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيكم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض ولا لنروّع أحدا ولكن هربا من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا. ثم قال: أندب إلينا أحد؟
قلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا؟ قلنا يوم كذا وكذا فقال أبو بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل! وجهز عبيد الله أسلم بن زرعة في أسرع وقت ووجهه إليهم في ألفين، وقد تتامّ أصحاب مرداس أربعين رجلا، فلما صار إليهم أسلم صاح به أبو بلال: اتّق الله يا أسلم فإنا لا نريد قتالا ولا نحتجن فيئا، فما الذي تريد؟ قال: أريد أن أردكم إلى بن زياد، قال مرداس: إذا يقتلنا، قال: وإن قتلكم، قال، تشركه في دمائنا، قال: إني أدين
__________
(1) ولم يذكر أحدا: يريد أن الضمير المرفوع في الفعل لم يتقدم له مرجع فيعود إليه.
(2) الزرب: جمع زريبة، مكان يا بنى للغنم.(2/203)
بأنه محقّ وانكم مبطلون. فصاح به حريث بن حجل: أهو محق وهو يطيع الفجرة وهو أحدهم، ويقتل بالظنّة ويخصّ بالفيء ويجور في الحكم؟ أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة براء وأنا أحد قتلته، ولقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه. ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال. وكان معبد أحد الخوارج قد كاد يأخذه، فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا. وقال: ويلك، أتمضي في ألفين فتنهزم لحملة أربعين؟ وكان أسلم يقول: لأن يذمّني ابن زياد حيّا أحبّ إلى من أن يمدحني ميتا. وكان إذا خرج إلى السوق أو مرّ بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك! وربما صاحوا به: يكفّوا الناس عنه.
عيسى بن فاتك يمدح الخوارج
ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من بني تيم اللات بن ثعلبة في كلمة له:
فلما أصبحوا صلّوا وقاموا ... إلى الجرد (1) العتاق (2) مسوّمينا
فلما استجمعوا حملوا عليهم ... فظلّ ذوو الجعائل (3) يقتلونا
بقيّة يومهم حتى أتاهم ... سواد اللّيل فيه يراوغونا (4)
يقول بصيرهم لمّا أتاهم ... بأنّ القوم ولّوا هاربينا
ألفا مؤمن في ما زعمتم ... ويهزمهم باسك أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة غير شكّ ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
__________
(1) الجرد جمع أجرد وهو الفرس القصير الشعر رقيقه وقد جرد كفرج.
(2) العتاق: جمع عتيق وهو الكريم.
(3) الجعائل جمع جعيلة أو جعالة بالفتح وهي الأجر على الشيء فعلا كان أو قولا والمراد في الشعر أن يكتب الغزو على الرجل فيعطي رجلا اخر شيئا ليخرج مكانه يذكر أن أعداءهم إنما يخرجون في الغزو لأخذ المال.
(4) يراوغونا: المرواغة المصارعة وأن يطلب بعض القوم بعضا.(2/204)
ثم ندب لهم عبيد الله بن زياد الناس فاختار عبّاد بن اخضر (وليس بابن أخضر هو عباد بن علقمة المازنيّ. وكان أخضر زوج أمّه فغلب عليه) فوجهه في أربعة الاف، فنهد لهم. ويزعم أهل العلم أن القوم قد كانوا تنحّوا عن دار بجرد من أرض فارس فصار إليهم عباد. وكان التقاؤهم في يوم جمعة فناداه أبو بلال: اخرج إليّ يا عباد فإني أريد أن أحاورك، فخرج إليه فقال: ما الذي تبغي؟ قال: اخذ بأقفائكم (1) فأردّكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد. قال: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أن ترجع فإنا لا نخيف سبيلا ولا نذعر مسلما ولا نحارب إلا من حاربنا ولا نجبي إلا ما حمينا. فقال له عبّاد: الأمر ما قلت لك. فقال له حريث بن حجل: أتحاول أن تردّ فئة من المسلمين إلى جيّار عنيد! قال لهم: أنتم أولى بالضلال منه وما من ذاك بدّ. وقدم القعقاع بن عطيّة الباهليّ من خراسان يريد الحج، فلما رأى الجمعين قال: ما هذا قالوا:
الشراة فحمل عليهم. ونشبّت الحرب فأخذ القعقاع أسيرا فأتي به أبو بلال، فقال: ما أنت؟ قال لست من أعدائك وإنما قدمت للحج فجهلت وغررت، فأطلقه. فرجع إلى عباد فأصلح من شأنه ثم حمل عليهم ثانية وهو يقول:
أقاتلهم وليس عليّ بعث ... نشاطا ليس هذا بالنشاط
أكرّ على الحروريّين مهري ... لأحملهم على وضح الصراط
فحمل عليه حريث بن حجل السدوسيّ وكهمس بن طلق الصريميّ، فأسراه فقتلاه، ولم يأتيا به أبا بلال. فلم يزل القوم يجتلدون (2) حتى جاء وقت الصلاة صلاة يوم الجمعة، فناداهم أبو بلال: يا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا (3)
حتى نصلّي وتصلّوا! قالوا: لك داك. فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا الصلاة، فأسرع عباد ومن معه والحرورية مبطئون (4) فهم من بين راكع وقائم
__________
(1) الاقفاء: جمع قفاء وهو ما وراء العنق.
(2) يجتلدون: أي يضرب بعضهم بعضا بالسيوف.
(3) فوادعونا: من الموادعة وهي المتاركة بأن يدع كل منهما ما هو فيه.
(4) مبطئون: من الإبطاء: أي أن من عادتهم أنهم لا يسرعون في أداء العبادة.(2/205)
وساجد في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عبّاد ومن معه فقتلوهم جميعا.
وأتي برأس أبي بلال، وتروي الشراة أن مرداسا أبا بلال لما عقد على أصحابه وعزم على الخروج رفع يديه وقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقا فأرنا اية، فرجف البيت، وقال اخرون فارتفع السقف. وروى أهل العلم أن رجلا من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحيّ يعجّبه من الاية (1) ويرغبه في مذهب القوم، فقال أبو العالية كاد الخسف ينزل بهم ثم أدركتهم نظرة الله (2). فلما فرغ من أولئك الجماعة أقبل بهم فصلبت رؤوسهم، وفيهم داود بن شبث، وكان ناسكا، وفيهم حبيبة النصريّ من قيس، وكان مجتهدا.
عمران بن حطان يرثي مرداسا
فيروى عن عمران بن حطّان أنه قال: قال لي حبيبة، لما عزمت على الخروج فكّرت في بناتي فقلت ذات ليلة، لأمسكنّ عن تفقّدهنّ حتى أنظر، فلما كان في جوف الليل استسقت بنيّة لي فقالت: يا أبت اسقني، فلم أجبها فأعادت فقامت أخيّة لها أسنّ منها فسقتها. فعلمت أن الله عز وجل غير مضيّعهنّ فأتممت عزمي. وكان في القوم كهمس، وكان من أبرّ الناس بأمه، فقال لها: يا أمّة لولا مكانك لخرجت. فقالت: يا بنيّ قد وهبتك لله، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك الحبطيّ:
ألا في الله (3) لا في الناس شالت ... بداود وإخوته الجذوع
مضوا قتلا وتمزيقا وصلبا ... تحوم عليهم طير وقوع
إذا ما الليل أظلم كابدوه (4) ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
__________
(1) يعجبه من الاية أي يجعله يتعجب فيها.
(2) النظرة: بكسر الظاء المعجمة طلب الانتظار التأخير في الأمر.
(3) الا في الله البيت: يمدحهم بأنهم أوذوا في الله وتمسكوا بدينهم أشد تمسك.
(4) كابدوه: أي قاسوا فيه شدة بالإكثار من صلاتهم وعبادتهم.(2/206)
وقال عمران بن حطان:
يا عين بكّي لمرداس ومصرعه ... يا ربّ مرداس اجعلني كمرداس
تركتني هائما أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إمّا شربت بكاس دار أوّلها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلا ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
مقتل عباد بن أخضر المازني
ثم أن عبادا بن أخضر المازني، لبث دهرا في المصر محمودا موصوفا بما كان منه، فلم يزل على ذلك حتى ائتمر به جماعة، وقد أقبل على بغلة له وابنه رديفه. فقام إليه رجل منهم فقال: أسألك عن مسئلة قال: قل، قال:
أرأيت رجلا قتل رجلا بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان، الوليّ ذلك المقتول أن يفتك به إن قدر عليه؟ قال: بل يرفعه إلى السلطان، قال: إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه وعظيم جاهه عنده. قال: أخاف عليه أن فتك به فتك به السلطان. قال: دع ما تخافه من ناحية السلطان، أتلحقه تبعة فيما بينه وبين الله؟ قال: لا، قال: فحكّم هو وأصحابه وخبطوه بأسيافهم. ورمى عباد ابنه فنجا، وتنادى الناس قتل عبّاد. فاجتمع الناس فأخذوا أفواه الطرق، وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب فجاء معبد بن أخضر أخو عبّاد وهو معبد بن علقمة وأخضر زوج أمّهما في جماعة من بني مازن، فصاحوا بالناس: دعونا وثأرنا. فأحجم الناس وتقدم المازنيّون فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعا لم يفلت منهم أحد إلّا عبيدة بن هلال فإنه خرق خصّا ونفذ منه: ففي ذلك يقول الفرزدق:
لقد أدرك الأوتار غير ذميمة ... إذا ذمّ طلّاب الترات الأخاضر (1)
__________
(1) الأخاضر: جمع أخضر، الخالص النسب من العرب.(2/207)
هم جرّدوا الأسياف يوم ابن أخضر ... فنالوا التي ما فوقها نال ثائر
أقادوا به أسدا لها في اقتحامها ... إذا برزت نحو الحروب بصائر
ثم ذكر بني كليب لأنه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال في كلمته هذه:
كفعل كليب إذ أخلّت بجارها ... ونصر اللئيم معتم (1) وهو حاضر
وما لكليب حين تذكر أول ... وما لكليب حين تذكر اخر
وقال معبد بن أخصر:
سأحمي دماء الأخضريّن أنه ... أتى الناس إلا أن يقولوا ابن أخصرا
وكان مقتل عباد وعبيد الله بن زياد بالكوفة، وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة. فكتب إليه يأمره ألايدع أحدا يعرف بهذا الرأي إلا حبسه، وجدّ في طلبه ممن تغيّب منهم. فجعل عبيد الله بن أبي بكرة يتتبّعهم فيأخذهم، فإذا شفع إليه في أحد منهم كفّله إلى أن يقدم ابن زياد حتى أوتي بعروة بن أديّة فأطلقه وقال: أنا كفيلك. فلما قدم عبيد الله بن زياد أخذ من في السجن منهم فقتلهم جميعا، وطلب الكفلاء بمن كفلوا به منهم فكلّ من جاءها بصاحبه أطلقه وقتل الخارجيّ ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله. ثم قال لعبيد الله بن أبي بكرة: هات عروة بن أديّة، قال: لا أقدر عليه. قال: إذا والله أقتلك فإنك كفيله. فلم يزل يطلبه حتى دلّ عليه في سرب العلاء بن سويّة المنقريّ. فكتب بذلك إلى عبيد الله بن زياد، فقرأ عليه الكاتب انا أصبناه في شرب فتهانف (2) به عبيد الله بن زياد، وكان كثير المحاورة عاشقا للكلام الجيد مستحسنا للصواب منه لا يزال يبحث عن عذره، فإذا سمع الكلمة الجيّدة عرّج عليها. ويروى أنه قال في عقب مقتل الحسين بن علي
__________
(1) معتم: أي بطيء متأخر يصف بني كليب بالدناءة وعدم الوفاء.
(2) تهانف: أي ضحك مستهزئا.(2/208)
عليه السلام لزينب بنت علي رحمها الله تعالى، وكانت أسنّ من حمل إليه منهن، وقد كلمته فأفصحت وأبلغت وأخذت من الحجة حاجتها، فقال لها:
ان تكوني بلغت من الحجة حاجتك، فقد كان أبوك خطيبا شاعرا. قالت: ما للنساء والشعر. وكان مع هذا ألكن يرتضخ لغة فارسية، وقال لرجل مرة واتهمه برأي الخوارج أهروري منذ اليوم. رجع الحديث. فقالت للكاتب:
صحّفت (1) والله ولؤمت (2) إنما هو في سرب العلاء بن سويّة، ولوددت (3) أنه كان ممن يشرب النبيذ. فلما أقيم عروة بن أديّة بين يديه حاوره، وقد اختلف الناس في خبره، وأصحه عندنا أنه قال له: جهّزت أخاك عليّ؟ فقال: والله لقد كنت به ضنينا، وكان لي عزّا، ولقد أردت له ما أريده لنفسي، فعزم عزما، فمضى عليه وما أحبّ لنفسي إلا المقام وترك الخروج. قال له: أفأنت على رأيه؟ قال: كلّنا نعبد ربّا واحدا، قال: أما لأمثّلنّ بك، قال: اختر لنفسك من القصاص ما شئت. فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال: كيف ترى؟ قال: أفسدت عليّ دنياي وأفسدت عليك اخرتك. ثم أمر به فقتل ثم صلب على باب داره، ثم دعا مولاه فسأله عنه فأجابه جوابا مضى ذكره. قوله:
فتهانف حقيقته، تضاحك به ضحك هزء، وقال ابن أبي ربيعة المخزومي:
ولقد قالت لجارات لها ... وتعرّت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركنّ (4) الله أم لا يقتصد
فتهانفن وقد قلن لها ... حسن في كلّ عين من تودّ
حسد حمّلنه من أجلها ... وقديما كان في الناس الحسد
وكان عبيد الله لا يلبّث الخوارج (5) يحبسهم تارة ويقتلهم تارة، وأكثر ذلك
__________
(1) صحفت أي أخطأت في قراءة الكلمة.
(2) لؤمت: أي أردت بذلك سوأ.
(3) لوددت: يريد ليته لم يكن خارجيا وكان ممن يشرب الخمر.
(4) عمركن الله: أسأل الله أن يطيل عمركن والعمر بالفتح العمر بالضم ولا يقال في القسم إلا بالفتح.
(5) لا يلبث الخوارج: لا يدعهم يلبثون يوما من غير أن ينكل بهم.(2/209)
يقتلهم ولا يتغافل عن أحد منهم. وسبب ذلك أنه كان أطلقهم من حبس زياد لما ولّي بعده، فخرجوا عليه.
سياسة زياد مع الخوارج
فأما زياد فكان يقتل المعلن ويستصلح المسرّ ولا يجرّد السيف حتى تزول التهمة. ووجّه يوما بحينة بن كبيش الأعرجيّ إلى رجل من بني سعد يرى رأي الخوارج، فجاءه بحينة فأخذه فقال: إني أريد أن أحدث وضوا للصلاة، فدعني أدخل إلى منزلي، قال: ومن لي بخروجك؟ قال: الله عز وجل:
[فتركه فدخل فأحدث وضوا] [1] ثم خرج فأتى به بحينة زيادا، فلما مثل بين يديه ذكر الله زياد ثم صلى على نبيه، ثم ذكر أبا بكر وعمر وعثمان بخير، ثم قال: قعدت عني فأنكرت ذلك، فذكر الرجل ربه فحمده ووحّده، ثم ذكر النبيّ عليه السلام ثم ذكر أبا بكر وعمر بخير، ولم يذكر عثمان، ثم أقبل على زياد فقال: إنك قد قلت قولا فصدّقه بفعلك. وكان من قولك ومن قعد عنا لم نهجه، فقعدت، فأمر له بصلة وكسوة وحملان (1). فخرج الرجل من عند زياد، وتلقّاه الناس يسألونه فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره ولكني دخلت على رجل لا يملك ضرّا ولا نفعا لنفسه ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فرزق الله منه ما ترون. وكان زياد يبعث إلى الجماعة منهم فيقول: ما أحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة (2)، فيقولون أجل، فيحملهم ويقول: أغشوني الان واسمروا عندي، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال: قاتل الله زيادا، جمع لهم كما تجمع الذرّة، وحاطهم كما تحوط الأمّ البرّة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام في شأمهم، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف. قال أبو العباس: وبلغ زيادا عن رجل يكنى أبا الخير من أهل البأس والنجدة أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فوّلاه جندي سابور (3) وما يليها [(1) سورة الشعراء: الاية 171.]
__________
(1) حملان: جمع حمل بالتحريك وهو الجذع من أولاد الضأن.
(2) الرجلة: السير على الأرجل لتعذر حمولة الدابة.
(3) جندي سابور: مدينة في بلاد فارس.(2/210)
ورزقه أربعة الاف درهم في كل شهر وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئا خيرا من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة فلم يزل واليا حتى أنكر منه زياد شيئا فتنمّر لزياد فحبسه. فلم يخرج من حبسه حتى مات. وقال الرهين وكان رجلا من مراد وكان لا يرى القعود عن الحرب، وكان في الدهاء والمعرفة والشعر والفقه يقول الخوارج بمنزلة عمران بن حطّان، وكان عمران بن حطان في وقته شاعر قعد الصفريّة ورئيسهم ومفتيهم. وللرهين المراديّ ولعمران بن حطان مسائل كثيرة من أبواب العلم في القران والاثار، وفي السير والسنن، وفي الغريب والشعر نذكر منها طريفها إن شاء الله، قال المرادي:
يا نفس قد طال في الدنيا مراوغتي ... لا تأمننّ لصرف الدهر تنغيصا
إني لبائع (1) ما يفنى لباقية ... إن لم يعقني رجاء العيش تربيها
وأسأل الله بيع النفس محتسبا ... حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا
(قال الأخفش حرقوص ذو الثديّة):
وأسال الله بيع النفس محنيا ... حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا
وابن المنيح ومرداسا وإخوته ... إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا (2)
قال أبو العباس: وهذه كلمة له، وله أشعار كثيرة في مذاهبهم. وكان زياد ولّى شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان وما يليه. فجدّ في طلب الخوارج، وأخافهم وكانوا كثروا، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة وهو متكىء بباب داره رجلان من الخوارج فضرباه بأسيافهما فقتلاه.
وخرج بنون له للإغاثة، فقتلوا ثم قتلهما الناس. فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج فقال: اقتلوه متّكئا كما قتل شيبان متكئا فصاح الخارجي! يا عدلاه، يهزأ به. فأما قول جرير:
__________
(1) أنى لبائع ما يغني لباقيه: يذكر أنه اشترى الآخرة بالدنيا.
(2) مخاميصا: أي ضامري البطون كناية عن الزهد في الدنيا وقلة ما يملكون منها رغبة عنها.(2/211)
ومنا فتى الفتيان والباس معقل ... ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
فإنه أراد معقل بن قيس الرياحي، ورياح ابن يربوع وجرير من كليب بن يربوع. وقوله: ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا، يريد المستورد التيمي وهو من تييم بن عبد مناة بن أدّ وتميم ابن مرّ بن أد. وأما قول ابن الرقيّات:
والذي نغّص ابن دومة ما تو ... حي الشياطين والسيوف ظماء
فأباح العراق يضربهم بالسّي ... ف صلتا وفي الضراب غلاء
فإنما يريد بابن دومة المختار بن أبي عبيد الثقفيّ، والذي نغّصه مصعب بن الزبير. وكان المختار لا يوقف له على مذهب: كان خارجيا ثم صار زبيريا ثم صار رافضيا في ظاهره. وقوله: ما توحي الشياطين، فإن المختار كان يدّعي أنه يلهم ضربا من السجاعة (1) لأمور تكون ثم يحتال فيوقعها فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل، فمن ذلك قوله ذات يوم لتنزلنّ من السماء نار دهماء فلتحرقنّ دار أسماء فذكر ذلك لأسماء بن خارجة فقال: أقد سجع بي أبو أسحاق! هو والله محرق داري. فتركه والدار وهرب من الكوفة.
وقال في بعض سجعه: أما والذي شرع الأديان وجنّب الأوثان وكرّه العصيان، لأقتلن أزد عمان وجلّ قيس عيلان وتميما أولياء الشيطان، حاشا النّجيبب ظبيان، فكان ظبيان النجيب يقول: لم أزل في عمر المختار أتقلب امنا.
المختار بن أبي عبيد الثقفي ودعوته
ويروى أن المختار ابن أبي عبيد حيث كان واليا لابن الزبير على الكوفة، اتهمه ابن الزبير فولّى أبي عبيد حيث كان واليا لابن الزبير على الكوفة، اتهمه ابن الزبير فولّى رجلا من قريش الكوفة. فلما أطلّ، قال لجماعة من أهلها:
اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد! والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنّك المختار. فرجع، وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن
__________
(1) السجاعة من السجع وهو كلام على روي واحد.(2/212)
صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع فما أدري ما الذي ردّه، فغضب ابن الزبير على القرشي وعجّزه ورده إلى الكوفة، فلما شارفها قال المختار: أخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: إنه والله قاتلك، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير بمثل كتابه الأول، فلام القرشيّ، فلما كان في الثالثة فطن بن الزبير. وعلم بذلك المختار، وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية مع خمسة عشر رجلا من بني هاشم فقال: لتبايعنّ أو لأحرقنكم. فأبوا بيعته وكان السجن الذي حبسهم فيه يدعى سجن عارم. ففي ذلك يقول كثيّر.
تخبّر (1) من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
ومن يلق هذا الشيخ بالخيف (2) من منى ... من الناس يعلم أنه غير ظالم
سميّ النبيّ المصطفى وابن عمه ... وفكّاك أغلال وقاضي مغارم
وكان عبد الله بن الزبير يدعى العائذ لأنه عاذ بالبيت. ففي ذلك يقول ابن الرقيّات يذكر مصعبا:
بلد تأمن الحمامة فيه ... حيث عاذ الخليفة المظلوم
وكان عبد الله يدعى المحلّ لاحلاله القتال في الحرم. وفي ذلك يقول رجل في رملة بنت الزبير:
ألا من لقلب معنّى غزل ... بذكر المحلّة أخت المحل
وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض (3) أهله. وكان يحسده على أيده. (4) ويقال أن عليا استطال درعا فقال: لينقص منها كذا وكذا
__________
(1) تخبر من لاقيت: يخاطب عبد الله بن الزبير يقول تسمي نفسك بالعائذ ولست به إنما العائذ محمد بن الحنفية الذي سجنته وأرهقته.
(2) الخيف: غرة بيضاء في جبل أسود.
(3) إلى بغض أهله: أي مضموما بغضه إلى بغض أهله.
(4) أيده: قوته.(2/213)
حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها وبالاخرى على فضلها ثم جذبها فقطعها من الموضع الذي حدّه أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدّث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل (1). فلما رأى المختار بن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن أسماء ثم ملأ الكتاب بسبّه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدسّ إلى الشيعة ويعلمهم موالاته إياهم، ويخبرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجّه جماعة تسير الليل وتكمن النهار حتى كسروا سجن عارم، واستخرجوا منه بني هاشم ثم ساروا بهم إلى مأمنهم. وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن عليّ بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه، فعلم محمد أن المختار لا عقد له.
فكتب محمد إلى إبراهيم بن الاشتر أنه ما يسوءني أن يأخذ الله بحقنا على يدي من يشاء من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الاشتر فتوجه نحو عبيد الله بن زياد وخرج يشيعه ماشيا، فقال له إبراهيم: إركب يا أبا إسحاق. فقال: إني أحب أن تغبرّ قدماي في نصرة ال محمد صلى الله عليه وسلم ع فشيعة فرسخين ودفع إلى قوم من خاصته حماما بيضا ضخاما وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها. وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله وإن حصتم (2) حيصة فإني أجد في محكم الكتاب وفي اليقين والصواب إن الله مؤيدكم بملائكة غضاب تأتي في صور الحمام دون السحاب. فلما صار ابن الاشتر بخازروبها عبيد الله بن زياد، قال: من صاحب الجيش؟ قيل له: ابن الأشتر. قال:
أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة؟ قالوا: بلى. قال: ليس بشيء.
وعلى ميمنة ابن زياد حصين بن نمير السّكونيّ من كندة. ويقال السكونيّ
__________
(1) الأفكل: الرعدة.
(2) حصتم حيصة: جلتم جولة تطلبون الفرار والهرب.(2/214)
والسكونيّ والسدوسيّ والسدوسيّ، كذا كان أبو عبيدة يقول: (قال أبو الحسن السكونيّ أكثر) وعلى ميسرته عمير بن الحباب فارس الإسلام، فقال حصين بن نمير لابن زياد: أن عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج وأني لا أثق لك به، قال ابن زياد: أنت لي عدوّ. قال حصين: ستعلم. قال ابن الحباب:
فلما كان في الليلة التي نريد أن نواقع ابن الاشتر في صبيحتها خرجت إليه وكان لي صديقا ومعي رجل من قومي، فصرت إلى عسكره فرأيته وعليه قميص هروي وملاءة وهو متّشح السيف (1) يجوس (2) عسكره فيأمر فيه وينهى فالتزمته من روائه فو الله ما التفت أليّ ولكن قال: من هذا فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحبا بأبي المغلّس كن بهذا الموضع حتى أعود إليك.
فقلت لصاحبي أرأيت أشجع من هذا قطّ، يحتضنه رجل من عسكر عدوه ولا يدري من هو فلا يلتفت إليه! ثم عاد إليّ وهو في أربعة الاف فقال: ما الخبر؟
فقلت: القوم كثير والرأي أن تناجزهم (3) فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السيوف، وأطراف القنا. فقلت: أنا منخزل عنك بثلث الناس غدا. فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم في أول النهار فأرسل أصحاب المختار الطير فتصايح الناس الملائكة، فتراجعوا ونكّس عمير بن الحباب رأيته ونادى يا لثأرات! المرج وانخزل بالمسيرة كلها وفيها قيس فلم يعصوه. واقتتل الناس حتى اختلط الظلام وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد، ثم انكشفوا ووضع السيف فيهم حتى أفنوا. فقال ابن الاشتر لقد ضربت رجلا على شاطىء هذا النهر فرجع إليّ سيفي ومنه رائحة المسك ورأيت إقداما وجرأة فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق ورجلاه قبل المغرب. فأنظروه فأتوه بالنيران. فإذا هو عبيد الله بن زياد، وقد كان عند المختار كرسيّ قديم العهد
__________
(1) متشح السيف أي جعله عليه كالوشاح.
(2) يجوس عسكره: يتنقل بين صفوفه ذهابا ومجيئا.
(3) تناجزهم: أي تقاتلهم.(2/215)
فغشاه بالديباج وقال: هذا الكرسيّ من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضعوه في براكاء (1) الحرب وقاتلوا عليه، فإن محله فيكم محلّ السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى الكرسي بدرهمين من نجار. وقوله في براكاء القتال يقال: بركاء وبروكاء وهو موضع اصطدام القوم. قال الشاعر:
وليس بمنقذ لك منه إلا ... بركاء القتال أو الفرار
__________
(1) البراكاء: أن يحثوا المقاتلة على الركب فيقتلوا وأراد الموضع الذي يكون فيه هذا الفعل.(2/216)
إستعمال اللام في الاستغاثة والاضافة
50 (هذا باب اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة)
إذا استغثت بواحد أو بجماعة فاللام مفتوحة تقول: يا للرّجال ويا للقوم ويا لزيد إذا كنت تدعوهم، وإنما فتحتها لتفصل بين المدعوّ والمدعو له.
ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة، إنما كان الفتح فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد. تقول: إنّ هذا الزيد إذا أردت أنّ هذا زيد. وتقول: إن هذا لزيد إذا أردت أنه في ملكه، ولو فتحت لالتبستا. فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها فقلت: إن هذا لك وإن هذا لأنت إذا أردت لام التوكيد لأنه ليس ههنا لبس، وذاك أن الاسماء المضمرة على غير لفظ المظهرة فلهذا أجريتها على الأصل والإستغاثة تردّها إلى أصلها من أجل اللبس. والمدعوّ له في بابه، فاللام معه مكسورة تقول: يا للرّجال للماء، ويا للرّجال للعجب، ويا لزيد للخطب الجليل. قال الشاعر:
يا للرجال ليوم الاربعاء أما ... ينفك يبعث لي بعد النهى طربا
وقال اخر:
تكنّفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع
وفي الحديث: لما طعن العلج أو العبد عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، صاح: يا لله يا للمسلمين، وتقول يا للعجب، إذا كنت تدعو إليه ويا لغير العجب كأنك قلت: يا للنّاس للعجب. وينشد هذا البيت:
يا لعنة الله والأقوام كلّهم ... والصالحين على سمعان من جار
فيا لغير اللعنة (1) كأنه قال: يا قوم لعنة الله والأقوام كلّهم. وزعم سيبويه أن هذه اللام التي للإستغاثة دليل بمنزلة الألف التي تبيّن بالهاء في الوقف. إذا أردت أن تسمع بعيدا، فإنما هي للإستغاثة بمنزلة هذه اللام وذلك قولك يا قوماه على غير الندبة، ولكن للإستغاثة ومدّ الصوت. والقول كما قال: محلّهما عند العرب محلّ واحد، فإن وصلت حذفت الهاء لأنها زيدت في الوقف لخفاء الألف، كما تراد لبيان الحركة. فإذا وصلت أغنى ما بعدها عنها، تقول: يا قوما تعالوا ويا زيد ألا تفعل. ولا يجوز أن تقول: يا لزيد وهو مقبل عليك.(2/217)
يا لعنة الله والأقوام كلّهم ... والصالحين على سمعان من جار
فيا لغير اللعنة (1) كأنه قال: يا قوم لعنة الله والأقوام كلّهم. وزعم سيبويه أن هذه اللام التي للإستغاثة دليل بمنزلة الألف التي تبيّن بالهاء في الوقف. إذا أردت أن تسمع بعيدا، فإنما هي للإستغاثة بمنزلة هذه اللام وذلك قولك يا قوماه على غير الندبة، ولكن للإستغاثة ومدّ الصوت. والقول كما قال: محلّهما عند العرب محلّ واحد، فإن وصلت حذفت الهاء لأنها زيدت في الوقف لخفاء الألف، كما تراد لبيان الحركة. فإذا وصلت أغنى ما بعدها عنها، تقول: يا قوما تعالوا ويا زيد ألا تفعل. ولا يجوز أن تقول: يا لزيد وهو مقبل عليك.
وكذلك لا يجوز أن تقول: يا زيداه وهو معك، إنما يقال ذلك للبعيد أو ينبّه به النائم. فأن قلت: يا لزيد ولعمرو، كسرت اللام في عمرو وهو مدعوّ لأنك إنما فتحت اللام في زيد لتفصل بين المدعوّ والمدعوّ إليه. فلما عطفت عليه شيئا صار في مثل حاله، ونظير ذلك الحكاية. يقول الرجل: رأيت زيدا فتقول: من زيدا؟ وإنما حكيت قوله ليعلم أنك إنما تستفهمه عن الذي ذكر بعينه ولا تسأله عن زيد غيره. والموضع موضع رفع لأنه ابتداء وخبر، فإن قلت ومن زيد؟ أو فمن زيد؟ لم يكن إلا رفعا، لأنك عطفت على كلامه فاستغنيت عن الحكاية لأن العطف لا يكون مستأنفا. ونظير هذا الذي ذكرت لك في اللام قول الشاعر:
يبكيك ناء بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشّبّان للعجب
عودة إلى الخوارج
فقد أحكمت لك كلّ ما في هذا الباب. ثم نعود إلى ذكر الخوارج، قال: وذكر لعبيد الله بن زياد رجل من بني سدوس يقال له خالد بن عبّاد أو ابن عبادة، وكان من نسّاكهم، فوجّه إليه فأخذه. فأتاه رجل من ال ثور فكذب عنه وقال: هو صهري وهو في ضمني فخلّى عنه. فلم يزل الرجل يتفقّده حتى
__________
(1) فيا لغير اللعنة: يريد أن حرف النداء ليس داخلا على ما بعده وإنما هو المحذوف.(2/218)
تغيّب فأتى ابن زياد فأخبره فبعث إلى خالد ابن عباد فأخذ فقال عبيد الله بن زياد: أين كنت في غيبتك هذه؟ قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويذكرون أئمة الجور فيتبرؤون منهم. قال: دلني إذن يسعدوا وتشقى ولم أكن لأروّعهم.
قال: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: خيرا قال فما تقول في أمير المؤمنين عثمان؟ أتولاه وأمير المؤمنين معاوية؟ قال: إن كانا وليين لله فلست أعاديهما.
فأراغه (1) مرات فلم يرجع فعزم على قتله، فأمر بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الزينبيّ فجعل الشّرط يتفادون من قتله ويروغون عنه توقّيا لأنه كان شاسفا (2) عليه أثر العبادة حتى أتى المثلّم بن مسروح الباهليّ، وكان من الشرط فتقدم فقتله. فائتمر به الخوارج ليقتلوه، وكان مغرما باللقاح (3) يتتبعها فيشتريها من مظانّها وهم في تفقّده، فدسّوا إليه رجلا في هيئة الفتيان، عليه ردع زعفران فلقيه بالمربد وهو يسأل عن لقحة صفيّ (4)، فقال له الفتى: إن كنت تبلغ فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي. فمضى المثلم على فرسه والفتى أمامه، حتى أتى به بني سعد فدخل دارا، وقال له: ادخل على فرسك. فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب وثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل وكهمس بن طلق الصريميّ فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه ودفناه في ناحية الدار، وحكّا اثار الدم وخلّيا فرسه في الليل، فأصيب من الغد في المربد. وتحسّس (5) عنه الباهليون فلم يروا له أثرا فاتهموا به بني سدوس، فاستعدوا عليهم السلطان وجعل السدوسيّون يحلفون. فتحامل ابن زياد مع الباهليين فأخذ من السدوسيين أربع ديات وقال: ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج كلما أمرت بقتل رجل منهم اغتالوا قاتله، فلم يعلم بمكانه حتى خرج مرداس، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابيّ، صاح بهم حريث بن حجل:
__________
(1) فاراغه أي راوده وأراد منه أن يرجع عن ذلك.
(2) الشاسف: اليابس ضمرا وهزالا.
(3) اللقاح بالكسر الإبل ذوات الألبان.
(4) الصفي كغني: الناقة الغزيرة اللبن والجمع الصفايا.
(5) تحسس: أي فتشوا عليه وبحثوا عنه.(2/219)
أههنا من باهلة أحد؟ قالوا: نعم. قال: يا أعداء الله أخذتم بالمثلم أربع ديات وأنا قاتله، وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون. فلما انهزموا صاروا إلى الدار، فأصابوا أشلاءه والدراهم، ففي ذلك يقول أبو الأسود الدؤليّ:
اليت لا أغدو إلى ربّ لقحة ... أساومه حتى يعود المثلّم
فرق الخوارج
ثم خرجت خوارج لا ذكر لهم كلهم قتل، حتى انتهى الأمر إلى الأزارقة.
ومن ههنا افترقت الخوارج فصارت على أربعة أضرب: الإباضيّة وهم أصحاب عبد الله بن أباض، والصّفريّة واختلفوا في تسميتهم، فقال قوم سمّوا بابن صفّار وقال اخرون، وأكثر المتكلمين عليه: هم قوم نهكتهم العبادة فاصفرّت وجوههم، ومنهم البيهسيّة، وهم أصحاب أبي بيهس، ومنهم الأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكانوا قبل علي رأي واحد لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ من الفروع. كما قال صخر بن عروة: إني كرهت قتال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لسابقته وقرابته. فأما الان فلا يسعني إلا الخروج، وكان اعتزل عبد الله بن وهب يوم النهر فضلّلته الخوارج بامتناعه من قتال عليّ فكان أول أمرهم الذي نستاقه أن جماعة من الخوارج منهم نجدة بن عامر الحنفي، عزموا على أن يقصدوا مكة لما توجه مسلم بن عقبة يريد المدينة لوقعة الحرّة فقالوا: هذا ينصرف عن المدينة إلى مكة ويجب علينا أن نمنع حرم الله منه، ونمتحن ابن الزبير فإن كان على رأينا بايعناه، فمضوا لذلك. فكان أول أمرهم أن أبا الوازع الراسبيّ، وكان من مجتهدي الخوارج، كان يذمر نفسه (1) ويلومها على القعود، وكان شاعرا وكان يفعل ذلك بأصحابه (2). فأتى نافع بن الأزرق، وهو في جماعة من أصحابه
__________
(1) يذمر نفسه: أي يعاتب نفسه على فوت الذمار وهو الحرب لأن الانسان يقاتل عما يلزمه حفظه والوفاء به.
(2) وكان يفعل ذلك بأصحابه أي يعانيهم يلومهم على ترك الحرب.(2/220)
يصف لهم جور السلطان، وكان ذا لسان (1) غضب واحتجاج وصبر على المنازعة. فأتاه أبو الوازع فقال: يا نافع لقد أعطيت لسانا صارما وقلبا كليلا، فلوددت أن صرامة لسانك كان لقلبك وكلال قلبك كان للسانك أتحضّ على الحق وتقعد عنه، وتقبّح الباطل، وتقيم عليه؟ فقال: إلى أن تجمع من أصحابك من تنكى به عدوّك. فقال أبو الوازع:
لسانك لا تنكى (2) به القوم إنما ... تنال بكفّيك النجاة من الكرب
فجاهد أناسا حاربو الله واصطبر ... عسى الله أن يخزي غويّ بني حرب
ثم قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدونّ غدوة لا انثني بعدها أبدا. ثم مضى فاشترى سيفا وأتى صيقلا كان يذمّ الخوارج، ويدلّ على عوراتهم فشاوره في السيف فحمده فقال: اشحذه، فشحذه حتى إذا رضيه حكّم. وخبط به الصيقل وحمل على الناس، فتهاربوا منه حتى أتى مقبرة بني يشكر فدفع عليه رجال حائط السترة فكرهت ذلك بنو يشكر خوفا أن تجعل الخوارج قبره مهاجرا. فلما رأى ذلك نافع وأصحابه جدّوا، وخرج في ذلك جماعة فكان ممن خرج عيسى بن فاتك الشاعر الخطّيّ من تيم اللات بن ثعلبة، ومقتله بعد خروج الأزارقة.
خروج الأزارقة إلى ابن الزبير
فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى الزبير عرّفوه أنفسهم فأظهر لهم أنه على رأيهم حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشام فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية ولم يبايعوا ابن الزبير. ثم تناظروا في ما بينهم فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فننظر ما عنده فإن قدّم أبا بكر وعمر وبرىء من عثمان وعليّ وكفّر أباه وطلحة بايعناه، وإن تكن الاخرى ظهر لنا ما عنده فتشاغلنا بما يجدي
__________
(1) لسان غضب أي حاد نافذ.
(2) لا تنكىء: تثخن أعداءك بالجراح.(2/221)
علينا. فدخلوا على ابن الزبير وهو متبذّل (1) وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنّا جئناك لتخبرنا رأيك فإن كنت على الصواب بايعناك، وإن كنت على غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين؟ قال: خيرا قالوا فما تقول في عثمان الذي أحمى الحمى (2) واوى الطريد (3) وأظهر لأهل مصر شيئا، وكتب بخلافه، وأوطأ ال أبي معيط رقاب الناس واثرهم بفيء المسلمين. وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم، وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا عليا، وهو إمام عادل مرضيّ لم يظهر منه كفر ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهنّ وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة؟ فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا ونسأل الله لك التوفيق، وإن أبيت إلا نصر رأيك الأول وتصويب أبيك وصاحبه والتحقيق بعثمان والتولّي في السنين الستّ التي أحلّت دمه ونقضت وأفسدت امامته، خذلك الله وانتصر منك بأيدينا. فقال ابن الزبير: إن الله أمر وله العزة والقدرة في مخاطبة أكفر الكافرين، وأعتى العتاة بأرأف من هذا القول؟ فقال لموسى ولأخيه صلى الله عليه عليهما في فرعون: فقولا له قولا ليّنا لعله يتذكّرو أو يخشى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تؤذوا الأحياء بسبّ الموتى، فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه. وأبو جهل عدوّ الله وعدوّ الرسول، والمقيم على الشرك والجادّ في المحاربة والمتبغّض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة والمحارب له بعدها وكفى بالشرك ذنبا، وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي أن تقولوا أتبرأ من الظالمين فإن كانا منهم دخلا في
__________
(1) وهو متبذل: التبذل ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الجميلة على جهة التواضع.
(2) أحمى الحمى: يقال أحميت المكان إذا جعلته حمى لا يقرب ولا ينتفع به أحد سواك.
(3) اوى الطريد، المراد به الحكم بن أبي العاص طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف في حديث طويل تقدم بعضه، فرده عثمان رضي الله عنه أيام خلافته واواه وأظهر لأهل مصر شيئا.(2/222)
غمار الناس (1)، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني بسبّ أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: {وَإِنْ جََاهَدََاكَ عَلى ََ أَنْ تُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلََا تُطِعْهُمََا وَصََاحِبْهُمََا فِي الدُّنْيََا مَعْرُوفاً} (2). وقال جل ثناؤه: {وَقُولُوا لِلنََّاسِ حُسْناً}، وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده (3).
وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري أن ذلك لأحرى بقطع الحجج وأوضح لمنهاج الحق وأولى بأن يعرف كلّ صاحبه من عدوّه. فروحوا إليّ من عشيّتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله. فلما كان العشيّ راحوا إليه فخرج إليهم وقد لبس سلاحه. فلما رأى ذلك نجده قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر، أبا بكر وعمر أحسن ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهنّ بالسنين التي أنكروا سيرته فيها فجعلها كالماضية وخبّر أنه يرى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه (4) من أمور، وكان له أن يفعلها أوّلا مصيبا ثم أعتبهم بعد محسنا. وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه، بعد أن ضمن لهم العتبي. (5) ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمين ممن ليس له مثل سابقته مع ما اجتمع له من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه. وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو خلف عليها لحلف على حق فافتداها بمائة ألف، ولم يحلف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا وليّ وليّه وعدوّ عدوّه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) دخلا في غمار الناس: أي في جمعهم المتكاثف.
(2) سورة لقمان: الاية رقم 15.
(3) سورة البقرة: الاية رقم 83.
(4) استعتبوه: طلبوا منه الرجوع عما فعل.
(5) العتبى: أي عاد إلى ما سألوه طالبا رضاهم.(2/223)
ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لمّا قطعت إصبع طلحة: سبقته إلى الجنة، وقال: أوجب طلحة. وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله أوجلّه لطلحة، والزبير حواريّ رسول الله وصفوته. وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: {لَقَدْ رَضِيَ اللََّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبََايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (1). وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم. فإن يكن ما سعوا فيه حقا فأهل ذلك هم وأن يكن زلّة ففي عفو الله تمحيصها، وفي ما وفقهم له من السابقة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم. ومهما ذكرتموهما به فقد بدأ ثم بأمكم عائشة رضي الله عنها فإن أبى اب أن تكون له أمّا نبذ اسم الإيمان عنه. قال الله جل ذكره وقوله الحقّ: {النَّبِيُّ أَوْلى ََ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوََاجُهُ أُمَّهََاتُهُمْ} (2). فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه. وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشام، بعد أن كان حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير أنه اتاهم موت يزيد بن معاوية قتوادع الناس، وكان أهل الشام ضجروا من المقام على ابن الزبير وحنقت الخوارج في قتالهم. ففي ذلك يقول رجل من قضاعة:
يا صاحبيّ ارتحلا ثم أملسا (3) ... لا تحبسا لدى الحضين محبسا
إنّ لدى الأركان ناسا بؤسّا
(قال الأخفش حفظي بأسا أبؤسا):
وبارقات يختلسن الأنفسا ... إذا الفتى حكّم يوما كلّسا
قوله: ثم أملسا يريد تخلّصا تخلصا سهلا، وكلّس أي حمل وجدّ. ولما سمّح ابن الزبير للخوارج في القول وأظهر أنه منهم قال رجل يقال له قيس بن همّام من رهط الفرزدق:
يا ابن الزبير أتهوى عصبة قتلوا ... ظلما أباك ولما تنزع الشكك
__________
(1) سورة الفتح الاية.
(2) سورة الأحزاب: الاية 6.
(3) أملسا: أي سوقا سوقا شديدا.(2/224)
ضحّوا بعثمان يوم النحر ضاحية ... ما أعظم الحرمة العظمى التي انتهكوا
فقال ابن الزبير: ولو شايعتني الترك والديلم على قتال أهل الشام لشايعتها. الشكك جمع شكّة وهي السلاح. قال الشاعر:
ومدجّجا (1) يسعى بشكّته ... محمرّة عيناه كالكلب
ما حدث مع الأزارقة في البصرة
فتفرقت الخوارج عن ابن الزبير لما تولى عثمان، فصارت طائفة إلى البصرة وطائفة إلى اليمامة. وكان رجاء النميريّ، وهو الذي كان جمعهم للمدافعة عن الحرم. فكان فيمن صار إلى البصرة نافع ابن الأزرق الحنفي، وبنو الماحوز السليطيّون ورئيسهم حسان بن يخرج فلما صاروا إلى البصرة نظروا في أمورهم، فأمرّوا عليهم نافعا. ويروى أن أبا الجلد اليشكريّ قال لنافع يوما: يا نافع إن لجهنم سبعة أبواب، وأن أشدها حرا الباب الذي أعدّ للخوارج فإن قدرت ألاتكون منهم فافعل. فأجمع القوم على الخروج فمضى بهم نافع إلى الأهواز في سنة أربع وستين فأقواموا بها لا يهيجون أحدا ويناظرهم الناس. وكان سبب خروجهم إلى الأهواز أنه لما مات يزيد بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، وكان في السجن يومئذ أربعمائة رجل من الخوارج.
وضعف أمر ابن زياد فكلّم فأطلقهم فأفسدوا البيعة عليه، وفشوا في الناس يدعون إلى محاربة السلطان ويظهرون ما هم عليه، حتى اضطرب على عبيد الله أمره فتحول عن دار الامارة إلى الأزد، ونشأت الحرب بسببه بين الأزد وربيعة وبين بني تميم. فاعتزلهم الخوارج إلّا نفرا منهم من بني تميم معهم عبس بن طلق الصريميّ أخو كهمس فإنهم أعانوا قومهم.
فكان عبس الطعان في سعد والرباب في القلب بحذاء الأزد، وكان حارثة بن بدر اليربوعي في حنظلة بحذاء بكر بن وائل. وفي ذلك يقول حارثة بن زيد
__________
(1) مدججا: بكسر الجيم وفتحها الذي عليه سلاح تام سمي به لأنه يدل أي يمشي رويدا لثقله ولأنه يتغطى به.(2/225)
للأحنف وهو صخر بن قيس:
سيكفك عبس أخو كهمس ... مواقفة الأزد بالمربد (1)
وتكفيك عمرو على رسلها ... لكيز (2) بن أمض وما عدّوا
لكيز هو عبد القيس:
وتكفيك بكرا إذا أقبلت ... بضرب يشيب له الأمرد
فلما قتل مسعود بن عمرو المعنيّ وتكافّ الناس، أقام نافع بن الأزرق بموضعه بالأهواز ولم يعد إلى البصرة. وطردوا عمّال السلطان عنها وجبوا الفيء ولم يزالوا على رأي واحد يتولّون أهل النهر ومرداسا ومن خرج معه حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع فقال له: أن أطفال المشركين في النار، وإن من خالفنا مشرك فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال. قال له نافع: كفرت وأدللت بنفسك، قال له: إن لم اتك بهذا من كتاب الله فاقتلني. قال نوح {رَبِّ لََا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكََافِرِينَ دَيََّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبََادَكَ وَلََا يَلِدُوا إِلََّا فََاجِراً كَفََّاراً} (3) فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم فشهد نافع أنهم جميعا في النار، ورأى قتلهم وقال الدار دار كفر إلا من أظهر إيمانه ولا يحل أكل ذبائحهم ولا تناكحهم ولا توارثهم ومتى جاء منهم جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفّار العرب لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف والقعد بمنزلتهم والتقيّة لا تحل. فإن الله تعالى يقول: {إِذََا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النََّاسَ كَخَشْيَةِ اللََّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} (4) وقال عز وجل فيمن كان على خلافهم: {يُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا يَخََافُونَ لَوْمَةَ لََائِمٍ} (5) فنفر جماعة من الخوارج عنه منهم نجده بن عامر، واحتج عليه بقول الله عز وجل: {إِلََّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقََاةً} (6)، وبقوله
__________
(1) المربد: موضع بالبصرة.
(2) لكيز كزبير: أخوشن ابنا أفصى بن عبد القيس وأمهما ليلى بنت قران وكلاهما أبو قبيلة.
(3) سورة نوح: الاية 27.
(4) سورة النساء: الاية 77.
(5) سورة المائدة: الاية 54.
(6) سورة ال عمران: الاية 28.(2/226)
عز وجل: {وَقََالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمََانَهُ} (1)، فالقعد منا والجهاد إذا أمكن أفضل لقوله جل وعز: {وَفَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ عَلَى الْقََاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (2). ثم مضى نجده بأصحابه إلى اليمامة وتفرقوا في البلدان. فلما تتابع نافع في رأيه وخالف أصحابه، وكان أبو طالوت سالم بن مطر بالخضارم في جماعة قد بايعوه، فلما انخذل نجدة خلعوا أبا طالوت وصاروا إلى نجدة فبايعوه. ولقي نجدة وأصحابه قوما من الخوارج بالعرمة.
والعرمة كالسكر وجمعها عرم وفي القران المجيد: {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [3] (4) وقال النابغة الجعديّ:
من سبأ الحاضرين مأرب (5) إذا ... يبنون من دون سيله العرما
فقال لهم أصحاب نجدة: إن نافعا قد كفّر القعد، ورأى الاستعراض وقتل الأطفال. فانصرفوا مع نجدة، فلما صار باليمامة كتب إلى نافع: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البرّ، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك، أما تذكر قولك: لولا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته، ما توليت أمر رجلين من المسلمين. فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه وأصبت من الحق فصّه (6)، وركبت مرّه تجرّأ ذلك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك وأغواك فغويت. فأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم. فقال جل ثناؤه، وقوله الحقّ ووعده الصدق:
__________
(1) سورة غافر: الاية 28.
(2) سورة النساء: الاية 95.
(3) سورة سبأ: الاية 16.
(4) العرم: بكسر الراء. سد يعترض به الوادي والجمع عرم ككتف.
(5) مأرب: كمنزل موضع باليمن.
(6) وأصبت من الحق فصه أي مفصله.(2/227)
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفََاءِ وَلََا عَلَى الْمَرْضى ََ وَلََا عَلَى الَّذِينَ لََا يَجِدُونَ مََا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ، إِذََا نَصَحُوا لِلََّهِ وَرَسُولِهِ} (1) ثم سمّاهم في أحسن الاسماء فقال: {مََا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (2) ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال عز ذكره: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} (3). وقال في القعد خيرا وفضّل الله من جاهد عليهم ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملا منزلة من هو دونه، أو ما سمعت قوله عز وجل: {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (4)، فجعلهم الله من المؤمنين وفضّل عليهم المجاهدين بأعمالهم ورأيت ألا تؤدّي الامانه إلى من خالفك والله يأمر أن تؤدّي الأمانات إلى أهلها (5) فاتّق الله وانظر لنفسك، واتق يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، فإنه عز ذكره بالمرصاد وحكمه العدل وقوله الفصل، والسلام. فكتب إليه نافع: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكّرني وتنصح لي وتزجرني وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أؤثره من الصواب، وأنا أسأل الله جل وعز أن يجعلني من الذين يستعمون القول، فيتّبعون أحسنه. وعبت عليّ ما دنت به من إكفار القعد وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله. أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا، وهؤلاء قد فقهوا في الدين وقرأوا القران والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عز وجل فيمن كان مثلهم إذا قالوا:
{كُنََّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} (6) فقيل لهم: ألم تكن أرض الله واسعة
__________
(1) سورة التوبة: الاية 91.
(2) سورة التوبة: الاية 91.
(3) سورة الأنعام: الاية 164.
(4) سورة النساء: الاية 95.
(5) سورة النساء: الاية 58.
(6) سورة النساء: الاية 97.(2/228)
فتهاجروا فيها، وقال: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وقال:
{وَجََاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرََابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}، فخبّر بتعذيرهم وأنهم كذبوا الله ورسوله (1) وقال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ.} فانظر إلى أسمائهم وسماتهم (2) وأما أمر الأطفال فإن نبيّ الله نوحا عليه السلام كان أعلم بالله يا نجدة مني ومنك، قال: {رَبِّ لََا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكََافِرِينَ دَيََّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبََادَكَ وَلََا يَلِدُوا إِلََّا فََاجِراً كَفََّاراً} (3). فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون تقوله في قومنا والله يقول: {أَكُفََّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولََئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرََاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (4) وهؤلاء كمشركي العرب لا نقبل منهم جزية وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام. وأما استحلال أمانات من خالفنا فإن الله عز وجل أحلّ لنا أموالهم كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق (5)، وأموالهم فيء للمسلمين، فاتّق الله وراجع نفسك فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة ولن يسعك خذلاننا والقعود عنا وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا. والسلام على من أقر بالحق وعمل به. وكتب نافع إلى عبد الله بن الزبير يدعوه إلى أمره: أما بعد، فإني أحذّرك من الله يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه، فاتق الله ربك ولا تتولّ الظالمين. فإن الله يقول: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء
في قتل عثمان
وقد حضرت عثمان يوم قتل فلعمري لئن كان قتل مظلوما لقد كفر قاتلوه
__________
(1) سورة التوبة: الاية 90.
(2) سورة التوبة: الاية 90.
(3) سورة نوح: الاية 26.
(4) سورة القمر: الاية 43.
(5) الطلق بالكسر الحلال الخاص يقال أعطيته من طلق مالي أي من صفوه وطيبه.(2/229)
وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين وإنهم لمهتدون لقد كفر من يتولاه وينصره ويعضده. ولقد علمت أن أباك وطلحة وعليّا كانوا أشد الناس عليه، وكانوا في أمره من بين قاتل وخاذل، وأنت تتولى أباك وطلحة وعثمان. وكيف ولاية قاتل متعمّد ومقتول في دين واحد! ولقد ملك عليّ بعد فنفى الشبهات، وأقام الحدود وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقائقها في ما عليه وله.
فبايعه أبوك وطلحة ثم خلعاه ظالمين له وإنّ القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس: إن يكن عليّ في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمنا أما لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافرا كما زعمتم وفي الحكم جائرا لقد بؤتم بغضب من الله لفراركم من الزحف. ولقد كنت له عدوّا ولسيرته عائبا فكيف تولّيته بعد موته فاتّق الله فإنه يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (1) وكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكّمة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، والله إنكم لتعلمون إن الشريعة واحدة، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلا ونهارا، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: وقاتلوا المشركين كافّة، ولم يجعل لكم في التخلّف عذرا في حال من الحال، فقال: انفروا خفافا وثقالا. وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون! ومن كانت إقامته لعلّة. ثم فضّل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال: {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} (2) فلا تغتّروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا فإنها غرّارة مكّارة لنّتها نافذة ونعمتها بائدة حفّت بالشهوات اغترارا، وأظهرت حبرة (3) وأضمرت عبرة، فليس اكل منها أكلة تسرّه ولا شارب شربة تؤنقه (4) إلّا دنا بها درجة إلى أجل.، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما
__________
(1) سورة التوبة: الاية 23.
(2) سورة النساء: الاية 95.
(3) الحبرة: بالفتح الحسن وأثر النعمة.
(4) تؤنقه: أي تعجبه وتسره.(2/230)
جعلها الله دارا لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم دارا ولا حليم بها قرارا فاتقوا الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى والسلام على من اتبع الهدى. فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعيّ وعبد الله بن أباض المرّيّ من بني مرّة بن عبيد فأقبل أبو بيهس على ابن أباض فقال: إن نافعا غلا فكفر وإنك قصّرت فكفرت زعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما كفار النعم لتمسّكهم بالكتاب وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حلّ طلق وأنا أقول أعداءنا كأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم تحل لنا الإقامة فيهم كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة وأحكام المشركين تجري فيها وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام وأن حكمهم عند الله حكم المشركين.
فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل قول نافع في البراءة والاستعراض (1) واستحلال الأمانة، وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه، وقول عبد الله بن أباض وهو أقرب الأقاويل إلى السنّة من أقاويل الضلّال، والصفريّة والنجديّة في ذلك الوقت يقولون، بقول ابن أباض ما ذكرنا من مقالته، وأنا أقول إن عدونا كعدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني لا أحرّم مناكحتهم ومواريثهم لأن معهم التوحيد والاقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم وأراهم كفّارا للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد حتى صار عامتهم قعدا واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك، فقال قوم سمّوا صفريّة لأنهم أصحاب ابن صفّار وقال قوم: إنما سمّوا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثيّ. وكان يرى رأي الخوارج وصار مرجئا (2).
__________
(1) الاستعراض: أي قتل الناس من غير الاهتمام بأحد.
(2) صار مرجئا: أي أصبح من المرجئة وهي فرقة من فرق الاسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الايمان ذنب ولا معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة وسموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخرّه.(2/231)
فارقت نجدة والذين تزرقوا (1) ... وابن الزبير وشيعة الكذّاب
والصفر الاذان. الذين تخيّروا ... دينا بلا ثقة ولا بكتاب
خفّف الهمزة من الاذان ولولا ذلك لانكسر الشعر. وقال أبو بيهس: الدار دار كفر، والاستعراض فيها جائز وإن أصيب من الأطفال فلا حرج، إلى ههنا انتهت المقالة.
مقتل نافع بن الأزرق
وتفرقت الخوارج على الأضرب الأربعة التي ذكرنا وأقام نافع بالأهواز يعترض الناس ويقتل الأطفال فإذا أجيب إلى المقالة جبا الخراج وفشا عمّاله في السواد. فارتاع لذلك أهل البصرة فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس فشكوا ذلك إليه وقالوا: ليس بيننا وبين العدوّ إلا ليلتان وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف، إن فعلهم في مصركم إن ظفروا به كفعلهم في سوادكم فجدّوا في جهاد عدوّكم. فاجتمع إليه عشرة الاف، فأتى عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب وهوببه (2) فسأله أن يؤمّر عليهم فاختار لهم ابن عبيس بن كرير، وكان ديّنا شجاعا فأمّره عليهم وشيّعه. فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس، فقال: إني ما خرجت لامتياز ذهب ولا فضة. وإني لاحارب قوما إن ظفرت بهم، فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير ومضى الباقون معه. فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح، وعقرت الخيل وكثرت الجراح والقتل، وتضاربوا بالسيوف والعمد، فقتل في المعركة ابن عبيس ونافع بن الأزرق. وكان ابن عبيس تقدّم إلى أصحابه فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم الغدانيّ. فلما
__________
(1) تزرقوا: أي الذين كانوا على مذهب نافع بن الأزرق.
(2) هوببة بفتح الباء الأولى وتشديد الثانية وكانت أمه لقبته به في صغره كانت ترقصه وتقول لا نكحن ببه جاريه حذبه.(2/232)
أصيب ابن عبيس، أخذ الربيع الراية، وكان نافع قد استخلف عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطيّ، فكان الرئيسان من بني يربوع رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع، ورئيس الخوارج من بني سليط بن يربوع. فاقتتلوا قتالا شديدا وادّعى قتل نافع سلامة الباهليّ. وقال لما قتلته وكنت على برذون ورد إذا برجل على فرس، وأنا واقف في خمس قيس ينادي: يا صاحب الورد، هلمّ إلى المبارزة. فوقفت في خمس بني تميم، فإذا به يعرضها عليّ، وجعلت أتنقل من خمس إلى خمس، وليس يزايلني فصرت إلى رحلي (1)، ثم رجعت قراني، فدعاني إلى المبارزة فلما أكثر خرجت إليه، فاختلفنا ضربتين، فضربته فصرعته، فنزلت لسلبه وأخذ رأسه فإذا أمرأة قد رأتني حين قتلت نافعا فخرجت لتثأر به، فلم يزل الربيع الأجذم يقاتلهم نيّفا وعشرين يوما حتى قال يوما: أنا مقتول لا محالة، قالوا: وكيف؟ قال لأني رأيت البارحة كان يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني. فلما كان الغد قاتل إلى الليل، ثم غاداهم فقتل فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا الخطب إذا لم يكن لهم رئيس. ثم أجمعوا على الحجّاج بن باب الحميريّ فأباها فقيل له:
ألا ترى أن رؤساء العرب بالحضرة، وقد اختاروك من بينهم؟ فقال: مشؤومة، ما يأخذها أحد إلا قتل ثم أخذها فلم يزل يقاتل الخوارج بدولاب والخوارج أعدّ بالالات والدروع، والجواشن (2)، فالتقى الحجاج بن باب وعمران بن الحرث الراسبيّ وذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر، فاختلفا ضربتين فسقطا ميتين فقالت أم عمران ترثيه:
الله أيّد عمرانا وطهره ... وكان عمران يدعو الله في السحر
يدعوه سرّا وإعلانا ليرزقه ... شهادة بيدي ملحادة غدر
ولّى صحابته عن حرّ ملحمة (3) ... وشدّ عمران كالضرغامة الهصر
__________
(1) فصرت إلى رجلي أي منزلي يقال لمنزل الانسان ومسكته رجل والجمع رمال.
(2) الجواشن جمع جوشن وهو الدرع.
(3) الملحمة هي الحرب وموضع القتال والجمع الملاحم مأخوذ من التحام الناس واشتباكهم فيها.(2/233)
في شرح بعض ما أورد من الفاظ
قول الربيع: إستشلتني، أي أخذتني إليها واستنفذنني. يقال استشلاه واشتلاه. وفي الحديث أن السارق إذا قطع سبقته يده إلى النار، فإن تاب استشلاها، قال رؤبة:
(إنّ سليمان اشتلانا ابن علي). وقول الناس أشليت كلبي، أي أغريته بالصيد، خطأ، إنما يقال: اسدته، وأشليته دعوته. وقولها بيدي ملحادة، مفعال من الالحاد، كما تقول: رجل معطاء يا فتى ومحسان ومكرام، وأدخلت الهاء للمبالغة، كما تدخل في رواية وعلامة ونسّابة. وغدر فعل من الغدر، ولفعل باب نذكره في عقب هذه القصة، إذا فرغنا من خبر هذه الوقعة، والضرغامة من أسماء الأسد، والهصر الذي يهصر كل شيء أي يثنيه. قال امرؤ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت (1) ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميّال
ولذكرنا الصفرية والأزارقة والبيهسية والإباضية، تفسير لم نسب إلى ابن الأزرق بالأزارقة، وإلى أبي بيهس بالكنية المضاف إليها، ونسب إلى صفر ولم ينسب إلى واحدهم، ونسب إلى ابن أباض فجعل النسب إلى أبيه. وهذا نذكره بعد باب فعل، ومما قيل من الشعر في يوم دولاب قول قطريّ:
لعمرك إنّي في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أمّ حكيم
من الخفرات البيض لم ير مثلها ... شفاء لذي بثّ ولا لسقيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهها ... على نائبات الدهر جدّ لئيم
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا (2) صدور الخيل نحو تميم
__________
(1) اسمحت: أي جادت وأعطت عن كرم وسخاء.
(2) عاج إلى الشي: مال إليه.(2/234)
وكان لعبد القيس أول جدّها ... وأحلافها من يحصب وسليم
وظلّت شيوخ الأزد في حومة الوغى ... تعوم وظلنا في الجلاد نعوم
فلم أر يوما كان أكثر مقعصا (1) ... يمجّ دم (2) من فائظ (3) وكليم
وضاربة خدّا كريما على فتى ... أغرّ نجيبب الأمهات كريم
أصيب بدولاب ولم تك موطنا ... له أرض دولاب ودير حميم
فلو شهدتنا يوم ذاك وخيلنا ... تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الاله نفوسهم ... بجنّات عدن عنده ونعيم
قوله: ولو شهدتنا يوم دولاب، فإنما ذاك لأنه أراد البلدة، ودولاب أعجمي معرب وكل ما كان من أسماء الأعجمية نكرة بغير الألف واللام، فإذا دخلته الألف واللام فقد صار معربا وصار على قياس الأسماء العربية، لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنع العربيّ. فدولاب فوعال مثل طومار (4) وسولاف، وكلّ شيء لا يخصّ واحدا من الجنس من غيره فهو نكرة نحو رجل، لأن هذا الاسم يلحق كلّ ما كان على بنيته، وكذلك حمل وجبل وما أشبه ذلك، فإن وقع الاسم في كلام العجم معرفة فلا سبيل إلى إدخال الألف واللام، لأنه معرفة، فلا معنى لتعريف اخر فيه، فذلك غير منصرف نحو فرعون وقارون، وكذلك اسحق وإبراهيم ويعقوب، وقوله: غداة طفت علماء بكر بن وائل، وهو يريد: على الماء، فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لامان استجازوا حذف إحداهما استثقالا للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف. يقولون علماء بنو فلان، كما قال الفرزدق.
وما سبق القيسيّ من ضعف حيلة ... ولكن طفت علماء قلفة (5) خالد
__________
(1) يقمص: أن يضرب الإنسان فيموت مكانه.
(2) يمج الدم: بقذفه ولا يكون مجا حتى يباعد به.
(3) الفائظ: الميت.
(4) طومار: الصحيفة.
(5) قلقة: التي تقطع من ذكر الصبي.(2/235)
وكذلك كل إسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك بنو، لقرب محرج النون من اللام، وذلك قولك فلان من بلحرث وبلعنبر وبلهجيم. وقال اخر من الخوارج.
يرى من جاء ينظر من دجيل ... شيوخ الأزد طافية لحاها
وقال رجل منهم:
شمت (1) ابن بدر والحوادث جمّة ... والحائرون بنافع بن الأزرق
والموت حتم لا محالة واقع ... من لا يصبّحه نهارا يطرق
فلئن أمير المؤمنين أصابه ... ريب المنون فمن يصبه يغلق (2)
نصب بعد أن، لان حرف الجزاء للفعل، فإنما أراد: فلئن أصاب أمير المؤمنين، فلما حذف هذا الفعل وأضمر: ذكر أصابه ليدل عليه. ومثله قول النمر بن تولب:
لا تجزعي إن منفسا أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وقال ذو الرمّة:
إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك (3) جازر
لأن إذا لا يليها إلا الفعل وهي به أولى.
__________
(1) شمت: يشمت كتعب يتعب إذا فرح ببلية نزلت بأعدائه.
(2) يغلق: أي لا نيج منه ولا يفك.
(3) بين وصليك: مثنى وصل بكسر الواو وتضم وهو العظم لا يكسر ولا يختلط بغيره والجازر القاطع.(2/236)
51 - هذا باب فعل في النسب
اعلم أن كل اسم على مثال فعل فهو مصروف في المعرفة والنكرة، إذا كان إسما أصليا أو نعتا، فالاسماء نحو صرد ونعر وجعل، وكذلك إن كان جمعا نحو ظلم وعرف وإن سميت بشيء من هذا رجلا انصرف في المعرفة والنكرة، وأما النعت فنحو رجل حطم، كما قال:
(قد لفها الليل بسوّاق حطم) وكذلك مال لبد، وهو الكثير من قوله جل جلاله: {أَهْلَكْتُ مََالًا لُبَداً} (1) فإن كان الاسم على فعل معدولا عن فاعل لم ينصرف إذا كان إسم رحل في المعرفة، وينصرف في النكرة. وذلك نحو عمر وقثم لأنه معدول عن عامر، وهو الأسم الجاري على الفعل فهذا مما معرفته قبل نكرته. فإذا أريد به مذهب المعرفة جاز أن تنيه في النداء من كل فعل، لأن المنادي مشار إليه. وذلك قولك: يا فسق ويا خبث. تريد، يا فاسق ويا خبيث. وإنما قالت: بيدي ملحادة غدر في غير النداء للضرورة فنقلته معرفة من النداء، ثم جعلته نكرة لخروجه عن الإشارة فنعتت به ملحادة. كما قال الحطيئة:
أجوّل ما أجوّل ثم اوي ... إلى بيت قعيدته (2) لكاع (3)
وهذا لا يقع إلا في النداء، ولكن للشاعر نقله نكرة، ونقله معرفة على حد
__________
(1) سورة البلد: الاية 6.
(2) القعيدة: المرأة التي تلازم الرجل في قعوده واضافها إلى البيت لأنها تلازمه فيه، فعيل بمعنى مفاعل.
(3) لكاع: لئيمة.(2/237)
ما كان له في النداء فيلحق قولها غدر بقوله: حطم، ومال لبد وما أشبهه.
وفعال في المؤنث بمنزلة فعل في المذكر، ولو سميت رجلا حطاما لصرفته من قولك: هذا سائق حطم لأنه قد وقع نكرة غير معدول فهو في النعوت بمنزلة صرد في الأسماء.(2/238)
52 (هذا باب النسب إلى المضاف)
إعلم أنك إذا نسبت إلى علم مضاف فالوجه أن تنسب إلى الاسم الأول، وذلك قولك في عبد القيس عبديّ، وكذلك في عبد الله بن دارم.
فإن كان الاسم الثاني أشهر من الأول جاز النسب إليه لئلا يقع في النسب التباس من إسم باسم وذلك قولك في النسب إلى عبد مناف: منافيّ. وإلى أبي بكر بن كلاب: بكريّ. وقد يجوز وهو قليل أن تبني له من الاسمين إسما على مثال الأربعة لنتظم النسب، وذلك قولك في النسب إلى عبد الدار بن قصيّ: عبدريّ. وفي النسب إلى عبد القيس عبقسيّ. فإن كان المضاف غير علم، فالنسب إلى الثاني على كل حال وذلك قولك في النسب إلى ابن الزبير: زبيريّ، لأن ابن الزبير إنما صار معرفة بالزبير. وكذلك النسب إلى ابن رألان (1): زألانيّ. فلذلك قالوا في النسب إلى ابن الأزرق: أزرقيّ. وإلى أبي بيهس، بيهسيّ. فأما قولهم: صفريّ فإنما أرادوا الصفر الألوان، فنسبوا إلى الجماعة، وحقّ الجماعة إذا نسب إليها أن يقع النسب إلى واحدها كقولك: مهلّبيّ ومسمعيّ. ولكن جعلوا صفرا إسما للجماعة، ثم نسبوا إليه ولم يقولوا: أصفريّ فينسب إلى واحدها. وإنما كان ذلك لأنهم جعلوا الصفر إسما للجماعة كما تسمّى القبيلة بالاسم الواحد. ألا ترى أن النسب إلى الانصار أنصاريّ لأنه كان علما للقبيلة؟ وكذلك مدائنيّ؟ وتقول في النسب إلى الأبناء من بني سعد: أبناويّ، لأنه اسم للجماعة. فأما قولهم الأزارقة فهذا
__________
(1) ابن رألان هو جابر بن رألان الشاعر.(2/239)
باب من النسب اخر وهو أن يسمّى كلّ واحد منهم باسم الاب إذا كانوا إليه، ونظيره المهالبة والمسامعة والمناذرة ويقولون: جاءني النميرون والأشعرون جعل كل واحد منهم نميرا وأشعر. فهذا يتصل في القبائل على ما ذكرت لك.
وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أو دين فيكون له: مثل نسب الولادة كما قالوا: أزرقيّ لمن كان على رأي ابن الأزرق كما تقول: تميميّ وقيسيّ لمن ولده تميم وقيس. ومن قرأ سلام على الياسين فإنما يريد الياس عليه السلام، ومن كان على دينه كما قال: (قدني من نصر الخبيبين (1) قدي) يريد أبا خبيب ومنه معه. وقد يجتمع الرجل مع الرجل في التثنية إذا كان مجازهما واحدا في أكثر الأمر على لفظ أحدهما، فمن ذلك قولهم العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك قولهم الخبيبان لعبد الله ومصعب، وقد مضى تفسيره.
عودة إلى الخوارج الأزارقة وتكفير من قتل مسلما
عاد القول في الخوارج. قال والأزارقة لا تكفّر أحدا من أهل مقالتها في دار الهجرة إلا القاتل رجلا مسلما، فإنهم يقولون: المسلم حجّة الله والقاتل قصد لقطع الحجة. ويروى أن نافعا مرّ بمالك بن مسمع في الحرب التي كانت بين الأزد وربيعة وبني تميم، ونافع متقلد سيفا، فقام إليه مالك، فضرب بيده إلى حمالة سيفه، وقال: ألا تنصرنا في حربنا هذه؟ فقال: لا يحلّ لي. قال: فما بال مؤمني بني تميم ينصرون كفّارهم في هذه الحرب؟
فأمسك عنه، وخرج بعد ذلك بأيام إلى الأهواز فلما قتل من قتل ممن بخازر (2) من الخوارج في أيام ابن الماحوز كره ببّة القتال، وأقام حارثة بن بدر الغدانيّ بازاء الخوارج يناوشهم على غير ولاية، وكان يقول: ما عذرنا عند إخواننا من أهل البصرة أن وصل إليهم الخوارج ونحن دونهم.
__________
(1) قدني: يكفيني ومثله قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد.
(2) خازر: نهر بين الموصل وأربل.(2/240)
وقائع الأزارقة مع ولاة ابن الزبير
فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير يخبرونه بقعود ببّة، ويسألونه أن يوّلي واليا. فكتب إلى أنس بن مالك أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوما، وكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر فولاه البصرة، فلقيه الكتاب وهو يريد الحج وهو في بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة وولّى أخاه عثمان محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفا. ولقيه حارثة فيمن كان معه وعبيد الله بن الماحوز في الخوارج بسوق الأهواز، فلما غبروا إليهم دجيلا نهض إليهم الخوارج وذلك قبيل الظهر، فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى. فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء، فقال: لا جرم والله لا أتغدى حتى أناجزهم. فقال له حارثة: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسّف فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم أهل العراق إلا جبنا، وأنت يا حارثة ما علمك بالحرب! أنت والله بغير هذا أعلم، يعرّض له بالشراب. فغضب حارثة فاعتزل وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس فأجلت الحرب عنه قتيلا، وانهزم الناس وأخذ حارثة الراية، وصاح بالناس: أنا حارث بن بدر، فثاب إليه قومه فعبر بهم دجيلا.
إستنجاد أهل البصرة بالأحنف
وبلغ قلّ عثمان البصرة وخاف الناس الخوارج خوفا شديدا، وعزل ابن الزبير عمر بن عبيد الله وولّى الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقباع (1) أحد بني مخزوم، وهو أخو عمر بن عبد الله بن المخزوميّ الشاعر.
فقدم البصرة، فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية والمدد فأراد أن يولّيه، فقال له رجل من بكر بن وائل: إن حارثة ليس بذلك إنما هو صاحب شراب.
وفيه يقول رجل من قومه:
__________
(1) القباع: كغراب مكيال ضخم لقب به الحرث بن عبد الله لأنه اتخذ ذلك المكيال لأهل البصرة.(2/241)
ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلّي وهو أكفر من حمار
ألم تر أن للفتيان حظّا ... وحظك في البغايا والقمار
فكتب إليه القباع تكفى حربهم إن شاء الله، فأقام حارثة يدافعهم، فقال شاعر من بني تميم يذكر عثمان بن عبيد الله بن معمر ومسلم بن عبيس وحارثة بن بدر:
مضى ابن عبيس صابرا غير عاجز ... وأعقبنا هذا الحجازيّ عثمان
فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر ... وأبرق والبرق اليمانيّ خوّان
فضحت قريشا غثّها وسمينها ... وقيل بنو تيم بن مرّة عزلان (1)
فلولا ابن بدر للعراقين لم يقم ... بما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حامي الحقيقة أو مأت ... إليه معدّ بالانوف وقحطان
قوله: فأرعد، زعم الأصمعي أنه خطأ وأن الكميت أخطأ في قوله:
أرعد وأبرق يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر
وزعم أن هذا البيت الذي يروى لمهلهل مصنوع محدث. وهو قوله:
أنبضوا معجس القسيّ
وأنبضوا (2) معجس القسيّ وأبرقنا ... كما ترعد الفحول الفحولا
وأنه لا يقال إلّا رعد وبرق إذا أوعد وتهدد، وهو يرعد ويبرق وكذا يقال:
رعدت السماء وبرقت وأرعدنا نحن وأبرقنا إذا دخلنا في الرعد والبرق. قال الشاعر:
(فقل لأبي قابوس (3) ما شئت فارعد) وروى غير الأصمعي أرعد وأبرق على ضعف. وقوله: والبرق اليمانيّ خوّان، يريد والبرق يخون. وأجود النسب
__________
(1) عزلان: جمع أعزل وهو من لا سلاح له.
(2) أنبض فلان في قوسه، حرك وترها لترن، والمعجس مقبض القوس.
(3) قابوس: هو النعمان بن المنذر ملك العرب.(2/242)
إلى اليمن يمنيّ ويجوز يمان بتخفيف الياء، وهو حسن وهو في أكثر الكلام تكون الألف عوضا من إحدى الياءين ويجوز يمانيّ فاعلم تكون الألف زائدة وتشدّد الياء. قال العباس بن عبد المطّلب:
ضربناهم ضرب الأحامس (1) غدوة ... بكل يمانيّ (2) إذا هزّ صمّما (3)
ثم إن حارثة لما تفرق الناس عنه أقام بنهر تيرى (4) فعبرت إليه الخوارج فهرب وأصحابه يركض حتى أتى دجيلا. فجلس في سفينة، وأتبعه جماعة من أصحابه فكانوا معه. وأتاه رجل من بني تميم وعليه سلاحه والخوارج وراءه وقد توسّط حارثة فصاح به: يا حارث ليس مثلي ضيّع فقال للملاح: قرّب، فقرّب إلى جرف ولا فرضة (5) هناك. فطفر بسلاحه في السفينة فساخت بالقوم جميعا، وأقام ابن الماحوز يجبي كور الأهواز ثلاثة أشهر. ثم وجّه الزبير بن علي نحو البصرة فضجّ الناس إلى الأحنف فأتى القباع فقال: أصلح الله الأمير، إن هذا العدوّ قد غلبنا على سوادنا وفيئنا فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزلا قال: فسموا رجلا. فقال الأحنف: الرأي لا يخيل، ما أرى لها إلا المهلّب بن أبي صفرة، فقال: أو هذا رأي جميع أهل البصرة، اجتمعوا إليّ في غد. وجاء الزبير حتى نزل الفرات وعقد الجسر ليعبر إلى ناحية البصرة فخرج أكثر أهل البصرة إليه، وقد اجتمع للخوارج أهل الأهواز وكورها رغبة ورهبة، فأتاه البصريون في السفن وعلى الدواب ورجّالة، فاسودّت بهم الأرض فقال الزبير لما راهم: أبي قومنا إلا كفرا. فقطعوا الجسر، وأقام الخوارج بالفرات بإزائهم، واجتمع الناس عند القباع وخافوا الخوارج خوفا شديدا. وكانوا ثلاث فرق فسمّى قوم المهلب وسمّى قوم
__________
(1) الأحامس: أحمس وهو الشجاع.
(2) اليماني: من أسماء السيف نسبة إلى اليمن.
(3) صمم: أصاب المفصل أي قطعه.
(4) نهر تيري: نهر في منطقة الأهواز.
(5) الفرضة: بالضم من النهر ثلمة يستقى منها.(2/243)
مالك بن مسمع وسمى قوم زياد بن عمرو بن الأشرف العتكيّ فصرفهم. ثم اختبر ما عند مالك وزياد فوجدهما متثاقلين عن ذاك. وعاد إليه من أشار بهما وقالوا: قد رجعنا عن رأينا ما نرى لها إلا المهلب. فوجّه الحرث إليه فأتاه فقال له: يا أبا سعيد قد ترى ما رهقنا من هذا العدوّ، وقد اجتمع أهل مصرك عليك. وقال الأحنف: يا أبا سعيد، إنا والله ما اثرناك بها ولكننا لم نر من يقوم مقامك. فقال له الحرث، وأومأ إلى الاحنف، إن هذا الشيخ لم يسمّك إلّا إيثارا للدين، وكل من في مصرك مادّ عينه إليك راج أن يكشف الله عز وجل هذه الغمّة بك: فقال المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني عند نفسي لدون ما وصفتم ولست ابيا ما دعوتم إليه على شروط أشترطها. قال الأحنف، قل. قال على أن أنتخب من أحببت، قال ذاك لك. قال: ولي إمرة كلّ بلد أغلب عليه، قال: وذاك لك، قال: ولي فيء كلّ بلد أظفر به، قال الأحنف:
ليس ذاك لك ولا لنا إنما هو فيء المسلمين، فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوّهم، ولكن لك أن تعطي أصحابك من فيء كل بلد تغلب عليه ما شئت وتنفق على محاربة عدوّك فما فضل عنكم كان للمسلمين. فقال المهلب:
فمن لي بذلك؟ قال الأحنف: نحن وأميرك وجماعة أهل مصرك. قال: قد قبلت. فكتبوا بذلك كتابا ووضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الحنفي. وانتخب المهلّب من جميع الأخماس، فبلغت نخبته إثني عشر ألفا، ونظروا ما في بيت المال فلم يكن إلا مائتي ألف درهم، فعجزت، فبعث المهلّب إلى التجار أن تجارتكم مذ حول قد كسدت عليكم بانقطاع موادّ الأهواز وفارس عنكم فهلمّ فبايعوني وأخرجوا معي أوفّكم إن شاء الله حقوقكم. فتاجروه فأخذ من المال ما يصلح به عسكره واتخذ لأصحابه الخفاتين والرانات المحشوّة بالصوف، ثم نهض وأكثر أصحابه رجّالة حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأحضرت وأصلحت. فما ارتفع النهار حتى فرغ منها ثم أمر الناس بالعبور إلى الفرات وأمّر عليهم ابنه المغيرة، فخرج الناس.
فلما قاربوا الشاطىء خاضت إليهم الخوارج فحاربهم المغيرة ونضحهم
بالسهام حتى تنحّوا. فصار هو وأصحابه على الشاطىء، فحاربوهم فكشفوهم وشغلوهم حتى عقد المهلّب الجسر وعبر والخوارج منهزمون، فنهى الناس عن إتباعهم، ففي ذلك يقول شاعر من الأزد:(2/244)
فلما قاربوا الشاطىء خاضت إليهم الخوارج فحاربهم المغيرة ونضحهم
بالسهام حتى تنحّوا. فصار هو وأصحابه على الشاطىء، فحاربوهم فكشفوهم وشغلوهم حتى عقد المهلّب الجسر وعبر والخوارج منهزمون، فنهى الناس عن إتباعهم، ففي ذلك يقول شاعر من الأزد:
إنّ العراق وأهله لم يخبروا ... مثل المهلّب في الحروب فسلّموا
أمضى وأيمن في اللّقاء نقيبة (1) ... وأقلّ تهليلا إذا ما أحجموا
التهليل التكذيب والانهزام، وأبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمر العنبريّ، وكان من فرسان بني تميم وشجعانهم، فقال عطية:
يدعى رجال للعطاء وإنما ... يدعى عطيّة للطعان الأجرد
وقال الشاعر:
وما فارس إلا عطيّة فوقه ... إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما
به هزم الله الأزارق بعدما ... أباحوا من المصرين حلّا ومحرما
فأقام المهلب أربعين يوما يجبي الخراج بكور دجلة والخوارج بنهر تيري، والزبير بن عليّ منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز، فقضى المهلّب التجار وأعطى أصحابه، فأسرع إليه الناس رغبة في مجاهدة الخوارج، ولما في الغنائم والتجارات، فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزديّ وعبد الله بن رياح ومعاوية بن قرّة المزنيّ. وكان يقول يعني معاوية: لو جاء الديلم من ههنا والحرورية من ههنا لحاربت الحروريه، وأبو عمران الجونيّ وكان يقول: كان كعب يقول، قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أنوار. ثم نهض المهلب إليهم إلى نهر تيري فتنحّوا عنه إلى الأهواز وأقام المهلب يجبي ما حواليه من الكور، وقد دسّ الجواسيس إلى عسكر الخوارج، فأتوه بأخبارهم ومن في عسكرهم، فإذا حشوة ما (2) بين قصّار وصبّاغ، وداعر وحدّاد. فخطب المهلب
__________
(1) فلان ميمون النقيبة أي منجح مظفر في مطالبه والنقيبة النفس أو الطبيعة أو الخليقة.
(2) حشوه بالضم والسكر في الأصل جماعة الأمعاء استعيرت لاخلاط الناس وأفنائهم ورجل داعر خبيث مفسد.(2/245)
الناس، فذكر من هناك، وقال للناس: أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم؟ فلم يزل مقيما حتى فهمهم وأحكم أمره وقوّى أصحابه، وكثرت الفرسان في عسكره، وتتامّ إليه زهاء عشرين ألفا، ثم مضى يؤمّ سوق الأهواز، فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيري، وفي مقدمته المغيرة ابن المهلب حتى قاربهم المغيرة فناوشوه فانكشف عنه بعض أصحابه وثبت المغيرة بقيّة يومه وليلته يوقد النيران. ثم غاداهم القتال فإذا القوم قد أوقدوا النيران في ثقلة متاعهم وارتحلوا عن سوق الأهواز، فدخلها المغيرة وقد جاءت أوائل خيل المهلب، فأقام بسوق الأهواز وكتب بذلك إلى الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإنا منذ خرجنا نؤمّ هذا العدوّ في نعم من الله متصلة علينا ونقمة من الله متتابعة عليهم، نقدم ويحجمون ونحلّ ويرتحلون، إلى أن حللنا سوق الأهواز والحمد لله ربّ العالمين، الذي من عنده النصر وهو العزيز الحكيم. فكتب إليه الحرث:
هنيئا لك أخا الأزد الشرف في الدنيا والذخر في الآخرة إن شاء الله. قال المهلب لأصحابه: ما أجفى أهل الحجاز، أما ترونه يعرف إسمي واسم أبي وكنيتي! وكان المهلب يبث الأحراس في الأمن كما يبثّهم في الخوف ويذكي العيون في الأمصار كما يذكيها في الصحاري، ويأمر أصحابه بالتحرز ويخوّفهم البيات، وإن بعد منهم العدوّ، ويقول: احذروا أن تكادوا كما تكيدون ولا تقولوا هزمنا وغلبنا، فإن القوم خائفون وجلون والضرورة تفتح باب الحيلة.
خطبة المهلب في أصحابه
ثم قام فيهم خطيبا فقال: يا أيها الناس، إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم، فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرّط عثمان بن
عبيد الله، والمعصيّ المخالف حارثة بن بدر، فقتلوا جميعا وقتلوا فألقوهم بجدّ وحدّ فإنما هم مهنتكم وعبيدكم وعار عليكم ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم ويطؤا حريمكم. ثم سار يريدهم وهو بمناذر الصغرى، فوجّه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا يقال له واقد مولى لال أبي صفرة من سبي الجاهلية في خمسين رجلا، فيهم صالح بن محراق إلى نهر تيرى وبها المعارك ابن أبي صفرة، فقتلوه. فنمى الخبر إلى المهلّب فوجّه ابنه المغيرة فدخل نهر تيرى وقد خرج وافد منها فاستنزله ودفنه وسكّن الناس واستخلف بها ورجع إلى أبيه. وقد حلّ بسولاف والخوارج بها، فواقعهم. وجعل على بني تميم الحريش بن هلال فخرج رجل من أصحاب المهلب يقال له عبد الرحمن الأسكاف، فجعل يحضّ الناس وهو على فرس له صفراء فجعل يأتي الميمنة والميسرة والقلب فيحضّ الناس ويهوّن أمر الخوارج، ويختال بين الصفّين، فقال رجل من الخوارج لأصحابه: يا معشر المهاجرين، هل لكم في فتكة فيها أريحيّة؟ فحمل جماعة منهم على الاسكاف فقاتلهم وحده فارسا. ثم كبا (1) به فرسه فقاتلهم راجلا قائما وباركا، ثم كثرت به الجراحات فذبّب بسيفه وجعل يحثوا التراب في وجوههم والمهلب غير حاضر ثم قتل رحمه الله. وحضر المهلب فأخبر، فقال للحريش وغطية العنبريّ: أسلمتما سيد أهل العسكر لم تعيناه ولم تستنقذاه حسدا له لأنه رجل من الموالي، ووبخهما.(2/246)
ثم قام فيهم خطيبا فقال: يا أيها الناس، إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم، فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرّط عثمان بن
عبيد الله، والمعصيّ المخالف حارثة بن بدر، فقتلوا جميعا وقتلوا فألقوهم بجدّ وحدّ فإنما هم مهنتكم وعبيدكم وعار عليكم ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم ويطؤا حريمكم. ثم سار يريدهم وهو بمناذر الصغرى، فوجّه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا يقال له واقد مولى لال أبي صفرة من سبي الجاهلية في خمسين رجلا، فيهم صالح بن محراق إلى نهر تيرى وبها المعارك ابن أبي صفرة، فقتلوه. فنمى الخبر إلى المهلّب فوجّه ابنه المغيرة فدخل نهر تيرى وقد خرج وافد منها فاستنزله ودفنه وسكّن الناس واستخلف بها ورجع إلى أبيه. وقد حلّ بسولاف والخوارج بها، فواقعهم. وجعل على بني تميم الحريش بن هلال فخرج رجل من أصحاب المهلب يقال له عبد الرحمن الأسكاف، فجعل يحضّ الناس وهو على فرس له صفراء فجعل يأتي الميمنة والميسرة والقلب فيحضّ الناس ويهوّن أمر الخوارج، ويختال بين الصفّين، فقال رجل من الخوارج لأصحابه: يا معشر المهاجرين، هل لكم في فتكة فيها أريحيّة؟ فحمل جماعة منهم على الاسكاف فقاتلهم وحده فارسا. ثم كبا (1) به فرسه فقاتلهم راجلا قائما وباركا، ثم كثرت به الجراحات فذبّب بسيفه وجعل يحثوا التراب في وجوههم والمهلب غير حاضر ثم قتل رحمه الله. وحضر المهلب فأخبر، فقال للحريش وغطية العنبريّ: أسلمتما سيد أهل العسكر لم تعيناه ولم تستنقذاه حسدا له لأنه رجل من الموالي، ووبخهما.
في ما يستحسن من الكذب
وحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحابه فقتله، فحمل عليه المهلب فطعنه وقتله، ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر فانهزم الناس
__________
(1) كبا: سقط به.(2/247)
وقتلوا سبعين رجلا، وثبت المهلّب وأبلى (1) المغيرة يومئذ، وعرف مكانه ويقال:
حاص المهلّب يومئذ حيصة (2) وتقول الأزد: بل كان يردّ المنهزمة ويحمي أدبارهم. فقال رجل من بني منقر بن عبيد بن الحرث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم:
بسولاف أضعت دماء قومي ... وطرت على مواشكة درور
قوله مواشكة يريد سريعة، ويقال نحن على وشك رحيل، ويقال ذميل مواشك إذا كان سريعا قال ذو الرمة:
إذا ما رمينا رمية في مفازة ... عراقيبها بالشيظميّ (3) المواشك
ودرور فعول، من درّ الشيء إذا تتابع.
أحد بني تميم يذم المهلب
وقال رجل من بني تميم، اخر:
تبعنا الأعور الكذّاب طوعا ... يزجّي (4) كلّ أربعة حمارا
فياندمى على تركي عطائي ... معاينة وأطلبه ضمارا
إذا الرحمن يسّر لي قفولا ... فحرّق في قرى سولاف نارا
قوله: الأعور الكذاب، يعني المهلب. ويقال عارت عينه بسهم كان أصابها. وقال الكذّاب، لأن المهلب كان فقيها وكان يعلم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة الكذب في الصلح بين الرجلين، وكذب الرجل لامرأته يعدها، وكذب الرجل في الحرب يتوعّد ويتهدّد. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل فخذّل عنّا فإنما الحرب خدعة (5). وقال
__________
(1) أبلى: أظهر شجاعة.
(2) حاص حيصة ذكرت في مكان سابق.
(3) الشيظمي: الطويل الجسم الفتي من الخيل والابل.
(4) يزجي: يسوق.
(5) إنما الحرب خدعة: يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال فالأول معناه أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة وهذه أفصح الروايات وأصحها والثاني إسم من الخداع.(2/248)
عليه السلام: في حرب الخندق لسعد بن عبادة وسعد بن معاذ وهما سيدا الحيّين الخزرج والأوس: أئتيا بني قريظة فإن كانوا على العهد فأعلنا بذلك، وإن كانوا قد نقضوا ما بيننا فالحنا (1) لي لحنا أعرفه، ولا تفتّا في أعضاد المسلمين. فرجعا بغدر القوم فقالا: يا رسول الله عضل والقارة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: أبشروا فإن الأمر ما تحبّون. (قال الأخفش: سالت المبرّد عن قولهما عضل والقارة، فقال هذان حيان كانا في نهاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أنهم في الأنحراف عنه والغدر به كهاتين القبيلتين). قال أبو العباس: فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشدّ به من أمر المسلمين ويضعّف من أمر الخوارج، فكان حيّ من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحا إليهم قالوا قد راح المهلّب ليكذب. وفيه يقول رجل منهم:
أنت الفتى كلّ الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول
فبات المهلب في ألفين، فلما أصبح رجع بعضهم المنهزمة فصار أربعة الاف، فخطب أصحابه. فقال: والله ما بكم من قلّة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف والطمع والطبع {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} (2) فسيروا إلى عدوّكم على بركة الله. فقام إليه الحريش بن هلال فقال:
أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك فإن بالقوم جراحا وقد أثخنتهم هذه الجولة. فقبل منه. ومضى المهلب في عشرة فأشرف على عسكر الخوارج، فلم ير منه أحدا يتحرك. فقال له الحريش: ارتحل عن هذا الموضع، فارتحل فعبر دجيلا وصار إلى عاقول لا يؤتي إلا من وجه واحد، فأقام به واستراح الناس ثلاثا. وقال ابن قيس الرقيّات.
ألا طرقت من ال ببة طارقه ... على أنها معشوقة الدل عاشقه
تبيت وأرض السّوس بيني وبينها ... وسولاف رستاق حمته الأزارقه
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة ... حرورية أضحت من الدين مارقه
__________
(1) يقال لحنت لفلان إذا قلت له قولا يفهمه ويخفى على غيره.
(2) سورة ال عمران الاية رقم 140.(2/249)
أجازت إلينا العسكرين كليهما ... فباتت لنا دون اللحاف معانقه
في شرح لفظة الضمار
وقد ذكرنا الضمار ومعناه الغائب وأصله من قولك أضمرت الشيء أي أخفيته عنك، ويقال: مال عين للحاضر ومال ضمار للغائب. قال الأعشى.
ومن لا تضيع له ذمّة ... فيجعلها بعد عين ضمارا
وقال أيضا:
ترانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منا الرحم
والفعل من هذا أضمر يضمر والمفعول به مضمر، والفاعل مضمر، والضمار إسم للفعل في معنى الأضمار، وأسماء الأفعال تشرك المصادر في معانيها. تقول أعطيته غصاء فيشرك العطاء الإعطاء في معناه ويسمى به المفعول، وتقول كلّمته تكليما وكلامّا في معناه. والمصدر ينعت به الفاعل في قولك: رجل عدل ورجل كرم ورجل نوم ويوم غمّ وغيم. وينعت به المفعول به المفعول في قولك رجل رضا وهذا درهم ضرب الأمير. وجاءني الخلق تعني المخلوقين. وقال رجل من الخوارج في ذلك اليوم:
وكائن تركنا يوم سولاف منهم ... أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها
قوله: وكائن معناه كم، وأصله كاف التشبيه دخلت على أيّ فصارتا بمنزلة كم، ونظير ذلك له كذا وكذا درهما إنما هي إذا دخلت عليها الكاف والمعنى له كهذا العدد من الدراهم، فإذا قال: له كذا كذا درهما، فهو كناية عن أحد عشر درهما إلى تسعة عشر لأنه ضم العددين. فإذا قال: كذا وكذا فهو كناية عن أحد وعشرين إلى ما جاز فيه العطف بعده، ولكن كثرت كأيّ فخففت والتثقيل الأصل قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهََا وَهِيَ ظََالِمَةٌ} (1)،
__________
(1) سورة الحج: الاية رقم 48.(2/250)
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قََاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} (1). وقد قرىء بالتخفيف.
في شرح لفظة كائن
كما قال الشاعر:
وكائن رددنا عنكم من مدجّج ... يجيء أمام الألف يردى مقنّعا
وقال اخر:
وكائن ترى يوم الغميصاء (2) من فتى ... أصيب ولم يجرح وقد كان جارحا
قال أبو العباس: وهذا أكثر على ألسنتهم لطلب التخفيف، وذلك الأصل. وبعض العرب يقلب فيقول كيء يا فتى فيؤخر الهمزة لكثرة الاستعمال. قال الشاعر:
وكيء في بني دودان (3) منهم ... غداة الروع معروفا كميّ (4)
قتال المهلب للخوارج
فأقام المهلب في ذلك العاقول (5) ثلاثة أيام ثم ارتحل، والخوارج بسلّى وسليرى. (قال الأخفش: سلّى وسلّيرى بفتح السين فيهما موضعان بالأهواز.
وسلّى بكسر السين موضع بالبادية وهكذا ينشد هذا البيت:
كأنّ غديرهم بجنوب سلّى ... نعام فاق (6) في بلد قفار)
فنزل قريبا منهم فقال ابن الماحوز لأصحابه: ما تنتظرون بعدوّكم وقد
__________
(1) سورة ال عمران: الاية رقم 146.
(2) الغميصاء: موضع أوقع فيه خالد بن الوليد ببني جذيمة.
(3) دودان أسد أبو قبيلة.
(4) الكمي: الشجاع.
(5) عاقول: بلد بالنهروان.
(6) فاق الطائر: صوت.(2/251)
هزمتموهم بالأمس وكسرتم حدّهم!! فقال له وافد مولى أبي صفرة: يا أمير المؤمنين إنما تفرّق عنهم أهل الضعف والجبن وبقي أهل النجدة والقوة، فإن أصبتهم لم يكن ظفرا هنيئا لأني أرهم لا يصابون حتى يصيبوا، فإن غلبوا ذهب الدين. فقال أصحابه: نافق وافد، فقال ابن الماحوز: لا تعجلوا على أخيكم فإنه قال هذا نظرا لكم. ثم توجّه الزبير بن عليّ إلى عسكر المهلّب لينظر ما حالهم فأتاهم في مائتين فحزرهم ورجع. وأمر المهلب أصحابه بالتحارس حتى إذا أصبح ركب إليهم على تعبية صحيحة فالتقوا بسلّى وسليرى فتصافّوا.
فخرج من الخوارج مائة فارس فركزوا رماحهم بين الصفين واتكئوا عليها، وأخرج إليهم المهلب عدادهم ففعلوا مثل ما فعلوا لا يريمون إلا لصلاة حتى أمسوا فرجع كل قوم إلى معسكرهم، ففعلوا هذا ثلاثة أيام، ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث فحمل عليهم هؤلاء الفرسان يجولون ساعة، ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه. فحمل الخوارج بأجمعهم كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا الناس، وفقد المهلب، وثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان ثم نجم المهلب في مائة فارس وقد انغمست كفّاه في الدم وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر محشوّة قزّا وقد تمزقت وإنّ حشوها ليتطاير وهو يلهث، وذلك في وقت الظهر، فلم يزل يحاربهم إلى الليل حتى كثر القتل في الفريقين. فلما كان الغد غاداهم. وقد كان وجّه بالامس رجلا من طاحية بن سود بن مالك بن فهم بن الأزد يردّ المنهزمين فمر به عامر بن مسمع فرده، فقال: إن الأمير أذن لي فبعث إلى المهلب فأعلمه فقال: دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف.
وقد تفرق أكثر الناس فغاداهم المهلب في ثلاثة الاف، وقال لأصحابه: ما بكم من قلّة؟ أيعجز أحدكم أن يرمي برمحه ثم يتقدم فيأخذه؟ ففعل ذلك رجل من كندة يقال له عيّاش. وقال المهلب لأصحابه: أعدّوا محالي فيها حجارة وارموا بها في وقت الغفلة فإنها تصدّ الفارس وتصرع الراجل. ففعلوا، ثم أمر مناديا ينادي في أصحابه يأمرهم بالجدّ والصبر ويطعمهم في العدوّ
ففعل حتى مر ببني العدويّة من بني مالك بن حنظلة فضربوه. فدعا المهلب بسيدهم وهو معاوية بن عمرو فجعل يركله برجله، وهذا معروف في الأزد، فقال: أصلح الله الأمير أعفني من أمّ كيسان والركبة تسميها الأزد أمّ كيسان، ثم حمل المهلب وحملوا فاقتتلوا قتالا شديدا فجهد الخوارج فنادى مناديهم:(2/252)
وقد تفرق أكثر الناس فغاداهم المهلب في ثلاثة الاف، وقال لأصحابه: ما بكم من قلّة؟ أيعجز أحدكم أن يرمي برمحه ثم يتقدم فيأخذه؟ ففعل ذلك رجل من كندة يقال له عيّاش. وقال المهلب لأصحابه: أعدّوا محالي فيها حجارة وارموا بها في وقت الغفلة فإنها تصدّ الفارس وتصرع الراجل. ففعلوا، ثم أمر مناديا ينادي في أصحابه يأمرهم بالجدّ والصبر ويطعمهم في العدوّ
ففعل حتى مر ببني العدويّة من بني مالك بن حنظلة فضربوه. فدعا المهلب بسيدهم وهو معاوية بن عمرو فجعل يركله برجله، وهذا معروف في الأزد، فقال: أصلح الله الأمير أعفني من أمّ كيسان والركبة تسميها الأزد أمّ كيسان، ثم حمل المهلب وحملوا فاقتتلوا قتالا شديدا فجهد الخوارج فنادى مناديهم:
ألا ان المهلب قد قتل، فركب المهلب برذونا قصيرا أشهب وأقبل يركض بين الصفين وإن إحدى يديه لفي القباء وما يشعر بها، وهو يصيح: أنا المهلب.
فسكن الناس بعد أن كانوا قد ارتاعوا وظنوا أن أميرهم قد قتل، وكلّ الناس مع العصر فصاح المهلب بابنه المغيرة تقدّم ففعل وصاح بذكوان مولاه قدّم رايتك ففعل فقال له رجل من ولده، وإنك تغرّر بنفسك فذمره (1) ثم صاح: يا بني تميم أامركم فتعصونني؟ فتقدم وتقدم الناس واجتلدوا أشدّ جلاد حتى إذا كان مع المساء قتل ابن المحاوز وانصرف الخوارج ولم يشعر المهلب بقتله فقال لأصحابه ابغوني رجلا جلدا يطوف في القتلى، فأشاروا عليه برجل من جرم، وقالوا إنا لم نر رجلا قط أشد منه. فطوّف ومعه النيران فجعل إذا مر بجريح من الخوارج، قال: أكافر وربّ الكعبة، فأجهز عليه. وإذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه وحمله. وأقام المهلب في عسكره يأمرهم بالاحتراس حتى إذا كان نصف الليل وجّه رجلا من اليحمد) قال الأخفش: اليحمد من الأزد والخليل من بطن منهم يقال لهم الفراهيد، والفرهود في الأصل الحمل فإن نسبت إلى الحي قلت فراهيديّ وإن نسبت إلى الحملان قلت فرهوديّ لا غير) في عشرة فصاروا إلى عسكر الخوارج فإذا القوم قد تحملوا إلى أرّجان (2)
فرجع إلى المهلب فأعلمه فقال: أنا لهم الساعة أشدّ خوفا فاحذروا البيات:
قال أبو العباس: ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوما أن هؤلاء الخوارج قد يئيسوا من ناحيتكم الا من جهة البيات، فإن كان ذلك فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون (3) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها، ويروى أنه
__________
(1) فذمره: فزجره وهدده.
(2) أرجان بتشديد الراء: بلد بفارس.
(3) حم لا ينصرون: معناه الخير لا الدعاء كأنه قال والله لا ينصرون أو معناه الدعاء وإن كان له(2/253)
كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما أصبح المهلب غدا على القتلى فأصاب ابن الماحوز فيهم، ففي ذلك يقول رجل من الخوارج:
بسلّى وسلّيري مصارع فتية ... كرام وجرحى لم توسّد خدوها
وقال اخر:
بسلى وسلّيري مصارع فتية ... كرام وعقرى من كميت ومن ورد
وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة، رميت به رجلا فأصبت أصل أذنه فصرعته ثم أخذت الحجر فضربت به اخر على هامته فصرعته ثم صرعت به ثالثا. وقال رجل من الخوارج.
أتانا بأحجار ليقتلنا بها ... وهل تقتل الأبطال ويحك بالحجر
وقال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسليرى وقتل ابن الماحوز.
ويوم سلى وسليرى أحاط بهم ... مناصوا عق ما تبقي ولا تذر
حتى تركنا عبيد الله منجدلا ... كما تجدّل جذع مال منقعر
قال أبو العباس: تقول العرب صاعقة وصواعق، وهو مذهب أهل الحجاز وبه نزل القران، وبنو تميم يقولون صاقعة وصواقع، والمنقعر المنقلع من أصله، قال الله أصدق القائلين: كأنهم أعجاز نخل منقعر. ويروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه فلما خالطه الرمح صاح يا أمّتاه فصاح به المهلب لا كثّر الله بمثلك المسلمين فضحك الخارجي وقال:
__________
خبرا يريد اللهم لا تنصرهم وقال بعضهم السور التي أولها حم لها شأن فنبّه أن ذكرها أشرف ميزاتها مما سيتنزل به النصر من الله وقوله لا ينصرون كلام مستأنف.(2/254)
أمّك خير لك منّي صاحبا ... تسقيك محضا (1) وتعلّ رائبا (2)
وكان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت (3) في وجهه نكس قربوس سرجه وحمل من تحتها فبراها بسيفه وأثّر في أصحابها حتى تخرمت الميمنة من أجله، وكان أشدّ ما تكون الحرب أشدّ ما يكون تبسما، فكان المهلب يقول: ما شهد معي حر باقط إلّا رأيت البشري في وجهه.
وقال رجل من الخوارج في هذا اليوم:
فإن تك قتلي يوم سلّى تتابعت ... فكم غادرت أسيافنا من قماقم (4)
غداة نكرّ المشرفيّة فيهم ... بسولاف يوم المأزق المتلاحم
والمأزق هو يوم الحرب، والمتلاحم نعت له، والمشرفية السيوف نسب إلى المشارف من أرض الشام، وهو الموضع الملقب مؤتة الذي قتل به جعفر بن أبي طالب وأصحابه. (قال الأخفش: كان المبرد لا يهمز موتة ولم أسمعها من علمائنا إلّا بالهمز).
كتاب المهلب إلى الحارث
قال أبو العباس: فكتب المهلّب إلى الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنا لقينا الأزراقة المارقة بحدّ وجدّ، فكانت في الناس جولة، ثم تاب أهل الحفاظ (5) والصبر بنيّات صادقة، وأبدان شداد، وسيوف حداد، فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا درئة (6) رماحنا وضرائب سيوفنا وقتل الله أميرهم ابن الماحوز
__________
(1) المحض: الخالص من كل شيء.
(2) الراتب: اللبن المخوض من الروب وهو الخلط لأنه يخلط بالماء عند المحض ليخرج زبده.
(3) تشاجرت: اشتبكت من المشاجرة.
(4) القماقم: السيد العظيم.
(5) الحفاظ: الذب عن المحارم.
(6) دريئة: حلقة يعلم الطعن والرمي عليها استعيرت هنا لمن غلب وظهر على خصمه.(2/255)
وأرجو أن يكون اخر هذه النعمة كأولها، والسلام. فكتب إليه القباع: قد قرأت كتابك يا أخا الأزد فرأيتك وقد وهب الله لك شرف الدنيا وعزّها، وذخر لك ثواب الآخرة إن شاء الله وأجرها، ورأيتك أوثق حصون المسلمين، وهادّ أركان المشركين، وأخا السياسة وذا الرياسة فاستدم الله بشكره يتمم عليك نعمه، والسلام. وكتب إليه أهل البصرة يهنؤنه ولم يكتب إليه الأحنف، ولكن قال: أقرؤا عليه السلام وقولوا له أنا لك على ما فارقتك عليه. فلم يزل يقرأ الكتب ويلتمس في أضعافها كتاب الأحنف، فلما لم يره قال لإصحابه: أما كتب إلينا؟ فقال له الرسول: حملني إليك رسالة، وأبلغه، فقال هذه أحبّ إليّ من هذه الكتب.
مبايعة الخوارج للزبير
واجتمعت الخوارج بأرّجان فبايعوا الزبير بن علي وهو من بني سليط بن يربوع من رهط ابن الماحوز فرأى فيهم انكسارا شديدا وضعفا بيّنا فقال لهم:
اجتمعوا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليهم فقال:
إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلّف، وقد أصبتم منهم مسلم بن عبيس، وربيعا الأجذم، والحجاج ابن باب وحارثة بن بدور، أشجيتم المهلّب وقتلتم أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس. فيوم سلّى كان لكم بلاء وتمحيصا، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالا فلا تغلبنّ على الشك فى حينه والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، {الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (1) ثم تحمّل لمحاربة المهلب فنفحهم المهلب نفحة فرجعوا. فأكمن للمهلب في غمض من غموض الأرض يقرب من عسكره مائة فارس ليغتالوه. فسار المهلب يوما يطوف بعسكره ويفقد سواده فوقف على جبل، فقال: إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا
__________
(1) سورة هود: الاية 49.(2/256)
الجبل كمينا، فبعث عشرة فوارس فأطلعوا على المائة، فلما علموا أنهم قد علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا وكسفت الشمس فصاحوا بهم يا أعداء الله، لو قامت القيامة لجددنا في جهادكم ثم يئس الزبير في ناحية المهلب فضرب إلى ناحية أصبهان ثم كرّ راجعا إلى أرّجان وقد جمع جموعا، وكان المهلب يقول: كأني بالزبير وقد جمع جموعا فلا ترهبوهم، فتخبث قلوبكم ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم، فجاؤوه من أرجان خالفوه متسعدا اخذا بأفواه الطرق، فحاربوه فظهر عليهم ظهورا بينا، ففي ذلك يقول رجل من بني تميم أحسبه من بني رياح بن يربوع:
سقى الله المهلب كلّ غيث ... من الوسميّ (1) ينتحر انتحارا
فما وهن المهلب يوم جاءت ... عوابس خيلهم تبغي الغوارا (2)
وقال المهلب يومئذ: ما وقعت في أمر ضيّق من الحرب، رأيت أمامي رجالا من بني الهجيم ابن عمرو بن تميم، يجالدون (3) وكأنّ لحاهم أذناب العقاعق، وكانوا صبروا معه في غير موطن. وقال رجل من بني تميم من بني عبشمس بن سعد:
ألا يا من لصبّ مستجنّ (4) ... قريح القلب قد صحب المزونا
لهان على المهلّب ما لقينا ... إذا ما راح مسرورا بطينا
يجرّ السابريّ (5) ونحن شعث ... كأنّ جلودنا كسيت طحينا
المزون عمان وهو إسم من أسمائها. قال الكميت:
فأما الأزد أزد أبي سعيد ... فأكره أن أسميها المزونا
وقال جرير:
__________
(1) الوسمي: مطر الربيع.
(2) الغوار: بالكسر: الإغارة.
(3) يجالدون: يتضاربون.
(4) مستجن: أصابه جنون.
(5) السابري: ثوب رقيق جيد يستشف ما وراءه.(2/257)
وأطفأت نيران المزون وأهلها ... وقد حاولوها فتنة أن تسعّرا
وحمل يومئذ الحريش بن هلال على قيس الإكاف، وكان قيس من أنجد فرسان الخوارج، فطعنه فدقّ صلبه وقال:
قيس الإكاف غداة الروع يعلمني (1) ... ثبت المقام إذا لاقيت أقراني
وقد كان فلّ المهلب يوم سلّى وسليرى صاروا إلى البصرة، فذكروا أن المهلب أصيب، فهمّ أهل البصرة بالنقلة إلى البادية حتى ورد كتابه بظفره، فأقام الناس وتراجع من كان ذهب منهم، فعند ذلك يقول الأحنف بن قيس:
البصرة بصرة المهلب. وقدم رجل من كندة يقال له فلان بن أرقم، فنعى ابن عم له وقال: رأيت رجلا من الخوارج وقد مكّن رمحه من صلبه فقدم المنعيّ، فقيل له ذلك فقال: صدق ابن أرقم لما أحسست برمحه بين كتفيّ صحت، البقيّة. فرفعه عني وتلا: بقيّة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين. ووجّه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الأزد برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز إلى الحرث بن أبي ربيعة القباع. فلما صار بكريج دينار لقيه حبيب وعبد الملك وعليّ بنو بشير بن الماحوز فقالوا له: ما الخبر؟ ولا يعرفهم، فقال: قتل الله المارق ابن الماحوز، وهذا رأسه معي، فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه ودفنوا الرأس. فلما ولي الحجاج دخل عليه عليّ بن بشير، وكان وسيما جسيما، فقال: من هذا؟ فخبّر، فقتله ووهب ابنه الأزهر وابنته لأهل الأزديّ المقتول.
تولية مصعب بن الزبير على البصرة
وكانت زينب بنت بشير لهم مواصلة فوهبوهما لها. فلم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحرث بن القباع حتى عزل الحرث وولّي مصعب بن الزبير، فكتب إليه أن أقدم عليّ واستخلف ابنك المغيرة، ففعل، فجمع الناس فقال لهم: إني قد استخلفت عليكم المغيرة وهو أبو صغيركم رقّة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وبرّا وتبجيلا وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن
__________
(1) يعلمني: ثبت المقام يقول إني شجاع ثابت في مكاني عند لقاء أقراني.(2/258)
له طاعتكم وليلن له جانبكم، فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه.
مشاورة بين مصعب والناس بشأن الخوارج وولاية عمر بن عبيد الله
ثم مضى إلى مصعب، وكتب مصعب إلى المغيرة بولايته وكتب إليه: إنك لم تكن كأبيك، فإنك كاف لما ولّيتك، فشمّر واتّزر وجدّ واجتهد، ثم شخص المصعب إلى المذار (1) فقتل أحمر بن شميط، ثم أتى الكوفة فقتل المختار بن أبي عبيد. وقال للمهلب: أشر عليّ برجل أجعله بيني وبين عبد الملك، قال: اذكر لك واحدا من ثلاثة، محمد بن عمير بن عطارد الدارميّ أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكيّ، أو داود بن قحدم. فقال: أو تكفيني؟ قال: أكفيك إن شاء الله. فولاه الموصل، فشخص المهلب إليها وصار مصعب إلى البصرة، فسأل من يستكفي أمر الخوارج ويفد إلى أخيه، فشاور الناس. فقال قوم: ولّ عبيد الله بن أبي بكرة. وقال قوم: ولّ عمر بن عبيد الله بن معمر. وقال قوم: ليس لهم إلا المهلّب فاردده إليهم. وبلغت المشورة الخوارج فأداروا الأمر بينهم فقال قطريّ بن الفجاءة المازنيّ: إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح جواد كريم مطيع لعسكره. وإن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم شجاع بطل فارس جادّ يقاتل لدينه وملكه، وبطبيعة لم ار مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشدّ على قرنه فيضربه، وإن ردّ المهلّب فهو من قد عرفتموه، إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الاخر يمدّه إذا أرسلتموه ويرسله إذا أرسلتموه ويرسله إذا مددتموه لا يبدؤكم إلا أن تبدؤه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبرّ (2) والثعلب الروّاغ والبلاء المقيم، فولّى عليهم عمر بن عبيد الله وولاه فارس والخوارج
__________
(1) المذار: بلد بين واسط والبصرة.
(2) الليث المبر: الغالب يقال ابر فلان على فلان غلبه وقهره وعلاه.(2/259)
بأرّجان وعليهم الزبير بن عليّ السليطيّ، فشخص إليهم فقاتلهم وألحّ عليهم حتى أخرجهم عنها فألحقهم بأصبهان. فلما بلغ المهلّب أن مصعبا ولّى عمر بن عبيد الله قال: رماهم بفارس العرب وفتاها. فجمعوا له وأعدّوا واستعدوا ثم أتوا سابور فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ فقال له مالك بن حسان الأزدي: أن المهلب كان يذكي العيون، ويخاف البيات، ويرتقب الغفلة، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم، فقال له عمر: اسكت خلع الله قلبك أتراك تموت قبل أجلك، فأقام هناك. فلما كان ذات ليلة بيّته الخوارج فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح فلم يظفروا منه بشيء، فأقبل على مالك بن حسان فقال: كيف رأيت؟ قال: قد سلّم الله عز وجل ولم يكونوا يطمعون من المهلب بمثلها، فقال: أما أنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلّب لرجوت أن أنفي هذا العدوّ ولكنكم تقولون قرشيّ حجازيّ، بعيد الدار خيره لغيرنا فتقاتلون معي تعذيرا (1). ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم فقاتلهم قتالا شديدا حتى ألجأهم إلى قنطرة فتكاثف الناس عليها حتى سقطت، فأقام حتى أصلحها ثم عبروا.
مقتل عمرو بن هصيص
وتقدم ابنه عبيد الله بن عمرو وأمّه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب فقاتلهم حتى قتل فقال قطريّ. لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور ولم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم، وكان مع ابنه النعمان بن عبّاد فصاح به: يا نعمان أين ابني؟ فقال إحتسبه فقد استشهد رحمه الله صابرا مقبلا غير مدبر:
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم حمل على الناس حملة لم ير مثلها، وحمل أصحابه بحملته فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج، وحمل على قطريّ فضربه على جبينه ففلقه. وانهزمت الخوارج وانتهبها. فلما استقروا قال لهم قطريّ: أما أشرت عليكم بالانصراف؟ فجعلوه وجوههم حتى
__________
(1) التعذير: والتقصير وهنا وصف القتال بالتقصير والتواكل.(2/260)
خرجوا من فارس. وتلقاهم في ذلك الوقت الفرز بن مهزم العبديّ فسألوه عن خبره، وأرادوا قتله فأقبل على قطري فقال: إني مؤمن مهاجر، فسأله عن أقاوليهم فأجاب إليها، فحلّوا عنه. ففي ذلك يقول في كلمة له:
وشدّوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي (1) ... إلى قطريّ ذي الجبين المفلّق
وحاججتهم في دينهم وحججتهم ... وما دينهم غير الهوى والتخلق
ثم إنهم تراجعوا وتكانفوا (قال الأخفش: تكانفوا أعان بعضهم بعضا واجتمعوا وصار بعضهم في كنف بعض) وعادوا إلى ناحية ارّجان، فسار إليهم عمرو وكتب إلى مصعب: أما بعد، فإني قد لقيت الأزارقة فرزق الله عبيد الله بن عمرو الشهادة ووهب له السعادة، ورزقنا عليهم الظفر فتفرقوا شذر مذر، وبلغتني عنهم عودة فيمّمتهم، وبالله أستعين وعليه أتوكل. فسار عليهم ومعه عطية بن عمرو ومجّاعة بن سعيد، فالتقوا، فألحّ عليهم حتى أخرجهم.
وانفرد من أصحابه فعمد له أربعة عشر رجلا منهم من مذكوريهم وشجعانهم وفي يده عمود، فجعل لا يضرب رجلا منهم إلّا صرعه، فركص إليه قطريّ على فرس طمّر (2) وعمر على مهر فاستعلاه قطريّ بقوة فرسه حتى كاد يصرعه، فبصر به مجّاعة فأسرع إليه فصاحت الخوارج بقطريّ: يا أبا نعامة إن عدوّ الله قد رهقك (3)، فاحط قطريّ عن قربوسه فطعنه مجّاعة، وعلى قطري درعان، فهتكهما، وأسرع السنان في رأس قطري فكشط عنه جلدة ونجا. وارتحل القوم إلى أصفهان فأقاموا برهة ثم رجعوا إلى الأهواز. وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى اصطخر فأمر مجّاعة فجبى الخراج أسبوعا، فقال كم جبيت؟
قال تسعمائة ألف. فقال هي لك، فقال يزيد بن الحكم الثقفيّ لمجاعة:
ودعاك دعوة مرهق فأجبته ... عمر وقد نسي الحياة وضاعا
__________
(1) الخصومة: الجدل والمنازعة.
(2) فرس طمر: بكسر الطاء والميم والراء المشددة وهو الجواد.
(3) رهقه: لحق به.(2/261)
فرددت عادية الكتيبة عن فتى ... قد كاد يترك لحمه أوزاعا (1)
وعزل مصعب بن الزبير، وولّي حمزة بن عبد الله بن الزبير، فوجّه المهلب إليهم فحاربهم فأخرجهم عن الأهواز، ثم ردّ مصعب والمهلب بالبصرة، والخوارج بأطراف أصبهان، والوالي عليها عتّاب بن ورقاء الرياحيّ.
فأقام الخوارج هناك شيئا يجبون القرى، ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله: ما أنصفتنا، أقمت بفارس تجبي الخراج ومثل هذا العدوّ يحاربك، والله لو قاتلت ثم هربت لكان أعذر لك. وخرج مصعب من البصرة يريدهم، وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم فتنحى الخوارج إلى السّوس (2)، ثم أتوا المدائن فقتلوا أحمر طيء وكان شجاعا وكان من فرسان عبيد الله بن الحرّ، ففي ذلك يقول الشاعر:
تركتم فتى الفتيان أحمر طيىء ... بساباط لم يعطف عليه خليل
ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها وواليها الحرث بن عبد الله القباع فتثاقل عن الخورج، وكان جبانا، فذمره إبراهيم بن الأشتر ولامه الناس فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر:
إن القباع سار سيرا نكرا ... يسير يوما ويقيم شهرا
وجعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج والخوارج يعيثون حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها وكانت جميلة ثم أرادوا قتلها فقالت: أتقتلون {مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (3)؟ فقال قائل منهم: دعوها. فقالوا:
قد فتنتك ثم قدّموها فقتلوها ثم قرّبوا أخرى وهم بحذاء القباع، والجسر معقود بينهما، فقطعه القباع وهو في ستة الاف والمرأة تستغيث به وتقول: علام
__________
(1) أوزاعا: مقسما.
(2) السوس: كورة بالأهواز فيها قبر النبي دانيال عليه السلام.
(3) سورة الزخرف: الاية 18.(2/262)
تقتلونني؟ فو الله ما فسقت ولا كفرت ولا ارتددت والناس يتفلتون إلى الخوارج والقباع يمنعهم فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذلك بقطع الجسر فأقام بين دباها ودبيرى خمسة أيام، والخوارج بقربه وهو يقول للناس في كل يوم: إذا لقيتم العدو غدا فأثبتوا أقدامكم واصبروا فإن أول الحرب الترامي. ثم إشراع الرماح ثم السلّة (1) فثكلت رجلا أمّه فرّ من الزحف فقال بعضهم لما أكثر عليهم، إما الصفة فقد سمعناها فمتى يقع الفعل، وقال الراجز:
إن القباع سار سيرا ملسا (2) ... بين دباها ودبيري خمسا
فأخذ الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم، ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة وصاروا من فورهم إلى أصبهان فبعث، عتّاب بن ورقاء إلى الزبير بن عليّ: أنا ابن عمك ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري فبعث إليه الزبير أن أدنى الفاسقين وأبعدهم من الحق سواء. وإنما سمّي الحرث بن عبد الله القباع لأنه ولّي البصرة، فعيّر على الناس مكاييلهم، فنظر إلى مكيال صغير في مراة العين وقد أحاط بدقيق استكثره فقال: إن مكيالكم هذا لقباع، والقباع الذي يخفي أو يخفى ما فيه يقال: انقبع الرجل إذا استتر، ويقال للقنفذ القبع وذلك أنه يخنس رأسه. وأقام الخوارج يغادون عتّاب بن ورقاء القتال ويراوحونه حتى طال عليهم المقام ولم يظفروا منه بكثير. فلما كثر ذلك عليهم انصرفوا لا يمرون بقرية بين أصفهان والأهواز إلا استباحوها وقتلوا من فيها وشاور المصعب الناس. فأجمع رأيهم على المهلب فبلغ الخوارج مشورته فقال لهم قطريّ: إن جاءكم عتّاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب ولا يظفر بكبير، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم فإما له وإما عليه، وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه ويأخذ منكم ولا يعطيكم فهو البلاء اللازم والمكروه الدائم. وعزم مصعب
__________
(1) السلة بالفتح وقد يكسر وهي استلال السيوف.
(2) سيرا ملسا: أي سيرا مغبا وشديدا.(2/263)
على توجيه المهلب وإن يشخص هو لحرب عبد الملك. فلما أحسّ به الزبير بن علي خرج إلى الرّيّ وبها يزيد بن الحرث بن رؤيم فحاربه ثم حصره. فلما طال عليه الحصار خرج إليه فكان الظفر للخوارج فقتل يزيد بن رؤيم ونادى يومئذ ابنه حوشبا ففر عنه وعن أمه لطيفة. وكان علي بن أبي طالب عليه السلام. دخل على الحرث بن رؤيم يعود ابنه يزيد فقال: عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة، فقتلت معه يومئذ ففي ذلك يقول الشاعر:
مواقفنا في كل يوم كريهة ... أسرّ وأشقى من مواقف حوشب
دعاه يزيد والرماح شوارع ... فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب
ولو كان شهم النفس أو ذا حفيظة ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
وقد مر خبر عيسى بن مصعب مستقصى، وقال اخر:
نجّى حليلته وأسلم شيخه ... نصب الأسنّة حوشب بن يزيد
ما دار بين خالد بن حصوان وبلال ابن أبي مروة
وقال ابن حوشب لبلال بن أبي بردة يعيره بأمه، وبلال مشدود عند يوسف بن عمر: يا ابن حوراء: فقال بلال، وكان جلدا أن الأمة تسمى حوراء وجيداء ولطيفة. وزعم الكلبي أن بلالا كان جلدا حيث ابتلي قال الكلبي:
ويعجبني أن أرى الأسير جلدا. قال، وقال خالد بن صفوان له بحضرة يوسف: الحمد الله الذي أزال سلطانك، وهدّ ركنك، وغيّر حالك، فو الله لقد كنت شديد الحجاب مستخفّا بالشريف، مظهرا للعصبية، فقال له بلال:
إنما طال لسانك يا خالد لثلاث معك هنّ عليّ: الأمر عليك مقبل وهو عني مدبر، وأنت مطلق وأنا مأسور، وأنت في طينتك وأنا في هذا البلد غريب.
وإنما جرى إلى هذا لأنه يقال أن أصل ال الأهثم من الحيرة، وأنهم أشابة (1)
دخلت في بني منقر من الروم.
__________
(1) الاشابة: بالضم الاخلاط من الناس تجتمع من كل حدب وصوب.(2/264)
حصار الخوارج لعتاب بن ورقاء
ثم انحط الزبير بن علي على أصفهان فحصر بها عتّاب بن ورقاء الرياحيّ سبعة أشهر، وعتّاب يحاربه في بعضهن، فلما طال به الحصار قال لأصحابه:
ما تنتظرون، والله ما تؤتون من قلّة وإنكم لفرسان عشائركم. ولقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم وما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم، فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه. فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح الغد صلى بهم الصبح، ثم خرج إلى الخوارج وهم غارّون (1)، وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين: من أراد البقاء فليلحق بلواء الياسمين، ومن أراد الجهاد فليخرج معي. فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجدّ لم ير الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقا وقتلوا الزبير بن عليّ وانهزمت الخوارج، فلم يتّبعهم عتاب. ففي ذلك يقول الشاعر:
ويوم بجيّ (2) تلافيته (3) ... ولولاك لاصطلم (4) العسكر
قال أبو العباس: نفسّر قوله ولولاك في اخر هذا الخبر إن شاء الله. وقال رجل من بني ضبّة في تلك الوقعة:
خرجت من المدينة مستميتا (5) ... ولم أك في كتيبة ياسمنيا
أليس من الفضائل أنّ قومي ... غدوا مستلئمين مجاهدينا
وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على
__________
(1) غارون: غافلون واحدة غار.
(2) جي: بالفتح اسم أصبهان قديما أو بلدة بها.
(3) تلافاه: تداركه.
(4) الاصطلام هو الاستئصال.
(5) مستميتا: الشجاع الذي لا يهاب الموت.(2/265)
بعض. وربما مواقفة بغير حرب، وربما اشتدت الحرب بينهم. وكان رجل من أصحاب عتّاب يقال له شريح ويكنى أبا هريرة، إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج وبالزبير بن عليّ:
يا ابن أبي الماحوز والأشرار ... كيف ترون يا كلاب النار
شدّ أبي هريرة الهرّار ... يهرّكم بالليل والنهار
ألم تروا جيّا على المضمار ... تمسي من الرحمن في جوار
فغاظهم ذلك منه، فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه فظنت الخوارج أنه قد قتل. فكانوا إذا تواقفوا نادوهم: ما فعل الهرّار؟
فيقولون: ما به من بأس حتى أبلّ من علّته؟ إليهم فصاح: يا أعداء الله، أترون بي بأسا؟ فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمّك الهاوية في النار الحامية. قال أبو العباس: نفسر أشياء من العربية تحتاج إلى الشرح، من ذلك قوله: ولولاك، ومنه قوله: ألم تروا جيّا. ومنه قوله: يهركم بالليل والنهار
الحديث على مواقع لولا في اللغة
أما قوله لولاك فإن سيبويه يزعم أنّ لولا تخفض المضمر، ويرتفع بعدها الظاهر لابتداء فيقال: إذا قلت لولاك فما الدليل على أن الكاف مخفوضة دون أن تكون منصوبة، وضمير النصب كضمير الخفض؟ فتقول: إنك تقول لنفسك لولاي، ولو كانت منصوبة لكانت النون قبل الياء كقولك رماني وأعطاني. قال يزيد بن الحكم الثقفيّ:
وكم موطن لولاي طحت (1) كما هوى ... بأجرامه من قلّة النيق منهوي
النيق أعلى الجبل، وجرم الإنسان خلقه فيقال له: الضمير في موضع ظاهره فكيف يكون مختلفا، وإن كان هذا جائزا فلم لا يكون في الفعل وما أشبه نحو إنّ وما كان معها في الباب. وزعم الأخفش سعيد أن الضمير
__________
(1) طحت: أهلكت.(2/266)
مرفوع، ولكن وافق ضمير الخفض كما يستوي الخفض والنصب فيقال هذا في غير هذا الموضع؟ قال أبو العباس: والذي أقوله إن هذا خطأ لا يصلح إلّا أن تقول لولا أنت، كما قال الله عز وجل: {لَوْلََا أَنْتُمْ لَكُنََّا مُؤْمِنِينَ}، (1) ومن خالفنا يزعم أن الذي قلناه أجود ويدعي الوجه الاخر فيجيزه على بعده. وأما جيّ فالأجود فيها أن تقول: (ألم تروا جيّ على المضمار) فلا تنوّن، لأنها مدينة والاسم أعجمي، والمؤنث إذا سمي باسم أعجمي على ثلاثة أحرف لم ينصرف إذا كان مؤنثا، وإن كان أوسطة ساكنا نحو جور وحمص وما كان مثل ذلك، ولو كان إسما لمذكر لانصرف فإن صرفته جعلته إسما لبلد، وإن لم تصرفه جعلته إسما لبلده، أو لمدينة. ألا ترى أنك تصرف نوحا ولوطا وهما أعجميان؟ وكذلك لو كان على ثلاثة أحرف كلها متحرك، لأنك تصرف قدما لو سميت به رجلا، فالأعجمي بمنزلة المؤنث لأن إمتناعهما واحد. وأما قوله يهركم فإن كل ما كان من المضاعف على ثلاثة أحرف، وكان متعديا فإن المضارع منه على يفعل نحو شدّه يشدّه وزرّه يزرّه وردّه يردّه وحلّه يحلّه. وجاء منه حرفان على: يفعل ويفعل، فيهما جيد: هرّة يهرّه إذا كرهه، ويهرّه أجود، وعلّه بالحناء، يعله ويعلّه أجود ومن قال حبتته قال يحبّه لا غير. وقرأ أبو رجاء العطارديّ: فاتبعوني يحبّكم الله. وذلك أن بني تميم تدّعم في موضع الجزم، وتحرّك أواخره لالتقاء الساكنين.
مبايعة الخوارج لقطري بعد مقتل الزبير
رجع الحديث. ثم إن الخوارج أداروا أمرهم بينهم فأرادوا تولية عبيدة بن هلال، فقال: أدلّكم على من هو خير لكم مني، من يطاعن في قبل، ويحمي في دبر عليكم قطريّ بن الفجاءة المازنّي فبايعوه. فوقف بهم فقالوا:
يا أمير المؤمنين، امض بنا إلى فارس. فقال: أن يفارس عمر بن عبيد الله بن معمر ولكن نصير إلى الأهواز، فإن خرج مصعب بن الزبير من البصرة
__________
(1) سورة سبأ: الاية 31.(2/267)
دخلناها. فأتوا الأهواز، ثم ترفّعوا عنها إلى إيذج (1). وكان مصعب قد عزم على الخروج إلى باجمير، فقال لإصحابه: إن قطريّا قد أطلّ علينا وان خرجنا عن البصرة دخلها. فبعث إلى المهلب، فقال: اكفنا هذا العدوّ، فخرج إليهم المهلب، فلما أحس به قطريّ تيمّم نحو كرمان، فأقام المهلب بالأهواز ثم كرّ قطريّ عليه، وقد استعد، فكان الخوارج في جميع حالاتهم أحسن عدّة ممن يقاتلهم بكثرة السلام وكثرة الدواب، وحصانة الجبن (2)، فحاربهم المهلب فنفاهم إلى رام هرمز، وكان الحرث بن عميرة الهمذانيّ قد صار إلى المهلب مراغما (3) لعتّاب بن ورقاء يقال: إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن عليّ، وكان الحرث بن عميرة هو الذي تولّى قتله، وحاص (4) إليه أصحابه. ففي ذلك يقول أعشى همدان:
إنّ المكارم أكملت أسبابها ... لابن اللّيوث الغرّ من قحطان
للفارس الحامي الحقيقة معلما (5) ... زاد الرفاق إلى قرى نجران
الحرث بن عميرة الليث الذي ... يحمي العراق إلى قرى كرمان
ودّ الأزارق لو يصاب بطعنة ... ويموت من فرسانهم مائتان
(ويروى: زاد الرفاق وفارس الفرسان) وتأويله أن الرفقة إذا صحبها أغناها عن التزود، كما قال جرير وأراد ابن له سفرا وفي ذلك السفر يحيى بن أبي حفصة، فقال لأبيه: زوّدني، فقال جرير:
أزادا سوى يحيى تريد وصاحبا ... ألا إنّ يحيى نعم زاد المسافر
فما تنكر الكوماء ضربة سيفه ... إذا أرملوا أو خفّ ما في الغرائر
__________
(1) إيذج: بلد بكردستان.
(2) الجن: جمع جنة بالضم، كل ما يقي الإنسان ويحفظه وأراد بها أداة الحرب وحصانتها وأحكامها.
(3) مراغما: المراغمة، الهجران والتباعد.
(4) حاص إليه أصحابه: عدلوا إليه واجتمعوا عليه.
(5) معلما على صيغة أسم الفاعل من قولهم أعلم الفارس فرسه أي علق عليه صوفا ملونا في الحرب وأعلم نفسه وسمها بسيماء الحرب.(2/268)
وقوله: ويموت من فرسانهم، يكون على وجهين مرفوعا ومنصوبا، فالرفع على العطف، ويدخل في التمني، والنصب على الشرط، والخروج من العطف. وفي مصحف ابن مسعود ودّوا لو تدهن (1) فيدهنوا، والقراءة فيدهنون، على العطف. وفي الكلام: ودّلوا تأتيه فتحدّثه وإن شئت نصبت الثاني.
وخرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن، ولم يأت المهلب وأصحابه، فتواقفوا يوما على الخندق، فناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب؟ قالوا، إمام هدى، قالوا: فما تقولون في عبد الملك؟
قالوا: ضالّ مضلّ. فلما كان بعد يومين أتى المهلّب قتل مصعب وإن أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته. فلما تواقفوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: لا نخبركم. قالوا: فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا: أمام هدى، قالوا: يا أعداء الله، بالأمس ضالّ مضلّ واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله.
طرد الخوارج من الأهواز
وولي خالد بن عبد الله بن أسيد فقدم فدخل البصرة، فأراد عزل المهلب فأشير عليه بأن لا يفعل وقيل له: إنما أمن أهل هذا المصر بأنّ المهلّب بالأهواز وعمر بن عبيد الله بفارس فقد تنحّى عمرو إن نحّيت المهلّب لم تأمن على البصرة. فأبى إلا عزله، فقدم المهلّب البصرة، وخرج إلى الأهواز فأشخصه فلما صار بكربج دينار لقيه قطريّ فمنعه حطّ أثقاله، وحاربه ثلاثين يوما، ثم أقام قطري بإزائه وخندق على نفسه، فقال المهلّب: إن قطريا ليس بأحق بالخندق منك، فعبر دجيلا إلى شقّ نهر تيرى، وأتبعه قطريّ فصار إلى مدينة نهر تيرى، فبنى سورها وخندق عليها، فقال المهلّب لخالد: خندق على نفسك، فإني لا امن عليك البيات، فقال: يا أبا سعيد، الأمر أجل من ذلك.
فقال المهلب لبعض ولده: إني أرى أمرا ضائعا، ثم قال لزياد بن عمرو:
__________
(1) ودّوا لو تدهن: الادهان إظهار خلاف ما تضمر والمداراة والعلانية ومثله المداهنة.(2/269)
خندق علينا، فخندق المهلّب وأمر بسفنه ففرّغت وأبى خالد أن يفرّغ سفنه، فقال المهلّب لفيروز حصين: صر معنا، فقال: يا أبا سعيد، الحزم ما تقول غير أني أكره أن أفارق أصحابي. قال: فكن بقربنا. قال: أما هذه فنعم. وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمدّ خالدا بجيش أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ففعل فقدم عليه عبد الرحمن فأقام قطريّ يغاديهم القتال ويراوحهم أربعين يوما، فقال المهلّب لمولى لأبي عيينة: انتبذ إلى ذلك الناوس فبت عليه في كل ليلة، فمتى أحسست خبرا من الخوارج أو حركة أو صهيل خيل فاعجل إلينا. فجاءه ليلة فقال: قد تحرّك القوم، فجلس المهلّب بباب الخندق وأعدّ قطريّ سفنا فيها حطب فأشعلها نارا وأرسلها على سفن خالد، وخرج في أدبارها حتى خالطهم، فجعل لا يمرّ برجل إلا قتله، ولا بداية إلا عقرها، ولا بفسطاط إلا هتكه. فأمر المهلّب يزيد فخرج في مائة فارس فقاتل وأبلى يومئذ، وخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأبلى بلاء حسنا.
فيروز حصين وماثره
وخرج فيروز حصين في مواليه فلم يزل يرميهم بالنّشّاب هو من معه، فأثّرا أثرا جميلا فصرع يزيد بن المهلب في الخندق. فأخذ بيده رجل من الأزد، فاستنقذه، فوهب له فيروز حصين عشرة الاف درهم. وأصبح عسكر خالد كأنه حرّة سوداء، فجعل لا يرى إلا قتيلا أو صريعا. فقال للمهلّب: يا أبا سعيد، كدنا نفتضح! فقال: خندق على نفسك فإن لا تفعل عادوا إليك، فقال: اكفني أمر الخندق. فجمع له الأحماس (1)، فلم يبق شريف إلا عمل فيه، فصاح بهم الخوارج: والله لولا هذا الساحر المزوني لكان الله قد دمّر عليكم، وكانت الخوارج تسمّي المهلّب الساحر لأنهم كانوا يدبرون الأمر فيجدونه قد سبق إلى نفس تدبيرهم. فقال أعشى همدان لابن الأشعث في كلمة طويلة:
ويوم أهوازك لا تنسه ... ليس الثنا والذكر بالداتر
__________
(1) الأحماس: الشجعان.(2/270)
وقد ذكرنا في قصر الممدود من أن مدّ المقصور لا يجوز ما يغني عن إعادته. وتذكر فيروز حصين لما مر من ذكره، وكان فيروز حصين رجلا جيد البيت في العجم، كريم المحتد (1) مشهور الاباء. فلما أسلم والي حصينا، وهو حصين بن عبد الله العنبريّ من بني العنبر بن تميم بن مرّ. ثم من ولد طريف بن تميم، وكان فيروز حصين شجاعا جوادا نبيل الصّورة (2)، جهير الصوت.
بعض ما حدث مع فيروز
وتروي الرواة أن رجلا من العرب كانت أمه فتاة، فقاول بني عم له، بالجميّة. ومرّ فيروز حصين فقال: هذا خالي فمن منكم له خال مثله؟ وظن أن فيروز لم يسمعها، وسمعها فيروز، فلما صار إلى منزله بعث إلى الفتى فاشترى له منزلا وجارية، ووهب له عشرة الاف درهم. ومن ماثره المعروفة أن الحجاج لما واقف ابن الأشعث برستقاباذ نادى منادي الحجاج: من أتى برأس فيروز فله عشرة الاف درهم. ففصل فيروز من الصف، فصاح بالناس:
من عرفني فقد اكتفى ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، وقد عرفتم مالي ووفائي، من أتى برأس الحجاج فله مائة ألف. فقال الحجاج: والله لقد تركني أكثر التلفّت، وإني لبين خاصتي. فأتي به الحجاج فقال له: أأنت الجاعل في رأس أميرك مائة ألف؟ قال: قد فعلت، قال: والله لأمهدنّك (3) ثم لأحملنك! أين أين المال؟ قال: عندي فهل إلى الحياة من سبيل؟ قال: لا.
قال: فأخرجني إلى الناس حتى أجمع لك المال فلعلّ قلبك يرقّ عليّ. ففعل الحجاج. فخرج فيروز فأحلّ الناس من ودائعه، وأعتق رقيقه، وتصدّق بماله ثم ردّ إلى الحجاج، فقال: شأنك الان فاصنع ما شئت. فشدّ في القصب
__________
(1) المحتد: كمجلس الأصل.
(2) نبيل الصورة: حسن الصورة.
(3) لأمهدنك: كأنه يريد لاحرمنك على المهاد وهو الأرض.(2/271)
الفارسيّ ثم سلّ حتى شرّح ثم نضح بالخل والملح فما تأوّه حتى مات.
ومضى قطريّ إلى كرمان، فانصرف خالد إلى البصرة، فأقام قطري بكرمان أشهرا، ثم عمد لفارس وخرج خالد إلى الأهواز وندب للناس رجلا فجعلوا يطلبون المهلّب، فقال خالد: ذهب المهلب بخط هذا المصر، إني قد ولّيت أخي قتال الأزارقة. فولّى أخاه عبد العزيز، واستخلف المهلّب على الأهواز في ثلثمائة ومضى عبد العزيز في ثلاثين ألفا، والخوارج بدراب جرد، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتمّ إلا بالمهلّب، فسيعلمون. قال صعب بن زيد: فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز، جاءني كردوس حاجب المهلّب فقال: أجب الأمير! فجئت إلى المهلّب وهو في سطح وعليه ثياب هرويّة فقال: يا صعب أنا ضائع، كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز وأخشى أن توافيني الأزارقة ولا جند معي، فابعث رجلا من قبلك يأتيني بخبرهم، سابقا به إليّ، فوجهت رجلا يقال له عمران بن فلان فقلت:
اصحب عسكر عبد العزيز واكتب إليّ بخير يوم يوم. فجعلت أورده على المهلب، فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة، فقال له الناس: هذا يوم صالح فينبغي أن تترك أيها الأمير حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا، فقال: كلّا، الأمر قريب. فنزل الناس على غير أمره، فلم يستممّ النزول حتى ورد عليهم سعد الطلائع في خمسمائة فارس، كأنهم خيط ممدود، فناهضهم (1) عبد العزيز فواقفوه ساعة ثم انهزموا عنه مكيدة، فاتبعهم، فقال له الناس: لا تتبعهم فإنا على غير تعبية فأبى، فلم يزل في اثارهم حتى اقتحموا عقبة فاقتحمها، وراءهم والناس ينهونه ويأبى. وكان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريم الملقب عبس الطعان، وعلى بكر بن وائل مقاتل ابن مسمع القيسيّ، وعلى شرطته رجلا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، فنزلوا عند العقبة ونزل خلفهم، وكان لهم في بطن العقبة كمين. فلما صاروا وراءها خرج عليهم الكمين، وعطف سعد الطلائع فترجّل عبس بن طلق فقتل وقتل
__________
(1) ناهضهم: قاومهم وتناهضوا في الحرب. نهض كل إلى أصحاب(2/272)
مقاتل بن مسمع وقتل الضبيعيّ صاحب الشرطة وانحاز عبد العزيز. وأتبعهم الخوارج على فرسخين يقتلونهم كيف شاؤا، وكان عبد العزيز قد خرج معه بأمّ حفص ابنة المنذر بن الجارود امرأته، فسبوا النساء يومئذ وأخذوا أسرى لا تحصى، فقذفوهم في غار بعد أن شدّوهم وثاقا. ثم سدّوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه. وقال رجل حضر ذلك اليوم: رأيت عبد العزيز وإن ثلاثين رجلا ليقربونه بأسيافهم وما تحيك في جسده (1)، قال: ما أحاك فيه السيف وما يحيك فيه وما حددا الأمر في صدري وما حكى في صدري وما احتكى في صدري، ويقال: حاك الرجل في مشيته يحيك إذا تبختر، ونودي السبي يومئذ فغولي بأم حفص فبلغ بها رجل سبعين ألفا، وذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا ولحقوا بالخوارج ففرض لكل واحد منهم خمسمائة. فكاد يأخذها فشقّ ذلك على قطريّ وقال: ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفا، إن هذه فتنة، فوثب إليها أبو الحديد العبديّ فقتلها فأتي به قطريّ، قال: يا أبا الحديد مهيم (2)، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت المؤمنين قد تزايدوا في هذه المشركة فخشيت عليهم الفتنة، فقال قطري: قد أصبت وأحسنت، فقال رجل من الخوارج:
كفانا فتنة عظمت وجلّت ... بحمد الله سيف أبي الحديد
أهاب المسلمون بها وقالوا ... على فرط الهوى هل من مزيد
فزاد أبو الحديد بنصل سيف ... رقيق الحدّ فعل فتى رشيد
قوله: أهاب، يريد أعلن، يقال: أهبت به إذا دعوته مثل صوّت: قال الشاعر:
أهاب بأحزان الفؤاد مهيب ... وماتت نفوس للهوى وقلوب
وقوله: مهيم، حرف استفهام ومعناه ما الخبر؟ وما الأمر؟ فهو دال على
__________
(1) يحيك في جسده: يقال أحاك السيف في جسد فلان فلا أثر فيه كحاك.
(2) مهيم: ما أمرك وما شأنك وهي كلمة يمانية وضعت للاستفهام واستعملت هنا للانكار.(2/273)
ذلك محذوف الخبر. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بعبد الرحمن بن عوف ردع خلوق (1)، فقال: مهيم! فقال تزوجت يا رسول الله، فقال: أولم ولو بشاة. وكان تزوج على نواة. وأصحاب الحديث يروونه على نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم، وهذا خطأ وغلط (2). العرب تقول نواة (3) فتعني بها خمسة دراهم، كما تقول النشّ لعشرين درهما، والأوقيّة لأربعين درهما فإنما هو إسم لهذا المعنى. وكان العلاء بن مطرّف السعديّ ابن عمّ عمرو القنا! وكان يحب أن يلقاه في تلك الحروب مبارزة، فلحقه عمرو القنا وهو منهزم، فضحك عمرو وقال متمثّلا:
تمنّاني ليلقاني لقيط ... أعام لك ابن صعصعة بن سعد
ثم صاح به: انج أبا المصدّى. وكان عمرو القنا يكنّى أيضا أبا المصدى. وهذا البيت الذي تمثل به عمرو ليزيد بن عمرو بن الصعق الكلابيّ يقوله، يعني لقيط بن زرارة وكان يطلبه. وقوله: أعام لك، يريد يا عامر فرخّم وإنما يريد الحيّ تعجبا، أي لكم أعجب من تمنيه للقائي قد عابني عامر بن صعصعة، وهم بنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ويقال ان عامر بن صعصعة هو ابن سعد بن زيد مناة بن تميم لا ابن معاوية وإنهم نامله في قيس (4)، ولذلك تمنعت بنو سعد من محاربتهم مع بني تميم يوم جبلة، ولذلك أنذرهم كرب بن صفوان. وهذا البيت وضعه سيبويه في باب النداء الذي معناه معنى التعجّب. وشبيه به قول الصلتان العبديّ:
فيا شاعرا لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب تواضع
على معنى قوله: فلله درّه شاعرا. وكان العلاء بن مطرّف قد حمل معه
__________
(1) خلوق: بالفتح طيب مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والردع لطخ منه.
(2) هذا خطأ وغلط: قال الأزهري لفظ الحديث يدل على أنه تزوج المرأة على ذهب قيمته خمسة دراهم الا تراه قال نواة من ذهب ولست أدري لم أنكره أبو عبيدة.
(3) النوا في الأصل عجمة الثمرة ويعني قدر نواة من ذهب.
(4) الناقلة: قبيلة تنقل من قوم إلى قوم وجمعها نواقل.(2/274)
امرأتين له، إحداهما من بني ضبّة يقال لها أم جميل، والاخرى بنت عمه وهي فلانه بنت عقيل، فطلّق الضّبية وتخلص بهما يومئذ وحمل الضبية أوّلا، ففي ذلك يقول:
ألست كريما إذ أقول لفتيتي ... قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل
ولو لم يكن عودي نضارا لأصبحت ... تخرّ على المتنين أمّ جميل
بين الصعب بن يزيد والمهلب
قال الصعب بن يزيد: بعثني المهلّب لاتيه بالخبر، فصرت إلى قنطرة أربك (1) على فرس اشتريته بثلاثة الاف درهم، فلم أحسس خبرا، فسرت مهجّرا إلى أن أمسيت. فلما أظلمنا سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم فقلت:
ما وراءك؟ فقال: الشرّ. قلت: فأين عبد العزيز؟ قال: أمامك. فلما كان اخر الليل إذا أنّا بزهاء خمسين فارسا معهم لواء هذا، فقلت: من هذا؟
فقالوا: هذا لواء عبد العزيز. فتقدمت إليه، فسلمت وقلت: أصلح الله الأمير، لا يكبرنّ عليك ما كان فإنك كنت في شر جند وأخبثه، قال لي: أو كنت معنا؟
قلت: لا ولكن كاني شاهد أمرك، قال: كأنك كنت معنا. قلت: ما يسرك، قد هزم وفلّ جيشه، فقال: ويحك، وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وفلّ جيش من المسلمين؟ قلت: قد كان ذاك، ساءك أو سرّك. فوجّه رجلا إلى خالد يخبره. قال الرجل: فلما أخبرت خالدا قال: كذبت ولؤمت. ودخل رجل من قريش فكذّبني، وقال لي خالد: والله لهممت أن أضرب عنقك! قلت: أصلح الله الأمير إن كنت كاذبا فاقتلني وإن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلّف، فقال خالد: لبئسما أخطرت به دمك. (2) فما برحت حتى دخل بعض الفلّ وقدم عبد العزيز سوق الأهواز فأكرمه المهلّب وكساه، وقدم معه
__________
(1) أربك بضم الباء بلد وناحية في الأهواز له قنطرة مشهورة.
(2) أخطرت به دمك: بئسما جعلت نفسك خطرا له والخطر محركا قدر الرجل أي ومثله ينكر عليه أن يجعل دمه قدر ذلك المطرف.(2/275)
على خالد واستخلف ابنه حبيبا، وقال له: تحسّس عن الأخبار فإن أحسست بخبر الأزارقة قريبا منك فانصرف إلى البصرة. فلم يزل حبيب مقيما والأزارقة تدنو منه حتى بلغوا قنطرة أربك، فانصرف إلى البصرة على نهرتيري، فلما دخلها أعلم خالد، فغضب عليه واستتر حبيب في بني هلال بن عامر بن صعصعة فتزوج هناك في استتاره الهلاليّة أم عبّاد بن حبيب. وقال الشاعر لخالد يفيّل رأيه أي يخطئه:
بعثت غلاما من قريش فروقة (1) ... وتترك ذا الرأي الأصيل المهلبّا
أبى الذّم واختار الوفاء وأحكمت ... قواه وقد ساس الأمور وجرّبا
وقال الحرث بن خالد المخزومي:
فرّ عبد العزيز لما رأى الأبطا ... ال بالسّفح نازلوا قطريّا
ويروي:
فر عبد العزيز إذا راء عيسى ... وابن داود نازلا قطريا
عاهد الله إن نجا ملمنايا ... ليعودنّ بعدها حرما
يسكن الخلّ والصفاح فمرّا ... ن وسلعا وتارة نجديّا
حيث لا يشهد ولا يسم ... ع يوما لكرّ خيل دويّا
قوله: إذا راء عيسى، الأصل رأى، ولكنه قلب فقدّم الألف وأخر الهمزة، كما قال كثيّر:
وكلّ خليل راءني فهو قائل ... من اجلك هذا هامة اليوم أو غد
والقلب كثير في كلام العرب. وسنذكر منه شيئا في موضعه إن شاء الله.
وقوله ملمنايا يريد من المنايا، ولكنه حذف النون لقرب مخرجها من اللام فكانتا كالحرفين يلتقيان على لفظ فيحذف أحدهما. ومن كلام العرب أن يحذفوا النون إذا لقيت لام المعرفة ظاهرة فيقولون في بني الحرث وبني العنبر
__________
(1) الفرق: الفزع الشديد.(2/276)
وما أشبه ذلك: بلحرث وبلعنبر وبلهجيم، كما يقولون علما بنو فلان فيحذفون إحدى اللامين. وقوله ليعودن بعدها حرميا، العرب تنسب إلى الحرم فيقولون: حرميّ وحرميّ على قولهم حرمة البيت وحرمة البيت وقال النابغة الذبيانيّ:
من قول حرميّة قالت وقد رحلوا ... هل في محفّيكم من يشتري أدما
كتاب خالد إلى عبد الملك
وكتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز. وقال للمهلّب: ما ترى عبد الملك صانعا بي؟ قال: يعزلك، قال: أتراه قاطعا رحمي؟ قال: نعم أتته هزيمة أميّة أخيك من البحرين وتأتيه هزيمة أخيك عبد العزيز من فارس. قال أبو العباس: فكتب عبد الملك إلى خالد: أما بعد، فإني كنت حددت لك حدّا في أمر المهلّب، فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي، واستبددت برأيك فولّيت المهلّب الجباية (1)، ووليت أخاك حرب الأزارقة، ققبح الله هذا رأيا، أتبعث غلاما غرّا لم يجرّب الحروب، وتترك سيدا شجاعا مدبّرا حازما قد مارس الحروب تشغله بالجباية! أما لو كافأتك على قدر ذنبك لأتاك من نكيري ما لا بقيّة لك معه، ولكن تذكرت رحمك فلفتتني عنك وقد جعلت عقوبتك عزلك. وولّى بشر بن مروان وهو بالكوفة وكتب إليه: أما بعد، فإنك أخو أمير المؤمنين، يجمعك وإياه مروان بن الحكم، وإن خالدا لا مجتمع له مع المؤمنين دون أميّة، فانظر المهلب فولّه حرب الأزارقة فإنه سيّد بطل مجرّب فأمدده من أهل الكوفة بثمانية الاف رجل. فشقّ عليه ما أمره في المهلب وقال: والله لا قتلنّه، فقال له موسى بن نصير: إن للمهلب حفاظا وبلاء ووفاء. وخرج بشر بن مروان يريد البصرة، فكتب موسى وعكرمة إلى المهلب أن يتلقّاه لقاء لا يعرفه به فتلقاه المهلب على بغل، فسلّم عليه في
__________
(1) الجباية: بالكسر جمع الخراج من الرعية واستخراج المال من مكانه.(2/277)
خمار الناس. فلما جلس بشر مجلسه قال: ما فعل أميركم المهلب، قالوا: قد تلقاك أيها الأمير وهو شاك. فهمّ بشر أن يولّي حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله، فقال له أسماء بن خارجة: إنما ولاك أمير المؤمنين لترى رأيك.
فقال له عكرمة بن ربعيّ أكتب إلى أمير المؤمنين وأعلمه علة المهلّب، فكتب إليه يعلمه علّة المهلّب، وإن بالبصرة من يغني غناءه (1)، ووجّه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه، رئيسهم عبد الله بن حكيم المجاشعي. فلما قرأ الكتاب خلا بعيد الله بن حكيم، فقال: إن لك دينا ورأيا وحزما، فمن لقتال هؤلاء الأزارقة؟
قال: المهلب. قال: إنه عليل. قال: ليست علته بما نعته. قال عبد الملك:
أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد فكتب يعزم عليه أن يولي المهلّب، فوجّه إليه، وقال المهلب: أنا عليل ولا يمكنني الاختلاف (2). فأمر بشر بحمل الدواوين إليه، فجعل ينتخب، فاعترض بشر عليه، فاقتطع أكثر نخبته، ثم عزم أن لا يقيم بعد ثالثة. وقد أخذت الخوارج الأهواز، وخلّفوها وراء ظهورهم، وصاروا بالفرات. فخرج إليهم المهلّب حتى صار إلى شهار طاق، فأتاه شيخ من بني تميم فقال: أصلح الله الأمير، إن سنّي ما ترى فهبني لعيالي. قال:
على أن تقول للأمير إذا خطب فحثّكم على الجهاد كيف تحثّنا على الجهاد وأنت تحبس أشرافنا، وأهل النجدة منا! ففعل الشيخ ذلك فقال له بشر: ما ما أنت وذاك؟ قال: لا شيء وأعطى المهلّب رجلا ألف درهم على أن يأتي بشرا فيقول له: أيها الأمير أعن المهلّب بالشرطة والمقاتلة، ففعل الرجل ذلك فقال له بشر: ما أنت وذاك! قال: نصيحة للأمير والمسلمين ولا أعود إلى مثلها، فأمدّه بالشرطة والمقاتلة.
وكتب بشر إلى خليفته بالكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن محنف على ثمانية الاف من كلّ ربع ألفين ويوجّه بها مددا إلى المهلّب. فلما أتاه الكتاب بعث إلى عبد الرحمن بن محنف الأزديّ، فعقد له واختار له من كل ربع
__________
(1) من يغني غناءة: ينوب عنه ويجزء مجزأه.
(2) الاختلاف التردد والذهاب: يريد إني لا أستطيع الذهاب والتردد إلى دار الامارة.(2/278)
ألفين، فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير البجليّ، وعلى ربع تميم وهمدان عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمدانيّ، وعلى ربع كندة وربيعة محمد بن اسحق بن الأشعث الكنديّ، وعلى مذحج وأسد زحر بن قيس المذحجيّ. فقدموا على بشر فخلا بعبد الرحمن بن محنف، فقال له: قد عرفت رأيي فيك وثقتي بك فكن عند ظني، أنظر هذا المزونيّ فخالفه في أمره وأفسد عليه رأيه! فخرج عبد الرحمن بن محنف، وهو يقول: ما أعجب ما طمع مني فيه هذا الغلام! يأمرني أن أصغّر شيخا من مشايخ أهلي وسيدا من ساداتهم، فلحق بالمهلب. فلما أحسّ الأزارقة بدنوه منهم إنكشفوا عن الفرات. فاتّبعهم المهلب إلى سوق الأهواز فنفاهم عنها، ثم تبعهم إلى رام هرمز فهزمهم منها، فدخلوا فارس. وإبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء حسنا تقدم فيه، وهو ابن إحدى وعشرين سنة. فلما صار القوم بفارس وجّه إليهم ابنه المغيرة، فقال له عبد الرحمن بن صبح: أيها الأمير، ليس برأي قتل هذه الأكلب، ولئن والله قتلتهم لتقعدنّ في بيتك ولكن طاولهم وكل بهم، فقال:
ليس هذا من الوفاء.
موت بشر
فلم يلبث برام هرمز إلّا شهرا حتى أتاه موت بشر، فاضطرب الجند على ابن مخنف، فوجّه إلى محمد بن إسحاق بن الأشعث وابن زحر واستحلفهما أن لا يبرحا، فحلفا له ولم يفيا. فجعل الجند من أهل الكوفة يتسللون (1) حتى اجتمعوا بسوق الأهواز. وأراد أهل البصرة الانسلال من المهلب، فخطبهم فقال: إنكم لستم كأهل الكوفة إنما تذبّون عن مصركم وأموالكم وحرمكم.
فأقام منهم قوم وتسلّل منهم ناس كثير. وكان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان، فوجّه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز يحلف فيه بالله مجتهدا لئن يرجعوا إلى مراكزهم وانصرفوا عصاة لا يظفر بأحد منهم إلا قتله، فجاء مولاه فجعل يقرأ الكتاب عليهم ولا يرى في وجوههم قبوله، فقال: إني لأرى
__________
(1) يتسللون: ينطلقون في استخفاء.(2/279)
وجوها ما القبول من شأنها، فقال له ابن زحر: أيها العبد، اقرأ ما في الكتاب وانظر. إلى صاحبك، فأنك لا تدري ما في أنفسنا. وجعلوا يستعجلونه في قراءته. ثم قصدوا قصد الكوفة فنزلوا النخيلة وكتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في الدخول، فأبى، فدخلوها بغير إذن.
ولاية الحاج للعراق
فلم يزل المهلّب ومن معه من قوّاده وابن مخنف في عدد قليل فلم ينشبوا أن ولي الحجاج العراق فدخل الكوفة قبل البصرة، وذلك في سنة خمس وسبعين، فخطبهم وتهددهم. وقد ذكرنا الخطبة متقدما. ثم نزل فقال لوجوه أهلها: ما كانت الولاة تفعل بالعصاة؟ قالوا: كانت تضرب وتحبس! فقال الحجاج: ولكن ليس لهم عندي إلا السيف، إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون، ولو ساغت المعصية لأهلها ما قوتل عدوّ ولا جبي فيء ولا عزّ دين. ثم جلس لتوجيه الناس، فقال: قد أجّلتكم ثلاثا، وأقسم بالله لا يتخلّف أحد من أصحاب ابن مخنف بعدها ولا من أهل الثغور إلا قتلته. ثم قال لصاحب حرسه وصاحب شرطه: إذا مضت ثلاثة أيام فاتخذا سيوفكما عصيّا، فجاءه عمير بن ضابىء البرجميّ بابنه فقال: أصلح الله الأمير، إن هذا أنفع لكم مني، هو أشدّ بني تميم أيدا وأجمعهم (1) سلاحا وأربط بهم جأشا (2)، وأنا شيخ كبير عليل، واستشهد جلساءه، فقال الحجاج: إن عذرك لواضح وإن ضعفك لبيّن، ولكني أكره أن يجترىء بك الناس عليّ، وبعد فأنت ابن ضابىء صاحب عثمان، ثم أمر به فقتل فاحتمل الناس وإن أحدهم ليتّبع بزاده وسلاحه، ففي ذلك يقول ابن الزبير (3) الأسديّ:
أقول لعبد الله يوم لقيته ... أرى الأمر أمسى منصبا (4) متشعّبا
__________
(1) الأيد: القوة.
(2) أربطهم جأشا: أكثرهم ثبتا.
(3) ابن الزبير: كأمير وهو جده وأبوه عبد الله.
(4) المنصب: المتعب.(2/280)
تخيّر فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وأما أن تزور المهلبا
هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا
هما إن أرى الحجاج يعمد سيفه ... يد الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
فأضحى لو كانت خرسان دونه ... راها مكان السّوق أو هي أقربا
وهرب سوّار بن المضرّب السعديّ من الحجاج، وقال:
أقاتلي الحجاج إن لم أزر له ... دراب وأترك عند هند فؤاديا
وقد مرت هذه الأبيات. وخرج الناس عن الكوفة، وأتى الحجاج البصرة فكان عليهم أشدّ إلحاحا، وقد كان أتاهم خبره بالكوفة فتحمل الناس قبل قدومه، فأتاه رجل من بني يشكر، وكان شيخا كبيرا أعور، وكان يجعل على عينه العوراء صوفة فكان يلقب ذا الكرسفة فقال: أصلح الله الأمير، إن بي فتقا وقد عذرني بشر وقد رددت العطاء، فقال: إنك عندي لصادق، ثم أمر به فضربت عنقه، ففي ذلك يقول كعب الأشقريّ أو الفرزدق:
لقد ضرب الحجّاج بالمصر ضربة ... تقرقر منها بطن كلّ عريف (1)
ويروى عن ابن ميرة قال: إنا لنتغدّى معه يوما إذ جاء رجل من سليم برجل يقوده، فقال: أصلح الله الأمير ان هذا عاص، فقال له الرجل: أنشدك الله أيها الأمير في دمي، فو الله ما قبضت ديوانا (2) قطّ ولا شهدت عسكرا، وإني لحائك أخذت من تحت الحفّ، فقال: اضربوا عنقه. فلما أحس بالسيف سجد فلحقه السيف وهو ساجد فأمسكنا عن الطعام فأقبل علينا الحجاج، فقال: ما لي أراكم صفرت أيديكم واصفرّت وجوهكم وحدّ نظركم من قتل رجل واحد! إن العاصي يجمع خلالا يخلّ بمركزه وبعصي أميره ويغرّ المسلمين وهو أجير لهم، وإنما يأخذ الاجرة لما يعمل والوالي مخيّر فيه إن شاء قتل، وإن شاء عفا.
__________
(1) العريف بالفتح رئيس القوم والنقيب دون الرئيس.
(2) الديوان في الأصل أهل العطية واستعارة هنا للعطاء.(2/281)
كتاب الحجاج إلى المهلب
ثم كتب الحجاج إلى المهلّب: أما بعد، فإن بشرا رحمه الله استكره نفسه عليك وأراك غناءه عنك، وأنا أريك حاجتي إليك فأرني الجدّ في قتال عدوّك، ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله فإني قاتل من قبلي، ومن كان عندي من وليّ من هرب عنك فأعلمني مكانه فإني أرى أن اخذ الوليّ بالوليّ، والسميّ بالسميّ. فكتب إليه المهلّب: ليس قبلي إلا مطيع وإن الناس إذا خافوا العقوبة كبّروا الذنب وإذا أمنوا العقوبة صغّروا الذنب، وإذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك، فهب هؤلاء الذين سميتهم عصاة، فإنما هم فرسان أبطال أرجوا أن يقتل الله بهم العدوّ، ونادم على ذنبه.
فلما رأى المهلب كثرة الناس عليه قال: اليوم وقوتل هذا العدوّ ولما رأى ذلك قطريّ قال: انهضوا بنا نريد السردان، فنتحصّن فيها فقال عبيدة بن هلال: أو نأتي سابور. وخرج المهلب في اثارهم فأتى أرّجان وخاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردان، وليست بمدينة ولكن جبال محدقة منيعة، فلم يصب بها أحدا فخرج نحوهم فعسكر بكازرون واستعدّوا لقتاله، وخندق على نفسه. ثم وجّه إلى عبد الرحمن بن محنف خندق على نفسك، فوجه إليه:
خنادقنا سيوفنا. فوجه إليه المهلب: إني لا امن عليك البيات. فقال ابنه جعفر: ذاك أهون علينا من ضرطة جمل. فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال: لم يصيبوا الرأي ولم يأخذوا بالوثيقة فلما أصبح القوم غادوه الحرب، فبعث إلى ابن محنف يستمدّه فأمدّه بجماعة وجعل عليهم ابنه جعفرا، فجاؤا وعليهم أقبية بيض جدد فقاتلوا يومئذ حتى عرف مكانهم، وحاربهم المهلب وأبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيّين أو أشد، ثمّ نظر إلى رئيس منهم يقال له صالح بن مخراق وهو ينتخب قوما من جلّة العسكر حتى بلغوا أربعمائة، فقال لابنه المغيرة: ما يعدّ هؤلاء إلّا للبيات.
وانكشف الخوارج والأمر للمهلّب عليهم وقد كثر فيهم القتل والجراح،
وقد كان الحجاج في كل يوم يتفقد العصاة ويوجّه الرجال، فكان يحبسهم نهارا ويفتح الحبس ليلا فينسل الناس إلى ناحية المهلّب وكأنّ الحجاج لا يعلم، فإذا رأى إسراعهم تمثّل:(2/282)
وانكشف الخوارج والأمر للمهلّب عليهم وقد كثر فيهم القتل والجراح،
وقد كان الحجاج في كل يوم يتفقد العصاة ويوجّه الرجال، فكان يحبسهم نهارا ويفتح الحبس ليلا فينسل الناس إلى ناحية المهلّب وكأنّ الحجاج لا يعلم، فإذا رأى إسراعهم تمثّل:
إنّ لها لسائقا عشنزرا ... إذا ونين (1) ونية تغشمرا
العشنزر الصلب، والتغشمر ركوب الرأس، والمتغشمر الجادّ على ما خيّلت. وكتب إلى المهلّب من قبل الوقعة: أما بعد، فإنه بلغني أنك أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوّ، وإني ولّيتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعيّ وعبّاد بن حصين الحبطيّ، واخترتك وأنت من أهل عمان، ثم رجل من الأزد فالقهم يوم كذا في مكان كذا، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح. فشاور بنيه، فقالوا: إنه أمير فلا تغلط عليه في الجواب.
جواب المهلب
فكتب إليه المهلّب: ورد عليّ كتابك، تزعم أني أقبلت على جباية الخراج وتركت قتال العدوّ، ومن عجز عن جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز، وزعمت أنك وليتني وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي وعباد بن حصين الحبطي، ولو وليتهم لكانا مستحقين لذلك في فضلهما وغنائها وبطشهما، واخترتني وأنا رجل من الأزد، ولعمري إن شرا من الأزد كقبيلة تنازعها ثلاث قبائل لم تستقر في واحدة منهن، وزعمت أني إن لم ألقهم في يوم كذا في مكان كذا أشرعت (2) إليّ صدر الرمح، فلو فعلت لقلبت إليك ظهر المجنّ (3) والسلام. ثم كانت الوقعة، فلما انصرف الخوارج قال المهلّب لابنه المغيرة: إني أخاف البيات على بني تميم، فانهض إليهم فكن
__________
(1) ونين: قصرن.
(2) أشرعت: وجهت نحوك.
(3) هذه كلمة تضرب مثلا لمن كان لصاحبه على مودة أو رعاية ثم حال عن ذلك، والمجن الترس لا يواري حامله والميم زائدة.(2/283)
فيهم، فأتاهم المغيرة، فقال له الحريش بن هلال: يا أبا حاتم، أيخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا، قل له فليبت امنا فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله. فلما انتصف الليل وقد رجع المغيرة إلى أبيه سرى صالح بن مخراق في القوم الذين أعدهّم إلى ناحية بني تميم، ومعه عبيدة بن هلال، وهو يقول:
إنّي لمذك (1) للشراة نارها ... ومانع ممن أتاها دارها
وغاسل بالطعن عنها عارها
فوجد بني تميم أيقاظا متحارسين، فخرج إليهم الحريش بن هلال، وهو يقول:
لقد وجدتم وقرا أنجادا ... لا كثفا ميلا ولا أوغادا (2)
هيهات لا تلفوننا رقّادا ... لا بل إذا صيح بنا اسادا (3)
ثم حمل على القوم فرجعوا عنه، فاتبعهم وصاح بهم: إلى أين يا كلاب النار؟ فقالوا: إنما أعدّت النار لك ولأصحابك. فقال الحريش: كل مملوك لي حرّ، إن لم تدخلوا النار إن دخلها مجوسيّ في ما بين سفوان وخرسان.
قوله: وجدتم وقرا، جمع وقور. والنجد ضد البليد، وهو المتيقظ الذي لا كسل عنده ولا فتور. والأميل فيه قولان، قالوا: الذي لا يستقر على الدابة، وقالوا: هو الذي لا سيف معه. والأكشف الذي لا ترس معه. والأجمّ الذي لا رمح معه، والحاسر الذي لا درع عليه، والأعزل الذي لا يتقوم على ظهر الدابة، والوغد الضعيف. ثم قال بعضهم لبعض نأتي عسر بن محنف فإنه لا خندق عليهم، وقد تعب فرسانهم اليوم مع المهلّب، وقد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل فأتوهم. فلم يشعر ابن محنف وأصحابه بهم إلا وقد خالطوهم في عسكرهم، وكان ابن مخنف شريفا، يقول رجل من غامد (4)
__________
(1) مذك: من أذكى النار، أوقدها.
(2) أوغاد: انذال.
(3) اساد: جمع أسد.
(4) غامد: أبو قبيلة عمر بن عبد الله لقب به لإصلاحه أمرا كان بين قومه.(2/284)
لرجل يعاتبه، ويضرب بابن مخنف المثل:
تروح وتغدو كل يوم معظّما ... كأنك فينا مخنف وابن مخنف
فترجل عبد الرحمن بن مخنف، فجالدهم فقتل وقتل معه سبعون من القرّاء فيهم نفر من أصحاب عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه ونفر من أصحاب ابن مسعود. وبلغ الخبر المهلّب وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلّب، فجاءهم مغيثا فقاتلهم حتى أرتثّ (1) وصرع. ووجّه المهلّب إليهم ابنه حبيبا فكشفهم، ثم جاء المهلّب، حتى صلى على ابن مخنف وأصحابه رحمهم الله وصار جنده في جند المهلّب، فضمهم إلى ابنه حبيب فعيرهم البصريون، فقال رجل لجعفر بن عبد الرحمن:
تركت أصحابنا تدمى نحورهم ... وجئت تسعى إلينا خضفة الجمل
قوله: خضفة الجمل، يريد ضرطة الجمل يقال خصف البعير. وأنشدني الرياشي لاعرابي يذم رجلا اتخذ وليمة:
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ... أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلّا من عرف ... عبد إذا ما ناء بالجمل خضف
يقال: ناء بحمله، إذا حمله في ثقل وتكلّف. وفي القران: {مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} (2) والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتيح، وقد مضى تفسير هذا (وتقول العرب حبح الرجل وحبق وخضف وردم، كلّ ذلك إذا ضرط) فلامهم المهلّب، وقال: بئسما قلتم، والله ما فرّوا ولا جبنوا ولكنهم خالفوا أميرهم: أفلا تذكرون فراركم يوم دولاب وفراركم بدارس عن عثمان وفراركم عني.
__________
(1) ارتثّ: حمل من المعركة جريحا.
(2) سورة القصص: الاية رقم 76.(2/285)
البراء بن قبيصة رسول الحجاج إلى المهلب
وجّه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلّب يستحثه في مناجزة القوم وكتب إليه: إنك لتحب بقاءهم لتأكل بهم. فقال المهلّب لأصحابه: حرّكوهم، فخرج فرسان من أصحابه إليهم، فخرج إليهم من الخوارج جمع فاقتتلوا إلى الليل، فقال لهم الخوارج: أما تملّون؟ فقالوا: لا، حتى تملّوا. قالوا: فمن أنتم؟ قالوا تميم، قالت الخوارج: ونحن بنو تميم. فلما أمسوا افترقوا فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب، وخرج إليهم عشرة من الخوارج، فأحفر كل واحد منهم حفيرة وأثبت قدمه فيها، فكلّما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجترّه ووقف مكانه حتى أعتموا فقال لهم الخوارج:
إرجعوا، فقالوا: بل ارجعوا أنتم، فقالوا: ويلكم من أنتم؟ فقالوا تميم! قالوا:
ونحن تميم. فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له: مه (1)؟ قال: رأيت قوما لا يعين عليهم إلا الله.
وكتب إليه المهلب اني منتظر بهم إحدى ثلاث موت ذريع (2) أو جوع مضرّ أو اختلاف من أهوائهم. وكان المهلب لا يتّكل في الحراسة على أحد بل كان يتولى ذلك بنفسه، ويستعين بولده وبمن يحلّ محلّهم في الثقة عنده، وقال أبو حرملة العبديّ يهجو المهلب:
عدمتك يا مهلّب من أمير ... أما تندى يمينك للفقير
بدولاب أضعت دماء قوم ... وطرت على مواشكة درور
فقال المهلب: ويحك! والله إني لأقيكم بنفسي وولدي، قال: جعلني الله فداء الأمير، فذاك الذي نكره منك، ما كلنا يحب الموت، قال: ويحك! وهل عنه محيص. قال: لا ولكنا نكره التعجيل وأنت تقدم عليه إقداما. قال
__________
(1) مه: أصله ما للاستفهام فأبدل الألف هاء للوقف والسكت.
(2) موت ذريع: منتشر.(2/286)
المهلب: أما سمعت قول الكلحبة اليربوعي:
فقلت لكأس ألجميها فإنما ... نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا
قال: بلى! والله قد سمعته، ولكن قولي أحبّ إليّ منه:
فلما وقفتم عدوة وعدوّكم ... إلى مهجتي ولّيت أعداءكم ظهري
وطرت ولم أحفل مقالة (1) عاجز ... يساقي المنايا بالردينيّة السمر
فقال المهلب: بئس حشو الكتيبة والله أنت، فإن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك، فقال: بل أقيم معك أيها الأمير، فوهب له المهلّب وأعطاه، فقال يمدحه:
يرى حتما عليه أبو سعيد ... جلاد القوم في أولى النفير (2)
إذا نادى الشراة أبا سعيد ... مشى في رفل محكمة القتير (3)
الرفل: الذيل، وقال المهلّب: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع بدل بيهس بن صهيب، فيقال له: أيها الأمير بيهس ليس بشجاع، فيقول: أجل، ولكنه سديد الرأي محكم العقل وذو الرأي جذر سؤل فأنا امن ان يغتفل فلو كان مكانه ألف شجاع، قلت: إنهم يتشامون حتى يحتاج إليهم. ومطرت السماء ليلة مطرا شديدا، وهم بسابور وبين المهلّب وبين الشراة عقبة. فقال المهلّب: من يكفينا هذه العقبة الليلة؟ فلم يقم أحد، فلبس المهلّب سلاحه وقام إلى العقبة، واتبعه ابنه المغيرة، فقال رجل من أصحابه يقال له عبد الله:
دعانا الأمير إلى ضبط العقبة، والحظ في ذلك لنا فلم نطعه، فلبس سلاحه.
واتبعه جماعة من أهل العسكر فصاروا إليه، فإذا المهلب والمغيرة لا ثالث لهما، فقالوا: انصرف أيها الأمير فنحن نكفيك إن شاء الله. فلما أصبحوا إذا بالشراة على العقبة فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فرس، فجعل يحمل
__________
(1) لم أحفل بمقاله: لم أهتم لما قال.
(2) النفير: القوم ينفرون معك في القتال.
(3) القتير: بالفتح رؤوس مسامير الدرع.(2/287)
وفرسه يزلق، وتلقّاه مدرك بن المهلب في جماعة معه حتى ردّهم. فلما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس إذا الشراة قد تألّبوا، فقال المهلب:
سبحان الله! أفي مثل هذا اليوم! يا مغيرة اكفنيهم. فخرج إليهم المغيرة بن المهلب وأمامه سعد بن نجد القردوسيّ، وكان سعد شجاعا متقدما في شجاعته، وكان المهلّب إذا ظنّ برجل أن نفسه قد أعجبته قال له: لو كنت سعد بن نجد القردوسيّ ما عدا (وقردوس من الأزد). فخرج أمام المغيرة، وتبع المغيرة جماعة من فرسان المهلّب، فالتقوا وأمام الخوارج غلام جامع السلاح مديد القامة، كريه الوجه، شديد الحملة صحيح الفروسية. فأقبل يحمل على الناس وهو يقول:
نحن صبحناكم غداة النحر ... بالخيل أمثال الوشيج (1) تجري
فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد، ثم تجاولا ساعة فطعنه سعد فقتله. والتقى الناس فصرع يومئذ المغيرة، فحامى عليه سعد بن نجد وذبيان السختيانيّ وجماعة من الفرسان حتى ركب. وانكشف الناس عند سقطة المغيرة حتى صاروا إلى أبيه المهلّب، فقالوا: قتل المغيرة، ثم أتاه ذبيان السختياني، فأخبره بسلامته فأعتق كلّ مملوك كان بحضرته.
إرسال الحجاج الجراح للمهلب
ووجه الحجاج الجرّاح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل وتحصنت بالخنادق، وطاولت القوم، وأنت أعزّ ناصرا وأكثر عددا، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبنا ولكنك اتخذت أكلا وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم فناجزهم وإلا أنكرتني (2)
__________
(1) الوشيح: شجر الرماح شبه الخيل به في القوة والصلابة.
(2) وإلا انكرتني: فعلت بك ما تنكره مني.(2/288)
والسلام. فقال المهلب للجرّاح: يا أبا عقبة والله ما تركت حيلة ألا احتلتها ولا مكيدة ألا أعملتها وما العجب من إبطاء النصر، وتراخي الظفر ولكنّ العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من ببصره، ثم ناهضهم ثلاثة أيام يغاديهم القتال، ولا يزالون كذلك إلى العصر ويصرف أصحابه وبهم قرح وقتل، فقال له: قد أعذرت فكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم على أنك لا تظن بي معصية ولا جبنا وقد عاتبتني معاتبة الجبان، وأوعدتني وعيد العاصي فأسأل الجرّاح والسلام. فقال الحجاج للجراح: كيف رأيت أخاك؟ قال: والله ما رأيت أيها الأمير مثله قطّ ولا ظننت أن أحدا يبقى على مثل ما هو عليه، ولقد شهدت أصحابه أياما ثلاثة يغدون إلى الحرب، ثم ينصرفون عنها وهم بها يتطاعنون بالرماح، ويتجالدون بالسيوف، ويتخابطون بالعمد، ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئا رواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم. فقال الحجاج: لشدّ ما مدحته أبا عقبة، قال: الحقّ أولى. وكانت ركب (1) الناس قديما من الخشب، فكان الرجل يضرب ركابه فينقطع، فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد، فأمر المهلّب فضربت الركب من الحديد، وهو أول من أمر بطبعها، ففي ذلك يقول عمران بن عصام العنزيّ:
ضربوا الدراهم في إمارتهم ... وضربت للحدثان والحرب
حلقا ترى منها مرافقهم ... كمناكب الجمّالة الجرب
كتاب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء
وكتب الحجاج إلى عتّاب بن ورقاء الرياحيّ من بني رياح بن يربوع بن حنظلة، وهو والي أصبهان يأمره بالمسير إلى المهلّب، وأن يضم إليه جند عبد الرحمن بن محنف فكل بلد تدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلّب أمير الجماعة فيه، وأنت على أهل الكوفة، فإذا دخلتم بلدا فتحه لأهل الكوفة،
__________
(1) الركب بضمتين: جمع ركاب وهو للسرج كالفرذ للرمل والفرز ركاب من جلد.(2/289)
فأنت أمير الجماعة والمهلّب على أهل البصرة، فقدم عتّاب في إحدى جماديين من سنة ست وسبعين على المهلّب وهو بسابور، وهي من فتوح أهل البصرة، فكان المهلب أمير الناس وعتاب على أصحاب ابن مخنف، والخوارج في أيديهم كرمان، وهم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جمع النواحي. فوجّه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثّانه مناجزة القوم: أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن من بني صعصعة، والاخر من ال أبي عقيل جد الحجاج، فضم زيادا إلى ابنه حبيب وضم الثقفيّ إلى يزيد ابنه، وقال لهما خذا يزيد وحبيبا بالمناجزة فغادوا الخوارج فاقتتلوا أشدّ قتال، فقتل زياد بن عبد الرحمن وفقد الثقفيّ. ثم باكروهم في اليوم الثاني، وقد وجد الثقفي فدعا به المهلب ودعا بالغداء فجعل النبل يقع قريبا منهم والثقفيّ يعجب من أمر المهلب، فقال الصلتان العبدي:
ألا يا أصبحاني (1) قبل عوق العوائق ... وقبل اختراط القوم مثل العقائق
غداة حبيب في الحديد يقودنا ... نخوض المنايا في ظلال الخوافق (2)
حرون (3) إذا ما الحرب طار شرارها ... وهاج عجاج الحرب فوق البوارق
فمن مبلغ الحجاج أن أمينه ... زيادا أطاحته رماح الأزارق
قوله: وقبل اختراط القوم مثل العقائق، يعني السيوف، والعقائق جمع عقيقة يقال سيف كأنه عقيقة برق، أي أنه لمعة برق. ويقال إنعقّ البرق إذا تبسم. وللعقيقة مواضع، يقال: فلان بعقيقة الصبى أن بالشعر الذي ولد به لم يحلقه، ويقال: عققت الشيء إن قطعته، ومن ذا فلان يعقّ أبويه. وكذا عققت عن الصبي إذا ذبحت عنه، وقال أعرابي:
__________
(1) الا يا أصبحاني: يا داخلة على محذوف يريد يا صاحبي أصبحاني أي قدما لي صبوحي والفعل كمنع.
(2) الخوافق: أراد بها الرايات التي تخفق وتضطرب.
(3) حرون: بالفتح هي التي إذا استدر جريها وقفت خاص بذرات الحافر واستعاره لمعنى الثبات عند الفزع.(2/290)
ألم تعلمي يا دار بلجاء أنني ... إذا أجدبت أو كان خصبا جنابها
أحبّ بلاد الله ما بين مشرف ... إليّ وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها عقّ الشباب تميمتي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقوع الخلاف بين المهلّب وعتاب
فلم يزل عتّاب يأمره بالمسير إليه ليوجه إلى شبيب، وكتب إلى المهلّب بأن يرزق الجند، فرزق المهلّب أهل البصرة، وأبى أن يرزق أهل الكوفة.
فقال له عتاب: ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة، فأبى، فجرت بينهما غلظة، فقال عتّاب: قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جبانا، وكان يبلغني إنك جواد فرأيتك بخيلا. فقال له المهلّب: يا ابن اللخناء! فقال له عتّاب:
لكنك معمّ مخول، فغضبت بكر بن وائل للمهلّب للحلف، ووثب ابن نعيم بن هبيرة بن أخي مصقلة على عتّاب فشتمه. وقد كان كارها للحلف، فلما رأى نصرة بكر بن وائل له سرّه الحلف واغتبط به ولم يزل يؤكده، فغضبت تميم البصرة لعتّاب، وغضبت أزد الكوفة للمهلّب. فلما رأى ذلك المغيرة بن المهلب، مشى بين أبيه وبين عتّاب، فقال لعتّاب: يا أبا ورقاء! أن الأمير يصير لك إلى كل ما تحب. وسأل أباه أن يرزق أهل الكوفة، فأجابه، فصلح الأمر، فكانت تميم قاطبة وعتّاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلّب، وقال عتّاب: إني لأعرف فضله على أبيه. وقال رجل من الأزد من بني إياد بن سود:
ألا أبلغ بني ورقاء بني عنا ... فلولا أننا كنا غضابا
على الشيخ المهلّب إذ جفانا ... للاقت خيلكم منا ضرابا
دماء المهلب
وكان المهلّب يقول لبنيه: لا تبدؤهم بقتال حتى يبدؤكم فيبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا نصرتم عليهم. فشخص عتّاب بن ورقاء إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين، فوجه إلى شبيب. فقتله شبيب، وأقام على حربهم. فلما
انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا اختلفوا، وكان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة كان يعمل نصالا مسمومة فيرمى بها أصحاب المهلّب، فرفع ذلك إلى المهلّب، فقال: أنا اكفيكموه إن شاء الله، فوجّه رجلا من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطريّ فقال: ألق هذا الكتاب في عسكر قطريّ، واحذر على نفسك، وكان الحدّاد يقال له أبرى. فمضى الرسول، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إليّ، وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها وزنا من هذه النصال. فوقع الكتاب والدراهم إلى قطريّ، فدعا بأبرى، فقال، ما هذا الكتاب قال لا أدري! قال:(2/291)
وكان المهلّب يقول لبنيه: لا تبدؤهم بقتال حتى يبدؤكم فيبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا نصرتم عليهم. فشخص عتّاب بن ورقاء إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين، فوجه إلى شبيب. فقتله شبيب، وأقام على حربهم. فلما
انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا اختلفوا، وكان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة كان يعمل نصالا مسمومة فيرمى بها أصحاب المهلّب، فرفع ذلك إلى المهلّب، فقال: أنا اكفيكموه إن شاء الله، فوجّه رجلا من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطريّ فقال: ألق هذا الكتاب في عسكر قطريّ، واحذر على نفسك، وكان الحدّاد يقال له أبرى. فمضى الرسول، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إليّ، وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها وزنا من هذه النصال. فوقع الكتاب والدراهم إلى قطريّ، فدعا بأبرى، فقال، ما هذا الكتاب قال لا أدري! قال:
فهذه الدراهم؟: ما أعلم علمها، فأمر به، فقتل فجاءه عبد ربّه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة، فقال له: أقتلت رجلا على غير ثقة ولا تبيّن؟ فقال له: ما حال هذه الدراهم؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذبا، ويجوز أن يكون حقا، فقال له قطريّ: قتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما راه صلاحا وليس للرعية أن تعترض عليه. فتنكّر له عبد ربّه في جماعة ولم يفارقوه، فبلغ ذلك المهلّب، فدسّ إليه رجلا نصرانيا، فقال له: إذا رأيت قطريا فاسجد له، فإذا نهاك فقل إنما سجدت لك. ففعل النصراني، فقال له قطري: إنما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك، فقال له رجل من الخوارج: قد عبدك من دون الله، وتلا: {إِنَّكُمْ وَمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهََا وََارِدُونَ} (1). فقال قطري: إن هؤلاء النصارى قد عبدوا عيسى بن مريم، فما ضرّ ذلك عيسى شيئا. فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر ذلك عليه. وقال: أقتلت ذمّيّا! فاختلفت الكلمة، فبلغ ذلك المهلب، فوجّه إليهم رجلا يسألهم عن شيء تقدم به إليه. فأتاهم الرجل، فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم فمات أحدهما في الطريق وبلغكم الاخر فامتحنتموه، فلم يجر المحنة (2) ما تقولون فيهما؟ فقال بعضهم:
__________
(1) سورة الأنبياء: الاية رقم 98.
(2) المحنة: بالكسر اسم من الامتحان.(2/292)
أما الميت فمؤمن من أهل الجنة، وأما الاخر الذي لا يجز المحنة فكافر حتى يجيزها، وقال قوم اخرون: بل هما كافران حتى يجيزا المحنة. فكثر الإختلاف، فخرج قطري إلى حدود اصطخر، فأقام شهرا والقوم في اختلافهم، ثم أقبل فقال لهم صالح بن محراق: يا قوم، إنكم قد أقررتم أعين عدوّكم وأطمعتموهم فيكم لما ظهر من اختلافكم فعودوا إلى سلامة القلوب واجتماع الكلمة. وخرج عمرو القنا فنادى: يا أيها المحلّون (1) هل لكم في الطراد فقد طال العهد به ثم قال:
ألم تر أنّا مذ ثلاثون ليلة ... قريب وأعداء الكتاب على خفض
فتهايج القوم وأسرع بعضهم إلى بعض، فأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب وصار في وسط الأزارقة، فجعلت الرماح تحطّه وترفعه واعتورت رأسه السيوف، وعليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه فجعلت السيوف لا تعمل فيه شيئا، واسنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع، وكان صرعه عبيدة بن هلال وهو يقول:
أنا ابن خير قومه هلال ... شيخ على دين أبي بلال
(وذاك ديني اخر الليالي)
فقال رجل للمغيرة: كنا نعجب كيف تصرع والان نعجب كيف تنجو! وقال المهلب لبنيه: إن سرحكم لغارّ ولست امنهم عليه، أفوكّلتم به أحدا؟
قالوا: لا، فلم يستتم الكلام حتى أتاه ات فقال: إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح (2)، فشق ذلك على المهلب، وقال: كلّ أمر لا أليه بنفسي فهو ضائع، وتذمّر عليهم. فقال له بشر بن المغيرة: أرح نفسك فإن كنت إنما تريد مثلك فو الله لا يعدل أحدنا شسع نعلك، فقال: خذوا عليهم الطريق.
فثار بشر بن المغيرة ومدرك والمفضّل ابنا المهلّب فسبق بشر إلى الطريق، فإذا
__________
(1) المحلون: جمع محل وهو الذي ينتهك الحرام.
(2) السرح: بالفتح المال السائم والغار الغافل وهنا بمعنى إسم مفعول أي مغفول عنه.(2/293)
رجل أسود من الأزارقة يشلّ السرح أي يطرده وهو يقول:
نحن ممعناكم بشلّ السرح ... وقد نكأنا القرح بعد القرح
الشلّ الطرد ويقال: نكأت القرحة مهموز، ونكيت العدوّ غير مهموز من النكاية، ونكأت القرحة نكأ قال ابن هرمة:
ولا أراها تزال ظالمة ... تحدث لي قرحة وتنكؤها
ولحقه المفضّل ومدرك فصاحا برجل من طيّء: اكفنا الأسود، فاعتوره الطائيّ وبشر بن المغيرة فقتلاه وأسرا رجلا من الأزارقة، فقال له المهلب:
ممن الرجل؟ قال: رجل من همذان! قال: إنك لشين همدان، وخلّى سبيله.
وكان عيّاش الكنديّ شجاعا بئيسا (1) فأبلى يومئذ ثم مات على فراشه بعد ذلك، فقال المهلب: لا وألت (2) نفسي الجبان بعد عياش. وقال المهلّب: ما رأيت كهؤلاء كلما ينقص منهم يزيد فيهم. ووجه الحجاج إلى المهلّب رجلين أحدهما من كلب والاخر من سليم يستحثّانه بالقتال. فقال المهلب متمثلا:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
الشعر لأوس بن حجر. وقوله زبنته، يقول: دفعته، ولم يترمرم أي لم يتحرك، يقال قيل له كذا وكذا فما ترمرم. وقال ليزيد: حرّكهم، فحركهم فتهايجوا، وذلك في قرية من قرى اصطخر، فحمل رجل من أصحاب المهلّب، فطعنه فشكّ فخذه بالسرج، فقال المهلب للسلمي والكلبي: كيف نقاتل قوما هذا طعنهم؟ وحمل يزيد عليهم وقد جاء الرقاد، وهو من فرسان المهلّب، وهو أحد بني مالك بن ربيعة على فرس له أدهم وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل يزيد ولّى الجمع وحماهم فارسان، فقال يزيد لقيس الخشنيّ مولى العتيك: من لهذين؟ قال: أنا، فحمل
__________
(1) البئيس: الشجاع.
(2) لا وألت نفس الجبان جملة أراد بها الدعاء والوأل النجاة وقد وأل يئل فهو وائل إذا التجأ إلى موضع فنجا.(2/294)
عليهما فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس الخشني فصرعه، وحمل عليه الاخر فعانقه فسقطا جميعا إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعا، فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء فحجزوا بينهما فإذا معانقه امرأة، فقام قيس مستحييا، فقال له يزيد: أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قتلت! أما كان يقال قتلته إمرأة! وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسيّ، فقال له غلام له يقال له خلاج. والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى أصير إلى مستقرهم فأستلب مما هناك جاريتين، فقال له مولاه: وكيف تمنّيت اثنتين؟
قال: لاعطيك إحداهما واخذ الاخرى. فقال ابن المنجب:
أخلاج أنك لن تعانق طفلة ... شرقا (1) بها الجاديّ كالتمثال
حتى تلاقي في الكتيبة معلما ... عمرو القنا وعبيدة بن هلال
وترى المقعطر (2) في الكتيبة مقدما ... في عصبة قسطوا مع الضلّال
أو أن يعلّمك المهلب غزوة ... وترى جبالا قد دنت لجبال
قوله: طفلة يقول ناعمة، وإذا كسرت الطاء فقلت طفلة فهي الصغيرة.
والجاديّ: الزعفران، والكتيبة، الجيش. وإنما سمي الجيش كتيبة لانضمام أهله بعضهم إلى بعض، وبهذا سمى الكتاب. ومنه قولهم: كتبت البغلة والناقة، وكتبت القربة إذا خرزت ذلك الموضع منها. والمعلم الذي قد شهر نفسه بعلامة، إما بعمامة صبيغ وإما بمشهّرة وأما بغير ذلك. وكان حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه معلما يوم بدر بريشة نعامة في صدره، وكان أبو دجانة وهو سماك بن خرشة الأنصاريّ يوم أحد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأخذ سيفي هذا بحقه؟ قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن يضرب به العدوّ حتى ينحني، فقال أبو دجانة: أنا. فدفعه إليه، فلبس مشهّرة فأعلم بها، وكان قومه يعلمون لما بلوا منه أنه إذا لبس تلك المشهرة لم يبق في نفسه غاية،
__________
(1) شرقا: إسم فاعل. شرق. كتعب قال شرق الدم ونحوه بجد فلان إذا شرق واشتدت حمرته؟
(2) المقعطر: بفتح الطاء: في قولك قعطره إذا صرعه وأوثقه.(2/295)
ففعل، وخرج يمشي بين الصفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا الموضع. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع عليا صلوات الله عليه يقول لفاطمة، ورمى إليها بسيفه، فقال: هاك حميدا فاغسلي عنه الدم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدقه معك سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمّة. وفي بعض الحديث، وقيس بن الربيع وكل هؤلاء من الأنصار. عاد الحديث إلى ذكر الخوارج. وعمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل، والذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكّها مع السرج من بني تميم، قال: ولا أدري أعمرو هو أم غيره، والمقعطر من عبد القيس. وقوله: قسطوا، أي جاروا، يقال: قسط يقسط، فهو قاسط إذا جار، قال الله جل ثناؤه: {وَأَمَّا الْقََاسِطُونَ فَكََانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} (1). ويقال:
أقسط يقسط، فهو مقسط إذا عدل. قال الله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2). وكان بدر بن الهذيل شجاعا، وكان لحّانة فكان إذا أحس بالخوارج نادى: يا خيل الله اركبي. وله يقول القائل:
وإذا طلبت إلى المهلّب حاجة ... عرضت توابع دونه وعبيد
العبد كردوس وعبد مثله ... وعلاج باب الأحمرين شديد
كردوس رجل من الأزد، وكان حاجب المهلّب. وقوله: وعلاج باب الأحمرين شديد، العرب تسمى العجم الحمراء، وقد مر تفسير ذلك وله:
توابع، أراد به الرجال فجاز في الشعر، وإنما رده إلى أصله للضرورة، وما كان من النعوت على فاعل، فجمعه فاعلون، لئلا يلتبس بجمع فاعلة التي هي نعت: وقد قلنا في هذا: ولم؟ قالوا: فوارس وهالك في الهوالك. وكان بشر بن المغيرة أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه، وكانت بينه وبين بني المهلّب جفوة، فقال لهم: يا بني عمّ إني قد قصّرت عن شكاة العاتب
__________
(1) سورة الجن: الاية 15.
(2) سورة الحجرات: الاية 9وسورة الممتحنة الاية 8.(2/296)
وجاوزت شكاة المستعتب حتى كأني لا موصول ولا محروم فاجعلوا لي فرجة أعش بها وهبوني أمرا رجوتم نصره أو خفتم لسانه، فرجعوا له ووصلوه وكلموا فيه المهلب فوصله. وولّى الحجاج كردما فارس، فوجهه الحجاج إليها والحرب قائمة، فقال رجل من أصحاب المهلب:
ولو راها كردم لكردما ... كردمة العير (1) أحسّ الضيغما
الضيغم: الأسد، والكردمة: النفور، فكتب المهلّب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن اصطخر ودارا بجرد لأرزاق الجند، ففعل. وكان قطريّ هدم مدينة اصطخر لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره. وأراد مثل ذلك بمدينة فسا فاشتراها منه ازاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم، فلم يهدمها فواقعه المهلب فهزمه ونفاه إلى كرمان، وأتبعه ابنه المغيرة، وقد كان دفع إليه سيفا وجّه به الحجاج إلى المهلب، وأقسم عليه أن يتقلده فدفعه إلى المغيرة بعدما تقلد به، فرجع به المغيرة إليه وقد دمّاه، فسرّ المهلّب بذلك، وقال: ما يسرني أن أكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي، اكفني جباية خراج هاتين الكورتين. وضم إليه الرقاد، فجعلا يجبيان ولا يعطيان الجند شيئا. ففي ذلك يقول رجل منهم وأحسبه من بني تميم في كلمة له:
ولو علم ابن يوسف ما نلاقي ... من الافات والكرب الشداد
لفاضت عينه جزعا علينا ... وأصلح ما استطاع من الفساد
ألا قل للأمير جزيت خيرا ... أرحنا من مغيرة والرقاد
فما رزقا الجنود بها قفبزا ... وقد ساست مطامير (2) الحصاد
يقال: ساس الطعام وأساس، إذا وقع فيه السوس. وداد وأداد من الدود.
وروى أبو زيد ديد فهو مدود في هذا المعنى. فحاربهم المهلّب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت، واتّبعهم فنزل قريبا منهم. واختلفت كلمتهم،
__________
(1) العير: الحمار.
(2) المطامير جمع مطمورة الحفيرة تحت الأرض.(2/297)
وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اليشكريّ اتّهم بامأة رجل حدّاد رأوه مرارا يدخل منزله بغير إذن، فأتوا قطريا فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم، فقالوا: إنا لا نقارّه على الفاحشة، فقال: انصرفوا، ثم بعث إلى عبيدة فأخبره، وقال: إنا لا نقارّ على الفاحشة، فقال: بهتوني با أمير المؤمنين فما ترى، قال: إني جامع بينك وبينهم فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء. فجمع بينهم فتكلموا، فقام عبيدة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوة شرّا لكم بل هو خير لكم الايات (1) فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه، وقالوا: استغفر لنا، ففعل.
إنقسام الخوارج وانضمام بعضهم إلى عبد ربه
فقال لهم عبد ربّه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة: والله لقد خدعكم فبايع عبد ربه منهم ناس كثير لم يظهروا ولم يجدّوا على عبيدة في إقامة الحدّ ثبتا. وكان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين، فظهرت له أموال كثيرة فأتوا قطريا، فقالوا: إن عمر بن الخطاب لم يكن يقارّ عمّاله على مثل هذا، فقال قطري: إني استعملته وله ضياع وتجارات. فأوغر ذلك صدورهم وبلغ ذلك المهلّب، فقال: إن اختلافهم أشد عليهم مني. وقالوا لقطريّ: ألا تخرج بنا إلى عدونا، فقال: لا. ثم خرج. فقالوا: قد كذب وارتد فاتبعوه يوما، فأحسّ بالشر، فدخل داره جماعة من أصحابه، فصاحوا به: يا دابّة! أخرج إلينا فخرج إليهم، فقال: رجعتم بعدي كفّارا؟ فقالوا: أولست دابة؟
قال الله عز وجل: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا} (2). ولكنك قد كفرت بقولك إنا قد رجعنا كفّارا فتب إلى الله عز وجل. فشاور عبيدة، فقال: إن تبت لم يقبلوا منك ولكن قل إنما استفهمت. فقلت: أرجعتم بعدي
__________
(1) سورة النور: الاية 24.
(2) سورة هود: الاية 6.(2/298)
كفارا! فقال ذلك لهم، فقبلوه منه، فرجع إلى منزله وعزم أن يبايع المقعطر العبديّ فكرهه القوم وأبوه، فقال له صالح بن مخراق عنه وعن اقوم: ابغ لنا غير المقعطر، فقال قطري: أرى طول العهد قد غيّركم وأنتم بصدد عدوكم، فاتقوا الله وأقبلوا على شأنكم، واستعدّوا للقاء القوم، فقال له صالح بن مخراق: إن الناس قبلنا ساموا عثمان بن عفان أن يعزل عنهم سعيد بن العاصي، ففعل، ويجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت فأبى قطري أن يعزله، فقال له القوم: إنا خلعناك وولّينا عبد ربّه الصغير. فانفصل إلى عبد ربه أكثر من الشطر وجلّهم من الموالي والعجم، وكان هناك منهم ثمانية الاف، وهم القرّاء. ثم ندم صالح بن مخراق، فقال القطري: هذه نفحة من نفحات الشيطان فأعفنا من المقعطر وسر بنا إلى عدوّك، فأبى قطريّ إلا المقعطر، فحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق فطعنه فأنفذه وأجرّه الرمح فقتله، ومعنى أجرّه الرمح طعنه وترك الرمح فيه، قال عنترة:
واخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجليّ معبلة (1) وقيع (2)
فنشبت الحرب بينهم، فتهايجوا ثم انحاز كلّ قوم إلى صاحبهم، فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فأجلت الحرب عن ألفي قتيل. فلما كان الغد باكروهم القتال، فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب من المدينة، وأقام عبد ربه بها وصار قطري خارجا من مدينة جيرفت بإزائهم، فقال له عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن أقمت لم امن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق، فخندق على باب المدينة، وجعل يناوشهم.
رسول الحجاج للمهلّب
وارتحل المهلب فكان منهم على ليلة، ورسول الحجاج معه يستحثه، فقال له: أصلح الله الأمير عاجلهم قبل أن يصطلحوا، فقال المهلّب: إنهم
__________
(1) المعبلة: بكسر الميم، نصل طويل عريض يجعل في السهم.
(2) الوقيع: المحدد بالميقعة وهي المطرقة.(2/299)
لن يصطلحوا ولكن دعهم فإنهم سيصبرون إلى حال لا يفلحون معها. ثم دسّ رجلا من أصحابه، فقال: رأيت عسكر قطريّ فقل إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي حتى نزل منزله هذا، فبان خطؤه، أنقيم بين المهلّب وعبد ربّه يغاديه هذا القتال ويراوحه هذا، فنما الكلام إلى قطريّ فقال: صدق، تنحّوا بنا عن هذا الموضع فإن اتّبعنا المهلب قاتلناه وإن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون، فقال له الصلت بن مرّة: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد الله فأقدم على القوم، وإن كنت تريد الدنيا فاعلم أصحابك حتى يستأمنوا، وأنشأ الصلت يقول:
قال للمحلّين قد قرّت عيونكم ... بغرقة القوم والبغضاء والهرب
كنا أناسا على دين فغيّرنا ... طول الجدال وخلط الجدّ باللعب
ما كان إغنى رجالا ضلّ سعيهم ... عن الجدال وأعناهم عن الخطب
أني لأهونكم في الأرض مضطربا (1) ... مالي سوى فرسي والرمح من نشب
ثم قال: أصبح المهلّب يرجو منا ما كنا نطمع فيه منه، فارتحل قطري.
وبلغ ذلك المهلّب فقال لهريم بن عديّ بن أبي طحمة المجاشعي: إني لا امن أن يكون قطري كادنا بترك موضعه، فاذهب فتعرّف الخبر، فمضى هريم في اثني عشر فارسا فلم ير في العسكر إلا عبدا وعجا، فسألهما عن قطري وأصحابه، فقالا: مضوا يرتادون غير هذا المنزل، فرجع هريم إلى المهلّب فأخبره، وفارتحل المهلّب حتى نزل خندق قطري، فجعل يقاتلهم أحيانا بالغداة وأحيانا بالعشي. ففي ذلك يقول رجل من سدوس يقال له المعنق وكان فارسا.
ليت الحرائر بالعراق شهذنا ... ورأيننا بالسفح ذي الأجيال
فنكحن أهل الجزء (2) من فرساننا ... والضاربين جمجم الأبطال
__________
(1) المضطرب: مفتعل من الضرب في الأرض وهو أن يخرج تاجرا أو غازيا والنشب محركا: المال.
(2) الجزء: إسم من قولهم: ما أحزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان أي فعل فعلا ظهر. أثره وقام مقاما لم يقمه غيره.(2/300)
ووجّه المهلّب بزيد إلى الحجاج يخبره أنه قد نزل منزل قطري، وإنه مقيم على عبد ربه، ويسأله أن يوجّه في أثر قطري رجلا جلدا في جيش، فسرّ ذلك الحجاج سرورا أظهره.
كتاب الحجاج إلى المهلب
ثم كتب إلى المهلّب يستحثه مع عبيد بن موهب، وفي الكتاب: أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى يأتيك رسلي فتتراجع بعذرك، وذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح وتنسى القتلى ويجمّ (1) الناس، ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجدّ لكان الداء قد حسم والقرن قد قصم، ولعمري ما أنت والقوم سواء، لأن من ورائك رجالا وأمامك أموالا، وليس للقوم إلا ما معهم، ولا يدرك الوجيف (2) بالدبيب (3) ولا الظفر بالتعذير (4). فقال المهلّب لأصحابه: إن الله عز وجل قد أراحكم من أقران أربعة: قطري بن الفجائة وصالح بن مخراق وعبيدة بن هلال وسعد الطلائع، وإنما بين أيديكم عبد ربّه في خشار (5) من خشار الشيطان، تقتلونهم إن شاء الله. فكانوا يتغادون القتال ويتراوحون فتصيبهم الجراح، ثم يتحاجزون كأنما انصرفوا من مجلس كانوا يتحدثون فيه فيضحك بعضهم إلى بعض، فقال عبيد بن موهب للمهلّب: قد بان عذرك وأنا مخبر الأمير، فكتب المهلّب اليه: أما بعد، فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا ولم أحتج منهم مع المشاهدة إلى تلقين، ذكرت أني أجمّ القوم ولا بد من راحة يستريح فيها الغالب ويحتال فيها المغلوب، وذكرت أن في ذلك الجمام ما ينسي القتلى وتبرأ منه الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم.
__________
(1) يجم الناس: تستريح وتكثر.
(2) الوجيف: ضرب من السير سريع.
(3) الدبيب ضده: أي ضرب من السير بطيء.
(4) التعذير: التقصير.
(5) خشار بالضم: الرديء من كل شيء.(2/301)
تأبى ذلك قتلى لم تجّنّ (1) وقروح لم تتقرّف ونحن والقوم على حالة، وهم يرقبون منا حالات إن طمعوا حاربوا وإن ملوا وقفوا وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا ونتحرّز إذا وقفوا، ونطلب إذا هربوا، فإن تركتني والرأي كان القرن مقصوما، والداء بإذن الله محسوما، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص وجعلت وجهي إلى بابك، وإنا أعوذ بالله من سخط الله ومقت الناس.
ما قاله عبد ربه لأصحابه مع اشتداد الحصار
ولما اشتد الحصار على عبد ربه، قال لأصحابه: لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال، فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره، والمسلم إذا صح توحيده عزّ بربّه، وقد أراحكم الله من غلظة قطريّ وعجلة صالح بن مخراق ونخوته، واختلاط عبيدة بن هلال ووكلكم إلى بصائركم، فالقوا عدوّكم بصبر ونية، وانتقلوا عن منزلكم هذا. من قتل منكم قتل شهيدا، ومن سلم من القتل فهو المحروم. وقدم في هذا الوقت على المهلّب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفيّ يستحثّه بالقتال، ومعه أمينان، فقال له: خالفت وصية الأمير واثرت المدافعة والمطاولة، فقال له المهلب: ما تركت جهدا.
فلما كان العشيّ خرج الأزارقة، وقد حملوا حرمهم وأموالهم وخفّ متاعهم لينتقلوا، فقال المهلّب لأصحابه: الزموا مصافّكم وأشرعوا رماحكم ودعوهم والذهاب. فقال له عبيد: هذا لعمري أيسر عليك، فقال للناس: ردّوهم عن وجهتهم، وقال لبنيه: تفرّقوا في الناس. وقال لعبيد بن أبي ربيعة: كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ. وقال لأحد الأمينين: كن مع المغيرة ولا ترخّص له في الفتور. فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عقرت الدواب، وصرع الفرسان، وقتلت الرجال، فجعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق (2) الخسيس أشدّ قتال، وسقط رمح لرجل من مراد من
__________
(1) لم تجن: لم تستر ولم تدفن.
(2) العلق بالكسر وبفتح الحراب أو الترس أو السيف.(2/302)
الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل وذلك مع المغرب، والمرادي يقول:
الليل ليل فيه ويل ويل ... وسال بالقوم الشراة السيل
إن جاز للإعداء فينا قول
فلما عظم الخطب فيه، بعث المهلب إلى المغيرة: خلّ عن الرمح عليهم لعنهم الله. فخلوا لهم عنه، ثم مضت الخوارج حتى نزلوا على أربعة فراسخ من جيرفت ودخلها المهلّب، وأمر بجمع ما كان لهم من المتاع وما خلفوه من رقيق، وختم عليه هو والثقفيّ والأمينان، ثم اتبعهم فإذا هم قد نزلوا على عين لا يشرب منها إلّا قويّ، يأتي الرجل بالدلو قد شدّها في طرف رمحه فيستقي بها. وهناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال، وضمّ الثقفيّ إلى يزيد وأحد الأمينين إلى المغيرة، واقتتل القوم إلى نصف النهار. فقال المهلب لأبي علقمة العبدي، وكان شجاعا عاتيا: أمدد بخيل اليحمد وقل لهم، فليعيرونا جماجمهم ساعة. فقال له: إن جماجمهم ليست بفخّار فتعار، وليست أعناقهم كرادي فتنبت (قال أبو الحسن الأخفش تقول العرب لأعذاق النخل كراد وهو فارسيّ أعرب) وقال لحبيب بن أوس: كرّ على القوم فلم يفعل، وقال:
يقول لي الأمير بغير علم ... تقدّم حين جدّ به المراس (1)
فمالي إن أطعتك من حياة ... ومالي غير هذا الرأس راس
نصب غير لأنه استنثاء مقدّم، وقد مضى تفسيره. وقال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة: احمل. فقال: لا، إلا أن تزوجني أمّ مالك، بنت المهلّب، ففعل. فحمل على القوم فكشفهم وطعن فيهم، وقال:
ليت من يشتري الغداة بمال ... هلكه اليوم عندنا فيرانا
نصل الكرّ عند ذاك بطعن ... إن للموت عندنا ألوانا
__________
(1) المراس: المعالجة والمزاولة.(2/303)
ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج، فالتفت عند ذلك المهلّب إلى المغيرة، فقال: ما فعل الأمين الذي كان معك؟ قال: قتل. وكان الثقفيّ قد هرب، وقال ليزيد: ما فعل عبيد بن أبي ربيعة؟ قال: لم أره منذ كانت الجولة، فقال الأمين الاخر للمغيرة: أنت قتلت صاحبي. فلما كان العشيّ رجع الثقفي، فقال رجل من بني عامر بن صعصعة:
ما زلت يا ثقفيّ تخطب بيننا ... وتغمّنا بوصية الحجّاج
حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا (1) ... وسما لنا صرفا بغير مزاج
ولّيت يا ثقفيّ غير مناظر ... تنساب بين أحزّة وفجاج
ليست مقارعة الكماة لدى الوغى ... شرب المدامة في إناء زجاج
قوله بين أحزّة هو جمع حزير، وهو متن ينقاد من الأرض ويغلط، والفجاج الطرق، واحدها فجّ. وقال المهلّب ليمين الاخر: ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى يبيّتوا عسكرهم. فقال: ما تريد أيها الأمير ألا أن تقتلني كما قتلت صاحبي. قال: ذاك إليك. وضحك المهلّب. ولم تكن للقوم خنادق فكان كلّ حذارا من صاحبه، غير أن الطعام والعدّة مع المهلّب، وهم في زهاء ثلاثين ألفا. فلما أصبح أشرف على واد، فإذا، هو برجل معه رمح مكسور، وقد خضبه بالدماء، وهو ينشد:
جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي ... إذا بات أطواء بنيّ الأصاغر
أخادعهم عنه ليغبق دونهم ... وأعلم غير الظنّ أني مغاور (2)
كأني وأبدان (3) السلام عشية ... يمرّ بنا في بطن فيحان (4) طائر
فدعاه المهلّب، فقال: أتميميّ أنت؟ قال: نعم! قال: أحنظليّ؟ قال:
__________
(1) زاخرا: مادا مرتفعا مستعار من قولهم زخر البحر كمنع طما وعلا.
(2) مغاور مفاعلة في قولهم غاور فلان أعداء إذا كان يغير عليهم ويغيرون عليه.
(3) أبدان: جمع بدن بالتحريك وهو الدرع القصيرة.
(4) فيحان: موضع بديار بني سعد.(2/304)
نعم! قال: أيربوعي؟ قال: نعم! قال: ثعلبي؟ قال: نعم! قال: أمن ال نويرة؟ قال: نعم، أنا من ولد مالك بن نويرة وسبحان الله أيها الأمير، أيكون مثلي في عسكرك لا تعرفه؟ قال: عرفتك بالشعر. قوله: ذو الخمار، يعني فرسا. وكان ذو الخمار فرس مالك بن نويرة، وقال جرير يهجو الفرزدق:
بيربوع فخرت وال سعد ... فلا مجدي بلغت ولا افتخاري
بيربوع فوارس كلّ يوم ... يواري شمسه رهج الغبار
عتيبة والأحيمر وابن عمرو ... وعتّاب وفارس ذي الخمار
قوله: أطواء يقال رجل طويّ البطن أي منطو يخبر أنه كان يؤثر فرسه على ولده فيشبعه وهم جياع، وذلك قوله: (أخادعهم عنه ليغبق دونهم) والغبوق شرب اخر النهار، وهذا شيء تفتخر به العرب، قال الأشعر الجعفيّ:
لكن قيعيدة (1) بيتنا مجفوّة ... باد جناجن (2) صدرها ولها غنى
نقفي بعيشه أهلها وثّابة ... أو جرشعا (3) نهد المراكل (4) والشوى (5)
إشتداد الحرب بين الفريقين
قال: فمكثوا أياما على غير خنادق يتحارسون ودوابّهم مسرجة، فلم يزالوا على ذلك حتى ضعف الفريقان. فلما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربّه جمع أصحابه، وقال: يا معشر المهاجرين، إن قطريا وعبيدة هربا طلب البقاء، ولا سبيل إليه، فألقوا عدوكم فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنّكم على الموت، فتلقوا الرماح بنحوركم والسيوف بوجوهكم، وهبوا أنفسكم لله في
__________
(1) القعيدة: التي تلتزم البيت.
(2) جناجن: عظام الصدر.
(3) الجرشع: العظيم في الإبل والخيل.
(4) المراكل: حيث يركض الفارس من جنب الدابة والنهد المرتفع.
(5) الشوى: قحف الرأس.(2/305)
الدنيا يهبها لكم في الآخرة. فلما أصبحوا غادو المهلب فقاتلوه قتالا شديدا نسي به ما كان قبله، فقال رجل من الأزد من أصحاب المهلّب: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعون رجلا من الأزد وغيرهم، فصرع بعضهم، وقتل بعض، وجرح. وقال عبد الله بن رزام الحارثي لأصحاب المهلّب: إحملوا! فقال المهلّب: أعرابيّ مجنون، وكان من أهل نجران، فحمل وحده فاخترق القوم حتى نجم من ناحية أخرى، ثم رجع ثم كرّ ثانية ففعل فعلته الأولى، وتهايج الناس فترجّلت الخوارج وعقروا دوابهم، فناداهم عمرو القنا، ولم يترجل هو وأصحابه من العرب، وكانوا زهاء أربعمائة: موتوا على ظهور دوابكم ولا تعقروها، فقالوا: أنا إذا كنّا على الدواب ذكرنا الفرار. فاقتتلوا، ونادى المهلب بأصحابه: الأرض الأرض! وقال لبنيه: تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم، ونادى الخوارج ألا أن العيال لمن غلب، فصبر بنو المهلب وصبر يزيد بين يدي أبيه، وقاتل قتالا شديدا أبلى فيه، فقال له أبو: يا بنيّ، أني أرى موطنا لا ينجو فيه إلّا من صبر وما مرّ بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب. وكسرت الخوارج أجفان سيوفها وتجاولوا، فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا، فهرب عمرو القنا وأصحابه، واستأمن قوم، وأجلت الحرب عن أربعة الاف قتيل وجرحى كثير من الخوارج، فأمر المهلّب بأن يدفع كلّ جريح إلى عشيرته، وظفر بعسكرهم فحوى ما فيه، ثم انصرف إلى جيرفت. فقال:
الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض والدعة، فما كان عيشنا بعيش، ثم نظر إلى قوم في عسكره لم يعرفهم فقال ما أشد عادة السلاح، ناولوني درعي.
فلبسها، ثم قال: خذوا هؤلاء! فلما صير بهم إليه قال: ما أنتم؟ قالوا: نحن قوم جئنا لنطلب غرّتك لنفتك بك، فأمر بهم، فقتلوا.
رسولا المهلب إلى الحجاج
ووجه المهلّب كعب بن معدان الأشقريّ ومرّة بن تليد الأزديّ من أزد شنوءة فوفد على الحجاج، فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده:
يا حفص إني عداني عنكم السفر ... (وقد سهرت فأردى نومي السهر)
فقال له الحجاج: أشاعر أم خطيب؟ قال: كلاهما. ثم أنشده القصيدة، ثم أقبل عليه فقال له: أخبرني عن بني المهلّب قال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى يزيد فارسا شجاعا وجوادهم، وسخيّهم قبيصة ولا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سمّ ناقع، وحبيب موت زعاف، ومحمد ليث غاب، ونفاك بالمفضل نجدة، قال: فكيف كان بنو المهلّب فيكم؟ قال: كانوا حماة السرح نهارا، فإذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيّهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوّكم؟ قال: كنا أذا أخذنا عفونا، وإذا أخذوا يئسنا منهم، وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال الحجاج: إن العاقبة للمتقين كيف أفلتكم قطريّ؟ قال: كدناه ببعض ما كادنا به فصرنا منه إلى الذي نحب، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال كان الحدّ عندنا اثر من الفلّ، قال: فكيف كان لكم المهلّب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد وله منا برّ الولد، قال: فكيف اغتباط الناس؟ قال: فشافيهم الأمن وشملهم النفل، قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: فقال هكذا تكون، والله الرجال، المهلب كان أعلم بك حيث وجّهك. وكان كتاب المهلّب إلى الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الكافي بالإسلام فقدما سواه الذي حكم بأن لا ينقطع المزيد منه حتى ينقطع الشكر من عباده أما بعد، فقد كان من أمرنا ما قد بلغك وكنا نحن وعدوّنا على حالين مختلفين، يسرّنا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوؤهم منا أكثر مما يسرهم على اشتداد شوكتهم، فقد كان علن أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة ونوّم به الرضيع فانتهزت منهم الفرصة في وقت إمكانها، وأدنيت السواد حتى تعارفت الوجوه، فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.(2/306)
ووجه المهلّب كعب بن معدان الأشقريّ ومرّة بن تليد الأزديّ من أزد شنوءة فوفد على الحجاج، فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده:
يا حفص إني عداني عنكم السفر ... (وقد سهرت فأردى نومي السهر)
فقال له الحجاج: أشاعر أم خطيب؟ قال: كلاهما. ثم أنشده القصيدة، ثم أقبل عليه فقال له: أخبرني عن بني المهلّب قال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى يزيد فارسا شجاعا وجوادهم، وسخيّهم قبيصة ولا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سمّ ناقع، وحبيب موت زعاف، ومحمد ليث غاب، ونفاك بالمفضل نجدة، قال: فكيف كان بنو المهلّب فيكم؟ قال: كانوا حماة السرح نهارا، فإذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيّهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوّكم؟ قال: كنا أذا أخذنا عفونا، وإذا أخذوا يئسنا منهم، وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال الحجاج: إن العاقبة للمتقين كيف أفلتكم قطريّ؟ قال: كدناه ببعض ما كادنا به فصرنا منه إلى الذي نحب، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال كان الحدّ عندنا اثر من الفلّ، قال: فكيف كان لكم المهلّب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد وله منا برّ الولد، قال: فكيف اغتباط الناس؟ قال: فشافيهم الأمن وشملهم النفل، قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: فقال هكذا تكون، والله الرجال، المهلب كان أعلم بك حيث وجّهك. وكان كتاب المهلّب إلى الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الكافي بالإسلام فقدما سواه الذي حكم بأن لا ينقطع المزيد منه حتى ينقطع الشكر من عباده أما بعد، فقد كان من أمرنا ما قد بلغك وكنا نحن وعدوّنا على حالين مختلفين، يسرّنا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوؤهم منا أكثر مما يسرهم على اشتداد شوكتهم، فقد كان علن أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة ونوّم به الرضيع فانتهزت منهم الفرصة في وقت إمكانها، وأدنيت السواد حتى تعارفت الوجوه، فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.(2/307)
كتاب الحجاج إلى المهلّب
فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإن الله عز وجل قد فعل بالمسلمين خيرا وأراحهم من حدّ الجهاد، وكنت أعلم بما قبلك، والحمد لله رب العالمين فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسم في المجاهدين فيئهم ونفّل الناس على قدر بلائهم، وفضّل من رأيت تفضيله، وإن كانت بقيت من القوم بقية فخلّف خيلا تقوم بإزائهم، واستعمل على كرمان من رأيت وولّ الخيل شهما من ولدك، ولا ترخّص لأحد في اللحاق بمنزله دون أن تقدم بهم عليّ، وعجّل القدوم إن شاء الله. فولّى المهلّب ابنه يزيد كرمان، وقال له: يا بنيّ إنك اليوم لست كما كنت، إنما لك من مال كرمان ما فضل عن الحجّاج، ولن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك. فأحسن إلى من معك، وإن أنكرت من إنسان شيئا فوجّهه إليّ وتفضّل على قومك.
وقدم المهلّب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه. وأظهر إكرامه وبرّه، وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلّب، ثم قال: أنت والله كما قال لقيط الإياديّ:
وقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا (1)
لا يطعم النوم (2) إلا ريث (3) يبعثه ... همّ يكاد حشاه يقصم الضلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه له خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره (4) ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا
__________
(1) مضطلعا: من الضلاعة وهي القوة يقال اضطلع فلان بحمله إذا قوي عليه ونهض به.
(2) يطعم: يذوق.
(3) لا ريث يبعثه يريد إلا قدر ذلك وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ إذا كان مقرونا بما تقول جاءني فلان فلم يلبث إلا أينما قلت أي إلّا قدر ذلك وقد يستعمل بغيرها.
(4) أشطره بدل من الدهر. بدل من اشتمال أو بعض من كل والأشطر جمع شطر وهو خلف الناقة وللناقة أخلاف. يقال فلان حلب الدهر أشطره أي اختبر ضروبه من خير وشر.(2/308)
حتى استمرّت على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا
فقام إليه رجل، فقال: أصلح الله الأمير، والله لكأني أسمع الساعة قطريا، وهو يقول المهلّب كما قال لقيط الأيادي، ثم أنشد هذا الشعر، فسرّ الحجاج حتى امتلأ سرورا.
شرح الأبيات الواردة هنا
قوله نفّل، أي أقسم بينهم. والنفل العطية التي تفضل. كذا كان الأصل، وإنما تفضل الله عز وجل بالغنائم على عباده، قال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل ... (وبإذن الله ريث وعجل)
وقال جل جلاله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفََالِ} (1) ويقال نفّلتك كذا وكذا أي أعطيتك. ثم صار النفل لازما واجبا. وقول الإياديّ رحب الذراع، فالرحب الواسع، وإنما هذا مثل يريد واسع الصدر، متباعد ما بين المنكبين والذارعين، وليس المعنى على تباعد الخلق، ولكن على سهولة الأمر عليه، قال الشاعر:
رحيب الذراع بالتي لا تشينه ... وإن قيلت العوراء (2) ضاق بها ذرعا
وكذلك قوله جل وعز: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} (3). وقوله مضطلعا إنما هو مفتعل من الضليع، وهو الشديد يريد أنه قويّ على أمر الحرب مستقل بها، وقوله: يكون متبعا طورا ومتبعا أي قد اتّبع الناس، فعلم ما يصلح الرئيس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد ألنا وإيل علينا، أي قد أصلحنا أمور الناس وأصلحت أمورنا. وقوله على شزر مريرته فهذا مثل يقال شزرت الحبل، إذا كررت فتله بعد استحكامه راجعا عليه والمريرة الجبل،
__________
(1) سورة الأنفال: الاية 1.
(2) ضاق بها ذرعا: ضيق الذرع قصرها كما أن سعتها معناه طولها.
(3) سورة الأنعام: الاية 125.(2/309)
والضرع الصغير الضعيف، والقحم اخر سن الشيخ، قال العجّاج.
رأينا قحما شاب واقلحمّا ... طال عليه الدهر فأسلهمّا
والمقلحمّ مثل القحم، وهو الجاف ويقال للصبي: مقلحمّ إذا كان سيء الغذاء أو ابن هرمين، ويقال رجل انقحل وامرأة انقحلة إذا أسنّ حتى ييبس، والمسلهمّ الضامر، قال الشاعر:
(لما رأتني خلقا إنقحلا). ويقال في معنى قحم قحر، ويقال بغير قحارية في هذا المعنى. وقوله: لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه همّ، فريث وعوض مما يضاف إلى الأفعال. وتأويله أنه لا يطعم النوم إلا يسيرا حتى يبعثه الهمّ. فعناه مقدار ذلك، ومما يضاف إلى الأفعال أسماء الزمان كقوله عز ذكره: {هََذََا يَوْمُ يَنْفَعُ الصََّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (1) فأسماء الزمان كلها تضاف إلى الفعل نحو قولك اتيك يوم يخرج زيد وجئتك يوم قام عبد الله، وما كان منها في معنى الماضي جاز أن يضاف إلى الابتداء والخبر، فتقول: جئتك يوم زيد أمير ولا يجوز ذلك في المستقبل، وذلك لأن الماضي في معنى إذ وأنت تقول جئتك إذ زيد أمير، والمستقبل في معنى إذا فلا يجوز أن تقول أجيئك إذا زيد أمير فلذلك لا يجوز أجيئك يوم زيد أمير. فأما الأفعال في إذ وإذا فهي بمنزلة واحدة تقول: جئتك إذ قام زيد واجيئك، فهذا واضح بيّن، ومما يضاف إلى الفعل ذو في قولك:
إفعل ذاك بذي تسلم وافعلاه بذي سلمان، معناه بالذي يسلّمكما، ومن ذلك اية في قوله:
باية تقدمون الخيل شعثا ... كأنّ على سنابكها مداما
والنحو ويتصل يكثر، وإنما تركنا الاستقصاء لأنه موضع اختصار. فقال المهلّب إنا والله ما كنا أشدّ على عدونا ولا أحدّ ولكن دمغ الحقّ الباطل وقهرت الجماعة الفتنة والعاقبة للتقوى، وكان ما كرهناه من المطاولة خيرا مما أحببناه من العجلة، فقال له الحجاج: صدقت أذكر لي القوم الذين أبلوا
__________
(1) سورة المائدة: الاية 119.(2/310)
وصف لي بلاءهم. فأمر الناس، فكتبوا ذلك للحجاج، فقال لهم المهلّب: ما ذخر الله لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله. ثم ذكرهم للحجاج على مراتبهم في البلاء وتفاضلهم في الغناء، وقدّم بنيه المغيرة ويزيد ومدركا وحبيبا وقبيصة والمفضّل وعبد الملك ومحمدا، وقال: إنه والله لو تقدمهم أحد في البلاء لقدّمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخّرتهم، قال الحجاج صدقت وما أنت بأعلم بهم مني، وإن حضرت وغبت. إنهم لسيوف من سيوف الله. ثم ذكر معن بن المغيرة بن أبي صفرة والرقاد وأشباههما، فقال الحجاج أين الرقاد؟
فدخل رجل طويل أجنأ (1)، فقال المهلّب: هذا فارس العرب، فقال الرقاد: أيها الأمير، إني كنت أقاتل مع غير المهلّب فكنت كبعض الناس، فلما صرت مع من يلزمني الصبر ويجعلني إسوة نفسه وولده ويجازيني على البلاء، صرت أنا وأصحابي فرسانا. فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم، وزاد ولد المهلّب ألفين وفعل بالرقاد وجماعة شبيها بذلك، قال يزيد ابن حبناء من الأزارقة:
دعي اللّوم إن العيش ليس بدائم ... ولا تعجلي باللوم يا أمّ عاصم
فإذ عجلت منك الملامة فاسمعي ... مقالة معنيّ بحقك عالم
ولا تعذلينا في الهديّة إنما ... تكون الهدايا من فضول المغانم
فليس بمهد من يكون نهاره ... جلادا ويمسي ليله غير نائم
يريد ثواب الله يوما بطعنه ... غموس كشدق العنبريّ بن سالم
أبيت وسربالي (2) دلاص (3) حصينة ... ومغفرها والسيف فوق الحيازم
حلفت برب الواقفين عشيّة ... لدى عرفات حلفة غير اثم
لقد كان في القوم الذين لقيتهم ... بسابور شغل عن بروز اللّطائم
توقّد في أيديهم زاعبيّة ... ومرهفة تفري شؤون الجماجم
__________
(1) أجنأ: الذي في ظهره أو عنقه جنا وهو ميل في أحدهما.
(2) السربال: الدرع.
(3) دلاص: ملساء لينة.(2/311)
قوله: من يكون نهاره جلادا ويمسي ليلة غير نائم، يريد يمسي هو في ليله ويكون هو في نهاره، ولكنه جعل الفعل لليل والنهار على السعة، وفي القران: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} (1)، والمعنى بل مكركم في الليل والنهار.
وقال رجل من أهل البحرين من اللصوص:
أما النهار ففي قيد وسلسلة ... والليل في جوف منحوت من الساج
وقال اخر:
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم
ولو قال: من يكون نهاره جلادا ويمسي ليله نائم: لكان جيدا وذاك أنه أراد من يكون نهاره يجالد جلادا، كما تقول: إنما أنت سيرا وإنما أنت ضربا، تريد تسير سيرا وتضرب ضربا فأضمر لعلم المخاطب أنه لا يكون هو سيرا، ولو رفعه على أن يجعل الجلاد في موضع المجالد على قوله: أنت سير أي أنت سائر، كما قالت الخنساء. (فإنما هي إقبال وإدبار) وفي القران: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مََاؤُكُمْ غَوْراً} (2) أي غائرا، وقد مضى تفسير هذا بأكثر من هذا الشرح. ولو قال ويمسي ليله غير نائم لجاز يصيّر اسمه في يمسي ويجعل ليله ابتداء، وغير نائم خبره، على السعة التي ذكرنا. وقوله: غموس يريد واسعة محيطة، والعنبري بن سالم رجل منهم كان يقال له الأشدق، واللّطائم واحدتها لطيمة، وهي الإبل التي تحمل البزّ والعطر. وقوله: توقد في أيديهم زاعبية يعني الرماح والتوقد للأسنّة والزاعبية منسوبة إلى زاعب وهو رجل من الخزرج كان يعمل الرماح، وتفري تقدّ، يقال: فرى إذا قطع وأفرى إذا أصلح، وقال حبيب بن عوف من قوّاد المهلب:
أبا سعد جزاك الله صالحة ... فقد كفيت ولم تعنف على أحد
داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا ... وكنت كالوالد الحاني على الولد
__________
(1) سورة سبأ: الاية 3.
(2) سورة الملك: الاية 30.(2/312)
وقال عبيدة بن هلال في هربهم مع قطريّ:
ما زالت الأقدار حتى قذفنني ... بقومس (1) بين الفرّخان وصول
ويروى أن قاضي قطريّ، وهو رجل من بني عبد القيس سمع قول عبيدة بن هلال:
علا فوق عرش فوق سبع ودونه ... سماء ترى الأواح من دونها تجزى
فقال له العبديّ: كفرت إلا أن تأتي بمخرج، قال: نعم، روح المؤمن تعرج إلى السماء، قال: صدقت، وقال يذكر رجلا منهم:
يهوي وترفعه الرماح كأنه ... شلو (2) تنشّب في مخالب ضاري
فثوى صريعا والرماح تنوشه ... إن الشراة قصيرة الأعمار
تنوشه تأخذه وتتناوله، قال الله عز وجل: {وَأَنََّى لَهُمُ التَّنََاوُشُ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} (3) أي التناول، ومثل بيته هذا قول حبيب الطائي:
فيم الشماتة إعلانا بأسد وغى ... أفناهم الصبر إذ أبقاكم الجزع
وقال أيضا في شبيه بهذا المعنى:
إن ينتحل (4) حدثان الموت أنفسكم ... ويسلم الناس بين الحوض والعطن (5)
فالماء ليس عجيبا أنّ أعذبه ... يفنى ويمتد عمر الاجن الأسن
وقال أيضا:
عليك سلام الله وقفا فإنني ... رأيت الكريم الحرّ ليس له عمر
وقال القاسم بن عيسى:
__________
(1) القومس: بالضم والفتح صقع كبير بين خراسان وبلاد الجبل.
(2) الشلو: بالكسر العضو أو كل مسلوخ أكل منه شيء أو بقيت منه بقية.
(3) سورة سبأ: الاية 52.
(4) ينتحل: يختار ويصطفي.
(5) العطن: مبرك الابل حول الماء.(2/313)
أحبّك يا جنان فأنت مني ... مكان الروح من بدن الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... لخفت عليك بادرة الزمان
لإقدامي إذا ما الحرب جاشت ... وهاب حماتها حرّ الطعان
وقال معاوية بن أبي سفيان في خلاف هذا المعنى:
أكان الجبان يرى أنه ... يدافع عنه الفرار الأجل
فقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل
رجع الحديث، وقال رجل من عبد القيس من أصحاب المهلب:
سائل بنا عمرو القنا وجنوده ... وأبا نعامة سيد الكفّار
وأبو نعامة هو قطريّ. وقال المغيرة ابن حبناء الحنظليّ من أصحاب المهلّب:
أني امرؤ كفّني ربي وأكرمني ... عن الأمور التي في رعيها وخم (1)
وإنما أنا إنسان أعيش كما ... عاشت رجال وعاشت قبلها أمم
ما عاقني عن قفول الجند إذا قفلوا ... عني بما صنعوا عجز ولا بكم
ولو أردت قفولا ما تجهّمني (2) ... إذن الأمير ولا الكتّاب إذ رقموا
إن المهلّب ان أشنق لرؤيته ... أو أمتدحه فإن الناس قد علموا
أنّ الأريب (3) الذي ترجى نوافله ... والمستعان الذي تجلى به الظلم
القائل الفاعل الميمون طائره ... أبو سعيد إذا ما عدّت النعم
أزمان أزمان إذ عضّ الحديد بهم ... وإذ تمنى رجال أنهم هزموا
قال أبو العباس: وهذا الكتاب لم نبتدئه لتتصل فيه أخبار الخوارج، ولكن ربما اتصل شيء بشيء، والحديث ذو شجون، ويقترح المقترح ما
__________
(1) وخم: أن يثقل في الطعام ولا يأبه للنتيجة.
(2) تجهم: تلقاه بوجه كريه.
(3) الأريب: العاقل الفطن.(2/314)
يفسخ به عزم صاحب الكتاب، ويصدّه عن سننه، ويزيله عن طريقه، ونحن راجعون إن شاء الله إلى ما ابتدأنا له هذا الكتاب، فإن مرّ من أخبار الخوارج شيء مرّ كما يمر غيره، ولو نسقناه على ما جرى من ذكرهم لكان الذي يلي هذا خبر نجدة وأبي فديك، وعمارة الرجل الطويل، وشبيب، ولكان يكون الكتاب للخوارج مخلصا.(2/315)
53 - باب في اختصار الخطب والتحميد والمواعظ
كان الحسن يقول: الحمد لله الذي كلّفنا ما لو كلفنا غيره لصرنا فيه إلى معصيته، واجرنا على ما لا بد لنا منه، يقول: كلفنا الصبر ولو كلفنا الجزع لم يمكنّا أن نقيم عليه واجرنا على الصبر، ولا بدّ لنا من الرجوع إليه. وكان عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، يقول عند التعزية: عليكم بالصبر، فإن به يأخذ الحازم وإليه يعود الجازع. وقال للأشعث بن قيس: إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور (1)، وقال الحريميّ:
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وفي هذا الشعر، وإن لم يكن من هذا الباب:
وأعددته ذخرا لكل ملمّة ... وسهم المنايا بالذخائر مولع (2)
وخطب أبو طالب بن عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تزوّجه خديجة بنت خويلد رحمة الله عليها، فقال: الحمد الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا، وجعلنا الحكّام على الناس، ثم أن محمد بن عبد الله ابن أخي: من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح
__________
(1) أنت موزور: اسم مفعول من الوزر بالكسر وأصله الحمل الثقيل وأكثر ما يطلق في لسان الشرع على الذنب والاثم والفعل كوزن.
(2) مولع: إذا أغري به.(2/317)
عليه برّا وفضلا وركما وعقلا ومجدا ونبلا، وإن كان في المال قلّ، فإنما المال ظلّ زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليّ. وهذه الخطبة من أقصد خطب الجاهلية. ومن جميل محاورات العرب ما روي لنا عن يحيى بن محمد بن عروة عن أبيه عن جده، قال: أقحمت السنة علينا النابغة الجعديّ فلم يشعر به ابن الزبير حين صلى الفجر حتى مثل بين يديه، يقول:
حكيت لنا الصدّيق حين وليتنا ... وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسوّيت بين الناس في العدل فاستووا ... فعاد صباحا حالك الليل (1) مظلم
أتاك أبو ليلى (2) يشقّ به الدجى ... دجى الليل جوّاب الفلاة عثمثم
لترفع منه جانبا ذعذعت به ... صروف الليالي والزمان المصمّ؟
فقال له ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى، فأيسر وسائلك عندنا الشعر، أما صفوة أموالنا فلبني أسد، وأما عقوتها فلال الصدّيق، ولك في بيت المال حقّان، حقّ لعصبتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق بحقك في المسلمين، ثم أمر له بسبع قلائص وراحلة رحيل. ثم أمر بأن توفر له حبّا وتمرا، فجعل أبو ليلى يأخذ التمر فيستجمع به الحب فيأكله، فقال له ابن الزبير: لشدّ ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى، فقال النابغة: أما على ذاك لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ما استرحمت قريش فرحمت وسئلت فأعطت، وحدّثت فصدقت ووعدت فأنجزت، فأنا والنبيون على الحوض فرّاط لقادمين، قوله: إقحمت السنة يكون على وجهين، يقال: اقتحم إذا دخل قاصدا. وأكثر ما يقال من غير أن يدخل ويكون من القحمة، وهي السنة الشديدة، وهو أشبه الوجهين، والاخر حسن والسنة الجدب، يقال أصابتهم سنة، أي جدب. ومن ذا قوله جل وعز:
{وَلَقَدْ أَخَذْنََا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} (3) أي بالجدب. وقوله: صفوة، فهي في
__________
(1) حالك الليل: شديد السواد وهو السيد الجامع لكل خير.
(2) أبو ليلى: كنية للنابغة.
(3) سورة الأعراف: الاية 130.(2/318)
معنى الصفو، وأكثر ما يستعمل الكسر، والباب في المصادر للحال الدائمة الكسر كقولك حسن الجلسة والركبة والمشية والنيمة، كأنها خلقة. والعفوة إنما هو ما عفا أي ما فضل وخذ العفو، قالوا: الفضل. وكذلك قوله جل اسمه: {وَيَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (1). وقوله: عثمثم، يريد الموثّق الخلق الشديد، وذعذعت، أي أذهبت ماله وفرّقت حاله. وقوله: راحلة رحيل أي قوية على الرحلة معوّدة لها، ويقال: فحل فحيل، أي مستحكم في الفحلة. وفي الحديث أن ابن عمر قال لرجل: اشتر لي كبشا لأضحي به أملح واجعله أقرن فحيلا. وقوله فأنا والنبيون على الحوض فراط (2) القادمين، الفارط الذي يتقدم القوم، فيصلح لهم الدلاء والأرشية وما أشبه ذلك من أمرهم حتى يردوا من ذلك قول المسلمين في الصلاة على الطفل: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنا فرطكم على الحوض، وكان يقال يكفيك من قريش أنها أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبا ومن بيت الله بيتا. ويقال إن دار أسد بن عبد العزّي كان يقال لها رضيع الكعبة، وذلك أنها كانت تفيء عليها الكعبة صباحا وتفيء على الكعبة عشيا، وإن كان الرجل من ولد أسد ليطوف بالبيت فينقطع شسع نعله، فيرمي بنعله في منزله فتصلح له، فإذا عاد في الطواف رمي بها أليه. وفي ذلك يقول القائل:
لهاشم وزهير فضل مكرمة ... بحيث حلّت نجوم الكبش والأسد (3)
مجاور البيت ذي الأركان بيتهما ... ما دونهم في جوار البيت من أحد
وقال اخر:
سمين قريش مانع منك لحمه ... وعثّ قريش حيث كان سمين
وقال اخر:
__________
(1) سورة البقرة: الاية 219.
(2) فراط جمع فارط وهو المقدم والقاصفون المزدحمون.
(3) الكبش: والأسد برجان من بروج الشمس، وأراد بالكبش هنا المحل.(2/319)
وإذا ما أصبت من قريش ... هاشميّا أصبت قصد الطريق
وقال حرب بن أميّة لأبي مطر الحضرميّ يدعوه إلى حلفه ونزول مكة:
أبا مطر هلمّ إلى صلاح ... فنكنف (1) كالندامى من قريش
وتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش
وتسكن بلدة عزّت قديما ... وتأمن أن يزورك ربّ جيش
صلاح: إسم من أسماء مكة، وكانت مكة بلدا لقاحا واللّقاح الذي ليس في سلطان ملك، وكانت لا تغزى تعظيما لها حتى كان أمر الفجار، وإنما سمي الفجار لفجورهم إذا قاتلوا في الحرم، وكانت قريش تعزّ الحليف وتكرم المولى وتكاد تلحقه بالصميم، وكانت العرب تفعل ذلك، ولقريش فيه تقدّم.
ودخل سديف مولى أبي العباس السفّاح على أبي العباس أمير المؤمنين وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أدناه وأعطاه يده فقبلها، فلما رأى ذلك سديق أقبل على أبي العباس، وقال:
لا يغرّنك ما ترى من أناس ... إن تحت الضلوع داء دويّا (2)
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
فأقبل عليه سليمان، فقال: قتلتني أيها الشيخ قتلك الله. وقام أبو العباس فدخل فإذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان ثم جرّ فقتل.
ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي. وقد أجلس ثمانين رجلا من بني أمية على سمط الطعام، فمثل بين يديه، فقال:
أصبح الملك ثابت الاساس ... بالبهاليل (3) من بني العبّاس
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياس
__________
(1) تكنف: تعين تجعل في كنفك.
(2) دويا: دفينا لا يطلع.
(3) البهاليل: مفردها بهلول، وهو السيد الجامع لكل خير.(2/320)
لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... واقطعن كلّ رقلة وأواسي
ذلّها أظهر التودّد منها ... وبها منك كحزّ المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيدا (1) ... وقتيلا بجانب المهراس (2)
والقتيل الذي بحرّان أضحى ... ثاويا بين غربة وتناس (3)
نعم شبل الهراش مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسطت عليهم البسط، وجلس عليها ودعا بالطعام، وأنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا. وقال لشبل: ولولا أنك خلطت كلامك بالمسئلة لأغنمتك جميع أموالهم، ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم. قوله الاساس، واحدها أسّ، وتقديرها فعل وأفعال، وقد يقال للواحد: أساس، وجمعه أسس. والبهلول الضحّاك. وقوله بعد ميل من الزمان وياس يقال فيك ميل علينا، وفي الحائط ميل، وكذلك كل منتصب. وقوله واقطعن كل رقلة، الرقلة: النخلة الطويلة، ويقال إذا وصف الرجل بالطول: كأنه رقلة. والأواسي ياؤه مشدة في الأصل، وتخفيفها يجوز، ولو لم يجز في الكلام لجاز في الشعر لأن القافية تقتطعه وكل مثقل فتخفيفه، في القوافي جائز، كقوله:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... (ومن الحبّ جنون مستعر)
وواحدها اسيّة، وهي أصل البناء بمنزلة الأساس، وقوله وغاظ سوائي، تقول: ما عندي رجل سوى زيد، فتقصر إذا كسرت أوله فإذا فتحت أوله على هذا المعنى مددت، قال الأعشى:
__________
(1) زيدا: زيد بن علي بن الحسين.
(2) قتيل المهراس: حمزة بن عبد المطلب.
(3) قتيل حران: إبراهيم بن محمد.(2/321)
تجانف (1) عن جوّ اليمامة (2) ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا
والسواء ممدود في كل موضع، وإن اختلفت معانيه فهذا واحد منه، والسواء الوسط منه، قوله عز وجل: {فَرَآهُ فِي سَوََاءِ الْجَحِيمِ} (3). وقال حيان:
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيّب في سواء الملحد
والسواء العدل والإستواء، ومنه قوله عز وجل: {إِلى ََ كَلِمَةٍ سَوََاءٍ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ} (4) ومن ذلك عمرو وزيد سواء، والسواء التمام، يقال: هذا درهم سواء وأصله من الأول، وقوله عز وجل: {فِي أَرْبَعَةِ أَيََّامٍ سَوََاءً لِلسََّائِلِينَ} (5)
معناه تماما ومن قرأ سواء فإنما وضعه في موضع مستويات. والنمارق واحدتها نمرقة، وهي الوسائد، قال الفرزدق:
وإنا لتجري الكأس بين شروبنا (6) ... وبين أبي قابوس فوق النمارق
وقال نصيب:
إذا ما بساط اللهو مدّ وقرّبت ... للذّاته أنماطه ونمارقه
مصرع زيد بن علي بن الحسين
وقوله: مصرع الحسين (7) وزيد، يعني زيد بن عليّ بن الحسين كان خرج على هشام بن عبد الملك، وقتله يوسف بن عمر الثقفيّ وصلبه بالكناسة عريانا هو وجماعة من أصحابه. ويروي الزبيريّون أنه كان بين يوسف بن عمر
__________
(1) تجانف: تعدل وتميل.
(2) جو: اليمامة إضافة للبيان لأن اليمامة تسمى جوا.
(3) سورة الصافات: الاية 55.
(4) سورة ال عمران: الاية 64.
(5) سورة فصلت: الاية 10.
(6) شروبنا: بالضم القوم إذا اجتمعوا للشراب.
(7) مصرع الحسين: يعني الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.(2/322)
الثقفي، وبين رجل إحنة (1)، فكان يطلب عليه علّة، فلما ظفر بزيد بن علي وأصحابه أحسّوا بالصلب، فأصلحوا من أبدانهم واستحدّوا، فصلبوا عراة وأخذ يوسف عدوّه ذلك فنحله (2) أنه كان من أصحاب زيد فقتله وصلبه، ولم يكن استعد لأنه كان عند نفسه امنا، وكان بالكوفة رجل معتوه عقده التشيّع، فكان يجي فيقف على زيد وأصحابه، فيقول: صلى الله عليك يا بن رسول الله فقد جاهدت في الله حقّ جهاده وأنكرت الجور ودافعت الظالمين. ثم يقبل عليهم رجلا رجلا، فيقول: وأنت يا فلان فجزاك الله خيرا فقد جاهدت في الله حق جهاده وأنكرت الجور ونصرت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يقف على عدوّ يوسف، فيقول: فأما أنت يا فلان فوفور عانتك يدل على أنك بريء مما قرفت به.
في تفسير بعض الألفاظ العربية
وقال حبيب بن جدرة، ويقال جدرة وهي السلعة الهلاليّ (قال الأخفش الصحيح عندنا ابن خدرة بالخاء وكسرها وقال المبرد: لم أسمعه إلا جدرة ويقال جدرة) وهو من الخوارج يعني زيد بن علي.
يا با (3) حسين لو شراة عصابة ... صبحوك كان لوردهم إصدار
يا با حسين والجديد إلى بلى ... أولاد درزة (4) أسلموك وطاروا
تقول العرب للسفلة والسقاط أولاد درزة، وتقول لمن تسبّه: ابن فرتني وأولاد فرتنى، وتقول للصوص: بنو غبراء وفي هذا باب. ويروى أن شاعرا لبني أميّة، قال معارضا للشيع في تسميتهم زيدا المهديّ، والشاعر هو الأعور الكلبيّ:
__________
(1) احنة: حقد.
(2) فنحله: أي نسبه إلى أنه كان من أصحاب زيد بالباطل.
(3) يا با حسين: حذفت الألف للتخفيف والمقصود يا أبا.
(4) أولاد درزة: السفلة من الناس والحاكة والخياطون.(2/323)
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة ... ولم نر مهديا على الجذع يصلب
ونظر بعد زميّن إلى رأس زيد ملقى في دار يوسف وديك ينقره، فقال قائل من الشيعة:
اطردوا الديك عن ذؤابة زيد ... طال ما كان لا تطاه الدجاج
وقوله: وقتيلا بجانب المهراس، يعني حمزة بن عبد المطلب، والمهراس ماء بأحد. ويروى في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عطش يوم أحد فجاءه عليّ في درقه (1) بماء من المهراس، فعافه فغسل به الدم عن وجهه، وقال ابن الزبعرى في يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فاسأل المهراس من ساكنه ... بعد أبدان وهام كالحجل
وإنما نسب شبل قتل حمزة إلى بني أميّة، لأن أبا سفيان بن حرب كان قائد الناس يوم أحد. والقتيل الذي بحرّان هو إبراهيم بن محمد بن عليّ وهو الذي يقال له الإمام، وكان يقال ضحّى بنو حرب بالدين يوم كربلاء، وصحّى بنو مروان بالمروءة يوم العقر. فيوم كربلاء يوم الحسين ابن علي بن إبي طالب وأصحاببه، ويوم العقر يوم قتل يزيد بن المهلّب وأصحابه. وإنما ذكرنا هذا لتقدم قريش في إكرام مواليها.
مكانة أسامة بن زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش موتة زيدا مولاه، وقال: إن قتل فأميركم جعفر، وأمّر رسول الله أسامة بن زيد فبلغه أن قوما قد طعنوا في إمارته وكان أمّره على جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار، فقال عليه السلام: إن طعنتم في إمرته لقد طعنتم في إمارة أبيه، ولقد كان لها أهلا، وإن أسامة لها لأهل. وقالت
__________
(1) الدرقة: محركة ترس من جلد لا خشب فيه ويقال لها الجحفة.(2/324)
عائشة: لو كان زيد حيا ما استخلف رسول الله غيره. وقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضّلت أسامة عليّ وأنا وهو سيّان. فقال: كان أبوه أحبّ إلى رسول الله من أبيك، وكان أحبّ إلى رسول منك. وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب فكأنها تكرّهته فتولى منه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال له يوما ولم يكن أسامة من أجمل الناس: لو كنت جارية لنحلناك وحلّيناك حتى يرغب الرجال فيك. وفي بعض الحديث أنه قال: أسامة من أحبّ الناس إليّ، وكان صلى الله عليه وسلم أدّى إلى بني قريظة مكاتبة سلمان، فكان سلمان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: سلمان منا أهل البيت. ويروى أن المهديّ نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده، فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: أخي وابن عمّي عمارة بن حمزة، فلما ولّى الرجل ذكر ذلك المهديّ كالممازح لعمارة، فقال له عمارة: انتظرت أن تقول ومولاي فأنفض والله يدك من يدي، فتبسّم أمير المؤمنين المهديّ. ولم يكن الإكرام للموالي في جفاة العرب
الموالي عند العرب
زعم الليثي أنه كانت بين ابن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة، وبين يدي مسمع مولى له، له بهاء ورواء ولسن، فوجّه جعفر إلى مسمع مولى له لينازعه ومجلس مسمع حافل، فقال: إن أنصفني والله جعفر أنصفته، وإن حضر حضرت معه، وإن عند عن الحق عندت، وإن وجّه إلي مولى مثل هذا، وأومأ إلى مولى جعفر، فقال مولى مثل هذا عاضّا لما يكره وجهت إليه. وأومأ إلى مولاه، فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه ذلك الذي تبهى بمثله العرب. وقد قيل الرجل لأبيه والمولى من مواليه. وفي بعض الأحاديث أن المعتق من فضل طينة المعتق، ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرة من تمر الصدقة، فوضعها في فيه فانتزعها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا عبد الله إنما يحلّ لك من هذا ما يحلّ لنا. ويروى أن رجلا من
موالي بني مازن يقال له عبد الله بن سليمان، وكان من جلّة الرجال نازع عمرو بن هدّاب المازنيّ، وهو في ذلك الوقت سيّد بني تميم قاطبة، فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره، فأدخل الفعلة دار عمرو فلما خلع من سطحه سافا (1) كفّ عنه، ثم قال: يا عمرو، قد أريتك القدرة وسأريك العفو. وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة: كان نافع بن جبير أحد بني نوفل بن عبد مناف إذا مرّ عليه بالجنازة سأل عنها فإن قيل قرشيّ قال: واقوماه! وإن قيل عربي، قال: ومادّتاه! وإن قيل مولى أو عجمي، قال: اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت. ويروى أن ناسكا من بني الهجيم بن عمرو بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم أغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك. وزعم الأصمعي، قال: سمعت أعربيا يقول لاخر: أترى هذه العجم تنكح نساءنا في الجنة؟ قال: أرى ذلك والله بالأعمال الصالحة، قال: توطأ والله رقابنا قبل ذلك. وهذا باب لم نكن ابتدأنا ذكره ولكن الحديث يجرّ بعضه بعصا ويحمل بعضه على لفظ بعض. ثم نعود إلى ما إبتدأناه إن شاء الله وهو ما نختاره من مختصرات الخطب وجميل المواعظ والزهد في الدنيا المتصل بذلك. وبالله التوفيق بسم الله الرحمن الرحيم: قد ذكرنا في صدر كتابنا هذا أنا نذكر فيه خطبا ومواعظ.(2/325)
زعم الليثي أنه كانت بين ابن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة، وبين يدي مسمع مولى له، له بهاء ورواء ولسن، فوجّه جعفر إلى مسمع مولى له لينازعه ومجلس مسمع حافل، فقال: إن أنصفني والله جعفر أنصفته، وإن حضر حضرت معه، وإن عند عن الحق عندت، وإن وجّه إلي مولى مثل هذا، وأومأ إلى مولى جعفر، فقال مولى مثل هذا عاضّا لما يكره وجهت إليه. وأومأ إلى مولاه، فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه ذلك الذي تبهى بمثله العرب. وقد قيل الرجل لأبيه والمولى من مواليه. وفي بعض الأحاديث أن المعتق من فضل طينة المعتق، ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرة من تمر الصدقة، فوضعها في فيه فانتزعها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا عبد الله إنما يحلّ لك من هذا ما يحلّ لنا. ويروى أن رجلا من
موالي بني مازن يقال له عبد الله بن سليمان، وكان من جلّة الرجال نازع عمرو بن هدّاب المازنيّ، وهو في ذلك الوقت سيّد بني تميم قاطبة، فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره، فأدخل الفعلة دار عمرو فلما خلع من سطحه سافا (1) كفّ عنه، ثم قال: يا عمرو، قد أريتك القدرة وسأريك العفو. وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة: كان نافع بن جبير أحد بني نوفل بن عبد مناف إذا مرّ عليه بالجنازة سأل عنها فإن قيل قرشيّ قال: واقوماه! وإن قيل عربي، قال: ومادّتاه! وإن قيل مولى أو عجمي، قال: اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت. ويروى أن ناسكا من بني الهجيم بن عمرو بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم أغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك. وزعم الأصمعي، قال: سمعت أعربيا يقول لاخر: أترى هذه العجم تنكح نساءنا في الجنة؟ قال: أرى ذلك والله بالأعمال الصالحة، قال: توطأ والله رقابنا قبل ذلك. وهذا باب لم نكن ابتدأنا ذكره ولكن الحديث يجرّ بعضه بعصا ويحمل بعضه على لفظ بعض. ثم نعود إلى ما إبتدأناه إن شاء الله وهو ما نختاره من مختصرات الخطب وجميل المواعظ والزهد في الدنيا المتصل بذلك. وبالله التوفيق بسم الله الرحمن الرحيم: قد ذكرنا في صدر كتابنا هذا أنا نذكر فيه خطبا ومواعظ.
في أشعار الرثاء
فما نذكره من ذلك أمر التعازي والمراثي فإنه باب جامع، وقد قيل إنه لم يقل في شيء قطّ كما قيل في هذا الباب، لأن الناس لا ينفكون من المصايب ومن لم يعدم نفيسا كان هو المعدوم دون النفيس، وحقّ الإنسان الصبر على النوائب واستشعار ما صدّرناه إذ كانت الدنيا دار فراق ودار بوار، لا دار استواء، وعلى فراق المألوف حرقة لا تدفع ولوعة لا ترد، وإنما يتفاضل الناس بصحة الفكر وحسن العزاء والرغبة في الآخرة، وجميل الذكر فقد قال أبو
__________
(1) الساف: كل عرق في الحائط.(2/326)
خراش الهذليّ، وهو أحد حكماء العرب يذكر أخاه عروة بن مرّة:
تقول أراه بعد عروة لاهيا ... وذلك رزء لو علمت جليل
فلا تحسبي إني تناسيت عهده ... ولكنّ صبري يا أميم جميل
وقال عمرو بن معدي كرب:
كم من أخ لي حازم ... بوّأته بيديّ لحدا
أعرضت عن تذكاره ... وخلقت يوم خلقت جلدا
وكان يقال: من حدّث نفسه بالبقاء ولم يوطّنها على المصائب فعاجز الرأي. وعزّى رجل رجلا عن ابنه، فقال: أكان يغيب عنك؟ قال: كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فأنزله غائبا عنك فإنه إن لم يقدم عليك قدمت عليه.
وقال إبراهيم بن المهديّ يذكر ابنه:
وإني وإن قدّمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت منك قريب
وإنّ صباحا نلتقي في مسائه ... صباح إلى قلبي الغداة حبيب
وكفى باليأس معزّيا وبإنقطاع الطمع زجرا، كما قال الشاعر:
أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حيلة ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
تصبّرت مغلوبا وإني لموجع ... كما صبر العطشان في البلد القفر
وقال بعض المحدثين: (قال الأخفش هو حبيب الطائي) وليس بناقصه حظّه من الصواب أنه محدث يقوله لرجل رثاه:
عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وقد كنت أبكيه دما وهو غائب
على أنها الأيام قد صرن كلّها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
وحدّثت أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه عبد الملك خطب الناس، فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حقا واجبا على عباده، فسوّى فيه بين ضعيفهم وقويهم ورفيعهم ودنّيهم، فقال: تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ}
{الْمَوْتِ} (1). فليعلم ذوو النهى (2) منهم أنهم صائرون إلى قبورهم مفردون بأعمالهم. واعلموا أن لله مسئلة فاحصة، قال الله تبارك وتعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (3) وله يقول القائل:(2/327)
عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وقد كنت أبكيه دما وهو غائب
على أنها الأيام قد صرن كلّها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
وحدّثت أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه عبد الملك خطب الناس، فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حقا واجبا على عباده، فسوّى فيه بين ضعيفهم وقويهم ورفيعهم ودنّيهم، فقال: تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ}
{الْمَوْتِ} (1). فليعلم ذوو النهى (2) منهم أنهم صائرون إلى قبورهم مفردون بأعمالهم. واعلموا أن لله مسئلة فاحصة، قال الله تبارك وتعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (3) وله يقول القائل:
تعزّ أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذي الصغير ويولد
هل ابنك إلا من سلالة ادم ... لكلّ على حوض المنيّة مورد
وقال رجل من قريش يرثي ابنه (قال أبو الحسن هو العتبيّ):
بأبي وأمي من عبأت حنوطه (4) ... بيدي وودّعني بماء شبابه
كيف السلوّ (5) وكيف صبري بعده ... وإذا دعيت فإنما أكنى به
وقال ابن لعمر بن عبد العزيز يرثي عاصم بن عمر:
فإن يك حزن أو تجرّع غصّة ... أمارا (6) نجيعا (7) من دم الجوف منقعا
تجرّعته في عاصم واحتسيته ... لأعظم منه ما احتسى وتجرّعا
وقال أبو سعيد اسحق بن خلف يرثي ابنة أخته، وكان تبنّاها، وكان حدبا عليها كلفا بها:
أمست أميمة معمورا بها الرجم (8) ... لقى صعيد عليها الترب مرتكم
يا شقّة النفس إن النفس والهة ... حرّى عليك ودمع العين منسجم
قد كنت أخشى عليها أن تقدّمني ... إلى الحمام فيبدي وجهها العدم
فالان نمت فلا همّ يؤرّقني ... يهدا الغيور إذا ما أودت الحرم
__________
(1) سورة ال عمران: الاية 185.
(2) النهى: الألباب العقول.
(3) سورة الحجر: الاية 93.
(4) حنوط: كل طيب يخلط للميت، وعبأ: هيأ.
(5) السلو: النسيان.
(6) أمارا: اسالا.
(7) النجيع: ما كان مائلا إلى السواد من الدم.
(8) الرجم: بالتحريك القبر.(2/328)
للموت عندي أياد لست أنكرها ... أحيا سرورا وبي مما أتى ألم
وهذه المرثية ليست مما تقع مع الجزع القراح (1) والحزن المفرد، ولكنه باب للمراثي يجمع إفراط الجزع وحسن الاقتصاد، والميل إلى التشكي والركون إلى التعزّي، وقول من كان له واعظ من نفسه أو مذكّر من ربه ومن غلبت عليه الجساوة (2)، وكان طبعه إلى القساوة فقد اختلط كلّ بكلّ. وقال رجل من المحدثين يرثي أخاه:
تجلّ رزيّات وتعرو مصايب ... ولا مثل ما أنحت علينا يد الدهر
لقد عركتنا للزمان ملمّة ... أذمّت (3) بمحمود الجلادة والصبر
فهذا يحسن من قائله، أن الرزء كان جليلا بإجماع، فللقائل أن يتفسّح في القول فيه. وهذا يقوله عبد العزيز بن عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وكان عبد الرحيم من جلّة أهله لسنا ونعمة وسنّا وولاية، ومات معزولا عن اليمن في حبس الخليفة. وأمّ جعفر بن سليمان أمّ حسن بنت جعفر بن حسن بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم، فلذلك يقول عبد العزيز في هذه القصيدة:
بموتك يا عبد الرحيم بن جعفر ... تفاحش صدع الدين عن الأم الكسر
فيا ابن النبيّ المصطفى وابن بنته ... ويا ابن عليّ والفواطم والحبر
ويا ابن اختيار الله من ال ادم ... أبا فإبا طهرا يؤدّي إلى طهر
ويا ابن سليمان الذي كان ملجأ ... لمن ضاقت الدنيا به من بني فهر
ومن ملأ الدنيا سماحا ونائلا ... وروّى حجيجا بالملمعة (4) القفر
لعزّ بما قد نالنا من رزيئة ... بموتك محبوسا على صاحب القبر
__________
(1) القراح: الخالص.
(2) الجساوة: اسم من قوله جسا جسوا: إذا صلب.
(3) أذمت: أعيت وأقعدت من كان ذا صبر وتجلد.
(4) الملمعة: بكسر الميم الفلاة يلمع فيها السراب.(2/329)
فإن تضح في حبس الخليفة ثاويا ... أبيّا لما يعطي الذليل على القسر
لكم من عدوّ للخليفة قد هوى ... بكفك أو أعطى المقادة عن صغر
فواحزنا لو في الوغى كان موته ... بكينا عليه بالردينيّة السمر
وكنا وقيناه القنا بنحورنا ... وفات كذا في غير هيج ولا نفر
وحدّثت أن عمر بن الخطاب، لما ولى كعب بن سور الأزديّ قضاء البصرة أقام عاملا له عليها إلى أن استشهد على أنه كان قد عزله، ثم رده.
فلما قام عثمان بن عفّان أقرّه، فلما كان يوم الجمل خرج مع إخوة له قالوا ثلاثة وقالوا أربعة، وفي عنقه مصحف فقتلوا جميعا. فجاءت أمهم حتى وقفت عليهم، فقالت:
يا عين جودي بدمع سرب ... على فتية من خيار العرب
وما لهم غير حين النفو ... س أيّ أميري قريش غلب
هذه الرواية سرب، وقالوا: معناه جار في طريقه من قولهم: انسرب في حاجته. وبيت ذي الرمّة يختار فيه الفتح (كأنه من كلى (4) مغريّة سرب) لأنه إسم والأول المكسور نعت، ويقبح وضع النعت في موضع المنعوت غير المخفوض (قال أبو الحسن: حقّ النعت أن يأتي بعد المنعوت، ولا يقع في موقعه حتى يدلّ عليه فيكون خاصا له دون غيره، تقول: جاءني إنسان طويل، فإن قلت: جاءني طويل لم يجز، لأن طويلا أعمّ من قولك إنسان، فلا يدلّ عليه، فإن قلت: جاءني إنسان متكلم، ثم قلت بعد جاءني متكلم جاز لأنك تدلّ به على الأنسان. فهذا شرح قوله المخصوص) وقولها: غير حين النفوس، نصب على الاستثناء الخارج من أول الكلام، وقد ذكرناه مشروحا.
والمراثي كثيرة كما وصفنا، وإنما نكتب منها المختار والنادر، والمتمثّل به السائر، فمن مليح ما قيل قول رجل يرثي أباه (قال أبو الحسن يقال إنه ابن لأبي العتاهية):
__________
(4) الكلى: جمع كلية وهى لحمة حمراء لازقة بعظهم الصلب عند الخاصرة.(2/330)
قلب يا قلب أوجعك ... ما تعدّى فضعضعك
يا أبي ضمّك الثرى ... وطوى الموت أجمعك
ليتني يوم متّ صر ... ت إلى تربة معك
رحم الله مصرعك ... برّد الله مضجعك
وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه، وكان مات بالبصرة:
نأى اخر الأيام عنك حبيب ... فللعين سحّ دائم وغروب (1)
دعته نوى لا يرتجى أوبة لها ... فقلبك مسلوب وأنت كئيب
يؤوب إلى أوطانه كلّ غائب ... وأحمد في الغيّاب ليس يؤوب
تبدّل دارا غير داري وجيرة ... سواي وأحداث الزمان تنوب
أقام بها مستوطنا غير أنه ... على طول أيام المقام غريب
كأن لم يكن كالغصن في ميعة (2) الضحى ... سقاه النّدى فاهتزّ وهو رطيب
كأن لم يكن كالدرّ يلمع نوره ... بأصدافه لمّا تشنه ثقوب
كأن لم يكن زين الفناء ومعقل الن ... ساء إذا يوم يكون عصيب
وريحان صدري كان حين أشمّه ... ومؤنس قصري كان حين أغيب
وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت ... بحمد إلهي وهي منه سليب
قليلا من الأيام لم يروا ناظري ... بها منه حتى أعلقته شعوب (3)
كظلّ سحاب لم يقم غير ساعة ... إلى أن أطاحته فطاح جنوب (4)
أو الشمس لمّا من غمام تحسّرت ... مساء وقد ولت وحان غروب
سأبكيك ما أبقت دموعي والبكى ... بعينّي ماء يا بنيّ يجيب
وما غار نجم أو تغنّت حمامة ... أو اخضرّ في فرع الأراك قضيب
حياتي ما دامت حياتي فإن أمت ... ثويت وفي قلبي عليك ندوب (5)
__________
(1) الغروب بالضم جمع غرب بالفتح وهو انهلال الدمع من العين.
(2) ميعة الضحى: النهار أو أوله.
(3) شعوب بالفتح من أسماء المنية غير مصروف وسميت شعوب لأنها تفرق.
(4) جنوب: من أسماء الرياح.
(5) الندوب: جمع ندبة وهي أثر الجراح.(2/331)
وأضمر إن أنقدت دمعي لوعة ... عليك لها تحت الصلوع وجيب (1)
دعوت أطبّاء العراق فلم يصب ... دواءك منهم في البلاد طبيب
ولم يملك الاسون (2) دفعا لمهجة ... عليها لأشراك المنون رقيب
قصمت جناحي بعدما هدّ منكبي ... أخوك فرأسى قد علاه مشيب
فأصبحت في الهلّاك ألا حشاشة ... تذاب بنار الحزن فهي تذوب
تولّيتما في حقبه (3) فتركتما ... صدى يتولّى تارة ويثوب
فلا ميت إلا دون رزئك رزؤه ... ولو فتّتت حزنا عليه قلوب
وإني وإن قدّمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت منك قريب
وأنّ صباحا نلتقي في مسائه ... صباح إلى قلبي الغداة حبيب
وقال أبو عبد الرحمن العتبي، وتابع له بنون:
كلّ لساني عن وصف ما أجد ... وذقت ثكلا ما ذاقه أحد
وأوطنت حرقة حشاي فقد ... ذاب عليها الفؤاد والكبد
ما عالج الحزن والحرارة في الأ ... حشاء من لم يمت له ولد
فجعت باثنين ليس بينهما ... إلا ليال ليست لها عدد
فكلّ حزن يبلى على قدم الده ... ر وحزني يجدّه الأبد
وذكر بعض الرواة، أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان عاملا لعليّ بن أبي طالب على اليمن، فشخص إلى عليّ واستخلف على اليمن عمرو بن أراكة الثقفيّ، فوجّه معاوية إلى اليمن ونواحيها بسر بن ارطاة أحد بني عامر بن لؤيّ، فقتل عمرو بن أركة فجزع عليه عبد الله أخوه جزعا شديدا، فقال أبوه:
لعمري لئن أتبعت عينيك ما مضى ... به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتستنفدن ماء الشؤون (4) بأسره ... ولو كنت تمريهنّ من ثبج البحر
__________
(1) وجيب: الخفقان.
(2) الاسون: ج اس: وهو الطبيب.
(3) الحقبة: بالكسر السنة.
(4) الشؤون: عظام الرأس.(2/332)
لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارسا ... بصنعاء كالليث الهزبر أبي أجر
وقلت لعبد الله إذ حنّ باكيا ... تعزّ وماء العين منهمر يجري
تبيّن فإن كان البكا ردّ هالكا ... على أهله فاشدد بكاك على عمرو
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنّه ... عليّ وعباس وال أبي بكر
وقوله: من ثبج البحر فثبج كلّ شيء وسطه. ويروى في الحديث (1):
كنت إذا فاتحت الزهريّ فتحت منه ثبج البحر. وقوله: تمريهن، هو مثل يقال: مريت الناقة إذا مسحت ضرعها لتدرّ، فإنما هو استخراج اللبن، ويقال: مريت برجلي الأرض إذا مسحتها، والأصل ذلك فإنما أراد، كنت تستخرج الدموع من ثبج البحر، وكان بسر بن أرطاة في تلك الحروب أرشد على ابنين لعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وهما طفلان وأمّهما من بني الحرث بن كعب فوارتهما، فيقال: أخذهما من تحت ذيلها فقتلهما، ففي ذلك تقول الحارثيّة:
ألا من بيّن الأخو ... ين أمّهما هي الثكلى
تسائل من رأى ابنيها ... وتستبغي فما تبغى
وفي ذلك تقول أيضا:
يا من أحسّ بنيّيّ اللذين هما ... كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف
يا من أحس بنيّيّ اللذين هما ... سمعي وطرفي فطر في اليوم مختطف
يا من أحس ببنّيّ اللذين هما ... مخّ العظام فمخّي اليوم مزدهف (2)
نبّئت بسرا وما صدّقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك (3) الذي اقترفوا (4)
أنحى على ودجي طفليّ مرهفة ... مشحوذة وعظيم الإفك يقترف
__________
(1) هذا خطأ والأصح أن الحديث هنا حديث الزهري.
(2) مزدهف: ازدهف الشيء، أي ذهب به وأهلكه.
(3) الإفك: الكذب.
(4) اقترفوا: اكتسبوا.(2/333)
من دلّ والهة (1) حرّى مفجّعة ... على صبيين غابا إذ مضى السلف
ويروى أن معاوية لما أتاه موت عتبة تمثل:
إذا سار من خلف امرىء وأمامه ... وأوحش من أصحابه فهو سائر
فلما أتاه موت زياد تمثل:
وأفردت سهما في الكنانة واحدا ... سيرمى به أو يكسر السهم كاسر
وماتت إمرأة للفرزدق بجمع، ومعنى جمع ولدها في بطنها، (وإن شئت قلت جمع يا فتى) فقال:
وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو ان المنايا أنسأته (2) لياليا
وهذا من البغى في الحكم والتقدم. قال رجل من المحدثين في ابنين لعبد الله ابن طاهر أصيبا في يوم واحد، وهما طفلان شبيها بهذا ولكنه اعتذر، فحسن قوله، وصح معناه باعتذاره وهو الطائي:
لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا
إن الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
وقال الفرزدق يرثي حدراء الشيبانية:
يقول ابن صفوان بكيت ولم تكن ... على امرأة عيني إخال لتدمعا
يقولون زر حدراء والترب دونها ... وكيف بشيء عهده قدد تقطّعا
ولست وإن عزّت عليّ بزائر ... ترابا على مرموسة (3) قد تضعضعا
وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء من أصحابه من تقنّعا
وما مات عند ابن المراغة مثلها ... ولا تبعته ظاعنا يوم ودّعا
__________
(1) الوالهة: كل أنثى فقدت ولدها.
(2) أنسأته: أخرته.
(3) المرموسة: التي ألقيت في الرمس.(2/334)
وقال جرير يرثي امرأته:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
نعم الخليل وكنت علق مضنة (1) ... ولديّ منك سكينة ووقار
لن يلبث القرناء أن يتفرّقوا ... ليل يكرّ عليهم ونهار
صلى الملائكة الذين تخيّروا ... والصالحون عليك والأبرار
أفأمّ حزرة (2) يا فرزدق عبتم ... غضب المليك عليكم الجبّار
وقال رجل من خزاعة وينحله كثيّر يرثى عمر بن عبد العزيز بن مروان:
(قال أبو الحسن الذي صح عندنا أن هذا الشعر لقطرب النحويّ).
أما القبور فإنهنّ أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور
جلّت رزيئته فعمّ مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور
(ردّت صنائعه (3) إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور)
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنّة وزفير
يثنى عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير
ومثله قول عمارة بمدح خالد بن يزيد بن مزيد:
أرى الناس طرّا حامدين لخالد ... وما كلهم أفضت إليه صنائعه
ولن يترك الأقوام أن يمدحوا الفتى ... إذا كرمت أخلاقه وطبائعه
فتى أمعنت (4) ضرّاؤه في عدوّه ... وخصّت وعمّت في الصديق منافعه
ومن قوله: والناس مأتمهم عليه واحد: أخذ الطائي في مرثيته:
لئن أبغض الدهر الخؤون لفقده ... لعهدي به حيّا يحبّ به الدهر
__________
(1) مضنة: بفتح الضاد وقد تكسر نفيس يضنن به.
(2) حزرة: ابن جرير.
(3) صنائعه: معروفه وإحسانه واحدها صنيعة.
(4) أمعنت بالغت حتى شملت اعداءه.(2/335)
لئن عظمت فيه مصيبة طيّيء ... لما عرّيت منها تميم ولا بكر
وقال القرشي:
وقد كنت أبكي على من فات من سلفي ... وأهل ودّي جميع غير أشتات
فاليوم إذ فرّقت بيني وبينهم ... نوى بكيت على أهل المروات
وما بقاء امرء كانت مدامعه ... مقسومة بين أحياء وأموات
ويروى أن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، تمثل عند قبر فاطمة عليها السلام:
(لكل اجتماع من خليلين قرقة ... وإنّ الذي دون الفراق قليل)
وإن افتقادي واحدا بعد واحد ... دليل على ألايدوم خليل
وقال عقيل بن علّفة المرّيّ من غطفان:
لعمري لقد جاءت قوافل خبّرت ... بأمر من الدنيا عليّ ثقيل
وقالوا ألا تبكي لمصرع هالك ... أصاب سبيل الله خير سبيل
كأنّ المنايا تبتغي في خيارنا ... لها ترة (1) أو تهتدي بدليل
لتأت المنايا حيث شاءت فإنها ... محلّلة (2) بعد الفتى بن عقيل
فتى كان مولاه يحلّ بنجوة (3) ... فحلّ الموالي بعده بمسيل (4)
وتمثلت عائشة عند قبر عبد الرحمن بن أبي بكر بقول متمّم ابن نويرة:
وكنّا كندماني جذيمة حقبة (5) ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
__________
(1) ترة: الثأر.
(2) مجلله: تهون علي وتصغر من قولهم هذا شيء جلل أي هين، يسير.
(3) نجوة: كل ما ارتفع من الأرض.
(4) المسيل: مجرى السيل وضرب ذلك مثلا لعزهة مولاه وذل مولى غيره.
(5) حقبة: هنا مدة من الزمن وندمانا جذيمة مالك وعقيل ابنا قارح رجلان من بني القين وهما اللذان حملا عمرو بن هدي إلى جذيمة بعد أن غاب عنه زمنا طويلا لا يدري أين هو فاختصها لمنادمته.(2/336)
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبّعا
فلما تفرّقنا كأنّي ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ومات صديق لسليمان بن عبد الملك يقال له شراحيل، فتمثل عنده قبره:
وهوّن وجدي عن شراحيل أنني ... إذا شئت لاقيت امرا مات صاحبه
وقال أعرابي:
إلا لهف الأرامل واليتامى ... ولهف الباكيات على قصيّ
لعمرك ما خشيت على قصيّ ... متالف بين حجر (1) والسليّ (2)
ولكنّي خشيت على قصيّ ... جريرة رمحه في كل حيّ
فتى الفتيان محلول ممرّ ... وأمّار بإرشاد وعيّ
فهذا الشعر من أجفى أشعار العرب، ينبىء صاحبه أن تقديره في المرثيّ أن تكون منيته قتلا ويأسف من موته حتف أنفه. ويقول في مدحه (وأمار بإرشاد وغي) وشبيه بهذا قول لبيد في أخيه أربد لما أصابته الصاعقة، وأصابت عامرا الغدّة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر بن الطفيل صار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أربد فقال لأربد: أنا أشغله لك واضربه أنت بالسيف من ورائه. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام على أن يجعل له أعنّة الخيل، فقال عامر: ومن يمنعها اليوم مني، ولكن إن شئت فلك المدر ولي الوبر أو لي المدر ولك الوبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فاجعل لي هذا الأمر بعدك، فأعلمه النبيّ أن ذلك ليس بكائن، قال: فأبشر بخيل أوّلها عندك واخرها عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأبى الله ذلك وابنا قيلة، يعني الأوس والخزرج. ويروى أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، علام يسحب هذا الأعرابيّ لسانه عليك دعني أقتله. ويروى أن عامرا قال للنبيّ عليه السلام:
__________
(1) حجر بالفتح وادي.
(2) السلي: بالضم وتشديد الياء وادي.(2/337)
لأغزونّك على ألف أشقر وألف شقراء. فلما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهمّ اكفنيهما. وتروي قيس أنه قال: اللهم إن لم تهد عامرا فاكفنيه، وقال عامر لإربد: قد شغلته عنك مرارا فألّا ضربته؟ قال أربد: أردت ذلك مرّتين فاعترض لي في إحداهما حائط من حديد، ثم رأيتك الثانية بيني وبينه أفأقتلك؟ قلم يصل واحد منهما إلى منزله، أما عامر فغدّ في ديار بني سلول بن صعصعة، فجعل يقول: أغدّة (1) كغدّة البعير وموتا في بيت سلولية، وأما أربد فارتفعت له سحابة فرمته بصاعقة فأحرقته. وكان أخا لبيد لأمه فقال يرثيه:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء (2) السماك والأسد
ما إن تعرّي المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد
فجّعني الرعد والصواعق بالف ... ارس يوم الكريهة النجد (3)
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام العدوّ في كبد (4)
وقال أيضا:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتحدّثون مخافة وملاذة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
يا أربد الخير الكريم جدوده ... غادرتني أمشي بقرن أعضب
إن الرزيئة لا رزيئة مثلها ... فقدان كلّ أخ كضوء الكوكب
قوله خلف، يقال هو خلف فلان لمن يخلفه من رهطه، وهؤلاء خلف فلان إذا قاموا مقامه من غير أهله. وقلما يستعمل خلف إلا في الشر وأصله ما ذكرنا. والمخانة مصدر من الخيانة، والملوذ الذي لا يصدق في مودّته، يقال:
__________
(1) أغدة بالنصب على أنه مفعول مطلق حذف عامله وهي الضم لحم يحدث من داء بين الجلد واللحم ويتحرك بالتحريك وهي للبعير كالطاعون للانسان.
(2) نوء: النجم: حال الغروب أو سقوط النجم في المغرب مع الفجر وطلوع اخر يقابله.
(3) النجد: بضم الجيم وكسرها، القويّ والشجاع.
(4) الكبد: محركا، الضيق والشدة.(2/338)
رجل ملوذ وملذان، وملاذة مصدره. والأعضب المقطوع. وفي الحديث: لا يضحّى بعضباء. ويروى أن رجلا قال لمعن بن زائدة في مرضه: لولا ما منّ الله به من بقائك لكنا كما قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فقال له معن: إنما تذكر أني سدت حين ذهب الناس، هلا قلت كما قال نهار بن توسعة:
قلّدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تهلك السراة البحور
ثم نرجع إلى ذكر المراثي، وقال أعرابي:
لعمري لقد نادى بأرفع صوته ... نعيّ حييّ أن سيّدكم هوى
أجل صادقا والقائل الفاعل الذي ... إذا قال قولا انبط الماء في الثرى (1)
فتى قبل لم تعنس المنّ وجهه ... سوى وصح في الرأس كالبرق في الدجى
اشارت له الحرب العوان (2) فجاءها ... يقعقع بالأقراب أوّل من أتى
ولم يجنها لكن جناها وليّه ... فاسى واداه فكان كمن جنى
ويروى أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى الخنساء، وعليها صدار من شعر فقالت: يا خنساء، أتلبسين الصدار وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟
فقالت: لم أعلم بنهيه، ولكن لهذا الصدار سبب! فقالت: وما هو؟ قالت لها:
كان زوجي رجلا متلافا فأخفق فأراد أن يسافر فقلت له: أقم وأنا اتي أخي صخرا فاسأله، فأتيته، فشاطرني ماله فأتلفه زوجي فعدت له، فعاد لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي، فعدت له، فلما كان في الثالثة أو الرابعة، قالت له امرأة:
إن هذا المال متلف فامنحها شرارها، فقال صخر:
والله لا أمنحها شرارها ... ولو هلكت خرّقت خمارها
واتخذت من شعر صدارها
__________
(1) الثرى: التراب الندي.
(2) الحرب العوان بالفتح التي قوتل فيها مرة بعد أخرى.(2/339)
فلما هلك اتخذت هذا الصدار، وكان صخر أخا الخنساء لأبيها فقط.
ويروى عن بعض نساء بني سليم، أنها نظرت إليها في صدار، وهي تصنع طيبا لابنها لتنقلها إلى زوجها، فقاولتها في شيء كرهته الخنسا فقالت لها:
اسكتي، فو الله لقد كنت أبسط منك عرقا، وأطيب منك ورسا، وأحسن منك عرسا، وأرقّ منك نعلا وأكرم منك بعلا. وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعرا قط إلا تبيّن الضعف فيه. فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ فقال: تلك كان لها أربع خصى! وقال القرشي، وتتابع له بنون:
أسكّان بطن الأرض لو يقبل الفدا ... فديتم وأعطينا بكم ساكن الظهر
فيا ليت من فيها عليها وليت من ... عليها ثوى فيها مقيما إلى الحشر
فماتوا كأن لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر على قبر
لقد شمت الأعداء بي وتغيّرت ... عيون أراها بعد موت أبي عمرو
تجرّى عليّ الدهر لمّا فقدته ... ولو كان حيّا لاجترأت على الدهر
وقاسمني دهري بنيّ مشاطرا ... فلما توفّى شطره مال في شطري
وحدثني العباس بن الفرح الرياشيّ قال: قدم رجل من البادية، فلما صار بجبل سنام (1) مات له ينون، فدفنهم هناك، وقال:
دفنت الدافعين الضيم عني ... برابية مجاورة سناما
أقول إذا ذكرت العهد منهم ... بنفسي تلك أصداء (2) وهاما (3)
فلم أر مثلهم ماتوا جميعا ... ولم أر مثل هذا العام عاما
(قال أبو الحسن الأخفش، وفيها عن غير أبي العباس):
فليت حمامهم إذ فارقوني ... تلقّانا فكان لنا حماما
__________
(1) جبل سنام: جبل بين البصرة واليمامة.
(2) اصداء: جمع صدى وهو جسد الادمي بعد موته.
(3) الهام: وهي رأس كل شيء.(2/340)
قال أبو العباس: ويروى أن رجلا كان له بنون سبعة. يروي ذلك أبو الحسن المدائنيّ، قال أبو العباس: فاختلف عليّ فيهم، فقال قوم: كانوا تحت حائط، وقال قوم اخرون: بل حلب لهم في علبة، فمجّ فيها أفعى فبعث بها إليهم فشربوها فماتوا جميعا، والرجل يقال له الحرث ابن عبد الله الباهليّ، وهلكت لجار له شاة فجعل يعلن بالبكاء عليها، فقال قائل:
يا أيها الباكي على شاته ... يبكي جهارا غير إسرار
إن الرزيئات وأمثالها ... ما لقي الحرث في الدار
دعا بني (1) معن وإخوانهم ... فكلهم يعدو بمحفار
قال أبو العباس: والمصائب ما عظم منها وما صغر تقع على ضربين، فالحزم التسلّي عما لا يغني الغمّ فيه، والإحتيال لدفع ما يدفع بالحيلة. ومن أحسن القول في هذا المعنى في الإسلام قول عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، حين مات ابنه فلم ير منه جزع، فسئل عن ذلك، فقال: أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره. وفي هذا زيادة تنتظر، وفضل تسليم لقضاء الله عز وجل، والعرب تقول: الحذر أشدّ من الوقيعة. وقال رجل من الحكماء إنما الجزع والإشفاق قبل وقوع الأمر، فإذا وقع فالرضا والتسليم.
ومن هذا قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله إذا استأثر الله بشيء فاله عنه، يقال لهيت عن الأمر ألهى إذا أضربت عنه، ولهوت ألهو من اللعب. ومن أقدم ما قيل في هذا المعنى قول أوس بن حجر الأسيديّ، من بني أسيّد بن عمرو بن تميم يرثي فضالة بن كلدة، أحد بني أسد بن خزيمة:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمّع السماحة وال ... نجدة والحزم والقوى جمعا
__________
(1) دعا بني معن الخ يقول إن الحرث دعا أهل حيه وأهل بلدة من بني معن لينقذوا أولاده فكلهم أتى بالة الحفر وهذا يؤيد من قال إنهم كانوا تحت حائط.(2/341)
(أودى في ما تنفع الإشاحة (1) من ... شيء لمن قد تحاول البدعا)
الألمعيّ الذي يظنّ لك ال ... ظنّ كان قد رأى وقد سمعا
المخلف المتلف المرزّأ لم ... يمتع بضعف ولم يمت طبعا
والحافظ الناس في تحوط إذا ... لم يرسلوا حلق عائد ربعا
وعزّت الشّمأل الرياح وقد ... أمسى كميع الفتاة ملتفعا
وشبّه الهيدب العبام من ... الأقوام سقبا ملبّسا فرعا
وكانت الكاعب الممنّعة الحس ... ناء في زاد أهلها سبعا
ليبكك الشرب والمدامة والفت ... يان طرّا وطامع طمعا
وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جدعا
وفيها زيادة لكنا اخترنا قوله، الألمعيّ الحديد اللسان والقلب، وقد أبانه بقوله، الذي يظن كل الظن كأن قد رأى وقد سمعا، وقوله: المخلف المتلف، أراد أنه يتلف ماله كرما ويخلفه نجدة، كما قال:
ناقته ترقل في الثقال ... متلف مال ومفيد مال
وقال اخر (فأتلف ذاك متلاف كسوب). والمرزّأ الذي تناله الرزيئات في ماله لما يعطي ويسئل، والإمتاع الإقامة، فيقول: لم يقم وهو ضعيف، والطبع أسوأ الطمع، وأصله أن القلب بعتاد الخلّة الدنيئة فنركبه كالحائل بينه وبين الفهم لقبح ما يظهر منه، وهذا مثل وأصله في السيف وما أشبه يقال: طبع السيف، إذا ركبه صدأ يستر حديده، وطبع الله على قلوبهم من ذا. ونحوط وقحوط إسمان للسنة الجدبة، كما يقال حجرة وكحل. وقوله: لم يرسلوا خلف عائذ ربعا، فالعائذ الحديثة النتاج، والربع الذي ينتج في الربيع، ومن شأنهم في سنة الجدب أن ينحروا الفصال لئلا ترضع فتضرّ بالأمهات. وقوله:
وعزت الشمأل الرياح. يقول غلبتها وتلك علامة الجدب وذهاب الأمطار، ومن ذلك قولهم: من عزّ بزّ أي من غلب استلب. وفي القران: {وَعَزَّنِي فِي}
__________
(1) الاشاحة: الحذر.(2/342)
{الْخِطََابِ} (1)، أي غلبني بالمخاطبة. وقوله: وقد أمسى كميع الفتاة، فالكميع الضجيع، وهو الكمع، قال الراجز: (ومشحوذ الغرار يبيت كمعي) يعني السيف أي يبيت مضاجعي ملتفعا، يقال: تلفّع في مطرفه وفي كسائه إذا تلفف وتزمّل فيه، فيقول من شدة الصرّ يلتفع به دون ضجيعه، والكاعب التي كعب ثديها، يقول: تصير كالسبع في زاد أهلها بعد أن كانت تعاف طيّب الطعام.
وقوله: وذات عدم، يعني امرأة ضعيفة، والهدم الكساء الخلق الرثّ، وقوله:
عار نواشرها، النواشر عروق الساعد، ولتولب الصغير، والجدع السيء الغذاء، وهو الجحن (2) والقتين (3)، وقال أعرابي:
خليليّ عوجا بارك الله فيكما ... على قبر أهبان سقته الرواعد (4)
فذاك الفتى كلّ الفتى كان بينه ... وبين المزجّي (5) نفنف (6) متباعد
إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عيّيا (7) ولا عيّا على من يقاعد
وقالت ليلى الأخيليّة:
دعا قابضا (8) والمرهفات ينشنه ... فقبّحت مدعوّا ولبّيك داعيا
فليت عبيد الله كان مكانه ... صريعا ولم أسمع لتوبة ناعيا
وكان سبب هذا الشعر أن توبة بن حميّر العقيليّ: ثم الخفاجىّ غزافغنم ثم انصرف فعرّس في طريقة فأمن، فقال (9): فندّت (10) فرسه فأحاط به عدوّه ومعه
__________
(1) سورة ص: الاية 23.
(2) الجحن: ككتف بتقديم الجيم على الحاء السيء الغداء.
(3) القتين: الرجل الحقير الذليل.
(4) الرواعد: مفردها راعدة وهي السحابة التي تحمل الرعد.
(5) المزجى: من قولهم زجى الشيء إذا ساقه ودفنه كازجاه.
(6) النفنف ما بين الجبلين أو المفازة.
(7) يقال عي فلان بالأمر إذا لم يهتد لوجه مراده.
(8) دعا المقصود هنا توبة. بن الحمير.
(9) فقال: نام وقت القائلة.
(10) ندت: شردت ونفرت.(2/343)
عبيد الله أخوه وقابض مولاه، فدعاهما فذبّب عبيد الله شيئا وانهزما، وقتل توبة. ففي ذلك تقول ليلى الأخيلية:
أعيني ألا فابكي على ابن حميّر ... بدمع كفيض الجدول المتفجر
لتبك عليه من خفاجة نسوة ... بماء شؤون العبرة المتحدّر
سمعن بهيجا أزحفت فذكرنه ... وقد يبعث الأحزان طول التذكّر
كأنّ فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع مع المتغوّر
ولم يرد الماء السّدام إذا بدا ... سنا الصّبح في أعقاب أخضر مدبر
ولم يقدع الخصم الألدّ ويملإ ال ... جفان سديفا يوم نكباء صرصر
ألا ربّ مكروب أجبت وخائف ... أجرت ومعروف لديك ومنكر
فيا توب للمولى ويا توب للندى ... ويا توب للمستنبح المتنوّر
في شرح هذه الأبيات
قولهما: لتبك عليه من خفاجة نسوة، تعني خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، والهيجاء تمدّ وتقصر، وقد مر هذا. وقولها بنجد ولم يطلع مع المتغور، فالنجد كل ما أشرف من الأرض، والغور كل ما انخفض. ويقال ماء سدام، ومياه سدم، وهي القديمة المتدفقة، قال الشاعر:
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل ... قلائص تحدي في طريق طلائح (1)
وسنا الصبح ضوءه، وهو مقصور، فإذا أردت الحسب مددت، والأخضر الذي ذكرت هو الليل، والعرب تسمي الأسود أخر. وقولها ولم يقدع الخصم الألد، فالألد الشديد الخصام، والسديف شقق السنام، والنكباء الريح بين الريحين، الشديدة الهبوب. والصرصر الشديدة الصوت، والمستنبح الذي يسري فلا يعرف مقصدا فينبح لتجيبه الكلاب، فيقصدها، والمتنوّر الذي
__________
(1) طلائح: جمع طليح وهو البعير الذي أعياه السفر.(2/344)
يلتمس ما يلوح له من النار فيقصده. قال الأخطل يعيّر جريرا:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار
فيقال أن جريرا توجع من هذا البيت، وقال جمع بهذه الكلمة ضروبا من الهجاء والشتم: منها البخل الفاحش، ومنها عقوق الأم في ابتذلها دون غيرها، ومنها تقذير الفناء، ومنها السوءة التي ذكرها من الوالدة، وقال اخر:
وإني لأطوي البطن من دون ملئه ... لمختبط (1) في اخر الليل نابح
وإن امتلاء البطن في حسب الفتى ... قليل الغناء وهو في الجسم صالح
وقالت ليلى الأخيليلة:
نظرت وركن من بوانة (2) دوننا ... وأركان حسمي (3) أي نظرة ناظر
إلى الخيل أجلى شأوها (4) من عقيرة ... لعاقرها فيها عقيرة عاقر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى والكراكر (5)
ولم يبن (6) أبرادا رقاقا لفتية ... كرام ويرحل قبل فيء الهواجر
فتى لا تخطّاه الرفاق ولا يرى ... لقدر عيالا دون جار مجاور
وكنت إذا مولاك خاف ظلامة ... دعاك ولم يقنع سواك بناصر
قولها: أي نظرة ناظر، يصلح فيه الرفع والنصب على قوله نظرت وأيّة نظرة وأيّتما نظرة وأيّما نظرة، كما نقول: مررت برجل أيّما رجل.
وتأويله: مررت برجل كامل، فأيما في موضع: كامل. وتقول: مررت بزيد أيما رجل، على الحال. ومن قال: أيّ نظرة ناظر، فعلى القطع والابتداء،
__________
(1) مختبط: طالب الرفد من غير سابق معرفة.
(2) بوانة بالضم: هضبة من وراء نبع.
(3) حسمى: بالكسر والقصر وهي أرض.
(4) أجلى شأوها: كشف وأظهر.
(5) الكراكر جمع كركره بالكسر وهي رحى زور البعير أو صدر كل ذي خف.
(6) البناء هنا ضرب الخيام أو إقامتها على أوتاد مضروبة بالأرض.(2/345)
والمخرج مخرج استفهام، وتقديره أيّ نظرة هي، كما تقول: سبحان الله أيّ رجل زيد. وهذا البيت ينشد على وجهين:
فأومأت إيماء خفيا لحبتر ... ولله عينا حبتر أيّما فتى
وأيّما إن شئت على ما فسرنا. قولها إلى الخيل أجلا شأوها عن عقيرة، شأوها طلقها. وقولها: لعاقرها فيها عقيرة عاقر، أي قد أصابوا عقيرة نفيسة، كقول القائل: نعم غنيمة المغتنم، وكقولهم: عقيرة وكما تكون، وهذا نظير قوله:
ولما أصابوا نفس عمرو بن عامر ... أصابوا به وترا ينيم ذوي الوتر
يقال: ثأر منيم إذا أصابه المثئر هدأ واستقر لأنه أصاب كفؤا، وهذا خلاف قول الاخر:
قوم إذا جرّجاني (1) قومهم أمنوا ... للؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
وخلاف قول الحرث بن عباد:
لا بجير (2) أغنى قتيلا ولا ره ... ط كليب تزاجروا عن ضلال
ولكن كما قال دريد بن الصمّة:
قتلت بعبد الله خير لداته (3) ... ذؤابا فلم أفخر بذاك وأجزعا
وكما قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان التيميّ، من بني تيم اللات بن ثعلبة، حيث قتل مصعب بن الزبير بأخيه النّابي بن زياد:
إن عبيد الله ما دام سالما ... لسار على رغم العدوّ وغادي
__________
(1) جر. جنى يقال جر فلان على نفسه وعلى غيره جريرة أي جنى جناية.
(2) بجير: ابنه الذي قتله مهلهل أخو كليب وكان الحارث يرى أن بقتله تضع الحرب أوزارها.
(3) اللدات: جمع لدة بالكسر وهو التّرب.(2/346)
ونحن قتلنا ابن الزبير وراسه ... حزرنا برأس النابي بن زياد
كسر الياء على الأصل، كما قال ابن قيس الرقيّات:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهنّ مطّلب
ومن أخذه من نبأت على القوم، أي طلعت عليهم فلا علة فيه ولا ضرورة (قال الأخفش: المعروف فيه الهمزة والمبرد لم يهمزه، فإنما أخذه من نبا ينبوا، فصار مثل رام وقاض، وما أشبههما) وقال أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسريّ، لما قتلوا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بخالد بن عبد الله:
فإن تقتلوا منا كريما فإننا ... قتلنا أمير المؤمنين بخالد
وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ... شغلنا وليدا عن غناء الولائد
تركنا أمير المؤمنين بخالد ... مكبّا على خيشومه غير ساجد
وقال الخزاعيّ بعد:
قتلنا بالفتى القسريّ منهم ... وليدهم أمير المؤمنينا
(ومروانا قتلنا عن يزيد ... كذاك قضاؤنا في المعتدينا
وبابن السمط منّا قد قتلنا ... محمدا بن هارون الأمينا)
فمن يك قتله سوقا (1) فإنا ... جعلنا مقتل الخلفاء دينا
وقولها: ويرحل قبل فيء الهواجر، تريد أنه متيقظ طعّان. والمولى في قولها: إذا مولاك خاف ظلامه، يحتمل ضروبا، فالمولى ابن العم. وقوله عز وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوََالِيَ مِنْ وَرََائِي} (2)، يريد بني العم، قال الفضل بن العباس:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
__________
(1) سوق كصرد: جمع سوقة بالضم وهي الرعية وهذا الجمع يقل استعماله عندهم.
(2) سورة مريم: الاية رقم 5.(2/347)
ويكون المولى المعتق، ويكون المولى من قوله جلّ ثناؤه: {وَأَنَّ الْكََافِرِينَ لََا مَوْلى ََ لَهُمْ} (1) ويكون المولى الذي هو أحقّ وأولى به، قوله:
{مَأْوََاكُمُ النََّارُ هِيَ مَوْلََاكُمْ} (2)، أي أولى بكم، والمولى المالك. وقولها ولم يكن أبرادا تريد الخيام.
في من فضل العرب من النسوة
قال أبو العباس: وكانت الخنساء وليلى بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، قلما يكون ذلك، والجملة ما قال الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (3)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن المرأة خلقت من ضلع عوجاء، وإنك ان ترد إقامتها تكسرها فدارها تعش بها. فمن ندر من النساء في باب من الأبواب، أمّ أيوب الأنصارية، وأمّ الدرداء، ورابعة القيسيّة، ومعاذة العدويّة. فإن هؤلاء النسوة تقدّمن في الفضل والصلاح على تقدّم بعضهن بعضا. حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السنديّ قال: كانت تصير إليّ هاشميّة حمدونة، في حاجات صاحبتها فأجمع نفسي لها وأطرد الخواطر عن فكري، وأحضر ذهني جهدي خوفا من أن تورد عليّ ما لا أفهمه، لبعد غورها واقتدارها على أن تجري على لسانها ما في قلبها. وكذلك ما يؤثر عن خالصة وعتبة جاريتي ريطة بنت أبي العباس. فأما النساء الأشراف فإن القول فيهن كثير متّسع فمما ندر من شعر الخنساء.
رثاء الخنساء أخاها صخرا
قولها ترثي صخرا:
يا صخر ورّاد ماء قد تناذره (4) ... أهل المياه وما في ورده عار
__________
(1) سورة محمد: الاية رقم 11.
(2) سورة الحديد: الاية رقم 15.
(3) سورة الزخرف: الاية 18.
(4) تناذره: ينذر بعضهم بعضا.(2/348)
مشى السبنتي إلى هيجاء معضلة ... له سلاحان أنياب وأظفار
وما عجول على بوّ تحنّ له ... لها حنينان إعلان وإسرار
ترتع (1) ما غفلت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني يوم فارقني ... صخر وللعيش إحلاء وإمرار
وإن صخرا لوالينا وسيدنا ... وإن صخر إذا نشتوا لنّحّار
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلي بيته الجار
قولها:
يا صخر ورّاد ماء قد تناذره ... أهل المياه وما في ورده عار
تعني الموت، أي لإقدامه على الحرب، والسبنتي والسبندي واحد، وهو الجريء الصدر وأصله في النمر. والعجول التي فارقها ولدها، والبوّ قد مضى تفسيره. وكذلك فإنما هي إقبال وإدبار، وقد شرحنا كيف مذهبه في النحو وقولها: إلى هيجاء معضلة، تعني الحرب، وقولها: كأنه علم في رأسه نار، فالعلم الجبل، قال الله جل وعز: {وَلَهُ الْجَوََارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلََامِ} (2). وقال جرير (إذا قظعن علما بدا علم) ومن حسن شعرها قولها:
أعينيّ جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيّدا
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدّوا بأيديهم ... إلى المجد مدّ إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا
يكلّفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
__________
(1) ترتع: تأكل وتشرب ما شاءت في خصب وسعة.
(2) سورة الرحمن: الاية رقم 24.(2/349)
شرح شعر الخنساء في رثاء صخر
قولها: طويل النجاد، النجاد حمائل السيف، تريد بطول نجاده طول قامته. وهذا مما يمدح به الشريف، قال جرير:
فأني لأرضي عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من ال هاشم
وقال مروان للمهديّ:
قصرت حمائله عليه فقلّصت ... ولقد تأنّق قينها (1) فأطالها
وقال رجل من طيّء:
جدير أن يقلّ السيف حتى ... ينوس (2) إذا تمطّى في النجاد
وقال الحكميّ أبو نواس:
سبط (3) البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط (4) قيام
وقال عنترة:
بطل كأنّ ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم
وقولها: رفيع العماد، إنما تريد ذاك يقال رجل معمّد أي طويل. ومنه قوله عز وجل: {إِرَمَ ذََاتِ الْعِمََادِ} (5) أي الطوال. وقولها: ما عالهم، أي نابهم ونزل بهم. تقول العرب ما عالك فهو عائلي، أي ما نابك فهو نائبي، ومن ذا قول كثيّر:
يا عين بكّي للّذي عالني ... منك بدمع مسيل هامل
ومن جيد قولها:
__________
(1) تأنق فيها: عملها بإتقان وحكمة.
(2) ينوس: يتحرك.
(3) السبط: بالفتح ضد الجعد.
(4) السماط: الصف.
(5) سورة الفجر: الاية رقم 7.(2/350)
أبعد ابن عمرو من ال الشري ... د حلّت به الأرض أثقالها
لعمر أبيه لنعم الفتى ... إذا النفس أعجبها ما لها
فإن تك مرّة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها
فخرّ الشوامخ من فقده ... وزلزلت الأرض زلزالها
هممت بنفسي كلّ الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
لأحمل نفسي على الة ... فإما عليها وإمّا لها
قولها: حلّت به الأرض أثقالها، حلت من الحلي، تقول زينت به الأرض الموتى، وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقََالَهََا} (1). قالوا الموتى. وقولها: لنعم الفتى إذا النفس أعجبها ما لها، تقول: يجود بما هو له في الوقت الذي يؤثره أهله على الحمد، والشوامخ الجبال والشامخ العالي، ويقال للمتكبر شمخ بأنفه. وقولها على الة، أي على حالة، وعلى خطّة هي الفيصل، فإمّا ظفرت وإمّا هلكت. وقولها فأولى لنفسي أولى لها، يقول الرجل: إذا حاول شيئا فأفلته من بعدما كاد يصيبه، أولى له.
وإذا أفلت من عظيمة، قال: أولى لي. ويروى عن ابن الحنفيّة أنه كان يقول:
إذا مات ميت في جواره أو في داره، أولى لي، كدت والله أكون السواد المخترم، وقد مضى هذا مفسّرا. وأنشد لرجل يقتنص فإذا أفلته الصيد، قال:
أولى لك، فكثر ذلك منه فقال:
فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ... ولكن أولى بترك القوم جوعا
رثاء الخنساء لأخيها معاوية
وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية بن عمرو، وكان معاوية أخاها لأبيها وأمها، وكان صخر أخاها لأبيها، وكان أحبهما إليها، وكان صخر يستحقّ ذلك منها بأمور منها أنه كان موصوفا بالحلم ومشهورا بالجود، ومعروفا بالتقدّم في
__________
(1) سورة الزلزلة: الاية رقم 2.(2/351)
الشجاعة، ومحظوظا في العشيرة:
أريقي من دموعك واستفيقي ... وصبرا إن أطقت ولن تطيقي
وقولي أن خير بني سليم ... وفارسها بصحراء العقيق
ألا هل ترجعنّ لنا الليالي ... وأيام لنا بلوى الشقيق
وإذ نحن الفوارس كلّ يوم ... إذا حضروا وفتيان الحقوق
وإذ فينا معاوية بن عمرو ... على أدماء كالجمل الفنيق
فبكّيه فقد أودى حميدا ... أمين الرأي محمود الصّديق
فلا والله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيت ولا عقوق
ولكني رأيت الصبر خيرا ... من النعلين (1) والرأس الحليق
قولها: أرقي من دموعك واستفيقي، معناه أن الدمعة تذهب اللّوعة.
ويروى عن سليمان بن عبد الملك أنه قال عند موت ابنه أيوب لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حياة: إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفئها إلا عبرة، فقال عمر: أذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك الصبر، فنظر إلى رجاء بن حياة كالمستريح إلى مشورته، فقال له رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين فما بذاك من بأس فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وقال: العين تدمع والقلب يوجع ولا نقول ما يسخط الربّ وإنا بك إبراهيم لمحزونون. فأرسل سليمان عينه، فبكى حتى قضى أربا. ثم أقبل عليهما، فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي. ثم لم يبك بعدها ولكنه تمثل عند قبره لما دفنه وحثا على قبره التبراب، وقال: يا غلام دابّتي، ثم وقف ملتفتا إلى قبره فقال:
وقفت على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق
عودة إلى تفسير ما قالت الخنساء
رجعنا إلى تفسير قولها. وقولها: وصبرا إن أطقت ولن تطيقي، كقول
__________
(1) من النعلين: ما تلدم به وجهها عند موته.(2/352)
القائل: إن قدرت على هذا فافعل. ثم أبانت عن نفسها، فقالت: ولن تطيقي. وقولها: فلا والله لا تسلاك نفسي. تريد لا تسلو عنك، كقوله عز وجل: {وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (1) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقولها: لفاحشة أتيت ولا عقوق، معناه لا أجد فيك ما تسلو نفسي عنك له، ثم اعتذرت من إقصارها بفضل الصبر فقالت:
ولكني رأيت الصبر خيرا ... من النعلين والرأس الحليق
تأويل النعلين: أن المرأة كانت إذا أصيبت بحميم جعلت في يديها نعلين تصفّق بهما وجهها وصدرها، قال عبد مناف بن ربع الهذليّ:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصبا ... من بطن حلية لا رطبا ولا نقدا
إذا تأوّب نوح قامتا معه ... ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا
قوله: ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما، يعني أختيه يقول: ماذا يردّ عليهما العويل والسهر، وقوله كلتهما أبطنت أحشاؤها قصبا أراد لترديد النائحة صوتا كأنه زمير، وإنما يعني بالقصب المزامير، قال الراعي:
زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصبا ومقنعة الحنين عجولا
(قال الأخفش: الزجل اختلاط الصوت الذي لصوته تطريب، والحيزوم الصدر، وقصبا يعني زمارا شبّه صوت الحادي بالمزمار، وصوت مقنعة يعني ناقة. ثم حذف الصوت وأقام مقنعة مقامه) وقال عنترة:
بركت على ماء الرداع كأنما (2) ... بركت على قصبة أجشّ (3) مهضّم (4)
قال الأصمعي: هو نرمناي، وقوله: لا رطبا ولا نقدا، يقول: ليس برطب
__________
(1) سورة المطففين: الاية رقم 3.
(2) ماء الرداع: بكسر الراء.
(3) أجش: الغليظ الصوت.
(4) مهضم: فيه رخاوة.(2/353)
لا يبين فيه الصوت، ولا بمؤتكل. يقال: نقدت السنّ إذا مسها ائتكال، وكذلك القرن. قال الشاعر:
(يألم قرنا أرومه نقد) وقوله: بسبت، يعني المنجردة، ويلعج يؤثّر واحتاج إلى تحريك الجلد فأتبع اخره أوله، وكذلك يجوز في الضرورة في كل شيء ساكن. وأما قول الفرزدق:
خلعن حليّهنّ فهنّ عطل ... وبعن به المقابلة التؤاما
يعني اشترين النعال، فليس هذا من هذا الباب، إنما سبين فاشترين نعالا للخدمة، وكذلك قوله:
أخذن حريرات وأبدين مجلدا ... ودار عليهنّ المنقّشة الصفر
يعني القداح، يقول: سبين فاقتسمن بالقداح.
مقتل معاوية أخي الخنساء
وإنما قالت الخنساء هذا الشعر في معاوية أخيها قبل أن يصاب صخر أخوها، فلما أصيب صخر نسيت به من كان قبله. وكان معاوية فارسا شجاعا، فأاغار في جميع من بني سليم على غطفان، وكان صميم خيلهم، فنذر به القوم فاحتربوا فلم يزل يطعن فيهم ويضرب. فلما رأوا ذلك تهيأ له ابنا حرملة دريد وهاشم، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية فطعنه، وخرج عليه الاخر وهو لا يشعر فقتله، فتنادى القوم قتل معاوية. فقال خفاف بن ندبة:
قتلني الله إن رمت حتى أثأر به. فحمل على مالك بن حمار، وهو سيد بني شمخ بن فزارة فقتله، وقال:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عيني تيمّمت مالكا
وقفت له علوى (1) وقد خام (2) صحبتي ... لأبني مجدا أو لأثأر هالكا
__________
(1) علوى: إسم فرسه.
(2) خام: نكص وجبن.(2/354)
أقول له والرمح يأطر متنه (1) ... تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا
فلما دخلت الأشهر الحرم، ورد عليهم صخر، فقال: أيكم قاتل أخي؟
فقال أحد ابني حرملة للاخر: خبّره! فقال: استطردت له فطعنني هذه الطعنة، وحمل عليه أخي فقتله، فأينا قتلت فهو ثأرك. أما إنا لم نسلب أخاك، قال:
فما فعلت فرسه السمّى؟ قال: ها هي تلك فخذها، فانصرف بها. فقيل لصخر: ألا تهجوهم؟ فقال: ما بينني وبينهم أقذع (2) من الهجاء، ولو لم أمسك عن سبّهم إلا صيانة للساني عن الخنا لفعلت، ثم خاف أن يظنّ به عيّ فقال:
وعاذلة هبّت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
تقول ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي إذا أهجوهم ثم ما ليا
أبى الشتم أنّي قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
إذا ما امرء أهدى لميت تحيّة ... فحيّاك ربّ العرش عنّي معاويا
وهوّن وجدي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل عليه بماليا
قال أبو عبيدة: فلما أصاب دريدا زاد فيها:
وذي إخوة قطّعت أرحام بينهم ... كما تركوني واجدا لا أخا ليا
قال أبو الحسن الأخفش: وزادني الأحول بعد قوله معاويا:
لنعم الفتى أدنى ابن صرمة بزّه ... إذا راح فحل الشول أجدب عاريا)
قال أبو العباس: فلما انقضت الأشهر الحرم جمع لهم ليغير عليهم، فنظرت غطفان إلى خيله بموضعها، فقال بعضهم لبعض: هذا صخر بن الشريد على فرسه السّمّى، فقيل: كلّا السّمّى غرّاء وكان قد حمّم غزّتها (3)
فأصاب فيهم وقتل دريد بن حرملة، وأما هاشم فإن قيس بن الأسوار الجشميّ
__________
(1) يأطر متنه: ينثني للينه.
(2) أقذع في الهجاء: أفحش.
(3) الغرة: بالضم بياض في الجبهة.(2/355)
من جشم بن هوازن بن منصور لقيهم منصرفين كل واحد منهم من وجهه، فراه وقد انفرد لحاجته، فقال: لا أطلب بمعاوية بعد اليوم فأرسل عليه سهما ففلق قحقحه (1)، فقالت الخنساء:
فدى للفارس الجشميّ نفسي ... وأفديه بمن لي من حميم
فداك الح حيّ بني سليم ... بظاعنهم وبالأنس (2) المقيم
كما من هاشم أقررت عيني ... وكانت لا تنام ولا تنيم (3)
فأما صخر فسنذكر مقتله مع انقضاء ما نذكر من مراثي الخنساء إياه، قالت الخساء:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... لقد أضحكتني دهرا طويلا
بكيتك فى نساء معولات ... وكنت أحقّ من أبدي العويلا (4)
دفعت بك الجليل وأنت حيّ ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقالت أيضا:
تعرّفني (5) الدهر نهسا (6) وحزّا ... وأوجعني الدهر قرعا (7) وغمزا (8)
وأفنى رجالي فبادوا معا ... فأصبح قلبي بهم مستفزّا (9)
كأنّ لم يكونوا حمى يتّقى ... إذا الناس إذ ذاك من عزّ بزّا (10)
__________
(1) القحقح: العظم المحيط بدبره.
(2) الانس: الجماعة الكثيرة.
(3) تنيم: ترى نائمة.
(4) العويل: رفع الصوت بالبكاء.
(5) تعرفني: اضعفني وسل جسمي متسعار من قولك تعرفت العظم إذا أخذت ما عليه بأسنانك.
(6) النهسى: أخذ اللحم بأطراف الاسنان.
(7) القرع: الضرب بسوط ونحوه.
(8) الغمز: النخس بأطراف الأصابع وهذا تمثيل كما أصابها من محن الدهر ومصائبه.
(9) مستفزا: منزعجا، مفزعا.
(10) من عزّبزّا. أي أن الناس عند اشتداد الأمر وتفاقم الخطب تقول من عزبز.(2/356)
وكانوا سراة بني مالك ... وزين العشيرة مجدا وعزّا
وهم في القديم سراة الأديم ... م والكائنون من الخوف حرزا
وهم منحوا جارهم والنسا ... ء يحفز أحشاءها الخوف حفزا (1)
غداة لقوهم بملمومة (2) ... رداح تغادر للأرض ركزا
وخيل تكدّس (3) بالدراعين ... تحت العجاجة يجمزن جمزا
فبيض الصفاح وسمر الرماح ... فبالبيض ضربا وبالسمر وخزا
جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنّمون ألا تجزّا
ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا
نعفّ ونعرف حق القرى ... ونتخذ الحمد ذخرا وكنزا
وكان سبب قتل صخر بن عمرو بن الشريد، أنه جمع جمعا وأغار على بني أسد بن خزيمة، فنذروا به فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، فارفضّ أصحاب صخر عنه وطعنه أبو نور طعنه في جنبه استقلّ بها، فلما صار إلى أهله تعالج منها فنتأ من الجرح كمثل اليد فأضناه ذلك حولا، فسمع سائلا يسأل امرأته وهو يقول: كيف صخر اليوم؟ فقالت: لا ميّت فينعى ولا صحيح فيرجى.
فعلم أنها قد برمت به، وو رأى تحرّق أمه عليه، فقال:
أرى أمّ صخر ما تجفّ دموعها ... وملّت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغترّ بالحدثان
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
لعمري لقد أنبهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان
فأيّ امرىء ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلا في شقى وهوان
ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه، فبكاها فقال:
__________
(1) حفز: دفع.
(2) ملمومة: كثيرة.
(3) تكدس: تسرع والدارعون من عليهم دروع من الانسان وغيره عدا عدوا دون الحضر.(2/357)
أيا جارتا إنّ الخطوب غريب ... من الناس كلّ المخطئين تصيب
أيا جارتا إنا غريبان ههنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب
كأني وقد أدنوا إليّ شفارهم (1) ... من الادم مصقول السراة نكيب
قال أبو العباس: ومن حلو المراثي وحسن التأبين شعر ابن مناذر، فإنه كان رجلا عالما مقدّما شاعرا مغلقا، وخطيبا مصقعا وفي دهر قريب، فله في شعره شدّة كلام العرب بروايته، وأدبه وحلاوة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته ولا يزال، وقد رمى في شعره بالمثل السائر، والمعنى اللطيف، واللفظ الفخم الجليل، والقول المتسبي النبيل. وقصيدته لها امتداد وطول وإنما نملي منها ما اخترنا من نحو ما وصفنا. قال يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفيّ، وكان به صبّا واغتبط عبد المجيد لعشرين سنة من غير ما علّة. وكان من أجمل الفتيان وادبهم، وأظرفهم فذلك حيث يقول بن مناذر:
حين تمّت ادابه وتردى ... برداء من الشباب جديد
وسقاه ماء الشبيبة فاهتز ... اهتزاز الغض الندي الأملود (2)
وسمت نحوه العيون وما كا ... ن عليه لزائد من مزيد
وكأني أدعوه وهو قريب ... حين أدعوه من مكان بعيد
فلئن صار لا يجيب لقد كا ... ن سميعا هشّا (3) إذا هو نودي
يا فتى كان للمقامات زينا ... لا أراه في المحفل المشهود
لهف نفسي أما أراك وما عن ... دك لي أن دعوت من مردود
كان عبد المجيد سمّ الأعادي ... ملء عين الصديق رغم الحسود
عاد عبد المجيد رزأ وقد كا ... ن رجاء لريب دهر كنود
خنتك الودّ لم أمت كمدا بع ... دك أني عليك حقّ جليد
لو فدى الحيّ ميتا لفدت نفس ... ك نفسي بطارفي وتليدي
__________
(1) الشفار بالكسر: جمع شفرة بالفتح وهي السكين العظيم وما عرض من الحديد.
(2) الأملود: بالضم: الناعم اللين.
(3) الهش: بالفتح من الهشاشة وهي الخفة والنشاط.(2/358)
ولئن كنت لم أمت من جوى الحز ... ن عليه لأبلغن مجهودي
لأقيمنّ مأتما كنجوم الليل ... زهرا يلطمن حرّ الخدود
موجعات يبكين للكبد الحرّي ... عليه وللفؤاد العميد (1)
ولعين مطروفة أبدا قا ... ل لها الدهر لا تقرّي وجودي
كلّما عزّك البكاء فأنفذ ... ت لعبد المجيد سجلا فعودي
لفتى يحسن البكاء عليه ... وفتى كان لامتداح القصيد
وأول هذا الشعر:
كلّ حيّ لاقي الحمام فمودي ... ما لحيّ مؤمّل من خلود
لا تهاب المنون شيئا ولا تر ... عي على والد ولا مولود
يقدح الدهر (2) في شماريخ (3) رضوى (4) ... ويحطّ الصخور من هبّود (5)
ولقد تترك الحوادث والأيام ... وهيا (6) في الصخرة الصنجود (7)
وفي هذا الشعر مما استحسنته:
أين ربّ الحصن الحصين بسورا ... ء وربّ القصر المنيف المشيد
شاد أركانه وبوّبه با ... بي حديد وحفّه بجنود
كان يجبى إليه ما بين صنعا ... ء فمصر إلى قرى بيرود (8)
وترى خلفه زرافات خيل ... جافلات تعدو بمثل الأسود
__________
(1) العميد: الحزين، شديد الحزن.
(2) يقدح الدهر: يؤثر فيه.
(3) شماريخ واحدها شمراخ وهو الجبل العالي.
(4) رضوى: جبل بالمدينة.
(5) هبود: تنور وهو ماء لا ميل ولا موضع وإنما الجبل اسمه عبود بالعين المهملة لا بالهاء ولعله الرواية.
(6) الوهي: مصدر قولك وهى الحائط وغيره إذا ضعف واسترخى.
(7) الصنجود: الشديدة.
(8) بيرود: يرجح أن يكون المقصود بيروت، فقد ذكر اليمن ومصر والشام على هذا الشكل.(2/359)
فرمى شخصه فأقصده الده ... ر بسهم من المنايا سديد
ثم لم ينجه من الموت حصن ... دونه خندق وبابا حديد
وملوك من قبله غمروا الأر ... ض أعينوا بالنصر والتأييد
فلو أنّ الأيام أخلدن حيّا ... لعلاء أخلدن عبد المجيد
ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود
ويح أيد حثت عليه وأيد ... دفنته ما غيبّت في الصعيد
إن عبد المجيد يوم تولّى ... هدّ ركنا ما كان بالمهدود
(وأرانا كالزرع يحصده الده ... ر فمن بين قائم وحصيد
وكأنّا للموت ركب مخبّو ... ن سراعا لمنهل مورود)
هدّ ركني عبد المجيد وقد كنت بركن أنوء منه شديد
(فبعبد الميجد تأمور (1) نفسي ... عثرت بي بعد انتعاش جدودي
وبعبد المجيد شلّت يدي اليمنى ... وشلّت به يمين الجود)
وفي هذا الشعر:
فبرغمي كنت المقدّم قبلي ... وبكر هي دلّيت في الملحود
كنت لي عصمة وكنت سماء بك ... تحيا أرضي ويخضرّ عودي
قال أبو العباس: وكانت العرب تقدّم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبّن، وكأنها يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت، وفي كنفها تصلح. فمنها قصيدة أعشى باهلة، ويكنى أبا قحافة التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهليّ، وكان أحد رجليّ العرب (قال الأخفش: هو منسوب إلى الرجل) وهم السعادة السابقون في سعيهم، وكان من خبره أنه أسر صلاءة بن العنبر الحارثي، فقال أفد نفسك، فأبى. فقال: لأقطعنّك أنملة وعضوا عضوا ما لم تفتد نفسك. فجعل يفعل ذلك به حتى قتله، ثم حجّ من بعد ذلك المنتشر ذا الخلصة، وهو بيت كانت خثعم تحجّه. زعم أبو عبيدة أنه بالعبلات، وأنه مسجد جامعها فدلّت عليه بنو نفيل بن كلاب الحارثيين،
__________
(1) تامور النفس: إنتعاش الجدود، نهوضها من عثرتها.(2/360)
فقبضوا عليه، فقالوا: لنفعلنّ بك كما فعلت بصلاءة، ففعلوا ذلك به، فلقي راكب أعشى باهلة، فقال له أعشى باهلة: هل من جائبة خبر؟ قال: أسرت بنو الحرث المنتشر، وكانت بنو الحرث تسمى المنتشر مجدّعا، فلما صار في أيديهم، قالوا: لنقطّعنك كما فعلت بصلاءة، فقال أعشى باهلة يرثي المنتشر:
إني أتتني لسان لا أسرّ بها ... من عل لا عجب منها ولا سخر
فبتّ مرتفقا للنجم أرقبه ... حيران ذا حذر لو ينفع الحذر
فجاشت النفس لما جاء جمعهم ... وراكب جاء من تثليث (1) معتمر (2)
يأتي على الناس لا يلوي على أحد ... حتى التقينا وكانت دوننا مضر
ينعى امرا لا تغبّ الحيّ جفنته (3) ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
من ليس في خيره شرّ يكدّره ... على الصديق ولا في صفوه كدر
طاوى المصير على العزّاء منصلت ... بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر
لا تنكر البازل (4) الكوماء (5) ضربته ... بالمشرفيّ إذا ما أجلوّذ السفر
وتفزع الشول منه حين تبصره ... حتى تقطّع في أعناقها الجزر
لا يصعب الأمر إلّا ريث يركبه ... وكلّ أمر سوى الفحشاء يأتمر
تكفيه فلذة كبد إن ألمّ بها ... من الشواء ويكفي شربه الغمر
لا يتأرّى لما في القدر يرقبه ... ولا تراه أمام القوم يقتفر
لا يغمز الساق من أين (6) ولا وصب ... ولا يعضّ على شرسوفه الصفر
مهفهف (7) أهضم الكشحين (8) منخرق ... عنه القميص لسير الليل مختقر
__________
(1) تثليث: موضع.
(2) معتمر: القاصد إلى الشيء أو الزائر.
(3) لا تغب الحي جفنته: لا تغيب عن أهل الحي وقوله إذا الكواكب: يريد وقت المحل والقحط وذلك يكون زمن البرد.
(4) البازل في الإبل: الذي بلغ ثماني سنين ودخل في التاسعة.
(5) الكوماء: عظيمة السنام.
(6) الاين: التعب.
(7) مهفهف: ضامر البطن.
(8) أهضم الكشحين: لطيف الكشحين.(2/361)
عشنا بذلك دهرا ثم فارقنا ... كذلك الرمح ذو النصلين ينكسر
(فإن جزعنا فقد هدّت مصيبتنا ... وإن صبرنا فإنا معشر صبر
إني أشدّ حزيمي ثم يدركني ... منك البلاء ومن الائك الذكر)
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... من كل أرب وإن لم يأت ينتظر
أما يصيبك عدوّ في مباوأة ... يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر
لو لم تخنه نفيل وهي خائنة ... ألمّ بالقوم ورد منه أو صدر
ورّاد حرب شهاب يستضاء به ... كما يضيء سواد الطخية القمر
أما سلكت سبيلا كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر
من ليس فيه إذا قاولته رهق ... وليس فيه إذا عاسرته عسر
في بعض جموع العرب
قوله: إني أتتني لسان، يقال هو اللسان، وهي اللسان. فمن ذكّر فجمعه ألسنة، ونظيره حمار، وأحمرة وفراش وأفرشة، وإزار وازرة. ومن أنّت؟ قال:
لسان وألسن، كما تقول ذراع وأذرع وكراع وأكرع لا تبالي، أمضموم الأول كان أم مفتوحا أو مكسورا، إذا كان مؤنثا. ألا ترى أنك تقول شمأل وأشمل قال أبو النجم: (يأتي لها من أيمن وأشمل) وقال اخر أنشدنيه المازني:
فظلّت تكوس (1) في أكرع ... ثلاث وكان لها أربع
وأراد باللسان ههنا الرسالة. وقوله: من عل: يقول من فوق، فإذا كان معرفة مفردا بني على الضم كقبل وبعد وإذا جعلته نكرة نوّنته، وصرفته كما قال جرير:
إني انصببت من السماء عليكم ... حتى اختطفتك يا فرزدق من عل
والقوافي مجرورة وإن شئت رددت ما ذهب منه، وهي ألف منقلية من واو، لأن بناءه فعل من علا يا فتى، قال الراجز:
__________
(1) تكوس: البعير تمشي على ثلاث قوائم.(2/362)
وهي تنوش الحوض نوشا (1) من علا ... نوشا به تقطع أجوار الفلا (2)
وقوله: فبتّ مرتفقا، وهو المتكىء على مرفقه، وإنما أراد السهر، كما قال أبو ذؤيب:
إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا ... كأنّ عينيّ فيها الصاب مذبوح
وقوله: جاشت النفس، يقول: خبثت يكون ذلك من تذكرها للتهوّع، ومن جزعها منه. ويروى عن معاوية أنه قال: اجعلوا الشعر أكثر همّكم وأكثر ادابكم، فإن فيه ماثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير، وقد عزمت على الفرار. فما يردّني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
أبت لي عفّتي وأبى بلائي ... وأخذي الحد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
يقال: جشأت مهموز، وجاشت غير مهموز، وتثليث موضع بعينه وقوله: لا يلوي على أحد، يقال: استقام فلان فما لوى (3) على أحد، ويقال:
ألوى بالشيء إذا ذهب به. وقوله: إذا الكواكب أخطا نوءها المطر، فالنواء عندهم طلوع نجم وسقوط اخر، وليس كلّ الكواكب لها نوء، وإنما كانوا يتقوّلون هذا في أشياء بعينها. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ذكرت النجوم فأمسكوا، يعني أمر الأنواء لم يختلف في ذلك المفسرون. وعنه عليه السلام في غبّ سماء: أتدرون ما قال ربكم تبارك وتعالى قال: «أصبح عبادي مؤمنا بي وكافرا بالكواكب وكافرا بي ومؤمنا بالكواكب» (4). فأما المؤمن بي الكافر بالكواكب، فهو الذي يقول: مطرنا بنوء الرحمة، والمؤمن بالكواكب
__________
(1) النوش: الطلب والاسراع يقول إن هذه الايد تسرع إلى الحوض.
(2) أجواز الفلا: أوساطها.
(3) لوى على التفت عليه عطف عليه
(4) حديث قدسي.(2/363)
الكافر بي الذي يقول: مطرنا بنوء كذا. والنوء مهموز، وهو من قولك ناء بحمله، أي استقلّ به في ثقل. فالنوء مهموز، وهو في الحقيقة الطالع من الكواكب لا الغائر. وكان الأصمعي لا يفسّر من الشعر ما فيه ذكر الأنواء بل كان لا يسمع ما فيه هجاء أو كان فيه ذكر النجوم، ولا يفسّر ما وافق تفسيره بعض ما في القران إلا ساهيا في ما يذكر أصحابه عنه. ويروى أنه سئل عن غير شيء من ذلك فأباه، وزجر السائل. وقوله: طاوي المصير، يقال لواحد المصران مصير، وتقديره قضيب وقضبان، وكثيب وكثبان. والعزّاء الأمر الشديد، يقال: فلان صابر على العزّاء، كذلك الّاواء، وكذلك الجلّى مقصور. فأما العزّاء واللأواء. فممدودان. وقوله: منصلت وصلت، وهو السّيف إذا جرّد من عمده. وقوله: ليلة لا ماء ولا شجر، يريد القفر ووقت الصعوبة. وقوله: لا تنكر البازل الكوماء ضربته بالمشرفي. يقول: قد عوّد الإبل أن ينحرها. ومن شأنهم أن يعرقبوها قبل النحر والمشرفيّ السيف، وهو منسوب إلى المشارف. وقوله إجلوّذ امتدّ يعني، وأنشدني الزياديّ لرجل من أهل الحجاز أحسبه ابن أبي ربيعة:
ألا حبّذا حبذا حبذا ... حبيب تحملت منه الأذى
ويا حبذا برد أنيابه ... إذا أظلم الليل واجلوذّا
وقوله: حتى تقطّع في أعناقها الجزر: يقول: حتى اعتادت أن ينحرها فهي تفزع منه حتى تقطّع جرّتها، ومثل هذا قول الخنّوت:
سأبكي خليلي عنترا بعد هجعة ... وسيفي مرداسا قتيل قنان (1)
قتيلان لا تبكي اللقحاح عليهما ... إذا شبعت من قرمل وأفان
يقول: كانا ينحران الإبل فهي لا تجزع لفقدهما، وقرمل وأفان ضربان من النبت، وشبيه بهذا قوله حيث يقول:
__________
(1) قنان: بالفتح: جبل لبني أسد.(2/364)
فلو كان سيفي باليمين تباشرت ... ضباب الملا من جمعهم بقتيل (1)
يقول: هؤلاء قوم كانوا يحترشون الضباب، فكلما قتل منهم واحد سرّت بذلك الضباب واستبشرت. وقوله: لا يتأرّى (2) لما في القدر يرقبه، يقول لا ينحبس له، ومن ذا سمي الاريّ لأنه محبس الدابة. وقوله: ولا تراه أمام القوم يقتفر، يقول: لا يسبقهم إلى شيء من الزاد. وقوله: ولا يعضّ على شرسوفه الصفر، الشراسيف أطراف الضلوع، والصفر ههنا حيّة البطن، وله مواضع.
وقوله مهفهف يعني ضامرا، وأهضم الكشحين توكيد له. وقوله: أما يصبك عدو في مباوأة، يقول في وتر يقال: باء فلان بكذا، كما قال مهلهل بؤبشسع كليب، أي هو ثأر بالشّسع والطخية والطخية والطخية ثلاث لغات شدة الظلمة، وكان الذي أصابه هند بن أسماء الحارثيّ، ففي ذلك يقول:
أصبت في حرم منا أخا ثقة ... هند بن أسماء لا يهنىء لك الظفر
يقال: هنأه ذلك وهنأ له، كما تقول: هنيا لك، قال الأخطل:
إلى إمام تغادينا فواضله ... أضفره الله فليهنىء له الظفر
وقوله: وليس فيه إذا عاسرته عسر، مدح شريف مثل قولهم: إذا عزّ أخوك فهن. وإنما هذا فيمن لا يخاف استذلاله بأن يخرج صاحبه عند مساهلته إلى باب الذلّ، فأما من كان كذلك فمعاسرته أحمد ومدافعته أمدح، كما قال جرير:
بشر أبو مروان إن عاسرته ... عسر وعند يساره ميسور
قال أبو العباس: ومن أشعار العرب المشهورة والمتخيّرة في المراثي
__________
(1) فلو كان سيفي: هذا الشاعر يقول لو كان معي سيفي لقتلت هؤلاء القوم وطرحتهم في الفلاة.
الضباب الكريم فتسر بهم وتشبع من لحومهم لأنهم كانوا يحترشونها.
(2) لا يتأرى لما في القدر أي لا يتحراه لعفته وطيب نفسه.(2/365)
قصيدة متمّم بن نويرة في أخيه مالك، وسنذكر منها أبياتا نختارها، من ذلك قوله:
أقول وقد طار السّنا في ربابه ... وغيث يسحّ الماء حتى تربّعا
سقى الله أرضا حلّها قبر مالك ... ذهاب الغوادي (1) المدجنات (2) فأمرعا
واثر سيل الواديين بديمة ... ترشّح وسميّا من النبت خروعا
تحيّته مني وإن كان نائيا ... وأضحى ترابا فوقه الأرض بلقعا
فما وجد أظار ثلاث روائم ... رأين مجرّا من حوار ومصرعا
يذكّرن ذا البثّ الحزين ببثّه ... إذا حنت الأولى سجعن لها معا
بأوجع مني يوم فارقت مالكا ... ونادى به الناعي الرفيع فأسمعا
وفيها:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
فلما تفرّقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبّعا
فإن تكن الأيام فرّقن بيننا ... فقد بان محمودا أخي يوم ودّعا
تقول ابنة العمريّ مالك بعدما ... أراك حديثا ناعم البال أفرعا
فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ... ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا
وفقد بني أم تفانوا فلم أكن ... خلافهم أن أستكين وأسرعا
ولست إذا ما الدهر أحدث نكبة ... ورزأ بزوّار القرائب أخضعا
ولا فرح إن كنت يوما بغبطة ... ولا جزع أن ناب دهر فأوجعا
ولكنني أمضي على ذاك مقدما ... إذا بعض من لاقى الخطوب تكعكعا (3)
فعمرك ألّا تسمعيني ملامة ... ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا (4)
__________
(1) الغوادي: واحدها غادية وهي السحابة تنشأ غدوة.
(2) المدجنات: التي طبقت الأفاق وأقطار السماء.
(3) تكعكعا: ضعفا.
(4) فييجعا: لغة من مضارع وجع.(2/366)
وقصرك إني قد شهدت فلم أجد ... بكفّيّ عنه للمنيّة مدفعا
فلو أن ما ألقى أصاب متالعا ... أو الركن من سلمى إذا لتضعضعا
وفي هذه القصيدة:
لقد كفّن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيّات أروعا
ولا برم تهدي النساء لعرسه ... إذ القشع من برد الشتاء تقعقعا (1)
لبيبا أعان اللبّ منه سماحة ... خصيبا إذا ما زائد الجدب أوضعا
تراه كنصل السيف يهتزّ للندى ... إذا لم تجد عند امرىء السوء مطمعا
إذا ابتدر القوم القداح وأوقدت ... لهم نار أيسار كفى من تضجّعا (2)
بمثنى الأيادي (3) ثم لم تلف مالكا ... على الفرث يحمي اللحم أن يتمزّعا
وقوله: وقد طار السنا في ربابه، السنا الضوء، وهو مقصور، وقال الله جل وعز: {يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ} (4). والسناء من الحسب ممدود، والرباب سحاب دون السحاب، كالمتعلق بما فوقه. قال المازني:
كأنّ الرباب دوين السحاب ... نعام تعلّق بالأرجل
وقوله: يسحّ معناه يصبّ، فإذا قلت: يسحو أو يسحى فمعناه يقشر، ومن ذا سميت سحاءة القرطاس وسحايته. ومنه قيل للحديد التي يقشر بها وجه الأرض مسحاة قال عنترة:
سحّا وساحية فكلّ قرارة ... يجري عليها الماء لم يتصرّم
وقوله: تريع أي كثر حتى جاء وذهب يقال: راع يريع إذا رجع، ومنه سمي ريع الطعام لأنه يرجع بفضل. قال مزرّد:
__________
(1) تقعقعا: أدتا صوتا.
(2) تضجعا: نام، أي قرّ في بيته، وهو ضعيف الرأي.
(3) الأيادي: العطاء والجود.
(4) سورة النور: الاية رقم 43.(2/367)
خلطت بصاعي عجوة صاع حنطة ... إلى صاع سمن فوقه يتريّع
والذهاب الأمطار اللينة، والمدجنات من السحاب السود، وهو مأخوذ من الدجن والدّجنّة، ومعناه: الباس الغين وظلمته، قال طرفة:
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة (1) تحت الطراف (2) الممدّد
ويقال: أمرع الوادي إذا أخصب، من ذلك قول مولاة ابن الأجيد عن أوفى بن دلهم، قال أبو العباس: حدثني به ابن المهديّ أحمد بن محمد النحوي يحدّث به عن الأصمعي عن أبيه عن مولاة ابن الأجيد عن أوفى.
تضيق العرب للنساء
قال في النساء: أربع فمنهن الصدع تفرّق ولا تجمع، ومنهن من لها شيئها أجمع، ومنهن غيث وقع في بلد فأمرع، ومنهنّ التبع ترى ولا تسمع، قال: فذكرت ذلك لرجل فقال: ومنهن القرئع، قلت: وما هي؟ قال: التي تكحل عينا وتدع الاخرى، وتلبس ثوبها مقلوبا (قال الأخفش: حدثني بذلك أبو العيناء عن الأصمعيّ، وذكر نحو ذلك) وقوله: واثر سيل الواديين بديمة:
زعم الأصمعي وغيره من أهل العلم أن الديمة المطر الدائم أياما برفق، وقوله: ترشّح وسميّا أي تهيئةه، لذلك يقال فلان: يرشّح للخلافة، والوسميّ أول مطر يسم الأرض، والوليّ كل مطرة بعد مطرة فالثانية وليّ للاخرى لأنها تليها، والخروع كل عود ضعيف. وقوله: فما وجد أظار جمع ظئر، وهي النوق تعطف على الحوار فتألفه. وروائم واحدتها رؤوم. ومعنى ترأمه تشمّه، والحوار ولد الناقة. ويقال له حيث يسقط من أمه: سليل قبل أن تقع عليه الأسماء فإن كان ذكرا فهو سقب، وإن كانت أنثى فهي حائل، وهو في ذلك كله حوار سنة. وقوله: ندماني جذيمة يعني جذيمة الأبرش الأزديّ، وكان
__________
(1) البهكنة: المرأة الغضة الشابة.
(2) الطراف: بالكسر، بيت من ادم.(2/368)
ملكا، وهو الذي قتلته الزّباء وهو أول من أوقد بالشمع ونصب المنجنيق للحرب. وله قصص تطول وقد شرحنا ذلك في كتاب الاختيار، ونديماه يقال لهما مالك وعقيل، ففي ذلك يقول أبو خراش الهذليّ:
ألم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل
والمثل يضرب بهما لطول ما نادماه كما يضرب باجتماع الفرقدين، قال عمرو بن معدي كرب:
وكل أخ مفارقة أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال هذا من قبل أن يسلم. وقال اسمعيل بن القاسم:
ولم أر ما يدوم له اجتماع ... سيفترق اجتماع الفرقدين
وقوله: أراك حديثا ناعم البال أفرعا، الأفرع: التامّ شعر الرأس، وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: الفرعان خير أم الصلعان، فقال بل الفرعان، وكان أبو بكر أفرع، وكان عمر أصلع فوقع في نفسه أنه يسأل عنه وعن أبي بكر، والأسفع الأسود، يقال سفعته النار أي غيّرت وجهه إلى السواد. وقوله: فعمرك يقسم عليها، ويقال: عمرك الله. أي أذكّرك الله، قال:
عمّرتك (1) الله إلا ما ذكرت لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سلم
وقوله: غير مبطان العشيات، يقول: كان لا يأكل في اخر نهاره انتظارا للضيف. ويروى أن عمر بن الخطاب سأله، فقال: أكذبت في شيء مما قلته في أخيك، فقال: نعم، في قولي غير مبطان، وكان ذا بطن. ويقال في غير هذا الحديث: ان من سيما الرئيس السيد أن يكون عظيم البطن ضخم الرأس فيه طرش. وقال رجل لفتى: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيّدا ولا بأرسح (2)
__________
(1) عمرتك الله: أذكرك الله تذكيرا.
(2) أرسح: الذي لا عجز فيه أو هي لاصقة بالظهر صغيرة.(2/369)
فتكون فارسا. وقال رجل لرجل: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان. والأروع ذو الروعة، والهيئة والبرم الذي لا ينزل مع الناس ولا يأخذ في الميسر، ولا ينزع إلا نكدا، قال النابغة:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشّى الأشمط البرما
وقوله: إذا القشع وهو الجليد اليابس، ويقال لكناسة الحمّام القشع، قال أبو هريرة: وكذّبت حتى رميت بالقشع. وحدثني العباس بن الفرج الرياشيّ عن محمد بن عبد الله الأنصاري القاضي في أسناد ذكره، قال: صلى متمّم مع أبي بكر الصديق الفجر في عقب قتل أخيه، وكان أخوه خرج مع خالد مرجعه من اليمامة يظهر الإسلام، فظن به خالد غير ذلك، فأمر ضرار بن الأزور الأسديّ فقتله. وكان مالك من أرداف الملوك، ومن متقدمي فرسان بني يربوع قال: فلما صلى أبو بكر قام متمم بحذائه، واتكأ على سية (1) قوسه، ثم قال:
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت (2) ... خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
ولنعم حشو الدرع كنت وحاسرا (3) ... ولنعم مأوى الطارق (4) المتنوّر (5)
أدعوته بالله ثم غررته ... لو هو دعاك بذمّة لم يغدر
وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غررته، ثم أتم شعره فقال:
لا يمسك الفحشاء (6) تحت ثيابه ... حلو شمائله عفيف المئزر (7)
ثم بكى وانحط على سية قوسه، وكان أعور دميما، فما زال يبكي حتى
__________
(1) سيه القوس: بكسر السين مخففة الياء ما عطف من طرفها ولها سيتان.
(2) تناوح الرياح: تقابلها حيث لا تكون من مهب واحد وذلك زمن الجدب عندهم.
(3) الحاسر: من ليس عليه درع.
(4) الطارق: من يأتيك ليلا.
(5) المتنور: الذي ينور النار من بعيد ويبصرها.
(6) لا يمسك الفحشاء: لا يضمر سؤا ولا ضغنا.
(7) عفيف المئزر: كناية عن الطهارة.(2/370)
دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب، فقال: لوددت أني رثيت أخي زيدا بمثل ما رثيت به مالكا أخاك، فقال: يا أبا حفص، والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته. فقال عمر: ما عزّاني أحد بمثل تعزيتك، وكان زيد بن الخطاب قتل شهيدا يوم اليمامة. وكان عمر يقول: إني لأهشّ للصبا لأنها تأتينا من ناحية زيد. ويروى عن عمر أنه قال: لو كنت أقول الشعر كما تقول لرثيت أخي كما رثيت أخاك. ويروى أن متمّما رثى زيدا، فلم يجد، فقال له عمر: لم ترث زيدا كما رثيت أخاك مالكا! فقال: لأنه والله يحركني لمالك ما لا يحركني لزيد، ومن طريف شعره:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع والمت يذهب بالفتى
لئن مالك خلّى عليّ مكانه ... لفي أسوة إن كنت باغية الأسا
كهول ومرد من بني عمّ مالك ... وأيفاع (1) صدق قد تمليتهم رضا
سقوا بالعقار الصرف حتى تتابعوا ... كدأب ثمود إذ رغا سقبهم ضحى (2)
إذا القوم قالوا من فتى لملمّة ... فما كلّهم يدعى ولكنه الفتى
ومثل هذا الشعر قول الهشليّ:
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إنّه يعنونا
وأول هذا المعنى لطرفة:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
وقال متمم أيضا في كلمة له يرثي لها مالكا:
جميل المحيّا ضاحك عند ضيفه ... أغرّ جميع الرأي مشترك الرحل
وقور إذا القوم الكرام تقاولوا ... فحلّت حباهم واستطيروا من الجهل
__________
(1) إيفاع صدق: واحدة يقع محركا وهو الغلام إذا شارف الاحتلام ولما يحلم وأضاف إلى الصدق لأنهم لازموه.
(2) إذا رغا شقيهم: كناية عن نزول العذاب بهم.(2/371)
وكنت إلى نفسي أشدّ حلاوة ... من الماء بالماذيّ من عسل النحل
وكلّ فتى في الناس بعد ابن أمّه ... كساقطة إحدى يديه من الخبل
وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ... ولا ضلّ إلا أن تعدّ من النخل
وقال له عمر بن الخطاب: إنك لجرل فأين كان أخوك منك؟ فقال: كان والله أخي في الليلة المظلمة ذات الأزير والصّرّاد يركب الجمل الثفّال (1)
ويجنب الفرس الجرور، وفي يده الرمح الثقيل وعليه الشملة الفلوت، وهو بين المزادتين حتى يصبح فيصبّح أهله متبسّما. الجمل الثفال البطيء الذي لا يكاد ينبعث والفرس الجرور الذي لا يكاد ينقاد مع من يجنبه إنما يجرّ الحبل، والشملة الفلوت التي لا تكاد تثبت على لابسها. وذكر لنا أن مالكا كان من أرداف الملوك، وفي تصداق ذلك يقول جرير يفخر ببني يربوع:
منهم عتيبة والمحلّ وقعنب ... والحنتفان (2) ومنهم الردفان
فأحد الردفين مالك بن نؤيرة اليربوعي، والردف الاخر من بني رياح بن يربوع، وللردافة موضعان أحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو تريّف، أو ما أشبه ذلك من مواضع الأنس. والوجه الاخر أنبل، وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده:
__________
(1) الثفال: البطيء.
(2) الحنتفان: حنتف وأخوه سيف أو الحارث إبنا أوس.(2/372)
54 - باب في من جزعوا عند الموت
قال أبو العباس: لما احتضر أبراهيم النخعيّ رحمه الله جزع جزعا شديدا، فقيل له في ذلك، فقال: وأيّ خطر أعظم من هذا، إنما أتوقع رسولا يرد عليّ من ربي إما بالجنة وإما بالنار. ولما احتضر ابن سيرين، جعل يقول:
نفسي والله أعزّ الأنفس عليّ. ولما احتضر جحر بن عديّ ليقتل، سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، وظهر منه جزع شديد. فقال له قائل: أتجزع؟
فقال: وكيف لا أجزع؟ سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، ولست أدري أيؤدّيني إلى جنة أم إلى نار. (قال أبو الحسن: ما يقوم بقتل حجر بن عدي شيء وإني لأعجب من قوله هذا، ولست أدري أيدنيني إلى جنة أو إلى نار، وهو شهيد الشهداء رحمه الله. وقد ذكرنا موت عمرو بن العاصي وكلامه عند الموت؟ وممن ظهرت منه عند الموت قسوة حلحلة الفزاريّ، وسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن الفزاريّ فإن عبد الملك لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحة: صبرا حلحل؟ فقال: إي والله:
اصبر من ذي ضاغط (1) عركرك ... ألقى بواني (2) زوره للمبرك
ثم قال لابن الأسود الكلبيّ: أجد الضربة فإني والله ضربت أباك ضربة أسلحته فعددت النجوم في سلحته، ثم قال عبد الملك لسعيد بن أبان:
صبرا سعيد؟ فقال إي والله:
__________
(1) عركرك: الجمل الغليظ.
(2) بواني الزور: اضلاعه الواحدة بانية وهذه الكلمة لم ترد عن العرب إلا مجموعة.(2/373)
أصبر من عود بجنبيه الجلب ... قد أثّر البطان فيه والحقب
ومنهم وكيع بن أبي سود أحد بني غدانة بن يربوع، فإنه لما يئس منه خرج الطبيب من عنده، فقال له محمد ابنه: ما تقول؟ قال: لا يصلّي الظهر.
وكان محمد ناسكا، فدخل إلى أبيه، فال له أبوه وكيع: ما قال لك المعلوج؟
قال: وعد أنك تبرأ، قال: أسألك بحقّي عليك. قال: ذكر أنك لا تصلي الظهر! قال: ويلي على ابن الخبيثة، والله لو كانت في شدقي للكتها إلى العصر. ويروى أن إبراهيم النخعي قال في الحديث الذي ذكرناه: والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة. وفي وكيع بن أبي سود يقول الفرزدق:
لقد رزئت بأسا وحزما وسوددا ... تميم بن ممرّ يوم مات وكيع
وما كان وقّافا وكيع إذا دنت ... سحائب موت وبلهنّ نجيع
إذا التقت الأبطال أبصرت لونه ... مضيئا وأعناق الكماة خضوع
فصبرا تميم إنما الموت منهل ... يصير إليه صابر وجزوع
وقال أيضا:
لتبك وكيعا خيل ليل مغيرة ... تساقى (1) المنايا بالردينيّة السمر
لقوا مثلهم فاستهزموهم بدعوة ... دعوها وكيعا والجياد بهم تجري
ومن الجفاة عند الموت هدبة بن خشرم العذريّ، وكان قتل زيادة بن ريد العذريّ، فلما حمل إلى معاوية تقدم معه عبد الرحمن أخو زيادة بن زيد، فادّعى عليه، فقال له معاوية: ما تقول؟ قال: أتحبّ أن يكون الجواب شعرا أم نثرا؟ قال: بل شعرا فأنه أمتع، فقال هدبة:
فلما رأيت أنّ ما هي ضربة ... من السيف أو إغضاء عين على وتر
عمدت لأمر لا يعيّر والدي ... خزايته ولا يسبّ به قبري
__________
(1) تساقى: بحذف إحدى التاءين وأصله تتساقى.(2/374)
رمينا فرامينا فصادف سهمنا ... منيّة نفس في كتاب وفي قدر
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من معدى ولا عنك من قصر
فإن تك في أموالنا لا نضق بها ... دراعا وإن صبر فنصبر للصبر
فقال له معاوية: أراك قد أقررت يا هدبة؟ قال: هو ذاك، فقال له عبد الرحمن: أقدني (1)، فكره ذاك معاوية، وضنّ بهدبة عن القتل، وكان ابن زيادة صغيرا، فقال له معاوية: أو ما عليك أن تشفي صدرك وتحرم غيرك. ثم وجّه به إلى المدينة، فقال: يحبس إلى أن يبلغ ابن زيادة، فبلغ. وكان والي المدينة سعيد بن العاصي، فممّا وقف عليه من قسوته قوله:
ولما دخلت السجن يا أمّ مالك ... ذكرتك والأطراف في حلق سمر
وعند سعيد غير أن لم أبح به ... ذكرتك ان الأمر يذكر بالأمر
فسئل عن هذا القول، فقال: لما رأيت ثغر سعيد، وكان سعيد حسن الثغر جدّا ذكرت به صغرها، ويقال: إنه عرض على ابن زيادة عشر ديات، فأبى إلا القود، وكان ممن عرض الديات عليه ممن ذكر لنا الحسين بن عليّ، وعبد الله بن جعفر عليهما السلام، وسعيد بن العاصي، ومروان بن الحكم، وسائر القوم من الأنصار. فلما خرج به ليقاد بالحرّة، جعل ينشد الأشعار، فقالت له حبّي المدينيّة: ما رأيت أقسى قلبا منك، أتنشد الأشعار وأنت يمضي بك لتقتل، وهذه خلفك كأنها ظبي عطشان تولول (2). تعني امرأته، فوقف ووقف الناس معه، فأقبل على حبّي، فقال:
أما وجدت وجدي بها أمّ واحد ... ولا وجد حبّي بابن أمّ كلاب
رأته طويل الساعدين شمردلا (3) ... كما انّعتت من قوة وشباب
فأغلقت حبّي الباب في وجهه، وسبّته، وعرض له عبد الرحمن بن
__________
(1) أقدني: اقتص لأخي من هدبة.
(2) الولولة: صوت متتابع بالعويل والاستغاثة أو هي حكاية صوت النائمة.
(3) الشمردل الفتى الحسن الخلق.(2/375)
حسان، فقال أنشدني. فقال له: أعلى هذا الحال؟ قال: نعم. فأنشده:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب
ولا أتبغّي الشرّ والشّر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
وحرّبني مولاي (1) حتى غشيته ... متى ما يحرّبك ابن عمّك تحرب
فلما قدّم نظر إلى امرأته، فدخلته غيرة، وقد كان جدع في حربهم، فقال:
فإن يك أنفي بأن منه جماله ... فما حسبي في الصالحين بأجدعا
فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا
فقالت: قفوا عنه ساعة. ثم مضت ورجعت، وقد اصطلمت أنفها، فقالت: أهذا فعل من له في الرجال حاجة! فقال: الان طاب الموت. ثم أقبل على أبويه، فقال:
أبليان اليوم صبرا منكما ... إن حزنا منكما اليوم لشر
ما أظنّ الموت إلّا هيّنا ... إنّ بعد الموت دار المستقر
ثم قال:
إذا العرش إني عائذ بك مؤمن ... مقرّ بزلّاتي إليك فقير
وإني وإن قالوا أمير مسلّط ... وحجّاب أبواب لهنّ صرير
لأعلم أنّ الأمر أمرك أن تدن ... فربّ وإن تغفر فأنت غفور
ثم قال لابن زيادة: أثبت قدميك وأجد الضربة، فأني أيتمتك صغيرا، وأرملت أمّك شابّة. ويزعم بعض أصحاب الأخبار أنه قال: ما أجزع من الموت، واية ذلك أني أضرب برجلي اليسرى بعد القتل ثلاثا، وهو باطل موضوع، ولكن سأل فكّ قيوده، ففكّت، فذلك حيث يقول:
فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقا لم يقيّد
__________
(1) المولى هنا أقاربه وبنو عمه وحربني أي أغضبني.(2/376)
قال أبو العباس، ووقف حبّار بن سلمى على قبر عامر بن الطفيل. ولم يكن حضره. فقال: أنعم صباحا أبا عليّ، فو الله لقد كنت سريعا إلى المولى بوعدك، بطيئا عنه بإيعادك، ولقد كنت أهدى من النجم، وأجرى من السيل.
ثم التفت إليهم، فقال: كان ينبغي أن تجعلوا قبر أبي عليّ ميلا في ميل.
وذكر الحرمازيّ أن الأحنف بن قيس لما مات، وكان موته بالكوفة، مشى المصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء، وقال اليوم مات سيد العرب. فلما دفن قامت امرأة على قبره أحسبها من بني منقر، قالت: لله درّك من مجنّ (1) في جنن (2)، ومدرج في كفن، فنسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الخير دليلك، وأن يوسّع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك فو الله لقد كنت في المحافل شريفا، وعلى الأرامل عطوفا، ولقد كنت في الحيّ مسوّدا، وإلى الخليفة موفّدا. ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متّبعين. قال: فقال الناس مع ما سمعنا كلام امرأة أبلغ ولا أصدق معنى منها. ووقف رجل على قبر النجاشيّ (3) فترحّم وقال: لولا أن القول لا يحيط بما فيك، والوصف يقصر دونك لأطنبت بل لأسهبت ثم عقر ناقته على قبره، وقال:
عقرت على قبر النجاشيّ ناقتي ... بأبيض عضب أخلصته صياقله
على قبر من لو أنني متّ قبله ... لهانت عليه عند قبري رواحله
وروى ابن دأب أن حسان بن ثابت الأنصاريّ، اجتاز بقبره ربيعة بن مكدّم، فأنشد:
لا يبعدنّ ربيعة بن مكدّم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب
نفرت قلوصي من حجارة حرّة ... نصبت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شرّيب خمر مسعر لحروب
__________
(1) المجن: اسم مفعول من قولك أجنه إذا غطاه وستره.
(2) الجنن: القبر.
(3) النجاشي: بتشديد الياء وتخفيفها أفصح وتكسر النون وهو أفصح ملك الحبشة.(2/377)
لولا السفار وطول قفر مهمة ... لتركتها تحبوا على العرقوب
نعم الفتى أدّى نبيشة رحله ... يوم الكديد نبيشة بن حبيب
وربيعة بن مكدّم رجل من بني كنانة، وكان قتله أهبان بن غادية الخزاعيّ، وقيس تقول: قتله نبيشة بن حبيب السلميّ، وكان أهبان أخا نبيشة لأمه. وكان أتاه زائرا، وأغار ربيعة بن مكدم على بني سليم فخرج أهبان من أخيه فحمل عليه فقتله، وحمل أخو ربيعة على أهبان ففاته فلأنّه في بني سليم، قال حسان، (نفرت قلوصي من حجارة حرة، لأن الحرة هناك لبني سليم، وفي تصداق ما تدّعية خزاعة، يقول أهبان:
ولقد طعنت ربيعة بن مكدّم ... يوم الكديد فخرّ غير موسّد
في عارض (1) شرق (2) بنات فؤاده ... منه بأحمر كالنقيع (3) المجسد (4)
ولقد وهبت سلاحه وجواده ... لأخي نبيشة قبل لوم الحسّد
وقال أخو ربيعة يجيبه:
فات ابن غادية المنّية بعد ما ... رفّعت أسفل ذيله بالمطرد (5)
قل لابن غادية المتاح لقتلنا ... ما كان يقتلنا الوحيد المفرد
يريد أن أهبان مفرد من قومه في أخواله، وقال أيضا:
فإن تذهب سليم بوتر قومي ... فأسلم من منازلنا قريب
وقالت ليلى الأخيليّة:
اليت (6) أبكي بعد توبة هالكا ... وأحفل من دارت عليه الدوائر
__________
(1) العارض: يحتمل ضروبا من المعاني فالعارض صفحة الحذر وصفحتا العنق وجانبا الوجه، وما يستقبلك من الانسان وغيره.
(2) شرق: ممتلىء دما وفعله كفرح.
(3) النقيع: صبغ مخلوط بأفواه الطيب.
(4) المجسد الذي فيه الجسد وهو الزعفران أو العصفر.
(5) المطرد: كمنبر: الرمح القصير.
(6) اليت أبكي: تريد الابكي. وكثيرا ما يخذف حرف النفي بعد القسم.(2/378)
لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير
فلا يبعدنك الله يا توب إنما ... لقاء المنايا دارعا مثل حاسر
ويروى:
فلا يبعدنك الله يا توب هالكا ... أخا الحرب إن دارت عليه الدوائر
فكلّ جديد أو شباب إلى بلى ... وكل امرىء يوما إلى الله صائر
وذكر المدائنيّ أن رجلا عزّى رجلا أفرط عليه الجزع على ابنه، فقال: يا هذا سررت به، وهو حزن وفتنة، وجزعت عليه، وهو صلاة ورحمة، فسرّي (1)
عنه. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعزّوا عن مصائبكم بي. وقال رجل لابن عمر: أعظم الله أجرك! فقال: نسأل الله العافية معناه أنه لما قال له أعظم الله أجرك إنما دعا بأن يكثر ما يؤجر عليه، ودلّ على أنه من باب المصائب تعزيته إياه:
__________
(1) فسرى عنه: كشف عنه الخوف والجزع.(2/379)
55 - وهذا باب طريف من أشعار المحدثين
قال مطيع بن إياس الليثي يرثي يحيى بن زياد الحارثيّ. وكان صديقه وكانا مرميّين جمعا بالخروج عن الملة:
يا أهل بكوا لقلبي القرح ... وللدّموع الهوامل السفح
راحوا بيحيى إلى مغيّبة ... في القبر بين التراب والصفح
راحوا بيحيى ولو تطاوعني الأق ... دار لم يبتكر ولم يرح
يا خير من يحسن البكاء له ... اليوم ومن كان أمس للمدح
وفي يحيى يقول مطيع لنبوة كانت بينهما.
كنت ويحيى كيدي واحد ... نرمي جميعا ونرامي معا
إن سرّه الدهر فقد سرّني ... أو حادث ناب فقد أقطعا
أو نام نامت أعين أربع ... منا وإن هبّ فلن أهجعا
حتى إذا ما الشيب في عارضي ... لاح وفي مفرقه أسرعا
سعى وشاة طبّن (1) بيننا ... فكاد حبل الوصل أن يقطعا
فلم ألم يحيى على حادث ... ولم أقل خان ولا ضيّعا
وقال أبو عبد الرحمن العتبيّ يرثي عليّ بن سهل بن الصبّاح، وكان له صديقا:
__________
(1) وشاة طبن: كأنه جمع طابن وهو الفطن، يقال طبن فلان لكذا إذا هجم عليه وخبره وعرف أنه مما يواتيه على المراودة.(2/381)
يا خير إخوانه وأعطفهم ... عليهم راضيا وغضبانا
أمسيت حزنا وصار قربك لي ... بعدا وصار اللقاء هجرانا
إنا إلى الله راجعون لقد ... أصبح حزني عليك ألوانا
حزن اشتياق وحزن مرزئة ... إذا انقضى عاد كالذي كانا
قوله: يا خيرا إخوانه محال وباطل. وذلك أنه لا يضاف أفعل إلى شيء إلا وهو جزء منه. وقال أيضا:
دعوتك يا أخيّ فلم تجبني ... فردّت دعوتي حزنا عليّا
بموتك ماتت اللّذّات مني ... وكانت حيّة إذ كنت حيّا
فيا أسفي عليك وطول شوقي ... إليك لو ان ذاك يردّ شيّا
وحدثني رجل من أصحابنا، قال شهدت رجلا في طريق مكة معتكفا على قبر يردّد شيئا ودموعه تكف من لحيته (1)، فدنوت إليه لأسمع ما يقول فجعلت العبرة تحول بينه وبين الإبانة. فقلت له: يا هذا! فرفع رأسه إليّ، وكأنما هبّ من رقدة فقال: ما تشاء؟ فقلت: أعلى ابنك تبكي؟ قال: لا. قلت: فعلى أبيك؟ قال: لا، ولا على نسيب ولا صديق، ولكن على من هو أخصّ منهما، قلت: أو يكون أحد أخص ممن ذكرت؟ قال: نعم، من أخبرك عنه، إن هذا المدفون كان عدوّا لي من كل باب: يسعى عليّ في نفسي، وفي مالي، وفي ولدي فخرج إلى الصيد أيأس ما كنت من عطبه وأكمل ما كان من صحته، فرمى ظبيا فأقصده فذهب ليأخذه فإذا هو قد أنفذه حتى نجم سهمه من صفحة الظبي فعثر فتلقّى بفواده ظبة السهم فلحقه أولياؤه فانتزعوا السهم، وهو والظبي ميّتان فنمى إليّ خبره فأسرعت إلى قبره مغتبطا بفقده، فإني لضاحك السنّ إذ وقعت عيني على صخرة فرأيت عليها كتابا فهلمّ فاقرأه، وأومأ إلى الصخرة، فإذا عليها:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلا بعدهم وتقدّموا
__________
(1) تكف من لحيته: تقطر وتسيل.(2/382)
قلت أشهد أنك تبكي على من بكاؤك عليه، أحقّ من النسيب. ومما استطرفنا من شعر المحدثين قول يعقوب بن الربيع في جارية (1) طالبها سبع سنين يبذل فيها جاهه وماله وإخوانه حتى ملكها، فأقامت عنده ستة أشهر ثم ماتت. فقال فيها أشعارا كثيرة، اخترنا منها بعضها من ذلك قوله:
لله انسة فجعت بها ... ما كان أبعدها من الدنس
أتت البشارة والنعيّ معا ... يا قرب مأتمها من العرس
يا ملك نال الدهر فرصته ... فرمى فؤادا غير محترس
كم من دموع لا تجفّ ومن ... نفس عليك طويلة النفس
أبكيك ما ناحت مطوّقة ... تحت الظلام تنوح في الغلس
يا ملك فيّ وفيك معتبر ... ومواعظ يوحشن ذا الأنس (2)
ما بعد فرقة بيننا أبدا ... في لذّة درك لملتمس
وأخذ في صدر هذا الكلام من قول القائل:
ربّ مغروس يعاش به ... فقدته كفّ مغترسه
وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
وقريب من هذا قول إمرأة شريفة ترثي زوجها، ولم يكن دخل بها:
أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس
أبكي على فارس فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
يا فارسا بالعراء مطّرحا ... خانته قوّاد مع الحرس
من لليتامى إذا هم سغبوا (3) ... وكلّ عان وكلّ محتبس
أم من لبر أم من لفائدة ... أم من لذكر الإله في الغلس
ومما استطرفه من شعر يعقوب، قوله:
__________
(1) جارية: انسة طيبة النفس.
(2) الانس: بضمتين واصله الانس بالضم فحركه للشعر وكذا العرس مثله.
(3) سغبوا: من السغب محركا وهو الجوع والعاني الاسير.(2/383)
ليت شعري بأيّ ذنب لملك (1) ... كان هجري لقبرها واجتنابي
الذنب حقدته كان منها ... أم لعلمي بشغلها عن عتابي
أم لأمني لسخطها ورضاها ... حين واريت وجهها في التراب
ما وفى في العباد حيّ لميت ... بعد يأس منه له في الإياب
وفي هذا الشعر:
إنما حسرتي إذا ما تذكّر ... ت عنائي بها وطول طلابي
لم أزل في الطلاب سبع سنين ... أتأتّى لذاك من كلّ باب
فاجتمعنا على اتفاق وقدر ... وغنينا عن فرقة باصطحاب
أشهرا ستة صحبتك فيها ... كنّ كالحلم أو كلمع السراب
وأتاني النعيّ منك مع البش ... رى فيا قرب أوبة من ذهاب
ومن مليح شعره قوله يرثيها:
حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس
وتسلّلت منها محاسن وجهها ... وعلا الأنين تحثّه بتنفس
رجع اليقين مطامعي بأسا كما ... رجع اليقين مطامع المتلمّس (2)
ومن مليح شعره أيضا قوله:
فجعت بملك وقد أينعت ... وتمّت فأعظم بها من مصيبه
فأصبحت مغتربا بعدها ... وأمست بحلوان ملك غريبه
أراني غريبا وإن أصبحت ... منازل أهلي منّي قريبه
خلفت على أختها بعدها ... فصادفتا ذات عقل أديبه
__________
(1) ملك: اسم إمرأة.
(2) المتلمس: صاحب طرفة بن العبد واسمه جرير بن عبد المسيح، وكانا قد أخذا كتابين من عمرو بن هند ملك العرب إلى أحد عماله، كل واحد كتاب فيه قتلة وهما يظنان أن فيهما البر والإحسان، فمر المتلمس على شيخ جالس فأطلعه على الكتاب فأخذه بما فيه فألقاه في النهر وانقلب إلى أهله، وذهب طرفة لحتفه.(2/384)
فأقبلت أبكي وتبكي معي ... بكاء كئيب بحزن كئيبة
وقلت لها مرحبا مرحبا ... بوجه الحبيبة أخت الحبيبة
سأصفيك ودّي حفاظا لها ... فذاك الوفاء بظهر المغيبة
أراك كملك وإن لم تكن ... لملك من الناس عندي ضريبه
ومما اخترنا من مرثية يزيد المهلّبيّ للمتوكل على الله قوله:
لا حزن إلا أراه دون ما أجد ... وهل كمن فقدت عيناي مفتقد
لا يبعدن هالك كانت منيته ... كما هوى عن غطاء الزبية الأسد
لا يدفع الناس ضيما بعد ليلتهم ... إذ لا تمدّ إلى الجاني عليك يد
لو أن سيفي وعقلي حاضران له ... أبليته الجهد إذا لم يبله أحد
جاءت منيّته والعين هاجعة ... هلا أتته المنايا والقنا (1) قصد
هلا أتته أعاديه مجاهرة ... والحرب تسعر والأبطال تجتلد
فخرّ فوق سرير الملك منجدلا ... لم يحمه ملكه لما انقضى الأمد
قد كان أنصاره يحمون حوزته (2) ... وللردى دون أرصاد (3) الفتى رصد
وأصبح الناس (4) فوضى يعجبون له ... ليثا صريعا تنزّى حوله النقد
علتك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلا الواحد الصمد
جاؤوا عظيما لدنيا يسعدون بها ... فقد شقوا بالذي جاؤوا وما سعدوا
ضجّت نساؤك بعد العزّ حين رأت ... خدّا كريما عليه قارت (5) جسد
أضحى شهيد بني العباس موعظة ... لكل ذي عزّة في رأسه صيد (6)
خليفة لم ينل ما ناله أحد ... ولم يضع مثله روح ولا جسد
__________
(1) القنا قصد: كعنب واحدها قصدة بالكسرة وهي القطعة مما يكسر.
(2) الحوزة بيضة الملك.
(3) الأرصاد: جمع رصد بالتحريك وهو القوم الراصدون.
(4) وأصبح الناس فوضى: لا رئيس لهم ولا ملك والنقد محركا في الأصل جنس من الغنم القبيح الشكل.
(5) قارت: الدم الذي يبس.
(6) الصيد: ميل في العنق.(2/385)
كم في أديمك من فوهاء هادرة ... من الجوائف يغلى فوقها الزبد
إذا بكيت فإن الدمع منهمل ... وإن رثيت فإن القول مصّرد
قد كنت أسرف في مالي وتخلف لي ... فعلّمتني اللّيالي كيف أقتصد
لمّا اعتقدتم (1) أناسا لا حلوم لهم ... ضعتم وضيّعتم من كان يعتقد
ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم السادة المذكوة الحشد
قوم هم الجذم والإنساب تجمعهم ... والمجد والدين والأرحام والبلد
إذا قريش أرادوا شدّ ملكهم ... بغير قحطان لم يبرح به أود
قد وتر الناس طرّا ثم قد صمتوا ... حتى كأن الذي نيلوا به رشد
من الأولى وهبوا للمجد أنفسهم ... فما يبالون ما نالوا إذا حمدوا
(قال أبو الحسن، قوله: قارت، يقال: قرت الدم يقرت قروتا، ودم قارت قد يبس بين الجلد واللحم، ومسك قارت، وهو أخفه وأجوده قال: (يعلّ بقرّات من المسك قاتن) وقرّات فعّال، وقاتن مسك قاتن قد قتن قتونا، أي يابس لا ندوّة فيه).
__________
(1) لما اعتقدتم أناسا: يريد أن بعض ملوك بني العباس اتخذ بطانة من دون أهله وقومه وبني جنسه فأضاعوا ملكهم وتوثبوا عليهم وأزهقوهم بالقتل وساموهم الذل والخسف.(2/386)
56 - باب ذكر الأذواء من اليمن في الاسلام
فأما في الجاهلية، فيكثرون نحو ذي يزن، وذي كلاع وذي نواس وذي رعين وذي أصبح وذي المناور وذي القرنين. فأما في الإسلام، فمنهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أنصاريّ. ومنهم قتادة بن النعمان الأنصاري ذو العين. كانث عينه أصيبت فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أحسن عينيه. وكانت تعتلّ عينه الصحيحة فلا تعتلّ المردودة معها ومنهم أبو الهيثم بن التّيهان الأنصاريّ ذو السيفين كان يتقلد سيفين في الحرب. ومنهم حباب بن المنذر بن الجموح ذو الرأي، وهو صاحب المشورة يوم بدر، أخذ برأيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له اراء في الجاهلية مشهورة، ومنهم سعد بن صفيح (1) ذو السيال (2)، ومنهم ذو المشهّرة، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة، وكانت له مشهّرة إذا لبسها وخرج يختال بين الصفّين لم يبق ولم يذر وكلّ هؤلاء من الأنصار، ومن اليمن من غيرهم عبد الله بن الطفيل الأزديّ، ثم الدوسيّ ذو النور أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نورا في جبينه ليدعو به قومه، فقال: يا رسول الله، هذه مثلة. فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوطه. فلما ورد على قومه بالسراة جعلوا يقولون: إن الجبل ليلتهب، وكان أبو هريرة ممن اهتدى بتلك العلامة.
ومنهم ثم من خزاعة ذو اليدين سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، وكان قبل يدعى ذا الشمالين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بهم الظهر فسلّم في الركعة
__________
(1) سعد بن صفيح: خال أبي هريرة رضي الله عنهما.
(2) السبال: ككتاب.(2/387)
الثانية، فقال ذو اليدين: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال ما كان ذاك. فقال: بلى يا رسول الله. فالتفت إلى أصحابه، فقال: ما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: صدق يا رسول الله. فنهض فأتمّ، ثم قال: إني لأنسى أو أنسّى لأستنّ.
وهذه تسمية من كان بينه وبين الملائكة سبب من اليمانية.
منهم سعد بن معاذ الأنصاريّ، وهبط لموته سبعون ألف ملك لم يهبطوا إلى الأرض قبلها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجليه في المشي لئلا يطأ على جناح ملك، واهتز لموته عرش الله جل وعز. وفي ذلك يقول حسان:
وما اهتزّ عرش الله (1) من موت هالك ... سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
وكبّر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا، كما كبر على حمزة بن عبد المطلب، وشمّ من تراب قبره رائحة المسك. ومنهم حسان بن ثابت الأنصاريّ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهجهم وروح القدس معك! وقال في حديث اخر: إن الله مؤيّد حسّانا بروح القدس، ما نافخ (2) عن نبيّه، وقالت عائشة: كان يوضع لحسان منبر في مؤخر المسجد فينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم حنظلة بن أبي عامر الأنصاري غسلته الملائكة، وذاك أنه خرج يوم أحد فأصيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاحبكم هذا قد غسلته الملائكة. فسئل عن ذلك، فقالت امرأته: كان معي علي ما يكون الرجل مع امرأته. فأعجلته حطمة (3) بلغته في المسلمين، فخرج، فأصيب. ففي ذلك يقول الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح حميّ الدبر (4)، وكان خال أبيه:
غسلت خالي الملائكة الأب ... رار ميتا أكرم به من صريع
__________
(1) إن عرش الله جل وعلا، لا يهتز لموت بشر وفي البيت مبالغة مذمومة.
(2) ما نافح: دافع والمنافحة المدافعة وهنا يريد بمنافحته هجاء المشركين ومجابهتهم على أشعارهم.
(3) حطمة بلغته: إزدحام المشركين على المسلمين والتفافهم بهم حتى كادت الهزيمة تقع على المسلمين.
(4) الدبر: بسكون الباء النحل أو الزنانير.(2/388)
وأنا ابن الذي حمت ظهره الدب ... ر قتيل اللحيان يوم الرجيع
ومنهم حارثة بن النعمان، رأى جبريل صلى الله عليه وسلم مرتين وأقرأه جبريل السلام، ومنهم ثمّ من خزاعة عمران بن حصين، كانت تصافحه الملائكة، وتعوده ثم افتقدها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن رجالا كانوا يأتونني لم أر أحسن منهم وجوها، ولا أطيب أرواحا. ثم قد انقطعوا عني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصابك جرح فكنت تكتمه، فقال: أجل. قال: ثم أظهرته. قال:
قد كان ذلك. قال: أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت.
ومنهم جرير بن عبد الله البجليّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم من هذا الفجّ خير ذي يمن عليه مسحة ملك (1). ومنهم دحية بن خليفة الكلبيّ، كان جبريل صلى الله عليه يهبط في صورته فمن ذلك يوم بني قريظة لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وهبط عليه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، قد وضعتم سلاحكم ما وضعت الملائكة أسلحتها بعد، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، وها أنا ذا سائر إليهم فمزلزل بهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ألّا يصلّوا العصر إلا في بني قريظة، فجعل يمر بالناس، فيقول: أمرّ بكم أحد؟ فيقولون: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة عليها قطيفة (2) خزّ (3) نحو بني قريظة. فيقول: ذاك جبرائيل ثم مرّ دحية بعد ذلك، وكان لا يزال عليه السلام في غير هذا اليوم في ينزل في صورته كما ظهر إبليس في صورة الشيخ النجديّ.
__________
(1) مسحة ملك. يقال على فلان مسحة ملك أو مسحة جمال، أي أثر ظاهر منه ولا يقال ذلك إلّا في المدح.
(2) القطيفة: كساء مخمل.
(3) الخز: ثياب من صوف.(2/389)
57 (وهذا باب قد تقدم ذكرنا إياه وعدنا استقصاءه)
إعلم أن كل شيء من الحيوان كان مما يخبر الناس عنه كما يخبرون عن أنفسهم، ومما يقتنونه ويتخذونه فبهم جاجة إلى الفصل بين معرفته ونكرته، ومذكره ومؤنثه، تقول: جاءني رجل إذا لم تدر من هو بعينه أو دريت فلم ترد أن تبيّن، ثم تعرّفه لصاحبك إذا أردت ذلك إما بألف ولام وإما باسم معروف أو إضافة أو غير ذلك. وكذلك يفصل الناس بين الخيل بأسماء أو نعوت يعرفون بها بعضها من بعض، وكذلك الشاء والكلاب والإبل، لولا تمييز بعضها من بعض لم يستقم الإخبار عنها، والاختصاص بما أريد منها. فإذا كان الشيء ليس مما يتخذونه لم يحتاجوا إلى التمييز بين بعضه وبعض يقول:
الرجل رأيت الأسد، فليس يعني أسدا بعينه ولكن يريد الواحد من الجنس الذي قد عرفت، وكذلك الذئب والعقرب والحيّة، وما أشبه ذلك. ألا ترى أن ابن عرس، وسامّ أبرص وأمّ حبين (1) وأبا الحرث وأبا الحصين، معارف لا على أن تميّز بعضها من بعض، ولكن تعريف الجنس، وقولك: ابن مخاض وابن لبون وابن ماء نكرات لأن هذا ما يتخذه الناس، وابن ماء إنما هو مضاف إلى الماء الذي يعرف. فإذا أردت التعريف من هذا لهذه النكرات أدخلت فيما أضيفت إليه الألف واللام أو لقّبتها ألقابا تعرف بها كزيد وعمرو. واعلم أن كل جمع مؤنث لأنك تريد معنى جماعة. ولا تذكّر من ذلك إلا ما كان فعله يجري بالواو والنون في الجمع، وذلك كلّ ما يعقل، تقول: مسلم ومسلمون.
__________
(1) أم حبين كزبير عظاة منتنة وربما دخلها أل.(2/391)
كما تقول قوم يسلمون، وتقول للجمال هي تسير وهنّ يسرن، كما تقول للمؤنث لأن أفعالها على ذلك، وكذلك الموات قال الله عز وجل في الأصنام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ} (1) والواحد مذكر، وقال المفسرون في قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلََّا إِنََاثاً} (2)، قالوا: الموات (3) فكل ما خرج عما يعقل فجمعه بالتأنيث، وفعله عليه لا يكون إلا ذلك، إلا ما كان من باب المنقوص نحو سنين وعزين وليس هذا موضعه، وجملته أنه لا يكون إلا مؤنثا فلهذا كان يقع على بعض هذا الضرب الاسم المؤنث فيجمع الذكر والأنثى. فمن ذلك قولهم: عقرب فهو إسم مؤنث، ألا أنك إن عرّفت الذكر قلت: هذا عقرب. وكذلك الحية، تقول للأنثى: هذه حية، وللذكر: هذا حية. قال جرير:
أن الحفافيث منكم يا بني لجأ ... يطرقن حيث يصول الحية الذكر
(قال الأخفش: الحفافيث ضرب من الحيات يكون صغير الجرم ينتفخ، ويعظم وينفخ نفخا شديدا لا غائلة له) وتقول: هذا بطّة. للذكر، وهذه بطّة للأنثى. وهذا دجاجة، وهذه دجاجة. قال جرير:
لما تذكّرت بالديرين أرّقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
يريد زقاء الديوك، فالاسم الذي يجمعها دجاجة للذكر والأنثى. ثم يخصّ الذكر بأن يقال: ديك، وكذلك تقول: هذا بقرة لهما جميعا، وهذا حبارى. ثم يخصّ الذكر فتقول: ثور. وتقول للذكر من الحبارى حرب. فعلى هذا يجري هذا الباب. وكل ما لم نذكره فهذا سبيله. وقد كنا أرجأنا أشياء ذكرنا أنا سنذكرها في اخر هذا الكتاب منها خطب ومواعظ ورسائل. ونحن ذاكرون ما تهيّأ من ذلك إن شاء الله. قال الأصمعي: فيما بلغني خطبنا
__________
(1) سورة إبراهيم: الاية رقم 36.
(2) سورة النساء الاية رقم 117.
(3) الموات بالفتح ما لا روح منه.(2/392)
أعرابي بالبادية، فحمد الله واستغفره، ووحّده وصلى على نبيه. فبلغ في إيجاز. ثم قال: أيها الناس، إن الدنيا دار بلاغ (1)، والآخرة دار قرار، فخذوا من مفرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفي عليه أسراركم، في الدنيا كنتم ولغيرها خلقتم. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والمصلّي عليه رسول الله، والمدعوّ له الخليفة، والأمير جعفر بن سليمان. وحدّثت في بعض الأسانيد أن عمر بن عبد العزيز، قال في خطبة له: أيها الناس، إنما الدنيا أمل محترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج (2)، فرحم الله امرا فكّر في أمره، ونصح لنفسه وراقب رّبه، واستقال ذنبه، ونوّر قلبه. أيها الناس، قد علمتم أن أباكم قد أخرج من الجنة بذنب واحد، وأن ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل. ويروى أن رجلا معروفا ذهب اسمه عني، قال: أتيت ابن عمر، فقلت: أتجب الجنة لعامل بكل الخيرات، وهو مشرك؟ فقال: لا.
فقلت له: أتجب النار لعامل بالشر كله وهو موحّد قال: عشّ ولا تغترّ، قال:
قال: وأتيت ابن عباس، فسألته، فأجابني بمثل جوابه سواء وقال: عشّ ولا تغتر (3). قال: وحدثني بهذا الحديث القاضي (يعني إسماعيل بن إسحاق) وذكر العتبيّ، أحسبه عن أبيه عن هشام بن صالح عن سعد القصر، قال: خطب الناس بالموسم عتبة في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديث بالفتنة، فاستفتح ثم قال: أيها الناس، إنا قد ولينا هذا الموضع الذي يضاعف الله فيه للمحسن الأجر، وعلى المسيء الوزر، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمنّ في أمنيّته، اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم، وإياكم ولو، فقد أتعبت من كان قبلكم ولن تريح من بعدكم، فاسألوا الله أن يعين كلّا على كلّ، فنعق به اعرابي من مؤخّر المسجد، فقال: أيها الخليفة!
__________
(1) البلاغ ما يتبلغ به ويوصل إلى المطلوب.
(2) التعريج: حبس المطية على المنزل والإقامة به.
(3) مثل تضربه العرب بطلب فيه الحذر.(2/393)
فقال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه. قال: قد أسمعت ففعل، فقال:
والله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيؤا وقد أحسنّا فإن كان الإحسان لكم فما أحقّكم باستتمامه، وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا.
رجل من بني عامر يمتّ إليكم بالعمومة ويختص إليكم بالخؤلة، وقد وطئه زمان، وكثرة عيال وفيه أجر وعنده شكر فقال عتبة: أستعيذ بالله منك وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإلهائنا عنك. وذكر العتبيّ أن عتبة خطب الناس بمصر عن موجدة فقال: يا حاملي الأم انف ركّبت بين أعين، إني إنما قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسّي لكم، وسألتكم صلاحكم إذا كان فسادكم باقيا عليكم. فأما إذا أبيتم إلا الطعن على السلطان والتنقّص للسلف، فو الله لأقطّعنّ بطون السياط على ظهوركم فإن حسمت أدواءكم وإلا فإن السيف من ورائكم، فكم من حكمة منا لم تعها قلوبكم، ومن موعظة منا صمّت عنها اذانكم ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبرّ وأتقى ثم نزل.
ما قيل في عزاء يزيد بن معاوية بأبيه
وذكر العتبي أو غيره أن داود بن عليّ بن عبد الله بن العباس خطب الناس في أول موسم ملكه بنو العباس بمكة فقال: شكرا شكرا إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهرا، ولا لنبني فيكم قصرا، أظنّ عدو الله أن لن نقدر عليه أن روخي له من خطامه حتى عثر في فضل زمامه. فالان حيث أخذ القوس باريها وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الملك في نصابه في أهل بيت البنوة والرحمة، والله لقد كنا نتوجّع لكم ونحن في فرشنا، أمن الأسود والأحمر، لكم ذمّة الله، لكم ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم ذمة العباس، ولا وربّ هذه البنيّة. وأومأ بيده إلى الكعبة. لا نهيج منكم أحدا. قال: وخطب الناس معاوية بن أبي سفيان، فحمد الله وصلى على نبيه، ثم قال: أيها الناس، إنّي من رزع قد استحصد ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما لم يكن قبلي
إلا من هو خير مني. وفي غير هذا الخبر أنه قال لبناته عند وفاته: قلّبنني ففعلن! فقال: انكنّ لتقلّبنه حوّلا قلّبا إن وقي كبّة النار، ثم قال متمثلا:(2/394)
وذكر العتبي أو غيره أن داود بن عليّ بن عبد الله بن العباس خطب الناس في أول موسم ملكه بنو العباس بمكة فقال: شكرا شكرا إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهرا، ولا لنبني فيكم قصرا، أظنّ عدو الله أن لن نقدر عليه أن روخي له من خطامه حتى عثر في فضل زمامه. فالان حيث أخذ القوس باريها وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الملك في نصابه في أهل بيت البنوة والرحمة، والله لقد كنا نتوجّع لكم ونحن في فرشنا، أمن الأسود والأحمر، لكم ذمّة الله، لكم ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم ذمة العباس، ولا وربّ هذه البنيّة. وأومأ بيده إلى الكعبة. لا نهيج منكم أحدا. قال: وخطب الناس معاوية بن أبي سفيان، فحمد الله وصلى على نبيه، ثم قال: أيها الناس، إنّي من رزع قد استحصد ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما لم يكن قبلي
إلا من هو خير مني. وفي غير هذا الخبر أنه قال لبناته عند وفاته: قلّبنني ففعلن! فقال: انكنّ لتقلّبنه حوّلا قلّبا إن وقي كبّة النار، ثم قال متمثلا:
لا يبعدنّ ربيعة بن مكدّم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب
وقال لابنته قرظة ابكيني فقالت:
ألا ابكيه ألا ابكيه ... ألا كلّ الفتى فيه
فلما مات دخل الناس على يزيد يعزّونه بأبيه، ويهنّؤنه بالخلافة، فجعلوا يقولون حتى دخل رجل من ثقيف فقال: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، إنك قد فجعت بخير الأباء وأعطيت جميع الأشياء، فاصبر على الرزيئة وأحمد الله على حسن العطيّة، فلا أعطي أحد كما أعطيت، ولا رزيء كما رزئت. فقام ابن همّام السلوليّ فأنشده شعرا، كأنما فاوضه الثقفي فقال:
اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر بلاء الذي بالملك أصفاكا
أصبحت تملك هذا الخلق كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
ما إن رزي أحد في الناس نعلمه ... كما رزئت ولا عقبي كعقباكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا تسمع بمنعاكا
الحوّل معناه ذو الحيلة، والقلّب الذي يقلّب الأمور ظهرا لبطن. وقوله:
إن وقى كبة النار. فكبّة النار معظمها، وكذلك كبّة الحرب، ويقال: لقيته في كبة القوم، ويروى عن بعض الفرسان أنه طعن رجلا في حرب، فقال: طعنته في الكبّة فوضعت رمحي في اللبّة وأخرجته من السبّة. والسبّة الدبر. ويروى أن خالد بن صفوان دخل على يزيد بن المهلّب وهو يتغذى، فقال: ادن فكل يا أبا صفوان، قال: أصلح الله الأمير لقد أكلت أكلة لست ناسيها، قال: وما أكلت؟ قال: أتيت ضيعتي لإبّان الغراس، وأوان العمارة فجلت فيها جولة حتى إذا صخدت (1) الشمس، وأزمعت بالركود ملت إلى غرفة لي هفّافة (2) في
__________
(1) صخدت الشمس: اشتد حرها.
(2) غرفة هفافة: فيها ريح طيبة ساكنة.(2/395)
حديقة قد فتحت أبوابها، ونضح بالماء جوانبها، وفرشت أرضها بألوان الرياحين، من بين ضمران (1) نافح وسمسق (2) فائح، وأقحوان زاهر وورد ناضر.
ثم أتيت بخبز أرز كأنه قطع العقيق، وسمك بنانيّ (3) بيض البطون زرق اليعون سود المتون عراض السرر غلاظ القصر ودقّة وخلول ومري وبقول. ثم أتيت برطب أصفر صاف غير أكدر لم تبتذله الأيدي ولم يهشمه كيل المكاييل، فأكلت هذا ثم هذا. فقال يزيد: يا ابن صفوان لألف جريب من كلامك مزروع خير من ألف جريب مذروع.
كتاب المنصور إلى محمد بن عبد الله
ونحن ذاكرون الرسائل بين أمير المؤمنين المنصور وبين محمد بن عبد الله بن حسن العلويّ، كما وعدنا في أول الكتاب، ونختصر ما يجوز ذكره منه ونمسك عن الباقي فقد قيل الراوية أحد الشاتمين، قال: لما خرج محمد بن عبد الله على المنصور كتب إليه المنصور بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله، أما بعد فأما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا، أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلّا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا إن الله غفور رحيم. ولك عهد الله وذمّته وميثاقه، وحقّ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن تبت من قبل أن أقدر عليك أن أومّنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وتابعك وجميع شيعتك. وأن أعطيك ألف ألف درهم وأنزلك من البلاد حيث شئت وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك ثم لا أتتبع أحدا منكم
__________
(1) الضمران: من ريحان البر والريحان الفارسي.
(2) السمسق: الياسمين.
(3) سمك بناني: واحده بني بالضم وتشديد الياء وهو صنف جيد من السمك.(2/396)
بمكروه فإن شئت أن تتوثق لنفسك فوجّه إليّ من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما أحببت، والسلام.
جواب محمد إلى المنصور
فكتب إليه محمد بن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد: أما بعد {طسم تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى ََ وَفِرْعَوْنَ} (1) بالحقّ لقوم يؤمنون، أن فرعون علا في الأرض، وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين، «ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون» (2)، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني، وقد تعلم أن الحقّ حقّنا، وأنكم إنما طلبتموه بنا ونهضتم فيه بشيعتنا وخيطتموه بفضلنا، وإن أبانا عليا عليه السلام كان الوصيّ والإمام، فكيف ورثتموه دوننا، ونحن أحياء وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمتّ بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا، ونسبنا وسببنا، وأنّا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم وبنو ابنة فاطمة في الإسلام من بينكم، فأنا أوسط بني هاشم نسبا، وخيرهم أمّا وأبا، لم تلدني العجم، ولم تعرق فيّ أمّهات الأولاد، وأن الله تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا فولدني من النبيّين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه أقدمهم إسلاما، وأوسعهم علما، وأكثرهم جهادا عليّ بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهنّ خديجة بنت خويلد، أول من امن بالله وصلّى القبلة، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشما ولد عليّا مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل جدّيّ
__________
(1) سورة القصص رقم 3.
(2) سورة الشعراء 21.(2/397)
الحسن والحسين. فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في النار، فولدني أرفع الناس درجة في الجنة، وأهون أهل النار عذابا. فأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة، وابن خير أهل النار، ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمّنك على نفسك وولدك، وكلّ ما أصبته إلا حدّا من حدود الله، أو حقا لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك، فأنا أوفى بالعهد منك، وأحرى لقبول الأمان. فأما أمانك الذي عرضت عليّ فأيّ الأمانات هو. أمان ابن هبيرة أم أمان عمك عبد الله ابن عليّ، أم أمان أبي مسلم والسلام.
جواب المنصور
فكتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله. أما بعد، فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك فإذا جلّ فخرك بالنساء لتضلّ به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الاباءء كالعصبة والأولياء، ولقد جعل العم أبا وبدأ به على الوالد الأدنى، فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه السلام: {اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبََائِي إِبْرََاهِيمَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ} (1)، ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي وكفر إثنان أحدهما أبوك، فأما ما ذكرت من النساء وقراباتهنّ، فلو أعطين على قرب الأنساب وحقّ الأحساب لكان الخير كلّه لامنة بنت وهب، ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه، فأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب، فإن الله لم يهد أحدا من ولدها للإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم لدخول الجنة غدا. ولكنّ الله أبى ذلك، فقال: {إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} (2). فأما ما
__________
(1) سورة يوسف: الاية رقم 38.
(2) سورة القصص: الاية رقم 56.(2/398)
ذكرت من فاطمة بنت أسد أمّ عليّ بن أبي طالب، وفاطمة أم الحسن، وأن هاشما ولد عليا مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، فخير الأولين والاخرين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله فإن الله عز وجل أبى ذلك فقال: {مََا كََانَ مُحَمَّدٌ أَبََا أَحَدٍ مِنْ رِجََالِكُمْ} (1). ولكن رسول الله وخاتم النبيّين، ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، غير انها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن تؤمّ، فكيف تورث الإمامة من قبلها، ولقد طلب بها أبوك بكل وجه، فأخرجها تخاصم، ومرّضها سرّا ودفنها ليلا. فأبى الناس إلا تقديم الشيخين، ولقد حضر أبوك، وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بالصلاة غيره ثم أخذ الناس رجلا رجلا فلم يأخذوا أباك فيهم. ثم كان في أصحاب الشورى فكلّ دفعه عنها بايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعدا إلى بيعته فأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده وأفضى أمر جدّك إلى أبيك الحسن فسلّمه إلى معاوية بخرق ودراهم. وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة، فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير حلّه فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه. فأما قولك إن الله اختار لك في الكفر فجعل أباك أهون أهل النار عذابا، فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هيّن، ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الاخر أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (2).
وأما قولك أنك لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمّهات الأولاد، وأنك أوسط بني هاشم نسبا وخيرهم أمّا وأبا، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرّا وقدّمت نفسك على من هو خير منك أولا واخرا، وأصلا وفصلا. فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والد ولده. فانظر ويحك أين تكون من الله غدا، وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عليّ بن
__________
(1) سورة الأحزاب: الاية رقم 40.
(2) سورة الشعراء: الاية رقم 227.(2/399)
الحسين، وهو لأمّ ولد، ولقد كان خيرا من جدّك حسن بن حسن، ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك وجدته أمّ ولد. ثم ابنه جعفر وهو خير منك.
ولقد علمت أن جدك عليا حكّم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به، فاجتمعا على خلعه ثم خرج عمّك الحسين بن عليّ على ابن مرجانة، فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه. ثم أتوا بكم على الأقتاب بغير أوطيه كالسبي المجلوب إلى الشام، ثم خرج منكم غير واحد فقتّلتكم بنو أميّة وحرّقوكم بالنار وصلّبوكم على جذوع النخل، حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم وأورثناكم أرضهم وديارهم، بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار الصلاة المكتوبة كما تلعن الكفرة فعنّفناهم وكفّرناهم وبيّنا فضله وأشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة وظننت أنا لما ذكرنا من فضل عليّ أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلّما منهم، وابتلي أبوك بالدماء، ولقد علمت أن ماثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم وولاية زمزم، وكانت للعباس دون إخواته فنازعنا فيها أبوك إلى عمر، فقضى لنا عمر عليه، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من عمومته أحد حيّا إلا العباس، فكان وارثه دون بني عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلا ولده فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم الحديث، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كرها لمات عمّاك طالب وعقيل جوعا، أو يلحسا جفان عتبة وشيبة فأذهب عنهما العار والشنار، ولقد جاء الإسلام، والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم. ثم فدى عقيلا يوم بدر: فقد منّاكم في الكفر وفديناكم من الأسر وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وحزنا شرف الاباء، وأدركنا من ثأركم ما عجزتم عنه، ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم والسلام.
رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله
قال أبو العباس: وقد ذكرنا رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله وإنا
سنذكرها بتمامها في غير هذا الموضع الذي ابتدأنا ذكرها أولا فيه، وكان سبب هذه الرسالة أفراط خالد في الدالّة على هشام وأنه أخذ ابن حسان النبطي فضربه بالسياط، وكان يقال له سهيل، قال: فبعث بقميصه إلى أبيه وفيه اثار الدم فأدخله أبوه إلى هشام مع ما قد اوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالّة واحتجان الأموال، وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق. فكتب هشام إلى خالد: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين. عنك أمر لم يحتمله لك إلا لما أحبّ من ربّ الصنيعة قبلك، واستتمام معروفه عندك، وكان أمير المؤمنين أحقّ من استصلح ما فسد عليه منك فإن تعد لمثل مقالتك وما بلغ أمير المؤمنين عنك رأى في معاجلتك بالعقوبة، رأيه أن النعمة إذا طالت بالعبد ممتدّة أبطرته فأساء حمل الكرامة، واستقلّ العافية، ونسب ما في يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته. فإذا نزلت به الغير وانكشطت عنه عماية الغيّ والسلطان ذلّ منقادا وندم حسيرا، وتمكن منه عدوّه قادرا عليه قاهرا له، ولو أراد أمير المؤمنين إفسادك لجمع بينك وبين من شهد فلتات خطلك، وعظيم زللك حيث تقول لجلسائك والله ما زادتني ولاية العراق شرفا: ولا ولّاني أمير المؤمنين شيئا لم يكن من قبلي ممن هو دوني يلي مثله، ولعمري لو ابتليت ببعض مقاوم الحجّاج في أهل العراق في تلك المضايق التي لقي لعلمت أنك رجل من بجيلة فقد خرج عليك أربعون رجلا فغلبوك على بيت مالك، وخزائنك حتى قلت أطعموني ماء دهشا وبعلا وجبنا فما استطعتهم إلا بأمان. ثم أخفرت ذمّتك منهم رزين وأصحابه، ولعمري أن لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بخطلك في مجلسك، وجحودك فضله إليك، وتصغير ما أنعم به عليك فحلّ، العقدة ونقض الصنيعة وردّك إلى منزلة أنت أهلها كنت لذلك مستحقا، فهذا جدّك يزيد بن أسد قد حشد مع معاوية في يوم صفّين، وعرّض له دينه ودمه، فما اصطنع إلّا عنده، ولا ولّاه ما اصطنع إليك أمير المؤمنين وولاك. وقبله من أهل اليمن وبيوتاتهم من قبيله أكرم من قبيلتك، من كندة وغسّان وال ذي يزن وذي كلاع وذي رعين في نظرائهم من
بيوتات قومهم. كلّهم أكرم أوّلة وأشرف أسلافا من ال عبد الله بن يزيد، ثم اثرك أمير المؤمنين بولاية العراق، بلا بيت رفيع، ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك، وتتقدمك في المحافل والمجامع عند بدأة الأمور، وأبوب الخلفاء. ولولا ما أحبّ أمير المؤمنين من ردّ غربك لعاجلك بالتي كنت أهلها وإنها منك لقريب مأخذها سريع مكروهها فيها إن أبقى الله أمير المؤمنين زوال نعمه عنك، وحلول نقمه بك في ما ضيّعت وارتكبت بالعراق من استعانتك بالمجوس، والنصارى، وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم، وتسلطهم عليهم، نزع بك إلى ذلك عرق سوء فيهم من التي قامت عنك، فبئس الجنين أنت يا عديّ نفسه، وإن الله عز وجل لما رأى إحسان أمير المؤمنين إليك، وسوء قيامك بشكره، قلب قلبه فأسخطه عليك حتى قبحت أمورك عنده، وايسه من شكرك ما ظهر من كفرك النعمة عندك، فأصبحت تنتظر سقوط النعمة، وزوال الكرامة وحلول الخزي. فتأهب لنوازل عقوبة الله بك، فإن الله عليك أوجد ولما عملت أكره. فقد أصبحت وذنوبك عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبكّتك إلّا راتبا بين يديه، وعنده من يقرّرك بها ذنبا ذنبا، ويبكتك بما أتيت أمرا أمرا. فقد نسيته وأحصاه الله عليك، ولقد كان لأمير المؤمنين زاجر عنك في ما عرفك به من التسرّع إلى حماقتك في غير واحدة، منها القرشيّ الذي تناولته بالحجاز ظالما فضربك الله بالصوت الذي ضربته به مفتضحا على رؤوس رعيتك، ولعل أمير المؤمنين يعود لك بمثل ذلك فإن يفعل فأهله أنت، وإن يصفح فأهله هو. ومن ذلك ذكرك زمزم وهي سقيا الله وكرامته لعبد المطلب، وهذا الحيّ من قريش تسميها أمّ جعار: فلا سقاك الله من حوض رسوله وجعل شرّكما لخيركما الفداءء. وو الله أن لو لم يستدلل أمير المؤمنين على ضعف نحائزك وسوء تدبيرك، إلا بغسالة دخائلك وبطانتك وعمّالك، والغالبة عليك جاريتك(2/400)
قال أبو العباس: وقد ذكرنا رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله وإنا
سنذكرها بتمامها في غير هذا الموضع الذي ابتدأنا ذكرها أولا فيه، وكان سبب هذه الرسالة أفراط خالد في الدالّة على هشام وأنه أخذ ابن حسان النبطي فضربه بالسياط، وكان يقال له سهيل، قال: فبعث بقميصه إلى أبيه وفيه اثار الدم فأدخله أبوه إلى هشام مع ما قد اوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالّة واحتجان الأموال، وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق. فكتب هشام إلى خالد: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين. عنك أمر لم يحتمله لك إلا لما أحبّ من ربّ الصنيعة قبلك، واستتمام معروفه عندك، وكان أمير المؤمنين أحقّ من استصلح ما فسد عليه منك فإن تعد لمثل مقالتك وما بلغ أمير المؤمنين عنك رأى في معاجلتك بالعقوبة، رأيه أن النعمة إذا طالت بالعبد ممتدّة أبطرته فأساء حمل الكرامة، واستقلّ العافية، ونسب ما في يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته. فإذا نزلت به الغير وانكشطت عنه عماية الغيّ والسلطان ذلّ منقادا وندم حسيرا، وتمكن منه عدوّه قادرا عليه قاهرا له، ولو أراد أمير المؤمنين إفسادك لجمع بينك وبين من شهد فلتات خطلك، وعظيم زللك حيث تقول لجلسائك والله ما زادتني ولاية العراق شرفا: ولا ولّاني أمير المؤمنين شيئا لم يكن من قبلي ممن هو دوني يلي مثله، ولعمري لو ابتليت ببعض مقاوم الحجّاج في أهل العراق في تلك المضايق التي لقي لعلمت أنك رجل من بجيلة فقد خرج عليك أربعون رجلا فغلبوك على بيت مالك، وخزائنك حتى قلت أطعموني ماء دهشا وبعلا وجبنا فما استطعتهم إلا بأمان. ثم أخفرت ذمّتك منهم رزين وأصحابه، ولعمري أن لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بخطلك في مجلسك، وجحودك فضله إليك، وتصغير ما أنعم به عليك فحلّ، العقدة ونقض الصنيعة وردّك إلى منزلة أنت أهلها كنت لذلك مستحقا، فهذا جدّك يزيد بن أسد قد حشد مع معاوية في يوم صفّين، وعرّض له دينه ودمه، فما اصطنع إلّا عنده، ولا ولّاه ما اصطنع إليك أمير المؤمنين وولاك. وقبله من أهل اليمن وبيوتاتهم من قبيله أكرم من قبيلتك، من كندة وغسّان وال ذي يزن وذي كلاع وذي رعين في نظرائهم من
بيوتات قومهم. كلّهم أكرم أوّلة وأشرف أسلافا من ال عبد الله بن يزيد، ثم اثرك أمير المؤمنين بولاية العراق، بلا بيت رفيع، ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك، وتتقدمك في المحافل والمجامع عند بدأة الأمور، وأبوب الخلفاء. ولولا ما أحبّ أمير المؤمنين من ردّ غربك لعاجلك بالتي كنت أهلها وإنها منك لقريب مأخذها سريع مكروهها فيها إن أبقى الله أمير المؤمنين زوال نعمه عنك، وحلول نقمه بك في ما ضيّعت وارتكبت بالعراق من استعانتك بالمجوس، والنصارى، وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم، وتسلطهم عليهم، نزع بك إلى ذلك عرق سوء فيهم من التي قامت عنك، فبئس الجنين أنت يا عديّ نفسه، وإن الله عز وجل لما رأى إحسان أمير المؤمنين إليك، وسوء قيامك بشكره، قلب قلبه فأسخطه عليك حتى قبحت أمورك عنده، وايسه من شكرك ما ظهر من كفرك النعمة عندك، فأصبحت تنتظر سقوط النعمة، وزوال الكرامة وحلول الخزي. فتأهب لنوازل عقوبة الله بك، فإن الله عليك أوجد ولما عملت أكره. فقد أصبحت وذنوبك عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبكّتك إلّا راتبا بين يديه، وعنده من يقرّرك بها ذنبا ذنبا، ويبكتك بما أتيت أمرا أمرا. فقد نسيته وأحصاه الله عليك، ولقد كان لأمير المؤمنين زاجر عنك في ما عرفك به من التسرّع إلى حماقتك في غير واحدة، منها القرشيّ الذي تناولته بالحجاز ظالما فضربك الله بالصوت الذي ضربته به مفتضحا على رؤوس رعيتك، ولعل أمير المؤمنين يعود لك بمثل ذلك فإن يفعل فأهله أنت، وإن يصفح فأهله هو. ومن ذلك ذكرك زمزم وهي سقيا الله وكرامته لعبد المطلب، وهذا الحيّ من قريش تسميها أمّ جعار: فلا سقاك الله من حوض رسوله وجعل شرّكما لخيركما الفداءء. وو الله أن لو لم يستدلل أمير المؤمنين على ضعف نحائزك وسوء تدبيرك، إلا بغسالة دخائلك وبطانتك وعمّالك، والغالبة عليك جاريتك(2/401)
قال أبو العباس: وقد ذكرنا رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله وإنا
سنذكرها بتمامها في غير هذا الموضع الذي ابتدأنا ذكرها أولا فيه، وكان سبب هذه الرسالة أفراط خالد في الدالّة على هشام وأنه أخذ ابن حسان النبطي فضربه بالسياط، وكان يقال له سهيل، قال: فبعث بقميصه إلى أبيه وفيه اثار الدم فأدخله أبوه إلى هشام مع ما قد اوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالّة واحتجان الأموال، وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق. فكتب هشام إلى خالد: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين. عنك أمر لم يحتمله لك إلا لما أحبّ من ربّ الصنيعة قبلك، واستتمام معروفه عندك، وكان أمير المؤمنين أحقّ من استصلح ما فسد عليه منك فإن تعد لمثل مقالتك وما بلغ أمير المؤمنين عنك رأى في معاجلتك بالعقوبة، رأيه أن النعمة إذا طالت بالعبد ممتدّة أبطرته فأساء حمل الكرامة، واستقلّ العافية، ونسب ما في يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته. فإذا نزلت به الغير وانكشطت عنه عماية الغيّ والسلطان ذلّ منقادا وندم حسيرا، وتمكن منه عدوّه قادرا عليه قاهرا له، ولو أراد أمير المؤمنين إفسادك لجمع بينك وبين من شهد فلتات خطلك، وعظيم زللك حيث تقول لجلسائك والله ما زادتني ولاية العراق شرفا: ولا ولّاني أمير المؤمنين شيئا لم يكن من قبلي ممن هو دوني يلي مثله، ولعمري لو ابتليت ببعض مقاوم الحجّاج في أهل العراق في تلك المضايق التي لقي لعلمت أنك رجل من بجيلة فقد خرج عليك أربعون رجلا فغلبوك على بيت مالك، وخزائنك حتى قلت أطعموني ماء دهشا وبعلا وجبنا فما استطعتهم إلا بأمان. ثم أخفرت ذمّتك منهم رزين وأصحابه، ولعمري أن لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بخطلك في مجلسك، وجحودك فضله إليك، وتصغير ما أنعم به عليك فحلّ، العقدة ونقض الصنيعة وردّك إلى منزلة أنت أهلها كنت لذلك مستحقا، فهذا جدّك يزيد بن أسد قد حشد مع معاوية في يوم صفّين، وعرّض له دينه ودمه، فما اصطنع إلّا عنده، ولا ولّاه ما اصطنع إليك أمير المؤمنين وولاك. وقبله من أهل اليمن وبيوتاتهم من قبيله أكرم من قبيلتك، من كندة وغسّان وال ذي يزن وذي كلاع وذي رعين في نظرائهم من
بيوتات قومهم. كلّهم أكرم أوّلة وأشرف أسلافا من ال عبد الله بن يزيد، ثم اثرك أمير المؤمنين بولاية العراق، بلا بيت رفيع، ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك، وتتقدمك في المحافل والمجامع عند بدأة الأمور، وأبوب الخلفاء. ولولا ما أحبّ أمير المؤمنين من ردّ غربك لعاجلك بالتي كنت أهلها وإنها منك لقريب مأخذها سريع مكروهها فيها إن أبقى الله أمير المؤمنين زوال نعمه عنك، وحلول نقمه بك في ما ضيّعت وارتكبت بالعراق من استعانتك بالمجوس، والنصارى، وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم، وتسلطهم عليهم، نزع بك إلى ذلك عرق سوء فيهم من التي قامت عنك، فبئس الجنين أنت يا عديّ نفسه، وإن الله عز وجل لما رأى إحسان أمير المؤمنين إليك، وسوء قيامك بشكره، قلب قلبه فأسخطه عليك حتى قبحت أمورك عنده، وايسه من شكرك ما ظهر من كفرك النعمة عندك، فأصبحت تنتظر سقوط النعمة، وزوال الكرامة وحلول الخزي. فتأهب لنوازل عقوبة الله بك، فإن الله عليك أوجد ولما عملت أكره. فقد أصبحت وذنوبك عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبكّتك إلّا راتبا بين يديه، وعنده من يقرّرك بها ذنبا ذنبا، ويبكتك بما أتيت أمرا أمرا. فقد نسيته وأحصاه الله عليك، ولقد كان لأمير المؤمنين زاجر عنك في ما عرفك به من التسرّع إلى حماقتك في غير واحدة، منها القرشيّ الذي تناولته بالحجاز ظالما فضربك الله بالصوت الذي ضربته به مفتضحا على رؤوس رعيتك، ولعل أمير المؤمنين يعود لك بمثل ذلك فإن يفعل فأهله أنت، وإن يصفح فأهله هو. ومن ذلك ذكرك زمزم وهي سقيا الله وكرامته لعبد المطلب، وهذا الحيّ من قريش تسميها أمّ جعار: فلا سقاك الله من حوض رسوله وجعل شرّكما لخيركما الفداءء. وو الله أن لو لم يستدلل أمير المؤمنين على ضعف نحائزك وسوء تدبيرك، إلا بغسالة دخائلك وبطانتك وعمّالك، والغالبة عليك جاريتك
الرائفة بائعة الفهود، ومستعملة الرجال، مع ما أتلفت من مال الله في المبارك فإنك ادعيت أنك أنفقت عليه إثني عشر ألف ألف درهم، والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما
احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أمور المسلمين، وسلّطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك، تجمع إليك الدهاقين هدايا النيروز والمهرجان حابسا لأكثره، رافعا لأقلّة، مع مخابث مساويك التي قد أخّر أمير المؤمنين تقريرك بها ومناصبتك أمير المؤمنين في مولاه حسّان ووكيله في ضياعه وأحوازه في العراق، وإقدامك على ابنه بما أقدمت به. وسيكون لأمير المؤمنين في ذلك نبأ إن لم يعف عنك، ولكنه يظنّ أن الله طالبك بأمور أتيتها غير تارك لتكشيفك عنها، وحملك الأموال ناقصة عن وظائفها التي جباها عمر بن هبيرة، وتوجيهك. أخاك أسد إلى خرسان، مظهرا العصبيّة بها متحاملا على هذا الحيّ من مضر قد أتت أمير المؤمنين بتصغيره بهم، واحتقاره لهم، وركوبه إياهم الثقات ناسيا لحديث زرنب، وقصص الهجريين كيف كانت في أسد بن كرر، فإذا خلوت أو توسطت ملأ فاعرف نفسك وخف رواجع البغي عليك وعاجلات النقم فيك. واعلم أن ما بعده كتاب أمير المؤمنين هذا أشدّ عليك، وأفسد لك، وقبل أمير المؤمنين خلف منك كثير في أحسابهم وبيوتاتهم وأديانهم. وفيهم عوض منك، والله من وراء ذلك. وكتب عبد الله بن سالم سنة تسع عشرة ومائة.(2/402)
الرائفة بائعة الفهود، ومستعملة الرجال، مع ما أتلفت من مال الله في المبارك فإنك ادعيت أنك أنفقت عليه إثني عشر ألف ألف درهم، والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما
احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أمور المسلمين، وسلّطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك، تجمع إليك الدهاقين هدايا النيروز والمهرجان حابسا لأكثره، رافعا لأقلّة، مع مخابث مساويك التي قد أخّر أمير المؤمنين تقريرك بها ومناصبتك أمير المؤمنين في مولاه حسّان ووكيله في ضياعه وأحوازه في العراق، وإقدامك على ابنه بما أقدمت به. وسيكون لأمير المؤمنين في ذلك نبأ إن لم يعف عنك، ولكنه يظنّ أن الله طالبك بأمور أتيتها غير تارك لتكشيفك عنها، وحملك الأموال ناقصة عن وظائفها التي جباها عمر بن هبيرة، وتوجيهك. أخاك أسد إلى خرسان، مظهرا العصبيّة بها متحاملا على هذا الحيّ من مضر قد أتت أمير المؤمنين بتصغيره بهم، واحتقاره لهم، وركوبه إياهم الثقات ناسيا لحديث زرنب، وقصص الهجريين كيف كانت في أسد بن كرر، فإذا خلوت أو توسطت ملأ فاعرف نفسك وخف رواجع البغي عليك وعاجلات النقم فيك. واعلم أن ما بعده كتاب أمير المؤمنين هذا أشدّ عليك، وأفسد لك، وقبل أمير المؤمنين خلف منك كثير في أحسابهم وبيوتاتهم وأديانهم. وفيهم عوض منك، والله من وراء ذلك. وكتب عبد الله بن سالم سنة تسع عشرة ومائة.(2/403)
خاتمة الكتاب
(هذا الكتاب قد وفّيناه جميع حقوقه. ووفينا بجميع شروطه ألا ما أذهل عنه النسيان. فإنه قلما يخلى من ذلك، ونحن خاتموه بأشعار طريفة واخر ذلك الذي نختم به ايات من كتاب الله عز وجل بالتوقيف على معانيها إن شاء الله) قال الشاعر:
أذكر مجالس من بني أسد ... بعدوا وحنّ إليهم القلب
الشرق منزلنا ومنزلهم ... غرب وأنيّ الشرق والغرب
من كل أبيض جلّ زينته ... مسك أحمّ وصارم عضب
وقال اخر:
حياة أبي العوّام زين لقومه ... لكلّ امرىء قاس الأمور وجرّبا
وتعتب أحيانا عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقي من الناس أعتبا
وقال مسلم:
حياتك يا ابن سعدان بن يحيى ... حياة للمكارم والمعالي
جلبت لك الثناء فجاء عفوا ... ونفس الشكر مطلقة العقال
وترجعني اليك وإن نأت بي ... دياري عنك تجربة الرجال
وقيل في المثل: المبالغة في النصيحة تقع بك على عظيم الظنّة، وأنشدني العباس بن الفرج الرياشي:
وكم سقت في اثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد الظنّة المتنصّح
وأنشدني الرياشيّ:(2/405)
وكم سقت في اثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد الظنّة المتنصّح
وأنشدني الرياشيّ:
إذا الأمر أغنى عنك حنويه فاجتنب ... معرّة أمر أنت عنه بمعزل
وقال العتّابيّ:
لا ترج رجعة مذنب ... خلط احتجاجا باعتذار
وقال أيضا:
وفيت كلّ خليل ودّني ثمنا ... إلا المؤمّل دولاتي وأيامي
وقيل للعتابي: ما أقرب البلاغة؟ قال: ألّا يؤتى السامع من سوء إفهام القائل، ولا يؤتى القائل من سوء فهم السامع. وقال ابن يسير:
اقدر لرجلك قبل الخطو منزلها ... فمن علا زلقا عن غرّة زلقا
وكان يقال: اصمت لتفهم، واذكر لتعلم، وقل لتذلق. ونذكر ايات من القران ربما غلط في مجازها النحويون، قال الله عز وجل: {إِنَّمََا ذََلِكُمُ الشَّيْطََانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيََاءَهُ} (1). فجاز الاية، إن المفعول الأول محذوف، ومعناه يخوفكم من أوليائه. وفي القران: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2)، والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الاية: فمن كان منكم شاهدا بلده في الشهر فليصمه والتقدير. فمن شهد منكم أي فمن كان شاهدا في شهر رمضان فليصمه، نصب الظروف لا نصب المفعول به. وفي القران في مخاطبة فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (3). فليس معنى ننجيك نخلّصك، ولكن نلقيك على نجوة من الأرض ببدنك، بدرعك يدلّ على ذلك لتكون لمن خلقك اية. وفي القران: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيََّاكُمْ أَنْ}
__________
(1) سورة آل عمران: الاية 175.
(2) سورة البقرة: الاية رقم 185.
(3) سورة يونس: الاية رقم 92.(2/406)
{تُؤْمِنُوا بِاللََّهِ رَبِّكُمْ} (1)، فالوقف يخرجون الرسول، وإياكم. أي يخرجونكم لأن تؤمنوا بالله ربكم.
وصلى الله على محمد خاتم النبيين ونستغفر الله ما قلناه من عمد وقصد وزلل وخلل.
__________
(1) سورة الممتحنة: الاية رقم 1.(2/407)
الفهرس
46 - باب في ما يريح القارىء ويصرف عنه الملل 5 الوليد بن يزيد يفتخر 8
ضروب الكناية 8
متابعة ضروب الكناية 10
في الساكن والمتحرك 14
من غزل ذي الرمة 15
من طرائف العشاق 15
هدية أبي العتاهية إلى أمير المؤمنين 17
من نسيب ذي الرمة 18
من أحاديث عمر بن الخطاب 19
في صفات الله 21
بين الكذب وإفشاء السر 25
بكر بن النطاح يمدح مالكا الخزاعي 28
مدح الخليع لعاصم الغساني 28
من الأشعار التي قيلت في سعيد بن سلم 30
في رثاء سعيد بن سلم 30
مبلغ احتقار العرب لباهلة 33
في مجلس قتيبة بن مسلم 34
مديح للأعشى 36
شرح هذا الشعر 37(2/409)
مديح للأعشى 36
شرح هذا الشعر 37
عمارة بن عقيل يهجو بني حنيفة 43
للوليد بن عقبة 44
في رثاء عثمان 46
47 - باب من تشابيه العرب 49 في المدح والذم 55
من أعاجيب التشابيه 56
مما قيل في الخمريات 61
من مدح يزيد بن مزيد 61
من أشعار الهجاء 64
مما يستعمل عند العرب لتشابيه النساء 65
من وصف العرب للرياح 68
نذر لبيد بن ربيعة 71
في وصف البر 74
للسليك يرثي فرسه 76
من وصايا العرب 79
ما قيل في الترفع عن الوضع 79
حلم الأحنف 82
في غزل ابن هبيرة 87
شرح الأبيات 88
للمهلهل 90
الراجز يصف غيما 91
بعض ما قيل في الايات القرانية 92
حديث العجلي مع هشام بن عبد الملك 93
من مدح عمر بن أبي ربيعة 99
من التشابيه 103
في نوح الحمام 112
في الغناء 114
عودة إلى التشبيه 115(2/410)
في الغناء 114
عودة إلى التشبيه 115
من تشابيه العرب 119
من مدح المهدي 122
من خمريات أبي نواس 123
في وصف الفرس 124
في وصف الخمر 126
في الهجاء 131
48 - باب في فنون الشعر التي استشهد بها العرب 135 من مدح للحاج 135
في الذم 136
مما قيل في البخل 137
49 - باب من أخبار الخوارج 141 في بيعة الخوارج 141
من حديث مع عمر بن الخطاب 143
حديث عمران بن حطان 144
حديث عمران بن حطان مع عبد الملك 145
من تفسير لفظة المثوى 148
مناظرة علي للخوارج 155
الراعي يخاطب عبد الملك 156
محاربة المهلب لأصحاب نافع بن الأزرق 157
حادثة الرجل الأسود مع رسول الله 161
بشار بن برد يهجو واصل بن عطاء 163
عودة إلى الخوارج ومحاربة علي لهم 165
اتفاق ثلاثة على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص 165
في رثاء علي بن أبي طالب 169
من أوقاف علي رضي الله عنه 172
حديث علي مع الخوارج 174
غيلان بن خرشة عند زياد 177(2/411)
حديث علي مع الخوارج 174
غيلان بن خرشة عند زياد 177
من الخمريات 180
عودة إلى الخوارج 181
في تفسير الايات القرانية 182
هجاء جرير للمهلب 184
حوار نافع بن الأزرق وابن عباس 185
من قصائد عمر بن أبي ربيعة 178
في تفسير أبيات عمر 189
بعض ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 189
إعجاب عبد الملك برجل من الخوارج 190
وفادة أحدهم على معاوية 191
سؤال أصحاب النخيلة في سبأ 194
أول من خرج بعد مقتل علي 195
خبر المستورد والخارجي وادابه 196
مما جرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 196
خروج قريب مرة وزحاف الطائي 198
قتل امرأة في الخوارج في البلجاء 200
أخبار مرداس بنت حدير 201
عيس بن فاتك يمدح الخوارج 204
عمران بن حطان يرثي مرداسا 206
مقتل عباد بن أخضر المازني 207
سياسة زياد مع الخوارج 210
المختار بن أبي عبيد الثقفي ودعوته 212
50 - باب اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة 217 عودة إلى الخوارج 218
خروج الخوارج 220
خروج الأزارقة إلى ابن الزبير 221
ما حدث مع الأزارقة في البصرة 225(2/412)
خروج الأزارقة إلى ابن الزبير 221
ما حدث مع الأزارقة في البصرة 225
في قتل عثمان 229
مقتل نافع بن الأزرق 232
في شرح بعض ما ورد من ألفاظ 234
51 - باب فعل في النسب 237 عودة إلى الخوارج الأزارقة وتكفير من قتل مسلما 240
وقائع الأزارقة مع ولاة ابن الزبير 241
إستنجاد أهل البصرة بالأحنف 241
52 - باب النسبة إلى المضاف 239 خطبة المهلب في أصحابه 246
في ما يستحسن من الكذب 247
أحد بني تميم يذم المهلب 248
في شرح لفظة الضمار 250
في شرح لفظة كائن 251
قتال المهلب للخوارج 251
كتاب المهلب إلى الحارث 255
مبايعة الخوارج للزبير 256
توليه مصعب بن الزبير على البصرة 258
مشاورة بين مصعب والناس بشأن الخوارج
وولاية عمر بن عبيد الله 259
مقتل عمرو بن هصيص 260
ما دار بين خالد بن حصوان وبلال ابن أبي مروة 264
حصار الخوارج لعتاب بن ورقاء 265
الحديث على مواقع لولا في اللغة 266
مبايعة الخوارج لقطري بعد مقتل الزبير 267
طرد الخوارج من الأهواز 269
فيروز حصين وماثره 270
بعض ما حدث مع فيروز 271
بين الصعب بن يزيد والمهلب 275(2/413)
بعض ما حدث مع فيروز 271
بين الصعب بن يزيد والمهلب 275
كتاب خالد إلى عبد الملك 277
موت بشر 279
ولاية الحجاج للعراق 280
كتاب الحجاج إلى المهلب 282
جواب المهلب 283
البراء بن قبيصة رسول الحجاج إلى المهلب 286
إرسال الحجاج الجراح للمهلب 288
كتاب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء 289
وقوع الخلاف بين المهلّب وعتاب 291
دماء المهلب 291
إنقسام الخوارج وانضمام بعضهم إلى عبد ربه 298
رسول الحجاج للمهلّب 299
كتاب الحجاج إلى المهلّب 301
ما قاله عبد ربه لأصحابه مع اشتداد الحصار 302
اشتداد الحرب بين الفريقين 305
رسولا المهلب إلى الحجاج 306
كتاب الحجاج إلى المهلب 308
شرح الأبيات الواردة هنا 309
53 - باب في اختصار الخطب والتحميد والمواعظ 317 مصرع زيد بن علي بن الحسين 322
في تفسير بعض الألفاظ العربية 323
مكانة أسامة بن زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم 324
الموالي عند العرب 325
في أشعار الرثاء 326
شرح شعر الخنساء في رثاء صخر 350
رثاء الخنساء لأخيها معاوية 351
عودة إلى تفسير ما قالت الخنساء 352(2/414)
رثاء الخنساء لأخيها معاوية 351
عودة إلى تفسير ما قالت الخنساء 352
مقتل معاوية أخي الخنساء 354
تضيق العرب للنساء 368
54 - باب في من جزعوا عند الموت 373 55باب طريف من أشعار المحدثين 381 56باب ذكر الأذواء من اليمين في الإسلام 387 57باب قد تقدم ذكرنا إياه وعدنا استقصاءه 391 ما قيل في عزاء يزيد بن معاوية بأبيه 394
كتاب المنصور إلى محمد بن عبد الله 396
جواب محمد إلى المنصور 397
جواب المنصور 398
رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله 400
خاتمة الكتاب 405(2/415)