الجزء الأول
للعلّامة أبي العبّاس محمّد بن يزيد المعروف بالمبرد النحوي المتوفى سنة 285هـ
سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين: وهي كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لإبن قتيبة، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها 1هـ.(1/4)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد واله وسلم حدثنا أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز، قال: حدثنا أبو عثمان سعيد بن جابر، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش قراءة عليه، قال: قرىء لي هذا الكتاب على أبي العباس محمد بن يزيد المبرّد.
مقدمة الكتاب
الحمد لله حمدا كثيرا يبلغ رضاه ويوجب مزيده، ويجير من سخطه، وصلى الله على محمد خاتم النبيين ورسول رب العالمين، صلاة تامة زاكية، تؤدّي حقّه، وتزلفه عند ربه.
قال أبو العباس هذا كتاب ألّفناه يجمع ضروبا من الاداب، ما بين كلام منثور، وشعر مرصوف، ومثل سائر، وموعظة بالغة، واختيار من خطبة شريفة، ورسالة بليغة، والنيّة فيه أن نفسّر كل ما وقع في هذا الكتاب من كلام غريب، أو معنى مستغلق، وأن نشرح ما يعرض فيه من الإعراب شرحا شافيا حتى يكون هذا الكتاب بنفسه مكتفيا، وعن أن يرجع إلى أحد في تفسيره مستغنيا، وبالله التوفيق والحول والقوة وإليه مفزعنا في درك كل طلبة، والتوفيق لما فيه صلاح أمورنا من عمل بطاعته، وعقد يرضاه، وقول صادق يرفعه عمل صالح، إنه على كل شيء قدير.(1/5)
في شرح معنى فزع وغيث
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار في كلام جرى: إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع (1)، الفزع في كلام العرب على وجهين، أحدهما ما تستعمله العامة تريد به الذعر، والاخر الاستنجاد والاستصراخ، من ذلك قول سلامة بن جندل:
كنّا إذا ما أتانا صارخ (2) فزع (3) ... كان الصّراخ له قرع الظّنابيب (4)
يقول: إذا أتانا مستغيث كانت إغاثته الجدّ في نصرته، يقال قرع لذلك الأمر ظنبو به، إذا جدّ فيه ولم يفتر، ويشتق من هذا المعنى أن يقع فزع في معنى أغاث كما قال الكلحبة اليربوعيّ:
(قال أبو الحسن الكلحبة لقبه واسمه هبيرة وهو من بني عرين بن يربوع والنسب إليه عرينيّ، وكثير من الناس يقول: عرنيّ ولا يدري: وعرينة من اليمن، قال جرير يهجو عرين بن يربوع:
عرين من عرينة ليس منا ... برئت إلى عرينة من عرين
فقلت لكأس الجميها (5) فإني ... حللت الكثيب (6) من زرود لا فزعا
__________
(1) الطمع: قسمة المال توزيع المغانم.
(2) الصارخ: المستغيث.
(3) الفزع: الذعر.
(4) الظنابيب: كناية عن الاسراع والجد في الاغاثة والنجدة.
(5) الجميها: يقصد هنا الفرس. أي شدي وثاقها.
(6) الكثيب: تل من الرمل.(1/7)
يقول لأغيث، وكأس اسم جارية وإنما أمرها بإلحام فرسه ليغيث، والظنبوب مقدّم عظم الساق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة، أحاسنكم (1) أخلاقا الموطّؤن أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجالس يوم القيامة، الثرثارون المتفيهقون (2) قوله صلى الله عليه وسلم الموطؤن أكنافا مثل، وحقيقته أن التوطئة هي التذليل والتمهيد، يقال دابة وطيء يا فتى وهو الذي لا يحرّك راكبه في مسيره، وفراش وطيء إذا كان وثيرا لا يؤذي جنب النائم عليه، فأراد القائل بقوله موطّأ الأكناف، إن ناحيته يتمكن فيها صاحبها غير مؤذيّ ولا ناب به موضعه.
(قال أبو العباس): حدثني العباس بن الفرج الرّياشيّ قال: حدثني الأصمعيّ قال: قيل لأعرابي: وهو المنتجع بن نبهان، ما السميدع؟ فقال السيد الموطّأ الأكناف، وتأويل الأكناف الجوانب، يقال: في المثل فلان في كنف فلان، كما يقال فلان في ظل فلان، وفي ذرى فلان وفي ناحية فلان وفي حيّز فلان، وقوله صلى الله عليه وسلم: الثرثارون يعني الذين يكثرون الكلام تكلّفا وتجاوزا وخروجا عن الحق، وأصل هذه اللفظة من العين الواسعة من عيون الماء، يقال عين ثرثارة وكان يقال لنهر بعينه الثرثار، وإنما سمي به لكثرة مائه.
قال الأخطل واسمه غياث بن غوث يكنّى أبا مالك ويلقب بدوبل والدوبل الخنزير:
لعمري لقد لاقت سليم وعامر (3) ... على جانب الثرثار راغية البكر (4)
__________
(1) أحاسنكم: جمع أحسن. اسم تفضيل الغدير أي امتلاء ماء.
(2) المتفيهقون: من فهق (بكسر بين فتحتين).
(3) سليم: كزبير، قبيلة من قيس عيلان أو قبيلة جذام، وعامر قبيلة أيضا من قبائل العرب ولعله أراد عامر بن صعصعة.
(4) راغية البكر: ضربه لكثرة من قتل منهم في ذلك اليوم.(1/8)
قوله راغية البكر، أراد أن بكر ثمود رغا (1) فيهم، فأهلكوا، فضربته العرب مثلا وأكثرت فيه، قال علقمة بن عبدة الفحل:
رغا فوقهم سقب السماء فداحض ... بشكّته لم يستلب وسليب (2)
(قال أبو الحسن (3) الداحض الساقط والداحض أيضا الزالق) وكذلك إذا لم تضعّف الثاء فقلت عين ثرّة، فإنما معناها غزيرة واسعة قال عنترة:
جادت (4) عليها كلّ عين ثرّة ... فتركن كلّ حديقة كالدرهم
قال أبو العباس: وليست الثرة عند النحويين البصريين من لفظة الثرثارة، ولكنها في معناها، ويجب أن يكون من الثّرة ثرّارة.
وقوله صلى الله عليه وسلم المتفيهقون إنما هو بمنزلة قوله الثرثارون وتوكيد له، ومتفيهق متفيعل، من قولهم فهق الغدير، يفهق إذا امتلأ ماء فلم يكن فيه موضع مزيد كما قال الأعشى:
نفى الذمّ عن رهط المحلّق (5) جفنة (6) ... كجابية (7) الشيخ العراقيّ تفهق
كذا ينشده أهل البصرة وتأويله عندهم: إن العراقيّ إذا تمكّن من الماء ملأ جابيته لأنه حضريّ فلا يعرف مواقع الماء ولا محالّه.
(قال أبو العباس): وسمعت أعرابية تنشد:
(قال أبو الحسن: هي أمّ الهيثم الكلابيّة من ولد المحلّق وهي راوية أهل
__________
(1) الرغاء: صوت ضجيج، البكر: ناقة ثمود، كناية عن شدة العذاب.
(2) السليب والمسلوب: نزل بهم القضاء وحل بهم العذاب.
(3) أبو الحسن هو علي بن سليمان الأخفش الصغير، راوي هذا الكتاب عن أبي العباس.
(4) جادت العين: كثر دمعها وهنا تشبيه منافذ السحاب التي ينزل منها الماء بالعيون التي تجود بالدموع واستعار هذا لذاك وشبه مواضع الماء التي يقر فيها بالدرهم في الاستدارة والصفاء.
(5) الرهط: قوم الرجل وقبيلته والمحلق كمعظهم لقب عبد العزي بن صنم.
(6) جفنة: القصعة.
(7) الجابية: الحوض الضخم وهنا شبه الجفنة فيها الطعام بالحوض العظيم الضخم وقد امتلأ ماء فلم(1/9)
الكوفة) كجابية السيح تريد النهر الذي يجري على جابيته فماؤها لا ينقطع لأن النهر يمدّه.
من أقوال أبي بكر في مرضه
ومثل قول البصريين في ما ذكروا به العراقيّ الشيخ قول الشاعر (قال أبو الحسن هو ذو الرمّة):
لها (1) ذنب ضاف ودفرى (2) أسيلة ... وخدّ كمراة الغريبة أسجح (3)
يقول: إن الغريبة لا ناصح لها في وجهها لبعدها عن أهلها، فمراتها أبدا مجلوّة لفرط حاجتها إليها، وتصديق ما فسرناه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يريد الصدق في المنطق والقصد، وترك ما لا يحتاج إليه، قوله لجرير بن عبد الله البجليّ: يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف.
قال أبو العباس): ومما يؤثر (4) من حكيم الأخبار وبارع الاداب ما حدّثنا به عن عبد الرحمن بن عوف، وهو أنه قال دخلت يوما على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في علّته التي مات فيها، فقلت له أراك بارئا (5) يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما أنّي على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عليّ من وجعي، إني ولّيت أموركم خيركم في نفسي فكلّكم ورم أنفه (6) أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتّخذنّ نضائد
__________
يكن فيه موضع زيادة، يصفه بالكرم والجود والسخاء.
(1) لها: الضمير للفرس، وذنب ضاف سابغ كثير الشعر.
(2) الذفري: بالكسر من جميع الحيوان، هي العظم الشاخص، خلق الأذن والجمع ذفارى والاسيل والاملس المستوي وقد أسل ككرم.
(3) الأسجح: الحسن المعتدل، يصفها بجمال الخلق وحسن الوصف وشبه خدها بمراة الغريبة في الملاسة والصفاء.
(4) يؤثر: يعرف يتداول.
(5) بارئا: اسم فاعل من برء: أي شافيا.
(6) ورم أنقه: غضب والمراد بالأمر أمر الخلافة وأراد بخيرهم في نفسه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إني اخترت أن أولي عليكم من هو خيركم في ظني وعقيدتي فكل واحد منكم معاشر المهاجرين غضب أن يكون لعمر الأمر من دونه، فهذا هو الذي كان أشد على أبي بكر في وجعه.(1/10)
الديباج وستور الحرير، ولتألمنّ النوم على الصوف الأذربيّ كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان (1)، والذي نفسي (2) بيده لأن يقدّم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، يا هادي (3) الطريق جرت إنما هو والله الفجر أو البجر، فقلت خفّض (4) عليه يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا يهيضك (5) إلى ما بك فو الله ما زلت صالحا مصلحا لا تأس (6) على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخلّيت بالأمر وحدك فما رأيت إلا خيرا، قوله نضائد الديباج واحدتها نضيدة وهي الوسادة وما ينضد من المتاع.
قال الراجز:
وقرّبت خدّامها الوسائدا ... حتى إذا ما علوا النضائدا
سبّحت ربي قائما وقاعدا
وقد تسمي العرب ذلك النضد والمعنى واحد، إنما هو ما نضد في البيت من متاع.
قال: قال النابغة: ورفّعته (7) إلى السجفين (8) فالنضد. ويقال نضدت المتاع إذا ضممت بعضه إلى بعض فهذا أصله.
__________
(1) حسك السعدان لعل المراد هنا شوكة يقسم أبو بكر بالله سبحانه أن الدنيا ستفتح عليكم وتكثر لديكم فتميلون إلى زينتها وزخرفها ولا تبالون بما حرم عليكم منها يريد أنهم يفتنون بها وأن عمر وحده هو الذي يكف عنها ويزهد فيها.
(2) الذي نفسي بيده: أراد به النفير من الدنيا وغمرات الدنيا شدائدها.
(3) يا هادي الطريق: جرت هنا إضافة الهادي إلى ما بعده من إضافة إسم الفاعل إلى مفعوله يريد يا هادي الناس الطريق والهادي هو الدال والمرشد والمراد بالطريق طريق الحق.
(4) خفض عليك: هون عليك.
(5) يهيضك: يرجعك إلى ما كنت عليه من المرض.
(6) تأس: تحزن تأسف.
(7) رفعته: الضمير البارز هنا يعود إلى الطين ووحل المطر المذكور في البيت قبله والضمير المستتر إلى الوليده المتقدم ذكرها.
(8) السجفين: مثنى سجف بالكسر ومعناه الستر والنضد محركا، كالسرير ينضد عليه متاع البيت.
وهذا قسم من بيت للنابغة الذبياني.(1/11)
قال الله تبارك وتعالى: {لَهََا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (1) وقال عز وجل: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} (2) ويقال نضدت اللبن على الميت، وقوله على الصوف الأذربي فهذا منسوب إلى أذربيجان، وكذلك تقول العرب.
قال الشّمّاخ:
تذكّرتها وهنا وقد حال دونها ... قرى أذربيجان المسالح والجال (3)
وقوله على حسك السعدان فالسعدان، نبت كثير الحسك تأكله الابل، فتسمن عليه ويغذوها غذاء لا يوجد في غيره، فمن أمثال العرب مرعىّ ولا كالسّعدان تفضيلا له، قال النابغة:
الواهب المائة (4) الابكار (5) زيّنها ... سعدان توضح في أوبارها اللّبد
ويروى في بعض الحديث أنه يؤمر بالكافر يوم القيامة فيسحب على السعدان، والله أعلم بذلك.
قال أبو الحسن: السعدان نبت كثير الشوك كما ذكر أبو العباس ولا ساق له، إنما هو منفرش على وجه الأرض.
__________
(1) سورة ق: الاية 10.
(2) سورة الواقعة: الاية 28.
الطلح: الموز: والطلع: شيء يخرج من النخل كأنه نعلان.
منضود: منضم بعضه إلى بعض.
(3) تذكرتها: وهنا الهاء عائدة إلى الحبيبة، والوهن نحو من نصف الليل. والمسالح: جمع ملسحة وتلفظ بالفتح وهي الثغر. موضع نفاذ العدو والجال: ناحية من البحر والجبل. والمسالح والجال كأنهما بدلان من قرى أذربيجان والمعنى أنني تذكرت من أحبه بعد وهن أي بعد انقضاء وقت من الليل وقد حال بيني وبينه الثغور والجبال.
(4) الواهب المائة: قصد بها الشاعر الإشارة إلى النعمان بن المنذر
(5) الابكار: مفردها بكر وهي الناقة إذا ولدت بطنا واحدا وتوضح بالضم وكسر الضاد، موضع بين أمره إلى أسود العين واللبد المتلبد ومعنى هذا البيت أن النعمان كريم سخي يعطي العطاء الجزيل، وأضافة السعدان هنا توضح أهمية ذلك الموضع أحسن وأهم من أي موضع اخر. وفي ذلك اشارة إلى أن الابل كانت سمينة وجميلة من كثرة اعتذائها بالسعدان.(1/12)
حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى الشيبانّي عن ابن الاعرابي قال: قيل لرجل من أهل البادية وخرج عنها أترجع إلى البادية؟ فقال: أمّا ما دام السعدان مستلقيا فلا يريد، أنه لا يرجع إلى البادية أبدا، كما أن السعدان لا يزول عن الاستلقاء أبدا، وقال أبو عليّ البصير واسمه الفضل بن جعفر، وإن لم يكن بحجة ولكنه أجاد فذكرنا شعره هذا لجودته لا للاحتجاج به، يمدح عبيد الله ابن يحيى بن خاقان واله فقال:
يا وزراء السلطان ... أنتم وال خاقان
كبعض ما روينا ... في سالفات الأزمان
ماء ولا كصدّاء (1) ... مرعى ولا كالسعدان
وهذه الأمثال ثلاثة منها قولهم مرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك، وماء ولا كصدّاء، تضرب هذه الأمثال للشيء الذي فيه فضل وغيره أفضل منه، كقولهم ما من طامّة إلا وفوقها طامّة أي ما من داهية إلا وفوقها داهية.
ويقال: طما الماء وطمّ، إذا ارتفع وزاد. ومالك الذي ذكروا هو مالك بن نويرة أخو متمّم بن نويرة، وصدّاء يمدّ، وبعضهم يقول: صدّى فيضم أوله ويقصر.
فأما أبو العباس محمد بن يزيد فإنه قال: لم أسمع من أصحابنا إلا صداء يا فتى وهو اسم لماء معرفة وهما همزتان بينهما ألف والالف لا تكون إلا ساكنة كأنك قلت صدعاع يا هذا، وقوله: إنما هو والله الفجر أو البجر، يقول: إن انتظرت حتى يضيء لك الفجر الطريق أبصرت قصدك، وإن خبطت الظّلماء وركبت العشواء (2) هجما بك على المكروه، وضرب ذلك مثلا لغمرات الدنيا وتحييرها أهلّها، وقوله يهيضك مأخوذ من قولهم هيض العظم إذا جبر ثم أصابه شيء يعنته فاذاه فكسره ثانية أو لم يكسره، وأكثر ما يستعمل
__________
(1) صداء: عين ليس عندهم أعذب منها.
(2) العشواء من العشا بالفتح والقصر وهو سوء البصر بالليل أو النهار.(1/13)
في كسره ثانية، ويقال عظم مهيض وجناح مهيض في هذا المعنى، ثم يشتق لغير ذلك وأصله ما ذكرت لك، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله، لما كسر يزيد بن المهلّب سجنه وهرب فكتب إليه لو علمت أنك تبقى ما فعلت ولكنك مسموم، ولم أكن لأضع يدي في يد ابن عاتكة (هو يزيد بن عبد الملك بن مروان وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية ولي الملك بعد عمر ابن عبد العزيز ولا يعلم أحد أعرق في الخلافة منه، فقال عمر اللهم إنه قد هاضني فهضه فهذا معناه، وقوله فكلّكم ورم انفه، يقول امتلأ من ذلك غضبا، وذكر أنفه دون السائر، كما يقال فلان شامخ بأنفه يريد رافع رأسه وهذا يكون من الغضب كما قال الشاعر: ولا يهاج إذا ما أنفه ورما، أي لا يكلّم عند الغضب ويقال للمائل برأسه كبرا متشاوس (1) وثاني عطفه وثاني جيده (2) إنما هذا كله من الكبرياء. قال الله عز وجل {ثََانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} (3). وقال الشمّاخ (يهجو الربيع بن علياء السلميّ).
نبّئت أن ربيعا أن رعى إبلا ... يهدي إليّ خناه (4) ثاني الجيد
بعض ما جاء في خطبة عمر بن الخطاب الأولى
وقوله أراك بارئا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون من برئت من المرض، وبرأت، كلاهما يقال فمن قال برئت قال أبرأ يا فتى لا غير ومن قال برأت قال في المضارع أبرأ وابرؤ يا فتى مثل فرغ يفرغ ويفرغ، والاية تقرأ على وجهين: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلََانِ} (5) وسنفرغ: والمصدر فيهما البرء يا فتى.
ومما روي لنا عنه رضي الله عنه حيث عهد عند موته، وهو بسم الله الرحمن
__________
(1) متشاوس: من التشاوس وهو النظر بمؤخر العين. تكبرا.
(2) ثاني الجيد: عبارة تستعمل كناية عن الوصف بالتكبر.
(3) سورة الحج: الاية 9.
(4) الخنا: التكبر.
(5) سورة الرحمن: الاية 31.(1/14)
الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند اخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالاخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتّقي فيها الفاجر، إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن برّ وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه. وإن جار وبدّل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت ولكل امرىء ما اكتسب، «{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1)، نصب أي بقوله ينقلبون ولا يكون نصبها ب «سيعلم» لأن حروف الاستفهام إذا كانت أسماء امتنعت مما قبلها كما يمتنع ما بعد الألف من أن يعمل فيه ما قبله، وذلك نحو قولك علمت زيدا منطلقا فإن أدخلت الألف قلت علمت أزيد منطلق أم لا، فأيّ بمنزلة زيد الواقع بعد الألف، ألا نرى أن معناها إذا أم ذا.
وقال الله عز وجل {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى ََ لِمََا لَبِثُوا أَمَداً} (2). لأن معناها أهذا أم هذا.
وقال تعالى {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهََا أَزْكى ََ طَعََاماً} (3) على ما فسرت لك وتقول أعلم أيّهم ضرب زيد أو أعلم أيّهم ضرب زيد تنصب أيا بضرب لأن زيدا فاعل فإنما هذا لما بعده، وكذلك ما أضيف إلى اسم من هذه الأسماء المستفهم بها نحو قد علمت غلام أيهم في الدار وقد عرفت غلام من في الدار وقد علمت غلام من ضربت فتنصبه بضربت فعلى هذا مجرى الباب، ومما يؤثر من هذه الاداب ويقدّم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في أول خطبة خطبها، حدثنا العتبيّ قال: لم أر أقلّ منها في اللفظ ولا أكثر في المعنى حمد الله وأثنى عليه، وهو أهله وصلّى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى اخذ الحق له ولا أضعف عندي من القويّ حتى اخذ الحق منه. ثم نزل وإنما
__________
(1) سورة الرحمن: الاية 31.
(2) سورة الكهف الاية 12.
(3) سورة الكهف: الاية 19.(1/15)
حسن هذا القول مع ما يستحقه من قبل الاختيار بما عضده به من الفعل المشاكل له.
رسالة عمر «لأبي موسى الأشعري»
قال أبو الحسن: قد روينا هذه الخطبة التي عزاها إلى عمر بن الخطاب عن أبي بكر رضي الله عنهما وهو الصحيح) قال أبو العباس ومن ذلك رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري وهي التي جمع فيها جمل الأحكام واختصرها بأجود الكلام وجعل الناس بعده يتخذونها إماما ولا يجد محقّ عنها معدلا (1) ولا ظالم عن حدودها محيصا (2)، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيّس (3): سلام عليك أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة (4)، وسنّة متّبعة (5)، فافهم إذا أدلي إليك (6)
فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له، اس (7) في الناس بين وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البيّنة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا، لا يمنعنّك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم (8) فيما تلجلج (9) في صدرك
__________
(1) معدلا أي مصرفا، وحدودها: أحكامها الفاصلة التي تمنع الظالم عن ظلمه.
(2) المحيص: المخلص والمنجي.
(3) عبد الله بن قيس: أبو موسى الأشعري.
(4) فريضة محكمة: غير منسوخة.
(5) سنه متبعة: طريقة يهتدي بها.
(6) فأفهم إذا أدلي إليك: معناه أعمل بما أقوله إليك إذا أوكل إليك القضاء وكنت حاكما بين الناس.
(7) أس: ساوي.
(8) الفهم الفهم: دعوة للحض على اتخاذ قرار ما.
(9) التلجلج: التردد.(1/16)
مما ليس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأشياء والأمثال، فقس الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا (1) ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجّلى للعمى. عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حدّ أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب فإن الله تولّى منكم السرائر ودرأ بالبينات والإيمان وإياك والخلق (2) والضجر والتأذّي بالخصوم (3)
والتنكّر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحّت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تخلّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شأنه الله فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام.
(قال أبو العباس): قوله اس (4) بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك يقول سوّ بينهم، وتقديره اجعل بعضهم أسوة بعض، والتأسّي (5) من ذا أن يرى ذو البلاء من به مثل بلائه فيكون قد ساواه فيه، فيسكّن ذلك من وجده قالت الخنساء: (6)
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النفس عنه بالتأسّي
يذكّرني طلوع الشمس صخرا ... واذكره لكلّ غروب شمس
تقول أذكره في أوّل النهار للغارة وفي اخره للضيفان، وتمثّل مصعب بن الزبير يوم قتل بهذا البيت:
__________
(1) أمدا: مترة راميته تمهله فيها.
(2) الغلق: عدم التبصر بالأمور.
(3) التأذي بالخصوم: الثأر والانتقام من الخصوم وهم في موضع الحق.
(4) اس: اعتمد المساواة.
(5) التأسي مصدر تأسي الحزين بكذا أي تعزيه وتسليه.
(6) الخنسا، شاعرة جاهلية، وهنا قصيدتها التي قالتها بعد وفاة أخيها صخر.(1/17)
وإنّ الألى (1) بالطفّ (2) من ال هاشم ... تاسوا فسنّوا للكرام التّاسيا
وقوله حتى لا يطمح شريف في حيفك (3) يقول في ميلك معه لشرفه، وقوله فيما تلجلج في صدرك يقول تردّد، وأصل ذلك المضغة والأكلة يردّدها الرجل في فمه فلا تزال تتردد إلى أن يسيغها أو يقذفها، والكلمة يرددها الرجل إلى أن يصلها بأخرى، يقال للعييّ لجلاج، وقد يكون من الافة تعتري اللسان قال زهير:
تلجلج مضغة (4) فيها أنيض ... أصلّت فهي تحت الكشح داء
وقوله أنيض (5) أي لم تنضج، ومن أمثال العرب الحقّ أبلج (6)، والباطل لجلج، أي يتردد فيه صاحبه فلا يصيب مخرجا، وقوله: أو ظنينا في ولاء أو نسب فهو المتّهم وأصله مظنون وهي ظننت التي تتعدى إلى مفعول واحد، تقول ظننت بزيد وظننت زيدا أي اتّهمت، ومن ذلك قول الشاعر وأحسبه عبد الرحمن بن حسّان:
فلا ويمين (7) الله ما عن جناية (8) ... هجرت ولكنّ الظنين (9) ظنين
وفي بعض المصاحف {وَمََا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (10)، وإنما قال عمر رضي الله عنه ذلك لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ملعون ملعون من انتمى إلى غير
__________
(1) الألى: اسم موصول.
(2) الطف: موضع قرب الكوفة كانت به وقعة الحسين بن علي أيام يزيد بن معاوية.
(3) الحيف: الجور والظلم.
(4) المضغة: بالضم وهي القطعة من اللحم.
(5) أنيض: تغير.
(6) أبلج: بين واضح.
(7) لا ويمين: من عادة العرب إضافة «لا» قبل القسم.
(8) جناية: الجريمة.
(9) الظنين: المتهم.
(10) سورة التكوير: الاية 24.(1/18)
أبيه أو إدعى (1) إلى غير مواليه (2)، فلما كانت معه الاقامة على هذا لم يره للشهادة موضعا. وقوله: ودرأ بالبينات والإيمان إنما هو دفع، من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدرؤا الحدود بالشّبهات.
وقال الله عزّ وجل: {قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (3) وقال فادرأتم فيها أي تدافعتم. وأما قوله وإياك والغلق والضجر فإنه ضيق الصدر وقلة الصبر، يقال في سوء الخلق رجل غلق وأصل ذلك من قولهم أغلق عليه أمره إذا لم يتّضح ولم ينفتح، من ذلك قولهم غلق الرهن (4)
أي لم يوجد له تخلّص وأغلقت الباب من هذا قال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
قوله ومن تخلّق للناس يقول: أظهر للناس في خلقه خلاف نيّته، وقوله تخلّق، يريد أظهر خلقا مثل تجمّل يريد أظهر جمالا وتصنّع وكذلك تجبّر إنما تأويله الاظهار أي أظهر جبريّة (5) (وإن شئت جبروّة وإن شئت جبروتا وإن شئت جبروتي ومن كلام العرب على هذا الوزن رهبوتي خير لك من رحموتي، أي لأن ترهب خير لك من أن ترحم) قال أبو العباس: وأنشدونا عن أبي زيد (الشعر لسالم بن وابصة الأسديّ):
يا أيها المتحلّي (6) غير شيمته (7) ... (ومن سجيّته الأدغال والملق (8)
__________
(1) ادعى: انتسب.
(2) الموالي جمع مولى وهو المالك للعبد.
(3) سورة ال عمران: الاية 168.
(4) الرهن: ما يوضع بدلا مما يؤخذ.
(5) الجبرية: بفتح الجيم وسكون الباء إسم للتجبر وهو التكبر وفيها لغات أخرى نبه على بعضها سا بن وابصه التابعي.
(6) المتملي: المتزين.
(7) الشيمة: بالكسر الطبيعة والادغال.
(8) الملق: التملق أي تعطي من اللسان ما ليس في القلب.(1/19)
دع التخلّق (1) يبعد عنك أوّله) ... إن التخلّق يأتي دونه الخلق (2)
ولا يؤاتيك في ما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة فانظر بمن تثق
قال: وأنشدتني أمّ الهيثم الكلابيّة:
ومن يتّخذ خيما (3) سوى خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها
وقال ذو الإصبع العدوانيّ (ذو الاصبع اسمه حرثان بن الحرث بن محرّث وقيل له ذو الاصبع لأن أفعى نهشت أصبعه):
كلّ امرىء راجع يوما لشيمته ... وإن تمتّع أخلاقا إلى حين
وأما قوله ثواب فاشتقاقه من ثاب يثوب إذا رجع، وتأويله ما يثوب إليك من مكافأة الله وفضله!.
بعض ما جاء في رسالة من عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب
وكتب عثمان بن عفّان إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما حين أحيط به: أما بعد فإنه قد جاوز الماء الزّبى (4)، وبلغ الحزام الطّبيين، وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع (5) فيّ من لا يدفع عن نفسه.
فإن كنت مأكولا فكن خير اكل ... وإلا فأدركني ولمّا أمزّق
قوله قد جاوز الماء الزبى فالزبية مصيدة الأسد ولا تتّخذ إلا في قلّة أو رابية أو هضبة قال الراجز:
__________
(1) التخلف: التظاهر بخلاف ما تنطوي عليه السجية.
(2) الخلق بضمتين: السجية والطبع.
(3) خيما: بكسر الخاء ومعناها الطبع والسجية.
(4) جاوز الماء الزبى وما بعده. مثلان يضربان في اشتداد الأمر ووصول المكروه إلى غايته.
(5) طمع من لا يدفع عن نفسه: معناه تطاول على الضعفاء والجبناء.
وكان أكثر القوم إذا ذاك منأهل مصر والبيت الذي تمثل به «للمزق». كمعظم ومحدث وهو شاس بن نهار لقب بهذا اللقلب لقوله هذا البيت.(1/20)
فأنت والأمر الذي قد كيدا (1) ... كاللذ تزبّى زبية فاصطيدا
وقال الطرمّاح (2):
يا طيىء (3) السهل والأجبال موعدكم (4) ... كمبتغي (5) الصيد أعلى زبية (6) الأسد
(ويروى في عرّيسة الأسد) وتقول العرب قد علا الماء الزبى وقد بلغ السّكين العظم وبلغ الحزام الطبيين، وقد انقطع السّلى في البطن، فالسلى من المرأة والشاة ما يلتفّ فيه الولد في البطن. قال العجّاج: فقد علا الماء الزبى فلا غير. أي قد جلّ الأمر عن أن يغيّر ويصلح، وقوله وبلغ الحزام الطبيين فإن السباع والخيل يقال لمواضع الاخلاف منها أطباء يا فتى واحدها طبىء كما يقال في الظلف والخفّ، خلف هذا مكان هذا فإذا بلغ الحزام الطبيين فقد انتهى في المكروه ومثل هذا من أمثالهم التقت حلقتا البطان (7)، ويقولون التقت حلقتا البطان والحقب (8)، ويقال حقب البعير إذا صار الحزام في الحقب قال الشاعر (أبو بكر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك (9) وأوّله:
سليمى تلك في العير (10) ... قفي إن شئت أو سيري
فلما أن بدا الصبح ... بأصوات العصافير
__________
(1) قد كيدا: من الكيد وهو المكر.
(2) الطرماح: أحد شعراء بني أمية.
(3) طيء من القبائل العربية وقد أضيفت هنا للسهل والمجال تعبيرا عن كثرتها.
(4) موعدكم: وعدكم.
(5) مبتغي: مريدي.
ومعنى البيت هنا أن وعدكم بعيد المنال وهو كمن يطلب صيدا في أعلى زبية الاسد.
(6) زبية الأسد: عريسة الأسد. وهي البيت والمأوى.
(7) البطان: حزام من القنب. والحلقتان: مثنى حلقة.
(8) الحقب حركة: الحزام يلي حقو البعير.
(9) ليس أبو بكر الوليد بن يزيد بن عبد الملك هو من قال هذا الشعر وإنما قائله شاعر من شعراء الدولة العباسية.
(10) العير: القافلة.(1/21)
خرجنا نبتغي الصيد ... بأمثال اليعافير) (1)
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير (2)
(زجرنا العيس فارمدّت ... باهذاب وتشمير (3)
وقال أوس بن حجر:
وازدحمت (4) حلقتا البطان بأقوا ... م وطارت نفوسهم جزعا (5)
وتمثّله (6) بالبيت يشاكل قول القائل:
فإن أك مقتولا فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
عتاب عثمان لعلي
ويروى عن قنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: دخلت مع علي بن أبي طالب على عثمان بن عفّان رضي الله عنهما فأحبّا الخلوة، فأومأ إليّ عليّ بالتنحّي فتنحّيت غير بعيد فجعل عثمان يعاتب عليا وعليّ مطرق فأقبل عليه عثمان فقال: ما بالك لا تقول. فقال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره وليس لك عندي إلا ما تحبّ، تأويل ذلك إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به عليّ فلذعك عتابي وعقدي ألا أفعل وإن كنت عاتبا إلا ما تحبّ. وتحدّث ابن عائشة في إسناد ذكره أن عليا رضي الله عنه انتهى إليه أن خيلا لمعاوية وردت الأنبار فقتلوا عاملا له يقال حسّان بن حسان فخرج مغضبا يجرّ ثوبه حتى أتى النخيلة (7) واتبعه الناس فرقي رباوة (8) من الأرض فحمد
__________
(1) اليعافير: جمع يعفور وهو الظبي بلون التراب.
(2) التصدير: شد الحبل حول البعير.
(3) أهذاب وتشمير: أهذاب بالذال المعجمة الاسراع. التشمير هو الجد في السير.
(4) أزدحمت: التقت.
(5) الجزع: الخوف.
(6) الهاء في تمثله تعود إلى عثمان رضي الله عنه.
(7) النخيلة: كجهينة موضع بالعراق حصلت به وقعة بين الخوارج وعلي رضي الله عنه.
(8) الرباوة: مثلثة ما ارتفع من الأرض وكذا البروة.(1/22)
الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيما الخسف، وديّث بالصّغار، وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرّا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم من قبل أن يغزوكم فو الذي نفسي بيده ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم إلا ذلّوا، فتخاذلتم (1) وتواكلتم، وثقل عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريّا حتى شنّت عليكم الغارات، هذا أخو غامد (2) قد وردت خيله الانبار وقتلوا حسّان بن حسّان ورجالا منهم كثيرا ونساء، والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة فتنتزع أحجالهما ورعثهما ثم انصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كلما، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما بل كان عندي جديرا، عجبا كلّ العجب عجب يميت القلب ويشغل الفهم ويكثر الاحزان من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقّكم، حتى أصبحتم غرضا (3) ترمون، ولا ترمون ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عزّ وجلّ فيكم وترضون، إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قرّ وصرّ (4)، وإن قلت اغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارّة القيظ، أنظرنا (5) ينصرم الحرّ عنا فإذا كنتم من الحر والبرد تفرّون فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباه الرجال ولا رجال ويا طغام الاحلام، ويا عقول ربّات (6) الحجال، والله، لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان ولقد ملأتم جوفي (7) غيظا حتى قالت قريش ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا رأي (8) له في الحرب، لله درّهم ومن ذا يكون أعلم بها مني أو أشدّ لها مراسا!
__________
(1) التخاذل: الكسل التهاون.
(2) أخو غامد، الرسول الذي أرسله معاوية بن أبي سفيان لقتال أهل الأنبار.
(3) غرضا هدفا ينال منه كثيرون.
(4) القر بضم القاف البرد.
(5) انظرنا: إمهلنا.
(6) الحجال موضع يزين بالثياب والستور.
(7) جوفي: صدري.
(8) رأي: دراية معرفة.(1/23)
فو الله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ولقد نيّفت (1) اليوم على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع، يقولها ثلاثا فقام إليه رجل ومعه أخوه (الرجل وأخوه يعرفان بابني عفيف من الأنصار) فقال: يا أمير المؤمنين أنا وأخي هذا كما قال الله تعالى ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي فمرنا بأمرك فو الله لننتهين إليه ولو حال بيننا وبينه جمر الغضى (2) وشوك القتاد، فدعا لهما بخير ثم قال لهما وأين تقعان (3) مما أريد؟ ثم نزل.
(قال) أبو العباس قوله سيما الخسف قال هكذا حدّثونا وأظنه سيم الخسف يا هذا من قول الله عزّ وجلّ {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ} (4) ومعنى قوله سيما الخسف تأويله علامة هذا أصل ذا. قال الله عزّ وجلّ {سِيمََاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (5) وقال عزّ وجلّ {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمََاهُمْ} (6) وقال أبو عبيدة في قوله عزّ وجلّ مسوّمين، قال معلمين واشتقاقه من السّيما التي ذكرنا، ومن قال مسوّمين فإنما أراد مرسلين من الابل السائمة أي المرسلة في مراعيها، وإنما أخذ هذا من التفسير، وقال المفسرون في قوله تعالى {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} (7) القولين جميعا من العلامة والإرسال.
وأما قوله عزّ وجلّ {حِجََارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [8] مَنْضُودٍ (9) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ (10) فلم يقولوا فيه إلا قولا واحدا، قالوا معلمة وكان عليها أمثال
__________
(1) نيفت: تجاوزت.
(2) الغضا: جمع غضاة وهو شجر عظيم إذا أحرق أعطى نارا شديدة يضرب بجمرها المثل.
(3) تقعان مما أريد: يعني لا تفيتان عما أريد شيئا.
(4) سورة البقرة: الاية 49.
(5) سورة الفتح: الاية 29.
(6) سورة الرحمن: الاية 41.
(7) سورة ال عمران: الاية 14.
(8) سورة هود: الاية 82.
(9) سورة هود: الاية 83.
(10) سجيل: كسكيت حجارة من مدر كانت مما كتب لهم أنهم يعذبون بها.(1/24)
الخواتيم، ومن قال سيما قصر ويقال في هذا المعنى سيمياء ممدود قال الشاعر (وهو ابن عنقاء الفزاريّ في عميلة الفزاريّ):
غلام رماه الله بالحسن يافعا (1) ... له سيماء لا تشقّ على البصر
(كأنّ الثرّيا علّقت في جبينه ... وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر)
شرح رد علي على عثمان
وقوله: وقتلوا حسّان بن حسّان من أخذ حسّانا من الحسن صرفه لأن وزنه فعّال فالنون منه في موضع الدال من حمّاد، ومن أخذه من الحسّ لم يصرفه لأنه حينئذ فعلان فلا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة لأنه ليست له فعلى، فهو بمنزلة سعدان وسرحان. وديّث بالصغار تأويله ذلّل يقال للبعير إذا ذلّلته الرياضة بعير مديّث أي مذلل. وقوله في عقر دارهم، أي في أصل دارهم والعقر الأصل، ومن ثمّ قيل لفلان عقار أي أصل ومال. ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من باع دارا أو عقارا فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مال قمن ألا يبارك له فيه. وقوله قمن يريد خليق ويقال أيضا قمين وقمين.
(قال أبو الحسن من قال قمن لم يثنّ، ولم يجمع، ومن قال قمن وقمين ثنّى وجمع) ويقال للرجل إذا اتخذ ضيعة أو دارا، تأثّل فلان أي اتخذ أصل مال. وقوله تواكلتم إنما هو مشتق من وكلت الأمر إليك، ووكلته أنت إليّ أي لم يتولّه واحد منا دون صاحبه، ولكن أحال به كلّ واحد منا على الاخر، ومن ذلك قول الحطيئة:
فلأيا (2) قصرت (3) الطرف عنهم بجسرة (4) ... أمون (5) إذا واكلتها (6) لا تواكل
__________
(1) يافعا: شابا قويا.
(2) اللأي: كالسعي: ومعناه الابطاء والشدة.
(3) قصرت الطرف: حبسته.
(4) الجسرة: العظيمة من الابل الماضية في سيرها.
(5) الامون: صفة الناقة ومعناه وثيقة الحلق.
(6) واكلتها: تركتها وشأتها.(1/25)
وقوله واتخذتموه وراءكم ظهريّا أي رميتم به وراء ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، ويقال في المثل لا تجعل حاجتي منك بظهر، أي لا تطرحها غير ناظر إليها. وقوله حتى شنّت عليكم الغارات يقول صبّت، يقال شننت الماء على رأسه أي صببته وشننت الشراب في الاناء أي صببته، ومن كلام العرب فلما لقي فلان فلانا شنّه السيف أي صبّه عليه صبّا. وقوله هذا أخو غامد فهو رجل مشهور من أصحاب معاوية من بني غامد بن نضر بن الازد بن الغوث، وفي هذه القبيلة يقول القائل:
ألا هل أتاها (1) على نأيها (2) ... بما فضحت قومها غامد
تمنّيتم مائتي فارس ... فردّكم فارس واحد
(هو ربيعة بن مكدّم)
فليت لنا بارتباط الخيو ... ل ضأنا لها حالب قاعد (3)
وقوله فتنتزع أحجالهما يعني الخلاخيل واحدها حجل، ومن هذا قيل للدابة محجّل، ويقال للقيد حجل لأنه يقع في ذلك الموضع.
قال جرير يعيّر الفرزدق حين قيّد نفسه وأقسم ألا يحلّها حتى يحفظ القران، فلما هاجى جرير البعيث هجا الفرزدق جريرا معونة للبعيث، وذبّا عن عشيرته فقال جرير:
ولما اتّقى القين العراقيّ باسته ... فرغت إلى العبد المقيّد في الحجل
(يعني بقوله ولما اتقى القين العراقي باسته البعيث وسمّاه القين لأنه من رهط الفرزدق) ومعنى فرغت عمدت.
__________
(1) الأهل أتاها: استفهام وتوبيخ وتقريع.
(2) النأي: البعد.
(3) فليت لنا بارتباط الخيول: هذا الترجي يعني اليأس والقنوط.(1/26)
قال الله عزّ وجلّ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلََانِ} (1) أي سنعمد (تميم تقول فرغ يفرغ فراغا وأهل العالية وهم قريش ومن والاها يقولون فرغ يفرغ فروغا). وقوله ورعثهما الواحدة رعثة وجمعها رعاث، وجمع الجمع رعث وهي الشّنوف، وقوله ثم انصرفوا موفورين (2) من الوفر أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن ولا مال، يقال فلان موفور وفلان ذو وفر أي ذو مال ويكون موفورا في بدنه إذا ذكر ما أصيب به غيره في بدنه قال حاتم الطائيّ:
وقد علم الاقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء (3) المال كان له وفر
ويروى أمسى له وفر، وقوله لم يكلم أحد كلما يقول لم يخدش أحد منهم خدشا، وكلّ جرح صغر أو كبر فهو كلم. قال جرير:
تواصت (4) من تكرمها قريش ... بردّ الخيل دامية الكلوم (5)
وقوله مات من دون هذا أسفا يقول تحسّرا، فهذا موضع ذا وقد يكون الأسف الغضب.
قال الله عزّ وجلّ {فَلَمََّا آسَفُونََا انْتَقَمْنََا مِنْهُمْ} (6) والا سيف يكون الاجير ويكون الأسير فقد قيل في بيت للأعشى:
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا
المشهور أنه من التأسف لقطع يده، وقيل بل هو أسير قد كبلت يده، ويقال قد جرحها الغلّ، والقول الأول هو المجتمع عليه. ويقال في معنى أسيف عسيف أيضا، وقوله من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم يقول من
__________
(1) سورة الرحمن: الاية 31.
(2) موفورين: سالمين.
(3) ثراء المال: النمو والزيادة.
(4) تواصت: أوصي بذلك أولهم اخرهم.
(5) الكلوم: الجروع.
(6) سورة الزخرف: الاية 55.(1/27)
تعاونهم وتظاهرهم. وقوله وفشلكم عن حقكم يقال فشل فلان عن كذا إذا هابه فنكل عنه وامتنع من المضي (1) فيه. وقوله قلتم هذا أوان قرّ وصرّ، فالصرّ شدّة البرد قال الله عزّ وجلّ: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهََا صِرٌّ} (2) وقوله هذه حمّارة القيّظ فالقيظ الصيف وحمّارته اشتداد حرّه واحتدامه وحمّارة مما لا يجوز أن يحتج عليه ببيت شعر لأن كل ما كان فيه من الحروف التقاء ساكنين لا يقع في وزن الشعر إلا في ضرب منه يقال له المتقارب فإنه جوّز فيه على بعد التقاء الساكنين وهو قوله:
فذاك القصاص وكان التقا ... صّ فرضا وحتما على المسلمينا
ولو قال وكان القصاص فرضا كان أجود وأحسن ولكن قد أجازوا هذا في هذه العروض ولا نظير له في غيرها من الأعاريض، وقوله يا طغام الأحلام فمجاز الطغام عند العرب من لا عقل له ولا معرفة عنده، وكانوا يقولون طغام أهل الشام، كما قال:
(إذا ما كان مثلهم رجاما) ... فما فضل اللبيب على الطغام
وقوله ويا عقول ربّات الحجال ينسبهم إلى ضعف النساء وهو السائر في كلام العرب.
قال الله تعالى يذكر البنات {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (3).
__________
(1) المضي: اتخام الأمر والوصول به حتى النهاية.
(2) سورة ال عمران: الاية 117.
(3) سورة الزخرف: الاية 18.(1/28)
1 - باب في أهمية الاختصار والاطناب عند العرب
قال أبو العباس: من كلام العرب الاختصار (1) المفهم، والأطناب (2)
المفخّم، وقد يقع الايماء إلى الشيء فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه كما قيل لمحة دالة، وقد يضطرّ الشاعر المفلق (3) والخطيب المصقع (4) والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق (5) واللفظ المستكره (6)، فإن انعطفت عليه جنبتا (7) الكلام غطتّا على عواره (8)، وسترتا من شينه، وإن شاء قاتل أن يقول بل الكلام القبيح في الكلام الحسن أظهر، ومجاورته له أشهر، كان ذلك له ولكن يغتفر السيىء للحسن والبعيد للقريب، فمن ألفاظ العرب البيّنة القريبة المفهمة الحسنة الوصف الجميلة الرصف قول الحطيئة:
وذاك فتى إن تأته في صنيعة (9) ... إلى ماله لا تأته بشفيع (10)
__________
(1) الاختصار: هو التعبير بأقل ما يمكن من الألفاظ.
(2) الأطناب: التعبير بأكثر ما يمكن من الألفاظ وهنا يعني أن كلام البلغاء إما أن يكون مختصرا مفهما للغرض الذي يرمي إليه المتكلم إما أن يكون فيه أطناب وطول مع جزالة في اللفظ ووضوح في المعنى وأصابة الغرض.
(3) المعلق: الذي يأتي بالعجيب.
(4) المصقع: كثير البليغ عالي الصوف جهودي وهو الذي لا يرتج عليه في كلامه.
(5) المستغلق: غير المفهوم.
(6) المستكره: القبيح.
(7) جنبتان: ناحيتان.
(8) العوار بالفتح العيب.
(9) الصنيعة: الصلة والاحسان.
(10) الشفيع: صاحب الشفاعة.(1/29)
وكذلك قول عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة (1) أنني ... أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم (2)
وكما قال زهير:
على مكثريهم (3) حقّ من يعتريهم ... وعند المقلّين (4) السماحة والبذل
ومما وقع كالايماء قول الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل
فتأويل هذا أن بيت جرير في العرب كالبيت الواهي الضعيف فقال:
وقضى عليك به الكتاب المنزل، يريد به قول الله تبارك وتعالى {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} (5) ومن كلامه المستحسن قوله لجرير:
فهل ضربة الروميّ (6) جاعلة لكم ... أبا عن كليب أو أبا مثل دارم
من الألفاظ الغريبة والمستهجنة
ومن أقبح الضرورة وأهجن (7) الألفاظ وأبعد المعاني قوله:
وما مثله في الناس إلّا مملّكا ... أبو أمّه حي أبوه يقاربه
__________
(1) الوقيعة: الحرب.
(2) المغنم: الكسب.
(3) المكثر: صاحب المال الوفير.
(4) المقل: صاحب المال القليل.
(5) سورة العنكبوت: الاية 41.
(6) ضربة الرومي: يريد بذلك الأسير الذي أسره المسلمون من بلاد الروم وقد جيء به إلى عبد الملك بن مروان فعرضه على الفرزدق ليقتله. فجيء عليه فعيره بذلك جرير، يريد فهل هذه جعل لكم أبا غير أبيكم كليب أو أبا مثل أبي، يصف جريرا بدقة الأصل ودناءة النسب.
(7) أهجن: أكثرها عيبا.(1/30)
مدح بهذا الشعر إبراهيم بن هشام بن اسمعيل بن هشام بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو خال هشام بن عبد الملك، فقال:
وما مثله في الناس إلا مملّكا يعني بالمملّك هشاما أبو أمّ ذلك المملّك أبو هذا الممدوح، ولو كان هذا الكلام على وجهه لكان قبيحا، وكان يكون إذا وضع الكلام في موضعه أن يقول وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مملّك أبو أمّ هذا المملّك أبو هذا الممدوح فدلّ على أنه خاله بهذا اللفظ البعيد وهجّنه بما أوقع فيه من التقديم والتأخير، حتى كأن هذا الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد مع قوله حيث يقول:
تصرّم (1) مني ودّ بكر بن وائل (2) ... وما كاد منّي ودّهم يتصرّم
قوارص (3) تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
(القارصة الكلمة المؤذية) وكأنه لم يقع ذلك الكلام لمن يقول:
والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
فهذا أوضح معنى وأعرب لفظ وأقرب مأخذ، وليس لقدم العهد يفضّل القائل ولا لحدثان (4) عهد يهتضم (5) المصيب، ولكن يعطى كلّ ما يستحق، ألا ترى كيف يفضل قول عمارة على قرب عهده:
تبحّثتم (6) سخطي (7) فغيّر بحثكم ... نخيلة نفس (8) كان نصحا ضميرها
__________
(1) تصرم: تقطع.
(2) بكر بن وائل بن قاسط والمراد به الفيلة ومعنى هذا البيت أنه جهم قد تمكن مني حتى كنت أظن أنه لا ينقطع ولكنه انقطع.
(3) القوارص: المؤلم من الكلام.
(4) الحدثان: بكسر الحاء ضد القديم.
(5) يهتضم: يظلم ويبخس حقه.
(6) تبحثتم: فتشتم.
(7) سخطي: ما يزعجني.
(8) يريد نفسا نافله أي صافيه.(1/31)
ولن يلبث التخشين (1) نفسا كريمة ... عريكتها أن يستمرّ مريرها (2)
وما النفس إلا نطفة (3) بقرارة ... إذا لم تكدّر كان صفوا غديرها (4)
فهذا كلام واضح وقول عذب، وكذلك قوله أيضا:
بني دارم (5) إن يفن عمري فقد مضى ... حياتي (6) لكم مّني ثناء مخلّد
بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهدا ... وإن عدتم أثنيت والعود أحمد
ما يفضل العرب من ألفاظ
ومما يفضّل لتخلّصه من التكلّف وسلامته من التزيّد وبعده من الاستعانة قول أبي حيّة النميريّ:
رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشيّة أرام (7) الكناس رميم
(قيل في ستر الله الإسلام وقيل فيه أنه الشيب وقيل ما حرّم الله عليهما).
ألا ربّ يوم لوّ رمتني رميتها ... ولكنّ عهدي بالنّضال قديم
(يرى الناس أني قد سلوت (8) وإنني ... لمرميّ احناء (9) الضلوع سقيم)
__________
(1) التخشين: مصدر خشن صدره إذا وغره والعريكة بفتح العين النفس.
(2) استمر مريرها: قويت شكيمتها واستحكمت ومعنى هذا أن أيغار الصدر لا يدع النفس الكريمة السهلة السلسه على حالها بل لا تلبث إلا أن تقوى وتشتد على من خاشنها وترجع عما كانت عليه من الصفاء.
(3) النطفة بالضم الماء الصافي قل أو كثر.
(4) الغدير: القطعة من الماء يغادرها السيل وفي ذلك ضرب مثل للنفس التي تكون صافية نقية، فإذا نالها مكروه وأصابها غضب وسخط تكدرت وتغيرت عما كانت عليه كالماء يكون صافيا ما دام ساكنا حتى إذا هيج تكدر وتغير.
(5) بني دارم: حي من تميم نسبوا إلى أبيهم دارم بن مالك بن حنظلة.
(6) يريد هنا مدة حياتي.
(7) الأرام: جمع رئم بالكسر وهو الظبي خالص البياض.
(8) السلو: موت الحب والتخلص منه.
(9) الاحناء: جمع حنو. ما أعوج من العمود وهو يقول: يرى الناس من حالي إني قد سلوت وذهب عني الحب وهم لا يعلمون بما في قلبي وما انطوت عليه جوانحي وابن السقيم حرص بالحب فيما بين الضلوع، يصف نفسه هنا بالتعير والتجلد وإن كانت نار الحب في قليه تتقد.(1/32)
يقول رمتني بطرفها وأصابتني بمحاسنها ولو كنت شابا لرميت كما رميت، وفتنت كما فتنت، ولكن قد تطاول عهدي بالشباب فهذا كلام واضح.
قال أبو الحسن أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى البيتين عن عبد الله ابن شبيب وروى عشيّة أحجار الكناس رميم، وزاد فيه:
رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم ألايزال يهيم
الكناس والمكنس الموضع الذي تأوي إليه الظباء، وجمع الكناس كنس، وجمع المكنس مكانس، ورميم اسم جارية مأخوذ من العظام الرميم وهي البالية وكذلك الرمة القطعة البالية من الحبل وكل ما اشتق من هذا فإليه يرجع.
قال أبو العباس وأما ما ذكرناه من الاستعانة فهو أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصحّح به نظما أو وزنا ان كان في شعر أو ليتذكر به ما بعده ان كان في كلام منثور كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة، مثل قولهم: ألست تسمع، أفهمت أين أنت وما أشبه هذا. وربما تشاغل العييّ بفتل اصبعه ومسّ لحيته وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح وقد قال الشاعر يعيب بعض الخطباء في شعره:
مليء ببهر (1) والنفات وسعلة ... ومسحة عثنون (2) وفتل الأصابع
وقال رجل من الخوارج يصف خطيبا منهم بالجبن، وأنه مجيد لولا أن الرّعب أذهله:
نحنح زيد وسعل ... لما رأى وقع الأسل (3)
__________
(1) البهر بالضم إنقطاع النفس من الاعياء.
(2) العثنون: بالضم اللحية.
(3) الأسل: محركا الرماح والنبال.(1/33)
ويلمّه (1) إذا ارتجل (2) ... ثم أطال واحتفل (3)
(وقال رجل يصف رجلا من أباد بالعيّ وكان أبوه خطيبا وخاله:
جمعت صنوف العيّ (4) من كل وجهة ... وكنت مليئا بالبلاغة من كثب (5)
أبوك معم (6) في الكلام ومخول (7) ... وخالك وثّاب الجراثيم (8) في الخطب)
ومما يشاكل كل هذا المعنى ويجانس هذا المذهب ما كان من خالد بن عبد الله القسريّ، فإنه كان متقدما في الخطابة، ومتناهيا في البلاغة، فخرج عليه المغيرة بن سعيد بالكوفة في عشرين رجلا فعطعطوا (9) به، فقال خالد:
أطعموني ماء وهو على المنبر، فعيّر بذلك، فكتب به هشام إليه في رسالة يوبّخه فيها وسنذكرها في موضعها إن شاء الله وعيّره يحيى بن نوفل فقال:
لأعلاج (10) ثمانية وعبد ... لئيم الأصل في عدد يسير
هتفت بكلّ صوتك أطعموني ... شرابا ثم بلت على السرير
فهذا عارض وقال اخر يعيّره:
__________
(1) يلمه: بكسر اللام وضمها كلمة تقال للداهي المجيد وأصلها ويل لأمه، وركبوه وجعلوه كالشيء الواحد واستعملوه في التعجب.
(2) ارتجل الكلام: قاله دون تحضير أو استعداد.
(3) احتفل أكثر من التوضيح والإنابة.
(4) العي: عيوب النطق.
(5) كثب: قرب.
(6) معم: إذا كان هناك شبه بين فرد وعمه قالت عنه العرب معم.
(7) مخول: إذا كان هناك شبه بين الفرد وخاله. قالت عنه العرب مخول.
(8) الجراثيم: أصول الاشياء، وهنا كناية عن المواقف الصعبة والمواقع الشديدة. يقول أبوك قوي متمكن في الكلام وخالك لا يهاب المواقف ولا يخشى المجامع ولا يأخذه خوف ولا وهل في الخطب فما بالك أنت.
(9) عطعطوا به: من العطعطة وهي تتابع الأصوات وإختلاطها في الحرب.
(10) لا علاج: يقصد بها الانكار والتوبيخ والاعلاج جمع علج بالكسر، أما أن يكون أصله حمار وحشي سمين قوي واستعاره لهم أو أن الرجل من كفار العجم مبالغة في فجورهم وخروجهم عن الحق، يريد لهذا العدد اليسير، فعلت ما فعلت مما جر عليك العيب والعار يرميه هنا بالضعف والخذلان.(1/34)
بلّ المنابر من خوف ومن وهل (1) ... واستطعم الماء لما جدّ في الهرب
وألحن الناس كلّ الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق (2) في الخطب
ومما يستحسن لفظه ويستغرب معناه ويحمد اختصاره قول أعرابيّ من بني كلاب:
فمن يك لم يغرض فإني وناقتي ... بحجر (3) إلى أهل الحمى غرضان
(هوى ناقتي خلفي وقدّامي الهوى ... وإنّي وإياها لمختلفان) (4)
تحنّ (5) فتبدي ما بها من صبابة (6) ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
(أنشد صاعد بعدهما زيادة فيهما:
فيا كبدينا أجملا (7) قد وجدتما ... بأهل الحمى ما لم يجد كبدان
إذا كبدانا خافتا وشك (8) نيّة ... وعاجل بين ظلّتا تجبان)
يريد لقضى عليّ فأخرجه لفصاحته وعلمه بجوهر الكلام أحسن مخرج.
قال الله عزّ وجل: {إِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (9) والمعنى إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم، ألا ترى أن أول الاية الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (10)
فهؤلاء أخذوا منهم ثم أعطوهم، وقال الله تبارك وتعالى: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ}
__________
(1) الوهل: الضعف والحزن والفزع.
(2) التشديق: أن يلوي الانسان شدقه للتفصح.
(3) حجر بفتح الحاء قصبة اليمامة وتوضع بدار بني عقيل وواد بين بلاد غذره وغطفان وبلده بين سليم ولا أدري أي ذلك أراد يريد أن لم يوجد عاشق محب فإني وناقتي عاشقان.
(4) هوى ناقتي، يريد ما تهواه وتحبه وهو ولدها وقوامي الهوى: من أحبه.
(5) تحن من الحينين وهو صوت الطرب عن حزن وفرح.
(6) الصبابة: الشوق فناقتي تظهر ما عندها من الصبابة والعشق وأنا أخفي ما عندي ولولا التأسي لقضي علي وهلكت.
(7) أجملا: إصبرا اعتدلا ولا تفرطا.
(8) الوشك: الاسراع وقد وشك الأمر ككرم وأسند الخوف إلى الكبد مجازا وسعة.
(9) سورة المطففين: الاية 3.
يخسرون: ينقصون الميزان.
(10) يستوفون: يعدلون في الوزن والمكيال.(1/35)
{قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقََاتِنََا} (1) أي من قومه وقال الشاعر:
(هو أعشى طرود واسمه اياس بن عامر).
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب (2)
أي أمرتك بالخير. ومن ذا قول الفرزدق:
ومنّا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا إذا هبّ الرّياح الزعازع (3)
أي من الرجال فهذا الكلام الفصيح، وتقول العرب أقمت ثلاثا ما أذوقهنّ طعاما ولا شرابا أي ما أذوق فيهنّ، وقال الشاعر:
ويوما شهدناه سليما وعامرا ... قليلا سوى الطعن النهال نوافله (4)
(قال أبو الحسن: قوله لم يغرض، أي لم يشتق. يقال: غرضت إلى لقائك وحننت إلى لقائك، وعطشت إلى لقائك، وجعت إلى لقائك، أي اشتقت. أخبرنا بذلك أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي، وأنشدنا عنه:
من ذا رسول ناصح (5) فمبلّغ ... عنّي عليّة غير قول الكاذب
أني غرضت إلى تناصف وجهها ... غرض المحبّ إلى الحبيب الغائب
التناصف الحسن، وأما قوله لقضاني فإنما يريد لقضى عليّ الموت.
كما قال الله تبارك وتعالى: {فَلَمََّا قَضَيْنََا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} (6)، فالموت في النية وهو معلوم بمنزلة ما نطقت به فلهذا ناسب هذا قوله عزّ وجل: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ} (7)، وكذلك قوله تعالى: {كََالُوهُمْ} (8) فالشيء المكيل معلوم
__________
(1) سورة الأعراف: الاية 155.
(2) النشب: المال الكثير.
(3) الزعازع: الرياح الشديدة.
(4) النوافل: الصفات الحسنة.
(5) ناصح: لا غش فيه.
(6) سورة سبأ: الاية 14.
(7) سورة الأعراف: الاية 155.
(8) سورة المطففين: الاية 3.(1/36)
فهو بمنزلة ما ذكر في اللفظ ولا يجوز مررت زيدا وأنت تريد مررت بزيد لأنه لا يتعدّى إلا بحرف جر وذلك أنه فعل الفاعل في نفسه وليس فيه دليل على المفعول وليس هذا بمنزلة ما يتعدّى إلى مفعولين فيتعدّى إلى أحدهما بحرف جرّ وإلى الاخر بنفسه لأن قولك: اخترت الرجال زيدا قد علم بذكرك زيدا، أن حرف الجر محذوف من الأوّل. فأما قول الشاعر وهو جرير وإنشاد أهل الكوفة له وهو قوله:
تمرّون الديار ولم تعوجوا (1) ... كلامكم عليّ إذا حرام
ورواية بعضهم له أتمضون الديار، فليسا بشيء لما ذكرت لك والسماع الصحيح والقياس المطّرد لا تعترض عليه الرواية الشاذة.
في ما يستحسن ويستجاد
أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد قال: قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: مررتم بالدّيار ولم تعوجوا، فهذا يدلّك على أن الرواية مغيّرة، فأما قولهم أقمت ثلاثا ما أذوقهن طعاما ولا شرابا وقول الراجز:
قد صبّحت صبّحها السّلام ... بكبد خالطها سنام
في ساعة يحبّها الطعام
يريد في ساعة يحبّ فيها الطعام، وكذلك الأول معناه: ما أذوق فيهنّ فليس هذا عندي من باب قوله جلّ وعلا: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ} (2) إلا في الحذف فقط وذلك أن ضمير الظرف تجعله العرب مفعولا على السّعة كقولهم: يوم الجمعة سرته، ومكانكم قمته، وشهر رمضان صمته، فهذا يشبّه في السعة بقولك: زيد ضربته وما أشبهه فهذا بيّن).
قال أبو العباس: ومما يستحسن ويستجاد قول أعرابي من بني سعد بن
__________
(1) تعوجوا: تقفوا.
(2) سورة الأعراف الاية 155.(1/37)
زيد مناة بن تميم وكان مملكا، فنزل به أضياف فقام إلى الرحى فطحن لهم فمرّت به زوجته في نسوة فقالت لهنّ. أهذا بعلي، فأعلم بذلك فقال: (قال أبو الحسن أخبرنا به عن أبي محلّم له يعني السعديّ):
تقول وصكّت (1) صدرها بيمينها ... أبعلي (2) هذا بالرحى المتقاعس
فقلت لها ولا تعجبي وتبيّني (3) ... بلائي (4) إذا التفّت علي الفوارس
ألست أردّ القرن يركب ردعه (5) ... وفيه سنان ذو غرارين يابس (6)
إذا هاب أقوام تجشّمت (7) هول (8) ما ... يهاب حميّاه الألدّ المداعس
لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس
قوله المتقاعس إنما هو الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، ويقال: عزّة قعساء، وإنما هذا مثل أي لا تضع ظهرها إلى الأرض، وقوله: بالرحى المتقاعس لو أراد الذي يتقاعس بالرحى لم يجز لأن قوله بالرحى من صلة الذي، والصلة من تمام الموصول فلو قدمها قبله لكان لحنا وخطأ فاحشا وكان كمن جعل اخر الاسم قبل أوله، ولكنه جعل المتقاعس اسما على وجهه وجعل قوله بالرحى تبيينا بمنزلة لك التي تقع بعد قولك سقيا، وبمنزلة بك التي تقع بعد مرحبا فإن قدّمتها قبل سقيا ومرحبا فذلك جيّد بالغ، نقول: بك مرحبا وأهلا ونقول: لك حمدا ولزيد سقيا، فأما قول الله عزّ وجل: {وَأَنَا}
__________
(1) صكت صدرها: ضربته ضربا شديدا.
(2) أبعلي هذا الهمزة للتعجب يقول لما رأتني أطحن الدقيق بالرحى ضربت صدرها بيمينها ضربا شديدا وتعجبت من ذلك وأنكرته عليّ.
(3) تبيني: أعرفي اتوضحي.
(4) بلائي: يأسي. يقول لها لا تعجبي مما ترين وإسألي عن قومي ويأسي عند التمام الحرب والتفات الفوارس بي، وهنا فخر.
(5) ركب ردعه أي خرج لوجهه على دمه.
(6) يابس: صلب. قوي.
(7) تجشمت: تكلفته على مشقة.
(8) الهول: المخافة من الأمر لا يدري ما هجم عليه منه يقول إذا اشتد البأس وهاب الناس الحرب، تكلفت هولها على مشقة وتعب في حين أن الشجاع القوي ينفر ويخاف منها.(1/38)
{عَلى ََ ذََلِكُمْ مِنَ الشََّاهِدِينَ} (1) وكذلك: وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فيكون تفسيره على وجهين أحدهما (2) أن يكون وأنا ناصح لكما وأنا شاهد على ذلكم، ثم جعل من الشاهدين ولمن الناصحين تفسيرا لشاهد وناصح، ويكون على ما فسرنا يراد به التبيين فلا يدخل في الصلة ويكون على مذهب المازني، وقال أبو العباس وهو الذي اختار على أن الألف واللام للتعريف لا على معنى الذي: ألا ترى أنك تقول نعم القائم زيد ولا يجوز نعم الذي قام زيد فإنما هو بمنزلة قولك نعم الرجل زيد، وهذا الذي شرحناه متصل في هذا الباب كلّه مطّرد على القياس، وقوله: ألست أردّ القرن يركب ردعه، فإنما اشتقاقه من السهم، يقال: ارتدع السهم إذا رجع النصل متأخرا في السنخ (3)، ويقال: ركب البعير ردعه، إذا سقط فدخلت عنقه في جوفه، فالكلام مشتقّ بعضه من بعض ومبيّن بعضه بعضا فيقال من هذا في المثل: ذهب فلان في حاجتي فارتدع عنها أي رجع، وكذلك فلان لا يرتدع عن قبيح والأصل ما ذكرت لك أوّلا، ومثل هذا قولهم: فلان على الدّابة وعلى الجبل أي فوق كل واحد منهما، ثم نقول: فلان عليه دين تمثيلا، وكذلك: ركبه دين، وإنما تريد أن الدين علاه وقهره، وكذلك: فلان على الكوفة إذا كان واليا عليها وكذلك: علا فلان القوم إذا علاهم بأمره وقهرهم أو جعل في هذا الموضع، وقوله: وفيه سنان ذو غرارين يابس، فالغرار ههنا الحدّ وللغرار مواضع. قال أبو العباس: وحدثني الرياشيّ في إسناد له قال: قال جبر بن حبيب وذكر الراعي أخطأ الأعور قال: ولم يعلم الحاكي عنه ان الراعي كان أعور إلا من هذا الخبر في قوله:
فصادف سهمه أحجار قفّ (4) ... كسرن العير (5) منه والغرار
__________
(1) سورة الأنبياء: الاية 56.
(2) خطأ مطبعي والمقصود أحدهما.
(3) السنخ: بالكسر. الأصل.
(4) قف بالضم ما ارتفع من الأرض.
(5) العير: بالفتح كل ناتىء في مستوى.(1/39)
وجبر بن حبيب هو المخطىء لأن الغرار ههنا هو الحدّ، وذهب جبر إلى أنه المثال، وقد يكون المثال وليس ذلك بمانعه من أن يحتمل معاني، يقال:
بنوا بيوتهم على غرار واحد أي على مثال واحد كما قال عمرو بن أحمر الباهلي:
وضعن وكلّهنّ على غرار ... هجان (1) اللون قد وسقت (2) جنينا
(الرواية عن أبي العباس وضعن بفتح الضاد والواو والصحيح وضعن بضم الواو وكسر الضاد) ويقال: لسوقنا درّة وغرار أي نفاق وكساد، فهذا معنى اخر وإنما تأويل الغرار في هذا المعنى الأخير أنه شيء بعد شيء ومن هذا: غارّ الطائر فرخه لأنه إنما يعطيه شيئا بعد شيء، وكذلك غارّت الناقة في الحلب، ويقال من هذا ما نمت إلا غرارا، قال الشاعر:
ما أذوق النوم إلا غرارا ... مثل حسو (3) الطير ماء الثماد (4)
فكشف في هذا البيت معنى الغرار وأوضحه. وقوله: يهاب حميّاه الألدّ المداعس، فأصل الحميّا إنما هي صدمة الشيء، يقال: فلان حامي الحميّا، ويقال: صدمته حميّا الكأس، يراد بذلك سورتها. وقوله الألدّ فأصله الشديد الخصومة، يقال خصم ألدّ أي لا ينثني عن خصمه.
قال الله عز وجل: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (5)، كما قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (6) وقال مهلهل:
إنّ تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألدّ ذا معلاق
ويروى مغلاق فمن روى ذلك فتأويله أنه يغلق الحجّة على الخصم، ومن
__________
(1) الهجان: الابل البيض.
(2) وسقت: حملت.
(3) حسو الماء: أخذ الماء شيئا بعد شيء.
(4) الثماد: الماء القليل. هنا شبيه حاله في النوم، ينقطع عنه مره ويهجم عليه أخرى كالطائر يحسو ماء الثماد.
(5) سورة مريم: الاية 97.
(6) سورة الزخرف: الاية 58.(1/40)
قال ذا معلاق فإنما يريد أنه إذا علق خصما لم يتخلص منه، وجعل السعديّ الألدّ الذي لا ينثني عن الحرب تشبيها بذلك، والمداعس المطاعن يقال دعسه بالرمح إذا طعنه قال عمير بن الحباب السلميّ.
أنا عمير وأبو المغلّس (1) ... وبالقناة مازنيّ مدعس (2)
(قال أبو الحسن تأويل قوله أي قول السعدي، أبعلي هذا بالرحى المتقاعس، بالرحى تبيين ولم يوضحه فإن تقدير ما كان من هذا الضرب أنه إذا قال أبعلي هذا بالرحى المتقاعس، فإن المتقاعس يدل على أن تقاعسا وقع فكأنه قال وقع التقاعس بالرحى ولم يرد أن يعمل المتقاعس في قوله بالرحى لأنه في الصلة والصلة من الموصول بمنزلة الدال من زيد أو الياء، فكما لا يجوز أن يتقدم حروف الاسم بعضها على بعض لم يجز أن تتقدم الصلة على الموصول.
فأما قول الله عز وجل: {وَقََاسَمَهُمََا إِنِّي لَكُمََا لَمِنَ النََّاصِحِينَ} (3) وكذلك {وَأَنَا عَلى ََ ذََلِكُمْ مِنَ الشََّاهِدِينَ} (4) فإنه يكون على التبيين الذي قدّمنا ذكره وهو قول البصريين أجمعين. إلا أن أبا عمر الجرمي أجاز أن يجعل لكما وعلى ذلك معلقين بشيئين محذوفين دلّ عليهما من الناصحين ومن الشاهدين لأن من مبغّضة فكأنه قال والله أعلم، وقاسمهما إني ناصح لكما من الناصحين وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين وأما اختياره وذكره أنه قول المازنيّ، وجعله الألف واللام للعهد مثلهما في الرجل وما أشبهه فإن هذا القول غير مرضيّ عندي، لأنك إذا قلت نعم القائم زيد فجعلت الألف واللام كالألف واللام الداخلتين على ما لم يؤخذ من الفعل كالإنسان والفرس وما أشبهه فإنه إذا كان هكذا دخل في باب الأسماء الجامدة وهي التي لم تؤخذ
__________
(1) المغلس: كنية عمير والمازني الماضي لوجهه، الذاهب إلى ما أراد لا يرده شيء.
(2) المدعس كمنبر الكثير الطعن يفتخر بنفسه ويذكر ما فيه من قوة وشجاعة.
(3) سورة الأعراف: الاية 21.
(4) سورة الأنبياء: الاية 56.(1/41)
من أمثلة الفعل وامتنع من أن يعمل مؤخرا إلا على حيلة ووجه بعيد من التبيين الذي ذكرنا. وإذا كان في التأخير لا يعمل بنفسه فكيف يعمل إذا تقدم عليه الظرف وهذا مستحيل لا وجه له. وأما انشاده:
لا أذوق النوم إلا غرارا. فإن هذه أبيات أربعة أنشدناها عن الزياديّ وذكر أنه كان يستحسنها، وهي لأعرابيّ قال:
ما لعيني (1) كحلت بالسهاد (2) ... ولجنبي نابيا (3) عن وسادي (4)
لا أذوق النوم إلا غرارا ... مثل حسو الطير ماء الثماد
أبتغي إصلاح سعدى بهدي ... وهي تسعى جهدها في فسادي
فتتاركنا (5) على غير شيء ... ربما أفسد طول التمادي
وأما إنشاده، وضعن وكلّهنّ على غرار، فإن البيت لعمرو بن أحمر بن العمرّد الباهليّ.
في الأشعار السهلة
قال أبو العباس ومن سهل الشعر وحسنه قول طخيم بن أبي الطخماء الأسديّ يمدح قوما من أهل الحيرة من بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم ثم رهط عديّ بن زيد العباديّ قال:
كأن لم يكن يوم بزورة (6) صالح ... وبالقصر ظل دائم وصديق
ولم أرد البطحاء (7) يمزج ماءها ... شراب من البرّوقتين (8) عتيق
__________
(1) ما لعيني: تجاهل العارف.
(2) السهاد: الأرق.
(3) نابيا من قولهم بناجينه على الفراش لم يطمئن عليه.
(4) الوساد: الفراش.
يقول أي شيء أصابني حتى نقى عني النوم ولم يطمئن جنبي إلى فراشي.
(5) تتاركنا: تركنا بعضنا بعضا.
(6) زوره بالضم، موضع قرب الكوفة.
(7) البطحاء مسيل واسع فيه دفاق الحصى.
(8) البروقتان: ربما كان موضعا يجلب منه الخمر.(1/42)
معي كلّ فضفاض القميص كأنّه ... إذا ما سرت فيه المدام فنيق
بنو السمط (1) والحدّاء كلّ سميدع (2) ... له في العروف الصّالحات عروق
وإني وإن كانوا نصارى أحبّهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق (3)
قال أبو العباس أنشدني هذا الشعر أبو محلّم، ثم أنشدنيه رجل نصراني يكنى أبا يحيى شاعر من هؤلاء القوم الذين مدحوا به، وذكر أنه يذكر طخيما وهو يتردّد إليهم ويظلّ عندهم، قال هذا النصراني وهو رجل من بني الحدّاء قال أذكره وأنا صغير جدا والسلطان يطلبه لقوله: له في العروق الصالحات عروق. يقول أتقول هذا لقوم من النصارى وكان هذا النصراني قد قارب مائة سنة في ما ذكر، وقوله معي كل فضفاض القميص يريد أن قميصه ذو فضول، وإنما يقصد إلى ما فيه من الخيلاء كما قال زهير:
يجرّون الذيول وقد تمشّت ... حميّا الكأس فيهم والغناء (4)
ويقال أن تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الإزار في النار، إنما أراد معنى الخيلاء. وقال الشاعر:
ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا أرخي من المرح (5) الإزارا
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي تميمة الهجيميّ: إياك والمخيلة، فقال يا رسول الله نحن قوم عرب فما المخيلة فقال صلى الله عليه وسلم سبل الإزار، والحديث يعرض لما يجري في الحديث قبله وان لم يكن من بابه ولكن يذكر به، قال أبو العباس روي لنا أن رجلا من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام فانشد إبراهيم قول الشاعر:
__________
(1) بنو السمط: بالكسر. قوم من النصارى وكذا بنو الحداء.
(2) السميدع: السيد الكريم الشيريف.
(3) يتوق: يشتاق.
(4) الفتاء: كالسماء ومعناها الشباب.
(5) المرح: الاختيال.(1/43)
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذ أجرّ إليكم سادرا (1) رسني (2)
فقام ذلك الرجل (هو ابن أبي عتيق) فرمى بشقّ ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس ثم رجع على تلك الحال فجلس، فقال له إبراهيم بن هشام ما بك، فقال إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته فاليت ألا أسمعه، ألا جررت ردائي كما ترى كما سحب هذا الرجل رسنه. وأما الفنيق فإنه الفحل، وإنما أراد خطر أنه بذنبه من الخيلاء فشبّه الرجل من هؤلاء إذا انتشى بالفحل وهو إذا خطر ضرب بذنبه يمنة وشأمة. قال ذو الرمّة:
وقرّبن بالزرق (3) الجمائل (4) بعد ما ... تقوّب (5) عن غربان أوراكها (6) الخطر (7)
ومن حسن الشعر وما يقرب مأخذه قول مخيّس بن أرطأة الأعرجي، والأعرج الحرث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم لرجل من بني حنيفة يقال له يحيى وكان يصير إلى امرأة في قرية من قرى اليمامة يقال لها بقعاء، (قال أبو الحسن أنشدته عن الرياشيّ نقعاء بالنون، وسألت رجلا من أهل اليمامة فصيحا من بني حنيفة عن هذا فقال ما أعرفه إلا بقعاء بالباء).
عرضت نصيحة مني ليحيى ... فقال غششتني والنصح مرّ
وما بي أن أكون أعيب يحيى ... ويحيى طاهر الأخلاق برّ
ولكن قد أتاني أن يحيى ... يقال عليه في بقعاء شرّ
فقلت له تجنّب كلّ شيء ... يعاب عليك أنّ الحرّ حرّ
فهذا كلام ليس فيه فضل عن معناه، وقوله أن الحر حر إنما تأويله أن الحرّ على الأخلاق التي عهدت في الأحرار. ومثل ذلك: أنا أبو النجم
__________
(1) السادر: غير المتهم.
(2) الرسن بالتحريك وهو الحبل.
(3) الزرق بالضم: جمع أزرق وهو بياض لا يطبق بالعظم كله ولكنه وضح في بعضه.
(4) الجماثل: جمع جمل.
(5) تقوب: انتشر.
(6) غربان الأوراك: أطرفها.
(7) الخطر: ما تلبد على أوراك الابل من أبدالها وأبعارها.(1/44)
وشعري شعري. أي شعري كما بلغك وكما كنت تعهد. وكذلك قولهم الناس للناس أي الناس كما كنت تعهدهم.
(قال أبو الحسن ومنه قول الله عز وجل {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مََا غَشِيَهُمْ} (1)) وقوله فقلت له تجنّب كل شيء يعاب عليك كقول عمرو بن العاص لمعاوية حين وصف عبد الملك بن مروان فقال: اخذ بثلاث تارك لثلاث، اخذ بقلوب الرجال إذا حدّث وبحسن الاستماع إذا حدّث، وبأيسر الأمرين عليه إذا خولف، تارك للمراء، تارك لمقاربة اللئيم، تارك لما يعتذر منه كقوله:
تجنّب كلّ شيء ... يعاب عليك أن الحرّ حرّ
ومما يستحسن انشاده من الشعر لصحة معناه وجزالة لفظه وكثرة تردّد ضربه (2) من المعاني بين الناس، قول ابن ميّادة لرياح بن عثمان بن حيّان المرّيّ من مرّة غطفان وكلاهما من مرّة غطفان، بقوله في فتنة محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، وكان أشار عليه بأن يعتزل القوم فلم يفعل فقتل فقال ابن ميّادة:
أمرتك يا رياح بأمر حزم ... فقلت هشيمة (3) من أهل نجد
نهيتك (4) عن رجال من قريش ... على محبوكة الأصلاب جرد
ووجدا ما وجدت على رياح ... وما أغنيت شيئا غير وجدي
فقوله فقلت هشيمة من أهل نجد تأويله ضعفة، وأصل الهشيم النبت إذا ولّى وجفّ وتكسر فذرته الرياح يمينا وشمالا.
قال الله تعالى: فأصبح {هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيََاحُ} (5) والنجد أعالي
__________
(1) سورة طه: الاية 78.
(2) ضربه: نوعه.
(3) الهشيمة: الأرض التي يبس بناتها معنى البيت: أني أمرت الرياح أن تعتزل هذه الفتنة وأن لا تدخل فيها وكان ذلك رأيا حازما فاستضعفتني ولم تسمع قولي.
(4) تهنيك: صرفت نظرك.
(5) سورة الكهف: الاية 45.(1/45)
الأرض. وقوله على محبوكة الأصلاب جرد، فالمحبوك الذي فيه طرائق واحدها حباك والجماعة حبك، يقال لطرائق الماء حبك وكذلك فالمحبوك الذي فيه طرائق واحدها حباك والجماعة حبك، يقال لطرائق الماء حبك وكذلك الطرائق التي على جناح الطائر، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى:
{وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْحُبُكِ} (1) قال أبو الحسن ابن ميادة اسمه الرمّاح وأمه ميّادة وأبوه أبرد وكان عاقّا بأمه ولها يقول:
أعرنزمي ميّاد للقوافي ... واستمعيهنّ ولا تخافي
ستجدين ابنك ذا قذاف
وأصل الأعرنزام التجمّع والتقبّض، يقول استعدّي لها وتهيّئي. وأنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد له:
ونواعم (2) قد قلن يوم ترحّلي (3) ... قول المجدّ وهنّ كالمرّاح
يا ليتنا من غير أمر فادح (4) ... طلعت علينا العيس بالرّمّاح
في أبيات له يعني نفسه، قال أبو الحسن وتمام الأبيات:
بينا كذاك رأيتني متعصبا ... بالخزّ فوق جلالة سرداح (5)
فيهنّ صفراء المعاصم (6) طفلة (7) ... بيضاء مثل غريضة (8) التفّاح
ريّشن (9) حين أردن أن يرمينني ... نبلا بلا ريش ولا بقداح (10)
__________
(1) سورة الذاريات: الاية 7.
(2) نواعم جمع ناعمة وهي الحسنة العيش والغذاء.
(3) الترحل: الانتقال من مكان إلى اخر.
(4) فادح: خطير.
(5) السرداح: بالكسر وهي الناقة الطويلة.
(6) المعاصم: جمع معصم كمنبر وهو اليد هنا.
(7) الطفلة: الرخصة الناعمة.
(8) الغريض: الأبيض الطري.
(9) ريشن: أصل الترييش الزاق الريش على السهم وهنا استعارة للعين الجميلة الساحرة تفتن من نظرت إليه.
(10) القداح: جمع قدح بالكسر وهو السهم قبل أن يلصق به الريش.(1/46)
ونظرن من خلل الستور بأعين ... مرضى مخالطها السقام صحاح)
نبذة من كلام الحكماء
قال أبو العباس ثم نذكر من كلام الحكماء وأمثالهم وادابهم صدرا ثم نعود إلى المقطّعات إن شاء الله. يروي عن ابن عمر أنه كان يقول: إنّا معشر قريش كنا نعدّ الجود والحلم السودد ونعدّ العفاف وإصلاح المال المروءة، قال الأحنف بن قيس كثرة الضحك تذهب الهيبة وكثرة المزح تذهب المروءة ومن لزم شيئا عرف به، وقيل لعبد الملك بن مروان ما المروءة فقال موالاة الأكفاء ومداجاة الأعداء، وتأويل المداجاة المداراة أي لا تظهر لهم ما عندك من العداوة وأصله من الدجى وهو ما ألبسك الليل من ظلمته.
وقيل لمعاوية ما المروءة فقال احتمال الجريرة وإصلاح أمر العشيرة، فقيل له وما النبل فقال: الحلم عند الغضب والعفو عند القدرة. وكان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له يا هذا إنك قد اخترتني جارا واخترت داري دارا فجناية يدك عليّ دونك وان جنت عليك يد فاحتكم عليّ حكم الصبيّ على أهله.
وذلك أن الصبي قد يطلب ما لا يوجد إلا بعيدا ويطلب ما لا يكون البتّة (1). قال الشاعر (هو الأعرج المعنيّ):
ولا تحكما حكم الصّبي فإنه ... كثير على ظهر الطّريق مجاهله
ويروى أن معاوية بن أبي سفيان لما نصّب يزيد الولاية العهد أقعده في قبّة حمراء، فجعل الناس يسلّمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين اعلم أنك لو لم تولّ هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف جالس فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر فقال: أخاف الله أن كذبت وأخافكم أن صدقت فقال:
جزاك الله عن الطاعة خيرا وأمر له بألوف، فلما خرج الأحنف لقيه الرجل بالباب فقال: يا أبا بحر إني لأعلم أن شرّ من خلق الله هذا وابنه ولكنهم قد
__________
(1) البتة: مطلقا.(1/47)
استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحنف: يا هذا أمسك فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون عند الله وجيها.
وقال رجل يهجو بلال بن البعير المحاربيّ (الشاعر الرمّاح ابن ميادة):
يقولون أبناء البعير وما له ... سنام ولا في ذروة المجد غارب (1)
أرادت وذاكم من سفاهة رأيها ... لأهجوها لمّا هجتني محارب
معاذ إلهي انّني بعشيرتي ... ونفسي عن ذاك المقام لراغب
وقال أبو الطمحان القينيّ (اسمه حنظلة بن الشرقيّ والطمحان فعلان من طمح بأنفه وبصره إذا تكبّر والقين الحدّاد وكلّ صانع قين والقين أيضا موضع القيد من البعير):
وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه
نجوم سماء كلّما غار كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم (2) ووجوههم ... دجى الليل (3) حتى نظّم الجزع (4) ثاقبه
وما زال منهم حيث كانوا مسوّد ... تسير المنايا حيث سارت ركائبه
وقال إياس بن الوليد يمدح قومه:
إني وجدّك من قوم إذا طلبوا ... بعد النسيئة دينا أحسنوا الطلبا
لا تحسبوا هجم أبياتي (5) علانية ... ولا استلاب سلاحي ذاهبا لعبا
تبقى المعاير (6) بعد القوم باقية ... ويذهب المال في ما كان قد ذهبا
وقال اخر:
__________
(1) الغارب: من البعير هو ما بين العنق والسنام.
(2) الاحساب جمع حسب بالتحريك وهو ما يعد من مفاخر الاباء.
(3) دجى الليل: بالضم ظلمته.
(4) الجزع بفتح الجيم: الخرز اليماني فيه سواد وبياض وتشبه به الأعين ومعنى البيت أن حساب هؤلاء القوم واضحة ظاهرة نقية صافية بكاء صفاؤها يضيء للناس ظلام الليل حتى أن ناظم العقد ينظم فيه وهذه مبالغة شريفة.
(5) هجم: هدم.
(6) المعاير: المعايب ومعنى البيت هنا أن المال يذهب ويفنى وتبقى المعايب والمخازي.(1/48)
ليسوا لعمرو غير تأشيب (1) نسبة ... ولكن عمرا غيّبته المقابر
إذا عيّروا (2) قالوا مقادير قدّرت ... وما العار إلا ما تجرّ المقادر
وقال رجل من بني نهشل بن دارم:
إذا مولاك كان عليك عونا ... أتاك القوم بالعجب العجيب
فلا تخنع إليه ولا ترده ... ورام برأسه عرض الجبوب
فما لشافة من غير ذنب ... إذا ولّى صديقك من طبيب
قوله ورام برأسه عرض الجبوب يريد الأرض وهو اسم من أسمائها، أنشدني التوّزيّ لرجل من بني مرّة يرثي ابنه:
بنيّ على عيني وقلبي مكانه ... ثوى بين أحجار ورهن جبوب
وقوله: فما الشافة يقول لبغض يقال شئفت الرجل أشأفه شافة وشأفا مثل شعفا وقد يقال في هذا المعنى شنفته. قال الراجز:
لمّا رأتني أمّ عمرو صدفت ... ومنعتني خيرها وشنفت
وقال اخر: ولم تداو غلّة القلب الشّنف.
وقال نبهان بن عكّيّ العبشمي:
يبقرّ بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقد ملّ السرى كل واجد
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطا بسمّ الأساود
قوله: ذرا عقدات فالذروة من كل شيء أعلاه فذروة السنام أعلاه وذروة المجد أرفعه وأسناه. ويقال فلان في ذروة قومه إذا كان في الموضع الرفيع منهم، وأما قول لبيد:
مدمن يجلو بأطراف الذرا ... دنس الأسؤق عن عضب أفل
__________
(1) التأشيب: التفاف الشجر واستعمل هنا للدلالة على تشابك النسب.
(2) عيروا: نسب العيب.(1/49)
فإنما يقول هذا رجل يعرقب الإبل لينحرها ثم يمسح ذرا أسنمتها بسيفه ليجلو ما عليه من دم الأسؤق. وقوله عضب أي قاطع، ومن ذلك رجل عضب اللسان، وجعله أفلّ لكثرة ما يقارع به الحروب كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول (1) من قراع (2) الكتائب
وقوله: عقدات فهو ما انعقد وصلب من الرمل، الواحدة عقدة والجمع عقد وأعقاد أيضا وعقدات.
ذو الرمة يمدح هلال بن أحوز المازني
قال ذو الرمّة لهلال بن أحوز المازنيّ يمدحه.
رفعت مجد تميم يا هلال لها ... رفع الطّراف (3) على العلياء بالعمد (4)
حتى نساء تميم وهي نازحة (5) ... بقلّة الحزن فالصمّان فالعقد
لو يستطعن إذا ضافتك مجحفة (6) ... وقينك الموت بالاباء والولد
وقوله الأبرق: فالأبرق حجارة يخلطها رمل وطين، يقال لتلك برقة وأبرق برقاء يا فتى، كما يقال الأمعز والمعزاء وهي الأرض الكثيرة الحصباء. ومثل ذلك الأبطح والبطحاء وهو ما انبطح من الأرض، فمن قال أبرق فإنما أراد المكان ومن قال برقاء فإنما أراد البقعة. وقوله المتقاود يريد المنقاد المستقيم، ومن ذلك قولهم قدته أي جررته على استقامة وكذلك طريق منقاد وفلان قائد الجيش. قال حاتم بن عبد الله الطائيّ يضرب هذا مثلا:
إنّ الكريم من تلفّت حوله ... وإنّ اللئيم دائم الطرف أقود
وقوله: ولو كان مخلوطا بسم الأساود، يريد جميع أسود سالخ وجمعه
__________
(1) فلول: شقوق.
(2) قراع: معارك.
(3) الطراف: بيت في أدم.
(4) العمد: جمع عامود.
(5) نازحة: بعيدة.
(6) مجحفة: الداهية.(1/50)
على أساود لأنه يجري مجرى الأسماء وما كان من باب أفعل اسما فجمعه على أفاعل نحو أفكل وأفاكل والأكبر والأكابر وكذلك كل ما سمّيت به رجلا تقول أحمد وأحامد وأسلم وأسالم فإن كان نعتا فجمعه على فعل نحو أحمر وحمر وأصفر وصفر ولكنّ أسود إذا عنيت به الحية، وأدهم إذا عنيت به القيد، وأبطح إذا عنيت به المكان المنبطح، وأبرق إذا عنيت به المكان مضارعة للأسماء لأنها تدل على ذات الشيء وان كانت في الأصل نعتا، تقول في جمعها الأباطح والأبارق والأداهم والأساود، فإن أردت نعتا محصنا يتبع المنعوت قلت مررت بثياب سود وبخيل دهم وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه قال جرير:
هو القين وابن القين لا قين مثله ... لفطح المساحي (1) أو لجدل (2) الأداهم
رثاء الأشهب لقوم قتلوا الفلج
وقال الأشهب ابن رميلة (قال أبو الحسن رميلة اسم أمّه):
أسود شرى (3) لاقت أسود خفيّة (4) ... تساقوا على حرد دماء الأساود
قوله على حرد يقول على قصد فأما قول الله عز وجل: {وَغَدَوْا عَلى ََ حَرْدٍ قََادِرِينَ} (5) فإن فيه قولين أحدهما ما ذكرنا من القصد. قال الشاعر:
قد جاء سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنّة المغلّة
(قال أبو حاتم هذه صنعة من لا أحسن الله ذكره يعني قطريّا) وقالوا على حرد أي على منع، من قولهم حاردت السنة إذا منعت قطرها وحاردت الناقة إذا منعت درّها.
__________
(1) المساحي: جمع مسحاة بالكسر وهو ما يسحى به الطين.
(2) الجدل: أحكام الفتل.
(3) شرى: كعلى طريق في الجبل في جيل سلمى كثير الأسود.
(4) خفية: كغنية ماء لسد أيضا.
(5) سورة القلم الاية 25.(1/51)
قال أبو الحسن رواية أبي العباس يقر بعيني يريد يقر عيني ثم أتى بالباء توكيدا، وقال لنا هكذا سمعته، ويقال أقرّ الله عينه يقرّها وقرّتّ عينه تقر وقررت بالمكان أقر وقال الأصمعي قرّت عينه من القرّ وهو البرد أي جمدت فلم تدمع، وهو بحذاء سخنت عينه وأجود مما روى عندي يقرّ بعيني وهو الأصل والباء في موضعها غير مؤكّدة. وقال أبو العباس الذي رويت وقد ملّ السّرى كلّ واحد وهو المنفرد في السير المتوحّد به. وروى غيره كلّ واجد أي عاشق وروي أيضا كل واخد وهو من الوخد والوخدان وهو السير الشديد والوخد المصدر والوخدان الاسم) قال أبو العباس وقال القتّال الكلابي واسمه عبيد بن المضرحيّ:
أنا ابن أسماء أعمامي لها وأبي ... إذا ترامى بنو الإموان بالعار
لا أرضع الدهر إلا ثدي واضحة ... لواضح الخدّ يحمي حوزة الجار
من ال سفيان أو ورقاء يمنعها ... تحت العجاجة (1) ضرب غير عوّار
يا ليتني والمنى ليست بنافعة ... لمالك أو لحصن أو لسيّار
طوال أنضية الأعناق لم يجدوا ... ريح الإمام إذا راحت بأزفار
قوله إذا ترامى بنو الاموان بالعار، فالإموان جمع أمة وأصل أمة فعلة متحركة العين، وليس شيء من الأسماء على حرفين إلا وقد سقط منه حرف يستدل عليه بجمعه أو بتثنيته أو بفعل ان كان مشتقا منه، لأن أقل الأصول ثلاثة أحرف ولا يلحق التصغير ما كان أقلّ منها، فأمة، قد علمنا أن الذاهب منها أو بقولهم إموان، كما علمنا أن الذاهب من أب وأخ الواو بقولهم أبوان وأخوان وعلمنا أن امة فعلة متحركة بقولهم في الجميع ام، فوزن هذا أفعل كما قالوا أكمة واكم ولا تكون فعلة على أفعل، ثم قالوا إموان كما قالوا في المذكّر الذي هو منقوص مثله إخوان. واستوى المذكر والمؤنث لأن الهاء زائدة كما استويا في فعل الساكن العين، تقول كلب وكلاب وكعب وكعاب
__________
(1) العجاجة: الغبار الذي تنشره حوافر الخيل.(1/52)
كما تقول في المؤنث طلحة وطلاح وجفنة وجفان وصحفة وصحاف ونظير ذلك من غير المعتل ورل وورلان وبرق وبرقان وخرب وخربان وهو ذكر الحبارى والبرق الحمل. ومن أنشد أموان فقد غلط لأنه يحتجّ بقولهم حمل وحملان وفلق وفلقان وهذا إنما يحمل على ما كان معتلا مثله نحو أخ وإخوان، وقد روى أبو زيد أخوان فإلى هذا ذهبوا. والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الضعيفة. وقوله لا ارضع الدهر فهذا على لغته لأن قيسا تقول رضع يرضع وأهل الحجاز يقولون رضع ويرضع وينشدون بيت عبد الله بن همّام السّلوليّ على وجهين وهو:
إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكنّ حسن القول خالفه الفعل
وذمّوا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق (1) حتى ما يدرّ لها ثعل (2)
وبعضهم يقول يرضعونها. وقوله لا أرضع الدهر الاثدي واضحة يقول إنما ترضعني أمي وليست غير كريمة كما قال الأعشى:
يا خير من يركب المطيّ ولا ... يشرب كأسا بكفّ من بخلا
يقول إنما تشرب بكفك ولست ببخيل، ومثل هذا قول التميمي لنجدة ابن عامر الحنفيّ الخارجيّ:
متى تلق الحريش حريش سعد ... وعبّادا يقود الدّار عينا (3)
تبيّن أنّ أمّك لم تورّك ... ولم ترضع أمير المؤمنينا
وقوله واضحة أي خالصة في نسبها وليست بأمة، وهذا توكيد لبيته الأول.
وقد أنشد بعضهم لواضح الجدّ والمعنى قريب. وقوله يحمي جوزة الجار أي ما يجوزه، يقال فلان مانع لحوزته أي لما صار في حيّزه.
ويروى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال للأزد اربع
__________
(1) الأفاويق: جمع فيق. بالكسر وهي إسم لللبن المجتمع في الضرع بين الحلبتين.
(2) الثعل بالضم زيادة في أطباء الناقة والبقر والشاة وهنا تشبيه لا يتزاحم المال.
(3) الدارعين: لا بسي الدروع.(1/53)
ليست لحيّ: بذل لما ملكت أيديهم ومنع لحوزتهم وحي عمارة لا يحتاجون إلى غيرهم وشجعان لا يجبنون. وقوله لمالك أو لحسن أو لسيّار فهؤلاء بيت فزارة وبيوتات العرب في الجاهلية ثلاثة، فبيت تميم بنو عبد الله بن دارم ومركزه بنو زرارة، وبيت قيس بنو فزارة ومركزة بنو بدر، وبيت بكر بن وائل بنو شيبان ومركزه بنو ذي الجدين، وقوله طوال انضيه الأعناق، فالنضيّ مركّب النصل في السنخ وضربه مثلا وإنما أراد طوال الأعناق كما قال الأعشى:
الواطئين على صدور نعالهم ... يمشون في الدّفنيّ (1) والأبراد
يريد السّودد والنعمة ولم يخصصّ الصدور وإنما أراد النعال كلها. وقال الشاعر (هو الشمردل بن شريك اليربوعيّ عن ابن قتيبة):
يشبّهون ملوكا في تجلّتهم ... وطول أنضية الأعناق والّلمم
إذا بدا المسك يندى في مفارقهم (2) ... راجوا كأنّهم مرضى من الكرم
(قال أبو الحسن وغيره يروي يشبّهون قريشا في تجلتهم). وقوله بأزفار فالزفر الحمل ويضرب مثلا للرجل فيقال إنه لزفر أي حمّال للأثقال ويقال أتى حمله فازدفره. قال أبو قحافة أعشى باهلة:
أخو رغائب (3) يعطيها ويسئلها ... يأبى الظلامة (4) منه النوفل (5) الزفر
وإنما يريده بعينه كقولك لئن لقيت فلانا ليلقينّك منه الأسد. وقوله النوفل من قولهم إنه لذو فضل ونوافل. وقال رجل من بني عبس (قال أبو الحسن يقوله لعروة بن الورد):
__________
(1) الدفني: ثوب مخطط.
(2) المفارق: جمع مفرق كمقعد ومجلس وسط الرأس وهو الذي يغرق فيه الشعر، يريد أنهم أهل ترف ونعمة ومجد.
(3) رغائب جمع رغبة وهي العطاء الكثير.
(4) الظلامة: ما يؤخذ ظلما.
(5) النوفل: صفة للكرم والجود أو الشدة والصلابة.(1/54)
لا تشتمنّي يا ابن ورد فإننّي ... تعود على مالي الحقوق العوائد (1)
ومن يؤثر الحقّ النؤوب تكن به ... خصاصة (2) جسم وهو طيّان (3) ماجد
وإني امرؤ عافي (4) إنائي شركة ... وأنت امرء عافي إنائك واحد
أقسم (5) جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
قوله النؤوب يريد الذي ينوبه، وكلّ واو انضمّت لغير علة فأنت في همزها وتركها بالخيار، تقول في جمع دار أدور وان شئت لم تهمز، وكذلك النؤوب والقؤول لانضمام الواو. فأما الواو الثانية فإنها ساكنة وقبلها ضمة وهي مدّة فلا يعتدّ بها، ولو التقت واوان في أوّل كلمة وليست أحداهما مدّة لم يكن بدّ من همز الأولى، تقول في تصغير واصل وواقد أويصل وأويقد لابدّ من ذلك.
فأما وجوه فإن شئت همزت فقلت أجوه وان شئت لم تهمز.
قال الله عز وجل: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} (6). والأصل وقّتت. ولو كان في غير القران لجاز إظهار الواو وإن شئت. وقوله تعالى: {مََا وُورِيَ عَنْهُمََا} (7)، الواو الثانية مدّة فلا يعتدّ بها ولو كان في غير القران لجاز الهمز لانضمام الواو، وقولي إذا انضمت من غير علة فالعلة أن تكون ضمتها إعرابا نحو هذا غزو يا فتى ودلو كما ترى فهذا مما لا يجوز همزه لأن الضمة للاعراب فليست بلازمة أو تنضم لالتقاء الساكنين فذلك أيضا غير لازم فلا يجوز همزه نحو اخشوا الرجل ولتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولترونّ الجحيم، ومن همز من هذا شيئا فقد أخطأ.
__________
(1) العوائد: ما ينتاب المال من خسارة ومصائب.
(2) الخصاصة: بالفتح الفقر والضعف والخلل.
(3) طيان بالفتح. الذي لم يأكل شيئا.
(4) العافي: الذي يطلب العفو وهو هنا الفضل والزيادة.
(5) أقسم بعين اتحمل أمور الناس وأقسم عليهم مالي وإن كنت محتاجا إليه.
(6) سورة المرسلات. الاية 11.
(7) سورة الأعراف: الاية 20.(1/55)
من فخر القطامي
وقال رجل من بني تميم:
ألبان إبل تعلّة بن مسافر ... ما دام يملكها عليّ حرام
وطعام عمران بن أوفى مثلها ... ما دام يسلك في البطون طعام
إنّ الذين يسوغ في أعناقهم ... زاد يمنّ عليهم للئام
لعن الإله تعلّة بن مسافر ... لعنا يشنّ عليه من قدّام
وهذا كلام فصيح جدا. قوله يسوغ في أعناقهم يريد حلوقهم لأن العنق يحيط بالحلق، ويشبه هذا في الاتساع في الفصاحة لا في المعنى قول القطاميّ:
لم تر قوما هم شرّ لإخوتهم ... منّا عشيّة يجري بالدّم الوادي
نقريهم (1) لهذميّات (2) نقدّ (3) بها ... ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد
لأن الخياطة تضمّ خرق القميص، والسّرد يضم حلق الدرع فضربه مثلا فجعله خياطة (قال أبو الحسن روى أبو العباس: وطعام عمران بن أوفى مثلها. رد الهاء والألف على الألبان وهذا لا نظر فيه، وروى أيضا مثله لأن الألبان تجري مجرى اللبن فحمله على المعنى وقد يجوز أن تجعل الألبان جمعا فتذكّر لتذكير الجمع. وروي أيضا: ما دام يسلك في الحلوق طعام.
وروى الفرّاء في هذا الشعر: إن الذين يسوغ في أحلاقهم. وإنما كان ينبغي أن يكون في أحلقهم كقولك فلس وأفلس وما أشبهه ولكنه شبّه باب فعل بباب فعل كما قالوا زند وازناد، وفرخ أفراخ قال الحطيئة لعمر رحمه الله تعالى:
__________
(1) نقريهم: هذا تهكم واستخذاء: من قرى الأضياف: إطعامهم، وهو يطعمهم الموت.
(2) واللهذميات نسبة إلى اللهذم وهو القاطع من الأسنة.
(3) نقد بها: تقطع ما كان قد خيط عليهم وهو الدروع(1/56)
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ (1) ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ففعلوا هذا تشبيها بباب فعل كما شبّهوا فعلا بفعل في الجمع فقالوا جبل وأجبل وزمن وأزمن كما قال:
إني لأكني بأجبال عن اجبلها ... وباسم أودية حبا لواديها
فأتى به على الأصل وتشبيها بغيره على ما أخبرتك. وقال ذو الرمة:
أمنزلتي ميّ سلام عليكما ... هل الأزمن اللائي مضين رواجع
والباب أزمان كما قال رؤبة:
أزمان لا أدري وإن سألت ... ما فرق بين جمعة وسبت
وروى أبو العباس البيت الأخير مقوى وجعله نكرة وهو قوله من قدّام كما تقول جئتك من قبل ومن بعد ومن عل وما أشبهه، كما قرأ بعضهم لله الأمر من قبل ومن بعد كما تقول أوّلا واخرا، ورواه الفرّاء من قدّام وجعله معرفة وأجراه مجرى الغايات نحو قبل وبعد كما قال طرفة بن العبد:
ثم تفري اللجم من تعدائها ... فهي من تحت مشيحات الحزم (2)
وكما قال عنّي بن مالك العقيليّ أنشده الفراء أيضا:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء
فهذا الضرب مما وقع معرفة على غير جهة التعريف، وجهة التعريف أن يكون معرّفا بنفسه كزيد وعمرو أو يكون معرّفا بالألف واللام أو بالإضافة فهذه جهة التعريف وهذا الضرب إنما هو معرّف بالمعنى فلذلك بني إذ خرج من الباب، ويروى لعنا يسنّ عليه بالسين ويسنّ ويشنّ واحد أي يصب إلا أن
__________
(1) ذي مرخ: كناية عن حمرة الحواصل.
(2) تفري: تشق. نفري الشيء، نشقه بقصد الإطلاع أو الإفساد.
واللجم بضمتين جمع لجام وسكن هنا لوزن الشعر والتعداء بالفتح. الإحضار هو ضرب من السير والشبح بالضم يعني المقبل عليك أو المانع لما وراء ظهره.
وهنا استخدام هذا لوصف الخيل في عدوها السريع.(1/57)
بعضهم، قال السنّ الصبّ على جهة واحدة وقالوا يقال شننت عليه الماء وسننته، وسننت عليه الدرع لا غير وقالوا شننت عليه الغارة لا غير) قال أبو العباس وقال القطاميّ:
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأيّ رجال بادية (1) ترانا
ومن ربط الجحاش (2) فإنّ فينا ... قنا سلبا وأفراسا حسانا
وكنّ إذا أغرن على قبيل ... فأعوزهنّ كون حيث كانا
أغرن من الضباب على حلال ... وضبّة (3) إنه من حان حانا
وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
قوله الحضارة يريد الأمصار، وتقول العرب فلان باد وفلان حاضر وفي الحديث ولا يبيعنّ حاضر لباد، وتأويل ذلك أن البادي يقدم وقد عرف أسعار ما معه وما مقدار ربحه فإذا جاءه الحاضر عرّفه سنّة البلد فأغلى على الناس، ومثل ذلك النهي عن تلقّي الجلب ومثله دعوا عباد الله يصب بعضهم من بعض ويقال حيّ حلال إذا كانوا متجاورين مقيمين وأنشد الأصمعي:
أقوم يبعثون العير تجرا ... أحبّ إليك أم حيّ حلال
__________
(1) البادية خلاف الحضر يقول من أعجبه رجال الأمصار والحضر فليذهب إلى البادية ولينظر إلى أهلها فإنه يرى رجالا أحسن منهم وأعجب يريد أن يفضل رجال البادية على رجال الحاضرة بما لهم من العزة والمنعة.
(2) الجحاش: جمع جحش وهو هنا مهر الفرس.
(3) ربما يكون المعنى المقصود أنه من قرب منهم إلينا هلك أو معناه أنه من قضي عليه بالهلاك هلك وهنا مدح القوم بالغرة وقوة الإرادة.(1/58)
2 - باب في أقوال الحكماء
قيل لمعاوية ما النبل فقال الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا أخبركم بشراركم، قالوا بلى قال من أكل وحده ومنع رفده، وضرب عبده، ألا أخبركم بشرّ من ذلكم من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنبا، ألا أخبركم بشرّ من ذلكم من يبغض الناس ويبغضونه.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم وهم يد على من سواهم والمرء كثير بأخيه. قوله صلى الله عليه وسلم: تتكافأ دماؤهم من قولك فلان كفء لفلان أي عديله وموضوع بحذائه. قال الله عزّ وجل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (1). ويقال فلان كفاء فلان وكفيء فلان وكفء فلان ويروى أن الفرزدق بلغه أن رجلا من الحبطان بن عمرو بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم فقال الفرزدق:
بنو دارم أكفاؤهم ال مسمع ... وتنكح في أكفائها الحبطات
فال مسمع بيت بكر بن وائل في الإسلام وهم من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، والحبطات هم بنو الحرث بن عمرو بن تميم، فقوله اكفاؤهم إنما هو جمع كفء يا فتى، فقال رجل من الحبطات يجيبه:
__________
(1) سورة الإخلاص: الاية 4.(1/59)
أما كان عبّاد كفيئا لدارم ... بلى ولأبيات بها الحجرات
يعني بني هاشم من قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنََادُونَكَ مِنْ وَرََاءِ الْحُجُرََاتِ}. (1) وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: من لانت كلمته وجبت محبته. وقال قيمة كلّ امرىء ما يحسن. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يثبتن لك الودّ في صدر أخيك، أن تبدأه بالسّلام وتوسّع له في المجلس وتدعوه بأحبّ الأسماء إليه. وقال كفى بالمرء غيّا أن تكون فيه خلّة من ثلاث، أن يعيب شيئا ثم يأتي مثله أو يبدو له من أخيه ما يخفي عليه من نفسه، أو يؤذي جليسه في ما لا يعنيه، وقال عبد الله بن العباس لبعض اليمانية لكم من السماء نجمها ومن الكعبة ركنها ومن السّيوف صميمها يعني سهيلا من النجوم، والركن اليماني وصمصامة عمرو بن معدي كرب. ويروى ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوما من أجود العرب، فقيل له حاتم قال:
فمن شاعرها؟ قيل امرؤ القيس بن حجر، قال فمن فارسها؟ قيل عمرو بن معدي كرب، قال: فأيّ سيوفها أمضى قيل: الصمصامة. وقال معاوية بن أبي سفيان للأحنف بن قيس وجارية بن قدامة ورجال من بني سعد معهما كلاما أحفظهم (2)، فردّا عليه جوابا مقذعا وابنة قرظة (3) في بيت يقرب منه، فسمعت ذلك فلما خرجوا قالت: يا أمير المؤمنين لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاما تلقّوك به فلم تنكر، فكدت أخرج إليهم فأسطو بهم، فقال لها معاوية إنّ مضر كاهل العرب وتميما كاهل مضر وسعدا كاهل تميم وهؤلاء كاهل سعد. وكان معاوية يقول إني لا أحمل السيف على من لا سيف معه وان لم تكن إلا كلمة يشتفي بها مشتف جعلتها تحت قدمي ودبر أذني.
المقذع الذي فيه إقذاع وهو السيىء من القول.
__________
(1) سورة الحجرات: الاية 4.
(2) أحفظهم: أثار حفيظتهم أغضبتهم.
(3) قرظة بالتحريك لعله قرظة بن كعب الصحابي.(1/60)
3 - باب في الرثاء والإرث والغزل
قال أبو العباس: قال رجل أحسبه من بني سعد يرثي رجلا:
ومحتضر (1) المنافع أريحيّ ... نبيل (2) في معاوزة طوال
عزيز عزّة في غير فحش ... ذليل للذليل من الموالي
جعلت وسادة إحدى يديه ... وتحت جمائه خشبات ضال
ورثت سلاحه وورثت ذودا ... وحزنا دائما أخرى الليّالي
قوله: أريحيّ هو الذي يرتاح للمعروف أي يخف له ويقال: أخذت فلانا أريحية أي خفّة وحركة لفعل المعروف والمعاوز الثياب التي يتبذّل فيها الرجل وهي دون الثياب التي يتجمّل بها واحدها معوز. قال الشّماخ في نعت القوس:
إذا سقط الأنداء صينت وأشعرت ... حبيرا ولم تدرج عليها المعاوز
وقوله في معاوزة فزاد الهاء فإنما يفعل ذلك لتحقيق التأنيث لأن كل جمع مؤنت كما تقول في جمع صيقل صياقل وصياقلة، وكذلك: جوارب وجواربه، إلا أن أكثر الأعجمي يختص بالهاء وهو في العربيّ جيّد وفي العجميّ أكثر استعمالا نحو الموازجة (3)، فإن كان منسوبا كان الباب فيه إثبات الهاء وتركها جائز نحو المهالبة والمسامعة والمناذرة والأحامرة وقالوا السيابجة لأنه قد اجتمع
__________
(1) محتضر المنافع حاضرها، وما ينتفع به ويرتفق.
(2) النبيل: الذكي، النجيب.
(3) الموازجة: جمع موزج وهو الخف لفظه فارسية معربة.(1/61)
فيه النسب والعجمة. وقوله: تحت جمائه يعني شخثه، والضال السدر البرّيّ وما كان من السدر على الأنهار فليس بضال ولكن يقال له عبري. قال ذو الرّمّة:
(قطعت إذا تجوّبت العواطي (1) ... ضروب السّدر عبريّا وضالا)
وقوله: ورثت سلاحه وورثت ذودا يصف قرب نسبه منه والذود القطعة من الإبل وأكثر ما يستعمل ذلك في الإناث ويجوز في السائر، ومنه قولهم الذود إلى الذود إبل. ثم قال: وحزنا دائما أخرى الليالي، كما قال الأول وغبط بميراث ورثه من أحد أهله:
يقول جزء ولم يقل جللا ... أني تروّحت ناعما جذلا
إن كنت أرننتني بها كذبا ... جزء فلاقيت مثلها عجلا
أغبط أن أرزأ (2) الكرام وان ... أورث ذودا شصائصا نبلا
قوله ولم يقل جللا أي صغيرا والجلل يكون للصغير ويكون للكبير، من ذلك قوله: كلّ شيء ما خلا الله جلل، أي صغير. وقال لبيد في الكبير:
وأرى أربد قد فارقني ... ومن الأرزاء رزء ذو جلل
وقوله شصائصا يعني حقيرة دميمة، وزعم التوّزيّ أن النبل من الأضداد يكون للجليل والحقير واحتجّ بهذا البيت الذي ذكرناه، قال يريد ههنا الحقيرة. وقوله: أزننتني أي قرقتني ونسبتني إليه يقال: فلان يزنّ بكذا أي يسمّى به وينسب إليه، قال امرؤ القيس بن حجر:
كذبت لقد أصبي على المرء عرسه (3) ... وأمنع عرسي أن يزنّ بها الخالي
وفي معنى قوله ورثت سلاحه قول الشاعر:
__________
(1) تجوبت العواطي: جمع عاطية وهي الطبية تتطاول إلى الشجر لتتناول منه والشاهد في قوله عبريا وضالا فقسم السدر إليهما.
(2) أريد به أخوه.
(3) أصبي على المرء عرسه: أخدعها وأفشها وعرس الرجل بالكسر إمرأته.(1/62)
يفرح الوارث بالمال إذا ... ورث المال ويبكي إن غضب
ومثله قول نعامة الفزاريّ: يا حبّذا التراث لولا الذلّة.
وقال جميل بن معمر:
ما صائب من نابل (1) قذفت به ... يد وممرّ العقدتين وثيق
له من خوافي النسر حمّ نظائر ... ونصل كنصل الزّاعبيّ فتيق
على نبعة زوراء (2) أيما خطامها ... فمتن وأيما عودها فعتيق
بأوشك قتلا (3) منك يوم رميتني (4) ... نوافذ (5) لم تعلم لهنّ خروق
كان لم نحارب يا بثين لو أنّها ... تكشّف غمّاها وأنت صديق
قوله: ما صائب يريد قاصدا يقال صاب يصوب إذا قصد، ومن ذلك قوله تعالى: {كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ} (6) وقد قالوا النازل والقصد أحكم كما قال بشر ابن أبي خازم الأسديّ:
تؤمّل أن أؤب (7) لها بغنم ... ولم تعلم بأنّ السهم صابا
(صدر البيت عن أبي الحسن) وقوله: وممرّ العقدتين يعني وترا والممرّ الشديد الفتل، وقوله من خوافي النسر حمّ نظائر يريد ريش السهم والحمّ السّود وذلك أخلصه وأجوده، وجعلها نظائر في مقاديرها لأنه أقصد للسهم وإذا كانت الريشات بطن الواحدة منها إلى ظهر الاخرى فهو الذي يختار وهو الذي يقال له اللؤام، وإنما أخذ من قولهم ملتئم وان كان ظهر الواحدة إلى ظهر
__________
(1) نابل: صاحب النبل. الوثيق المحكم.
(2) الزوراء: التي فيها ميل وعوج والخطام هنا الذي يعلق به وتر القوس.
(3) باوشك قتلا: هذا مرتبط بأول الكلام وواقع خبرا عنه، يقول ما سهم صابت رمي به نابل من فرس قوية متينة محكمة بأسرع مقتلا منك لي.
(4) رميتني: وجهت سهمك إليّ.
(5) نوافذ: بالنصب على السعة ونزع الخافض يريد بنوافذ وأراد بها العيون وشبهها بالسهام في النفاذ والمضاد.
(6) سورة البقرة: الاية 19.
(7) أؤب: أعود.(1/63)
الاخرى وبطنها إلى بطن الاخرى فذلك مكروه يقال له اللّغاب، وقوله: كنصل الزاعبي شبّه نصل السهم بنصل الرمح الزّاعبي وهو منسوب إلى رجل من الخزرج يقال له زاعب كان يعمل الأسنّة، هذا قول قوم، وأما الأصمعي فكان يقول الزّاعبيّ هو الذي إذا هز فكأن كعوبه يجري بعضها في بعض للينه وتثنيه، يقال: مرّ يزعب بحمله إذا مرّ به مرا سهلا. وقوله: فتيق يعني حادّا رقيقا يقال: فتيق الشفرتين، وتأويله أنه يفتق ما عمد به له، وفعيل يقع اسما للفاعل ويقع للمفعول فأما الفاعل فمثل رحيم وعليم وحكيم وشهيد، وأما ما كان للمفعول فنحو: جريح وقتيل وصريع. وقوله: زوارء يريد معوجّة وكلّما كانت القوس أشدّ انعطافا كان سهمها أمضى. وقوله على نبعة يعني قوسا وأكرم القسيّ ما كان من النبع. وقوله أيما يريد أما واستثقل التضعيف فأبدل الياء من إحدى الميمين، وينشد بيت ابن أبي ربيعة:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت (1) ... فيضحى (2) وأيما بالعشيّ فيحضر
وهذا يقع وإنما بابه أن تكون قبل المضاعف كسرة في ما يكون على فعّال فيكرهون التضعيف والكسر فيبدلون من المضعّف الأول الياء للكسرة، وذلك قولهم: دينار وقيراط وديوان وما أشبه ذلك فإن زالت الكسرة وانفصل أحد الحرفين من الاخر رجع التضعيف فقلت: دنانير وقراريط ودواوين وكذلك إن صغّرت قلت: قريريط ودنينير، وقوله: وايما عودها فعتيق يصف كرم هذه القوس وعتقها ويحمد منها أن نترك ولحاؤها عليها بعد القطع حتى تشرب ماءه كما قال الشّماخ:
فمظّعها حولين ماء لحائلها (3) ... وينظر منها أيّها هو غامز
مظّعها شرّبها (قوله فمظعها حولين أي تركها في الظل حولين حتى تشرب ماء اللّحاء يقال تمظّع الرجل الظلّ إذا تحولّ من مكان إلى مكان). وقوله:
__________
(1) عارضت: اعترضت في السماء.
(2) فيضحى: تصيبه الشمس.
(3) اللحاء: ككتاب قشر الشجر والضمير للقوس.(1/64)
بأوشك قتلا منك يقول بأسرع، يقال أمر وشيك أي سريع ويقال: يوشك فلان أن يفعل كذا وكذا أي يقارب ذاك ويوشك يفعل كذا بطرح أن كل جيّد، قال الشاعر (هو أمة بن أبي الصّلت):
يوشك من فرّ من منيته ... في بعض غرّاته يوافقها
من لم يمت عبطة يمت هرما ... للموت كأس فالمرء ذائقها
(قال أبو الحسن هذه الأبيات أربعة وهي لرجل من الخوارج قتله الحجّاج أوّلها:
ما رغبة النفس في الحياة وإن ... عاشت قليلا فالموت لاحقها
وأيقنت أنها تعودكما ... كان براها بالأمس خالقها)
قوله: عبطة أي شابّا يقال اعتبط الرجل إذ مات شابا من غير مرض واصل العبيط الطريّ من كل شيء، وقوله: نوافذ لم تعلم لهن خروق معنى طريف وقد أخذه أبو حيّة منه فكشفه في أبيات مختارة وهي (اسم أبي حيّة الهيثم بن الربيع):
وإنّ دما لو تعلمين جنيته ... على الحيّ جاني مثله غير سالم
أمّا إنه لو كان غيرك أرقلت (1) ... إليه القنا بالرّاعفات اللهاذم (2)
ولكن لعمر الله ما طلّ (3) مسلما ... كغرّ الثنايا واضحات الملاغم (4)
إذا هنّ ساقطن الحديث كأنّه ... سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
رمين فأقصدن القلوب (5) فلم نجد ... دما مائرا إلا جويّ (6) في الحيازم (7)
__________
(1) أرقلت: أسرعت بالراعفات.
(2) اللهاذم: وردت في مكان اخر.
(3) طل: أهدر دمه وهي هنا على صيغة المبني للفاعل.
(4) الملاغم: ما حول الفم.
(5) أقصدن القلوب: أصبنها دما.
(6) الجوى: الهوى الباطن والحزن.
(7) الحيازم جمع حيزوم وهو ما اسدار في الظهر والبطن.(1/65)
(الكاف في قوله كغرّ فاعلة بقوله طلّ، ومنه قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهي ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول امرىء القيس:
وإنّك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب
قال أبو الحسن وأول هذه الأبيات المختارة أنشدناه غيره:
خبرك الواشون أن لن أحبّكم ... بلى وستور الله ذات المحارم
أصدّ وما الصدّ الذي تعلمينه ... شفاء لنا إلا اجتراع العلاقم
حياء وبقيا أن تشيع نميمة ... بنا وبكم أفّ لأه النمائم)
قال أبو العباس: فهذا مأخوذ من ذلك. وقوله: ولكن لعمرو الله ما ظلّ مسلما يقول ما طلّ دمه، يقال: دم مطلول إذا مضى هدرا كما قال الراجز:
بغير عقل ودم مطلول. وحدثني التوّزيّ قال: قال يحيى بن يعمر لرجل نازعته امرأته عنده: ان طالبتك بثمن شكرها وشبرك أنشأك تطلّها وتضهلها، قوله ثمن شكرها فإنما يعني الرّضاع والشبر النكاح والشكر الفرج. وقوله:
أنشأت تطلّها أي تسعى في بطلان حقها، وقوله: تضهلها أي تعطيها الشيء بعد الشيء يقال بئر ضهول إذا كان ماؤها يخرج من جرابها شيئا بعد شيء وجرابها جوانبها. وإنما يغزر ماؤها إذا خرج من قرارتها فتعظم جّمتها. وقوله واضحات الملاغم يريد العوارض. قال الفرزدق:
سقتها خروق في المسامع لم تكن ... غلاظا ولا مخبوطة في الملاغم
يقول: علم أرباب الماء لمن هي فسقاها ما سمعوه من ذكر أصحابها لعزّهم ومنعتهم ولم تحتج أن تكون بها سمة والعلاط وسم في العنق والخباط في الوجه.(1/66)
4 - باب نبذ من كلام الحكماء
قال بعض الحكماء: من أدّب ولده صغيرا سرّ به كبيرا، وكان يقال: من أدّب ولده أرغم حاسده، وقال رجل لعبد الملك بن مروان: إني أريد أن أسرّ إليك شيئا. فقال عبد الملك لأصحابه: إذا شئتم. فنهضوا فأراد الرجل الكلام فقال له عبد الملك: لا تمدحني فأنا أعلم بنفسي منك ولا تكذبني فإنه لا رأى لمكذوب ولا تغتب عندي أحدا، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أفتأذن لي بالانصراف، قال لخ: إذا شئت. وقال بعض الحكماء: ثلاث لا غربة معهنّ:
مجانبة الريب (1) وحسن الأدب وكفّ الاذى. وقال عمرو بن العاصي لدهقان (2) نهر تيرى: بم ينبل الرجل عندكم؟ فقال: بترك الكذب فإنه لا يشرف إلا من يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله فأنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانبة الريب فإنه لا يعزّ من لا يؤمن أن يصادف على سوأة، وبالقيام بحاجات الناس فإنه من رجي الفرج لديه كثرت غاشيته. وقال بزرجمهر:
من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان قبل وضيعا وبعد صيته وإن كان خاملا وساد وإن كان غريبا وكثرت الحاجة إليه وإن كان مقترا، وكان يقال: عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر ومؤنس في الوحدة وجمال في المحفل وسبب إلى طلب الحاجة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات يقدّمها الرجل أمام حاجته فيستعطف بها الكريم ويستنزل بها
__________
(1) الريب: الشك.
(2) دهقان: زعيم ملاحي العجم.(1/67)
اللئيم. وكان شعبة بن الحجاج أو سماك بن حرب (قال أبو الحسن هو سماك بلا شك) إذا كانت له إلى أمير حاجة استنزله بأبيات يقولها فيه. وقال بعض الملوك لبعض وزرائه وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد؟ قال: عقل يعيش به. قال: فإن عدمه قال: فأدب يتحلّى به. قال: فإن عدمه. قال: فمال يستره. قال: فإن عدمه. قال: فصاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد. وقيل لرجل من ملوك العجم: متى يكون العلم شرّا من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وقال أزّدشير: من لم يكن عقله أغلب خلال الخير عليه كان حتفه في أغلب خلال الخير عليه. وقال محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وذكر رجلا من أهله: إني لأكره أن يكون لعلمه فضل على عقله كما أكره أن يكون للسانه فضل على علمه، وقال محمد بن علي بن الحسين:
جميع التعايش والتناصف والتعاشر في ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلث تغافل، فلم يجعل لغير الفطنة نصيب من الخير ولا خطأ في الصّلاح لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شيء قد عرفه وفطن به.(1/68)
5 - باب في الوصف والمدح
قال رجل من بني عبد الله بن غطفان وجاور في طيىء وهو خائف:
جزى الله خيرا طيّا من عشيرة ... ومن صاحب تلقاهم كلّ مجمع
هم خلطوني بالنّفوس ودافعوا ... ورائي بركن ذي مناكب (1) مدفع (2)
وقالوا تعلّم إنّ ما لك إن يصب ... نفدك وإن تحبس نزرك ونشفع
وقال رجل من بني سلامان بن سعد هذيم قضاعة وجاور في طيّىء:
كأنّ الجار في شمجى بن جرم (3) ... له نعماء أو نسب قريب
يحاط ذماره (4) ويذبّ عنه ... ويحمي سرحه (5) أنف غضوب (6)
ألفت مساكن الجبلين إني ... رأيت الغوث يألفها الغريب
(الجبلان سلمى وأجأ وهما لطيّىء والغوث قبيلة من طيىء) وأنشدني عبد الوهاب بن جنبة الغنويّ لعبيد بن العرندس الكلابيّ يصف قوما نزل بهم:
__________
(1) المناكب: في الأصل ما كان من الريش بعد القوادم. استعارة لمن يدافع عنه من الرجال الذين يكونون حول الرئيس.
(2) المدفع كمنبر: شديد الدفع. يقول لما جاورت هذه القبيلة وأقمت فيهم جعلوني كواحد منهم وحاطوني ودافعوا عني بركن شديد.
(3) بنو شمجي بن جرم: بطن من قضاعة يقول ان الجار في هؤلاء القوم عزيز مكرم كأن له يدا عليهم أو نسبا قريبا فيهم.
(4) الذمار: بالكسر ما يلزمك حفظه وحمايته.
(5) السرح بالفتح المال السائم.
(6) أنف غضوب: كناية عن الشجاع الشديد اليأس.(1/69)
هينون لينون أيسار (1) ذوو يسر ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار
لا ينطقون على العمياء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
(قال أبو الحسن: حدّثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدّثت عن أبي الفضل العبّاس بن الفرج الرّياشيّ قال: قصد رجل من الشعراء ثلاثة إخوة من غنيّ وكانوا مقلّين فامتدحهم، فجعلوا له عليهم في كل سنة ذودا فكان يأتي فيأخذ الذود (2)، والشعر الذي امتدحهم به قوله:
يا دار بين كليّات وأظفار ... والحّمتين سقاك الله من دار
على تقادم ما قد مرّ من عصر ... مع الذي مرّ من ريح وأمطار
عنّا غنيت (3) بذات الرمث (4) من أجلي ... والعهد منك قديم منذ أعصار
أراد أنّى فقلب الهمزة عينا.
وقد نرى بك والأيّام جامعة ... بيضا عقائل من عين وأبكار
فيهنّ عثمه لا يمللن عشرتها ... ولا علمن لها يوما بأسرار
إذ يحسب الناس أن قد نلت نائلها ... قدما وأنت عليها عاتب زاري
بل أيّها الراكب المفني شبيبته ... يبكي على ذات خلخال وأسوار
خبّر ثناء بني عمرو فإنهم ... أو لو فضول وأنفال وأخطار
هينون لينون أيسار ذو وكرم ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار
فيهم ومنهم يعدّ المجد متّلدا (5) ... ولا يعدّ نثا خزي ولا عار
لا يظعنون على العمياء إن ظعنوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
وإن تليّنتهم لانوا وإن شهموا (6) ... كشّفت اذمار (7) حرب غير أغمار
__________
(1) أيسار: جمع يسر بالتحريك وهو السهل كالياسر ذو ويسر ذو وغنى.
(2) الذود: الشر ذمة من الابل خاصة.
(3) غنيت: يقال غني الشيء كرخي قام وعاش.
(4) الرمث: مرعى للأبل.
(5) المتلد: القديم.
(6) شهموا: ربعوا وخزعوا.
(7) إذمار: جمع ذمر بالكسر وهو الشجاع.(1/70)
إن يسئلوا العرف يعطوه وإن جهدوا (1) ... فالجهد يكشف منهم طيب أخبار
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم ... مثل النّجوم التي يسري بها الساري)
في ذم بني العنبر
قال أبو العباس: وكان قوم نزلوا ببني العنبر بن عمرو بن تميم والقوم من بني ضبّة فأغير عليهم فاستغاثوا جيرانهم فلم يغيثوهم، وجعلوا يدافعونهم حتى خافوا فوتها فاستغاثوا ببني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم فركبوا فردّوها عليهم، فقال المكعبر الضّبيّ في ذلك (اسمه حريث بن عفوط):
أبلغ طريقا حيث شطّت بها النوى ... فليس لدهر الطّالبين فناء
كسالى إذا لاقيتهم غير منطق ... يلهي به المحروب وهو عناء
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
أخّبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساؤوا
فهلّا سعيتم سعي أسرة مالك ... وهل كفلائي في الوفاء سواء
كأنّ دنانيرا على قسمائهم ... وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء
لهم أذرع باد نواشر لحمها ... وبعض الرّجال في الحروب غثاء
قوله: حيث شطّت بها النوى معنى شطّت تباعدت، يقال: أشطّ فلان في الحكم إذا عدل عنه متباعدا قال الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنََا بِالْحَقِّ وَلََا تُشْطِطْ} (2)، وقال الأحوص:
ألا يالقومي قد أشطّت عواذلي ... ويزعمن أن أودي بحقّي باطلي
ويلحينني في اللهو ألا أحبّه ... وللهو داع دائب غير غافل
والنوى البدع ويقال شطّت بهم نيّة قذف أي رحلة بعيدة قال الشاعر:
وصحصحان (3) قذف كالترس. وليس بمأخوذ من نأيت في اللفظ ولكنه
__________
(1) وإن جهدوا: بذلوا كثيرا من المعروف.
(2) سورة ص: الاية 22.
(3) الصحصحان: ما استوى من الأرض، والقذف: الفلاة الواسعة البعيدة ونسبها في الترس للغلظ والقساوة.(1/71)
مثله في المعنى. وقوله: فليس لدهر الطالبين فناء، يقول الطالب في أثر طلبته أبدا. ويروى أن رجلا من قريش بعث إلى رجل منهم وكان أخذ له غلاما:
يا هذا ان الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب فإمّا رددته وإما عرضت اسمك على الله في كل يوم وليلة خمس مرات. ومن أمثال العرب: لا ينام إلا من اثأر، ويقال لمن أدرك ثأرا نبيلا أصاب ثأرا منيما وأنشد:
تقول لي ابنة البكريّ عمرو ... لعلّك لست بالثأر المني
وقوله:
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
يقول: هذا رجاء غير صادق ولا موقوف عليه (1) كما أن هذه الحوامل لا يعلم ما في بطونها وليس بميئوس منه وإنما يتهكّك بهم وهو يعلم أن سعيهم غير كائن، ألا تراه يقول:
احبّر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساؤوا
وقوله: كأنّ دنانيرا على قسماتهم، زعم أبو عبيدة أن القسمات مجاري الدّموع واحدتها قسمة، وقال الأصمعيّ: القسمات أعالي الوجه ولم يبيّنه بأكثر من هذا، وقول أبي عبيدة مشروح ويقال من هذا رجل قسيم ورجل مقسم ووجه قسيم ومقسّم، قال الشاعر:
ويوما توافينا بوجه مقسّم ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
قوله: تعطو أي تتناول، ويقال عطا يعطو إذا تناول، وأعطيته أنا أي ناولته قال امرؤ القيس:
وتعطو برخص (2) غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك أسحل
والسّلم شجر بعينه كثير الشوك فإذا أرادوا أن يحتطبوه شدّوه ثم قطعوه،
__________
(1) لا موقوف عليه غير معلوم ولا مطلع عليه.
(2) الرخص: بالفتح: اللين والناعم.(1/72)
فمن ذلك قول الحجّاج: والله لأحز منكم حزم (1) السّلمة ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل. قال: وحدّثني التوّزيّ عن أبي زيد قال: سمعت العرب تنشد هذا البيت فتنصب الظبية وترفعها وتخفضها قال أبو العباس: أما رفعها فعلى الضمير يريد كأنها ظبية وهذا شرط أنّ وكأن إذا خفّفتا إنما هو على حذف الضمير، وعلى هذا قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ََ} (2) وهذا الباب وقد شرحناه في الكتاب المقتضب في باب أنّ وإنّ بجميع علله، ومن نصب فعلى غير ضمير وعملها مخففة عملها مثقّلة لأنها تعمل تعمل لشبهها بالفعل فإذا خفّفت عملت عمل الفعل المحذوف كقولك: لم يك زيد منطلقا فالفعل إذا حذف يعمل عمله تاما فيصير التقدير كأنّ ظبية تعطو إلى وارق السلم هذه المرأة وحذف الخبر لما تقدم من ذكره ومن قال: كأنّ ظبية جعل أن زائدة وأعمل الكاف أراد كظبية وزاد أن كما تريدها في قولك لما أن جاء زيد كلّمته وو الله أن لو جئتني لأعطيتك، وقوله: لهم أذرع باد نواشر لحمها، فكل شيء كان على فعال من المؤنث فجمعه أفعل، وكذلك فعال نقول ذراع وأذرع وكراع وأكرع لأنهما مؤنثتان ومن أنث اللسان قال: ألسن ومن ذكره قال: ألسنة وشمال وأشمل كما قال (هو أبو النجم العجليّ): يأتي لها من أيمن وأشمل: فأما المذكر فعلى أفعلة في أدنى العدد وفعل في الكثير يقال حمار وأحمرة وحمر وفراش وأفرشد وفرش والنواشر ما يظهر.
في رثاء الفرزدق لصديقه عطية
من العروق في ظهر الذراع مما يداني المعصم وذلك الموضع يقال له أسلة الذراع.
قال زهير:
__________
(1) الحزم: الشد.
(2) سورة المزمل: الاية 20.(1/73)
ودار لها بالرقّتين (1) كأنها ... مراجع (2) وشم في نواشر معصم
وقوله: وبعض الرجال في الحروب غثاء، فالغثاء ما يبس من البقل حتى يصير حطاما وينتهي في اليبس فيسودّ فيقال له. غثاء وهشيم ودندن وثنّ على قدر اختلاف أجناسه ويقال له الدارين.
قال الله عزّ وجل: {فَجَعَلَهُ غُثََاءً أَحْوى ََ} (3) وقال: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيََاحُ} (4). وقال الشاعر يصف سحابا (هو ابن ميّادة وقبله:
سحائب لا من صيّف ذي صواعق ... ولا مخرفات (5) ماؤهنّ حميم)
إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
وقال الراجز: تكفي الفصيل أكلة من ثنّ. وقد يقال للشيء الذي لا خير فيه هذا غثاء أي قد صار كذلك الذي وصفناه، ويضرب هذا مثلا للكلام الذي لا وجه له. وقال رجل أحسبه تميميّا (هو الفرزدق):
لو لم يفارقني عطيّة لم أهن ... ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع
شجاع إذا لاقى ورام إذا رمى ... وهاد إذا ما أظلم الليل مصدع (6)
سأبكيك حتى تنفد العين ماءها ... ويشفي مّني الدّمع ما أتوجّع
أحسن الإنشادين عندي: لم أهن يأخذه من وهن يهن لأنه إذا قال لم أهن فهو من الهوان ومن قال لم أهن فإنما هو من الضعف وهو أشبه بقوله: ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع. والاخر غير بعيد يقول: لم أهن على أعدائي
__________
(1) الرقمتين: روضتان بناحية الصمان.
(2) المراجع جمع مرجع وهو خط الواشمة.
(3) سورة الأعلى: الاية 5.
(4) سورة الكهف: الاية 45.
(5) المخرفات: التي يصاف حصولها أو مرورها في الخريف.
والماء الحيم الحار أو البارد.
والمعنى هنا أن هذه السحائب قد أتت في فصل الربيع فأحيت الأرض والزرع.
(6) المصدع: منبر البليغ، وصف للرأي الصائب وحسن البيان.(1/74)
وإذا قال: لم أهن فالأصل لم أوهن ولكنّ الواو إذا كانت في موضع الفاء من الفعل وكان ذلك الفعل على يفعل فالواو محذوفة، وإنما تحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة وتصير حروف المضارعة الباقية تابعة للياء لئلا يختلف الباب، وهي التاء من قولك تفعل إذا عييت مخاطبا أو مؤنثا غائبا نحو: أنت تعد وهي تعد والهمزة إذا عنيت نفسك نحو: أنا أعد، والنون إذا أخبرت عن نفسك ومعك غيرك نحو: نحن نعد، فإن قال قائل إنما هذا لأن الفعل المتعدي تحذف منه الواو فإن كان غير متعدّ ثبتت فقد قال أقبح قول لأن التعدّي أو غير التعدّي لا يحدث في أنفس الأفعال شيئا ولو كان كما يقول لأثبت الواو في وهن يهن لأنك لا تقول وهنت زيدا، وكذلك ورم يرم ووكف البيت يكف ووثم الذباب يثم وهذا أكثر من أن يحصى فإن لم تكن بعد الواو كسرة لم تحذف نحو: وحل يوحل ووجل يوجل ووجع الرجل يوجع وقد يجوز يبجع وياجع ويبجع لما نذكره إذا جرى ذكر هذه المفتوحة إن شاء الله. فأما الحذف فلا يكون فيها. فإن قال قائل فما بال يطاو يسع حذفت منهما الواو، ومثلهما ثبتت فيه الواو فإنما ذلك لأنه كان فعل يفعل مثل ولي يلي ورم يرم ففتحته الهمزة والعين والأصل الكسر فإنما حذفت الواو مما يلزم في الأصل، ألا ترى أنك تقول ولغ السّبغ يلغ فهذا فعل يفعل والأصل يفعل ولكن فتحته الغين لأن حروف الحلق تفتح ما كان على يفعل ويفعل ولولا ذلك لم تقع فعل يفعل، وحروف الحلق ستة الهمزة والهاء والعين والغين والحاء والخاء وهنّ يفتحن إذا كنّ في موضع العين واللام، فأما العين فنحو سأل يسأل وذهب يذهب، وأما اللام فمثل قرأ يقرأ وصنع يصنع وسائر هذا الباب على ما وصفت لك، وقوله:
وهاد إذا ما أظلم الليل مصدع، فتأويل مصدع أي ماض في الأمر قال الله عزّ وجل: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} (1) ويقال: أحزم الناس من إذا وضح له الأمر صدع به.
__________
(1) سورة الفجر: الاية 94.(1/75)
مدح سوار بن عبد الله القاضي
وقال أعرابيّ يمدح سوّار بن عبد الله القاضي وسوّار أحد بني العنبر بن عمرو بن تميم:
وأوقف عند الأمر ما لم يضح (1) له ... وأمضي إذا ما شكّ من كان ماضيا
فاستجمع في هذا المدح ركانة الجزم وإمضاء العزم، ومثله قوله النابغة الجعديّ:
أبي لي البلاء وإني أمرؤ ... إذا ما تبيّنات لم أرتب
ومن أمثال العرب السائرة الجيّدة: روّ تحزم فإذا استوضحت فاعزم. ومن أمثالهم: قد أحزم لو أعزم وإنما هذا بعد التوقّف والتبيّن، فقد قال الشعبيّ:
أصاب متأمّل أو كاد وأخطأ مستعجل أو كاد، ومثل قوله: ويشفي مني الدمع ما أتوجّع، قول الفرزدق:
ألم تراني يوم جوّ سويقة (2) ... بكيت فنادتني هنيدة (3) ماليا
فقلت لها إنّ البكاء لراحة ... به يشتفي من ظنّ ألاتلاقيا
(قال أبو الحسن ويتلو هذين البيتين مما يستحسن:
قعيدكما الله الذي أنتما له ... ألم تسمعا بالبيضتين المناديا
حبيب دعا والرمل بيني وبنه ... فأسمعني سقيا لذلك داعيا
يقال: قعيدك الله وقعدك الله ونشدك الله أي سألتك بالله كما قال متمم ابن نويرة وهو من بني يربوع:
قعيدك ألا تسمعيني ملامة ... ولا تنكئي (4) قرح الفؤاد فييجعا
ويروى فقعدك ألا تسمعيني (والبيضتان موضع معروف) قال أبو العباس
__________
(1) يضح له: يتبين معالمه.
(2) جو سويقة: إسم موضع.
(3) هنيدة بالتصغير: إسم إمرأة.
(4) لا تنكئي: نكأ فلان القرحة: إذا قشرها قبل أن تبرأ أو تجف. وهنا كناية عن تهيج الحزن.(1/76)
وقال أبو بكر بن عيّاش نزلت بي مصيبة أو جعتني فذكرت قول ذي الرمّة:
لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل
فخلوت فبكيت فسلوت.
وقال: نضلة السلميّ في يوم غول (1) وكان حقيرا دميما وكان ذا نجدة وبأس:
ألم تسل الفوارس يوم غول ... بنضلة وهو موتور (2) مشيح
رأوه فازدروه وهو حر ... وينفع أهله الرّجل القبيح
فشدّ عليهم بالسيف صلتا ... كما عضّ الشّبا الفرس الجموح
فأطلق علّ صاحبه وأردى ... قتيلا منهم ونجا جزيح
ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح
قوله: وهو موتور مشيح فالمشيح الحامل الجادّ، يقال أشاح يشيح إذا حمل، وأنشدني التوّزيّ قال أنشدني أبو زيد (وهو لأبي العيال الهذليّ:
مشيح فوق شيحان ... يشدّ كأنه كلب
قال: شيحان اسم فرسه. (قال أبو الحسن ويروى شيحان بفتح الشين وحفه على رواية أبي زيد ألاينصرف لأنه فعلان فالألف والنون زائدتان وهو معرفة فضارع عطشان وما جرى مجراه وإنما اضطرّ فصرفه) وقال ابن الإطنابة واسمه عمرو:
وإجشامي (3) على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
ويقال في هذا المعنى رجل شيح كما يقال: ناقة نقض إذا كانت هزيلا.
قال أبو ذؤيب: وشايحت قبل اليوم إنك شيح. وقوله: بالسيف صلتا يقول:
منتضى ورجل صلت الجبين إذا كان نقيه، وقوله: كما عضّ الشبا يريد حدّ
__________
(1) غول بالفتح أسم موضع كانت به وقعة.
(2) موتور: صاحب الوتر وهو الثأر.
(3) الإجشام مصدر أجشمه الأمر إذا حمله على أن يتكلفه على تعب ومشقة.(1/77)
اللجام وشبا كلّ شيء حدّه، وقوله: وأردى أي أهلك، يقال: ردي يردي إذا هلك والردى الهلاك.
قال الله عزّ وجل: {وَمََا يُغْنِي عَنْهُ مََالُهُ إِذََا تَرَدََّى} (1). قيل فيه قولان أحدهما إذا تردّى في النار والاخر إذا مات، وهو تفعّل من الردى. وقوله: ولم يخشوا مصالته عليهم، فهي مفعلة من صال يصول ويقال: صال البعير إذا عضّ وقيل للمغيرة بن شعبة أنّ بوابك يأذن لأصحابه قبل أصحابك، فقال. إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور والجمل الصؤل فكيف بالرجل الكريم.
وقوله: وتحت الرغوة اللبن الصّريح، يقول إذا رأيت الرغوة وهو ما يرغو كالجلدة في أعلى اللّبن لم تدر ما تحتها فربما صادفت اللبن الصريح إذا كشفتها، أي أنهم رأوني فازدروني لدمامتي فلما كشفوا عني وجدوا غير ما رأوا، والصّريح المحض الخالص من ذلك قولهم: عربيّ صريح أي خالص، ومولى صريح. ومن أمثال العرب: أنه ليسرّ حسوا في ارتغاء (2)، ومعنى ذلك أنه يوهمك أنه يأخذ بقية تلك الجلدة عن اللبن ليصلحه لك وإنما يحسو من تحتها: يضرب هذا المثل لمن يريك أنه يعينك وإنما يجترّ النفع إلى نفسه.
في بعض ما يحب العرب وما يكرهون
وقال أعرابي خبّرت أنه من بني سعد وقد تمثّل بهذا الشّعر الحنوت وهو توبة بن مصرّس أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم في خلاف الدمامة:
ولما التقى الصفّان واختلف القنا (3) ... نهالا وأسباب المنايا نهالها
تبيّن لي أنّ القماءة (4) ذلّة ... وأن أشدّاء الرجال طوالها
__________
(1) سورة الليل: الاية 11.
(2) الإرتغاء: الأخذ والإحتساء.
(3) القنا: الرماح.
(4) القماءة: مصدر قمأ الرجل أي صغر وذل.(1/78)
دعوا يا لسعد وانتمينا لطيء ... أسود الشّرى إقدامها ونزالها
قوله: نهالا فإنما يريد أنها قد وردت الدّم مرة ولم تثنّ، وذلك أن الناهل الذي يشرب أوّل شربة فإذا شرب ثانية فهو عال، يقال: سقاه علا بعد نهل وعللا بعد نهل وفي المثل سمته سوم عالّة إذا عرضت عليه عرضا يستحي من أن يقبل معه والعالّة لا حاجة بها إلى الشرب وإنما يعرض عليها تعزيزا، قال:
وأسباب المنايا نهالها، أي أول ما يقع منها يكون سببا لما بعده. وأنشدني غير واحد: وأنّ أشدّاء الرجال طيالها، وليس هذا بالجيّد وإنما قلبت الواو ياء لوقوعها بين كسرة وألف كقولهم: ثياب وحياض وسياط، الواحد ثوب وحوض وسوط وهذا جيد لسكون الواو في الواحد فأما في مثل طوال فإنما يحوز على التشبيه بهذا وليس بجيد لتحرّك الواو. وأنشدني مسعود بن بشر المازنيّ:
لهم أوجه بيض حسان وأذرع ... طيال ومن سيما الملوك نجار
ومجاز هذا في النحو ما وصفت لك. والعرب تمدح بالطول وتضع من القصر، فلا يذكره منهم إلا محتجّ عن نفسه ولا يمدح به غيره قال عنترة:
بطل كأن ثيابه في سرحة (1) ... يحذى نعال السبت (2) ليس بتوأم (3)
يقول لم يشارك في الرحم، وقال جرير:
تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغرّ من أهل البطاح الأكارم
فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من ال هاشم
وقال حسّان بن ثابت:
وقد كنّا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعدّ ذوي بيان
كأنك أيها المعطى بيانا ... وجسما من بني عبد المدان (4)
__________
(1) السرحة: شجرة طويلة عظيمة.
واستعمالها هنا كناية عن تمام الخلق والعظمة.
(2) السبت: بالكسر جلود البقر. أو كل جلد مدبوغ تتخذ منها البغال وكني بذلك عن عزه ومجده.
(3) ليس بتوأم: كناية عن تمام خلقه.
(4) المدان: كسحاب اسم لصنم نسبت إليه القبيلة.(1/79)
ويقال إن عليّ بن عبد الله بن العباس بن عبد المطّلب كان إلى منكب عبد الله وكان عبد الله إلى منكب العبّاس وكان العباس إلى منكب عبد المطّلب. وحدثني التوّزيّ قال: طاف عليّ بن عبد الله بالبيت وهناك عجوز قديمة، وعليّ قد فرع الناس كأنه راكب والناس مشاة، فقالت: من هذا الذي فرع الناس، فقيل: عليّ بن عبد الله بن العباس. فقالت لا إله إلا الله إن الناس ليرذلون عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه قطاط أبيض. وحدثني عليّ بن القاسم بن عليّ بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس قال: كان يقال صار شبه عليّ بن عبد الله في عظم الأجسام في العليّين يعني عليّ بن أمير المؤمنين المهديّ المنسوب إلى أمّه ريطة وعليّ بن سليمان بن عليّ.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة كان فوق الربعة ولم يكن بالطويل المشذب (1) وكان إذا مشى مع الطوال طالهم ولم يختلف أهل الحكمة والنظر من العرب والعجم أن الكمال في الاعتدال، ولا يقال غير هذا عن حكيم، وأبين ما فيه ما اختاره الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم وقد يقال: الكيس (2)
في القصر، وقد قيل في خبر قصير وكيده ومكره ما قد سار به المثل واستغنى عن الإعادة.
إعرابي يرد على مغنيه عابثة بالقصر
وحدّثني العباس بن الفرج الرّياشيّ قال: حدثني أبو عثمان المازنيّ قال:
كان أعرابيّ يختلف إلى مغنّية لال سليمان فأشرفت عليه ذات مرّة فأومأت إليه بيدها إيماء عائب له بالقصر فأنشأ يقول:
يا جعفر يا جعفر يا جعفر ... إن أك ربعة فأنت أقصر
__________
(1) المشذب: المعظم: الطويل الحسن الخلق.
(2) الكيس بالفتح خلاف الحق، وقد كاس يكيس إذا كان حاذقا فطنا وقصير كأمير هو ابن سعد صاحب جذيمة الأبرش ومنه المثل «لا يطاع لقصير أمر».(1/80)
أو أك ذا شيب فأنت أكبر ... غرّك سربال (1) عليك أحمر
ومقنع من الحرير أصفر ... وتحت ذاك سوأة لو تذكر
(قال أبو الحسن: أنشدني أبو العباس محمد بن الحسن الورّاق الشعر الذي فيه قوله:
ولما التقى الصفّان واختلف القنا. بتمامه وهو شعر مختار لرجل من طيء ويدل على ذلك ما تسمعه في الشعر وهو قوله:
جمعنا لهم من حيّ غوث ومالك ... كتائب يردي المقرفين نكالها
لهم عجز (2) بالحزن فالرمل فاللّوى ... وقد جاوزت حيّي جديس رعالها
وتحت نحور (3) الخيل حرشف رجلة ... تتاح لحبّات القلوب يبالها
أبى لهم أن يعرفوا الضيم (4) أنهم ... بنو ناتق كانت كثيرا عيالها
فلمّا أتينا السّفح (5) من بطن حائل ... بحيث تناصى طلحها وسيالها
دعوا لنزار وانتمينا لطيّيء ... كأسد الشّرى (6) إقدامها ونزالها
فلمّا التقينا بيّن السيف فيهم ... لسائلة عنّا حفيّ (7) سؤالها
ولمّا عصينا بالرّماح تضلّعت (8) ... صدور القنا منهم وعلّت نهالها
ولمّا تدانوا بالسّيوف تقطعت ... وسائل كانت قبل سلما حبالها
فولّوا وأطراف الرماح عليهم ... قوادم مربوعاتها وطوالها
__________
(1) سربال: سروال.
(2) العجز: مؤخرة الشيء.
(3) نحور الخيل: هنا كناية عن الرجال الذين يمشون على أقدامهم.
(4) الضيم: الظلم.
(5) عرض الجبل.
(6) أسد الشرى: ذكرت في مكان سابق.
(7) الحفي: من يكثر السؤال.
والمقصود هنا أنه لما التحم القتال وحمي الوطيس وفتكت سيوفنا بهم وظهر فعلها لسائله كانت تكثر السؤال عنا.
(8) تضلعت: إمتلأت بالدماء.(1/81)
الكتائب جمع كتيبة سميت كتيبة لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض، يقال تكتّب القوم إذا تضامّوا ومنه أخذ الكتاب لانضمام حروفه، ولذلك قالوا بغلة مكتوبة إذا شدّ حياؤها وضمّ، ويردي يهلك، يقال ردي الرجل إذا هلك، والردى الهلاك والإرداء الإهلاك، والمقرفون الذين دخلوا في الفساد والعبث وهو في الأصل الهجنة يقال فرس مقرف إذا كان هجينا ثم يشيع في الفساد، والعجز مؤخّر العسكر ههنا وهو مستعار، والحزن ما خشن من الأرض وغلظ واللّوى مستدقّ الرملة حيث ينقطع يقال: ألويتم فانزلوا، أي صرتم إلى اخر الرملة وهو اللوى، وجديس قبيلة معروفة فلذلك لم يصرفها والرعال الجماعات المتفرقة واحدها رعلة، والحرشف نبت يكثر في البادية وإنما شبّه النبل به في الكثرة، والرجلة الرجّالة وتتاح تقدّر يقال أتاح الله له كذا وكذا أي قدّر له، والنبال جمع نبل والناتق الولود فإذا أسرفت في ذلك وكثر ولدها جدّا قيل منتاق، والسفح أصل الجبل من الوادي، وحائل موضع، وتناضي تقابل وتقرّب حتى يعلق هذا بهذا وهذا بهذا عند هبوب الرياح يقال: تناصى الرجلان نصاء وتناصيا إذا اقتتلا فأخذ كلّ واحد منهما بناصية صاحبه، والطلح والسّيال ضربان من الشجر معروفان، وانتمى ونمي انتسب والشرى موضع كثير السباع وإنما يريد كإقدام أسد الشرى إقدامها ثم حذف لعلم السامع، وعصينا جعلنا الرماح كالعصيّ، والعلل الشرب الثاني والنهل الأول يريد إنّا أعدناها إلى الطعن مرة بعد أخرى، وقوادم ذات إقدام فجاء به على الأصل كما قال.
يخرجن من أجواز ليل غاض أي مغض فجاء به على الأصل وهو كثير، والمربوعات المعتدلة التي لم تبلغ أن تكون رمحا وهو رفع كأنه قيل له ما هي فقال: هي مربوعانها وطوالها ولو خفض وجعله بدل البعض من الكل لكان حسنا وكان يكون مقوّى ولكن هكذا أنشدناه مرفوعا على التقدير الذي ذكرناه)(1/82)
6 - باب في مدح لصبرة بن شيمان بحضور معاوية
قال أبو العباس حدّثت أن صبرة بن شيمان الحدّانيّ دخل على معاوية والوفود عنده فتكلّموا فأكثروا فقام صبرة فقال يا أمير المؤمنين إنّا حي فعال ولسنا بحيّ مقال، ونحن بأدنى فعالنا عند أحسن مقالهم، فقال صدقت.
وحدّثت أن أبا بكر رضي الله عنه ولّى يزيد بن أبي سفيان ربعا من أرباع الشأم فرقي المنبر فتكلّم، فأرتج عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، فقال سيجعل الله بعد عسر يسرا وبعد عيّ بيانا وأنتم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال، فبلغ كلامه عمرو بن العاص فقال هنّ مخرجاتي من الشام (1)، استحسانا لكلامه.
من أقوال علي بن أبي طالب
وقال عثمان بن عفّان رضي الله عنه لعامر بن عبد قيس العنبريّ وراه ظاهر (2) الأعرابية: يا أعرابيّ أين ربك؟ فقال: بالمرصاد (3). وقال قائل لعليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه: أين كان ربّنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟
فقال عليّ: أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان. وحدّثت أن راهبين دخلا البصرة من ناحية الشام فنظرا إلى الحسن البصري، فقال أحدهما
__________
(1) هي مخرجاتي في الشام. كان عمر يريد أن يزيد، فأتى بهذا الكلام الجزل الموجز بما ينشر ذكره ويزيد في فضله ويدل على عقله ونبله حتى لا يحتاج إلى مشارك له في ملكه وتدبير علمه.
(2) ظاهر الإعرابية: يحمل سحت أهل البادية.
(3) المرصاد: مكان ترصد منه تحركات العدو والمعنى هنا أن سبحانه وتعالى رقيب على خلقه ومطلع عليهم، لا تخفي منهم عليه خافية.(1/83)
لصاحبه: مل بنا إلى هذا الذي كأنّ سمته سمت المسيح فعدّلا إليه فألفياه مفترشا بذقنه ظاهر كفّه وهو يقول: يا عجبا لقوم قد أمروا بالزاد وأوذنوا (1) بالرحيل وأقام أوّلهم على اخرهم فليت شعري ما الذي ينتظرون! ونظر الحسن إلى الناس في مصلّى البصرة يضحكون ويلعبون في يوم عيد، فقال الحسن أن الله جعل الصوم مضمارا (2) لعباده ليستبقوا إلى طاعته فسبق أقوام ففازوا وتخلّف اخرون فخابوا ولعمري لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيء باساءته عن تجديد ثوب أو ترطيل شعر. قوله ترطيل شعر إنما هو تليين الشعر بالدهن وما أشبه، ويقال للرجل إذا كان فيه لين وتوضيع رجل رطل والذي يوزن به ويكال يقال له رطل بكسر الراء. وكان الحسن يقول اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عليها ولا تعمرها، قوله القنطرة يعني هذه المعقودة المعروفة عند الناس والعرب تسمّي كل أزج (3) قنطرة. قال طرفة بن العبد:
كقنطرة الرّوميّ أقسم ربّها ... لتكتنفا حتى تشاد بقرمد
قوله: حتى تشاد، يقول: تطلى وكلّ شيء طليت به البناء من جصّ أو جيّار وهو الكلس فهو الشّيد يقال دار مشيّدة وقصر مشيد. قال الله عز وجل:
«ولو كنتم في بروج مشيّدة» (4) وقال الشمّاخ:
لا تحسبنّي وإن كنت امرأ غمرا (5) ... كحيّة الماء بين الطين والشّيد
ة قال عديّ بن زيد العبادي:
شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكور
__________
(1) أوذنوا بالرحيل: أعلنوا بالسفر عن هذه الديار.
(2) مضمارا: في الأصل غابة الفرس في السباق. وهنا يريد أن الله يجعل الصوم غاية يتسابق إليها الخلق.
(3) أزج: محركا نوع من الأبنية.
(4) سورة النساء: الاية 78.
(5) الغمر: ساكن الميم، الكريم: الواسع الخلق.(1/84)
والمقرمد المطليّ أيضا، فمن ثمّ قال حتى تشاد بقرمد في معنى حتى تطلى: ومن ذلك قول النابغة: رايي المحسّة بالعبير مقرمد (1).
أقوال وتفاسير للحسن البصري
وقال الحسن: تلقى أحدهم أبيض بضّا يملخ في الباطل ملخا ينقض مذرويه (2) ويضرب أصدريه، (3) ويقول ها أنا ذا فاعرفوني قد عرفناك فسقتك الله ومقتك الصالحون، قوله أبيض بضا فالبض الرقيق اللون الذي يؤثّر فيه كلّ شيء، وفي الحديث أن معاوية قدم على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من الشام، وهو أبضّ الناس فضرب عمر بيده على عضده فأقلع عن مثل الشراك، فقال هذا والله لتشاغك بالحمّامات وذوو الحاجات تقطّع أنفسهم حسرات على بابك. وقال حميد بن ثور الهلاليّ:
منعّمة بيضاء لو دب (4) محول (5) ... على جلدها بضّت (6) مدارجه (7) دما
وقوله: يملخ في الباطل ملخا يقول يمرّ مرّا سريعا، يقال بكرة ملوخ إذا كانت سهلة المرّ. وقوله يضرب أصدريه وازدريه فإنما يقال ذلك للفارغ، يقال جاء فلان يضرب أصدريه وازدريه ولا يتكلّم منه بواحد، ويقال فلان ينقض مذرويه وهما ناحيتاه وإنما يوصف بالخيلاء، قال عنترة:
أحولي تنقض استك مذرويها ... لتقتلني فها أنا ذا عمارا
__________
(1) يصف فرج المتجرده في قصيدة له: وهذا غضب عليه النعمان بن المنذر وأهدر دمه، فهرب النابغة منه ومضى إلى ملوك غسان بالشام.
(2) المذروان: بالكسر أطراف الألية.
(3) الاصدران: عرقان تحت الصدغين وجاء يضرب أصدريه أي فارغا.
(4) الودب: مشى على هينة.
(5) محول: بكسر الواو ما أتى عليه حول ولعله أراد به الذر والذباب.
(6) بض الماء والدم سال قليلا قليلا.
(7) المدارج: المسالك واحدها مدرج يصفها بالترف والنعمه ولين الجسم والنعومة.
وهنا يقول إن هذه المرأة بيضاء منعمة لودب الذر على جلدها لرأيت مدارجه تسيل دما وهذا فيه مبالغة شريفة مقبولة.(1/85)
ولا واحد لهما ولو أفردت لقلت في التثنية مذريان لأن ذوات الواو إذا وقعت فيهنّ الواو رابعة رجعت إلى الياء، كما تقول في ملهى ملهيان وهو من لهوت وفي مغزى مغزيان وهو من غزوت، وإنما فعلت ذلك لأن فعله فيه الألف قلت أغزيت وكذلك غازيت واستغزيت، وإنما وجب هذا لانقلابها في المضارع نحو يغزي ويستغزي ويغازي وإنما انقلبت لانكسار ما قبلها، فإن قال قائل فما بال يترجّى ويتغازى يكونان بالياء نحو: هما يتغازيان ويترجيّان، فإنما ذلك لأنهما في الأصل رجّى يرجّي، وغازي يغازي ثم لحقت التاء بعد ثبات الياء، والدليل على ذلك أن التاء إنما تلحقه على معناه فقولك مذروان لا واحد له لما أعلمتك، وثبات الواو دليل على أن أحدهما لا يفرد من الاخر فلذلك جاء على أصله.(1/86)
7 - باب من أشعار الصقيل العقيلي وابن حبناء التميمي
قال أبو العباس: قال يزيد بن الصقيل العقيليّ وكان يسرق الإبل ثم تاب وقتل في سبيل الله:
ألا قل لأرباب المخائض أهملوا ... فقد تاب ممّا تعلمون يزيد
وإنّ امرأ ينجو من النار بعد ما ... تزوّد من أعمالها لسعيد
وفي هذا الشعر:
إذا ما المنايا (1) أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
قوله ألا قل لأرباب المخائض، فإن الناقة إذا لقحت قيل لها خلفة وللجميع المخاض وهذا جمع على غير واحده إنما هو بمنزلة امرأة ونساء ثم جمع الجمع فقال مخائض كقولك في رسالة رسائل، وكما تقول في قوم أقوام فتجمع الاسم الذي هو للجمع، وكذلك أعراب وأعاريب وأنعام وأناعيم.
وقوله: أهملوا أي اسرحوا إبلكم والهمل ما كان غير محظور وهو السّدى ويروى في مثل قوله:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت حميمك
عن بعض الصالحين (هو محمد بن الحنفيّة) أنه كان يقول: إذا مات له جار أو حميم أولى لي كدت والله أكون السّواد المحترم. وقال ابن حبناء التميمي:
__________
(1) المنايا: الموت.(1/87)
أعوذ بالله من حال تزيّن لي ... لوم العشيرة أو تدني من النار
لا أقرب البيت أحبو من مؤخرّه ... ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري
إن يحجب الله أبصارا أراقبها ... فقد يرى الله حال المدلج الساري
قوله لا أقرب البيت أحبو من مؤخره، يقول لا اتيه لريبة، ومثل ذلك قول الشاعر: (وهو عقيل بن علّفة)
ولست بصادر من بيت جاري ... كفعل الغير غمّره الورود
يقول: لا أخرج خروج الخائف لأنه إنما يقال تعمّر الشارب إذا لم يرو ويقال للقدح الصغير الغمر من هذا، وقوله: ولا أكسر في ابن العم أظفاري.
يقول لا أغتابه وهذا مثل كما قال الحطيئة:
ملّوا قراه وهرّته (1) كلابهم ... وجرّحوه بأنياب وأضراس
وقوله: فقد يرى الله حال المدلج الساري فالمدلج الذي يسير من أول الليل يقال أدلجت أي سرت من أول الليل وأدّلجت أي سرت في السحر. قال زهير:
بكرن بكورا وادّلجن بسحرة. والسّرى لا يكون إلا سير الليل، قال الله عز وجل: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} (2)، من قولك أسريت وهي اللغة القرشيّة وغيرهم من العرب يقول سريت وقد جاءت هذه في القران. قال الله عز وجل:
{وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} (3) فهذا من سرى ولو كان أسرى لكان يسري كما قال:
(هو لبيد بن ربيعة).
فبات وأسرى القوم اخر ليلهم ... وما كان وفّاقا بغير معصّر
والمعصر الملجأ والساري إنما هو من قولك سرى كقولك قضى فهو
__________
(1) هرّته: صوتت به هنا وصف بالبخل.
(2) سورة الفجر: الاية 65.
(3) سورة الفجر: الاية 4.(1/88)
قاض ومن أسرى يقال للفاعل مسر كما يقول أعطى فهو معط كما قال الأخطل:
نازعتهم (1) طيّب الراح الشمول (2) وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري (3)
والدجاج ههنا الديوك يريد وقت السحر، لأنه يقال للديك هذا دجاجة فإن أردت الأنثى قلت: هذه وكذلك هذا بقرة وهذا بطّة وهذا حمامة إذا أردت الذكر. ولهذا باب يذكر فيه ان شاء الله. قال جرير:
لما تذكّرت بالديرين (4) أرقنى ... صوت الدّجاج وقرع بالنواقيس (5)
من شعر أعرابي من بني الحارث بن كعب
(قال أبو الحسن أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى الأبيات الرائيّة المتقدمة بتمامها على ما أذكره لك عن أبي عبد الله بن الأعرابي وهي لأحد ابني حبناء أحسبه صخرا وهما من بني تميم وكانا من الأزارقة قال:
إني هزئت (6) من أمّ الغمر (7) إذ هزئت ... بشيب رأسي وما بالشيب من عار
ما شقوة المرء بالإقتار (8) يقتره ... ولا سعادته يوما بإكثار
يقتره الهاء تعود على الإقتار:
__________
(1) نازعتهم: جاذبتهم.
(2) الشمول بالفتح الخمر.
(3) حانت وقعة الساري يريد الوقت الذي يحتاج فيه إلى النوم وهو اخر الليل. يقول دارت علينا كؤوس الخمر في هذا الوقت.
(4) الدير: خان النصارى والجمع أديار.
(5) النواقيس: جمع ناقوس وهو الذي يضربه النصارى لأوقات صلاتهم.
(6) هزئت: سخرت.
(7) أم الغمر: إسم إمرأته. يقول إني سخرت من هذه المرأة إذا سخرت حين رأت الشيب لاح برأسي والشيب لا عار فيه.
(8) الاقتار: ضيق العيش.(1/89)
إنّ الشقيّ الذي في النار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النار
أعوذ بالله من أمر يزيّن (1) لي ... لوم العشيرة (2) أو يدني من العار
وخير دنيا ينسّي شرّ اخرة ... وسوف ينبئني الجبّار أخباري
ثم يتفقان بعد في الرواية وكان ربما أنشدنا. إني هزأت من أم الغمر).
قال أبو العباس، وقال أعرابي من بني الحرث بن كعب:
رئمت لسلمى بوّ ضيم وإنّني ... قديما لابي (3) الضيم وابن أباة
فقد وقّفتني بين شكّ وشبهة ... وما كنت وقّافا على الشبهات
فيا بعل (4) سلمى كم وكم بأذانها ... عدمتك من بعل تطيل أذاتي
بنفسي حبيب حال بابك دونه ... تقطّع نفسي دونه حسرات
ووالله لولا أن يساء لرعتها (5) ... بما ليس بالمأمون من فتكاتي (6)
قوله: رئمت لسلمى بوّضيم فإنما هذا مثل وأصله أن الناقة إذا ألتقت شقبها فخيف انقطاع لبنها أخذوا جلد حوار فحشوه تبنا ولطخوه بشيء من سلاها، ثم حشوا أنفها بخرقة فتجد لذلك كربا ويقال للخرقة التي تجعل في أنفها الغمامة، ثم تسلّ تلك الخرقة من أنفها فتجدر روحا، وترى ذلك البوّ تحتها وهو جلد الحوار المحشوّ فترأمه فإن درّت عليه قيل ناقة درور وترأمه تشمّه، ويقال في هذا المعنى ناقة ظؤور فينتفع بلبنها. ويقال ناقة رائم ورؤوم إذا كانت ترأم ولدها أو ربوها فإن رئمت ولم تدرّ عليه فتلك العلوق ولا خير عندها. وأنشدونا عن أبي عمرو وكان يقرأ ثم كان عاقبة الذين أساؤا
__________
(1) يزين: يحسن.
(2) عشيرة الرجل: بنو ابيه.
(3) لابي الضيم: الابي إسم فاعل من من قولك أبي الشيء يأباه إذا كرهه وعف عنه.
(4) بعل: الزوج.
(5) لرعتها: أفزعتها.
(6) الفتكات جمع فتكة وهي ركوب ما عظم من الأمور ودعت إليه الغش، يقسم بالله أنه قادر على أن يفتك به لولا أنها تساء لذلك وتفزع.(1/90)
السّواى (1) على فعلى. (الشعر لأفنون التغلبيّ).
أنّى جزوا عامرا سوأي بفعلهم ... أم كيف يجزونني السّوأي من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق (2) به ... رئمان أنف إذا ما ضنّ باللبن
فقوله: رئمت لسلمى بوّضيم أي أقمت لها على الضيم. ويقال فلان رؤوم للضيم إذا كان ذليلا راضيد بالخسف. وقال أعرابي أحسبه تميميا:
وداهية داهي بها القوم مفلق (3) ... شديد بعوران (4) الكلام أزومها (5)
أصخت لها حتى إذا ما وعيتها ... رميت (6) بأخرى يستدير أميمها
ترى القوم منها مطرقين (7) كأنما ... تساقوا عقارا لا بيتل سليمها
فلم تلقني فهّا ولم تلق حجّتي ... ملجلجة أبغي لها من يقيمها
قوله: وداهية يعني حجّة، داهي بها القوم مفلق يريد عجيبة، والفلق اسم من أسماء الدواهي. ويقال: فلق في هذا المعنى. ويقال: داهية فليق وجاء القوم بالفليق وهذا مشهور كثير في الكلام. ومنه قول خلف الأحمر.
موت الإمام فلقة من الفلق. وأنشدني منشد:
__________
(1) السوأى: ضد الحسنى وقوله من الحسن يريد بدل الحسن بالقبيح.
(2) العلوق: صور كالناقة التي تعطف على غير ولدها فلا ترأمه بل تشمه بأنفها وتمنع عنه لبنها.
وقوله رئمان أنف مصدر قولك رثم الشيء كمسمع إذا أحبه وألفه.
(3) مفلق: الذي يأتي بالفليق وهو الأمر العجيب.
(4) عوران الكلام: القبيح من الكلام.
(5) الأزدم: مصدر أزم يأزم وهو العض بالفم كله، وقد استعاره الشاعر هنا لشدة التعلق والامساك يقول ورب حجة مملؤة بالكلام القبيح شديدة التمسك به ألقى بها إلينا خصيم مفلق ألد.
(6) رميت بأخرى: أي بدامية أخرى والأميم الذي أصيب بأم رأسه.
يريد القول لما ألقى الينا ذلك المفلق بتلك الداهية واستمعت إليها وجمعتها في أذى رميته بحجة أشد منها، فلما قصدته وصدقته أصابه الدوار والخبل منها.
(7) مطرقين: ساكتين.(1/91)
(إذا عرضت داويّة (1) مدلهمة) (2) ... وغرّد حاديها (3) عملن بنا فلقا
بفتح الفاء، وقوله شديد بعوران الكلام العوراء هي القبيحة. قال حاتم ابن عبد الله الطائيّ:
وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذي أود قوّمته فتقوّما
وأزومها إمساكها يقال أزم به إذا عضّ فأمسكه بين ثنيّتيه. وفي الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه، قال في يوم أحد فنظرت إلى حلقة من ذرع قد نشبت في جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكبت لأنزعها فأقسم عليّ أبو عبيدة بثنيّتيه، فجذبها جذبا رفيقا فانتزعها وسقطت ثنيّته، ثم نصرت إلى أخرى فأردتها، فأقسم عليّ أبو عبيدة ففعل فيها ما فعل في الأولى وكان مشفقا من تحريكها لئلا يؤذي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو عبيدة أهتم. وقوله: فأزم بها.
يقال: أزم يأزم وأزم يأزم. وقوله: أصخت لها. يقول: استمعت لها. قال العبديّ (وهو المثقّب):
يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة الناشد للمنشد
والإصاخة الاستماع والناشد والطالب والمنشد المعرّف، يقال نشدت الضالة أنشدها نشدانا إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرّفتها، والنبأة الصوت، قال ذو الرمّة:
وقد توجّس (4) ركزا (5) مقفر ندس ... بنبأة (6) الصوت ما في سمعه كذب
__________
(1) داوية: فلاة.
(2) المدلهمة: شديدة السواد.
(3) الحادي: سائق الابل.
(4) توجس: تسمع إلى الصوت.
(5) ركزا: الركز بالكسر. الصوت الخفي والمقفر: الذي يسكن الفر كعضد: السريع الاستماع للصوت الخفي.
(6) النبأة: الصوت الخفي.(1/92)
وقوله: إذا ما وعيتها يقول جمعتها في سمعي يقال وعيت العلم وأوعيت المتاع في الوعاء.
قال الله عز وجل: {وَجَمَعَ فَأَوْعى ََ} (1) وقال الشاعر (عبيد بن الأبرص):
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد
وقوله: رميت بأخرى يستدير أميمها، يريد يستدير من الدوار، ويقال في هذا المعنى يستديم ومنه سميت الدوّامة. وفي الحديث كره البول في الماء الدائم لأنه كالمستدير في موضعه. قال جرير:
عوى الشّعراء بعضهم لبعض ... عليّ فقد أصابهم انتقام
إذا أرسلت صاعقة عليهم ... رأوا أخرى تحرّق واستداموا
وقوله أميمها يريد المأمون بها. يقال: أميم ومأموم كقولك قتيل ومقتول وجريح ومجروح. ويقال للشجّة التي قد وصلت إلى أمّ الدماغ، وأمّ الدماغ جليدة رقيقة تحيط بالدماغ، فإذا وصل إلى تلك فالشجّة امّة ومأمومة. قال الشاعر:
يحجّ (2) مأمومة في قعرها لجف ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد
المغاريد صغار من الكمأة، وقوله في قعرها لجف أي تقلّع. ويقال:
تلجّفت البئر إذا انقلع طيّها من أسفلها، ولجّف القوم مكيالهم إذا وسّعوه من أسفله. وقوله: تسافوا عقارا يريد كأنهم سكارى لما نالهم من تلك الحجة والعقار اسم من أسماء الخمر، وإنما سميت عقارا لمعاقرتها الدنّ. وقوله: ما يبلّ يقال بلّ وأبلّ من مرضه وكذلك استبلّ والسليم الملسوع. وقيل له سليم على جهة التفّؤل، كما يقال للمهلكة مفازة وللغراب الأعور على الطيرة منه لصحّة بصره. وقوله فلم تلقني فهّا يقول ضعيفا. يقال فهّ فلان عن حجّته إذا
__________
(1) سورة المعارج: الاية 18.
(2) يحج: سير الشجة بالمسبار، هنا وصف لطبيب رأى شجه فسبرها فخاف منها وفزع من سقها.(1/93)
ضعف عنها، ويقال رجل مفهّة إذا كان عاجزا. وقوله ملجلجة وهو ان يردّدها في فيه وقد مضى تفسيره.
بعض أشعار الفخر
وقال رجل يكنى أبا مخزوم من بني نهشل بن دارم (هو بشامة بن حزن النهشليّ عن أبي رياش):
إنّا بني نهشل لا ندّعي (1) لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
إن تبتدر غاية (2) يوما لمكرمة ... تلق السّوابق منا والمصلّينا
وليس يهلك منّا سيّد أبدا ... إلا افتلينا غلاما سيّدا فينا
إني لمن معشر أفنى أوائلهم ... قيل الكماة (3) ألا أين المحامونا
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إياه يعنونا
ولا نراهم وإن جلّت رزيّتهم ... مع البكاة على من مات يبكونا
إنّا لنرخص يوم الروع (4) أنفسنا ... ولو نسام (5) بهافي الأمن أغلينا
إذا الكماة تنحّوا أن ينالهم ... حدّ الظبات وصلناها (6) بأيدينا
فرض على مكثرينا نيل بذلهم ... والجود والبذل في طبع المقلّينا
إني ومن كأبي يحيى وعترته ... لا فخر إلا لنا أمّن يوازينا
قوله: إنا بني نهشل يعني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، ومن قال إنّا بنو نهشل فقد خبّرك وجعل بني خبر إنّ، ومن قال بني فإنما جعل الخبر أن تبتدر غاية يوما لمكرمة تلق السوابق منا
__________
(1) ندّعي: يريد الانتساب إلى غيره.
(2) الغاية المكرمة بضم الراء.
وهنا وصف بالمسارعة إلى المجد والمبادرة إلى فعل الخير.
(3) الكمأة: جمع كمي وهو الشجاع. لابس السلاح.
(4) الروع: الفزع.
(5) منسام من السوم وهو المغالاة في الثمن عند البيع.
(6) وصلناها بأيدينا: كناية عن الصبر على الهول وعدم الخوف وقت الشدة.(1/94)
والمصلينا، ونصب بني على فعل مضمر للاختصاص، وهذا أمدح ومثله:
نحن بني ضبّة أصحاب الجمل. أراد نحن أصحاب الجمل ثم أبان من يختصّ بهذا؟ فقال أعني بني ضبة، وقرأ عيسى بن عمر {وَامْرَأَتُهُ حَمََّالَةَ الْحَطَبِ} (1)
أراد وامرأته {فِي جِيدِهََا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} ثم عرّفها بحمّالة الحطب.
وقوله عز وجل: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ} (2) بعد قوله: {لََكِنِ الرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} (3) إنما هو على هذا وهو أبلغ في التعريف، وسنشرحه على حقيقة الشرح في موضعه إن شاء الله. وأكثر العرب ينشد (هو لعمرو بن الأهتم المنقريّ):
إنّا بني منقر (4) قوم ذو وحسب ... فينا سراة (5) بني سعد وناديها
وقرأ بعض القرّاء {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (6) وقوله: يشرينا يريد يبيعنا يقال شراه يشريه إذا باعه فهذه المعروفة.
قال الله عز وجل: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرََاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (7) وقال ابن مفرّغ الحميريّ:
شربت بردا ولولا ما تكنّفني ... من الحوادث ما فارقته أبدا
(يا برد ما مسّنا دهر أضرّ بنا ... من قبل هذا ولا بعنا له ولدا)
ويكون شريت في معنى اشتريت وهو من الأضداد، وأنشدني التوّزيّ:
__________
(1) سورة المسد: اية 4.
(2) سورة النساء: اية 162.
(3) سورة النساء: اية 162.
(4) منقر: بطن من تميم.
(5) سراة بالفتح: اسم جمع لسرى وهو من كانت له مرؤة وشرف.
(6) سورة المؤمنون: الاية 14.
(7) سورة يوسف: الاية 20(1/95)
اشروا لها خاتنا (1) وابغوا لختنتها ... مواسيا (2) أربعا فيهنّ تذكير
(كان ابن جابر يروي لخنتتها ويقول الخنت العفل). وقوله تلق السوابق منا والمصلينا، فالمصلي الذي في إثر السابق وإنما سمّي مصليا لأنه مع صلوى السابق وهما عرقان في الردف. قال الشاعر:
تركت الرمح يعمل في صلاه ... كأنّ سنانه خرطوم نسر
وقوله إلا افتلينا غلاما سيدا فينا، مأخوذ من قولهم فلوت الفلوّ يا فتى إذا أخذته عن أمه. قال الأعشى:
ملمع (3) لاعة الفؤاد إلى جحش ... فلاه عنها فبئس الفالي
وأخذ هذا المعنى من قول أبي الطمحان القينيّ:
اذا مات منهم سيّد قام صاحبه
وقوله:
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إياه يعنونا
مأخوذ من قول طرفة بن العبد:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
ومن قول متمّم بن نويرة:
إذا القوم قالوا من فتى لعظيمة ... فما كلّهم يدعى ولكنّه الفتى
وقوله حدّ الظبات، فالظبة الحدّ بعينه، يقال أصابته ظبة السيف وظبة النّصل وجمعه ظبات وأراد بالظبة ههنا موضع المضرب من السيف، وأخذ هذا المعنى من قول كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري:
__________
(1) الخاتن الذي يقوم بعملية الختان. وهي قطع القلفة من ذكر الغلام.
(2) والمواسي جمع موسى وهم الذي يحلق الشعر.
(3) الملمع: الأتان التي أشرقت على الحمل واتان لاعة الفؤاد إلى جحشها كأنها ولهى فرعا وجزعا من اللوعة وهي ألم الهم والمرض.(1/96)
نصل السّيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق
وقوله: أنا لنرخص يوم الروع أنفسنا، أخذه من قول الهمذانيّ وهو الأجدع أبو مسروق بن الأجدع الفقيه:
لقد علمت نسوان همدان أنني ... لهنّ غداة الروع غير خذول
وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهجاء غير بذول
ومن القتّال الكلابيّ حيث يقول:
أنا ابن الأكرمين بني قشير ... وأخوالي الكرام بنو كلاب
نعرّض للظعان إذا التقينا ... وجوها لا تعرّض للسّباب(1/97)
8 - باب في بعض أقوال الحكماء
قال أبو العباس قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: ثلاث من كنّ فيه فقد كمل، من لم يخرجه غضبه عن طاعة الله ولم يستنزله رضاه إلى معصية الله وإذا قدر عفا وكفّ. وقال الحسن نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه، وذنوب ابن ادم أكثر من أن يسلم منها ألا ما عفا الله عنه. وقال عمر بن ذرّ ودخل على ابنه وهو يجود بنفسه فقال: يا بنيّ أنه ما علينا من موتك غضاضة (1) ولا بنا إلى أحد سوى الله حاجة فلما قضي وصلى عليه وواراه وقف على قبره فقال: ياذرّ أنه قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك لأنا لا ندري ما قلت ولا ما قيل لك، اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه ما حقّي فهب له ما قصّر فيه من حقك، واجعل ثوابي عليه له وزدني من فضلك إني إليك من الراغبين. وسئل ما بلغ من برّه بك؟ فقال: ما مشى معي بنهار قطّ إلا قدّمني، ولا بليل إلا تقدّمني، ولا رقي سطحا وأنا تحته. وماتت بنت عمّ للمنصور فحضر جنازتها وجلس لدفنها، وأقبل أبو دلامة الشاعر فقال له المنصور: ويحك ما اعددت لهذا اليوم فقال: يا أمير المؤمنين ابنة عمّك هذه التي واريتها قبيل. قال: فضحك المنصور حتى استغرب (2). ودخل لبطة ابن الفرزدق على أبيه وهو محبوس في سجن مالك بن المنذر بن الجارود، ومالك عامل على البصرة لخالد بن عبد الله القسريّ فقال: يا أبت هذا عمر
__________
(1) الغضاضة المذلة والمنقصة.
(2) استغرب: بالغ في الضحك.(1/99)
ابن يزيد الأسيدي ضرب انفا ألف سوط فمات فشدّ على حمار. فقال الفرزدق: كأنك والله يا بني بمثل هذا الحديث قد تحدّث به عن أبيك، والحسن إذ ذاك عند محبوس له فقال: يا أبا فراس ما عندك أن كان ذلك؟
فقال: والله يا أبا سعيد الله أحب إليّ من سمعي وبصري ومن مالي وولدي ومن أهلي وعشيرتي افتراه يخذلني. فقال الحسن: لا وكان عمر بن يزيد الأسيدي شريفا. حدثني التوّزيّ عن أبي عبيدة قال: كان رجل أهل البصرة عمر بن يزيد الأسيديّ، ورجل أهل الشام عمر بن هبيرة الفزاريّ، ورجل أهل الكوفة بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فقيل ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال: أجل لولا خبّ في بلال، فقال بلال لما بلغه ذلك رمتني بدائها وانسلّت (1)، وقتله مالك بن المنذر تعصّبا في ما تذكره المضريّة (2) فلما دخل بمالك على هشام أقبل على أصحابه، فقال: أما رأيتم عمر بن يزيد، أما إني ما تمنيّت أن تكون أمي ولدت رجلا من العرب غيره ثم قال لمالك، قتلت والله خيرا منك حسبا ونسبا ودينا وعقبا فقال: وكيف يا أمير المؤمنين ألست ابن المنذر بن الجارود وابن مالك بن مسمع وكان جدّه أبا أمّه، وجعل عمر والسياط تأخذه ينادي يا هشاماه، ففي ذلك يقول الفرزدق:
ألم يك مقتل العبدي ظلما ... أبا حفص من الكبر العظام
قتيل جماعة في غير حقّ ... يقطّع وهو يدعو يا هشام
في حادثة تعلق الفرزدق بأستار الكعبة
والتقى الحسن والفرزدق في جنازة فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشرّ الناس. فقال الحسن كلا لست بخيرهم ولست
__________
(1) انسلت: إنطلقت في استخفاء وهذا مثل يضرب للرجل يرمي غيره بعيب هو فيه وغيره بريء منه ولا يغير المثل في كل حال عما سمع عن العرب. يريد بلال أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فيه هذا الوصف.
(2) المضربة: إحدى قبائل العرب.(1/100)
بشرهم ولكن ما أعددت لهذا اليوم، فقال شهادة ألاإله ألا الله منذ ستون سنة، وخمس نجائب لا يدركن، يعني الصلوات الخمس، فيزعم بعض التميميّة أنه رئي في النوم، فقيل له ما صنع بك ربّك فقال: غفر لي فقيل له بأيّ شيء فقال بالكلمة التي نازعني فيها الحسن. وحدثني العباس بن الفرج الرياشي في إسناد ذكره قال: كان الفرزدق يخرج من منزله فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم فيسرّ بذلك ويجذل به ويقول: ايه فدا لكم أبي وأمي كذا والله كان اباؤكم (قال أبو الحسن إنما هو فداء لكم فمن فتح قصر لا غير ومن كسر مدّ لكنه قصر الممدود على هذه الرواية). قال أبو العباس ونظر إليه أبو هريرة الدوسيّ، فقال له: مهما فعلت فقنّطك الناس فلا تقنط من رحمة الله، ثم نظر إلى قدميه فقال: إني أرى لك قدمين لطيفتين فابتغ لهما موقفا صالحا يوم القيامة، يقال قنط يقنط وقنط يقنط وكلاهما فصيح فاقرأ بأيهما شئت، وكذلك نقم ينقم ونقم ينقم والفرزدق يقول في اخر عمره حين تعلّق بأستار الكعبة وعاهد الله ألايكذب ولا يشتم مسلما:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني ... لبين رتاج قائما ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسلما ... ولا خارجا من فيّ زور كلام (1)
وفي هذا الشعر:
أطعتك يا ابليس تسعين حجّة ... فلما انقضى عمري وتمّ تمامي
رجعت إلى ربي وأيقنت أنني ... ملاق لأيام المنون حمامي
قوله: لبين رتاج فالرتاج علق الباب، ويقال باب مرتج أي مغلق، ويقال أرتج على فلان أي أغلق عليه الكلام، وقول العامة ارتجّ عليه ليس بشيء إلا أن التوّزيّ حدثني عن أبي عبيدة قال: يقال أرتجّ عليه، ومعناه وقع في رجّة أي في اختلاط وهذا معنى بعيد جدا، وقوله: ولا خارجا إنما وضع اسم
__________
(1) زور الكلام: الكلام الكذب والباطل والبيت هنا معناه أني، عاهدت ربي عند البيت الحرام أن لا أهجو مسلما وألايخرج في فمي كلام باطل كذب.(1/101)
الفاعل في موضع المصدر أراد لا أشتم الدهر مسلما ولا يخرج خروجا من في (1)
زور كلام لأنه على ذا أقسم، والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل يقال: ماء غور أي غائر.
كما قال الله عز وجل: {إِنْ أَصْبَحَ مََاؤُكُمْ غَوْراً} (2) ويقال: رجل عدل أي عادل ويوم غمّ أي غام، وهذا كثير جدا فعلى هذا جاء المصدر على فاعل، كما جاء اسم الفاعل على المصدر، يقال: قم قائما فيوضع في موضع قولك، قم قياما وجاء من المصدر على لفظ فاعل حروف منها، فلج فالجا وعوفي عافية وأحرف سوى ذلك يسيرة. وجاء على مفعول نحو رجل ليس له معقول، وخذ ميسوره ودع معسوره لدخول المفعول على المصدر، يقال:
رجل رضا أي مرضيّ وهذا درهم ضرب الأمير أي مضروب، وهذه دراهم وزن سبعة أي موزونة. وكان عيسى بن عمر يقول: إنما قوله لا أشتم حال فأراد عاهدت ربي في هذه الحال وأنا غير شاتم ولا خارج من فيّ زور كلام، ولم يذكر الذي عاهد عليه. وقال الفرزدق في أيام نسكه:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... أشدّ من القبر التهابا وأضيقا
إذا قادني يوم القيامة قائد ... عنيف وسوّاق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد ادم من مشى ... إلى النار مغلول (3) القلادة موثقا
إذا شربوا فيها الحميم رأيتهم ... يذوبون من حرّ الحميم تمزّقا
من أشعار النسك عند الفرزدق
وحدثني بعض أصحابنا عن الأصمعيّ عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخزوم عن أبي شفقل رواية الفرزدق، قال: قال لي الفرزدق يوما امض بنا
__________
(1) فيّ: يقصد فمي.
(2) سورة الملك: الاية 30.
(3) مغلول يريد مغلول موضع القلادة أي العنق، في عنقه الغل يذكر الحال التي يكون عليها بعض الناس يوم القيامة.(1/102)
إلى حلقة الحسن فإني أريد أن أطلّق النوار، فقلت: إني أخاف عليك أن تتبعها نفسك ويشهد عليك الحسن وأصحابه، فقال: امض بنا فجئنا حتى وقفنا على الحسن، فقال كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ فقال: بخير كيف أصبحت يا أبا فراس؟ قال تعلّمن أن النوار مني طالق ثلاثا. فقال الحسن وأصحابه: قد سمعنا. قال: فانطلقنا. قال فقال لي الفرزدق يا هذا أن في قلبي من النوار شيئا، فقلت قد حذّرتك فقال:
ندمت ندامة الكسعي (1) لمّا ... غدت مني مطلّقة نوار
(وكنت كفاقىء عينيه عمدا ... فأصبح لا يضيء له النهار
وما فارقتها شبعا ولكن ... رأيت الزهد يأخذ ما أعار)
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كادم حين أخرجه الضرار (2)
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان عليّ للقدر الخيار
قال الأصمعي ما روى المعتمر هذا الشعر إلا من أجل هذا البيت:
__________
(1) الكسعي رجل من كسع، كصرد وهو حي باليمن أو من بني ثعلبة بن سعد بن قيس عيلان واسم ذلك الرجل غامد بن الحرث وقد اتخذ قوسا وخمسة أسهم وخرج للصيد فكمن فمر عليه قطيع من حمر الوحش فرمى عيرا منه فنفذ منه السهم وصدم الجبل فأورى نارا فظن أنه أخطأ فرمي ثانيا وثالثا إلى اخرها وهو يظن خطاه فعمد إلى قوسه فكسرها وبات فلما أصبح نظر فإذا الحمر مطروحة مصرّعه وأسهمه بالدم مضرّجة فندم وشد على إبهامه فقطعها وأنشد:
ندمت ندامة لو أن نفسي ... تطاوعني إذن لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي مني ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
فضربت به العرب المثل.
(2) الضرار بالكسر: المخالفة.(1/103)
9 - باب في الخمريات
قال لقيط بن زرارة:
شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس (1) أو عبد المدان
أمشّي في بني عدس بن زيد (2) ... رخيّ (3) البال منطلق اللسان
وحدثني أبو عثمان المازني قال: أسر رجل يوم الحسين بن عليّ رضي الله عنه فأتي به يزيد بن معاوية، فقال له أليس أبوك القائل:
ارجّل جمّتي (4) وأجرّ ذيلي (5) ... وتحمل شكّتي افق كميت
امشّي في سراة بني غطيف (6) ... إذا ما سامني ضيم أبيت
قال: بلى فأمر به فقتل، قال أبو العباس: ونمي إليّ أن معاوية ولّى كثير ابن شهاب المذحجيّ خراسان فاختان مالا كثيرا ثم هرب فاستتر عند هانىء ابن عروة المراديّ، فبلغ ذلك معاوية فنذر دم هانىء فخرج هانىء فكان في جوار معاوية ثم حضر مجلسه ومعاوية لا يعرفه، فلما نهض الناس ثبت مكانه، فسأله معاوية عن أمره فقال: أنا هانىء بن عروة فقال: إن هذا اليوم
__________
(1) أبو قابوس: النعمان بن المنذر ملك العرب.
(2) عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم.
(3) رخي البال: امنا مطمئنا.
(4) أرجل جمتي: أجعلها سبطة والجمة بالضم مجتمع شعر الرأس وأجر ذيلي كناية عن العجب والخيلاء.
(5) كناية عن الكبر والخيلاء.
(6) غطيف: حي من العرب.(1/105)
ليس بيوم يقول فيه أبوك أرجّل جمّتي الشعر فقال له هانىء: أنا اليوم أعزّ مني ذلك اليوم. فقال له: بم ذاك؟ فقال: بالإسلام يا أمير المؤمنين. فقال له: أين كثير بن شهاب؟ قال: عندي في عسكرك يا أمير المؤمنين فقال له معاوية: انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضا وسوّغه بعضا. وقال أعرابي:
ولقد شربت الرّاح حتى خلتني ... لما خرجت أجرّ فضل المئزر
قابوس أو عمرو بن هند ماثلا ... يجبى له ما دون دارة (1) قيصر
وقال اخر:
شربنا من الدّاذي (2) كأننا ... ملوك لهم برّ العراقين والبحر
فلمّا انجلت شمس النّهار رأيتنا ... توّلى الغنى عنّا وعاودنا الفقر
وقال اخر وهو عبد الرحمن بن الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أمّ أبان
ترى شاربيها حين يعتورانها (3) ... يميلان أحيانا ويعتدلان
فما ظنّ ذا الواشي بأروع (4) ماجد ... وبدّاء خوذ حين يلتقيان
وقال اخر:
دعتني أخاها أمّ عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
وقال اخر (أنشده أبو عليّ لأمّ ضيغم البلويّة):
فبتنا فويق الحيّ لا نحن منهم ... ولا نحن بالأعداء مختلطان
وبات يقينا ساقط الطلّ والندى ... من اللّيل بردا يمنة عطران
نعدّي بذكر الله في ذات بيننا ... إذا كان قلبانا بنا يردان
__________
(1) الدارة: الأرض الواسعة الواقعة بين الجبال في دارات العرب.
(2) الداذي: نوع من الأشربة.
(3) يعتوارنها: يتدالانها. أروع: من يعجبك
(4) أروع: الرائع. الذي يعجبك لحسنه وجهارة منظره.(1/106)
قال أبو الحسن وزادني فيه غير أبي العباس:
ونصدر عن زيّ العفاف وربّما ... نقعنا غليل النفس بالرشفان
قال أبو العباس: نعدّي أي نصرف الشر بذكر الله، يقال: فعدّ عما ترى، أي فانصرف عنه إلى غيره. ويقال: لا يعدونّك هذا الحديث، أي لا يتجاوزنّك إلى غيرك. قال أبو العباس: وقال رجل من قريش:
من تقرع الكاس اللئيمة سنّه ... فلا بدّ يوما أن يسيء ويجهلا
ولم أر مطلوبا أخسّ غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا
وأجدر أن تلقى كريما يذمّها ... ويشربها حتى يخرّ مجدّلا
فو الله ما أدري أخبل أصابهم ... أم العيش فيها لم يلاقوه أشكلا (1)
وقال اخر:
إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي
ولست بفحّاش عليه وإن أسا ... وما شكل من اذى نداماه من شكلي
وقال اخر:
كل هنيئا وما شربت مريا ... ثمّ قم صاغرا فغير كريم
لا أحبّ النّديم يومض بالعين ... إذا ما انتشى لعرس النّديم
الإيماض تفحّ البرق ولمحه، يقال أومضت المرأة إذا ابتسمت، وإنما ذلك تشبيه للمع ثناياها، بتبسّم البرق فأراد أنه فتح عينه ثم غمّضها بغمز وقال حسّان بن ثابت:
كأنّ سبيئة (2) من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهنّ لطيّب الراح الفداء
__________
(1) أشكلا: مختلطا، متغيرا وأصله ما كان فيه حمرة وبياض مختلطين وهنا يعيب الشاعر على الشاربين ويصفهم بفساد العقل معا.
(2) السبيئة: ككريمة الخمر وبيت رأس موضع بالشام تنسب إليه الخمر.(1/107)
تولّيها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث (1) أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللّقاء
المغث المماغثة باليد، واللّحاء الملاحاة باللسان. يقول: يعتذر المسيء بأن يقول كنت سكران فيعذر، وقوله: كأنّ سبيئة يقال سبأتها إذا اشتريتها سباء يعني الخمر، والسابىء الخمّار، وقوله: من بيت رأس يعني موضعا كما يقال حارث الجولان.
__________
(1) المغث: الضرب الخفيف أو الشر وهتك العرض.(1/108)
10 - باب في كلام الأحنف بن قيس
قال أبو العباس: قال الأحنف بن قيس: ألا أدلّكم على المحمده بلا مرزئة (1) الخلق السجيح والكفّ عن القبيح، ألا أخبركم بأدوإ الداء الخلق الدّنيء واللسان البذيء. وقال الأحنف: ثلاث فيّ ما أقولهنّ إلا ليعتبر معتبر ما دخلت بين اثنين حتى يدخلاني بينهما ولا أتيت باب أحد من هؤلاء ما لم أدع إليه يعني السّلطان ولا حللت حبوتي إلى ما يقوم إليه الناس، تكسر الحاء وتضمها إذا أردت الاسم وتفتحها إذا أردت المصدر، أنشدني عمارة بن عقيل لجرير:
قتل الزبير وأنت عاقد حبوة ... قبحا لحبوتك التي لم تحلل
ويقال في جمع حبوة حبا وحبا مقصوران. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما أحسن الحسنات في اثار السيّات وأقبح السيات في اثار الحسنات، (2) وأقبح من ذاو أحسن من ذاك السيّات في اثار السيّات والحسنات في اثار الحسنات، والعرب تلفّ الخبرين المختلفين ثم ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بأن السامع يردّ إلى كلّ خبره.
وقال الله عزّ وجل: {مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (2). وقال رجل لسلم بن نوفل: ما أرخص السّؤدد فيكم. فقال سلم: أما نحن فلا نسوّد إلا من بذل لنا ماله وأوطأنا عرضه
__________
(1) المرزئة: النقص اللين السجيح السهل.
(2) سورة القصص: الاية 73.(1/109)
وامتهن في حاجتنا نفسه. فقال الرجل: إن السّؤدد فيكم لغال. ولسلم يقول القائل:
يسوّد أقوام وليسوا بسادة ... بل السّيد المعروف سلم بن نوفل
قال معاوية لعرابة بن أوس بن قيظيّ الأنصاريّ: بم سدت قومك؟ فقال:
لست بسيدهم ولكني رجل منهم فعزم عليه. فقال: أعطيت في نائبتهم وحلمت عن سفيههم وشددت على يدي حليمهم فمن فعل منهم مثل فعلي فهو مثلي، ومن قصّر عنه فأنا أفضل منه، ومن تجاوزه فهو أفضل مني وكان سبب ارتفاع عرابة أنه قدم من سفر فجمعه الطريق والشّماخ بن ضرار المري.
فتحادثا فقال له عرابة: ما الذي أقدمك المدينة، قال قدمت لأمتار (1) منها. فملأ له عرابة رواحله برّا وتمرا وأتحفه بغير ذلك. فقال الشّماخ:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين (2)
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين (3)
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين (4)
ومثل سراة قومك لم يجاروا ... إلى ربع الرّهان ولا الثمين (5)
قوله: تلقّاها عرابة باليمين، قال أصحاب المعاني معناه بالقوّة وقالوا: مثل ذلك في قول الله عزّ وجل: {وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ} (6) وقد أحسن كلّ الإحسان في قوله:
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
__________
(1) امتار: أجلب الطعام لأهلي.
(2) القرين: الصاحب.
(3) كناية عن القوة والرغبة، يقول إذا ظهرت راية المجد والشرف راى طريقة إليه باد واستيق بعزم وقوة.
(4) الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه وهذا الكلام كناية عن الهلاك والدعاء عليها بالموت لأنه لا يحتاج إليها بعد.
(5) الثمين: لغة في الثمن.
(6) سورة الزمر: الاية 67.(1/110)
يقول: لست أحتاج إلى أن أرحل إلى غيره، وقد عاب بعض الرّواة قوله فاشرقي بدم الوتين، وقال: كان ينبغي أن ينظر لها مع استغنائه عنها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصارية المأسورة بمكة وقد نجت على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبئس ما جزيتها، وقال: لا نذر في معصية ولا نذر للانسان في غير ملكه. ومما لم يعب في هذا المعنى قول عبد الله بن رواحة الأنصاريّ لما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زيد وجعفر على جيش مؤتة (1):
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك (2) فانعمي وخلاك ذمّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
الحساء جمع حسي وهو موضع رمل تحته صلابة، فإذا مطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء فمنعته الصّلابة أن يغيض، ومنع الرمل السّمائم أن تنشفّه، فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء يقال حسي وأحساء وحساء ممدودة. وقوله: ولا أرجع إلى أهلي ورائي مجزوم لأنه دعاء، فقوله لا هي الجازمة له ومعناه، اللهم لا أرجع كما تقول، يقول زيد ولا يغفر الله له فهذا الدعاء ينجزم بما ينجزم به الأمر والنهي، كما تقول زيد ليقم وزيد لا يبرح وقد اتّبع ذو الرمّة الشّماخ في قوله:
إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر (3)
الوصل المفصل بما عليه من اللحم يقال قطع الله أوصاله ويقال وصل وكسر وجدل في معنى واحد.
__________
(1) مؤتة: بالضم. موضع بمشارف الشام قتل فيه جعفر بن أبي طالب وفيه كانت تشتهر صناعة السيوف.
(2) فشأنك: أي إذهبي وشأنك وانعمي بالّا واستريحي من عناء السفر وقد برئت من الذم ثم دعا الله سبحانه ألايرجع إلى أهله خرجا بالشهادة في سبيله ومؤشرا لها على الرجوع.
(3) هذا دعاء عليها بالموت والهلاك والفأس حديده معروفة.(1/111)
11 - باب في حديث لرجل من بني تميم في الوصف
قال أبو العباس: أنشدني التوّزيّ لرجل من رجّاز بني تميم في وقعة الجفرة (1):
نحن ضربنا الأزد بالعراق ... والحيّ من ربيعة المرّاق
وابن سهيل قائد النّفاق ... بلا معونات ولا أرزاق
إلا بقايا كرم الأعراق ... لشدّة الخشية والإشفاق
من المخازي والحديث الباقي
الأعراق جمع عرق، يقال فلان كريم العرق ولئيم العرق أي الأصل وقال اخر يصف ابنه:
أعرف منه قلّة النعاس ... وخفّة في رأسه من رأسي
كيف ترين عنده مراسي
يخاطب أمّ ابنه، فقوله: أعرف منه قلة النعاس أي الذّكاء والحركة، وكان عبد الملك بن مروان يقول لمؤدّب ولده: علمهم العوم وهذّبهم بقلة النوم.
وكذا قال أبو كبير الهذليّ:
فأتت به حوش الجنان مبطّنا (2) سهدا أذا ما نام ليل الهوجل (3) وقال الاخر:
__________
(1) الجفرة: موضع بالبصرة حدثت به حرب شديدة عام 70هـ.
(2) حوش الجنان: مستوحش الفؤاد لا ينام: وأنت به ولدته.
(3) الهوجل: البطيء، الأحمق. هنا اسند النوم إلى الليل: مجاز عقلي لقد أراد الشاعر المدح بالنشاط والخفة. وذكاء القلب.(1/113)
فجاءت به حوش الفؤاد مسهّدا ... وأفضل أولاد الرّجال المسهّد
لعروة بن الورد يرد على زوجته وقد نهته عن السفر ليلا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي». وقال عروة بن الورد العبسيّ وهو عروة الصّعاليك:
لحا الله (1) صعلوكا إذا جنّ ليله ... مصافي المشاش (2) الفا كلّ مجزر (3)
(يعدّ العنى من نفسه كلّ ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسّر) (4)
ينام ثقيلا ثم يصبح قاعدا ... يحثّ الحصى عن جنبه المتعفّر (5)
يعين نساء الحيّ ما يستعنّه ... فيضحي طليحا (6) كالبعير المحسّر
ولكنّ صعلوكا صفيحة وجهه ... كضوء سراج القابس (7) المتنوّر
مطلا على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح (8) المشهّر (9)
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوّف أهل الغائب المتنظّر
فذلك إن يلق المنيّة يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
(يريح عليّ الليل أضياف ماجد ... كريم ومالي سارحا مال فأجدر
قال أبو الحسن: كذا أنشده فذلك لأنه لم يرو أوّل الشعر، والصواب كسر الكاف لأنه يخاطب امرأة ألا تراه قال:
أقّلي عليّ اللوم يا ابنة مالك ... ونامي وإن لم تشتهي ذاك فاسهري
__________
(1) لحا الله فلانا: أي قبحه، ولعنه.
(2) والمشاش جمع مشاشة بالضم وهي رأس العظم الممكن المضغ.
(3) والمجزر موضع الجزر يصفه بدناءة النفس وتنبع المواضع القذرة لالتقاط الطعام الدون الخسيس.
(4) ميسر: بكسر السين كأنه من قولهم يسر الرجل تيسير أسهلت ولادة أبله وغنمه.
(5) المتعفر: الملوث بالتراب.
(6) الطليح: الذي به تعب وإعياء.
(7) القابس: النور الضوء.
(8) المنيح: كامير قدح بلا نصيب.
(9) المشهر: من الشهرة بالضم وهي ظهور الشيء في شنعه.(1/114)
قوله: يحث الحصى عن جنبه المتعفر، يريد المتترّب والعفر والعفر اسمان للتراب، من ذلك قولهم عفّر الله خدّه، ويقال للظبية عفراء إذا كانت يضرب بياضها إلى حمرة. وكذلك الكئيب الأعفر، وقوله كالبعير المحسر هو المعيي، يقال جمل حسير وناقة حسير.
قال الله عزّ وجل: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خََاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (1) وقوله:
وان بعدوا لا يأمنون اقترابه، على التقديم والتأخير، أراد لا يأمنون اقترابه وان بعدوا وهذا حسن في الإعراب إذا كان الفعل الأوّل في المجازاة ماضيا كما قال زهير:
وان أتاه خليل يوم مسئلة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
فإن كان الفعل الأول مجزوما لم يجز رفع الثاني إلا ضرورة، فسيبويه يذهب إلى أنه التقديم والتأخير وهو عندي على ارادة الفاء لعلّة تلزمه في مذهبه نذكرها في باب المجازاة إذا جرى في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، فمن ذلك قوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
أراد سيبويه إنك تصرع إن يصرع أخوك، وهو عندي على قوله إن يصرع أخوك فأنت تصرع يا فتى ونستقصي هذا في بابه إن شاء الله تعالى. قوله:
كيف ترين عنده مراسي. يقول للمرأة: عززتك (2) على شبهه، ويقال أنجب (3)
الأولاد ولد الفارك (4)، وذلك لأنها تبغض زوجها فيسبقها بمائه فيخرج الشبه إليه فيخرج الولد مذكّرا. وكان بعض الحكماء يقول: إذا أردت أن تطلب ولد المرأة فأغضبها ثم قع عليها فإنك تسبقها بالماء، وكذلك ولد الفزعة كما قال أبو كبير الهذليّ:
__________
(1) سورة الملك: الاية 4.
(2) عزرتك: غلبتك.
(3) انجب: من النجابة وهي الكرم والحسب.
(4) الفارك: التي تبغض زوجها.(1/115)
ممّن حملن به وهنّ عواقد ... حبك (1) النّطاق (2) فشبّ غير مهبل
(المهبل الكثير اللحم ومهبّل غير مدعو عليه بالهبل).
حملت به في ليلة مزؤودة (3) ... كرها وعقد نطاقها (4) لم يحلل
مزؤودة ذات زؤد وهو الفزع، فمن نصب مزؤودة فإنما أراد المرأة ومن خفض فإنه أراد الليلة وجعل الليلة ذات فزع لأنه يفزع فيها. قال الله عزّ وجل:
«بل مكر الليل والنّهار» (5)، والمعنى بل مكركم في الليل والنهار. وقال جرير:
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم
وقال اخر: فنام ليلي وتجلّى همّي، وهذا الرجز ضدّ ما قال الاخر في ولده فإنه أقرّ بأن امرأته غلبته على شبهه، وذلك قوله:
والله ما أشبهني عصام ... لا خلق منه ولا قوام
نمت وعرق الخال لا ينام
يقول عزّتني أمّه على الشّبه فذهبت به إلى أخواله. وقال اخر:
لقد بعثت صاحبا من العجم ... بين ذوي الأحلام والبيض اللّمم
كان أبوه غائبا حتى فطم
يقول لم يسق غيلا (6) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هممت أن أنهي أمّتي عن الغيلة حتى علمت أنّ فارس والرّوم تفعل ذلك بأولادها فلا تضير أولادها، والغيلة أن ترضع المرأة وهي حامل أو ترضع وهي تغشى، ويزعم أهل الطب
__________
(1) الحبك: جمع حبكة بالضم وهي الحبل شد به على الوسط والنطاق.
(2) النطاق: ككتاب شقه تلبسها المرأة، تشد وسطها فترسل الأعلى على الأسفل إلى الأرض والأسفل ينجر على الأرض.
(3) مزؤودة: فيها فزع.
(4) النطاق: ذكرت في مكان سابق.
(5) سورة سبأ: الاية 33.
(6) الغيل: الذي ترضعه أمه وهي حامل.(1/116)
من العرب والعجم أن ذلك اللبن داء. وقالت أمّ تأبّط شرّا: والله ما حملته تضعا (1) ووضعا أيضا، ولا وضعته يتنا ولا سقيته غيلا، ولا أبتّه مئقا. وقال الأصمعي: ولا أبتّه على مأقة. قولها ما حملته تضعا يقال إذا حملت المرأة عند مقبل الحيض، حملته وضعا وتضعا وإذا أخرجت رجلا المولود من قبل رأسه قيل وضعته يتنا. قال الشاعر:
(1) فجاءت به يتنا يجتر مشيمة ... تسابق رجلاه هناك الأناملا
ويقال للرجل إذا قلب الشيء عن جهته جاء به يتنا، قال عيسى بن عمر:
سألت ذا الرّمّة عن مسئلة فقال لي: أتعرف اليتن؟ قلت: نعم، قال: فسئلتك هذه يتن، قال: وكنت قد قبلت الكلام، والغيل ما فسرناه، وأما قولها ولا أبتّه مئقا تقول: لم أبته مغيظا، وذلك أن الخرقاء تبيت ولدها جائعا مغموما لحاجته إلى الرضاع ثم تحركه في مهده حتى يغلبه الدوار فينوّمه، والكيّسة تشبعه وتغنّيه في مهده فيسري ذلك الفرح في بدنه من الشبح كما سرى ذلك الغمّ والجوع في بدن الاخر. ومن أمثال العرب: أنا تئق وصاحبي مئق فكيف نتفق: التئق المملوء غيظا وغضبا، والمئق القليل الاحتمال فلا يقع الاتفاق.
__________
(1) التضع: الذي تحمل به أمه في اخر الطهر عند إقبال الحيض(1/117)
12 - باب في كلام ابن عباس وعبد الله بن جعفر
قال أبو العباس: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يزهّدنّك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه. وأنشد عبد الله ابن جعفر قول الشاعر:
إنّ الصّنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع
فقال: هذا رجل يريد أن يبخّل الناس، أمطر المعروف مطرا فإن صادف موضعا فهو الذي قصدت وإلّا كنت أحقّ به. (قال أبو الحسن الأخفش حدّثنا المبرّد في غير الكامل قال: قال الحسن والحسين رضوان الله عليهما لعبد الله بن جعفر إنك قد أسرفت في بذل المال. قال: بأبي أنتما وأمّي إن الله عوّدني أن يفضل عليّ، وعوّدته أن أفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني). ومرّ يزيد بن المهلّب بأعرابيّة في خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز يريد البصرة، فقرته عنزا فقبلها وقال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟
فقال: ثماني مائة دينار. قال: فادفعها إليها. قال له ابنه: إنك تريد الرجال ولا يكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير وهي بعد لا تعرفك. فقال له:
إن كانت ترضى باليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي، ادفعها إليها. وزعم الأصمعي أن حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها ثم مشي بين الناس بالصلح فاجتمعوا في المسجد الجامع قال: فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فإذا به في شملة يخلط بزرا لعنز له حلوب، فخبّرته
بمجتمع القوم فأمهل حتى أكلت العنز ثم غسل الصفحة وصاح: يا جارية غدّينا قال فأتته بزيت وتمر. قال: فدعاني فقذرته أن اكل معه حتى إذا قضى من أكله حاجة وثب إلى طين ملقى في الدار، فغسل به يده، ثم صاح: يا جارية اسقيني ماء. فأتته بماء فشربه ومسح فضله على وجهه ثم قال: الحمد لله، ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام متى نؤدّي شكر هذه النعم. ثم قال: يا جارية عليّ بردائي. فأتته برداء عدنيّ فارتدى به على تلك الشملة.(1/119)
إن كانت ترضى باليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي، ادفعها إليها. وزعم الأصمعي أن حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها ثم مشي بين الناس بالصلح فاجتمعوا في المسجد الجامع قال: فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فإذا به في شملة يخلط بزرا لعنز له حلوب، فخبّرته
بمجتمع القوم فأمهل حتى أكلت العنز ثم غسل الصفحة وصاح: يا جارية غدّينا قال فأتته بزيت وتمر. قال: فدعاني فقذرته أن اكل معه حتى إذا قضى من أكله حاجة وثب إلى طين ملقى في الدار، فغسل به يده، ثم صاح: يا جارية اسقيني ماء. فأتته بماء فشربه ومسح فضله على وجهه ثم قال: الحمد لله، ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام متى نؤدّي شكر هذه النعم. ثم قال: يا جارية عليّ بردائي. فأتته برداء عدنيّ فارتدى به على تلك الشملة.
قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحا لزيّه فلما دخل المسجد صلى ركعتين ثم مشى إلى القوم فلم تبق حبّوة إلا حلّت إعظاما له. ثم جلس فتحمّل جميع ما كان بين الأحياء في ماله وانصرف. وحدثني أبو عثمان بكر بن محمد المازنيّ عن أبي عبيدة قال: لما أتى زياد بن عمرو المربد (1) في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكيّ (2) جعل في الميمنة بكر بن وائل وفي الميسرة عبد القيس وهم لكيز بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة، وكان زياد بن عمرو العتكيّ في القلب فبلغ ذلك الأحنف فقال: هذا غلام حدث شأنه الشهرة وليس يبالي أين قذف بنفسه، فندب أصحابه فجاءه حارثة بن بدر الغدانيّ وقد اجتمعت بنو تميم فلما طلع قال: قوموا إلى سيّدكم ثم أجلسه فناظره فجعلوا سعدا والرباب (3) في القلب ورئيسهم عبس بن طلق الطّعان المعروف بأخي كهمس وهو أحد بني صريم بن يربوع، فجعل في القلب بحذاء الأزد، وجعل حارثة بن بدر في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعلت عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس، فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للأحنف:
سيكفيك عبس أخو كهمس ... مقارعة الأزد بالمربد
وتكفيك عمرو على رسلها (4) ... لكيز بن أفصى وما عدّوا
__________
(1) المربد: موضع بالبصرة.
(2) العتكي: نسبة إلى عتيك كأمير فخذ من الأزد.
(3) الرباب: بالكسر سموا بذلك لأنهم أدخلوا أيديهم في رب وتعاقدوا.
(4) الرسل: بالكسر الرفق والتؤدة وفي هذه الأبيات إقواء وهو مخالفتها.(1/120)
وتكفيك بكرا إذا أقبلت ... بضرب يشيب له الأمرد
فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف: يا معشر الأزد وربيعة من أهل البصرة أنتم والله أحبّ إلينا من تميم الكوفة، وأنتم جيراننا في الدار ويدنا على العدوّ وأنتم بدأتمونا بالأمس ووطئتم حريمنا وحرّقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا ولا حاجة لنا في الشرّ ما أصبنا في الخير مسلكا، فتيمّموا بنا طريقة قاصدة. فوجّه إليه زياد بن عمر: تخيّر خلّة من ثلاث: إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا، وإن شئت فخلّ لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم، وإلا فدوا قتلانا واهدروا دماءكم وليود مسعود دية المشعرة. قال أبو العباس:
وتأويل قوله دية المشعرة، يريد أمر الملوك في الجاهلية وكان الرجل إذا قتل وهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات. فبعث إليه الأحنف: سنختار فانصرفوا في يومكم. فهزّ القوم راياتهم وانصرفوا فلما كان الغد بعث إليهم:
إنكم خيرتمونا خلالا ليس فيها خيار: أما النزول على حكمكم فكيف يكون والكلم يقطر دما، وأما ترك الديار فهو أخو القتل.
في الفخر
قال الله عزّ وجل: {وَلَوْ أَنََّا كَتَبْنََا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيََارِكُمْ مََا فَعَلُوهُ إِلََّا قَلِيلٌ} (1) ولكنّ الثالثة إنما هي حمل على المال فنحن نبطل دماءنا وندي قتلاكم، وإنما مسعود رجل من المسلمين وقد أذهب الله أمر الجاهلية. فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود ويغمد السيف ويودي سائر القتلى من الأزد وربيعة، فتضمّن ذلك الأحنف ودفع إياس بن قتادة المجاشعيّ رهينة حتى يؤدّى هذا المال فرضي به القوم ففخر بذلك الفرزدق فقال:
ومنّا الذي أعطى يديه رهينة ... لغاري (2) معدّ يوم ضرب الجماجم
عشيّة سال المربدان كلاهما ... عجاجة موت بالسيوف الصّوارم
__________
القوافي، فبعض الأبيات فيها مرفوع وبعضها مجرور واخر منصوب.
(1) سورة النساء: الاية 66.
(2) الغاري: الجيش.(1/121)
هنالك لو تبغي (1) كليبا وجدتها ... أذلّ من القردان (2) تحت المناسم (3)
(قال أبو الحسن: وكان أبو العباس ربما رواه لغازي معدّ ويقال أن تميما في ذلك الوقت مع باديتها وخلفائها من الأساورة والسيّابجة وغيرهم كانوا زهاء سبعين ألفا، ففي ذلك يقول جرير:
سائل ذوي يمن ورهط (4) محرّق (5) ... والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا
فأتاهم سبعون ألف مدجّج ... متسربلين يلامقا وحديدا
قال الأحنف بن قيس: فكثرت عليّ الديات فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين فسألت عن المقصود هناك فأرشدت إلى قبّة، فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة محتب بحبل، فسلّمت عليه، وانتسبت له، فقال:
ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: توفّي صلوات الله عليه. قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذي كان يحفظ العرب ويحوطها. فقلت له: مات رحمه الله تعالى. قال: فأيّ خير في حاضرتكم بعدهما. قال: فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وربيعة قال: فقال لي: أقم فإذا راع قد أراح ألف بعير، فقال: خذها ثم أراح عليه اخر مثلها. فقال: خذها. فقلت: لا أحتاج إليها.
قال: فانصرفت بالألف عنه ووالله ما أدري من هو إلى الساعة. قوله المناسم واحدها منسم وهو ظفر البعير في مقدّم الخفّ: وهو من البعير كالسنبك من الفرس. وقوله: عشية سال المربدان كلاهما يريد المربد وما يليه مما جرى مجراه، والعرب تفعل هذا في الشيئين إذا جريا في باب مجرى واحدا. قال الفرزدق:
أخذنا بافاق السّماء عليكم ... لنا قمراها والنّجوم الطّوالع
__________
(1) تبغي: تطلب.
(2) القردان: حيوانات صغيرة تعرف بالذلة.
(3) المناسم: مفردها منسم وهو خلف البعير.
(4) رهط: جمع.
(5) رهط محرق، لعل المراد بمحرق امرؤ القيس بن عمرو أو الحرث بن عمرو ملك الشام أو غيرهما فهم كثير عند العرب.(1/122)
يريد الشمس والقمر لأنهما قد اجتمعا في قولك النيّران، وغلّب الاسم المذكّر وإنما يؤثر في مثل هذا الخفّة. وقالوا: العمران لأبي بكر وعمر فإن قال قائل: إنما هو عمر بن الخطاب وعمرو بن عبد العزيز فلم يصب لأن أهل الجمل نادوا بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أعطنا سنّة العمرين. فإن قال قائل: فلم لم يقولوا أبوي بكر وأبو بكر أفضلهما؟ فلأن عمر اسم مفرد وإنما طلبوا الخفة. وانشدني التوّزيّ عن أبي عبيدة لجرير:
وما لتغلب إن عدّوا مساعيهم (1) ... نجم يضيء ولا شمس ولا قمر
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والعمران أبو بكر ولا عمر
هكذا انشدنيه (إنما قال هكذا انشدنيه لأن غير التوّزيّ يرويه والطيّبان أبو بكر ولا عمر). وقال اخر (هو حميد الأرقط): قدني من نصر الخبيبين قدي، يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير، وإنما أبو خبيب عبد الله. وقرأ بعض القرّاء سلام على الياسين فجمعهم على لفظ الياس. ومن ذا قول العرب المسامعة والمهالبة والمناذرة فجمعهم على اسم الأب. والمشعرة اسم لقتلى الملوك خاصّة كانوا يكبرون أن يقولوا قتل فلان فيقولون أشعر فلان من إشعار البدن.
ويروى أن رجلا قال: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله ثم قال: يا أمير المؤمنين فقال رجل من خلفي دعاه باسم ميّت، مات والله أمير المؤمنين. فالتفتّ فإذا رجل من بني لهب وهم من بني نصر بن الأزد وهم أزجر (2) قوم. قال كثيّر:
سألت أخا لهب ليزجر زجرة ... وقد صار زجر العالمين إلى لهب
قال: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاة قد صكّت صلعة عمر فأدمته فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين لا يقف هذا الموقف أبدا. فالتفتّ فإذا بذلك اللهبيّ بعينه، فقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحول (3).
__________
(1) المساعي جمع مسعاة وهي الكرمة.
(2) الزجر: التهكن والعرافة.
(3) الحول: العام.(1/123)
13 - باب بعض ما قيل في المال
قال أبو العباس: أنشدني رجل من أصحابنا من بني سعد قال: أنشدني أعرابي في قصيدة ذي الرمّة:
ألا يا اسلمي (1) يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلّا (2) بجرعائك (3) القطر
بيتين لم تأت بهما الرواة وهما:
رأيت غرابا ساقطا فوق قضبة (4) ... من القضب لم ينبت لها ورق نضر
فقلت غراب لاغتراب وقضبة ... لقضب النوى هذي العيافة (5) والزجر
وقال اخر (قال أبو الحسن هو جحدر العكليّ (6) وكان لصّا):
وقدما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان
(وقدما عن أبي الحسن)
تجاوبتا بلحن أعجميّ ... على عودين من غرب (7) وبان
__________
(1) أيا: للتثنية، أسلمي فعل دعاء.
(2) أنهل المطر: سقط واشتد.
(3) جرعاء: الرملة الطيبة.
(4) القضب: كل شجرة طالت وبسطت أغصانها.
(5) العيافة: بالكسر زجر الطير وهو أن تعتبرها بأسمائها ومساقطها وأنوائها.
(6) نسبة إلى جده عكل بالضم واسمه عوف بن عبد مناة حضنته أمه تعدى عكلا فلقب به وهو أبو قبيلة من العرب فيهم غباوة.
(7) الغرب محركا شجر.(1/125)
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
وأنشدني أبو محلّم لرجل من ولد طلبة بن قيس بن عاصم:
وكنت إذا خاصمت خصما كببته (1) ... على الوجه حتى خاصمتني الدّراهم
فلمّا تنازعنا الخصومة غلّبت ... عليّ وقالوا قم فإنّك ظالم
وقرأت على أبي الفضل العباس بن الفرج الرياشي عن أبي زيد الانصاري:
ولقد بغيت (2) المال من مبغاته ... والمال وجه للفتى معروض
طلب الغنى عن صاحبي ليحبّني ... إنّ الفقير إلى الغنيّ بغيض
وقال اخر أنشدنيه التوّزيّ عن أبي زيد:
وصاحب نبّهته لينهضا ... إذا الكرى في عينه تمضمضا (3)
فقام عجلان وما تأرّضا ... يمسح بالكفّين وجها أبيضا
قوله: وما تأرّضا أي لم يلزم الأرض. وأنشدني التوّزي عن أبي زيد الأنصاري (قال أبو الحسن هو شبيب بن البرصاء):
لقد علمت أمّ الصبيّين (4) أنّني ... إلى الضيف قوّام السّنات خروج
إذا المرغث العوجاء (5) بات يعزّها ... على ضرعها ذو تومتين لهوج
وإني لأغلي اللّحم نيّا وإنني ... لممّن يهين اللحم وهو نضيج
قوله: قوّام السّنات يريد سريع الانتباه، والسنة شدة النعاس وليس بالنوم بعينه.
__________
(1) كببته: صرعته.
(2) بغيت: طلبت.
(3) تمضمض: حرك الماء في الفم.
(4) أم الصبيين: أراد بها امرأته.
(5) العوجاء: الضامرة من الابل وكني بهذا الكلام عن زمن الشدة والقحط ويذكر أنه كريم في ذلك الوقت.(1/126)
قال الله عزّ وجل {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (1) وقال ابن الرّقاع العامليّ:
لولا الحياء وأنّ رأسي قد عسا (2) ... فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
وكأنها بين النّساء أعارها ... عينيه احور من جاذر (3) عاصم
وسنان (4) أقصده النعاس فرنّقت ... في عينه سنة وليس بنائم
في الفخر
معنى رنقت تهيأت، يقال: رنّق النسر إذا مدّ جناحيه ليطير.
قال ذو الرمّة:
(إذا ضربته الريح رنّق فوقنا) ... على حدّ قوسينا كما رنّق النسر
وقوله: المرغث يعني التي ترضع ترغث ولدها، ويقال لها رغوث. قال طرفة:
ليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور
وقوله: يعزّها أي يغلبها.
وقال الله عزّ وجل: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطََابِ} (5)، يقول: غلبني في المخاطبة وأصله من قوله: كان أعزّ منّي فيها. ومن أمثال العرب: من عزّ بزّ وتأويله: من غلب استلب. وقال زهير: وعزّته يداه وكاهله. يقول: كان ذلك أعزّ ما فيه.
ويقال: لهج الفصيل فهو لهوج إذا لزم الضرع. ويقال: رجل ملهج إذا لهجت فصاله فيتّخذ خلالا فيشدّه على الضرع أو على أنف الفصيل، فإذا جاء ليرضع أوجعها بالخلال فضرحته عنها برجلها. قال الشمّاخ يصف الحمار:
__________
(1) سورة البقرة: الاية رقم 255.
(2) عسا: اشتد بياضه.
(3) الجاذر: جمع جؤذر بضم الجيم والذال وتفتح الذال ويصبح معناها ولد البقرة الوحشية.
(4) الوسنان من به سنة.
(5) سورة ص: الاية 23.(1/127)
رعى بارض الوسميّ (1) حتى كأنما ... يرى بسفا البهمى أخلّة ملهج
البارض أوّل ما يبدو من النبت، والبهمى يشبه السنبل. يقول: فهو لما اعتاد هذا المرعى اللّدن استخشن البهمى وسفاها شوكها فيقول: كأنه مخلول عن البهمى أي يراها كالأخلّة. وقوله: ذو تومتين فالتومة في الأصل الحبّة ولكنها في هذا الموضع التي تعلّق في الأذن. (وقوله: الحبة إنما معناه من حبّات النظم) وكالبيت الأخير قوله:
وإني لأغلي لحمها وهي حيّة ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح
بذا فاندبيني وامدحيني فإنّني ... فتى تعتريه هزّة حين يمدح
__________
(1) الوسمي: قطر الربيع.(1/128)
14 - باب في أقوال بعض الحكماء
قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أيّ الجهاد أفضل؟ فقال:
جهادك هواك. وقال رجل من الحكماء: إعص النساء وهواك واصنع ما شئت. وقال محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: ما لك من عيشك إلا لذّة تزدلف بك إلى حمامك، وتقرّبك من يومك، فأيّة أكلة ليس معها غصص أو شربة ليس معها شرق فتأمّل أمرك، فكأنك قد صرت الحبيب المفقود، والخيال المخترم، أهل الدنيا أهل سفر لا يحلّون عقد رحالهم إلا في غيرها. قوله، تزدلف بك إلى حمامك، يقول:
تقرّبك ولذلك سمّيت المزدلفة. وقوله عزّ وجل: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} (1)، إنما هي ساعات يقرب بعضها من بعض. قال العجّاج:
ناج طواه الأين مما وجفا ... طيّ الليالي زلفا فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
ناج سريع والأين الإعياء، والوجيف ضرب من السير، ونصب طيّ الليالي لأنه مصدر من قوله طواه الأين وليس بهذا الفعل ولكنّ تقديره طواه الأين طيّا مثل طيّ الليالي، كما تقول زيد يشرب شرب الإبل إنما التقدير يشرب شربا مثل شرب الإبل فمثل نعت، ولكن إذا حذفت المضاف استغنى بأن الظاهر يبيّنه وقام ما أضيف إليه مقامه في الإعراب. من ذلك قول الله
__________
(1) سورة هود: الاية 114.(1/129)
تبارك وتعالى {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (1) نصب لأنه كان واسئل أهل القرية وتقول بنو فلان يطؤهم الطريق، تريد أهل الطريق، فحذفت أهل فرفعت الطريق لأنه في موضع مرفوع فعلى هذا فقس إن شاء الله. وقوله: سماوة الهلال إنما هو أعلاه، ونصب سماوة بطيّ يريد طواه الأين كما طوت الليالي سماوة الهلال، والشاهد على أنه يريد أعلاه قول طفيل:
سماوته أسمال (2) برد محبّر ... وسائره من انحميّ مشرعب
ويروي معصّب: وإنما سماوته من قولك سماء فاعلم، فإذا وقع الإعراب على الهاء أظهرت ما نبنيه على التأنيث على أصله فإن كان من الياء أظهرت الياء وإن كان من الواو أظهرت فيه الواو، تقول: شقاوة لأنها من الشقوة، وتقول: هذه امرأة سقّاية إذا أردت البناء على غير تذكير فإن بنيته على التذكير قلبت الياء والواو همزتين لأن الإعراب عليهما يقع، فقلت سقّاء وغزّاء يا فتى فإن أنّثت قلت سقّاة وغزّاة، والأجود في ما كان له تذكير الهمز وفي ما لم يكن له تذكير الإظهار، وإنما السماء من الواو لأن الأصل سما يسمو إذا ارتفع وسماء كلّ شيء سقفه. وقوله، حتى أحقوقفا يريد اعوجّ وإنما افعوعل من الحقف، والحقف النقا من الرمل يعوجّ ويدقّ.
في أقوال علي بن أبي طالب
قال الله عزّ وجل {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقََافِ} (3) أي بموضع هو هكذا.
وقال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو في خطبة: يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا. قال ما أصف من دار أولها عناء واخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من صحّ فيها أمن ومن مرض فيها ندم، ومن
__________
(1) سورة يوسف: الاية 82.
(2) الاسمال: الثياب الممزقة.
(3) سوقة الاحقاف: الاية 21.(1/130)
استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن. وقال الربيع بن زياد الحارثيّ: كنت عاملا لأبي موسى الأشعريّ على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يأمره بالقدم عليه هو وعماله وأن يستخلفوا جميعا قال: فلما قدمنا أتيت يرفأ فقلت (يا يرفأ (1) مسترشد وابن سبيل أيّ الهيات أحبّ إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عمّاله، فأومأ إليّ بالخشونة، فاتخذت خفّين مطارقين (2)
ولبست جبة صوف، ولثت عمامتي على رأسي، فدخلنا على عمر فصفّنا بين يديه فصعّد فينا وصوّب، فلم تأخذ عينه أحدا غيري، فدعاني. فقال: من أنت؟ قلت الربيع بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت:
البحرين. قال كم ترتزق؟ قلت ألفا. قال كثير فما تصنع به؟ قلت أتقوّت منه شيئا وأعود به على أقارب لي فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين. قال فلا بأس ارجع إلى موضعك، فرجعت إلى موضعي من الصفّ فصعّد فينا وصوّب فلم تقع عينه إلا عليّ فدعاني فقال: كم سنّك؟ قلت خمس وأربعون سنة.
قال الان حين استحكمت، ثم دعا بالطعام وأصحابي حديث عهدهم بليّن العيش وقد تجوّعت له، فأتي بخبز وأكسار بعير، فجعل أصحابي يعافون ذلك وجعلت اكل فأجيد فجعلت أنظر إليه يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنّيت أني سخت في الأرض، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا، فزجرني ثم قال كيف قلت؟
فقلت أقول يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز ليّنا واللحم غريضا، فسكن من غربه وقال أههنا غرت؟ قلت نعم. فقال يا ربيع إنا لو نشاء ملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبََاتِكُمْ فِي حَيََاتِكُمُ الدُّنْيََا} (3) ثم أمر أبا
__________
(1) يرفأ: كيمنع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) مطارقين: من قوله طارق بين نعلين إذا أخفض أحدهما على الاخرى ويقال منه نعل مطارقه أي رفع رأسه نحونا وخفضه.
(3) سورة الأحقاف: الاية 20.(1/131)
موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابي. قوله فلثتها على رأسي يقول أدرت بعضها على بعض غير استواء، يقال رجل ألوث إذا كان شديدا، وذلك من اللّوث، ورجل ألوث إذا كان أهوج (1) وهو مأخوذ من اللوثة (2). وحدّثني عبد الصمد بن المعدّل قال: سئل الأصمعيّ عن المجنون والمسمى قيس بن معاذ فثبّته، وقال: لم يكن مجنونا ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حيّة الشاعر. وقيل للأشعث بن قيس بن معد يكرب الكنديّ بم كنتم تعرفون السّؤدد (3) في الصبيّ منكم قال: إذا كان ملوث الأزرة، طويل الغزلة (4) سائل الغرّة كأنّ به لوثة فلسنا نشكّ في سودده. وقوله تؤتى باللحم غريضا يقول ريّا، يقال لحم غريض وشواء غريض يراد به الطراء قال: الغسانيّ (هو السموأل).
إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
وقوله صلائق فمعناه ما عمل بالنار طبخا وشيّا، يقال صلقت الجنب إذا شويته، وصلقت اللحم إذا طبخته على وجهه. وقوله سبائك يريد ما يسبك من الدقيق فيؤخذ خالصه يريد الحوّارى (5) وكانت العرب تسمّي الرّقاق السّبائك وأصله ما ذكرنا. والصّناب صباغ يتّخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل للفرس صنابيّ إذا كان في ذلك اللون.
وكان جرير اشترى جارية من رجل يقال له زيد من أهل اليمامة ففركت جريرا وجعلت تحنّ إلى زيد فقال جرير:
تكلّفني معيشة ال زيد ... ومن لي بالمرقّق والصّناب
وقالت لا تضمّ كضمّ زيد ... وما ضمّي وليس معي شبابي
__________
(1) أهوج: من الهوج بالتحريك وهو طول في حمق وطيش وتسرع واللوثة بالفم الحمق والهيج ومس الجنون.
(2) اللوثة بالضم الحمق والهيج ومس الجنون.
(3) السؤدد: السيادة والمجد.
(4) الغرلة: جلدة موجودة في قصبة الأنف.
(5) الحوارى: بضم الحاء وشد الواو وفتح الراء هو لباب الدقيق.(1/132)
فقال الفرزدق يجيبه:
فإن تفركك علجة ال زيد ... ويعوزك المرقّق والصّناب
فقدما كان عيش أبيك مرّا ... يعيش بما تعيش به الكلاب
وأما قوله: أكسار بعير فإن الكسر والجدل والوصل العظم ينفصل بما عليه من اللحم. وأما قوله، نعى على قوم فمعناه أنه عابهم بها ووبّخهم. قال أبو عبيدة: اجتمع العكاظيّون على أن فرسان العرب ثلاثة، ففارس تميم عتيبة بن الحرث بن شهاب، أحد بني ثعلبة بن يربوع بن حنظلة صيّاد الفوارس وسمّ الفرسان، وفارس قيس عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وفارس ربيعة بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد أحد بني شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. قال ثم اختلفوا فيهم حتى نعوا عليهم سقطاتهم. وأما قوله: أههنا غرت، يقول ذهبت، يقال غار الرجل إذا أتى الغور وناحيته مما انخفض من الأرض، وأنجد إذا أتى نجدا وناحيته مما ارتفع في الأرض، ولا يقال أغار إنما يقال غار وأنجد، وبيت الأعشى ينشد على هذا:
نبيّ يرى ما لا ترون وذكره ... لعمري غار في البلاد وأنجدا
وقوله سكن من غربه يقول من حدّه وكذلك يقال في كل شيء في السيف والسهم والرجل وغير ذلك، وقوله: خفين مطارقين تأويله مطبقين، يقال طارقت نعلي إذا أطبقتها، ومن قال طرقت أو أطرقت فقد أخطأ. ويقال لكل ما ضوعف قد طورق قال ذو الرّمة (يصف صقرا):
طراق الخوافي (1) واقع ريعة ... ندى ليله في ريشه يترقرق
قوله ريعة موضع ارتفاع قال الله عز وجل: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (2)، وهو جمع ريعة. وقال الشمّاخ.
__________
(1) الخوافي: بعض من ريش الطائر، وقد يخنفي إذا بسط الطائر جناحيه.
(2) سورة الشعراء: الاةّ 128.(1/133)
تعنّ له (1) بمذنب كلّ واد ... إذا ما الغيث أخضل كلّ ريع
أقوال لعمر بن عبد العزيز
قال أبو العباس وحدثني العباس بن الفرج الرياشيّ عن الأصمعي قال:
قال عديّ بن الفضيل: خرجت إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز استحضره بئرا بالعذبة فقال لي: وأين العذبة؟ فقلت على ليلتين من البصرة، فتأسف ألا يكون بمثل هذا الموضع ماء فأحفرني واشترط عليّ أن أوّل شارب ابن السبيل، قال فحضرته في جمعة وهو يخطب فسمعته وهو يقول: يا أيها الناس إنكم ميّتون ثم إنكم مبعوثون ثم إنكم محاسبون فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصّرتم ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم، أيها الناس أنه من يقدّر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.
قال: فأقمت عنده شهرا ما بي إلا استماع كلامه. قوله بحضيض يعني المستقر من الأرض إذا انحدر عن الجبل، ولا يقال حضيض إلا بحضرة جبل يقال:
حضيض الجبل ويطرح الجبل فيستغنى عنه لأن هذا لا يكون إلا له ومن ذلك قول امرىء القيس: نظرت إليه قائما بالحضيض.
وعظ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: يا ابن ادم لا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه فإنه إن يعلم من أجلك يأت فيه رزقك، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك، إلا كنت خازنا لغيرك فيه. ويروي للنابغة (هذا من شعر أوس بن حجر مثبت فيه في كلمة لم يعرفها الأصمعي:
ولست بخابىء أبدا طعاما ... حذار غد لكلّ غد طعام
__________
(1) تعن: تظهر، والضمير المرفوع يعود إلى الاتن الوحشية والجار والمجرور إلى الصائد والمذنب كمنبر: مسيل الماء إلى الأرض.(1/134)
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان امنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه كان كمن حيزت (1) له الدنيا بحذافيرها (2) (كذا وقعت الرواية بفتح السين عن أبي العباس والصواب كسرها وإنما السرب بفتح السين المال الراعي) قوله صلى الله عليه وسلم في سربه يقول في مسلكه يقال فلان واسع السرب وخليّ السرب يريد المسالك والمذاهب، وإنما هو متل مضروب للصدر والقلب يقال حلّ سربه أي طريقه حتى يذهب حيث شاء ويقال ذلك للابل لأنها تنسرب في الطرقات، ويقال: سرّب عليّ الابل، أي أرسلها شيئا بعد شيء فإذا قلت سرب بكسر السين فإنما هو قطيع من ظباء، أو بقر أو شاء، أو نساء، أو قطا، قال امرؤ القيس:
فعنّ لنا سرب كأنّ نعاجه ... عذارى دوار في الملأ المذيّل
دوار تسك ينسكون عنده في الجاهلية ودوّار ما استدار من الرمل ودوّار سجن اليمامة. قال بعض اللّصوص (واسمه جحدر):
كانت منازلنا التي كنا بها ... شتّى فألّف بيننا دوّار
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فلم تر عيني مثل سرب رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف
من أقوال الحجاج
وكان الحسن يقول ليس العجب ممن عطب كيف عطب إنما العجب ممن نجا كيف نجا، وكان الحجّاج بن يوسف يقول على المنبر: أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنها أسأل شيء إذا أعطيت، وامنع شيء إذا سئلت فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما (3) وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله، فإني رأيت الصّبر عن محارم الله أيسر من الصبر
__________
(1) حيزت: من حوز وهو جمع.
(2) حذافيرها: جوانبها.
(3) خطام: ما يوضع في أنف البعير ليقاد به.(1/135)
على عذابه. قوله اقدعوا يقول امنعوا يقال قدعته عن كذا أي منعته عنه ومنه قول الشمّاخ:
إذا ما استهافهنّ ضربن منه ... مكان الرمح من أنف القدوع
قوله استافهنّ يعني حمارا يستاف أتنا، يقول يرمحنه إذا اشتمّهنّ والسوف الشمّ. وقوله مكان الرمح من أنف القدوع يريد بالقدوع المقدوع وهذا من الأضداد، يقال طريق ركوب إذا كان يركب، ورجل ركوب للدوابّ إذا كان يركبها، ويقال ناقة رفوث إذا كانت ترضع وحوار رغوث إذا كان يرضع، ومثل هذا كثير يقال شاة حلوب إذا كانت تحلب ورجل حلوب إذا كان يحلب الشاة، والقدوع ههنا البعير الذي يقدع وهو ان يريد الناقة الكريمة، ولا يكون كريما فيضرب أنفه بالرمح حتى يرجع. يقال قدعته وقدعت أنفه. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ ذكر ذلك لورقة بن نوفل فقال: محمد بن عبد الله يخطب خديجة بنت خويلد الفحل لا يقذع أنفه. وكان الحجاج يقول: إنّ امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه أو يستغفر من ذنبه أو يفكّر في معاده لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة.(1/136)
15 - باب في الحض على القتال
قال أبو العباس أنشدني عمارة بن عقيل لنفسه يحضّ بني كعب وبني كلاب ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن على بني نمير بن عامر بن صعصعة وبينهم مطالبات وترات (1) وكانت بنو نمير أعداء عمارة، فكان يحضّ عليهم السلطان ويغري بهم إخوتهم، ويحاربهم في عشيرته فقال:
رأيناكما يا ابني ربيعة خرتما (2) ... لعضّ الحروب والعديد (3) كثير
وصدّقتما قول الفرزدق فيكما ... وكذّبتما ما كان قال جرير
أصابت نمير منكم فوق قدرها ... فكلّ نميريّ بذاك أمير
فإن تفخروا بما مضى من قديمكم ... فقد هدّمت مدائن وقصور
رمتها مجانيق (4) العدوّ فقرّضت ... مدائن منها كالجبال وسور
وشيّدها الأملاك (5) كسرى وهرمز ... وال هرقل حقبة ونضير
فإن تعمروا المجد القديم فلم يزل ... لكم في مضرّات (6) الحروب ضرير
__________
(1) ترات: الظلم، مفردها ترة.
(2) خرتما: من الخور: الضعف ضعفتما تواكلمتا.
(3) العديد: اسم من العدد هو الأحصاء.
(4) مجانيق واحدها منجنيق بفتح الميم وكسرها الة ترمى بها الحجارة.
(5) كسرى بكسر الكاف، وبفتح ملك الفرس، مغرب خسرو ومعناه واسع الملك والرمز والهرمزان الكبير من ملوك العجم. وهرقل ملك الروم أول من ضرب الدنانير وأول من أحدث التجارة.
(6) المضرات: التي تأتي بالضرر.(1/137)
خبطتم ليوث الشأم حتى تناذرت (1) ... حماكم وحتى لا يهرّ عقور
فكيف بأكناف الشريف (2) تصيبكم ... ثعالب (3) يبحثن الحصى وأبور
قوله فقد هدّمت مدائن وقصور مثل يريد أنّ مجدكم الذي بناه اباؤكم، متى لم تعمروا بأفعالكم خرب وذهب، وهذا كما قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يوما على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وكما قال الاخر:
ألهى بني جشم (4) عن كلّ مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أوّلهم ... يا للرجال لفخر غير مسؤم
إنّ القديم إذا ما ضاع اخره ... كساعد فلّه الأيام محطوم
وكما قال عامر بن الطفيل العامريّ:
إني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السرّ منها والصريح المهذّب
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقتب (5)
(قال أبو الحسن أنشدني هذه الأبيات محمد بن الحسن المعروف بابن الحرون، ويكنى أبا عبد الله العامر بن الطّفيل العامري قال أبو الحسن قال الأصمعي: وكان عامر بن الطفيل يلقّب محبّرا لحسن شعره وأوّلها:
__________
(1) تتاذروا: أي أنذر بعضهم بعضا.
(2) الشريف: ماء لبني نمير بنجد.
(3) الثعالب جمع ثعلب وهو في الأصل ذلك الحيوان المعروف بالضعف والخبث.
(4) جشم: كصرد عبد حبشي حضن الحارث بن لؤي فقيل لبنيه بنو جشم وأراد بالقصيدة التي قالها عمرو بن كلثوم تلك القصيدة المشهورة التي أولها ألا هبي بصحنك فأصبحينا وهي من المعلقات.
(5) المقنب كمنبر زهاء ثلثماية من الخيل.(1/138)
تقول ابنة العمريّ مالك بعد ما ... أراك صحيحا كالسّليم المعذّب
فقلت لها همّي الذي تعلمينه ... من الثأر في حيّي زبيد وأرحب
إن اغز زبيدا أغز قوما أعزّة ... مركّبهم (1) في الحيّ خير مركّب
وإن أغز حيّي خثعم فدماؤهم ... شفاء وخير الثأر للمتأوّب
فما أدرك الأوتار مثل محقّق ... بأجرد طاو كالعسيب المشذّب
وأسمر خطيّ وأبيض باتر ... وزعف دلاص كالغدير المثوّب
سلاح امرءّ يعلم الناس أنّه ... طلوب لثأرات الرجال مطلّب
ثم نأتي بإنشاد أبي العباس على وجهه إلا أنه روى من رماها بمنكب السليم الملدوغ، وقيل له سليم تفاؤلا له بالسلامة، وزبيد وأرحب حيّان من اليمن، والثأر ما يكون لك عند من أصاب حميمك من الترة ومن قال ثار فقد أخطأ. والمتأوب الذي يأتيك لطلب ثأره عندك. يقال: اب يؤب إذا رجع والتأويب في غير هذا السير في النهار بلا توقّف. والأوتار والأحقاد واحدهما وتر وحقد، والأجرد الفرس المتحسّر الشعر والأجرد الضامر أيضا، والعسيب السعفة والمشذّب الطويل الذي قد أخذ ما عليه من العقد والسلّاء والخوص، ومنه قيل للطويل المعرّق مشذّب، وخطيّ رمح منسوب إلى الخطّ، وهي جزيرة بالبحرين يقال إنها تنبت عصى الرماح. وقال الأصمعي: ليست بها رماح ولكن سفينة كانت وقعت إليها فيها رماح وأرفئت بها في بعض السنين المتقدمة، فقيل لتلك الرماح الخطّيّة ثم عمّ كلّ رمح هذا النسب إلى اليوم، والزغف الدرع الرقيقة النسج والمثوّب الذي تصفّقه الرياح فيذهب ويجيء، وهو من ثاب يثوب إذا رجع، وإنما سميّ الغدير غديرا لأن السيل غادره أي تركه). قال أبو العباس وقوله لكم في مضرّات الحروب ضرير، يقال رجل ذو ضرير إذا كان ذا مشقة على العدوّ. وقال مهلهل بن ربيعة التغلبيّ:
قتيل ما قتيل المرء عمرو ... وهمّام بن مرّة ذو ضرير
(ما زائدة وفيها معنى التعظيم) وقوله: خبطتم ليوث الشام، يريد ما كان
__________
(1) كمركب: معظم الأصل والمنبت.(1/139)
من نصر بن شبث العقيليّ وهو عقيل بن كعب بن ربيعة. وقوله وأبور جمع وبر (1) إذا انضمت الواو من غير علة فهمزها جائز وقد ذكرنا ذلك قبل وقال عمارة أيضا لهم أنشدنيه:
ألا لله درّ الحيّ كعب ... ذوي العدد المضاعف والخيول
أما فيهم كريم مثل نصر ... يورّع عنهم سنن الفحول
تنوخهم (2) نمير كلّ يوم ... كفعل أخي الغزارة بالذّليل
وليسوا مثل عشرهم ولكن ... يضيع القوم من قبل العقول
فإن فوارس السلمات عنهم ... وجعدة والحريش وذو الفضول
وأين عبادة الخشناء عنهم ... إذا ما ضاق مطّلع السبيل
قوله ألا لله درّ الحي كعب، يريد كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس ابن عيلان بن مضر، وقوله أما فيهم كريم مثل نصر، يعني نصر بن شبث أحد بني عقيل بن كعب بن ربيعة، وقوله يورع عنهم سنن الفحول هو مثل ضربه فجعلهم لامساكهم عن الحرب بمنزلة النّوق التي يقرعها الفحل، ويورّع يكفّ ويمنع ويدفع، والورع في الدين إنما هو الكفّ عن أخذ الحرام، وجاء في الحديث: لا تنظروا إلى صومه ولا إلى صلاته، ولكن انظروا إلى ورعه إذا أشفى ومعناه إذا أشرف على الدينار والدرهم والسنن القصد، ثم أبان ذلك بقوله: تنوّخهم نمير كلّ يوم يقال سانّ الفحل الناقة فتنوّخها، وذلك إذا ركبها من غير أن توطّأ له، ولكن يعترضها اعتراضا وتقول العرب ان ذلك أكرم النّتاج، وذلك الولد يخرج صليبا مذكّرا، ويقال لذلك الحمل الذي يقع من التوّخ والاعتراض يعارة، وعراض يقال حملته عراضا وحملته يعارة يا فتى.
قال الراعي:
__________
(1) الوبر بسكون الباء دويبه كالسنور.
(2) تنوخ الجمال: إذا بركت من ناخ، أو أناخ.(1/140)
قلائص (1) لا يلقحن إلا يعارة ... عراضا ولا يشربن إلا غواليا
وقال الطرمّاح:
سوف تدنيك من لميس سبندا ... ة أمارت بالبول ماء الكراض
نضّجته عشرين يوما ونيلت ... حين نيلت يعارة في عراض
قوله سبنداة فهي الجريئة الصدر، يقال للجريء الصدر سبنتاة وستبنداه وأصل ذلك في التمر وزعم الأصمعيّ أن الكراض حلق الرحم قال: ولم أسمعه إلا في هذا الشعر، وقوله نضّجته عشرين يوما إنما هو أن تزيد بعد الحول من حيث حملت أياما نحو الذي عدّ فلا يخرج الولد الا محكما. قال الحطيئة:
لأدماء منها كالسّفينة نضّجت ... به الحول حتى زاد شهرا عديدها
والعزازة العزّ والمصادر تقع على فعالة للمبالغة يقال: عزّ عزّا وعزازة كما يقال الشراسة والصرامة.
قال الله تعالى: {قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفََاهَةٌ} (2). وفي موضع اخر {لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ} (3)، وقوله بأين فوارس السّلمات، يريد بني سلمة الخير وبني سلمة الشرابني قشير بن كعب وجمع لأنه يريد الحيّ أجمع كما تقول المهالبة والمسامعة فتجمعهم على اسم الأب على المهلّب ومسمع، وكذلك المناذرة، وقد مرت الحجة في هذا وجعدة بن كعب والحريش بن كعب وبنو عبادة من بني عقيل بن كعب.
وقال الخشناء يريد القبيلة وذكرها بالخشونة على الأعداء. ويروى أن
__________
(1) القلائص: جمع قلوص وهي من الإبل الشابة الباقية على السير، يصف هذه النوق بالقوة والكرم وان الفحل لا يقع عليها إلّا معارضة من غير أن توطأ له.
(2) سورة الأعراف: الاية 67.
(3) سورة الأعلااف: الاية 61.(1/141)
معاوية بن أبي سفيان رحمه الله تعالى قال لدغفل بن حنظلة النسّابة ما تقول في بني عامر بن صعصعة.
فقال، أعناق ظباء وأعجاز نساء، قال: فما تقول في بني تميم؟ قال:
حجر أخشن إن صادمته اذاك وان تركته تركك. قال: فما تقول في اليمن؟ قال سيّد وأنوك (1).
قال أبو العباس وأنشدني عمارة لنفسه وسبب هذا الشعر الذي نذكره أن رجلا من بني تميم يكنى أبا سعد كان منقطعا إلى أبي نصر بن حميد الطائيّ ثم أحد بني نبهان، وكان أبو نصر واليا على العرب، وكتب أبو سعد إلى عمارة يأمره أن يضع يده في يد أبي نصر، فقال عمارة:
دعاني أبو سعد وأهدى نصيحة ... إليّ وممّا أن تغرّ النصائح
(مما بمعنى ربما).
لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطيّ حتفه (2) وهو نازح
أبو البرجميّ حين أهداه حينه ... لنار عليها موقدان وذابح
ورأي أبي سعد وإن كان حازما (3) ... بصيرا وان ضاقت عليه المسارح
أعار به ملعون نبهان سيفه ... على قومه والقول عاف وجارح
ونصر الفتى في الحرب أعداء قومه ... على قومه للمرء ذي الطعم فاضح
قوله لا جزر لحمي كلب نبهان، أي لا كون جزرة له والجزرة البدنة تنحر، يقال أجزرت فلانا وتركت فلانا جزرا. قال عنترة العبسيّ:
إن تشتما عرضي فإنّ أباكما ... جزر السّباع وكلّ نسر قشعم (4)
وقوله كالذي دعا القاسطيّ حتفه وهو نارح فهذا رجل من النمر بن قاسط
__________
(1) أنوك: أحمق.
(2) الحتف: الموت.
(3) الحزم: ضبط الأمور.
(4) القشعم: المسن من النسور.(1/142)
خرج يبتغي قرظا من بعد، فنهشته حيّة فمات فهو أحد القارظين، والقارظ الأول من عنزة كان خرج مع ابن عمّ له في قلب القرظ فقتله ابن عمه لأنه كان يريد ابنته فمنعه منها. قال أبو خراش الهدليّ (الصحيح أن الشعر لأبي ذؤيب).
وحتى يؤب القارظان (1) كلاهما ... وينشر في القتلى كليب لوائل
وقوله كالذي دعا القاسطي حتفه، الهاء في حتفه ترجع على الذي وتقديره كالسبب الذي دعا القاسطيّ حتفه، وقوله أو البرجميّ فهذا رجل من البراجم وهم بنو مالك بن حنظلة كان عمرو بن هند لما قتل بني دارم بأوارة (2)، وكان سبب ذلك أن أخاه أسعد بن المنذر وكان مسترضعا في بني دارم في حجر حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم، انصرف ذات يوم من صيده وبه نبيذ فعبث كما تعبث الملوك فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله، ورمى ناقة بسهم فقتلها والرجل الذي قتله سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم) ففي ذلك يقول القائل وهو عمرو بن ملقط الطائيّ لعمرو بن هند:
فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زراره
فغزاهم عمرو بن هند فقتلهم يوم القصيبة ويوم أوارة ففي ذلك يقول الأعشى:
وتكون في الشرف الموا ... زي منقرا وبني زراره
أبناء قوم قتّلوا ... يوم القصيبة والأواره
ثم أقسم عمرو بن هند ليحرّقنّ منهم مائة فبذلك سمّي محرّقا، فأخذ تسعة وتسعين رجلا فقذفهم في النار، ثم أراد أن يبرّ قسمه بعجوز منهم لتكمل بها العدّة فلما أمر بها قالت العجوز (على ما ذكر أصحاب الأخبار اسمها
__________
(1) القارظان: الأول ابن عنزة. والثاني ابن عمه عامر بن رهم وكلاهما من عنز.
(2) أواره: جبل لتميم.(1/143)
الحمراء بنت نضلة) ألا فتى يفدي هذه العجوز بنفسه ثم قالت: هيهات صارت الفتيان حمما، ومرّ وافد البراجم وهو الذي ذكرنا فاشتمّ رائحة اللحم فظن أن الملك يتخذ طعاما فعرّج إليه فأتي به إليه فقال له: من أنت؟ فقال أبيت اللعن (1) أنا وافد البراجم فقال عمرو أن الشقيّ وافد البراجم، ثم أمر به فقذف في النار.
في هجاء جرير للفرزدق
ففي ذلك يقول جرير يعيّر الفرزدق:
أينّ الذين بنار عمرو حرّقوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع
وقال أيضا:
وأخزاكم عمرو كما قد خزيتم ... وأدرك عمّارا شقيّ البراجم
وقال الطرّماح:
ودارم قد قذفنا منهم مائة ... في جاحم (2) النار إذ ينزون بالجدد (3)
ينزون بالمشتوى منها ويوقدها ... عمرو ولولا شحوم القوم لم تقد
ولذلك عيّرت بنو تميم بحب الطعام يعني لطمع البرجميّ في الأكل. قال يزيد بن عمرو بن الصعق (4) أحد بني عمرو بن كلاب:
ألا أبلغ لديك بني تميم ... باية ما يحبّون الطّعاما
وقال اخر (ذكر ابن حبيب أن هذا الشعر لأبي مهوّش الفقعسيّ وذكر دعبل أنه لأبي الهوس الأسديّ):
إذا ما مات ميت من تميم ... فشرّك أن يعش فجىء بزاد
__________
(1) أبيت اللعن: عبارة تستعمل في الجاهلية وفيها دعاء بأن يقيك الله فعل ما تؤاخذ عليه.
(2) الجاحم: الجمر شديد الاشتعال.
(3) والجدد بالتحريك: الأرض الغليظة المستوية.
(4) الصعق: لقب خويلد بن نفيل ولقب فارس لبني كلاب.(1/144)
بخبز أو بتمر أو بلحم ... أو الشيء الملفّف في البجاد (1)
تراه ينقّب (2) البطحاء حولا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
وقوله للمرء ذي الطعم يعني الراجع إلى عقل، يقال فلان ليس بذي طعم وفلان ليس بذي نزل أي ليس بذي عقل ولا معرفة وإنما يقال هذا طعام ليس له نزل إذا لم يكن ذا ريع ومن قال نزل في هذا المعنى فقد أخطأ وقال اعرابي يهجو قوما من طيّىء:
ولمّا أن رأيت بني جويس ... جلوسا ليس بينهم جليس
يئست من التي أقبلت أبغي ... لديهم إنني رجل يؤس
إذا ما قلت أيّهم لأيّ ... تشابهت المناكب والرؤوس
قوله جلوسا ليس بينهم جليس يقول هؤلاء قوم لا ينتجع الناس معروفهم فليس فيهم غيرهم، وهذا من قبح الهجاء ومن أمثال العرب سمتهم في أديمهم ومعناه في مأدومهم، وقيل أديم ومأدوم مثل قتيل ومقتول وتقول الحكماء من كثر خيره كثر زائره، وقال المهلّب بن أبي صفرة لبنيه يا بنيّ إذا غدا عليكم لرجل وراح مسلّما فكفى بذلك تقاضيا وقال الاخر:
أروح لتسليم عليك وأغتدي ... وحسبك بالتسليم مني تقاضيا
كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء وباليأس المصرّح ناهيا
(وربما قال أبو العباس هو مصرّح بكسر الراء قال أبو الحسن والكسر أجود:
في أفضل المديح
ومن أحسن المدح قول زهير:
قد جعل الطالبون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
__________
(1) البجاد: بالكسر: ثوب مخطط.
(2) ينقب: كناية استعملت هنا للدلالة على الشره والجشع.(1/145)
وقال رؤبة:
ليس لرؤبة وهو لابن أبي نخيلة ... إنّ الندى حيث نرى الضغاطا (1)
وقال اخر:
يزدحم الناس على بابه ... والمشرب العذب كثير الزّحام
وقال أشجع في محمد بن منصور:
على باب ابن منصور ... علامات من البدل
جماعات وحسب البا ... ب نبلا كثرة الأهل
وقوله تشابهت المناكب والرؤوس إنما ضربه مثلا للأخلاق والأفعال أي ليس فيهم مفضّل ويقال إن الأضبط بن قويع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم اذته عشيرته من بني سعد، فخرج عنهم فجعل لا يجاور قوما إلا اذوه فقال: أينما أذهب ألق سعدا أي أفرّ من الأذى إلى مثله.
__________
(1) الضغاط والمزاحمة. واستعملت هنا كناية عن الإكرام والقيام بواجبات الضيف.(1/146)
16 - باب في أطايب المجالس
قال أبو العباس قال أبو ادريس الخولانيّ: المساجد مجالس الكرام وقيل للأحنف بن قيس أحد بني مرّة بن عبيد بن الحرث بن كعب بن سعد أي المجالس أطيب؟ فقال ما سافر فيه البصر واتّدع فيه البدن. اتدع افتعل من التوديع والأصل أو تدع فتقلب الواو ياء لانكسار ما قبلها وهذا القول مذهب أهل الحجاز، يقولون ايتزر ياتزر، وهو رجل موتزر والأجود أن تقلب ما كان أصله الواو والياء في باب افتعل تاء وتدغمها في التاء من افتعل فتقول، اتّدع يتّدع وهو متّدع ومتزر ومتّعد من الوعد ومتّئس من اليأس تكون الياء كالواو لأنها ان أظهرت انقلبت على حركة ما قبلها فصارت كالواو، وتكونان واوين عند الضمة نحو موعد وموتعد وموئس ومؤتس وياءين للكسرة. والواو قد تقلب إلى التاء ولا تاء بعدها، نحو تراث من ورثت وتجاه من الوجه ونكأة وإنما ذلك كراهية الضمة في الواو وأقرب حروف الزوائد والبدل منها التاء فقلبت إليها.
وقد تقلب للبدل في غير ضم نحو هذا اتقى من هذا، وضربته حتى أتكأته فلما كانت بعدها تاء افتعل كان الوجه القلب ليقع الادغام وقد فسرنا هذا على غاية الاستقصاء في الكتاب المقتضب.
في خير المجالس
وقيل للمهلّب بن أبي صفرة. ما خير المجالس فقال ما بعد فيه مدى الطرف وكثرت فيه فائدة الجليس. ويروى عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه:
يا بنيّ إذا أتيت مجلس قوم فارمهم بسهم الإسلام ثم اجلس، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك مع سهامهم، وان أفاضوا في غيره فخلّهم وانهض، قوله فارمهم بسهم الإسلام يعني السّلام وقوله: فأجل سهمك مع سهامهم يعني ادخل معهم في أمرهم، فضربه مثلا من دخول الرجل في قداح الميسر (1)، وقال وهب بن عبد مناف بن زهرة جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمه:(1/147)
وقيل للمهلّب بن أبي صفرة. ما خير المجالس فقال ما بعد فيه مدى الطرف وكثرت فيه فائدة الجليس. ويروى عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه:
يا بنيّ إذا أتيت مجلس قوم فارمهم بسهم الإسلام ثم اجلس، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك مع سهامهم، وان أفاضوا في غيره فخلّهم وانهض، قوله فارمهم بسهم الإسلام يعني السّلام وقوله: فأجل سهمك مع سهامهم يعني ادخل معهم في أمرهم، فضربه مثلا من دخول الرجل في قداح الميسر (1)، وقال وهب بن عبد مناف بن زهرة جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمه:
وإذا أتيت جماعة في مجلس ... فاختر مجالسهم ولما تقعد
ودع الغواة الجاهلين وجهلهم ... وإلى الذين يذكّرونك فاعمد
وقال ابن عباس رحمه الله: لجليسي عليّ ثلاث أن أرميه بطرفي إذا أقبل وأوسّع له إذا جلس وأصغي إليه إذا حدّث.
في ما يفعله القعقاع بن شور
وكان القعقاع بن شور أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل إذا جالسه جليس فعرّفه بالقصد إليه جعل له نصيبا في ماله، وأعانه على عدوّه، وشفع له في حاجته، وغد إليه بعد المجالسة شاكرا له حتى شهر بذلك. وفيه يقول القائل:
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السنّ أن امروا بخير ... وعند السّوء مطراق عبوس
وحدثني التوّزيّ أن رجلا جالس قوما من بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فأساؤوا عشرته وسعوا به إلى معاوية فقال:
شقيت بكم وكنت لكم جليسا ... فلست جليس قعقاع بن شور
ومن جهل أبو جهل أخوكم ... غزا بدرا بمجمرة (2) وتور
__________
(1) الميسر: اللعب بالقدح أو هو الجرذر التي كانوا يتقامرون عليها.
(2) المجمرة: التي كان يوضع فيها الجمر.(1/148)
نسبه إلى التوضيع كقول عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف الحكيم بن حزام لما بلغه قول أبي جهل بن هشام انتفخ والله سحره ونحره سيعلم مصفّر استه من انتفخ سحرة (1) اليوم. وقال رجل من بني مخزوم للأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري ليؤذيه، أتعرف الذي يقول:
ذهبت قريش بالمكارم كلّها ... واللؤم تحت عمائم (2) الأنصار
فقال الأحوص لا أدري ولكني أعرف الذي يقول:
الناس كنّوه أبا حكم ... والله كنّاه أبا جهل
أبقت رياسته لاسرته ... لؤم الفروع ودقّة الأصل
وهذا الشعر لحسّان بن ثابت والبيت أنشده المخزومي للأخطل وكان يزيد بن معاوية عتب على قوم الأنصار فأمر كعب بن جعيل التغلبي بهجائهم، فقال له كعب أأهجو الأنصار أرادّي أنت إلى الكفر بعد الإسلام؟ ولكني أدلّك على غلام من الحيّ نصرانيّ كأنّ لسانه لسان ثور يعني الأخطل، قال فلما قال هذا البيت دخل النعمان بن بشير بن سعد الأنصاريّ على معاوية فحسر عمامته عن رأسه ثم قال: يا معاوية أترى لؤما فقال ما أرى إلا كرما فقال النعمان:
معاوي إن لا تعطنا الحقّ تعترف ... لحي الأزد مسدولا عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم (3) ضلّة (4) ... فماذا الذي تجدي عليك الأراقم
فمالي ثأر دون قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنه الدّراهم
في المحافظة على تقاليد العرب
وكان الأحنف بن قيس يقول: لا تزال العرب عربا ما لبست العمائم
__________
(1) السحر: بفتح السين.
(2) العمائم: جمع عمامة وهي المغفر والبيضة في أدوات الحرب وهذا كناية عن دفاعهم عن حوزتها.
(3) الاراقم: حي من تغلب.
(4) ضلة: الضلة بالفتح الغيبة لخير أو لشر على حد سواء.(1/149)
وتقلّدت السيوف ولم تعدد الحلم ذلا ولا التواهب في ما بينها ضعة، وقالوا في تأويل قوله، ما لبست العمائم. يقول ما حافظت على زيّها، قوله وتقلدت السيوف، يريد الامتناع من الضيم. وقوله ولم تعد الحلم ذلا يقول ما عرفت موضع الحلم، وتأويل ذلك أن الرجل إذا أغضى للسلطان أو أغضى عن الجواب وهو مأسور لم يقل حلم، وإنما يقال حلم إذا ترك أن يقول الشيء لصاحبه منتصرا ولا يخاف عاقبة يكرهها فهذا الحلم المحض فإذا لم يفعل ذلك ورأى أن تركه الحلم ذلّ فهو خطأ وسفه، وقوله: ولم تر التواهب بينها ضعة نحو من هذا وهو أن يهب الرجل من حقه ما لا يستكره عليه وكان يقال:
أحيوا المعروف بإماتته. وتأويل ذلك أن الرجل إذا امتنّ بمعروفه كدّره. وقيل المنّة تهدم الصنيعة وكان يقال كتمان المعروف من المنعم عليه كفر وذكره من المنعم تكدير له. وقال قيس بن عاصم يا بني تميم اصحبوا مني ذكر احسانكم إليه وينسى أياديه إليكم.(1/150)
17 - باب حديث عبد الملك مع اسلم بن الأحنف
قال أبو العباس: قال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسديّ:
ما أحسن ما مدحت به؟ فاستعفاه فأبى أن يعفيه وهو معه على سريره، فلما أبى إلا أن يخبره قال قول القائل:
ألا أيها الركب (1) المخبّون هل لكم ... بسيّد أهل (2) الشام تحبوا وترجعوا
من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
إذا النفر (3) السّود اليمانون نمنموا (4) ... له حوك برديه أجادوا وأوسعوا
جلا المسك والحمّام والبيض كالدّمى ... وفرق المداري (5) رأسه فهو أنزع
فقال له عبد الملك: ما قال أخو الأوس أحسن مما قيل لك. (قال أبو الحسن هو أبو قيس بن الأسلت):
قد حصّت البيضة (6) رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع (7)
__________
(1) الركب: اسم جمع يقال لركبان الابل من العشرة فصاعدا. وقد يكون للخيل والمخب من الخبيب بالتحريك وهو ضرب من العدو.
(2) سيد أهل الشام: فيها حصن. يريد هل لكم أن تعتصموا بسيد أهل الشام.
(3) النفر: الجماعة من الناس ووصفهم. بأنهم بيض كناية عن طهارتهم ونقاوة أعراضهم واعتزوا أي انتسبوا إلى أبيهم.
(4) نمنموا: زخرفوا ونقشوا.
(5) المداري: جمع مدرى مشط.
(6) حصت البيضة: أي أزالت شعر رأسي، حص الشعر أي حلقه والبيض هنا، بيضة الحديد توضع فوق الرأس عن الحرب.
(7) التهجاع: النوم ليلا.(1/151)
وحدّثت أن كثيّرا كان يقول: لوددت أني كنت سبقت الأسود أو العبد إلى هذين البيتين يعني نصيبا في قوله:
من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرّت لنجواهم لؤيّ بن غالب
يحيّون بسّامين طورا وتارة ... يحيّون عبّاسين شوس (1) الحواجب (2)
والمختار من الشعر الأول قوله:
من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
يخبر بجلالتهم ومعرفتهم بأقدارهم وثقتهم بأن مثلهم لا يردّ. وقد قال جرير للتيم خلاف هذا وهو قوله:
قوم إذا احتضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب
وحدّثت أن جريرا كان يقول: وددت أن هذا البيت من شعر هذا العبد، كان لي بكذا وكذا بيتا من شعري يعني قول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملّينا فما ملّك القلب
وأما قول نصيب:
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت (3) ... وكّل بدعد من يهيم بها بعدي
فلم تجد الرّواة ولا من يفهم جواهر الكلام له مذهبا حسنا. وقد ذكر عبد الملك ذلك لجلسائه فكلّ عابه، فقال عبد الملك: فلو كان إليكم كيف كنتم قائلين؟ فقال رجل منهم كنت أقول:
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي
فقال عبد الملك: ما قلت والله أسوأ مما قاله. فقيل له: فكيف كنت قائلا في ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال كنت أقول:
__________
(1) الشوس: النظر بمؤخرة العين.
(2) الحواجب: المراد بالحواجب العيون.
(3) أهيم بدعد: وقد انتقدته سكينة بنت الحسين وقالت له لقد جعلت نفسك قوادا.(1/152)
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي
فقالوا: أنت والله أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين. وقد فضّل نصيب على الفرزدق في موقفه عند سليمان بن عبد الملك، وذلك أنهما حضرا فقال سليمان للفرزدق: أنشدني. وإنما أراد أن ينشده مدحا له فأنشده:
وركب كأنّ الريح تطلب عندهم ... لهاترة من جذبها بالعصائب (1)
سروا (2) يخبطون الريح وهي تلفّهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب
إذا انسوا (3) نارا يقولون ليتها ... وقد خصرت (4) أيديهم نار غالب
فأعرض سليمان كالمغضب فقال نصيب: يا أمير المؤمنين ألا أنشدك في رويّها ما لعله لا يتّضع عنها. فقال: هات. فأنشده:
أقول لركب صادرين (5) لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب
قفوا خبّروني عن سليمان انني ... لمعروفه من أهل ودّان (6) طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وهذا في باب المدح حس ومتجاوز ومبتدع لم يسبق إليه على أن الشاعر وهو أخو همدان قد قال في عصره في غير المدح:
يمرّون بالدهنا (7) خفافا عيابهم (8) ... ويخرجن من دارين (9) بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جلّ أمورهم ... فنذلا زريق المال نذل الثعالب
__________
(1) العصائب: العمائم.
(2) سروا: مشوا ليلا.
(3) انسوا: أبصروا.
(4) خصرت أيديهم: أصابها البرد.
(5) صادرين: راجعين.
(6) ودان: رستاق بنواصي سمرقند بلده قرب الأبواء.
(7) الدهناء: مكان لتميم بنجد، وهي الفلاة.
(8) العياب: جمع عيبة.
(9) دارين: موضع بالبحرين يجلب منه المسك الداري.(1/153)
وليس شعر نصيب هذا الذي ذكرناه في المدح بأجود من قول الفرزدق في الفخر، وإنما يفاضل بين الشيئين إذا تناسبا. وقد قال سليمان للفرزدق حين أنشده نصيب: كيف تراه؟ قال: هو أشعر أهل جلدته. فقام الفرزدق وهو يقول:
وخير الشعر أشرفه رجالا ... وشرّ الشعر ما قال العبيد
ثم نرجع إلى تفسير الشعر قوله: يمرون بالدهنا خفاقا عيابهم، يعني قوما تجارا وقد قالوا إنما ذكر لصوصا والأوّل أثبت، وذلك أن دارين سوق من أسواق العرب. وقوله بجر الحقائب يقول: عظام، ويقال للرجل إذا اندلقت سرّته فنتأت متقدمة، رجل أبجر ويقال لها البجرة، والبجرة فعلة وفعلة تقعان في الشيء، يقال: قلفة وقلفة وصلعة وصلعة ومثل هذا كثير. وقوله: على حين ألهى الناس إن شئت خفضت حين وإن شئت نصبته أما الخفض فلأنه مخفوض وهو اسم منصرف وأما الفتح فلإضافتك إياه إلى شيء غير معرب فبنيته على الفتح لأن المضاف والمضاف إليه اسم واحد، فبنيته من أجل ذلك ولو كان الذي أضفته إليه معربا لم يكن إلا مخفوضا وما كان سوى ذلك فهو لحن، تقول: جئتك على حين زيد وجئتك في حين إمرة عبد الملك، وكذلك قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصّبا ... وقلت ألمّا (1) أصح والشيب وازع
إن شئت فتحت حين، وإن شئت خفضت، لأنه مضاف إلى فعل غير متمكن وكذلك قولهم: يومئذ نقول عجبت من يوم عبد الله لا يكون غيره فإذا أضفته إلى إذ فإن شئت فتحت على ما ذكرت لك في حين وإن شئت خفضت لما كان يستحقه اليوم من التمكّن، قبل الإضافة تقرأ إن شئت من عذاب يومئذ وإن شئت من عذاب يومئذ على ما وصفت لك، ومن خفض بالإضافة قال:
__________
(1) ألما: الهمزة للانكار والما للنفي والجزم وأصح مضارع صحا صحوا إذا ترك اللهو والباطل والوازع والزاجر والرادع يلوم نفسه وينكر عليها التصابي والتعلق بالنساء أيام كبره وشيبه.(1/154)
سير بزيد يومئذ فأعربته في موضع الرفع كما فعلت به في الخفض ومن قال:
من خزي يومئذ فبناه. قال: سير بزيد يومئذ يكون على حالة واحدة لأنه مبنيّ كما تقول: دفع إلى زيد خمسة عشر درهما، وكما قال الله عزّ وجل {عَلَيْهََا تِسْعَةَ عَشَرَ} (1) وأما قوله: فندلا زريق المال ندل الثعالب فزريق قبيلة، وقوله:
ندلا مصدر يقول اندلي ندلا يا زريق المال والندل أن تجذبه جذبا. يقال:
ندل الرجل الدلو ندلا إذا كان يجذبها مملوءة من البئر فنصب ندلا بفعل مضمر وهو اندلي وهذا في الأمر تقول: ضربا زيدا وشتما عبد الله لأن الأمر لا يكون إلا بفعل فكان الفعل فيه أقوى فلذلك أضمرته ودل المصدر على الفعل المضمر، ولو كان خبرا لم يجز فيه الإضمار لأن الخبر يكون بالفعل وغيره والأمر لا يكون إلا بالفعل.
قال الله عزّ وجل: {فَإِذََا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقََابِ} (2) فكان في موضع اضربوا حتى كأن القائل قال: فاضربوا، ألا ترى أنه ذكر بعده الفعل محضا في قوله: حتى إذا {أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثََاقَ} (3) ولو نوّن ملوّن في غير القران لنصب الرقاب، وكذلك كل موضع هو بالفعل أولى وقوله: ندل الثعالب يريد سرعة الثعالب يقال في المثل: أكسب من ثعلب، وأما قول نصيب: ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب فإنما يريد أنهم يرجعون مملوءة حقائبهم من رفده، فقد أثنت عليه الحقائب قبل أن يقولوا، فأما قول الأعشى:
وإنّ عتاق (4) العيس سوف يزوركم ... ثناء على أعجازهنّ معلّن
فإنما أراد المدح الذي يحدين به والحادي من ورائها كما أن الهادي أمامها. وأما قول أبي وجزة.
__________
(1) سورة الأحقاف: الاية 4.
(2) سورة محمد: الاية 4.
(3) سورة محمد: الاية 4.
(4) العناق بالكسر: النجائب والمكارم.(1/155)
راحت بستّين وسقا (1) في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السّندا
فإنما أراد ما يوجب ستين وسقا لا أن الناقة حملت ستين وسقا.
حديث أبي وجزة السلمي
وكان من حديث ذلك أن أبا وجزة السلميّ المعروف بالسعديّ لنزوله فيهم ومخالفته إياهم، كان شخص إلى المدينة يريد ال الزبير، وشخص أبو زيد الأسلميّ يريد ابراهيم بن هشام بن اسمعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو والي المدينة، فاصطحبا فقال: أبو وجزة: هلمّ فلنشترك في ما نصيبه. فقال أبو زيد الأسلميّ: كلّا أنا أمدح الملوك وأنت تمدح السّوق (2). فلما دخلا المدينة صار أبو زيد إلى ابراهيم بن هشام فأنشده: يا ابن هشام يا أخا الكرام، فقال ابراهيم: وإنما أنا أخوهم وكأني لست منهم.
ثم أمر به فضرب بالسياط. وامتدح أبو وجزة ال الزبير فكتبوا إليه بستين وسقا من تمر وقالوا: هي لك عندنا في كلّ سنة. فانصرفا فقال أبو زيد:
مدحت عروقا (3) للندى مصّت الثرى ... حديثا فلم تهمم بأن تتزعزعا
نقائذ بؤس ذاقت الفقر والغنى ... وحلّبت الأيام والدهر أضرعا
سقاها ذوو الأرحام (4) سجلا على الظما ... وقد كربت أعناقها أن تقطّعا
بفضل سجال (5) لو سقوا من مشى بها ... على الأرض أرواهم جميعا وأشبعا
__________
(1) الوسق بفتح الواو: ستون صاعا أو حمل بعير.
(2) السوق: جمع سوقة بالضم ومعناها الرعية أو الجمع.
(3) العروق: جمع عرق بالكسر وكأنه أراد به الأرض الملح التي لا تنبت شيئا واستعاره لهم ذما وهجاء والثرى الندى الساقط من السماء استعارة للغني وكثرة المال.
(4) ذوو الأرحام: قصد بهم «بنو أمية» وكان إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك بن مروان وهما من ملوك بني أمية، قد أدركا أقاربهما من بني مخزوم فأنقذوهم من الفقر وأفضلوا عليهم بالغنى بعد أن كادت أعانقهم تقطع من البؤس والفاقة.
(5) سجال: بفتح السين وهي الدلو العظيمة مملوءة واستعمال ذلك ورد هنا كناية على ما أفضلوا به عليهم.(1/156)
فضمّت بأيديها على فضل مائها ... من الريّ لمّا أوشكت أن تضلّعا (1)
وزهّدها أن تفعل الخير في الغنى ... مقاساتها (2) من قبله الفقر جوّعا
وقال أبو وجزة:
راحت رواحا قلوصى وهي حامدة ... ال الزبير ولم تعدل بهم أحدا
راحت بستين وسقا في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السّددا
ما إن رأيت قلوصا قبلها حملت ... ستّين وسقا ولا جابت به بلدا
ذاك القرى لا قرى قوم رأيتهم ... يقرون صيفهم الملويّة الجددا (3)
أما قول أبي زيد لابراهيم: مدحت عروقا للندى مصّت الثرى حديثا، فإنما عنى أن إبراهيم وأخاه محمدا إنما تطعّما بالعيش ودخلا في النعمة وخرجا من حدّ السّوق إلى حدّ الملوك حديثا، وذلك بهشام بن عبد الملك لأنهما كانا خاليه، فإنما ولّاهما عن خمول. وقوله: فلم تهمم بأن تتزعزعا فإنما هذا مثل، يقال: فلان يهتزّ للندى ويرتاح لفعل الخير، كما قال متمّم بن نويرة:
تراه كنصل السّيف يهتزّ للندى ... إذا لم تجد عند امرىء السوء مطمعا
وتأويل ذلك أنه يتحرك تحرّك سرور لفعل الخير، قال أبو العباس:
وأنشدني التوّزيّ لأبي رباط يقول لابنه:
رأيت رباطا حين تمّ شبابه ... وولّى شبابي ليس في برّه عتب
إذا كان أولاد الرجال مرارة ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانب منه أنيق (4) وجانب ... شديد على الأعداء مركبه صعب
__________
(1) تضلع: شبع وإمتلأ طعاما حتى أضلاعه.
(2) مقامات: جمع مقامة وهي الاقامة والمكوث.
(3) الجدد: بضمتين: جمع جديد وهو المقطوع.
(4) الأنيق: الحسن، المعجب.(1/157)
وتأخذه عند المكارم هزّة ... كما اهتزّ تحت البارح (1) الغصن الرطب
في استجداء إعرابي لعمر بن هبيرة
قال: وحدثني علي بن عبد الله قال: حدّثني العتبيّ قال: أشرف عمر بن هبيرة الفزاري من قصره يوما فإذا هو بأعرابي يرقّص جمله الأل (2)، فقال لحاجبه: إن أرادني هذا فأوصله إليّ. فلما دنا الأعرابيّ سأله فقال: قصدت الأمير. فأدخله إليه فلما مثل بين يديه قال له عمر: ما خطبك؟ فقال الإعرابي:
أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألحّ دهر أنحى بكلكله (3) ... فأرسلوني إليك وانتظروا
(رجوك للدهر أن تكون لهم ... غيث سحاب إن خانهم مطر)
قال: فأخذت عمر الأريحيّة فجعل يهتزّ في مجلسه ثم قال: أرسلوك إليّ وانتظروا إذا والله لا تجلس حتى ترجع إليهم غانما، فأمر له بألف دينار وردّه على بعيره. قال أبو العباس: وحدثني أبو اسحق اسمعيل بن اسحق القاضي أن الخبر لمعن بن زائدة وصحّ ذلك عندي. وقوله: نقائذ بؤس واحدتها نقيذة وتأويله أنهم أنقذوا من بؤس، يقال للرجل والمرأة ذلك على لفظ واحد تقول هذا نقيذة بؤس وتقع الهاء للمبالغة لأن أصله كالمصدر كقولك: زيد مكرمة لأهله، وزيد كريمة قومه أي يحلّ محلّ العقدة الكريمة والخصلة الكريمة.
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم جرير بن عبد الله البجليّ لما ورد عليه فبسط له رداءه وعمّته بيده وقال: إذا أتاكم كريمة قوم فأكرموه. هكذا روى فصحاء أصحاب الحديث. وقد قال صلى الله عليه وسلم قبل وروده عليه: يطلع عليكم من
__________
(1) البارح: الريح الحارة في الصيف.
(2) الأل: أول النهار.
(3) الكلكل: الصدر.(1/158)
هذا القبح (1) خير ذي يمن عليه مسحة ملك.
في هجاء الصخر بن عمرو الشريد
وقال صخر بن عمرو بن الشريد يعني معاوية أخاه وكان قتله هاشم ودريد ابنا حرملة المريّان من غطفان فقيل لصخر: اهجهم فقال: ما بيني (2) وبينهم أقذع من الهجاء ولو لم أمسك عن هجائهم إلا صوتا لنفسي عن الحنى (3)
لفعلت. ثم قال:
وعاذلة هبّت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفا اللوم ما بيا
تقول ألا تهجو فوارس هاشم ... وما لي إذ أهجوهم ثم ما ليا
أبى الشتم أنى قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنى من شماليا
(إذا ذكر الإخوان رقرقت (4) عبرة ... وحيّيت رسما عند لثّة ثاويا
إذا ما امرؤ أهدى لميت تحيّة ... فحيّاك ربّ العرش عنّي معاويا
وهوّن وجدي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل عليه بماليا
قال الأخفش: وأنشدني الأحول: وما لي إن أهجوهم ثم ماليا) وتقول العرب للرجل: راوية ونسّابة فتزيد الهاء للمبالغة وكذلك علّامة وقد تلزم الهاء في الاسم فتقع للمذكر والمؤنث على لفظ واحد نحو: ربعة ويفعة وصرورة وهذا كثير لا تنزع الهاء منه فأما راوية وعلامة ونسّابة فحذف الهاء جائز فيه ولا يبلغ في المبالغة ما تبلغه الهاء وقوله:
وحلبت الأيام والدهر أضرعا، فإنه مثل يقال للرجل المجرّب للأمور فلان
__________
(1) الفج: الطريق الواسع بين جبلين ويقال على فلان مسحه من جمال بفتح الميم أي شيء منه وكأن جرير هذا يلقب بذي المسحة.
(2) ما: إسم موصول واقع في محل مبتدأ خبره أقذع من الهجاء وأقذع من القذع محركا وهو الفحش في القول والفعل معا.
(3) الخنى: الفحش في القول والشمال بالكسر الفحش في الطبع.
(4) رقرق: أي صب رقيقا.(1/159)
قد حلب الدهر أشطره، أي قد قاسى الشدّة والرخاء وتصرّف في الفقر والغنى كما قال القائل:
قد عشت في الناس أطوارا على طرق ... شتّى وقاسيت فيها اللّين والفظعا (1)
كلّا بلوت فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشّعت من لأوائها (2) جزعا
لا يملأ الهول صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا
ومعنى قوله أشطره فإنما يريد خلوفه يقال: حلبتها شطرا بعد شطر وأصل هذا من التنصّف لأن كل خلف عديل لصاحبه وللشطر وجهان في كلام العرب فأحدهما النصف كما ذكرنا من ذلك قولهم: شاطرتك مالي والوجه الاخر القصد يقال: خذ شطر زيد أي قصده.
قال الله عزّ وجل {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} (3) أي قصده وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره، قال أبو العباس: وأنشدني التوّزيّ عن أبي عبيدة قول الشاعر:
إنّ العسير بها داء مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور
يريد ناحيتها وقصدها والعسير التي تعسر بذنبها إذا حملت أي تشيله وترفعه، ومنه سمّي الذنب عوسرا أي تضرب بذنبها، ومعنى ذلك أنه ظهر من جهدها وسوء حالها ما أطيل معه النظر إليها حتى تحسر العينان والحسير المعيي وفي القران {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خََاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (4) وقوله: سقاها ذوو الأحلام سجلا على الظما، فالسجل في الأصل الدلو وإنما ضربه مثلا لما فاض عليها من ندى أقارها يقال للدلو وهي مؤنثة سجل وذنوب وهما مذكّران
__________
(1) الفظعا: مصدد فظع الأمر من باب تعب إذا استعظمه ولم يثق بأن يطيقه وفظع بالأمر أيضا ضاق به ذرعا.
(2) لأوائها: الشدة.
(3) سورة البقرة: الاية 144.
(4) سورة الملك: الاية 4.(1/160)
والغرب مذكر وهو الدلو العظيمة. ويقال: فلان يساجل فلانا أي يخرج من الشرف مثل ما يخرج الاخر وأصل المساجلة أن يستقي ساقيان فيخرج كلّ واحد منهما في سجله مثل ما يخرج الاخر، فأيّهما نكل فقد غلب فضربته العرب مثلا للمفاخرة والمسامات وبيّن ذلك الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب في قوله:
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب (1)
ويقال: إن الفرزدق مرّ بالفضل وهو يستقي وينشد هذا الشعر، فسر الفرزدق ثيابه عنه ثم قال: أنا أساجلك ثقة منه بنسبه. فقيل له: هذا الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب. فردّ الفرزدق ثيابه عليه ثم قال: ما يساجلك إلا من عضّ بأير أبيه. يقال سرا ثوبه ونضا ثوبه في معنى واحد إذا نزعه، ويقال سرى عليه الهمّ إذا أتى ليلا. وأنشد:
سرى همّي وهمّ المرء يسري ... (وغار النجم إلا قيد فتر
البيت لعروة بن أذينة اللّيثيّ شيخ مالك بن أنس) وسرى همّه إذا ذهب عنه والمواضخة مثل المساجلة قال العجّاج: تواضخ التقريب (2) قلوا مخلجا، أي تخرج من العدو مثل ما يخرج.
قال الله عزّ وجل على مخرج كلام العرب وأمثالهم {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحََابِهِمْ} (3). وأصل الذنوب لدلو كما ذكرت لك. وقال علقمة بن عبدة للحرث بن أبي شمر الغسّانيّ (قال أبو الحسن غير أبي العباس يقول شمر وبعضهم يقول شمر) وكان أخوه أسيرا عنده وهو شأس بن عبدة أسره في وقعة عين أباغ (4) (قال أبو الحسن غيره يقول إباغ) في الوقعة التي
__________
(1) حبل صغير يشد في وسط العراقي يعلي الماء، فلا يتعفن بدلك الحبل الكبير وهذا استعمل هنا كناية عن التفوق والغلبة.
(2) التقريب: نوع من العدو أي أن يرفع قوائمه الأمامية معا ويضعهما معا.
(3) سورة الذرايات: الاية 59.
(4) عين أباغ: موقع بالشام بين الكوفة والرقة وقد ذكر في بعض المصادر أنه موقع في الشام.(1/161)
كانت بينه وبين المنذر بن ماء السماء في كلمة له مدحه فيها:
وفي كلّ حيّ قد خبطت بنعمة ... فحقّ لشأس من نداك ذنوب
فقال الملك: نعم وأذنبة. وقوله: وقد كربت أعناقها أن تقطّعا، يقول:
سقيت هذا السجل وقد دنت أعناقها من أن تقطّع عطشا وكرب في معنى المقاربة. يقال: كاد يفعل ذلك وجعل يفعل ذلك وكرب يفعل ذلك أي دنا من ذلك. ويقال: جاء زيد والخيل كاربته أي قد دنت منه وقربت، فأما أخذ يفعل وجعل يفعل فمعناهما أنه قد صار يفعل ولا تقع بعد واحدة منهما أن، فأما كاد وكرب فأن لا تستعمل بعد واحدة منهما إلا أن يضطرّ شاعر.
قال الله عزّ وجل: {إِذََا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرََاهََا} (1) أي لم يقرب من رؤيتها وإيضاحه لم يرها ولم يكد. وكذلك: يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
وكذلك: كاد تزيغ قلوب فريق منهم بغير أن ومن أمثال العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميرا، وكاد المنتعل يكون راكبا، وقد اضطرّ الشاعر فأدخل أن بعد كاد كما أدخلها هذا بعد كرب فقال: وقد كربت أعناقها أن تقطّعا. وقال رؤبة:
قد كاد من طول البلى أن يمصحا (2)
فكاد بمنزلة كرب في الإعمال والمعنى.
قال الشاعر:
أغثني غياثا يا سليمان إنني ... سبقت إليك الموت والموت كاربي (3)
خشيّة جور من أمير مسلّط (4) ... ورهطي وما عاداك مثل الأقارب
وقوله: لما أوشكت أن تضلّعا يقول: لما قاربت ذلك، والوشيك القريب من الشيء والسريع إليه. يقال: يوشك فلان أن يفعل كذا وكذا والماضي منه
__________
(1) سورة النور: الاية رقم 40.
(2) يمصحا: يصيبها بالبلى.
(3) كاربي: مقاربي.
(4) مسلط: من التسليط وهو السيطرة والقدرة والقهر.(1/162)
أوشك ووقعت بأن وهو أجود وبغير أن كما كان ذلك في لعلّ تقول: لعلّ زيدا يقوم فهذه الجيّدة.
قال الله عزّ وجل: {لَعَلَّ السََّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}، و {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ،}
و {لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} (1). وقال متمّم بن نويرة:
لعلّك يوما أن تلمّ ملمّة ... عليك من اللّائي يدعنك أجدعا
وعسى الأجود فيها أن تستعمل بأن كقولك: عسى زيد أن يقوم.
كما قال الله عزّ وجل: {فَعَسَى اللََّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} (2) وقال جلّ ثناؤه {عَسَى اللََّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (3) ويجوز طرح أن وليس بالوجه الجيد. قال هدبة:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
وقال اخر:
عسى الله يغني عن بلاد بن قادر ... بمنهمر جون الرّباب (4) سكوب (5)
وحروف المقاربة لها باب قد ذكرناها فيه على مقاييسها في الكتاب المقتضب بغاية الاستقصاء. وقوله: أن تضلّعا معناه أن تمتلىء، وأصله أن الطعام والشراب يبلغان الأضلاع فيكظّانها. كذلك قال الأصمعي في قولهم:
أكل حتى تضلّع. وأما قول أبي وجزة: راحت بستين وسقا فالوسق خمسة أقفزه بملجم البصرة. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس في ما دون خمسة أوسق صدقة، فما كان أقل من خمسة وعشرين قفيزا بالقفيز الذي وصفنا وهو نصف القفيز البغداديّ في أرض الصدقة فلا صدقة فيه، وإنما أراد أنه أخذ الكتاب
__________
(1) سورة الأحزاب الاية 63.
(2) سورة المائدة: الاية 52.
(3) سورة التوبة: الاية 102.
(4) الرباب: السحاب الأبيض.
(5) السّكوب: المنصبّ.(1/163)
بهذه الأوسق فلذلك قال:
ما إن رأيت قلوصا قبلها حملت ... ستّين وسقا ولا جابت به بلدا
وأما قوله: يقرون ضيفهم الملويّة الجددا فإنما أراد السياط وجمع جديد جدد، وكذلك باب فعيل لذي هو اسم أو مضارع للاسم نحو: قضيب وقضب ورغيف ورغف وكذلك سرير وسرر وجديد وجدد لأنه يجري مجرى الأسماء وجرير وجرر، فما كان من المضاعف جاز فيه خاصة أن تبدل من ضمته فتحة لأن التضعيف مستثقل، والفتحة أخفّ من الضمة فيجوز أن يمال إليها استخفافا فيقال: جدد وسرر ولا يجوز هذا في مثل قضيب لأنه ليس بمضاعف وقد قرأ بعض القرّاء على سرر موضوعة، ويقال للسوط الأصبحيّ ينسب إلى ذي أصبح الحميريّ وكان أوّل من اتخذ هذه السياط التي يعاقب بها السلطان ويقال له العرفاص والقطيع، وقال الشّماخ تكاد تطير من رأي القطيع وقال الصلتان (1) العبديّ:
أرى أمّة شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحيّ
وقال الراعي:
أخذوا العريف (2) فقطّعوا حيزومه (3) ... بالأصبحيّة قائما مغلولا
وقال الراجز: حتى تردّى طرف العرفاص. وقوله: ولا جابت به بلدا، يقول ولا قطعت به يقال جبت البلاد.
قال الله عز وجل: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جََابُوا الصَّخْرَ بِالْوََادِ} (4). ويقال:
رجل جوّاب جوّال. وأنشدني عليّ بن عبد الله قال: أنشدني القحذميّ:
__________
(1) الصلتان بالتحريك أصله النشيط الحديد الفؤاد، من الخيل وتسمى به ثلاثة من الشعراء، العبيدي والضبي والفهمي.
(2) العريف رئيس القوم.
(3) الحيزوم: ما استدار من الظهر والبطن.
(4) سورة الفجر: الاية 9.(1/164)
ما (1) من أتت من دون (2) مولده ... خمسون بالمعذور (3) بالجهل
فإذا مضت خمسون عن رجل ... ترك الصبا ومشى على رسل
وأمر مصعب بن الزبير رجلا من بني أسد بن خزيمة بقتل مرّة بن محكان السعديّ، فقال مرّة في ذلك:
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميما إذا الحرب العوان اشمعلّت
ولست وإن كانت إليّ حبيبة ... بباك على الدنيا إذا ما توّلت
قوله: إذا الحرب العوان فهي التي تكون بعد حرب قد كانت قبلها، وكذلك أصل العوان في المرأة إنما هي التي قد تزوجت ثم عاودت فخرجت عن حدّ البكر.
وقول الله عزّ وجل في كتابه العزيز: {لََا فََارِضٌ وَلََا بِكْرٌ} (4) وهو تمام الكلام ثم استأنف فقال: عوان بين ذلك، والفارض ههنا المسنة والبكر الصغيرة ويقال لهاة فارض أي واسعة، وفرض القوس موضع معقد الوتر وكل حزّ فرض والفرصة متطرّق إلى النهر. قال الراجز: لها زجاج ولهاة (5) فارض.
وقوله اشمعلّت إنما هو ثارت فأسرعت. قال الشّماخ:
ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل ... أروع في السفر وفي الحيّ غزل
طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل
وقوله: ولست وإن كانت إليّ حبيبة بباك على الدنيا إنما هو على التقديم والتأخير، أراد ولست بباك على الدنيا وإن كانت إليّ حبيبة ولولا هذا
__________
(1) ما: نافية حجازية ومن أسمها.
(2) دون: معنى: فوق.
(3) المعذور خبرها زيد فيه الباء والجل. متعلق به بخير إن من مضى عليه خمسون سنة لا عذر له في الصبوة والفتوة.
(4) سورة البقرة: الاية 68.
(5) اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق، والزجاج بالكسر جمع زج بالضم والحديدة توجد في أسفل الرمح.(1/165)
التقدير لم يجز أن يضمر قبل لذكر، ومثله:
إن تلق يوما على علّاته (1) هرما ... تلق السّماحة منه والندى خلقا
وكذلك قول حسّان بن ثابت:
قد ثكلت أمّه من كنت واحده ... أو كان منتشبا في برثن الأسد
يقول: من كنت واحده قد ثكلت أمّه. وكذلك قوله:
شرّ يوميها وأخزاه لها ... ركبت هند بحدج (2) جملا
يقول ركبت هند بحدج جملا في شرّ يوميها وقال رجل من مزينة:
خليليّ بالبوباة عوجا فلا أرى ... بها منزلا إلا جديب المقيّد
نذق برد نجد بعد ما لعبت بنا ... تهامة في حمّامها الموقّد
قوله بالبوباة فهي المتّسع من الأرض، وبعضهم يقول هي الموماة بعينها قلبت الميم باء لأنهما من الشفة. ومثل ذلك كثير يقولون ما اسمك وبا اسمك، ويقولون: ضربة لازم ولازب، ويقولون هذا ظأمي وظأبي يعنون السلف (قال أبو الحسن الجيّد سلف وما قال ليس بممتنع ويقولون: ركبة سوء وزكمة سوء أي ولد سوء، ويقولون رجل أخرم وأخرب وهذا كثير. وقال عمر بن أبي ربيعة:
عوجا نحيّي الطلل المحولا (3) ... والربع من أسماء والمنزلا
بجانب البوباة لم يعده ... تقادم العهد بأن يؤهلا (4)
وقوله: إلا جديب المقيّد. يقال: بلد جدب وجديب وخصب وخصيب والأصل في النعت خصيب ومخصب وجديب ومجدب والخصب والجدب إنما هما ما حلّ فيه، وقيل خصيب وأنت تريد مخصب وجديب وأنت تريد
__________
(1) على علاته يريد كل حال من حالاته.
(2) حدج: بالكسر للنساء كالمحقة.
(3) المحول: الذي مرت عليه أحوال.
(4) تقول العرب مكان أهل أي له أهل دماء هوك فيه أهله وقد أهل كعنى.(1/166)
مجدب كقولك عذاب أليم وأنت تريد مؤلم. قال ذو الرمة:
ونرفع من صدور شمردلات (1) ... يصكّ وجوهها وهج (2) أليم
ويقال: رجل سميع أي مسمع. قال عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الدّاعي السّميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع
وأما قوله المقيّد فهو موضع التقييد، وكل مصدر زيدت الميم في أوله وإذا جاورت الفعل من ذوات الثلاثة فهو على وزن المفعول، وكذلك إذا أردت اسم الزمان واسم المكان تقول: أدخلت زيدا مدخلا كريما وسرّحته مسرّحا حسنا واستخرجت الشيء مستخرجا. قال جرير:
ألم تعلم مسرّحي القوافي ... فلا عيّا بهن ولا اجتلابا
أي تسريحي. وقال عزّ وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبََارَكاً} (3). ويقال:
قمت مقاما وأقمت مقاما. وقال عز وجل: {إِنَّهََا سََاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقََاماً} (4) أي موضع إقامة. وقال الشاعر (حميد بن ثور الهلاليّ:
تطول القصار والطوال يطلنها ... فمن يرها لا ينسها (5) ما تكلمّا)
وما هي إلا في إزار وعلقة (6) ... مغار ابن همام على حيّ خثعما
يريد زمن من إغارة ابن همّام. وأما قوله: نذق برد نجد فذاك لأن نجدا مرتفعة وتهامة غور منخفض فنجد باردة. ويروى عن الأصمعي أنه قال: هجم عليّ شهر رمضان وأنا بمكة فخرجت إلى الطائف لأصوم بها هربا من حرّ مكة، فلقيني أعرابي فقلت له: أين تريد؟ فقال: أريد هذا البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك فيه. فقلت له: أما تخاف الحرّ؟ فقال: من الحرّ
__________
(1) الشمردلة: الناقة الحسنة الجميلة.
(2) الوهج: اسم من قولهم وهجت النار، تهج وهجا إذا انقذت وتوهجت.
(3) سورة المؤمنون الاية 29.
(4) سورة الفرقان الاية رقم 66.
(5) يريد: هذا ما بقي متكلما.
(6) علقة: العلقة بالكسر: قميص بلا كمينّ.(1/167)
أفرّ. وهذا الكلام نظير كلام الربيع بن خثيم، فإن رجلا قال له وقد صلّى ليلة حتى أصبح: أتعبت نفسك. فقال: راحتها أطلب، إنّ أفره العبيد أكيسهم (1).
ونظير هذا الكلام قول روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب ونظر إليه رجل واقفا بباب المنصور في الشمس فقال: قد طال وقوفك في الشمس فقال روح: ليطول وقوفي في الظل. ومثله من الشعر قوله: قال أبو الحسن هو عرّوة ابن الورد العبسي):
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوّف
(لعلّ الذي خوّفتنا من ورائنا ... سيدركه من بعدنا المتخلّف)
ويروى لسرّنا. وقال اخر:
سأطلب بعد الدار منكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
وهذا معنى كثير حسن جميل وقال حبيب بن أوس الطائيّ:
أالفة النّحيب كم افتراق ... أجد (2) فكان داعيه اجتماع
وليست فرحة الأوبات (3) إلا ... لموقوف على ترح الوداع
ما قيل في القرية
وقال رجل واعتلّ في غربة فتذكّر أهله:
لو أنّ سلمى أبصرت تخدّدي ... ودقّة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عوّدي ... عضّت من الوجد بأطراف اليد
قوله: أبصرت تخدّدي يريد ما حدث في جسمه من النحول وأصل الخدّ ما شققته في الأرض. قال الشّماخ:
فقلت لهم خدّوا له برماحكم ... بطامسة الأعلام خفّاقة الال
__________
(1) من الفراهة وهي الحذق الكيس: الذكي النشيط.
(2) أجد: أسرع وأعجل.
(3) الأوبات: جمع أوبة وهي الرجوع.(1/168)
ويقال للشيخ قد تخدد يراد قد تشنّج جلده وقال الله عزّ وجل: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ} (1). وقيل في التفسير هؤلاء قوم خدّوا أخاديد في الأرض وأشعلوا فيها نيرانا فحرّقوا بها المؤمنين. وقوله: عضّت من الوجد بأطراف اليد فإن الحزين والمغيظ والنادم والمتأسّف يعضّ أطراف أصابعه جزعا. قال الله عزّ وجل: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنََامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} (2). وفي مثل ما ذكرنا من تخدّد لحم الشيخ.
في الرثاء
يقول القائل:
ذهب الشباب فلا شباب جمانا (3) ... وكأنّ ما قد كان لم يك كانا
وطويت كفّي يا جمان على العصا ... وكفى جمان بطيّها حدثانا)
يا من لشيخ قد تخدّد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا
(ألوانا صفة لثلاث على المعنى كأنه قال مختلفات):
سوداء حالكة وسحق مفوّف ... وأجدّ لونا بعد ذاك هجانا
(صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه كارهة وهوانا)
قصر الليالي خطوه فتدانى ... وحنون قائم صلبه فتحانا
والموت يأتي بعد ذلك كلّه ... وكأنما يعني بذاك سوانا
قوله: أفنى ثلاث عمائم يعني أن شعره كان أسود ثم حدث فيه شيب مع السواد، فذلك قوله مفوّف والتفويف التنقيش وإنما أخذ من الفوف وهي النكتة البيضاء التي تحدث في أظفار الأحداث وسميت بذلك لشبهها بشجرة يقال لها الفوفة وجمعها فوف، والسحق الخلق يقال عنده سحق ثوب وجرد ثوب وسمل ثوب، وقوله أجدّ أي استجدّ لونا، والهجان الأبيض وهي العمامة الثالثة يعني حيث شمله الشيب.
__________
(1) سورة البروج: الاية 4.
(2) سورة ال عمران: الاية 119.
(3) جمانا: إسم إمرأة.(1/169)
18 - باب في أمثال العرب
قال أبو العباس: من أمثال العرب: لم يذهب من مالك ما وعظك، يقول: إذا ذهب من مالك شيء فحذّرك أن يحلّ بك مثله فتأديبه إياك عوض من ذهابه. ومن أمثالهم: ربّ عجلة تهب ريثا، وتأويله أن الرجل يعمل العمل فلا يحكمه للاستعجال به فيحتاج إلى أن يعود فينقضه ثم يستأنف. والريث الإبطاء وراث عليه أمره إذا تأخر. ومن أمثال العرب: عشّ ولا تغترّ وأصل ذلك أن يمرّ صاحب الإبل بالأرض المكلئة فيقول أدع أن أعشّي إبلي منها حت أرد على أخرى ولا يدري ما الذي يرد عليه. وقريب منه قولهم: أن ترد الماء بماء أكيس وتأويله أن يمرّ الرجل بالماء فلا يحمل منه اتّكالا على ماء اخر يصير إليه فيقال له: أن تحمل معك ماء أحزم لك فإن أصبت ماء اخر لم يضرك فإن لم تحمل فخففت من الماء عطبت. ومن أمثالهم قد أحزم لو أعزم يقول: أعرف وجه الحزم فإن عزمت فأمضيت الرأي فأنا حازم وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيّعت العزم لم ينفعني حزمي. ومثله قول النابغة الجعدي:
أبى لي البلاء وإني امرؤ ... إذا ما تبيّنات لم أرتب
وقال أعرابي يمدح سوّار بن عبد الله:
وأوقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضى إذا ما شكّ من كان ماضيا
فالذي يحمد إمضاء ما تبين رشده فأما الاقدام على الغرر وركوب الأمر على الخطر فليس بمحمود عند ذوي الألباب وقد يتحسّن بمثله الفتّاك كما قال
(هو سعد بن ناشب المازنيّ عن الرياشيّ وغيره):(1/171)
وأوقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضى إذا ما شكّ من كان ماضيا
فالذي يحمد إمضاء ما تبين رشده فأما الاقدام على الغرر وركوب الأمر على الخطر فليس بمحمود عند ذوي الألباب وقد يتحسّن بمثله الفتّاك كما قال
(هو سعد بن ناشب المازنيّ عن الرياشيّ وغيره):
عليكم بداري فاهدموها فإنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
فهذا شأن الفتّاك، وقال الاخر:
غلام إذا ما همّ بالفتك لم يبل ... ألامت قليلا أم كثيرا عواذله
وقال اخر:
وما العجز إلا أن تشاور عاجزا ... وما الحزم إلا أن تهمّ فتفعلا
فأما قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من أكثر الفكرة في العواقب لم يشجع، فتأويله أنه من فكّر في ظفر قرنه به وعلوّه عليه لم يقدم. وإنما كان الحزم عند عليّ رضي الله عنه أن يحظر أمر الدين ثم لا يفكّر في الموت وقد قيل له، أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشيّ في إزار ورداء؟ فقال:
أبا لموت أخوّف، والله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط الموت عليّ، وقال للحسن ابنه: لا تبدأ بدعاء إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فاجب، فإنّ طالبها باغ فالباغي مصروع. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنة يلتفّ في كسائه وينام في ناحية المسجد فلما ورد بالمرزبان عليه. (كذا وقعت الرواية المرزبان (1) والصواب الهرمزان وكان صاحب تسترا) جعلوا يسألون عنه فيقال مرّ ههنا انفا فيصغر في قلب المرزبان إذ راه كبعض السّوق حتى انتهى إليه وهو نائم في ناحية المسجد. فقال المرزبان: هذا والله الملك الهنيء، يقول لا يحتاج إلى أحراس ولا عدد. فلما جلس عمر امتلأ قلب العلج منه هيبة لما رأى عنده من الجدّ والاجتهاد وألبس من هيبة التقوى. وقال الكلبيّ: قال
__________
(1) المرزبان أو الهرمزان وقد اشترك هذا المجوسي مع المسلم في التامر على قتل الخليفة عمر.
والهرمزان لقب للكبير من قوم العجم.(1/172)
لي خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز القسريّ (1) ما تعدّون السّودد؟
فقلت، أما في الجاهلية فالرياسة، وأما في الإسلام فالولاية وخير من ذا وذاك التقوى، فقال لي صدقت. كان أبي يقول لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل ولا يدركه الاخر إلا بما أدرك به الأول. قال فقلت صدق أبوك ساد الأحنف (2)
بحلمه وساد مالك بن مسمع بمحبة العشيرة له وساد قتيبة بدهائه وساد المهلّب بجميع هذه الخلال، فقال لي: صدقت كان أبي يقول خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وذلك أنه إذا كان كذلك اتّقى على نفسه من السرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، ومن الزنا لئلا يحدّ فسلم الناس منه باتقائه على نفسه.
قال أبو العباس وكان عبد الله بن يزيد أبو خالد من عقلاء الرجال، قال له عبد الملك يوما ما مالك. فقال شيان لا عيلة عليّ (3) معهما الرضا عن الله والغنى عن الناس فلما نهض من بين يديه. قيل له: هلّا خبّرته بمقدار مالك؟
فقال لم يعد أن يكون قليلا فيحقرني أو كثيرا فيحسدني، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرّه أن يكون أعزّ الناس فليتّق الله، ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده ومن سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: من سرّه الغنى بلا مال والعزّ بلا سلطان والكثرة بلا عشيرة فليخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته فإنه واجد ذلك كله. وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فحمد الله بما هو أهله ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس أن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وان لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم فإن العبد بين مخافتين، أجل قد مضى لا يدري ما
__________
(1) القسري: نسبة إلى قسر بطن من بجيلة.
(2) الأحنف: كان إسمه صخرا ويكن أبا بحر وكان تابعيا كبيرا ولقب بالأحنف لحنف كان برجليه وهو اعوجاج في الرجل.
(3) العيلة: الفقر.(1/173)
الله فاعل فيه، وأجل باق لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لاخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي بتسع، الإخلاص في السّر والعلانية والعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى، وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا ونظري عبرة. وحدّثت أنه التقى حكيمان فقال أحدهما للاخر. إني لأحبّك في الله. فقال له الاخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له صاحبه: لو علمت منك ما تعلمه من نفسك لكان لي فيما أعلمه من نفسي شغل. وكان مالك بن دينار يقول: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم. وكان يقول ما أشدّ فطام الكبير.
وقيل لعمر بن عبد العزيز أيّ الجهاد أفضل؟ فقال جهادك هواك. وكان الحسن يقول: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدّثور (1)، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وانكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شرّ غاية. قوله: حادثوا مثل، ومعناه اجلوا واشحذوا، تقول العرب حادث فلان سيفه إذا جلاه وشحذه.
وقال زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أنّ سيفي ... كريه كلّما دعيت نزال
أحادثه بصقل كلّ يوم ... وأعجمه بهامات الرجال
قوله: أعجمه بهامات الرجال أي أعضّه، يقال عجمه إذا عضّه والدثور الدروس، يقال دثر الربع إذا انمحى ومعناه تعهّدوها بالفكر والذكر. وقوله:
فإنها طلعة، يقول كثيرة التشوّف والتنزّي إلى ما ليس لها. وأنشد الأصمعيّ:
ولا تملّيت من ماء ولا عمر ... إلا بما ساء نفس الحاسد الطلعه
(الرواية الصحيحة بكسر التاء لا غير لأنه يخاطب امرأة تقدم ذكرها في
__________
(1) الدثور: للنفس.(1/174)
الشعر يدعو عليها). قال: ويقال للجارية، إذا كانت تبرز وجهها لتري حسنها ثم تخفيه لتوهّم الحياء خبأة (1) طلعة. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: أيها الناس إنما خلقتم للأبد ولكنكم تنقلون من دار إلى دار ويروى عن المسيح صلوات الله عليه وسلامه أنه كان يقول: إن احتجتم إلى الناس فكلوا قصدا وامشوا جانبا.
ولما احتضر قيس بن عاصم، قال لبنيه: يا بنيّ احافظوا عني ثلاثا فلا أحد أنصح لكم مني إذا أنا متّ فسوّدوا كباركم ولا تسوّدوا صغاركم فيحقّر الناس كباركم وتهونوا عليهم وعليكم بحفظ المال، فإنه منبهة (2) للكريم ويستغنى به عن اللئيم وإياكم والمسئلة فإنها أخر كسب الرجل. (أخر بقصر الهمزة لا غير ومن رواه بالمد فقد أخطأ ومعنى أخر أدنى وأرذل).
__________
(1) الخبأة: المرأة الملازمة لبيتها.
(2) أي مسعر وحمل له.(1/175)
19 - باب في الرثاء والعتب
قال أبو العباس أنشدت لرجل من الأعراب يرثي رجلا منهم:
فلو كان شيخا قد لبسنا شبابه (1) ... ولكنّه لم يعد أن طرّ شاربه
وقاك الردى من ودّ أنّ ابن عمّه ... يرى منترا أو أنّه ذلّ جانبه
وقال الاخر (حسّان بن ثابت) لامرأته:
فأما هلكت فلا تنكحي ... ظلوم العشيرة حسّادها
يرى مجده ثلب (2) أعراضها ... لديه ويبغض من سادها
وقال اخر (قال أبو الحسن هو ليزيد بن حبناء (3) أو لصخر بن حسناء يقوله لأخيه):
لحى الله أكبانا زنادا وشرّنا ... وأيسرنا عن عرض والده ذبّا (4)
رأيتك لمّا نلت مالا ومسنا ... زمان ترى في حدّ أنيابه شغبا
جعلت لنا ذنبا لتمنع نائلا ... فامسك ولا تجعل غناك لنا ذنبا
قوله أكبانا زنادا الزناد التي تقدح بها النار، ويقال أورى القادح إذا خرجت
__________
(1) مثل يراد به الدلالة على التمتع بالشباب.
(2) ثلية: عاية.
(3) حبناء أم المغيرة ويزيد وصخر وكلهم شعراء.
وقد ورد في القاموس وهو مؤلف للمجد نقلا عن أبي الفرج في أغانية أن هؤلاء الشعراء هم أولاد عمر بن أبي ربيعة وأن حبناء لقب أبيه حبني بن عمرو بن ربيعة.
(4) ذب: دافع.(1/177)
له النار وأكبى إذا أخفق منها، هذا أصله يضرب للرجل الذي ينبعث الخير على يديه، ويضرب الإكباء للذي يمتنع الخير على يديه. قال الأعشى:
وزندك خير زناد الملو ... ك صادف منهنّ مرخ عفارا
ولوبتّ تقدح في ظلمة ... صفاة بنبع لأوريت نارا
والمرخ والعفار شجر تسرع فيه النار، ومن أمثالهم في كلّ شجر نار واستمجد المرخ والعفار، واستمجد استكثر يقال أمجدته ذما إذا أكثرت من ذلك، ومن أمثالهم أرخ يديك واسترخ أنّ الزناد من مرخ، ويقال رجل ذو شغب إذا كان يشغب على خصمه ضربه مثلا للزمان الذي يهرّ على أربابه، أي يمسّهم بالفقر والجدب. وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
رأيت فضيلا كان شيئا متلفّفا ... فكشّفه التمحيص حتى بداليا
أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت ألاأخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعد ما ... بلوتك في الحاجات إلا تماديا
فلست براء عيب ذي الودّ كلّه ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ... ولكنّ عين السخط تبدي المساويا
كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا
قوله: كان شيئا ملففا يقول كان أمرا مغطّى والتمحيص الاختبار، يقال أدخلت الذهب في النار فمحّصته، أي خرج عنه ما لم يكن منه وخلص الذهب.
قال الله عز وجل: {وَلِيُمَحِّصَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكََافِرِينَ} (1) ويقال محّص فلان من ذنوبه. وقوله أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة تقرير وليس باستفهام ولكنّ معناه إني قد بلوتك تظهر الإخاء فإذا بدت الحاجة لم أر من اخائك شيئا. قال الله عز وجل: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} (2). إنما هو توبيخ وليس باستفهام وهو جل وعز العالم بأنّ عيسى لم
__________
(1) سورة ال عمران: الاية 141.
(2) سورة المائدة: الاية 116.(1/178)
يقله، وقد ذكرنا التقرير الواقع بلفظ الاستفهام في موضعه من الكتاب المقتضب مستقصى ونذكر منه جملة في هذا الكتاب ان شاء الله تعالى.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاث، لا يعرف الشجاع إلا في الحرب ولا الحليم إلا عند الغضب، ولا الصديق إلا عند الحاجة. وقال عبد الله بن معاوية أيضا، (ذكر دعبل في أخبار الشعراء له أن هذا الشعر لعبد الله بن الزبير الأسدي):
أنّى (1) يكون أخا أو ذا محافظة (2) ... من كنت في غيبه مستشعرا وجلا
إذا تغيّب لم تبرح تظنّ به ... سوا وتسأل عما قال أو فعلا
وقال اخر:
سأشكر عمرا (3) ما تراخت منيّتي ... أيادي (4) لم تمنن وإن هي جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صدقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت (5)
رأى خلّتي (6) من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلّت
وتمثل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فتى لا يعدّ المال ربّا ولا ترى ... به جفوة (7) إن نال مالا ولا كبر
__________
(1) أنّى: بمعنى كيف، استفهام على وجه الانكار.
(2) المحافظة: الاستمرار على الود.
(3) عمرا منصوب على السعة يريد سأشكر لعمرو لأن الأفصح في هذا الفعل أن يتعدى إلى مفعوله الأول بالام.
(4) الأيادي: المكرمات.
(5) زلة النعل كناية عن الشدة وسوء الحال.
(6) خلتي: الحاجة والفقر.
(7) جفوة: نقيض الصلة.(1/179)
فتى كان يعطي السيف في الروع (1) حقّه ... إذا ثوّب الداعي وتشقى به الجزر (2)
وهوّن وجدي إنّني سوف أغتدي ... على إثره يوما وإن نفّس (3) العمر
(قال أبو الحسن بعضهم يقول هو للأبيرد الرياحيّ. وبعد البيت الثالث:
فلا يبعدنك (4) الله إما تركتنا ... حميدا وأودى (5) بعدك المجد والفخر)
قال أبو العباس حدثني التوّزيّ قال حدثني محمد بن عبّاد بن حبيب بن المهلّب أحسبه عن أبيه قال: لما انقضى يوم الجمل خرج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في ليلة ذلك اليوم، ومعه قنبر وفي يده مشعلة من نار يتصفّح القتلى حتى وقف على رجل، قال التوّزيّ فقلت أهو طلحة قال: نعم، فلما وقف عليه قال: أعزز (6) عليّ أبا محمد أن أراك معفّرا تحت تخوم السماء وفي بطون الأودية، شفيت نفسي وقتلت معشري إلى الله أشكو عجري، وبجري قوله معفّرا أي ملصق الوجه بالتراب، ويقال للتراب العفر والعفر، يقال ما مشى على عفر التراب مثل فلان، وقوله إلى الله أشكو عجري وبجري، يقول ما أسرّ من أمري قال الأصمعي، وهو قول سائر في أمثال العرب لقي فلان فلانا فأبثّه عجره وبجره. وقال النمر بن تولب: (كل نمر في العرب كالنمر بن قاسط وغيره مكسور النون مجزوم الميم إلا النمر بن تولب (7) عن ابن دريد قال أبو حاتم يقال النمر بفتح النون وتسكين الميم ولا يقال النمر):
__________
(1) الرّوع: بالفتح، الخوف والفزع وأراد به الحرب.
(2) الجزر: بالضم جمع جزور بالفتح وهو البعير المجزور أو خاص بالناقة المجزورة، يريد أنه شجاع كريم لا يبقى على ماله وأنه يعقر الابل للضيافة.
(3) إتسع وطال: يقول إن الذي هون وجدي عليه وصبر نفسي على فراقه هو يقيني بأني لابد ماض على أثره وإن طال العمر واتسع.
(4) فلا يبعدك الله عن الخير.
(5) أودى: ذهب وهلك.
(6) أعزز: كلمة تعجيب فيها توجع وتمسر ويريد ما أشد هذا أأعظمه.
(7) النمر بن تولب: شاعر مخضرم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وامن به.(1/180)
تدارك (1) ما قبل الشباب وبعده ... حوادث (2) أيام تمرّ وأغفل
يسرّ الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف يرى طول السلامة يفعل
يردّ الفتى بعد اعتدال وصحّة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل
قصر البقاء ضرورة وللشاعر إذا اضطرّ أن يقصر الممدود وليس له أن يمد المقصور، وذلك أن الممدود قبل اخره ألف زائدة، فإذا احتاج حذفها. وردّ الشيء إلى أصله، فلو مدّ المقصور لكان زائدا في الشيء ما ليس منه. قال الشاعر وهو يزيد بن عمرو بن الصعق:
فرغتم (3) لنمر بن السّياط وأنتم ... يشن عليكم بالفنا كل مربع
فقصر الفناء وهو ممدود وقال الطرمّاح:
وأخرج أمّه لسواس (4) سلمى (5) ... لمعفور (6) الضرا ضرم الجنين
قوله: وأخرج يعني رمادا، والاخرج الذي في لونه سواد وبياض، يقال نعامة خرجاء، وقوله لسواس سلمى فإن أجأ وسلمى جبلا طيّىء، وسواس سلمى الموضع الذي بحضرة سلمى يقال هذا من سوس فلان ومن توس فلان أي من طبعه، وأمّه يعني الشجرة التي هي أصله. وقوله لمعفور الضرا فالضراء ما واراك من شجر خاصّة والخمر ما واراك من شيء، والمعفور ما سقط من النار من الزند. وقوله: ضرم الجنين يقول مشتعل والجنين ما لم يظهر بعد يقال للقبر جنن والجنين الذي في بطن أمه والمجنّ الترس لأنه يسترك والمجنون المعطى العقل ويسمى الجن جنا لاختفائهم وتسمى الدروع الجنن
__________
(1) تدارك: تتابع وتلاحق.
(2) حوادث الأيام: نوبها.
(3) تقول العرب فلان من كذا خلا باله منه وفرغ لكذا قصد إليه تمرين السياط، تلينها وشن الشيء، صبه من كل وجه وفناء الدار ونحوها بالكسر والمد ما اتسع من أمامها.
(4) سواس: كسحاب شجر أفضل ما اتخذ منه زند.
(5) سلمى أحد جيال طيء.
(6) المعفور الذي عفر بالتراب.(1/181)
لأنها تستر من كان فيها. وقصر الضراء وهو ممدود ومثل هذا كثير جدا، وقوله ينوء إذا رام القيام يقول ينهض في تثاقل. قال الله عز وجل {مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} (1) والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتيح ولشرح هذا موضع اخر وقال اخر: (لعمر بن قميئة:
على الراحتين مرّة وعلى العصا) ... أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كفى بالسلامة داء. وقال حميد بن ثور الهلالي:
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
ولا يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما
وقال أبو حيّة النميري:
ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا (2) ... لبسن البلى ممّا لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا
وقال بعض شعراء الجاهلية:
كانت قناتي لا تلين لغامز (3) ... فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي في السّلامة جاهدا ... ليصّحني فإذا السلامة داء
وقال عنترة بن شدّاد:
فما أوهى مراس (4) الحرب ركني (5) ... ولكن ما تقادم من زماني
ومن أمثال العرب إذا طال عمر الرجل أن يقولوا: لقد أكل عليه الدهر
__________
(1) سورة القصص: الاية 76.
(2) المغانيا: جمع مغنى وهو المنزل الذي غنى به أهله ثم ظعنوا عنه.
(3) الغامز: الذي يتعرض لك ممتحنا قوتك.
(4) مراس الحرب: معالجتها.
(5) الركن بالضم: الجانب الأقوى.(1/182)
وشرب، إنما يريدون أنه أكل هو وشرب دهرا طويلا. قال الجعديّ:
(كم رأينا من أناس هلكوا) ... أكل الدهر عليهم وشرب
والعرب تقول نهارك صائم وليلك قائم، أي أنت قائم في هذا وصائم في ذاك، كما قال الله عز وجل {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} (1) والمعنى والله أعلم، بل مكركم في الليل والنهار. وقال جرير:
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم
من رثاء الفرزدق لابني مسمع
وقال الفرزدق:
تبكّي على المنتوف بكر بن وائل ... وننهى عن ابني مسمع من بكاهما
غلامان شبّا في الحروب وأدركا ... كرام المساعي قبل وصل لحاهما
وابنا مسمع كان قتلهما معاوية بن يزيد بن المهلّب مع عديّ بن أرطاة لما أتاه خبر قتل أبيه، وكان ابنا مسمع ممن خالف على يزيد بن المهلب والمنتوف كان مولى لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة وابنا مسمع من بني قيس بن ثعلبة وكان المنتوف كالخليفة ليزيد بن المهلب، وفي ذلك يقول جرير:
والأزد قد جعلوا المنتوف قائدهم ... فقتّلتهم جنود الله وانتتفوا (2)
وتمام شعر الفرزدق:
ولو قتلا من جذم بكر بن وائل ... لكان على النّاعي شديدا بكاهما
ولو كان حيّا مالك وابن مالك ... إذا أوقدا نارين يعلو سناهما
__________
(1) سورة سبأ: الاية 33.
(2) لعله كناية عن نقص عددهم وكسر مدهم وجعلهم كالشعر النابت على الجسم تحقيرا لهم.(1/183)
السنا ضوء النار وهو مقصور.
قال الله عز وجل {يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ} (1) والسناء من الشرف ممدود. قال حسّان بن ثابت:
وانّك خير عثمان بن عمرو ... وأسباها إذا ذكر السناء
والبكاء يمد ويقصر، فمن مدّ فإنما جعله كسائر الأصوات، ولا يكون المصدر في معنى الصوت مضموم الأول إلا ممدودا لأنه يكون على فعال، وقلّما يكون المصدر على فعل، وقد جاء في حروف نحو الهدى والسّرى وما أشبهه وهو يسير. فأما الممدود فنحو العواء والدعاء والرغاء والثغاء، فكذلك البكاء ونظيره من الصحيح الصراخ والنباح ومن قصر فإنما جعل البكاء كالحزن، وقد قال حسّان فقصر ومدّ:
بكت عيني وحقّ لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل (2)
وقال جرير:
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم ... كيف العزاء (3) وقد فارقت أشبالي
هذا سواده يجلو مقلتي لحم (4) ... باز يصرصر فوق المرقب العالي
فارقته حين غضّ الدهر من بصري ... وحين صرت كعظم الرمّة البالي
(نصيبك بالنصب لا غير لأنه مفعول بإضمار فعل تقديره احفظ نصيبك أو احرز نصيبك). قوله يجلو مقلتي لحم شبّه مقلتيه بمقلتي البازي ويقال طائر لحم من هذا، وقوله يصرصر، يعني يصوّت. يقال صرصر البازي والصقر وما كان من سباع الطير، ويقال صرصر العصفور وأحسبه مستعارا لأن الأصل فيه
__________
(1) سورة النور: الاية 43.
(2) العويل: إسم من قولهم أعول عليه أعوالا إذا رفع الصوت بالبكاء والصياح.
(3) العزاء: بالفتح الصبر.
(4) لحم: أكول اللحم، أو القرم إليه.(1/184)
أن يستعمل في الجوارح من الطير. قال جرير:
باز يصرصر بالسهبي قطاجونا
وقال اخر:
كما صرصر العصفور في الرطب الثعد (1).
وأنشدني عمارة: باز يصعصع وهو أصح) قال أبو الحسن يصعصع وهو الصواب، ولكن هكذا وقع في كتابه ويصرصر لا يتعدّى). وقوله: كعظم الرمّة فهي البالية الذاهبة والرميم. مشتق من الرمّة، وإنما هو فعيل وفعلة، وليس بجمع له واحد.
في تكفير الحجاج
ومما كفّرت به الفقهاء الحجّاج بن يوسف قوله والناس يطوفون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره وإن شئت قلت يطيفون قال أبو زيد: تقول العرب، طفت وأطفت به ودرت وأدرت به. ويقال، حدق وأحدق. قال الأخطل:
المنعمون بنو حرب وقد حدقت ... بي المنيّة واستبطأت أنصاري
إنما يطوفون (2) بأعواد ورمّة. ومن أمثال العرب لولا أن تضيّع الفتيان الذمّة لخبّرتها بما تجد الإبل في الرمّة، يقول: لولا أن تدع الأحداث التمسّك بالوفاء والرعاية للحرمة لأعلمتها أن الإبل تتناول العظم البالي، وهو أقل الأشياء فتجد له لذّة. ومثل بيت جرير الأخير قول أبي الشغب يرثي ابنه شغبا:
قد كان شغب لو أنّ الله عمّره ... عزّا تزاد به في عزّها مضر
ليت الجبال تداعت قبل مصرعه ... دكّا فلم يبق من أحجارها حجر
فارقت شغبا وقد قوّست من كبر ... بئس الحليفان طول الحزن والكبر
__________
(1) الثعد: بئر غلبت عليه الأرطاب.
(2) المقصود هنا وصف الجرأة العظيمة.(1/185)
قوله قوّست، يقول انحنيت كالقوس. قال امرؤ القيس:
أراهنّ لا يحببن من قلّ ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوّسا
وقال سليمان بن قتة يرثي الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
مررت على أبيات ال محمّد ... فلم أرها كعهدها يوم حلّت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت من أهلها قد تخلّت
وإنّ قتيل الطفّ من ال هاشم ... أذلّ رقاب المسلمين فذلّت
وكانوا رجاء ثم صاروا رزيّة (1) ... فقد عظمت تلك الرزايا وجلّت
وعند غني (2) قطرة من دمائنا ... سنجزيهم يوما بها حيث حلّت
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... وتقتلنا قيس إذا النعل زلّت
وسليمان بن قتة رجل من بني تميم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ وكان منقطعا إلى بني هاشم.
في رثاء الفرزدق لابنيه
وقال الفرزدق يرثي ابنيه:
بفي الشامتين (3) الترب أن كان مسّني ... رزيّة شبغي مخدر في الضراغم
وما أحد كان المنايا وراءه ... ولو عاش أيّاما طوالا بسالم
أرى كل حيّ ما تزال طليعة ... عليه المنايا من ثنايا المخارم (4)
يذكّرني ابنيّ السماكان (5) موهنا ... إذا ارتفعا فوق النجوم العواتم (6)
__________
(1) الرزية: المصيبة وأصلها الهمز وكذا الرزء بالضم.
(2) غني: حي من غطفان وغطفان من قيس عيلان فهم المذكورون في البيت بعده نسبة إلى جدهم الأكبر.
(3) يريد بفمهم التراب وهذا دعاء عليهم بالهلاك الشامت الذي يفرح بالمصيبة تنزل بغيره.
(4) المخارم: الطرق القاسية الغليظة.
(5) السماكان: الاعزل والرامح، وهما نجمان.
(6) النجوم العواتم: التي تظلم.(1/186)
وقد رزىء الأقوام قبلي بنيهم ... وإخوانهم فاقني حياء الكرائم
ومات أبي والمنذران كلاهما ... وعمرو بن كلثوم شهاب الأراقم
وقد كان مأت الأقرعان وحاجب ... وعمرو أبو عمرو وقيس بن عاصم
وقد مات بسطام (1) بن قيس بن خالد ... ومات أبو غسّان شيخ اللهازم (2)
وقد مات خيراهم فلم يهلكاهم ... عشيّة بانا (3) رهط (4) كعب وحاتم
فما ابناك إلا من بني الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى حنين الماتم
وأنشدني التوّزيّ عن أبي زيد خنين الماتم معجمة، (الخنين بالخاء صوت من الخيشوم). قوله ما تزال طليعة يريد طالعة، والثنايا جمع ثنيّة وهي الطريق في الجبل من ذلك، (الشعر لسحيم بن وثيل الرياحيّ) (5).
أنا ابن جلا (6) وطلّاع الثنايا (7) ... متى أضع العمامة (8) تعرفوني
والمخارم جمع مخرم وهو منقطع أنف الجبل، وقوله فوق النجوم العواتم يعني المتأخرة، يقال فلان يأتينا ولا يعتّم أي لا يتأخر، وعتمة اسم للوقت فلذلك سميت الصلاة بذلك الوقت، وكل صلاة مضافة إلى وقتها تقول صلاة الغداة وصلاة الظهر وصلاة العصر، وأما قولك الصلاة الأولى، فالأولى نعت لها إذ كانت أوّل ما صلي وقيل أوّل ما أظهر. وقوله فاقني حياء الكرائم،
__________
(1) بسطام: بالكسر والفتح لحن.
(2) اللهازم: لقب بني قيم الله بن ثعلبة.
(3) بانا: ذهبا وانقطعا من الدنيا.
(4) الرهط: القوم، الجماعة.
(5) الرياحي: نسبة إلى رياح بن يربوع أبي القبيلة.
(6) أنا ابن جلا، قال أبو هلال يقال للرجل الجلد المجرب هو ابن الأيام، ابن جلا وابن جلى ومعناه أنا المشهور الواضح.
(7) الثنايا: ثنايا الجبال وهي الطرق فيها أو هي الجبال نفسها وضرب ذلك مثلا لقوته واضطلاعه بالأمور الضعيفة الشاقة.
(8) العمامة: بالكسر: المقفر، والبيضة ما يلف على الرأس وتمثل الحجاج بهذا البيت على منبر الكوفة حين أرسله عبد الملك واليا عليها.(1/187)
يقول فالزمي، وأصل القنية المال اللازم تقول اقتنى فلان مالا إذا اتخذ أصل مال، وقيل في قول الله عز وجل {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى ََ وَأَقْنى ََ} (1) أي جعل لهم أصل مال. وأنشد أبو عبيدة (الشعر لأبي المثلّم الهذليّ يرثي صخرا):
لو كان للدهر عزّ يطمئنّ به ... لكان للدهر صخر مال قنيان
والكرائم جمع كريمة، والاسم من فعيلة والنعت يجمعان على فعائل، فالاسم نحو صحيفة وصحائف وسفينة وسفائن والنعت نحو عقيلة وعقائل وكريمة وكرائم. وقوله ومات أبي يريد التأسي بالإشراف وأبوه غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، وكان أبوه شريفا وأجداده إلى حيث انتهوا ولكل واحد منهم قصة يطول الكتاب بذكرها، والمنذران، المنذر بن المنذر بن ماء السماء اللخميّ، يريد الابن والأب وعمرو بن كلثوم التغلبيّ قاتل عمرو بن هند وكان أحد أشراف العرب وفتّاكهم وشعرائهم، والأراقم قبيلة من بني تغلب بنت وائل من بني جشم بن بكر وزعم أهل العلم أنهم إنما سمّوا الأراقم لأن عيونهم شبّهت بعيون الحيّات والأراقم، واحدها أرقم فكانوا معروفين بهذا. قال الفرزدق يردّ على جرير في هجائه له وللأخطل:
إن الأراقم لن ينال نديمها ... كلب عوى متهتّم الأسنان
وجعله شهابا لهم لنوره وبهائه وضبائه، تقول العرب: إنما فلان نجم أهله، وكذلك قالت الخنساء: كأنه علم في رأسه نار. والأقرعان: الأقرع بن حابس وابنه الأقرع من بني مجاشع بن دارم، وكان الأقرع في صدر الاسلام سيّد خندف (2) وكان محلّه فيها محلّ عيينة بن حصن في قيس. وحاجب بن زرارة بن عدس سيّد بني تميم في الجاهلية غير مدافع. وعمرو أبو عمرو يريد
__________
(1) سورة النجم: الاية 48.
(2) خندف بكسر فسكون إسم قبيلة، وهنا القوم نسبوا إلى أمهم وهي ليلى بنت حلوان بن عمران ولقبها خندف وهي إمرأة الياس بن مضر، وقد أولدها عمرا وعامرا وعميرة.(1/188)
عمرو بن عدس وكان شريفا وكان ابنه عمرو شريفا قتل يوم جبلة (1)، قتلته بنو عامر بن صعصعة وقتلوا لقيط بن زرارة، وكان الذي ولي قتله عمارة الوهّاب العبسي وينسب إلى بني عامر لأن بني عبس كانوا فيهم مع قيس بن زهير وعمارة هذا هو الذي كان يقال له دالق وقتله شرحاف الضبّيّ.
في فخر الفرزدق بكرمه
ولذلك يقول الفرزدق:
وهنّ بشر حاف تداركن دالقا (2) ... عمارة عبس بعد ما جنح العصر
وزعم أبو عبيدة أن فاطمة بنت الخرشب (3) الانماريّة أريت في منامها قائلا يقول: أعشر هدرة (4) أحبّ إليك أم ثلاثة كعشرة؟ (هدرة بالدال غير معجمة.
قال أبو الحسن: هم السّقاط من الناس) فلم تقل شيئا فعاد لها في الليلة الثانية فلم تقل شيئا ثم قصّت ذلك على زوجها، فقال: إن عاد لك الثالثة فقولي ثلاثة كعشرة، وزوجها زياد بن عبد الله بن ناشب العبسي. فلما عاد لها، قالت ثلاثة كعشرة فولدتهم كلهم غاية: ولدت ربيع الحفّاظ وعمارة الوهّاب وأنس الفوارس وهي إحدى المنجبات (5) من العرب، وأسروا حاجبا فذلك حيث يقول جرير يعيّر الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه:
تحضّض يا ابن القين قيسا ليجعلوا ... لقومك يوما مثل يوم الأراقم
كأنّك لم تشهد لقيطا وحاجبا ... وعمرو بن عمرو إذ دعوا يال دارم
ولم تشهد الجونين والشعب ذا الصفا ... وشدّات قيس يوم دير الجماجم
الجونان معاوية وحسّان ابنا الجون الكنديان أسرا في ذلك اليوم فقتل
__________
(1) جبلة: هضبة بين موقعين أحدهما الشريف لبني نمير والشرف لبني كلاب.
(2) دالق: لقب للرجل الذي يزل كثيرا.
(3) الخرشب: إسم أبيها.
(4) هدره للواحد والجمع والذكر والأنثى وهو بفتحتين وكعنبه وهمزه.
(5) المنجبة من النساء التي تلد النجباء وكذا المنجب من الرجال.(1/189)
حسّان وفودي معاوية بسبب يطول ذكره. والشعب شعب جبلة. وقوله:
وشدات قيس يوم دير الجماجم هذا في الإسلام، يعني وقعة الحجّاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفيّ بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن معد يكرب الكنديّ بدير الجماجم. وقوله: وقد مات بسطام بن قيس بن خالد يعني الشيبانيّ وهو فارس بكر بن وائل وابن سيدها وقتل بالحسن وهو جبل، (كذا وقعت الرواية بالحسن وهو جبل بالجيم والصحيح حبل بالحاء قال ابن سراج رحمه الله تعالى: الحسن والحسين حبلا رمل) قتله عاصم بن خليفة الضّبّيّ، وكان عاصم أسلم في أيام عثمان رحمه الله، فكان يقف ببابه فيستأذن عليه، فيقول عاصم بن خليفة الضبي قاتل بسطام بن قيس بالباب. (قال أبو الحسن الوجه عندي في بسطام ألاينصرف لأنه أعجمي) وكان سبب قتله إياه أن بسطاما أغار على بني ضبّة وكان معه حاز (قال أبو الحسن حاز بالزاي زاجر) يحزو له، فقال له بسطام إني سمعت قائلا يقول: الدلو تأتي العرب المزلّة. فقال الحازي: فهلّا قلت ثم تعود بادنا مبتلّه. قال: ما قلت فاكتسح إبلهم، فتنادوا واتّبعوه، فنظرت أم عاصم إليه وهو يقع حديدة له، أي يحدّها، والمقعة المطرقة. فقالت له ما تصنع بهذه؟
وكان عاصم منقوصا، فقال لها: أقتل بها بسطام بن قيس، فنهرته وقيلت:
إست أمّك أضيق من ذاك. فنظر إلى فرس لعمّه موثّقه إلى شجرة فاعروراها أي ركبها عريا ثم أقبل بها الريح، فنظر بسطام إلى الخيل قد لحقته فجعل يطعن الإبل في إعجازها فصاحت به بنو ضبّة: يا بسطام ما هذا السفه دعها إمّا لنا وإمّا لك، وانحطّ عليه عاصم فطعنه، فرمى به على الألاءة وهي شجرة ليست بعظيمة وكان بسطام نصرانيا، وكان مقتله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أخوه الرجوع إلى القوم فصاح به بسطام أنا حنيف إن رجعت ففي ذلك يقول ابن عتمة الضبّيّ وكان في بني شيبان:
فخرّ على الألاءة لم يوسّد ... كأن جبينه سيف صقيل
ولما قتل بسطام لم يبق في بكر بن وائل بيت إلّا هجم أي هدم. وقوله:
مات أبو غسان شيخ اللهازم، يعني مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب أحد بني قيس بن ثعلبة، وإليه تنسب المسامعة وكان سيد بكر بن وائل في الاسلام، وهو الذي قال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان أحد بني تميم اللات بن ثعلبة وكان حين حدث أمر مسعود بن عمرو المعنّى من الأزد فلم يعله به.(1/190)
فخرّ على الألاءة لم يوسّد ... كأن جبينه سيف صقيل
ولما قتل بسطام لم يبق في بكر بن وائل بيت إلّا هجم أي هدم. وقوله:
مات أبو غسان شيخ اللهازم، يعني مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب أحد بني قيس بن ثعلبة، وإليه تنسب المسامعة وكان سيد بكر بن وائل في الاسلام، وهو الذي قال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان أحد بني تميم اللات بن ثعلبة وكان حين حدث أمر مسعود بن عمرو المعنّى من الأزد فلم يعله به.
فقال له عبيد الله، وهو أحد فتّاك العرب، وهو قاتل مصعب بن الزبير: أيكون مثل هذا الحدث ولا تعلمني به لهممت أن أصرّم دارك عليك نارا. فقال له مالك: اسكت أنا مطر فو الله إن في كنانتي سهما أنا أوثق به مني بك. فقال له عبيد الله أو أنا في كنانتك فوالله لو قد قعدت فيها لطلبتها ولو قمت فيها لخرقتها. فقال له مالك، وأعجبه ما سمع منه: أكثر الله في العشيرة مثلك.
قال: لقد سألت ربك شططا (1) وفي مالك بن مسمع يقال:
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوما فعسكرا
وقوله: وقد مات خيراهم تثنية كقولك: مات أحمراهم ولم يخرج مخرج النعت. ألا ترى أنك تقول هذا أحمر القوم إذا أردت هذا الأحمر الذي للقوم، فإذا أردت الذي يفضلهم في باب الحمرة قلت هذا أشدّهم حمرة، ولم تقل هذا أحمرهم. وكذلك خيراهم وإنما أردت هذا خيرهم ثم ثنّيت أي هذا الخير الذي هو فيهم. وقوله عشيّة بانا مردود على قوله خيراهم. وقوله رهط كعب وحاتم، إنما خفضت رهطا لأنه بدل من هم التي أضفت إليها الخيرين، والتقدير: وقد مات خيرا رهط كعب وحاتم فلم يهلكاهم عشية بانا، فأما كعب فهو كعب بن مامة الإياديّ، وكان أحد أجواد العرب الذي اثر على نفسه، وكان مسافرا ورفيقه رجل من النمر بن قاسط، فقلّ عليهما الماء فتصافناه، والتصافن (2) أن يطرح في الاناء حجر (هذا الحجر الذي يقسم به الماء، يقال له المقلة بفتح الميم)، ثم يصبّ فيه من الماء ما يغمره لئلا يتغابنوا (3)، وكذلك كل شيء
__________
(1) الشطط: الابتعاد الشديد عن الحق.
(2) التصان: إقتسام الماء بالحصص على الوجه الذي ذكره أبو العباس.
(3) التغابن: أن يغبن البعض بعضا اخرا.(1/191)
وقف على كيله أو وزنه، والأصل ما ذكرنا، فجعل النمريّ يشرب نصيبه، فإذا أخذ كعب نصيبه قال: اسق أخاك النمريّ فيؤثره حتى جهد كعب (1) ورفعت له أعلام الماء، فقيل له رد كعب ولا ورود به، فمات (2) عطشا ففي ذلك يقول أبو دواد الإياديّ:
أوفى على الماء كعب ثم قيل له ... رد كعب إنك ورّاد فما وردا
فضرب به المثل (3) فقال جرير في كلمته التي مدح فيها عمر بن عبد العزيز:
يعود الفضل منك على قريش ... وتفرج عنهم الكرب الشدادا
وقد أمّنت وحشهم برفق ... ويعيي الناس وحشك أن تصادا
وتبني المجد يا عمر بن ليلى ... وتكفي الممحل (4) السنة الجمادا
وتدعو الله مجتهدا ليرضى ... وتذكر في رعيّتك المعادا
وما كعب بن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا
تعوّد صالح الاخلاق إني ... رأيت المرء يلزم ما استعادا
فيما تتفاضل فيه العرب
هذا كعب بن مامة الذي ذكرناه. وأما ابن سعدى فهو أوس بن حارثة بن لأم الطائيّ، وكان سيدا مقدّما، فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائيّ على عمرو بن هند، وأبوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فدعا أوسا فقال له:
أأنت أفضل أم حاتم؟ فقال أبيت اللعن لو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة، ثم دعا حاتما فقال له: أنت أفضل أم أوس؟ فقال أبيت
__________
(1) جهد كعب: بالبناء لما لم يسم فاعله والأصل جهده الأمر والمرضى إذا بلغ منه المشقة وقوله اسق أخاك النمري مما جرى مجرى المثل يضرب لكل من طلب الشيء مرارا.
(2) لم يكن له قدره على الورود.
(3) فضرب به المثل في الجود والسخاء فقالوا أجود من كعب بن مامة وكان كعب إذا جاوره رجل فمات وداه وإذا مات له بعير أو شاه أخلف عليه.
(4) الممحل: المجدب، والسنة الجماد التي لم ينزل فيها مطر فتكون محظ وجدب.(1/192)
اللعن إنما ذكرت بأوس ولأحد ولده أفضل مني، وكان النعمان بن المنذر دعا بحلّة وعنده وفود العرب من كل حيّ فقال: احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلّة أكرمكم. فحضر القوم جميعا إلا أوسا فقيل له. لم تخلّفت؟ فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألاأكون حاضرا وإن كنت أنا المراد فسأطلب ويعرف مكاني. فلمّا جلس النعمان لم ير أوسا فقال: إذهبوا إلى أوس فقولوا له احضر امنا مما خفت. فحضر فألبس الحلة فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلثمائة ناقة. فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلا لا أرى في بيتي أثاثا ولا مالا إلّا من عنده؟ ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفكّ صالحة ... من ال لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي حازم أحد بني أسد بن خزيمة: أنا أهجوه لكم.
فأخذ الإبل وفعل فأغار أوس على الإبل فاكتسحها فجعل لا يستجير حيّا إلّا قال: قد أجرتك إلّا من أوس. وكان في هجائه إياه قد ذكر أمّه فأتي به فدخل أوس على أمّه فقال: قد أتينا ببشر الهاجي لك ولي، فما ترين فيه؟ فقالت له:
أو تطيعني فيه؟ قال: نعم. قالت: أرى أن تردّ عليه ماله وتعفو عنه وتحبوه وأفعل مثل ذلك فإنه لا يغسل هجاءه إلّا مدحه. فخرج إليه فقال: إن أميّ سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا. فقال: لا جرم والله لا مدحت أحدا حتى أموت غيرك. ففيه يقول:
إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها
وما وطىء الثرى مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها
وأما حاتم الذي ذكره الفرزدق، فهو حاتم بن عبد الله الطائيّ جواد العرب. وقد كان الفرزدق صافن رجلا من بني العنبر بن عمرو بن تميم إداوة في وقت، فرامه العنبريّ وسامه أن يؤثره، وكان الفرزدق جوادا فلم تطب نفسه عن نفسه فقال الفرزدق:
فلمّا تصافنّا الإداوة أجهشت ... إليّ غضون العنبريّ الجراضم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
على ساعة لو أنّ في القوم حاتما ... على جوده صنّت به نفس حاتم
قوله: أجهشت (1) فهو التسّرع وما ترامى فحواه من مقاربة الشيء. يقال:(1/193)
فلمّا تصافنّا الإداوة أجهشت ... إليّ غضون العنبريّ الجراضم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
على ساعة لو أنّ في القوم حاتما ... على جوده صنّت به نفس حاتم
قوله: أجهشت (1) فهو التسّرع وما ترامى فحواه من مقاربة الشيء. يقال:
أجهش بالبكاء، والغضون التكسر في الجلد، والجراضم الأحمر الممتلىء، وقوله: ليشرب ماء القوم بين الصرائم فهي جمع صريمة وهي الرملة التي تنقطع من معظم الرمل وقوله: صريمة يريد مصرومة والصرم القطع. وأنشد الأصمعيّ:
فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجّلى عن صريمته الظلام
يعني ثورا وصريمته رملته التي هو فيها. وقال المفسرون في قول الله عزّ وجل: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (2). قولين قال قوم: كالليل المظلم وقال قوم:
كالنهار المضيء أي بيضاء لا شيء فيها فهو من الأضداد. ويقال لك سواد الأرض وبياضها أي عامرها، وغامرها فهذا ما يحتجّ به لأصحاب القول الأخير. ويحتج لأصحاب القول الأول في السواد بقول الله عزّ وجل:
{فَجَعَلَهُ غُثََاءً أَحْوى ََ} (3)، وإنما سمّي السواد سوادا لعمارته وكل خضرة عند العرب سواد. ويروى:
على ساعة لو أنّ في القوم حاتما ... على جوده ما جاد بالماء حاتم
جعل حاتم تبيينا للهاء في جوده وهو الذي يسميه البصريون البدل أراد على جود حاتم.
__________
(1) أجهش: فزع إليه وهو يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه. والغضون واحدها غضن بفتح فسكون.
(2) سورة القلم: الاية 20.
(3) سورة الأعلى: الاية 5.(1/194)
20 - باب في اللذة والعيش الرغد
قال أبو العباس: كان يقال إذا رغبت في المكارم فاجتنب المحارم، وكان يقال: أنعم الناس عيشا من عاش غيره في عيشه. وقيل في المثل السائر: من كان في وطن فليوطن غيره وطنه ليرتع في وطن غيره في غربته.
قال: وانتبه معاوية من رقدة له فأنبه عمرو بن العاص فقال له عمرو: ما بقي من لذّتك يا أمير المؤمنين. قال: عين خرّارة (1) في أرض خوّاره، وعين ساهرة لعين نائمة، فما بقي من لذتك يا أبا عبد الله؟ قال: أن أبيت معرّسا بعقيلة (2) من عقائل العرب، ثم نبّها وردان فقال له معاوية: ما بقي من لذتك؟ فقال:
الإفضال على الإخوان. فقال له معاوية: أسكت فأنا أحقّ بها منك. فقال له:
قد أمكنك فافعل، ويروى أن عمرا لما سئل قال: إن أستتمّ بناء مدينتي بمصر، وأن وردان لما سئل قال: أن ألقى كريما قادرا في عقب إحسان كان مني إليه، وأنه معاوية سئل عن الباقي من لذته فقال: محادثة الرجال. ويروى عن عبد الملك أنه قال وقد سئل عن الباقي من لذته. فقال: محادثه الإخوان في الليالي القمر على الكثبان (3) العفر (4). وقال سليمان بن عبد الملك: قد أكلنا الطيّب ولبسنا اللينّ وركبنا الفارة وامتطينا العذراء فلم يبق من لذّتي إلّا صديق أصرح بيني وبينه مؤنة التحفّظ. وقال رجل لرجل من قريش: إني والله ما أملّ
__________
(1) خراره من الخرير وأرض خواره مطمئنة.
(2) العقيله: الكريمة من النساء.
(3) الكثبان: جمع كثيب وهو التل من الرمل.
(4) العفر من البيض واحده أعفر.(1/195)
الحديث. قال: إنما يملّ العتيق. وقال المهلّب بن أبي صفرة: العيش كلّه في الجليس الممتع. وقال معاوية: الدنيا بحذافيرها الخفض (1) والدّعة. وقال يزيد بن المهلب: ما يسّرني أني كفيت أمر الدنيا كلّه. قيل له ولم أيها الأمير؟
قال أكره عادة العجز. ويروى عن بعض الصالحين أنه قال: لو أنزل الله كتابا أنه معذّب رجلا واحدا لخفت أن أكونه أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه، ولو علمت أنه معذّبي لا محالة ما ازددت إلّا اجتهادا لئلا أرجع على نفسي بلائمة. ويروى أن عمر بن عبد العزيز كان يدخل إليه سالم مولى بني مخزوم، وقالوا بل زياد، وكان عمر أراد شراءه وعتقه فأعتقه مواليه، وكان عمر يسميه أخي في الله، فكان إذا دخل وعمر في صدر مجلسه تنحّى عن الصدر. فيقال له في ذلك فيقول: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلا فلا تأخذ عليه شرف المجلس. وهمّ السراج ليلة بأن يخمد فوثب إليه رجاء بن حياة ليصلحه فأقسم عليه عمر فجلس، ثم قام عمر فأصلحه، فقال له رجاء:
اتقوم يا أمير المؤمنين؟ قال قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا ترفعوني فوق قدري فتقولوا فيّ ما قالت النصارى في المسيح فإن الله اتّخذني عبدا قبل أن يتّخذني رسولا، ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضته التي مات فيها فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين؟ فقال: فيم أوصي فو الله إن من مال. فقال: هذه مائة ألف فمر فيها بما أحببت. فقال: أو تقبل؟ قال: نعم.
قال: تردّ على من أخذت منه ظلما. فبكى مسلمة ثم قال: يرحمك الله لقد ألنت منا قلوبا قاسية وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا. وقيل لعليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم: إنك من أبرّ الناس بأمّك ولسنا نراك تأكل مع أمّك في صحفة. فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها (2). وقيل لعمر بن ذرّ حيث نظر إلى
__________
(1) الخفض والدعة: السعة في العيش والراحة في هناء.
(2) عققتها: أغضبتها.(1/196)
تعزّية عن ابنه كيف كان برّه بك؟ فقال: ما مشيت بنهار معه قطّ إلّا مشى خلفي ولا بليل إلّا مشى أمامي ولا رقي سطحا وأنا تحته. وقال أبو المخشّ (1).
كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفّا كأنها طلعة (2) في ذراع كأنها جمّارة فلا تقع عينها على أكلة نفيسة إلّا خصّتني بها فزوّجتها وصار يجلس معي على المائدة ابن لي فيبرز كفا كأنها كرنافة (3) في ذراع كأنها كربة فو الله إن تسبق عيني إلى لقمة طيّبة إلّا سبقت يده إليها. وقال الأصمعي: قيل لأبي المخشّ: أما كان لك ابن؟ فقال المخشّ: وما كان المخشّ كان والله أشدق خرطمانيّا (4) إذا تكلم سال لعابه كأنما ينظر من قلتين (5)، وكأنّ ترقوته (6) بوان أو خالفة وكأنّ مشاش (7) منكبيه كركرة جمل، فقأ الله عينيّ هاتين إن كنت رأيت بهما أحسن منه قبله ولا بعده. قوله: بوان أو خالفة فهما عمودان من عمد البيت البوان في مقدّمه، والخالفة في مؤخّره، والكرنافة صرف الكربة العريض الذي يتصل بالنخلة كأنه كتف. حدثني بهذا الحديث العباس بن الفرج الرياشيّ عن الأصمعيّ وحدثني عمن حدّثه قال: مرّ بنا أعرابي ينشد ابنا له فقلنا: صفه. فقال: دنيتير (8). قلنا لم نره. فلم نلبث ان جاء بجعل (9) على عنقه، فقلنا: لو سألت عن هذا لأرشدناك ما زال منذ اليوم بين أيدينا وأنشدني منشد وأنشدني الرياشيّ أحد البيتين:
__________
(1) المخش بالكسر وهو في الأصل الجريء على العمل بالليل.
(2) طلعة: ما يخرج من النخل.
(3) الكرناف بالكسر وبالضم أصول الكرب تبقى في الجذع بعد قطع السفن.
(4) خرطمانيا: كبير الأنف، كأنه خرطوم الفيل وقل هذا الوزن في اللغة.
(5) القلتين: مثنى قلت بفتح فسكون وهي النقرة في الجبل يستنقع فيها الماء شبه عينيه بنقرتين في الجبل في الاستدارة وعدم الأتساع.
(6) الترقوة: وزنها فعلوه بفتح الفاء وضم اللام ولا تضم تاؤه وهي العظم الذي بين ثغره النحر والعاتق من الجانبين قال بعض أهل اللغة ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوانات إلا للانسان خاصة.
(7) المشاش: بالضم رأس العظم الذي مضغه.
(8) دنيتير: مصدر دينار شبه ابنه به في البهاء والسخي في ما يزعم.
(9) الجعل: كصرد الأسود الذميم.(1/197)
نعم ضجيع الفتى إذا برد ال ... ليل سحيرا وقرقف (1) الصّرد
زيّنها الله في الفؤاد كما ... زيّن في عين والد ولد
أم ثواب الهزانية تصف عقوق ابنها
وقالت أمّ ثواب الهزّانيّة من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار تعني ابنها:
ربّيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أمّ الطعام (2) ترى في ريشه زغبا (3)
حتى إذا اض (4) كالفحّال (5) شذّبه ... أبّاره ونفى عن متنه الكربا
أنشأ (6) يخرّق (7) أثوابي ويضربني ... أبعد ستيّن عندي تبتغي الأدبا
إني لأبصار في ترجيل (8) لمّته ... وخطّ لحيته في وجهه عجبا
قالت له عرسه يوما لتسمعني ... رفقا فإنّ لنا في أمّنا أربا (9)
ولو رأتنى في نار مسعّرة ... من الجحيم لزادت فوقها حطبا
قولها: أباره فهو الذي يصلحه، يقال أبرت النخل وأبرته خفيفة إذا لقّحته.
ويروى أن مالك بن العجلان أو غيره من الأنصار كان يتحف أبا جبيلة الملك حيث نزل بهم بتمر من نخلة لهم شريفة، فغاب يوما فقال أبو جبيلة: إن مالكا كان يقوّت علينا جنى (10) هذه النخلة فجدّوها. فجاء مالك وقد جدّت فقال: من
__________
(1) قرقف: صدم الواحد الاخر.
(2) أم الطعام: لعله أراد بها الحوصلة وهي من الطير كالمعدة للانسان.
(3) الزغب: محركا صغار الريش أو اللين منه حين يبدو واحده زغبة بالتحريك أيضا وكنت بذلك عن صغرة.
(4) اض: الايض: الصيرورة والتحول.
(5) الفحال: ذكر النخل.
(6) أنشا: بتخفيف الهمزة، تمزيق الثياب.
(7) تخريق الثوب: استعملت مجاز عن الشتم والإهانة.
(8) الترجيل: ترجيل اللمة تسريحها واللمة بالكسر شعر يلم بالمنكب أي يقرب منه.
(9) الإرب: الحاجة.
(10) جنى: ما يجني من الشجر ما دام غضا.(1/198)
سعى على عذق (1) الملك فجدّه. فأعلموه أن الملك أمر بذلك فجاء حتى وقف عليه فقال:
جددت جنى نخلتي ظالما ... وكان الثمار لمن قد أبر
فلما دخل النيّ صلى الله عليه وسلم المدينة أطرفوه بهذا الحديث فقال صلى الله عليه وسلم: الثمر لمن أبر إلّا أن يشترطه المشتري. والفحّال فحل النخل ولا يقال لشيء من الفحول فحّال غيره. وأنشدني المازنيّ:
يطفن بفحّال كأنّ ضبابه ... بطون الموالي يوم عيد تغدّت
وضبابه طلعه واض عاد ورجع. وقولها: شذّبه تقول قطع عنه الكرب والعناكيل، وكلّ مشذّب مقطوع ويقال للرجل الطويل النحيف مشذّب يشبّه بالجذع المحذوف عنه الكرب، وأصل التشذيب القطع. وقال الفرزدق:
عضّت سيوف تميم حين أغضبها ... رأس ابن عجلى فأضحى رأسه شذبا
أراد عضّت سيوف تميم رأس ابن عجلى حين أغضبها. وابن عجلى عبد الله بن خازم السلميّ وامه عجلى وكانت سوداء، وهو أحد غربان (2)
العرب في الإسلام. وسئل المهلّب: من أشجع الناس؟ فقال: عبّاد بن حصين وعمر بن عبيد الله بن معمر والمغيرة بن المهلّب. فقيل له: فأين ابن الزبير وابن خازم وعمير بن الحباب؟ فقال: إنما سئلت عن الإنس ولم أسأل عن الجنّ.
__________
(1) عذق: الفتو من النخل.
(2) غربان العرب: سودانهم في الجاهلية وهم عنترة وخفاف بن ندبه وأبو عمير بن الحباب وسليك بن السلكة وهشام بن عقبة بن معيط، وهذا الأخير مخضرم وقد أدرك الإسلام، وفي الإسلام، عبد الله بن خازم وعمير بن أبي عمير وهمام بن مطرق ومنتشر بن وهب ومطر بن أوفي وتأبط شرا والشنفري.(1/199)
21 - باب في بعض أقوال عائشة وتحريم الخمر
روى شعبة عن واقد بن محمد عن ابن مليكه عن القاسم بن محمد قال:
قالت عائشة رضي الله عنها: من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته. ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لابن هرمة: إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمّك، قد أفادني الله بولادة نبيه الممادح وجنّبنى المقابح، وإنّ من حقّه عليّ ألا أغضي على تقصير في حقه، وأنا اقسم بالله لئن أتيت بك سكران لأضربنّك حدّين حدّا للخمر وحدّا للسكر ولأزيدنّ لموضع حرمتك بي فليكن تركك لها لله تعن عليه ولا تدعها للناس فتوكل إليهم، فنهض بن هرمة وهو يقول:
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وادّبني باداب الكرام
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبّري عنها وحبّي ... لها حبّ تمكّن في عظامي
أرى طيب الحلال عليّ خبثا ... وطيب النفس في خبث الحرام
وصف متانة الدين
وقال الحسن لمطرّف بن عبد الله بن الشخّير (1) الحرشيّ: يا مطرّف عظ أصحابك. فقال مطرّف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل. فقال الحسن:
__________
(1) الشخير: هو تابعي وأبوه عبد الله صحابي.(1/201)
يرحمك الله وأيّنا يفعل ما يقول! لودّ الشيطان إنه ظفر بهذه منكم فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مطرّف بن عبد الله لابنه: يا عبد الله العلم أفضل من العمل، والحسنة بين السيّئتين وشرّ السير الحقحقة. قوله: الحسنة بين السيئتين، (1) يقول الحقّ بين فعل المقصّر والغالي، ومن كلامهم خير الأمور أوساطها وقوله: وشرّ السير الحقحقة وهو أن يستفرغ المسافر جهد ظهره فيقطعه فيهلك ظهره ولا يبلغ حاجته. يقال: حقحق السير إذا فعل ذلك. وقال الراجز:: وانبتّ فعل السائر المحقحق. (فعل بالنصب الرواية الصحيحة لأنه مصدر معنى) وحدثت أن الحسن لقي سابق الحاج (2) وقد أسرع فجعل يومىء إليه باصبعه فعل الغازلة وهو يقول: خرقاء (3) وجدت صوفا، وهذا مثل من أمثال العرب يضربونه للرجل الأحمق الذي يجد مالا كثيرا فيعيث فيه. وشبيه بهذا المثل قوله: عبد وخلا (4) في يديه. ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. قوله: متين المتين الشديد.
قال الله عزّ وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (5) وقوله: فأوغل فيه برفق، يقول: أدخل فيه هذا أصل الوغول. ويقال مشتقا من هذا للرجل الذي يأتي شراب القوم من غير أن يدعى إليه، واغل ومعناه أنه وغل في القوم وليس منهم. قال امرؤ القيس:
حلّت لي الخمر وكنت امرا ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
__________
(1) الحسنة بين السيئتين وهما: التقصير والغلو والحسنة: الاعتدال.
(2) سابق الحج: من يتقدم وفد الحج.
(3) خرقاء: وجدت صوفا قالوا هي المرأة من قريش وجدت صوفا ومالا فأفسدت.
(4) عبد وخلي في يديه! عبد خبر مبتدأ محذوف أي هو عبد وهذا عبد. وخلى تصغير خلى بالقصر وهو الرطب من النبات وهذا المثل يضرب للرجل الليئم يفوض إليه الأمر فيعبث فيه.
(5) سورة القلم: الاية 45.(1/202)
والمنبتّ (1) مثل المحقحق، واشتقاقه من الانقطاع. يقال: انبت فلان من فلان أي انقطع منه وبتّ الله ما بينهم أي قطع. قال محمد بن نمير:
نواعد للبين (2) الخليط لينبتّوا ... وقالوا لراعي الذود موعدك السبت
وفي النفس حاجات اليهم كثيرة ... وموعدها في السبت لو قد دنا الوقت
(روى الأخفش البيت الأخير ويروى: ألا قرّب الحيّ الجمال لينبتّوا) وحدّثت أن ابن السّماك كان يقول: إذا فعلت الحسنة فافرح بها واستقللها فإنك إذا استقللتها زدت عليها، وإذا فرحت بها عدت إليها ويروى عن أويس القرنيّ (3) أنه قال: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهما.
يزيد بن هبيرة ينصح المنصور
ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أمير المؤمنين المنصور فقال يا أمير المؤمنين توسّع توسّعا قرشيّا ولا تضق ضيقا حجازيّا. ويروي أنه دخل عليه يوما فقال له المنصور: حدّثنا فقال: يا أمير المؤمنين إن سلطانكم حديث وإمارتكم جديدة فأذيقوا الناس حلاوة عدلها وجنّبوهم مرارة جورها، فو الله يا أمير المؤمنين لقد محضت لك النصيحة. ثم نهض فنهض معه سبعمائة من قيس فأتأره المنصور بصره، ثم قال: لا يعزّ ملك يكون فيه مثل هذا. قوله:
محضت لك النصيحة يقول أخلصت لك، وأصل هذا من اللبن والمحض منه الخالص الذي لا يشوبه شيء وأنشد الأصمعيّ:
امتحضا (4) وسقيّاني ضيحا ... وقد كفيت صاحبيّ الميحا
(الميح طلب الشيء ههنا وههنا) ويقال: حسب محض. وقوله: أتأره
__________
(1) المنبت: الذي يجد في سيره حتى يثبت أخيرا سماه بما تؤول إليه عاقبته.
(2) البين: الفراق.
(3) أويس القرني: منسوب إلى جده قرن بالتحريك بن ردمان بفتح الراء وسكون الدال بن ناجية بن مراد، وهو أويس بن عامر وكان من سادات التابعين.
(4) إمتحضا: أي شربا اللبن المحض وهو الخالص.(1/203)
بصره يقول: اتبعه بصره وحدّد اليه النظر، وانشد الأصمعي وهو للكميت بن زيد):
ما زلت أرمقهم والال يرفعهم ... حتى اسمدرّ بطرف العين إتاري (1)
ويروي عن أسماء بن خارجة انه قال لا أشاتم رجلا ولا أردّ سائلا، فإنما هو كريم أسدّ خلّته أو لئيم أشتري عرضي منه. ويروي عن الأحنف بن قيس أنه قال: ما شاتمت رجلا مذ كنت رجلا، ولا زحمت ركبتاي ركبتيه، وإذا لم أصل مجتديّ حتى ينتج جبينه عرقا كما ينتح الحميت، فو الله ما وصلته.
قوله مجتديّ يريد الذي يأتيه يطلب فضله، يقال: اجتداه يجتديه واعتفاه يعتفيه واعتراه يعتريه واعترّه يعترّه وعراه يعروه إذا قصده يتعرّض لغائلة، وأصل ذلك مأخوذ من الجدي مقصور وهو المطر العامّ النافع. يقال: اصابتنا مطرة كانت جدى على الأرض، فهذا الاسم فإذا أردت المصدر قلت: فلان كثير الجداء (2)
ممدود، كما تقول: كثير الغناء عنك ممدود. هذا المصدر، فإذا أردت الاسم الذي هو خلاف الفقر قلت: الغنى بكسر أوله وقصرت. قال خفاف بن ندبة يمدح أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه:
ليس لشيء غير تقوى جداء ... وكلّ شيء عمره للفناء
ان أبا بكر هو الغيث (3) إذ ... لم تشمل الأرض سحاب بماء
تالله لا يدرك أيامه ... ذو طرّة (4) حاف ولا ذو حذاء
من يسع كي يدرك أيامه ... يجتهد (5) الشدّ بأرض فضاء
وهذا من طريف الشعر لأنه ممدود فهو بالمد الذي فيه من عروض السريع الأولى وبيته في العروض:
__________
(1) أرمقهم: من رمق أي نظر، الال السراب ضحى أسمدر كل وخسر، أتاري بصري.
(2) جداء: بالمد واصله القصر ومعناه النفع مستعار من الجدي وهو العطية، وهنا يقصد إلى أنه ما من شيء جدي على المرء سوى التقوى.
(3) الغيث: المطر.
(4) الطره: الإجتهاد.
(5) الاجتهاد: بذل الوسع.(1/204)
أزمان سلمى لا يرى مثلها الراؤن ... في شأم ولا في عراق
ثم نرجع الى تأويل قول الأحنف، قوله: حتى ينتح جبينه عرقا فهو مثل الرشح. وحدّثني أبو عثمان المازنيّ في إسناد له ذكره قال: قال رؤبة بن العجّاج: خرجت مع أبي نريد سليمان بن عبد الملك، فلما صرنا في الطريق أهدي لنا جنب من لحم عليه كرافيء الشحم وخريطة من كمأة ووطب من لبن، فطبخنا هذا بهذا فما زالت ذفرياي تنتحان منه الى أن رجعت. وقوله:
الحميت (1) فالحميت والزقّ اسمان له، وإذا زفّت أو كان مربوبا فهو الوطب وإذا لم يكن مربوبا ولا مزفتّا فهو سقاء ونحي. والوطب يكون للبن والسمن والسقاء يكون للبن والماء.
قالت هند بنت عتبة لأبي سفيان بن حرب لما رجع مسلما من عند النبي صلى الله عليه وسلم الى مكة في ليلة الفتح فصاح: يا معشر قريش ألا إني قد أسلمت فأسلموا، فان محمدا قد أتاكم بما لا قبل لكم به. فأخذت هند رأسه وقالت بئس طليعة القوم أنت، والله ما خدشت خدشا، يا أهل مكة عليكم الحميت الدسم فاقتلوه. وأما قول؟ رؤبة: كرافيء الشحم يريد طبقات الشحم. وأصل ذلك في السحاب إذا ركب بعضه بعضا يقال له: كرفيء والجميع كرافيء، قال أبو الحسن الأخفش واحد الكرافيء كرفئة، وهاء التأنيث اذا جمعت جمع التكسير حذفت لأنها زائدة بمنزلة اسم ضمّ الى اسم، واحسب أن أبا العباس لم يسمع الواحد من هذا فقاسه، والعرب تجتريء على حذف هاء التأنيث اذا احتاجت الى ذلك، وليس هذا موضع حاجة إذ كانت قد استعملت الواحدة بالهاء. ونظير هذا قولهم: ما في السماء كرفئة وما في السماء قذعملة وقذعملية، وما في السماء طحربة، وطحربة وما في السماء قرطعبة، وما في السماء كنهورة وهي القطعة من السحاب العظيمة كالجبل وما أشبهه).
__________
(1) الحميت: وعاء للسمن.(1/205)
22 - باب في هجاء لحسان بن ثابت
قال أبو العباس: قال حسّان بن ثابت يهجو مسافع بن عياض التيميّ من تيم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ رهط أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه:
لو كنت من هاشم أو من بني أسد ... أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصيد (1)
أو من بني نوفل أو رهط مطلّب ... لله درّك لم تهم بتهديدي
أو في الذؤابة (2) من قوم ذوي حسب ... لم تصبح اليوم نكسا ثاني الجيد
أو من بني زهرة الأخيار قد علموا ... أو من بني جمح البيض المناجيد
أو في السرارة من تيم رضيت بهم ... أو من بني خلف الخضر الجلاعيد
يا ال تيم ألا تنهوا سفيهكم ... فبل القذاف بقول كالجلاميد
لولا الرسول فإني لست عاصيه ... حتى يغيّبني في الرمس ملحودي
وصاحب الغار إني سوف أحفظه ... وطلحة بن عبيد الله ذي الجود
لقد رميت بها شنعاء فاضحة ... يظلّ منها صحيح القوم كالمودي
قوله: لو كنت من هاشم، يريد هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. والنضر أبو قريش، ومن كان من بني كنانة لم يلده النضر فليس بقرشيّ. وبنو أسد بن عبد العزّى بن قصيّ وعبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ وأصحاب اللواء بنو عبد الدار بن قصيّ،
__________
(1) الصيد: جمع أصيد وهو الملك أو الأسد، فالأول حقيقة والثاني إستعارة.
(2) الذؤابة بالضم والهمزة هي من كل شيء أعلاه والمراد العز والشرف وهو متصل بما قبله بطريق العطف على خير كان يريد ولو كنت من قومك سيدا شريفا ذا مجد وحسب لما كنت دنيئا مقصرا.(1/207)
وقد بيّنّا جواز ذلك. فأما اللوى من الرمل فمقصور. قال امرؤ القيس:
بسقط (1) اللوى بين الدخول فحومل
كذا يرويه الأصمعي وهذه أصح الروايات وقوله: أو من بني نوفل، فهو نوفل ابن عبد مناف بن قصيّ، والمطّلب الذي ذكره هو ابن عبد مناف بن قصيّ. وقوله: لم تصح اليوم نكسا، فالنكس الدنيء المقصّر، ويقول بعضهم إنّ أصل ذلك في السهام، وذلك أن السهم إذا ارتدع (2) أو نالته افة نكس في الكنانة ليعرف من غيره. قال الحطيئة:
قد ناضلوك (3) فأبدوا من كنانتهم ... مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس
قوله: مجدا تليدا، قالوا نواصي الفرسان الذين كان يمنّ عليهم. وقوله:
ثاني الجيد قد مرّ تفسيره في قول الله عزّ وجل {ثََانِيَ عِطْفِهِ} (4) ليضلّ عن سبيل الله. وقوله: أو من بني زهرة فهو زهرة بن كلاب بن مرّة. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خلقت من خير حيين من هاشم وزهرة. وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ. وقوله: المناجيد مفاعيل من النجدة والواحد منجاد، وإنما يقال ذلك في تكثير الفعل كما تقول رجل مطعان بالرمح ومطعام للطعام. وقوله: أو في السرارة من تيم رضيت بهم، يقول: في الصميم منهم والموضع المرضيّ، وأصل ذلك في التربة، تقول العرب:
إذا غرست فاعرس في سرارة الوادي. ويقال: فلان في سرّ قومه والسرّة مثل ذلك قال القرشيّ:
هلّا سألت عن الذين تبطّحوا (5) ... كرم البطاح وخير سرّة واد
__________
(1) السقط: حيث انقطع معظم الرمل ورق والدخول بالفتح وحومل موضعان.
(2) ارتدع: سقط نصله.
(3) ناضلوك: المناضلة. المباراة في الرمي وهذا الكلام كله على التشبيه والمثل.
(4) سورة الحج: الاية 9.
(5) تبطحوا: أي اتسعوا في البطحاء وتفرقوا فيها وهذا الكلام يشير إلى عزهم وكثرتهم والخطاب لعاذلته على عادة العرب.(1/208)
وعن الذين أبوا فلم يستكرهوا ... أن ينزلوا الولجات (1) من أجياد
يخبرك أهل العلم أنّ بيوتنا ... منها بخير مضارب الأوتاد
وقوله: أو من بني خلف الخضر: فإنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين وليس بالوجه وانما يحذف من الحروف لالتقاء الساكنين حروف المدّ واللين، وهي الألف المفتوح ما قبلها، والياء المكسور ما قبلها، والواو المضموم ما قبلها، نحو قولك: هذا قفا الرجل، وقاضي الرجل، ويغزو القوم. فأما التنوين فجاز هذا فيه لأنه نون في اللفظ، والنون تدغم في الياء والواو، وتزاد كما تزاد حروف المدّ واللين، ويبدل بعضها من بعض، فتقول: رأيت زيدا فتبدل الألف من التنوين، وتقول في النسب الى صنعاء وبهراء: صنعانيّ وبهرانيّ فتبدل النون من ألف التأنيث، وهذه جملة وتفسيرها كثير فلذلك حذف. ومثل هذا من الشعر:
عمرو (2) الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكّة مسنتون (3) عجاف (4)
(صوابه عمرو العلي) وقال اخر:
حميد الذي أمج (5) داره ... أخو الخمر (6) ذو الشّيبة الأصلع
وقرأ بعض القرّاء {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ اللََّهُ الصَّمَدُ} (7) وسمعت عمارة بن عقيل يقرأ: {وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (8). فقلت: ما
__________
(1) الولجات: طرق الرمل.
(2) عمرو وهذا هو هاشم والد عبد المطلب وسمي هاشما لأنه أول من ثرد الثريد للناس في زمن القحط والشاعر يمدحه بهذا.
(3) مسنتون: مجدبون.
(4) العجاف: المهزلون والشاهد في حذف التنوين من عمرو بلا سبب.
(5) أمج: موضع بني مكة والمدينة.
(6) الملازم للخمرة.
(7) سورة الإخلاص: الايتان 21.
(8) سورة يس: الاية 40.(1/209)
تريد؟ فقال: سابق النهار. وقوله: أو اصحاب اللوا خفّف الهمزة وتخفّف إذا كان قبلها ساكن فتطرح حركتها على الساكن وتحذف، كقولك: من أبوك؟
وقوله عزّ وجل: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} [1] فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ (2) وخلف الذي ذكره من بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ. وقوله: الخضر الجلاعيد يقال فيه قولان، أحدهما أنه يريد سواد جلودهم كما قال الفضل بن العبّاس بن عتبة بن أبي لهب:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
فهذا هو القول الأول. وقال اخرون: شبّههم في جودهم بالبحور. وقوله:
الجلاعيد يريد الشداد الصلاب، وأحدهم جلعد وزاد الياء للحاجة، وهذا جمع يجيء كثيرا، وذلك أنه موضع تلزمه الكسرة فتشبع فتصير ياء. يقال:
جمع يجيء كثيرا، وذلك أنه موضع تلزمه الكسرة فتشبع فتصير ياء. يقال: في خاتم خواتيم وفي دانق دوانيق وفي طابق طوابيق. قال الفرزدق:
تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
وقوله: قبل القذاف يريد المقاذفة وهذه تكون من اثنين فما فوقهما نحو:
المقاتلة والمشاتمة. فباب فاعلت انما هو للاثنين فصاعدا، نحو: قاتلت وضاربت. وقد تكون الألف زائدة في فاعلت فتبني للواحد كما زيدت الهمزة أوّلا في أفعلت فتكون للواحد نحو عاقبت اللصّ وعافاه الله وطارقت نعلي وقوله: وصاحب الغار يعني أبا بكر رضي الله عنه لمصاحبته النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغار، وهذا مشهور لا يحتاج الى تفسير. وطلحة بن عبيد الله ذو الجود، نسبه الى الجود لأنه كان من أجود قريش. وحدّثني التوّزيّ قال: كان يقال لطلحة ابن عبيد الله طلحة الطلحات (3) وطلحة الخير وطلحة الجود. وذكر التوّزيّ
__________
(1) الخب: أصله الخبء مهموزا وهو الشيء المخبأ.
(2) سورة النحل: الاية 25.
(3) طلحة الطلحات: غير أبي العباس، يقول طلحة الطلحات، رجل من خزاعة وهو ابن عبيد(1/210)
عن الأصمعيّ: أنه باع ضيعة له بخمسة عشر ألف درهم فقسمها في الأطباق.
وفي بعض الحديث: أنه منعه أن يخرج الى المسجد أن لفّق له بين ثوبين.
وحدثني العتبيّ في إسناد ذكره قال: دعا طلحة بن عبيد الله أبا بكر وعمر وعثمان رحمة الله عليهم فأبطأ عنه الغلام بشيء أراده، فقال طلحة: يا غلام.
فقال الغلام: لبّيك فقال طلحة: لا لبّيك. فقال أبو بكر: ما يسرّني أني قلتها وأنّ لي الدنيا وما فيها. وقال عمر: ما يسرّني أين قلتها وأنّ لي نصف الدنيا. وقال عثمان: ما يسرّني أني قلتها وأن لي حمر النعم. قال: وصمت عليها أبو محمد، فلما خرجوا من عنده باع ضيعة (1) بخمسة عشر ألف درهم فتصدق بثمنها. وقوله: يظلّ منها صحيح القوم كالمودي، فالمودي في هذا الموضع الهالك، وللمودي موضع اخر يكون فيه القويّ الجادّ. حدّثني بذلك التوّزيّ في كتاب الأضداد وأنشدني:
مودون يحمون البسيل السابلا (2)، (المؤدي بالهمز التامّ الأداة والسّلاح وبغير الهمز الهالك).
في وصف اعرابي لابنه
وقال رجل من العرب:
خليليّ عوجا بارك الله فيكما ... على قبر أهبان سقته الرواعد (3)
فذاك الفتى كلّ الفتى كان بينه ... وبين المذجّى نفنف متباعد
إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عييّا ولا عبئا على من يقاعد
قوله: على قبر أهبان فهذا اسم علم كزيد وعمرو، واشتقاقه من وهب يهب، وهمز الواو لانضمامها كقوله تعالى: وإذا الرسل أقّتت (4)، فهو فعّلت من
__________
الله بن خلف وهو الذي قيل فيه.
رحم الله اعظما دفنوها ... بسجنان طلحة الطلحات
(1) الضيعة: الأرض المغلة، كثيرة العطاء.
(2) السبيل: الطريق المسلوك.
(3) سقته الرواعد: أراد بالرواعد السحب الماطره وهذا دعاء للميت بالسقيا.
(4) سورة المرسلات: الاية 11.(1/211)
الوقت، وقد مضى تفسير همز الواو إذا انضمّت. وهو لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة، وكل شيء لا ينصرف فصرفه في الشعر جائز لأن أصله كان الصرف فلما احتيج اليه ردّ الى أصله فهذا قول البصريين. وزعم قوم ان كل شيء لا ينصرف فصرفه في الشعر جائز الا أفعل الذي معه: منك، نحو:
أفضل منك وأكرم منك، وزعم الخليل وعليه أصحابه أن هذا اذا كانت معه منك بمنزلة أحمر لأنه انما كمل أن يكون نعتا بمنك، وأحمر لا يحتاج اليها فهو مع منك بمنزلة أحمر وحده. قال: والدليل على أن منك ليست بمانعته من الصرف أنه إذا زال عن بناء افعل انصرف نحو قولك: مررت بخير منك وشرّ منك، فلو كانت منك هي المانعة لمنعت ههنا فهذا قول بيّن جدا.
وقوله: المزجّى فهو الضعيف، يقال: زجّى فلان حاجتي أي خفّ عليه تعجيلها، والمزجاة من البضائع اليسيرة الخفيفة المحمل، والنفف وجمعه النفانف كلّ ما كان بين شيئين عال ومنخفض. قال ذو الرمّة:
(ترى قرطها في واضح اللّيت مشرفا ... على هلك) في نفنف يتطوّح
وقوله: ولا عبئا على من يقاعد فالعبء الثقل، يقال: حمل عبئا ثقيلا ووكّده بقوله ثقيلا ولو لم يحتج اليه. وقال اخر يذكر ابنه:
ألا يا سميّة شبّي الوقودا (1) ... لعلّ الليالي تؤدّي يزيدا
فنفسي فداؤك من غائب ... إذا ما المسارح كانت جليدا (2)
كفاني الذي كنت أسعى له ... فصار أبا لي وصرت الوليدا
قوله: شبّي يقال شببت النار والحرب إذا أوقدتهما. يقال: شبّ يشبّ شبّا قال الأعشى:
تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلّق
وقوله: إذا ما المسارح كانت جليدا، فالمسارح الطرق التي يسرحون فيها
__________
(1) الوقود بالفتح الحطب.
(2) الحديث هنا عن وقت الشتاء.(1/212)
واحدها مسرح. والجليد يقع من السماء وهو نوى فيه جمود فتبيضّ له الأرض وهو دون الثلج يقال له الجليد والضريب والسقيط والصقيع. وقالوا في قوله:
رجلا عقاب (1) يوم دجن (2) تضرب، أي يصيبها الضريب.
وقوله: وكنت الوليد، فالوليد الصغير وجمعه ولدان وهو في القران قوله عزّ وجل: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ} (3). ونظير وليد وولدان ظليم وظلمان وقضيب وقضبان، وباب فعال فعلان نحو: عقبان وذبّان وغربان.
وقولهم: أمر لا ينادى وليده يقال فيه قولان متقاربان فأحدهما أنه لا يدعى له الصغار، والوجه الاخر لأصحاب المعاني، يقولون: ليس فيه وليد فيدع.
في الوصف والرثاء
ونظير ذلك قول النابغة الجعديّ:
سبقت صياح فراريجها ... وصوت نواقيس لم تضرب
أي ليست ثمّ ولكنّ هذا من أوقاتها. وقالت أخت طرفة بن العبد:
عددنا له ستا وعشرين حجّة ... فلما توّفاها استوى سيّدا ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال، لا وليدا ولا قحما
الوليد ما ذكرنا، والقحم الرجل المتناهي سنّا، ويقال ذلك في البعير قحم وقحر ومقلحمّ. ويقال للبعير خاصّة قحاربة بوزن قراسبة وأنشد الأصمعيّ:
رأين قحما شاب واقلحمّا ... طال عليه الدهر فاسلهمّا
المسلهمّ الضامر. وقال اخر لابنه يرثيه:
ومن عجب أن بتّ مستشعر الثرى ... وبتّ بما زوّدتني متمتّعا
__________
(1) عقاب: من جوارح الطير وسباعها.
(2) دجن: بالفتح المطر الكثير.
(3) سورة الواقعة: الاية 17.(1/213)
ولو أنني أنصفتك الودّ لم أبت ... خلافك حتى ننطوي في الثرى معا
وقال ابراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن يرثي أخاه محمدا:
أبا المنازل يا عبر الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا (1)
الله يعلم إني لو خشيتهم ... أو انس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم ... حتى نعيش جميعا أو نموت معا
قوله: يا عبر الفوارس يصفه بالقوة منهم وعليهم، كما يقال: ناقة عبر الهواجر وعبر السّرى، وقوله: أو انس القلب من خوف لهم فزعا، يقول:
أحسّ، وأصل الإيناس في العين. يقال: انست شخصا أي أبصرته من بعد.
وفي كتاب الله عز وجل {آنَسَ مِنْ جََانِبِ الطُّورِ نََاراً} (2) وقال متمّم بن نويرة (يرثي أخاه):
وقالوا أتبكي كلّ قبر رأيته ... لميت ثوى بين اللّوى فالدكادك (3)
فقلت لهم أن الأسى يبعث البكى ... ذروني فهذا كلّه قبر مالك (4)
والأسى الحزن وقد مرّ تفسيره. وقال علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطّلب رحمه الله:
أبي العباس قرم بني قصيّ ... وأخوالي الملوك بنو وليعه
هم منعوا ذ ماري يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنو اللكيعه
أراد بي (5) التي لا عزّ فيها ... فحالت دونه أيد منيعة
قوله: بنو وليعة فهم أخواله من كندة وأمّه زرعة بنت مشرح الكنديّة ثم أحد بني وليعة. وقوله: كتائب مسرف يعني مسلم بن عقبة المرّيّ صاحب
__________
(1) فجعا: عظمت بليته.
(2) سورة القصص: الاية 29.
(3) الدكادك: ما جمد من الرمل ويبس.
(4) يراد به أن كل قبر من القبور يذكرني أخي.
(5) الضمير في قوله أراد يرجع إلى مسرف والتي لا عز فيها يريد بها مبايعته ليزيد بن معاوية وكان مسلم بن عقبة المري قد أكرهه عليها فيمن أكرهه من أهل المدينة.(1/214)
الحرّة، وأهل الحجاز يسمونه مسرفا، وكان أراد أهل المدينة جميعا على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أن لك واحد منهم عبد قن له إلا عليّ بن الحسين، فقال حصين بن نمير السكونيّ من كندة: ولا يبايع ابن اختنا عليّ ابن عبد الله إلا على ما يبايع عليه علي بن الحسين على أنه ابن عمّ أمير المؤمنين، وإلا فالحرب بيننا. فأعفي عليّ بن عبد الله وقبل منه ما أراد، فقال هذا الشعر لذلك. وقوله: بنو اللكيعة فهي اللئيمة. ويقال في النداء للئيم يا لكع، وللأنثى يا لكاع لأنه موضع معرفة، كما يقال: يا فسق ويا خبث، فإن لم ترد أن تعدله عن جهته قلت للرجل: يا ألكع، وللأنثى يا لكعاء. وهذا موضع لا تقع فيه النكرة. وقد جاء في الحديث والأصل ما ذكرت لك: لا تقوم الساعة حتى يلي أمور الناس لكع بن لكع، فهذا كناية عن اللئيم بن اللئيم، وهذا بمنزلة عمر ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة. ولكاع يا بنى على الكسر، وسنشرح باب فعال للمؤنث على وجوهه الخمسة عند أول ما يجري من ذكره ان شاء الله، وقد اضطرّ الحطيئة فذكر لكاع في غير النداء. فقال يهجو امرأته:
أطوّف ما أطوّف ثم اوي ... الى بيت قعيدته لكاع
قعيده البيت ربّة البيت، وانما قيل قعيدة لقعودها وملازمتها. ويقال للفرس قعدة من هذا وهو الذي يرتبطه صاحبه فلا يفارقه. قال الجعفيّ:
لكن قعيدة بيتنا محفوّة ... باد جناجن صدرها ولها غنا
الجناجن ما يظهر عند الهزال من أطراف ضلوع الصدر، واحدها جنجن.
في رثاء أخي ذي الرمة لابن عمه
وقال هشام أخو ذي الرمّة (1):
__________
(1) هشام أخو ذي الرمة: هذا رجوع إلى مكان فيه من قبل.(1/215)
تعزّيت (1) بمن أوفى بغيلان بعده ... عزاء وجفن العين بالماء مترع (2)
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكنّ نكء (3) القرح بالقرح أوجع
غيلان هو ذو الرمّة وكان هشام من عقلاء الرجال. حدثني العباس بن الفرج في اسناد ذكره يعزوه الى رجل أراد سفرا. فقال: قال لي هشام بن عقبة أنّ لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزاد ويهرّ دونهم، فان قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل وإيّاك وتأخير الصلاة عن وقتها، فانك مصلّيها لا محالة فصلّها وهي تقبل منك. وقال حسّان بن ثابت الأنصاريّ:
تقول شعثاء لو صحوت (4) عن الك ... اس لأصبحت مثري العدد
(هي أمرأته وهو اسمها).
أهوى حديث الندمان في فلق ... الصبح وصوت المسامر الفرد (5)
لا أخدش الخدش (6) بالجليس ولا ... يخشى نديمي اذا انتشيت يدي
يأبى لي السيف واللسان وقو ... م لم يضاموا كلبدة الأسد
لبدة الأسد، ما يتطارق من شعره بين كتفيه. ويقال أسد ذو لبدة، وذو لبد. وحدثني عمارة قال: مرض جرير مرضة فعادته قيس: فقال:
نفسي الفداء لقوم زيّنوا حسبي ... وإن مرضت فهم أهلي وعوّادي
لو خفت ليثا أبا شبلين ذا لبد ... ما أسلموني لليث الغابة العادي
إن تجر (7) طير بأمر فيه عافية ... أو بالرحيل فقد أحسنتم زادي
__________
(1) تعزيت: تصبرت وتأسيت.
(2) مترع: ممتلىء والمراد بالماء الدمع.
(3) نكأ: فتح الجرح.
(4) صحوت: أقلعت.
(5) هذا جوابه يعتذر به عن ترك الخمر والندمان بالفتح المنادم والمسافر.
(6) الخدش: الجرح في ظاهر الجلد.
(7) يريد أن أبرأ من ذلك المرض أو أمت فقد أحسنتم إليّ وأقرءتم عيني.(1/216)
في بعض اشعار الهجاء
وقال عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت بن المنذر بن حرام وهو يهاجي عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي بن أميّة بن عبد شمس:
فأمّا قولك الخلفاء منّا ... فهم منعوا وريدك (1) من وداج (2)
ولو لاهم لكنت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داجي
وكنت أقلّ من وتد بقاع ... يشجّع (3) رأسه بالفهر (4) واجي (5)
فكتب معاوية الى مروان أن يؤدّيهما وكانا قد تقاذفا، فضرب عبد الرحمن ابن حسان ثمانين وضرب أخاه عشرين (6). فقيل لعبد الرحمن بن حسان قد أمكنك في مروان ما تريد فأشد بذكره وارفعه الى معاوية. فقال: إذا والله لا أفعل وقد حدّني كما تحدّ الرجال الأحرار، وجعل أخاه كنصف عبد، فأوجعه بهذا القول. ويروي أن عبد الرحمن بن حسّان لسعه (7) زنبور فجاء أباه يبكي، فقال له مالك؟ فقال لسعني طائر كأنه ملتفّ في بردي حبرة (8). قال: قلت والله الشعر. ويروي أن معلّمه عاقب الصبيان على ذنب وأراده بالعقوبة، فقال:
الله يعلم أني كنت منتبذا ... في دار حسّان أصطاد اليعاسيبا
وأعرق قوم كانوا في الشعر ال حسّان فانهم يعتدّون ستة في نسق كلّهم شاعر وهم: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام.
__________
(1) الوريد هو العرق في صفحة العنق ينفخ عند الغضب وهما وريدان.
(2) وداج: القطع.
(3) الشج أصله في الرأس وهو أن تضربه بشيء فتخرجه ثم استعمل في غيره من الأعضاء.
(4) بالفهر: بالكسر، الحجر قدر ما يدق به الجوز ونحوه أو قدر يملأ الكف.
(5) الواجي أصله الهمز فخفف وهو إسم فاعل في قولك وجأه باليد أو السكين ضربه وضرب ذلك مثلا لذلته وصفته.
(6) ضرب أخاه الضمير يعود إلى مروان بن الحكم.
(7) كان ذلك وهو فتى صغير.
(8) يريد أنه أحسن في التشبيه، أصاب في الخيال وهما من أصول الشعر فتوسم فيه القدرة عليه.(1/217)
وبعد هؤلاء في الوقت ال أبي حفصة فانهم أهل بيت كلهّم شاعر يتوارثونه كابرا عن كابر. ويروي أن ابنة لابن الرقاع (1) وقف بباب أبيها قوم يسألون عنه، فقالت: ما تريدون اليه؟ فقالوا جئنا لنهاجبه فقالت وهي صبية:
تجمّعتم من كل أوب (2) ووجهة ... على واحد لا زلتم قرن واحد
فهذه بلغت بطبعها على صغرها مبلغ الأعشى في قلب هذا المعنى حيث يقول لهوذة بن علي:
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويغدو على جمع الثلاثين واحدا
__________
(1) هو عدي بن الرقاع، الشاعر كان في أيام بني أمية.
(2) أوب: صوب.(1/218)
23 - باب في أقوال الحكماء
قال أبو العباس قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: علّموا أولادكم العوم والرماية ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، وروّوهم ما يجمل من الشعر، وفي حديث اخر: وخير الخلق للمرأة المغزل. ويروى عن الشعبيّ أنه قال:
قال عبد الله بن العباس قال لي أبي: يا بنيّ اني أرى أمير المؤمنين قد اختصّك دون من ترى من المهاجرين والأنصار فاحفظ عني ثلاثا، لا يجرّبنّ عليك كذبا ولا تغتب عنده مسلما ولا تفشينّ له سرّا. قال فقلت له: يا أبة كلّ واحدة منها خير من ألف، فقال كلّ واحدة منها خير من عشرة الاف. وحدثني العباس بن الفرج في اسناد ذكره قال: نظر الى عمرو بن العاص على بغلة قد شمط (1) وجهها هرما، فقيل له أتركب هذه وأنت على أكرم ناخرة بمصر؟
فقال: لا ملل عندي لدابتي ما حملت رجلتي ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سرّي، ان الملل من كواذب الأخلاق. قوله على أكرم ناخرة يريد الخيل، يقال للواحد ناخر وقيل ناخرة، يراد جماعة كما تقول رجل بغّال وحمّار والجماعة البغّالة والحمّارة، وكذلك تقول أتتني عصبة نبيلة وقبيلة شريفة، والواحد نبيل وشريف
في تعييب عمرو بن العاص لمعاوية
وشاور معاوية عمرا في أمر عبد الله بن هاشم بن عتبة بن مالك بن أبي
__________
(1) الشمط محركا بياض الرأس يخالطه سواد والفعل كتعب.(1/219)
وقّاص، وكان هاشم بن عتبة أحد فرسان علي رضي الله عنه (وهو المرقال) (1)
فأتي بابنه معاوية فشاور عمرا فيه فقال: أرى أن تقتله. فقال له معاوية: اني لم أر في العفو الا خيرا فمضى عمرو مغضبا وكتب اليه:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
أليس أبوه يا معاوية الذي ... أعان علينا يوم حزّ الغلاصم (2)
فقتّلنا حتى جرى من دمائنا ... بصفّين أمثال البحور الخضارم (3)
وهذا ابنه والمرء يشبه عيصه (4) ... ويوشك أن تلقى به جيد نادم
فبعث معاوية بأبياته الى عبد الله بن هاشم فكتب اليه عبد الله بن هاشم:
معاوي انّ المرء عمرا أبت له ... ضغينة (5) خبّ غشّها غير نائم
يرى لك قتلي يا ابن هند وانما ... ترى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
على أنّهم لا يقتلون أسيرهم ... اذا كان يرى عمرو منه بيعة للمسالم
فان تعف عني تعف عن ذي قرابة ... وإن تر قتلي تستحلّ محارمي
فصفح عنه.
وقال عمرو لعائشة رحمها الله: لوددت أنك كنت قتلت يوم الجمل فقالت. ولم لا أبا لك؟ فقال كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة وتجعلك أكبر التشنيع على عليّ. وحدثني العباس بن الفرج الرياشيّ في اسناد ذكره اخره ابن عباس قال: دخلت على عمرو بن العاص وقد احتضر فدخل عليه عبد الله بن عمرو فقال له: يا عبد الله خذ ذلك الصندوق، فقال لا حاجة لي فيه.
__________
(1) المرقال: سمي بذلك لأن عليّا رضي الله تعالى عنه أعطاه الراية بصفين.
(2) الغلاصم: جمع غلصمة، وهي اللحم بين الرأس والعنق وأراد بذلك أيام الحرب بينه وبين علي.
(3) الخضارم: جمع خضرم بالكسر وهو البحر العظيم وهذا نوع من المبالغة المعروف في الشعر العربي.
(4) العيص: بالكسرج أصول الشجر وهنا إستعارة فتبين شبه الولد بأبيه.
(5) ضغينة: حقد وكراهية.(1/220)
قال: انه مملوء مالا. قال: لا حاجة لي به. فقال عمرو: ليته مملوء بعرا، قال: فقلت يا أبا عبد الله انك كنت تقول أشتهي أن أرى عاقلا يموت حتى أسأله كيف يجد، فكيف تجدك؟ قال: أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما وأراني كأنما أتنفّس من خرت إبرة، ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى ثم رفع يديه فقال، اللهم أمرت فعصينا ونهيت فركبنا فلا بريّ فأعتذر ولا قوي فأنتصر، ولكن لا اله الا الله ثلاثا ثم فاظ. وقد روينا هذا الخبر من غير ناحية الرياشيّ بأتم من هذا، ولكن اقتصرنا على هذا لثقة اسناده. قوله:
من خرت ابرة يعني من ثقب إبرة، يقال للدليل خرّيت وزعم الأصمعي أنه أريد به أنه يهتدي لمثل خرت الابرة.
فاضت أو فاظت
وقوله: فاظ أي مات، يقال فاظ وفاد وفطس وفاز وفوّز كل ذلك في معنى الموت، ولا يقال فاض بالضاد إلّا للاناء. قال رؤبة: لا يدفنون منهم من فاظا.
وقال ابن جريج: أما رأيت الميت حين فوظه. ومن قال ذلك للنفس.
قال: فاضت نفسه شبهّها بالاناء. وحدثني أبو عثمان المازنيّ أحسبه عن أبي زيد قال: كلّ العرب يقولون فاضت نفسه الا بني ضبّة فانهم يقولون: فاظت نفسه وانما الكلام الصحيح فاظ بالظاء اذا مات. وفي الحديث ان امرأة سلّام ابن أبي (1) الحقيق قالت: فاظ واله يهود. وحدثني مسعود بن بشر قال: قال زياد الإمرة (2) تذهب الحفيظة (3) وقد كانت من قوم إليّ هنات (4) جعلتها تحت قدمى ودبر (5) أذني فلو بلغني أن أحدكم قد أخذه السلّ (6) من بغضي ما هتكت (7) له
__________
(1) سلام بن أبي الحقيق، كزبير هو اليهودي الذي قبله عبد الله بن عتيك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) الأمره: بالكسر أسم من قولك أمر فلان علينا إذا أولى.
(3) الحفيظة: الغصن.
(4) الهنات: واحدها هنت أي فساد وشر.
(5) كناية عن الغصن عنها وعدم المؤاخذة فيها.
(6) السل بالكسر وبضم قرحة تحدث في الرئة أمراضا معضلة.
(7) هتكت: كشفت.(1/221)
سترا ولا كشفت له قناعا حتى يبدي لي عن صفحته، فإذا فعل لم أناظره. وسمع زياد رجلا يسب الزمان فقال: لو كان يدري ما الزمان لضربت عنقه أن الزمان هو السلطان وفي عهد ازدشير. وقد قال الأولون منا عدل السلطان أنفع للرعيّة من خصب الزمان وقال المهلّب بن أبي صفرة لبنيه: إذا وليتم فلينوا للمحسن واشتدوا على المريب فان الناس للسلطان أهيب منهم للقران. وقال عثمان بن عفّان رضي الله عنه: ان الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقران.
وقوله يزع أي يكفّ. يقال وزع يزع اذا كف، وكان أصله يزع مثل يعد فذهبت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة واتّبعت حروف المضارعة الياء لئلا يختلف الباب وهي الهمزة والنون والتاء والياء نحو أعد ونعد وتعد ويعد ولكن انفتحت في يزع من أجل العين لأن حروف الحلق اذا كنّ في موضع عين الفعل أو لامه فتحن في الفعل الذي ماضيه فعل. وان وقعت الواو مما هي فيه فاء في يفعل المفتوحة العين في الأصل صحّ الفعل نحو وحل يوحل ووجل يوجل ويجوز في هذه المفتوحة ياحل وياجل وييحل وييجل وكل هذا كراهية للواو بعد الياء تقول وزعته كففته وأوزعته حملته على ركوب الشيء وهيأته له وهو من الله عز وجل توفيق. ويقال أوزعك الله شكره، أي وفقك الله لذلك. وقال الحسن مرة: ما حاجة هؤلاء السلاطين الى الشرط؟ فلما ولي القضاء كثر عليه الناس، فقال: لابدّ للناس من وزعة.
خطبة الحجاج في أهل العراق
وخطب الحجّاج بن يوسف ذات يوم جمعة، فلما توسط كلامه سمع تكبيرا عاليا من ناحية السوق، فقطع خطبته التي كان فيها، ثم قال: يا أهل العراق ويا أهل الشقاق ويا أهل النفاق وسيّئي الأخلاق يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأولاد الأماء، إني لأسمع تكبيرا ما يراد الله به انما يراد به الشيطان وان مثلي ومثلكم قول ابن براقة الهمدانيّ:
وكنت اذا قوم رموني رميتهم ... فهل أنا في ذا يال همدان ظالم
متى تجمع القلب الذكيّ وصارما ... وأنفا حميّا (1) تجنبك المظالم
ثم نزل فصلى بهم. قوله: يا أهل الشقاق فالمشاقّة المعاداة، وأصله أن يركب ما يشق عليه ويركب منه مثل ذلك. والنفاق أن يسرّ خلاف ما يبدي، هذا أصله، وانما أخذ من النافقاء وهو أحد أبواب جحرة اليربوع، وذلك أنه أخفاها فانما يظهر من غيره. ولجحره أربعة أبواب النافقاء والراهطاء والدامّاء والسابياء وكلّها ممدودة. ويقال للسابياء (2) القاصعاء وانما قيل له السابياء لأنه لا ينفذه فيبقي بينه وبين انفاذه هنة من الأرض رقيقة، وأخذ من سايباء الولد وهي الجلدة الرقيقة التي يخرج فيها الولد من بطن أمه. قال الأخطل يضرب ذلك مثلا ليربوع بن حنظلة لأنه سمّي باليربوع:(1/222)
وكنت اذا قوم رموني رميتهم ... فهل أنا في ذا يال همدان ظالم
متى تجمع القلب الذكيّ وصارما ... وأنفا حميّا (1) تجنبك المظالم
ثم نزل فصلى بهم. قوله: يا أهل الشقاق فالمشاقّة المعاداة، وأصله أن يركب ما يشق عليه ويركب منه مثل ذلك. والنفاق أن يسرّ خلاف ما يبدي، هذا أصله، وانما أخذ من النافقاء وهو أحد أبواب جحرة اليربوع، وذلك أنه أخفاها فانما يظهر من غيره. ولجحره أربعة أبواب النافقاء والراهطاء والدامّاء والسابياء وكلّها ممدودة. ويقال للسابياء (2) القاصعاء وانما قيل له السابياء لأنه لا ينفذه فيبقي بينه وبين انفاذه هنة من الأرض رقيقة، وأخذ من سايباء الولد وهي الجلدة الرقيقة التي يخرج فيها الولد من بطن أمه. قال الأخطل يضرب ذلك مثلا ليربوع بن حنظلة لأنه سمّي باليربوع:
تسد القاصعاء عليك حتى ... تنفّق أو تموت بها هزالا
والعرب تزعم أنه ليس من ضبّ الا وفي جحره عقرب، فهو لا يأكل ولد العقرب وهي لا تضربه فهي مسالمة له وهو مسالم لها وأنشد:
وأخدع من ضب (3) اذا خاف حارشا ... أعدّ له عند الذنابة عقربا
(كلّها بالمد ويقال بالقصر ويقال أيضا فيها على وزن فعلة نفقة ورهطة ودممة وقصعة. وحكى ابن القوطيّة في المقصور والممدود له الرهطاء كالراهطاء والنفقاء والقصعاء كالقاصعاء. وحكى أيضا زيادة، فقال العانقاء جحر الأرنب واليربوع والغابياء أيضا من جحرة اليربوع.
في قتل مصعب بن الزبير
وأما قول أبي العباس في السابياء فهو مما ردّ عليه فيه وقد تبعه ابن ولّاد
__________
(1) واتقا حميا: يريد لا يحتمل الصبر.
(2) سابياء: مجاز عن السحاب.
(3) حرش الضب: يحرشه في باب ضرب، صاده وذلك أن يحرك يديه على باب جحره ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه.(1/223)
وكلاهما غير مصيب، وانما السابياء وعاء فيه ماء صاف يخرج مع الولد وهو الفقء (1) وليس يخرج الولد فيه. وقال الكميت:
وفقّأ فيها الغيث من سابيائه ... دوالح وافقن النجوم البواجسا (2)
فشبّه ماء الغيث بماء السابياء، وانما الجلدة التي يكون فيها الولد الغرس وقد تبع ابن القوطية أبا العباس في السابياء في أنه من أسماء جحرة اليربوع وذلك غلط. وقوله بنو اللكيعة يريد اللئيمة وقد مرّ تفسير هذا في موضعه. قال ابن قيس الرقيّات يذكر قتل مصعب بن الزبير.
ان الرزيّة يوم مسكن (3) ... والمصيبة والفجيعة
بابن الحواريّ الذي ... لم يعده أهل الوقيعة (4)
غدرت به منضر العرا ... ق وأمكنت منه ربيعة
فأصبت وترك (5) يا ربيع ... وكنت سامعة مطيعة
يا لهف (6) لو كانت له ... بالطفّ يوم الطفّ شبعة
أو لم يخونوا عهده ... أهل العراق اللكيعة
لوجدتموه حين يغضب ... لا يعرّج بالمضيعة (7)
وقوله عبيد العصا يريد انهم لا ينقادون الا بالاذلال كما قال ابن مفرّغ الحميري:
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الملامة
__________
(1) الفقء: بالفتح وهي السابياء التي تنفقء عن رأس الولد.
(2) البواجس: التي تفجر الماء هنا يصف كثرة الماء الذي نزل في تلك الأودية.
(3) مسكن: موضع بالكوفة حدثت به موقعة عظيمة بين المسلمين أيام عبد الملك بن مروان، بينه وبين مصعب بن الزبير وقد قتل أثناءها مصعب.
(4) الوقيعة: الصدفة بعد الصدقة في الحرب.
(5) الوتر: الثأر.
(6) يا لهف كلمة يتحر بها على فائت.
(7) المضيعة: كحياة الذل والهوان والضعة.(1/224)
وقال جرير يهجو التيم:
ألا إنّما تيم لعمرو ومالك ... عبيد العصا لم يرج عتقا قطينها
وخطب الناس عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالمربد عند ظهور أمر الحجّاج عليه فقال: أيها الناس انه لم يبق من عدوّكم الا كما يبقى من ذنب الوزغة (1) تضرب به يمينا وشمالا فلا تلبث أن تموت، فسمعه رجل من بني قشير ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فقال: قبح الله هذا، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ويعدهم الغرور.
في جواب عرار لعبد الملك
وروت الرواة أن الحجاج لما أخذ رأس ابن الأشعث وجّه به الى عبد الملك بن مروان مع عرار بن عمرو بن شأس الأسديّ وكان أسود دميما (2) فلما ورد به عليه جعل عبد لملك لا يسأل عن شيء من أمر الوقيعة الا أنبأه به عرار في أصح لفظ وأشبع قول وأجزأ اختصار، فشفاه من الخبر وملأ أذنه صوابا وعبد الملك لا يعرفه وقد اقتحمته (3) عينه حيث راه، فقال عبد الملك متمثلا:
أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... لعمري عرارا بالهوان فقد ظلم
وان عرارا ان يكن غير واضح (4) ... فإني أحب الجون (5) ذا المنكب العمم (6)
فقال له عرار أتعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال لا. قال: فانا والله عرار فزاده في سروره وأضعف له الجائزة. وكتب صاحب اليمن الى عبد الملك بن مروان في وقت محاربته ابن الأشعث اني قد وجّهت الى أمير المؤمنين بجارية
__________
(1) الوزغة بالتحريك هي التي يقال سام أبرص.
(2) دميما: قبيح الوجه.
(3) إقتحمته: تجاوزته.
(4) الواضح من الوضح محركا وهو البياض من كل شيء.
(5) الجون بفتح الجيم من الألوان يقع على الأسود والأبيض والمراد الأول خبأ.
(6) العمم: عظم الحلق في الناس وغيرهم.(1/225)
اشتريتها بمال عظيم ولم ير مثلها قطّ. فلما دخل بها عليه رأى وجها جميلا وخلقا نبيلا (1) فألقى إليها قضيبا كان في يده فنكست لتأخذه فرأى منها جسما بهره (2)، فلما همّ (3) بها أعلمه الاذن أن رسول الحجّاج بالباب فأذن له ونحّى الجارية، فأعطاه كتابا من عبد الرحمن فيه سطور أربعة يقول فيها:
سائل مجاور جرم (4) هل جنيت لها ... حربا تزيّل بين الجيرة الخلط
وهل سموت بجرّار له لجب ... جمّ الصواهل بين الجمّ والفراط
وهل تركت نساء الحيّ ضاحية (5) ... في ساحة الدار يستوقدن (6) بالغبط (7)
وتحتها (بيت اخر على غير الرويّ من الأبيات الأول وهو):
قتل الملوك وصار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر (8) الأقوام
كتاب عبد الرحمن بن الأشعث لعبد الملك وجواب عبد الملك
قال فكتب اليه عبد الملك كتابا وجعل في طيّه جوابا لابن الأشعث:
ما بال من أسعى لأجبر (9) عظمه ... حفاظا وينوي من سفاهته (10) كسري
__________
(1) الخلق النبيل: بين في الحسن والجمال.
(2) بهره: غلبه على عقله من كثرة ما رأى من جماله.
(3) هم بها: كناية عن مباشرته الفعل.
(4) جرم بفتح الجيم بطن في وطيء وجرم بن زبان بطن في قضاعة وفي الاستفهام قوله هل جنيت لهم الانكار هنا بمعنى النفي.
(5) ضاحية: ظاهرة للشمس.
(6) يستوقدها: أي النار يقال أوقدها ويستوقدها: إذا كان يطرح فيها الوقود.
(7) الغبط بالضمتين جمع غبيط وهو مركب النساء ومعنى البيت أنهن لا يجدن رجلا يأتي لهن بالحطب فإذا احتجن إلى النار جعلن هذه المراكب وقودا وذلك لأن الرجال كلهم قد خرجوا إلى الحرب.
(8) عراعر القوم: إشراف القوم.
(9) جبر العظم: إصلاحه.
(10) السفاهة: الجهل.(1/226)
أظنّ خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر (1)
وانّي (2) وإيّاهم كمن نبّه القطا ... ولو لم تنبّه باتت الطير لا تسري
أناة وحلما وانتظارا بهم غدا ... فما أنا بالواني ولا الضرع (3) الغمر (4)
وينشد بالفاني. ثم بات يقلّب كفّ الجارية ويقول: ما أفدت فائدة أحبّ اليّ منك، فتقول: فما بالك يا أمير المؤمنين وما يمنعك؟ فقال: يمنعني ما قاله الأخطل لأني ان خرجت منه كنت ألأم العرب:
قوم اذا حاربوا شدّوا (5) مازرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
فما اليك سبيل أو يحكم الله بيني وبين عدوّ الرحمن بن الأشعث فلم يقربها حتى قتل عبد الرحمن، قوله فرأى منها جسما بهره. يقال بهر الليل اذا سدّ الأفق بظلمته وبهر القمر اذا ملأ الأرض ببهائه: ومن ثمّ قيل للقمر الباهر. أنشدني المازنيّ لرجل من بني الحارث بن كعب:
والقمر الباهر السماء لقد ... زرنا هلالا بجحفل (6) لجب
تسمع زجر الكماة بينهم ... قدّم وأخّر وأرحبي (7) وهبي
من كلّ هدّاءة (8) كعالية (9) ... الرمح أمون (10) وشيظم سلب (11)
__________
(1) وعر: صعب.
(2) إني وإياهم البيت بأكمله معناه إن مثلي ومثل هؤلاء كمن نبه القطا وأيقظها ولو تركها لاستقرت في دكناتها يريد أن هؤلاء القوم هم الذين جروا على أنفسهم الشر.
(3) الضرع: بكسر الراء الذليل الخاضع.
(4) الغمر: من لم يجرب الأمور.
(5) شدوا مازرهم: كناية عن اعتزالهم النساء.
(6) الجحفل: كجعفر الجيش الكثير.
(7) أرحبي: زجر للفرس، أي توسعي وابتعدي.
(8) الهداءة: الفرس الضامر خاص بالذكور.
(9) عالية الرمح: أعلاه أو النصف الذي يلي السنان وشبهه بذلكد صموده وصلابته.
(10) الأمون: الوثيقة الحلق. ويكثر استعما لهذا الوصف في النوق والشيظم كحيدر الطويل الجسيم الفتي من الابل والخيل.
(11) السلب: ككنف. الخفيف السريع.(1/227)
وقال طفيل الغنويّ يصف كيف تزجر الخيل فجمعه في بيت واحد:
وقيل أقدمي واقدم وأخ وأخّري ... وها وهلا واضبر وقادعها هبي
(قال أبو الحسن وأجّ) ومن زجر الخيل أيضا هقب وهقظ. وأنشدني أبو عثمان المازني:
لمّا سمعت زجرهم هقط ... علمت أن فارسا منحط
(قال الفرّاء: هقّط بالكسر والفتح ويروي مختط بدل منحط).
وقوله بين الجمّ والفرط هما موضعان باعيانهما. وقوله في ساحة الدار يستوقدن بالغبط. يقال فيه قولان متقاربان أحدهما أنهنّ قد يئسن من الرحيل فجعلن مراكبهنّ حطبا. هذا قول الأصمعي. وقال غيره: بل قد منعهنّ الخوف من الاحتطاب والغبيط من مراكب النساء، وكذلك الحدج. قال امرؤ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فأعلمك أن الغبيط لها. والمحامل انما أوّل من اتخذها الحجّاج. ففي ذلك يقول الراجز:
أوّل عبد عمل المحاملا ... أخزاه ربي عاجلا واجلا
وقوله: شجر العرا، فالعرا نبت بعينه أن ضمّ العين. والعراء ممدود وجه الأرض.
قال الله عز وجل: {لَنُبِذَ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} (1) وقال الهذليّ:
رفّعت رجلا ما أخاف عثارها (2) ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وهذا التفسير والانشاد عن أبي عبيدة. وقوله: دون النساء ولو باتت باطهار، معناه انه يجتنبها في طهرها وهو الوقت الذي يستقيم له غشيانها فيه.
__________
(1) سورة القلم: الاية 49.
(2) العثار: ذلة القدم.(1/228)
وأهل الحجاز يرون الأقراء الطهر وأهل العراق يرونها الحيض وأهل المدينة يجعلون عدد النساء الأطهار ويحتجّون بقول الأعشى:
وفي كلّ عام أنت جاشم (1) غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وقوله: ولو باتت باطهار، فلو، أصلها في الكلام أن تدلّ على وقوع الشيء لوقوع غيره تقول: لو جئتني لأعطيتك، ولو كان زيد هناك لضربته ثم تتسّع فتصير في معنى إن الواقعة للجزاء، تقول أنت لا تكرمني ولو أكرمتك، تريد وإن أكرمتك.
قال الله عز وجل: {وَمََا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنََا وَلَوْ كُنََّا صََادِقِينَ} (2). فأما قوله عز وجل: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى ََ بِهِ} (3). فأن تأويله عند أهل اللغة لا يقبل به أن يتبرّأ وهو مقيم على الكفر ولا يقبل أن افتدى به فلو في معنى إن. وانما منع لو أن تكون من حروف المجازاة فتجزم كما تجزم إن، أنّ حروف المجازاة انما تقع لما لا يقع، ويصير الماضي معها في معنى المستقبل. تقول ان جئتني أعطيتك، وان قعدت عني زرتك. فهذا لم يقع وان كان لفظه لفظ الماضي لما أحدثته فيه، إن. وكذا: متى أتيتني أتيتك. ولو تقع في معنى الماضي، تقول لو جئتني أمس لصادفتني، ولو ركبت اليّ أمس لألفيتني فلذلك خرجت من حروف الجزاء. فاذا أدخلت معها لا صار معناها أنّ الفعل يمتنع لوجود غيره، فهذا خلاف ذلك المعنى ولا تقع الا على الأسماء ويقع الخبر محذوفا لأنه لا يقع فيها الاسم الا وخبره مدلول عليه فاستغنى عن ذكره. لذلك تقول لولا عبد الله لضربتك، والمعنى في هذا المكان من قرابتك أو صداقتك أو نحو ذلك، فهذا معناها في هذا
__________
(1) جاشم: متكلف على مشقة.
(2) سورة يوسف: الاية 17.
(3) سورة ال عمران: الاية 91.(1/229)
الموضع، ولها موضع اخر تكون فيه على غير هذا المعنى، وهي لولا التي تقع في معنى هلّا التي للتحضيض ومن ذلك قوله: لولا اذ سمعتموه ظنّ المؤمنات بأنفسهم خيرا، أي هلّا. وقال تعالى: {لَوْلََا يَنْهََاهُمُ الرَّبََّانِيُّونَ وَالْأَحْبََارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} (1). فهذه لا يليها الا الفعل لأنها للأمر والتحضيض مظهرا أو مضمرا، كما قال: (نسب لجرير وقيل للأشهب بن رميلة):
تعدّون عقر النيب (2) أفضل مجدكم ... بني صوطرى (3) لولا الكميّ (4) المقنّعا
أي هلّا تعدّون الكميّ المقنّعا. ولولا الأولى لا يليها الا الاسم على ما ذكرت لك، ولابدّ في جوابها من اللام أو معنى اللام، تقول: لولا زيد فعلت، والمعنى لفعلت. وزعم سيبويه أن زيدا من حديث لولا واللام والفعل حديث معلّق بحديث لولا وتأويله أنه للشرط الذي وجب من أجلها وامتنع لحال الاسم بعدها ولو بغير لا، لا يليها الا الفعل مضمرا أو مظهرا لأنها تشارك حروف الجزاء في ابتداء الفعل وجوابه تقول: لو جئتني لأعطيتك فهذا ظهور الفعل واضماره. قوله عز وجل: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} (5). والمعنى والله اعلم لو تملكون أنتم، فهذا الذي رفع أنتم، ولما أضمر ظهر بعده ما يفسّره. ومثل ذلك لو ذات سوار لطمتني، أراد لو لطمتني ذات سوار (6) ومثله (قول المتلمّس):
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي (7) ... جعلت هم فوق العرانين (8) ميسما (9)
__________
(1) سورة المائدة: الاية 63.
(2) النيب: جمع ناب وهي الناقة المسنة، بنو ضوطري كناية عن الجوع.
(3) بنو ضوطري: الحمقى وهذا أيضا كناية عن الجوع
(4) واكلمي الشجاع أو لابس السلاح.
(5) سورة الإسراء: الاية 100.
(6) لو ذات سوار لطمتني: هذا مثل يقوله الكريم إذا ظلمه الليئم.
(7) نقيصتي: ذلي وهواني.
(8) العرانين: جمع عرين وهو الأنف كله.
(9) الميسم: بكسر الميم وهنا كناية عن كتبهم وإذلالهم.(1/230)
وكذلك قول جرير:
لو غيركم علق الزبير بحبله ... أدّى الجوار الى بني العوّام
فنصب بفعل مضمر يفسّر ما بعده لأنه للفعل، وهو في التمثيل لو علق الزبير غيركم. وكذلك كلّ شيء للفعل نحو الاستفهام والامر والنهي، وحروف الفعل نحو إذ وسوف (كذا وقع هنا اذ وسوف، ولم يذكر سيبويه مع سوف الا قد وهو الصحيح). وهذا مشروح في الكتاب المقتضب على حقيقة الشرح. وأما قوله وعراعر الأقوام فمعناه رؤوس الأقوام الواحد عرعرة، وعرعرة كلّ شيء أعلاه، ومن ذلك كتاب يزيد بن المهلّب الى الحجّاج بن يوسف:
وان العدوّ نزل بعرعرة الجبل ونزلنا بالحضيض، فقال الحجاج: ليس هذا من كلام يزيد، فمن هناك؟ قيل يحيى بن يعمر، فكتب الى يزيد أن يشخصه اليه.
وزعم التوّزيّ قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر يوما: أتسمعني ألحن؟
قال: الأمير أفصح من ذلك. قال: فأعاد عليه القول وأقسم عليه. فقال يحيى نعم، تجعل أنّ مكان إنّ. فقال له: ارحل عني ولا تجاورني. قال أبو العباس: هذا على أن يزيد لم تؤخذ عليه زلّة في لفظ الا واحدة، فانه قال على المنبر، وذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخّطاب فقال:
هذه الضبعة العرجاء فاعتدّت عليه لحنا لأن الأنثى انما الضبع، ويقال للذكر الضبعان، فاذا جمع قيل ضبعان، وانما جمع على التأنيث دون التذكير والباب على خلاف ذلك لأن التأنيث لا زيادة فيه وفي التذكير زيادة الألف والنون فثني على الأصل، وأصل التأنيث أن يكون زائدا على بناء التذكير لأنه منه يخرج مثل قائم وقائمة وكريم وكريمة. فمن حيث قلت للذكر والانثى في التثنية كريمان على حذف الزيادة. قلت: ضبعان، وتقول له ابنان اذا أردت له ابن وابنة ولا تقول في الدار رجلان اذا أردت رجلا وامرأة، الا على قول من قال للأنثى رجلة فقد جاء ذلك. وقال الشاعر:(1/231)
24 - باب في بعض الأشعار وتفسيرها
قال أبو العباس قال الراعي:
ومرسل (1) ورسول غير متّهم ... وحاجة غير مزجاة من الحاج
طاوعته (2) بعد ما طال النجيّ بنا ... وظن أني عليه غير منعاج
ما زال يفتح أبوابا ويغلقها ... دوني وأفتح بابا بعد إرتاج
حتى أضاء سراج دونه بقر ... حمر الأنامل عين طرفها ساجي
يا نعمها ليلة حتى تخوّنها ... داع دعا في فروع (3) الصبح شحّاج
لما دعا الدعوة الأولى فأسمعي ... أخذت برديّ واستمررت أدراجي
قوله: وحاجة غير مزجاة من الحاج، المزجاة اليسيرة الخفيفة المحمل.
قال الله عز وجل: {وَجِئْنََا بِبِضََاعَةٍ مُزْجََاةٍ} (4). والحاج جمع حاجة وتقديره فعلة وفعل كما تقول هامة وهام وساعة وساع. قال القطاميّ:
وكنّا كالحريق أصاب غابا ... فيخبو ساعة ويشبّ ساعا
فاذ أردت أدنى العدد قلت ساعات. فأما قولهم في جمع حاجة حوائج
__________
(1) مرسل: يريد ورب مرسل أرسل إلى ورب رسول غير متهم بإفشاء ما بيننا بلغ إلى الرسالة وقوله وحاجة إلخ يريد ورب حاجة هذه صفتها دعيت إليها يذكر أن حبيبه الح عليه في الطلب ودعاه إلى ما يهوي وهو ممتنع لا يجيب دعوته.
(2) طاوعته: يريد أنه لبى دعاء حبيبه بعد أن كان قد أيس منه ولعله أراد بالبنجي سر الرسالة بينهما يريد طاوعته بعد أن طالت هذه الرسالة بيننا سرا.
(3) فروع الصبح: أعاليه وفرع كل شيء أعلاه يريد في وقت بياض الصبح.
(4) سورة يوسف: الاية 88.(1/233)
فليس من كلام العرب على كثرته على ألسنة المولّدين، ولا قياس له. ويقال في قلبي منك حوجاء، أي حاجة، ولو جمع على هذا لكان حواج يا فتى وأصله حواجي يا فتى. ولكن مثل هذا يخفّف كما تقول في صحراء صحار، يا فتى وأصله صحاريّ. وقوله طاوعته بعد ما طال النجيّ بنا. يريد المناجاة فأخرجه على فعيل، ونظيره من المصادر الصهيل والنهيق والشحيج.
ويقال شبّ الفرس شبيبا، وذلك كان النجيّ يقع على الواحد والجماعة نعتا، كما تقول امرأة عدل ورجل عدل وقوم عدل لأنه مصدر.
قال الله عز وجل: {وَقَرَّبْنََاهُ نَجِيًّا} (1) أي مناجيا، وقال للجماعة: فلمّا استيأسوا منه خلصوا نجيّا، أي متناجين وقوله منعاج، أي منعطف، تقول:
عجت عليه، أي عرّجت عليه، وعجت إليه أعيج أي عوّلت عليه. وقوله بعد إرتاج أي بعد إغلاق، يقال أرتجت الباب إرتاجا، أي أغلقته إغلاقا ويقال لغلق الباب الرتاج. ويقال للرجل اذا امتنع عليه الكلام أرتج عليه. وقوله أضاء سراج دونه بقر، يعني نساء، والعرب تكنّي عن المرأة بالبقرة والنعجة.
قال الله عز وجل: {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} (2) وقال الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبّة قلبها وطحالها
وقوله عين، إنما هو جمع عيناء وهي الواسعة العين، وتقديره فعل، ولكن كسرت العين لتصحّ الياء، ونحو ذلك بيضاء وبيض، وتقديره حمرا وحمر، ولو كان من ذوات الواو لكان مضموما على أصل الباب لأنه لا إخلال فيه. تقول سوداء وسود وعوراء وعور. وقوله طرفها ساج، ولم يقل أطرافها لأن تقديرها تقدير المصدر، من طرفت طرفا.
قال الله عز وجل: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ} (3)، لأن
__________
(1) سورة مريم: الاية 52.
(2) سورة ص: الاية 23.
(3) سورة البقرة: الاية 7.(1/234)
السمع في الأصل مصدر. وقال جرير:
إنّ العيون التي في طرفها مرض (1) ... قتّلننا ثم لم يحيين قتلانا
وقوله ساج أي ساكن.
قال الله عز وجل: {وَالضُّحى ََ وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ} (2) وقال جرير:
ولقد رمينك يوم رحن بأعين ... يقتلن من خلل الستور (3) سواجي
وقال الراجز:
يا حبّذا القمراء (4) والليل السّاج ... وطرق مثل ملاء (5) النسّاج
وقوله حتى تخوّنها، أي تنقّصها. يقال تخوّنني السفر أي تنقّصني، والداعي المؤذّن. وقوله شحاج انما هو استعارة في شدة الصوت، وأصله للبغل والعرب تستعير من بعض لبعض. قال العجّاج ينعت حمارا:
كأن في فيه إذا ما شحجا (6) ... عودا دوين (7) اللهوات مولجا
وقال جرير:
ان الغراب بما كرهت لمولع ... بنوى الأحبّة دائم التشحاج (8)
وقوله واستمررت أدراجي، أي فرجعت من حيث جئت، تقول العرب:
رجع فلان أدراجه، ورجع في حافرته، ورجع عوده على بدئه وان شئت رفعت
__________
(1) في طرفها مرض: وفي رواية أخرى في طرفها حور والثاني أكثر صحة.
(2) سورة الضحى: الاية رقم واحد.
(3) خلل الستور: الخلل بالتحريك منفرج ما بين الشيئن.
(4) القمراء: الليلة التي فيها قمر.
(5) الملاء بالضم جمع ملاءه وهي الربطة شبه الطرق فيها الرمل وقد نسجته الريح وجعلت فيه طرائق بملاءة النساج.
(6) شحج: صوت.
(7) دوين: مصغر دون.
(8) التشحاج: صوت الغراب والبغل.(1/235)
فقلت، رجع عوده على بدئه، أما الرفع فعلى قولك رجع وعوده على بدئه، أي وهذه حاله، والنصب على وجهين أحدهما أن يكون مفعولا كقولك: ردّ عوده على بدئه والوجه الاخر أن يكون حالا في قول سيبويه، لأن معناه رجع ناقضا مجيئه، ووضع هذا في موضعه كما تقول كلمته فاه إلى فيّ أي مشافهة وبايعته يدا بيد أي نقدا، وقد يجوز أن تقول فوه الى فيّ أي وهذه حاله، ومن نصب فمعناه في هذه الحال.
فأما بايعته يدا بيد فلا يكون فيه الا النصب لأنك لست تريد بايعته ويد بيد كما كنت تريد في الأول وانما تريد النقد ولا تبالي أقريبا كان أم بعيدا.
في الغزل
وقال اعرابي:
شكوت فقالت كلّ هذا تبرّما ... بحبّي أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحبّ قالت لشدّ ما ... صبرت وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني فأبعد طالبا ... رضاها فتعتدّ التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
قوله: كلّ هذا تبرمأ مردود على كلامه كأنها تقول له: أشكوتني كلّ هذا تبرّما؟ ولو رفع كلا لكان جيدا يكون كل هذا مبتدأ وتبرّم خبره. وشجي مخفف الياء ومن شدّدها فقد أخطأ والمثل: ويل للشجي من الخليّ، الياء في الشجي مخففة وفي الخليّ مثقلة وقياسه انك اذا قلت فعل يفعل فعلا فالاسم منه على فعل نحو فرق يفرق فرقا، فهو فرق، وحذر يحذر حذرا فهو حذر، وبطر يبطر بطرا فهو بطر، فعلى هذا شجي يشجي شجى فهو شج يا فتى كما تقول هوي يهوي هوى، فهو هو يا فتى. وقوله فيا قوم هل من حيلة تعرفونها موضع تعرفونها خفض لأنه نعت للحيلة وليس بجواب، ولو كان ههنا شرط يوجب جوابا لا نجزم، تقول ائتني بدابة أركبها، أي بدابّة مركوبة، فاذا أردت
معنى: فانك أن أتيتني بدابة ركبتها قلت: أركبها لأنه جواب الأمر كما أن الأول جواب الاستفهام.(1/236)
شكوت فقالت كلّ هذا تبرّما ... بحبّي أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحبّ قالت لشدّ ما ... صبرت وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني فأبعد طالبا ... رضاها فتعتدّ التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
قوله: كلّ هذا تبرمأ مردود على كلامه كأنها تقول له: أشكوتني كلّ هذا تبرّما؟ ولو رفع كلا لكان جيدا يكون كل هذا مبتدأ وتبرّم خبره. وشجي مخفف الياء ومن شدّدها فقد أخطأ والمثل: ويل للشجي من الخليّ، الياء في الشجي مخففة وفي الخليّ مثقلة وقياسه انك اذا قلت فعل يفعل فعلا فالاسم منه على فعل نحو فرق يفرق فرقا، فهو فرق، وحذر يحذر حذرا فهو حذر، وبطر يبطر بطرا فهو بطر، فعلى هذا شجي يشجي شجى فهو شج يا فتى كما تقول هوي يهوي هوى، فهو هو يا فتى. وقوله فيا قوم هل من حيلة تعرفونها موضع تعرفونها خفض لأنه نعت للحيلة وليس بجواب، ولو كان ههنا شرط يوجب جوابا لا نجزم، تقول ائتني بدابة أركبها، أي بدابّة مركوبة، فاذا أردت
معنى: فانك أن أتيتني بدابة ركبتها قلت: أركبها لأنه جواب الأمر كما أن الأول جواب الاستفهام.
وفي القران: {خُذْ مِنْ أَمْوََالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهََا} (1) أي مطهّرة لهم. وكذلك: {أَنْزِلْ عَلَيْنََا مََائِدَةً مِنَ السَّمََاءِ تَكُونُ لَنََا عِيداً} (2) أي كائنة لنا عيدا، وفي الجواب: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} (3). أي إن تركوا خاضوا ولعبوا.
وأما قوله عز وجل: {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (4)، فانما هو فذرهم في هذه الحال لأنهم كانوا يلعبون. وكذلك {لََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (5) انما هو ولا تمنن مستكثرا. فمعنى ذاهل من حيلة معروفة عندكم، وقال اعرابي أنشدنيه أبو العالية:
ألا تسأل المكيّ ذا العلم ما لذي ... يحل من التقبيل في رمضان
فقال لي المكّي أمّا لزوجة ... فسبع وأما خلّة فثماني
قوله: خلّة، يريد ذات خلة ويكون سمّاها بالمصدر كما قالت الخنساء:
فانما هي إقبال وإدبار. ويجوز أن تكون نعتتها بالمصدر ولكثرته منها ويجوز أن تكون أرادت: ذات إقبال وإدبار، فحذفت المضاف وأقامت المضاف اليه مقامه.
كما قال عز وجل: {وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ} (6) فجائز أن يكون برّ من امن بالله وجائز أن يكون لكنّ ذا البرّ من امن بالله والمعنى يؤول إلى شيء واحد وفي هذا الشعر عيب وهو الذي يسميه النحويون العطف على عاملين
__________
(1) سورة التوبة: الاية 103.
(2) سورة المائدة: الاية 114.
(3) سورة الزخرف: الاية 83والمعارج: الاية 42.
(4) سورة الأنعام: الاية 61.
(5) سورة المدثر: الاية 6.
(6) سورة البقرة: الاية 177.(1/237)
وذلك أنه عطف خلّة على اللام الخافضه لزوجة وعطف ثمانيا على سبع ويلزم من قال هذا أن يقول مرّ عبد الله بزيد وعمرو خالد ففيه هذا القبح، وقد قرأ بعض القرّاء، وليس بجائز عندنا {وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ آيََاتٌ} (1) فجعل ايات في موضع نصب وخفضها لتاء الجميع فحملها على إنّ وعطفها بالواو وعطف اختلافا على في، ولا أرى ذا في القران جائزا لأنه ليس بموضع ضرورة وأنشد سيبويه لعديّ بن زيد العباديّ (الصحيح أنه لأبي داود الإيادي):
أكلّ امريء تحسبين امرأ ... ونار توقّد بالليل نارا
فعطف على امرىء وعلى المنصوب الأول (قال أبو الحسن: وفيه عيب اخر أنّ (2) أمّا ليست من العطف في شيء، وقد أجرى خلّة بعدها مجراها بعد حروف العطف حملا على المعنى فكأنه قال: لزوجة كذا ولخلّة كذا) وقوله:
أمّا لزوجة فهذه مفتوحة وهي التي تحتاج إلى جزاء. ومعناها: إذا قلت أمّا زيد فمنطلق مهما يكن من شيء فزيد منطلق. وكذلك: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلََا تَقْهَرْ} (3). إنما هي مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم. وتكسر إذا كانت في معنى أو ويلزمها التكرير. تقول: ضربت إمّا زيدا وإمّا عمرا، فمعناه ضربت زيدا أو عمرا. وكذلك: {إِمََّا شََاكِراً وَإِمََّا كَفُوراً} (4). وكذلك {إِمَّا الْعَذََابَ وَإِمَّا السََّاعَةَ} (5) {إِمََّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمََّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} (6)، وإنما كرّرتها لأنك إذا قلت ضربت زيدا أو عمرا أو قلت اضرب إمّا زيدا أو عمرا فقد ابتدأت بذكر الأول
__________
(1) سورة الجاثية: الاية 5.
(2) وفيه عيب اخر، عطف على قول أبي العباس وفي هذا الشعر عيب وهذا من الأخفش عجيب لأن أما الثانية لم تقع في ذلك البيت عاطفة إنما العاطف الواو قبلها.
(3) سورة الضحى: الاية 9.
(4) سورة الانسان: الاية 3.
(5) سورة مريم: الاية 75.
(6) سورة الكهف: الاية 86.(1/238)
وليس عند السامع أنك تريد غير الأول ثم جئت بالشك أو بالتخيير.
وإذا قلت: ضربت إمّا زيدا وإمّا عمرا، واضرب إمّا زيدا وإمّا عمرا، فقد وضعت كلامك بالإبتداء على التخيير أو على الشك. وإذا قلت: ضربت إمّا زيدا وإمّا عمرا، فالأولى وقعت لنية الكلام عليها، والثانية للعطف لأنك تعدل بين الأول والثاني فإنما تكسر في هذا الموضع. وزعم سيبويه أنها إن ضمّت إليها ما فإن اضطرّ شاعر فحذف ما جاز له ذلك لأنه الأصل.
وأنشد في مصداق ذلك (هو دريد بن الصمّة الجشميّ.
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها (1) ... فإن جرعا وإن إجمال صبر
ويجوز في غير هذا الموضع أن تقع إمّا مكسورة، ولكن ما لا تكون لازمة ولكن تكون زائدة في أن التي هي للجزاء، كما تزاد في سائر الكلام نحو:
أين تكن أكن، وأينما تكن أكن وكذلك: متى تأتني اتك، ومتى ما تأتني اتك.
فتقول: إن تأتني اتك وإمّا تأتني اتك، تدغم النون في الميم لاجتماعهما في الغنّة. وسنذكر الإدغام في موضع نفرده به شاء الله، كما قال امرؤ القيس:
فإمّا تريني لا أغمّض ساعة ... من الليل إلّا أن أكبّ (2) فأنعسا
فياربّ مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفّسا
وفي القران: {فَإِمََّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} (3) وقال: {وَإِمََّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغََاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهََا} (4). فأنت في زيادة ما بالخيار في جميع حروف الجزاء إلّا في حرفين، فإنّ ما لا بدّ منها للّعلة نذكرها إذا أفردنا بابا للجزاء إن شاء الله، والحرفان حيثما تكن أكن، كما قال الشاعر:
حيثما تستقم يقدّر لك ال ... لّه نجاحا في غابر الأزمان
__________
(1) كذبتك نفسك أي حدثتك نفسك بأنك لا تظفر فكذبتها فإن في حديثها قلق واضطراب
(2) أكب: صرع وقتل.
(3) سورة مريم الاية 26.
(4) سورة الإسراء: الاية 28.(1/239)
والحرف الثاني: إذ ما، كما قال العبّاس بن مرداس:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقّا عليك إذا اطمأنّ المجلس
أقوال في العناق
لا يكون الجزاء في حيث وإذ إلّا بما أنشدني أبو العالية:
سل المفتي المكّي هل في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح
فقال معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهنّ جراح
(وأنشد لبعض العرب المحدثين:
تلاصقنا وليس بنا فسوق ... ولم يرد الحرام بنا اللّصوق
ولكنّ التباعد طال حتى ... توقّد في الضّلوع له حريق
فلما أن أتيح لنا التّلاقي ... تعانقنا كما اعتنق الصّديق
وهل حرجا تراه أو حراما ... مشوق ضمّه كلف مشوق)
وأنشدني غيره:
وما هجرتك النفس يا ميّ إنها ... قلتك ولا أن قلّ منك نصيبها
ولكنّهم يا أملح الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت هذا حبيبها
إنها في موضع نصب، وكان التقدير لأنها، فلما حذفت اللام وصل الفعل فعمل. تقول جئتك أنك تحبّ الخير فمعناه لأنك، وكذلك أتيتك أن تأمر لي بشيء، أي لأن وتقديره في النصب أنّ، أن الخفيفة والفعل مصدر نحو: أريد أن تقوم يا فتى، أي قيامك، وأنّ الثقيلة واسمها وخبرها مصدر، تقول: بلغني أنك منطلق، أي انطلاقك فإذا قلت: جئتك أنك تريد الخير فمعناه: إرادتك الخير أي مجيئي لأنك تريد الخير إرادة يا فتى، كما قال الشاعر (هو حاتم الطائيّ):
وأغفر عوراء (1) الكريم ادّخاره ... وأعرض عن ذمّ اللئيم تكرّما
قوله: وأغفر عوراء الكريم ادخاره: أي ادّخره ادّخارا، وأضافه إليه، كما تقول: ادّخارا له. وكذلك قوله: تكرما إنما أراد لتكرّم: فأخرجه مخرج أتكرّم تكرّما. وأنشدني أبو العالية (قيل إن الشعر لعروة بن أذينة):(1/240)
وما هجرتك النفس يا ميّ إنها ... قلتك ولا أن قلّ منك نصيبها
ولكنّهم يا أملح الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت هذا حبيبها
إنها في موضع نصب، وكان التقدير لأنها، فلما حذفت اللام وصل الفعل فعمل. تقول جئتك أنك تحبّ الخير فمعناه لأنك، وكذلك أتيتك أن تأمر لي بشيء، أي لأن وتقديره في النصب أنّ، أن الخفيفة والفعل مصدر نحو: أريد أن تقوم يا فتى، أي قيامك، وأنّ الثقيلة واسمها وخبرها مصدر، تقول: بلغني أنك منطلق، أي انطلاقك فإذا قلت: جئتك أنك تريد الخير فمعناه: إرادتك الخير أي مجيئي لأنك تريد الخير إرادة يا فتى، كما قال الشاعر (هو حاتم الطائيّ):
وأغفر عوراء (1) الكريم ادّخاره ... وأعرض عن ذمّ اللئيم تكرّما
قوله: وأغفر عوراء الكريم ادخاره: أي ادّخره ادّخارا، وأضافه إليه، كما تقول: ادّخارا له. وكذلك قوله: تكرما إنما أراد لتكرّم: فأخرجه مخرج أتكرّم تكرّما. وأنشدني أبو العالية (قيل إن الشعر لعروة بن أذينة):
ما زلت أبغي الحيّ أتبع ظلّهم ... حتى دفعت إلى ربيب هودج (2)
قالت وعيش أبي وأكبر إخوتي ... لأنبّهنّ الحيّ إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسّمت ... فعلمت أنّ يمينها لم تحرج
فلثمت فاها اخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وزاد فيها الجاحظ عمرو بن بحر:
وتناولت رأسي لتعرف مسّه ... بمخضّب الأطراف غير مشنّج (3)
تقول العرب: هودج، وبنو سعد بن زيد مناة ومن وليهم يقولون: فودج.
وقوله: فعلمت أن يمينها لم تخرج يقول: لم تضق عليها. يقال: حرج يحرج إذا دخل في مضيق. والحرجة الشجر الملتفّ المتضايق ما بينه.
قال الله عزّ وجل: {فَلََا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (4) وقال تعالى:
{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} (5) وقرىء حرجا، فمن قال حرجا أراد التوكيد للضيّق كأنه قال: ضيّق شديد الضيق، ومن قال: حرجا جعله مصدرا، مثل قولك: ضيّق ضيقا. وقوله: ببرد ماء الحشرج فهو الماء الجاري على الحجارة. وقال قيس بن معاذ أحد بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهو المجنون. وحدثني عبد الصمد بن المعذّل قال: سمعت
__________
(1) عوراء: الكلمة القبيحة.
(2) ربيبة هودج يريد أنها مربوبة في البيت منعمة.
(3) مشنج: مأخوذ في الشنج بالتحريك وهو يفيض في الجلد وانكماش.
(4) سورة الأعراف: الاية رقم 2.
(5) سورة الأنعام: الاية 125.(1/241)
الأصمعيّ يثبّته ويقول: لم يكن مجنونا، إنما كانت به لوثة كلوثة أبي حيّة النميريّ وهو من أشعر الناس ومن شعره):
ولم أر ليلى بعد موقف ساعة ... ببطن منى (1) ترمي جمار المحصّب (2)
ويبدي الحصا منها إذا قذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضّب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرّب
ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى (3) أينما تذهب به الريح يذهب
وصف عمر بن أبي ربيعة للنحافة
هذا البيت من أعجب ما قيل في النحافة، ومما يستظرف في هذا الباب قول عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت (4) ... فيضحى (5) وأمّا بالعشيّ فيخصر
أخا سفر جوّاب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر
قليلا على ظهر المطيّة ظلّه ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبّر
ومن هذا الباب قول القائل هو قيس بن معاذ مجنون بني عامر الذي تقدم ذكره لابن الأبرش):
فأصبحت في أقصى البيوت يعدنني ... بقيّة ما أبقين نصلا يمانيا
(بقية بدل من الياء في يعدنني بدل الاشتمال:
تجمّعن من شتّى ثلاث وأربع ... وواحدة حتى كملن ثمانيا)
__________
(1) بطن مني: جوفه.
(2) المحصب: كمعظم الشعب الذي مخرجه إلى الابطح يريد أنه رأى ليلى في هذا الموضع ترمي الجمار ولم يرها بعد.
(3) الصدي: الرجل النحيف الجسم.
(4) عارضت: أضحت في عروض من الطريق. أي صبت حرارتها فأذت.
(5) فيضحى أي تصيبه حرارة الشمس فتؤذيه.(1/242)
يعدن مريضا هنّ هيجن ما به ... ألا إنّما بعض العوائد دائيا
وفي هذا الباب أشياء كثيرة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى. ومن الإفراط فيه قوله:
فلو أنّ ما أبقيت مني معلّق ... بعود ثمام ما تأوّد عودها
(الثمام نبت ضعيف واحدته ثمامة) وهذا متجاوز كقول القائل:
ويمنعها من أن تطير زمامها. وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبّه، وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة، ونبه فيه بفطنته على ما يخفى عن غيره، وساقه برصف قويّ واختصار قريب. قال قيس بن معاذ:
وأخرج من بين الجلوس لعلّني ... أحدّث عنك النفس في السرّ خاليا
وإني لأستغشي (1) وما بي نعسة ... لعلّ خيالا منك يلقى خياليا
وفي هذا الشعر:
أشوقا ولّما تمض لي غير ليلة ... رويد الهوى (2) حتى يغبّ لياليا
هذا من أجود الكلام وأوضحه معنى، ويستحسن لذي الرمّة قوله في مثل هذا المعنى:
أحبّ المكان القفر من أجل أنني ... به أتغنّى باسمها غير معجم (3)
وأنشدني ابن عائشة لبعض القرشيّين:
وقفوا ثلاث منى بمنزل غبطة ... وهم على غرض (4) هنا لك ما هم
__________
(1) استغشى ثوبه: تغطى به كيلا يسمع ولا يرى يطلب النوم.
(2) رويد الهوى: مصدر مضاف مصغر الرود هو التردد في طلب الشيء يرفق وفعله راد يرود، وقوله حتى يغب الغب في أوراد الابل وهو أن ترد الماء يوما.
(3) غير معجم: يقال أعجم فلان الكلام، ذهب به إلى العجمة يريد غير مكنى عنه.
(4) على غرض: بالتحريك وهو الملال أو الضجر أو الشوف أو المخافة والفعل كفرح.(1/243)
متجاورين بغير دار إقامة ... لو قد أجدّ تفرّق (1) لم يندمو
(يعني طواف الوداع، وقوله: ثلاث منى أراد أيام النفر وأخرجه على الليالي وقوله: لم يندموا لأنهم يرجعون إلى أوطانهم).
ولهنّ بالبيت العتيق لبانة ... والركن يعرفهنّ لو يتكلّم
لو كان حيّا قبلهنّ ظعائنا ... حيّا الحطيم وجوههنّ وزمزم
وكأنّهنّ وقد صدرن لواغيا ... بيض بأفنية المقام مركّم (2)
اللاغب المعيي.
قال الله عزّ وجل: {وَمََا مَسَّنََا مِنْ لُغُوبٍ} (3). والمركّم الذي بعضه على بعض، والمرأة تشبّه ببيضة النعامة كما تشبّه بالدرة. قال الله عزّ وجل:
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (4) والمكنون المصون، والمكنّ المستور. يقال أكننت السرّ. قال الله عزّ وجل: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} (5). وقال أبو دهبل. وأكثر الناس يرويه لعبد الرحمن بن حسّان (بن ثابت الأنصاريّ):
وهي زهراء مثل لؤلوة الغوّ ... اص ميزت من جوهر مكنون
وقال ابن الرقيّات:
واضح لونها كبيضة أدحيّ ... لها في النساء خلق عميم
العميم التام، والأدحيّ موضع بيض النعامة خاصة، وشعر عبد الرحمن هذا شعر مأثور مشهور عنه. وروى بعض الرواة أن أبا دهبل الجمحيّ كان تقيّا وكان جميلا، فقفل من الغزو ذات مرّة فمرّ بدمشق، فدعته إمرأة إلى أن
__________
(1) أجد تفرق: أسرع.
(2) مركم: مجموع بعضه فوق بعضه.
(3) سورة ق: الاية 38.
(4) سورة الصافات: الاية 49.
(5) سورة البقرة: الاية 235.(1/244)
يقرأ لها كتابا، وقالت إنّ صاحبته في هذا القصر وهي تحبّ أن تسمع ما فيه.
فلما دخلت به برزت له امرأة جميلة وقالت له: إنما احتلت لك بالكتاب حتى أدخلتك. فقال لها: أما الحرام فلا سبيل إليه. قالت: فلست تراد حراما.
فتزوّجته، وأقام عندها دهرا حتى نعي بالمدينة. ففي ذلك يقول، وقد استأذنها ليلمّ بأهله ثم يعود. فجاء وقد اقتسم ميراثه، فلما همّ بالعود إليها نعيت له، فهذا ما روي من هذا الوجه والذي كأنه إجماع الناس إنه لعبد الرحمن بن حسان وهو في بنت معاوية (بن أبي سفيان):
صاح حيّا الإله أهلا ودارا ... عند أصل القناة من جيرون (1)
عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجا فيميني
فبتلك أرتهنت بالشأم حتى ... ظنّ أهلي مرجّمات الظنون (2)
وهي زهراء (3) مثل لؤلؤة الغ ... وّاص ميزت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء (4) من المكارم دون
ثمّ خاصرتها (5) إلى القبّة الخض ... راء تمشي في مرمر مسنون
تجعل المسك واليلنجوج (6) وال ... ندّ صلاء (7) لها على الكانون (8)
قبّة من مراجل ضربتها ... عند برد الشّتاء في قيطون
المسنون المصبوب على استواء، والمراجل ثياب من ثياب اليمن. قال العجّاج:
__________
(1) جيرون: إسم موضع بدمشق.
(2) مرجمات الظنون: أقاويل لم تدرك حقيقتها.
(3) زهراء في قوسهم زهر الشيء زهر بالفتح فيهما صفا لونه وأضاء وقد يستعمل في اللون الأبيض خاصة والرجل أمهر والأنثى زهراء.
(4) السناء بالمد: الرفعة والشرق.
(5) خاصرته: أخذت بيده، ماشيته.
(6) اليلنجوج: عود البخور.
(7) الصلاء، بالكسر الوقود.
(8) والكانون الموقد يصفها بالترف والنغمة.(1/245)
بشية كشية الممرجل. والقيطون البيت في جوف بيت. وقال اخر:
وأبصرت سعدى بين ثوبي مراجل ... وأثواب غصب من مهلهلة اليمن
ويروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاوية: أما سمعت قول عبد الرحمن بن حسان في ابنتك؟ قال: وما الذي قال؟ قال:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّ ... اص ميزت من جوهر مكنون
قال معاوية: صدق. فقال يزيد: وقال:
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون
قال معاوية: صدق. فقال يزيد إنه قال:
ثمّ خاصرتها إلى القبة الخض ... راء تمشي في مرمر مسنون
قال معاوية: كذب.(1/246)
25 - باب إكرام رسول الله لعبد الله بن الزبير
قال أبو العباس: حدثني مسعود بن بشر قال: حدثني محمد بن حرب قال: أتى عبد الله بن الزبير بن عبد المطّلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكساه حلّة وأقعده إلى جانبه، ثم قال: إنه ابن أمّي وكان أبوه يرحمني (الزبير أخو عبد الله بن عبد المطلب شقيقه). وأنشدني مسعود قال: أنشدني طاهر بن عليّ بن سليمان قال: أنشدني منصور بن المهديّ لرجل من بني ضبّة بن أدّ بقوله لبني تميم بن مرّ بن أدّ:
أبني تميم إنني أنا عمّكم ... لا تحرمنّ نصيحة الأعمام
إني أرى سبب الفناء وإنّما ... سبب الفناء قطيعة الأرحام
فتداركوا بأبي وأمّي أنتم ... أرحامكم برواجح الاحلام
(كذا أنشد أرحامكم ويروى أحسابكم). ويروى أنه لما أتى عبد الله بن الزبير خبر قتل مصعب بن الزبير خطب الناس فحمد الله واثنى عليه، ثم قال.
خطبة ابن الزبير في مقتل أخيه مصعب
إنه أتانا خبر قتل المصعب فسررنا به واكتأبنا له، فأما السّرور فلما قدّر من الشهادة وحيز له من الثواب، وأما الكابة فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه، وإنا والله ما نموت حبجا كميتة ال أبي العاصي إنما نموت والله قتلا بالرماح، وقعصا (1) تحت ظلال السّيوف، فإن يهلك المصعب فإنّ في ال
__________
(1) قعصا: موتا، مات فلان قعصا أي أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه.(1/247)
الزبير منه خلفا. قوله: حبجا يقال حبج بطنه إذا انتفخ. وكذلك. حبط بطنه.
والمقعص المقتول، واللوعة الحرقة يقال: لاع يلاع لوعة يا فتى فهو لائع.
ويقال: لاع يا فتى على القلب. وأنشد أبو زيد:
ولا فرح بخير إن أتاه ... ولا جزع من الحدثان لاعي
قال: وحدثني مسعود بن بشر في إسناد ذكره قال: قال زياد لحاجبه: يا عجلان إني وليتك هذا الباب وعزلتك عن أربعة: عزلتك عن هذا المنادي إذا دعا للصلاة فلا سبيل لك عليه، وعن طارق الليل فشرّ ما جاء به ولو جاء بخير ما كنت من حاجته، وعن رسول صاحب الثغر فإن إبطاء ساعة يفسد تدبير سنة، وعن هذا الطبّاخ إذا فرغ من طعامه قال: وحدثني مسعود قال: قال زياد يعجبني من الرجل إذا سيم خطّة الضيم أن يقول لا بملء فيه، وإذا أتى نادي قوم علم أين ينبغي لمثله أن يجلس فجلس، وإذا ركب دابة حملها على ما تحبّ ولم يبعثها إلى ما تكره. وكتب إلى جعفر بن يحيى أن صاحب الطريق (1) قد شتطّ في ما يطلب من الأموال فوقّع جعفر هذا رجل منقطع عن السلطان (2) وبين ذوبان العرب بحيث العدد والعدّة والقلوب القاسية والأنوف الحمية، فليمدد من المال بما يستصلح به من معه ليدفع به عدوّه، فإن نفقات الحروب يستظهر لها ولا يستظهر عليها، وأكثر الناس شكيّة عامل فوّقع إليه في قصّتهم: يا هذا قد كثر شاكوك وقلّ حامدوك فإما عدلت وإمّا اعتزلت.
وزعم الجاحظ قال: قال ثمامة بن شرس النميريّ: ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون، وقال مويس بن عمران: ما رأيت رجلا أبلغ من يحيى بن خلد وأيوب بن جعفر، وقال جعفر بن يحيى لكتّابه: إن قدر تم أن تكون كتبكم كلّها توقيعات فافعلوا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تكاشفتم ما تدافنتم. يقول: لو علم بعضكم سريرة بعض لاستثقل تشييعه ودفنه. وقال
__________
(1) صاحب الطريق لعله أراد به قائد الخير التي تمر بالبلاد لمقاتله الأعداء وأشتطّ جاوز القدر.
(2) منقطع السلطان يريد أنه بعيد عنه.(1/248)
عليه الصلاة والسلام اجتنبوا والقعود على الطرقات إلّا أن تضمنوا أربعا: ردّ السلام، وغضّ الأبصار، وإرشاد الضالّ، وعون الضعيف. وقالت هند بنت عتبة إنما النساء أغلال فليختر الرجل غلّا ليده. وذكرت هند بنت المهلّب بن أبي صفرة النساء فقالت: ما زيّن بشيء كأدب بارع تحته لبّ ظاهر، وقالت هند بنت المهلّب بنت أبي صفرة أيضا: إذا رأيتم النعم مستدرّة فبادروا بالشكر قبل حلول الزوال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افصلوا بين حديثكم بالاستغفار. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: قيّدوا النعم بالشكر وقيّدوا العلم بالكتاب.
وقال عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: العجب لمن يهلك والنجاة معه.
فقيل ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: الاستغفار. وقال الخليل بن أحمد: كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ ما في كتبك. وقال ابن أحمد يعني الخليل: اجعل ما في كتبك رأس مال وما في صدرك للنفقة.
وقيل لنصر بن سيّار: إن فلانا لا يكتب. فقال: تلك الزمانة الخفيّة. وقال نصر بن سيار: لولا أن عمر بن هبيره كان بدويّا ما ضبط أعمال العراق وهو لا يكتب.
وفادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى فداءه من أسرى بدر فمن لم يكن له فداء أمره أن يعلّم عشرة من المسلمين الكتابة، ففشت الكتابة بالمدينة. ومن أمثال العرب خير العلم ما حوضر به. يقول: ما حفظ فكان للمذاكرة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال أمّتى صالحا أمرها ما لم تر الفيء مغنما والصدقة مغرما.
بعض ما قاله أبو طالب
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان لا يقرّب فيه إلّا الماحل، ولا يظرّف فيه إلّا الفاجر، ولا يضعّف فيه إلّا المنصف، يتخذون الفيء مغنما، والصدقة مغرما، وصلة الرحم منّا، والعبادة استطالة على الناس، فعند ذلك يكون سلطان النساء ومشاورة الإماء وإمارة الصبيان.
(الماحل الواشي. يقال محل فلان بفلان إذا وشى به ومكر).(1/249)
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان لا يقرّب فيه إلّا الماحل، ولا يظرّف فيه إلّا الفاجر، ولا يضعّف فيه إلّا المنصف، يتخذون الفيء مغنما، والصدقة مغرما، وصلة الرحم منّا، والعبادة استطالة على الناس، فعند ذلك يكون سلطان النساء ومشاورة الإماء وإمارة الصبيان.
(الماحل الواشي. يقال محل فلان بفلان إذا وشى به ومكر).
حديث الحجاج مع أزاذ مرد بن الهربذ
ويروى عن محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني قال: دفع إليّ الحجاج أزاذ مرد بن الهربذ (1) وأمرني أن استخرج منه وأغلّظ عليه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد إنّ لك شرفا ودينا وإني لا أعطي على القسر شيئا فاستأدني وارفق بي. قال: ففعلت فأدّى إليّ في أسبوع خمسمائة ألف.
قال: فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه وانتزعه من يديّ ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب فدقّ يديه ورجليه ولم يعطهم شيئا. قال محمد بن المنتشر: فإني (2)
لأمرّ يوما في السوق إذا صائح بي يا محمد. فالتفتّ فإذا به معرّضا على حمار مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته وتذمّمت منه فملت إليه فقال لي: إنك وليت مني ما ولي هؤلاء فأحسنت وإنهم صنعوا بي ما ترى ولم أعطهم شيئا، وههنا خمسمائة ألف عند فلان فخذها فهي لك. قال: فقلت له: ما كنت لاخذ منك على معروفي أجرا ولا لأرزأك على هذه الحال شيئا قال: فأما إذا أبيت فاسمع أحدّثك: حدّثني بعض أهل دينك عن نبيك صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم المطر في وقته: وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم، وأمطرهم المطر في غير حينه. قال:
فانصرفت فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج فأمرني بالمسير إليه فألفيته جالسا على فرشه والسيف منتضى في يده فقال لي: ادن فدنوت شيئا.
ثم قال: ادن فدنوت شيئا. ثم صاح الثالثة: ادن لا أبالك. قلت: ما بي إلى الدنوّ من حاجة وفي يد الأمير ما أرى. فأضحك الله سنّة وأغمد سيفه
__________
(1) الهربذ: عظيم الهند.
(2) فإني لأمر: كلمة تقال قبل حرف المفأجأة مثل بينما.(1/250)
عني. فقال لي اجلس ما كان من حديث الخبيث؟ فقلت له: أيها الأمير والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذبتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني ثم حدّثته الحديث فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعرض عني بوجهه وأومأ إليّ بيده وقال: لا تسمّه. ثم قال: إن للخبيث نفسا وقد سمع الأحاديث.
ويقال: كان الحجاج إذا استغرب ضحكا وإلى بين الاستغفار، وكان إذا صعد المنبر تلفّع بمطرفه، ثم تكلم رويدا فلا يكاد يسمع، ثم يتزيّد في الكلام حتى يخرج يده من مطرفه، ويزجر الزجرة فيفزع بها أقصى من في المسجد، وكان يطعم في كل يوم على ألف مائدة، على كل مائدة ثريد وجنب من شواء وسمكة طريّة، ويطاف به في محفّة على تلك الموائد ليتفقد أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرة ثم يقول: يا أهل الشام اكسروا الخبز لئلا يعاد عليكم. وكان له ساقيان أحدهما يسقي الماء والعسل والاخر يسقي اللبن.
ويروى أن ليلى الأخيليّة قدمت عليه فأنشدته:
إذا ورد الحجّاج أرضا مريضة ... تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العقام الذي بها ... غلام إذا هزّ القناة ثناها
العقام بالفتح والضم، والضم أفصح) فقال لها لا تقولي غلام قولي همام. ثم قال لها: أيّ نسائي أحبّ إليك أن أنزلك عندها الليلة. قالت: ومن نساؤك أيها الأمير؟ قال: أمّ الجلاس بنت سعيد بن العاصي الأمويّة، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزاريّة (1)، وهند بنت المهلّب بن أبي صفرة العتكيّة.
فقالت: القيسيّة (2) أحبّ إليّ. فلما كان الغد دخلت عليه فقال: يا غلام أعطها خمسمائة فقالت: أيها الأمير اجعلها أدما. فقال قائل: إنما أمر لك بشاء. قالت: الأمير أكرم من ذلك. فجعلها إبلا إناثا استحياء، وإنما كان أمر
__________
(1) الفزارية: نسبة إلى فزاره، قبيلة من غطفان وغطفان هي من قيس.
(2) القيسية: يعني بها هند بنت أسماء(1/251)
بها بشاء اولا، والادم البيض من الإبل وهي أكرمها.
في فرائض الدين
ويروى عن بعض الفقهاء (هو الشعبيّ) قال: دعاني الحجاج فسألني عن الفريضة المخمّسة وهي أمّ وجدّ واخت فقال لي: ما قال فيها الصدّيق رحمه الله؟ قلت: أعطى الأم الثلث والجدّ ما بقي لأنه كان يراه أبا. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين، يعني عثمان رحمه الله؟ قلت: جعل المال بينهم أثلاثا قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ قال: قلت أعطى الأخت النصف والأم ثلث ما بقي والجد الثلثين لأنه كان لا يفضل أمّا على جد. قال: فما قال فيها زيد بن ثابت؟ قال: قلت: أعطى الأم الثلث وجعل ما بقي بين الأخت والجد، للذكر مثل حظ الأنثيين لأنه كان يجعل الجدّ كأحد الأخوة إلى الثلاثة. قال: فزمّ بأنفه. ثم قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قال: قلت أعطى الأم الثلث والأخت النصف والجد السدس. فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: فإنه المرء يرغب عن قوله وجلس الحجاج يوما يأكل ومعه جماعة على المائدة منهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة وحجّار بن أبجر بن بجير العجليّ، فأقبل في وسط من الطعام على محمد بن عمير بن عطارد فقال: يا محمد أيدعوك قتيبة بن مسلم إلى نصرتي يوم رستقباذ، فتقول: هذا أمر لا ناقة لي فيه ولا جمل، لا جعل الله لك فيه ناقة ولا جملا! يا حرسيّ، خذ بيده وجرّد سيفك فاضرب عنقه، فنظر إليّ حجّار بن أبجر وهو يتبسم فدخلته العصبيّة، وكان مكان حجّار من ربيعة كمكان محمد بن عمير من مضر وأتى الجناز بفرنيّة (1) فقال: اجعلها مما يلي محمدا فإن اللبن يعجبه يا حرسيّ، شم سيفك وانصرف. وكان محمد شريفا وله يقول الشاعر:
__________
(1) بفرنية: هي خبزه مضمومة الجوانب إلى الوسط تشوي ثم تروي سمنا ولببنا وسكرا.(1/252)
علم القبائل من معد وغيرها ... أن الجواد محمد بن عطارد
حديث الحجاج مع محمد بن عمير
وذكرت بنو دارم يوما بحضرة عبد الملك فقالوا: قوم لهم حظّ. قال عبد الملك: أتقولون ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولا عقب له، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة ولا عقب له، ومضى محمد بن عمير بن عطارد ولا عقب، والله لا تنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبدا. قوله شم سيفك يقول:
أغمده، ويقال: شمت السيف إذا سللته وهو من الأضداد ويقال: شمت البرق إذا نظرت من أي ناحية يأتي. قال الأعشى:
فقلت للشرب في درنى (1) وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل
وقال الفرزدق:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلّت
وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني وتأويله لم يشيموا لم يغمدوا، ولم تكثر القتلى أي لم يغمدوا سيوفهم إلّا وقد كثرت القتلى حين سلّت.
وحدثني الحسن بن رجاء قال: قدم علينا عليّ بن جبلة إلى عسكر الحسن بن سهل والمأمون هناك بانيا على خديجة بنت الحسن بن سهل المعروفة ببوران، فقال الحسن: ونحن إذ ذاك نجري على نيّف وسبعين ألف ملاح، وكان الحسن بن سهل يسهر مع المأمون، وكان المأمون يتصبّح فيجلس الحسن للناس إلى وقت انتباهه فلما ورد عليّ قلت: قد ترى شغل الأمير.
قال: إذا لا أضيع معك. قلت: أجل. فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه فقال: ألا ترى ما نحن فيه؟ قلت: لست بمشغول عن الأمر له فقال: يعطي عشرة الاف درهم إلى ان نتفرّغ له. فأعلمت ذلك
__________
(1) درنى: تلفظ كبشرى وهي مكان.(1/253)
عليّ بن جبلة فقال في كلمة له:
أعطيتني يا وليّ الحق مبتدئا ... عطيّة كافأت مدحي ولم ترني
ما شمت برقك حتى نلت ريّقه (1) ... كأنما كنت بالجدوى تبادرني
__________
(1) ريقه: بتشديد الياء أي أوله.(1/254)
26 - باب في وصف الشجاعة والنجدة
قال أبو العباس: قال المفضّل بن المهلّب بن أبي صفرة (يصف الشجاعة والنجدة):
هل الجود إلّا أن نجود بأنفس ... على كلّ ماضي الشفرتين قضيب
وما خير عيش بعد قتل محمد ... وبعد يزيد والحرون حبيبب
ومن هرّ أطراف القنا خشية الردى ... فليس لمجد صالح بكسوب
وما هي إلا رقدة تورث العلى ... لرهطك ما حنّت روائم (1) نيب
قوله: ومن هرّ أطراف القنا خشية الردى يقول: من كره قال عنترة بن شدّاد:
حلفت لهم والخيل تردى (2) بنا معا ... نفارقهم حتى يهرّوا العواليا
عوالي زرقا من رماح ردينة (3) ... هرير الكلاب يتّقين الأفاعيا
والردى الهلاك وأكثر ما يستعمل في الموت، يقال: ردى يردى ردى. قال الله عزّ وجل: {وَمََا يُغْنِي عَنْهُ مََالُهُ إِذََا تَرَدََّى} (4)، وهو تفصّل من الردى في أحد التفسيرين. وقيل إذا تردّى في النار أي إذا سقط فيها. وقوله: الحرون
__________
(1) الروائم: جمع رائمة وهي الناقة التي تعطف على ولدها وتحن إليه.
(2) تردى: من الرديات بالتحريك وهو أن ترجم الخيل الأرض بحوافرها أو هو ضرب في السير بين العدو والمشي.
(3) ردينة: كجهينة زوج سمهر وكانا معا يقومان الرماح المعروفة باسمهما.
(4) سورة الليل: الاية 11.(1/255)
فإن حبيب بن المهلّب كان ربما انهزم عنه أصحابه فلا يريم مكانه، فكان يلقّب الحرون، وقوله: وما هي إلّا رقدة تورث العلى فهذا مأخوذ من قول أخيه يزيد بن المهلب، وذلك أنه قال في يوم العقر (1) وهو اليوم الذي قتل فيه:
قاتل الله بن الأشعث ما كان عليه لو غمّض عينيه ساعة للموت ولم يكن قتيل نفسه. وذلك أن ابن الأشعث قام في الليل وهو في سطح للبول فزعموا أنه ردّى نفسه. وغير أهل هذا القول يقولون: بل سقط منه بسنة النوم. وقوله:
تورث العلى لرهطك فالمعنى تورث العلى رهطك، وهذه اللام تزاد في المفعول على معنى زيادتها في الإضافة، تقول: هذا ضارب زيدا، وهذا ضارب لزيد، لأنها لا تغيّر معنى الإضافة إذا قلت: هذا ضارب زيد وضارب له. وفي القران: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (2). وكذلك: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيََا تَعْبُرُونَ} (3). ويقول النحويون في قوله تعالى: {قُلْ عَسى ََ أَنْ يَكُونَ رَدِفَ} [4] لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (5). إنما هو ردفكم. والنيب جمع ناب وهي المسنّة من الإبل وتقديرها فعل ساكنة وأبدلت من الضمة كسرة لتصحّ الياء، كما قلت في أبيض بيض، وإنما هو مثل أحمر وحمر، وكذلك أشيب وشيب، فتقدير ناب ونيب إذا جاء على فعل وفعل تقدير أسد وأسد وثن ووثن. وناب تقديرها فعل، وإنما انقلبت الياء ألفا فسكنت، وإنما تنقلب إذا كانت قبلها فتحة وكانت في موضع حركة. والرّوائم قد مضى تفسيرها.
في تصنع العجائز
وأنشدني الزياديّ قال: أنشدني أبو زيد قال: نظر شيخ من الاعراب إلى
__________
(1) يوم العقر: بفتح العين، موضع ببابل كانت به وقعة بين مسلمة بن عبد الملك ويزيد بن المهلب وفيه قتل يزيد.
(2) سورة يونس: الاية 72.
(3) سورة يوسف: الاية 43.
(4) ردف لكم: أي أخذكم العذاب الذي كنتم تستعجلونه من ورائكم.
(5) سورة النمل: الاية 72.(1/256)
امرأته تتصنّع وهي عجوز قال:
عجوز ترجّي أن تكون فتيّة ... وقد لحب الجنبان واحد ودب الظهر
تدسّ إلي العطّار سلعة بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
(قال أبو الحسن: وزادني غير أبي العباس في شعر هذا الأعرابيّ:
وما غرّني إلّا خضاب بكفّها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
وجائرا بها قبل المحاق (1) بليلة ... فكان محاقا كلّه ذلك الشهر)
قال: فقالت له امرأته:
ألم تر أنّ الناب تحلب علبة ... ويترك ثلث لا ضراب ولا ظهر
قال: ثم استغاثت بالنساء، وطلب الرجال فإذا هم خلوف، فاجتمع النساء عليه فضربنه. قوله: قد لحب الجنبان، يقول: قلّ لحمها. يقال: بعير ملحوب وقد لحب مثل عرق. وقوله: تدسّ إلى العطار سلعة بيتها يريد السويق والدقيق وما أشبه ذلك، وكل عرض فالعرب تقول له سلعة. انشدني عمارة بن عقيل شعرا يمدح به خالد بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ ويذمّ تميم بن خزيمة بن حازم النهشليّ:
أأترك إن قلّت دراهم خالد ... زيارته إني إذا للئيم
وقد يسلع المرء اللئيم اصطناعه ... ويعتلّ نقد المرء وهو كريم
(من رفع المرء نصب اصطناعه، ومن نصب المرء رفع اصطناعه، وأما على تفسير أبي العباس فتنصب اصطناعه لا غير)
فتى واسط في ابني نزار محبّب ... إلى ابني نزار في الخطوب (2) عميم
__________
(1) المحاق: اخر الشهر، ثلاث ليال من اخره أو أن يستتر القمر فلا يرى غدوة ولا عشية وتستعمل له هذه اللفظة لأنه يطلع مع الشمس فلا يرى متمحقه، وهنا دليل على موقف الشؤوم الذي يسيطر على العرب في هذا الظرف.
(2) الخطوب: الشدائد.(1/257)
فليت ببرديه لنا كان خالد ... وكان لكرفيّ الثراء تميم
فيصبح فينا سابق متمهّل ... أغرّ وفي بكر أغمّ بهيم
قوله: وقد يسلع المرء اللئيم اصطناعه أي تكثر سلعته لاصطناعه. وقوله:
أغم بهيم فالغمم كثرة شعر الوجه والقفا، قال هدبة بن خشرم العذريّ:
فلا تنكحي أن فرّق الدهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بانزعا
والعرب تكره الغميم. والبهيم الذي لا يحلط لونه غيره من أيّ لون كان.
وقولها ألم تر أن الناب تحلب علبة (1) تقول فيها منفعة على حال، والعلبة إناء لهم من جلود يحلبون فيه. من ذلك قوله:
لم تتقنّع بفضل مئزرها ... دعد ولم تغذ دعد بالعلب
ومن أمثال العرب: قد تحلب الضجور العلبة. يضربون ذلك للرجل البخيل الذي لا يزال يسال منه الشيء القليل. والضجور الناقة السيّئة الخلق إنما تحلب حين تطلع عليها الشمس فتطيب نفسها، والثلث (2) الذي قد انتهى في السنّ من الإبل. وقال اخر:
لم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للرذل (3)
ولم أر عزّا لامرىء كعشيرة ... ولم أر ذلّا مثل نأي عن الأصل
ولم أر من عدم أضرّ على امرىء ... إذا عاش بين الناس من عدم العقل
قال اخر:
لعمري لقوم المرء خير بنيّة ... عليه وإن غالوا به (4) كلّ مركب
__________
(1) علبة: بالضم قدح ضخم من جلود الابل أو من خشب يحلب فيها.
(2) الثلب: بالكسر الجمل تكسرت أنيابه هرما.
(3) الرذل: الدون الخسيس.
(4) غالوا به كل مركب: يريد هنا أنه أبقى عليه من غيرهم وإن جاروا عليه وتجاوز والحسد في الظلم.(1/258)
من الجانب الأقصى (1) وإن كان ذا غنى ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرّب
(وإن خبرتك النفس أنك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فكذّب)
إذا كنت في قوم عدا لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيّب
العدا الغرباء في هذا الموضع. ويقال للأعداء عدا، والعداة الأعداء لا غير. وقال أعرابي من باهلة:
سأعمل نصّ العيس حتى يكفّني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان
فللموت خير من حياة يرى لها ... على المرء ذي العلياء مسّ هوان
متى تتكلّم يلغ حكم مقاله ... وإن لم يقل قالوا: عديم بيان
كأنّ الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطق بلسان
في وصف الفقر والغنى
ونظير هذا الشعر ما حدّثنا به في أمر حارثة بن بدر الغدانيّ، فإنا حدّثنا عن حارثة بن بدر، وكان رجل بني تميم في وقته، وكان قد غلب على زياد وكان الشراب قد غلب عليه فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك وهو مستهتر بالشراب فقال زياد: كيف لي باطّراح رجل هو يسايرني منذ دخلت العراق لم يصكك ركابيّ ركاباه، ولا تقدّمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخّر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ عليّ الشمس في شتاء قطّ ولا لروح (2) في صيف قطّ، ولا سألته عن علم إلا ظننت أنه لم يحسن غيره. فلما مات زياد جفاه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة.
فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة كان قد برع بروعا لا يلحقه معه عيب وأنا حدث وإنما إنتسب إلى من يغلب عليّ وأنت رجل نديم الشراب، فمتى قرّبتك
__________
(1) الجانب الأقصى: مرتبط بقوله خير بقية على أنه المفصل عليه وأراد به من لم يكن من قومه وعشيرته وقوله لم يخبرك مثل مجرب.
(2) الروح: بالفتح نسيم الريح.(1/259)
فظهرت رائحة الشراب منك لم امن أن يظنّ بي فدع النبيذ وكن أوّل داخل عليّ واخر خارج عني، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرّي ونفعي أفأدعه للحال عندك. قال فاختر من عملي ما شئت، قال: تولّيني رام هرمز (1)
فإنها أرض عذاة (2) وسرّق فإن بها شرابا وصف لي فولاه إياهما، فلما خرج شيّعه الناس فقال أنس بن أبي أنيس:
أحار بن (3) بدر قد وليت إمارة ... فكن جرذا (4) فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئا وحدته ... فحظّك من ملك العراقين سرّق
وباه تميما بالغنى أن للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة (5) ينطق
فإن جميع النّاس إمّا مكذّب ... يقول بما يهوى وإما مصدّق
يقولون أقوالا ولا يعلمونها ... ولو قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا
ورثى حارثة بن بدر زيادا وكان زياد مات بالكوفة ودفن بالثويّة فقال:
صلى الإله على قبر وطهّره ... عند الثويّة يسفي فوقه المور (6)
زفّت إليه قريش نعش سيدها ... فثمّ كلّ التقى والبرّ مقبور
أبا المغيرة والدنيا مفجّعة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور (7)
قد كان عندك بالمعروف معرفة ... وكان عندك للنكراء تنكير
وكنت تعشى وتعطى المال من سعة ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجور
الناس بعدك قد خفّت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصير (8)
__________
(1) رام هرمز: بلد بولاية خوزستان من أعمال العراق.
(2) العذاة: بالفتح الأرض الطيبة البيعدة عن الماء.
(3) أحار الهمزة للنداء: وحار مر فم حارث.
(4) الجرذ ضرب من الفار.
(5) الهيوبة من الهيبة وهي المخافة والتعبة والهيوب الجبال الذي يخاف الناس.
(6) المور: بالضم الغبار المتردد في الهواء والذي تثيره الرياح وسفت الريح أتراب أي ذرته وحملته.
(7) النكراء المنكر وهو ضد المعروف والتنكير تغير المنكر كالأنكار.
(8) الأعاصير: الرياح القوية.(1/260)
في رثاء المهلهل أخاه كليبا
ونظير هذا قول مهلهل يرثي أخاه كليبا وكان كليب إذا جلس لم يرفع بحضرته صوت ولم يستبّ بفنائه اثنان:
ذهب الخيار من المعاشر كلّهم ... وأستبّ بعدك يا كليب المجلس
وتقاولوا في أمر كلّ عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا
قول حارثة الثويّة (1) فهي بناحية الكوفة، ومن قال الثويّة، فهو تصغير الثويّة، وكل ياء اتّصلت بها ياء أخرى فوقعت معتلّة صرفا في التصغير فوليتها ياء التصغير فهي محذوفة، وذلك قولك في عطاء عطيّ وكان لأصل عطيّي، كما تقول في سحاب سحيّب ولكنها تحذف لاعتلالها واجتماع ياءين معها، وتقول في تصغير أحوى أحيّ في قول من قال: أسود. أسيد وهو الوجه الجيد لأن الياء الساكنة إذا كانت بعدها واو متحركة قلبتها ياء، كقولك أيّام والأصل أيوام، وكذلك سيد والأصل سيود، ومن قال في تصغير أسود أسيود فهو جائز وليس كالأول، قال في تصغير أحوى أحيو يا فتى فتثبت الياء لأنه ليس فيها ما يمنعها من اجتماع الياات ومن قال أسيود فإنما أظهر الواو لأنها كانت في التكبير متحركة. ولا تقول في عجور إلا عجيّر لأنها ساكنة. وإنما يجوز هذا على بعد إذا كانت الواو في موضع العين من الفعل أو ملحقة بالعين نحو واو جدول وإنما استجازوا إظهارها في التصغير للتشبيه بالجمع، لأن ما جاوز الثلاثة فتصغيره على مثال جمعه، ألا تراهم يقولون في الجمع أساود وجداول فهذا على التشبيه بهذا. فإن كانت الواو في موضع اللام كانت منقلبة على كل حال، تقول في غزوة غزيّة وفي عروة عريّة فهذا شرح صالح في هذا الموضع وهو مستقصى في الكتاب المقتضب. وقوله يسفي فوقه المور، فمعناه أن الريح تسفيه وجعل الفعل للمور وهو التراب. وتقول سقاك الله الغيث ثم
__________
(1) الثوية: بفتح الثاء المثلثة. وهناك من ضمها.(1/261)
يجوز أن تجعل الفعل للغيث فتقول، سقاك الغيث يا فتى وقال علقمة بن عبدة:
سقاك يمان ذو حبي (1) وعارض (2) ... تروح به جنح (3) العشيّ جنوب
في ما تقول العرب زفت أو زففت
وقوله: زفت إليه قريش نعش سيدها. يقال زففت السرير وزففت العروس. وحدثني أبو عثمان المازني قال، حدثني الزّياديّ قال: سمعت قوما من العرب يقولون أزففت العروس وهي لغة. وقوله: نعش سيدها، يريد موضعه من النسب لأنه نسبه إلى أبي سفيان وكان رئيس قريش (4) قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وله يقول صلى الله عليه وسلم: كلّ «الصيد في بطن الفرا» (5). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفرش فراشا في بيته في وقت خلافته فلا يجلس عليه إلا العبّاس بن عبد المطّلب وأبو سفيان بن حرب. ويقول هذا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذا شيخ قريش. وكان حرب بن أميّة رئيس قريش يوم الفجار (6)، فكان ال حرب إذا ركبوا في قومهم من بني أميّة قدّموا في المواكب وأخليت
__________
(1) الحبي: تعني: السحاب يشرف من الأفق على الأرض.
(2) العارض: السحاب المعترض في الأفق.
(3) الجنح: بالكسر ويضم الطائفة من الليل.
(4) وكان رئيس قريش يقصد أبا سفيان.
(5) تالف النبي صلى الله عليه وسلم. أبا سفيان بهذا القول حين استأذن عليه فحجبه قليلا ثم أذن له فلما دخل قال ما كدت تأذن لي حتى تأذن الحجارة الجهتين وهما جانبا الوادي فقال صلى الله عليه وسلم. أنت يا أبا سفيان كما قيل:
«كل الصيد في جوف الفراء معناه إذا حجبتك قنع كل محجوب وهو مثل يضرب لمن يفضل على أقرانه والفرا الحمار الوحشي وجمعه فراء.
(6) يوم الفجار: قالوا أيام الفجار أربعة، الأول بين كنانة وعجز هوزان، الثاني بين قريش وكنانة، والثالث بين كنانة وبني نصر بن معاوية ولم يكن فيه كبير كيد وقتال. والرابع وهو الأكبر بين قريش وهوازن: وكان بين هذا ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ست وعشرون سنة، وقد شهده النبي عليه السلام.(1/262)
لهم صدور المجالس إلا رهط عثمان رضي الله عنه، فإن التقديم لهم في الإسلام بعثمان، وكان أبو سفيان صاحب العير يوم بدر وصاحب الجيش يوم أحد، وفي يوم الخندق، وإليه كانت تنظر قريش في يوم فتح مكة، وجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه من دخل في داره فهو امن في حديث مشهور. وقوله:
كأنما نفخت فيها الأعاصير، هذا مثل، وإنما يراد خفة الحلوم. والإعصار فيما ذكر أبو عبيدة، ريح تهبّ بشدة في ما بين السماء والأرض، ومن أمثال العرب إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا، يضرب للرجل يكون جلدا فيصادف من هو أجلد منه. قال الله عز وجل {فَأَصََابَهََا إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ فَاحْتَرَقَتْ} (1) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلّ الصيد في بطن الفرا، يعني الحمار الوحشيّ، وذلك أن أجلّ شيء يصيده الصائد، الحمار الوحشيّ، فإذا ظفر به فكأنه قد ظفر بجملة الصيد، والعرب تختلف فيه فبعضهم يهمزه فيقول: هذا فرأ كما ترى، وهو الأكثر وبعضهم لا يهمزه، ومن أمثالهم: أنكحنا الفرا فسنرى (2)، أي زوّجنا من لا خير فيه فسنعلم كيف العاقبة، وجمعه في القولين جميعا فراء كما نرى ونظيره: جمل وجمال وجبل وجبال. قال الشاعر:
بضرب كاذان الفراء فضوله ... وطعن كإيزاغ المخاض تبورها
الايزاغ دفع الناقة ببولها، يقال أوزغت به إيزاغا وأزغلت به إزغالا، وذلك حين تلقح فعند ذلك يقال لها خلفة وللجميع المخاض، وقد مر هذا. والبور أن تعرض على الفحل ليعلم أهي حامل أم حائل.
أقوال ضابىء بن الحرث البرجمي وهو في السجن
وقال ضابيء بن الحرث البرجمي (من السجن):
__________
(1) سورة البقرة: الاية 266.
(2) قال رجل لأمرأته حين خطب إليه رجل ابنته، فأبي أن يزوجه منها ورضيت أمها بتزويجها إليه وغلبت الأب حتى زوجها منه بكره وهذا مثل يضرب في التحذير في سوء العاقبة.(1/263)
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فاني وقيّارا (1) بها لغريب
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحا ولا عن ريثهنّ (2) يخيب
وربّ أمور لا تضيرك ضيرة ... والقلب من مخشاتهنّ (3) وجيب
ولا خير فيمن لا يوطّن (4) نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
قوله: فاني وقيارا بها لغريب، أراد فاني لغريب بها وقيارا، ولو رفع لكان جيدا. تقول: ان زيدا منطلق وعمرا وعمر، فمن قال عمرا فانما ردّه على زيد. ومن قال عمرو فله وجهان من الاعراب أحدهما جيد والاخر جائز، فأما الجيد فان تحمل عمرا على الموضع، لأنك إذا قلت أن زيدا منطلق فمعناه زيد منطلق فرددته على الموضع، ومثل هذا لست بقائم ولا قاعدا، والباء زائدة، لأن المعنى لست قائما ولا قاعدا، ويقرأ على وجهين {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (5) ورسوله. والوجه الاخر أن يكون معطوفا على المضمر في الخبر فان قلت أن زيدا منطلق وهو وعمرو حسن العطف لأن المضمر المرفوع انما يحسن العطف عليه اذا أكّدته.
كما قال الله تعالى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقََاتِلََا} (6)، و {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وانما قبح العطف عليه بغير تأكيد لأنه لا يخلو من أن يكون مستكنّا في الفعل بغير علامة، أو في الاسم الذي يجري مجرى الفعل نحو: ان زيدا ذهب وان زيدا ذاهب، فلا علامة له. أو تكون له علامة يتغير لها الفعل عما كان عليه نحو ضربت، سكّنت الباء التي هي لام الفعل من أجل الضمير لأن الفعل والفاعل لا ينفكّ أحدهما من صاحبه، فهما كالشيء الواحد، ولكنّ
__________
(1) قيار كشراء.
(2) الريث: الابطاء.
(3) المخشاه مصدر خش الشيء كرخي إذا خانه ووجب القلب وجيبا رجف واضطرب.
(4) وطن: مهدها وذللها. ومعناه أن الرجل الذي لا يعود نفسه على احتمال المكروه لا خير منه.
(5) سورة التوبة: الاية 3.
(6) سورة المائدة: الاية 24.(1/264)
المنصوب يجوز العطف عليه ويحسن بلا تأكيد لأنه لا يعيّر الفعل إذ كان الفعل قد يقع ولا مفعول فيه، نحو ضربتك وزيدا.
فأما قول الله عز وجل: {لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا} (1) فإنما يحسن بغير توكيد، لأن لا صارت عوضا، والشاعر إذا احتاج أجراه بلا توكيد لاحتمال الشعر ما لا يحسن في الكلام. قال عمر بن أبي ربيعة:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى (2) ... كنعاج (3) الملا (4) تعسّفن (5) رملا
وقال جرير:
ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأب له لينالا
فهذا كثير. فأما النعت اذا قلت أنّ زيدا يقوم العاقل فانت مخير ان شئت قلت العاقل، فجعلته نعتا لزيد أو نصبته على المدح وهو باضمار أعني، وان شئت رفعت على أن تبدله من المضمر في الفعل، وان شئت كان على قطع وابتداء كأنك قلت، إنّ زيدا قام فقيل، من هو؟ فقلت العاقل.
كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكُمُ النََّارُ} (6) أي هو النار، والاية تقرأ على وجهين على ما فسّرنا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلََّامُ الْغُيُوبِ} (7) وعلّام الغيوب. وقوله وما عاجلات الطير تدني من الفتى نجاحا يقول اذا لم تعجل له طير سانحة فليس ذلك بمبعد خيرا عنه، ولا إذا أبطأت خاب، فعاجلها لا يأتيه بخير واجلها لا يدفعه عنه. انما له ما قدّر له.
__________
(1) سورة الأنعام: الاية 148.
(2) تهادى: بحذف إحدى التاءين من المهاداة: وهي أن يمشي الانسان وحده مشيا غير قوي متمايلا.
(3) النعاج جمع نعجة وهي البقرة الوحشية.
(4) الملا: الصحراء.
(5) أن تعسف: أن تسلك الطريق على غير هداية وقصد ولا جادة ولا علم وأنشد هذا شاهدا على أن الاسم الظاهر عطف على الضمير المستتر غير أن يؤكد كذا وكذا البيت الذي بعده.
(6) سورة الحج: الاية 72.
(7) سورة سبأ: الاية 48.(1/265)
والعرب تزجر على السّانح وتتبرّك به وتكره البارح وتتشاءم به. والسانح ما أراك مياسره فأمكن الصائد والبارح ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد الا أن ينحرف له. وقد قال الشاعر:
لا يعلم المرء ليلا ما يصبّحه ... الا كواذب مما يخبر الفال (1)
والفال والزجر والكهّان كلّهم ... مضللّون ودون الغيب أقفال
وقوله:
وربّ أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهنّ وجيب
فان العرب تقول: ضاره يضيره ضيرة ولا ضير عليه وضرّه يضرّه ولا ضرر عليه ويقال: أصابه ضرّ وأصابه ضرّ بمعنى، والضرّ مصدر والضرّ اسم، وقد يكون الضرّ من المرض والضرّ عاما، وهذا معنى حسن. وقد قال أحد المحدثين وهو اسمعيل بن القاسم أبو العتاهية:
وقد يهلك الانسان من باب أمنه ... وينجو بإذن الله من حيث يحذر
وقال الله عز وجل: {فَعَسى ََ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللََّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (2). وقال رجل لمعاوية: والله لقد بايعتك وأنا كاره. فقال معاوية: قد جعل الله في الكره خيرا كثيرا. وقوله:
ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
نظيره قول كثيّر:
أقول لها يا عزّ كلّ مصيبة ... إذا وطنّت يوما لها النفس ذلّت
وكان عبد الملك بن مروان يقول لو كان قال: هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس، وحكى عن بعض الصالحين أنّ ابنا له مات، فلم ير به جزع، فقيل له في ذلك، فقال: هذا أمر كنا نتوقّعه فلما وقع لم ننكره.
__________
(1) الفأل بالهمزة ضد الطيره أو يستعمل في الخير والشر وترك الهمزة.
(2) سورة النساء: الاية 19.(1/266)
27 - باب محاولة البجلي أخذ البيعة لعلي بن أبي طالب من معاوية
قال أبو العباس وجّه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جرير بن عبد الله البجلي (1) الى معاوية رحمه الله يأخذه بالبيعة له، فقال له: أنّ حولي من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ولكني اخترتك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك خير ذي يمن، ائت معاوية فخذه بالبيعة، فقال جرير:
والله يا أمير المؤمنين ما أدّخرك من نصرتي شيئا، وما أطمع لك في معاوية، فقال عليّ رضي الله عنه: انما قصدي حجّة أقيمها عليه، فلما أتاه جرير دافعه (2) معاوية. فقال له جرير: إنّ المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بدّا ولا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بدّا. فقال له معاوية: انها ليست بخدعة الصبيّ عن اللبن، إنه أمر له ما بعده فأبلعني ريقي. فناظر عمرا، فطالت المناظرة بينهما وألحّ عليه جرير. فقال له معاوية: ألقاك بالفصل في أوّل مجلس ان شاء الله تعالى، ثم كتب لعمرو بمصر طعمة وكتب عليه ولا ينقض شرط طاعة. فقال عمرو يا غلام اكتب ولا تنقض طاعة شرطا فلما اجتمع له أمره رفع عقيرته (3) ينشد ليسمع جريرا:
تطاول ليلي واعترتني وساوسي ... لات أتى بالترّهات (4) البسابس
__________
(1) البجلي: نسبة إلى بجيلة، كسفينة حي باليمن من معد على خلاف بين النسايين في ذلك.
(2) دافعة: ماطله، سوفه.
(3) رفع عقيرته: رفع صوته.
(4) الترهات: الأباطيل.(1/267)
أتاني جرير والحوادث جمّة ... بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكابده (1) والسيف بيني وبينه ... ولست لأثواب الدنيّ بلابس
إن الشأم أعطت طاعة يمنية ... تواصفها أشياخها في المجالس
فان يفعلوا أصدم عليّا بجبهة ... تفتّ عليه كلّ رطب ويابس
(الجبهة جماعة الخيل).
واني لأرجو خير ما نال نائل ... وما أنا من ملك العراق بيائس
وكتب معاوية إلى عليّ رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن صخر إلى عليّ بن أبي طالب، أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذّلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع اليهم قتلة عثمان، فان فعلت كانت شورى بين المسلمين ولعمري ما حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة والزبير لأنهما بايعاك ولم أبايعك، وما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام، وأما شرفك في الاسلام وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعك من قريش فلست أدفعه.
ثم كتب اليه في اخر الكتاب بشعر كعب بن جعيل. وهو:
أرى الشام تكره ملك العراق ... وأهل العراق لهم كارهينا
وكلا لصاحبه مبغضا ... يرى كلّ ما كان من ذاك دينا
اذا ما رمونا رميناهم ... ودنّاهم (2) مثل ما يقرضونا (3)
__________
(1) أكابده: أعالجه أتحمله، أتجشمه.
(2) ودنّاهم: أذللناهم.
(3) يقرضونا: أعطونا.(1/268)
فقالوا عليّ أمام لنا ... فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى أن تدينوا له ... فقلنا ألا لا ترى أن ندينا
ومن دون ذلك خرط (1) القتاد ... وضرب وطعن يقرّ العيونا
وأحسن الروايتين يفض الشؤونا، وفي اخر هذا الشعر ذم لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، امسكنا عن ذكره. قوله: ولكنّك أغريت بعثمان المهاجرين فهو من الإغراء وهو التحضيض عليه يقال: أغريته به واسدته عليه، واسدت الكلب على الصيد أوسده إسادا، ومن قال أشليت الكلب في معنى أغريت، فقد أخطأ انما أشليته دعوته اليّ واسدته أغريته. وقول ابن جعيل وأهل العراق لهم كارهينا محمول على أرى، ومن قال وأهل العراق لهم كارهونا، فالرفع من وجهين أحدهما قطع وابتداء، ثم عطف جملة على جملة بالواو ولم يحمله على أرى، ولكن كقولك كان زيد منطلقا وعمرو منطلق الساعة خبّرت بخبر بعد خبر. والوجه الاخر أن تكون الواو وما بعدها حالا فيكون معناها اذ، كما تقول: رأيت زيدا قائما وعمر منطلق تريد إذ عمرو منطلق، وهذه الاية تحمل على هذا المعنى وهو قول الله عز وجل: {يَغْشى ََ طََائِفَةً مِنْكُمْ وَطََائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} (2) والمعنى والله أعلم اذ طائفة في هذه الحال. وكذلك قراءة من قرأ: ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر، أي والبحر هذه حاله. ومن قرأ والبحر فعلى أنّ. وقوله ودنّاهم مثل ما يقرضونا يقول جزيناهم، وقال المفسرون في قوله عز وجل: {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3) قالوا يوم الجزاء والحساب ومن أمثال العرب كما تدين تدان وأنشد أبو عبيدة (الشعر ليزيد بن الصعق الكلابيّ وله خبر):
__________
(1) الخرط: قشر الورق عن الشجرة، والقتاد بالفتح شجر له شوك.
والمقصود من قول الشاعر، إن بيعتنا لعليّ دونها هول عظيم ولا داعي لأن يظن أهل العراق أن الوصول إليها سهل.
(2) سورة المائدة: الاية 154.
(3) سورة الفاتحة: الاية 2.(1/269)
واعلم وأيقن أن ملكك زائل ... واعلم بأنّ كما تدين تدان (1)
وللدين مواضع منها ما ذكرنا ومنها الطاعة ودين الاسلام من ذلك، يقال فلان في دين فلان أي في طاعته، ويقال كانت مكة بلدا لقاحا أي لم يكونوا في دين ملك. وقال زهير:
لئن حللت بجوّ (2) في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك (3)
فهذا يريد في طاعة عمرو بن هند والدين العادة، يقال ما زال هذا ديني ودأبي وعادتي وديدني وإجريّاي. قال المثقّب العبديّ.
تقول اذا أدرت لها وضيني (4) ... أهذا دينه أبدا وديني
أكلّ الدهر حلّ وارتحال ... أما تبقى عليّ وما يقيني
وقال الكميت بن زيد:
على ذاك إجريّاي وهي ضريبتي (5) ... وإن أجلبوا (6) طرّا عليّ وأجلبوا
وقوله: فقلنا رضينا ابن هند رضينا يعني معاوية بن أبي سفيان وأمّه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وقوله: أن تدينوا له، أي تطيعوه وتدخلوا في دينه، أي في طاعته، وقوله: ومن دون ذلك خرط القتاد، فهذا مثل من أمثال العرب، والقتاد شجيرة شاكة غليظة أصول الشوك: فلذلك يضرب خرطه مثلا في الأمر الشديد لأنه غاية الجهد. ومن قال يفضّ الشؤونا،
__________
(1) كما تدين تدان: يريد كما تعمل تجازي على عملك.
(2) الجو ما انخفض من الأرض وهي أربعة عشر موضعا في جزيرة العرب،
(3) وفدك «محركة» بلده بخيبر.
(4) الوضين: بطان عريض منسوج من سيور ولا يكون إلّا من جلد ودرأ الشيء بسطه كأنه يريد أن ناقته تقول هذا القول عند تهيئتها للسفر.
(5) الضريبة: الطبيعة والعادة.
(6) أجلبوا عليه: تجمعوا وتألبوا واحلبوا بالحاء المهملة بمعنى أجلبوا وأصل الاحلاب الأعانة على الحلب يقول أن حب أهل البيت النبوي والتشيع لهم عادتين وطبيعتين. وإن اجتمع عليّ القوم وتألبوا.(1/270)
فيفضّ يفرّق. تقول فضضت عليه المال والشؤون (1): واحدها شأن، وهي مواصل قبائل الرأس وذلك إن للرأس أربع قبائل، أي قطع مشعوب بعضها الى بعض، فموضع شعبها يقال له الشؤون واحدها شأن. وزعم الأصمعي قال. يقال أن مجاري الدموع منها فلذلك يقال: استهلت شؤونه، وأنشد قول أوس بن حجر:
لا تحزنيني بالفراق فانني ... لا تستهلّ من الفراق شؤوني
ومن قال يقر العيونا ففيه قولان أحدهما للأصمعي، وكان يقول: لا يجوز غيره. يقال قرّت عينه وأقرّها الله. وقال انما هو بردت من القرّ وهو خلاف قولهم، سخنت عينه وأسخنها الله. وغيره يقول: قرّت هدأت، وأقرّها الله أهدأها الله وهذا قول حسن جميل والأول أغرب وأطرف.
فكتب اليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جواب هذه الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم، من علي بن أبي طالب الى معاوية بن صخر أما بعد فانه أتاني منك كتاب امريء ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه وقاده فاتّبعه، زعمت أنك انما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ولعمري ما كنت الا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا. وما كان الله ليجمعهم على ضلال ولا ليضربهم بالعمى. وبعد فما أنت وعثمان انما أنت رجل من بني أميّة، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه فان زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل في ما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم اليّ، وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير وأهل الشام وأهل البصرة، فلعمري ما الأمر في ما هناك الا سواء لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار ولا يستأنف فيها النظر، وأما شرفي في الاسلام وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه أدفعته. ثم دعا النجاشيّ أحد بني الحرث بن كعب فقال له: ان ابن جعيل شاعر أهل الشأم، وأنت
__________
(1) الشؤون: الدموع.(1/271)
شاعر أهل العراق فأجب الرجل. فقال: يا أمير المؤمنين أسمعنى قوله قال:
إذا أسمعك شعر شاعر. فقال النجاشي يجيبه:
دعا (1) يا معاوي ما لن يكونا ... فقد حقّق الله ما تحذرونا
أتاكم عليّ بأهل العراق ... وأهل الحجاز فما تصنعونا
وبعد هذا ما نمسك عنه. قوله ليس له بصر يهديه، فمعناه يقوده والهادي هو الذي يتقدم فيدلّ. والحادي الذي يتأخر فيسوق، والعنق يسمّى الهادي لتقدمه. قال الأعشى:
إذا كان هادي الفتى في البلاد ... صدر القناة أطاع الأميرا
يصف أنه قد عمي فانما تهديه عصا ألا تراه يقول:
وهاب العثار إذا ما مشى ... وخال السهولة وعثا (2) وعورا
وقال القطاميّ:
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك الا ضربة الهادي (3)
وقال أيضا:
قرّبن يقصرن من بزل (4) مخيّسه (5) ... ومن عراب (6) بعيدات من الحادي
وقوله: ولا قائد يرشده قد أبان به الأول. وقوله دعاه الهوى، فالهوى من هويت مقصور وتقديره فعل فانقلبت الياء ألفا، فلذلك كان مقصورا، وانما كان كذلك لأنك تقول هوي يهوى كما تقول: فرق يفرق وهو هو، كما تقول هو
__________
(1) دعن: بنون التوكيد المحققة.
(2) الوعث: الطريق الشاق الوعر.
(3) ضربة الهادي: ضرب ذلك مثلا لقصر المسافة بينهم.
(4) البزل: جمع بازل وهي البعير.
(5) المحيّسة: المذللة والمعبدة.
(6) العراب: بكسر العين: الإبل والخيل العربية التي لا هجن فيها.(1/272)
فرق كما ترى وكان المصدر على فعل بمنزلة الفرق والحذر والبطر، لأن الوزن واحد في الفعل واسم الفاعل، فأما الهواء من الجوّ فممدود يدلّك على ذلك جمعه اذا قلت أهوية لأن أفعلة، انما تكون جمع فعال وفعال وفعول وفعيل. كما تقول قذال وأقذلة وحمار وأحمرة فهواء كذلك. والمقصور جمعه أهواء، فاعلم، لأنه على فعل وجمع فعل أفعال، كما تقول جمل وأجمال وقتب وأقتاب.
قال الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ} (1) وقوله: هذا هواء يا فتى في صفة الرجل انما هو ذم، يقول لا قلب له. قال الله عز وجل: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوََاءٌ} (2) أي خالية وقال زهير:
كأنّ الرحل منها فوق صعل (3) ... من الظلمان (4) جؤجؤه هواء
وهذا من هواء الجوّ. قال الهذليّ:
هواء مثل بعلك مستميت ... على ما في وعائك كالخيال
وكل واو مكسورة وقعت أوّلا فهمزها جائز ينشد على ما في إعائك.
ويقال: وسادة وإسادة، ووشاح وإشاح وأما قوله: فما أنت وعثمان، فالرفع فيه الوجه لأنه عطف اسمها ظاهرا على اسم مضمر منفصل، وأجراه مجراه، وليس ههنا فعل فيحمل على المفعول فكأنه قال: فما أنت وما عثمان هذا تقديره في العربية ومعناه لست منه في شيء قد ذكر سيبويه رحمه الله النصب وجوّزه جوازا حسنا وجعله مفعولا معه، وأضمر كان من أجل الاستفهام فتقديره عند ما كنت وفلانا، وهذا الشعر كما أصف لك ينشد:
__________
(1) سورة محمد: الاية 14.
(2) سورة إبراهيم: الاية 43.
(3) الصعل: النعامة، سمي بذلك لصغر رأسه.
(4) الظلمان: جمع ظليم وهو ذكر النعامة.(1/273)
وأنت امرؤ من أهل نجد (1) وأهلنا ... تهام وما النجديّ والمتغوّر
وكذلك قوله (هو زياد الأعجم):
تكلّفني سويق الكرم جرم ... وما جرم وما ذاك السويق
فان كان الأول مضمرا متصلا كان النصب لئلا يحمل ظاهر على مضمر.
تقول: مالك وزيدا؟ وذلك أنه أضمر الفعل فكأنه قال في التقدير:
وملابستك زيدا، وفي النحو تقديره مع زيد وانما صلح الأضمار، لأن المعنى عليه إذا قلت: مالك وزيدا، فانما تنهاه عن ملابسته اذا لم يجز وزيد وأضمرت، لأن حروف الاستفهام للأفعال، فلو كان الفعل ظاهرا لكان على غير اضمار، نحو قولك: ما زلت وعبد الله حتى فعل، لأنه ليس يريد ما زلت وما زال عبد الله ولكنه أراد ما زلت بعبد الله، فكان المفعول مخفوضا بالباء، فلما زال ما يخفضه وصل الفعل اليه فنصبه كما قال تعالى: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} (2) فالواو في معنى مع وليست بخافضة، فكان ما بعدها على الموضع، فعلى هذا ينشد هذا الشعر (هو لمسكين الدارمي).
فمالك والتلدّد (3)» حول نجد ... وقد غصّت تهامة بالرجال
ولو قلت ما شأنك وزيدا، لاختير النصب لأن زيدا لا يلتبس بالشأن لأن المعطوف على الشيء أبدا في مثل حاله. ولو قلت: ما شأنك وشأن زيد لرفعت لأن الشأن يعطف على الشأن وهذه الاية تفسّر على وجهين من الاعراب أحدهما هذا، وهو الأجود فيها. وهو قوله عز وجل: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ} (4) فالمعنى والله أعلم مع شركائكم لأنك تقول. جمعت قومي. وأجمعت أمري. ويجوز أن يكون لما أدخل الشركاء مع الأمر حمله
__________
(1) النجد: إسم لما دون الحجاز. مما يلي العراق.
(2) سورة الأعراف: الاية 155.
(3) التلدد: النظر يمينا وشمالا.
(4) سورة يونس: الاية 71.(1/274)
على مثل لفظه لأن المعنى يرجع الى شيء واحد فيكون كقوله (هو عبد الله بن الزبعري):
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا (1) سيفا ورمحا
وقال اخر: شرّاب البان وتمر وأقط. وهذا بيّن.
ويروي أن عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالدا فقال: يا أخي لقد هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس والله ما هممت اليوم ابن أمير المؤمنين ووليّ عهد المسلمين. فقال: ان خيلي مرّت به فعبث بها وأصغرني. فقال له خالد: أنا أكفيك. فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده. فقال: يا أمير المؤمنين الوليد ابن أمير المؤمنين ووليّ عهد المسلمين، مرّت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها وأصغره وعبد الملك مطرق. فرفع رأسه فقال {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً، وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} (2) فقال خالد: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنََاهََا تَدْمِيراً} (3) فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلّمني، والله لقد دخل عليّ فما أقام لسانه لحنا. فقال له خالد: أفعلى الوليد تعوّل؟ فقال عبد الملك: ان كان الوليد يلحن، فان أخاه سليمان. فقال خالد: وان كان عبد الله يلحن فان أخاه خالد. فقال له الوليد: اسكت يا خالد فو الله ما تعدّ في العير ولا في النفير (4). فقال خالد:
__________
(1) متقلدا سيفا: جاعلا السيف كالقلادة.
(2) سورة النمل: الاية 43.
(3) سورة الإسراء: الاية 16.
(4) أول من قال ذلك أبو سفيان بن حرب لما أقبل من الشام بعير قريش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحين انصرافها من الشام، وندب المسلمين للخروج معه، وأقبل أبو سفيان حتى دنا من المدينة وقد خاف خوفا شديدا، وكان النبي قد بعث الرقباء والعيون فأحس بها أبو سفيان، فضرب وجوه عيره واتجه به وترك بدرا يسارا وقد بعث إلى قريش حين فصل من الشام يخبرهم بما يخافه من رسول الله فأقبلت قريش من مكة، فلما كانوا في الطريق أرسل إليهم أبو سفيان يخبرهم أنه أحرز(1/275)
اسمع يا أمير المؤمنين، ثم أقبل عليه وقال: ويحك فمن العير والنفير غيري! جدّي أبو سفيان صاحب العير وجدّي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت غنيمات وحبيلات والطائف ورحم الله عثمان لقلنا صدقت. أما قوله في العير فهي عير؟ قريش التي أقبل بها أبو سفيان الشأم، فنهد اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وندب اليها المسلمين وقال: لعلّ الله ينفلكموها (1) فكانت وقعة بدر، وساحل أبو سفيان بالعير فكانت الغنيمة ببدر، كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللََّهُ إِحْدَى الطََّائِفَتَيْنِ أَنَّهََا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذََاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}، أي غير الحرب (2) فلما ظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل بدر قال المسلمون انهد بنا يا رسول الله الى الغير. فقال العباس رحمه الله: انما وعدكم الله إحدى الطائفتين. واما النفير فمن نفر من قريش ليدفع عن العير، فجاؤوا فكانت وقعة بدر وكان شيخ القوم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وهو جدّ خالد من قبل جدّته هند أم معاوية بنت عتبة. ومن أمثال العرب:
لست في العير يوم يحدون بالعير ولا في النفير يوم النفير.
ثم انتشر هذا المثل حتى صار يقال لمن لا يصلح لخير ولا لشر ولا يحفل به: لا في العير ولا في النفير. وقوله: غنيمات وحبيلات، يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطرد الحكم بن أبي العاصي بن أميّة وهو جدّ عبد الملك بن مروان لجأ إلى الطائف فكان يرعى غنيمات ويأوي إلى حبيلة وهي الكرمة.
وقوله رحم الله عثمان، أي لردّه إياه، وقولنا أطرده، أي جعله طريدا. وطرده نحّاه كما تقول حمدته أي شكرته وأحمدته أي صادفته محمودا، وكان عثمان رحمه الله استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردّه متى أفضى الأمر إليه روى ذلك الفقهاء.
__________
العير ويأمرهم بالرجوع، فأبت قريش أن ترجع ورجعت بنو زهرة، فصادفهم أبو سفيان منصرفين، فقال يا بني زهرة لا في العبر ولا في النفير ومضت قريش إلى بدر وكان ما كان بها والعير بالكسر القافلة والإبل تحمل الميرة لا واحد لها من لفظها والنفير الجماعة من الناس ينفرون معك ويتقدمون فى الأمر.
(1) من النفل بالتحريك وهو الغنيمة.
(2) سورة الأنفال: الاية 7.(1/276)
28 - باب في مدح رجل من بني أسد
قال أبو العباس: قال رجل من بني أسد بن خزيمة (1) يمدح يحيى بن حيان أخا النخع بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج (2) وهو مالك:
ألا جعل الله اليمانين كلّهم ... فدى لفتى الفتيان يحيى بن حيان
ولولا عريق فيّ من عصبيّة (3) ... لقلت وألفا من معدّ بن عدنان
ولكنّ نفسي لم تطب بعشيرتي ... وطابت له نفسي بأبناء قحطان (4)
وهذا من التعصّب المفرط، وحدثني شيخ من الأزد ثقة عن رجل منهم أنه كان يطوف بالبيت وهو يدعو لأبيه. فقيل له: ألا تدعو لأمّك؟ فقال إنها تميميّة. وسمع رجل يطوف بالبيت وهو يدعو لأمّه ولا يذكر أباه فعوقب، فقال هذه ضعيفة وأبي رجل يحتال لنفسه (5)
وحدثني المازني (6) عمن حدّثه قال: رأيت رجلا يطوف بالبيت وأمّه على
__________
(1) أسد بن خزيمة: أبو قبيلة في مضر.
(2) مذحج: ولد مالك وطيء.
(3) العصبية: المحاماة والمدافعة.
(4) قحطان بن عابر بالموحدة المفتوحة أبو اليمن كلهم.
(5) يحتال لنفسه: يعين أن له قدره على التصرف والسعي.
(6) المازني: هو بكر بن محمد بن بقية المازني، أبو عثمان النحوي. كان إمام عصره في النحو والادب أخذ الأدب عن أبي عبيدة، والأصمعي وأبي زيد الأنصاري وأخذ عنه المبرد. توفي سنة 230هـ أو 249هـ وفيه خلاف.
أنظر: معجم الأدباء 7/ 128107، تاريخ بغداد. 7/ 9493، الوافي بالوفيات 3/ 88، بغية الوعاة 202.(1/277)
عنقه وهو يقول:
أحمل أمّي وهي الحمّاله ... ترضعني الدرّة والعلاله ... ولا يجازي والد فعاله
قوله الدرة فهو اسم ما يدرّ من ثدييها ابتداء كان ذلك أو غير ذلك.
والعلالة لا تكون إلا بعد يقال علّة يعلّه علّا، والاسم العلالة وكلّ شيء كان على فعلت من المدغم فمضارعه إذ كان متعديا إلى مفعول يكون على يفعل نحو ردّه يردّه وشجّه يشجّه وفرّه يفرّه (1). فإذا قلت فرّ يفرّ (2) فإنما ذلك لأنه غير متعدّ إلى مفعول، ولكن تقول فررت الدابة أفرّه وجاء فعل يفعل من المتعدي في ثلاثة أحرف يقال: علّه يعلّه ويعلّه وهرّه يهرّه ويهرّه إذا كرهه، ويقال أحبّه يحبّه وجاء حبّه يحبّه ولا يكون فيه يفعل. قال الشاعر:
لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حبّ بعدا
وقال اخر:
وأقسم لولا تمره ما حببته ... وكان عياض منه أدنى ومشرق
وقرأ أبو رجاء العطارديّ (3): فاتّبعوني يحبّكم الله، ففعل في هذا شيئين أحدهما أنه جاء به من حببت، والاخر أنه أدغم في موضع الجزم وهو مذهب تميم وقيس وأسد، وجماعة من العرب يقولون ردّ يا فتى يدغمون ويحرّكون الدال الثانية لالتقاء الساكنين فيتبعون الضمّة الضمة، ومنهم من يفتح لالتقاء الساكنين فيقول ردّ يا فتى لأن الفتح أخف الحركات، ومنهم من يقول رد يا فتى فيكسر لأن حق التقاء الساكنين الكسر فإذا كان الفعل مكسورا ففيه وجهان. تقول: فرّ يا فتى للاتباع وللأصل في التقاء الساكنين وتفتح لأن الفتح أخف الحركات، وإذا كان مفتوحا فالفتح للاتباع ولأنه أخف الحركات والكسر
__________
(1) وفره يفره: يقال فر الدابة كشف عن أسنانها لينظر ما سنها.
(2) فريفر: فهذا من الفرار بالكسر وهو الروغان والهرب وقوله فإنما ذلك يريد كونه من باب ضرب.
(3) العطاردي: نسبة إلى عطارد وهو رجل من تميم.(1/278)
على أصل التقاء الساكنين نحو عضّ يا فتى وعضّ يا فتى فإذا لقيته ألف ولام فالأجود الكسر من أجل ما بعده وهي لام المعرفة نحو:
فغضّ الطرف إنك من نمير ... (فلا كعبا بلغت ولا كلابا) (1)
ومنهم من يجريه مجرى الأوّل فتقع لام المعرفة بعد انقضاء الحركة في الأول فيقول (هو جرير):
ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيّام
ومن كان من شأنه أن يتبع أو يكسر فعلى ذلك، ومما جاء في القران على لغة من يكسر قوله عز وجل {وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ فَإِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ} (2). وأما أهل الحجاز فيجرونه على القياس الأصليّ فيقولون اردد واغضض. ويقولون افرر من زيد واعضض لما سكن الثاني ظهر التضعيف لأنه لا يلتقي ساكنان وكل ذلك من قولهم، وقول التميميين قياس مطّرد بيّن، وقد شرحناه في الكتاب المقتضب على حقيقة الشرح.
في وصف الصبر
وقال الاخر:
إذا ضيّقت أمرا ضاق جدّا ... وإن هوّنت ما قد عزّ هانا
فلا تهلك لشيء فات بأسا ... فكم أمر تصعّب ثم لانا
سأصبر من رفيقي إن جفاني ... على كلّ الأذى إلا الهوانا
فإنّ المرء يجزع في خلاء ... وإن حضر الجماعة أن يهانا
وقال اخر: أحسبه من لصوص بني سعد. (قال أبو الحسن هو عبيد بن أيّوب العنبريّ، وأنشد هذا الشعر ثعلب):
__________
(1) الشعر لجرير ونمير كزبير أبو قبيلة سميت باسمه وهذا من أقذر الهجاء وأفحشه.
(2) سورة الأنفال: الاية 13.(1/279)
فإني وتركي الإنس (1) من بعد حبّهم ... وصبري عمّن كنت ما إن أزايله (2)
لكا لصقر (3) جلّى بعد ما صاد فتية ... قديرا ومشويّا عبيطا خرادله
أهابوا (4) به فازداد بعدا وصدّه ... عن القرب منهم ضوء برق ووابله
ألم ترني صاحبت صفراء نبعة (5) ... لها ربديّ (6) لم تفلّل معابله
وطال احتضاني السيف حتى كأنما ... يلاط بكشحي جفنه وحمائله
أخو فلوات صاحب الجنّ وانتحى ... عن الإنس حتى قد تقضّت وسائله
له نسب الإنسيّ يعرف نجره ... وللجنّ منه شكله وشمائله
قوله: وصبري عمّن كنت ما إن أزايله: إن زائدة وهي تزاد مغيّرة للاعراب وتزاد توكيدا وهذا موضع ذلك، فالموضع الذي تغيّر فيه الاعراب هو وقوعها بعد ما الحجازية. تقول ما زيد أخاك وما هذا بشرا، فإذا أدخلت إن هذه بطل النصب بدخولها. فقلت: ما إن زيد منطلق. قال الشاعر (هو فروة بن مسيك المراديّ):
وما إن طبنا (7) جبن ولكن ... منايانا (8) ودولة (9) اخرينا
فزعم سيبويه أنها منعت العمل. كما منعت ما إنّ الثقيلة أن تنصب. تقول إن زيدا منطلق فإذا أدخلت ما صارت من حروف الابتداء، ووقع بعدها المبتدأ
__________
(1) الأنس: البشر.
(2) أزايله: أفارقه.
(3) الصقر: كل شيء يصيد من البزاة.
(4) أهابوا به: زجروه ونفروه شبه نفسه وقد ترك من يحبه ولا يصبر على مفارقته بالصقر، ترك ما صاده وقد ظفر به حين ما رأى فتية أهابوا به وزجروه عن صيده.
(5) النبعة: واحده النبعي وهو شجر للقسي وللسهام ينبت في قلة الجيل.
(6) الربدي: محركا: وتر القوس.
(7) الطب: مثلث الطاء الشاق والعادة والجبن ضعفت القلب وهيبة الأمر فلا يقدم عليه
(8) المنايا: جمع منية وهي الموت.
(9) الدولة: بالفتح وهي الانتقال من حال الشدة إلى حال الرخاء يصف قومه بالشجاعة والاقدام وإن كان فيه فناؤهم وحياة قوم اخرين.(1/280)
وخبره والأفعال، نحو إنما زيد أخوك وإنما يخشى الله من عباده العلماء، ولولا ما، لم يقع الفعل بعد إن، لأن إنّ بمنزلة الفعل ولا يلي فعل فعلا لأنه لا يعمل فيه. فأما كان يقوم زيد، وكاد تزيغ قلوب فريق منهم، ففي كان وكاد فاعلان مكنيّان. وما تزاد على ضربين، فأحدهما أن يكون دخولها في الكلام كإلغائها نحو {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (1)، أي فبرحمة. وكذلك: مما خطيئاتهم أغرقوا. وكذلك مثلا: ما بعوضة. وتدخل لتغيير اللفظ، فتوجب في الشيء ما لولا هي لم يقع نحو: ربّما ينطلق زيد، وربّما يودّ الذين كفروا، ولولا ما لم تقع ربّ على الأفعال لأنها من عوامل الأسماء، وكذلك: جئت بعد ما قام زيد. كما قال المرّار (هو المرّار الفقعسيّ!
أعلاقة أمّ (2) الوليّد بعد ما ... أفنان رأسك (كالثغام المخلس) (3)
فلولا ما، لم يقع بعدها إلا اسم واحد وكان مخفوضا بإضافة بعد إليه.
تقول: جئتك بعد زيد. وقوله: كالصقر جلّى تأويل التجلّي أن يكون يحسّ شيئا فيتشوّف إليه، فهذا معنى جلّى. قال العجاج: تجلّي البازي إذا البازي كسر (4) أي نظر. ويقال: تجلّى فلان فلانة تجلّيا واجتلاها اجتلاء أي نظر إليها وتأملها، والأصل واحد. وقوله: قديرا هو ما يطبخ في القدر. يقال: قدير ومقدور كقولك: قتيل ومقتول. وقوله عبيطا خرادله فالعبيط الطريّ. يقال:
لحم عبيط إذا كان طريّا، وكذلك: دم عبيط. ويقال اعتبط فلان بكرته: إذا نحرها شابّة من غير علّة. وكذلك: اعتبط فلان إذا مات شابا. قال أميّة (بن أبي الصلت الصحيح أنه لرجل من الخوارج عن الأصمعي):
من لم يمت عبطة يمت هرما ... للموت كأس فالمرء ذائقها
__________
(1) سورة ال عمران: الاية 159.
(2) العلاقة: بالفتح الهوى والحب وقد علقه وعلق به.
(3) الثغام: نبت على شكل الحلي المخلس: النبات اختلط يابسه برطبه.
(4) كسر الطائر كسرا وكسورا ضم جناحيه بهدف الهبوط.(1/281)
في الكرم
وحدثني الزياديّ ابراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد قال: تحدّث رجل من الأعراب قال: نزلت برجل من طيّىء فنحر لي ناقة فأكلت منها، فلما كان الغد نحر أخرى فقلت: إنّ عندك من اللحم ما يغني ويكفي، فقال: إني والله لا أطعم ضيفي إلا لحما عبيطا، قال: وفعل ذلك في اليوم الثالث وفي كل ذلك اكل شيئا ويأكل الطائيّ أكل جماعة، ثم نؤتى باللبن فأشرب شيئا ويشرب عامّة الوطب (1). فلما كان في اليوم الثالث ارتقبت غفلته فاضطجع فلما امتلأ نوما استقت قطيعا (2) من إبله فأقبلته الفجّ (3) فانتبه واختصر عليّ الطريق حتى وقف لي في مضيق فألقم وتره فوق سهمه ثم نادى بي: لتطب نفسك عنها. قلت: أرني اية. فقال: انظر إلى ذلك الضبّ فإني واضع سهمي في مغرز ذنبه. فرماه فأندر ذنبه (4). فقلت:
زدني. فقال: انظر إلى أعلى فقاره. فرماه فأثبت سهمه في الموضع، ثم قال لي: الثالثة والله في كبدك. قال: فقلت شأنك بإبلك. فقال: كلا حتى تسوقها إلى حيث كانت. قال: فلما انتهيت بها قال: فكّرت فيك فلم أجد لي عندك ترة (5) تطالبني بها، وما أحسب الذي حملك على أخذ إبلي إلا الحاجة.
قال: قلت هو والله ذاك. قال: فاعمد إلى عشرين من خيارها فخذها.
فقلت: إذا والله لا أفعل حتى تسمع مدحك: والله ما رأيت رجلا أكرم ضيافة، ولا أهدى لسبيل، ولا أرمى كفّا، ولا أوسع صدرا، ولا أرغب جوفا (6)، ولا أكرم عفوا منك، قال: فاستحيا فصرف وجهه عني ثم قال:
__________
(1) الوطب: سقاء اللبن.
(2) القطيع: الطائفة من النعم والغنم.
(3) الفج: الطريق الواسع بين جبلين.
(4) فأنذر ذنبه: أي أسقطه.
(5) الترة: طلب المكافأة بجناية جنيت عليك أو عداوة أنيت إليك.
(6) أرغب جوفا من الرغب بالضم طلب الأكل وشدة الشهية.(1/282)
انصرف بالقطيع مباركا لك. فيه قوله: خرادله يعني قطعه. يقال: ضربه ضربا خردله وتأويله قطّعه، كما قال: والضرب يمضي بيننا خرادلا. وقوله: أهابوا به يقول: دعوه يقال: أيّها به وأهاب به أي ناداه. قال القرشيّ:
أهاب بأحزان الفؤاد مهيب ... وماتت نفوس للهوى وقلوب
وقوله: ضوء برق ووابله أراد صدّه عنهم ضوء برق ووابله فأضاف الوابل من المطر إلى البرق وإنما الإضافة إلى الشيء على جهة التضمين، ولا يضاف الشيء إلى الشيء إلا وهو غيره أو بعضه، فالذي هو غيره غلام زيد ودار عمر، والذي هو بعضه: ثوب خزّ وخاتم حديد. وإنما أضاف الوابل إلى البرق وليس هو له كما قلت دار زيد على جهة المجاورة وأنهما راجعان إلى السحابة، وقد يضاف ما كان كذا على السعة، كما قال الشاعر:
حتى أنخت قلوصي (1) في دياركم ... بخير من يحتذي نعلا وحافيها
فأضاف الحافي إلى النعل والتقدير حاف منها. وقوله: ألم ترني صاحبت صفراء نبعة فالنبع خير الشجر للقسيّ، ويقال: أن النبع والشوحط والشريان شجرة واحدة، ولكنها تختلف أسماؤها وتكرم وتحسن بمنابتها، فما كان في قلة الجبل منها فهو النبع، وما كان في سفحه فهو الشوحط، وما كان في الحضيض فهو الشريان. وقوله: لها ربذيّ يريد وترا شديد الحركة عند دفع يقال: رجل ربذ اليد إذا كان يكثر التحريك ليديه والعبث بهما ويوصف به الفرس لكثرة حركة قوائمه. وكان الأصل ربذيّا لأنه ربذ ولكن ما كان من فعل فنسب إليه فتح موضع العين منه استثقالا لاجتماع ياءي النسب وكسرة اللام لأن ياءي النسب تكسران ما تليانه فلم يدعوا مع ذلك العين مكسورة. تقول في النسب إلى النمر بن قاسط: نمريّ وإلى الحبطات (2) حبطيّ وإلى شفرة
__________
(1) القلوص من الإبل: وهنا إستعارة قصد بها إلى الشابّة من النساء الجواري.
(2) الحبطات: أولاد الحارث بن مالك بن عمرو من بني تميم وكان يسمى بالحبط فسمي بنوه الحبطات.(1/283)
وهو الحرث بن تميم بن مرّ شفريّ (1)، وفي النسب إلى عم عمويّ يا فتى.
وقوله: لم تفلّل معابله يريد لم ينكسر حدّها من الفلول. ويروى أن عروة بن الزبير سأل عبد الملك أن يردّ عليه سيف أخيه عبد الله بن الزبير فأخرجه إليه في سيوف منتضاة، فأخذه عروة من بينها. فقال له عبد الملك: بم عرفته؟
فقال: بما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
والمعبلة واحدة المعابل وهي سهم خفيف. قال عنترة:
واخر منهم أجررت (2) رمحي ... وفي البجليّ (3) معبلة وقيع
بإسكان الجيم لا غير (قال أبو الحسن بجيلة قبيلة من بني الهجيم من اليمن).
__________
(1) شقري: كنمري، وهو لقب للحارث بن تميم، أبو قبيلة من ضبة.
(2) أجررت رمحي: طعنته به وتركته فيه يجره.
(3) البجلي: نسبة إلى بجلة والجيم فيها ساكنة وهو أبو حي في العرب والوقيع المضروب بالميقعة أي المطرقة، وهنا وصف لشجاعته إذ يطعن تارة بالرمح ويرمي أخرى بالسهم.(1/284)
29 - باب في تحريض عبد الملك على خالد بن يزيد وحديث خالد عن رملة بنت عبد الله بن جعفر
قال أبو العباس تزوج خالد بن يزيد بن معاوية نساء هنّ شرف من هنّ منه (1)، منهن: أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وامنة بنت سعيد بن العاصي بن أميّة، ورملة بنت الزبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ. ففي ذلك يقول بعض الشعراء يحرّض عليه عبد الملك:
عليك أمير المؤمنين بخالد ... ففي خالد عما تحبّ صدود
إذا ما نظرنا في مناكح خالد ... عرفنا الذي ينوي وأين يريد
فطلّق امنة بنت سعيد فتزوجها الوليد بن عبد الملك ففي ذلك يقول خالد:
فتاة أبوها ذو العصابة وابنه ... وعثمان ما اكفاؤها بكثير
فإن نفتلتها والخلافة تنقلب ... بأكرم علقي (2) منبر وسرير
قوله: أبوها ذو العصابة يعني سعيد بن العاصي بن أميّة وذلك أن قومه يذكرون أنه كان إذا اعتمّ لم يعتمّ قرشيّ إعظاما له. وينشدون:
أبو أحيجة من يعتمّ عمّته ... يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد
ويزعم الزبيريّون أن هذا البيت باطل موضوع. وقوله: فإن نفتلتها يقول
__________
(1) يريد أن أباءهن تشرف بهن لما لهن من العفة والصيانة والحسن والجمال والحسب وعلو النسب.
(2) العلق بالكسر: النفيس من كل شيء.(1/285)
نأخذها فجأة. ومن ذلك قول الشاعر:
من يأمن الأيام بع ... د صبيرة القرشيّ ماتا
سبقت منيّته المشي ... ب وكان ميتته افتلاتا
(صبيرة بالصاد مهملة في الرواية المشهورة بالضاد معجمة رواية عاصم على الشرط وكسر النون لالتقاء الساكنين. ورواية ابن سراج برفع يأمن على الاستفهام). وفي الحديث أنّ رجلا قال: يا رسول الله إن أمّي افتلتت أي ماتت فجاءة. ويروى أن امنة لبثت عند الوليد، فلما هلك عبد الملك سعى بها ساع إلى الوليد. قال أبو العباس: وبلغني أنها سعت بها إحدى ضرّاتها إلى الوليد بأنها لم تبك على عبد الملك كما بكى نظائرها. فقال لها الوليد في ذلك فقالت: صدق القائل أكنت قائلة ماذا أقول: يا ليته كان بقي حتى يقتل أخا لي اخر كعمرو بن سعيد. وفي رملة بنت الزبير. يقول خالد:
تجول خلاخيل (1) النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
فلا تكثروا فيها الملام فإنني ... تخيّرتها منهم زبيريّة قلبا (2)
أحبّ بني العوّام طرّا لحبّها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
وزيد فيها:
فإن تسلمي أسلم وإن تتنصّري ... يعلّق رجال بين أعينهم صلبا
ويروى أن عبد الملك ذكر له هذا البيت فقال له يا خالد أتروي هذا البيت؟ فقال: يا أمير المؤمنين على قائله لعنه الله.
في زواج الحجاج
وذكر العتيبي أن الحجّاج بن يوسف بن الحكم الثقفيّ لما أكره عبد الله ابن جعفر على أن زوّجه ابنته استأجله في نقلها سنة. ففكّر عبد الله بن جعفر
__________
(1) الخلاخيل: مفردها خلخال بالفتح. جولان الخلاخيل هنا كناية يقصد بها الدلالة على الهزال والضعف فالمرأة السمينة لا يجول خلخالها فيها.
(2) قلبأ: بالفتح هنا محض الشيء وخلصه.(1/286)
في الانفكاك منه، فألقي في روعه خالد بن يزيد فكتب اليه يعلمه ذلك، وكان الحجاج تزوّجها بإذن عبد الملك فورد على خالد كتابه ليلا، فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل له: أفي هذا الوقت؟ فقال: انه أمر لا يؤخّر. فأعلم عبد الملك، بذلك فأذن له، فلما دخل عليه قال له عبد الملك: فيم السرى (1) يا أبا هاشم؟ قال: أمر جليل لم امن أن أؤخره فتحدث عليّ حادثة فلا أكون قضيت حق بيعتك. قال: وما هو؟ قال: أتعلم انه ما كان بين حيّين من العداوة والبغضاء ما كان بين ال الزبير وال أبي سفيان. قال: لا. قال:
فانّ تزويجي الى ال الزبير حلّل ما كان لهم في قلبي، فما أهل بيت أحبّ إليّ منهم قال: فان ذلك ليكون. قال: فكيف أذنت للحجاج أن يتزوج في بني هاشم، وأنت تعلم ما يقولون ويقال فيهم، والحجّاج من سلطانك بحيث علمت. قال: فجزّاه خيرا وكتب الى الحجاج بعزمه أن يطلقها، فطلقها فغدا الناس عليه يعزّونه عنها فكان فيمن أتاه عمرو بن عتبة بن أبي سفيان فأوقع الحجّاج بخالد فقال: كان الأمر لابائه فعجز عنه حتى انتزع منه فقال له عمرو ابن عتبة: لا تقل ذا أيها الأمير فان لخالد قديما سبق اليه وحديثا لم يغلب عليه، ولو طلب الأمر لطلبه بحذر جدّ ولكنه علم علما فسلمّ العلم الى أهله.
فقال الحجاج: يا ال أبي سفيان أنتم تحبون أن تحلموا ولا يكون الحلم إلا عن غضب فنحن نغضبكم في العاجل ابتغاء مرضاتكم في الاجل. ثم قال الحجّاج: والله لأتزوّجنّ من هو امسّ به رحما (2) ثم لا يمكنه فيه شيء. فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد. أما قوله: ألقي في روعه (3)، فان العرب تقول: ألقي في روعي وفي قلبي وفي جحيفي (4) وفي تاموري كذا وكذا ومعناه كله واحد، الا أنّ لهذه الأشياء مواضع مختصة. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ روح القدس نفث في روعي. فالروع والجحيف غير
__________
(1) السرى: المشي ليلا.
(2) يقال فيهم رحم ماسة أي قرابة.
(3) الروع: بالضم القلب أو موضع الفزع منه.
(4) الجحيف بالجيم والخاء وهو كأمير النفس والروع.(1/287)
مختلفين. والعرب تقول: أذهب الله قلبه ولا قلب له، ولا تقول: لا روع له فكأنّ الروع هو متصل بالقلب، وعنه يكون الفهم خاصة. ويقال، رأيت قلب الطائر، ولا يقال: رأيت روع الطائر. والتامور عند العرب بقية النفس عند الموت وبعضهم يفصح عنه فيجعله دم القلب الذي يبقي للانسان ما بقي.
يقال: ضعه في تامورك وفي قلبك وفي روعك وفي جحيفك، والذماء ممدود مثل التامور سواء. تقول العرب: ليس في الحيوان أطول ذماء من الضبّ، وذلك أنه يذبح ثم يطرح في النار بعد أن ظنّ أنه قد برد (1) فربما سعى من النار.
في الوعظ
وقال رجل لابراهيم بن أدهم: عظني. فقال: اتّخذ الله صاحبا، وذر الناس جانبا. وقال سعيد بن المسيّب (2): كنت بين القبر والمنبر مفكّرا، فسمعت قائلا يقول ولم أره: اللهم اني أسألك عملا بارّا ورزقا دارّا وعيشا فارّا. قال سعد: فلزمتهنّ فلم أر إلا خيرا. وقال الأصمعيّ: كان من دعاء أبي المحبب:
اللهم اجعل خير عملي ما قارب أجلي. قال: وكان يقول في دعائه: اللهم لا تكلنا الى أنفسنا فنعجز ولا الى الناس فنضيع. قال: وحدثني أبو عثمان المازنيّ قال: حدثني أبو زيد قال: وقف علينا أعرابي في حلقة (3) يونس النحوي فقال: الحمد لله كما هو أهله وأعوذ بالله أن أذكّر به، وأنشاه خرجنا من المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا ممن أخرجته الحاجة وحمل على المكروه لا يمرّضون مريضهم، ولا يدفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزل الى منزل، وان كرهوه، والله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق، ولقد مشيت حتى انتعلت الدم وحتى خرج من قدميّ بخص ولحم كثير، أفلا رجل يرحم ابن سبيل وفلّ طريق ونضو (4) سفر فانه لا قليل من الأجر ولا غنى
__________
(1) برد: مات.
(2) ابن المسيب بكسر الياء الشديدة وتفتح وهو الشائع عند المحدثني وأراد بالقبر والمنبر قبره ومنبره عليه الصلاة والسلام.
(3) حلته: بالسكون القوم الذين يجتمعون مستديرين وتكثر في مجالس العلم في المساجد خاصة.
(4) النضو بالكسر ومعناه الهزيل.(1/288)
عن ثواب الله عزّ وجل، ولا عمل بعد الموت وهو الذي يقول جلّ ثناؤه:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ لَهُ} (1) مليّ وفيّ ماجد واجد جواد لا يستقرض من عوز ولكنه يبلو الأخيار قال: فبلغني أنه لم يبرح حتى أخذ ستين دينارا. قوله: بخص يريد اللحم الذي يركب القدم هذا قول الأصمعي، وقال غيره: هو لحم يخلطه بياض من فساد يحلّ فيه. ويقال: بخصت ويقال:
بخصت عينه بالصاد ولا يجوز الا ذلك. ويقال: بخسته حقّه بالسين إذا ظلمته ونقصته كما قال الله عزّ وجل: {وَلََا تَبْخَسُوا النََّاسَ أَشْيََاءَهُمْ} (2). وفي المثل.
تحسبها حمقاء وهي باخس ويدلّ على انه اللحم الذي قد خالطه الفساد قول الراجز (قال أبو الحسن عليّ بن سليمان الأخفش: الراجز هو أبو شراعة):
يا قدميّ لا أرى لي مخلصا ... مما أراه أو تعودا بخصا
وقوله: فلّ فالفلّ في أكثر كلامهم المنهزم الذاهب.
في خديعة الحجاج بن علاط السلمي
وفي خبر كعب بن معدان الأشعري (الاشقريّ بالقاف لا غير أنا اثرنا الحدّ على الفلّ يعني مجاهدتهم عبد ربّه الصغير لأنه كان مقبلا على حربهم وتركهم فطريّا لأنه كان منهزما وفي حديث الحجاج بن علاط السلميّ، وكان قد أسلم ولم تعلم قريش باسلامه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر في أن يصير الى مكة فيأخذ ما كان له من مال، وكانت له هناك أموال متفرقة وهو رجل غريب بينهم، انما هو أحد بني سليم بن منصور، ثم أحد بني بهز، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اني احتاج ان أقول. قال: فقل.
قال أبو العباس: وهذا كلام حسن ومعنى حسن يقول: أقول على جهة الاحتيال غير الحقّ. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من باب الحيلة وليس هو من باب الفساد، وأكثر ما يقال في هذا المعنى تقوّل كما قال الله عزّ وجل أم يقولون تقوّله فصار الى مكة، فقالت قريش: هذا لعمر الله عنده الخبر قال:
__________
(1) سورة البقرة: الاية 245.
(2) سورة الشعراء: الاية 183.(1/289)
فقولوا. فقالوا: بلغنا أن القاطع قد خرج الى أهل خيبر: فقال الحجاج: نعم فقتلوا أصحابه قتلا لم يسمع بمثله وأخذوه أسيرا وقالوا: نرى أن نكارم به قريشا فندفعه اليهم فلا تزال لنا هذه اليد في رقابهم وإنما بادرت لجمع مالي لعلي أصيب به فلّ محمد وأصحابه قبل أن يسبقني اليه التجار ويتصل بهم الحديث، قال: فاجتهدوا في أن جمعوا اليّ مالي أسرع جمع وسرّ أكثر السرور وقالوا: بلا رغم. وأتاني العباس وهو كالمرأة الواله فقال: ويحك يا حجاج ما تقول؟ قال: فقلت: أكاتم أنت عليّ خبري. فقال: اي والله. قال:
فقلت فالبث عليّ شيئا حتى يخفّ موضعي قال: فسرت اليه فقلت: الخبر والله على خلاف ما قلت لهم خلّفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فتح خيبر وخلّفته والله معرسا (1) بابنة ملكهم وما جئتك إلا مسلما فاطو الخبر ثلاثا حتى اعجز القوم ثم أشعه فانه والله الحق. فقال العباس: ويحك أحقّ ما تقول. قلت:
اي والله. قال: فلما كان بعد ثلاثة، تخلّق (2) العباس وأخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت. قال: فقالت قريش: يا أبا الفضل هذا والله التجلّد لحر المصيبة.
فقال: كلا ومن حلفتم به لقد فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرس بابنة ملكهم.
فقالوا: من أتاك بهذا الحديث؟ فقال: الذي أتاكم بخلافه ولقد جاءنا مسلما ثم أتت الأخبار من النواحي بذلك. فقالوا: أفلسنا الخبيث أولى له. واصل الفلّ مأخوذ من فللت الحديدة اذا كسرت، حدها والنضو البالي المجهود.
ويقال: ناقة نضو اذا جهدها السير وجمعه انضاء، وفلان نضو من المرض.
وقوله: لا يستقرض من عوز فالعوز (3) تعذّر المطلوب. يقال: اعوز فلان فهو معوز اذا لم يجد، والمعاوز في غير هذا الموضع الثياب التي تبذل ليصان بها غيرها. وقوله: ولكن ليبلو الأخيار (4). يقال: الله يبلوهم ويبتليهم ويختبرهم في
__________
(1) معرسا: يقول أعرس الرجل إذا أدخل بأمرأته وبني عليها فهو معرس ولا يقال عرّس بالتشديد وأراد بأبنة ملكهم صفية بنت حي بن أخطب وكانت ممن أصطفاه النبي صلى الله عليه وسلم في غنيمة خيبر.
(2) تخلق: أي تطيب.
(3) العوز: الحاجة وسوء الحال.
(4) ليبلو الأخبار والأحوال: التي يخبر عنها أو هي بواطن الأمور وتقول بلوت فلانا إذا أختبرته بخير أو شر.(1/290)
معنى، وتأويله يمتحنهم وهو العالم عزّ وجل بما يكون كعلمه بما كان. قال الله جل ثناؤه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: رأيت أبا فرعون العدويّ ومعه ابنتاه وهو في سكة العطّارين بالبصرة يقول:
بنيّتيّ صابرا أباكما ... انّكما بعين من يراكما
الله ربّي سيّدي مولاكما ... ولو يشاء عنهم اغناكما
وكان أبو فرعون وهو من بني عديّ الرباب بن عبد مناة بن ادّ، وقال اليزيدي: هو مولاهم، وكان فصيحا. وقدم قوم من الأعراب البصرة من أهله فقيل له: تعرّض لمعروفهم، فقال:
ولست بسائل الأعراب شيئا ... حمدت الله اذ لم يأكلوني
في الفقر
وروى الأسدي أنه افتقر رجل من الصيارفة بالحاح الناس في أخذ أموالهم التي كانت لديه، وتعذّر امواله التي كانت له عند الناس، فسأل جماعة من الجيران أن يسيروا معه الى رجل من قريش كان موسرا من أولاد اجوادهم ليسدّ من خلّته، فساروا اليه فجلسوا في الصحن، فخرج اليهم يخطر بقضيب في يده حتى ثنى وسادة فجلس عليها، فذكروا حاجتهم وخلة صاحبهم مع قديم نعمته وقريب جواره، فخطر بالقضيب، ثم قال متمثّلا الشعر لنصيب وقيل لكثيّر والأول أثبت:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة (2) تقوى أو صديق توامقه
بخلت وبعض البخل حزم وقوّة ... فلم يفتلذك المال إلا حقائقه (3)
__________
(1) سورة الملك: الاية 67.
(2) الضيعة: الاحسان والمعروف.
(3) حقائق: جمع حقيقة وهي ما يجب عليك أن تحميه وما يلزمك حفظه ومنعه، يريد إذا كان صنيع(1/291)
ثم أقبل على القوم فقال: إنا والله ما نجمد عن الحق ولا تتدفّق في الباطل، وإنّ لنا لحقوقا تشغل فضول أموالنا، وما كلّ من أفلس من الصيارفة احتلنا لجبره، قوموا رحمكم الله. قال: فابتدر القوم الأبواب. قوله: فلم يفتلذك المال يقول: لم يقتطع منك. يقال: فلذ له من العطاء أي قطع له.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، حين قال الغلامان في القوم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأميّة بن خلف، وفلان وفلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه مكة ألقت اليكم أفلاذ كبدها. وقال أبو قحافة أعشى باهلة، يعني المنتشر بن وهب الباهليّ:
تكفيه فلذة كبد إن ألمّ بها ... من الشّواء ويكفي شربه الغمر (1)
في الظلم
قال عبد الله بن عمير: استعمل عتبة بن أبي سفيان رجلا من اله على الطائف فظلم رجلا من أزد شنوءة، فأتى الأزديّ عتبة فمثل بين يديه، فقال:
أمرت من كان مظلوما ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم
ثم ذكر ظلامته، فقال له عتبة: إني أراك أعرابيا جافيا، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلة. فقال: أرأيت إن أنبأتك ذلك، أتجعل لي عليك مسئلة؟ قال: نعم. فقال الأعرابي:
إنّ الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهنّ أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيّع فقال: صدقت فاسأل. فقال: كم فقار ظهرك؟ فقال: لا أدري. فقال:
أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ قال: ردّوا عليه غنيمته.
__________
الخير وصديقك الذي تتودد إليه لم يوجب عليك في مالك عطاء بسبب البخل، وما كل البخل مذموم ولا يقطع المال منك إلّا ما يجب عليك، وهنا يقصد منع المال عن مثل هذا لا يوجب بخلا مذموما يهجي به.
(1) الغمر: قدح صغير.(1/292)
قوله: فقار انما هو جمع فقارة، ويقال: فقرة فمن قال في الواحد فقرة قال في الجميع فقر، كقولك: كسرة وكسر. ومن قال للواحد فقارة قال للجميع فقار، كقولك: دجاجة ودجاج وحمامة وحمام. وشهد أعرابي عند معاوية بشيء كرهه. فقال له معاوية: كذبت. فقال الأعرابي: الكاذب والله متزمّل في ثيابك. فقال معاوية وتبسّم: هذا جزاء من عجل. قال أبو العباس: قرأت على عبد الله بن محمد المعروف بالتوّزيّ عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى التيميّ قال: كانت السواقط ترد اليمامة في الأشهر الحرم لطلب التمر فإن وافقت ذلك وإلا أقامت بالبلد الى أوانه، ثم تخرج منه في شهر حرام، فكان الرجل منهم اذا قدم يأتي رجلا من بني حنيفة، وهم أهل اليمامة، أعني بني حنيفة ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن أسد بن ربيعة بن نزار فيكتب له على سهم أو غيره فلان جار فلان، والسواقط من ورد اليمامة من غير أهلها، وقد كان النعمان بن المنذر أراد أن يجليهم منها فأجراهم مرارة بن سلميّ الحنفيّ، ثم أحد بني ثعلبة بن الدول بن حنيفة فسوّغه الملك ذلك، فقال أوس بن حجر يحضّ النعمان عليه:
زعم ابن سلميّ مرارة أنه ... مولى السواقط دون ال المنذر
منع اليمامة حزنها وسهولها ... من كل ذي تاج كريم المفخر
السواقط عند العرب
وذكر أبو عبيدة أن رجلا من السواقط من بني أبي بكر بن كلاب قدم اليمامة ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلميّ أنه له جار. وكان أخو هذا الكلابيّ جميلا فقال له قرين أخو عمير: لا تردنّ أبياتنا بأخيك هذا. فراه بعد بين أبياتهم فقتله. قال أبو عبيدة: وأما المولى فذكر أن قرينا أخا عمير كان يتحدث الى امرأة أخي الكربي، فعثر عليه زوجها فخافه قرين عليها فقتله وكان عمير غائبا، فأتى الكلابيّ قبر سلميّ أبي عمير وقرين فاستجار به وقال: (قال
أبو الحسن الأخفش: قال أبو العباس: قرين ووجدته بخط ماذ صاحب أبي عبيدة قرين):(1/293)
وذكر أبو عبيدة أن رجلا من السواقط من بني أبي بكر بن كلاب قدم اليمامة ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلميّ أنه له جار. وكان أخو هذا الكلابيّ جميلا فقال له قرين أخو عمير: لا تردنّ أبياتنا بأخيك هذا. فراه بعد بين أبياتهم فقتله. قال أبو عبيدة: وأما المولى فذكر أن قرينا أخا عمير كان يتحدث الى امرأة أخي الكربي، فعثر عليه زوجها فخافه قرين عليها فقتله وكان عمير غائبا، فأتى الكلابيّ قبر سلميّ أبي عمير وقرين فاستجار به وقال: (قال
أبو الحسن الأخفش: قال أبو العباس: قرين ووجدته بخط ماذ صاحب أبي عبيدة قرين):
وإذا استجرت من اليمامة فاستجر ... زيد بن يربوع وال مجمّع
وأتيت سليما فعذت بقبره ... وأخو الزمانة (1) عائذ (2) بالأمنع
أقرين إنّك لو رأيت فوارسي ... بعمايتين (3) إلى جوانب ضلفع (4)
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغلّ الإصبع
فلجأ قرين الى قتادة بن مسلمة بن عبيد بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة فحمل قتادة الى الكلابي ديات مضاعفة، وفعلت وجوه بني حنيفة مثل ذلك، فأبى الكلابيّ أن يقبل، فلما قدم عمير قالت له أمه، وهي أم قرين: لا تقتل أخاك وسق الى الكلابي جميع ماله. فأبى الكلابيّ أن يقبل وقد لجأ قرين الى خاله السمين بن عبد الله فلم يمنع عميرا منه، فأخذه عمير، فمضى به حتى قطع الوادي فربطه الى نخلة. وقال للكلابي: أما إذا أبيت إلا قتله فأمهل حتى أقطع الوادي وارتحل عن جواري فلا خير لك فيه. فقتله الكلابي. ففي ذلك يقول عمير:
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره
وقالت أم عمير:
تعدّ معاذرا لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما
قوله: ولم تكن للغدر خائنة ولم يقل خائنا، فإنما وضع هذا في موضع المصدر والتقدير ولم تكن ذا خيانة. وقوله: للغدر أي من أجل الغدر. وقال
__________
(1) الزمانة: بالفتح المرض بدوم زمانا طويلا هذا أصله وأراد بها هنا الضعف وعدم القدرة على منع نفسه فمن يريده بالأذى.
(2) العائذ: الذي يعتصم بغيره.
(3) عماية بالفتح: جبل وقد ثناه الشاعر.
(4) ضلفع: موضع.(1/294)
المفسّرون والنحويون في قوله الله عزّ وجل {إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (1) أي لشديد من أجل حب الخير، والخير ههنا المال من قوله تعالى: إن ترك خيرا الوصيّة. وقوله: لشديد أي لبخيل والتقدير والله أعلم انه لبخيل من أجل حبه للمال، تقول العرب: فلان شديد ومتشدّد أي بخيل. قال طرفة:
أرى الموت يعتام (2) الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد
وقلمّا يجيء المصدر على فاعل فما جاء على وزن فاعل، قولهم: عوفي عافية وفلج فلجا، (3) وقم قائما أي قم قياما، وكما قال: ولا خارجا من فيّ زور كلام، أي ولا يخرج خروجا وقد مضى تفسير هذا. والمغلّ الذي عنده غلول وهو ما يحتان ويحتجن ويستعمل مستعارا في غير المال. يقال: غلّ يغل كقول الله عزّ وجل {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمََا غَلَّ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} [4] ويقال: أغلّ فهو مغلّ إذا صودف يغلّ أو نسب اليه، ومن قرأ: وما كان لنبي أن يغلّ، فتأويله أن يأخد ويستأثر. ومن قرأ: يغلّ فتأويله على ضربين يكون أن يقال ذلك فيه، ويكون وهو الذي نختار أن يخوّن، فان قال قائل: كيف يكون التقدير وقد قال: ما كان لنبي أن يغلّ فيغلّ لغيره، وانت لا تقول: ما كان لزيد أن يقوم عمرو فالجواب انه في التقدير على معنى ما ينبغي لنبيّ أن يخوّن، كما قال وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، ولو قلت: ما كان لزيد أن يقوم عمر اليه لكان جيّدا للراجع اليه، وكان جيدا على تقديرك ما كان زيد ليقوم عمرو اليه كما قلنا في الاية. والإصبع أفصح ما يقال. وقد يقال: أصبع وإصبع وأصبع وموضعها ههنا موضع اليد. يقال: لفلان عليك يد ولفلان عليك إصبع وكلّ جيّد وانما يعني ههنا النعمة. وأما قوله: قتلنا أخانا للوفاء
__________
(1) سورة العاديات: الاية 8.
(2) يعتام: ياخذهم من القيمة بالكسر وهي خيار المال.
(3) الفالج: استرخاء لأحد شقي البدن.
(4) سورة ال عمران: الاية 161.(1/295)
بجارنا، فيكون على ضربين أحدهما أن يكون فخّم نفسه وعظمها فذكرها باللفظ الذي يذكر الجميع به، والعرب تفعل هذا ويعدّ كبرا ولا ينبغي على حكم الاسلام أن يكون هذا مستعملا الا عن الله عزّ وجل لأنه ذو الكبرياء، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) وإنا أوحينا إليك وكل صفات الله أعلى الصفات وأجلّها فما استعمل في المخلوقين على تلك الألفاظ وان خالفت في الحكم فحسن جميل كقولك: فلان عالم وفلان قادر وفلان رحيم وفلان ودود الا ما وصفنا قبل من ذكر التكبّر، فإنك اذا قلت فلان جبّار أو متكبر كان عليه عيبا ونقصا وذلك لمخالفة هاتين الصفتين الحق وبعدهما من الصواب، لأنهما للمبديء المعيد الخالق الباريء، ولا يليق ذلك بمن تكسره الجوعة، وتطغيه الشبعة، وتنقصه اللحظة وهو في كل أموره مدبر.
وأما القول الاخر في البيت وهو قتلنا أخانا فمعناه أنه له ولمن شايعه من عشيرته. وأما قولها: ومن يقتل أخاه فقد ألا ما تقول: أتى ما يلام عليه، يقال:
ألام الرجل إذا تعرّض لأن يلام.
__________
(1) سورة القدر: الاية 1.(1/296)
30 - باب في ما أنشد السعدي
قال أبو العباس: أنشدني السعديّ أبو محلّم:
إنّا سألنا قومنا فخيارهم ... من كان أفضلهم أبوه الأوّل
أعطي الذي أعطى أبوه قبله ... وتبخّلت أبناء من يتبخّل
وأنشدني أيضا:
لطلحة بن حبيب حين تسأله ... أندى وأكرم من فند بن هطال
وبيت طلحة في عزّ ومكرمة ... وبيت فند إلى ربق (1) وأجمال (2)
ألا فتى من بني ذبيان يحملني ... وليس يحملني إلا ابن حمّال
فقلت طلحة أولى من عمدت له ... وجئت أمشي إليه مشي مختال (3)
مستيقنا أنّ حبلي سوف يعلقه ... في رأس ذيّالة أو رأس ذيّال
قوله: إلى ربق وإجمال، إنما أراد جمع جمل على القياس كما تقول في جمع باب فعل: جمل واجمال وصنم وأصنام. وقوله: ألا فتى من بني ذبيان يحملني يعني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن (4)
عيلان بن مضر. وأنشد بعضهم: وليس حاملني إلا ابن حمّال، وهذا لا يجوز في الكلام لأنه إذا نوّن الاسم لم يتصل به المضمر، لأن المضمر لا يقوم
__________
(1) الربق: بالكسر حبل فيه عدة عرى يشد به الجمل.
(2) الأجمال: جمع جمل.
(3) المختال في الخيال وهي الكبر والعجب.
(4) الأصح قيس عيلان.(1/297)
بنفسه فإنما يقع معاقبا للتنوين. تقول: هذا ضارب زيدا غدا، وهذا ضاربك غدا، ولا يقع التنوين ههنا، لأنه لو وقع لا نفصل المضمر وعلى هذا قول الله تعالى: {إِنََّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} (1) وقد روى سيوبه ببيتين محمولين على الضرورة وكلاهما مصنوع وليس أحد من النحويين المفتّشين يجيز مثل هذا في الضرورة لما ذكرت من انفصال الكناية. والبيتان اللذان رواهما سيبويه:
هم القائلون الخير والامرونه ... إذا ما خشوا يوما من الأمر معظما (2)
وأنشد:
ولم يرتفق (3) والناس محتضرونه ... جميعا وأيدي المعنفين (4) رواهقه (5)
وإنما جاز أن تبيّن الحركة إذا وقفت في نون الأثنين والجميع لأنه لا يلتبس بالمضمر. تقول: هما رحلانه وهم ضاربونه إذا وقفت لأنه لا يلتبس بالمضمر إذ كان لا يقع هذا الموقع، ولا يجوز أن تقول: ضربته وأنت تريد ضربت والهاء لبيان الحركة، لأن المفعول يقع في هذا الموضع فيكون لبسا.
فأما قولهم: إرمه واغزه، فتلحق الهاء لبيان الحركة، فإنما جاز ذلك لما حذفت من أصل الفعل ولا يكون في غير المحذوف. وقوله: في رأس ذيالة، يعني فرسا انثى أو حصانا. والذيّال الطويل الذنب، وإنما يحمد منه طول شعر الذنب وقصر العسيب، وأما الطويل العسيب فمذموم. ويقال ذلك للثور أيضا أعني ذيالا. قال امرؤ القيس:
فجال الصوار واتّقين بقرهب ... طويل القرا والروق أخنس ذيّال (6)
__________
(1) سورة العنكبوت: الاية 33.
(2) المعظم: النازلة الشديدة.
(3) يرتفق: يتكيء على مرفق يده.
(4) المعنفين: طالبي فضل ورزق.
(5) الرواهق: التملي بالرفق.
(6) الصوار: ذكر بقر الوحش، والقرهب الثور الضخم، القرا: الظهر، الروق القرن، أخنس:
قصير الأنف.(1/298)
ويقال أيضا للرجل ذيّال إذا كان يجرّ ذيله إختيالا. ويقال له: فضفاض في ذلك المعنى.
في حديث عمر بن عبد العزيز لمؤدبه
ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمؤدّبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدّبني؟ فقال: احسن طاعة قال فأطعني الان كما كنت أطيعك إذ ذاك، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن ثوبك حتى تبدو عقباك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل الإزار في النار. وقال اخر:
ما لدد ما لدد ماله ... يبكي وقد أنعمت ما باله
ما لي اراه مطرقا ساميا ... ذا سنة يوعد أخواله
وذاك منه خلق عادة ... ان يفعل الأمر الذي قاله
إنّ ابن بيضاء وترك الندى ... كالعبد إذ قيّد أجماله
اليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنّوا المرء وسرباله
والدرع لا أبغي بها نثرة ... كلّ امرء مستودع ماله
والرمح لا املأ كفي به ... واللبد لا أتبع تزواله
قوله: ما لدد يعني رجلا، ودد في الأصل هو اللهو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لست من دد ولا دد منّي. وقد يكون في غير هذا الموضع مأخوذا من العادة.
وهذه اللام الخافضة تكون مكسورة مع الظاهر ومفتوحة مع المضمر، والفتح أصلها ولكن كسرت مع الظاهر خوف اللبس بلام الخبر. تقول: إن هذا لزيد فيعلم أنه شيء في ملك زيد. فإن قلت إن هذا لزيد في الوقف علم قبل الأدراج أنه زيد، ولو فتحت المكسورة لم يعلم الملك من المعنى الاخر في الوقف، وأما المضمر فبيّن فيه لأن علامة المخفوض غير علامة المرفوع.
تقول: إن هذا لك وإنّ هذا لأنت. وقوله: وقد انعمت ما باله فما زائدة والبال ههنا الحال، والبال موضع اخر وحقيقته الفكر. تقول: ما خطر هذا على بالي. وقوله: مطرقا ساميا فالسامي الرافع رأسه. يقال: سما يسمو إذا ارتفع،
والمطرق الساكت المفكّر المنكّس رأسه فإنما أراد ساميا بنفسه. وقوله: ذا سنة يقول: كأنه لطول إطراقه في نعسة. وقوله: كالعبد إذ قيّد أجماله يريد أنه غير مكترث لاكتساب المجد والفضل، وذلك أن العبد الراعي إذا قيّد أجماله لفّ رأسه ونام حجرة. وهذا شبيه بقوله: واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي. وقوله:(1/299)
تقول: إن هذا لك وإنّ هذا لأنت. وقوله: وقد انعمت ما باله فما زائدة والبال ههنا الحال، والبال موضع اخر وحقيقته الفكر. تقول: ما خطر هذا على بالي. وقوله: مطرقا ساميا فالسامي الرافع رأسه. يقال: سما يسمو إذا ارتفع،
والمطرق الساكت المفكّر المنكّس رأسه فإنما أراد ساميا بنفسه. وقوله: ذا سنة يقول: كأنه لطول إطراقه في نعسة. وقوله: كالعبد إذ قيّد أجماله يريد أنه غير مكترث لاكتساب المجد والفضل، وذلك أن العبد الراعي إذا قيّد أجماله لفّ رأسه ونام حجرة. وهذا شبيه بقوله: واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي. وقوله:
فدخّنوا المرء وسرباله يروي أنه طعن فارسا منهم فأحدث فقال: نظّفوه فإني لا أدفن القتيل منكم إلا طاهرا. وقوله: والدرع لا أبغي بها نثرة، فالنثرة الدرع السابغة. يقول: درعي هذه تكفيني. وقوله: كل امرىء مستودع ماله أي مسترهن بأجله وهو كقول الأعشى:
كنت المقدّم غير لابس جنّة (1) ... بالسيف تضرب معلما (2) أبطالها
وعلمت أنّ النفس تلقى حتفها ... ما كان خالقها الفضيل قضى لها
وقوله: الرمح لا أملأ كفي به، يتأوّل على وجهين أحدهما انّ الرمح لا يملأ كفي وحده أنا أقاتل بالسيف والرمح وبالقوس وغير ذلك، والقول الاخر:
إني لا أملأ كفي به إنما اختلس به اختلاسا كما قال الشاعر:
ومدجّج سبقت يداي له ... تحت الغبار بطعنة خلس
وقوله: واللبد لا أتبع تزواله، يقول: إن انحلّ الحزام فمال اللبد لم أمل معه أي أنا فارس ثبت. وقال الفرزدق ونزل به ذئب فأضافه:
وأطلس عسّال وما كان صاحبا ... رفعت لناري موهنا (3) فأتاني
فلمّا دنا قلت ادن دونك (4) إنني ... وإيّاك في زادي لمشتركان
فبتّ أقدّ (5) الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرّة ودخان
__________
(1) جنة: بالضم، كل ما يقيك الأذى.
(2) المعلم الذي وسم نفسه بسيماء الحرب والذي علق على فرسه صوفا ملونا في الحرب.
(3) رفعت لناري: يريد رفعت له ناري الموهن: نحو من نصف الليل.
(4) دونك: كلمة يراد بها الإغراء وفيها دعوة إلى الطعام.
(5) القد: المستطيل: يريد أقسم زادي بين وبينه على ضوء نار ودخان.(1/300)
وقلت له لما تكشّر (1) ضاحكا ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيّين كانا أرضعا بلبان (2)
ولو غيرنا نبّهت تلتمس القرى (3) ... رماك بسهم أو شباة سنان
وقوله: وأطلس عسّال فالأطلس الأغبر.
في وصف الذئب
وحدّثني مسعود بن بشر قال: أنشدني طاهر بن عليّ الهاشمي قال:
سمعت عبد الله بن طاهر بن الحسين ينشد في صفة الذئب:
بهم (4) بني محارب مذ داره ... أطلس يخفي شخصه غباره
في شدقه شفرته وناره
قوله: يخفي شخصه غباره يقول: هو في لون الغبار فليس يتبيّن فيه.
وقوله: عسّال فإنما نسبه إلى مشيته. يقال: مرّ الذئب يعسل، وهو مشي خفيف كالهرولة. قال الشاعر (هو ساعدة) يصف رمحا:
لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
وقال لبيد:
عسلان الذئب أمسى قاربا ... برد الليل عليه فنسل
قال أبو عبيدة: نسل في معنى عسل. وقال الله عزّ: {فَإِذََا هُمْ مِنَ الْأَجْدََاثِ إِلى ََ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (5) وخفض بهذه الواو لأنها في معنى ربّ،
__________
(1) كشر: أظهر أسنانه.
(2) أخيين: مصغر أخ، اللبان: كالرضاع يقال هو أخوه بلبان أمه قال ابن السكيت ولا يقال بلبن أمه.
(3) القرى: ما يقرى به الضيف.
(4) البهم بالفتح أولاد الضأن أو المعز والبقر إذا اجتمعت.
(5) سورة يس: الاية 51.(1/301)
وإنما جاز أن يخفض بها لوقوعها في معنى رب لأنها حرف خفض، وهي أعني الواو تكون بدلا من الباء في القسم لأن مخرجها من مخرج الباء من الشّفة، فإذا قلت: والله لأفعلنّ، فمعناه أقسم بالله لافعلن، فإن حذفتها، قلت: الله لا فعلن، لأن الفعل يقع على الاسم فينصبه، والمعنى معنى الباء. كما قال عز وجل: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقََاتِنََا} (1).
وصل الفعل فعمل، والمعنى معنى من، لأنها للتبعيض. فقد صارت الواو تعمل بلفظها عمل الباء، وتكون في معناها وتعمل عمل رب لاجتماعهما في المعنى للاشتراك في المخرج. وقوله: رفعت لناري من المقلوب، إنما أراد رفعت له ناري. والكلام إذا لم يدخله لبس جاز القلب للاختصار.
قال الله عز وجل: {وَآتَيْنََاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} (2). والعصبة تنوء بالمفاتيح، أي تستقل بها في ثقل. ومن كلام العرب: إن فلانة لتنوء بها عجيزتها. والمعنى لتنوء بعجيزتها. وأنشد أبو عبيدة للأخطل:
أمّا كليب بن يربوع فليس لها ... عند التفاخر إيراد ولا صدر (3)
مخلّفون (4) ويقضي الناس أمرهم ... وهم بعيب وفي عمياء ما شعروا
مثل القنافذ هدّاجون (5) قد بلغت ... نجران أو بلغت سواتهم هجر
فجعل الفعل للبلدتين على السعة. ويروى أن يونس بن حبيب قال لأبي
__________
(1) سورة الأعراف: الاية 155.
(2) سورة القصص: الاية 76.
(3) الايراد: مصدرا أورده أحضره المورد والصدر محركا رجوع الشاربة في الورد، يقول أن كليب بن يربوع ليس لهم مفاخر يردون بهما يوم التفاخر ولا يصدرون عنها يصفهم بأنهم لؤماء لا فضل لهم ولا مجد عندهم ولا شرف في نسبهم.
(4) محلفون يريد أن الناس يردونهم إلى خلق لذلتهم وهو أنهم عليهم وهو يغيب أي في شك وحيرة وفي عمياء يريد أنهم في طريق يعمر أمرها ولا تعرف أعلامها واثارها يصفهم بالجهل والضلال.
(5) هداجون مبالغة في الهدج مصدر هدج يهدج من باب ضرب إذا مشي مشيا فيه ارتعاش يريد أنهم لصوص يسرقون خفية فيمشون تلك المشية.(1/302)
الحسن الكسائي: كيف تنشد بيت الفرزدق؟ فأنشده:
غداة أحلّت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف (1) والخمر
فقال الكسائي لما قال: غداة أحلت لابن أصرم طعنة حصين عبيطات السدائف تمّ الكلام، فحمل الخمر على المعنى، أراد وحلّت له الخمر. فقال له يونس: ما أحسن ما قلت، ولكن الفرزدق أنشدنيه على القلب، فنصب الطعنة ورفع العبيطات والخمر على ما وصفنا من القلب، والذي ذهب إليه الكسائي، أحسن في محض العربية وإن كان إنشاد الفرزدق جيّدا. وقوله:
فلما دنا قلت ادن دونك، أمر بعد أمر وحسن ذلك: لأن قوله ادن للتقريب.
وفي قوله دونك أمره بالأكل، كما قال جرير (2) لعيّاش بن الزبرقان:
أعيّاش قد ذاق القيون (3) مواسمي ... وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل
(جمع ميسمّ وهو حديدة يصنع بها البيطار). وقوله: على ضوء نار مرة ودخان، يكون على وجهين أحدهما على ضوء نار وعلى دخان، أي على هاتين الحالتين ارتفعت النار أو خبت وجائز ان يعطف الدخان على النار وإن لم يكن للدخان ضياء، ولكن للاشتراك كما قال الشاعر:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا
لأن معناهما الحمل، وكما قال: شرّاب ألبان وتمر وأقط، فأدخل التمر في المشروب لاشتراك المأكول والمشروب في الحلوق. وهذه الاية تحمل
__________
(1) عبيطات: جمع عبيطة وهي الذبيحة تنحر في غير علة وهي سمينة السدائف: جمع سديف وهو شحم السنام وكان حصين بن أصرم قتل له قريب محرم على نفسه أكل اللحم وشرب الخمر حتى يأخذ بثأره وما زال كذلك حتى نال ثأره فحل له ما كان حرمه على نفسه في زعمه.
(2) جرير بن عطية الخطفي، من بني كليب بن يربوع، أحد فحول الشعراء في العصر الأموي، اشتهر بالنقائض مع الأخطل والفرزدق، وتهاجى مع الطرمّاح بن حكيم الطائي.
أنظر: الأغاني 8/ 3و 11/ 55و 15/ 273، و 16/ 245، الشعر والشعراء 304، شرح شواهد المغني، الموشح، خزانة الأدب 11/ 36وغيرها.
(3) القيون جمع قين وهو الحداد وأراد بالمواسم قواذع الهجاء في شعره الذي كان يذمهم به.(1/303)
على هذا: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ} (1)، والشواظ اللهب لا دخان له. والنحاس الدخان، وهو معطوف على النار وهي مخفوضة بالشواظ لما ذكرت لك قال النابغة الجعديّ:
تضيء كمثل سراج الذبا ... ل لم يجعل الله فيه نحاسا (2)
أي دخانا. قوله: نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (من يجوز أن يكون نكرة موصوفة، تقديره مثل اثنين يصطحبان، وأن يكون بمعنى الذي يصطحبان صلته). فمن تقع للواحد والأثنين والجميع والمؤنث على لفظ واحد فإن شئت حملت خبرها على لفظها. فقلت: من في الدار يحبّك؟ عنيت جميعا أو اثنين أو واحدا ومؤنثا، وإن شئت حملته على المعنى فقلت: يحبّانك وتحبّك إذا عنيت امرأة، ويحبّونك إذا عنيت جميعا، كل ذلك جائز جيد.
قال الله عزّ وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لََا يُؤْمِنُ بِهِ} {، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلََا تَفْتِنِّي} (3). وقال، فحمل على المعنى: ومنهم من يستعمون إليك. وقرأ أبو عمرو: ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحا، فحمل الأول على اللفظ والثاني على المعنى. وفي القران: {بَلى ََ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلََّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (4)، فهذا كله على اللفظ. ثم قال: {وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (5) على المعنى. وقوله: أو شباة سنان. فالشبا والشباة واحد وهو الحدّ، ومما يستحسن في وصف الجود والحثّ على المبادرة به. وتعريف حمد العاقبة فيه قول النمر بن تولب العكليّ أحد بني عكل بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر. (قال ابن سراج رحمه الله من رواه الياس فقد أخطأ إنما هو ابن الياس بوصل الألف وكسر
__________
(1) سورة الرحمن: الاية 35.
(2) الذّبال: بالضم جمع ذبالة كتمامة وهي الفتيلة.
(3) سورة التوبة: الاية 49.
(4) سورة البقرة: ص 112.
(5) سورة البقرة: الاية 112.(1/304)
السين والألف واللام للتعريف والاسم يأس مشتق من يئست).
أعاذل ان يصبح صداي بقفرة (1) ... بعيدا ناني صاحبي وقريبي
ترى أن ما أبقيت لم أك ربّه ... وأنّ الذي أنفقت كان نصيبي
وذي إبل (2) يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في رعيها ودؤوب
غدت وغدا ربّ سواه يقودها ... وبدّل أحجارا وجال قليب
قوله: إن يصبح صداي بقفرة فالصدى على ستة أوجه، أحدها ما ذكرنا وهو ما يبقى من الميت في قبره. والصدى الذكر من البوم. قال ابن مفرّغ (اسمه ربيعة وسمي مفرغا لأنه شرب سقاءين ففرّغهما):
وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه
هتّافة تدعو صدى ... بين المشقّر واليمامه (3)
ويقال فلان هامة اليوم أو غد أي يموت في يومه أو في غده. ويقال ذلك للشيخ إذا أسنّ والمريض إذا طالت علّته والمحتقر لمدّة الاجال. (رواية عاصم بن أيّوب رحمه الله برفع المحتقر يرفعه بالابتداء ويضمر الخبر فيكون التقدير والمحتقر لمدة الاجال يقال ذلك له، ورواية ابن سراج بالخفض على العطف). وفي الحديث أن حسلا أبا حذيفة بن حسل بن اليمان. قال لشيخ اخر تخلّف معه في غزوة أحد: إنهض بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما نحن هامة اليوم أو غد، وكانا قد أسنّا (حسل أبو حذيفة وهو حسل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان والشيخ الذي تخلف معه ثابت بن رقش (4)
__________
(1) القفرة: الخلاء من الأرض.
(2) ذي إبل: صاحب إبل. ويقال للأغنياء ممن يملكون الكثير من الإبل.
(3) هتافة: أي ذات صوت والمشقر: كمعظم معنى بالبحرين قديم واليمامة بلاد الجو وهي دون المدينة تبعد عن البصرة ستة عشر مرحلة وعن الكوفة نحوها وبها كان مسيلمة الكذاب وزرقاء اليمامة التي كانت تبصر الراكب في مسافة ثلاث أيام في ما زعموا.
(4) رقش: بن زغبة بالضم من الأوس.(1/305)
الأنصاريّ). والصدى حشوة الرأس. يقال لذلك الهامة والصدى وتأويل ذلك عند العرب في الجاهلية، أن الرجل كان عندهم إذا قتل فلم يدرك به الثأر أنه يخرج من رأسه طائر كالبومة، وهي الهامة، والذكر الصدى، فيصيح على قبره اسقوني اسقوني فإن قتل قاتله كفّ ذلك الطائر. قال ذو الإصبع العدوانيّ أحد بني عوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر (وهو حرثان بن محرّث سمي بذي الاصبع لأنه ان له اصبع زائدة وقيل لأن حية عضته في اصبعه):
يا عمرو إلّا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
والصدى ما يرجع عليك من الصوت إذا كنت بمتّسع من الأرض أو بقرب جبل. كما قال:
إني على كل إيساري ومعسرتي ... أدعو حنيفا (1) كما تدعى ابنة الجبل
يعني الصدى، وتأويله أنه يجيبني في سرعة اجابة الصدى. وقال اخر.
كأني إذ دعوت (2) بني سليم ... دعوت بدعوتي لهم الجبالا
والصدأ مهموز صدأ الحديد وما أشبهه. قال النابغة الذبيانيّ:
سهكين (3) من صدإ الحديد كأنّهم ... تحت السنوّر جنّة القّار
وقال الأعشى:
فأمّا إذا ركبوا فالوجو ... هـ في الروع من صدإ البيض (4) حمّ
والصدى مصدر الصدي وهو العطشان. يقال: صدي يصدى صدى وهو صد. قال طرفة: ستعلم إن متنا صدى أيّنا الصدي. (ويروى صدى أيّنا
__________
(1) ادعو حنيفا: فيه حذف والمعنى فيجبني إلى ما ادعوه إليه يصف حنيفا بالنجدة وسرعة الاغاثة.
(2) دعوتك بدعوتي: أراد الجبال والصدى الذي يجيب من خلالها.
(3) سهكين: من السهك، محركا وهو ريح كريهة من عرق.
(4) البيض بالفتح: جمع بيضة وهي زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة أو حلق يتقنّع بها المسلح.(1/306)
بخفض أينا على الإضافة، فصدى على هذه الرواية يرتفع بالابتداء، والصدق الخبر). وقال القطاميّ:
فهنّ ينبذن (1) من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصادي
تأويل قوله: ناني يكون على ضربين أبعدني وأحسن ذلك أن يقول أناني.
وقد رويت هذه اللغة الاخرى وليست بالحسنة، وإنما جاءت في حروف يقال:
غاض الماء وغضته، ونزحت البئر ونزحتها، وهبط الشيء وهبطته، وبنو تميم يقولون أهبطته، وأحرف سوى هذه يسيرة، والوجه في فعل أفعلته نحو دخل وأدخلته، ومات وأماته الله، فهذا الباب المطّرد، ويكون ناني في موضع نأى عني.
كما قال الله عز وجل: {وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (2) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم. وقوله: ودؤوب، يقول وإلحاح عليه، تقول: دأبت على الشيء. قال الشاعر (هو الراعي):
دأبت إلى أن ينبت الظلّ بعد ما ... تقاصر حتى كاد في الال يمصح
وقوله جل ثناؤه {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} (3)، يقول كعادتهم وسنّتهم. ومثله الدين والديدن وقد مرّ هذا. وقوله: وبدّل أحجارا وجال قليب. فالجال الناحية، يقال لكل ناحية من البئر والقبر وما أشبه ذلك، جال وجول وقال مهلهل:
كأنّ رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور (4)
ويقال رجل ليس له جول أي ليس له عقل وهذا الشعر نظير قول حاتم الطائي:
__________
(1) ينبذن: من النبذ وهو طرح الشيء.
(2) سورة المطففين: الاية 3.
(3) سورة ال عمران: الاية 11.
(4) الاشطان جمع شطن بالتحريك الحبل الطويل ويعيد صفة للبئر والجور: البئر البعيدة القرع.(1/307)
أماويّ أن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لديّ ولا خمر
ترى أنّ ما أبقيت لم أك ربّه ... وانّ يدي مما بخلت به صفر (1)
وقال الحرث بن حلّزة اليشكريّ (2) في هذا المعنى:
قلت لعمر حين أرسلته ... وقد حبا من دوننا عالج (3)
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج (4)
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإنّ شرّ اللبن الوالج
قوله: لا تكسع الشول باغبارها، فإن العرب كانت تنضح على ضروعها الماء البارد ليكون أسمن لاولادها التي في بطونها، والغبر بقية اللبن في الضرع فيقول: لا تبق ذلك لسمن الأولاد فإنك لا تدري من ينتجها، فلعلك بموت فتكون للوارث أو يغار عليها. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «يقول ابن ادم مالي، مالي ومالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت.» ويروى عن بعضهم أنه قال: إني أحبّ البقاء، وكالبقاء عندي حسن الثناء. وأنشد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
فإذا بلغتم أرضكم فتحدّثوا ... ومن الحديث متألف وخلود
وأنشد:
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... فأفعالنا إنّ الثناء هو الخلد
__________
(1) الصفر: الخالي.
(2) اليشكري: نسبة إلى يشكر بن علي بن بكر بن وائل.
(3) عالج: موضع به رمل وحبا الشيء له اعترض من دونه.
(4) كسع الناقة: ترك بقية من لبنها في ضرعها، يريد بذلك تغزيرها وهو أن يدع حلبة بين حلبتين وذلك إذا أدبر لبن الناقة. والشول بالفتح جمع شائلة على غير قياس، وهي من الإبل، ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر، فجف لبنها والأغبار جمع غبر بالضم بقية الشيء وغلب على بقية اللبن في الضرع وبقية دم الحيض والناتج للابل كالقابلة للنساء.(1/308)
في الكرم والجود
وقال معاوية لابن الأشعث بن قيس ما كان جدّك قيس بن معدي كرب أعطى الأعشى؟ فقال: أعطاه مالا وظهرا ورقيقا وأشياء أنسيتها. فقال معاوية ولكن ما أعطاكم الأعشى لا ينسى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنه هرم بن سنان المرّيّ: ما وهب أبوك لزهير؟ فقالت: أعطاه مالا وأثاثا أفناه الدهر. فقال عمر: لكن ما أعطاكموه لا يفنيه الدهر.
وقال المفسرون في قول الله عز وجل عن إبراهيم صلوات الله عليه:
{وَاجْعَلْ لِي لِسََانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (1) أي ثناء حسنا. وفي قوله تعالى:
{وَتَرَكْنََا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلََامٌ عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ} (2) أي يقال له هذا في الآخرة، والعرب تحذف هذا الفعل، من قال ويقول إستغناء عنه. قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ} (3)، أي فيقال لهم. ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ} (4) أي يقولون. وكذلك: {وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ سَلََامٌ عَلَيْكُمْ} (5) (حدّثنا يموت بن المزرّع البصريّ. قال حدثنا رفيع بن سلمة المنبّز بدماذ قال حدثنا أبو عبيدة قال: قال الحجّاج يوما لعمائر العرب وهم في مجلسه: ما أحسب هذا المزونيّ (6) يناصحنا في حزبنا يعني المهلّب والرأي مشترك. فقالوا: الرأي للأمير أصلحه الله أن يكتب إلى ابن الفجاءة باطعامه بعض الأرضين، فإذا هو نخع (7) بطاعته وأظهر الدعوة له سهلت الحيلة فيه فقال
__________
(1) سورة الشعراء: الاية 84.
(2) سورة الصافات: الاية 129.
(3) سورة ال عمران: الاية 106.
(4) سورة الزمر: الاية 3.
(5) سورة الرعد: الاية 23.
(6) المزوني: نسبة إلى مزون كصبور وهي أرض همان.
(7) نخع بالطاعة أي أقربها وخضع.(1/309)
وفقكم الله. وكتب إلى ابن الفجاءة وأنفذه على يد الغضبان بن القبعثرى الشيبانيّ نسخة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من الحجاج بن يوسف إلى قطريّ بن الفجاءة: سلام عليك الموحد الله والمصلى عليه محمد عليه السلام، أما بعد فإنك كنت أعرابيا بدويّا تستطعم الكسرة وتخفّ إلى التمرة، ثم خرجت تحاول ما ليس لك بحق واعترضت على كتاب الله ومرقت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجع عما أنت عليه بما زيّن لك وادعني فقد ان لك. فلما أوصل الغضبان الكتاب إلى قطريّ. قال يا غلام ازبر (1) هذه الصحيفة، فتلا عليه ما فيها، فتنهّد قطريّ الصّعداء فقال: يا غضبان ألفيتني محزونا وأنشأ يقول:
فيا كبدا من غير جوع ولا ظما ... وواكبدا من وجد أمّ حكيم
فلو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير لئيم
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان بعبد القيس أوّل حدّنا ... واب عميد ازد غير ذميم
يعني المهلّب، وأمّ حكيم هذه امرأة من الخوارج قتلت بين يديه ثم قال:
يا غلام اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من قطريّ بن الفجاءة إلى الحجاج بن يوسف، سلام على من اتّبع الهدى، ذكرت في كتابك أني كنت بدويّا أستطعم الكسرة وأبدر إلى التمرة وبالله لقد قلت زورا بل الله بصّرني من دينه ما أعماك عنه، إذ أنت سائح في الضلالة غرق في غمرات الكفر، ذكرت أن الضرورة طالت بي فهلّا برز لي من حزبك من نال الشبع واتّكأ فاتّدع، أما والله لئن أبرز الله صفحتك وأظهر لي صلعتك لتنكرنّ شبعك ولتعلمنّ أنّ مقارعة الأبطال ليس كتسطير الأمثال).
__________
(1) أزبر: إقرأ.(1/310)
31 - باب في الخطابة
قال أبو العباس: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبة له:
أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع وإن أضمرتم علم وبادروا الموت الذي إن هربتم منه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم (. قال وحدثني التوّزيّ في إسناد ذكره اخره عبد الملك بن عمير الليثيّ، قال: بيننا نحن في المسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة يومئذ ذو وحال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتى ات فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرا على العراق فإذا به قد دخل المسجد معتمّا بعمامة قد غطّى بها أكثر وجهه، متقلّدا سيفا متنكّبا قوسا يؤمّ المنبر. فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم. فقال الناس بعضهم لبعض قبّح الله بني أميّة حيث تستعمل مثل هذا على العراق، حتى قال عمير بن ضابىء البرجميّ ألا أحصبه (1) لكم.
فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه، ونهض فقال (هو لسحيم بن وثيل الرياحيّ):
أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللّحى، ثم قال (الشعر لرويشد بن رميض العنبريّ):
__________
(1) أحصبه: أرحيه بالحصباء والفعل كضرب.(1/311)
هذا أوان الشدّ (1) فاشتدّي زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم (2)
ثم قال:
لقد لفّها الليل بعصبليّ ... أروع خرّاج من الدوّيّ
مهاجر ليس بأعرابيّ (3)
وقال:
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا
والقوس فيها وتر عردّ (4) ... مثل ذراع البكر أو أشدّ
(لا بدّ مما ليس منه بدّ)
خطبة الحجاج في أهل العراق
إني والله يا أهل العراق ما يقعقع (5) لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز حنين، ولقد فررت عن ذكاء وفتّشت عن تجربة، وإنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه فعجم (6) عيدانها، فوجدني أمرّها عودا وأصلبها مكسرا، فرماكم بي لأنكم طال ما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال والله لأحزمنّكم (7) حزم السّلمة ولأضربنّكم ضرب غرائب الابل، فإنكم لكأهل
__________
(1) الشد: الحملة في الحرب.
(2) وضم: الخشبة التي يوضع عليها اللحم لتقيه من الأرض وقال الزمخشري كل ما وقيت به اللحم من الأرض فهو وضم.
(3) العصلبي: بالفتح أو الضم: القوي الشديد في الرجال والضمير في لفها للإبل أي جمعها.
الليل بسائق شديد وضرب ذلك مثلا أيضا لنفسه ولرعيته، والدوي: الفلوات جمع دوية أي أنه صاحب أسفار ورحيل فهو لا يزال يخرج من الفلوات وأراد أنه يصير بالفلوات فلا يشبه على شيء منها.
(4) العرد: بالضم وتشديد الدال الشديد من كل شيء.
(5) القعقعة: تحريك الشيء الجاف الصلب.
(6) عجم: عض.
(7) لأحزمنكم: الحزم الشد والسلمة واحدة السلم: شجرة ثمرة القرظ يعسر خرط ورقها فتعصب أغصانها ويشد بعضها إلى بعض بحبل ثم تخبط بعضا.(1/312)
قرية {كََانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهََا رِزْقُهََا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكََانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللََّهِ فَأَذََاقَهَا اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمََا كََانُوا يَصْنَعُونَ} (1)، وإني والله ما أقول إلا وقيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجّهكم لمحاربة عدوّكم مع المهلّب بن أبي صفرة وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلّف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلّا ضربت عنقه، يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين فقرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم.
فلم يقل أحد منهم شيئا.
فقال الحجاج: اكفف يا غلام. ثم أقبل على الناس فقال:
أسلّم عليكم أمير المؤمنين فلم تردّوا عليه شيئا، هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدّبنّكم غير هذا الأدب أو لتستقيمنّ، إقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين. فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم لم يبق في المسجد أحد إلّا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام. (زعم أبو العباس أن ابن نهية رجل كان على الشرطة بالبصرة قبل الحجاج). ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال: أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني فتقبله بدلا مني.
فقال له الحجاج: نفعل أيها الشيخ. فلما وّلى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا. قال: هذا عمير بن ضابىء البرجميّ الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولا فوطىء بطنه فكسر ضلعين من
__________
(1) سورة النحل الاية 112.(1/313)
أضلاعه. فقال: ردّوه. فلما ردّ قال له الحجاج: أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلا يوم الدار أن في قتلك أيها الشيخ لصلاحا للمسلمين، يا حرسيّ أضربن عنقه. فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسديّ (الأسديّ أسد خزيمة وليس من أسد قريش):
تجهّز فإمّا أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا
هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا
فأضحى ولو كانت خرسان دونه ... راها مكان السّوق أو هي أقربا
(دونه الهاء عائدة على المهلب وأقربا ظرف وقيل مفعول ثان) قوله: أنا ابن جلا إنما يريد المنكشف الأمر، ولم يصرف جلا لأنه أراد الفعل فحكى.
والفعل إذا كان فاعله مضمرا أو مظهرا لم يكن إلّا حكاية، كقولك: تأبّط شرّا، وكما قال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... بنى شاب قرناها تصرّ (1) وتحلب
وتقول: قرأت {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (2) لأنك حكيت. وكذلك الابتداء والخبر. تقول: قرأت الحمد لله ربّ العالمين. وقال الشاعر:
والله ما زيد ينام صاحبه ... (ولا مخالط الليّان جانبه) (3)
وقوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنيا
لسحيم بن وثيل الرياحيّ، وإنما قاله الحجاج متمثلا. وقوله: وطلاع الثنايا، والثنايا جمع ثنيّة والثنيّة الطريق في الجبل، والطريق في الرمل يقال له الخلّ. وإنما أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، كما قال دريد بن الصمّة يعني أخاه عبد الله:
__________
(1) الصّرّ بالجمع والشد. صر الناقة بالضم أي شد ضرعها وكان من عادة العرب أن تصر صروع الحلوبات إذا أرسلوها إلى المرعى سارحة.
(2) سورة القمر: الاية واحد.
(3) الليان بالفتح: مصدر لان الشيء يلين وأراد به الفراش اللين الوثير.(1/314)
كميش الإزار (1) خارج نصف ساقه ... بعيد من السوات طلّاع أنجد
والنجد ما ارتفع من الأرض وقد مضى تفسير هذا. وقوله: إني لأرى رؤوسا قد أينعت، يريد أدركت. يقال: أينعت الثمرة إيناعا وينعت ينعا وينعا.
ويقرأ: أنظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه وينعه كلاهما جائز. قال أبو عبيدة: هذا الشعر يختلف فيه، فبعضهم ينسبه إلى الأحوص، وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية (قال أبو الحسن: الصحيح أنه ليزيد يصف جارية) وهو:
ولها بالماطرين إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خرفة حتى إذا ربعت ... سكنت من جلّق بيعا
في قباب حول دسكرة (2) ... حولها الزيتون قد ينعا
(قال أبو الحسن: أول هذه الأبيات:
طال هذا الهمّ فاكتنعا (3) ... وأمرّ النوم فامتنعا
وبعد هذا ما أنشده أبو العباس. ويروى بالماطرون الرواية المشهورة بفتح النون ويروى بكسرها). قال أبو العباس: وقوله: هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم يعني فرسا أو ناقة، والشعر للحطم القيسي، وقوله: قد لفّها الليل بسوّاق حطم فهو الذي لا يبقي من السير شيئا. ويقال: رجل حطم للذي يأتي على الزاد لشدة أكله. ويقال للنار التي لا تبقي حطمة. وقوله: على ظهر وضم فالوضم كل ما قطع عليه اللحم. قال الشاعر (هو عمر بن أبي ربيعة):
وفتيان صدق حسان الوجو ... هـ يجدون لشيء ألم
من ال المغيرة لا يشهدون ... عند المجازر لحم الوضم
وقوله: قد لفّها الليل بعصلبيّ أي شديد، وأروع أي ذكيّ. وقوله: خرّاج
__________
(1) رجل كميش الأزار: كناية عن النشاط والجد في العمل.
(2) الدسكره: القرية أو الصومعة.
(3) فاكتنعا: أي أجتمع.(1/315)
من الدوّيّ يقول: من كل غمّاء شديدة (غمّاء مقصور رواية عاصم) ويقال للصحراء دوّيّة وهي التي لا تكاد تنقضي وهي منسوبة إلى الدوّ، والدوّ صحراء ملساء لا علم بها ولا أمارة قال الحطيئة (يصف خيلها وأنّث على معنى المرأة):
وأنّى اهتدت والدوّ بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدوّ يهتدي
والداوية المتعسة التي تسمع لها دويا بالليل، وإنما ذلك الدويّ من أخفاف الإبل تنفسح أصواتها فيها. وتقول جهلة الأعراب إن ذلك عزيف الجنّ.
وقوله: والقوس فيها وتر عردّ فهو الشديد. ويقال: عرند في هذا المعنى.
وقوله: إني والله ما يقعقع لي بالشنان واحدها شنّ وهو الجلد اليابس فإذا قعقع به نفرت الابل منه فضرب ذلك مثلا لنفسه. وقال النابغة الذبيانيّ:
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع بين رجليه بشنّ
(أقيش حي من عكل). وقوله: ولقد فررت عن ذكاء يعني تمام السنّ، والذكاء على ضربين أحدهما تمام السنّ والاخر الحدّة حدّة القلب، فمما جاء في تمام السن قول قيس بن زهير: جري المذكيات غلاب (1) (ويروى غلاء) وقال زهير:
يفضّله إذا اجتهدا عليه ... تمام السنّ منه والذكاء
وقوله: فعجم عيدانها يقول: مضغها لينظر أيّها أصلب. يقال: عجمت العود إذا مضغته. وكذلك في كل شيء قال النابغة:
فظلّ يعجم أعلى الروق منقبضا ... في حالك اللون صدق غير ذي أود
والمصدر العجم. يقال: عجمته عجما. ويقال لنوى كلّ شيء عجم مفتوح ومن أسكن فقد أخطأ، كما قال الأعشى:
__________
(1) المذكيات جمع مذكية وهي من الخيل، ما أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان وغلاب: بالكسر أي فعالية أراد أن السن يؤخذ بالمبايعة والقوة.(1/316)
(غزاتك بالخيل أرض العدوّ) ... وجذعانها (1) كلقيط العجم
وقوله: طال ما أوضعتم في الفتنة، الإيضاع ضرب من السير، وقوله:
فأضحى ولو كانت خراسان دونه، يعني دون السفر راها مكان السّوق للخوف والطاعة.
وكان من قصة عمير بن ضابىء أن أباه ضابىء بن الحرث البرجميّ وجب عليه حبس عند عثمان رحمه الله وأدب، وذلك أنه كان استعار من قوم كلبا فأعاروه إياه ثم طلبوه منه وكان فحّاشا، فرمى أمّهم به، فقال في بعض كلامه:
وأمّكم لا تتركوها وكلبكم ... فإنّ عقوق الوالدات كبير
فأضطعن على عثمان ما فعل، فلما دعي ليؤدّب شدّ سكينا في ساقه ليقتل به عثمان، فعثر عليه فأحسن أدبه ففي ذلك يقول:
وقائلة إن مات في السجن ضابىء ... لنعم الفتى تحلو به وتواصله
وقائلة لا يبعدن ذلك الفتى ... ولا تبعدن أخلاقه وشمائله
وقائلة لا يبعد الله ضابئا ... إذا الكبش (2) لم يوجد له من ينازله
وقائلة لا يبعد الله ضابئا ... إذ الخصم لم يوجد له من يقاوله
فلا تتبعيني إن هلكت ملامة ... فليس بعار قتل من لا أقاتله
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله (3)
وما الفتك ما امرت فيه ولا الذي ... تخبّر من لاقيت أنك فاعله
حديث أبي شجرة السلمي لعمر بن الخطاب
قال أبو العباس: وشبيه بقوله ما حدّثنا به عن أبي شجرة السلميّ وكان من فتّاك العرب. (أبو شجرة هو عمرو بن عبد العزّى وأمّه الخمساء، وقال
__________
(1) الجذعان: بالضم: جمع جذع بالتحريك وهو قبل الشيء وليس بسن ثبت أو تسقط وهو مرفوع على أنه مبتدأ وما بعده خبر والجملة حال.
(2) الكبش: سيد القوم وقائدهم.
(3) حلائله: الأزواج: حليلة الرجل هي زوجته.(1/317)
الطبري: إسمه سليم بن عبد العزّى) فأتى عمر بن الخطّاب رحمه الله يستحمله، فقال له عمر: ومن أنت؟ فقال: أنا أبو شجرة السلمي. فقال له عمر: أي عديّ نفسه ألست القائل حيث ارتددت:
وروّيت رمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمّرا
(ويروى أن أعمّرا بكسر الميم ومعناه أن أفعل ذلك بكتيبة عمر).
وعارضتها شهباء تخطر بالقنا ... ترى البيض في حافاتها والسنوّرا
ثم انحنى عليه عمر بالدرّة فسعى إلى ناقته فحلّ عقالها وأقبلها حرّة بني سليم بأحثّ السير هربا من الدرّة وهو يقول:
قد ضنّ عنها أبو حفص بنائله ... وكلّ مختبط يوما له ورق
ما زال يضربني حتى خذيت له ... وحال من دون بعض الرغبة الشفق
ثم التفتّ إليها وهي حانية ... مثل الرتاج إذا ما لزّه الغلق (1)
أقبلتها الخلّ (2) من شوران مجتهدا ... إني لأزري عليها وهي تنطلق
ويروى أنه كان يرمي المسلمين يوم الردّة فلا يغني شيئا فجعل يقول:
ها إنّ رميي عنهم لمعبول ... فلا صريح اليوم إلا المصقول
قوله: وكل مختبط يوما له ورق، أصل هذا في الشجر أن يختبطها الراعي وهو أن يضربها حتى يسقط ورقها، فضرب ذلك مثلا لمن يطلب فضله. وقال زهير:
وليس مانع ذي قربى وذي نسب ... يوما ولا معدم من خابط ورقا
(قوله: ولا معدم بالخفض عطفه على توهم الباء في مانع، ومثله ما أنشده:
__________
(1) حانية: التي تلوي بلا علة والرتاج ككتاب الباب العظيم.
(2) الخل: الطريق ينفذ في الرمل.(1/318)
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها (1)
على توهّم الباء في مصلحين ومن في خابط زائدة)، وقوله: حتى خذيت له يقول خضعت له وأكثر ما تستعمل العامة هذه اللفظة بالزيادة، تقول:
استخذيت له، وزعم الأصمعيّ أنه شكّ فيها وأنه أحبّ أن يستثبت أهي مهموزة أم غير مهموزة، قال: فقلت لأعرابي: أتقول استخذيت أم استخذات قال: لا أقولهما. قلت: ولم؟ فقال: لأن العرب لا تستخذي. وهذا غير مهموز واشتقاقه من قولهم: أذن خذواء وينمة خذواء أي مسترخية. (قال أبو الحسن: الينمة نبت مسترخ على وجه الأرض تأكله الإبل فتكثر عنه ألبانها وقال الأصمعيّ: وقلت لأعرابي أتهمز الفارة؟ قال: تهمزها الهرّة. وقوله: إني لازري عليها يقول: أستحثّها. يقال: زرى عليها أي عاب عليه وأزرى به أي قصّر به، فيقول إنها لمجتهدة وإني لأزري عليه، أي أعيب عليها لطلبي النجاء والسرعة. وقال الأخطل:
فظلّ يفدّيها وظلّت كأنها ... عقاب دعاها جنح ليل إلى وكر
وقوله:
ها إنّ رميي عنهم لمعبول
يقول: مخبول مردود، والصريح المحض الخالص، يقال ذلك للّبن إذا لم يشبه ماء. ويقال: عربيّ صريح ومولى صريح أي خالص.
من أقوال عمر بن الخطاب
قال: وحدثني محمد بن إبراهيم الهاشمي في إسناد ذكره قال: بلغ عمر بن الخطاب رحمه الله أن قوما يفضّلونه على أبي بكر الصدّيق رحمه الله فوثب مغضبا حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس إني سأخبركم عني وعن أبي بكر أنه لما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّت العرب ومنعت شاتها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنّا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن
__________
(1) الناعب: الغراب.(1/319)
قلنا: يا خليفة رسول الله إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمدّه الله بهم وقد انقطع ذلك اليوم فالزم بيتك ومسجدك فإنه لا طاقة لك بقتال العرب، فقال أبو بكر الصديق: أو كلّكم رأيه على هذا؟ فقلنا نعم. فقال: والله لأن أخرّ من السماء فتخطّفني الطير أحبّ إليّ من أن يكون هذا رأيي، ثم صعد المنبر فحمد الله وكبّره وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على الناس. فقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. أيها الناس أأن كثر أعداؤكم وقلّ عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب! والله ليظهرنّ الله هذا الدين على الأديان كلّها ولو كره المشركون قوله الحقّ ووعده الصدق، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. والله أيّها الناس أفردت من جميعكم لجاهدتهم في الله حقّ جهاده حتى أبلي بنفسي عذرا أو أقتل قتلا. والله أيها الناس لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه واستعنت عليهم بالله وهو خير معين. ثم نزل فجاهد في الله حقّ جهاده حتى أذعنت العرب بالحق.
قوله:: كم من فئة فهي الجماعة وهي مهموزة وتخفيف الهمز في هذا الموضع أن تقلب الهمزة ياء، وإن كانت قبلها ضمة وهي مفتوحة قلبتها واوا نحو جؤون. تقول جون (الجؤنة الحقّة يجعل فيها الحلي).
وقوله: لو منعوني عقالا (1) لجاهدتهم عليه على خلاف ما تتأوله العامة، ولقول العامة وجه قد يجوز فأما الصحيح فإن المصدّق إذا أخذ من الصدقة ما فيها ولم يأخذ ثمنها، قيل أخذ عقالا وإذا أخذ الثمن قيل أخذ نقدا. قال الشاعر:
أتانا أبو الخطّاب يضرب طبله ... فردّ ولم يأخذ عقالا ولا نقدا
(كانت الأمراء إذا خرجت لأخذ الصدقة تضرب الطبول). والذي تقوله
__________
(1) لو منعوني عقالا: يراد بالعقال الحبل الذي يربط به البعير.(1/320)
العامة تأويله لو منعوني ما يساوي عقالا فضلا عن غيره، وهذا وجه، والأول هو الصحيح لأنه ليس عليهم عقال يعقل به البعير فيطلبه فيمنعه ولكن مجازه في قول العامة ما ذكرنا. ومن كلام العرب أتانا بجفنة يقعد عليها ثلاثة أي لو قعد عليها ثلاثة لصلح. وكان ارتداد من ارتدّ من العرب أن قالوا: نقيم الصلاة ولا نؤتي الزكاة.
للحطيئة في أيام ردته
فمن ذلك قول الحطيئة:
ألا كلّ أرماح قصار أذلّة ... فداء لأرماح نصبن على الغمر (1)
فباست بني عبس وأستاه طيّىء ... وباست بني دودان (2) حاشا بني نصر
أبوا غير ضرب يجثم الهام وقعه ... وطعن كأفواه المزفّته الحمر
(المزفتة المطليّة بالزفت وهو القطران يعني الابل، وهو أشبه بكلام العرب ومعناه وقيل الزقاق):
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ... فيا لهفتنا ما بال دين أبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
فقوموا ولا تعطوا اللئام مقادة ... وقوموا ولو كان القيام على الجمر
فدى لبني نصر طريفي وتالدي ... عشيّة ذادوا بالرّماح أبا بكر
(قوله ذادوا بالرماح أبا بكر كذب إنما خرجوا على الإبل فقعقعوا لها بالشنان فنفرت وفرّت)، وقوله: يجثم الهام وقعة إنما هو مثل. يقال: جثم الطائر كما يقال برك الجمل وربض البعير. وكان قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر عاملا على صدقات بني سعد فقسم ما كان في يده من أموال الصدقات على بني منقر. وقال:
__________
(1) الغمر: بفتح الغين وهي بئر قديمة بمكة حفرها بنو سهم وموضع بينه وبينها يومان.
(2) بني دودان: بالضم ابن أسد أبو قبيلة من العرب.(1/321)
فمن مبلغ عني قريشا رسالة ... إذا ما أتتها محكمات الودائع
حبوت بما صدّقت في العام منقرا ... وأيأست منها كلّ اطلس (1) طامع
وقوله: فاجمع رأينا كلّنا أصحاب محمد فإنما خفض كلّ على أنه توكيد لاسمائهم المضمرة، والظاهرة لا تكون بدلا من المضمر الذي يعني به المتكلم نفسه أو يعني به المخاطب، فلا يجوز أن تقول مررت بي زيد لأن هذه الياء لا يشركه فيها شريك فتحتاج إلى التبيين. وكذلك لا يجوز ضربتك زيدا لأن المخاطب منفرد بهذه الكاف. فأما الهاء نحو مررت به عبد الله فيجوز لأنا نحتاج إلى أن يعرّفنا مبيّنا من صاحب الهاء لأنها ليست للذي يخاطبه فلا ينكر نفسه وإنما يحدّث به عن غائب، فيحتاج إلى البيان. وقوله: أصحاب محمد اختصاص وينتصب بفعل مضمر، وهو أعني، ليبين من هؤلاء الجماعة كما ينشد: نحن بني ضبّة أصحاب الجمل. أراد نحن أصحاب الجمل ثم بيّن من هم لأن هذا قد كان يقع على من دون بني ضبّة معه وعلى من فوقها إلى مضر ونزار ومعدّ ومن بعدهم، وكذلك نحن العرب أقرى الناس لضيف ونحن الصعاليك (2) لا طاقة بنا على المروءة، ويختار في هذا الشعر (هو لعمر بن الأهتم):
إنا بني منقر قوم ذو وحسب ... فينا سراة بني سعد وناديها (3)
وقليل هذا يدل على جميع هذا الباب فافهم.
__________
(1) أطلس: المقصود بها هنا الذئب وأراد الشاعر به قيس أبا بكر ومن معه وهذا من قيس كذب وإفتراء وليس ببعيد على أجلاف العرب كأبي شجرة والحطيئة وقيس بن عاصم أن يقولوا في أصحاب محمد مثل هذا القول لأنهم ما دخلوا الإسلام إلّا خوفا من السيف.
(2) الصعاليك: جمع صعلوك بضم الصاد هو الفقير.
(3) بنو منقر: كمنبر بطن من تميم. السراة بالفتح جمع سرى كغنى على غير قياس وهو: السخي ذو المرؤة.(1/322)
32 - باب في أشعار المولدين
قال أبو العباس: هذه أشعار اخترناها من أشعار المولّدين (1)، حكيمة مستحسنة يحتاج إليها للتمثّل (2)، لأنها أشكل بالدهر ويستعار من ألفاظها في المخاطبات والخطب والكتب. قال عبد الصمد بن المعذّل (3):.
تكلّفني إذلال نفسي لعزّها (4) ... وهان عليها أن أهان لتكرما
تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت سليه ربّ يحيى بن أكثما
(بالثاء مثلثة لا غير، وكذلك: أكثم بن صيّفيّ. ويقال أن يحيى بن أكثم من ولد أكثم بن صيفي) وقال بشّار بن برد (5) يذكر عبيد الله بن قزعة وهو أبو
__________
(1) المولدون: المعروف أن طبقات الشعراء بحسب زمانهم: أربع: الأولى الجاهليون وهم من كانوا قبل الاسم ولم يدركوه. الثانية: المخضرمون. الذين أدركوا الاسلام بعد جاهليتهم. منهم لبيد والأعشى ميمون بن قيس. والثالثة: الذين ولدوا ونشأوا بعد انتشار الدعوة الاسلامية، هذه الطبقة إلى أواخر زمن بني أمية، الرابعة: المولّدون وهم من كان بعد هؤلاء وابتداء عصرهم من أول العباسين إلى ما شاء الله.
(2) للتمثل: انشاء بيت ثم اخر ثم اخر.
(3) عبد الصمد بن المعذّل ويكنى أبا القاسم وأمه أم ولد يقال لها الزرقاء. كان شاعرا فصيحا، من شعراء الدولة العباسية، بصري المولد والمنشأ. كان هجّاء خبيث اللسان شديد العارضة، أنظر الأغاني 12/ 7257.
(4) لعزها: الهاء لمن كلفته الإذلال.
(5) بشار بن برد: هو مولى لبني عقيل يكنى أبا معاذ، ويلقب: المرعّث. وهو الذي جعل في أذنيه قرطة. كان يرمى بالزندقة. وهو أحد الشعراء المطبوعين، وكان أعمى. توفي سنة 167هـ ترجمته في الشعر والشعراء. 515511، الأغاني 3/ 7319تاريخ بغداد 7/ 118112 وسواها من كتب الأدب والدراسات الخاصة به.(1/323)
المغيرة أخو الملويّ المتكلم قال: وقال المازني لم أر أعلم من الملويّ بالكلام وكان من أصحاب إبراهيم النظّام:
خليليّ من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إنّ الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة انه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأنّ عبيد الله لم يلف ماجدا ... ولم يدر أنّ المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلى ... وفي كلّ معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سدّ بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
نظير قوله: وفي كلّ معروف عليك يمين. قول جرير:
ولا خير في مال عليه أليّة (1) ... ولا في يمين عوقدت بالماثم
وقال إسماعيل بن القاسم (هو أبو العتاهية):
أطع الله بجهدك ... عامدا أو دون جهدك
أعط مولاك كما تط ... لب من طاعة عبدك
وقال محمود:
تعصى الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
وقال أيضا:
إني شكرت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدى إليّ يدا ... لمّا أبان بجهله حلمي (2)
رجعت إساءته عليه وإح ... ساني فعاد مضاعف الجرم
وغدوت ذا أجر ومحمدة ... وغدا بكسب الظلم والإثم
__________
(1) الألية: اليمني.
(2) يقال أسدي إليه معروفا وأولى وأعطي كل هذا بمعنى واحد، واليد النعمة والجهل هنا من قوسهم جهل فلان على غيره سفه عليه وحمله على شيء ليس من خلقه، ليغضبه.(1/324)
فكأنما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم
ما زال يظلمني وأرحمه ... حتى بكيت له من الظلم
أخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش لرجل قال له: إني مررت بقوم من قريش من ال الزبير وغيرهم يشتمونك شتما رحمتك منه. قال: أفسمعتني أقول إلا خيرا. قال: لا. قال: إياهم فارحم. وقال أبو بكر الصدّيق رحمه الله لرجل قال له: لأشتمنّك شتما يدخل معك في قبرك. قال: معك والله يدخل لا معي. وقال ابن مسعود: إن الرجل ليظلمني فأرحمه. وقال رجل للشعبي كلاما أقذع له فيه، فقال له الشعبي: إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك. ويروى أنه أتى مسجدا فصادف فيه قوما يغتابونه فأخذ بعضادتي الباب ثم قال:
هنيأ مريئا غير داء مخامر (1) ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت
حلم الحسن بن علي بن أبي طالب
وذكر ابن عائشة أن رجلا من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا سمتا ولا ثوبا ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه فقيل لي: هذا الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما. فامتلأ قلبي له بغضا، وحسدت عليّا أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه فقلت له: أأنت ابن أبي طالب؟ فقال: أنا ابن ابنه. فقلت: فبك (2) وبأبيك أسبّهما. فلما انقضى كلامي قال لي: أحسبك غريبا. قلت: أجل. قال:
فمل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال اسيناك، أو إلى حاجة عاونّاك. قال: فانصرفت عنه ووالله ما على الأرض أحد أحبّ إليّ منه. وقال محمود الورّاق:
__________
(1) المخامر: المخالط.
(2) فيك: خبر مقدم والمبتدأ محذوف يريد بك الأذى أو نحو هذا وقوله أيهما بيان لما أجمل من الحذ.(1/325)
يا ناظرا يرنو (1) بعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد
منّيت نفسك (2) ضلّة وأبحتها ... طرق الرجاء وهنّ غير قواصد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج ادما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد
وقال الحكميّ (هو أبو نواس الحسن بن هانىء وهو منسوب إلى حكم قبيلة من مذحج) للفضل بن الربيع:
ما من يد في الناس واحدة ... كيد أبو العباس مولاها
نام الكرام على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمّنني ... من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتدر ... حلّت له نقم فألغاها
وقال عبد الله بن محمد بن أبي عيينة لذي اليمينين (سمّي ذا اليمنين لأنه ضرب إنسانا فجعله قسمين):
لمّا رأيتك قاعدا مستقبلا ... أيقنت أنك للهموم قرين
فارفض بها وتعرّ من أثوابها ... إن كان عندك للقضاء يقين
ما لا يكون فلا يكون بحيلة ... أبدا وما هو كائن سيكون
يسعى الذكيّ فلا ينال بسعيه ... حظّا ويحظى عاجز ومهين
سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة متعب محزون
الله يعلم أنّ فرقة بيننا ... فيما أرى شيء عليّ يهون
وقال صالح بن عبد القدوس (صلبه عبد الملك بن مروان على الزندقة أعني صالحا):
إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء فيه أجلّ
__________
(1) يرنو: ينظر.
(2) منيت نفسك: أي جعلت الضّلة أمينة لها والضلة بالكسر ضد الهدى.(1/326)
كلّ ات لا شكّ ات وذو الجه ... ل معنّى والغمّ والحزن فضل
وأنشد منشد من الأبيات المنفردة القائمة بأنفسها (لهشام بن عبد الملك:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
ومنها قول ابن أبي وهيب:
وإني لأرجوا الله حتى كأنني ... أرى بجميل الظنّ ما الله صانع
وقال اخر:
ويعرف وجه الحزم حتى كأنما ... تخاطبه من كلّ أمر عواقبه
وقال أشجع السلميّ:
رأي سرى وعيون الناس راقدة ... ما أخّر الحزم رأي قدّم الحذرة
وقال اخر:
فلله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والبطالة جانب
وقال اخر:
فلو عاب نفسي غير نفسي لسؤته ... فكيف ونفسي قد أتت ما يعيبها
وقال اخر:
يرى فلتات الرأي والرأي مقبل ... كأنّ له في اليوم عينا على غد
وقال عبد الصمد بن المعذّل:
أمنّ (1) على المجتدي ... وما أتبع المنّ منّ
كأن لم يزل ما أتى (2) ... وما قد مضى لم يكن
أرى الناس أحدوثة ... فكوني حديثا حسن
__________
(1) أمن: من المن وهو العطاء.
(2) الجملة مقلوبة هنا يريد: أن ما أتاه من الرزق لم يزل باقيا.(1/327)
وقال أيضا:
زعمت عاذلتي أني لما ... حفظ البخل من المال مضيع
كلّفتني عذرة (1) الباخل إذ ... طرق الطارق والناس هجوع
ليس لي عذر وعندي بلغة ... إنما العذر لمن لا يستطيع
وقال الحسن بن هانى الحكميّ:
إليك غدت بي حاجة لم أبح بها ... أخاف عليها شامتا فأداري
فأرخ عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدما عليّ عواري (2)
وقال أيضا:
قد قلت للعباس معتذرا ... من ضعف شكريه (3) ومعترفا
أنت امرؤ جلّلتني نعما (4) ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فاليك بعد اليوم تقدمة ... لاقتك بالتصريح منكشفا
لا تحدثنّ إليّ عارفة (5) ... حسبي أقوم بشكر ما سلفا
وقال دعبل بن عليّ الخزاعيّ:
أحببت قومي ولم أعدل بحبّهم ... قالوا تعصّبت جهلا قول ذي بهت (6)
دعني أصل رحمي إن كنت قاطعها ... لا بدّ للرحم الدنيا (7) من الصلة
فاحفظ عشيرتك الأدنين إنّ لهم ... حقا يفرّق بين الزوج والمرة
قومي بنو مذحج والأزد إخوتهم ... وال كندة والأحياء من علت
__________
(1) العذرة: بالكسر، إسم في الإعتذار.
(2) عواري: العوار قلت الغبي العيب.
(3) شكريه: إضافة إلى مصدر، المقصود شكري إياه.
(4) جللتني: أي غطيتني بالنعم كما يتجلل الرجل الثوب.
(5) عارفة: الفضل والاحسان.
(6) ذي بهت: بفتح الباء والهاء. مصدر بهته. قال عليه ما لم يفعله.
(7) الدّنيا: تأنيث الأدنى: الأقرب.(1/328)
ثبت الحلوم (1) فإن سلّت حفائظهم ... سلّو السيوف فأردوا كلّ ذي عنت
لا تعرضنّ بمزح لامرىء طبن (2) ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فربّ قافية بالمزح جارية ... مشؤمة لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيتا مات قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت
وقال أيضا:
نعوني ولمّا ينعني غير شامت ... وغير عدوّ قد أصيبت مقاتله
يقولون إن ذاق الردى مات شعره ... وهيهات عمر الشعر طالت طوائله (3)
سأقضي ببيت يحمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الرواية حامله
يموت رديّ الشعر من قبل أهله ... وجيّده يبقى وإن مات قائله
(البيت الأخير ليس لدعبل وإنما هو مضمّن).
وقال إسماعيل بن القاسم (4):
يا من يعيب وعيبه متشعّب ... كم فيك من عيب وأنت تعيب
لله درّك كيف أنت وغاية ... يدعوك ربّك عندها فتجيب
وقال أيضا:
يا عليّ بن ثابت بان مني ... صاحب جلّ فقده يوم بنتا
يا عليّ بن ثابت أين أنتا ... أنت بين القبور حيث دفنتا
قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحرّكتني لها وسكنتا
وقال أيضا:
صاحب كان لي هلك ... والسبيل التي سلك
__________
(1) ثبت الحلوم: جمع ثبيت: ثابت العقل.
(2) طبن: من الطبنة: الفطنة وطبن لكذا أفطن له.
(3) طالت طوائله: جمع طوال كسحاب وهو مدى الدهر.
(4) إسماعيل بن القاسم هو أبو علي القالي، أنظر ترجمته في مقدمة كتابه الأمالي ط. دار الحديث.(1/329)
(والسبيل التي سلك ابتداء وخبر، ومن قال غير هذا فقد أخطأ).
يا عليّ بن ثابت ... غفر الله لي ولك
كلّ حيّ مملّك ... سوف يفنى وما ملك
وقال أيضا:
طوتك خطوب دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه نشرا وطيّا
فلو نشرت قواك لي المنايا ... شكوت إليك ما صنعت إليّا
بكيتك يا أخيّ بدمع عيني ... فلم يغن البكاء عليك شيّا
كفى حزنا بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك عن يديّا
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
وكان إسماعيل بن القاسم لا يكاد يخلى شعره مما تقدم من الأخبار، والاثار فينظم ذلك الكلام المشهور، ويتناوله أقرب متناول، ويسرقه أخفى سرقة. فقوله: وأنت اليوم أوعظ منك حيا، أنما أخذه من قول الموبذ (1) لقباذ الملك فإنه قال في ذلك الوقت: كان الملك أمس أنطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس، وأخذ قوله:
قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحرّكتني لها وسكنتا
من قول نادب الإسكندر فإنه لما مات بكى من بحضرته. فقال نادبه:
حرّكنا بسكونه. وقال إسماعيل بن القاسم (وهو أبو العتاهية):
يا عجبا للناس لو فكّروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا
وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر
(معبر بفتح الميم وكسرها لابن سراج وبفتح الميم لا غير رواية عاصم).
الخير مما ليس يخفى هو ال ... معروف والشرّ هو المنكر
والموعد الموت وما بعده ال ... حشر فذاك الموعد الأكبر
__________
(1) الموبذ: قاضي المجوس.(1/330)
لا فخر إلّا فخر أهل التقى ... غدا إذا ضمّهم المحشر
ليعلمنّ الناس أن التقى ... والبرّ كانا خير ما يذخر
عجبت للانسان في فخره ... وهو غدا في قبره يقبر
ما بال من أوّله نطفة ... وجيفة اخره يفخر
أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر
وأصبح الأمر إلى غيره ... في كلّ ما يقضى وما يقدر
أما قوله:
يا عجبا للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا
فمأخوذ من قولهم: الفكرة مراة تريك حسنك من قبيحك. ومن قول لقمان لابنه: يا بنيّ لا ينبغي لعاقل أن يخلي نفسه من أربعة أوقات فوقت منها يناجي فيه ربه، ووقت يحاسب فيه نفسه، ووقت يكسب فيه لمعاشه، ووقت يخلّي فيه بين نفسه وبين لذّتها ليستعين بذلك على سائر الأوقات.
وقوله:
وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر
مأخوذ من قول الحسن: اجعل الدنيا كالقنطرة، تجوز عليها ولا تعمرها وقوله:
الخير مما ليس يخفى هو ال ... معروف والشر هو المنكر
مأخوذ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم وصار الناس هكذا، وشبّك بين أصابعه. فقلت مرني يا رسول الله. فقال:
خذ ما عرفت ودع ما أنكرت وعليك بخويّصة (1) نفسك وإياك وعوامّها.
قوله صلى الله عليه وسلم: في حثالة من الناس، أما الحثالة فهو ما يبقى في الإناء من رديّ
__________
(1) خويصة: تصغير خاصة.(1/331)
الطعام وضربه مثلا. وقوله مرجت عهودهم يقول: اختلطت وذهبت بهم كلّ مذّهب. يقال: مرج الماء إذا سال فلم يكن له مانع.
قال الله عز وجل: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيََانِ} (1). وقوله:
ليعلمن الناس أن التقى ... والبر كانا خير ما يذخر
مأخوذ من قول أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حشر الناس في صعيد واحد نادى مناد من قبل العرش: ليعلمنّ أهل الموقف من أهل الكرم ليقم المتّقون، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ} (2). وقوله:
ما بال من أوله نطفة ... وجيفة اخره يفخر
مأخوذ من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وما ابن ادم والفخر وإنما أوله نطفة واخره جيفة لا يرزق نفسه ولا يدفع حتفه.
وقال ابن أبي عيينة:
ما راح يوم على حيّ ولا ابتكرا ... إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا
ولا أتت ساعة في الدهر فانصرمت ... حتى تؤثّر في قوم لها أثرا
(فانصرفت أشبه للمطابقة والمشهور انصرمت).
إنّ الليالي والأيام أنفسها ... عن غير أنفسها لم تكتم الخبرا
فأخذ هذا المعنى حبيب بن أوس الطائيّ (3)، وجمعه في ألفاظ يسيرة،
__________
(1) سورة الرحمن: الاية 19.
(2) سورة الحجرات الاية 13.
(3) حبيب بن أوس الطائي أبو تمام، الشاعر المشهور، كان كثير التنقل بين حوافر الدولة العباسية أحب الشعر فبرع فيه حتى عده بعضهم من أكبر شعراء العربية. كان مولده سنة 190هـ. ووفاته سنة 322هـ بالموصل.
أنظر: تاريخ بغداد 7/ 253248، المجلة العربية عدد 8السنة الثانية، والعدد 6السنة الثالثة، وسواها من الدراسات حول الشاعر.(1/332)
فقال:
عمري (1) لقد نصح الزمان وانه ... لمن العجائب ناصح لا يشفق
فزاد بقوله: ناصح لا يشفق، على قول ابن أبي عيينة شيئا طريفا، وهكذا يفعل الحاذق بالكلام. ولو قال قائل: إن أقرب ما أخذ منه أبو العتاهية:
ليعلمنّ الناس أن التقى ... والبرّ كانا خير ما يذخر
من قول الخليل بن أحمد: (قال أبو الحسن: زعم النسابون أنهم لا يعرفون منذ وقت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوقت الذي ولد فيه أحمد أبو الخليل أحدا سمّي بأحمد غيره):
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال
لكان قد قال قولا. وقال العباس بن الفرج:
أملي من دونه أجلي ... فمتى أفضي إلى أملي
وقال الخليل بن أحمد، وكان نظر في النجوم فأبعد، ثم لم يرضها، فقال:
أبلغا عنّي المنجّم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب
عالم أن ما يكون وما كا ... ن بحتم من المهيمن واجب
وقال محمد بن يسير يعيب المتلكمين، أنشدنيه الرياشيّ:
يا سائلي عن مقالة الشيع ... وعن صنوف الأهواء والبدع
دع من يقود الكلام ناحية ... فما يقول الكلام ذو ورع
كل أناس بديّهم حسن ... ثم يصيرون بعد للشنع
أكثر ما فيه أن يقال له ... لم يك في قوله بمنقطع
وأنشدني الرياشيّ لغيره:
__________
(1) عمري: يريد لعمري. قسم يستعمل بالفتح.(1/333)
قد نقر الناس حتى أحدثوا بدعا ... في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
حتى استخفّ بحق الله أكثرهم ... وفي الذي حمّلوا من حقّه شغل
وقال محمد بن يسير:
ويل لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه
يا حسرتي (1) في كل يوم مضى ... يذكرني الموت وأنساه
من طال في الدنيا به عمره ... وعاش فالموت قصاراه (2)
كأنّه قد قيل في مجلس ... قد كنت اتيه وأغشاه
صار اليسيريّ إلى ربّه ... يرحمنا الله وإيّاه
وقال أيضا:
أيّ صفو إلا إلى تكدير ... ونعيم إلا إلى تغيير
وسرور ولذّة وحبور ... ليس رهنا لنا بيوم عسير
عجبا لي ومن رضاي بدنيا ... أنا فيها على شفا تغرير (3)
عالم لا أشكّ أني إلى الله ... إذا متّ أو عذاب السعير
ثم ألهو ولست أدري إلى أي ... هما بعده يصير مصيري
أيّ يوم عليّ أفظع من يو ... م به تبرز النّعاة سريري
كلّما مرّ بي على أهل ناد ... كنت حينا بهم كثير المرور
قيل من ذا على سرير المنايا ... قيل هذا محمد بن يسير
وقال الحكميّ أبو نواس:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى (4) ... كأنك لا تظنّ الموت حقا؟؟؟
ألا يا ابن الذين فنوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبق
__________
(1) احسرة: الغم على ما فات.
(2) قصارى الشيء: أقصى مداه.
(3) الشفاء: الناحية. التغرير: المخاطرة وانعدام الثقة.
(4) ينقي: يخاف حسب الوارد هنا.(1/334)
وما أحد بزادك منك أحظى ... وما أحد بزادك منك أشقى
ولا لك غير تقوى الله زاد ... إذا جعلت إلى اللهوات ترقى
ومما يستحسن من شعره قوله:
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره (1)
فمثل هذا لو تقدم لكان في صدور الأمثال. وكذلك قوله أيضا:
فامض لا تمنن عليّ يدا ... منّك المعروف من كدره
وكان يقول: ذكر المعروف من المنعم إفساد له، وكتمانه من المنعم عليه كفر له. وفي هذا الشعر أبيات مختارة فمنها:
وإذا مجّ القنا (2) علقا ... وتراءى الموت في صوره
راح في ثنيي مفاضته (3) ... أسد يدمى شبا ظفره
تتأنّى (4) الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره (5)
فاسل عن نوء (6) تؤمّله ... حسبك العباس من مطره
لا تغطي عنه مكرمة ... بربا (7) واد ولا خمره
ذلّلت تلك الفجاج له ... فهو مجتاز على بصره
وقد عابوا عليه قوله:
كيف لا يدنيك من أمل ... من رسول الله من نفره
__________
(1) الذود: الطرد: بلوت الشيء امتحنته واختبرته وكأنه إستعارة للذوق لأن من امتحن شيئا واختبره فكأنه قد ذاقه.
(2) القنا: الرماح.
(3) مفاضته: درعه.
(4) تتأنى الطير: تبقى في مكانها وقت الغدوة.
(5) جزرة: الشاة السمينة.
(6) النوء: النجم الذي يميل للسقوط.
(7) الربى: بالضم جمع ربوة وهي ما ارتفع من الأرض.(1/335)
وهو لعمري كلام مستهجن موضوع في غير موضعه، لأن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه ولا يضاف إلى غيره، ولو اتسع متسع فأجراه في باب الحيلة لخرج على الاحتيال، ولكنه عسر موضوع في غير موضعه، وباب الاحتيال فيه أن تقول: قد يقول القائل من بني هاشم لغيره من أبناء قريش:
منا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقّ هذا إنه من القبيل الذي أنا منه فقد أضافه إلى نفسه. وكذلك يقول القرشيّ لسائر العرب كما قال حسّان بن ثابت:
وما زال في الإسلام من ال هاشم ... دعائم عزّ لا ترام ومفخر
بها ليل (1) منهم جعفر وابن أمّه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
فقال منهم كما قال هذا: من نفره، أراد من النفر الذين العباس هذا الممدوح منهم. وأما قول حسّان: منهم جعفر وابن أمه عليّ ومنهم أحمد المتخير، فإن العرب إذا كان العطف بالواو قدّمت وأخرت.
قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (2). وقال {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (3). وقال: {اسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرََّاكِعِينَ} (4) ولو كان بثم أو بالفاء لم يصلح إلّا تقديم المقدّم ثم الذي يليه واحدا فواحدا. وأما قوله في هذا الشعر:
وكريم الخال من يمن ... وكريم العمّ من مضره
فأضاف مضر إليه فهو أجود كلام لا يمتنع منه ممتنع. قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم الجمل للأشتر وهو مالك بن الحرث أحد النخع بن عمرو بن علة بن جلد، وكان على الميمنة أحمل، فحمل في أصحابه فكشف من بازائه. ثم قال لهاشم بن عتبة بن مالك أحد بني زهرة بن
__________
(1) بهاليل: جمع بهلول بالضم وهو السيد الجامع لكل خير.
(2) سورة التغابن: الاية 2.
(3) سورة الأنعام: الاية 130.
(4) سورة ال عمران: الاية 43.(1/336)
كلاب وكان على الميسرة: أحمل فحمل في المضريّة فكشف من بإزائه، فقال عليّ رضي الله عنه لأصحابه: كيف رأيتم مضري ويمني؟ فأضاف القبيلتين إلى نفسه. قال جرير:
إن الذين ابتنوا مجدا ومكرمة ... تلكم قريشي والأنصار أنصاري
من أشعار اسحق بن خلف البهراني
ومما يستحسن من أشعار المحدثين قول أسحق بن خلف البهرانيّ (1)، ونسبه في بني حنيفة، لسباء وقع عليه بقوله لعلي بن عيسى بن موسى بن طلحة الأشعري المعروف بالقمّيّ (منسوب إلى قمّة وهي بلدة أو قرية من خراسان):
وللكرد (2) منك إذا زرتهم ... بكيدك يوم كيوم الجمل
وما زال عيسى بن موسى له ... مواهب غير النطاف (3) المكل (4)
لسلّ السيوف وشقّ الصّفوف ... لنقض الترات وضرب القلل
ولبس العجاجة (5) والخافقات ... تريك المنا برؤوس الأسل
وقد كشرت عن شبا نابها ... عروس المنيّة بين الشعل
وجاءت تهادى وأبناؤها ... كأنّ عليهم شروق الطفل (6)
خروس نطوق إذا استنطقت ... جهول تطيش على من جهل
__________
(1) البهراني: نسبة إلى بهراء وترد بهراوي.
(2) الكرد بالضم: جيل من الناس معروف وجدهم كرد بن عمرو بن عامر بن ماء السماء.
(3) النطاف: جمع نطفة بالضم وهي الماء الصافي
(4) المكل بضمتين جمع مكول بالفتح من الملكة وهي حجة البئر أو ما يسقي منها.
(5) العجاجة: الغبار.
(6) الطفل بالتحريك: ساعة تدنو الشمس فيها للغروب أو ساعة تطلع شبه لمعان الحديد على الرجال بشروق الشمس في هذا الوقت.(1/337)
إذا خطيت أخذت مهرها ... رؤوسا تحادر (1) قبل النفل (2)
ألذّ إليه من المسمعات ... وحثّ الكؤوسة (3) في يوم طل (4)
وشرب المدام ومن يشتهيه ... معاط له بمزاج القبل
بعثنا النواعج (5) تحت الرجال ... تسافه أشداقها في الجدل (6)
إذا ما حدين بمدح الأمير ... سبقن لحاظ (7) المحثّ العجل
(من كسر الميم فهو من حثّ ومن ضم الميم جعله من أحثّ. يقال:
حث وأحث على فعل وعلى أفعل لغتان). قوله: تريك المنا، يريد المنايا وهذه كلمة تخفّ على ألسنتهم فيحذوفنها. وزعم الأصمعي: أنه سمع العرب تقول: درس المنا يريدون المنازل. وجاء في التخفيف أعجب من هذا. حدثنا بعض أصحابنا عن الأصمعي، وذكره سيبويه في كتابه ولم يذكر قائله، ولكن الأصمعي قال: كان أخوان متجاوران لا يكلم كل واحد منهما صاحبه سائر سنته حتى يأتي وقت الرعي، فيقول أحدهما لصاحبه:
ألاتا. فيقول الاخر: بلى يعني ما نهض يريد ألا تنهض، فيقول الاخر: بلى فانهض. وحكى سيبويه في هذا الباب:
بالخير خيرات وإن شرّافا ... ولا أريد الشرّ إلا ان تا
يريد وإن شرا فشر ولا أريد الشر إلّا أن تريد. (قال: ش قول أبي العباس: إلّا أن تريد وهم وإنما هو إلا أن تشاء. ولو كان كما قال أبو العباس كانت التاء مضمومة). وهذا خلاف ما تستعمله الحكماء، فإنه يقال إن اللسان إذا كثرت حركته رقت عذبته. وحدثني أبو عثمان الجاحظ قال: قال لي
__________
(1) تحادر: تنحدر من أعلى إلى أسفل.
(2) النفل: بالتحريك الغنيمة.
(3) الكؤوس: جمع كأس.
(4) الطل: المطر الخفيف.
(5) النواعج: جمع ناعجة وهي الناقة السريعة التي يصاد عليها بقر الوحش
(6) والجدل بضمتين جمع جديل وهو الزمام المجدول في ادم.
(7) اللحاظ: لاحظه أي نظر إليه.(1/338)
محمد بن الجهم لما كانت أيام الزطّ (1) أدمنت الفكر وأمسكت عن القول فأصابتني حبسة (2) في لساني. وقال رجل من الأعراب يذكر اخر منهم:
كأنّ فيه لففا (3) إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق
وقال رجل لخالد بن صفوان: إنك لا تكثر: فقال: أكثر لضربين أحدهما فيما لا تغني فيه القلّة، والاخر لتمرين اللسان فإن حبسه يورث العقلة. وكان خالد يقول: لا تكون بليغا حتى تكلّم أمتك السوداء في الليلة الظلماء في الحاجة المهمّة بما تتكلم به في نادي قومك. فإنما اللسان عضو إذا مرّنته مرن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تخشّنها بالممارسة، والبدن الذي تقوّيه برفع الحجر وما أشبهه، والرجل إذا عوّدت المشي مشت. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تزالون أصحّاء ما نزعتم ونزوتم، فنزعتم في القسيّ ونزوتم على ظهور الخيل. وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط: الأكل والمشي والجماع. فأما الأكل فإن الأمعاء تضيق لتركه، وكان ابن الزبير رحمه الله يواصل في ما ذكروا بين خمس عشرة من يوم وليلة ثم يفطر على سمن وصبر ليفتق أمعاءه. قال أبو العباس:
قال الأول: والمشي إن لم تتعهده أوشكت أن تطلبه فلا تجده. والجماع كالبئر إن نزحت (4) جمّت (5) وإن تركت تحيّر (6) ماؤها، وحقّ هذا كله القصد. وقوله:
كأنّ عليهم شروق الطفل، يريد تألّق الحديد كأنه شمس طالعة عليهم وإن لم تكن شمس. وأحسن من هذا قول سلامة بن جندل:
كأنّ النعام باض فوق رؤوسهم ... وأعينهم تحت الحديد جواحم
__________
(1) الزط: بالضم: جيل من السودان والهنود وهم طوال الأجسام ضعفاء.
(2) الحبسة: بالضم تعذر الكلام عند إرادته.
(3) اللفف: العي بالكلام والبطء به.
(4) نزحت البئر: استقي ماؤها حتى نفذ.
(5) جمت: تراجع ماؤها.
(6) تحير الماء: تردد والحائر مجتمع الماء.(1/339)
(أي متّقدة) فهذا التشبيه المصيب. وأما قوله: أحب إليه من المسمعات، فقد قال مثله القاسم بن عيسى بن ادريس أبو دلف العجليّ:
من أقوال أبو دلف العجلي
يوماي يوم في أوانس (1) كالدمى (2) ... لهوي يوم في قتال الديلم
هذا حليف غلائل (3) مكسوّة ... مسكا وصافية (4) كنضح العندم (5)
ولذاك خالصة الدروع وضمّر (6) ... يكسوننا رهج (7) الغبار الأقتم (8)
وليومهنّ الفضل لولا لذّة ... سبقت بطعن الديلميّ المعلم
وأول هذه القصيدة طريف مستملح وهو:
طواه الهوى فطوى من عدل ... وحالف ذا الصبوة المختبل
وأما قوله: تسافه أشداقها في الجدل، فتسافه من السفه، وإنما يصفها بالمرح وإنها تميل كذا مرة وكذا مرة، كما قال رؤبة:
يمشي العرضنى (9) في الحديد المتقن
وكما قال الاخر:
إذا رأى السوط مشى الهيدبى (10) ... ويتّقي الأرض بمعج (11) رقاق
__________
(1) أوانس: النساء طيبات الأنفس.
(2) الدمى: جمع دمية بالضم وهي الصورة من العاج ونحوه إنما شبهوا النساء بها لأنها تتأنق في صنعها وتبالغ في تحسنيها.
(3) الغلائل: جمع غلالة: بالكسر وهي شعار تحت الثوب.
(4) الصافية: يقصد بها الخمرة.
(5) العندم: دم الأخوين شبه الخمر به في الحمرة يقول أنا في هذا اليوم ملازم للنساء والخمر.
(6) الضمر: الخيل الضمرة.
(7) الرهج: الغبار.
(8) الأقتم: الأسود.
(9) العرضنى: بالكسر: أي في مشيه بغي من نشاط.
(10) الهيدبي: نوع من مشي الخيل فيه جد ونشاط.
(11) المعج: الإسراع.(1/340)
(الهيدبى بالدال مهملة ومعجمة. وقوله: بمعج رقاق يريد قليلة اللحم).
وكما قال الحطيئة:
وإن انست حسّا من السوط عارضت ... بي الجور حتى تستقيم ضحى الغد
والجدل جمع جديل وهو الزمام المجدول، كما تقول قتيل ومقتول، وأدنى العدد أجدلة، كقولك: قضيب وقضب وأقضبة. وكذلك: كئيب ورغيف وجريب، وفعلان كفعل في الكثير يقال: قضبان ورغفان وجربان. ومثل قوله:
تسافه اشداقها في الجدل. قول حبيب بن أوس الطائيّ:
سفيه الرمح جاهله إذا ما ... بدا فضل السفيه على الحليم
ومما يستحسن من شعر اسحق هذا قوله في الحسن بن سهل:
باب الأمير عراء (1) ما به أحد ... إلا امرؤ واضع كفا على ذقن
قالت وقد أملت ما كنت امله ... هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمن
كفيتك الناس لا تلقى أخا طلب (2) ... بفيء دارك يستعدي على الزمن
إن الرجاء الذي قد كنت امله ... وضعته ورجاء الناس في كفن
في الله منه وجدوى (3) كفّه خلف ... ليس السدى والندى في راحة الحسن
واسحق هذا هو الذي يقول في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذرّ الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
واسحق هذا هو الذي يقول في مدح العربية:
__________
(1) العراء: بالفتح الفضاء لا يستتر فيه بشيء وكأن الشاعر جعله مجازا عن خلو الناس من بابه وقوله الا أمرؤ الخ كناية عن الحزن لفوات ما كان يؤمل.
(2) الطلب والطلبة بالكسر في الثانية الحاجة واستعدى إستغاث واستنصر ومفعوله محذوف أي لا تلقى أما حاجة بظل دارك يستنصرك على الزمن ويستغيث بك لأنه قد يئس منك.
(3) الجدوى: العطية. والسدى المعروف الكندي.(1/341)
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها منها مقيم الألسن
بما يحكم بالنبل والاستصغار
قال أبو العباس: وأحسبه أخذ قوله: والمرء تكرمه إذا لم يلحن، من حديث حدثناه أبو عثمان والخزاعيّ عن الأصمعي قال: كان يقال ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم، وهم: رجل رأيته راكبا، أو سمعته يعرب، أو شممت منه طيبا. وثلاثة يحكم عليهم بالاستصغار حتى يدرى من هم، وهم:
رجل شممت منه رائحة نبيذ في محفل: أو سمعته في مصر عربيّ يتكلم بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق ينازع في القدر. قال أبو العباس:
أنشدني الأمراء لشاعر من أهل الريّ يكنى أبا يزيد شيئا يقوله لعبد الله بن طاهر أحسن فيه وأصاب الفصّ (1)، وقصد بالمدح إلى معدنه، واختاره لأهله:
اشرب هنيا عليك التاج مرتفقا (2) ... في شاذ مهر ودع غمدان (3) لليمن
فأنت أولى (4) بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بن عليّ وابن ذي يزن
فأحسن الترتيب جدا، وإن كانت الملوك كلها تلبس التاج في ذلك الدهر وإنما ذكر ابن ذي يزن لقول أميّة بن أبي الصلت الثقفيّ حيث يقول:
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
وقال الأعشى في هوذة بن عليّ وإن لم يكن هوذة ملكا:
من ير هوذة يسجد غير متّئب (5) ... إذا تعمّم فوق التاج أو وضعا
__________
(1) الفص: المفصل: أراد الصواب.
(2) المرتفق: الثابت الدائم.
(3) غمدان بضم الغين وسكون الميم بناء عظيم بناحية صنعاء اليمن قيل أنه من بناء سليمان عليه الصلاة والسلام.
(4) أولى: أحق أجدر.
(5) متئب: من الوأب وهو الإستحياء والانقباض.(1/342)
له أكاليل بالياقوت فصّلها ... صوّاغها لا ترى عيبا ولا طبعا
قال أبو العباس، وحدثني التوّزيّ قال: سمعت أبا عبيدة (1) يقول عن أبي عمرو قال: لم يتتوّج معدّيّ قط وإنما كانت التيجان لليمن فسألته عن هوذة بن علي الحنفي فقال: إنما كانت خرزات تنظم له.
في سؤال كسرى لهوذة بن علي عن بنيه
قال أبو العباس: وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي يدعوه كما كتب إلى الملوك وكان يجير لطيمة كسرى في البرّ بجنبات اليمامة، واللطيمة الابل تحمل الطيب والبزّ (2)، ووفد هوذة بن عليّ على كسرى بهذا السبب، فسأله عن بنيه فذكر منهم عددا. فقال: أيهم أحبّ إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يصحّ. فقال له كسرى ما غذاؤك في بلدك؟ فقال الخبز. فقال كسرى لجلسائه: هذا عقل الخبز يفضّله على عقول أهل البوادي الذين يعتدّون اللبن والتمر. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد هممت ألاأقبل هدية، ويروى ألاأتّهب هبة إلا من قرشيّ أو أنصاري أو ثقفيّ. وروى بعضهم أودوسيّ، وذلك أنّ أعرابيا أهدى إليه هدية، فمنّ بها. فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الامصار تفضيلا على أهل البوادي.
في هجاء أبي عيينة
وقال عبد الله بن محمد بن أبي عيينة يعاتب رجلا من الأشراف:
أتيتك زائرا لقضاء حقّ ... فحال الستر (3) دونك والحجاب
__________
(1) أبو عبيدة: مشهور بشعوبيته وفي ذكر الخبز وتفضيل اكله على شارب اللبن ما يثبت ذلك ولقصة مختلفة.
(2) البز: الثياب أو متاع البيوت.
(3) الستر: الحجاب.(1/343)
وعندك معشر فيهم أخ لي ... كأنّ إخاءه الال السراب
ولست بساقط في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذباب
ورائي مذهب عن كل ناء ... بجانبه إذا عزّ الذهاب
وقال أيضا:
كنا ملوكا إذ كان أوّلنا ... للجود (1) والبأس والعلى خلقوا
كانوا جبالا عزّا يلاذ بها ... ورائحات (2) بالوبل تنبعق (3)
كانوا بهم ترسل السماء على ... الأرض غياثا ويشرق الأفق
لا يرتق (4) الراتقون إن فتقوا ... فتقا ولا يفتقون ما رتقوا
ليسوا كمعزى (5) مطيرة بقيت ... فما بها من سحابة لثق
(اللثق البلل):
والضعف والجبن عند نائبة (6) ... تنوبهم والحذار والفرق
هذا زمان بالناس منقلب ... ظهرا لبطن جديده خلق (7)
الأسد فيه على براثنها (8) ... مستأخرات تكاد تمّزق
وكان سبب قوله هذا الشعر أن أسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، كان له صديقا، وكان عبد الله بن محمد بن أبي عيينة من رؤوساء من أخذ البصرة للمأمون في أيام المخلوع (9)، وكان معاضدا لطاهر بن الحسين في حروبه وكان اسمعيل بن جعفر جليل القدر مطاعا في مواليه
__________
(1) الجود: الكرم.
(2) رائحات: يريد سحابة وهي تلك التي تمطر بالعشي.
(3) تنبعق: تفاجيء بالمطر.
(4) الرتق: الإلتئام والفتق ضده.
(5) المعزى: بالقصر وقد يمد خلاف الضان من الغنم والمطيرة التي نزل عليها المطر.
(6) النائبة: واحدة من نوائب الدهر.
(7) حلق: بالتحريك البالي.
(8) البراثن: جمع برثن بالضم وهو من السباع كالظفر للإنسان.
(9) المخلوع: أريد به محمد الأمين.(1/344)
وأهله، وكانت الحال بينهما ألطف حال، فوصله ابن أبي عيينة بذي اليمينين فولاه البصرة وولّي بن أبي عيينة اليمامة والبحرين وغوص البحر، فلما رجعا إلى البصرة تنكّر إسماعيل لابن أبي عيينة، فهاج بينهما من التباعد على مثال ما كان بينهما من المقاربة، ثم عزل ابن أبي عيينة، فلم يزل يهجو اسمعيل، وسأل ذا اليمينين عزله فدافعه وضرّ بالرجل فكان يهجو من أهله من يواصل اسمعيل، وكان أكبر أهله قدرا في ذلك الوقت يزيد بن المنجاب، وكان أعور قائم العين لم يطّلع على علّته إلا بشعر ابن أبي عيينة، وكان منهم. وكان سيد أهل البصرة أجمعين محمد بن عبّاد بن حبيب بن المهلّب ومنهم سعيد بن المهلب بن المغيرة بن حرب بن محمد بن المهلب بن أبي صفرة وكان قصيرا، وكان ابن عباد أحول فذلك حيث يقول ابن أبي عيينة في هذا الشعر الذي أمليناه:
تستقدم النعجتان والبرق (1) ... في زمن سرو أهله الملق
عور وحول وثالث لهم ... كأنّه بين أسطر لحق (2)
ولهم يقول ولاثنين ظنّ أنهما معهم، وقد مروا به يريدون اسمعيل بن جعفر:
ألا قل لرهط خمسة أو ثلاثة ... يعدّون من أبناء ال المهلّب
على باب اسمعيل روحوا وبكّروا ... دجاج القرى مبثوثة حول ثعلب
وأثنوا عليه بالجميل فإنه ... يسرّ لكم حبّا هو الحبّ واقلب
يلين لكم عند اللقاء مواربا (3) ... ويخلقكم منه بناب ومخلب
ولولا الذي تولونه لتكشّفت ... سريرته عن بغضة وتعصّب
__________
(1) البرق: بالتحريك: الجذع من أولاد الضأن فما دونه والسرو والمرؤة في شرق تعطي من اللسان ما ليس في القلب.
(2) اللحق: الشيء الزائد.
(3) المواربة: المواهاة والمخاتلة.(1/345)
أبعد بلائي عنده إذ وجدته ... طريحا كنصل القدح (1) لمّا يركّب
به صدأ قد عابه فجلوته ... بكفّي حتى ضوءه ضوءء كوكب
وركّبته في خوط (2) نبع ورشته ... بقادمتي (3) نسر ومتن (4) معقّب
فما إن أتاني منه إلا مبوّأ (5) ... إليّ بنصل كالحريق مذرّب
ففلّلت منه حدّه وتركته ... كهدبة ثوب الخزّ لما يهدّب
رضيتم بأخلاق الدنيّ وعفتم ... خلائق ماضيكم من العمّ والأب
وفي هذا يقول لطاهر بن الحسين:
مالي رأيتك تدني كلّ منتكث (6) ... إذا تغيّب ملتاث (7) إذا حضرا
إذا تنسّم ريح الغدر قابلها ... حتى إذا نفخت في أنفه غدرا
ومن يجيىء على التقريب منك له ... وأنت تعرف فيه الميل والصّعرا
أحلّك الله من قحطان منزلة ... في الرأس حيث أحلّ السمع والبصرا
فلا تضع حقّ قحطان فتغضبها ... ولا ربيعة كلّا لا ولا مضرا
أعط الرجال على مقدار أنفسهم ... وأول كلّا بما أولى وما صبرا
ولا تقولنّ اني لست من أحد ... لا تمحق النيّرين الشمس والقمرا
ويقول له في أخرى:
هو الصبر والتسليم لله والرضا ... إذ نزلت بي خطّة (8) لا أشاؤها
إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجت أمرا فخاب رجاؤها
__________
(1) القدح: السهم قبل أن يراش وينصل.
(2) الخوط: بالضم القضيب أو الغصن الناعم لسنة
(3) قادمتي نسر من: مثنى قادمة وهي من قوادم جناح الطائر وهي أربع ريشات في مقدم الجناح.
(4) والمتن من السهم ما بين الريش إلى وسطه والعقب بفتح القاف المشددة، وهو القوس يلوي عليها شيء من العقب بالتحريك وهو العصب وتعمل منه الأوتار.
(5) المبوأ: إسم مفعول في بوأ. أي وجه وسدد.
(6) منتكث: مهزول.
(7) ملتاث: البطيء.
(8) الخطة: الخطب بالضم.(1/346)
فأنفسنا خير الغنيمة إنها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
هي الأنفس الكبر التي إن تقدّمت ... أو استأخرت فالقتل بالسيف داؤها
سيعلم اسمعيل أن عداوتي ... له ريق أفعى لا يصاب دواؤها
ولما حمل اسمعيل مقيدا ومعه أبناه أحدهما في سلسلة مقرونا معه، وكان الذي تولى ذلك أحمد بن أبي خالد في قصة كانت لاسمعيل أيام الخضرة.
فقال ابن أبي عيينة في ذلك:
مرّ اسمعيل وابنا ... هـ معا في الأسراء
جالسا في محمل ضن ... ك على غير وطاء
يتغنى القيد في رج ... ليه ألوان الغناء
باكيا لارقأت (1) عين ... اه من طول البكاء
يا عقاب الدجن في الأم ... ن وفي الخوف ابن ماء
وقد كان تطير عليه بمثل ما نزل به. فمن ذلك قوله:
لا تعدم العزل يا أبا الحسن ... ولا هزالا في دولة السّحن
ولا انتقالا من دار عافية ... إلى ديار البلاء والفتن
ولا خروجا إلى القفار من الأرض ... وترك الأحباب والوطن
كم روحة فيك لي مهجّرة ... ودلجة (2) في بقيّة الوسن
في الحر والقرّ كي تولّى على ال ... بصرة عين الأمصار والمدن
إني أحاجيك (3) يا أبا حسن ... ما صورة صوّرت فلم تكن
وما بهيّ (4) في العين منظره ... لو وزنوه بالزفّ (5) لم يزن (6)
__________
(1) رقأ الدمع: جف وسكن.
(2) الدلجة: بالضم السير في أول الليل كالدلج بالتحريك.
(3) حاجية: فاطنة.
(4) البهي: الحسن.
(5) الزف: بالكسر صغار ريش النعام أو كل طائر.
(6) لم يزن: لم يرجع.(1/347)
ظاهره رائع وباطنه ... ملان من سوأة ومن درن
وهذا الشعر اعترض له فيه عمرو بن زعبل مولى بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وكان منقطعا إلى اسمعيل وولده، وكان لا يبلغ ابن أبي عيينة في الشعر ولا يدانيه. ومن أمثل شعره وما اعترض له به. قوله:
إني أحاجيك ما حنيف على ال ... فطرة باع الرّباح (1) بالغبن (2)
وما شييخ من تحت سدرته ... معلّق نعله على الغصن
وما سيوف حمر مصقّلة ... قد عرّيت من مقابض (3) السفن (4)
وما سهام صفر مجوّفة ... تحشى خيوط الكتان والقطن
وما ابن ماء ان يخرجوه إلى ... الأرض تسل نفسه من الأذن
وما عقاب زوراء (5) تلحم من ... خلف فتهوى قصدا على سنن
لها جناحان يحفزان (6) بها ... نبطا إليها بجدوتي رسن
يا ذا اليمينن اضرب علاوته (7) ... يدفع وماني في النار في قرن (8)
(قيل السفينة وقيل الراية وهو أصح لأن جدّه حبس راية طاهر بن الحسين ثلاثة أعوام وقوله وماني في النار في قرن، ماني إسم علم وكان رأسا من رؤوس الزنادقة) فأجابه إبراهيم السوّاق مولى ال المهلّب وكان مقدّما في الشعر بأبيات لا أحفظ أكثرها، منها:
قد قيل ما قيل في أبي حسن ... فانتحروا في تطاول الزمن
__________
(1) الرباح: بفتح الراء، الربح.
(2) الغبن: ضد الربح.
(3) المقابض: جمع مقبض وهو ما يقبض عليه في السيف.
(4) السفن: جلد خشن.
(5) الزوراء: المائلة.
(6) يحفزانها: يدفعانها من خلف.
(7) العلاوة: الرأس ما دام في عنقه.
(8) القرن بالتحريك حبل يجمع به البعيران.(1/348)
وهذا السواق هو الذي يقول لبسر بن داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب:
سماؤك تمطر الذهبا ... وحربك تلتظي لهبا
وأيّ كتيبة لاقت ... ك لم تستحسن الهربا
ومن شعره السائر:
هبيني يا معذّبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت
فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت
عتاب أبي عيينة لذي اليمنين
ولابن أبي عيينة في هذا المعنى أشعار كثيرة في معاتبات ذي اليمينين وهجاء اسمعيل وغيره، سنذكرها بعد في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ومن شعره المستحسن، قوله في عيسى بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان تزوج امرأة منهم يقال لها فاطمة بنت عمر بن حفص هزارمرد (وقعت الرواية كما في الأصل وصوابه هزاذمرد بالزاي والذال معجمة ولا خلاف في الزاي)، وهو من ولد قبيصة بن أبي صفرة ولم يلده المهلّب، وكان يقال لأبي صفرة ظالم بن سرّاق:
أفاطم قد زوّجت عيسى فأيقني ... بذلّ لديه عاجل غير اجل
فإنك قد زوّجت عن غير خبرة ... فتى من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلت من رهط النبيّ فإنه ... وإن كان حسّر الأصل عبد الشمائل
فقد ظفرت كفّاه منك بطائل (1) ... وما ظفرت كفّاك منه بطائل
وقد قال فيه جعفر ومحمد ... أقاويل حتى قالها كلّ قائل
وما قلت ما قالا لأنك أختنا ... وفي السّر منا والذرا والكواهل
__________
(1) طائل: سعة وغنى.(1/349)
لعمري لقد أثبتّه في نصابه (1) ... بأن صرت منه في ملّ الحلائل
إذا ما بنو العباس يوما تبادروا ... عرا المجد وابتاعوا كرام الفضائل
رأيت أبا العباس يسمو بنفسه ... إلى بيع بيّاحاته (2) والمباقل (3)
يرخّم (4) بيض العام تحت دجاجه ... ليخرج بيضا من فراريج قابل
قال أبو العباس: وولد عيسى من فاطمة هذه لهم شجاعة ونجدة وشدة أبدان، وفاطمة التي ذكرتها هي التي كان ينسب بها أبو عيينة أخو عبد الله ويكنى عنها بدنيا. ومن ذلك قوله لها:
دعوتك بالقرابة والجوار ... دعاء مصرّح بادي السّرار
لإني عنك مشتغل بنفسي ... ومحترق عليك بغير نار
وأنت توفّرين وليس عندي ... على نار الصبابة من وقار
فأنت لأنّ ما بك دون ما بي ... تدارين العيون ولا أداري
ولو والله تشتاقين شوقي ... جمحت إليّ خالعة العذار
وقال عبد الله يعاتب ذا اليمينين:
من مبلغ عني الأمير رسالة ... محصورة عندي عن الإنشاد
كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى ... فتهور غير شماتة الحسّاد
وأظن لي منها لديك خبيئة ... ستكون عند الزاد اخر زاد
مالي أرى أمري لديك كأنه ... من ثقله طود من الأطواد
وأراك ترجيه (5) وتمضي غيره ... في ساعة الإصدار والإيراد
الله يعلم ما أتيتك زائرا ... من ضيق ذات يد وضيق بلاد
لكن أتيتك زائرا لك راجيا ... بك رتبة الاباء والأجداد
__________
(1) النصاب: الأصل.
(2) البياحات: بياحة بتشديد الياء وهي شبكة الحوت.
(3) المباقل: جمع مبقلة بفتح القاف.
(4) يرخم: يحتضن. وهي للطير عند ما يحتضن بيضه للتفقيس.
(5) ترجيه: أرجأ الشيء دفعه وأخره.(1/350)
قد كان لي بالمصر يوم جامع ... لك مصلح فيه لكل فساد
ودعوت منصورا فأعلن بيعة ... في جمع أهل المصر والأجناد
بارت مسارعتي إليك بطاعتي ... كلّ البوار واذنت بكساد
في الأرض منفسح ورزق واسع ... لي عنك في غوري وفي إنجادي
وقال أيضا يعاتبه:
أيا ذا اليمينين إنّ العتاب ... يغري (1) صدورا ويشفي صدورا
وكنت أرى أنّ ترك العتا ... ب (2) خير وأجدر ألايضيرا
إلى أن ظننت بأن قد ظننت ... بأني لنفسي أرضى الحقيرا
فأضمرت النفس في وهمها ... من الهمّ هما يكدّ الضميرا (3)
ولا بدّ للماء في مرجل ... على النار موقدة أن يفورا
ومن أشرب اليأس (4) كان الغنيّ ... ومن أشرب الحرص (5) كان الفقيرا
علام وفيم أرى طاعتي ... لديك ونصري لك الدهر بورا (6)
ألم أك بالمصر أدعو البعيد ... إليك وأدعو القريب العشيرا
ألم أك أوّل ات أتاك ... بطاعة من كان خلفي بشيرا
وألزم (7) غرزك في ما قط ال ... حروب عليها مقيما صبورا
ففيم تقدّم جفّالة (8) ... إليك أمامي وأدعى أخيرا
__________
(1) يغري: غرى هذا الحديث في صدري، يغري من باب رضى إذا علق به وأغراه الصفة فيه كأنه الصف بالضراء.
(2) يقول إن العتاب مرّو يحمل على الحقد والضغن فيثبت في الصدر وتارة ينفيه منه فيبدأ من كان به.
(3) يكد الضمير: يتعبه ويجهده.
(4) اليأس: القنوط وقطع الأمل.
(5) الحرص: بالكسر: الجشع.
(6) بورا: كسادا.
(7) الزم يريد اتبع أمرك ونهيك.
(8) جفاله: بالضم أو بالفتح الجماعة.(1/351)
كأنّك لم تر أن الفتى ال ... حميّ (1) إذا زار يوما أميرا
فقدّم من دونه قبله ... ألست تراه بسخط جديرا
ألست ترى أنّ سفّ التراب ... به كان أكرم من أن يزورا
ولست ضعيف الهوى والمدى ... أكون الصّبا (2) وأكون الدّبورا (3)
ولكن شهاب (4) فإن ترم بي ... مهمّا تجد كوكبي مستنيرا
فهل لك في الإذن لي راضيا ... فإني أرى الإذن غنما كبيرا
وكان لك الله في ما ابتعثت ... له من جهاد ونصر نصيرا
ولا جعل الله في دولة ... سبقت إليها وريح فتورا
فإنّ ورائي لي مذهبا ... بعيدا من الأرض قاعا وقورا (5)
به الضبّ تحبسه بالفلاة ... إذا خفق الال فيها بعيرا
ومالا ومصرا على أهله ... يد الله من جائر أن يجورا
وإني لمن خير سكّانه ... وأكثرهم بنفيري نفيرا
وقال عبد الله لعلي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان دعاه إلى نصرته حين ظهرت المبيّضة (6) فلم يجبه فتوعده علي. فقال عبد الله:
أعليّ إنك جاهل مغرور ... لا ظلمة لك لا ولا لك نور
أكتبت توعدني إن استبطأتني ... إني بحربك ما حييت جدير
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة البعوض يضير
وإذا ارتحلت فإن نصري للأولى ... أبواهم المهديّ والمنصور
__________
(1) الحمي: كغني من لا يحتمل الضيم.
(2) الصبا: بالفتح: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش.
(3) الدبور بالفتح أيضا ريح يقابلها وضرب ذلك مثلا للاضطراب والتحول.
(4) الشهاب بالكسر الماضي في الأمر وهو في الأصل الشعلة من النار ساطعة.
(5) وقور: الأرض ذات الحجارة السوداء.
(6) المبيضة: كمحدثه فرقه من الثنوية سموا بذلك لتبيضهم بثيابهم مخالفة للمسودة من العباسين.(1/352)
نبتت عليه لحومنا ودماؤنا ... وعليه قدّر سعينا المشكور
وقال عبد الله في قتل داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب: من قتل بأرض السند بدم أخيه المغيرة بن يزيد:
أفنى تميما سعدها وربابها ... بالسند قتل مغيرة بن يزيد
صعقت عليهم صعقة عتكيّة ... جعلت لهم يوما كيوم ثمود
ذاقت تميم عركتين (1) عذابنا ... بالسند من عمر ومن داود
قدنا الجياد من العراق إليهم ... مثل القطا (2) مستنّة لورود
يحملن من ولد المهلّب عصبة ... خلقت قلوبهم قلوب أسود
وفي المغيرة يقول في قصيدة مطولة:
إذا كرّ فيهم كرّة أفرجوا له ... فرار بغاث (3) الطير صادفن أجدلا (4)
وما نيل إلا من بعيد بحاصب ... من النّبل (5) والنشّاب (6) حتى تجدّلا (7)
وإني لمثن بالذي كان أهله ... أبو حاتم إن ثاب دهر فاعضلا
فتى كان يستحيي من الذمّ أن يرى ... له مخرجا يوما عليه ومدخلا
وكان يظنّ الموت عارا على الفتى ... يد الدهر إلا أن يصاب فيقتلا
منيّه ابناء المهلّب إنهم ... يرون بها حتما كتابا معجّلا
وقد أطلق لله اللسان بقتل من ... قتلنا به منهم ومنّ وأفضلا
أناح بهم داود يصرف (8) نابه ... ويلقي عليهم كلكلا ثم كلكلا
__________
(1) العركة: المعركة.
(2) القطا: نوع من الطير.
(3) بغاث: جمع بغاثة: الطير الضعيف.
(4) الأجدل: الصقر.
(5) بحاصب من النبل: أصل الحاصب السحاب الذي يرمي التراب أو البرد.
(6) النشاب بالضم النيل أيضا واحدته بهاء.
(7) تجدل: صرع على الأرض.
(8) الصريف: صوت البعير وهنا كناية عن النشاط.(1/353)
يقتّلهم جوعا إذا ما تحصّنوا ... وتقريهم (1) هوج المجانيق جندلا
وهذا شعر عجيب من شعره وفي هذه القصة يقول:
أبت إلّا بكاء وانتحابا ... وذكرا للمغيرة واكتئابا
ألم تعلم بأن القتل ورد ... لنا كالماء حين صفا وطابا
وقلت لها قري وثقي بقولي ... كأنك قد قرأت به كتابا
فقد جاء الكتاب به فقولي ... ألا لا تعدم الرأي الصوابا
جلبنا الخيل من بغداد شعثا ... عوابس تحمل الأسد الغضابا
بكلّ فتى أغرّ مهلّبيّ ... تخال بضوء صورته شهابا
ومن قحطان كلّ أخي حفاظ ... إذا يدعى لنائبة أجابا
فما بلغت قرى كرمان حتى ... تخدّد لحمها عنها فذابا
وكان لهنّ في كرمان يوم ... أمرّ على الشراة بها الشرابا
وإنّا تاركون غدا حديثا ... بأرض السند سعدا والربابا
تفاخر بابن أحوزها تميم ... لقد حان المفاخر لي وخابا
وفي مثل هذا البيت الأخير يقول أخوه أبو عيينة:
أعاذل صه (2) لست من شيمتي ... وإن كنت لي ناصحا مشفقا
أراك تفرّقني (3) دائبا ... وما ينبغي لي أن أفرقا
أنا ابن الذي شاد لي منصبا ... وكان السماك إذا حلّقا
قريع العراق (4) وبطريقهم ... وعزهم المرتجى المنّقى
فمن يستطيع إذا ما ذهب ... ت أنطق في المجد أن ينطقا
أنا ابن المهلّب ما فوق ذا ... لعال إلى شرف مرتقى
__________
(1) تقريهم: من القرى ما يؤدم للضيف.
(2) صه: بسكون الهاء كلمة زجر للمخاطب أي أسكت.
(3) تفرقني: التفريق: التخويف.
(4) القريع: المختار والبطريق الرجل المختال المزهو أو القائد في قواد الروم.(1/354)
فدعني أغلي ثياب الصبا ... بجدّتها قبل أن تخلقا
(قال أبو الحسن، وهذا شعر حسن وأوله:
ألم تنه نفسك أن تعشقا ... وما أنت والعشق لولا الشقا
أمن بعد شربك كأس النهى ... وشمّك ريحان أهل التقا
عشقت فأصبحت في العاشقي ... ن أشهر من فرس أبلقا
ثم قال: أعاذل صه لست من شيمتي. ثم قال بعد قوله: فدعني أغلي ثياب الصّبا:
أدنياي (1) من غمر بحر الهوى ... خذي بيدي قبل أن أغرقا
أنا لك عبد فكوني كمن ... إذا سرّه عبده أعتقا
قال أبو الحسن قوله: أنا لك عبد، فوصل بالألف فهذا إنما يجوز في الضرورة والألف تثبت في الوقف لبيان الحركة فلم يحتج إلى الألف، ومن أثبتها في الوصل قاسه على الوقف للضرورة كقوله:
فإن يك غثّا (2) أو سمينا فإنني ... سأجعّل عينيه لنفسه مقنعا
لأنه إذا وقف، وقف على الهاء وحدها فأحرى الوصل على الوقف، وأنشدوا قول الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوا ... في بعد المشيب كفى ذاك عارا
والرواية الجيدة: فكيف يكون انتحالي القوافي بعد المشيب.
سقى الله دنيا على نأيها ... من القطر منبعقا ريّقا
ألم أخدع الناس عن حبّها ... وقد يخدع الكيّس الأحمقا
بلى وسبقتهم إنني ... أحبّ إلى المجد أن أسبقا
__________
(1) أدنياي: الهمزة للنداء. دنيا إسم إمرأة.
(2) الغث: غير القيم.(1/355)
ويوم الجنازة إذ أرسلت ... على رقبة أن جيء الخندقا (1)
إلى السّالّ فاختر لنا مجلسا ... قريبا وإياك أن تخرقا (2)
هذا مما يغلط فيه عامة أهل البصرة، يقولون السال بالتخفيف. وإنما هو السالّ يا هذا وجمعه سلّان، وهو الغالّ وجمعه غلّان، وهو الشقّ الخفيّ في الوادي:
فكنّا كغصنين من بانة ... رطيبين حدثان ما أورقا
فقالت لترب لها استنشدي ... هـ من شعره الحسن المنتقى
فقلت أمرت بكتمانه ... وحذّرت إن شاع أيسرقا
فقالت بعيشك قولي له ... تمنّع لعلّك أن تنفقا
قوله لعلك أن تنفقا، اضطرار، وحقه لعلك تنفق، لأن لعلّ من أخوات إنّ، فأجريت مجراها، ومن أتى بأن فلمضارعتها عسى. كما قال متمّم بن نويرة:
لعلّك يوما أن تلّم ملمّة ... عليك من اللائي يدعنك أجدعا
(وهو كثير). قال أبو العباس زعم أبو معاذ النميريّ انه كان يعتاد عبد الله بن محمد بن أبي عيينة ويكثر المقام عنده، وكان راوية لشعره. وأمّ ابن أبي عيينة بن المهلب يقال لها خيرة، وهي من بني سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فأبطأت عليه أياما فكتب إليّ:
تمادى في الجفاء أبو معاذ ... وراوغني ولاذ بلا ملاذ
ولولا حقّ أخوالي قشير ... أتته قصائد غير اللّذاذ
كما راح الهلاليّ بن حرب ... به سمة على عنق وحاذ (3)
يعني محمد بن حرب بن قبيصة بن مخارق الهلاليّ، وكان من أقعد
__________
(1) الخندق: حفر حول اسوار المدن.
(2) يقال خرق الرجل: إذا ندب.
(3) الحاذ: الظهر.(1/356)
الناس. ولقبيصة بن المخارق صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سار إليه فأكرمه وبسط له رداءه. وقال مرحبا بخالي. فقال: يا رسول الله، رقّ جلدي ودقّ عظمي، وقل مالي، وهنت على أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أبكيت بما ذكرت ملائكة السماء. ومحمد بن حرب هذا ولي شرطة (1) البصرة سبع مرات، وكان على شرطة جعفر بن سليمان على المدينة، وكان كثير الأدب غزيره، فأغضب ابن أبي عيينة في حكم جرى عليه بحضرة اسحق بن عيسى، وكان على شرطته إذ ذاك، ففي ذلك يقول عبد الله بن أبي عيينة:
بأخوالي وأعمامي أقامت ... قريش ملكها وبها تهاب
متى ما أدع أخوالي لحرب ... وأعمامي لنائبة أجابوا
أنا ابن أبي عيينة فرع قومي ... وكعب والدي وأبي كلاب
خلا ابن عكابة الظربان (2) سهل ... له فسو تصاد به الضباب
واخر من هلال قد تداعى ... فصار كأنه الشيء الخراب
__________
(1) الشرطة بالضم: أعوان الولاة، سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها.
(2) الظربان: حيوان كالهر.(1/357)
33 - باب في كلام الحكماء
قال أبو العباس: كان ابن شبرمة إذا نزلت به نازلة قال سحابة ثم تنقشع (1).
وكان يقال أربع من كنوز الجنة، كتمان المصيبة وكتمان الصدقة وكتمان الفاقة وكتمان الوجع. قال عمر بن الخطاب رحمه الله: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيّهما ركبت. وقال العتبيّ محمد بن عبيد الله يذكر ابنا له مات:
أصبحت بخدّي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحمد في المصائب كلّها ... إلا عليك فإنه مذموم
قال أبو العباس: واحسب أن حبيبا الطائي سمع هذا فاسترقه في بيتين أحدهما قوله في إدريس بن بدر الشامي:
دموع أجابت داعي الحزن همّع ... توصّل منا عن قلوب تقطّع
وقد كان يدعى لابس الصبر حازما ... فأصبح يدعى حازما حين يجزع
والاخر قوله:
قالوا الرحيل فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
الصبر أجمل غير أن تلذّذا ... في الحبّ أحرى أن يكون جميلا
وقال سابق البربريّ:
وإن جاء ما لا تستطيعان دفعه ... فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا
__________
(1) تنقشع: تنكشف وهذا مجاز عن زوال المصيبة(1/359)
وقال اخر أيضا:
اصبر على القدر المجلوب وارض به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
(فما صفا لامرىء عيش يسرّ به ... ألا سيتبع يوما صفوه كدر)
حديث خالد بن صفوان مع بلال بن أبي بردة
وكان خالد بن صفوان يدخل على بلال بن أبي بردة يحدّثه، فيلحن.
فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السقّاات (1)؟ قال التوّزيّ: فكان خالد بن صفوان بعد ذلك يأتي المسجد ويتعّلم الإعراب، وكفّ بصره، فكان إذا مرّ به موكب بلال يقول: ما هذا؟ فيقال له الأمير. فيقول خالد: سحابة صيف عن قليل تقشّع. فقيل ذلك لبلال، فأجلس معه من يأتيه بخبره، ثم مرّ به بلال. فقال خالد: كما كان يقول، فقيل ذلك لبلال، فأقبل على خالد. فقال: لا تقشّع والله حتى تصيبك منها بشؤبوب، برد، فضربه مائتي سوط. وقال بعضهم: بل أمر به فديس بطنه. قوله بشؤبوب، مهموز وهو الدفعة من المطر بشدة، وجمعه شابيب. قال النابغة يخاطب القبيلة:
ولا تلاقي كما لاقت بنو أسد ... فقد أصابتهم منها بشؤبوب
يريد ما نال بني أسد من غارة النعمان عليهم، وضرب الشؤبوب مثلا للغارة، والغارة تضرب لذلك مثلا، كما يقال شنّ عليهم الغارة، أي صبها عليهم. قال ابن هرمة:
كم بازل قد وجأت لبّتها ... بمستهلّ الشؤبوب أو جمل
يريد ما وجأها به من حديد. يقول: لما وجأتها دفعت بشؤبوب من الدم.
فكأنه قال: بسنان مستهلّ الشؤبوب، أو ما أشبه ذلك. وكان خالد بن صفوان أحد من إذا عرض له القول، قال. فيقال إن سليمان بن عليّ سأله عن ابنيه
__________
(1) السقاات: جمع سقاءة وهي المرأة التي تسقي الماء.(1/360)
جعفر ومحمد فقال: كيف إحمادك جوارهما يا أبا صفوان؟ فقال:
أبو مالك جار لها وابن برثن ... فيا لك جاري ذلّة وصغار
(ش قوله أبو مالك صوابه أبو نافع وهو مولى لعبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه)، فأعرض عنه سليمان، وكان سليمان من أحلم الناس وأكرمهم، وهو في الوقت الذي أعرض فيه عنه والي البصرة وعمّ الخليفة المنصور. والشعر الذي تمثّل به خالد ليزيد بن مفرّغ الحميريّ قال:
سقى الله دارا لي وأرضا تركتها ... إلى جنب داري معقل بن يسار
أبو مالك جار لها وابن برثن ... فيالك جاري ذلّة وصغار
وكان الحسن يقول: لسان العاقل من وراء قلبه، فإن عرض له القول نظر فإن كان له أن يقول، قال. وإن كان عليه القول أمسك. ولسان الأحمق أمام قلبه، فإذا عرض عليه القول قال، كان عليه أو له. وخالد لم يكن يقول الشعر، ويروى أنه وعد الفرزدق شيئا فأخره عنه، وكان خالد أحد البخلاء فمر به الفرزدق فهدّده فأمسك عنه حتى جاز الفرزدق ثم أقبل على أصحابه فقال:
إن هذا قد جعل إحدى يديه سطحا (1) وملأ الاخرى سلحا (2). وقال إن عمرتم سطحي وإلا نضحتكم بسلحي. وقال إياس بن معاوية المزنيّ أبو واثلة (3): وكان أحد العقلاء الدهاة الفضلاء لخالد: لا ينبغي أن نجتمع في مجلس. فقال له خالد: وكيف يا أبا واثلة؟ فقال: لأنك لا تحب أن تسكت وأنا لا أحب أن أسمع.
في الدهاء والاحتيال والمكر
وخاصم إلى إياس رجل رجلا في دين، وهو قاضي البصرة، فطلب منه
__________
(1) سطحا: أي منبسطة للسؤال.
(2) السلح: النجو وهو مجاز عن توازع شعره.
(3) أبو واثلة: كنية أياس.(1/361)
البيّنة فلم يأته بمقنع، فقيل للطالب: استجر وكيع بن أبي سود حتى يشهد لك فإن إياسا لا يجترىء على ردّ شهادته ففعل. فقال وكيع. والله لأشهدنّ لك، فإن رد شهادتي لأعمّلنّه السيف، فلما طلع وكيع فهم إياس عنه، فأقعده إلى جانبه ثم سأله عن حاجته. فقال: جئت شاهدا. فقال له: يا أبا المطرّف، أتشهد كما تفعل الموالي والعجم، أنت تجلّ عن هذا؟ فقال: إذن والله لا أشهد. فقيل لوكيع بعد: إنما خدعك. فقال أولى لابن اللخناء (1). وشهد رجل من جلساء الحسن بشهادة عند إياس، فرده، فشكا الرجل ذلك إلى الحسن، فأتاه الحسن فقال: يا أبا واثلة، لم رددت شهادة فلان؟ فقال: يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدََاءِ} (2) وليس فلان ممن أرضى.
واختلف نصراني إلى أبي دلامة مولى بني أسد يتطّبب لابن له فوعده إن برأ على يديه أن يعطيه ألف درهم، فبرأ ابنه، فقال للمتطبب: إن الدراهم ليست عندي، ولكن والله لأوصّلنّها إليك، ادّع على جاري فلان، هذه الدراهم فإنه موسر وأنا وابني نشهد لك فليس دون أخذها شيء فصار النصراني بالجار إلى ابن شبرمة فسأله البينة، فطلع عليه أبو دلامة وابنه، ففهم القاضي، فلما جلس بين يديه قال أبو دلامة:
إن الناس غطّوني تغطّيت عنهم ... وإن بحثوني كان فيهم مباحث
(وإن حفروا بئري حفرت بارهم ... ليعلم قوم كيف تلك النّبائث (3)
فقال ابن شبرمة: من ذا الذي يبحثك يا أبا دلامة؟ ثم قال للمدعي قد عرفت شاهديك، فخلّ عن خصمك ورح العشية إليّ. فراح إليه فغرمها من ماله. وشهد أبو عبيدة عند عبيد الله بن الحسن العنبريّ على شهادة، ورجل عدل. فقال عبيد الله للمدّعي: أما أبو عبيدة فقد عرفته فزدني شاهدا، وكان
__________
(1) اللخناء: المرأة التي لم تختتن، المنتنة.
(2) سورة البقرة: الاية 282.
(3) النبائث: تراب الابار.(1/362)
عبيد الله أحد الأدباء الفقهاء الصّلحاء. وزعم ابن عائشة قال: عتبت عليه مرة في شيء. قال: فلقيني يدخل من باب المسجد يريد الحكم، وأنا أخرج.
فقلت معرّضا به البيت للبعيث:
طمعت بليلى أن تريع (1) وإنما ... تقطّع أعناق الرجال المطامع
فأنشدني معرّضا تاركا لما قصدت له:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن ... سهود على ليلى عدول مقانع (2)
وكان ابن عائشة يتحدّث عنه حديثا عجيبا، ثم عرف مخرج ذلك الحديث. ذكر ابن عائشة، وحدثني عنه جماعة لا أحصيهم كثرة: إن عبد الله بن الحسن شهد عنده رجل من بني نهشل على أمر أحسبه دينا فقال له: أتروي قول الأسود بن يعفر: نام الخليّ (3) فما أحسّ رقادي (4). فقال له الرجل: لا. فردّ شهادته وقال: لو كان في هذا خير لروى شرف أهله.
حلم سوار بن عبد الله
فحدثني شيخ من الأزد حديثا ظننت أن عبيد الله اياه قصد، قال: تقدم رجل إلى سوّار بن عبد الله، وسوّار ابن عمّ عبيد الله بن الحسين، يدّعي دارا وامرأة تدافعه وتقول لسوّار: إنها والله خطّة ما وقع فيها كتاب قطّ. فأتى المدّعي بشاهدين يعرفهما سوّار فشهد له بالدار وجعلت المرأة تنكر إنكارا يعضده التصديق ثم قالت: سل عن الشهود فإن الناس يتغيرون. فردّ المسئلة فحمد الشاهدان فلم يزل يريّث أمورهم ويسأل الجيران، فكلّ يصدّق المرأة
__________
(1) أن تريع: أن ترجع يقال راع فلان يريع.
(2) المقانع: جمع مقنع بفتح الميم والنون أي رضي يقنع بشهادته ويعضهم لا يثنيه ولا يجمعه لأنه مصدر.
(3) الخلي: الخالي من هموم الحب.
(4) الاحساس: العلم بالحواس.(1/363)
والشاهدان قد ثبتا، فشكا ذلك إلى عبيد الله فقال له عبيد الله: أنا أحضر مجلس الحكم معك فاتيك بالجليّة إن شاء الله تعالى. فقال للشاهدين: ليس للقاضي أن يسألكما كيف شهدتما ولكن أنا أسألكما، قال: فقالا: أراد هذا أن يحجّ فأدارنا على حدود الدار من خارج وقال: هذه داري فإن حدث بي حادث فلتبع ولتقسم على سبيل كذا. قال: أفعندكما غير هذه الشهادة؟ قالا:
لا. فقال: الله أكبر وكذا ففهما أنهما قد اغترّا. فكان سوّار إذا سأل عن عدالة الشاهد يتبع المسألة أن يقول: أفحائز العدالة هو؟ فظننت أن عبيد الله رأى في الشاهد غفلة فاختبره بهذا وما أشبهه. وحدثني أحد أصحابنا أن رجلا من الأعراب تقدم إلى سوّار في أمر فلم يصادف عنده ما يحبّ فاجتهد فلم يظفر بحاجته، قال: فقال الأعرابي وكانت في يده عصا:
رأيت رؤيا (1) ثم غرّتها ... وكنت للأحلام عبّارا
بأنّني أخبط في ليلتي ... كلبا فكان الكلب سوّار
ثم انحنى على سوّار بالعصا فضربه حتى منع منه. قال: فما عاقبه سوّار بشيء. قال: وحدّثت أن أعرابيا من بني العنبر سار إلى سوّار فقال: إن أبي مات وتركني وأخا لي، وخطّ خطين في الأرض. ثم قال: وهجينا، وخطّ خطّا ناحية، فكيف نقسم المال؟ فقال أههنا وارث غيركم؟ قال: لا. قال: المال بينكم أثلاثا فقال: لا أحسبك فهمت عني، إنه تركني وأخي وهجينا لنا. فقال سوار: المال بينكم أثلاثا. قال: فقال الأعرابي: أيأخذ الهجين (2) كما اخذ وكما يأخذ أخي؟ قال: أجل. فغضب الأعرابي. قال: ثم أقبل على سوّار فقال: تعلّم والله إنك قليل الخالات بالدهناء. فقال سوّار: إذا لا يضيرني في ذلك عند الله شيئا (قيل إنه ليس بالدهنا أمة وإنما كان فيها الحرائر) وكان عقيل بن علّفة من الغيرة والأنفة على ما ليس عليه أحد علمناه، فخطب إليه
__________
(1) يقال عبرت الرؤيا تعبيرا وعبرتها من باب نصر: أوّلها وفسّرها وأخبر بما يؤدي إليه أمرها.
(2) الهجين: من الناس والخيل. من قبل الأم إذا كان الأب عتيق والأم ليست كذلك.(1/364)
عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه، وكانت لعقيل إليه حاجات فقال:
أما إذا كنت فاعلا بجنّبني هجناءك. وخطب إليه ابنته إبراهيم بن هشام بن اسمعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة وهو خال هشام بن عبد الملك ووالي المدينة وكان أبيض شديد البياض فرده عقيل وقال:
رددت صحيفة القرشيّ لما ... أبت أعراقه إلّا احمرارا
في الرثاء
وكانت حفصة بنت عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله قد ميت عنها، فخطبها جماعة من قريش أحدهم عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب وأحدهم إبراهيم بن هشام، فكان أخوها محمد بن عمران إذا دخل إلى إبراهيم بن هشام أوسع له وأنشده:
وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب
أحبّك أن نزلت جبال حسمى (1) ... وأن ناسبت بثنة من قريب
وهذا الشعر لجميل بن عبد الله بن معمر العذريّ فأما جميل بن معمر الجمحيّ فلا نسب بينه وبين معمر، أي ليس بينه وبينه أب اخر. وكانت له صحبة وكان خاصّا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويروى عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: أتيت باب عمر بن الخطاب رحمه الله فسمعته ينشد بالركبانيّة:
وكيف ثوائي (2) بالمدينة بعد ما ... قضى وطرا (3) منها جميل بن معمر
فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ فقلت: نعم. فقال: إنّا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم. (قال ش: وهم أبو العباس رحمه الله
__________
(1) حسمي: بالكسر أرضي بالبادية بها جبال شواهق لا يكاد القتام يقارنها.
(2) ثوائي: إقامتي.
(3) الوطر: الغاية.(1/365)
في هذا، وإنما القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي سمع عبد الرحمن بن عوف ينشد) وكان جميل بن معمر الجمحي قتل أخا لأبي خراش الهذليّ يوم فتح مكة وأتاه من ورائه وهو موثق فضربه. ففي ذلك يقول أبو خراش:
فأقسم لو لاقيته غير موثق ... لابك (1) بالعرج الضباع النواهل
لكان جميل أسوأ الناس صرعة ... ولكنّ أقران الظهور مقاتل
فليس كعهد الدار يا أمّ مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئا فاستراح العواذل
قوله: أسوأ الناس صرعة، أي الهيئة التي يصرع عليها، كما تقول:
جلست جلسة وركبت ركبة، وهو حسن الجلسة والركبة أي الهيئة التي يجلس عليها ويركب عليها، وكذلك القعدة والنّيمة وقوله: لابك أي لعادك، وأصل هذا من الإياب والرجوع.
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ.} (2) وقال عبيد بن الأبرص:
وكلّ ذي غيبة يؤب ... (وغائب الموت لا يؤب)
وقوله: بالعرج فهو ناحية من مكة به ولد عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان فسمي العرجيّ، ويقال: بل كان له مال بذلك الموضع فكان يقيم فيه.
(قال ش: هذا وهم من أبي العباس رحمه الله، وأما صوابه فعبد الله بن عمر بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه). والنواهل فيه قولان: أحدهما العطاش وليس بشيء، والاخر الذي قد شرب شربة فلم يرو فاحتاج إلى أن يعلّ. كما قال امرؤ القيس:
إذهنّ أقساط كرجل الدبى (3) ... أو كقطا كاظمة الناهل
__________
(1) لابك: كناية عن قتله وطرحه في الفلاة.
(2) سورة الغاشية: الاية 26.
(3) الدبى: صغار الجياد.(1/366)
وقوله: أحاطت بالرقاب السلاسل يقول: جاء الاسلام فمنع من الطلب بالاوتار إلّا على وجهها.
وكان يقال أن أوّل من أظهر الجور من القضاة في الحكم بلال بن أبي بردة، وكان أمير البصرة وقاضيها، وفي ذلك يقول رؤبة:
وأنت يا ابن القاضيين قاضي ... (معتزم (1) على الطريق ماضي)
وكان بلال يقول: إن الرجلين ليتقدّمان إليّ فأجد أحدهما على قلبي أخفّ فأقضي له. ويروى أن بلالا وفد على عمر بن عبد العزيز بخناصرة (2)
فسدك (3) (ش معناه لصق) لسارية من المسجد فجعل يصّلي إليها ويديم الصلاة. فقال عمر بن عبد العزيز للعلاء بن المغيرة بن البندار (4): إن يكن سرّ هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع. فقال العلاء: أنا اتيك بخبره. فأتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجة. ففعل فقال له العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي؟ قال: لك عمالتي (5) سنة. وكان مبلغها عشرين ألف درهم (العمالة بضم العين أجرة العامل). قال: فاكتب لي بذلك. قال: فأرفد (6) (معناه أسرع) بلال إلى منزله فأتى بدواة وصحيفة، فكتب له بذلك. فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما راه كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان والي الكوفة: أما بعد فإن بلالا غرّنا بالله فكدنا نغترّ، فسبكناه فوجدناه خبثا كلّه والسلام. ويروى أنه كتب إلى عبد الحميد إذا ورد عليك كتابي هذا فلا تستعن على عملك بأحد من ال أبي
__________
(1) معتزم: مجدّ في أمرك.
(2) خناصر: بالضم بلد بالشام من أعمال حلب سمي بخناصره بن عمرو بن الحارث.
(3) فسدك لسارية: لزم شد.
(4) البندار: بالضم في الأصل التاجر الذي يلزم المعادن أو الذي يخزن بضائعه.
(5) العمالة: مثلث العين.
(6) فأرفد: أي مشى مشية تشبه الهرولة.(1/367)
موسى. قال أبو العباس: وكان بلال داهية (1) لقنا (2) أديبا. ويقال إن ذا الرمّة لما أنشده:
سمعت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي (3) بلالا
تناخي عند خير فى يمان ... إذا النكباء (4) نوحت الشمالا
فلما سمع قوله: فقلت لصيدح انتجعي بلالا. قال: يا غلام مر لها بقتّ ونوى. أراد أن ذا الرمّة لا يحسن المدح. قوله: سمعت الناس ينتجعون حكاية، والمعنى إذا حقّق إنما هو سمعت هذه اللفظة أي قائلا يقول: الناس ينتجعون غيثا، ومثل هذا قوله:
وجدنا في كتاب بني تميم ... أحقّ الخيل بالركض (5) المعار (6)
فمعناه وجدنا هذه اللفظة مكتوبة. فقوله: أحقّ الخيل، ابتداء، والمعار خبره، وكذلك الناس ابتداء وينتجعون خبره. ومثل هذا في الكلام: قرأت الحمد لله ربّ العالمين، إنما حكيت ما قرأت. وكذلك: قرأت على خاتمه الله أكبر يا فتى، فهذا لا يجوز سواه. وقوله: إذا النكباء ناوحت الشمالا، فإن الرياح أربع، ونكباواتها أربع وهي: الريح التي تأتي من بين ريحين فتكون بين الشمال والصبا، أو الشمال والدبور، أو الجنوب والدبور، أو الجنوب والصبا. فإذا كانت النكباء تناوح الشمال فهي اية الشتاء، ومعنى تناوح تقابل.
يقال: تناوح الشجر إذا قابل بعضه بعضا. وزعم الأصمعي أن النائحة بهذا سمّيت، لأنها تقابل صاحبتها. وقال يحيى بن نوفل الحميريّ ويقال إنه لم يمدح أحدا قط:
__________
(1) الداهية: من الدهاء وهو الأدب وجوده الرأي.
(2) اللقن: بكسر القاف سريع الفهم، حسن التلقن لما يسمعه.
(3) الإنتجاع: والنجعة بالضم طلب الكلأ ومساقط الغيث.
(4) النكباء: الريح الواقعة بين ريحين.
(5) الركض: حث الفرس على العدو ثم كثر حتى استعمل في العدو نفسه.
(6) المعار بالضم الفرس المضمر أو المنتوف الذنب أو السجي.(1/368)
فلو كنت ممتدحا للنوال ... فتى لامتدحت عليه بلالا
ولكنّني لست ممّن يريد ... بمدح الرجال الكرام السؤالا
سيكفي الكريم أخاه الكريم ... ويقنع بالودّ منه نوالا
ومن أحسن ما امتدح به ذو الرمّة بلالا قوله:
نقول عجوز مدرجي متروّحا ... على بيتها من عند أهلي وغاديا
أذو زوجة بالمصر أم ذو خصومة ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقلت لها لا إنّ أهلي لجيرة ... لأكثبة الدهنا جميعا وماليا
(قوله: لا لحن وهذا اللحن راجع على المرأة، لأن لا، لا تقع إلّا في جواب أو وإنما سألته بأم وهي لم يستقر عندها علم).
وما كنت مذا أبصرتني في خصومة ... أراجع فيها يا ابنة الخير قاضيا
ولكنني أقبلت من جانبي قسا ... أزور فتى نجدا (1) كريما يمانيا
من ال أبي موسى ترى القوم حوله ... كأنّهم الكروان أبصرن بازيا
مرمّين من ليث عليه مهابة ... تفادى أسود الغاب منه تفاديا
وما الخرق (2) منه يرهبون ولا الخنى (3) ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا
قوله: مدرجي يقول مروري، فأما قولهم في المثل: خير من دبّ ومن درج فمعناه من حيي ومن مات، يريدون من دبّ على وجه الأرض ومن درج عنها فذهب. وقوله: أراك لها بالبصرة العام ثاويا، فإنه يقال في هذا المعنى ثوى الرجل فهو ثاو يا فتى إذا أقام، وهي أكثر. ويقال: أثوى فهو مثو يا فتى وهي أقلّ من تلك. قال الأعشى:
أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا ... فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
__________
(1) النجد: الشجاع.
(2) الخرق: بالضم الجهل والسفه.
(3) الخنى: الفحش في القول.(1/369)
وقوله: قسا فهو موضع من بلاد بني تميم. وقوله: لأكثبة الدهنا، فأكثبة جمع كثيب وهو أقلّ العدد، والكثير كثب وكثبان. والدهنا من بلاد بني تميم ولم أسمع فيها إلا القصر من أهل العلم والعرب. وسمعت بعد من يروي مدّها ولا أعرفه. قال ذو الرمة:
حنّت إلى نعم الدهنا فقلت لها ... أمّي هلالا على التوفيق والرشد
يعني هلال بن أحوز المازني وقال جرير: باز يصعصع بالدهنا قطا جونا. وقوله: كأنهم الكروان أبصرن بازيا، فالكروان جماعة كروان، وهو طائر معروف، وليس هذا الجمع لهذا الاسم بكماله ولكنه على حذف الزيادة، فالتقدير كرا وكروان كما تقول: أخ وإخوان، وورل (1) وورلان، وبرق وبرقان.
والبرق أعجميّ ولكنه قد أعرب وجمع كما تجمع العربية، واستعمل الكروان جمعا على حذف الزيادة واستعمل في الواحد، كذلك تقول العرب في مثل من أمثالها:
أطرق كرا أطرق كرا (2) ... إنّ النعام في القرى
يريدون الكروان. وقوله: من ال أبي موسى ترى القوم حوله، فقال: ترى ولم يقل ترين، وكانت المخاطبة أوّلا لأمرأة، ألا تراه يقول:
وما كنت مذ أبصرتني في خصومة ... أراجع فيها يا ابنة الخير قاضيا
ثم حوّل المخاطبة إلى رجل، والعرب تفعل ذلك.
قال الله عزّ وجل: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}. (3) فكأنّ التقدير والله أعلم كان للناس، ثم حوّلت المخاطبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال عنترة بن شدّاد:
__________
(1) الورل: دابة تشبه الضب.
(2) أطرق كرا: هذا مثل يضرب للذي ليس له غنى عن أمر من الأمور.
(3) سورة يونس: الاية 23.(1/370)
شطّت (1) مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم
وقال جرير:
ما للمنازل لا تجيب حزينا ... أصممن أم قدم المدى فبلينا
وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... وإذا أردن سوى هواك عصينا
قال أولا لرجل ثم قال: سوى هواك. وقال اخر:
فدى لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنّه منه أتاني
على تحويل المخاطبة. وقوله: مرمّين، يريد سكوتا مطرقين. يقال: أرمّ إذا أطرق ساكتا. وقوله: تفادى أسود الغاب، معناه تفتدي منه بعضها ببعض.
وفي الخبر أن سليمان بن عبد الملك أمر بدفع عيال الحجّاج ولحمته إلى يزيد بن المهلّب فتفادى منهم، تأويله فدى نفسه من ذلك المقام بغيره.
وقوله:
وما الخرق (2) منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا
إذا رفعت هيبة، فالمعنى ولكن أمره هيبة، كما قال الله عزّ وجل: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلََّا سََاعَةً مِنْ نَهََارٍ بَلََاغٌ} (3) أي ذلك بلاغ ومثله قوله عزّ وجل: {طََاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} (4)، يكون رفعه على ضربين، أحدهما: أمرنا طاعة وقول معروف، والوجه الاخر: طاعة وقول معروف أمثل ومن نصب هيبة أراد المصغر، أي يهاب هيبة. وأحسن ما قيل في هذا المعنى:
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
وقال الفرزدق يعني يزيد بن المهلّب:
__________
(1) شطت: بعدت.
(2) الخرق: الحمق.
(3) سورة الأحقاف: الاية 35.
(4) سورة محمد: الاية 21.(1/371)
فإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار
وفي هذا البيت شيء يستطرفه النحويون وهو أنهم لا يجمعون ما كان من فاعل نعتا على فواعل لئلا يلتبس بالمؤنث، لا يقولون: ضارب وضوارب وقاتل وقواتل، لأنهم يقولون في جمع ضاربة ضوارب وقاتلة قواتل. ولم يأت ذلك إلّا حرفين، أحدهما: في جمع فارس فوارس لأن هذا مما لا يستعمل في النساء، فأمنوا الالتباس. ويقولون في المثل: هو هالك في الهوالك فأجروه على أصله لكثرة الاستعمال لأنه مثل، فلما احتاج الفرزدق لضرورة الشعر أجراه على أصله، فقال: نواكس الأبصار، ولا يكون مثل هذا أبدا إلّا في ضرورة.(1/372)
34 - باب في بعض هجاء جرير
قال جرير: ونزل بقوم من بني العنبر بن عمرو بن تميم فلم يفروه حتى اشترى منهم القرى، فانصرف وهو يقول:
يا مالك بن طريف إنّ بيعكم ... رقد القرى مفسد للدّين والحسب
قالوا: نبيعكه بيعا. فقلت لهم: ... بيعوا الموالي واستحيوا من العرب
لولا كرام طريف ما غفرت لكم ... بيعي قراي ولا أنسأتكم غضبي
هل أنتم غير أو شاب (1) زعانفه ... ريش الذنابى وليس الرأس كالذنب
قوله: يا مالك بن طريف، فمن نصب فإنما هو على أنه جعل ابنا تابعا لما قبله كالشيء الواحد وهو أكثر في الكلام إذا كان إسما علما منسوبا إلى اسم علم، جعل ابن مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد، ومثل ذلك: يا حكم ابن المنذر بن الجارود (2). ومن وقف على الاسم الأول ثم جعل الثاني نعتا لم يكن إلّا الرفع، لأنه مفرد نعت بمضاف فصار كقولك: يا زيد ذا الجمّة.
وقوله: ولا أنسأتكم غضبي. يقول: لم أؤخّره عنكم. يقال: نسأ الله في
__________
(1) الأوشاب: الاخلاط الرعاع من الناس والزعانقة الفرق المختلفة الذين أصلهم واحد.
(2) الجارود: لقب لرجل من الصحابة واسمه بشر بن عمرو بن عبد القيس، يكنى: أبا غياث، وفي سبب تسميته «الجارود» قصة أو أكثر. كان سيدا في قومه بني عبد القيس، ورئيسا، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم سنة عشر وكان ممن أدرك الردة مع قومه وثبت على إسلامه علما أنه كان قبل نصرانيا فأسلم وحسن أسلامه توفي سنة 21هـ في مكان يسمى باسمه: «عقبة الجارود».
أنظر: الإستيعاب 1/ 264262، لسان العرب مادة «جرد»، الطبقات الكبرى 5/ 560، سيرة ابن كثير 4/ 91، شرح نهج البلاغة 18/ 5755الإشتقاق: 326.(1/373)
أجلك وأنسأ الله أجلك. والنسيء من هذا، ومعناه تأخير شهر عن شهر.
وكانت النسأة من بني مدلج بن كنانة، فأنزل الله عزّ وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيََادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (1)، لأنهم كانوا يؤخّرون الشهور فيحرّمون غير الحرام ويحلّون غير الحلال لما يقدّرونه من حروبهم وتصرّفهم. فاستوت الشهور لما جاء الإسلام وأبان ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: إنّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض. وقوله: هل انتم غير أو شاب زعانفة. فالأشابة جماعة تدخل في قوم وليست منهم، وإنما هو مأخوذ من الامر الأشب أي المختلط. ويزعم بعض الرواة أن أصله فارسيّ أعرب. يقال بالفارسية: وقع القوم في اشوب أي في اختلاط، ثم تصرّف فقيل: تأشب النبت، فصنع منه فعل (هذا وهم من أبي العباس. ليس الاشابة ولا الأشب من الأوشاب لأن فاء الفعل من الأشابة همزة، ومن أوشاب واو، ولكنه مثله في المعنى يحتمل أن يكون أصله وشابة وابدلت الواو المضمومة همزة). وأما الزعانف فأصلها اجنحة السمك، سمّي بذلك الأدعياء لأنهم التصقوا بالصميم كما التصقت تلك الأجنحة بعظام السمك. قال أوس بن حجر:
(وما زال يفري (2) الشدّ حتى كأنما) ... قوائمه في جانبيه زعانف
وتزعم الرواة أن ما أنفت منه جلّه الموالي هذا البيت يعني قول جرير:
بيعوا الموالي واستحيوا من العرب، لأنه حطّهم ووضعهم، ورأى أن الإساءة إليهم غير محسوبة عيبا. ومثل ذلك قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علّمت ولدك؟ قال: الفرائض. قال: ذلك علم الموالي لا أبا لك علّمهم الرجز فإنه يهرّث اشداقهم. ومن ذلك قول الشعبيّ. ومرّ بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن اصلحتموه إنّكم لأوّل من أفسده. ومن ذلك قول عنترة:
فما وجدونا بالفروق (3) اشابة ... ولا كشفا (4) ولا عينا مواليا
__________
(1) سورة التوبة: الاية 37.
(2) يغري الشر: يبالغ في العدو.
(3) الفروق: كصبور عقبة دون هجر وموضع اخر عندهم وهو يوم لعبس على سعد تميم.
(4) الكشف: الذي يهزم في الحرب.(1/374)
ومن ذلك قول الاخر:
يسمّوننا الأعراب والعرب اسمنا ... واسماؤهم فينا رقاب المزاود (1)
يريد أسماؤهم عندنا الحمراء. وقول العرب: ما يخفى ذلك على الأسود والأحمر، يريد العربيّ والعجميّ. وقال المختار لإبراهيم بن الأشتر يوم خازر (2) (وقعت الرواية كما في الأصل ووجد بخطّ يد أبي عليّ البغدادي رحمه الله جازر بالجيم)، وهو اليوم الذي قتل فيه عبيد الله بن زياد: أن عامّة جندك هؤلاء الحمراء، وإن الحرب إن ضرّستهم هربوا، فاحمل العرب على متون الخيل، وأرجل الحمراء أمامهم. ومن ذلك قول الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالب رحمه الله، وأتاه يتخطّى رقاب الناس وعليّ على المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك قال: فركض عليّ المنبر برجله. فقال صعصعة بن صوجان العبديّ: ما لنا ولهذا، يعني الأشعث، ليقولنّ أمير المؤمنين اليوم في العرب قولا لا يزال يذكر. فقال عليّ من يعذرني (3) من هذه الضياطرة يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرّغ الحمار ويهجّر قوم للذكر فيأمرني أن أطردهم، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ليضربنّكم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدأ.
قوله: الضياطرة واحدهم ضيطر وضيطار وهو الأحمر العضل الفاحش. قال خداش بن زهير:
وتركب خيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
وإنما قال جرير لبني العنبر: هل أنتم غير أو شاب زعانفة، لأن النسابين يزعمون أن العنبر بن عمرو بن تميم إنما هو ابن هود بن بهراء وأمّهم خارجة البجليّة التي يقال لها في المثل: أسرع من نكاح أمّ خارجة، فكانت قد
__________
(1) المزاود: تشبيه بأسماء الأعاجم وهذا يعني أنه يقصد بأنهم موال.
(2) يوم خازر: لأهل العراق وإبراهيم بن الأشتر على عبيد الله بن زياد وأهل الشام.
(3) يعذرني: يريد من يقوم بعذري إن كافأتهم على سوء صنيعهم فلا يلومني.(1/375)
ولدت في العرب في نيّف وعشرين حيّا من اباء متفرقين. وكان يقول لها الرجل: خطب. فتقول: نكح. كذلك قال يونس بن حبيب، فنظر بنوها إلى عمرو بن تميم قد ورد بلادهم، فأحسّوا بأنه أراد أمهم فبادروا إليه ليمنعوه تزوّجها، وسبقهم لأنه كان راكبا فقال لها: إنّ فيك لبقيّة فقالت: إن شئت.
فجاؤوا وقد بنى عليها، (ثم نقلها بعد إلى بلده. فتزعم الرواة أنها جاءت بالعنبر معها صغيرا، وأولدها عمرو بن تميم اسيّد والهجيم والقليب فخرجوا ذات يوم يستقون فقلّ عليهم الماء، فأنزلوا مائحا من تيم فجعل المائح (1)
يملأ الدلو إذا كانت للهجيم وأسيد والقليب، فإذا وردت دلو العنبر تركها تضطرب، فقال العنبر:
قد رابني من دلوي اضطرابها ... والنأي عن بهراء واغترابها
إلّا تجىء ملأى يجىء قرابها (2)
فهذا قول النسّابين. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لعائشة رحمها الله، وقد كانت نذرت أن تعتق قوما من ولد اسمعيل، فسبي قوم من بني العنبر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سرّك أن تعتقي الصميم من ولد اسمعيل فأعتقي من هؤلاء. فقال النسّابون: فبهراء من قضاعة، وقد قيل قضاعة من بني معدّ فقد رجعوا إلى اسمعيل. ومن زعم أن قضاعة من بني مالك بن حمير وهو الحق قال: فالنسب الصحيح في قحطان الرّجوع إلى اسمعيل وهو الحق. وقول المبرّزين (3) من العلماء: إنما العرب المتقدمة من أولاد عابر ورهطه عاد وطسم وجديس وجرهم والعماليق، فأما قحطان عند أهل العلم فهو ابن الهميع بن تيمن بن نبت بن قيدار بن إسماعيل صلوات الله عليه، فقد رجعوا إلى اسمعيل. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم من خزاعة، وقيل من الأنصار: ارموا يا بني اسمعيل فإن أباكم كان راميا. قال يحيى بن نوفل يهجو
__________
(1) المائح: من ينزل البئر فيملأ منها الدلو.
(2) قراب الشيء بالكسر وبضم ما قارب قدره وإناء قربان قارب الامتلاء.
(3) المبرزون: البارزون، المتفوقون.(1/376)
العريان بن الهيثم بن الأسود النخعيّ، وكان العريان تزوج زباد من ولد هانىء بن قبيصة الشيبانيّ، وكانت عند الوليد بن عبد الملك فطلقها فتزوجها العريان.
هجاء يحيى بن نوفل للعريان بن الهيثم
وكان ابن نوفل له هجّاء فقال:
أعريان ما يدري أمرؤ سيل عنك ... أمن مذحج تدعون أم من إياد
فإن قلتم من مذحج أن مذحجا ... لبيض الوجوه غير جدّ جعاد
وأنتم صغار الهام بعدل (1) كأنما ... وجوهكم مطليّة بمداد
فإن قلتم الحيّ اليمانون أصلنا ... وناصرنا في كل يوم جلاد
فأطول بأير من معدّ ونزوة ... نزت باياد خلف دار مراد
لعمر بني شيبان إذ ينكحونه ... زباد لقد ما قصّروا بزباد
أبعد الوليد أنكحوا عبد مذحج ... كمنزية عيرا خلاف جواد
وأنكحها لا في كفاء ولا غنى ... زياد أضلّ الله سعي زياد
قوله: أمن مذحج تدعون أم من أياد،
فبنو مذحج بنو مالك بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واياد بن نزار بن معدّ بن عدنان. ويقال إن النخع وثقيفا أخوان من اياد، فأما ثقيف فهو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، فهذا قول قوم، فأما اخرون فيزعمون أن ثقيفا من بقايا ثمود، ونسبهم غامض على شرفهم في أخلاقهم وكثرة مناكحهم قريشا. وقد قال الحجاج على المنبر: تزعمون أنّا من بقايا ثمود والله عزّ وجل يقول: {وَثَمُودَ فَمََا أَبْقى ََ} (2). وقال الحجاج يوما لأبي العسوس الطائيّ أيّ أقدم أنزول ثقيف الطائف أم نزول طييء الجبلين. فقال أبو العسوس: إن كانت ثقيف من
__________
(1) عدل: عيب في الحلقة.
(2) سورة النجم الاية رقم 51.(1/377)
بكر بن هوازن، فنزول طيء الجبلين قبلها وإن كانت ثقيف من ثمود فهي أقدم. فقال الحجاج: يا أبا العسوس إتّقني فإني سريع الخطفة للأحمق المتهوّك (1)، فقال أبو العسوس رواية عاصم رحمه الله العسوّس والعسوس وفي رواية ش كما في داخل الكتاب):
يؤدّبني الحجّاج تأديب أهله ... فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا
وإني لأخشى ضربة ثقفيّة ... يقدّ بها ممن عصاه المقلّدا (2)
على أنني مما أحاذر امن ... إذا قيل يوما قد عتا (3) المرء واعتدا
وقد كان المغيرة بن شعبة وهو والي الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر وهي فيه عمياء مترهّبة، فاستأذن عليها فقيل لها: أمير هذه المدرة (4) بالباب. فقالت: قولوا له: أمن ولد جبلة بن الايهم أنت؟ قال: لا.
قالت: أفمن ولد المنذر بن ماء السماء؟ قال: لا قالت فمن أنت؟ قال المغيرة بن شعبة الثقفيّ. قالت: فما حاجتك؟ قال: جئتك خاطبا. قالت:
لو كنت جئتني لجمال أو لمال لأطلبتك (5)، ولكنك أردت أن تتشرّف بي في محافل العرب فتقول: نكحت ابنة النعمان بن المنذر، وإلا فأيّ خير في اجتماع أعور وعمياء فبعث إليها. كيف كان أمركم؟ فقالت: سأختصر لك الجواب، أمسينا مساء وليس في الأرض عربيّ إلا وهو يرغب إلينا ويرهبنا، ثم أصبحنا وليس في الأرض عربي إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه. قال: فما كان أبوك يقول في ثقيف؟ قالت: اختصم إليه رجلان منهم أحدهما ينميها إلى إياد، والاخر إلى بكر بن هوازن فقضى بها للإياديّ وقال.
إن ثقيفا لم تكن هوازنا ... ولم تناسب عامرا أو مازنا
__________
(1) المتهوك: الساقط.
(2) المقلدا: كمعظم موضع نجاد السيف على المنكبين.
(3) عتا عتوا: استبكر وجاوز الحد.
(4) المدره: بالتحريك المدينة.
(5) اطلبتك: أعطيتك ما طلبت.(1/378)
يريد عامر بن صعصعة ومازن بن منصور، فقال المغيرة: أما نحن فمن بكر بن هوازن فليقل أبوك ما شاء، وقالت أخت الأشتر وهو مالك بن الحرث النخعيّ تبكّيه، وهذا الشعر رواه أبو اليقظان وكان متعصبا:
أبعد الأشتر النخعيّ نرجو ... مكاثرة (1) ونقطع بطن واد
ونصحب مذحجا بإخاء صدق ... وإن ننسب فنحن ذرا إياد
ثقيف عمّنا وأبو أبينا ... واخواننا نزار أولو السداد
قوله: وأنتم صغار إلهام جدل فالأجدل المائل العنق. يقال: قوس جدلاء إذا اعوجّت سبتها. قال الراجز:
لها متاع (2) ولهاة (3) فارض ... جدلاء كالزقّ نحاه الماخض
(كذا وقعت الرواية لها، والصواب له لأنه يعني الفحل من الابل لأن الشقشقة (4) لا تكون للأنثى قاله ش). وأما قوله: زياد يا فتى فله باب نذكره على وجهه باستقصائه بعد فراغنا من تفسير هذا الشعر. وقوله: لقد ما قصّروا فما زائدة، مثل قوله تعالى: {مِمََّا خَطِيئََاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (5)، ولو قال: لقد ما قصّروا لم يكن جيدا ودخل الوليد في الذم. وقوله:
كمنزية عيرا خلاف جواد
يقول بعد جواد.
قال الله عزّ وجل: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلََافَ رَسُولِ اللََّهِ} (6).
__________
(1) مكاثره: مغالبة.
(2) متاع: أراد به البعير التي تؤخذ من الشجر فسماها متاعا.
(3) اللهاة ما بين منقطع اللسان إلى منقطع القلب من أعلى الفم.
(4) الشقشقة: كالرئة، يخرجها البعير إذا هاج.
(5) سورة نوح: الاية 25.
(6) سورة التوبة: الاية رقم 81.(1/379)
وقوله لا في كفاء يقال: هو كفوك وكفؤك وكفيئك وكفاؤك إذا كان عديلك في شرف أو ما أشبهه، كما قال الفرزدق: وتنكح في أكفائها الحبطات. (أول هذا البيت: بنوا دارم أكفاؤهم ال مسمع. وال مسمع بيت بكر بن وائل، والحبطات هم بنو الحرث بن عمرو بن تميم، وإنما قال هذا الفرزدق حين بلغه أن رجلا من الحبطات خطب إمرأة من بني دارم بن مالك، فأجابه رجل من الحبطات:
أما كان عبّاد كفيئا لدارم ... بلى ولأبيات بها الحجرات
عبّاد يعني بني هاشم، وقد تقدم هذا البيت للفرزدق في مواضع) وقال الله عزّ وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (1). وقال عمر بن الخطاب رحمه الله:
لأمنعنّ النساء إلا من الأكفاء. وتحدّث أصحابنا عن الأصمعي عن اسحق بن عيسى قال: قلت لأمير المؤمنين الرشيد أو المهديّ: يا أمير المؤمنين من أكفاؤنا؟ قال: أعداؤنا. يعني بني أميّة وزياد الذي ذكر كان أخاها.
المؤنث الذي يصاغ على وزن فعال
«هذا تفسير ما كان من المؤنث على فعال مكسور الاخر وهو على أربعة أضرب والأصل واحد» قال أبو العباس: أعلم أنه لا يا بنى شيء من هذا الباب على الكسر إلّا وهو مؤنث معرفة معدول عن جهته، وهو في المؤنث بمنزلة فعل نحو: عمر وقثم في المذكر وفعل معدول في حال المعرفة عن فاعل، وكان فاعل ينصرف، فلما عدل عنه فعل لم ينصرف، وفعال معدول عن فاعلة، وفاعلة لا ينصرف في المعرفة فعدل إلى البناء، لأنه ليس بعد ما لا ينصرف إلا المبنيّ وبني على الكسر لأن في فاعلة علامة التأنيث. وكان أصل هذا أن يكون إذا أردت به الأمر ساكنا كالمجزوم من الفعل الذي هو في معناه، فكسرته لالتقاء
__________
(1) سورة الإخلاص: الاية 4.(1/380)
الساكنين، مع ما ذكرنا من علامة التأنيث والكسر مما يؤنّث به، فلم يخل من العلامة. تقول للمرأة: أنت فعلت، فالكسر علامة التأنيث وكذلك: إنك ذاهبة وضربتك يا إمرأة، فمما لا يكون إلا معرفة مكسورا ما كان إسما للفعل نحو:
نزال يا فتى، ومعناه انزل. وكذلك: تراك زيدا، أي أتركه فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة، وهما مؤنثان معرفتان، يدلك على التأنيث القياس الذي ذكرنا. قال الشاعر تصديقا لذلك:
ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولجّ في الذعر
فقال: دعيت لما ذكرته لك من التأنيث. وقال الاخر وهو زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريه كلمّا دعيت نزال (1)
وقال الشاعر:
تراكها من إبل تراكها ... أما ترى الموت لدى أوراكها
أي أتركها. وقال اخر (هو رؤبة): حذار من أرماحنا حذار. وقال اخر (هو أبو النجم): نظار كي أركبه نظار. فهذا باب من الأربعة. ومنها أن يكون صفة
غالبة تحلّ محلّ الاسم نحو: قولهم للضبع جعار يا فتى وللمنيّة حلاق يا فتى لأنها حالقة، والدليل على التأنيث بعد ما ذكرنا قوله:
لحقت حلاق بهم على أكسائهم (2) ... ضرب الرقاب ولا يهمّ المغنم
وتقول في النداء: يا فساق ويا خباث ويا لكاع، تريد يا فاسقة ويا خبيثة ويا لكعاء، لأنه في النداء في موضع معرفة، كما تقول للرجل يا فسق ويا خبث ويا لكع، فهذا باب ثان (حكى ابن السرّاج عن أبي عبيدة فرس لكع للمذكر ولكعة للمؤنث ومن ذلك ما عدّل عن المصدر، نحو قوله (هو المتلمّس يذمّ الخمر):
__________
(1) نزال: إسم فعل مبني على الكسر ومثله العلم المختوم.
(2) الاكساء جمع كسىء وهو مؤخر الشيء.(1/381)
جماد لها جماد ولا تقولي ... طوال الدهر ما ذكرت حماد
وقال النابغة الذبيانيّ:
إنا اقتسمنا خطّتينا بيننا ... فحملت برّة واحتملت فجار
يريد قولي لها جمودا ولا تقولي لها حمدا، هذا المعنى، ولكنه عدل مؤنثا وهذا باب ثالث. (برّه اسم علم لجميع البرّ، وفجار لجميع الفجور، لابن جنّي تخصيصه برّة بفعلت وفجار بافتعلت، مثل قوله تعالى: {لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ} (1). فكسب للخير واكتسب للشر). والباب الرابع أن تسمّي امرأة أو شيئا مؤنثا باسم تصوغه على هذا المثال، نحو: رقاش وحذام وقطام وما أشبهه، فهذا مؤنث معدول عن راقشة وحاذمه وقاطمة إذا سميت به، وأهل الحجاز يجرونه على قياس ما ذكرت لأنه معدول في الأصل وسمّي به، فنقل إلى مؤنث كالباب الذي كان قبله فلم يغيروه فعلى ذلك قالوا: اسق رقش إنها سقّاية. وقال اخر:
إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإنّ القول ما قالت حذام
وينشدون: وأقفر من سلمى شراء (2) فيذبل. (كذا وقع، والصحيح فقد أقفرت سلمى شراء لا وقبله:: تأبّد من أطلال جمرة مأسل. والشعر للنمر بن تولب). وأما بنو تميم فإذا أزالوه عن النعت فسمّوا به، صرفوه في النكرة ولم يصرفوه في المعرفة. وسيبويه يختار هذا القول ولا يردّ القول الاخر، فيقول:
هذه رقاش قد جاءت، وهذه غلاب قد جاءت، وهذه غلاب أخرى. ولا اختلاف بين العرب في صرفه إذا كان نكرة، وفي إعرابه في المعرفة، وصرفه في النكرة إذا كان اسما لمذكر، نحو: رجل تسميه نزال أو رقاش أو حلاق، فهو بمنزلة رجل سميته بعناق أو أتان، لأن التأنيث قد ذهب عنه. فاحتج سيبويه في تصحيح هذا القول بأنك لو سميت شيئا بالفعل الذي هو مأخوذ منه
__________
(1) سورة البقرة: الاية 286.
(2) شراء: جبل.(1/382)
نحو: أنزل واضرب، لو سميت بهما رجلا لجرى مجرى إصبع وأحمد وإثمد ونحو ذلك، فهذا يحيط بجميع هذا الباب.
من كلام إمرأة زوجت في طيىء
قال أبو العباس وقالت أمرأة أحسبها من بني عامر بن صعصعة زوّجت في طيّىء:
لا تحمدنّ الدهر أخت أخا لها ... ولا ترثينّ الدهر بنت لوالد
هم جعلوها حيث ليست بحرّة ... وهم طرحوها في الأقاصي الأباعد
ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما النكاح رقّ، فلينظر امرؤ من يرقّ كريمته، وعلى هذا جاءت اللغة، فقالوا: كنا في إملاك فلان وفي ملك فلان، وفي ملك فلان، وفي ملكة فلان، وفي مكان فلان، ويقول الرجل: ملكت المرأة وأملكنيها وليّها، ومن ذلك أنّ يمين الطلاق إذا وقع فيها حنث إنما يكون محلّها محلّ الاقرار بترك ما كان يملكه كالعتاق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصيكم بالنساء فإنهنّ عندكم عوان، أي أسيرات. ويقال: عني فلان في بني فلان إذا أقام فيهم أسيرا. ويقال: فلان يفكّ العناة، وأصل التعنية التذليل، وأصل الإسار الوثاق. ويقال للقتب مأسور إذا شدّ بالقدّ هذا أصل هذا، فأما المثل في قولهم: إنما فلان غلّ قمل (1)، فإنهم كانوا يتخذون الأغلال من القدّ، فكانت تقمل. وقال رجل يذكر امرأة زوّجت من غير كفء:
لقد فرح الواشون أن نال ثعلب ... شبيهة ظبي مقلتاها وجيدها
أضرّ بها فقد الوليّ فاصبحت ... بكفّ لئيم الوالدين يقودها
ولما زوج إبراهيم بن النعمان بن بشير الأنصاريّ يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفّان ابنته على عشرين ألف درهم قال قائل يعيّره:
__________
(1) غل قمل: بفتح القاف وكسر الميم صفة من قولهم قمل الشيء كتعب إذا أكثر قملة.(1/383)
لعمري لقد جلّلت نفسك خزية (1) ... وخالفت فعل الأكثرين الأكارم
ولو كان جدّاك اللذان تتابعا ... ببدر لما راما صنيع الألائم
فقال إبراهيم بن النعمان يردّ عليه:
وما تركت عشرون ألفا لقائل ... مقالا فلا تحفل ملامة لائم
وإن أك قد زوّجت مولى فقد مضت ... به سنّة قبلي وحبّ الدراهم
وتزوّج يحيى بن أبي حفصة وهو جدّ مروان الشاعر، ويزعم النسابون أن أباه كان يهوديا أسلم على يدي عثمان بن عفان، وكان يحيى من أجود الناس، وكان ذا يسار فتزوج خولة بنت مقاتل بن طلبة، (الرواية المشهورة بإسكان اللام وتسامح ابن سراج في فتح اللام) ابن قيس بن عاصم سيد أهل الوبر، ابن سنان بن خالد بن منقر ومهرها خرقا، ففي ذلك يقول القلاخ بن حزن:
لم أر أثوابا أجرّ لخزية ... وألأم مكسوّا وألأم كاسيا
من الخرق اللاتي صببن عليكم ... بحجر فكنّ المبقيات البواليا
فقال يحيى بن أبي حفصة يجيبه:
تجاوزت حزنا رغبة عن بناته ... وأدركت قيسا ثانيا من عنانيا
يقال ذلك للسابق إذا تقدّم تقدّما بيّنا، فبلغ الغاية فمن شأنه أن يثني عنانه فينظر إلى الخيل. قال الشاعر:
فمن يفخر بمثل أبي وجدّي ... يجىء قبل السوابق وهو ثاني
يريد ثاني عنانه، وقال القلاخ (2) في هذه القصة:
نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر
__________
(1) الخزية: الذل والهوان.
(2) القلاخ: وقع إسما لثلاثة شعراء الأول القلاخ العنبري والثاني القلاخ بن يزيد والثالث القلاخ بن حزن السعدي وهو هذا.(1/384)
أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك (1) مما رجوت الترب والحجر
لله درّ جياد (2) أنت سائسها ... برذنتها وبها التحجيل (3) والغرر (4)
وقال جرير يعيّرهم:
رأيت مقاتل الطلبات حلّى ... فروج بناته كمر الموالي
لقد أنكحتم عبدا لعبد ... من الصهب (5) المشوّهة السبال
فلا تفخر بقيس إنّ قيسا ... خرئتم فوق أعظمه البوالي
وقال اخر في مثل هذه القصة:
الا يا عباد الله قلبي متيّم ... بأحسن من صلى وأقبحهم بعلا
يدب على أحشائها كلّ ليلة ... دبيب القرنبى بات يفرو نقا (6) سهلا
القرنبى دويبة على هيئة الخنفس منقّطة الظهر، وربما كان في ظهرها نقطة حمراء، وفي قوائمها طول على الخنفس وهي ضعيفة المشي.
قال الفرزدق يعني عطيّة أبا جرير:
قرنبي يحكّ قفا مقرف ... لئيم ماثره قعدد
(ألف قرنبي ألف الحاق وليست للتأنيث، والقعدد اللئيم وجمعه قعادد) وفي هذا الشعر يقول:
ألم تر أنّا بني دارم ... زرارة منّا أبو معبد
__________
(1) في فيك مما رجوت: تقول العرب بفيك التراب أو بقية البري يريدون من ذلك الخيبة مما يحاول كسبه ويرجو الحصول عليه.
(2) الجياد جمع جواد.
(3) التحجيل: بياض في قوائم الفرس كلها.
(4) والغرة: بياض في الجبهة.
(5) صهب السبال: كناية عن الأعداء والصهب جمع أصهب وهو الذي في شعره حمرة أو شقرة.
والسبال بالكسر جمع سبلة بالتحريك وهي الشارب أو الشعرات من اللمى.
(6) بات يقرو: من القرو وهو القصد.(1/385)
ومنّا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئد فلم توأد
ألسنا بأصحاب يوم النسار (1) ... وأصحاب ألوية المربد
(النسار جبل تألفه النسور كثيرا فلذلك سمي بهذا الاسم).
ألسنا الذين تميم بهم ... تسامي وتفخر في المشهد
وناحية الخير والأقرعان ... وقبر بكاظمة المورد
إذا ما أتى قبره عائد ... أناخ على القبر بالأسعد
أيطلب مجد بني دارم ... عطيّة كالجعل الأسود
ومجد بني دارم دونه ... مكان السماكين والفرقد
(الرفع في مكان أقوى وهو الوجه الجيد في العربية). قوله: ألم تر أنا بني منقر منصوب على الاختصاص وقد مضى تفسيره، وزرارة الذي ذكر هو زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم، وكان زرارة يكنى أبا معبد، وكان له بنون معبد ولقيط وحاجب وعلقمة والمأموم، ويزعم قوم أن المأموم هو علقمة ومنهم شيبان بن زرارة وابنه يزيد بن شيبان النسّابة. وكان حاجب أذكر القوم. ورووا أن عبد الملك ذكر يوما بني دارم. فقال أحد جلسائه: يا أمير المؤمنين هؤلاء قوم محظوظون. فقال عبد الملك: أتقول ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولم يخلّف عقبا، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة، ولم يخلّف عقبا، ومضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة ولم يخلّف عقبا، والله لا تنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبدا. وكان لقيط بن زرارة قتل يوم جبلة (2) وأسر حاجب ففودي فزعم أبو عبيدة أنه لم يكن عكاظيّ أغلى فداء من حاجب. وكان أسره زهدم العبسيّ (أخو كردم) فلحقه ذو الرقيبة القشيريّ وبنو عبس يومئذ نازلة في بني عامر بن صعصعة، فأخذه الرقيبة بعزّه وأنه
__________
(1) يوم النسار: بكسر النون وبالسين مهملة كان بني ضبه وبني تميم والنسار جبل صغير كانت الوقعة عنده وقال بعضهم هو ماء لبني عامر.
(2) يوم جبلة: كان بين عبس وذبيان إبني بغيض.(1/386)
في محلّ قومه. فقال حاجب لمّا تنازعني الرجلان خفت أن أقتل بينهما، فقلت: حكماني في نفسي، ففعلا، فحكمت بسلاحي وركابي لزهدم (1)
وبنفسي لذي الرقيبة. وكان حاجب يكنى أبا عكرشة، وكان أحلم قومه. وفي ذي الرقيبة يقول الشاعر (هو المسيّب بن علس واسمه زهير ويكنى أبا الفضة):
ولقد رأيت القائلين وفعلهم ... فلذي الرقيبة مالك فضل
كفّاه متلفة ومخلفة ... وعطاؤه متدفّق جزل
ففدي حاجب، وقتل في ذلك اليوم لقيط، وأسر عمرو بن عمرو بن عدس.
فلذلك يقول جرير يعيّر الفرزدق، لأن الفرزدق من بني مجاشع بن دارم، وقد مضى ذكر هذا في الكتاب. ولجرير في قيس خؤولة، فلما هجا الفرزدق قيسا في أمر قتيبة بن مسلم الباهليّ. قال:
أتاني وأهلي بالمدينة وقعة ... لال تميم أقعدت كلّ قائم
كأن رؤوس الناس إذ سمعوا بها ... مشدّخة هاماتها بالأمائم
(حجارة تشدخ بها الرؤوس الواحدة أميمة).
وما بين من لم يعط سمعا وطاعة ... وبين تميم غير حزّ الحلاقم
أتغضب أن أذنا قتيبة حزّنا ... جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم
وما منهما إلا نقلنا دماغه ... إلى الشام فوق الشاحجات (2) الرواسم
تذبذب (3) في المخلاة تحت بطونها ... محذّفه (4) الأذناب جلح (5) المقادم
__________
(1) زهدم كجعفر علم منقول وأصله من أسماء الاسد وقال لزهدم وأخيه كردم أو قيس الزهدمان وذو الرقيبة كجهينة اسمه مالك.
القشيري: نسبة إلى قشير بن كعب بن ربيعة وقد خلط أبو العباس في هذا الحديث، فليتنبه له بالرجوع إلى الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
(2) الشاحجات: يراد بها البغال.
(3) الذبذبة: تردد الشيء المعلق في الهواء وتحركه.
(4) محذفة الاذان: نعت للشاحجات.
(5) الجلح: هو الذي انحسر شعره عن جانبي رأسه.(1/387)
وما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في الرؤوس الأعاظم
تخوّفنا أيام قيس ولم ندع ... لعيلان أنفا مستقيم الخياشم
لقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلا عضها بالأباهم
وقال جرير يجيبه:
أباهل (1) ما أحببت قتل ابن مسلم ... ولا أن تروعوا قومكم بالمظالم
ثم قال يخوّف الفرزدق:
تحضّض يا ابن القين قيسا ليجعلوا ... لقومك يوما مثل يوم الأراقم (2)
كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا ... وعمرو بن عمر إذ دعوا يال دارم
ولم تشهد الجونين والشعب ذا الصفا ... وشدّات قيس يوم دير الجماجم (3)
فيوم الصفا كنتم عبيدا لعامر ... والحنو (4) أصبحتم عبيد اللهازم
إذا عدّت الأيام أخزين دارما ... وتخزيك يا ابن القين أيام دارم
أما قول الفرزدق:
كأن رؤوس الناس إذا سمعوا بها ... مشدّخة هاماتها بالأمائم
فإن الشجاج مختلفة الاحكام، فإذا كانت الشجّة شقيقا (5) يدمى فهي الدامية، وإذا أخذت من اللحم شيّا فهي الباضعه، وإذا أمعنت في اللحم فهي المتلاحمة، فإذا هشمت العظم فهي الهاشمة، وإذا كان بينها وبين العظم جليدة رقيقة فهي السمحاق، ومن أجل تلك الجليدة يقال: ما على ترب الشاة (6) من الشحم إلا سماحيق أي طرائق، فإذا خرجت منها عظام صغار
__________
(1) أباهل: يريد يا باهلة وابن مسلم أراد به قتيبة.
(2) الأراقم: حي من تغلب.
(3) يوم دير الجماجم: كان للجحاج على أهل العراق.
(4) الحنو: كان لبكر على تغلب.
(5) الشجة شقيقا بالتصغير أي شق الجلد حتى يظهر منها الدم.
(6) ترب الشاة: شحم رقيق يغشي الكرش والأمعاء.(1/388)
فهي المنقّلة، وإنما أخذ ذلك من النقل، وهي الحجارة الصغار، فإذا أوضحت عن العظم فهي الموضحة، فإذا خرقت العظم العرب وبلغت أمّ الدماغ وهي جليدة، قد ألبست الدماغ فهي الامّة، وبعض العرب يسميها المأمومة واشتقاق ذلك أفضاؤها إلى أمّ الدماغ ولا غاية بعدها. قال الشعر:
يحجّ مأمومة في قعرها لجف ... فاست الطيب قذاها كالمغاريد
وقال ابن غلفاء الهجيميّ يردّ على يزيد بن عمرو بن الصعق في هجائه بني تميم:
فإنك من هجاء بني تميم ... كمزداد الغرام إلى الغرام
هم تركوك أسلح من حبارى (1) ... رأت صقرا وأشرد من نعام
وهم ضربوك أمّ الرأس حتى ... بدت أمّ الشؤون من العظام
إذا يأسونها (2) جشأت إليهم (3) ... شر نبئة القوائم أمّ هام
(يريد غليظة القوائم) وابن خازم هو عبد الله بن خازم السلميّ، وهو أحد غربان العرب في الاسلام وكان من أشجع الناس. وقتله بنو تميم بخراسان وكان الذي ولي قتله منهم، وكيع بن الدورقيّة القريعيّ. وقوله: فوق الشاحجات يعني البغال، والرسيم ضرب من السير، وإنما عني ههنا بغال البريد. لقوله: محذفة الأذناب جلح المقادم. كما قال امرؤ القيس:
على كل مقصوص الذنابى معاود (4) ... بريد السرى بالليل من خيل بربرا
وكانت برد ملوك العرب في الجاهلية الخيل. وأما قول جرير الجونين فقد مضى ذكرهما، ويوم دير الجماجم يريد الحجّاج في وقعته بدير الجماجم بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ. وقوله: وبالحنو أصبحتم
__________
(1) الحبارى بالضم: طائر يكون للذكر والأنثى والواحد والجمع وألفه للتأنيث.
(2) يأسونها: أس الجرح يأسوه أسوا داراه.
(3) جشأت اليهم: نهضت.
(4) المعاود: الذي ريض وذلل.(1/389)
عبيد اللهازم فاللهازم بنو قيس بن ثعلبة وبنو ذهل بن ثعلبة وبنو تيم اللات بن ثعلبة، وبنو عجل بن لجيم بن صعت بن عليّ بن بكر بن وائل وبنو مازن بن صعب بن عليّ، ثم تلهزمت حنيفة بن لجيم فصارت معهم. وأما علقمة بن زرارة فإنه قتلته بنو ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجب أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ. فقال حاجب في ذلك:
فإن تقتلوا منّا كريما فإننا ... أبأنا به مأوى الصعاليك أشيما
قتلنا به خير الضبيعات كلّها ... ضبيعة (1) قيس لا ضبيعة أضجما
وكان يقال لإشيم مأوى الصعاليك، أضجم الذي ذكر هو ضبيعة بن ربيعة بن نزار رهط المتلمّس هذا لقبهم. وأما معبد بن زرارة فإن قيسا أسرته يوم رحرحان (2)، فساروا به إلى الحجاز، فأتى لقيط في بعض الأشهر الحرم ليفديه، فطلبوا منه ألف بعير. فقال لقيط: إن أبانا أمرنا ألانزيد على المائتين فتطمع فينا ذؤبان العرب. فقال معبد: يا أخي أفدني بمالي فإني ميت، فأبى لقيط، وأبى معبد أن يأكل أو يشرب، فكانوا يشحون فاه (3) ويصبون فيه الطعام والشراب لئلا يهلك فيذهب فداؤه فلم يزل كذلك حتى مات.
جرير يعير الفرزدق
فقال جرير يعير الفرزدق وقومه بذلك:
تركتم بوادي رحرحان نساءكم ... ويوم الصفا لاقيتم الشعب أوعرا (4)
سمعتم بني مجد دعوا يال عامر ... فكنتم نعاما (5) عند ذاك منفّرا
__________
(1) ضبيعة أضجم: متبلة واضجم لقب ضبيعة.
(2) يوم رحرحان: كزعفران وهي أرض قريبة من عكاظ قالوا وهما يومان الأول كان بين بني دارم وبني عامر بن صعصعة والثاني بين بني نميم وبني عامر وقال النابغة الجعدي.
هلا سألت بيومي حرمان وقد ... ظننت هوازن أن الغرقد زالا
(3) يشحو فاه: يفتحونه.
(4) يوم الصفا لاقيم الشعب أو عرا: هكذا كناية عن شده ما لا قوه في الحرب ذلك اليوم.
(5) فكنتم نعاما: هذا كناية عن الجبن والصعق.(1/390)
وأسلمت القلحاء في الغلّ معبدا ... ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا
قوله: سمعتم بني مجد دعوا يال عامر، يعني مجد بنت النضر بن كنانة:
ولدت ربيعة بن عامر بن صعصعة وولده بنو كلاب بنو كعب وبنو عامر بن ربيعة والقلحاء لقب، والقلح أن تركب الاسنان صفرة تضرب إلى السواد.
ويقال لها الحبرة لشدة تأثيرها أنشدني المازني:
لست بسعديّ على فيه حبرة ... ولست بعبديّ حقيبته التمر
وزعم أبو الحسن الأخفش سعيد بن مسعدة: إن العرب تقول في هذا المعنى، في أسنانه حبرة وليس ذلك بمعروف. ولم يأت إسم على فعل إلا إبل واطل (وامرأة بلز أي ضخمة. قاله ابن قتيبة. أما إبل فكما ذكروا، وأما طلّ فليس كما ذكروا طل أصله اطل، ثم حركت الطاء اتباعا لحركة الهمزة، كما قالوا في الجلد الجلد، قال سيبويه: ليس في الاسماء والصفات فعل إلا إبل). وقوله: ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا، يقال: قطّره لجبينه وقتره لغتان لأن التاء من مخرج الطاء، فإن رمى به على قفاه قيل: سلفه وسلفاه وبطحه لوجهه، فإن رمى به على رأسه قيل نكته. رجع التفسير إلى شعر الفرزدق الأول. أما قوله: ومنا الذي منع الوائدات فإنه يعني جده صعصعة بن ناجية بن عقال، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات ولم يكن هذا في جميعها، إنما كان في تميم بن مرّ، ثم استفاض في جيرانهم فهذا قول واحد. وقال قوم اخرون: بل كان في تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشدد وطأتك (1) على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
وقال بعض الرواة: (2) أشدد وطدتك، والمعنى قريب يرجع إلى الثقل فأجدبوا
__________
(1) اشدد وطأتك: خذهم أخذا شديدا.
(2) هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، محدث صحيح السماع، لم يكن بالبصرة من أقرانه من هو مثله في الفضل والعلم والصلابة في السنة والقمع لأهل البدع. توفي سنة 167هـ.
أنظر: تهذيب التهذيب 3/ 13وما بعده.(1/391)
سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم، فكانوا يسمونه العلهز (1) ولهذا أبان الله عز وجل تحريم الدم، ودلّ على ما من أجله قتلوا البنات: فقال: {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ} (2) وقال: ولا يقتلن أولادهنّ، فهذا خبر بيّن أن ذلك للحاجة. وقد روى بعضهم أنهم إنما فعلوا ذلك أنفة.
غارة النعمان بن المنذر على تميم
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنّى أن تميما منعت النعمان الإتاوة (3) وهي الأديان، فوجّه إليهم أخاه الريّان بن المنذر، وكانت للنعمان خمس كتائب إحداها الوضائع، وهم قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عنده عدّة ومددا فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم، فإذا كان في رأس الحول ردّهم إلى أهليهم وبعث بمثلهم، وكتيبة يقال لها الشهباء، وهي أهل بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه يسمّون الأشاهب. وكتيبة ثالثة يقال لها الصنائع وهم صنائع الملك أكثرهم من بكر بن وائل، وكتيبة رابعة يقال لها الرهائن، وهم قوم كان يأخذهم من كل قبيلة فيكونون رهنا عنده ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة دوسر وهي كتيبة ثقيلة تجمع فرسانا وشجعانا من كل قبيلة، فأغزاهم أخاه وجلّ من معه بكر بن وائل، فاستاق النعم وسبى الذّراريّ. وفي ذلك يقول أبو المشمرج اليشكريّ:
لما رأوا راية النعمان مقبلة ... قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن
يا ليت أمّ تميم لم تكن عرفت ... مرّا وكانت كمن أودى به الزمن
إن تقتلونا فأعيار (4) مجدّعة (5) ... أو تنعموا فقديما منكم المنن
__________
(1) العلهز: بالكسر: وقوله ولهذا إبان الله تحريم الدم. أي في ايات ذكرت في مواضع في الكتاب الكريم.
(2) سورة الإسراء: الاية 31.
(3) لأتاوة: بالكسر الخراج.
(4) فأعيار: أي فنحن أعيار جمع عير بالفتح وهو الحمار وغلب على الوحشي.
(5) المجدعة: المقطوعة الأذن وفي ذلك عنى الشاعر الذل والهوان.(1/392)
منهم زهير وعتّاب ومحتضر ... وابنا لقيط وأودى في الوغا قطن
ويقول النعمان في جواب هذا:
لله بكر غداة الروع لو بهم ... أرمي ذرا حضن (1) زالت بهم حضن
إذ لا أرى أحدا في الناس أشبههم ... إلا فوارس خامت (2) عنهم اليمن
وهذا خبر طويل فوفدت إليه بنو تميم فلما راها أحب البقيا فقال:
ما كان ضرّ تميما لو تغمّدها (3) ... من فضلنا ما عليه قيس عيلان
فأناب القوم وسألوه النساء. فقال النعمان كل امرأة اختارت أباها ردّت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلّهن اختارت أباها إلّا ابنة لقيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج. فنذر قيس ألاتولد له ابنة إلا قتلها فهذا شيء يعتلّ به من وأد، ويقول فعلناه أنفة، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القران وقال ابن عباس رحمه الله في تأويل هذه الاية وكانوا لا يورّثون ولا يتخذون إلا من طاعن بالرمح ومنع الحريم يريدون الذكران.
صعصعة بن ناجية بين يدي الرسول
وروت الرواة أن صعصعة بن ناجية لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم قال: يا رسول الله إني كنت أعمل عملا في الجاهلية، أفينفعني ذلك اليوم. قال: وما عملك؟ قال: أضللت ناقتين عشراوين (4) فركبت جملا ومضيت في بغائهما فرفع لي بيت حريد فقصدته، فإذا شيخ جالس بفناء الدار، فسألته عن الناقتين؟ فقال: ما نارهما؟ قلت: ميسم بني دارم. فقال: هما عندي وقد
__________
(1) حضن بالتحريك: جبل بنجد وقبيلة من تغلب.
(2) خام: جبن.
(3) تغمدها: غمرها من فضلنا وسترها.
(4) عشراون: مثنى عشراء.(1/393)
أحيا الله بهما قوما من أهلك من مضر. فجلست معه لتخرجا إليّ فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت (1). فقال لها: ما وضعت فإن كان سقبا (2) شاركنا في أموالنا، وإن كانت حائلا (3) وأدناها. فقالت العجوز: وضعت أنثى. فقلت:
أتبيعها؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها قال. قلت: إنما أشتري منك حياتها ولا أشتري رقّها. قال: فبكم؟ قلت: احتكم قال: بالناقتين والجمل قال.
قلت: ذاك لك على أن يبلّغني الجمل وإياها. قال ففعل فامنت بك يا رسول الله، وقد صارت لي سنّة في العرب على أن اشتري كل موؤدة بناقتين عشراوين وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موؤدة فقد أنقذتها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفعك ذلك لأنك لم تبتغ به وجه الله، وإن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه. وكان ابن عباس يقرأ: {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (4)؟ وقال أهل المعرفة في قول الله عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (5) إنما تسئل تبكيتا لمن فعل ذلك بها. كما قال الله تعالى: {يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} (6) وقوله: وئدت إنما هو أثقلت بالتراب. يقال للرجل اتّئد أي تثبّتّ وتثقّل كما يقال توقّر، قال قصير صاحب جذيمة (7) (هذا وهم من أبي العباس وإنما هو للزبّاء):
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا
(أم صرفانا (8) باردا شديدا)
__________
(1) كسر البيت: جانبه.
(2) السقب: في الأصل ولد الناقة وهنا إستعارة للإنسان.
(3) الحائل أيضا الانثى من أولاد الابل فاستعارها لمن يولد انثى من بنات ادم.
(4) سورة البقرة: الاية 249.
(5) سورة فصلت: الاية 11.
(6) سورة التكوير: الاية 9.
(7) جذيمة: هو ابن مالك بن فهم ملك الحيرة.
(8) الصرفان: محركا: تمرز بن صلب المضاغ.(1/394)
وقوله: أضللت ناقتين عشراوين أضللت، ضلّتا مني، وتحقيقه صادفتهما ضالّتين، كما قال (لرجل من قضاعة يقال له مالك بن عمرو وقبله:
لأوجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول (1) أضلّها ربع (2))
أو وجد شيخ أضلّ ناقته ... حين تولّى الحجيج فاندفعوا
والعشراء الناقة التي قد أتى عليها منذ حملت عشرة أشهر وإنما حمل الناقة سنة. وقوله: ما نارهما؟ يريد ما وسمهما. كما قال:
قد سقيت ابالهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار
أي عرف وسمهم فلم يمنعوا الماء. وقوله فإذا بيت حريد يقول متنحّ عن الناس. وهذا من قولهم: انحرد الجمل إذا تنحّى عن الإناث فلم يبرك معها.
ويقال في غير هذا الموضع حرد حرده، أي قصد قصده. قال الراجز:
قد جاء سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلّه
وقالوا في قوله عز وجل: {وَغَدَوْا عَلى ََ حَرْدٍ قََادِرِينَ} (3) أي على قصد كما ذكرنا. وقالوا هو أيضا على منع من قولهم: حاردت الناقة إذا منعت لبنها وحاردت السنة، إذا منعت مطرها، والبعير الأحرد هو الذي يضرب بيده وأصله الامتناع من المشي. وأما قوله:
وقبر بكاظمة المورد. إذا ما أتى قبره خائف. أناخ على القبر بالأسعد
فإنه يعني قبر أبيه غالب بن صعصعة بن ناجية، وكان الفرزدق يجير من استجار بقبر أبيه، وكان أبوه جوادا شريفا، ودخل الفرزدق البصرة في إمرة زياد، فباع إبلا كثيرة وجعل يصرّ أثمانها. فقال له رجل: إنك لتصرّ أثمانها، ولو كان غالب بن صعصعة ما صرّها، ففتح الفرزدق تلك الصرر ونثر المال.
__________
(1) العجول بالفتح الواله من الابل والنساء لعجلتها في حركاتها جزعا.
(2) الربع كصرد الفضيل ينتج في الربيع.
(3) سورة القلم: الاية 25.(1/395)
وبلغ الخبر زيادا فطلبه فهرب الفرزدق، وله في هربه حديث طويل، واستجارته بسعيد بن العاص بالمدينة نذكر ما بعد هذا إن شاء الله. فممّن استجار بقبر غالب فأجاره الفرزدق أمرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر بن كلاب أن يسمّيها ويسبّها، فعاذت بقبر أبيه فلم يذكر لها إسما ولا نسبا ولكن قال في كلمته التي يهجو فيها بني جعفر بن كلاب:
عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب ... فلا والذي عاذت به لا أضيرها
ومن ذلك أن الحجاج لما ولى تميم بن زيد القينيّ السند دخل البصرة فجعل يخرج من أهلها من شاء فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت: إني استجرت بقبر أبيك وأنت منه بحصيات. فقال لها: وما شأنك؟ فقالت: إن تميم بن زيد خرج بابن لي معه ولا قرّة لعيني ولا كاسب لي غيره، فقال لها:
وما اسم ابنك؟ فقالت خنيس فكتب إلى تميم بن زيد مع بعض من شخص:
تميم بن زيد لا تكوننّ (1) حاجتي ... بظهر فلا يعيا عليّ جوابها
وهب لي خنيسا واحتسب فيه منّة ... لعبرة أمّ ما يسوغ شاربها
أتتني فعاذت يا تميم بغالب ... بالحفرة السافي عليها ترابها
وقد علم الأقوام أنك ماجد ... وليث إذا ما الحرب شبّ شهابها
فلما ورد الكتاب على تميم تشكّك في الاسم فقال: أحبيش أم خنيس؟
ثم قال انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا فأصيب ستة ما بين حبيش وخنيس، فوجّه بهم إليه ومنهم مكاتب لبني منقر ظلع (2) بمكاتبته، فأتى قبر غالب فاستجار به وأخذ منه حصيات فشدّهنّ في عمامته، ثم أتى الفرزدق فأخبره خبره وقال أني قد قلت شعرا. فقال: هاته فقال:
__________
(1) لا تكونن حاجتي: بظهر يريد لا تجعلها وراء ظهرك ولكن أجعلها نصب عينيك حتى لا عجز عن جوابها.
(2) ظلع: أي ضعف.(1/396)
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما ... خشيت الردى أو ان أردّ على قسر (1)
بقبر امرىء تقري (2) المئين عظامه ... ولم يك إلّا غالبا ميّت يقري
فقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
فقال له الفرزدق: ما اسمك؟ قال لهذم. يا لهذم حكمك (3) مسمّطا قال:
ناقة كوماء (4) سوداء الحدقة. قال: يا جارية اطرحي إلينا حبلا. ثم قال: يا لهذم أخرج بنا إلى المربد فألقه في عنق ما شئت. فتخير العبد على عينه ثم رمى بالحبل في عنق ناقة وجاء صاحبها، فقال له الفرزدق اغد عليّ في ثمنها فجعل لهذم يقودها والفرزدق يسوقها حتى إذا نفذ بها من البيوت إلى الصحراء صاح به الفرزدق: يا لهذم قبح الله أخسرنا. (قوله: تقري المئين عظامه، يريد أنهم كانوا ينحرون الابل عند قبور عظمائهم فيطعمون الناس في الحياة وبعد الممات وهذا معروف في أشعارهم) قوله: ولم يك إلّا غالبا ميت يقرى فإنه نصب غالبا لأنه استثناء مقدم، وإنما انصب الاستثناء المقدم لما أذكره لك، وذلك أن حق الاستثناء إذا كان الفعل مشغولا به أن يكون جاريا عليه، لا يكون فيه إلّا هذا. تقول، ما جاءني إلّا عبد الله، لا وما أريت إلّا عبد الله، وما مررت إلّا بعبد الله، فإن كان الفعل مشغولا بغيره، فكان موجبا لم يكن في المستثنى إلا النصب، نحو جاءني إخوتك إلّا زيدا.
كما قال تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلََّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (5). ونصب على هذا معنى الفعل وإلّا دليل على ذلك فإذا قلت: جاءني القوم لم يؤمن أن يقع عند
__________
(1) قسر: القهر والغلبة.
(2) قرى الضيف ذكرت في مكان سابق.
(3) حكمك مسمطا بالتشديد: أي لك قلمك مرسلا جائزا لا يعقب والمسمط المرسل الذي لا يرد وهذا المثل لا يقال إلا محذوف الخبر.
(4) ناقة كوماء: كأنه قال حكمي عليك فاقه الخ والكوماء الناقة العظيمة السنام وقد كومت كفرحت.
(5) سورة البقرة: الاية 249.(1/397)
السامع أن زيدا أحدهم، فإذا قال إلّا زيدا، فالمعنى لا أعني فيهم زيدا أو أستثني ممن ذكرت زيدا. ولسيبويه فيه تمثيل والذي ذكرت لك أبين منه وهو مترجم عما قال غير مناقض له وإن كان الأول منفيا جاز البدل والنصب، والبدل أحسن لأن الفعل الظاهر أولى بأن يعمل من المختزل الموجود، بدليل وذلك قولك. ما أتاني أحد إلّا زيد وما مررت بأحد إلّا زيد، والفصل بين المنفي والموجب أن المبدل من الشيء يفرّغ له الفعل، فأنت في المنفي إذا قلت: ما جاءني أحد إلّا زيد، إذا حذفت على جهة البدل صار التقدير ما جاءني إلّا زيد، لأنه بدل من أحد. والموجب لا يكون فيه البدل، لأنك إذا قلت: جاءني أخوتك إلّا زيدا لم يجز حذف الأول، ولا تقول جاءني إلّا زيد وإن شئت أن تقول في النفي، ما جاءني أحد إلّا زيدا جاز ونصبه بالاستثناء الذي شرحت لك في الواجب. والقراءة الجيدة ما فعلوه إلّا قليل منهم، وقد قرىء إلّا قليلا منهم على ما شرحت لك في الواجب. والقراءة الأولى، فإذا قدّمت المستثنى بطل البدل لأنه ليس قبله شيء يبدل منه فلم يكن فيه إلّا وجه الاستثناء، فتقول ما جاءني إلّا أباك أحد، وما مررت إلّا أباك بأحد، وكذلك تنشد هذه الاشعار: قال كعب بن مالك الأنصاري لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
الناس ألب (1) علينا فيك ليس لنا ... إلّا السّيوف وأطراف القنا وزر (2)
وقال الكميت بن زيد:
فما لي إلّا ال أحمد شيعة ... ومالي إلّا مشعب الحق مشعب
لا يكون إلّا هذا. وليونس قول مرغوب عنه، فلذلك لم نذكره. وقوله:
فقال لي: استقدم أمامك مخبر عن الميت بالقول، فإن العرب وأهل الحكمة من العجم تجعل كلّ دليل قولا، فمن ذلك قول زهير:
أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم
__________
(1) الألب: بالفتح أو بالكسر القوم يجتمعون على عداوه إنسان وقد تألبوا عليه أي تجمعوا بالظلم والعداوة.
(2) الوزر: محركا الملجأ والمعتصم.(1/398)
وإنما كلامها عنده أن تبيّن بما يرى من الاثار فيها من قدم أهلها وحدثان عهدهم. ويروى عن بعض الحكماء أنه قال: هلّا وقفت على المعاهد والجنان. فقلت أيتها الجنان من شقّ أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك، فإنها إن لم تجبك حوارا (1) أجابتك اعتبارا. وأهل النظر يقولون في قول الله عز وجل قالتا: {أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (2)، لم يكن كلام إنما فعل عز وجل ما أراد فوجد. قال الراجز:
قد خنّق الحوض (3) وقال قطني (4) ... سلّا رويدا قد ملأت بطني
ولم يكن كلام إنما وجد ذلك فيه، وكذلك قوله:
فقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
لهو النعمان بن المنذر
وحدنثي العباس بن الفرج الرياشيّ في إسناد قد ذهب عني أكثره قال:
نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن زيد في ظل شجرة مونقة ليلهو النعمان هناك، فقال له عديّ بن زيد: أيها الملك، أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: وما الذي تقول؟ قال تقول:
(من رانا فليحدّث نفسه ... أنه موف على قرن (5) زوال
وصروف الدهر لا يبقى لها ... ولما نأتي به صمّ الجبال)
ربّ ركب قد أناخوا حولنا ... يمزجون الخمر بالماء الزلال
(والأباريق عليها فدم ... وجياد الخيل تردي (6) في الجلال
__________
(1) حوارا: الحوار بالفتح. وبكسر الجواب ومراجعة النطق والاعتبار الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد.
(2) سورة فصلت: الاية 11.
(3) خنق الحوض: وغيره. تخنيقا ملأه.
(4) قطن: بمعنى حسبي.
(5) قرن الزوال: حده كان الحوت سيف وهم على قرنه.
(6) تردى: ترجم الأرض بحوافرها.(1/399)
عمروا الدهر بعيش حسن ... قطعوا دهرهم غير عجال)
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال
قال: فتنغّص النعمان، وهذا في الامثال كثير وفي الاشعار السائرة، وأما قوله: حكمك مسمّطا، فإعرابه أنه أراد لك حكمك مسمّطا واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفافا لعلم السامع بما يريد القائل، كقولك الهلال والله، أي هذا الهلال، وأغنى عن قوله هذا القصد والاشارة وكان يقال لرؤبة كيف أصبحت؟ فيقول خير عافاك الله، فلم يضمر حرف الخفض ولكنه حذف بكثرة الاستعمال، والمسمّط المرسل غير المردود، والكوماء العظيمة السّنام.(1/400)
35 - باب
قال أبو العباس: قال الليثي (هو الجاحظ): أعتق سعيد بن العاص أبا رافع، إلّا سهما واحدا فيه من أسهم لم يسم عددها لنا، فاشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك السهم فأعتقه، وكان لأبي رافع بنون أشراف منهم عبد الله بن أبي رافع، وحديثه أثبت الحديث عن عليّ بن أبي طالب وكان كالكاتب له، وكان عبيد الله بن أبي رافع شريفا، وكان عبيد الله ينسب إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ولي عمرو بن سعيد الأشدق المدينة لم يعمل شيئا قبل إرساله إلى عبيد الله بن أبي رافع. فقال له مولى: من أنت؟ فقال مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبرزه فضربه مائة سوط ثم قال له مولى: من أنت؟ فقال: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه مائة أخرى، فلما رأى عبد الله أخاه غير راجع وأن عمرا قد ألحّ عليه في ضربه، قام إلى عمرو فقال له: اذكر الملح فأمسك عنه، والملح ههنا اللبن يريد الرضاع كما قال أبو الطمحان القيسيّ:
إني لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبرا
(كذا وقعت الرواية والصواب أغبر لأن قبله:
ولو علمت صرف البيوع (1) لسرّها ... بمكة أن تبتاع حمضا بإذخر (2)
قاله ش) وكما قال الاخر:
__________
(1) صرف البيوع: حسن التدبير وجودة الرأي فيها.
(2) الأذخر: بالكسر حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب والهمزة زائدة.(1/401)
لا يبعد الله ربّ العباد ... والملح ما ولدت خالده
من كلام الموالي
ويروى أن عبيد الله بن أبي رافع أتى الحسن بن علي بن أبي طالب فقال: أنا مولاك. فقال في ذلك مولى لتمّام بن عباس بن عبد المطّلب يعذله ويعيّره:
جحدت بني العبّاس حقّ أبيهم ... فما كنت في الدعّوى كريم العواقب
متى كان أولاد البنات كوارث ... يحوز ويدعى والدا في المناسب
يريد أن بني العباس أولى بولاء مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن العم مدعوّ والدا في كتاب الله تعالى وهو يحوز الميراث. وقال رجل من الثقفيّين: أنشدت مروان بن أبي حفصة هذين البيتين فوقع عندي أنه من هذا أخذ قوله:
أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
ألغى سهامهم الكتاب فما لهم ... أن يشرعوا فيه بغير سهام
وقال طاهر بن عليّ بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس للطالبيّين:
لو كان جدّكم هناك وجدّنا ... فتنازعا فيها لوقت خصام
كان التراث (1) لجدّنا من دونه ... فحواه بالقربى وبالإسلام
حقّ البنات فريضة معروفة ... والعمّ أولى من بني الأعمام
وذكر الزبيريّون عن ابن الماجشون قال: جاءني رجل من ولد أبي رافع فقال: إني قد قاولت رجلا من موالي بعض العرب، فقلت: أنا خير منك.
فقال: بل أنا خير منك، فما الذي يحجب لي عليه؟ فقلت: ليس في هذا شيء. فقال: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعم أنه خير مني قال. قلت: قد
__________
(1) التراث: الإرث.(1/402)
يتصرف هذا على غير الحسب. قال: فلما راني لا أقضي له بشيء قال لي:
أنت دافع مغرما. لأن ولائي عنده ليس في موضع مرضيّ. قال: وصدق في بني تيم لتيم من هو أشرف ولاء مني. وحدثت أن أسامة بن زيد قاول عمرو بن عثمان في أمر ضيعة يدّعيها كلّ واحد منهما فلجّت بهما الخصومة فقال عمرو: يا أسامة أتأنف أن تكون مولاي فقال أسامة: يسرّني بولائي من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبك ثم ارتفعا إلى معاوية فلجّا بين يديه في الخصومة فتقدم سعيد بن العاص إلى جانب عمرو فجعل يلقّنه الحجة، فتقدم الحسن إلى جانب أسامة يلقنه فوثب عتبة بن أبي سفيان فصار مع عمرو ووثب الحسين فصار مع أسامة، فقام عبد الرحمن بن أمّ الحكم فجلس مع عمرو، فقام عبد الله بن العباس فجلس مع أسامة، فقام الوليد بن عقبة فجلس مع عمرو فقام عبد الله بن جعفر فجلس مع أسامة، فقال معاوية: الجليّة عندي حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقطع هذه الضيعة أسامة. فانصرف الهاشميون وقد قضي لهم، فقال الأمويّون لمعاوية: هلّا إذا كانت هذه القضيّة عندك بدأت بها قبل التحزّب، أو أخرتها عن هذا المجلس. فتكلم بكلام يدفعه بعض الناس، وكان الذي اعتدّ به (1) الحجّاج بن يوسف على سعيد بن جبير، لما أتي به إليه بعد انقضاء أمر ابن الأشعث، وكان سعيد عبدا لرجل من بني أسد بن خزيمة، فاشتراه سعيد بن العاص في مائة عبد فأعتقهم جميعا، فقال له الحجّاج: يا شقيّ بن كسير أما قدمت الكوفة وليس يؤمّ بها الأعرابيّ فجعلتك إماما، قال: بلى. قال: أفما وليّتك القضاء؟ فضجّ أهل الكوفة، وقالوا لا يصلح القضاء إلا لعربيّ. فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الأشعريّ وأمرته ألايقطع أمرا دونك. قال: بلى. قال: أو ما جعلتك في سمّاري وكلّهم من رؤوس العرب؟ قال: بلى. قال: أو ما أعطيتك مائة ألف درهم لتفرّقها في أهل الحاجة، ثم لم أسألك عن شيء منها؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك عليّ؟ قال: بيعة كانت لابن الأشعث في عنقي. فغضب الحجّاج ثم قال:
__________
(1) اعتد به: أحصاه عليه وضبطه.(1/403)
أفما كانت بيعة أمير المؤمنين عبد الملك في عنقك قبل؟ والله لأقتلنّك، يا حرسيّ اضرب عنقه. ونظر الحجاج فإذا جلّ من خرج مع عبد الرحمن من الفقهاء وغيرهم من الموالي، فأحب أن يزيلهم عن موضع الفصاحة والاداب، ويخلطهم بأهل القرى والأنباط. فقال: إنما الموالي علوج، وإنما أتي بهم من القرى، فقراهم أولى بهم. فأمر بتسييرهم من الأمصار وإقرار العرب بها، وأمر بأن ينقش على يد كل إنسان منهم اسم قريته. وطالت ولايته فتوالد القوم هناك، فخبثت لغات أولادهم، وفسدت طبائعهم. فلما قام سليمان بن عبد الملك أخرج من كان في سجن الحجّاج من المظلومين. فيقال أنه أخرج في يوم واحد ثمانين ألفا، وردّ المنقوشين فرجعوا في صورة الأنباط. ففي ذلك يقول الراجز:
جارية لم تدر ما سوق الإبل ... أخرجها الحجّاج من كنّ (1) وظل
لو كان بدر حاضرا وابن حمل ... ما نقشت كفّاك في جلد جلل
وقال شاعر لأهل الكوفة، لما استقضي عليها نوح بن درّاج (ينسب للفرزدق):
يا أيها الناس قد قامت قيامتكم ... إذ صار قاضيكم نوح بن درّاج
لو كان حيّا له الحجّاج ما سلمت ... كفّاه ناجية من نقش حجّاج
ويروى عن حسّان المعروف بالنبطيّ صاحب منارة حسّان في البطيحة، قال: أريت الحجّاج في ما يرى النائم، فقلت: أصلح الله الأمير، ما صنع الله بك؟ فقال: يا نبطيّ أهذا عليك (2)؟ قال: فرأيتنا لا نفلت من نقشه في الحياة، ومن شتمه بعد الوفاة، ويروى عن حسّان أنه قصّ هذه الرؤيا على محمد بن سيرين، فقال له ابن سيرين: لقد رأيت الحجاج بالصحة.
قال أبو العباس: وحدّثت من ناحية الزبيريّين: أن الجحّاف بن حكيم
__________
(1) الكن: بالكسر وفاء كل شيء وستره.
(2) هذا عليك: ينكر عليه هذا السؤال ويستعظمه منه.(1/404)
دخل على عبد الملك والأخطل عنده، فلما بصر به الأخطل قال:
ألا أبلغ الجحّاف هل هو ثائر ... بقتلي أصيبت من سليم وعامر
فقال الجحّاف:
بلى سوف نبكيهم بكل مهند ... ونبكي عميرا بالرماح الخواطر
ثم قال: يا ابن النصرانية، ما ظننتك تجترىء عليّ بمثل هذا، ولو كنت مأسورا لك. فحمّ الأخطل خوفا. فقال له عبد الملك: أنا جارك منه. فقال:
يا أمير المؤمنين هبك أجرتني منه في اليقظة، فمن يجيرني منه في النوم؟ ومن هذا أو نحوه أخذ السلميّ قوله (قال أبو الحسن: هو أشجع السلميّ يقوله للرشيد):
وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمد ... رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبّه رعته وإذا هذا (1) ... سلّت عليه سيوفك الاحلام
هروب العديل بن الفرخ العجلي من الحجاج
وكان العديل (2) بن الفرخ العجليّ هاربا من الحجّاج، فجعل لا يحلّ ببلدة إلّا ريع لأثر يراه من اثار الحجّاج، فيهرب حتى أبعد، ففي ذلك يقول العديل:
يخشّونني (3) الحجّاج حتى كأنما ... يحرّك عظم في الفؤاد مهيض (4)
ودون يد الحجّاج من أن تنالني ... بساط لأيدي اليعملات عريض (5)
__________
(1) هذا: أصله الهمز وخفف بحذفه ومعناه السكون عن الحركة وكني به عن النوم.
(2) العديل: كزبير وبعضهم يقول إن الصواب حذف ال منه وهو شاعر من شعراء بني أمية.
(3) يخشونني: يخيفونني.
(4) مهيض: مكسور.
(5) البساط: بالفتح الأرض الواسعة وقد يكسر واليعملات النوق النجيبات السريعات في السير.(1/405)
فلم ينشب أن أتي به الحجّاج، ففي ذلك يقول العديل:
فلو كنت في سلمى أجا وشعابها (1) ... لكان لحجّاج عليّ دليل
بنى قبّة الإسلام حتى كأنما إتى ... الناس من عبد الضلال رسول
أجاو وسلمى جبلا طيّىء، وأجأ مهموزا وإنما هو أجا مقصور فأعلم، قال زيد الخيل:
جلبنا الخيل من أجأ وسلمى ... تخبّ نزائعا (2) خبب الذئاب
والشاعر إذا احتاج إلى قلب الهمزة قلبها. إن كانت الهمزة مكسورة جعلها ياء، أو ساكنة جعلها على حركة ما قبلها، وإن كانت مفتوحة وقبلها فتحة جعلها ألفا، وإن كانت مفتوحة وقبلها كسرة جعلها ياء، وإن كان قبلها ضمة جعلها واوا. قال الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشيّة ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
وقال حسّان بن ثابت:
سألت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلّت هزيل بما سالت ولم تصب
وقال عبد الرحمن بن حسّان:
وكنت أذلّ من وتد بقاع ... يشجّج رأسه بالفهر واجي (3)
وأما قول الفرزدق، فإنه يقول: لما عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق بعد قتله يزيد بن المهلّب لحاجة الخليفة إلى قربه وولي عمر بن هبيرة (4)
فقال:
راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
__________
(1) الشعاب: الطرق في الجبل.
(2) النزائع: النجائب من الخيل التي تجلب إلى غير بلادها.
(3) بقاع: في منخفض في الأرض. الفهر: الحجر. وإجي: من وجأ: شق وكسر.
(4) عمر بن هبيرة: أحد بني فزاره قبيلة من غطفان.(1/406)
ولقد علمت إذا فزارة أمّرت ... أن سوف تطمع في الأمارة أشجع (1)
فأرى الأمور تنكّرت أعلامها ... حتى أميّة عن فزارة تنزع
عزل ابن عمرو وابن بشر قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقّع
(تنزع رواية عاصم، فمن روى تنزع بضم التاء يعني تعزل، ومن روى بفتح التاء وكسر الراي فهو من النزع في القوس، وهو الرمي يشير إلى أنها محتاجة إلى رأيها وأنها ترمي عن قوسها). ففي جواب هذا يقول الأسديّ لما ولي خالد بن عبد الله القسريّ (2):
بكت المنابر من فزارة شجوها (3) ... فالان من قسر تضجّ (4) وتخشع (5)
وملوك خندف (6) أسلمونا للعدى ... لله درّ ملوكنا ما تصنع
(كانوا كتاركة بنيها جانبا ... سفها وغيرهم تصون وترضع)
أقوال عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن الحكم
وأما قول حسّان: سألت هذيل رسول الله فاحشة، فليس من لغته سلت أسأل مثل خفت أخاف وهما يتساولان، ولكن هذا من لغة غيره. وكانت هذيل سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلّ لها الزنا. ويروى أن أسديّا وهذليّا تفاخرا فرضيا برجل فقال: إني ما أقضي بينكما إلّا أن تجعلا لي عقدا وثيقا ألاتضرباني
__________
(1) أشجع بن ريث بن غطفان أبو قبيلة.
(2) القسرى نسبة إلى قسر بالفتح وهو بطن من بجيلة.
(3) شجوها: شجاه الشيء أخزنه وشجوها منصوب على أنه مفعول لأجله.
(4) تضج: تجزع وتغلب على أمرها وأعلم أنهم يقولون أضبح القوم إذا صاحوا وجلبوا فإذا جزعوا وغلبوا على أمرهم فقد ضجوا ضجيجا.
(5) الخشوع: الذل والاستكانة.
(6) خندف: في الأصل لقب ليلى بنت عمران بن الحاق بن قضاعة سميت بها القبيلة لأنها أمهم ووالدهم الياس بن مضر والذين وقع عليه هذا اللقب من أولاده مدركة وطابخة وقمعه ويقال أسلم فلان فلانا إذا القاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه.(1/407)
ولا تشتماني، فإني لست في بلاد قومي. ففعلا، فقال: يا أخا بني أسد كيف تفاخر العرب، وأنت تعلم أنه ليس حيّ أحبّ إلى الجيش، ولا أبغض إلى الضيف، ولا أقل تحت الرايات منكم، وأما أنت يا أخا هذيل فكيف تكلم الناس وفيكم خلال ثلاث: كان منكم دليل الحبشة على الكعبة، ومنكم خولة (1)
ذات النحيين، وسألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلّ لكم الزنا، ولكن إذا أردتما بيتي مضر فعليكما بهذين الحيّين من تميم وقيس قوما في غير حفظ الله، وأما بيت عبد الرحمن بن حسان، فإنه يقول لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص وكان يهاجيه، فقاله في كلمته:
وأما قولك الخلفاء منا ... فهم منعوا وريدك من وداج
ولولا هم لكنت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داجي
وكنت أذلّ من وتد بقاع ... يشجّج رأسه بالفهر واجي
سوار بن المضرب يهرب من الحجاج
وكان أحد من هرب من الحجّاج سوار بن المضرّب (بفتح الراء) ففي ذلك يقول:
أقاتلي الحجّاج إن لم أزر له ... دراب وأترك عند هند فؤاديا
فإن كان لا يرضيك حتى تردّني ... إلى قطريّ ما إخالك راضيا
إذا جاوزت درب المجيزين ناقتي ... فباست أبي الحجّاج لما ثنانيا
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
(فاعل يرضيك مضمر أو منويّ تقديره، فإن كان يرضيك الإرضاء، ولا
__________
(1) خولة: غيره يقول هي إمرأة من بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب، كانت تبيع السمن في الجاهلية فأتاها خوات بن جبير الأنصاري يبتاع منها سمنا فلم ير عندها أحدا فساومها، فملت له نحيا فنظر إليه ثم قال إمسكيه حتى أنظر إلى غيره فحمل نحيا اخر ونظر إليه فقال أريد غير هذا فامسكيه ففعلت فلما شغل يديها، ساورها فلم تقدر على دفعه حتى قضى ما أراد وهرب فضرب بها المثل.(1/408)
يجوز أن يكون ما بعد يرضيك الفاعل، لأن سيبويه رحمه الله قال: الفاعل لا يكون جملة. وحتى تردّني جملة، قاله ابن الأبرش). وورائي ها هنا بمعنى أمامي.
قال الله عزّ وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوََالِيَ مِنْ وَرََائِي} (1) وقال جل ثناؤه:
{وَكََانَ وَرََاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (2).
حديث محمد بن عبد الله وقد هرب من الحجاج
وممن هرب من الحجاج محمد بن عبد الله بن نمير الثقفيّ، وكان يشبّب (3)
بزينب بنت يوسف أخت الحجّاج، وهو القائل فيها:
تضوّع (4) مسكا بطن نعمان إن مشت ... به زينب في نسوة عطرات
يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات (5)
في كلمة له، فلما أتي به الحجاج قال:
هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوّفت كلّ مكان
فلو كنت بالعنقاء (6) أو بأسومها ... لخلتك إلا أن تصدّ تراني
(من رفع رحبها فعلى البدل، ومن نصب فعلى الظرف، قاله ش.
وأسومها بفتح الهمزة وبالضمّ، والفتح أحسن ش). ثم قال: والله أيها الأمير إن قلت إلّا خيرا إنما قلت:
__________
(1) سورة مريم: الاية 5.
(2) سورة الكهف: الاية 79.
(3) يشبب: يتغزل.
(4) تضوع المسك: تفرق رائحته وانتشارها وسطوعها ونعمان بفتح النون واد بأرض الشام قرب الفرات وواد قرب الكوفة وكأنه المراد هنا وبطنه جوفة.
(5) معتجرات: الاعتجار لبس للمرأة والمعجر كمنبر ثوب تعتجر به.
(6) العنقاء أكمه فوق جبل شاهق مرتفع وأسومها: أصولها وعروقها.(1/409)
يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات
فعفا عنه. ثم قال له: أخبرني عن قولك:
ولما رأت ركب النميريّ أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات
ما كنتم؟ قال: كنت على حمار هزيل ومعي صاحب لي على أتان مثله.
وممن هرب منه مالك بن الريب المازنيّ، أحد بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. وفي ذلك يقول:
إن تنصفونا يال مروان نقترب ... إليكم وإلّا فأدنوا ببعاد
فإنّ لنا عنكم مراحا (1) ومرحلا ... بعيس إلى ريح الفلاة صوادي
ففي الأرض عن دار المذلّة مذهب ... وكلّ بلاد أو طنت كبلادي
(كذا وقعت الرواية بضم الهمزة وكسر الطاء، والأصح أوطنت بفتح الهمزة وفتح الطاء، قاله ش).
فماذا ترى الحجّاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقرّ بذلّة ... يراوح صبيان القرى ويغادي
قال ذلك لأن الحجاج كان هو وأخوه معلّمين بالطائف، وكان لقبه كليبا.
وفي ذلك يقول القائل:
أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر
رغيف له فلكة (2) ما ترى ... واخر كالقمر الأزهر
يقول: خبز المعلّمين يأتي مختلفا، لأنه من بيوت صبيان مختلفي الأحوال، وأنشد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ:
__________
(1) مراحا: بالفتح الموضع الذي يروح منه القوم أو إليه.
(2) الفلكة: بفتح الفاء وسكون اللام ما استدار في كل شيء.(1/410)
أما رأيت بني بحر وقد حفلوا (1) ... كأنّهم خبز بقّال وكتّاب
هذا طويل وهذا حنبل (2) جحد ... يمشون خلف عمير صاحب الباب
وفي لقبه يقول اخر من أهل الطائف:
كليب تمكّن في أرضكم ... وقد كان فينا صغير الخطر (3)
الحجاج عند دخوله مكة
ولما دخل الحجاج مكة اعتذر إلى أهلها، لقلة ما وصلهم به فقال قائل منهم: إذا والله لا نعذرك وأنت أمير العراقين، وابن عظيم القريتين. وذلك أن عروة بن مسعود ولده من قبل أمّه.
وتأويل قول الله عزّ وجل وقالوا: {لَوْلََا نُزِّلَ هََذَا الْقُرْآنُ عَلى ََ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (4) مجازه في العربية على رجل من رجلين من القريتين عظيم. والقريتان مكة والطائف. والرجلان عروة بن مسعود، والاخر الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. ويروى أن أبا بكر الصديق رحمه الله، مرّ بقبره ومعه خالد فقال: أصبح جمرة في النار فأجابه خالد في ذلك بجواب غير مرضيّ. وأما عروة بن مسعود فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فرقي سطحه، فرماه رجل بسهم فقتله فلما وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطّلب رحمه الله إلى مكة، أبطأ عليه فقال: ردّوا عليّ أبي أما لئن فعلت به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود، لاضرمنّها عليهم نارا. يقال: رقيت السطح وما كان مثله أرقاه، مثل: خشيته أخشاه.
كما قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ تَرْقى ََ فِي السَّمََاءِ} (5). ويقال: رقيت اللديغ
__________
(1) حفلوا: اجتمعوا.
(2) الحنبل: القصير.
(3) الخطر: الشرف.
(4) سورة الزخرف: الاية 31.
(5) سورة الاسراء: الاية 93.(1/411)
أرقيه. مثل: رميته أرميه. ويقال: ما رقأت عينه من الدمع مهموز ترقأ يا فتى، مثل: قرأت تقرأ يا فتى.
الحجاج يفقد ابنه وأخاه
وكان الحجاج رأى في منامه أن عينيه قلعتا، فطلّق الهندين هندا بنت المهلّب وهندا بنت أسماء بن خارجة. فلم يلب أن جاءه نعيّ أخيه من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد. فقال: هذا والله تأويل رؤياي. ثم قال:
{إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} (1)، محمّد ومحمّد في يوم واحد:
حسبي بقاء الله من كل ميّت ... وحسبي رجاء الله من كل هالك
إذا كان ربّ العرش عنّي راضيا ... فإنّ شفاء النفس في ما هنالك
(ويروى فإن سرور النفس). وقال: من يقول شعرا يسلّيني به؟ فقال الفرزدق:
إن الرزيّة لا رزيّة مثلها ... فقدان مثل محمد ومحمد
ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد (2)
فقال: لو زدتني. فقال الفرزدق:
إني لباك على ابني يوسف جزعا ... ومثل فقدهما للدّين يبكيني
ما سدّ حيّ ولا ميت مسدّهما ... إلا الخلائف من بعد النبيئين
فقال له: ما صنعت شيئا إنما زدت في حزني. فقال الفرزدق:
لئن جزع الحجّاج ما من مصيبة ... تكون لمحزون أجلّ وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... جناحيه لما فارقاه فودّعا
أخ كان أغنى أيمن الأرض كلّه ... وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
__________
(1) سورة البقرة: الاية 156.
(2) المرصد: مكان الرصد والترقب.(1/412)
جناحا عقاب فارقاه كلاهما ... ولو نزعا عن غيره لتضعضعا
فقال: الان. أما قوله إلّا الخلائف من بعد النبيئين، فخفض هذه النون، وهي نون الجمع. وإنما فعل ذلك أنه جعل الإعراب فيها لا فيما قبلها. وجعل هذا الجمع كسائر الجمع نحو: أفلس ومساجد وكلاب. فإن إعراب هذا كإعراب الواحد، وإنما جاز ذلك لأن الجمع يكون على أبنية شتّى، وإنما يلحق منه بمنهاج التثنية ما كان على حدّ التثنية لا يكسّر الواحد عن بنائه، وإلّا فلا، فإن الجمع كالواحد لاختلاف معانيه، كما تختلف معاني الواحد، والتثنية ليست كذلك لأنها ضرب واحد ولا يكون اثنان أكثر من اثنين عددا، كما يكون الجمع أكثر من الجمع، فما جاء على هذا المذهب قولهم:
هذه سنين فاعلم وهذه عشرين فاعلم. قال العدوانيّ:
إني أبيّ أبيّ ذو محافظة (1) ... وابن أبيّ أبيّ من أبيّين
وأنتم معشر زيد (2) على مائة ... فأجمعوا كيدكم طرّا فكيدوني
وقال سحيم بن وثيل:
وماذا يدّري (3) الشعراء منّي ... وقد جاوزت حدّ الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدّي (4) ... ونجّذني مداورة (5) الشؤون
وفي كتاب الله عزّ وجل: {وَلََا طَعََامٌ إِلََّا مِنْ غِسْلِينٍ} (6) فإن قال قائل:
فإن غسلينا واحد، فإنه كل ما كان على بناء الجمع من الواحد، فإعرابه كإعراب الجمع، ألا ترى أنّ عشرين ليس لها واحد من لفظها، وإعرابها كإعراب مسلمين، واحدهم مسلم. وكذلك جميع الإعراب. وتقول هذه
__________
(1) المحافظة الذوذ عن المحارم.
(2) الزيد: الزياد: والكيد المكر والخبث.
(3) يدري: يخدع.
(4) الأشد بضم الشين واحد جاء على بناء الجمع ومعناه القوة.
(5) المداورة: المعالجة.
(6) سورة الحاقة: الاية 36(1/413)
فلسطون يا فتى، ورأيت فلسطين يا فتى، هذا القول الأجود. وكذلك: يبرين، وفي الرفع يبرون يا فتى وكل ما أشبه هذا فهو بمنزلته، تقول: قنسرون ورأيت قنّسرين، والأجود في هذا البيت هو للأعشى):
وشاهدنا الجلّ والياسمو ... ن (1) والمسمعات بقصابها (2)
(الجلّ والورد والقصاب الأوتار، وقيل الزمّار).
وفي القران: ما يصدّق ذلك قول الله عز وجلّ: {كَلََّا إِنَّ كِتََابَ الْأَبْرََارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمََا أَدْرََاكَ مََا عِلِّيُّونَ} (3)، فمن قال هذه قنّسرون ويبرون، فنسب إلى واحدة منهما رجلا أو شيئا. قال: هذا رجل قنّسريّ ويبريّ، يحذف النون والواو لمجيء حرفي النسب، ولو أثبتهما لكان في الاسم رفعان ونصبان وجرّان، لأن الياء مرفوعة والواو علامة الرفع. ومن قال هذه قنّسرين كما ترى، قال في النسب: قنّسرينيّ لأن الإعراب في حرف النسب، وانكسرت النون كما ينكسر كلّ ما لحقه النسب. وأما قوله: ونجّدني مداوره الشؤون، فمعناه فهّمني وعرّفني، كما يقال: حنّكته التجارب. والناجذ اخر الأضراس، ومن ذلك قولهم: ضحك حتى بدت نواجذه. والشؤون جمع شأن مهموز وهو الأمر، وقال المفسرون من أهل الفقه وأهل اللغة في قول الله تبارك وتعالى:
{وَلََا طَعََامٌ إِلََّا مِنْ غِسْلِينٍ} (4) هو غسالة أهل النار. وقال النحويون: هو فعلين من الغسالة. ويروى أن عمر بن عبد العزيز خرج يوما، فقال: الوليد بالشام، والحجّاج بالعراق، وقره بن شريك بمصر، وعثمان بن حيّان بالحجاز، ومحمد بن يوسف باليمن امتلأت الأرض والله جورا.
__________
(1) الياسمون: بفتح السين الواحد منه اسم كصاحب ولا نظير له سوى عالون ويجوز أن يكون معربا فلا مجرى مجرى والجمع والمسمعة بالضم المغنية.
(2) القصاب: جمع قصابة بالضم والتشديد فيهما.
(3) سورة المطففين: الاية 1918.
(4) سورة الحاقة: الاية 36.(1/414)
كتاب الحجاج إلى الوليد لما مات أخوه
وكتب الحجّاج إلى الوليد بن عبد الملك، بعد وفاة محمد بن يوسف:
أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله، أنه أصيب لمحمد بن يوسف خمسون ومائة ألف دينار، فإن يكن أصابها من حلّها فرحمه الله، وإن تكن من خيانة فلا رحمه الله. فكتب إليه الوليد: أما بعد، فقد قرأ أمير المؤمنين كتابك فيما خلّف محمد بن يوسف، وإنما أصاب ذلك المال من تجارة أحللناها له، فترحّم عليه رحمه الله ويروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاوية في يوم بويع له على عهده، فجعل الناس يمدحونه ويقرّظونه: يا أمير المؤمنين، والله ما تدري أنخدع الناس أم يخدعوننا؟ فقال له معاوية: كلّ ما أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته. ويروى أن الحجّاج كتب إلى عبد الملك بن مروان: وبلغني أن أمير المؤمنين عطس عطسة فشمّته (1) قوم فقال: يغفر الله لنا ولكم، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما. وزعم الأصمعي قال: خرج الوليد يوما على الناس وهو مشعانّ الرأس فقال: مات الحجّاج بن يوسف وقرّة بن شريك، وجعل يتفجّع عليهما قوله: مشعانّ الرأس يعني منتفخ الشعر متفرقه (الرواية منتفخ والصحيح منتفش قاله ابن سراج).
ومثل هذا لا يكون في شعر لأن في هذا التقاء ساكنين، ولا يقع مثل هذا في وزن الشعر إلّا في ما تقدم ذكره في المتقارب وليس هذا على ذلك الوزن.
وحدّثت أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وجّه عبد الله بن عبد الأعلى ومعه رجل من عنس (2) إلى اليون. فقال العنسيّ. فخلا بي عمر دونه وقال لي: إحفظ كلّ ما يكون منه. فلما صرنا إليه صرنا إلى رجل عربيّ اللسان إنما نشأ بمرعش (3)، فذهب عبد الله ليتكلم فقلت: على رسلك. فحمدت الله
__________
(1) تشميت العاطس: الدعاء له بالخير والبركة.
(2) عنس: لقب زيد بن مالك.
(3) مرعش: بلد بالشام بالقرب من إنطاكية.(1/415)
وصليت على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قلت: إني وجّهت بالذي وجّه به هذا، وإن أمير المؤمنين يدعوك إلى الإسلام، فإن تقبله تصب رشدك، وإني لأحسب أن الكتاب قد سبق عليك بالشقاء، إلا أن يشاء الله غير ذلك، فإن قبلت وإلّا فاكتب جواب كتابنا. قال: ثم تكلم عبد الله فحمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب في القول، وكان مفوّها. فقال له اليون: يا عبد الله ما تقول في المسيح؟ فقال: روح الله وكلمته، فقال: أيكون ولد من غير فحل. فقال عبد الله: في هذا نظر. فقال: أيّ نظر في هذا، إمّا نعم وإما لا؟ فقال عبد الله: ادم خلقه الله من تراب. فقال: إن هذا أخرج من رحم. قال: في هذا نظر، قال له اليون بالرومية: إني أعلم أنك لست على ديني ولا على دين الذي أرسلك. قال: وأنا أفهم بالرومية ثم قال: أتعظّمون يوما غير يوم الجمعة؟ فقال: نعم. فقال: وما ذلك اليوم؟ أمن أعيادكم هو؟ فقال: لا.
قال: فلم تعظّمونه؟ قال: عيد لقوم كانوا صالحين قبل أن يصير إليكم. قال:
فقال اليون بالرومية: قد علمت أنك لست على ديني ولا على دين الذي أرسلك. فقال له عبد الله: أتدري ما يقول أهل السفه. قال: وما يقولون؟
قال: يقولون قال إبليس، أمرت ألاأسجد إلّا لله، ثم قيل لي اسجد لادم. قال: فقال له بالرومية: الأمر فيك أبين من ذلك، قال: ثم كتب جواب كتبنا. قال: فرجعنا إلى عمر بها. قال: فخبّرناه بما أردنا، ثم نهضنا فردّني إليه من باب الدار فخلا بي فأخبرته، فقال: لعنه الله لقد كانت نفسي تأباه ولم أحسبه يجتري على مثل هذا. قال: فلما خرجت قال لي عبد الله: ما الذي قال لك؟ قال: قلت: قال لي: أتطمع فيه؟ قلت: لا.
ما كان بين الشعبي (1) وملك الروم
ولما وجّه عبد الملك الشعبيّ إلى صاحب الروم فكلمه، قال له صاحب الروم، بعد انقضاء ما بينهما: أمن أهل بيت المملكة أنت؟ قال قلت لا ولكني
__________
(1) الشعبي: اسمه عامر منسوب إلى شعب همدان.(1/416)
رجل من العرب. قال: فكتب معي رقعة وقال لي: إذا أدّيت جواب ما جئت له فأدّ هذه الرقعة (1) إلى صاحبك. قال: فلما رجعت إلى عبد الملك فأعطيته جواب كتابه وخبّرته بما دار بيننا نهضت ثم ذكرت الرقعة، فرجعت فدفعتها إليه. فلما ولّيت دعاني فقال لي: أتدري ما في هذه الرقعة؟ قلت: لا. قال:
فيها العجب لقوم فيهم مثل هذا، كيف ولّوا أمورهم غيره؟ قال: فلما ولّيت دعاني فقال لي: أفتدري ما أراد بهذا؟ قلت: لا. قال: حسدني عليك فأراد أن أقتلك. قال: فقلت: إنما كثرت عنده يا أمير المؤمنين لأنه لم يرك. قال:
فرجع الكلام إلى ملك الروم فقال: لله أبوه ما عدا ما في نفسي.
وحدّثت أن معاوية كان إذا أتاه عن بطريق من بطارقة الروم كيد للإسلام احتال له فأهدى إليه وكاتبه حتى يغري به ملك الروم. فكانت رسله تأتيه فتخبره بأن هناك بطريقا يؤذي الرسل، ويطعن عليهم، ويسيء عشرتهم.
فقال معاوية: أيّ ما في علم الإسلام أحبّ إليه؟ فقيل له: الخفاف الحمر ودهن البان فألطفه بهما حتى عرفت رسله باعتياده، ثم كتب كتابا إليه كأنه جواب كتابه منه يعلمه فيه أنه وثق بما وعده به من نصره وخذلان ملك الروم، وأمر الرسول بأن يتعرّض لأن يظهر على الكتاب، فلما ذهبت رسله في أقواتها، ثم رجعت إليه قال: ما حدث هناك؟ قالوا: فلان البطريق رأيناه مقتولا مصلوبا فقال: وأنا أبو عبد الرحمن (2).
فعل معاوية إزاء كيد البطريق
وحدّثت أن ملك الروم في ذلك الأوان وجّه إلى معاوية أن الملوك قبلك كانت تراسل الملوك منا ويجهد بعضهم في أن يغرب على بعض، أفتأذن في ذلك، فأذن له فوجّه إليه برجلين أحدهما طويل جسيم والاخر أيد (3). فقال
__________
(1) الرقعة بالضم: الصحيفة التي تكتب.
(2) يريد تم لي ما عزمت.
(3) الأيد: الشديد القوي.(1/417)
معاوية لعمر: وأما الطويل فقد أصبنا كفأه. وهو قيس بن سعد بن عبادة، وأما الاخر الايّد فقد احتجنا إلى رأيك فيه. فقال: ههنا رجلان كلاهما إليك بغيض محمد بن الحنفيّة وعبد الله بن الزبير فقال معاوية: من هو أقرب إلينا على حال؟ فلما دخل الرجلان وجّه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيس، فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله فرمى بها إلى العلج، فلبسها فنالت ثندوته (الثندوة ما اسودّ حول الحلمة) فأطرق مغلوبا. فحدّثت أن قيسا ليم في ذلك، فقيل له: لم تبذّلت هذا التبذّل بحضرة معاوية، هلّا وجّهت إلى غيرها. فقال:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وإن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عاديّ نمته ثمود
وإني من القوم اليمانين سيّد ... وما الناس إلّا سيد ومسود
وبذّ (1) جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وجسم به أعلو الرجال مديد
وكان قيس سناطا. فكانت الأنصار تقول: لوددنا أنا اشترينا له لحية بأنصاف أموالنا. وسنذكر خبره بعد انقضاء الخبر إن شاء الله (السناط والسنوط أن يكون في الذقن شيء من الشعر ولا يكون في العارضين شيء فإن لم يكن فيهما جميعا شيء فهو الثطّ). ثم وجّه إلى محمد بن الحنيفة، فدخل فخبّر بما دعي له، فقال: قولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني وإن شاء فليكن القائم وأنا القاعد. فاختار الروميّ الجلوس، فأقامه محمد وعجز هو عن إقعاده، ثم اختار أن يكون محمد هو القاعد فجذبه فأقعده وعجز الروميّ عن إقامته، فانصرفا مغلوبين.
وحدثني أحد الهاشميين أن ملك الروم وجّه إلى معاوية بقارورة فقال:
ابعث إليّ فيها من كل شيء فبعث إلى ابن عباس فقال لتملأ له ماء. فلما ورد بها على ملك الروم قال: لله أبوه ما أدهاه. فقيل لابن عباس: كيف اخترت
__________
(1) البذ: الغلبة والسبق.(1/418)
ذلك؟ فقال: لقول الله عزّ وجل: {وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (1) وقيل لرجل من بني هاشم، وهو جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، وكان يقدّم في معرفته: ما طعم الماء؟ فقال: طعم الحياة. وأما عبد الله بن الزبير فذكر أهله أنه قال: عالجت لحيتي لتتّصل لي إلى أن بلغت ستين سنة، فلما أكملتها يئست منها.
كتاب معاوية إلى قيس بن سعد ورد قيس عليه
وكان قيس بن سعد شجاعا جوادا سيدا، وجاءته عجوز قد كانت تألفه فقال لها: كيف حالك؟ فقالت: ما في بيتي جرذ (2). فقال: ما أحسن ما سألت، أما والله لأكثرنّ جرذان بيتك.
وكان سعد بن عبادة حين توجّه إلى حوران (3) قسم ماله بين ولده، وكان له حمل لم يشعر به، فلما ولد له قال له عمر بن الخطاب يعني قيسا:
لأنقضنّ ما فعل سعد. فجاءه قيس فقال: يا أمير المؤمنين نصيبي لهذا المولود، ولا تنقض ما فعل سعد. قال أبو العباس: حدّثت بهذا الحديث من حيث أثق به، أن أبا بكر وعمر رحمهما الله مشيا إلى قيس بن سعد يسألانه في أمر هذا المولود فقال: نصيبي له ولا أغيّر ما فعل سعد. وكان معاوية كتب إلى قيس بن سعد وهو والي مصر، لعليّ بن أبي طالب رحمه الله: فإنك يهوديّ ابن يهودي إن غلب أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن غلب أبغضهما إليك قتلك ومثّل بك، وقد كان أبوك فرّق سهمه ورمى غرضه، فأكثر الحزّ وأخطأ الفصل حتى خذله قومه، وأدركه يومه فمات عربيا بحوران والسلام. فكتب إليه قيس: أما بعد، فإنك وثن ابن وثن (4) لم يقدم إيمانك،
__________
(1) سورة الأنبياء: الاية رقم 30.
(2) الجرذ: ضرب من الفأر.
(3) حوران: كورة بدمشق.
(4) الوثن: بالضم مبالغة من سعد في معاوية رضي الله عنهما.(1/419)
ولم يحدث نفاقك دخلت في الدين كرها وخرجت منه طوعا، وقد كان أبي فوّق سهمه ورمى غرضه، فسعيت عليه أنت وأبوك ونظراؤك، فلم تشقّوا غباره (1)
ولم تدركوا شأوه، ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي خرجت إليه، والسلام. وكان قيس موصوفا مع جماعة قد بذّوا الناس طولا وجمالا، منهم: العباس بن عبد المطلب رحمه الله وولده وجرير بن عبد الله البجليّ، والأشعث بن قيس الكنديّ، وعديّ بن حاتم الطائي، وابن جذل الطعّان (2) الكنانيّ، وأبو زبيد الطائي، وزيد الخيل بن مهلهل الطائيّ. وكان أحد هؤلاء يقبّل المرأة على الهودج وكان يقال للرجل منهم مقبّل الظعن.
وكان طلحة بن عبيد الله موصوفا بالتمام.
__________
(1) فلم تشق غباره، يريد أنه لا غبار له فيشق وذلك لسرعة عدوه يريد أنه لا يجاري والشاد والغابة والأمد.
(2) جذل الطعان: بالكسر، لقب علقمة بن فراس من مشاهير العرب.(1/420)
36 - باب
قال أبو العباس: قال السليك ابن السلكة، وهي أمه، وكانت سوداء حبشيّة، وكان من غربان العرب. وهو السليك بن عمير السعديّ:
ألا عتبت عليّ فصارمتني ... وأعجبها ذوو اللمم الطوال
فإني يا ابنة الأقوام أربى (1) ... على فعل الوضيّ من الرجال
فلا تصلي بصعلوك نؤوم ... إذا أمسى يعدّ من العيال
ولكن كلّ صعلوك ضروب ... بنصل السيف هامات الرجال
(كل خبر ابتداء والتقدير همّك).
أشاب الرأس أني كلّ يوم ... أرى لي خالة وسط الرحال
يشقّ عليّ أن يلقين ضيما ... ويعجز عن تخلّصهنّ مالي
قوله: وأعجبها ذوو اللمم الطوال يعني الجمم، وإن شئت قلت الجمام.
يقال: جمّة وجمم، كقولك: ظلمة وظلم. كقولك جفرة وجفار (الجفرة هي الحفرة العظيمة). وبرمة وبرام. قال الشاعر:
إمّا ترى لّمتي (2) أودى الزمان بها ... وشيّب الدهر أصداغي وأفوادي (3)
__________
(1) أربي من أربي الشيء على كذا زاد عليه.
(2) أما ترى: إن للشرط وما زائده.
(3) أفوادي: جمع فود بالفتح وهو ناحية الرأس وهما فودان والمراد في الجمع المثنى وهو كثير في كلامهم.(1/421)
وقوله: على فعل الوضيّ من الرجال، يريد الجميل. وهو فعيل من وضؤ يوضؤ يا فتى، تقديره كرم يكرم وهو كريم، ومصدره الوضاء، وكذلك: قبح يقبح قباحة، وسمج يسمج سماجة. ويقال: ما كنت وضيئا ولقد وضؤت بعدنا. وقوله: فلا تصلي بصعلوك، يقول، لا تتّصلي به كما قال ابن أحمر:
ولا تصلي بمطروق (1) إذا ما ... سرى في القوم أصبح مستكينا
إذا شرب المرضّة (2) قال أوكى (3) ... على ما في سقائك قد روينا
(إذا صبّ لبن حليب على حامض فهي المرضّة) والصعلوك الذي لا مال له. قال الشاعر (جابر بن ثعلبة الطائي):
كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا
وقوله: نؤوم يصفه بالبلادة والكسل. وكانت العرب تمدح بخفة الرؤوس عن النوم، وتذمّ النومة. كما قال عبد الملك لمؤدّب ولده: علّمهم العوم، وخذهم بقلة النوم، وإنما وجّع لخلاته لأنهنّ كنّ اماء.
ويروى عن رجل من قريش لم يسمّ لنا، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيّب، فقال لي يوما: من أخوالك؟ فقلت أمي فتاة (4). فكأني نقصت في عينه، فأمهلت حتى دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رحمه الله، فلما خرج من عنده قلت: يا عمّ من هذا؟ فقال: يا سبحان الله! أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله بن عمر. قلت: فمن أمّه؟ قال:
فتاة. قال: ثم أتاه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق رحمه الله، فجلس عنده ثم نهض فقلت: يا عمّ من هذا؟ فقال: أتجهل من أهلك مثله؟ ما
__________
(1) المطروق: الرجل الذي فيه لين ورخاوة.
(2) المرضة: تمر ينزع منه النوى.
(3) أوكى: أي شدي رأس السقا بالوكاء وهو الخبط الذي تشد به القربة والصرة وغيرهما بصفة بالنمل وشدة الحرص.
(4) فتاة: أي جارية.(1/422)
أعجب هذا! هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق. قلت: فمن أمّه؟
قال: فتاة. فأمهلت شيئا حتى جاءه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسلم عليه ثم نهض فقلت: يا عمّ من هذا؟ قال: هذا الذي لا يسع مسلما أن يجهله، هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب. قلت:
فمن أمه؟ قال: فتاة. قال: قلت: يا عمّ رأيتني نقصت في عينك لما علمت أني لأمّ ولد، أفما لي في هؤلاء اسوة. قال: فجللت في عينه جدّا. وكانت أمّ عليّ بن الحسين سلافة من ولد يزدجردر معروفة النسب، وكانت من خيرات النساء. ويروى أنه قيل لعلي بن الحسين رحمه الله: إنك من أبرّ الناس ولست تأكل مع أمك في صحفة. فقال أكره أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. وكان يقال له: ابن الخيرتين (بتحريك الياء أفصح) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله من عباده خيرتان فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس. وكانت سلافة عمّشة أمّ يزيد الناقص أو أختها.
وقال رجل من ولد الحكم بن أبي العاصي يقال له: عبيد الله بن الحرّ، وكان شاعرا متقدّما، وكان لأمّ ولد وهو من ولد مروان بن الحكم:
فإن تك أمّي من نساء أفاءها (1) ... جياد القنا والمرهفات (2) الصفائح
فتبّا لفضل الحرّ إن لم أنل به ... كرائم أولاد النساء الصرائح
وإنما أخذ هذا من قول عنترة:
وأنا امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمى سائري بالمنصل (3)
(شطري مبتدأ والخبر في المجرور قبله). وأنشد لبلال بن جرير، وبلغه أن موسى بن جرير كان إذا ذكره نسبه إلى امّه، لأنه ابن أمّ ولد فيقول: قال ابن امّ حكيم: فقال بلال:
__________
(1) أفاءها: صيرها فيأ وهو ما حصل للمسلمين من أموال وللكفار من غير حرب ولا حهاد يقال أفأت كذا أي صيرته فيئا فأنا مفيء وذلك الشيء مفاء.
(2) المرهفات: السيوف التي رققت حواشيها واحدها مرهف بفتح الهاء.
(3) المنصل: بضم الميم والصاد بينهما نون ساكنة، هو السيف.(1/423)
يا ربّ خال لي أغرّ أبلجا ... من ال كسرى يغتدي متوّجا
ليس كخال لك يدعى عشنجا
والعشنج المتقبّض الوجه السيّء المنظر.
إتصال أم بلال بجرير
وكان سبب أم بلال عند جرير أن جرير في أول دخوله العراق، دخل على الحكم بن أيوب بن أبي عقيل الثقفيّ، وهو ابن عمّ الحجّاج وعامله على البصرة، وفي ذلك يقول جرير:
أقبلن من ثهلان (1) أو وادي خيم ... على قلاص مثل خيطان السلم
إذا قطعن علما (2) بدا علم ... حتى أنخناها إلى باب الحكم
خليفة الحجّاج غير المتّهم ... في ضئضىء (3) المجد وبحبوح (4) الكرم
فكتب الحكم بعد أن فاطنه (5) إلى الحجّاج، وذلك في أول سببه، أنه قدم عليّ إعرابيّ باقعة لم أر مثله «(يريد داهية والباقعة طائر حذر) فكتب إليه الحجّاج أن يحملها معه، فلما دخل عليه قال له: بلغني أنك ذو بديهة، فقل في هذه الجارية، لجارية قائمة على رأسه. فقال جرير: ما لي أن أقول فيها حتى أتأملها، وما لي أن أتأمل جارية الأمير. فقال: بلى فتأمّلها واسئلها.
فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ فأمسكت. فقال لها الحجّاج: خبّريه يا لخناء.
فقالت: امامة. فقال جرير:
ودّع امامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل
__________
(1) ثهلان: جبل.
(2) العلم: الجيل.
(3) ضئضىء: بالكسر الأصل والمعدن.
(4) بحبوح الشيء: بالضم وسطه.
(5) فاطنه: راجعه في الكلام.(1/424)
مثل الكثيب تمايلت اعطافه ... فالريح تجبر متنه وتهيل
هذي القلوب صواديا تيّمتها ... وأرى الشفاء وما إليه سبيل
فقال له الحجاج: قد جعل الله لك السبيل إليها خذها هي لك، فضرب بيده إلى يدها فتمنّعت عليه، فقال:
إن كان طبّكم الدلال فإنّه ... حسن دلالك يا أمام جميل
(ش بنصب الطب ورفع الدلالة وبالعكس برفع الطب ونصب الدلال والطب هنا المذهب والدلال الدالّة) فاستضحك الحجاج وأمر بتجهيزها معه إلى اليمامة، وخبّرت إنها كانت من أهل الريّ، وكان اخوتها أحرارا، فاتّبعوه فأعطوه بها حتى بلغوا عشرين ألفا، فلم يفعل. ففي ذلك يقول:
إذا عرضوا عشرين ألفا تعرّضت ... لأمّ حكيم حاجة هي ماهيا
لقد زدت أهل الرّيّ عندي مودّة ... وحبّبت أضعافا إليّ المواليا
فأولدها حكيما وبلالا وحزرة بني جرير هؤلاء من أذكر من ولدها. ويقال إن الجمّانيّ قاول بلالا ذات يوم في ما كان بينهما من الشر. فقال: يا ابن أمّ حكيم. فقال له بلال: ما تذكر من ابنة دهقان وأخيذة رماح، وعطيّة ملك ليست كأمّك التي بالمرّوت (1) تغدو على أثر ضأنها، كأنما عقباها حافرا حمار فقال له الحمّانيّ أنا أعلم بأمّك، إنما عتب عليها الحجاج في أمر الله أعلم به فحلف أن يدفعها إلى ألأم العرب، فلما رأى أباك لم يشكك فيه. قال:
وأنشدت لرجل من رجّاز بني سعد:
أنا ابن سعد وتوسّطت العجم ... فأنا في ما شئت من خال وعم
__________
(1) المروت: الأرض التي لا يجف ماؤها ولا ينبت زرعها.(1/425)
كياسة أولاد السراري (1)
وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: ليس قوم أكيس (2) من أولاد السراريّ لأنهم يجمعون عزّ العرب ودهاء العجم. وكتب أمير المؤمنين المنصور إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب رحمهم الله لما كتب إليه محمد: واعلم أني لست من أولاد الطلقاء (3)، ولا أولاد اللعناء، ولا أعرقت فيّ، الإماء، ولا حضنتني أمّهات الأولاد، ولقد علمت أن هاشما ولد عليّا مرتين وأن عبد المطّلب ولد الحسن مرتين. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل جدّيّ الحسن والحسين، يعني أن أمّ عليّ فاطمة بنت أسد بن هاشم، وأم الحسن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وأن أمه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، فكتب إليه المنصور: أما ما ذكرت من ولادة هاشم عليّا مرتين، وولادة عبد المطلب الحسن مرتين، فخير الأوّلين والاخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة ولا عبد المطلب إلّا مرة واحدة، وله السبق إلى كل خير، ولقد علمت أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة فامن به إثنان أحدهما أبي وكفر به إثنان أحدهما أبوك. وأما ما ذكرت أنه لم تعرق فيك الإماء، فقد فخرت على بني هاشم طرّا أو لهم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عليّ بن الحسين الذي لم يولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مولود مثله، وهذه رسالة للمنصور طريفة مستحسنة جدّا سنمليها في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وأنشدني الرياشيّ:
إنّ أولاد السراري ... كثروا يا ربّ فينا
ربّ ادخلني بلادا ... لا أرى فيها هجينا
__________
(1) السراري: جمع سرية بالضم وهي الأمة بوأتها بيتا منسوبة إلى السر بالكسر وهو الجماع من تغيرات النسب.
(2) أفضل.
(3) الطلقاء: جمع طليق وهو الأسير أطلق عنه أساره.(1/426)
والهجين عند العرب، الذي أبوه شريف وأمه وضيعة، والأصل في ذلك أن تكون أمة، وإنما قيل هجين من أجل البياض، وكأنهم قصدوا قصد الروم الصقالبة ومن أشبههم، والدليل على أن الهجين الأبيض أن العرب تقول ما يخفى ذلك على الأسود والأحمر أي العربيّ والعجميّ، ويسمون الموالي وسائر العجم الحمراء، وقد ذكرنا ذلك. ولذلك قال زيد الخيل:
(وأسلم عرسه (1) لما رانا) ... وأيقن انّنا صهب السبال (2)
أي كهؤلاء العدوّ من العجم. وقال ابن الرقيات (3):
إن تريني تغيّر اللون مني ... وعلا الشيب مفرقي وقذلي
فظلال السيوف شيّبن رأسي ... وطعاني في الحرب صهب السبال
فقيل هجين من ههنا، وإذا كانت الأم كريمة والأب خسيسا قيل له المذرّع. قال الفرزدق:
إذا باهليّ تحته حنظليّة ... له ولد منها فذاك المذرّع
وقال الاخر:
إن المذرّع لا تغني خؤولته ... كالبغل يعجز عن شوط المحاضير
(جمع محضير وهو الفرس السريع) وإنما سمي مذرّعا للرقمتين في ذراع البغل وإنما صارتا فيه من ناحية الحمار. قال هدبة:
ورثت رقاش اللؤم عن ابائها ... كتوارث الحمرات رقم الأذرع
وقال عبد الله بن العباس في كلام يجيب به ابن الزبير: والله إنه لمصلوب قريش، ومتى كان عوّام بن عوّام يطمع في صفيّة بنت عبد المطلب، من أبوك يا بغل. فقال خالي الفرس.
__________
(1) عرس: إمرأة الرجل.
(2) صهب السبال: تقدم أنه كناية عن الاعداء.
(3) ابن الرقيات: هو عبيد الله بن قيس الرقيات، لقب به لعدة زوجات أو جدات أسماؤهن رقية.(1/427)
37 - باب في طول اللحية
قال أبو العباس: قال اعرابي:
كلّ امرىء ذي لحية عثوليّة ... يقوم عليها ظنّ أن له فضلا
وما الفضل في طول السبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا
ويروى لحاملها عثولية يقول: كثيرة والمستعمل. يقال: رجل عثولّ إذا كان كثير الشعر وأصل ذلك الرأس واللحية، وبناه الاعرابي بناء جدول كأنه عثول ثم نسب إليه، والسبلة مقدّم اللحية. يقال: لما أسبل من الشاربين سبلتان. وتقول العرب: أخذ فلان شفرة فلتم بها سبلة بعيره أي نحره، واللثم الشق، فهذا ما أسبل من جرانه. وقال بعض المحدثين:
وما حسن الرجال لهم بحسن ... إذا ما أخطأ الحسن البيان
كفى بالمرء عيبا أن تراه ... له وجه وليس له لسان
وقال اخر:
إني على ما تزدري من دمامتي ... إذا قيس ذرعي بالرجال طويل
ونظر يزيد بن مزيد الشيبانيّ إلى رجل ذي لحية عظيمة، وقد تلفّفت على صدره فإذا هو خاضب، فقال: إنك من لحيتك في مؤنة. فقال: أجل، ولذلك أقول:
لها درهم للدهن في كل جمعة ... واخر للحنّاء يبتدران
ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوّت في حافاتها الحلمان
وقال اسحق بن خلف يصف رجلا بالقصر وطول اللحية:(1/429)
لها درهم للدهن في كل جمعة ... واخر للحنّاء يبتدران
ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوّت في حافاتها الحلمان
وقال اسحق بن خلف يصف رجلا بالقصر وطول اللحية:
ما سرّني أنني في طول داود ... وأنني علم في البأس والجود
ما شيت داود فاستضحكت من عجب ... كأنني والد يمشي بمولود
ما طول داود إلّا طول لحيته ... يظلّ داود فيها غير موجود
تكنّه خصلة منها إذا نفخت ... ريح الشتاء وجفّ الماء في العود
كالأتبجانيّ (1) مصقولا عوارضها ... سوداء في لين خدّ الغادة (2) الرود (3)
أجزى وأغنى من الخزّ (4) الصفيق ومن ... بيض القطائف يوم القرّ والسود
إن هبّت الريح أدّته إلى عدن ... إن كان ما لفّ منها غير معقود
(القرّ بالقاف يريد البرد، ويروى بالغين يريد السحائب البيض وجعلها غرّا لبياضها). وفي الحديث من سعادة المرء خفّه عارضيه، وليس هذا بناقض لما جاء في إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب. فقد روي أنهم قالوا: لا بأس بأخذ العارضين والتبطين، وأما الإعفاء فهو التكثير، وهو من الأضداد. قال الله عز وجل: {حَتََّى عَفَوْا} (5)، أي حتى كثروا. ويقال: عفا وبر الناقة إذا كثر. قال الشاعر:
ولكنا نعضّ السيف منها ... بأسؤق عافيات اللحم كوم
والكوم العظام الأسنمة واحدتها كوماء، ويقال: عفا الربع إذا درس ومن ذلك:
على اثار من ذهب العفاء. أي الدروس. وقال مسلمة بن عبد الملك:
__________
(1) الاتبجاني: بفتح الباء الموحدة نسبة إلى منبج كمجلس إسم موضع على غير قياس.
(2) الغادة: المرأة الناعمة اللينة
(3) الرودبا بالضم الشابة الحسنة وأصله الهمز.
(4) الخز نوع من الثياب تنسج من صوف وابر.
(5) سورة الأعراف: الاية 95.(1/430)
أني لأعجب من ثلاثة من رجل قصّر شعره ثم عاد فأطاله أو شمّر ثوبه ثم عاد فأسبله أو تمتّع بالسراريّ، ثم عاد إلى المهيرات واحدة المهيرات مهيرة، وهي الحرّة الممهورة ومفعول يخرج إلى فعيل كمقتول وقتيل ومجروح وجريح.
قال الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة ... وأخرى يقال لها فادها
(فادها من فديت الأسير وهو يصف سبيا أخذ فيه إماء وحرائر) فهذا المعروف في كلام العرب مهرت المرأة فهي مهمورة. ويقال: وليس بالكثير أمهرتها فهي ممهرة. أنشدني المازنيّ:
أخذن اغتصابا خطبة عجرفيّة ... وأمهرن أرماحا من الخطّ ذبّلا
(عجرفية جافية خطبة مصدر معنى)، وأهل الحجاز يرون النكاح العقد دون الفعل ولا ينكرونه في الفعل، ويحتجون بقول الله عز وجل: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنََاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمََا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهََا} (1) فهذا الأشيع في كلام العرب، قال الأعشى.
وأمتعت نفسي من الغانيا ... ت إمّا نكاحا وإما أزن
ومن كل بيضاء رعبوبة (2) ... لها بشر ناصع كاللبن
(قوله أزن أراد أزنّي ثم حذف الياء وخفف النون فقال أزن) ويكون النكاح الجماع وهو في الأصل ككناية. قال الراجز:
إذا زنيت فأجد نكاحا ... وأعمل الغدوّ والرواحا
والكناية تقع عن هذا الباب كثيرا، والأصل ما ذكرنا لك.
__________
(1) سورة البقرة: الاية 273.
(2) رعبوبة: حسنة الجسم.(1/431)
في تفسير لفظه نكاح
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا من نكاح لا من سفاح. ومن خطب المسلمين إن الله عز وجل، أحلّ النكاح وحرّم السفاح. والكناية تقع عن الجماع.
قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ} (1) فهذا كناية عن الجماع. قال أكثر الفقهاء في قوله تبارك وتعالى: {أَوْ لََامَسْتُمُ النِّسََاءَ} (2)، قالوا: كناية عن الجماع، وليس الأمر عندنا كذلك وما أصف مذهب أهل المدينة قد فرغ من النكاح تصريحا، وإنما الملامسة أن يلمسها الرجل بيد أو بإدناء جسد من جسد، فلذلك ينقض الوضوء في قول أهل المدينة لأنه قال تبارك وتعالى: بعد ذكر الجنب: {أَوْ لََامَسْتُمُ النِّسََاءَ} (2).
وقوله عز وجل: {كََانََا يَأْكُلََانِ الطَّعََامَ} (3) كناية بإجماع عن قضاء الحاجة لأن كل من أكل الطعام في الدنيا أنجى، يقال: نجا وأنجى إذا قام لحاجة الإنسان، وكذلك: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا كناية عن الفروج، ومثله أو جاء أحد منكم من الغائط، فإنما الغائط كالوادي. وقال عمرو بن معدي كرب:
وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الإنس ليس به كتيع (4)
يقال: وهم الرجل يوهم إذا شك هو الأجود ويجوز ييهم وييهم وياهم لعلل، وكذلك ما كان مثله نحو وجل يوجل ووحل يوحل ووجع يوجع، ويجوز في وهم أن تقول يهم، فإن المعتل من هذا يجىء على مثال حسب يحسب مثل ولي الأمير يلي، وورم الجرح يرم فهذا جميع ما في هذا الباب.
وقال رجل أحسبه من بني تميم:
__________
(1) سورة البقرة: الاية 187.
(2) سورة النساء: الاية 43.
(3) سورة المائدة: الاية رقم 75.
(4) الكتيع: بالتاء المثناة من فوق يقال بالدار كتيع أي أحد أو أكثر ما يستعمل في النفي.(1/432)
لا تسألنّ الخيل يا سعد مالها ... وكن «أخريات الخيل علّك تجرح
لعلك تحمي عن صحاب بطعنة ... لها عاند (1) ينغي الحصا حين ينفح (2)
وأكرم كريما أن أتاك لحاجة ... لعاقبة إن العضاة (3) تروّح
(بذا فامدحيني واندبيني (4) فإنّني ... فتى تعتريه هزّة (5) حين يمدح
إذا أدبر القيظ وبرد الليل تحرك للشجر ورق رطب، فيقال أخلف الشجر وتروّح). قوله: لا تسألن الخيل يا سعد مالها، يقول: لا تتخلّف عن القتال وتسأل عن أخبار القوم، ولكن كن فيهم، كما قال مهلهل (6):
ليس مثلي يخبّر القوم عن ا ... بائهم قتّلوا وينسى القتالا
لم أرم (7) حومة الكتيبة حتى ... حذي الورد من دماء نعالا
يقول: كنت في حومة القتال وصليت الحرب أكثر مما صليها غيري.
طلاق عمرو بن عثمان ابنة السائب
ويروى عن رجل من بني أسد بن عبد العزّى يقال له فلان (ش عبد الله) ابن السائب أنه زوج ابنته عمرو بن عثمان بن عفّان، فلما نصّت (8) عليه طلقها على المنصّة، فجاء أبوها إلى عبد الله بن الزبير، فقال: إن عمرو بن عثمان
__________
(1) العاند: العرق يسيل فلا يرقأ.
(2) ينفح: إذا نزى منه الدم.
(3) العضاة: العظيم من الشجر.
(4) الندب: أن تذكر النائحة الميت بأحسن أوصافه وأفعاله.
(5) الهمز بالكسر النشاط والارتياح والقيظ صميم الصيف من طلوع الثريا إلى طلوع سهيل.
(6) مهلهل: أخو كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير ينتهي نسبة إلى وائل بن قاسط.
ومهلهل إسمه عدي أو ربيعة ولقب به لأنه أول من رقق الشرع.
(7) لم أرم: أي لم أبرح يقال رمت المكان ورمت منه إذا فارقه وبرح منه وأكثر ما يستعمل في النفي وبابه ضرب.
(8) نصت: أقعدت ليلة زفافها على منصة.(1/433)
طلّق ابنتي على المنصّة وقد ظنّ الناس أن ذلك لعاهة وأنت عمّها فقم فادخل إليها. فقال عبد الله أو خيرا من ذلك، جيئوني بالمصعب، فخطب عبد الله فزوّجها من المصعب وأقسم عليه ليدخلنّ بها في ليلته، فلا تعرف امرأة نصّت على رجلين في ليلتين ولاء (1) غيرها فأولدها المصعب عيسى وعكّاشة، فلما كان يوم مسكن (2) وهرب أكثر الناس عن المصعب، دخل إلى سكينة ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب وكانت له شديدة المحبة، وكانت تخفي ذلك فلبس غلالة وتوشّح عليها وانتضى (3) السيف، فلما رأت ذلك علمت أنه عزم أن لا يرجع، فصاحت من ورائه: واحرباه (4)، فالتفت إليها فقال: أو هذا لي في قلبك؟ فقالت: أي والله وأكثر من هذا. فقال: أما لو علمت لكان لي ولك شأن، ثم خرج فقال لابنه عيسى: يا بنيّ انج إلى نجائك فإن القوم لا حاجة بهم إلى غيري وستفلت بحيلة أو بقيا، فقال: يا أبتاه لا أحدّث والله عنك أبدا. فقال: أما والله لئن قلت ذلك لما زلت أتعرّف الكرم في أسرارك وأنت تقلّب في مهدك، ش الأسرار جمع سرّ وهي الطرائق في الجبهة) فقتل بين يدي أبيه. ففي ذلك يقول شاعر أهل الشام من اليمانية:
نحن قتلنا مصعبا وعيسى ... وابن الزبير البطل الرئيسا
عمدا أذقنا مضر التبئيسا
وقال رجل يعاتب رجلا:
فلو كان شهم النفس أو ذا حفيظة ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
في مدح عبد الله بن الزبير
وقال بلال بن جرير يمدح عبد الله بن الزبير: (يقال ان بلالا لم يلحق ابن
__________
(1) الولاء: المتابعة.
(2) يوم مسكن كان لعبد الملك على مصعب بن الزبير.
(3) انتضى: تسلح.
(4) واحرباه: بالتحريك وهو نهب ما الانسان وتركه لا شيء له وهي للتوجع والتفجع.(1/434)
الزبير إلّا أن يكون مدحه ميتا).
مدّ الزبير عليك إذ يبني العلا ... كنفيه حتى نالتا العيّوقا (1)
(ويروي كفّيه وهو أظهر لقوله حتى نالتا).
ولو أنّ عبد الله فاخر من ترى ... فات البريّة عزّة وسموقا (2)
قوم إذا ما كان يوم نفورة (3) ... جمع الزبير عليك والصدّيقا (4)
لو شئت ما فاتوك إذ جاريتهم ... ولكنت بالسبق المبرّ حقيقا
لكن أتيت مصليّا برّا بهم ... ولقد ترى ونرى لديك طريقا
عاد الحديث إلى تفسير الأبيات المتقدمة. قوله: لعلك تحمي عن صحاب بطعنة، يقال حميت الناحية أحميها حميا وحماية، كما قال الفرزدق:
وإذا النفوس جشأن طأمن جأشها ... ثقة لها بحماية الأدبار
ومعنى ذلك منعت ودفعت، ويقال أحميت الأرض أي جعلتها حمى لا تقرب، وأحميت الحديد أحميه إحماء، وحميت أنفي محمية يا فتى إذا أنت أبيت الضيم. وصحاب جمع صاحب، وقد يقال هو جمع صحب كما تقول:
تاجر وتجر وراكب وركب ونحو ذلك، ثم تجمع صحبا على صحاب، كقولك كلب وكلاب وفرخ وفراخ، فهذا مذهب حسن. ومن قال هو جمع صاحب فنظيره قائم وقيام وتاجر وتجار. وقوله: لها عاند ينفي الحصا، يعني الدم، يقال عند العرق إذا خرج الدم منه بجدّة، ونفي الحصا يعني الدم بشدة جريه، كما قال:
__________
(1) العيوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة.
(2) سمق: علا وطال.
(3) النفورة: الخصومة.
(4) أراد بالصديق أبا بكر لأن الزبير تزوج إبنته أسماء.(1/435)
مسحسحة (1) تنفي الحصا عن طريقها ... (يقطّع أحشاء الرعيب (2) انتثارها)
يعني طعنة، وقال اخر في صفة طعنة:
ومستنّة كاستنان الخرو ... ف قد قطع الحبل بالمرود
والخروف ههنا إنما هو الفلوّ الصغير. وقوله:
وأكرم كريما ان أتاك لحاجة ... لعاقبة ان العضاه تروّح
يقول الشجر يصيبه الندى في اخر الصيف فينشأ له ورق، فيقول: لعلك تحتاج إلى هذا الكريم وقد قدر. ومثله:
ولا تهين الكريم علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
أراد ولا تهينن بالنون الخفيفة فحذفها لالتقاء الساكنين، وهذا الحكم فيها.
ومثله في المعنى قول عبّاد بن حبيب بن المهلّب:
إذا خلّة نابت صديقك فاغتنم ... مرمّتها فالدهر بالناس قلّب
وبادر بمعروف إذا كنت قادرا ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب
(زوال مفعول لبادر قاله ش ومثل هذا كثير، وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رحمهم الله: إني لأسارع إلى حاجة عدوّي خوفا من أن أردّه فيستغني عني. وقال رجل من العرب: ما رددت رجلا عن حاجة فولّى عني ألا رأيت الغنى في قفاه. وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب: ما رأيت أحدا أسعفته في حاجة إلّا أضاء ما بيني وبينه ولا رأيت رجلا رددته عن حاجة إلا أظلم ما بيني وبينه. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: من يئس من شيء استغنى عنه. وقال عبد الله بن همّام السلوليّ:
فأخلف وأتلف إنما المال عارة (3) ... فكله مع الدهر الذي هو اكله
__________
(1) مسحسحة: من الصب وهو السيلان.
(2) الرعيب: كأمير: السمن يقطر دسما.
(3) العارة: المال المتداول بين الناس.(1/436)
فأهون مفقود وأيسر هالك ... على الحيّ من لا يبلغ الحيّ نائله
عارة أي معار ووزنه فعلة. وقال أحد المحدثين (هو محمود الورّاق) وليس من هذا الباب ولكنا ذكرناه في الإعارة:
أعارك ماله لتقوم فيه ... بطاعته وتعرف فضل حقّه
فلم تشكره (1) نعمته ولكن ... قويت على معاصيه برزقه
تجاهره به عودا وبدأ ... وتستخفي بها من شر خلقه
وقال جرير:
وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... عليّ من الحق الذي لا يرى ليا
هذا بيت يحمله قوم على خلاف معناه، وإنما تأويله أني لأستحيي أخي أن يكون له عليّ فضل ولا يكون لي عليه فضل، ومني إليه مكافأة فاستحيي أن أرى له عليّ حقا لما فعل إليّ، ولا أفعل إليه ما يكون لي به عليه حق، وهذا من مذاهب الكرام ومما تأخذ به أنفسها، فأما قول عائد الكلب الزبيريّ (اسمه عبد الله بن مصعب الزبيري وسمي عائد الكلب. بقوله:
ما لي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود
وأشدّ من مرضي عليّ صدودكم ... وصدود كلبكم عليّ شديد)
لعبد الله بن حسن بن حسن:
له حقّ وليس عليه حقّ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول
فإنه ذكره بقلة الأنصاف، فقال يرى حقّا على الناس ولا يرى لهم عليه حقا من أجل نسبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيّن ذلك بقوله:
وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول
__________
(1) فلم تشكره: فلم تشكر له.(1/437)
فالذي يفتخر (1) به عبد الله يرى للناس عليه حقا فالمفتخر به أجدر.
جواب علي بن الحسين عن سبب إخفاء نسبه عند السفر
وقد قيل لعلي بن الحسين، وكان بيّن الفضل رحمه الله: ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة؟ فقال: أكره أن اخذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أعطي مثله. وإنما يعتري هذا الباب من الظلم وقلة الانصاف والبعد من الرقّة عليهم الجهلة من أهل هذا النسب، والله جل ذكره يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (2). وقال تعالى: {إِنِّي أَخََافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (3)، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يخاف من المعصية فكيف يأمنها غيره به.
جرير يمدح هشام بن عبد الملك
وأما قول جرير لهشام بن عبد الملك فهو المدح الصحيح على خلاف هذا المعنى قال:
وأنت إذا نظرت إلى هشام ... عرفت نجار منتخب (4) كريم
وليّ الحق حين يؤمّ حجّا ... صفوفا بين زمزم والحطيم (5)
يرى للمسلمين عليه حقّا ... كفعل الوالد الرؤف الرحيم
إذا بعض السنين تعرّقتنا (6) ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
__________
(1) الذي يفتخر به عبد الله: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) سورة التوبة: الاية 128.
(3) سورة الأنعام: الاية 15.
(4) النجار: بالكسر: الأصل والمعدن. والمنتخب المختار.
(5) الحطيم: ما بين الركن والباب.
(6) تعرقتنا: إجتاحتنا.(1/438)
وفي هذا الشعر:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد (1) مستقيم
أمير المؤمنين جمعت دينا ... وحلما فاضلا لذوي الحلوم
لك المتخيّران أبا وخالا ... فأكرم بالخؤولة والعموم
فيا ابن المطعمين إذا شتونا (2) ... ويا ابن الذائدين عن الحريم
سما بك خالد وبنو هشام ... إلى العلياء في الحسب الجسيم
(وهم أبو العباس في قوله وبنو هشام، وإنما وقع في شعره، وأبو هشام وهو الصحيح يريد اسمعيل بن هشام وهو جده من قبل أمّه):
وتنزل من أميّة حيث تلقى ... شؤون (3) الرأس مجتمع الصميم
تواصت من تكرّمها قريش ... بردّ الخيل دامية الكلوم
فما الأم التي ولدت قريشا ... بمقرفة النجار ولا عقيم
وما فحل بأنجب من أبيكم ... ولا خال بأكرم من تميم
سما أولاد برّة بنت مرّ ... إلى العلياء في الحسب العظيم
لك الغرّ السوابق من قريش ... فقد عرف الأغرّ من البهيم
قوله: حين يؤم حجا، فيكون الحج جمع حاج، كما يقال تاجر وتجر وراكب وركب. قال العجاج:
بواسط أكرم دار دارا ... والله سمّى نصرك الأنصارا
فأخرجه على ناصر ونصر. قال: ويجوز أن يكون حجّ أصحاب حج كما قال الله عز وجل: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (4) يريد أهلها. وقوله كفعل الوالد
__________
(1) الموارد: هنا الأخلاق والصفات التي تلازم الانسان مجازا عن موارد الماء وطرقه التي تؤدي إليه.
(2) إذا شتونا: خص الشتاء لأنه عندهم زمن الجدب وشده الحاجة
(3) شؤوون: عظام. شبه بني أمية برأس الإنسان ثم ادعى أن هشاما نزل في ملتقى شؤونه، يريد بذلك أن مكانه منهم متمكن وأنه من صميمهم.
(4) سورة يوسف: الاية 82.(1/439)
الرؤوف الرحيم، يقال رؤوف على فعل مثل يقظ وحذر ورؤوف على وزن ضروب. وقال الأنصاريّ (هو كعب بن مالك):
نطيع نبيّنا ونطيع ربّا ... هو الرحمن كان بنا رؤوفا
وقد قرىء: الله رؤوف بالعباد، وروؤف أكثر. وإنما هو من الرأفة وهي أشد الرحمة، ويقال رافة وقرىء: ولا تأخذكم بهما رافة في دين الله، على وزن الصرامة والسفاهة: وقوله: إذا بعض السنين تعرقتنا يفسر على وجهين أحدهما أن يكون ذهب إلى بعض السنين سنون، كما قال الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
لأن صدر القناة قناة ومن كلام العرب قد ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع أصبع فهذا قول، والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه، فأقحم المضاف إليه توكيدا لأنه غير خارج من المعنى.
وفي كتاب الله عز وجل: {فَظَلَّتْ أَعْنََاقُهُمْ لَهََا خََاضِعِينَ} (1)، إنما المعنى فظلوا لها خاضعين والخضوع بيّن في الأعناق فأخبر عنهم، فأقحم الأعناق توكيدا، وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول: أعناقهم جماعاتهم، تقول أتاني عنق من الناس، والأول قول عامة النحويين. وقال جرير:
لمّا أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشّع
وقال أيضا:
رأت مرّ السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
وقال ذو الرمّة:
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت (2) ... أعاليها مرّ الرياح النواسم
__________
(1) سورة الشعراء: الاية 4.
(2) تسفهت الريح الغصون: أمالتها.(1/440)
(زعم بعضهم أن البيت مصنوع، والصحيح فيه مرضى الرياح النواهم والمرضى التي تهب بلين)، ومثل هذا كثير. وعلى مثل هذا القول الثاني تقول: يا تيم تيم عديّ لأنك أردت يا تيم عدي، وأقحمت الأول توكيدا (كذا وقع وأقحمت الأوّل توكيدا وإنما الصحيح وأقحمت الثاني توكيدا)، وكذلك لا أبالك لأن الألف لا تثبت في الاب في النصب، إلّا في الإضافة أو بدلا من التنوين، فإنما أراد أباك ثم أقحم اللام توكيدا للاضافة. وأنشد المازني:
وقد مات شمّاخ ومات مزرّد ... وأيّ كريم لا أباك يخلّد
وقال اخر:
أبالموت الذي لا بدّ أني ... ملاق لا أباك تخوّفيني
وقوله على صراط، فالصراط المنهاج الواضح، وكذلك قالت العلماء في قول الله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1). وقوله: سما بك خالد، يريد خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب، لأن أمّ هشام بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان هشام بن المغيرة أجلّ قرشيّ حلما وجودا، وكانت قريش تؤرخ بموته كما كانت تؤرّخ بعام الفيل وبملك فلان. قال الشاعر: زمان تناعى الناس موت هشام. ومن أجله يقول القائل:
فأصبح بطن مكّة مقشعرّا (2) ... كأنّ الأرض ليس بها هشام
يقول هو وإن كان مات فهو مدفون في الأرض، فقد كان يجب من أجله ألاينالها جدب. وقال الاخر:
ذريني أصطبح (3) يا سلم أني ... رأيت الموت نقّب عن هشام
__________
(1) سورة الفاتحة: الاية 4.
(2) مقشعرا: أي متقبضا.
(3) اصطبح: أشرب الصبوح، وهو ما يؤخذ من اللبن بالغداة.(1/441)
قوله نقّب أي طوّف، حتى أصاب هشاما.
قال الله عز وجل: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ} (1) أي طوّفوا، ومثله قول امرىء القيس:
وقد نقّبت في الافاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
عمر بن الخطاب أول المؤرخين
فأما التاريخ الذي تؤرّخ به اليوم فأول من فعله في الإسلام عمر بن الخطّاب رحمه الله، حيث دوّن الدواوين، فقيل له: لو أرّخت يا أمير المؤمنين لكنت تعرف الأمور في أوقاتها. فقال: وما التاريخ؟ فأعلم ما كانت العجم تفعله. فقال: أرخوا. فقالوا: مذ أيّ سنة فاجتمعوا على سنة الهجرة لأنه الوقت الذي حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير تقيّة، ثم قالوا في أيّ شهر؟
فقالوا: نستقبل بالناس أمورهم في شهر المحرم إذا انقضى حجّهم، وكانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الاخر (الذي اتفق عليه أن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في ربيع الأول وفيه مات صلى الله عليه وسلم) فقدّم التاريخ على الهجرة هذه الأشهر وجاء في تصحيح هذا الوقت أعني المحرم ما روي لنا عن ابن عباس رحمه الله فإنه قال في قول الله عز وجل: {وَالْفَجْرِ وَلَيََالٍ عَشْرٍ} (2) قال:
فأقسم بفجر السنة وهو المحرم. وقوله: فما الأم التي ولدت قريشا يعني برّة بنت مرّ، كانت أم النضر بن كنانة وهو أبو قريش ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي وتميم بن مرّ خاله. وكان يقال: من عرف حقّ أخيه دام له إخاؤه، ومن تكبر على الناس ورجا أن يكون له صديق فقد غرّ نفسه، وقيل: ليس للجوج تدبير ولا لسيىء الخلق عيش ولا لمتكبر صديق، وقيل: من بسط بالخير لسانه انبسطت في القلوب محبته والمنّة تفسد الصنيعة.
__________
(1) سورة ق: الاية 36.
(2) سورة الفجر الاية رقم واحد.(1/442)
في مدح أبي البختري
ويروى أن شاعرا أتى أبا البختريّ (البختري بفتح الباء وبالخاء المعجمة) وهب بن وهب، وكان من أجود الناس وكان إذا سمع مدح المادح ضحك وسرى السرور في جوانحه، وأعطى وزاد فأتاه هذا الشاعر فأنشده:
لكلّ أخي فضل نصيب من العلا ... ورأس العلا طرا عقيد النّدى (1) وهب
وما ضرّ وهبا قول من غمط العلا ... كما لا يضرّ البدر ينبحه الكلب
(غمط كفر النعمة، وغمط ويقال أيضا تنقّص) فثنى له الوسادة وهشّ إليه ورفده وحمله وأضافه فلما أن أراد الرجل الرحلة لم يخدمه أحد من غلمان أبي البختريّ، ولا عقد له ولا حلّ معه، فأنكر ذلك مع جميل ما فعل به وأنه قد تجاوز به أمله فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنا إنما نعين النازل على الاقامة ولا نعين الراحل على الفراق. فبلغ هذا الكلام جليلا من القرشيّين.
فقال: والله لفعل هؤلاء العبيد على هذا القصد أحسن من رفد سيدهم.
__________
(1) عقيد الندى: أي ملازم له.(1/443)
38 - باب في حضرة عبد الملك بن مروان
قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه، وكان يجتنب غير الأدباء، أيّ المناديل أفضل؟ فقال قائل منهم: مناديل مصر كأنها غرقىء البيض (الغرقىء يهمز ولا يهمز وكذلك فعله)، وقال اخر: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع.
فقال عبد الملك ما صنعتما شيئا، أفضل المناديل ما قال أخو تميم، يعني عبدة بن الطبيب (عبدة باسكان الباء):
لما نزلنا نصبنا ظلّ أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
ورد (1) وأشقر (2) ما يؤنيه طابخه ... ما غيّر الغلمي منه فهو مأكول
ثمت قمنا إلى جرد مسوّمة ... أعرافهنّ (3) لأيدينا مناديل
قوله: غرقىء البيض يعني القشرة الرقيقة التي تركب البيضة دون قشرها الأعلى، وقشره الأعلى يقال له القيض. وقوله المراجيل إنما حدّه المراجل، ولكن لما كانت الكسرة لازمة أشبعها للضرورة كما قال: نفي الدراهيم تنقاد الصياريف: (الحجة في الصياريف) وقد مر تفسير هذا. وقوله ورد وأشقر ما يؤتيه طابخه يقول: ما تغير من اللحم قبل نضجه. وقوله ما يؤنيه طابخه يقول ما يؤخره لأنه لو اناه لأنضجه، لأن معنى اناه بلغ به إناه، أي إدراكه قال الله عز وجل: {إِلى ََ طَعََامٍ غَيْرَ نََاظِرِينَ إِنََاهُ} (4). وتقول: أنى يأني إني إذا أدرك وان
__________
(1) الورد: ما فيه حمره ضاربة إلى الصفرة.
(2) الأشقر ما فيه شقرة بالضم وهي حمرة تعلو بياضا في الاسنان وحمرة صافية في الخيل.
(3) الأعراف: جمع عرف بالضم وهو شعر عنق الفرس.
(4) سورة الأحزاب: الاية 53.(1/445)
يئين مثله. وقوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهََا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (1). أي قد بلغ إناه.
وقوله: ما غير الغلي منه فهو مأكول يقول: نحن أصحاب صيد، وهذا من فعلهم (العرب لا تنضج اللحم أما لاستعجالها للضيف وأما لأن ذلك مستحب عندها، فلذلك قال لا يؤنيه وقيل لتعجيل القرى). وقوله: مسوّمة تكون على ضربين أحدهما أن تكون معلمة، والثاني أن تكون قد أسيمت في المرعى، وهي ههنا معلمة، وقد مضى هذا التفسير وإنما أخذ ما في هذه الأبيات من بيت أمرىء القيس فإنه جمع ما في هذه الأبيات في بيت واحد مع فضل التقدم:
نمشّ بأعراف الجياد أكفنّا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب (2)
وهو الذي لم يدرك، ونمش نمسح، ويقال للمنديل المشوش، وكانت العرب تألف الطيب وتطرح ذلك في حالتين في الحرب والصيد قال النابغة:
سهكين من صدأ الحديد كأنّهم ... تحت السنوّر جنّة البقار
وقال اخر:
وأسيافكم مسك محلّ أكفّكم ... على أنها ريح الدماء تضوع
(تضوّع رواية) معنى تضوع تفوح.
وروي عن ابنة هانىء بن قبيصة (ذكر يعقوب أنها ابنة قيس بن خالد الشيباني ش) إنه لما قتل عنها لقيط بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة فتزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطا، فقال لها ذات مرة: ما استحسنت من لقيط؟ فقالت: كل أموره كانت حسنة، ولكني أحدّثك أنه خرج مرة إلى الصيد وقد انتشى فرجع وبقميصه نضخ من دم صيده، والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشراب من فيه فضمّني ضمّه وشمّني شمّه، فليتني كنت متّ ثمّه. قال: ففعل زوجها مثل ذلك، ثم
__________
(1) سورة الرحمن: الاية 44.
(2) شواء مضهب: اللحم شوي على حجارة محماة أو شوي ولم يبلغ إنضاجه.(1/446)
ضمها إليه وقال: أين أنا من لقيط؟ فقالت: ماء ولا كصداء (1) مثل حمراء، ووزنها فعلاء وموضع اللام همزة وهي بئر مقدّمة، واسمها ما ذكرنا عن الأصمعي وأبي عبيدة، وكذلك سمعنا العرب تقوله، ومن ثقّل فقد أخطأ. ومثل ذلك رجل ولا كمالك (فما يقال فتى ولا كملك، وقد تقدم لأبي العباس فتى وهو الصواب) يعنون مالك بن نويرة، ومرعى ولا كالسعدان.
بنات ذي الأصبع العدواني
وحدثني علي بن عبد الله عن ابن عائشة قال: كان ذو الإصبع العدوانيّ رجلا غيورا، وكانت له بنات أربع وكان لا يزوجهنّ غيره فاستمع عليهنّ يوما، وقد خلون يتحدّثن، فقالت قائلة منهنّ: لتقل كلّ واحدة منكنّ ما في نفسها، ولنصدق جميعا. قال: فقالت كبراهنّ:
ألا ليت زوجي من أناس ذوي غنى ... حديث الشباب طيّب النشر (2) والذكر (3)
لصوق بأكباد النساء كأنه ... خليفة جان لا يقيم على هجر
قال: وقالت الثانية:
ألا ليته يعطى الجمال بديئة ... له جفنة تشقى بها النيب والجزر
له حكمات الدهر من غير كبرة (4) ... تشين (5) فلا فإن (6) ولا صرع غمر (7)
__________
(1) ماء ولا كصداء: قال المفضل صداء ركية لم ليس عندهم ماء أعذب من مائها. وهذا مثل يضرب للجميل لا مثيل له.
(2) طيب النشر: الرائحة الطيبة.
(3) الذكر: الصيت والشهرة.
(4) الكبرة بالفتح الدخول في السن.
(5) تشين: أي تعيب بظهور الشيب في رأسه.
(6) الغاني: الشيخ الكبير المسن.
(7) الغمر: بالضم الذي لم يجرب الأمور.(1/447)
(أخذ التجارب وهو مأخوذ من حكمة اللجام ش). فقلن لها: أنت تريدين سيّدا. فقالت الثالثة:
ألا هل تراها مرّة وحليلها (1) ... أشمّ (2) كنصل السيف عين المهنّد
عليما بأدواء النساء ورهطه ... إذا ما انتمى من أهل بيتي ومحتدي
(حليلها بفتح اللام وبالضم، واشم مثله)، فقلن لها: أنت تريدين ابن عمّ لك فقد عرفته. وقلن للصغرى: ما تقولين؟ فقالت: لا أقول شيئا. فقلن: لا ندعك وذاك، إنك اطّلعت على أسرارنا وتكتمين سرّك. فقالت: زوج من عود خير من قعود. قال: فخطبن فزوّجهنّ جمع، ثم أمهلهنّ حولا، ثم زار الكبرى فقال لها: كيف رأيت زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم أهله وينسى فضله. قال لها: فما مالك؟ قالت: الإبل. قال: وما هي؟ قالت: نأكل لحمانها (3) مزعا، (4)
ونشرب ألبانها جرّعا، وتحملنا وضعفتنا معا، فقال: زوج كيرم ومال عميم. ثم زار الثانية فقال لها: كيف رأيت زوجك؟ قالت: يكرم الحليلة، ويقرّب الوسيلة. قال: فما مالكم؟ قالت: البقر. قال: وما هي؟ قالت: تألف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك السقاء ونساء مع نساء. قال لها: رضيت وحظيت. ثم زار الثالثة فقال لها: كيف رأيت زوجك؟ فقال: لا سمح بذر ولا بخيل حكر (5)
قال: فما مالكم؟ قالت: المعزى. قال: وما هي؟ قالت: لو كنا نولّدها فطما ونسلخها أدما لم نبغ بها نعما. فقال لها: جذو مغنية. ثم زار الرابعة فقال لها:
كيف رأيت زوجك؟ فقالت: شرّ زوج يكرم نفسه: ويهين عرسه، قال لها: فما مالك؟ قالت: شرّ مال الضأن. قال لها: وما هنّ؟ قالت: جوف لا يشبعن، وهيم لا ينفعن، وصمّ لا يسمعن، وأمر مغويتهنّ يتبعن فقال: أشبه بعض بزّه
__________
(1) الحليل: الزوج.
(2) الأشم: السيد ذو الأنفة.
(3) اللحمان: جمع اللحم.
(4) مزعا: جمع مزعة بالضم وهي القطعة من اللحم.
(5) بخيل حكر: بفتح الحاء وكسر الكاف وهو الذي يحبس ما عنده إنتظار ارتفاع سعره.(1/448)
(أشبه امرا بعض بزّه رواية) فأرسلها مثلا.
قال علي بن عبد الله: قلت لابن عائشة: ما قولها وأمر مغويتهنّ يتبعن؟
فقال: أما تراهنّ يمررن فتسقط الواحدة منهن في ماء أو وحل وما أشبه ذلك، فيتبعنها إليه. قول الثانية له: جفنة تشقى بها النيب والجزر، فالنيب جمع ناب وهي المسنّة، وإنما قيل لها ناب لطول نابها. قال أوس بن حجر:
تشبّه نابا وهي في السنّ بكرة
وتقدير نيب من الفعل فعل. ولكن ما كان من ذوات الياء كسر له موضع الفاء من الفعل لتصح الياء، لأن الياء إذا سكنت وانضم ما قبلها كانت واوا في الأصل نحو: موقن وموسر، وإن فارقتها الضمة عادت إلى أصلها نحو قولك: مياسير. ومثل ذلك: أبيض وبيض، وإنما بيض فعل كأحمر وحمر وأصفر وصفر، ولكن كسرت النون لتصح الياء. ولو كانت واوا في الأصل لم تغير نحو: أسود وسود، وقوله: ناب، تقديرها فعل متحركة العين، ولا تنقلب الياء ولا الواو ألفا إلّا وهما في موضع حركة وما قبلهما مفتوح نحو: باع وقال ورمى وغزا وفعل قد يجمعونه على فعل كقولهم: أسد وأسد وثن. وقولها:
تشقى بها النيب والجزر، فإنما عطفت أحدهما على الاخر، لأن من الابل ما يكون جزورا للنحر لا غير. وأما قولها: ولا ضرع غمر، فالضرع الضعيف والغمر الذي لم يجرب الأمور. ويروى أن الحجّاج لما ورد عليه ظفر المهلّب بن أبي صفرة، وقتله عبد ربّه الصغير، وهرب قطريّ عنه تمثّل فقال لله درّ المهلب والله لكأنه ما وصف لقيط الإياديّ حيث يقول:
وقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذراع (1) بأمر الحرب مضطلعا (2)
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا
__________
(1) رحب الذراع: أي واسع القوة عند الشدائد.
(2) المضطلع: القوي الذي ينهض بإعباء ما يحمله.(1/449)
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره (1) ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا
حتى استمرت على شزر (2) مريرته (3) ... مرّ العزيمة لا رثّا (4) ولا ضرعا
مدح الحجاج للمهلب
فقام إليه رجل فقال: أيها الأمير والله لكأني أسمع هذا التمثيل من قطريّ في المهلب. فسرّ الحجّاج بذلك سرورا تبين في وجهه. وقولها: كنصل السيف عين المهنّد، فالمهند المنسوب إلى الهند. وقولها: من أهل بيتي ومحتدي فالمحتد الأصل. قال الشاعر:
وفي السرّ من قحطان أولاد حرّة ... عظام اللها بيض كرام المحاتد
وقوله مال عميم يقول: جامع أخذه من عمّ يعمّ وقوله: جذو مغنية فالجذو جمع جذوة وهي القطعة، وأصل ذلك في الخشب ما كان منه فيه نار. وقال الله عزّ وجل: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النََّارِ} (5) وتجمع أيضا جذا. قال ابن مقبل:
باتت حواطب سلمى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوّار ولا دعر
الخوار الضعيف، والدعر الكثير الثقب. يقال: عود دعر. وقولها: جوف لا يشبعن تقول: عظام الأجواف. وهيم لا ينفعن: الهيم العطاش يكون الواحد من هيم أهيم. ويقال في هذا المعنى هيمان. وقال بعض المفسرين في قول الله عزّ وجلّ: {فَشََارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (6). قال: هي الإبل العطاش. وقال ذو الرمّة (يصف حميرا):
__________
(1) اشطره: نصب على أنه بدل من الدهر فكأنه قال ما زال يحلب أشطر هذا الدور والمعنى أنه اختبر الدهر شطري خيره وشره فعرف ما فيه.
(2) استمرت مريرته: أي استحكم وقويت شكيمته.
(3) الشزر: فتل الجبل عن اليسار أو فتله من خارج ورده إلى بطنه ليقوي ويشتد.
(4) الرث: السقط من المتاع.
(5) سورة القصص: الاية 29.
(6) سورة الواقعة: الاية 55.(1/450)
فراحت الحقب لم تقصع صرائرها ... وقد نشحن فلا ريّ ولا هيم
(الحقب البيض الأعجاز من الحمير). ويقال: قصع صارّته إذا روي.
والصارّه شدة العطش، والنشوح أن تشرب دون الريّ يقال: نشح ينشح ومثله تغمّر. إذا لم يرو. ويقال للقدح الصغير الغمر من هذا. وقال بعض المفسرين:
الهيم رمال بعينها واحدتها هيماء يا فتى. وقولها: لا ينقعن أي لا يروين. يقال:
نقعت ماشية بني فلان بريّ إذا لم تبلغ من الماء حقها. ويقال للماء النقع. ويقال النقع في غير هذا الموضع للغبار، يقال أثاروا النقع بينهم والنقع إسم موضع بعينه. قال الشاعر:
لقد حبّبت نعم إلينا بوجهها ... مساكن ما بين الوتائر (1) والنقع (2)
(الوتائر بالتاء منقوطة باثنتين من فوق) والنقع الصراخ. قال لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق ... يحلبوه ذات جرس وزجل
وقولها: وصمّ لا يسمعن طريف من كلام العرب، وذلك أنه يقال لكل صحيح البصر، ولا يعمل بصره أعمى، وإنما يراد به أنه قد حلّ محلّ من لا يبصر البتّة إذا لم يعمل بصره. وكذلك يقال للسميع الذي لا يقبل أصمّ. قال الله جلّ ذكره: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (3). كما قال جلّ ثناؤه: {أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} (4). وكذلك: {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ} (5) وقوله عزّ وجل: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً} (6). وتقول العرب: أبلد ما يرعى الضأن، ويقال: أحمق من راعي ضأن ثمانين (قوله:
__________
(1) الوتاثر: موضع بني مكة والطائف.
(2) النقع بالفتح موضع قرب مكة.
(3) سورة البقرة: الاية 18.
(4) سورة محمد: الاية 24.
(5) سورة النمل: الاية 80.
(6) سورة البقرة: الاية 171.(1/451)
أحمق من راعي ضأن ثمانين، المثل لكسرى (1) في أعرابي خيّره فاختار ذلك.
ذكره أبو عبيد، وهذا غير ما أشار إليه أبو العباس). وتحدث عمرو بن بحر قال: كان يقال لا ينبغي لعاقل أن يشاور واحدا من خمسة: القطّان، والغزّال، والمعلّم، وراعي ضأن، ولا الرجل الكثير المحادثة للنساء. وقيل في مثل هذا لا تدع أمّ صبيك تضربه، فإنه أعقل منها وإن كان طفلا. وقال الأحنف بن قيس: إني لأجالس الأحمق الساعة فأتبيّن ذلك في عقلي. وقال جلّ ثناؤه في صفة النساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (2) وحدّثت أن عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة أتى المدينة فأقام بها، ففي ذلك يقول:
يا خليليّ قد مللت ثوائي ... بالمصّلى وقد شنئت البقيعا
فلما أراد الشخوص شخص معه الأحوص بن محمد. فلما نزلا ودّ أن صار إليهما نصيب، فمضى الأحوص لبعض حاجته، فرجع إلى صاحبيه، فقال الأحوص: أهو يصير إليكم؟ هو والله أعظم كبرا من ذلك. قال: فإذا نصير إليه. فصاروا إليه وهو جالس على جلد كبش، فو الله ما رفع منهم أحدا ولا القرشيّ (3)، ثم أقبل على القرشي فقال: يا أخا قريش والله لقد قلت فأحسنت في كثير من شعرك ولكن خبّرني عن قولك:
قالت لها اختها تعاتبها ... لا تفسدنّ الطواف في عمر
(كذا وقعت الرواية لا تفسدنّ على النهي والصحيح لتفسدنّ على القسم كأنها قالت: والله لتفسدنّ):
قومي تصدّي له ليبصرنا ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر (4)
__________
(1) يقال أن إعرابيا بشر كسرى ببشرى سر بها فقال له: سلني ما شئت، فقال إسألك ضانا تحايني، فضرب به المثل في الحمق.
(2) سورة الزخرف: الاية 18.
(3) القرشي: يريد به عمر بن أبي ربيعة.
(4) الخفر: الحياء.(1/452)
قالت لها قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرّت (1) تشتد (2) في أثري
والله لو قد قلت هذا في هرّة أهلك ما عدا أن تنسب بها فنسبت بنفسك، أهكذا يقال للمرأة؟ إنما توصف بالخفر وأنها مطلوبة ممتنعة، هلا قلت كما قال هذا. وضرب بيده على كتف الأحوص:
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور
لقد منعت معروفها أمّ جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير
قال: فامتلأ الأحوص سرورا ثم أقبل عليه فقال: يا أحوص خبّرني عن قولك:
فإن تصلي أصلك وإن تعودي ... لهجر بعد وصلك لا أبالي
وأما والله لو كنت من فحول الشعر لباليت، هلا قلت مثل ما قال هذا.
وضرب بيده على جنب نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يظعن الركب ... وقل إن تملّينا فما ملّك القلب
قال: فانتفخ نصيب، ثم أقبل عليه فقال له: ولكن أخبرني عن قولك يا أسود:
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي
كأنك اغتممت ألايفعل بها بعدك ولا يكنى (3). فقال بعضهم لبعض:
قوموا فقد استوت القرفة، وهي لعبة على خطوط فاستواؤها انقضاؤها. (قال أبو الحسن: الظبي (4) هي السدّر (5)، فإذا زيد في خطوطه سمّته العرب القرفة، وتسميه العامة السدّر).
__________
(1) أسبطرت: أي امتدت للمشي ونهضت إليه.
(2) تشد: أي تعدو.
(3) لا يكنى يريد أنه صرح له بأسم ما يراد من المرأة.
(4) الظبي: كصرد لعبة لهم.
(5) السدر: لعبة للصبيان وتلفظ بالضم.(1/453)
كثير عزه ينقد أشعار العرب
قال: وحدّثت أن كثيّرا دخل على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل، فأنشده، فالتفت عبد الملك إلى الأخطل فقال: كيف ترى؟ فقال: حجازي مجوّع (1) مقرور، دعني أضغمه (2) يا أمير المؤمنين. فقال كثير: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال له: هذا الأخطل. فقال له كثير: مهلا فهلا ضغمت الذي يقول:
لا تطلبنّ خؤولة في تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالا
والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثل الأمثالا
(أخوالا منصوب على الحال، ومن زعم أنه تمييز فقد أخطأ) فسكت الأخطل فما أجابه بحرف. قال أبو العباس: سمعت من ينشد هذا الشعر:
والتغلبيّ (3) إذا تنبّح للقرى (4)، وهو أبلغ. قال: وخبّرت أن نصيبا نزل بامرأة تكنى أمّ حبيب من أهل ملل، وكانت تضيف في ذلك الموضع وتقري، ولا يزال الشريف قد نزل بها فأفضل عليها الفضل الكثير، ولا يزال الشريف ممن لم يحلل بها يتناولها بالبرّ ليعينها على مروّتها، فنزل بها نصيب ومعه رجلان من قريش، فلما أرادوا الرحلة عنها ووصلها القرشيّان، وكان نصيب لا مال معه في ذلك الوقت. فقال لها: إن شئت فلك أن أوجّه إليك بمثل ما أعطاك أحدهما، وإن شئت قلت فيك شعرا. فغزلت أمّ حبيب (أي مالت إلى أن يتغزل بها) فقالت: بل الشعر. فقال:
ألا حيّ قبل البين أمّ حبيب ... وإن لم تكن منا غدا بقريب
__________
(1) المجوع: الذي اضطر إلى الجوع.
(2) الضغم: العض الشديد.
(3) التغلبي: هذا البيت لجرير ويؤخذ مثالا على شدة نفوذ هجاء جرير للأخطل وإقذاعه.
(4) تنبح للقرى: أي استنبح الاضياف كلا بهم للقرى.(1/454)
وإن لم يكن أني أحبك صادقا ... فما أحد عندي إذا بحبيب
تهام أصابت قلبه ملليّة ... غريب الهوى واها لكل غريب
وحدّثت أن نصيبا أتى عبد الملك فأنشده، فاستحسن عبد الملك شعره، وسرّ به فوصله، ثم دعا بالغداء فطعم معه، فقال له عبد الملك: يا نصيب هل لك في ما يتنادم عليه؟ فقال: يا أمير المؤمنين تأملني قال: قد أراك. فقال: يا أمير المؤمنين جلدي أسود، وخلقي مشوّه، ووجهي قبيح، ولست في منصب وإنما بلغ بي مجالستك ومؤاكلتك عقلي، وأنا أكره يا أمير المؤمنين أن أدخل عليه ما ينقصه. فأعجبه كلامه فأعفاه. وقال الوليد بن عبد الملك للحجّاج في وفدة وفدها عليه، وقد أكلا: هل لك في الشراب؟ فقال: يا أمير المؤمنين ليس بحرام ما احللته، ولكني أمنع أهل عملي منه، وأكره أن أخالف قول العبد الصالح، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، فأعفاه. وقال مسلمة بن عبد الملك يوما لنصيب: أمدحت فلانا لرجل من أهله فقال: قد فعلت قال أو حرمك؟ قال: قد فعل. قال: فهلا هجوته. قال: لم أفعل. قال ولم؟ قال: لأني كنت أحقّ بالهجاء منه إذ رأيته موضعا لمدحي، فأعجب به مسلمة، فقال: اسئلني. قال: لا أفعل. قال. ولم؟ فقال: لأن كفّك بالعطية أجود من لساني بالمسئلة. فوهب له ألف دينار. وحدّثت أن الكميت بن زيد أنشد نصيبا، فاستمع له. فكان في ما أنشده:
وقد رأينا بها حورا منعّمة ... بيضا تكامل فيها الدلّ (1) والشنب
فثنى نصيب خنصره، فقال له الكميت: ما تصنع؟ فقال: أحصي خطأك تباعدت في قولك: تكامل فيها الدل والشنب، هلا قلت كما قال ذو الرمّة:
لمياء (2) في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنب
ثم أنشده في أخرى:
__________
(1) الدل: الجمال.
(2) اللمياء المرأة التي في شقتها سمرة.(1/455)
كأنّ الغطامط (1) من جريها ... أراجيز (2) أسلم تهجو غفارا
(وقعت الرواية من جريها، وصوابه من غليها، لأنه يصف قدرا فيه لحم فشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيه بالموج الذي يرتفع)، فقال له نصيب: ما هجت أسلم غفارا قطّ. فاستحيا الكميت فسكت قال أبو العباس: والذي عابه نصيب من قوله: تكامل فيها الدل والشنب قبيح جدا، وذلك أن الكلام لم يجر على نظم، ولا وقع إلى جانب الكلمة ما يشاكلها. وأول ما يحتاج إليه القول أن ينظم على نسق، وأن يوضع على رسم المشاكلة. وخبّرت أن عمر بن لجأ قال لابن عم له: أنا أشعر منك قال له: وكيف؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه. وأنشد عمرو بن بحر:
وشعر كبعر الكبش فرّق بينه ... لسان دعيّ في القريض دخيل
وبعر الكبش يقع متفرقا. فمن ذلك قول ابنة الحطيئة لما نزل في بني كليب بن يربوع: تركت الثروة والعدد ونزلت في بني كليب بعر الكبش.
يقال: بعر وبعر، وشعر وشعر، وشمع وشمع. ويقال للصدر: قصّ وقصص.
وكذلك: نهر ونهر. وزعم الأصمعي أنه سأل أعرابيا وهو بالموضع الذي ذكره زهير:
ثم استمروا وقالوا إنّ مشربكم ... ماء بشرقيّ سلمى فيد أو ركك (3)
قال الأصمعي: فقلت لأعرابي: أتعرف رككا؟ فقال: لا، ولكن قد كان ههنا ماء يسمى ركّا. فهذا ليست فيه لغتان، ولكن الشاعر إذا احتاج إلى الحركة اتبع الحرف المتحرّك الذي يليه الساكن ما يشاكله، فحرك الساكن بتلك الحركة. قال عبد مناف بن ربع (ش ربعيّ) الهذليّ:
إذا تجاوب نوح (4) قامتا معه ... ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا
__________
(1) الغطامط: بالضم: الصوت.
(2) الأراجيز: جمع أرجوزة بالضم وهي القصيدة من الرجز.
(3) فيد أو ركك: بدل من ماء وسلمى بالفتح أكم بالطائف أو جبل لطيء شرق المدينة.
(4) النوح: للنساء النائحات.(1/456)
يريد الجلد فهذا مطرد. (قال ابن القوطيّة: لعج الحبّ قلبه والصرد جسده احرقه). ومن مذاهبهم المطردة في الشعر أن يلقوا على الساكن الذي يسكن ما بعده للتقييد حركة الإعراب، كما قال الراجز قال ابن السّيد أحسبه لعبيد بن ماويّة).
أنا ابن ماويّة (1) إذ جدّ النقر
يريد النقر يا فتى، وهو النقر بالخيل، فلما اسكن الراء ألقى حركتها على الساكن الذي قبلها، (النقير صويت باللسان يسكّن به الفرس إذا اضطرب بفارسه، قال امرؤ القيس:
أخفّضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفا غير جاف غضيض)
وشبيه بهذا قوله:
عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزيّ سبّني لم أضربه
أراد لم أضربه يا فتى، فلما أسكن الهاء ألقى حركتها على الباء، وكان ذلك في الباء أحسن لخفاء الهاء. وقال أبو النجم: أقول قرّب ذا وهذا ازحله.
يريد: ازحله يا فتى. (أقول قرّب ذا وهذاك ازحله، كذا عن ش). وقال طرفه:
حابسي ربع وقفت به ... لو أطيع النفس لم أرمه
ولم يلزمه رد الياء لما تحرّكت الميم، لأن تحركها ليس لها على الحقيقة، وإنما هي حركة الهاء. وأما قول الشاعر:
حديث بني بدر إذا ما لقيتهم ... كنزو الدبى في العرفج (2) المتقارب
فليس كقوله: وشعر كبعر الكبش، ولكنه وصفهم بضؤولة الأصوات، وسرعة الكلام، وإدخال بعضه في بعض، والذي يحمد الجهارة والفخامة وأنشدت لرجل قال يمدح الرشيد:
__________
(1) ابن ماويه هو فدكي المنقري.
(2) العرفج: شجر سهلي.(1/457)
جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النغم
ويخطو على الأين خطو الظليم ... ويعلو الرجال بخلق عمم
(الرجل هو العمانيّ الشاعر وقوله: عمم أي جسيم، والأين الإعياء ويكون الاين الحية وهي الأيم). ويروى أن الرشيد كان يأتزر في الطواف، فيذنّب مدح بهذا الشعر.
ما قالته عائشة لما رأت رجلا متماوتا
ويروى أن عائشة رحمها الله، نظرت إلى رجل متماوت (1) فقالت: ما هذا؟
فقالوا: أحد القرّاء. فقالت: قد كان عمر بن الخطاب قارئا فكان إذا قال أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع. ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله، نظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت، فخفقه بالدرّة (2) وقال: لا تمت علينا ديننا أماتك الله. ويروى أن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس أتته وفود من الروم، وقام السماطان فأتي برجل منهم، وعطس أحد من في السماطين فأخفى عطسته، فقال له عبد الملك لما انقضى أمر الوفد: هلّا إذ كنت لئيم العطاس أتبعت عطستك صيحة حتى تخلع بها قلب العلج. وكان العباس بن المطّلب رحمه الله، أجهر الناس صوتا، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما انهزم الناس يوم حنين: يا عبّاس اصرخ بالناس، ويروى أن غارة أتتهم يوما، فصاح العباس: يا صباحاه! فاستسقطت الحوامل لشدة صوته، وقد طعن في قول النابغة الجعديّ:
(وأزجر الكاشح (3) العدوّ إذا اغت ... ابك عندي زجرا على أضم)
زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم
__________
(1) متماوت: يقال تماوت الرجل إذا أظهر في نفسه التخافت والتضاعن من العبادة والزهد والصم.
(2) خفقه بالدرة: أي ضربه بها والدرة بالكسر التي كان عمر رضي الله عنه يضرب بها الناس.
(3) الكاشح: مضمر العداوة والأضم محركا الغضب والحقد.(1/458)
وذلك أن الرواة احتملت هذا البيت على أنه كان يزجر الذئاب ونحوها مما يغير على الغنم، فيفتق مرارة السبع في جوفه. (ويروى: زجر أبي عروة السباع، بخفض السباع كما قيل قيس الرقيّات، فصار على هذا يعرف بأبي عروة السباع مثل ذلك). فقال: من يطعن في هذا السبع أشدّ أيدا (1) من الغنم، فإذا فعل ذلك بالسبع هلكت الغنم قبله. فقال من يحتجّ له: أن الغنم كانت قد أنست بهذا منه، والصوت الرائع أنس لمن أنس به، كالرعد القاصف الذي لولا خشية صاعقته لم يفزع كبير فزع، ولو جاء أقلّ منه من جوف الأرض لذعر ولم يبعد أن يقتل إذا أتى من حيث لم يعتد. وجملة هذا البيت أنه وصف شدة صوت المذكور، وتأويله أنه من تكاذيب الأعراب. وحدّثت أن الحسن نظر إلى رجل يجود بنفسه فقال: إنّ أمرا هذا اخره لجدير بأن يزهد في أوله، وأن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف اخره. وقيل لرجل من أشراف العجم في علّته التي مات فيها: ما بك؟ قال فكر عجيب وحسرة طويلة.
فقيل: ممّ ذاك؟ فقال: ما ظنكم بمن يقطع سفرا قفرا بلا زاد، ويسكن قبرا موحشا بلا مؤنس، ويقدم على حكم عادل بلا حجّة. وقال بعض المحدثين، وهو محمود الورّاق:
بأيّ اعتذار أم بأيّة حجّة ... يقول الذي يدري من الأمر لا أدري
إذا كان وجه العذر ليس ببيّن ... فإنّ اطّراح العذر خير من العذر
واعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة من أمر بلغه عنه فعذره، ثم قال له: يا هذا لا يحملنك الخروج من أمر تخلصت منه على الدخول في أمر لعلك لا تخلّص منه. وقيل لخالد بن صفوان (2): أيّ إخوانك أحبّ إليك؟ فقال:
__________
(1) الايد: بالفتح القوة والصلابة.
(2) خالد بن صفوان بن عبد الله بن عمرو بن الأهثم، أبو صفوان التميمي المنقري. أحد فصحاء العرب وخطبائهم، كان راوية للأخبار خطيبا مفوها بليغا. كان يجالس الخلفاء ومنهم هشام بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز، ويعظهم، توفي سنة 135هـ.
أنظر معجم الأدباء 11/ 3524، الوافي بالوفيات، والفهرست، والأغاني في مواقع متفرقة.(1/459)
الذي يسدّ خللي، ويغفر زللي، ويقبل عللي. وافتقد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقا له من مجلسه ثم جاءه فقال له: اين كانت غيبتك؟ فقال:
خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي، فقال له: لم تجد من صحبة الرجال بدّا فعليك بصحبة من إن صحبته زانك، وإن خففت له صانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن رأى منك خلّة سدّها أو حسنة عدّها، وإن وعدك لم يجرضك، وإن كثرت عليه لم يرفضك، وإن سألته أعطاك، وإن أمسكت عنه ابتداك. قال أبو العباس: وامتدح نصيب عبد الله بن جعفر فأمر له بخيل وإبل وأثاث ودنانير ودراهم، فقال له رجل: أمثل هذا الأسود لأبيض وإن ثناءه لعربيّ، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال. وهل أعطيناه إلا ثيابا تبلى ومالا يفنى ومطايا تنضى (1)، وأعطانا مدحا يروى، وثناء يبقى. وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك لتبذل الكثير إذا سئلت، وتضيّق في القليل إذا توجرت. فقال: إني أبذل مالي وأضنّ (2) بعقلي. وقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود؟ فقال: إعطاء المال من لا تعرف فإنه لا يصير إليه حتى يتخطّى من تعرف. وخبّرت عن رجل من الأنصار قال لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك لك أبوك؟ قال: ترك لي مالا كثيرا. فقال: ألا أعلمك شيئا هو خير لك مما ترك أبوك، إنه لا مال لعاجز ولا ضياع على حازم والرقيق جمال، وليس بمال، فعليك من المال بما يعولك ولا تعوله. وقال معاوية: الخفض والدعة سعة المنزل وكثرة الخدم، وقيل لخريّم المرّيّ، وهو المنبّز (3) بخريم الناعم:
ما النعمة؟ فقال: الأمن فإنه ليس لخائف عيش، والغنى فإنه ليس لفقير عيش، والصحة فإنه ليس لسقيم عيش. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعد هذا. وقال سلم بن قتيبة: الشباب الصحة، والسلطان الغنى، والمروءة الصبر على الرجال. وقال المهلّب بن أبي صفرة: العجب لمن يشتري المماليك
__________
(1) تنصى: تضعف وتهزل.
(2) أضن: أنجل.
(3) المنبز: الملقب من البنز بالتحريك وهو اللقب وكأنه يكثر في ما كان ذما.(1/460)
بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وكان يقول لبنيه: إذا غدا عليكم الرجل وراح مسلّما فكفى بذلك تقاضيا. وقال خالد بن عبد الله القسريّ: محض الجود ما لم تسبقه مسئلة، وما لم يتبعه منّ، ولم يزر به قصر، ووافق موضع الحاجة. وقال بعض المحدثين وهو (حبيب) الطائي:
أسائل نصر لا تسله فإنه ... أحنّ إلى الإرفاد منك إلى الرفد
وقال اخر وهو أبو العتاهية:
لا تسألنّ المرء ذات يديه (1) ... فليحقرنّك من رغبت إليه
المرء ما لم ترزه (2) لك مكرم ... فإذا رزأت المرء هنت عليه
وكما يكون لديك من عاشرته ... فكذاك فارض بأن تكون لديه
ودخل النخّار العذريّ على معاوية في عباءة فاحتقره، فرأى ذلك النخّار في وجهه فقال له: يا أمير المؤمنين ليست العباءة تكلّمك إنما يكلمك من فيها. ثم تكلم فملأ سمعه ثم نهض ولم يسأله. فقال معاوية: ما رأيت رجلا أحقر أولا ولا أجلّ اخرا منه. ودخل محمد بن كعب القرظيّ على سليمان بن عبد الملك في ثياب رثّة، فقال له سليمان: من يحملك على لبس مثل هذه الثياب؟ فقال: أكره أن أقول الزهد فأطري نفسي، أو أقول الفقر فأشكو ربي.
حديث سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب مع هشام بن عبد الملك
وحدثني التوّزيّ قال: دخل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب على هشام بن عبد الملك في ثياب وعليه عمامة تخالفها، فقال له هشام: كأنّ العمامة ليست من الثياب. قال: إنها مستعارة: فقال: كم سنّك؟ قال: ستون
__________
(1) ذات يديه: ماله.
(2) ترزه: أصله ترزأ، بالهمز فخفف للشعر يقال رزأت فلانا كذا إذا أخذته منه وأصله النقص.(1/461)
سنة. قال: ما رأيت ابن ستين أبقى كدنة منك (1). (كدنة قوة الجسم قال ابن القوطية: في الأفعال كدن الشفة كدونا اسودّت، وأكدن البعير، كثر لحمه وشحمه) ما طعامك؟ قال: الخبز والزيت. قال: أما تأجمهما (2)؟ قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما، ثم خرج من عنده وقد صدع. فقال أترون الأحول لقعني بعينه (3) فمات بتلك العلة. (قال ابن الأعرابي: لقع فلان فلانا بعينه وزلقه وزلّقه وأزلقه وشقده وشوّهه، ويقول الرجل إذا أجاد في عمله: لا تشوّه عليّ، أي لا تقل لي أجدت فتصيبين بالعين. ورجل معين إذا أصيب بالعين. وشاة وشائه وشقذ وشقذان). ونظر أعرابي إلى رجل جيد الكدنة فقال يا هذا إني لأرى عليك قطيفة محكمة من نسج أضراسك. ودخل أبو الأسود الدؤليّ (اسم أبي الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو بن سفيان، وقيل ابن عمرو بن جندل بن سفيان، وأمه من بني عبد الدار بصري، تابعيّ ثقة من أصحاب عليّ من كتّابه على عبيد الله بن زياد في ثياب رثّة، فكساه ثيابا حسانا فخرج وهو يقول:
كساك وما استكسيته فشكرته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
وأن أحقّ الناس إن كنت مادحا ... بمدحك من أعطاك والعرض (4) وافر
مدح أبي الأسود الدؤلي لعبد الله بن زياد
وحدّثني الرياشي قال: دخل أبو الأسود الدؤلي على عبيد الله بن زياد وقد أسنّ، فقال له عبيد الله يهزأ به يا أبا الأسود إنك لجميل فلو تعلّقت تميمة تردّ عنك بعض العيون. فقال أبو الأسود:
أفنى الشباب الذي أفنيت جدّته (5) ... كرّ الجديدين من ات ومنطلق
__________
(1) الكدنه: بالكسر وهو كدن ككف أي قوي.
(2) أجم الطعام: كرهه.
(3) لقعني بعينه: رماني وأصابني بها وأراد بالأحوال هشام بن عبد الملك لأنه كان أحولا.
(4) العرض وافر: أي لم يصب بما يشينه ويعبيبه.
(5) الجدة: البلى بالكسر ضد البلى وقد جد يجد فهو جديد والجديدان الليل والنهار.(1/462)
لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئا أخاف عليه لذعة الحدق (1)
قوله: فلو تعلقت تميمة هي المعاذة يعلقها الرجل. قال ابن قيس الرقيّات:
صدروا ليلة انقضى الحجّ فيهم ... طفلة زانها أغرّ وسيم
يتّقي أهلها العيون عليها ... فعلى جيدها الرقى والتميم
وقال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
وقوله: لذعة الحدق، فهو من قولك لذعته النار إذا لفحته. ويقال: لذع فلان فلانا بأدب إذا أدّبه أدبا يسيرا كأنه المقدار الذي وصفناه من النار وقول ابن قيس الرقيات: زانها أغر وسيم، فالأغر الأبيض يعني الوجه، والوسيم الجميل، والمصدر الوسامة والوسام. وقال بعض المحدثين ذكرناه بقول أبي الأسود:
قد كنت أرتاع (2) للبيضاء في حلك ... فصرت أرتاع للسوداء في يقق (3)
من لم يشب ليس مملاقا (4) خليلته ... وصاحب الشيب للنسوان ذو ملق
قد كنّ يفرقن (5) منه في شبيبته ... فصار يفرق ممن كان ذا فرق
إن الخضاب لتدليس يغشّ به ... كالثوب في السوق مطويّا على حرق (6)
ويروى: يطوى لتدليس على حرق. وشبيه بهذا المعنى قول أبي تمّام:
طال إنكاري البياض وإن عمّ ... رت شيئا أنكرت لون السواد
__________
(1) لذعة الحدق: الإصابة بالعين.
(2) إرتاع: خاف.
(3) اليقق شدة البياض.
(4) المملاق: المفرط في التودد.
(5) قد كن يفرقن: من الفرق بالتحريك وهو الخوف والفزع.
(6) الحرق: ما يعرض للثوب من الدق وهو محرك ليس غير.(1/463)
وحدّثني الزياديّ قال: قيل لأعرابي: ألا تخضب بالوسمة (1)؟ فقال: لم ذاك؟ فقال: لتصبو إليك النساء. فقال: أما نساؤنا فما يردن بنا بديلا، وأما غيرهن فما نلتمس صبوتهنّ. وقال العتبيّ:
وقائلة تبيّض والغواني ... نوافر عن معالجة القتير (2)
(ويروى معالجة بكسر اللام، فمن فتح اللام جعله مصدرا، ومن كسر اللام فهي الجماعة التي تعالج ذلك الشيء).
عليك الخطر (3) علّك أن تدنّى (4) ... إلى بيض ترائبهنّ (5) حور
فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوّدا وجه النذير
وقال اخر وهو أبو خالد يزيد بن محمد المهلّبيّ:
صبغت الرأس ختلا (6) للغواني ... كما غطّى على الريب (7) المريب
أعلّل مرة وأسام أخرى ... ولا تحصى من الكبر العيوب
أسوّف توبتي خمسين عاما ... وظنّي أن مثلي لا يتوب
يقوّم بالثقاف (8) العود لدنا (9) ... ولا يتقوّم العود الصليب
وقال مالك بن دينار: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم. وكان يقول ما أشدّ فطام الكبير. وقال اخر:
__________
(1) الوسمة: بكسر السين وقد تسكن وهي نبت أو شجر باليمن يخضب بورقة الشعر.
(2) القتير: الشيب.
(3) الخطر: بالكسر يختضب به.
(4) تدين: تقرب.
(5) الترائب: عظام الصدر.
(6) ختلا: الخداع والمراوغه.
(7) الريب: الشك والأتهام.
(8) الثقاف: بالكسر ما تقوم به الرماح.
(9) اللدن: بالفتح اللين من كل شيء(1/464)
دعي لومي ومعتبتي أماما ... فإني لم أعوّد أن ألا ما
وكيف ملامتي إذ شاب رأسي ... على خلق نشأت به غلاما
وقيل لأعرابي: ألا تغيّر شيبك بالخضاب؟ فقال: بلى. ففعل ذاك مرة ثم لم يعاود. فقيل له: لم لا تعاود الخضاب؟ فقال: يا هناه لقد شدّ لحياي فجعلت إخالني ميتا. وقال بعض المحدثين، وهو محمود الورّاق:
يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثة يعود
إن النصول (1) إذا بدا ... فكأنه شيب جديد
وله بديهة لوعة ... مكروهها أبدا عتيد (2)
فدع المشيب لما أرا ... د فلن يعود كما تريد
وقال محمود أيضا:
أليس عجيبا بأنّ الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه
فمن بين باك له موجع ... وبين معزّ مغذّ (3) إليه
ويسلبه الشيب شرخ (4) الشباب ... فليس يعزّيه خلق عليه
وقال أيضا:
يا خاضب الشيبة نح فقدها ... فإنما تدرجها في كفن
أما تراها منذ عاينتها ... تزيد في الرأس بنقص البدن
وقال أيضا:
إغتنم غفلة المنيّة واعلم ... أنما الشيب للمنية جسر
كم كبير يوم القيامة يقصى ... وصغير له هنالك قدر
__________
(1) النصول: مصدر، يقال نصلت الحية إذا خرجت من الخضاب.
(2) العتيد: الحاضر، المستعد.
(3) مغذ: المسرع في السير.
(4) شرخ الشباب: بالفتح أوله هو نضارته وقوته وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع قيل هو جمع شارخ كشارب وشرب.(1/465)
(قال أبو الحسن: يقال جسر وجسر، وهو مأخوذ من الناقة الكبيرة يقال لها الجسر). وقال أعرابي (هو أبو النجم):
قالت سليمى أنت شيخ أنزع (1) ... فقلت ما ذاك وإني أصلع (2)
ثم حسرات عن صفاة (3) تلمع ... فأقبلت قائلة تسترجع
ما رأس ذا إلا جبين أجمع
وقال اخر وهو رؤبة:
قد ترك الدهر صفاتي صفصفا (4) ... فصار رأسي جبهة إلى القفا
كأن قد كان ربعا فعفا ... يمسي ويضحي للمنايا هدفا
لنصر بن حجاج
وكان نصر بن حجّاج بن علاط السلميّ ثم البهزيّ (5) جميلا، فعثر عليه عمر ابن الخطاب رحمه الله، في أمر الله أعلم به، فحلق رأسه. وكان عمر أصلع لم يبق من شعره إلّا حفاف (6)، كذلك قال الأصمعي. فقال نصر بن حجّاج:
لضنّ ابن خطاب عليّ بجمّة ... إذا رجّلت تهتزّ هزّ السلاسل
فصلّع رأسا لم يصلّعه ربّه ... يرفّ رفيفا (7) بعد أسود جاثل (8)
لقد حسد القرعان أصلع لم يكن ... إذا ما مشى بالفرع بالمتخايل
__________
(1) أنزع: الذي انحسر شعر مقدم رأسه مما فوق الجبين.
(2) الأصلع: الذي انحسر شعره عن رأسه.
(3) صفاة: الحجر الأملس وهنا كناية عن الرأس الأصلع.
(4) الصفصف: الذي لا نبات فيه.
(5) البهزي: نسبة إلى بهز بالفتح حي من العرب.
(6) حفاف: إنشكاف الشعر عن وسط الرأس.
(7) يرف رفيفا: يبرق أو يلمع.
(8) الجاثل: الشعر الكثير الملتف الأسود.(1/466)
قوله: بالفرع بالمتخايل، ليس أنه جعل بالفرع من صلة المتخايل فيكون معناه بالذي يختال بالفرع، فيكون قد قدّم الصلة على الموصول، ولكنه جعل قوله بالفرع تبيينا، فصار بمنزلة بك التي تقع بعد مرحبا للتبيين، وقد مرّ تفسير هذا مستقصى في الكتاب المقتضب وقال اخر:
تغطّي نمير بالعمائم لؤمها ... وكيف يغطّي اللؤم طيّ العمائم
فإن تضربونا بالسيّاط فإننا ... ضربناكم بالمرهفات (1) الصوارم
وإن تحلقوا منا الرؤوس (2) فإننا ... حلقنا رؤوسا باللها (3) والغلاصم (4)
وإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاح لنا لا يشترى بالدراهم
جلاميد (5) أملاء الأكفّ كأنها ... رؤوس رجال حلّقت بالمواسم
وكان يزيد بن الطثريّة (6) غزلا (7)، وكان أخوه ثور ذا مال، فكان يزيد يأتي العطّار فيقول: ادهنّي دهنة بناقة من إبل ثور، فيفعل ذلك. وكان ذا جمّة حسنة، فإذا كثر عليه الدين هرب فتبدّى، فإذا ذكر حوشيّة، وهي امرأة كان يشبّب بها (حوشيّة بنت أبي فديك بن قرّة، ولها مع يزيد حديث طريف) قدم فاقتطع من إبل أخيه ما يقضي به دينه. وفي ذلك يقول:
قضى غرمائي حبّ أسماء بعد ما ... تخوّفني ظلم لهم وفجور
فذلك دأبي ما حييت وما مشى ... لثور على ظهر الفلاة بعير
فاستعدى عليه ثور السلطان فأمر بحلق رأسه. فقال:
__________
(1) المرهفات: السيوف.
(2) حلقنا الرؤوس: أي قطعناها وأزلناها عن مواضعها وعبر عنه بالحق مشاكلة.
(3) اللهاة: بالفتح.
(4) الغلاصم: جمع غلصمة.
(5) الجلاميد واحدها جلمود وهو الصخر.
(6) الطثرية، بالتحريك: أم يزيد وهو شاعر مجيد إسلامي من بني قشير.
(7) الغزل بالكسر المنعزل بالنساء.(1/467)
أقول لثور وهو يحلق لمّتي ... بعقفاء (1) مردود عليها نصابها (2)
ترفّق با يا ثور ليس ثوابها ... بهذا ولكن عند ربي ثوابها
ألا ربما يا ثور فرّق بينها ... أنامل رخصات (3) حديث خضابها
فيهلك مدرى (4) العاج في مدلهمّة ... إذا لم تفرّج مات غمّا صؤابها
فجاء بها ثور ترفّ كأنها ... سلاسل برق لينها وانسكابها
ورحت برأس كالصخيرة (5) أشرفت ... عليها عقاب ثم طارت عقابها
خداريّة (6) كالشرية (7) الفرد جادها ... من الصيف أنواء مطير سحابها
__________
(1) العقفا: حديدة قد لوى طرفها وفيها أنحناء
(2) النصاب: جزأة السكني.
(3) رخصات: جمع رخصة صفة الانامل وهي اللينة غير الكزة.
(4) المدرى: بفتح الراء، المشط.
(5) الضمير مصغر صخرة.
(6) خدارية بالضم العقاب.
(7) الشرية: النخلة.(1/468)
39 - باب قيس بن عاصم يخاطب زوجته
قال رجل من المتقدمين وهو قيس بن عاصم المنقريّ:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما أصبت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست اكله وحدي
قصيّا كريما أو قريبا فإنني ... أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما من خلالي غيرها شيمة العبد
غيرها استثناء مقدم وقد مضى تفسيره، وقوله: قصيا كريما، من طريف المعاني. وذلك انه لم يحتج إلى أن يشترط في نسبته الكرم لأنه قد ضمن ذلك واشتراط في القصيّ أن يكون كريما لأنه كره أن يكون مؤاكله غير كريم وهذا ليس من الباب الذي ذكره جرير، حيث يقول في هجائه بني هزّان:
ضيفكم جائع إن لم يبت غزلا ... وجاركم يا بني هزّان مسروق
رأيت هزّان في أحراج نسوتها ... رحب وهزّان في أخلاقها ضيق
وقال اخر من المحدثين وهو يحيى بن نوفل أنشده دعبل:
كنت ضيفا ببر منايا لعبد ال ... لّه والضيف حقّه معلوم
فانبرى يمدح الصيام إلى أن ... صمت يوما ما كنت فيه أصوم
ثم أنشأ يستام برذوني الور ... د ملحّا كما يلحّ الغريم
(قال الأخفش يروي بردوني الزرد وهو الأصفر) (1):
__________
(1) البرذون: الدّابة والبراذين من الخيل ما كان من غير نتاج العرب.(1/469)
ولعمري إنّ ابن قيلة إذا يس ... تام برذون ضيفه للئيم
وقال رجل أنشدنيه السجستانيّ بقوله لابن دعلج، وكان ابن دعلج يتوالى بني تميم:
إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم
وأمّا بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبّح من غريم
لزوم ما علمت بباب داري ... لزوم الكهف أصحاب الرّقيم
له مائة عليّ ونصف أخرى ... ونصف النصف في صكّ قديم
دراهم ما انفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم
(زاد أبو الحسن:
أتوني في العشيرة يسألوني ... ولم أك في العشيرة بالمليم
قال أبو الحسن: لم يعرف أبو العباس هذا البيت الأخير وهو صحيح).
وجاور قيس بن عاصم بن سنان بن منقر بن عبيد تاجرا خمّارا، فشرب شرابه وأخذ متاعه ثم أوثقه، فقال: أفد نفسك. وقال في ذلك:
وتاجر فاجر جاء الإله به ... كأنّ عثنونه أذناب أجمال
(قال ذلك لأن ذنب البعير يضرب إلى الصهبة وفيه استواء، وهو يشبه اللحية). وقال النمر بن تولب:
إذا كنت في سعد وأمّك منهم ... غريبا فلا يغررك خالك من سعد (1)
فإن ابن أخت القوم مصفى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله باب جلد
قيس بن عاصم يقسم الصدقات
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم على صدقات بني سعد، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها قيس بعد في بني منقر، وقال:
__________
(1) في العرب سعود كثيرة: سعد تميم وسعد قيس وسعد هذيل وسعد بكر وغير ذلك.(1/470)
من مبلغ عنّي قريشا رسالة ... إذا ما أتتها محكمات الودائع
حبوت بما صدّقت في العام منقرا ... وأيأست منها كلّ أطلس طامع
وجاور عروة بن مرّة أخو أبي خراش الهذليّ ثمالة من الأزد، فجلس يوما بفناء بيته امنا لا يخاف شيئا، فاستدبره رجل منهم من بني بلّال بسهم فقصم صلبه، ففي ذلك يقول أبو خراش:
لعن الاله وجوه قوم رضّع ... غدروا بعروة من بني بلّال
وأسر خراش بن أبي خراش أسرته ثمالة، فكان فيهم مقيما، فدعا اسره يوما رجلا منهم للمنادمة، فرأى ابن أبي خراش موثقا في القدّ، فأمهل حتى قام الاسر لحاجة. فقال المدعو لابن أبي خراش: من أنت؟ قال: أنا ابن أبي خراش.
فقال: كيف دلّيلاك؟ قال: قطاة. قال: فقم فاجلس ورائي وألقى عليه رداءه، ورجع صاحبه فلما رأى ذلك أصلت بالسيف. وقال: أسيري فنثل المجير كنانته وقال: والله لإرمينّك أن رمته فإني قد أجرته، فخلّى عنه، فجاء إلى أبيه، فقال له: من أجارك؟ فقال: والله ما أعرفه. فقال أبو خراش، وقال الرواة: لا نعرف أحدا مدح من لا يعرف غير أبي خراش:
حمدت الهي بعد عروة إذا نجا ... خراش وبعض الشرّ أهون من بعض
فو الله لا أنسى قتيلا رزيته ... بجانب قوسى ما مشيت على الأرض
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سلّ عن ماجد محض
(ولم يك مثلوج الفؤاد (1) مهبّجا (2) ... أضاع الشباب في الربيلة (3) والخفض (4)
__________
(1) مثلوج الفوائد: منشرح الصدر.
(2) المهبج: منتفخ الوجه.
(3) الربيلة: كسفينة النعمة والسخي.
(4) الخفض: الدعة وحسن العيش.(1/471)
ولكنه قد لوّحته (1) مخامص (2) ... على أنه ذو مرّة صادق النّهض)
كأنهم يسعون في إثر طائر ... خفيف المشاش (3) عظمه غير ذي نحض
يبادر جنح الليل فهو مهابذ ... يحثّ الجناح بالتّبسّط والقبض
قوله: قبح الإله وجوه قوم رضّع، فهو جماعة راضع، وقوم يقولون هو توكيد للئيم، كما يقولون: جائع نائع، وحسن بسن، وعطشان نطشان، وأجمع أكتع. وقوم يقولون: الراضع هو الذي يرتضع من الضرع لئلا يسمع الضيف أو الجار صوت الحلب فيطلب منه.
في الهجاء
وتصديق ذلك ما أنشدناه أبو عثمان عمرو بن بحر لرجل من الأعراب ينسب ابن عمّ إلى اللؤم والتوحش:
أحبّ شيء إليه أن يكون له ... حلقوم واد له في جوفه غار
لا تعرف الريح ممساه ومصبحه ... ولا يشبّ إذا أمسى له نار
لا يحلب الضرع لؤما في الاناء ولا ... يرى له في نواحي الصّحن اثار
وقوله: كيف دليلاك فهي كثرة الدلالة والفعّيل إنما تستعمل في الكثرة.
يقال: القتّيى لكثرة التّميمة، ويقال الهجّيري لكثرة الكلمة المترددة على لسان الرجل. يقال: ذكرك هجّيراى، أي هو الذي يجري على لساني، وفي الحديث كان هجّيرى أبي بكر الصديق رحمه الله بلا إله إلّا الله. ويقال: كان بينهم رميّا لكثرة الرمي، وكذلك كل ما أشبه هذا. وقوله: بجانب قوسى فهو بلد تحلّه ثمالة بالسراة. وقوله: بلى إنها تعفو الكلوم، فهي الجراح والاثار التي تشبهها.
قال جرير:
__________
(1) لوحته: غيّرته.
(2) المخامص: المجاعات التي ثورت خمص البطن وصخوره.
(3) المشاش بالضم ورؤوس العظام كالمرفقين والكنفين والركبتين.(1/472)
تلقى السّليطيّ (1) والأبطال قد كلموا ... وسط الرجال سليما غير مكلوم
وينشد وسط الرحال، وتعفو ترس. وقوله: عظمه غير ذي نحض النحض اللحم، يقال: يأكل نحضا. ويروّي الرجال محضا (2) وقوله: فهو مهابذ يقول مجتهد وهذيل فيها سعي شديد، وفي جماعة من القبائل التي تحلّ بأكناف الحجاز
حديث الحطيئة مع الزبرقان
ولقي الزبرقان بن بدر (3) وهو قاصد بصدقات قومه إلى أبي بكر الصديق رحمه الله الحطيئة في طريقه، فقال له الزبرقان: من أنت؟ فقال: أنا أبو مليكة أنا حسب موضوع فقال له الزبرقان: إني أريد هذا الوجه ومالك منزل فامض إلى منزلي بهذا السهم فسل عن القمر بن القمر وكن هناك حتى أعود إليك، ففعل.
فأنزلوه وأكرموه فأقام فيهم فحسدهم عليه بنو عمهم من بني قريع. وذلك أن الزبرقان من بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم وحاسدوه بنو قريع بن عوف بن كعب بن سعد. ولم يكن لعوف إلّا قريع وعطارد وبهدلة وكان الذين حسدوه منهم بنو لأي بن شمّاس بن أنف الناقة بن قريع. فدسّوا إلى الحطيئة أن تحوّل إلينا نعطك مائة ناقة ونشدّ كل طنب من أطناب بيتك بجلّة بحونة (4) قال: فأنّى لي بذلك. قالوا: إنهم يريدون النجعة (5)، فإذا احتملوا فتخلّف
__________
(1) السليطي: نسبة إلى سليط كأمير وهو أبو قبيلة من العرب.
(2) محضا: خالصا.
(3) الزبرقان بن بدر التميمي السعدي، صحابي، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في قومه، سنة تسع. وهو من رؤوسائهم.
ويقال إن اسمه الحصين، وسمي بالزبرقان لحسنه، تشبيها له بالبدر. كان سيدا شاعرا.
فصيحا، فيه جفاء الأعراب. توفي نحو سنة 45هـ بعد أن تولى على قومه لكل من أبي بكر عمر رضي الله عنهما.
أنظر طبقات الشعراء 50، الأغاني 2/ 52الشعر والشعراء: 233، العقد 3/ 19، الاستيعاب 561وكتب الصحابة أيضا.
(4) بحونة بفتح الباء وسكون الحاء وفتح الواو هي الواسعة البطن.
(5) النجعة بالضم: طلب الكلأ ومساقط الغيث.(1/473)
عنهم. ثم دسّوا إلى امرأة الزبرقان، من خبّر بأن الزبرقان إنما قدّم هذا الشيخ ليتزوج ابنته، فقدح ذلك في قلبها، فلما تحمل القوم تخلّف الحطيئة فاحتمله القريعيّون فبنوا له ووفوا له. فلما جاء الزبرقان صار إليهم، فقال: ردّوا عليّ جاري. فقالوا: ليس لك بجار وقد طرحته، فذلك حيث يقول الحطيئة:
وإنّ التي نكّبتها عن معاشر ... عليّ غضاب أن صددت كما صدّوا
أتت ال شمّاس بن لأي وإنما ... أتاهم بها الألام والحسب العدّ
فإن الشقيّ من تعادي صدورهم ... وذا الجدّ من لانوا إليه ومن ودّوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدّ
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللّوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا
وإن كانت النعماء (1) فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا
وإن قال مولاهم على جلّ حادث ... من الدهر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا
وتعذلني أفناء سعد (2) عليهم ... وما قلت إلّا بالذي علمت سعد
قوله: جلة بحونة أي ضخمة، يقال ذلك للناقة والنخلة إذا استفحلت وطالت. وقوله: نكبتها، يقول عدلت بها. وقوله: والحسب العدّ معناه الجليل الكثير. وأصل ذلك في الماء، يقال بئر عدّ إذا كانت ذات مادة من العيون لا تنقطع، وكل ماء ثابت فهو عدّ. وقوله: يسوسون أحلاما بعيدا أناتها، يقول:
ثقال لا يبلغ اخرها، وأصل الاناة من التأني والانتظار، فيقول: لا يبلغ اخرها فتسفّه. وقوله: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا وإن شئت قلت البنا، فهما مقصوران، يقال: بنى بنية وبنية بنى، وجمع بنية بنى فبنية وبنى ككسرة وكسر، وبنية وبننى كظلمة وظلم. فأما المصدر من بنيت، فممدود، يقال بنيته بناء حسنا وما أحسن بناءك. وقوله: وإن عاهدوا أوفوا، أوفى في أحسن اللغتين، يقال وفي أوفى، قال الشاعر فجمع اللغتين.
__________
(1) النعماء: إن كانت النعماء الخ يقول أن أحسن إليهم محسن كأفأوؤه على إحسانه.
(2) أخناء سعد: أخلاطهم.(1/474)
أما ابن بيض (1) فقد أوفى بذمّته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها
وفي القران: {بَلى ََ مَنْ أَوْفى ََ بِعَهْدِهِ} (2). وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللََّهِ إِذََا عََاهَدْتُمْ} (3). وقال عز وجل: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذََا عََاهَدُوا} (4). فهذا كله على أوفى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما روى من أنه قتل مسلما بمعاهد. وقال: أنا أولى من أوفى بذمته. وقال السموأل في اللغة الاخرى:
وفيت بأدرع الكنديّ إني ... إذا عاهدت أقواما وفيت
وقال المكعبر الضبّيّ (قال أبو الحسن حفظي المكعبر):
وفيت وفاء لم ير الناس مثله ... بتعشار (5) إذ تحبو إليّ الأكابر
وقوله:
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا
يقول ما قال جرير مثله:
وإني لاستحيي أخي أن أرى له ... عليّ من الحق الذي لا يرى ليا
يقول استحيي أن أرى نعمته عليّ ولا يرى على نفسه لي مثلها. وقوله: على حلّ حادث، فهو الجليل من الامر. يقال: فلان يدعى للجلّى. قال طرفة:
وإن أدع للجلّى أكن من حماتها.
__________
(1) ابن بيض: بكسر الباء الموحدة وقد يفتح أو هو وهم من حكاه.
(2) سورة ال عمران: الاية 76.
(3) سورة النحل: الاية 91.
(4) سورة البقرة الاية 177.
(5) بتعشار: اسم موضع.(1/475)
حديث الحطيئة لأبناء عم الزبرقان
وفيهم يقول الحطيئة:
لقد مريتكم (1) لو أن درّتكم (2) ... يوما يجيىء بها مسحي وإبساسي
لما بدا لي منك غيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم اسي (3)
أزمعت يأسا مبينا من نوالكم ... ولا ترى طاردا للحرّ كالياس
ما كان ذنب بغيض لا أبالكم ... في بائس (4) جاء يحدو اخر الناس
جار لقوم أطالوا هون منزله ... وغادروه مقيما بين أرماس
ملّوا قراه وهرّته كلابهم ... وجرّحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
قوله: لقد مريتكم، أصل المري المسح، يقال: مريت الناقة إذا مسحت ضرعها لتدرّ. ويقال: مرى الفرس والناقة إذا قام أحدهما على ثلاث ومسح الأرض بيده الاخرى، قال الشاعر:
إذا حطّ عنها الرحل ألقت برأسها ... إلى شذب (5) العيدان أو صفنت (6) تمري (7)
وهذا من أحسن أوصافها. وقال بعض المحدثين يصف برذونا بحسن الأدب). الشّعر لمحمد بن يزيد من ولد مسلمة بن عبد الملك يصف فرسه وقبله:
__________
(1) مريتكم: طلبت ما عندكم.
(2) درتكم: الدرة بالكسر اللين.
(3) اسي: المداوي.
(4) بائس: أراد به نفسه وهو الذي أصابته مصيبة.
(5) شذب العيدان: قطع الشجر.
(6) صفنت: قامت على ثلاث قوائم.
(7) تمري: تمسح الأرض.(1/476)
عوّدته في ما أزور حبابي ... إهماله وكذاك كلّ مخاطر) (1)
وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك اللجام إلى انصراف الزائر
ويقال مراه مائة سوط ومائة درهم إذا أوصل ذلك إليه، ولمراه موضع اخر ومعناه مراه حقه إذا دفعه عنه ومنعه منه، وقد قرىء: أفتمرونه على ما يرى، أي تدفعونه، وعلى، في موضع: عن. قال العامري (هو القحيف العقيلي):
إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وبنو كعب بن ربيعة بن غامر يقولون: رضي الله عليك. وأما الإبساس فإن تدعو الناقة باسمها أو تليّن لها الطريق إلى الحلب، بقول أو مسح أو ما أشبه ذلك. فإذا كانت الناقة تدرّ على الدعاء والملق. قيل: ناقة بسوس، وذلك من صفاتها في حسن الخلق. وقوله: ولم يكن لجراحي فيكم اسي.
يقول مداو: والاسي الطبيب. قال الفرزدق يصف شجّة:
إذا نظر الاسون فيها تقلّبت ... حماليقهم من هول أنيابها العصل
والإساء الدواء ممدود. قال الحطيئة:
هم الاسون أمّ الرأس لمّا ... تواكلها الأطبّة والإساء
وأما الأسى فمقصور وهو الحزن، من ذلك قول الله جل ثناؤه {فَلََا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكََافِرِينَ} (2). وقال العجّاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرما ... قال: نعم أعرفه وأبلسا
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
فإذا قلت الأسى قصرت، وهو جمع أسوة. يقال: فلان أسوتي وقدوتي.
قال الله عز وجل: {لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللََّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3). والرمس
__________
(1) مخاطر: الذي اشفى نفسه على خطر.
(2) سورة المائدة: الاية 63.
(3) سورة الأحزاب: الاية 21.(1/477)
التراب. يقال: رمس فلان في قبره، وأشعار الحطيئة في هذا الباب كثيرة ولولا أنها معروفة مشهورة لأتينا على اخرها، ولكننا نذكر منها شيئا مختارا.
فمن ذلك قوله:
جزى الله خيرا والجزاء بكفّه ... على خير ما يجزي الرجال بغيضا
فلو شاء إذ جئناه ضنّ فلم يلم ... وصادف منّا في البلاد عريضا
كذا وقعت الرواية منّا والصواب منئا (1)، أي بعدا، مأخوذ من نأيت إذا بعدت ومنه النأي). يقول كثرت محاسنه حتى كذّب ذامّه فاستغنى عن أن يكثرّ مادحه ثقة بأنّ هاجيه غير مصدّق، فاعتبر هذا الكلام فإنك تجده رأسا في بابه. ومن ذلك قوله:
وإني قد علقت بحبل قوم ... أعانهم على الحسب الثراء
إذا نزل الشتاء بجار قوم ... تجنّب جار بيتهم الشتاء
هم الاسون أمّ الرأس لمّا ... تواكلها الأطبّة والإساء
ثم قال يخاطب الزبرقان ورهطه:
ألم أك نائيا فدعوتموني ... فجاء بي المواعد والدعاء
فلما كنت جاركم أبيتم ... وشرّ مواطن الحسب الإباء
ولما كنت جارهم حبوني ... وفيكم كان لو شئتم حباء
فلما أن مدحت القوم قلتم ... هجوت وهل يحلّ لي الهجاء
ولم أشتم لكم حبا ولكن ... حدوت بحيث يستمع الحداء
ويروى أن الحطيئة واسمه جرول بن أوس ويكنى أبا مليكة: مرّ بحسان بن ثابت وهو ينشد (ش أدخله سيبويه رحمه الله على أن الجفنات من الجمع الكثير):
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى (2) ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
__________
(1) منئا: مكانا بعيدا.
(2) على البيت ماخذ. فاللمعان في الضحى شيء لا يعتد به، والأسياف جمع قلة وفي نجدة، تعني لم يبدأ القتال.(1/478)
فالتفت إليه، فقال: كيف ترى؟ فقال: ما أرى بأسا. فقال حسان: أنظروا إلى الأعرابي يقول: ما أرى بأسا، أبو من؟ قال: أبو مليكة. قال حسان: ما كنت عليّ أهون منك حيث اكتنيت بامرأة، ما اسمك؟ قال: الحطيئة.
استعطاف الحطيئة لعمر
قال: امض بسلام وكان الحطيئة في حبس عمر بن الخطاب رحمه الله باستدعاء الزبرقان عليه في هذه القصة، ولعمر يقول:
ماذا تقول لإفراخ بذي مرخ (1) ... حمر الحواصل (2) لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
ما اثروك بها إذا قدّموك لها ... لكن بك استأثروا إذ كانت الأثر
ويروى عن أبي زيد الأنصاري أنه قال: ويروى الإثر والواحدة أثرة وإثرة ومعناه الاستئثار، فرقّ له عمر فأخرجه، فيروى أن رحمه الله دعا بكرسيّ فجلس عليه، ودعا بالحطيئة فأجلسه بين يديه، ودعا بإشفى وشفرة يوهمه أنه على قطع لسانه حتى ضجّ من ذاك، فكان في ما قال له الحطيئة: يا أمير المؤمنين إني والله قد هجوت أبي وأمي وهجوت امرأتي، وهجوت نفسي فتبسّم عمر رحمه الله ثم قال: فما الذي قلت؟ قال: قلت لأبي وأمي والمخاطبة للأم:
ولقد رأيتك في النساء فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس
وقلت لها:
تنحّى فاجلسي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
أغر بالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدّثينا
__________
(1) ذي مرخ: واد بالحجاز.
(2) حمر الحواصل: كناية عن شدة الجوع والمسغبة.(1/479)
(قوله: كانونا قيل الكانون النمّام، وقيل الثقيل، وقيل الذي إذا دخل على القوم كنّوا حديثهم منه، وقيل هو المصطلي وقيل إنه هو كانون النار لأنه يؤذي ويحرق) وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أطوّف ثم اوي ... إلى بيت قعيدته لكاع (1)
فقال له عمر رحمه الله: فكيف هجوت نفسك؟ فقال: اطّلعت في بئر فرأيت وجهي فاستقبحته. فقلت:
أبت شفتاي اليوم إلّا تكلّما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبّح الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله
ونزل أعرابي من طيّىء يقال له المثنّى بن معروف بأبي جبر الفزاريّ فسمعه يوما يقول: والله لوددت أني أبيت الليلة خاليا بابنة عبد الملك بن مروان. فقال له المثنى أحلالا أم حراما، فقال: ما أبالي، فوثب عليه فضرب رأسه برحالة ثم انتقل وهو يقول:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... على النأي أني قد وترت أبا جبر
كسرت على اليافوخ منه رحالة ... لنصر أمير المؤمنين وما يدري
على غير شيء غير أني سمعته ... بنى بنساء المسلمين بلا مهر
الحجاج والخوارج
ويروى أن الحجاج جلس لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقام رجل منهم فقال: أصلح الله الأمير، أن لي عليك حقا قال:
وما حقّك؟ قال: سبّك عبد الرحمن يوما، فرددت عليه. قال: من يعلم ذاك؟
قال: أنشد الله رجلا سمع ذاك إلّا شهد به، فقام رجل من الأسراء فقال: قد كان ذاك أيها الأمير، قال: خلّوا عنه. ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما
__________
(1) اللكاع: الليئمة.(1/480)
أنكر؟ قال: لقديم بغضي إيّاك. قال: ويخلّى عنه لصدقه. وقال عمر بن الخطاب لرجل وهو أبو مريم السّلوليّ: والله لا أحبّك حتى تحبّ الأرض الدم. قال: أفتمنعني حقا؟ قال: لا. قال: فلا بأس إنما يأسف على الحبّ النساء (وهم أبو العباس رحمه الله في قوله: أبو مريم السلولي إنما هو أبو مريم الحنفيّ، وكان سبب بغضه إياه أنه قتل أخاه زيد بن الخطاب، وكان أبو مريم صاحب مسيلمة الكذاب، واسم أبي مريم إياس بن صبيح، ثقة كوفي، واسم أبي مريم السلولي مالك بن ربيعة من الصحابة. وروى عنه ابنه يزيد وغيره). وقال الحجاج لرجل من الخوارج: والله إني لأبغضكم. فقال له الخارجي: أدخل الله أشدنا بغضا لصاحبه الجنة. وأتي الحجاج بامرأة من الخوارج فجعلت لا تنظر إليه، وكان يزيد بن أبي مسلم يرى رأي الخوارج ويكتم ذاك، فأقبل على المرأة فقال: أنظري إلى الأمير. فقالت: لا أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فكلمها الحجاج وهي كالساهية. فقال لها يزيد: (1)
إسمعي ويلك من الأمير. فقالت: بل الويل لك أيها الكافر الردّيّ، والردّيّ عند الخوارج الذي له عقدهم ويظهر خلافه رغبة في الدنيا. وكان صالح بن عبد الرحمن كاتب الحجاج وصاحب دواوين العراق والذي قلب الدواوين إلى العربية ثم كان على خراج العراق أيام ولي يزيد بن المهلّب فأشجى يزيد وقد كان يرى رأي الخوارج فكايده يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج، فأشار على الحجاج أن يأمره بقتل جوّاب الضبّيّ وهو رأس من رؤوس الخوارج. وقال يزيد أن فعل برئت منه الخوارج وقتلته، وإن أمسك قتله الحجاج، فقتله.
وخبّرت أنه قال: والله ما قتلته رغبة في الحياة، ولكني خفت يسبي الحجاج بناتي. وكان يقول: إني حين أقتل جوّابا لحريص على الدنيا، فلما عذبه عمر بن هبيرة في خلافة يزيد بن عاتكة رمي به على قمامة (2) وهو لمابه، فسمع يحكّم عليها. وحكّم مالك بن المنذر بن الجارود وهو باخر رمق في سجن
__________
(1) يزيد بن أبي مسلم وقد كان مولى للحجاج.
(2) قمامة: كناسة وهو لما به في حال يرجع فيها إلى ربه أي حالة الموت.(1/481)
هشام بن عبد الملك، ودخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك وكان دميما، فلما راه قال: قبح الله رجلا أجرّك رسنه (1) وأشركك في أمانته.
فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين، رأيتني والأمر لك، وهو عنّي مدبر ولو رأيتني والأمر عليّ مقبل لاستكبرت مني ما استصغرت، واستعظمت مني ما استحقرت. فقال: أترى الحجاج استقرّ في قعر الجحيم بعد؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تقل ذاك فإن الحجاج وطّأ لكم المنابر، وأذلّ لكم الجبابر وهو يجيىء يوم القيامة عن يمين أبيك وعن يسار أخيك، فحيث كانا كان.
__________
(1) أجرك رسنه: يريد قبح الله رجلا عفا عنك.(1/482)
40 - باب في تكذيب الأعراب
قال أبو العباس: وهذا باب من تكاذيب الأعراب، حدثني أبو عمر الجرميّ قال: سألت أبا عبيدة عن قول الراجز:
أهدّموا بيتك لا أبا لكا ... وأنا أمشي الد ألا حوالكا
فقلت لمن هذا الشعر؟ فقال: هذا يقوله الضبّ للحسل أيام كانت الأشياء تتكلم، الدإلا مشيّ كمشي الذئب. يقال: هو يدأل في مشيه إذا مشى كمشية الذئب، من ذلك قول امرىء القيس أقبّ (1) حثيث الركض والدألان.
ومن قال في بيت ابن عتمة الضبي:
(حقيبة رحلها بدن وسرج) ... تعارضه مربّبة دؤول
فإنما أراد هذا. ومن قال ذؤول فإنما أراد السرعة، يقال مر يذأل إذا مرّ يسرع. وقوله حوالكا، يقال: هو يطوف حواله وحوله وحواليه. ومن قال حواليه بالكسر فقد أخطأ، وفي القران نودي أن: {بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ} (2)، ومن حولها وحواليه تثنيه حوال كما تقول حنانيه الواحد حنان. قال الشاعر:
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف
والحنان الرحمة. قال الله عز وجل: {وَحَنََاناً مِنْ لَدُنََّا} (3). وقال
__________
(1) الأقب: الضامر، حثيث الركض.
(2) سورة النمل: الاية 8.
(3) سورة مريم: الاية 13.(1/483)
الشاعر (وهو الحطيئة) لعمر بن الخطاب رحمه الله:
تحنّن عليّ هداك المليك ... فإنّ لكلّ مقام مقالا
وقال طرفة:
أيا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك (1) بعض الشرّ أهون من بعض
وحدثني غير واحد من أصحابنا قال: قيل لرؤبة ما قولك؟
لو أنّني عمّرت سنّ الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتلّ كمثل الوحل
ما زمن الفطحل؟ قال: أيام كانت السلام رطابا. قوله: سن الحسل مثل تضربه العرب في طول العمر (ذكر ابن جنّي أن الحسل يعيش ثلثمائة سنة).
وأنشدني رجل من بني العنبر إعرابيّ فصيح لعبيد بن أيوب العنبري:
كأني وليلى لم يكن حلّ أهلنا ... بواد خصيب والسلام رطاب
وحدثني سليمان بن عبد الله عن أبي العميثل مولى العباس بن محمد، قال: تكاذب أعرابيان. فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي فإذا بظلمة شديدة فيمّمتها حتى وصلت إليها فإذا قطعه من الليل لم تنته، فما زلت أحمل بفرسي عليها حتى أنبهتها فانجابت. فقال الاخر: لقد رميت ظبئا مرة بسهم فعدل الظبي يمنة فعدل السهم خلفه فتياسر الظبي فتياسر السهم خلفه ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، فانحدر فانحدر عليه حتى أخذه. وتزعم الرواة أن عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب. قال لابني الجون الكنديّين يوم جبلة. أن لي عليكما حقا لرحلتي ووفادتي فدعوني أنذر قومي من موضعي هذا. فقالوا:
شأنك. فصرخ بقومه بعد أن قالا له شأنك، فأسمعهم على مسيرة ليلة.
__________
(1) حنانيك: عفوك.(1/484)
ليلى بنت عروة تنشد لأبيها
يروى عن حماد الراوية قال: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها:
أرأيت قول أبيك؟
بني عامر هل تعرفون إذا غدا ... أبو مكنف (1) قد شدّ عقد الدوابر
بجيش تضلّ البلق (2) في حجراته ... ترى الأكم منه سجّدا للحوافر
وجمع كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر (3)
ابت عادة للورد أن يكره الوغى ... وحاجة رمحي في نمير بن عامر
فقلت لأبي: أحضرت هذه الوقعة؟ فقال: نعم. قلت: فكم كانت خيلكم؟ قال: ثلاثة أفراس أحدها فرسه. قال فذكرت هذا لابن أبي الهذليّ، فحدثني عن أبيه قال: حضرت يوم جبلة. قال: وكان قد بلغ مائة سنة، وكان قد أدرك أيام الحجاج. قال: فكانت الخيل في الفريقين، مع ما كان مع ابني الجون ثلاثين فرسا. قال: فحدّثت بهذا الحديث الخثعميّ، وكان راوية أهل الكوفة، فحدثني أن خثعم قتلت رجلا من بني سليم بن منصور فقالت أخته ترثيه:
لعمري وما عمري عليّ بهيّن ... لنعم الفتى غادرتم ال خثعما
وكان إذا ما أورد الخيل بيشة (4) ... إلى جنب أشراج أناح فألجما
فأرسلها رهوا رعالا كأنها ... جراد زهته ريح نجد فأتهما
فقيل لها: كم كانت خيل أخيك؟ فقالت: اللهم، إني لا أعرف إلّا فرسه. قوله: قد شد عقد الدوابر، يريد عقد دوابر الدرع، فإن الفارس إذا
__________
(1) أبو مكنف كمحسن، كنية زيد الخيل الصحابي رضي الله عنه.
(2) البلق: جمع أبلق من البلق بالتحريك وهو سواد وبياض في الخيل.
(3) البوادر: جمع بادرة وهي ما يبدو من صوتك في الغضب من فعل أو قول.
(4) بيشة: بالكسر واد بطريق اليمامة.(1/485)
حمي فعل ذلك. وقوله: تضل البلق في حجراته، يقول: لكثرته لا يرى فيه الأبلق، والابلق مشهور المنظر لاختلاف لونيه. من ذلك قوله:
فلئن وقفت لتخطفنك رماحنا ... ولئن هربت ليعرفنّ الابلق
وحجراته نواحيه وقوله ترى الاكم منه سجدا للحوافر، يقول: لكثرة الجيش تطحن الأكم حتى تلصقها بالأرض. وقوله: كمثل الليل، يقل كثرة فيكاد يسدّ سواده الأفق، ولذلك يقال كتيبة خضراء، أي سوداء، وكانت كتيبة (1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هو فيها والمهاجرون والأنصار يقال لها الخضراء.
والمرتجس الذي يسمع صوته ولا يبين كلامه. يقال: ارتجس الرعد من هذا، والوغى الأصوات والتوالي اللواحق. يقال: تلاه يتلوه إذا اتّبعه، وتلوت القران، أي أتبعت بعضه بعضا، والمتلية التي معها أولادها. وقوله: فأرسلها رهوا، يقول ساكنة.
قال الله جل وعز: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} (2). ويقال: عيش راه يا فتى، أي ساكن، ورعال جمع رعيل وهو ما تقدم من الخيل. يقال: جاء في الرعيل الأول. قال عنترة:
إذا لا أبادر في المضيق فوارسي ... ولا أوكّل بالرعيل الأول
وقوله: زهته ريح نجد فأتهما يقول رفعته واستخفّته. قال ابن أبي ربيعة:
فلما تواقفنا وسلّمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا
ومعنى أتهم أتى تهامة.
__________
(1) الكتيبة الجماعة أو جماعة الخيل إذا بلغت في المائة إلى الألف وأراد بها كتيبة يوم الفتح وكان الجيش الذي توجه نحو مكة كتائب متفرقه ومعنى كونها خضراء أنه غلب عليها لبس الحديد شبه سواده بالخضرة والعرب تطلق الخضرة على السواد.
(2) سورة الدخان: الاية 24.(1/486)
غارة بكر بن وائل على بني تميم
وزعم أبو عبيدة عمن حدّثه أن بكر بن وائل أرادت الغارة على قبائل بني تميم. فقالوا: إن علم بنا السليك أنذرهم، فبعثوا فارسين على جوادين يريغان السليك (1)، فبصرا به فقصداه، وخرج يمحص (2) كأنه ظبي، فطارداه سحابة يومهما، فقالا: قاتله الله ما أشدّ متنيه، ولعل هذا كان من أول الليل، فلما امتد به الليل قتر، فابتعاه فإذا به قد عثر بأصل شجرة فندر منها كمكان تلك، وانكسرت قوسه، فارتزّت (3) قصدة منها في الأرض فنشبت. فقالا: قاتله الله والله لا نتبعه بعد هذا. فرجعا عنه وأتمّ إلى قومه (ش يروى أتم بألف وتمّ بغير ألف وتمّ بالنون ومعنى تم إلى قومه أي نفذ) فأنذرهم فلم يصدقوه لبعد الغاية، ففي ذلك يقول:
يكذّبني العمران عمرو بن جندب ... وعمرو بن كعب والمكذّب أكذب
ثكلتكما إن لم أكن قد رأيتها (4) ... كراديس يهديها إلى الحيّ موكب
كراديس فيها الحوافزان (5) وحوله ... فوارس همّام متى يدع يركب
فصدقه قوم فنجوا، وكذبه قوم فورد عليهم الجيش فاكتسحهم (6) وحدثني التوّزيّ قال: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب. فقال لي: إن العجم تكذب فتقول كان رجل ثلثه من نحاس وثلثه من رصاص وثلثه من ثلج فتعارضها العرب بهذا، وما أشبهه.
__________
(1) يريغان يطلبان يريدان.
(2) يمحص: يعدو.
(3) ارتزت أي تثبتت وبقيت مكانها.
(4) رأيتها: يريد خيل الأعداء والكراديس جمع كردوسة بالضم وهي قطعة عظيمة من الخيل والموكب بكسر الكاف اسم للجماعة ركبانا أو مشاة.
(5) الحوفزان: لقب الحرث بن شريك لأن قيس بن عاصم حفزه بالرمح.
(6) فاكتسحهم. تغلّب عليهم.(1/487)
أكاذيب المهلهل في شعره
ومن ذلك قول مهلهل بن ربيعة:
فلو نشر المقابر عن كليب ... فتخبر بالذنائب (1) أيّ زير
بيوم الشعثمين (2) لقرّ عينا ... وكيف لقاء من تحت القبور
كأنا غدوة وبني أبينا ... يحب عنيزة رحيا مدير
كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
(قال أبو الحسن: يقال فلان زير نساء، وطلب نساء وتبع نساء وخلب نساء إذا كان صاحب نساء، وذلك أن مهلهلا كان صاحب نساء، فكان كليب يقول: إن مهلهلا زير نساء ولا يدرك بثأر، فلما أدرك مهلهل بثأر كليب، قال:
أيّ زير فرفع أيا بالابتداء، والخبر محذوف، فكأنه قال: أيّ زير أنا في هذا اليوم)؟
فخر أبي ربيع
قال أبو العباس: وحدثني عمرو بن بحر قال: أتيت الربيع الغنويّ وكان من أفصح الناس وأبلغهم ومعي رجل من بني هاشم فقلت: أأبو الربيع ههنا؟
فخرج إليّ وهو يقول خرج إليك رجل كريم، فلما رأى الهاشميّ استحيا من فخر بحضرته فقال: أكرم الناس رديفا وأشرفهم حليفا. فتحدثنا مليّا ثم نهض الهاشمي، فقلت لابي الربيع: يا أبا الربيع، من خير الخلق؟ فقال الناس والله. فقلت: من خير الناس؟ قال: العرب والله. قلت: فمن خير العرب؟ قال: مضر والله. قلت: فمن خير مضر؟ قال قيس والله. قلت:
فمن خير قيس؟ قال: يعصر والله. قلت: فمن خير يعصر؟ قال: غنيّ والله.
__________
(1) الذنائب: إسم موضع.
(2) يوم الشعثمين: لم يفسره العلماء والظاهر أنه موضع كانت به وقعة.(1/488)
قلت: فمن خير غني؟ قال: المخاطب لك والله. قلت: أفأنت خير الناس؟
قال: نعم أي والله. قلت: أيسرّك أنّ تحتك بنت يزيد بن المهلّب؟ قال: لا والله. قلت: ولك ألف دينار. قال: لا والله. قلت: فألفا دينار. قال: لا والله. قلت: ولك الجنة، فأطرق ثم قال: على ألاتلد مني وأنشد:
تأبى لأعصر أعراق مهذّبة ... من أن تناسب قوما غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتما لا مردّ له ... فاذكر حذيف فإني غير أبّاء
قوله: أكرم الناس رديفا، فإن أبا مرثد الغنويّ كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وأشرفهم حليفا، كان أبو مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب. وقوله:
فاذكر حذيف أراد حذيفة بن بدر الفزاريّ. وإنما ذكره من بين الأشراف لأنه أقربهم إليه نسبا، وذاك أن يعصر بن سعد بن قيس وهؤلاء بنو ريث بن غطفان بن سعد بن قيس. وقد قال عيينة بن حصن يهجو ولده يعصر وهم غنيّ وباهلة والطفاوة:
أباهل ما أدري أمن لؤم منصبي ... أحبّكم أم بي جنون وأولق (1)
أسيّد أخوالي ويعصر (2) إخوتي ... فمن ذا الذي مني مع اللؤم أحمق
فقال الباهلي يجيبه:
وكيف تحبّ الدهر قوما هم الأولى ... نواصيكم في سالف الدهر حلّقوا
ألست فزاريّا عليك غضاضة (3) ... وإن كنت كنديّا فإنك ملصق
وتحدّث الرواة بأن الحجّاج رأى محمد بن عبد الله بن نمير الثقفيّ وكان ينسب بزينب بنت يوسف، فارتاع من نظر الحجّاج، فدعا به فلما عرفه قال مبتدئا:
__________
(1) الأولق: الجنون.
(2) يعصر كينصر أو أعصره قبيلة منها باهلة.
(3) عليك غضاضة: أي ذل ونقص.(1/489)
هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوّفت كلّ مكان
ولو كنت بالعنقاء أو بيسومها (1) ... لخلتك إلّا أن تصدّ تراني
ثم قال: والله إن قلت إلّا خيرا، إنما قلت:
يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنح الليل معتجرات
قال: أجل، ولكن أخبرني عن قولك:
ولما رأت ركب النميريّ أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات
في كم كنت؟ قال: والله إن كنت إلّا على حمار هزيل ومعي رفيقي على أتان مثله. ومن ذلك ما يحكمون في خبر لقمان بن عاد فإنهم يصفون أن جارية له سئلت عما بقي من بصره لدخوله في السنّ فقالت: والله لقد ضعف بصره ولقد بقيت منه بقيّة، أنه ليفصل بين أثر الأنثى والذكر من الذرّ إذا دبّ على الصفا، في أشياء تشاكل هذا من الكذب.
حديث ابن حطان للفرزدق
حدّثت أن امرأة عمران بن حطّان السّدوسيّ قالت له: أما حلفت أنك لا تكذب في شعر؟ فقال لها: إو كان ذاك؟ قالت: نعم، قلت:
فكذاك مجزأة بن ثو ... ركان أشجع من أسامه
أيكون رجل أشجع من أسد؟ فقال لها: ما رأيت أسدا، فتح مدينة قطّ، ومجزأة بن ثور قد فتح مدينة. (مجزأة بن ثور جعل له عمر رحمه الله رئاسة بكر، فلما أسنّ فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه ذاك مع ابنه شقيق بن مجزأة، وقتل رحمه الله على شستر هو والبراء بن مالك، وكانا من أبطال المسلمين). ومر عمران بن حطان بالفرزدق وهو ينشد فوقف عليه فقال:
أيها المادح العباد ليعطى ... إنّ لله ما بأيدي العباد
__________
(1) يسوم: إسم جبل.(1/490)
فاسأل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المقسّم العوّاد
لا تقل للجواد ما ليس فيه ... وتسمّ البخيل باسم الجواد
وأنشدني الحسن بن رجاء لرجل من المحدثين لم يسمّه (وهو بكر بن النطّاح في أبي دلف):
أبا دلف يا أكذب الناس كلّهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
وأنشدني اخر لرجل من المحدثين (أيضا قال أبو الحسن هو بكر بن النطاح):
إني امتدحتك كاذبا فأثبتني ... لما امتدحتك ما يثاب الكاذب
كذب عمرو بن معدي كرب
قال الأصمعي: قلت لأعرابي كنت أعرفه بالكذب: أصدقت قطّ؟ قال:
لولا أني أخاف أن أصدق في هذا لقلت لك. وتحدثوا من غير وجه أن عمرو بن معدي كرب كان معروفا بالكذب. وقيل لخلف الأحمر، وكان شديد التعصب لليمن: أكان عمرو بن معدي كرب يكذب؟ فقال: كان يكذب في المقال، ويصدق في الفعال. وذكروا من غير وجه أن أهل الكوفة من الأشراف كانوا يظهرون بالكناسة (1)، فيتحدثون على دوابهم إلى أن يطردهم حرّ الشمس، فوقف عمرو بن معدي كرب وخالد بن الصقعب النهديّ (2)، فأقبل عمرو يحدّثه، فقال: أغرنا مرة على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه فطعنته فأزريته، ثم ملت عليه الصمصامة فأخذت رأسه. فقال له خالد: حلّا أبا ثور إن قتيلك هو المحدّث. فقال: يا هذا إذا حدّثت فاستمع، فإنما نتحدث بمثل ما تسمع لترهب به هذه المعدّيّة (3).
__________
(1) الكناسة: موضع في الكوفة.
(2) النهدي: نسبة إلى بني نهد، قبيلة باليمن.
(3) المعدية: أبناء معد بن عدنان وكان بينهم وبين اليمنيين أبناء قحطان عداوات ومنافسات يطول الكلام عليها.(1/491)
قوله: مسترعفين يقول مقدّمين له. يقال: جاء فلان يرعف الجيش إذا جاء متقدما لهم. ويقال في الرعاف: رعف يرعف. لا يقال غير رعف، ويجوز يرعف من أجل العين وليس من الوجه، وسنذكر هذا الباب بعد انقضاء هذه الأخبار إن شاء الله. وقوله: حلّا أبا ثور، يقول: استثن. يقال: حلف ولم يتحلّل أي لم يستثن. وخبّرت أن قاصّا كان يكثر الحديث عن هرم بن حيّان (الهرم الضبّ، يقال إنه في الشتاء يأكل حسوله ولا يخرج. قال الشاعر: كما أكبّ على ذي بطنه الهرم. قيل إن هرم بن حيان حملته أمه أربع سنين، ولذلك سمي هرما) فاتفق هرم معه في مسجد وهو يقول: حدّثنا هرم بن حيّان مرة بعد مرة بأشياء لا يعرفها هرم، فقال له: يا هذا أتعرفني، أنا هرم بن حيان ما حدثتك من هذا بشيء قط؟ فقال له القاصّ: وهذا أيضا من عجائبك، إنه ليصلّي معنا في مسجدنا خمسة عشر رجلا إسم كلّ رجل منهم هرم بن حيّان، كيف توهمت أنه ليس في الدنيا هرم بن حيّان غيرك.
من كذب أحدهم على رسول الله
وكان بالرقّة (1) قاصّ يكنى أبا عقيل يكثر التحدث عن بني إسرائيل فيظنّ به الكذب، فقال له يوما الحجّاج بن حنتمه: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل؟
قال: حنتمة. فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكتب وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص. وقال القينيّ: أنا أصدق في صغير ما يضرّني ليجوز كذبي في كبير ما ينفعني. وأنشد المازني للأعشى، وليس مما روت الرواة متصلا بقصيدة:
فصدقتهم وكذبتهم ... والمرء ينفعه كذابه
ويروى أن رجلا وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فكذبه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأسألك فتكذبني لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشرّدت بك من
__________
(1) الرقة: بلد في الفرات.(1/492)
وافد قوم. معنى ومقك أحبّك. يقال: ومقته أمقه، وهو على فعلت أفعل، ونظيره من هذا المعتل ورم يرم وولي يلي. وكذلك: وسع يسع، كانت السين مكسورة وإنما فتحت للعين، ولو كان أصلها الفتح لظهرت الواو نحو: وجل يوجل ووحل يوحل، والمصدر مقة كقولك: وعد يعد عدة، ووجد يجد جدة.
ويروى أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم قال: يا رسول الله إنما أؤخذ من الذنوب بما ظهر وأنا أستسرّ بخلال أربع: الزنا والسرق وشرب الخمر والكذب، فأيّهنّ أحببت تركت لك سرّا. فقال رسول الله: دع الكذب. فلما ولّى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم همّ بالزنا فقال: يسألني رسول الله فإن جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت. فلم يزن ثم همّ بالسرق، ثم همّ بشرب الخمر ففكّر في مثل ذلك، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد تركتهنّ جمع. وشهد أعرابيّ عند معاوية بشهادة فقال له معاوية:
كذبت. فقال له الأعرابيّ: الكاذب متزمّل (1) في ثيابك. فقال معاوية: هذا جزاء من عجّل. وقال معاوية يوما للأحنف وحدّثه حديثا: أتكذب؟ فقال:
والله ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين أهله.
عبد الله بن الزبير يدعي الشعر
ودخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية فقال: إسمع أبياتا قلتهنّ.
وكان واجدا عليه، فقال معاوية: هات. فأنشده:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
فقال له معاوية: لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر. ثم لم ينشب معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزنيّ فقال له: أقلت بعدنا شيئا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فأنشده:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أيّنا تغدو المنيّة أوّل
__________
(1) المتزمل: الملتف(1/493)
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير فقال له معاوية: يا أبا بكر أما ذكرت انفا أن هذا الشعر لك؟ قال: أنا أصلحت معانيه وهو ألفّ (1) الشعر وهو بعد ظئري (2) فما قال من شيء فهو لي. وكان عبد الله بن الزبير مسترضعا في مزينة. وحدّثت أن عمر بن عبد العزيز كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزنيّ وعديّ بن أرطاة الفزاريّ أمير البصرة وقاضيها يومئذ، فصار إليه عديّ فقرّب أن يمزّنه (3) عند الخليفة فقال: يا أبا وائلة إن لنا حقا ورحما. فقال إياس:
أعلى الكذب تريدني! والله ما يسرّني أني كذبت كذبة يغفرها الله لي ولا يطّلع عليها إلّا هذا وأومأ إلى أبيه ولي ما طلعت عليه الشمس. (قال أبو الحسن التمزين المدح، ولم أسمع هذه اللفظة إلّا من أبي العباس، وهي عندي مشتقة من المازن وهو النمل، وبهذا سميت مازن كأنه أراد منه أن يكبّره، ويروى يكثّره. قال القتبيّ: المازن بيض النمل. قال الشيخ قوله: أن يمزّنه عند الخليفة أي كأنه يجعله سيّد مزينة لأنه كان مزنيّا، والصواب يمزّره.
قال الموصليّ:
وإني مع ذا الشيب حلو مزير. ولم يكن في القضاة، وإنما كان أميرا على البصرة إن مات عمروا كتب عمر إلى عدي: إجمع ناسا ممن قبلك وشاورهم في اياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة واستقض أحدهما فولّى عديّ إياسا).
ويروى أن أخا إياس صار إلى ابن هبيرة فقال: طرقني اللصوص فحاربتهم فهزمتهم وظفرت منهم بهذا المغول (4) فجعله ابن هبيرة تحت مصلّاه، ثم بعث إلى الصياقلة فأحضرهم فقال: أيعرف منكم الرجل عمله؟ قالوا: نعم.
فأخرج المغول فقال: من عمل أيّكم هذا؟ فقال قائل منهم: أنا عملت هذا واشتراه مني هذا أمس. (المغول سيف صغير).
__________
(1) وهو ألف الشعر من اللفف بالتحريك وهو ما يمنع الانسان من الفصاحة، يريد أنه لا يبين في شعره عما يريد ولا يفصح.
(2) وهو بعد ظئري: أي زوج مرضعتين.
(3) حزن فلان فلانا مدحه. وفضله عند ذي سلطان.
(4) المغول: كمنبر سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه.(1/494)
41 - باب في مضارع فعل (باب ما يجوز فيه يفعل في ما ماضيه فعل مفتوح العين).
اعلم أن كل فعل على فعل (1) فهو غير متعدّ إلى مفعول لأنه فعل الفاعل في نفسه وتأويله الانتقال، وذلك قولك: كرم عبد الله، وظرف عبد الله. وتأويل قولي، الانتقال، إنما هو انتقال من حال إلى حال، تقول: ما كان كريما ولقد كرم، وما كان شريفا ولقد شرف، فهذا تأويله فأما قولهم (2): كدت أكاد، فإنما كدت معترضة على أكاد. وما كان من فعل الصحيح فإنه يفعل نحو: شرب يشرب، وعلم وفرق ويكون متعديا وغير متعدّ تقول: حذرت زيدا، وعلمت عبد الله، ويكون فيه مثل: سمنت وبخلت غير متعد وكله على يفعل نحو:
يسمن ويبخل ويعلم ويطرب. فأما قولهم في الأربعة من الأفعال: يحسب وييئس وينعم وييبس فهي معترضة على يفعل تقول في جميعها: يحسب وينعم وييئس وييبس وما كان على فعل فبابه يفعل ويفعل نحو: قتل يقتل، وضرب ويضرب، وقعد يقعد، وجلس يجلس، فقد أنبأتك أنه يكون متعديا وغير متعدّ، فأما يأبى ويقلى فلهما علة تبيّن عند ما أذكره لك إن شاء الله. ولا يكون فعل يفعل، إلّا أن يكون يعرض له حرف من حروف الحلق الستة في موضع العين أو موضع اللام، فإن كان ذلك الحرف عينا فتح نفسه، وإن كان لاما فتح العين. وحروف الحلق الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء.
__________
(1) على فعل بضم العين وأكثر ما يكون في الغرائز فإن ضمن معنى المتعدي كسر نحو سفه زيد راية والأصل سفه رأي زيد وشذر جنبك الدار وكفلت بالمال وسخو فلان بحالة في رواية من ضم الثلاثة.
(2) فأما قولهم كدت أكاد هذا كلام ليس له صلة بما قبله ولا أدري أي شيء يريد به.(1/495)
وذلك قولهم: قرأ يقرأ قرأ يا فتى وقراءة، وسأل يسأل، وجبه يجبه، وذهب يذهب. وتقول: صنع يضنع، وظعن يظعن، وضبح يضبح وكذلك: فرغ يفرغ وسلخ يسلخ. وقد يجو أن يجيىء الحرف على أصله وفيه أحد الستة، يجوز:
زأر يزئر، وفرغ يفرغ، وصبغ يصبغ. إلا أن الفتح لا يكون في ما ماضيه فعل إلّا وأحد هذه الحروف فيه. وأما يأبى فله علة، وأما يقلى فليس يثبت.
وسيبويه يذهب في يأبى إلى أنه إنما انفتح من أجل أن الهمزة في موضع فإنه، والقول عندي على ما شرحت لك من أنه إذا فتح حدث فيه حرف من حروف الحلق، فإنما انفتح لأنه يصير الألف وهي من حروف الحلق ولكن لم نذكرها لأنها لا تكون أصلا إنما تكون زائدة أو بدلا، ولا تكون متحركة فإنما هي حرف ساكن، ولا يعتمد اللسان به على موضع فهذا الذي ذكرت لك من أن يسع ويطأ حدّها فعل يفعل في المعتل كحسب يحسب من الصحيح، ولكن فتحتهما العين والهمزة، كما تقول: ولغ الكلب يلغ، والأصل يلغ، فحرف الحلق فتحه:(1/496)
42 - باب في عيوب النطق حديث عبد الله بن العباس:
ويروى عن عليّ بن أبي طالب رحمه الله عليه، أنه افتقد عبد الله بن العباس رحمه الله فقال: ما بال أبي العباس لم يحضر؟ فقالوا: ولد له مولود.
فلما صلى عليّ رحمه الله قال: امضوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه فقال: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب، ما سميته؟ قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه. فأمر به فأخرج إليه، فأخذه وحنّكه ودعا له، ثم رده إليه وقال: خذه إليك أبا الاملاك، قد سمّيته عليا وكنّيته أبا الحسن. فلما قام معاوية قال لابن عباس: ليس لكم اسمه وكنيته قد كنيته أبا محمد. فجرت عليه. وكان عليّ سيدا شريفا بليغا، وكان له خمسمائة أصل زيتون يصلي في كل يوم إلى كل أصل ركعتين، فكان يدعى ذا الثفنات (1). وضرب بالسوط مرتين، كلتاهما ضربه الوليد، إحداهما في تزوّجه لبابة بنت عبد الله بن جعفر، وكانت عند عبد الملك فعضّ تفاحة ثم رمى بها إليها، وكان أبخر. فدعت بسكّين فقال:
ما تصنعين به. قالت: أميط عنها الأذى. فطلقها فتزوجها عليّ بن عبد الله، فضربه الوليد وقال: إنما تتزوّج بأمّهات الخلفاء لتضع منها لأن مروان بن الحكم تزوج أمّ خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منه. فقال عليّ بن عبد الله:
إنما أرادت الخروج من هذه البلدة وأنا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها مخرجا.
وأما ضربه إياه في المرة الثانية فإنا نرويه من غير وجه، ومن أتم ذلك ما
__________
(1) ذا الثفنات: هي مساجده التي يسجد عليها.(1/497)
حدّثنيه أبو عبد الله محمد بن شجاع البلخيّ (هو محمد بن شجاع الثلجيّ كذا صوابه) (1) في إسناد له متصل لست أحفظه، يقول في اخر ذلك الإسناد:
رأيت عليا مضروبا بالسوط يدار به على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير وصائح يصيح عليه: هذا عليّ بن عبد الله الكذاب. قال: فأتيته فقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب. قال: بلغهم قولي إن هذا الأمر سيكون في ولدي، والله ليكوننّ فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون العراض الوجوه الذين كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة. ومع هذا الحديث اخر في شبيه بإسناده أن عليّ بن عبد الله دخل على سليمان بن عبد الملك ومعه ابنا ابنه الخليفتان أبو العباس وأبو جعفر، وقال أبو العباس: وهذا غلط لما أذكره لك إنما ينبغي أن يكون دخل على هشام فأوسع له على سريره وسأله عن حاجته فقال: ثلاثون ألف درهم عليّ دين. فأمر بقضائها. قال له: وتستوصي بابنيّ هذين خيرا. ففعل، فشكره وقال: وصلتك رحم. فلما ولّى عليّ قال الخليفة لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اختلّ وأسنّ وخلط فصار يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده. فسمع ذلك عليّ فالتفت إليه فقال: والله ليكونن ذاك وليملكنّ هذان. قال أبو العباس: أما قولي إن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان فلأن محمد بن علي بن عبد الله كان يمنع من تزوّج الحارثية للحديث المروي. فلما قام عمر بن عبد العزيز جاءه محمد فقال له: إني أردت أن أتزوج بنت خالي من بني الحرث بن كعب أفتأذن لي؟ فقال عمر:
تزوّج رحمك الله من أحببت. فتزوجها فأولدها أبا العباس أمير المؤمنين، وعمر بعد سليمان فلا ينبغي أن يكون تهيأ له أن يدخل على خليفة حتى يترعرع (ش كذا وقع في الأمّ والرواية، والصحيح لهما أن يدخلا على خليفة حتى يترعرعا) فلا يتم مثل هذا إلّا في أيام هشام. وكان عبد الملك يكرم عليّا ويقدمه، فحدّثني التوّزيّ قال: قال علي بن عبد الله: سايرت يوما عبد الملك فما حاورنا إلّا يسيرا حتى لقيه الحجّاج قادما عليه، فلما راه ترجّل ومشى بين
__________
(1) محمد بن شجاع الثلجي: فقيه مبتدع نسب إلى بني ثلج وإلى جبل الثلج بدمشق.(1/498)
يديه، فخبّ عبد الملك فأسرع الحجاج، فزاد عبد الملك فهرول الحجّاج، فقلت لعبد الملك: أبك موجدة (1) على هذا؟ فقال: لا ولكنه رفع من نفسه فأحببت أن أغضّ (2) منه. وحدثني جعفر بن عيسى بن جعفر الهاشمي قال: حضر عليّ عبد الملك وقد أهدي له من خراسان جارية وفصّ وسيف فقال: يا أبا محمد إن حاضر الهدية شريك فيها فاختر من الثلاثة واحدا. فاختار الجارية، وكانت تسمّى سعدى وهي من سبي الصغد (3) من رهط عجيف بن عتبة، فأولدها سليمان وصالحا ابني عليّ وذكر جعفر بن عيسى أنه لما أولدها سليمان اجتنبت فراشه فمرض سليمان من جدريّ خرج عليه، فانصرف عليّ من مصلّاه فإذا بها على فراشه فقال: مرحبا بك يا أمّ سليمان. فوقع بها فأولدها صالحا، فاجتنبت بعد فسألها عن ذلك، فقالت: خفت أن يموت سليمان فينقطع النسب بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالان إذا ولدت صالحا فبالحرى (4) إن ذهب أحدهما أن يبقى الاخر، وليس مثلي اليوم من وطئه الرجال. وزعم جعفر أنه كانت فيها رتّة فالرتة تعذّر الكلام إذا أراده الرجل، فهي الان معروفة في ولد سليمان وولد صالح، وكان عليّ يقول: أكره أن أوصي إلى محمد، وكان سيّد ولده، خوفا من أن أشينه بالوصية. فأوصى إلى سليمان، فلما دفن عليّ جاء محمد إلى سعدى فقال: أخرجي إليّ وصية أبي. فقالت: إن أباك أجلّ من أن تخرج وصيّته ليلا، ولكنها تأتيك غدا فلما أصبح غدا بها عليه سليمان فقال: يا أبي ويا أخي هذه وصية أبيك. فقال محمد: جزاك الله من ابن وأخ خيرا، ما كنت لأثرب (5) على أبي بعد موته كما لم أثرّب عليه في
__________
(1) الموجدة: أتغضب يقال وجد عليه بجد ويجد في باب خرب ونصر وجدا وجده وموجدة إذا غضب.
(2) ان أغض منه: أذله وانتفضه من الغضاضة والغضة بالضم وهي الذلة والمنفعة.
(3) الصفد: بالضم موضع بسمرقند وموضع ببخارى.
(4) فالجري: جدير وخليف.
(5) ما كنت لأثرب على أبي: أي ما كنت لأعيبه وألومه يقال ثرب فلان على فلان تثريبا لأمه وعيره زينة.(1/499)
حياته. قال أبو العباس: التمتمة التردد في التاء، والفأفأة التردد في الفاء، والعقلة التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة تعذر الكلام عند إرادته، واللفف إدخال حرف في حرف، والرتّة كالرتج تمنّع أوّل الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل، والغمغمة أن تسمع الصوت ولا يتبن لك تقطيع الحروف، والطمطمة أن يكون الكلام مشبها بالكلام العجم، والكنة أن تعترض على الكلام اللغة الأعجمية. وسنفسر هذا بحججة حرفا حرفا، وما قيل فيه إن شاء الله. واللثغة أن يعدل بحرف إلى حرف، والغنّة أن يشرب الحرف صوت الخيشوم، والخنّة أشدّ منها، والترخيم حذف الكلام. يقال: رجل فافاء يا فتى تقديره فاعال ونظيره من الكلام ساباط (1) وخاتام. قال الراجز:
ياميّ ذات الجورب المنشقّ ... أخذت خاتامي بغير حق
(كذا ذكره أبو العباس بغير همز الألف الأولى، والصحيح أنه بالهمز على فعلال مثل: خضخاض وقمقام، فالذي حكى أبو العباس غلط، لأن سيبويه رحمه الله قال: ليس في الصفات فاعال. قال أبو الحسن: يقال خاتم على وزن دانق، وخاتم على وزن ضارب، وخيتام على وزن داّن، وخاتام على وزن ساباط). وقال ربيعة الرقّيّ في مدحه يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب وربيعة احتج به الأصمعيّ وذمّه يزيد بن أسيد السلميّ:
لشتّان (2) ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغرّ بن حاتم
فهمّ الفتى الأزديّ إتلاف ماله ... وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضّلت أهل المكارم
وقال اخر أيضا:
ليس بفافاء ولا تمتام ... ولا محثّ سقط الكلام
__________
(1) ساباط: سقيفة بين دارين تحتها طريق.
(2) تان: ما هما وما بينهما وما عمرو وأخوه وشتان بينهما بغيرها ومعناه بعد ما بينهما.(1/500)
وقال الشاعر (1):
وقد تعتريه عقلة في لسانه ... إذا هزّ نصل السيف غير قريب
وزعم عمرو بن بحر الجاحظ عن محمد بن الجهم قال: أقبلت على الفكر في أيام محاربة الزطّ (2)، فاعترتني حبسة في لساني، وهذا يكون لأن اللسان يحتاج إلى التمرين على القول حتى يخفّ له، كما تحتاج اليد إلى التمرين على العمل، والرجل إلى التمرين على المشي، وكما يعانيه موتّر القوس ورافع الحجر ليصلب ويشتدّ. قال الراجز:
كأنّ فيه لففا إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق
وقال ابن المقفّع: إذا كثر تقليب اللسان رقّت جوانبه، ولانت عذبته وقال العتابيّ: إذا حبس اللسان عن الاستعمال اشتدّت عليه مخارج الحروف، وأما الرتّة فإنها تكون غريزة.
قال الراجز: يا أيها المخلّط الأرثّ. ويقال: إنها تكثر في الأشراف، ولم توجد تختص واحدا دون واحد. وأما الغمغمة فقد تكون من الكلام وغيره، لأنه صوت لا يفهم تقطيع حروفه.
أحاديث معاوية في الفصاحة
وحدّثني من لا أحصي من أصحابنا عن الأصمعيّ عن شعبة عن قتادة قال: قال معاوية يوما: من أفصح الناس؟ فقام رجل من السماط فقال: قوم تباعدوا عن فراتيّة العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانيّة حمير. فقال له معاوية: من أولئك؟ فقال: قومي يا أمير المؤمنين فقال له معاوية: من أنت؟ قال: أنا رجل
__________
(1) قال الشاعر: يصف من يقول فيه هذا بالجبن والوهل حتى يحبس عن الكلام.
(2) الزط: بالضم جيل من السودان أو الهنود طول الأجسام مع نحافة.(1/501)
من جرم. قال الأصمعي: وجرم من فصحاء الناس. قوله: تيامنوا عن كشكشة تميم، فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شينا لقرب الشين من الكاف في المخرج، وأنها مهموسة مثلها، فأرادوا البيان في الوقف، لأن في الشين تفشّيا، فيقولون للمرأة: جعل الله لك البركة في دارش، ويحك مالش. والتي يدرجونها يدعونها كافا، والتي يقفون عليها يبدلونها شينا. وأما بكر فتختلف في الكسكسة، فقوم منهم يبدلون من الكاف شينا، كما يفعل التّيميّون في الشين، وهم أقلهم، وقوم يبيّنون حركة كاف المؤنث في الوقف بالسين، فيزيدونها بعدها، فيقولون: أعطيتكس. وأما الغمغمة فما ذكرت لك. وقال الهارب لامرأته يوم الخندمة (1)، وذاك أنها نظرت إليه يحدّ حربة في يوم فتح مكة، فقالت: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه. فقالت: والله إن أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء. فقال لها: إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، وأنشأ يقول (الهارب هو أبو عثمان الهدليّ، ويقال له الرعّاش. ويقال أن الرجز المذكور بعد هذا لحماس بن قيس، أخي بني بكر بن عبد مناة، أنشده له أبو إسحاق، والخندمة جبل دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وقيل: الخندمة مشي فيه إسراع، فأضيف إلى اليوم لما كثر فيه):
إن تقبلوا اليوم فما بي علّه ... هذا سلاح كامل وألّه
وذو غرارين سريع السلّه
الألّة الحربة، والغرار ههنا الحدّ، ويعني بذي غرارين السيف. فلما لقيهم خالد يوم الخندمة انهزم الرجل، فلامته امرأته، فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذا فرّ صفوان وفرّ عكرمه
ولحقتنا بالسيوف المسلمه ... يفلقن كلّ ساعد وجمجمه
ضربا ولا تسمع إلّا غمغمه ... لهم نهيت (2) حولنا وجمجمه
__________
(1) الخندمة: جبل معروف في مكة.
(2) النهيت: صوت يخرج من الصدر شبيه الزمير.(1/502)
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وأما الطمطمانيّة (1) ففيها يقول عنترة:
تبري (2) له حول النعام كأنها ... حزق يمانية لأعجم طمطم
وكان صهيب أبو يحيى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتضخ لكنة روميّة، ويذكرون أن نسبه في النمر بن قاسط صحيح، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
صهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة. وقال عمر لصهيب في قوله أنه من النمر بن قاسط: قد سمعت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن انتمى إلى غير نسبه. فقال صهيب: أنا من القوم، ولكن وقع عليّ سباء. وكان عبد بني الحسحاس يرتضخ لكنة حبشية، فلما أنشد عمر بن الخطّاب:
عميرة ودّع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال عمر: لو كنت قدّمت الإسلام على الشيب لأجزتك. فقال: ما سعرت، يريد ما شعرت. وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ (3) لكنة فارسية، وإنما أتته من قبل زوج أمه شيرويه الإسواري (4).
ويقال إن عليا عليه السلام عاد زيادا في منزل شيرويه، فقال عبيد الله يوما لرجل كلمّه، فظن به رأى الخوارج (الرجل الذي كلمه عبيد الله بن زياد، وظن أنه من الخوارج هانىء بن قبيصة): أهروريّ منذ اليوم، أحروريّ، وهذه الهاء تشترك في قلبها من الحاء أصناف من العجم. وكان زياد الأعجم، وهو رجل من عبد القيس، يرتضخ لكنة أعجمية يذهب فيها إلى مذهب قوم بأعيانهم من العجم، وأنشد المهلّب بن أبي صفرة في مدحه إياه:
__________
(1) الطمطانية: بالضم ما في لغة حمير من الكلمات المنكرة.
(2) تبرى: تعترض له.
(3) يرتضخ: لكنة رومية.
(4) الاسواري: الأسوار بالضم نسبة إلى الأسوار وهو قائد الفرس من العجم.(1/503)
فتى زاده السلتان في المدح رغبة ... إذا غيّر السلتان كلّ خليل
يريد السلطان. وذلك أن بين التاء والطاء نسبا، فلذلك قلبها تاء، لأن التاء من مخرج الطاء، فقال السلتان. وأما الغنّة فتستحسن من الجارية الحديثة السن، لأنها ما لم تفرط تميل إلى ضرب من النغمة. قال ابن الرقاع العامليّ يصف الظبية وولدها:
تزجي (1) أغنّ كأنّ إبره روقه (2) ... قلم أصاب من الدواة مدادها
__________
(1) تزجي: تسوق وتدفع برفق وهو فعل رباعي بالتحقيق والتشديد.
(2) الروق: بالفتح القرن وإبرته عرفه الأسود.(1/504)
43 - باب في أشعار العرب
قال محمد بن عبد الله بن نمير الثقفيّ:
لم ترعيني مثل سرب رأيته ... خرجن من التنعيم (1) معتجرات
مررن بفخ (2) ثم رحن عشيّة ... يلبّين للرحمن مؤتجرات
تضوّع مسكا بطن نعمان إن مشت ... به زينب في نسوة عطرات
وقامت ترا أي يوم جمع (3) فافتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
ولما رأت ركب النميريّ أعرضت ... وكنّ من ان يلقينه حذرات
دعت نسوة شمّ العرانين بدنا (4) ... نواعم لا شعثا ولا غبرات
(ويروى لا غفرات بالفاء أخت القاف من الغفر، وهو الشعر الذي ينبت في اللحيين. يقال: غفرت المرأة إذا نبت لها ذلك الشعر).
فأدنين لما قمن يحجبن دونها ... حجابا من القسّيّ (5) والحبرات
أحلّ الذي فوق السموات عرشه ... أوانس بالبطحاء معتمرات
__________
(1) التنعيم: موضع على ثلاثة أميال وأربعة من مكة أقرب أطراف الحل إلى البيت سمي به لأن على يمينه جبل نعيم وعلى يساره جبل ناعم والوادي الذي هو به إسمه نعمان بفتح النون.
(2) فخ: موضع بمكة دفن به عبد الله بن عمر.
(3) يوم جمع: هو يوم عرفة وأيام جمع هي أيام منى.
(4) بدنا: البدن جمع بادنة وهي الجسيمة الممتلئة الجسم.
(5) القسي: بفتح القاف نسبة إلى قس وهو موضع بين العريش والغرماء من أرض مصر تجلب منه يثاب من كنان مخلوط بجرير.(1/505)
يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنح الليل مختمرات
قوله مثل سرب رأيته، هو القطعة من النساء أو من الظباء أو من البقر أو من الطير، كما قال:
لم تر عيني مثل سرب رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف
فهذا يعني نساء (القطيع من السباع يقال له سرب، قال ابن جنيّ، وكذلك من الماشية كلها). ويقال: مرّت بنا سربة من الطير، في هذا المعنى.
قال ذو الرمّة:
سوى ما أصاب الذئب منه وسربة ... أطافت به من أمّهات الجوازل (1)
ويقال: فلان واسع السرب يعني بذلك الصدر. ويقال: خلّ لفلان سربه أي طريقه الذي يسرب فيه. ويقال للابل كذلك بالفتح: لأذعرنّ سربك.
ويقال: حذرات وحذرات، ويقظ ويقظ. وقال ابن أحمر:
هل ينسئن يومي إلى غيره ... أني حواليّ (2) وأني حذر
وقوله: وكن من ان يلقينه حذرات، الأصل من أن يلقينه، ولكن الهمزة إذا خففت وقبلها ساكن ليس من حروف اللين الزوائد فتخفيفها متصلة كانت أو منفصلة، أو تلقي حركتها على ما قبلها وتحذفها، تقول: من أبوك؟ فتفتح النوف وتحذف الهمزة، ومن اخوانك، ومن أمّ زيد؟ فتضم النون وتكسرها وتفتحها على ما ذكرت لك، وتقول: الذي يخرج الخب في السموات، وفلان له هية، وهذه مرة إذا خففت الهمزة في الخبء والهيئة والمرأة. وعلى هذا قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرََائِيلَ} (3)، لأنها كانت اسئل، فلما حرّكت السين بحركة الهمزة سقطت ألف الوصل لتحرّك ما بعدها، وإنما كان التخفيف في
__________
(1) الجوازل: أفراخ الحمام.
(2) الحوالي: شديد الاحتيال.
(3) سورة البقرة: الاية 211.(1/506)
هذا الموضع بحذف الهمزة، لأن الهمزة إذا خففت قربت من الساكن. والدليل على ذلك أنها لا تبتدأ إلّا محقّقة كما لا يبتدأ إلا بمتحرك، فلما التقى الساكن وحروف تجري مجرى الساكن حذفت المعتلّ منها كما تحذف لالتقاء الساكنين. وقوله: دعت نسوة شم العرانين، فالشمّاء السابغة الأنف، والمصدر الشمم.
وقال أحد الشعراء يمدح قثم بن العباس:
نجوت من حلّ ومن رحلة ... يا ناق إن قرّبتني من قثم
إنّك إن قرّبتنيه غدا ... عاش لنا اليسر ومات العدم
في باعه طول وفي وجهه ... نور وفي العرنين منه شمم
لم يدر ما لا وبلى قد درى ... فعافها واعتاض منهم نعم
(قال أبو الحسن: أنشدنيه أبي لسليمان بن قتّة وزادني:
أضمّ عن ذكر الخنا (1) سمعه ... وما عن الخير به من صمم)
والعرنين والمرسن والأنف واحد لما يحيط بالجميع. وللبدّن واحدها بادن، كقولك: شاهد وشهّد وضامر وضمّر، وهو العظيم البدن. يقال: بدن فلان إذا كثر لحمه، وبدّن إذا أسن. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد بدّنت فلا تسبقوني بالركوع والسجود. (من رواه بدنت بضم الدال فقد أخطأ، لأن بدن بمعنى ضخم، ولم يكن صفته عليه السلام أنه ضخم الجسم، ولكنه الرجل بين الرجلين. ومعنى بدّن بالتشديد أسنّ). والأشعث والشعثاء: الخاليان من الدهن. وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل:
من كان حين تمسّ الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته (2) ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا
__________
(1) الخنا: الفحش في القول.
(2) بشاشة: طلاقة الوجه.(1/507)
(قال أبو الحسن: وزادني أبي:
في بطن مظلمة غبراء مقفرة ... كيما يطيل بها في بطنها اللبثا (1)
تجهّزي بجهاز تبلغين (2) به ... يا نفس واقتصدي لم تخلقي عبثا)
من أشعار عمر بن أبي ربيعة
وقال عمر بن أبي ربيعة: ونظر إلى أم عمر بنت مروان بن الحكم، وكانت صارت إليه متنكّرة، فرأته وقضت من محادثته وطرا ثم انصرفت. فلما رجعت من منى عرفها، فعلمت ذلك فبعثت إليه: لا ترفع بي صوتا. وأهدت إليه ألف دينار، فاشترى بها عطرا وبزّا وأهداه لها، فأبت أن تقبله فقال: إذا والله أنهبه (3) فيكون أذيع له. قبلته. وفي ذلك يقول:
وكم من قتيل لا يباء به دم (4) ... ومن غلق رهنا إذا ضمّه منى
وكم مالىء عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
يجرّرن أذيال المروط (5) بأسوق ... خدال إذا ولّين أعجازها روى
أوانس يسلبن الحليم فؤاده ... فياطول ما حزن ويا حسن مجتلى (6)
فلم أر كالتجمير (7) منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى
وفيها أيضا يقول:
أيها الرائح المجدّ ابتكارا ... قد قضى من تهامة الأوطارا
__________
(1) اللبثا: المكوث.
(2) تجهزي بجهاز: جهاز المسافر والعروس.
(3) أنهبه: أحمل الناس على نهبه.
(4) لإيباء به دم: من البواء انطلق. إذا بقي في يد المرتهن، لا يقدر، راهنه على تخليصه يريد أن النساء أكثرت القتل في رجال لا يكافئهم دم لشرفهم وعزهم وكم من قلب أخن لا يقدر صاحبه على أخذه ورده.
(5) المروط: جمع مرط بالكسر هو كساء صوف.
(6) المجتلي: المنظر يقال إجتال إذا نظر إليه.
(7) لتجمير: أن تجمع المرأة شعرها في قفاها.(1/508)
ليت ذا الحجّ كان حتما علينا ... كلّ شهرين حجّة واعتمارا
قوله: وكم من قتيل لا يباء به دم، يقول: لا يقاد به قائله، وأصل هذا أنه يقال: أبأت فلانا بفلان فباء به إذا قتلته به، ولا يكاد يستعمل هذا إلّا والثاني كفء للأول.
للحرث بن عباد في مقتل ابنه
فمن ذلك قول مهلهل بن ربيعة حيث قتل بجير بن الحرث بن عباد، فقيل للحرث، ولم يكن دخل في حربهم: إن ابنك قتل. فقال: إن ابني لأعظم قتيل بركة إذا أصلح الله به بين ابني وائل. فقيل له. إنه لما قتل قال مهلهل: بؤبشسع (1) نعل كليب. فعند ذلك أدخل الحرث يده في الحرب وقال:
قرّبا مربط النعامة (2) مني ... لقحت حرب وائل عن حيال
لا بجير أغنى فتيلا (3) ولا ره ... ط كليب تزاجروا عن ضلال
لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحرّها اليوم صالي
وقالت ليلى الأخيليّة:
فإن تكن القتلى بواء فإنكم ... فتى ما قتلتم ال عوف بن عامر
وقال عمرو بن حييّ التغلبيّ:
ألا تنتهي عنّا ملوك وتتّقي ... محارمنا لا يبؤ الدم بالدم
ويقال: باء فلان بذنبه أي بخع به وأقرّ. قال الفرزدق لمعاوية:
فلو كان هذا الحكم في غير ملككم ... لبؤت به أو غصّ بالماء شاربه
__________
(1) الشسع: بالكسر قبال النعل.
(2) النعامة: فرس الحارث بن عباد.
(3) الفتيل: ما يكون في شق النواة أو ما فعلته بين أصابعك من الوسخ وما أغنى عنك فتيلا أي شيئا.(1/509)
ويقال: باء فلان بالشيء، من قول أو فعل، أي احتمله، فصار عليه.
وقال المفسرون في قول الله جلّ وعزّ: {أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} (1)، أي:
يجتمعا عليك، فتحملهما. وأما قوله: ومن غلق رهن فمن جرّ فهو من قولهم رهن غلق، فلما قدّم النعت اضطرارا أبدل منه المنعوت. ولو قال: ومن غلق رهنا، فنصب على الحال من المعرفة بقي الاسم المضمر في غلق. وقوله: إذا ضمه منى، فإنما سميت منى لما يمنى فيها من الدم. يقال في المنيّ وهو النطفة منى الرجل وأمنى. والقراءة: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تُمْنُونَ} (2) ويقال: مذى الرجل وأمذى وودى وأودى. فقولهم: ودى يعني البلّة (بكسر الباء رواية عاصم وبفتحها رواية ابن سراج) التي تكون في عقب البول كالمذي، وأما المذي فيعتري من الشهوة والحركة. وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: كلّ فحل مذّاء، ومن كلام العرب كل فحل يمذي وكل أنثى تقذي وهو أن يكون منها مثل المذي. ولمنى موضع اخر. يقال: منى الله لك خيرا، أي قدّر لك خيرا. ويقال: منى الله أن ألقى فلانا، أي قدّر، والمنيّة من ذا. يقال: لقي فلان منيته، أي ما قدّر له من الموت. فأما المنيئة بالهمزة فهي المدبغة وهي المكان الذي يدبغ فيه. وقوله: إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى: الجمرة، إنما سميت لاجتماع الحصى فيها، ومن ثم قيل: لا تجمّروا المسلمين فتفتنوهم وتفتنوا نساءهم، أي لا تجمعوهم في المغازي. والتجمير التجميع، وكذلك قيل في جمرات العرب وهم بنو نمير بن عامر بن صعصعة وبنو الحرث بن كعب بن علة بن جلد وبنو ضبّة بن أدّ بن طابخة وبنو عبس بن بغيض بن ريث لأنهم تجمّعوا في أنفسهم ولم يدخلوا معهم غيرهم. وأبو عبيدة لم يعدد فيهم عبسا في كتاب الديباج، ولكنه قال:
فطفئت جمرتان وهما بنو ضبّة لأنها صارت إلى الرباب فحالفت، وبنو الحرث لأنها صارت إلى مذحج، وبقيت بنو نمير إلى الساعة لأنها لم تحالف.
__________
(1) سورة المائدة الاية 29.
(2) سورة الواقعة: الاية 59.(1/510)
جواب النميري لجرير
وقال النميريّ يجيب جريرا:
نمير جمرة العرب التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا
وإني إذا أسبّ بها كليبا ... فتحت عليهم للخسف بابا
وقال في هذا الشعر:
ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولم نسمع لشاعرها جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليب ... وكيف يشاتم الناس الكلابا
من أشعار عمر بن أبي ربيعة
وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
ليت شعري هل أقولن لركب ... بفلاة هم لديها هجوع (1)
طالما عرّستم (2) فاستقلوا ... حان من نجم الثريّا طلوع
إن همّي قد نفى النوم عني ... وحديث النفس شيء ولوع
قال لي فيها عتيق مقالا ... فجرت مما يقول الدموع
قال لي ودّع سليمى ودعها ... فأجاب القلب لا أستطيع
لا تلمني في اشتياقي إليها ... وابك لي مما تجنّ الضلوع
قوله: حان من نجم الثريا طلوع كناية، وإنما يريد الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحرث بن أميّة الأصغر وهم العبلات (3)، وكانت الثريا وأختها عائشة أعتقتا الغريض المغني واسمه عبد الملك ويكنى أبا يزيد. ويقول اسحق ابن إبراهيم الموصلي: إنما سمّي الغريض بالطلع لأن الطلع يقال له الإغريض.
__________
(1) الهجوع: النوم ليلا.
(2) عرستم: نزلتم اخر الليل للإستراحة.
(3) العبلات: بالتحريك أمهم عبلة بفتح العين وهي إمرأة من تميم والنسبة إليهم.(1/511)
وليس هو عندي كما قال: إنما سمي الغريض لطراءته. يقال لحم غريض.
وكانت الثريا موصوفة بالجمال، وتزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فنقلها إلى مصر، فقال عمر يضرب لهما المثل بالكوكبين:
أيها المنكح الثريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شاميّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يماني
وقوله: قال لي فيها عتيق مقالا، يزعم الرواة أن كل شيء ذكر فيه عتيقا أو بكرا، فإنما يعني ابن أبي عتيق (ابن أبي عتيق هو عبد الله بن أبي عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بن أبي قحافة، وأبو عتيق اسمه محمد وهو صحابي وأبوه عبد الرحمن صحابي وجده أبو بكر صحابي، وجد أبيه أبو قحافة صحابي، ولم يكن أحد من الصحابة كذلك غيرهم، وعبد الله بن أبي عتيق غلبت عليه الدعابة وشهر بها) وكان ابن أبي عتيق من نسّاك قريش وظرفائهم بل كان قد بذّهم ظرفا، وله أخبار كثيرة سيمر بعضها في الكتاب إن شاء الله، فمن طريف أخباره أنه سمع وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة:
فما نلت منها محرما (1) غير أننا ... كلانا من الثوب المطرّف لابس
فقال: أبنا يلعب ابن أبي ربيعة، فأيّ محرم بقي؟ فركب بغلته متوجها إلى مكة، فلما دخل أنصاب (2) الحرم قيل له: أحرم. قال: إن ذا الحاجة لا يحرم، فلقي ابن أبي ربيعة فقال: أما زعمت أنك لم تركب حراما قط. قال: بلى.
قال: فما قولك؟ كلانا من الثوب المطرف لابس. فقال له: إذا أخبرك
خرجت بعلّة المسجد فصرنا إلى بعض الشعاب، فأخذتنا السماء فأمرت بمطرفي (3)
فسترنا الغلمان به لئلا يروا بها بلّة، فيقولوا: هلا استترت بسقائف المسجد؟
__________
(1) المحرم: بفتح الميم وتخفيف الراء المرحم بالضم والتشديد.
(2) أنصاب الحرم: أعلام الحرم.
(3) المطرق: كمكرم ومنبر مثل المطرف بالتشديد تقول المرفق الثوب أطرافا مثل طرفته فهو مطرف، وتكسر الميم تشبيها بالالة وربما جعل إسما برأسه غير جاز على فعله وهو ثوب من خزله أعلام.(1/512)
فقال له ابن أبي عتيق يا عاهر، هذا البيت يحتاج إلى حاضنه. وهو الذي سمع قول عمر بن أبي ربيعة.
من رسولي إلى الثريّا بأني ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
فلبس ثيابه وركب بغلته وأتى باب الثريا فاستأذن عليها، فقالت: والله ما كنت لنا زوّارا. فقال: أجل! ولكني جئت برسالة يقول لك ابن عمك عمر بن أبي ربيعة، ضقت ذرعا بهجرك والكتاب، فلامه عمر، فقال له ابن أبي عتيق:
إنما رأيتك متلدّدا تلتمس رسولا فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكر، ومن طريف أخباره، أن عائشة بنت طلحة عتبت على مصعب بن الزبير فهجرته، فقال مصعب: هذه عشرة الاف درهم لمن احتال لي أن تكلمني، فقال له ابن أبي عتيق: عدّل المال، ثم صار إلى عائشة فجعل يستعتبها لمصعب.
فقالت: والله ما عزمي أن أكلمه أبدا، فلما رأى جدّها قال لها: يا بنت عمّ إنه قد ضمن لي أن كلّمته عشرة الاف درهم، فكلميه حتى اخذها ثم عودي إلى ما عوّدك الله.
من طرائف «أبي عتيق»
ومن أخباره أن مروان بن الحكم قال يوما: إني لمشغوف (1) ببغلة الحسن بن علي رحمهما الله. فقال له ابن أبي عتيق إن دفعتها إليك، أتقضي لي ثلاثين حاجة قال: نعم. قال: إذا اجتمع الناس عندك العشيّة فإني اخذ في ماثر قريش ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك. فلما أخذ الناس مجالسهم أخذ في ماثر قريش. فقال له مروان: ألا تذكر أوّلية أبي محمد وله في هذا ما ليس لأحد.
فقال: إنما كنا في ذكر الأشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء، لقدّمنا ما لأبي محمد، فلما خرج الحسن ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن، وتبسّم: ألك حاجة؟ فقال: ذكرت البغلة. فنزل الحسن ودفعها إليه. ومن طريف أخباره، أن عثمان بن حيان المّريّ لما دخل المدينة واليا عليها، اجتمع الاشراف عليه من
__________
(1) مشغوف: العاشق المحب(1/513)
قريش والانصار فقالوا له: إنك لا تعمل عملا أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء ففعل، وأجّلهم ثلاثا. فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة فحطّ رحله بباب سلامة الزرقاء وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. فقالت: أو ما تدري ما حدث، وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه. فقالت:
إنا نخاف ألاتغني شيئا وننكظ (1) (تعني تنالنا شدّة). فقال: إنه لا بأس عليك.
ثم مضى إلى عثمان فاستأذن عليه، فأخبره أن أحذّ ما أقدمه عليه حبّ التسليم عليه، وقال له: إن من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. قال: إن أهلك أشاروا عليّ بذلك. قال: فإنك وفّقت ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير ألاتحول بينها وبين مجاورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذن أدعها لك. قال: إذن لا يدعها الناس ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كانت ممن يترك تركتّها. قال فادع بها. قال:
فأمرها ابن أبي عتيق فقشفت وأخذت سبحة في يدها وصارت إليه، وحدثته عن ماثر ابائه ففكه (2) لها. فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للامير، ففعلت فأعجب بذاك. فقال لها: فاحدي للأمير فحرّكه حداؤها. ثم قال لها: غيّري للأمير، فجعل يعجب بذلك عثمان، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها، فقال: قل لها فلتقل فأمرها، فغنّت:
سددن خصاص (3) الخيم لما دخلنه ... بكلّ لبان واضح وجبين
فنزل عثمان بن حيّان عن سريره حتى جلس بين يديها ثم قال: والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال له ابن أبي عتيق: إذا، يقول الناس أذن لسلامة في المقام ومنع غيرها. فقال له عثمان: قد أذنت لهم جميعا.
__________
(1) وننكظ: من النكظ بالتحريك وهو الجهد والشدة.
(2) قلة لها: أي طابت نفسه بها وارتاح إليها.
(3) خصاص بالفتح: كل خلل وخرق.(1/514)
من أشعار ابن نمير الثقفي
وقال ابن نمير الثقفيّ:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزيّ الجميل من الاثاث
ظعائن أسلكت نقب (1) المنقّى ... تحث إذا ونت أي احتثاث
كأنّ على الظعائن يوم بانوا ... نعاجا ترتعي بقل البراث (2)
يهيّجني الحمام إذا تغنّى ... كما سجع النوائح بالمراثي
قوله: الظعائن واحدتها ظعينة، وإنما قيل لها ظعينة، وهم يريدون مظعونا بها، كقولك قتيل في معنى مقتول، ثم استعمل هذا وكثر حتى قيل للمرأة المقيمة ظعينة. وقوله: بذي الزيّ الجميل من الاثاث، هي الرواية الصحيحة، وقد قيل بذي الريّ الجميل واستهواهم إليه قول الله جل ثناؤه:
{هُمْ أَحْسَنُ أَثََاثاً وَرِءْياً} (3)، فالأثاث متاع البيت، والريّ ما ظهر من الزينة.
وإنما أخذ من قولك: رأيت، فالريّ غير الأثاث والزيّ من الأثاث، فمن ههنا غلطوا. وقوله: أسلكت نقب المنقى، فالمنقى موضع بعينه، والنقب الطريق في الجبل، والخلّ الطريق في الرمل، فإن اتسع الطريق في الجبل وعلا، فهو ثنيّة. قال ابن الأيهم التغلبيّ:
وتراهنّ شزّبا (4) كالسعالي ... يتطلّعن من ثنايا النقاب
وقوله: نعاجا ترتعي بقل البراث، فالنعجة عند العرب البقرة الوحشية، وحكم البقرة عندهم حكم الضائنة، وحكم الظبية عندهم حكم الماعزة، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة، وبالشاة.
__________
(1) النقب: بالفتح الطريق في الجبل ونحوه.
(2) البراث: جمع برث وهو أسهل الأرض وأحسنها.
(3) سورة مريم: الاية 74.
(4) الشزب: الضامرات من النوق.(1/515)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} (1) وقال الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبّة قلبها وطحالها
يريد المرأة. وأما البراث فهي الأماكن السهلة من الرمل، واحدها برث مفتوح موضع الفاء من الفعل وتقديرها كلب وكلاب. والسجع من الكلام أن يأتلف أواخره على نسق كما تأتلف القوافي، وهو في البهائم موالاة الصوت.
قال ابن الدمينة:
أإن سجعت ورقاء (2) في رونق الضحى ... على فنن غضّ النبات من الرند
(الرند صغار الاس).
من أشعار عمر بن أبي ربيعة
وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي ... أتحبّ القتول أخت الرباب
قلت وجدي بها كوجدك بالما ... ء إذا ما منعت برد الشراب
من رسولي إلى الثريّا بأني ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
سلبني مجاجة (3) المسك عقلي ... فسلوها بما تحلّ اغتصابي
أزهقت أمّ نوفل إذ دعتها ... مهجتي ما لقاتلي من متاب
حين قالت لها أجيبي فقالت ... من دعاني قالت أبو الخطّاب
فاستجابت عند الدعاء كما ل ... بّى رجال يرجون حسن الثواب
أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحيّر منها ... في أديم الخدّين ماء الشباب (4)
__________
(1) سورة ص: الاية 23.
(2) الورقاء: الحمامة والجمع وراقى كصحارى وصحار ورونق الضحي صفاؤه وحسنه.
(3) المجاجة: الريق ترميه من فيك شبهه بالمسك لأنه ريق من يجب.
(4) ماء الشباب: رونقه وبهجته.(1/516)
ثم قالوا تحبّها قلت بهرا ... عدد النجم والحصى والتراب
دمية عند (1) راهب ذي اجتهاد ... صوّروها في جانب المحراب (2)
قوله: قلت وجدي بها كوجدك بالماء، معنى صحيح وقد اعتوره الشعراء وكلهم أجاد فيه. وقوله: إذا ما منعت برد الشراب، يريد عند الحاجة، وبذلك صحّ المعنى. ويروى عن علي بن أبي طالب رحمه الله أن سائلا سأله، فقال: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وابائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ. وقال اخر وأحسبه قيس بن ذريح:
حلفت لها بالمشعرين وزمزم ... وذو العرش فوق المقسمين رقيب
(قال أبو الحسن: ويروى والله فوق المقسمين وهو أحب إليّ):
لئن كان برد الماء حرّان صاديا ... إليّ حبيبا إنها لحبيب
وقال القطاميّ:
يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتّقين (3) ولا مكنونه بادي
فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصادي
والقول فيه كثير. وقوله: ضقت ذرعا بهجرها والكتاب. قوله: والكتاب قسم. وقوله: أرهقت أمّ نوفل إذ دعتها مهجتي تأويله أبطلت وأذهبت. قال الله جل وعز: {فَيَدْمَغُهُ، فَإِذََا هُوَ زََاهِقٌ} (4) وللزاهق موضع اخر وهو السمين المفرط. قال زهير:
القائد الخيل منكوبا دوابرها (5) ... منها الشنون ومنها الزاهق الزهم
__________
(1) دمية هي دمية وهي الصورة المصورة يتأنق في صنعها ويبالغ في تحسينها.
(2) المرحاب: الموضع الذي يجلس فيه للعبادة.
(3) يتقين: أي يجدرن.
(4) سورة الأنبياء: الاية 18.
(5) الدوابر جمع دابر وهو ما حاذى مؤخر الرسغ من الحافر.(1/517)
وقوله: ما لقاتلي من متاب، أي من توبة، والمصدر إذا كان بزيادة الميم من فعل يفعل فهو على مفعل. قال الله جل وعز: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللََّهِ مَتََاباً} (1). وأما قوله جلّ ذكره: {غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ} (2) فيكون على ضربين يكون مصدرا ويكون جماعا، فالمصدر قولك، تاب يتوب توبا، كقولك، قال يقول قولا، والجمع توبة وتوب مثل تمرة وتمر وجمرة وجمر. وقوله: أبرزوها مثل المهاة تهادى، المهاة هي البقرة في هذا الموضع، وتشبّه المرأة بالبقرة من الوحش لحسن عينها ولمشيتها، والبقرة يقال لها العيناء والجماع العين، وكذلك يقال للمرأة، وتكون المهاة البلّورة [3] في غير هذا الموضع. وقوله:
تهادى، يريد يهدي بعضها بعضا في مشيتها، ومشية البقرة تستحسن. قال ابن أبي ربيعة:
أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر
يمشين في الريط والمروط كما ... يمشي الهوينا سواكن البقر
وقوله: كواعب، الواحدة كاعب، وهي التي قد كعّب ثدياها للنهود وأتراب أقران، يقال ترب فلان. والمكوّرة المكتنزة. وقوله: ثم قالوا تحبّها قلت بهرا، قال قوم: أراد بقوله تحبها الاستفهام، كما قال امرؤ القيس: أحار ترى برقا أريك وميضه فحذف ألف الاستفهام وهو يريد أترى، وقالوا: أراد أتحبها وهذا خطأ فاحش، إنما يجوز حدف الألف إذا كان في الكلام دليل عليها، وسنفسر هذا ونذكر الصواب منه إن شاء الله. قوله: تحبها، إيجاب على غير استفهام، إنما قالوا أنت تحبها، أي قد علمنا ذاك فهذا معنى صحيح لا ضرورة فيه. وأما قول امرىء القيس فإنما جاز لأنه جعل الألف التي تكون للاستفهام تنبيها للنداء واستغنى بها ودلّت على أن بعدها ألفا منوية فحذفت ضرورة لدلالة هذه عليها. ونظير قول امرىء القيس: أحار ترى برقا، فاكتفى بالألف عن أن يعيدها في ترى، قول ابن هرمة:
__________
(1) سورة الفرقان: الاية 71.
(2) سورة غافر: الاية 3.(1/518)
ولا أراها تزال ظالمة ... تظهر لي قرحة وتنكؤها (1)
إستغنى بلا الأولى عن إعادتها، كما قال التميمي وهو اللعين المنقريّ:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يريد أشعيث، فدلت أم على ألف الاستفهام. وقال ابن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
لهو مثل ذلك. وبيت الأخطل فيه قولان وهو:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا
قال: أراد اكذبتك عينك، كما قلنا في ما قبله. وليس هذا بالأجود ولكنه ابتدأ متيقنا ثم شك فأدخل أم، كقولك إنها لإبل ثم تشك فتقول، أم شاء يا قوم وقوله: قلت بهرا، يكون على وجهين أحدهما حبّا يبهرني بهرا أي يملؤني. ويقال للقمر ليلة البدر باهر، أي يبهر النجوم أي يملؤها، كما قال ذو الرمّة: كما يبهر البدر النجوم السواريا. وقال الأعشى:
حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
والوجه الاخر أن يكون أراد: بهرا لكم أي تبّا لكم حيث تلومونني على هذا، كما قال ابن مفرّغ:
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجارية بهرا لم بعدها بهرا
وقوله: عدد النجم والحصى والتراب، فيه قولان أحدهما أنه أراد بالنجم النجوم ووضع الواحد في موضع الجمع لأنه للجنس، كما تقول: اهلك الناس الدرهم والدينار وقد كثرت الشاة والبعير، وكما قال الله جلّ وعز: {إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} (2) وقال الشاعر:
__________
(1) تنكؤها: تقشرها.
(2) سورة العصر: الاية 2.(1/519)
فبات يعدّ النجم في مستجيرة ... سريع بأيدي الاكلين جمودها
يريد النجوم، ويعني بالمستجيرة أهالة. والوجه الاخر أن يكون النجم ما نجم من النّبت وهو ما لم يقم على ساق، والشجر ما يقوم على ساق، واليقطين ما انتشر على وجه الأرض.
قال الله عز وجل: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدََانِ} (1) وقال الحرث بن ظالم للأسود بن المنذر بن ماء السماء:
أخصيي حمار بات يكدم (2) نجمة ... أيؤكل جيراني وجارك سالم
ومن طريف شعره، قوله:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبّت بالعشاء وأنؤر (3)
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروّح رعيان ونوّم سمّر
ونفّضت عني العين أقبلت مشية ال ... حباب وركبي خيفة القوم أزور
فحيّيت إذ فاجأتها فتولّهت (4) ... وكادت بمكنون التحيّة تجهر
وقالت وعضّت بالبنان: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف ... رقيبا وحولي من عدوّك حضّر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة ... سرت بك أم قد نام من كنت تحذر
فقلت لها بل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عين من الناس تنظر
فيا لك من ليل تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويا لك من ملهى هناك ومجلس ... لنا لم يكدّره علينا مكدّر
يمجّ ذكيّ المسك منها مفلّج (5) ... رقيق الحواشي ذو غروب مؤشّر
__________
(1) سورة الرحمن الاية 6.
(2) يكدم: يعض.
(3) نعتبر هذه القصيدة أروع ما قاله عمر فهي حلقة تمهيد قبل المسرحية الحديثة فيها نفس ملحمي ظاهر وطريف.
(4) تولهت: خافت وتحيرت.
(5) مفلج: يريد صغرا مفلجا أي تباعد ما بينها. يصف طيب ريح فمها.(1/520)
يرفّ إذا يفترّ عنه كأنه ... حصى برد أو أقحوان منوّر
وترنو بعينيها إليّ كما رنا ... إلى ربرب (1) وسط الخميلة جؤذر
فلمّا تقضّى الليل إلّا أقلّة ... وكادت توالي نجمه تتغوّر
أشارت بأن الحيّ قد حان منهم ... هبوب ولكن موعد لك عزور (2)
فما راعني إلّا مناد برحلة ... وقد لاح مفتوق من الصبح أشقر
فلما رأت من قد تثوّر (3) منهم ... وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
فقلت أباديهم فإمّا أفوتهم ... وأما ينال السيف ثأرا فيثأر
فقالت أتحقيقا لما قال كاشح ... علينا وتصديقا لما كان يؤثر
فإن كان ما لا بدّ منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقصّ على أختيّ بدء حديثنا ... ومالي من أن تعلما متأخّر
لعلّهما أن تبغيا لك مخرجا ... وأن ترحبا سربا بما كنت أحصر
فقامت كئيبا ليس في وجهها دم ... من الحزن تذري عبرة تتحدّر
فقالت لأختيها أعينا على فتى ... أتى زائرا والأمر للامر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا ... أقلّي عليك الهمّ فالخطب أيسر
يقوم فيمشي بيننا متنكّرا ... فلا سرّنا يفشو ولا هو يظهر
فكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر (4)
فلما أجزنا ساحة الحيّ قلن لي ... ألم تتّق الاعداء والليل مقمر
وقلن أهذا دأبك الدهر سادرا (5) ... أما تستحي أو ترعوي أو تفكّر
قوله: شبّت يقول أو قدت، يقال: شبت النار والحرب أي أوقدتهما.
وقوله: وانؤر أن شئت همزت وإن شئت لم تهمز، وإنما الهمزة لانضمام
__________
(1) الربرب: بالفتح القطيع من بقر الوشحي.
(2) عزور: بالفتح موضع قرب مكة.
(3) تثور: أي صاح ونهض من أهلها.
(4) معصر: المرأة التي بلغت شبابها وأدركت أو دخلت في الحيض أو قاربت العشرين.
(5) سادرا: اللاهي الذي لا يهتم لشيء ولا يبالي ما صنع.(1/521)
الواو، وقد مضى تفسير هذا. وقوله: قمير، إنما صغره لأنه ناقص عن التمام وهذا في أول الشهر، وكذلك في اخر الشهر، لأن النقصان فيهما واحد. قال عمر:
وقمير بدا ابن خمس وعش ... رين له قالت الفتاتان قوما
وقوله رعيان، يريد جمع الراعي، ومثله راكب وركبان، وفارس وفرسان.
والسمّر، جمع السامر وهم الجماعة يتحدثون ليلا، والحباب حبة بعينه.
وقوله: ونفضت عني العين، يقول احترست منها وأمنتها. والنفضة أمام العسكر هم القوم يتقدمون فينفضون الطريق. وقوله أزور، يعني متجافيا، يقال تزاور فلان إذا ذهب في شقّ. وقوله: ذو غروب، غرب كلّ شيء حدّه وإنما يعني الاسنان، وقوله مؤشر يعني له أشر وهو تشرير الأسنان في قول الناس جميعا، يقال لاسنانه أشر فهذا الشائع الذائع، وأما الشنب فهو عندهم جميعا برد في الاسنان. وحدثني الرياشي عن ابن عائشة قال: أخذ أبي حبّة رمّان بين اصبعيه فإذا هي ترفّ، فقال هذا الشنب. وقوله: وكادت توالي نجمه تتغور، التوالي التوابع، وتتغور تغور فتذهب، وهو مأخوذ من الغور. وقوله:
أشارت بأن الحي قد حان منهم هبوب، يقول انبتاه. يقال هبّ من نومه يهبّ.
قال عمرو بن كلثوم:
ألا هبّي بصحنك (1) فاصبحينا ... (ولا تبقي خمور الا ندرينا)
وقال الاخر:
هبّت تلوم وليست ساعة اللّاحي ... هلا انتظرت بهذا اللوم إصباحي
وعزور موضع بعينه. وقوله: وأيقاظهم جمع يقظ. وقوله فقالت: أتحقيقا أي أتفعل هذا تحقيقا، ومن كلام العرب أكلّ هذا بخلا وذاك أنه راه يفعل شيئا أنكره، فقال أتفعل كل هذا بخلا. وقوله: أباديهم يعني أظهر لهم، غير
__________
(1) الصحن: القدح العظيم وهنا انية الخمرة.(1/522)
مهموز، يقال بدا يبدو غير مهموز إذا ظهر، وبدأت بهذا مهموز إذا أردت به معنى الأول. وقوله بدء حديثا يريد أول حديثنا. وقوله: وإن ترحبا يريد أن تتسعا أي تتسع صدورهما من قولهم فلان رحيب الصدر. وقوله: أحصر أضيق به ذرعا، وقد مضى تفسيره. وقوله: مجنّي يريد ترسي. وقوله: ثلاث شخوص والوجه ثلاثة أشخص، ولكنه لما قصد إلى النساء أنّث على المعنى وأبان ما أراد بقوله: كاعبان ومعصر. ومثل قول الشاعر:
فإنّ كلابا (1) هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
فقال: عشر أبطن، لأن البطن قبيلة، وابان ذلك في قوله من قبائلها العشر. وقال الله جل وعز: {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا} (2). لأن المعنى حسنات. ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة المرّيّ إلى المدينة اعترض الناس، فمر به رجل من أهل الشام معه ترس قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشام! مجنّ بن أبي ربيعة أحسن من مجنّك، بريد قول ابن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت اتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
وقوله: أما تستحي يريد تستحيي وله تفسير يبعد في العربية قليلا وسنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى:
__________
(1) كلابا: يريد القبلة التي تسمى بهذا الاسم.
(2) سورة الأنعام: الاية 160.(1/523)
44 - باب في الغناء عند العرب
قال أبو العباس: وحدّثت أن عمر الوادي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة، فجعلت أسير في صرد (1) من الأرض، فسمعت غناء من القرار لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصّلنّ إليه ولو بذهاب نفسي. فانحدرت إليه، فإذا عبد أسود، فقلت له: أعد عليّ ما سمعت. فقال لي: والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلت، ولكني أجعله قراك فإني ربما غنّيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم انبرى يغنّيني:
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات (2) البيض ودّ جليسها ... إذا ما قضت أحدوثة لو تعيدها
(وبعده:
تحلّل أحقادي (3) إذا ما لقيتها ... وتبقى بلا ذنب عليّ حقودها
وكيف يحبّ القلب من لا يحبّه ... بلى قد تريد النفس من لا يريدها)
قال عمر: فحفظته عنه ثم تغنّيت به على الحالات التي وصف فإذا هو كما ذكر. وتحدّث الزبيريّون عن خالد صامة أنه كان من أحسن الناس ضربا
__________
(1) الصرد بالفتح المكان المرتفع في الأرض أو الجبال.
(2) الخفرات: جمع خفرة وهى الحياء.
(3) الاحقاد: جمع حقد وهو الانطواء على العداوة والبغضاء.(1/525)
بالعود، قال: فقدمت على الوليد بن يزيد وهو في مجلس ناهيك به مجلسا، فألفيته على سريره وبين يديه معبد ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل غزيّل الدمشقيّ، فجعلوا يغنّون حتى بلغت النوبة إليّ فغنّيته:
سرى همّي (1) وهمّ المرء يسري ... وغار النجم إلّا قيد فتر
أراقب في المجرّة كلّ نجم ... تعرّض أو على المجراة يجزي
لهمّ ما أزال له قرينا ... كأنّ القلب أبطن حرّ جمر
على بكر أخي فارقت بكرا ... وأيّ العيش يصلح بعد بكر
فقال لي: أعد يا صام، ففعلت، فقال لي: من يقول هذا الشعر؟ فقلت، هذا بقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكرا. فقال لي الوليد: وأي العيش يصلح بعد بكر. هذا العيش الذي نحن فيه والله قد تحجّر واسعا (2) على رغم أنفه.
وحدّثت أن سكينة بنت الحسين أنشدت هذا الشعر: فقالت ومن بكر؟ فوصف لها، فقالت: أذاك الأسيّد الذي كان يمر بنا والله لقد طاب كلّ شيء بعد ذاك حتى الخبز والزيت. وروى أصحابنا أن يزيد بن عبد الملك وأمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية وإليها كان ينسب قال يوما: يقال أن الدنيا لم تصف لأحد قطّ يوما، فإذا خلوت هذا فاطووا عني الاخبار ودعوني ولذّتي وما خلوت له. ثم دعا بحبابة، فقال: اسقيني وغنّيني فخلوا في أطيب عيش، فتناولت حبابة حبّة رمّان فوضعها في فيها، فغصّت بها فماتت، فجزع يزيد جزعا أذهله ومنع من دفنها حتى قال له مشايخ بني أميّة، إن هذا عيب لا يستقال وإنما هذه جيفة، فأذن في دفنها وتبع جنازتها. فلما واراها قال: أمسيت والله فيك، كما قال كثيّر:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلّد
وكلّ خليل راءني فهو قائل ... من اجلك هذا هامة اليوم أو غد
__________
(1) سرى همي: أي دب إلى نفسي كما يقال سرى مرق الشجر إذا دب تحت الأرض.
(2) قد تحجر واسعا: أي ضيق على الناس وعلى نفسه.(1/526)
فعدّ بينهما خمسة عشر يوما. وقوله راءني يريد راني ولكنه قلب فأخر الهمزة. ونظير هذا من الكلام قسيّ في جمع قوس وإنا الأصل قؤوس، ولما أخّر الواوين أبدل منهما ياءين كما يجب في الجمع، تقول دلو ودليّ وعات وعتيّ، وإن شئت قلت عتيّ ودليّ من أجل الياء، فإن كان فعول لواحد، قلت عتوّ ويجوز القلب. والوجه في الواحد إثبات الواو، كما تقول مغزوّ ومدعوّ ويجوز مغزيّ ومدعيّ.
وفي القران: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} (1). وقال {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمََنِ عِتِيًّا} (2) وقال: {ارْجِعِي إِلى ََ رَبِّكِ رََاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (3) والأصل مرضوّة لأنه من الواو من الرضوان. ومن القلب قولهم طأمن، ثم قالوا: اطمأنّ فأخروا الهمزة وقدموا الميم، ومثل هذا كثير جدا: وقوله: هذا هامة اليوم أو غد، يقول ميّت في يومه أو في غده، يقال إنما فلان هامة أي يصير في قبره وأصل ذلك شيء كانت العرب تقوله، وقد مضى تفسيره. وحدثني عبد الصمد بن المعذّل قال:
سمعت اسحق بن إبراهيم الموصليّ يتحدث قال: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد، فلما قفلنا فنزلنا المدينة اخيت بها رجلا كان له سنّ ومعرفة وأدب فكان يمتعني فإني ذات ليلة في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن عليّ، فظننت أمرا قد فدحه (4) ففزع فيه إليّ. فأسرعت نحو الباب، فقلت: ما جاء بك؟ فقال: إذن أخبرك، دعاني صديق إلى طعام عتيد وشراب قد التقى طرفاه (5) وشواء رشراش (6) وحديث ممتع وغناء مطرب فأجبته وأقمت معه إلى هذا الوقت فأخذت مني حميّا الكأس مأخذها ثم غنّيت بقول نصيب:
__________
(1) سورة الفرقان: الاية 21.
(2) سورة مريم: الاية 69.
(3) سورة الفجر الاية 28.
(4) قد فدحه: أي أثقله.
(5) التقى طرفاه: يريد أعلاه وأسفله وكنى بهذا عن رقته وصفائه.
(6) الرشراش: السمين من الشواء.(1/527)
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل ان تملّينا فما ملّك القلب
فكدت أطير طربا. ثم وجدت في الطرب نقصا إذ لم يكن معي من يفهم هذا كما فهمته ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال ثم ارجع إلى صاحبي، وضرب نعليه مولّيا عني، فقلت: قف أكلّمك. فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجة.
وحدّثني غير واحد من أصحابنا عن أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري يسنده قال: كانت وليمة في أخوالنا، وهم حيّ يقال لهم بنو نبيط من الانصار. قال: فحضر الناس وجاء حسّان بن ثابت وقد ذهب بصره ومعه ابنه عبد الرحمن يقوده. فلما وضع الطعام وجيء بالثريد، قال حسان لابنه: يا بنيّ أطعام يد أم طعام يدين؟ فقال بل طعام يد، فأكل. ثم جيء بالشواء فقال:
أطعام يد أم طعام يدين؟ فقال: طعام يدين فأمسك. وفي المجلس قينتان تغنيان بشعر حسان:
انظر خليلي بباب جلّق هل ... تؤنس دون البلقاء (1) من أحد
قال: وحسان يبكي يذكر ما كان فيه من صحة البصر والشباب، وعبد الرحمن يومىء إليهما أن يزيدا، قال أبو زيد: فلأعجبني ما أعجبه من أن تبكّيا أباه، يقول: عجبت ما الذي اشتهى من أن تبكيا أباه، فقوله أعجبني أي تركني اعجب،
ومثله قول ابن قيس الرقيّات:
ألا هزئت بنا قرشي ... ة يهتزّ موكبها
رأت بي شيبة في الرأ ... س عني ما أغيّبها
فقالت أبن قيس ذا ... وبعض الشيب يعجبها
أي تتعجب منه. وحدثني عبد الصمد بن المعذّل قال: كان خليلان
__________
(1) البلقاء: بلد بالشام.(1/528)
الأمويّ يتغنى ويرى ذاك زائدا في الفتوّة. وكان خليلان شريفا وذا نغمة واسعة، فحضر يوما منزل عقبة بن سلم الهنائي (1) وهو أمير البصرة وكان عاتيا جبارا، فلما طعما وخلوا نظر خليلان إلى عود موضوع في جانب البيت فعلم أنه عرّض له به فأخذه فتغنّى:
بابنة الأزديّ قلبي كئيب ... مستهام عندها ما يؤوب
ولقد لاموا فقلت دعوني ... إنّ من تلحون (2) فيه حبيب
فجعل وجه عقبة يتغير وخليلان في سهو عما فيه عقبة يرى أنه محسن، ثم فطن لتغير وجه عقبة، فعلم أنه لما تغنى به، فقطع الصوت وجعل مكانه:
ألا هزئت بنا قرشي ... ة يهتز موكبها
فسرّي عن عقبة، فلما انقضى الصوت وضع خليلان العود ووكد على نفسها الحلف ألا يغني عند من يجوز أمره عليه أبدا. وحدثت أن رجلا تغنى بحضرة الرشيد بشعر مدح به عليّ بن ريطه وهو عليّ بن أمير المؤمنين المهدي، وتغنّاه المغني على جهل وهو:
قل لعليّ أيا فتى العرب ... وخير نام وخير منتسب
أعلاك جدّاك يا عليّ إذا ... قصّر جدّ في ذروة الحسب
ففتش عن المغني فوجده لم يدر فيمن الشعر فبحث عن أول من تغنى فيه فإذا هو عبد الرحمن الرقّاص، فأمر به فضرب اربعمائة سوط. وحدّثت أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلة فسمع من عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة. فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر. قال: إذا فاخثر له من العطاء (3).
__________
(1) نسبة إلى هناءة كثمامة ولعله إسم قبيلة.
(2) تلحون: أي تلومونني وتعذلونني من أجله.
(3) فأختر له من العطاء: أي أكثر صلته وجائزته.(1/529)
وحدّثت أن معاوية قال لعمرو: امض بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسعى في هدم مروءته حتى ننعى عليه، أي نعيب عليه فعله، يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. فدخلا إليه وعنده سائب خاثر وهو يلقي على جوار لعبد الله، فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية وثبت سائب مكانه. وتنحّى عبد الله عن سريره لمعاوية فرفع معاويه عمرا فأجلسه إلى جانبه، ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه. فأمر بالكراسي فألقيت وأخرج الجواري، فتغنى سائب بقول قيس بن الخطيم.
ديار التي كادت ونحن على منى ... تحلّ بنا لولا نجاء الركائب
ومثلك قد أصبيت ليست بكنّة ... ولا جارة ولا حليلة صاحب
وردّده الجواري عليه، فحرك معاوية يديه وتحرك في مجلسه ثم مدّ رجليه، فجعل يضرب بهما وجه السرير. فقال له عمرو: اتئد يا أمير المؤمنين، فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالا، وأقل حركة. فقال معاوية: اسكت لا أبالك فإن كلّ كريم طروب. وحدّثت من غير وجه أن سفيان بن عيينة قال لجلسائه يوما إني أرى جارنا هذا السهميّ قد أثرى وانفسحت له نعمة، وصار ذا جاه عند الامراء، ووافدا إلى الخلفاء، فممّ ذاك؟ يعني يحيى بن جامع. فقال له جلساؤه: إنه يصير إلى الخليفة فيتغنى له. فقال سفيان: فيقول ماذا؟ فقال أحد جلسائه: يقول:
أطوف نهاري مع الطائفين ... وأرفع من مئزري المسبل
فقال سفيان: ما أحسن ما قال؟ فقال الرجل:
وأسهر ليلي مع العاكفين ... واتلو من المحكم المنزل
قال: حسن والله جميل. قال: إنّ بعد هذا شيئا. قال سفيان: وما هو؟
قال:
عسى فارج الكرب عن يوسف ... يسخّر لي ربّة المحمل
فزوى سفيان وجهه، وأومأ بيده أن كفّ وقال: حلالا حلالا. ولقي ابن ابجر عطاء بن أبي رباح وهو يطوف، فقال: اسمع صوتا للغريض. فقال له عطاء: يا خبيث أفي هذا الموضع؟ فقال ابن ابجر: وربّ هذه البنيّة لتسمعنّه خفية أو لأشيدنّ به. فوقف له فتغنّى:(1/530)
عسى فارج الكرب عن يوسف ... يسخّر لي ربّة المحمل
فزوى سفيان وجهه، وأومأ بيده أن كفّ وقال: حلالا حلالا. ولقي ابن ابجر عطاء بن أبي رباح وهو يطوف، فقال: اسمع صوتا للغريض. فقال له عطاء: يا خبيث أفي هذا الموضع؟ فقال ابن ابجر: وربّ هذه البنيّة لتسمعنّه خفية أو لأشيدنّ به. فوقف له فتغنّى:
عوجي علينا ربّة الهودج ... إنّك إن لا تفعلي تحرجي
أنّى اتيحت لي يمانية ... إحدى بني الحرث من مذحج
نلبث حولا كاملا كلّه ... لا نلتقي إلّا على منهج
في الحج إن حجّت وماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج
فقال له عطاء الكثير الطيّب يا خبيث. وسمع سليمان بن عبد الملك متغنّيا في عسكره فقال: اطلبوه. فجاؤوا به فقال: أعد ما تغنّيت فتغنى واحتفل، وكان سليمان مفرط الغيرة، فقال لأصحابه: والله لكأنها جرجرة (1)
الفحل في الشول (2)، وما أحسب انثى تسمع هذا إلّا صبت. ثم أمر به فخصي. وحدّثت أن الفرزدق قدم المدينة، فنزل على الأحوص بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقال له الأحوص: ألا اسمعك غناء من غناء القرى. فأتاه بمغنّ فجعل يغنيه. فكان مما غنّاه:
أتنسى إذ تودّعنا سليمى ... بفرع بشامة سقي البشام (3)
ولو وجد الحمام كما وجدنا ... بسلمانين لاكتأب الحمام
فقال الفرزدق: لمن هذا؟ فقالوا: لجرير. ثم غناه:
اسرى لخالدة الخيال ولا أرى ... شيئا الذّ من الخيال الطارق
إن البلية من تملّ حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الوامق
__________
(1) الجرجرة: صدت البعير عند الضحى.
(2) الشوال: بفتح: فسكون، النوق التي شال لبنها وارتفع ويكون ذلك بعد سبعة أشهر من حملها أو ولادتها ومفرده شائلة وهو جمع على غير قياس.
(3) البشام: شجر طيب الريح.(1/531)
فقال: لمن هذا؟ فقيل: لجرير. ثم غناه:
إن الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا (1) بعينك ما يزال معينا (2)
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال: لمن هذا؟ فقالوا: لجرير. فقال الفرزدق: ما احوجه مع عفافه إلى خشونة شعري، واحوجني مع فسوقي إلى رقّة شعره. وقال الأحوص يوما لمعبد: امض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها، فمضيا فألفيا على بابها معاذا الأنصاريّ، ثم الزرقيّ (3) وابن صائد النجاري، فاستأذنوا عليها جميعا فأذنت لهم إلّا الأحوص، فإنها قالت: نحن غضاب على الأحوص. فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم، فقال:
ضنّت عقيلة لما جئت بالزاد ... واثرت حاجة الثاوي (4) على الغادي (5)
فقلت والله لولا أن تقول له ... قد باح بالسرّ أعدائي وحسّادي
قلنا لمنزلها حيّيت من طلل ... وللعقيق ألا حيّيت من وادي
إني جعلت نصيبي من مودتها ... لمعبد ومعاذ وابن صيّاد
لابن اللعين الذي يخبا الدخان له ... وللمغنّي رسول الزور قوّادي
أما معاذ فإني لست ذاكره ... كذاك أجداده كانوا لأجدادي
قال الزبيري: وكان معاذ جلدا فخاف الأحوص أن يضربه، فحلف معبد أن لا يكلم الأحوص ولا يتغنى في شعره، فشق ذلك على الأحوص فلما طالت هجرته إياه رحل نجيبا له وجعل طلاء في مذرع (والمذرع زقّ سلخ حين سلخ مما يلي الذراع)
__________
(1) وشل: بالتحريك. الكثير من الدمع.
(2) المعين: بفتح الميم: الماء الجاري.
(3) الزرقي: نسب إلى بني زريق.
(4) الثاوي: المقيم.
(5) الغادي: المسافر.(1/532)
في حقيبة رحلة، واعدّ دنانير ومضى نحو معبد فأناخ ببابه ومعبد جالس بفنائه، فنزل إليه الأحوص فكلمه، فلم يكلمه معبد، فقال: يا أبا عبّاد أتهجرني؟
فخرجت إليه امرأته أمّ كردم فقالت: أتهجر أبا محمد؟ والله لتكلمنه. قال:
فاحتمله الأحوص، فأدخله البيت وقال: والله لا رمت هذا (1) البيت حتى اكل الشواء، وأشرب الطلاء، وأسمع الغناء. فقال له معبد: قد أخزى الله الأبعد هذا الشواء أكلته، والغناء سمعته، فأنّى لك بالطلاء؟ قال: قم إلى ذلك المذرع ففيه طلاء ومعه دنانير، فأصلح بها ما تريد من أمرنا. ففعل كل ما قال. فقالت أم كردم لمعبد: أتهجر من إن زارنا أغدر (2) فينا فضلا ونيلا، وإن فارقنا خلّف فينا عقلا ونبلا! فانصرف الأحوص مع العصر فمر بين الدارين وهو يميل بين شعبتي رحله.
إتهام سعد بن مصعب بن الزبير
وحدّثت أن سعد بن مصعب بن الزبير اتّهم بامرأة في ليلة مناحة (3) أو عرس، وكانت تحته ابنة حمزة بن عبد الله بن الزبير. فقال الأحوص: وكان بالمدينة رجل يقال له سعد النار:
ليس بسعد النار من تذكرونه ... ولكنّ سعد النار سعد بن مصعب
ألم تر أنّ القوم ليلة جمعهم ... بغوه (4) فألفوه لدى شرّ مركب
فما يبتغي بالشرّ لا درّ درّه ... وفي بيته مثل الغزال المريّب
فأمر سعد بن مصعب بطعام، فصنع ثم حمل إلى قباب العرب، وقال للأحوص، وكان له صديقا: تعال نمض فنصيب منه. فلما خلا به أمر به
__________
(1) لا رمت: لا برحت منه.
(2) أغدر فينا فضلا أي ترك وأبقى.
(3) ليلة مناحة: موضع النوح يقال ناحت المرأة على الميت إذا بكته وعددت محاسنه والاسم النواح بالضم وربما قيل النياح بالكسر.
(4) بغوه: طلبوه يقال بغتيه بغيا إذا طلبته والاسم البغاء.(1/533)
فأوثق وأراد ضربه فقال له الأحوص: دعني فلا والله لا أهجو زبيريّا أبدا.
فحله ثم قال: إني والله ما لمتك على مزحك ولكني أنكرت قولك:
وفي بيته مثل الغزال المريب وحدّثت أن ابن أبي عتيق ذكر له أن المخنّثين بالمدينة خصوا، وإنه خصي الدلال فيهم فقال: أنا له، وأما والله لئن فعل ذلك به لقد كان يحسن:
لمن ربع بذات الجي ... ش (1) أمسى دارسا خلقا
ثم استقبل ابن أبي عتيق القبلة يصلي، فلما كبّر سلّم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: اللهم إنه كان يحسن خفيفه فأما ثقيله فلا. الله أكبر. وحدّثت أن مدنيّا كان يصلي مذ طلعت الشمس إلى أن قارب النهار أن ينتصف ومن ورائه رجل يتغنّى، وهما في مسجد رسول الله، فإذا رجل من الشرط قد قبض على المغني فقال: أترفع عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه.
فانفتل (2) المدنيّ من صلاته، فلم يزل يطلب إليه فيه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شفعت فيك؟ قال: لا، ولكني إخالك رحمتني. قال:
إذا فلا رحمني الله. قال: فأحسبك عرفت قرابة بيننا. قال: إذا فقطعها الله.
قال: فليد تقدمت مني إليك. قال: لا والله ولا عرفتك قبلها. قال: فخبّرني.
قال: لأني سمعتك غنّيت انفا فأقمت واوات معبد، أما والله لو أسأت التأدية لكنت أحد الأعوان عليك. والصوت الذي ينسب إلى واوات معبد شعر الأعشى الذي يعاتب فيه يزيد بن مسهر الشيباني، وهو قوله:
هريرة ودّعها وإن لام الائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم (3)
لقد كان في حول ثواء ثوينه ... تقضّى لبانات (4) ويسأم سائم
__________
(1) بذات الجيش: واد قرب المدينة فيه انقطع عقد عائشة رضي الله عنها.
(2) انفتل المدني في صلاته أي انصرف عنها وتحول.
(3) الواجم: العبوس المطرف لشدة الحزن.
(4) اللبانات: بالضم الحاجات من غير فاقة واحدها لبانة.(1/534)
قالوه: هريرة ودعها وإن لام لائم، منصوب بفعل مضمر تفسيره ودّعها كأنه قال: ودّع هريرة، فلما اختزل الفعل أظهر ما يدلّ عليه، وكان ذلك أجود من ألايضمر، لأن الأمر لا يكون إلّا بفعل، فأضمر الفعل إذا كان الأمر أحقّ به. وكذلك: يزيدا أضربه، وزيدا فأكرمه. وإن لم تضمر ورفعت جاز وليس في حسن الأول ترفعه على الابتداء وتصيّر الأمر في موضع خبره. فأما قول الله عزّ وجل: {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا} (1) وكذلك:
{الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2) فليس على هذا، والرفع الوجه، لأن معناه الجزاء كقوله: الزانية أي التي تزني، فإنما وجب القطع للسرق والجلد للزنا، فهذا مجازاة. ومن ثم جاز: الذي يأتيني فله درهم، فدخلت الفاء لأنه استحقّ الدرهم بالاتيان. فإن لم ترد هذا المعنى قلت: الذي يأتيني له درهم، ولا يجوز: زيد فله درهم على هذا المعنى.
ولكن لو قلت: زيد فله درهم، على معنى: هذا زيد فله درهم، أو هذا زيد، فحسن جميل جاز على أن زيدا خبر وليس بابتداء، وللإشارة دخلت الفاء.
وفي القران: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ سِرًّا وَعَلََانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (3). ودخلت الفاء لأن الثواب دخل للانفاق. وقد قرأت القرّاء:
الزانية والزاني فاجلدوا، والسارق والسارقة فاقطعوا، بالنصب على وجه الأمر والوجه الرفع والنصب حسن في هاتين الايتين، وما لم يكن فيه معنى جزاء فالنصب الوجه
ويروى أن معبدا بلغه أن قتيبة بن مسلم فتح خمس مدائن فقال: لقد غنّيت خمسة أصوات هنّ أشد من فتح المدائن التي فتحها قتيبة بن مسلم.
والأصوات:
ودّع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
__________
(1) سورة المائدة: الاية 38.
(2) سورة النور: الاية 2.
(3) سورة البقرة: الاية 274.(1/535)
وقوله:
هريرة ودّعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم (1)
وقوله:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
وقوله:
ودّع لبابة قبل أن ترحّلا ... وأسأل فإن قليلة أن تسألا
وقوله:
لعمري لئن شطّت بعتمة دارها ... لقد كنت من خوف الفراق أليح (2)
أما قوله: ودّع هريرة أن الركب مرتحل. وقوله: هريرة ودّعها وإن لام لائم، فللأعشى يعاتب فيهما يزيد بن مسهر الشيبانيّ يقول:
أبلغ يزيد بني شيبان مألكة (3) ... أبا ثبيت أما تنفكّ تأتكل
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطّت الإبل
كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ويقول في الاخرى يعاتبه أيضا:
يزيد يغضّ الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم (4)
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلّا وأنفك راغم
فأقسم ان حدّ التقاطع بيننا ... لتصطفقن يوما عليك الماتم (5)
__________
(1) واجم: عبوس.
(2) اليح: أخاف تقول لاح الرجل إذا خاف وحاذر.
(3) المأكلة: بضم اللام وقد تفتح الرسالة.
(4) المحاجم: جمع محجم منير ما يحجم به.
(5) الماثم: جمع مأثم وهو في الأصل مجتمع الرجال والنساء في الفم والفرع.(1/536)
وتلقى حصان (1) تنصف (2) ابنة غنّها ... كما كان يلقى الناصفات الخوادم
إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم
الشماخ يمدح غرابة بن أوس
فأما الشعر الثالث فللشمّاخ بن ضرار بن مرّة بن غطفان يقوله لعرابة بن أوس بن قيظيّ الأنصاري:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين (3)
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين (4)
والرابع لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة يقوله في بعض الروايات:
ودّع لبابة قبل أن تترحّلا ... واسأل فإن قليلة أن تسألا
أمكث لعمرك ساعة فتأنّها ... فعسى الذي بخلت به أن يبذلا
لسنا نبالي حين ندرك حاجة ... إن بات أو ظلّ المطيّ معقّلا
والشعر الخامس لا أعرفه قائله، ولم يتغنّ معبد في مدح قط إلّا في ثلاثة أشعار، منها ما ذكرنا في عرابة، ومنها قول عبد الله بن قيّس الرقيّات في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
تقدّت بي الشهباء (5) نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارها
والثالث قول موسى شهوات في حمزة بن عبد الله بن الزبير:
__________
(1) حصان: المرأة الحرة.
(2) تنصف: تخوم ابنة عمها أي تخدمها.
(3) اليمين: أي تلقاها بيد مبسوطة لا مقبوض يريد أنه ينهض إلى المجد ويصل إليه بأقوى الاسباب.
(4) فاشرقي بدم الوتين: دعاء عليها بالموت.
(5) الشهباء: إسم الدابة التي كان عليها.(1/537)
حمزة المبتاع بالمال الثنا ... ويرى في بيعه أن قد غبن
وهو إن أعطى عطاء كاملا ... ذا إخاء لم يكدّره بمن
ونحن ذاكر وقصص هذه الأشعار التي جرت في عقب ما وصفنا إن شاء الله تعالى.
مدح لعبد الله بن قيس الرقيات في مصعب بن الزبير
قال أبو العباس: كان عبد الله بن قيس الرقيّات منقطعا إلى مصعب بن الزبير، وكان كثير المدح له، وكان يقاتل معه، وفيه يقول:
إنما مصعب شهاب من ال ... له تجلّت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك قوة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء
يتّقي الله في الأمور وقد أف ... لح من كان همّه الإتّقاء
قال أبو العباس: وله فيه أشعار كثيرة. فلما قتل مصعب، كان عبد الملك على قتل عبد الله بن قيس، فهرب فلحق بعبد الله بن جعفر، فشفع فيه إلى عبد الملك، فشفّعه في أن ترك دمه، فقال: ويدخل إليك يا أمير المؤمنين فتسمع منه. فأبى، فلم يزل به حتى أجابه.
قيس يمدح عبد الله بن جعفر
ففي ذلك يقول لعبد الله بن جعفر:
أتيناك نثني بالذي أنت أهله ... عليك كما أثنى على الأرض جارها
تقدّت بي الشهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارها
تزور فتى قد يعلم الناس أنه ... تجود له كفّ قليل غرارها (1)
__________
(1) غرارها: بالكسر أصله حد الرمح والسهم والسيف وأراد به الأذى.(1/538)
فو الله لولا أن تزور ابن جعفر ... لكان قليلا في دمشق قرارها
قيس يمدح عبد الملك
والشعر الذي مدح به عبد الملك:
عاد له من كثيرة الطرب ... فعينه بالدموع تنسكب
كوفيّة (1) نازح (2) محلّتها (3) ... لا أمم دارها ولا صقب
والله ما إن صبت إليّ ولا ... يعلم بيني وبينها نسب
إلّا الذي أورثت كثيرة في ال ... قلب وللحبّ سورة (4) عجب
وفيها يقول:
ما نقموا من بني أميّة إلّا ... أنهم يحلون أن غضبوا
وإنّهم سادة الملوك فلا ... تصلح إلّا عليهم العرب
إن الفنيق (5) الذي بأوه أبو ال ... عاصي عليه الوقار والحجب
خليفة الله في رعيّته ... جفّت بذاك الأقلام والكتب
يعتدل التاج فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب
فقال له عبد الملك: أتقول لمصعب:
إنما مصعب شهاب من ال ... لّه تجلّت عن وجهه الظلماء
وتقول لي:
__________
(1) كوفية: نسبة إلى الكوفة.
(2) النازح: البعيد.
(3) المحلة: المنزل الذي يحل به.
(4) سورة الحب: بالفتح حدته وشدته.
(5) الفنيق: كامير هو الأصل في الفحل المكرم من الإبل.(1/539)
يعتدل التاج فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب
وأما شعر الشمّاخ في عرابة فقد ذكر في موضعه بحديث.
مدح موسى شهوات لحمزة بن الزبير
وأما الشعر في حمزة بن عبد الله بن عبد الله بن الزبير فإنه لموسى شهوات. وكان موسى قال لمعبد: أقول شعرا في حمزة، وتتغنّى أنت به، فما أعطاك من شيء فهو بيننا. فقال هذا الشعر:
حمزة المبتاع بالمال الثنا ... ويرى في بيعه أن قد غبن
وهو إن أعطى عطاء كاملا ... ذا إخاء لم يكدّره بمن
وإذا ما سنة مجحفة ... برت المال كبري بالسفن
حسرات (1) عنه نقيّا لونه ... طاهر الأخلاق ما فيه درن
فأعطاه مالا، فقاسمه موسى.
__________
(1) حسرات عنه: انكشفت وزالت والضمير في الفعل للسنة وجعل نقاء اللون وبعده عن الادران كناية عن عزه ومجده.(1/540)
45 - باب في المدح والشكوى والرثاء مدح عمر بن العزيز
قال أبو العباس: قال عتبة بن شمّاس:
إنّ أولى بالحقّ في كل حقّ ... ثم أحرى بأن يكون حقيقا
من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جدّه الفاروقا
ردّ أموالنا علينا وكانت ... في ذرا شاهق يفوت الأنوقا (1)
يقول هذا الشعر في عمر بن عبد العزيز بن مروان، وأمّ عمر أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رحمه الله. والأنوق الرخمة ولا يقال الانوق إلّا للرخمة الأنثى. ومن أمثال العرب: هو أعزّ من بيض الأنوق. وتقول العرب لمن يطلب الأمر العسير: سألتني بيض الأنوق. وذاك أنها تبيض في رؤوس الجبال، فلا يكاد يوجد بيضها لبعد مطلبه وعسره، فإن سأله محالا قال: سألتني الابلق العقوق، وإنما هو الذكر من الخيل. ويقال: فرس عقوق، إذا حملت فامتلأ بطنها، فالأبلق العقوق محال. ويروى أن رجلا سأل معاوية أمرا لا يوجد فأعلمه ذلك. فسأل أمرا عسرا بعده، فقال معاوية:
طلب الابلق العقوق (2) فلما ... لم ينله أراد بيض الأنوق
وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
ما عدّ قوم كأجداد تعدّهم ... مروان ذو النور والفاروق والحكم
__________
(1) الأنوق: الصبور.
(2) العقوق: طلب ما لا يمكن.(1/541)
أشبهت من عمر الفاروق سيرته ... قاد البريّة وائتمّت به الأمم
تدعو قريش وأنصار الرسول له ... أن يمتعوا بأبي حفص وما ظلموا
وفيه يقول جرير أيضا:
يعود الحلم منك على قريش ... وتفرج عنهم الكرب الشدادا
وقد امنت وحشهم برفق ... ويعيي الناس وحشك أن يصادا
(وتبني المجديا عمر ابن ليلى ... وتكفي الممحل (1) السنة الجمادا)
وتدعو الله مجتهدا ليرضى ... وتذكر في رعيّتك المعادا
(فما كعب بن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا)
شكوى جرير من سعد الأزدي
وكان ابن سعد الأزدي قد تولى صدقات الاعراب وأعطياتهم، فقال جرير يشكوه إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه.
إنّ عيالي لا فواكه عندهم ... وعند ابن سعد سكّر وزبيب
وقد كان ظنّي بابن سعد سعادة ... وما الظنّ إلّا مخطىء ومصيب
فإن تراجعوا رزقي إليّ فإنه ... متاع ليال والاداء قريب
تحنّى العظام (2) الراجفات من البلى ... وليس لداء الركبتين طبيب
في نعي عمر بن عبد العزيز
وفيه يقول أيضا لما نعي:
نعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا
حملت أمرا جسيما فاصطبرت له ... وقمت فيه بحقّ الله يا عمرا
فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
__________
(1) الممحل: المجدب.
(2) العظام: الراجفات المطرية.(1/542)
قوله: يا عمرا ندبة، أراد يا عمراه وإنما الألف للندبة وحدها، والهاء تزاد في الوقف لخفاء الألف، فإذا وصلت لم تزدها، تقول: يا عمرا ذا الفضل، فإذا وقفت قلت: يا عمراه، فحذف الهاء في القافية لاستغنائه عنها. فأما قوله: نجوم الليل والقمرا، ففيه أقاويل كلّها جيد، فمنها أت تنصب نجوم الليل والقمرا بقوله بكاسفة. يقول: الشمس طالعة ليست بكاسفة نجوم الليل والقمر. يقول: إنما تكسف النجوم والقمر بإفراط ضيائها، فإذا كانت من الحزن عليه قد ذهب ضياؤها ظهرت الكواكب. ويقال: إن الغبار يوم حليمة سدّ عين الشمس فظهرت الكواكب المتباعدة عن مطلع الشمس. ويوم حليمة (1)
هو اليوم الذي سافر فيه المنذر بن المنذر بعرب العراق إلى الحرث الأعرج الغسّاني، وهو الأكبر، والحرث في عرب الشام، وهو أشهر أيام العرب. ومن أمثالهم في الأمر الفاشي: ما يوم حليمة بسرّ. وفيه يقول النابغة:
تخيّرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جرّبن كلّ التجارب
وأظن قول القائل من العرب: لأرينّك الكواكب ظهرا، إنما أخذ من يوم حليمة. قال طرفة:
إن تنوّله فقد تمنعه ... وتريه النجم يجري بالظهر
وقال الفرزدق لخالد بن عبد الله القسريّ:
لعمري لقد سار ابن شيبة سيرة ... أرتك نجوم الليل مظهرة تجري
ويجوز أن يكون نجوم الليل والقمر، أراد بهما الظرف يقول: تبكي الشمس عليك مدة نجوم الليل والقمر. كقولك: تبكي عليك الدهر وتبكي عليك الليل والنهار يا فتى، ويكون تبكي عليك الشمس النجوم. كقولك بكيت زيدا على فلان لما رأيت به، وقد قال في هذا المعنى أحد المحدثين
__________
(1) يوم حليمة هي حليمة بنت الحارث بن أبي شحر الغسانى وكان ذلك اليوم بين ملك الشام وملك الحيرة.(1/543)
شيئا مليحا وهو أحمد أخو أشجع السلميّ يقوله لنصر بن شبث العقيليّ، وكان أوقع بقوم من بني تغلب بموضع يعرف السواجير وهو أشبه بالشعر قال:
لله سيف في يدي نصر ... في حدّه ماء الردى يجري
أوقع نصر بالسواجير ما ... لم يوقع الجحّاف (1) بالبشر
أبكي بني بكر على تغلب ... وتغلبا أبكي على بكر
ويكون تبكي عليك نجوم الليل والقمر على أن تكون الواو في معنى مع، وإذا كانت كذلك فكان قبل الاسم الذي يليه أو بعده فعل انتصب، لأنه في المعنى مفعول وصل إليه فنصبه. ونظير ذلك استوى الماء والخشبة لأنك لم ترد استوى الماء واستوت الخشبة، ولو أردت ذلك لم يكن إلّا الرفع، ولكن التقدير ساوى الماء الخشبة. وكذلك: ما زلت أسير والنيل يا فتى، لأنك لست تخبر عن النيل يسير، وإنما تريد أن سيرك بحذائه ومعه، فوصل الفعل. وهذا باب يطول شرحه، فإن قلت: عبد الله وزيد أخواك، وأنت تريد بالواو مع لم يكن إلّا الرفع، لأن قبلها إسما مبتدأ، فهي على موضعه. وأجود التفسيرين عندنا في قول الله عزّ وجل: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ} (2)، إن تكون الواو في معنى مع لانك تقول: أجمعت رأيي وأمري، وجمعت القوم.
فهذا هو الوجه، وقوم ينصبونه على دخوله بالشركة مع اللام في معنى الأول، والمعنى الاستعداد بهما، فيجعلونه كقول القائل:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلّد، ولكن أدخله مع ما يتقلّد، فتقديره متقلدا سيفا وحاملا رمحا، ويكون تقدير الاية: فأجمعوا أمركم وأعدّوا شركاءكم، والمعنى يؤول إلى أمر واحد. ومن ذلك قوله: شرّاب ألبان وتمر واقط. فأما ما جاء من
__________
(1) الجحاف: فارس من فرسان العرب.
(2) سورة يونس: الاية 71.(1/544)
القران على هذا خاصة فقوله عزّ وجل: {وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ} (1)
فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع، فأدخل من ههنا، لأن الناس من هذه الأشياء. فجرت على لفظ واحد، ولا تكون من إلّا لمن يعقل إذا أفردتها.
شكوى أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله يشكو إليه عمّاله:
إنّ الذين أمرتهم إن يعدلوا ... نبذوا كتابك واستحلّ المحرم
وأردت أن يلي الامانة منهم ... برّ وهيهات الا برّ المسلم
طلس (2) الثياب على منابر أرضنا ... كلّ بنقص نصيبنا يتكلّم
أنشدنيه الرياشي عن الأصمعي، ونظير هذا قول ابن همّام السلوليّ:
إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكنّ حسن القول خالفه الفعل
وذمّوا لنا الدنيا وهم يرصعونها ... أفاويق حتى ما يدرّ لها ثعل
وقد مرّ تفسير هذا الشعر. والأطلس الأغبر، وربما اشتدّت غبرته حتى يخفى في الغبار وإنما أراد بقوله طلس الثياب، إنهم يظهرون تقشّفا، ويكون أن يكون جعلهم بمنزلة الذئاب، وهو أحسن.
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولّى رجلا بلدا فوفد عليه، فجاءه مدّهنا حسن الحال في جسمه عليه بردان، فقال له عمر رضي الله عنه:
أهكذا ولّيناك؟ ثم عزله ودفع إليه غنيمات يرعاها، ثم دعا به بعد مدة فراه باليا أشعث في ثوبين أطلسين. وذكر عند عمر بخير فرده إلى عمله وقال: كلوا واشربوا وادّهنوا فإنكم تعلمون الذي تنهون عنه. ويروى عن الحسن أنه قال:
__________
(1) سورة النور: الاية 45.
(2) طلس الثياب: جمع الملمس وهو الأسود الوسخ.(1/545)
اقربوا من هذا الأعواد فإنهم إذا رقوها لقّنوا الحكمة لتكون عليهم حجة يوم القيامة.
في رثاء عمر بن عبد العزيز
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز يرثيه، أنشدنيه الرياشي:
قد غيّب الدافنون اللّحد إذ دفنوا ... بدير سمعان (1) قسطاس (2) الموازين
من لم يكن همّه (3) عينا يفجّرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذين (4)
أقول لما أتاني ثمّ مهلكه ... لا يبعدنّ قوام الملك والدين
يقال: هذا قوام الأمير وملاكه لا غير. وتقول: فلان حسن القوام بالفتح، تريد بذلك الشطاط (5) لا يكون إلّا ذلك. وقوام، إذا كان إسما لم تنقلب واوه ياء من أجل الكسرة لأنها متحركة إلّا أن يكون جمعا قد كانت الواو في واحده ساكنة فتنقلب في الجمع لأن حركتها العلة. تقول: سوط وسياط، ثوب وثياب، وحوض وحياض فإن كانت الواو في الواحد متحركة ثبتت في الجمع نحو طويل وطوال. وكذلك: فعال إذا كان مصدرا صح إذا صح فعله واعتلّ إذا اعتل فعله، فما كان مصدرا لفاعلت فهو فعال صحيح نحو: قاولته قوالا ولاوذته لواذا، كقول الله عزّ وجلّ: {قَدْ يَعْلَمُ اللََّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوََاذاً} (6)
أي ملاوذة. وإذا كان مصدر فعلت اعتلّ لاعتلال الفعل فقلت: قمت قياما ونمت نياما ولذت لياذا وعذت عياذا.
__________
(1) دير سمعان: موضع بحمص فيه دفن عمر بن عبد العزيز.
(2) قسطاس: كناية عن وصفه بالعدل.
(3) يريد أنه لم يكن مشغولا بالدنيا حريصا عليها وإنما كان رضي الله عنه همه الدين والآخرة ولقد صدق الشاعر في ذلك.
(4) كناية عن اللهو واللعبة.
(5) الشطاط بالفتح الطول وحسن القوام.
(6) سورة النور: الاية 63.(1/546)
عويف القوافي يرثي سليمان بن عبد الملك
وقال عويف القوافي شعرا يرثي سليمان بن عبد الملك ويذكر عمر بن عبد العزيز رحمه الله، هذا ما اخترناه منه:
لاح سحاب فرأينا برقه ... ثم تدانى فسمعنا صعقه
وراحت الريح تزجّي بلقه (1) ... ودهمه (2) ثم تزجّي ورقه
ذاك سقى وقا فروّى ودقه ... قبر امرىء أعظم ربي حقه
قبر سليمان الذي من عقّه (3) ... وجحد الخير الذي قد بقّه
في العالمين جلّه (4) ودقّه ... لما ابتلى الله بخير خلقه
وكادت النفس تساوي حلقه ... ألقى إلى خير قريش وسقه
يا عمر الخير الملقّى وفقه ... سميت بالفاروق (5) فافرق فرقه
وارزق عيال المسلمين رزقه ... واقصد إلى الخير ولا توقّه
بحرك عذب الماء ما أعقّه (6) ... ربّك والمرحوم من لم يسقه
يقال: لاح البرق إذا بدا وألاح إذا تلألأ. وهذا البيت ينشد: من هاجه الليلة برق ألاح. ويقال: شرقت الشمس إذا بدت، وأشرقت إذا أضاءت وصفت. ويقال: صاعقة وصاقعة. وبنو تميم تقول صاقعة. والصعق شدة الرعد، ويعني به في أكثر ذلك ما يعتري من يسمع صوت الصاعقة. وقوله:
نزجي يقول تسوقه وتستحثّه. والابلق من السحاب ما فيه سواد وبياض، وفي الخيل كلّ لون يخالطه بياض فهو بلق، والأورق الذي بين الخضرة والسواد
__________
(1) بلقه: جمع بلقاء وهي التي فيها بياض وسواد.
(2) الدهم جمع دهماء وهي السواداء.
(3) عقه: أذاه وعصاه.
(4) ودقه: بالكسر فيهما وقد بفتح الأول أي كبيره وصغيره.
(5) الفاروق: عمر بن الخطاب.
(6) أعقه ربك: أي لم يكدره ربك ولم يرمه بالملوحة وهذا مثل لنواله وفضله الذي من ولا يلحقه أذى.(1/547)
وهو ألأم ألوان الإبل. ويقال إن لحم البعير الأورق أطيب لحمان الإبل.
والودق المطر، يقال: ودقت السماء يا فتى تدق ودقا.
قال الله جلّ وعزّ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلََالِهِ} (1). وقال عامر بن جوين الطائيّ:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وأصل العقّ القطع في هذا الموضع. وللعقّ مواضع كثيرة. يقال: عقّ والدية يعقّهما إذا قطعهما. وعققت عن الصبي من هذا. وقالوا: بل هو من العقيقة (2)، وهي الشعر الذي يولد الصبيّ به. يقال: فلان بعقيقته إذا كان بشعر الصبا لم يحلقه. ويقال: سيف كأنّه عقيقة، أي كأنه لمعة برق. يقال:
رأيت عقيقة البراق يا فتى، أي اللمعة منه في السحاب. ويقال: فلان عقّت تميمته ببلد كذا، أي قطعت في ذلك الموضع. قال الشاعر:
ألم تعلمي يا دار بلحاء أنني ... إذا أخصبت أو كان جديا جنابها (3)
أحبّ بلاد الله ما بين مشرف (4) ... إليّ وسلمى (5) أن يصوب سحابها (6)
بلاد بها عقّ الشباب تميمتي ... وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
وقوله: وجحد الخير الذي قد بقّه. يقال: بقّ فلان في الناس خيرا كثيرا وبقّ ولدا كثيرا وأبق كلاما كثيرا وقوله: ألقى إلى خير قريش وسقه، فهذا مثل يريد قلّده أمره، والوسق الحمل. وقوله: الملقى وفقه. يقال: لقّي فلان خيرا أي جعل يلقاه، والوسق من الكيل مقدار خمسة أقفزة بقفيز البصرة، وهو
__________
(1) سورة النور: الاية 43.
(2) العقيقة هي خرزة كانت العرب تعلقها لأولادها إتقاء للضرر.
(3) الجناب: بالفتح الناحية.
(4) مشرق: كمحسن رمل بالدهناء.
(5) سلمى بالفتح موضع في نجد.
(6) صوب السحاب: انصبابه.(1/548)
قفيزان ونصف بقفيز (1) مدينة السلام (2). وقوله: ليس في أقلّ من خمسة أوسق صدقة، إنما مبلغ ذلك خمسة وعشرون قفيزا بقفيز البصري، والوفق التوفيق وقوله: سميت بالفاروق، فتأويل الفاروق هو الذي يفرق بين الحق والباطل وكذلك قال المفسرون في الفرقان. وقد أبان ذلك بقوله: فافرق فرقه. وقوله:
وارزق عيال المسلمين رزقه. يقال: رزقه يرزقه رزقا، والاسم الرزق. وقوله:
بحرك عذب الماء ما أعقه، مقلوب إنما هو ما أعقّه ربك. يقال: ماء قعاع وماء حراق، فالقعاع الشديد الملوحة. يقول: ما أملحه ربّك، والحراق الذي يحرق كل شيء بملوحته، والماء العذب يقال له النقاخ (3) وما دون ذلك شيئا يقال له المسوس. (4) أنشد أبو عبيدة:
لو كنت ماء كنت لا ... عذب المذاق ولا مسوسا
يقال: ماء عذب وماء فرات، وهو أعذب العذب. ويقال: ماء ملح ولا يقال مالح، وسمك مملوح ومليح ولا يقال مالح، وأشدّ الماء ملوحة الأجاج قال الفرزدق:
ولو أسقيتهم عسلا مصفّى ... بماء النيل أو ماء الفرات
لقالوا إنه ملح أجاج ... أراد به لنا إحدى الهنات
وقوله: ذاك سقى ودقا فروّى ودقه، يقال فيه قولان: أحدهما فروّى الغيم ودقه هذا القبر يريد من ودقه، فلما حذف حرف الجر عمل الفعل، والاخر كقولك: روّيت زيدا ماء، وروّى أكثر من أروى، لأن روّى لا يكون إلا مرة بعد مرة. يقول: فروّى الله ودقه أي جعله رواء فأضمر لعلم المخاطب لأن قوله: لاح سحاب إنما معناه ألاحه الله، فالفاعل كالمذكور لأن المعنى عليه.
__________
(1) القفيز: مكيال يتواضع الناس عليه ويختلف باختلاف الأمصار وهو عند أهل العراق ثمانية مكاكيك والمكوك كتنور مكيال يسع صاعا ونصف.
(2) مدينة السلام: بغداد.
(3) النقاخ: الماء البارد العذب الصافي.
(4) المسوس بالفتح الماء بين العذب والملح.(1/549)
ونظيره قوله جلّ وعزّ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتََّى تَوََارَتْ بِالْحِجََابِ} (1). ولم يذكر الشمس وكذلك ما ترك على ظهرها من دابة ولم يذكر الأرض. وقال قوم ودقه يريد ودقة واحدة. وهذا رديء في المعنى ليس بمبالغ. وقال ابن الموصليّ:
لعمري لئن حلّئت (2) عن منهل (3) الصبا ... لقد كنت ورّادا لمنهله العذب
ليالي أمشي بين برديّ لاهيا (4) ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام امرىء لم تبق منه بقيّة ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
قوله: والشرب يريد جمع شارب يقال: شارب وشرب وراكب وركب وتاجر وتجر وزائر وزور. قال الطرمّاح:
حبّ بالزور (5) الذي لا يرى ... منه إلّا صفحة عن لمام (6)
وهذا باب متصل كثير قال العجّاج:
بواسط أكرم دار دارا ... والله سمّى نصرك الأنصارا
يريد أنصارك فأخرجه على ناصر ونصر. وقوله: سلام امرىء، على البدل من قوله: سلام على سير القلاص، وإن شئت نصبت بفعل مضمر، كأنك قلت: أسّلم سلام امرىء، لأنك ذكرت سلاما أوّلا. ومثل ذلك: له صوت صوت حمار لأنك لما قلت له صوت دللت على أنه يصوّت، كأنك قلت:
يصوّت صوت حمار. وكذلك له: حنين حنين ثكلى، وله صريف صريف
__________
(1) سورة ص: الاية 32.
(2) حلّئت: ميغت، طردا.
(3) منهل: بالفتح المشرب.
(4) أميس: اتبختر.
(5) حب الزور: يقال حب بفلان بالضم أي ما أحبه اليّ وصفحه كل شيء وجهه وناحيته.
(6) اللحام: بالكسر الغب وهو في الزيارة أن تكون كل أسبوع وكأنه يعني خيالا.(1/550)
العقو بالمسد (1))، أي يصرف صريفا. فما كان من هذا نكرة فنصبه على وجهين على المصدر وتقديره يصرف صريفا (2) مثل صريف جمل وإن شئت جعلته حالا، وتقديره يخرجه، في هذه الحال. وما كان معرفة لم يكن حالا، ولكن على المصدر. فإن كان الأول في غير معنى الفعل لم يكن النصب البتّة، ولم يصلح إلّا الرفع على البدل. تقول: له رأس رأس ثور، وله كفّ أسد.
فالمرتفع الثاني إذا كان نكرة كان بدلا أو نعتا، وإذا كان معرفة كان بدلا ولم يكن نعتا، لأن النكرة لا تنعت بالمعرفة. وكذلك إذا كان الأول ابتداء لم يجز إلّا الرفع لأن الكلام غير مستغن. وإنما يجوز الاضمار بعد الاستغناء، تقول:
صوته صوت الحمار وغناؤه غناء المجيدين. وكذلك إن خبّرت بأمر مستقرّ فيه اختير الرفع. تقول: له علم علم الفقها، وله رأي رأي القضاة. لأنك إنما تمدحه بأن هذا قد استقر له وليس الابلغ في مدحه أن تخبر بأنك رأيته في حال تعلّم، ويجوز النصب على إنك رأيته في حال تعلّم فاستدللت بذلك على عمله، فهذا يصلح. والأجود الرفع، فإذا قلت: له صوت صوت حمار، فإنما خبّرت أنه يصوّت فهذا سوى ذلك المعنى. ومما يختار فيه الرفع قولك:
عليه نوح نوح الحمام، وإنما اختير الرفع لأن الهاء في عليه اسم المفعول له، والهاء في له إسم الفاعل. ويجوز النصب على أنك قلت: عليه نوح، دلّ النوم على أن معه نائحا، فكأنك قلت: ينوحون نوح الحمام، فهذا تفسير جميع هذه الأبواب. وقال ابن الخيّاط المدينيّ يعني مالك بن أنس:
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
هدي التقي وعزّ سلطان النهى ... فهو العزيز وليس ذا سلطان
أراد له هدي التقي أو معه هدى التقيّ.
__________
(1) العقو: كرة تكون على البئر.
(2) الصريف: الصوت.(1/551)
الفهرس
مقدمة الكتاب 5
في شرح معنى فزع وغيث 7
بعض ما جاء في خطبة عمر بن الخطاب الأولى 14
رسالة عمر «لأبي موسى الأشعري» 16
بعض ما جاء في رسالة من عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب 20
عتاب عثمان لعلي 22
شرح رد علي على عثمان 25
1 - باب في أهمية الاختصار والاطناب عند العرب 29 من الألفاظ الغريبة والمستهجنة 30
ما يفضل العرب من ألفاظ 32
في ما يستحسن ويستجاد 37
في الأشعار السهلة 42
نبذة من كلام الحكماء 47
ذو الرمة يمدح هلال بن أحوز المازني 50
رثاء الأشهب لقوم قتلوا الفلج 51
من فخر القطامي 56(1/552)
2 - باب في أقوال الحكماء 59 3باب في الرثاء والإرث والغزل 61 4باب نبذ من كلام الحكماء 61 5باب في الوصف والمدح 67 في رثاء الفرزدق لصديقه عطية 73
مدح سوار بن عبد الله القاضي 76
في بعض ما يحب العرب وما يكرهون 78
إعرابي يرد على مغنية عابثة بالقصر 80
6 - باب في مدح لصبرة بن شيمان بحضور معاوية 83 من أقوال علي بن أبي طالب 83
أقوال وتفاسير للحسن البصري 85
7 - باب من أشعار الصقيل العقيلي وابن حبناء التميمي 87 من شعر أعرابي من بني الحارث بن كعب 89
بعض أشعار الفخر 94
8 - باب في بعض أقوال الحكماء 99 في حادثة تعلق الفرزدق بأستار الكعبة 100
من أشعار النسك عند الفرزدق 102
9 - باب في الخمريات 105 10باب في كلام الأحنف بن قيس 109 11باب في حديث لرجل من بني تميم في الوصف 113 12باب في كلام ابن عباس وعبد الله بن جعفر 119 في الفخر 121(1/553)
13 - باب بعض ما قيل في المال 125 في الفخر 127
14 - باب في أقوال بعض الحكماء 129 في أقوال علي بن أبي طالب 130
أقوال لعمر بن عبد العزيز 134
وعظ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه 134
من أقوال الحجاج 135
15 - باب في الحض على القتال 137 في هجاء جرير للفرزدق 144
في أفضل المديح 145
16 - باب في أطايب المجالس 147 في خير المجالس 147
في ما يفعله القعقاع بن شور 148
في المحافظة على تقاليد العرب 149
17 - باب حديث عبد الملك مع اسلم بن الأحنف 151 حديث أبي وجزة السلمي 156
في استجداء إعرابي لعمر بن هبيرة 158
في هجاء الصخر بن عمرو الشريد 159
ما قيل في القرية 168
في الرثاء 169
18 - باب في أمثال العرب 171 19باب في الرثاء والعتب 177 من رثاء الفرزدق لابني مسمع 183
في تكفير الحجاج 185
في رثاء الفرزدق لابنيه 186(1/554)
في فخر الفرزدق بكرمه 189
فيما تتفاضل فيه العرب 192
20 - باب في اللذة والعيش والرغد 195 أم ثواب الهلالية تصف عقوق ابنها 198
21 - باب في بعض أقوال عائشة وتحريم الخمر 201 يزيد بن هبيرة ينصح المنصور 203
22 - باب في هجاء لحسان بن ثابت 207 في وصف أعرابي لابنه 211
في الوصف والرثاء 213
في رثاء أخي ذي الرمة لابن عمه 215
في بعض أشعار الهجاء 217
23 - باب في أقوال الحكماء 219 في تعييب عمرو بن العاص لمعاوية 219
فاضت أو فاظت 221
خطبة الحجاج في أهل العراق 222
في قتل مصعب بن الزبير 223
في جواب عرار لعبد الملك 225
كتاب عبد الرحمن بن الأشعث لعبد الملك وجواب عبد الملك 226
24 - باب في بعض الأشعار وتفسيرها 233 في الغزل 336
أقوال في العناق 240
وصف عمر بن أبي ربيعة 242(1/555)
25 - باب إكرام رسول الله لعبد الله بن الزبير 247 خطبة ابن الزبير في مقتل أخيه مصعب 247
بعض ما قاله أبو طالب 249
حديث الحجاج مع أزاذ مرد بن الهرمذ 250
في فرائض الدين 252
حديث الحجاج مع محمد بن عمير 253
26 - باب في وصف الشجاعة والنجدة 255 في تصنع العجائز 256
في وصف الفقر والغنى 259
في رثاء المهلهل أخاه كليبا 261
في ما تقول العرب زفت أو زففت 262
أقوال ضابىء بن الحرث البرجمي وهو في السجن 263
27 - باب محاولة البجلي أخذ البيعة لعلي بن أبي طالب من معاوية 267 28باب في مدح رجل من بني أسد 277 في وصف الصبر 279
في الكرم 282
29 - باب في تحريض عبد الملك على خالد بن يزيد 285 في زواج الحجاج 286
في الوعظ 288
في خديعة الحجاج بن علاط السلمي 289
في الفقر 291
في الظلم 292
السواقط عند العرب 293(1/556)
30 - باب في ما أنشد السعدي 297 في حديث عمر بن عبد العزيز لمؤدبه 299
في وصف الذئب 301
في الكرم والجود 309
31 - باب في الخطابة 311 خطبة الحجاج في أهل العراق 312
حديث أبي شجرة السلمي لعمر بن الخطاب 317
في أقوال عمر بن الخطاب 319
للحطيئة في أيام ردته 321
32 - باب في أشعار المولدين 3231 حلم الحسن بن علي بن أبي طالب 325
من أشعار اسحق بن خلف البهراني 337
من أقوال أبي دلف العجلي 340
بما يحكم بالنبل والاستصغار 342
في سؤال كسرى لهوذة بن علي عن بنيه 343
في هجاء أبي عيينة 343
عتاب أبي عيينة لذي اليمنين 349
33 - باب في كلام الحكماء 359 حديث خالد بن صفوان مع بلال بن أبي بردة 360
في الدهاء والاحتيال والمكر 361
حلم سوار بن عبد الله 363
في الرثاء 365
34 - باب في بعض هجاء جرير 373 هجاء يحيى بن نوفل للعريان بن الهيثم 377
المؤنث الذي يصاغ على وزن فعال 380
من كلام إمرأة زوجت في طيء 383(1/557)
جرير يعير الفرزدق 390
غارة النعمان بن المنذر على تميم 392
صعصعة بن ناجية بين يدي الرسول 393
لهو النعمان بن المنذر 399
35 - باب 401 من كلام الموالي 402
هروب العديل بن الفرخ العجلي من الحجاج 405
أقوال عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن الحكم 407
سوار بن المضرب يهرب من الحجاج 408
حديث محمد بن عبد الله وقد هرب من الحجاج 409
الحجاج عند دخول مكة 411
الحجاج يفقد ابنه وأخاه 412
كتاب الحجاج إلى الوليد لما مات أخوه 415
فعل معاوية إزاء كيد البطريق 417
كتاب معاوية إلى قيس بن سعد ورد قيس عليه 419
36 - باب 421 إتصال أم بلال بجرير 424
كياسة أولاد السراري 426
37 - باب في طول اللحية 429 في تفسير لفظة النكاح 432
طلاق عمرو بن عثمان ابنة السائب 433
في مدح عبد الله بن الزبير 434
جواب علي بن الحسين عن سبب إخفاء نسبه عند السفر 438
جرير يمدح هشام بن عبد الملك 438
عمر بن الخطاب أول المؤرخين 442
في مدح أبي البختري 443(1/558)
38 - باب في حضرة عبد الملك ابن مروان 445 بنات ذي الأصبع العدواني 447
مدح الحجاج للمهلب 450
كثير عزة ينقد أشعار العرب 454
ما قالته عائشة لما رأت رجلا متماوتا 458
حديث سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب مع هشام بن عبد الملك 461
مدح أبي الأسود الدؤلي لعبد الله بن زياد 462
لنصر بن الحجاج 466
39 - باب قيس بن عاصم يخاطب زوجته 469 قيس بن عاصم يقسم الصدقات 471
في الهجاء 472
حديث الحطيئة مع الزبرقان 473
حديث الحطيئة لأبناء عم الزبرقان 476
استعطاف الحطيئة لعمر 479
الحجاج والخوارج 480
40 - باب في تكذيب الأعراب 483 ليلى بنت عروة تنشد لأبيها 485
غارة بكر بن وائل على بني تميم 487
أكاذيب المهلهل في شعره 488
فخر أبي ربيع 488
حديث ابن حطان للفرزدق 490
كذب عمرو بن معدي كرب 491
من كذب أحدهم على رسول الله 492
عبد الله بن الزبير يدعي الشعر 493(1/559)
41 - باب ما يجوز فيه يفعل فيما ماضيه فعل مفتوح العين 495 42باب في عيوب النطق 497 أحاديث معاوية في الفصاحة 501
43 - باب في أشعار العرب 505 من أشعار عمر بن أبي ربيعة 508
للحرث بن عباد في مقتل ابنه 509
جواب النميري لجرير 511
من أشعار عمر بن أبي ربيعة 511
من طرائف «أبي عتيق» 513
من أشعار ابن نمير الثقفي 515
من أشعار عمر بن أبي ربيعة 516
44 - باب في الغناء عند العرب 525 إتهام سعد بن مصعب بن الزبير 533
الشماخ يمدح غرابة بن أوس 537
مدح لعبد الله بن قيس الرقيات في مصعب بن الزبير 538
قيس يمدح عبد الله بن جعفر 538
قيس يمدح عبد الملك 539
مدح موسى شهوات لحمزة بن الزبير 540
45 - باب في المدح والشكوى والرثاء مدح عمر بن العزيز 541 شكوى جرير من سعد الأزدي 542
في نعي عمر بن عبد العزيز 542
شكوى أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز 545
في رثاء عمر بن عبد العزيز 546
عويف القوافي يرثي سليمان بن عبد الملك 547(1/560)
الجزءالثاني(2/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلميّة بيروت لبنان الطبعة الأولى 1407هـ 1987م الطبعة الثانية 1409هـ 1989م يطلب من: دار الكتب العلميّة بيروت لبنان صرب: 9424/ 11تلكس: 54214 هاتف: 815573366135
الكامل فى اللغة والادب للعلّامة أبي العبّاس محمّد بن يزيد المعروف بالمبرد النحويّ المتوفى سنة 285هـ الجزء الثّانى دار الكتب العلمية بيروت لبنان
سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي كتاب الكامل للمبرد وأدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذا الأربعة فتبع لها وفروع منها أه.(2/2)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلميّة بيروت لبنان الطبعة الأولى 1407هـ 1987م الطبعة الثانية 1409هـ 1989م يطلب من: دار الكتب العلميّة بيروت لبنان صرب: 9424/ 11تلكس: 54214 هاتف: 815573366135
الكامل فى اللغة والادب للعلّامة أبي العبّاس محمّد بن يزيد المعروف بالمبرد النحويّ المتوفى سنة 285هـ الجزء الثّانى دار الكتب العلمية بيروت لبنان
سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي كتاب الكامل للمبرد وأدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذا الأربعة فتبع لها وفروع منها أه.(2/3)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلميّة بيروت لبنان الطبعة الأولى 1407هـ 1987م الطبعة الثانية 1409هـ 1989م يطلب من: دار الكتب العلميّة بيروت لبنان صرب: 9424/ 11تلكس: 54214 هاتف: 815573366135
الكامل فى اللغة والادب للعلّامة أبي العبّاس محمّد بن يزيد المعروف بالمبرد النحويّ المتوفى سنة 285هـ الجزء الثّانى دار الكتب العلمية بيروت لبنان
سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي كتاب الكامل للمبرد وأدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذا الأربعة فتبع لها وفروع منها أه.
ابن خالدون
بسم الله الرحمن الرحيم(2/4)
ابن خالدون
بسم الله الرحمن الرحيم
46 - باب في ما يريح القارىء ويصرف عنه الملل
قال أبو العباس نذكر في هذا الباب من كل شيء شيئا لتكون فيه استراحة للقارىء، وانتقال ينفي الملل لحسن موقع الاستطراف، ونخلط ما فيه من الجدّ بشيء يسير من الهزل ليستريح إليه القلب وتسكن إليه النفس.
قال أبو الدّرداء رحمه الله: إني لأستجمّ (1) نفسي بالشيء من الباطل ليكون أقوى لها على الحق، وقال عليّ بن أبي طالب رحمه الله، القلب إذا أكره عمي، وقال ابن مسعود رحمه الله: القلوب تملّ كما تملّ الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة. وقال ابن عباس رضي الله عنه العلم أكثر من أن يؤتى على اخره فخذ من كل شيء أحسنه، وليس هذا الحديث من الباب الذي ذكرنا ولكن نذكر الشيء بالشيء إما لاجتماعهما في لفظ وإما لاشتراكهما في معنى.
وقال الحسن وليس من هذا الباب: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدّثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وانكم إلّا تزعوها تنزع بكم إلى شرّ غاية، وقد مضى تفسير هذا الكلام. وقال أردشير بن بابك إن للاذان مجّة وللقلوب مللا ففرّقوا بين الحكمتين يكن ذلك استجماما، وكان أنوشروان يقول: القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كاحتياج الأبدان إلى أقواتها من الغذاء.
ويروى أنه أصيب في حكمة ال داود لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من
__________
(1) استجم: أريح.(2/5)
واحدة من أربع: من غدوّ لمعاد، أو إصلاح لمعاش، أو فكر يقف به على ما يصلحه مما يفسده، أو لذّة في غير محرّم يستعين بها على الحالات الثلاث.
وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه يوما: يا أبت إنك تنام نوم القائلة (1). وذو الحاجة على بابك غير نائم، فقال له يا بنيّ إن نفسي مطيّتي فإن حملت عليها في الثّعب حسرتها.
تأويل قوله حسرتها بلغت بها أقصى غاية الإعياء.
قال الله جل وعز: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خََاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (2) وأنشد أبو عبيدة:
إن العسير بها داء مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور
قوله فشطرها يريد قصدها، ونحوها قال الله جل وعز: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} (3) قال الشاعر:
لهنّ الوجا لم كنّ عونا على النّوى ... ولا زال منها ظالع حسير
يعني الإبل يقول هي المفرقة كما قال الاخر:
ما فرّق الالّاف بع ... د الله إلّا الإبل
ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا
وما غراب البين ... إلّا ناقة أو جمل
قال أبو الحسن وزادني فيه غير أبي العباس:
والناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا
والبائس المسكين ما ... تطوى عليه الرحل
(ويقال إنه لأبي الشّيص).
__________
(1) القائلة: نصف النهار.
(2) سورة الملك: الاية 4.
(3) سورة البقرة: الاية 150.(2/6)
قال أبو العباس: فمن قال الف للواحد، قال للجميع ألّاف كعامل وعمّال وشارب وشرّاب وجاهل وجهّال، ومن قال إلف قال للجميع الاف وتقديره عدل وأعدال وحمل وأحمال وثقل وأثقال وقد أنصف الإبل الذي يقول:
ألا فرعى الله الرّواحل إنما ... مطايا قلوب العاشقين الرّواحل
على أنهنّ الواصلات عرى النّوى ... إذا ما نأى بالالفين التّواصل
وقال الاخر:
أقول والهوجاء تمشي والفضل ... قطّعت الأحداج أعناق الإبل
الهوجاء التي تجدّ في البر وتركب رأسها كأن بها هوجا. كما قال:
لله درّ اليعملات الهوج
وكما قال الأعشي:
وفيها إذا ما هجّرت عجرفيّة (1) ... إذا خلت حرباء الوديقة أصيدا (2)
والفضل مشية فيها اختيال، كأنّ مشيتها تخرج عن حطامها فتفضل عليه، والأصل في ذلك أن يمشي الرجل وقد أفضل من إزاره، وتمشي المرأة وقد أفضلت في ذيلها، وإنما يفعل ذلك من الخيلاء (3)، ولذلك جاء في الحديث فضل الإزار في النار».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي تميمة الهجيميّ: وإيّاك والمخيلة، فقال يا رسول الله: نحن قوم عرب فما المخيلة؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبل الإزار، وقال الشاعر: (ويقال إنه لقيس بن الخطيم) (4).
ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا أرخي من المرح الإزار
__________
(1) عجرفية: يقال. جمل عجر في إذا كان ذا إقدام في هوج.
(2) الأصيد الذي يرفع رأسه عند اشتداد الحر.
(3) الخيلاء: بالضم أو الكسر الكبر والعجب وكذا المثلة.
(4) قيس بن الخطيم: هو قيس بن الخطيم الأنصاري.(2/7)
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري:
تمشي الهوينا إذا مشت فضلا ... كأنها عود بانة قصف (1)
(قال أبو الحسن علي بن سليمان ما نعرف هذا البيت إلّا لقيس بن الخطيم الأنصاري أعني تمشي الهوينا).
الوليد بن يزيد يفتخر
وقال أبو العباس: وقال الوليد بن يزيد:
أنا الوليد الإمام مفتخرا ... أنعم بالي وأتبع الغزلا
أنقل رجلي إلى مجالسها ... ولا أبالي مقال من عذلا
غرّاء (2) فرعاء (3) يستضاء بها ... تمشي الهوينا إذا مشت فضلا
ثم نعود إلى الباب قال الراجز يعني إبله أو ناقته:
إنّ لها لسائقا خدلّجا ... لم يدلج اللّيلة فيمن أدلجا
الخدلّج المدمج السّاقين وإنّما عنى المرأة التي ساقه حبه إليها، والكلام يجري على ضروب، فمنه ما يكون في الأصل لنفسه ومنه ما يكنى عنه بغيره، ومنه ما يقع مثلا فيكون أبلغ في الوصف.
ضروب الكناية
والكناية تقع على ثلاثة أضرب أحدها التعمية والتّغطية، كقول النابغة الجعديّ:
أكنّي بغير اسمها وقد عل ... م الله خفّات كلّ مكتتم
__________
(1) قصف: بكسر الصاد. اللين الخوار.
(2) غراء: البيضاء.
(3) الفرعاء: التي تم شعرها.(2/8)
وقال ذو الرّمة استراحة إلى التصريح من الكناية:
أحبّ المكان القفر من أجل أنني ... به أتغنّى باسمها غير معجم
وقال أحد القرشيين هو محمد بن نمير الثقفي:
وقد أرسلت في السّر أن قد فضحتني ... وقد بحت باسمي في النسيب (1) وما تكني
ويروى أن عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة قال شعرا وكتب به بحضرة ابن أبي عتيق إلى امرأة محرمة وهو:
ألمّا بذات الخال (2) فاستطلعا لنا ... على العهد باقي ودّها أم تصرّما
وقولا لها إنّ النوى (3) أجنبية (4) ... بنا وبكم قد خفت أن تتيمّما
قال فقال له ابن أبي عتيق ماذا تريد إلى امرأة مسلمة محرمة تكتب إليها بمثل هذا الشعر؟ قال فلما كان بعد مديدة قال له ابن أبي ربيعة: إما علمت أن الجواب جاءنا من عند ذاك الإنسان، فقال له ما هو فقال كتبت:
أضحى قريضك بالهوى نمّاما ... فاقصد هديت وكن له كتّاما
واعلم بأنّ الحال حين ذكرته ... قعد العدو به عليك وقاما
ويكون من الكناية وذاك أحسنها الرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره.
قال الله، وله المثل الأعلى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ} [5] إِلى ََ نِسََائِكُمْ (6) وقال {أَوْ لََامَسْتُمُ النِّسََاءَ} (7) والملامسة في قول أهل المدينة
__________
(1) النسيب: ذكر محاسن المرأة والتشبب بها في الشعر.
(2) الخال: شامة في البدن يخالف لونها لونه.
(3) النوى: يصح أن يراد بالنوى الوجه الذي يذهب فيه.
(4) أجنبية: معناه تجانبنا وتباعدنا ويراد به البعد وأجنبية على هذا توكيد لمعنى البعد.
(5) الرفث: محركا كلام متضمن لما يستقبح من ذكره كالجماع.
(6) سورة البقرة: الاية رقم 187.
(7) سورة المائدة: الاية رقم 6.(2/9)
مالك وأصحابه غير كناية إنما هو اللّمس بعينه، يقولون في الرجل تقع يده على امرأته أو على جاريته بشهوة إن وضوءه قد انتقض، وكذلك قولهم في قضاء الحاجة جاء فلان من الغائط، وإنما الغائط الوادي وكذلك المرأة قال عمرو بن معدي كرب الزبيديّ:
فكم من غائط من دون سلمى ... قليل الأنس ليس به كتيع (1)
وقال الله جل وعز في المسيح بن مريم وأمه صلى الله عليهما {كََانََا يَأْكُلََانِ الطَّعََامَ} (2) وإنما هو كناية عن قضاء الحاجة. وقال: وقالوا لجلودهم لما شهدتم علينا، وإنما هي كناية عن الفروج وهذا كثير.
متابعة ضروب الكناية
والضرب الثالث من الكناية التفخيم والتعظيم ومنه اشتقت الكنية وهو أن يعظّم الرجل، أن يدعى باسمه ووقعت في الكلام على ضربين: وقعت في الصبي على جهة التفاؤل بأن يكون له ولد ويدعى بولده كناية عن اسمه، وفي الكبير أن ينادى باسم ولده صيانة لاسمه، وإنما يقال كني عن كذا بكذا أي ترك كذا إلى كذا لبعض ما ذكرنا. وكان خالد بن عبد الله القسريّ لعنه الله يلعن عليّ بن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه على المنبر فيقول: فعل الله على علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة وأبي الحسن والحسين، ثم يقبل على الناس فيقول أكنيت، فهذا تأويل هذا. قال أبو العباس ونرجع إلى الباب الذي قصدنا له.
__________
(1) ليس به كتيع: أي أحد يذكر أن بينه وبين محبوبته أودية كثيرة لا يمكن السفر فيها فيصعب الوصول إليها.
(2) سورة المائدة: الاية رقم 75.(2/10)
قال إعرابي:
وحقّة مسك (1) من نساء لبستها ... شبابي (2) وكأس باكرتني شمولها (3)
جديدة سربال الشباب كإنها ... أباءة برديّ سقتها غيولها (4)
مخمّلة باللحم (5) من دون خصرها ... تطول القصار والطوال تطولها
قوله باكرتني شمولها زعم الأصمعي أن الخمر إنما سميت شمولا لأن لها عصفة كعصفة الريح الشمال. وقوله إباءة وبرديّ، الأباءة القصبة وجمعها الأباء.
قال كعب بن مالك الأنصاري:
من سرّه ضرب يرعبل (6) بعضه ... بعضا كمعمعة الأباء المحرق
المعمعة صوت إحراقه، يقال سمعت معمعة القصب والقوصرّة (7) في النار، أي صوت احتراقها وإنما شبه المرأة بالبردية والقصبة لنقاء اللون المستتر منها وما والاه ورقته. قال حميد بن ثور الهلالي:
لم ألق عمرة بعد إذ هي ناشيء (8) ... خرجت معطّفة (9) عليها مئزر
(العطاف الوشاح من النساء)
__________
(1) وحقة مسك: الحقة بالضم المرأة وأضافها إلى المسك لطيبها وتعلق النفس بها.
(2) لبستها شبابي: يريد تيممت بها في شبابي كله.
(3) الشمول بالفتح الخمر أو البارد منها لأنها تشمل الناس بريحها.
(4) الغيول: جمع غيل بالفتح، الماء الجاري على وجه الأرض.
(5) مخملة باللحم في معنى مقذفة باللحم.
(6) يرعبل بعضه بعضا: أي يمزق ويقطع.
(7) القوصرة بتشديد الراء وعاء للتمر يتخذ من القصب.
(8) الناشيء: الجارية الغلام جاوز حد الصغر.
(9) المعطفة: التي ليست العطاف مثل كتاب وهو الراء وسمي عطافا لوقوعه على العطفين وهما ناميتا العنق.(2/11)
برزت عقيلة أربع (1) هادينها (2) ... بيض الوجوه كأنّهنّ العنقر
(العنقر أصول القصب يقال عنقر وعنقر) وفي هذا الشعر:
ذهبت بعقلك ريطة مطويّة ... وهي التي تهدى بها لو تنشر
(قال أبو الحسن أنشدنيه ثعلب في قوله لو تنشر تشعر):
فهممت أن أغشى إليها محجرا (3) ... ولمثلها يغشى إليه المحجر
وقوله سقتها غيولها الغيل (4) ههنا الأجمة ومن هذا قولهم: أسد غيل. قال طرفه:
أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كلّ أمون (5) وطمر (6)
وقد أملينا جميع ما في الغيل والغيل. وقوله تطول القصار والطوال تطولها طال يكون على ضربين: أحدهما تقديره فعل وهو ما يقع في نفسه انتقالا لا يتعدى إلى مفعول نحو ما كان كريما فكرم، وما كان وضيعا وقد وضع وما كان شريفا وقد شرف، وكان الشيء صغيرا فكبر وكذلك كان قصيرا فطال وأصله طول، وقد أجبرنا بقصة الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وهما متحركان. وعلى ذلك يقال في الفاعل فعيل نحو شريف وكريم وطويل فإذا قلت طاولني فطلته أي فعلوته طولا، فتقديره فعل نحو خاصمني فخصمته وضاربني فضربته وفاعله طائل كقولك ضارب وخاصم. وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الرّبعة وإذا مشى مع الطوال طالهم.
__________
(1) عقيلة أربع: أي أكرم نساء أربع.
(2) هادينها: يقال تهادت المرأة في مشيتها تمايلت وكل من فعل ذلك بأحد فهو يهاديه.
(3) محجر بفتح فسكون قصبة باليمامة وموضع بديار بني عقيل وواد بين بلاد بني عذرة وغطفان.
(4) الغيل: هذا مرادف للمعنى الذي ورد سابقا.
(5) الأمون بالفتح الناقة القوية الوثيقة الخلق.
(6) الطمر: بالكسر الطاء: الفرس والجواد يقول: إنهم أهل شجاعة ونجدة وكرم إذا شربوا وهبوا أكرم أموالهم.(2/12)
جواب رياح بن سنبح لجرير
وقال رباح بن سنبح الزنجيّ مولى بني ناجية وكان فصيحا يجيب جرير لما قال جرير:
لا تطلبنّ خولة في تغلب ... فالزّنج أكرم منهم أخوالا
فتحرك رياح فذكر أكثر من ولدته الزنج من اشراف العرب في قصيدة مشهورة ومعروفة يقول فيها:
والزّنج لو لاقيتهم في صفّهم ... لاقيت ثمّ جحاجحا (1) أبطالا
ما بال كلب بني كليب سبّهم ... إن لم يوازن حاجبا وعقالا
إن الفرزدق صخرة عاديّة ... طالت فليس تنالها الأجبالا
يريد طالت الأجبال فليس تنالها. ثم نعود إلى ذكر الباب.
من غزل مروان بن أبي حفصة
وقال مروان بن أبي حفصة وهو مروان بن سليمان بن يحيى بن يحيى بن أبي حفصة واسم أبي حفصة يزيد:
إنّ الغواني طالما قتّلننا ... بعيونهنّ ولا يدين قتيلا
من كلّ انسة (2) كأنّ حجالها (3) ... ضمّنّ أحور في الكناس كحيلا
أردين عروة والمرقّش قبله ... كلّ أصيب وما أطاق ذهولا
ولقد تركن أبا ذؤيب هائما ... ولقد تبلن (4) كثيّرا وجميلا
وتركن لابن أبي ربيعة منطقا (5) ... فيهنّ أصبح سائرا محمولا
__________
(1) الجحاجح: السيد الكريم.
(2) الانسة: المرأة الطيبة النفس.
(3) الحجال: جمع حجلة بالتحريك وهي بيت يستر بالثياب له أزرار كبار يتخذ للنساء وغيرهن.
(4) تبلن: ذهني يعقله.
(5) منطقا أراد به الكلام يقول إن النساء حملن ابن أبي ربيعة أن يقول فيهن كلاما أصبح سائرا في الناس والأمثال يحمله كل غاد ورائح.(2/13)
إلا أكن ممن قتلن فإنني ... ممن تركن فؤاده مخبولا (1)
قوله ولا يدين قتيلا، يقال ودى يدي وكل ما كان من فعل مما فاؤه واو ومضارعه يفعل فالواو ساقطة منه لوقوعها بين ياء وكسرة، وكذلك ما كان منه على فعل يفعل لأن العلة في سقوط الواو كسرة العين بعدها وقد مضى تفسير هذا ولكن في يدين علة أخرى، وهي أن الياء التي هي لام الفعل بعد كسرة فهي تعتلّ اعتلال اخر يرمي وأوله يعتل اعتلال واو يعد واحتمل علتين لأن بينهما حاجزا. ومثل ذلك وعى يعي ووقى يقي ووشى يشي وونى في أمره يني وما أشبه ذلك، ويقع في فعل نحو ولي الأمير الان يلي، فإذا أمرت كان الفعل على حرف واحد في الوصل لاتصاله بما بعده تقول: يا زيد، ع كلاما وش ثوبا.
في الساكن والمتحرك
وتقول: لي عمرا يا زيد من وليت. فإذا وقفت قلت له، وشه وقه لا يكون إلّا ذلك لأن الواو تسقط فتبتدىء بمتحرك لا يحتاج إلى ألف وصل. فإذا وقفت احتجت إلى ساكن تقف عليه، فأدخلت الهاء لبيان الحركة في الأول ولم يجز إلّا ذلك. ومن قال لك: ألفظ لي بحرف واحد غير موصول فقد سألك محالا لأنك لا تبتدىء إلا بمتحرك، ولا تقف إلّا على ساكن فقد قال لك، ألفظ لي بساكن متحرك في حال. وقوله ضمّنّ يقال ضمّن القبر زيدا أو ضمّن القبر زيد كلّ صحيح فمن قال: ضمّن القبر زيدا فإنما أراد جعل القبر ضمن زيد، ومن قال ضمّن زيد القبر فإنما أراد جعل زيد في ضمن القبر، وينشد هذا البيت على وجهين (لأبي حيّة النّميري):
وما غائب من غاب يرجى إيابه ... ولكنّه من ضمّن اللّحد غائب
ومن روى من ضمّن اللحد غائب يريد من ضمّنه اللحد، وحذف الهاء من صلة من وهذا من الواضح الذي يحتاج إلى تفسير، وقوله، أحور يعني
__________
(1) مخبولا فاسد العقل.(2/14)
ظبيا وأهل الغريب يذهبون إلى أن الحور في العين شدة سواد سوادها وشدة بياض بياضها، والذي عليه العرب إنما هو نقاء البياض فعند ذلك يتضح السواد، وقد فسرنا الحور والحواريّ. والكناس حيث تكنس البقرة والظبية وهو أن تتخذ في الشجرة العاديّة كالبيت تأوي إليه وتبعر فيه، فيقال إن رائحته أطيب رائحة لطيب ما ترتعي.
من غزل ذي الرمة
قال ذو الرّمّة:
إذا استهلّت (1) عليه غيبة أرجت ... مرابض (2) العين حتى يأرج الخشب
كأنّه بيت عطّار يضمّنه ... لطائم المسك يحويها وتنتهب
قوله غبية هي الدّفعة من المطر، وعند ذلك تتحرك الرائحة، والأرج توهّج الريح وإنما يستعمل في الريح الطيبة والعين جمع عيناء يعني البقرة الوحشية وبها شبّهت المرأة فقيل حور عين، واللطيمة الإبل التي تحمل العطر والبزّ لا تكون لغير ذلك فيقول: ضمّنّ ظبيا أحور العين أكحل، وجعل الحجال كالكناس.
من طرائف العشاق
وقال ابن عباس في قول الله جل وعز: {فَلََا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوََارِ الْكُنَّسِ} (3). قال: أقسم ببقر الوحش لأنها خنس الأنوف والكنّس التي تلزم الكناس. وقال غيره أقسم بالنجوم التي تجري بالليل وتخنس بالنهار وهو الأكثر. وقوله: أردين يقول أهلكن والرّدى الهلاك والموت من ذا والذهول والانصراف يقال ذهل عن كذا وكذا إذا انصرف عنه إلى غيره. (قال الله عز
__________
(1) استهلت: اشتد أنصبابها.
(2) المرابض: جمع مريض وهو الموضع الذي تأوي إليه البقر والغنم.
(3) سورة التكوير: الاية رقم 150.(2/15)
وجل {يَوْمَ تَرَوْنَهََا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمََّا أَرْضَعَتْ} (1) أي تسلى وتنسى عنه إلى غيره). قال كثيّر:
صحا قلبه (2) يا عزّ أو كاد يذهل (3) ... وأضحى يريد الصّرم (4) أو يتدلّل (5)
وقوله: ولقد تبلن كثيّرا وجميلا، أصل التّبل الترة يقال تبلي عند فلان قال حسان بن ثابت:
تبلت فؤادك في المنام خريدة ... تشفي الضّجيع ببارد بسّام
والخريدة الحيّية. وقوله ممن تركن فؤاده مخبولا، يريد الخبل وهو الجنون ولو قال مخبولا لكان حسنا يريد مصيدا واقعا في الحبالة، كما قال الأعشى:
فكلنا هائم في إثر صاحبه ... دان وناء ومخبول ومختبل
وخبّرت أن رجلا جافيا عشق قينة حضريّة فكلمها يوما على ظهر الطريق فلم تكلمه فظن أن ذاك حياء منها فقال: يا خريدة قد كنت أحسبك عروبا (6) فما بالنا نمقك وتشنئينا فقالت: يا ابن الخبيثة أتجمّشني (7) بالهمز (8).
الخريدة الحيية والعروب الحسنة التّبعّل وفسّر في القران على ذلك في قول: {عُرُباً أَتْرََاباً} (9) فقيل هنّ المحبات لأزواجهنّ. قال أوس بن حجر.
__________
(1) سورة الحج الاية رقم 2.
(2) صحا قلبه: ترك الصبا والباطل.
(3) كاد يذهل: يسلو وينصرف عن الهوى.
(4) الصرم: القطيعة والهجر.
(5) يتدلل: يثق بالمحبة فيسرف.
(6) عروبا: بالفتح المرأة الحسناء الضحوك.
(7) اتجمشني: من التجميش وهو الملاعبة والمغازلة.
(8) الهمز: القرص والضغط شبهت كلامه بذلك لجفائه وغلظته.
(9) سورة الواقعة: الاية 37.(2/16)
(ويقال عبيد بن الأبرص):
وقد لهوت بمثل الرّئم انسة ... تصبي الحليم عروب غير مكلاح
وذكر الليثي أن رجلا أحب جارية ولم يكن يحسن مما يتوصّل به إلى النساء شيئا إلا أنه كان يحفظ القران، فكان يتوصل إليها بالاية بعد الاية فكان أن وعدته فأخلفته، وتحيّن وقت مرورها فقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مََا لََا تَفْعَلُونَ} (1). وإن خرجت خرجة ولم يعلم بها فينتظر تحيّنها في أخرى فتلا: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وإن وشى به إليها واش كتب إليها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جََاءَكُمْ فََاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهََالَةٍ} (2)، وذكروا أن أبا القماقم بن بحر السّقّاء عشق جارية مدينية فبعث إليها أنّ إخوانا لي زاروني فابعثي إليّ برؤوس حتى نأكلها ونصطبح على ذكرك ففعلت، فلما كان اليوم الثاني بعث إليها أن القوم مقيمون لم نفترق فابعثي إليّ بقليّة جزريّة (3) وبقريّة قديّة حتى نتغذّاها ونصطبح على ذكرك. فلما كان في اليوم الثالث بعث إليها إنّا لم نفترق فابعثي إليّ بسنبوسك حتى نصطبح اليوم على ذكرك. فقالت لرسوله إني رأيت الحبّ يحلّ في القلب ويفيض إلى الكبد والأحشاء وإن حبّ صاحبنا هذا ليس يجاوز المعدة.
هدية أبي العتاهية إلى أمير المؤمنين
وخبّرت أن أبا العتاهية كان قد استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين المهديّ في النّيروز (4) والمهرجان فأهدى في أحدهما برنيّة ضخمة فيها ثوب ناعم مطيّب، قد كتب في حواشيه.
نفسي بشيء من الدنيا معلّقة ... الله والقائم المهديّ يكفيها
__________
(1) سورة الصافات: الاية 2.
(2) سورة الحجرات: الاية رقم 49.
(3) جزرية: مقطعة جاهزة للأكل.
(4) النيروز: عند الفرس أوّل يوم تنزل الشمس فيه برج الحمل وعند القبط أول السنة.(2/17)
إني لأيأس منها ثم يطمعني ... فيها احتقارك للدّنيا وما فيها
فهمّ يدفع عتبة إليه فجزعت وقالت: يا أمير المؤمنين حرمتي وخدمتي (1)
أتدفعني إلى رجل قبيح المنظر بائع جرار ومكتسب بالعشق فأعفاها، وقال: إملؤا هذه البرنيّة مالا فقال للكتّاب أمر لي بدنانير فقالوا ما ندفع ذلك ولكن إذا شئت أعطيناك دراهم إلى أن يفصح بما أرد فاختلف في ذلك حولا:
فقالت عتبة: لو كان عاشقا كما يزعم لم يكن يختلف منذ حول في التمييز بين الدراهم والدنانير وقد أعرض عن ذكري صفحا. ودعت أبا الحرث جمّيز واحدة كان يحبها فجعلت تحادثه ولا تذكر الطعام فلما طال ذلك به قال جعلني الله فداك لا أسمع للغذاء ذكرا! قالت أما تستحي أما في وجهي ما يشغلك عن ذا؟ قال لها جعلني الله فداك لو أن جميلا وبثينة قعدا ساعة لا يأكلان شيئا لبزق كلّ واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا. وأنشدت لإعرابي:
وقد رابني من زهدم أنّ زهدما ... يشدّ على خبزي ويبكي على جملي
فلو كنت عذريّ العلاقة لم تكن ... سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
وقال أعرابي:
ذكرتك ذكرة فاصطدت ضبّا ... وكنت إذا ذكرتك لا أخيب
من نسيب ذي الرمة
وقال ذو الرمة:
ألم تعلمي يا ميّ أنا وبيننا ... مها ولطرف العين فيهنّ مطرح
ذكرتك ان مرّت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح (2)
من المؤلفات الرّمل أدماء (3) حرّة (4) ... شعاع الضّحى في لونها يتوضّح (5)
__________
(1) حرمتي وخدمتي: أي اذكرهما لي. وفي ذلك استعطاف واستمتع.
(2) تسنح: يقال سنح الظبي سنوحا.
(3) الأدماء: التي لونها الأدمة بالضم وهي في الظباء لون مشرب بياضا وقد أدم كعلم وكرم.
(4) الحرة بالضم الكريمة.
(5) يتوضح: يطهر ويستبين.(2/18)
هي الشّبه أعطافا وجيدا ومقلة ... وميّة أبهى بعد منها وأملح
كأنّ البرى والعاج عيجت متونه ... على عشر (1) نهي (2) به السّيل أبطح
لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى ... تباريح من ذكراك للموت أروح
قوله مها وواحدتها مهواة وهو الهواء بين الشيئين، ويقال لفلان في داره مطرح إذا وصفها بالسّعة، يقال: فلان يطرح بصره كذا مرة وكذا مرة، وأنشد سيبويه:
نظّارة (3) حين تعلو الشمس راكبها ... طرحا بعيني لياح فيه تحديد
اللياح من البياض واللّوح الهواء والشادن الذي قد شدن أي تحرك. وقوله تشرئبّ يقال إذا وقف ينظر كالمتحير قد اشرأبّ نحوي ويقال هو يسرح في المرعى. وقوله من المؤلفات يقال الفت المكان أولفه إيلافا ويقال ألفته ألفا وفي القران: {لِإِيلََافِ قُرَيْشٍ إِيلََافِهِمْ} (4) وقرؤا إلفهم على القصر. وقوله الرمل النصب فيه أجود بالفعل ويجوز الخفض على شيء تذكره بعد الفراغ، من هذا الباب إن شاء الله. وأصل الهجان الأبيض والعطف ما انثنى من العنق قال ثانى عطفه ويقال للأردية العطف لأنها تقع على ذلك الموضع.
من أحاديث عمر بن الخطاب
وفي الحديث أن قوما يزعمون أنهم من قريش أتوا عمر بن الخطاب رحمه الله وكان طائفا ليثبتهم في قريش فقال: إخرجوا بنا إلى البقيع فنظر إلى أكفّهم
__________
(1) العشر كصرد شجر فيه حراق وهو شجر طويل تشبه به النساء في الطول واللين.
(2) النهي بالفتح: والكسر القدير أو شبهه وكأنه أراد ذي نهي أي عشر.
يصف النساء عليهن الحلى وفي أطرافهن الأساور والخلاخيل يشبههن بهذا الشجر الغض اللين.
(3) النظارة: يصف ناقته بالنشاط والقوة.
(4) سورة قريش: الاية 1.(2/19)
ثم قال أطرحوا العطف واحدها عطاف ثم أمرهم فأقبلوا وأدبروا ثم أقبل عليهم فقال ليست بأكفّ قريش ولا شمائلها فأعطاهم فيمن هم منه. والجيد العنق والبرى الخلاخيل واحدتها برة وهي من الناقة التي تقع في مارن الانف والذي يقع في العظم يقال له الخشاش (1). والعاج كان يتخذ مكان الأسورة. قال جرير:
ترى العبس الحوليّ (2) جونا بكوعها ... لها مسكا (3) من غير عاج ولا ذبل
العبس ما يتعلق من الأبعار والبول بأذناب الإبل والوذخ الذي يتعلق بأطراف ألاء الشاء. ويكون العبس في أذناب الإبل من البول إذا خثر. والجون ههنا الأسود وهو الأغلب فيه والكوع رأس الزّند الذي يلي الإبهام والكرسوع رأسه الذي يلي الخنصر والمسكة السوار والذّبل شيء يتخذ من القرون كالأسورة ويقال سوار وسوار وإسوار قالت الخنساء.
كأنّه تحت طيّ البرد اسوار.
والعشر شجر بعينه والأبطح ما انبطح من الوادي يقال أبطح وبطحاء يا فتى وأبرق وبرقاء وأمعز ومعزاء وهذا كثير. والتباريح الشدائد يقال برّح به، وفي الحديث فأين أصحاب النهر قال لقوا برحا، والعرب لا تعرفه إلّا ساكن الراء.
قال جرير:
ما كنت أوّل مشغوف أضرّ به ... برح (4) الهوى وعذاب غير تفتير (5)
(قال أبو الحسن وقد سمعنا من غير أبي العباس يقال: لقيت منك برحا بالفتح ويقال لقي منه البرحين أي الدواهي الشداد التي تبرّح). قال أبو
__________
(1) الخشاش: بالكسر ما يدخل في عظم أنف البعير من خش.
(2) الحوليى: نسبة إلى الحول.
(3) المسك بالتحريك الأساور والخلاخيل.
(4) برح: أذى.
(5) التفتير: سكون الشيء بعد شدته ومدته وهنا يقول الشاعر إن الهوى والعشق برح بخلق كثير.(2/20)
العباس في المثل السائر: قيل لرجل: ما خفي؟ قال ما لم يكن. وفي تفسير هذه الاية يعلم السرّ وما أخفى قال ما حدّثت به نفسك كما قال أو أكننتم في أنفسكم. وتقديره في العربية وأخفى منه والعرب تحذف مثل هذا فيقول القائل مررت بالفيل أو أعظم وأنه لكالبقّة أو أصغر، ولو قال رأيت زيدا أو شبيها لجاز لأن في الكلام دليلا، ولو قال رأيت الجمل أو راكبا وهو يريد عليه لم يجز لأنه لا دليل فيه. والأوّل إنما قرّب شيئا من شيء وههنا إنما ذكر شيئا ليس من شكل ما قبله. فأما قوله جل ثنائه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (1) ففيه قولان أحدهما وهو المرضيّ عندنا إنما هو وهو عليه هيّن لأن الله جل وعز لا يكون عليه شيء أهون من شيء اخر وقد قال معن بن اوس:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنيّة أوّل
أراد: وإني لوجل وكذلك يتأوّل ما في الأذان، الله أكبر الله أكبر أي الله كبير لأنه إنما يفاضل بين الشيئين إذا كانا من جنس، يقال هذا أكبر من هذا إذا شاكله في باب فأما الله أجود من فلان والله أعلم بذلك منك فوجه بيّن لأنّه من طريق العلم والمعرفة والبذل والإعطاء.
في صفات الله
وقوم يقولون: الله أكبر من كل شيء وليس يقع هذا على محض الرؤية لأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء وكذلك قول الفرزدق:
إن الذي سمك (2) السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول
جائز أن يكون قال للذي يخاطبه من بيتك فاستغنى عن ذكر ذلك بما جرى من المخاطبة والمفاخرة، وجائز أن تكون دعائمه عزيزة طويلة. قال الراجز:
__________
(1) سورة الروم: الاية رقم 27.
(2) سمك السماء: رفعها.(2/21)
قبّحتم يا ال زيد نفرا ... ألأم قوم أصغرا وأكبرا
يريد صغارا وكبارا. فأما قول مالك بن نويرة في ذؤاب بن ربيعة حيث قتل عتيبة بن الحرث بن شهاب وفخر بني أسد بذلك مع كثرة من قتلت بنو يربوع منهم:
فخرت بنو أسد بمقتل واحد ... صدقت بنو أسد عتيبة أفضل
فإنما معناه أفضل ممن قتلوا على ذلك يدل الكلام وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله:
فخروا بمقتله ولا يوفى به ... مثنى سراتهم الذين نقتّل
والقول الثاني في الاية وهو أهون عليه عندكم لأن إعادة الشيء عند الناس أهون من ابتدائه حتى يجعل شيئا من لا شيء ثم نعود إلى الباب.
قال زهير:
ومهما تكن عند امرىء من خليقة (1) ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم
فهذا مثل المثل الذي ذكرناه وقال عمرو بن العاص: إذا أنا أفشيت سرّي إلى صديقي فأذاعه فهو في حلّ فقيل له: وكيف ذاك؟ قال أنا كنت أحقّ بصيانته. وقال امرؤ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزّان
وأحسن ما سمع في هذا ما يعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقائل يقول هو له ويقول اخرون قاله متمثلا ولم يختلف في أنه كان يكثر إنشاده:
فلا تفش سرّك إلا إليك ... فإن لكلّ نصيح نصيحا
وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا (2)
__________
(1) الخليقة: الطبيعة.
(2) أديما صحيحا: كناية عن وقوعهم في الأعراض ونهشهم لها.(2/22)
وذكر العتبيّ أن معاوية أسرّ إلى عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان حديثه، قال عثمان: فجئت إلى أبي فقلت إن أمير المؤمنين أسرّ أليّ حديثك أفأحدثك به قال لا إنه من كتم حديثه، كان الخيار إليه ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكا بعد أن كنت مالكا، فقلت له أو يدخل هذا بين الرجل وأبيه؟ فقال لا ولكني أكره أن تذلّل لسانك بإفشاء السر. قال فرحت إلى معاوية فذكرت ذلك له فقال معاوية أعتقك أخي من رقّ الخطأ. وقال معاوية أعنت على عليّ رحمه الله بأربع: كنتت رجلا أكتم سرّي وكان رجلا ظهرة وكنت في أطوع جند وأصلحه وكان في أخبث جند وأعصاه وتركته وأصحاب الجمل وقلت إن ظفروا به كانوا أهون عليّ منه، وإن ظفر بهم اعتددت بها عليه في دينه، وكنت أحبّ إلى قريش منه، فيا لك من جامع إليّ ومفرّق عنه وعون لي وعون عليه.
وقال أزدشير: الداء في كل مكتوم. وقال الأخطل:
إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالعرّ (1) يكمن حينا ثمّ ينتشر
وقال جميل:
ولا يسمعن سرّي وسرّك ثالث ... ألا كلّ سرّ جاوز اثنين شائع
وقال اخر وهو مسكين الدارميّ:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أني جماعها (2)
يظلّون في الأرض الفضاء وسرّهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها (3)
لكل امرىء شعب (4) من القلب فارغ ... وموضع نجوى (5) لا يرام اطّلاعها
__________
(1) العر: داء معد يصيب الإبل.
(2) جماعها بالكسر والتحقيق أي أجمع ما تفرق منها.
(3) انصداعها: أي قطعها وشقها وضرب ذلك مثلا لحرصه على كتمان السر وعدم إفشائه لأحد.
(4) الشعب بالكسر أصله الطريق في الجبل.
(5) النجوى: السر.(2/23)
وقال اخر:
سأكتمه سرّي وأحفظ سرّه ... ولا غرّني أني عليه كريم (1)
حليم فينسى أو جهول يضيعه ... وما الناس إلّا جاهل وحليم
وكان يقال أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه ولم يبده لصديقه فيوشك أن يصير عدوّا فيذيعه. وقال اخر:
ولي صاحب سرّي المكتّم عنده ... مخاريق نيران (2) بليل تحرّق
عطفت على أسراره فكسوتها ... ثيابا من الكتمان لا تتخرّق
فمن تكن الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار صدري بالأحاديث تغرق
فلا تودعنّ الدهر سرّك أحمقا ... فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظا ... من القول ما قال الأريب الموفّق
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق
وقال كعب بن سعد الغنويّ:
ولست بمبد للرجال سريرتي ... وما أنا عن أسرارهم بسؤل
ولا أنا يوما للحديث سمعته ... إلى ههنا من ههنا بنقول
وقد ذكرنا قول العباس بن عبد المطّلب رحمه الله لابنه عبد الله إنّ هذا الرجل قد اختصّك من دون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحفظ عني ثلاثا: لا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تفشينّ له سرّا، ولا تغتب عنده أحدا، فقيل لابن عباس: كلّ واحدة منهنّ خير من ألف دينار فقال: كل واحدة منهنّ خير من عشرة الاف.
__________
(1) كريم: عزيز.
(2) مخاريق نيران: جمع مخراق وهو في الأصل ثوب لف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا استعارها للشعل التي تشعل النار فيها.(2/24)
بين الكذب وإفشاء السر
وقال بعض المحدثين:
لي حيلة فيمن ينمّ ... وليس في الكذّاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
وقال اخر: (قال أبو الحسن هو أبو العباس المبرّد).
إن النّموم أغطّي دونه خبري ... وليس لي حيلة في مفتري الكذب
وقال بعض المحدثين:
كتمت الهوى حتى إذا نطقت به ... بوادر من دمع تسيل على خدّي
وشاع الذي أضمرت من غير منطق ... كأنّ ضمير القلب يرشح من جلدي
وقال جميل بن عبد الله بن معمر العذريّ.
إذا جاوز الاثنين سرّ فإنه ... بنثّ (1) وإفشاء الحديث قمين
وتأويل قمين وحقيق وجدير وخليق واحد أي قريب من ذاك هذه حقيقته، يقال: قمن وقمين في معنى قال الحرث بن خالد المخزومي.
من كان يسأل عنّا أين منزلنا ... فالاقحوانة منا منزل قمن
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع دارا أو عقارا (2) فلم يردد ثمنه في مثله، وذلك مال قمن ألّا يبارك فيه».
وقال الرقاشيّ:
إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق ... كلاما تكلّمنا بأعيننا سرّا
فنقضي ولم يعلم بنا كلّ حاجة ... ولم نكشف النّجوى ولم نهتك السّترا
__________
(1) نث الخبر: أفشاه.
(2) العقارة بالفتحة الضيعة أو النخل أو الأرض.(2/25)
وقال معاوية لعيّاش بن صحار العبديّ ما أقرب الاختصار قال لمحة دالة.
وقيل خير الكلام ما أغنى اختصاره عن إكثاره وقيل النمائم سهم قاتل.
وقال بعض المحدثين:
لا أكتم الأسرار لكن أنمّها ... ولا أدع الاسرار تغلي على قلبي
وإن أحقّ الناس بالسّخف (1) لأمرء ... تقلّبه الاسرار (2) جنبا إلى جنب
وقال اخر:
وأمنع جارتي من كل خير ... وأمشي بالنّميمة بين صحبي
ويقال للنمام القتّات وفي الحديث: «لا يراح القتّات رائحة الجنة». وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله المثلّث»، فقيل: يا رسول الله ومن المثلّث، فقال: الذي يسعى بصاحبه إلى سلطانه فيهلك نفسه وصاحبه وسلطانه». وقال معاوية للأحنف بن قيس في شيء بلغه عنه فانكر ذلك الأحنف، فقال له معاوية: بلّغني عنك الثقة فقال له الأحنف يا أمير المؤمنين إن الثقة لا يبلّغ عنها.
وقال أحد الماضين (وهو طريح بن إسماعيل الثّقفيّ).
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرّا أذيع وإن لم يسمعوا كذبوا
وقال المهلّب بن أبي صفرة: أدنى أخلاق الشريف كتمان السرّ، وأعلى أخلاقه نسيان ما أسرّ إليه. ويقال للنكاح السّرّ على غير وجهه وليس هذا من الباب الذي كنا فيه ولكن يذكر الشيء بالشيء، وهذا حرف يغلط فيه لأن قوما يجعلون السّرّ الزنى وقوم يجعلونه الغشيان، وكلا القولين خطأ إنما هو الغشيان من غير وجهه.
__________
(1) السخف: بالضم دقة العقل ونقصه.
(2) الإسرار: النكاح وهنا كناية.(2/26)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلََكِنْ لََا تُوََاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلََّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً} (1) فليس هذا موضع الزنى.
وقال الحطيئة.
ويحرم سرّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال الأعشى لسلامة ذي فائش الخميريّ (2).
وقومك ان يضمنوا جارة ... وكانوا بموضع أنضادها (3)
فلن يطلبوا سرّها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها (4)
في هذا قولان أحدهما أنهم لا يطلبون اجتراءها إليهم على رغم أوليائها، من أجل مالها غصبا للجوار ولا يسلمونها إذا انقطع رجاؤهم من الثواب والمكافأة، والاخر أنهم لا يرغبون في ذوات الأموال وإنما يرغبون في ذوات الاحساب اختيارا للأولاد وصيانة للأصهار أن يطمع فيهم من لا حسب له.
وقول الحطيئة «ويأكل جارهم أنف القصاع» إنما يريد المستأنف الذي لم يؤكل قبل منه شيء يقال: روضة أنف إذا لم ترع وكأس أنف إذا لم يشرب منها شيء قبل، قال لقيط بن زرارة:
إن الشّواء والنّشيل (5) والرّغف ... والقينة (6) الحسناء والكأس الأنف
«للطاعنين الخيل والخيل خنف» (7)
__________
(1) سورة البقرة: الاية رقم 235.
(2) لسلامة ذي فائش بن يزيد وكان يظهر لقومه في العالم مرة مبرقعا، وفائش وإذ كان يحميه سلامه فنسب إليه.
(3) الانضاد: جمع نضد بالتحريك وهو متاع البيت أو السرير الذي تنضد عليه الثياب ويجعل بعضا فوق بعض يريد وكانوا بموضع يتمكنون فيه منها.
(4) لإزهادها: لقلة مالها.
(5) النشيل: بالفتح ما طبخ من اللحم بغير تابل.
(6) القينة: بالفتح الأمة غنت أو لم تغن وكثيرا ما أطلقت على المغنية.
(7) خنف: جمع خنيف كأمير وهو الذي فيه مرح ونشاط.(2/27)
قال أبو العباس وهذا باب اشترطنا أن نخرج فيه من حزن إلى سهل ومن جدّ إلى هزل ليستريح إليه القارىء ويدفع عن مستمعه الملال نحن ذاكرون ذلك إن شاء الله تعالى.
بكر بن النطاح يمدح مالك الخزاعي
قال بكر بن النّطّاح في كلمة له يمدح فيها مالك بن عليّ الخزاعيّ.
عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى فقالت قم فجئنا بكوكب
فقلت لها هذا التّعنّت (1) كلّه ... كمن يتشهّى لحم عنقاء مغرب
فلو أني أصبحت في جود مالك ... وعزّته ما نال ذلك مطلبي
فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب
مدح الخليع لعاصم الغساني
وقال الخليع في كلمة يمدح بها عاصما الغسّانّي:
أقول ونفسي بين شوق وحسرة ... وقد شخصت (2) عيني ودمعي على خدّي
أريحي بقتل من تركت فؤاده ... بلحظته بين التّأسّف والجهد
فقالت عذاب في الهوى قبل ميتة ... وموت إذا أقرحت قلبك من بعدي
لقد فطنت للجور فطنة عاصم ... لصنع الأيادي الغرّ في طلب الحمد
سأشكوك في الأشعار غير مقصّر ... إلى عاصم ذي المكرمات وذي المجد
لعلّ فتى غسّان (3) يجمع بيننا ... فتأمن نفسي منكم لوعة الصّدّ
وقال إسماعيل بن القاسم:
إنّ السّلام وإنّ البشر من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني
__________
(1) التعنت: إلزام ما يصعب تنفيذه.
(2) شخصت: أي ارتفعت أجفانها وتحدد نظرها وأزعج وهذا لا يكون إلا عند الجهاد والشدة.
(3) لعل فتى غسان: هذا مما يعاب عليه فإن هذا ليس من المدح في شيء بل إنما جعله قوادا.(2/28)
هذا زمان ألحّ النّاس (1) فيه على ... زهو الملوك وأخلاق المساكين
أما علمت جزاك الله صالحة ... عني وزادك خيرا يا ابن يقطين
أنّي أريدك للدنيا وعاجلها ... ولا أريدك يوم الدين للدّين
وقال يزيد بن محمد بن المهلّب المهلّبيّ في كلمة يمدح بها إسحاق بن إبراهيم:
إن أكن مهديا لك الشعر إنّي ... لابن بيت تهدى له الأشعار
غير أني أراك من أهل بيت ... ما على الحرّ أن يسودوه عار
وقال أيضا في كلمة أخرى:
وإذا جددت (2) فكلّ شيء نافع ... وإذا حددت فكلّ شيء ضائر
وإذا أتاك مهلّبيّ في الوغى ... والسيف في يده فنعم الناصر
وقال عبد الله بن الزبير لما أتاه قتل مصعب بن الزبير أشهده المهلّب بن أبي صفرة، قالوا لا، كان المهلب في وجوه الخوارج قال: أفشهده عبّاد بن الحصين الحبطيّ قالوا لا. قال أفشهده عبد الله بن خازم السلميّ قالوا لا فتمثّل عبد الله بن الزّبير فقال:
فقلت لها عيثي (3) جعار وجرّرى ... بلحم امرء لم يشهد اليوم ناصره
جعار اسم من أسماء الضبع وهي صفة غالبة لأنه يقال لها جاعرة، فهذا في بابه كفساق ولكاع وحلاق للمنية، وقد فسرنا هذا الباب مستقصى على وجوهه الأربعة. ويروى أن ابنة جارية لهمّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان قالت له يوما:
أهمام بن مرّة حنّ قلبي ... إلى اللّائي يكنّ مع الرجال
__________
(1) ألح الناس: أكثروا الطلب.
(2) إذا جددت: أي أتاك الله حظا.
(3) عيثي: من العيث وهو الإفساد وقولهم عيثي جعار يضرب مثلا في شيء يتمكن من طالبه.(2/29)
فقال يا فساق أردت صفيحة (1) ماضية فقالت:
أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى صلعاء مشرفة القذال
فقال فجار أردت بيضة حصينة فقالت:
أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى أيد أسدّ به مبالي
قال فقتلها.
من الأشعار التي قيلت في سعيد بن سلم
قال أبو العباس قال أبو الشمقمق وهو مروان بن محمد. وزعم التوّزيّ عن أبي عبيدة قال أبو الشمقمق ومنصور بن زياد ويحيى بن سليم الكاتب من أهل خرسان من بخارية عبيد الله بن زياد (وبخارية اسم قرية من قرى خراسان وبها كان عبيد الله بن زياد) وكان أبو المشمقمق ربما لحن ويهزل كثيرا ويجدّ فيكثر صوابه. قال يمدح مالك بن عليّ الخزاعيّ ويذمّ سعيد بن سلم الباهليّ:
قد مررنا بمالك فوجدناه ... جوادا إلى المكارم ينمي
ما يبالي أتاه ضيف مخفّ (2) ... أم أتته يأجوج من خلف ردم
فانتهينا إلى سعيد بن سلم ... فإذا ضيفه من الجوع يرمي (3)
وإذا خبزه عليه سيكفي ... كهم الله ما بدا ضوء نجم
وإذا خاتم النبيّ سليما ... ن بن داود قد علاه بختم
فارتحلنا من عند هذا بحمد ... وارتحلنا من عند هذا بذمّ
في رثاء سعيد بن سلم
وقال عبد الصّمد بن المعدّل يرثي سعيد بن سلم:
__________
(1) الصفيحة: السيف العريض.
(2) مخف: سىء الحال يقال أخف الرجل إذا خفت حاله وقل ذات يديه.
(3) يرمي: من رمي السحاب إذا اجتمع.(2/30)
كم صغير جبرته بعد يتم ... وفقير نعشته (1) بعد عدم
كلّما عضّت الحوادث (2) نادى ... رضي الله عن سعيد بن سلم
وقال سعيد بن سلم عرض لي أعرابّي فمدحني فبلغ فقال:
ألا قل لساري الليل لا تخش ضلّة ... سعيد بن سلم ضوء كلّ بلاد
لنا سيّد أربى (3) على كل سيد ... جواد حثا في وجه كل جواد
قال فتأخرت عن برّه قليلا فهجاني فبلغ فقال:
لكل أخي مدح ثواب يعدّه ... وليس لمدح الباهليّ ثواب
مدحت ابن سلم والمديح مهزّة (4) ... فكان كصفوان عليه تراب
وقال أبو الشمقمق:
قال لي الناس زر سعيد بن سلم ... قلت للناس لا أزور سعيدا
وأميري فتى خزاعة بالبص ... رة قد عمّها سماحا وجودا
ولنعم الفتى سعيد ولكن ... مالك أكرم البريّة عودا
فقال لوددت انه لم يكن ذكرني مع مالك وإنّه أخذ مني أمنيّته. وقال أبو الشمقمق أيضا:
هيهات تضرب في حديد بارد ... إن كنت تطمع في نوال سعيد
والله لو ملك البحار بأسرها ... وأتاه سلم (5) في زمان مدود
يبغيه منها شربة لطهوره ... لأبي وقال تيمّمن بصعيد
ومثله قول الاخر:
__________
(1) نعشته: جبرته وأحسنت إليه بعد فقر.
(2) عض الحوادث: شدتها يريد كلما نالته الحوادث والخطوب رفع صوته بالدعاء لسعيد بن سلم يتذكره عند الشدة لأنه كان يكشفها عنه.
(3) أربى: زاد في المكرمات.
(4) المديح مهزة: يريد أنه يبعث الممدوح على المعروف والاحسان ويحرك نفسه إليه.
(5) أتاه سلم: يعني في زمان ممدود جمع مد وهو السيل وزمن السيل زمن الرخاء عندهم.(2/31)
لو أنّ قصرك يا ابن يوسف كلّه ... إبر يضيق بها فضاء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قدّ قميصه لم تفعل
وقال مسلم بن الوليد:
ديونك لا يقضى الزمان غريمها (1) ... وبخلك بخل الباهليّ سعيد
سعيد بن سلم ألأم الناس كلّهم ... وما قومه من بخله ببعيد
يزيد له فضل ولكنّ مزيدا ... تدارك منا مجده بيزيد
خزيمة لا بأس به غير أنه ... لمطبخه قفل وباب جديد
في رثاء سعيد بن سلم
وقال عبد الصمد بن المعدّل يرثي عمرو بن سعيد بن سلم وكان عمرو هلك بعيد سعيد بيسير.
رزينا أبا عمر فقلنا لنا عمرو ... سيكفيك ضوء البدر غيبوبة البدر
وكان أبو عمرو معارا حياته ... بعمرو فلما مات مات أبو عمرو
وقال أمير المؤمنين الرشيد يوما لسعيد بن سلم: يا سعيد من بيت قيس في الجاهلية. قال يا أمير المؤمنين بنو فزارة قال فمن بيتهم في الإسلام قال يا أمير المؤمنين من شرّفتموه قال صدقت، أنت وقومك. وحدثني علي بن القاسم بن علي بن سليمان الهاشمي، قال: حدثني رجل من أهل مكة قال:
رأيت في منامي سعيد بن سلم في حياته وفي نعمته وكثرة عدد ولده وحسن مذهبه وكمال مروءته قال: فقلت في نفسي ما أجلّ ما أعطيه سعيد بن سلم! فقال لي قائل وما ذخره الله له في الآخرة أكثر. وكان سعيد بن سلم إذا استقبل السنة التي يستأنف فيها عدد سنيه أعتق نسمة وتصدق بعشرة الاف درهم، فقيل لمديني إن سعيد بن سلم يشتري نفسه من ربه بعشرة الاف درهم فقال إذا لا يبيعه.
__________
(1) الغريم: الدائن.(2/32)
مبلغ احتقار العرب لباهلة
وقال أحمد بن يوسف الكاتب لولد سعيد بن سلم.
أبني سعيد إنكم من معشر ... لا يعرفون كرامة الأضياف
قوم لباهلة بن يعصر إن هم ... نسبوا حسبتهم لعبد مناف
قرنوا الغداء إلى العشاء وقرّبوا ... زادا لعمر أبيك ليس بكاف
وكأنّي لما حططت إليهم ... رحلي نزلت بأبرق العزّاف (1)
بينا كذاك أتاهم كبراهم ... يلحون في التبذير والاسراف
وأنشدني المازني:
سل الله ذا المنّ من فضله ... ولا تسألنّ أبا وائله
فما سأل الله عبد له ... فخاب ولو كان من باهله
قال أبو الحسن وزادني بعض أصحابنا:
(ترى الباهليّ على خبزه ... إذا رامه اكل اكله)
وأنشد أبو العباس لرجل من عبد القيس:
أباهل ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب
ولو قيل للكلب (2) يا باهليّ ... عوى الكلب من لؤم هذا النّسب
وحدثني عليّ بن القاسم قال: حدثني أبو قلابة الجرميّ قال: حججنا مرة مع أبي جزء بن عمرو بن سعيد: قال: وكنا في ذراه وهو إذا ذاك بهي وضيّ، فجلسنا في المسجد الحرام إلى أقوام من بني الحرث بن كعب لم نر أفصح منهم، فرأوا هيئة أبي جزء وإعظامنا إياه مع جماله فقال قائل منهمّ له: أمن
__________
(1) أبرق العزاف: ماء لبني أسد.
(2) ولو قيل للكلب البيت: هذا قمة الفحش في الهجاء واقزعه والعرب تبالغ في مثل هذا مبالغة لا تتفق مع العقل ولا العادة ولكنهم يريدون بالمهجو وإيلامه وإثارة غضبه.(2/33)
أهل بيت الخليفة أنت؟ قال لا، ولكن رجل من العرب قال: ممن الرجل، قال من مصر قال: أعرض (1) ثوب الملبس من أيها عافاك الله قال: رجل من قيس، قال: أين يراد بك صر فصيلتك التي تؤويك، قال: رجل من بني سعد بن قيس، قال: اللهم غفرا من أيها عافاك الله، قال: رجل من بني يعصر، قال: من أيها قال: رجل من باهلة، قال: قم عنا قال أبو قلابة:
فأقبلت على الحارثّيّ فقلت أتعرف هذا قال: ذكر انه باهليّ فقلت هذا أمير ابن أمير ابن أمير ابن أمير ابن أمير ابن أمير قال حتى عددت خمسة ثم قلت، هذا أبو جزء أمير ابن عمرو، وكان أميرا ابن سعيد وكان أميرا ابن سلم وكان أميرا ابن قتيبة وكان أميرا فقال الحارثيّ: الأمير أعظم أم الخليفة فقلت: بل الخليفة، قال: أفالخليفة، أعظم أم النبي قلت: بل النبي قال:
والله لو عددت له في النبوة أضعاف ما عددت له في الإمارة ثم كان باهليّا ما عبأ الله به شيئا. قال: فكادت نفس أبي جزء تخرج فقلت: انهض بنا فإن هؤلاء اسوأ الناس ادابا. (قال أبو الحسن يقال للرجل إذا سئل عن شيء فأجاب عن غيره أعرض ثوب الملبس أي أبدى غير ما يراد منه).
في مجلس قتيبة بن مسلم
وحدّثت ان إعرابيا لقي رجلا من الحاج فقال: له ممن الرجل قال:
باهليّ قال: أعيذك بالله من ذلك، قال: إي والله وأنا مع ذلك مولى لهم، فأقبل الأعرابي يقبل يديه ويتمسح به، قال له الرجل: ولم تفعل ذاك؟ قال:
لأني اثق بان الله عز وجل لم يبتلك بهذا في الدنيا إلا وأنت من أهل الجنة.
ويزعم الرّقاشيّ ان قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله وإلى الات لم يسمع بمثلها فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه،
__________
(1) إعرض ثوب الملبس: يضرب مثلا للرجل يبعد في الانتساب، يقال ممن أنت، فيقول من مضر أو من ربيعة مثلا. أي عممت ولم يخص وذكرت مطلبا عريضا لا يحاط به، وفي رواية أبي عبيدة عرض ثوب الملبس، بتشديد الراء.(2/34)
ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت وفي صحنها قدور ترتقى بالسلالم فإذا بالحضين بن المنذر بن الحرث بن وعلة الرقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم والحضين شيخ كبير، فلما راه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في معاتبته قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلّا أن يأذن له وكان عبد الله يضعّف وكان قد تسوّر حائطا إلى امرأة قبل ذاك فأقبل على الحضين فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان قال: أجل أسنّ عمّك عن تسوّر الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور؟ قال هي أعظم من ألاترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال: أجل ولا عيلان ولو كان راها سمّي شبعان ولم يسمّ عيلان، قال له عبد الله يا أبا ساسان: أتعرف الذي يقول:
عزلنا وأمّرنا وبكر بن وائل ... تجرّ خصاها (1) تبتغي من تحالف
قال أعرفه وأعرف الذي يقول:
وخيبة من يخيب على غنيّ ... وباهلة بن يعصر والركاب
(يريد يا خيبة من يخيب) قال أفتعرف الذي يقول:
كأنّ فقاح (2) الأزد حول ابن مسمع ... وقد عرقت أفواه بكر بن وائل
قال أعرف هذا وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمّهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أما الشعر فأراك ترويه ولكن هل تقرأ من القران شيئا؟ قال: أقرأ منه الأكثر الأطيب {هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} (3) قال: فأغضبه فقال والله لقد بلغني أن امرأة الحضين (4) حملت
__________
(1) شجر خصاها: كناية عن الغلبة والقهر.
(2) الفقاح: جمع فقحة بالفتح وهي الدبر أو حلقتها.
(3) سورة الإنسان: الاية رقم 1.
(4) هو الحضين بن المنذر بن الحارث أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل.(2/35)
إليه وهي حبلى من غيره قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، ثم قال على رسله وما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال فلان بن الحضين، كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله فقال لا يبعد الله غيرك هذا الحضين بن المنذر بن الحرث بن وعلة وكان الحضين بيده لواء عليّ بن أبي طالب رحمه الله على ربيعة وله يقول القائل:
لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدّمها حضين تقدّما
مديح للأعشى
وللحرث بن وعلة يقول الأعشى وكان قصده فلم يحمده وعرّج عنه إلى هوذة بن علي ذي التاج، وهوذة من بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، والحرث بن وعلة من بني رقاش وهي امرأة وأبوهم مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، فقال الأعشى يذكر الحرث بن وعلة وهوذة بن علي:
أتيت حريثا زائرا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا
إذا ما رأى ذا حاجة فكأنما ... يرى أسدا في بيته وأساودا (1)
لعمرك ما أشبهت وعلة في النّدى ... شمائله (2) ولا أباه مجالدا
وإنّ امرأ قد زرته قبل هذه ... بجوّ لخير منك نفسا ووالدا
تضيّفته يوما فقرب مجلسي ... وأصفدني (3) على الزمانة (4) قائدا
وأمتعني على العشا (5) بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ (6) حامدا
__________
(1) الأساود: الحيات، جمع أسود وهو أخبث الحيات وانكاها وليس شيء من الحيات أجرأ منه.
(2) شمائله: بدل اشتمال من وعله.
(3) اصفدني: أعطاني.
(4) الزمانة: العاهة.
(5) العشا: بالقصر سود البصر ليلا.
(6) هوذ: ترخيم هوذة.(2/36)
فتى لو يباري الشّمس ألقت قناعها ... أو القمر السّاري لألقى المقالدا
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويعدو على جمع الثلاثين واحدا
شرح هذا الشعر
وهي كلمة قوله أتيت حريثا يريد الحرث وتصغيره على لفظه حويرث وهذا التصغير الاخر يقال له تصغير الترخيم، وهو أن تحذف الزوائد من الاسم ثم تصغّر حروفه الأصلية، فتقول في تصغير أحمد حميد لأنه من الحمد وفي الحرث حريث لأنه من الحرث وفي غضبان غضيب لأنه من الغضب. لأن الألف والنون زائدتان وكذلك ذوات الأربعة تقول في تصغير قنديل على لفظه قنيديل فإن صغرته مرخّما حذفت الياء فقلت قنيدل فعلى هذا مجزى الباب.
وقوله عن جنابة يقول عن غربة وبعد يقال هم نعم الحيّ لجارهم جار الجناية أي الغربة. يقال رجل جنب ورجل جانب أي غريب قال الله جل وعز {وَالْجََارِ الْجُنُبِ} (1). وقال الحطيئة:
والله ما معشر لاموا أمرأ جنبا ... في ال لأبن شمّاس بأكياس
وقال علقمة بن عبدة:
فلا تحرمني نائلا عن جنابة ... فإني إمرؤ وسط القباب غريب
فمن قال للواحد جنب قال للجميع أجناب كقولك عنق وأعناق وطنب وأطناب ومن قال للواحد جانب قال للجميع جنّاب كقولك راكب وركاب وضارب وضرّاب قالت الخنساء:
أبكي أخاك لأيتام وأرملة ... وأبكي أخاك إذا جاورت أجنابا
وإن كان من الجنابة التي تصيب الرجل. قلت رجل جنب ورجلان جنب وكذلك المرأة والجميع وقد يجوز وليس بالوجه رجلان جنبان وامرأة جنبة وقوم
__________
(1) سورة النساء: الاية 36.(2/37)
أجناب. وقوله يرى أسدا في بيته وأساود يريد جمع أسود سالخ (1) وأسود ههنا نعت ولكنه غالب فلذلك جرى ههنا مجرى الأسماء لأنّه يدل على الحيّة، وأفعل إذا كان نعتا بنفسه فجمعه فعل نحو أحمر وحمر وأسود وسود. وإذا كان نعتا فأجري مجرى الاسماء فجمعه أفاعل نحو أساود وأجادل وأداهم أذا أردت القيد لأنه نعت غالب يجري مجرى الأسماء وإن أردت أدهم الذي هو نعت محض قلت دهم. قال الأشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود خفيّة ... تساقوا على حرد دماء الأساود
فأجراه مجرى الأسماء نحو الأصاغر والأحامد. وقوله لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى شمائله، فإنه جعل شمائله بدلا من وعلة والتقدير ما أشبهت شمائل وعلة والبدل على أربعة أضرب فواحد منها أن يبدل أحد الاسمين من الاخر إذا رجعا إلى واحد ولا تبالي أمعرفتين كانا أم معرفة ونكرة وتقول مررت بأخيك زيد لأن زيدا هو الأخ، وكذلك مررت برجل عبد الله فهذا واحد، واخر أن يبدل بعض الشيء منه نحو ضربت زيدا رأسه لمّا قلت ضربت زيدا أردت أن تبين موضع الضرب منه فمثل الأول قول الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (2) وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرََاطِ اللََّهِ} (3) {لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ نََاصِيَةٍ كََاذِبَةٍ خََاطِئَةٍ} (4).
ومثل البدل الثاني قوله: {وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (5) من في موضع خفض لأنها بدل من الناس ومثله إلا أنه أعيد حرف الخفض {قََالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لمن آمن منهم (6) والبدل
__________
(1) السالخ: إسم لأسود من الحيات والأنثى أسود ولا توصف بسالخة.
(2) سورة الفاتحة: الاية 6.
(3) سورة الشورى: الاية 52.
(4) سورة العلق: الاية 16.
(5) سورة ال عمران: الاية 97.
(6) سورة سبأ: الاية 32.(2/38)
الثالث مثل ما ذكرنا في البيت أبدل شمائله منه وهي غيره لاشتمال المعنى عليها، ونظير ذلك أسألك عن زيد أمره لأن السؤال عن الأمر وتقول على هذا سلب زيد ثوبه فالثوب غيره ولكن به وقع السلب كما وقعت المسألة عن خبر زيد ونظير ذلك من القران: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ} (1) لأن المسألة إنما كانت عن القتال. هل يكون في الشهر الحرام. قال الشاعر (وهو الأخطل):
إنّ السيوف غدوّها ورواحها ... تركت هوازن مثل قرن الأعضب
وبدل رابع لا يكون مثله في القران ولا في الشعر وهو أن يغلط المتكلم فيدرك غلطه أو ينسى فيذكر فيرجع إلى حقيقه ما يقصد له، وذلك قولك مررت بالمسجد دار زيد، أراد أن يقول مررت بدار زيد فإمّا نسي وإمّا غلط فاستدرك فوضع الذي قصد له في موضع الذي غلط فيه. وقوله بجوّ فهي قصبة اليمامة.
وقوله تضّيفته يوما إنما هو تفعّلته من الضيافة. يقال ضفت الرجل أي نزلت به وأضافتني أي أنزلني. وقوله وأصفدني يقول أعطاني وهو الإصفاد والصفد الإسم والإصفاد المصدر. قال النابغة (فلم أعرّض أبيت اللّعن بالصفد) ويقال: صفدت الرجل فهو مصفود من القيد ولا يقال في القيد أصفدت ولكن صفدته صفدا واسم القيد الصفد، قال الله عز وجل {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفََادِ} (2)
كقولك جمل وأجمال وصنم وأصنام. وقوله: فتى لو يباري الشمس يقول:
يعارض يقال، إنبرى لي فلان أي اعترض لي في هذا المعنى، وفلان يباري الريح من هذا، أي يعارض الريح بجوده. فهذا غير مهموز فأما بارأت الكريّ (3)
فهو مهموز لأنه من أبرأني وأبرأته. ويقال برأ فلان من مرضه وبري يا فتى والمصدر منهما البرء فاعلم، وبريت القلم غير مهموز والله الباري المصوّر.
ويقال ما برأ الله مثل فلان، مهموز. وقولك البريّة أصله من الهمز ويختار فيه
__________
(1) سورة البقرة: الاية 217.
(2) سورة الأصفاد: الاية 49.
(3) الكري: المكاري.(2/39)
تخفيف الهمز ولفظ التخفيف والبدل واحد. وكذلك يختار في النبي التخفيف ومن جعل التخفيف لازما قال في جمعه أنبياء كما يفعل بذوات الياء والواو وتقول وصيّ وأوصياء وتقيّ وأتقياء وشقيّ وأشقياء. ومن همز الواحد، قال:
في الجميع نباء لأنه غير معتل كما تقول حكيم وحكماء وعليم وعلماء وأنبياء لغة القران والرسول صلى الله عليه وسلم، وقال العباس بن مرداس السّلميّ:
يا خاتم النباء إنك مرسل ... بالحق كلّ هدى السّبيل هداكا
وقوله أو القمر الساري لألقى المقالدا فأسكن الياء ضرورة وإنما جاز ذلك لأن هذه الياء تسكن في الرفع والخفض. فإذا احتاج الشاعر إلى إسكانها في النصف قاس هذه الحركة على الحركتين الضمة والكسرة الساقطتين فشبهها بهما فجعلها كالألف التي في مثنىّ التي هي على هيئة واحدة في جميع الإعراب. قال النابغة:
ردّت عليه أقاصيه ولبّده ... ضرب الوليده بالمسحاة (1) في الثّأد
فأسكن الياء في أقاصيه. وقال رؤبة:
كأنّ أيديهنّ بالقاع (2) القرق (3) ... (أيدي جوار يتعاطين الورق)
وقال:
سوّى مساجيهنّ تقطيط (4) الحقق
(ويروي تقطيط بالنصب وهو أجود لأن بعده:)
تقليل ما قارعن من سمر الطرق
والطّرق جمع طرقة) وقال اخر:
كفى بالنّأي من أسماء كاف ... وليس لحبها ما عشت شاف
__________
(1) المسحاة: بالكسر. الة يسحى بها الطين ويجرف.
(2) القاع: أرض سهلة مطمئنة وقد انفرجت عنها الجبال والاكام.
(3) القرق: ككتف المستوي من الأرض والضمير في أيديهن للإبل يصفها بالسرعة شبه أيديهن في سرعة نقلها بأيدي جوار يلتقطن ورقا يتخبط لرعي الدواب.
(4) التقطيط: قطع الشيء الصلب والحقق جمع حقة بالضم وهي وعاء من خشب.(2/40)
وأما قوله: وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا
فإنه كان يتحدث عنه ثم أقبل عليه يخاطبه وترك تلك المخاطبة، والعرب تترك مخاطبة الغائب إلى مخاطبة الشاهد ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب. قال الله جل وعز: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)} (1). كانت المخاطبة للّامة ثم انصرفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عنهم. وقال عنترة:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا علي طلابك ابنة مخزم
فكان يتحدث عنها ثم خاطبها. ومثل ذلك قول جرير:
ونرى العواذل يبتدرن (2) ملامتي ... فإذا أردن سوى هواك عصينا
وقال الاخر:
فدى لك والدي وسراة قومي ... ومالي أنّه منه أتاني
وهذا كثير جدا. وقوله: يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة أي قليلا من الإقتصار ويروي ويغدو جميعا. وكان هوذة بن عليّ ذا قدر عال وكانت له خرزات تنظم فتجعل على رأسه تشبّها بالملوك. وحدثني التّوّزيّ عن أبي عبيدة، قال: ما تتوّج معدّيّ قط إنما كانت التيجان لليمن قال: فسألته عن قول الأعشى:
من ير هوذة يسجد غير متّئب (3) ... إذا تعمّم فوق التاج أو وضعا
قال أنما كانت خرزات تنظم له. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة كما كتب ألى الملوك، وكانت بنو حنيفة بن لجيم أصحاب اليمامة. ويقول بعض النّسابين إن عبيد بن حنيفة كان أتى اليمامة وهي صحراء، فاختطّها فجعل يركض حواليها ويخطّ برمحه في الأرض على ما أصاب من النخل وأنهم أكلوا ما
__________
(1) سورة يونس: الاية رقم 22.
(2) يبتدرن: يسرعن ويعجلن.
(3) غير متئب: غير مستعد.(2/41)
أصابوا تحته من التمر، فلما طلع لهم التمر بعد لم يهتدوا الصعود النخل فأقبلوا يجدّونه حتى فكّروا فأعدّوا له السلالم. فلما عمرت اليمامة جعلت العرب تنتجعهم (1) لموضع التمر فيجاورون العزيز منهم، وكان يقال لمن دخلها من هؤلاء السواقط (2) ممن كانوا. ويقال أن اليمامة والبحرين والقريتين ومواضع هناك كانت لطسم وجديس، والخبر في ذلك مشهور بزرقاء اليمامة وقد ذكر ذلك الأعشى في قوله:
(ما أنظرت ذات أشفار كنظرتها (3) ... حقّا كما نطق الذّئبيّ إذ سجعا)
قالت أرى رجلا في كفّه كتف ... أو يخصف النعل لهفي أيّة صنعا
وكذّبوها بما قالت فصبّحهم ... ذو ال غسّان يزجي الموت والشّرعا
وحدثني التّوّزيّ عن أبي عبيدة والأصمعيّ عن أبي عمرو قال، قال: لي رجل من أهل القريتين أصبت ههنا دراهم وزن الدرهم ستة دراهم وأربعة دوانيق (4)، من بقايا طسم وجديس فخفت السلطان فأخفيتها. وقد ذكر ذلك زهير في قوله:
عهدي بها يوم باب القريتين وقد ... زال الهماليج (5) بالفرسان واللجم
فاستبدلت بعدنا دارا يمانية ... ترعى الخريف (6) فأدنى دارها ظلم
وقال جرير يهجو بني حنيفة:
هجاني الناس مل حياء كلّهم ... حتى حنيفة تفسو في مناحيها
(تعيّر بنو حنيفة بالفسولان بلادهم بلاد نخل فيأكلونه، ويحدث في
__________
(1) ننتجعهم: نطلب ما عندهم.
(2) السواقط الذين يردون اليمامة لامتياز التمر.
(3) ذات أشفار: جمع شفر بالضم وهو أصل منبت الشعر في الجفن والضمير في نظرتها لزرقاء اليمامة.
(4) الدوانيق: جمع دانق وهو سدس درهم.
(5) الهماليج: واحده هملاج بالكسر وهو البرذون.
(6) ترعى الخريف: أراد ما ينبت في فصل الخريف وهو ثلاثة أشهر بين القيظ والشتاء.(2/42)
أجوافهم الرياح والقراقير:).
أصحاب نخل وحيطان ومزرعة ... سيوفهم خشب فيها مساحيها
ذلّت وأعطت يدا للسّلم صاغرة ... من بعدما كاد سيف الله يفنيها
صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... أضحوا عبيدا وثلث من مواليها
قوله مناحيها المنحاة مقام السانية على الحوض، والحائط البستان. وقوله من بعدما كاد سيف الله يفنيها، يعني خالد بن الوليد بن المغير بن عبد الله بن عمر بن مخزوم في وقعته بمسيلمة الكذاب، وللنسابين بعد هذا قول منكر. وقال جرير:
أبني حنيفة نهنهوا (1) سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
أبني حنيفة انني أن أهبكم ... أدع اليمامة (2) لا تواري أرنبا
عمارة بن عقيل يهجو حنيفة
وقال عمارة بن عقيل:
بل أيها الراكب الماضي لطيّته (3) ... بلّغ حنيفة وانشر فيهم الخبرا
أكان مسلمة الكذّاب قال لكم ... لن تدركوا المجد حتى تغضبوا مضرا
مهلا حنيفة أن الحرب أن طرحت ... عليكم بركها أسرعتم الضّجرا
البرك الصدر، إذا فتحت البابء فكّرت، وأن أردت التأنيث كسرت الباء، قلت بركة. قال الجعديّ:
ولوحا ذراعين في بركة ... إلى جؤجؤ رهل (4) المنكب
__________
(1) نهنهه: كفه وزجره. توعدهم بالهجاء.
(2) أدع اليمامة: يريد هجاءه الصواعق التي تحرق كل شيء مرت به فإذا هجاهم ترك بلادهم لا نبات بها ولا شجر وهذا من المبالغة بمكان.
(3) الطية: بالكسر الوجه يقصده المسافر.
(4) رهل لحمه: كتب اضطرب واسترخى.(2/43)
وزعم الأصمعي أن زيادا كان يقال له أشعر بركا لأنه كان أشعر الصدر.
للوليد بن عقبة
وغير الأصمعي يزعم أن هذا كان يقال: للوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة، وذكروا أن عديّ بن حاتم بن عبد الله الطائيّ قال يوما: ألا تعجبون لهذا أشعر بركا يولّى مثل هذا المصر، والله ما يحسن أن يقضي في تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر أنشد الله رجلا سمّاني أشعر بركا إلا قام، فقام عديّ بن حاتم فقال أيها الأمير إن الذي يقوم فيقول: أنا سميتك أشعر بركا لجريء. فقال إجلس يا أبا طريف فقد برّاك الله منها. فجلس وهو يقول والله ما برّأني الله منها، وكانت أمّ الوليد بن عقبة أمّ عثمان بن عفّان رحمها الله وهي أروى بنت كريز بن حبيب بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وأمّها البيضاء بنت عبد المطّلب بن هاشم، ومن ثمّ قال: الوليد لعلي بن أبي طالب رحمه الله، انا القى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمّي من حيث تلقاه بأبيك. وكان يقال للبيضاء بنت عبد المطلب قبّة الديباج واسمها أمّ حكيم.
ولذلك قيل لعثمان أو للوليد يا ابن أروى ويا ابن أم حكيم وقال الوليد لبني (1)
هاشم لهذا السبب حين قتل عثمان رحمه الله:
بني هاشم ردّوا سلاح ابن أختكم ... ولا تنهبوه لا تحلّ مناهبه
بني هاشم كيف الهوادة بيننا ... وعند عليّ درعه ونجائبه
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازنه
وهذا القول باطل. وكان عروة بن الزبير إذا ذكر مقتل عثمان يقول: كان عليّ اتقى لله من أن يعين في قتل عثمان، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتل عليّ. وقال الوليد بن عقبة:
__________
(1) قال الوليد لبني هاشم تذكروا أنه لما قتل عثمان أرسل علي رضي الله عنه فأخذ ما كان في داره من سلاح وأبل الصدقة فقال الوليد بن عقبة هذا الشعر.(2/44)
ألا إنّ خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التّجوبيّ (1) الذي جاء من مصر
ومالي لا أبكي وتبكي أقاربي ... وقد حجبت عنا فضول أبي عمرو
وقالت ليلى الأخيليّة أنشدنيه الرّياشيّ عن الأصمعيّ:
أبعد عثمان ترجو الخير أمّته ... وكان امن من يمشي على ساق
خليفة الله أعطاهم وخوّلهم (2) ... ما كان من ذهب جمّ وأوراق
فلا تكذّب بوعد الله وارض به ... ولا توكّل على شيء بإشفاق
ولا تقولن لشيء سوف أفعله ... قد قدّر الله ما كلّ امريء لاق
وقال اخر:
ألا قل لقوم شاربي كأس علقم ... بقتل إمام بالمدينة محرم
قتلتم أمين الله في غير ردّة ... ولا حدّ احصان ولا قتل مسلم
تعالوا ففاتونا فإن كان قتله ... لواحدة منها فحلّ لكم دمي
وإلّا فأعظم بالذي قد اتيتم ... ومن يأت ما لم يرضه الله يظلم
فلا يهيئنّ الشامتين مصابه ... فحظهم من قتله حرب جرهم
وأنشدني الرياشي عن الأصمعي. (قال أبو الحسن هذا الشعر لابن الغريرة الضّبيّ).
لعمر أبيك فلا تذهلن ... لقد ذهب الخير إلّا قليلا
وفد فتن النّاس في دينهم ... وخلّى ابن عفّان (3) شرّا طويلا
ومثله قول الراعي:
قتلوا ابن عفّان الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مخذولا
__________
(1) التجوبي نسبه إلى تجوب وهي قبيلة من حمير وقتيله هو عثمان رضي الله عنه.
(2) خولهم: أعطاهم المال متفضلا عليهم.
(3) خلى ابن عفان يريد أن بقتله فتح على الناس فتن كثيرة ولا يزال المسلمون فيها إلى اليوم وكان أمر الله قدرا مقدورا.(2/45)
فتفرّقت من بعد ذاك عصاهم (1) ... شققا (2) وأصبح سيفهم مغلولا
قوله محرما يريد في الشهر الحرام، وكان قتل في أيام التشريق رحمه الله، وقال أيمن بن خريم بن فاتك الأسديّ وكانت له صحبة:
في رثاء عثمان
تفاقد الذابحو عثمان ضاحية ... أيّ قتيل حرام ذبّحوا ذبحوا
ضحّوا بعثمان في الشهر الحرام ولم ... يخشوا على مطمح الكف الذي طمحوا
فأيّ سنّة جور سنّ أوّلهم ... وباب جور على سلطانهم فتحوا
ماذا أرادوا أضلّ الله سعيهم ... من سفح ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا
فاستوردتهم سيوف المسلمين على ... تمام ظمء كما يستورد النّصخ
إنّ الذين تولّوا مقتله سفها ... لاقوا أثاما وخسرانا فما ربحوا
الظمء ما بين الشّربتين. وقوله ضحوا بعثمان إنما أصله فعل في الضّحى قال زهير:
ضحّوا قليلا على كثبان أسنمة ... ومنهم بالقسوميّات معترك
أي نزلوه ضحى. ويقال بيّتوا ذاك أي فعلوه ليلا، قال الله جل وعز: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مََا لََا يَرْضى ََ مِنَ الْقَوْلِ} (3). وأنشد أبو عبيدة:
أتوني فلم أرض ما بيّتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيّمهم منذرا ... ووهل ينجح العبد حرّ لحر
وقوله في سفح ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا أي في صب ذاك الدم، يقال سفحت دمه وسفكت دمه، قال الله تبارك وتعالى: {إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} (4). وقوله على تمام ظمء فهذا مثل، وأصل الضمء أن تشرب
__________
(1) عصاهم: يريد جماعتهم.
(2) شققا: الشقق بالكسر واحدها شقة بالكسر أيضا وهي الشظية من العصا وهذا على المثل.
(3) سورة النساء: الاية 108.
(4) سورة الأنعام: الاية 145.(2/46)
يوما ثم تغبّ يوما لا ترد الماء، فما بين الشّربتين ظمء فيكون الظمء يومين فيقال له الرّبع كما يقال: في الحمّى لإنهم يعتدّون بيومي شربها، والخمس أن تظمأ ثلاثة أيام، والنّضح الحوض، والأصام الهلاك. قال الله عزّ ذكره:
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً} (1) ثم فسر فقال {يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهََاناً}، (2) فجزم يضاعف لإنه بدل من قوله يلق أثاما إذ كان إياه في المعنى، وأنشدني أبو عبيدة:
جزى الله ابن عروة إذ لحقنا ... عقوقا والعقوق من الإثام
وقوله على مطمح الكف يقول: على رفعها وإبعادها، يقال طمح بصره إذا ارتفع فأبعد النظر. قال امرؤ القيس:
لقد طمح الطمّاح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبّسا
__________
(1) سورة الفرقان: الاية 68.
(2) سورة هود: الاية 20.(2/47)
47 - باب من تشابيه العرب
قال أبو العباس: وهذا باب طريف نصل به هذا الباب، الجامع الذي ذكرناه وهو بعض ما مر للعرب من التشبيه المصيب والمحدثين بعدهم.
فأحسن ذلك ما جاء بإجماع الرّواة، ما مرّ لامرىء القيس في كلام مختصر أي بيت واحد من تشبيه شيء في حالتين بشيئين مختلفين وهو قوله:
كإنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا (1) ... لدى وكرها (2) العنّاب (3) والحشف (4) البالي
فهذا مفهوم المعنى فإن اعترض معترض، فقال: فهلّا فضل فقال كأنه رطبا العنّاب وكأنّه يابسا الحشف. قيل له العربيّ الفصيح الفطن اللّقن يرمي بالقول مفهوما ويرى ما بعد ذلك من التكرير عيّا. قال الله جل وعز وله المثل الأعلى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (5) علما بأن المخاطبين يعرفون وقت السكون ووقت الإكتساب. ومن تمثيل امرىء القيس العجيب قوله:
كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع (6) الذي لم يثقّب
__________
(1) رطبا ويابسا: حالان من قلوب الطير.
(2) الوكر: عش الطائر وإن لم يكن الطائر فيه.
(3) العناب نوع من الثمر معروف.
(4) الحشف بالتحريك وهو التمر.
(5) سورة القصص: الاية رقم 73.
(6) الجزع: الخرز اليماني فيه سواد وبياض وما شبهت به الأعين إلّا من قول امرىء القيس هذا.(2/49)
ومن ذلك قوله:
إذا ما الثّريا (1) في السماء تعرّضت ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل (2)
وقد أكثر النّاس في الثريا فلم يأتوا بما يقارب هذا المعنى ولا بما يقارب سهولة هذه الألفاظ.
ومن أعجب التشبيه قول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى (3) عنك واسع
وقوله:
خطاطيف (4) حجن (5) في حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع
وقوله: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب
من شعر ذي الرمة
وردت اعتسافا (6) والثّريّا كأنها ... على قمّة الرأس ابن ماء (7) محلّق (8)
وقوله: فجاءت بنسج العنكبوت كأنه ... على عصويها سابريّ (9) مشبرق (10)
__________
(1) هذا مما عيب على امرىء القيس قال أبو عمر والثريا لا تتعرض وإنما عنى الجوزاء كما قال زهير كأحمر عاد يريد كأحمر ثمود وهو قدار بن سالف عاقر الناقة وإعتذر عنه ابن سلام فقال الثريا تتعرض عند السقوط كما أن الوشاح إذا طرح تلقاك بناحية هذا والتعرض التحرف وقوله تعرض أثناء الوشاح أي كتعرضها إذا ألقى الوشاح، وأثناؤه. جوانبه وحواشيه.
(2) المفصل: الذي فصل بين كل خرزتين منه بلؤلؤة يريد تجاوزت هذه المصاعب حين تصوبت الثريا وانحدرت.
(3) المنتأى: الموضع البعيد شبهه بالليل في أنه يدرك كل واحد قرب أو بعد.
(4) الخطاطيف: جمع خطاف وهي حديدة حجناء في جانبي البكرة يكون فيها المحور.
(5) والحجناء المعوجة.
(6) الاعتساف: يأخذ المسافر على غير طريق ولا جادة.
(7) ابن ماء: ما يسكن الماء من الطيور.
(8) محلق: الطائر الذي يرتفع في الجو.
(9) سابري: ثوب رقيق جيد ومنه عرض سابري.
(10) المشبرق: المنحرف: يصف تغير الماء وما يكون عليه من طول المكث.(2/50)
وتأويل هذا أنه يصف ماء قديما لا عهد له بالواردة فقد اصفرّ واسودّ فقال:
وماء قديم العهد بالإنس اجن (1) ... كأنّ الدّبي ماء الغضا فيه تبصق
وقد أجاد علقمة بن عبدة الفحل في وصف الماء الاجن حيث يقول:
إذا وردت ماء كأن جمامه (2) ... من الأجن (3) حنّاء معا وصبيب (4)
فقال ذو الرّمّة في وصف هذا الماء فقرن بتغيره بعد مطلبه:
فأدلى غلامي دلوه يبتغي بها ... شفاء الصّدى (5) والليل أدهم أبلق
يريد أن الفجر قد نجم فيه فجاءت، يعني الدلو، بنسج العنكبوت كأنه على عصويها سابري مشبرق، والسابري الرقيق من الثياب والدّروع والمشبرق الممزّق. وأنشد أبو زيد:
لهونا بسربال الشباب ملاوة (6) ... فأصبح سربال الشباب شبارقا
ومن التشبيه العجيب قول ذي الرمة في صفة الظّليم:
شخت الجزارة مثل البيت سائره ... من المسوح خدبّ (7) شوقب (8) خشب
الشخت الضّئيل اليابس الضعيف والجزارة القوائم. وقوله مثل البيت، سائره من المسوح يعني إذا مدّ جناحيه وإنما أخذه من قول علقمة بن عبدة:
__________
(1) الاجن: الماء المتغير اللون.
(2) جمام الماء، معظمه.
(3) الأجن: التغير.
(4) الصبيب: العصفر أو الدم.
(5) الصدي: العطش.
(6) ملاوة: برهة من الدهر.
(7) الخدب: الضخم من النعام.
(8) الشوقب: الطويل. الخشب: بالكسر العاري العظام في صلابة.(2/51)
صعل جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم (1)
الصعل الصغير الرأس، والخرقاء: التي لا تحسن شيئا فهي تفسد ما عرضت له. قال الحطيئة:
هم صنعوا لجارهم وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع
والمهجوم المهدوم، وفي الخبر أنه لما قتل بسطام بن قيس لم يبق بيت في بكر بن وائل إلا هجم، أي هدم، والخدب الضخم، والشوقب الطويل، والخشب الذي ليس يلين على من نزل به. ومن التشبيه المصيب قوله: في صفة روضة.
قرحاء (2) حوّاء أشراطيّة وكفت (3) ... فيها الذهاب (4) وحفتها البراعيم
قرحاء يريد الأنوار، وقوله حواء يقول: تضرب إلى السواد لشدة ريّها وخضرتها.
وكذلك المفسرون يقولون، في قول الله جل وعز: {مُدْهََامَّتََانِ} (5)
تضربان إلى الدّهمة لشدة خضرتهما وريّهما. وقوله: أشراطية ليس مما قصدنا له ولكنه مما يجري فيفسّر، ومعناه أنها مطرت بنوء الشّرطين (6). وحدثني الزياديّ قال: سمعت الأصمعيّ وسئل بحضرتي أو سألته عن قوله: أشراطية فقال: باسته واست عرسه وذاك أن الأصمعي كان لا ينشد ولا يفسّر ما كان فيه ذكر الأنواء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ذكرت النّجوم فأمسكوا، لأن الخبر في هذا بعينه مطرنا بنوء كذا وكذا وكان لا يفسر ولا ينشد شعرا فيه هجاء وكان لا يفسر
__________
(1) بيت مهجوم: حلت أطنابه فهدم.
(2) قرحاء: فيها نور أبيض.
(3) الوكف: القطر.
(4) الذهاب جمع ذهبة بالكسر فيها وهي المطرة الضعيفة.
(5) سورة الرحمن: الاية رقم 64.
(6) الشرطان: نجمان من برج الحمل.(2/52)
شعرا يوافق تفسيره شيئا من القران، هكذا يقول أصحابه، وسئل عن قول الشّمّاخ.
طوى ظمأها (1) في بيضه الصّيف بعد ما ... جرى في عنان الشعريين (2) الأماعز (3)
فأبى أن يفسر في عنان الشعريين. وأما قوله الذهاب فهي الأمطار اللينة الدائمة. ويقال أنها أنجع المطر في النبت وكذلك العهاد وأنشد الأصمعي:
أمير عمّ بالنّعماء حتى ... كأنّ الأرض جلّلها العهاد
والبراعم واحدتها برعومة وهي أكمّة الرّوض قبل أن تتفتّق، يقال لواحدها كم وكمام فمن قال: كمام فجمعه أكمّة مثل صمام وأصمّة وزمام وأزمّة، ومن قال: كم فالجماع أكمام. قال الله عز وجل: {وَالنَّخْلُ ذََاتُ الْأَكْمََامِ} (4)
ومن ذلك قول الاخر. أحسبه توبة بن الحميّر. (قال أبو الحسن يقال أنه لمجنون بني عامر وهو الصواب):
كأنّ القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامريّة أو يراح
قطاة عزّها (5) شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح
لها فرخان قد غلقا بوكر ... فعشّهما تصفّقه الرياح
فلا بالليل نالت ما ترجّي ... ولا بالصبح كان لها براح (6)
ويروي تجاذبه فهذا غاية الاضطراب، وقد قال الشعراء قبله وبعده فلم يبلغوا هذا المقدار. وقال الشيبانيّ للحجّاج.
هلّا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
فهذا يجوز أن يكون، في الخفقان وفي الذّهاب البتّة. ومن التشبيه
__________
(1) الظمء ما بين الشربتين والوردين.
(2) الشعريان بالكسر الشعرى العبور والشعرى الغميصاء اختا سهيل.
(3) الأماعز جمع امعوز بالضم وهو السرب من الظباء أو جماعة الأوعال.
(4) سورة الرحمن: الاية 11.
(5) عزها: غلبها.
(6) كان لها براح: بالفتح أي بعد ومفارقة لما هي فيه.(2/53)
المحمود قول الشاعر:
طليق الله لم يمنن عليه ... أبو داود وابن أبي كثير
ولا الحجّاج عيني بنت ماء ... تقلّب طرفها حذر الصقور
وهذا غاية في صفة الجبان، ونصب عيني بنت ماء على الذم وتأويله أنه إذا قال: جاءني عبد الله الفاسق الخبيث. فليس يقول: إلا وقد عرفه بالخبث والفسق، فنصبه بأعني وما أشبهه من الأفعال نحو أذكر، وهذا أبلغ في الذم أن يقيم الصفة مقام الاسم.
وكذلك المدح. وقول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ} (1). بعد قوله {لََكِنِ الرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} (2) إنما هو على هذا، ومن زعم أنه أراد ومن المقيمين الصّلاة فمخطىء في قول البصريين لأنهم لا يعطفون الظاهر على المضمر المخفوض، ومن أجازه من غيرهم فعلى قبح كالضرورة.
والقران إنما يحمل على أشرف المذاهب. وقرأ حمزة: {الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ} (3) وهذا مما لا يجوز عندنا إلا أن يضطرّ إليه شاعر كما قال:
فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقرأ عيسى بن عمرو {امْرَأَتُهُ حَمََّالَةَ الْحَطَبِ} أراد وامرأته {فِي جِيدِهََا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} (4) فنصب حمّالة على الذم، ومن قال: إن امرأته مرتفعة بقوله:
{سَيَصْلى ََ نََاراً ذََاتَ لَهَبٍ} (5) فهو يجوز، وليس بالوجه أن يعطف المظهر المرفوع على المضمر حتى يؤكّد نحو {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقََاتِلََا} (6) و {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} فأما قوله: {لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا} (7) فإنه لما طال
__________
(1) سورة النساء: الاية رقم 162.
(2) سورة ال عمران: الاية رقم 7.
(3) سورة النساء: الاية 1.
(4) سورة المسد: الاية رقم 5.
(5) سورة المسد: الاية رقم 4.
(6) سورة المائدة: الاية رقم 24.
(7) سورة الأنعام: الاية رقم 148.(2/54)
الكلام وزادت فيه لا احتمل الحذف وهذا على قبحه جائز أعني ذهبت وزيد وأذهب وعمر. وقال جرير:
في المدح والذم
ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأب له لينالا
وقال ابن أبي ربيعة:
قلت إذا أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الملا تعسّفن رملا
ومما ينصب على الذم قول النابغة:
لعمري وما عمري عليّ بهيّن ... لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع
أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تخادع
وقال عروة بن الورد العبسيّ:
سقوني الخمر ثم تكنّفوني ... عداة الله (1) من كذب وزور
والعرب تنشد قول حاتم الطائي رفعا ونصبا:
إن كنت كارهة معيشتنا ... هاتا (2) فحلّي في بني بدر
الضاربين لدى أعنّتهم ... والطاعنين وخيلهم تجري
وإنما خفضوهما على النعت وربما رفعوهما على القطع والإبتداء.
وكذلك قول الخرنق بنت هفّان القيسيّة من بني قيس بن ثعلبة.
لا يبعدن قومي (3) الذين هم ... سمّ العداة وافة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطّيّبين (4) معاقد الازر
__________
(1) عداة الله بضم العين جمع عادي وهو العدو.
(2) هاتا بمعنى هذه.
(3) لا يبعدن قومي: تدعو لهم بالبقاء وطول الحياة وتصفهم بالكرم والشجاعة.
(4) الطيبين معاقد الأزر: كناية عن العفاف والصيانة عن الفجور.(2/55)
وكلّ ما كان هذا، فعلى هذا أكثر إنشاده. وإن لم يرد مدحا ولا ذما قد استقرّ له فوجهه النعت. وقرأ بعض القراء: {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (1).
وأكثر ما تنشد العرب بيت ذي الرّمّة نصبا لأنه لما ذكر ما يحنّ إليه ويصبو إلى قربه، أشاد بذكر ما قد كان يبغي فقال:
ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا (2) ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
وفي هذه القصيدة من التشبيه المصيب قوله:
بيضاء في دعج (3) صفراء في نعج (4) ... كأنها فضّة قد مسّها ذهب
وفيها من التشبيه المصيب.
تشكو الخشاش (5) ومجرى النّسعتين كما ... أنّ المريض إلى عوّاده الوصب
الخشاش ما كان في عظم الأنف، وما كان في المارن فهو برة يقال:
أبريت الناقة فهي مبراة.
من أعاجيب التشابيه
قال: الشّمّاخ وهذا من التشبيه العجيب:
فقرّبت مبراة تخال ضلوعها ... ومن الماسخيّات القسيّ الموتّرا
وماسخة من بني نصر من الأزد وإليهم نسبت القسيّ الماسخيّة. وأحسن ما قيل في صفة الضلوع واشتباكها قول الراعي:
__________
(1) سورة المؤمنون: الاية رقم 14.
(2) تساعفنا: تواثبنا في مصافاة ومعونة يصف ما كان لهما في هذه الدار من هناء البال وحسن الحال وصفاء العيش.
(3) دعج: محركا سواد العين مع اتساعها.
(4) النعج: بالتحريك السمن في بياض.
(5) تشكو الحشاش: الضمير للناقة ومجرى النسعتين موضع شدهما عليها.(2/56)
وكأنما انتطحت (1) على أثباجها (2) ... قدر بشابه (3) قد تممن وعولا
القادر المسنّ من الوعول وذو الرمّة أخذ ذلك المعنى من قول المثقّب العبد.
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوّه اهة الرجل الحزين
ومن التشبيه المستحسن قول علقمة بن عبدة.
كأنّ إبريقهم ظبي على شرف (4) ... مقدّم بسبا الكتّان ملثوم
فهذا حسن جدا.
وقال أبو الهنديّ وهو عبد المؤمن بن عبد القدّوس بن شبث بن ربعيّ الرياحيّ من بني رياح بن يربوع. وكان شبث سيد بني يربوع الكوفة:
مقدّمة قزّا (5) كأنّ رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرعد
وكان أبو الهندي قد غلب عليه الشراب على كرم منصبه وشرف أسرته حتى كاد يبطله وكان عجيب الجواب فجلس إليه رجل مرة يعرف ببرزين المناقير، وكان أبوه صلب في خرابة. والخرابة عندهم سرق الإبل خاصة فأقبل يعرّض لأبي الهنديّ بالشراب، فلما أكثر عليه قال أبو الهندي أحدهم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في است أبيه. وفي الخرابة يقول الراجز:
والخارب اللصّ (6) يحبّ الخاربا ... ولك قربى مثل أن تناسبا
أن تشبه الضرائب (7) الضرائبا
__________
(1) انتطحت الكباش: وغيرها تناطحت واشتبكت قرونها ببعضها.
(2) الأثباج: جمع ثبج بالتحريك وهو ما بين الكامل إلى الظهر.
(3) شابة جبل بمكة وبنجد.
(4) الشرف محركا المكان العالي.
(5) مقدمة قزا: عداه إلى مفعولين لأنه بمعنى مكسوه والقز الحرير وبنات الماء ما يسكن الماء من من الطيور وإذا أفزعها الرعد رفعت رؤوسها فشبه إبريق الخمر بها في تلك الحالة.
(6) الخارب اللص: يريد أن من اتصف بصفة أحب من يكون مثله في الوصف وجعل هذا مثل لحمة النسب بين الناس.
(7) الضرائب: جمع ضريبة وهي الطبيعة والخلف يريد لأن الضرائب تشبه الضرائب.(2/57)
وقال الاخر:
أنت الطّريق واجتنب أرماما (1) ... إنّ بها أكتل أو رزاما
خويريين ينقفان (2) إتهاما
زاد أبو الحسن (لم يتركا لمسلم طعما) نصب خويريين على أعني لا يكون غير ذلك لأنّه إنما أثبت أحدهما بقوله أو. ومرّ نصر بن سيّار الليثي بأبي الهندي وهو يميل سكرا فقال له: أفسدت شرفك. فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خرسان وحجّ به نصر بن سيار مرة، فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله ومحلّ وفوده فدع لي الشراب حتى ينفر النّاس واحتكم عليّ. ففعل فلما كان يوم النفر أخذ الشراب فوضعه بين يديه وأقبل يشرب ويبكي ويقول:
رضيع مدام فارق الراح روحه ... فظلّ عليها مستهلّ المدامع
أديرا عليّ الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم درّ المراضع
وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكنانيّ، وكان أبو الوليد ناسكا فاستعدى عليه وعلى ابنه فهربا منه. وقال أبو الهندي:
قل للسريّ أبي قيس أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا (3)
أبا الوليد أما والله لو علمت ... فيك الشمول لما حرّمتها أبدا
ولا نسيت حميّاها ولذّتها ... ولا عدلت بها مالا ولا ولدا
ثم نرجع إلى التشبيه، وربما عرض الشيء والمقصود غيره فيذكر للفائدة تقع فيه ثم يعاد إلى أصل الباب. قال أبو العباس وقال عروة بن حزام العذريّ:
__________
(1) إرمام بالفتح مواضع عندهم.
(2) نقف الهامة كسرها أو ضربها أشد ضرب.
(3) داركم صددا: يقال داري صدد دار فلان أي قبالتها.(2/58)
كأنّ قطاة علّقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان
ويقال إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها فاية ذلك أن تكون عند قربه منها مرتدّة النظر عنه، كأنما تنظر إلى الإنسان من ورائه، وإذا كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه، وإذا نهض نظرت من ورائه إلى شخصه حتى يزول عنها.
فقال رجل: أردت أن أعلم كيف حالي عند امرأتي فالتفتّ وقد نهضت من بين يديها فإذا هي تكلّح في قفاى. وقال الفرزدق في هذا المعنى والنوار تخاصمه عند عبد الله بن الزبير:
فدونكها يا ابن الزبير فإنها ... مولّعة يوهي الحجارة (1) قيلها
إذا جلست عند الإمام كأنها ... ترى رفقة من خلفها تستحيلها
قوله مولعة يقول بالنظر مرّة ههنا ومرة ههنا. وقوله: يرى رفقة. يقال رفقة ورفقة. ومعنى تستحيلها تتبيّن حالاتها. قال حميد بن ثور:
مروّعة تستحيل الشخوص ... من الخوف تسمع ما لا ترى
(قوله مروعة يقول كل شيء يدنيني من الظفر بها يروّعها وينفرها).
ومن عجيب التشبيه قول جرير في ما يكنى عن ذكره:
ترى الصبيان عاكفة عليها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا
ويقال أن الفرزدق حين أنشد النصف الأول ضرب بيده إلى عنفقته توقعا لعجز البيت، ومن التشبيه الحسن قول جرير في صفة الخيل:
يشتفن (2) للنظر البعيد كإنما ... إرنانها ببوائن الأشطان (3)
قوله يشتفن ويتشوّفن في معنى واحد. وقوله: وكأنما إرنانها ببوائن الأشطان، أراد شدة صهيلها. يقول: كأنما يصهلن في ابار واسعة تبين أشطانها
__________
(1) وهي الحجارة: يريد أن قولها مؤلم شديد الأذى.
(2) يشتفن: يشرفن ينظرن من عل. أرنانها رنين صهيلها، بوائن جمع بائن أي بعيد الغور،
(3) الأشطان: والمعنى يتطاولن ويشرفن على الجبال.(2/59)
عن نواحيها. ونظير ذلك قول النابغة الجعديّ؟
ويصهل في مثل جوف الطويّ (1) ... صهيلا يبيّن للمعرب
المعرب: العالم بالخيل العراب
ومن حسن التشبيه قول عنترة:
غادرن نصلّة في معرك ... يجرّ الأسنّة كالمحتطب
يقول طعن وغودرت الرماح فيه فظلّ يجرّها كأنه حامل حطب. ومن التشبيه المتجاوز المفرط قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فجعلت المهتدي يأتمّ به، وجعلته كنار في رأس علم والعلم الجبل. قال جرير:
(إذا قطعن علما بدا علم). وقال الله جل ثناؤه: {وَلَهُ الْجَوََارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلََامِ} (2). ومن هذا الضرب من التشبيه قول العجّاج: (تقضّي البازي إذا البازي كسر). والتقضّي الانقضاض وإنما أرد سرعتها. والعرب تبدل كثيرا الياء من أحد التضعيفين، فيقولون: تظنّيت والأصل تظنّنت لأنه تفعّلت من الظن، وكذلك تقضّيت من الانقضاض أي تقضّضت، وكذلك تسرّبت ومثل هذا كثير. ومن تشبيه المحدثين المستطرف قول بشّار:
كأنّ فؤاده كرة تنزّي (3) ... حذار البين (4) إن نفع الحذار
(يروّعه السرار (5) بكل أمر ... مخافة أن يكون به السرار)
__________
(1) جوف الطوى: بئر يطوى هو واد بناحية الشام.
(2) سورة الرحمن: الاية 24.
(3) كرة تنزى: تحرك وتقلب.
(4) حذار البين: مخافة الفراق والبعد عمن يحبه.
(5) السرار بالكسر السر وإخفاء الصوت.(2/60)
وفي هذه القصيدة:
جفنت عيني (1) عن التغميض حتى ... كأن جفونها (2) عنها قصار
أقول وليلتي تزداد طولا ... أما لليل بعدهم نهار
مما قيل في الخمريات
وقال الحسن بن هانىء في صفة الخمر:
فإذا ما لمستها فهباء (3) ... تمنع اللّمس ما تبيح العيونا
درس الدهر ما تجسّم منها ... وتبقّى لبابها المكنونا
فهي بكر كأنها كل شيء ... يتمنّى مخيّر أن يكونا
في كؤوس كانهنّ نجوم ... جاريات بروجها أيدينا
طالعات مع السّقاة علينا ... فإذا ما غربن بغربن فينا
فهذه قطعة من التشبيه غاية على سخف كلام (4) المحدثين: وقال الحنفيّ:
وهو إسحاق بن خلف في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح (5)
فكأنما ذرّ الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
من مدح يزيد بن مزيد
وقال مسلم بن الوليد الأنصاري في مدحه يزيد بن مزيد:
تمضي المنايا كما تمضي أسنّته ... كأنّ في سرجه بدرا وضرغاما
__________
(1) جفت عيني: زال عنها النوم.
(2) كأن جفونها غاية في الحسن والدقة.
(3) الهباء: الشيء النابت في الهواء.
(4) سخف الكلام: الكلام الذي لا يكون فيه من المعاني التي تروع القلب وتجلب اللب المستعار.
(5) المتاح: المقدر.(2/61)
وقال دعبل بن عليّ في صفة مصلوب:
لم أر صفّا مثل صفّ الزّطّ ... تسعين منهم صلبوا في خطّ (1)
من كل عال جذعه بالشّطّ (2) ... كأنه في جذعه المشتطّ
أخو نعاس جدّ في التّمطّي ... قد خامر النوم ولم يغطّ (3)
(وقال اخر، في صفة مصلوب وهو يزيد المهلّبيّ):
قام ولمّا يستعن بساقه ... الف مثواه على فراقه
كأنما يضحك في أشداقه
(أراد بياض الشريط فيه). وقال أعرابي في صفة مصلوب (وهو الأخطل، قال: أبو الحسن، الأخطل الذي يعني رجل محدث من أهل البصرة، ويعرف بالأخيطل ويلقب ببرقوقا. وذكر أبو الحسن، أن أبا العباس كان يدلّس به):
كأنه عاشق قد مدّ صفحته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته (4) ... مواصل لتمطيه من الكسل
(وقال مسلم بن الوليد):
(وضعته حيث ترتاب الرّياح به ... ويحسد الطير فيه أضبع البلد)
وقال حبيب بن أوس: (قال أبو الحسن، يعني به اسحق بن إبراهيم الطاهري):
قد قلّصت (5) شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدّة التّعبيس مبتسما
__________
(1) الخط الطريقة المستطيلة في السنن.
(2) الشط كأنه أراد موضعا بالبصرة.
(3) الغطيط: صوت النائم.
(4) اللوثة بالضم استرخاء الجسم وقوله مواصل لتمطية: يريد أنه دائم التمطي لما به من الكسل.
(5) قلصت: شمرت وأنزوت.(2/62)
وقال أيضا في رجل ينسبه إلى الدعوة. (وهو إسحاق بن إبراهيم الطاهري):
وتنقل من معشر في معشر ... فكأنّ أمّك أو أباك الزّئبق
يقال: زئبق وزئبر، مهموزان ودرهم مزأبق.
ومن أفراط التشبيه قول أبي خراش الهذلي يصف سرعة إبنه في العدو.
كأنّهم يسعون في إثر طائر ... خفيف المشاش (1) عظمه غير ذي نحض (2)
يبادر جنح الليل فهو مهابذ (3) ... يحثّ الجناح بالتبسّط والقبض
وقال أوس بن حجر: (قال أبو الحسن أهل الكوفة يروونها لعبيد ابن الأبرص):
كأنّ ريقتها بعد الكرى اغتبقت (4) ... من ماء أدكن في الحانوت نضّاح
أو من معتّقة ورهاء نشوتها (5) ... أو من أنابيب رمّان وتفّاح
وقال ابن عبدل يهجو رجلا بالبخر:
نكهت (6) عليّ نكهة أخدريّ (7) ... شتيم (8) شبابك الأنياب ورد
وفي هذا الشعر:
فما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند (9)
__________
(1) المشاش: عظم الرأس.
(2) غير ذي نحض: يريد لا شيء عليه من اللحم.
(3) مهابذ: مسرع.
(4) اغتبقت: أي سقيت ومزجت بالغبوق.
(5) النشوة بالفتح السّكر.
(6) نكه عليه: كضرب أخرج نفسه إلى أنف اخر.
(7) الأخدري: الأسد.
(8) الشتيم: الكريه الوجه.
(9) القند: عسل قصب السكر.(2/63)
يرين (1) حلاوة ويخفن موتا ... وشيكا إن هممن له بورد
الذباب الواحد من الذّبّان. وأدنى العدد فيه أذبّة والكثير الذّبّان، ولكنه ذكر واحدا ثم خبّر عن سائر الجنس. والأسد أنتن السباع فما، كما أن الصّقر أنتن الطير فما، قال: بعض المحدثين في رجل يهجوه والمهجوّ داود بن بكر وكان ولي الأهواز، والشعر لأبي الشّمقمق.
وله لحية تيس ... وله منقار نسر
وله نكهة ليث ... خالطت نكهة صقر
من أشعار الهجاء
وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن ابن عائشة:
من يكن إبطه بات من الخل ... ق فإبطاي في عداد الفقاح
لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السّلاح أو بالسّلاح
فكأني من نتن هذا وهذا ... جالس بين مصعب وصباح
يعني مصعب بن عبد الله الزّبيريّ وصباح بن خاقان المهتديّ وكانا جليسين لا يكادان يفترقان، وصديقين متواصلين لا يكادان يتصارمان، فحدّثت أن أحمد بن هشام لقيهما يوما فقال: أما سمعتما ما قال فيكما هذا يعني اسحق بن الموصليّ؟ فقالا: ما قال فينا إلا خيرا. قال، قال:
لام فيها مصعب وصباح ... فعصينا مصعبا وصباحا
وأبينا غير سعي إليها ... فاسترحنا منهما واستراحا
قالا ما قال الأخير أو المكروه ما قال فيك إذ يقول:
وصافيّة (2) تعشي (3) العيون رقيقة ... رهينة (4) عام في الدّنان وعام
__________
(1) الضمير في يرين حلاوة للذباب يريد به الجنس كله.
(2) صافية: الخمر.
(3) تعشي العيون: تضعف بصرها.
(4) رهينة: يريد أنها مكثت عامين في الدنان وهذا مما يستحق فيها كما يزعم أصحابها.(2/64)
ثورنا بها الكأس (1) الرّويّة موهنا (2) ... من الليل حتى انجاب كلّ ظلام
فما ذرّ قرن الشمس حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بن هشام
واعلم أن للتشبيه حدا. فالأشياء تشابه من وجوه وتباين من وجوه، فإنما ينظر إلى التشبيه من حيث وقع فإن شبّه الوجه بالشمس فإنما يريد الضّياء والرّونق ولا يراد العظم والإحراق.
مما يستعمل عند العرب لتشابيه النساء
وقال الله جل وعز: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (3). والعرب تشبه النساء ببيض النعام تريد، نقاءه ونعمة لونه قال الراعي:
كأنّ بيض نعام في ملاحقها ... إذا اجتلاهنّ قيظ ليله ومد (4)
وقيل للأوسية: وهي إمرأة حكيمة من العرب بحضرة عمر بن الخطاب رحمه الله، أيّ منظر أحسن فقالت: قصور بيض في حدائق خضر فأنشد عمر بن الخطاب لعديّ بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب أو كالب ... يض في الرّوض زهره مستنير
وقال الاخر:
كالبيض في الأدحيّ (5) يلمع بالضّحى ... فالحسن حسن والنعيم نعيم
وقال جرير:
ما استوصف الناس عن شيء يروقهم ... ألا رأوا أمّ نوح فوق ما وصفوا
كأنها مزنة غرّاء رائحة ... أو درّة لا يواري لونها الصّدف
__________
(1) الكأس الروية التي تروي من شربها.
(2) الموهن: نحو من نصف الليل.
(3) سورة الصافات: الاية رقم 49.
(4) الومد: الحر الشديد مع سكون الريح.
(5) الأدحي: مبيض النعام في الرمل.(2/65)
المزنة السحابة البيضاء خاصة وجمعها مزن. قال الله جل وعز: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} (1) فالمرأة تشبّه بالسحابة لتهاديها، وسهولة مرّها قال الأعشى:
كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مرّ السّحابة لا ريث ولا عجل
الرّيث الإبطاء فهذا ما تلحقه العين منها فإمّا الحفّة فهي كأسرع مارّ وإن خفي ذلك على البصر.
قال الله جل وعز: {وَتَرَى الْجِبََالَ تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ} (2). والعرب تشبّه المرأة بالشمس والقمر، والغصن والغزال والبقرة الوحشية والسحابة البيضاء والدّرّة والبيضة وإنما تقصد من كل شيء إلى شيء قال ذو الرّمّة:
وميّة أحسن الثّقلين جيدا ... وسالفة وأحسنهم قذالا
فلم أر مثلها نظرا وعينا ... ولا أمّ الغزال ولا الغزالا
تريك بياض غرّتها ووجها ... كقرن الشّمس أفتق ثم زالا
أصاب خصاصة (3) فيدا كليلا ... كلا وأنعلّ سائره انغلالا
الجيد العنق والسالفة ناحية والقذلان ناحيتا القفا من الرأس وقوله: أفتق ثم زالا يقال: أفتق السحاب إذا انكشف انكشافة فكانت فيه فرجة يسيرة بين السحابتين. تقول العرب دام علينا الغيم، ثم أفتقنا. وإذا نظر إلى الشمس والقمر من فتق السحاب فهو أحسن ما يكون وأشدّه استنارة. وقوله كلا يريد في سرعة ما بدا ثم غاب. وقال الله عز وجلّ: {كَأَنَّهُنَّ الْيََاقُوتُ وَالْمَرْجََانُ} (4). وقال تبارك وتعالى: {كَأَمْثََالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (5). والمكنون
__________
(1) سورة الواقعة: الاية رقم 69.
(2) سورة النحل: الاية رقم 88.
(3) الخصاصة: الخرق في باب.
(4) سورة الرحمن: الاية رقم 58.
(5) سورة الواقعة: الاية رقم 23.(2/66)
المصون يقال: كننت الشيء إذا صنته وأكننته إذا أخفيته فهذا المعروف. قال تبارك وتعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} (1) وقد يقال كننته أخفيته وقد قال جرير في يزيد بن عبد الملك وأمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
الحزم والجود والإيمان قد نزلوا ... على يزيد أمين الله فاحتلفوا
ضخم الدسيعة (2) والإيمان غرّته ... كالبدر ليلة كاد الشهر ينتصف
وقال ذو الرمّة.
فيا ظبية الوعساء (3) بين جلاجل (4) ... وبين النقا (5) اأنت أم أمّ سالم
وقال ابن أبي ربيعة:
أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر
يرفلن في الريط والمروط كما ... تمشي الهوينا سواكن البقر
فهذه تشبيهات غريبات مفهومة وقال أبو عبد الرحمن العطويّ:
قد رأينا الغزال والغصن والنجم ... ين شمس الضحى وبدر الظلام
فو حقّ البيان يعضده البر ... هان في مأقط ألدّ الخصام
ما رأينا سوى المليحة شيئا ... جمع الحسن كلّه في نظام
فهي تجري مجرى الأصالة في الرأ ... ي ومجرى الأرواح في الأجسام
البرهان الحجة، قال الله عز وجل: {قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (6). أي حججكم، والمأقط موضع الحرب فضربه مثلا لموضع المناظرة والمحاجّة، والألدّ الشديد الخصومة.
__________
(1) سورة البقرة الاية رقم 111.
(2) الدسيعة: العطاء الجزيل.
(3) الوعساء رابية من رحل لينة تنبت أحرار البقول أو موضع بين الثعلبية والخزيمية.
(4) جلاجل بالفتح: موضع.
(5) النقا: من الرمل القطعة.
(6) سورة البقرة: الاية 111.(2/67)
قال الله تبارك وتعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (1). وقال: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصََامِ} (2). وقالت ليلى الأخيليّة:
كأنّ فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع مع المتغوّر (3)
ولم يقدع (4) الخصم الألدّ ويملإ ... الجفان سديفا (5) يوم نكباء صرصر (6)
السديف شقق السنام، والنكباء الريح بين الريحين لأن الرياح أربع وما بين كل ريحين نكباء فهي ثمان في المعنى فما بين مطلع سهيل إلى مطلع الفجر جنوب.
من وصف العرب للرياح
وإنما تأتي الجنوب من قبل اليمن. قال جرير:
وحبّذا تفحات من يمانية ... تأتيك من قبل الريّان أحيانا
وإذا هبّت من تلقاء الفجر فهي الصّبا تقابل القبلة، فالعرب تسميها القبول. قال الشاعر:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصبا من حيث يطّلع الفجر
وإذا أتت من قبل الشام فهي شمال. قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منتور
وهي تقابل الجنوب. وكذلك قال امرؤ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمال
__________
(1) سورة مريم: الاية 97.
(2) سورة البقرة: الاية 204.
(3) المتغور: الذي يقصد الغور وهو كل ما انحدر مغربا عن تهامة.
(4) قدح الخصم: اعجزه وأفحمه.
(5) السديف: بالفتح شحم السنام.
(6) صرصر: الريح الشديدة الباردة. والمقصود هنا: شدة القحط والجفاف.(2/68)
وإذا جاءت من دبر البيت الحرام فهي الدبور، وهي تهبّ بشدة. والعرب تسميها محوة عن أبي زيد لأنها تمحو السحاب، ومحوة معرفة لا تنصرف، فأما الأصمعي فزعم أن محوة من أسماء الشمال وأنشدا جميعا:
قد بكرت محوة بالعجاج ... فدمّرت بقيّة الرجاج
الرجاج حاشية الإبل وضعافها. وقال الأعشى:
لها زجل (1) كحفيف (2) الحصا ... د (3) صادف بالليل ريحا دبورا
ولهذه الرياح أسماء كثيرة وأحكام في العربية لأن بعضهم يجعلها نعوتا وبعضهم يجعلها أسماء، وكذلك مصادرها تحتاج إلى الشرح والتفسير ونحن ذاكرون ذلك في عقب هذا الباب إن شاء الله، يقال: جنّبت الريح جنوبا وشملت شمولا ودبرت دبورا وصبت صبوّا وسمت سموما وحرّت حرورا، مضمومات الأوائل. فإذا أردت الاسماء فتحت أوائلها فقلت: جنوب وشمول وسموم ودبور وحرور. ولم يأت من المصادر شيء مفتوح الأول إلا أشياء يسيرة. قالوا: توضّأت وضوا حسنا، وتطهرت طهورا وأولعت بالشيء ولوعا وإن عليه لقبولا ووقدت النار وقودا وأكثرهم يجعل الوقود الحطب والوقود المصدر. ويقال الشمال على لغات ست. يقال: شمال وشأمل وشمأل وشمل وشمل وشامل غير مهموز، ويقال للشمال الجربياء. قال ابن أحمر:
بجوّ (4) من قسا (5) ذفر الخزامى (6) ... تداعى الجربياء به الحنينا
ويقال للجنوب الأريب، ويقال للصبا القبول وبعضهم يجعله للجنوب وهو
__________
(1) الزجل: محركا الصوت المرتفع.
(2) حفيف الشجرة ونحوه صوته.
(3) الحصاد: الزرع.
(4) الجو: ما انخفض من الأرض.
(5) قسا: إسم موضع.
(6) الخزامى بالضم نبت زهره أطيب الأزهار.(2/69)
في الصّبا أشهر، بل هو القول الصحيح والإبر والهير والأيّر والهيّر. قال الشاعر:
«مطاعيم أيسار إذا الهير هبّت»». فهذا يدل على أنه الصبا وذاك أنهم إنما يتمدحون بالإطعام في المشتاة وشدّة الزمان، كما قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الادب فينا ينتقر
الجفلى العامة، والنقرى الخاصة والادب صاحب المأدبة. يقال مأدبة ومأدبة للدعوة. وفي الحديث: إن القران مأدبة الله. قال أهل العلم معناه مدعاة الله وليس من الادب، وأكثر المفسرين قالوا القول الأول وكلاهما في العربية جائز. ويدل على القول الأول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا الجفنة الغرّاء، أي التي يجتمع الناس عليها ويدعون إليها. ويقال في الدعوة: أدبه يأدبه أدبا إذا دعاه. قال الشاعر:
وما أصبح الضحّاك إلا كخالع (1) ... عصانا فأرسلنا المنيّة تأدبه
وقولنا في الرياح أنها تكون أسماء ونعوتا نفسره إن شاء الله. يقول أكثر العرب: هذه ريح جنوب وريح شمال وريح دبور فتجعل، جنوبا وشمالا ودبورا وسائر الرياح نعوتا. قال الأعشى:
لها زجل كحفيف الحصا ... د صادف بالليل ريحا دبورا
وقال زهير:
مكلّل باصول النبت تنسجه ... ريح شمال لضاحي (2) مائه حبك (3)
وقال جرير «ريح خريق شمال أو يمانية» فهذا يكون على النعت أجود لأنه أوضحه بيمانية ولا تكون اليمانية إلا نعتا لأنها منسوبة فأما الخريق فهي
__________
(1) الخالع: الخارج عن الطاعة.
(2) لضاحي مائه: يريد لمائه ضاحي وهو الظاهر البارز للشمس.
(3) الحبك بالضمتين ما تكسر من الماء إذا هبت عليه الريح فيصير فيه طرائق.(2/70)
الشديدة من كل ريح. قال حميد بن ثور:
بمثوى حرام والمطيّ كأنه ... قنا مسند هبّت لهنّ خريق
والبليل الباردة من كل الرياح وأصل ذلك الشمال. قال جرير: يعيّر بني مجاشع بخذلانهم الزبير بن العوام في كلمة يقول فيها:
إنّي تذكّرني الزبير حمامة ... تدعو بأعلى الأيكتين (1) هديلا
يا لهف نفسي إذ يغرّك حبلهم ... هلّا اتّخذت على القيون كفيلا
قالت قريش ما أذلّ مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا
أفبعد مترككم خليل محمّد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا
أفتى الندي وفتى الطعان غررتم ... وأخا الشمال إذا تهبّ بليلا
ويروي أن أحيحة بن الجلاح (2) الأنصاريّ، وكان يبخّل إذا هبت (3) الصّبا طلع من أطمه (4) فنظر إلى ناحية هبوبها. ثم يقول لها هبّي هبوبك فقد أعددت لك ثلثمائة وستين صاعا من عجوة أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات فيرد عليّ منها ثلاثا، أي لصلابتها بعد جهد ما يلوك منها اثنتين.
نذر لبيد بن ربيعة
وكان لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب شريفا في الجاهلية والإسلام وهو بالكوفة مقتر مملق. فعلم بذلك الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. وكان الوليد واليها لعثمان بن عفّان. وكان أخاه لأمه، وأمهما أروى إبنة كريز بن حبيب بن ربيعة بن عبد شمس، وأمّ أروى البيضاء بنت عبد المطّلب فخطب الناس، وقال: إنكم قد
__________
(1) الأيكتين: مثنى أيكة وهي الشجرة والهديل صوت الحمام أو خاص بالوحشي منها.
(2) أحيحة بن الجلاح الأوسي سيد يثرب في الجاهلية.
(3) إذا هبت الصبا: يريد وقت اشتداد الزمن ووقوع الناس في القحط.
(4) الأطم: بالضم أو بضمتين كل حصن مبني بحجارة.(2/71)
عرفتم نذر أبي عقيل وما وكّد على نفسه فأعينوا أخاكم. ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة (وأبيات يقول فيها):
أرى الجزّار تشحذ مديتاه ... إذا هبّت رياح أبي عقيل
طويل الباع أبيض جعفريّ ... كريم المجد كالسّيف الصّقيل
وفى ابن الجعفريّ بما لديه ... على العلّات (1) والمال القليل
فلما أتته قال: جزى الله الأمير خيرا، قد عرف الأمير أني لا أقول شعرا ولكن أخرجي يا بنيّتي فخرجت خماسيّة (2) فقال لها: أجيبي الأمير (فأقبلت وأدبرت). وبعث الناس (3) فقضى نذره ففي ذلك تقول ابنة لبيد:
إذا هبّت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبّتها الوليدا
(طويل الباع أبيض عبشميّا (4) ... أعان على مروّته لبيدا
بأمثال الهضاب (5) كأنّ ركبا ... عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إنّ الكريم له معاد ... وظنّي بابن أروى أن يعودا
قال لها لبيدأ حسنت يا بنيتي لولا أنك سألت، فقالت: إن الملوك لا يستحى من مسئلتهم. (فقال لها يا بنيتي وأنت في هذا أشعر). ومن جعل الشّمال والجنوب أسماء لم يصرفها إذا سمّي بشيء منها رجل لأنك إذا سميت رجلا مذكرا باسم مؤنث على أربعة أحرف فصاعدا، لا علامة للتأنيث فيه لم تصرفه في المعرفة، وصرفته في النكرة نحو: عناق وأتان وعقرب وإن كان نعتا انصرف، لأنك إذا كتّبت رجلا مذكرا بنعت مؤنث، لا علامة فيه صرفته لأنه
__________
(1) على العلات: بالكسر أي على حالاته التي هو عليها.
(2) خماسية: أي جارية طولها خمسة أشبار ولا يقال سداسية.
(3) وبعث الناس: عطف على قوله فبعث إليه بمائة ناقة.
(4) عبشميا: منسوبا إلى عبد شمس.
(5) بأمثال الهضاب: أي بابل أمثالها، والهضاب جمع هضبة وهي الجبل المنبسط على وجه الأرض شبهت الابل بها.(2/72)
مذكر نعتّ به المؤنث نحو حائض وطالق ومتئم (1) ومرضع وإذا ذكرنا من الباب شيئا فما نذكره منه فعلى مجراه ومنهاجه. قال الشاعر: فجعل ما وصفنا أسماء:
حالت وحيل بها وغيّر ايها ... طول البلى تجري به الرّيحان
ريح الشّمال من الجنوب وتارة ... رهم (2) الربيع وصائب التّهتان
وقد أنشدوا بيت زهير. ريح الجنوب لضاحي مائه حبك. وقولنا لا علامة فيه للتأنيث لتعرف كيف حكم علامات التأنيث، لأن ذلك إنما يكون على ضربين، فما كانت فيه ألف التأنيث مقصورة أو ممدودة فغير منصرف في معرفة ولا نكرة لمذكر كان أو مؤنث. فالمقصور، نحو حبلى وسكرى وما أشبه ذلك، والمدود نحو حمراء وصفراء وما أشبه ذلك. فإن كانت ممدودة لغير التأنيث، انصرف إذا كان لمذكر في المعرفة والنكرة زائدا كان أو أصليا، فالأصلي نحو سقاء وعداء وحذاء ورداء، والزائدة نحو علباء وحرباء وقوباء يا فتى، ومن قال قوباء يا فتى، أنّث ولم يصرف. لأن الأولى ملحقة وهذه للتأنيث. فأما الألف المقصورة التي لغير التأنيث فإن كانت أصلية انصرفت في المذكر نحو ملهى ومعزء ومشترى وإن كانت زائدة لغير التأنيث انصرفت في النكرة، ولم تنصرف في المعرفة نحو أرطى وعلقى فيمن جعل الواحدة علقاة. وأما ما كانت فيه هاء التأنيث فهو منصرف في النكرة وغير منصرف في المعرفة لمذكر كان أو مؤنث عربيا كان أو أعجميا، فهذه جملة هذا الباب، فأما قياسه وشرحه فقد أتينا عليه في الكتاب المقتضب. وتقول: في أكثر الكلام هبّت جنوبا وهبت شمالا فتستغني عن ذكر الريح، وهذا مما يؤكد أنها نعوت لأن الحال إنما بابها أن تقع في ما يكون نعتا. قال جرير:
هبّت شمالا فذكري ما ذكرتكم ... عند الصّفاة إلى شرقيّ حورانا
__________
(1) المتئم: المرأة التي تلد توأما وهو المولود مع غيره في بطن واحد.
(2) الرّهم جمع رهمة بالكسر وهي المطر الضعيف.(2/73)
وقال الاخر:
فأيّ حيّ إذا هبّت شامية ... واستدفأ الكلب بالمأسور ذي الذئب
المأسور يعني قتبا وإنما الاسر الشد بالقدّ حتى يحكم، وإنما قيل الاسير من ذا لأنه كان يشدّ بالقد، ثم قالت العرب: لكل محكم شديد الاسر. قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ خَلَقْنََاهُمْ وَشَدَدْنََا أَسْرَهُمْ} (1) وقوله ذي الذئب يعني الفضول التي وسّعته وأسبغته. يقال: غبيط مذأب أي ذو ذئب أي موسّع. والغبيط مركب من مراكب النساء.
في وصف البرد
وقال أوس بن حجر في شدة البرد وغلبة الشمال يرثي فضالة بن كلدة الأسديّ.
والحافظ الناس في قحوط إذا ... لم يرسلوا تحت عائد ربعا
وعزّت الشمأل (2) الرياح وقد ... أمسى كميع (3) الفتاة ملتفعا (4)
وكانت الكاعب المنعّمة ... الحسناء في زاد أهلها سبعا
تحوط وقحوط وكحل وحجرة أسماء السنة المجدبة، والعائذ الحديثة النتاج فتنحر أولاها في السنة المجدبة إبقاء على ألبانها وشحومها والربع الذي ينتج في الربيع، والهبع الذي ينتج في الصيف، يقال ما له هبع ولا ربع، وإنما سمي هبعا لأن الربع أسن منه فيمشي مع أمهاتها. ولا يلحقهنّ الهبع إلا باجتهاد فيستعين بعنقه في المشي، يقال إذا فعل ذلك هبع يهبع، ويقال للريح الشمال نسع ومسع. قال الهذليّ:
__________
(1) سورة الانسان: الاية 28.
(2) عزت الشمال الرياح غلبتها وزاد صوبها عليها وهذا كناية عن شدة الزمان.
(3) الكميع: الضجيع، الذي يضاجع المرأة.
(4) ملتفعا: مقلوبا يرتفع عن جسمها لشدة هبوب الريح عليها.(2/74)
قد حال دون دريسيه مأوّبة ... تسع لها بعضاه الأرض تهزيز
الدريسان ثوبان خلقان، ومأوّبة مفعّلة من التأويب وهو سير النهار لا تعريج فيه. قال أبو عبيدة: هو سير النهار، والإساد سير الليل لا تعريس فيه.
وأنشد لسلامة بن جندل:
يومان: يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الاعداء تأويب
وإنما يعني (1) ريحا. وقوله نسع أي شمال، والعضاه شجرة ضخمة، فبعض العرب يقول للواحدة عضاهة وللجمع عضاه على وزن دجاجة ودجاج.
وبعضهم يقول للواحدة عضة. فيقول في الجمع عضوات وعضهات فتكون من الواو، ومن الهاء. قال الشاعر:
هذا طريق يأزم المازما (2) ... وعضوات تقطع اللهازما (3)
ونظير عضة سنة على أن الساقط الهاء في قول بعض العرب والواو في قول بعضهم، تقول في جمعها سنوات، وسانيت الرجل وبعضهم يقول سنهات وأكريته مسانهة وهذا الحرف في القران يقرأ على ضروب. فمن قرأ لم يتسنّه وانظر فوصل بالهاء فهو مأخوذ من سانهت التي هي سنيهة، ومن جعله من الواو وقال في الوصل لم يتسنّ وانظر فإذا وقف قال لم يتسنّه. فكانت الهاء زائدة لبيان الحركة بمنزلة الهاء في قوله: فبهداهم اقتده وكتابيه وحسابيه.
والمعنى واحد وتأويله لم تغيره السنون ومن لم يقصد إلى السنة قال: لم يتأسّن والاسن المتغير. قال الله جل وعز: {فِيهََا أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} (4). في هذا المعنى. كما يقال: رجل حاذر وحذر. ويقال للريح الجنوب النعامى.
قال أبو ذؤيب:
__________
(1) إنما يعني ريحا: يريد أن الهذلي أراد بالمؤوبة الريح.
(2) المازم: المضائق واحدها مأزم ويأزمها يسدها.
(3) اللهازم: أصول الحنكين واحدتها لهزمة بالكسر أو هي الاشداق.
(4) سورة محمد: الاية 15.(2/75)
مرته النعامى فلم يعترف (1) ... خلاف النعامى من الشأم ريحا
ومعنى مرته استدرّته. وفي الحديث ما هبت الريح الجنوب إلّا أسال الله بها واديا. وقال رجل يمدح رجلا:
فتى خلقت أخلاقه مطمئنّة ... له نفحات ريحهنّ جنوب
يريد أن الجنوب تأتي بالمطر والندى، والعرب تكره الدّبور. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدبور وقلما يكون بالدبور المطر لأنها تجفّل (2) السحاب ويكون فيها الرهج (3) والغبرة، ولا تهبّ إلا أقلّ ذاك إلا بشدة فتكاد تقلع البيوت وتأتي على الزروع. وقال رجل يهجو رجلا:
لو كنت ريحا كانت (4) الدّبّورا ... أو كنت غيما لم تكن مصيرا (5)
أو كنت ماء لم تكن طهورا ... أو كنت مخّا كنت مخّا ريرا
أو كنت بردا كنت زمهريرا
الرير: المخ الرقيق، يقال، رير ورار في معنى واحد.
للسليك يرثي فرسه
وقال السّليك: يصيدك قافلا والمخّ رار. والشيء يذكر بالشيء. وقال اخر.
لو كنت ماء لم تكن بعذب ... أو كنت غيما لم تكن مطيرا
__________
(1) مرته النعامى: الضمير للسحاب ومرته استخرجت ماءه واسترته فلم يعترف أي لم يعرف.
(2) تجفل السحاب: أي تطرده وتسحقه.
(3) الرهج: ويحرك: الغبار.
(4) لو كنت ريحا: يريد أن يهجوه في هذه الأبيات باللؤم والخبث على أي حال يكون عليها وأي صورة يركب فيها.
(5) مصير: خطأ مطبعي والقصد مطير أي ممطر وفي هذا إقذاع في الهجاء.(2/76)
أو كنت لحما كنت لحم كلب ... أو كنت عيرا كنت غير ندب (1)
فأما قول السليك (2) فإنه يرثي فرسه وكان يقول له النّحّام فقال:
كأنّ قوائم النّحّام لمّا ... تحمّل صحبتي أصلا محار
على قرماء عالية شواه (3) ... كأنّ بياض غرّته خمار
وما يدريك ما فقري إليه ... إذا ما القوم ولّوا أو أغاروا
ويحضر فوق جهد الحضر (4) نصّا ... يصيدك قافلا والمخّ رار
قوله كأن قوائم النحام محار المحارة الصّدفة يريد الملاسة وأنه قد ارتفعت قوائمه للموت، والأصل جمع أصيل والأصيل العشيّ يقال: أصيل وأصل مثل قضيب وقضب وجمع أصل اصال، وهو جمع الجمع وتقديره عنق وأعناق! وطنب وأطناب. ويقال: في جمع أصيلة أصائل مثل خليفة وخلائف.
قال الأعشى: ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل. وقال أبو ذؤيب.
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه (5) بالأصائل
وقرماء ممدودة إسم موضع. وشواه قوائمه. وقد فسرناه قبل هذا، وقوله:
ولوا أو أغاروا إذا طلبوا أو هربوا. وقوله: يصيدك أو يصيد لك، يقال صدتك ظبيا. قال الله عز وجل: {وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (6). أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، يقال كلتك ووزنتك لأنه قد قال تعالى أوّلا: {إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (7). فأما ما جاء في الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الهبوب اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، فإن العرب تقول لا تلقح
__________
(1) غير الندب: بالفتح الخفيف في الحاجة النجيب الفاره.
(2) فأما قول السليك: أي في ما تقدم في قوله يصيدك قافلا الخ.
(3) الشوى: اليدان والرجلان. وشبه بياض غرته بالخمار في شكله وهيئته.
(4) الحضر بالضم: إرتفاع الفرس في عدوه.
(5) الأفياء جمع فيء وهو ما كان شمسا ثم نسخه الظل.
(6) سورة المطففين: الاية رقم 3.
(7) سورة المطففين: الاية رقم 2.(2/77)
السحاب إلا من رياح. وتصديق ذلك قول الله عز وجل: {اللََّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً}، (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا هبّت بحريّة ثم تذاءبت، قال الشاعر: تسحّ إذا تذاءبت الرّياح، يقول إذا تقابلت، يقال تذاءبت الرياح، وتناوحت أي تقابلت وتناوح الشجر إذا قابل بعضه بعضا. وإنما سميت النائحة نائحة لأنها تقابل صاحبتها فإذا خلصت الريح عندهم دبورا فهي من جنس البوار وإذا خلصت شمالا شتويّة فهي من ايات الجدب. ومن ثمّ تقول العرب: فلان يطعم في الشّمال كما تقول يطعم في المحل. قال أوس بن حجر. وعزّت الشمال الرياح، أي غلبتها. فكانت أقوى منها فلم تدع لها موضعا. وقوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطََابِ} (2) أي غلبني في المخاطبة والخصومة ومن أمثال العرب من عزّ بزّ وتأويله من غلب سلب. قالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يتّقى ... إذا الناس إذا ذاك من عزّ بزّا
قال أبو العباس وحدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال رأيت رجلا من غنيّ (3) يفاخر رجلا من بني فزارة، ثم أحد بني بدر بن عمرو وكان الغنويّ متمكّنا من لسانه (4) وكان الفزاريّ بكيّا. فقال الغنوي ماؤنا ما بين الرّقم إلى كذا وهم جيراننا فيه فنحن أقصر منهم رشاء وأعذب منهم ماء لنا ريف السّهول ومعاقل الجبال وأرضهم سبخة ومياههم أملاح وأرشيتهم طوال والعرب إذ ذاك بمن عزّبزّ فبعزّنا تخيّرنا عليهم وبذلّهم ما رضوا عنا بالضّيم. قوله كان الفزاريّ بكيا يقول غير قادر على الكلام وأصل ذلك في الحلب يقال ناقة بكيّ وهي ضد الغزيرة أي قليلة اللبن، ودهبن وصمرد (5) في معنى. يقال: بكأت الشاة
__________
(1) سورة الروم: الاية رقم 48.
(2) سورة ص: الاية رقم 23.
(3) غني: حي من غطفان.
(4) متمكنا من لسانه: كناية عن فصاحته وقدرته على إقامة حجته على خصمه.
(5) الصمرد بالكسر يقال للناقة التي قلّ لبنها والتي كثر فيها فهو صده وأما الدهبن بفتح الدال فهي قليلة اللبن ليس غير.(2/78)
والناقة وبكوّت. قال الشاعر:
فإذا ما حاردت (1) أو بكؤت ... فضّ عن خاتم أخرى طينها
وقال سلامة بن جندل الطهويّ:
يقول محبسها أدنى لمرتعها ... وإن تداعى ببكء كلّ محلوب
يقول أن نحبس الإبل على ضرّ ونقاتل عنها فهو أدنى بأن تعزّ تترتع فيما تستقبل، وإن ذهبت ألبانها لانا إن طردناها وهربنا طمع فينا واستذللنا. ويقال في الكلام رجل غنيّ بكيّ. قال أبو العباس: وهذا الغنوي إذا حاول بقبيلته ال بدر فقد أعظم الفرية (2) وبلغ في البهت (3) وأشمت العدوّ بجمهور قيس، وصار بهم إلى ما قال الأخطل:
وقد سرّني من قيس عيلان أنني ... رأيت بني العجلان سادوا بني بدر
من وصايا العرب
وكان زياد يقول وهو الغاية في السياسة: أوصيكم بثلاثة، بالعالم والشريف والشيخ، فو الله لا أوتى بوضيع سبّ شريفا أو شابّ وثب بشيخ أو جاهل امتهن عالما إلا عاقبت وبالغت.
ما قيل في الترفع عن الوضيع
وقال عمارة لبني أسد ابن خزيمة:
يا أيها السائلي عمدا لأخبره ... بذات نفسي وأيدي الله فوق يدي
إن تستقم أسد ترشد وإن شغبت ... فلا يلم لائم إلا بني أسد
إني رأيتكم يعصي كبيركم ... وتكنعون (4) إلى ذي الفجرة والنكد
__________
(1) حاردت الإبل: أي انقطع لبنها.
(2) الفرية: بالكسر الكذب.
(3) البهت: بالضم الباطل الذي يتحير من بطلانه.
(4) تكنعون: تذلون وتخضعون.(2/79)
فباعد الله كلّ البعد داركم ... ولا شفاكم من الأضغان والحسد
فرأى عصيانهم الكبير من أقبح العيب وأدلّه على ضغن بعضهم لبعض وحسد بعضهم بعضا، والوضيع ينقلب إلى الشريف، لإنه يرى مقاولته فخرا والاجتراء عليه ربحا، كما أن مقاولة الشريف اللّئيم ذلّ وضعة. وقال الشاعر:
إذا أنت قاولت اللّئيم فإنما ... يكون عليك العتب حين تقاوله
ولست كمن يرضى بما غيره الرضا ... ويمسح رأس الذئب والذئب اكله
وسنشبع في هذا المعنى إن شاء الله. وفي هذا الشعر بيت يقدّم في باب الفتك وهو:
فلا تقربن أمر الصريمة (1) بامرىء ... إذا رام أمرا عوّقته عواذله
(وقل للفؤاد إن ترى بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله)
الصريمة العزيمة وقد امتنع قوم من الجواب تنبّلا ومواضعهم تنبىء عن ذلك، وامتنع قوم عيّا بلا اعتلال، وامتنع قوم عجزوا واعتلوا بكراهة السفه وبعضهم معتلّ برفعة نفسه عن خصمه وبعضهم كان يسبّه الرجل الركيك (2) من العشيرة فيعرض (3) ويسبّ سيد قومه. وكانت الجاهلية (4) ربما فعلته في الدخول.
قال الراجز:
إن بجيلا كلّما هجاني ... مت على الأغطش أو أبان
أو طلحة الخر فتى الفتيان ... أولاك قوم شأنهم كشاني
ما نلت من أعراضهم كفاني ... وإن سكتّ عرفوا احساني
وقال أحد المحدثين:
__________
(1) الصريمة: العزم وقطع الأمر.
(2) الركيك: الضعيف.
(3) فيعرض: يريد أنه يترك ذلك الركيك ويذهب إلى سيد قوم ذلك الرجل فينسبه وينتقم لنفسه منه.
(4) وكانت الجاهلية ربما فعلته: يريد أنهم كانوا يأنفون أن يأخذوا الثأر من الوضيع إذا جنى جناية ولكن يذهبون إلى الشريف من قومه فيأخذون بالثأر منه فيكون في ذلك شفاء لأنفسهم.(2/80)
إني إذا هرّ كلب الحيّ قلت له ... اسلم وربّك مخنوق (1) على الجرر
قوله أسلم فاستأنف بألف الوصل، لأن النصف الأول موقوف عليه. قال الشاعر:
ولا يبادر في الشتاء (2) وليدها ... القدر ينزلها بغير جعال
الجعال: الذي يوضع فيه البرمة وربما توقّيت به حرارتها. قال الراجز:
لا نسب اليوم ولا خلة ... اتّسع الخرق على الراقع
وهذا كثير غير معيب، وفي مثل اختيار النبيل لتتكافأ الأعراض قول الأخطل:
شفى النفس قتلى من سليم وعامر ... ولم يشفها قتلى غنيّ ولا جسر (3)
ولا جشم شرّ القبائل انها ... كبيض القطا ليسوا بسود ولا حمر
ولو ببني ذبيان بلّت رماحنا ... لقرّت بهم عيني وباء بهم وتري
وقال رجل من المحدثين وهو حمدان بن أبان اللّاحقيّ:
أليس من الكبائر أن وغدا ... لال معذّل يهجو سدوسا
هجا عرضا لهم غضّا جديدا ... وأهدف عرض والده اليبيسا
وقال اخر:
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللّؤم أكرم من وبر وما ولدا
قوم إذا جرّ (4) جاني قومهم أمنوا ... من لؤم أحساببهم أن يقتلوا قودا
__________
(1) وربك مخنوق على الجرر: يذكر أنه مطبق عليه مؤاخذة بما فعل.
(2) لا يبادر في الشتاء: يذكر أن من يصفهم ليسوا أهل قحط وجدب حتى إذا طبخوا لم يسرعوا بإنزال القدور إغاثة لأولادهم من الجوع.
(3) جسر هو ابن عمرو بن علة بضم الغين وابن شيع الله بفتح الشين وابن محارب وابن تيم الله وأبو حي في قضاعة.
(4) رفلان على نفسه وعلى غيره جريرة إذا جنى جناية.(2/81)
اللؤم داء لوبر يقتلون به ... لا يقتلون بداء غيره أبدا
وقال أحد المحدثين (هو دعبل).
أما الهجاء فدّقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت عتيق عرضك أنه ... عرض عززت به وأنت ذليل
وقال اخر:
نبّئت كلبا هاب (1) رميي له ... ينبحني من موضع نائي
لو كنت من شيء هجوناك أو ... لو نلت للشايع والرائي
فعدّ عن شتمي فإني امرء ... حلّمني قلة أكفائي
وقال اخر (هو دعبل):
فلو أني بليت بهاشميّ ... خؤولته بنو عبد المدان
صبرت على عداوته ولكن ... تعالي فانظري بمن ابتلاني
حلم الأحنف
ووقف رجل عليه مقطّعات (2) على الأحنف بن قيس يسبه، وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفّه (3) الأحنف، فجعل لا يألوا أن يسبه سبا يغضب، والأحنف مطرق صامت. فلما راه لا يكلمه أقبل الرجل يعضّ أبهاميه ويقول: يا سوأتاه، والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه. وفعل ذلك اخر فأمسك عنه الأحنف فأكثر الرجل إلى أن أراد الأحنف القيام للغداء فأقبل على الرجل فقال له: يا هذا إن غداءنا قد حضر فانهض بنا إليه إن شئت فانك مذ اليوم تحدو بجمل ثقّال. والثّقّال من الإبل البطيء الثقيل الذي لا يكاد
__________
(1) هاب رميي له: جملة في موضع الصفة.
(2) مقطعات: بفتح الطاء المشددة القصار من الثياب ولا واحد له من لفظه وإنما الواحد ثوب.
(3) يسفه: يخرج عن الحلم إلى الجهل والطيش فتعد سقطة منه فيعتد بها عمرو عليه وقد ظفر عمرو بما أراد من الأحنف هذه المرة لأنه جهل على عمرو وخرج عن حلمه الذي كان طبعا له.(2/82)
ينبعث. وعدّت على الأحنف سقطة في هذا الباب، وهو أن عمرو بن الأهتم دسّ إليه رجلا ليسفّههه فقال له: أبا بحر ما كان أبوك في قومه، قال: كان من أوسطهم لم يسدهم ولم يتخلّف عنهم، فرجع إليه ثانية ففطن الأحنف أنه من قبل عمرو فقال: ما كان مال أبيك؟ فقال كانت له صرمة (1) يمنح منها ويقري ولم يك أهتم سلّاحا. وجعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمّه، ولم تكن في موضع مرضيّ، فأتاه الرجل وهو بمصر أمير عليها فقال، أردت أن أعرف أمّ الأمير، فقال نعم كانت من عنزة ثم من بني حلّان تسمّى ليلى وتلقّب النابغة، اذهب وخذ ما جعل لك. وقال له مرة المنذر بن الجارود أيّ رجل أنت (2) لولا أمّك؟ قال: فإني أحمد الله إليك إني فكّرت في هذه البارحة فأقبلت أنقلها في قبائل العرب فما خطرت لي عبد القيس (3) على بال.
ودخل عمرو مكة فرأى قوما من قريش قد جلسوا حلقة فلما رأوه رموه بأبصارهم فعدل إليهم فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري، قالوا: أجل كنا نميّل بينك وبين أخيك هشام، أيّكما أفضل؟ فقال عمرو: إن لهشام عليّ أربعة. أمّة ابنة هشام بن المغيرة وأمّي من قد عرفتم، وكان أحبّ إلى أبيه مني وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد، وأسلم قبلي، واستشهد وبقيت. وقد أكثر الناس في الباب الذي ذكرناه وإنما نذكر من الشيء وجوهه ونوادره. قال رجل لرجل من ال الزبير كلاما أقذع له فيه فأعرض الزبيريّ عنه، ثم دار كلام فسب الزبيريّ علي بن الحسين فأعرض عنه، فقال له الزبيريّ، ما يمنعك من جوابي؟ فقال عليّ: ما منعك من جواب الرجل. وقد روي قول القائل لو قلت واحدة لسمعت عشرا فقال له الرجل. ولكنك لو قلت عشرا ما سمعت واحدة.
وقال الشاعر:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... فأجوز ثم أقول لا يعنيني
__________
(1) الصرمة بالكسر القطعة من الابل.
(2) أي رجل أنت: يريد أنت رجل عظيم القدر راجح العقل نابه الذكر لولا أمك.
(3) فما خطرت لي عبد قيس على بال: هنا تعريض بالمنذر بن الجارود فإنه منهم.(2/83)
وقال رجل لرجل، وسبّه فلم يلتفت إليه: إياك أعني. فقال له الرجل وعنك أعرض. فأما قول الشعبي للرجل ما قال، فمن غير هذا الباب وإنما مخرجه الديانة وذاك أن رجلا سب الشعبي بأمور قبيحة نسبه إليها فقال الشعبي: إن كنت كاذبا فغفر الله لك وإن كنت صادقا فغفر الله لي. وقال أبو العباس: قال رجل لأبي بكر الصديق رحمه الله لاسبّنّك سبا يدخل معك قبرك فقال: رأيت رجلا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا أحسن لباسا ولا أفره مركبا منه فسألت عنه فقيل لي الحسن بن علي بن أبي طالب. فامتلأت له بغضا فصرت إليه فقلت أأنت ابن أبي طالب فقال. أنا ابن ابنه، فقلت له: فيك وبك وبأبيك أسبّهما. فقال: أحسبك غريبا، قلت أجل، فقال: إن لنا منزلا واسعا ومعونة على الحاجة ومالا نواسي منه، فانطلقت وما أجد على وجه الأرض أحب منه). ويتصل بهذا الباب ذكر من رغب برجل عن إرث رجل لا يشاكله وولاية رجل لا يشابهه. قال الشاعر.
بكت دار بشر شجوها (1) أن تبدّلت (2) ... هلال بن قعقاع ببشر بن غالب
وما هي إلا كالعروس تنقلت ... على رغمها من هاشم في محارب
وقال الفرزدق، حين ولي العراق عمر بن هبيرة الفزاري يعقب مسلمة ابن عبد الملك.
راحت بمسلمة البغال عشيّة ... فارعي (3) فزارة لا هناك المرتع
ولقد علمت إذا فزارة أمّرت ... أن سوف يطمع في الإمارة أشجع
فأرى الأمور تنكّرت أعلامها (4) ... حتى أميّة عن فزارة تنزع
عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقّع
فلما ولي خالد بن عبد الله القسريّ على عمر بن هبيرة، قال رجل من
__________
(1) شجوها: تصب على أنه معقول لأجله والشجو الحزن.
(2) إن تبدلت: أي لأن تبدلت.
(3) أرعى قرارة: هذا مثل يستعمل للدلالة على إطلاق يدها في العراق.
(4) تنكرت أعلامها: يريد أراها تغيرت وتبدلت من حسن إلى سيء.(2/84)
بني أسد يجيب الفرزدق:
عجب الفرزدق من فزارة أن رأى ... عنها أميّة بالمشارق تنزع
فلقد رأى عجبا وأحدث بعده ... أمر تضجّ له القلوب وتفزع
بكت المنابر من فزارة شجوها ... فاليوم من قسر تذوب وتجزع
وملوك خندف أسلمونا للعدى ... لله درّ ملوكنا ما تصنع
كانوا كتاركة (1) بنيها جانبا ... سفها وغيرهم تصون وترضع
قال أبو العباس: وكان الفرزدق هجّاء لعمر بن هبيرة عند ولايته العراق.
وفي ذلك يقول ليزيد بن عبد الملك بن مروان:
أمير المؤمنين وأنت برّ ... أمين لست بالطبع الحريص
أأطعمت العراق ورافديه ... فزاريّا أحذّ يد القميص
تفهّق (2) بالعراق أبو المثنّى ... وعلّم قومه أكل الخبيص
ولم يك (3) قبلها راعي مخاض (4) ... ليأمنه على وركي قلوص
قوله: لست بالطبع الحريض فالطّبع الشديد الطّمع الذي لا يفهم لشدة طعمه، وإنما أخذ هذا من طبع السيف يا فتى وهو سيف طبع إذا ركبه الصّدأ حتى يغطّي عليه. والمثل من هذا في الذي طبع على قلبه إنما هو تغطية وحجاب، يقال: طبع الله على قلب فلان كما قال جل وعز: {طَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ} (5) هذا الوقف. ثم قال: {وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ} (6). وكذلك رين على قلبه عين على قلبه فالرين يكون من أشياء
__________
(1) كانوا كتاركة: يريد كالنعامة وذلك أنها إذا حضنت بيض غيرها حضنة ونسيت بيض نفسها يصف بني أمته بالحمق والسفه.
(2) تفهق في العراق: امتد واتسع.
(3) لم يك قبلها: يرمي عمر بن هبيرة بغشيان الإبل.
(4) المخاض: الحوامل من النوق واحدها خلفة بفتح فكسر.
(5) سورة النحل: الاية رقم 108.
(6) سورة البقرة: الاية رقم 7.(2/85)
تألّف عليه فتغطيه. قال الله جل وعز: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (1) وأما غين على قلبه فهي غشاوة تعتريه، والغينة القطعة من الشجر الملتف تغطّي ما تحتها. قال الشاعر:
كأني بين خافيتي عقاب ... أصاب حمامة في يوم غين
وقال بعضهم: أراد في التفاف من الظلمة. وقال اخرون: أراد في يوم غيم فأبدل من الميم نونا لاجتماع الميم والنون في الغنة، كما يقال للحبة أيم وأين واستجازت الشعراء أن تجمع الميم والنون في القوافي لما ذكرت لك من اجتماعهما في الغنة. قال الراجز.
بنيّ إن البر شيء هيّن ... المنطق اللّيّن والطعيّم
وقال اخر:
ما تنقم الحرب العوان (2) مني ... بازل (3) عامين حديث سنّي
لمثل هذا ولدتني أمّي
والعراقان البصرة والكوفة، الرافدان دجلة والفرات. وقوله: أحذ يدا القميص، الأحذ الخفيف. قال طرفة. وأتلع (4) نهّاض أخذ ململم (5). وإنما نسبه بالخفة في يده إلى السّرق وقوله: تفهق أي امتلأ ماء، يقال بئر تفتق وغدير يفهق إذا امتلأ ماء. قال الراجز.
لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا ... والقوم في عرض غدير يفهق
وقال الأعشى في مدحه، المحلّق بن حنتم أحد بني أبي بكر بن كلاب.
__________
(1) سورة المطففين: الاية رقم 14.
(2) الحرب العوان بفتح العين المترددة التي قوتل فيها مرة بعد مرة.
(3) البازل: من الابل الذي تم ثماني سنين ودخل في التاسعة وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته ثم يقال بعد لك بازل عام وبازل عامين.
(4) الأتلع: طويل العنق.
(5) الململم: بفتح اللامين المجتمع المضموم بعضه إلى بعض.(2/86)
نفى الذّمّ عن وهط المحلّق جفنة ... كجابية الشيخ العراقيّ تفهق
هكذا رواية أبي عبيدة. وقوله:
ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص
كانت بنو فزارة ترمى بغشيان الإبل ولذلك قال ابن دارة:
في عزل ابن هبيرة
لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار (1)
فلما عزل ابن هبيرة وحبسه خالد بن عبد الله القسريّ قال الفرزدق:
لعمري لئن نابت فزارة نوبة ... لمن حدث (2) الأيام تحبسها قسر
لقد حبس القسريّ في سجن واسط ... فتى شيظميّا ما ينهنهه الزّجر
فتى لم تربّيه النصارى ولم يكن ... غذاء له لحم الخنازير والخمر
الشيظميّ الطويل. قال ذو الرمة:
إذا ما رمينا رمية في مغازة ... عراقيبها بالشّيظميّ المواشك (3)
يريد حاديا يسوقها. وقوله: ما ينهتهه الزّجر يقول ما يحركه. وقوله: فتى لا تربية النصارى ينبه به على أم خالد وكانت نصرانية رومية وكان أبوه استلبها في يوم عيد للروم فأولدها خالدا وأسدا، ولذلك يقول الفرزدق:
ألا قطع الرحمن ظهر مطيّة ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد
وكيف يؤم الناس من كانت أمّه ... تدين بأن الله ليس بواحد
وقال
عليك أمير المؤمنين بخالد ... وأصحابه لا ظهّر الله خالدا
__________
(1) اكتبها بأسيار: أي اختم خبائها لئلا يترو عليها يقال كتب الناقة في باب ضرب ونصر.
(2) لمن حدث الأيام يريد أن في نوائب الدهر وحوادثه أن خالدا يحبس سيد بني فزارة ورئيسها.
(3) المواشك: المسرع المجد.(2/87)
بني بيعة فيها الصليب لامّه ... ويهدم من بغض الصلاة المساجدا
وكان سبب هدم خالد منار المساجد حتى حطّها عن دور الناس: أنه بلغه شعر لرجل من الموالي موالي الانصار وهو:
ليتني في المؤذّنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السّطوح
فيّشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كلّ ذات دلّ مليح
فحطها عن دور الناس. ويروي عنه في ما روي من عتوّه أنه استعفى من بيعة بناها لأمه. فقال لملأ من المسلمين: قبح الله دينهم إن كان شرّا من دينكم. وقال الفرزدق لابن هبيرة حيث نقب له السجن وهرب وسار تحت الأرض وهو وابنه حتى نفذا:
لمّا رأيت الأرض قد سدّ ظهرها ... ولم يبق إلّا بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس بعدما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت سيرة ... وما سار سار مثلها حيث أدلجا
خرجت ولم يمنن عليك طلاقة ... سوى ربذ (1) التقريب (2) من ال أعوجا (3)
فقال ابن هبيرة: ما رأيت أشرف من الفرزدق، هجاني أميرا ومدحني أسيرا.
شرح الأبيات
قوله حيث أدلجا تقول: أدلجت إذا سرت في أول الليل وأدلجت إذا سرت من اخره في السّحر. قال زهير:
بكرن بكورا وادّلجن بسحرة ... فهنّ لوادي (4) الرّسّ كاليد للفم
__________
(1) الربذ بفتح الراء وكسر الباء الموحدة: الخفيف القوائم في المشي.
(2) التقريب: ضرب من العدو أو أن يرفع يديه معا ويضمهما معا.
(3) أعوج: فرس لبني هلال تنسب إليه الاعوجيات كان لكندة فأخذته سليم ثم صار إلى بني هلال وفرس أيضا كان لغني بن أعصر وهو الذي أشار إليه أبو العباس.
(4) الرّسّ بالفتح واد بأذربيجان كان فيه ألف مدينة وهنا يصف سرعة الابل في ذلك الوادي وقوتها على قطعه شبه نقل خطاها وهي تسرع في مشيها باليد التي تسرع في تناول الطعام إلى الفم.(2/88)
وأعوج فرس كان لغنيّ. وقالوا: كان لبني كلاب ولا ينكر هذا لأن حبيبة بنت رياح الغنويّة ولدت بني جعفر بن كلاب فلعله أن يكون صار إلى بني جعفر بن كلاب من غنى، والعرب تنسب الخيل الجياد إلى أعوج وإلى الوجيه ولا حق (1) والغراب واليحموم (2). وما أشبه هذه الخيل من المتقدمات. قال زيد الخيل:
جلبنا الخل من أجأ وسلمى ... تخبّ نزائعا (3) خبب الذئاب
جلبنا كلّ طرف (4) أعوجيّ ... وسلهبة (5) كخافية العقاب
ثم نرجع إلى التشبيه المصيب. قال امرؤ القيس في طول الليل:
كأن الثّريّا علّقت في مصامها ... بأمراس كتّان إلى صمّ جندل
فهذا في ثبات الليل وإقامته، والمصام المقام وقيل للممسك عن الطعام:
صائم، لثباته على ذلك. ويقال صام النهار إذا قامت الشمس. قال امرؤ القيس:
فدعها (6) وسلّ الهمّ عنك بجسرة (7) ... ذمول إذا صام (8) النهار وهجّرا (9)
__________
(1) لاحق: إسم أفراس كانت معروفة فرس كان لغني بن أعصر وكان لمعاوية بن أبي سفيان وكان لعتيبة بن الحرث بن شهاب وكان الحازوق الخارجي ولاحق الأصفر كان لبني أسد.
(2) اليحموم: أسم أفراس أيضا فرس كان للنعمان بن المنذر وفرس كان لحسان الطائي وفرس كان لهشام بن عبد الملك من نسل الحرون وفرس كان للحسين بن علي رضي الله عنهما والغراب اسم فرس لغني.
(3) النزائع جمع نزيعة وهي من النجائب التي تجلب إلى غير بلادها.
(4) الطرف بالكسر الفرس الكريم.
(5) السهلبة: من الخيل ما عظم وطال عظامه وشبه ضلوعه بريش العقاب في عظمها وهيئتها في الإنحناء.
(6) فدعها: الضمير يعود إلى أسماء ذكرها.
(7) بجسرة: الجسرة: بالفتح الناقة القوية التي تجسر على الهول والسير.
(8) صام النهار: أقام قائم الظهيرة فيه.
(9) الهجرة من الهاجرة وهي عند اشتداد الحر في نصف النهار.(2/89)
وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللّجما
والأمراس جمع مرس وهو الحبل قال: أبو زبيد يرثي غلامه وتعرض للحرب فقتل:
أمّا تعلّق بك الرّماح فلا ... أبكيك إلا للدّلو والمرس
وقال في ثبات (1) الليل:
فيا لك من ليل كأنّ نجومه ... بكل مغار الفتل شدّت بيذبل
المغار الشديد الفتل. يقال: أعزت الحبل إذا شددت فتله، ويذبل جبل بعينه، وقال أيضا:
كأن أبانا في أفانين ودقه ... كبر إناس في بجاد (2) مزمّل (3)
أبان جبل، وهما أبانان أبان الأسود وأبان الأبيض.
للمهلهل
قال: مهلهل وكان نزل في اخر حربهم حرب البسوس في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذجح وجنب حي من أحيائهم وضيع فخطبت ابنته ومهرت أدما، فلم يقدر على الامتناع فزوّجها وقال:
أنكحها (4) فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم
__________
(1) وقال في ثبات الليل: يعني أمرأ القيس وهذا البيت قبل قوله كان الثريا الخ والأول يغني عن الثاني لأن معناهما واحد لأن النجوم تشتمل على الثريا كما أن يذبل يشتمل على صم جندل وقوله بأمراس كتان مثل قوله بكل مغار القتل.
(2) البجاد: الكساء المخطط.
(3) المزمل: المدثر بالثياب.
(4) أنكحها: يريد الذي اضطرني إلى نكاحها في جنب إنما هو فقد هذا يدفع عني من عشيرتي ولو جاء أحد يخطبها وليس بكفوء.(2/90)
لو بأبانين (1) جاء يخطبها ... ضرّج ما أنف خاطب يدم
وقوله في أفانين ودقه يريد ضروبا من ودقه، والودق المطر. قال الله تبارك وتعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلََالِهِ} (2) وقال عامر بن جوين الطايّ:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
وقوله: كبير أناس في بجاد مزمل، يريد مزملا بثيابه. قال الله تبارك وتعالى: {يََا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلََّا قَلِيلًا} (3) وهو المتزمّل والتاء مدغمة في الزاي، وإنما وصف امرؤ القيس العبث فقال قوم أراد أن المطر قد خنق الجبل فصار له كاللباس على الشيخ المتزمل. وقال اخرون: إنما أراد ما كساه المطر من خضرة النبت. وكلاهما حسن. وذكر الودق لأن تلك الخضرة من عمله.
الراجز يصف غيما
وقال الراجز يصف غيما:
أقبل في المستنّ (4) من ربابه ... أسمة (5) الإبال (6) في سحابه
أراد أن ذلك السحب ينبت ما تأكله الأبل فتصير شحومها في أسنمتها، والرّباب سحاب دوين المعظم من السحاب، قال المازني:
كأنّ الرّباب دوين السحاب ... نعام يعلّق بالأرجل
وقوله جل وعز: {أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (7) أي أعصر عنبا فيصير إلى هذه الحال. وقال زهير:
__________
(1) أبابان: جبلان أحدهما شرقي الحاجر فيه نخل وماء والثاني لبني فزارة.
(2) سورة النور: الاية رقم 43.
(3) سورة المزمل: الاية رقم 1.
(4) المستن: المضطرب.
(5) الاسنمة: جمع سنام.
(6) الابال: جمع الإبل.
(7) سورة يوسف: الاية رقم 36.(2/91)
كأنّ فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حبّ الغنا لم يحطّم
الغنا شجر بعينه يثمر ثمرا أحمر ثم يتفرق في هيئة النّبق الصغار. فهذا من أحسن التشبيه، وإنما وصف ما يسقط من أنماطهن إذا نزلن. والعهن الصوف الملوّن في قول أكثر أهل اللغة. وأما الأصمعي فقال: كل صوف عهن، وكذلك قال أهل اللغة: الحنتم الخزف الأخضر. وقال الأصمعي: كل خزف حنتم. قال القرشي:
من مبلغ الحسّناء أن حليلها ... بميسان (1) يسقى في زجاج وحنتم (2)
وقال جرير:
ما في مقام ديار تغلب مسجد ... وبها كنائس حنتم وديان
والتشبيه جار كثير في كلام العرب، حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد.
بعض ما قيل في الايات القرانية
قال الله عز وجل: وله المثل الأعلى: {الزُّجََاجَةُ كَأَنَّهََا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} (3) (4). وقال: {طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ} (5) وقد اعترض معترض من الجهلة الملحدين في هذه الاية. فقال: إنما يمثّل الغائب بالحاضر ورؤوس الشياطين لم نرها، فكيف يقع التمثيل بها وهؤلاء في هذا القول؟ كما قال الله جل وعز: {بَلْ كَذَّبُوا بِمََا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمََّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} (6).
__________
(1) ميسان: كورة بين واسط والبصرة.
(2) اخنتم: جرار خضر كانت تحمل الخمر فيها ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم.
(3) كوكب دري: مضيء متلالىء.
(4) سورة النور: الاية رقم 35.
(5) سورة الصافات: الاية رقم 65.
(6) سورة يونس: الاية رقم 39.(2/92)
وهذه الاية قد جاء تفسيرها ضربين، أحدهما: أن هناك شجرا يقال له الأستن (1)
منكر الصورة، يقال لثمره: رؤوس الشياطين، وهو الذي ذكر النابغة في قوله:
(تحيد من أستن سود أسافله). وزعم الأصمعي أن هذا الشجر يسمى الصّوم.
والقول الاخر: وهو الذي يسبق إلى القلب أن الله جل ذكره شنّع صورة الشياطين في قلوب العباد. وكان ذلك أبلغ من المعاينة ثم مثّل هذه الشجرة بما تنفر منه كلّ نفس.
حديث العجلي مع هشام بن عبد الملك
وحدّثت في إسناد متصل أن أبا النّجم العجليّ أنشد هشام بن عبد الملك (والشمس قد صارت كعين الأحول) لما ذهب به الرّويّ عن الفكر في عين هشام، فأغضبه، فأمر بطرده فأمّل أبو النجم رجعته. وكان يأوي إلى المساجد فأرق هشام ليلة، فقال لحاجبه: أبغني رجلا عربيّا فصيحا يحادثني وينشدني. فطلب له ما طلب فوقف على أبي النجم فأتى. فلما دخل به إليه.
قال: أين تكون منذ أقصيناك؟ قال: بحيث ألفتني رسلك. قال: فمن كان أبا مثواك (2). قال رجلين كلبيّا وتغلبيّا أتغدّى عند أحدهما وأتعشى عند الاخر. فقال له مالك من الولد؟ قال ابنتان. قال: أزوّجتهما؟ قال زوجت إحداهما. قال:
فبم أوصيتها. قال قلت لها ليلة أهديتها.
سبّي الحماة (3) وابهتي (4) عليها ... وإن أبت فازدلفي إليها
ثم اقرعي بالودّ (5) مرفقيها ... وجدّدي الحلف (6) به عليها
(لا تخبري الدهر بذاك ابنيها)
__________
(1) الأستن بالفتح: شجر ينمو في منابته فإذا نظر الناظر إليه شبهه بشخوص الناس.
(2) أبو المثوى: رب المنزل.
(3) الحماة: من كانت من قبل الزوج.
(4) وابهتي: أي ابهتيها أي تقولي عليها ما لم تقله.
(5) الود بالفتح: الوتد.
(6) اخلف بالكسر: العهد.(2/93)
قال: فأوصيتها بغير هذا؟ قال! نعم قلت:
أوصيت من برّة قلبا حرّا ... بالكلب خيرا والحماة شرّا
لا تسأمي نهكا (1) لها وضرّا ... والحيّ عمّيهم بشرّ طرّا
وإن كسوك ذهبا ودرّا ... حتى يروا حلو الحياة مرّا
فقال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم ولا أنا كيعقوب ولابنتي كولده. قال: فما حال الاخرى. قال. قد درجات بين بيوت الحيّ ونفعتنا في الرسالة والحاجة. قال: فما قلت فيها. قال قلت:
كان ظلّامة أخت شيبان ... شيمة ووالداها حيّان
الرّأس قمل كله وسئبان ... وليس في الرّجلين إلا خيطان
(فهي التي يذعر منها الشيطان)
قال: فقال هشام لحاجبة: ما فعلت الدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها.
قال: ها هي عندي ووزنها خمسمائة. قال: فادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجل ظلّامة ما كان الخيطين أفلا تراه قال. (فهي التي يذعر منها الشيطان) وإن لم يره لما قرّر في القلوب من نكارته وشناعته. وقال اخر:
وفي البقل إن لم يدفع الله شرّه ... شياطين يعدو بعضهنّ على بعض.
وزعم أهل اللغة أن كل متمرد من جنّ أو أنس يقال له شيطان. وأن قولهم: تشيطن. إنما معناه، تخبّث وتنكر. وقد قال الله جل وعز: {شَيََاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} (2) قال الراجز:
أبصرتها تلتهم الثّعبانا ... شيطانة تزوجت شيطانا
وقال امرؤ القيس:
__________
(1) النهك: المبالغة في السب والشتم.
(2) سورة الأنعام: الاية 112.(2/94)
أتوعدني والمشرفيّ (1) مضاجعي ... ومسنونة زرق (2) كأنياب أغوال
والغول لم يخبر صادق قط أنه راها. ثم نرجع إلى تفسير قول أبي النجم قوله: سبيّ الحماة وابهتي عليها. إنما يريد أبهتيها، فوضع ابهتي في موضع أكذبي فمن ثمّ وصلها بعلي، والذي يستعمل في صلة الفعل اللام لأنها لام الإضافة، تقول لزيد ضربت ولعمرو أكرمت والمعنى عمرا أكرمت فإنما تقديره إكرامي لعمرو وضربي لزيد فأجرى الفعل مجرى المصدر. وأحسن ما يكون ذلك إذا تقدّم المفعول لأن الفعل إنما يجيء وقد عملت اللام كما قال الله جل وعز: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيََا تَعْبُرُونَ} (3) وإن اخر المفعول مغربي حسن والقران محيط بكل اللغات الفصيحة قال: قال الله عز وجل {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (4) والنحويون يقولون في قوله جل ثناؤه: {قُلْ عَسى ََ أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ}، إنما هو ردفكم (5). وقال كثيّر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لي ليلى بكل سبيل
وحروف الخفض يبدل بعضها من بعض إذا وقع الحرفان في معنى في بعض المواضع. قال الله جل ذكره: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (6).
أي على، ولكن الجذوع إذا أحاطت دخلت في لأنها للوعاء، يقال فلان في النحل، أي قد أحاط به. قال الشاعر:
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا (7)
__________
(1) المشرفي: بالفتح في الميم والراء نسبة في مشارف الشام وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف يجلب منها السيوف المشرفية والمسنونة النضال المحدودة.
(2) الزرق: الصافية جدا. وقوله كأنياب أغوال إنما أراد أن يهول بهذا القول.
(3) سورة يوسف: الاية رقم 43.
(4) سورة الزمر: الاية رقم 12.
(5) سورة النحل: الاية 72.
(6) سورة طه: الاية رقم 71.
(7) أجدعا: أي يأنف أجدع والجدع القطع يدعو عليهم بالذل والبهر والهلاك.(2/95)
وقال الله جل وعز: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} (1) أي عليه. وقال تبارك وتعالى: {لَهُ مُعَقِّبََاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ} (2)
أي بأمر الله. وقال ابن الطّثريّة:
غدت من عليه تنفض الظّلّ بعدما ... رأت حاجب الشمس استوى فترقّعا
وقال الاخر:
غدت من عليه بعد ما ما تمّ خمسها ... تصلّ وعن قبض بزيزاء مجهل
أي من عنده. وقال العامري:
إذا رضيت عليّ بنو قشير (3) ... لعمر الله أعجبني رضاها
وهذا كثير جدا. وقوله: وإن أبت فازدلفي إليها، يقول تقرّبي ومن ذا سمّيت المزدلفة. قال العجّاج:
ناج طواه الأين مما وجفا ... طيّ الليالي زلفا فزلفا
(سماوة الهلال حتى احقوقفا)
تقول زلفة وزلف كقولك غرفة وغرف. وقوله: بالكلب خيرا والحماة شرا، كلام معيب عند النحويين. وبعضهم لا يجيزه وذاك أنه عطف على عاملين بالياء وعلى الفعل، ومن قال هذا قال: ضربت زيدا في الدار والحجرة عمرا. وكان أبو الحسن الأخفش يراه ويقرأ: {وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} (4)
{وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ، بَعْدَ مَوْتِهََا} (5)
وتصريف الرياح ايات، فعطف على أن وعلى في. وقال عديّ بن زيد:
كلّ أمرىء تحسبين امرا ... ونار توقّد بالليل نارا
__________
(1) سورة الطور: الاية رقم 38.
(2) سورة الرعد: الاية رقم 11.
(3) بنو قشير: قشير بن كعب بن ربيعة كزبير أبو قبيلة.
(4) سورة البقرة: الاية رقم 164.
(5) سورة الدخان: الاية رقم 29.(2/96)
فعطف على كلّ وعلى الفعل. وأما قوله: غدت من عليه بعدما تم خمسها، فالخمس ظمء من أظمائها وهو أن ترد، ثم تغبّ ثلاثا ثم ترد فيعتدّ بيومي وردها مع ظمئها. فيقال: خمس والربع كحمّى الرّبع. وقوله: تصلّ أي تسمع لأجوافها صليلا من يبس العطش، يقال: المسمار يصلّ في الباب إذا اكره فيه. قال جرير يخاطب الزّبير: بمرثيته في هجائه الفرزدق:
لو كنت حين غررت بين بيوتنا ... لسمعت من وقع الحديد صليلا
ويقال للحمار المصلصل إذا أخرج صوته من جوفه حادا خفيفا قال الأعشى:
عنتريس (1) تعدو إذا حرّك السو ... ط كعدو المصلصل الجوّال
وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (2). قالوا: هو الطين الذي قد جفّ فإذا قرعه شيء كان له صليل، وتفسير ذلك عند العرب التّقن الذي يذهب عنه الماء في الغدران فيتشقق ثم ييبس. والقيض قشر البيضة الأعلى، والذي يلبس البيضة فيكون ما بينها وبين قشرها الأعلى يقال له الغرقيء. يقال ثوب كأنه غرقىء بيض. والزيزاء ما ارتفع من الأرض، وهو ممدود منصرف من المعرفة والنكرة إذا كان لمذكر كالعلباء والحرباء، وسنذكر هذا في غير هذا الموضع مفسّرا إن شاء الله تعالى على أنّا قد استقصيناه في الكتاب المقتضب. والمجهل الصحراء التي يجهل فيها فلا يهتدي لسبيلها. ويقال للشيء إذا غبّ وتغيرت رائحته صلّ وأصلّ فهو صالّ ومصلّ. ويقال: نتن وأنتن. ويقال: خمّ وأخمّ وذاك إذا كان مستورا حتى يفسد ويقال إذا، عتق اللحم فتغير خنز وحزن. وبيت طرفة أحسن ما ينشد عليه:
__________
(1) عنتريس: الناقة الغليطة.
(2) سورة الحجر، الاية رقم 28.(2/97)
ثم لا يخنز (1) فينا لحمها ... إنما يخنز لحم المدّخر
ويقال لرب البيت وربّة البيت اللذين ينزل بهما الضيف هي أم مثواه وهو أبو مثواه. وأنشد عبيدة:
من أمّ مثوىء كريم قد نزلت بها ... انّ الكريم على علّاته يسع
وفي كتاب الله جل وعز: {أَكْرِمِي مَثْوََاهُ} (2) معناه عند العرب أضافته، ومن التشبيه المطّرد.
على ألسنة العرب ما ذكروا في سير الناقة وحركة قوائمها. وقال الرجز:
كأنها ليلة غبّ الأزرق (3) ... وقد مددنا باعها للسّوّق
(خرقاء بين السّلّمين ترتقي)
قوله: ليلة غب الأزرق، إنما يعني موضعا وأحسبه ماء لأنهم يقولون:
نطفة زرقاء وهي الصافية. قال زهير:
فلما وردنا الماء زرقا جمامه ... وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم (4)
وقال اخر:
فألقت عصا التّسيار عنها وخيّمت ... بأرجاء عذب الماء زرق محافره
وقوله: وقد مددنا باعها للسّوّق. يقول: استفراعنا ما عندها من السير، يقال تبوّعت وانباعت إذا مدّت باعها. وقوله: خرقاء بين السلّمين ترتقي، يقول لكثرة حركة الخرقاء وقلة حذقها بالصعود. وقال الاخر:
كأنها نائحة تفجّع ... تبكي لشجو وسواها الموجع
__________
(1) خنز أنتن وفسد وهو هنا يصف قومه بالكرم والجود.
(2) سورة يوسف: الاية 21.
(3) الغب: بالكسر عقبة الشيء.
(4) وضعن عصى الحاضر: كناية عن الإقامة.(2/98)
وقال الشّماخ:
كأنّ ذراعيها ذراعا مدلّلة ... بعيد السّباب حاولت أن تعذرا
من البيض أعطافا إذا اتّصلت دعت ... فراس بن غنم أو لقيط بن يعمرا
بها شرق (1) من زعفران وعنبر ... أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا
تقول وقد بلّ (2) الدّموع خمارها ... أبى عفّتي ومنصبي أن أعيّرا
كأنّ بذفراها مناديل فارقت ... أكفّ رجال يعصرون الصّنوبرا
كأنّ ابن اوى موثق (3) تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفّرا
شبه يديها بيدي مدلّة بجمال ومنصب قد سابّت وأقبلت تعتذر وتشير بيديها، فوصف جمالها الذي به تدلّ ومنصبها المتصل بمن ذكرته. وقوله:
أطارت من الحسن الرداء المحبّرا، يقول هي مدلة بجمالها فلا تختمر فتستر شيئا عن الناظر لإنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها.
من مدح عمر بن أبي ربيعة
وقد كشف هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ حيث يقول:
فلما توقّفنا وسلّمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أكلّ فأوضعا
وقرّبن أسباب الهوى لمقتّل ... يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا
(فقلت لمطريهنّ ويحك إنما ... ضررت فهل تسطيع نفعا فتنفعا)
قوله:
__________
(1) بها شرق: شرق الشيء كتعب إذا اشتدت حمرته واشرقت الثوب بالصبغ إذا بالغت في حمرته والرداء المحبر المزين الموشى.
(2) تقول: هذا من تتمة حديث المشبه به وقوله كان بذفراها الخ رجوع إلى حديث المشبه والذفرى بالكسر أصل إذن البعير.
(3) ابن أوى دابة سبعية من ذوات الأنياب والأظفار والغرض للرحل كالحزام للسرج وكلمة: جرحه وظفر أنشب أظفار به.(2/99)
كأنّ بذفراها مناديل فارقت ... أكفّ رجال يعصرون الصّنوبرا
يقول لسواد الذفري، وهذا من كرمها. قال أوس بن حجر:
كأن كحيلا معقدا أو عنيّة ... على رجع ذفراها من الليت واكف
(الكحيل القطران والعنية ضرب منه). وهذا معنى يسأل عنه لأن اللّيتين صفحتا العنق والذفري في أعلى القفا، فكيف يكف على الذفري من اللّيت.
والمعنى إنما هو كأنّ كحيلا معقدا أو عنية واكف على رجع ذفراها. وقوله:
من اللّيت كقولك كموضع دجلة من بغداد إنما هو للحد بينهما لا أنه وكف على شيء. وأما قوله:
كانّ ابن اوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفّرا
يقول ليست تستقر فأنّ ابن أوى يكلمها بنابيه، أو يخلبها مظفره فهي لا تستقر. وقال أوس بن حجر.
كأنّ هرّا جنيبا تحت غرضتها ... والتفّ ديك بحقويها (1) وخنزير
والغرض والغرضة واحد وهو حزام الرحل.
وقال اخر:
كأنّ ذراعيها ذراعا بذيّة ... مفجّعة لاقت خلائل عن عفر
سمعن لها واستفرغت في حديثها ... فلا شيء يفري باليدين كما تفري
(وقال أبو العباس: أنشدنيهما عبد الصمد بن المعدّل وأنشدنيهما سعيد بن سلم). ولو قيل: إن هذا من أبلغ ما قيل في هذا الوصف، ما كان ذلك بعيدا، وصفها بأنها بذية وقد فجعت بما أسمعت، ونيل منها، ولقيت خلائلها بعد زمان، وتلك الشكوى كامنة فيها وأصغين إليها يتسمعن. والفري الشق يقال: فرى أو داجه، أي قطع، وفريت الأديم. وإذا قلت: أفريت،
__________
(1) الحقو: بالفتح: الكشح.(2/100)
فمعناه أصلحت. وقول الحجاج: أني والله ما أهمّ إلا مضيت ولا أخلق إلا فريت، يقول: إذا قدّرت قطعت. يقال فريت القربة والمزادة فهما مفريّتان.
قال ذو الرمة. (كأنه من كلى (1) مفريّة سرب) وقال امرؤ القيس.
كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته (2) رجلها خذف أعسرا (3)
كأن صليل المرو (4) حين تشذّه (5) ... صليل زيوف (6) ينتقدن بعبقرا (7)
قوله: خذف أعسرا، يريد أنه يذهب على غير قصد. وقوله: صليل زيوف، يقال أن الزيف شديد الصوت صافيه. وقال اخر:
كأنّ يديها يدا ماتح ... أتى يوم ورد لغبّ زرودا
يخاف العقاب وفي نفسه ... إذا هو أنهل ألا يعودا
قوله: خذف أعسرا، يريد أنه يذهب على غير قصد. وقوله: صليل زيوف، يقال أن الزيف شديد الصوت صافيه. وقال اخر:
يقول: هذا الساقي يخاف العقاب إن قصّر ولا عودة له إليه ثانية فهي تسقى سقية في مرة واحدة، وقد أكثروا في هذا. فمن الإفراط في السرعة، قول ذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية (8) ... مسوّم (9) في سواد اللّيل منقضب
يقال: عفريت وعفرية في معنى واحد، والتاء في عفريت زائدة وهو
__________
(1) الكلى: جمع الكلية بالضم لحمة مستديرة حمراء لأزقة بعظم الصلب وهما كليتان.
(2) النجل: الرمي بالشي والحذف بالفتح رميك بحصاة أو نواة أو نحوهما.
(3) الأعسر: الذي يعمل باليد اليسرى.
(4) المرد: الحجارة.
(5) تشده: تطيره.
(6) الزيوف: الدراهم التي ليس فيها فضة واحدها زيف.
(7) عبقر موضع باليمن كانت دراهمه زيوفا وخص الزيوف لأنها شديدة الصوت.
(8) العفرية: الخبيث المنكر.
(9) المسوم: أي محلى مرسل لما يريد.(2/101)
ملحق بقنديل، يقال فلان (عفرية زبنية والزبنية المنكر وجمعه زبانية، وأصله من الحركة يقال زبنه إذا دفعه ويقال): عفرية نفرية على التوكيد. (وعفريت نفريت. ويقال: عفارية ولم يتبع بنفارية).
ومن الإفراط قول الحطيئة:
وإن نظرت يوما بمؤخر عينها (1) ... إلى علم (2) بالغور قالت له ابعد
ومن الإفراط قوله:
بأرض ترى فرخ الحباري كأنه ... بها راكب موف على ظهر قردد (3)
ومن ذلك قوله:
وكادت على الأطواء (4) أطواء ضارج (5) ... تساقطني والرّحل من صوت هدهد
وقال اخر:
مروح برجليها إذا هي هجّرت ... ويمنعها من أن تطير زمامها
وقال الشمّاخ:
مروح تغتلي (6) في البيد (7) حرف (8) ... تكاد تطير من رأي (9) القطيع
__________
(1) مؤخر عينها: ما يلي الصدغ.
(2) العلم الجيل وقالت له أبعد كناية عن سرعة مغارتها له وبعدها عنه.
(3) القردد: ما ارتفع من الأرض.
(4) الأطواء: الابار.
(5) ضارج: موضع والمعنى أن الناقة كادت تلقيه عن ظهرها من نشاطها وحدة فؤادها إذا ما سمعت صوت هدهد.
(6) تفتلي: تسرع.
(7) البيد: الفلوات واحدها بيداء.
(8) الحرف: الضاوة.
(9) الرأي الأبصار مصدر رأيت الشيء إذا أبصرته.(2/102)
وكذلك الأعرابي الذي يقول: (لو ترسل الريح لجئنا قبلها) وقد مضى خبره. وأملح ما قيل في هذا المعنى وأجوده قول امرىء القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
فجعله للوحش كالقيد. وحدّثت أن رجلا نظر إلى ظبية ترود فقال له أعرابي: أتحب أتن تكون لك؟ قال: نعم، قال: فأعطني أربعة دراهم حتى أردها إليك. ففعل: فخرج يفحص في إثرها فجدّت وجدّ حتى أخذ بقرنيها فجاء بها وهو يقول:
وهي على البعد تلوّي خدّها ... تريغ شدّي (1) وأريغ شدّها
(كيف ترى عدو غلام ردّها)
من التشابيه
قال أبو العباس: ومن حلو التشبيه، وقريبه وصريح الكلام قول ذي الرّمّة:
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... وقد حلّلته المظلمات الحنادس
الحندس اشتداد الظّلمة، وهو توكيد لها، يقال ليل حندس وليل أليل مظلم. وقال الشمّاخ في صفة الفرس:
مفجّ الحوامي عن نسور كأنها ... نوى القسب ترّت عن جريم ملجلج
قوله: مفج الحوامي، يريد مفرّق الحوامي فالحوامي نواحي الحافر، والنسور واحدها نسر. وهي نكتة في داخل الحافر، ويحمد الفرس إذا صلب ذلك منه، ولذلك شبّه بنوي القسب. وترّت سقطت، والجريم المصروم، والملجلج الذي قد لجلج مضغا في الفم ثم قذف لصلابته. وقوله: مفجّ ليس يريد الذي هو شديد التفرقة ولكن الانفصال عن النّسر، فإنه إن اتسع واستوى
__________
(1) تريغ: تريد البعد.(2/103)
أسفله فذلك الرّحح (1)، وهو مذموم في الخيل. وكذلك إن ضاق وصغر، قيل له مضطر وكان عيبا قبيحا. قال حميد الأرقط:
لا رحح فيها ولا اضطرار ... ولم يقلّم أرضها (2) البيطار
(ولا لجبليه بها حبار)
(الحبار الأثر). ويروى: ولم يقلّب وتأويل ذلك أن حوافرها لا تتشعّث فيقلّمها البيطار لأنها إذا كانت كذلك ذهب منها شيء بعد شيء فمحقها. وقال علقمة بن عبدة:
لا في شظاها (3) ولا أرساغها (4) عنت (5) ... ولا السّنابك (6) أفناهنّ تقليم
وإنما يحمد الحافر الملقب، وهو الذي هيئته كهيئة القعب وإن كان كذلك قيل حافر وأب. قال ابن الخرع.
لها حافر مثل قعب الوليد يتّخذ الفأر فيه مغارا
يريد لو دخل الفأر فيه لصلح كقول القائل: فأتى بجفنة يقعد عليها عشرة أي لو قعد عليها عشرة لصلح. وقال الراجز: (وأب حمت نسوره الأوقارا).
(يقال: حافر موقور وهو أن يصيبه داء يشبه الرّهصة) وفي كل حافر حاميتان وهما حرفاه عن يمين وشمال ومقدّمه السّنبك ومؤخّره الدابرة. ومثل قوله عن جريم ملجلج قول علقمة ابن عبدة:
صلّاءة كعصا النهديّ غلّ بها ... ذو فيئة من نوى قرّان (7) معجوم
__________
(1) الرجح: محركا سعة في الحافر.
(2) الأرض: اسفل قوائم الدابة.
(3) الشظى: عظم لازق بالذراع أو بالوظيف أو عصب صغار فيه.
(4) الأرساغ: جمع رسغ بالضم وهو الموضع المستدق بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرجل.
(5) العنت: محركا الفساد.
(6) سنابك: جمع سنبك بالضم كقنفد وهو طرف الحافر.
(7) قرن بالضم واد بين مكة والمدينة وبلدة باليمامة.(2/104)
شبّهها بالشوكة من شوك النخل لأن الفرس الأنثى يحمد منها أن يدقّ صدرها ثم ينخرط على امتلاء إلى مؤخرها والحمام يحمد منهنّ أن يعرض الصدر ثم ينخرط ألى ذنبه ضمورا. فيقال في صفته كأنه جلم. وقوله: كعصا النهدي يريد في الصلابة. كما قال: «وكلّ كميت كالهراوة صلدم». وقوله:
ذو فيئة من نوى قران، يقول ذو رجعة. يقول مضغته الإبل فلم تكسره ثم بعرته صحاحا ومعجوم ممضوغ، يقال عجمته أعجمه إذا مضغته فالعجم المضغ، ويقال للنوى من كل شيء العجم متحرك العين. قال الأعشى: «وجذعانا كلقيط العجم». وقال النابغة:
وظلّ يعجم أعلى الرّوق منقبضا ... في حالك اللون صدق غير ذي أود
ومثل البيت الأول قول عقبة بن سابق العنبريّ:
له بين حواميه ... نسور كنوى القسب
فهذا تشبيه مقارب جدا. ومن التشبيه الحسن قول الشاعر، (هو الشّماع):
كأنّ المتن والشرخين منه ... خلاف النّصل سيط به مشيج
يريد سهما رمي به فأنفذ الرّميّة وقد اتصل به دمها، والمتن متن السهم، وشرخ كل شيء حدّه فأرد شرخي الفوق وهما حرفاه، والمشيج اختلاط الدم بالنطفة، هذا أصله. قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة (1) لوقت ... على مشج سلالته (2) مهين
وقال الله جل وعز: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشََاجٍ نَبْتَلِيهِ} (3) وفي الحديث: أقتلوا مسانّ المشركين واستبقوا شرخهم. أي الشاب لأن الشرخ الحدّ. قال حسّان.
إنّ شرخ الشباب والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا
__________
(1) المرتجة: الناقة التي أعلقت رحمها على الماء.
(2) سلالة: ما سلّ من طلب الرجل، النطفة.
(3) سورة الإنسان: الاية رقم 2.(2/105)
وأنشدنا عمرو بن مرزوق، قال: أنشدنا سماك بن حرب في هذا الحديث.
إن شرخ الشباب تألفه البي ... ض وشيب القذال شيء زهيد
فأما قول الشّنفرى في وصف خجل إمرأة.
كأنّ لها في الأرض نسيا تقصّه ... على أمّها وإن تحدّثك تبلت
فإنما أراد شدة استحيائها يقول: لا ترفع رأسها كأنها تطلق شيئا في الأرض، والنّسي على ضربين، أحدهما: ما تقادم عهده حتى ينسى، والاخر:
ما أضلّه أهله فيطلب ويطمح فيه وتقصّه تتّبعه. قال الله جل وعز: {وَقََالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} (1) أي اتّبعي أثره. والأمّ القصد. وقوله: وإن تحدثك تبلت تقطع الحديث لاستحيائها. وأنشد بشار بن برد الأعمى قول كثيّر:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفّ تلين
قال: فقال يله أبو صخر جعلها عصا ثم يعتذر لها والله لو جعلها عصا من مخّ أو ربد لكان قد هجّنها بالعصا، ألا قال كما قلت:
وبيضاء المحاجر (2) من معدّ ... كأنّ حديثها قطع الجنان
إذا قامت لسبحتها (3) تثنّت ... كأنّ عظامها من خيزران
والخيزرانة كل غصن لين ينثني، ويقال للمرديّ (4) خيزرانة إذا كان ينثني إذا اعتمد عليه. قال النابغة:
يظلّ من خوفه الملّاح معتمدا ... بالخيزرانة بعد الأين والنّجد
الأين الإعياء، والنجد العرق وقد عاب بعض الناس قول كثير:
__________
(1) سورة القصص: الاية رقم 11.
(2) بيضاء المحاجر: ما دار بالعين من جميع الجوانب.
(3) السبحة: بالضم صلاة التطوع.
(4) المردي: بالضم وتشديد الياء خشبة تدفع بها السفينة.(2/106)
فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها
بمنخرق (1) من بطن واد كأنما ... تلاقت به عطّارة وتجارها
بأطيب من أردان عزّة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرّطب نارها
وحكى الزبيريون أن امرأة مدينية عرضت لكثير فقالت: أأنت القائل هذين البيتين؟ قال، نعم. قالت: فضّ الله فاك، أرأيت لو أن زنحبة بخّرت أردانها بمندل رطب أما كانت تطيب، ألا قلت كما قال امرؤ القيس:
ألم تر أني كلّما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
قوله: جثجاثها وعرارها، الجثجاث ريحانة طيبة الريح بريّة من أحرار البقل.
قال جرير يهجو خالد عينين العبديّ:
كم عمّة لك يا خليد وخالة ... خضر نواجذها من الكرّاث
نبتت بمنبته فطاب لريحها ... ونأت عن القيصوم والجثجاث
وإنما هجاه بالكرّاث، لأن عبد القيس يسكنون البحرين والكراث من أطعمتهم، والعامة يسمونه الركل والركّال. قال أحد العبديّين:
ألا حبّذا الأحسا (2) وطيب ترابها ... وركّالها غاد علينا ورائح
وقول كثّير: وعرارها، فالعرار البهار البرّيّ وهو حسن الصفرة طيب الريح. قال الاعشى:
بيضاء ضحوتها وصفر ... اء العشيّة كالعراره
وقوله موهنا يريد بعد هدء، يقال: أتانا بعد هدء من الليل وبعد وهن، أي بعد دخولنا في الليل. وأنشد أبو زيد:
__________
(1) المنخرق: مجرى الماء الذي ليس بقعير.
(2) الاحساء بلد يسبق البحرين وقصرها للشعر.(2/107)
هبّت تلومك بعد وهن في النّدى ... بسل (1) عليك ملامتي وعتابي (2)
والمندل العود، يقال له المندل والمندليّ. قال الشاعر:
أمن زينب ذي النار (3) ... قبيل الصبح ما تخبو (4)
إذا ما خمدت يلقى ... عليها المندل الرطب
قال أبو العباس: ذي معناه ذه، يقال: ذا عبد الله وذي أمة الله وته أمة الله وتا أمة الله، فإذا قلت: هذا عبد الله فالاسم ذا وها للتنبيه. وعلى هذا تقول: هذي أمة الله وإن شئت أسكنت في الوصل، فقلت: هذه أمة الله.
وإذا قلت: هذ هي أمة الله فالياء زائدة لأن هذه الهاء لما كانت في لفظ المضمر شبهوها به في زيادة الياء نحو مررت بهي يا فتى لا يجوز أن تضم الهاء في هذه على قول من قال: مررت بهو لأن هاء الاضمار أصلها الضم، تقول: رأيتهو يا فتى ورأيتهم يا فتى. وهذه الهاء ليست من هذه إنما هي مشبهة. تقول: هاته هند وهاتي هند وهاتا هند على زيادة ها للتنبيه. قال جرير:
هذي التي جدعت تيما معاطسها ... ثم اقعدي بعدها يا تيم أو قومي
وقال عمران بن حطّان:
وليس لعيشنا هذا مهاة (5) ... وليست دارنا هاتا بدار
قال أبو العباس: النحويون يثبتون الهاء في الوصل، فيقولون: مهاة وتقديره فعال، ومعناه اللمع والبهاء، يقال: وجه له مهاه يا فتى. والأصمعي يقول: مهاة، تقديرها حصاة، يجعل الهاء زائدة، وتقديرها في قوله فعلة،
__________
(1) البسل: بالفتح هنا الحرام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
(2) العتاب: مخاطبة الادلال.
(3) ذي النار: أي هذه النار.
(4) خبت النار: سكتت وأطفئت.
(5) المهاة: الطراوة والحسن.(2/108)
والمهاة البلّورة، والمهاة البقرة الوحشية، وجمعها المها (حكى يعقوب ابن السكّيت مهاة من أسماء الشمس وأنشد:
ثم يجلو الظلام ربّ رحيم ... بمهاة ضياؤها منشور)
فإذا صغّرت ذه قلت تيّا، كأنك صغرت تا ولا تصغر ذه على لفظها لأنك إذا صغرت ذا قلت: ذيّا، فلو صغرت ذي، فقلت: ذيّا لألتبس المؤنث بالمذكر، فصغّروا ما يخالف فيه المؤنث المذكر. وهذه المبهمة يخالف تصغيرها تصغير سائر الأسماء. وسنذكر ذلك في باب نفرده له إن شاء الله تعالى. عاد القول إلى التشبيه، أنشدتني أمّ الهيثم في صفة جمل:
كأنّ صوت نابه بنابه ... صرير خطّاف على كلّابه
أرادت الصريف، وهو أن يحكّ أحد نابيه بالاخر. وقوله: صرير خطاف على كلابه، فالخطاف ما تدور عليه البكرة، والكلاب ما وليه. وقد قال النابغة:
مقذوفة بدخيس (1) النحض (2) بازلها ... له صريف صريف القعو بالمدّ
القعو، ما تدور عليه البكرة إذا كان من خشب، فإن كان من حديد فهو خطاف، وإن دارت على حبل فذلك الحبل يسمى الدرك. وقوله: مقذوفة، يقول: مرمية باللحم، والدخيس الذي قد ركب بعضه بعضا، والنحض اللحم، وبازلها نابها. ومعنى بزل وفطر واحد وهو أن ينشق الناب. قال ذو الرمة:
كأنّ على أنيابها كلّ سدفة (3) ... صياح البوازي من صريف (4) اللوائك (5)
__________
(1) الدخيس: اللحم المكتنز الكثير.
(2) النحض: بالفتح اللحم أيضا.
(3) السدفة: بالضم سواد الليل.
(4) الصريف: صوت الناب.
(5) اللوائك: جمع لواك بفتح اللام وهو ما يمضغ ويلاك.(2/109)
يقول: مما تلوكه. ويقال في الغضب: تركت فلانا يصرف نابه عليك ويحرق ويحرق، ورأيته يعضّ عليك الأرّم (1). قال زهير في مدحه حصن بن حذيفة (بن بدر الفزاريّ):
أبى الضيم (2) والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله
وقال اخر:
نبّئت أحماء سليمى أنما ... ظلوا غضابا يعلكون الارّما
وقال بعض النحويين: يعني الشّفاه. وقال بعضهم: يعني الاصابع. فأما قولهم عض على ناجذه. وهو اخر الأسنان فيكون على وجهين: أحدهما أنه قال قد احتنك وبلغ، والاخران يكون للإطراق والتشدد. ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إنه كان يقول: إذا لقيتم القوم فاجمعوا وعضّوا على النّواجذ فإن ذلك يثني السيوف عن الهام.
ثم نعود إلى التشبيه، قال الراجز (وهو أبو النجم).
كأنها حين تناهى الباس ... جنّيّة في رأسها أمراس
بها سكون وبها شماس (3) ... يخرج منها الحجر الكباس (4)
يمرّ لا يحبسه حبّاس ... لا نافذ الطّعن ولا ترّاس
يصف المنجنيق، والأمراس الحبال، الواحد مرسة، والكباس الضخم.
يقال، هامة كبساء يا فتى ورأس أكبس، والحبّاس الذي من شأنه أن يحبس.
يقال، رجل ضارب للذي يضرب كثيرا كان منه ذلك أو قليلا، فإذا قلت ضرّاب وقتّال فإنما يكثّر الفعل، ولا يكون للقليل. قال الراجز.
__________
(1) الأرم: كركع الأضراس أو أطراف الأصابع.
(2) الضيم: الظلم.
(3) الشماس: بالكسر مصدر شمس الفرس إذا منع ظهره ونفر فلا يستقر لشغبه وحدته.
(4) الكباس: بالضم وتخفيف الباء الضخم.(2/110)
أخضر من معدن ذي قساس ... كأنه في الحيد ذي الأضراس
(يرمى به في البلد الدّهاس)
يصف معولا وذو قساس معدن للحديد الجيد، وهو يقرب من بلاد بني أسد. والجيد ما أشرف من الجبل أو غير ذلك. يقال. للطنف حيد، وهو الذي يسميه أهل الحضر الأفريز، يقال: طنّف حائطك، ويقال للناتىء وسط الكتف حيد وعير وكذا الناتىء في القدم. وقوله: ذي الأضراس يريد الموضع الضرس الخشن ذا الحجارة. فيقول: هذا المعول لحدّته يقع في الخشونة فيهدمها كما يهدم الدهاس ما لان من الرمل. قال دريد بن الصمّة في يوم حنين: أين مجتلد القوم؟ فقالوا: بأوطاس (1). فقال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا ليّن دهس. وقال العجّاج يصف حمارا:
كأن في فيه إذا ما شجا ... عودا دوين اللهوات مولجا
هذا يوصف به العير الوحشي إذا أسنّ تراه لا يشتدّ نهيقه وكأنه يعالجه علاجا. قال الشمّاخ:
إذا رجّع التعشير (2) شجّا كأنّه ... بناجذه من خلف قارحه (3) شجي (4)
فأما قول عنترة:
بركت على ماء الرداع (5) كأنما ... بركت على قصب أجشّ مهضّم (6)
فإنما يصف الناقة، ويذكر حنينها، يقال أنه يخرج منها كأشجى صوت فإنما شبهه بالزمير وأراد القصب الذي يزمر به. قال الأصمعي: هو الذي يقال
__________
(1) أوطاس: واد بديار هوزان.
(2) التعشير: تابع النهيق عشرا.
(3) قارحه: سنه الذي صار به قارحا والقارح من ذي الحافر بمنزلة البازل من الابل.
(4) الشّجى: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه الشجيّ صفة منه.
(5) الرداع: اسم ماء لهم والأجش الذي تسمع له صوتا.
(6) مهضم: وصف للقصب يقال قصبة مهضمة للتي يزمر بها.(2/111)
له بالفارسية ناي. قال الراعي يصف الحادي:
زجل الحداء كأنّ في حيزومه ... قصبا ومقنعة (1) الحنين عجولا
المقنع: الرافع رأسه في هذا الموضع، ويقال في غيره الذي يحط رأسه إستخذاء وندما. وقال الله جل وعز: {مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ} (2). ومن قال: هو الرافع رأسه، فتأويله عندنا أنه يتطاول فينظر ثم يطأطىء رأسه فهو بعد يرجع إلى الإغضاء والانكسار. والبعير يحن كأشد الحنين إلى ألّافه إذا أخذ من القطيع، قال وأكثر ما يحنّ عند العطش. قال الشاعر:
(وتفرّقوا بعد الجميع لنيّة ... لا بدّ أن يتفرّق الجيران)
لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت ... بعد الجميع ويصبر الإنسان
وقال اخر.
وهل ريبة في أن تحنّ نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحنّ نجيبب
وإذا رجّعت الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لنوح الحمام ولالتياح (3) البروق.
في نوح الحمام
وقال عوف بن محلّم وسمع نوح حمامة:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّال ففيم تنوح
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعا (4) فشطّت (5) غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح
__________
(1) مقنعة: بفتح النون أراد بها الناي لأن الزامر إذا أزمر أقنع رأسه.
(2) سورة إبراهيم: الاية 43.
(3) التاح البرق: بدا وأومض، الالتياح: وميض البرق.
(4) الولوع: بالفتح مصدر قولك ولعت بالشيء إذا علقت به.
(5) شطت: بعدت.(2/112)
وكل مطوّقة عند العرب حمامة كالدبسيّ والقمريّ والورشان وما أشبه ذلك.
قال حميد بن ثور يصف حمامة.
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حرّ (1) ترحة (2) وترنّما (3)
إذا شئت غنّتني بأجزاع (4) بيشة ... أو النخل من تثليث أو بيلملما
مطوّقة خطباء (5) تسجع كلّما ... دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما
محلّاة طوق لم يكن من تميمة ... ولا ضرب صوّاغ بكفّيه درهما
تغنّت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في شجوها متلوّما (6)
إذا حرّكته الريح أو مال ميلة ... تغنّت عليه مائلا ومقوّما
عجبت لها أنّي يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيّا شاقه صوت أعجما
وقال ابن الرقاع وذكر حمامة:
(ومما شجاني أنني كنت نائما ... أعلّل من برد الكرى بالتنسّم
إلى أن بكت ورقاء في غصن أيكة ... تردد مبكاها يحسن الترنّم)
فلو قيل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندّم
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدّم
أما قول حميد: دعت ساق حر فإنما حكى صوتها. ويقال للواحد ذكرا كان أو أنثى حمامة والجمع الحمام والحمامات. فإذا كان ذكرا قلت هذا
__________
(1) ساق حر: هو ذكر القماري.
(2) الترحة: الحزن والهم.
(3) الترنم: التطريب.
(4) أجزاع: جمع جزع بالكسر وقال أبو عبيدة اللائق به أن يكون مفتوحا وهو منعطف الوادي ووسطه ولا يسمى جزعا حتى تكون فيه سعة تنبت فيها الأشجار.
(5) الخطباء: التي فيها خطبة بالضم وهي لون كدر مشرب حمرة في صفرة.
(6) الملوم: الأمر الذي وقع في اللائمة على الفعل السيء.(2/113)
حمامة، وإذا كانت أنثى قلت هذه حمامة، وكذلك هذا بطّة وهذه بطّة. ويقال بقرة للذكر والأنثى ودجاجة لهما، فإذا قلت ثور أو ديك بيّنات الذكر واستعنيت عن تقديم التذكير. ويقال للحمامة تغنّت وناحت وذاك أنه صوت حسن غير مفهوم، فيشبّه مرة بهذا ومرة بهذا. قال قيس بن معاذ:
ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمائم ورق في الديار وقوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهنّ دموع
وقوله: وانجال الربيع، يقال انجال عنا أي أقلع، ومثل ذلك أنجم عنا، وإن قلت أثجم فمعناه لزم ووقع فهو خلاف أنجم. وإن قلت انجاب فمعناه انشقّ. يقال المجوب للحديدة التي يثقب بها العسيب. ويقال جبت البلاد، أي دخلتها وطوّفتها. وفي القران: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جََابُوا الصَّخْرَ بِالْوََادِ} (1)، أي شقوه. وقوله: لم يكن من تميمة، التميمة المعادة وقد مضى هذا وقوله:
ولم تفغر بمنطقها فما، يقول لم تفتح، يقال فغر فاه إذا فتحه (حكى ثعلب فغر فاه وفغر نفسه. وكذلك شحا فاه وشحا نفسه) وقوله: ولا عربيا شاقه صوت أعجما، يقول: لم أفهم ما قالت، ولكني استحسنت صوتها واستحزنته فحننت له.
في الغناء
ويروى أن بعض الصالحين كان يسمع الفارسية تنوح ولا يدري ما تقول، فيبكيه ذلك ويرقّقه ويذكر به غير ما قصدت له. وحدّثت أن بعض المحدثين سمع غناء بخراسان بالفارسية فلم يدر ما غير أنه شوّقه لشجاه وحسنه. فقال في ذلك:
حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها (2) ومضى كراها
__________
(1) سورة الفجر الاية 9.
(2) أقام سهادها: يريد أن السرور هجم عليه حتى نفى النوم عن عينيه.(2/114)
سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد (1) نفسي من غناها
الغناء الأول الممدود من الصوت. والذي ذكره بعد في القافية من المال المقصور:
ومسمعة (2) يحار السمع فيها ... ولا تصممه لا يصمم صداها
مرت أوتارها فشفت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معنّى ... بحبّ الغانيات وما يراها
(وقال عبد بني الحسحاس:
وراهنّ ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهنّ المكاويا)
قال أبو العباس: والشيء يذكر بالشيء وإن كان دونه، فنجري ذكره لاحتواء الباب والمعنى عليهما. وفي شعر حميد هذا ما هو أحكم مما ذكرنا وأوعظ وأحرى أن يتمثّل به الاشراف وتسوّد به الصحف. وهو قوله:
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
ولا يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تييمما
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كفى بالسّلامة داء.
عودة إلى التشبيه
ثم نرجع إلى التشبيه، والعرب تشبّه على أربعة أضرب فتشبيه مفرط وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب وتشبيه بعيد يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه.
وهو أخشن الكلام. فمن التشبيه المفرط المتجاوز قولهم للسّخيّ هو كالبحر وللشجاع هو كالأسد وللشريف سما حتى بلغ النجم. ثم زادوا فوق ذلك،
__________
(1) يقتاد نفسي يقول كان أولى وأحق أن يجذب حالي وتجلبني منه جودا وسخاء.
(2) المسمعة: المغنية.(2/115)
فمن ذاك قول بعضهم. (وهو بكر بن النّطّاح. يقوله لأبي دلف القاسم بن عيسى).
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصّغرى أجلّ من الدهر
له راحة لو أن معشار جودها ... على البرّ صار البرّ أندى من البحر
ولو أنّ خلق الله في مسك (1) فارس ... وبارزه كان الخليّ من العمر
وقد قيل إن امرأة عمران بن حطّان. قالت له أما زعمت أنك لم تكذب في شعر قطّ. قال أو فعلت. قالت أنت القائل:
فهناك مجزأة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامه
أفيكون رجل أشجع من الأسد؟ قال فقال: أنا رأيت مجزأة فتح مدينة والأسد لا يفتح مدينة. ومن عجيب التشبيه في إفراط غير أنه خرج في كلام جيد وعني به رجل فخرج من الاحتمال إلى باب الاستحسان ثم جعل لجودة ألفاظه وحسن رصفه واستواء نظمه في غاية ما يستحسن قول النابغة يعني حصن بن حذيفة (بن بدر بن عمرو الفزاريّ):
يقولون حصن (2) ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال (3) جنوح
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح
فعمّا قليل ثم جاء نعيّه ... فظلّ نديّ الحيّ وهو ينوح
ومن تشبيههم المتجاوز الجيد النّظم ما ذكرناه وهو قول أبي الطّمحان:
__________
(1) المسك بالفتح الجلد يقول ولو أن خلق الله كلهم اجتمعوا في صورة رجل واحد وبارز أبا دلف لانقضى أهله وصلوقته يصف أبا دلف بالشجاعة بعد ما وصفه بالكرم والمرؤة وهذه كلها صفات مبالغ فيها أي مبالغة.
(2) يقولون حصن: يريد أن الناس بلغهم موت حصن ثم أبت نفوسهم أن تصدق بهذا الخبر لأنهم لم يشاهدوا ما يدل عليه ويشهد له.
(3) الجبال جنوح: أي مقبلة علينا كما كنا نراها ثابتة مكانها لم تتحرك ولم تضطرب، يقول لو كان الأمر كما قيل لزالت واضطربت. هذا ما علمته في هذا البيت وإن كان الاداء قاصرا عن هذا المعنى.(2/116)
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه
ويروى عن الأصمعي أنه رأى رجلا يختال في أزيّر (1) في يوم قرّ في مشيته فقال له: ممن أنت يا مقرور. فقال أنا ابن الوحيد أمشي الخيزلى (2) ويدفئني حسبي. وقيل لاخر في هذه الحال أما يوجعك البرد؟ فقال: بلى والله ولكني أذكر حسبي فأدفأ. وأصوب منهما قول العريان الذي سئل في يوم قرّعما يجد فقال: ما عليّ منه كبير مؤنة. وقيل وكيف؟ فقال دام بي العري فاعتاد بدني ما تعتاده وجوهكم. ومن التشبيه القاصد الصحيح قول النابغة:
وعيد أبي قابوس (3) في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس (4) فالضّواجع (5)
فبتّ كأني ساورتني (6) ضئيلة (7) ... من الرّقش (8) في أنيابها السّمّ ناقع
يسهّد من نوم العشاء سليمها (9) ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون (10) من سوء سمّها ... تطلّقه طورا وطورا تراجع
فهذه صفة الخائف المهموم. ومثل ذلك قول الاخر:
تبيت الهموم الطارقات يعدنني ... كما تعتري الأوصاب رأس المطلّق
والمطلق هو الذي ذكره النابغة في قوله. (تطلقه طورا وطورا تراجع) وذاك أن المنهوش إذا ألحّ الوجع به تارة وأمسك عنه تارة، فقد قارب أن يوأس من
__________
(1) أزير: مصغر الأزار.
(2) الخيزلى: بالقصر مشية فيها تثاقل وتفكك.
(3) أبو قابوس كنية النعمان بن المنذر ملك العرب.
(4) وراكس: أسم وادي.
(5) الضواجع: اسم موضع.
(6) ساورتني: واثبتني.
(7) الضئيلة: الحية الدقيقة.
(8) الرقش جمع رقشاء: وهي الحية المنقطة بسواد وبياض.
(9) السليم: اللديع.
(10) تناذرها الراقون: انذر بعضهم بعضا وحذره وخوّفه.(2/117)
برئه وإنما ذكر خوفه من النعمان، وما يعتريه من لوعة في أثر لوعة، والفترة بينهما والخائف لا ينام إلا غرارا فلذلك شبّهه بالملدوغ المسهّد. وقوله:
لحلى النساء في يديه قعاقع. لأنهم كانوا يعلّقون حليّ النساء على الملدوغ يزعمون أن ذلك من أسباب البرء. لأنه يسمع تقعقعها فيمنعه النوم فلا ينام فيدبّ السمّ ويسهّد لذلك. وقال الاخر:
كأنّ فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفّه حابل
يؤتّى إليه أن كل ثنيّة ... تيمّمها ترمي إليه بقاتل
يقال لكل مستطيل كفّة. يقال كفّة الثوب لحاشيته وكفّة الحابل إذا كانت مستطيلة. ويقال لكل شيء مستدير كفّة. ويقال ضعه في كفّة الميزان. فهذه جملة هذا. وكفّة الحابل يعني صاحب الحبالة التي ينصبها للصّيد وأما التشبيه البعيد الذي لا يقوم بنفسه فكقوله:
بل لو رأتني أخت جيراننا ... إذا أنا في الدار كأنّي حمار
فإنما أراد الصحة فهذا بعيد لأن السامع إنما يستدل عليه بغيره. وقال الله جل وعز، وهذا البيّن الواضح: كمثل {الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً} (1) والسّفر الكتاب. وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهََا كَمَثَلِ الْحِمََارِ} (2)
في أنهم قد تعاموا عنها وأضربوا عن حدودها وأمرها ونهيها، حتى صاروا كالحمار الذي يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها.
وهجا مروان بن سليمان ابن يحيى بن أبي حفصة من رواة الشعر بأنهم لا يعلمون ما هو على كثرة استكثارهم من روايته فقال:
زوامل (3) للأشعار لا علم عندهم ... بجيّدها إلا كعلم الاباعر
__________
(1) سورة الجمعة: الاية رقم 5.
(2) سورة الجمعة: الاية رقم 5.
(3) زوامل: جمع زاملة وهي التي يحمل عليها من الابل وغيرها.(2/118)
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أرواح ما في الغرائر
من تشابيه العرب
والتشبيه كما ذكرنا من أكثر كلام الناس. وقد وقع على ألسن الناس من التشبيه المستحسن عندهم وعن أصل أخذوه أن شبهوا عين المرأة والرجل بعين الظبي أو البقرة الوحشية. والانف بحدّ السيف والفم بالخاتم والشّعر بالعناقيد والعنق بإبريق فضة والساق بالجمّار، فهذا كلام جار على الألسن.
وقد قال سراقة بن مالك بن جعشم: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وساقاه باديتان في غرزه (1) كأنهما جمّارتان فأردته، فوقعت في مقنب (2) من خيل الأنصار فقرّ عوني (3)
بالرّماح، وقالوا أين تريد. وقال كعب بن مالك الأنصاري: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سرّ تبلّج (4) وجهه فصار كأنه البدر، وعين الإنسان مشبهة بعين الظبي والبقرة في كلامهم المنثور وشعرهم المنظوم من جاري ما تكلمات به العرب، وكثير من أشعارها قال:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكنّ عظم الساق منك دقيق
(وقال ذو الرمة):
أرى فيك من خرقاء يا ظبية اللّوى ... مشابه جنّبت (5) اعتلاق الحبائل
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... لونك إلا أنها غير عاطل (6)
وقال الاخر:
فلم تر عيني مثل سرب رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف
__________
(1) الغرز: ركاب من الجلد.
(2) مقنب: بالكسر جماعة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
(3) قرّعوني: ضربوني.
(4) تبلج وجهه: أشرف واضاء.
(5) جنبت اعتلاق الحبائل: دعاء لها.
(6) العاطل المرأة التي ليس عليها حلي.(2/119)
طلعن بأعناق الظباء وأعين الج ... اذر وامتدّت بهنّ الرّوادف
ويقال للخطيب: كأن لسانه مبرد، فهذا الجاري في الكلام. كما يقال:
للطويل كأنه رمح. ويقال للمهتزّ للكرم كأنه غصن تحت بارح. ومن مليح التشبيه قول القائل:
لعيناك يوم البين أسرع واكفا ... من الفنن (1) الممطور وهو مروح
وذاك أن الغصن يقع المطر في ورقه فيصير منها في مثل المداهن فإذا هبّت به الريح لم تلبّثه أن تقطّره. ثم نذكر بعد هذا طرائف من تشبيه المحدثين وملاحاتهم فقد شرطناه في أول الباب إن شاء الله. قال أبو العباس: ومن أكثرهم تشبيها لاتساعه في القول وكثرة تفنّنه، واتساع مذاهبه الحسن بن هانىء، قال في مديحه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك:
وكنا إذا ما الحائن (2) الجدّ غرّه ... سنى برق غار أو ضجيج رعاد
تردّى له الفضل بن يحيى بن خالد ... بماضي الطبي أزهاه طول نجاد
أمام خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قنا وجياد
فما هو إلا الدهر يأتي بصرفه ... على كل من يشقى به ويعادي
قوله الحائن الجد، يقال: حان الرجل إذا دنا موته. ويقال: رجل حائن، والمصدر الحين، والجدّ الحظّ، والجدّ والجدّة مفتوحان، فإذا أردت المصدر من جددت في الأمر قلت أجدّ جدّا مكسور الجيم. ويقال جددت النخل أجدّه جدّا إذا صرمته. ويقال: جذذته جذّا وتركت الشيء جذاذا إذا قطعته قطعا.
ويروى هذا البيت لجرير على وجهين:
ال المهلّب جدّ الله دابرهم (3) ... أضحوا رمادا فلا أصل ولا طرف
__________
(1) الفنن: الغصن.
(2) الحائن: الجد لعله يريد عاثر الجد والحظ.
(3) جد الله دابرهم: أي أهلكهم الله كلهم حتى لا يبقى منهم أحد ودابر القوم اخر من يبقى منهم ويجيء في اخرهم.(2/120)
ويروى جدّ، وقرأ بعض القرّاء عطاء غير مجذوذ. فأما قوله: فجعلهم جذاذا، فلم يقرأ بغيره. ويقال: كم جذاذ نخلك، أي كم تصرم منها. ويروى في قول الله جل وعز: {وَأَنَّهُ تَعََالى ََ جَدُّ رَبِّنََا} (1) عن أنس بن مالك، غنى ربنا. وقرأ سعيد بن جبير جدّا ربّنا، ولو قرأ قارىء جدّا ربّنا على معنى جدّ ربّنا لم يقرأ به لتغير الخط. وكذا قراءة سعيد مخالفة الخطّ. وهذا الشعر ينشد بالكسر:
أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقّادها
ومثله (قول الأعشى):
أجدّك لم تسمع وصاة محمد ... رسول الإله حين أوصى وأشهدا
لأن معناه أجدّا منك على التوقيف، وتقديره في النصب أتجدّ جدا. ويقال:
امرأة جدّاء، إذا كانت لا ثدي لها فكأنه قطع منها لأن أصل الجدّ القطع.
ويقال: بلدة جدّا إذا لم تكن بها مياه. قال الشاعر:
وجدّاء ما يرجى بها ذو هوادة ... لعرف (2) ولا يخشى السماة ربيبها
(القرابة والهوادة في المعنى واحد. قال أبو الحسن: السماة هم الصادة نصف النهار. وروي عن بعض أصحابنا عن المازني قال: إنما سمّي ساميا بالمسماة، وهو خفّ يلبسه لئلا يسمع الوحش وطأه، وهو عندي من سما للصيد) وينشد هذا البيت:
أبى حبيّ سليمى أن يبيدا ... وأصبح حبلها خلقا جديدا
يقول: أصبح خلقا مقطوعا، لأن جديدا في معنى مجدود أي مقطوع، كما تقول قتيل ومقتول وجريح ومجروح. ويقال في غير هذا المعنى رجل مجدود إذا كان ذا خطر أي حظ، وفي الدعاء: ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ،
__________
(1) سورة الجن: الاية 3.
(2) العرف: النوال والاحسان.(2/121)
أي من كان له حظ في دنياه لم يدفع ذلك عنه ما يريد الله به، ولو قال قائل:
ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ يريد الاجتهاد لكان وجها. وقوله: سنى برق غار، والسنى من الضياء مقصور. قال الله جل وعز: {يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ} (1) والسناه من المجد ممدود، وقال الشاعر:
وهم قوم كرام الحيّ طرّا ... لهم خول (2) إذا ذكر السناء
وضربه الحسن ههنا مثلا وجمع الرّعد فقال رعاد كقولك كلب وكلاب وكعب وكعاب. وقوله بماضي الظّبى، ظبة كل شيء حدّه، يقال: وخزه بظبة السيف يراد بذلك حدّ طرفه. وقوله أزهاه طول نجاد، النجاد حمائل السيف، وأزهاه رفعه وأعلاه. والرجل يمدح بالطول فلذلك يذكر طول حمائله. قال مروان بن أبي حفصة يمدح المهديّ.
من مدح المهدي
قصرت حمائله عليه فقلّصت (3) ... ولقد تأنّق فينها فأطالها
وقال الحسن بن هانىء يمدح محمدا الأمين:
سبط البنان (4) إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم (5) والسماط (6) قيام
وقال جرير للفرزدق:
تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع (7) ... إلى الغرّ من أهل البطاح (8) الأكارم
__________
(1) سورة النور: الاية رقم 43.
(2) الخول: محركا ما أعطاك الله من النعم.
(3) قلصت: أي ارتفعت عن موضعها ولم تصل إليه.
(4) سبط البنان: كناية عن السخاء والكرم.
(5) غمر الجماجم: أي كان فوق كل من كان معه.
(6) السماط: الجماعة من الناس.
(7) مقنع: بالفتح أي رضي يضع به.
(8) البطاح: بالكسر جمع أبطح وهو مسيل واسع فيه دقاق الحصى.(2/122)
فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطّوال البيض من ال هاشم
وقال الاخر:
لما التقى الصّفّان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها
تبيّن لي أن القمامة ذلّة ... وأن أشدّاء الرجال طوالها
وقوله أما خميس: الخميس ههنا الجيش، وكذلك قال ربيئة (1) أهل خيبر لما أطلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم: محمد والخميس (2)، أي والجيش، وقال الشاعر وهو طرفة:
وأيّ خميس لا أفأنا نهابه (3) ... وأسيافنا يقطرن من كبشه (4) دما
افأنا رددنا يقال: أفاءه يفيء إذا ردّ، والأرجوان الأحمر، قال الشاعر:
عشيّة غادرت خيلي حميدا ... كأنّ عليه حلّة أرجوان
والجياد الخيل. وفي القران: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصََّافِنََاتُ الْجِيََادُ} (5) ومن تشبيهه الجيد في هذا الشعر الذي ذكرنا قوله:
ترى الناس أفواجا إلى باب داره ... كأنهم رجلا دبى وجراد
فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوم رقاب بوكرت لحصاد
من خمريات أبي نواس
ومن التشبيه الجيد قوله: أي أبي نواس الحسن بن هانىء):
__________
(1) ربيئة: العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ولا يكون إلا على جيل أو شرف ينظر منه.
(2) محمد والخميس: محمد خبر مبتدأ محذوف أي هذا محمد وسمي الجيش خميسا لأنه مقسوم بخمسة أقسام المقدمة والساق والميمنة والميسرة والقلب أو لأنه تخمس فيه الغنائم.
(3) النهاب: جمع نهب وهو الغنيمة.
(4) الكبش: قائد الجيش.
(5) سورة ص: الاية رقم 31.(2/123)
فكأني بما أزيّن منها (1) ... قعديّ (2) يزيّن التّحكيما
وفي سبب هذا الشعر أن الخليفة تشدّد عليه في شرب الخمر وحبسه من أجل ذلك حبسا طويلا فقال:
أيّها الرائحان باللّوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
كبر حظّي منها إذا هي دارت ... أن أرها وأن أشمّ النّسيما
فكأني بما أزيّن منها ... قعديّ يزيّن التحكيما
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق إلا يقيما
فهذا المعنى لم يسبقه إليه أحد.
في وصف الفرس
قال: وحدّثت أن العمانيّ الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس:
كانّ أذنيه إذا تشوّفا (3) ... قادمة (4) أو قلما محرّفا
فعلم القوم كلهم أنه قد لحن ولم يهتد منه أحد لإصلاح البيت إلا الرشيد فإنه قال له قل: (تخال أذنيه إذا تشوفا)، والراجز وإن كان لحن فقد أحسن التشبيه. ويروي أن جريرا دخل إلى الوليد وابن الرّقاع العاملّي عنده ينشده القصيدة التي يقول فيها:
__________
(1) منها: الضمير يعود إلى الخمر.
(2) والقعدي بالفتح واحد القعد بالتحريك وهم طائفة من الخوارج ترى رأيهم وتقول بقولهم ولا تذهب إلى القتال معهم.
(3) تشوفا: تطاولا وتناظرا.
(4) القادمة من ريش الجناح ما كانت في مقدمه وكان الواجب الرفع على أنه خبر كأن إلا أنه لحن فنصبه وما بعده.(2/124)
غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات (1) وسادها
قال جرير: فحسدته على أبيات منها حتى أنشد في صفة الظبية:
(تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه).
قال: فقلت في نفسي وقع والله ما يقدر أن يقول أو يشبّه به قال فقال:
(قلم أصاب من الدّواة مدادها)
قال: فما قدرت حسدا له أن أقيم حتى انصرفت. ومن تشبيه الحسن الذي نستطرفه قوله:
تعاطيكها (2) كفّ كأنّ بنانها ... إذا اعترضتها العين صفّ مداري (3)
ومن التشبيه المليح قوله:
وكأن سعدى إذا تودّعنا ... وقد أشرأبّ (4) الدّمع أن يكفا
رشأ تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا (5)
(يقال: اشرأبّ لأن يكلمني إذا تهيأ لكلامك، واشرأبّ الدمع إذا تهيأ للوكف) وفي هذا الشعر من التشبيه:
خبّر فؤادك أو ستخبره ... قسما لتنتهينّ أو حلفا
الحبّ ظهر أنت راكبه ... فإذا صرفت عنانه انصرفا
ومن التشبيه الجيد قوله:
إليك رمت بالقوم خوص (6) كأنما ... جماجمها فوق الحجاج قبور
وله أيضا:
__________
(1) المساميح: كأنه جمع مسماح لكثير الجود والإعطاء، والمعضلات الشدائد.
(2) تعاطيكها: الضمير للخمر.
(3) المداري واحدة مدراة وهي شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط يسرح به الشعر المتلبد.
(4) أشرأبّ: قرب وتهيأ.
(5) تواصين القيان: فاعلان لفعل واحد على لغة «أكلتني البراغيث» شنفا: حلقة خزام للتجمل.
(6) الخوص: بالضم وهو البعير.(2/125)
سأرحل من قود (1) المهاري (2) شملّة (3) ... مسخّرة ما تستحثّ بحادي
مع الريح ما راحت فإن هي أعصفت (4) ... تهوز (5) برأس كالعلاة (6) وهادي (7)
العلاة السندان قال جرير:
أيفخر بالمحمّم قين ليلى ... وبالكير المرقّع والعلاة
وقال الحسن بن هانىء في صفة السفينة:
بنيت على قدر ولا أم بينها ... طبقان من قير (8) ومن ألواح
فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملّاح
جون من العقبان يبتدر الدجى ... يهوي بصوت واصطفاق جناح
في وصف الخمر
وقال في شعر اخر، يصف الخمر ويذكر صفاءها ورقّتها وضياءها وإشراقها:
إذا عبّ (9) فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا
فأما قوله:
بنينا على كسرى سماء مدامة ... جوانبها محفوفة بنجوم
__________
(1) القود: واحدها أقود وهو البعير الذلول المنقاد.
(2) المهارى: بالفتح واحدها مهري نسبة إلى مهرة بن حيدان حي من قضاعة باليمن.
(3) الشملة: بكسرتين مشددة اللام السريعة.
(4) أعصفت: مرت مرورا سريعا.
(5) تهوز: كثيرة الحركة.
(6) العلاة بالفتح: السندان أو حجر تجعل عليه الاقط.
(7) الهادي: العنق.
(8) قير: مادة سوداء، تطلى بها السفن.
(9) عب: تابع الشرب.(2/126)
فلو ردّ في كسرى بن ساسان روحه ... إذا لاصطفاني دون كل نديم
فإنما كانت صورة كسرى في الإناء. وقوله: جوانبها محفوفة بنجوم، وفإنما يريد ما تطوّق به من الزبد، وقد قال في أخرى (أول الشعر من غير الأمّ:
ودار ندامى خلّفوها وأدلجوا (1) ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جرّ الزقاق على الثرى ... وأضغاث (2) ريحان جنيّ ويابس
حبست بها صحبي فألّفت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس)
أقمنا بها يوما ويوما وليلة ... ويوما له يوم الترحّل خامس
تدار علينا الراح في عسجديّة ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها (3) تدّريها (4) بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما ذرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
العسجدية منسوبة إلى العسجد، وهو الذهب. وقال المثقّب العبدي:
قالت: ألا لا تشتري ذاكم ... إلا بما شئنا ولم يوجد
إلا ببدري (5) ذهب خالص ... كلّ صباح اخر المسند (6)
من مال من يجبي ويجبى له ... سبعون قنطارا من العسجد
وقوله: تدّريها أي تختلها. يقال دازيت الصيد إذا ختلته. قال الأخطل:
وإن كنت قد أقصدتني إذرميتني ... بسهمك والرامي يصيد وما يدري
وقال الحسن بن هانىء:
__________
(1) ادلجوا: ساروا أول الليل.
(2) الأضغاث: ضغث بالكسر وهي قبضة حشيش مختلطة الرطب باليباس.
(3) مها واحدته مهاة وهي البقرة الوحشية.
(4) تدّري الصيد: تختله.
(5) إلّا ببدري ذهب: مثنى بدر وهو كيس فيه سبعة الاف دينار.
(6) المسند: الدهر.(2/127)
ما حطّك الواشون من رتبة ... عندي ولا ضرّك ما اغتابوا
كأنهم أثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا
وهذا المعنى عندي مأخوذ من قول النعمان بن المنذر لحجل بن نضلة.
وقد ذكر معاوية بن شكل فقال: أبيت اللعن أنه لقعو الأليتين مقبل النعلين فحج الفخذين مشّاء بأقراء تبّاع إماء قتّال ظباء. فقال النعمان: إن أردت أن تديمه فمدهته. قوله مقبل النعلين، يقول لنعله قبال ينسبه إلى التّرفه، وتبّاع إماء وقتال ظباء من ذلك. والقعو ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب. وقوله: تذيمه معناه تذمّه. يقال ذمّه يذمّه ذمّا وذامه يذيمه ذيما ذاأمه ذأما. والمعنى واحد.
قال الله تبارك وتعالى: {اخْرُجْ مِنْهََا مَذْؤُماً مَدْحُوراً} (1). وقال الحرث بن خالد المخزومي لعبد الملك:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطّعت نفسي أذيمها
وقوله: فمدهته يريد مدحته فأبدل من الحاء هاء لقرب المخرج. وبنو سعد بن زيد مناة بن تميم كذلك تقول ولخم ومن قاربها، قال رؤبة:
لله درّ الغانيات المدّة ... سبّحن واسترجعن من تألّهي
يريد المدّح، وفي هذه الأرجوزة: (برّاق أصلاد الجبين الأجلة) يريد الأجلح، والعرب تقول: جلح الرجل يجلح جلحا وجله يجله جلها وجلي يجلى جلى، والمعنى واحد. قال العجاج: (مع الجلا (2) ولائحة القتير) (3) ومثل بيت الحسن وكلام النّعمان قول عمرو بن معد يكرب:
كأنّ محرّشا في بيت سعدى ... يعلّ بعيبها عندي شفيع
وفي قصيدة الحسن هذه:
__________
(1) سورة الأعراف: الاية رقم 18.
(2) الجلا مقصورا إنحسار مقدم الشعر دون الصلع وقد جلى لمرض والنعت أجلى.
(3) القتير: بالفتح الشيب.(2/128)
إن جئت لم تأت وإن لم أجىء ... جئت فهذا منك لي داب
كأنما أنت وإن كنت لا ... تكذب في الميعاد كذّاب
وهذا كلام طريف. ومن حسن تشبيه المحدثين قول بشار:
وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا
ونخال ما جمعت علي ... هـ بنانها ذهبا وعطرا
وهذا التشبيه الجامع، ونظيره في جمع شيئين لمعنيين ما ذكرت لك من قول مسلم بن الوليد: (كأن في سرجه بدرا وضرغاما) ومن حسن التشبيه، من قول المحدثين، قول عباس بن الأحنف:
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة (1) نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
فهذا حسن في هذا جدّا. ومن حسن ما قالوا قول إسماعيل بن القاسم أبي العتاهية للرّشيد:
أمين الله أمنك خير أمن ... عليك من التقى فيه لباس
تساس من السّماء بكلّ فضل ... وأنت به تسوس كما تساس
كأنّ الخلق ركّب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس
وقد أخذ هذا المعنى علي بن جبلة فقال في مدحه حميد بن عبد الحميد، وزاد في الشرح والترتيب فقال:
يرتق (2) ما يفتق أعداؤه ... وليس يأسو (3) فتقه اسي
فالناس جسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الراس
والعرب تختصر في التشبيه، وربما أومأت به إيماء قال أحد الرّجّاز:
__________
(1) الذبالة بالضم الفتيلة للسراج.
(2) يرتق: الرتق ضد الفتق.
(3) يأسو: يداوي.(2/129)
بتنا بحسّان ومعزاه تئطّ ... ما زلت أسعى بيتهم وألتبط
حتى إذا كان الظلام يختلط ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
يقول في لون الذئب، واللّبن إذا جهد وخلط بالماء ضرب إلى الغبرة وأنشد الأصمعي:
وتشربه محضا وتسقي عيالها ... سجاحا كأقراب الثعالب أورقا
السجاح الرقيق المحذوق والقربان الجنبان والواحد قرب. ومن ذلك قول عمر بن الخطاب رحمه الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شاور في رجل جنى جناية وجاء قومه يشفعون له، فشفع له قوم اخرون. فقال له عمر: يا رسول الله، أرى أن توجع قربيه. فقال القوم: يا رسول الله إنك لن تشتدّ على أمّتك بقول عمر، فنزل إليه جبريل صلى الله عليه وسلم فقال له ثلاثا: يا محمد، القول قول عمر، شدّ الإسلام بعمر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب الرجل. والأورق لون بين الخضرة والسواد، يقال: جمل أورق بيّن الورقة، وهو ألأم ألوان الابل عند العرب، وأطيبها لحما. ومن مليح التشبيه قول عبد الصّمد بن المعدّل في صفة العقرب.
تبرز كالقرنين حين تطلعه ... تزحله (1) مرّا ومرّا ترجعه
في مثل صدر السبت خلق تفظعه ... أعصل (2) خطّار تلوح شنعه
أسود كالسّبجة (3) فيه مبضعه (4) ... لا تصنع الرّقشاء ما لا يصنعه
وفي هذه الأرجوزة أيضا:
بات بها حين (5) حبيش يتبعه ... وبات جذلان وثيرا (6) مضجعهه
__________
(1) تزحله: أي تجده فظيعا.
(2) الأعصل: المعوج في صلابة.
(3) السبجة: كساء أسود.
(4) المبضع: بالكسر ما يبضع به العرق.
(5) الحين: الهلاك والمحنة.
(6) الوثير: اللين السهل في الفراش وغيره.(2/130)
ذا سنة أمن ما يروّعه ... حتى دنت منه لحتف (1) تزمعه
فاظت تجمّ سمّها وتجمعه ... يا بؤس للمودعه ما يودعه
فشرعت أمّ الحمام اصبعه ... أنحت (2) عليه كالشّهاب تلذعه
عطّك (3) سربال حرير تخلعه ... فكلّ خلّ ظاهر تفجّعه
يزداد من بغت الحمام جزعه ... واليأس من تيسيره توقّعه
وكذلك قال يزيد بن ضبّة: (أو العرجم قال أبو الحسن شكّ أبو العباس في أنه لاحدهما، أعني هذا البيت:
ولكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت
في الهجاء
ومن أحسن التشبيه.
ومليحه قول رجل يهجو رجلا برثاثة الحال:
يأتيك في جبّة مخرّقة ... أطول أعمار مثلها يوم
وطيلسان كالال يلبسه ... على قميص كأنه غيم
والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا اخر له وإنما ذكرنا منه شيئا لئلا يخلو هذا الكتاب من شيء من المعاني ونختم ما ذكرنا من أشعار المحدثين ببيتين أو ثلاثة من الشعر الجيد، ثم نأخذ في غير هذا الباب إن شاء الله، قال طفيل.
تقريبه المرطى (4) والجون (5) معتدل ... كأنه سبد (6) بالماء مغسول
__________
(1) الحتف: الموت.
(2) انحت عليه أي مالت وانعطفت.
(3) عطا الثوب: شق الثوب طولا وعرضا.
(4) المرطى: محركا شرب في العدو.
(5) الجون: النهار.
(6) السبد: طائر لين الريش إذا وقعت عليه قطرات من الماء جرت.(2/131)
السبد طائر بعينه. وقد قالوا الخصفلة التي توضع عند البئر، وهو بالطائر أشبه. وإنما أراد العرق (1) في هذا الوقت، وخير الخيل ما لم يسرع عرقه، ولم يبطء فإذا جاء في وقته شمله. قال الرجز
كأنه والطّرف منه سام ... مشتمل جاء من الحمّام
وقال الأعشى:
يعادي النّحوص (2) ومسحلها ... وعفوهما قبل أن يستحمّ
النّحوص جماعها: نحص، وهي التي لم تحمل في عامها، والمسحل العير، والعفو الولد وجمعه عفاء. فأعلم وهو أسعى له إذا لم يكن لعامه ويستحم بعرق. وفي حديث أمّ زرع مضجه كمثلّ الشّطبة (3) وتكفيه ذراع الجفرة ومعناه أنه خميص البطن وهذا تمدح به العرب وتستحسنه. فأما قول متمّم بن نويرة: (فتى غير مبطان العشيّات أروعا) فإنما أراد أنه لا يستعجل بالعشاء لانتظاره الضيف. كما قال:
وضيف إذا أرغى (4) طروقا (5) بعيره ... وعان (6) ناه (7) الوفد حتى تكنّعا (8)
وقالوا في قول الخنساء:
يذكّرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس
قالوا: أرادت بطلوع الشمس وقت الغارة، وبغروب الشمس وقت
__________
(1) وإنما أراد أي من تشبهه بذلك الطائر.
(2) النحوص: بالفتح ما لا ولد لها ولا لبن من الأتن الوحشية.
(3) الشطبة: السعفة من النخل. ما دامت رطبة وهنا كناية عن قلة اللحم ودقة الخصر فموضع نومه دقيق لنحافته.
(4) أرغى بعيره حمله على الرغاء.
(5) الطروق: الاتيان بالليل.
(6) العاني: الأسير.
(7) ناه الوفد أي بعد عنه.
(8) تكنعا: تقبض.(2/132)
الأضياف. وقال رجل لإبن له: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيدا: ولا بأرسح فتكون فارسا. وقال رجل من بني أسد لرجل من قيس: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان، فهذه كلها نعوت قد عرفت لقوم حتى كأنها سمات لهم، ينبغي للفارس أن يكون مهفهف الخصرين (1) متوقّد العينين، حمش الذراعين (2). وأنشد الأصمعي: (كأنما ساعداه ساعدا ذيب) قالوا: وسنّ نعت السيد أن يكون لحيما ضخم الهامة جهير الصوت إذا خطا أبعد، وإذا تؤمّل ملأ العين لأن حقه أن يكون في صدر مجلس أو ذروة منبر أو منفردا في موكب. وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالا والسمع مقالا. وقال أبو علي دعبل في رجل نسبه إلى السؤدد يقوله لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميريّ، وهو من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه:
فإذا جالسته صدّرته ... وتنحّيت له في الحاشية (3)
وإذا سايرته قدّمته ... وتأخّرت مع المستأنيه (4)
وإذا ياسرته صادفته ... سلس الخلق سليم الناحيا
وإذا عاسرته صادفته ... شرس الرأي أبيّا داهيه
فاحمد الله على صحبته ... واسأل الرحمن منه العافيه
وهذا المعنى قد أجمله جرير في قوله:
بشر أبو مروان إن عاسرته ... عسر وعند يساره ميسور
__________
(1) مهفهف الخصرين: ضامرهما.
(2) حمش الذراعين: دقيقهما.
(3) الحاشية: طرف المجلس.
(4) المستأنية: الجماعة التي تتأخر في الوصول.(2/133)
48 - باب في فنون الشعر التي استشهد بها العرب
تجتمع فيه طرائف من حسن الكلام، وجيد الشعر، وسائر الأمثال، ومأثور الأخبار إن شاء الله.
من مدح للحجاج
كان الحجاج بن يوسف يشتثقل زياد بن عمرو العتكيّ (1)، فلما اثنت الوفود على الحجاج عند الوليد بن عبد الملك والحجاج حاضر، قال زياد بن عمرو:
يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم. فلم يكن أحد بعد أخفّ على قلب الحجاج منه. ولزياد يقول ابن قيس الرّقيّات في معاتبته المهلّب بن أبي صفرة.
أبغا جاري المهلّب عني ... كلّ جار مفارق لا محاله
إنّ جاراتك اللّواتي بتكر ... يت (2) لتنبيذ رحلهنّ مقاله
لو تعلّقن من زياد بن عمرو ... بحبال لما ذممن حباله
غلبت أمّه (3) أباه عليه ... فهو كالكابلي (4) أشبه خاله
ولقد غالني يزيد وكانت ... في يزيد خيانة ومغاله
__________
(1) العتكي: محركا نسبة إلى عتيك فخد الأزد.
(2) تكريت بفتح أوله وقد يكسر بلد سمي بتكريت ت وائل.
(3) غلبت أمه: يريد أنه نزع إلى أخواله لغلبة ماء أمه على ماء أبيه.
(4) الكابلي: منسوب إلى كابل بضم الباء وهو ثغر من ثغور طخارستان.(2/135)
عتكيّ كأنه ضوء بدر ... يحمد الناس قوله وفعاله
وقال أسماء بن خارجة الفزاريّ: لا أشاتم رجلا، ولا أردّ سائلا، فإنما هو كريم أسدّ خلّته أو لئيم أشتري عرضي منه. وقال سهل بن هارون: يجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بحمد الله قبل استفتاحها كما بدىء بالنعمة قبل استحقاقها. وكان يقول عند التّعزية التّهنئة باجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة. وأراد رجل الحج فأتى شعبة بن الحجاج يودّعه. فقال له شعبة أما أنك إن لم تر الحلم ذلا والسّفه أنفا سلم لك حجّك وقال أويس القرنّي:
إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهما.
في الذم
وقال دعبل بن علي الخزاعيّ يذم رجلا:
رأيت أبا عمران يبذل عرضه ... وخبر أبي عمران في أحرز الحرز
يحنّ إلى جاراته بعد شبعه ... وجاراته غرثى (1) تحنّ إلى الخبز
وقال اخر:
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
لا يقبس الجار منهم فضل نارهم ... ولا تكفّ يد عن حرمة البار
(أظن تمامه:
حتى إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار
قامت بأحمرها تندى مشافره ... كأنه رئة في كفّ جزّار)
وقال رجل من طيء، وكان رجل منهم يقال له زيد من ولد عروة بن زيد الخيل قتل رجلا من بني أسد يقال له زيد ثم أقيد (2) به بعد:
__________
(1) غرثى: الجائعة.
(2) أقيد به: قتل بسببه.(2/136)
علا زيدنا يوم الحمى رأس زيدكم ... بأبيض مصقول العرار يمان
فإن تقتلوا زيدا بزيد فإنما ... أقادكم السّلطان بعد زمان
(قال أبو الحسن، وأنشدنا غيره:
علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم ... بأبيض من ماء الحديد يمان)
قال: كلّم شمعل التّغلبيّ عبد الملك كلاما لم يرضه، فرماه عبد الملك بالجزر (1) فحدش وهشم فقال شمعل:
أمن جذبه بالرجل مني تباشرت ... عداتي فلا عيب عليّ ولا سخر (2)
فإن أمير المؤمنين وسيفه ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
مما قيل في البخل
وقال الحجاج: البخل على الطعام أقبح من البرص على الجسد. وقال زياد: كفى بالبخيل عارا أن اسمه لم يقع في حمد قطّ، وكفى بالجواد مجدا أن اسمه لم يقع في ذمّ قط. وقال اخر:
ألا ترين وقد قطعتني عذلا ... ماذا من الفضل بين البخل والجود
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إمّا نوالا وإما حسن مردود
إلّا يكن ورق يوما أراح به ... للخابطين فإني ليّن العود
قوله: إلا يكن ورق، يريد المال، وضربه مثلا ويقال: أتي فلان فلانا يختبط ما عنده والاختباط ضرب الشجر ليسقط الورق. فجعل الخابط الطالب والورق المال، كما قال زهير:
وليس مانع ذي قربى ولا رحم ... يوما ولا معدما من خابط ورقا
ويروى: أن ضيفا نزل بالحطيئة وهو يرعى غنما له، وفي يده عصا فقال الضيف: يا راعي الغنم، فأومأ إليه الحطيئة بعصاه وقال: عجراء (3) من سلم،
__________
(1) الجزر بالضم: عمود من الحديد.
(2) السخر بالضم: الاستهزاء.
(3) العجراء: الغليظة.(2/137)
فقال الرجل: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها. وقال دعبل:
وابن عمران يبتغي عربيّا ... ليس يرضى البنات للاكفاء
إن بدت حاجة له ذكر الضّي ... ف وينساه عند وقت الغداء
وقال أيضا:
أضياف سالم في خفض وفي دعة ... وفي شراب ولحم غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو يسهران معا ... عمرو لبطنته والضيف للجوع
وقال دعبل:
ما يرحل الضيف عنّي بعد تكرمة ... إلّا برفد وتشييع ومعذرة
وقال أيضا:
لم يطيقوا أن يسمعوا وسمعنا ... وصبرنا على رحى الأسنان
صوت مضغ الضّيوف أحسن عندي ... من غنياء القيان بالعيدان
وقال القرشي من بني أميّة:
إذا ما وترنا (1) لم ننم عن تراتنا ... ولم تك أوغالا نقيم البواكيا
ولكننا نمضي الجياد شوازبا (2) ... فنرمي بها نحو الترات المراميا
وقال جرير يهجو الأخطل:
إن الذي حرم الخلافة تغلبا ... جعل النبوّة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خزر (3) تغلب من أب كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إليّ قطينا (4)
إن الفرزدق إذ تحنّف (5) كارها ... أضحى لتغلب والصليب خدينا (6)
__________
(1) وترنا: نقص بالقتل.
(2) الشوازب: الضمر الواحد شازب يذكر قومه بالشجاعة والأنفة وأنها لا تنام على ثأر.
(3) الخزر: جمع أخزر من الخزر بالتحريك وهو ضيق العين وصغرها أو كسر العين بصرها خلقة.
(4) القطين: المماليك والخدم والأتباع للواحد والجمع.
(5) تحنف: عمل عمل الحنيف وهو من كان على دين إبراهيم عليه السلام.
(6) الخدين: الصاحب وهذا البيت وما بعده لم يقعا في رواية محمد بن حبيب لأن جريرا إنما يهجو الأخطل بهذه الأبيات في كلمة له طويلة.(2/138)
ولقد جزعت إلى النّصارى بعدما ... لقي الصليب من العذاب مهينا
هل تشهدون من المشاعر مشعرا ... أو تسمعون من الأذان أذينا (1)
قال أبو العباس: حدثني عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قال لما بلغ الوليد قوله:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلى قطينا
قال الوليد: أمّا والله لو قال: لو شاء ساقكم لفعلت ذاك به، ولكنه قال:
لو شئت فجعلني شرطيّا له. ويروى أن بلالا قعد يوما ينظر بين الخصوم ورجل منهم ناحية يتمثّل قول الأخطل على غير معرفة:
وابن المراغة (2) حابس أعياره ... مرسى القصيّة (3) ما يذقن بلالا (4)
فسمعه بلال فلما تقدم مع خصمه، قال له بلال: أعد إنشادك فغمزه بعض الجلساء، فقال الرجل أني والله ما أدري من قاله ولا فيمن قيل. فقال بلال: أجل هو أسير من ذاك هلمّا فاحتجّا. وقال اخر:
مررت على الديار فما رأينا ... كدار بين تلعة والنّظيم
عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا (5) القدر كالحدا الجثوم
وقال اخر:
لقد تبلت فؤادك إذ تولّت ... ولم تخش العقوبة في التّولّي
عرفت الدار يوم وقفت فيها ... بريح المسك تنفح في المحلّ
__________
(1) الأذين كامير النداء إلى الصلاة والمشعر موضع النسك والعبادة.
(2) المراغة: هي أم جرير لا الأخطل أي مراغة للرجال أو لأنها ولدت في مراغة الابل.
(3) القصية: الغاية البعيدة.
(4) البلال: الماء وهذا الشعر قيل في جرير والذي كان ينظر بين الخصوم بلال ابنه.
(5) مطايا القدر: قوائمه التي يقوم عليها وهنا استعارة من قوائم الابل.(2/139)
49 «باب من أخبار الخوارج»
(1)
في بيعة الخوارج
قال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفريّة أن الخوارج لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبيّ من الأزد تكره ذلك فأبوا من سواه، ولم يريدوا غيره، فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم استبيتوا الرأي، أي دعوه يغبّ.
وكان يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبريّ (2). قوله: استبيتوا الرأي يقول: دعوا رأيكم تأت عليه ليلة ثم تعقّبوه، فقال بيّت فلان كذا وكذا إذا فعله ليلا. وفي القران: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مََا لََا يَرْضى ََ مِنَ الْقَوْلِ} (3)، أي اداروا ذلك ليلا بينهم.
وأنشد أبو عبيدة:
أتوني فلم أرض ما بيّتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيّمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حرّ لحرّ (4)
والرأي الدبري الذي يعرض من بعد وقوع الشيء. كما قال جرير:
ولا يعرفون السرّ حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلّا تدبّرا
وكان عبد الله بن وهب ذا رأي وفهم ولسان وشجاعة. وإنما لجأوا إليه، وخلعوا معدان الإياديّ لقول معدان:
__________
(1) الخوارج: طائفة من أهل الأهواء لهم مقالة على حدة سموا به لأنهم خرجوا على جميع الناس وهم فرق كثيرة وأول خروجهم أيام علي رضي الله عنه.
(2) الرأي الدبري: بالتحريك رأي يسنح أخيرا عند فوت الحاجة.
(3) سورة النساء الاية 108.
(4) يريد هل يزوج الحر عبدا من حرة.(2/141)
سلام على من بايع الله شاريا ... وليس على الحزب المقيم سلام
فبرئت منه الصّفريّة. وقالوا: خالفت لأنك برئت من القعد. قال أبو العباس. والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب ومن ذي المعصية الظاهرة، وحدّثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة فأحسّوا الخوارج. فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا: شأنك، فخرج إليهم. فقالوا:
ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم. قال فعلّمونا، فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ،} (1) فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم، فساروا بأجمعهم حتى بلّغوهم المأمن. وذكر أهل العلم من غير وجه أن عليا رضي الله تعالى عنه لما وجّه إليهم عبد الله بن عباس، رحمة الله عليه، ليناظرهم قال لهم: ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين؟ قالوا: قد كان للمؤمنين أمير فلما حكّم في دين الله خرج من الإيمان فليتب بعد إقراره بالكفر تعد له. فقال ابن عباس: لا ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه شكّ أن يقرّ على نفسه بالكفر. قالوا أنه قد حكّم. قال إن الله عز وجل: قد أمرنا بالتحكيم في قتل سيد فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوََا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين؟ فقالوا: إنه قد حكم عليه فلم يرض، فقال إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسق الإمام وجبت معصيته، وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما. فقال بعضهم لبعض:
لا تجعلوا احتجاج قريش حجة عليكم فإن هذا من القوم الذين قال الله عز وجل
__________
(1) سورة التوبة: الاية رقم 6.
(2) سورة المائدة: الاية رقم 59.(2/142)
فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (1) وقال عز وجل: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (2)
والشيء يذكر بالشيء.
من حديث مع عمر بن الخطاب
وجاء في الحديث: أن رجلا إعرابيا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال إني أصبت ظبيا وأنا محرم، فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال: قل. فقال عبد الرحمن يهدي شاة. فقال عمر: أهد شاة. فقال الأعرابي: والله ما درى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره. فخفقه عمر رضوان الله عليه بالدرّة. وقال: أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا! (3) إن الله عز وجل قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوََا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4) فأنا عمر بن الخطاب وهذا عبد الرحمن بن عوف. وفي هذا الحديث ضروب من الفقه: منها ما ذكروا أن عبد الرحمن بن عوف قال أوّلا ليكون قول الإمام حكما قاطعا، ومنها أنه رأى أن الشاة مثل الظبية.
كما قال الله عز وجل: {فَجَزََاءٌ مِثْلُ مََا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (5) وأنه لم يسأله أخطأ قتله أم عمدا وجعل الأمرين واحدا. ومنها أنه لم يسأله أقتلت صيدا قبله وأنت محرم لأن قوما يقولون: أذا أصاب ثانية لم يحكم عليه. ولكنا نقول: إذهب فاتق الله لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ عََادَ فَيَنْتَقِمُ اللََّهُ مِنْهُ} (6). قال أبو العباس: ومن طريف أخبار الخوارج قول قطريّ ابن الفجاءة المازنيّ لأبي خالد القنانيّ، وكان من قعد الخوارج.
أبا خالد يا انفر فلست (7) بخالد ... وما جعل الرحمن عذرا لقاعد
__________
(1) سورة الزخرف الاية رقم 58.
(2) سورة مريم: الاية رقم 97.
(3) الفتيا: هي ما أفتى به الفقيه وأبانه للسائل وغمصها احتقارها وعيبها.
(4) سورة المائدة: الاية رقم 59.
(5) سورة المائدة: الاية رقم 95.
(6) سورة المائدة: الاية 95.
(7) يا أنفر: دخلت بأعلى الفعل لأنها ليست للنداء ولكنها للتنبيه.(2/143)
أتزعم أن الخارجيّ على الهدى ... وأنت مقيم بين لصّ وجاحد
فكتب إليه أبو خالد:
لقد زاد الحياة إليّ حبّا ... بناتي انهنّ من الضعاف
أحادر أن يرين الفقر بعدي ... وأن يشربن رنقا (1) بعد صاف
وإن يعرين أن كسي الجواري ... فتنبوا العين عن كرم عجاف
ولولا ذاك قد سوّمت (2) مهري ... وفي الرحمن للضّعفاء كاف
(أبانا من لنا (3) ان غبت عنا ... وسار الحيّ بعدك في اختلاف)
حديث عمران بن حطان
وهذا خلاف ما قال عمران بن حطّان أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل. وقد كان رأس القعد من الصّفريّة، وخطيبهم وشاعرهم. قال: لما قتل أبو بلال، وهو مرداس ابن أديّة وهي جدته وأبوه حدير وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم قال عمران بن حطان:
لقد زاد الحياة إليّ بغضا ... وحبا للخروج أبو بلال
أحاذر أن أموت على فراشي ... وأرجوا الموت تحت ذرا العوالي
ولو أني علمت بأن حتفي ... كحتف أبي بلال لم أبال
فمن يك همّه الدنيا فإني ... لها والله ربّ البيت قال
وفيه يقول أيضا:
يا عين بكّي لمرداس ومصرعه ... يا ربّ مرداس اجعلني كمرداس
__________
(1) الرنق: نون ساكنة وهو الكدر.
(2) سومت مهري: أرسلته في الاعداء وبعثته.
(3) أبانا من لنا: هذا يقوله على لسان بناته وزاده أبو بكر بن عبد العزيز على ما رواه أبو العباس وكان الأليق أن يأتي به بعد قوله وأن يعرين إن كسي الجواري.(2/144)
تركتني هائما أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إمّا شربت (1) بكاس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكلّ من لم يذقها شارب عجلا ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
قال أبو العباس: وكان من حديث عمران بن حطان، فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشيّ عن محمد بن سلّام، إنه لما أطرده الحجّاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حيّ انتسب نسبا يقرب منه. ففي ذلك يقول:
نزلنا في بني سعد بن زيد ... وفي عكّ (2) وعامر عوبثان
وفي لخم (3) وفي أدد بن عمرو ... وفي بكر وحيّ بني العدان
ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذاميّ. وكان روح يقري الاضياف، وكان مسامرا لعبد الملك بن مروان أثيرا، عنده، فانتمى (4) له من الأزد.
حديث عمر بن حطان مع عبد الملك
وفي غير هذا الحديث: أن عبد الملك ذكر روحا فقال: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة أعطي فقه أهل الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام. رجع الحديث. وكان روح بن زنباع لا يسمع شعرا نادرا ولا حديثا غريبا عند عبد الملك فيسأل عنه عمران بن حطّان إلا عرفه وزاد فيه، فذكر
__________
(1) إما شربت: للشرط والتعليق وما زائدة وقوله، فكل من لم يذقها الخ. وهو جواب وخطاب لمرداس.
(2) عك بن عدثان بضم العين وبالتاء المثلثة بن عبد الله بن الأزد وليس ابن عدنان بالنون وعوبثان ابن زاهر بن مراد جد بداء بن عامر.
(3) لخم: حي باليمن.
(4) فانتمى له من الأزد: يريد أن عمران نسب نفسه إلى الأزد عند روح.(2/145)
ذلك لعبد الملك فقال: إن لي جارا من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبرا ولا شعرا إلا عرفه وزاد فيه، فقال: خبّرني ببعض أخباره فخبّره وأنشده فقال:
إن اللغة عدنانية، وإني لأحسبه عمران بن حطان، حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله:
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
أني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البريّة عند الله ميزانا
(قلبه الفقيه الطبريّ فقال:
يا ضربة من شقيّ ما أراد بها ... إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا
إني لأذكره يوما فألعنه ... إيها وألعن (1) عمران بن حطانا
قال محمد بن أحمد الطبيب يردّ على عمران بن حطان:
يا ضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البريّة عند الله إنسانا
إذا تفكّرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا)
فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح إلى عمران بن حطان فسأله عنه، فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان يمدح به عبد الرحمن بن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب. فرجع روح إلى عبد الملك فأخفره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، إذهب فجئني به، فرجع إليه فقال: إن أمير المؤمنين قد أحبّ أن يراك، قال عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك فامض فإني بالأثر. فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال عبد الملك: أما إنّك سترجع فلا تجده، فرجع وقد ارتحل عمران وخلف رقعة فيها:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ... قد ظنّ ظنّك من لخم وغسّان
__________
(1) إيها بكسر الهمزة منصوب منوّن وهي كلمة يراد بها الأمر بالسكون وقد ترد بمعنى التصديق والرضى بالشيء.(2/146)
حتى إذا خفته فارقت منزله ... من بعد ما قيل عمران بن حطان
قد كنت جارك حولا ما تروّعني ... فيه روائع من إنس ومن جان
حتى أردت بي العظمى فأدركني ... ما أدرك الناس من خوف بن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإنّ له ... في النائبات خطوبا ذات ألوان
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيّا فعدناني
لو كنت مستغفرا يوما لطاغية ... كنت المقدّم في سرّي وإعلاني
لكن أبت لي ايات مطهّرة ... عند الولاية في طه وعمران
ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحرث الكلابيّ أحد بني عمرو بن كلاب، فانتسب له أوزاعيا (1)، وكان عمران يطيل الصلاة. وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوما ممن راه عند روح بن زنباع فسلّم عليه فدعاه زفر فقال: من هذا؟ فقال: رجل من الأزد رأيته ضيفا لروح بن زنباع. فقال له زفر: يا هذا، أزديّا مرة وأوزاعيّا مرة، إن كنت خائفا آمنّاك وإن كنت فقيرا جبرناك. فلما أمسى هرب وخلّف في منزله رقعة فيها:
إن التي أصبحت يعيى (2) بها زفر ... أعيت عياء على روح بن زنباع
قال أبو العباس أنشدنيه الرياشي: (أعيا عياها على روح بن زنباع) وأنكره كما أنكرناه لأنه قصر الممدود، وذلك في الشعر جائز ولا يجوز مدّ المقصور:
ما زال يسألني حولا لأخبره ... والنّاس من بين مخدوع وخدّاع
حتى إذا انقطعت (3) عني وسائله ... كفّ السؤال ولم يولع بإهلاع
__________
(1) يقول ما الذي يعنيك من أمر هذا الشيخ الذي انتمى إلى الأوزاع، ما عليك إلّا أن تجيره وتنظر في شأنه ما دام مقيما عندك.
(2) إن التي أصبحت الخ يريد الحالة التي هو عليها وعنى بالأمر يعنى كرضى يرضى لم يهتد فيه لوجه مراده أو عجز عنه ولم يطق أحكامه يريد أن أمره أشكل على زفر ومن قبل أشكل على روح بن زنباع.
(3) حتى إذا انقطعت عني وسائله: يريد حتى إذا انقطعت به أسباب معرفة حالي وأيس منها.(2/147)
فاكفف كما كفّ عني إنني رجل ... إما صميم وإمّا فقعة (1) القاع
واكفف لسانك عن لومي ومسألتي ... ماذا تريد (2) إلى شيخ لأوزاع
أما الصّلاة فإني غير تاركها ... كلّ امرىء للذي يعني به ساع
أكرم بروح بن زنباع وأسرته ... قوم دعا أوّليهم للعلى داع
جاورتهم سنة في ما أسرّ به ... عرضي صحيح ونومي غير تهجاع
فاعمل فإنك منعيّ بواحدة ... حسب اللبيب بهذا الشيب من ناع
ثم ارتحل حتى أتى عمان فوجدهم يعظّمون أمر أبي بلال، ويظهرونه فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى أهل عمان. فارتحل عمران هاربا حتى أتى قوما من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات. وفي نزوله بهم يقول:
نزلنا بحمد الله في خير منزل ... نسرّ بما فيه من الانس والخفر
نزلنا بقوم يجمع الله شملهم ... وليس لهم عود سوى المجد يعتصر
من الأزد إنّ الأزد أكرم معشر ... يمانية طابوا إذا نسب البشر
فأصبحت فيهم امنا لا كمعشر ... أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر
أم الحيّ قحطان فتلكم سفاهة ... كما قال لي روح وصاحبه زفر
وما منهما إلا يسرّ بنسبة ... تقرّبني منه وإن كان ذا نفر
فنحن بنو الإسلام (2) والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر
من تفسير لفظة المثوى
قوله يا روح كم من أخي مثوى نزلت به قد مر تفسيره، يقال هذا أبو مثواي وللأنثى هذه أمّ مثواي، ومنزل الضيافة وما أشبهها المثوى. وكذلك قال المفسرون في قول الله عز وجل {أَكْرِمِي مَثْوََاهُ} (3) أي إضافته. ويقال من
__________
(1) فقعه: الرخوة من الكمأة.
(2) فنحن بنو الإسلام يريد أن الاسلام أبطل التعزي بعزاء الجاهلية وانتساب كل واحد إلى أبيه.
(3) سورة يوسف: الاية 21.(2/148)
هذا: ثوى يثوي ثويّا، كقولك مضى يمضي مضيّا. ويقال ثواء ومضاء كما قال:
طال الثّواء على رسم بيمؤود (1) ... أودى وكلّ جديد مرة مودي
وقوله فيه روائع من أنس ومن جان الواحدة رائعة، يقال: راعني يروعني روعا أي أفزعني. قال الله تعالى ذكره: {فَلَمََّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرََاهِيمَ الرَّوْعُ} (2)
ويكون الرائع الجميل، يقال: جمال رائع يكون ذلك في الرجل، والفرس، وغيرهما. وأحسب الأصل فيهما واحدا أنه يفرط حتى يروع. كما قال الله جل ثناؤه: {يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ} (3) للإفراط في ضيائه، والرائع مهموز وكذلك كل فعل من الثلاثة ما عينه واو أو ياء إذا كانت معتلة ساكنة تقول: قال يقول، وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، يعتلّ إسم الفاعل فيهمز موضع العين نحو قائل وبائع وخائف وهائب، فإن صحّت العين في الفعل صحت في إسم الفاعل، نحو عور الرجل، فهو عاور وصيد فهو صايد.
والصيد داء يأخذ في الرأس، والعينين والشؤون. وإنما صحّت في عور وحول وصيد لأنه منقول من أحولّ واعورّ وقد أحكمنا تفسير هذا في الكتاب المقتضب. وقوله:
يوما يمان إذا لا قيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيّا فعدناني
يريد أنا يوما يمان ولولا أن الشعر لا يصلح بالنصب لكان النصب جائزا على معنى. أتنقّل يوما كذا ويما كذا والرفع حسن جميل وهذا الشعر ينشد نصبا:
أفي السّلم أعيارا جفاء وغلظة (4) ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك
العوارك هنّ الحوائض. وكذلك قوله:
__________
(1) يمؤود: إسم موضع.
(2) سورة هود: الاية 74.
(3) سورة النور: الاية 43.
(4) جفاء وغلظة: نصبا على التميز يذكر أنهم في السلم غلاظ شداد على الناس وفي الحرب ضعاف أذلاء.(2/149)
أفي الولائم أولادا لواحدة ... وفي المحافل أولادا لعلّات
قال: العلّات سمّيت لأن الواحدة تعلّ بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب أتميميّا مرة وقيسيّا أخرى، وكذلك ان لم تستفهم وأخبرت قلت تميميا مرة علم الله وقيسيا أخرى أي تنتقل، ومن ثمّ قال له زفر بن الحرث: أزدّيا مرة وأوزاعيّا أخرى. والرفع على أنت جيّد بالغ.
وقوله في تفسير لفظة طاغية وباغية:
(لو كنت مستغفرا يوما لطاغية) يكون على وجهين لنفس طاغية والاخر للمذكر. وزاد الهاء للتوكيد والمبالغة. كما يقال: رجل راوية وعلّامة ونسّابة وكلاهما وجه، ويقال: جاءت طاغية الروم يراد الجماعة الطاغية. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1): تقتلك الفئة الباغية. وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الوليّ وفي القران العظيم: ما لكم من ولايتهم من شيء. والولاية مكسورة نحو السياسة والرياضة والإيالة وهي الولاية، واصله من الإصلاح، يقال اله يؤله أولا إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: قد ألنا وإيل علينا تأويل ذلك قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة يقول قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرّعيّة. وقوله: (حتى إذا ما انقضت مني وسائله) الوسائل واحدها وسيلة وهي الذّريعة والسبب.
يقال قد توسّلت إلى فلان، قال رؤبة بن العجّاج.
والناس إن فصّلتهم فصائلا ... كلّ إلينا يبتغي الوسائلا
وقوله لم يولع بإهلاعي أي بإفزاعي. وترويعي، والهلع من الجبن عند ملاقاة الأقران. يقال: نعوذ بالله من الهلع، ويقال: رجل هلوع إذا كان لا يصبر على خير ولا على شر حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق. قال
__________
(1) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لعمار بن ياسر رضي الله عنه.(2/150)
الله عز وجل: {إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (1) وقال الشاعر:
ولي قلب سقيم ليس يصحو ... ونفس ما تفيق من الهلاع
وقوله: (أما صميم وأما فقعة القاع) الصّميم الخالص من كل شيء يقال:
فلان من صميم قومه أي من خالصهم. وقال جرير لهشام بن عبد الملك:
وتنزل من أميّة حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصّميم
وقوله: وأما فقعة القاع، يقال لمن لا أصل له هو فقعة بقاع، وذلك لأن الفقعة لا عروق لها ولا أغصان، والفقعة الكمأة البيضاء ويقال حمام فقيع لبياضه. ومن ذلك قول الشاعر:
قوم إذا نسبوا يكون أبوهم ... عند المناسب فقعة في قرقر (2)
وقال بعض القرشيين:
إذا ما كنت متخذا خليلا ... فلا تجعل خليلك من تميم
بلوت صميمهم والعبد منهم ... فما أدنى العبيد من الصميم
وقوله نسرّ بما فيه من الأنس والخفر فأصل الخفر شدة الحياء يقال امرأة خفرة إذا كانت مستترة لإستحيائها. قال ابن نمير الثّقفيّ.
تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
وقوله إن الأزد أكرم أسرة، يقول عصابة وقبيلة ويقال للرجل من أسرة أنت، وأصل هذا من الاجتماع. يقال للقتب مأسور وقد مضى تفسيره وينشد (يمانية قربوا إذا نسب البشر) يريد قربوا وهذا جائز في كل شيء مضموم أو مكسور إذا لم يكن من حركات الإعراب، تقول في الاسماء في فخذ فخذ
__________
(1) سورة المعارج: الاية 19.
(2) قرقر: أرض مطمئنة لينة.(2/151)
وفي عضد عضد وتقول في الأفعال كرم عبد الله أي كرم وقد علم الله أي علم الله. قال الأخطل.
فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الإبل دبرت (1) صفحتاه وكاهله
وقال اخر:
عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان (2)
ولا يجوز في ضرب ولا في حمل أن يسكّن لخفة الفتحة. وقوله: أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر، يقول: أمن ربيعة أم من مضر، ويجوز في الشعر حذف ألف الإستفهام لأن أم التي جاءت بعدها تدل عليها. قال ابن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد أبسبع. وقال التميمي:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
الرواية على وجهين: أحدهما أمن ربيعة أم مضر أم الحيّ قحطان يريد أذا أم ذا والأصلح في الرواية من ربيعة أو مضر أم الحيّ قحطان، لأن ربيعة أخو مضر فأراد من أحد هذين أم الحيّ قحطان، لأنه إذا قال أزيد عندك أم عمرو؟ فالجواب نعم أو لإن أحد هذين عندك ومعنى الأول أيّهما عندك.
ويروى وحدثنية المازنيّ أن صفيّة بنت عبد المطّلب أتاها رجل فقال لها: أين الزّبير؟ قالت: وما تريد إليه؟ قال: أريد أن أباطشه (3). فقالت: ها هو ذاك:
فصار إلى الزبير فباطشه فغلبه الزبير فمرّ بها مغلولا فقالت صفية:
كيف رأيت زبرا (4) ... أأقطا أو تمرا ... أم قرشيا صقرا
__________
(1) دبرت بسكون الباء يريد دبرت بكسرها من الدبر محركا وهو قرقة تكون في ظهر البعير.
(2) لم يلده أبوان: أي بسكون اللام وتحريك الدال.
(3) أباطشه: أغاليه في البطش وهو الأخذ بالعنف والسطوة.
(4) يريد الزبير وهذا ترخيم.(2/152)
لم تشكك بين الاقط والتمر فتقول: أيّهما هو، ولكنها أرادت أرأيته طعاما أم قريشيا صقرا، أي أأحد هذين رأيته أم صقرا. ولو قالت: أأقطا أم تمرا كان محالا على هذا الوجه. وقوله: وما منهما إلّا يسرّ بنسبة معناه: وما منهما واحد، فحذف لعلم المخاطب. قال الله جل اسمه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ إِلََّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (1). أي وإن أحد، ومعنى إن معنى ما قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (2)
يريد فمنهما تارة وقوله:
فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالّه من شكر
يقول: انقطعت الولاية إلّا ولاية الإسلام، لأن ولاية الإسلام قد قاربت بين الغرباء. وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3). وقال عز وجل:
فباعد به بين القرابة {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صََالِحٍ} (4). وقال نهار ابن توسعة البشكريّ:
دعيّ القوم ينصر مدّعيه ... ليلحقه بذي الحسب الصميم
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
ويقال في ما يروى من الأخبار أن أول من حكّم عروة (5) ابن أديّة وأديّة جدة له جاهلية، وهو عروة ابن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة. وقال قوم: بل أول من حكّم رجل يقال له سعيد من بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، ولم يختلفوا في إجماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي، وأنه امتنع
__________
(1) سورة النساء: الاية 159.
(2) كدح يقال كدح في العمل سعى وعمل لنفسه خيرا أو شرا مع كد ومشقة.
(3) سورة الحجرات: الاية 10.
(4) سورة هود: الاية 46.
(5) إن أول من حكم: لعله يريد أول من أظهر قولهم لا حكم إلا لله ردا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تحكيمه الحكمين بينه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال علي حين سمعها كلمة حق أريد بها باطل.(2/153)
عليهم وأومأ إلى غيره فلم يقنعوا إلا به فكان إمام القوم، وكان يوصف بالرأي.
فأما أول سيف سلّ من سيوف الخوارج فسيف عروة ابن أدية [4] وذلك أنه أقبل على الأشعث فقال: ما هذه الدنيئة يا أشعث وما هذا التحكيم أشرط أوثق من شرط الله عز وجل، ثم شهر عليه السيف والإشعث مولّ فضرب به عجز البغلة فشبّت البغلة (1) فنفرت اليمانية وكانوا جلّ أصحاب عليّ صلوات الله عليه، فلما رأى ذلك الأحنف قصد هو وجارية بن قدامة ومسعود بن فدكيّ بن أعبد وشبث بن ربعيّ الرياحيّ إلى الأشعث، فسألوه الصفح ففعل. وكان عروة ابن أدية نجا من حرب النّهروان فلم يزل باقيا مدة من خلافة معاوية ثم أتي به زياد ومعه مولى له فسأله عن أبي بكر وعمر فقال خيرا، ثم سأله فقال:
ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفّان وأبي تراب علي بن أبي طالب فتولّى عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر، وفعل في أمر عليّ مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر. ثم سأله عن معاوية فسبه سبّا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال: أوّلك لزينة واخرك لدعوة وأنت بعد عاص لربك ثم أمر به فضربت عنقه، ثم دعا مولاه فقال: أأطنب أم أختصر، فقاله: بل اختصر فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط ولا فرشت له فراشا بليل قط. وكان سبب تسميتهم الحرورية أن عليا لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس رحمه الله إياهم، فكان مما قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم إن هذه مكيدة وهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني. ثم سألوني التحكيم أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني.
قالوا: اللهم نعم. قال فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه فاشترطت أنّ حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل، فإن خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني. قالوا: اللهم نعم وفيهم في ذلك الوقت ابن الكوّاء وهذا من قبل أن تذبحوا عبد الله بن خبّاب فإنما ذبحوه بكسكر في الفرقة الثالثة. فقالوا: حكّمت في دين الله برأينا ونحن
__________
(1) فشبت البغلة: أي رفعت يديها حتى كادت تلقيه على الأرض.(2/154)
مقرّون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشام. فقال: أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأة. فقال تبارك وتعالى:
{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهََا} (1). وفي صيد أصيب في الحرم كأرنب يساوي ربع دينار.
مناظرة علي للخوارج
فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوََا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) فقالوا: إن عمرا لما أبى عليك أن تقول في كتابك، هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين، محوت اسمك من الخلافة وكتبت عليّ بن أبي طالب. فقال لهم رضي الله عنه: لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو فقال: لو أقررنا بأنك رسول الله ما خالفناك ولكني أقدّمك لفضلك. ثم قال: أكتب محمد بن عبد الله فقال لي: يا علي امح رسول الله فقلت: يا رسول الله لا تسخو نفسي بمحو إسمك من النبوة فقال عليه السلام: قفني عليه فمحاه بيده صلى الله عليه وسلم. ثم قال: أكتب محمد بن عبد الله ثم تبسم إليّ فقال: يا عليّ أما أنك ستسام مثلها فتعطي. فرجع معه منهم ألفان من حروراء وقد كانوا تجمّعوا بها فقال لهم عليّ صلوات الله عليه: ما نسمّيكم. ثم قال: أنتم الحروريّة لاجتماعكم بحروراء والنّسب إلى مثل حروراء حروراويّ، فاعلم. وكذلك كل ما كان في اخره ألف التأنيث الممدودة، ولكنه نسب إلى البلد بحذف الزوائد فقيل الحروريّ وقال الصلتان العبديّ في كلمة له:
أرى أمّة شهرت (3) سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحيّ
__________
(1) سورة النساء: الاية 35.
(2) سورة المائدة: الاية 59.
(3) أرى أمة شهرت سيفها: ينعي على المسلمين هذه الفتن العظيمة التي وقعت فيهم وشقت عصاهم ومزقتهم شيعا حتى ذاق بعضهم بأس بعض.(2/155)
بنجديّة وحروريّة ... وأزرق يدعو إلى أزرقيّ
فملّتنا أننا المسلمون ... على دين صدّيقنا والنبيّ
وفي هذا الشعر مما يستحسن قوله:
أشاب الصغير وافنى الكبير ... مرور الليالي وكرّ العشيّ
إذا ليلة هرّمت (1) يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتيّ
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
قوله: (وقد زيد في سوطها الأصبحي)، فإنه تسمى هذه السياط التي يعاقب بها السلطان الأصبحية وتنسب إلى ذي أصبح الحميريّ وكان ملكا من ملوك حمير، وهو أول من اتخذها وهو جدّ مالك بن أنس الفقيه رضي الله عنه. والنّجدية تنسب إلى نجدة بن عويمر وهو عامر الحنفيّ وكان رأسا ذا مقالة منفردة من مقالات الخوارج، وقد بقي من أهلها قوم كثير، وكان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزّبير في جمعه في كل جمعة. وعبد الله يطلب الخلافة فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.
الراعي يخاطب عبد الملك
قال الراعي يخاطب عبد الملك.
إني حلفت على يمين برّة (2) ... لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت أبا خبيب (3) وافدا (4) ... يوما أريد ببيعتي تبديلا
__________
(1) إذا ليلة حرمت يومها الخ هذا على سبيل التمثيل والمجاز.
(2) يمين بره: صادقة وأبرها أمضاها على الصدق.
(3) أبو خبيب: كنيه عبد الله بن الزبير.
(4) وافدا: قادما.(2/156)
ولا أتيت نجيدة بن عويمر ... أبغى الهدى فيزيدني تضليلا
من نعمة الرحمن لا من حيلتي ... أني أعدّ له عليّ فضولا
وفي هذه القصيدة:
أخذوا العريف فقطّعوا حيزومه ... بالأصبحيّة قائما مغلولا
قوله أزرق يدعو إلى أزرقي، يريد من كان من أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكان نافع شجاعا مقدّما في فقه الخوارج. وله ولعبد الله ابن عباس مسائل كثيرة، وسنذكر جملة منها في هذا الكتاب إن شاء الله. وقوله:
(على دين صدّيقنا (1) والنبي)
فالعرب تفعل هذا، وهو في الواو جائز أن تبدأ بالشيء وغيره المقدّم. قال الله عزّ اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (2). وقال: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (3) وقال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرََّاكِعِينَ} (4). وقال حسان بن ثابت:
بهاليل (5) منهم جعفر وابن أمّه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
يعني بني هاشم
محاربة المهلب لأصحاب نافع بن الأزرق
ومن كلام العرب ربيعة ومضر وقيس وخندف وسليم وعامر وأصحاب نافع بن الأزرق هم ذوو الحدّ والجدّ وهم أحاطوا بالبصرة حتى ترحّل أكثر أهلها منها، وكان الباقون على الترحّل. فقلّد المهلّب حربهم فهزمهم إلى
__________
(1) صديقنا يريد الصديق أبا بكر رضي الله عنه وقدمه في الذكر على النبي لأن العرب تفعل هذا ثقة بعلم السامع أن النبي أفضل من أبي بكر.
(2) سورة التغابن: الاية 2.
(3) سورة الرحمن: الاية 33.
(4) سورة ال عمران: الاية 43.
(5) بهاليل: واحده بهلول بالضم وهو السيد الجامع لكل خير وجعفر هو بن أبي طالب ذو الجناحين قتيل مؤتة.(2/157)
الفرات ثم هزمهم إلى الأهواز، ثم أخرجهم عنها إلى فارس ثم أخرجهم إلى كرمان. وفي ذلك يقول شاعر منهم في هذه الحرب التي صاحبها صاحب الزنج بالبصرة يرثي البلد، يذكر المنقمة التي كانت لهم. (قال الأخفش، أنشدنيه يزيد المهلّبيّ لنفسه):
سقى الله مصرا خفّ أهلوه (1) من مصر ... وما الذي يبقى على عقب الدهر
ولو كنت فيه إذ أبيح حريمه (2) ... لمتّ كريما أو صدرت على عذر
أبيح فلم أملك له غير عبرة ... تهيب بها أن حاردت لوعة الصدر
ونحن رددنا أهلها إذ ترحّلوا ... وقد نظمت خيل الأزارق بالجسر
ومن يخش أطراف المنايا (3) فإننا ... لبسنا لهنّ السابغات (4) من الصبر
فإنّ كريه الموت عذب مذاقه ... إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منيّة ... أراحت من الدنيا ولم تخز في القبر
وفي هذا الشعر:
ليشكر بنو العباس نعمى تجدّدت ... فقد وعد الله المزيد على الشكر
لقد جنّبتكم أسرة حسدتكم ... فسلّت على الإسلام سيفا من الكفر
وقد نغّصتهم جولة بعد جولة ... يبيتون فيها المسلمين على ذعر
وقال عبد الله بن قيس الرقيّات:
ألا طرقت من أهل بيبة طارقه ... على أنها معشوقة الدلّ عاشقه
تبيت وأرض السّوس بيني وبينها ... وسولاف رستاق (5) حمته الأزارقه
__________
(1) سقى الله مصرا خف أهلوه: أي ارتحلوا عنه.
(2) ابيح حريمه: أي حل ما كان منه ممنوعا عن الناس. يقول لو كنت بهذا البلد حين ما فعل هذا الفعل لأبليت بلاء حسنا فأما أن أموت موت الكرام وأما أن أبلغ العذر في نفسي.
(3) أطراف المنايا: قطع المنايا وحما علتها واحدها طرف بالتحريك ومنه قوله تعالى {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ}.
(4) السابغات: من الصبر جننا ودروعا على طريق الاستعارة بالكناية والسابغة من السبوغ وهو التمام والشمول.
(5) الرستاق: بالضم. السواد والقرى: فارسية معربة.(2/158)
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة ... حروريّة أضحت من الدين مارقه
وكان مقدار من أصاب عليّ صلوات الله عليه منهم بالنهروان ألفين وثماني مائة في أصح الأقاويل، وكان عددهم ستة الاف. وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسرّ أمره، ولم يشهد الحرب، فخرج منهم رجل بعد أن قال عليّ رضوان الله عليه: إرجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خبّاب. فقالوا:
كلّنا قتله وشرك في دمه. ثم حمل منهم رجل على صفّ عليّ وقد قال عليّ: لا تبدؤهم بقتال، فقتل من أصحاب عليّ ثلاثة وهو يقول:
أقتلهم ولا أرى عليّا ... ولو بدا أوجرته (1) الخطّيّا
فخرج إليه عليّ صلوات الله عليه فقتله، فلما خالطه السيف قال: حبّذا الروحة إلى الجنة. فقال عبد الله بن وهب: ما أدري أإلى الجنة أم إلى النار. فقال رجل من سعد: إنما حضرت اغترارا بهذا وأراه قد شكّ فانخزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى ناحية أبي أيوب الأنصاري. وكان رحمه الله على ميمنة عليّ وجعل الناس يتسللون. وقد قال عليّ وقيل له إنهم يريدون الجسر. فقال: لن يبلغوا النطفة (2). وجعل الناس يقولون له في ذلك حتى كادوا يشكون. ثم قالوا: قد رجعوا يا أمير المؤمنين. فقال: والله ما كذبت ولا كذّبت (3). ثم خرج إليهم في أصحابه، وقد قال لهم: إنه والله ما يقتل منكم عشرة، ولا يفلت منهم عشرة. فقتل من أصحابه تسعة وأفلت منهم ثمانية. قال أبو العباس: وقيل أول من حكّم ولفظ بالحكومة ولم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مرّ من بني صريم يقال له الحجّاج بن عبد الله، ويعرف بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على أليته. فإنه
__________
(1) أوجره: الرمح: طعنه به في بطنه.
(2) النطفة بالضم الماء الصافي قل أو أكثر.
(3) ما كذبت أي في ما أخبرتكم به ولا كذبت بتخفيف الذال حينا لما لم يسم فاعله كأنه يشير بهذا إلى أنه أخبر بذلك من قبل.(2/159)
لما سمع بذكر الحكمين قال: أيحكّم في دين الله لا حكم إلا لله. فسمعه سامع فقال: طعن والله فأنفذ، وأوّل من حكّم بين الصفّين رجل من بني يشكر بن بكر بن وائل، فإنه كان من أصحاب عليّ، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة ثم مرق بين الصفين فحكّم وحمل على أصحاب معاوية فكثروه (1)، فرجع إلى ناحية عليّ صلوات الله عليه فحمل على رجل منهم، فخرج إليه رجل من همدان فقتله. فقال شاعر همدان:
ما كان أغنى اليشكريّ عن التي ... تصلّى بها جمرا من النار حاميا
غداة ينادي والرماح تنوشه (2) ... خلعت عليّا باديا (3) ومعاويا
وجاء في الحديث: أن عليا رضي الله عنه تلي بحضرته، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمََالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (4). فقال عليّ: أهل حروراء منهم. وروي عن عليّ صلوات الله عليه، أنه خرج في غداة يوقظ الناس للصلاة في المسجد، فمرّ بجماعة تتحدث فسلّم وسلّموا عليه فقال، وقبض على لحيته: ظننت أن فيكم أشقاها الذي يخضب هذه من هذه. وأومأ بيده إلى هامته ولحيته ومن شعر علي بن أبي طالب الذي لا اختلاف فيه أنه، وأنه كان يردّده أنهم لمّا ساموه أن يقرّ بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام. فقال: أبعد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتفقه في الدين أرجع كافرا:
يا شاهد الله عليّ فاشهد ... أني على دين النبي أحمد
(من شكّ في الله فإني مهتدي)
ويروى: (أني توليت وليّ أحمد)
__________
(1) فكثروه: أي زادوا عليه قوة وكثرة.
(2) الرماح تنوشه: أي تتناوله وتأخذه.
(3) باديا: معلنا ومجاهرا.
(4) سورة الكهف: الاية 103.(2/160)
حادثة الرجل الأسود مع رسول الله
ويروى أن رجلا أسود شديد بياض الثياب، وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم خيبر، لم تكن إلا لمن شهد الحديبيّة فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عدلت منذ اليوم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي الغضب في وجهه، فقال عمر بن الخطاب: ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انه سيكون لهذا ولاصحابه نبأ. وفي حديث اخر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل. ثم قال لأبي بكر:
اقتله، فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله رأيته راكعا. ثم قال لعمر أقتله فمضى ثم رجع فقال يا رسول الله رأيته ساجدا. ثم قال لعلي: أقتله. فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله لو قتل هذا ما اختلف إثنان في دين الله. قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التّيميّ قاضي البصرة في إسناد ذكره أن عليا رضي الله عنه وجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهيبة من اليمن فقسمها أرباعا فأعطى ربعا للاقرع بن حابس المجاشعيّ وربعا لزيد الخيل الطائيّ وربعا لعيينة بن حصن الفزاري وربعا لعلقمة بن علاثة الكلابيّ فقام إليه رجل مضطرب الخلق غائر العينين ناتىء الجبهة فقال: لقد رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورّد خدّاه ثم قال: أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني. فقام إليه عمر فقال:
أقتله يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم إنه سيكون من ضئضىء (1) هذا قوم يمرقون (2) من الدين كما يمرق السّهم من الرّميّة (3) تنظر في النّصل فلا ترى شيئا وتنظر في الرّصاف (4) فلا ترى شيئا وتتمارى في الفوق (5). وقوله صلى الله عليه وسلم: من ضئضىء هذا
__________
(1) ضئضىء: بالكسر الأصل يريد أن يخرج من نسله وعقبه.
(2) يمرقون: يخرقون الدين كالسهم يخرق الشيء المرمى به ويخرج منه.
(3) الرمية: الصيد الذي ترميه فتقصده وينفذ فيه سهمك.
(4) الرصاف: بالكسر، عقب يلوى على مدخل النصل في السهم ورصف السهم إذا شده به وواحد الرصاف. رصفه بالتحريك.
(5) الفوق: موضع الوتر من السهم يريد أنهم لم ينالوا شيئا من الدين في حاق الأمر ولكن إذا نظرت إلى صلاتهم وصيامهم وسمعت كلامهم دخلك شك فيهم.(2/161)
أي من جنس هذا يقال فلان من ضئضىء صدق ومن محتد صدق وفي مركّب صدق. وقال جرير للحكم بن أيّوب بن الحكم بن أبي عقيل وهو ابن عقيل وهو ابن عم الحجاج. وكان عامله على البصرة:
أقبلن من ثهلان أو وادي حيم ... على قلاص مثل خيطان السلم
إذا قطعن علما بدا علم ... حتى أنخناها إلى باب الحكم
خليفة الحجّاج غير المتّهم ... في ضئضىء المجد وبحبوح الكرم
ويقال مرق السّهم من الرمية: إذا نفذ منها، وأكثر ما يكون ذلك أن لا يعلق به من دمها شيء، وأقطع ما يكون السيف إذا سبق الدم. قال امرؤ القيس بن عابس الكنديّ.
وقد اختلس الضّربة ... لا يدمى لها نصلي
فأما ما وضعه الأصمعي (1) في كتاب الاختيار، فعلى غلط وضع، وذكر الأصمعي أن الشعر لاسحق ابن سويد الفقيه. وهو لأعرابي لا يعرف المقالات التي يميل إليها أهل الأهواء. أنشد الأصمعي:
برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزّال منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا عليّا ... يردّون السلام على السّحاب
ولكني أحبّ بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصّواب
رسول الله والصّدّيق حبّا ... به أرجو غدا حسن الثواب
فإن قوله من الغزال منهم يعني واصل بن عطاء. وكان يكنى أبا حذيفة.
وكان معتزليا ولم يكن غزالا، ولكنه كان يلقب بذلك لأنه كان يلزم الغزّالين ليعرف المتعفّفات من النساء فيجعل صدقته لهنّ. وكان طويل العنق، ويروى عن عمرو بن عبيد أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه فقال: لا يفلح هذا ما دامت عليه هذا العنق. وقال بشّار بن برد. يهجو واصل بن عطاء:
__________
(1) فأما وضعه الأصمعي كلام مغلق غامض لم يبين أبو العباس المراد منه.(2/162)
ماذا منيت (1) بغزّال له عنق ... كنقنق (2) الدّوّ (3) إن ولّى وإن مثلا
عنق الزّرافة ما بالي وبالكم ... تكفّرون رجالا أكفروا رجلا
ويروى لا بل كأنه لا يشكّ فيه أنّ بشّارا كان يتعصّب للنار على الأرض.
ويصوّب رأي إبليس لعنه الله في امتناعه من السجود لادم عليه السلام.
ويروى له:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
فهذا ما يرويه المتكلمون، وقتله المهديّ على الإلحاد. وقد روى قوم أن كتبه فتّشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به، وأصيب له كتاب فيه:
إني أردت هجاء ال سليمان بن عليّ فذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فأمسكت منهم. (إلا أني قلت):
دينار ال سليمان ودرهمهم ... كبابليّين حفا بالعفاريت
(لا يرجيان ولا يرجى نوالهما ... كما سمعت بهاروت وماروت)
بشار يهجو واصل بن عطاء
وحدثني المازنيّ قال: قال رجل لبشّار: أتأكل اللّحم وهو مباين لديانتك يذهب إلى أنه ثنويّ. قال: فقال بشّار: ليسوا يدرون أن اللحم يدفع عني شرّ هذه الظلمة. وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء فكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن بذاك لاقتداره وسهولة ألفاظه. ففي ذلك يقول شاعر من المعتزلة يمدحه بإطالته الخطب واجتنابه الراء على كثرة ترددها في الكلام. حتى كأنها ليست فيه:
عليم بابدال الحروف وقامع ... لكلّ خطيب يغلب الحقّ باطله
وقال اخر:
__________
(1) ماذا منيت أي قدر لي وابتليت به يريد أن ما ابتليت به شيء عظيم.
(2) النقنق: بالكسر الظليم النافر الخفيف.
(3) والدو: الفلاة.(2/163)
ويجعل البرّ قمعا في تصرّفه ... وخالف الراء حتى احتال للشّعر
ولم يطق مطرا (1) والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر
ومما يحكى عنه قوله: وذكر بشّارا أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله، أمّا والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلّا سدوسيّا أو عقيليّا. فقال هذا الأعمى: ولم يقل بشّارا ولا ابن برد ولا الضرير وقال: من أخلاق الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية. وقال: لبعثت، ولم يقل لأرسلت إليه. وقال: على مضجعه، ولم يقل على فراشه ولا مرقده. وقال: يبعج، ولم يقل: يبقر. وذكر بني عقيل لأن بشارا كان يتوالى إليهم، وذكر بني سدوس لأنه كان نازلا فيهم واجتناب الحروف شديد. قال ولما سقطت ثنايا عبد الملك قال: والله لولا الخطبة والنساء ما حفلت (2) بها. قال وخطب الجمحيّ وكان منزوع إحدى الثّنيّتين، وكان يصفر إذا تكلم فأجاد الخطبة. وكانت لنكاح فردّ عليه زيد بن علي ابن الحسين كلاما جيدا، إلا أنه فضله بتمكن الحروف وحسن مخارج الكلام.
فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يذكر ذلك:
صحّت مخارجها وتمّ حروفها ... فله بذاك مزيّة لا تنكر
المزية الفضيلة. وأما قوله: وابن باب فإنه عمرو بن عبيد بن باب. وكان مولى بني العدويّة من بني مالك بن حنظلة، فهذان معتزليان وليسا من الخوارج ولكن قصد إسحاق بن سويد إلى أهل البدع والأهواء. ألا تراه ذكر الرافضة معهما فقال:
ومن قوم إذا ذكروا عليا ... أشاروا بالسلام على السحاب
ويروى (يردون السلام على السحاب)
__________
(1) لم يطق: يريد له ما صعب عليه أن ينطق بهذا اللفظ والقول يعجله أسرع إلى ما يرادفه وهو الغيث وهذا من القدرة على الكلام بمكان.
(2) حفلت: اهتممت.(2/164)
عوده إلى الخوارج ومحاربة علي لهم
ثم نرجع إلى ذكر الخوارج. قال فلما قتل عليّ أهل النهروان، وكان بالكوفة زهاء ألفين ممن لم يخرج مع عبد الله بن وهب وقوم ممن استأمن إلى أبي أيوب الأنصاري، فتجمعوا وأمّروا عليهم رجلا من طيّء فوجّه إليهم عليّ صلوات الله عليه رجلا وهم بالنّخيلة فدعاهم ورفق بهم، فأبوا فعاودهم، فأبوا فقتلوا جميعا. فخرجت طائفة منهم نحو مكّة، فوجّه معاوية من يقيم للناس حجّهم فناوشه هؤلاء الخوارج.
اتفاق ثلاثة على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص
فبلغ ذلك معاوية، فوجه بسر ابن أرطاة أحد بني عامر بن لؤيّ، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب، بأن يصلي بالناس رجل من بين شيبة، لئلا يفوت الناس الحجّ. فلما انقضى نظرت الخوارج في أمرها، فقالوا: إن عليا ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقّه. وقال رجل من أشجع:
والله ما عمرو دونهما، وإنه لأصل هذا الفساد. فقال عبد الرحمن بن ملجم:
أنا أقتل عليا، فقالوا وكيف لك به. قال: أغتاله. فقال الحجاج بن عبد الله الصريميّ وهو البرك وأنا أقتل معاوية. وقال زاذويه مولى بني عمرو بن تميم:
وأنا أقتل عمرا، فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة، فجعلوا تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان. فخرج كل واحد إلى ناحية، فأتى ابن ملجم الكوفة فأخفى نفسه وتزوج أمرأة يقال لها قطام بنت علقمة من تيم الرباب، وكانت ترى رأي الخوارج، والأحاديث تختلف وإنما يؤثر صحيحها. ويروى في بعض الأحاديث أنها قالت: لا أقنع منك إلّا بصداق أسمّيه لك وهو ثلاثة الاف درهم وعبد وأمة وأن تقتل عليا، فقال لها: لك ما سألت فكيف لي به؟ قالت: تروم ذلك غيلة فإن سلمت أرحت الناس من شرّ وأقمت مع أهلك وإن أصبت سرت إلى الجنة ونعيم لا يزول فانعم لها. وفي ذلك يقول:
ثلاثة الاف وعبد وقينة ... وضرب عليّ بالحسام المصمّم
فلا مهر أغلى من عليّ وإن غلا ... ولا فتك ألا دون فتك ابن ملجم
وقد ذكروا أن القاصد إلى معاوية يزيد بن ملجم، والقاصد إلى عمرو اخر من بني ملجم، وأن أباهم نهاهم فلما عصوه قال: إستعدوا للموت، وأن أمهم حضّتهم على ذلك. والخبر الصحيح ما ذكرت لك أول مرة. فأقام ابن ملجم، فيقال أن امرأته قطام لامته وقالت: ألا تمضي لما قضدت لشدّ ما أحببت أهلك، قال: إني قد وعدت صاحبيّ وقتا بعينه. وكان هنالك رجل من أشجع يقال له شبيب فواطأه عبد الرحمن، ويروى أن الأشعث نظر إلى عبد الرحمن متقلدا سيفا في بني كندة فقال: يا عبد الرحمن أرني سيفك، فأراه فرأى سيفا حديدا فقال: ما تقلدك السيف وليس بأوان حرب؟ فقال: إني أردت أن أنحر به جزور القرية، فركب الأشعث بغلته وأتى عليا صلوات الله عليه. فخبّره، وقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه فقال علي: ما قتلني بعد، ويروى أن عليا رضوان الله عليه كان يخطب مرّة ويذكّر أصحابه وابن ملجم تلقاء المنبر فسمع وهو يقول: والله لأريحنّهم منك. فلما انصرف عليّ صلوات الله عليه إلى بيته أتي به ملبّيا فاشرف عليهم فقال: ما تريدون؟ فخبّروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد، فخلّوا عنه. ويروى أن عليا كان يتمثل إذا راه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي، والمشوح هبيرة، وإنما سمي بذلك لأنه ضرب على كشحه:(2/165)
ثلاثة الاف وعبد وقينة ... وضرب عليّ بالحسام المصمّم
فلا مهر أغلى من عليّ وإن غلا ... ولا فتك ألا دون فتك ابن ملجم
وقد ذكروا أن القاصد إلى معاوية يزيد بن ملجم، والقاصد إلى عمرو اخر من بني ملجم، وأن أباهم نهاهم فلما عصوه قال: إستعدوا للموت، وأن أمهم حضّتهم على ذلك. والخبر الصحيح ما ذكرت لك أول مرة. فأقام ابن ملجم، فيقال أن امرأته قطام لامته وقالت: ألا تمضي لما قضدت لشدّ ما أحببت أهلك، قال: إني قد وعدت صاحبيّ وقتا بعينه. وكان هنالك رجل من أشجع يقال له شبيب فواطأه عبد الرحمن، ويروى أن الأشعث نظر إلى عبد الرحمن متقلدا سيفا في بني كندة فقال: يا عبد الرحمن أرني سيفك، فأراه فرأى سيفا حديدا فقال: ما تقلدك السيف وليس بأوان حرب؟ فقال: إني أردت أن أنحر به جزور القرية، فركب الأشعث بغلته وأتى عليا صلوات الله عليه. فخبّره، وقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه فقال علي: ما قتلني بعد، ويروى أن عليا رضوان الله عليه كان يخطب مرّة ويذكّر أصحابه وابن ملجم تلقاء المنبر فسمع وهو يقول: والله لأريحنّهم منك. فلما انصرف عليّ صلوات الله عليه إلى بيته أتي به ملبّيا فاشرف عليهم فقال: ما تريدون؟ فخبّروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد، فخلّوا عنه. ويروى أن عليا كان يتمثل إذا راه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي، والمشوح هبيرة، وإنما سمي بذلك لأنه ضرب على كشحه:
أريد حباءه (1) ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
فينتفي من ذلك حتى أكثر عليه، فقال له المراديّ: إن قضي شيء كان.
فقيل لعلي كأنك قد عرفته وعرفت ما يريد بك أفلا تقتله؟ فقال: كيف أقتل قاتلي. فلما كان ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي فاعتور (2) الباب الذي يدخل منه عليّ رضي الله عنه وكان مغلّسا (3)
__________
(1) الحباء بالكسر العطاء بلا جزاء.
(2) اعتورا الباب: اختلفا عليه وتناوبا.
(3) مغلسا: يسير وقت الغلس وهو ظلمة اخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.(2/166)
ويوقظ الناس للصلاة فخرج كما كان يفعل فضربه شبيب فأخطأه وأصاب سيفه الباب، وضربه ابن ملجم على صلعته. فقال علي: فزت وربّ الكعبة، شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان بالمسجد من الأنصار قال: سمعت كلمة عليّ ورأيت بريق السيف. فأما ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له وتلقّاه المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب بقطيفة (1) فرمى بها عليه واحتمله فضرب به الأرض، وكان المغيرة أيّدا (2) فقعد على صدره. وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت وصرعه! وقعد على صدره، وكثر الناس فجعلوا يصيحون: عليكم صاحب السيف. فخاف الحضرميّ أن يكبّوا عليه ولا يسمعوا عذره، فرمى بالسيف وانسلّ شبيب بين الناس فدخل على عليّ رضوان الله عليه فأومر فيه فاختلف الناس في جوابه، فقال علي: إن أعش فالأمر إليّ وأن أصب فالأمر لكم فإن اثرتم أن تقتصّوا فضربة بضربة وإن تعفو أقرب للتقوى وقال قوم بل قال: وإن أصبت فاضربوه ضربة في مقتله، فأقام عليّ يومين فسمع ابن ملجم الرنّة من الدار فقال له من حضره: أي عدوّ الله إنه لا بأس على أمير المؤمنين. فقال: أعلى من تبكي أمّ كلثوم أعليّ أما والله لقد اشتريت سيفي بألف درهم وما زلت أعرضه فما يعيبه أحد إلّا أصلحت ذلك العيب، ولقد أسقيته السمّ حتى لفظه، ولقد ضربته ضربة لو قسمت على من بالمشرق لأتت عليهم. ومات عليّ صلوات الله ورضوانه عليه ورحمته في اخر اليوم الثالث فدعا به الحسن رضي الله عنه، فقال: إن لك عندي سرّا فقال الحسن رضوان الله عليه أتدرون ما يريد؟ يريد أن يقرب من وجهي فيعضّ أذني فيقطعها. فقال أما والله لو أمكنتني منها لاقتلعتها من أصلها. فقال الحسن: كلا والله لأضربنّك ضربة تؤدّيك إلى النار. فقال: لو علمت أن هذا في يديك ما اتخذت إلها غيرك، فال عبد الله بن جعفر يا أبا
__________
(1) القطيفة: قماش من المخمل.
(2) أيّدا: قويا.(2/167)
محمد ادفعه إليّ اشف نفسي منه. فاختلفوا في قتله فقال قوم أحمى له ميلين وكحله بهما فجعل يقول. إنك يا ابن أخي لتكحل عمّك بملمولين مضاضين (1)، وقال قوم: بل قطع يديه ورجليه، وقال قوم بل قطع رجليه وهو في ذلك يذكر الله عز وجل، ثم عمد إلى لسانه فشق ذلك عليه فقيل له لم تجزع من قطع يديك ورجليك ونراك قد جزعت من قطع لسانك! فقال: نعم أحببت أن لا يزال فمي يذكر الله رطبا. ثم قتله. ويروى: أن عليا رضي الله عنه أتي بابن ملجم وقيل له، إن قد سمعنا من هذا كلاما فلا تأمن قتله لك فقال: ما أصنع به؟ ثم قال عليّ رضوان الله عليه.
اشدد حيازيمك (2) للموت ... فإن الموت لاقيكا (3)
ولا تجزع من الموت ... إذا حلّ بواديكا
والشعر إنما يصح بأن تحذف أشدد فتقول:
حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا
ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى. ولا يعتدون به في الوزن ويحذفون من الوزن علما بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال حيازيمك للموت فقد أضمر اشدد فأظهره ولم يعتد به. قال وحدثني أبو عثمان المازني قال فصحاء العرب ينشدون كثيرا:
لسعد بن الضباب إذا غدا ... أحبّ إلينا منك فافرس (4) حمر (5)
وإنما الشعر: (لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا). وأما الحجاج بن عبد
__________
(1) مضاضين: مؤلمين أشد الالم.
(2) أبيات لعلي.
(3) الحيازيم: جمع حيزوم وهو الصدار أو وسطه وهذا الكلام كناية عن التشمير للأمر والاستعداد له.
(4) فأفرس: للمخاطب يا فم الفرس.
(5) الحمر: بكسر الميم من قولهم حمر الفرس كتعب تغيرت رائحة فمه.(2/168)
الله الصريمي وهو البرك فإنه ضرب معاوية مصلّيا فأصاب مأكمته (1) وكان معاوية عظيم الأوراك، فقطع منه عرقا يقال عرق النكاح، فلم يولد لمعاوية بعد ذلك ولد، فلما أخذ قال: الإنسان والبشارة قتل عليّ في هذه الصّبيحة. فاستؤني به حتى جاء الخبر، فقطع معاوية يده ورجله، فأقام بالبصرة فبلغ زيادا أنه قد ولد له فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له، فقتله. هذا أحد الخبرين ويروى أن معاوية قطع يديه ورجليه وأمر باتخاذ المقصورة (2) فقيل لابن عباس بعد ذلك: ما تأويل المقصورة؟ فقال: يخافون أن يبهظهم (3) الناس. وأما زاذويه فإنه أرصد (4) لعمرو واشتكى عمرو بطنه فلم يخرج للصلاة وخرج خارجة، وهو رجل من بني سهم بن عمرو بن هصيص رهط عمرو بن العاص فضربه زاذويه فقتله. فلما دخل به على عمرو فراهم يخاطبونه بالإمرة قال أو ما قتلت عمرا؟ قيل: لا إنما قتلت خارجة فقال: أردت عمرا والله أراد خارجة.
في رثاء علي بن أبي طالب
وقال أبو زبيد الطائيّ يرثي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.
إنّ الكرام على ما كان من خلق ... رهط امرىء خاره للدين مختار
طبّ بصير (5) بأضعان الرجال ولم ... يعدل بخبر رسول الله أخبار
وقطرة قطرت إذ حان موعدها ... وكلّ شيء له وقت ومقدار
حتى تنصّلها في مسجد طهر ... على إمام هدى إن معشر جاروا
حمّت ليدخل جنّات أبو حسن ... وأوجبت بعده للقاتل النار
__________
(1) أصاب مأكمته: هي لحمة على رأس الورك وهما اثنتان.
(2) المقصورة: الدار الواسعة المحصنة أو هي أصغر من الدار ولا يدخلها إلا صاحبها.
(3) يبهظهم الناس: يأخذوا بأذقانهم ولحاهم يعني بهذا معاوية وغيره ممن اتخذوا المقاصير خوفا على أنفسهم من الناس.
(4) أرصد لعمرو: أي أعد نفسه له وجلس على طريقه مترقبا خروجه.
(5) الطب بالفتح الحادق الماهر في علمه الذي لا يضع قدمه إلّا حيث يبصر.(2/169)
قوله: خاره إنما هو اختاره وهو فعله، واختاره إفتعله كما تقول قدر عليه، واقتدر عليه. وقوله: بصير بأضغان الرجال فهي أسرارها ومخبّاتها قال الله تعالى {فَيُحْفِكُمْ} [1] تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغََانَكُمْ (2)، والخبر العالم. ويروى أن عليا رضوان الله عليه مر بيهودي يسأل مسلما عن شيء من أمر الدين فقال له علي: اسألني ودع الرجل، فقال له: يا أمير المؤمنين أنت خبر، أي عالم.
قال عليّ أن تسأل عالما أجدى لك. وقوله: حتى تنصلها يريد استخراجها، قوله حمت معناه قدرت قال الكميت:
والوصيّ الذي أمال التّجو ... بيّ (3) به عرش أمّة لانهدام
قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه ... حكما لا كفابر الحمّام
الإمام الزّكيّ والفارس المع ... لم تحت العجاج غير الكهام
راعيا كان مسحجا (4) ففقدنا ... هـ وفقد المسيم (5) هلك السّوام (6)
قوله الوصي فهذا شيء كانوا يقولونه ويكثرون فيه. قال ابن قيس الرقيّات:
نحن منا النبيّ أحمد والصدّ ... يق منا التقيّ والحكماء
وعليّ وجعفر ذو الجناحين (7) ... هناك الوصيّ والشهداء
وقال كثيّر لما حبس عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفيّة في خمسة عشر رجلا من أهله في سجن عارم:
__________
(1) الإحفاء: الإستقصاء في السؤال والمبالغة فيه مع تردد وإلحاح.
(2) سورة محمد: الاية رقم 37.
(3) التجوبي: نسبة إلى تجوب قبيلة من حمير.
(4) مسحجا: حسن العفو.
(5) المسيم: الراعي الذي يسوم الماشية الراعية.
(6) السوام: الابل السائمة.
(7) ذو الجناحين: لقب جعفر بن أبي طالب، قاتل يوم مؤته حتى قطعت يداه وقتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إن الله قد أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء.(2/170)
تخبّر من لاقيت إنك عائذ ... بل العائد المحبوس في سجن عارم
وصيّ النبي المصطفى وابن عمّه ... وفكّاك أعناق وقاضي مغارم
أراد ابن وصيّ النبيّ والعرب تقيم المضاف إليه في هذا الباب مقام المضاف، كما قال الشاعر:
سبّحن من كاظمة الخصّ الخرب ... يحملن عبّاس بن عبد المطّلب
يريد ابن عباس، رضي الله عنه، وقال الفرزدق لسليمان بن عبد الملك:
ورثتم ثياب المجد فهي لبوسكم ... عن ابني مناف: عبد شمس وهاشم
يريد ابني عبد مناف. وقال أبو الأسود:
أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة والوصيّا
أحبهم لحب الله حتى ... أجيء إذا بعثت على هويّا
هوى أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا
(السوي والسواء: الذي قد سوّى الله خلقه، لا زمانة به ولا داء، وفي القران {فَتَمَثَّلَ لَهََا بَشَراً سَوِيًّا} (1)، وتقول: ساويت ذاك بهذا الأمر، أي جعلته مثلا له).
يقول الأرذلون، بنو قشير ... طوال الدهر ما تنسى عليّا
بنو عم النبيّ وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطىء إن كان غيا
(ويروى: ولست) وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلا فيهم فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة فقالوا: ما نحن ترميك، ولكن الله يرميك. فقال: كذبتم والله لو كان الله هو الذي يرميني لما أخطأني (وكان نقش خاتمه:
__________
(1) سورة مريم: الاية 17.(2/171)
يا غالبي حسبك من غالب ... إرحم علي بن أبي طالب
وقوله: غير الكهام. فالكهام الكليل من الرجال والسيوف، يقال: سيف كهام، وقوله:
راعيا كان مسجحا ففقدنا ... هـ، وفقد الميسيم هلك السوام
فالمسيم الذي يسيم إبله أو غنمه ترعى. وكذلك كل شيء من الماشية فجعل الراعي للناس كصاحب الماشية الذي يسيمها ويسوسها ويصلحها وفتى لم يرجع أمر الناس إلى واحد، فلا نظام لهم، ولا اجتماع لأمورهم: قال ابن قيس الرقيا:
أيها المشتهي فناء قريش ... بيد الله عمرها والفناء
إن تودّع من البلاد قريش ... لا يكن بعدهم لحيّ بقاء
لو تقفّى (1) ويترك الناس كانوا ... غنم الذّئب غاب عنها الرعاء
وقال الحميريّ يعني عليا رضوان الله عليه:
كان المسيم ولم يكن إلّا لمن ... لزم الطريقة واستقام مسيما
ولما سمع علي صلوات الله عليه نداءهم لا حكم إلّا الله قال: كلمة عادلة يراد بها جور، إنما يقولون لا إمارة ولا بد من إمارة برّة أو فاجرة.
من أوقاف علي رضي الله عنه
ورووا أن عليا رضي الله عنه لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله، وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر والبغيبغة، (2) وهذا غلط لأن وقفه لهذين الموضعين لسنتين من خلافته. حدثنا أبو محلّم محمد بن هشام في أسناد ذكره اخره كان أبو نيزر. وكان أبو نيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم. قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النّجاشيّ فرغب في الإسلام
__________
(1) لو تقفى: أي تهلك ويعفى أثرها.
(2) البغيبغة: ضيعة بالمدينة كثيرة النخل بها عين غزيرة كانت لال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/172)
صغيرا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم. وكان معه في بيوته. فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها عليه السلام. قال أبو نيزر: جاءني عليّ بن أبي طالب وأنا أقوم بالضّيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة فقال لي: عندك من طعام؟
فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين قرع من قرع الضّيعة صنعته باهالة (1)
سنخة (2). فقال: عليّ به. فقام إلى الربيع، وهو جدول فغسل يده ثم أصاب من ذلك شيئا ثم رجع إلى الربيع فغسل يديه بالماء حتى أنقاهما ثم ضم يديه كلّ واحدة منها إلى أختها وشرب بهما حسا من ماء الربيع، ثم قال: يا أبا نيزر إن الأكفّ أنظف الانية، ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول وانحدر في العين فجعل يضرب وأبطأ عليه الماء، فخرج وقد تفضّح (3) جبينه عرقا، فانتكف (4) العرق عن جبينه ثم أخذ المعول وعاد إلى العين فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم فانثالت كأنها عنق جزور فخرج مسرعا فقال: أشهد الله أنها صدقة، عليّ بدواة وصحيفة. قال:
فعجّلت بهما إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به عبد الله عليّ أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بهما وجهه حرّ النار يوم القيامة لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، الا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق لهما (5) وليس لأحد غيرهما. قال محمد بن هشام:
فركب الحسين رضي الله عنه دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار فأبى أن يبيع. وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار ولست بائعها بشيء.
__________
(1) الإهالة: بالكسر ما أذيب من الإلية والشحم.
(2) السنخة: المتغيرة الريح.
(3) تفضح جبينه عرقا أي عرقت أصول شعره ولم يبتل.
(4) فانتكف العرق: أي انقطع عنه.
(5) الطلق: الحلال.(2/173)
حديث علي مع الخوارج
وتحدث الزبيريون أن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم، وهو والي المدينة: أما بعد فإن أمير المؤمنين أحبّ أن يردّ الألفة ويسلّ السخيمة (1)، ويصل الرحم فإذا وصل إليك كتابي فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين وارغب له في الصداق. فوجّه مروان إلى عبد الله بن جعفر فقرأ عليه كتاب معاوية وأعلمه بما في ردّ الإلفة من صلاح ذات البين واجتماع الدّعوة. فقال عبد الله: إنّ خالها الحسين بينبع (2) وليس ممن يفتات (3) عليه بأمر فأنظرني إلى أن يقدم. وكانت أمّها زينب بنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فلما قدم الحسين ذكر ذلك له عبد الله بن جعفر فقام من عنده فدخل إلى الجارية، فقال: يا بنيّة ان ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب أحق بك ولعلك ترغبين في كثرة الصداق وقد نحلتك البغيبغات. فلما حضر القوم للإملاك تكلم مروان بن الحكم فذكر معاوية وما قصده من صلة الرحم وجمع الكلمة. فتكلم الحسين فزوّجها من القاسم، فقال له مروان: أغدرا يا حسين؟ فقال: أنت بدأت. خطب أبو محمد الحسن بن عليّ عليه السلام عائشة بنت عثمان بن عفّان واجتمعنا لذلك، فتكلمات أنت فزوجتها من عبد الله بن الزبير، فقال مروان: ما كان ذلك فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب فقال: أنشدك الله أكان ذاك، قال: اللهم نعم. فلم تزل هذه الضيعة في يدي بني عبد الله بن جعفر من ناحية أم كلثوم يتوارثونها حتى ملك أمير المؤمنين المأمون فذكر ذلك له، فقال: كلّا هذا وقف علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فانتزعها من أيديهم وعوّضهم عنها وردّها إلى ما كانت عليه. قال أبو العباس رجع الحديث إلى
__________
(1) السخيمة: الحقد في القلب.
(2) ينبع: كبنصر، حصن له عيون ونخيل وزروع بطريق حاج مصر.
(3) يفتات عليه: أي لا يقطع أمر دونه ولا يتصرف في شيء بغير أمره ولما ضمن الفعل معنى التغلب عدى بعلي.(2/174)
ذكر الخوارج وأمر عليّ بن أبي طالب، قال: يروى أن عليا في أوّل خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبديّ، وقد كان وجّهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثيّ مع عبد الله بن العباس فقال الصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشدّ إطاقة (1)؟ فقال: بيزيد بن قيس الارحبيّ. فركب عليّ إليهم إلى حروراء فجعل يتخللهم حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلّى فيه ركعتين ثم خرج فاتكأ على قوسه، وأقبل على الناس. ثم قال: هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة أنشدكم الله أعلمتم أحدا منكم كان أكره للحكومة مني، قالوا:
اللهم لا، قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني حتى قبلتها، قالوا: اللهم نعم، قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني؟ قالوا: إنا أتينا ذنبا عظيما فتبنا إلى الله فتب إلى الله منه واستغفره نعد لك. فقال عليّ: إني أستغفر الله من كل ذنب. فرجعوا معه وهم ستة الاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليا رجع عن التحكيم وراه ضلالا، وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع ويجبى المال فينهض إلى الشام، فأتى الأشعث بن قيس عليا عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا والإقامة عليها كفرا، فخطب عليّ الناس فقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن راها ضلالا فهو أضلّ. فخرجت الخوارج من المسجد فحكّمت، فقيل لعلي إنهم خارجون عليك، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون فوجّه إليهم عبد الله بن العباس فلما صار إليهم رحّبوا به وأكرموه، فرأى منهم جباها فرحة لطول السجود وأيديا كثفنات (2) الإبل عليهم قمص مرحّضة وهم مشمّرون. فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس؟ فقال:
جئتكم من عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمّه وأعلمنا بربه وسنّة نبيه ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيما حين حكّمنا الرجال في دين الله
__________
(1) إطاقة: أي تعلقا والماما.
(2) ثفنات الابل: جمع ثفنة بكسر الفاء وهي ما ولي الأرض من كل ذات أربع إذا بركت كالركنين وغيرهما ويحصل فيه غلظ من أثر البروك.(2/175)
فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله ما صدقتم أنفسكم، أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم وفي شقاق رجل وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال: فأنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا: نعم ولكن عليا محا نفسه من إمارة المسلمين! قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه وقد محا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه من النبوّة، وقد أخذ عليّ على الحكمين ألايجورا وان يجورا فعليّ أولى من معاوية وغيره. قالوا: إن معاوية يدّعي مثل دعوى عليّ. قال: فايّهما رأيتموه أولى فولّوه، قالوا: صدقت. قال ابن عباس: متى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة الاف فصلى بهم صلواتهم ابن الكوّاء وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث ابن ربعيّ الرياحيّ، فلم يزالوا على ذلك يومين حتى أجمعوا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبيّ. قال: ومضى القوم إلى النهروان (1) وكانوا أرادوا المضيّ إلى المداين. قال الأخفش كذا كان يقول المبرد النهروان بكسر النون والراء وإنما هو النّهروان بالفتح وأنشد للطرمّاح:
قلّ في شطّ نهروان قاضي).
قال أبو العباس: فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلما ونصرانيا فقتلوا المسلم وأوصوا بالنصراني، فقالوا: إحافظوا ذمّة نبيكم.
ولقيهم عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف ومعه امرأته وهي حامل:
فقالوا إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك. قال: ما أحيا القران فأحيوه وما أماته فأميتوه، فوثب رجل منهم على رطبة فوضعها في فيه، فصاحوا به، فلفظها تورّعا. وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض. فقال عبد الله بن خبّاب: ما عليّ منكم بأس إنّي لمسلم،
__________
(1) النهروان: بفتح النون وتثليث الراء ثلاث قرى أعلى وأوسط وأسفل من بين واسط وبغداد.(2/176)
قالوا له: حدّثنا عن أبيك قال، سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه يمسي مؤمنا ويصبج كافرا، فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل. قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا، قالوا: فما تقول في عليّ قبل التحكيم وفي عثمان ست سنين؟ فأثنى خيرا، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: أقول إن عليا أعلم بكتاب الله منكم وأشدّ توقّيا على دينه وأنفذ بصيرة، قالوا: إنك لست تتبع الهدى إنما تتبع الرجال على أسمائها، ثم قرّبوه إلى شاطىء النهر فذبحوه فامذقرّ دمه، أي جرى مستطيلا على دقّة. وساموا رجلا نصرانيا بنخلة له، فقال هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن قال: ما أعجب هذا أنقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا جنى نخلة!
غيلان بن خرشة عند زياد
ومن طريف أخبارهم أن غيلان بن خرشة الضبّيّ سمر ليلة عند زياد ومعه جماعة، فذكر أمر الخوارج فأنحى عليهم غيلان ثم انصرف بعد ليل إلى منزله فلقيه أبو مرداس ابن أديّة فقال له: يا غيلان قد بلغني ما كان منك الليلة عند هذا الفاسق من ذكر هؤلاء القوم الذين شروا أنفسهم وابتاعوا اخرتهم بدنياهم، ما يؤمّنك أن يلقاك رجل منهم أحرص والله على الموت منك على الحياة فينذ حضنيك (1) برمحه. فقال غيلان: لن ببلغك أني ذكرتهم بعد الليلة.
ومرداس تنتحله (2) جماعة من أهل الأهواء لقشفه (3) وبصيرته وصحة عبادته وظهور ديانته وبيانه، تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكرا لجور السلطان داعيا إلى الحق وتحتج له بقوله لزياد حيث قال على المنبر: والله لاخذنّ المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم. فقام
__________
(1) حضنيك: أي جنبيك مثنى حضن بالكسر ومنه قول أسيد بن حضير لعامر بن الطفيل أخرج بذمتك لا أنفذ حضينك.
(2) تنتحله جماعة أي تدعيه رئيسا لها وإماما عليها.
(3) لقشفه أي يبس عيشه ورثاثة حاله وتركه للتنظيف والغسل.(2/177)
إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام إذ يقول: {وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى أَلََّا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} (1). {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ََ ثُمَّ يُجْزََاهُ الْجَزََاءَ الْأَوْفى ََ} (2)، وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي! ثم خرج في عقب هذا اليوم والشيع (3) تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي صلوات الله عليه: أني لست أرى رأي الخوارج وما أنا إلا على دين أبيك.
وهذا رأي قد استهوى جماعة من الأشراف. يروى أن المنذر بن الجارود كان يرى رأي الخوارج وكان يزيد ابن أبي مسلم، مولى الحجّاج بن يوسف، يراه.
وكان صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق يراه، وكان عدّة من الفقهاء ينسبون إليه منهم عكرمة مولى ابن عباس، وكان يقال ذلك في مالك بن أنس.
ويروي الزبيريّون أن مالك بن أنس المدينيّ كان يذكر عثمان وعليا وطلحة والزّبير فقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر. فأما أبو سعيد الحسن البصريّ فإنه كان ينكر الحكومة ولا يرى رأيهم، وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحّم عليه ثلاثا ولعن قتلته ثلاثا ويقول: لو لم نلعنهم للعنّا. ثم يذكر عليا فيقول: لم يزل أمير المؤمنين عليّ رحمة الله يتعرّفه النصر ويساعده الظفر حتى حكم فلم تحكّم والحق معك، ألا تمضي قدما (4) لا أبا لك (5) وأنت على الحق. قال أبو العباس: وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها المسئلة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: أنظر في أمر رعيتك لا أبا
__________
(1) سورة الأنعام: الاية رقم 164.
(2) سورة النجم: الاية رقم 40.
(3) الشيع: جمع شيعة بالكسر وهي الفرقة من الناس وقد غلب هذا الاسم على كل من يزعم أنه يتولى عليا وأهل بيته رضي الله عنهم.
(4) الا تمضي قدما بضمتين: يريد الام تمضي فيها كنت فيه ولم تعرج على شيء. يقال مضى فلان قدما إذا لم يتحول عن وجهة سيره.
(5) لا أبا لك: جد في أمرك.(2/178)
لك. وسمع سليمان ابن عبد الملك رجلا من الاعراب في سنة جديبة يقول:
ربّ العباد ما لنا وما لكا ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا
(أنزل علينا الغيث لا أبا لكا)
فأخرجه سليمان أحسن مخرج. فقال: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة، وأشهد أن الخلق جميعا عباده.
وقال رجل من بني عامر بن صعصعة، أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه:
أبني عقيل لا أبا لابيكم ... أبيّ وأيّ بني كلاب أكرم
وقال رجل من طيّء أنشده أبو زيد الأنصاري:
يا قرط قرط حييّ لا أبا لكم ... يا قرط إني عليكم خائف حذر
أأن روى مرقش واصطاف أعنزه ... من التلاع التي قد جادها المطر
قلتم له اهج تميما لا أبا لكم ... في كف عبدكم عن ذاكم قصر
فإن بيت تميم ذو سمعت به ... فيه تنمّت وأرست عزّها مضر
قوله: يا قرط قرط حيي نصبهما معا أكثر على ألسنة العرب، وتأويلهما أرادوا يا قرط حيي فأقحموا قرطا الثاني توكيد. وكذلك لجرير:
يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم ... لا يلقننّكم في سوأة عمر
ومثله لعمر بن لجا:
يا زيد زيد اليعملات الذبّل ... تطاول الليل عليك فانزل
فإن لم ترد التوكيد والتكرير ولم يجز إلّا رفع الأول يا زيد زيد اليعملات ويا تيم تيم عدي كما تقول: يا زيد أخا عمرو على النعت. ومثل الأول في التوكيد يا بؤس للحرب، أراد يا بؤس الحرب فأقحم اللام توكيدا لأنها توجب الأضافة. وعلى هذا جاء: لا أبا لك، ولا أبا لزيد. ولولا الأضافة لم تثبت الألف في الأب لأنك تقول: رأيت أباك؟ فإذا أفردت قلت: هذا أب صالح،
وإنما كانت لا أباك كما قال الشاعر:(2/179)
يا زيد زيد اليعملات الذبّل ... تطاول الليل عليك فانزل
فإن لم ترد التوكيد والتكرير ولم يجز إلّا رفع الأول يا زيد زيد اليعملات ويا تيم تيم عدي كما تقول: يا زيد أخا عمرو على النعت. ومثل الأول في التوكيد يا بؤس للحرب، أراد يا بؤس الحرب فأقحم اللام توكيدا لأنها توجب الأضافة. وعلى هذا جاء: لا أبا لك، ولا أبا لزيد. ولولا الأضافة لم تثبت الألف في الأب لأنك تقول: رأيت أباك؟ فإذا أفردت قلت: هذا أب صالح،
وإنما كانت لا أباك كما قال الشاعر:
أبا لموت الذي لا بدّ أنّي ... ملاق لا أباك تخوّفيني
وقال اخر:
وقد مات شمّاخ ومات مزرّد (1) ... وأيّ كريم لا أباك تخلّد
وقوله: إن روى مرقش رجل، وروى استقى لاهله يقال: فلان راوية أهله إذا كان يستقي لأهله، والتي على البعير والحمار مزادة (2). فإذا كبرت وعظمت وكانت من ثلاثة ادمة فهي المثلّثة، وأصغر منها السّطيحة وأصغرهنّ الطبع.
وقوله: واصطاف أعنزه، يريد افتعلت من الصيف أي أصابت البقل فيه.
والتّلعة ما ارتفع من الأرض في مستقرّ المسيل إذا تجافى السيل عن متنه، وجمعه تلاع. وقوله: ذو سمعت به، يريد الذي (3). وكذلك تفعل طيء تجعل ذو في معنى الذي. قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال:
(إنّي أرى في عامر ذو ترون). وقال عارق الطائيّ:
فإن لم يغيّر بعض ما قد فعلتم ... لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه
يريد الذي. ومن ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا اعتمادا ألّا يثار لغة قومه.
من الخمريات
قال الحسن بن هانىء الحكميّ:
حبّ المدامة ذو سمعت به ... لم يبق فيّ لغيرها فضلا
__________
(1) شماخ ومزرد شاعران صحابيان.
(2) المزادة: الظرف الذي يحمل فيه الماء كالراوية والقربة والسطيحة ولا تكون إلا من جلدين ونصف أو ثلاثة جلود.
(3) يريد الذي يعني أن ذو عند طيء بمعنى الذي.(2/180)
وقال حبيب بن أوس الطايّي:
أنا ذو (1) عرفت فإن عرتك جهالة ... فأنا المقيم قيامة العذّال
وقال الحسن بن وهب الحارثي:
علّلاني (2) بذكرها علّلاني ... واسقياني أولا فمن تسقيان
أنا ذو لم يزل يهون (3) على الند ... مان إن عزّ جانب الندمان
ويكون العزيز في ساعة الرو ... ع بصدق الطعان يوم الطعان
عودة إلى الخوارج
عاد الحديث إلى ذكر الخوارج. قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد (4) واحتجاج على كثرة خطبائهم وشعرائهم ونفاذ بصيرتهم وتوطين أنفسهم على الموت. فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح، فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: وعجلت إليك ربّ لترضى. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما وصفهم قال: سيماهم التحليق يقرؤون القران لا يجاوز تراقيهم علامتهم رجل مخدج اليد. (5) وفي حديث عبد الله بن عمرو، رجل يقال له: عمرو ذو الخويصرة أو الخنيصرة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نظر إلى رجل ساجد إلى أن صلى النبي عليه السلام. فقال: ألا رجل يقتله؟ فحسر أبو بكر عن ذراعه، وانتضى السيف وصمد نحوه. ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أأقتل رجلا يقول:
__________
(1) أنا ذو عرفت: يريد أبو تمام أنا الذي لا أجهل ولا أخفى على أحد وبي ضربت الأمثال.
(2) عللاني: من العلل محركا وهو الشرب الثاني يريد كررا علي ذكرها مرة بعد أخرى والضمير للخمر.
(3) أنا ذو لم يزل: يريد أنا الذي لم يزل جانبي سهلا لمن يناديني ويشرب معي إذا عز جانب النديم.
(4) اللدد: محركا الخصومة الشديدة.
(5) مخدج اليد: أي في خلقها نقص يقال أخدجت الناقة إذا ولدت ولدا ناقص الخلق وإن كان لتمام الحمل، وخدجت إن القت ولدها قبل أوانه كان تمام الخلق.(2/181)
لا إله إلّا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا رجل يفعل، ففعل عمر مثل ذلك. فلما كان في الثالثة قصد له عليّ بن أبي طالب عليه السلام: فلم يره. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قتل لكان أول فتنة واخرها.
ويروى عن أبي مريم، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ذكر المخدّج عند النبي عليه السلام، فقال أبو مريم: والله إن كان معنا لفي المسجد. وكان فقيرا وكان يحضر طعام عليّ إذا وضعه للمسلمين، ولقد كسوته برنسا لي. فلما خرج القوم إلى حروراء، قلت: والله لأنظرن إلى عسكرهم، فجعلت أتخللهم حتى صرت إلى ابن الكوّاء وشبث بن ربعيّ ورسل عليّ تناشدهم، حتى وثب رجل من الخوارج على رسول لعلي، فضرب دابته بالسيف. فحمل الرجل سرجه وهو يقول إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم انصرف القوم إلى الكوفة فجعلت أنظر إلى كثرتهم كأنما ينصرفون من عيد، فرأيت المخدج. وكان مني قريبا فقلت: أكنت مع القوم.
فقال: أخذت سلاحي أريدهم. فإذا بجماعة من الصّبيان قد عرضوا لي فأخذوا سلاحي وجعلوا يتلاعبون بي. فلما كان يوم النهر قال علي: اطلبوا المخدج فطلبوه فلم يجدوه حتى ساء ذلك عليا، وحتى قال رجل: لا والله يا أمير المؤمنين ما هو فيهم. فقال عليّ: والله ما كذبت ولا كذبت، فجاء رجل فقال: قد أصبناه يا أمير المؤمنين. فخر عليّ ساجدا وكان إذا أتاه ما يسرّ به من الفتوح سجد. وقال: لو أعلم شيئا أفضل منه لفعلته. ثم قال: سيماه أن يده كالثدي عليها شعرات كشارب السنّور، إيتوني بيده المخدجة فأتوه بها فنصبها.
في تفسير الايات القرانية
ويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق الحنفي وإلى نظره وتوغّله وتعمّقه فقال: إني لأجد لجهنم سبعة أبواب وأنّ أشدّها حرّا للخوارج فاحذر أن تكون منهم. قال، وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله فله عنه مسائل من القران وغيره قد رجع إليه في تفسيرها فقبله
وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة ونحن ذاكرون منها صدرا إن شاء الله. حدّث أبو عبيدة معمر بن المثنّى التيميّ النسابة عن أسامة بن زيد عن عكرمة قال:(2/182)
ويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق الحنفي وإلى نظره وتوغّله وتعمّقه فقال: إني لأجد لجهنم سبعة أبواب وأنّ أشدّها حرّا للخوارج فاحذر أن تكون منهم. قال، وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله فله عنه مسائل من القران وغيره قد رجع إليه في تفسيرها فقبله
وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة ونحن ذاكرون منها صدرا إن شاء الله. حدّث أبو عبيدة معمر بن المثنّى التيميّ النسابة عن أسامة بن زيد عن عكرمة قال:
رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله ويطلب منه الاحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّيْلِ وَمََا وَسَقَ} (1).
فقال ابن عباس: وما جمع فقال: أتعرف ذلك العرب، قال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز:
إنّ لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات (2) لو يجدن سائقا
هذا قول ابن عباس، وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح ويعرض القول فيحتاج المبتدىء إلى أن يزداد في التفسير. قوله: حقائقا، إنما بني الحقّة من الإبل، وهي التي قد استحقت أن يجمل عليها على فعيلة مثل حقيقة ولذلك جمعها على حقائق. ويقال استوسق القوم، إذا اجتمعوا. وروى أبو عبيدة في هذا الاسناد وروى ذلك غيره. وسمعناه من غير وجه أنه سأله عن قوله عز وجل: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (3) فقال ابن عباس. هو الجدول فسأله عن الشاهد فأنشده:
سلما ترى الدالج منها أزورا (4) ... إذا يعجّ في السّريّ هرهرا (5)
السلم الدلو الذي له عروة واحدة، وهو دلو السّقّائين وهو الذي ذكره طرفة فقال!
لها مرفقان أفتلان (6) كأنما ... أمرّا بسلمى دالج متشدّد
__________
(1) سورة الانشقاق: الاية 17.
(2) مستوسقات: وسقت بالاحمال.
(3) سورة مريم: الاية 24.
(4) أزور أي مائل.
(5) هرهر الماء إذا جرى وسمع لجريه صوتا.
(6) افتلان: من الفتل بالتحريك وهو اندماج في مرفق الناقة.(2/183)
والدالج الذي يمشي بالدلو بين البئر والحوض. وأصحاب الحديث ينشدون «ترى الدالي منه أزورا»، وهذا خطأ لا وجه له. وروى أبو عبيدة وغيره أن نافعا سأل ابن عباس عن قوله: عتلّ بعد ذلك زنيم، ما الزنيم، قال: هو الدعيّ الملزق، أما سمعت قول حسّان بن ثابت:
زنيم تداعاه (1) الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
ويزعم أهل اللغة أن اشتقاق ذلك من الزنمة التي بحلق الشاة، كما يقولون لمن دخل في قوم ليس منهم زعنفة (الأمّ زعنفة بالكسر) وللجمع زعانف، والزعنفة الجناح من أجنحة السمك. (قال أبو الحسن الأخفش: كذا قال زعنفة. والناس كلهم يقولون زعنفة بكسر الزاي، وهو الوجه) ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ} (2) قال الشدّة بالشدّة. فسأله عن الشاهد فأنشده:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمرا
هجاء جرير للمهلب
قال أبو العباس: وقرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قصيدة جرير التي يهجو فيها ال المهلّب بن أبي صفرة ويمدح هلال بن أحوز المازنيّ، ويذكر الوقعة التي كانت لهم عليهم بالهند في سلطان يزيد بن عبد الملك بسبب خروج يزيد بن المهلب عليه:
أقول لها من ليلة ليس طولها ... كطول الليالي ليت صبحك نوّرا
أخاف على نفس ابن أحوز انه ... جلا حمما (3) فوق الوجوه فأسفرا
__________
(1) الزنيم: الدّعيّ في النسب الملحق بالقوم وليس منهم تشبيها بالزنمة محركا وهي شيء يقطع من أذن الشاة ويترك معلقا بها.
(2) سورة القيامة: الاية 29.
(3) الحمم كصرد جمع حممة وهي الفحمة.(2/184)
(قال الشيخ أبو يعقوب الذي رويت في شعر جرير:
حذارا على نفس ابن أحوز انه ... جلا كلّ وجة من معدّ فأسفرا
وقوله: عدي، يعني عدي بن أرطاة الفزاري قتله معاوية بن يزيد بن المهلب بواسط. وكان عامل عمر بن عبد العزيز رحمه الله).
جعلت لقبر للخيار ومالك ... وقبر عديّ في المقابر أقبرا
ويروى للخيار وواسط: الخيار موضع بعمان فيه قبر الخيار بن سبرة المجاشعيّ وواسط بها عديّ بن أرطاة الفزاريّ):
وأطفأت نيران المزون وأهلها ... وقد حاولوها فتنة (1) أن تسعّرا
(المزون عمان بالفارسية):
فلم تبق منهم راية يعرفونها ... ولم تبق من ال المهلب عسكرا
ألا ربّ سامي الطرف من ال مازن ... إذا شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
فهذا نظير ذلك، والمزون عمان. قال الكميت:
فأما الأزد أزد أبي سعيد ... فأكره أن أسمّيها المزونا
وقال اخر يعني الحرب:
فإن شمّرت لك عن ساقها ... فويها حذيف ولا تسأم
(نقول ويها لزيد إذا زجرته عن الشيء فأغريته به، وواها له إذا تعجبت منه، وحذيف يريد حذيفة فرّخم).
حوار نافع بن الأزرق وابن عباس
ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبيّ الله سليمان صلى الله عليه وسلم مع ما خوّله الله وأعطاه كيف عني بالهدهد (2)
__________
(1) حاولوها فتنة: حاولوا اشعال الحرب وتسعيرها لأجل الفتنة.
(2) كيف عني بالهدهد: يقال اعتنى فلان بكذا وعني به على ما لم يسم فاعله إذا اهتم به.(2/185)
على قلته وضؤولته، فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء والهدهد قنّاء (1)
الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك. قال ابن الأزرق: قف يا وقّاف، كيف يبصر ما تحت الأرض والفخّ يغطّى له بمقدار اصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر (2)! ومما سأله عنه: {الم ذََلِكَ الْكِتََابُ} (3)، فقال ابن عباس: تأويله هذا، القران هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهدا عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله ألا بشاهد. وتقديره عند النحويين إذا قال ذلك الكتاب أنهم قد كانوا وعدوا كتابا. هكذا التفسير كما قال جل ثناؤه: {فَلَمََّا جََاءَهُمْ مََا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (4). يعني بذاك اليهود، وقال: يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقّعونه.
وبيت خفاف ابن ندبة على ذلك يصح معناه. وكان من خبره أنه غزا مع معاوية بن عمرو أخي خنساء مرّة وفزارة فعمد ابنا حرملة دريد وهاشم المريّان عمد معاوية (5). فاستطرد له أحدهما فحمل عليه معاوية فطعنه وحمل الاخر على معاوية فطعنه متمكنا، وكان صميم الخيل. فلما تنادوا: قتل معاوية! قال خفاف بن ندبة وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير أحد بني سليم بن منصور قتلني الله إن رمت حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار، وهو سيد بني شمخ بن فزارة فطعنه فقتله. فقال خفاف بن ندبة:
وإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عيني تيمّمت مالكا
وقفت له علوى وقد خام (6) صحبتي ... لأبني مجدا أو لأثأر هالكا
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا
__________
(1) الهدهد قناء: أي عالم بمواضع الماء في الأرض.
(2) عشي البصر: ساء وضعف.
(3) سورة البقرة: الاية رقم 21.
(4) سورة البقرة: الاية 89.
(5) عمد: أي فعل مثل فعله.
(6) خام: أي نكص.(2/186)