«الإهداء»
بسم الله الرحمن الرحيم إلى علماء الأندلس الخالدين الذين أسهموا في إغناء علم الأصوات العربي:
مكي، مؤلف كتاب (الرعاية لتجويد القراءة) (ت 437هـ).
وأبي عمرو الداني، مؤلف كتاب (التحديد في الإتقان والتجويد) (ت 444هـ).
وعبد الوهاب القرطبي، مؤلف كتاب (الموضح في التجويد) (ت 462هـ).
وشريح الرعيني الإشبيلي، مؤلف كتاب (نهاية الإتقان في تجويد القرآن) (ت 539هـ).
وابن الطحان الإشبيلي، مؤلف كتاب (الإنباء في تجويد القرآن) (ت حوالي 560هـ).
وابن الناظر الغرناطي، مؤلف كتاب (الترشيد في علم التجويد) (ت 679هـ).
إلى هؤلاء أهدي رسالتي.
اعترافا بفضلهم واعتزازا بأعمالهم وتجديدا لذكراهم(1/4)
اعترافا بفضلهم واعتزازا بأعمالهم وتجديدا لذكراهم
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فإن المتأمل لا يخطئ ملاحظة أمرين:
الأول: أن أكثر أصول هذا الكتاب كان مخطوطا وقت كتابته وظهوره في طبعته الأولى، واليوم والكتاب يظهر في طبعته الثانية فإن أكثر تلك الأصول قد حقّق ونشر، والحمد لله.
والأمر الآخر: ظهور دراسات وأبحاث قامت حول جهود عدد من علماء التجويد الصوتية، بالإضافة إلى ما ظهر من كتب علم الأصوات اللغوية في السنوات الأخيرة.
وبان لي أن متابعة معطيات ذينك الأمرين، مع ما استجد عندي من ملاحظات أمر يصعب استيعابه في هذه الطبعة، ومن ثم فإني آثرت أن يظهر الكتاب بصورته التي ظهر بها في طبعته الأولى، ولكني حاولت متابعة ما استجد لدي من ملاحظات أو أفكار حول الموضوع في أعمال أخرى، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، هو حسبنا ونعم الوكيل.
المؤلف 10/ 8/ 2001 تكريت(1/5)
المؤلف 10/ 8/ 2001 تكريت
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
فإن اللغة العربية قد حظيت بجهود كبيرة من أجل المحافظة على نطقها بريئا من شوائب اللحن، نقيا من مظاهر اللكنة، وارتبطت تلك الجهود ببزوغ شمس الإسلام في بلاد العرب، وكان ظهور القرآن الكريم سببا في نشأة علوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل، منها علوم اللغة التي اتسمت بالشمول لكل جوانب الدرس اللغوي المعروفة: الأصوات، والصرف، والنحو، والمعجم.
وكانت جهود علماء العربية مثل الخليل وسيبويه وابن جني في دراسة الأصوات اللغوية يشار إليها دائما في عصرنا على أنها من الإنجازات المتميزة في الدرس اللغوي، وقامت حولها دراسات ليست قليلة، ولكن أحدا من المشتغلين بدراسة الأصوات العربية من المحدثين لم يلتفت إلى كتب علم التجويد التي تتضمن دراسة للأصوات اللغوية لا تقل في أهميتها عن جهود علماء العربية، فلم يستخدم أحد منهم تلك الكتب، فظلت مهملة وظلت مادتها مجهولة، مما حرم الدرس الصوتي العربي من مصدر غني وأصيل.
وكانت هذه القضية، وأعني بها إهمال دارسي الأصوات العربية المحدثين لكتب علم التجويد وعدم الاستفادة منها في أبحاثهم، قد لفتت نظري منذ عدة سنوات، وصرت أتتبع كتب علم التجويد المطبوعة، وأجمع منها ما تقع عليه يدي. وقد انتهيت من ذلك التتبع إلى نتيجة تتلخص في أن كتب علم التجويد المتداولة في أيدي الناس في زماننا معظمها من الكتب المتأخرة أو الحديثة التأليف، التي يغلب عليها إيجاز العبارة غالبا وغموضها أحيانا، مما لا يشجع المشتغلين بعلم الأصوات على دراستها والاستفادة منها.
وبعد أن انتهيت إلى تلك النتيجة طمحت نفسي إلى معرفة كتب علم التجويد القديمة، وقد أخذ ذلك مني سنوات أخرى من البحث والتتبع في فهارس المخطوطات، حتى وقفت
على أسماء عشرات من تلك الكتب، وحصلت على بعض مخطوطاتها، وقد فتحت لي هذه الخطوة عدة جوانب للبحث تتراوح بين البحث في تاريخ علم التجويد والتعريف بكتبه القديمة المجهولة لدى المعاصرين، والعمل على تحقيق بعض تلك الكتب.(1/7)
وبعد أن انتهيت إلى تلك النتيجة طمحت نفسي إلى معرفة كتب علم التجويد القديمة، وقد أخذ ذلك مني سنوات أخرى من البحث والتتبع في فهارس المخطوطات، حتى وقفت
على أسماء عشرات من تلك الكتب، وحصلت على بعض مخطوطاتها، وقد فتحت لي هذه الخطوة عدة جوانب للبحث تتراوح بين البحث في تاريخ علم التجويد والتعريف بكتبه القديمة المجهولة لدى المعاصرين، والعمل على تحقيق بعض تلك الكتب.
وحاولت أن أقدّم خلاصة ذلك التتبع والبحث إلى المهتمين بعلم التجويد والمشتغلين بدراسة الأصوات العربية، فكتبت بحثا عن (علم التجويد: نشأته ومعالمه الأولى) (1). ولم يتوقف اهتمامي بكتب علم التجويد عند هذا الحد، فكان يشغلني التفكير بالقيام بعمل كبير هو تقديم بحث عن (الدراسات الصوتية عند علماء التجويد)، ولكن كانت تحول دون القيام بهذا العمل عقبات تتمثل في حاجته إلى الوقت الطويل والتفرغ التام، وتتمثل في صعوبة الحصول على مصادره التي لا يزال معظمها مخطوطا ومفرقا في بلدان العالم.
وكان التحاقي للدراسة بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة بغداد قد وفر لي الوقت الكافي للشروع في ذلك العمل، وقد حصلت الموافقة من القسم على أن يكون موضوع رسالتي لنيل درجة الدكتوراة عن (الدراسات الصوتية عند علماء التجويد). ومن ثمّ أخذت بجمع المصادر المتصلة بالموضوع، ووقفت على كثير منها في مكتبات العراق، وطلبت عددا منها من مكتبات البلدان الأخرى، حتى تجمع لديّ ما يمكن معه القيام بالبحث على نحو مقبول.
وبعد أن انتهيت من جمع المادة ومراجعتها شرعت في الكتابة على أساس خطة تقسم البحث إلى ثلاثة فصول، وضممت إليها ثلاثة ملحقات تعالج موضوعات لا تندرج بشكل مباشر في الفصول الثلاثة.
وقد درست في الفصل الأول (مصادر الدراسة الصوتية عند علماء التجويد) فجاء هذا الفصل في خمسة مباحث، تحدثت في المبحث الأول عن نشأة علم التجويد وبدء التأليف فيه. وقدمت في المبحث الثاني قائمة تتضمن أشهر كتب هذا العلم من لدن ظهور التأليف فيه إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري. وبينت في المبحث الثالث الفكرة التي تستند إليها الدراسة الصوتية عند علماء التجويد، وهي تدور حول اجتناب اللحن الخفي. ووقفت في المبحث الرابع عند منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات اللغوية، وبينت أهم خصائص
__________
(1) نشر في مجلة كلية الشريعة في جامعة بغداد سنة 1400هـ 1980م، في العدد السادس (ص 331 396).(1/8)
ذلك المنهج، وختمت الفصل بمبحث عن صلة علم التجويد بعلوم القرآن وعلم اللغة.
إن الأصوات اللغوية تظهر في الاستخدام الحي للغة على شكل مجموعات يضمها الكلام (أو التركيب) ولكن متطلبات الدراسة تقتضي النظر إلى الأصوات من خلال مستويين، المستوى الأول: أن تجرد عن التركيب وتدرس مفردة لمعرفة طريقة نطقها بتحديد مخارجها وصفاتها، والمستوى الثاني: أن تدرس وهي في التركيب لمعرفة ما يلحق خصائصها الصوتية من تغيير بسبب المجاورة، إذ إن المجاورة لها تأثير، ومن ثمّ خصصت فصلا للمستوى الأول وفصلا للمستوى الثاني.
تناولت في الفصل الثاني (دراسة الأصوات العربية عند علماء التجويد مفردة) وهو تأليف من ستة مباحث، تحدثت في المبحث الأول عن وصف علماء التجويد لأعضاء آلة النطق، وتحدثت في المبحث الثاني عن إنتاج الأصوات اللغوية، وفي الثالث عن تصنيف الأصوات إلى جامدة (صامتة) وذائبة (مصوّتة)، وبيّنت في المبحث الرابع كيفية تصنيف الأصوات الجامدة بحسب المخارج، وفي الخامس كيفية تصنيف الأصوات الجامدة بحسب الصفات التي تقسم إلى مميّزة ومحسّنة، وتحدثت في المبحث السادس عن الأصوات الذائبة (حروف المد والحركات)، فبينت طريقة علماء التجويد في دراسة هذه الأصوات وكيفية تصنيفها وتحديد مخارجها وتوضيح العلاقة بين أنواعها.
وتناولت في الفصل الثالث (دراسة الأصوات العربية عند علماء التجويد متصلة) وذلك في ثلاث مباحث، تحدثت في المبحث الأول عن فكرة التأثر بين الأصوات في الكلام المتصل، وبينت موقف علماء التجويد من هذه القضية، وخصصت المبحث الثاني لدراسة الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الجامدة، وتحدثت في المبحث الثالث عن الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الذائبة.
أما الملحقات فقد تحدثت في الملحق الأول منها عن تاريخ علم التجويد في القرن الرابع الهجري، في محاولة لاستكشاف بعض جوانب هذا العلم. وتحدثت في الملحق الثاني عن أساليب القراءة، وبينت فيه موقف علماء التجويد من القراءة بالألحان، وتحدثت فيه أيضا عن ظاهرة التنغيم. وخصصت الملحق الثالث للكلام عن عيوب النطق أو أمراض الكلام عند علماء التجويد.
وقد لخصت أهم نتائج هذا البحث في الخاتمة.
واتبعت في كتابة هذا البحث خطة تستند على ركيزتين:
الأولى: العناية بالنصوص المقتبسة من كتب علم التجويد، وذلك لأن هذه النصوص هي المادة التي ينبني عليها البحث، وقد حرصت على إيراد كل نص تضمن فكرة جديدة أو إضافة قيمة في دراسة الأصوات، وذلك لأن الكتب التي أخذت منها هذه النصوص لا يزال معظمها مخطوطا لا يصل إليه الباحثون بسهولة، فكنت أرجو بعملي هذا أن أضع بين أيدي المشتغلين بعلم الأصوات تلك النصوص النادرة عسى أن تكون دليلا لهم إلى كتب علم التجويد، فينشطوا لدراستها وتحقيقها.(1/9)
واتبعت في كتابة هذا البحث خطة تستند على ركيزتين:
الأولى: العناية بالنصوص المقتبسة من كتب علم التجويد، وذلك لأن هذه النصوص هي المادة التي ينبني عليها البحث، وقد حرصت على إيراد كل نص تضمن فكرة جديدة أو إضافة قيمة في دراسة الأصوات، وذلك لأن الكتب التي أخذت منها هذه النصوص لا يزال معظمها مخطوطا لا يصل إليه الباحثون بسهولة، فكنت أرجو بعملي هذا أن أضع بين أيدي المشتغلين بعلم الأصوات تلك النصوص النادرة عسى أن تكون دليلا لهم إلى كتب علم التجويد، فينشطوا لدراستها وتحقيقها.
الثانية: الموازنة بين المادة الصوتية المقتبسة من كتب علم التجويد والمادة الصوتية لدى علماء العربية كالخليل وسيبويه وابن جني، وذلك لأن دراسات هؤلاء العلماء تشكل الأساس الذي قامت عليه الدراسة الصوتية عند علماء التجويد. ومن خلال تلك الموازنة يمكن معرفة مقدار ما أضافه علماء التجويد إلى الدرس الصوتي العربي. وكنت أضع بجانب ذلك كله نتائج الدرس الصوتي الحديث لكي نتبين المنزلة التي يجب أن نضع فيها جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات، فهذه ثلاث حلقات متصلة لدراسة الأصوات: علماء العربية، وعلماء التجويد، وعلماء الأصوات المحدثون، لا ينبغي الفصل بينها في أي دراسة عن الأصوات العربية يراد لها أن تكون مفيدة:
ولم يخل العمل في هذا البحث من بعض الصعوبات، فمن ذلك كون أكثر مصادره كتبا مخطوطة، وهذا يعني صعوبة الحصول عليها، لا سيما المخطوطات التي تحتفظ بها مكتبات خارج العراق، ثم إن ما اطلعت عليه من تلك الكتب يحتاج إلى جهد مضاعف من أجل قراءة النصوص فيه قراءة صحيحة، خاصة إذا كانت المخطوطات رديئة الخط، وكنت أستعين بأكثر من نسخة كلما تيسر ذلك من أجل توثيق النصوص التي أنقلها.
وكنت في بعض الموضوعات أشعر بالحاجة إلى استخدام الأجهزة الحديثة التي أصبحت معروفة لدى المشتغلين بعلم الأصوات، من أجل تقديم نتائج محددة وواضحة، ولكن تلك الأجهزة غير متيسرة الآن، ولم تكن المصادر المكتوبة بالعربية في علم الأصوات كافية في سد تلك الحاجة دائما، وأرجو أن تتوفر تلك الأجهزة في بلادنا حتى يتمكن الباحثون من المضي في تدقيق نتائج الأبحاث الصوتية العربية القديمة والحديثة، إلى جانب العمل على كشف أسرار الصوت الإنساني.
وأخيرا فهذا هو البحث الذي شغلت بأمره مدة من الزمن قد تمكنت بفضل الله تعالى من إنجازه على هذه الصورة التي أرجو لها أن تكون حافزا يدفع الباحثين إلى الاهتمام بكتب علم
التجويد، فلا يمضي وقت طويل حتى نرى أهم كتب هذا العلم قد حقّقت ونشرت، وبدأ المشتغلون بعلم الأصوات يستفيدون من مادتها الصوتية الأصلية.(1/10)
وأخيرا فهذا هو البحث الذي شغلت بأمره مدة من الزمن قد تمكنت بفضل الله تعالى من إنجازه على هذه الصورة التي أرجو لها أن تكون حافزا يدفع الباحثين إلى الاهتمام بكتب علم
التجويد، فلا يمضي وقت طويل حتى نرى أهم كتب هذا العلم قد حقّقت ونشرت، وبدأ المشتغلون بعلم الأصوات يستفيدون من مادتها الصوتية الأصلية.
وفي الختام أشكر الأستاذ الدكتور عدنان محمد سلمان الذي أشرف على إعداد هذه الرسالة، وقام بقراءة أصولها الخطية، وأفادني بملاحظاته القيمة، وكان مثالا طيبا للأستاذ المخلص للعلم، الحاني على طلبته. وأشكر كل من أسدى إليّ عونا، لا سيما الذين يسروا لي الاطلاع على بعض المصادر المخطوطة، جزاهم الله كل خير.
ويلزمني أيضا توجيه الشكر إلى لجنة إحياء التراث الإسلامي بوزارة الأوقاف والشئون الدينية في العراق على قيامها بطبع هذا الكتاب على نفقة الوزارة، وفّق الله القائمين عليها.
لخدمة تراثنا الإسلامي الخالد.
والله تعالى أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه وأن ينفعني به وبدعاء من نظر فيه {يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
غانم قدوري الحمد 8/ 11/ 1984 بغداد(1/11)
غانم قدوري الحمد 8/ 11/ 1984 بغداد
الفصل الأول مصادر الدراسة الصوتية عند علماء التجويد (تاريخ ومنهج)
إن كتب علم التجويد القديمة تكاد تكون مجهولة لدى معظم المشتغلين بالدراسات الصوتية العربية في الوقت الحاضر (1). وهي تكاد تكون مجهولة أيضا لدى المتخصصين بدراسة علوم القرآن عامة وعلم التجويد خاصة.
ولا يزال معظم تلك الكتب مخطوطا بعيدا عن متناول أيدي الباحثين (2)، ولعل ذلك هو أحد الأسباب التي حالت بين الباحثين المعاصرين والاستفادة من المادة الصوتية التي تضمنتها تلك الكتب. ويبدو لي أن الرسائل الموجزة التي كتبها المتأخرون وبعض المعاصرين في علم التجويد كانت من بين الأسباب التي صرفت الدارسين عن تتبع كتب علم التجويد القديمة ودراستها والاعتماد عليها، وذلك لما يغلب على تلك الرسائل من الإيجاز الذي أدى إلى غموض العبارات في كثير من الأحيان.
وقد كان لإهمال دارسي الأصوات العربية المعاصرين كتب علم التجويد وعدم الاستفادة منها في بحوثهم نتائج تتمثل في حرمان تلك البحوث من المادة التي تتضمنها تلك الكتب،
__________
(1) لم يستخدم رواد الدراسة الصوتية العربية الحديثة أيّا من كتب علم التجويد. فالذين كتبوا كتبا مستقلة في دراسة الأصوات العربية مثل (الدكاترة): إبراهيم أنيس، وعبد الرحمن أيوب، وكمال محمد بشر، وأحمد مختار عمر، لم يعتمدوا على تلك الكتب.
(2) لم يطبع من كتب علم التجويد القديمة سوى كتاب (الرعاية لتجويد القراءة لمكي بن أبي طالب (ت 437هـ)، و (شرح الواضحة) لابن أم قاسم المرادي (ت 749هـ)، و (التمهيد) لابن الجزري (ت 833هـ)، وبعض شروح المقدمة الجزرية، مثل شرح ابن الناظم (كان حيا سنة 829هـ) وشرح الشيخ خالد الأزهري (ت 905هـ) وشرح القاضي زكريا الأنصاري (ت 926هـ) وشرح علي القاري (ت 1014هـ). وكذلك طبع كتاب (تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين) لأبي الحسن علي بن محمد الصفاقسي (ت 1118هـ).(1/13)
وتتمثل في عدم الدقة في تقويم جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات اللغوية (1).
وفي هذا الفصل نحاول التعريف بكتب علم التجويد منذ ظهور التأليف المستقل فيه حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، مع الوقوف على منهج علماء التجويد في التأليف وفي طريقة دراسة الأصوات، وبيان ما تميز به ذلك المنهج. ممهدين لذلك بالبحث عن نشأة علم التجويد. ومن ثم جاء هذا الفصل في خمسة مباحث هي:
الأول: نشأة علم التجويد.
الثاني: تعريف بأشهر كتب علم التجويد.
الثالث: الفكرة التي تستند إليها الدراسة الصوتية عند علماء التجويد.
الرابع: منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية.
الخامس: صلة علم التجويد بعلوم القرآن وعلم اللغة.
* * * * * __________
(1) قال جان كانتينو (دروس في علم أصوات العربية ص 11) في حق الدراسات الصوتية القديمة عند النحويين: «ولو رجع إليها الباحثون العصريون أكثر مما فعلوا لتمكنوا من اجتناب كثير من الهفوات التي وقعوا فيها»، وهذا القول ينطبق على جهود علماء التجويد على نحو أكثر وضوحا.(1/14)
المبحث الأول نشأة علم التجويد
لم يعرف مصطلح (التجويد) بمعنى العلم الذي يعنى بدراسة مخارج الحروف وصفاتها وما ينشأ لها من أحكام عند تركيبها في الكلام المنطوق إلا في حدود القرن الرابع الهجري، كذلك لم يعرف كتاب ألّف في هذا العلم قبل ذلك القرن، ومعنى هذا أن علم التجويد تأخر في الظهور علما مستقلا بالنسبة إلى كثير من علوم القرآن وعلوم العربية أكثر من قرنين من الزمان.
وقد جاء في بعض المصادر المتأخرة أن الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «جوّدوا القرآن» (1). واستند بعض المحدثين إلى هذه الرواية في القول بأن نشأة علم التجويد ترجع إلى عصر الصحابة، وقال: «ولسنا نملك لهذا النوع من الدراسة مادة كافية تسمح بتتبع تطوره ووصف المراحل التي قطعها حتى صار علما مستقلا هو (علم التجويد)، وكل الذي يعرف عن مراحله الأولى أن أول من استخدم هذه الكلمة في معنى قريب من معناها هو ابن مسعود الصحابي الذي كان ينصح المسلمين بقوله: (جوّدوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات) ويبدو أن نشأة علم التجويد جاءت استجابة لدعوة ابن مسعود، ومحاولة لتقنين قواعد القراءة اقتفاء لأثره» (2).
وحين تتبعت هذه الرواية في المصادر القديمة وجدت أنها تنقل الرواية على نحو آخر لا تصلح معه للاستشهاد في ما نحن بصدده، فقد جاء فيها (جرّدوا) بالراء بعد الجيم مكان (جودوا) بالواو بعد الجيم (3)، ويترجح لديّ أن الرواية تصحفت في المصادر المتأخرة، لأنها
__________
(1) ابن الجزري: النشر 1/ 210، والسيوطي: الإتقان 1/ 281.
(2) أحمد مختار عمر: البحث اللغوي عند العرب ص 77.
(3) انظر: ابن أبي شيبة: الكتاب المصنف 2/ 497، وأبو عبيد: غريب الحديث 4/ 94، وابن أبي داود:
المصاحف ص 139. وأبو بكر بن الأنباري: إيضاح الوقف والابتداء 1/ 16، والداني: المحكم ص 10، وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 65و.(1/15)
تنقل النص بإسناد ينتهي إلى أسانيد المصادر القديمة، ثم يختلف النص بعد ذلك في حرف واحد (1). وهذه الرواية تتعلق في الأصل بموضوع تجريد القرآن من الزيادات المتمثلة بالخموس والعشور وأسماء السور ونحو ذلك (2).
ومن المعلوم أنه لم يرد في القرآن الكريم من مادة (ج ود) شيء في وصف القراءة، كذلك لم أجد في (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي يعتمد على تسعة من أشهر كتب الحديث، شيئا من ذلك (3). وهذا أمر يمكن أن يستدل به على أن كلمة (التجويد) لم تكن مستعملة في عصر النبوة بالمدلول الذي صارت تدل عليه فيما بعد.
وكانت هناك كلمات أخرى تستخدم في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في معنى كلمة (التجويد)، مثل: الترتيل، والتحسين، والتزيين، والتحبير، وهي تستخدم في وصف القراءة حين تكون مستوفية لصفات النطق العربي الفصيح، جامعة إلى ذلك حسن الصوت والعناية بالأداء (4) ولم يرد من هذه الكلمات الأربع في القرآن الكريم سوى كلمة الترتيل (5).
ولا يعني ذلك أن مفردات مادة (ج ود) لم تكن مستخدمة في اللغة العربية، فنجد عددا من الكلمات المشتقة من تلك المادة مثل: الجيّد نقيض الرديء، وجاد الشيء جودة وجودة، أي: صار جيّدا. وأجاد أتى بالجيّد من القول والفعل. ورجل جواد سخي، وجاد الفرس فهو جواد الخ (6). والتجويد مصدر جوّدت الشيء. قال الداني: ومعناه انتهاء الغاية في إتقانه، وبلوغ النهاية في تحسينه (7).
وأقدم نص وردت فيه كلمة (التجويد) مستعملة بمعنى يقرب من معناها الاصطلاحي،
__________
(1) ذكر ابن الجزري (التمهيد ص 3) أن عليا رضي الله عنه سئل عن معنى الآية {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}
فقال: «الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف»، ولكني وجدت السمرقندي يذكر في روح المريد (137و) أن عليا روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في معنى الآية قوله: «الترتيل حفظ الوقوف وبيان الحروف»، وهذه الرواية أقرب إلى واقع الاستخدام الاصطلاحي لكلمة (التجويد).
(2) انظر: الزركشي: البرهان 1/ 479.
(3) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي 1/ 397396.
(4) انظر: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى، بحث لكاتب هذه الرسالة في مجلة كلية الشريعة بجامعة بغداد، العدد السادس 1980، ص 382378.
(5) قال الله تعالى: {وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]. وقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4].
(6) ابن منظور: لسان العرب 4/ 110جود.
(7) التحديد 2و.(1/16)
في المصادر التي اطلعت عليها، هو قول ابن مجاهد (ت 324هـ) مؤلف كتاب (السبعة في القراءات)، فقد قال الداني (ت 444هـ): «حدثني الحسين بن شاكر السمسار، قال: حدثنا أحمد بن نصر، قال: سمعت ابن مجاهد يقول: اللحن في القرآن لحنان: جليّ وخفيّ.
فالجليّ لحن الأعراب، والخفيّ ترك إعطاء الحرف حقّه من تجويد لفظه» (1). ونقل أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ) الرواية على هذا النحو: «والخفي ترك إعطاء الحروف حقها من تجويد لفظها، بلا زيادة فيها ولا نقصان» (2).
إن الوقت الذي ظهرت فيه كلمة التجويد بمعناها الاصطلاحي هو الوقت الذي ظهر فيه أول مصنف مستقل في علم التجويد، فقد قال ابن الجزري، وهو يترجم لأبي مزاحم موسى ابن عبيد الله بن يحيى الخاقاني البغدادي المتوفى سنة 325هـ: «هو أول من صنّف في التجويد فيما أعلم، وقصيدته الرائية مشهورة، وشرحها الحافظ أبو عمرو» (3).
والمصنّف الذي أشار إليه ابن الجزري هنا على أنه أول مصنف في التجويد هو قصيدة أبي مزاحم الخاقاني الرائية المشهورة بالقصيدة الخاقانية، التي يقول في مطلعها:
أقول مقالا معجبا لأولي الحجر ... ولا فخر، إنّ الفخر يدعو إلى الكبر
وعدد أبياتها واحد وخمسون بيتا، ذكر فيها أبو مزاحم بعض الموضوعات التي صارت فيما بعد جزءا من علم التجويد، وكان لهذه القصيدة أثر واضح في جهود اللاحقين في علم التجويد، فهم بين مقتبس منها مستشهد بأبياتها، وبين معارض لها، أو شارح موضح لمعانيها (4).
ومع أن القصيدة الخاقانية هي أول مصنف مستقل ظهر في علم التجويد إلا أن أبا مزاحم لم يستخدم فيها كلمة (التجويد) ولا أيا من الألفاظ الأخرى التي تشاركها في المادة اللغوية، واستخدم مكانها كلمة (الحسن) وما اشتقّ من مادتها. فقد قال في صدر البيت الخامس:
أيا قارئ القرآن أحسن أداءه
__________
(1) التحديد 22ظ.
(2) الإيضاح 68ظ.
(3) غاية النهاية 2/ 321.
(4) لمعرفة المزيد عن هذه القصيدة والاطلاع على نصها يراجع بحث: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى لا سيما المبحث الثاني والمبحث الثالث ص 365339.(1/17)
وقال في صدر البيت السابع عشر:
فقد قلت في حسن الأداء قصيدة وعدم استخدام أبي مزاحم لكلمة (التجويد) في قصيدته يدل على أن هذا المصطلح لم يكن مشهورا حينذاك، على الرغم من ظهوره في ذلك الوقت، فقد استخدمه معاصره ابن مجاهد، كما مر في النص الذي نقلناه عنه.
وأول من استخدم مصطلح (التجويد) بعد ابن مجاهد هو أبو الحسن علي بن جعفر السعيدي المتوفى في حدود 410هـ (1) فقد قال في أول كتابه (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي): «سألتني أن أصنّف لك نبذا من تجويد اللفظ بالقرآن». وقال في موضع آخر:
«ويؤمر القارئ بتجويد الضاد من (الضالين) وغيرها» (2). وشاع استخدام مصطلح (التجويد) بعد عصر السعيدي على نطاق واسع (3).
وإذا وافقنا ابن الجزري في قوله إن القصيدة الخاقانية هي أول مصنف كتب في علم التجويد فإن هناك قريبا من قرن من السنين بين تاريخ ظهورها وتاريخ ظهور كتاب السعيدي (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) الذي يتميز بأنه أقدم كتاب معروف لدينا اليوم في علم التجويد بعد القصيدة الخاقانية، وهو يمثل بدء التأليف المستقل في علم التجويد.
وحين رجعت إلى كتاب (الفهرست) لابن النديم المتوفى سنة 385هـ على الأرجح، لم أجده يذكر أيّ كتاب يحمل اسم التجويد أو يمكن أن يكون موضوعه في هذا العلم، على الرغم من أنه ذكر في الفن الثالث من المقالة الأولى من كتابه مئات الكتب المؤلفة في علوم القرآن (4). وهذا أمر يدل على أن علم التجويد لم يزل في القرن الرابع الهجري يخطو خطواته الأولى ولم تشتهر كتبه حين ألف ابن النديم كتابه سنة 377هـ (5). ولا يزال تاريخ علم التجويد في القرن الرابع بحاجة إلى نصوص جديدة تلقي مزيدا من البيان على نشأته (6).
وحين نتقدم خطوة إلى الأمام وندخل في القرن الخامس الهجري نجد أن المؤلفات في
__________
(1) انظر ترجمته: الذهبي: معرفة القراء 1/ 298، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 529.
(2) كتاب التنبيه ورقة 45ظ، و 47ظ.
(3) ينظر في ذلك بحث: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى، ص 389384.
(4) انظر: الفهرست ص 4227.
(5) المصدر نفسه ص 3.
(6) راجع ملحقا عن علم التجويد في القرن الرابع الهجري في آخر هذه الرسالة.(1/18)
علم التجويد يتتابع ظهورها حتى إننا لنجد أن أعظم مؤلفات علم التجويد قد ظهرت في هذا القرن، فبعد كتاب (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) للسعيدي الذي ظهر في نهاية القرن الرابع أو السنين الأولى من القرن الخامس يظهر في الأندلس كتابان كبيران في علم التجويد، هما (الرعاية) لمكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ) و (التحديد) لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444هـ).
ونجد في مقدمة كتاب (الرعاية) لمكي ما يشير إلى أن القرن الخامس هو التاريخ الحقيقي لظهور المؤلفات في علم التجويد، قال مكي: «وما علمت أن أحدا من المتقدمين سبقني إلى تأليف مثل هذا الكتاب، ولا إلى جمع مثل ما جمعت فيه من صفات الحروف وألقابها، ولا ما أتبعت فيه كل حرف منها من ألفاظ كتاب الله تعالى، والتنبيه على تجويد لفظه، والتحفظ به عند تلاوته. ولقد تصور في نفسي تأليف هذا الكتاب وترتيبه من سنة تسعين وثلاثمائة، وأخذت نفسي بتعليق ما يخطر ببالي منه في ذلك الوقت، ثم تركته إذ لم أجد معينا فيه من مؤلّف سبقني بمثله قبلي، ثم قوّى الله النية وحدّد البصيرة في إتمامه بعد نحو من ثلاثين سنة، فسهّل الله تعالى أمره، ويسّر جمعه، وأعان على تأليفه» (1).
وجاء في مقدمة كتاب (التحديد) للداني ما يشير إلى معنى الذي يفهم من قول مكي السابق من انعدام المؤلفات في علم التجويد في وقتهما، فقال الداني: «أما بعد فقد حداني ما رأيته من إهمال قراء عصرنا ومقرئي دهرنا من تجويد التلاوة وتحقيق القراءة، وتركهم استعمال ما ندب الله تعالى إليه، وحث نبيه صلّى الله عليه وسلّم وأمته عليه، من تلاوة التنزيل بالترسل والترتيل أن أعملت نفسي في رسم كتاب خفيف المحمل، قريب المأخذ في وصف علم الإتقان والتجويد، وكيفية الترتيل والتحقيق» (2).
وإذا كان بإمكاننا أن نقول إن مكيا ألف كتاب (الرعاية) سنة 420هـ اعتمادا على النص الذي سبق أن نقلناه من الكتاب، فإننا لا نعلم يقينا السنة التي ألف فيها الداني كتاب (التحديد)، ولا نعلم هل ألفه قبل أن يظهر كتاب (الرعاية) أو بعد ظهوره؟ (3).
ومهما يكن من أمر فإن نشأة علم التجويد ترتبط بقصيدة أبي مزاحم الخاقاني، وإن
__________
(1) الرعاية ص 42.
(2) التحديد ورقة 1ظ.
(3) ينظر في ذلك بحث: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى ص 377375.(1/19)
مؤلفاته الأولى تتمثل بكتاب (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) للسعيدي، وكتاب (الرعاية) لمكي، وكتاب (التحديد) للداني، ثم تتوالى المؤلفات بعد ذلك متواصلة حتى عصرنا الحاضر.
وارتباط نشأة علم التجويد بالمؤلفات المذكورة هنا يعني أن علم التجويد قد تأخر ظهوره بشكله المتميز المستقل أكثر من قرنين من الزمن عن ظهور كثير من علوم القرآن والعربية، ويبدو أن جهود علماء العربية من النحويين واللغويين وجهود علماء القراءة كانت تقوم بالمهمة التي قام بها علم التجويد بعد ظهوره، في تعليم الناطقين بالعربية أصول النطق الصحيح، وتحذيرهم من الانحراف في نطق الأصوات العربية.
وتكاد تتلخص جهود اللغويين والنحاة في دراسة الأصوات العربية حتى أواخر القرن الرابع الهجري بما كتبه الخليل بن أحمد (ت 170هـ) في مقدمة كتاب العين عن مخارج الحروف وصفاتها (1). وسيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان ت 180هـ) في (الكتاب) في باب الإدغام خاصة (2). والمبرد (أبو العباس محمد بن يزيد ت 285هـ) في كتاب (المقتضب) في أبواب الإدغام (3)، وابن دريد (أبو بكر محمد بن الحسن ت 321هـ) في مقدمة جمهرة اللغة (4). والزجاجي (أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق ت 337هـ) في آخر كتاب الجمل في باب الإدغام (5). والأزهري (أبو منصور محمد بن أحمد ت 370هـ) في مقدمة تهذيب اللغة (6). وأخيرا ابن جني (أبو الفتح عثمان ت 392هـ) في سر صناعة الإعراب (7). وهناك نتف أخرى متناثرة في بعض الكتب (8).
أما كتب القراءات القديمة التي ترجع إلى القرنين الثاني والثالث فإنه لم يصل إلينا منها شيء يذكر (9). وأقدم كتاب وصل إلينا من كتب القراءات هو كتاب (السبعة في القراءات) لأبي
__________
(1) العين 1/ 6752.
(2) الكتاب 4/ 485431، ومواضع أخر متفرقة.
(3) المقتضب 1/ 236192.
(4) جمهرة اللغة 1/ 84.
(5) الجمل ص 382375.
(6) تهذيب اللغة 1/ 5241.
(7) سر صناعة الإعراب 1/ 751.
(8) مثل الواضح في علم العربية لأبي بكر الزبيدي ص 283281.
(9) ينظر لمعرفة أسماء تلك الكتب: عبد الهادي الفضلي: القراءات القرآنية ص 3227.(1/20)
بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي (ت 324هـ)، الذي حققه الدكتور شوقي ضيف، ولا نجد في هذا الكتاب أبوابا مستقلة تعالج موضوع الأصوات العربية، وإنما جاءت الملاحظات الصوتية متناثرة في ثناياه.
وقد قام علماء التجويد باستخلاص المادة الصوتية من مؤلفات النحويين واللغويين وعلماء القراءة، وصاغوا منها هذا العلم الجديد الذي اختاروا له اسم (علم التجويد)، وواصلوا أبحاثهم الصوتية مستندين إلى تلك المادة، وأضافوا إليها خلاصة جهدهم حتى بلغ علم التجويد منزلة عالية من التقدم في دراسة الأصوات اللغوية.
وبالرغم من استناد علماء التجويد على جهود سابقيهم من علماء العربية وعلماء القراءة فقد جاء عملهم متميزا، ولا يمكن أن نعده جزءا من تلك الجهود، وإنما جاء عملا شاملا للدرس الصوتي، أما علماء العربية فإنهم عالجوا الموضوع في إطار الدرس الصرفي وهو أمر تجاوزه علماء التجويد وذلك بالنظر إلى أصوات اللغة نظرة أشمل من ذلك.
أما علماء القراءة فإنهم كانوا مشغولين برواية النص القرآني الكريم وضبط حروفه كما نقلتها طبقات علماء القراءة طبقة عن طبقة حتى تنتهي إلى طبقة الصحابة رضوان الله عليهم، الذين تلقوا القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ولا يمكن أن تعدّ الكتب التي ألفها القراء في وصف القراءات القرآنية بدءا للتأليف في علم التجويد، لأن علم القراءة وعلم التجويد، وإن كان كل منهما يرتبط بألفاظ القرآن، يختلفان في الموضوع كما يختلفان في المنهج، أما الموضوع فإن علم التجويد لا يعنى باختلاف الرواة بقدر عنايته بتحقيق اللفظ وتجويده، مما لا اختلاف في أكثره بين القراء، وأما المنهج فإن كتب القراءات كتب رواية، وكتب التجويد كتب دراية، تعتمد على مقدرة العالم في ملاحظة أصوات اللغة وتحليلها ووصفها.
ويتضح ذلك من عدة نصوص وردت في كتاب (الرعاية) لمكي، منها قوله في مقدمة الكتاب: «ولست أذكر في هذا الكتاب إلا ما لا اختلاف فيه بين أكثر القراء، فيجب على كل من قرأ بأيّ حرف كان من السبعة أن يأخذ نفسه بتحقيق اللفظ وتجويده، وإعطائه حقه على ما نذكره مع كل حرف من هذا الكتاب» (1). ومنها قوله وهو يتحدث عن أحكام تجويد الهمزة:
«وقد تقدم ذكر أصول القراء واختلافهم في الهمز وتليينه وحذفه وبدله وتحقيقه وغير ذلك من
__________
(1) الرعاية ص 42.(1/21)
أحكامه في غير هذا الكتاب، فلا حاجة بنا إلى ذكر ذلك، وكذلك ما شابهه، فليس هذا كتاب اختلاف، وإنما هو كتاب تجويد ألفاظ ووقوف على حقائق الكلام وإعطاء اللفظ حقه ومعرفة أحكام الحروف التي ينشأ الكلام منها، مما لا اختلاف في أكثره» (1). ومنها قوله أيضا وهو يتحدث عن تجويد حرف الذال: «وقد ذكرنا في غير هذا الكتاب ما تدغم فيه الذال وغيرها من الحروف مما اختلف القراء فيه، فأغنى عن ذكر ذلك في هذا الكتاب، فتلك الكتب كتب تحفظ منها الرواية المختلف فيها، وهذا الكتاب يحكم فيه لفظ التلاوة التي لا خلاف فيها، فتلك كتب رواية، وهذا كتاب دراية» (2).
وقد لخص محمد المرعشي (الملقب ساج قلي زاده ت 1150هـ) ذلك كله في قوله:
«إن قلت: ما الفرق بين علمي التجويد والقراءات؟ قلت: علم القراءات علم يعرف فيه اختلاف أئمة الأمصار في نظم القرآن في نفس حروفه أو في صفاتها، فإذا ذكر فيه شيء من ماهية صفات الحروف فهو تتميم، إذ لا يتعلق الغرض به. وأما علم التجويد فالغرض منه معرفة ماهيات صفات الحروف، فإذا ذكر فيه شيء من اختلاف الأئمة فهو تتميم، كذا حقق في الرعاية» (3)، وكتاب الرعاية هو من تأليف مكي بن أبي طالب. وقد نقلنا منه عدة نصوص قبل هذا النص.
وقد تحدث المرعشي عن هذا الموضوع في كتابه (ترتيب العلوم) أيضا، فقال: «اعلم أن علم القراءة يخالف علم التجويد لأن المقصود من الثاني معرفة حقائق صفات الحروف مع قطع النظر عن الخلاف فيها، مثلا يعرف في علم التجويد أن حقيقة التفخيم كذا وحقيقة الترقيق كذا وفي القراءة [يعرف] فخمها فلان ورققها فلان. وبهذا يندفع ما عسى أن يقال علم القراءة يتضمن مباحث صفات الحروف كالإدغام والإظهار والمد والقصر والتفخيم والترقيق، وهي مباحث علم التجويد» (4).
ولا يعني تأخر ظهور التأليف في علم التجويد أن القراء كانوا ينطقون القرآن قبل ذلك على غير أصل واضح، كما لا يعني أن علماء التجويد اختلقوا هذه الأصول أو ابتدعوها، فالواقع هو أن قراء القرآن كانوا يعتنون غاية الاعتناء بتجويد الألفاظ وإعطاء الحروف حقها منذ
__________
(1) المصدر نفسه ص 128.
(2) المصدر نفسه ص 200199، وانظر أيضا ص 176و 205.
(3) جهد المقل ورقة 2ظ.
(4) ترتيب العلوم ص 6564، طبع مركز إحياء التراث العلمي بجامعة بغداد 1404هـ 1984م.(1/22)
عصر الصحابة وهلم جرا حتى عصر ظهور المؤلفات في علم التجويد، وكانوا يستندون في ذلك إلى الرواية الأكيدة والأصول المرعية عند العرب في نطق لغتهم.
فأصول علم التجويد وقواعده إذن كانت موجودة في الكلام العربي، يحرص عليها القراء ويعتمدون عليها في قراءتهم وإقرائهم، وإن لم تكن مدونة، شأنها في ذلك شأن قواعد النحو والصرف التي استنبطها علماء العربية في وقت لا حق، فعلم التجويد الذي يدرس النظام الصوتي للغة كان موضوعه تحليل ذلك النظام واستخلاص ظواهره ووضعها في قواعد تساعد المتعلم على ضبطها وإتقانها حين يستخدم اللغة، وهم في ذلك يسيرون على خطى علماء العربية الذين سبقوهم في هذا الميدان.
ويوضح لنا قول محمد المرعشي الآتي كيفية قراءة القرآن في المرحلة التي سبقت ظهور كتب علم التجويد حيث يقول: «وتجويد القرآن قد يحصله الطالب بمشافهة الشيخ المجوّد، بدون معرفة مسائل هذا العلم، بل المشافهة هي العمدة في تحصيله، لكن بذلك العلم يسهل الأخذ بالمشافهة، وتزيد المهارة، ويصان به المأخوذ عن طريان الشك والتحريف» (1)، فكانت أجيال المسلمين تجوّد القرآن بالمشافهة منذ عصر الصحابة حتى ظهرت المؤلفات التي تعنى بالتجويد، وظلت المشافهة والتلقي عن الشيخ المتقن هي الأساس في قراءة القرآن وإتقان اللفظ بحروفه.
* * * * * __________
(1) جهد المقل ورقة 2ظ.(1/23)
المبحث الثاني تعريف بأشهر كتب علم التجويد
التأليف في علم التجويد لم ينقطع منذ ظهور مؤلفاته الأولى في القرن الرابع الهجري، حتى وقتنا الحاضر، وهذه ظاهرة توضح مقدار ارتباط المسلمين بالقرآن العظيم وحرصهم على تجويد حروفه وإتقان النطق بألفاظه. وقد أنتجت تلك الحركة التأليفية عشرات الكتب على مدى القرون المتتابعة، ويبدو أن تقديم قائمة كاملة بأسماء تلك الكتب أمر غير متيسر للدارسين اليوم، فالمراجع القديمة المتخصصة بالحديث عن العلوم والكتب المؤلفة فيها لا تقدم لنا إلا عددا محدودا من أسماء تلك الكتب، فلم يتجاوز ما ذكره السيوطي عن هذا الجانب في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) السطر الواحد حيث قال: «من المهمات تجويد القرآن، وقد أفرده جماعة كثيرون بالتصنيف، ومنهم الداني وغيره» (1).
وما ذكر حاجي خليفة في (كشف الظنون)، وهو يتحدث عن علم التجويد، يعد شيئا يسيرا جدا إلى ما هو معروف من كتب هذا العلم، قال: «وأول من صنف في التجويد موسى ابن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الخاقاني البغدادي المقرئ المتوفى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، ذكره ابن الجزري. ومن المصنفات فيه: الدر اليتيم، وشرحه، والرعاية، وغاية المراد، والمقدمة الجزرية، وشروحها، والواضحة» (2).
والمشكلة الأساسية التي تعترض الدارس وهو يحاول استقصاء كتب علم التجويد هي أن ما سلم منها من التلف والضياع لا يزال معظمه مخطوطا، ولا شك في أن معرفة أسماء تلك المخطوطات وتحديد أماكن وجودها أمر غير متيسر دائما، لندرة فهارس المخطوطات، وهي إن توفرت في بلد فلا تتوفر في بلد آخر. وإن توفر بعضها فقد لا يتوفر بعضها الآخر. أما الحصول على نسخ مصورة من تلك المخطوطات فذلك أمر دونه خرط القتاد.
__________
(1) الإتقان 1/ 281.
(2) كشف الظنون 1/ 354.(1/24)
وما سنذكره من أسماء كتب علم التجويد هو المحاولة الأولى في هذا السبيل، على ما أعلم، ومن ثمّ تظل هذه القائمة مظنّة النقص والقصور، على أمل أن يكملها النظر المستمر والجهد المتواصل من المهتمين بهذا العلم الذي لم يحظ بما يستحقه من درس إلى اليوم.
وقد استخلصت هذه القائمة من فهارس المخطوطات التي تيسر لي الاطلاع عليها، ومن فهارس الكتب مثل (كشف الظنون)، ومن كتب التراجم، مثل (غاية النهاية في طبقات القراء) لابن الجزري (ت 833هـ)، الذي استخلصت منه أسماء جميع الكتب التي تتصل بعلم التجويد، ورتبت هذه القائمة على أساس تاريخي تبعا لوفاة المؤلفين، موردا اسم المؤلف وتاريخ وفاته واسم الكتاب، مشيرا إلى ما هو مخطوط منها أو مطبوع، من غير أن أستقصي أماكن وجود المخطوط، فإن لذلك مظانه الخاصة، من بدء التأليف في هذا العلم، حتى أواخر القرن الثالث عشر الهجري (1):
1 - أبو مزاحم موسى بن عبيد الله الخاقاني البغدادي (ت 325هـ):
__________
(1) تضمن عدد من كتب القراءات القرآنية مباحث (لا تتجاوز عشر ورقات) عن مخارج الحروف وصفاتها، وما يتصل بذلك من موضوعات علم التجويد، وهذه أسماء بعض تلك الكتب، معتمدا في ذكرها على ما أورده المستشرق أوتو برتزل في مجلة إسلاميكا (سنة 1934م) حيث أثبت فهارس موضوعات بعض كتب القراءات المخطوطة:
أشرح الهداية في القراءات السبع المشهورة أحمد بن عمار المهدوي (ت بعد 430هـ)، برتزل ص 24.
ب الإقناع في القراءات السبع أحمد بن علي بن أحمد المعروف بابن الباذش (ت 540هـ)، برتزل ص 28.
ج الموضح في القراءة نصر بن علي الفارسي (القرن السادس)، برتزل ص 33.
د المصباح الزاهر المبارك بن الحسن الشهرزوري (ت 505هـ)، برتزل 39.
هـ روضة القارئ موسى بن الحسين المعدل (القرن الخامس)، برتزل ص 44.
ومما لم يذكره برتزل.
والإيضاح في القراءات أحمد بن أبي عمر الخراساني (ت بعد 500هـ) (انظر الإيضاح ورقة 65 75).
ز النشر في القراءات العشر أبو الخير محمد بن الجزري (ت 833هـ) (النشر 1/ 224981).
ح لطائف الإشارات لفنون القراءات أحمد بن محمد القسطلاني (ت 923هـ) (لطائف 1/ 182 247).(1/25)
القصيدة الخاقانية التي قالها في حسن الأداء (1)، ومطلعها:
أقول مقالا لأولي الحجر ... ولا فخر إن الفخر يدعو إلى الكبر
وكان لهذه القصيدة تأثير في جهود علماء التجويد الذين عاشوا بعد عصر أبي مزاحم، ويتمثل ذلك التأثير في نواح ثلاث:
أالمعارضة، مثل قصيدة أبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي (ت 377هـ)، التي مطلعها:
أقول لأهل اللّب والفضل والحجر ... مقال مريد للثواب وللثواب وللأجر (2)
ومثل قصيدة محمد بن أحمد العجلي، التي رواها عنه أبو علي الأهوازي (ت 446هـ) في البطائح سنة 386هـ، ومطلعها:
لك الحمد يا ذا المنّ والجود والبرّ ... كما أنت أهل للمحامد والشكر (3)
ب الشرح، مثل شرح أبي عمرو الداني (انظر رقم 4الآتي).
ح الاقتباس، حيث لا يكاد يخلو كتاب من كتب علم التجويد القديمة من بعض أبيات قصيدة أبي مزاحم (4).
2 - أبو الحسن علي بن جعفر بن محمد الرازي السعيدي، نزيل شيراز (ت في حدود 410هـ):
أالتنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي.
ب اختلاف القراء في اللام والنون.
وهما كتابان صغيران، الأول قدر عشر ورقات، والثاني قدر ثلاث ورقات، ولا يزالان مخطوطين (5).
__________
(1) حققت هذه القصيدة ونشرتها في مجلة كلية الشريعة بجامعة بغداد، في العدد السادس (سنة 1980م)، ضمن بحث: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى (انظر ص 354348).
(2) انظر: ابن خير: فهرسة ما رواه عن شيوخه ص 7473، وابن الجزري: غاية النهاية 2/ 67.
(3) ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 8685.
(4) يمكن الاطلاع على أمثلة من تلك الاقتباسات في بحث: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى ص 365354.
(5) انظر: فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي 1/ 170. وقد قمت بتحقيق هذين الكتابين وطبعا في دار عمار / الأردن.(1/26)
3 - أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني ثم القرطبي (ت 437هـ):
الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة مطبوع (1).
4 - أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444هـ):
أالتحديد في الإتقان والتجويد مخطوط (2).
ب شرح قصيدة أبي مزاحم الخاقاني مخطوط (3).
ج كتاب الإدغام الكبير مخطوط (4).
د المنبهة في الحذق والإتقان وصفة التجويد للقرآن مخطوط (5).
هـ كتاب البيان والإدغام (6).
ورسالة في مخارج الحروف مخطوط (7).
5 - أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن بندار العجلي الرازي (ت 454هـ):
كتاب في التجويد (8).
6 - أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ):
الموضح في التجويد مخطوط (9).
7 - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري (ت 463هـ):
أالتجويد والمدخل إلى العلم بالتحديد.
__________
(1) طبع في دار المعارف بدمشق سنة 1973م وفي دار عمار / الأردن، بتحقيق د. أحمد حسن فرحات.
(2) منه نسخة في مكتبة وهبي أفندي بتركيا رقمها (40/ 1)، وقد أكملت تحقيقه وطبع في دار عمار / الأردن.
(3) مكتبة (رضا) في رامبور بالهند رقم (279) وجستربتي بدبلن رقم (3653/ 10).
(4) المتحف البريطاني رقم (مشرقيات 3067)، ومنه نسخة مصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة (فهرس المخطوطات المصورة 1/ 6).
(5) الخزانة العامة للكتب في الرباط رقم 2809 (د 2186).
(6) ذكره الداني نفسه في كتاب (الإدغام الكبير) ورقة 20و 28و.
(7) المكتبة الوطنية بباريس رقم (610).
(8) ابن الجزري: النشر 1/ 212.
(9) مكتبة (رضا) في رامبور بالهند رقم (283)، طبع في دار عمار / الأردن.(1/27)
ب البيان عن تلاوة القرآن (1).
8 - أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الله المعروف بابن البناء البغدادي 471هـ):
أكتاب بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء، وإيضاح الأدوات التي بني عليها الإقراء مخطوط (2).
ب التجريد في التجويد (3).
9 - أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي (ت 539هـ):
نهاية الإتقان في تجويد القرآن مخطوط (4).
10 - أبو علي سهل بن محمد بن أحمد الأصبهاني الحاجي (ت 543هـ):
التجريد في التجويد مخطوط (5).
11 - أبو حميد (وأبو الأصبغ) عبد العزيز بن علي بن محمد الأندلسي المعروف بابن الطحان (ت حوالي 560هـ):
أالإنباء في تجويد القرآن مخطوط.
ب مقدمة في التجويد مخطوط (6).
ج رسالة في مخارج الحروف مخطوط (7).
د مرشد القارئ إلى تحقيق معالم المقارئ مخطوط (8).
__________
(1) الحميدي: جذوة المقتبس ص 345. القاضي عياض: ترتيب المدارك 4/ 810.
(2) مكتبة الأوقاف العامة في الموصل رقم (5/ 20مجاميع المدرسة الإسلامية)، وقد قمت بتحقيقه وطبع في دار عمار / الأردن.
(3) ذكره ابن البناء نفسه في كتابه (بيان العيوب) ورقة 174ظ.
(4) مكتبة الجمعية الملكية الآسيوية في البنغال بكلكتا بالهند رقم (795).
(5) مكتبة (رضا) في رامبور بالهند رقم (285).
(6) كلاهما في مكتبة جستربتي في دبلن بإيرلندة رقم (3453/ 3).
(7) المكتبة الظاهرة بدمشق رقم (66)، والخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية بالقاهرة رقم (397)، وقد علمنا أخيرا أن الكتاب طبع بمكة المركمة سنة 1984بعنوان (مخارج الحروف وصفاتها) بتحقيق الدكتور محمد يعقوب تركستاني.
(8) مكتبة جستربتي رقم (3925/ 4)، والخزانة التيمورية رقم (397).(1/28)
12 - أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن الهمذاني العطار (ت 569هـ):
التمهيد في التجويد مخطوط (1).
13 - أبو بكر محمد بن حامد بن محمد الأصفهاني (من علماء القرن السادس) (2):
أالتبيين في شرح النون والتنوين.
ب الإدغام الكبير بعلله (3).
14 - أبو المعالي محمد بن أبي الفرج بن بركة فخر الدين الموصلي ثم البغدادي (ت 621هـ):
أنبذة المريد في علم التجويد (4).
ب الدر الموصوف (أو المرصوف) في وصف مخارج الحروف مخطوط (5).
15 - أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد علم الدين السخاوي (ت 643هـ):
أمنهاج التوفيق إلى معرفة التجويد والتحقيق وهو باب في كتاب (جمال القراء) للمؤلف (6).
ب عمدة المفيد وعدة المجيد في معرفة لفظ التجويد. قصيدة نونية مطلعها:
يا من يروم تلاوة القرآن ... ويرود شأو أئمة الإتقان
__________
(1) مكتبة جستربتي رقم (3954)، وهو منسوب في فهرس المكتبة إلى أبي بكر جعفر بن محمد المستغفري (ت 432هـ) ولكني رجحت في بحث (علم التجويد ص 359هامش 2). أنه لأبي العلاء، وأعود هنا لتأكيد ذلك بعد أن وازنت بين شيوخ مؤلف (التمهيد) وشيوخ أبي العلاء الذين ذكرهم في كتابه المخطوط (الهادي في المقاطع والمبادي) حيث أن أسماء أولئك تتطابق مع أسماء هؤلاء، فدل هذا على أنهما لمؤلف واحد.
(2) ذكر جعفر بن إبراهيم السنهوري (ت 894هـ) في كتاب (الجامع المفيد في صناعة التجويد) (ورقة 83 ومن مخطوطة برلين رقم 1307) كتاب: (وسيلة الحفي في إيضاح اللحن الخفي) لهاشم بن أحمد بن عبد الواحد الحلبي المتوفى سنة 577هـ.
(3) ذكرهما ابن الجزري في غاية النهاية 2/ 114.
(4) ابن الفوطي: تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب ج 4، ق 3، ص 360.
(5) مكتبة الأوقاف العامة في الموصل رقم (5/ 20المدرسة الإسلامية)، وقد أكملت تحقيقه.
(6) الأوراق (189و 195ظ) من جمال القراء.(1/29)
وقد ضمها علم الدين السخاوي إلى كتابه (جمال القراء) (1)، وقد تنسخ مفردة (2)، وعليها عدة شروح (3).
16 - أبو عبد الله محمد بن عتيق بن علي التجيبي الغرناطي (ت 646هـ):
الدر المكللة في الفرق بين الحروف المشكلة (4).
17 - أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن وثيق الإشبيلي (ت 654هـ):
كتاب في تجويد القراءة ومخارج الحروف مخطوط (5).
18 - أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص الأندلسي المعروف بابن الناظر (ت 679هـ):
الترشيد في علم التجويد (6).
19 - أبو الحسن علي بن يعقوب بن شجاع، عماد الدين الموصلي المعروف بابن أبي زهران (ت 682هـ):
التجريد في التجويد (7).
20 - أبو العباس أحمد بن عبد الله بن الزبير الخابوري الحلبي (ت 690هـ):
الدر النضيد في التجويد (8).
21 - أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن سعيد المعروف بالديريني (ت 697هـ):
__________
(1) الأوراق (195ظ 197و) من جمال القراء.
(2) منها نسخة مفردة في مكتبة المتحف ببغداد ضمن مجموع برقم (9414).
(3) انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1172.
(4) البغدادي: هدية العارفين 1/ 124. ويبدو مما نقله ابن غانم المقدسي منه أن الكتاب أرجوزة (انظر بغية المرتاد ورقة 6ظ).
(5) مكتبة أيا صوفيا بتركيا رقم (39/ 7) ومكتبة الجمعية الملكية الآسيوية في البنغال رقم (795). في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة مصورة من نسخة أيا صوفيا (انظر: فهرس المخطوطات المصورة 1/ 13).
(6) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 242.
(7) البغدادي: إيضاح المكنون 1/ 228، وهدية العارفين 1/ 713.
(8) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 73.(1/30)
أميزان الوفي في معرفة اللحن الخفي (1).
ب منظومة في التجويد مخطوط (2).
22 - أبو محمد عبد الكريم بن عبد الباري بن عبد الرحمن الصعيدي (لم أتمكن من تحديد تاريخ وفاته ولكن أباه قد توفي سنة 650هـ):
أبغية المريد في معرفة التجويد.
ب البلغة الراجحة في تقويم الفاتحة.
ج جزء في مخارج الحروف (3).
23 - أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم الشريشي الخراز (ت 718هـ):
المقصد شرح نظم ابن برّي في أصوات القرآن مخطوط (4).
24 - محمد بن قيصر بن عبد الله، البغدادي الأصل، الشهير بالمارديني النحوي (ت 721هـ):
الدر النضيد في معرفة التجويد مخطوط.
وهو قصيدة لامية في (271) بيتا، أولها:
بدأت بحمد الله ذي الطّول والعلا (5)
25 - إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري (ت 732هـ):
للجعبري عدد من المؤلفات في علم التجويد، وقد ظفرت بفهرس مصنفات الجعبري مخطوطا بمكتبة المتحف ببغداد، وهو من تصنيف الجعبري نفسه، فكان خير دليل إلى معرفة
__________
(1) البغدادي: هدية العارفين 1/ 580.
(2) مكتبة جستربتي رقم (3846/ 6). ولا أعلم هل هي ميزان الوفي، أو كتاب آخر.
(3) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 401.
(4) المتحف البريطاني رقم (7533مشرقيات). وغير متيسر القول بأن المقصود بنظم ابن بري هنا هو (متن ابن بري في التجويد) الذي تحتفظ بنسخة منه دار الكتب الوطنية بتونس رقم (277) والمكتبة ببرلين رقم (1775). والاطلاع على الشرح والمتن كفيل وحده بتوضيح العلاقة بينهما، وهذا ليس في متناول اليد الآن. مع العلم أن ابن بري هو علي بن محمد بن علي (ت 709أو 730) كما جاء في وصف نسخة برلين، وليس علي بن بري اللغوي النحوي (ت 582هـ).
(5) مكتبة جستربتي رقم (3653/ 4).(1/31)
تلك المؤلفات، وهي مقسمة في الفهرس إلى ما كان منها منظوما، وما كان منها منثورا، أما المنظومة فهي (1):
أعقود الجمان في تجويد القرآن (2).
ب حدود الإتقان في تجويد القرآن (3).
ج القيود الواضحة في تجويد الفاتحة (4).
د المرصاد الفارق بين الظاء والضاد.
هـ تحقيق التعليم في الترقيق والتفخيم (5).
أما المؤلفات المنثورة فهي (6):
أالمنة في تحقيق الغنة (7).
ب حقيقة الوقوف على مخارج الحروف.
ج إتمام التبيين في أحكام النون الساكنة والتنوين.
26 - أبو عبد الله محمد بن بضحان الدمشقي (ت 743هـ):
التذكرة والتبصرة لمن نسي تفخيم الألف أو أنكره (8).
27 - أبو محمد الحسن بن قاسم بن عبد الله، بدر الدين المرادي، المعروف بابن أم قاسم (ت 749هـ):
__________
(1) الجعبري: الهبات الهنيات في المصنفات الجعبريات ورقة 1ظ.
(2) المكتبة الوطنية بباريس رقم (5937) انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1154.
(3) الوادي آشي: برنامجه ص 47، والبغدادي: هدية العارفين 1/ 14، وإيضاح المكنون 1/ 396.
(4) وهي قصيدة مشهورة باسم (الواضحة في تجويد الفاتحة) شرحها جماعة مثل ابن أم قاسم المرادي (انظر رقم 27)، وأحمد بن علي المعروف بالمقيني (من شرحه نسخة في المتحف البريطاني رقم 4253 مشرقيات). كما اختصرها آخرون مثل فضل بن سلمة (كشف الظنون 2/ 1996).
(5) البغدادي: هدية العارفين 1/ 14. ومنه نسخة مخطوطة في مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد رقم (1002/ 3).
(6) الجعبري: الهبات الهنيات ورقة 2ظ.
(7) نقل منه القسطلاني في لطائف الإشارات (1/ 195).
(8) ابن الجزري: النشر 1/ 215، وانظر: غاية النهاية 2/ 58.(1/32)
أالمفيد في شرح عمدة المجيد في النظم والتجويد (وهو شرح نونية علم الدين السخاوي في التجويد، انظر رقم 15) مخطوط (1).
ب شرح الواضحة في تجويد الفاتحة (والواضحة قصيدة للجعبري، انظر رقم 25) مطبوع (2).
ج أرجوزة في مخارج الحروف وصفاتها، وشرحها (3).
28 - أبو بكر عبد الله بن أيدغدي بن عبد الله الشهير بابن الجندي (ت 769هـ):
التسديد في علم التجويد (4).
29 - محمد بن محمود بن محمد بن أحمد السمرقندي الأصل، الهمذاني المولد، البغدادي الدار (ت 780هـ):
أالتجريد في التجويد (5).
ب العقد الفريد في نظم التجويد.
ج روح المريد في شرح العقد الفريد مخطوط (6).
د القصيدة الفائحة في تجويد الفاتحة، وشرحها مخطوط (7).
30 - موسى بن أحمد بن إسحاق الشهبي (ت 784هـ):
قال ابن الجزري: «صاحبي الشاب الخير مات شهيدا بالطاعون وألف في
__________
(1) مكتبة جستربتي رقم (3653/ 3)، والخزانة التيمورية رقم (462).
(2) صدر حديثا من دار القلم ببيروت (د. ت) بتحقيق د. عبد الهادي الفضلي.
(3) ذكرها المرادي نفسه في كتابه (المفيد) ورقة 101، وشرح التسهيل (له) 304و. وقد ذكر ابن الجزري (غاية النهاية 1/ 595) أن أبا حفص عمر بن علي بن عمر السراج القزويني شيخ بغداد (ت 750هـ) جمع شيئا في التجويد.
(4) ذكره جعفر بن إبراهيم السنهوري (ت 894هـ) في كتابه (الجامع المفيد في صناعة التجويد) انظر: ورقة 59ظ، 62و، 63ظ، 74ظ، من مخطوطة مكتبة برلين (رقم 1307).
(5) ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 260.
(6) مكتبة المتحف ببغداد رقم (9181/ 1) والأوقاف بالموصل رقم (2/ 22مجاميع مدرسة الحجيات) والقادرية ببغداد (انظر فهرس مخطوطات المكتبة القادرية 1/ 144).
(7) مكتبة آقائي السيد محمد مشكاة بمكتبة جامعة طهران رقم (105).(1/33)
التجويد ولو عاش لكان آية في هذا الفن» (1). ولم أقف على أي كتاب له.
31 - علي بن عثمان بن محمد، الشهير بابن القاصح (ت 801هـ):
نزهة المشتغلين في أحكام النون الساكنة والتنوين مخطوط (2).
وكان قد ألف في هذا الموضوع قبل ابن القاصح أبو بكر محمد بن حامد الأصفهاني (رقم 13) وإبراهيم بن عمر الجعبري (رقم 25)، وألف فيه بعد ابن القاصح جماعة من العلماء، وربما ذكروا مع أحكام النون الساكنة موضوعات أخرى، ومن تلك المؤلفات:
أتحفة نجباء العصر في أحكام النون الساكنة والتنوين والمد والقصر للقاضي زكريا ابن محمد بن أحمد الأنصاري (ت 926هـ)، وهو مخطوط (3).
ب مرشدة المشتغلين في أحكام النون الساكنة والتنوين لناصر الدين محمد بن سالم ابن علي الطبلاوي (ت 966هـ)، وهو مخطوط (4).
ج فتح المبين شرح مرشدة المشتغلين لمحمد بن محمد بن رجب البهنسي الأصل الدمشقي (ت 986هـ)، وهو شرح (مرشدة المشتغلين) للطبلاوي، ولا يزال مخطوطا (5).
د العمدة السنية في أحكام النون الساكنة والتنوين، والمد والقصر، ولام الفعل واللام القمرية والشمسية لمحمد بن القاسم بن إسماعيل البقري (ت 1111هـ) (6).
32 - خليل بن عثمان بن عبد الرحمن القرافي، المعروف بابن المشبب (ت 801هـ):
قال ابن الجزري: «وألف كراسا في التجويد» (7). ولعله (تحفة الإخوان فيما تصح به تلاوة القرآن) الذي ذكره حاجي خليفة (8). وقد سماه جعفر بن إبراهيم السنهوري (تحفة
__________
(1) غاية النهاية 1/ 317316.
(2) مكتبة المتحف ببغداد رقم (690/ 4).
(3) مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب جامعة بغداد رقم (1212) والمتحف ببغداد (21312/ 2) والأوقاف ببغداد (21/ 22811مجاميع).
(4) مكتبة المتحف ببغداد (690/ 5) والأوقاف ببغداد (13587/ 3).
(5) المكتبة الوطنية بباريس رقم (4533).
(6) عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 11/ 136.
(7) غاية النهاية 1/ 276.
(8) كشف الظنون 1/ 361، وانظر: البغدادي هدية العارفين 1/ 353.(1/34)
الإخوان في تجويد القرآن) (1).
33 - أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف، المشهور بابن الجزري (ت 833هـ):
أالتمهيد في علم التجويد (2).
ب المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه، وتعرف بالمقدمة الجزرية.
وهي نظم يتألف من (107) أبيات ومطلعها:
يقول راجي عفو ربّ سامح ... محمد بن الجزريّ الشافعي
وهي من أشهر كتب علم التجويد في العصور المتأخرة، وأكثرها تداولا، وقد شرحت شروحا عدة، وطبعت مفردة أو مشروحة طبعات كثيرة، كما أنها ترجمت إلى بعض لغات المسلمين الأخرى. وسوف أذكر هنا أشهر ما عثرت عليه من أسماء تلك الشروح على سبيل الاختصار، وهي جديرة ببحث مستقل ودراسة مستفيضة لا يناسبها هذا المكان (3).
أالحواشي المفهمة في شرح المقدمة لأبي بكر أحمد بن محمد الجزري، وهو ابن المصنف، كان حيا سنة 829هـ، وهو مطبوع (4).
ب الطرازات المعلمة في شرح المقدمة لعبد الدائم بن علي الأزهري الحديدي (ت 870هـ) (5).
ج تحفة المريد لمقدمة التجويد لبرهان الدين إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري (من علماء القرن التاسع) (6).
__________
(1) الجامع المفيد في صناعة التجويد ورقة أو (مخطوطة برلين رقم 1307).
(2) طبع في مصر سنة 1326هـ 1908م. وقد أعدت تحقيقه، وهو يطبع الآن في مؤسسة الرسالة.
(3) انظر حول ذلك: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 18001799، والبغدادي: إيضاح المكنون 2/ 542، وآلورد: فهرس المخطوطات العربية بالمكتبة الملكية في برلين (بالألمانية) 1/ 201وقد ذكر أسماء الشروح بالعربية.
(4) طبع بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1309هـ.
(5) منه نسخة مخطوطة في مكتبة المتحف العراقي ببغداد رقمها (20165) وأخرى في المتحف البريطاني رقمها (96).
(6) منه نسخة مخطوطة في المكتبة الأزهرية رقمها (37) 2794. وأخرى في مكتبة جامعة الرياض رقمها (2417).(1/35)
د الحواشي الأزهرية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية للشيخ خالد بن عبد الله الأزهري (ت 905هـ) وهو مطبوع (1).
هـ اللئالئ السنية في شرح المقدمة الجزرية لأحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني (ت 923هـ) (2).
والدقائق المحكمة في شرح المقدمة للقاضي زكريا بن محمد الأنصاري (ت 926هـ) وهو مطبوع (3)، وعليه عدة حواش (4).
ز ترجمة المستفيد لمعاني مقدمة التجويد لمحمد بن عمر بن مبارك الحضرمي الملقب ب (بحرق) (ت 930هـ) (5).
ح شرح الدلجي (شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد (ت 947هـ) (6).
ط شرح المقدمة الجزرية لعصام الدين أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبري زاده (ت 968هـ) (7).
ي الفوائد السرية في شرح المقدمة الجزرية لمحمد بن إبراهيم بن يوسف الحلبي
__________
(1) طبع بمطبعة محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر بمصر (د. ت) مع متن الجزرية.
(2) سماه حاجي خليفة (كشف الظنون 2/ 1799) (العقود السنية) ومنه نسخة في مكتبة الأوقاف ببغداد رقمها (2402).
(3) طبع بمطبعة محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر بمصر سنة 1375هـ 1956م مع متن الجزرية.
(4) منها حاشية زين العابدين بن محيي الدين الأنصاري (ت 1068هـ) (انظر البغدادي: إيضاح المكنون 2/ 542) وحاشية أبي الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملّسي القاهري (ت 1087هـ) ومنها نسخة مخطوطة في مكتبة جامعة برنستون رقمها (623). وحاشية أبي السعود أحمد بن عمر الأسقاطي (ت 1159هـ) ومنها نسخة في مكتبة (رضا) برامبور بالهند رقمها (318). وحاشية أبي النصر عبد الرحمن النحراوي، ومنها نسخة في مكتبة المسجد الأحمدي بطنطا رقمها (خ 11د 1397) وأخرى في جامعة برنستون رقمها (634).
(5) منه نسخة في مكتبة (رضا) برامبور رقمها (335).
(6) حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1799.
(7) منه نسخة في مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب رقمها (621/ 3) وثلاث نسخ أخرى في مكتبة المتحف العراقي ببغداد، أرقامها (29806174032808)، ونسخة في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل رقمها (1عبد الله مخلص).(1/36)
(ت 971هـ) (1).
ك المنح الفكرية على متن الجزرية لعلي بن سلطان محمد القاري (ت 1014هـ)، وهو مطبوع (2).
ل الجواهر المضيّة على المقدمة الجزرية لأبي الفتوح سيف الدين بن عطاء الله الوفائي البصير (ت 1020هـ) (3).
م شرح الجزرية لعمر بن إبراهيم المسعدي (كان حيا سنة 999هـ) (4).
ن الدرة المنظمة البهية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية لمنصور بن عيسى بن غازي الأنصاري السمنودي (كان حيا سنة 1084هـ) (5).
34 - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن داود الدمشقي المعروف بابن النجار (ت 870هـ) (6):
__________
(1) منه نسخة في المكتبة الوطنية بباريس رقمها (4531) وأخرى في مكتبة جامعة الرياض رقمها (2416).
(2) طبع بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1322هـ.
(3) منه نسخة في مكتبة الأوقاف العامة رقمها (2402/ 2) وقد فات واضع فهرس مخطوطات المكتبة ذكر هذه النسخة. واعتبر المخطوطة المرقمة 2402كتابا واحدا هو: اللئالئ السنية للقسطلاني. والواقع أن المخطوط المذكور مجموع يضم كتاب (اللئالئ)، وكتاب (الجواهر) (انظر عبد الله الجبوري: فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد 1/ 34) ومن كتاب (الجواهر المضية) نسخة أخرى في مكتبة عاشر أفندي رقمها (8).
(4) نقل منه ملا حسين بن اسكندر الحنفي (ت في حدود 1084هـ) في كتابه (لباب التجويد) (انظر: 1ظ 6ظ 17و). وفي الظاهرية جاءت باسم (الفوائد المسعدية) الرقم 3966. وأنه ألفها سنة 999هـ.
(5) كحالة: معجم المؤلفين 13/ 18. وإلى جانب ما ذكرناه توجد في دار الكتب الوطنية بتونس (رقم 287): الدرة المنظمة في شرح المقدمة لأحمد بن يحيى السوسي (؟). وفي المكتبة الوطنية بباريس (رقم 4804و 606): ضياء المعنوي على المقدمة الجزرية لمحمد ضياء أبي البقاء (؟). وقد ذكر حاجي خليفة (كشف الظنون) (2/ 1800): أن الشيخ محمد بن عمر المعروف بقورد أفندي شرحها بالتركية. وأن محمد بن أحمد الشهير بصوفي زاده (ت 1024هـ) ترجمها إلى التركية، ولا يصح ما نسبه البغدادي في إيضاح المكنون (2/ 543) ونقله كحالة في معجم المؤلفين (11/ 116) إلى محمد بن أبي الفتح البعلي (ت 709هـ) أنه شرح المقدمة، لأنه توفي قبل أن يولد ابن الجزري بأكثر من أربعين عاما! وفي الظاهرية شرح المقدمة لعلاء الدين الطرابلسي (ت 1032هـ) رقمها 334.
(6) هناك كتاب (موجز في التجويد) ليوسف بن علي بن محمد الحلالي (؟) في مجموع تحتفظ به مكتبة جستربتي برقم (3653/ 11) ولم نجد ترجمة للمؤلف، كما أن الكتاب لم يؤرخ، فرأيت أن أشير إليه(1/37)
غاية المراد في إخراج الضاد (1) مخطوط (2).
وهناك عدد من الكتب المؤلفة بعد عصر ابن النجار عالجت الموضوع نفسه منها:
أبغية المرتاد لتصحيح الضاد لعلي بن محمد بن خليل المعروف بابن غانم المقدسي (ت 1004هـ) وهو مخطوط (3).
ب رسالة في كيفية النطق بالضاد لعلي بن سليمان المنصوري (ت 1134هـ) مخطوط (4).
ج رد الإلحاد في النطق بالضاد لعلي بن سليمان المنصوري السابق (ت 1134هـ) مخطوط (5).
د رسالة في كيفية أداء الضاد لمحمد المرعشي الملقب ساج قلي زاده (ت 1150هـ) مخطوط (6).
هـ السيف المسلول على من ينكر المنقول في حق أداء الضاد لأبي بكر بن محمد البروسي (ت 1187هـ) مخطوط (7).
ورسالة في الرد على المرعشي في الضاد لمحمد بن إسماعيل الإزميري مخطوط (8).
وتحتفظ مكتبة الغازي (خسرو) في مدينة (سراييفو) بيوغسلافيا بمجموع مخطوط رقمه (2626) يضم ثلاث عشرة رسالة في علم التجويد، إحدى عشرة منها في موضوع نطق الضاد،
__________
في الهامش الآن، مع احتمال أن يكون تاريخ كتابته هو نفس تاريخ الرسائل الأخرى في المجموع وهو سنة 859هـ.
(1) انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/ 1193.
(2) دار الكتب الشعبية كيريل وميتودي بصوفيا رقم (مج 1633).
(3) مكتبة المتحف ببغداد رقم (11068/ 7) والأوقاف بالموصل (13/ 19مخطوطات جامع النبي شيت).
(4) مكتبة الغازي خسرو بسراييفو بيوغسلافيا رقم (2626/ 8).
(5) مكتبة الغازي خسرو رقم (2626/ 10). وانظر: البغدادي: إيضاح المكنون 1/ 552.
(6) مكتبة المتحف ببغداد رقم (11068/ 6).
(7) مكتبة الغازي خسرو رقم (2626/ 1).
(8) الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية رقم (231).(1/38)
بضمنها الرسائل السابقة عدا (غاية المراد). وليس متيسرا الآن الحديث عن الرسائل الأخرى التي يضمها المجموع، لأن ذلك يحتاج إلى الاطلاع على المخطوط نفسه، لغموض المعلومات التي يقدمها فهرس المكتبة، لا سيما أن أكثر تلك المعلومات مكتوب بغير العربية (1).
35 - الحسن بن شجاع بن محمد بن الحسن التوني (عاش قبل سنة 878هـ) (2).
المفيد في علم التجويد مخطوط (3).
36 - محمد بن أحمد بن مفلح (كان حيا سنة 882هـ).
غنية المريد لمعرفة الإتقان والتجويد فرغ من تأليفه سنة 882هـ مخطوط (4).
37 - أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885هـ):
القول المفيد في أصول التجويد مخطوط (5).
38 - أحمد بن عبد اللطيف البركوي (من رجال القرن العاشر):
الدر النضيد في المسائل المتعلقة بالتجويد مخطوط (6).
39 - شهاب الدين أحمد بن أحمد بن الطيبي (ت 979هـ):
المفيد في علم التجويد، أرجوزة مخطوط (7).
40 - محمد بن بير علي البركوي (ت 981هـ):
__________
(1) انظر: قاسم دوبراجا: فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية في مكتبة الغازي خسرو 1/ 98.
(2) لم أقف على ترجمة للمؤلف ولا تاريخ وفاته، واستفدت التاريخ المذكور من نسخة مخطوطة من كتاب (المفيد) مكتوبة في شوال سنة 878هـ في مكتبة جامعة طهران رقم (141).
(3) مكتبة المتحف ببغداد رقم (24083/ 3). ومكتبة الحرم المكي (43دهلوي).
(4) مكتبة الجامع الأزهر بالقاهرة رقم (1393) 53035.
(5) الخزانة العامة للكتب بالرباط رقم 634 (د 503).
(6) مكتبة الجامع الأزهر رقم (305) 22312. ودار الكتب المصرية (24343ب). وقد اطلعت بعد كتابة هذا البحث على مخطوط كتاب (الجامع المفيد في صناعة التجويد) لجعفر بن إبراهيم السنهوري (ت 894هـ) وهو في مكتبة برلين برقم 1307.
(7) مكتبة (رضا) برامبور رقم (295)، وجستربتي رقم 4432/ 5). وقال حاجي خليفة (كشف الظنون 2/ 1777): «وشرحه بعضهم وسماه: نزهة المريد في حل ألفاظ المفيد».(1/39)
الدر اليتيم في علم التجويد مخطوط (1).
وقام الشيخ أحمد فائز الرومي؟؟؟ بشرحه شرحا ممزوجا وهو مخطوط (2).
41 - محمد بن بدر الدين بن عبد القادر الشهير بابن بلبان الحنبلي (ت 1083هـ):
بغية المستفيد في علم التجويد مخطوط (3).
42 - منصور بن عيسى بن غازي الأنصاري السمنودي (كان حيا سنة 1084هـ):
أتحفة الطالبين في تجويد كتاب رب العالمين مخطوط (4).
ب الدرة المنظمة البهية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية وقد سبق ذكرها (رقم 33).
43 - ملا حسين بن إسكندر الرومي الحنفي (ت في حدود 1084هـ):
أمختصر في التجويد.
ب لباب التجويد للقرآن المجيد. وهو شرح المختصر السابق.
ج بيان المشكلات على المبتدئين من جهة التجويد (5). والكتب الثلاثة مخطوطة (6).
44 - محمد بن القاسم بن إسماعيل البقري (ت 1111هـ):
أغنية الطالبين ومنية الراغبين مخطوط (7).
ب العمدة السّنيّة في أحكام النون الساكنة والتنوين سبق ذكرها (رقم 31).
__________
(1) دار الكتب المصرية رقم (23047ب).
(2) مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب بجامعة بغداد رقم (610). وانظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 737.
(3) مكتبة الأوقاف ببغداد رقم (5437/ 11مجاميع).
(4) مكتبة الأوقاف بالموصل (3/ 19مخطوطات جامع النبي شيت).
(5) انظر: البغدادي: هدية العارفين 1/ 323.
(6) مكتبة المتحف ببغداد: لباب التجويد رقم (10104/ 2) وهناك ثماني نسخ مخطوطة من (بيان المشكلات) ولكنها خالية من اسم المؤلف. وفي مكتبة الأوقاف بالموصل نسخة من (بيان المشكلات) منسوبة إلى ملا حسين (انظر فهرس مخطوطات المكتبة 6/ 151) وتوجد في بانكي نور في الهند الكتب الثلاثة مخطوطة ومنسوبة إليه، أرقامها 16616597.
(7) مكتبة المتحف ببغداد رقمها (12975). وفي المكتبة نفسها رسالة رقمها (10104) بعنوان (نهاية المبتدي وتذكرة المنتهي) لمحمد بن علي المرشدي، يبدو أنها تلخيص لغنية الطالبين للبقري، كما اتضح لي من الموازنة بين عبارات الكتابين.(1/40)
45 - أبو الحسن علي بن محمد بن سليم النوري الصفاقسي (ت 1118هـ):
تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ حال تلاوتهم لكتاب الله المبين مطبوع (1).
46 - محمد بن عمر بن عبد القادر الكفيري الدمشقي (ت 1130هـ):
بغية المستفيد في أحكام التجويد (2).
47 - عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي (ت 1143هـ):
كفاية المستفيد في علم التجويد مخطوط (3).
48 - محمد بن أبي بكر المرعشي، المعروف بساجقلي زاده (ت 1150هـ):
أجهد المقل (في علم التجويد).
ب بيان جهد المقل (شرح وحاشية على جهد المقل).
ج رسالة في كيفية أداء الضاد.
د رسالة في مخارج الحروف.
هـ رسالة في التغني واللحن (4).
49 - حسن بن إسماعيل بن عبد الله الدركزلي الموصلي (ت 1327هـ) (5):
__________
(1) طبع في المطبعة الرسمية بتونس سنة 1974م بتقديم وتصحيح محمد الشاذلي النيفر.
(2) البغدادي: إيضاح المكنون 1/ 190وهدية العارفين 2/ 314.
(3) مكتبة المتحف ببغداد رقم (10895).
(4) في الخزانة التيمورية مجموع مخطوط (رقم 173) يضم الكتب الخمسة. وفي مكتبة المتحف ببغداد مخطوط برقم (11068) يضم الكتب الثلاثة الأولى. وكان الكتابان الأولان قد طبعا في الأستانة سنة 1288هـ كما طبعا في الهند طبعة قديمة.
(5) ليس له ترجمة في معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة. وقد أخذت تاريخ وفاته عن فهرس مخطوطات مكتبة الأوقاف العامة في الموصل (2/ 251). وقد جاء في آخر كتاب (خلاصة العجالة): «وكان الفراغ منه يوم السبت يوم الثلاثين من شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وست وستين من الهجرة».
وهذا بعني أن المؤلف عاش بعد تأليفه الكتاب أكثر من ستين سنة. وفي مكتبة الأوقاف العامة في الموصل شرح للقصيدة اليائية للشيخ عبد القادر الجيلاني، شرحها سنة 1272هـ. (انظر: فهرس مخطوطات المكتبة 7/ 127). وكل ما يمكن قوله هنا الآن أن الدركزلي عمر عمرا طويلا.(1/41)
خلاصة العجالة في بيان مراد الرسالة مخطوط (1).
وهذا الكتاب شرح لرسالة مختصرة في علم التجويد، وقد ذكر الدركزلي أنه لخص هذا الشرح من شرحه المسمى (العجالة)، بعد أن استطاله (2).
وهذا الكتاب أكبر كتب علم التجويد التي اطلعت عليها حجما، على الرغم من قول المؤلف أنه اختصره من أصل له أكبر منه، إذ بلغت أوراقه (217) ورقة.
وهناك غموض كبير يحيط بمؤلف الرسالة المختصرة التي شرحها الدركزلي، فقد جاء في أول هذا الشرح أنها لموفق الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الرحبي، وإذا كان قد حصل تصحيف في اسم (عبد الله) وأن الصواب (محمد بن علي بن محمد) فهو الرحبي صاحب الأرجوزة المسماة (بغية الباحث في جمل الموارث) المشهورة بالرحبية، المتوفى سنة 577هـ (3). ويبدو أن الدركزلي قد عناه. فقد ذكر في آخر الكتاب المصادر التي اعتمد عليها، وقال: «هذا تنبيه وضع لبيان أسماء الكتب التي نقل منها ما له تعرض بلفظ الرسالة الرحبية في التجويد» (4) وذكر مائة وستة من أسماء تلك الكتب، وذكر من بينها (شرح السلامي (5) على منظومة المؤلف الشهيرة بالرحبية في الفرائض).
ويعارض نسبة هذه الرسالة إلى الرحبي أن مؤلفها ينقل عن الشاطبي (ت 590هـ) وابن الجزري (ت 833هـ) (6). وهناك عدد من نسخ هذه الرسالة في مكتبة المتحف ببغداد كلها مجهولة المؤلف (7) إلا اثنتين ذكر فيهما اسم المؤلف. ولكنه عالم آخر غير الرحبي. فقد جاء في الأولى (8): «وهذه الرسالة في علم التجويد من تأليف العلامة فريد دهره ووحيد عصره
__________
(1) مكتبة المتحف ببغداد رقم (23513).
(2) خلاصة العجالة ورقة 1ظ 2و.
(3) انظر: كحالة: معجم المؤلفين 11/ 47.
(4) خلاصة العجالة ورقة 216ظ.
(5) لعله محمد بن إبراهيم بن محمد السلامي المتوفى سنة 879هـ (كحالة: معجم المؤلفين 8/ 217).
وشرحه يعرف باسم: الأنوار الإلهية في شرح فرائض الرحبية (البغدادي: هدية العارفين 2/ 208).
(6) انظر: الرسالة في علم التجويد (مكتبة المتحف ببغداد الرقم 16290/ 4). ورقة 13ظ، 15ظ.
(7) أرقامها: 2314220206887532852951060134281525012686 155692490025109238648353225053331271342719324186 1687815914.
(8) رقمها (16290).(1/42)
محمد جلبي الشهير بحكيم زاده» وجاء في الثانية «الشهير بالحكيم» (1) فقط. ولعله محمد جلبي بن علي بن علي الرومي المتوفى سنة 1040هـ، المذكور في (هدية العارفين) للبغدادي (2).
تلك هي أشهر كتب علم التجويد المؤلفة منذ القرن الرابع الهجري، حتى أواخر القرن الثالث عشر للهجرة، وقد أهملت ذكر الرسائل التي كتبت بعد ذلك، لأنها إما ملخصة عن الرسائل المتأخرة في علم التجويد، أو أن مؤلفيها تأثروا أو نقلوا من كتب (علم الأصوات اللغوية) المؤلفة حديثا، مما يجعلها خارج ميدان البحث، وإن كانت في ذاتها قيمة نافعة (3).
__________
(1) رقمها (26474).
(2) هدية العارفين 2/ 276.
(3) وأذكر هنا أشهر تلك الكتب مما اطلعت عليه أو عرفت اسمه:
1 - إرشاد الإخوان شرح منظومة هداية الصبيان محمد بن علي بن خلف الحسيني الحداد، القاهرة 1320.
2 - أصوات القرآن: كيف نتعلمها ونعلمها يوسف الخليفة أبو بكر، الخرطوم 1392هـ 1973م.
3 - البرهان في تجويد القرآن محمد الصادق قمحاوي، القاهرة (د. ت).
4 - التجويد الواضح أحمد فروخي، الجزائر 1972.
5 - التجويد وآداب التلاوة داود العطار، بغداد 1393هـ 1973م.
6 - التجويد والأصوات د. إبراهيم محمد نجا، القاهرة (د. ت).
7 - حق التلاوة: حسني شيخ عثمان، ط 2مؤسسة الرسالة 1397هـ 1977م.
8 - خلاصة في علم التجويد الحاج محمد عواد حمودي العاني، بغداد 1979م.
9 - الرائد في تجويد القرآن محمد سالم محيسن، القاهرة 1395هـ 1975م.
10 - رسالة في قواعد التلاوة كمال الدين الطائي، ط 2، بغداد 1394هـ 1973م.
11 - عمدة المفيد وعدة المجيد في أصول التجويد عبد المجيد الخطيب، الموصل 1977م.
12 - فتح الأقفال بشرح متن تحفة الأطفال سليمان الجمزوري، طبعة الحلبي، القاهرة 1364هـ 1945م.
13 - فن الترتيل عبد الله توفيق الصباغ، دمشق 1965م.
14 - قواعد التلاوة وعلم التجويد فرج توفيق الوليد.
15 - كفاية الراغبين في تجويد القرآن المبين محيي الدين عبد القادر الخطيب، ط 1بغداد 1957م.
16 - ملخص العقد الفريد في فن التجويد علي أحمد صبره، القاهرة 1331هـ 1913م.
17 - نظرات في علم التجويد إدريس الكلاك، بغداد 1401هـ 1981م.
18 - نهاية القول المفيد في علم التجويد محمد مكي نصر، القاهرة 1323هـ.
19 - هداية المستفيد في أحكام التجويد محمد محمود المشهور بأبي ريمة حلب (د. ت).(1/43)
إن مجموع ما ورد في هذه القائمة من أسماء كتب علم التجويد يتجاوز مائة كتاب، ولا أزعم أن ما اطلعت عليه هو كل ما كتب في هذا العلم، فلا أكاد أشك في أن تتبع فهارس المخطوطات التي لم يتيسر لي الاطلاع عليها، وكذلك كتب الفهارس والتراجم، يمكن أن يكشف عن أسماء كتب أخرى في علم التجويد، كما يبدو لي أن عددا من تلك الكتب قد طواه النسيان فلا هو مخطوط ولا هو مذكور في الكتب.
ويمكن أن نميز في ذلك العدد الكبير من كتب علم التجويد اتجاهين في التأليف، هما:
الاتجاه العام الذي يعالج جميع الموضوعات المتصلة بعلم التجويد، وهو الاتجاه الغالب في التأليف. الاتجاه الخاص الذي يعالج موضوعا واحدا، فيتعمق في دراسته ويستفيض في شرحه بشكل أكثر مما نجده في المؤلفات العامة. ومن أمثلة هذا الاتجاه الخاص في التأليف الكتب المؤلفة في أحكام النون الساكنة والتنوين (انظر رقم 31في قائمة الكتب) وكذلك الكتب المؤلفة لمعالجة موضوع الضاد (انظر رقم 34). ويمكن أن ندرج في هذا الاتجاه الكتب المؤلفة في تجويد الفاتحة (انظر رقم 22و 25و 29).
* * * * *
المبحث الثالث الفكرة التي تستند إليها الدراسة الصوتية عند علماء التجويد(1/44)
* * * * *
المبحث الثالث الفكرة التي تستند إليها الدراسة الصوتية عند علماء التجويد
إن توجه علماء قراءة القرآن إلى دراسة الأصوات اللغوية وانتظام هذه الدراسة في علم مستقل هو علم التجويد لا بد أن يكون مستندا إلى فكرة معينة فما تلك الفكرة؟.
سوف نمهد لبيان هذه القضية بالبحث في دوافع الدراسة الصوتية عند علماء العربية، الذين سبقوا علماء التجويد في دراسة الموضوع بأكثر من قرن ونصف من الزمان، لكي نبين هل كانت وجهة علماء التجويد في هذا الموضوع امتدادا لوجهة علماء العربية فيه، أو كانت لهم فكرة خاصة يستندون إليها في معالجته؟.
كان علماء العربية من النحاة واللغويين قد سبقوا علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية، وكان دراستهم لها تتناسب مع حاجة الموضوعات التي كانوا يعالجونها، فالذي يقرأ مقدمة معجم (العين) للخليل بن أحمد، وهي الجزء الذي لا يختلف اللغويون حول صحة نسبته إلى الخليل، كما قال الأزهري قديما (1) يجد أن دراسة الخليل للأصوات كانت لأغراض تتعلق بالمعجم وتنظيمه وبالكلمات وأبنيتها، فانشغاله بترتيب الحروف في أول المعجم، وتقديمه طريقة لاختبار مخارجها كان لتوضيح منهجه الذي سار عليه في الكتاب (2).
وكذلك كلامه عن الحروف الذلقية كان مرتبطا بأبنية الكلمات الرباعية والخماسية (3). ومثل ذلك كلامه عن تقسيم الحروف إلى صحاح ومعتلّة كان مرتبطا بتوزيع الكلمات في أبواب المعجم، فإنه كان يؤخر المعتل ويقدم الصحيح من الأبنية (4). وبالجملة كانت دراسة الخليل للأصوات ترتبط بمنهجه في بناء (العين) الذي اختار له طريقة تعتمد في جوهرها على أسس
__________
(1) تهذيب اللغة 1/ 41.
(2) العين 1/ 4847.
(3) العين 1/ 5251.
(4) العين 1/ 57.(1/45)
صوتية محضة.
أما دراسة سيبويه للأصوات في (الكتاب) فكانت ترتبط بموضوع الإدغام، فقد قال:
بعد أن ذكر عدد حروف العربية وبيّن مخارجها وصفاتها: «وإنما وصفت لك حروف المعجم بهذه الصفات لتعرف ما يحسن فيه الإدغام وما يجوز فيه، وما لا يحسن فيه ذلك ولا يجوز فيه، وما تبدله استثقالا كما تدغم، وما تخفيه وهو بزنة المتحرك» (1). وردد المبرد وابن يعيش ما قاله سيبويه حين درسا موضوع الأصوات العربية (2). وقال ابن جني في مقدمة كتابه (سر صناعة الإعراب) وهو يبين خطته في الكتاب: «وأذكر أحوال هذه الحروف في مخارجها ومدارجها وانقسام أصنافها، وأحكام مجهورها ومهموسها وشديدها ورخوها ثم أفرد، فيما بعد، لكل حرف منها بابا اغترق فيه ذكر أحواله وتصرفه في الكلام، من أصليته وزيادته، وصحته وعلته، وقلبه إلى غيره، وقلب غيره إليه» (3). وكان ما ذكره ابن جني في هذه الأبواب المفردة التي تغلب عليها الدراسة الصرفية أضعاف ما ذكره في دراسة الأصوات في مقدمة الكتاب.
كانت دراسة الأصوات عند علماء العربية إذن ترتبط بأغراض معينة في الموضوعات التي كانوا يبحثونها، ولم تكن تتبع نظرة شاملة مستقلة تهدف إلى بيان النظام الصوتي للغة العربية وما يخضع له ذلك النظام من الاعتبارات الصوتية في الكلام المنطوق. وليس هذا الكلام من باب النقد أو الطعن على جهود علماء العربية، وإنما هو من باب تقرير الحقائق لنحدد بالموازنة اتجاهات علماء التجويد في دراسة الأصوات. على أننا نلاحظ أن اتجاها جديدا برز لدى بعض النحاة المتأخرين، وإن ظلت دراسة الأصوات تسير عندهم في نفس الإطار، ذلك الاتجاه مو أنهم جعلوا من أسباب البحث في الأصوات أن ينطق غير العربي بالأصوات العربية مثل ما ينطق العربي، وهو اتجاه تعليمي محض لا أستبعد تأثرهم فيه بجهود علماء التجويد.
ويبدو أن أبا حيان الأندلسي (أثير الدين محمد بن يوسف ت 745هـ) هو أول من ذهب هذا المذهب الجديد في تحديد غاية الدراسة الصوتية عند النحاة، ولم نطلع على كلامه بصورة مباشرة، ولكن عن طريق من نقلوا كلامه من تلامذته وغيرهم. وقد وجدت المقدسي (علي بن محمد بن خليل المعروف بابن غانم ت 1004هـ) يقول في كتابه (بغية المرتاد لتصحيح
__________
(1) الكتاب 4/ 436.
(2) انظر: المقتضب 1/ 196، وشرح المفصل 10/ 122، وانظر: الزجاجي: الجمل ص 375.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 43.(1/46)
الضاد): «قال الأستاذ أبو حيان في شرح التسهيل: إنما ذكر النحويون صفات الحروف لفائدتين: إحداهما لأجل الإدغام. ثم قال: والفائدة الثانية وهي الأولى في الحقيقة بيان الحروف العربية حتى ينطق من ليس بعربي بمثل ما ينطق به العربي، فهو كبيان رفع الفاعل ونصب المفعول، فكما أن نصب الفاعل ورفع المفعول لحن، كذلك النطق بحروفها مخالفة مخارجها لما روي من العرب في النطق بها لحن» (1).
وكان قد نقل كلام أبي حيان تلميذه الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ) في كتابه (شرح التسهيل) (2). دون أن يصرح باسمه، وفعل السيوطي مثله في (همع الهوامع) (3).
وينبغي أن أشير هنا إلى أن أبا حيان الأندلسي لم يكن نحويا كبيرا فحسب وإنما كان أيضا عالما كبيرا من علماء القراءات والتجويد، وقد وصفه ابن الجزري في كتابه (النشر) بأنه (شيخ التجويد) (4) وإنه (أستاذ العربية والقراءات) (5) وقال عنه في كتابه (غاية النهاية): (شيخ العربية والآداب والقراءات) (6)، ومن ثم فإني لا أستبعد أن يكون هذا الاتجاه الجديد عند أبي حيان متأت من تأثره بعلم التجويد الذي كان ينحو هذا المنحى في دراسة الأصوات العربية لا سيما أن أبا حيان كان قد عكف على دراسة علم التجويد دراسة عميقة على يد شيخه ابن الناظر (ت 679هـ) وأخذ عنه مؤلفه في التجويد، قال ابن الجزري وهو يترجم لابن الناظر: «وألف كتابا كبيرا حسنا في التجويد، سماه الترشيد، قال أبو حيان: رحلت إليه قصدا من غرناطة لأجل الإتقان والتجويد قلت (ابن الجزري): وقرأ عليه أيضا كتابه الترشيد وهو الذي أدخله القاهرة» (7).
أما علماء التجويد فإن دراستهم للأصوات كانت ترتبط بشكل أساسي بمعالجة ما سموه باللحن الخفي، فقد قسّموا اللحن إلى قسمين هما: اللحن الجلي، وهو الخطأ الظاهر في الحركات خاصة، وقالوا: بأنه ميدان عمل النحاة والصرفيين. واللحن الخفي وهو الخلل
__________
(1) بغية المرتاد لتصحيح الضاد ورقة 6و 6ظ.
(2) المرادي: شرح التسهيل 304ظ.
(3) همع الهوامع 6/ 297296.
(4) النشر 1/ 210.
(5) النشر 1/ 216.
(6) غاية النهاية 2/ 285.
(7) غاية النهاية 1/ 242.(1/47)
الذي يطرأ على الأصوات من جراء عدم توفيتها حقوقها من المخارج أو الصفات أو ما يطرأ لها من الأحكام عند تركيبها في الكلام المنطوق، وقالوا بأن هذا هو ميدان عمل علماء التجويد، وهو يستلزم في نظرهم دراسة ثلاثة أمور: مخارج الحروف، وصفاتها، وأحكامها التركيبية.
وهذه هي عناصر علم التجويد الأساسية.
وكان ابن مجاهد (ت 324هـ) هو صاحب فكرة تقسيم اللحن إلى جلي وخفي، فقد قال الداني: «حدثني الحسين بن شاكر السمسار، قال: حدثنا أحمد بن نصر، قال: سمعت ابن مجاهد يقول: اللحن في القرآن لحنان: جلي وخفي، فالجلي لحن الإعراب، والخفي ترك إعطاء الحرف حقه من تجويد لفظه»، وفي بعض المصادر «ترك إعطاء الحروف حقها من تجويد لفظها» (1).
وقد تضمن كتاب (السبعة في القراءات) معنى الرواية السابقة، التي قد تكون في أحد كتب ابن مجاهد المفقودة أو أن تلميذه أحمد بن نصر الشذائي تلقفها عن أستاذه مشافهة، فقد قال ابن مجاهد في كتاب السبعة: «كذلك ما روي منن الآثار في حروف القرآن، منها المعرب السائر الواضح، ومنها المعرب الواضح غير السائر، ومنها اللغة الشاذة القليلة، ومنها الضعيف المعنى في الإعراب غير أنه قد قرئ به. ومنها ما توهّم فيه فغلط به فهو لحن غير جائز عند من لا يبصر من العربية إلا اليسير. ومنها اللحن الخفي الذي لا يعرفه إلا العالم النحرير» (2). فابن مجاهد إذن هو مؤسس فكرة تقسيم اللحن إلى جلي وخفي (3).
وكانت هذه الفكرة في تقسيم اللحن قد عرفت في أعمال علماء التجويد منذ مراحله
__________
(1) التحديد 22ظ، وانظر: شرح قصيدة أبي مزاحم للداني أيضا ورقة 135ظ، وأحمد بن أبي عمر:
الإيضاح 57ظ، والمرادي: المفيد 101و، شرح الواضحة له ص 31.
(2) كتاب السبعة ص 49.
(3) يبدو لي أن ما ورد في كتاب (إبراز المعاني) لأبي شامة المقدسي من إسناد هذا التقسيم إلى مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ) غير صحيح، قال أبو شامة (صفحة 1من باب مخارج الحروف): «قال مكي: اللحن لحنان جلي وخفي». وكذلك وردت هذه النسبة في كتاب (موجز في التجويد) ليوسف بن علي بن محمد الحلالي حيث قال (152ظ): «قال أبو محمد مكي: اللحن لحنان».
فلم أجد لهذا القول أثرا في كتاب (الرعاية) لمكي، كما أني لم أجده يستخدم مصطلح (اللحن) في كتابه على الإطلاق، وإذا احتاج إلى التعبير عن معناه استخدم كلمة (تصحيف) انظر الرعاية ص 199)، وهو استخدام يحتمل المناقشة، ولكنه يكشف لنا هنا عن أن مكيا لم يطلع على فكرة اللحن الخفي عند ابن مجاهد، ولم يستخدمها، فكيف يمكن أن تنسب إليه؟.(1/48)
الأولى، وكانت مستندهم في بناء منهج كتبهم وطريقة معالجتهم للظواهر الصوتية. قال أبو مزاحم الخاقاني (ت 325هـ) وهو معاصر لابن مجاهد في قصيدته مشيرا إلى اللحن (1):
فأوّل علم الذكر اتقان حفظه ... ومعرفة باللحن فيه إذا يجري
فكن عارفا باللحن كيما تزيله ... فما للذي لا يعرف اللحن من عذر
وأشار إلى فكرة تقسيم اللحن أبو الحسن السعيدي (ت في حدود 410هـ) حتى إنه سمى كتابه (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي)، وقد قال في مقدمته: «ينبغي لقارئ كتاب الله عز وجل بعد معرفته باللحن الجلي أن يعرف اللحن الخفي لأن اللحن لحنان، لحن جلي ولحن خفي».
«فاللحن الجلي هو أن يرفع المنصوب وينصب المرفوع أو يخفض المنصوب والمرفوع، وما أشبه ذلك، فاللحن الجلي يعرفه المقرءون والنحويون وغيرهم ممن قد شم رائحة العلم».
«واللحن الخفي لا يعرفه إلا المقرئ المتقن الضابط الذي قد تلقن من ألفاظ الأستاذين المؤدي عنهم، المعطي كل حرف حقه غير زائد فيه ولا ناقص منه، المتجنب عن الإفراط في الفتحات والضمات والكسرات والهمزات وتشديد المشددات، وتخفيف المخففات، وتسكين المسكنات، وتطنين النونات، وتفريط المدات وترعيدها، وتغليظ الراءات وتكريرها، وتسمين اللامات وتشريبها الغنة، وتشديد الهمزات وتلكيزها» (2).
وتحدث الداني (ت 444هـ) عن موضوع اللحن الخفي في كتابيه (التحديد في الإتقان والتجويد) و (شرح قصيدة أبي مزاحم الخاقاني) (3)، والداني هو الذي نقل لنا الرواية التي تحكي لنا تقسيم ابن مجاهد للحن إلى جلي وخفي كما سبق قبل قليل، وإذا كنا نلاحظ أن الداني لم يطل الوقوف عند هذه القضية فإن عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ) قد جعلها أساس كتابه (الموضح في التجويد) ولهذا سنقف عنده هنا وقفة أطول مما وقفنا عند غيره.
__________
(1) انظر: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى مجلة كلية الشريعة، العدد السادس سنة 1980ص 351.
(2) كتاب التنبيه 45ظ 46ظ. وقد طبق السعيدي فكرة اللحن الخفي في كتابه وهو يعالج صورا نطقية معينة فكان يقول (48و): (وذلك لحن غير جائز عند أهل التحقيق) أو يقول (50ظ): (وهو لحن خفي) وانظر أيضا 51و، 52و.
(3) التحديد 22ظ وشرح قصيدة أبي مزاحم 136و.(1/49)
يتكوّن كتاب (الموضح) من ثلاثة أبواب رئيسية مع مقدمة تتكون من خمسة فصول قصيرة، وقد ذكر المؤلف في أول الكتاب السبب الذي دفعه إلى التأليف فقال: «ولما رأيت الناشئين من قرأة هذا الزمان وكثيرا من منتهيهم قد أغفلوا إصلاح ألفاظهم من شوائب اللحن الخفي، وأهملوا تصفيتها من كدره وتخليصها من درنه، حتى مرنت على الفساد ألسنتهم، وارتاضت عليه طباعهم، وصار لهم عادة، بل تمكن منهم تمكن الغريزة رأيت لفرط الحاجة إلى ذلك وعظم الغناء به أن أقتضب مقالا يهز عطف الفاتر، ويضمن غرض الماهر، ويسعف أمل الراغب، ويؤنس وسادة العالم» (1).
ثم بين المنهج الذي سوف يسير عليه فقال: «أذكر معنى اللحن في موضوع اللغة وحدّه، وحقيقته في العرف والمواضعة، والسبب الذي من أجله علق بالألسنة وفشا في كلام العرب، وأبين ما المقصود بالتنبيه عليه، والمراد من الإعلان بالتحذير منه، وما الفائدة الحاصلة بذلك والثمرة المجتناة عنه، ثم أشفع ذلك بالكلام عليه من جهة التفصيل والتقسيم، وأبعث على تجويد القراءة بذكر ما يستقبح منها ويستحسن ويختار منها ويستهجن، بقدر الطاقة ومنتهى الوسع والإمكان» (2).
أما الفصول الخمسة التي ذكرها عبد الوهاب القرطبي في المقدمة فهذه عناوينها:
1 - فصل: في بيان معنى اللحن في موضوع اللغة.
2 - فصل: في اللحن وحقيقته في العرف والمواضعة وذكر السبب الموجب لانتشاره واستمراره.
3 - فصل: في بيان المراد بالتنبيه على اللحن الخفي والمقصود بالحض على اجتناب الألفاظ المستهجنة.
4 - فصل: فيما يستفاد بتهذيب الألفاظ وماذا تكون الثمرة الحاصلة عند تثقيف اللسان.
5 - فصل: في الكلام على اللحن الخفي والألفاظ المستكرهة من جهة التفصيل وعلى وجه التقسيم.
وقد قال عبد الوهاب القرطبي في أول الفصل الخامس: «قد بينا أن اللحن الخفي خلل يطرأ على الألفاظ، وإذ قد وضح ذلك فبنا حاجة إلى تبين حقيقة ما تتركب منه الألفاظ بالحد،
__________
(1) الموضح 144و.
(2) الموضح 144و.(1/50)
وإيضاحه بالقسمة والحصر، ليكون الخلل الطارئ عليها منقسما بانقسامها، مستوعبا باستيعابها. فنقول: الألفاظ بأسرها إنما تتركب من حروف وحركات وسكون، وهذه الأشياء الثلاثة لكل منطوق به كالمادة، عنها يأتلف، ومنها ينشأ» (1).
ثم مضى يتحدث عن كيفية إنتاج الحروف والحركات حتى قال: «وإذ قد وضح ما ذكرناه وبانت حقيقة الحروف والحركات والسكون وجب من أجل ذلك أن تكون قسمة ما نحن بصدده على وفقه وبمقتضاه وحسبه، فنجعل الكلام عليه من ثلاثة أوجه، نودع كل وجه منها بابا نتقصى فيه ذكر ما نضمنه إياه، ونستوعب إيراد ما به.
فنستوفي في الباب الأول الكلام على بسيط الحروف، فنحقق مخارجها وما يتبع ذلك من أحكامها، وننبه على ما يطرأ عليها من الخلل المستكره فيها.
وفي الباب الثاني الكلام على ما يلزم هذه الحروف عند الائتلاف وما يحدث فيها لذلك، مما يكره ويختار.
وفي الباب الثالث الكلام على الحركات والسكون، وما الواجب معرفته من ذلك (2).
ونضيف إلى ذلك أن المؤلف ختم الكتاب بفصل (في ذكر كيفية القراءة، وبيان ما يستقبح منها ويستحسن ويختار منها ويستهجن». تحدث فيه إلى جانب كيفيات القراءة عن عيوب النطق.
ولعل ما ذكرته هنا عن كتاب (الموضح في التجويد) لعبد الوهاب القرطبي كاف في توضيح أثر نظرية اللحن الخفي على منهج المؤلف في تبويب الكتاب، و (الموضح) بعد ذلك جدير بوقفة أطول، فهو متميز في كثير من نواحي الدراسة الصوتية، وأرجو أن أتمكن خلال فصول هذا البحث من توضيح جانب من تلك النواحي بقدر ما يتيسر.
وإذا كنا نلاحظ أن عبد الوهاب القرطبي كان أكثر علماء التجويد عناية بفكرة اللحن الخفي وبيانها، والاعتماد عليها في رسم منهج كتابه (الموضح)، فإن هذه الفكرة ظلت موضع عناية علماء التجويد من بعده حتى العصور المتأخرة، وسوف أذكر هنا بعض الأمثلة التي توضح أنها كانت الأساس الذي تستند إليه دراسة الأصوات عند علماء التجويد، مع ملاحظة أن من بين ذلك العدد الكبير من مؤلفات التجويد لا يستبعد أن نجد من العلماء من يهمل
__________
(1) الموضح 149ظ 150و
(2) الموضح 151ظ 152و.(1/51)
الإشارة إلى هذه الفكرة ويكتفي بدراسة الأصوات ويعالج مشكلاتها وظواهرها التركيبية.
فنجد أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ) يكتب عدة أبواب عن التجويد في كتابه (الإيضاح في القراءات العشر واختيار أبي عبيد وأبي حاتم) وكان لموضوع اللحن بها جزء واضح. وهذه عناوين تلك الأبواب:
الباب السادس والعشرون: في ذكر الحدر والترتيل وغير ذلك مما يحتاج إليه القارئ (ورقة 65ظ).
الباب السابع والعشرون: في ذكر اللحن الخفي ومقالات أرباب الصناعة في ذلك (68ظ).
الباب الثامن والعشرون: في ذكر مخارج الحروف (72و).
الباب التاسع والعشرون: في ذكر أجناس الحروف وأصنافها وصفاتها وألقابها (73و 75و).
وقد قال في مطلع الباب الخاص باللحن الخفي: «واعلم أن اللحن الخفي لا يعرفه إلا النحارير الماهرون من القراء والحذاق المحققون من العلماء بالقرآن، بلغنا عن أبي بكر أحمد ابن موسى بن العباس بن مجاهد رحمه الله أنه قال: اللحن في القرآن لحنان جلي وخفي، فالجلي لحن الإعراب، والخفي ترك إعطاء الحروف حقها من تجويد لفظها بلا زيادة فيها ولا نقصان» (1)، ثم مضى يتحدث في هذا الباب عن عشرات الصور النطقية التي تندرج تحت موضوع اللحن الخفي (68ظ 72و).
ونجد أبا العلاء الهمذاني العطار (ت 569هـ) يتحدث عن الموضوع في الباب السابع من كتابه (التمهيد) الذي خصصه لبيان موضوع الإعراب، ويقسم اللحن الخفي على قسمين، فمما قاله بعد أن تحدث عن حد الإعراب وأصله: «وإذ قد ثبت ما ذكرناه فاعلم أن اللحن لحنان جلي وخفي. فأما الجلي فهو الظاهر الذي يستوي في معرفته المبتدئ والمنتهي، وهو تصحيف الحروف وتغيير الحركات والسكون، وما يجري مجراها. وقد سقنا في كراهة ذلك الأخبار والآثار التي مرت.
وأما الخفي فهو الذي لا يقف على حقيقته إلا نحارير القراء ومشاهير العلماء، وهو على ضربين.
__________
(1) الإيضاح 68ظ.(1/52)
أحدهما: لا تعرف كيفيته ولا تدرك حقيقته إلا بالمشافهة وبالأخذ من أفواه أولي الضبط والدراية، وذلك نحو مقادير المدات، وحدود الممالات، والملطفات، والمشبعات والمختلسات، والفرق بين النفي والإثبات، والخبر والاستفهام، والإظهار والإدغام، والحذف والإتمام، والروم والإشمام، إلى ما سوى ذلك من الأسرار التي لا تتقيد بالخط، واللطائف التي لا تؤخذ إلا من أهل الإتقان والضبط» (1).
ثم تحدث عن الضرب الثاني وقال: «فأما الضرب الثاني من ضربي اللحن الخفي فإنه يتقيد بالخط ويدرك وصفه بالشكل والنقط، ويحتاج مبتغيه أولا إلى معرفة مخارج الحروف ومدارجها» (2). ويلاحظ هنا أن أبا العلاء أدرك في الضرب الأول من ضربي اللحن الخفي ظواهر نطقية دقيقة تندرج في باب التنغيم الصوتي للجملة المنطوقة، وذلك مثل (الفرق بين الخفي والإثبات، والخبر والاستفهام).
وتحدث الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ) عن موضوع اللحن وتقسيمه إلى جلي وخفي في كتابيه (المفيد في شرح عمدة المجيد) و (شرح الواضحة) (3). وخصص ابن الجزري (ت 833هـ) الباب الرابع من كتابه (التمهيد في علم التجويد) لذكر معنى اللحن وبيان أقسامه والحض على اجتنابه (4). وقد لخص فيه كلام عبد الوهاب القرطبي عن اللحن في مقدمة كتابه (الموضح في التجويد).
وتحدث محمد المرعشي (ت 1150هـ) في كتابه (جهد المقل) عن موضوع اللحن في الفصل الثاني من الفصول الخمسة التي تتألف منها مقدمة الكتاب، وحدد كلا من قسمي اللحن الجلي والخفي تحديدا جيدا، وخلص في نهاية الفصل إلى أن اللحن بقسميه يتناول دراسته ومعالجة ظواهره عدد من علوم العربية على هذا النحو: «أقول فاللحن يعرف:
بعضه بالاطلاع على علم التجويد، وهو الخطأ في المبنى والصفات.
وبعضه بالاطلاع على علم اللغة، وهو الخطأ في حركات الأوائل وحركات الأواسط وسكناتها.
__________
(1) التمهيد 119ظ 120و.
(2) التمهيد 141و.
(3) المفيد 101و، شرح الواضحة ص 31.
(4) التمهيد في علم التجويد ص 1412.(1/53)
وبعضه بالاطلاع على علم النحو، وهو الخطأ في حركات الأواخر وسكناتها.
وبعضه بالاطلاع على علم الصرف، وهو الخطأ في الإعلال مثل القلب والحذف والنقل» (1).
وقول المرعشي في موضوع علم التجويد أنه (الخطأ في المبنى والصفات) يقصد بقوله (المبنى) الحروف، فقد قال في بداية الفصل: «والمراد من المبنى حروف الكلمة، ومن الخطأ فيه تبديل حرف بحرف، كتبديل الطاء دالا، بترك إطباقها واستعلائها، أو تاء بتركهما وبإعطائها همسا» (2). وكأن المرعشي يريد أن يقول أن موضوع علم التجويد هو دراسة ما يتعلق بأصوات اللغة العربية، ومعالجة ما يلحق تلك الأصوات من انحراف عند نطقها في كلام متصل.
وقد عالج حسن بن إسماعيل الدركزلي موضوع اللحن في خاتمة كتابه (خلاصة العجالة في بيان مراد الرسالة) الذي فرغ من تأليفه سنة 1266هـ، وهو آخر من عالج هذا الموضوع، وكتابه آخر كتب علم التجويد التي وقفنا عندها، وهو مع إفاضته في الكلام لم يأت بجديد في الموضوع (3).
وقد كانت لفكرة اللحن الخفي تأثيرها الكبير على دراسة علماء التجويد، سواء أكان ذلك في المنهج أم في التفصيلات، حتى إن تعريف (التجويد) كان انعكاسا لتلك الفكرة، فإذا كان اللحن الخفي هو (ترك إعطاء الحروف حقوقها) كان التجويد (إعطاء الحروف حقوقها) ويبدو لنا هذا المعنى واضحا في قول أبي مزاحم الخاقاني في قصيدته (4):
فذو الحذق معط للحروف حقوقها ... إذا رتّل القرآن أو كان ذا حدر
وفي قول السعيدي: «واللحن الخفي لا يعرفه إلا المقرئ الضابط الذي قد تلقن من ألفاظ الأستاذين المؤدي عنهم، المعطي كل حرف حقه غير زائد فيه ولا ناقص منه» (5).
وفي قول مكي بن أبي طالب: «ليكون الوقوف على معرفة ذلك عبرة في لطف قدرة الله
__________
(1) جهد المقل 3و 3ظ.
(2) جهل المقل 3و.
(3) خلاصة العجالة 195ظ 208ظ.
(4) انظر بحث: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى (مجلة كلية الشريعة العدد السادس 1980) ص 349.
(5) التنبيه 36و.(1/54)
الكريم، وعونا لأهل تلاوة القرآن على تجويد ألفاظه وإحكام النطق به، وإعطاء كل حرف حقه من صفته وإخراجه من مخرجه» (1).
وقول الداني: «فتجويد القرآن هو إعطاء الحروف حقوقها» (2).
وقول أبي العلاء الهمذاني العطار: «وتزيين القراءة هو إعطاء الحروف حقوقها» (3).
وقول علم الدين السخاوي: «لأن المراد بالتجويد إعطاء الحروف حقوقها، وإخراجها من مخارجها واجتناب اللحن الخفي» (4).
وقول المرادي: «إن التجويد هو إعطاء كل حرف حقه من مخرجه وصفته» (5).
وقول ابن الجزري في المقدمة في تعريف التجويد (6):
وهو إعطاء الحروف حقّها ... من صفة لها ومستحقّها
وقد شرح ابنه أبو بكر أحمد في (الحواشي المفهمة) هذا التعريف وبيّن الفرق بين حق الحرف ومستحقه، حيث قال: «والفرق بين حق الحرف ومستحقه: أن حق الحرف صفته اللازمة له من همس وجهر وشدة ورخاوة وغير ذلك من الصفات الماضية، ومستحقه ما ينشأ عن هذه الصفات كترقيق المستفل وتفخيم المستعلي ونحو ذلك» (7). وقد ردد شراح المقدمة هذه الفكرة نقلا عن ابن الناظم أبي بكر أحمد وهم يشرحون قول ابن الجزري السابق (8). ويبدو لي أن أساس التفرقة يحتمل المناقشة، ولعل ابن الجزري لم يقصد من كلمة (مستحقها) سوى توكيد معنى (حقها) وإقامة الوزن للنظم.
ويتضح مما سبق أن ملاحظة اللحن الخفي في قراءة القرآن ومحاولة معالجتها وتصحيح النطق بها كانت السبب الذي يقف وراء الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، وأنهم درسوا
__________
(1) الرعاية ص 41.
(2) التحديد 2و.
(3) التمهيد 11ظ.
(4) جمال القراء 189ظ.
(5) المفيد 100ظ، وانظر شرح الواضحة (له) ص 29.
(6) انظر: ابن الجزري: متن الجزرية ص 15.
(7) الحواشي المفهمة 26ظ.
(8) انظر مثلا: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 23و. وخالد الأزهري: الحواشي الأزهرية ص 17. والقسطلاني: اللئالئ السنية 15ظ.(1/55)
أصوات اللغة وحددوا صور نطقها الصحيحة، ورصدوا الانحرافات المتوقعة في نطقها مما سموه باللحن الخفي، ليحترز الناطق منها ويجتنبها، وقد تحققت لعلماء التجويد بذلك فرصة لدراسة أصوات العربية دراسة شاملة، لم تتحقق للنحاة الذين كانت تشغلهم دراسة الأصوات لمعالجة بعض القضايا الصرفية.
* * * * *
المبحث الرابع منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات اللغوية(1/56)
* * * * *
المبحث الرابع منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات اللغوية
يتميز منهج علماء التجويد، أعني طريقتهم في دراسة الأصوات اللغوية، بأنه منهج شامل استغرق جميع المباحث المتعلقة بعلم الأصوات النطقي، وبأنه منهج صوتي خالص لم تختلط فيه الدراسة الصوتية بما عداها من الموضوعات.
أولا منهج علماء التجويد منهج شامل:
أما كون منهج علماء التجويد شاملا للمباحث الصوتية فإن ذلك يتمثل بشكل واضح في قول الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ) في كتابيه (المفيد في شرح عمدة المجيد) و (شرح الواضحة في تجويد الفاتحة) الذي لخص فيه منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات، وهو:
«إن تجويد القراءة يتوقف على أربعة أمور:
أحدها: معرفة مخارج الحروف.
والثاني: معرفة صفاتها.
والثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
والرابع: رياضة اللسان بذلك وكثرة التكرار.
وأصل ذلك كله وأساسه تلقيه من أولي الإتقان، وأخذه عن العلماء بهذا الشأن، وإن انضاف إلى ذلك حسن الصوت وجودة الفك وذرابة اللسان، وصحة الأسنان كان الكمال» (1).
وقد تضمن النص السابق إلى جانب الأمور الأربعة الإشارة إلى أمرين مهمين في تعليم
__________
(1) شرح الواضحة ص 30من المطبوع، ولكون النسخة المطبوعة منشورة على نسخة مخطوطة واحدة رجعت في توثيق النص إلى النسخة المخطوطة المحفوظة في مكتبة جستربتي تحت رقم (4741) وهي منسوبة في فهرس المكتبة إلى محمد بن علي بن طولون، وهي في الحقيقة للمرادي، وابن طولون هو الناسخ. وانظر: المفيد 100ظ 101و.(1/57)
الأصوات، وسلامة النطق، الأول: التلقي عن المعلم المتقن. والثاني: السلامة من عيوب الكلام مع صحة أعضاء النطق.
ولم يكن المرادي أول من حدد هذا الإطار العام للدراسة الصوتية عند علماء التجويد، ولا آخر من تحدث عنه، ولكنه أول من حدده على هذا النحو من الوضوح، فنجد الداني (ت 444هـ) يقول عن الأمرين الأولين: «اعلموا أن قطب التجويد وملاك التحقيق معرفة مخارج الحروف وصفاتها التي بها ينفصل بعضها من بعض، وإن اشترك في المخرج» (1).
ويقول أبو العلاء المهذاني العطار (ت 569هـ) في كتابه (التمهيد في التجويد): «الباب الثامن: في معرفة أسماء الحروف ومخارجها ومجاريها ومدارجها ومستحسن فروعها ومستقبحها. اعلم أن هذا الباب من أشرف أصول القراءة وأهم فصول التلاوة، وذلك أن الحروف أصل الكلام كله وعليها مدار تأليفه، ثم من يقرأ القرآن ويتعاطى هذا الشأن متى ما لم يتقن مخارج الحروف وأجناسها لم يقف على الخلل الواقع فيها، ولم يهتد إلى تجويد القراءة وتهذيبها، وكان كمن رام قطع تيه بلا دليل، وإصعاد قنّة نيق بلا ما سبيل، فإذا عرف الحروف وأتقنها، ولاحظ أجناسها وأحكمها، ثم انضاف إلى ذلك طبع يتقبل هذا الشأن، ويمتزج به أشفى به ذلك على القراءة الصحيحة والألفاظ القويمة، بعون الله ومنّه» (2).
ويقول أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي (ت 454هـ) عن الأمر الثالث: «ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف ما يحدث بعض الحروف في بعض من النقصان، لاستطالة حرف على حرف في التجاور، ويستشعر بعضها من بعض في تداخل المخارج» (3).
ويقول ابن الجزري (ت 833هـ) عن ذلك كله: «أول ما يجب على مريد إتقان قراءة القرآن تصحيح إخراج كل حرف من مخرجه المختص به تصحيحا يمتاز به عن مقاربه، وتوفية كل حرف صفته المعروفة به، توفية تخرجه عن مجانسه. يعمل لسانه وفمه بالرياضة في ذلك إعمالا يصير ذلك له طبعا وسليقة، فكل حرف شارك غيره في مخرج فإنه لا يمتاز عن مشاركه إلا بالصفات، وكل حرف شارك غيره في صفاته فإنه لا يمتاز عنه إلا بالمخرج فإذا أحكم القارئ النطق بكل حرف على حدته موفّ حقّه، فليعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب، لأنه
__________
(1) التحديد 16و.
(2) التمهيد 141ظ.
(3) نقلا عن: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 68ظ، وانظر 67ظ.(1/58)
ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد، وذلك ظاهر، فكم ممن يحسن الحروف مفردة ولا يحسنها مركبة، بحسب ما يجاورها من مجانس ومقارب، وقويّ وضعيف، ومفخم ومرقق، فيجذب القوي الضعيف، ويغلب المفخم المرقق، فيصعب على اللسان النطق بذلك على حقه إلا بالرياضة الشديدة حالة التركيب، فمن أحكم صحة اللفظ حالة التركيب حصّل حقيقة التجويد بالإتقان والتدريب» (1).
أما الأمر الرابع، وهو (رياضة اللسان بذلك وكثرة التكرار) فكان علماء التجويد قد أولوه عناية كبيرة، فكانوا يعتمدون على التلقي بالمشافهة، ويحضون على رياضة اللسان، أي تدريبه، على نطق الحروف وتوفية حقوقها من المخارج والصفات حالة إفرادها، وتوفيتها أحكامها الخاصة بها عند تركيبها.
قال أحمد بن نصر الشذائي، وهو من تلامذة ابن مجاهد: «كان ابن مجاهد، رحمه الله، لعلمه بتفاوت الناس في العلم بالقراءة، وقصور أفهامهم، يستثبت كثيرا ممن يقرأ عليه» (2).
وقال الداني بعد تعريف التجويد: «وليس بين التجويد وتركه إلا رياضة من تدبّره بفكّه» (3). وقد أخذ ابن الجزري هذا المعنى وصاغه بقوله في المقدمة (4):
__________
(1) النشر 1/ 215214.
(2) نقلا عن الداني: التحديد 22ظ.
(3) التحديد 2و. ونقله عن الداني: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 189و. وابن الجزري: التمهيد ص 6 والنشر (له) 1/ 213. وقد ذكر أحمد بن أبي عمر (الإيضاح 66ظ): «وقال الشيخ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، رحمه الله: التجويد أفضل من الجوهر، وأعز عند العلماء من الكبريت الأحمر، وهو حلية التلاوة وزينة القراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها وليس بين التجويد وتركه إلا رياضة من تدبره بقلبه». وفي إسناد هذا النص إلى أبي الفضل الخزاعي (ت 408هـ) إشكال كبير، لأنه يتطابق إلى حد كبير مع النص الوارد عند الداني (ت 444هـ) ونقلنا بعضه هنا. والمشهور عند علماء التجويد أنه للداني. ولا يمكن اعتمادا على تاريخ وفاة الخزاعي، وهو مشرقي، أن يكون نقل عن الداني، وهو أندلسي، وتبقى بعد ذلك أربعة احتمالات:
1 - أن يكون الداني نقل عن الخزاعي، ولم يصرح، وهو بعيد.
2 - أن يكون كلاهما نقل عن مصدر واحد أقدم.
3 - أن يكون مؤلف الإيضاح غلط في نسبة النص إلى الخزاعي.
4 - أن يكون ما نقله عن الخزاعي ينتهي عند قوله (الكبريت الأحمر) ونقل ما بعده عن الداني دون أن يصرح بذلك، لا سيما أن مؤلف الإيضاح توفي بعد 500هـ.
(4) ابن الجزري: متن الجزرية ص 17.(1/59)
وليس بينه وبين تركه ... إلا رياضة امرئ بفكّه
وقال ابنه أبو بكر أحمد في شرحه: «أي ليس بين التجويد وتركه فرق إلا رياضة امرئ، أي مداومته على القراءة والتكرار والسماع من أفواه الحذاق، لا مجرد الاقتصار على النقل، وقوله: بفكه، أي: بفمه» (1).
وقد ردد الداني هذا المعنى في حاجة القارئ إلى المشافهة في التلقي، والرياضة في الأداء كثيرا (2).
ووضح مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) حاجة المتعلم إلى الأخذ عن الشيخ المتقن، وحاجة الشيخ أيضا إلى إتقان تجويد الحروف بالاعتماد على الأصول التي يسطرها علماء التجويد في كتبهم، وذلك حيث قال: «والمقرئ إلى جميع ما ذكرناه في كتابنا هذا أحوج من القارئ، لأنه إذا علمه علّمه، وإذا لم يعلمه لم يعلّمه، فيستوي في الجهل بالصواب في ذلك القارئ والمقرئ، ويضل القارئ بضلال المقرئ، فلا فضل لأحدهما على الآخر. فمعرفة ما ذكرنا لا يسع من انتصب للإقراء جهله وبه تكمل حاله، وتزيد فائدة القارئ الطالب ويلحق بالمقرئ.
وليس قول المقرئ أنا أقرأ بطبعي وأجد الصواب بعادتي في القراءة لهذه الحروف من غير أن أعرف شيئا مما ذكرته بحجة، بل ذلك نقص ظاهر فيهما، لأن من كانت هذه حجته يصيب ولا يدري، ويخطئ ولا يدري، إذ علمه واعتماده على طبعه وعدة لسانه، يمضي معه أين ما مضى به من اللفظ، ويذهب معه أين ما ذهب، ولا يبني على أصل ولا يقرأ على علم، ولا يقرئ عن فهم. فما أقربه من أن يذهب عنه طبعه، أو تتغير عليه عادته، وتستحيل عليه طريقته، إذ هو بمنزلة من يمشي في ظلام في طريق مشتبه، فالخطأ والزلل منه قريب، والآخر بمنزلة من يمشي على طريق واضح معه ضياء، لأنه يبني على أصل، وينقل عن فهم، ويلفظ عن فرع مستقيم وعلة واضحة فالخطأ منه بعيد، فلا يرضينّ امرؤ لنفسه في كتاب الله جل ذكره وتجويد ألفاظه إلا بأعلى الأمور وأسلمها من الخطأ والزلل، والله الموفق للصواب» (3).
__________
(1) الحواشي المفهمة 31ظ. وانظر أيضا: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 25و. وعلي القاري:
المنح الفكرية ص 21.
(2) انظر: التحديد 16و، 41ظ.
(3) الرعاية ص 229227.(1/60)
ومما يوضح مقدار عناية علماء التجويد بالتدريب العملي لنطق الأصوات، ومكابدتهم ذلك مع الطلبة قول مكي أيضا: «وكل ما ذكرته من هذه الحروف لم أزل أجد الطلبة تزل بهم ألسنتهم إلى ما نبهت عليه، وتميل بهم طباعهم إلى الخطأ فيما حذرت منه، فبكثرة تتبعي لألفاظ الطلبة بالمشرق والمغرب وقفت على ما حذرت منه، ووصيت به من هذه الألفاظ كلها، وأنت تجد ذلك من نفسك وطبعك» (1).
وقد جعل ابن الجزري التدريب ورياضة اللسان الطريق الأمثل لتحصيل التجويد، فقال:
«ولا أعلم سببا لبلوغ نهاية الإتقان والتجويد، ووصول غاية التصحيح والتسديد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقّى من فم المحسن» (2).
وهناك قضية تتصل بالاتجاه التعليمي للأصوات العربية عند علماء التجويد، وهي أنهم مع تأكيدهم ضرورة التلقي من فم الشيخ المحسن ينصّون على ضرورة استخدام الحس النقدي عند التلقي، واجتناب التقليد المحض، فيجب على الطالب أن يعرض ما يتلقاه عن شيخه على الأصول المقررة في كتب علم التجويد، خشية أن يكون شيخه قد وهم في بعض ما يلقنه إياه.
قال الداني: «وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق، فمنهم من يعلم ذلك قياسا وتمييزا، وهو الحاذق النبيه، ومنهم من يعلمه سماعا وتقليدا، وهو الغبي الفهيه (3). والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعا ورواية، وللدراية ضبطها ونظمها، وللرواية نقلها وتعلمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم» (4).
وينازع الداني هذا النص عالم آخر، وهو معاصره مكي بن أبي طالب، فقد نقله في كتابه (الرعاية) بنصه تقريبا، مع تصريحه في أول النص بأنه نقله من غيره، حيث قال: «وقد وصف من تقدمنا من المقرئين والقراء، فقال: القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد» (5).
وقد ناقش تلك القضية، أعني التدقيق في التلقي عن الشيوخ، الأستاذ محمد المرعشي الملقب ساج قلي زاده (ت 1150هـ) في كتابيه (جهد المقل) و (بيان جهد المقل). فقال في الكتاب الأول: «وتجويد القرآن قد يحصله الطالب بمشافهة الشيخ المجود بدون معرفة مسائل
__________
(1) الرعاية ص 144.
(2) النشر 1/ 213.
(3) الفهيه: هو الكليل اللسان العييّ عن حاجته (انظر: ابن منظور: لسان العرب 17/ 421مادة فهه).
(4) التحديد 2و.
(5) الرعاية ص 7069.(1/61)
هذا العلم، بل المشافهة هي العمدة في تحصيله، لكن بذلك العلم يسهل الأخذ بالمشافهة، ويزيد به المهارة، ويصان به المأخوذ عن طريان الشك والتحريف كما صرح به في الرعاية» (1).
وشرح محمد المرعشي قوله هذا في كتابه الثاني (بيان جهد المقل) بكلام دقيق، جدير بأن ننقله لأنه يمس جوهر القضية التي نناقشها هنا، ولأنه يعبر عن موقف متميز من عالم عاش في العصور المتأخرة التي غلبت فيها نزعة التقليد وجمود العبارة، لكن المرعشي كان واضحا في رأيه سلسا في عبارته مستقلا في تحليله وموقفه، قال في توضيح النص السابق والتعليق عليه:
«وقوله (بمشافهة الشيخ)، قال في الصحاح: المشافهة المخاطبة من فيك إلى فيه، انتهى. أقول: فإضافة المشافهة إلى الشيخ من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، أي بمشافهة الشيخ المجود إياه. قوله (هي العمدة) يجيء بمعنيين: بمعنى المقصود، وبمعنى ما يعتمد عليه، والمراد الثاني، لأن الإنسان كثيرا ما يعجز عن أداء الحروف بمجرد معرفة مخارجها وصفاتها من المؤلفات، ما لم يسمعه من فم الشيخ، لكن لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء كثير من شيوخ الأداء. الشيخ الماهر الجامع بين الرواية والدراية المتفطن لدقائق الخلل في المخارج والصفات أعز من الكبريت الأحمر!.
فوجب علينا أن لا نعتمد على أداء شيوخنا كل الاعتماد، بل نتأمل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفن، ونقيس ما سمعنا من الشيوخ على ما أودع في الكتب، فما وافقه فهو الحق، وما خالفه فالحقّ ما في الكتب. كما صرح به في الرعاية، وهذه عبارتها:
القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد، فمنهم من يعلمه رواية وقياسا وتمييزا، فذلك الحاذق الفطن، ومنهم من يعرفه سماعا وتقليدا، فذلك الوهن الضعيف، لا يلبث أن يشك ويدخله التحريف والتصحيف إذ لم يبن على أصل، ولا نقل عن فهم، انتهى.
قوله: رواية، يعني: رواية عن شيخه.
وقوله: قياسا، يعني: استنباطا من قواعده.
وقوله: تمييزا، يعني: تمييز صحيح الأداء عن فاسده لعلمه بقواعده الكلية» (2).
__________
(1) جهد المقل 2ظ.
(2) بيان جهد المقل 3ظ، وقد لخص المرعشي ذلك وأثبته في رسالته في (كيفية أداء الضاد) انظر ورقة 3ظ.(1/62)
ولم يكتف المرعشي بالقول بامتحان المتلقّى عن الشيوخ بعرضه على كتب العلم، بل ذهب إلى حد القول بضرورة التدقيق فيما نجده في الكتب، فليس بعيدا أن يعثر المدقق على قصور في عبارات المصنفين، قال في أول كتابه (بيان جهد المقل): «لما ختمت رسالتي المسماة بجهد المقل، شرحتها وأظهرت مواضعها المبهمة لينتفع بها أدنى الطلبة، وسميته بيان جهد المقل، وأوصيتهم أن لا يعجلوا بتخطئتي بسبب مخالفة ما ذكرته في هذه الرسالة ظاهر ما يفهم من كلمات المؤلفين في هذا الفن، فإن كلماتهم قلّ ما خلت عن المسامحات، ولا يستبعدوا أن أعثر على الخطأ في كلمات بعضهم، فأثبت المسألة في هذه الرسالة على وجه الصواب. ثم إني وجدت هذا الفن من أصعب الفنون، ووجدت كثيرا من مسائله لم يكشف عن وجوهها (1) القناع، فأتعبت نفسي وبذلت جهدي في إيضاح المسألة وتتميم القاعدة بجميع (لعله بجمع) ما تفرق في الكتب المؤلفة بقدر طاقتي ومنتهى حرفتي، بحول الله وقوته، إنه حسبي والمستعان في أموري» (2).
ونجد المرعشي يستخدم كلمة (المسامحات) للإشارة إلى قصور العبارة عند المصنفين في علم التجويد، فقد استخدمها في النص السابق. واستخدمها في أول كتابه (جهد المقل) حيث قال: «فعملت فيه رسالة محتوية على عامة مسائله بعبارات سهلة، خالية من مسامحات المصنفين» (3).
وقد وضح المرعشي قصده من ذلك في كتابه (بيان جهد المقل) حيث قال: «قوله:
(خالية من مسامحات المصنفين). قال في الصحاح: المسامحة المساهلة. أقول هي من السهولة ضد العسرة، فكأن معنى المساهلة اختيار العبارة السهلة الموجزة وإن خفي معناها اعتمادا على فهم المخاطب» (4).
والقضية الأخيرة التي تضمنها قول المرادي الذي سقناه في أول هذا المبحث عن شمول منهج علماء التجويد في دراسة الأصوات هي حديثة عن (حسن الصوت وجودة الفك وذرابة اللسان وصحة الأسنان)، وهي تعني السلامة من عيوب النطق وأمراض الكلام، وهذا الموضوع وإن لم يكن لغويا محضا فإنه من مكملات الدراسة الصوتية اللغوية. وقد عالج
__________
(1) في الأصل (وجوههم).
(2) بيان جهد المقل 1ظ.
(3) جهد المقل 1ظ.
(4) بيان جهد المقل 2و.(1/63)
بعض علماء التجويد هذا الموضوع بفصل مستقل ضمن كتب علم التجويد، كما فعل عبد الوهاب القرطبي في آخر كتابه (الموضح)، أو برسائل مفردة كما فعل ابن البناء برسالته (بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء).
كان منهج علماء التجويد إذن شاملا، استغرق الكلام على الموضوعات الأساسية في (علم الأصوات النطقي)، وهي:
1 - إنتاج الأصوات اللغوية وتقسيمها، ويتضمن ذلك دراسة آلة النطق ومخارج الحروف وصفاتها.
2 - دراسة ما ينشأ عنها من الأحكام، أي الظواهر الصوتية، عند تركيبها في الكلام المنطوق. وشمل أيضا دراسة موضوعات تكميلية هي:
أرسم منهج تعليمي للأصوات يتمثل في التلقي المباشر عن المعلم المتقن أولا، ثم التدريب المستمر على نطق الأصوات ثانيا، وهو ما عبر عنه علماء التجويد، برياضة اللسان.
مع إخضاع ذلك المنهج التعليمي لإطار نقدي متعدد الاتجاهات، يتمثل في أن القاعدة المدونة في الكتب تحرس الأداء عن الانحراف في النطق من جانب، وأن الدراية تعمل على تدقيق القاعدة المدونة والسمو بها دائما نحو الدقة في وصف جوهر العملية النطقية المراد التعبير عنها.
ب معالجة عيوب النطق أو أمراض الكلام.
ثانيا منهج علماء التجويد منهج صوتي خالص:
إن علماء التجويد كانوا دائما من المتخصصين في علم القراءات، ومن المشتغلين بعلوم القرآن، كما أن الكثير منهم كانوا لغويين ونحاة، أو كانوا على جانب كبير من الثقافة اللغوية:
النحوية والصرفية. فهل استطاعوا أن يرسموا حدودا واضحة لعلم التجويد، متميزة عن العلوم الأخرى التي كانوا يشتغلون بها، لا سيما أن بعض تلك العلوم له ارتباط وثيق بعلم التجويد من بعض الوجوه، خاصة علم القراءات، وعلم الوقف والابتداء، وعلم رسم المصحف، وعلم الصرف؟ إن الاجابة عن هذا السؤال سوف تحدد لنا أكان منهج علماء التجويد منهجا صوتيا خالصا أو لا؟.
إن أول قضية بارزة تواجهنا في البحث عن إجابة للسؤال السابق هي أن علماء التجويد قد خصصوا كتبا مستقلة لبحوثهم الصوتية، هي التي تعرف بكتب علم التجويد، وقد ذكرنا في المبحث الثاني من هذا الفصل أشهر تلك الكتب منذ أقدمها وهو قصيدة أبي مزاحم الخاقاني،
حتى أحدثها وهو (خلاصة العجلة في بيان مراد الرسالة) للدركزلي الموصلي.(1/64)
إن أول قضية بارزة تواجهنا في البحث عن إجابة للسؤال السابق هي أن علماء التجويد قد خصصوا كتبا مستقلة لبحوثهم الصوتية، هي التي تعرف بكتب علم التجويد، وقد ذكرنا في المبحث الثاني من هذا الفصل أشهر تلك الكتب منذ أقدمها وهو قصيدة أبي مزاحم الخاقاني،
حتى أحدثها وهو (خلاصة العجلة في بيان مراد الرسالة) للدركزلي الموصلي.
واستطاع علماء التجويد بذلك أن يجردوا المباحث الصوتية المبعثرة في كتب النحو والصرف والقراءات ويجمعوها في كتب مستقلة، وهذا من أول شروط كون المنهج واضح المعالم محدد الأبعاد غير مختلط بما سواه من كتب العلوم الأخرى.
والقضية الثانية البارزة في ذلك الصدد هي أن علماء التجويد قد ميزوا أبحاثهم الصوتية بتسمية جديدة، فلم يدعوها تحمل اسم علم النحو، أو علم الصرف، أو علم القراءات، وإن كانت ذات صلة بهذه العلوم، ولكنهم استخدموا لتلك المباحث تسمية جديدة مبتكرة هي (علم التجويد)، وقد استقرت هذه التسمية في وقت مبكر من تاريخ هذا العلم، وقد ذكرنا أن مطلع القرن الرابع الهجري قد شهد مصطلح (التجويد) في ميدان الأبحاث الصوتية المتصلة بقراءة القرآن (1)، وشهد ظهور مطلع القرن الخامس على أقرب تقدير اختيار هذا المصطلح اسما لمجموع تلك الأبحاث، ولم يمض وقت طويل من ذلك القرن حتى استقرت هذه التسمية الجديدة.
وإذا كنا نجد أن أول مصنف في علم التجويد، وهو قصيدة أبي مزاحم (ت 325هـ) جاء خاليا من استخدام مصطلح (التجويد) وأن الكتاب الثاني وهو كتاب (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) للسعيدي (ت في حدود 410هـ) استخدم ذلك المصطلح في مادة الكتاب دون عنوانه، فإن مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) استخدام المصطلح على الصعيدين معا، فقد قال عن تسمية الكتاب: «وسميت ما ألّفت من ذلك بكتاب الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة بعلم مراتب الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها» (2).
ويبدو هنا أن مكيا كان مترددا في التسمية بين (علم التجويد) و (علم مراتب الحروف ومخارجها وصفاتها)، كما يبدو ذلك من العنوان الطويل الذي اختاره لكتابه، وقد أظهر مكي تعلقا بالاسم الثاني في ثنايا كتابه الرعاية، فقال وهو يتحدث عن دور المخارج والصفات في اختلاف وقع الأصوات في السمع: «واعلم أنه لولا اختلاف المخارج لم يفرق في السمع بين حرفين أو حروف على صفة واحدة. وقد تقدم منه جملة فافهمه، فعليه مدار علم مخارج الحروف وصفاتها وقوتها وضعفها وتقاربها وتباعدها وإدغام بعضها في
__________
(1) انظر: المبحث الأول من هذا الفصل.
(2) الرعاية ص 43.(1/65)
بعض» (1).
أما الداني (ت 444هـ)، وهو أحد رواد هذا العلم الأوائل، فإنه سمى كتابه (التحديد في الإتقان والتجويد) (2)، كما أنه صرح في مقدمة الكتاب بقوله: «أعملت نفسي في رسم كتاب خفيف المحمل قريب المأخذ في وصف علم الإتقان والتجويد وكيفية الترتيل والتحقيق» (3). ولكنا نلاحظ أن كلمة (الإتقان) التي قرنها الداني بكلمة (التجويد) لم تعد تظهر في عناوين كتب هذا العلم اللاحقة مثل (الموضح في التجويد) لعبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ)، وكتاب (التجريد في التجويد) لابن البناء (ت 471هـ)، وإذا ما ظهرت في بعض العناوين مثل (نهاية الإتقان في تجويد القرآن) لشريح بن محمد الرعيني (ت 539هـ) فإنها لا يقصد بها التسمية الاصطلاحية لهذا العلم وإنما يفهم منها المعنى اللغوي.
وإذا كانت قد صارت لمباحث علماء التجويد الصوتية تسمية متميزة وهي (علم التجويد)، وصارت تلك المباحث تضمها كتب مستقلة هي كتب علم التجويد، فلننظر الآن في الموضوعات التي عالجها علماء التجويد في كتبهم، أكانت صوتية خالصة أو الطت بها مباحث العلشي شيء وم الأخرى؟.
لا شك في أن تتبع تلك الكتب كلها وإثبات موضوعاتها والتمييز بين ما يدخل في علم التجويد منها وبين ما لا يدخل فيه أكبر من أن نتمكن من القيام به في هذا البحث، لا لصعوبة فيه ولكن لأنه يؤدي إلى ازدياد حجم البحث أكثر مما يسمح به المنهج الذي نسير عليه. ولهذا سوف نتناول هذا الموضوع من خلال نظرة عامة تركز على علاقة كتب علم التجويد ببعض العلوم الأخرى التي أشرنا قبل قليل إلى ارتباطها بمباحث هذا العلم من بعض النواحي.
وأول تلك العلوم التي ترتبط بعلم التجويد هو علم القراءات، فكلاهما يهتمان بنطق ألفاظ القرآن الكريم، ولكن كل منهما يعنى بجانب معين من جوانب ذلك النطق، وقد ميز
__________
(1) الرعاية ص 192191.
(2) حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 355.
(3) التحديد 1ظ. وقد جاء عنوان الكتاب في النسخة الخطية التي تحتفظ بها مكتبة وهبي أفندي (40/ 1) (التحديد في صنعة الإتقان والتجويد) وقد ترددت كلمة (الصناعة) في بعض كتب التجويد، فاستخدم الداني في شرح قصيدة أبي مزاحم (136و): (الأكابر من علماء هذه الصناعة) واستخدم في المنبهة (ص 16): (هذه الصناعة)، كما استخدم أحمد بن أبي عمر في الإيضاح (68ظ). (أرباب الصناعة) و (71و): (أهل الصناعة). وهذا استخدام يشبه إطلاق كلمة (الفن) على علم التجويد.(1/66)
علماء التجويد بشكل واضح بين العلمين من حيث المنهج ومن حيث الموضوع. أما المنهج فقد نصوا على أن كتب القراءات تعتمد على الرواية، وأن كتب التجويد تعتمد على الدراية المبنية على المشافهة ورياضة الألسن، وأما الموضوع فكتب القراءات تعنى برواية وجوه القراءات في نطق كلمات القرآن، بينما كتب التجويد تعنى بكيفية أداء الألفاظ بإخراج الحروف من مخارجها وإعطائها حقها من صفاتها، مما لا اختلاف في أكثره بين القراء. وسبق أن نقلنا في المبحث الأول من هذا الفصل عددا من النصوص التي وضح فيها علماء التجويد الفرق بين مباحث علم التجويد وعلم القراءات، ونكتفي منها هنا بنقل نص واحد يلخص هذا الموضوع بشكل واضح، وهو قول مكي في كتاب (الرعاية) وهو يتحدث عن تجويد حرف الذال: «وقد ذكرنا في غير هذا الكتاب ما تدغم فيه الذال وغيرها من الحروف مما اختلف القراء فيه، فأغنى عن ذكر ذلك في هذا الكتاب. فتلك الكتب كتب تحفظ منها الرواية المختلف فيها، وهذا الكتاب يحكم فيه لفظ التلاوة التي لا خلاف فيها، فتلك كتب رواية، وهذا كتاب دراية» (1).
وكان علماء التجويد يستحضرون ذلك الفرق بين العلمين أثناء بحثهم موضوعات ذات طرفين، أحدهما يرتبط بعلم التجويد، والآخر يرتبط بعلم القراءات مثل موضوع الإدغام، فالبحث في ظاهرة الإدغام وتفسيرها من الناحية الصوتية والحديث عن أنواع الإدغام كل ذلك يدخل في مجال علم التجويد، أما اختلاف القراء في إدغام بعض الحروف فهذا يدخل في علم القراءات. ومن أمثلة ذلك قول السمرقندي (ت 780هـ): «واختلفوا في لام هل وبل عند ثمانية أحرف. وبيان ذلك في كتب القراءات». وقال في مناسبة أخرى: «وتحقيق ذلك في كتب القراءات» (2). وقال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020هـ) في شرحه على المقدمة الجزرية:
«ولم يمثل الناظم رحمه الله تعالى للإدغام الكبير نحو {الرَّحِيمِ * مََالِكِ} [الفاتحة: 3 4]، {الْكِتََابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 176] لأن محله كتب القراءات» (3). وذكر عبد الغني النابلسي (ت 1143هـ) أن الإدغام على نوعين كبير وصغير، وقال عن الإدغام الكبير: «وليس هذا محل بيانه، بل موضعه كتب القراءات». وذكر أن الإدغام الصغير متفق عليه ومختلف فيه، ثم قال: «أما الإدغام المختلف فيه فله تفاصيل كثيرة مبسوطة في كتب القراءات» (4).
__________
(1) الرعاية ص 200199.
(2) انظر: روح المريد 123و، 131ظ.
(3) الجواهر المضية 54ظ.
(4) كفاية المستفيد 15ظ، 16ظ.(1/67)
وهكذا ينص علماء التجويد في كل مناسبة يجري بهم سياق الكلام فيها إلى ذكر شيء من ظواهر القراءات المختلف فيها بين القراء، سواء أكان ذلك في المدود (1)، أم الراءات (2)، أم اللامات (3)، أم غيرها.
وكان علماء القراءات يدركون الحدود الفاصلة بين موضوعات العلمين، لذلك نجد شراح الشاطبية ينصون على أن (باب مخارج الحروف وصفاتها) الذي ختم به الشاطبي قصيدته (حرز الأماني) ليس من موضوعات القراءات، قال شعلة الموصلي (ت 656هـ) عن ذلك الباب «هذا من الفوائد التي زادت على ما في التيسير ولا بد من إيراده وإن لم يكن له تعلق بعلم القراءة، لئلا يلحن في القرآن، لأن اللحن لحنان» (4) وقال أبو شامة (ت 665هـ) عن الموضوع نفسه: «ولا تعلق له بعلم القراءات إلا من جهة التجويد، وهو علم مخارج الحروف» (5).
أما علاقة علم التجويد بعلم التصريف فتتجلى بشكل خاص بموضوعات معينة مثل الكلام عن حروف العلة والبدل والقلب والزيادة، وقد صرح علماء التجويد أن استقصاء تلك المباحث ليس موضعه علم التجويد وإنما كتب التصريف واللغة، وهذه نصوص توضح حقيقة ذلك.
قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ) في الموضح: «وقد يجعل بعضهم الثاء فاء، فيقول في ثلاثة: فلافة، وهو لثغ قبيح، فضلا أن يقال إنه لحن خفي. فأما ما ذكر أهل اللغة من أن بعض العرب يبدل الثاء فاء فيقولون في جدث: جدف، وفي ثوم: فوم، فإن ذلك غير مطرد، بل هو موجود في أحرف يسيرة خاصة، ومنقول نقلا يحفظ ولا يتجاوز» (6).
وقال أيضا: «وهذه المزية التي لهذه الحروف، أعني بالمزية اختصاصها بالإبدال والزيادة لا تعلق لها باللفظ، فمن حقها ألا تذكرها هنا إلا أنّا أوردناها لتكون القسمة شاملة
__________
(1) انظر: ابن الجزري: التمهيد ص 55.
(2) السمرقندي: روح المريد 132ظ.
(3) علي القاري: المنح الفكرية ص 23.
(4) كنز التهاني (باب مخارج الحروف) ص 1.
(5) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 1.
(6) الموضح 161و.(1/68)
حاضرة» (1).
وقال: «فأما القلب فإنه يجب في حروف كثيرة ومواضع عدة، مثل انقلاب حروف العلة بعضها إلى بعض، لما توجبه أحكام التصريف، وتحول الحروف الصحاح بعضها إلى بعض للإدغام الذي يوجبه تقارب الحروف، وكتاء افتعل في انقلابها طاء في مثل (اضطرب) و (اضطروا) ودالا في مثل (ازدان) و (يزدري). وكانقلاب الهمزة إلى الواو والياء والألف، وغير ذلك من المواضع التي يبدل فيها بعض الحروف ببعض. وليس استيعاب ذلك مما يليق بهذا الموضع، لأنه لا حاجة تدعو إليه فيه لأن الحفظ والتلقين يحصلان لقارئ القرآن اللفظ بالمقلوب والمبدل، كما يحصلان له اللفظ بالأصل» (2).
وقال أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ): «فأما حروف الزيادة وحروف الإبدال فليست مما نحن فيه بشيء، غير أني أذكرها ليكون الباب أجمع» (3).
وقال الفخر الموصلي (ت 621هـ) بعد أن ذكر حروف الإبدال: «والبدل موقوف على السماع» (4). وقال بعد أن ذكر حروف العلة وانقلاب بعضها إلى بعض: «وهذا يستقصى في كتب التصريف» (5).
أما علاقة علم التجويد بعلم الوقف والابتداء فيبدو أنها ترجع إلى ما اتبعه الداني (ت 444هـ) في كتابه التحديد حيث ألحق بالكتاب (باب ذكر الوقف وأقسامه) وقال فيه: «اعلموا أن التجويد لا يتحصل لقراء القرآن إلا بمعرفة الوقف وو مواضع القطع على الكلم» (6). وقد أدرك علماء التجويد الفرق بين العلمين مع ما بينهما من علاقة، قال المرعشي (ت 1150هـ) عن علم الوقف والابتداء: «وهذا فن مستقل مغاير لفن التجويد، ولكن جرت عادة بعض العلماء بجعل قواعده الكلية جزءا من كتب التجويد» (7). ولهذا نجد كثيرا من علماء التجويد لم يتطرقوا إلى ذكره، وربما تحدثوا عن موضوع كيفية الوقف على أواخر الكلم، وهذا
__________
(1) الموضح 157و.
(2) الموضح 178ظ 179و.
(3) الإيضاح 74ظ.
(4) الدر الموصوف 170ظ.
(5) الدر الموصوف 171ظ.
(6) التحديد 43ظ.
(7) جهد المقل 45و.(1/69)
موضوع تجويدي له تعلق بعلم الوقف والابتداء.
وربما كان لصنيع ابن الجزري (ت 833هـ) في (المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه) من إلحاقه لمباحث الوقف، وبعض مباحث الرسم في آخر المقدمة، تأثير في اتجاه المؤلفين المتأخرين إلى التعرض إلى هذه المباحث في كتب علم التجويد، بينما كان قصد ابن الجزري أن يجمع ابتداء هذه العلوم الثلاثة في مقدمته، كما صرح بذلك في أولها (1). وقد قال طاش كبري زاده (ت 968هـ) في شرحه على المقدمة: «اعلم أن الناظم كما أشار إليه في صدر كتابه جعل هذه الأرجوزة مبنية على ثلاثة أمور: التجويد، والوقوف، ورسوم المصحف» (2).
من كل ما ذكرناه هنا نخلص إلى هذه النتيجة، وهي أن علماء التجويد كانوا مدركين للحدود التي تفصل علم التجويد عن العلوم الأخرى التي تتصل به من بعض الجوانب، وأنهم كانوا حين يضطرون إلى ذكر بعض المباحث ترجع إلى هذا العلم أو ذاك حرصا منهم من أن تظل موضوعات علم التجويد متميزة عن مباحث العلوم الأخرى، خالصة من شوائبها، مع الملاحظة أن بعض المؤلفين، لا سيما من المتأخرين رشي شي بما حشروا بعض المباحث غير الصوتية في كتب علم التجويد رغبة منهم في إفادة القارئ ببعض الأمور التي لها ارتباط بعلم التجويد من بعيد مثل مباحث الوقف، أو مباحث رسم المصحف.
ولعل من تمام الكلام عن منهج علماء التجويد في كتبهم أن أنقل هنا أمثلة توضح كيفية تبويب تلك الكتب، لا سيما أن معظمها مخطوط يصعب على الكثير الاطلاع عليه، وأكتفي هنا بكتابين يمثلان عصرين متباعدين، الأول من القرن الخامس الهجري، والثاني من القرن الثاني عشر الهجري.
أما الكتاب الأول من الكتابين اللذين نريد أن نتحدث عنهما فهو (التحديد في الإتقان والتجويد) لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444هـ)، وسوف أعتمد على نسخة مكتبة (وهبي أفندي) المرقمة (40/ 1) وهي تقع في أربع وأربعين ورقة من القطع المتوسط. وهو يبدأ بمقدمة تستغرق صفحة ونصفا في بيان السبب الذي دفع المؤلف إلى تأليف الكتاب وذكر بعض الأمور المتعلقة بخطته في تناول موضوعات الكتاب (1ظ 2و). ثم تبدأ أبواب الكتاب
__________
(1) انظر: ابن الجزري: متن الجزرية ص 16 (اقرأ الأبيات 85).
(2) شرح المقدمة الجزرية 34ظ.(1/70)
على هذا النحو:
1 - باب: في ذكر البيان عن معنى التجويد وحقيقة الترتيل والتحقيق وما جاء من السنن والآثار في الحث على استعمال ذلك والأخذ به (2و 5ظ).
2 - باب: في قراءة التحقيق وتجويد الألفاظ ورياضة الألسن بالحروف (5ظ 8ظ).
3 - باب: ذكر الأخبار الواردة عن أئمة القراءة في استعمال التحقيق (8ظ 9و).
4 - باب: ذكر الإفصاح عن مذاهب الأئمة في حد التحقيق ونهاية التجويد، وما جاء عنهم من الكراهة في التجاوز عن ذلك (9و 12ظ).
5 - باب: ذكر البيان عن حقائق الألفاظ وحدود النطق بالحروف (12ظ 16ظ).
قال الداني في أول هذا الباب: «اعلموا أن التجويد لا يتمكّن والتحقيق لا يتحصل إلا بمعرفة حقيقة النطق بالمحرك، والمسكن، والمختلس، والمرام، والمشمّ، والمهموز، والمسهّل، والمحقق، والمشدد، والمخفف، والممدود، والمقصور، والمبيّن، والمدغم، والمخفى، والمفتوح، والممال. وأنا أبين ذلك كله».
6 - باب: ذكر مخارج الحروف المعجمة وتفصيلها (16و 17ظ).
7 - باب: ذكر أصناف هذه الحروف وصفاتها (17ظ 20و).
قال الداني في أول هذا الباب: «اعلموا أن أصناف هذه الحروف التي تتميز بها بعد خروجها من مواضعها التي بيناها ستة عشر صنفا: المهموسة، والمجهورة، والشديدة، والرخوة، والمطبقة، والمنفتحة، والمستعلية، والمستفلة، وحروف المد واللين، وحروف الصفير، والمتفشي، والمستطيل، والمتكرر، والمنحرف، والهاوي، وحرفا الغنة» ثم وضح الداني هذه الصفات.
8 - باب: ذكر أحوال النون الساكنة والتنوين (20و 22و).
9 - باب: ذكر الحروف التي يلزم استعمال تجويدها وتعمّد بيانها وتخليصها لتنفصل بذلك من مشبهها على مخارجها (23ظ 41ظ).
وهذا الباب هو أطول أبواب الكتاب، قسمه الداني إلى فصول على عدد حروف المعجم، مرتبا لها على المخارج، وتحدث في كل فصل عن حرف من الحروف ذاكرا صفاته الصوتية، مبينا الأحكام التي تخصه عند تركيبه في الكلام المنطوق، موضحا ذلك بالأمثلة الكثيرة من كلمات القرآن الكريم.
10 - باب: ذكر أحوال الحركات في الوقف، وبيان الروم والإشمام (41ظ 43و).(1/71)
وهذا الباب هو أطول أبواب الكتاب، قسمه الداني إلى فصول على عدد حروف المعجم، مرتبا لها على المخارج، وتحدث في كل فصل عن حرف من الحروف ذاكرا صفاته الصوتية، مبينا الأحكام التي تخصه عند تركيبه في الكلام المنطوق، موضحا ذلك بالأمثلة الكثيرة من كلمات القرآن الكريم.
10 - باب: ذكر أحوال الحركات في الوقف، وبيان الروم والإشمام (41ظ 43و).
11 - باب: الوقف وبيان أقسامه (43ظ 44ظ). وهو آخر أبواب الكتاب.
وأما الكتاب الثاني فهو (كفاية المستفيد في علم التجويد) لعبد الغني بن إسماعيل النابلسي (ت 1143هـ). وسوف نعتمد على نسخة مكتبة المتحف ببغداد المرقمة (10895) في وصف أبواب الكتاب الذي يتألف من أربع وعشرين ورقة متوسطة الحجم. والكتاب يبدأ بمقدمة تستغرق من الكتاب الأوراق (1ظ 3و) قال في نهايتها: «واعلم أن أحكام التجويد تنحصر في ثلاثة أصول، كل أصل تحته أربعة فصول. ووجه الانحصار في الثلاثة لأن الكلام على الحروف الهجائية إما أن يكون من حيث إفرادها أو من حيث تركيبها، والثاني هو الأصل الثالث. والأول إما أن يكون من حيث كميتها، وهو الأصل الأول، أو من حيث كيفيتها، وهو الأصل الثاني». هذه هي الفكرة النظرية لمنهج النابلسي في تبويب الكتاب، وهي متماسكة في هيكلها الثلاثي العام، لكنها لا تخلو من بعض التحكم في محاولة تقسيم كل أصل من الأصول الثلاثة إلى فصول أربعة لا تزيد ولا تنقص.
وبعد المقدمة تبدأ أبواب الكتاب التي سماها المؤلف أصولا على هذا النحو:
الأصل الأول: معرفة مخارج الحروف (3و 5و).
الفصل الأول: في الجوف، ويتولد منه ثلاثة حروف.
الفصل الثاني: في الحلق، وفيه ثلاثة مخارج، يتولد منها ستة حروف.
الفصل الثالث: في اللسان، وله أربعة مواضع: أقصى ووسط وحافتان وطرف، وفيها عشرة مخارج لثمانية عشر حرفا.
الفصل الرابع: في الشفتين، وفيهما مخرجان لأربعة حروف.
الأصل الثاني: معرفة صفات الحروف (5و 12ظ).
الفصل الأول: في الصفات التي لها أضداد تضادها وهي خمس صفات.
الفصل الثاني: في الصفات التي لا أضداد لها، وهي ثماني صفات.
الفصل الثالث: في انقسام الصفات المذكورة إلى صفات قوية ومتوسطة وضعيفة.
الفصل الرابع: في معرفة الحروف الواجبة التفخيم والحروف الواجبة الترقيق أبدا، والحروف التي على التفصيل في ذلك.
الأصل الثالث: في معرفة أحكام تعتري الحروف في حالة تركبها، وهي ثمانية أشياء:
مد وقصر، وإدغام وإظهار، وإخفاء وإقلاب، ووقف وابتداء، فانحصر كلامنا على هذا الأصل في أربعة فصول أيضا (12ظ 24و).(1/72)
الأصل الثالث: في معرفة أحكام تعتري الحروف في حالة تركبها، وهي ثمانية أشياء:
مد وقصر، وإدغام وإظهار، وإخفاء وإقلاب، ووقف وابتداء، فانحصر كلامنا على هذا الأصل في أربعة فصول أيضا (12ظ 24و).
الفصل الأول: المد والقصر.
الفصل الثاني: الإدغام والإظهار.
الفصل الثالث: الإخفاء والإقلاب.
الفصل الرابع: الوقف والابتداء (يتضمن كيفيات الوقف وأقسام الوقف).
هذان مثالان لتبويب الموضوعات في كتب علم التجويد، تقدّم عليهما مثال ثالث من قبل هو كتاب (الموضح) لعبد الوهاب القرطبي، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى، منها ما يخص المؤلفات العامة لكتب علم التجويد، ومنها ما يتعلق بموضوعات خاصة على نحو ما عرضنا في المبحث الثاني من هذا الفصل.
ولا نكاد نجد كتابين من تلك الكتب يتطابقان في التبويب، اللهم إلا إذا كانا شرحا لنص واحد، مثل شروح المقدمة الجزرية، ونجد في كثير من تلك الكتب أمثلة تعبر عن دقة في تبويب بعض الموضوعات، وما اختلاف مناهج المؤلفين في تبويب كتبهم، مع كون الموضوعات واحدة في أغلب الأحيان، إلا تعبير عن أصالة التفكير والتحرر من صفة الجمود والتقليد.
ولنا في نهاية حديثنا عن منهج علماء التجويد وكيف كان ذلك المنهج شاملا أولا، وخالصا ثانيا، ملاحظة عامة عن أساليب هؤلاء العلماء في معالجة موضوعاتهم، وعلاقتهم بغيرهم من سابقيهم، وهي ملاحظة ليست نهائية، لأنها تفتقر إلى الاستقراء الكامل لكتب علم التجويد، ومع ذلك فلدينا أمثلة كافية ومتعددة عن كل عصر من العصور التي يمتد إليها ميدان هذا البحث.
وتتلخص تلك الملاحظة في القول بأن مؤلفات القرن الرابع الهجري التي تمثل مرحلة النشأة لهذا العلم والتي يمكن أن نمثل لها بقصيدة أبي مزاحم (ت 325هـ) وكتاب (التنبيه على اللحن الجلي والخفي) للسعيدي (ت في حدود 410هـ) كانت تفتقر إلى المنهج المتكامل أو الشامل، فهي كتب رائدة لم ينسج مؤلفوها على مثال، وإنما ابتدعوها ابتداعا وصارت أمثلة للمؤلفين من بعد ينظرون فيها ويكملون نقصها، ويتمثلون بعباراتها.
وكانت مؤلفات القرن الخامس الهجري تمثل مرحلة النضج لهذا العلم، منهجا
وموضوعا، متمثلة بكتاب (الرعاية) لمكي (ت 437هـ) و (التحديد) للداني (ت 444هـ)، و (الموضح) للقرطبي (ت 462هـ). وربما امتدت هذه المرحلة إلى القرن السادس أيضا.(1/73)
وكانت مؤلفات القرن الخامس الهجري تمثل مرحلة النضج لهذا العلم، منهجا
وموضوعا، متمثلة بكتاب (الرعاية) لمكي (ت 437هـ) و (التحديد) للداني (ت 444هـ)، و (الموضح) للقرطبي (ت 462هـ). وربما امتدت هذه المرحلة إلى القرن السادس أيضا.
وتمثل مؤلفات القرن السابع والثامن الهجريين مرحلة جمع الآراء والموازنة بينها مع خفوت نزعة الإبداع في كثير من الأحيان، ويمثل هذه المرحلة (منهاج التوفيق إلى معرفة التجويد والتحقيق) في كتاب جمال القراء لعلم الدين السخاوي (ت 643هـ)، و (المفيد في شرح عمدة المجيد) للحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ)، و (التمهيد في علم التجويد) لابن الجزري (ت 833هـ)، الذي ألفه سنة 769هـ.
وكانت أرجوزة ابن الجزري المسماة (المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه) بداية لمرحلة جديدة في وجهة التأليف في علم التجويد، فقد شغلت المقدمة معظم علماء التجويد على مدى أربعة قرون تقريبا، فكانوا يعتنون بشرحها، وربما كتب بعض العلماء حواشي على تلك الشروح، ودخل علم التجويد بذلك مرحلة أقل ما يقال فيها أنه كثر فيها المكتوب مع قلة الجديد فيه بشكل عام.
وظهرت في النصف الأول من القرن الثاني عشر حلقة علمية متميزة على ما سبقها، وعلى ما لحقها، تتمثل في عالمين: أولهما: عبد الغني النابلسي (ت 1143هـ) الذي كتب (كفاية المستفيد في علم التجويد) الذي فصّلنا القول في منهجه قبل قليل، والثاني: تلميذ النابلسي: محمد المرعشي الملقب ساج قلي زاده (ت 1150هـ) الذي كتب (جهد المقل) و (بيان جهد المقل) وغيرهما. وقد تميز النابلسي بالمنهج الذي وضعه لكتابه، وتميز المرعشي بالمادة الصوتية التي قدمها في كتبه والتي تتسم بالتحليل العميق والدقيق إلى حد كبير.
أما آخر كتب علم التجويد التي وقفنا عندها فهو كتاب (خلاصة العجالة في بيان مراد الرسالة) للدركزلي الموصلي الذي فرغ من تأليفه سنة 1266هـ، وهو من أكبر كتب علم التجويد حجما (217ورقة)، ولكن كبر حجمه كان ناتجا عن تراكمات واستطرادات كثير منها لا يمت إلى علم التجويد بصلة، وإني ألاحظ فيه مع ذلك اتجاهات جديدة تتمثل في ما يأتي:
أولا: رجوع المؤلف إلى كتب التشريح لوصف أعضاء النطق، وثانيا: قائمة المصادر الطويلة التي ذكر فيها أسماء (106) كتب، وألحقها في آخر كتابه. وهذان الاتجاهان، وإن كان الثاني منهما شكليا جديران بالذكر.
* * * * *
المبحث الخامس صلة علم التجويد بعلوم القرآن وعلم اللغة(1/74)
* * * * *
المبحث الخامس صلة علم التجويد بعلوم القرآن وعلم اللغة
كان لعلم التجويد موضوعه المتميز المحدد، وهو دراسة مخارج الحروف وصفاتها وأحكامها التركيبية، مما نسميه الآن (علم الأصوات اللغوية)، وكان هذا الموضوع يحظى بعناية علماء القراءة، كما كان يحظى بعناية علماء العربية من النحاة واللغويين، قبل أن يظهر علم التجويد بشكله المستقل، وجاءت مرحلة تركزت فيها الدراسة الصوتية في كتب علم التجويد وضعفت عند النحاة، فكان كتاب (سر صناعة الإعراب) لابن جني العمل الوحيد للنحاة الذي أخذ شكلا مستقلا، ولكنه لم يكن صوتيا خالصا، كما أنه كان عملا منقطعا لم يظهر بعده عمل مستقل للنحويين يعالج هذا الموضوع، فظل يدرس في أواخر بعض كتب النحو أو الصرف كما نجد في (المفصل) للزمخشري، وشروحه و (الشافية) لابن الحاجب وشروحها، و (التسهيل) لابن مالك وشروحه.
وهناك ظاهرة تبدو في دراسة النحويين المتأخرين للأصوات العربية، وهي أنهم صاروا يعتمدون على آراء علماء التجويد ومذاهبهم في تحليل الظواهر الصوتية ووصفها، وتعليلها، مثلما كان علماء التجويد يعتمدون على دراسات النحويين الصوتية في بدء أمرهم. قال الداني في أول باب مخارج الحروف: «وأنا أذكر ذلك على مذهب سيبويه خاصة، إذ هو الصحيح المعوّل عليه» (1) وصرنا نجد في كتب متأخري النحاة رأي النحوي إلى جانب رأي عالم التجويد، وهذه ثلاثة أمثلة توضح لنا ذلك التداخل الحاصل في الدراسة الصوتية بين علماء العربية وعلماء التجويد:
قال أبو حيان في كتابه (ارتشاف الضرب): «المخرج الثاني: وسط الحلق، وهو العين والحاء. وظاهر كلام سيبويه أن الحاء بعد العين، وهو نص كلام مكي بن أبي طالب. ويظهر
__________
(1) التحديد 16و.(1/75)
من كلام المهدوي أن العين بعد الحاء، وهو نص أبي الحسن شريح» (1).
وقال الحسن بن قاسم المرادي في كتابه (شرح التسهيل) وهو يتحدث عن إدغام النون الساكنة: «والميم تدغم فيها بغنة، واختلف فيها، فذهب المحققون إلى أن الغنة للميم المبدلة من النون وهو إدغام تام صحيح، وذهب ابن كيسان وابن المنادي وابن مجاهد في أحد قوليه إلى أن الغنة للنون، وهو إدغام غير مستكمل، والتشديد غير بالغ. وقد ذهب إلى ذلك أبو محمد مكي بن أبي طالب، وزاد أن إدغام النون في النون إدغام غير مستكمل لبقاء الغنة، والصحيح قول الجمهور. وقال ابن أبي الأحوص: إدغامها في مثلها وفي الميم بغنة لا خلاف في ذلك» (2).
وقال السيوطي في كتابه (همع الهوامع): «وقال (أبو) محمد القيرواني صاحب الرعاية:
اختلاف مخرج اللام والراء والنون كاختلاف المخرج الذي فوقه من وسط اللسان، وهو مخرج الشين والجيم والياء، ولم يجعل ثلاثة مخارج، بل جعل مخرجا واحدا، فكذلك هذه الحروف ينبغي أن تجعل كذلك، وقال ابن أبي الأحوص: ما ذهب إليه سيبويه من أنها ثلاثة مخارج هو الصواب» (3).
وليس غرضنا من نقل هذه النصوص الثلاثة مناقشة مضمونها هنا، وإنما غرضنا توضيح امتزاج الدراسة الصوتية عند علماء العربية بالدراسة الصوتية عند علماء التجويد، فقد ورد في تلك النصوص أسماء عدد من كبار علماء التجويد وهم:
1 - ابن مجاهد (ت 324هـ) وابن المنادي (ت 336هـ) من الطبقة الأولى التي لم تصل إلينا منها كتب في علم التجويد.
2 - المهدوي (أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي ت بعد 430هـ) مؤلف كتاب (الهداية في القراءات السبع المشهورة) وقد شرحه أيضا. وفي هذا الكتاب فصول عن مخارج الحروف وأصنافها (4).
3 - مكي بن أبي طالب أبو محمد القيرواني (ت 437هـ) مؤلف كتاب (الرعاية
__________
(1) ارتشاف الضرب ص 2.
(2) شرح التسهيل 308ظ.
(3) همع الهوامع 6/ 293.
(4) انظر: برتزل: علم القراءات (بحث في مجلة إسلاميكا) ص 24.(1/76)
لتجويد القراءة).
4 - أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني (ت 539هـ) مؤلف كتاب (نهاية الإتقان في تجويد القرآن).
5 - ابن أبي الأحوص أبو علي الحسين بن عبد العزيز، المعروف بابن الناظر (ت 679هـ) وهو مؤلف كتاب (الترشيد في علم التجويد).
فدراسة الأصوات العربية إذن كان يتقاسمها علماء العربية وعلماء التجويد، وكان كل فريق يأخذ من الآخر، والفرق بينهما أن علماء العربية لم يخصصوا للموضوع كتبا مستقلة، وكانت دراستهم الصوتية مرتبطة بقضايا صرفية. أما علماء التجويد فقد جعلوا دراستهم مستقلة في كتب خاصة، كما أنها كانت عندهم على نحو أشمل. ولكن ذلك كله لا يغير من حقيقة جوهرية هي أن دراسة الأصوات العربية موضوع لغوي أساسا، سواء أقام بها النحاة أم قام بها علماء القرآن، وسواء ارتبطت بنص محدد مثل ألفاظ القرآن الكريم، أم كانت تعنى بنص لغوي يشمل القرآن ونصوص لغة العرب من شعر ونثر، في عصر محدد أو غير محدد.
ومن ثمّ إذا نظرنا إلى مادة علم التجويد أمكننا أن نقول: إن علم التجويد من علوم العربية، كما أننا إذا نظرنا إلى كون هذا العلم يرتبط بقراءة القرآن، ويستمد أمثلته من ألفاظ القرآن أمكننا أن نقول: إنه من علوم القرآن. فهذا العلم إذن لا يمكن أن نقطع ارتباطه بهذين الحقلين الواسعين من حقول المعرفة (علوم العربية) و (علوم القرآن). وليس علم التجويد هو الوحيد الذي يتخذ هذه الصفة. فنجد (علم الوقف والابتداء) تنطبق عليه هذه الظاهرة المزدوجة في ارتباطه بعلم النحو من جانب وبعلوم القرآن من جانب آخر، وليس هذا الذي نقوله جديدا، فقد أدرك المشتغلون بتاريخ علوم العربية مقدار ارتباط هذه العلوم بالقرآن الكريم، وكذلك صار واضحا منذ وقت مبكر حاجة المشتغلين بعلوم القرآن، لا سيما المتعلقة بضبط نصه، إلى إتقان علوم العربية.
فهذا أبو عمرو الداني يقول في نهاية كتابه (التحديد في الإتقان والتجويد): «فهذا كله وسائر ما ذكرناه قبل لا تتمكن معرفته للقراء إلا بنصيب وافر من علم العربية، وذلك من آكد ما يلزمهم تعلمه والتفقه فيه، إذ به يفهم الظاهر الجلي، ويدرك الغامض الخفي، وبه يعلم الخطأ من الصواب ويميز السقيم من الصحيح» (1).
__________
(1) التحديد (44و 44ظ).(1/77)
وقال أبو العلاء الهمذاني العطار في كتاب (التمهيد في التجويد): «ثم اعلم أن ما ذكرناه من الحذق بالأداء وما لم نذكره من مذاهب القراء لا يوقف على حقيقته ولا يوصل إلى كيفيته إلا بإتقان العربية ومقاييسها، ومعرفة وجوه القراءات ورواياتها» (1).
وقد ذكر القسطلاني في (لطائف الإشارات) العلوم التي يحتاج إليها دارس القراءات، وجعل علم العربية ثاني تلك المهمات بعد (الأسانيد) (2). وقد قال: «وأما الجزء الثاني: وهو علم العربية، فاعلم أنه لما كان إنزال القرآن العزيز إنما وقع بلسان العرب، توقف الأمر في أدائه على معرفة ما يجوز عندهم النطق به وما لا يجوز، وهو قسمان: معرفة الإعراب المميز للخطأ والصواب، والثاني: معرفة كيفية نطقهم بكل حرف، ذاتا وصفة، وهو معرفة مخارج الحروف وصفاتها» (3).
ونتيجة لذلك الارتباط بين علم التجويد وعلوم العربية، وخاصة النحو والصرف، وجدت الشيخ محمدا المرعشي (ت 1150هـ)، وهو الوحيد الذي اطلعت على رأي له في هذا الموضوع، يميل إلى اعتبار علم التجويد من علوم العربية من غير أن ينكر صلته بعلوم القرآن، قال في (جهد المقل) وهو يعلق على قول علي القاري (موضوعه الكلمات القرآنية، يعني حروفها): «وفيه نظر، لأنه يبحث فيه عن أحوال الحروف أينما وقعت، فلعله من العلوم العربية، وداخل في التصريف، ولذلك جعل جزءا من بعض كتبه كالشافية. ولما أفرزه العلماء عن كتب التصريف لمعرفة أحوال حروف القرآن لا يبعد أن يصطلحوا على أنها موضوعه» (4).
وقال المرعشي في (بيان جهد المقل) موضحا أشياء في قوله السابق: «قوله (فلعله من العلوم العربية) الباحثة عن أحوال اللفظ العربي سواء وقع في القرآن وفي غيره، وليس من العلوم الشرعية الباحثة عن أحواله الشرعية الخاصة، وقوله (وداخل في التصريف) لأنه علم يبحث فيه عن هيئات الكلمات التي ليست بإعراب، ومخارج الحروف وصفاتها المذكورة في هذا العلم من هيئات الكلمات، لأن الكلمات مركبة من حروف» (5).
فالمرعشي إذن يرجح أن يكون علم التجويد من العلوم العربية، باعتباره جزءا من علم
__________
(1) التمهيد 89ظ.
(2) لطائف الإشارات 1/ 172.
(3) لطائف الإشارات 1/ 182.
(4) جهد المقل 2و 2ظ.
(5) بيان جهد المقل 3و.(1/78)
التصريف (أي الصرف). ويبدو أن المرعشي يتوسع هنا بمفهوم علم الصرف الذي يختص بأحوال الكلمة التي ليست بإعراب ولا بناء المتمثلة ببنية الكلمة ليشمل الأجزاء التي تتكون منها الكلمة وهي الحروف.
وإذا كنت من الموافقين للمرعشي على عدّه التجويد من العلوم العربية، أي اللغوية، فإن واقع الدراسات اللغوية المعاصرة يأبى أن نلحقه بعلم الصرف، فالتجويد علم مستقل بذاته يعنى بدراسة أصوات اللغة العربية مخارجها وصفاتها وأحوالها التركيبية، وليس بضائر بعد ذلك أن نسميه علم التجويد أو علم الأصوات اللغوية.
ومع أننا ندرس في هذا البحث جهود علماء التجويد في قرون مضت ونقرر ما قالوه ونناقشه في ضوء معارفنا الصوتية المعاصرة، تظل أبصارنا تتطلع إلى الأمام ترمق المكان الذي ينبغي أن يحتله هذا العلم في المستقبل، والدور الذي يمكن أن يقوم به في دراسة أصوات العربية وفي تعلمها أيضا، ومن ثم يجب أن نركز على الجانب اللغوي في علم التجويد، لأن دراساتنا اللغوية وواقع اللغة العربية المنطوق بحاجة إلى معطيات هذا العلم النظرية والتطبيقية، مستفيدين إلى أقصى حد مما حققه علم الأصوات اللغوية في الوقت الحاضر، هذا من غير أن نقطع صلة علم التجويد بنص القرآن الكريم، فقد كانت لتلك الصلة أهميتها في الماضي ويمكن أن تنال ذات الأهمية في الحاضر والمستقبل.
وهناك قضية أخيرة تتصل بهذا المبحث، وهي بيان أثر ارتباط علم التجويد بنص القرآن الكريم على دراسة الأصوات العربية لدى علماء التجويد، وهل كان ذلك الارتباط سببا لتقييد تلك الدراسة أو كان عاملا في إغنائها وديمومتها؟
إن القرآن الكريم نص لغوي عربي منقطع النظير في سمو فصاحته وبلاغته، يحرص المسلمون على ترتيل كلماته، أي نطقها مبيّنة مجوّدة، على نحو ما كان يحرص صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يرتلونها، وكان ذلك النطق هو المثال الذي ظل المسلمون يتلقونه جيلا بعد جيل بالمشافهة والرياضة، وكان ذلك النطق موضوع (علم التجويد) دراسة، وتحليلا، وتعليما، ومن ثم انحصرت أمثلة علماء التجويد وشواهدهم التي يدرسونها في ألفاظ القرآن الكريم بشكل أساسي، بخلاف النحاة الذين استمدوا شواهدهم من القرآن أولا ثم من كلام العرب شعره ونثره ثانيا. لكن علماء التجويد لم يخسروا شيئا حين حصروا اهتمامهم بألفاظ القرآن الكريم، بل أفادهم ذلك من عدة نواح:
أولا: كان هدف علماء التجويد تعليميا بالدرجة الأولى، ويناسب ذلك الهدف حصر
الدراسة في ميدان محدد، وهو ما يتحقق في نص القرآن الكريم، فلم ينشغلوا بتتبع وجوه النطق اللهجية وإثقال المتعلمين بها، بل تركوا ذلك لجهود علماء العربية، وركزوا جهودهم في ذلك الميدان المحدد، مما سهل عملية التلقي، وتحققت لعلماء التجويد درجة كبيرة في ضبط صورة النطق على نحو لا يفوقه إلا استخدام وسائل التسجيل الصوتي الحديثة، التي يجب أن يستعان بها في خدمة ذلك الجهد المتواصل لعلماء التجويد في المحافظة على صورة النطق العربي الأصيل متمثلا بنطق ألفاظ القرآن الكريم. وحرصا من علماء التجويد على حصر ميدان جهودهم ميزوا موضوع القراءات عن موضوع التجويد، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.(1/79)
أولا: كان هدف علماء التجويد تعليميا بالدرجة الأولى، ويناسب ذلك الهدف حصر
الدراسة في ميدان محدد، وهو ما يتحقق في نص القرآن الكريم، فلم ينشغلوا بتتبع وجوه النطق اللهجية وإثقال المتعلمين بها، بل تركوا ذلك لجهود علماء العربية، وركزوا جهودهم في ذلك الميدان المحدد، مما سهل عملية التلقي، وتحققت لعلماء التجويد درجة كبيرة في ضبط صورة النطق على نحو لا يفوقه إلا استخدام وسائل التسجيل الصوتي الحديثة، التي يجب أن يستعان بها في خدمة ذلك الجهد المتواصل لعلماء التجويد في المحافظة على صورة النطق العربي الأصيل متمثلا بنطق ألفاظ القرآن الكريم. وحرصا من علماء التجويد على حصر ميدان جهودهم ميزوا موضوع القراءات عن موضوع التجويد، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
ثانيا: إن ارتباط علم التجويد بالقرآن الكريم قد جعل منه علما شعبيا، بالتعبير المعاصر، في المجتمع الإسلامي على اختلاف البلدان والأزمان، يحرص المسلمون على اختلاف مستوياتهم الثقافية والمادية، وعلى تباين ألسنتهم وأجناسهم، على دراسته وتطبيق أحكامه، لأن تلاوة القرآن من أفضل أنواع الذكر عند المسلمين، ومن شروطها أن تكون مرتلة. وقد انعكست تلك الحالة على استمرار التأليف في هذا العلم من غير انقطاع، في مختلف بلاد المسلمين.
ثالثا: ارتباط علم التجويد بالقرآن الكريم قد أعطاه قوة معنوية تجعل المشتغلين به يقبلون على البحث فيه دون كلل، ويصبرون على متاعب البحث والتعليم حتى يتحقق لدى المتعلم المستوى النطقي المطلوب، ويحتسبون ذلك الجهد عند الله تعالى، وقد أثمرت تلك الجهود التي حظي بها علم التجويد في ترسيخ النطق العربي الفصيح على مدى العصور التي أعقبت نزول القرآن الكريم، حتى عصرنا الحاضر، ولولا ذلك الارتباط بين اللغة العربية والقرآن، وبالتحديد بين علم التجويد والقرآن لكان حال اللغة العربية اليوم على غير ما هي عليه، وثبات العربية الفصحى المستمر، خلاف كل اللغات الأخرى، لم يتحقق إلا بفضل تلك العلاقة بين علم التجويد، ممثلا لجوهر النطق العربي الأصيل وبين نص القرآن الكريم. وإن الواقع اليوم ليشهد أنه حيثما أهمل علم التجويد انتكس نطق العربية الفصحى، ولو كان ذلك في قلب بلاد العرب، وحيثما نال هذا العلم العناية الكافية درسا وتطبيقا صفا ذلك النطق وسما، ولو كان ذلك في أطراف آسيا أو في قلب إفريقيا. إنها حقيقة كبيرة، ومهمة في حياتنا اللغوية المعاصرة ولكننا نغفل عنها في كثير من الأحيان.
* * * * *
الفصل الثاني دراسة الأصوات عند علماء التجويد مفردة (على مستوى التحليل)(1/80)
* * * * *
الفصل الثاني دراسة الأصوات عند علماء التجويد مفردة (على مستوى التحليل)
الصوت المنطوق هو مادة اللغة الإنسانية، ولكل لغة من لغات البشر نظام صوتي يتكون من عدد من الوحدات الصوتية، ولا توجد لغة تستخدم الأصوات اللغوية في السلسلة الكلامية بشكل مفرد وإنما تتداخل وتأتلف في مجموعات، يكون المعنى هو الوسيلة الأساسية لمعرفة حدود تلك المجموعات الصوتية التي تسمى بالكلمات. ولكن علماء الأصوات اللغوية يلجئون إلى تحليل تلك السلسلة الكلامية إلى وحداتها الأساسية المفردة لمعرفة عدد الوحدات الصوتية التي يتكون منها نظام لغة معينة، ولتيسير دراسة تلك الوحدات، وبيان كيفية إنتاجها، وتوضيح خصائصها وصفاتها الصوتية.
ويقوم علماء الأصوات اللغوية بوصف أعضاء النطق، وتوضيح الدور الذي يقوم به كل عضو في إنتاج الصوت، ثم يصنفون الأصوات على وفق اعتبارات متعددة من أجل توضيح الخصائص الصوتية لكل صوت حين ينطق منفردا، ثم يدرسون أثر انتظام الصوت اللغوي في السلسلة الكلامية المنطوقة على صفاته النطقية والظواهر الصوتية التي تنشأ عن ائتلاف الأصوات وتجاورها.
وكان علماء التجويد قد درسوا أصوات اللغة العربية على أساس هذا المنهج الذي يقتضي مستويين من الدرس: مستوى التحليل، ومستوى التركيب، ونقلنا في أول المبحث الرابع من الفصل الأول قول الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ) الذي يلخص وجهة نظر علماء التجويد في دراسة الأصوات، وهو: «إن تجويد القراءة يتوقف على أربعة أمور:
أحدها: معرفة مخارج الحروف.
والثاني: معرفة صفاتها.
والثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
والرابع: رياضة اللسان بذلك، وكثرة التكرار (1).(1/81)
والثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
والرابع: رياضة اللسان بذلك، وكثرة التكرار (1).
ويمثل الأمر الأول والثاني في هذا القول ما سميناه بمستوى التحليل في دراسة الأصوات اللغوية، ويمثل الأمر الثالث المستوى الثاني في تلك الدراسة وهو مستوى التركيب، ويتعلق الأمر الرابع بالناحية التعليمية للأصوات.
وسوف أدرس في هذا الفصل جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية على مستوى التحليل الذي يعنى بالنظر إلى الأصوات مفردة مستقلة عن السلسلة الكلامية، فيدرس صفاتها الصوتية، ويصنفها تبعا لتلك الصفات إلى مجموعات، كل مجموعة تشترك في صفة معينة تميزها عن المجموعات الأخرى. وهذه الدراسة هي الأساس لفهم الظواهر الصوتية التي تنشأ من اتصال الأصوات في السلسلة الكلامية المنطوقة، مما سماه علماء التجويد بالأحكام الناشئة عن التركيب، التي سوف ندرسها في فصل لا حق إن شاء الله تعالى.
ونحن في هذا المنهج نسير في خطى علماء التجويد، ونرضي متطلبات الدرس الصوتي الحديث في الوقت نفسه، وكان عبد الوهاب القرطبي قد سار على أكمل منهج في دراسة الأصوات العربية في كتابه (الموضح في التجويد) وذلك حين قسم مباحث الكتاب الرئيسية إلى أبواب ثلاثة وهي:
الباب الأول: في الكلام على بسيط الحروف (في مخارج الحروف وصفاتها).
الباب الثاني: في الكلام على ما يلزم هذه الحروف عند الائتلاف (التركيب).
الباب الثالث: في الكلام على الحركات والسكون (2).
ونحن نكتفي بتقسيم بحث الأصوات العربية إلى قسمين: الأول: في دراسة مخارج الحروف وصفاتها، حروفا وحركات. والثاني: في دراسة الأحكام الناشئة عن التركيب، التي تتعلق بالحروف والحركات أيضا.
وسوف نتناول في هذا الفصل المباحث المتعلقة بالحروف والحركات من حيث بيان مخارجها وصفاتها، على هذا النحو:
المبحث الأول: وصف أعضاء آلة النطق.
__________
(1) شرح الواضحة ص 30.
(2) انظر: الموضح 152و.(1/82)
المبحث الثاني: إنتاج الأصوات اللغوية.
المبحث الثالث: تصنيف الأصوات اللغوية إلى جامدة وذائبة.
المبحث الرابع: تصنيف الأصوات الجامدة بحسب المخارج.
المبحث الخامس: تصنيف الأصوات الجامدة بحسب الصفات.
المبحث السادس: الأصوات الذائبة (مخارجها وصفاتها).
* * * * *
المبحث الأول وصف أعضاء آلة النطق(1/83)
* * * * *
المبحث الأول وصف أعضاء آلة النطق
أول واجب على دارس الأصوات هو معرفة ما يسمى (أعضاء النطق) من حيث تكوينها، ومن حيث كيفية استعمالها في تكوين الأصوات الكلامية، ولكن هذا لا يعني أنه في حاجة إلى الإلمام بكل التفصيلات التي يقدمها علم (وظائف الأعضاء) وعلم (التشريح) عن أعضاء النطق، إذ إن الكثير من هذه المعلومات لا يقدم له نفعا، ولكن هناك قدرا ضروريا من المعرفة بهذه الأعضاء عليه أن يحصله، لأن هذه المعرفة هي الحجر الأساسي لوصف الأصوات وتصنيفها (1).
ومن ثم نجد معظم الباحثين الذين درسوا الأصوات اللغوية يحرصون على كتابة مقدمة في وصف أعضاء النطق، وكذلك فعل علماء التجويد من قبل فكانوا قد عرفوا كل تلك الأعضاء وأدركوا دورها في تكوين الأصوات، ولم يغب عن إدراكهم منها شيء سوى ما لا يقع تحت النظر والملاحظة الذاتية، وإن كانوا قد أحسوا بأثره الصوتي وميزوه عن غيره. ووجود تباين في التفاصيل بين كلام علماء التجويد وكلام اللغويين المحدثين أمر متوقع لسببين:
الأول: تقدم مناهج البحث.
الثاني: ازدياد المعرفة العامة.
ويمكن أن يعمل هذان السببان عملهما في تفسير التباين في دراسة أية ظاهرة عند جيلين من العلماء يعيشان في عصرين مختلفين.
وقد جعلت عنوان هذا المبحث (وصف أعضاء آلة النطق) لأمر يتعلق بطبيعة استخدام علماء التجويد للمصطلحات المعبرة عن ذلك، فليس من خطة هذا البحث الخروج على مصطلحاتهم من غير ما سبب واضح. فالمحدثون من علماء الأصوات منقسمون على قسمين
__________
(1) انظر: محمود السعران: علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي ص 141140.(1/84)
في استخدام المصطلح المعبر عن موضوع هذا المبحث، فبعضهم يستخدم كلمة (جهاز) فيقول: (جهاز النطق) (1)، أو (الجهاز النطقي) (2)، أو (جهاز التصويت) (3)، وبعضهم يستخدم كلمة (أعضاء) فيقول (أعضاء النطق) (4)، أو (الأعضاء الصوتية) (5).
وقد وجدت أن بعض علماء التجويد يميل إلى استخدام عبارة (آلة النطق)، خاصة عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ) في كتابه (الموضح في التجويد)، حيث رددها خمس مرات، من ذلك قوله: «فأما وجوب إظهار النون عند حروف الحلق فلأن حروف الحلق تباعدت عن مخرج النون، وهي محتاجة إلى تمكن آلة النطق بها» (6).
واستخدم ابن البناء (ت 471هـ) (آلة المنطق) (7)، بينما استخدم طاش كبري زاده (ت 968هـ) في شرحه على المقدمة الجزرية كلمة (آلات) و (الآلات) (8). وكان الأسترآباذي (ت 686هـ) وهو من علماء العربية، قد استخدم (آلة الحروف) و (آلة الصوت) (9).
واستخدم مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) كلمة (عضو) وجمعها (أعضاء) حيث قال:
«ولا يعتمد اللسان عند خروجها على عضو من أعضاء الفم» (10). واستخدم علم الدين السخاوي (ت 643هـ) كلمة (العضو) مريدا بها أي جزء يشترك في تكوين الصوت، كما يفهم ذلك من قوله: «ومعنى الإدغام أن تصل حرفا ساكنا بحرف متحرك مماثل له، يرتفع العضو عنهما ارتفاعة واحدة، وإنما قلت: العضو، ولم أقل اللسان كما قال غيري لأن مثل (ثوب
__________
(1) كمال محمد بشر: علم اللغة العام (القسم الثاني): الأصوات ص 81.
(2) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 64، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 80.
(3) جان كانتينو: دروس في علم أصوات العربية (ترجمة صالح القرمادي): ص 17.
(4) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 16، ومحمود السعران: علم اللغة ص 140.
(5) عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 40.
(6) الموضح 178و. وانظر: 169ظ، 174و، 183و، 188و. كذلك استخدم أبو شجاع محمد بن علي المعروف بابن الدهان (ت 592هـ) عبارة (آلة النطق) في كتابه (تقويم النظر في الأدلة واختلاف الفقهاء 2و) وابن الدهان هذا لغوي نحوي وأصولي فقيه (انظر: كحالة: معجم المؤلفين 11/ 15).
(7) كتاب بيان العيوب 183ظ.
(8) شرح المقدمة الجزرية 11ظ.
(9) شرح الشافية 2/ 251و 272.
(10) الرعاية ص 103.(1/85)
بكر) لا يقال فيهما ارتفع اللسان عنهما ارتفاعة واحدة» (1).
ومن هنا رأيت أن استخدام (آلة النطق) أو (أعضاء آلة النطق) في بحث يكتب لبيان جهود علماء التجويد في الموضوع أولى من استخدام المصطلحات التي نجدها عند المحدثين لا سيما أن الرجوع إلى المعاجم يؤيد أصالة ما استخدموه دون ما استخدمه المحدثون (2).
وأعضاء آلة النطق التي وصفها المحدثون هي: الرئة، والقصبة الهوائية، والحنجرة، والحلق، والخيشوم، والفم، واللسان، وسقف الفم، والأسنان والشفتان. وتتفاوت هذه الأعضاء في الدور الذي تقوم به في عملية التصويت، كما أن أكثرها له وظائف أخرى لا تقل أهمية بالنسبة للجسم عن عملية النطق.
وينبغي أن نذكر هنا أن علماء العربية منذ الخليل وسيبويه قد أوردوا في أثناء حديثهم عن مخارج الحروف معظم أسماء أعضاء آلة النطق (3). ولكن علماء التجويد قد تميزوا في دراسة هذا الموضوع عن علماء العربية بنواح هي:
1 - وصف أعضاء النطق.
2 - الاستعانة بعلم التشريح.
3 - تخصيص فصل مستقل لوصف بعض أعضاء النطق.
4 - الاستعانة بالرسم التوضيحي.
وهذا بيان لهذه الأمور الأربعة التي تميز بها علماء التجويد في كلامهم عن أعضاء النطق.
1 - وصف أعضاء النطق:
لم يكتف علماء التجويد بذكر تلك الأعضاء في أثناء تحديد مخارج الحروف، وإنما قدموا وصفا لها وتحديدا لمدلولاتها، وقد حدد بعضهم أعضاء آلة النطق إجمالا، مثل قول مكي: «ورتّب تبارك وتعالى اسمه لها مخارج تخرج منها عند النطق بها، من آخر الصدر الأعلى، وما يليه من الحلق، والفم، وأطراف الشفتين، وإلى الخياشيم» (4). وقول
__________
(1) جمال القراء 175ظ.
(2) انظر استخدام كلمة (جهاز) و (آلة) في: لسان العرب، والمعجم الوسيط، مادة (جهز) و (أول).
(3) انظر: الخليل: العين 1/ 5251و 5857. وسيبويه: الكتاب 4/ 436432.
(4) الرعاية ص 40.(1/86)
عبد الوهاب القرطبي: «فحيث ما عرض ذلك المقطع سمّي حرفا، وسمّي ما يسامته ويحاذيه من الحلق والفم واللسان والشفتين مخرجا» (1). وكان الأسترآباذي أكثر تحديدا في قوله:
«فلولا اختلاف أوضاع آلة الحروف وأعني بآلتها مواضع تكونها في اللسان والحلق والسن والنطع (2) والشفة، وهي المسماة بالمخارج لم تختلف الحروف» (3). وقد نقلت قول الأسترآباذي هنا مع أنه من علماء العربية لأنه عاش بعد مكي وعبد الوهاب القرطبي، ولأن قوله يكمل كلامهم، ولا يناقض ذلك منهج البحث، لأني أجد في أكثر الأحيان أن كلام علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية يتكامل مع كلام علماء العربية.
(أ) الرئة:
ذكر بعض علماء التجويد (الرئة) التي تقوم بدفع الهواء الذي يعتبر مادة الصوت الأساسية (4). وقد وصفها الدركزلي بأنها «لحم رخو متخلخل كالزبد إلى بياض اسفنجي
خلقت محيطة بالقلب كالفراش للترويح عليه بالهواء المستنشق من القصبة» (5).
(ب) القصبة:
تتشعب القصبة الهوائية من الأسفل إلى شعبتين كل شعبة ترتبط برئة، وتنتهي من الأعلى بالحنجرة. وقد سماها ابن البناء (قصبة الحلق) (6). وسماها الدركزلي (قصبة الرئة) (7).
(ج) الحنجرة:
وهي من أهم أعضاء آلة النطق، لأنها تضم الوترين الصوتيين اللذين لهما القدرة على إنتاج النغمة الصوتية الي تسمى بالجهر، وكان علماء العربية وعلماء التجويد قد أحسّوا بأثر الوترين في نطق الأصوات وإعطائها صفة الجهر، كما سنوضح لا حقا إن شاء الله، لكنهم لم يتمكنوا من وصفها بشكل محدد لأنها تقع في نقطة لا يدركها النظر.
وكان أبو علي الحسين بن سينا (ت 428هـ) قد خصص الفصل الثالث من رسالته
__________
(1) الموضح 150و.
(2) النطع: الغار الأعلى في الفم، أي سقف الفم (انظر: لسان العرب 10/ 235نطع).
(3) شرح الشافية 3/ 251.
(4) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 183.
(5) خلاصة العجالة 132ظ.
(6) بيان العيوب 175ظ.
(7) خلاصة العجالة 133ظ.(1/87)
(أسباب حدوث الحروف) لتشريح الحنجرة واللسان (1)، ولكن يبدو أن تأثير كلام ابن سينا كان محدود الأثر في الدراسات الصوتية العربية القديمة. ومع ذلك فقد وجدت ابن البناء يذكر (الحنجرة) في كتابه (بيان العيوب) حيث قال: «ومن العيوب الترعيد، وصفته تعليق الصوت بترديد الحنجرة» (2). ولعل ابن البناء يريد بقوله (ترديد الحنجرة) صفة الجهر، وهي النغمة الصوتية الناشئة عن اهتزاز الوترين الصوتيين في الحنجرة، التي تشكل جوهر أصوات المد، لا سيما الألف، التي يعرض لها العيب الصوتي المسمى بالترعيد، وهو اضطراب الصوت كأن الناطق يرتعد من برد أو مرض.
(د) الحلق:
ويقصد به الفراغ الواقع بين الحنجرة وأقصى اللسان. ويقسمه علماء العربية والتجويد إلى ثلاثة أقسام: أقصاه ووسطه وأدناه. ويفهم من قولهم أن أقصى الحلق مخرج للهمزة والهاء أنهم يجعلون الحنجرة جزءا من الحلق (3).
(هـ) اللهاة:
قال مكي (ت 437هـ): «اللهاة بين الفم والحلق» (4). وقال أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569هـ): «وهي اللحمة المسترخية كالزّنمة في أقصى الحلق تكتنفها النغنغة، وهي لحمة في أصل الأذن من باطن، والجمع نغانغ» (5). وقال السمرقندي (ت 780هـ): «واللهاة اللحمة المسترخية بين الفم والحلق تكتنفها النغنغة، وهي لحمة في أصل الأذن من داخل» (6).
وقول السمرقندي (بين الفم والحلق) أدق من قول الهمذاني (في أقصى الحلق). وقد زاد السمرقندي على ما ذكره الهمذاني بتقسيمه اللهاة إلى: الغلصمة والعكدة. حيث قال:
«ومن اللهاة حرفان القاف والكاف، فالقاف غلصمية، والغلصمة أول اللهاة من جانب الحلق.
والكاف عكدية، والعكدة آخر اللهاة من جانب الفم» (7).
__________
(1) انظر: أسباب حدوث الحروف ص 9.
(2) بيان العيوب 175ظ.
(3) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 433. والداني: التحديد 16و.
(4) الرعاية ص 114. والفم هو الفراغ الذي يسترخي فيه اللسان.
(5) التمهيد 144ظ.
(6) روح المريد 125و.
(7) المصدر نفسه 125و.(1/88)
وتقسيم اللهاة عند السمرقندي على ذلك النحو شيء انفرد به، فالغلصمة نوع من اللسان واقع فوق الحنجرة بصورة خاصة لتحمي الحنجرة خلال عملية البلع، وقد سماها بعض المحدثين (لسان المزمار) (1). وما ورد في معجم (لسان العرب) يؤيد هذا المعنى (2). أما العكدة، بضم العين وسكون الكاف، أو بفتحات متواليات، فلم يستخدمها المحدثون، وهي في المعجم بمعنى أصل اللسان (3). وقد استخدمها الخليل بهذا المعنى في كتاب (العين) فقال: «وأما الجيم والقاف والكاف فمن بين عكدة اللسان وبين اللهاة في أقصى الفم» (4). وإذا تجاوزنا إدراج الخليل للجيم مع القاف والكاف أمكننا أن نقبل وصف الكاف بأنها (عكدية) باعتبار أن العكدة تدل على أقصى اللسان، وليس على آخر اللهاة من جهة الفم. وكذلك وصف القاف بأنها (غلصمية) باعتبار أن (الغلصمة) تدل على شيء يقع في أصل اللسان، وهو لسان المزمار، وليس على أول اللهاة من جهة الحلق، كما ذهب السمرقندي إلى ذلك في النص السابق.
ويبدو أن الدركزلي قد أدرك دور اللهاة في عملية التصويت، إلى جانب كونها تشكل مخرج القاف الفصيحة، حيث قال: «اللهاة لحم مستدير رخو، يشكل الصوت ويعدل الهواء» (5)، فلعله يريد بذلك اشتراك اللهاة مع ما يحيط بها من الحنك اللين في فتح مجرى الهواء إلى الخياشيم أو غلقه.
(و) الحنك (الغار) الأعلى، واللثة:
يستخدم علماء التجويد مصطلح (الحنك الأعلى)، وقد سبقهم علماء العربية إلى ذلك الاستخدام (6). وقد وضحه علماء التجويد بأنه سقف الفم، قال مكي: «نطع الغار الأعلى، وهو سقفه» (7). وقال السمرقندي: «نطع الفم، وهو الغار الأعلى، أي سقف الفم» (8).
__________
(1) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 145. وعبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 49. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 84.
(2) انظر: ابن منظور: لسان العرب 15/ 337مادة (غلصم).
(3) انظر: ثابت: خلق الإنسان ص 181، وابن منظور: لسان العرب 4/ 292مادة (عكد).
(4) العين 1/ 52.
(5) خلاصة العجالة 142و.
(6) انظر: الداني: التحديد 17و، وسيبويه: الكتاب 4/ 433.
(7) الرعاية ص 114.
(8) روح المريد 125ظ وقال ثابت: (خلق الإنسان ص 161): «وفي الفم الحنك، وهو سقف أعلى الفم».(1/89)
ويذهب المحدثون من علماء الأصوات إلى أن الحنك الأعلى يشمل: «اللثة، والجزء الصلب من سقف الفم، ثم الجزء اللين، بما في ذلك اللهاة (1). لكن بعض علماء التجويد نص على أن اللثة ليست من الحنك، قال أبو الفتوح الوفائي: «اللثة ليست من الحنك الأعلى، بل أسفل منه حول الأسنان» (2). واللثة عندهم، وهي بكسر اللام وتخفيف المثلثة (3)، «اللحم المركب فيه الأسنان» (4). أو هي «اللحم الذي فيه منبت الأسنان» (5).
(ز) اللسان:
نقل الدركزلي تعريفا للسان بأنه «اللحم المتخلخل بين بياض وحمرة حال الصحة».
وقال أيضا: «وهو مؤلف من لحم رخو أبيض وأوردة وشريانات صغار وأعصاب كثيرة» (6).
ولم أنقل هذا التوضيح لأجل تقديم تعريف علمي للسان بقدر ما أردت أن أعرض وجهة نظر بعض علماء التجويد في هذا الموضوع.
ويقسم المحدثون من علماء الأصوات اللسان إلى ثلاثة أقسام، هي: أقصاه، ووسطه، وطرفه، وهم يجعلون نهاية اللسان أو ذلقه داخلا في طرفه (7). أما علماء التجويد فإنهم يقسمون اللسان أربعة أقسام، بإضافة (حافة اللسان) إلى أقسامه الثلاثة السابقة، وهذا أمر سبقهم إليه علماء العربية من قبل (8).
قال الداني (ت 444هـ): «اعلم أن حروف اللسان ثمانية عشر حرفا، ولها عشرة مخارج، وينقسم جميعها على أربعة أقسام: أقصى اللسان، ووسطه، وطرفه، وحافته» (9).
وقال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020هـ): «وللسان حافتان من أصله إلى رأسه كحافتي
__________
(1) محمود السعران: علم اللغة ص 142، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 84.
(2) الجواهر المضية 21ظ.
(3) الدركزلي: خلاصة العجالة 138ظ، لكن علي القاري قال: (المنح الفكرية ص 11): «بضم فتخفيف مثلثة» وجاء في لسان العرب (مادة لثي 20/ 107): «واللثة بالكسر والتخفيف».
(4) الرعاية ص 115.
(5) العطار: التمهيد 145و، السمرقندي: روح المريد 125ظ.
(6) خلاصة العجالة 134ظ 135و.
(7) محمود السعران: علم اللغة ص 148، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 87.
(8) سيبويه: الكتاب 4/ 433.
(9) الإدغام الكبير 11ظ.(1/90)
الوادي، وهما جانباه» (1). وقال ابن غانم المقدسي (ت 1004هـ): «إن بين طرف اللسان وحافته مشابهة من حيث إن كلا منهما نهاية مساحة جرم اللسان، فالطرف نهايته من جهة مقدم الفم، والحافة نهايته من جهة يسار الفم أو يمينه» (2).
ونجد مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) يسوّي بين طرف اللسان وأسلة اللسان، وذلق اللسان (3). وهو ما يفهم من قول الداني السابق. لكن بعض علماء التجويد يخصصون أسلة اللسان بمستدق طرفه (4). وهو ما نص عليه الخليل في كتاب العين، حيث قال عنها: «وهي مستدق طرف اللسان» (5). وهو اتجاه ذهب إليه بعض المحدثين واستخدم له كلمة (حد اللسان) (6). وكان العطار (ت 659هـ) قد قال من قبل: «ذلق اللسان وهو حدّه» (7).
وقد سمّى مكي المجال الذي يسترخي فيه اللسان في لحظة هدوئه (قاع الفم) (8). وسماه ابن البناء بالحنك الأسفل (9). وروي عن أبي زيد اللغوي أنه يسمّى (الفراش) (10).
ويبدو أن كلمة (الفم) حين تطلق يراد بها اللسان وما يحاذيه من الحنك الأعلى، قال أبو شامة: «إن مخارج الحروف ستة عشر مخرجا. وهي دائرة على ثلاثة: الحلق والفم والشفة، ويقال: الحلق واللسان والشفتان، والمعنى واحد» (11).
وكان الخليل قد وصف الجيم والشين والضاد بأنها شجرية، لأن مبدأها من شجر الفم، أي مفرج الفم (12). ونقل بعض علماء التجويد ذلك، وقد فسر مكي كلمة مفرج الفم بقوله:
__________
(1) الجواهر المضية 19ظ.
(2) بغية المرتاد 8و.
(3) الرعاية ص 111، 114، 115.
(4) العطار: التمهيد 145و، والسمرقندي: روح المريد 125ظ.
(5) العين 1/ 58.
(6) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 86.
(7) التمهيد 144ظ.
(8) الرعاية ص 99.
(9) بيان العيوب 176ظ. وانظر: ابن الطحان 129و.
(10) انظر ثابت بن أبي ثابت: خلق الإنسان ص 161.
(11) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 3.
(12) العين 1/ 58.(1/91)
أي مفتحه (1). وإذا رجعنا إلى قول سيبويه بأن الجيم والشين والياء تخرج من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى (2). أمكننا القول بأن (الشّجر) هو وسط اللسان.
(ح) الخياشيم:
استخدم عدد من المحدثين عبارة (الفراغ الأنفي) (3) و (التجويف الأنفي) (4)، بدل كلمة الخياشيم، وهم يقصدون بذلك التجويف الذي يندفع خلاله الهواء حتى يخرج من الأنف.
وكان سيبويه أول من استخدم كلمة الخياشيم، ووضّح أن الهواء يأخذ طريقه فيها عند نطق النون والميم (5). ولكنه لم يبين المقصود منها. وتابع علماء التجويد سيبويه في استخدام كلمة الخياشيم (6). لكنهم قدموا لنا توضيحا مناسبا لها، فقال مكي: «والخيشوم الذي تخرج منه هذه الغنة، هو المركب فوق غار الحنك الأعلى» (7). وجاء تعريف الداني للخيشوم أكثر وضوحا، وذلك حيث قال: «والخيشوم خرق الأنف المنجذب إلى داخل الفم» (8).
(ط) الشفتان:
يبدو أن بروز الشفتين للعيان جعل علماء الأصوات المحدثين يكتفون في حديثهم عنهما ببيان الوظيفة التي تقومان بها في إنتاج بعض الأصوات (9). وهو عين السبب الذي جعل علماء العربية والتجويد يسلكون الطريق نفسه، فاكتفوا ببيان دور الشفتين في إنتاج الأصوات اللغوية (10). إلا أن الدركزلي ذكر بعض خصائصهما الحركية، فقال: «بالشفتين
__________
(1) الرعاية ص 114، وانظر: العطار: التمهيد 144ظ.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 18.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 89.
(5) الكتاب 4/ 434، وانظر أيضا 4/ 452و 456.
(6) انظر مثلا: الداني: التحديد 17و، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 152ظ.
(7) الرعاية ص 214. وانظر: العطار: التمهيد 146ظ، والسمرقندي: روح المريد 128و.
(8) التحديد 22و، وكذلك 19و.
(9) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 18، ومحمود السعران: علم اللغة ص 149، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 89.
(10) انظر سيبويه: الكتاب 4/ 433و 436، والداني: التحديد 17و، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 187ظ.(1/92)
المشتملتين على انطباق وانفتاح وحركة محكمة» (1).
(ى) الأسنان:
للأسنان دور بارز في إنتاج عدد من الأصوات، واختلالها يؤثر على إنتاج تلك الأصوات، ومن ثم اهتم بها علماء العربية وعلماء التجويد، وكذلك علماء الأصوات المحدثون. وكان سيبويه قد ذكر أقسامها دون أن يعددها، فذكر منها الأضراس والضاحك والناب والرّباعية والثنية (2). ويبدو لي أن الأسترآباذي (ت 686هـ) هو أول من أحصاها ممن درسوا الأصوات (3). فقال: «إن الأسنان اثنتان وثلاثون سنا: ست عشرة في الفك الأعلى، ومثلها في الفك الأسفل.
فمنها الثنايا: وهي أربع من قدّام، ثنتان من فوق، ومثلهما من أسفل: ثم الرّباعيات، وهي أربع أيضا: رباعيتان من فوق يمنة ويسرة، ومثلهما من أسفل.
وخلفهما الأنياب الأربع: نابان من فوق، يمنة ويسرة، ومثلهما من أسفل. وخلف الأنياب الضواحك، وهي أربع: ضاحكتان من فوق يمنة ويسرة، ومثلهما من أسفل. وخلف الضواحك الأضراس، وهي ست عشرة، ثمان من فوق، أربع يمنة وأربع يسرة، ومثلها من أسفل.
ومن الناس من ينبت له خلف الأضراس النواجذ، وهي أربع من كل جانب: ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل، فيصير ستا وثلاثين سنا» (4).
ولم يتجاوز علماء التجويد الأوائل ما فعله سيبويه، حيث ذكروا أنواع الأسنان عند كلامهم على مخارج بعض الحروف (5). وسلك المتأخرون منهم مسلك الأسترآباذي، فذكروا أنواع الأسنان وأعدادها (6). أما علماء الأصوات المحدثون فمنهم من أشار إليها إشارة
__________
(1) خلاصة العجالة 141ظ.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) كان علماء اللغة الذين ألفوا في (خلق الإنسان) قد سبقوا دارسي الأصوات إلى ذلك. انظر: ثابت بن أبي ثابت: كتاب خلق الإنسان ص 166165.
(4) شرح الشافية 3/ 252. وانظر: الجاربردي: شرح الشافية ص 243.
(5) انظر مثلا: الداني: التحديد 16ظ 17و.
(6) خالد الأزهري: الحواشي الأزهرية ص 9، وطاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 9و. وأبو الفتوح الوفائي: الجواهر المضية 20ظ، وعلي القاري: المنح الفكرية ص 11، وأحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 7ظ، والمرعشي: جهد المقل 4و.(1/93)
عامة (1)، ومنهم من فصّل فيها القول تفصيلا (2).
وكان بعض علماء التجويد قد تنبه إلى أثر الخلل الذي يصيب الأسنان على سلامة النطق، فقال أبو العلاء الهمذاني العطار: «ولا سبيل إلى ما سقناه إلا بالمواظبة على القراءة ورياضة اللسان والأخذ من أفواه أولي العلم والإتقان، وإن انضاف إلى ذلك حسن الصوت وجودة الفك وذرابة اللسان وصحة الأسنان كان الكمال» (3).
(ك) الجوف:
ذهب الخليل بن أحمد في كتاب (العين) إلى أن الواو والياء والألف تخرج من الجوف (4)، ولم يذكر سيبويه هذا المخرج، لكن علماء التجويد ذكروه وجعلوه خاصا بحروف المد: الألف، والواو المضموم ما قبلها، والياء المكسور ما قبلها (5). وليس الجوف نقطة محددة، بل هو على ما يبدو التجويف الممتد من فوق الحنجرة إلى الشفتين، المسامت للحلق واللسان، عند ما يفتح الناطق فاه. قال ابن بلبان: «فأما الجوف، وهو الخلاء داخل الفم والحلق، فهو مخرج لثلاثة أحرف» (6). وقال المرعشي: «جوف الحلق والفم، وهو الخلاء الداخل فيهما» (7).
2 - الاستعانة بعلم التشريح:
الناحية الثانية التي تميز بها علماء التجويد في كلامهم عن أعضاء آلة النطق هي الاستعانة بكتب الطب، خاصة كتب التشريح، وبالرغم من أن معظم علماء التجويد كانوا يعتمدون على الملاحظة الذاتية في وصف تلك الأعضاء نجد من بين المتأخرين من يستعين بكتب الطب، فقد استعان الدركزلي في (خلاصة العجالة) بأكثر من كتاب من كتب الطب في وصف أعضاء النطق.
__________
(1) محمود السعران: علم اللغة ص 149. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 89.
(2) عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 82.
(3) التمهيد 89و.
(4) العين 1/ 57.
(5) العطار: التمهيد 145و. وابن الجزري: النشر 1/ 198.
(6) بغية المستفيد 54ظ.
(7) جهد المقل 10و. على أن أبا الفتوح الوفائي اعتبر الجوف الخلاء الداخل في الفم فقط (انظر: الجواهر المضية 18و).(1/94)
وهذه ظاهرة جديدة تستحق الذكر، وهي تبين منهجا صحيحا في دراسة هذا الموضوع، فإن كلمة علماء التشريح ووظائف الأعضاء تظل هي المستند العلمي الذي ينبغي أن يستعين به دارسو الأصوات اللغوية في وصف أعضاء آلة النطق، فيأخذون القدر النافع لدراستهم لأن كثيرا من تفصيلات الموضوع التشريحية لا تفيد دارس الأصوات فائدة مباشرة.
فكان الدركزلي الذي فرغ من تأليف (خلاصة العجالة) سنة 1266هـ، ينقل من بعض كتب داود بن عمر الأنطاكي، المولود بأنطاكية، والمتوفى بمكة سنة 1008هـ (1). وذلك حين تكلم عن الرئة، والقصبة، والحلق، واللسان، والفك الأعلى، والأسنان. واللثة، والشفتين، واللهاة، فكان يقول: قال داود صاحب التذكرة، أو: قال داود الحكيم (2).
وكتاب التذكرة هو: «تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب»، قال عنه حاجي خليفة بأنه تأليف عظيم في الطب (3). ويبدو أن الدركزلي كان ينقل من كتاب آخر من كتب داود الحكيم، وهو (النزهة المبهجة)، فقد ذكر هذا الكتاب في قائمة مصادره دون كتاب التذكرة، قال: «والنزهة المبهجة في الطب لداود، ومختصر المسيحي فيه» (4). ومختصر المسيحي مصدر آخر من المصادر الطبية التي نقل منها الدركزلي.
وأهمية هذه الظاهرة لا تنبع من قيمة المادة التي نقلها مؤلف (خلاصة العجالة) من الكتب الطبية الموجودة في عصره، وإنما تتركز في المنهج الذي سار عليه، وهو منهج لم يسبقه إليه سوى ابن سينا في رسالته (أسباب حدوث الحروف) مع العلم أن ابن سينا نفسه كان طبيبا ولغويا ومن ثم جاء كلامه أكثر مساسا بحاجة دارس الأصوات، وسار المحدثون على هذا المنهج، كما يبدو جليا فيما كتبه الدكتور عبد الرحمن أيوب في كتابه (أصوات اللغة) في الباب الذي سمّاه (الوسيلة التشريحية) (5).
3 - تخصيص فصل مستقل لوصف بعض أعضاء النطق:
يحرص دارسو الأصوات من المحدثين على كتابة فصل في صدر أبحاثهم الصوتية لوصف أعضاء آلة النطق، ولم يكن علماء العربية يفعلون ذلك، بل كانوا يكتفون بتسمية تلك
__________
(1) انظر مصادر ترجمته: كحالة: معجم المؤلفين 4/ 140.
(2) انظر: خلاصة العجالة 132و، 136ظ، 138ظ.
(3) كشف الظنون 1/ 386.
(4) خلاصة العجالة 221و.
(5) أصوات اللغة ص 9139.(1/95)
الأعضاء في أثناء كلامهم عن مخارج الحروف، وتبعهم في ذلك متقدمو علماء التجويد، ولكنهم تميزوا عنهم بوصف تلك الأعضاء عند ما يرد ذكرها في أثناء الحديث عن المخارج، على نحو ما بيّنا ذلك قبل قليل.
وقد خصص محمد المرعشي (ت 1150هـ) الفصل الرابع من فصول مقدمة كتابه (جهد المقل) الخمسة لبيان الأسنان في الإنسان (1). وهو اتجاه جديد يقرب مما نجده عند المحدثين من تخصيص فصل مستقل لوصف أعضاء آلة النطق.
4 - الاستعانة بالرسم التوضيحي:
الرسوم التوضيحية إحدى الوسائل التي يستعين بها المحدثون من علماء الأصوات، لتوضيح أعضاء آلة النطق أو لبيان الحالة التي تتخذها تلك الأعضاء عند نطق صوت معين.
وكان علماء التجويد قد استخدموا هذه الوسيلة في بيان مخارج الحروف وتوزيعها على أعضاء النطق، فوضّحوا تلك الأعضاء وبيّنوا توزيع مخارج الحروف عليها في آن واحد.
وأقدم ما اطلعت عليه من تلك الرسوم عند علماء التجويد هو الرسم الذي أورده ابن وثيق الأندلسي (ت 654هـ) في كتاب له في علم التجويد. فقد قال بعد أن ذكر حروف العربية: «وهذه صورة الحروف المتقدمة كما ترى: صورة ما بين الرأس متصل بأول اللسان» (2). وأورد رسما تخطيطيا مبسطا يمثل الحلق واللسان والشفتين، وكتب على أجزائه:
صورة الحلق وحروفه، هذا أول اللسان وحروفه، الحنك الأعلى، والحنك الأسفل، الشفة العليا، الشفة السفلى، مقدم الرأس، العثنون، وهو الذقن، وقد وزّع ابن وثيق الحروف العربية على أجزاء هذه الصورة.
وكان السكاكي (يوسف بن أبي بكر ت 626هـ) وهو من علماء العربية، ومعاصر تقريبا لابن وثيق، قد أورد صورة لمخارج الحروف في كتابه (مفتاح العلوم) (3). وهو الوحيد من بين علماء العربية الذي استعان بالرسم التوضيحي.
وهناك نماذج أخرى من الرسوم التوضيحية في بعض الرسائل المتأخرة في علم
__________
(1) جهد المقل 4و.
(2) ابن وثيق: كتاب في تجويد القراءة 78ظ.
(3) مفتاح العلوم ص 6.(1/96)
التجويد (1). لعل أكثرها تدقيقا الرسم الوارد في كتاب اسمه (أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن) لمحمد حسين الأصفهاني (2)، وهو متأخر ينقل عن خالد الأزهري (ت 905هـ) (3).
فقد جاء في آخر الكتاب، وهو نثر وليس نظما كما يفهم من العنوان، صورة لمخارج الحروف (4)، وهي على شكل مقطعين: الأول يمثل اللسان وما يتصل به من الشفتين والأسنان، والثاني يمثل الحلق. وقد كتبت على هذا الرسم كل أعضاء النطق، مع الحروف التي تتكون عندها.
وجاءت في هذا الرسم كلمتان لم تردا في كتب علم التجويد الأخرى التي اطلعت عليها، وهما (الطنطنة أو الطلطلة) حيث كتبتا في الجزء الواقع بعد أقصى اللسان، وكأنهما تشيران إلى عضو معين. وحين رجعت إلى لسان العرب لابن منظور لأتتبع ما قاله عن الكلمتين، وجدت أن أقرب الألفاظ دلالة على الموضع الذي كتبتا فيه هي كلمة (الطّلاطلة) التي قال عنها: «لحمة في الحلق، قال الأصمعي: الطّلاطلة: اللحمة السائلة على طرف المسترط» (5).
إن كلام علماء التجويد في وصف أعضاء آلة النطق صحيح وتام بالنسبة لأكثر الأعضاء، وكانت (الحنجرة) هي العضو الوحيد الذي لم يتمكن علماء التجويد من وصفه وصفا كاملا، لأنها لا تقع تحت النظر، مع أنهم عرفوها وأدركوا تأثيرها في إنتاج الأصوات. ولم تكن معرفتهم بتلك الأعضاء نظرية، بل كانت مقترنة بإدراك تام لعملية إنتاج الأصوات وتمايزها.
على نحو ما سنذكر في المبحث الآتي والمباحث التي تليه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) منها الرسائل المرقمة في مكتبة المتحف ببغداد 1872116579108452016523348، والثلاثة الأخيرة بالفارسية. وفي مكتبة الأوقاف بالموصل مجموع رقمه (2/ 22مدرسة الحجيات) يضم ورقة فيها رسم توضيحي رقمها (123و) من المجموع.
(2) توجد في مكتبة المتحف ببغداد نسختان من الكتاب أرقامهما (1019و 10834) لم يكتب عليهما اسم المؤلف. وفي دار الكتب المصرية نسخة من الكتاب تحت رقم (21326ب) جاء فيها أن مؤلفها هو محمد حسين الأصفهاني، وهو مجهول لنا.
(3) أرجوزة البيان ص 41.
(4) المصدر نفسه ص 66.
(5) لسان العرب 13/ 433مادة (طلل). وقد ذكر جان كانتينو (دروس في علم أصوات العربية ص 18) أن الطلاطلة هي اللهاة.(1/97)
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف من كتاب في تجويد القراءة ومخارج الحروف لابن وثيق الأندلسي المتوفى سنة 654هـ. وقد كتبت مخطوطة الكتاب سنة 694هـ. وهي محفوظة بمكتبة أيا صوفيا بتركيا رقم (39/ 7).
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف جاءت في ورقة مفردة في آخر كتاب الطرازات المعلمة في شرح المقدمة لعبد الدائم بن علي الأزهري المتوفى سنة 870هـ. وهو مخطوط بمكتبة المتحف ببغداد رقم 20165.
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف وردت في كتاب أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن لمحمد حسين الأصفهاني، الذي تحتفظ بمخطوطته مكتبة المتحف ببغداد رقم 1019.(1/98)
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف من كتاب في تجويد القراءة ومخارج الحروف لابن وثيق الأندلسي المتوفى سنة 654هـ. وقد كتبت مخطوطة الكتاب سنة 694هـ. وهي محفوظة بمكتبة أيا صوفيا بتركيا رقم (39/ 7).
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف جاءت في ورقة مفردة في آخر كتاب الطرازات المعلمة في شرح المقدمة لعبد الدائم بن علي الأزهري المتوفى سنة 870هـ. وهو مخطوط بمكتبة المتحف ببغداد رقم 20165.
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف وردت في كتاب أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن لمحمد حسين الأصفهاني، الذي تحتفظ بمخطوطته مكتبة المتحف ببغداد رقم 1019.(1/99)
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف من كتاب في تجويد القراءة ومخارج الحروف لابن وثيق الأندلسي المتوفى سنة 654هـ. وقد كتبت مخطوطة الكتاب سنة 694هـ. وهي محفوظة بمكتبة أيا صوفيا بتركيا رقم (39/ 7).
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف جاءت في ورقة مفردة في آخر كتاب الطرازات المعلمة في شرح المقدمة لعبد الدائم بن علي الأزهري المتوفى سنة 870هـ. وهو مخطوط بمكتبة المتحف ببغداد رقم 20165.
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف وردت في كتاب أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن لمحمد حسين الأصفهاني، الذي تحتفظ بمخطوطته مكتبة المتحف ببغداد رقم 1019.(1/100)
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف من كتاب في تجويد القراءة ومخارج الحروف لابن وثيق الأندلسي المتوفى سنة 654هـ. وقد كتبت مخطوطة الكتاب سنة 694هـ. وهي محفوظة بمكتبة أيا صوفيا بتركيا رقم (39/ 7).
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف جاءت في ورقة مفردة في آخر كتاب الطرازات المعلمة في شرح المقدمة لعبد الدائم بن علي الأزهري المتوفى سنة 870هـ. وهو مخطوط بمكتبة المتحف ببغداد رقم 20165.
صورة آلة النطق عليها مخارج الحروف وردت في كتاب أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن لمحمد حسين الأصفهاني، الذي تحتفظ بمخطوطته مكتبة المتحف ببغداد رقم 1019.
المبحث الثاني إنتاج الأصوات اللغوية
أدرك علماء التجويد أن الهواء هو المادة لإنتاج الأصوات اللغوية، فقالوا: «والصوت هو الحاصل من دفع الرئة الهواء المحتبس بالقوة الدافعة فيتموّج، فيصدم الهواء الساكن، فيحدث الصوت من قرع الهواء بالهواء المندفع من الرئة» (1).
وقد نص محمد المرعشي على أن هواء الزفير المندفع من الرئتين هو الذي تتشكل منه الأصوات اللغوية في الأكثر، وذلك حيث قال: «ثم إن الغالب تلفظ الكلم مع إخراج النّفس.
وأما تلفظها مع إدخاله فيعسر ويقبح به الصوت عند الجهر، فلا شك في كراهته، بخلاف ذلك عند الإخفاء. ولم أجد تصريحا في هذا الباب» (2).
ويبدو أن المرعشي هو أول من ذكر هذه القضية، كما صرح هو بذلك، وقد نص عليها علماء الأصوات المحدثون، فقد قال الدكتور أحمد مختار عمر: «ولا نعلم لغة تعتمد على هواء الشهيق في إنتاج الصوت، وإن أمكن أن تنتج أصوات خلال عملية الشهيق أيضا، ولكن هذا إن حدث يكون استثناء فقط، ومثل هذه الأصوات تسمع من الأطفال، ونحن نستعملها في حالة النشيج أو الانتحاب» (3).
وهذه القضية قد تبدو من الأمور البديهية ولكن تقريرها مع ذلك ينمّ عن إدراك صحيح لعملية إنتاج الأصوات اللغوية، وينبغي أن ينسب تقريرها إلى محمد المرعشي المتوفى سنة 1150هـ 1737م، مع ملاحظة أن الدكتور أحمد مختار عمر نقل هذه القضية مترجمة عن
__________
(1) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 183وقال أحمد بن الجزري (الحواشي المفهمة 13ظ): «مادة الصوت الهواء الخراج من داخل (الإنسان)». وانظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 10.
(2) جهد المقل 11و.
(3) دراسة الصوت اللغوي ص 9291.(1/101)
مصدرين من مصادر الدراسة الصوتية المكتوبة باللغة الإنكليزية (1). وهذا مثال، وإن كان في قضية صغيرة، يوضّح لنا ما يمكن أن تقدمه كتب علم التجويد في دراسة الأصوات.
إن معرفة دور الهواء المندفع من الرئة في إنتاج الصوت اللغوي لا يكفي وحده في تفسير تعدد الأصوات وتباينها، فلا بد أن تكون هناك عمليات معينة تحدث في بعض أعضاء آلة النطق، تعترض الهواء فتكيفه بكيفيات خاصة، تؤدي إلى تمايز صوت عن آخر. فما مدى إدراك علماء التجويد لتلك العمليات التي تحدث للهواء في أثناء مروره على آلة النطق فتجعله أصواتا متباينة؟.
هناك عدد من النصوص وضّح فيها علماء التجويد العمليات النطقية التي تؤدي إلى إنتاج الأصوات اللغوية، وبعض هذه النصوص منقول عن علماء العربية المتقدمين وبعضها جديد، صاغه بعض علماء التجويد لتوضيح تلك العمليات، ولدينا أربعة نصوص أساسية في هذا الموضوع، ونصوص أخرى في مناقشة بعض الجزئيات. وسوف نعرض أولا النصوص الأربعة، ثم نحاول تحليلها مستفيدين من النصوص الأخرى.
النص الأول قول المازني (أبي عثمان بكر بن محمد ت 248هـ):
لم نطلع على هذا النص في كتاب للمازني، وإنما أورده مكي بن أبي طالب في كتابه (الرعاية لتجويد القراءة) على هذا النحو: «فصل: قال المازني: إن الذي فصل بين الحروف التي ألّف منها الكلام سبعة أشياء: الجهر، والهمس، والشدة، والإرخاء، والإطباق، والمد، واللين. قال: لأنك إذا جهرت، أو همست، أو أطبقت، أو شددت، أو مددت، أو لينت اختلفت أصوات الحروف التي من مخرج واحد، فعند ذلك يأتلف الكلام ويفهم المراد. قال:
ولو كانت المخارج واحدة والصفات واحدة لكان الكلام بمنزلة أصوات البهائم التي لها مخرج واحد، وصفة واحدة لا تفهم» (2).
النص الثاني قول مكي بن أبي طالب (ت 437هـ):
قال مكي في كتابه (الرعاية): «فالحروف تكون من مخرج واحد وتختلف صفاتها،
__________
(1) هما المرجعان 61و 30من قائمة مراجعه، كما أشار إلى ذلك في هامش (1) ص 92، والأول هو كتاب (علم الأصوات) لمالمبرك، وهو مطبوع في نيويورك سنة 1963م، والثاني (مقدمة في علم الأصوات) لمالمبرك نفسه مع عالم آخر، وهو مطبوع في كمبريج سنة 1970م.
(2) الرعاية ص 117، وانظر: المرادي: المفيد 102و.(1/102)
فيختلف لذلك ما يقع في السمع من كل حرف، وهذا تقارب بين الحروف من جهة المخرج، وتباين من جهة الصفات. وتكون الحروف من مخرجين، وهي مختلفة الصفات فهذا غاية التباين، إذ قد اختلفت في المخارج والصفات. وتكون من مخرجين متفقة الصفات فهذا أيضا تقارب بين الحروف من جهة الصفات، وتباين من جهة المخرج، فافهم هذا فعليه مدار الحروف كلها. ولا تجد أحرفا من مخرج واحد متفقة الصفات البتة، لأن ذلك يوجب اتفاقها في السمع، فلا تفيد فائدة، فتصير كأصوات البهائم التي لا اختلاف في مخارجها ولا في صفاتها، فلا بد أن تختلف الحروف إما في المخارج وإما في الصفات» (1).
النص الثالث قول عبد الوهاب بن محمد القرطبي (ت 462هـ):
قال في كتابه (الموضح في التجويد): «الألفاظ بأسرها إنما تتركب من حروف وحركات وسكون. وهذه الأشياء الثلاثة لكل منطوق به كالمادة، عنها يأتلف ومنها ينشأ.
فالحروف هي مقاطع للصوت الخارج مع النّفس ممتدا مستطيلا فتمنعه عن اتصاله بغايته، فحيث ما عرض ذلك المقطع سمّي حرفا، وسمي ما يسامته ويحاذيه من الحلق والفم واللسان والشفتين مخرجا.
ولذلك اختلف الصوت باختلاف المخارج واختلاف صفاتها، أعني به الجهر والهمس والشدة والرخاوة والانطباق والانفتاح وغير ذلك. وهذا الاختلاف هو خاصية حكمة الله تعالى المودعة في هذا الشخص، إذ بها يحصل التفاهم، ولولا ذلك لكان الصوت واحدا بمنزلة أصوات البهائم التي هي من مخرج واحد، وعلى صفة واحدة، فلم يتميز الكلام ولا علم المراد، فبالاختلاف يعلم، وبالاتفاق يعدم» (2).
وهذا القول في الواقع صياغة للقولين السابقين بالإضافة إلى قول آخر لابن جني، فالمقطع الأول من هذا القول تلخيص لقول ابن جني في كتابه (سر صناعة الإعراب): «اعلم أن الصوت عرض يخرج مع النّفس مستطيلا متصلا، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته، فيسمى المقطع أينما عرض له حرفا، وتختلف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها، وإذا تفطنت لذلك وجدته على ما ذكرته لك. ألا ترى أنك تبتدئ الصوت من أقصى حلقك ثم تبلغ به أي المقاطع شئت، فتجد له جرسا ما، فإن انتقلت
__________
(1) الرعاية ص 130129.
(2) الموضح 150و.(1/103)
عنه راجعا عنه أو متجاوزا له ثم قطعت، أحسست عند ذلك صدى غير الصدى الأول، وذلك نحو الكاف فإنك إذا قطعت بها سمعت هنا صدى ما، فإن رجعت إلى القاف سمعت غيره، وإن جزت إلى الجيم سمعت غير ذينك الأوّلين» (1).
النص الرابع قول طاش كبري زاده (أحمد بن مصطفى بن خليل ت 968هـ):
قال في كتابه (شرح المقدمة الجزرية): «فائدة مهمة: اعلم أن الهواء الخارج من داخل الإنسان إن خرج بدفع الطبع يسمى نفسا، بفتح الفاء، وإذا خرج بالإرادة وعرض له تموّج بتصادم جسمين يسمى صوتا.
وإذا عرض للصوت كيفيات مخصوصة بسبب آلات مخصوصة يسمى حروفا، وإذا عرض للحروف كيفيات أخر عارضة بسبب الآلات تسمى تلك الكيفيات صفات.
ثم إن النّفس الخارج الذي هو وظيفة (2) حرف إن تكيف كله بكيفية الصوت حتى يحصل صوت قوي كان الحرف مجهورا، وإن بقي بعضه بلا صوت يجري مع الحرف كان الحرف مهموسا.
وأيضا إذا انحصر صوت الحرف في مخرجه انحصارا تاما فلا يجري يسمى شدة (3)، كما في (الحج)، فإنك لو وقفت على قولك (الحج) وجدت صوتك راكدا محصورا، حتى لو رمت مدّ صوتك لم يمكنك.
وأما إذا جرى الصوت جريا تاما ولا ينحصر أصلا يسمى رخوة كما في (الطش) فإنك إذا وقفت عليها وجدت صوت الشين جاريا تمده إن شئت.
وأما إذا لم يتم الانحصار ولا الجري يكون متوسطا بين الشدة والرخاوة. كما في (الخل) فإنك إذا وقفت عليه وجدت الصوت لا يجري مثل جري (الطش)، ولا ينحصر مثل انحصار (الحج)، بل يخرج (4) على اعتدال بينهما. والله أعلم» (5).
__________
(1) سر صناعة الإعراب 1/ 6.
(2) في المنح الفكرية لعلي القاري ص 14 (صفة).
(3) في المنح الفكرية ص 14 (شديدا).
(4) في نسخ شرح المقدمة لطاش كبري زاده الموجودة في مكتبة المتحف ببغداد (يجري).
(5) شرح المقدمة الجزرية 11ظ 12ظ. وقد راجعت في توثيق هذا النص خمس نسخ من شرح المقدمة لطاش كبري زاده هي: نسخة مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد رقم (621/ 3) وهي(1/104)
وقد نقل علي القاري (ت 1014هـ) في (المنح الفكرية على متن الجزرية) هذا النص دون أن ينسبه إلى أحد (1). ونقل محمد المرعشي مقاطع منه في كتابه (جهد المقل) عن علي القاري (2).
ويبدو لي أن استخلاص عناصر مكونة لنظرية واضحة لإنتاج الأصوات اللغوية عند علماء التجويد من النصوص السابقة يتوقف على مناقشة جملة أمور وردت في تلك النصوص، يمكن إجمالها على النحو الآتي:
1 - النّفس، والصوت.
2 - الحرف، والمقطع، والمخرج، والصفة.
3 - الجهر، والهمس.
4 - الشدة، والرخاوة، والتوسط.
وهذه الأمور التي تضمنتها النقاط الأربع هي العناصر الأساسية لإنتاج الصوت اللغوي، ولا نريد أن نذكر هنا كل ما يتعلق بها، فلا نريد أن نحصي مخارج الحروف العربية وصفاتها، فإن لذلك مكانا آخر، وإنما نريد أن نبين هنا المقصود بالمخرج والصفة، دون الدخول في التفصيلات، كذلك بالنسبة للجهر والهمس والشدة والرخاوة والتوسط، لا نريد هنا أكثر من توضيح وجهة نظر علماء التجويد في بيان مدلولاتها وعلاقة ذلك بإنتاج الأصوات وتمايزها.
على أننا سندرس نقطة خامسة تتعلق بتصور علماء التجويد للفرق بين المجهور والشديد والمهموس والرخو، وللعلاقة بينها.
1 - النفس والصوت:
النّفس بفتح الفاء هو الهواء الخارج من داخل الإنسان بدفع الطبع، والصوت: هو الهواء الخارج من داخل الإنسان بقوة الإرادة، ويعرض له في مجراه تموج بسبب تضييق مجراه أو غلقه كليا ثم إطلاقه. هذا ما قرره طاش كبري زاده في قوله السابق (النص الرابع).
وقد عرّف محمد المرعشي الصوت من جهة أخرى، فقد قال: «اعلم أن النّفس الذي هو
__________
المعتمدة في هذا البحث. ثم ثلاث نسخ في مكتبة المتحف ببغداد أرقامها: 174038208 29806. ونسخة مكتبة الأوقاف العامة في الموصل المرقمة (1عبد الله مخلص).
(1) المنح الفكرية ص 14.
(2) جهد المقل 5ظ، 11ظ.(1/105)
الهواء الخارج من داخل الإنسان إن كان مسموعا فهو صوت، وإلا فلا» (1). وقال في مكان آخر: «حقيقة الصوت هي النّفس المسموع» (2). وقال أيضا: «إن النفس ركن الصوت» (3).
وهذا تصور لحقيقة الصوت لا مزيد عليه في الوضوح.
وتعريف طاش كبري للصوت يعتمد على طبيعة مصدره ومنشئه، فهو عنده النفس الخارج بالإرادة، لا بالطبع، والطبع هنا يقصد به عملية التنفس المشتملة على شهيق وزفير يقوم بها الإنسان بفطرته لا بإرادته وإن كان بإمكانه التحكم فيها إلى حد ما. وأما تعريف المرعشي فيعتمد على أثر الصوت السمعي، فإن كان النفس مسموعا فهو صوت، وإلا فلا.
وهذا التعريف أوضح في تحديد طبيعة الصوت اللغوي، وهو الذي يقرره المحدثون من علماء الأصوات، قال الدكتور كمال محمد بشر: «الصوت اللغوي أثر سمعي يصدر طواعية واختيارا عن تلك الأعضاء المسماة تجاوزا أعضاء النطق» (4).
ونلاحظ في النص الثالث معنى للصوت لا يتفق تماما مع ما سلف هنا من تعريف للصوت، فقول ابن جني: «اعلم أن الصوت عرض يخرج مع النفس مستطيلا متصلا». وقول عبد الوهاب القرطبي، الذي هو في الواقع صياغة جديدة لقول ابن جني: «فالحروف هي مقاطع للصوت الخارج مع النفس ممتدا مستطيلا» يشيران إلى أن الصوت شيء آخر غير النفس: وهذا معنى يتردد في كثير من مصادر الدراسة الصوتية العربية القديمة، حتى إنا لنجد الأسترآباذي يصرح بأن النفس هو مركب الصوت، حيث قال: «لأن النفس الخارج من الصدر وهو مركب الصوت يحتبس إذا اشتد اعتماد الناطق على مخرج الحرف» (5).
ويبدو أن التمييز بين الصوت والنفس قديم، يرجع إلى ما قاله سيبويه في الكتاب عن المجهور والشديد من الأصوات، فجعل النفس مرتبطا بتعريف المجهور، والصوت مرتبطا بتعريف الشديد (6). ولا نريد أن نتتبع هذه القضية في هذا المكان، لأننا سنناقش تعريف المجهور والشديد في مكان قريب إن شاء الله تعالى، وسوف نتعرض لقضية الصوت والنفس
__________
(1) جهد المقل 5ظ.
(2) جهد المقل 12ظ، وبيان جهد المقل (له) 16ظ.
(3) بيان جهد المقل 15و.
(4) الأصوات ص 81. وانظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 6و 13.
(5) شرح الشافية 3/ 259.
(6) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 434.(1/106)
من خلال محاولة توضيح الفرق بين المجهور والشديد عند علماء العربية وعلماء التجويد، في النقطة الخامسة.
2 - الحرف، والمقطع، والمخرج، والصفة:
الحرف كما يقول علي القاري: «هو صوت معتمد على مقطع محقق، وهو أن يكون اعتماده على جزء معين من أجزاء الحلق واللسان والشفة، أو مقطع مقدر وهو هواء الفم، إذ الألف لا معتمد له في شيء من أجزاء الفم بحيث أنه ينقطع في ذلك الجزء» (1).
والمقطع: هو المخرج، قال المرعشي: «ومراده من المقطع هو المخرج، لأن الصوت ينقطع في المخرج» (2).
وهذا التعريف للحرف والمقطع ينطبق على قول عبد الوهاب القرطبي (النص الثالث):
«فالحروف هي مقاطع للصوت الخارج مع النّفس ممتدا مستطيلا، فتمنعه عن اتصاله بغايته، فحيثما عرض ذلك المقطع سمّي حرفا، وسمّي ما يسامته ويحاذيه من الحلق والفم واللسان والشفتين مخرجا».
أما المخرج فقد قال الداني في تعريفه: «ومعنى المخرج أنه الموضع الذي ينشأ منه الحرف» (3). وقال أحمد بن الجزري: «وهو عبارة عن الحيز المولّد للحرف» (4). وقد جمع القسطلاني بين التعريفين بقوله: «المخارج جمع مخرج، اسم للموضع الذي ينشأ منه الحرف، وهو عبارة عن الحيز المولد له» (5). لكن علي القاري قال: «والأظهر أنه موضع ظهوره وتمييزه عن غيره» (6).
__________
(1) المنح الفكرية ص 8. وانظر القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 183. ويلاحظ هنا أن مصطلح (الحرف) صارت له دلالة صوتية، إلى جانب استخدامه للتعبير عن الرمز المكتوب. وقد قال المستشرق الألماني أ. شاده: «ولكن هذا التقصير هو خلل في الاصطلاح أكثر من كونه خللا في الإدراك» (انظر علم الأصوات عند سيبويه وعندنا. صحيفة الجامعة المصرية 1931العدد الخامس ص 6).
(2) جهد المقل 5ظ.
(3) التحديد 16و. وانظر: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72و.
(4) الحواشي المفهمة 11ظ.
(5) لطائف الإشارات 1/ 182.
(6) المنح الفكرية ص 8. وكان ابن يعيش قد عرّف الحرف بأنه (صوت مقروع في مخرج معلوم) وعرف المخرج بأنه (المقطع الذي ينتهي الصوت عنده) (شرح المفصل 10/ 124).(1/107)
وهذه التعريفات للمخرج لا تناقض بينها وهي متفقة في أن المخرج هو النقطة المعينة من آلة النطق التي ينشأ منها الحرف أو يظهر فيها ويتميز، نتيجة لتضييق مجرى الهواء أو غلقه ثم إطلاقه، وهي تعريفات تتطابق مع وجهة نظر علماء الأصوات المحدثين، يقول برجستراسر: «والمخرج أو المخرج هو الموضع من الفم ونواحيه الذي يخرج أو يخرج منه الحرف» (1). ويقول ماريوباي: «وإن التمييز بين أصوات اللغة سواء منها الأنفي أو الفموي يعتمد على استمرار الصوت ودرجة إسماعه، وقوة إنتاجه، وفوق كل هذا على المخرج.
وكلمة المخرج تشير إلى النقطة المحددة في الجهاز النطقي التي يتم عندها تعديل وضعه» (2).
وقد وضّح محمد المرعشي تعريف الحرف من أنه صوت معتمد على مقطع محقق أو مقدر، وقال بأن المراد من المقطع هو المخرج لأن الصوت ينقطع في المخرج، ثم قال:
«سبب انقطاع الصوت في المخرج المحقق انضغاط الصوت فيه، فلجميع الحروف مخرج محقق إلا حروف المد، إذ لا تنضغط أصواتها في موضع انضغاطا ينقطع به الصوت، بل يمتد بلين بلا تكلف إلى أن تقطعه بإرادتك» (3).
وكذلك وضّح معنى اعتماد الصوت على المخرج فقال: «ومعنى اعتماد الصوت على المخرج تضييق المخرج وضغط الصوت فيه، ومعنى قوة الاعتماد عليه شدة تضييقه، وقد يذكرون الاعتماد على الحرف ومرادهم الاعتماد على مخرجه، والحروف كلها ما عدا الألف المدّية متشاركة في أصل الاعتماد على المخرج ومتفاوتة في قوة الاعتماد، فالحروف الشديدة أقوى اعتمادا من الحروف الرخوة، وكلما كان الاعتماد أقوى كان صوت الحرف أقوى» (4).
وعلماء التجويد يتبعون في تعيين مخرج الحرف طريقه النحاة في ذوق الحروف، وذلك أن يسكن الحرف وتدخل همزة الوصل عليه، ليتوصل إلى النطق به، فيستقر اللسان بذلك في موضعه فيتبين مخرجه (5).
__________
(1) التطور النحوي ص 65.
(2) أسس علم اللغة ص 78.
(3) جهد المقل 5ظ 6و.
(4) جهد المقل 6ظ.
(5) انظر: الخليل: العين 1/ 47، والأزهري: التهذيب 1/ 41، وابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 7. وانظر: الداني: التحديد 16و، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 150و.(1/108)
وقد أضاف علي القاري بعض العناصر إلى تلك الطريقة، وإن لم تتبدل من حيث الجوهر، وذلك حيث قال: «وإذا أردت أن تعرف مخرج حرف صريحا بعد تلفظك به صحيحا، فسكّنه، أو شدّده، وهو الأظهر، وأدخل عليه همزة الوصل بأي حركة، وأصغ إليه السمع فحيث انقطع الصوت كان مخرجه المحقق، وحيث يمكن انقطاع الصوت في الجملة كان مخرجه المقدر، فتدبر» (1).
وقد وضح محمد المرعشي بعض عبارات علي القاري، وصحح بعضا، فقال: «قوله:
(فسكّنه أو شدّده وهو، أي التشديد، الأظهر) هذا يدل على أن ضغط المخرج في السكون أقوى منه في الحركة، وفي التشديد أقوى منه في السكون. وإنما اختير السكون أو التشديد في معرفة المخرج لأن المخرج موضع الانضغاط فما لم يكن الانضغاط قويا لا يظهر محله».
ثم قال: «قوله: (وأصغ إليه السمع) الظاهر أن يقال بدله: وارجع إلى وجدانك فتأمل وتحرّ موضع انقطاع الصوت فحيث انقطع الصوت كان مخرجه المحقق، وذلك لأن معرفة المخرج بالسمع عسير» (2).
أما الصفة فقد عرّفها طاش كبري زاده بقوله: «وصفة الحروف كيفية عارضة للحرف عند حصوله في المخرج، وتتميز بذلك الحروف المتحدة بعضها عن بعض» (3). وهذا التعريف للصفة ينسجم مع تصور طاش كبري لعملية إنتاج الأصوات التي أوردناها في النص الرابع، وهو ينسجم مع وجهة الدرس الصوتي الحديث أيضا، فالصوت ينتج عن عملية مركبة في الغالب من تدخل بعض أعضاء آلة النطق في تيار النّفس في نقطة معينة هي التي تسمى (المخرج)، وهذه هي العملية الأساسية في إنتاج الصوت، وهناك عمليات أخرى مصاحبة تحدث في بعض أعضاء النطق كعملية اهتزاز الوترين الصوتيين التي تسمى الجهر (4). فهذه العمليات المصاحبة لما يحصل للصوت في المخرج هي التي تسمى بالصفات.
فصفات الحروف إذن هي كيفيات مصاحبة لتكون الحروف في المخرج، سواء كانت تبين كيفية مرور الهواء في نقطة المخرج أم توضح عملية نطقية ثانوية تشكل جزءا مهما في تكون الصوت وتميزه عن غيره. «ولم يريدوا بالصفة معنى النعت كما أراد النحويون، مثل اسم
__________
(1) علي القاري: المنح الفكرية ص 8.
(2) جهد المقل 5ظ.
(3) شرح المقدمة الجزرية 11و.
(4) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 107102.(1/109)
الفاعل واسم المفعول، أو ما يرجع إليهما من طريق المعنى نحو مثل وشبه» (1).
3 - الجهر والهمس:
ظاهرة الجهر من الظواهر الصوتية التي لها شأن كبير في تمييز الأصوات اللغوية، وتقابلها ظاهرة الهمس. وقد حظيت هاتان الظاهرتان بعناية علماء العربية وعلماء التجويد، في القديم، كما حظيت بعناية علماء الأصوات المحدثين. وكان لرأي سيبويه في تفسير هاتين الظاهرتين سلطان قاهر على أجيال العلماء، كما كان لآرائه الصوتية الأخرى تأثير مستمر واحترام كبير. ولم تنل الدراسات الصوتية الحديثة من تلك المكانة التي يحتلها سيبويه في مجال الدرس الصوتي العربي إلا في جوانب محدودة، لعل من أوضحها تعريف المجهور من الأصوات والمهموس.
ولكي تتضح وجهة علماء التجويد في فهم ظاهرتي الجهر والهمس نحتاج إلى بيان رأي سيبويه في ذلك، لأنه ظل الأساس الذي تستند إليه جهودهم في هذا الموضوع الدقيق الذي كان خارج ميدان الملاحظة الذاتية المباشرة. ولكني أجد من المفيد ذكر تفسير المحدثين لظاهرتي الجهر والهمس، ذلك التفسير الذي غدا حقيقة ثابتة لا تحتمل التبديل، وذلك لكي تكون مناقشتنا للموضوع تستند إلى مقياس ثابت أكيد.
إن من الانجازات المهمة لعلم الأصوات الحديث إدراك دور الحنجرة في عملية التصويت، وذلك بعد اطلاع علماء الأصوات على تشريح الحنجرة، وتقدم وسائل دراسة الأصوات، والحنجرة تكوّن الجزء الأعلى من القصبة الهوائية، وهي أشبه بصندوق غضروفي، أو بحجرة صغيرة ذات اتساع معين، ومكونة من عدد من الغضاريف. وفي الحنجرة يمتد الوتران الصوتيان، وهما في الواقع ليسا وترين، وإنما عبارة عن شفتين أو شريطين من العضلات يتصل بهما نسيج، وهما يقعان متقابلين على قمة القصبة الهوائية، ويمتدان بالحنجرة نفسها أفقيا من الخلف إلى الأمام، حيث يلتقيان عند البروز الناتئ في منتصف الرقبة من أمام، ويسمى الفراغ الكائن بين الوترين بالمزمار، وتقوم (الغلصمة) التي قد تسمى بلسان المزمار، والكائنة فوق الحنجرة، بحماية طريق التنفس أثناء عملية البلع من دخول الطعام إلى القصبة ثم إلى الرئتين (2).
__________
(1) طاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 10ظ 11و.
(2) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 17. ومحمود السعران: علم اللغة ص 145144.
وكمال محمد بشر: الأصوات 8584. وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 8280.(1/110)
إن فتحة المزمار الكائنة بين الوترين الصوتيين يمكن أن تتسع وذلك بتجافي الوترين عن بعضهما، ويمكن أن تضيق إلى حد كبير وذلك بتضام الوترين نحو بعضهما، ويمكن أن تزول وذلك بانطباق الوترين الصوتيين. وهذه هي الأوضاع المؤثرة في إنتاج الأصوات اللغوية التي يتخذها الوتران الصوتيان، فالصوت يختلف تبعا لاختلاف تلك الأوضاع على النحو الآتي (1):
(1) قد يتجافى الوتران الصوتيان أحدهما عن الآخر في أثناء مرور الهواء بهما من الرئتين، بحيث يسمحان له بالخروج دون أن يقابله اعتراض في طريقه، ويظل الوتران صامتين. فيحدث في هذه الحالة ما يسمى بالهمس، والصوت اللغوي الذي ينطق عند ما يتخذ الوتران هذا الوضع يسمى مهموسا. فالصوت المهموس إذن هو الصوت الذي لا يتذبذب الوتران الصوتيان حال النطق به. والوضع الذي يتخذه الوتران الصوتيان في حالة الصوت المهموس هو نفس الوضع الذي يتخذانه في حالة التنفس العادي.
(2) قد يتضام (أو يقترب) الوتران الصوتيان أحدهما نحو الآخر بشكل يسمح للهواء المندفع خلالهما أن يفتحهما ويغلقهما بانتظام وبسرعة فائقة، فتحدث من ذلك التتابع لعملية الفتح والغلق السريعة والمستمرة، بسبب ضغط التيار الهوائي الصاعد من الرئتين، ذبذبات أو اهتزازات منتظمة، تكوّن نغمة صوتية تسمى بالجهر، ويسمى الصوت الذي تصحبه هذه النغمة مجهورا. فالصوت المجهور إذن هو الصوت الذي يتذبذب (2) الوتران الصوتيان حال النطق به.
(3) قد ينطبق الوتران انطباقا تاما، فلا يسمحان للهواء بالمرور إلى الفراغ الحلقي مدة انطباقهما، وعند ما ينفرج الوتران، بعد انطباقهما مدة، يسمع صوت انفجاري (شديد) نتيجة لاندفاع الهواء الذي كان مضغوطا فيما دون الوترين الصوتيين، وهذا الصوت هو ما نسميه في العربية بالهمزة.
أما تعريف سيبويه (أبي بشر عمرو بن عثمان ت 180هـ) للمجهور والمهموس فهو قوله: «فالمجهور حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي
__________
(1) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 147145. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 110109، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 108106.
(2) استخدم الدكتور إبراهيم أنيس كلمة (تهتز الأوتار) في حالة الصوت المجهور، و (لا تهتز الأوتار) في حالة الصوت المهموس. (انظر الأصوات اللغوية ص 20) واستخدم الأستاذ صالح القرمادي في ترجمته لكتاب (دروس في علم أصوات العربية) لجان كانتينو (ص 25): (تنز الأوتار) في حالة الصوت المجهور: و (لا نزيز للأوتار) في حالة الصوت المهموس.(1/111)
الاعتماد عليه ويجري الصوت. فهذه حال المجهورة في الحلق والفم، إلا أن النون والميم قد يعتمد لهما في الفم والخياشيم فتصير فيهما غنة. والدليل على ذلك أنك لو أمسكت بأنفك ثم تكلمت بهما لرأيت ذلك قد أخل بهما.
وأما المهموس فحرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه. وأنت تعرف ذلك إذا اعتبرت فردّدت الحرف مع جري النفس. ولو أردت ذلك في المجهورة لم تقدر عليه.
فإذا أردت إجراء الحروف فأنت ترفع صوتك إن شئت بحروف اللين والمد. أو بما فيها منها، وإن شئت أخفيت» (1).
وكان سيبويه أول من قدّم هذا التعريف للمجهور والمهموس من علماء العربية (2). وظل له تأثير كبير في موقف الذين درسوا الموضوع من بعده سواء أكانوا من علماء العربية أم علماء التجويد، ولم يتمكنوا من الخروج عليه، أو الزيادة فيه إلا في جوانب ضيقة لم تصل إلى حد تقديم تعريف آخر لهما يحل محل تعريف سيبويه (3). وسوف نجعل من تلك الإضافات التي
__________
(1) الكتاب 4/ 434.
(2) من النصوص النادرة أن الزجاج نسب هذا التعريف إلى الخليل بن أحمد، فقال في كتابه (معاني القرآن وإعرابه 1/ 419): «وهذا يحتاج صاحبه إلى أن يعرف الحروف المجهورة والمهموسة. وهي فيما زعم الخليل ضربان: فالمجهورة حرف أشبع الاعتماد عليه في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه، والمهموس حرف أضعف الاعتماد في موضعه وجرى معه النفس». ونحن أمام هذا النص بين احتمالين:
الأول: أن أصل التعريف، أو التقسيم إلى مجهورة ومهموسة على الأقل، هو للخليل، وأخذه سيبويه عنه.
والثاني: أن الزجاج وهم في النسبة وأنه أراد أن يقول: فيما زعم سيبويه، فقال فيما زعم الخليل، لا سيما أننا لا نجد للمجهور والمهموس في كتاب العين أي أثر. ولكني وجدت الدكتور إبراهيم أنيس ينقل من شرح السيرافي على كتاب سيبويه نصا منقولا عن أبي الحسن الأخفش، يتعلق بالمجهور والمهموس، ويرد فيه ذكر الخليل، وهو: قال الأخفش: «سألت سيبويه عن الفصل بين المهموس والمجهور، فقال: المهموس إذا أخفيته ثم كررته أمكنك ذلك، وأما المجهور فلا يمكنك ذلك فيه، ثم كرر سيبويه التاء بلسانه وأخفى، فقال: ألا ترى كيف يمكن. وكرر الطاء (؟) والدال وهما من مخرج التاء فلم يمكن. وأحسبه ذكر ذلك عن الخليل». (انظر: الأصوات اللغوية ص 121). وقول الأخفش (وأحسبه ذكر ذلك عن الخليل) يقوّي الاحتمال الأول. (وانظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 461).
(3) انظر مثلا: من علماء العربية: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 69. وابن عصفور: المقرب 2/ 6،(1/112)
قدمها علماء التجويد خاصة مدارا للمناقشة لنتلمس مقدار اقتراب علماء التجويد نحو الوضوح في تعريف الصوت المجهور والصوت المهموس، وإدراكهم لجوهر هذه الظاهرة الصوتية.
ولكن أجد من الضروري الوقوف عند تعريف سيبويه والبحث في جوانبه قبل أن نخطو تلك الخطوة.
توقف بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين أمام تعريف سيبويه للصوت المجهور محاولين تفسيره بموجب الفهم المعاصر لظاهرة الجهر، وهم لا يخفون حيرتهم في بعض جوانبه، ولكنهم يقررون أن سيبويه حين قسم الأصوات إلى مجهورة ومهموسة كان يريد بالمجهور الصوت الذي يهتز معه الوتران الصوتيان، ويريد بالصوت المهموس الصوت الذي لا يهتز معه الوتران، على الرغم من اعترافهم بأن سيبويه لم يعرف الوترين الصوتيين، ولكنه أدرك أثرهما، وعلى الرغم من أنه عدّ كلا من الطاء والقاف والهمزة أصواتا مجهورة، وهي ليست كذلك في نطقنا المعاصر، ولا يهمنا كثيرا الدخول في تفصيل تلك المحاولات (1).
ولكن عنصرا جديدا في تعريف الصوت المجهور لم يرد في تعريف سيبويه السابق، ولكنه نقل عنه في أماكن أخرى، جدير بالوقوف عنده، لأنه يدل على إدراك سيبويه لدور الوترين الصوتيين في إحداث الجهر، ويوضح أيضا تعريفه السابق للصوت المجهور والمهموس، ذلك العنصر هو ما سماه سيبويه بصوت الصدر وصوت الفم.
وقد نقل الدكتور إبراهيم أنيس النص الذي تضمن تلك الفكرة من شرح السيرافي على كتاب سيبويه في كتابه (الأصوات اللغوية). وأعاد هنري فليش نشر القسم الثاني من النص الذي يبدأ (بقال سيبويه) في كتابه (العربية الفصحى). وقد جاء في النص أن السيرافي (الحسن بن عبد الله ت 368هـ) ذكر أن أبا الحسن الأخفش (سعيد بن مسعدة ت 215هـ على خلاف) قال: «سألت سيبويه عن الفصل بين المهموس والمجهور فقال: المهموس إذا أخفيته ثم كررته أمكنك ذلك. وأما المجهور فلا يمكنك ذلك فيه، ثم كرر سيبويه التاء بلسانه وأخفى، فقال:
ألا ترى كيف يمكن، وكرر الطاء (؟) والدال، وهما من مخرج التاء، فلم يمكن. وأحسبه ذكر
__________
وابن يعيش: شرح المفصل 10/ 129. ومن علماء التجويد: مكي: الرعاية ص 93، والداني:
التحديد 17ظ، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 156و.
(1) انظر: أ. شاده: علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، صحيفة الجامعة المصرية 1931، العدد الخامس ص 1410. وإبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 126120. وتمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها ص 6260. وعبد الصبور شاهين: في التطور اللغوي ص 237230.(1/113)
ذلك عن الخليل.
قال سيبويه: وإنما فرّق بين المجهور والمهموس أنك لا تصل إلى تبيين المجهور إلا أن تدخله الصوت الذي يخرج من الصدر، فالمجهورة كلها هكذا يخرج صوتهن من الصدر ويجري في الحلق، غير أن الميم والنون تخرج أصواتها من الصدر ويجري في الحلق (1)
والخيشوم (فيصير ما جرى في الخيشوم) (2) غنة تخالط ما جرى في الحلق. والدليل على ذلك أنك لو أمسكت بأنفك ثم تكلمت بهما رأيت ذلك قد أخل بهما.
وأما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها، وذلك مما يزجي الصوت، ولم يعتمد عليه فيها كاعتمادهم في المجهورة، فأخرج الصوت من الفم ضعيفا. والدليل على ذلك أنك إذا أخفيت همست بهذه الحروف، ولا تصل إلى ذلك في المجهور. فإذا قلت: شخص، فإن الذي أزجى هذه الحروف صوت الفم، ولكنك تتبع صوت الصدر هذه الحروف بعد ما يزجيها صوت الفم ليبلغ ويفهم بالصوت (3). فالصوت الذي من الصدر هاهنا نظير ذلك الصوت الذي ترفعه بعد ما يزجي صوت الصدر، ألا ترى أنك تقول: قام فإن شئت أخفيت، وإن شئت رفعت صوتك، فإذا رفعت صوتك فقد أحدثت صوتا آخر» (4).
وهذا النص يتضمن وسيلة جديدة، إلى جانب صوت الصدر، لتمييز المجهور من المهموس وذلك عن طريق إخفاء الصوت مع المحافظة على الهمس فيظل الصوت المهموس محافظا على جرسه حين الإخفاء كما هو حين رفع الصوت، أما إخفاء الصوت مع المجهورات فغير ممكن لأنه يترتب عليه زوال صفة الجهر واختلال جرس الصوت، لأن ذلك يفضي به إلى نطيره المهموس. ولعل هذا هو مراد سيبويه من قوله في التعريف الذي نقلناه آنفا: «وأما المهموس فحرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه، وأنت تعرف ذلك إذا اعتبرت فرددت الحرف مع جري النفس. ولو أردت ذلك في المجهورة لم تقدر عليه».
__________
(1) في الأصل المخطوط (ويجري في الصدر) وكذلك نقلها الدكتور إبراهيم أنيس، وقد صححها هنري فليش إلى (الحلق)، وهو ما يناسب السياق.
(2) ما بين القوسين، ساقط من كتاب (الأصوات اللغوية) لإبراهيم أنيس.
(3) إلى هنا ينتهي ما نقله الدكتور إبراهيم أنيس.
(4) السيرافي: شرح الكتاب 6/ 463461. وانظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 122121، وهنري فليش: العربية الفصحى ص 200199.(1/114)
أما (صوت الصدر) الوارد في النص، وهو ما جعله سيبويه جوهر الأصوات المجهورة ويقابله ما سماه (صوت الفم) الذي تتكون منه الأصوات المهموسة فلعل المقصود به هو تلك النغمة الصوتية الناتجة عن اهتزاز وذبذبة الوترين الصوتيين حال النطق بالأصوات المجهورة، فأدرك سيبويه أثرها الصوتي ولم يدرك مصدرها، فنسبها إلى الصدر لأن صداها يتردد هناك، وهو ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم أنيس في تفسير (صوت الصدر) حيث قال: «ولعل هذا الصوت هو صدى الذبذبات التي تحدث في الوترين الصوتيين بالحنجرة، وهذا الصدى نحسّ به ولا شك في الصدر، كما نحس به حين نسد الأذنين بالأصابع، أو حين نضع الكف على الجبهة. فهو الرنين الذي نشعر به مع المجهورات، وسببه تلك الذبذبات التي في الحنجرة» (1).
وهذا يعني أن للأصوات المجهورة مصدرين للتصويت، الأول صوت الحنجرة الناتج عن ذبذبة الوترين، والثاني مخرج الصوت حيث يضيق مجرى النفس أو ينغلق. أما الصوت المهموس فليس له إلا مصدر واحد للتصويت، وهو مخرج الصوت فقط. وهو ما سماه سيبويه بصوت الفم، أي الصوت الحاصل في مخرج الحرف دون أن يصاحبه صوت آخر منبعث من الصدر، أي الحنجرة.
ولدينا نصوص أخرى تؤيد رواية أبي الحسن الأخفش عن سيبويه حول صوت الصدر وصوت الفم، التي نقلها السيرافي، وأول تلك النصوص ما ورد في الكتاب لسيبويه نفسه، حيث قال في (باب الساكن الذي يكون قبل آخر الحروف فيحرك لكراهيتهم التقاء الساكنين):
«واعلم أن من الحروف حروفا مشربة ضغطت من مواضعها، فإذا وقفت خرج معها من الفم صويت ونبا اللسان عن موضعه، وهي حروف القلقلة ومن المشربة حروف إذا وقفت عندها خرج معها نحو النفخة، ولم تضغط ضغط الأولى، وهي الزاي والظاء والذال والضاد، لأن هذه الحروف إذا خرجت بصوت الصدر انسل آخره، وقد فتر، من بين الثنايا لأنه يجد منفذا، فتسمع نحو النفخة أما الحروف المهموسة فكلها تقف عندها مع نفخ، لأنهن يخرجن مع التنفس لا صوت الصدر، وإنما تنسل معه واعلم أن هذه الحروف التي يسمع معها الصوت والنفخة في الوقف، لا يكونان فيهن في الوصل إذا سكّن، لأنك لا تنتظر أن ينبو لسانك، ولا يفتر الصوت حتى تبتدئ صوتا، وكذلك المهموس، لأنك لا تدع الفم يطول
__________
(1) الأصوات اللغوية ص 123.(1/115)
حتى تبتدئ صوتا» (1).
وقد ورد في هذا النص مصطلح (صوت الصدر)، و (صوت الفم)، وهما مستعملان في المعنى نفسه الذي استعملا فيه في رواية السيرافي، إلا أن هاهنا مصطلحا ثالثا هو (الحروف المشربة)، وقد ورد في سياق يقابل (الحروف المهموسة)، وهو أمر يجعلني أرجح أن مراد سيبويه من قوله: (الحروف المشربة) هو الحروف المجهورة، ولأمر ما لم يستخدم سيبويه كلمة (المجهورة) في هذا المكان من الكتاب، وهو متقدم كثيرا على باب الإدغام الذي درس فيه الأصوات العربية، واستخدم هناك مصطلح (المجهور والمجهورة)، ويكون بذلك معنى (المشربة) هو الحروف التي أشربت صوت الصدر، أي تخرج مع صوت الصدر، أخذا من قول سيبويه في ذات المكان عن الحروف المهموسة (يخرجن مع التنفس لا صوت الصدر).
ونقل بعض علماء العربية والتجويد فكرة (صوت الصدر وصوت الفم) المميزة بين المجهور والمهموس عند سيبويه، ولكن دون نسبتها إليه، من ذلك ما قاله مؤلف تفسير (المباني لنظم المعاني) وهو أبو محمد حامد بن أحمد بن جعفر بن بسطام (كان حيا سنة 425) (2): «والحروف المهموسة عشرة سميت مهموسة لأن الاعتماد يضعف في موضعها فيجري النفس قبل انقضاء الاعتماد، ويخرج الصوت مهموسا، أي خفيا. والحروف كلها سوى هذه العشرة مجهورة، وإنما سميت مجهورة لأن الاعتماد يسمع في موضع الحرف منها، فلا يجري النفس حتى ينقضي الاعتماد، وخرج صوت الصدر مجهورا» (3). وكذلك نقل عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ) في كتابه (الموضح في التجويد) نص كلام سيبويه في الكتاب حول الحروف المشربة، لكن دون أن ينسبه إليه (4).
وقد لخص الأسترآباذي (ت 686هـ) الفكرة في كتابه شرح شافية ابن الحاجب على هذا النحو: «قيل: والمجهورة تخرج أصواتها من الصدر، والمهموسة تخرج أصواتها من مخارجها في الفم» (5).
__________
(1) الكتاب 4/ 175174.
(2) كان مؤلف هذا التفسير مجهولا، وقد كتبت بحثا رجحت فيه أن يكون المذكور هو المؤلف (انظر: مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد، العددان 165164ص 255243).
(3) انظر مقدمة كتاب المباني، ضمن: مقدمتان في علوم القرآن ص 148.
(4) الموضح 157ظ.
(5) شرح الشافية 3/ 259258.(1/116)
تلك هي فكرة سيبويه عن الصوت المجهور والصوت المهموس. وقد رددها من بعده علماء العربية وعلماء التجويد، ويمكن القول بأن سيبويه تمكن من تصنيف الأصوات إلى مجهورة ومهموسة استنادا إلى إدراكه للفرق بين طبيعة القسمين الناتج عن اهتزاز الوترين الصوتيين، التي سماها سيبويه صوت الصدر، أثناء نطق الأصوات المجهورة، وعدم اهتزازهما في أثناء نطق الأصوات المهموسة، وكان هذا التقسيم في جملته صحيحا.
ولم يكتف علماء التجويد بترديد أفكار سيبويه في المجهور والمهموس، بل نجد بعض الإضافات الصحيحة، كما نجد بعض المحاولات لتقديم تعريف أوضح من تعريف سيبويه.
وتتركز ملاحظات علماء التجويد حول المجهور والمهموس على الأثر السمعي لا على توضيح مصدر الجهر، فهم يقررون أن المجهور أوضح في السمع من المهموس، وهذا ما يفهم من وصف مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) للصوت المجهور بأنه أقوى من المهموس وأن المهموس أضعف من المجهور، ثم هو يقول: «وإنما لقب هذا المعنى بالجهر لأن الجهر: الصوت الشديد القوي، فلما كانت في خروجها كذلك لقبت به، لأن الصوت يجهر بها لقوتها» (1).
وركز الداني (ت 444هـ) في توضيح المجهور والمهموس على المعنى اللغوي للكلمتين، فقال في كتاب (التحديد): «الهمس الإخفاء، والجهر الإعلان» (2). وقال في كتاب (الإدغام الكبير): «الهمس إخفاء الصوت، والجهر الإعلان» (3). وذكر ذلك أيضا عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ) فقال: «إن المهموس ما خفي، والمجهور ما أعلن» (4). وقد صرح ابن الحاجب (ت 646هـ) بأن الهمس هو (الصوت الخفي) والجهر هو (الصوت العالي) (5). وهذه النصوص كلها تشير إلى معنى واحد هو أن المجهور أوضح في السمع من المهموس، وإذا لم يكن ذلك معناها فبأي شيء يمكن أن تفسر هذه الكلمات: القوة الإعلان العلو؟.
وكان ابن كيسان (محمد بن أحمد ت 299هـ على خلاف) قد صرح بهذه الحقيقة، حيث قال: «ومعنى المهموس منها أنه حرف لأن مخرجه دون المجهور وجرى معه النفس،
__________
(1) الرعاية ص 92.
(2) التحديد 17ظ.
(3) الإدغام الكبير 9ظ.
(4) الموضح 156و.
(5) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 490.(1/117)
وكان دون المجهور في رفع الصوت» (1)، وابن كيسان نحوي ومقرئ (2). وكان الداني قد أشار إليه في كتاب (التحديد في الإتقان والتجويد) مرتين (3). وذهب الأسترآباذي هذا المذهب حيث صرح بأن «الجهر رفع الصوت بالحرف» (4).
ونقل أحمد بن أبي عمر (ت في حدود 500هـ) مؤلف كتاب (الإيضاح في القراءات) عن علي بن عيسى (لعله الرماني ت 384هـ أو الربعي ت 420هـ) (5)، أن المجهور يتميز (بشدة الوقع) لقوة الاعتماد فيه (6). ونقل عنه توضيحا لمعنى قوة الاعتماد وذلك حيث قال:
«وقال علي بن عيسى:
معنى مجهور: حرف قوي الاعتماد في موضعه، فقوي الصوت لقوة الاعتماد.
ومعنى مهموس: حرف ضعف الاعتماد في موضعه فضعف الصوت لضعف الاعتماد.
وأنت إذا اعتبرت ذلك وجدته: تقول: أص، فترى الاعتماد للصاد ضعيفا، ثم تقول:
أز، فترى الاعتماد للزاي قويا، والصوت بالزاي أقوى من الصوت بالصاد، وهما من مخرج واحد.
وكذلك تقول: أث، فتعتمد للثاء اعتماد ضعيفا، وتقول: أذ، فتعتمد للذال اعتمادا قويا، والصوت بالذال أقوى من الصوت بالثاء، وهما من مخرج واحد» (7).
وقد أشار المحدثون من علماء الأصوات إلى هذه الخاصية للصوت المجهور وللصوت المهموس، وأن الأصوات المجهورة أشد بروزا ووضوحا في السمع من الأصوات المهموسة (8).
وكان طاش كبري زاده (ت 968هـ) قد حاول صياغة تعريف جديد للمجهور والمهموس يعتمد على نظريته في إنتاج الأصوات، التي سبق أن ذكرناها (النص الرابع)،
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب 1/ 7.
(2) انظر: ابن النديم: الفهرست ص 89.
(3) التحديد 17و، 21ظ.
(4) شرح الشافية 3/ 260.
(5) انظر: كحالة: معجم المؤلفين 7/ 162و 163.
(6) الإيضاح 73ظ.
(7) الإيضاح 73ظ.
(8) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 125.(1/118)
وذلك حيث يقول: «إن النّفس الخارج، الذي هو وظيفته حرف، إن تكيف كله بكيفية الصوت حتى يحصل صوت قوي كان الحرف مجهورا، وإن بقي بعضه بلا صوت يجري مع الحرف كان الحرف مهموسا» (1).
وهذا التعريف، وإن كانت بعض أجزائه تفتقر إلى الوضوح، لكنه يتقدم على تعريف سيبويه خطوة نحو التعريف الكامل للمجهور والمهموس الذي نجده عند المحدثين. فهو يبين أن المجهور أقوى من المهموس لا بسبب قوة الاعتماد وإنما بسبب تكيف النّفس كله بكيفية الصوت، ولكن كيف يحصل ذلك؟ التعريف يقف عند هذا الحد، وإن كنا الآن ندرك أن ذلك يتم باهتزاز الوترين الصوتيين في أثناء مرور النّفس بهما. والصوت المهموس لا يتكيف بهذه الكيفية.
وناقش محمد المرعشي (ت 1150هـ) هذا التعريف ناقلا إياه عن علي القاري الذي أورده في (المنح الفكرية على متن الجزرية) دون أن ينسبه لأحد (2). وذلك حيث قال:
«وتحقيق الفرق هنا ما قال (علي القاري): إنّ نفس الحرف إن تكيف كله بكيفية الصوت حتى حصل صوت قوي كان الحرف مجهورا، وإن بقي بعضه بلا صوت يجري مع الحرف كان الحرف مهموسا، انتهى.
أقول [المرعشي]: هذا الفرق يتحقق في القراءة جهرا، فالمراد من الصوت القوي الجهر، وقوله: بلا صوت يعني بلا صوت جهري يجري مع مبدأ الحرف. فإذا قلت: اذ بالمعجمة، ومددتها تجد نفسها كله متكيفا بصوت جهري. وإذا قلت: اص بالمهملة، ومددتها تجد مبدأ نفسها متكيفا بصوت جهري وآخره خاليا عن ذلك الجهر بل متكيفا بصوت خفي، وقس عليهما. فالصاد المهملة بعض صوتها مجهور وبعضه مهموس لكن الاصطلاح وقع في أنها مهموسة، وكذا سائر حروف الهمس.
وأما في القراءة إسرارا فلا يتحقق هذا الفرق، وهو نظر»! (3).
ونجد في تحليل المرعشي للتعريف السابق ما يزيل بعض الغموض الذي فيه، فتفسيره لكلمة (الصوت) بأن المراد منها (الصوت الجهري) أن النغمة المتولدة من ذبذبة الوترين
__________
(1) شرح المقدمة الجزرية 11ظ.
(2) المنح الفكرية ص 14.
(3) جهد المقل 11ظ.(1/119)
الصوتيين جعل تعريف المجهور والمهموس أقرب إلى الوضوح والدقة، فالمجهور حينئذ الحرف (الصوت) الذي يصاحب نطقه اهتزاز الوترين الصوتيين، وما يترتب على ذلك من نغمة صوتية، هي التي ذكرت في التعريف بأنها (صوت قوي). والمهموس هو الذي لا يصاحب نطقه ذلك الصوت. وهنا نقترب من تعريف المحدثين للمجهور بأنه الصوت الذي يتذبذب الوتران الصوتيان حال النطق به، وللمهموس بأنه الصوت الذي لا يتذبذب الوتران الصوتيان حال النطق به.
وتبقى بعد ذلك قضيتان في كلام المرعشي السابق جديرتان بالمناقشة، الأولى: اعتقاده بأن الصاد تبدأ بصوت جهري ثم تنتهي بصوت خفي (أي مهموس) وهكذا بقية الحروف المهموسة. فهذا العبقري الذي ختم الدراسات التجويدية بآرائه وتحليلاته القيمة وقع في وهم ما كان له أن يقع فيه، فاعتقاده هنا غير صحيح، ويبدو أن الذي أوقعه في ذلك الوهم أسلوب التجربة الذاتية التي أجراها على الصاد فحين ننطق بها على هذا النحو (اص) فإننا نبدأ بالهمزة، وهي ليست مجهورة، ولكننا ننطق بعد الهمزة بكسرة وهي مجهورة، ثم ننطق بعد ذلك بالصاد. ولعل قول المرعشي أن الصاد تبدأ بصوت جهري جاء نتيجة لتأثره بذاك الجهر الناشئ من كسرة همزة الوصل.
الثانية: هي تمييزه بين القراءة بصوت مرتفع والقراءة المخافتة، ولاحظ أن التفريق بين المجهور والمهموس لا يتم إلا في القراءة بصوت مرتفع، أما في القراءة إسرارا فلا يتحقق هذا الفرق، لأن الوترين الصوتيين يكفان عن الاهتزاز حينئذ، فلا يتميز الصوت المجهور عن المهموس على النحو الذي يحصل في القراءة المرتفعة.
ومن الإضافات القيمة لعلماء التجويد في سبيل توضيح المجهور والمهموس ما ذكره محمد المرعشي في كتابه (جهد المقل) من «أن نفس الحرف المجهور قليل، ونفس الحرف المهموس كثير» (1). وأكد هذه الفكرة في (بيان جهد المقل) فقال: «لكن جري النّفس في المهموس الرخو أكثر من جريه في المجهور الرخو» (2). وقال في موضع آخر: «فالرخو المصحوب بنفس كثير هو الرخو المهموس كالسين والصاد المهملتين» (3).
__________
(1) جهد المقل 12ظ.
(2) بيان جهد المقل 15و.
(3) المصدر نفسه 16و.(1/120)
والمرعشي يشير بذلك إلى أن إنتاج الصوت المهموس يحتاج إلى كمية من هواء النفس أكثر مما يحتاج إليه إنتاج الصوت المجهور. ويلاحظ ذلك في نطق الذال والثاء مثلا، فنقول:
إذ، ونمد الصوت، ونقول: اث ونمد الصوت، فنشعر بوضوح إلى الحاجة إلى نفس قوي في الثاء بينما نحتاج إلى أقل من ذلك في الذال، وهكذا في كل مجهور ومهموس.
وهذه ملاحظة يؤيدها علماء الأصوات المحدثون، فقد قال الدكتور محمود السعران:
«ومما هو جدير بالملاحظة أن الصوامت المهموسة يحتاج نطقها إلى قوة من إخراج النّفس (الزفير) أعظم من التي يتطلبها نطق الصوامت المجهورة. ويمكن أن نلمس هذا الفارق في قوة النّفس إذا بسطنا الكف أمام الفم ونحن ننطق صامتا مهموسا متلوا بنظيره المجهور مثل ث، ذ / ت، د / س، ز الخ» (1).
ويمكن أن نضيف إلى ذلك وسيلة ثانية تؤكد حاجة الصوت المهموس إلى نفس أقوى من حاجة الصوت المجهور، وهي أن يملأ الناطق رئتيه هواء ثم ينطق صوتا مهموسا مثل اس أو اث ويمد الصوت حتى ينفد الهواء، ثم يعيد ملء رئتيه هواء وينطق صوتا مجهورا مثل از أو اذ ويمد الصوت حتى ينفد الهواء، فسنجد أن مدة نطق الصوت المجهور قد تصل إلى ضعف مدة الصوت المهموس، إذا حاول نطقهما بطريقة واحدة، وهو أمر يؤكد فعلا ما قرره محمد المرعشي وأيدته الدراسة الصوتية الحديثة من أن المهموس يحتاج إلى نفس أكثر من المجهور.
وربما تكون هذه الظاهرة مرتبطة بحقيقة لاحظها علماء التجويد وأيدتها أيضا الدراسات الحديثة، وهي أن المجهور أوضح في السمع من المهموس، وذلك راجع إلى النغمة التي تتولد من ذبذبة الوترين الصوتيين، وهو ما يفتقده الصوت المهموس وزيادة دفع الهواء من الرئتين لزيادة لزيادة وضوحه السمعي.
تلك هي جهود علماء التجويد في دراسة ظاهرتي الجهر والهمس، وهي تمثل مرحلة بين ما قاله سيبويه وعلماء العربية وما توصل إليه المحدثون من دور الوترين الصوتيين في ذلك، وقد أدرك علماء التجويد كل خصائص الصوت المجهور والصوت المهموس إلا أنهم لم يتوصلوا إلى معرفة الوترين الصوتيين وتحديد دورهما في ظاهرتي الجهر والهمس، وليس كثيرا ألا يتوصلوا إلى ما لم يتوصل إليه المحدثون إلا بالوسائل الآلية الدقيقة. فيكفيهم أنهم
__________
(1) علم اللغة ص 164.(1/121)
أدركوا بالملاحظة الذاتية جوانب كثيرة من خصائص الأصوات دلت على عمق النظرة والمواظبة على البحث من أجل اكتشاف أسرار الصوت الإنساني.
4 - الشدة، والرخاوة، والتوسط:
من الجوانب الأساسية في إنتاج الأصوات اللغوية تحديد درجة انفتاح مخرج الصوت أثناء مرور الهواء به، لأن ذلك من العوامل المؤثرة في تنوع الأصوات واختلاف جروسها.
وعلماء الأصوات، سواء منهم علماء العربية وعلماء التجويد المتقدمون، أو علماء الأصوات المحدثون يقسمون الأصوات تبعا لهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
1 - الصوت الرخو (1)، ويسميه المحدثون الاحتكاكي.
2 - الصوت الشديد، ويسميه المحدثون الانفجاري.
3 - الصوت المتوسط.
وسوف أتبع في مناقشة هذا الموضوع المنهج الذي اتبعته في مناقشة موضوع الجهر والهمس. فأعرض أولا رأي علماء الأصوات المحدثين، ثم أورد رأي سيبويه وعلماء العربية من بعده، وأخيرا أذكر رأي علماء التجويد، مركزا على الاتجاهات الجديدة لديهم في الموضوع، مبينا موقعها من الدرس الصوتي الحديث.
فالصوت الشديد (الانفجاري) لدى علماء الأصوات المحدثين هو الذي ينحبس مجرى النفس المندفع من الرئتين لحظة من الزمن في مخرجه، وذلك بالتقاء عضوين من أعضاء آلة النطق، ثم ينفصل العضوان فيندفع الهواء المحبوس فجأة محدثا صوتا، انفجاريا، مثل الباء والتاء والدال وغيرها.
والصوت الرخو (الاحتكاكي) هو الذي لا ينحبس الهواء في مخرجه حبسا تاما، وذلك بأن يضيق مجرى النّفس باقتراب عضوين من أعضاء آلة النطق نحو بعضهما في مخرج الحرف، دون أن يقفلا المجرى، فيحدث النّفس في أثناء مروره بمخرج الصوت حفيفا مسموعا تختلف نسبته تبعا لنسبة ضيق المجرى. وذلك مثل صوت السين والزاي والحاء وغيرها.
أما الأصوات المتوسطة فهي التي يجد النّفس له فيها منفذا يتسرب منه إلى الخارج على الرغم من التقاء العضوين في مخرج الصوت المنطوق، وذلك مثل اللام والميم والنون
__________
(1) قال أبو الفتوح الوفائي (الجواهر المضية 26ظ): «والرخوة بتثليث الراء والكسر أشهر»، وما جاء في لسان العرب لابن منظور (19/ 28رخو) يؤيد هذا القول.(1/122)
وغيرها، ومن هنا سميت هذه الأصوات بالمتوسطة أي التي ليست شديدة (انفجارية) ولا رخوة (احتكاكية) (1).
وقد عرّف سيبويه (الشديد) بأنه «الذي يمنع الصوت أن يجري فيه، وهو الهمزة، والقاف، والكاف، والجيم، والطاء، والتاء، والدال، والباء، وذلك أنك لو قلت (الحج) ثم مددت صوتك لم يجر فيه» (2).
ثم عدّد الحروف الرخوة، وقال: «وذلك إذا قلت: الطس، وانقض، وأشباه ذلك أجريت فيه الصوت إن شئت» (3). وقال ابن جني: «والرخو هو الذي يجري فيه الصوت» (4).
ولم يستخدم سيبويه مصطلح (المتوسطة) ولكنه قال بعد أن ذكر الحروف الشديدة والرخوة: «وأما العين فبين الرخوة والشديدة» ثم عدّد أصنافا من الحروف هي: الأنفية والمكرر، واللينة، والهاوي (5). ثم جاء ابن جني فنص أن كل ما عدا الشديدة والرخوة فهو من التي بين الشديد والرخو، وهي ثمانية وحصرها في (لم يروعنا) (6)، ولا نريد أن ندخل هنا في مناقشة عددها، لأنا سنعود إلى ذلك في مكان لاحق إن شاء الله، ولكننا نريد هنا أن نقف على التصور العام في إنتاج هذه الأصوات.
ويبدو أن استعمال مصطلح (المتوسطة) تأخر كثيرا، وظلت عبارة (بين الشديدة والرخوة) هي المستعملة حتى القرن السابع وربما إلى الثامن. فلا نجده في المفصل للزمخشري، ولا في شرحيه لابن يعيش (ت 643هـ) (7). وابن الحاجب (ت 646هـ) (8).
وكذلك لا نجده في الشافية لابن الحاجب، ولا في شرحيها للاستراباذي (ت 686هـ) (9).
وللجاربردي (ت 746هـ) (10).
__________
(1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 2423، وجان كانتينو: دروس ص 24.
(2) الكتاب 4/ 434.
(3) الكتاب 4/ 435.
(4) سر صناعة الإعراب 1/ 70.
(5) الكتاب 4/ 435.
(6) سر صناعة الإعراب 1/ 69.
(7) شرح المفصل 10/ 129.
(8) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 486.
(9) شرح الشافية 3/ 260.
(10) شرح الشافية ص 247.(1/123)
وأقدم من وجدته يستخدم مصطلح (المتوسطة) هو أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ) في كتابه (ارتشاف الضرب) (1). وكذلك استخدمها تلميذه الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ) في كتابه (شرح التسهيل) (2). ولكنه لم يستخدمها في كتابه (المفيد في شرح عمدة المجيد في علم التجويد) (3). وهذه قضية لا يمكن تقديم رأي قاطع فيها، فمن غير المستبعد أن توجد نصوص أخرى لم نطلع عليها يمكن أن ترجع باستخدام مصطلح (المتوسطة) قرونا، لكن المتيسر من النصوص الآن يشير إلى ما ذكرته.
ولعلنا لا نجد عناء كبيرا في فهم كلام سيبويه عن الصوت الشديد والرخو والمتوسط، وأنه يريد بمنع الصوت من الجريان في الشديد حصر الصوت في مخرجه، وقد استخدم سيبويه نفسه كلمة الحصر، فهو يقول: «لأن الدال ليس فيها إطباق، فإنما تغلب على الطاء لأنها من موضعها، ولأنها حصرت الصوت من موضعها كما حصرته الدال» (4). فاستخدام سيبويه عبارة (حصر الصوت في الموضع أي المخرج) يدل بوضوح على أنه يبني تقسيمه للحروف إلى شديدة ورخوة على أساس واضح يعتمد على حالة المخرج في أثناء مرور النفس خلاله، فإذا حصر النّفس فهو شديد، وإذا لم يحصره فهو رخو، والمتوسطة حالة بينهما، ويكون معنى قوله (يمنع الصوت أن يجري فيه) في تعريف الشديد هو أنه يحصر الصوت فيمنعه من الجريان حتى ينقضي الاعتماد في المخرج فينطلق النّفس بالحرف.
ونجد أن بعض النحاة استخدم كلمة (الحصر) في تعريف الشديد، وترك كلمة (المنع) الواردة في كتاب سيبويه، فيقول ابن الحاجب: (ومعنى الشدة أن ينحصر صوت الحرف في مخرجه فلا يجري، والرخاوة بخلافها، وما بينهما هو ألا يتم له الانحصار، ولا يتم له الجري» (5).
أما علماء التجويد فقد كان الأوائل منهم حول تعريف سيبويه يدورون، فلا يبتعدون عنه ولا يغيرون في ألفاظه إلا الشيء القليل، فكأنهم يشرحونه.
قال مكي: «ومعنى الحرف الشديد أنه حرف اشتد لزومه لموضعه، وقوي فيه، حتى منع
__________
(1) ارتشاف الضرب ص 5.
(2) شرح التسهيل 305و.
(3) المفيد 101ظ.
(4) الكتاب 4/ 460.
(5) الإيضاح في شرح المفصل 4/ 486.(1/124)
الصوت أن يجري معه عند اللفظ به» (1).
وقال الداني: «ومعنى الشديد أنه حرف اشتد لزومه لموضعه حتى منع الصوت أن يجري معه» (2).
وقال عبد الوهاب القرطبي: «ومعنى الحرف الشديد أنه حرف لزم موضعه، فمنع الصوت أن يجري فيه» (3).
ونجد اتجاهات جديدة في تعريف الحرف الشديد وقسيميه عند علماء التجويد الذين عاشوا بعد الجيل الأول. وقبل أن نتابع تلك الاتجاهات أشير إلى نص يتضمن عنصرا جديدا، ورد في تفسير (المباني لنظم المعاني) لأبي محمد حامد بن أحمد بن جعفر بن بسطام (كان حيا سنة 425)، وهو: «وإنما سميت رخوة لأن الاعتماد يضعف في موضع الحرف، ولا يضغط ضغطا يمنع الصوت من أن يخرج، فيخرج الحرف رخوا لذلك» (4). الجديد في هذا النص عبارة (يضغط ضغطا) وكلمة الضغط تساوي الحصر، واستخدامها في هذا السياق استخدام سديد.
وكان أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569هـ) حين عرّف الشديد والرخو ركّز على إمكانية مد الصوت مع الرخو وعدمها في الشديد، فقال: «والشديد ما لزم مخرجه فلا يمكنك مد الصوت به لتمكّنه، ألا ترى أنك إذا قلت: الشج والشط، ثم رمت مدّ الصوت بالجيم والطاء، امتنع عليك والرخو ما لم يلزم مخرجه لزوم الشديد فيمكن مد الصوت به، ألا ترى أنك إذا قلت: الهزّ والمسّ والرشّ ونحو ذلك، امتد به صوتك جاريا مع الزاي والسين والشين» (5).
وملاحظة امتداد الصوت في الرخو وعدم امتداده مع الشديد ملاحظة صحيحة، وصف بعض المحدثين من علماء الأصوات على أساسها الأصوات الشديدة بأنها (آنيّة) والأصوات الرخوة بأنها (متمادّة) (6).
__________
(1) الرعاية ص 93.
(2) التحديد 17ظ.
(3) الموضح 156و.
(4) انظر: مقدمة كتاب المباني، ضمن: مقدمتان في علوم القرآن ص 148.
(5) التمهيد 145ظ.
(6) انظر: محمود السعران: علم اللغة 166.(1/125)
وقد جمع طاش كبري زاده بين ملاحظة حصر الصوت في الشديد ومده في الرخو في تعريف المصطلحات الثلاثة، وهو جزء من قوله الذي نقلناه آنفا (النص الرابع)، وننقله هنا لنضعه إلى جانب النصوص الأخرى التي عالجت الموضوع، قال: «إذا انحصر صوت الحرف في مخرجه انحصارا تاما فلا يجري يسمى شدة، كما في (الحج) فإنك لو وقفت على قولك (الحج) وجدت صوتك راكدا محصورا، حتى لو رمت مدّ صوتك لم يمكنك.
وأما إذا جرى الصوت جريا تاما ولا ينحصر أصلا يسمّى رخوة، كما في (الطش)، فإنك إذا وقفت عليه وجدت صوت الشين جاريا تمده إن شئت.
وأما إذا لم يتم الانحصار ولا الجري يكون متوسطا، بين الشدة والرخاوة، كما في (الخل) فإنك إذا وقفت عليه وجدت الصوت لا يجري مثل جري (الطش) ولا ينحصر مثل انحصار (الحج) بل يخرج على اعتدال بينهما» (1).
ونختم الكلام عن وجهة علماء التجويد في هذا الموضوع برأي محمد المرعشي الذي كانت بين يديه جهود أجيال من علماء العربية وعلماء التجويد، فناقش النصوص المتعلقة بتعريف المصطلحات الثلاثة التي تضمنتها المصادر التي اعتمد عليها (2). ولكنه كان في أثناء تلك المناقشات يصوغ رأيه بعبارة دقيقة موجزة، مثل قوله: «إذا علمت هذا فاعلم أن صوت الحرف ونفسه إما أن يحتبسا بالكلية فيحصل صوت شديد، وهو في الحروف الشديدة، أو لا يحتبسا أصلا بل يجريا جريانا كاملا وهو (في) الحروف الرخوة. أو يتوسطا بين كمال الاحتباس وكمال الجري، وهو في الحروف البينية» (3).
ويلاحظ هنا أن المرعشي استخدم كلمة (البينية) مكان (المتوسطة) وهو اتجاه ذهب إليه بعض علماء التجويد، قال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020هـ) عن الحروف المتوسطة:
«وتسمى هذه الحروف البينية» (4).
وقد تضمن النص السابق للمرعشي كلمة (يحتبس) وهي ليست قديمة في الاستخدام في هذا الموضع، فالسابقون غالبا ما كانوا يستخدمون (المنع) و (اللزوم) و (الحصر) وجاءت كلمة
__________
(1) شرح المقدمة الجزرية 11ظ 12و، وانظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 14، وأحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 10ظ.
(2) انظر: جهد المقل 11ظ 12و.
(3) جهد المقل 12ظ 13و.
(4) الجواهر المضية 30و، وانظر: أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 10ظ.(1/126)
(الحبس) عند المرعشي أوضح في الدلالة على حقيقة الصوت الشديد من كل الكلمات الأخرى، فهي تشير إلى القفل التام لمجرى النّفس. وقد استخدم بعض علماء الأصوات من المحدثين كلمة (الحبس) وما اشتق منها في وصف عملية تكون الأصوات الانفجارية (أي الشديدة) (1).
ولما كانت الحروف الشديدة تتميز بحبس النّفس ثم إطلاقه فجأة، نجد المرعشي يتبنى فكرة تسمية الشديدة بمصطلح (آنية) وتسمية الرخوة بمصطلح (زمانية)، فينقل الفكرة عن السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (ت 816هـ) في شرحه لكتاب (المواقف في علم الكلام) لعضد الدين عبد الرحمن بن محمد الإيجي (ت 756هـ) (2). قال المرعشي: «قال في شرح المواقف: إن الحروف الشديدة آنية، لا توجد إلا في آن حبس النّفس، وما عداها زمانية يجري فيه الصوت زمانا. انتهى.
أقول (المرعشي): وما عداها متفاوتة في الجريان، إذ حروف الرخو أتم جريانا من الحروف البينية، وحروف المد أطول زمانا من سائر حروف الرخو» (3). وقد ردد المرعشي هذه الفكرة في مواضع أخرى (4). وقد أخذ بعض المحدثين بتسمية الأصوات الشديدة (آنية) (5).
وأدرك علماء التجويد كما نص علماء العربية من قبل أن من الحروف المتوسطة ما يأخذ النّفس معه مجراه من الأنف، فيقول المرعشي: «واعلم أن جريان الصوت في البينية دون جريانه في الرخوة لكن جريانه في ثلاثة منها ليس في المخرج، هي النون والميم واللام. وأما الأوليان فالجاري فيهما الغنة، وهي تجري في الخيشوم واللسان لاصق فيهما لموضع الحرف، فإذا أمسكت أنفك لم يجر فيهما صوت البتة، كذا قاله علي القاري، وأما اللام فاللسان لاصق فيها لموضع الحرف، وإنما يجري الصوت من الطرفين المجاورين للمخرج» (6). وقوله: (فاللسان لاصق فيهما لموضع الحرف) الحقيقة أن هذا ينطبق على
__________
(1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 2423، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 127.
(2) انظر شرح المواقف، ط 1، مطبعة السعادة، القاهرة 1325هـ 1907م، ج 5، ص 72.
(3) جهد المقل 12و.
(4) جهد المقل 17ظ.
(5) جان كانتينو: دروس ص 35.
(6) بيان جهد المقل 16و.(1/127)
النون، أما الميم فالشفتان هما موضع الميم. وأصل هذه الفكرة عند سيبويه (1). وعنه نقلها علماء التجويد وغيرهم (2).
5 - الفرق بين الشديد والمجهور وبين الرخو والمهموس:
أصبح الفرق واضحا لدى دارسي الأصوات من المحدثين بين هذه المصطلحات الأربعة، فالمجهور والمهموس مصطلحان يستخدمان لوصف الصوت تبعا لحالة الوترين الصوتيين عند النطق، فإذا تذبذب الوتران حال النطق بالصوت وصف بأنه مجهور، وإذا ظلا ساكنين والنّفس يمر بينهما دون أن يتذبذبا حال النطق بالصوت وصف بأنه مهموس.
أما الشديد والرخو فمصطلحان يعبران عن كيفية مرور الهواء في مخرج الصوت، فإذا حبس النفس في المخرج لحظة ثم أطلق وصف الصوت بأنه شديد، وإذا مر النفس في مخرج الصوت مع تضييق مجراه دون أن يحتبس في المخرج وصف الصوت بأنه رخو.
ومن ثم فإن الصوت المجهور يمكن أن يكون شديدا مثل: د، ب، ويمكن أن يكون رخوا مثل: ذ، ز. وكذلك الصوت المهموس يمكن أن يكون شديدا مثل: ك، ت، ويمكن أن يكون رخوا مثل: ث، س. ولا تناقض في ذلك أبدا.
وكذلك كان موقف علماء العربية وعلماء التجويد من هذا الموضوع، إلا أن بعض جوانبه ظلت غامضة لدى نفر قليل جدا منهم، فخلطوا بين المجهور والشديد، وأساس ذلك الغموض ينبع من تعريف سيبويه للمجهور والشديد، فالمجهور عند سيبويه: (حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع النّفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت» والشديد عنده: (هو الذي يمنع الصوت أن يجري فيه) (3).
فالمجهور (منع النّفس أن يجري معه) والشديد (يمنع الصوت أن يجري فيه). وقد فهم العلماء بعد سيبويه أن (النّفس) و (الصوت) لهما دلالة خاصة ومتمايزة عنده، فكانوا حريصين على الدقة في استخدام كلمة (النّفس) مع المجهور، واستخدام كلمة (الصوت) مع الشديد.
وجعلوا ذلك جوهر الفرق بينهما، فقال الأسترآباذي (ت 686هـ): «والفرق بين الشديدة والمجهورة أن الشديدة لا يجري الصوت عند النطق بها، بل إنك تسمع به في آن ثم ينقطع،
__________
(1) الكتاب 4/ 435.
(2) انظر: الداني: التحديد 18و. وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 156ظ.
(3) الكتاب 4/ 434.(1/128)
والمجهورة لا اعتبار فيها بعدم جري الصوت بل الاعتبار فيها بعدم جري النّفس عند التصويت بها» (1).
وقال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020هـ): «التحقيق أن بين المجهورة والشديدة فرقا باعتبار عدم جري النّفس في المجهورة، وعدم جري الصوت في الشديد، كما نص عليه الرضي في شرح الشافية» (2).
وهذا الاتجاه في تحقيق الفرق بين المجهور والشديد يسير موازيا وموافقا لتعريف سيبويه لكل منهما، دون أن يأخذ بالحسبان عدم الوضوح في تحديد ذلك الفرق، ومن ثم برز إلى جانبه اتجاه آخر في توضيح الفرق بين المجهور والشديد، وضديهما المهموس والرخو.
ويتمثل ذلك الاتجاه فيما نقله أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ) في كتابه (الإيضاح في القراءات) وهو أن «الفرق بين المجهور والشديد أن المجهور يقوى الاعتماد فيه بشدة الوقع، والشديد يشتد الاعتماد فيه بلزوم موضعه لا بشدة الوقع» (3).
وأخذ ابن يعيش (ت 643هـ) هذه الفكرة وحاول أن يشرحها ويجعلها شاملة في بيان الفرق بين هذه المصطلحات الأربعة فقال: «والفرق بين المجهورة والشديدة أن المجهورة يقوى الاعتماد فيها، والشديدة يشتد الاعتماد فيها بلزومها موضعها لا بشدة الوقع. وهو ما ذكرناه من الضغط، ألا ترى أن الذال والظاء مجهورتان غير مضغوطتين، فنقول: اذ، اظ، فيجري معها صوت ما.
والفرق بين المهموسة والرخوة أن المهموسة هي التي تردد في اللسان بنفسها أو بحرف اللين الذي معها، ولا يمتنع النّفس. والصوت الذي يخرج معها نفس، وليس من الصدر. وأما الرخوة فهي التي يجري النّفس فيها من غير ترديد، وهو صوت من الصدر» (4).
ومع أننا نلاحظ اقتراب ابن يعيش من دائرة الوضوح في تصور الموضوع وتجاوزه لعقدة (الصوت والنّفس) إلى حد ما، يظل كلامه عن (الرخو) بحاجة إلى ما يوضحه، ولا أستبعد أن يكون هناك خلل أو تصحيف في العبارة، لا سيما في جزئها الأخير الذي يتحدث فيه عن
__________
(1) شرح الشافية 3/ 260.
(2) الجواهر المضية 29ظ.
(3) الإيضاح 73ظ.
(4) شرح المفصل 10/ 129.(1/129)
الرخوة، خاصة قوله: (من غير ترديد، وهو صوت من الصدر).
وكان السكاكي (أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر ت 626هـ) الوحيد بين العلماء المتقدمين والمتأخرين من علماء العربية وعلماء التجويد، الذي لم يستطع تجاوز الغموض في تعريف سيبويه المشهور للمجهور والشديد، فأحس أن فيه تناقضا، فلم تسعفه خبرة طويلة في ممارسة دراسة الأصوات العربية، فخلط في المقدمة الموجزة التي كتبها في أول كتابه (مفتاح العلوم) عن الأصوات العربية، بين المجهور والشديد، والمهموس والرخو.
قال وهو يتحدث عن حروف العربية: «اعلم أنها عند المتقدمين تتنوع إلى مجهورة ومهموسة. وهي عندي كذلك، لكن على ما أذكره وهو أن الجهر انحصار النّفس في مخرج الحرف، والهمس جري ذلك فيه. والمجهور عندي الهمزة والألف والقاف والكاف والجيم والياء والراء والنون والطاء والدال والتاء والباء والميم والواو، ويجمعها قولك: قدك اترجم ونطايب. والمهموسة ما عداها.
ثم إذا لم يتم الانحصار ولا الجري كما في حروف قولك (لم يروعنا) سميت معتدلة وما بين الشديدة والرخوة.
وإذا تم الانحصار كما في حروف قولك (أجدك قطبت) سميت شديدة، وإذا تم الجري كما في الباقية من ذلك سميت رخوة» (1).
إن ما يمكن قوله هنا إن السكاكي أراد أن يعبد صياغة تصنيف الأصوات العربية من حيث الجهر والهمس ومن حيث الشدة والرخاوة، ولكن خبرته في الموضوع لم تسعفه. وكان يدفعه إلى ذلك على ما يبدو صعوبة اعترضته في فهم كلام سيبويه وعلماء العربية الذين سبقوه في دراسة الموضوع، فاختلط عليه الأمر فجعل الكاف والتاء من المجهورة، وهو ما لم يقل به أحد من المتقدمين ولا المتأخرين، على اعتبار أن الجهر عنده هو (انحصار النفس في مخرج الحرف).
ولم يمض إلا وقت قصير حتى تصدى لتصحيح الوهم الذي وقع السكاكي فيه عدد من علماء العربية الذين كانوا يدركون حقيقة دلالة المصطلحات الصوتية (2).
ونجد أن دلالة (النّفس) و (الصوت) أخذت تتحدد عند جيل من علماء التجويد
__________
(1) مفتاح العلوم ص 5.
(2) انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 257. والجاربردي: شرح الشافية ص 246.(1/130)
المتأخرين على نحو واضح، ومن ثم أخذت تتحدد مفاهيم المجهور والشديد، والمهموس والرخو، على نحو واضح أيضا. ونلمس ذلك عند طاش كبري زاده في قوله السابق (النص الرابع) الذي ميز فيه بوضوح بين النّفس والصوت، فالنّفس هو الهواء الخارج من داخل الإنسان بدفع الطبع، والصوت هو ذات الهواء (النّفس) الخارج من داخل الإنسان بالإرادة وعرض له في مخارج الحروف تموج بسبب تضييق مجراه في المخارج، وقد درسنا هذا الموضوع من قبل في الفقرة الخاصة بالنّفس والصوت، والذي يعنينا هنا أن نبين أثر تحديد دلالة مصطلحي النّفس والصوت على الوضوح في تصور المصطلحات الأربعة التي عقدنا هذه الفقرة لدراسة العلاقة بينها.
ويتضح من كلام طاش كبري زاده أنه يستخدم مصطلح الصوت مع الأنواع الأربعة:
المجهور والمهموس والشديد والرخو. لكن الذي ميز بينها هو طريقة تكونها، ونكتفي هنا بما أوردناه من قبل عند تحليل فقرات النص المذكور.
وكان محمد المرعشي أكثر المتأخرين وضوحا في إدراك العلاقة بين النّفس والصوت، ووضوحا في التعبير عن العلاقة بين الأنواع الأربعة المذكورة. فحقيقة الصوت عنده هي (النّفس المسموع)، وهذه مقولة كررها كثيرا (1). وهو يقول إلى جانب ذلك (إن النّفس ركن الصوت) (2). وهو معنى قول علماء الصوت المحدثين: «إن تيار النّفس هو أساس كل صوت لغوي مهما كان نوعه» (3).
وقد عقد محمد المرعشي فصلا في كتابه (جهد المقل) لبيان علاقة النفس والصوت بالحروف المجهورة والمهموسة، والشديدة والرخوة رأيت أن أنقل جزءا منه، لكونه يتضمن وجهة نظر متكاملة وواضحة، ولأن دارسي الأصوات العربية المعاصرين بحاجة إلى الاطلاع على هذه النصوص النادرة المجهولة جدا لديهم، قال محمد المرعشي:
«اعلم أن صوت الحرف، وإن كان مجهورا، فهو لا يتحقق بدون النّفس، لأن حقيقة الصوت هي النّفس المسموع، كما سبق، فاحتباس الصوت يستلزم احتباس النّفس معه، وجريه جريه، وأن نفس الحرف وإن كان مهموسا فهو لا ينفك عن الصوت، لأن حقيقة
__________
(1) جهد المقل 5ظ، 12ظ، وبيان جهد المقل 16ظ.
(2) بيان جهد المقل 15و.
(3) أ: شاده: الأصوات عند سيبويه وعندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية، 1931م العدد الخامس ص 9.(1/131)
الحرف هو الصوت المعتمد على المخرج، كما سبق. وأن نفس الحرف المجهور قليل، ونفس الحرف المهموس كثير
إذا علمت هذا فاعلم أن صوت الحرف ونفسه:
إما أن يحتبسا بالكلية فيحصل صوت شديد، وهو في الحروف الشديدة. أو لا يحتبسا أصلا بل يجريا جريانا كاملا، وهو في الحروف الرخوة. أو يتوسطا بين كمال الاحتباس وكمال الجري، وهو في الحروف البينية.
فهذه ثلاثة أنواع:
ففي النوع الأول: إن جرى بعد ذلك الاحتباس نفس كثير فالحرف شديد مهموس، وإن لم يجر فالحرف شديد مجهور.
وفي النوع الثاني: إن كان صوت الحرف جاريا كله مع نفس قليل فالحرف رخو مجهور، وإن كان جاريا كله مع نفس كثير فالحرف رخو مهموس.
والنوع الثالث: مجهور كله» (1).
ويبدو لي أن الدرس الصوتي عند المرعشي خاصة في كتابيه (جهد المقل) و (بيان جهد المقل) جدير ببحث مستقل لأنه يتميز دائما بدقة تحليله للظواهر الصوتية وعمق نظرته في فهمها ووصفها. ونحن لا نملك في هذا البحث سوى أن نقتطف بعض النصوص ونضعها مواضعها من المباحث والفصول إلى جانب نصوص أخرى لا تقل أهمية عنها في كثير من الأحيان.
الخلاصة:
يتضح مما سبق أن علماء التجويد عرفوا حقيقة عملية النطق، وأدركوا العناصر الأساسية المكونة للأصوات اللغوية، ويمكن أن نلخص وجهة نظرهم في إنتاج الصوت اللغوي بالنقاط الآتية، مقتبسة من النصوص الأربعة ومن المناقشة بعدها:
1 - إن النّفس (الهواء المندفع من داخل الرئتين) هو ركن الصوت، وأنه لا يسمى صوتا حتى يكون مسموعا وذلك إذا أخرج بالإرادة وقوة الدفع، وتعرض في أجزاء من آلة النطق إلى تموّج، نتيجة حبس كامل أو تضييق لمجراه، وأن الأصوات اللغوية تنتج من النّفس
__________
(1) جهد المقل 12ظ 13و.(1/132)
الخارج من الرئتين لا الداخل إليها.
2 - أدرك علماء التجويد دور الحنجرة في تكوين الصوت اللغوي، وعرفها بعضهم، وإن لم تصل تلك المعرفة إلى معرفة الوترين الصوتيين وطبيعة عملهما. وقد سموا النغمة الصوتية التي يصدرها الوتران مع بعض الأصوات بصوت الصدر، اقتداء بسيبويه، وسماها ابن البناء (ترديد الحنجرة) وسماها طاش كبري زاده والمرعشي (الصوت القوي)، أو (الصوت الجهري). وقد سموا الحرف الذي تصاحب إنتاجه تلك النغمة مجهورا، والحرف الذي لا تصاحب إنتاجه تلك النغمة مهموسا.
3 - ثم إن الذي ميز بين الأصوات بعد أن يجتاز النّفس الحنجرة هو اختلاف مواضع القطع، أي اختلاف المخارج، وقد بلغ علماء التجويد في تحديد تلك المخارج درجة كبيرة من الدقة، وسوف نوضح في مبحث لا حق تفصيل ذلك، إن شاء الله تعالى.
وأدرك علماء التجويد أثر حالة ممر الهواء عند المخرج ومقدار درجة انفتاحه في اختلاف الأصوات وتنوعها، وقرروا أنه إذا احتبس الصوت في مخرج الحرف بالكلية كان شديدا (انفجاريا) وإذا لم يحتبس الصوت كان رخوا (احتكاكيا)، ويكون متوسطا (أو بينيا) إذا كان بين صفة الشديد والرخو.
5 - سمّى علماء التجويد تلك الكيفيات المصاحبة لتكوّن الصوت في مخرجه من جهر وهمس وشدة ورخاوة وتوسط، صفات، اقتداء بتسمية علماء العربية من قبلهم، وقد ذهب علماء التجويد إلى أن اختلاف هذه الصفات هو أساس تمايز الحروف المتحدة المخرج، كما أن اختلاف المخرج هو أساس تمايز الحروف المتفقة الصفات، كما ورد ذلك واضحا في النص الأول والنص الثاني. وقد أخّرت الكلام على صفة لها دور في التمييز بين بعض الأصوات، وهي صفة الإطباق، وذلك لأن أثرها لا يشمل إلا عددا محدودا من الأصوات، وإنما قصدت في هذا المبحث توضيح الفكرة العامة لعلماء التجويد عن كيفية إنتاج الأصوات، دون أن ندخل في التفاصيل أو نستقصي الجزئيات، إذ سوف نتناول ذلك في مباحث لا حقة على نحو مفصل، إن شاء الله تعالى.
6 - أدرك علماء التجويد أن بعض الأصوات يعتمد له في الفم أو الشفتين ولكن الهواء يتخذ مجراه من الأنف (أو الخيشوم)، وهي الأصوات التي تسمى بالأنفية أو الخيشومية، وهي النون والميم خاصة. وقد أفاض علماء التجويد في بحث هذا الموضوع من خلال بحث (الغنة) التي هي مرور النّفس من الخيشوم.
ونختم هذا المبحث بإيراد نصين موجزين لتصور المحدثين لكيفية إنتاج الأصوات اللغوية، لندرك مدى ما حققه علماء التجويد بوسائلهم الذاتية المحدودة، قياسا بما حققه علماء الأصوات المحدثون بأجهزتهم الآلية الدقيقة، في ذلك الموضوع.(1/133)
6 - أدرك علماء التجويد أن بعض الأصوات يعتمد له في الفم أو الشفتين ولكن الهواء يتخذ مجراه من الأنف (أو الخيشوم)، وهي الأصوات التي تسمى بالأنفية أو الخيشومية، وهي النون والميم خاصة. وقد أفاض علماء التجويد في بحث هذا الموضوع من خلال بحث (الغنة) التي هي مرور النّفس من الخيشوم.
ونختم هذا المبحث بإيراد نصين موجزين لتصور المحدثين لكيفية إنتاج الأصوات اللغوية، لندرك مدى ما حققه علماء التجويد بوسائلهم الذاتية المحدودة، قياسا بما حققه علماء الأصوات المحدثون بأجهزتهم الآلية الدقيقة، في ذلك الموضوع.
قال: أ. شاده: «إن الأصوات اللغوية هي ظواهر سمعية تحدث بأن تيار النّفس الخارج من الرئة يعرض له في الحنجرة أو في الفم أو بين الشفتين عارض يضيق طريقه أو يقطعه. فلا يحدث صوت إلا بعاملين، أحدهما النّفس، وثانيهما العارض» (1).
وقال جان كانتينو: «فهناك إذن في عملية التصويت عنصران لازمان وكافيان لإحداث الأصوات أو لإحداث أي دويّ آخر، هما:
1 - إخراج النّفس من الرئتين.
2 - تفصيل النطق في الفم. ومن المفروغ منه أن المدوي الفموي يمكن أن تتغير هيئته وحجمه حسب إرادة الناطق. وهناك عنصران آخران قد يضافان إلى العنصرين الأولين أو لا يضافان إليهما وهما:
1 - نزيز الأوتار الصوتية (يعني ذبذبة الأوتار).
2 - الغنة الخيشومية، التي تحدث إذا تنزّل غشاء الحنك وتنعدم إذا ارتفع» (2).
* * * * * __________
(1) علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية العدد الخامس ص 3.
(2) دروس في علم أصوات العربية ص 2019.(1/134)
المبحث الثالث تصنيف الأصوات اللغوية إلى جامدة وذائبة (أو إلى صامتة ومصوتة)
يصنف علماء الأصوات المحدثون الأصوات اللغوية تصنيفات متعددة، تبعا للمعنى الذي ينظرون إليها من خلاله، وذلك لأجل تيسير دراستها وتحليلها ثم وصفها. وأول تصنيف يتصدر كتب علم الأصوات اللغوية الحديثة هو تصنيفها إلى (صامتة ومصموتة) (1)
. وهذا هو المصطلح الذي كنت قد آثرت استخدامه للتعبير عن هذين الصنفين حين كتبت بحثا عن هذا الموضوع قبل خمس سنوات (2). وهو الذي آثر استخدامه أيضا عدد من الدارسين (3). من بين عدد من المصطلحات التي حاول دارسو الأصوات العربية المحدثون أن يترجموا إليها المصطلحين الأوربيين المعبرين عن ذينك الصنفين (4).
واليوم، وبعد أن درست عددا من كتب علم التجويد، أرجّح استخدام مصطلحين آخرين، وهما (الجامد) و (الذائب)، وتسمى أيضا (الجامدة والجوامد)، و (الذائبة والذوائب). وهذه مصطلحات جديدة لا نعلم أن أحدا من دارسي الأصوات العربية استخدمها أو أشار إليها، بينما كان علماء التجويد قد استخدموها قبل ما يقرب من ألف سنة، وهي أكثر المصطلحات تعبيرا عن المعنى الذي يقوم عليه هذا التصنيف للأصوات اللغوية، على نحو ما سنوضح في هذا المبحث.
__________
(1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 26، ومحمود السعران: علم اللغة ص 160، وجان كانتينو: دروس ص 20، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 91. وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 113.
(2) هو (المصوتات عند علماء العربية) مجلة كلية الشريعة (جامعة بغداد) العدد الخامس 1979.
(3) انظر: المصوتات عند علماء العربية ص 404395.
(4) وهما: (صامت) و (مصوت).(1/135)
وهذه المصطلحات لعلماء التجويد خاصة لم يشركهم في استخدامها أحد من علماء العربية، وهي تعكس اتجاها يتسم بعمق النظرة في تحليل الأصوات وإدراك خصائصها الصوتية، وإن لم يكن غالبا، فقد كان الغالب عليهم وعلى علماء العربية أيضا الاكتفاء بمصطلحي (الحروف والحركات)، وهما لا ينطبقان على ذلك التصنيف ولا يعبران عنه بدقة.
وتتلخص الفكرة التي يقوم عليها هذا التصنيف في قول المستشرق الفرنسي جان كانتينو، مع ملاحظة أن مترجم الكتاب يستخدم مصطلح (الحرف) و (الحركة). حيث يقول:
«ويمكن تحديد الحروف والحركات تحديدا وجيزا هكذا:
1 - خاصية الحرف هي أن يقوم حاجز في جهاز التصويت، ثم أن يجتاز النّفس ذلك الحاجز.
2 - خاصية الحركة هي بالعكس، أن لا يقوم حاجز في جهاز التصويت، فيجري النفس حرا طليقا» (1).
ويضيف بعض الدارسين خاصية أخرى تميز الحروف عن الحركات، وهي قوة الوضوح السمعي للحركات، قياسا بالحروف (2). ولعل ذلك بسبب كونها مجهورة، ولا يعترض طريق الهواء حال نطقها عائق.
وهاهنا ظاهرة نشير إليها دون أن نتقصى أمثلتها وهي أن معظم دارسي الأصوات العربية من المحدثين نسبوا إلى علماء العربية التقصير في دراسة الأصوات العربية وفقا لهذا التصنيف، وهم لم يطلعوا على جملة أقوالهم، ولا عرفوا شيئا مما قاله علماء التجويد في ذلك (3).
وكنت قد كتبت بحث (المصوتات عند علماء العربية) لمناقشة هذه القضية، وأوردت فيه عددا من أقوال علماء العربية في مناقشة الموضوع، توضح الخطأ الكبير الذي وقع فيه أولئك النفر من المحدثين، في دعواهم تلك، وأكتفي هنا بذكر بعض تلك الأقوال بأوجز عبارة لننظر بعد ذلك في رأي علماء التجويد في الموضوع.
فمن ذلك قول الخليل بن أحمد (ت 170هـ): «في العربية تسعة وعشرون حرفا: منها خمسة وعشرون حرفا صحاحا لها أحياز ومدارج، وأربعة أحرف جوف، وهي: الواو والياء
__________
(1) دروس ص 20.
(2) محمود السعران: علم اللغة ص 162، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 93.
(3) يمكن الاطلاع على بعض تلك الدعاوى في بحث (المصوتات) ص 394392.(1/136)
والألف اللينة (والهمزة)، وسميت جوفا لأنها تخرج من الجوف، فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان، ولا من مدارج الحلق، ولا من مدرج اللهاة، وإنما هي هاوية في الهواء، فلم يكن لها حيز تنسب إليه إلا الجوف. وكان يقول كثيرا: الألف اللينة والواو والياء هوائية، أي أنها في الهواء» (1).
وقال سيبويه (ت 180هـ) في (باب الوقف في الواو والياء والألف): «وهذه الحروف غير مهموسات، وهي حروف لين ومد، ومخارجها متسعة لهواء الصوت، وليس شيء من الحروف أوسع مخارج منها، ولا أمدّ للصوت، فإذا وقفت عندها لم تضمها بشفة ولا لسان ولا حلق كضم غيرها، فيهوي الصوت إذا وجد متسعا حتى ينقطع آخره في موضع الهمزة، وإذا تفطنت وجدت مسّ ذلك» (2).
وقال المبرد (ت 285هـ): «فمن حروف البدل حروف المد واللين المصوتة، وهي الألف والواو والياء» (3). وقال عن هذه الحروف في مكان آخر: «وهي حروف بائنة من جميع الحروف فحروف المد حيّز واحد على حدة» (4).
وكان ابن جني (ت 392هـ) قد وصف هذه الحروف بصفة (المصوتة) أيضا (5)، ومما قاله عن مخارجها: «والحروف التي اتسعت مخارجها ثلاثة: الألف، ثم الياء، ثم الواو» (6).
وكان أبو علي الحسين بن سينا (ت 428هـ) قد صنف الحروف إلى صامتة ومصوتة (7).
وكذلك فعل أبو شجاع محمد بن علي بن الدهان (ت 592هـ) (8). وأبو عبد الله فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606هـ) (9).
__________
(1) العين 1/ 57.
(2) الكتاب 4/ 176.
(3) المقتضب 1/ 61.
(4) المقتضب 1/ 211210.
(5) الخصائص 3/ 125.
(6) سر صناعة الإعراب 1/ 8.
(7) أسباب حدوث الحروف ص 4342، وانظر: ص 19.
(8) تقويم النظر في الأدلة واختلاف الفقهاء 2و.
(9) التفسير الكبير 1/ 29.(1/137)
وقد ورث علماء التجويد تلك الجهود في تصنيف الأصوات، ولكنهم لم يقفوا عند حد ترديد مقولات علماء العربية، بل نجد لديهم اتجاها جديدا في التعبير عن التصنيف السابق للأصوات، لم يأخذوه عن غيرهم كما يبدو، وكان هذا الاتجاه قد ظهر في القرن الخامس، ولكنه لم يستمر أبعد من القرن السادس للهجرة، وارتبط بعدد محدود من علماء ذينك القرنين، ويتمثل ذلك الاتجاه بالتعبير عن صنفي الأصوات المذكورين باستخدام كلمة (جامد) وكلمة (ذائب).
وكان الدانيّ (أبو عمرو عثمان بن سعيد ت 444هـ) أول من استخدم مصطلح (الحرف الجامد) و (الحروف الجامدة)، من المصادر التي اطلعت عليها، لكنه لم يستخدم مصطلح (الذائبة)، واستعاض عنه بمصطلح حروف المد. وهو لم يستخدم مصطلح (الجامدة) في كتابه (التحديد في الإتقان والتجويد) إلا مرة واحدة، حيث قال: وهو يتحدث عن الواو والياء إذا كانت قبلهما حركة من جنسهما: «فإن انفتح ما قبلهما زال عنهما معظم المد، وانبسط اللسان بهما، وصارا بمنزلة سائر الحروف الجامدة، وألقي عليهما حركات الهمزات في مذهب من رأى ذلك، وأدغما في مثلهما بإجماع» (1).
ونجد الداني يستخدم مصطلح (الحرف الجامد) خمس مرات في كتابه (الإدغام الكبير) ويستخدم في مقابله (حرف مد ولين)، وسوف أنقل هنا النصوص الخمسة وذلك لتوضيح استخدام هذا المصطلح الجديد، ولندرة مثل هذه النصوص أيضا.
1 - قال الداني وهو يتحدث عن إدغام الهاء في مثلها عند أبي عمرو بن العلاء في مثل قوله تعالى {فِيهِ هُدىً} [البقرة: 2] و {إِنَّهُ هُوَ التَّوََّابُ} [البقرة: 37]: «فإن قال قائل: فقد جمع فيما قبل الهاء فيه ساكن من ذلك بين ساكنين. قيل له: الساكن الأول إذا كان حرف مد ولين فالمد فيه مقام حركة، فامتنع الجمع بين الساكنين لذلك بإجماع النحويين، فإن كان حرفا جامدا أخفى ولم يدغم، فلم يلتق ساكنان» (2).
2 «وكذلك جميع ما يدغمه من المثلين والمتقاربين مما قبل المدغم فيه ساكن جامد غير حرف مد ولين» (3).
__________
(1) التحديد 29و 29ظ. وكنت قد نقلت هذا النص وحده في بحث (المصوتات) ص 425.
(2) الإدغام الكبير 10و.
(3) الإدغام الكبير 12و.(1/138)
3 «وأما النون فكان يدغمها في مثلها، ولا يراعي ما قبلها من حركة أو سكون، وفي اللام والراء إذا تحرك ما قبلهما لا غير فإن سكن ما قبل النون، حرف مد ولين كان ذلك الساكن أو حرفا جامدا، لم يدغمها فيهما» (1).
4 «وأما الراء فكان يدغمها في مثلها وفي اللام لا غير وإن تحركت الراء بالفتح وسكن ما قبلها، حرفا جامدا كان ذلك الساكن أو حرف مد ولين، لم يدغمها» (2).
5 «وأما الميم فإنه كان يدغمها في مثلها وكان يخفيها عند الباء إذا تحرك ما قبلها لا غير فإن سكن ما قبل الميم لم يخفها وأظهر حركتها، اكتفاء بخفة الساكن عن خفة الإخفاء، وسواء كان الساكن حرف مد ولين أو كان حرفا جامدا» (3).
وهذه النصوص تبين بوضوح المقابلة التامة في الاستخدام بين (الحرف الجامد) و (حرف المد واللين)، وسوف أناقش الدلالة الصوتية لهذه المصطلحات في نهاية المبحث، بعد أن أستوفي تتبع استخدام هذا المصطلح الجديد في النصوص الأخرى، وقبل أن نترك الأندلس، بلد الداني، نشير إلى عالم آخر من تلك البلاد استخدم مصطلح (الجوامد) في مقابل (حروف المد واللين)، وهو عبد الوهاب بن محمد القرطبي (ت 462هـ) في كتابه (الموضح في التجويد) لكنه لم يستخدمه إلا مرتين، وفي نص واحد هو في أصله نص الداني الذي أورده في كتاب (التحديد) (4).
وإذا ولينا وجوهنا قبل بلدان المشرق الإسلامي وجدنا عددا من العلماء يستخدمون مصطلح (الحروف الجامدة) لكننا نجد مصطلحا جديدا آخر يستخدم في مقابله بدلا من (حروف المد واللين) وهو (الحروف الذائبة)، وكان استخدام هذا المصطلح خطوة كملت وجهة نظر علماء التجويد في تصنيف الحروف العربية وفق منظور صوتي خالص.
وكان الشيخ أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي (ت 454هـ) (5) أقدم من استخدم ذينك المصطلحين من علماء المشرق، ممن وقفت على أقوالهم، ولكني لم أطلع على النصوص المتعلقة بذلك في واحد من كتبه، وإنما عثرت عليها في كتاب (الإيضاح في
__________
(1) الإدغام الكبير 19و.
(2) الإدغام الكبير 19ظ.
(3) الإدغام الكبير 24و.
(4) الموضح 164ظ.
(5) ترجمته: ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 361.(1/139)
القراءات) لأحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ) في الأبواب التي خصصها لعلم التجويد، ولعل مؤلف الإيضاح نقلها من كتاب التجويد لأبي الفضل الرازي المفقود (1).
1 - قال أبو الفضل الرازي: «ولا يخلص للقارئ التجويد والترتيل إلا بمعرفة مخارج الحروف، وإعطائه إياها من المخارج حدها، ومن الحركات حظها، ومن السكون حقها، وفرّق بين مهموسها ومجهورها وجامدها وذائبها» (2).
2 «وعن أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي، رحمه الله، أنه قال: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف ما يحدث في بعض الحروف من النقصان، لاستطالة حرف على حرف في التجاور، ويستشعر بعضها من بعض في تداخل المخارج بالألفاظ البشعة والطباع الجافية، وذلك أن يحترز من المدات الطويلة الرعشة المطيطة التي نهي عنها، والهمزات الملكزة، وتشريب الألفات النبرة في الوقف، وتنبير الذوائب حتى توازي الجوامد سيما المدود من ذلك والممكن» (3). وكلمة (تنبير) هنا من النبر أي الهمز، وتنبير الذوائب يعني همزها، وهذا النص يوضح أن الهمز من الحروف الجوامد، لأن الحروف الذائبة، وهي حروف المد، إذا همزت لحقت بالجوامد.
وكان أحمد بن أبي عمر قد بيّن في كتابه «الإيضاح» دلالة مصطلح (الجامد) و (الذائب) بشكل واضح ومحدد حيث قال: «والحروف الذائبة ثلاثة: الياء المكسور ما قبله، والواو المضموم ما قبله، والألف ولا يجيء إلا مفتوحا ما قبله، وهذه الحروف حروف المد واللين، سميت بذلك لأنها تذوب وتلين وتمتد.
وما عداها جامد لأنه لا يلين ولا يذوب ولا يمتد» (4).
وقد ورد مصطلح (الذوائب) في مواضع أخرى من كتاب (الإيضاح) (5). كما استخدمه أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569هـ) مرة واحدة في كتابه (التمهيد في التجويد) بنفس المعنى السابق (6). وذكره جعفر بن إبراهيم السنهوري (ت 894هـ) في كتابه (الجامع المفيد
__________
(1) ذكره ابن الجزري في النشر 1/ 212.
(2) الإيضاح 67ظ.
(3) الإيضاح 68ظ.
(4) الإيضاح 74ظ.
(5) انظر: الإيضاح 72و، 73ظ.
(6) التمهيد 158و.(1/140)
في صناعة التجويد) حيث قال: «وحروف المد واللين الثلاثة تسمى الذوائب» (1).
ولا أستبعد أن تكون هناك نصوص أخرى استخدم فيها مصطلح (الجامدة) و (الذائبة)، ولكن ذهاب كثير من الكتب القديمة، وعدم اطلاعنا على مخطوطات قسم منها حرم البحث من فرصة تتبع ذلك الاستخدام، ولكني أجد أن الأمر أصبح واضحا من خلال النصوص السابقة، ولم يبق إلا أن ننظر في هذا الاستخدام الجديد والفريد لتلك المصطلحات للتعبير عن صنفي الأصوات، وأن نقرر هل كان هذا الاستخدام موفقا، بحيث يمكن أن يسعف دارسي الأصوات العربية اليوم ويقدم لهم مصطلحا تطمئن إليه نفوسهم، فيخرجون من تلك الحيرة المطبقة عليهم والاضطراب والفوضى إلى استخدام مصطلح موحد ذي دلالة واضحة؟.
وسوف أكتفي هنا بالموازنة بين أربعة مصطلحات (الصامت والمصوت) و (الجامد والذائب)، لأن ما عدا هذه الأربعة لا ينسجم مع الدرس الصوتي الخالص.
أما (الصامت والمصوت) فإن استعمالهما قديم في الدلالة على صنفي الأصوات، على نحو ما ذكرنا من استخدامهما أو أحدهما عند المبرد وابن جني وابن سينا وابن الدهان والفخر الرازي، قبل قليل. وكذلك استخدمهما بعض علماء اللغة من المحدثين (2). وإذا كان مصطلح (مصوّت) يمكن أن نربط بين دلالته على زيادة التصويت والتمطيط (3)، واستخدامه في الدلالة على تلك الأصوات التي يتم إنتاجها من غير أن يقوم في ممر الهواء عائق، على اعتبار أن هذه الأصوات هي أكثر الأصوات قابلية لمد الصوت بها، فإن من غير اليسير الربط بين دلالة كلمة (الصامت) على السكوت (4)، وبين استخدامها في الدلالة على تلك الأصوات التي يقوم في طريق النفس عند إنتاجها عائق كامل أو جزئي.
وقد تشكّك بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين في صلاحية ذلك الاستخدام لكلمة (الصامت)، فهو يرى أن «فيها شيئا من الغرابة والتناقض، إذ كيف يسمى الصوت
__________
(1) الجامع المفيد 104ظ، وانظر 98ظ من نسخة برلين رقم 1307.
(2) عبد الصور شاهين (مترجم): العربية الفصحى لهنري فليش ص 2019و 23و 35. وقد استخدم محمود السعران الصامتة والصائتة (علم اللغة ص 160) وكذلك فعل برجستراسر (التطور النحوي ص 12و 33).
(3) انظر: ابن منظور: لسان العرب 2/ 361 (صوت).
(4) المصدر نفسه 2/ 359 (صمت).(1/141)
صامتا؟!» (1) ويرى غيره أن استخدام كلمة (صامت) لا تخلو من مأخذ، إذ قد يلتبس هذا (الصمت) بمعنى (الهمس) المستعمل في مقابل (الجهر) (2).
ويظهر أن المعنى اللغوي لكلمة (الصامت) يقرب من معنى كلمة (الأخرس) فالعرب تقول: هذه لبنة خرساء، يريدون اللبن الخاثر الذي لا يسمع له صوت إذا أريق (3). والصامت من اللبن: الخاثر (4). وقالت العرب: ماله صامت ولا ناطق، يريدون بالصامت الذهب والفضة، وبالناطق الحيوان من الإبل والغنم (5). فالصامت إذن هو ضد الناطق، وهو معنى الأخرس. ومن هنا يظهر التناقض الذي أشار إليه بعض المحدثين من استخدام هذه الكلمة في الدلالة على المعنى المذكور.
ويؤيد هذا التفسير لكلمة (الصامت) الذي يبين قصور استخدامها في مقابل كلمة (المصوت) للدلالة على قسمي الأصوات السابقي الذكر أن الفراء (أبا زكريا يحيى بن زياد ت 207هـ) استخدم كلمة (الأخرس) في مقابل (المصوت) للدلالة على (الشديد) و (الرخو) من الأصوات (6). ويبدو أن هذا الاستخدام أوضح من حيث أصل الدلالة اللغوية والبعد عن اللبس، فالصوت الرخو له قابلية على الامتداد والتصويت به فهو (مصوّت)، بعكس (الشديد) الذي لا يوجد إلا في لحظة النطق به فهو إذن أخرس أي غير قابل للتصويت أي للتمطيط وزيادة المد. وقد ذكر المرعشي: «أن الحروف الشديدة آنية، لا توجد إلا في آن حبس النفس، وما عداها زمانية يجري فيه الصوت زمانا» (7). وقال: «فالحروف الرخوة ما عدا حروف المد يمكن تمديدها كحروف المد لكن بتكلف، بخلاف حروف المد فإن مدها بمقتضى السليقة
__________
(1) محمد الأنطاكي: الوجيز في فقه اللغة ص 146هامش (1).
(2) عبد الصبور شاهين (مترجم): العربية الفصحى لهنري فليش ص 19.
(3) لسان العرب 7/ 363 (خرس).
(4) لسان العرب 2/ 359 (صمت).
(5) لسان العرب 2/ 360 (صمت).
(6) ذكر ذلك السيرافي في آخر شرحه لكتاب سيبويه (انظر: ما ذكره الكوفيون من الإدغام للسيرافي، تحقيق صبيح حمود الشاتي. مجلة المورد، بغداد 1403هـ 1983م المجلد 12العدد الثاني ص 132 و 135). ونقل ذلك عبد الوهاب القرطبي في كتابه (الموضح 152و)، ونص قوله: «قسم الفراء الحروف إلى مصوت وإلى أخرس، وكأنه أراد بالمصوت الرخو من الحروف، وأراد بالأخرس الشديد». وانظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 606.
(7) جهد المقل 12و.(1/142)
المستقيمة بلا تكلف» (1).
أما مصطلح (الجامد) و (الذائب) فإن أصل استخدامها اللغوي يتعلق بحالة الأشياء السائلة كالماء وغيره، لا بموضوع الأصوات. فيقال: جمد الماء جمدا وجمودا، فهو جامد:
إذا صلب (ضد ذاب). ويقال: ذاب الشحم والثلج ونحوهما ذوبا وذوبانا إذا سال عن جمود (2). وقد قالت العرب: (لك جامد المال وذائبه) كما قالت (ما له صامت ولا ناطق) (3).
وهذا يرينا التقابل بين (جامد وذائب)، بينما نجد أن مقابل (صامت) هو (ناطق) وليس (مصوت).
ومهما يكن من أمر فإن استخدام (جامد وذائب) في الدلالة على قسمي الأصوات المذكورين أوضح وأكثر لصوقا بالمعنى اللغوي من (صامت ومصوت)، فالخاصية الأساسية التي ميزت بين قسمي الأصوات هي أن منها ما يجري فيه النفس حرا طليقا فيمتد في مخرجه، فكأنه يذوب ويسيل فيه، وذلك في حروف المد، ومنها ما يتعثر النفس في مخرجه، فربما حبس حبسا تاما، وربما حصل تضييق في مجراه، فلا يمكن تمديد هذا النوع من الأصوات أصلا أو يمكن ذلك ولكن بتكلف، فكأنه جمد في مخرجه فلا يذوب فيه ولا يسيل، وذلك في كل حروف العربية ما عدا حروف المد.
وقد نقلنا من قبل تعليل أحمد بن أبي عمر لتسمية حروف المد بالحروف الذائبة، «لأنها تذوب، وتلين، وتمد. وما عداها جامد لأنه لا يلين، ولا يذوب، ولا يمتد» فكلمة (تذوب) تعبر عن مرور الهواء حرا طليقا من غير عائق مؤثر تأثيرا بينا، وكلمة (تلين) تؤكد ذلك المعنى، لأن اللين ضد الخشونة (4)، ولما كانت هذه الأصوات تذوب فهي إذن (تمتد). وذلك كله لا يتحصل في الأصوات الجامدة.
ومن ثم فإني أجد أن استخدام مصطلح (الصوت الجامد) ويقابله (الصوت الذائب) أكثر تعبيرا عن صنفي الأصوات عن صنفي الأصوات من جميع المصطلحات التي استخدمت قديما وحديثا. ولكن المشكلة الأساسية تتركز في أن هذه المصطلحات كانت مجهولة كليا لدى الدارسين المحدثين، وأن المصطلحات الأخرى الأقرب إلى الدرس الصوتي مثل (صامت ومصوت)
__________
(1) جهد المقل 6و 6ظ.
(2) لسان العرب 4/ 103و 381والمعجم الوسيط 1/ 133و 317مادة (جمد) و (ذوب).
(3) لسان العرب 4/ 103 (جمد).
(4) لسان العرب 17/ 280 (لين).(1/143)
أحسن حظا من حيث الاستخدام. ولكن ما دام البحث الصوتي العربي غير متوقف، فإن هناك فرصة للخروج من دائرة الاضطراب إلى حيز الاستقرار باستخدام مصطلحي (الجامد والذائب)، لا سيما إذا أدرك الدارسون ما يتميز به هذان المصطلحان قياسا بالمصطلحات الأخرى المستخدمة في مكانهما.
وإذا كنا قد تحققنا من دقة استخدام علماء التجويد لمصطلح (الجامد والذائب) فينبغي أن نبين أنهم أدركوا بوضوح كيفية إنتاج (الأصوات الذائبة) وتميزها بحرية مرور الهواء أثناء النطق بها، يقول المرعشي وهو يستخدم مصطلح (حروف المد) في مقابل (الحروف الذائبة):
«فلجميع الحروف مخرج محقق إلا حروف المد، إذ لا تنضغط أصواتها في موضع انضغاطا ينقطع به الصوت، بل تمتد بلين بلا تكلف إلى أن تقطعه بإرادتك، ولذا قبلت الزيادة في الامتداد على مقدار يحصل به ذوات هذه الحروف» (1).
وقال علي القاري عن حروف المد الثلاثة: «ثم إنهن بالصوت المجرد أشبه منهن بالحروف، ويتميزن عن الصوت المجرد بتصعد الألف وتسفل الياء واعتراض الواو» (2).
والصوت المجرد يقصد به الصوت الذي ينتج حين يفتح الناطق فاه، ويدفع بالهواء إلى الخارج مع ذبذبة الوترين الصوتيين، وسماه ابن جني (الصوت الساذج) (3).
وقد أتى ابن الطحان (أبو الأصبغ عبد العزيز بن علي الإشبيلي ت بعد 560هـ) بتشبيه طريف يصور حالة أعضاء آلة النطق حين إنتاج الأصوات الذائبة فقال وهو يتحدث عن الواو والياء الواقعتين بعد حركة من جنسهما: «إنما يصير الفم لصوتيهما كالأنبوب» (4).
ويتضح من هذه النصوص المحددة أن المسافة بين علماء التجويد وعلماء الأصوات المحدثين قد تضيق جدا أو تنعدم في كثير من الموضوعات، فغاية ما قاله المحدثون عن المصوت (الذائب): «بأنه الصوت المجهور الذي يحدث أثناء النطق به أن يمر الهواء حرا طليقا خلال الحلق والفم دون أن يقف في طريقه عائق أو حائل، ودون أن يضيق مجرى الهواء ضيقا من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا» (5). وهذا لا يبتعد كثيرا عما قاله علماء التجويد
__________
(1) جهد المقل 6و.
(2) المنح الفكرية ص 9، وانظر: القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 189.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 9، وانظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250.
(4) مرشد القارئ 136و.
(5) كمال محمد بشر: الأصوات ص 92، وانظر: محمود السعران: علم اللغة ص 160.(1/144)
قبل مئات السنين.
وإذا كانت الأصوات العربية تنقسم إلى ذائبة، وهي حروف المد، وجامدة وهي ما عداها، فما موقع الحركات العربية: الفتحة والكسرة والضمة، من قسمة الأصوات العربية تلك، وهل هي من الجامدة أو الذائبة؟.
النصوص الواردة عن علماء التجويد تؤكد أن الحركات مأخوذة من حروف المد، قال الداني وهو يتحدث عن حروف المد: «وإن الحركات مأخوذة منها:
فالفتحة من الألف.
والكسرة من الياء.
والضمة من الواو» (1).
وهذه قضية قررها علماء العربية قديما (2)، وأخذها عنهم علماء التجويد واستدلوا عليها وصارت لديهم من الحقائق المقررة حتى قال عبد الوهاب القرطبي: «وهذا الأمر لا مزيد عليه من الوضوح» (3). وقال ابن الجزري: «والجمهور على أن الفتحة من الألف والضمة من الواو والكسرة من الياء» (4).
ومع أني لم أعثر على نص صرح فيه علماء التجويد بأن الحركات من الأصوات الذائبة لكن ذلك هو معنى النصوص السابقة، لأن كل واحدة من الحركات مأخوذة من أحد الأصوات الذائبة، وما ينطبق على الأصل ينطبق على الفرع.
* * * * * __________
(1) التحديد 18ظ.
(2) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 101و 241و 309و 318. والمبرد: المقتضب 1/ 56، وابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 19، والخصائص 2/ 315و 327.
(3) الموضح 150و.
(4) النشر 2/ 204، وانظر: أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 5.(1/145)
المبحث الرابع تصنيف الأصوات الجامدة بحسب المخارج
أولا عدد حروف العربية عند علماء التجويد:
يقسم علماء العربية وعلماء التجويد الحروف العربية إلى أصول وفروع. وهذه القسمة ترجع إلى ما أورده سيبويه في الكتاب، حيث قال: «فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفا: الهمزة والألف والهاء، والعين والحاء
وتكون خمسة وثلاثين حرفا بحروف هن فروع، وأصلها من التسعة والعشرين، وهي كثيرة يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار، وهي:
النون الخفيفة.
والهمزة التي بين بين.
والألف التي تمال إمالة شديدة.
والشين التي كالجيم.
والصاد التي كالزاي.
وألف التفخيم، يعنى بلغة أهل الحجاز في قولهم: الصلاة والزكاة والحياة.
وتكون اثنين وأربعين حرفا بحروف غير مستحسنة ولا كثيرة في لغة من ترتضى عربيته، ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر، وهي:
الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف (1).
والجيم التي كالشين.
__________
(1) قال أبو حيان (ارتشاف الضرب ص 4): «وعد سيبويه هذا حرفا واحدا، لأن النطق لا يختلف، وراعى ابن جني الأصل فعدّ ذلك حرفين، وتبعه ابن عصفور وابن مالك». وعلى هذا الأساس جعل ابن جني مجموع حروف العربية أصليها وفرعيها ثلاثة وأربعين (انظر سر صناعة الإعراب 1/ 51).(1/146)
والضاد الضعيفة.
والصاد التي كالسين.
والطاء التي كالتاء.
والظاء التي كالثاء.
والباء التي كالفاء.
وهذه الحروف التي تممتها اثنين وأربعين جيّدها ورديئها أصلها التسعة والعشرون، لا تتبين إلا بالمشافهة» (1).
وقد اقتفى معظم دارسي الأصوات العربية من المتقدمين خطى سيبويه في تقسيم الأصوات إلى أصلية وفرعية، وحاول كثيرون توضيح كلام سيبويه وإيراد الأمثلة عليه وشرحها، وربما استدرك بعضهم على سيبويه حرفا أو مثالا، وليس من غرضنا استقصاء كل ذلك هنا، وسوف نكتفي بتوضيح موقف علماء التجويد من تلك القسمة، وبيان عدد حروف كل قسم، مؤكدين النواحي التي تمكن فيها علماء التجويد من أن يضيفوا شيئا جديدا إلى ما قرره سيبويه. ويمكن أن نتتبع ذلك بالنظر إلى الموضوع من طرفيه: أعني الحروف الأصلية والحروف الفرعية.
1 - الحروف العربية الأصلية:
ذكر سيبويه في النص السابق أن أصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفا، وصار ما ذكره سيبويه أساسا استند عليه معظم علماء العربية، ولم يشذ منهم أحد إلا أبا العباس المبرد، قال ابن جني: «اعلم أن أصل حروف المعجم عند الكافة تسعة وعشرون حرفا، فأولها الألف وآخرها الياء، على المشهور من ترتيب حروف المعجم، إلا أبا العباس فإنه كان يعدها ثمانية وعشرين حرفا، ويجعل أولها الباء، ويدع الألف من أولها، ويقول هي همزة، ولا تثبت على صورة واحدة، وليست لها صورة مستقرة، فلا اعتدها مع الحروف التي أشكالها محفوظة معروفة. وهذا الذي ذهب إليه أبو العباس غير مرضي منه عندنا» (2). وقد أفاض ابن جني في الرد على المبرد إخراجه الهمزة من جملة الحروف.
__________
(1) الكتاب 4/ 432431.
(2) سر صناعة الإعراب 1/ 46وما بعدها. وانظر: ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 126، وابن عصفور:
الممتع في التصريف 2/ 663.(1/147)
والنص الوارد في كتاب (المقتضب) للمبرد لا يتضح منه بشكل قاطع أن المبرد لا يعد الهمزة من حروف العربية الأصلية، فهو يقول: «اعلم أن الحروف العربية خمسة وثلاثون حرفا، منها ثمانية وعشرون لها صور»، لكنه يقول بعد ذلك مباشرة: «فمنها للحلق ثلاثة مخارج: فمن أقصى الحلق مخرج الهمزة، وهي أبعد الحروف، ويليها في البعد مخرج الهاء، والألف هاوية هناك» (1). فغاية ما يمكن قوله هنا أن المبرد لاحظ أن صور الحروف العربية ثمانية وعشرون (2)، وهو يريد الرموز المكتوبة، والهمزة من بين أصوات العربية لم يكن لها رمز محدد لأسباب لغوية تاريخية، أما إنها أحد أصوات العربية لديه فيكفي في تقرير ذلك كلامه عن مخارج حروف الحلق الذي نقلنا جزءا منه هنا.
وكان بعض المحدثين قد أخذ على سيبويه أنه حين جعل الحروف العربية تسعة وعشرين ذكر الألف إلى جانب الهمزة، وهو يريد بها المدة التي في نحو (كان)، ولكنه لم يذكر الواو والياء إلا مرة واحدة وهو يريد بهما الواو في (ثوب) والياء في (بيت)، فلم يذكر واو المد في (تقول) ولا ياء المد في نحو (تبيع)، وكان ينبغي حسب رأيه أن يكون عدد الحروف العربية الأصلية واحدا وثلاثين حرفا (3).
وكان علماء التجويد يسيرون باتجاه القول بأن حروف العربية الأصول واحد وثلاثون حرفا منذ وقت مبكر، ويتمثل ذلك بحديثهم عن الطبيعة المزدوجة لكل من الواو والياء حين يكونان حرفي مد (من الحروف الذائبة) مرة، وحين يكونان حرفي لين (من الجامدة) مرة أخرى، على نحو ما يوضح ذلك قول عبد الوهاب القرطبي: «الواو والياء تكون تارة من حروف المد واللين بأن تسكنا ويكون ما قبلهما منهما، وتارة يتحيّز مخرجهما إذا تغيرتا عن هذا الوضع بأن تسكنا وينفتح ما قبلهما، ومتى وجد ذلك زال عنهما معظم المد وبقي اللين وانبسط اللسان بهما، وصارتا بمنزلة الحروف الجوامد» (4). وسوف نتحدث عن تلك الصفة لكل من الواو والياء في مبحث لاحق، إن شاء الله تعالى، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن نقرر أن تلك النظرة المزدوجة إلى كل من الواو والياء قد انتهت عند علماء التجويد إلى القول بأن
__________
(1) المقتضب 1/ 192.
(2) ولعل هذا هو قصد الفراء بقوله (معاني القرآن 1/ 368): «أب ت ث ثمانية وعشرون حرفا».
(3) انظر: كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة 1/ 8281، وتمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 90.
(4) الموضح 164ظ.(1/148)
الحروف العربية الأصلية واحد وثلاثون حرفا وذلك على يد محمد المرعشي.
كان المرعشي قد بحث في الفصل الخامس، وهو آخر فصول مقدمة كتابه (جهد المقل) مسائل يتوقف عليها بيان المخارج، وجعل ذلك في مقالتين، الأولى في عدد الحروف الأصلية والفرعية. والثانية في عدد المخارج. ومما ذكره في المقالة الأولى عن عدد الحروف قوله:
«أما الحروف الأصلية فهي تسعة وعشرون، باتفاق البصريين، فهم يجعلون الألف المدية غير الهمزة، ويجعلون الواو والياء حرفين سواء كانا مديين أو لا، والمبرد منهم جعل الألف والهمزة حرفا واحدا، ولذا جعل الحروف الأصلية ثمانية وعشرين
أقول (المرعشي): وكذلك ينقسم كل من الواو والياء إلى مدّية وغير مدية» (1).
وقال المرعشي في كتابه (بيان جهد المقل) موضحا عبارة وردت في النص السابق:
«قوله: (سواء كانا مديين أو لا)، أقول: ولو جعلوا الواو والياء المديين غير الواو والياء الخاليين من المد كما هو مقتضى قياس الألف المدية غير الهمزة، تصير الحروف الأصلية واحدا وثلاثين» (2). وقوله هنا (الحروف) يعني بها الأصوات المنطوقة لا الرموز المكتوبة.
2 - الحروف العربية الفرعية:
الحرف الفرعي هو الصوت الأصلي الذي تتغير صفة من صفاته الصوتية أو ينتقل مخرجه إلى مخرج صوت مجاور له. وذلك التغير ناتج عن واحد من ثلاثة أسباب:
1 - المجاورة، مثل الصاد التي كالزاي في نحو (مصدر)، والشين التي كالجيم في نحو (أشدق) فقد لحق الجهر كلّا من الصاد والشين المهموستين لمجاورة الدال المجهورة.
2 - لغات القبائل، مثل همزة بين بين، وألف الإمالة، وألف التفخيم.
3 - اللكنة الأعجمية، مثل الطاء التي كالتاء، والباء التي كالفاء.
وقد أدرك علماء التجويد حقيقة الأصوات الفرعية، فقال مكي (ت 437هـ) أن مخرج الحرف الفرعي «متوسط بين مخرج الحرفين اللذين اشتركا فيه» (3). وقال أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ): «وإنما كانت فروعا لامتزاجها بغيرها، وكانت مستحسنة لما يستفاد
__________
(1) جهد المقل 4ظ.
(2) بيان جهد المقل 6ظ.
(3) الرعاية ص 88.(1/149)
بالامتزاج من تسهيل اللفظ وتحسينه في المسموع» (1). وقال المرادي (ت 749هـ): «المراد بالفروع حروف ترددت بين مخرجين، وتولدت من حرفين» (2). وقال المرعشي (ت 1150هـ): «ووجه تفرع هذه الحروف أنها متولدة من امتزاج الحرفين الأصليين» (3).
وأدرك علماء التجويد أن الحروف الفرعية لا تدرك إلا بالمشافهة، لأنها لا صورة لها في الكتابة، فنصوا على ما نص عليه سيبويه في قوله السابق من أنها (لا تتبين إلا بالمشافهة)، فقال أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569هـ): «ولا يوقف على حقيقة هذه الحروف المتفرعة إلا بالشفاه» (4).
ويظهر من كلام سيبويه أن أساس تقسيم الحروف الفرعية إلى مستحسنة ومستقبحة هو كثرة الاستخدام وقلّته، فما كثر استخدامه منها في لغة من ترتضى عربيته كان (مستحسنا)، وما قل استخدامه كان (مستقبحا)، وسيبويه يستخدم كلمة (غير مستحسن) ولم يستخدم كلمة (مستقبح) التي استخدمها بعده عدد من علماء العربية وعلماء التجويد، لكنه استخدم كلمة (رديء) (5).
وكان سيبويه قد عد من الحروف المستحسنة ستة، ومن الحروف غير المستحسنة سبعة باعتبار الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف حرفا واحدا، فتكون عدة الحروف العربية أصليها وفرعيها، جيدها ورديئها اثنين وأربعين حرفا. ولما كان الأساس الذي استند إليه سيبويه في بيان عدد الحروف العربية هو السماع من قراء القرآن والعرب فمن المتوقع إذن أن يروي غيره حروفا أخرى، إما لأنه لم يسمعها أو أنه اعتبرها حرفا واحدا، وعدّها غيره أكثر من حرف. ومن ثم زاد بعض علماء العربية وبعض علماء التجويد في عدد حروف العربية حتى بلغ بها عبد الوهاب القرطبي اثنين وخمسين حرفا (6). أي بزيادة عشرة أحرف على ما ذكره سيبويه.
__________
(1) الإيضاح 72و.
(2) المفيد 101ظ.
(3) جهد المقل 5و.
(4) التمهيد 143ظ.
(5) انظر: أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 4، والسيوطي: همع الهوامع 6/ 295. وأحمد بن أبي عمر:
الإيضاح 72ظ. والعطار: التمهيد 143و.
(6) الموضح 155ظ.(1/150)
والحروف الفرعية المستحسنة التي زادها عبد الوهاب القرطبي على ما ذكره سيبويه هي:
اللام المفخمة التي هي فرع على المرقّقة، والراء المرققة التي هي فرع على المغلّظة، والواو التي ينحى بالضمة التي قبلها نحو الكسرة، والياء التي ينحى بالكسرة التي قبلها نحو الضمة، وعد الهمزة المسهّلة بين بين ثلاثة أحرف، وكان سيبويه قد عدها حرفا واحدا، فتلك ستة أحرف (1).
والحروف الفرعية غير المستحسنة التي ذكرها عبد الوهاب القرطبي زيادة على ما ذكره سيبويه هي: السين التي كالزاي، والجيم التي كالزاي، والقاف التي بين القاف والكاف وهي تأتي مثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف، واعتبر عبد الوهاب القرطبي الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف، حرفين، بينما عدهما سيبويه حرفا واحدا (2).
واعتبارهما حرفين هو مذهب ابن جني وابن عصفور وابن مالك (3). فذلك أربعة أحرف.
ونقل أبو العلاء الهمذاني العطار أن الأخفش أضاف حرفا آخر هو الذال التي كالثاء (4).
وذكر أبو حيان الأندلسي القاف التي كالكاف، كقولهم في القمح: الكمح (5).
وقد أورد علماء التجويد أمثلة تلك الحروف الفرعية ووضحوا صفاتها الصوتية، وكيفية حصولها، ونكتفي هنا بما ذكرناه عنها، وسوف نستوفي الكلام عنها مقرونا بالكلام على الحروف العربية الأصول، حين نحدد مخارجها ونبين صفاتها وأحوالها، ليكون الحديث مترابطا متكاملا على صعيد واحد.
ثانيا بيان عدد مخارج الحروف العربية عند علماء التجويد:
المخرج هو الموضع الذي ينشأ منه الحرف، وكلمة (المخرج) هي الغالبة في الاستخدام عند علماء التجويد، وسبق القول في موقفهم من تعريفها. وكان قدماء النحويين قد استخدموا إلى جانب كلمة (المخرج) عددا من الكلمات للتعبير عن مكان تكوّن الحرف من آلة النطق، فكان الخليل بن أحمد قد استخدم في مقدمة كتاب العين كلمة (حيّز، وجمعها أحياز) (6).
__________
(1) الموضح 153ظ 154ظ.
(2) الموضح 155ظ. وانظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 448و 451.
(3) انظر: أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 4، المرادي: شرح التسهيل 304ظ.
(4) التمهيد 143ظ.
(5) ارتشاف الضرب ص 4.
(6) العين 1/ 48و 57.(1/151)
وكلمة (مدرجة، ومدرج، ومدارج) (1)، واستخدم أقل من ذلك كلمة (المخرج) (2).
أما سيبويه فإن كلمة (المخرج) هي المستخدمة لديه أكثر من غيرها (3). حيث ترد عنده كلمة (حيز) (4). وكلمة (موضع) (5) على نحو أقل. ويغلب أن يكون استخدام هذه الكلمات بمعنى واحد (6). وهو استخدام لم يجد المحدثون عنه محيدا ولم يجدوا له بديلا ولا مزيدا (7).
وكان أقدم بيان متقن لمخارج الحروف العربية هو الذي أورده سيبويه في كتابه، أما ما ورد في مقدمة كتاب العين للخليل بن أحمد فإنه كان موضع نقد من بعض جوانبه. وكان متقدمو علماء التجويد يعتمدون على بيان سيبويه لمخارج الحروف. قال الداني وهو يتحدث عن مخارج الحروف: «وأنا أذكر ذلك على مذهب سيبويه خاصة، إذ هو الصحيح المعول عليه» (8). وقال عبد الوهاب القرطبي: «أما تحقيق ذواتها وذكر مخارجها وتبيين أجناسها وذكر مراتبها في الاطراد فنذكره على ما ذكره سيبويه رضي الله عنه ورتبه في نسخة أبي بكر مبرمان، وتلاه أصحابه وغيرهم من المتأخرين عليه، لأنه المعتمد» (9).
ولا يعني ذلك أن علماء التجويد، سواء منهم المتقدمون أم المتأخرون، قنعوا بما ذكره سيبويه، ورددوا كلماته دون أن يوضحوا غامضا أو يزيدوا شيئا، وما كان تمسكهم بما أورده سيبويه إلا لشعورهم بدقته وإتقانه. كيف لا والمحدثون يشهدون لسيبويه بذلك، مثل قول المستشرق الألماني أ. شاده عن سيبويه: «بلغ في تعيين مواضع الحروف ومخارجها من الصحة والدقة ما يعسر علينا الزيادة والإصلاح، وإن كانت عباراته تحتاج في بعض الأمكنة إلى
__________
(1) العين 1/ 51و 57، وانظر: الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 50و 51.
(2) العين 1/ 51و 52.
(3) الكتاب 4/ 433.
(4) انظر: الكتاب 4/ 464و 465و 468.
(5) انظر: الكتاب 4/ 453و 461و 479.
(6) يفهم من قول سيبويه (الكتاب 4/ 101): (والحروف المرتفعة حيز واحد) وقول المبرد (المقتضب 1/ 209): (ثم نذكر حروف الفم، وهي حيز على حدة) أن كلمة (حيز) قد تستخدم بمعنى أعم من كلمة (مخرج).
(7) قال الدكتور محمود السعران (علم اللغة ص 199): إن ما يسميه العرب (مخرج الحرف) سماه المحدثون في الغرب (موضع النطق).
(8) التحديد 16و.
(9) الموضح 152و.(1/152)
التفسير» (1). ويمكن أن ندرس ما تناوله علماء التجويد من قضايا تتعلق بمخارج الحروف في عدة نقاط، وذلك قبل أن ندقق في المخارج مخرجا مخرجا، ونوازن بين ما قاله سيبويه وعلماء العربية فيها وما قاله علماء التجويد، وما قاله المحدثون من بعدهم.
1 - الاختلاف في عدد المخارج:
قال سيبويه: «ولحروف العربية ستة عشر مخرجا» (2). وهذا هو الذي جرى عليه أكثر علماء العربية (3)، وكثير من علماء التجويد (4)، ولكن نجد إلى جانب ذلك من يذهب من علماء العربية المتقدمين إلى جعل المخارج أربعة عشر مخرجا، ومن يذهب من علماء التجويد المتأخرين إلى جعلها سبعة عشر مخرجا.
قال الداني: «وزعم الفراء وقطرب والجرمي وابن كيسان أن مخارج الحروف أربعة عشر مخرجا، فجعلوا اللام والراء والنون من مخرج، وهو طرف اللسان، وجعلهن سيبويه من ثلاثة مخارج» (5). وقد أضاف المرادي إلى هؤلاء (ابن دريد)، وقال عن ابن كيسان (بخلاف عنه) (6). ولكن ما ورد في كتاب الجمهرة لابن دريد لا يؤيد إضافة المرادي له إلى الأربعة الذين ذكرهم الداني. فابن دريد يقول: «إن هذه التسعة والعشرين حرفا لها ستة عشر مجرى»، أي مخرجا. ثم قال عن الحروف الثلاثة موضع الخلاف: «ثم النون تحت حافة اللسان من الشق الأيمن، واللام قريبة من ذلك، والراء أدخل بطرف، إلا أن الراء أدخل بطرف اللسان في الفم». وهذا الكلام يفهم منه أن ابن دريد يذهب إلى أن لكل حرف من هذه الحروف الثلاثة
__________
(1) علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931، العدد الخامس ص 15. ومن العجيب المؤسف قول الدكتور تمام حسان (مناهج البحث في اللغة ص 85): «ولقد خلط النحاة العرب خلطا كبيرا في تحديد المخارج»، ثم هو بعد ذلك لا ينقل إلا من كتاب لابن الجزري ويخلط فيفهم نصوصه خلطا كبيرا!.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) انظر: الزبيدي: الواضح في علم العربية ص 281، وابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 52، وابن يعيش: شرح المفصل 10/ 124123، وابن عصفور: المقرب 2/ 5، والأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250.
(4) انظر: مكي: الرعاية ص 118، والداني: التحديد 16و، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 152و، وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72ظ، والعطار: التمهيد 143ظ.
(5) التحديد 17و. وانظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152ظ.
(6) شرح التسهيل 303ظ، وانظر: ارتشاف الضرب ص 2، والسيوطي: همع الهوامع 6/ 289و 291.(1/153)
مخرجا مستقلا، وأن عدد مخارج الحروف العربية ستة عشر مخرجا (1).
ولا توجد في أيدي الدارسين اليوم المصادر الأصلية التي ورد فيها رأي الفراء (يحيى بن زياد ت 207هـ) وقطرب (محمد بن المستنير ت 206هـ) والجرمي (صالح بن إسحاق ت 225هـ) وابن كيسان (محمد بن المستنير ت 299هـ). لكن مكيا تحدث عن الموضوع في باب مستقل في كتابه (الرعاية) سماه (باب الاختلاف في المخارج)، والجديد الذي تضمنه هذا الباب هو ما استدل به ابن كيسان في الموضوع، وأجد من المفيد أن أنقله بنصه، لأن فيه ما قد يفسر لنا عبارة المرادي التي قالها عن ابن كيسان، وهي قوله (بخلاف عنه).
قال مكي: «قال ابن كيسان محتجا (لقول) سيبويه: النون أدخل في اللسان من الراء، وفي الراء تكرير ليس في النون، وارتعاد طرف اللسان بالراء لتكريرها مخالف لمخرج النون، فهما مخرجان متقاربان. قال: واللام مائلة إلى حافة اللسان عن موضع النون، تنحرف عن الضاحك والناب والرّباعية حتى تخالط الثنايا، فهذا مخرج ثالث.
قال ابن كيسان: فإن قال قائل: المخرج واحد، ولكن الزيادة التي في الراء واللام كالزيادة التي في النون من الغنة الخارجة من الخياشيم، واختلاف هذا المخرج كاختلاف المخرج الذي فوقه من وسط اللسان، وهو مخرج الشين والجيم والياء، وينبغي أن يقال: هذه ثلاثة مخارج أيضا.
قيل له: ابتداء الشين والجيم والياء من مخرج واحد، وإنما اختلفت هي أنفسها باستطالة الشين وانبساط الجيم ومد الياء، كما أن الدال والطاء والتاء من مخرج واحد، وهي مختلفات في أنفسها، للإطباق الذي في الطاء، والجهر الذي في الدال، والهمس الذي في التاء» (2).
إن المقطع الأول من كلام ابن كيسان يؤيد مذهب سيبويه ويحتج له في جعل مخارج هذه الحروف ثلاثة، لكل حرف مخرج، أما ما بعد المقطع الأول فإنه وإن كان مسوقا لتأكيد مذهب سيبويه فهو يصلح للاحتجاج لمذهب الفراء وقطرب والجرمي في عد الحروف الثلاثة من مخرج واحد، فإذا كانت الشين تميزت بالاستطالة والجيم بالانبساط والياء بالمد وهي مع ذلك من مخرج واحد فإنه يمكن القول بأن الراء تميزت بالتكرير، والنون بالغنة، واللام بالانحراف وهي مع ذلك من مخرج واحد، قياسا على حكم الشين والجيم والياء. فابن كيسان
__________
(1) الجمهرة 1/ 8.
(2) الرعاية ص 218217.(1/154)
في أول كلامه مع سيبويه، وفي آخره مع الفراء وأصحابه، وقد اختلف العلماء في تحديد موقف ابن كيسان، حتى قال المرادي: (بخلاف عنه).
أما اعتبار مخارج الحروف العربية سبعة عشر مخرجا فهو ما ذهب إليه جماعة من علماء التجويد، الذين أفردوا الألف والواو والياء المدية بمخرج مستقل سماه أكثرهم (الجوف) تأثرا بما ذهب إليه الخليل بن أحمد من اعتباره هذه الحروف الثلاثة هوائية تخرج من الجوف (1).
وقد لخص ابن الجزري ذلك بقوله في كتابه النشر: «أما مخارج الحروف فقد اختلفوا في عددها، فالصحيح المختار عندنا وعند من تقدّمنا من المحققين كالخليل بن أحمد، ومكي ابن أبي طالب، وأبي القاسم الهذلي، وأبي الحسن شريح وغيرهم سبعة عشر مخرجا، وهذا الذي يظهر من حيث الاختيار، وهو الذي أثبته أبو علي بن سينا في مؤلف أفرده في مخارج الحروف وصفاتها.
وقال كثير من النحاة والقراء هي ستة عشر (2)، فأسقطوا مخرج الحروف الجوفية التي هي حروف المد واللين، وجعلوا مخرج الألف من أقصى الحلق، والواو من مخرج المتحركة، وكذلك الياء.
وذهب قطرب إلى أنها أربعة عشر والصحيح عندنا الأول لظهور ذلك في الاختبار» (3).
وليس متيقنا أن اين ذكرهم ابن الجزري قالوا جميعا بأن مخارج الحروف سبعة عشر، ويترجح لديّ أن ابن الجزري أراد أن هؤلاء العلماء يذهبون إلى أن لحروف المد مخرجا مستقلا، خاصة بالنسبة للخليل ومكي وابن سينا. أما الهذلي وشريح فلم أطلع على ما يوضح رأيهما بالتحديد. فالخليل بن أحمد لم يقل في مقدمة كتاب العين أن مخارج الحروف سبعة عشر، بل إن الذي يستنتج من كلامه أنه يجعل مخارج الحروف تسعة، لكنه ذكر أن الواو والياء والألف هوائية تخرج من الجوف (4). وكذلك يفهم من كلام ابن سينا الذي ميز بين الياء والواو (الصامتتين والمصوتتين)، أنه يجعل للألف والواو والياء المصوتة مخرجا أو مخارج متميزة،
__________
(1) العين 1/ 58.
(2) قال القسطلاني (اللئالئ السنية 7و): «وقال سيبويه وأتباعه كالشاطبي ستة عشر».
(3) النشر 1/ 199198.
(4) انظر: العين 1/ 5857. وانظر: الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 48.(1/155)
فقد وصف مخارج هذه الأصوات بأنها مع إطلاق الهواء سلسا غير مزاحم، أو مع أدنى تضييق (1). أما مكي بن أبي طالب فقد صرح «أن للحروف التي تألف منها الكلام ستة عشر مخرجا» (2). لكن ورد في بعض كلامه أنه يميل إلى اعتبار الألف من الجوف، فقال حين ذكر حروف الحلق الستة «وقد زاد قوم الألف» (3). وقال وهو يتحدث عن مخرج الألف: «لكن الألف حرف يهوي في الفم حتى ينقطع مخرجه في الحلق، فنسب في المخرج إلى الحلق لأنه آخر خروجه» (4). وذكر حين تحدث عن صفات الحروف وألقابها (الحروف الجوفية، والحروف الهوائية) وهي حروف المد واللين الثلاثة، نقل ذلك عن الخليل (5). فهناك إذن بعض ما يمكن أن يستدل به على أن مكيا يجعل مخرج حروف المد مخرجا واحدا هو الجوف، على الرغم من أنه صرح أن مخارج الحروف ستة عشر مخرجا.
وكان سيبويه قد جعل المخرج السادس عشر من الخياشيم للنون الخفيفة (6)، وهي النون المخفاة التي تصير غنة في الخيشوم (7). لكن بعض علماء التجويد لم يعتبر هذا المخرج، ومن ثم فإن من ذهب مذهب سيبويه في جعل مخارج الحروف ستة عشر جعلها خمسة عشر بإسقاط مخرج النون الخفية أو الغنة (8). ومن ذهب مذهب ابن الجزري في جعل مخارج الحروف سبعة عشر جعلها ستة عشر مخرجا (9).
وحسبنا هنا أن نشير إلى هذه المذاهب العامة في تحديد مخارج الحروف العربية، وسوف نشير إلى موقف علماء الأصوات المحدثين من هذه القضية بعد أن نتحدث عن موقف علماء التجويد من مخارج الحروف تفصيلا، وقبل أن نعرض لذلك نقف عند مقولة بعض علماء العربية (لكل حرف مخرج) ونبين أثرها على موقف علماء التجويد.
__________
(1) أسباب حدوث الحروف ص 19.
(2) الرعاية ص 118.
(3) الكشف 1/ 139.
(4) الرعاية ص 134.
(5) الرعاية ص 116.
(6) الكتاب 4/ 434.
(7) انظر: الداني التحديد 17و. وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73و.
(8) انظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 128ظ.
(9) انظر: السمنودي: تحفة الطالبين 7ظ.(1/156)
2 - هل لكل حرف مخرج؟:
حين قرر سيبويه أن مخارج الحروف ستة عشر مخرجا فإن ذلك يعني أن من الحروف ما يشترك في مخرج واحد، لأن حروف العربية حسب رأيه تسعة وعشرون حرفا، فنجد الحرفين والثلاثة يشتركان في المخرج الواحد، وقليل من تلك الحروف ما انفرد بمخرج مستقل، ويكون اختلاف الصفات هو الأساس في تمييز الحروف المشتركة في المخرج الواحد، وهو السبب في اختلاف جروسها في السمع، لكن بعض النحاة ذهب إلى أن ذلك تقريب، والتحقيق أن كل حرف له مخرج، فما مقدار هذا القول من الصحة، وما موقف علماء التجويد من ذلك؟.
يبدو أن ابن الحاجب (عثمان بن عمر ت 646هـ) هو أقدم من ذهب ذلك المذهب، فقد قال في الشافية: «ومخارج الحروف ستة عشر تقريبا، وإلا فلكل مخرج» (1). وقال في (الإيضاح في شرح المفصل): «قسم النحويون مخارج الحروف إلى ستة عشر على التقريب، وإلحاق ما اشتد تقاربه بمقاربه، وجعله معه من مخرج واحد، والتحقيق أن كل حرف له مخرج يخالف الآخر وإلا كان إياه، فجعلوا للهمزة والألف والهاء أقصى الحلق، ولا شك أن الهمزة أول، والألف بعدها، والهاء بعدها، ولكن لما اشتد التقارب اغتفروا ذكر التفرقة» (2).
ولم يكن لهذا الاتجاه الجديد في تحديد مخارج الحروف العربية إلا تأثير يسير على موقف علماء التجويد في دراسة المخارج، سرعان ما اختفى ذلك التأثير، فلم يذهب ذلك المذهب إلا عدد قليل من علماء القراءة وعلماء التجويد (3). وكذلك ذهب إليه بعض علماء العربية (4). ومع أن هذا الاتجاه ظل افتراضيا، ولم يعتمد في دراسة المخارج، حتى عند القائلين به، نجد بعض العلماء يتصدون له ويبينون عدم متانة الأساس الذي يقوم عليه.
وكان رضي الدين الأسترآباذي (ت 686هـ) قد وضح مذهب ابن الحاجب لكنه تشكك
__________
(1) انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250.
(2) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 480.
(3) مثل: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 3. وشعلة الموصلي: كنز التهاني (باب مخارج الحروف) ص 2. وزكريا الأنصاري: الدقائق المحكمة ص 7، وأحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 9و.
(4) مثل: الجاربردي شرح الشافية ص 241، والسيوطي: همع الهوامع 6/ 292.(1/157)
في دقة ما ذهب إليه، فقال في آخر تعليقه على قول ابن الحاجب في الشافية (وإلا فلكل مخرج): «إن اختلافها قد يحصل مع اتحاد المخرج بسبب اختلاف وضع الآلة من شدة الاعتماد وسهولته وغير ذلك، فلا يلزم أن يكون لكل حرف مخرج» (1).
وانتقد علي القاري (ت 1014هـ) ذلك المذهب، وقرر أن الصواب هو ما ذهب إليه الجمهور، فقال معلقا على قول من قال: (التحقيق أن لكل حرف مخرجا مخالفا لمخرج الآخر، وإلا لكان إياه): «قلت: هذا التعليل بعيد من التحقيق فإن الجمهور من أرباب التدقيق جعلوا لحروف متعددة مخرجا واحدا بناء على أنّ التمييز حاصل باعتبار اختلاف الصفات، وإن كان الاتحاد باعتبار الذوات» (2).
وحاول محمد المرعشي التقريب بين ما ذهب إليه ابن الحاجب من أن كل حرف له مخرج، وما ذهب إليه الجمهور من أن مخارج الحروف ستة عشر أو سبعة عشر، فيشترك في بعض المخارج أكثر من حرف، وذلك بتقسيم المخارج إلى مخارج كلية ومخارج جزئية، فقال وهو يتحدث عن عدد مخارج الحروف: «اعلم أن في عددها اختلافا بين العلماء، والمختار عند الجمهور أنها سبعة عشر، بعضها كلي منقسم إلى مخرجين جزئيين أو أزيد، وبعضها جزئي غير منقسم، فلكل حرف مخرج جزئي، كما قاله الرضي، والمخارج السبعة عشر متمايزة تمايزا بينا، بخلاف المخارج الجزئية المشتركة في مخرج كلي من هذه السبعة عشر» (3).
ومحاولة المرعشي هذه قد تنطبق على بعض المخارج مثل مخرج (ج ش ي) ومخرج (ب م و) للتباين الكبير في طريقة نطق كل مجموعة، ولكن من غير اليسير تطبيقها على مخرج (ط د ت) ومخرج (ص س ز) وذلك لأن أصوات كل مجموعة متقاربة جدا ولم يميز بينها إلا الاختلاف في صفة واحدة. وقد قال المرعشي عن (ط د ت): «الكل متشاركة في المخرج والشدة، ويفترق الطاء عن الدال بالإطباق ويفترق الدال عن التاء بالهمس فقط، فلولا الجهر لكانت تاء، ولولا الهمس في التاء لكانت دالا» (4).
__________
(1) شرح الشافية 3/ 251.
(2) المنح الفكرية ص 9.
(3) جهد المقل 5و.
(4) جهد المقل 19ظ.(1/158)
3 - ترتيب الحروف التي تشترك في مخرج واحد:
والقضية الأخرى التي شغل بها علماء التجويد كثيرا، هي قضية ترتيب الحروف التي تخرج من مخرج واحد، فقول سيبويه: (ومن أوسط الحلق العين والحاء) (1) هل يعني أن العين قبل الحاء أو أنه لم يقصد بينهما ترتيبا؟ وقد كان أبو الحسن علي بن محمد بن خروف (ت 606هـ على خلاف) قد قال: «إن سيبويه لم يقصد ترتيبا فيما هو من مخرج واحد» (2).
وكان أبو حيان قد قال: «وظاهر كلام سيبويه أن الحاء بعد العين، وهو نص كلام مكي ابن أبي طالب. ويظهر من كلام المهدوي أن العين بعد الحاء، وهو نص أبي الحسن شريح» (3). ونقل ابن الجزري كلام أبي حيان في كتابه النشر (4). وقد قال الدكتور إبراهيم أنيس أن هذا الخلاف وهمي، وأن التجارب الحديثة قد دلت على أن لكل صوتين من أصوات الحلق حيزا معينا، يحلان فيه معا دون ترتيب لأحدهما على الآخر، وأيد كلامه بقول ابن حروف السابق (5).
السؤال الآن: هل الخلاف في ترتيب الحروف التي تنتج من مخرج واحد خلاف وهمي، فيكون علماء التجويد قد أخطئوا في هذا الموضوع جملة وتفصيلا؟.
إن وسائل دراستنا محدودة لا تعدو الملاحظة الذاتية، مع الاستفادة من النتائج التي توصل إليها دارسو الأصوات من المحدثين. فإذا كانت (التجارب الحديثة) قد دلت على خطأ موقف علماء التجويد، فنحن لا نملك بالملاحظة الذاتية فقط أن نثبت العكس في موضوع دقيق جدا، لأن علماء التجويد حين قالوا بأن العين قبل الحاء مثلا كانوا يدركون التقارب الشديد بينهما، ومن ثم نشأت تلك الآراء الثلاثة: (قبل مع بعد). ولولا ما عثرنا عليه من نصوص لبعض علماء التجويد حول الموضوع لاكتفينا بما دلت عليه التجارب الحديثة، لكن تلك النصوص لا تسمح للباحث المدقق أن يمر عليها دون أن يتساءل عن الأسس التي بنيت عليها، وعن مقدارها من الصحة.
كان محمد المرعشي قد قال وهو يتحدث عن الظاء والذال والثاء: «فاللسان يقرب إلى
__________
(1) الكتاب 4/ 433.
(2) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 3. وابن الجزري: النشر 1/ 199.
(3) ارتشاف الضرب ص 2.
(4) النشر 1/ 199.
(5) الأصوات اللغوية ص 115114.(1/159)
الخارج في الثاء أكثر مما يقرب في أختيها، ويقرب إليه في الذال أكثر مما يقرب في الظاء» (1).
وهذا النص يكشف لنا عن ظاهرة دقيقة تخص الأصوات التي تشترك في مخرج واحد، وهو يتعلق بأصوات يمكن مراقبة إنتاجها بالنظر من دون حاجة إلى أجهزة، فنحن نلاحظ ما لاحظه المرعشي، فيكفي المرء أن يردد (ظ ذ ث) ليكتشف ذلك التدرج في اندفاع طرف اللسان مع هذه الأصوات التي تخرج من مخرج واحد، ويمكن الاستعانة بمرآة في أثناء النطق بتلك الأصوات لكي يلاحظ الناطق حركة طرف اللسان في تقدمه مع الثاء وتراجعه مع الذال، ثم تراجعه أكثر من ذلك مع الظاء، ويشترط في أثناء إجراء هذه التجربة أن ينطق الأصوات الثلاثة بنفس واحد، غير فاصل بينها بصوت آخر من همزة الوصل أو غيرها، حتى يتمكن من ملاحظة حركة اللسان بوضوح دون مؤثرات خارجية، وسواء بدأ بالظاء وانتهى بالثاء أم بالعكس.
ويمكن أن نفسر تلك الظاهرة من خلال ظاهرتي الجهر والهمس، والإطباق والانفتاح، فالثاء حرف مهموس يحتاج نطقه إلى ضغط النّفس في مخرجه على نحو أكثر مما يحتاج في نطق الذال الذي يتذبذب الوتران الصوتيان في أثناء النطق به، فتحصل النغمة الصوتية التي تجعل الصوت المجهور أوضح من المهموس فلا يحتاج الناطق إلى ضغط الهواء في مخرجه بقدر ما يحتاج في المهموس، فيخرج نفس المجهور من مخرجه فاترا. وقد ذكرنا من قبل أن نفس الصوت المهموس كثير، ونفس المجهور قليل. وهذا يعني أن النّفس في الصوت المهموس يجذب طرف اللسان إلى الخارج لشدة الضغط معه أكثر مما يجذبه الصوت المجهور لضعف النّفس معه قياسا بنفس المهموس. فاللسان إذن يقرب إلى الخارج في الثاء أكثر مما يقرب في الذال.
أما الظاء فإنه صوت مطبق، والإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقا له، في أثناء النطق بالصوت المطبق (2). ففي حالة النطق بالظاء يرتفع طرف اللسان وأقصاه نحو الحنك ويتقعر وسطه (3). والذال هو الصوت المنفتح المقابل للظاء. وليس بينهما من فرق سوى الإطباق. ويبدو أن اندفاع ظهر اللسان من جهة أقصاه مع الظاء جعل طرفه يتقاصر عن موضع الذال شيئا قليلا ومن ثم لاحظ المرعشي أن طرف اللسان يقرب إلى الخارج مع الذال أكثر مما يقرب مع الظاء.
__________
(1) جهد المقل 9ظ.
(2) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 436، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 156ظ.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 47.(1/160)
ونخرج من هذا الكلام بنتيجة خلاصتها أن الأصوات التي تخرج من مخرج واحد يمكن أن ترتب في داخل ذلك المخرج على أساس أن الصوت المهموس يكون متقدما نسبيا على الصوت المجهور، وأن الصوت المنفتح يكون متقدما على الصوت المطبق. وذلك التمايز بين أصوات المخرج الواحد يكون جزئيا ودقيقا بحيث لا يحمل الدارس على جعل مخرج مستقل لكل صوت من تلك الأصوات المشتركة في مخرج واحد.
ويبدو أن تلك الظاهرة هي التي جعلت المرعشي يذهب إلى تقسيم المخارج إلى مخارج كلية ومخارج جزئية (1). وسار على هذا المبدأ في كلامه على مخارج الحروف العربية، فقال عن المخرج الأول: «أقصى الحلق يخرج منه همزة فهاء، أعني أنه ينقسم إلى مخرجين متقاربين يخرج من أولهما مما يلي الصدر الهمزة، ومن ثانيهما الهاء. وهكذا الفاء الداخل على الحروف فيما سيأتي يدل على الترتيب في المخارج الجزئية الداخلة في مخرج كلي» (2).
فإذا صح ما ذهبنا إليه في تفسير كلام المرعشي أمكننا القول بأن اختلاف علماء التجويد في ترتيب الحروف التي هي من مخرج واحد مثل العين والحاء، والغين والخاء، ليس وهميا، بل هو مبني على ملاحظة دقيقة جدا لحالة تلك الأصوات في مخارجها. والدليل على ذلك ما لاحظناه في نطق (ظ ذ ث). ويمكن أن نجري القاعدة السابقة في ترتيب أصوات المخرج الواحد على جميع أصوات المخارج الأخرى، وأن نقول أن من ذهب إلى أن العين مقدم على الحاء، وأن الغين مقدم على الخاء فإن قوله هذا مبني على أساس صوتي صحيح، وعسى أن تثبت التجارب في مختبرات الصوت صحة ما ذهب إليه بعض علماء التجويد في هذا الموضوع.
أما تقديم الهمزة على الهاء، وهما تخرجان من أقصى الحلق (الحنجرة)، وهو أول المخارج، فلعله مبني على أساس أن الهمزة حرف شديد (انفجاري) وهو بذلك آني غير ممتد، وأن الهاء حرف رخو (احتكاكي)، وهو بذلك يكون زمانيا ممتدا، فالهمزة تنتج بانطباق الوترين الصوتيين ثم انفراجهما بعد حصر النّفس خلفهما لحظة، بينما تنتج الهاء بتباعد الوترين، فيتسرب الهواء خلال فتحة المزمار، ولا بد حينئذ من تكلف إظهار الهاء بدفع النفس بقوة خلال الفتحة الكائنة بين الوترين، حتى يحدث الحفيف الذي يمكن أن تسمع به الهاء (3).
__________
(1) جهد المقل 5و.
(2) جهد المقل 7و.
(3) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 89، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 156.(1/161)
فلعل استمرار اندفاع تيار النفس خلال فتحة المزمار عند نطق الهاء وامتداده عبر تجويف الحلق جعل علماء العربية وعلماء التجويد يحسون أن الهمزة أعمق من الهاء، وأن الهاء متراخية عنها، وإن كان الصوتان ينطقان من منطقة الوترين، وذلك بتأثير طريقة نطق كل منهما.
4 - أصول مخارج الحروف:
اتجه بعض علماء التجويد إلى تقسيم مخارج الحروف إلى مجموعات، وذلك طبقا لتقسيم أعضاء آلة النطق إلى أقسام رئيسية، وكل قسم يضم عددا من المخارج، ويبدو أن هذا الاتجاه جاء من أجل تيسير فهم العلاقات الصوتية بين مجموعات الحروف. ويمكن للدارس أن يلمح مثل هذا المعنى في كلام سيبويه عن المخارج، لكنه لم يعن بالنص على ذلك في أول كلامه على مخارج الحروف.
وتتراوح أقسام المخارج الكبرى التي يذكرها علماء التجويد بين ثلاثة وستة ويمكن أن تكون ثمانية وذلك بضم بعض الآراء إلى بعض. فهي عند مكي ثلاثة، قال: «اعلم أن المخارج على الاختصار ثلاثة: الحلق والفم والشفتان» (1). ويقصد بالفم المكان الذي يسترخي فيه اللسان وما يتصل به أثناء حركته. وقد استخدم ابن الطحان كلمة (اللسان) مكان (الفم) حيث قال: «وهي الحلق واللسان والشفتان» (2).
وقسم أحمد بن أبي عمر المخارج إلى ستة أقسام حيث قال: «ومخارج حروف العربية ستة عشر، وهي على ستة أقسام: حروف الحلق، وحروف أقصى اللسان، وحروف وسط اللسان، وحروف حافة اللسان، وحروف طرف اللسان، وحروف الشفتين» (3). وكان الداني قد سار على هذا التقسيم في كتاب (الإدغام الكبير)، فتحدث أولا عن حروف الحلق (4). ثم تحدث عن حروف اللسان، وقد قال عنها: «وتنقسم جميعها على أربعة أقسام: أقصى اللسان ووسطه وطرفه وحافته» (5). ثم تحدث عن حروف الشفتين (6). وقد اتبع الداني في كتاب
__________
(1) الكشف 1/ 139.
(2) مرشد القارئ 128ظ.
(3) الإيضاح 72ظ.
(4) الإدغام الكبير 9و.
(5) الإدغام الكبير 11ظ.
(6) الإدغام الكبير 23و.(1/162)
(التحديد) ذات التقسيم ولكن دون أن ينص عليه (1).
وأضاف المرادي (الخياشيم) إلى أقسام المخارج حيث قال: «وهي على اختلافها ترجع إلى أربعة أصول، وهي: الحلق، واللسان، والشفتان، والخياشيم» (2)، وسلك ابن بلبان الحنبلي (محمد بن بدر الدين بن عبد القادر ت 1083هـ) نفس الطريق، لكنه أضاف إلى أقسام المخارج (الجوف) إلى جانب (الخياشيم) فذكر خمسة أقسام على هذا النحو: «أصول هذه المخارج خمسة، وهي: الجوف، والحلق، واللسان، والشفتان، والخيشوم» (3). وإضافة (الجوف) تعكس ما ذهب إليه المتأخرون من علماء التجويد من تخصيص مخرج مستقل لحروف المد هو الجوف.
وتصير الأقسام الرئيسة للمخارج التي ذكرها علماء التجويد ثمانية أقسام، هي: الحلق، وأقصى اللسان، ووسط اللسان، وحافة اللسان، وطرف اللسان، والشفتان، والخياشيم، والجوف.
ويقرب من ذلك ما كان الخليل بن أحمد قد أورده في مقدمة كتاب العين من ألقاب الحروف، فإن كل لقب منسوب إلى قسم من أعضاء آلة النطق، وهو يمثل مخرجا أو أكثر من مخارج الحروف العربية، وقد جعلها تسعة أقسام، هي: حلقية، ولهوية، وشجرية، وأسلية، ونطعية، ولثوية، وذلقية، وشفوية، وهوائية (جوفية) (4). وكان بعض علماء التجويد قد أورد مصطلحات الخليل في ألقاب الحروف إلى جانب غيرها من مصطلحات الدراسة الصوتية الموروثة عن سيبويه وغيره من علماء العربية (5).
5 - طريقة ترتيب المخارج:
ونلاحظ أن علماء العربية وعلماء التجويد حين يذكرون مخارج الحروف يرتبونها ترتيبا تصاعديا يبدأ بأقصى نقطة في آلة النطق، وهي التي يسمونها (أقصى الحلق)، ثم يتدرج صاعدا حتى ينتهي بالشفتين. وقد عزف كثير من دارسي الأصوات العربية المحدثين عن هذا الترتيب، واتبعوا الترتيب المعاكس له الذي يبدأ بالشفتين وينتهي بأقصى الحلق (الحنجرة)، وهم
__________
(1) التحديد 16و 17و.
(2) المفيد 101و.
(3) بغية المستفيد 54ظ.
(4) العين 1/ 58، وانظر: الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 48.
(5) انظر: مكي: الرعاية ص 113، وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73و. والعطار: التمهيد 143ظ.(1/163)
يقلدون في ذلك علماء الأصوات الغربيين الذين اتبعوا الترتيب الذي يبدأ بالشفتين وينتهي بأقصى الحلق (الحنجرة) (1).
ونحن لا نرى مجرد اتباع علماء الأصوات الغربيين لترتيب معين لمخارج الحروف مسوّغا للعدول عن الترتيب الذي سارت عليه جماهير علماء العربية وعلماء التجويد، إضافة إلى أن كلا الترتيبين يؤدي إلى نتيجة واحدة، فقضية ترتيب المخارج مثل أي قضية ذات طرفين، يمكن دائما أن تبدأ من أي من الطرفين لتصل إلى الطرف الثاني.
ولم تكن هذه القضية في ترتيب المخارج لتغيب عن علماء التجويد، فبينوا أن هناك طريقتين لترتيب المخارج، وأن جمهور علماء العربية والتجويد اختاروا البدء بالأقصى دون الأدنى لأن مادة الصوت هي الهواء الخارج من داخل الإنسان، وأن أول نقطة يمكن أن ينتج فيها صوت لغوي اعتبروها أول المخارج، وهي أقصى الحلق (الحنجرة).
قال أبو بكر أحمد بن الجزري في كتابه (الحواشي المفهمة في شرح المقدّمة): «كل مقدار له نهايتان، أيها فرضت أوله كان مقابلها آخره. ولما كان وضع الإنسان على الانتصاب لزم منه أن يكون رأسه أوله ورجلاه آخره، وإذا كان كذلك كان أول المخارج الشفتين وأولهما مما يلي البشرة، وثانيهما اللسان وأوله مما يلي الأسنان وآخره مما يلي الحلق، وثالثهما الحلق وأوله مما يلي اللسان وآخره مما يلي الصدر، ولو كان وضع الإنسان على التنكيس لانعكس.
ولما كان مادة الصوت الهواء الخارج من داخل كان أوله آخر الحلق وآخره أول الشفتين. فرتب الناظم رحمه الله (يعني أباه محمد بن الجزري مؤلف المقدمة الجزرية) الحروف باعتبار الصوت وفاقا للجمهور» (2). وقد نقل هذا النص عدد من علماء التجويد (3).
ولا نعلم أن أحدا من علماء العربية أو علماء التجويد اتبع ترتيب المخارج الذي يبدأ بالشفتين وينتهي بالحلق. ولكن جاء في كلام المرعشي حول الموضوع ما يفهم منه أن بعض العلماء سار عليه في ترتيب المخارج، وهذه عبارته «إن في ترتيب المخارج اعتبارين:
__________
(1) انظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 112و 117. وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(2) الحواشي المفهمة 13ظ 14و.
(3) انظر: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 8و. والقسطلاني: اللئالئ السنية 7ظ، ولطائف الإشارات (له) 1/ 189. وطاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 7ظ. وأبو الفتوح الوفائي:
الجواهر المضية 17ظ. وعلي القاري: المنح الفكرية ص 10.(1/164)
أحدهما: وهو الذي أخذه الجمهور، واختير في هذه الرسالة أن يكون أول المخارج أقصى الحلق وآخرها خارج الشفتين.
والآخر: أن يكون أول المخارج خارج الشفتين وآخرها أقصى الحلق، وهو الذي اختاره بعض العلماء، هكذا قاله البعض» (1). وقال في مكان آخر: «فأول المخارج حينئذ مخرج الواو وآخرها مخرج الهمزة» (2).
ويذهب دارسو الأصوات العربية من المحدثين الذين يبدءون بترتيب المخارج من الشفتين إلى أن للأصوات العربية أحد عشر مخرجا (3). ويتركز الاختلاف بينهم وبين علماء العربية والتجويد في أنهم يعدون عددا من الأصوات من مخرج واحد بينما بعدها علماء العربية والتجويد من مخرجين أو أكثر، لا سيما حروف طرف اللسان، أو أنهم لا يعتبرون بعض المخارج أصلا، مثل مخرج النون الخفية، وهذه اتجاهات كانت معروفة لدى علماء التجويد قديما. كما بيّنا ذلك قبل قليل حين وضحنا تقسيمهم للمخارج إلى مجموعات رئيسية، وهو عمل لا يختلف عنه كثيرا ما فعله دارسو الأصوات العربية من المحدثين، لا سيما إذا علمنا أن بعض المحدثين يعتبر مخارج الحروف العربية الرئيسة تسعة مخارج (4).
ولا يهمنا تتبع ذلك الاختلاف هنا، لأنه لا يعدو أن يكون شكليا أو لفظيا، بقدر ما يهمنا بيان الاختلاف في تعيين مخارج بعض الحروف بين علماء التجويد ودارسي الأصوات العربية من المحدثين. وهو ما سنحرص على الوقوف عنده في الفقرة الآتية من هذا المبحث، حين نفصل القول في مخارج الحروف العربية، مع محاولة بيان الأسباب التي أدت إلى ذلك الاختلاف، وهل ترجع إلى تطور الأصوات العربية، أو إلى خطأ أحد الفريقين أعني علماء التجويد والمحدثين، أو أنه اختلاف يرجع إلى التكلف في ذوق الحروف على حد قول المرعشي: «إن الكلام على المخارج على حسب استقامة الطبع لا على التكلف، فاختلاف العلماء في ترتيب المخارج اختلاف في حكم الطبع المستقيم» (5).
__________
(1) بيان جهد المقل 9و.
(2) المصدر نفسه 12و.
(3) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 199، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 112، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(4) جان كانتينو: دروس ص 22.
(5) بيان جهد المقل 12و.(1/165)
ثالثا بيان مخارج الحروف العربية عند علماء التجويد:
1 - حروف الحلق:
قال سيبويه: «ولحروف العربية ستة عشر مخرجا. فللحلق منها ثلاثة:
فأقصاها: الهمزة والهاء والألف.
ومن أوسط الحلق مخرج العين والحاء.
وأدناها مخرجا من الفم: الغين والخاء» (1).
ظل كلام سيبويه هو الأساس الذي استندت إليه دراسات علماء العربية وعلماء التجويد في الأصوات، ولا يزال كلام سيبويه صحيحا منطبقا على واقع الدرس الصوتي في كثير من جوانبه، ولم يكتف علماء التجويد بترديد كلام سيبويه في المخارج وتفسيره، بل إنهم حاولوا مناقشة بعض وجهات نظره مما يحتمل المناقشة، ومن ذلك إخراج الألف من حروف الحلق فإن كثيرا من علماء التجويد اعتبروا حروف الحلق ستة، وأخرجوا الألف منها. وهذا اتجاه ينسب إلى أبي الحسن شريح بن محمد الرعيني الإشبيلي (ت 539هـ)، فقد قال: «إن الألف هوائية لا مخرج لها» (2). ولعله ذهب هذا المذهب في كتابه (نهاية الإتقان في تجويد القرآن)، الذي لم نطلع عليه، وقد قلده في ذلك كثير من علماء التجويد، حتى انتهى أصحاب هذا المذهب إلى القول بأن حروف المد الثلاثة: الألف والواو والياء المسبوقة بحركة تجانسها لها مخرج على حدة سموه الجوف (3). وكان الخليل قد قال قديما: الألف والواو والياء هوائية (4).
لكن علماء التجويد ميزوا بين نوعين من الواو والياء. وهما المدية وغير المدّيّة، فالمدية من الجوف وغير المدية من مخارجها التي ذكرها سيبويه.
وإخراج الألف من حروف الحلق تؤيده الدراسة الصوتية الحديثة (5)، باعتبار أن الألف من الأصوات الذائبة، بحسب تعبير بعض علماء التجويد، أو الصائتة (أو المصوتة) بحسب
__________
(1) الكتاب 4/ 433.
(2) انظر: أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 2، والمرادي: شرح التسهيل 303ظ.
(3) انظر: ابن الجزري: النشر 1/ 199.
(4) العين 1/ 58.
(5) انظر: حسن ظاظا: كلام العرب ص 16، وحسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 302.(1/166)
تعبير بعض علماء الأصوات المحدثين، التي تتميز بأن الهواء يمر في أثناء النطق بها حرا طليقا خلال الحلق والفم دون أن يقف في طريقه عائق أو حائل، ودون أن يضيق مجرى الهواء ضيقا من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا (1).
ونجد في كلام بعض علماء التجويد ما يفسر إدراج سيبويه للألف في حروف الحلق، فعبارة أقصى الحلق تعني عند علماء العربية وعلماء التجويد الحنجرة، التي تتضمن الوترين الصوتيين، اللذين تشكل النغمة التي تنشأ عن تذبذبهما جوهر صوت الألف، فنص المرعشي على أن أقصى الحلق هو مبدأ صوت الألف (2). لكن الغالب هو أن تنسب الحروف إلى موضع التضييق لمجرى الهواء (المخرج)، لا إلى الأحداث الصوتية الثانوية التي تصاحب نطق الصوت مثل حالة الوترين الصوتيين (3).
وقد نص علماء التجويد على أن «الهمزة أول الحروف خروجا وهي تخرج من أول مخارج الحلق من آخر الحلق مما يلي الصدر»، حسب عبارة مكي (4). وقال الداني «من أول الصدر وآخر الحلق» (5). وكل ذلك يشير إلى فتحة المزمار الكائنة بين الوترين الصوتيين، حيث ينطبق الوتران انطباقا تاما، حال النطق بالهمزة، فلا يسمحان للهواء بالمرور من الحنجرة، ثم ينفر جان فجأة فيندفع الهواء محدثا صوت الهمزة (6).
2 - حروف أقصى اللسان:
قال سيبويه: «ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف. ومن أسفل من موضع القاف من اللسان قليلا ومما يليه من الحنك الأعلى مخرج الكاف» (7).
واتبع علماء التجويد خطى سيبويه في تحديد مخرجي القاف والكاف (8). مع بعض التوضيحات، مثل قول شريح بن محمد الرعيني (ت 539هـ): إن القاف تخرج من أول اللهاة
__________
(1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 92. وانظر أيضا ص 123122.
(2) جهد المقل 7و.
(3) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 298.
(4) الرعاية ص 119.
(5) التحديد 16و.
(6) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 91، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 142.
(7) الكتاب 4/ 433.
(8) مكي: الرعاية ص 145و 147. والداني: التحديد 16و.(1/167)
مما يلي الحلق ومخرج الخاء (1). وكان السمرقندي (ت 780هـ) قد قسم اللهاة إلى قسمين:
الغلصمة وهي أول اللهاة من جانب الحلق، والعكدة وهي آخر اللهاة من جانب الفم وجعل القاف تخرج من الغلصمة وسماها غلصمية، وجعل الكاف تخرج من العكدة وسماها عكدية (2). وسبق أن ناقشنا وجهة نظر السمرقندي هذه عند الحديث عن (اللهاة) في المبحث الأول الخاص بوصف أعضاء آلة النطق. وهي تؤدي إلى النتيجة نفسها التي يؤدي إليها مذهب غيره من العلماء، وهو القول بأن القاف تسبق الكاف.
وذهب بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين إلى ترتيب آخر في توزيع مخارج الحروف الأربعة (غ خ / ق ك). يتلخص في تقديم مخرج القاف على مخارج الحروف الثلاثة الأخرى، فتكون (غ خ ك) من أقصى الحنك، وتكون القاف من اللهاة أعمق من الحروف الثلاثة (3). بينما ذهب بعضهم إلى اعتبار (غ خ ق) من اللهاة وما يتصل بها من غشاء الحنك، مع إبقاء الكاف من أقصى الحنك (4). وجرى بعض المحدثين على منهاج علماء العربية في اعتبار الغين والخاء من حروف أدنى الحلق إلى الفم، واعتبار القاف من حروف اللهاة أو أقصى اللسان، والكاف أدنى من ذلك إلى مقدم الفم (5).
وبالغ بعض المحدثين من دارسي الأصوات العربية في نسبة الغلط إلى علماء العربية وعلماء التجويد في تحديد مخارج الحروف الأربعة (غ خ ق ك). فقد قال الدكتور تمام حسان في كلامه عن مخارج الحروف: «والمخارج التي نذكرها هنا تختلف إلى حد ما عن تلك التي توجد في علم التجويد والقراءات اختلافا اقتضاه منهج البحث الحديث، وسنشير عند كل نقطة من نقط الخلاف بين هذه المخارج وتلك إلى وجه النقص الذي نراه في وجهة نظر النحاة والقراء» (6). ثم ذكر المخارج من وجهة النظر الحديثة فجعلها عشرة. وهذا ليس شيئا جديدا كما وضحنا ذلك في فقرة سابقة من هذا المبحث (7)، وإنه اختلاف في الاصطلاح وليس راجعا
__________
(1) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 3. وابن الجزري: النشر 1/ 199.
(2) روح المريد 125و.
(3) كمال محمد بشر: الأصوات ص 113، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 272.
(4) جان كانتينو: دروس ص 23.
(5) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 85و 88.
(6) مناهج البحث في اللغة ص 84.
(7) انظر ص 164من هذا البحث.(1/168)
إلى الغلط في تحديد المخارج.
ثم يستمر الدكتور تمام حسان في كلامه فيقول: «ولقد خلط النجاة العرب خلطا كبيرا في تحديد هذه المخارج، وحسبك أن ترى ابن الجزري يفاضل بين الآراء المختلفة في تحديد عدد منها ثم يغلط في تحديد مخارج أصوات الخاء والغين والكاف، والطاء والدال والتاء، فيقول: إن صوتي الخاء والغين من أدنى الحلق إلى الفم، وراء مخرج القاف، مع أنهما من مؤخر اللسان مع الطبق أمام مخرج القاف. وهو يجعل الكاف خلف القاف، والعكس أصح، فصوت الكاف من نفس مخرج صوتي الخاء والغين. ثم يقول: إن الأصوات الثلاثة الأخيرة نطعية، ويقصد أنها من نطع الغار، ونسميه في هذا الكتاب الغار، والصحيح أنها أسنانية لثوية» (1).
إن الكلام الخاص بالأصوات الثلاثة (ط د ت) سوف يأتي في مكان لا حق من هذا المبحث إن شاء الله تعالى، ونقتصر هنا على ما يتعلق بالأصوات الأخرى (غ خ ك). ولكن لدينا ملاحظات تتعلق بكلام الدكتور تمام حسان السابق نذكرها قبل أن نناقش وجهة علماء الأصوات المحدثين في تحديد وترتيب مخارج الحروف الأربعة.
الملاحظة الأولى هي أنه نسب الخلط والغلط والتقصير في دراسة مخارج الحروف إلى علماء العربية وعلماء التجويد قاطبة وهو لم يطلع على ما يبدو إلا على مصدر واحد، هو في الواقع ليس من المؤلفات الأساسية في الموضوع لدى الفريقين من علماء العربية وعلماء التجويد، ذلك المصدر هو (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري، وهو كتاب في القراءات، مع أنه تضمن فصلا عن مخارج الحروف وصفاتها. وهذه حالة لا تسمح بذلك التعميم الذي تورط فيه الدكتور تمام حسان، وتتناقض مع منهج البحث الحديث الذي يتشبث به.
والملاحظة الثانية هي أنه نسب إلى ابن الجزري ما لم يقله، فابن الجزري لم يخرج على الترتيب المشهور للحروف الأربعة (غ خ، ق ك) لدى علماء العربية وعلماء التجويد. أما الدكتور تمام حسان فنفهم من عبارته، مع غموض دلالات (وراء وأمام وخلف) لديه، أنه ينسب إلى ابن الجزري هذا الترتيب (غ خ ك ق) لمخارج هذه الأصوات الأربعة. وهذه عبارة ابن الجزري ننقلها بنصها:
__________
(1) مناهج البحث في اللغة ص 8685.(1/169)
«المخرج الرابع: أدنى الحلق إلى الفم، وهو للغين والخاء، ونصّ شريح على أن الغين قبل. وهو ظاهر كلام سيبويه أيضا، ونص مكي على تقديم الخاء، وقال الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن خروف النحوي: إن سيبويه لم يقصد ترتيبا فيما هو من مخرج واحد. قلت:
وهذه الستة الأحرف المختصة بهذه الثلاثة المخارج هي الحروف الحلقية.
المخرج الخامس: أقصى اللسان مما يلي الحلق وما فوقه من الحنك، وهو للقاف.
وقال شريح: إن مخرجها من اللهاة مما يلي الحلق ومخرج الخاء.
المخرج السادس: أقصى اللسان ومن أسفل مخرج القاف من اللسان قليلا وما يليه من الحنك، وهو للكاف. وهذان الحرفان يقال لكل منهما لهويّ، نسبة إلى اللهاة، وهي بين الفم والحلق» (1).
وهذا النص من الوضوح بحيث لا يمكن إلا أن يفهم منه أن ابن الجزري يذهب في ترتيب الحروف الأربعة هذا المذهب (غ خ ق ك) فمن أين استخلص الدكتور تمام حسان ما نسبه إلى ابن الجزري من أنه يذهب في ترتيبها هذا المذهب: (غ خ ك ق)؟ اللهم إلا إذا فهم من قول ابن الجزري عن الكاف بأنها (من أسفل مخرج القاف) أنها أعمق بينما يراد بكلمة (أسفل) أن الكاف أمام القاف من جهة الفم.
إن من الأمور المؤسفة أن يتصور بعض الباحثين أن أبحاثهم لن تجد لها مكانا مناسبا إلا إذا نسبوا التقصير إلى جهود سابقيهم، بينهما المنهج القويم يقتضي منا أن نزن الأمور بميزان الحق، فلا نتورط بالإزراء بجهود القدماء، ولا نفرط في الإطراء بها، بل يجب أن نبين مواضع التقصير بالتحديد، كما يجب ألّا ننسى مواضع الإحسان والإجادة.
أمامنا الآن ثلاثة اتجاهات في ترتيب مخارج الأصوات الأربعة، الأول: هو (غ خ ق ك)، وهو يمثل مذهب علماء العربية وعلماء التجويد، فالغين والخاء من أدنى الحلق من جهة الفم مع ما يلي ذلك من أعلى الجدار الخلفي للحلق أو من اللهاة. ثم القاف من أقصى اللسان مع ما يليه من الحنك الأعلى بما في ذلك اللهاة، ومن موضع أسفل من موضع القاف، إلى الأمام، مخرج الكاف. وكانوا يسمون الغين والخاء حلقية، والقاف والكاف لهوية.
والاتجاه الثاني: ينحو هذا المنحى في ترتيبها: (ق / غ خ ك). فتكون القاف لهوية، وتكون الأصوات الثلاثة الأخرى من أقصى الحنك.
__________
(1) النشر 1/ 200199.(1/170)
والاتجاه الثالث: ينحو هذا المنحى في ترتيبها: (ق غ خ / ك).
ويبدو أن الفصل بين مخرج القاف، ومخرج الغين والخاء أمر غير يسير، وليس في أيدينا من الوسائل الآن ما يمكن أن نحدد من خلاله موقع القاف منهما. وكل ما تهدينا إليه الملاحظة الذاتية الآن هو أن نحافظ على ترتيب علماء العربية وعلماء التجويد لهذه الحروف الثلاثة، مع احتمال كبير في أن يكون للهاة دور في إنتاج الغين والخاء إلى جانب الجزء الأعلى من الحلق، وهو ما يعبر عنه بأدنى الحلق من الفم. وهذا ينطبق على الاتجاه الأول كما أنه لا يبتعد عن الاتجاه الثالث إذا اعتبرنا أن (ق غ خ) تخرج من مخرج واحد.
أما الاتجاه الثاني الذي يجعل مخرج القاف من اللهاة، ومخرج الحروف الثلاثة الأخرى من أقصى الحنك إلى الأمام من مخرج القاف فإن الملاحظة الذاتية تدلنا على عدم دقته وذلك لاستحالة الجمع بين الكاف والغين والخاء في مخرج واحد، وهي ملاحظة تنبني على أساس مما ذكره سيبويه في الكتاب، وهو أمر غفل عنه الدارسون المحدثون الذين أخذوا بهذا الاتجاه، قال سيبويه، وهو يتحدث عن القاف وأنها من أقصى اللسان، ولم تنحدر انحدار الكاف إلى الفم، بل تصعدت إلى ما فوقها من الحنك الأعلى: «والدليل على ذلك أنك لو جافيت بين حنكيك فبالغت ثم قلت: قق قق، لم تر ذلك مخلا بالقاف، ولو فعلته بالكاف وما بعدها من حروف اللسان أخل ذلك بهن» (1).
وعند تطبيق هذه التجربة المبنية على الملاحظة الذاتية نجد أن الكاف تختفي فلا يمكن أن ننطق بها مع فتح الفم إلى أقصاه، وهو ما عبر عنه سيبويه بقوله: (جافيت بين حنكيك)، ويمكن في نفس الوقت نطق القاف والغين والخاء، وهذا يدل على أن مخرج الغين والخاء ليس قريبا من مخرج الكاف، وإلا اختل كما اختل مخرج الكاف.
ويبقى بعد ذلك أمر القاف والغين والخاء متداخلا إلى حد كبير، ولكن يترجح لديّ أن الغين والخاء أعمق من القاف، وأن مخرجهما يحاذي التجويف الحلقي، بينما يحاذي مخرج القاف أقصى الحنك الأعلى، ولنا في موقف القراء من إخفاء النون قبل هذه الحروف الثلاثة دليل على ما نحن بصدده، فأكثر القراء يظهرون النون قبل الغين والخاء، ولم يخفها معهما إلا نفر قليل جدا من القراء (2). بينما لم يختلف في وجوب إخفاء النون قبل القاف. وهو أمر قد
__________
(1) الكتاب 4/ 480.
(2) انظر: الداني: التحديد 20و. وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 178و.(1/171)
يدل على أن القاف أقرب إلى الفم من الغين والخاء. وقديما قال السيرافي «فصار الغين والخاء حيزا مفردا بين حروف الحلق وحروف الفم وأنهما حيز لا يختلط بحروف الحلق ولا حروف الفم في الإدغام (1).
3 - حروف وسط اللسان:
قال سيبويه: «ومن وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين والياء» (2). هذا هو الاتجاه الأساسي في وصف مخرج الأصوات الثلاثة لدى علماء التجويد (3). ولكن لهم ملاحظة وهي أنهم يصفون الياء بأنها (غير المديّة) (4). وقال ابن الطحان (الجيم والشين والياء الحية) (5). وهذا مصطلح استخدمه بعض العلماء في مقابل (الياء الميتة)، أي أن (الياء) التي تخرج من هذا المخرج هي الياء الجامدة. أما الذائبة (الميتة) فلها مخرج آخر. وسنناقش في المبحث الخاص بالأصوات الذائبة مصطلح (الحية والميتة).
وتنسب بعض المصادر إلى المهدوي (أبي العباس أحمد بن عمار ت بعد 430هـ) أنه يذهب إلى أن الشين تلي الكاف، وأن الجيم والياء يليان الشين (6). لكن علماء الأصوات من المحدثين يرون أن مخرج الياء يتقدم على مخرجي الجيم والشين (7). على أن بعضهم يصرح بقوله: «ويجب أن نعلم أن بين الياء وبين الجيم والشين قربا شديدا في المخرج، حتى إن بعض الدارسين سمى هذه الأصوات الثلاثة أصوات وسط الحنك» (8).
ويبدو أن ما نسبه المرعشي إلى مكي من أنه «قدم في الرعاية الشين على الجيم» (9).
مبني على الناحية الشكلية فقط، فالوارد في كتاب الرعاية يشير إلى أن مكيا يعد الحروف الثلاثة من مخرج واحد ولكنه حين أراد الحديث عن الخصائص الصوتية لكل حرف كان لا بد
__________
(1) شرح كتاب سيبويه 6/ 512511.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) الداني: التحديد 16ظ، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 152ظ.
(4) ابن الجزري: النشر 1/ 200، وعلي القاري: المنح الفكرية ص 11.
(5) مرشد القارئ 129و.
(6) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 3. وابن الجزري: النشر 1/ 200.
(7) انظر التفصيل: حسان النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 308.
(8) كمال محمد بشر: الأصوات 113.
(9) جهد المقل 7ظ.(1/172)
من أن يقدم بعضها على بعض، فبدأ بالشين، ثم الجيم، ثم الياء. ونجده مع ذلك يقول عن مخارجها: «الشين تخرج من المخرج الثالث من مخارج الفم بعد مخرج الكاف من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك» (1). ثم يقول: «الجيم تخرج من مخرج الشين» (2) وبعد ذلك يقول: «الياء تخرج من مخرج الشين والجيم المذكورين، وهو المخرج الثالث من مخارج الفم» (3).
4 - حروف حافة اللسان:
قال الداني: «ولحافة اللسان مخرجان وحرفان، وهما الضاد واللام» (4).
أما الضاد فقد قال سيبويه: «ومن بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج الضاد» (5). وقال علماء التجويد: «فالضاد من بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، فبعض الناس يجري له في الشدق الأيمن، وبعضهم يجري له في الشدق الأيسر، ومخرجها من هذا كمخرجها من هذا» (6). والإضافة التي وردت في قول علماء التجويد حول بيان مخرج الضاد أصلها وارد في كتاب سيبويه أيضا، وذلك حين تحدث سيبويه عن الضاد الضعيفة (7).
وذكر أبو شامة المقدسي (ت 665هـ) في شرح الشاطبية أن «منهم من يجعل مخرج الضاد قبل الجيم والشين والياء» (8). وكان الخليل بن أحمد قد قال: «الجيم والشين والضاد في حيز واحد». وسماها شجرية لأن مبدأها من شجر الفم، وهو مفرجه (9). وكان سيبويه قد ذكر (الضاد) قبل الجيم حين رتب الحروف (ك ض ج ش ي) (10). لكنه أخّرها عن حروف وسط اللسان (ج ش ي) حين تحدث عن المخارج. وصحح ابن جني ترتيب سيبويه
__________
(1) الرعاية ص 149.
(2) الرعاية ص 150.
(3) الرعاية ص 153.
(4) التحديد 17و. والإدغام الكبير (له) 12و. وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72ظ.
(5) الكتاب 4/ 433.
(6) الداني: التحديد 17و. وانظر: مكي: الرعاية ص 158، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 152ظ، وابن الجزري: النشر 1/ 200.
(7) الكتاب 4/ 432.
(8) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 4.
(9) العين 1/ 58.
(10) الكتاب 4/ 431.(1/173)
للحروف فجعل الضاد بعد الياء لينسجم ذلك مع ترتيب المخارج (1). وكذلك فعل بعض علماء التجويد (2). ونص بعض علماء التجويد أن مخرج الضاد بعد مخرج الياء (3). فيكون ترتيب المخارج على رأي جمهور علماء العربية وعلماء التجويد هو (ك ج ش ي ض).
والوصف السابق لمخرج صوت الضاد إنما ينطبق على الضاد العربية القديمة، التي استحالت في ألسنة الناطقين بالعربية اليوم إلى عدة أصوات لا ينطبق عليها جميعا الوصف المتقدم لمخرج الضاد، وسوف نناقش هذه القضية حين نستوفي الحديث عن صفات الحروف.
أما اللام فقد قال سيبويه: «ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان، ما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى، [مما فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية مخرج اللام] (4).
ولم يجد علماء العربية ولا علماء التجويد مجالا لأي زيادة على كلام سيبويه من أجل توضيح مخرج اللام، بل إن بعضهم حاول أن يختصر عبارة سيبويه، فقال: «ومن أدنى الحافة وهو أقربها إلى طرف اللسان وبين الحنك تخرج اللام» (5). وقال غيره: «اللام من طرف اللسان وأصول الثنايا» (6). وكذلك فعل المحدثون من علماء الأصوات، فقالوا: «يعتمد طرف اللسان على أصول الثنايا العليا» (7).
وكان ابن الحاجب يرى أنه يكفي في تحديد مخرج اللام ذكر الثنايا فقال: «وكان ينبغي أن يقال فوق الثنايا»، لكنه اعتذر عن ذلك بقوله: «على أن الناطق باللام تنبسط جوانب طرفي لسانه مما فوق الضاحك إلى الضاحك الآخر، وإن كان المخرج في الحقيقة ليس إلا فوق
__________
(1) سر صناعة الإعراب 1/ 50.
(2) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152و.
(3) المرعشي: جهد المقل 7ظ.
(4) الكتاب 4/ 433، وما بين المعقوفين سقط من طبعة عبد السلام هارون، وأثبته من طبعة بولاق 2/ 405.
(5) ابن الطحان: مرشد القارئ 129و.
(6) مكي: الكشف 1/ 139. وانظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250.
(7) محمود السعران: علم اللغة ص 185. وانظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 65. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 166. وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 270.(1/174)
الثنايا، وإنما ذلك يأتي لما فيها من شبه الشدة ودخول المخرج في ظهر اللسان، فينبسط الجانبان لذلك، فلذلك عدد الضاحك والناب والرباعية والثنية» (1). ونقل أبو شامة المقدسي كلام ابن الحاجب (2).
وقال المرعشي في تحديد مخرج اللام: «ما بين حافتي اللسان معا، بعد مخرج الضاد، وما يحاذيهما من اللثة العليا، وهي لثة الضاحكين والنابين والرباعيتين والثنيتين يخرج منه اللام، ورأس اللسان داخل في مخرجه» (3). وقال ملخصا ذلك بعبارة أوجز: «فمخرج اللام ما بين حافتي اللسان مع رأسه وبين ما يحاذي الجميع من اللثة العليا» (4). ثم تحدث عن طول مخرج اللام فقال: «وليس في الحروف أوسع مخرجا منه لطوله كما ترى لكنه مقوس ولمّا لم يكن طول مخرجه إلى سمت جريان الصوت بل معترضا على سمت الجريان لم يوجب طول مخرجه طول صوته» (5).
ويتميز اللام بأن الصوت معه لا يخرج من الموضع الذي يلتقي فيه العضوان، بل يخرج من حافتي اللسان (أي جانبيه) وطرف اللسان لازم لموضعه، أثناء ذلك، وقد أدرك علماء العربية وعلماء التجويد هذه الخاصية للام، فكان سيبويه قد قال عن اللام بأنه «ليس كالرخوة، لأن طرف اللسان لا يتجافى في موضعه. وليس يخرج الصوت من موضع اللام ولكن من ناحيتي مستدق اللسان فويق ذلك» (6). وقال عبد الوهاب القرطبي: «اللسان ينحرف فيه مع الصوت، وتتجافى ناحيتا مستدق اللسان عن اعتراضهما على الصوت من تينك الناحيتين ومما فويقهما» (7). ولذلك سمي اللام الصوت المنحرف.
5 - حروف طرف اللسان:
قال الداني: «وطرف اللسان له خمسة مخارج، وأحد عشر حرفا». وهي: ر ن ط د ت ص ز س ظ ذ ث (8). وقد سمّى بعض المحدثين حروف طرف اللسان (المجموعة
__________
(1) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 481480.
(2) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 4.
(3) جهد المقل 8و.
(4) بيان جهد المقل 10ظ.
(5) المصدر نفسه 10ظ.
(6) الكتاب 4/ 435.
(7) الموضح 157و.
(8) الإدغام الكبير 11ظ، والتحديد 16ظ، وانظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 129و.(1/175)
الكبرى من الأصوات المتقاربة المخارج) وقال عنها: «ووجه الشبه بين كل هذه الأصوات هو أن مخارجها تكاد تنحصر بين أول اللسان، بما فيه طرفه، والثنايا العليا، بما فيها أصولها» (1).
(أ) الراء والنون:
حدد سيبويه مخرجهما بقوله: «[ومن طرف اللسان بينه وبين] ما فويق الثنايا مخرج النون.
ومن مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا، لانحرافه إلى اللام، مخرج الراء» (2).
والكلام عن مخرجي الراء والنون يقتضي بيان أمرين: الأول تحديد مخرجيهما، والثاني تحديد أيهما قبل الآخر.
أما مخرج النون فإن علماء التجويد حافظوا على عبارة سيبويه في بيانه، ولكنهم أضافوا إضافة قيمة تتعلق بإخراج النون، وهي الربط بين مخرجه في الفم باعتماد طرف اللسان على ما فويق الثنايا العليا، وبين خروج النّفس في أثناء ذلك من الخيشوم. قال الداني: «والنون من طرف اللسان، بينه وبين ما فويق الثنايا العليا، ويتصل بالخياشيم». وقال أيضا: «فأما النون المتحركة فمخرجها من الفم مع صويت من الأنف» (3).
وقال المرعشي معلقا على النون والميم في (عن ولم): «فإن كلّا من النون والميم الساكنتين هنا مركب من صوتين: صوت ذاته و [هو] صوت جار في داخل الفم ينقطع في مخرج النون والميم، وقد عرفت مخرجيهما. وصوت صفته وهو صوت جار في الخيشوم» (4).
ولم يكن سيبويه غافلا عن صوت الخيشوم الذي يجري مع النون، الذي يسميه الغنة، لكنه أشار إليه في معرض حديثه عن صفات الحروف، ولم يذكره مقترنا ببيان مخرج الحرف.
فقال: «ومنها حرف شديد يجري معه الصوت، لأن ذلك الصوت غنة من الأنف، فإنما تخرجه
__________
(1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 46.
(2) الكتاب 4/ 433. وما بين المعقوفين سقط من طبعة عبد السلام هارون، وأثبته من طبعة بولاق 2/ 405.
(3) التحديد 16ظ، 17و. وانظر: الإدغام الكبير (له) 12و. وأحمد ابن أبي عمر: الإيضاح 72ظ.
(4) بيان جهد المقل 12ظ.(1/176)
من أنفك واللسان لازم لموضع الحرف، لأنك لو أمسكت بأنفك لم يجر معه الصوت. وهو النون، وكذلك الميم» (1).
وعبارة سيبويه (فويق الثنايا) استبدل بها بعض علماء التجويد كلمة (اللثة) (2). قال محمد المرعشي: «المخرج التاسع ما بين رأس اللسان وما يحاذيه من اللثة، وهي لثة الثنيتين العليين يخرج منه النون المظهرة» (3). ولم يستخدم سيبويه كلمة (اللثة) وهو يبين مخارج الحروف.
أما مخرج الراء فلم يزد علماء التجويد على ما ذكره سيبويه إلا اليسير، قال الداني:
«والراء من طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا العليا غير أنه أدخل من النون في ظهر اللسان لانحرافه إلى اللام» (4) وقال محمد المرعشي: «ما بين رأس اللسان مع ظهره مما يلي رأسه، وما يحاذيهما من اللثة، وهي لثة الثنيتين العليين أيضا يخرج منه الراء» (5).
وما ورد في بيان مخرج الراء عند سيبويه وعند علماء التجويد يثير قضية ترتيب مخرجي هذين الحرفين وأيهما قبل الآخر. فبينما نجدهم يوضحون مخرج النون قبل مخرج الراء نجدهم يقولون في مخرج الراء: (من مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان)، وهو يشير إلى تقدم مخرج الراء. وكان سيبويه قد قدّم ذكر الراء في ترتيب حروف العربية على النون على هذا النحو (ل ر ن) وحذا ابن جني حذوه (6). وكذلك فعل بعض علماء التجويد (7).
وكان هذا الموضوع مدار بحث عند علماء العربية وعلماء التجويد، فقال أبو عمرو بن الحاجب: «ألا ترى أنك إذا نطقت بالنون والراء ساكنتين وجدت طرف اللسان عند النطق بالراء فيما هو بعد مخرج النون، هذا هو الذي يجده المستقيم الطبع. وقد يمكن إخراج الراء مما هو أدخل من مخرج النون، ومن مخرجها. ولكن بتكلف لا على حسب إجراء ذلك على الطبع المستقيم، والكلام في المخارج إنما هو على حسب استقامة الطبع لا على
__________
(1) الكتاب 4/ 435.
(2) أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 15ظ. وأبو الفتوح الوفائي: الجواهر المضية 21ظ.
(3) جهد المقل 8و.
(4) التحديد 16ظ. وانظر: مكي: الرعاية ص 169.
(5) جهد المقل 8و.
(6) سر صناعة الإعراب 1/ 50.
(7) انظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152و.(1/177)
التكلف» (1). ويفهم من هذا أن ابن الحاجب يذهب هنا إلى أن النون أدخل في اللسان وأن مخرج الراء يليها باتجاه طرف اللسان. لكنه في الشافية يصرح بأن النون أقرب إلى رأس اللسان من الراء (2).
وناقش محمد المرعشي هذه القضية ودقق فيها غاية التدقيق، وهو حين حدد مخرج النون قال: (ما بين رأس اللسان وما يحاذيه من اللثة مخرج النون) وحين حدد مخرج الراء قال: (ما بين رأس اللسان مع ظهره مما يلي رأسه وما يحاذيهما من اللثة مخرج الراء) (3).
والفرق بين مخرج الحرفين أن الذي يعتمد على اللثة مع النون هو رأس اللسان، ومع الراء رأس اللسان مع ظهره القريب من رأسه. ثم يضيف المرعشي: «أقول ظهر اللسان أدخل من رأسه، وما يلابسه رأسه من اللثة بعد مخرج النون، فمن نظر إلى الأول يظهر له جعل مخرج الراء قبل مخرج النون، ومن نظر إلى الثاني أخّر الراء عن النون، والله أعلم» (4).
وحاول المرعشي توضيح الفقرة السابقة فقال: «قوله (فمن نظر إلى الأول) يعني أن مخرجي النون والراء يشترك فيهما اللسان واللثة. فمن نظر إلى اللسان ظهر له جعل مخرج الراء قبل مخرج النون، لأن مخرج الراء تضمّن ما هو مقدم على مخرج النون. ومن نظر إلى اللثة أخّر الراء لأن ما يلابسه رأس اللسان من اللثة بعد مخرج النون. وإنما قلنا في الأول (يظهر) ولم نقل: قدم الراء لعدم اطلاعنا على الرواية من أهل الأداء بتقديم الراء على النون» (5).
ولم أجد من سبق المرعشي إلى مثل هذا التفصيل في تحديد مخرجي الراء والنون، خاصة تعليقه أمر تقديم أحدهما على الآخر باعتبار العضو الذي ينظر إليهما من خلاله، فمن نظر إلى اللسان قدم الراء، لأن الجزء الذي يعتمد عليه منه للراء أدخل من الجزء الذي يعتمد عليه منه للنون، ومن نظر إلى العضو الآخر وهو اللثة قدّم النون وأخّر الراء، لأن موضع اعتماد اللسان على اللثة مع النون أعمق منه مع الراء.
__________
(1) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 481. وانظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 4.
والمرعشي: جهد المقل 8و.
(2) انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250و 253.
(3) جهد المقل 8و.
(4) جهد المقل 8ظ.
(5) بيان جهد المقل 11و.(1/178)
وفي الوقت الذي لا نجد فيه النصوص التي تؤيد وجهة نظر المرعشي لا نملك أيضا من الأدلة ما يعارضها، بل إن التجربة الشخصية ربما أدت إلى تحسس ذلك الفارق الدقيق الذي ألمح إليه المرعشي في تحديد مخرجي النون والراء، ولهذا نجده حين ناقش الخلاف في اعتبار اللام والراء والنون من مخرج واحد، أو من ثلاثة مخارج يقول: «فالأقرب أن يجعل اللام وحده من مخرج، ويجعلا من مخرج آخر كلي» (1).
أما علماء الأصوات المحدثون فإنهم يجعلون مخرج الراء قبل مخرج النون، وإن اختلفت عبارتهم وتباينت مصطلحاتهم التي استخدموها في تحديد المخارج (2). وهو أمر يؤيد الشواهد التي تضمنها كلام علماء العربية وعلماء التجويد في اعتبار مخرج الراء أدخل في اللسان من مخرج النون.
(ب) الطاء والدال والتاء:
قال سيبويه: «ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج الطاء والدال والتاء» (3). وقد حافظ علماء التجويد على عبارة سيبويه (4)، مع بعض الإضافات التوضيحية، التي تتلخص في قول الداني: «فالطاء والتاء والدال من مخرج واحد، وهو بين طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، مصعدا إلى الحنك» (5) وذهب ابن الحاجب إلى أن «قوله (وأصول الثنايا) ليس بحتم، بل قد يكون ذلك من أصول الثنايا ويكون مما بعد أصولها قليلا، مع سلامة الطبع من التكلف» (6).
وأتى محمد المرعشي ببعض التحقيقات الدقيقة في تحديد مخرج الأصوات الثلاثة، منها أنه قسّم مخرجها إلى ثلاثة مخارج جزئية، على حسب النظرية القائلة إن أصوات المخرج الواحد تتمايز في موضعها تبعا للجهر والهمس والإطباق والانفتاح، فقال: «فظهر أن أصليهما ينقسمان إلى ثلاثة مواضع: فما يلي اللثة منها يخرج منه الطاء، ومن بعيده الدال، ومن بعيده
__________
(1) جهد المقل 8ظ.
(2) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 64. وجان كانتينو: دروس ص 23، وكمال محمد بشر:
الأصوات ص 112.
(3) الكتاب 4/ 433.
(4) انظر: مكي: الرعاية ص 172. والداني: الإدغام الكبير 11ظ. والمرادي: المفيد 101و.
(5) التحديد 16ظ. وانظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 152ظ.
(6) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 481. وانظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 5.(1/179)
التاء. فالمراد من أصليهما ليس أقصى نهايتهما من جانب اللثة لاستحالة الانقسام حينئذ بل المراد ما يلي اللثة من نصفيهما، والله أعلم» (1).
وكان الخليل بن أحمد قد وصف الحروف الثلاثة بأنها نطعية، حيث قال: «والطاء والتاء والدال نطعية، لأن مبدأها من نطع الغار الأعلى» (2). والنّطع «ما ظهر من غار الفم الأعلى، وهي الجلدة الملتزقة بعظم الخليقاء، فيها آثار كالتحزيز، وهناك موقع اللسان في الحنك» (3).
وقد حمل علي القاري هذه التسمية على المجاورة لا على أن النطع موضع خروجها، فقال:
«ويقال لهذه الحروف الثلاثة نطعية، لخروجها من نطع الغار الأعلى، أي سقفه، والغار داخل الحنك. والتحقيق أنها إنما سميت نطعية لمجاورة مخرجها نطع الغار الأعلى، وهو سقفه، لا لخروجها منه، فتأمل يظهر لك وجه الخلل» (4). على أن الخليل قال (لأن مبدأها) ولم يقل (لخروجها). وظاهر كلام العلماء يقتضي نفي أن يكون مبدؤها نطع الغار الأعلى، لأنها تتكون من نقطة تتحدد بالتقاء طرف اللسان بأصول الثنايا، وأصول الثنايا بعيدة من نطع الغار الأعلى.
أما عبارة المحدثين من علماء الأصوات عن مخارج هذه الحروف الثلاثة فتتراوح بين المحافظة على عبارة سيبويه وهي «التقاء طرف اللسان بأصول الثنايا العليا» (5)، والقول بأنها تخرج «عند نقطة التقاء طرف اللسان بأصول الثنايا العليا ومقدم اللثة» (6). وقال بعضهم:
«بوضع طرف اللسان على الثنايا العليا أو على مغارزها» (7). ومؤدى ما ذهب إليه المحدثون لا يختلف عما أخذ به علماء العربية وعلماء التجويد.
(ج) الصاد والزاي والسين:
قال سيبويه: «ومما بين طرف اللسان وفويق الثنايا مخرج الزاي والسين والصاد» (8).
__________
(1) جهد المقل 8ظ.
(2) العين 1/ 58.
(3) ابن منظور: لسان العرب 10/ 235 (نطع).
(4) المنح الفكرية ص 12، وانظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 108، وتمام حسان: مناهج البحث ص 86.
(5) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 48، ومحمود السعران: علم اللغة ص 168.
(6) كمال محمد بشر: الأصوات ص 129. وانظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(7) جان كانتينو: دروس ص 23.
(8) الكتاب 4/ 433.(1/180)
ولم يصف سيبويه الثنايا في هذا الموضع ولا في غيره، فلم يقل العليا ولا السفلى (1). وحاول العلماء الذين جاءوا بعد سيبويه أن يحددوا مراد سيبويه من قوله: «فويق الثنايا)، فكانت لدينا هذه المذاهب.
(1) فويق الثنايا فويق الثنايا السفلى، قال أبو القاسم الزجاجي (عبد الرحمن بن إسحاق ت 337): «ومما بين طرف اللسان وفويق الثنايا السفلى مخرج الزاي والسين والصاد» (2). وذهب هذا المذهب عدد من علماء التجويد (3).
(2) وذهب بعض علماء التجويد إلى تخصيص الثنايا بقولهم (العليا) لكنهم لم يستخدموا حينئذ كلمة (فويق). قال الداني: «والصاد والزاي والسين من مخرج واحد، [وهي الفرجة التي] (4) بين طرف اللسان والثنايا العليا» (5) لكن الداني قال في كتاب (الإدغام الكبير):
«والصاد والسين والزاي من مخرج واحد، وهو طرف اللسان وأصول الثنايا السفلى» (6). وقوله (أصول الثنايا السفلى) غريب جدا، لأن الذين استخدموا كلمة (السفلى) يقولون (فويق الثنايا السفلى). وذهب ابن الطحان مذهبا قريبا من مذهب الداني الأول فقال: «ومن طرفه وما يليه من الشق بين الثنيتين العليين تخرج الصاد والسين والزاي» (7).
(3) ذهب بعض شراح الشاطبية مذهبا أقرب إلى المذهب السابق، لكنه أكثر تحديدا فقال: «ومن طرف اللسان ومن بين الثنايا لا أصولها ولا أطرافها ثلاثة أحرف، وهي الصاد والسين المهملتان والزاي» (8).
ولم يتفق دارسو الأصوات العربية من المحدثين على تحديد الموضع الذي يعتمد عليه طرف اللسان في أثناء النطق بهذه الأصوات، وتفاوتت عبارتهم عن ذلك على هذا النحو:
__________
(1) أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 6. ونستدرك من ذلك وصف سيبويه لمخرج الفاء فقد قال فيه: (أطراف الثنايا العلى) (الكتاب 4/ 433).
(2) الجمل ص 377.
(3) انظر مكي: الرعاية ص 183. والكشف (له) 1/ 139. وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 152ظ.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من بعض نسخ كتاب (التحديد) حسبما أشير إلى ذلك في هامش النسخة المخطوطة التي نعتمد عليها.
(5) التحديد 16ظ. وانظر المرعشي: جهد المقل 9و.
(6) الإدغام الكبير 11ظ 12و.
(7) مرشد القارئ 129و.
(8) انظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 5. والحسيني كاشف المعاني 182و.(1/181)
1 - يعتمد طرف اللسان على اللثة (1).
2 - يعتمد طرف اللسان خلف الأسنان العليا مع التقاء مقدمه باللثة العليا (2).
3 - التقاء طرف اللسان بالثنايا السفلى أو العليا (3).
ولعل محمد المرعشي كان أكثر العلماء المشتغلين بهذا العلم دقة في التعبير عن مخرج هذه الحروف الثلاثة وتوضيح علاقة طرف اللسان بالثنايا العليا والسفلى أثناء النطق بها. فقال في تحديد مخرجها: «ما بين رأس اللسان وبين صفحتي الثنيتين العليين، أعني صفحتيهما الداخلتين، يخرج منه الصاد فالسين فالزاي، ولا يتصل رأس اللسان بالصفحتين بل يسامتهما» (4).
وتحدث عن دور الثنايا السفلى في نطق الأصوات الثلاثة فقال: «وفي بعض الرسائل أن هذه الثلاثة تخرج من بين رأس اللسان وبين فويق الثنيتين السفليين، وفيه إشكال، لأن المخرج ما ينقطع الصوت فيه، ولا يجري صوت هذه الثلاثة بين رأس اللسان وبين فويق الثنيتين السفليين حتى يتصور انقطاعه فيه، بل يجري بين رأس اللسان وبين صفحتي الثنيتين العليين وينقطع فيه، كما يشهد به الامتحان الصادق. نعم رأس اللسان يسامت رأسي الثنيتين السفليين، لكن المسامتة لا يتحقق بها المخرج ما لم ينقطع الصوت بين المسامتين» (5).
ونلاحظ اختلافا في ترتيب هذه الحروف الثلاثة عند تحديد مخرجها، عكس الثلاثة التي سبقتها، ويمكن أن نجد عددا من العلماء ساروا على الترتيب الذي يناسب ما سبق بيانه حول ترتيب الحروف التي من مخرج واحد، وهو (ص ز س) (6).
(د) الظاء والذال والثاء:
قال سيبويه: «ومما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا مخرج الظاء والذال
__________
(1) محمود السعران: علم اللغة ص 191.
(2) كمال محمد بشر: الأصوات ص 153. وانظر أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 77.
(4) جهد المقل 9و.
(5) جهد المقل 9و.
(6) انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 53. والداني: التحديد 16ظ. وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72ظ. وابن عصفور: المقرب 2/ 5. والأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 250و 253. والمرعشي:
بيان جهد المقل 11ظ.(1/182)
والثاء» (1). وقد ذهب أكثر علماء التجويد في تخصيص الثنايا (بالعليا) (2). وقال بعضهم «أطراف الثنايا علياها وسفلاها» (3). وقال آخر: «من طرف اللسان وأطراف الأسنان» (4). وكل ذلك صحيح، فالمخرج بين طرف اللسان وبين أطراف الثنيتين العليين، ويستند طرف اللسان في الوقت نفسه على أطراف الثنيتين السفليين.
ولم يبتعد دارسو الأصوات العربية من المحدثين عن عبارات المتقدمين في تحديد مخرج الحروف الثلاثة فقالوا:
1 «يوضع طرف اللسان بين أطراف الثنايا» (5).
2 «بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا» (6).
3 «وضع طرف اللسان بين الأسنان العليا والسفلى» (7). أو «بين أطراف الثنايا العليا والسفلى» (8).
وناقش علماء التجويد مقدار تقدم طرف اللسان بين أطراف الثنايا، فأجمعوا على التحذير من المبالغة في خروج طرف اللسان، فقال ابن البناء: «وليحذر أن يخرج طرف لسانه بالذال والظاء والثاء إخراج ظهور، بل بطرف ويمضي لسانه» (9). وقال أحمد بن أبي عمر:
«واحذر أن تخرج طرف لسانك بالذال والظاء والثاء» (10). وقال محمد المرعشي: «وفي بعض الرسائل أن رأس اللسان يجاوز رأسي الثنيتين قليلا إلى جهة الخارج في هذه الحروف. أقول:
__________
(1) الكتاب 4/ 433.
(2) مكي: الرعاية ص 194، والداني: التحديد 16ظ، والإدغام الكبير (له) 11ظ. وعبد الوهاب القرطبي:
الموضح 152ظ. والفخر الموصلي: الدر الموصوف 169ظ. والمرعشي: جهد المقل 9و.
(3) ابن الطحان: مرشد القارئ 129و. وقد نسبه أبو شامة في إبراز المعاني (باب مخارج الحروف ص 5) إلى مكي، لكني وجدت مكيا يذهب إلى غير ذلك في كتابيه: الرعاية والكشف.
(4) أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72ظ.
(5) محمود السعران: علم اللغة ص 190.
(6) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 47، وانظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(7) جان كانتينو: دروس ص 22.
(8) كمال محمد بشر: الأصوات ص 152.
(9) بيان العيوب 176ظ 177و.
(10) الإيضاح 70ظ.(1/183)
ذلك غير ظاهر في الظاء» (1). وإفراد المرعشي الظاء عن الذال والثاء مبني على أساس أن الظاء مطبق يتراجع اللسان في أثناء النطق به إلى الوراء قليلا. وهذه الظاهرة هي نفسها التي جعلت المرعشي يقدم الظاء في ترتيب هذه الحروف الثلاثة، على نحو ما أشرنا إلى ذلك في أثناء الكلام على مخارج حروف الحلق.
وكان الخليل بن أحمد قد وصف هذه الحروف الثلاثة بأنها لثوية، حيث قال: «والظاء والذال والثاء لثوية، لأن مبدأها من اللثة» (2). وقد أنكر بعض الدارسين المحدثين هذه التسمية، لأن اللثة لا تقوم معها بأي دور (3) وكان المرعشي قد تشكك قبل ذلك في دقة وصف الأصوات الثلاثة بكونها (لثوية). فقال: «وفي الرعاية أن هذه الثلاثة تسمى لثوية لخروجهن من اللثة. قيل: فيه مسامحة» (4) ومعنى المسامحة عند المرعشي هي: «اختيار العبارة السهلة الموجزة، وإن خفي معناها» (5).
ولا شك في أن مخارج حروف طرف اللسان متداخلة جدا لا سيما (ط د ت) و (ص ز س)، وقد حاول بعض علماء العربية والتجويد وضع حدود فاصلة بين مخارج هذه الأصوات.
فقال ابن الحاجب في الزاي وأختيها: «وهي تفارق مخرج الطاء وأختيها، لأنها بعد أصول الثنايا أو (بعدها) بعد أصولها. وتفارق الظاء وأختيها، لأنها قبل أطراف الثنايا. وقال غيره:
هي متجافية قليلا من مخرج الظاء بحيث لا يلصق اللسان بالثنايا عند إخراجها» (6).
6 - حروف الشفتين:
قال مكي: «وأما حروف الشفتين فأربعة: الفاء مفردة، ثم الباء والميم والواو أخوات» (7) وقال الداني: «وللشفة مخرجان وأربعة أحرف، وهي الفاء والباء والواو
__________
(1) جهد المقل 9ظ، وانظر: بيان جهد المقل 11ظ.
(2) العين 1/ 58.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 109.
(4) جهد المقل 9و.
(5) بيان جهد المقل 2و.
(6) أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 65، وابن الحاجب: الإيضاح شرح المفصل 2/ 282281. وكلمة (بعدها) ساقطة من الإيضاح.
(7) الكشف 1/ 139.(1/184)
والميم» (1).
(أ) الفاء:
قال سيبويه: «من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلى مخرج الفاء» (2). ولم تتغير عبارة سيبويه في تحديد مخرج الفاء لا عند علماء العربية (3)، ولا عند علماء التجويد (4)، ولا عند المحدثين من دارسي الأصوات العربية (5).
وضم الفاء إلى الباء والميم والواو والتعبير عنها باسم حروف الشفتين هو مذهب كثير من علماء التجويد، لكن الفاء في الواقع لا تشترك إلا الشفة السفلى في مخرجها. وقد لاحظ ذلك الحسيني (أبو الفضائل عباد بن أحمد بن إسماعيل، كان حيا سنة 704هـ) واقترح أن تكون الفاء قسما بذاتها فقال عن الفاء: إنها «تحتمل أن تكون من حروف الفم وأن تكون من حروف الشفة، لأن مخرجها باشتراكهما. والأولى أن تكون قسما برأسها» (6). وعلى هذا الأساس وصف المحدثون الفاء بأنها صوت أسناني شفوي (7).
(ب) الباء والميم والواو:
قال سيبويه: «ومما بين الشفتين مخرج الباء، والميم، والواو» (8).
وقد ردد بعض علماء التجويد عبارة سيبويه من غير زيادة (9) وحاول بعضهم توضيح حالة الشفتين مع كل حرف من الحروف الثلاثة. فقال الداني: «غير أن الشفتين تنطبقان في
__________
(1) التحديد 17و. وانظر: الإدغام الكبير (له) 23و. وابن الطحان: مرشد القارئ 129و.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 53. وابن يعيش: شرح المفصل 10/ 124و 125.
(4) مكي: الرعاية ص 201، والداني: التحديد 17و. وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 152ظ. وقال المرعشي (بيان جهد المقل 11ظ): «الملابس لباطن الشفة السفلى في الفاء ليس رأسي الثنيتين فقط».
(5) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 46. وجان كانتينو: دروس ص 22. ومحمود السعران: علم اللغة ص 189. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 151. وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 269.
(6) كاشف المعاني 182و. وانظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 6.
(7) محمود السعران: علم اللغة ص 199. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 151.
(8) الكتاب 4/ 433.
(9) الداني: الإدغام الكبير 23و. وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 72و، والمرادي: المفيد 101و.(1/185)
الباء والميم، ولا تنطبقان في الواو بل تنفصلان» (1). وقال علي القاري: «إلا أن الواو بانفتاح، والباء والميم بانطباق» (2). وعلق المرعشي على قول علي القاري فقال: «المراد من انفتاحهما في الواو انفتاحهما قليلا، وإلا فهما ينضمان في الواو، ولكن لا يصل انضمامهما إلى حد الانطباق» (3).
ونص بعض علماء التجويد على أن الواو المذكورة هنا يقصد بها غير المدية، بناء على مذهبهم في إفراد حروف المد بمخرج مستقل هو الجوف، وتخصيصهم حروف اللين بمخارج محددة، من الشفتين في الواو، ومن وسط اللسان في الياء (4).
ورتب محمد المرعشي الحروف الثلاثة على هذا النسق (ب م و)، وعلل ذلك بقوله:
«ولعل وجه الترتيب هنا أن لكل من الشفتين طرفين، طرف منه يلي داخل الفم، والآخر يلي البشرة. فالمنطبق في الباء طرفاهما اللذان يليان داخل الفم، والمنضم في الواو طرفاهما اللذان يليان البشرة. والمنطبق في الميم وسطهما» (5).
ولاحظ بعض علماء التجويد أن انطباق الشفتين مع الباء أقوى من انطباقهما مع الميم (6). وعلل المرعشي ذلك بقوله: «والظاهر أن سببه عدم احتباس النّفس في الميم، بل جريانه في الخيشوم، بخلاف الباء، وعدم احتباس النّفس عند الاعتماد على مخرج الحرف يوهن الاعتماد» (7).
وذكر أبو حيان الأندلسي أن المهدوي (أبا العباس أحمد بن عمارت بعد 430هـ) فصل الواو من الباء والميم، وجعل لها مخرجا على حدة، هو السادس عشر عنده، وقال: الواو تهوي حتى تنقطع إلى مخرج الألف (8).
__________
(1) التحديد 17و. وانظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 129و.
(2) المنح الفكرية ص 13.
(3) جهد المقل 9ظ.
(4) انظر: ابن الجزري: النشر 1/ 201. وعلي القاري: المنح الفكرية ص 13، والمرعشي: جهد المقل 9و.
(5) جهد المقل 9ظ.
(6) علي القاري: المنح الفكرية ص 13.
(7) بيان جهد المقل 11ظ.
(8) ارتشاف الضرب ص 3. وانظر: المرادي: شرح التسهيل 304و. والسيوطي: همع الهوامع 6/ 294.(1/186)
ولاحظ دارسو الأصوات من المحدثين أن أقصى اللسان يقترب من أقصى الحنك عند النطق بالواو، ومن ثم ذهب بعضهم إلى القول بأن الوصف الأدق أن يقال: إن الواو من أقصى الحنك (1)، أو أنه شفوي حنكي قصي (2). ومن المحتمل أن يكون قول المهدوي السابق (الواو تهوي) تعبيرا عن إحساسه بارتفاع أقصى اللسان عند النطق بها.
وتحديد سيبويه وغيره لمخرج الواو بأنه من الشفتين ليس خطأ، لأن للشفتين دخلا كبيرا في نطق هذا الصوت (3). ولعل وضوح استدارة الشفتين مع الواو وكون اللسان لا يقترب من الحنك بصورة واضحة هو الذي جعل القدماء ينسبون مخرج الواو إلى الشفتين (4). وهو الذي جعل بعض المحدثين يتخذون نفس الموقف من الواو أيضا (5).
7 - الخياشيم:
قال سيبويه: «ومن الخياشيم مخرج النون الخفيفة» (6).
كانت عبارة سيبويه هذه مثار نقاش بين العلماء، يدور حول المقصود بالنون الخفيفة، وحول تخصيص مخرج مستقل لهذه النون.
أما المقصود بالنون الخفيفة فقد قال أبو سعيد السيرافي: «يجب أن تكون الخفية لأن التفسير يدل عليه» (7). ومن هنا وجدنا بعض علماء العربية يقول: «النون الخفية، ويقال الخفيفة» (8). ثم وجدنا من يقول: «ومن الخياشيم مخرج النون الخفية» (9).
وقد عدّ سيبويه هذه النون أحد الحروف الفرعية المستحسنة (10). وتتضح حقيقة هذه
__________
(1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 43. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 112.
(2) محمود السعران: علم اللغة ص 198.
(3) كمال محمد بشر: الأصوات ص 112.
(4) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 43، وحسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 311310.
(5) جان كانتينو: دروس ص 22.
(6) الكتاب 4/ 434.
(7) شرح كتاب سيبويه 6/ 443، وانظر: القرطبي: الموضح 153ظ.
(8) ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 51و 53.
(9) ابن عصفور: المقرب 2/ 6.
(10) الكتاب 4/ 432.(1/187)
النون من خلال معرفة مخرج النون الأصلية، التي ذكرنا مخرجها عند الكلام على مخارج حروف طرف اللسان، حيث يعتمد طرف اللسان على ما فويق الثنايا فيسد طريق الهواء من الفم، وينخفض الحنك اللين بما في ذلك اللهاة فيندفع الهواء من الخيشوم، فالنون يعتمد لها في الفم ويخرج الصوت (النّفس) من الأنف، وهذا الصوت الخارج من الخيشوم يسمى (غنة) (1). ومن هنا قال بعض علماء العربية وعلماء التجويد أن النون والميم لهما مخرجان:
أحدهما في الفم وهو معتمد اللسان والشفتين، والآخر في الخيشوم وهو مجرى الغنة (2).
وقد قال مكي في توضيح هذه النون: «إن النون الساكنة مخرجها من طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا، ومعها غنة تخرج من الخياشيم، فإذا أخفيتها عند ما بعدها صار مخرجها من الخياشيم لا غير، فتذهب النون عند الإخفاء، وتبقى الغنة من الخياشيم ظاهرة وتبين أن النون الخفية هي الغنة، والنون المدغمة والمظهرة هي غير الغنة، والغنة تابعة لها. فإذا قلت (عنك ومنك) فمخرج هذه النون من الخياشيم لا غير، لأنها مخفاة عند الكاف، باقية غنتها ظاهرة. وإذا قلت: (منه وعنه) فمخرج هذه النون من طرف اللسان، ومعها غنة تخرج من الخياشيم لأنها غير مخفاة والغنة ظاهرة» (3).
وقال عبد الوهاب القرطبي في ذلك أيضا: «وإنما تكون هذه النون من الخيشوم مع خمسة عشر حرفا من حروف الفم: القاف والكاف والجيم والشين والضاد والصاد والسين والزاي والطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء والفاء. فهي متى سكنت وجاء بعدها حرف من هذه الحروف فمخرجها الخيشوم، لا علاج على الفم في إخراجها» (4).
وإذ قد اتضح المقصود بالنون الخفيفة (الخفية) فهل هي متميزة عن النون الأصلية إلى الحد الذي يمكن معه إفرادها في مخرج مستقل على نحو ما فعله سيبويه وتابعه جمهور علماء العربية وعلماء التجويد عليه؟.
أما من الناحية الصوتية المحضة فإن هناك تباينا بين النون الأصلية وبين الخفية (الفرعية)
__________
(1) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 435، والمبرد: المقتضب 1/ 194، وابن يعيش: شرح المفصل 10/ 144. وانظر: مكي: الرعاية ص 241، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 171و.
(2) مكي: الكشف 1/ 146، وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73و. والأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 271، والمرعشي: بيان جهد المقل 12ظ.
(3) الرعاية ص 242241، وانظر: الكشف (له) 1/ 164و 167.
(4) الموضح 153ظ. وانظر: الداني: التحديد 17و.(1/188)
فتلك لها مخرجان، معتمد اللسان في الفم، ومجرى الصوت من الأنف، وهذه يزول معتمد اللسان معها ليلحق بمخرج الحرف الذي يليها، ولا يبقى معها إلا صوت الخياشيم، وهو الغنة، وهذا هو السر في تخصيص مخرج مستقل لها.
وأما من ناحية الوظيفة (الدلالة على تغيير المعاني) فإن النون الخفية ما هي إلا النون الأصلية، عرض لها بسبب المجاورة للأصوات الأخرى في التركيب ما أثّر على بعض خصائصها الصوتية، ولكن دلالتها على المعنى لم تتغير، فإن الفعل (كان) لا تتغير دلالته عند ما يكون في سياق مثل (كنت أو كنتم) إلا بقدر ما يجلبه الإسناد من معنى جديد، على الرغم من أن النون هنا صارت خفية (مخفاة) وهي في أصل الفعل (كان) مظهرة. ومن هذه الوجهة لا نجد ضرورة لإفراد النون الخفية بمخرج مستقل، كما أن كل الحروف الفرعية الأخرى لم تفرد بمخارج مستقلة.
وكان ابن الطحان (عبد العزيز بن علي ت حوالي 560هـ) قد أهمل الإشارة إلى هذا المخرج، وعد المخارج خمسة عشر مخرجا (1). بينما سمى بعض علماء التجويد صوت هذا المخرج (الغنة) بدل (النون الخفية)، قال ابن الجزري في «النشر»: «المخرج السابع عشر:
الخيشوم، وهو للغنة» (2). وقال في المقدمة: (وغنة مخرجها الخيشوم) (3). والغنة صفة لازمة للنون والميم تحركتا أو سكنتا، ظاهرتين أو مخفاتين أو مدغمتين (4). ومن ثمّ قيل «كان ينبغي له أن يذكر عوضها مخرج النون المخفاة، فإن مخرجها من الخيشوم، وهي بخلاف الغنة» (5).
وكان البقري (محمد بن القاسم بن إسماعيل ت 1111هـ) قد تابع ابن الجزري فذكر في المخرج الأخير الخيشوم وقال: «تخرج منه الغنة»، وأضاف: «وبعضهم أنكر هذا المخرج الأخير وجعله صفة من الصفات، والجمهور يعدونه من المخارج، ولا ينظرون إلى ذلك القائل» (6). والحق أنه لا مكان لذكر الغنة هنا إلا إذا أريد بها النون المخفاة.
وقال بعض المحدثين معلّقا على ذكر ابن جني لمخرج النون المخفاة: «وهذا مخرج
__________
(1) مرشد القارئ 128ظ.
(2) النشر 1/ 201.
(3) متن الجزرية ص 11.
(4) أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 47ظ، وعبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 43و.
(5) أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 16ظ.
(6) غنية الطالبين ص 9.(1/189)
إضافي ذكره ابن جني (وغيره) لنوع من النون، ويمكن الاستغناء عن هذا المخرج والاكتفاء بالمخرج رقم (9) في تقسيم ابن جني، فهذا بالمخرج الأخير يعد مخرج النوع الرئيسي للنون» (1).
8 - حروف الجوف:
أفرد علماء التجويد المتأخرين مخرج الجوف، وجعلوه خاصا بحروف المد الثلاثة، الألف والواو الساكنة المضموم ما قبلها والياء الساكنة المكسورة ما قبلها (2). أما علماء التجويد المتقدمون فإنهم سلكوا مسلك سيبويه الذي جعل الألف من مخرج الهمزة، والواو والياء المديين من مخرجيهما غير مديين (3).
وقال علماء التجويد إن مخرج حروف المد، وهو الجوف، مخرج مقدّر لا محقّق، قال المرعشي: «وبالجملة إن حروف المد لمّا لم تنقطع أصواتها في موضع لم يكن لها مخرج محقق بل قدروا لها جوف الحلق والفم مخرجا» (4).
وأصل فكرة تخصيص مخرج مستقل لحروف المد ترجع إلى ما ذكره الخليل بن أحمد من وصفه لهذه الحروف بأنها هوائية (5). لكن علماء التجويد أخرجوا الهمزة من الحروف الهوائية لأنهن أصوات لا يعتمدن على مكان حتى يتصلن بالهواء بخلاف الهمزة (6). فحروف المد حروف ذائبة والهمزة من الحروف الجامدة.
ومع أن علماء التجويد جمعوا حروف المد الثلاثة في مخرج مقدر واحد إلا أنهم كانوا مدركين للصفات الدقيقة التي يتميز بها كل صوت، فقالوا: إن الذي ميّز بين الثلاثة هو تصعد الألف وتسفل الياء واعتراض الواو (7).
ويتميز هذا المخرج عن جميع المخارج السابقة بأنه خاص بالحروف التي سماها بعض
__________
(1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 117. وانظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 53.
(2) انظر: ابن الجزري: النشر 1/ 199. وعلي القاري: المنح الفكرية ص 11، والمرعشي: جهد المقل 10و.
(3) الداني: التحديد 16ظ، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 152و. والمرادي: المفيد 101و.
(4) جهد المقل 6ظ.
(5) العين 1/ 58.
(6) ابن الجزري: النشر 1/ 199.
(7) انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 9.(1/190)
علماء التجويد بالذوائب، بينما بقية المخارج خاصة بالجوامد، وسوف نقف وقفة أطول عند هذا المخرج وكل ما يتعلق بمخارج الحروف الذوائب (حروف المد الثلاثة والحركات الضمة والفتحة والكسرة) في مبحث لا حق إن شاء الله.
* * * وغاية القول في مخارج الحروف عند علماء التجويد أن كلامهم عنها جاء مؤكدا لما قرره سيبويه من قبل، وتابعه عليه علماء العربية. وقد استطاع علماء التجويد تحقيق بعض النتائج الجديدة وتوضيح بعض الحقائق السابقة في دراسة مخارج الحروف.
وقد عني بعض علماء التجويد بترتيب الحروف ترتيبا صوتيا بحسب تدرج المخارج، وقد ذكر محمد المرعشي الاتجاهات المعروفة لترتيب الحروف العربية فقال: «وللحروف العربية ثلاثة ترتيبات:
الأول: ترتيب أهل اللغة، وهو أب ت ث ج ح خ د ذ ر ينتهي إلى ي. وهذا هو الذي يعلم به الصبيان.
والثاني: ترتيب أهل الأداء، وهو الترتيب بحسب المخارج، كما سيأتي.
والثالث: ترتيب أهل الحساب، وهو الترتيب بحسب جعل الحروف إشارة إلى الأعداد، وهو ترتيب أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ» (1).
وقول المرعشي (ترتيب أهل الأداء) وهو الترتيب الصوتي بحسب المخارج لا يعني أن أهل الأداء، وهم علماء التجويد، هم أول من وضعه، فهذا الترتيب قديم يرجع إلى كتاب العين للخليل بن أحمد، الذي رتب معجمه على أساس ترتيب الحروف تبعا لترتيبها الصوتي (2). وكذلك فعل سيبويه في باب الإدغام حيث أورد الحروف العربية مرتبة ترتيبا صوتيا مخرجيا (3).
وسار علماء التجويد على ترتيب سيبويه للحروف. وردد بعضهم مقالة ابن جني في ترتيب الحروف الوارد في كتاب العين حيث قال بعد أن ذكر ترتيب سيبويه: «فهذا هو ترتيب الحروف على مذاقها وتصعدها، وهو الصحيح. فأما ترتيبها في كتاب العين ففيه خطل
__________
(1) بيان جهد المقل 6ظ.
(2) العين 1/ 58. وانظر: الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 41.
(3) الكتاب 4/ 431.(1/191)
واضطراب، ومخالفة لما قدمناه آنفا، مما رتبه سيبويه، وتلاه أصحابه عليه، وهو الصواب الذي يشهد التأمل له بصحته» (1).
وقول ابن جني عن ترتيب كتاب العين (فيه خطل واضطراب) لا يخلو من مبالغة، فالواقع أن ذلك الترتيب يوافق ترتيب سيبويه في الكثير، ويخالفه في القليل، وبعض تلك المخالفات مبني على وجهات نظر معينة، لا أنه خطأ محض، وليس من غرضنا الدخول في تفصيلات هذا الموضوع، لأن ذلك يخرج بنا عن غرضنا في تتبع آراء علماء التجويد خاصة.
وهناك قضية تتعلق بترتيب سيبويه للحروف فقد ورد ذكر الضاد قبل حروف وسط اللسان (ج ش ي) ويبدو لي أن الأمر لا يخلو من احتمال تصحيف النساخ لأن سيبويه حين ذكر المخارج أورد الضاد بعد الياء (2). كما أن الذين نقلوا ترتيبه للحروف من علماء العربية وعلماء التجويد جعلوا ترتيب هذه الحروف على هذا النسق (ج ش ي ض) (3).
والمخارج الأساسية عند علماء التجويد خمسة عشر مخرجا وهناك مخرج إضافي للنون الخفية، وهو يرتبط على نحو وثيق بمخرج النون الأصلية وكل هذه المخارج خاص بالأصوات الجامدة. أما الأصوات الذائبة فقد أفرد لها بعض علماء التجويد وعلماء العربية مخرجا مستقلا وهو الجوف.
ولا يزال هذا التوزيع لمخارج الحروف العربية هو الطريق الأمثل، فيما نرى، الذي يناسب الدرس الصوتي العربي، ولا نجد ضرورة علمية تقتضي إعادة توزيع الحروف العربية بحيث ينخفض عدد المخارج إلى تسعة (4)، أو عشرة (5)، أو أحد عشر مخرجا (6). كما ذهب إلى ذلك بعض المحدثين مقلدين فيما يبدو وجهات نظر الدرس الصوتي الأوربي.
ولا يعدو ما نجده من اختلاف بين عبارة المحدثين وعبارة علماء التجويد في تحديد مخارج الحروف أن يكون اختلافا في الاصطلاح وطريقة التعبير أكثر من كونه اختلافا في
__________
(1) سر صناعة الإعراب 1/ 5150. وانظر: القرطبي: الموضح 153و.
(2) انظر: الكتاب 4/ 431و 433.
(3) انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 50، والقرطبي: الموضح 152و.
(4) جان كانتينو: دروس ص 2322.
(5) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 8584.
(6) محمود السعران: علم اللغة ص 200199، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 113112، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 273269.(1/192)
حقيقة الموضوع، فإذا وصف المحدثون الهمزة بأنها صوت (حنجري) (1)، فإن ذلك لا يناقض قول علماء التجويد أن الهمزة من أقصى الحلق، وذلك لأنهم يعبرون عن الحنجرة بأقصى الحلق. «وعلى هذا فلا خلاف في وصف مخرج الهمزة» (2).
ومن ذلك أن بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين ينسبون مخرج الصوت إلى نقطة معينة من الحنك الأعلى (سقف الفم)، بينا ينسبه علماء التجويد إلى جزء اللسان الذي يشترك في إنتاج الصوت، فإذا قال علماء التجويد إن مخرج الكاف من أقصى اللسان مع ما يليه من الحنك الأعلى، وقال بعض الدارسين المحدثين إن الكاف (حنكي قصي) (3)، فإن ذلك لا يمثل اختلافا جوهريا بين علماء التجويد ودارسي الأصوات من المحدثين، وإنما هو اختلاف في المصطلح وطريقة التعبير. فهو إذن اختلاف لفظي ليس له تعلق باختلاف المعنى أو الفكرة التي يراد التعبير عنها، لأن مخرج الصوت يشترك فيه غالبا عضوان، وتكون نسبته إلى أحدهما كنسبته إلى الآخر.
ومن ذلك أيضا أن بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين يقسمون الحنك الأعلى أقساما ويطلقون على كل قسم اسما معينا، بدلا من تقسيمه إلى مقدم الحنك ووسطه وأقصاه، فيسمون الجزء الصلب الذي يلي اللثة باسم (الغار). ويسمون الجزء الرخو الذي في مؤخرة سقف الفم باسم (الطبق) (4). فإذا وصف هؤلاء مخرج صوت الكاف مثلا قالوا بأنه (طبقي) (5). وهذا الوصف يطابق قول الفريق السابق من المحدثين من قوله إن الكاف (حنك قصي)، وكذلك هو يطابق قول علماء التجويد: إن الكاف من أقصى اللسان مع ما يليه من الحنك. وهذا مثال يوضح لنا حقيقة الاختلاف بين القدماء والمحدثين، وكذلك يكشف لنا عن أن المحدثين لم يتفقوا على صيغة معينة للتعبير عن المخارج. وهو أمر لا يغض من قيمة جهود هؤلاء كما أنه لا يغض من قيمة جهود أولئك. فلكلّ الأساس الذي اعتمد عليه في وجهته.
ونحن لا نجد في ختام كلامنا عن مخارج الأصوات كلمة تعبر عن تقديرنا لجهود علماء
__________
(1) محمود السعران: علم اللغة ص 171.
(2) حسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 304.
(3) محمود السعران: علم اللغة ص 169و 200. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 138.
(4) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 85، أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 8584.
(5) انظر المصدرين السابقين ص 95وص 271على التوالي السابق.(1/193)
التجويد في دراسة الموضوع مثل كلمة الدكتور كمال محمد بشر التي قالها في تقدير جهود ابن جني في دراسة مخارج الحروف، مع العلم أن ابن جني اعتمد على سيبويه بشكل يكاد يكون تاما، بينما استطاع علماء التجويد أن يضيفوا شيئا إلى ما قاله سيبويه، يقول: «والحق إن النتائج التي وصل إليها هذا العالم في هذا الوقت الذي كان يعيش فيه لتعدّ مفخرة له ولمفكري العرب في هذا الموضوع. ومما يؤكد براعتهم ونبوغهم في هذا العلم أنهم قد توصلوا إلى ما توصلوا إليه من حقائق مدهشة دون الاستعانة بأي أجهزة أو آلات تعينهم على البحث والدراسة كما نفعل نحن اليوم» (1).
* * * __________
(1) الأصوات ص 120.(1/194)
المبحث الخامس تصنيف الأصوات الجامدة بحسب الصفات
إنّ تحديد مخارج الحروف وحده ليس كافيا في توضيح الخصائص الصوتية التي يتميز بها كل صوت بما يجعل جرسه متميزا في السمع عن غيره. فقد لاحظنا في المبحث السابق أن كثيرا من الحروف تشارك غيرها في المخرج، فنجد الحرفين والثلاثة تخرج من مخرج واحد، ولولا الكيفيات التي تصاحب إنتاج كل صوت لما تميزت تلك الحروف المشتركة في مخرج واحد، وهذه الكيفيات التي تصاحب حدوث الحرف في مخرجه هي التي سمّاها علماء العربية وعلماء التجويد بصفات الحروف.
إن تحديد مخارج الأصوات جانب واحد من عملية مركبة لها جوانب أخرى يتشكل منها الصوت اللغوي، وذلك أن إنتاج أي صوت من الأصوات يعتمد على ثلاثة أمور: «أولها:
الأعضاء التي تتدخل معترضة الهواء الخارج من الرئتين، وثانيها: الطريقة التي تتدخل بها هذه الأعضاء، وثالثها الجهر أو الهمس» (1). والأمر الأول من هذه الأمور الثلاثة هو الذي يعبر عنه علماء العربية وعلماء التجويد باسم (مخارج الحروف)، ويعبرون عن الأمرين الآخرين باسم صفات الحروف. وقد تحدثنا في المبحث السابق عن وجهة نظر علماء التجويد من تحديد مخارج الحروف.
وقد بيّن بعض علماء التجويد المقصود بصفات الحروف، فقال: «وصفة الحروف كيفية عارضة للحرف عند حصوله في المخرج، وتتميز بذلك الحروف المتحدة بعضها عن بعض» (2). وكان علماء التجويد مدركين أن صفة الصوت ليست شيئا منفصلا عن الصوت بل هي شيء أساسي لا ينفصل عن عملية تكونه في المخرج، فقد قال الداني: «اعلموا أن أصناف هذه الحروف التي تتميز بها بعد خروجها من مواضعها التي بيناها ستة عشر
__________
(1) عبد الرحمن أيوب: محاضرات في اللغة ص 94و 123. وانظر: جان كانتينو: دروس ص 22.
(2) طاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 11و.(1/195)
صنفا» (1). فلولا هذه الصفات إذن لم تتميز الحروف بعضها من بعض، لا سيما تلك التي تخرج من مخرج واحد.
وهناك قضيتان يلزم بيانهما في بداية الحديث عن صفات الحروف لدى علماء التجويد، الأولى: بيان عدد الصفات التي وضحها علماء التجويد، والثانية: توضيح الأسس التي يتم بموجبها تصنيف تلك الصفات.
1 - عدد الصفات التي وضحها علماء التجويد:
أما الصفات التي تحدث عنها علماء التجويد فقد كان لهم فيها اتجاهان أرساهما اثنان من كبار علماء التجويد من الرواد الأوائل الذين عاشوا في أواخر القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس، وهما مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) وأبو عمرو الداني (ت 444هـ).
أما مكي فإنه وصل بصفات الحروف وألقابها إلى أربعة وأربعين لقبا، حيث قال: «لم أزل أتتبع ألقاب الحروف التسعة والعشرين وصفاتها وعللها حتى وجدت من ذلك أربعة وأربعين لقبا صفات لها، وصفت بذلك على معان وعلل ظاهرة نذكرها مع كل قسم إن شاء الله تعالى، في أربعة وأربعين بابا» (2).
وليست جميع تلك الصفات والألقاب تمثل كيفيات نطقية تصاحب تكوّن الأصوات في مخارجها. فمن تلك الألقاب ما يشير إلى مخرج الحرف، مثل الألقاب التي لقب الخليل بها الحروف وهي: الحلقية واللهوية الشجرية والأسلية والنطعية واللثوية والذلقية والشفوية والجوفية والهوائية. ومن تلك الألقاب أيضا ما يعبر عن معنى صرفي يتعلق بالحرف، مثل:
الحروف الزوائد، والحروف الأصلية وحروف الإبدال وحروف العلة، فهذه الألقاب لا تمثل صفة صوتية، إنما تشير إلى خاصة صرفية.
ولم يتابع مكيا في مذهبه السابق في عدد صفات الحروف إلا قليل من العلماء (3). بينما وجه بعضهم النقد إليه، فقال الفخر الموصلي (ت 621هـ) بعد أن نقل في كتاب (الدر المرصوف) خمسة وعشرين لقبا من الألقاب التي ذكرها مكي: «وقد أعرضنا عن ذكر بقية
__________
(1) التحديد 17ظ. وانظر: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73و 73ظ.
(2) الرعاية ص 91. وقد استغرق ذكر تلك الصفات من كتاب الرعاية الصفحات 11692.
(3) نقل ابن الجزري في كتاب التمهيد في علم التجويد (ص 3022) نص كلام مكي، لكنه في كتابه النشر (1/ 205202) والمقدمة (ص 1411) لم يتابع مكيا في بيان الصفات.(1/196)
الألقاب إذ ليس فيها كبير فائدة» (1). وقال أبو عبد الله محمد بن الحسن الفاسي (ت 656هـ) بعد أن أشار إلى صفات الحروف: «وقد بالغ في ذلك أبو محمد مكي رحمه الله في كتاب الرعاية» (2). وقال محمد المرعشي: «اعلم أني لا أذكر في هذه الرسالة من الصفات المذكورة في الرعاية إلا ما اشتدت إليها حاجة التالي» (3). فكان مجموع ما ذكره ثماني عشرة صفة (4).
وأما أبو عمرو الداني فإنه اقتصر من صفات الحروف على ستة عشر صفة. وذلك حيث قال: «اعلموا أن أصناف هذه الحروف التي تتميز بها بعد خروجها من مواضعها التي بيناها ستة عشر صنفا: المهموسة، والمجهورة، والشديدة، والرخوة، والمطبقة، والمنفتحة، والمستعلية، والمستفلة، وحروف المد واللين، وحروف الصفير، والمتفشي، والمستطيل، والمتكرر، والمنحرف، والهاوي، وحرفا الغنة» (5).
والتزم معظم علماء التجويد في بحث صفات الحروف بما قرره الداني، ولم يخرجوا على ما ذكره إلا في قضايا جزئية. فنجد أبا العلاء الهمذاني العطار (ت 569هـ) يذهب إلى أن صفات الحروف ستة عشر صفة، ويسميها أجناس الحروف، فيذكر الصفات التي أوردها الداني، لكنه يضيف صفتين ويحذف صفتين، فأضاف: ما بين الشديد والرخو، وحروف القلقلة، وحذف: المنفتحة والمستفلة (6). وإذا كان الداني قد أهمل ذكر ما بين الشديد والرخو وحروف القلقلة في قوله السابق فإنه تحدث عنها في أثناء الباب الذي بيّن فيه صفات الحروف (7). وجعل أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ) صفات الحروف ثماني عشرة صفة، فذكر الصفات التي ذكرها الداني وأضاف إليها صفتين هما: ما بين الشديدة والرخوة، والحروف الذائبة (8). وتابع ابن الطحان (ت حوالي 560هـ) الداني أيضا لكنه حذف (الهاوي) وأضاف (النفخ والقلقلة) (9). وذكر ابن الجزري (ت 833هـ) في مقدمته سبع عشرة
__________
(1) الدر المرصوف 71ظ.
(2) اللئالئ الفريدة 211و.
(3) جهد المقل 11و.
(4) بيان جهد المقل 14و.
(5) التحديد 17ظ.
(6) التمهيد 145ظ.
(7) التحديد 18و، 19ظ.
(8) الإيضاح 73و 73ظ. وانظر 67ظ.
(9) مرشد القارئ 129و.(1/197)
صفة (1).
2 - أسس تصنيف الصفات:
الصفات المذكورة تعبر عن معان تخص الأصوات، وذلك بالنظر إليها من جوانب متعددة. قال أبو عمرو بن الحاجب (ت 646هـ): «وليست هذه الأقسام باعتبار تقسيم واحد، إنما هي باعتبار تقسيمات متعددة. فالمجهورة والمهموسة تقسيم. ومعنى التقسيم المستقل أن تكون الأنواع منحصرة بالنفي والإثبات في التحقيق لا في صورة إيرادها، فإذا علمت أن المجهورة هي الحروف التي [لا] (2) يجري النفس معها عند النطق بها، والمهموسة هي التي يجري النفس معها عند ذلك علمت انحصار التقسيم بالنفي والإثبات.
وكذلك الشديدة والرخوة، وما بين الشديدة والرخوة تقسيم، والمطبقة والمنفتحة تقسيم. والمستعلية والمنخفضة تقسيم.
وما بعد ذلك لم يقصد فيه إلا ذكر القسيم مع قسيمه إذ (3) لم يسم قسيمه باسم باعتبار مخالفته. فإذا قصد وصفه بذلك ذكر منفيا عنه ذلك الوصف، كما تقول: ما عدا الراء من الحروف ليس بمكرر، وليس لها لقب باعتبار نفي التكرار» (4).
وقد نظر علماء التجويد إلى صفات الحروف نظرة أشمل من ذلك. فلم يكتفوا بذكر الصفة وقسيمتها، بل حاولوا تقديم أسس شاملة لتصنيف الحروف، تنطوي تحتها التقسيمات الفرعية. ولعل أدق الاتجاهات في تقسيم الصفات هو الاتجاه الذي يصنفها إلى صفات مميّزة وصفات محسّنة، وكان الحسن بن قاسم المرادي (749هـ) أول من ذهب هذا المذهب، فيما اطلعت عليه من المصادر ثم تابعه في هذا الاتجاه أبو الفتوح الوفائي (ت 1020هـ).
قال المرادي في كتابه (المفيد في شرح عمدة المجيد): «الفصل الخامس: في انقسام هذه الصفات إلى مميز ومحسن، وذي قوة وذي ضعف: اعلم وفقك الله أن هذه الصفات
__________
(1) متن الجزرية ص 1411. وقد نص على ذلك بعض شراح المقدمة مثل الوفائي (الجواهر المضية 26و) وعلي القاري (المنح الفكرية ص 14). والواقع أن الصفات التي ذكرها ابن الجزري تبلغ ثماني عشرة صفة. ولكن الشراح أسقطوا المتوسطة (بين الشديدة والرخوة) من الحساب فأصبحت سبع عشرة صفة.
(2) ساقطة من الأصل المطبوع، وهي لازمة لصحة المعنى.
(3) في الأصل المطبوع (إذا).
(4) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 485.(1/198)
المذكورة [لها فائدتان، الأولى] (1): تمييز الحروف المشاركة، ولولاها لا تحدث أصواتها ولم تتميز ذواتها. قال المازني: الذي فصل بين الحروف التي ائتلف منها الكلام سبعة أشياء:
الجهر والهمس، والشدة والإرخاء، والإطباق، والمد، واللين، قال: فإذا همست أو جهرت أو أطبقت أو شددت، أو مددت أو لينت اختلفت أصوات الحروف التي من مخرج واحد.
ولذلك قال الرماني وغيره: لولا الإطباق لصارت الطاء دالا، لأنه ليس بينهما فرق إلا الإطباق. ولصارت الظاء ذالا ولصارت الصاد سينا، ولخرجت الضاد من كلام العرب لأنه ليس من موضعها شيء غيرها.
فهذه إحدى فائدتي الصفات، وهي تمييز الحروف المشتركة في المخرج والفرق بين ذواتها.
ولها فائدة أخرى وهي تحسين لفظ الحروف المختلفة المخارج فقد اتضح بهذا أن صفات الحروف قسمان: مميّز ومحسّن» (2).
ونقل أبو الفتوح الوفائي كلام المرادي في تقسيم الصفات إلى مميزة ومحسنة، ولكنه أضاف بعض الأفكار الجديدة حيث قال: «الصفات جمع صفة، وهي لفظ يدل على معنى في موصوفه، إما باعتبار محله أو باعتبار ذاته. فالأول الحلقية واللثوية وشبه ذلك. والثاني كالجهر والهمس. ولهذه [الصفات] (3) فائدتان:
الأولى: تمييز الحروف المشتركة في المخرج لأن المخرج للحرف كالميزان تعرف به كميته والصفة له كالناقد يعرف بها كيفيته ولولا ذلك لكان الكلام بمنزلة أصوات البهائم التي لها مخرج واحد وصفة واحدة فلا تفهم. وهذا معنى قول المازني: إذا همست أو جهرت
والأخرى: تحسين لفظ الحروف المختلفة المخارج، فقد اتضح لك بهذا أن صفات الحروف قسمان مميز ومحسن» (4). ويفهم من قولهم (محسنة) أن الصفة تعطي الصوت جرسا خاصا، دون أن يكون ذلك سببا للتمييز بينه وبين الأصوات الأخرى.
وتكاد نظرية تقسيم صفات الحروف إلى مميزة ومحسنة تكون أفضل ما أتى به دارسو
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل وكملته من الجواهر المضية للوفائي 25ظ.
(2) المفيد 102و 102ظ.
(3) ليست في الأصل، ونقلتها من نص المرادي في المفيد 102و.
(4) الجواهر المضية 25ظ 26و.(1/199)
الأصوات العربية المتقدمون في مجال تصنيف صفات الحروف، لأن هذه النظرية تنبني على إدراك عميق لخصائص الأصوات وصفاتها والعلاقة بينها.
وكان علماء التجويد مدركين لظاهرة التقابل بين الأصوات، ودور الصفات في التمييز بينها، خاصة الجهر والهمس، والشدة والرخاوة، والإطباق والانفتاح. قال مكي بن أبي طالب: «ولولا الهمس الذي في السين لكانت زاء، وكذلك لولا الجهر الذي في الزاي لكانت سينا، إذ قد اشتركا في المخرج والصفير والرخاوة والانفتاح والتسفل، وإنما اختلفا في الجهر والهمس لا غير، فباختلاف هاتين الصفتين افترقا في السمع فاعرف ذلك. فيجب أن تعلم أيضا أن السين حرف مؤاخ للصاد، لاشتراكهما في المخرج والصفير والهمس والرخاوة، ولولا الإطباق والاستعلاء اللذان في الصاد ليسا في السين لكانت الصاد سينا، وكذلك لولا التسفل والانفتاح اللذان في السين ليسا في الصاد لكانت السين صادا. فاعرف من أين اختلف السمع في هذه الحروف والمخرج واحد والصفات متفقة» (1).
وعلى هذا النحو ناقش مكي العلاقة بين عدد من المجموعات الصوتية، مثل (ط د ت) (2). و (ط ذ ث) (3). وقال: «واعلم أنه لولا اختلاف الصفات في الحروف لم يفرق في السمع بين أحرف من مخرج واحد، ولولا اختلاف المخارج لم يفرق في السمع بين حرفين أو حروف على صفة واحدة» (4).
وكذلك قال عبد الوهاب القرطبي: «وحال الصاد والسين والزاي، كحال الطاء والدال والتاء، والظاء والذال والثاء، لأن الصاد امتازت عن السين بالإطباق، ولولاه لكانت الصاد سينا، وكذلك السين امتازت عن الزاي بالهمس، ولو لاه لكانت زاء» (5). ثم بيّن العلاقة بين (ط د ت)، وكذلك (ظ ذ ث) على نحو ما وضحها في (ص ز س) (6).
وتظهر عناية علماء التجويد بظاهرة التمييز بين الأصوات عن طريق الصفات المتقابلة في مجال الأبنية، وليس في نطاق الأصوات المفردة، فكثيرا ما نجدهم ينصون على أن معنى
__________
(1) الرعاية ص 185.
(2) الرعاية ص 175و 178و 191190.
(3) الرعاية ص 195و 198.
(4) الرعاية 192191.
(5) الموضح 162ظ.
(6) الموضح 163و 163ظ.(1/200)
الكلمة يتغير إذا أزيلت صفة صوتية معينة عن أحد حروف الكلمة، قال مكي: «وإذا وقعت الظاء في كلمة تشبه كلمة أخرى بالذال بمعنى آخر وجب البيان للظاء لئلا ينتقل إلى معنى آخر.
وذلك نحو قوله تعالى: {وَمََا كََانَ عَطََاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء: 20] أي ممنوعا، فهو بالظاء، فبيّنه لئلا يشتبه في اللفظ بقوله: {إِنَّ عَذََابَ رَبِّكَ كََانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57] فهذا بالذال من الحذر» (1). وكذلك عقد مكي مقابلة بين {أَسَرُّوا} و {أَصَرُّوا} (2) و {يُسْحَبُونَ}
و {يُصْحَبُونَ} (3) و {قَسَمْنََا} و {قَصَمْنََا} (4) ووضح دور الصفات في التمييز بين هذه الألفاظ (5).
وكان الداني مدركا لتلك الظاهرة أيضا، وذلك حيث قال: «وكذلك يلزم أن يتعمّل تلخيص الصاد من السين فيما يتفق لفظه ويختلف معناه، بما تقدم، وذلك في نحو قوله:
{وَكَمْ قَصَمْنََا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11] و {نَحْنُ قَسَمْنََا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32]. و {وَلََا هُمْ مِنََّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء: 43] و {يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ} [غافر: 7271] وما أشبهه» (6).
ومثل ذلك في قوله عن القاف: «ألا ترى أنه متى لم ينعم بيانه في قوله تعالى:
{فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً} [العاديات: 2] صار اللفظ بها كاللفظ بقوله تعالى: {إِلى ََ رَبِّكَ كَدْحاً}
[الانشقاق: 6] و {كِتََابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 9] و {سَحََابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44]، وشبهه، فتغير اللفظ، وانقلب المعنى» (7). وتحدث عن نفس الفكرة في مواضع أخرى من كتابه (التحديد) (8).
وكذلك كان عبد الوهاب القرطبي مدركا لتلك الظاهرة فتحدث عنها في أكثر من موضع في كتابه (الموضح في التجويد) (9).
__________
(1) الرعاية ص 195.
(2) (أسروا) في المائدة 52 (أصروا) في سورة نوح 7.
(3) (يسحبون) في غافر 71 (يصحبون) في الأنبياء 43.
(4) (قسمنا) في الزخرف 32 (قصمنا) في الأنبياء 11.
(5) الرعاية ص 188.
(6) التحديد 34و 34ظ.
(7) التحديد 27ظ.
(8) انظر: التحديد 33ظ، 39ظ.
(9) انظر: الموضح 160ظ، 162ظ، 163و، 163ظ.(1/201)
وناقش الدركزلي الأسس التي بموجبها يتم تصنيف الصوت إلى حرف أصلي وحرف فرعي. فنقل عن الفخر الرازي: «لقائل أن يقول: إن نسبة اللام الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الذال إلى الظاء، وكنسبة السين إلى الصاد، فإن الذال يذكر بطرف اللسان والظاء يذكر بكل اللسان، وكذلك السين يذكر بطرف اللسان والصاد يذكر بكل اللسان، فثبت أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الذال إلى الظاء، وكنسبة السين إلى الصاد. قال: ثم رأينا أن القوم قالوا: الذال حرف والظاء حرف آخر، وكان الواجب أيضا أن يقولوا: اللام الرقيقة حرف واللام الغليظة حرف آخر، وإنهم ما فعلوا ذلك، ولا بد من الفرق. انتهى.
قلت (الدركزلي): قد مر أنهم جعلوا الحروف إلى أصول وفروع، وعدوا من الفروع اللام المفخمة كلام الطلاق والصلاة، بل صرحوا بلام الجلالة نفسها أنها منها. وفرقوا بين الأصل والفرع بإزالته عن مخرجه الأصلي» (1). ولا شك في أن أساس اعتبار الذال حرفا والظاء حرفا آخر، وعدم اعتبار اللام الرقيقة واللام الغليظة حرفين هو قدرة الذال والظاء على التبادل في الموقع، مع تغيير المعنى، على نحو ما لاحظنا في الأمثلة السابقة مثل (محذورا ومحظورا) فالفرق الصوتي بين الكلمتين الذي أدى إلى اختلاف المعنى هو وجود الذال في الكلمة الأولى ووجود الظاء في الكلمة الثانية. أما اللام الرقيقة واللام الغليظة فليس لهما هذه القدرة على تبادل المواقع وتغيير المعنى، فهما في الواقع تنوع صوتي لحرف واحد هو اللام. ومع ذلك نجد بعض الدارسين المحدثين يرى إمكانية اعتبار اللام المفخمة حرفا مستقلا، لكن جمهور الدارسين يعتبرونها تنوعا للام الأصلية (2).
وكان بعض علماء التجويد قد عبروا عن فكرة تقسيم صفات الحروف إلى مميزة ومحسنة عن طريق تقسيمها إلى ما له ضد وما ليس له ضد (3). قال عبد الغني النابلسي (ت 1143هـ): «وصفات الحروف تنقسم إلى قسمين: صفات لها أضداد، وصفات لا أضداد لها تضادها الفصل الأول: الصفات التي لها أضداد تضادها وهي خمس صفات» (4) ثم ذكر:
الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، والاستعلاء والاستفال، والانطباق والانفتاح، والانذلاق والانصمات. ثم ذكر في الفصل الثاني: الصفات التي لا أضداد لها تضادها، وهي ثماني
__________
(1) خلاصة العجالة 178و 178ظ.
(2) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 287284.
(3) انظر: المرادي: المفيد في شرح عمدة المجيد 101ظ، والتوني: المفيد في علم التجويد 3ظ.
(4) كفاية المستفيد 5ظ.(1/202)
صفات: الصفير، والقلقلة، واللين، والانحراف، والتكرار، والتفشي، والاستطالة، والغنة (1).
وسلك بعض علماء التجويد طرقا أخرى في تصنيف الصفات، وذلك بتقسيمها إلى قسمين ذاتي وعارضي، فالصفات الذاتية مثل الجهر والهمس والشدة والرخاوة والانحراف والتكرير والصفير والتفشي والغنة، والعارضية هي الأحكام التي تلحق الأصوات من جراء التركيب مثل الترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار والمد والقصر ونحو ذلك (2).
وكان ابن الجزري قد قال في (المقدمة) في تعريف التجويد: (3)
وهو إعطاء الحروف حقّها ... من صفة لها ومستحقّها
وقد فسر شراح المقدمة قول ابن الجزري (حقها ومستحقها) تفسيرا يطابق تقسيم الصفات السابق إلى ذاتي وعارضي، فقال أحمد بن الجزري، وهو ابن الناظم: «والفرق بين حق الحرف ومستحقه أن حق الحرف صفته اللازمة له من همس وجهر وتشديد ورخاوة، وغير ذلك من الصفات الماضية. ومستحقه: ما ينشأ عن هذه الصفات كترقيق المستفل وتفخيم المستعلي، ونحو ذلك» (4). وردد شراح المقدمة الآخرون وغيرهم مقالة أحمد بن الجزري السابقة (5).
وقسم كثير من علماء التجويد صفات الحروف إلى صفات قوية وصفات ضعيفة وأخرى متوسطة بينهما، ويقسمون الحروف بعد ذلك بقدر ما فيها من صفات القوة والضعف إلى قوية وضعيفة ومتوسطة (6).
وسوف نسير في تتبع صفات الحروف على نهج من ذهب من علماء التجويد إلى تقسيمها إلى صفات محسنة وصفات مميزة، لأن هذا الاتجاه يتميز على غيره بإدراك أعمق لخصائص الأصوات، ويقدم أساسا أشمل للتقسيم يناسب مرحلة البحث التي نحن فيها الآن بخلاف تقسيمها إلى ذاتية وعارضية، فإن الحديث عن الصفات العارضية ينقلنا إلى مرحلة من
__________
(1) كفاية المستفيد 6و 8و.
(2) السمرقندي: روح المريد 124ظ، وانظر: المرادي: المفيد 101ظ، والقسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 196.
(3) متن الجزرية ص 15.
(4) الحواشي المفهمة 26ظ.
(5) انظر: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 23و. وعلي القاري: المنح الفكرية ص 18. وأحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 5و.
(6) انظر: مكي: الكشف 1/ 137، والمرادي: المفيد 102ظ، والنابلسي: كفاية المستفيد 8ظ.(1/203)
البحث لم نبلغها بعد، وهي الحديث عن أحكام الحروف التركيبية التي نرجو أن نستوفي الكلام عنها في الفصل اللاحق، إن شاء الله تعالى.
وبناء على ذلك سوف ندرس أولا الصفات المميزة التي تنحصر في الصفات التي لها أضداد، وهي الجهر والهمس، والشدة والرخاوة، والإطباق والانفتاح. ثم نعرض بعد ذلك للصفات المحسنة التي منها ما يخص صوتا واحدا، ومنها ما يتعلق بمجموعة من الأصوات، ونختم المبحث ببيان كيفية وصف علماء التجويد للأصوات.
أولا صفات الأصوات المميزة:
وهي تنحصر في الجهر والهمس، والشدة والرخاوة والتوسط بينهما، والإطباق والانفتاح، والاستعلاء والاستفال، والذلاقة والإصمات. وسوف نوضح هنا وجهة علماء التجويد في دراسة هذه المجموعة من الصفات، والمشكلات الصوتية التي تتصل بها.
1 - الجهر والهمس:
الصوت المجهور هو الذي يهتزّ (أو يتذبذب) الوتران الصوتيان حال النّطق به، والصوت المهموس بعكس المجهور هو الذي لا يهتز (أو لا يتذبذب) الوتران الصوتيان حال النطق به.
وقد أوضحنا ذلك في المبحث الثاني من هذا الفصل عند الحديث عن إنتاج الأصوات اللغوية، وبيّنا موقف علماء التجويد من تحديد المجهور والمهموس وانتهينا هناك إلى أن علماء التجويد وعلماء العربية أدركوا ظاهرة الجهر والهمس كما يتصورها المحدثون، ولم يبق إلا أن نقف عند الحروف التي وصفها علماء التجويد بأنها مجهورة والحروف التي وصفوها بأنها مهموسة.
وكان لتحديد سيبويه للحروف المجهورة والمهموسة سلطان مستمر على دارسي الأصوات العربية، كما كان له ذلك في الموضوعات الأخرى، فسلك علماء التجويد طريق سيبويه في تحديد الحروف المجهورة والمهموسة. فإذا كان سيبويه قد قال إن الحروف المهموسة عشرة، وهي: الهاء والحاء والخاء والكاف والشين والسين والتاء والصاد والثاء والفاء، وأن المجهورة تسعة عشر حرفا هي: الهمزة والألف والعين والغين والقاف والجيم والياء والضاد واللام والنون والراء والطاء والدال والزاي والظاء والذال والباء والميم والواو (1). فإن علماء التجويد لم يخرجوا عن ذلك التحديد (2).
__________
(1) الكتاب 4/ 434.
(2) انظر: مكي: الرعاية ص 9392، والداني: التحديد 17ظ، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 156و.(1/204)
وكانت قد برزت ظاهرة جديدة وهي محاولة جمع أنواع الحروف في بعض الكلمات سواء كان معناها واضحا أم لا. وهذه الظاهرة وإن كانت شكلية إلا أنها كان لها تأثير في ترديد تلك الأنواع من غير أن تكون هناك محاولة من أجل إعادة توزيع الحروف في نطاقها. وكانت بدايات هذه الظاهرة موجودة عند علماء العربية، فنجد ابن جني بعد أن ذكر الحروف المهموسة قال: «ويجمعها في اللفظ قولك: ستشحثك خصفه» (1). وبالغ بعض علماء التجويد في ذلك. فنجد مكي يقول: (الحروف المهموسة، وهي عشرة أحرف يجمعها هجاء قولك:
ستشحثك خصفه، أو هجاء قولك: سكت فحثه شخص، أو هجاء قولك: سكت شخصه فحث» (2). ولم يكتف بعضهم بحصر الحروف المهموسة وإنما جمع الحروف المجهورة ببضع كلمات أيضا، قال أبو العلاء الهمذاني العطار، وهو يتحدث عن الحروف المجهورة:
«وجمعها بعضهم في قوله: زاد ظبي غنج لي ضمورا إذا قطع» (3).
وكان علماء التجويد قد لاحظوا على نحو واسع التقابل بين بعض الأصوات المجهورة والمهموسة، وأدركوا دور ظاهرة الجهر وعدمها في التمييز بين الأصوات: قال مكي: «لولا الجهر الذي في العين لكانت حاء» (4). وقال: «لولا ما بينهما من الجهر والهمس لكانت الخاء غينا إذ المخرج واحد» (5). وقال: «كذلك الدال لولا الجهر الذي فيه لكان تاء، إذ المخرج واحد» (6). وقال: «ولولا الهمس الذي في السين لكانت زاء، كذلك لولا الجهر الذي في الزاي لكانت سينا، إذ قد اشتركا في المخرج والصفير والرخاوة والانفتاح والتسفل، وإنما اختلفا في الجهر والهمس لا غير» (7).
وقال عبد الوهاب القرطبي: «السين امتازت عن الزاي بالهمس، ولو لاه لكانت زاء» (8).
وقال: «لولا الجهر الذي في الدال لصارت تاء» (9). وقال: «ولولا الجهر الذي في الذال صار
__________
(1) سر صناعة الإعراب 1/ 69.
(2) الرعاية ص 92.
(3) التمهيد 145ظ، وانظر: السمرقندي: روح المريد 126و. وكذلك الداني: التحديد 17ظ.
(4) الرعاية ص 138.
(5) الرعاية ص 143.
(6) الرعاية ص 178.
(7) الرعاية ص 185.
(8) الموضح 162ظ.
(9) الموضح 163و.(1/205)
ثاء» (1). وهذه أمثلة قليلة يمكن أن يصادف المتتبع عشرات مثلها في كتب علم التجويد، ويكفي الدارس أن يعرف أن الفخر الموصلي تحدث في كتابه (الدر المرصوف في وصف مخارج الحروف) عن «علل اختلاف الحروف مع اتحاد المخرج» وقد استغرق ذلك ثلث الكتاب تقريبا وكان لظاهرتي الهمس والجهر النصيب الأكبر في ذلك (2). وكذلك فعل محمد المرعشي حيث عقد مبحثا في كتابه (جهد المقل) (في بيان الفرق بين بعض الحروف المتشابهة) نحا فيه نحو الفخر الموصلي (3).
وكلام علماء العربية وعلماء التجويد عن الحروف المجهورة والحروف المهموسة يثير بعض القضايا التي تحتمل المناقشة، ويتلخص ذلك في أنهم وصفوا الهمزة والقاف والطاء بأنها مجهورة، وهي ليست كذلك في النطق العربي اليوم، كما يقرر علماء الأصوات المحدثون، وكما يشهد الواقع بذلك (4).
ونحن أمام هذه القضية بين ثلاثة احتمالات:
1 - احتمال أنهم أخطئوا في وصف هذه الأصوات، فعدوها مجهورة، وهي مهموسة.
2 - احتمال أنهم حين وصفوا هذه الأصوات كانت مجهورة ثم تغيرت بعد ذلك حتى صارت مهموسة.
3 - احتمال أنهم وصفوا نوعا مجهورا من تلك الأصوات كان سائدا في نطق بعض العرب، لا سيما الطاء والقاف.
وكان عدد من دارسي الأصوات اللغوية من المحدثين قد ناقشوا قضية الأصوات الثلاثة في إطار تلك الاحتمالات (5). ولسنا بصدد تقصي كل ما قالوه، ولكننا سوف نركز على ملامح هذه القضية عند علماء التجويد وما يعتبر إضافة جديدة في كلامهم، مما يساعد في تفسير وصف الأصوات الثلاثة بأنها مجهورة.
__________
(1) الموضح 163و.
(2) الدر المرصوف 171ظ 173ظ.
(3) جهد المقل 19ظ.
(4) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 186و 170.
(5) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 63و 85، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 130و 141 و 146، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 294و 295.(1/206)
(أ) مشكلة الهمزة:
أما الهمزة فقد ذهب سيبويه وغيره من علماء العربية، وعلماء التجويد، إلى أنها صوت مجهور (1). وهي عند المحدثين ليست مجهورة، وقد اختلفوا، فبعضهم قال: إنها مهموسة، وتأتي جهة الهمس في هذا الصوت من أن إقفال الوترين الصوتيين معه لا يسمح بوجود الجهر في النطق (2). وقال آخرون الهمزة صوت لا هو بالمجهور ولا هو بالمهموس، لأن وضع الوترين حال النطق بها لا يسمح بالقول بوجود ما يسمى بالجهر أو الهمس (3).
وفسر بعض المحدثين عد الهمزة من الحروف المجهورة لدى علماء العربية وعلماء التجويد على أساس أنهم لم يوفقوا في نطق الهمزة مجردة، فكانوا ينطقونها متلوة بحركة، والحركة مجهورة، فأثر جهر الحركة على نطق الهمزة حتى عزوا جهرها للهمزة نفسها (4).
وحمل بعضهم ذلك على أنهم وصفوا همزة مسهلة، وهي حينئذ أشبه بحروف اللين التي هي أصوات مجهورة (5).
ونحن إذا حاولنا اختبار موضع الهمزة على حسب طريقة علماء العربية في إدخال همزة الوصل على الحرف والنطق به ساكنا فإننا نجد حينئذ سلسلة صوتية تتكون من (همزة حركة همزة) (إء)، وهذه السلسلة الصوتية حين ننطق بها مستقلة ستبدأ عملية التصويت بها بفتح الوترين بعد ضغط الهواء خلفهما، ثم تذبذب الوترين لإنتاج صوت الحركة، سواء أكانت فتحة أم كسرة أم ضمة، ثم يعقب ذلك تضام الوترين مرة أخرى ثم انفراجهما بعد ذلك بهدوء. ومن هنا نلاحظ طغيان ذبذبة الوترين الصوتيين على الأحداث الصوتية الأخرى في عملية الاختبار، وربما كانت مثل هذه الحالة مصدر وصف الهمزة بأنها صوت مجهور. ولكن الهمزة المجردة غير المسهلة نفتقد معها ذبذبة الوترين التي هي مصدر الجهر، لأن الهمزة ما هي إلا انطباق
__________
(1) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 434، وابن يعيش: شرح المفصل 10/ 129، ومكي: الرعاية ص 119، والداني: التحديد 23ظ، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 165و.
(2) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 97، وجان كانتينو: دروس ص 123، وعبد الرحمن أيوب:
أصوات اللغة ص 183، وهنري فليش: العربية الفصحى ص 38.
(3) محمود السعران: علم اللغة ص 171، وإبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 91، وكمال محمد بشر:
الأصوات ص 142.
(4) أ. شاده: علم الأصوات عند سيبويه وعندنا ع 5ص 14.
(5) انظر: تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 97.(1/207)
الوترين ثم انفراجهما.
(ب) مشكلة الطاء:
الطاء حرف مجهور أيضا عند علماء العربية وعلماء التجويد (1). لكنه مهموس في النطق العربي اليوم (2). وهنا يترجح لدى بعض المحدثين أن صوت الطاء الذي وصفه القدماء بأنه صوت مجهور يشبه صوت الضاد الذي ينطقه أهل مصر اليوم، أي أنه الصوت المطبق للدال (3).
ومما يؤيد ذلك قول سيبويه وهو يتحدث عن حروف الإطباق الأربعة: «ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا، والصاد سينا، والظاء ذالا، ولخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس شيء من موضعها غيرها» (4). فهذا النص صريح في كون الطاء العربية هي النظير المطبق للدال، وأنه إذا أزيل الإطباق عنها صارت دالا. وهذا الوصف ينطبق على الضاد التي ينطقها الناس في مصر. فهي النظير المطبق للدال، وهذا يعني أن تحولا حصل في نطق الطاء والضاد معا، لأن الطاء اليوم إذا أزيل عنها الإطباق صارت تاء لأنها مهموسة، وليس بينها وبين التاء من فرق سوى الإطباق. وكانت الضاد العربية إذا أزيل إطباقها تختل ولا تتحول إلى صوت آخر من الأصوات العربية، بينما هي اليوم في نطق أهل مصر خاصة، لا في نطق أهل العراق إذا أزيل عنها الإطباق صارت دالا. ويمكن أن نعبر عن التطور الذي حصل في صوتي الطاء والضاد في الجدولين الآتيين:
النطق القديم النطق الحديث
__________
(1) سيبويه: الكتاب 4/ 434. ومكي: الرعاية ص 172. والداني: التحديد 31ظ.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 62، ومحمود السعران: علم اللغة ص 168، وكمال محمد بشر:
الأصوات ص 131.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 63.
(4) الكتاب 4/ 436.(1/208)
فالضاد القديمة كانت من مخرج مستقل ليس له علاقة بمخرج (ط د ت)، وكانت رخوة كما سنشير في الفقرة الآتية من هذا المبحث، ولم يكن في العربية صوت منفتح مقابل لها، لأنها كما يقول سيبويه إذا أزيل عنها الإطباق خرجت من الكلام.
ومما يدل على أن الطاء العربية القديمة المجهورة كانت صوتا يشبه صوت الضاد في نطق أهل مصر اليوم أن بعض العلماء المتأخرين مثل علي بن محمد بن خليل المعروف بابن غانم المقدسي (ت 1004هـ)، ومحمد المرعشي الملقب ساج قلي زاده (ت 1150هـ) وصفوا نطق أهل مصر للضاد في زمانهم أنه يشبه الطاء قال المقدسي: «لما رأيت بمحروسة القاهرة التي هي زين البلاد كثيرا من أفاضل الناس فضلا عن الأوغاد يخرجون عن مقتضى العقل والنقل في نطق الضاد فليعلم أن أصل هذه المسألة أنهم ينطقون بالضاد ممزوجة بالدال المفخمة والطاء المهملة» (1). وقال أيضا: «أما هذا الحرف الذي يشبه الدال المفخمة والطاء المهملة الذي ينطق به أكثر المصريين ولنسمّه بالضاد الطائية» (2). وقال المرعشي:
«فما اشتهر في زماننا هذا من قراءة الضاد المعجمة مثل الطاء المهملة فهو عجب لا يعرف له سبب ومنهم من يخرج الضاد المعجمة طاء مهملة كالمصريين أقول: قراءة الضاد المعجمة مثل الطاء المهملة فيها مفاسد» (3).
ومما يدل أيضا على أن صوت الطاء العربية القديمة المجهورة كانت دالا مطبقة مثل صوت الضاد في نطق أهل مصر اليوم، أن بعض المحدثين ذكر أن الطاء العربية القديمة (الدال المطبقة) لا تزال تسمع في بعض البلدان، مثل جنوبي الجزيرة العربية، حيث يقولون (مضر) يريدون (مطر) و (قضعت ورقة) يريدون (قطعت ورقة) (4). ينطقون بالطاء ضادا مثل التي تنطق في مصر اليوم.
ولكن متى تم ذلك التحول في نطق الطاء؟ هذا الموضوع يحيط به الغموض، فليس لدينا نصوص تؤكد لنا ذلك التحول أولا، وتوضح لنا مراحله ثانيا. فكان سيبويه قد ذكر من بين
__________
(1) بغية المرتاد 1ظ.
(2) بغية المرتاد 4و.
(3) جهد المقل 20ظ 21و.
(4) أ. شاده: علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931العدد الخامس ص 13، وإبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 63، وجان كانتينو: دروس ص 5150.(1/209)
الحروف غير المستحسنة (الطاء التي كالتاء) (1). وقد وضح بعض علماء التجويد قول سيبويه هذا بقوله: «وأما الطاء التي كالتاء فإنها تسمع من عجم أهل المشرق، لأن الطاء في أصل لغتهم معدومة، فإذا احتاجوا إلى النطق بشيء من العربية فيه طاء تكلفوا ما ليس في لغتهم، فضعف نطقهم بها» (2).
ومن غير المحتمل أن يكون قول سيبويه (الطاء التي كالتاء) كافيا في رد قول من يقول إن الطاء العربية القديمة كانت مجهورة وأنها كانت النظير المفخم للدال، لا سيما أن سيبويه أكد على ذلك بشكل واضح في قوله السابق (لولا الإطباق)، ومن ثم يكون هذا الصوت (الطاء التي كالتاء) تحريفا لنطق الطاء الأصلية على مرحلتين: الأولى: إذهاب الجهر، والثانية: إذهاب الإطباق فتقرب الطاء حينئذ من التاء إن لم تكن تاء مثلها.
ويفهم من قول طاش كبري زاده (ت 968هـ): «إن مخرج الطاء والتاء لما اتحدا وانحصر الفرق بينهما في صفة الاستعلاء والإطباق الحاصلتين في الطاء» (3) أن الطاء كانت في زمانه صوتا مهموسا، لأنه لم يشر إلى أن الجهر أحد الفروق بين الطاء والتاء.
ولم يكن من اليسير لدى العلماء المتأخرين التصريح بأن الطاء صوت مهموس، وبين أيديهم عشرات النصوص التي تؤكد أن الطاء صوت مجهور، ولم تكن وسائلهم تتجاوز الملاحظة الذاتية التي يتردد صاحبها في التصريح بنقض إجماع أجيال من العلماء على أساس ملاحظته الذاتية. ولعل هذا يفسر لنا ما نجده من اضطراب في أحد النصوص الواردة في كتاب (بيان المشكلات على المبتدئين من جهة التجويد) لملا حسين بن اسكندر الحنفي الرومي (ت 1084هـ)، فقد ورد في بعض مخطوطات الكتاب: «فإن قيل ما فائدة الصفات؟ أجيب:
فائدتها تمييز الحروف المتشاركة في المخرج، ولو لاها لا تحدث أصواتها، ولم تتميز ذواتها.
ولولا الإطباق لصارت الطاء تاء، لأنهما ليس بينهما فرق إلا الإطباق، وكذا لصارت الظاء ذالا والصاد سينا، ولخرجت الضاد المعجمة من كلام العرب لأنها ليس من موضعها شيء غيرها» (4). الذي يعنينا بالتحديد قوله: «ولولا الإطباق لصارت الطاء تاء». وهذا يعني أن
__________
(1) الكتاب 4/ 432.
(2) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 155و.
(3) شرح المقدمة الجزرية 22ظ.
(4) بيان المشكلات: المخطوطات المرقمة: 1557و 18398و 7105في مكتبة المتحف ببغداد، وأوراقها غير مرقمة.(1/210)
الطاء لديه صوت مهموس، وليس بينه وبين التاء من فرق سوى الإطباق.
لكننا نجد النص نفسه في نسخ أخرى من مخطوطات الكتاب على هذا النحو (ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا) (1). بينما حذف هذا النص أصلا من مخطوطات أخرى وحل محله (ولولا الإطباق لصارت الظاء ذالا والصاد سينا) (2).
ولا يمكن أن يكون جميع ذلك الاضطراب في النص من النّسّاخ، فما ورد في نسخ الكتاب يشير إلى أن المؤلف لاحظ أن الطاء لا تختلف عن التاء إلا بالإطباق، ومن ثم قال (ولولا الإطباق لصارت الطاء تاء). وربما لاحظ هو أو غيره أن علماء التجويد ينصون على أنه (لولا الإطباق لصارت الطاء دالا) فقام المؤلف أو بعض النساخ بتصحيح العبارة على وفق الوارد في كتب علم التجويد حينا، وقام بحذفها حينا آخر. وقد وردت عبارة (لصارت الطاء دالا) في بعض النسخ مكتوبة في الهامش (3).
ونجد محمدا المرعشي يحذّر من أن يقلّ جهر الطاء فتتحول إلى تاء مطبقة، وفي رأيه أن هذا الحرف ليس من حروف العربية، وهو في الواقع الطاء العربية المهموسة التي ننطقها اليوم، قال: «إن الطاء والتاء من مخرج واحد، ومتحدتان في الصفات إلا الإطباق والاستعلاء والجهر، فإنها صفات الطاء وأضدادها وهي الانفتاح والاستفالة والهمس صفات التاء. ومتى أعدمت تلك الصفات للطاء يصير تاء. وإذا لم تعدم إطباق الطاء واستعلاءها لكن أعدمت جهرها فأعطيت لها همسا كما يفعله بعض المبتدئين في مثل {الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرََاطَ الَّذِينَ}، فلا يكون المغيّر إليه حرفا من حروف التسعة والعشرين، لكن لك أن تسمي المغير إليه طاء مهموسة، أو تاء مطبقة، أو تاء مفخمة» (4).
ولاحظ المرعشي أنه بينما يجب بحسب الوصف الوارد في الكتاب للطاء أن تتحول إلى الدال إذا أزيل إطباقها وجدها يغلب عليها لفظ التاء، وهو أمر يشير إلى أن الطاء في زمانه قد غلب عليها الهمس، يقول: «واحذر عن إعطاء الطاء همسا كما يفعله بعض الناس، حتى إذا أزلت إطباقه وتفخيمه على ما لفظوا به يصير تاء. وحق الطاء أن يكون بحيث إذا أزلت إطباقه
__________
(1) المخطوطات المرقمة 24509و 21819في مكتبة المتحف ببغداد.
(2) المخطوطات المرقمة 24380و 25234و 12686في مكتبة المتحف ببغداد.
(3) النسخة المرقمة 21819في مكتبة المتحف ببغداد.
(4) بيان جهد المقل 4ظ.(1/211)
وتفخيمه يصير دالا» (1).
يمكن أن نستخلص من هذا العرض أن وصف علماء العربية وعلماء التجويد للطاء بأنه صوت مجهور وصف صحيح، وهذا الوصف يمثل الطاء العربية القديمة التي لم تحافظ على خصائصها الصوتية، فلحقها الهمس وصارت تنطق اليوم تاء مطبقة، بينما صارت الطاء العربية القديمة المجهورة حرفا آخر في بعض البلدان، فصارت تمثل الضاد في نطق أهل مصر ومن سار على منوالهم، بعد أن اختفت الضاد العربية القديمة من الاستخدام. وقد لاحظ بعض علماء التجويد المتأخرين أن الهمس أخذ يغلب على صوت الطاء. هذه خلاصة ما نرجحه الآن بالنسبة لصوت الطاء وهو ترجيح مبني على النصوص السابقة، لكن على الدارس ألّا يغيب عن نظره ذلك الإجماع على نطق الطاء المهموسة اليوم من قبل ناطقي العربية في المستوى الفصيح والدارج، ومنهم قراء القرآن الكريم الذين يحرصون على ضبط نطقهم والمحافظة على صورته الموروثة. ولم يلاحظ أحد من العلماء المتقدمين تحول الطاء من الجهر إلى الهمس، كما لاحظ كثير منهم التحول الذي أصاب نطق الضاد. وهذه الحالة تضع قضية الطاء في إطار آخر، هو احتمال الخطأ في وصف صوت الطاء بالجهر، لكن النصوص السابقة لا سيما قول سيبويه (لولا الإطباق لصارت الطاء دالا) تقف في وجه هذا الاحتمال بقوة تجعل الدارس يحسّ بالحاجة إلى كثير من البحث قبل أن يعطي رأيا قاطعا في قضية الطاء.
(ج) مشكلة القاف:
القاف العربية الفصيحة التي ينطقها متكلمو العربية اليوم صوت مهموس (2). لكن علماء العربية وعلماء التجويد وصفوا القاف بأنها صوت مجهور (3). وقد سارع بعض المحدثين إلى القول: «إن النحاة والقراء قد أخطئوا في اعتباره مجهورا» (4). لكن المحققين من بعض المحدثين حاولوا أن يجدوا تفسيرا للسبب الذي حمل المتقدمين على وصف القاف بالجهر خارج احتمال وقوعهم في الغلط.
فذهب بعضهم إلى احتمال أن يكونوا قد وصفوا نطقا لهجيا للقاف يشبه إلى حد كبير
__________
(1) جهد المقل 63ظ، وانظر أيضا 60ظ.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 85، وجان كانتينو: دروس ص 107، ومحمود السعران: علم اللغة ص 170، ويوسف الخليفة أبو بكر: أصوات القرآن ص 82.
(3) سيبويه: الكتاب 4/ 434، ومكي: الرعاية ص 145، والداني: التحديد 27ظ.
(4) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 96.(1/212)
صوت الغين، وهو نطق للقاف شائع في السودان وبعض أنحاء العراق (1). وذهب آخرون إلى احتمال أن علماء العربية وعلماء التجويد وصفوا نطقا للقاف يشبه (الجيم القاهرية) اليوم، وهو صوت يمثل مجهور الكاف (2). وهو نطق شائع جدا في العربية الدارجة في العراق، عدا بعض المدن التي ينطق أهلها القاف مثلما ينطق في الفصحى صوتا لهويا شديدا (انفجاريا) مهموسا (3).
ويتلخص من ذلك أن في اللهجات العربية الحديثة نطقين للقاف، يتصف فيهما بالجهر، وهما:
1 - نطقها غينا أو قريبة من صوت الغين.
2 - نطقها جيما قاهرية (مجهور الكاف) (4).
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للقاف اليوم، فما تصور علماء التجويد قديما للحالة التي كان عليها صوت القاف، وما تفسير وصفهم للقاف بأنه صوت مجهور؟ هل أخطئوا أو وصفوا صوتا آخر مجهورا يمثل أحد صور القاف العربية القديمة، التي كانت غالبة على النطق آنذاك، ثم غلبت القاف المهموسة بعد ذلك حتى صارت تمثل القاف الفصحى؟
إن الأمر لا يزال بحاجة إلى كثير من النصوص لكي يتمكن الدارس من ترجيح أحد الاحتمالين السابقين، ولكن ذلك لا يمنع من أن نذكر بعض الملاحظات التي يقدمها علماء التجويد وإن كانت ليست كافية من أجل تقديم رأي قاطع حول الموضوع.
إذا رجعنا إلى كلام سيبويه عن الحروف الفرعية لا نجد ذكرا للقاف لا في الحروف المستحسنة ولا في غيرها، لكن السيرافي (ت 368هـ) ذكر صوتا متفرعا عن القاف، ينطق بين القاف والكاف، وقال عنه: «هو مثل الكاف التي كالجيم والجيم التي كالكاف» (5). وقال
__________
(1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 8685. وقد قال الأستاذ يوسف الخليفة أبو بكر، وهو من أهل السودان: «والسودانيون يبدلونها في قراءتهم للقرآن غينا أو شيئا قريبا من الغين» (انظر: أصوات القرآن ص 82). ونطق القاف غينا موجود بين بعض أهل القرى في العراق، مثل بعض القرى القريبة من مدينة بيجي، في النطق الدارج.
(2) كمال محمد بشر: الأصوات ص 141. وعبد الرحمن أيوب: محاضرات في اللغة ص 129.
(3) مثل مدينة تكريت والموصل. فالناس يقولون في مدينة تكريت مثلا قال، قلت.
(4) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 295.
(5) شرح الكتاب 6/ 451، وانظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 257.(1/213)
عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ): «ونرى اليوم من يتكلم بالقاف بين القاف والكاف، فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف» (1).
وكان سيبويه قد ذكر في الحروف الفرعية غير المستحسنة «الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف» (2). وقد قال عبد الوهاب القرطبي عن هذين الصوتين: «وأما الكاف التي بين الجيم والكاف، فذكر أبو بكر بن دريد أنها لغة في اليمن: يقولون في جمل:
كمل (3). وهي كثيرة. وقد يسمع من العوام من يقول: كمل وركل في جمل ورجل، وهي عند أهل المعرفة معيبة مرذولة. والجيم التي كالكاف مثل هذه، وهما جميعا شيء واحد، إلا أن أصل إحداهما الجيم وأصل الأخرى الكاف» (4).
وقول السيرافي إنّ نطق القاف التي بين القاف والكاف هو مثل الكاف التي كالجيم، والجيم التي كالكاف، وقول عبد الوهاب القرطبي عنها أنها مثل الكاف التي بين الجيم والكاف يؤكدان أن سيبويه أراد بقوله «الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف» صوتا هو الكاف المجهورة التي تتمثل اليوم بالجيم التي ينطقها أهل القاهرة. وأنه لم يرد الصوت المتمثل بمهموس الجيم العربية الفصحى، التي تظهر في صوت الكشكشة الشائع في نطق بني تميم لكاف المخاطبة المؤنثة في حال الوقف. كما يذهب إلى ذلك بعض المحدثين (5).
يؤيد ذلك قول ابن دريد (ت 321هـ) وهو يتحدث عن الحروف التي تزيد على التسعة والعشرين: «ومثل الحرف الذي بين القاف والكاف والجيم والكاف، وهي لغة سائرة في اليمن مثل جمل، إذا اضطروا قالوا: كمل، بين الجيم والكاف
فأما بنو تميم فإنهم يلحقون القاف بالكاف فتغلظ جدا فيقولون: الكوم يريدون: القوم، فتكون القاف بين الكاف والقاف» (6).
ومثل ذلك أيضا قول أحمد بن فارس (ت 395هـ): الحرف الذي بين القاف والكاف
__________
(1) الموضح 155ظ.
(2) الكتاب 4/ 432.
(3) انظر: ابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 5.
(4) الموضح 155و. وانظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 257.
(5) عبد الصبور شاهين: في التطور اللغوي ص 218.
(6) جمهرة اللغة 1/ 5.(1/214)
والجيم. وهي لغة سائرة في اليمن، مثل: جمل، إذا اضطروا قالوا كمل» (1). ويلاحظ القارئ هذا الفرق بين قول ابن دريد، وقول ابن فارس الذي أخذه عن ابن دريد، فإما أن نقول أن ابن دريد أراد أن يقول بين القاف والكاف وبين الجيم والكاف، وأن ابن فارس اختصر عبارة ابن دريد فحذف (الكاف) الثانية، وإما أن نقول أن هذه الكلمة زيدت على النص الأصلي عند ابن دريد.
خلاصة ذلك أن علماء العربية وعلماء التجويد لاحظوا وجود نطق للقاف في اللهجات العربية يشبه (الكاف المجهورة) التي تغلب على نطقنا للقاف اليوم في العربية الدارجة، والتي يشار إليها على أنها تمثل نطق أهل القاهرة اليوم للجيم. فهي في عاميتنا تمثل القاف، وفي عامية أهل القاهرة تمثل الجيم، فهل كان سيبويه وعلماء العربية والتجويد من بعده يصفون هذا الصوت المجهور الذي يمثل نطق القاف في بعض اللهجات العربية القديمة والحديثة معا؟.
النصوص المتيسرة تنفي أن يكون سيبويه حين وصف القاف بأنها صوت مجهور قد أراد بذلك (الكاف المجهورة)، لأنه كان قد حدد مخرج القاف من نقطة هي أعمق من النقطة التي تخرج منها الكاف (2). ومن غير المحتمل أن يغيب عن سيبويه أن (الكاف المجهورة) تخرج من موضع الكاف العربية المهموسة نفسه، ولو أنه أراد بالقاف حين وصفها بالجهر (الكاف المجهورة) لجعلهما من مخرج واحد على نحو ما فعل بعدد من الأصوات مثل: ع ح، غ خ، ط د ت، ص ز س، ظ ذ ث. فكونه فرق بين مخرج القاف ومخرج الكاف ينفي هذا الاحتمال.
والنصوص التي ذكرناها من قبل عن ابن دريد والسيرافي وعبد الوهاب القرطبي تشير إلى أن العلماء قد ميزوا منذ وقت مبكر بين القاف الفصيحة والقاف العامية التي هي (الكاف المجهورة). ومثل ذلك قول ابن الحاجب (ت 646هـ) في شرح المفصل: «وبقي حرف لم يتعرض له، وإن كان ظاهر الأمر أن العرب تتكلم به، وهي القاف التي كالكاف، كما يتكلم بها أكثر العرب اليوم، حتى توهم بعض المتأخرين أن القاف كذلك كانوا ينطقون بها، حتى توهم أنهم كذلك يقرءون بها. والظاهر أنها في كلامهم، وأن القاف الخالصة أيضا في كلامهم وأن القرآن لم يقرأ إلا بالقاف الخالصة على ما نقله الأثبات متواترا، ولو كانت تلك قرئ بها لنقلت كما نقل غيرها، ولما لم تنقل دل على أنها لم يقرأ بها، أو قرأ بها من لم يعتد بنقل عنه» (3).
__________
(1) الصاحبي في فقه اللغة ص 36.
(2) الكتاب 4/ 433.
(3) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 284.(1/215)
وجرى أبو حيان (ت 745هـ) على تسمية القاف الفصيحة بالقاف الخالصة، وسمى القاف التي كالكاف (الكاف المجهورة) باسم القاف المعقودة، فقال في كتابه (ارتشاف الضرب): «وأما القاف المعقودة، فقال السيرافي: رأينا من يتكلم بالقاف بينها وبين الكاف، انتهى. وهي الآن غالبة في لسان من يوجد في البوادي، حتى لا يكاد عربي ينطق إلا بالقاف المعقودة لا بالقاف الخالصة الموصوفة في كتب النحويين والمنقولة عن وصفها الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن» (1).
وجمع القسطلاني (ت 923هـ) في كتابه (لطائف الإشارات) بين قول ابن الحاجب وقول أبي حيان السابقين، فقال وهو يتحدث عن الأصوات الفرعية المستقبحة: «والقاف كالكاف، فرع عن القاف الخالصة، وهي الآن غالبة في لسان من يوجد في البوادي من العرب، حتى لا يكاد عربي ينطق بها إلا معقودة، أي كالكاف، حتى توهم بعضهم أن العرب كانوا يقرءون بها، لكن الظاهر أن القرآن لم يقرأ إلا بالقاف الخالصة، على ما نقله الأثبات متواترا. ولو قرئ بالمعقودة لنقل ذلك كما نقل غيره، ولما لم ينقل دلّ على أنه لم يقرأ بها» (2).
ويبدو أن ابن الجزري (ت 833هـ) أراد بقوله (الكاف الصماء) الكاف المجهورة التي سماها أبو حيان (القاف المعقودة)، وذلك حين قال: «والكاف فليعن بما فيها من الشدة والهمس لئلا يذهب بها إلى الكاف الصماء الثابتة في بعض لغات العجم فإن تلك الكاف غير جائزة في لغة العرب» (3). وحذر ابن الجزري حين تحدث عن القاف من النطق بها كالكاف الصماء فقال: «وليتحفظ مما يأتي به بعض الأعراب وبعض المغاربة في إذهاب صفة الاستعلاء منها، حتى تصير كالكاف الصماء» (4).
ويفهم من النصوص السابقة أن القاف المعقودة (الكاف المجهورة) كانت تجري على ألسنة كثير من العرب منذ أوائل القرن الرابع الهجري. وهي لا تزال طاغية على ألسنة كثير من متكلمي العربية في اللغة الدارجة، وعلى الرغم من ذلك فإن أقوال العلماء تؤكد على أن هذا النطق للقاف لا يمثل القاف الفصحى التي يقرأ بها القرآن ويتكلم بها الفصحاء، فقول سيبويه
__________
(1) ارتشاف الضرب ص 4.
(2) لطائف الإشارات 1/ 185.
(3) النشر 1/ 221.
(4) النشر 1/ 221.(1/216)
بأن القاف مجهورة لا يمكن أن يحمل إذن على (القاف المعقودة الكاف المجهورة) التي يسميها بعض المحدثين بالجيم القاهرية. ولا بد من البحث عن تفسير آخر لقوله.
ويبدو أننا لن نجد ذلك التفسير في نطق القاف غينا أو قريبا جدا من الغين، كما هو الغالب على ألسنة بعض العرب اليوم، كما ذكرنا قبل قليل، لأن من غير المعقول أن يغيب عن نظر علماء العربية وعلماء التجويد ذلك القرب الشديد حينئذ بين نطق القاف ونطق الغين، ولو أن سيبويه حين وصف القاف بأنها صوت مجهور أراد صوتا يشبه الغين لما وصف القاف بأنها صوت شديد، فمن غير المعقول ألا يفطن سيبويه إلى رخاوة ذلك الصوت، وهو فعلا قد وصف الغين وأختها الخاء بأنها أصوات رخوة، فهذا المذهب في تفسير كلام سيبويه حين وصف القاف بأنها صوت مجهور أبعد عن الواقع من المذهب السابق، لا سيما أن علماء العربية وعلماء التجويد لم يشيروا إلى هذا الاتجاه في نطق القاف، وهو اليوم أقل شيوعا فيما يبدو من نطق القاف المعقودة (أي الكاف المجهورة).
ولم يبق أمامنا إلا أن ننعم النظر في صوت القاف العربية الفصحى المهموسة التي يقرأ بها القرّاء القرآن اليوم وينطقها المثقفون حين يتحدثون بالعربية الفصحى، لنرى هل لها أصل في الجهر، وهل غمض أمرها حتى وهم سيبويه وغيره في عدّها صوتا مجهورا؟.
إن من الأمور التي يقررها علماء الأصوات المحدثون أن الفراغ الحلقي الممتد من الحنجرة إلى ما يقارب أقصى اللسان واللهاة يصعب إنتاج أصوات شديدة (انفجارية) فيه. أما الصوت الرخو (الاحتكاكي) فكثير الوقوع، ويمثل ذلك الصوتان العربيان الحاء والعين (1).
ويبدو أن الجزء الذي يخرج منه الغين والخاء، وهو أدنى الحلق من الفم، يشكل الحد الفاصل بين ما يمكن أن ينتج فيه صوت شديد وما لا يمكن ذلك فيه. فالقاف تخرج من منطقة قريبة جدا من مخرج الغين والخاء، وهي صوت شديد (انفجاري).
والذي يهمنا من الملاحظة السابقة في الموضوع الذي نبحث فيه هنا هو أن الدارس إذا حاول أن ينطق بالصوت المجهور الذي يقابل القاف العربية الفصحى التي ننطقها اليوم مهموسة استعصى عليه ذلك إلى حد الاستحالة إذا هو حاول الاحتفاظ بهذا الصوت شديدا مع إعطائه صفة الجهر، ولهذا نجد دارسي الأصوات العربية المحدثين يشيرون إلى أن مجهور القاف هو صوت يشبه الغين، وإن كانت تلك الإشارة تفتقر إلى الوضوح في بعض جوانبها. يقول
__________
(1) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 94.(1/217)
الدكتور محمود السعران: «أما النظير المجهور للقاف، الذي يحدث في نفس الموضع وبنفس الكيفية، ولكن يتذبذب معه الوتران الصوتيان، فليس من جملة الأصوات العربية الفصحى الآن، إلا أنه يسمع في بعض العاميات» (1) وقد أشار السعران إلى أنه اقتبس هذه الفكرة من كتاب (الأصوات اللغوية) للدكتور إبراهيم أنيس.
وحين نرجع إلى كتاب (الأصوات اللغوية) للدكتور إبراهيم أنيس نجد فرقا جوهريا بين تصور الدكتور السعران لمجهور القاف وما هو مذكور في كتاب (الأصوات اللغوية). فالمثال المقدم على أساس أنه يمثل مجهور القاف لا يحدث بنفس الكيفية التي يحدث بها صوت القاف المهموس، وأن الفرق بينهما يتعدى ذبذبة الوترين الصوتيين، إلى صفة الشدة والرخاوة. فالدكتور إبراهيم أنيس يقدم لنا نطق بعض القبائل العربية في السودان وبعض القبائل في جنوب العراق لصوت القاف على أنه القاف المجهورة التي ذكرها سيبويه ويقول:
«نسمعها منهم نوعا من الغين» (2). ولكنه يلاحظ فرقا بين القاف الفصحى المهموسة وبين ذلك الصوت الذي يرجح أنه يمثل القاف العربية التي وصفها سيبويه بأنها صوت مجهور، يقول:
«لهذا نفترض هنا أن القاف الأصلية كانت تشبه ذلك الصوت المجهور الذي نسمعه الآن من بعض القبائل السودانية، ثم همس مع توالي الزمن وأصابته صفة الشدة فأدى هذا إلى ما نعهده في قراءتنا. إذ لا فرق بين نطق السودانيين للقاف وبين نطق المجيدين للقراءة من المصريين لها إلا في أنها مجهورة وأميل إلى الرخاوة عند السودانيين، مهموسة شديدة عند المصريين» (3).
ونحتاج إلى التأكيد على عبارة واحدة من هذا النص وهي (وأميل إلى الرخاوة). بل إننا حين نتأمل نطق بعض القرويين للقاف صوتا مجهورا مثل الغين نلاحظ أنه رخو إلى درجة لا يختلف عن الغين في شيء.
إذا صح أننا لا نستطيع أن ننطق صوتا مجهورا يقابل في خصائصه القاف العربية المهموسة التي ننطقها اليوم ولا يختلف عنه إلا بالجهر فإن ذلك يعني أن القاف العربية الفصحى التي ننطق بها اليوم صوت فذ كالضاد العربية القديمة التي قال عنها سيبويه إنها إذا أزيل عنها الإطباق خرجت من الكلام لأنه ليس من موضعها حرف غيرها. وكذلك هذه القاف إذا أزيل همسها ولحقها الجهر خرجت إلى صوت آخر يخالفه في عدة خصائص، وهو
__________
(1) علم اللغة ص 170وانظر: عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 214.
(2) الأصوات اللغوية ص 85.
(3) الأصوات اللغوية ص 86.(1/218)
صوت الغين.
ولعل من الممكن هنا أن نقدم تفسيرا لإمكانية إنتاج القاف مهموسة وصعوبة إنتاجها مجهورة من نفس الموضع مع المحافظة على شدتها، يتمثل في أن الموضع الذي يخرج منه القاف يضعف تحكم الناطق به، فهو ليس مثل طرف اللسان حين ننطق التاء المهموسة ثم الدال المجهورة، أو الطاء المهموسة ثم الضاد المجهورة حسب النطق المعاصر، ويبدو أن قوة تيار النّفس مع الصوت المهموس تساعد على إحكام الضغط حين النطق بالقاف المهموسة، وأن الجهر يؤدي إلى ضعف تيار النّفس لأن اعتراض الوترين الصوتيين يضعف أثر الخفقة التي يحدثها ضغط الحجاب الحاجز على الرئتين ومن ثم يؤدي ضعف تيار النّفس مع ما فيه من أثر تردد وذبذبة الوترين الصوتيين إلى صعوبة التحكم في مخرج القاف بحيث تظل شديدة ومجهورة في وقت واحد. على أننا إذا تقدمنا شيئا يسيرا باتجاه طرف اللسان من مخرج القاف أمكننا أن ننطق بالكاف مهموسة، وأن ننطق بالكاف مجهورة، من غير أن يغير الجهر الذي يلحق الكاف شيئا من خصائصها الصوتية الأخرى.
إن النتيجة السابقة تجعلنا أمام احتمال أخير حول وصف سيبويه للقاف بأنها صوت مجهور، فإذا كنا لا نستطيع أن نحمل قول سيبويه على أنه وصف للكاف المجهورة التي سماها أبو حيان القاف المعقودة، وهي التي يسميها المحدثون بالجيم القاهرية كما أننا لا نستطيع أن نحمله على أنه وصف لنطق السودانيين للقاف الذي هو أشبه بالغين فإنه لم يبق أمامنا إلا أن نقول إن سيبويه وهم في نسبة الجهر إلى القاف. وهو أمر لا نستطيع أن نقطع به، وكل ما يمكن أن نقوله باطمئنان هو أن القاف في نطقنا الفصيح اليوم صوت مهموس وأن سيبويه وعلماء العربية وعلماء التجويد وصفوا القاف بأنها صوت مجهور، وأن وسائلنا الآن عاجزة عن تفسير هذا الوصف على نحو أكيد.
2 - الشدة والرخاوة والتوسط بينهما:
يعتمد هذا التصنيف على كيفية مرور الهواء في مخرج الحرف، فإذا حبس النّفس في مخرج الحرف حبسا تاما ثم أطلق بعد ضغطه لحظة كان الصوت شديدا (انفجاريا)، وإذا حصل تضييق لمجرى النّفس في مخرج الحرف دون أن يحتبس كان الصوت رخوا (احتكاكيا). وبعض الأصوات يحصل في أثناء النطق به اعتراض لمجرى النّفس في مخرجه، ولكن من غير أن يحصل حبس تام، لأن النّفس يجد له منفذا يتسرب منه، ويسمى الصوت
حينئذ متوسطا. وسبق أن بيّنا ذلك عند الحديث عن إنتاج الأصوات اللغوية (1). والذي نريد أن نقف عنده هنا هو كيفية تحديد الأصوات الشديدة والرخوة والمتوسطة لدى علماء التجويد.(1/219)
يعتمد هذا التصنيف على كيفية مرور الهواء في مخرج الحرف، فإذا حبس النّفس في مخرج الحرف حبسا تاما ثم أطلق بعد ضغطه لحظة كان الصوت شديدا (انفجاريا)، وإذا حصل تضييق لمجرى النّفس في مخرج الحرف دون أن يحتبس كان الصوت رخوا (احتكاكيا). وبعض الأصوات يحصل في أثناء النطق به اعتراض لمجرى النّفس في مخرجه، ولكن من غير أن يحصل حبس تام، لأن النّفس يجد له منفذا يتسرب منه، ويسمى الصوت
حينئذ متوسطا. وسبق أن بيّنا ذلك عند الحديث عن إنتاج الأصوات اللغوية (1). والذي نريد أن نقف عنده هنا هو كيفية تحديد الأصوات الشديدة والرخوة والمتوسطة لدى علماء التجويد.
كان سيبويه قد حصر الحروف الشديدة في: الهمزة والقاف والكاف والجيم والطاء والتاء والدال والباء. والحروف الرخوة في: الهاء والحاء والغين والخاء والشين والصاد والضاد والزاي والسين والظاء والثاء والذال والفاء. ثم قال: «وأما العين فبين الرخوة والشديدة، تصل إلى الترديد فيها لشبهها بالحاء». ثم ذكر سيبويه الحرف المنحرف، وهو اللام، وحرفي الغنة وهما النون والميم، والمكرر هو الراء، واللينة وهي الواو والياء، ثم الهاوي وهو الألف. واستغرق بذلك جميع حروف العربية ورتبها على وفق كيفية مرور الهواء في مخارجها (2).
وسار علماء العربية على نهج سيبويه في تصنيف الحروف العربية إلى شديدة ورخوة، وعدّوا كل ما عداها قسما ثالثا، سموه الحروف التي بين الشديدة والرخوة، وهو ما سمي في وقت متأخر بالحروف البينية والمتوسطة، وإن كان سيبويه لم يصرح بالبينية إلا في صوت العين. وقال ابن جني: «وللحروف انقسام آخر إلى الشدة والرخاوة وما بينهما. فالشديدة ثمانية أحرف ويجمعها في اللفظ (أجدت طبقك) و (أجدك طبقت). والحروف التي بين الشديدة والرخوة ثمانية أيضا. وهي الألف والعين والياء واللام والنون والراء والميم والواو، ويجمعها في اللفظ (لم يرو عنّا)، وإن شئت قلت: (لم يرو عنا) وإن شئت قلت: (لم يرعونا)، وما سوى هذه الحروف والتي قبلها، هي الرخوة» (3).
وقد تابع علماء التجويد سيبويه وغيره من علماء العربية المتقدمين في تصنيف الحروف إلى شديدة ورخوة ومتوسطة. وكانت لهم في هذا الميدان إضافات وتفسيرات ذات شأن، فعالجوا المشكلات التي تتعلق بهذا الموضوع. وهي تتلخص في حصر الحروف المتوسطة، وفي وصف الضاد بأنها رخوة، وهي في نطق بعض العرب اليوم شديدة، ونضم إلى ذلك بحث وصف بعض المحدثين للجيم بأنه صوت مركب.
__________
(1) انظر ص 139من هذا البحث.
(2) انظر: الكتاب 4/ 435434.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 7069.(1/220)
(أ) الحروف المتوسطة:
أما عدد الحروف التي بين الشديدة والرخوة (أي المتوسطة) فإن بعض علماء التجويد تابع علماء العربية في عدها ثمانية يجمعها (لم يروعنا) (1). بينما أخرج بعضهم الواو والياء والألف من الحروف المتوسطة. قال أبو عمرو الداني: «والشديد ثمانية أحرف وما عدا هذه الشديدة على نوعين: شديد يجري فيه الصوت، ورخو. أما الشديد الذي يجري فيه الصوت فخمسة أحرف يجمعها قولك (لم نرع): العين والنون واللام والراء والميم، اشتد لزومها لموضعها، ثم تجافى بها اللسان عن موضعها، فجرى فيها الصوت لتجافيها.
أما العين: فتجافى بها اللسان فجرى فيها الصوت لشبهها بالحاء.
وأما الراء: فتجافى بها اللسان عن موضعها للتكرير الذي فيها، فجرى الصوت.
وأما اللام: فتجافى ما فوق حافة اللسان بها عن موضعها لانحرافها، فجرى فيه الصوت لا من موضع اللام، ولكن من ناحيتي مستدق اللسان فويق ذلك.
وأما النون والميم فتجافى اللسان بهما إلى موضع الغنة، وهو الألف، فجرى فيها الصوت» (2).
وتابع المرعشي القائلين بأن الحروف المتوسطة خمسة (3). ثم ناقش مذهب القائلين بأنها ثمانية وقال: «وزاد في الرعاية الواو والياء والألف في البينية وأتى في جمعها بقوله: لم يروعنا. وصرح بأن حروف الرخو ثلاثة عشر، فظهر أن في هذه الحروف الثلاثة اختلافا في أنها من الحروف الرخو أو من الحروف البينية. والظاهر أن المراد من الواو والياء ما ليسا بمديين كما يشهد به وقوعهما في: لم يروعنا، لكن أقول: كيف يكون الألف المدية من البينية مع أن الظاهر أنها أكمل حروف الرخو رخاوة، إذ معنى الرخاوة اللين وجريان الصوت؟!» (4).
ونقل أبو شامة في شرح الشاطبية أن مكيا عد المتوسطة سبعة، وهذا شيء يخالف ما نقلناه عن كتاب الرعاية، ولكنه مذهب يوافق ما يراه المرعشي من إخراج الألف منها، واعتبار
__________
(1) مكي الرعاية ص 94. وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 156و.
(2) التحديد 18و. وانظر: العطار: التمهيد 145ظ، وأبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 10.
(3) جهد المقل 12و.
(4) بيان جهد المقل 16و.(1/221)
الواو والياء غير مديتين، قال أبو شامة: «قال مكي في بعض تصانيفه: الرخاوة فيما عدا الشديدة إلّا سبعة أحرف يجمعها قولك (نولي عمر)، فإنها بين الرخاوة والشدة، فأدخل فيها الواو والياء ولم يدخل الألف» (1). ولا نستطيع أن نحدد الآن المصدر الذي نقل عنه أبو شامة هذا النص.
فالحروف الشديدة إذن ثمانية، والرخوة ثلاثة عشر، والمتوسطة ثمانية على رأي بعض العلماء، وخمسة على رأي آخرين، والخلاف في الحروف الثلاثة: الألف والواو والياء.
ويبدو أن الذين يعدون الحروف المتوسطة خمسة هي (لم نرع)، ويعدون الرخوة ثلاثة عشر حرفا يعتبرون الألف والواو والياء قسما رابعا لا يدخل في أي من الأقسام الثلاثة. وهو الظاهر من كلام الداني السابق.
وصرح المرعشي في كتابه (جهد المقل) أن الحروف الرخوة ستة عشر حرفا بضمنها الواو والياء مديين أو لا والألف (2). لكنه فصل في كتابه (بيان جهد المقل) وفرق بين الياء والواو فإذا كانا غير مديين ألحقهما بالمتوسطة، وإذا كانا مديين ألحقهما مع الألف بالرخوة، بناء على مذهبه في كون حروف العربية واحدا وثلاثين حرفا، وعلى هذا تكون الحروف المتوسطة لديه سبعة (3).
ويترجح لديّ مذهب الداني في عد المتوسطة خمسة هي (لم نرع)، على اعتبار أن الحروف المتوسطة هي التي يقوم في طريقها عائق كالشديدة، لكن النّفس لا ينحصر في مخرجها انحصاره في الشديدة، إنما يجد له منفذا يجري فيه جريانه في الرخوة. وكذلك يترجح لديّ تفريق المرعشي بين حالتين للواو والياء، وذلك باعتبار هما حرفي مدّ مرة، وباعتبارهما ليسا حرفي مد أخرى. ولكني لا أرى أن يجعلا وهما حرفا مد من الحروف الرخوة، وإنما تعامل حروف المد الثلاثة (الألف والواو والياء) معاملة خاصة، لأنها تعد قسما قائما بذاته في مقابل جميع الحروف الجوامد. وتقسيم الحروف إلى شديدة ومتوسطة ورخوة شيء خاص بالحروف الجوامد. أما الحروف الذائبة (حروف المد الثلاثة) فهي أصوات بائنة من جميع الحروف، وذلك بجريان النفس معها حرا طليقا من غير أن يعترضه تضييق لمجراه كالذي يحدث في الحروف الرخوة.
__________
(1) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 10.
(2) جهد المقل 12و.
(3) بيان جهد المقل 16و. وانظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 170.(1/222)
يبقى بعد ذلك الواو والياء إذا لم يكونا حرفي مد، وكانا من الحروف الجامدة، أنعدّهما من الحروف الرخوة أم المتوسطة؟ إذا أخذنا بالمفهوم السابق للحروف المتوسطة، وهو قيام عائق في مجرى النّفس لا يحول دون جريانه، فإن الواو والياء من هذه الناحية من الحروف الرخوة، وإذا قلنا إن الحروف المتوسطة هي ما ليس بشديدة ولا رخوة وراعينا ما في الواو والياء من اللين، أمكن عدّهما من الحروف المتوسطة. وأنا أميل إلى الرأي الأول لأنه يقوم على أساس واضح في تحديد معنى المتوسطة.
وإذ بلغنا هذا الشوط في مناقشة هذا التصنيف فلنا أن نسأل عن موقف الدرس الصوتي الحديث منه، هل يقره أو يرفضه أو يعدله؟ قال المستشرق الألماني برجستراسر: «أنهم أثبتوا صفة ثالثة بين الشدة والرخوة، وهي التوسط. والحروف المتوسطة كلها مجهورة عندهم وهي: ع ل ن ر م. فنقول: إنه وإن كانت هذه الحروف، إلا العين، متمادية بدون شك، فلهم مع ذلك حق في تمييزها عن الرخوة والمجهورة» (1).
وقال أ. شاده، وهو مستشرق ألماني أيضا، متحدثا عن بعض آراء سيبويه الصوتية:
«وأصاب سيبويه أيضا في أنه هناك حروف هي شديدة من جهة ورخوة من جهة أخرى. وعد من هذا النوع المشترك: العين واللام والنون والميم والراء» (2).
وقال المستشرق الفرنسي جان كانتينو، وهو يتحدث عن هذا التقسيم: «فلا يبقى مجال للشك في صحة هذا الترتيب إلا في ما يتعلق بحرف العين. وما عدا ذلك فإن الترتيب مطابق لترتيب علماء الأصوات العصريين» (3).
وإذا نظرنا في موقف دارسي الأصوات اللغوية من العرب في هذا التقسيم وجدنا من ينتقد هذا التقسيم ويعترض عليه، ولا يرى مجالا لقبوله إلا إذا حملناه على معنى معين، فقال بعد مناقشته للموضوع: «ومهما يكن من أمر، فالواجب تفسير المصطلح (أصوات متوسطة) بأن المقصود أنها أصوات متوسطة بين الصامتة بعامة (يعني الجامدة) والحركات (يعني الذائبة)، لا بين الأصوات الشديدة والاحتكاكية (أي الرخوة). ويبدو أن من سماها كذلك من العرب قد خانه التوفيق في التعبير» (4).
__________
(1) التطور النحوي ص 8.
(2) علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931العدد الخامس ص 10.
(3) دروس ص 36.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 170.(1/223)
ونحن لا ننكر أن هناك شبها بين الحروف المتوسطة وبين الحركات (أي الحروف الذائبة) لا سيما (ل م ن)، وذلك من حيث كيفية مرور الهواء في مخارجها، وعلماء التجويد أنفسهم يصرحون بذلك الشبه، قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ): «وأيضا فإن المد الذي في الواو بمثابة الغنة التي في الميم» (1). وقال: «أما النون الخفيفة فإنها النون الساكنة التي مخرجها من الخيشوم، نحو النون في منك وعنك ومن زيد. وهي صوت يجري في الخيشوم جريان حروف المد واللين في مواضعها» (2). وقال ناصر الدين الطبلاوي (ت 966هـ): «إن النون الساكنة والتنوين حرفا غنة، ولا بد لهما من شبه مد، فشاركا الواو والياء في المد في الجملة» (3).
ولكن لا يعني وجود شبه بين الحروف المتوسطة وبين الحروف الذائبة أننا يجب أن نلغي تقسيم علماء العربية وعلماء التجويد المبني على مفهوم واضح وهو أن هذه الأصوات لا تحقق في إنتاجها صفة الأصوات الشديدة بشكل كامل، وكذلك هي لا تتحقق فيها صفة الأصوات الرخوة بشكل كامل. فهي تبدأ بحبس للنّفس يشبه ما يحصل في الحروف الشديدة، ولكن النّفس يجد له منفذا من غير موضع ذلك الاحتباس فيجري جريانه في الحروف الرخوة، وهذه هي صفة هذه الأصوات بشكل عام.
وحين نمعن النظر في كلام هذا المعترض نجد أنه لا يعدو أن يكون جدلا لفظيا وإلا ماذا يمكن أن يقول الدارس المدقق عن مثل قوله: «وهي في رأيهم متوسطة بين الشدة والرخاوة (بين الانفجار والاحتكاك). وهذا في نظرنا تقدير غير دقيق، إلا إذا قصد بها أنها ليست انفجارية، ولا احتكاكية، وإنما هي نوع مستقل. وكان الأولى بهؤلاء القوم أن يحكموا عليها بأنها متوسطة بين الأصوات الصامتة والحركات (لا بين الانفجارية والاحتكاكية) فهي كما رأيت تتسم بخواص الأصوات الصامتة ولكنها في الوقت نفسه تبدي شبها معينا بالحركات، ومن ثم أطلقنا عليها نحن أشباه الحركات (4).
ونحن لا نعترض على إطلاقه مصطلح (أشباه الحركات)، وهو مصطلح لا نستبعد أنه
__________
(1) الموضح 170ظ.
(2) الموضح 153ظ.
(3) مرشدة المشتغلين 3ظ.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 169.(1/224)
اقتبسه من مصادر دراسته الأجنبية (1). وإن كنت أتعجب من قوله: «أما الراء فهو شبيه بالحركات، لما يوجد عند النطق به من نوع من حرية للهواء بسبب الاتصال والانفصال المتكررين» (2). فإذا كانت الراء هي عبارة عن تتابع طرقات طرف اللسان على اللثة تتابعا سريعا (3)، وهي طرقات تتضمن قفلا لمجرى الهواء وإن كان سريعا جدا، تعتبر حرفا شبيها بالحركات، فإن اعتبار جميع الحروف الرخوة شبيهة بالحركات يعد أمرا مقبولا حينئذ وهو ما لا يقول به أحد.
إننا لا نجد في مذهب علماء العربية وعلماء التجويد في تقسيم الحروف إلى: شديدة ورخوة ومتوسطة ما يحمل على القول بأن عملهم هذا غير دقيق، لا سيما أن علماء الأصوات المحدثين يقرون ذلك التقسيم ويعدونه صحيحا. وما كان يمنع هذا المعترض من قبول هذا التقسيم على اعتبار أن المتوسطة قسم ثالث يخالف الشديدة ويخالف الرخوة أو (هي من نوع مستقل) كما يقول هو. ثم له أن يقول بعد ذلك هي متوسطة بين الأصوات الصامتة والحركات. فهذا التقسيم الثلاثي: شديدة ورخوة ومتوسطة خاص بالأصوات الجامدة، وهو مبني على كيفية مرور الهواء في المخرج، وإذا أراد الدارس أن يوازن بين مجموع الأصوات الجامدة وبين الأصوات الذائبة فلا شك أنه سيجد بعض الأصوات الجامدة تقترب من الأصوات الذائبة في كيفية مرور الهواء في مخارجها، وهنا يكون مقبولا أن نعبر عنها بأنها (أشباه الحركات) أو (أشباه الذوائب). ومن غير المقبول أن نعمد إلى مصطلح (المتوسطة) الذي صارت له دلالة محددة في تراث العرب الصوتي ونجرده من تلك الدلالة لنستخدمه في الدلالة على ما يسمى بأشباه الحركات.
ويلاحظ أن بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين يتوقفون عند عدّ العين صوتا متوسطا، ونجدهم متحيرين في فهم الأساس الذي اعتمد عليه سيبويه ومن تابعه في عد العين كذلك، ومن ثم مال بعضهم إلى إخراج العين من الحروف المتوسطة وعدّها صوتا رخوا (احتكاكيا) (4). وصرح آخرون بقبولهم عدّ العين حرفا
__________
(1) انظر للتأكد من ذلك: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي هامش (1) ص 101.
(2) كمال محمد بشر: الأصوات ص 168.
(3) محمود السعران: علم اللغة ص 187.
(4) انظر: تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 102، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 156، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 302.(1/225)
متوسطا (1).
وكان محمد المرعشي قد توقف عند هذا الموضوع وقدّم تفسيرا لعد العين حرفا بينيا أي متوسطا. قال: «ويجب أن يتحرز عن حصر صوت العين بالكلية إذا شدد، نحو {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2] و {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى ََ نََارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] لئلا يصير من الحروف الشديدة. قال الرضي: ينسل صوت العين قليلا (2). أقول: ولذا عدّ من الحروف البينية» (3). وما قاله المرعشي صحيح، حسب ما نلاحظ، فإن العين المشددة تكاد تكون صوتا (شديدا) كما في (يدعّ)، ومهما حاول الناطق إجراء النّفس مع العين وتمديد النطق بها، وهذا من خواص الحروف الرخوة، فإنه لن يصل إلى ذلك إلا بمشقة، وعلى نحو محدود. بينما يمكن للناطق أن يمد صوته بالحاء ساكنة كانت أو مشددة، وربما أثرت صفة الجهر على العين، وما يصاحب ذلك من اضطراب عمود الهواء بالنغمة المتولدة من اهتزاز الوترين الصوتيين، فاختلف حالها من ثمّ عن حال الحاء.
وحاول الدكتور حسام النعيمي أن يقيم الدليل على صحة وصف العين بأنها متوسطة من خلال الموازنة بينها وبين الهمزة والحاء أثناء الوقف، فقال: «ويمكن معرفة ذلك بنطقها في كلمة (ارجع) مثلا ومقارنتها بصوتي الهمزة والحاء في كلمتي (أرجئ) و (أرجح)، إذ يمكن أن نحس بوقفة الهمزة الأخيرة في (أرجئ) أو شدتها أو انفجارها، كما عبروا، ولا يمكن إجراء الصوت بها، ونحس بسهولة جريان الصوت في حاء (أرجح) الاحتكاكية أو الرخوة. أما عين (ارجع) فيمكن أن يجري النفس بها ولكن ليس بسهولة جريه في الحاء، فهي بين الهمزة الشديدة والحاء الرخوة، ولذا عبروا عنها أنها بين الشدة والرخاوة» (4).
وكان الأستاذ أ. شاده قد قال: «وأما الراء والعين فهما من هذا النوع لأن العارض فيهما ليس بمتصل بل هو متفرق» (5). ولعلنا نجد هذه النصوص تفسيرا لقول سيبويه: «وأما العين
__________
(1) برجستراسر: التطور النحوي ص 8. وأ. شاده: علم الأصوات عند سيبويه وعندنا. صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931، العدد الخامس ص 10.
(2) انظر: شرح الشافية 3/ 260.
(3) جهد المقل 58ظ.
(4) حسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 317.
(5) علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931العدد الخامس ص 10.(1/226)
فبين الرخوة والشديدة، تصل إلى الترديد فيها لشبهها بالحاء» (1). وتصح بذلك نظرية علماء العربية وعلماء التجويد في تقسيم الأصوات إلى: شديدة ورخوة ومتوسطة تبعا لكيفية مرور الهواء في المخرج. مع ملاحظة أن المتوسطة تمثل قسما يضم عددا من الأنواع فالنون والميم أنفية، واللام جانبية (منحرفة)، والراء مكررة، ومعها العين التي يمكن أن نشتق لها وصفا من عبارة سيبويه السابقة فنقول: والعين مترددة. دون أن يكون من اليسير تقديم تفسير محدد لها، سوى أنها متوسطة بين الشديدة والرخوة.
(ب) مشكلة الضاد العربية:
أما صوت الضاد فإنه من الأصوات الرخوة عند علماء العربية وعلماء التجويد، وهو يخرج عندهم من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس. والضاد بهذه الصفات إلى جانب ما وصفوه به من كونه مجهورا مستطيلا مطبقا (2)، يعد صوتا غريبا عند بعض المحدثين لأنه لا يوجد إلا في العربية (3). كما أنه اختفى في النطق، ولم يعد يسمع من الناطقين بالعربية اليوم على تلك الصفة التي حددها علماء العربية وعلماء التجويد. بل صار على ألسنة بعضهم دالا مفخمة، كما في مصر، وصار على ألسنة آخرين صوتا لا يختلف عن الظاء في شيء كما في العراق (4).
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لصوت الضاد، فكيف كان إدراك علماء التجويد لمشكلة الضاد، وهل أبدوا فيها رأيا أو سجلوا حولها ملاحظة تعين في تتبع تطور هذا الصوت حتى اختفى شكله القديم وآل إلى صور متعددة؟.
إن مشكلة الضاد قديمة في العربية، فقد ذكر سيبويه من الحروف غير المستحسنة (الضاد الضعيفة) (5). ويبدو أن المشكلة أقدم من ذلك فقد وردت أخبار تشير إلى الخلط بين الضاد
__________
(1) الكتاب 4/ 435.
(2) مكي: الرعاية ص 158. والداني: التحديد 39و.
(3) برجستراسر: التطور النحوي ص 10.
(4) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 4948، وجان كانتينو: دروس ص 87. وهنري فليش:
العربية الفصحى ص 37. ويوسف الخليفة أبو بكر: أصوات القرآن ص 69. وحسام النعيمي الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 306.
(5) الكتاب 4/ 432.(1/227)
والظاء ترجع إلى عصر صدر الإسلام (1). ونقل ابن الجزري في كتابه التمهيد: «أن من العرب من يجعل الضاد ظاء مطلقا في جميع كلامهم» (2).
ويمكن للدارس أن يلاحظ اتجاهين في معالجة مشكلة الضاد، الأول يتمثل في العناية بالألفاظ التي تنطق بالضاد والظاء، والاشتغال بحصرها وتأليف الرسائل في ذلك، وهي مؤلفات تشبه المعاجم الصغيرة التي تعنى بقسم من ألفاظ اللغة، وهذا الاتجاه هو الذي استأثر بجهود اللغويين والنحاة. وتركوا في ذلك مؤلفات كثيرة تهتم بالتمييز الكتابي بين الضاد والظاء، ولا تتعرض للتمييز النطقي بينهما (3).
والاتجاه الثاني في معالجة مشكلة الضاد يتمثل بدراسة الخصائص النطقية لصوت الضاد، والانحرافات التي تلحقه على ألسنة الناطقين، وتوضيح الصورة الصحيحة لنطقه.
وكان لعلماء التجويد القسط الأكبر في هذا المجال، حتى إنهم ألفوا في ذلك المؤلفات المستقلة التي تهتم بنواحي النطق من غير أن تتعرض لحصر الألفاظ التي تكتب بالضاد أو الظاء، وهذه المؤلفات لم تحظ بعناية الباحثين كما حظيت المجموعة الأولى التي حقّق عدد من كتبها، وأحصيت مخطوطاتها (4).
وقد سجل علماء التجويد في كتبهم كثيرا من الظواهر المتعلقة بنطق الضاد عبر قرون كثيرة، فنجد مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) يؤكد في كتابه (الرعاية) على قضيتين الأولى:
صعوبة نطق الضاد، والثانية اختلاطها بالظاء. وذلك حيث يقول: «والضاد يشبه لفظها لفظ الظاء. لأنها من حروف الإطباق ومن الحروف المستعلية، ومن الحروف المجهورة. ولولا اختلاف المخرجين وما في الضاد من الاستطالة لكان لفظها واحدا، ولم يختلفا في السمع
ولا بد له (للقارئ) من التحفظ بلفظ الضاد حيث وقعت، فهو أمر يقصر فيه أكثر من رأيت من
__________
(1) ذكر أبو العلاء الهمذاني العطار (التمهيد 99ظ) أن أعرابيا خلط بين الضاد والظاء عند عمر بن الخطاب حين نطق (الظبي) بالضاد فاعترض عليه عمر، رضي الله عنه.
(2) التمهيد في علم التجويد ص 43.
(3) أحصى الدكتور حاتم الضامن في مقدمة تحقيقه لكتاب (الاعتماد في نظائر الظاء والضاد لابن مالك) الكتب المؤلفة في ذلك، حتى بلغت أكثر من أربعين كتابا. (انظر: الاعتماد ص 82، منشور في مجلة المجمع العلمي العراقي ج 3مج 31).
(4) انظر أسماء بعض تلك الكتب في المبحث الثاني من الفصل الأول من هذا البحث رقم (34) من قائمة مصادر علم التجويد.(1/228)
القراء والأئمة، لصعوبة من لم يدرب فيها، فلا بد للقارئ المجوّد أن يلفظ بالضاد مفخّمة مستعلية منطبقة مستطيلة، فيظهر صوت خروج الريح عند ضغط حافة اللسان بما يليه من الأضراس عند اللفظ بها. ومتى فرط في ذلك أتى بلفظ الظاء أو بلفظ الذال فيكون مبدلا ومغيّرا. والضاد أصعب الحروف تكلفا في المخرج وأشدها صعوبة على اللافظ، فمتى لم يتكلف القارئ إخراجها على حقها أتى بغير لفظها، وأخل بقراءته، ومن تكلف ذلك وتمادى عليه صار له التجويد بلفظها عادة وطبعا وسجية» (1).
وقال الداني (ت 444هـ): «ومن آكد ما على القراء أن يخلصوه من حرف الظاء بإخراجه من موضعه، وإيفائه حقه من الاستطالة، ولا سيما فيما يفترق معناه من الكلام، فينبغي أن ينعم بيانه ليتميز بذلك» (2).
وقال عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ): «وأكثر القراء اليوم على إخراج الضاد من مخرج الظاء، ويجب أن تكون العناية بتحقيقها تامة» (3).
وقال ابن وثيق (ت 654هـ): «وقلّ من يحكمها في الناس» (4).
وقال الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ): «والضاد حرف قوي صعب يعسر بيانه على كثير من الناس وتصحيح نطق الضاد وتجويده لا بد للقارئ منه ولا غنى له عنه.
وذلك متوقف على ثلاثة أمور: الأول: معرفة مخرجه، والثاني: معرفة صفاته، والثالث:
معرفة ما يشبه لفظه بلفظ غيره من الحروف». ووضح المرادي مخرج الضاد وصفاته ثم قال:
«وأما ما يشبه لفظه بلفظ الضاد من الحروف فحرفان، وهو الظاء واللام، وذلك لأن الظاء يشارك الضاد في أوصافه المذكورة غير الاستطالة، فلذلك اشتد شبهه به وعسر التمييز بينهما، واحتاج القارئ في ذلك إلى الرياضة التامة، ولكن مخرج الظاء متميز عن مخرج الضاد، لا اتصال بين مخرجيهما، ولولا اختلاف المخرجين وما في الضاد من الاستطالة لا تحدا في السمع».
«واللام يشارك الضاد في المخرج لأن الضاد من أقصى الحافة واللام من أدنى الحافة.
والضاد حرف مستطيل استطال في مخرجه وامتد صوته حتى اتصل بمخرج اللام، فكذلك شابه
__________
(1) الرعاية ص 159158، وانظر في المعنى نفسه أيضا ص 194.
(2) التحديد 39ظ.
(3) الموضح 163و.
(4) كتاب في تجويد القراءة 79و.(1/229)
لفظه لفظ اللام المفخمة، وربما أخرجه بعض الناس لاما مفخمة، واللام تشارك الضاد في مخرجه لا في أوصافه، إذ ليس فيها شيء من صفات الضاد المذكورة، إلا أنها بين الرخوة والشديدة، فتوافقه في شيء من الرخاوة، فهي بعكس الظاء، لأن الظاء تشارك الضاد في أوصافه لا في مخرجه.
إذا تقررت هذه الأمور فاعلم أن الضاد أشد الحروف صعوبة على اللافظ، فلذلك مال لفظها إلى صوت الظاء تارة وإلى صوت اللام المفخمة تارة لمناسبة هذين الحرفين للضاد» (1).
وقال ابن الجزري (ت 833هـ) في كتاب (النشر): «والضاد انفرد بالاستطالة، وليس في الحروف ما يعسر على اللسان مثله. فإن ألسنة الناس فيه مختلفة. وقلّ من يحسنه، فمنهم من يخرجه ظاء، ومنهم من يمزجه بالذال، ومنهم من يجعله لاما مفخمة، ومنهم من يشمه الزاي. وكل ذلك لا يجوز، والحديث المشهور على الألسنة (أنا أفصح من نطق بالضاد) لا أصل له ولا يصح» (2).
وقال ابن الجزري أيضا في كتابه (التمهيد في علم التجويد): «اعلم أن هذا الحرف ليس في الحروف حرف يعسر على اللسان غيره، والناس يتفاضلون في النطق به:
فمنهم من يجعله ظاء مطلقا وهم أكثر الشاميين وبعض أهل الشرق
ومنهم من لا يوصلها إلى مخرجها بل يخرجها دونه ممزوجة بالطاء المهملة لا يقدرون على غير ذلك، وهم أكثر المصريين وبعض أهل الغرب.
ومنهم يخرجها لاما مفخمة وهم الزيالع (3)، ومن ضاهاهم.
واعلم أن هذا الحرف خاصة إذا لم يقدر الشخص على إخراجه من مخرجه بطبعه لا يقدر عليه بكلفة ولا بتعليم (4).
يمكن أن نلخص الأفكار الرئيسية للنصوص السابقة في ما يأتي:
(1) الضاد صوت صعب الأداء، ومن ثم أخذت ألسنة الناس تنحرف في نطقه إلى
__________
(1) المفيد 108و، وانظر شرح الواضحة (له) ص 62.
(2) النشر 1/ 220219.
(3) زيلع: قرية أو جزيرة في جهة اليمين وأطراف بلاد الحبشة (انظر: ياقوت: معجم البلدان 2/ 966ط الأوربية ليبزج 1867م).
(4) التمهيد ص 4342.(1/230)
أصوات أخرى، ويبدو أن ذلك ظهر في القرون المتقدمة، حتى وجدنا عبد الوهاب القرطبي يصرح، في القرن الخامس، أن أكثر القراء ينطقونها ظاء. ثم يأتي ابن وثيق بعد قرن من ذلك ليقول: «وقلّ من يحكمها في الناس». ثم يقول ابن الجزري في أواخر القرن الثامن: «ألسنة الناس فيه مختلفة، وقلّ من يحسنه».
(2) لم يتحول الضاد إلى صوت واحد، بل نجد أن الناس نطقوا الضاد على أشكال مختلفة، وتتلخص في الأصوات الآتية:
أالظاء.
ب اللام المفخمة.
ج الطاء (الدال المفخمة في النطق المعاصر).
د مزجها بالذال.
هـ إشمامها الزاي.
وبعد هذه المرحلة تتخذ المناقشات التي تدور حول قضية الضاد اتجاها جديدا، وذلك حين بدأت تظهر مؤلفات مستقلة في الموضوع، أشرنا إلى بعضها من قبل. وبين أيدينا كتابان من هذه المؤلفات وهما:
1 - بغية المرتاد لتصحيح الضاد لعلي بن محمد المعروف بابن غانم المقدسي (ت 1004هـ).
2 - كيفية أداء الضاد لمحمد المرعشي الملقب ساج قلي زاده (ت 1150هـ).
ومن المناسب هنا تلخيص منهج هذين الكتابين، وتقديم فكرة موجزة عن مادتهما وتوضيح فكرة المؤلفين عن نطق الناس للضاد في زمانهما ومدى علاقة ذلك النطق بالضاد العربية القديمة التي وصفها سيبويه.
أما (بغية المرتاد) فإن المقدسي أوضح سبب تأليفه الكتاب وبيّن منهجه فيه وذلك حين قال في المقدمة بعد الافتتاح: «لما رأيت بمحروسة القاهرة التي هي زين البلاد كثيرا من أفاضل الناس فضلا عن الأوغاد يخرجون عن مقتضى العقل والنقل في النطق بالضاد ثم شاع الإنكار منهم علينا في كل ناد بين حاضرة وباد، فأردت مع طلب جمع (1) من الإخوان
__________
(1) في النسخة التي نعتمد عليها (مع جمع طلب) وما أثبته من نسخة مكتبة الأوقاف العامة في الموصل المرقمة (3/ 19مخطوطات جامع النبي شيت) ورقة 111ظ.(1/231)
وإشارة من بعض الأعيان أن أزيل الغين عن عين (1) الرشاد وسميته بغية المرتاد لتصحيح الضاد.
وقبل الخوض في المرام لا بد من تقرير الكلام وتحرير المقام، فليعلم أنّ أصل هذه المسألة أنهم ينطقون بالضاد ممزوجة بالدال المفخمة والطاء المهملة، وينكرون على من ينطقون بها قريبة من الظاء المعجمة بحيث يتوهم بعضهم أنها هي، وليس كما توهمه. فنقول:
الكلام في إثبات ما أنكروه منحصر في مقدمة فيما يجب أن نقدمه، وفصلين محيطين من الدلائل بنوعين، وخاتمة لتنبيهات ودفع تمويهات» (2).
أما المقدمة فهي في بيان مخرج الضاد وما لها من الصفات.
وأما الفصل الأول فذكر فيه ما يدل بالمعقول على أن اللفظ بالضاد كالظاء المعجمة هو المقبول، وهي أدلة متعددة لاحت له بالنظر في المعقول. فذكر اثني عشر دليلا، تعطي مثالا للبحث الصوتي الأصيل، ومن ثم رأيت من المفيد نقل زبد تلك الأدلة مختصرة مع المحافظة على عبارة المؤلف (3).
«الأول: إن علماء هذا الفن وغيرهم تعرضوا للفرق بينهما وبينوا الألفاظ التي تقرأ بالظاء والتي تقرأ بالضاد في مؤلفات مستقلة وغير مستقلة نظما ونثرا فيا ليت شعري لولا التشابه بينهما لفظا والالتباس حتى خفي الفرق بينهما على كثير من الناس لم كان هذا الجمّ الغفير يتعبون القلم ويسودون القرطاس؟!.
الثاني: إن الضاد ليست في لغة الترك بل مخصوصة باللغة العربية دل عليه قول الأستاذ أبي حيان في كتاب له في اللغة التركية إذا علم ذلك فليس مفقودا في لغة الترك إلا الضاد الشبيه بالظاء المعجمة. أما هذا الحرف الذي يشبه الدال المفخمة والطاء المهملة، الذي ينطق به أكثر المصريين ولنسمّه (4) بالضاد الطائية (5) فموجود في لغة الترك في أكثر ألفاظهم، كما يشهد به العارف في لغتهم بل السامع لكلامهم، والموجود غير المفقود، وبذلك يتم
__________
(1) في النسخة التي نعتمد عليها (الغبن من غير) وما أثبته من نسخة مكتبة الأوقاف في الموصل المرقمة 3/ 9مخطوطات جامع النبي شيت) ورقة 111ظ، وذلك لأنه أوضح معنى.
(2) بغية المرتاد 1ظ 2ظ.
(3) بغية المرتاد 3ظ 6ظ.
(4) في الأصل (ولنسميه).
(5) (الطائية) نسبة إلى حرف الطاء، لا إلى قبيلة طيّئ.(1/232)
المقصود.
الثالث: أن الفقهاء ذكروا أحكام من يبدل الضاد ظاء ولم يتعرضوا لأحكام من يبدلها بحرف غير الظاء، كما تعرضوا لأحكام من يبدلها به، فلولا التشابه بينهما لما كانوا يفعلون ذلك
الرابع: أن بعض العلماء وصفها بالتفشي، ولا تفشي فيه
الخامس: أنهم ذكروا أن من صفاتها النفخ. ويشاركها فيه الظاء والذال والزاي (1). ولا يتحقق ذلك إلا بالضاد الشبيهة بالظاء. أما الضاد الطائية فلا توجد فيها هذه الصفة كما يشهد به من أحاط بالمقدمة (2) معرفة
السادس: أنهم ذكروا من صفاتها الاستطالة، كما مر ذكرها ومعناها (في المقدمة)، وهي المميزة لها عن الظاء، ولا يوجد في الضاد الطائية الاستطالة.
السابع: أنهم ذكروا من صفاتها الرخاوة، وهذا شديد، الدلالة عند من ليس عنده غباوة، فإنه لا رخاوة فيها إلا إذا أتت شبيهة بالظاء. أما الضاد الطائية فمشوبة بالدال والطاء المهملة، وكل منهما حرف شديد فكذا ما هو بينهما، بل من عرف معنى الشدة والرخاوة وقدمناهما في المقدمة يجد هذا الحرف متصفا بالشدة قطعا، مع قطع النظر عن الدال والطاء.
الثامن: أن هذا الحرف صعب على اللسان، نص على ذلك علماء هذا الشأن فإذا كانت الضاد العربية بهذه المرتبة من الصعوبة، وأنت ترى أن لا صعوبة في الضاد الطائية بل هي في غاية (السهولة) (3) على اللسان، يستوي في النطق العالم والجاهل، والفارس في هذا العلم والراجل، فإنك تعلم بأن الضاد الطائية بعيدة عن الضاد العربية بمراحل.
التاسع: إن المخرج المنصوص عليه للضاد في الكتب المعروفة المتداولة ليس إلا للضاد الشبيهة بالظاء المعجمة لا للطائية، فإنهم قالوا في معرفة مخرج الحرف أن تسكّنه وتدخل عليه همزة، وتنظر أين ينتهي الصوت، فحيث انتهى فثم مخرجه، مثلا نقول (اب) فتجد الشفتين قد أطبقت إحداهما على الأخرى، وهو مخرج الباء، وأنت إذا نطقت بالضاد الطائية وفعلت ما تقدم ذكره لا تجد الصوت ينتهي إلا إلى طرف اللسان وأعلى الحنك، وهو
__________
(1) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 174.
(2) يقصد مقدمة كتابه (بغية المرتاد) التي وضح فيها مخرج الضاد وصفاتها.
(3) في الأصل (الصعوبة). وفي نسخة مكتبة الأوقاف في الموصل (السهولة) وهو الذي يناسب السياق.(1/233)
مخرج الدال والطاء والتاء. ولم نر أن أحدا ذكر أن مخرج الضاد من هذا المحل، بل ما ذكرناه لها من المخرج مذكور في كتب لا تحصى في علم القراءات وعلم النحو
فإن قيل: نحن نروي هذه الضاد الطائية بالمشافهة عن الشيوخ الراوين عن شيوخهم بالإسناد المتصل بأئمة القراء البالغ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قلنا: لا عبرة بالرواية المخالفة للدراية، إذ شرط قبول القراءة أن توافق العربية، وقد بينا مخالفتها لما تواتر في كتب العربية والقراءات
العاشر: أن من أوصافها (الشجرية) لقّبها بها صاحب القدر الجليل إمام النحو الخليل (1). ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت شبيهة بالظاء، فإن الضاد الطائية تخرج من طرف اللسان لا من شجر الفم
الحادي عشر: قولهم في صفة الإطباق: ولولا الإطباق لصارت دالا، والصاد سينا، والظاء ذالا، ولخرجت الضاد من الكلام، إذ لا يخرج من موضعها غيرها. وهذا نص كلام الأستاذ أبي حيان في شرح التسهيل، ومثله في شرح المفصل لابن يعيش (2). وهذا كما ترى يخص الضاد الشبيهة بالظاء، أما الطائية فتخرج من مخارج الحروف النطعية، كما يشهد به الحس والقاعدة المعروفة في معرفة مخرج الحرف، فلو كانت الطائية عربية لو صفت بالنطعية، كما وصفت أخواتها، ولقالوا: لولا الإطباق لصارت الضاد دالا، بدل قولهم لخرجت من الكلام، كما لا يخفى عن ذوي الأفهام.
الثاني عشر: أن أهل مكة التي هي منشأ النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي هو سيد العرب، وما والاها من بلاد الحجاز التي هي محل العرب وموطنهم إنما ينطقون بالضاد شبيهة بالظاء المعجمة، ولا يسمع من أحد منهم هذه الطائية، وهم نعم المقتدى لمن رام في هذا السبيل الاهتداء».
ثم «الفصل الثاني: فيما يدل بالتصريح على أن التلفظ بالضاد شبيهة بالظاء هو الصحيح، وهو المنقول من كلام العلماء الفحول المتلقى كلامهم بالقبول» (3). وقد أورد المؤلف في هذا الفصل اثني عشر نصا، عن كبار علماء العربية والتجويد، وهذه النصوص
__________
(1) انظر: العين 1/ 58.
(2) شرح المفصل 10/ 129ولم نتمكن من الاطلاع على مخطوطة كتاب شرح التسهيل لأبي حيان، وأصل القول لسيبويه في الكتاب 4/ 436.
(3) بغية المرتاد 6ظ.(1/234)
مهمة لأنها منقولة عن كتب بعضها مفقود وبعضها لا يزال مخطوطا، ولكني أعرضت عن تقصيها خشية الابتعاد عن أصل الموضوع.
«وأما الخاتمة ففيها تنبيهات رافعة لتمويهات. الأول: أنه ليس مرادي بكون الضاد شبيهة بالظاء وقريبة منها كونها ممزوجة بها غاية الامتزاج، بحيث يخفى الفرق بينهما على المجيد لفن التجويد» (1). ثم ذكر في الثاني الرد على قول من فسر (الشجر) بمجمع اللحيين عند العنفقة، ورجح التفسير المنقول عن الخليل للشجر بأنه مفرج الفم (2). ثم ذكر في الثالث: الرد على قول من فسر صعوبة الضاد العربية بصعوبتها على العجم والترك ونحوهم ممن سوى العرب، أما على أمثاله من العرب فلا صعوبة فيها.
وختم هذه التنبيهات بقوله: «إن من ينطق بالضاد من مخرجها الخالص مع صفاتها المميزة لها حتى عن الظاء فهو في أعلى مراتب النطق بها ومن الفصاحة. ودونه من ينطق بها من مخرجها مشوبة بالظاء لكن من مخرجها وبينهما نوع فرق. ودونه من ينطق بها ظاء خالصة، ومن يشمّها الذال، ومن يشمها الزاي، ومن يجعلها لاما مفخمة، وكذا من ينطق بالضاد طائية، فهو من أسفل مراتب النطقية بالنسبة إلى من سبق ذكره» (3). وختم المؤلف الكتاب بنبذة من أقوال الفقهاء في صلاة من يبدل حرف الضاد. وقد استغرق الكتاب عشر ورقات في نسخة مكتبة المتحف ببغداد (4).
يحتل هذا الكتاب مكانة خاصة في بحث مشكلة الضاد، فعمر هذا الكتاب اليوم أكثر من أربعمائة سنة، ويتميز أسلوبه بالبعد عن الجدل المنطقي واعتماد أسلوب النقاش العلمي، مع تعمق في فهم الظواهر الصوتية المتعلقة بالضاد، ويلزم التوكيد على بعض القضايا التي وردت في الكتاب مثل:
(1) سجّل المؤلف النطق الشائع في عصره لصوت الضاد، فأهل مصر ينطقون بها دالا مفخمة ممزوجة بالطاء، وسماها المؤلف الضاد الطائية، وأهل مكة والحجاز ينطقون بالضاد شبيهة بالظاء. ويفهم من كلام المؤلف أنه لا يزال هناك من ينطق بالضاد العربية في زمانه.
__________
(1) بغية المرتاد 7ظ 8و.
(2) انظر: العين 1/ 58.
(3) بغية المرتاد 9و 9ظ.
(4) رقمها في المكتبة (11068/ 7).(1/235)
(2) حدد المؤلف مخرج وصفات الضاد الطائية التي ينطق بها أهل مصر (راجع الدليل 9 و 11). فقد أدرك أنها من مخرج الطاء والدال والتاء، وأدرك أنها الصوت المطبق المقابل للدال، حيث قال: «ولقالوا: لولا الإطباق لصارت الضاد دالا».
ولا يتضح من كلام المؤلف صفة الطاء في زمانه، فهو من جانب يسمي ضاد المصريين بالضاد الطائية. وهو من جانب آخر يقول: «لولا الإطباق لصارت الضاد دالا» يعني ضاد المصريين. وهو أمر قد يشير إلى أن الطاء في زمانه فقدت صفة الجهر وصارت تمثل الصوت المطبق المقابل للتاء. وإلا فمن غير المعقول أن يتطابق صوت الطاء والضاد في نطق أهل مصر في زمن المؤلف. وذلك لأن الضاد الجديدة تمثل صوت الطاء العربية القديمة، التي تركت موقعها لتحل في محل الصوت المطبق للتاء الذي كان مفقودا في العربية. ويمكن الرجوع إلى حديثنا السابق عن موضوع وصف الطاء بالجهر، والنظر في الجدولين اللذين أثبتناهما هناك، وهما يمثلان النطق القديم والنطق الحديث لصوتي الطاء والضاد، وينطبقان على الموضوع الذي نتحدث عنه هنا تماما.
والواقع أن كلام المحدثين عن العلاقة الصوتية بين الضاد والطاء لم يتجاوز ما قرره المقدسي في كتابه (بغية المرتاد) إلا ما يدخل في باب زيادة التوضيح والتفسير للقضايا الأساسية في الموضع (1).
أما كتاب محمد المرعشي (كيفية أداء الضاد) فإنه يأتي بعد تأليف كتاب المقدسي بمائة وخمسين سنة تقريبا، إذا أخذنا تاريخ وفاة المؤلفين بنظر الاعتبار. وهو أصغر حجما، إذ لا يتجاوز أربع ورقات (2). وجاءت مادته مؤكدة لاتجاهات كتاب (بغية المرتاد) للمقدسي، وذلك بالنص على أن نطق الضاد شبيهة بالطاء لا يمثل صوت الضاد العربية القديمة التي وصفها العلماء في كتبهم. وأن نطق الضاد شبيه بالظاء أقرب إلى النطق الصحيح من نطقها شبيهة بالطاء.
وتتكون الرسالة من مقدمة ومقصد وخاتمة. أما المقدمة فهي في توضيح صفات الضاد الصوتية وبيان علاقتها ببعض الأصوات: «وأما المقصد فهو أن ما شاع في أكثر الأقطار من
__________
(1) وازن بين كلام المؤلف وبين ما قاله الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه الأصوات اللغوية ص 6463 والدكتور كمال محمد بشر في كتابه علم اللغة العام: قسم الأصوات ص 131و 134.
(2) يتكون بالضبط من سبع صفحات حسب مخطوطة مكتبة المتحف ببغداد المرقمة (11068/ 6).(1/236)
تلفظ الضاد المعجمة كالطاء المهملة في السمع بسبب إعطائها شدة وإطباقا أقوى كإطباق الطاء وتفخيما بالغا كتفخيمها خطأ بوجوه» (1). ثم ذكر سبعة وجوه تتعلق بصفات الضاد القديمة، وما يؤدي إليه نطقها طاء من الإخلال بتلك الصفات.
وقال المرعشي بعد ذلك: «إنّ جعل الضاد المعجمة طاء مهملة مطلقا أعني في المخرج والصفات لحن جلي وخطأ محض وكذا جعلها ظاء مطلقا، لكن بعض الفقهاء قال بعدم فساد صلاة (2) من جعلها ظاء معجمة مطلقا لتعسر التمييز بينهما، فهو أهون الخطأين» (3).
أما الخاتمة ففي دفع ما عسى أن يورد على المقصد، ناقش فيها العلاقة بين الضاد والظاء والطاء من حيث الجهر والإطباق والاستعلاء، وقال: «وبالجملة إن الضاد أشبه بالظاء المعجمة». وبحث في الخاتمة موضوعات أخرى مثل إجابته على هذا السؤال «فإن قلت:
فكيف شاع التقصير في أكثر الأقطار؟ قلت: ألم تسمع ما قاله صاحب الرعاية: التحفظ بلفظ الضاد المعجمة أمر يقصر فيه أكثر من رأيت وذلك في تاريخ أربعمائة وعشرين، وزماننا هذا أحق بالتقصير، فلعل غلط المصريين قد شاع» (4).
ولم يكتف المرعشي بما أورده في رسالته عن موضوع الضاد، فعاد إلى مناقشته مرة أخرى في كتابه (جهد المقل) ولا نعلم مقدار ما أضافه إلى الموضوع في كتابه (بيان جهد المقل) لأن نسخته المخطوطة المحفوظة في مكتبة المتحف ببغداد ناقصة، ولم نحصل على غيرها.
وقد ناقش المرعشي موضوع الضاد في المقالة الثانية من المقالتين اللتين ختم بهما بحث الصفات في كتابه (جهد المقل)، فقد بحث في تلك المقالة بيان الفرق بين بعض الحروف المتشابهة مثل (ط د ت) و (ص س ز) ثم (ض ظ ذ)، وختم هذه المقالة بفصلين وخاتمة، بحث في الفصل الأول العلاقة بين الضاد والطاء، وفي الفصل الثاني وضح حقيقة الضاد الضعيفة. وبحث في الخاتمة درجات الإطباق والتفخيم في (ض ط ظ).
قال المرعشي في الفصل الأول: «ليس بين الضاد المعجمة والطاء المهملة تشابه في
__________
(1) كيفية أداء الضاد 2و.
(2) (صلاة) ساقطة من الأصل، وهي ضرورية لإقامة النص.
(3) كيفية أداء الضاد 2ظ.
(4) المصدر نفسه 3و.(1/237)
السمع فما اشتهر في زماننا هذا من قراءة الضاد المعجمة مثل الطاء المهملة فهو عجب لا يعرف له سبب» (1). وقال: «قراءة الضاد المعجمة مثل الطاء المهملة فيها مفاسد:
الأول: أنه يلزم إعطاء الشدة للضاد، مع أنه رخو.
والثاني: أن الاستطالة امتداد الصوت فتفوت حينئذ.
والثالث: أن في الضاد تفشيا قليلا فيفوت حينئذ أيضا» (2).
وقال المرعشي في آخر الخاتمة موضحا تصوره لصفات الضاد العربية الأصلية: «فإن لفظت بالضاد بأن جعلت مخرجها حافة اللسان مع ما يليها من الأضراس، بدون إكمال حصر الصوت، وأعطيت لها الإطباق والتفخيم الوسطين، والرخاوة والجهر والاستطالة والتفشي القليل، فهذا هو الحق المؤيد بكلمات الأئمة في كتبهم، ويشبه صوتها حينئذ صوت الظاء المعجمة بالضرورة، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولإشكال أمر الضاد أطنبت في الكلام، وقد أفردت لها رسالة» (3).
أما الضاد الضعيفة فهي نوع من أنواع الضاد التي لم تستوف صفات الضاد العربية كاملة.
وكان سيبويه أول من تحدث عن هذه الضاد، وذلك حيث قال: «وهذه الحروف التي تممتها اثنين وأربعين جيدها ورديئها أصلها التسعة والعشرون، لا تتبين إلا بالمشافهة. إلا أن (الضاد الضعيفة) تتكلف من الجانب الأيمن، وإن شئت تكلفتها من الجانب الأيسر وهو أخف، لأنها من حافة اللسان مطبقة، لأنك جمعت في الضاد تكلف الإطباق مع إزالته عن موضعه. وإنما جاز هذا فيها لأنك تحولها من اليسار إلى الموضع الذي في اليمين. وهي أخف لأنها من حافة اللسان، وأنها تخالط مخرج غيرها بعد خروجها، فتستطيل حيث تخالط حروف اللسان، فسهل تحويلها إلى الأيسر لأنها تصير في حافة اللسان في الأيسر إلى مثل ما كانت في الأيمن، ثم تنسل من الأيسر حتى تتصل بحروف اللسان، كما كانت كذلك في الأيمن» (4).
وتحدث السيرافي عن الضاد الضعيفة، حيث يقول: «وأما الضاد الضعيفة فإنها في لغة قوم ليس في لغتهم ضاد، فإذا احتاجوا إلى التكلم بها في العربية اعتاصت عليهم فربما
__________
(1) جهد المقل 20ظ.
(2) جهد المقل 21و.
(3) جهد المقل 21ظ. وهو يشير هنا إلى رسالته (كيفية أداء الضاد).
(4) الكتاب 4/ 432.(1/238)
أخرجوها ظاء (1)، لإخراجهم إياها من طرف اللسان وأطراف الثنايا، وربما تكلفوا إخراجها من مخرج الضاد فلم يتأت لهم، فخرجت بين الضاد والظاء. وفي كتاب أبي بكر مبرمان:
الضاد الضعيفة: يقولون في (اثرد له): (اضرد له)، يقربون الثاء من الضاد» (2).
وناقش أبو حيان الأندلسي قضية الضاد الضعيفة في كتابه (ارتشاف الضرب). فقال وهو يتحدث عن الحروف الفرعية المستقبحة: «وضاد ضعيفة، قال الفارسي: إذا قلت: ضربه، ولم تشبع مخرجها ولا اعتمدت عليه ولكن تخفف وتختلس فيضعف إطباقها.
وقال ابن خروف: هي المحرفة من مخرجها يمينا وشمالا، كما ذكر سيبويه.
وقال مبرمان: يقربون الثاء من الضاد، وذلك في لغة قوم ليس في أصل حروفهم الضاد، فإذا تكلفوها ضعف نطقهم بها، وكذا قال ابن عصفور (3)، ومثّل بقوله في اثرد ذلك: اضرد ذلك.
وفي تفسير الضاد الضعيفة بهذا، وفي تمثيله نظر، والذي يظهر أن الضاد الضعيفة هي التي تقرب من الثاء عكس ما قال مبرمان وابن عصفور. فنقول في اضرب زيدا: اثرب زيدا بين الضاد والثاء» (4).
فالضاد الضعيفة إذن هي الضاد التي لم تستوف صفات الضاد العربية التي وصفها سيبويه، ويبدو أن هذا المصطلح (الضاد الضعيفة) لم يعد يطلق على صوت محدد، فإذا كان سيبويه قد أطلقه على صوت محدد فإننا نجد العلماء بعده يستخدمونه للإشارة إلى أكثر من صوت، وذلك على حسب ما تؤول إليه الضاد، سواء كان ذلك الصوت ظاء، أو بين الضاد والظاء، أو بين الضاد والثاء.
وخلاصة القول في موضوع الضاد هي أن الضاد العربية القديمة التي وصفها سيبويه بأنها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، رخوة مجهورة مطبقة، لم تعد تنطق منذ أمد بعيد، وأنها آلت منذ قرون إلى عدة أشكال، كل شكل يستخدم في جهة من جهات البلدان التي
__________
(1) في شرح المفصل (10/ 127) لابن يعيش (طاء) بالمهملة، وهو تصحيف.
(2) انظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 155ظ، والأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 256وهذا النص موجود في شرح سيبويه للسيرافي 6/ 449لكنه كثير التصحيف فأثبته من المصادر الأخرى.
(3) انظر: ابن عصفور: الممتع في التصريف 2/ 666.
(4) ارتشاف الضرب ص 4.(1/239)
تتكلم العربية. وإن أشهر تلك الأشكال نطق الضاد ظاء كما في العراق، ونطقها دالا مفخمة كما في مصر (1)، وإن هذه الدال المفخمة تمثل الطاء العربية القديمة المجهورة، التي صارت منذ أمد مهموسة (تاء مطبقة). فخرجت من اللغة العربية إذن الضاد القديمة، ودخلت الطاء الحديثة. وانتقلت الطاء القديمة لتمثل نطق الضاد في بعض البلاد العربية. وقد كان علماء التجويد مدركين بشكل عام لهذا التطور الذي تشير إليه النصوص المدونة في الكتب ويشهد له واقع الاستخدام اللغوي اليوم. ويمكن أن يثار هاهنا سؤال عن أسباب هذا التحول الفريد في أصوات اللغة العربية، ولكننا لا نملك وسائل الإجابة عن هذا السؤال الآن.
(ج) قضية الجيم:
وصف علماء العربية وعلماء التجويد الجيم بأنه صوت شديد مجهور، يخرج من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى (2). ونحن نعتقد أن هذا الوصف صحيح في جملته، ولا يزال ينطبق على الجيم التي ينطقها مجيد وقراءة القرآن الكريم ومن يتابعهم في نطقها.
وكان ابن الجزري (ت 833هـ) قد بيّن الصور السائدة لنطق الجيم في زمانه، التي كانت تسمع من متكلمي العربية، وحدد الجيم الفصيحة التي ينبغي أن يلتزم القارئ بها في نطقه، وذلك حيث قال: «والجيم يجب أن يتحفّظ بإخراجها من مخرجها، فربما خرجت من دون مخرجها، فينتشر بها اللسان، فتصير ممزوجة بالشين، كما يفعله كثير من أهل الشام ومصر.
وربما نبا بها اللسان فأخرجها ممزوجة بالكاف كما يفعله بعض الناس، وهو موجود كثيرا في بوادي اليمن» (3).
وابن الجزري يريد بقوله (ممزوجة بالشين) الشين المجهورة، وهي التي تنطق في بلاد الشام في زماننا كما كانت تنطق في زمن ابن الجزري، وكذلك يريد بقوله (ممزوجة بالكاف) الكاف المجهورة التي تنطق في مصر وتعرف بالجيم القاهرية. ولا يزال هذا الوصف لنطق الجيم ينطبق على نطقها في عصرنا (4).
ولم نكن نريد أن نخص الجيم بكلمة مستقلة لولا أن بعض دارسي الأصوات العربية
__________
(1) انظر: جان كانتينو: دروس ص 87.
(2) انظر سيبويه: الكتاب 4/ 433، والداني: التحديد 28ظ، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 160ظ.
(3) النشر 1/ 217.
(4) انظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 165، وجان كانتينو: دروس ص 89.(1/240)
المحدثين أثار قضية (الصوت المركب) الذي يجمع بين الشدة والرخاوة في نطقه، وجعل الجيم العربية الفصيحة مثالا له. فقد لوحظ أن انفصال وسط اللسان عن الحنك الأعلى في أثناء النطق بهذا الصوت لا يحدث فجأة كما في نطق الأصوات الشديدة، بل يتم الانفصال ببطء، فيعطي الفرصة للنّفس بعد الانفجار ليحتك بالعضوين المتباعدين احتكاكا شبيها بما يحدث أثناء النطق بالجيم الشامية، ومن ثم سمي مركبا (1).
وعدل بعض المحدثين عن استخدام مصطلح الصوت المركب، وسمى الجيم صوتا قليل الشدة، وذلك حيث يقول: «فإذا انفصل العضوان انفصالا بطيئا سمع صوت يكاد يكون انفجاريا، هو الجيم العربية الفصيحة. فانفصال العضوين هنا أبطأ قليلا منه في حالة الأصوات الشديدة الأخرى، ولهذا يمكن أن تسمى الجيم العربية الفصيحة صوتا قليل الشدة» (2).
وذهب بعض المحدثين إلى أن إنتاج صوت كامل الشدة (الانفجار) بين وسط اللسان وما يقابله من سقف الحنك أمر صعب، إذ لا بد أن يلحق ذلك الصوت أثارة من رخاوة، والمتوقع أن تكون تلك اللاحقة الصوتية بعد حدوث الانفجار كما يشهد الحس لذلك، وهو ما ذهب إليه جمع من المحدثين (3). لكن ذهب بعضهم إلى عكس ذلك، وهو أمر لا نجد له من واقع النطق أو أقوال العلماء ما يؤيده. وإن كان موقفه يفسر لنا عدّ المتقدمين للجيم العربية الفصيحة صوتا شديدا (انفجاريا)، يقول: «وأنت إذا حاولت أن تنتج صوتا انفجاريا من منطقة الغار (أي الحنك الصلب أو وسط الحنك) سواء كان مهموسا أو مجهورا، ستسمع صويتا آخر يسبقه مما يجعلك تسمع الصوت مركبا. والتركيب هنا ليس مقصودا، وإنما ينتج بصورة آلية حين يحاول المرء قفل المجرى بإحكام في هذه المنطقة ثم تفجيره فالقدماء حين نظروا إلى قفل المجرى عدوا الصوت انفجاريا. والمحدثون حين نظروا إلى الصويت الذي يسبق النطق عدوا الصوت مركبا».
«وهذا التفسير يؤدي بنا إلى أن نلغي ما يسمى بالصوت المركب في اللغة العربية، ويجعلنا ننظر إلى الجيم الفصحى القديمة والحديثة على أنها المقابل الانفجاري المجهور
__________
(1) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 182، وتمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 104103، وكمال محمد بشر: الأصوات 161160.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 79.
(3) محمود السعران: علم اللغة 182، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 160، وعبد الصبور شاهين:
التطور اللغوي ص 216.(1/241)
للشين فعندنا إذن ثلاثة أنواع من الأصوات يمكن أن تسمى:
(أ) الشين الاحتكاكية المهموسة.
(ب) الشين الانفجارية المهموسة.
(ج) الشين الانفجارية المجهورة.
وأولاها هي الشين العادية. وثانيتها هي التي تظهر في الكشكشة، وثالثتها هي الجيم الفصحى» (1).
ولدينا ثلاث ملاحظات على هذا النص هي:
الأولى: يبدو أن الذي يناسب التحديد الذي قدمه علماء الأصوات المحدثون للجيم حين قالوا أنها صوت مركب هو أن تستبدل كلمة (يسبقه) و (يسبق) الواردة في النص بكلمة (يتبعه) و (يتبع). ففي حدود الكلام عن الجيم العربية الفصيحة نجد أن الصويت الاحتكاكي الذي يحدث في أثناء نطق الجيم يتبع الانفجار وليس يسبقه.
الثانية: ما ورد في النص من قوله: (فعندنا ثلاثة أنواع من الأصوات) كان ينبغي أن يقال (أربعة أنواع) ويضاف إلى الثلاثة (الشين الاحتكاكية المجهورة) وهي الجيم الشامية.
الثالثة: أجد أن التعبير الأكثر وضوحا عن الأصوات الثلاثة المذكورة في النص، والصوت الرابع المشار إليه في الملاحظة السابقة هو:
1 - الشين الاحتكاكية المهموسة (الشين العربية).
2 - الشين الاحتكاكية المجهورة (الجيم الشامية).
3 - الجيم الانفجارية المجهورة (الجيم العربية الفصيحة).
4 - الجيم الانفجارية المهموسة (صوت الكشكشة) (2) الذي لا يزال يستخدم في العربية الدارجة في العراق بدل كاف التأنيث، وبدل الكاف في بعض الكلمات، مثل (كان) في نطق بعض النواحي القروية، ويستخدم للتعبير عنه رمز الجيم المنقوطة من أسفل ثلاثا: (ج).
__________
(1) أحمد مختار عمر: داسة الصوت اللغوي ص 292291.
(2) هناك جدل بين علماء الأصوات في تفسير صوت الكشكشة، فذهب بعضهم إلى أنه إلحاق شين خالصة بكاف المؤنثة (كش). وذهب بعضهم إلى أنه إبدال مهموس الجيم الفصيحة (ج) بصوت الكاف (انظر التفصيل: حسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 151147).(1/242)
وصرح أحد علماء الأصوات الأوربيين المعاصرين بقوله: (ولعل من المهم هنا أن نشير إلى أن عددا من علماء الأصوات يرفضون الاعتراف بالطبيعة المركبة للأصوات المرموز إليها في الإنكليزية ب أو ويفضلون أن ينظروا إليها باعتبارها المقابل الانفجاري للغاري الاحتكاكي المرموز إليه في الإنكليزية ب وفي» (1). والرموز اللاتينية في هذا النص تمثل الأصوات الأربعة المذكورة في الفقرة السابقة على هذا النحو رقم 4، رقم 3، رقم 1، رقم 2.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يعد إهمال علماء العربية وعلماء التجويد الإشارة إلى الطبيعة المركبة لصوت الجيم أمرا خطيرا ولا نقصا كبيرا، ما دام عدد كبير من علماء الأصوات المحدثين يرفضون الاعتراف بالطبيعة المركبة لذلك الصوت، وما دام بعضهم يميل إلى إلغاء ما يسمى بالصوت المركب.
ومن ثم فلا داعي إذن لكدّ الذهن في اختراع التفسيرات لوصف علماء العربية وعلماء التجويد للجيم بأنه صوت شديد، كما فعل بعض المحدثين حتى ذهب إلى حد ترجيح أن يكونوا وصفوا صوتا آخر هو الجيم القاهرية التي تخرج من أقصى الحنك، وهي النظير المجهور لصوت الكاف العربية، واستراح إلى هذا التفسير باعتبار أن الجيم القاهرية صوت شديد (2).
وإذا كان هذا الباحث، حين رجح أن يكون علماء العربية وصفوا الجيم القاهرية إذ قالوا أن الجيم صوت شديد، قد حلّ عقدة الصوت المركب التي يذهب إليها في وصف الجيم العربية الفصيحة، وهو أمر كما لاحظنا موضع جدل بين علماء الأصوات ويمكن التغاضي عنه فإنه وقع في مشكلة أكبر من جراء ذلك الترجيح، لأن علماء العربية يقررون أن مخرج الجيم من وسط اللسان مع ما يليه من وسط الحنك، لكن الجيم القاهرية، التي يذهب إلى أنهم وصفوها حين تحدثوا عن صوت الجيم، تخرج من أقصى اللسان، من موضع الكاف. ولم يكن علماء العربية وعلماء التجويد ليقولوا: أن الجيم تخرج من وسط اللسان وهم يريدون الجيم القاهرية التي تخرج من أقصى اللسان، فهذا الغلط لا يقع فيه المبتدءون بدراسة علم الأصوات، فكيف بعمالقة هذا العلم من علماء العربية وعلماء التجويد من أمثال سيبويه
__________
(1) ماريوباي: أسس علم اللغة ص 85.
(2) كمال محمد بشر: الأصوات ص 162.(1/243)
وعبد الوهاب القرطبي ومحمد المرعشي، وعشرات غيرهم.
وبعد أربع صفحات من النقاش حول الصوت المركب أجهد خلالها هذا الباحث المعاصر نفسه في جمع الأدلة لتدعيم نظريته في أن الجيم القاهرية هي التي وصفها علماء العربية وعلماء التجويد في أبحاثهم، عاد في آخر الصفحة الخامسة ليعالج المشكلة التي وقع فيها من جراء نظريته المذكورة، وذلك من طريق سهل لكنه غير علمي، فقال إن هؤلاء العلماء اختلط عليهم الأمر، ثم يختم كلامه بأربعة أسطر يعود فيها إلى النهج الصحيح، فيهدم كل ما أتى به لترجيح نظريته، اسمع إليه وهو يقول، ونحن مضطرون لا يراد نص كلامه حتى لا يتصوّر أننا نؤول كلامه لنصرفه إلى غير جهته: «وبالرغم من أن وصف علماء العربية للجيم ينطبق أكثر ما ينطبق على الجيم القصية الانفجارية (الجيم القاهرية) نلاحظ أنهم نسبوها إلى منطقة أخرى، هي تلك التي تخرج منها الشين والياء، وهي (وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى). وهذه المنطقة هي في الحقيقة منطقة الجيم القرشية لا الجيم القاهرية.
ويكون معنى هذا أن هؤلاء العلماء اختلط عليهم الأمر فنسبوا خواص الصوتين (الجيم القاهرية والجيم القرشية) إلى صوت واحد، هو ما تكلموا عنه ووصفوه بهذه الطريقة غير الدقيقة».
«على أنه إذا كان المقصود هو الجيم القرشية حقيقة فيكون نسبتهم لها إلى هذه المنطقة سليما ومقبولا، إذ الجيم القرشية والشين لثويتان حنكيتان، أو هما من وسط الحنك فعلا، كما يرى بعض الدارسين، ومن ثم ضموا الياء إليهما، وهي من وسط الحنك بدون شك» (1).
ولا يعنينا هنا البحث في الأصل القديم للجيم العربية هل هو الجيم القاهرية أو الجيم القرشية (الفصيحة) أو الجيم الشامية (2). لأننا على يقين كامل من أن الجيم التي كان يستخدمها جمهور العرب وقت نزول القرآن هي الجيم التي ينطقها قراء القرآن وكثير من الناطقين بالعربية اليوم، وهي التي تحدث عنها علماء العربية وعلماء التجويد، ووصفوها بأنها صوت شديد انفجاري يخرج من وسط اللسان مع ما يليه من الحنك الأعلى (3).
__________
(1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 166165.
(2) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية 8480، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 165162.
(3) يمكن الاطلاع على مزيد من تفصيلات هذا الموضوع في بحث (قضية الجيم في اللغة العربية) مجلة الأقلام العراقية، العدد الرابع، السنة الثالثة عشرة 1978، ص 187182. وهو لكاتب هذا البحث.(1/244)
3 - الإطباق والانفتاح، والاستعلاء والاستفال، والترقيق والتفخيم:
الإطباق والانفتاح صفتان متقابلتان، مثل الجهر والهمس، تميزان بين عدد من الأصوات المتحدة المخرج، ويرجع أساس هذا التقسيم إلى ما ذكره سيبويه في الكتاب، وذلك حيث قال: وهو يتحدث عن صفات الحروف: «ومنها المطبقة والمنفتحة. فأما المطبقة فالصاد والضاد والطاء والظاء. والمنفتحة كل ما سوى ذلك من الحروف، لأنك لا تطبق لشيء منهن لسانك، ترفعه إلى الحنك الأعلى.
وهذه الحروف الأربعة إذا وضعت لسانك في مواضعهن انطبق لسانك من مواضعهن إلى ما حاذى الحنك الأعلى من اللسان ترفعه إلى الحنك، فإذا وضعت لسانك فالصوت محصور فيما بين اللسان والحنك إلى موضع الحروف. وأمّا الدال والزاي ونحوهما فإنما ينحصر الصوت إذا وضعت لسانك في مواضعهن.
فهذه الأربعة لها موضعان من اللسان. وقد بيّن بحصر الصوت. ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا، والصاد سينا، والظاء ذالا، ولخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس شيء من موضعها غيرها» (1).
وقول سيبويه (ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا) مبني على أن الطاء كانت مجهورة في عصره. أما اليوم فإن الذي يطابق النطق السائد للطاء هو القول: (ولولا الإطباق لصارت الطاء تاء). وكذا الأمر بالنسبة للضاد، فإن سيبويه يتحدث هنا عن الضاد العربية القديمة أما الضاد التي تنطق في زماننا فهي إما النظير المطبق للدال، كما في نطق المصريين، وإما النظير المطبق للذال، أي إنها تماثل الظاء تماما، كما في العراق. وقد فرغنا من الكلام عن هذه القضية من قبل عند الكلام عن الجهر والهمس والشدة والرخاوة.
وقد زعم جان كانتينو أن تحديد سيبويه للإطباق والانفتاح الذي تضمنه النص السابق (بعيد عن الوضوح) (2). وهذا رأي مبالغ فيه جدا، فلو أنّا وازنا بين كلام سيبويه عن المطبق والمنفتح وبين قول المحدثين في وصف ما يحدث للسان في أثناء النطق بالصوت المطبق:
«يرتفع طرف اللسان وأقصاه نحو الحنك ويتقعر وسطه (3) لوجدنا أن كلام سيبويه أقرب إلى
__________
(1) الكتاب 4/ 436.
(2) دروس ص 36. وانظر: حسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 318.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 47، ومحمود السعران: علم اللغة ص 168.(1/245)
الوضوح. ولا أحسب أن المستشرق الألماني أ. شاده لم يكن جادا حين قال عن كلام سيبويه السابق: «هذا التعريف من الوضوح بحيث يستغني عن التفسير. وما أصوب قول سيبويه: (إن هذه الأربعة لها موضعان من اللسان)، فإن الناطق بالصاد مثلا لا يكتفي بوضع طرف لسانه على لثته كما يفعل في السين، ولكن في نفس الوقت يقرّب الجزء الأخير من لسانه إلى ما يحاذيه من الحنك، وإن كان لا يمسه» (1).
وتابع علماء التجويد سيبويه في تعريف الصوت المطبق والصوت المنفتح، فقال مكي (ت 437هـ): «وإنما سميت بحروف الإطباق لأن طائفة من اللسان تنطبق مع الريح إلى الحنك عند النطق بهذه الحروف، وتنحصر الريح بين اللسان والحنك الأعلى عند النطق بها مع استعلائها في الفم» (2). وقال: «وإنما سميت بالمنفتحة لأن اللسان لا ينطبق مع الريح إلى الحنك عند النطق بها، ولا تنحصر الريح بين اللسان والحنك بل ينفتح ما بين اللسان والحنك» (3).
وقال عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ): «والإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقا له، فينحصر الصوت فيما بين اللسان والحنك إلى مواضعهن والانفتاح لا تطبق ظهر لسانك برفعه إلى الحنك فلا ينحصر الصوت» (4).
ويلاحظ هنا أن سيبويه وعلماء التجويد الذين اقتبسنا عنهم النصوص السابقة لم يذكروا بشكل صريح ما ذكره المحدثون من تقعر اللسان عند النطق بهذه الحروف وذلك باتصال طرف اللسان بمواضعهن مع تصعد أقصى اللسان نحو الحنك، وإنما اكتفوا بالإشارة إلى انطباق ظهر اللسان على الحنك الأعلى. إلا أن هناك عالمين نصا على هذه الظاهرة، أحدهما من علماء العربية والآخر من علماء التجويد. فقد قال الأسترآباذي: «فيصير الحنك كالطبق على اللسان» (5). وقال المرعشي: إن اللسان يكون (مقوسا) عند النطق بالصوت المطبق (6). وهذا
__________
(1) علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931، العدد الخامس ص 14.
(2) الرعاية ص 98.
(3) الرعاية ص 9998.
(4) الموضح 156ظ. وانظر: الداني: التحديد 18و.
(5) شرح الشافية 3/ 262.
(6) بيان جهد المقل 18ظ.(1/246)
يدل على إدراكهما حالة التقعر التي يكون عليها اللسان عند النطق بتلك الأصوات الأربعة.
وكان علماء التجويد على معرفة تامة بدور ظاهرة الإطباق في التمييز بين الأصوات، فرددوا ما قاله سيبويه: «ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا، والصاد سينا، والظاء ذالا، ولخرجت الضاد من الكلام» (1). وحاولوا توضيح هذه الظاهرة، مثل قول مكي: «ويجب أن تعلم أن الظاء تشبه في لفظها أيضا الذال. فإذا أزلت لفظ الإطباق من الظاء صارت ذالا، كذلك لو زدت لفظ الإطباق في الذال لصارت ظاء. وإنما كان ذلك كذلك لأن الظاء والذال من مخرج واحد، وهما مجهوران، ولولا الإطباق والاستعلاء اللذان في الظاء لكانت ذالا» (2).
ويلاحظ الدارس أن علماء العربية وعلماء التجويد يتحدثون عن صفات صوتية أخرى لها صلة وثيقة بظاهرتي الإطباق والانفتاح، وهي ما عبروا عنه بالاستعلاء والتسفل، والتفخيم والترقيق. وهذه مصطلحات كانت تستخدم لديهم على نحو واضح ومحدد، كما أنهم أدركوا العلاقة الصوتية بينها.
أما الاستعلاء والتسفل فإن كلام سيبويه عنهما كان مستند الدراسات الصوتية العربية أيضا (3)، لكن كلامه جاء في موضع من كتابه غير باب الإدغام، حتى ظن بعض المحدثين أن سيبويه لم يتحدث عنهما (4). قال سيبويه في (باب ما يمتنع من الإمالة من الألفات التي أملتها فيما مضى): «فالحروف التي تمنعها الإمالة هذه السبعة: الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والقاف والخاء وإنما منعت هذه الحروف الإمالة لأنها حروف مستعلية إلى الحنك الأعلى» (5). ثم قال بعد ذلك: «فكان الانحدار أخفّ عليهم من الاستعلاء من أن يصعدوا من حال التسفل» (6). واستخدام سيبويه في مواضع أخرى كلمة (التصعد) مكان كلمة
__________
(1) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 156ظ.
(2) الرعاية ص 195. وانظر أيضا ص 175و 185و 190.
(3) ذكر الأزهري (تهذيب اللغة 1/ 51) أن الخليل قال: إن الحروف المصمتة تسعة عشر حرفا صحيحا «منها خمسة أحرف مخارجها من الحلق. وهي: ع ح هـ خ غ. ومنها أربعة عشر حرفا مخارجها من الفم مدرجها على ظهر اللسان من أصله إلى طرفه، منها خمس شواخص وهي: ط ض ص ظ ق، وتسمى المستعلية، ومنها تسعة مختفضة، وهي: ك ج ش ز س د ت ذ ث».
(4) حسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 319.
(5) الكتاب 4/ 129128.
(6) الكتاب 4/ 130.(1/247)
(الاستعلاء) (1).
ولم يقدم سيبويه تعريفا محددا للاستعلاء والتسفل، لكن علماء العربية الذي جاءوا من بعده استخلصوا من كلامه تعريفا لهما، فقال المبرد (ت 285هـ): «والحروف المستعلية:
الصاد والضاد والطاء والظاء والخاء والغين والقاف. وإنما قيل مستعلية لأنها حروف استعلت إلى الحنك الأعلى، وهي الحروف التي تمنع الإمالة» (2). وقال ابن جني (ت 392هـ):
«وللحروف انقسام آخر إلى الاستعلاء والانخفاض، فالمستعلية سبعة وهي: وما عدا هذه الحروف فمنخفض. ومعنى الاستعلاء أن تتصعد في الحنك الأعلى، فأربعة منها فيها مع استعلائها إطباق، وقد ذكرناها. وأما الخاء والغين والقاف فلا إطباق فيها مع استعلائها» (3).
واستفاد علماء التجويد من كلام علماء العربية عن الحروف المستعلية والمستفلة، وكان بعضهم يستخدم عبارة سيبويه (التسفل) (4)، وبعضهم يستخدم عبارة ابن جني (الانخفاض) (5).
ويكاد موقفهم يتلخص في قول الداني: «والمستعلية سبعة أحرف يجمعها قولك (ضغط خص قظ): الخاء والغين والقاف والصاد والضاد والطاء والظاء. سميت مستعلية لأن اللسان يعلو بها إلى جهة الحنك، ولذلك تمنع الإمالة، إلا أنها على ضربين: منها ما يعلو اللسان به وينطبق، وهي حروف الإطباق الأربعة، ومنها ما يعلو ولا ينطبق وهي ثلاثة: الغين والخاء والقاف. والمستفلة ما عدا هذه المستعلية، سميت مستفلة لأن اللسان لا يعلو بها إلى جهة الحنك» (6).
واستطاع محمد المرعشي أن يدرك أن الذي يعلو من اللسان إلى جهة الحنك أثناء نطق الأصوات المستعلية هو أقصى اللسان، وذلك حيث قال: «فالاستعلاء أن يستعلي أقصى اللسان عند النطق بالحرف إلى جهة الحنك الأعلى» (7)، ومن ثم علل إخراج الكاف والجيم والشين والياء من الحروف المستعلية، فقال: «إن المعتبر في الاستعلاء في اصطلاحهم
__________
(1) الكتاب 4/ 479و 480.
(2) المقتضب 1/ 225.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 71.
(4) مكي: الرعاية ص 99. والداني: التحديد 18ظ.
(5) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 157و. وانظر: المرعشي: جهد المقل 14ظ.
(6) التحديد 18ظ.
(7) جهد المقل 14و.(1/248)
استعلاء أقصى اللسان، سواء استعلى معه بقية اللسان أو لا، وحروف وسط اللسان وهي الجيم والشين والياء لا يستعلي بها إلّا وسط اللسان، والكاف لا يستعلي بها إلا ما بين أقصى اللسان ووسطه، فلم تعد هذه الأربعة من المستعلية، وإن وجد فيها استعلاء اللسان، لأن استعلاءه في هذه الأربعة ليس مثل استعلائه بالحرف المستعلي» (1).
وأضاف بعض العلماء إلى الحروف المستعلية العين والحاء، كما ورد في قول أحمد بن أبي عمر: «ومنهم من ألحق العين والحاء بالمستعلية من القراء دون النحاة» (2). وذكر ذلك أيضا أبو شامة في قوله: «وبعضهم ألحق العين والحاء المهملتين بالحروف المستعلية» (3).
ولكن تعريف الحروف المستعلية لا ينطبق على العين والحاء إذ ليس للسان دور في إنتاجها.
ويبدو أن أصل هذا القول يرتبط بمذهب الكسائي في الوقوف على هاء التأنيث وما ضارعها في اللفظ بالإمالة، وكان لا يميل إذا وقع قبل الهاء أحد الحروف المانعة للإمالة. قال أبو علي الأهوازي (ت 446هـ): «والحروف الموانع تسعة: الحاء والخاء والعين والغين والصاد والضاد والطاء والظاء والقاف» (4). ولما كانت جميع حروف الاستعلاء من المانعة للإمالة فربما ألحق بها بعضهم الحاء والعين لمشاركتها حروف الاستعلاء في أنها تمنع الإمالة، ولكن ذلك وحده ليس كافيا لعدّهما من الحروف المستعلية، لأن أقصى اللسان لا يستعلي معهما نحو الحنك، ولعل مشاركة العين والحاء الحروف المستعلية في منع الإمالة يرجع إلى أن حروف الحلق يناسبها من الحركات الفتحة فلا يسوغ أن ينحى بحركتها إذا كانت فتحة نحو الكسرة، ومن ثم منعت الإمالة.
وهناك فرق بين صفة الإطباق وصفة الاستعلاء هو أن الأولى من الصفات المميزة، وأن الثانية من الصفات المحسنة، فعلى الرغم من التشابه والعلاقة بينهما إلى جانب تخصيص مصطلح للصفات المقابلة لهما فإن صفة الإطباق تميز بين الطاء والظاء والصاد وبين مشاركاتها في المخرج التاء والذال والسين، وكذلك الأمر بالنسبة للضاد التي تنطق في مصر اليوم ميزت صفة الإطباق بينها وبين الدال. بينما لا تقوم صفة الاستعلاء بأي دور تمييزي، إنما هي تشير إلى حالة اللسان في أثناء النطق بهذه الأصوات.
__________
(1) جهد المقل 14ظ.
(2) الإيضاح 74ظ.
(3) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 10.
(4) الوجيز 24ظ. وقد أضاف الداني إليهن الألف (التيسير ص 54).(1/249)
وهناك مع ذلك تداخل بين حروف الإطباق وحروف الاستعلاء، وهناك صفة مشتركة تجمع بينهما، ترتبت على الوضع الذي يتخذه اللسان في أثناء النطق بهذه المجموعة من الأصوات وهي صفة التفخيم. قال محمد المرعشي: «والتفخيم في الاصطلاح عبارة عن سمن يدخل على جسم الحرف فيمتلئ الفم بصداه. والتفخيم والتسمين والتجسيم والتغليظ بمعنى واحد. والترقيق عبارة عن نحول يدخل على جسم الحرف فلا يمتلئ الفم بصداه. وحروف الاستعلاء كلها مفخمة، ولا يجوز تفخيم شيء من حروف الاستفالة إلا الراء واللام في بعض أحوالهما. وسيجيء بيان ذلك، وإلا الألف المدية فإنها تابعة لما قبلها ثم اعلم أن التفخيم لازم للاستعلاء، فما كان استعلاؤه أبلغ كان تفخيمه أبلغ، فحروف الإطباق أبلغ في التفخيم من باقي حروف الاستعلاء وبالجملة إن قدر التفخيم على قدر الاستعلاء والإطباق» (1). ويذهب كثير من علماء التجويد إلى اعتبار الترقيق والتفخيم من الأحكام التي تخص الأصوات في حالة التركيب، ولذلك سوف أكتفي هنا بتوضيح العلاقة بين الإطباق والاستعلاء والتفخيم، وأعود في الفصل القادم إلى تفصيل أحوال الأصوات المفخمة إن شاء الله تعالى.
وكان بعض علماء التجويد قد أدركوا التداخل والعلاقة الوثيقة التي تربط الإطباق والاستعلاء والتفخيم، حتى قال عبد الوهاب القرطبي: «إن التفخيم والإطباق والاستعلاء من واد واحد» (2). وكرر مرارا (أن التفخيم نظير الإطباق) (3) و (أن الاستعلاء نظير الإطباق) (4).
وقال عبد الوهاب القرطبي أيضا: «فصار التفخيم في كونه انحصار الصوت بين اللسان والحنك نظير الاستعلاء والإطباق، ولهذا أثر الاستعلاء في الإمالة والترقيق فمنعها لأنه ضد.
والفرق بين الاستعلاء والإطباق وبين الترقيق والتفخيم أن الاستعلاء يلزم حروفه فلا يزول عنها وكذلك الإطباق، بخلاف الترقيق والتفخيم فإنهما يتعاقبان على الراء واللام كالإمالة والتفخيم في الألف» (5). ويعني عبد الوهاب القرطبي بحروف الترقيق والتفخيم هنا اللام والراء، أما حروف الاستعلاء فإنها ملازمة للتفخيم.
__________
(1) جهد المقل 15ظ 16و.
(2) الموضح 180و.
(3) الموضح 180ظ، 181و.
(4) الموضح 182و.
(5) الموضح 162و.(1/250)
أما المحدثون من دارسي الأصوات العربية فلم يجاوزوا في كلامهم عن الإطباق والاستعلاء والتفخيم ما قاله علماء التجويد، لا بل إن بعضهم قصر عن بلوغ ما وصل إليه علماء التجويد في وصف تلك الصفات. وكان (جان كانتينو) أكثرهم عناية بالموضوع ولم يكن تأكيده على الاتصال بين هذه الصفات جديدا، كما أنه لم يأت في أثناء تحليله لهذه الظواهر الصوتية بشيء متميز يستحق أن نطيل الوقوف عنده. وغاية ما يمكن أن نلاحظ في كلامه من عناصر الجدة هو ميله إلى التعبير عن مجموع هذه الصفات بمصطلح واحد هو (التفخيم) (1). وهذا أمر يشاركه فيه بعض الدارسين المحدثين (2).
وذهب الدكتور إبراهيم أنيس إلى أن الراء واللام المغلظتين تعتبران من الناحية الصوتية مثل حروف الإطباق، فقال عن اللام: «أما الفرق بين اللام المرققة والمغلظة (يقصد المفخمة) فهو في وضع اللسان مع كل منهما، لأن اللسان مع المغلظة يتخذ شكلا مقعرا، كما هو الحال مع أصوات الإطباق، فالفرق بين اللام المرققة والمغلظة هو نفس الفرق الصوتي بين الدال والضاد، أو التاء والطاء، ولكن الرسم العربي لم يرمز إلى اللام المغلظة برمز خاص تختلف باختلافه الكلمة، ولهذا نعد نوعي اللام صوتا واحدا أو فونيما واحدا، ولكن التاء صوت مستقل عن الطاء تختلف الكلمة في معناها مع كل منهما، ولذا يعد كل منهما فونيما مستقلا» (3).
وقال أيضا عن الراء: «والفرق بين الراء المرققة والمفخمة يشبه الفرق بين اللام المرققة والمغلظة، أي أن الراء المفخمة تعد من الناحية الصوتية أحد أصوات الإطباق، ولكن الرسم العربي لم يرمز لها برمز خاص يتغير بتغيره معنى الكلمة. ولهذا نعد كلا النوعين صوتا واحدا أو فونيما واحدا» (4).
ولم يكن الفرق بين هذه الأصوات غائبا عن نظر علماء التجويد فنجد عبد الوهاب القرطبي يعبر عن ذلك بأدق عبارة حيث قال وهو يتحدث عن الراء: «فإن كانت مكسورة رقت، وكان العمل فيها برأس اللسان، ومعتمدها أدخل إلى جهة الحلق في الحنك الأعلى يسيرا، وأخذ اللسان من الحنك أقل مما يأخذ مع المفخمة، فينخفض اللسان حينئذ، فلا
__________
(1) انظر: دروس ص 3736.
(2) مثل الدكتور كمال محمد بشر. انظر: الأصوات ص 129و 153.
(3) الأصوات اللغوية ص 6665.
(4) الأصوات اللغوية ص 67.(1/251)
ينحصر الصوت بينه وبين الحنك فتجيء الرقة فإن كانت مضمومة أو مفتوحة فخمت، وكان ما يأخذه طرف اللسان منها أكثر مما يأخذه مع الترقيق، وكان معتمد اللسان أخرج في الحنك الأعلى يسيرا، فينبسط حينئذ اللسان وينحصر الصوت بينه وبين الحنك، فيحدث التفخيم» (1). وكذلك قال عن اللام: «أما إسمانها (أي تفخيمها) فبأن يكون العمل فيها بوسط اللسان، وأدخل قليلا من مخرجها» (2).
ونقل الدركزلي عن الفخر الرازي أنه قال: «إن نسبة اللام الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الذال إلى الظاء، وكنسبة السين إلى الصاد» (3).
4 - الذلاقة والإصمات:
يرجع أصل هذين المصطلحين إلى ما ذكره الخليل بن أحمد في مقدمة كتاب العين، ثم اعتنى بهما علماء العربية من اللغويين والنحاة، وكانت عناية علماء التجويد بهما قليلة، وقد أثير حول هذين المصطلحين بعض الجدل في القديم والحديث، ولعل منشأ ذلك الجدل يعود إلى ما جاء في كتاب العين من مادة لا تخلو من بعض الغموض. ولا بد لمن يريد أن يستوفي الكلام عن هذا الموضوع من أن يبدأ بكتاب العين، ثم ينظر في المصادر الأخرى.
قال الخليل: «اعلم أن الحروف الذلقية والشفوية ستة، وهي: ر ل ن، ف ب م، وإنما سمّيت هذه الحروف ذلقا لأن الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلة اللسان والشفتين، وهما مدرجة هذه الأحرف الستة. منها ثلاثة ذلقية: ر ل ن، تخرج من ذلق اللسان من طرف غار الفم، وثلاثة شفوية: ف ب م، مخرجها من بين الشفتين خاصة، لا تعمل الشفتان في شيء من الحروف الصحاح إلا في هذه الأحرف الثلاثة فقط، ولا ينطق اللسان إلا بالراء واللام والنون فلما ذلقت الحروف السنة، ومذل بهن اللسان وسهلت عليه في المنطق كثرت في أبنية الكلام، فليس شيء من بناء الخماسي التام يعرى منها أو من بعضها».
«قال الخليل: فإن وردت عليك كلمة رباعية أو خماسية معرّاة من حروف الذلق أو الشفوية ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك فاعلم أن تلك الكلمة محدثة مبتدعة، ليست من كلام العرب، لأنك لست واجدا من يسمع من كلام
__________
(1) الموضح 161و.
(2) الموضح 164و.
(3) خلاصة العجالة 178و.(1/252)
العرب كلمة واحدة رباعية أو خماسية إلا وفيها من حروف الذلق والشفوية واحد أو اثنان أو أكثر» (1).
ويبدو أن الخليل لم يستخدم مصطلح (المصمتة) في مقدمة كتاب العين، لكنه ذكر مصطلح (الحروف الصّتم) على نحو لا تتضح معه دلالته على معنى محدد (2). وقد ورد في مصادر أخرى أن الصتم يقصد بها المصمتة (3).
إن الدارس حين ينظر في كلام الخليل السابق يجد أن مصطلح الذلاقة لا يشمل إلا ثلاثة أحرف هي (ر ل ن) وإن الحروف الثلاثة الأخرى (ف ب م) أطلق عليها مصطلح الشفوية.
ولعل الذي جعل الخليل يتحدث عن الحروف الستة المذكورة في مكان واحد هو اشتراكها في أن الكلمات الرباعية والخماسية لا تخلو من بعضها، ويؤكد ذلك أنه حين وصف الحروف منسوبة إلى مخارجها قال: «والراء واللام والنون ذلقية، لأن مبدأها من ذلق اللسان، وهو تحديد طرفي ذلق اللسان. والفاء والباء والميم شفوية، وقال مرة: شفهية، لأن مبدأها من الشفة» (4).
وهناك رواية نقلها الأزهري في (تهذيب اللغة) عن الخليل بن أحمد لم تذكر في كتاب العين تضع القضية في إطار آخر، بحيث يكون لمصطلح الذلاقة دلالة أوسع تشمل الحروف الستة، وهي: «قال: والحروف على نحوين: منها مذلق ومنها مصمت. فأما المذلقة فإنها ستة أحرف في حيّزين، أحدهما حيز الفاء، فيه ثلاثة أحرف كما ترى: ف ب م، مخارجها من مدرجة واحدة لصوت بين الشفتين لا عمل للسان في شيء منها. والحيز الآخر حيز اللام، فيه ثلاثة أحرف كما ترى: ل ر ن، مخارجها من مدرجة واحدة بين أسلة اللسان ومقدم الغار الأعلى. فهاتان المدرجتان هما موضعا الذلاقة، وحروفهما أخف الحروف في المنطق، وأكثرها في الكلام وأحسنها في البناء، ولا يحسن بناء الرباعي المنبسط والخماسي التام إلا بمخالطة بعضها».
«وقال: أما المصمتة وهي الصتم أيضا فإنها تسعة عشر حرفا صحيحا وإنما سميت مصمتة لأنها أصمتت فلم تدخل في الأبنية كلها، وإذا عريت من حروف الذلاقة قلّت
__________
(1) العين 1/ 5251.
(2) العين 1/ 54و 55.
(3) الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 51.
(4) العين 1/ 58.(1/253)
في البناء، فلست واجدا في جميع كلام العرب خماسيا بناؤه بالحروف المصمتة خاصة ولا كلاما رباعيا كذلك» (1). ويؤيد رواية الأزهري هذه ما جاء في كلام الخليل السابق: «فلما ذلقت الحروف الستة».
ويبدو أن هذه الرواية هي التي حددت موقف علماء العربية من مصطلح الذلاقة، فاستقر لديهم على الحروف الستة (ل ر ن، ف ب م) ونجد ابن دريد يضيف حروف العلة الثلاثة إلى المصمتة، فتصير اثنين وعشرين، بينما هي عند الخليل تسعة عشر بإخراج المعتلة من هذا التقسيم، ويقصد ابن دريد بالمعتلة الواو والياء والهمزة (2). أما الألف فلم يعدّه من أي من القسمين، وقال: «أما الحرف التاسع والعشرون فجرس بلا صرف، يريد أنه ساكن لا يتصرف في الإعراب، وهو الألف الساكنة» (3). وأصل هذه العبارة الأخيرة وارد في كلام الخليل الذي نقله الأزهري مما لم يرد في كتاب العين، وهو: «وروى غير ابن المظفر عن الخليل بن أحمد أنه قال: الحروف التي بني منها كلام العرب ثمانية وعشرون حرفا، لكل حرف منها صرف وجرس. أما الجرس فهو فهم الصوت في سكون الحرف. وأما الصرف فهو حركة الحرف فأما الألف اللينة فلا صرف لها، إنما هي جرس مدة بعد فتحة» (4).
ونقل ابن دريد عن الأخفش تفسيرا للمذلق والمصمت، هو تلخيص لفكرة الخليل عنهما، قال ابن دريد: «وسمعت الأشنانداني يقول: سمعت الأخفش يقول: سميت الحروف (مذلقة) لأن عملها في طرف اللسان، وطرف كل شيء ذلقة، وهي أخف الحروف وأحسنها امتزاجا بغيرها. وسميت الأخر (مصمتة) لأنها أصمتت أن تختص بالبناء إذا كثرت حروفه لاعتياصها على اللسان» (5).
ولخص ابن جني في (سر صناعة الإعراب) قضية المصمت والمذلق من الحروف بقوله: «ومنها حروف الذلاقة، وهي ستة: اللام والراء والنون والفاء والباء والميم، لأنه يعتمد عليها بذلق اللسان وهو صدره وطرفه. ومنها الحروف المصمتة وهي باقي الحروف» ثم أفاض
__________
(1) تهذيب اللغة 1/ 5150.
(2) جمهرة اللغة 1/ 6و 7.
(3) جمهرة اللغة 1/ 7.
(4) تهذيب اللغة 1/ 5150.
(5) جمهرة اللغة 1/ 7.(1/254)
ابن جني في الكلام على دور حروف الذلاقة في بنية الكلمة العربية (1).
ولم يتجاوز علماء التجويد في كلامهم عن الحروف المذلقة والمصمتة ما قاله علماء العربية في الموضوع. وقد أهمل كثير منهم ذكر هاتين الصفتين في أثناء حديثهم عن صفات الحروف (2). وكان مكي بن أبي طالب أكثر علماء التجويد عناية بهذا الموضوع، فقد ذكر الحروف المصمتة والحروف المذلقة ووضح المقصود منها (3). كما أفرد (الحروف الصم أو الصتم)، وهي عنده غير المصمتة، فقد فسرها بأنها الحروف التي ليست من الحلق (4).
وذكر عبد الوهاب القرطبي حروف الذلاقة على نحو موجز (5). وذكرها أيضا ابن الجزري في (التمهيد في علم التجويد) (6)، وفي (المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعمله) المشهورة بالمقدمة الجزرية (7). ومن ثم اعتنى شراح المقدمة بالكلام عن الحروف المذلقة والحروف المصمتة (8). وأهمل المرعشي في (جهد المقل) الكلام عنها، وقال في (بيان جهد المقل):
«ومجموع ما ذكرته ثماني عشرة صفة، وتركت مما ذكره ابن الجزري في نظمه الذلاقة»، ثم وضح هنا حروف الذلاقة والإصمات (9).
ولا يتضح بشكل محدد الأساس الذي يستند إليه تصنيف الحروف إلى مذلقة ومصمتة.
فالمذلقة سميت مذلقة لأن مبدأها من ذلق اللسان وهو طرفه، كما جاء في كلام الخليل في كتاب العين وهي على هذا المعنى ثلاثة (ل ر ن) (10). لكن المذلقة في ما رواه الأزهري عن الخليل ستة هي الثلاثة المذكورة إلى جانب حروف الشفة (ف ب م) وسميت مذلقة لأنها
__________
(1) سر صناعة الإعراب 1/ 7574. وانظر أيضا: ابن السراج: كتاب الاشتقاق ص 49، وابن عصفور:
الممتع في التصريف 2/ 676.
(2) انظر: الداني: التحديد 17ظ، وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 73و، وابن الطحان: مرشد القارئ 129ظ، والعطار: التمهيد 145و.
(3) الرعاية ص 111110.
(4) الرعاية ص 112111.
(5) الموضح 158و.
(6) التمهيد ص 29.
(7) متن الجزرية ص 12.
(8) انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 15.
(9) بيان جهد المقل 14و.
(10) العين 1/ 58.(1/255)
(أخف الحروف في المنطق) (1).
ولا يتبين أيضا وجه التقابل بين المذلقة والمصمتة، فسواء سميت المذلقة بهذا الاسم لأنها تخرج من ذلق اللسان أم لأنها أخف الحروف في النطق فإنها لا تقابل المصمتة التي سميت بذلك لأنها أصمتت أن تختص بالبناء إذا كثرت حروفه. قال مكي: «فمعنى المصمتة:
الممنوعة من أن تنفرد في كلمة طويلة» (2). ويلاحظ إلى جانب ذلك أن إطلاق كلمة (المذلقة) على الحروف الستة وحملها على معنى أنها تخرج من طرف اللسان، كما جاء في قول ابن جني مذهب غير سديد، لأن حروف الشفة (ف ب م) لا صلة لطرف اللسان بمخرجها.
وكان بعض علماء العربية مدركا لهذا التعارض في تسمية هذه الحروف بالمذلقة والمصمتة، فنجد ابن الحاجب يقول وهو يشرح قول الزمخشري في المفصل (وحروف الذلاقة والمصمتة): «وحروف الذلاقة ما في قولك (مر بنفل) والذلاقة الاعتماد بها على ذلق اللسان وهو طرفه. وهذا التفصيل باعتبارها غير مستقيم من جهته في نفسه ومن جهة أمر مضاده من المصمتة.
أما من جهته فلأنها لا تعتمد على طرف اللسان إلا ببعضها، فالميم والباء والفاء منها لا مدخل لها في طرف اللسان، فكيف يصح تسميتها بذلك مع خروج نصفها عن ذلك المعنى.
وأما من جهة القسم الآخر المضاد لها فلأنه إنا سمي مصمتا لأنه كالمسكوت عنه فلا ينبغي أن يكون ضد ذلك المنطوق بطرف اللسان.
وإنما الأولى أن يقال سميت حروف ذلاقة أي سهولة، من قولهم: لسان ذلق من الذلق الذي هو مجرى الحبل في البكرة لسهولة جريه فيه. فلما كانت كذلك التزموا أن لا يخلوا رباعيا أو خماسيا عنها، فكأن هذا الحكم هو المعتبر في تسميتها إلا أنهم استغنوا بسببه، وهو الذلاقة، فأضافوها إليه. والمصمتة على هذا المعنى يكون ضدها. وهي الحروف التي لا يتركب منها على انفرادها رباعي أو خماسي لكونها ليست مثلها في الخفة، فكأنه قد صمت عنها، ولعله لم يقصد في تعبيره إلا إلى ذلك. وإنما وقع الوهم من أخذ الذلاقة من الطرف وجعلها من طرف اللسان» (3). وجرى أيضا جدل بين المحدثين حول هذين
__________
(1) تهذيب اللغة 1/ 50.
(2) الرعاية ص 110.
(3) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 488.(1/256)
المصطلحين (1).
ولولا أن هذين المصطلحين، أعني المذلقة والمصمتة، قد تردد ذكرهما في كتب علم التجويد، وأفاض في الحديث عنهما علماء العربية، لما وقفنا عندهما هذه الوقفة الطويلة، لأنهما ليست لهما دلالة صوتية محددة، وهما ألصق بالدراسة الصرفية من بعض الجوانب على أساس ما لاحظه الخليل من قبل، وعبر عنه عبد الوهاب القرطبي بقوله: «وفي حروف الذلاقة سر ينتفع به في اللغة، وهو أنك متى رأيت اسما رباعيا أو خماسيا غير ذي زوائد فلا بد فيه من حرف من هذه الستة أو حرفين وربما كان ثلاثة» (2).
ثانيا صفات الأصوات المحسنة:
إن أشهر صفات الأصوات التي تحدث عنها علماء التجويد، من الداخلة في ما يعرف بالصفات المحسنة هي: القلقلة، والصفير، والغنة، والانحراف، والتكرير، والاستطالة والتفشي. وبعض هذه الصفات يشترك فيه عدد من الأصوات مثل الثلاثة الأولى، وبعضها يخص صوتا بعينه مثل الصفات الأربع الأخيرة، فالانحراف للام، والتكرير للراء، والاستطالة للضاد، والتفشي للشين.
1 - القلقلة:
يقرر علماء الأصوات أنّ الشديد (الانفجاري) يتكوّن من:
1 - حبس.
2 - إطلاق.
3 - صوت يتبع الإطلاق.
فالحبس يتم باتصال عضوين ينتج عنه وقف المجرى الهوائي وقفا كاملا. والإطلاق يتم بانفصال العضوين انفصالا سريعا يحدث عنه انفجار الهواء، ويلاحظ أن اندفاع الهواء يستمر بالضرورة زمنا محسوسا بعد انفراج العضوين، ولذلك فالصوت الشديد (الانفجاري) لا يتأتى نطقه النطق الكامل من غير أن يتبع بصوت آخر مستقل عنه، هو هذا الهواء المندفع. وهذا الصوت المستقل الذي يلي الصوت الشديد ضرورة إما أن يكون مهموسا وإما أن يكون
__________
(1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 110. وحسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 323.
(2) الموضح 158و، وانظر: مكي: الرعاية ص 115.(1/257)
مجهورا. فإذا نطقنا صوتا شديدا مهموسا مثل الكاف وحده فإنه يتبعه عادة صوت مهموس قصير، وإذا نطقنا صوتا شديدا مجهورا كالباء وحده فإنه يتبعه عادة صوت مجهور قصير أشبه ما يكون بالفتحة المختلسة (1).
وكان سيبويه قد لاحظ هذه الخاصية في الأصوات عند الوقف عليها، وذلك حيث قال:
«واعلم أن من الحروف حروفا مشربة ضغطت من مواضعها، فإذا وقفت خرج معها من الفم صويت ونبا اللسان عن موضعه، وهي حروف القلقلة، وستبين أيضا في الإدغام إن شاء الله (2). وذلك القاف والجيم والطاء والدال والباء. والدليل على ذلك أنك تقول: الحذق، فلا تستطيع أن تقف إلا مع الصويت، لشدة ضغط الحرف، وبعض العرب أشد صوتا، كأنهم الذين يرومون الحركة» (3).
وكذلك تحدث سيبويه عن الوقف على الحروف المهموسة فقال: «وأما الحروف المهموسة فكلها تقف عندها مع نفخ، لأنهن يخرجن مع التنفس لا صوت الصدر، وإنما تنسل معه، وبعض العرب أشد نفخا، كأنهم الذين يرومون الحركة فلا بد من النفخ، لأن النفس تسمعه كالنفخ» (4).
وقرر سيبويه أن ذلك الصوت وتلك النفخة لا تسمع من الحروف عند الوصل، وذلك حيث قال: «واعلم أن هذه الحروف التي يسمع معها الصوت والنفخة في الوقف لا يكونان فيهن في الوصل إذا سكنّ، لأنك لا تنتظر أن ينبو لسانك، ولا يفتر الصوت حتى تبتدئ صوتا. وكذلك المهموس، لأنك لا تدع صوت الفم يطول حتى تبتدئ صوتا» (5). وقال في مكان آخر: «ولا يكون شيء من هذه الأشياء في الوصل، نحو أذهب زيدا» (6).
وكان كلام سيبويه هذا عن حروف القلقلة قد حدد معالم الموضوع عند علماء العربية وكذلك عند علماء التجويد، وكان ما أضيف على كلام سيبويه يعد شيئا يسيرا لا يغير جوهر الموضوع. من ذلك أن المبرد عدّ الكاف من حروف القلقلة، حيث قال: واعلم أن من
__________
(1) انظر: محمود السعران: علم اللغة ص 166و 172171.
(2) لم يتحدث سيبويه عن حروف القلقلة في باب الإدغام.
(3) الكتاب 4/ 174.
(4) الكتاب 4/ 175.
(5) الكتاب 4/ 175.
(6) الكتاب 4/ 176، وانظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 73.(1/258)
الحروف حروفا محصورة في مواضعها فتسمع عند الوقف على الحرف منها نبرة تتبعه وهي حروف القلقلة. وإذا تفقدت ذلك وجدته. فمنها القاف والكاف. إلا أنها دون القاف، لأن حصر القاف أشد، وإنما تظهر هذه النبرة في الوقف، فإن وصلت لم يكن، لأنك أخرجت اللسان عنها إلى صوت آخر، فحلت بينه وبين الاستقرار، وهذه المقلقلة بعضها أشد حصرا من بعض، كما ذكرت لك في القاف والكاف» (1). ومذهب المبرد في عد الكاف من حروف القلقلة مبني على أساس ما يتبع الكاف من صوت مهموس بعد انفصال العضوين عند النطق به، ولكن ذلك الصوت دون الصوت الذي يسمع من حروف القلقلة المجهورة.
وقد دارت مناقشات علماء التجويد لموضوع القلقلة حول عدد من النقاط هي: عدد حروفها، وموضعها، وحقيقة الصوت الذي يسمع عند الوقف على حروفها، وتخصيص بعضهم مصطلحا مقابلا لمصطلح القلقلة، يطلق على ما عدا حروفها.
أما عدد حروف القلقلة فإن مذهب جمهور علماء التجويد أنها خمسة، تجمع في (قد طبج)، أو (طبق جد)، أو (جد قطب)، أو (قطب جد) (2). وأشار بعضهم إلى مذهب المبرد في عد الكاف من حروف القلقلة (3). لكن المرعشي علق على ذلك بقوله: «أقول فكأنه لم يشترط قوة الصوت الزائد، وإن شرط انحصار صوت الحرف قبله لكن يلزمه حينئذ أن يعد منها التاء المثناة الفوقية أيضا» (4). وهذا قول صحيح.
ويشترط علماء التجويد لحصول القلقلة في الحرف اجتماع الشّدة والجهر فيه «فالشدة تحصر صوت الحرف لشدة ضغطه في المخرج، والجهر يمنع جري النفس عند انفتاح المخرج، فيلتصق المخرج التصاقا محكما فيقوى الصوت الحادث عند انفتاح المخرج دفعة» (5). ووضح ذلك أبو عمرو بن الحاجب، ونقل كلامه أبو شامة المقدسي، وهو قوله:
«وإنما حصل لها ذلك لاتفاق كونها شديدة مجهورة، فالجهر يمنع النفس أن يجري معها، والشدة تمنع أن يجري صوتها، فلما اجتمع لها هذان الوصفان، وهو امتناع (جري) النفس
__________
(1) المقتضب 1/ 196.
(2) أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 12، وانظر: مكي: الرعاية ص 100، والداني:
التحديد 19ظ، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 157ظ، والسمرقندي: روح المريد 126ظ.
(3) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 157ظ، وابن الجزري: النشر 1/ 203.
(4) جهد المقل 13ظ، وذكر ابن الجزري (النشر 1/ 203) إن سيبويه ذكر معها التاء، وهو أمر غير مؤكد.
(5) المرعشي: جهد المقل 13و.(1/259)
معها، (وامتناع) جري صوتها فاحتاجت إلى التكلف في بيانها، فلذلك يحصل ما يحصل من الضغط للمتكلم عند النطق بها ساكنة، حتى تكاد تخرج إلى شبه تحركها لقصد بيانها، إذ لولا ذلك لم تتبين» (1).
وبعد الطاء والقاف من الأصوات المهموسة في نطق العربية الفصحى المعاصر، ومن ثم تخلف فيهما أحد شرطي القلقلة، وهو الجهر، ولكن نلاحظ أن قراء القرآن وناطقي العربية يحرصون على إتباع هذين الصوتين عند الوقف بصويت القلقلة، وهو أمر يسوغه كون الصوتين شديدين (انفجاريين)، فيتبعهما عند الوقف صوت، مثل صوت الكاف، لكنه معهما أشد، لفخامة الطاء بالإطباق، وشدة انفصال العضوين في نطق القاف، مع كونه صوتا مستعليا.
وتنطبق شروط القلقلة على الهمزة كما وصفها علماء العربية وعلماء التجويد من أنها صوت شديد مجهور، وهي في الواقع ليست مجهورة، وقد نص علماء التجويد على إخراج الهمزة من حروف القلقلة (2). وعلل محمد المرعشي إخراجها بقوله: «ثم اعلم أن الهمزة وإن اجتمع فيها الشدة والجهر، لكن الجمهور أخرجوها من حروف القلقلة، كما في بعض الرسائل، ولعل سبب ذلك ما في الرعاية أن الهمزة كالتهوع وكالسعلة. فجرت عادة العلماء بإخراجها بلطافة ورفق وعدم تكلف في ضغط مخرجها، لئلا يظهر صوت يشبه التهوع والسعلة، أقول: فيخفي حينئذ شدتها ويعدم قلقلتها» (3). وهذا التعليل عندي أرجح مما علل به ابن الجزري حين قال: «وإنما لم يذكرها الجمهور لما يدخلها من التخفيف حالة السكون ففارقت أخواتها، ولما يعتريها من الإعلال» (4).
وجاء في بعض المصادر أن من العلماء من يعد اللام من حروف القلقلة (5)، وقد ذكر ذلك المرعشي، وذكر أن بعضهم أضاف إليها الفاء، لكن ذلك كله لحن، حسب رأيه، وذلك حيث قال: «وهي لازمة لحروف قطب جد، وإحداثها في غيرها لحن، كما حذر في بعض الرسائل عن قلقلة الفاء واللام في (أفواجا) و (جعلنا)، وإنما يقلقلهما حرصا على إظهار هما
__________
(1) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 448. وانظر: أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 13. والكلمات الموضوعة بين معقوفين ساقطة من (الإيضاح) وأثبتها من (إبراز المعاني).
(2) ابن الجزري: النشر 1/ 203.
(3) جهد المقل 14و.
(4) النشر 1/ 203. وانظر: أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 12و.
(5) انظر: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 74ظ.(1/260)
وحذرا عن إدغامهما فيما بعد هما» (1).
أما صوت القلقلة الذي يسمع عند الوقف على حروف (قطب جد) فقد استخدم بعض علماء التجويد كلمة (صويت) للتعبير عنه (2). وهي الكلمة التي استخدمها سيبويه من قبل.
ووصف مكي ذلك الصوت بأنه (صوت زائد) وأنه (يشبه النبرة) (3). ونقل أبو شامة في شرح الشاطبية أن ذلك الصوت كالحركة (4). وهذه نظرة أكدها المرعشي كثيرا. فقال في كتابه (جهد المقل): «ثم اعلم أن إظهار القلقلة في الحرف الساكن يشبه تحريكه» (5). ووضح ذلك في (بيان جهد المقل) حيث قال: «قوله: (يشبه تحريكه) أقول: الظاهر من الامتحان أنه يشبه تحريكه بحركة ما قبله. ثم الظاهر من الامتحان أيضا أن إظهار القلقلة يشبه التشديد» (6). وهذا أمر أكدته الدراسات الصوتية الحديثة، فقال الدكتور محمود السعران: «من هذا نرى أن الصوت الإضافي في حالة (حروف القلقلة) يشبه الحركة» (7).
ومثل ما أدرك محمد المرعشي أن صوت القلقلة يشبه الحركة كذلك أدرك أن ذلك الصوت مجهور، وأن الفرق بينه وبين الصوت الذي يتبع الكاف هو الجهر والهمس، وهذا مبني على أساس أن جميع حروف القلقلة مجهورة بحسب الوصف القديم لها. يقول:
«ويشترط عند الجمهور في إطلاق اسم القلقلة على ذلك الصوت الزائد كونه جهريا بسبب أنه حصل بفك للمخرج دفعة بعد لصقه لصقا محكما، ولذا خصوا القلقلة بحروف اجتمع فيها الشدة والجهر وهي خمسة يجمعها (قطبجد)، فلم يعد الكاف والتاء من حروف القلقلة مع أن فيهما صوتا زائدا حدث عند انفتاح مخرجيهما، لأن ذلك الصوت فيهما يلابس جري نفس، فهو صوت همس ضعيف، ولذا عدّا شديدين مهموسين، فلو لم يلابس ذلك الصوت فيهما يجري نفس لكان قلقلة، ولكان التاء دالا» (8).
__________
(1) جهد المقل 14و.
(2) الداني: التحديد 19ظ.
(3) الرعاية ص 100.
(4) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 13.
(5) جهد المقل 14و.
(6) بيان جهد المقل 17ظ.
(7) علم اللغة ص 176.
(8) جهد المقل 13ظ.(1/261)
أما موضع القلقلة فإن لعلماء التجويد مذهبين في ذلك، فبعضهم يرى أنها (لا تكون إلا عند الوقف) (1). وهو الذي يفهم من كلام علماء العربية، لأن أخذك في صوت آخر عند الوصل يشغلك عن إتباع الحرف الأول صوتا (2). وذهب أكثرهم إلى أنه لا يشترط لحصول القلقلة سوى سكون الحروف المذكورة (سواء وقعت وسطا أو متطرفة) (3). إلا أن ذلك الصوت في الوقف عليهن أبين منه في الوصل بهن (4).
وذكر ابن الجزري في كتابه (النشر) ذينك المذهبين، وهو يرجح المذهب الثاني الذي يذهب أصحابه إلى وجوب قلقلة الحروف الخمسة إذا كانت ساكنة في الوصل والوقف، واستدل بكلام أبي الحسن شريح (ت 539هـ)، وذلك حيث قال: «وذهب متأخرو أئمتنا إلى تخصيص القلقلة بالوقف تمسكا بظاهر ما رأوه من عبارة المتقدمين أن القلقلة تظهر في هذه الحروف بالوقف، فظنوا أن المراد بالوقف ضد الوصل، وليس المراد سوى السكون، فإن المتقدمين يطلقون الوقف على السكون وقوّى الشبهة في ذلك كون القلقلة في الوقف العرفي أبين، وحسبانهم أن القلقلة حركة، وليس كذلك، فقد قال الخليل: القلقلة شدة الصياح، والقلقلة شدة الصوت.
وقال الأستاذ أبو الحسن شريح ابن الإمام أبي عبد الله محمد بن شريح، رحمه الله، في كتابه (نهاية الإتقان في تجويد القرآن) لما ذكر أحرف القلقلة الخمسة: فقال: وهي متوسطة كباء {الْأَبْوََابَ} [يوسف: 23]، وجيم {النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، ودال {مَدَدْنََاهََا}
[الحجر: 19]، وقاف {خَلَقْنََا} [الأعراف: 181]، وطاء {أَطْوََاراً} [نوح: 14]. ومتطرفة كباء {لَمْ يَتُبْ} [الحجرات: 11]، وجيم لم يخرج (5)، ودال {قَدْ}، وقاف {مَنْ يُشََاقِقِ} [النساء: 115] وطاء {لََا تُشْطِطْ} [ص: 22]. فالقلقلة هنا أبين في الوقف في المتطرفة من التوسط، انتهى» (6).
__________
(1) ابن الطحان: مرشد القارئ 130ظ.
(2) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 175. والمبرد: المقتضب 1/ 196، والسيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 446، وابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 73.
(3) أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 74ظ.
(4) مكي: الرعاية ص 100.
(5) (لم يخرج) لم ترد في القرآن، ويصح التمثيل بقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ} [النساء: 100].
(6) النشر 1/ 204203.(1/262)
ويبدو أن تسمية هذه الظاهرة بالقلقلة ترتبط بالمعنى اللغوي ارتباطا وثيقا. إذ يقال:
قلقل الشيء قلقلة إذا حرّكه (1)، فحمل بعض علماء التجويد هذه التسمية على ذلك المعنى، مع احتمال أن يكون أصل التسمية من دلالة الكلمة على شدة الصوت، فقال: «سميت بذلك إما لأن صوتها صوت أشد الحروف، أخذا من القلقلة التي هي صوت الأشياء اليابسة. وإما لأن صوتها لا يكاد يتبين به سكونها ما لم يخرج إلى شبه التحريك لشدة أمرها، من قولهم قلقله إذا حركه» (2).
وحاول بعض علماء التجويد المتأخرين وضع مصطلح يقابل مصطلح (القلقلة)، فاستخدم السمرقندي (ت 780هـ) مصطلح الساكنة، فقال: «وما سوى القلقلة فهي ساكنة» (3). وقال الحسن بن شجاع التوني: «وضد القلقلة السكون» (4). وعلل الدركزلي تسميتها بالساكنة بقوله: «أي أنها ذات سكون وعدم اضطراب في مخارجها مطلقا» (5). لكن جمهور علماء التجويد يعدون صفة القلقلة من الصفات التي لا ضد لها.
وذكر محمد بن القاسم البقري أن شيخه، ولم يسمه، كان له مذهب خاص في تفسير القلقلة فقال: «وكان شيخنا يتوقف فيها، ويميل أن القلقلة منع الشخص نفسه من تحريك الحرف، وخالفه جماعة من معاصريه، وقالوا: إن القلقلة نبرة لطيفة يأتي بها القارئ في الحرف المقلقل. وشيخنا لا يمنعه، إلا أنه يتوقف فيه، لما قاله الشمس ابن الجزري في نشره: وقال الخليل: القلقلة: شدة الصياح إلى آخر ما قاله، وذلك لا يفهم أن القلقلة تحريك الحرف» (6).
وورد في بعض كتب علم التجويد المعاصرة تقسيم للقلقلة لم أجد له أي إشارة في كتب علم التجويد القديمة فإذا كان حرف القلقلة في آخر الكلمة ووقف عليها كانت القلقلة شديدة جدا، وسميت قلقلة كبرى. وإذا كان الحرف ساكنا في وسط الكلمة. كانت أخف، وسميت
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب 14/ 85 (قلقل).
(2) أبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 12، والحسيني كاشف المعاني 184و، وقد نقلا ذلك عن ابن الحاجب: الإيضاح في شرح المفصل 2/ 488.
(3) روح المريد 126ظ.
(4) المفيد في علم التجويد 5و، وانظر: 3ظ.
(5) خلاصة العجالة 157ظ.
(6) غنية الطالبين ص 14.(1/263)
قلقلة صغرى (1).
2 - الغنة:
عرّف علماء التجويد الغنة بأنها (صوت يخرج من الخيشوم) (2). وقال بعضهم: الصوت الذي يخرج من الأنف (3). وقد ورد معنى هذا التعريف في كلام علماء العربية المتقدمين، عند سيبويه وغيره (4).
وأدرك علماء التجويد طبيعة ذلك الصوت أعني الغنة، فقال عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ): «وهي صوت يجري في الخيشوم جريان حروف المد واللين في موضعها» (5). وهذه حقيقة يؤيدها الدرس الصوتي الحديث، فكما أن حروف المد تتميز بجريان النّفس حرا طليقا في مجراه خلال الحلق والفم كذلك الغنة يجري فيها النّفس خلال تجويف الأنف (الخيشوم) من غير عائق. ولو أوقف الناطق ذبذبة الوترين الصوتيين في أثناء نطق حروف المد والغنة لبطلت أصواتها وصارت نفسا، فليس لهذه الأصوات مقابل مهموس (6). ومن ثم قرر المرعشي (ت 1150هـ) أن مخرج بعض الأصوات «لا ينضغط فيه الصوت أصلا، وهو مخرج الألف المدية ومخرج النون الخفية» (7)، والنون الخفية هي الغنة.
وحرفا الغنة النون والميم (8). وقد سمّى أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 659هـ) كل واحد منهما بالحرف (الأغن) فقال: «والأغن النون والميم، سميا بذلك لأن فيهما غنة، وهو صوت يخرج من الخياشيم وإنما سمي هذا الصوت غنة لجريه مع النون والميم بعد لزوم اللسان موضعهما، يدلك على ذلك أنك لو أمسكت بأنفك عند النطق بهما لا نحصر الصوت فيهما كالطنين، لأن الخيشوم مركب فوق الغار الأعلى، وإليه سموّ هذا
__________
(1) انظر: فرج توفيق الوليد: قواعد التلاوة وعلم التجويد ص 40، وجان كانتينو: دروس ص 38.
(2) مكي: الكشف 1/ 164، العطار: التمهيد 146ظ، الفاسي: اللئالئ الفريدة 213ظ، المرعشي: جهد المقل 18ظ.
(3) أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 74ظ.
(4) سيبويه: الكتاب 4/ 435، والمبرد: المقتضب 1/ 194، وابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 7، والسيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 517.
(5) الموضح 153ظ.
(6) انظر: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 95و 101.
(7) بيان جهد المقل 9و.
(8) سيبويه: الكتاب 4/ 435، ومكي: الرعاية ص 106، والداني: التحديد 19و.(1/264)
الصوت» (1). وذكر مكي (ت 437هـ) أن الميم تسمى (الحرف الراجع)، لأنها ترجع إلى الخياشيم لما فيها من الغنة، وقال: يجب أن يشاركها في هذا اللقب النون الساكنة (2).
واشتراط بعض علماء العربية وبعض علماء التجويد لوجود الغنة في النون والميم شروطا، منها أن تكون ساكنة مع عدم إظهارها، قال أبو عبد الله الفاسي (ت 656هـ) وهو يشرح قول الشاطبي:
وغنة تنوين ونون وميم ان ... سكنّ ولا إظهار في الأنف يجتلى
«الغنة صوت يخرج من الخياشيم، لا عمل للسان فيه ومحلها التنوين والنون والميم بشرط سكونهن وعدم إظهارهن، فإن تحركت صار العمل فيه للسان، وكذلك إن ظهر التنوين أو النون عند حروف الحلق» (3). ومع وضع هذين الشرطين لوجود الغنة في الميم والنون قال الفاسي بعد ذلك: «وإذا نطق بهذه الحروف خالية من الشرطين المذكورين لم يكن بد فيها من صوت يخرج من الخياشيم أيضا، مخالط لما يخرج من اللسان لأن طبعها يقتضي ذلك دون غيرها من الحروف» (4).
وقال السمرقندي (ت 780هـ) «وحروف الغنة الميم والنون والتنوين، إن سكنّ
فإذا تحركت صار العمل فيها للسان والشفتين دون الأنف، لهذا لا يقدر على إخراجها المزكوم، وكذلك إن أظهرت التنوين والنون عند حروف الحلق» (5).
وقال ابن يعيش (ت 643هـ) في شرح المفصل: «فإذا لم يكن بعدها حرف البتة كانت من الفم، وبطلت الغنة، كقولك: من وعن ونحوهما مما يوقف عليه» (6).
وهذا المذهب الذي يضع شروطا لوجود الغنة في النون والميم ناتج عن وهم في تصور حقيقة الغنة، أو أنه مبني على فهم معين لها، كأن يراد بها إطالة الصوت الخارج من الأنف أكثر مما تحصل به ذات الميم والنون، كما فسرها بعض المحدثين بقوله: «وليست الغنة إلا
__________
(1) التمهيد 146ظ.
(2) الرعاية ص 112، وذكر عبد الوهاب القرطبي (الموضح 158ظ) أن النون والميم تسمى المستعينة، لأنهما يستعان عليهما بصوت الخياشيم.
(3) اللئالئ الفريدة 213ظ. وانظر: مكي: الرعاية ص 214.
(4) اللئالئ الفريدة 213ظ.
(5) روح المريد 128و.
(6) شرح المفصل 10/ 127.(1/265)
إطالة لصوت النون، مع تردد موسيقي محبب فيها» (1). لكن الذي عليه جمهور العلماء هو أن الغنة يقصد بها مجرد خروج النفس المجهور من الأنف قليلا كان ذلك النفس أم كثيرا، طويلا أم قصيرا.
وكان علماء التجويد قد أكدوا على الترابط بين الغنة والنون والميم. فقال عبد الوهاب القرطبي: «والنون لها غنة في نفسها سواء كانت من الفم أو من الأنف، لأن الغنة صوت من الخيشوم يتبع الحرف، وإن كان خروجه من الفم» (2). وقال وهو يتحدث عن النون أيضا:
«ولأجل جريان الغنة فيها وفي الميم إذا طرأت على الخيشوم آفة تمنع الجريان رأيت النون أقرب إلى التاء، والميم أمسّ بالباء» (3).
وكان الجعبري (ت 732هـ) قد قال في ذلك كلمة جامعة هي: «والغنة صفة النون، ولو تنوينا، والميم، تحركتا أو سكنتا، ظاهرتين أو مخففتين أو مدغمتين، لا تختص بمخرج بل كل راجع إلى مخرجه. قال: وهذا معنى قول الداني: وأما الميم والنون فيتجافى بهما اللسان إلى موضع الغنة من غير قيد، وبرهانه سدّ الأنف. وهي في الساكن أكمل من المتحرك، وفي المخفى أزيد من المظهر، وفي المدغم أوفى من المخفى» (4).
ولعل كلمة (مخففتين) مصحّفة عن (مخفاتين)، يدل على ذلك ما ورد في آخر النص من قوله (وفي المخفى أزيد من المظهر) وكذلك يدل عليه أن من نقلوا النص عن الجعبري ذكروا (مخافتين).
وقد نقل كثير من علماء التجويد كلمة الجعبري السابقة، مع بعض الزيادات مثل كلمة (لازمة) وتغيير كلمة (مخففتين) إلى (مخافتين)، فقال أحمد بن الجزري: «اعلم أن الغنة صفة لازمة للنون والميم تحركتا أو سكنتا، ظاهرتين أو مخافتين أو مدغمتين، وهي في الساكن أكمل من المتحرك» (5). وقال المرعشي: «قول الجعبري (المدغمتين) الأولى أن يقال
__________
(1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 71.
(2) الموضح 171و.
(3) الموضح 164ظ.
(4) انظر: القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 195.
(5) الحواشي المفهمة 47ظ، وانظر: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 43و، وأحمد فائز الرومي:
شرح الدر اليتيم ص 13، والمرعشي: جهد المقل 18ظ.(1/266)
بدله: أو مشددتين، ليشمل المشددتين بلا إدغام نحو: إنّ وثمّ» (1). ولخص السمنودي (ت 1084هـ) الأمر بقوله: «وهي صفة لازمة للنون والتنوين والميم مطلقا» (2).
وكان مكي قد قال: «الغنة حرف شديد مجهور، لا عمل للسان فيها» (3). وهذا يناقض ما قرره جميع علماء العربية وعلماء التجويد من اعتبار (النون) حرفا متوسطا، والغنة تابعة للنون. ومن ثم تصدى الجعبري لقول مكي السابق وأنكره، وذلك حيث قال: «جعله الغنة حرفا غير سديد بالمهملة، وإن أراد أنها ذات محل مغاير فلا يلزم منه حرفيتها. قال: وإلى هذا أشرنا في العقود (4) بقولنا:
والغنة أبطل قول مكيّ بها ... في أنها حرف وأمّ بياني
في أنها لا تستقلّ بنفسها ... وتحلّ حرفا ربّه استعلان» (5).
وكان بعض علماء التجويد قد أطلق على (النون الخفية) كلمة (الغنة)، على نحو ما ذكرنا عند الكلام عن مخرج النون الخفية، وهما وإن كانتا من الناحية الصوتية شيئا واحدا، بينهما فرق، قال المرعشي: «إن قلت: ما الفرق بين النون المخفاة وبين الغنة قلت: هما متحدتان ذاتا، لأن كلّا منهما صوت يخرج من الخيشوم، لكن ذلك الصوت صفة في الأصل للنون والميم الساكنتين، كما في عن ولم، ويسمى حينئذ غنة، وقد تخفى النون الساكنة، ومعناه أن يعدم ذاتها وتبقى صفتها التي هي الغنة كما في عنك، وسميت النون نونا مخفاة.
وبالجملة إن الغنة تطلق على الصوت الخارج من الخيشوم سواء قام بالحرفين المذكورين أو قام بنفسه، وفي اصطلاح أهل الأداء تختص بما قام بالحرفين المذكورين» (6).
وقد استخدم علماء الأصوات المحدثون لوصف النون والميم كلمة (الأنفية) (7)، بينما استخدم بعضهم كلمة (الغنّاء) و (أغنّ) (8). وهي كلمة سبق إلى استخدامها بعض علماء
__________
(1) جهد المقل 18ظ 19و.
(2) تحفة الطالبين 4و.
(3) الرعاية ص 214.
(4) يريد كتابه (عقود الجمان في تجويد القرآن) (انظر رقم 25من مصادر علم التجويد في الفصل الأول).
(5) القسطلاني: اللئالئ السنية 9ظ. وانظر: لطائف الإشارات (له) 1/ 195.
(6) المرعشي: جهد المقل 10و، وانظر: 18ظ.
(7) كمال محمد بشر: الأصوات ص 167، وماريوباي: أسس علم اللغة ص 86.
(8) محمود السعران: علم اللغة ص 184.(1/267)
التجويد (1).
وليس ثمة ما هو جديد في كلام المحدثين عن الغنة وحرفيها (النون والميم) سوى إشارتهم إلى انخفاض الحنك اللين واللهاة في أثناء نطق الأصوات الأنفية حيث يقولون:
«وتتكون الأصوات الأنفية بأن يحبس الهواء حبسا تاما في موضع من الفم ولكن يخفض الحنك اللين فيتمكن الهواء من النفاذ عن طريق الأنف» (2). بينما كان علماء التجويد يقولون إن غنة النون والميم تجري في الخيشوم (الأنف) دون أن يشيروا إلى حركة أعضاء آلة النطق المصاحبة لذلك.
3 - الصفير:
لم يذكر سيبويه هذه الصفة (3)، وكذلك فعل ابن جني في (سر صناعة الأعراب)، وأقدم من ذكرها، مما اطلعت عليه من المصادر، هو المبرد، فقد قال في (المقتضب): «ومن طرف اللسان وملتقى حروف الثنايا حروف الصفير، وهي حروف تنسل انسلالا، وهي السين والصاد والزاي» (4).
وكانت لعلماء التجويد عناية خاصة بهذه الصفة، وحاولوا أن يوضحوا المقصود بكلمة الصفير، فقال مكي (ت 437هـ): «وحقيقة الصفير أنه اللفظ الذي يخرج بقوة مع الريح من طرف اللسان مما بين الثنايا تسمع له حسا ظاهرا في السماء» (5). وقال ابن الطحان (ت حوالي 560هـ): «والصفير حدة الصوت، كالصوت الخارج عن ضغط ثقب» (6). وقال المرادي (ت 749هـ): «وهو صويت يصحب هذه الأحرف يشبه صفير الطائر» (7).
وربط علماء التجويد بين تسمية هذه الأصوات الثلاثة بحروف الصفير وبين ظاهرة الصفير في أصوات الطبيعة، فقال مكي: «وإنما سميت بحروف الصفير لصوت يخرج معها عند النطق بها يشبه الصفير» (8). وقال الداني (ت 444هـ): «سميت بذلك لأنك تسمع فيها
__________
(1) الداني: التحديد 35ظ، 40ظ. والعطار: التمهيد 146ظ.
(2) محمود السعران: علم اللغة ص 184. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 167.
(3) ذكر سيبويه هذه الصفة عرضا، انظر: الكتاب 4/ 464.
(4) المقتضب 1/ 193وانظر أيضا: 1/ 225و 226.
(5) الرعاية ص 186.
(6) مرشد القارئ 130ظ.
(7) شرح الواضحة ص 36.
(8) الرعاية ص 100.(1/268)
شبيها بالصفير عند إخراجها من مواضعها» (1). وقال عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ):
«وسميت بذلك لشبه أجراسها بالصفير» (2).
والصفير صفة ذاتية في هذه الأصوات لا تنفك عنها، كما أن الغنة صفة ذاتية في النون والميم، وهي تخرج من مخرج واحد، وإنما فرّق بينها صفات مميزة هي الهمس في السين والجهر في الزاي والإطباق في الصاد (3).
والكلام عن صفة الصفير مع أنها لم تكن ذات أثر في التمييز بين الأصوات، يدل على إدراك للخصائص الدقيقة للأصوات، وهي صفة لاحظها علماء الأصوات المحدثون، فقالوا:
«ويوصف الصوتان س ز غالبا بأنهما صفيريان، لما يصحبهما من صفير أو أزيز، وهما في الحقيقة صوتان من النوع الاحتكاكي» (4). وقالوا: «وسميت صفيرية لقوة الاحتكاك معها.
والسبب في قوة الاحتكاك هو أن نفس المقدار من الهواء مع الثاء يجب أن يمر مع السين خلال منفذ أضيق» (5).
4 - التكرير:
التكرير، ويقال له التكرار أيضا (6)، «هو ارتعاد طرف اللسان بالراء» (7)، أو هو «تضعيف يوجد في جسم الراء لارتعاد طرف اللسان بها» (8). وكان سيبويه قد قرر هذه الصفة للراء، فقال وهو يتحدث عن صفات الحروف: «ومنها المكرر، وهو حرف شديد يجري فيه الصوت لتكريره وانحرافه إلى اللام، فتجافى للصوت كالرخوة، ولو لم يكرر لم يجر الصوت فيه، وهو الراء» (9). وقال أيضا: «والراء إذا تكلمت بها خرجت كأنها مضاعفة، والوقف يزيدها إيضاحا» (10).
__________
(1) التحديد 19و.
(2) الموضح 158ظ.
(3) انظر: مكي: الرعاية ص 185.
(4) ماريوباي: أسس علم اللغة ص 85.
(5) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 98.
(6) انظر: المبرد المقتضب 1/ 212، والبقري: غنية الطالبين ص 16.
(7) مكي: الرعاية ص 170.
(8) ابن الطحان: مرشد القارئ 130ظ.
(9) الكتاب 4/ 435.
(10) الكتاب 4/ 136.(1/269)
واختلف علماء التجويد في صفة التكرير أهي لازمة للراء أم لا؟ فكان مكي قد أكد إخفاء تكريرها كثيرا، فقال: «فواجب على القارئ أن يخفي تكريره ولا يظهره، ومتى ما أظهره فقد جعل من الحرف المشدد حروفا، ومن المخفف حرفين» (1). وقال الفخر الموصلي (ت 621هـ): «فيجب على القارئ إخفاء التكرير وإلا كان لاحنا» (2). وقال الجعبري (ت 732هـ): «وتكريره لحن، فيجب التحفظ عنه قال: وطريق السلامة منه أن يلصق اللافظ به ظهر لسانه بأعلى حنكه لصقا محكما مرة واحدة، ومتى ارتعد حدث من كل مرة راء» (3).
وذهب بعض علماء التجويد إلى أن التكرير صفة ذاتية للراء وهو موافق لظاهر كلام سيبويه (4). قال أبو الحسن شريح بن محمد الرعيني (ت 539هـ): «واعلم أن الراء متكررة في جميع أحوالها، وأبين ما يكون ذلك عند الوقف عليها. وقد ذهب قوم من أهل الأداء إلى أنه لا تكرير فيها مع تشديدها، وذلك لم يؤخذ علينا، غير أنّا لا نقول بالإسراف فيه، وأما ذهاب التكرار جملة فلم نعلم أحدا من المحققين بالعربية ذكر أن تكريرها يسقط بحال» (5).
وذهب ابن الجزري إلى أنه ليس المقصود بتكرير الراء ترعيد اللسان بها المرة بعد المرة، ولا بإخفائها إعدام تكريرها، بل المقصود بذلك الاعتدال بين الأمرين، فقال: «وقد توهم بعض الناس أن حقيقة التكرير ترعيد اللسان بها المرة بعد المرة، فأظهر ذلك حال تشديدها، كما ذهب إليه بعض الأندلسيين، والصواب التحفظ من ذلك بإخفاء تكريرها، كما هو مذهب المحققين، وقد يبالغ قوم في إخفاء تكريرها مشددة فيأتي بها محصرمة شبيهة بالطاء، وذلك خطأ لا يجوز، فيجب أن يلفظ بها مشددة تشديدا ينبو به اللسان نبوة واحدة وارتفاعا واحدا من غير مبالغة في الحصر والعسر نحو: {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، و {وَخَرَّ مُوسى ََ} [الأعراف: 143]» (6).
وقال المرعشي (ت 1150هـ): «ليس معنى إخفاء تكريره إعدام تكريره بالكلية بإعدام ارتعاد رأس اللسان بالكلية، لأن ذلك لا يمكن إلا بالمبالغة في لصق اللسان باللثة بحيث
__________
(1) الرعاية ص 170وانظر أيضا ص 230.
(2) الدر المرصوف 171و.
(3) انظر: المرادي: شرح الواضحة ص 44، والمفيد (له) 113و. والقسطلاني: اللئالئ السنية 12و.
(4) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 5، وابن الجزري: النشر 1/ 204.
(5) انظر: المرادي: شرح الواضحة ص 43، والمفيد (له) 102و.
(6) النشر 1/ 219218.(1/270)
ينحصر الصوت بينهما بالكلية كما في الطاء المهملة، وذلك خطأ لا يجوز كما صرح ابن الجزري في النشر، لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الراء من الحروف الشديدة مع أنه من الحروف البينية» (1).
وقد وصف علماء الأصوات المحدثون صوت الراء في العربية بأنه مكرر، من غير أن يشيروا إلى قضية إخفاء التكرير (2). وقدر بعضهم أن طرف اللسان يطرق حافة الحنك طرقا لينا يسيرا مرتين أو ثلاثا في أثناء نطق الراء (3). وهو ما يفهم من قول بعض علماء التجويد: «إن الراء فيها صفة التكرار، لأنها تكرر، إذا قلت: مر ودر، يتحرك طرف اللسان بها فتصير راءين وأكثر» (4). وقد نقل المرعشي قول السيد الشريف في شرح المواقف: «الغالب على الظن أن الراء التي في آخر (الدار) مثلا راءات متوالية، كل واحد آني الوجود، إلا أن الحس لا يشعر بامتياز آناتها فظنها حرفا واحدا زمانيا» (5).
وكان سيبويه قد ذكر أن الراء المفتوحة بمنزلة حرفين مفتوحين، وأن الراء المكسورة كأنها حرفان مكسوران، لما فيها من التكرار (6). ونقل علماء التجويد هذه الفكرة عن سيبويه، وقالوا بأن «الحركة عليها مقام حركتين» (7). ونصوا على أن الفتحة عليها مقام فتحتين، وأن الكسرة عليها مقام كسرتين (8).
ومن غير اليسير تأكيد هذه الفكرة أو نفيها بالوسائل المتيسرة لهذا البحث. ولكن يمكن أن نتساءل ونقول: هل تتداخل الحركة التي تنطق بعد صوت الراء بين طرقات طرف اللسان على اللثة في أثناء نطق صوت الراء، أم أن الفم لا ينفتح بالحركة إلا بعد تمام صوت الراء؟
أرجح الآن الاحتمال الثاني، من خلال التجربة الذاتية، ولكن من غير أن أنفي احتمال التأثر المتبادل بين صوت الراء وحركته.
__________
(1) جهد المقل 16ظ.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 67، ومحمود السعران: علم اللغة ص 187، وكمال محمد بشر:
الأصوات ص 166.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 67.
(4) الفاسي: اللئالئ الفريدة 215و، والسمرقندي: روح المريد 127ظ.
(5) جهد المقل 6ظ. وانظر: شرح المواقف 5/ 272.
(6) الكتاب 4/ 136.
(7) مكي: الكشف 1/ 171، والداني: التحديد 36و.
(8) مكي: الكشف 1/ 215.(1/271)
5 - التفشي:
استخدم سيبويه كلمة (التفشي) في وصف الشين (1)، وكذلك فعل المبرد لكنه وصف الضاد أيضا بالتفشي (2).
وذكر علماء التجويد هذه الصفة وحاولوا تقديم تعريف لها، فقال مكي: «ومعنى التفشي هو كثرة انتشار خروج الريح بين اللسان والحنك، وانبساطه في الخروج عند النطق بها» (3). وقد وصف بعض علماء التجويد الضاد والفاء والثاء بالتفشي إضافة إلى الشين (4).
وقال المرعشي: «وبالجملة إن الحروف المذكورة مشتركة في كثرة انتشار خروج الريح، لكن ذلك الانتشار في الشين أكثر، ولذا اتفق في تفشيه، وفي البواقي قليل بالنسبة إليه، ولذا لم يصفها أكثر العلماء بالتفشي» (5).
ونقل أبو شامة في شرح الشاطبية أن ابن مريم الشيرازي (6) قال: «ومنها حروف التفشي، وهي أربعة مجموعة في قولك (مشفر) وهي حروف فيها غنة وتفش وتأفف وتكرار، وإنما قيل لها حروف التفشي وإن كان التفشي في الشين خاصة لأن الباقية مقاربة له، لأن الشين بما فيه من التفشي ينتشر الصوت فيه ويتفشى حتى يصل إلى مخارج الباقية» (7). وإطلاق التفشي على الميم والراء فيه توسع لا يحتمله التصنيف الدقيق للأصوات.
وأهمل أكثر دارسي الأصوات العربية من المحدثين ذكر هذه الصفة (8). وهي وإن كانت من الصفات المحسنة التي لا شأن لها في تمييز الأصوات أكثر من توضيح خاصة صوتية معينة في الصوت الذي يوصف بها لها أهميتها في تتبع سلوك ذلك الصوت في التركيب، وفي تفسير الظواهر الصوتية التي تخصه، وبين أيدينا مثال يوضح أهمية معرفة الصفات المحسنة في تفسير
__________
(1) الكتاب 4/ 448.
(2) المقتضب 1/ 211و 214.
(3) الرعاية ص 109، وانظر أيضا ص 149و 201. وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 158ظ.
(4) مكي: الرعاية ص 110و 201. والداني: التحديد 19و. والمرعشي: جهد المقل 17و.
(5) جهد المقل 17و.
(6) لعله نصر بن علي بن محمد الذي قال عنه ابن الجزري: (يعرف بابن أبي مريم) وهو صاحب كتاب (الموضح في القراءات الثمان) الذي فرغ منه سنة 562هـ (انظر: غاية النهاية 2/ 337).
(7) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 11.
(8) ذكرها جان كانتينو: دروس ص 38.(1/272)
بعض الظواهر الصوتية، وهو أن الدكتور إبراهيم أنيس ذكر أن الأمثلة القرآنية في الإدغام قد خلت من ذكر الزاي والشين مدغمتين في غيرهما من الأصوات وقال: «وليس لهذا ما يبرره من الناحية الصوتية سوى مجرد المصادفة» (1).
ونجد في ما قاله علماء العربية وعلماء التجويد تفسيرا صوتيا لتلك الظاهرة، بعيدا عن تكأة المصادفة، فقد قرروا أن «كل حرف فيه زيادة صوت لا يدغم فيما هو أنقص صوتا منه» (2). وقال الداني: «وجملة الحروف التي تمتنع من الإدغام لزيادة صوتها ثمانية أحرف، وقد جمعتها في قولك: فزم ضرس شص: الشين والضاد والراء والصاد والسين والزاي والميم والفاء. أما الشين فمن أجل تفشيها، وأما الضاد فلاستطالتها، وأما الراء فلتكريرها، وأما الصاد والسين والزاء فلصفيرهن، وأما الميم فلغنتها، وأما الفاء فلتفشيها» (3).
6 - الاستطالة:
وصف سيبويه الضاد بهذه الصفة (4)، وكذلك وصف الشين بالاستطالة في بعض المواضع، فقال: «الضاد استطالت لرخاوتها حتى اتصلت بمخرج اللام، والشين كذلك حتى اتصلت بمخرج الطاء» (5). وقال بعض علماء التجويد أن الاستطالة هي «امتداد الصوت من أول حافة اللسان إلى آخرها» (6).
وقد صرح بعض علماء التجويد أن الاستطالة لا يوصف بها إلا الضاد فقالوا:
«والمستطيل حرف واحد، وهو الضاد» (7). ولكن بعض المتأخرين من علماء التجويد قال: إن الاستطالة لا تختص بالضاد، بل الشين مستطيلة أيضا للتفشي (8).
ولاحظ علماء التجويد أن هناك صلة بين مصطلح المستطيل ومصطلح الممدود، وحاولوا التفريق بينهما، فقال الجعبري: «والفرق بين المستطيل والممدود أن المستطيل جرى
__________
(1) الأصوات اللغوية ص 190.
(2) ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 133.
(3) الإدغام الكبير 6ظ.
(4) الكتاب 4/ 432و 446و 470.
(5) الكتاب 4/ 457و 466.
(6) المرعشي: جهد المقل 17و.
(7) الداني: التحديد 19و، وانظر: مكي: الرعاية ص 109.
(8) المرعشي: جهد المقل 17ظ.(1/273)
في مخرجه، والممدود جرى في نفسه» (1). وقال المرعشي معلقا على ذلك: «توضيح هذا الفرق للمستطيل مخرجا له طول في جهة جريان الصوت، فجرى في مخرجه بقدر طوله ولم يتجاوزه، لما عرفت أن الحرف لا يتجاوز مخرجه المحقق، وليس للممدود مخرج، فلم يجر إلا في ذاته لا في مخرج، إذ المخرج المقدر ليس بمخرج حقيقة، فلا ينقطع إلا بانقطاع الهواء، ولأجل هذا الفرق اختلفت تسمياتها، ولو انعكست لصحّ لكنهم اختاروا ذلك» (2).
ولاحظ المرعشي وجود علاقة بين صفة الاستطالة وصفة التفشي، ويتضح من كلامه أن الصوت المتفشي والصوت المستطيل يحتاجان إلى زمن لنطقهما أكثر من بقية الحروف الجامدة الرخوة، ولكن لا يبلغان زمن الصوت الممدود، يقول: «إن التفشي يوجب استطالة الصوت، فكل متفش مستطيل. وقد عرفت حروف التفشي في بابه، وبالجملة إن الحروف على أربعة مراتب:
آنيّ لا يمتد أصلا وهي الحروف الشديدة.
وزمانيّ يمتد قدر ألف وهي حروف المد.
وزمانيّ يقرب من قدر ألف وهي الضاد المعجمة وحروف التفشي.
وزمانيّ يقرب من الآنيّ، وهي بواقي الحروف» (3).
ولما كانت الضاد القديمة الموصوفة بالاستطالة غير متحققة في النطق اليوم، وهي الأصل في هذه الصفة، فإن تصور تلك الصفة في الضاد لا يصل إلى الوضوح التام، ويمكن أن نستنتج أن المقصود بالاستطالة هو اتساع مخرج الحرف، أي أن ما يأخذه الحرف المستطيل من العضوين اللذين يشتركان في مخرجه أكبر مما يأخذه الحرف غير المستطيل من ذينك العضوين.
7 - الانحراف:
وصف سيبويه اللام بأنه حرف منحرف، فقال وهو يتحدث عن صفات الحروف:
«ومنها المنحرف، وهو حرف شديد جرى فيه الصوت لانحراف اللسان مع الصوت، ولم يعترض على الصوت كاعتراض الحروف الشديدة، وهو اللام وليس يخرج الصوت من
__________
(1) انظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 17.
(2) جهد المقل 17ظ.
(3) جهد المقل 17ظ.(1/274)
موضع اللام، ولكن من ناحيتي مستدق اللسان فويق ذلك» (1).
وكذلك وصف علماء التجويد اللام بأنه منحرف، فقال عبد الوهاب القرطبي: «ومن الحروف المنحرف، وهو اللام، لأن اللسان ينحرف فيه مع الصوت، وتتجافى ناحيتا مستدق اللسان عن اعتراضهما على الصوت من تينك الناحيتين ومما فويقهما» (2).
ووصف بعض علماء التجويد الراء بأنه صوت منحرف أيضا، كما فعل مكي حين قال:
«حرفا الانحراف، وهما اللام والراء، وإنما سمّيا بذلك لأنهما انحرفا عن مخرجهما حتى اتصلا بمخرج غيرهما، وعن صفتهما إلى صفة غيرهما»، ونلمح من كلامه أنه يحمل صفة الانحراف على معنى خاص، فهو يقول عن اللام: «فسمي منحرفا لانحرافه عن حكم الشديدة وعن حكم الرخوة فهو بين صفتين» ويقول عن الراء: «وقيل إنما سميت الراء منحرفة لأنها في الأصل من الحروف الشديدة، لكنها انحرفت عن الشدة إلى الرخاوة، حتى جرى معها الصوت» (3). ونسب الداني إلى الكوفيين القول بأن الراء منحرف «لأنه ينحرف عن مخرج النون إلى مخرج اللام» (4).
ووصف الراء بالانحراف غير سديد، كما يبدو لي، وذلك لأن الانحراف وصف لطبيعة مرور الهواء في مخرج اللام، وهو لا ينطبق على الراء الذي يوصف بأنه مكرر لأن مرور الهواء في مخرجه له صفة خاصة، وقد قال المرادي: «وأكثر البصريين لا يصف بالانحراف إلا اللام وحدها. وذهب الكوفيون ومكي إلى أن الراء منحرف. قال بعض النحويين: وهو مذهب سيبويه. قلت: وهو ظاهر كلامه قال (5): ومنها المكرر وهو حرف شديد جرى فيه الصوت لتكريره وانحرافه إلى اللام» (6).
ولا يكفي قول سيبويه أن الراء انحرف إلى اللام ليعد صوتا منحرفا، فالمنحرف صار مصطلحا له دلالة معينة، لا مجرد كلمة تدل على معنى لغوي ينطبق على أي نوع من أنواع الانحراف. فالأصوات المنحرفة تتكون «بوضع عقبة في وسط المجرى الهوائي مع ترك منفذ
__________
(1) الكتاب 4/ 435، وانظر: المبرد: المقتضب 1/ 193و 213.
(2) الموضح 157و.
(3) انظر في ذلك كله: الرعاية ص 108107.
(4) التحديد 19و.
(5) الكتاب 4/ 435.
(6) المفيد 112ظ.(1/275)
للهواء عن طريق أحد جانبي العقبة، أو عن جانبيها، ومن هنا كانت تسميتها بالمنحرف (أو الجانبية)» (1). وهذا الوصف لا ينطبق على الراء، ولذلك لم يصف المحدثون الراء بالانحراف.
8 - صفات أخرى:
هناك صفات أخرى للأصوات يذكرها بعض علماء التجويد، ولم تشتهر شهرة الصفات التي تحدثنا عنها، وكان مكي بن أبي طالب أكثر علماء التجويد حرصا على تقصي كل ما له صلة بالحروف العربية وإدراجه في قائمة صفات الحروف، حتى بلغ ما أحصاه أربعة وأربعين لقبا وصفة، ولم يبلغ أحد من علماء التجويد في إحصاء الصفات ما بلغه مكي، ولا أجد هنا ضرورة للحديث عن جميع تلك الصفات، وأكتفي بالإشارة إليه فقط، والتوقف عند أكثرها لصوقا بالدرس الصوتي.
إن مجموعة من تلك الصفات تتعلق بحروف المد واللين، مثل الهاوي، والهوائية، والإمالة، والمد، واللين، وسوف نتحدث عنها في مبحث الأصوات الذائبة. ومجموعة أخرى من تلك الصفات تتعلق بالدراسة الصرفية مثل: الحروف الأصلية، والزائدة، وحروف العلة، وحروف الإبدال، ومجموعة ثالثة تمثل ألقاب الحروف التي لقب الخليل بن أحمد بها الحروف، تبعا لمخارجها، وهي عشرة: الحلقية واللهوية الخ (2).
وذكر السمرقندي عددا من الصفات الجديدة للحروف مثل (النبر والبحة والنفث) (3).
وقد ذكر الحسن بن شجاع التوني أن الحروف النافثة الفاء والثاء، والنابرة الهمزة، وفسر النبر بالحدة (4) ولعل السمرقندي يريد بالبحة صوت الحاء الذي قال عنه الخليل: «ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين» (5).
وهناك بعض الصفات التي اختلف العلماء في الأصوات التي توصف بها، فذكر مكي
__________
(1) محمود السعران: علم اللغة ص 185. ويلاحظ هنا أن بعض المؤلفين المحدثين يستخدمون كلمة (الجانبي) بدل (المنحرف) وبعضهم حافظ على المصطلح القديم.
(2) انظر: الرعاية ص 11692.
(3) روح المريد 124ظ. وكان ابن جني قد قال: (سر صناعة الإعراب 1/ 189): «الثاء حرف مهموس، وهو أحد حروف النفث».
(4) المفيد في علم التجويد 5ظ.
(5) العين 1/ 57.(1/276)
(الحرف المهتوف) وفسره بالهمزة، وقال: «سميت بذلك لخروجها من الصدر، كالتهوع، فتحتاج إلى ظهور صوت قوي شديد، والهتف الصوت الشديد». ثم قال: إن بعض العلماء ذكر موضع المهتوف: المهتوت بتاءين (1). ويبدو أن أصل التسمية يرجع إلى ما قاله الخليل عن الهمزة: «وأما الهمزة فمخرجها من أقصى الحلق مهتوتة مضغوطة، فإذا رفّه عنها لانت» (2).
وكان ابن جني قد قال: «ومن الحروف المهتوت، وهو الهاء، وذلك لما فيها من الضعف والخفاء» (3). وتابع بعض علماء التجويد ابن جني في أن المهتوت هو الهاء (4). وتردد بعضهم بين قول مكي وقول ابن جني، فقال عبد الوهاب القرطبي: «ومن الحروف المهتوتة وهو الهاء، وذلك لما فيها من الضعف والخفاء. وقال بعضهم المهتوت الهمزة» (5).
وذكر الزمخشري في المفصل أن المهتوت هو التاء، وتابعه على ذلك شراح المفصل (6). ورجح الجاربردي أن المهتوت هو الهاء، وقال: «إن ما ذكر في المفصل من أن المهتوت التاء كأنه غلط من الناسخ» (7).
ومن الصفات المختلف في أصواتها (الجرسي)، قال مكي: «الحرف الجرسي وهو الهمزة، سميت بذلك لأن الصوت يعلو بها عند النطق بها والجرس في اللغة الصوت.
فكأنه الحرف الصوتي، أي: المصوت به عند النطق به. وكل الحروف يصوّت بها عند النطق بها، لكن الهمزة لها مزية زائدة في ذلك» (8). وكان عبد الوهاب القرطبي قد ذكر هذه الصفة على هذا النحو (الجرس) بالسين في آخر الكلمة. وقال: «وأما الجرس فالألف الساكنة لا
__________
(1) الرعاية ص 112. وفي لسان العرب (11/ 259هتف): الهتف: الصوت الجافي العالي، وقيل:
الصوت الشديد. وفيه أيضا (2/ 408هتت): الهت شبه العصر للصوت.
(2) العين 1/ 52.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 74. وقد نسب ابن منظور ذلك إلى سيبويه (لسان العرب 2/ 408هتت) ولم أتمكن من التحقق من هذه النسبة.
(4) العطار: التمهيد 147و.
(5) الموضح 158و.
(6) ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 128. وابن الحاجب: الإيضاح في شرح المفصل 2/ 490. انظر:
الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 264. وابن عصفور: الممتع في التصريف 2/ 676.
(7) شرح الشافية ص 250.
(8) الرعاية ص 108.(1/277)
يكون إلا كذلك» (1). ولعل قوله هذا يعتمد على رواية عن الخليل جاء فيها «فأما الألف اللينة فلا صرف لها، إنما هي جرس مدة بعد فتحة» (2).
وذكر مكي الحروف (المشربة)، ويقال لها (المخالطة) بكسر اللام وفتحها. وفسرها بأنها الحروف الستة التي اتسعت العرب فيها فزادتها على التسعة والعشرين، نحو الصاد التي بين الصاد والزاي، وشبه ذلك. سميت بذلك لأنها تخالط غيرها (3). لكن مصطلح (المشربة) عند سيبويه لا يمت إلى هذا التفسير بصلة، فهو لديه أقرب إلى أن يكون مرادفا لمصطلح المجهورة (4).
وهناك صفات أخرى ذات ارتباط وثيق بحقائق الأصوات وطبيعتها، تحدث عنها علماء التجويد وهي من أكثر الصفات دقة، ولا يستطيع الدارس تقديم رأي قاطع في ما قاله علماء التجويد عنها من غير الاستعانة بالأجهزة الحديثة لدراسة الأصوات، ولما كانت هذه الأجهزة غير متيسرة فإننا نكتفي بعرض وجهة نظر علماء التجويد في تلك الصفات، وهي: الخفاء والظهور، والقوة والضعف.
(أ) الخفاء والظهور:
وصف سيبويه بعض الحروف بأنها خفية، وكان صوت الهاء أول تلك الحروف، فقد قال سيبويه في مواضع كثيرة: أن الهاء خفية (5). وكذلك وصف الحروف الثلاثة الياء والواو والألف بأنها خفية (6). وكذلك وصف النون بأنها خفية (7). ولم يوضح سيبويه معنى قوله (خفية).
وقد ذكر مكي (الخفية) في صفات الحروف فقال: «الحروف الخفية، وهي أربعة:
الهاء، وحروف المد واللين المتقدمة الذكر. وإنما سميت بالخفية لأنها تخفى في هذا اللفظ إذا اندرجت بعد حرف قبلها والألف أخفى هذه الحروف لأنها لا علاج على اللسان فيها
__________
(1) الموضح 158ظ.
(2) تهذيب اللغة 1/ 51.
(3) الرعاية ص 106105.
(4) انظر: الكتاب 4/ 174.
(5) الكتاب 2/ 421، 3/ 532، 4/ 123و 195و 200.
(6) الكتاب 2/ 262و 421، 4/ 165و 195.
(7) الكتاب 4/ 161.(1/278)
عند النطق بها وقد ذكر بعض العلماء أن في الهمزة خفاء يسيرا (1)، وكذلك النون الساكنة فيها خفاء» (2).
وقال عبد الوهاب القرطبي: «وأما الخفية فالهاء والألف والياء والواو. وذلك لاتساع مخرجهن، وأوسعهن مخرجا الألف، لأنه لا علاج على اللسان فيها كالنّفس، ثم الهاء، ثم الياء، ثم الواو. ومما يشرك هذه الحروف في الخفاء النون، إذا سكنت في غير إظهار ولا إدغام ولا قلب» (3).
وتحدث المرعشي عن هذه الصفة وسماها (الخفاء)، وقال: «وهي في اللغة الاستتار، وفي العرف خفاء صوت الحرف، وحروفها أربعة حروف المد والهاء» (4). وقد جعل لهذه الصفة مقابلا وهو الظهور فقال: «وضد الخفاء الظهور، ولم يقع الاصطلاح به» (5). ويفهم من كلام المرعشي أنه يريد بالخفاء والظهور مقدار الأثر الذي يتركه الصوت في السمع. فقد قال:
«وأما خفاء الهاء فلاجتماع جميع صفات الضعف فيها مع اتساع مخرجها. قال في الرعاية:
الخفاء من علامات ضعف الحرف، ولما كان الهاء حرفا خفيا وجب أن يتحفظ ببيانها حيث وقعت (6). أقول: معنى بيانها تقوية صوتها بتقوية ضغط مخرجها، فلو لم يتحفظ على تقوية ضغط مخرجها لمال الطبع إلى توسيع مخرجها لعسر تضييقه لبعده عن الفم، فيكاد أن ينعدم في التلفظ» (7).
وإذا كنا نلاحظ بالحس المجرد أن الهاء من أخفى الحروف في السمع، وينطبق عليها وصف سيبويه بأنها خفية، فإن من غير المقبول أن نصف حروف المد بأنها خفية ونفسر ذلك على أنها أقل وضوحا في السمع من غيرها، وذلك لأن علماء الأصوات المحدثين يقولون: إن مما تتميز به الأصوات الصائتة (الذائبة حروف المد) على الأصوات الصامتة (الجامدة) قوة
__________
(1) قال سيبويه (الكتاب 4/ 177): «فلما كانت الهمزة أبعد الحروف وأخفاها في الوقف حركوا ما قبلها، ليكون أبين لها».
(2) الرعاية ص 103102.
(3) الموضح 158ظ.
(4) جهد المقل 18و.
(5) جهد المقل 18ظ، وانظر 19و.
(6) انظر: مكي: الرعاية ص 130.
(7) جهد المقل 18و.(1/279)
وضوحها في السمع (1).
فتفسير الخفاء بقلة الوضوح في السمع ينطبق على صوت الهاء، دون حروف المد، ومن ثم وجب البحث عن تفسير آخر لا يترتب عليه مثل هذا التناقض. وربما أمكن الوصول إلى ذلك التفسير من خلال ملاحظة صفة مشتركة تجمع بين الأصوات الخفية الأربعة، فحروف المد من أكثر الحروف اتساعا في المخرج، وهي أصوات مجهورة، ويقرر علماء الأصوات أن الهاء في إنتاجها وصفاتها لا تختلف عن حروف المد (الحركات) إلا في الجهر (2). حتى ذهب بعضهم إلى إمكانية وصفها بأنها (صائت مهموس) (3). فالحروف الخفية الأربعة تشترك في كون مخارجها متسعة. ولكن كيف يمكن أن يؤثر اتساع المخرج على هذه الأصوات حتى يمكن أن توصف بأنها خفية؟ إن تفسير الخفاء باتساع المخارج غير كاف، فقول المرعشي في تفسير خفاء حروف المد: «وأما خفاء حروف المد فلسعة مخرجها» (4) لا يزال بحاجة إلى بحث ينبني على التعرف على الخصائص الفيزياوية والسمعية لهذه الأصوات (5). وهذا أمر لا نملك وسائل القيام به الآن.
(ب) القوة والضعف:
لا نجد في كلام متقدمي علماء العربية شيئا واضحا ومفصلا عن موضوع قوة الصوت وضعفه (6)، ويبدو أن علماء التجويد هم أول من بحث هذا الموضوع على نحو مفصل، وربما كان مكي بن أبي طالب هو واضع نظرية قوة الحروف وضعفها لدى علماء التجويد، فهو أقدم من تكلم عن هذا الموضوع وأفاض في الحديث عنه وعرض تفصيلاته في أكثر من كتاب من كتبه، ويكاد كلام الذين جاءوا من بعده يكون اقتباسا منه.
__________
(1) محمود السعران: علم اللغة ص 163. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 92.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 89.
(3) محمود السعران: علم اللغة ص 195.
(4) جهد المقل 18و.
(5) ينفي الدكتور عبد الصبور شاهين (القراءات القرآنية ص 40) أن يقصد بالخفاء الهمس، ويفسره بضعف هذه الأصوات. وهو يعني ضعفها في السلوك اللغوي (أي الصرفي) (انظر: القراءات القرآنية ص 43).
(6) وردت إشارة إلى الأقوى والأضعف من الحروف عند ابن جني (الخصائص 1/ 5554، وانظر مناقشة الدكتور حسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 288) وهي إشارة تفتقر إلى الوضوح والتحديد اللذين نجدهما في كلام علماء التجويد.(1/280)
تحدث مكي عن هذا الموضوع في كتابه (الرعاية) في أكثر من موضع في أثناء كلامه عن صفات الحروف، فقال وهو يتحدث عن الحروف الشديدة: «والشدة من علامات قوة الحرف، فإن كان مع الشدة جهر وإطباق واستعلاء فذلك غاية القوة في الحرف، لأن كل واحدة من هذه الصفات تدل على القوة في الحرف، فإذا اجتمع اثنتان من هذه الصفات في الحرف أو أكثر فهي غاية القوة كالطاء. فعلى قدر ما في الحرف من الصفات القوية كذلك قوته، وعلى قدر ما فيه من الصفات الضعيفة كذلك ضعفه».
«فافهم هذا لتعطي كل حرف في قراءتك حقه من القوة، ولتتحفظ ببيان الضعيف في قراءتك، فالجهر والشدة والصفير والإطباق والاستعلاء من علامات قوة الحرف، والهمس والرخاوة والخفاء من علامات ضعف الحرف، فاعرف هذه المقدمة» (1).
وعاد مكي إلى الموضوع مرة أخرى في كتاب (الرعاية) حين تحدث عن صفة الرخاوة، وقدم بعض التطبيقات والموازنات في مجال قوة الحروف وضعفها، فقال: «وهذه الصفة من علامات الضعف، كالهمس والخفاء، فاعرف الصفات الضعيفة والصفات القوية تقو بذلك على تجويد لفظك في كتاب الله جل جلاله، فإذا كان أحد هذه الصفات الضعيفة في حرف كان فيه ضعف، وإذا اجتمعت فيه كان ذلك أضعف له، كالهاء التي هي مهموسة رخوة منفتحة خفية كذلك الصفات القوية إذا كان أحدها في حرف قوي بذلك، فإذا اجتمعت في حرف كان ذلك أقوى له، كالطاء الذي اجتمع فيه الجهر (2) والشدة والإطباق والاستعلاء، ونحو الصاد الذي اجتمع فيه الصفير والإطباق والاستعلاء، فهو دون الطاء في القوة، إذ عدمت الجهر والشدة، والضاد أقوى من الصاد، لأن الضاد حرف مجهور، مع أنه مطبق مستعل مستطيل، فالجهر الذي فيه أقوى من الصفير الذي في الصاد فاعرف هذا». وعالج مكي الموضوع في مواضع أخر من كتاب (الرعاية) (3).
وعقد مكي في كتابه (الكشف عن وجوه القراءات) بابا مستقلا للموضوع سماه (باب في معرفة الحروف القوية والضعيفة)، لخص فيه عناصر الفكرة، وبلغ ما ذكره في هذا الباب من الصفات القوية عشرة، حيث قال: «واعلم أن القوة في الحرف تكون بالجهر وبالشدة وبالإطباق والتفخيم وبالتكرير وبالاستعلاء وبالصفير وبالاستطالة وبالغنة
__________
(1) الرعاية ص 9493.
(2) هذا الوصف ينطبق على الطاء العربية القديمة، أما الطاء التي تنطق اليوم فمهموسة.
(3) انظر: الرعاية ص 106و 107و 172و 175و 178و 183و 198.(1/281)
وبالتفشي» (1). وقد طبق مكي نظريته عن قوة الحروف وضعفها في الفصول التي تحدث فيها عن الإدغام في كتابه (الكشف) (2).
وتحدث عن موضوع تقسيم صفات الحروف إلى قوية وضعيفة يعض شراح الشاطبية، وإن لم يشر إليه الشاطبي (3). وكذلك فعل بعض شراح المقدمة الجزرية وإن لم يشر إليه ابن الجزري (4). كذلك تحدث عن الموضوع المرادي (5)، والقسطلاني (6)، والنابلسي (7)، والمرعشي (8).
ولم يغير هؤلاء الذين جاءوا بعد مكي شيئا من فكرة الموضوع، وغاية ما أضافوه تقسيم الصفات إلى قوية وضعيفة ومتوسطة، حيث قالوا: إن المتوسط بين الشدة والرخاوة صفة متوسطة بين القوة والضعف (9). وكذلك قسم المرادي الحروف إلى قوي مطلقا وهو ما اجتمعت فيه صفات القوة، وقوي من وجه، وضعيف من وجه، وهو ما اجتمعت فيه صفة قوة وصفة ضعف (10). وزاد النابلسي تلك التقسيمات إلى خمسة، حيث قال: «فانقسمت هذه الحروف باعتبار القوة والضعف إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: قوي محض، وهي الطاء المهملة.
والقسم الثاني: إلى ضعف محض، وهو الفاء.
والقسم الثالث: قوته أغلب، وهي الهمزة والجيم والدال المهملة والصاد والضاد المعجمة والغين المعجمة والقاف.
والقسم الرابع: ضعفه أغلب، وهي الألف والتاء المثناة الفوقية والثاء المثلثة والحاء
__________
(1) الكشف 1/ 137.
(2) الكشف 1/ 160141.
(3) الفاسي: اللئالئ الفريدة 215ظ، وأبو شامة: إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 13.
(4) أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 21ظ، وعبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 12و.
(5) المفيد 102ظ.
(6) لطائف الإشارات 1/ 204.
(7) كفاية المستفيد 8ظ 11و.
(8) جهد المقل 19و 19ظ.
(9) عبد الغني النابلسي: كفاية المستفيد 8ظ.
(10) المرادي: المفيد 102.(1/282)
المهملة والخاء المعجمة والذال المعجمة والشين والسين والكاف واللام والميم والنون والهاء والواو والياء [المثناة] (1) التحتية.
والقسم الخامس: قوته وضعفه سواء، وهو الباء الموحدة والراء والزاي والعين المهملة» (2).
وكان عبد الغني النابلسي قد أورد الحروف واحدا بعد الآخر وبيّن ما في كل حرف من صفات القوة والضعف (3). وهو ما لم يفعله غيره من المؤلفين الذين كانوا يكتفون بتقديم أمثلة محدودة، على نحو ما قال الفاسي: «وما ذكرته في هذه الحروف الأربعة مغن عن الإطالة بذكر جميع الحروف» (4).
وزاد النابلسي على ما ذكره مكي من صفات القوة صفتين هما الانصمات والانحراف، كما زاد على صفات الضعف عددا آخر، ولم يذكر الخفاء، وذلك حيث قال: «اعلم أن الصفات التي ذكرناها، وهي تسع عشرة صفة، صفات القوة منها اثنتا عشرة صفة هي: الجهر والشدة والاستعلاء والانطباق والانصمات والصفير والقلقلة والانحراف والتكرار والتفشي والاستطالة والغنة. وصفات الضعف منها ست وهي: الهمس والرخاوة والاستفال والانفتاح والانذلاق واللين. وصفة واحدة متوسطة بين القوة والضعف وهي البينية» (5). ويعني بالبينية المتوسطة بين الشدة والرخاوة. وذكره لصفة الانصمات في صفات القوة لا يتضح له وجه، لأن الأصوات المصمتة في تفسير أكثر العلماء هي الممنوعة من أن تنفرد بكلمة طويلة (رباعية أو خماسية)، فهذه صفة لا تعلق لها بجرس الأصوات.
ولم يحدد علماء التجويد المراد بقوة الحرف وضعفه، ولكني أرجح أن يكون ذلك متعلقا بقوة وقع الصوت ووضوحه في السمع، على نحو ما فسرنا به صفة الخفاء والظهور.
وهو أمر يفهم من قول المرعشي وهو يقسم فيه الصفات القوية إلى درجات بحسب القوة:
«فظهر أن صفات القوة متفاوتة في القوة لأن وجه كونها صفات القوة إيجاب قوة صوت الحرف، وهو مما يقبل الشدة والضعف. والذي نفهمه أن القلقلة أقوى الصفات، والشدة
__________
(1) زيادة مني ليست في الأصل.
(2) كفاية المستفيد 11و.
(3) كفاية المستفيد 8ظ 11و.
(4) اللئالئ الفريدة 215ظ.
(5) كفاية المستفيد 8ظ.(1/283)
أقوى من الجهر، وكل واحد من هذه الثلاثة أقوى من التفشي والصفير، وإن الإطباق أقوى من الاستعلاء الخالي عنه، والله أعلم بما ذكرنا وبالبواقي» (1).
وليس متيسرا الآن إعطاء تقويم شامل لفكرة تقسيم الصفات إلى قوية وضعيفة، وإن كنت أعتقد أن تفاوت الصفات في القوة والضعف أمر وارد ومحسوس، ولكن تقديم تفصيلات عن درجات القوة والضعف والتأكد من نسبة الصفات إلى أي من الصنفين، يحتاج إلى أجهزة مختبر الصوت وهو ما لم يتيسر لنا استخدامه في تقويم نتائج الدراسات الصوتية عند علماء التجويد.
ثالثا وصف الأصوات:
إن تحديد مخرج الصوت ليس كافيا وحده في توضيح حقيقته، كذلك بيان صفاته، فلا بد من خطوة أخرى لتجميع العناصر التي تكوّن الصوت وضم بعضها إلى بعض، حتى تتضح ملامحه المكونة له التي تميزه عن غيره، وهذه مراحل تبدأ بالمخارج وتنتهي بالصفات، وتصنيفها أثناء ذلك إلى مجموعات لا يسمح بتقديم وصف شامل لكل صوت بمفرده.
الباء مثلا صوت تكرر ذكره في عدة مباحث سابقة عند الحديث عن:
1 - المخارج، ووصف بأنه شفوي.
2 - الجهر والهمس، ووصف بأنه مجهور.
3 - الشدة والرخاوة، ووصف بأنه شديد.
ولا يكفي لتوضيح خصائص (الباء) بأن نقول إنه صوت (شفوي)، لأن هذا الوصف لا يوضح إلا النقطة التي يتكون فيها الصوت، وهناك جوانب أخرى تشارك في إعطاء الصوت جرسه المتميز، مثل حالة الوترين الصوتيين، وكيفية مرور الهواء في النقطة التي يتكون فيها الصوت، والتي تعرف بالمخرج. فلا بد من توضيح هذه العناصر الثلاثة الأساسية عند الحديث عن خصائص وصفات أي صوت. فيجب أن نقول عند وصف الباء بأنه (صوت شفوي مجهور شديد). وهناك عوامل أخرى تسهم في تكوّن بعض الأصوات غير العناصر الثلاثة السابقة على نحو ما يتضح من كلامنا السابق عن صفات الأصوات.
وقد حظي هذا الموضوع بعناية كبيرة من علماء التجويد، وكذلك من علماء الأصوات
__________
(1) جهد المقل 19ظ.(1/284)
المحدثين. أما علماء العربية من اللغويين والنحاة فلم يعنوا كثيرا بهذا الجانب من الدرس الصوتي، وإن كانت دراستهم في الجوانب الأخرى وافية، فابن جني مثلا لم يزد في وصفه للأصوات عند الحديث عنها مبوبة على ذكر صفتي الجهر والهمس، فيقول: «الباء حرف مجهور» (1). وهكذا، إلا أنه حين وصف الثاء قال: «الثاء حرف مهموس، وهو أحد حروف النفث» (2). وقال حين وصف الراء: «الراء حرف مجهور مكرر» (3)، ووصف الطاء بأنه «حرف مجهور مستعل» (4). وهو نفس وصفه للغين (5). ولم يعن ابن جني بتحديد المخرج أو تبيين صفتي الشدة والرخاوة أو الصفات الأخرى.
ونلاحظ عناية علماء التجويد بوصف الأصوات منذ القرن الخامس، عصر المؤلفات الكبرى في هذا العلم، فنجد ذلك في كتاب (الرعاية) لمكي (ت 437هـ) وكتاب (التحديد) للدانيّ (ت 444هـ)، وكتاب (الموضح) لعبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ). ويأتي وصف الأصوات في هذه الكتب دقيقا لكنه موجز أحيانا وغير واف في أحيان أخرى، بينما نلاحظ طغيان التعقيد والمبالغة في وصف الأصوات لدى جماعة من علماء التجويد المتأخرين مثل القسطلاني (ت 923هـ) في كتابيه (اللئالئ السنية في شرح المقدمة الجزرية) و (لطائف الإشارات لفنون القراءات)، ومثل أبي الفتوح الوفائي (ت 1020هـ) في كتابه (الجواهر المضيّة على المقدمة الجزرية). وبين المؤلفات القديمة والمؤلفات المتأخرة هناك مرحلة متوسطة تتمثل بكتاب (روح المريد في شرح العقد الفريد) للسمرقندي (ت 780هـ) وكتاب (التمهيد في علم التجويد) لابن الجزري (ت 833هـ).
ويمكن للباحث أن يتتبع تطور وصف الأصوات لدى علماء التجويد من خلال المراحل الثلاث السابقة. وهي مرحلة مؤلفات القرن الخامس، ومرحلة المؤلفات المتأخرة، والمرحلة الوسطى بين تينك المرحلتين.
وفي المرحلة الأولى نجد عبارة مكي في وصف الأصوات يغلب عليها الطول، بينما تتقارب عبارة الداني والقرطبي، مع إيجاز يغلب على عبارة الداني في بعض الأحيان. وقد جاء
__________
(1) سر صناعة الإعراب 1/ 135.
(2) المصدر نفسه 1/ 189.
(3) المصدر نفسه 1/ 205.
(4) المصدر نفسه 1/ 223.
(5) المصدر نفسه 1/ 247.(1/285)
وصف الأصوات في كتب هؤلاء العلماء الثلاثة في أول حديثهم عن كل حرف في الفصول التي عقدوها لبيان الظواهر الصوتية المتصلة بكل حرف من حروف العربية، ويحرص مكي على توضيح مخرج الحرف أولا، بينما يكتفي كلّ من الداني والقرطبي بما ذكراه عن مخارج الحروف في الباب الذي وضعاه في أول كتابيهما.
قال مكي في وصف الطاء: «الطاء تخرج من المخرج الثامن من مخارج الفم، تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا، والطاء من أقوى الحروف، لأنه حرف مجهور شديد مطبق مستعل» (1).
وقال الداني: «ذكر الطاء، وهو حرف مجهور مستعل مطبق» (2).
وقال عبد الوهاب القرطبي: «الطاء من الحروف المستعلية المجهورة والمطبقة الشديدة» (3).
وعند الموازنة بين النصوص الثلاثة نجد أن مكيا بيّن مخرج الصوت في أول كلامه، ثم ذكر أربع صفات لصوت الطاء (مجهور شديد مطبق مستعل) ووصف الطاء بالجهر مبني على النطق القديم لهذا الصوت. ونجد أن الداني والقرطبي لم يشيرا إلى المخرج واكتفيا بذكر صفات الصوت، مع ملاحظة أن الداني أغفل الإشارة إلى كون الصوت (شديدا).
ونلاحظ من النصوص السابقة أنها تضمنت العناصر الأساسية لوصف الصوت وهي:
المخرج، وبيان حالة الجهر والهمس، وتوضيح كيفية مرور الهواء في المخرج، مع توضيح ما يتميز به صوت الطاء من صفة (الإطباق).
وفي المرحلة المتوسطة لوصف الأصوات نلاحظ إضافة بعض الصفات الجديدة، مع إغفال الإشارة إلى مخرج الصوت، فيقول السمرقندي في وصف الطاء: «للطاء خمس صفات: القلقلة والإطباق والاستعلاء والجهر والشدة» (4). وقال ابن الجزري في وصف الطاء أيضا: «حرف مجهور شديد مطبق مستعل مقلقل» (5)، الصفة الجديدة هنا هي (القلقلة).
ويأخذ وصف الأصوات شكله الكامل البالغ حد الإفراط في المؤلفات المتأخرة على
__________
(1) الرعاية ص 172.
(2) التحديد 31ظ.
(3) الموضح 163و.
(4) روح المريد 127ظ.
(5) التمهيد ص 44.(1/286)
نحو ما يتضح من قول القسطلاني في وصف الطاء: «والطاء مجهور، مستعل بالعين، منطبق، شديد، مفخم، مقلقل، مبدل، مصمت، نطعي» (1). ومثل ذلك قول الوفائي: «والطاء المهملة نطعية مجهورة شديدة مستعلية مطبقة مصمتة مقلقلة» (2).
وإنما قلت: إن هذا الوصف الكامل قد بلغ حد الإفراط لأنه جاء بصفات لا يقتضي توضيح الخصائص الصوتية للطاء ذكرها، فالصفات الثلاث التي ذكرها القسطلاني (مستعل، منطبق، مفخم) يمكن اختصارها بصفة واحدة، وهي (منطبق أو مطبق) التي من لوازمها الاستعلاء والتفخيم. وكذلك (مبدل ومصمت) لا تدلان على خاصة صوتية للطاء، وإنما تشيران إلى ظواهر صرفية لا يلزم في الدرس الصوتي ذكرها. أما العنصر الجديد في هذا الوصف فهو تحديد مخرج الصوت، فإن كلمة (نطعي) تشير إلى المخرج، وهو نطع الغار الأعلى. وهذه الكلمة من مصطلحات الخليل التي استخدمها لتحديد مخارج الحروف، وقد استعان بها علماء التجويد في وصف الأصوات، وهي: حلقية ولهوية وشجرية ونطعية وأسلية ولثوية وشفوية وهوائية (3).
ولا توجد طريقة محددة لوصف الأصوات، فعلماء التجويد وصفوا الأصوات من غير أن ينصوا على أساس محدد لعملهم، وكذلك أغفل المحدثون تحديد طريقة معينة لوصف الأصوات، ولا يخرج الناظر في وصفهم للأصوات بتصور واضح، ويتضح ذلك بالنظر في وصف الطاء لدى أربعة من كبار دارسي الأصوات العربية من المحدثين، وهو قولهم:
1 - الطاء الآن صوت شديد مهموس (4).
2 - الطاء صوت صامت مهموس سني مطبق انفجاري (5).
3 - أما صوت الطاء فأسناني لثوي شديد مهموس مفخم (6).
4 - فالطاء إذن صوت أسناني لثوي انفجاري مهموس مفخم (أو مطبق) (7).
__________
(1) لطائف الإشارات 1/ 205. وانظر: اللئالئ السنية (له) 13ظ.
(2) الجواهر المضية 35ظ.
(3) انظر: العين 1/ 58.
(4) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 62.
(5) محمود السعران: علم اللغة ص 168.
(6) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 94.
(7) كمال محمد بشر: الأصوات ص 130.(1/287)
ويلاحظ على هذه النصوص الأربعة ثلاث ملاحظات:
الأولى: اختلاف المصطلحات المستخدمة للتعبير عن بعض الصفات، ويرجع جانب من ذلك الاختلاف إلى وجود أكثر من مصطلح للتعبير عن الصفة الواحدة مثل (شديد وانفجاري) ومثل (مفخم ومطبق) وإن كان علماء التجويد يفرقون بين المفخم والمطبق.
ويرجع جانب آخر منه إلى عدم الاتفاق في تحديد بعض العناصر الصوتية مثل ما نجده في النصوص السابقة من الاختلاف في تحديد المخرج بن (سني) و (أسناني لثوي).
والملاحظة الثانية: وجود اختلاف يسير في عدد الصفات، فالنص الأول خلا من تحديد المخرج ومن ذكر صفة الإطباق، وهو ما ورد في موضع آخر، والنص الثاني تضمن صفة (صامت) وهي تعني أن الصوت ليس مصوتا، أي أنه جامد لا ذائب بتعبير بعض علماء التجويد.
والملاحظة الثانية: وهي المهمة هنا، وهي المهمة هنا، أن النصوص الأربعة لم تتفق على طريقة واحدة في ترتيب الصفات، وهو ما يدل على أن الأمر خاضع لاجتهاد الدارسين، ولا توجد خطة موحدة لوصف الأصوات، فبينما نجد النصين الأخيرين متفقين في ترتيب الصفات نجد النصين الأولين في غاية الاختلاف.
وإذا كنا لا نجد خطة واضحة محددة لترتيب الصفات عند القدماء ولا عند المحدثين فإننا نلاحظ وجود اتجاهين في تحديد عدد الصفات التي يمكن أن يوصف بها الصوت.
الاتجاه الأول: يقتصر على ذكر الصفات المميزة للصوت مع تحديد مخرجه. وهو الغالب على وجهة المحدثين، وعلى مؤلفات المرحلة الأولى والثانية من كتب علم التجويد، والاتجاه الثاني: يستقصي ذكر الصفات المميزة والمحسنة والمبالغة في ابتداع صفات أخرى قد لا تكون ذات دلالة صوتية محضة، وهو الغالب على مؤلفات علماء التجويد المتأخرة.
ولما كان غرض الدراسة العلمية تقديم الحقائق بأوجز عبارة واضحة وجدت أن المنهج المناسب لوصف الأصوات هو الاتجاه الأول الذي سار عليه علماء التجويد الأوائل، والتزم به دارسو الأصوات العربية المحدثون ويتلخص ذلك المنهج في الأمور الآتية:
1 - تحديد مخرج الصوت. مهما كانت الطريقة في الوصول إلى ذلك، فالملاحظ أن علماء العربية وعلماء التجويد ينسبون أصوات الفم إلى أجزاء اللسان التي تشترك في إنتاج تلك الأصوات، فيقولون: إن مخرج الكاف من أقصى اللسان، وإن الياء من وسط اللسان، وأن الدال من طرف اللسان، ويقولون: حروف أقصى اللسان، وحروف وسط اللسان، وحروف
طرف اللسان. أما المحدثون فإنهم ينسبون أصوات الفم إلى الجزء الثابت من الحنك الذي يشترك مع أجزاء اللسان في إنتاج الأصوات، فيقولون: الكاف (حنكي قصي)، والياء (حنكي وسيط) والدال (أسناني لثوي). ولا فرق في ذلك لأن الصوت إذا كان يشترك عضوان في إنتاجه فيمكن أن ينسب إلى أي منهما، أو إلى كليهما.(1/288)
1 - تحديد مخرج الصوت. مهما كانت الطريقة في الوصول إلى ذلك، فالملاحظ أن علماء العربية وعلماء التجويد ينسبون أصوات الفم إلى أجزاء اللسان التي تشترك في إنتاج تلك الأصوات، فيقولون: إن مخرج الكاف من أقصى اللسان، وإن الياء من وسط اللسان، وأن الدال من طرف اللسان، ويقولون: حروف أقصى اللسان، وحروف وسط اللسان، وحروف
طرف اللسان. أما المحدثون فإنهم ينسبون أصوات الفم إلى الجزء الثابت من الحنك الذي يشترك مع أجزاء اللسان في إنتاج الأصوات، فيقولون: الكاف (حنكي قصي)، والياء (حنكي وسيط) والدال (أسناني لثوي). ولا فرق في ذلك لأن الصوت إذا كان يشترك عضوان في إنتاجه فيمكن أن ينسب إلى أي منهما، أو إلى كليهما.
أما أصوات الحلق وأصوات الشفتين فإن عبارة القدماء والمحدثين في تحديد مخرجها تكاد تكون متفقة، والاختلاف الموجود بينهم هو اختلاف عبارة أكثر منه اختلافا في تحديد ذات المخرج، على أن بعض علماء التجويد المتأخرين استخدموا مصطلحات الخليل في تحديد المخارج، وهي في جوهرها أقرب إلى مذهب المحدثين.
2 - تحديد الصفات المميزة للصوت، ويجب أن ينص على كونه مجهورا أو مهموسا، شديدا أو رخوا، إلا الأصوات المتوسطة فيكفي فيها، بعد النص على الجهر، أن يقال إن الراء مكرر، واللام منحرف (جانبي)، والنون أغن، والميم أغن كذلك، وتوصف العين بأنها رخوة إلى أن تتضح حقيقة توسطها.
أما الإطباق والانفتاح، والاستعلاء والاستفال فلا أجد ضرورة لوصف جميع الأصوات بهذه الصفات، فيكفي أن نحدد الصوت المطبق وننص عليه وندع الصوت المنفتح دون نص، وإذا قلنا إن الصوت مطبق فإن ذلك يغني عن إيراد صفة الاستعلاء، وإذا قلنا في الغين والخاء والقاف إنها مستعلية لا يلزم بعد ذلك أن نصف الأصوات الأخرى بأنها مستفلة، وذلك لأن صفتي الإطباق والاستعلاء لا تشمل إلا عددا محدودا من الأصوات، فيكفي النص عليها عن النص على الصفات المضادة لها في غيرها من الأصوات.
أما الصفات المحسنة فلا بأس من ذكرها مقترنة بأصواتها، فنصف الشين بالتفشي، والباء بالقلقلة، والزاي بالصفير مثلا.
3 - إهمال الإشارة إلى الصفات التي يذكرها بعض متأخري علماء التجويد وهي ليست ذات دلالة صوتية، مثل (مبدل وزائد ومصمت ومعتل) (1).
4 - أقترح أن يكون ترتيب الصفات على هذا النحو:
أذكر المخرج.
ب تحديد كيفية مرور الهواء في المخرج (شديد، رخو).
__________
(1) انظر: القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 206204.(1/289)
ج بيان حالة الوترين الصوتيين (مجهور، مهموس).
د ذكر صفة الإطباق أو الاستعلاء.
هـ ذكر الصفة المحسنة.
وأجد أن البدء بذكر المخرج أولى من البدء بذكر حالة الوترين، لأن العنصر الأساسي للصوت يتكون في المخرج ثم تتجمع حوله العناصر الأخرى التي يمكن أن نسميها بالعناصر الثانوية للصوت. فصوت (الباء) مثلا العنصر الأساسي فيه هو حركة الشفتين (المخرج) فهو شفوي. ثم ينضم إلى ذلك كيفية مرور الهواء، وهو من هذه الناحية يوصف بأنه شديد (انفجاري)، وتبين بعد ذلك حالة الوترين الصوتيين، وهو من هذه الناحية يوصف بأنه مجهور.
فالباء إذن صوت شفوي شديد مجهور.
ويحتاج ذكر وصف علماء التجويد للأصوات وتتبع ذلك عبر المراحل الثلاث إلى مكان لا يتسع له البحث، وبدلا عن ذلك سوف أكتفي بإيراد بعض الأمثلة التي توضح موقف علماء التجويد من وصف الأصوات عبر تلك المراحل، مقرونا ذلك بنص يمثل وجهة دارسي الأصوات العربية من المحدثين. وسوف أورد وصف الباء والصاد والنون والكاف والهاء، ولا أذكر إلا نصا واحدا من كل مرحلة، إلى جانب النص المنقول عن المحدثين.
1 - الباء:
أالباء حرف مجهور شديد في نفسه متقلقل (1).
ب الباء مجهورة شديدة منفتحة مستفلة مقلقلة (2).
ج الباء مجهور منفتح مستفل بالفاء متقلقل شديد، مذلق، شفهي (3).
د الباء صوت شفوي انفجاري مجهور (4).
2 - الصاد:
أحرف صفير مهموس مطبق مستعل (5).
__________
(1) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 160و.
(2) ابن الجزري: التمهيد ص 34.
(3) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 206.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 128.
(5) الداني: التحديد 34و.(1/290)
ب وهي مهموسة رخوة مطبقة مستعلية صفيرية (1).
ج مهموس منطبق مستعل بالعين رخو صفيري مصمت مفخم أسلي (2).
د صوت لثوي احتكاكي مهموس مفخم (مطبق) (3).
3 - النون:
أحرف أغن مجهور (4).
ب وهي مجهورة بين الشدة والرخاوة منفتحة مستفلة فيها غنة (5).
ج مجهور منفتح مستفل بالفاء، بين الشدة والرخاوة، مذلق، مرقق، أغن (6).
د صوت أسناني لثوي أنفي مجهور (7).
4 - الكاف:
أتخرج من المخرج الثاني من مخارج الفم بعد القاف مما يلي الفم، وهي مهموسة شديدة (8).
ب وهي مهموسة شديدة منفتحة مستفلة (9).
ج مهموس منفتح شديد مستفل بالفاء مصمت لهوي (10).
د صوت حنكي قصي انفجاري مهموس (11).
__________
(1) ابن الجزري: التمهيد ص 42.
(2) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 206.
(3) كمال محمد بشر: الأصوات ص 154.
(4) الداني: التحديد 35ظ.
(5) ابن الجزري: التمهيد ص 49.
(6) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 205.
(7) كمال محمد بشر: الأصوات ص 168.
(8) مكي: الرعاية ص 147.
(9) ابن الجزري: التمهيد ص 46.
(10) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 205.
(11) كمال محمد بشر: الأصوات ص 138.(1/291)
5 - الهاء:
أوهي حرف خفيّ مهموس (1).
ب وهي ومهموسة رخوة منفتحة مستفلة خفية (2).
ج حلقية مهموسة رخوة مستفلة منفتحة مصمتة خفية (3).
د صوت حنجري احتكاكي مهموس (4).
* * * __________
(1) الداني: التحديد 25ظ.
(2) ابن الجزري: التمهيد ص 49.
(3) الوفائي: الجواهر المضية 35و.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 156. ولا يلتفت هنا إلى قول من قال من المحدثين إلى أن الهاء مجهورة (انظر: تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 103) فلعله لاحظ نطق صوت الهاء وهي بمجاورة أصوات مجهورة، فأثر جهرها على همس الهاء فبدت وكأنها مجهورة.(1/292)
المبحث السادس الأصوات الذائبة
تصنف الأصوات إلى صنفين رئيسيين سماهما بعض علماء التجويد باسم: الأصوات الجامدة والأصوات الذائبة، وقد وضحت أسس هذا التصنيف في المبحث الثالث من هذا الفصل، كما استوفيت ذكر خصائص الأصوات الجامدة في المبحثين الرابع والخامس منه، وبقي أن أوضح موقف علماء التجويد من دراسة الأصوات الذائبة، ومدى عنايتهم بها، وإدراكهم لخصائصها، وتوضيحهم لمخارجها وصفاتها والعلاقة في ما بينها.
أولا عدد الأصوات العربية الذائبة والعلاقة بينها:
قال أحمد بن أبي عمر: «والحروف الذائبة ثلاثة: الياء المكسور ما قبله، والواو المضموم ما قبله، والألف ولا يجيء إلا مفتوحا ما قبله، وهذه الحروف حروف المد واللين، سميت بذلك لأنها تذوب وتلين وتمتد. وما عداها جامد، لأنه لا يلين ولا يذوب ولا يمتد» (1).
وقد استخدم علماء التجويد مصطلحات أخرى للتعبير عن هذه المجموعة من الأصوات، كل مصطلح يوضح خاصة من خصائص الأصوات الذائبة. ومن تلك المصطلحات (المصوتة)، قال عبد الوهاب القرطبي: «وإنما سميت مصوّتة لأن النطق بهن يصوّت أكثر من تصويته بغيرهن، لاتساع مخارجهن وامتداد الصوت بهن» (2).
ومن تلك المصطلحات (الممدودة)، قال الداني: «سميت ممدودة لأن الصوت يمتد بها بعد إخراجها من موضعها» (3). ومثل هذا المصطلح قولهم (حروف المد واللين) لأن مد الصوت لا يكون في شيء من الأصوات إلا فيهن، ولأنهن يخرجن من اللفظ في لين من
__________
(1) الإيضاح 74ظ.
(2) الموضح 159و.
(3) التحديد 18ظ.(1/293)
غير كلفة على اللسان (1).
وكذلك استخدم بعض علماء التجويد مصطلح (الجوفية) ومصطلح (الهوائية) وهما من مصطلحات الخليل بن أحمد ويشيران إلى أهم خصائص الأصوات الذائبة وهو خروج النفس معها حرا طليقا من غير أن تعترضه عوائق من شأنها أن تعيقه أو تمنعه عن انسيابه خلال الحلق والفم (2).
ومهما يكن المصطلح المستخدم في التعبير عن هذا الصنف من الأصوات فإن علماء العربية وعلماء التجويد يقررون أنها ثلاثة أصوات: الألف والياء والواو المسبوقين بحركة من جنسهما. وكان جمهور العلماء يربطون بين هذه الأصوات الثلاثة وبين الحركات الثلاث ويقولون «إن الفتحة من الألف، والضمة من الواو، والكسرة من الياء» (3).
وأصل هذه الفكرة في الربط بين حروف المد وبين الحركات ترجع إلى سيبويه الذي قال: «وإنما الحركات من الألف والياء والواو» (4). وقال في مكان آخر: «فالفتحة من الألف، والكسرة من الياء، والضمة من الواو» (5). وتردد هذا المعنى في أماكن أخرى من كتاب سيبويه (6).
وكذلك كان مذهب المبرد الذي يقرر أن الحركات أبعاض حروف المد (7)، وأن «الفتحة من الألف، والضمة من الواو، والكسرة من الياء» (8).
وأفاض ابن جني في شرح تلك الخلاصات المركزة الواردة في كلام سيبويه والمبرد في تحديد العلاقة بين حروف المد والحركات. فقال في كتابه (سر صناعة الإعراب): «اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والياء والواو، فكما أن هذه الحروف ثلاثة، فكذلك الحركات ثلاث، وهي الفتحة والكسرة والضمة، فالفتحة بعض الألف،
__________
(1) مكي: الرعاية ص 101.
(2) انظر: مكي الرعاية ص 102و 116.
(3) الداني: التحديد 18ظ، وأبو حيان: ارتشاف الضرب ص 5، وابن الجزري: النشر 1/ 204.
(4) الكتاب 4/ 101.
(5) الكتاب 4/ 242.
(6) الكتاب 2/ 265و 3/ 544و 4/ 171و 309و 313و 314و 318و 335و 339.
(7) المقتضب 1/ 211.
(8) المقتضب 1/ 56.(1/294)
الكسرة بعض الياء، الضمة بعض الواو. وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة ويدلك على أن الحركات أبعاض لهذه الحروف أنك متى أشبعت واحدة منهن حدث بعدها الحرف الذي هي بعضه فلولا أن الحركات أبعاض لهذه الحروف وأوائل لها لما تنشأت عنها، ولا كانت تابعة لها فقد ثبت بما وصفناه من حال هذه الأحرف أنها توابع للحركات ومتنشّئة عنها، وأن الحركات أوائل لها وأجزاء منها، وأن الألف فتحة مشبعة، والياء كسرة مشبعة، والواو ضمة مشبعة» (1).
وكان علماء العربية مدركين لحقيقة كل من الحرف والحركة فهم يقررون «أن الحركات والحروف أصوات، وإنما رأى النحويون صوتا أعظم من صوت فسموا العظيم حرفا، والضعيف حركة، وإن كانا في الحقيقة شيئا واحدا» (2).
وقد ورث علماء التجويد هذه الأفكار التي توضح العلاقة بين حروف المد والحركات، التي تشير إلى أن الأصوات الذائبة في العربية ثلاثة من حيث النوع، وهي الضمة والواو، والكسرة والياء، والفتحة والألف. وست من حيث الكمية: طويلة وهي الألف، والواو، والياء، وقصيرة وهي الفتحة والضمة، والكسرة. واستوعب علماء التجويد هذه النظرية، وفهموها وأضافوا إليها إضافات قيمة ذات معنى.
فنجد عبد الوهاب القرطبي يعرض لفكرة ارتباط الحركات بحروف المد ويحاول أن يضيف أدلة جديدة لتأكيدها، فقال: «أما الحركات فهي أبعاض حروف المد واللين التي هي الألف، ولا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، والواو والياء إذا كان ما قبلهما منهما. وإذا كانت هذه الحروف ثلاثة، وجب أن تكون الحركات التي هي أبعاض لها ثلاثا، وهي الضمة والكسرة والفتحة، فالضمة بعض الواو، والكسرة بعض الياء، والفتحة بعض الألف».
«وهذا الأمر لا مزيد عليه في الوضوح، فإن الضمة إذا أشبعت صارت واوا، والكسرة إذا مكّنت عادت ياء، والفتحة إذا أمعن فيها تحولت ألفا، لأن حروف المد قد تقصر في بعض الأحوال، وتطول في بعضها، وذلك أنك تقول: يسير ويرود ويخاف، فتجد الصوت يمتد بهذه الحروف امتدادا إلى حد ما، فإذا جاء بعد حرف من هذه الحروف همزة أو حرف ساكن
__________
(1) سر صناعة الإعراب 1/ 2719، وانظر: الخصائص (له): 2/ 315و 3/ 121.
(2) السيوطي: الأشباه والنظائر 1/ 177.(1/295)
امتد الصوت به مقدارا أكثر من المد الأول، كقولك: يجيء، ويسوء، ويشاء، ودابّة، ويطيب بكر، وتمودّ الثوب، وفي الكتاب العزيز {تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] تمد الواو لأجل التشديد».
«فإذا تفاوت مقدار هذه الحروف في المد والزيادة، وخالفت في ذلك غيرها من الحروف جاز أن تخالفها أيضا في النقصان بأن يقال إن الحركات أبعاضها، وإن لم يوجد ذلك في غيرها، وجاز أن تسمى الضمة الواو الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والفتحة الألف الصغيرة، على ما ذهب إليه بعضهم».
«وأوضح من هذا أن الحركة يقدّر تجزّؤها في الإشمام والروم والإشارة إلى الضم والكسر وإذا كان التجزؤ يقدّر في الحركة فتقديره في الحرف أولى» (1).
وناقش مكي بن أبي طالب قضية تدور حول الاختلاف في حروف المد واللين والحركات الثلاث أيهما مأخوذ من الآخر، وعقد لذلك بابا استغرق عدة صفحات، ناقش فيه مذاهب العلماء في هذا الموضوع، وذكر أن أكثر النحويين يذهبون إلى أن الحركات الثلاث مأخوذة من حروف المد. وذهب قوم إلى أن حروف المد مأخوذة من الحركات الثلاث، بينما قال بعض أهل النظر: ليست هذه الحروف مأخوذة من الحركات الثلاث، ولا الحركات مأخوذة من الحروف. وقال مكي عندئذ: «وهو قول صحيح إن شاء الله تعالى» (2).
ونقل مكي في أثناء ذلك أدلة كل فريق من العلماء، وهي تكشف عن إدراك كامل للعلاقة بين هذه الأصوات ولخصائصها، ولكن فكرة تحديد الأصل والفرع ليست ضرورية هنا، فيكفي أن ندرك ذلك الترابط وتلك العلاقة التي تجمع بين الأصوات الذائبة، من غير الإصرار على تعيين أيها أخذ من الآخر، وذلك لأن الواقع يوضح أن كل صوت من الأصوات الذائبة قصيرا كان أم طويلا يمثل إمكانية من إمكانيات الجهاز النطقي عند الإنسان، وأنه يمكن أن نقول أن بعض هذه الأصوات ينتج بطريقة تماثل إنتاج صوت آخر، وإن الاختلافات بين الاثنين هو الكمية مثلا، فلو قصّرنا الصوت الطويل لأدّى إلى القصير، ولو طوّلنا القصير لأدّى إلى الصوت الطويل.
وكان بعض علماء التجويد قد أدركوا على نحو دقيق أن الاختلاف بين كل من الفتحة
__________
(1) الموضح 150و 150ظ
(2) انظر: الرعاية ص 8481.(1/296)
والألف، والضمة والواو الممدودة، والكسرة والياء الممدودة، هو اختلاف في الكمية، أي في مقدار الزمن الذي يستغرقه إنتاج كل من النوعين، وأنه متى قصّر حرف المد صار حركة، ومتى طوّلت الحركة صارت حرف مد. وكان عبد الوهاب القرطبي أكثر علماء التجويد عناية ببيان هذه العلاقة بين الأصوات الذائبة، وقد تضمن كتابه (الموضح في التجويد) عدة نصوص توضح ذلك، أكتفي بإيراد أهمها.
قال عبد الوهاب القرطبي، وهو يتحدث عن كيفية نطق الألف إذا لم يكن بعدها همزة أو حرف ساكن مدغم أو غير مدغم: «فينبغي أن يقيمها القارئ ويقطعها ويسلك في اللفظ بها التمطيط الأوسط، فلا يهمل توفية التمكين حقه فتصغر وتصير فتحة، ولا يبالغ في ذلك ويستقصي فتحول مدة، بل يوفر عليها من المد ما هو طبعها وصيغتها» (1).
وقال وهو يتحدث عن الواو والياء إذا كانا حرفي مد ولم يكن بعد هما همزة ولا حرف ساكن: «فينبغي أن يلزم فيهما اجتناب الإفراط في الإشباع، والتحرز من إهماله بحيث يلتحقان بالحركة، مثل ما لزم في الألف، وقد مضى ذكره، وذلك بأن يمكّنا بمقدار ما فيهما من المد الذي هو طبعهما وخاصتهما، كقولك: ميعاد، وميقات، وميراث، والميثاق، وتوعدون، ويوقنون، ويوصل، وما أشبه ذلك» (2).
وعاد عبد الوهاب القرطبي إلى تأكيد الفكرة مرة أخرى فقال: «فقد حصل للطالب بما ذكرناه في هذا الفصل، وبما قدمناه آنفا من القول على الواو والياء والألف في الباب الذي قبله أحكام هذه الحروف في المد وتفاوتها في مقداره، وتحقق عنده أنها تارة تكون ممدودة، وذلك في الأحوال التي شرحناها، وتارة تكون مشبعة ويكون امتداد الصوت بها دون امتداده في هذه الأحوال، فتمد المقدار الذي هو طبعها، كنحو الواو في (موسى)، والياء في (عيسى)، والألف في (طارد)، وأن إهمال الإشباع يخرجها عن كونها حرفا، ويلحقها بالحركة، والإفراط في التمكين يلحقها بالممدود، وكلاهما مكروه» (3).
ويتضح من كلام عبد الوهاب القرطبي هنا أنه مدرك لطبيعة الاختلاف بين حرف المد والحركة وأنه ليس اختلافا كتابيا يتمثل في تخصيص رمز لحرف المد وعلامة للحركة، وإنما
__________
(1) الموضح 159ظ.
(2) الموضح 164ظ.
(3) الموضح 167و 167ظ.(1/297)
هو اختلاف صوتي يتمثل في تباين الزمن الذي يستغرقه النطق بكل منهما، فإذا جعل الناطق آلة النطق في وضع يمكنه من إنتاج فتحة، فإنه يستطيع أن ينتج الألف بمجرد أن يطيل زمن مرور النفس أكثر مما يحتاجه إنتاج الفتحة، وإنه إذا أطال الصوت أكثر من ذلك خرج الألف إلى حالة المد التي تلزمه إذا وقع بعده همزة أو ساكن.
ومضى عبد الوهاب القرطبي في توضيح العلاقة بين الحركات وحروف المد وجعل لذلك طرفين: السكون وحرف المد، فالناطق يمكن أن يبدأ من السكون حتى ينتهي إلى حرف المد، ويستطيع أن يبدأ بحرف المد حتى ينتهي إلى السكون، ويمكن أن نلخص فكرته على هذا النحو: (سكون حركة مختلسة حركة حرف مد) ويمكن أن نعكس الترتيب، كل ذلك ممكن.
تأمل قوله في هذا المعنى: «الذي ينبغي أن يعتمده القارئ من ذلك أن يحفظ مقادير الحركات والسكنات، فلا يشبع الفتحة بحيث تصير ألفا، ولا الضمة بحيث تخرج واوا، ولا الكسرة بحيث تتحول ياء، فيكون واضعا للحرف موضع الحركة، ولا يوهنها ويختلسها ويبالغ فيضعف الصوت عن تأديتها ويتلاشى النطق بها وتتحول سكونا» (1).
واستطاع علماء التجويد أن يضبطوا النسبة بين الحركة وحرف المد، بما يوضح أن الفرق بين الحركة وحرف المد الذي هي منه هو فرق في الكمية، وأن ذلك الفرق يمكن أن يقاس، وابتكروا طريقة لقياسه، وهي اعتبار الحركة أساسا للقياس، فقالوا: إن الألف مثلا يساوي فتحتين، وعكس بعض العلماء المقياس فقالوا: الفتحة تساوي نصف الألف. وهذه الطريقة وإن لم تحدد كمية الحركة وحرف المد بالقياس إلى الزمن المتمثل بالثانية وأجزائها تعتبر خطوة متقدمة جدا في مجال قياس الأصوات وإدراك حقائق الأصوات الذائبة والعلاقة بين أنواعها.
ولم يكن معروفا للباحثين المحدثين حول هذا الموضوع إلا نص واحد، وكانت شهرته على نطاق ضيق لا يتعدى بعض المستشرقين، وكانت معرفتهم به خارج السياق الوارد فيه مما أدى إلى قصور في تحديد الحقبة التي يرجع إليها. وكان (برافمان) هو أول من أشار إليه من المستشرقين في كتاب صغير ألفه عن الأصوات العربية سماه (مواد وبحوث في النظريات الصوتية عند العرب) المنشور في (غوتنغن) سنة 1934، حسبما ذكر جان كانتينو الذي اقتبس
__________
(1) الموضح 183و. وانظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 135ظ.(1/298)
منه ذلك النص.
قال جان كانتينو: «جاء في نص هام للقارئ ذكره برافمان في (مواد ص 13) ما يلي: (الألف (أي الفتحة الطويلة) متكون من فتحتين، والواو من ضمتين، والياء من كسرتين) وفي هذا النص دليل أساسي على أن الناطقين بالعربية يشعرون بأن الحركة الطويلة تضاهي حركتين قصيرتين» (1).
وحاول هنري فليش أن يقلل من أهمية هذا النص، فقال معلقا على كلام كانتينو السابق:
«وقد استشهد كانتينو على أن العرب قد تصوروا أن المصوت الطويل معادل لمصوتين قصيرين، فهو يرى أن هذا النص مهم وحاسم في هذه المسألة!! بيد أنه يجب أن ننظر إلى تاريخ القاري (الهروي) المتوفى عام 1014هـ 1605م. وكل ما يمكن أن نختم به هذا التعليق هو: أنه في العصر الأخير توصل المؤلفون في علم التجويد، والقاري الهروي من بينهم على الأقل (إذ لم يذكر برافمان سواه مثلا على مؤلفي هذا العلم) إلى استنتاج فكرة المد أو الكمية» (2).
ولنا على كلام هنري فليش ملاحظتان: الأولى أن تاريخ هذا النص يرجع إلى عصر أقدم من عصر علي القاري، والثانية هي أن هذا النص لم يكن الوحيد لدى علماء التجويد من النصوص التي عالجت تحديد العلاقة بين حروف المد والحركات.
أما الملاحظة الأولى فتتبين من الرجوع إلى النص المذكور في مصدره الأصلي، وهو كتاب (المنح الفكرية على متن الجزرية) لعلي القاري، وذلك حيث قال: «اعلم أن الألف مركب من فتحتين، والواو مركب من ضمتين، والياء مركب من كسرتين. فإذا أشبعت الفتحة يتولد منها ألف، وإذا أشبعت الضمة يتولد منها الواو، وإذا أشبعت الكسرة يتولد منها الياء، كذا ذكره الشارح اليمني» (3).
فالنص إذن نقله علي القاري عن أحد شراح المقدمة الجزرية، وقد سماه (الشارح اليمني)، ولا بد أن يكون الشارح اليمني قد عاش بين عصر ابن الجزري (ت 833هـ) وعصر
__________
(1) دروس ص 151.
(2) التفكير الصوتي عند العرب في ضوء سر صناعة الإعراب، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج 23، ص 87، هامش (1).
(3) المنح الفكرية ص 50، وانظر: الدركزلي: خلاصة العجالة 181ظ.(1/299)
علي القاري (ت 1104هـ)، فالنص إذن يرجع إلى وقت أقدم مما تصوره هنري فليش، وليس واضحا من هو هذا الشارح اليمني، ومن بين شراح المقدمة عالم يمني اسمه محمد بن عمر بن مبارك الحميري الحضرمي الشهير ببحرق، المتوفى سنة (930هـ) (1)، ولعل علي القاري قصده بقوله (الشارح اليمني)، وكان علي القاري مطلعا على شرح (بحرق) للمقدمة الجزرية، ونقل عنه في أكثر من موضع (2). ولا نستطيع أن نجزم بأن الشارح اليمني هو بحرق إلا بعد الاطلاع على شرحه، وهذا غير متيسر لنا الآن (3). ولكن بغض النظر عن تعيين اسم الشارح اليمني فالنص المذكور يرجع إلى عصر أقدم من عصر علي القاري. ولا يغض من قيمة هذا النص كونه يرجع إلى عصر متأخر.
والملاحظة الثانية تدل عليها عدة نصوص تعالج موضوع العلاقة بين الحركات وحروف المد وهي جميعها ترجع إلى زمن أقدم من عصر علي القاري. وأول تلك النصوص ما ورد في قصيدة (الدر النضيد في معرفة التجويد) لمحمد بن قيصر بن عبد الله المارديني النحوي المتوفى سنة 721هـ، فقد قال في (الدر النضيد) وهي قصيدة لامية في (271) بيتا، في علم التجويد:
ومقداره ثلث من الأمّ والأصحّ ... نصف معا والحرف رأسين أرسلا (4)
وقد جاء في مخطوطة هذه القصيدة تعليقات موجزة كتبت بين أبياتها تكوّن شرحا موجزا لها، ولا نستطيع تحديد كاتب هذه التعليقات الآن، والذي يهمنا منها هو ما كتب عن البيت السابق ونصه: «قال: (ومقداره): مقدار الحركة (ثلث من الأمّ والأصح نصف): مقدار الفتحة ثلث ألف، والضمة ثلث واو، والكسرة ثلث ياء. والأصح عند الشيخ أنه نصف. (معا) يعني مع القول بالثلث. (والحرف رأسين أرسلا): يعني أرسل الحرف رأسين مع الحركات الثلاث» (5).
ويفهم من قول المارديني ومن التعليق عليه أن هناك علماء سبقوا المارديني في بحث
__________
(1) انظر مصادر علم التجويد في الفصل الأول من هذا البحث رقم (33ز).
(2) المنح الفكرية ص 12و 40.
(3) وذلك لأن شرح بحرق المسمى (ترجمة المستفيد) توجد منه نسخة في مكتبة رضا بالهند رقمها (335) ولم نتمكن من الحصول عليها.
(4) الدر النضيد 63و.
(5) المصدر نفسه.(1/300)
هذا الموضوع، فمنهم من قال إن الحركة ثلث حرف المد، ومنهم من ذهب إلى أنها نصف حرف المد، وقد رجح المارديني هذا المذهب ولا أستبعد اكتشاف نصوص جديدة ترجع إلى زمن أقدم من عصر المارديني تثبت أن علماء العربية وعلماء التجويد كانوا مدركين لطبيعة العلاقة بين الحركات وحروف المد.
وأشار القسطلاني (ت 923هـ) إلى هذا الموضوع أيضا فقال: «ووزن الحركة في التحقيق نصف الحرف المتولد عنها ولذلك سموا الفتحة الألف الصغرى، والكسرة الياء الصغرى، والضمة الواو الصغرى» (1).
ولم يكتف علماء التجويد بتحديد كمية الحركات وحروف المد، بل حاولوا بيان مقدار الحركات القصيرة جدا التي تلحقها ظاهرة الاختلاس والروم، فقال أحمد بن الجزري:
«والاختلاس والروم يشتركان في التبعيض، وبينهما عموم وخصوص، فالرّوم أخص من كونه لا يكون في الفتح والنصب، ويكون في الوقف دون الوصل، والثابت من الحركة أقل من المحذوف، والاختلاس أعم من كونه يتناول الحركات الثلاث ولا يختص بالآخر، والثابت من الحركة أكثر من المحذوف، وذلك أن تأتي بثلثيها، كأن الذي تحذفه أقل مما تأتي به.
وهذا (لا تحكمه) (2) إلا المشافهة» (3). وحدد بعض علماء التجويد الباقي من الحركة مع الروم بثلثها (4).
ولا يزال ضبط الزمن الذي يستغرقه نطق الأصوات الذائبة (حروف المد والحركات) وكذلك الأصوات الجامدة، بواسطة تقديره بأجزاء الثانية أمرا غير متحقق، وهو يحتاج إلى استخدام آلات القياس الحديثة (5). وما توصل إليه علماء التجويد من تقدير كميات الحركات وحروف المد عن طريق نسبة الصوت إلى نظيره، فالفتحة نصف الألف، والألف ضعف الفتحة، أي فتحتان، والروم النطق بثلث الحركة، والاختلاس النطق بثلثيها، يعد إنجازا عظيما في الدرس الصوتي العربي، ولم يبق إلا أن يخطو دارسو الأصوات العربية المحدثون الخطوة الأخيرة نحو قياس زمن تلك الأصوات بالثانية وأجزائها.
__________
(1) لطائف الإشارات 1/ 178.
(2) زيادة ليست في الأصل، يقتضيها السياق.
(3) الحواشي المفهمة 77ظ.
(4) عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 75ظ، والبقري: غنية الطالبين ص 82.
(5) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 160155.(1/301)
وينبغي أن يؤخذ بالحسبان عند محاولة قياس زمن نطق الأصوات أن هناك عدة أشكال من النطق، مثل النطق المتأني الذي يأخذ وقتا أطول من النطق السريع. وهناك نطق وسط بين البطيء والسريع، وقد لاحظ هذه الظاهرة عبد الوهاب القرطبي حيث قال: «ولا يدخل على ما أصّلناه إشباع من أشبع الحركات والسكنات من أئمة القراءة زيادة على غيره في الإشباع، لأن من أشبع الحركات منهم أشبع الحروف التي أخذت منها أيضا، فتصير نسبة الحركة المشبعة عنده إلى الحروف المشبعة كنسبة الحركات إلى الحروف بغير إشباع عند غيره» (1).
وكان قد جاء في بعض النصوص التي نقلناها في هذا المبحث أن متقدمي النحويين كانوا يسمون الفتحة الألف الصغيرة والضمة الواو الصغيرة والكسرة الياء الصغيرة (2). وهناك رواية نقلها بعض علماء التجويد لها صلة بالنص السابق، فقد روى أبو العلاء الهمذاني العطار بإسناد كامل ينتهي إلى عبد الله ابن الصحابي بريدة بن الحصيب الأسلمي (3) رضي الله عنه رواية جاء فيها: عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كانوا يؤمرون، أو كنّا نؤمر أن نتعلم القرآن، ثم السّنّة، ثم الفرائض، ثم العربية: الحروف الثلاثة. قلنا: وما الحروف الثلاثة؟ قال: الجرّ والرفع والنصب» (4). فهذه الرواية تشير إلى أنهم كانوا يسمون الحركات حروفا، وهي من النصوص النادرة التي تتعلق بنشأة النحو العربي فهي ترجع إلى زمن أقدم من العصر الذي ظهر فيه نشاط أبي الأسود الدؤلي النحوي (5).
ثانيا: الواو والياء بين الأصوات الجامدة والأصوات الذائبة:
يشترط علماء العربية وعلماء التجويد أن يكون قبل الواو والياء حركة من جنسهما وأن يكونا ساكنين لكي يعدا من حروف المد، مثل الألف. وإذا تخلف هذا الشرط عنهما بأن تحركتا أو لم تكن حركة ما قبلهما من جنسهما لم يكونا حرفي مد ولحقا بالحروف الجامدة (أو الصحاح). وهذا التفريق بين حالتي الواو والياء ينبني على أسس صوتية وصرفية معا.
ونجد أصول هذا التفريق عند سيبويه، فهو يقول عن الياء «لما تحركت خرجت من أن
__________
(1) الموضح 183ظ.
(2) انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 19، وعبد الوهاب القرطبي الموضح 150ظ.
(3) انظر ترجمته: ابن عبد البر: الاستيعاب 1/ 185.
(4) التمهيد 103و 103ظ.
(5) هناك نصوص أخرى تتعلق بنشأة النحو العربي أوردها أبو العلاء الهمذاني العطار في كتابه (التمهيد في التجويد) في المكان المشار إليه نفسه.(1/302)
تكون حرف لين، وصارت مثل غير المعتل» (1). وقال في مكان آخر: «إذا تحركت لم تكن حرف لين، فبعد شبهها من الألف» (2). ويقول ابن جني: «إن الياء والواو لما تحركتا قويتا بالحركة، فلحقتا بالحروف الصحاح» (3).
ويخصص كثير من علماء التجويد مصطلح (حروف المد واللين) للواو والياء إذا كانت حركة ما قبلهما من جنسهما، ومصطلح (حروف اللين) بالواو والياء إذا كانا غير ذلك، قال مكي: «حروف المد واللين، وهي ثلاثة أحرف الألف والواو الساكنة التي قبلها ضمة، والياء الساكنة التي قبلها كسرة» (4). وقال: «حرفا اللين: وهما الواو الساكنة التي قبلها فتحة، والياء الساكنة التي قبلها فتحة» (5).
وقال عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ): «الواو والياء: تكون تارة من حروف المد واللين بأن تسكنا ويكون ما قبلهما منهما، وتارة يتحيز مخرجهما إذا تغيرتا عن هذا الموضع، بأن تسكنا وينفتح ما قبلهما، ومتى وجد ذلك زال عنهما معظم المد، وبقي اللين وانبسط اللسان بهما، وصارتا بمنزلة الحروف الجوامد، فألقي عليهما حركات الهمزات، كما تلقى على غيرهما من الحروف الجوامد» (6).
وقول القرطبي (وتارة يتحيّز مخرجهما) يعبر عن موقف معين من مخارج حروف المد، وهو أنها تخرج من هواء الحلق والفم وليس لها مخرج معين، بينما الواو والياء إذا انفتح ما قبلهما يتحيز مخرجهما أي يتحدد في نقطة معينة من أعضاء آلة النطق. وقد وضح القرطبي ذلك بقوله: «إن الواو والياء حرفا مد، والصوت يمتد بهما، وبالتشديد تخرجان عن المد واللين ويتحيز مخرجهما فيكون الواو من الشفتين والياء من الشجر، وبالتحيز يبطل المد ويلتحقان بغير هما من الحروف الصحاح» (7).
وقال السمرقندي (ت 780هـ): «وفي الواو لين ومد إذا سكنت وانضم ما قبلها، وفيها
__________
(1) الكتاب 4/ 193.
(2) الكتاب 4/ 197.
(3) سر صناعة الإعراب 1/ 22.
(4) بالرعاية ص 101.
(5) بالرعاية ص 101.
(6) الموضح 164ظ، وانظر: الداني: التحديد 29و.
(7) الموضح 170و.(1/303)
لين إذا سكنت وانفتح ما قبلها، وفيها ثقل إذا تحركت. وكذا حكم الياء أن فيها مدا ولينا إذا سكنت وانكسر ما قبلها، وفيها لين إذا سكنت وانفتح ما قبلها، وفيها ثقل إذا تحركت.
وحروف المد واللين ثلاثة: الواو والياء والألف» (1).
ويلاحظ أن هناك اتجاها لدى بعض المتأخرين في استخدام مصطلح (العلة) للدلالة على بعض حالات الواو والياء، فيقول الطبلاوي: «الواو والياء إن تحركا بأي حركة ك (وفاقا ويعلم) أو سكنا فحرفا علة، وإن سكنا فإن لم تجانسهما حركة ما قبلهما كالخوف والبيت فحرفا لين. وإن جانستهما فحرفا مد ولين» (2). لكن من المتأخرين من يعتبر مصطلح (علة) ذا دلالة عامة، ويكتفي بكلمة (المد) للحروف الثلاثة، وكلمة (اللين) للواو والياء، يقول علي القاري (ت 1014هـ): «والتحقيق أن هذه الحروف تسمى حروف العلة بالمعنى الأعم، سواء تكون متحركة أو ساكنة، حركة ما قبلها من جنسها أو لا، ثم حروف المد، ثم اللين بالوجه الأخص، وهو مختص بالواو والياء دون الألف» (3).
ويقول المرعشي (ت 1150هـ): «وترك المد بالكلية في (قالوا) مثلا إما بحذف الواو والاقتصار على اللام المضمومة، أو بإبقاء الواو ساكنا وترك مده بالكلية، فيكون حرف لين لا حرف مد، وحاصل ذلك إعدام حرف، إذ ما لم يمتد الواو لا يصير حرف مد» (4).
ونقل الدركزلي (ت 1327هـ) نصا يلخص ذلك التداخل في استخدام المصطلحات المذكورة، ويظهر منه أن الاتجاه الغالب لدى المتأخرين هو تخصيص مصطلح (المد) بالحروف الثلاثة إذا كانت ساكنة وحركة ما قبله من جنسها. وتخصيص مصطلح (اللين) بالواو والياء في أحوالهما الأخرى، وذلك حيث يقول: «ويصدق اللين على حرف المد، بخلاف العكس، لأنه يلزم من وجود الأخص وجود الأعم، ولا ينعكس، وإن اعتبر قبول اللين المدّ تساويا في صدق الاسم عليهما. وعلى هذا فكل من حروف المد وحرفي اللين يصدق عليهما حروف لين على الأول، وحروف مد على الثاني، وحروف مد ولين عليهما».
«قلت (الدركزلي): لكن الاصطلاح أن حرف المد ما قبله حركة مجانسة كما تقدم، وحرف اللين هو ما قبله حركة غير مجانسة، فعلى الاصطلاح بينهما مباينة، وكل من وقع في
__________
(1) روح المريد 128ظ.
(2) مرشدة المشتغلين 9ظ.
(3) المنح الفكرية ص 9.
(4) بيان جهد المقل 5ظ.(1/304)
عبارته حروف مد ولين إنما هو نظر للمعنى الآخر، والله أعلم» (1).
وقد أدرك علماء التجويد أن التفريق بين حالتي الواو والياء وتخصيص مصطلح معين لكل حالة يقوم على أسس صوتية وصرفية معا، لا مجرد كونه اختلافا شكليا متمثلا في اختلاف الحركات التي تسبق أو تلحق كلّا منهما.
أما من الناحية الصوتية فقد أدرك علماء التجويد أن مخرج الواو والياء إذا كانا حرف لين يختلف عنه إذا كانا حرفي مد، أما الألف فلا يكون إلا حرف مد. ومن ثم فإنهم اعتبروا مخرجيهما إذا كانا حرفي لين الواو من الشفة والياء من شجر الفم. وإذا كانا حرفي مد كان مخرجهما من الجوف، يقول علي القاري: «وحيث لزمت الألف هذه الطريقة المعتادة من كونها ساكنة وحركة ما قبلها من جنسها وهي الفتحة لم يختلف حالها من أنها دائما تكون هوائية، بخلاف أختيها فإنهما إذا فارقاها في صفة المشابهة صار لهما حيز محقق، ومن ثمة كان لهما مخرجان: مخرج حال كونهما مديتين ومخرج حال كونهما متحركتين» (2).
وقال المرعشي: «وجعل مخرج حروف المدّ جوف الحلق والفم هو مسلك الجمهور، لأن سيبويه جعل الألف من مخرج الهمزة، والواو والياء المديين من مخرجيهما غير مديين» (3).
وأدرك علماء العربية وعلماء التجويد أن سلوك الواو والياء إذا كانا حرفي لين يختلف عنه إذا كانا حرفي مد. قال سيبويه: «وإذا كانت الواو قبلها ضمة والياء قبلها كسرة فإن واحدة منهما لا تدغم إذا كان مثلها بعدها. وذلك قولك: ظلموا واقدا، واظلمي ياسرا وإذا قلت وأنت تأمر: اخشي ياسرا، واخشوا واقدا، أدغمت، لأنهما ليسا بحرفي المد كالألف، وإنما هما بمنزلة قولك: أحمد دّاود، واذهب بّنا» (4).
وقال أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569هـ): «فإن التقت ياءان أو واوان لم يخل التقاؤهما من أمرين: أحدهما أن تلتقيا وأولاهما ساكنة، والثانية أن تلتقيا متحركتين. فإن التقت ياءان أولاهما ساكنة وجب إشباع الكسرة التي قبل الأولى، وذلك نحو قوله:
__________
(1) خلاصة العجالة 160ظ.
(2) المنح الفكرية ص 9.
(3) جهد المقل 10و.
(4) الكتاب 4/ 442.(1/305)
{فِي يَتََامَى} [النساء: 127] و {فِي يُوسُفَ} [يوسف: 7] و {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي} [الأحزاب: 43] ونظائرها وإنما لم يجز إدغام ذلك لأن الياء والواو هاهنا تشبهان الألف في السكون ومجانسة الحركة المتقدمة، فصار ذلك بمنزلة قولك: زورا ياسرا، وأكرما واقدا. وقد عرفت أن إدغام الألف غير ممكن. فإن انفتح ما قبل الواو الأولى، نحو قوله: {عَصَوْا وَكََانُوا}
[البقرة: 61] و {عَفَوْا وَقََالُوا} [الأعراف: 95] و {آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] وما أشبه ذلك لزم الإدغام» (1).
وكان من علماء العربية المتقدمين من أدرك أن رمزي الواو والياء يمثلان زوجين من الأصوات في الكتابة العربية. فقد قال ابن درستويه (عبد الله بن جعفر ت 346هـ) وهو يتحدث عن رموز حروف العربية: «والذي لا صورة له مدتان وهمزة، فإن مدتي الحرف المضموم والحرف المكسور لم توضع لهما صورة في المعجم، كما وضعت لمدة الحرف المفتوح الألف، ولكن كتبتا بصورة الواو والياء» (2).
وما لاحظه علماء التجويد من كون الواو والياء لهما طبيعة مزوجة، فمرة يكونان حرفي مد (أي من الأصوات الذائبة) ومرة يكونان من الحروف الصحاح (أي الجامدة) أمر أكدته الدراسات الصوتية الحديثة. يقول الدكتور إبراهيم أنيس: «هناك صوتان بين الأصوات اللغوية يستحقان دائما أن يعالجا علاجا خاصا، لأن موضع اللسان معهما قريب الشبه بموضعه من أصوات اللين (يقصد الذائبة) ومع هذا فقد دلت التجارب الدقيقة على أننا نسمع لهما نوعا ضعيفا من الحفيف، وهذان الصوتان هما ما اصطلح علماء العربية على تسميتها بالياء والواو في مثل بيت ويوم» (3).
وقال الدكتور كمال محمد بشر: «والحقيقة أن هذه الأصوات من حيث النطق الصرف تقترب من الحركات في صفاتها، ولكنها في التركيب الصوتي للغة تسلك مسلك الأصوات الصامتة، ومن هناك كانت تسميتها بأنصاف حركات» (4).
ثم تحدث عن وجهة المحدثين في التفريق بين حالتي الواو والياء واختلافهم في ذلك
__________
(1) التمهيد 150و.
(2) كتاب الكتّاب ص 64. وانظر: حمزة الأصفهاني: التنبيه على حدوث التصحيف ص 33.
(3) الأصوات اللغوية ص 42.
(4) الأصوات ص 171. ويسميها البعض أشباه الحركات. انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 42. ومحمود السعران: علم اللغة ص 197.(1/306)
فقال: «فالمعروف أن للواو والياء حالتين في العربية، فهما إما حركتان خالصتان، وإما صوتان صامتان أو بعبارة أدق نصفا حركتين. وقد حاول كثير من العلماء التفريق بين هاتين الحالتين على أساس صوتي محض، فهما عندهم من النوع الأول إذا خرجتا من الفم دون أن يقف في طريق الهواء حال النطق بهما أي عائق أو مانع، ولكنهما من النوع الثاني إذا ضاق مجرى الهواء بحيث يبقى مسار ضيق يسمح بمروره ولكن مع شيء من الصعوبة بحيث يحدث هذا الهواء احتكاكا مسموعا».
«وقد رأينا نحن أن هذا التفريق غير واضح، بل يتضمن شيئا من التكلف والصنعة ولذا آثرنا أن يكون التفريق بين الحالتين على أساس الوظيفة اللغوية، فقررنا أنهما من الصوامت أو أنصاف حركات فيما لو وقعا في مواقع الأصوات الصامتة، ولخصنا هذه المواقع في خاصة تشترك فيها جميعا، تلك هي وقوعها متلوة بحركة أو ساكنة بعد فتح. كما في نحو: بيت ويوم. وهما في هاتين الحالتين يقعان في مواقع الأصوات الصامتة الصرفة، ومن ثم أخذا حكمها» (1).
ويتحدث علماء الأصوات المحدثون عن الحركة المركبة أو المزدوجة، وتعرّف بأنها تتابع مباشر لصوتي علة يوجدان في مقطع واحد فقط (2). فقال بعضهم: «ومثال ذلك في العربية (أو) و (أي) فعند النطق بالكلمة الأولى يتخذ اللسان وضعه في منطقة الحركات للنطق بالفتحة التي تلي الهمزة، ثم لا يلبث أن يتحرك منه لاتخاذ موضع جديد هو موضع الكسرة» (3).
وأنكر بعض الدارسين المحدثين وجود حركات مركبة في اللغة العربية، وفسر مثل (أو) و (أي) على أنه همزة ثم فتحة ثم واو أو ياء ساكنة، فيكون مثل (من) وما أشبه ذلك. فيقول:
«وقد وهم بعض الدارسين فظن أن الواو والياء في (حوض وبيت) جزءان من حركة مركبة.
وهو وهم خاطئ ولا شك. إذ الحركة المركبة وحدة واحدة. والموجود في حوض وبيت ليس وحدة واحدة، وإنما هناك وحدتان مستقلتان هما الفتحة الواو في (حوض). والفتحة
__________
(1) الأصوات ص 173. وانظر أيضا ص 108105، وكذلك: أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 283.
(2) ماريوباي: أسس علم اللغة ص 80.
(3) عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 172. وانظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 42، وجان كانتينو: دروس ص 137.(1/307)
الياء في (بيت)» (1).
ولما كان موضوع وجود الحركة المركبة في اللغة العربية هو موضع جدل بين الدارسين المحدثين وأن علماء العربية وعلماء التجويد اكتفوا بتقسيم الواو والياء إلى حروف مد (أصوات ذائبة) في مثل (نوحيها)، وإلى حروف صحاح (جامدة) في مثل (بيت) و (حوض) فإن صرف النظر عن فكرة الحركة المركبة هنا له ما يسوغه. ويكفي أن علماء العربية وعلماء التجويد قد ميزوا بشكل واضح وكامل تلك الطبيعة الثنائية للواو والياء سواء من الناحية الصوتية أم من ناحية الوظيفة في بنية الكلمة.
وكان السمرقندي (ت 780هـ) قد انفرد بمذهب خاص به في تعيين (حروف اللين)، فقد قال: «وحروف اللين خمسة أحرف: الألف والواو والياء والهاء والنون الساكنة، سميت بذلك لأنها لانت في المخرج» (2). ويبدو أن السمرقندي هنا يستخدم كلمة (اللين) بمعناها اللغوي، لا المعنى الاصطلاحي الذي استقر لها عند علماء العربية وعلماء التجويد. وإطلاق كلمة (اللين) على النون والهاء أمر مقبول من ناحية دلالة الكلمة اللغوية لأن هذين الصوتين قريبا الشبه بالأصوات الذائبة من حيث قلة الاحتكاك في مخرجيهما وحرية مرور الهواء في أثناء النطق بهما، سوى أن الهاء مهموسة والن أنفية.
ثالثا مخارج الأصوات الذائبة:
هناك خمسة أصوات تتدانى في المخارج شي شي وتتقارب في الصفات، وهي الواو والياء الجامدتان في مثل (بيت وحوض). والألف والياء والواو الذائبة في مثل (نوحيها).
أما الياء والواو الجامدتان فلا خلاف بين العلماء في تحديد مخرجيهما، وقد مضى الحديث عن ذلك في المبحث الخاص بمخارج الأصوات الجامدة (3)، حيث اتفق علماء التجويد وعلماء العربية على أن مخرج الياء الجامدة من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى، وأن مخرج الواو من بين الشفتين.
أما الأصوات الذائبة الثلاثة (حروف المد) فللعلماء في تحديد مخارجها مذهبان، الأول مذهب سيبويه ومن تابعه، ويتلخص في أن مخرج الألف من الحلق من مخرج الهمزة
__________
(1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 180، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 305303.
(2) روح المريد 126ظ.
(3) انظر ص 199و 215من هذا البحث.(1/308)
والهاء (1). ولم يفرق سيبويه في حديثه عن مخرج الياء والواو بين الجامدة والذائبة، ومن ثم يحمل كلامه على أنه يجعل مخرج الياء والواو المديين من مخرجيهما غير مديين (2). وكان سيبويه مدركا لما تتميز به هذه الأصوات من اتساع مخارجها أكثر من غيرها من الأصوات (3).
ولا نلمس في حديث علماء العربية عن مخارج هذه الأصوات أنهم يفرقون بين كونها جامدة أو ذائبة.
أما المذهب الثاني في تحديد مخارج حروف المد فهو مذهب جمهور علماء التجويد الذين يفرقون بين مخرجي الواو والياء عند ما يكونان حرفين جامدين، وبين مخرجيهما عند ما يكونان حرفي مد (أي صوتين ذائبين)، حتى لقد صرح علي القاري أن للواو والياء مخرجين:
مخرج حال كونهما مدتين، ومخرج حال كونهما متحركتين (4). والكلام هنا عن مخرجهما عند ما يكونان مدتين.
جعل كثير من علماء التجويد مخرج حروف المد من جوف الحلق والفم، وهو الخلاء الداخل فيهما (5). وهم يعدون هذا المخرج مقدّرا، لا يمكن تحديده في نقطة معينة. قال المرعشي: «فلجميع الحروف مخرج محقق إلا حروف المد، إذ لا تنضغط أصواتها في موضع انضغاطا ينقطع به الصوت وبالجملة إن حروف المد لمّا لم تنقطع أصواتها في موضع لم يكن لها مخرج محقق، فإن المخرج المحقق هو الذي انقطع الصوت فيه، بل قدروا لها جوف الحلق والفم مخرجا، لأنه يمكن لك قطع أصواتها حين تم مرورها على هواء الحلق والفم» (6).
وعلماء التجويد بموقفهم هذا من مخارج حروف المد يجمعون بين مذهب سيبويه الذي لم يفرق بين مخرجي الواو والياء المديين وغير المديين، وجعل الواو من الشفتين والياء من وسط اللسان، وبين مذهب الخليل الذي جعل مخرج الواو والياء والألف من الجوف واعتبر
__________
(1) الكتاب 4/ 433.
(2) المرعشي: جهد المقل 10و.
(3) الكتاب 4/ 176. وانظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 98، والأزهري: تهذيب اللغة 1/ 51.
(4) المنح الفكرية ص 9.
(5) علي القاري: المنح الفكرية ص 9، والمرعشي: جهد المقل 10و.
(6) جهد المقل 6و 6ظ.(1/309)
هذه الأصوات هوائية وميزها عن الحروف الصحاح (1). فعلماء التجويد جعلوا المخرج الذي عينه سيبويه للواو والياء خاصا بغير المديتين (أي الجامدتين) وجعلوا المخرج الذي عينه الخليل للواو والياء خاصا بالمديتين (أي الذائبتين).
وإذا كانت حروف المد تخرج من مخرج واحد هو الجوف، فما الذي جعل أصواتها تتمايز في السمع؟ لاحظ علماء التجويد أن حروف المد بالرغم من أن مخرجها الجوف فإن أوضاع اللسان والشفتين تختلف مع كل صوت عنها مع الأصوات الأخرى. قال علي القاري عن حروف المد: «ثم إنهن بالصوت المجرد أشبه منهن بالحروف، ويتميزن عن الصوت المجرد بتصعّد الألف وتسفّل الياء واعتراض الواو» (2).
قال المرعشي: «أما الواو المدية فضم شفتيك فيها اعتراض على الصوت وكذا رفع وسط لسانك إلى جهة الحنك في الياء المدية لكن ذانك الاعتراضان قليلان لا يمنعان جريان الصوت بالكلية» (3).
وإذا كان كثير من علماء التجويد يذهبون إلى أن مخرج الواو والياء المديتين (الذائبتين) من الجوف وأن الواو الجامدة من الشفتين، والياء الجامدة من وسط اللسان، فإن بعضهم قد لاحظ وجود قرب شديد بين مخرج كل من الصوتين حين يكون جامدا، فيقول المرعشي وهو يتحدث عن حالة الشفتين في أثناء النطق بالواو: «وانضمامهما في الواو المدية أقل من انضمامهما في الواو غير المدية» (4). ومعنى ذلك أن ممر النفس في مخرج الواو غير المدية يكون أضيق منه في مخرج المدية.
وتلك الظاهرة تحدث عنها بعض علماء الأصوات المحدثين حيث قال: «إن الفراغ بين مقدم اللسان وبين الحنك الأعلى في نطق الياء يكون أضيق منه حال النطق بالكسرة الطويلة (الياء الأخرى). ويترتب على ذلك أننا نسمع نوعا من الحفيف الخفيف في نطق هذه الياء.
وكذلك الحال مع الواو حيث يكون الفراغ بين أقصى اللسان وأقصى الحنك حال النطق بها أضيق منه حال النطق بالضمة الطويلة (وهي الواو الأخرى) ومن ثم نسمع حفيفا بسيطا مع النطق بهذه الواو لهذه الأسباب عدّت الياء والواو من الأصوات الصامتة، بالرغم مما لهما
__________
(1) العين 1/ 5857.
(2) المنح الفكرية ص 9.
(3) بيان جهد المقل 7ظ.
(4) جهد المقل 9ظ. وفي الأصل (الواو الغير المدية).(1/310)
من شبه صوتي بالحركات» (1).
ولعل السمرقندي أراد ذلك بقوله: «وقيل إن الألف والواو والياء إذا سكنتا وتحرك ما قبلهما بجنسهما جوفية، أو هوائية، أو هاوية، لأنها لا تقع في الأحياز التي ذكرناها، فتنسب إليها، لكنها تخرج من الجوف فتذهب في هواء الفم.
والأصح أن الألف من هواء الحلق.
والياء الساكنة المكسور ما قبلها من هواء وسط الفم.
والواو الساكنة المضموم ما قبلها من هواء الشفة.
والياء المتحركة والساكنة المفتوح ما قبلها شجرية.
والواو المتحركة والساكنة المفتوح ما قبلها شفوية» (2).
وقول السمرقندي (من هواء الشفة) يساوي قوله (شفوية) ولكن لعله يريد أن ممر الهواء في الحالة الأولى أوسع منه في الحالة الثانية، وكذلك قوله (من هواء وسط الفم) وقوله (شجرية) على ما أرجح.
وكان علماء التجويد قد وضحوا العلاقة بين حروف المد الثلاثة، وبين الحركات الثلاث، وقالوا: إن الفتحة بعض الألف، والكسرة بعض الياء، والضمة بعض الواو، ولذلك نجدهم يشيرون إلى أن مخارج الحركات هي مخارج حروف المد نفسها، فيقول عبد الوهاب القرطبي وهو يتحدث عن موضوع الإشمام: (الضم من الشفتين) و (الكسر ليس من الشفة، وإنما هو من مخرج الياء، ومخرج الياء من شجر الفم). و (كذلك الفتح من الألف، ولا آلة للألف يدركها النظر، لأن مخرجها من الحلق» (3).
وقال أبو العلاء الهمذاني العطار: «فإن سكنتا وانفتح ما قبلهما ولقيهما ساكن وجب تبيين حركة الياء بالكسر من وسط اللسان، وتبيين حركة الواو بالضم من الشفتين وذلك نحو قوله: {طَرَفَيِ النَّهََارِ} [هود: 114] و {وَلََا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} [البقرة: 237]» (4).
ونقل الدركزلي هذا النص: «الضمة حركة تضمّ لها الشفتان، والفتح حركة ينفتح لها
__________
(1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 106. وانظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 42.
(2) روح المريد 125ظ 126و.
(3) الموضح 187ظ.
(4) التمهيد 149و.(1/311)
الفم، والكسر حركة ينكسر لها المخرج ويهوي إلى أسفل» (1).
وكان علماء العربية قد تحدثوا عن مخارج الحركات فقال الفراء: «فإنما يستثقل الضم والكسر، لأن لمخرجيهما مئونة على اللسان والشفتين، تنضم الرفعة بهما فيثقل الضمة، ويمال أحد الشدقين إلى الكسرة فترى ذلك ثقيلا. والفتحة تخرج من خرق الفم بلا كلفة» (2).
وقال المبرد: «الفتحة من مخرج الألف» (3).
هناك ظاهرة تتضح في كلام علماء التجويد عن مخارج حروف المد، وهي أنهم حين يحددون مخرج الواو والياء يشيرون إلى أن الصوت يهوي حتى ينقطع في الحلق عند مخرج الألف أو الهمزة. يقول الداني عن الياء: «وهو حرف مد مجهور، يخرج من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك، ثم يهوي إلى الحلق، فينقطع آخره عند مخرج الألف» (4). ويقول عن الواو: «وهو حرف مد مجهور، ويخرج من الشفة، ثم يهوي في الفم، فينقطع آخره عند مخرج الألف» (5).
وكان سيبويه قد وصف الألف بأنه الحرف (الهاوي) فقال: «ومنها الهاوي وهو حرف اتسع لهواء الصوت مخرجه أشد من اتساع مخرج الياء والواو، لأنك قد تضم شفتيك في الواو، وترفع في الياء لسانك قبل الحنك، وهي الألف» (6).
وفسر بعض علماء التجويد مصطلح (الهاوي) نحوا من تفسير سيبويه لكن بعضهم أعطى معنى جديدا للهاوي غير اتساع المخرج لهواء الصوت، فقال عبد الوهاب القرطبي: «وأما الجرس فالألف الساكنة، لا يكون إلا كذلك، ويقال لها أيضا الهاوي، لأن الفم ينفتح لها فتخرج بالنفس مستطيلة، وتهوي في الفم إلى ما بين الهمزة والهاء من الحلق» (7). وقال أحمد ابن أبي عمر: «والهاوي هو الألف وحدها، سميت بذلك لأنها تهوي إلى ناحية الحلق كأنها
__________
(1) خلاصة العجالة 189ظ، وانظر أيضا 100ظ.
(2) معاني القرآن 2/ 13.
(3) المقتضب 1/ 155، وانظر: سيبويه: الكتاب 4/ 172هامش (1) حيث ينقل المحقق نصا من شرح السيرافي للكتاب يتضمن تحديدا لمخارج الحركات.
(4) التحديد 29و.
(5) التحديد 41و.
(6) الكتاب 4/ 435.
(7) الموضح 158ظ.(1/312)
تخرج من جب» (1).
واعتبر أبو العلاء الهمذاني العطار مصطلح (الهاوي) يشمل حروف المد الثلاثة، فقال:
«والهاوي الألف والياء والواو إذا سكنت بعد حركتيهما، سميت بذلك لأنها تهوي في حرف الفم إلى ما بين الهمزة والهاء» (2). وسمى بعض علماء التجويد الواو (الحرف المتصل) لأنها تهوي في الفم حتى تتصل بمخرج الألف (3).
وهذه القضية تحتاج إلى توضيح وبيان، وقبل أن نحاول ذلك نشير إلى أن أصل هذه القضية يرجع إلى كلام علماء العربية الأوائل الخليل وسيبويه والمبرد الذي نصوا في كلامهم على هذه الظاهرة. فقال الخليل وهو يتحدث عن الحروف المعتلة: «فالألف اللينة هي أضعف الحروف المعتلة، والهمزة أقواها متنا، ومخرجها من أقصى الحلق من عند العين. قال: والياء والواو والألف منوطات بها، ومدارج أصواتها مختلفة، فمدرجة الألف شاخصة نحو الغار الأعلى. ومدرجة الياء مختفضة نحو الأضراس، ومدرجة الواو مستمرة بين الشفتين، وأصلهن من عند الهمزة» (4). ونقل علم الدين السخاوي أن الخليل قال: «منتهى الصوت بحرف المد واللين عند ابتداء الهمزة» (5). ونقل ابن منظور أن الخليل قال: «المدات الثلاث منوطات بالهمزة» (6). ومعنى (منوطات) أي: معلقات بالهمزة أو موصولات بها.
وقال سيبويه في (باب الوقف في الواو والياء والألف): «وهذه الحروف غير مهموسات، وهي حروف لين ومد، ومخارجها متسعة لهواء الصوت، وليس شيء من الحروف أوسع مخارج منها، ولا أمد للصوت، فإذا وقفت عندها لم تضمها بشفة ولا لسان ولا حلق كضم غيرها، فيهوي الصوت إذا وجد متسعا حتى ينقطع آخره في موضع الهمزة، وإذا تفطنت وجدت مسّ ذلك. وذلك قولك: ظلموا ورموا، وعمي، وحبلى. وزعم الخليل أنهم لذلك قالوا: ظلموا ورموا، فكتبوا بعد الواو ألفا» (7).
__________
(1) الإيضاح 74ظ.
(2) التمهيد 147و.
(3) مكي: الرعاية ص 113، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 158و.
(4) نقلا عن الأزهري: تهذيب اللغة 1/ 51.
(5) جمال القراء 188و.
(6) لسان العرب 9/ 299 (نوط). وقد عثرت على قول الخليل هذا في الجزء السابع من كتاب العين الذي طبع حديثا في الصفحة 456.
(7) الكتاب 4/ 176.(1/313)
وقال المبرد، وهو يشير إلى الظاهرة التي نتحدث عنها بكل وضوح: «والواو تخرج من الشفة، ثم تهوي في الفم حتى تنقطع عند مخرج الألف، والياء تخرج من وسط اللسان، من مخرج الشين والجيم، حتى تنقطع عند مخرج الألف» (1).
ويتضح من النصوص السابقة أن علماء العربية وعلماء التجويد يربطون بين مخارج حروف المد وبين مخرج الهمزة، أو (ما بين الهمزة والهاء) حسب تعبير بعض علماء التجويد.
فما تلك العلاقة وما وجه ذلك الارتباط؟ إننا يمكن أن ندرك الآن بسهولة أنهم يريدون بمخرج الهمزة الوترين الصوتيين، لأن الهمزة تنتج بأن ينطبق الوتران بحيث يحبسان النفس لحظة ثم ينفرجان، فيندفع النفس محدثا صوت الهمزة. وإذا ذهبنا نبحث عن العلاقة بين حروف المد وبين الوترين الصوتيين وجدنا أن هذه الحروف جميعها مجهورة، والجهر صفة صوتية مصدرها الوتران، ومن هنا ربطوا بين مخارج حروف المد ومخرج الهمزة.
وكان علماء التجويد قد أدركوا أن حروف المد أصوات مجهورة، قال الداني عن الألف: «حرف هاو مجهور» (2). وقال عن الياء: «حرف مد مجهور» (3). وقال عن الواو:
«الواو حرف مد مجهور» (4). وإذا أنعمنا النظر في طبيعة هذه الأصوات نجد أن صفة الجهر تشكل العنصر الواضح فيها الذي يمنحها قوة الإسماع، بحيث إن الناطق لو أوقف نزيز الوترين أثناء النطق بها لاستحالت نفسا، ولا يبقى لها في السمع أثر بيّن. ومن هنا قال الخليل: إن حروف المد منوطة بمخرج الهمزة. وقال سيبويه: فيهوي الصوت إذا وجد متسعا حتى ينقطع آخره في موضع الهمزة. وقال علماء التجويد إنها تهوي إلى ما بين الهمزة والهاء من الحلق.
وقد فسر بعض علماء التجويد مذهب سيبويه في جعل مخرج الألف من الحلق مع الهمزة والهاء على اعتبار أن مبدأ صوت الألف من هناك، فقال الجعبري: «ومعنى جعل سيبويه الألف من مخرج الهمزة أن مبتدأه مبدأ الحلق، ثم يمتد ويمر على الكل، ومن ثم نسب إلى كل مخرج» (5). ويقول مكي عن الألف: «وإنما تخرج من هواء الفم، حتى ينقطع النفس،
__________
(1) المقتضب 1/ 221.
(2) التحديد 24و.
(3) التحديد 29و.
(4) التحديد 41و.
(5) انظر: القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 190.(1/314)
والصوت في آخر الحلق، ولذلك نسبت في المخرج إلى الحلق» (1).
إن ما ذهب إليه علماء العربية وعلماء التجويد من انقطاع أصوات حروف المد عند مخرج الهمزة معناه أن مصدر التصويت بهذه الأصوات في ذلك الموضع، حين يتذبذب الوتران الصوتيان فتحصل نغمة الجهر التي تشكل جوهر أصوات المد، ثم تتباين حروف المد بعد ذلك تبعا لوضع اللسان والشفتين أثناء نطق كل صوت من تلك الأصوات (2).
والخلاصة هي أن علماء التجويد استطاعوا أن يوضحوا مخارج الأصوات الذائبة، وهي حروف المد الثلاثة، والحركات الثلاث: الضمة والفتحة والكسرة. وكان تفريقهم بين مخرجي الواو والياء الجامدتين وبين مخرجي الذائبتين شيئا صحيحا أقرته الدراسات الصوتية الحديثة. وكذلك ربطهم بين مخارج الحركات وبين مخارج حروف المد شيء صحيح، لأنه ليس بين الحركات وبين حروف المد من فرق إلا في الكمية، فهي تنتج بطريقة واحدة إلا أن زمان نطق حروف المد هو ضعف زمان نطق الحركات.
واستطاع دارسو الأصوات من المحدثين ضبط مخارج الأصوات الذائبة، وذلك بالنظر إلى وضع اللسان والشفتين في أثناء النطق بها، واستنبطوا مقاييس تقاس عليها أصوات اللغات المختلفة، وتعرف تلك المقاييس بالحركات المعيارية (3)، وأكتفي هنا بالقول إن ما حققه علماء التجويد في مجال تحديد مخارج الأصوات الذائبة يعد إنجازا متميزا، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار قضيتين:
الأولى: هي أن وسائلهم لم تتجاوز الملاحظة الذاتية، في الوقت الذي توفرت فيه لدارسي الأصوات من المحدثين الأجهزة الدقيقة التي يضمها مختبر الصوت.
الثانية: صعوبة الموضوع، لأن الأصوات الذائبة لا ينقطع الصوت في مخارجها على نحو محدد وبشكل قوي يسهل رصده. وقديما قال ابن سينا عن مخارج حروف المد: «أمر هذه الثلاثة عليّ مشكل» (4). وحديثا قال برجستراسر: «للحروف الصائتة مخارج مثل مخارج الحروف الصامتة، غير أن تحديدها وتمييزها مشكل» (5).
__________
(1) الرعاية ص 103.
(2) ينظر بحث: المصوتات عند علماء العربية، مجلة كلية الشريعة، العدد الخامس 1979، ص 442.
(3) انظر التفاصيل: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 209، وكمال محمد بشر: الأصوات ص 179.
(4) أسباب حدوث الحروف ص 43، وانظر ص 19.
(5) التطور النحوي ص 40.(1/315)
رابعا أنواع أخرى من الأصوات الذائبة:
في اللغة العربية ثلاث حركات هي: الفتحة والضمة والكسرة، وتقابلها حروف المد الثلاثة: الألف والواو والياء المديتان. فهذه طويلة وتلك قصيرة. وهي تشكل مجموعة الأصوات الذائبة الأساسية في العربية التي تقابل مجموعة الأصوات الجامدة.
إن آلة النطق لها إمكانيات كثيرة لإنتاج الأصوات الذائبة، وما تحدثنا عنه في هذا المبحث يمثل الأصوات الذائبة الرئيسية في اللغة العربية، وهناك أنواع أخرى من تلك الأصوات أقل شيوعا في العربية إما لأنها خاصة بلغة من لغات العرب، أو لمجيئها في رواية من روايات القراءة، وقد عني علماء التجويد بدراسة هذا النوع من الأصوات، مع علمهم بأنه يتصل في كثير من جوانبه باللهجات العربية والقراءات القرآنية، ونحاول هنا تلخيص ما قالوه عنها.
ذكر علماء التجويد حالة واحدة تغير فيها جرس الكسرة وامتزج بجرس الضمة، وهو ما يطلق عليه إشمام الكسرة الضم. وحالة أخرى تقابلها وهي إشمام الضمة الكسر، وهذا شيء مروي عن بعض القراء في مثل (قيل، وغيض، وسيق) (1). وفي مثل (البيوت، والشيوخ، والعيون)، ولا يضبط نطق هذا الحركات المشمة بغير المشافهة (2). وإشمام المتحرك إلى غير حركته كإمالة الممال إلى غير حركته (3).
وقال الداني: «فأما الإشمام في قوله: (قيل، وسيء) ونظائرهما على مذهب من أشم أوله الضم، دلالة على الأصل، فحقه أن ينحى بكسرة فاء الفعل المنقولة من عينه نحو الضمة، كما ينحى بالفتحة في قوله {مِنَ النََّارِ} و {مِنْ نَهََارٍ} وشبههما إذا أريدت الإمالة المحضة نحو الكسرة، فكذلك ينحى بالكسرة إذا أريد الإشمام نحو الضمة، لأن ذلك كالممال سواء، وهذا الذي لا يجوز غيره عند العلماء من القراء والنحويين» (4).
ولا تسعف مصادر الدراسة الصوتية العربية القديمة ولا الحديثة التي اطلعت عليها في توضيح كيفية نطق الكسرة المشمة ضما، ولا الضمة المشمة كسرا، ولا يزال الأمر بحاجة إلى
__________
(1) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 141. والداني: التيسير ص 72.
(2) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 178.
(3) مكي: الكشف 1/ 123.
(4) التحديد 13ظ.(1/316)
دراسة وتحليل، لا سيما لأمثلة النطق في القراءات التي روي فيها هذا النوع من الحركات، عسى أن تضبط ويدوّن وصفها على نحو دقيق.
وكان علماء التجويد وعلماء القراءات أكثر وضوحا حين تحدثوا عن صور نطقية للفتحة الطويلة (الألف) ووضعوا مقاييس دقيقة لوصفها. وقد أطلقوا على تلك الصور النطقية مصطلح (الإمالة)، والإمالة ظاهرة ترتبط ببعض اللهجات العربية، وبعض القراءات القرآنية، ولم تكن ظاهرة صوتية عامة في لغة جميع العرب ولا شائعة في جميع القراءات القرآنية. ومن ثم فإن علماء التجويد كانت عنايتهم بدراسة (الإمالة) محدودة، لم تتعد توضيح طبيعة الإمالة ودرجاتها دون الخوض في أسبابها وتفصيلاتها، وتركوا ذلك لعلماء العربية وعلماء القراءات الذين ألّف بعضهم كتبا مستقلة خاصة بهذا الموضوع (1). ونحن هنا لن نتجاوز الملاحظات التي كتبها علماء التجويد في كتبهم، وما يعين على توضيحها.
وللداني في كتابه (التحديد في الإتقان والتجويد) قول لخص فيه وجهة نظر علماء التجويد في أنواع الألف وما هو مستخدم منها وما هو متروك. وهو: «وأما المفتوح فحقه أن يؤتى به بين منزلتين، بين التفخيم الشديد الذي يستعمله أهل الحجاز في نحو الصلاة والزكاة، فينحون بالألف نحو الواو من شدة التفخيم، وهذه اللغة لا تستعمل في القرآن لأنه لا إمام لها، وبين الإمالة المحضة التي يستعملها القراء، وهي التي دون الكسر الصحيح.
وأما الممال فعلى ضربين: مشبع وغير مشبع.
فالمشبع حقه أن يؤتى به بين الكسر الشديد الذي يوجب القلب لشدته، وليس له إمام، وبين الفتح الوسط الذي ذكرناه ووصفنا حقيقته.
وغير المشبع حقه أن يؤتى به بين الفتح الوسط وبين الإمالة التي دون الكسر، ويسمّي القراء هذا الضرب بين اللفظين، وهما المذكوران» (2).
وذكر الداني هذه التقسيمات في كتابه (الموضح لمذاهب القراء واختلافهم في الفتح
__________
(1) من ذلك كتاب (الاستكمال في التفخيم والإمالة) لعبد المنعم بن غلبون (ت 389هـ) وكتاب (الموضح لمذاهب القراء واختلافهم في الفتح والإمالة) لأبي عمرو الداني (ت 444هـ) وكتاب (قرة العين في الفتح والإمالة وبين اللفظين) لابن القاصح (ت 801هـ). ولا تزال هذه الكتب الثلاثة مخطوطة فيما نعلم. وكتب الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي سنة 1952رسالته للماجستير عن (الإمالة في القراءات واللهجات العربية)، وهي مطبوعة.
(2) التحديد 15ظ 16و.(1/317)
والإمالة) وقسم الفتح إلى شديد ومتوسط، وقسم الإمالة إلى متوسطة وشديدة، وهذا لا يختلف عما ذكره في النص السابق. ولكن تعريفه للفتح الشديد هنا فيه إضافة جيدة، وذلك حيث قال: «فالفتح الشديد هو نهاية فتح القارئ (1) لفيه بلفظ الحرف الذي يأتي بعده ألف» (2).
وتحدث ابن الطحان في كتابه (مرشد القارئ) عن مصطلحي الفتح والإمالة وبيّن خلال ذلك أنواع الألف، وجعل الفتح نوعا واحدا، وذلك حيث قال: «الفتح عبارة عن النطق بالألف مركبة على فتحة خالصة غير ممالة إلى مذاق الكسر، وتحديده أن يؤتى به على مقدار انفتاح الفم مثاله (كان) يركب صوت الألف على فتحة الكاف، وهي فتحة خالصة لا حظّ للكسر فيها، معترضة على مخرج الكاف اعتراضا، وتحقيقه أن ينفتح له الفم في النطق بكان ونظيره، كانفتاح الفم في قال ونظيره.
والفغر عبارة قديمة بمعنى الفتح، يقع في كتب المتقدمين من علمائنا رضي الله عنهم (3).
والإمالة: عبارة عن ضد الفتح، وهي نوعان: إمالة صغرى، وإمالة كبرى.
فالإمالة الصغرى حدّها أن ينطق بالألف مركبة على فتحة تصرف إلى الكسر قليلا، والعبارة المشهورة في هذا بين اللفظين، ومعنى بين اللفظين بين الفتح الذي حددنا وبين الإمالة الكبرى.
والإمالة الكبرى حدها أن ينطق بالألف مركبة على فتحة تصرف إلى الكسرة كثيرا، ونهاية ذلك أن لا يبالغ فيه حتى تنقلب الألف ياء. والبطح والإضجاع عبارتان قديمتان بمعنى الإمالة الكبرى تقعان في كتب المتقدمين (4) من علمائنا رضي الله عنهم» (5).
ويمكن من خلال حديث الداني وابن الطحان عن أنواع الإمالة أن نستخلص أنواع الألف التي تندرج بين حالتين لأعضاء آلة النطق: الحالة الأولى (نهاية فتح القارئ لفيه) حسب تعبير
__________
(1) قال علم الدين السخاوي: (جمال القراء 180و): (لو أبدل لفظ القارئ بالمتكلم لكان أسدّ).
(2) الموضح 24و. وانظر: عبد الفتاح شلبي: الإمالة في القراءات واللهجات العربية ص 22.
(3) روى العطار (التمهيد 70و) عن جبلة بن سحيم أنه قال: «قرأت على عبد الله بن عمر: للفقراء والمساكين، قال فأخذها عليّ بالمد، ثم قال: «قرأتها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قرأتها، فأخذها عليّ كما أخذتها عليك، وفغرفاه».
(4) انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 139و 688.
(5) مرشد القارئ 134ظ 135و.(1/318)
الداني، والحالة الثانية (ونهاية ذلك أن لا يبالغ فيه حتى تنقلب الألف ياء) حسب تعبير ابن الطحان، أي بين فتح الفم أقصى ما يمكن، وبين تضييقه إلى أدنى ما يمكن بحيث لا يصل إلى الحد الذي تصير فيه الألف ياء. ويمكن أن نرتب الأصوات التي تندرج بين تلك الحالتين فيما يأتي:
1 - ألف التفخيم، وهي التي ذكرها سيبويه في الحروف الفرعية المستحسنة، وقال عنها في الكتاب: «وألف التفخيم، يعني بلغة أهل الحجاز في قولهم: الصلاة والزكاة والحياة» (1).
وهي التي أطلق عليها الداني مصطلح الفتح الشديد، وقال عنها: «والقراء يعدلون عنه ولا يستعملونه، وأكثر ما يوجد في ألفاظ أهل خراسان ومن قرب منهم، لأن طباعهم في العجمة جرت عليه، واستعملوه كذلك في اللغة العربية، وهو في القراءة مكروه معيب» (2).
وهاهنا تناقض بين قول سيبويه في هذه الألف وقول الداني هنا وقبل قليل من أن هذه اللغة لا تستعمل في القرآن لأنه لا إمام لها. ويمكن أن يحمل ذلك التناقض على اختلاف الصوت الذي يتحدث عنه كل من الداني وسيبويه. بدليل قول مكي عن الألف المفخمة:
«وهي ألف يخالط لفظها تفخيم، يقربها من لفظ الواو، كما كانت الألف الممالة ألفا يخالط لفظها ترقيق يقربها من الياء، فهي نقيضة الألف الممالة. وبذلك قرأ ورش عن نافع في (الصلاة ومصلى والطلاق وبظلّام) وشبهه، وذلك فاش في لغة أهل الحجاز» (3). فقول مكي يؤيد ما قاله سيبويه عن ألف التفخيم ويرى أنها الألف التي قرأ بها ورش في الأمثلة السابقة بينما يظل كلام الداني يشير إلى ألف شديدة الميل نحو الواو. وقد قال ابن الجزري عن الفتح الشديد الذي هو ألف التفخيم: «ولا يجوز في القرآن، بل هو معدوم في لغة العرب» (4). ولم يتحدث ابن الطحان عن ألف التفخيم الخارجة عن استعمال كلام العرب واكتفى بذكر الألف المعتادة المركبة على فتحة خالصة غير ممالة إلى مذاق الكسر كما يقول، ومثّل لها بألف (كان) وألف (قال).
2 - الألف العربية التي سماها الداني بالفتح المتوسط الذي يقع بين الفتح الشديد وبين الإمالة المتوسطة. وهي التي ذكرها ابن الطحان. وقد سماها عبد الوهاب القرطبي بالألف
__________
(1) الكتاب 4/ 432.
(2) الموضح 24و.
(3) الرعاية ص 86.
(4) النشر 2/ 30.(1/319)
المفتوحة الأصلية (1). وسماها ابن خروف ألف الطبيعة المعتادة (2). وهي التي تغلب على النطق العربي الفصيح اليوم.
3 - ألف الإمالة المتوسطة، وهي التي تقع بين الفتح المتوسط وبين الإمالة الشديدة التي تقرب فيها الألف من الياء المدية الخالصة.
4 - ألف الإمالة الشديدة أو الكبرى وهي التي تقرب فيها الألف من لفظ الياء المدية الخالصة.
وقد قال الجعبري عن الإمالة: «وهي تنقسم إلى إمالة كبرى ويقال لها إمالة محضة، وهي الإمالة التي لو زيدت لصارت الألف ياء محضة، والفتحة كسرة محضة. وإلى إمالة صغرى، ويقال لها بين بين، أي بين الفتح الخالص وبين الإمالة الكبرى، وهي الإمالة التي لو نقصت لصارت الألف ألفا محضة، والفتحة فتحة محضة» (3).
وما ذكره علماء التجويد من أنواع الألف شيء يؤيده الدرس الصوتي الحديث، فالناطق إذا فتح فاه إلى أقصى حد وأرسب لسانه في الحنك الأسفل فإن الصوت الذي ينتج عن هذه الحالة هو ما سماه علماء التجويد بألف التفخيم، وكلما ضيق الناطق درجة الانفتاح تغير الصوت حتى إذا بلغ أقصى درجات التضييق التي ينتقل الصوت بعدها من نوع الأصوات الذائبة إلى الأصوات الجامدة كان الصوت الناتج هو ياء المد، وبين ألف التفخيم وياء المد أنواع من الأصوات هي التي سماها علماء التجويد بالألف الخالصة المعتادة وبالإمالة المتوسطة وبالإمالة الشديدة، وسواء اعتبرنا تلك الأصوات فروعا للألف أو عددناها أصواتا مستقلة فإنها تندرج في المقياس الذي اهتدى إليه علماء الأصوات المحدثون وسموه بالحركات المعيارية (4).
وكان علماء التجويد قد أدركوا أن الإمالة تقريب بين الأصوات مثل الإدغام (5)، قال الداني: «وهي تخفيف كالإدغام سواء» (6). وكذلك أدركوا أنها لغة لبعض العرب ورواية
__________
(1) الموضح 154ظ.
(2) انظر: السيوطي: همع الهوامع 6/ 295.
(3) انظر: المرعشي: جهد المقل 41و.
(4) انظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 179.
(5) ابن الباذش: الاقناع 1/ 268.
(6) التحديد 39و.(1/320)
لبعض القراء دون سائرهم. فالفتح لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس (1). ومن ثم قال مكي: «اعلم أن أصل الكلام كله الفتح، والإمالة تدخل في بعضه، في بعض اللغات لعلة، والدليل على ذلك أن جميع الكلام الفتح فيه سائر جائز، وليست الإمالة بداخلة إلا في بعضه في بعض اللغات لعلة، فالأصل ما عمّ، وهو الفتح» (2).
والإمالة من هذا الجانب تختلف عن الإدغام، فالإدغام ظاهرة صوتية أكثر عموما، وهي ألصق بالتركيب منها باللهجات والروايات.
ويعرّف علماء التجويد الإمالة بقولهم: الإمالة أن ينحى بالفتحة نحو الكسرة وبالألف التي بعدها نحو الياء (3). وذلك بناء على مذهبهم في وجود حركات تسبق حروف المد مجانسة لها، فالألف قبلها فتحة والياء قبلها كسرة والواو قبلها ضمة. ومن ثم فإن اعتراض بعض المحدثين على ذكر الفتحة قبل الألف في تعريف الإمالة يندرج في أصل اعتراضهم على وجود حركات قبل حروف المد (4). وهذا أمر سنتحدث عنه في الفقرة الآتية.
خامسا السكون الحي والسكون الميت:
توصف حروف المد الثلاثة: الألف والواو والياء، بأنها أصوات ساكنة، وأنها مسبوقة بحركات من جنسها، فالألف قبلها فتحة، والواو قبلها ضمة، والياء قبلها كسرة، وهي تجتمع في هذه الكلمة (نوحيها). وهذا هو موقف علماء العربية وعلماء التجويد من هذه الأصوات على السواء (5).
والسكون عبارة عن خلو العضو من الحركات عند النطق بالحروف، أو سلب الحركة وعدمها من النطق (6). ولكن نجد لدى بعض علماء التجويد اتجاها متميزا في معالجة السكون، وذلك بتقسيمه إلى حي وميت. وكان ابن الطحان (ت حوالي 560هـ) أقدم من
__________
(1) الداني: الموضح 23ظ، وعلم الدين السخاوي: جمال القراء 179ظ.
(2) الكشف 1/ 168.
(3) انظر: مكي: الرعاية ص 105، والقرطبي: الموضح 154و. وابن الباذش: الإقناع 1/ 268.
(4) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 39.
(5) سيبويه: الكتاب 2/ 220و 221و 4/ 442و 447. والمبرد: 1/ 211210. والأزهري: تهذيب اللغة 1/ 51، وابن جني سر صناعة الإعراب 1/ 31، ومكي: الرعاية ص 101.
(6) انظر: ابن يعيش: شرح المفصل 9/ 67، والسيوطي: الأشباه والنظائر 1/ 176، والدركزلي:
خلاصة العجالة 189ظ.(1/321)
تحدث عن هذا الاتجاه، مما اطلعت عليه من مصادر علم التجويد. ولم يتابعه في ذلك إلا القسطلاني (ت 923هـ) الذي تحدث عن الموضوع حديثا موجزا.
قال ابن الطحان: «وأما حد السكون فالسكون نوعان حي وميت. فالحي هو الذي يتهيأ له العضو ويأخذه فيسمع قرعه به، مثل: حكم وغير، فأنت تجد الكاف والياء ظاهرتي الجسم والقرع، لإعمال العضو فيهما كما يعمل في المحرك مثل حكم و (ميل) (1). والمتحرك حي، فكذلك السكون الذي يوجد فيه أخذ العضو إياه حي أيضا.
والسكون الميت لا يكون إلا في حروف المد واللين الثلاثة، في الألف الثابتة السكون، وفي الواو بعد الضم، وفي الياء بعد الكسرة. فأما الألف فشهرتها بعدم حكمها من أن ينقطع لها في الفم جزء تتحيز إليه ظاهرة. وأما الواو والياء فإنهما ما وقعتا بعد حركتهما فإن سكونهما ميّت، وذلك أنه غير جار على عضو ولا حاصل في حيّز، إنما يصير الفم لصوتيهما كالأنبوب.
وهما إذا انفتح ما قبلهما كسائر الحروف، وسكونهما حي (لسكونهما) (2).
إلا أن السكون الحي يتفاضل بمقتضى طبع الحرف من القوة وتمكنه منها كما أنه في الوقف أندى منه في الوصل، كما أنه في الوقف (أتم) (3) حياة منه في الوصل.
فحد السكون الحي هو أن تكمل ضديته لنقيضه، وهو الحركة، فواجب على القارئ أن يعتمد عليه اعتمادا يظهر صيغته، ويبرز حليته. فإن وصله بغيره بيّنه بما يحقق له من صفاته القائمة بذاته من غير قطع مسرف ولا فصل متعسف سوى ما تحكم به طبيعته من احتباس العضو لإظهار قرعه. فإن وقف عليه بيّنه أيضا بما يجب له من صفاته القائمة بذاته المعينة على حياته، الشاهدة للقارئ بالإحسان والإجادة والإتقان في تفريقه بين المهموس والمجهور، وبين المهموس الرخو وبين المهموس الشديد، وبين المجهور الرخو وبين المجهور الشديد وبين الشديد (الأصلي) (4) وبين الشديد الفرعي، وبين صوتي النون مشددة ومخففة مع التعيين وإظهار للطنين وفي الياء والواو الحيتين توقيف من الأداء، كذلك السكون الميت حده مقيد بالأداء من شرع القراء» (5).
__________
(1) يمكن أن تقرأ (سيل).
(2) كذا في الأصل.
(3) غير واضحة في الأصل. ويمكن أن تقرأ (أنمى).
(4) غير واضحة في الأصل، واخترت قراءة (الأصلي) على أساس قوله (الفرعي) بعده.
(5) مرشد القارئ 136و 136ظ.(1/322)
وقد نقلت هذا النص على طوله، مع ما فيه من غموض في إمكانية قراءة بعض الكلمات، لأنه نص عزيز يعرض فكرة جديدة متميزة، إذ يتضح من هذا النص أن وجه التقابل بين السكون الحي والسكون الميت ليس قائما على أساس قابلية السكون الحي للحركة وعدم قابلية السكون الميت لها، كما هو المتبادر إلى الذهن، وإنما هو قائم على أساس طبيعة مخرج الصوت في أثناء مرور النفس به. فجميع الأصوات الجامدة سكونها حي، لعمل أعضاء آلة النطق في مخارجها، إما بسد مجرى النفس بالكلية ثم إطلاقه، وذلك في الأصوات الشديدة، وإما بتضييق مجرى النفس عند مخرج الصوت، وذلك في الأصوات الرخوة. أما حروف المد فسكونها ميّت لأن أعضاء آلة النطق لا تعترض مجرى النفس عند إنتاجها بسد ولا تضييق، وإنما تكون (كالأنبوب)، كما يقول ابن الطحان.
ولخص القسطلاني فكرة تقسيم السكون إلى حي وميّت، من غير أن يخرج على أصل الفكرة، ومن غير أن يضيف إليها شيئا جديدا، وذلك حيث قال: «وأما السكون فنوعان: حي وميت. فالثاني الألف وأختاها، لأنهن لا حيّز ولا مقطع لهن محقق، فإن انفتح ما قبل الواو والياء فسكونهما حي، لأخذ اللسان الياء، والشفتين الواو، كسائر الحروف، فكما تجد الجيم التي هي أخت الياء في مخرجها قد أخذها اللسان، في قولك: رميت (1)، كذلك تجد الواو قد أخذتها الشفتان في قولك: عفوت» (2).
وإنه لأمر عجب ألّا نجد نصوصا أخرى تتعلق بفكرة تقسيم السكون إلى حي وميت، وإني أتوقع ألا يكون ابن الطحان هو أول من شرح هذه الفكرة، كما أن القسطلاني ليس الوحيد الذي تحدث عنها بعد ابن الطحان، وأعجب من ذلك أن سيبويه تحدث عن قضية أعتقد أنها هي أصل تلك الفكرة لدى علماء التجويد، ولكن أحدا لم يشر إليها ولا تحدث عنها بعد سيبويه من القدماء ولا المحدثين، بقدر ما اطلعت عليه من المصادر.
يذهب سيبويه إلى تقسيم الألف والواو والياء إلى حية وميتة. وهو يريد بالحية (المتحركة)، وبالميتة (الساكنة)، ومن ثم كانت الألف ميتة لأنها لا يفارقها السكون، قال:
«وإنما جسروا على حذف الألف لأنها ميتة لا يدخلها جر ولا رفع ولا نصب» (3). وقال سيبويه
__________
(1) لا تخلو هذه العبارة من الاضطراب: ولعل تصحيفا أخل بها، أو سقط منها شيء، ومع ذلك فالمعنى واضح، لا يخفى أنه يريد: أخذ اللسان الياء في قولك: رميت.
(2) لطائف الإشارات 1/ 187.
(3) الكتاب 3/ 356و 423.(1/323)
عن الواو في جدول: «وذلك لأن هذه الواو حية» (1)، وقال عن حروف المد: «وإنما كانت هذه الأحرف الثلاثة الزوائد: الياء والواو والألف وما بعدها بمنزلة زيادة واحدة لسكونها وضعفها، فجعلت وما بعدها بمنزلة حرف واحد، إذ كانت ميتة خفية» (2).
وقال سيبويه أيضا: «وسألته (3) عن واو عجوز وألف رسالة وياء صحيفة، لأي شيء همزن في الجمع، ولم يكنّ بمنزلة معاون ومعايش إذا قلت: صحائف ورسائل وعجائز؟
فقال: لأني إذا جمعت معاون ونحوها، فإنما أجمع ما أصله الحركة فهو بمنزلة ما حركت كجدول. وهذه الحروف لما لم يكن أصلها التحريك وكانت ميتة لا تدخلها الحركة على حال، وقد وقعت بعد ألف، لم تكن أقوى حالا مما أصله متحرك فهذه الأحرف الميتة التي ليس أصلها الحركة أجدر أن تغيّر إذا همزت ما أصله الحركة» (4).
ويتضح من هذه النصوص أن سيبويه يستخدم مصطلح (الحروف الحية) للدلالة على الواو والياء إذا تحركتا، ومصطلح (الحروف الميتة) على الألف والياء والواو الساكنة. ويفهم من النص الأخير أن الخليل بن أحمد استخدم مصطلح (الحروف الميتة)، ولا أستبعد أن يكون سيبويه أخذ الفكرة عن الخليل.
ويبدو لي أن فكرة ابن الطحان في تقسيم السكون إلى حيّ وميت تعتمد على فكرة سيبويه في تقسيم الحروف الثلاثة إلى حية وميتة، وإن كان هناك اختلاف يسير بينهما يتمثل في أن سيبويه يستخدم مصطلح (الحية) للدلالة على الواو والياء إذا تحركتا، بينما يستخدم ابن الطحان مصطلح (الحي) للدلالة على سكون الواو والياء إذا انفتح ما قبلهما وكذلك على سائر الحروف الجامدة الأخرى إذا كانت ساكنة. ولا يزال هذا الموضوع بحاجة إلى نصوص أخرى، يمكن من خلالها تتبع تطور فكرة الحي والميت في الحروف من لدن سيبويه إلى ابن الطحان.
وكان بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين قد أخذوا على علماء العربية قولهم إن حروف المد ساكنة وأنها مسبوقة بحركات تجانسها، على أساس أن حروف المد هي من
__________
(1) الكتاب 3/ 469، وانظر 3/ 355.
(2) الكتاب 2/ 262.
(3) يريد أستاذه الخليل بن أحمد. قال السيرافي (أخبار النحويين البصريين ص 40): «وكل ما قاله سيبويه:
وسألته، أو قال من غير أن يذكر قائله فهو الخليل».
(4) الكتاب 4/ 356.(1/324)
الناحية الصوتية حركات طويلة فلا يمكن أن توصف بأنها ساكنة ولا أن تكون مسبوقة بحركات من جنسها. وفسروا ذلك بقولهم: إن علماء العربية انخدعوا بطريقة الكتابة العربية التي تضع حركة قبل حروف المد وسكونا فوقها لاعتبارات كتابية لا صوتية محضة (1).
وإذا نظرنا إلى هذه القضية من وجهة نظر الكتابة وجدنا ما يسوغ رسم علامات الحركات قبل حروف المد مع وضع علامة السكون عليها في مثل (باع نبيع نقول) وذلك لأن رموز الألف والياء والواو تمثل في الكتابة ستة أصوات، فرمز الألف يمثل الهمزة في مثل (أخذ) وحرف المد في مثل (قال)، ورمز الواو يمثل حرف المد في مثل (نقول) والواو الجامدة في مثل (حوض)، ورمز الياء يمثل حرف المد في مثل (نبيع) والياء الجامدة في مثل (بيت)، فرسم تلك العلامات أعني الحركات قبل حروف المد والسكون فوقها بمثابة علامات تمييزية لتحديد دلالة تلك الرموز.
ومن علماء التجويد من فرق بين سكون حروف المد وبين سكون غيرها من الحروف، وسمّى سكون حروف المد سكونا ميتا، وسمّى سكون غيرها من الحروف سكونا حيا. ويفهم من كلام ابن الطحان السابق أنه يقصد بوصف حروف المد بأنها ساكنة أكثر من كون السكون سلب الحركة، فهو يريد بالسكون الميت اتساع مخارجها للصوت حتى يصير الفم لأصواتها كالأنبوب.
ويرى بعض المحدثين من دارسي الأصوات العربية أن ذكر الحركات فوق الحرف السابق لحروف المد يمكن أن يجد مسوغا في أن هذه الحركات يمثلن أوائل حروف المد التالية لها ويؤذنّ بتمامها (2).
ولا يزال موضوع وجود حركات قبل حروف المد بحاجة إلى تحقق، وإن من التسرع القول بأن علماء العربية أخطئوا حين قالوا إن حروف المد مسبوقة بحركات تجانسها، فهناك ظواهر لغوية وصوتية تؤيد وجهة نظر علماء العربية، فالفعل (أدعو) مثلا ينتهي بحرف مد (ضمة طويلة)، وفي نظر الدارسين المحدثين أننا لا نحتاج إلى أي علامة كتابية توضع على العين أو الواو، بينما يجب في مذهب علماء العربية أن توضع ضمة على العين وسكون على
__________
(1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 39، وكمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة 1/ 201 202. ورمضان عبد التواب: فصول في فقه العربية ص 354.
(2) هنري فليش: التفكير الصوتي عند العرب، مجلة مجمع اللغة العربية القاهرة 1968، ج 23، ص 79.(1/325)
الواو (أدعو)، وإذا جاء هذا الفعل في مثل هذا السياق (لن أدعو) فسوف نحتاج حينئذ إلى أن نضع ضمة فوق العين وفتحة فوق الواو، ولا نستطيع أن نستغني عن الضمة قبل الواو حينئذ والفتحة بعد الواو. وكذلك الحال في الفعل (نرمي لن نرمي). فلزوم الحركة قبل رمز الواو والياء في الحالة الثانية للفعل يسوغ القول بوجود حركة قبل حرف المد تمثل الجزء الأول منه، بينما يمثل رمز الواو أو الياء الجزء الثاني من حرف المد باعتباره حركة طويلة مؤلفة من حركتين.
* * * وإذا أردنا أن نلخص جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات الذائبة (حروف المد والحركات) فإنه يمكننا القول:
1 - إنهم ميّزوا بكل وضوح بين الأصوات الجامدة والأصوات الذائبة، وأدركوا ما تتميز به الأصوات الذائبة من اتساع مخارجها قياسا بالأصوات الأخرى.
2 - حددوا الأصوات الذائبة في العربية، وهي حروف المد الثلاثة: الألف والواو والياء الساكنتان المسبوقتان بحركة من جنسهما، وأدركوا العلاقة بين حروف المد والحركات وقال الجمهور منهم إن الفتحة من الألف، والضمة من الواو، والكسرة من الياء وتوصل بعضهم إلى تحديد نسبة الحركات من حروف المد، وقالوا: إن الألف مركب من فتحتين، والواو مركب من ضمتين، والياء مركب من كسرتين.
3 - وعرفوا أنواعا أخرى من الحركات الفرعية وحروف المد هي من مظاهر النطق اللهجي أو أنها ترتبط ببعض القراءات.
4 - ميز علماء التجويد بين الواو والياء الجامدتين وبينهما حين يكونان صوتين ذائبين (حرفي مد).
5 - حدد علماء التجويد مخارج الأصوات الذائبة (حروف المد والحركات)، وقد ميزوا بين مخرجي الواو والياء الجامدتين وبين مخارج الأصوات الذائبة الأخرى، وربطوا بين مخارج حروف المد وبين مخارج الحركات، وتوصلوا في ذلك إلى نتائج تستحق تقدير الدارسين.
6 - إن مقولة علماء العربية وعلماء التجويد (حروف المد أصوات ساكنة، ومسبوقة بحركات من جنسها) لا تزال بحاجة إلى بحث، ولا يمكن الجزم بتخطئتهم فيها، وهي تجد الآن ما يسوغ القول بها من عدة نواح صرفية وصوتية وكتابية.
* * *
الفصل الثالث دراسة الأصوات العربية عند علماء التجويد متصلة (على مستوى التركيب)(1/326)
* * *
الفصل الثالث دراسة الأصوات العربية عند علماء التجويد متصلة (على مستوى التركيب)
إن النظام الصوتي للغة العربية كما وصفناه في الفصل السابق مبني على أساس نظري تجريدي لا يلحظ الأصوات في جميع سياقاتها النطقية، فنحن حين نصف صوتا معينا بأنه مجهور فإن ذلك مبني على ملاحظة أحوال ذلك الصوت الغالبة، وإلا فمن المحتمل أن يأتي في بعض المواقع في السلسلة الكلامية المنطوقة مهموسا، وكذلك حين نصف صوتا بأنه مرقق فإن ذلك لا يعني أنه لا يلحقه التفخيم مطلقا، ومثل ذلك جملة الصفات والخصائص الصوتية التي وصفنا بها الأصوات العربية، فإنها معرضة في الكلام المنطوق للتغير بدرجات متفاوتة بتأثير من الأصوات المجاورة.
ويقرر علماء الأصوات المحدثون أن الأصوات اللغوية يتأثر بعضها ببعض في المتصل من الكلام، فحين ينطق المرء نطقا طبيعيا لا تكلف فيه نلحظ أن أصوات الكلمة الواحدة قد يؤثر بعضها في بعض، كما نلحظ أن اتصال الكلمات في النطق المتواصل قد يخضع أيضا لهذا التأثر. على أن نسبة التأثر تختلف من صوت إلى آخر. فمن الأصوات ما هو سريع التأثر يندمج في غيره أكثر مما قد يطرأ على ما سواه من الأصوات. ومجاورة الأصوات بعضها لبعض، في الكلام المتصل، هي السر فيما قد يصيب بعض الأصوات من تأثر (1).
ويلاحظ أن علماء الأصوات المحدثين الذي درسوا أصوات اللغة العربية قد وجهوا معظم عنايتهم إلى دراسة الخصائص النطقية للأصوات العربية، أي ما يتعلق ببيان مخارجها وصفاتها التي تمتاز بها حينما ينظر إليها مجردة عن الكلام المنطوق. أما الظواهر الصوتية
__________
(1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 179.(1/327)
الناشئة عن التركيب فلم يعتن بها إلا عدد قليل من الدارسين، من غير أن يستغرقوا بحث كل ما يتصل بها (1).
وكان هذا الموضوع قد حظي بعناية علماء العربية المتقدمين، وعلماء القراءات، وعلماء التجويد. والذي يعنينا هنا بدرجة أكبر هو معرفة موقف علماء التجويد من إدراك الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب، وكيف وصفوا تلك الظواهر وصنفوها، وبيان مدى إدراكهم لقضية التأثر والتأثير بين الأصوات حين تكون في كلام متصل والعوامل التي تؤدي إلى ذلك.
ومن ثم فإن هذا الفصل سوف يتضمن المباحث الآتية:
المبحث الأول: فكرة التأثر والتأثير بين الأصوات المتجاورة عند علماء التجويد.
المبحث الثاني: الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الجامدة.
المبحث الثالث: الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الذائبة.
* * * __________
(1) مثل إبراهيم أنيس في (الأصوات اللغوية) ص 207179وأحمد مختار في (دراسة الصوت اللغوي) ص 338324. ومن المستشرقين برجستراسر في (التطور النحوي) ص 18وما بعدها. وجان كانتينو في (دروس في علم أصوات العربية). حيث بحث تطور الأصوات العربية في مواضع متعددة من كتابه.(1/328)
المبحث الأول فكرة التأثر والتأثير بين الأصوات في الكلام المتصل
كان واضحا لدى علماء التجويد أن الأصوات إذا تجاورت في الكلمة المفردة أو في الكلام المتصل تعرضت صفاتها للتغير الجزئي أو الكلي إذا نطق بها متصلة، وذلك بحسب طبيعة الصوت وما يجاوره. وقد قال عبد الدائم الأزهري (ت 870هـ) كلمة تعبر بوضوح وعلى نحو شامل عن ذلك، وهي قوله: (المجاورة لها تأثير). وذلك حيث قال: «احذر من تفخيم باء (برق) لمجاورتها الراء المفخمة، فإن اللسان يسبق إلى تفخيمها، وكذا (باطل) لمجاورتها الألف المدية، فيسرع اللسان إلى تفخيمها وتفخيم الألف المدية والطاء، بسبب المجاورة، إذ المجاورة لها تأثير» (1).
وقال الداني (ت 444هـ) في ذلك أيضا عبارة جامعة رددها علماء التجويد من بعده، وهي قوله: «والحروف المهموسة إذا لقيت الحروف المجهورة، والحروف المجهورة إذا لقيت الحروف المهموسة فيلزم تعمّل تلخيصها وبيانها، لئلا ينقلب المهموس إلى لفظ المجهور، والمجهور إلى لفظ المهموس، فتختل بذلك ألفاظ التلاوة، وتتغير معانيها» (2).
وقد نقل قول الداني هذا عبد الوهاب القرطبي في كتابه (الموضح في التجويد) (3) وكذلك المرادي في كتابه (المفيد في شرح عمدة المجيد) (4).
ويذهب الداني إلى أنّ تأثر الأصوات بالمجاورة لا يقف عند حد الأصوات الجامدة وإنما يتجاوزه إلى الذوائب، وذلك حيث قال: «والترقيق في الحرف دون الحركة إذا كان صيغته، والإمالة في الحركة دون الحرف إذا كانت لعلة أوجبتها، وهي تخفيف كالإدغام
__________
(1) الطرازات المعلمة 27و.
(2) التحديد 131طبعة دار عمار / الأردن.
(3) الموضح 182ظ.
(4) المفيد 115ظ.(1/329)
سواء» (1).
وكانت هذه القضية واضحة لدى عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ)، حتى إنه رتب كتابه (الموضح في التجويد) على أساس منها، فخصص الباب الأول للحديث عن الحروف العربية في حالة الإفراد، وخصص الباب الثاني ما يلحق الحروف العربية من أحكام عند النطق بها في التركيب، وقال في أول هذا الباب: «الباب الثاني فيما يعرض في هذه الحروف من الأحكام عند ائتلافها وتركبها ألفاظا، اعلم أن التأليف منه متعذر ممتنع، ومنه ممكن ولكنه منبوذ مستكره، ومنه ممكن وهو مستحسن مستعمل وهذا الضرب يعرض فيه عند الائتلاف والتجاور من الأحكام زيادة على وضع بسيط الحروف: كالمد، والتشديد، والتليين، والإظهار، والإخفاء، والقلب، وما يدخل من شوائب الحروف بعضها على بعض بسبب المناسبة بينها والمباينة والمقاربة والمباعدة. ونحن نبين ذلك بما يحضرنا من الاستقصاء، إن شاء الله» (2).
والظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب التي ذكرها عبد الوهاب القرطبي منها ما يختص بالأصوات الذائبة، وهي: المد والتليين، ومنها ما يختص بالأصوات الجامدة، مثل التشديد والإظهار والإخفاء والقلب. وهذا اتجاه أكده القرطبي في مكان آخر حيث قال عن مذهب ورش في تغليظ اللام إذا تحركت بالفتح خاصة، وكان قبلها حرف إطباق: «وأما مذهب ورش فوجهه طلب المناسبة بين الحروف، كما في إمالة الألف وترقيق الراء والقلب والتشديد» (3).
وكان أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ) قد نقل عن أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي (ت 454هـ) أنه قال: «ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف ما يحدث بعض الحروف في بعض من النقصان، لاستطالة حرف على حرف» (4).
وقال ابن وثيق (ت 654هـ) «فإذا وقع في تلاوتك مطبق بين منفتحين، أو منفتح بين مطبقين، أو مستعل بين منسفلين، أو منسفل بين مستعليين، أو شديد بين رخوين، أو رخو بين شديدين، أو مهموس بين مجهورين، أو مجهور بين مهموسين، أو حرف فيه غنة بين حرفين ليس فيهما غنة مشددين أو مخففين ساكنين، أو حرف ليس فيه غنة بين حرفين بغنتين
__________
(1) التحديد 39و.
(2) الموضح 165ظ 166و.
(3) الموضح 164ظ.
(4) الإيضاح 68ظ.(1/330)
فيجب عليك أن تكون عارفا بتخليص كل حرف منها، وإعطاء كل حرف حقه، وبمعرفة هذه الأوصاف وإعطاء كل حرف حقه من صفاته أجمع يكون الإنسان قارئا ماهرا» (1).
وكان الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ) قد جعل معرفة الأحكام الناشئة عن التركيب أحد أركان علم التجويد الأربعة في قوله الذي نقلناه من قبل وهو: «إن تجويد القراءة يتوقف على أربعة أمور:
أحدها: معرفة مخارج الحروف.
والثاني: معرفة صفاتها.
والثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
والرابع: رياضة اللسان بذلك وكثرة التكرار» (2).
وهذه النصوص تبين أن علماء التجويد كانوا مدركين أن الدرس الصوتي لا يتوقف عند معرفة مخارج الحروف وصفاتها، بل لا بد من دراسة ما يحدثه التركيب من آثار على صفات الأصوات، وقد جعل ابن الجزري معرفة أحكام الحروف الناشئة عن التركيب شرطا لإتقان التجويد فقال: «فإذا أحكم القارئ النطق بكل حرف على حدته موفّ حقه فليعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب، لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد، وذلك ظاهر، فكم ممن يحسن الحروف مفردة ولا يحسنها مركبة بحسب ما يجاورها من مجانس ومقارب، وقوي وضعيف، ومفخم ومرقق، فيجذب القوي الضعيف، ويغلب المفخم المرقق، فيصعب على اللسان النطق بذلك على حقه إلا بالرياضة الشديدة حالة التركيب، فمن أحكم صحة اللفظ حالة التركيب حصّل حقيقة التجويد بالإتقان والتدريب» (3).
ولم يقف علماء التجويد عند حد الإشارة إلى الأحكام الصوتية الناشئة عن التركيب أو الاكتفاء بتوضيحها، وإنما حاولوا تفسير تلك الأحكام تفسيرا عاما يمكن أن نرجع إليه جميع الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب، وتكاد تفسيرات علماء التجويد للظواهر الصوتية التركيبية تنحصر في إرادة الناطق السهولة والاقتصاد في الجهد بالعدول عن الأثقل إلى الأخف.
__________
(1) كتاب في تجويد القراءة ومخارج الحروف 78و.
(2) الواضحة ص 30.
(3) النشر 1/ 215214.(1/331)
وكان بعض علماء العربية قد أشاروا إلى ذلك في أثناء حديثهم عن ظاهرة الإدغام خاصة، التي هي أكثر الظواهر الصوتية التركيبية دورانا في كلام العرب. فقال سيبويه، وهو يتحدث عن قلب الواو ياء في مثل الميزان والميعاد: «فكان العمل من وجه واحد أخف عليهم، كما أن رفع اللسان من موضع واحد أخف عليهم في الإدغام، وكما أنهم إذا أدنوا الحرف من الحرف كان أخف عليهم، نحو قولهم: ازدان، واصطبر» (1). وقال الفراء، وهو يتحدث عن إدغام لام هل وبل: «وكذلك فافعل بجميع الإدغام، فما ثقل على اللسان إظهاره فأدغم، وما سهل لك فيه الإظهار فأظهر ولا تدغم» (2).
وكان حديث علماء التجويد عن ذلك أكثر تفصيلا ووضوحا، فقال مكي (ت 437هـ):
«والقوي من الحروف إذا تقدمه الضعيف مجاورا له جذبه إلى نفسه، إذا كان من مخرجه، ليعمل اللسان عملا واحدا في القوة من جهة واحدة» (3). وقال: واعلم أن أصل الإدغام إنما هو في الحرفين المثلين. وعلة ذلك إرادة التخفيف، لأن اللسان إذا لفظ بالحرف من مخرجه ثم عاد مرة أخرى إلى المخرج بعينه، ليلفظ بحرف آخر مثله صعب ذلك، وشبهه النحويون بمشي المقيد، لأنه يرفع رجلا ثم يعيدها إلى موضعها أو قريب منه. وشبّهه بعضهم بإعادة الحديث مرتين، وذلك ثقيل على السامع» (4).
وقال مكي أيضا بعد أن ذكر مذهب ورش في تفخيم اللام: «فيعمل اللسان في التفخيم عملا واحدا. وهذا هو معظم مذاهب العرب في مثل هذا يقرّبون الحرف من الحرف، ليعمل اللسان عملا واحدا. ويقرّبون الحركة من الحركة ليعمل اللسان عملا واحدا، وعلى هذا أتت الإمالات في عللها، وعلى هذا أبدلوا من السين صادا إذا أتى بعدها طاء أو قاف أو غين أو خاء، ليعمل اللسان في الإطباق عملا واحدا، فذلك أخف عليهم من أن يتسفل اللسان بالحرف، ثم يتصعد إلى ما بعده» (5).
وقال الداني: «اعلم أرشدك الله أن الإدغام تخفيف وتقريب وإنما أدغمت العرب والقراء طلبا للتخفيف وكراهة للاستثقال بأن يزيلوا ألسنتهم عن موضع ثم يعيدوها إليه، إذ في
__________
(1) الكتاب 4/ 335وانظر أيضا 4/ 365. وانظر: ابن الحاجب: الإيضاح في شرح المفصل 2/ 476.
(2) معاني القرآن 2/ 354.
(3) الرعاية ص 180وانظر أيضا ص 150و 163و 190و 193.
(4) الكشف 1/ 134.
(5) الكشف 1/ 219.(1/332)
ذلك من التكلف ما لا خفاء فيه، ألا ترى أن الخليل رحمه الله شبّه ذلك بمشي المقيد، وبإعادة الحديث مرتين، فخففوا بالإدغام من أجل ذلك مع توفر المعنى به» (1).
وصرح عبد الوهاب القرطبي في أكثر من مكان بأن الغرض من الإدغام أو تقريب الحروف بعضها من بعض هو طلب السهولة على اللافظ، «لأن اللسان يفرّ إلى الأخف ويطلبه» (2). فمن ذلك قوله: «إذا كانت الجيم مع بعض الحروف المقاربة لها، ولا سيما إذا كانت ساكنة صعب إخراجها لشدة الجيم ومال الطبع بالنطق إلى الأسهل» (3).
وقال أيضا وهو يتحدث عن المشدد (أي المدغم): «والعلة في ذلك أن اعتماد آلة النطق على موضع وارتفاعها عنه وعودها إليه ثم ارتفاعها عنه مستثقل يشبه مشي المقيّد، فجعل اللسان أو غيره من المخارج ينبو عنهما نبوة واحدة، طلبا للخفة، ولما في ذلك من السهولة على اللافظ» (4).
ويقرر دارسو الأصوات المحدثون أن نظرية السهولة هي من أكبر العوامل التي تؤدي إلى تطور اللغات (5)، وبذلك يكون علماء التجويد على حق حين فسروا الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب بميل اللافظ إلى الأسهل والأخف في النطق، لأن هذه الظواهر هي في الواقع ضرب من ضروب التطور الصوتي.
* * * __________
(1) الإدغام الكبير 5و 5ظ، وانظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 125.
(2) الموضح 184و.
(3) الموضح 155و.
(4) الموضح 169ظ.
(5) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 238235، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 321319و 339338.(1/333)
المبحث الثاني الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الجامدة
أولا تقسيمات علماء التجويد لظواهر التأثر بين الأصوات الجامدة:
تتعدد صور التأثر بين الأصوات الجامدة في اللغة العربية، وهناك مصطلح يستخدم للتعبير عن مجموع تلك الصور، وهو مصطلح (الإدغام)، وإن كان بعض العلماء لا يستخدمه إلا في الحالات التي يفنى فيها الصوت في الصوت المجاور له، ولا يبقى له أثر، ويستخدم مصطلحات أخرى للتعبير عن صور التأثر الأخرى التي لا تبلغ درجة الفناء التام، مثل مصطلح (الإخفاء) أو (التقريب).
وكان علماء التجويد قد درسوا ظاهرة الإدغام على نحو مفصل، وميزوا بين عدة أنواع من ظواهر تأثر الأصوات بما يجاورها في الكلام المتصل، ومن ثم قسموا الإدغام إلى عدة أقسام:
1 - المقبل والمدبر والمتبادل:
قال عبد الوهاب القرطبي: «ثم الإدغام في المتقاربين: تارة يكون بقلب الأول إلى الثاني، وهو الأكثر الأشيع، كقولك: النّعيم والسّلام، وهو الأصل.
وتارة يكون بقلب الثاني إلى الأول، نحو (مذّكر) في لغة من أبدل تاء (افتعل) ذالا معجمة وأدغمها في الذال الأصلية.
وتارة يكون بأن يبدل بحرف مناسب لهما ثم يدغم، وذلك نحو (مدّكر) بدال غير معجمة.
ومنه ما يقلب الأول من جنس الثاني، ويترك من الحرف الأول شائبة ما، وذلك مثل (أحطت) في إبقاء شائبة من إطباق مع التاء عند الإدغام، ومثل {مَنْ يَهْدِ اللََّهُ} [الأعراف:
178]. و {مِنْ وَرََائِهِمْ} [الجاثية: 10] في إبقاء الغنة مع إدغام النون في الياء والواو» (1). ولم
__________
(1) الموضح 169ظ، وينظر: الفراء: معاني القرآن 1/ 216215، ابن يعيش: شرح المفصل 10/ 132.(1/334)
يستخدم عبد الوهاب القرطبي لهذه الأنواع أسماء خاصة بها.
وقد استخدم بعض دارسي الأصوات العربية من المحدثين مصطلحات خاصة لأنواع الإدغام، فنجد المستشرق الألماني برجستراسر قد استخدم المصطلحات الثلاثة (مقبل، ومدبر، ومتبادل) وهو يريد بالمقبل أن يؤثر الحرف الأول في الحرف الثاني مثل (مذّكر) فإن الأصل (مذتكر) فقلبت تاء الافتعال إلى جنس الحرف السابق له وهو الذال، وأدغم فيه. ويريد بالمدبر أن يؤثر الحرف الثاني في الحرف الأول نحو (عبدت) حيث تصير الكلمة في النطق (عبتّ) حيث قلب الحرف الأول وهو الدال إلى جنس الحرف الثاني وهو التاء وأدغم فيه. وأما المتبادل فهو أن يقلب الحرفان الأول والثاني إلى حرف ثالث مخالف لهما، وذلك في مثل (مدّكر) بالدال حيث قلبت الذال والتاء في (مذتكر) كلاهما إلى صوت الدال، فالتقى دالان الأول ساكن والثاني متحرك فأدغم الأول في الثاني (1).
واستخدم بعض المحدثين من دارسي الأصوات العربية مصطلح التأثر (الرجعي) والتأثر (التقدمي) في مقابل (المدبر والمقبل)، ولم يضع مصطلحا للمتبادل (2). وهناك اتجاه لدى المحدثين نحو استخدام كلمة (المماثلة) للتعبير عن ميل الأصوات إلى التماثل في الكلام المتصل، وهذه الكلمة أقرب إلى أن تكون مرادفة لكلمة (الإدغام). وقد استخدم بعضهم مصطلح (مماثلة تقدمية) و (مماثلة رجعية) (3).
ولا يخلّ بتقسيم عبد الوهاب القرطبي للإدغام أنه لم يضع مصطلحا لكل نوع من أنواعه، لا سيما أن نوعا واحدا هو الشائع الغالب في العربية، وهو الذي يتأثر فيه الأول والثاني.
2 - الإدغام الناقص والإدغام التام:
لا يصل التأثر بين الأصوات أحيانا إلى حد أن يفنى الصوت في الصوت الآخر، بل يبقى للصوت الأول أثر، ومن هنا قسم علماء التجويد الإدغام إلى ناقص وهو ما يبقى معه للصوت المدغم بقية، وكامل وهو ما يتحول فيه الصوت المدغم إلى جنس الصوت المدغم فيه (4).
ويبدو أن محمدا المرعشي هو خير من وضح هذا التقسيم للإدغام، وذلك حيث قال:
__________
(1) انظر: التطور النحوي ص 1918.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 181.
(3) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 325.
(4) انظر: مكي: الرعاية ص 231، والنابلسي: كفاية المستفيد 17ظ 18و.(1/335)
«ثم إن الإدغام ينقسم إلى تام وناقص، لأن الحرف الأول إن أدرج في الثاني ذاتا وصفة بأن كانا مثلين أو متقاربين لكن انقلب ذات الأول إلى ذات الثاني وصفته إلى صفته فالإدغام حينئذ تام، مثل إدغام (مدّ)، وإدغام الذال في الظاء نحو {إِذْ ظَلَمُوا} [النساء: 64].
وإن أدرج الحرف الأول في الثاني ذاتا لا صفة بأن كانا متقاربين فانقلب ذات الحرف الأول إلى ذات الثاني ولم تنقلب صفته إلى صفته بل بقي في التلفظ، فالإدغام حينئذ ناقص، والصفة باقية من الحرف الأول:
إما غنة، وهي في إدغام النون الساكنة والتنوين في الواو والياء.
وإما إطباق، وهو في إدغام الطاء المهملة في التاء المثناة الفوقية نحو {أَحَطْتُ}
[النمل: 22].
وإما استعلاء، وهو في إدغام القاف في الكاف في {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ} [المرسلات:
20]» (1).
وهذا تقسيم صحيح للإدغام، وقد عبر عنه بعض المحدثين باستخدام مصطلح (التشابه الكلي) إذا تطابق الحرفان تماما، و (التشابه الجزئي) إذا لم يتطابق الحرفان تماما (2). و. استخدم بعضهم مصطلح (المماثلة الكلية) و (المماثلة الجزئية) (3). ولا يعدو هذا الاختلاف في استخدام المصطلحات أن يكون لفظيا، إلا أن مصطلح (المماثلة الجزئية) ينطبق على (الإدغام الناقص) وينطبق على صور أخرى يكون التأثر فيها على نحو أقل من مثل ما سماه بعض علماء التجويد بدخول شوائب الحروف بعضها على بعض (4). على ما سنذكر ذلك مفصلا بعد قليل.
3 - إدغام المتماثلين والمتجانسين والمتقاربين:
قسم علماء التجويد الإدغام بالنظر إلى مقدار التشابه بين الأصوات التي يحصل فيها الإدغام، وانتهى ذلك بهم إلى هذه الأقسام الثلاثة.
يقول أبو بكر أحمد بن الجزري: «اعلم أن الحرفين إذا التقيا إما أن يكونا مثلين أو جنسين أو متقاربين، فالمثلان ما اتفقا مخرجا وصفة، كالباء والتاء والتاء والتاء، والجيم
__________
(1) جهد المقل 25و. وانظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 29.
(2) برجستراسر: التطور النحوي ص 18.
(3) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 325.
(4) انظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 179ظ.(1/336)
والجيم، واللام واللام.
والمتجانسان ما اتفقا مخرجا واختلفا صفة كالدال والطاء، والثاء والذال، وكاللام والراء عند الفراء ومن تابعه.
والمتقاربان ما تقاربا في المخرج أو الصفة، كالدال والسين، والثاء والتاء، والضاد والشين» (1)، ويستخدم بعض المتأخرين مصطلح (المتماثلين) بدل (المثلين) (2).
ويجد الدارس أن أصول هذا الاتجاه قديمة ترجع إلى كتابات علماء العربية وعلماء التجويد المتقدمين، فهذا سيبويه يستخدم مصطلح المثلين والمتقاربين (3). وكذلك استخدمهما مكي (4). والداني (5)، ولكن الذي ميّز استخدام المتأخرين أنهم استخدموا مصطلح (المتجانسين) وجعلوا له ولمصطلح (المتقاربين) دلالة محددة، بينما نلمح عند المتقدمين أن مصطلح (المتقاربين) يؤدي دور المصطلحين معا.
وكان أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ) قد استخدم المصطلحات الثلاثة حيث قال:
«واعلم أن الإدغام هو أن تصل حرفا بحرف من المتماثل أو المتجانس أو المتقارب، فترفع لسانك بلفظ الثاني منهما بنبرة واحدة مشددة من غير إبقاء أثر من الأول منهما، إلا إذا كان الأول مطبقا أو أغن فإن فيها اختلافا» (6). ولكنه حين تحدث عن أنواع الإدغام لم يذكر إلا اثنين، وذلك حيث قال: «والإدغام على وجهين: إدغام المتماثلين وإدغام المتقاربين، ولا يجوز إدغام المتباعدين، وكلما كان أقرب فإدغامه أقوى، ولا يكون إدغام المتقاربين إلا بقلب أحدهما إلى الآخر، حتى يصح الإدغام» (7).
ولابن وثيق (ت 654هـ) اتجاه آخر في استخدام المصطلحات، وإن كان لا يبتعد كثيرا عما ذكرناه، وذلك حيث يقول: «ويدخل الإدغام عليها (أي على حروف العربية) بثلاثة
__________
(1) الحواشي المفهمة 40ظ، وانظر: عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 34و. والنابلسي: كفاية المستفيد 15ظ، والمرعشي: جهد المقل 24ظ.
(2) الطبلاوي: مرشدة المشتغلين 2و.
(3) الكتاب 4/ 473.
(4) انظر مثلا: الكشف 1/ 135.
(5) انظر مثلا: الإدغام الكبير 6و.
(6) الإيضاح 106ظ.
(7) الإيضاح 114و.(1/337)
أوجه: بالمثلية والتقارب والشبه. فالمثلية: {كُنْتُمْ مِنْ} [البقرة: 198] وشبهه، والتقارب:
{نَخْلُقْكُمْ} (1) وشبهه، والشبه: {قَدْ سَمِعَ} [المجادلة: 1] وشبهه، لأن الحروف، في أنفسها على قسمين: قسم منها لا يتشابه ولا يتناسب مثل الباء والجيم والحاء والخاء والكاف والهاء والياء وما أشبهها. وقسم منها يتناسب ويتشابه فأدغم بالتناسب والتشابه، مثل: التاء والثاء والزاي والراء والدال والسين وما أشبه هذا، فإذا سئلت: بماذا أدغمت {قَدْ سَمِعَ}؟ فقل:
بالتناسب والشبه» (2). فابن وثيق هاهنا يستخدم مصطلح (الشبه) في مقابل (المتقارب) عند غيره، ويستخدم مصطلح (التقارب) في مقابل (المتجانس) عند غيره تقريبا، لأنه مثّل له بالقاف والكاف، وهما وإن وصفا بأنهما لهويان إلا أنهما ليسا من مخرج واحد.
وتقسيم الأصوات العربية إلى متماثلة ومتجانسة ومتقاربة، وتقسيم الإدغام على وفق ذلك أمر يدل على إدراك لخصائص الأصوات، فهي فعلا إذا التقت إما أن تكون متفقة في المخرج والصفات فهي حينئذ متماثلة، وإما أن تكون متفقة في المخرج مختلفة في الصفات فهي حينئذ متجانسة، وإما أن تتقارب في المخرج أو الصفات ولكن دون أن تكون متفقة، فهي حينئذ متقاربة. وهي بعد ذلك قد تتباعد في كل شيء فتوصف حينئذ بأنها متباعدة. ولا شك في أن الإدغام يتوقف على مقدار القرب والبعد بين الأصوات، فكلما تدانت حسن الإدغام، وهكذا.
4 - الإدغام الكبير والإدغام الصغير:
الإدغام هو وصلك حرفا ساكنا بحرف آخر مثله متحرك، من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف، فيصيران بتداخلهما كحرف واحد يرتفع العضو عنهما ارتفاعة واحدة (3). فلا بد أن يكون الحرف الأول ساكنا، لأنه إذا كان متحركا فصلت الحركة بين الحرفين، وحالت دون حصول التأثر بينهما. وهذا هو المتبادر إلى الذهن عند ذكر كلمة الإدغام، ويوصف أحيانا بالإدغام الصغير (4).
__________
(1) في الأصل (يخلقكم) وهو في الزمر آية 6، والقاف هنا مضموم، والذي يناسب التمثيل (نخلقكم) في سورة المرسلات آية 20حيث القاف مجزوم.
(2) كتاب في تجويد القراءة 76ظ.
(3) انظر: الزجاجي: الجمل ص 378. والداني: الإدغام الكبير 5و. وابن الباذش: الإقناع 1/ 164.
وعلم الدين السخاوي: جمال القراء 175ظ، وابن عصفور: الممتع في التصريف 2/ 631.
(4) ابن الباذش: الإقناع 1/ 195و 238. وابن الجزري: النشر 1/ 275والنابلسي: كفاية المستفيد 15ظ.(1/338)
وكان مذهب أبي عمرو بن العلاء خاصة أنه إذا التقى الحرفان وهما من كلمتين وكانا متحركين أسكن الأول وأدغمه في الثاني، سواء كانا مثلين أم متقاربين. وهو في المثلين لا يحتاج إلى أكثر من إسكان الأول، أما في المتقاربين فلا بد من قلب الأول إلى جنس الثاني، قال الداني: «وحقيقة إدغام الحرف المتحرك في مثله أن يسكن ثم يدغم، وحقيقة إدغام المتقارب أن ينقلب إلى لفظ الثاني ثم يدغم» (1). فالمثلان نحو قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضََانَ}
[البقرة: 185] و {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] والمتقاربان نحو {فَالزََّاجِرََاتِ زَجْراً}
[الصافات: 2] و {الصََّالِحََاتِ سَنُدْخِلُهُمْ} [النساء: 57] (2).
ويسمّى مذهب أبي عمرو هذا في الإدغام باسم الإدغام الكبير، واختلف في سبب تسميته كبيرا، فقال ابن الباذش (ت 540هـ): «سموه كبيرا لأنه أكثر من الصغير، ولما فيه من تصيير المتحرك ساكنا، وليس ذلك في الإدغام الصغير ولما فيه من الصعوبة» (3). وقال أحمد ابن أبي عمر: «وإنما سمي المتحرك كبيرا والساكن صغيرا لأن المتحرك حيّ لحركته، والساكن كالميت لسكونه، فللزيادة التي في المتحرك، وهي الحركة، سمي كبيرا، وللنقصان الذي في الساكن وهو عدم الحركة سمي صغيرا» (4).
والإدغام منه ما انفرد به بعض القراء، مثل الإدغام الكبير، ومنه ما اتفق عليه القراء، مثل إدغام لام التعريف ومعظم أحكام النون الساكنة والتنوين، وإدغام المتجانسين، ومنه ما اختلفوا فيه وهو بقية أحكام الإدغام الصغير المذكورة في كتب القراءات مثل دال (قد) وذال (إذ) ولام (هل وبل) (5). ولم يعتن علماء التجويد في كتبهم إلا بالإدغام المتفق عليه، وتركوا تفصيلات ما اختلفت فيه القراء من أنواع الإدغام الأخرى لكتب القراءات (6).
وكان ابن جني قد استخدم مصطلح الإدغام الأصغر ويريد به (تقريب الحرف من الحرف
__________
(1) الإدغام الكبير 6و.
(2) انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 116، والداني: التيسير ص 20، وابن الجزري: النشر 1/ 274.
(3) الإقناع 1/ 195. وانظر: ابن الجزري: النشر 2/ 274.
(4) الإيضاح 110و.
(5) انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 125113، وابن الباذش: الإقناع 1/ 238وما بعدها، وابن الجزري: النشر 2/ 212.
(6) انظر ص 71من هذا البحث.(1/339)
وإدناءه منه من غير إدغام يكون هناك) وقد مثل له بالإمالة وبتقريب السين من الصاد في نحو (سقت) وبتقريب الصاد من الزاي في نحو (مصدر) ونحو ذلك مما لا إدغام فيه. واستخدم ابن جني مصطلح الإدغام الأكبر وهو يريد به ما سماه علماء التجويد بالإدغام الصغير الذي يقلب فيه الحرف الأول إلى مثل الحرف الذي يليه ويدغم فيه (1). وهذا الاستخدام للمصطلحات خاص بابن جني ولم نجد له صدى عند علماء العربية ولا علماء التجويد.
5 - الأقوى والأضعف:
يقسم علماء التجويد الأصوات إلى قوية وضعيفة، بحسب ما فيها من صفات القوة والضعف. وسبق أن بيّنا الصفات القوية والصفات الضعيفة لدى علماء التجويد وعلاقة ذلك بقوة الحروف وضعفها (2). وقد طبق بعض علماء التجويد فكرة القوة والضعف في الحروف على ظاهرة الإدغام، فقالوا إن الإدغام إنما يحسن في المواضع التي ينقل فيها الأضعف إلى الأقوى.
ومثلما كان مكي رائد نظرية القوة والضعف في الأصوات كذلك كان رائدا في تطبيق هذه النظرية على موضوع الإدغام، فقد بحث هذا في كتابيه (الرعاية) و (الكشف). فمما قاله في الأول: «والقوي من الحروف إذا تقدمه الضعيف مجاورا له جذبه إلى نفسه إذا كان من مخرجه ليعمل اللسان عملا واحدا في القوة من جهة واحدة» (3). وقال أيضا: «وإنما ينقل أبدا الأضعف إلى الأقوى، إذا تقاربت المخارج، ليقوى الكلام، فهذا هو الأكثر في الأصل، وربما خالف اليسير ذلك لعلة توجبه، وإذا نقل الأقوى إلى الأضعف ضعف الكلام» (4).
ومما قاله مكي في (الكشف): «وليس من أصول كلام العرب أن يردوا الأقوى إلى الأضعف، وإنما أصولهم في الحروف إذا أبدلوا أن يردوا الأضعف إلى الأقوى» (5). وهناك نص تضمن عرضا مفصلا لموضوع الإدغام من ناحية قوة الحروف وضعفها مقرونا بالأمثلة، ورد في كتاب (الكشف)، أجد من تمام الموضوع إيراده بنصه، لا سيما أن أحدا من علماء
__________
(1) الخصائص 2/ 145139، وانظر: حسام النعيمي: الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني ص 339.
(2) انظر ص 328من هذا البحث.
(3) الرعاية ص 180.
(4) الرعاية ص 181.
(5) الكشف 1/ 34.(1/340)
التجويد لم يتطرق إلى هذا الموضوع بهذا الشكل من الشمول.
قال مكي: «واعلم أن الإدغام إنما يحسن في غير المثلين ويقوى إذا سكن الأول، وهو على ضربين:
أحدهما: إذا كان الحرفان متقاربين في المخرج، والحرف الأول أضعف من الثاني، فيصير بالإدغام إلى زيادة قوة، لأنك تبدل من الأول حرفا من جنس الثاني، فإذا فعلت ذلك نقل لفظ الضعيف إلى لفظ القوة، فذلك حسن جيد.
والضرب الثاني: أن يكون الحرفان المتقاربان في القوة سواء كالمثلين، فيحسن الإدغام، إذ لا ينتقص الأول من قوته قبل الإدغام.
وضرب ثالث من إدغام المتقاربين ضعيف قليل، وهو أن يكون الحرف الأول أقوى من الثاني، فيصير بالإدغام أضعف من حاله قبل الإدغام.
فالذي يزداد قوة مع الإدغام هو كإدغام التاء في الطاء نحو {وَقََالَتْ طََائِفَةٌ} [آل عمران:
72] و {وَدَّتْ طََائِفَةٌ} [آل عمران: 69] لأن التاء حرف ضعيف للهمس الذي فيه، والطاء حرف قوي للإطباق والجهر والاستعلاء والشدة اللواتي فيها، فهو أقوى من التاء كثيرا، فإذا أدغمت التاء نقلتها من ضعف إلى قوة مكررة، فهذا لا تكاد العرب تظهره، وكذلك أجمع القراء على الإدغام في هذا.
فإن نقصت قوة الحرف الثاني، وهو مع نقص قوته أقوى من الأول حسن الإدغام والإظهار نحو {لَهُدِّمَتْ صَوََامِعُ} [الحج: 40] و {حَمَلَتْ ظُهُورُهُمََا} [الأنعام: 146] لأن الصاد نقصت عن قوة الطاء لعدم الجهر، وكون الهمس فيها، والظاء نقصت عن قوة الطاء لعدم الشدة، وكون الرخاوة فيها.
والذي تتساوى قوة الحرفين فيه إدغام الذال في التاء (1). وذلك أن الذال فيها ضعف وقوة، فالضعف من جهة أنها رخوة، والقوة من جهة أنها مجهورة. كذلك التاء فيها ضعف وقوة، فالضعف من جهة أنها مهموسة، والقوة من جهة أنها شديدة، فقد تقاربتا في القوة، والضعف من صفاتها، فجواز الإدغام حسن، والأول حسن في الإدغام، لأنك تزيد الحرف الأول قوة بالإدغام.
والذي يقبح الإدغام فيه لقوة الأول وضعف الثاني نحو إدغام الراء في
__________
(1) مثل {أَخَذْتُمْ} في آل عمران 81، و {عُذْتُ} في غافر 27.(1/341)
اللام (1)، وهو قبيح لقوة الراء بالجهر والتكرير اللذين فيه، وضعف اللام لعدم التكرير فيه، وضعف الجهر فيه، فإذا أدغمت نقلت الأقوى إلى الأضعف، وذلك مكروه ضعيف، فقس عليه هذا فإنه الأصل الذي يعتمد عليه» (2).
وكان الداني قد أشار إلى ذلك المعنى حيث قال: «فلا يدغم الأفضل في الأنقص لذلك، ويدغم الأنقص في الأفضل لأنه يخرج بذلك إلى الحرف الأقوى، وإخراج الأضعف إلى الأقوى جائز لأنه يقوى فيه» (3).
ثانيا شوائب (4) الحروف:
هذا مصطلح استخدمه عبد الوهاب القرطبي ليدل به على معنى خاص يتعلق بصفات الحروف التي يمكن أن تؤثر في الأصوات المجاورة. فالصوت المجهور يمكن أن يؤثر على الصوت المهموس، والصوت المطبق يمكن أن يؤثر على الصوت المنفتح، والصوت الأنفي (الأغن) يمكن أن يؤثر على الفموي. وقد خصص مبحثا طويلا لدراسة الظواهر المتعلقة بهذا الموضوع (5).
وقد وضح القرطبي في مطلع كلامه السبب الذي من أجله دخلت شوائب الحروف بعضها على بعض فقال: «فأحسن التخلص من دخول شوائب الحروف بعضها على بعض، فيكون التنبيه عليه بعد ذكر السبب الموجب له، فنقول: السبب في ذلك أن يجتمع حرفان امتاز أحدهما عن الآخر بمزية ما، إما بتفخيم، أو إطباق، أو تفشّ أو غير ذلك، مع إمكان تلك المزية فيه لأن الحرف بسبب اتحاده بما جاوره يجذبه إلى حيّزه ويسلبه المزية الخاصة به، أو يدخل معه فيها، أو يحدث بينهما حرف يشبههما. والذي ينبغي أن يعتمده القارئ في ذلك حسن التخلص منه بإفراد كل منهما بمزيته والتعمل لإيراده بخاصيته» (6).
ولم يكن عبد الوهاب القرطبي الوحيد بين علماء التجويد الذي عالج موضوع الشوائب،
__________
(1) مثل {يَغْفِرْ لَكُمْ} في نوح 4.
(2) الكشف 1/ 136135.
(3) الإدغام الكبير 6ظ.
(4) الشوب في اللغة الخلط، والشائبة واحدة الشوائب، وهي الأقذار والأدناس (لسان العرب 1/ 492 494شوب) والشائبة أيضا: الشيء الغريب يختلط بغيره (المعجم الوسيط 1/ 501شوب).
(5) الموضح 179ظ 182ظ.
(6) الموضح 179ظ.(1/342)
فهناك عدد من العلماء لا سيما من المتقدمين يشاركونه في ذلك، إلا أنه يمكن القول، بقدر ما يتيسر من معلومات، أن عبد الوهاب القرطبي انفرد باستخدام مصطلح شوائب الحروف.
وتكاد معظم الحالات التي رصدها علماء التجويد في موضوع الشوائب تندرج في الظواهر الصوتية التي لا يقرها الاستخدام اللغوي، حتى على مستوى اللهجات، وإنما اعتنى بها علماء التجويد حرصا منهم على تقديم صورة الصحيح، وتوضيح ما يمكن أن يشوب ذلك النطق من شوائب الانحراف، بسبب تجاور الحروف في الكلام المتصل وميلها إلى التماثل والاقتصاد بالمجهود، ومع ذلك فإن عناية علماء التجويد بمثل هذا النوع من الظواهر الصوتية يدل على عمق النظرة في فهم تلك الظواهر التي لو سمح لها بالظهور لأدت إلى تطور النطق العربي دون ضوابط واضحة ولا حدود مرسومة، ولتغير نطق القرآن الكريم، وهو ما جاهد علماء التجويد قرونا من أجل الحيلولة دون وقوعه، وتكلل جهدهم بالنجاح الذي نلمس مظاهره في النطق العربي الفصيح اليوم.
وبإمكان الدارس أن يقدم عشرات الأمثلة التي توضح عناية علماء التجويد بما يمكن أن ينتج عن تجاور الأصوات في الكلام، سواء من الظواهر الصوتية المعترف بها في مستوى اللغة الفصيح أم من الظواهر التي تعد من باب اللحن الذي هو في حقيقته تغير صوتي يخضع لقوانين صوتية معينة، وسوف أكتفي هنا بإيراد عدد من الأمثلة مبوبة حسب نوع الشائبة الصوتية، أي الصفة التي أثرت في الصوت المجاور، مثل الجهر والهمس، والإطباق والانفتاح، والأنفية.
أالجهر والهمس:
نقلنا في صدر المبحث الأول من هذا الفصل مقولة الداني في تأثير الأصوات المجهورة في المهموسة والمهموسة في المجهورة إذا تجاورت (1). وهو أمر لا شك فيه، وتؤيده الدراسات الصوتية الحديثة (2). وهذه أمثلة لتأثر الأصوات المهموسة بمجاورة الأصوات المجهورة، مما لاحظه علماء التجويد:
1 - س ج ز ج، قال مكي: «وإذا سكنت السين وأتت بعدها جيم، وجب بيان السين، لئلا يذهب اللفظ بها إلى الزاي، لأن الزاي بالجيم أشبه من السين بالجيم، لأن السين مهموسة والجيم مجهورة، والزاي مجهورة فهي بالجيم أشبه، وهي من مخرج السين، فاللفظ
__________
(1) انظر ص 388من هذا البحث.
(2) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 183.(1/343)
يبادر إلى الزاي في موضع السين، لاتفاقها مع الجيم في الجهر، ولأنها من مخرج السين.
وذلك نحو قوله تعالى: {وَاسْجُدْ} [العلق: 19] و {الْمَسْجِدِ} [البقرة: 144] و {وَاسْجُدِي}
[آل عمران: 43] و {يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] و {الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] وشبهه. لا بد من التحفظ بإظهار لفظ السين لئلا تصير زاء» (1).
2 - ص د (ز) د. قال عبد الوهاب القرطبي: «وكذلك إذا سكنت أيضا (أي الصاد) قبل دال في مثل قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ} [النساء: 87] و {وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] و {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]. أخلص إطباقها، وإلّا صارت زاء لأن الزاي أخت الصاد في الصفير وأخت الدال في الجهر، فالدال تجذب الصاد إليها، وهو قبيح عند الجماعة، ما خلا حمزة والكسائي، فإنهما يلفظان الصاد مشوبة زاء» (2).
وهذا الصوت الذي يحذر منه ليس في الحقيقة زاء خالصة، إنما هو مجهور الصاد، وهو أحد الحروف الفرعية المستحسنة، الذي يوصف بأنه الصاد التي كالزاي، أي الصاد التي لحقها الجهر. ومثله الشين التي كالجيم في مثل (أشدق) حيث تصير الشين مجهورة (3).
وهناك أمثلة أخرى نكتفي بالإشارة إليها من غير نقل ما قاله علماء التجويد عنها، وذلك مثل تحذيرهم من جهر الحاء في نحو قوله تعالى {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} [الزخرف: 89] (4). وجهر التاء التي قبل الدال في نحو قوله: {أَعْتَدْنََا} [النساء: 18] (5).
ومن أمثلة تأثر الأصوات المجهورة بمجاورة المهموسة:
1 - ع ث ح ث: قال الداني: «وكذا إن التقى (العين) بالثاء والفاء والتاء والشين والصاد وسائر حروف الهمس لخص وبيّن، وإلّا ربما انقلب حاء، لما بين الحاء وبينهن من المشاركة في الهمس. نحو قوله تعالى {يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56]، {وَلََا بَعْثُكُمْ} [لقمان:
28]، {وَلََا تَعْثَوْا} [البقرة: 60]، و {أَعْثَرْنََا} [الكهف: 21]، و {فَاعْفُوا} [البقرة:
109]، {وَلْيَعْفُوا} [النور: 22]، و {يَعْفُونَ} [البقرة: 237]، و {فَاعْتَرَفُوا} [الملك:
11]، و {فَاعْتِلُوهُ} [الدخان: 47]، و {يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، و {وَلََا تَعْتَدُوا}
__________
(1) الرعاية ص 188، وانظر: الداني: التحديد 35و، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 181ظ.
(2) الموضح 180. وانظر: السعيدي: التنبيه 50ظ، ومكي: الرعاية ص 192، والداني: التحديد 34ظ.
(3) انظر سيبويه: الكتاب 4/ 432، والقرطبي: الموضح 154و.
(4) مكي: الرعاية ص 140، وعبد الوهاب القرطبي: الموضح 176و.
(5) عبد الوهاب القرطبي: الموضح 182و.(1/344)
[البقرة: 190]، و {يََا مَعْشَرَ} [الأنعام: 128]، و {وَمَنْ يَعْشُ} [الزخرف: 36]، و {مِعْشََارَ} [سبأ: 45]، و {وَمَنْ يَعْصِ} [النساء: 14]، و {إِعْصََارٌ} [البقرة: 266]، و {الْمُعْصِرََاتِ} [النبأ: 14]، و {يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49]، و {أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28]، و {يُمَتِّعْكُمْ} [هود: 3]، وشبهه» (1).
2 - غ ش خ ش: قال عبد الوهاب القرطبي: «وكذلك الغين إذا سكنت وبعدها شيء من حروف الهمس، في مثل قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، {فَأَغْشَيْنََاهُمْ} [يس: 9]، {مُغْتَسَلٌ بََارِدٌ} [ص: 42]، {إِلََّا مَنِ اغْتَرَفَ} [البقرة: 249]، {لَوْ تَغْفُلُونَ} [النساء: 102]، {مَنْ أَغْفَلْنََا} [الكهف: 28]، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [آل عمران:
31]، {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]، {بِيَدِكَ ضِغْثاً} [ص: 44]، وما أشبه ذلك. وجب أن يؤتى بها بألطف ما يمكن لتخلص من شائبة الخاء لقرب الغين من الخاء ومشاركة هذه الحروف للخاء في الهمس، سيما مع الشين في مثل قوله تعالى {فَأَغْشَيْنََاهُمْ} [يس: 9] و {وَاسْتَغْشَوْا ثِيََابَهُمْ} [نوح: 7]، فإن ذلك أوقع في الشائبة، فنبّه عليه من أجله» (2).
3 - ج ت (ش) ت: قال السعيدي: «ومما يحفظ أيضا بيان الجيم عند التاء في قوله {اجْتَبََاهُ} [النحل: 121]، و {وَكَذََلِكَ يَجْتَبِيكَ} [يوسف: 6]، و {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ}
[الحج: 30]، {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، و {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئََاتِ}
[الجاثية: 21]، و {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 30]، وما أشبهها، يؤمر القارئ ببيان ذلك جيدا لئلا تختلط بالشين» (3). والجيم إذا اختلطت بالشين فإن ذلك يعني أنها صارت مهموسة، وهي حينئذ تمثل أحد الحروف الفرعية العربية غير المستحسنة (4).
وهناك أمثلة أخرى لتأثر الأصوات المجهورة بمجاورة المهموسة، نحو الدال إذا جاورت الخاء تصير تاء إذا لم يتعمل لإظهار جهرها (5)، وذلك في مثل {يَدْخُلُونَ}
[النساء: 124]، وكذلك الظاء إذا جاورتها الفاء تصير (ثاء مطبقة) إذا لم يعتن
__________
(1) التحديد 26ظ، وانظر: عبد الوهاب القرطبي: الموضح 182و.
(2) الموضح 182و، وانظر السعيدي: التنبيه 50و، ومكي: الرعاية ص 144، والداني: التحديد 27و.
(3) التنبيه 50و، وانظر: مكي: الرعاية ص 151، والداني: التحديد 28ظ، والقرطبي: الموضح 181و.
والعطاء: التمهيد 152ظ.
(4) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 432. والقرطبي: الموضح 155و، والسيوطي: همع الهوامع 6/ 295.
(5) السعيدي: التنبيه 50و، والداني: التحديد 32و، والقرطبي: الموضح 180ظ.(1/345)
بجهرها (1)، في مثل اذكر [الفتح: 24]. وكذلك الذال الساكنة إذا أتى بعدها كاف في مثل {وَاذْكُرْ} [آل عمران: 41] وجب أن تصان عن شائبة الثاء (2). والزاي الساكنة إذا أتى بعدها تاء في مثل {كَنَزْتُمْ} [التوبة: 35] تهيأت أن تصير سينا بمجاورة التاء (3).
ب الإطباق والانفتاح:
في العربية أربعة أصوات مطبقة هي الطاء والظاء والصاد والضاد، فإذا وقع قبل أحد هذه الأصوات صوت ساكن منفتح، وكان له نظير مطبق، انقلب إلى نظيره المطبق بتأثير الإطباق في الصوت الذي يليه. وكذلك تؤثر حروف الاستعلاء مثل تأثير حروف الإطباق. وكذلك تفعل الراء المفخمة، لأن الإطباق والاستعلاء والتفخيم من واد واحد. وهذه أمثلة تبين إدراك علماء التجويد لتلك الظاهرة.
1 - س ص ص ط: قال عبد الوهاب القرطبي: «ومن ذلك السين إذا كانت ساكنة مع حرف من حروف الإطباق في كلمة، كقوله تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطََاسِ} [الإسراء: 35]، {فَمَا اسْطََاعُوا} [الكهف: 97]، {يَسْطُونَ بِالَّذِينَ} [الحج: 72]، {تَسْطِعْ} [الكهف:
82]، {بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ} [البقرة: 247]، {وَلََا تَبْسُطْهََا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، وكذلك إن تحركت في مثل قوله {بَسَطَ اللََّهُ الرِّزْقَ} [الشورى: 27] و {بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ}
[المائدة: 28] فتوصل إلى تخليص السين من الإطباق في رفق وتؤده لئلا تصير صادا بالقرب من حروف الإطباق.
وكذلك إن أتى قبله أو بعده حرف من حروف الاستعلاء، مثل قوله تعالى: {لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ} [القيامة: 1]، {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ} [الأنعام: 109]، {وَلََا يَكََادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:
17]، {ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14]، {إِنْ تَسْخَرُوا مِنََّا فَإِنََّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: 38]، فتوصل إلى اللفظ به برقّة في حال سكونه وحركته كراهية أن يتحول صادا، لأن مجاورة الاستعلاء كمجاورة الإطباق.
وكذلك إن اتصل براء مفخمة توصل إلى النطق به في رقة ورفق لئلا يصير صادا بتفخيم الراء، لأن التفخيم والإطباق والاستعلاء من واد واحد، في مثل قوله تعالى: {سَرْمَداً}
__________
(1) الداني: التحديد 33و، والقرطبي: الموضح 182ظ.
(2) الداني: التحديد 33ظ، والقرطبي: الموضح 180ظ.
(3) مكي: الرعاية ص 184، والقرطبي: الموضح 181ظ.(1/346)
[القصص: 71]، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11]، {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرََاراً} [نوح: 9]» (1).
2 - ت ط ط ظ: قال عبد الوهاب القرطبي أيضا: «التاء إذا جاورت حرفا من حروف الإطباق فبيّن همسها وأحسن تخليصها من الإطباق، وإلا صارت طاء في مثل قوله تعالى {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ الْأَرْضِ} [الكهف: 45]، {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] {وَلََا تُطِعْ} [الكهف: 28]، {لََا تَظْلِمُونَ وَلََا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، {حَتََّى تَضَعَ الْحَرْبُ}
[محمد: 4]، {وَأَنْ تَصْبِرُوا} [النساء: 25] وكذلك {أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: 67] وشبهه.
وذلك لأن التاء من مخرج الطاء، وإنما تمتاز الطاء بالإطباق، فإذا جاورها إطباق شابتها شائبة لذلك. و {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17]، و {رَتْقاً} [الأنبياء: 30]، و {أَتْقَنَ} [النمل:
88]، فإنه يخاف عليها أن تشوبها الطاء، لما قدمناه من أن الاستعلاء نظير الإطباق» (2).
3 - ذ ر ظ ر: قال الداني: «فإن التقى (الذال) بالراء فيلزم إنعام بيانه وتكلف تلخيصه، ويلفظ به رقيقا وبالراء بعده مفخمة ولا يتساهل في ذلك، وإلا ربما انقلب الذال ظاء وذلك نحو قوله تعالى: {أَنْذَرْتُكُمْ} [فصلت: 13] و {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ} [الأحقاف:
21] و {مََا كََانَ يَعْبُدُ} [الأعراف: 70]» (3).
وكما أن الصوت المطبق يؤثر في الصوت المنفتح إذا جاوره، كذلك لاحظ علماء التجويد أن الصوت المطبق يتأثر بمجاورة الصوت المنفتح، ويزول عنه الإطباق إذا لم يتحفظ ببيانه، وهذه أقوال علماء التجويد التي توضح ذلك:
1 - ط ف ت ف: قال الداني: «وإذا وقع قبله (أي قبل الفاء) طاء أنعم بيان الطاء، لئلا ينقلب تاء، لما بين التاء والفاء من الاشتراك في الهمس. وذلك نحو {مِنْ نُطْفَةٍ}
[النحل: 4]، و {الْخَطْفَةَ} [الصافات: 10]، و {الْأَطْفََالُ} [النور: 59]، و {لِيُطْفِؤُا}
[الصف: 8]، و {أَطْفَأَهَا اللََّهُ} [المائدة: 64] وما أشبهه» (4). ولا شك في أن انفتاح الفاء يؤثر على الظاء فيؤدي إلى زوال الإطباق فيها فتصير تاء، إذا لم ينعم بيانها.
2 - ص ت س ت: قال مكي: «وإذا وقع بعد الصاد تاء المخبر أو تاء المخاطب
__________
(1) الموضح 180و، وانظر: مكي: الرعاية ص 186، والداني: التحديد 34ظ.
(2) الموضح 181ظ، وانظر: مكي: الرعاية ص 180، والداني: التحديد 32و 32ظ.
(3) التحديد 33و، وانظر: مكي: الرعاية ص 198، والقرطبي: الموضح 160و.
(4) التحديد 40و.(1/347)
بادر اللسان إلى لفظ السين في موضع الصاد، لأن السين أقرب إلى التاء من الصاد إلى التاء، إذ السين والتاء ليس فيهما إطباق ولا استعلاء مثل ما في الصاد، وكلاهما مهموس وذلك نحو قوله {حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، و {وَلَوْ حَرَصْتَ} [يوسف: 103] وشبهه» (1).
ج الأنفية (الغنة):
يتميز النون والميم بأنهما أنفيان، أي أن النفس يخرج أثناء النطق بهما من الأنف، وهو ما يسميه علماء العربية وعلماء التجويد بالغنة. ولما كانت النون يعتمد لها بطرف اللسان فقد شاركت مجموعة كبيرة من الأصوات في ذلك. ومن ثم فإن غنة النون ربما لحقت أصوات طرف اللسان إذا وقعت ساكنة قبل النون، وهو أمر يحذر منه علماء التجويد كثيرا لأنه يؤدي إلى خلل في نطق الألفاظ. ولدينا عدة نصوص توضح عناية علماء التجويد بأصوات طرف اللسان إذا وقعت ساكنة قبل النون خشية أن تلحقها صفة الأنفية، منها:
1 - ل ن ن ن: حظيت هذه الحالة بعناية علماء التجويد، ويكفي أن أشير إلى أن الجيل الأول لكبار علماء التجويد قد أشبع هذه الحالة بحثا، مثل السعيدي، ومكي، والداني، والقرطبي. وسوف أقتبس بعضا من أقوالهم من غير محاولة تقصي كل ما قالوه في ذلك فإنه يخرج بنا إلى إطالة لا يحتملها البحث.
قال السعيدي: «ومما يحفظ أيضا تخليص اللامات إذا سكنت عند النونات، وتخفيف النون بعدها، في مثل قوله: {أَنْزَلْنََا}، و {أَرْسَلْنََا}، و {جَعَلْنَا}، و {قُلْنََا}، وشبههن. ويحتاج ذلك إلى حذق، لأن كثيرا من الناس ربما يتكلف لسكونها فيحركها وهو لا يدري. فإذا أردت اللفظ بها على حسب ما يجب ألصقت طرف لسانك بما يليه من الحنك من مخرج اللام، ثم نطقت بنون فتحرك بها لسانك حركة خفيفة من غير أن تضطرب اللام عند خروج النون، فإن ذلك يؤدي إلى الحركة، ويتكلف عندها لئلا تتشرب غنة النون، لأنهما قريبتا المخرج فربما يختلطان» (2).
وقال مكي: «وإذا سكنت اللام وأتت بعدها نون وجب التحفظ ببيان اللام ساكنة، لئلا تندغم في النون للتناسب الذي بينهما» (3).
وروى أبو عمرو الداني عن أحمد بن نصر بن منصور الشذائي، تلميذ ابن مجاهد، أنه
__________
(1) الرعاية ص 193.
(2) التنبيه 50ظ، وانظر: القرطبي: الموضح 174ظ، والعطار: التمهيد 154و.
(3) الرعاية ص 162، وانظر: الداني: التحديد 38و، وابن الباذش: الإقناع 1/ 193.(1/348)
قال: «وجدت جماعة قرءوا على شيخنا (يعني ابن مجاهد) وعلى غيره من القراء لا يفرقون بين {وَأَلَنََّا} [سبأ: 10] و {وَأَسَلْنََا} [سبأ: 12]» (1). ثم بين الداني الفرق بينهما، وهو ينحصر في أن لام الفعل في {أَلَنََّا} نون وفي {أَسَلْنََا} لام، وإذا لم يعتن القارئ بها ربما صارت في اللفظ (أسنّا) وهو لحن.
2 - ر ن ن ن: قال الداني: وإن التقى (الراء) بالنون تعمّل بيانه، وإلا صار نونا مدغمة، نحو: {فَبَشَّرْنََاهُ} [الصافات: 101] و {بَشَّرْنََاكَ} [الحجر: 55]» (2).
3 - ظ ن ن ن: قال عبد الوهاب القرطبي: «الظاء إذا سكنت وبعدها نون في مثل {وَحَفِظْنََاهََا} [الحجر: 17] ينبغي أن تشحّ (3) عليها لئلا تنقلب نونا وتندغم في النون فتصير:
حفنّاها، وهو عادة قبيحة» (4).
4 - ذ ن ن ن: وقال الداني: «وكذلك ينبغي أن يتعمل بيانه (أي الذال) عند النون في نحو قوله: {وَإِذْ أَخَذْنََا} [البقرة: 63] و {وَأَخَذْنَ} [النساء: 21] و {إِذْ نََادى ََ}
[مريم: 3] وشبهه، وإلا ربما اندغم» (5).
5 - د ن ن ن: قال مكي: «فإذا سكنت الدال وأتت بعدها نون وجب أن تبين الدال، لئلا تخفى عند النون لسكونها، واشتراكهما في الجهر، وتقارب مخارجهما. وذلك نحو قوله {أَدْنى ََ} [البقرة: 61]، و {وََاعَدْنََا} [البقرة: 51]، و {فَوَجَدْنََاهََا} [الجن: 8]، و {وَأَمْدَدْنََاكُمْ} [الإسراء: 6]، و {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللََّهُ} [آل عمران: 123]، و {رَدَدْنََا}
[الإسراء: 6] وشبهه» (6).
* * * إن عناية علماء التجويد بما تحدثه الحروف بعضها في بعض، إذا تجاورت في الكلمة الواحدة أو عند اتصال الكلمات في الكلام المتصل، من تأثير يدل على الحس المرهف والملاحظة الدقيقة التي كانوا يتمتعون بها، فهذه الظواهر الصوتية هي من اللحن الخفي الذي
__________
(1) التحديد 23و.
(2) التحديد 36و. وانظر: القرطبي: الموضح 177و.
(3) شح عليه: حرص (المعجم الوسيط 1/ 476شح).
(4) الموضح 176ظ.
(5) التحديد 33ظ.
(6) الرعاية ص 175.(1/349)
لا يقف على حقيقته إلا نحارير القراء ومشاهير العلماء.
وكان لاهتمام علماء التجويد بوصف تلك الظواهر الصوتية أثر في ترسيخ النطق الصحيح واجتناب بوادر اللحن الخفي التي وضع تحذير علماء التجويد منها حدا لجريانها على الألسنة وحال دون غلبتها، لأن ألسنة الناطقين تميل نحو السهولة والاقتصاد بالمجهود، ولو ترك الأمر من غير ضوابط لأدى تراكم تلك الانحرافات إلى تغير النطق العربي وابتعاده عن صورته الأولى التي كانت سائدة في وقت نزول القرآن الكريم، لكن جهود علماء القراءة في التلقي الشفوي، وجهود علماء التجويد في دراسة الأصوات العربية وتوضيح خصائص النطق الفصيح تكاملت مع جهود علماء العربية التي أدت مجتمعة إلى المحافظة على اللغة العربية حية، بعيدة عن التطور الصوتي الذي يؤدي إلى تغيير ملامحها الأساسية.
وكان تحليل علماء التجويد لتلك الظواهر الصوتية ينبني على معرفة تامة بخصائص الأصوات، وخبرة واسعة في طرائق النطق، فلم يكن اكتشاف تلك الظواهر الصوتية ورصدها وتوضيحها وتحذير الناطقين منها إلا دليلا على تلك المعرفة وهذه الخبرة، وهذا أمر ينتقل بالدرس الصوتي العربي إلى المستوى التطبيق العملي الذي لا تزال الدراسات الصوتية العربية الحديثة تفتقر إليه.
ثالثا ظواهر الإدغام التي عالجها علماء التجويد:
كانت عناية علماء التجويد الأوائل مثل مكي والداني وعبد الوهاب القرطبي متجهة إلى ظواهر الإدغام المتفق عليها بين القراء، خاصة إدغام لام التعريف، والنون الساكنة والتنوين، أما ما اختلف القراء في إدغامه فإنهم لم يتعرضوا له في كتب علم التجويد، إنما يذكره العلماء في كتب القراءات.
وظل ذلك منهج علماء التجويد في دراسة موضوع الإدغام، إلا أن بعض المتأخرين من علماء التجويد صاروا يشيرون إلى بعض ظواهر الإدغام المختلف فيها. وسوف ألخص وجهة نظر محمد المرعشي (ت 1150هـ) في هذا الموضوع، وهو يمثل رأى علماء التجويد المتأخرين في طريقة دراسة ظواهر الإدغام.
قال المرعشي: «واعلم أن بيان الإدغام على رأي أهل العربية مستوفى في كتب التصريف. والمقصود في هذه الرسالة بيان ما وقع في القرآن من الإدغام مما اتفقت القراء وأهل الأداء واختلفوا فيه، ولا نذكر من المختلف فيه إلا الإدغام الصغير، لأن الإدغام الكبير لم يقع في قراءة عاصم أصلا. وهنا فصلان:
الفصل الأول: في إدغام المثلين:(1/350)
قال المرعشي: «واعلم أن بيان الإدغام على رأي أهل العربية مستوفى في كتب التصريف. والمقصود في هذه الرسالة بيان ما وقع في القرآن من الإدغام مما اتفقت القراء وأهل الأداء واختلفوا فيه، ولا نذكر من المختلف فيه إلا الإدغام الصغير، لأن الإدغام الكبير لم يقع في قراءة عاصم أصلا. وهنا فصلان:
الفصل الأول: في إدغام المثلين:
اعلم أن المثلين إذا سكن أولهما يجب الإدغام عند أهل اللغة والقراء وأهل الأداء، بلا خلاف سواء كانا في كلمة نحو {يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] أو في كلمتين نحو {اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60] و {إِذْ ذَهَبَ} [الأنبياء: 87]، {آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال:
72]، إلا إذا كان الأول حرف مد
الفصل الثاني: في إدغام المتقاربين اللذين سكن أولهما، والواقع منه في القرآن أخذ عشر نوعا» (1) ثم بين المرعشي تلك الأنواع، وهذا ملخص ما قاله فيها: (2).
النوع الأول: إدغام الذال المعجمة في مقاربها، اتفق القراء على إدغام ذال (إذ) في الظاء في نحو {إِذْ ظَلَمُوا} [النساء: 64]. ثم إن القراء اختلفوا في إدغام الذال في التاء في نحو {فَنَبَذْتُهََا} (3)، و {عُذْتُ} [غافر: 27]، و {اتَّخَذْتُمُ} [البقرة: 51] وأمثالها. وكذا اختلفوا في إدغام ذال (إذ) في ستة أحرف: في التاء، والدال، والسين، والصاد، والزاي، والجيم، وقد أظهرها عاصم في الجميع.
النوع الثاني: إدغام الثاء المثلثة في مقاربها، ولم يأت في القرآن بعدها من مقاربها إلا الذال والتاء. أما الذال ففي {يَلْهَثْ ذََلِكَ} [الأعراف: 176] لا غير، وقد اختلفوا في إدغام الثاء وإظهاره. وعاصم يدغمه. وأما في التاء ففي {لَبِثْتَ} [البقرة: 259]، و {لَبِثْتُمْ}
[الإسراء: 52]، و {أُورِثْتُمُوهََا} [الأعراف: 43]، اختلفوا في إدغام الثاء في التاء، وعاصم يظهره.
النوع الثالث: إدغام الدال المهملة في مقاربها. اتفق القراء على إدغام الدال في التاء إذا كانا في كلمة نحو {عَبَدْتُّمْ} [الكافرون: 4]، و {أَرَدْتُ} [هود: 34]. واختلفوا في إدغامه في الثاء في قوله {وَمَنْ يُرِدْ ثَوََابَ} [آل عمران: 145]، وعاصم يظهره.
أما دال (قد) فقد اتفقوا على إدغامها في التاء نحو {قَدْ تَبَيَّنَ} [البقرة: 256] واختلفوا في إدغامه في ثمانية أحرف: الجيم، والذال، والزاي، والسين، والشين، والصاد، والضاد،
__________
(1) جهد المقل 25و 25ظ.
(2) جهد المقل 26ظ 28و. وينظر أيضا عن القراءات الواردة هنا: مكي: الكشف 1/ 160144، والداني: التيسير ص 4541.
(3) في سورة طه آية 96 (فنبذتها).(1/351)
والظاء، واختار عاصم في الجميع الإظهار.
النوع الرابع: إدغام التاء في مقاربها. اتفق القراء على إدغام التاء في الطاء والدال نحو {وَقََالَتْ طََائِفَةٌ} [آل عمران: 72] و {وَدَّتْ طََائِفَةٌ} [آل عمران: 69] و {أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمََا} [يونس: 89]. واختلفوا في إدغام تاء التأنيث المتصلة بالفعل في ستة أحرف:
الثاء، والجيم، والزاي، والسين، والصاد، والظاء. واختار عاصم في الجميع الإظهار.
النوع الخامس: إدغام الطاء في مقاربها، والواقع منه في القرآن إدغامها في التاء فقط، نحو {أَحَطْتُ} [النمل: 22] و {بَسَطْتَ} [المائدة: 28]، و {فَرَّطْتُ} [الزمر: 56]، و {فَرَّطْتُمْ} [يوسف: 80]. اتفق القراء على إدغام الطاء في التاء مع إبقاء صوت الإطباق، وسموه إدغاما ناقصا. واختلفوا في حقيقته، وسوف أعود إلى مناقشته بعد أن أفرغ من عرض ملخص ما قاله المرعشي في أنواع الإدغام.
النوع السادس: إدغام الباء في مقاربها. اختلف القراء في إدغامها في الميم في {يََا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنََا} [هود: 42]، أدغمه عاصم وبعض القراء. واختلفوا أيضا في إدغامها في الفاء حيث وقع، نحو قوله تعالى: {أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ} [النساء: 74] وشبهه. أظهره عاصم وبعض القراء.
النوع السابع: إدغام الفاء في مقاربها، اختلفوا في إدغامها في الباء في قوله تعالى {نَخْسِفْ بِهِمُ} [سبأ: 9]. أدغمه الكسائي وأظهره الباقون.
النوع الثامن: إدغام القاف في مقاربها، اتفق مشايخ الأداء على إدغام القاف في الكاف في نحو قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ} [المرسلات: 20]، لكن اختلفوا في بقاء استعلاء القاف مع الإدغام وعدم بقائه، وسوف أناقش ذلك في موضوع الإدغام التام والإدغام الناقص بعد قليل.
النوع التاسع: إدغام اللام في مقاربها، اعلم أن اللام إما حرف تعريف أو لا. فإذا لم يكن حرف تعريف فالقراء اتفقوا على إدغامها في الراء نحو {بَلْ رََانَ} [المطففين: 14] و {قُلْ رَبِّ} [المؤمنون: 93] إلا حفصا فإنه يسكت على (بل)، ومن ثم فات الإدغام.
واختلفوا في إدغام (هل وبل) في ثمانية أحرف هي: التاء، والثاء، والزاي، والسين، والضاد، والطاء، والظاء، والنون. وقد اختار عاصم الإظهار في الجميع. وليس كل من (هل وبل) تلتقي في القرآن مع كل من الحروف الثمانية، وإنما تختص كل واحدة منهما ببعض الحروف وتشتركان في بعض.
وإذا كانت اللام حرف تعريف فإنهم يدغمونها وجوبا في أربعة عشر حرفا، وهي: اللام
والتاء والثاء والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء، والنون. وأسماء الحروف كافية عن الأمثلة كما يقول المرعشي. وتسمى هذه الحروف شمسية. ويظهرونها وجوبا فيما عداها، وهي أربعة عشر حرفا، وتسمى قمرية، والألف لا تقع أولا لأنها مدة، ومن ثم لم تدخل عليها لام التعريف.(1/352)
وإذا كانت اللام حرف تعريف فإنهم يدغمونها وجوبا في أربعة عشر حرفا، وهي: اللام
والتاء والثاء والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء، والنون. وأسماء الحروف كافية عن الأمثلة كما يقول المرعشي. وتسمى هذه الحروف شمسية. ويظهرونها وجوبا فيما عداها، وهي أربعة عشر حرفا، وتسمى قمرية، والألف لا تقع أولا لأنها مدة، ومن ثم لم تدخل عليها لام التعريف.
تتميم لكلام المرعشي عن لام التعريف: عدّ بعض علماء التجويد المتقدمين الحروف التي تدغم فيها لام التعريف ثلاثة عشر حرفا، بإسقاط اللام (1). وقد عدها بعضهم أربعة عشر حرفا (2).
ويبدو أن تسمية ما تدغم فيه اللام بالحروف الشمسية وتسمية ما عداها بالقمرية ليست قديمة، فأقدم من ذكرها من المصادر التي اطلعت عليها هو ابن الجزري (ت 832هـ) وعبارته تشير إلى أنه ليس أول من استخدمها (3). وعلل ناصر الدين الطبلاوي (ت 966هـ) تلك التسمية بقوله: «وتسميتها شمسية وقمرية من باب تسمية الكل باسم الجزء، وهو لام الشمس والقمر» (4).
وعلل مكي إدغام لام التعريف فيما أدغمت فيه بقوله: «وعلة إدغام لام التعريف في هذه الحروف أن مخرجها من مخارج هذه الحروف في الفم، فلما سكنت ولزمها السكون أشبهت اجتماع المثلين. والأول ساكن، وكثرة الاستعمال لها. مع أن أكثر هذه الحروف أقوى من اللام، ليس منها ما ينقص عن قوة اللام إلا التاء، فكان في إدغامها فيهن قوة لها، فأدغمت فيها لذلك. ولا تدغم في باقي حروف الفم لتباعدها عن مخرج الفم منهن أو في الصفة أو في القوة (5). وقد حذر بعض علماء التجويد من إدغام لام التعريف في الجيم في مثل (الجنة) لمبادرة اللسان إلى ذلك، لأن الجيم أدنى الحروف القمرية إلى اللام (6).
النوع العاشر: إدغام الراء في مقاربها، ولم يأت في القرآن إدغامها في مقاربها إلا في اللام نحو {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [آل عمران: 31] و {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48]. ولم يدغم فيها
__________
(1) الداني: التحديد 38و، والقرطبي: الموضح 172ظ.
(2) مكي: الكشف 1/ 141.
(3) النشر 1/ 222221.
(4) مرشدة المشتغلين 5و.
(5) الكشف 1/ 141.
(6) السعيدي: التنبيه 50و.(1/353)
غير أبي عمرو بن العلاء.
النوع الحادي عشر: إدغام النون الساكنة ولو تنوينا في مقاربها. أما الميم الساكنة فلم تدغم في مقاربها بل مثلها.
قال المرعشي: «ولما جرت العادة في كتب هذا الفن بإفراد أحوالهما بالتبويب نسلك مسلكهم ونضع بابين، الباب الأول في النون الساكنة والتنوين الباب الثاني في الميم الساكنة» (1).
ومذهب المرعشي في دراسة الظواهر الصوتية المتعلقة بالأصوات الأنفية (النون والميم) في بابين منفصلين مذهب مقبول من حيث كثرة الأحكام التي تتعلق بالموضوع، إلى جانب أن معظم تلك الأحكام مما اتفق عليه القراء. وإفراد أحكام النون الساكنة والتنوين بباب مستقل اتجاه قديم يرجع إلى مؤلفات علم التجويد الأولى، مثل (الرعاية) لمكي، و (التحديد) للداني اللذين تضمن كل منهما بابا مستقلا في ذلك (2). وما زال هذا المنهج مناسبا لدراسة الموضوع فيما أعتقد.
وقبل أن نعرض أحكام الأصوات الأنفية (الغنّ) لا بد من بيان حقيقة الإدغام الناقص، لكي يتضح إدغام الطاء في التاء والقاف في الكاف المذكورين في النوعين الخامس والثامن من أنواع الإدغام التي ذكرها المرعشي.
رابعا حقيقة الإدغام الناقص:
يقسم علماء التجويد الإدغام إلى كامل وناقص، على نحو ما ذكرنا من قبل. والإدغام الناقص «هو إدغام الحرف المفخم في المرقق إذا تجانس الحرفان أو تقارب المخرجان، مع إبقاء صفة التفخيم، نحو: أحطت، وبسطت» (3). وكذلك يدخل فيه إدغام الحرف المستعلي في الحرف المستفل والأغن في غيره مع بقاء صفتيهما. قال المرعشي: «والصفة الباقية من الحرف الأول:
إما غنة، وهي في إدغام نون الساكنة والتنوين في الواو والياء.
وإما إطباق، وهو في الطاء المهملة في التاء المثناة الفوقية نحو (أحطت).
__________
(1) جهد المقل 28و.
(2) انظر: الرعاية ص 236، والتحديد 20و.
(3) النابلسي: كفاية المستفيد 17ظ.(1/354)
وإما استعلاء، وهو في إدغام القاف في الكاف في {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ} (1)
وسوف نعالج إدغام النون الساكنة مع بقاء الغنة في الفقرة الآتية من هذا المبحث، حيث نناقش أحكام الأصوات الأنفية. ونكتفي هنا بتوضيح موقف علماء التجويد من إدغام الصوت المستعلي والصوت المطبق، لا سيما أن إبقاء الغنة يختلف عن إبقاء صفة الإطباق والاستعلاء، وذلك راجع للاختلاف بين طبيعة الصوت المطبق والصوت المستعلي وبين طبيعة الصوت الأغن (الأنفي).
والكلام في هذا الموضوع قديم، ناقشه علماء العربية الأوائل، ولكن كلامهم فيه كان موجزا، ولم يتوغلوا فيه كما فعل علماء التجويد. وكان سيبويه قد أشار إلى جواز إبقاء الإطباق وجواز إذهابه، فقال وهو يتحدث عن إدغام الطاء في الدال، وهو ينطبق على حكم إطباق الطاء في التاء، وقد صرح سيبويه نفسه بذلك: «الطاء مع الدال، كقولك: اضبدّ لما (اضبط دلما) لأنهما من موضع واحد، وهي مثلها في الشدة إلا أنك قد تدع الإطباق على حاله فلا تذهبه ومثل ذلك إدغامهم النون فيما تدغم فيه بغنة. وبعض العرب يذهب الإطباق حتى يجعلها كالدال سواء، أرادوا أن لا تخالفها إذ آثروا أن يقلبوها دالا، كما أنهم أدغموا بلا غنة. وكذلك الطاء مع التاء إلا أن إذهاب الإطباق مع الدال أمثل قليلا، لأن الدال كالطاء في الجهر والتاء مهموسة. وكلّ عربيّ» (2). وأكد سيبويه هذا الموقف حين تحدث عن إدغام الصاد في السين في مثل (افحص سالما)، وقال: «تدع الإطباق على حاله، وإن شئت أذهبته» (3).
وتحدث عن هذا الموضوع أيضا الفراء في كتابه (معاني القرآن)، ويتضمن حديثه موقفا جديدا. فكلام سيبويه السابق يندرج في باب الإدغام المدبر (الرجعي) الذي هو أصل الإدغام في العربية، لكن كلام الفراء يذكر مذهبا للعرب في إدغام الحرف المطبق في مجانسه يندرج في باب الإدغام المقبل (التقدمي)، وذلك حيث قال: «وقوله: {فَقََالَ أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ} [النمل: 22]. قال بعض العرب: أحطّ، فأدخل الطاء مكان التاء. والعرب إذا لقيت الطاء التاء فسكنت الطاء قبلها صيروا الطاء تاء. فيقولون: أحتّ، كما يحوّلون الظاء تاء في قوله {أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوََاعِظِينَ} [الشعراء: 136]» (4) وذلك في
__________
(1) جهد المقل 25و.
(2) الكتاب 4/ 460.
(3) الكتاب 4/ 461.
(4) معاني القرآن 2/ 289. وانظر أيضا 1/ 172.(1/355)
(أوعظت) (1).
ويتلخص من كلام سيبويه والفراء أن للعرب في إدغام الطاء الساكنة إذا جاءت بعدها التاء في مثل (أحطت) ثلاثة مذاهب:
1 - جعل الطاء تاء وإدغامها في التاء فيكون اللفظ (أحتّ)، وهو من باب إدغام الأول في الثاني إدغاما خالصا، وهو الأصل في الإدغام.
2 - جعل التاء طاء وإدغام الطاء الأولى فيها فيكون اللفظ (أحطّ)، وهو من باب إدغام الثاني في الأول، أعني قلب الثاني إلى جنس الأول.
3 - إدغام الطاء في التاء مع الملاحظة على إطباقها فيكون اللفظ (أحطت) بحيث يرتفع اللسان بالطاء والتاء ارتفاعة واحدة، مع المحافظة على إطباق الطاء وإخلاص لفظ التاء. وهذه الحالة هي التي سماها علماء التجويد بالإدغام الناقص، وهي مدار الكلام.
ولم ترد القراءة إلا بالوجه الثالث، قال الداني: «فإن التقت الطاء وهي ساكنة بتاء أدغمت فيها بيسر وبيّن إطباقها مع الإدغام، وإذا بيّن امتنعت من أن تنقلب تاء خالصة، لأنها بمثابة النون والتنوين، إذا أدغما وبقيت غنتهما. هذا مذهب القراء. وقد يجوز إدغامها وإذهاب صوتها كما جاز ذلك في النون والتنوين، وذلك نحو: (فرّطتم، وأحطت، وبسطت) وما أشبهه» (2).
وقال عبد الوهاب القرطبي: «الطاء إذا سكنت وبعدها تاء فإن الإدغام يجب لتقارب المخرج، ويبقى صوت من الإطباق، كقوله تعالى: (أحطت) و (فرطت) و (فرطتم) وكان قياسه قلب الطاء تاء وإدغامها في التاء، كما في الحروف المتقاربة مثل {هَلْ ثُوِّبَ}
[المطففين: 36] و {مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وما أشبه ذلك. إلا أنه لما كان من أحكام الإدغام أن الحرف إذا كان له فضيلة ومزية على مقاربه امتنع الإدغام، وكان للطاء فضيلة ومزية على التاء بالإطباق الذي في الطاء كره ذهاب إطباقها بالإدغام مع القلب المحض، فغادروا فيه صويتا من الإطباق لئلا يجحفوا بها ويسلبوها مزيتها فأدغمت في التاء مع إبقاء شائبة من الطاء
__________
(1) قال علم الدين السخاوي (جمال القراء 193ظ): «وقد روى نصير وجماعة عن الكسائي (أوعتّ) بإدغام الظاء وصوتها كما تقول (أو عدت) من الوعد». قال الداني (التحديد 32ظ): إن ذلك «لا يصح في الأداء ولا يؤخذ به في التلاوة». وانظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 187.
(2) التحديد 31ظ، مكي: الرعاية ص 173.(1/356)
لذلك» (1).
وذكر ابن الجزري في كتابه (التمهيد في علم التجويد) هذا النص: «قال شريح في نهايته (2): من العرب من يبدل التاء طاء، ثم يدغم الطاء الأولى في الثانية فيقول: أحطّ، وهذا مما يجوز في كلام الخلق لا في كلام الخالق» (3).
واعترض ابن الحاجب، وهو نحوي من القراء (4)، على النحويين في إطلاقهم الإدغام في الحروف المطبقة واشتراطهم بقاء الإطباق، وكذلك اعترض على تشبيههم بقاء صوت الإطباق مع الإدغام ببقاء الغنة، لأن الغنة في رأيه لا يتوقف حصولها على مجيء النون لأنها من الخيشوم والنون من الفم، وليس كذلك الإطباق لأنه لا يستقيم إلا بنفس الحرف، ثم قال:
«وأشبه ما يجاب به (أنه) في الحقيقة ليس بإدغام، ولكنه لما اشتد التقارب وأمكن النطق بالثاني بعد الأول من غير نقل اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل، فأطلق عليه الإدغام لذلك، ولذلك يحس الإنسان من نفسه ضرورة عند قوله (أحطت) النطق بالطاء حقيقة وبالتاء بعدها، فلا يجوز أن يقال إن الطاء مدغمة، لأن إدغامها يوجب قلبها إلى ما بعدها. وقد علم أنها لم تقلب، ولا يصح أن يقال إن ثم حرفا آخر أدغم في التاء مع بقاء الطاء الأولى، لما يؤدي إليه من إدغام الحرف وإظهاره في حالة واحدة، ولما يؤدي إليه من التقاء الساكنين، وذلك فاسد. فثبت أن الأمر على ما ذكرناه من أن الطاء مبينة، وإنما اشتد التقارب حتى نطق بالتاء بعدها من غير فصل، فأطلق لفظ الإدغام لذلك» (5).
وقد أكد ابن الحاجب اعتراضه على تسمية مجيء الطاء الساكنة قبل التاء مع المحافظة على إطباق الطاء، إدغاما، فقال: «والإطباق في نحو (فرطت) إن كان مع إدغام فهو إتيان بطاء أخرى، وجمع بين ساكنين» (6). وقد نقل الأسترآباذي أن ابن الحاجب قال: «والحق أنه
__________
(1) الموضح 172و، وانظر: علم الدين السخاوي: جمال القراء 193و.
(2) هو شريح بن محمد الرعيني صاحب كتاب (نهاية الإتقان في تجويد القرآن) انظر رقم 9من مصادر علم التجويد في هذا البحث.
(3) التمهيد ص 44.
(4) ترجم له ابن الجزري في غاية النهاية 1/ 508.
(5) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 509. وانظر: الجاربردي: شرح الشافية ص 255، والوفائي: الجواهر المضية 51و.
(6) انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 280. وقد أشكل على طاش كبري زاده فهم هذه العبارة، وذهب(1/357)
ليس مع الإطباق إدغام صريح بل هو إخفاء يسمى بالإدغام لشبه به» (1) ولا نعلم أين ذكر ابن الحاجب هذا القول، فلم نعثر عليه في (الإيضاح في شرح المفصل)، كما أنه ليس في الشافية.
ويبدو لي أن إطلاق مصطلح (الإدغام الناقص) (2) على الحالة السابقة أدق من استخدام كلمة (الإخفاء) التي لها معنى محدد يتصل بأحكام النون الساكنة فقط، والقول بأن (الإخفاء) حالة بين الإدغام والإظهار ليس كافيا في توضيح الطبيعة الصوتية لما يجري في مثل (أحطت).
وقد نقل المرعشي قول ابن الحاجب السابق، عن الجاربردي: «ولذلك يحس الإنسان من نفسه ضرورة عند قوله (أحطت) النطق بالطاء حقيقة، وبالتاء بعدها، انتهى»، ثم علق عليه المرعشي بقوله: «أقول: لكن تعدم قلقلة الطاء حينئذ، إذ هي لا تحصل إلا برفع اللسان عن المخرج» (3).
وتعليق المرعشي يفتح الباب لتوضيح طبيعة الصوت في نطق (أحطت)، فمن المعلوم أن الصوت الشديد (الانفجاري) يتكون من حبس النفس ثم إطلاقه. وقد اجتمع في (أحطت) حرفان شديدان من مخرج واحد هما الطاء والتاء، ونطقهما يقتضي حبس ثم إطلاق، يليه حبس ثم إطلاق، لكن الذي يحصل عند نطق (أحطت) حبس واحد للنفس يليه إطلاق. وهو عين ما يسميه العلماء بالإدغام حين يرتفع اللسان عن الحرفين ارتفاعة واحدة، لكن زمن حبس النفس في حالة الإدغام أطول من زمن حبسه في الصوت الواحد الشديد.
وتداخل نطق صوتي الطاء والتاء في (أحطت)، بحيث صار نطق الصوتين يتكون من حبس واحد للنفس يليه إطلاق واحد، يفسر لنا قول المرعشي (تعدم قلقلة الطاء حينئذ) لأن القلقلة ما هي إلا الصوت الناتج عن إطلاق نفس الصوت الشديد بعد حبسه، وإطلاق النفس في هذه الحالة صار للتاء، وهو ليس من حروف القلقلة.
فقول علماء العربية وعلماء التجويد في وصف نطق الطاء والتاء في (أحطت) وكل
__________
إلى أن إبقاء الإطباق مع الإدغام يقتضي زيادة طاء قبل التاء المشددة، (انظر: شرح المقدمة الجزرية (له) 22ظ) وقد بالغ علي القاري في الرد عليه (المنح الفكرية ص 30).
(1) شرح الشافية 3/ 282.
(2) علي القاري: المنح الكفرية ص 29، والنابلسي: كفاية المستفيد 17ظ، والمرعشي: جهد المقل 26ظ.
(3) جهد المقل 27و.(1/358)
الأمثلة التي تشبهه بأنه إدغام قول صحيح. وقول علماء التجويد بأنه إدغام ناقص قول دقيق وصائب، لبقاء شائبة إطباق في النطق. وتفسير ذلك أن الطاء والتاء من مخرج واحد وأن الطاء يتميز عن التاء بالإطباق، والقراء يحرصون على عدم الإجحاف بهذه الصفة، ويتحقق لهم ذلك مع حصول الإدغام الذي يهدف إلى الاقتصاد بالجهد، ويتم ذلك بأن يشرب حبس النفس صوت الإطباق، وهو يمثل صوت الطاء، ويعدم الإطباق في الجزء الثاني من الصوت وهو إطلاق النفس الذي يمثل صوت التاء. فالصوت الناتج من إدغام الطاء في التاء يتألف، فيما يبدو لي، من نصف طاء، ونصف تاء، مع مكوث أطول بين حبس النفس وإطلاقه، فقول علماء التجويد أن هذا إدغام ناقص قول له ما يسوغه من ناحية النطق لبقاء بعض صفات الصوت الأول الذي يجب أن يفنى في الصوت الثاني لو كان إدغاما كاملا خالصا.
وإذا وقعت القاف الساكنة قبل الكاف في مثل (نخلقكم) من قول الله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مََاءٍ} [المرسلات: 20] فإن بعض القراء يدغم القاف في الكاف إدغاما محضا لا يبقى للقاف معه أثر، ويصير النطق (نخلكّم) بكاف مشددة. مثل إدغام الطاء في التاء في (أحطت) إدغاما كاملا، فيكون النطق (أحتّ) بتاء مشددة، وبعض القراء يدغم القاف في الكاف مع إبقاء صفة الاستعلاء التي يتصف بها القاف، فيكون حينئذ إدغاما ناقصا ينطبق عليه ما ذكرناه مع إدغام الطاء في التاء مع إبقاء صفة الإطباق. قال ابن الباذش: «وأنت مخيّر في إبقاء الصفة مع الإدغام أو إذهابها، وكأن إجماعهم على إبقاء الإطباق في (أحطت) يقوّي إبقاء الاستعلاء هنا، وكلا الوجهين مأخوذ به، والله أعلم» (1).
قال ابن الجزري: «فأما إذا كانت ساكنة قبل الكاف كما هي في قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ} فلا خلاف في إدغامها، وإنما الخلاف في إبقاء صفة الاستعلاء مع ذلك، فذهب مكي وغيره إلى أنها باقية مع الإدغام كهي في أحطت وبسطت (2). وذهب الداني وغيره إلى إدغامه إدغاما محضا (3). والوجهان صحيحان» (4).
فمذهب من أدغم القاف في الكاف مع إبقاء صفة الاستعلاء في القاف يكون من باب الإدغام الناقص الذي يبقى معه للحرف الأول بعض صفاته. وهو في ذلك نظير الإدغام في
__________
(1) الإقناع 1/ 186183.
(2) الرعاية ص 145.
(3) التحديد 27ظ 28ظ.
(4) النشر 1/ 221. وانظر: المرعشي: جهد المقل 27و.(1/359)
(أحطت) مع ملاحظة أن الطاء والتاء من مخرج واحد، بينما القاف والكاف من مخرجين، لكن تدانيهما في المخرج ييسر ارتفاع اللسان بهما ارتفاعة واحدة من غير فصل بينهما. فيحمل الاحتباس للنفس صفة الاستعلاء المقترن بالقاف، بينما يتميز إطلاق النفس بالاستفال المتصف به صوت الكاف.
خامسا أحكام الأصوات الأنفية (الغن):
الأصوات الأنفية هي النون والميم، وهي التي سماها علماء العربية وعلماء التجويد بحروف الغنة، قد عدّها بعض العلماء ثلاثة أصوات فأضاف إليها التنوين، وهو في الحقيقة نون ساكنة (1). قال المرادي (ت 749هـ): «اعلم أنه جرت عادة القراء بالتنصيص على التنوين مع أنه مندرج في قولهم النون الساكنة، وإنما أفردوه بالذكر لأنه يسقط خطا، بخلاف غيره من أقسام النون الساكنة» (2).
وقد قال أبو شامة المقدسي (ت 665هـ)، وهو يتحدث عن الحروف التي تصحبها الغنة فقال: «وهي: التنوين والنون والميم، فهذه ثلاثة، و (هي) في الحقيقة حرفان: النون والميم، لأن التنوين نون خفيفة في المخرج والصفة، وإنما الفرق بينهما عدم ثبات التنوين في موضع الوقف وفي صورة الخط، وأنه لا يكون إلا زائدا على هجاء الكلمة، فلهذا يعتني القراء بالتنصيص عليه كقولهم: باب أحكام النون الساكنة والتنوين وأما سيبويه وأتباعه فلم يذكروا إلا النون والميم» (3).
ووضح الشيخ زكريا الأنصاري (ت 926هـ) خصائص كل من النون الساكنة والتنوين فقال: «فالنون الساكنة تثبت لفظا وخطا، ووصلا ووقفا، متوسطة ومتطرفة، وتكون في الأسماء والأفعال والحروف. والتنوين نون ساكنة زائدة تلحق الآخر لفظا لا خطا، ووصلا لا وقفا، لغير توكيد، ولا تكون إلا في الأسماء» (4).
والأصوات الأنفية أكثر الأصوات العربية تأثرا بمجاورة غيرها، لا سيما النون الساكنة والتنوين، ومن ثم كثرت أحكامها، واعتنى بها علماء التجويد عناية كبيرة، ولعل تطرف مخرج
__________
(1) انظر: ابن الطحان: مرشد القارئ 129و. وزكريا الأنصاري: تحفة نجباء العصر ص 2.
(2) المفيد 111و. وانظر: الطبلاوي: مرشدة المشتغلين 2و.
(3) إبراز المعاني (باب مخارج الحروف) ص 7.
(4) تحفة نجباء العصر ص 2.(1/360)
الميم (من بين الشفتين) وتوسّط النون مخارج حروف الفم (من بين طرف اللسان واللثة) هو الذي جعل أحكام النون أكثر من أحكام الميم، على الرغم من أن الصوتين كليهما أنفيان، وقد بلغ من عناية علماء التجويد بأحكام النون الساكنة والتنوين أن أفردها كثير منهم برسائل مستقلة (انظر رقم 31من مصادر علم التجويد).
1 - أحكام النون الساكنة والتنوين:
يذهب بعض علماء التجويد إلى جعل أحكام النون الساكنة والتنوين إذا وقعت قبل غيرها من الأصوات أربعة أحكام، هي: الإظهار (البيان)، والإدغام، والقلب والإخفاء (1). وهذا هو الاتجاه الغالب عند من درسوا الظواهر الصوتية المتعلقة بالنون الساكنة. ولكن بعض علماء التجويد عدّل في ذلك التقسيم فزاد في العدد حتى صارت خمسة أو ستة، وبعضهم أنقص حتى صارت الأحكام ثلاثة.
فذكر الشيخ زكريا الأنصاري أن الجعبري (ت 732هـ) جعل الأحكام ثلاثة هي:
إظهار، وإدغام محض وغيره، وإخفاء محض مع قلب ودونه (2).
أما الذين زادوا في الأحكام على الأربعة فإن منهم من يجعل الإدغام قسمين هما: إدغام كامل بلا غنة في الراء واللام، وإدغام ناقص لبقاء الغنة مع بقية حروف الإدغام، فتلك مع الإظهار والقلب والإخفاء خمسة أحكام (3). ومنهم من يجعل إدغام النون ثلاثة أقسام: إدغامها في الراء واللام قسم، وفي النون والميم قسم، وفي الياء والواو قسم، فيكون مجموع الأحكام حينئذ ستة، وهو مذهب مكي بن أبي طالب (4).
وقد قال البقري (ت 1111هـ)، وهو يتحدث عن تلك المذاهب: «إن بعض العلماء جعل للنون والتنوين أحكاما خمسة، وبعضهم جعلها أربعة، وبعضهم جعلها ثلاثة، والأمر في ذلك سهل. فأما من جعلها خمسة فقال: هي إدغام بغنة، وإدغام بلا غنة، وإظهار، وإقلاب، وإخفاء. ومن جعلها أربعة أسقط الإدغام الذي بلا غنة وأبهم الإدغام، فشمل الشيئين. ومن جعلها ثلاثة فعل كذلك وأسقط الإقلاب وأدخله في الإخفاء، فعلى كلامه يكون الإخفاء معه
__________
(1) الداني: التحديد 20و، 35ظ. وابن الباذش: الإقناع 1/ 247. والعطار: التمهيد 156ظ.
(2) تحفة نجباء العصر ص 2. وانظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 45.
(3) ابن الجزري: التمهيد ص 5352.
(4) الرعاية ص 236، والكشف 1/ 161.(1/361)
قلب أو لا قلب معه. والأولى أن تعد خمسة، تقريبا للمبتدئين وتسهيلا عليهم» (1).
أالإظهار:
معنى الإظهار هو أن يكون مخرج النون الساكنة والتنوين من الفم (2). وذلك بأن يعتمد طرف اللسان على اللثة ويجري الصوت غنة في الخيشوم، على نحو ما مرّ في تحديد مخرج النون.
وإنما يظهران إذا لقيهما حرف من حروف الحلق الستة: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء. أما الألف فلا يكون ما قبلها إلا متحركا، فلذلك خرجت عن نظائرها. وذلك نحو قوله تعالى: {وَيَنْأَوْنَ} [الأنعام: 26]، و {مَنْ آمَنَ} [البقرة: 62]، و {مِنْ شَيْءٍ إِلََّا}
[الحجر: 21]، ونحو {وَيَنْهَوْنَ} [آل عمران: 104]، و {مَنْ هََاجَرَ} [الحشر: 9]، و {جُرُفٍ هََارٍ} [التوبة: 109]، ونحو {أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7]، و {مَنْ عَمِلَ} [الأنعام:
54]، و {مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2]، ونحو {وَتَنْحِتُونَ} [الأعراف: 74]، و {مَنْ حَادَّ اللََّهَ}
[المجادلة: 22]، و {نََارٌ حََامِيَةٌ} [القارعة: 11]، ونحو {فَسَيُنْغِضُونَ} [الإسراء: 51]، و {مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] و {قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]، ونحو {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة:
3]، و {مِنْ خَيْلٍ} [الحشر: 6] و {يَوْمَئِذٍ خََاشِعَةٌ} [الغاشية: 2] (3).
وكان علماء العربية قد درسوا أحكام النون الساكنة إذا لقيت غيرها من الحروف، فنص سيبويه على إظهارها عند حروف الحلق الستة وعلل ببعدها عن مخرج النون (4). وذهب علماء المذهب نفسه في تفسير عدم تأثر النون بمجاورة حروف الحلق. فقال السعيدي: «إنما ظهرت النون الساكنة عند حروف الحلق لأنها تخرج من ذلق اللسان، وهي بعيدة من الحلق، ولا يكون الإخفاء والإدغام إلا لمقاربة الحرفين أو تزاحمهما في المخرج الواحد» (5). وقال مكي:
«والعلة في إظهار ذلك عند هذه الحروف أن الغنة والنون بعد مخرجهما من مخرج حروف الحلق، وإنما يقع الإدغام في أكثر الكلام لتقارب مخارج الحروف فلما تباعدت المخارج وتباينت وجب الإظهار، الذي هو الأصل، ولم يحسن غيره» (6).
__________
(1) غنية الطالبين ص 47.
(2) سيبويه: الكتاب 4/ 254، وابن الباذش: الإقناع 1/ 254.
(3) انظر: مكي: الرعاية ص 236، والداني: التحديد 20و، وابن الباذش: الإقناع 1/ 253.
(4) الكتاب 4/ 454. وانظر: المبرد: المقتضب 1/ 216.
(5) اختلاف القراء 60ظ.
(6) الرعاية ص 237236.(1/362)
وذكر سيبويه أن «بعض العرب يجري الغين والخاء مجرى القاف» (1) في إخفاء النون قبلها، وقال: «ألا ترى أنه يقول بعض العرب: منخل ومنغل فيخفي النون كما يخفيها مع حروف اللسان والفم لقرب المخرج من اللسان» (2). وذكر علماء القراءات أن من القراء من قرأ بإخفاء النون الساكنة والتنوين عند الخاء والغين، في بعض الروايات (3).
وعلل عبد الوهاب القرطبي ما يلحق النون قبل الخاء والغين من الإخفاء في لغة بعض العرب ومذهب بعض القراء، فقال: «فأما الغين والخاء فإنهما أقرب حروف الحلق إلى حروف الفم، فتأثرا بذلك القرب حتى جاز فيهما الإخفاء والإظهار جميعا. وقد قرئ بهما.
فمن أخفى النون عندهما أجراهما مجرى حروف الفم، ومن أظهرها معهما فكأنه اعتبر قربهما من باقي حروف الحلق، فأجرى عليهما حكمها من الإظهار» (4).
وقسّم الداني حروف الحلق بالنسبة لإظهار النون عندها قسمين: ما تظهر معه النون بتعمّل، وما تظهر معه بغير تعمّل. وذلك حيث قال: «وإنما بيّنت النون والتنوين عند هذه الحروف لبعد المسافة التي بينهما وبينهن، إلا أن بيانهما عند هن على ضربين: بتعمّل وغير تعمّل.
والتي يتعمّل بيانهما عندهن ثلاثة: الهمزة والغين والخاء، لأنه متى لم يتعمل ذلك عندهن ولم يتكلف انقلبت حركة الهمزة عليهما وسقطت من اللفظ، وخفيا عند الغين والخاء، لأن ذلك قد يستعمل فيهن، كما رواه ورش عن نافع في الهمزة () (5). ورواه المسيبي عنه في الغين والخاء، لقربهما من حرفي أقصى اللسان.
والتي لا يتعمّل بيانهما عندهن، إذ لا بد منه ضرورة ثلاثة أيضا: الهاء والعين والحاء.
كما حدثني الحسين بن علي، حدثنا أحمد بن نصر، قال: سمعت ابن مجاهد يقول: النون الساكنة والتنوين تبينان عند الحاء والهاء والعين ضرورة من غير تعمل» (6).
__________
(1) الكتاب 4/ 454.
(2) الكتاب 4/ 451.
(3) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 125.
(4) الموضح 178و.
(5) كلمة غير واضحة في الأصل.
(6) التحديد 20و 20ظ. وقال السيرافي (شرح كتاب سيبويه 6/ 532): سمعت أبا بكر بن مجاهد رحمه الله يقول: حروف الحلق التي تبين النون قبلها ستة، فأما ثلاثة فإن النون الساكنة تبين عندها ضرورة من غير تعمل، وهي الحاء والهاء والعين».(1/363)
والتعمل في بيان النون الساكنة والتنوين عند الهمزة هو لأجل ألا تسقط، لا خشية الإخفاء كما في الغين والخاء، وذلك لأن ورشا كان يلقي حركة الهمزة على الساكن قبلها فيتحرك بحركتها وتسقط هي من اللفظ، وذلك إذا كان الساكن غير حرف مد ولين، وكان آخر كلمة والهمزة أول كلمة أخرى، فالتنوين مثل {كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] و {مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللََّهَ} [نوح: 32]، والنون الساكنة مثل {مَنْ آمَنَ} و {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:
54] (1). فيكون النطق على قراءة ورش (كفون حد). و (من ستبرق). ولهذا نجد عبد الوهاب القرطبي يقول: «إن إخفاء النون عند الهمزة مستحيل غير ممكن، ولو تكلف متكلف ذلك لسقطت حركة الهمزة على النون وذهبت الهمزة. وإخفاؤها عند العين والحاء والهاء كذلك، ولو أمكن لأمكن مع قبح، وإخفاؤها مع الغين والخاء ممكن مستحسن فجاز معهما أعني الغين والخاء الإظهار والإخفاء، وامتنع الإخفاء ووجب الإظهار فيما عداهما» (2).
ومما يجب أن يقف عنده الدارس قول ابن مجاهد: «النون الساكنة والتنوين تبينان عند الحاء والهاء والعين ضرورة من غير تعمل» (3). ويمكن أن يفسر قوله (ضرورة) بأنه لا يتأتى عند نطق النون قبل هذه الحروف إلا إظهارها، أي إن إخفاءها قبلهن (مستحيل غير ممكن) كما جاء في قول عبد الوهاب القرطبي السابق. وإذا كان ذلك هو مراد ابن مجاهد، فكيف يمكن تفسيره من الناحية الصوتية، وهل يؤيده الدرس الصوتي الحديث؟
إن عناية دارسي الأصوات العربية المحدثين بالظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب محدودة جدا (4). ومن ثم فإن ما نجده عن أحكام النون الساكنة والتنوين لديهم لا يسعف الدارس في تقويم قول ابن مجاهد. ذلك القول الذي كان مجهولا لم يطّلع عليه أحد من دارسي الأصوات العربية المحدثين الذين اطلعنا على أعمالهم.
ويمكن أن نجد في طبيعة إنتاج أصوات الحلق وصوت النون تفسيرا لقول ابن مجاهد،
__________
(1) انظر: الداني: التيسير ص 3635.
(2) الموضح 178ظ.
(3) وهم محقق كتاب الإقناع لابن الباذش حينما نقل قول ابن مجاهد (1/ 256) هكذا (عند الهاء والخاء والغين) وقد قال في الهامش رقم (2): «في الأصل (عند الهاء والحاء والعين) وما أثبته من حاشيته» فإنه بذلك حذف الصحيح وأثبت المصحّف.
(4) كان الدكتور إبراهيم أنيس أكثرهم عناية بذلك (انظر الأصوات اللغوية ص 7169) وعلى نحو أقل جان كانتينو: دروس ص 6160. ثم أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 334.(1/364)
فأصوات الحلق، وبشكل أكيد الهمزة والهاء والعين والحاء، تخرج من نقطة أعمق من تلك النقطة التي يمكن أن يتخذ فيها النفس مجراه عبر الخيشوم، وهو ما يحصل عند نطق النون، ومن ثم لا يمكن أن تنطق الأصوات الأربعة مع الغنة، لأنها تتشكل قبل أن يصل النفس منطقة اللهاة التي تفتح مجرى النفس إلى الخيشوم لإنتاج صوت الغنة، وقد يمكن سد مجرى النفس نهائيا من الفم وفتحه عبر الخيشوم (الأنف) في أثناء نطق تلك الأصوات ويكون الصوت الحاصل حينئذ صوتا سمجا لا وجود له في أصوات اللغة.
ومن هنا يعد قول ابن مجاهد صحيحا، إذ لا يمكن أن تتأثر النون بأصوات الحلق الأربعة: الهمزة، مع الحرص على عدم تسهيلها، والهاء والحاء والعين. فتخرج النون الساكنة قبلها بينة مظهرة من غير تعمل، إذ لا يخشى عندها من الإدغام أو الإخفاء.
أما الخاء والغين فإنهما أقرب حروف الحلق إلى اللسان (الفم)، ويترجّح لديّ أنهما يخرجان من نقطة تقع بعد النقطة التي يمكن أن يتخذ فيها النفس مجراه عبر الأنف، ومن ثم يمكن أن تتأثر النون بمجاورتهما إذا لم يتعمل بإخراجها من مخرجها، فتخفى عندهما كما تخفى عند القاف، وسوف نوضح معنى الإخفاء بعد قليل إن شاء الله تعالى.
فإذا صح هذا التفسير لقول ابن مجاهد فإن ذلك يدل على إدراك علماء التجويد للصفات الدقيقة للأصوات، ويكون ابن مجاهد بذلك قد سبق إلى تقرير حقيقة لم تدر في خلد علماء الأصوات المحدثين الذين درسوا أصوات اللغة العربية.
وذهب بعض علماء التجويد إلى أن الغنة ساقطة من النون والتنوين إذا أظهرا قبل حروف الحلق، قال ابن الجزري: «قد ذكر بعض القراء في كتبهم أن الغنة باقية فيهما. وذكر شيخ الداني (ت 444هـ)، فارس بن أحمد (ت 401هـ)، في مصنف له أن الغنة ساقطة منهما إذا أظهرا، وهو مذهب النحاة وبه صرحوا في كتبهم» (1).
وعلّق علي القاري على قول ابن الجزري السابق بما نصه: «أقول يمكن أن يكون النزاع لفظيا، لأن من قال ببقائها أراد في الجملة لعدم انفكاك أصل الغنة عن النون. ومن قال بسقوطها أراد عدم ظهورها» (2). وعقب المرعشي على ذلك بقوله: «أقول: فظهر أن غنّتهما حينئذ كغنتهما متحركتين» (3).
__________
(1) التمهيد ص 52.
(2) المنح الفكرية ص 42.
(3) جهد المقل 28ظ.(1/365)
وإذا كانت الغنة هي الصوت الذي يخرج من الخيشوم فإنها حينئذ لا تنفك عن النون، كما قال علي القاري، ويكون قول بعض العلماء بأنها تسقط من النون الساكنة والتنوين إذا أظهرا قبل حروف الحلق لا معنى له، إلا إذا فسرنا بقاءها أو سقوطها على نحو آخر، مثل أن يراد بكونها باقية إطالة الصوت بها، وأن يراد بكونها ساقطة عدم إطالة الصوت بها. وقد قال بعض المحدثين: «وليست الغنة إلا إطالة الصوت بالنون مع تردد موسيقي محبّب فيها» (1).
لكن نحتاج حينئذ إلى إثبات أن معنى الغنة إطالة الصوت بالنون، وهو ما يتعارض مع تعريف علماء التجويد للغنة (2) وإلى إثبات أن من قال بسقوط غنة النون المظهرة أراد عدم إطالة الصوت بها، وهو ما لا نملك دليلا عليه.
وكل ما يمكن قوله بصدد هذه القضية أن إظهار النون الساكنة والتنوين عند حروف الحلق معناه اعتماد طرف اللسان على مخرج النون في الفم، وهو اللثة، ومرور النفس أثناء ذلك من الخيشوم محدثا صوت الغنة المصاحب لنطق النون.
ب الإدغام:
إذا تجاوزنا الحروف الستة التي تظهر النون الساكنة والتنوين قبلها فإننا نجد أنهما إذا وقعتا قبل بقية حروف العربية، يلحقهما نوع من التأثر، بتلك المجاورة. وقد يكون ذلك التأثر كاملا (كليا)، وقد يكون ناقصا (جزئيا). والنون تميزت بأن لها معتمدا في الفم، حيث يعتمد طرف اللسان على ما فويق الثنايا (أو اللثة)، ولها مجرى للنفس من الخيشوم ينتج عنه الصوت المصاحب للنون والذي يسميه العلماء بالغنة. وتأثر النون بالمجاورة قد يقتصر على تغير معتمد اللسان في الفم، ويبقى مجرى النفس من الأنف. وقد يشمل المعتمد والمجرى حين يفنى صوت النون في الصوت الذي يليه فناء تاما.
وقد ميّز علماء التجويد بين تينك الحالتين اللتين تتعرض النون فيهما للتأثر، فسموا التأثر الكامل بالإدغام، وسموا التأثر الناقص المتمثل بتغير المعتمد في الفم بالإخفاء، وبحثوا كل حالة على نحو مستقل. إلا أن بعض الأصوات يمكن أن تؤثر في النون تأثيرا كاملا وتأثيرا ناقصا في الوقت نفسه، وهي حينئذ تتأرجح بين حالتي الإدغام والإخفاء، لكن علماء التجويد وعلماء العربية بحثوا تلك الأصوات في باب الإدغام. ونحن هنا نتبع منهجهم ونبين وجهة
__________
(1) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 71.
(2) انظر موضوع (الغنة) ص 309.(1/366)
نظرهم، ولا يمنع ذلك من أن نبدي في الموضوع رأيا بعد أن نستكمل توضيح موقفهم.
والحروف التي تدغم فيها النون الساكنة ستة عند أكثر علماء التجويد وعلماء العربية، وقد جمعها بعضهم بقوله (يرملون) (1)، وبعضهم بقوله (ولنمير) (2)، وقد عدها أبو عمرو الداني خمسة وجمعها بقوله (لم يرو)، وقال: «والقراء يزيدون حرفا سادسا وهو النون، نحو {مِنْ نُورٍ} [النور: 40] و {يَوْمَئِذٍ نََاعِمَةٌ} [الغاشية: 8]. ولا معنى لذكرها معهن، لأنها إذا التقت بمثلها لم يكن غير إدغامها كسائر المثلين» (3). وهذا ما يفهم من كلام سيبويه (4). وهو ما نص عليه المبرد بقوله: «النون تدغم في خمسة أحرف: الراء واللام والياء والواو والميم» (5).
ولعل الذين ألحقوا النون بحروف الإدغام أرادوا أن تكون أحكام النون الساكنة والتنوين شاملة لجميع الحروف، لا يشذ منها شيء.
ويعلل علماء التجويد إدغام النون الساكنة والتنوين في هذه الحروف للتقارب بينهما في المخارج أو التناسب في الصفات، قال الداني: «وإنما أدغمت النون والتنوين في هذه الحروف للقرب الذي بينهما وبينهن والتشاكل والمشابهة: فأدغما في الراء واللام لقرب مخرجهما من مخرجهما على طرف اللسان، وقد قيل: إنهن من مخرج واحد.
وأدغما في الميم للمشاركة التي بينهما وبينها في الغنة، حتى كأنك تسمع النون كالميم والميم كالنون لنداوة صوتهما.
وأدغما في الواو للمؤاخاة التي بين الواو والميم في المخرج، إذ كانا يخرجان من بين الشفتين، وأيضا فإن المد الذي في الواو بمثابة الغنة التي في الميم.
وأدغما في الياء لمؤاخاتها الواو في المد واللين، ولقربها أيضا من الراء، لأنه ليس يخرج من طرف اللسان أقرب إلى الراء من الياء، ولذلك يجعل الألثغ الراء ياء» (6).
__________
(1) مكي: الرعاية ص 237، وانظر: ابن خالويه: الحجة ص 44. والأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 273.
(2) القرطبي: الموضح 170ظ.
(3) التحديد 20ظ، وانظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 246و 261.
(4) الكتاب 4/ 453452.
(5) المقتضب 1/ 221، وانظر: السيرافي: ما ذكره الكوفيون من الإدغام مجلة المورد، مج 12، ج 2، ص 136.
(6) التحديد 20ظ 21و. وانظر: القرطبي: الموضح 170ظ.(1/367)
ولا يبتعد ما قدمه مكي في تعليل إدغام النون الساكنة والتنوين في الحروف الستة عما قاله الداني، فقال عن إدغامهما في اللام والراء: «والعلة في ذلك قرب مخرج النون من مخرج اللام والراء» (1). وقال عن إدغامهما في النون والميم: «والعلة في إدغامها (أي النون) في النون اجتماع المثلين، والأول ساكن، فلا بد من الإدغام في كل مثلين التقيا، والأول ساكن والعلة في إدغامها في الميم أن الميم تشاركها في الغنة، فتقاربا للمشاركة فحسن الإدغام» (2). وقال أيضا: «والعلة في إدغامهما في الياء والواو أن الغنة التي في النون أشبهت المد واللين اللذين في الياء والواو، فوجب الإدغام لهذه المشابهة» (3).
ويقسم علماء التجويد الحروف الستة إلى ما تدغم فيه النون الساكنة إدغاما تاما لا تبقى معه غنة، وإلى ما تدغم فيه إدغاما ناقصا بغنة. «فأما الراء واللام فيدغم النون والتنوين فيهما بغير غنة، هذا المأخوذ به في الأداء، فينقلبان من جنسهما قلبا صحيحا، ويدغمان إدغاما تاما، ويصير مخرجهما من مخرجهما، وذلك باب الإدغام» (4). وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات: 11] و {خَيْراً لَهُمْ} [آل عمران: 110] و {مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] و {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182].
وقد ذكر سيبويه أن النون تدغم في الراء واللام بغنة وبغير غنة (5). وقال المبرد:
«وإدغامهما فيهما على وجهين: بغنة، وبغير غنة، وإظهار الغنة أحسن لئلا تبطل، وإن شئت أذهبت الغنة» (6). وقال السيرافي: «الأجود في إدغام النون في الراء أن تكون بغنة» (7). لكن الأسترآباذي قال: «الأولى ترك الغنة» (8).
وأكثر علماء الأداء يأبون إظهار غنة النون حين تدغم في الراء واللام، وذكر المرادي أن المهدوي ادّعى الإجماع على ذلك (9). وقال مكي: «وأجاز النحويون إظهار الغنة مع اللام
__________
(1) الرعاية ص 237.
(2) الرعاية ص 238، والكشف 1/ 163.
(3) الرعاية ص 239، والكشف 1/ 164.
(4) الداني: التحديد 21و.
(5) الكتاب 4/ 452. وانظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 517.
(6) المقتضب 1/ 217.
(7) شرح كتاب سيبويه 6/ 515، وانظر: المرادي: شرح التسهيل 308ظ.
(8) شرح الشافية 3/ 273.
(9) شرح التسهيل 308ظ.(1/368)
خاصة، والذي أجمع عليه القراء إدغام الغنة مع الراء واللام، وذلك نحو قوله {مِنْ لَدُنْهُ}
[النساء: 40] و {مِنْ رَبِّهِمْ}. وذلك إجماع من القراء، والإظهار في مثل هذا يعده القراء لحنا لبعده من الجواز. وقد أتت به روايات شاذة غير معمول بها» (1).
ومع ذلك نجد ابن الباذش يذكر في كتابه (الإقناع في القراءات السبع) الروايات التي جاء من طريقها إدغام النون في الراء واللام مع إبقاء الغنة، ثم يقول: «والآخذون بالغنة في الراء واللام كثير جدا عن جميع القراء. وإنما ذكرت من قرأت له بها من طرق هذا الكتاب، وهو مذهب مشهور، لا ينبغي أن نستوحش منه، لتظاهر الروايات به، وصحته في العربية، وبعضهم يرجحه على إذهابها، كما كان ذلك في حروف الإطباق، وكذلك أيضا عند الواو والياء.
وسألت أبي رضي الله عنه: أيهما أحبّ إليك في الراء واللام؟ فقال: الأمر في هذا متقارب.
قال: وإنما أميل إلى ذهاب الغنة» (2).
قال الداني: «وأما الياء والواو فيدغمان فيهما وتبقى غنتهما، وهذا مذهب الجماعة من القراء غير حمزة، فإنه اختلف عنه في ذلك. وإذا بقيت غنتهما لم ينقلبا قلبا صحيحا، ولا أدغما إدغاما تاما، وإنما يتمكن ذلك فيهما إذا ذهبت تلك الغنة بالقلب الصحيح» (3). وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ} [الأنبياء: 29] و {وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ} [البقرة: 19] و {مِنْ وََالٍ}
[الرعد: 11] و {يَوْمَئِذٍ وََاهِيَةٌ} [الحاقة: 16].
وقال الداني: «وأما الميم فيدغمان فيهما إدغاما تاما، ويقلبان من جنسها قلبا صحيحا، مع الغنة الظاهرة. وإنما خصت الميم بذلك لأن فيها غنة كهما، فإن ذهبت غنة النون والتنوين بالقلب بقيت غنتها. وكذا حالهما مع النون كالميم سواء.
حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا ابن مجاهد، قال: لا يقدر أحد أن يأتي (بعمّن) بغير غنة، لعلّة غنة الميم.
قال ابن كيسان: إذا أدغمت النون في الميم فالغنة غنة النون.
وقال غيره: الغنة للميم، وبذلك أقول، لأن النون قد زال لفظها بالقلب، فصار مخرجها
__________
(1) الكشف 1/ 162.
(2) الإقناع 1/ 251. وقد قال السيرافي (شرح كتاب سيبويه 6/ 518): «وقد جاءت القراءات وكلام العرب بالأمرين جميعا».
(3) الداني: التحديد 21و. وانظر: مكي: الرعاية ص 239.(1/369)
من مخرج الميم، فالغنة لا شك للميم لا لها» (1). وهو ما نص عليه بعض دارسي الأصوات من المحدثين (2).
وتحدث عبد الوهاب القرطبي عن تفسير ما أدغم بغنّة وما أدغم بغير غنة فقال: «ووجه الإدغام بغير غنة أن الإدغام في المتقاربين يوجب قلب النون إلى جنس الحرف الذي أدغمت فيه، فتنقلب مع الراء راء، ومع اللام لاما، ومع الياء ياء، وهذه الحروف لا غنة فيها فلم يجب مع ذلك إبقاء غنة كسائر الحروف المتقاربة. وأما من أدغم بغنة فلأن الحرف إذا كان له مزية على الحرف امتنع إدغامه فيه والنون لها غنة في نفسها سواء كانت من الفم أو من الأنف، لأن الغنة صوت من الخيشوم يتبع الحرف، وكان خروجه من الفم، فاجتمع فيها مقاربتها لهذه الحروف ومزيتها عليها بالغنة، فجذبها كل واحد منهما إلى حكمه، فأدغمت للمقاربة وبقيت الغنة لحفظ المزية التي يمنع ذهابها الإدغام، وكأنهم كرهوا ذهاب الغنة حتى لا يكون لها أثر البتة، وهم يجدون سبيلا إلى الإتيان بها. فأما إذا أدغمت في مثلها أو في الميم فإنك غير محتاج إلى غنة، لأن في كل واحدة من الميم والنون غنة» (3).
وكان سيبويه قد نص على أن النون إذا وقعت قبل حروف الإدغام المذكورة في كلمة واحدة وجب إظهارها، وذلك حيث قال: «وتكون ساكنة مع الميم إذا كانت من نفس الحرف بيّنة. والواو والياء بمنزلتها مع حروف الحلق. وذلك قولك: شاة زنماء، وغنم زنم، وقنواء، وقنية، وكنية، ومنية. وإنما حملهم على البيان كراهية الالتباس فيصير كأنه من المضاعف، لأن هذا المثال قد يكون في كلامهم مضاعفا، ألا تراهم قالوا امّحى حيث لم يخافوا التباسا، لأن هذا المثال لا تضاعف فيه الميم ولا نعلم النون وقعت ساكنة في الكلام قبل راء ولا لام» (4).
وأورد علماء التجويد تلك الفكرة مع شيء من التوضيح والأمثلة من كلمات القرآن فقال الداني: «هذا الذي ذكرناه من الإدغام في حروف (لم يرو) إنما يكون ذلك إذا كانت النون معهن من كلمتين، فإن كانت معهن من كلمة لم يجز الإدغام نحو {قِنْوََانٌ} [الأنعام: 99] و {صِنْوََانٌ} [الرعد: 4]، و {بُنْيََانَهُ} [التوبة: 109]، و {الدُّنْيََا} [البقرة: 85]، وكذا:
__________
(1) الداني: التحديد 21ظ. وانظر: مكي: الرعاية ص 237.
(2) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 74.
(3) الموضح 171و.
(4) الكتاب 4/ 455. وانظر: المبرد: المقتضب 1/ 220.(1/370)
شاة زنماء وما أشبهه. وذلك مخافة أن يشتبه ذلك إذا أدغم بالمضاعف الذي على مثال (فعّال) نحو: صوّان، وحيّان، وشاة جمّاء، فعدل عن الإدغام لذلك» (1).
وقال عبد الوهاب القرطبي بعد أن أسهب في توضيح الفكرة: «وهذا وإن قلّ مثله في القرآن إلا أنا ذكرناه لئلا يتوهم من يسمعه أنه لحن خفي، فنبهنا عليه ليسلم منه» (2).
وكان سيبويه قد ذكر في (الكتاب) قضية كانت مثار جدل من بعده لدى بعض العلماء، فقد قال وهو يتحدث عن النون: «وهي مع الراء واللام والياء والواو إذا أدغمت بغنة فليس مخرجها من الخياشيم، ولكن صوت الفم أشرب غنة. ولو كان مخرجها من الخياشيم لما جاز أن تدغمها في الواو والياء والراء واللام، حتى تصير مثلهن في كل شيء» (3). وهذا النص ليس من الوضوح بما فيه الكفاية، ويفهم منه أن الغنة الظاهرة عند إدغام النون بغنة ليست غنة النون «ولكن صوت الفم أشرب غنة» وليس واضحا ما يريده سيبويه من (صوت الفم) هنا، أهو الصوت الذي تدغم فيه النون أم شيء آخر؟
وكان الأسترآباذي قد نقل رأي سيبويه، وذكر أن مراد سيبويه من (صوت الفم) هو الصوت الذي تدغم فيه النون. لكن الأسترآباذي لا يوافق سيبويه على ذلك. وهذا نص كلامه:
«ومذهب سيبويه وسائر النحاة أن إدغام النون في اللام والراء والواو والياء مع الغنة أيضا إدغام تام. والغنة ليست من النون، لأن النون مقلوبة إلى الحرف الذي بعدها، بل إنما أشرب صوت الفم غنة أما على ما اخترناه فالغنة للنون التي هي كالمدغمة. وأما على ما قال النحاة فلإشراب الواو والياء المضعفين غنة» (4).
وظهرت فكرة سيبويه السابقة عند بعض علماء التجويد، وإن لم يزايلها الغموض. قال مكي وهو يتحدث عن النون الساكنة والتنوين: «إنهما يدغمان في الياء والواو من كلمتين، مع إظهار الغنة في حال اللفظ بالمشدد، لا في نفس الحرف الأول بخلاف إظهار الغنة مع الإدغام في الميم والنون، فيكون ذلك أيضا إدغاما غير مستكمل التشديد، لبقاء بعض الحرف، وهو الغنة. وإنما لم تكن الغنة في نفس الحرف الأول كما كانت مع النون والميم، لأنك إذا أدغمت الأول في الياء أبدلت منه ياء، ولا غنة في الياء. وكذلك إذا أدغمته في الواو
__________
(1) التحديد 21ظ.
(2) الموضح 171ظ.
(3) الكتاب 4/ 454.
(4) شرح الشافية 3/ 274.(1/371)
أبدلت منه واوا، ولا غنة في الواو، فصارت الغنة تظهر فيما بين الحرفين لا في نفس الحرف الأول. وصارت مع الميم والنون تظهر في نفس الساكنة عند حروف الفم» (1).
ويتميز كلام مكي في النص السابق عن فكرة سيبويه أنه يجعل الغنة تظهر بين الحرفين، وفكرة البينية هذه جديدة على الموضوع. وقد صرح بها مكي مرة أخرى في كتابه (الكشف)، حيث قال: «لكن الغنة ظاهرة مع اللفظ بالمشدد، لا في نفس الحرف الأول، كأنها بين الحرفين المدغمين» (2). وأشار ابن الباذش في كتابه (الإقناع) إلى هذه الفكرة وقال: إن الغنة بين الحرفين، وليست في نفس الحرف الأول (3).
ولم تنل هذه الفكرة عند علماء التجويد إلا قليلا من الاهتمام، على الرغم من أن بعضهم نص على أن الغنة الظاهرة عند إدغام النون في الواو والياء هي غنة النون، لكن ذلك لم يكن في معرض الحديث عن الفكرة التي ذكرها سيبويه. قال عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ):
«فالغنة تقدر باقية من النون، وإن كانت قد انقلبت واوا أو ياء. ومثله (أحطت) و (فرطت) فإن الطاء تدغم بإبقاء شائبة منها مع أنها تنقلب تاء، والإطباق لها لا للتاء» (4). وقال السمرقندي (ت 780هـ): «وهذه الغنة التي بقيت مع الواو والياء غنة النون والتنوين، إذ لا غنة للواو والياء أصلا» (5). وكان الداني (ت 444هـ) قد قال قولا عاما في الغنة، وهو «إذ غير ممكن أن تكون منفردة في غير حرف أو مخالطة لحرف لا غنة فيه، لأنها مما تختص به النون والميم لا غير» (6).
وكلام القرطبي والسمرقندي هو الذي يتناسب مع حقيقة نطق النون إذا أدغمت بغنة في الواو والياء، فالنون لها معتمد في الفم، وصوت يخرج من الخيشوم هو الغنة. وهذه الغنة باقية مع الإدغام إلا أن معتمد اللسان في الفم في موضع النون يتحوّل إلى مخرج الحرف الذي تدغم فيه. وقد عبّر مكي (ت 437هـ) عن هذه الفكرة تعبيرا واضحا، بالرغم من أنه يقول إن الغنة كأنها بين الحرفين. وذلك حيث قال: «والحرف الذي فيه الغنة إن كان ميما فمن الشفتين
__________
(1) الرعاية ص 239.
(2) الكشف 1/ 164.
(3) الإقناع 1/ 253.
(4) الموضح 171و 171ظ.
(5) روح المريد 134و.
(6) نقلا عن ابن الجزري: النشر 2/ 28.(1/372)
يخرج، وإن كان نونا فمن طرف اللسان وأطراف الثنايا يخرج، فحرف الغنة له مخرجان، فإذا أدغمته أدغمت ما يخرج من الفم منه، وأبقيت ما يخرج من الخياشيم ظاهرا، فلا يتمكن التشديد مع بقاء الغنة ظاهرة، فإن أدغمت حرف الغنة في الراء واللام أدغمت ما يخرج من المخرجين جميعا، ولم تبق شيئا فيتمكن التشديد، إذ لم تبق من الحرف شيئا» (1).
وقد ذهب جماعة من علماء التجويد إلى أن ما بقيت فيه الغنة (إخفاء وليس بإدغام، ولو كان إدغاما لذهبت الغنة بانقلاب النون إلى حرف لا غنة فيه، لأن حكم الإدغام أن يكون لفظ الأول من الحرفين كلفظ الثاني» (2). وقد سماه ابن مجاهد إخفاء (3).
وقال الداني: «فمن بقّى غنة النون والتنوين مع الإدغام لم يكن ذلك إدغاما صحيحا في مذهبه، لأن حقيقة باب الإدغام الصحيح أن لا يبقى فيه من الحرف المدغم أثر إذ كان لفظه ينقلب إلى لفظ المدغم فيه فيصير مخرجه من مخرجه، بل هو في الحقيقة كالإخفاء الذي يمتنع فيه الحرف من القلب لظهور صوت المدغم وهو الغنة» (4). وقال أيضا: «هو قول الحذاق والأكابر من أهل الأداء» (5).
وقال علم الدين السخاوي (ت 643هـ) في شرح الشاطبية: «واعلم أن حقيقة ذلك في الواو والياء إخفاء لا إدغام، وإنما يقولون له إدغاما مجازا، وهو في الحقيقة إخفاء على مذهب من يبقي الغنة، لأن ظهور الغنة يمنع تمحيض الإدغام، إلا أنه لا بد من تشديد يسير، وهو قول الأكابر، قالوا: الإخفاء ما بقيت معه الغنة» (6). ونقل هذا النص السمرقندي في كتابه (روح المريد) (7).
ويأبى جماعة من علماء التجويد وعلماء العربية تسمية ذلك إخفاء، ويقولون إنه إدغام، لكنه إدغام ناقص لبقاء الغنة. قال ابن أبي الأحوص الأندلسي (ت 679هـ)، مؤلف كتاب (الترشيد في علم التجويد): «هو الصواب بدليل إبقائهم الإطباق في (أحطت) مع أنه إدغام
__________
(1) الكشف 1/ 164.
(2) ابن الباذش: الإقناع 1/ 252.
(3) كتاب السبعة ص 646.
(4) نقلا عن ابن الجزري: النشر 2/ 28. وانظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 44.
(5) انظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 253، والمرادي: المفيد 111ظ.
(6) انظر: المرادي: المفيد 111ظ.
(7) روح المريد 134و.(1/373)
صحيح ولم يقل أحد أنه إخفاء» (1). لكن ابن الحاجب (ت 646هـ) قال فعلا إنه في (أحطت) إخفاء (2). وقد بينا حقيقة هذا القول من قبل عند الكلام عن الإدغام الناقص.
وقال ابن الجزري (ت 833هـ): «الصحيح من أقوال الأئمة أنه إدغام ناقص من أجل صوت الغنة الموجودة معه، فهو بمنزلة صوت الإطباق الموجود مع الإدغام في (أحطت، وبسطت)، والدليل على أن ذلك إدغام وجود التشديد فيه، إذ التشديد ممتنع مع الإخفاء» (3).
وقال القسطلاني (ت 923هـ): «التحقيق أن الإدغام مع عدم الغنة محض كامل التشديد، ومع الغنة غير محض ناقص التشديد» (4).
وهذا الخلاف بين علماء التجويد هو خلاف في الاصطلاح، لا في حقيقة النطق، لأنهم جميعا يقولون إن إدغام النون في الواو والياء إذا كان بلا غنة فهو إدغام كامل، وذلك بأن تقلب النون واوا أو ياء وتندغم في الحرف الذي بعدها، وإذا كان بغنة، ومعناه انتقال مخرج النون إلى مخرج الحرف الذي تدغم فيه مع بقاء جريان النفس من الأنف، فإن بعضهم سماه إدغاما ناقصا، لبقاء شيء من الصوت الأول، وبعضهم سماه إخفاء لأنه تنطبق عليه صفة الإخفاء.
على ما سنوضح ذلك بعد قليل إن شاء الله تعالى. وقد سماه بعض المحدثين قلبا ناقصا، وذلك حيث قال: «فهو نوع من القلب تبعه إدغام، ولكنه قلب ناقص، إذ لم يتحول الصوت المقلوب إلى كل صفات الصوت المقلوب إليه، مما جعل القدماء يسمون هذا النوع من الإدغام إدغاما ناقصا» (5). وهذه التسمية لا تحمل معنى جديدا بالنسبة لما قاله علماء التجويد.
ويتلخص من ذلك أن أكثر علماء التجويد يذهبون إلى أن النون الساكنة والتنوين يدغمان في ستة أحرف، تجتمع في (يرملون). وأنهما عند هذه الحروف على قسمين، قسم يدغمان فيه بغنة، وهو حروف (يومن)، ولا يلتفت علماء التجويد إلى رواية بعض القراء إدغام الواو والياء بلا غنة. وقسم يدغمان فيه بلا غنة، أي إدغاما كاملا، وهو الراء واللام، وهم لا يلتفتون أيضا إلى مذهب بعض النحاة والقراء في جواز إدغامهما في اللام والراء بغنة.
__________
(1) نقلا عن المرادي: شرح التسهيل 308ظ.
(2) انظر: الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 282.
(3) النشر 2/ 28.
(4) اللئالئ السنية 25و.
(5) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 73.(1/374)
ج القلب:
إذا وقعت النون الساكنة قبل الباء تتأثر بها، ويتغير نطقها، ولكن لا يصل ذلك التأثر إلى حد الفناء التام في الباء، إنما تنقلب النون إلى صوت وسط بينها وبين الباء، وهو الميم، فهو من مخرج الباء، ويشارك النون في الغنة وهذا أمر قرره علماء العربية منذ سيبويه، الذي قال:
«وتقلب النون مع الباء ميما» (1).
وتحدث علماء التجويد عن ذلك، واهتموا بالجوانب المتعلقة بالأداء فيه، قال الداني:
«والحال الثالثة أن يقلبا ميما من غير إدغام، وذلك إذا لقيا الباء، نحو {أَنْ بُورِكَ} [النمل: 8]، و {أَنْبِئْهُمْ} [البقرة: 33]، و {جُدَدٌ بِيضٌ} [فاطر: 27]، و {ظُلُمََاتٌ بَعْضُهََا} [النور: 40]، وما أشبهه. وإنما قلبا ميما عندها خاصة من أجل مؤاخاة الميم للنون في الغنة ومشاركتها للباء في المخرج فقلبا ميما من أجل ذلك» (2).
وقال مكي: «ولا تشديد في هذا، والغنة ظاهرة فيه في نفس الحرف الأول، لأنك أبدلت من حرف فيه غنة حرفا آخر فيه غنة، وهو الميم الساكنة. فالغنة لازمة للمبدل والمبدل منه في نفسه، فلا بد من إظهارها في هذا على كل حال.
والعلة في إبدال النون الساكنة والتنوين ميما عند الباء أن الميم مؤاخية للباء، لأنها من مخرجها، ومشاركة لها في الجهر والشدة. وهي أيضا مؤاخية للنون في الغنة والجهر. فلما وقعت النون قبل الباء، ولم يمكن إدغامها فيها لبعد المخرجين، ولا أن تكون ظاهرة لشبهها بأخت الباء وهي الميم، أبدلت منها ميما لمؤاخاتها النون والباء» (3).
وإذا قلبت النون عند الباء ميما، ويسميه بعض العلماء إبدالا (4)، صار لها حكم جديد، هو حكم الميم إذا لقيت الباء، فإن {أَنْ بُورِكَ} تصير (أم بورك). قال عبد الوهاب القرطبي:
«ثم بعد قلبها ميما يتحول اللفظ إلى الإخفاء، لأن حظ الميم إذا سكنت أمام الباء الإخفاء، وغنة النون والميم عند الباء تشتبه، فلا يوجد في اللفظ فرق بين قوله {أَمْ بِظََاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}
[الرعد: 33]، {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]، وبين قوله {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [نوح: 17]،
__________
(1) الكتاب 4/ 453. وانظر: المبرد: المقتضب 1/ 218.
(2) التحديد 22و.
(3) الرعاية ص 240. وانظر: الكشف 1/ 165.
(4) ابن الباذش: الإقناع 1/ 257. وابن الطحان: مرشد القارئ 133ظ.(1/375)
{أَنْبِئُونِي} [البقرة: 31]. سواء كان قبل الباء نون أو ميم، لا فرق بينهما، كله في اللفظ سواء» (1).
وذكر السيرافي أن الفراء قال: «العنبر وكل نون ساكنة قبل الباء مخفية، أخفيت النون قبل الباء» (2). وذكر ذلك ابن الباذش فقال: «قال لي أبي رضي الله عنه: زعم الفراء (3) أن النون عند الباء مخفاة، كما تخفى عند غيرها من حروف الفم. وتأويل قوله أنه سمّى البدل إخفاء.
وقد أخذ بظاهر عبارته قوم من القراء المنتحلين في الإعراب مذهب الكوفيين، وتبعهم قوم من المتأخرين، خلطوا بين مذهب سيبويه وعبارة الفراء (4)، من القلب والإخفاء فغلطوا» (5).
ويفهم من قول السعيدي (ت في حدود 410هـ) الآتي أنه يأخذ بمذهب الفراء، قال:
«فلما لقيت النون باء، أمنوا الإدغام أو التشديد، فأخفوها كإخفائها عند سائر الحروف، وبقيت الباء مخففة على جهتها» (6). وقال في مكان آخر: «هي مثل إخفاء الميم عند الباء في قراءة أبي عمرو» (7).
وكان السيرافي قد اعترض على مذهب الفراء السابق، حيث قال: «والذي قاله سيبويه والبصريون: إنها ميم وهو الصحيح فإن ادّعى مدّع أنها نون مخفاة غير بينة وهي ساكنة بعدها باء، قيل له: اجعلها ميما، فإذا جعلها ميما فانظر هل بينها وبين النون المخفاة فرق؟ لا يوجد فرق بينهما إذا تأملته. وإذا كانت مخفاة مع الباء فهي بمنزلتها مع القاف والكاف ونحوهما، والذي يسمع غير ذلك» (8).
ولم نطلع على رأي الفراء بشكل مباشر (9)، ويفهم من النصوص السابقة أنه يسمي ما يجري للنون عند ما تقع ساكنة قبل الباء إخفاء، بينما يسميه غيره قلبا أو إبدالا، فيكون حكم
__________
(1) الموضح 179و.
(2) ما ذكره الكوفيون من الإدغام، مجلة المورد، مج 12، ج 2، ص 138.
(3) في الأصل المطبوع (القراء) بالقاف، وهو تصحيف.
(4) انظر الهامش السابق.
(5) الإقناع 1/ 258.
(6) اختلاف القراء 61و.
(7) التنبيه 46ظ.
(8) ما ذكره الكوفيون من الإدغام، مجلة المورد، مج 12، ج 2، ص 138.
(9) لم أعثر على رأي الفراء في كتابه (معاني القرآن) عند مراجعتي له وقت إعداد مادة هذا البحث.(1/376)
النون بعد أن تقلب ميما الإخفاء عند الباء. ولمذهب الفراء وجه من الصواب سوف نوضحه بعد أن نقف على معنى الإخفاء.
د الإخفاء:
إذا وقعت النون الساكنة قبل بقية حروف المعجم كان حكمها الإخفاء، وقد ذكر ذلك سيبويه حيث قال: «وتكون النون مع سائر حروف الفم حرفا خفيا مخرجه من الخياشيم، وذلك أنها من حروف الفم، وأصل الإدغام لحروف الفم، لأنها أكثر الحروف، فلما وصلوا إلى أن يكون لها مخرج من غير الفم كان أخف عليهم أن لا يستعملوا ألسنتهم إلا مرة واحدة، وكان العلم بها أنها نون من ذلك الموضع كالعلم بها وهي من الفم، لأنه ليس حرف يخرج من ذلك الموضع غيرها، فاختاروا الخفة إذا لم يكن لبس، وكان أصل الإدغام وكثرة الحروف للفم، وذلك قولك: من كان، ومن قال، ومن جاء» (1).
وعلماء التجويد حين درسوا موضوع إخفاء النون قدّموا تفصيلات قيّمة تتعلق بكيفية أداء النون المخفاة، وبتوضيح مخرجها. فقالوا: إن النون المخفاة لا يكون لها حظ في الفم، وتصير غنة في الخياشيم لا غير (2). وقال الداني: «وأما إخفاء النون والتنوين فحقه أن يؤتى بهما لا مظهرين ولا مدغمين، فيكون مخرجهما من الخياشيم لا غير، ويبطل عمل اللسان بهما، ويمتنع التشديد لامتناع قلبهما» (3). وقال ابن الطحان وهو يتحدث عن الإخفاء:
«وحقيقته أن يبطل عند النطق بها الجزء المعمل لها من اللسان عند التحريك والبيان، فلا يسمع إلا صوت مركب على الخيشوم» (4).
وقد علل الداني ظاهرة الإخفاء بقوله: «وإنما أخفيا عندهن لأنهما لم يبعدا منهن كبعد هما من حروف الحلق، فيجب الإظهار للتراخي، ولم يقربا منهنّ كقربهما من حروف (لم يرو) فيجب الإدغام للمزاحمة، فأخفيا فصارا لا مظهرين ولا مدغمين، وغنتهما مع ذلك باقية، ومخرجهما من الخيشوم خاصة، ولا عمل للسان فيهما. والخيشوم خرق الأنف المنجذب إلى داخل الفم» (5).
__________
(1) الكتاب 4/ 454. وانظر: الفراء: معاني القرآن 2/ 56و 210، والمبرد: المقتضب 1/ 215.
(2) انظر: السعيدي: اختلاف القراء 60ظ، ومكي: الرعاية ص 241.
(3) التحديد 15ظ. وانظر: المحكم (له) ص 75.
(4) مرشد القارئ 133ظ.
(5) التحديد 22و.(1/377)
وقول علماء التجويد: إن النون المخفاة لا عمل للسان فيها لا يوضح بدرجة كافية وضع اللسان أثناء النطق بها. إلا أن عبد الوهاب القرطبي أماط اللثام عن ذلك الجانب الخفي من كلام علماء العربية وعلماء التجويد، وقرر أن مخرج النون المخفاة يتصل بمخارج الحروف التي تقع بعدها، أي أن معتمد اللسان في الفم مع النون ينتقل إلى مخرج الحرف الذي تخفى عنده، ولكن يظل صوت الغنة جاريا من الأنف. وقد ورد ذلك في نص طويل تضمن التعريف والتعليل والأمثلة، ولذا آثرت نقله بتمامه.
قال عبد الوهاب القرطبي: «النون والتنوين تخفيان عند خمسة عشر حرفا من حروف الفم، وهي: القاف والكاف والجيم والشين والضاد والصاد والسين والزاي والطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء والفاء (1).
ومعنى خفائها ما قدمنا من اتصال النون بمخارج هذه الحروف واستتارها بها وزوالها عن طرف اللسان (2)، وخروج الصوت من الأنف من غير معالجة بالفم، ولذلك إذا لفظ بها اللافظ وسد أنفه بان الاختلال فيها. ولو تكلف متكلف إظهارها وأخرجها من الفم لأمكن ولكن بعلاج (3)، وهذا يبين بالمحنة.
فمثال إخفاء النون مع القاف قوله تعالى: {وَمَنْ قََالَ سَأُنْزِلُ} [الأنعام: 93]، ومع الكاف {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ} [البقرة: 98]. ومع الجيم {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل: 89]، ومع الشين {وَلَئِنْ شِئْنََا} [الإسراء: 86]، ومع الضاد {وَمَنْ ضَلَّ} [يونس: 108]، ومع الصاد {مِنْ صَلْصََالٍ} [الحجر: 26]، ومع السين {مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، ومع الزاي {مِنْ زَوََالٍ}
[إبراهيم: 44]، ومع الطاء {عَنْ طََائِفَةٍ} [التوبة: 66]، ومع الدال {مِنْ دُعََاءِ الْخَيْرِ}
[فصلت: 49]، ومع التاء {أَنْ تَبَوَّءََا} [يونس: 87] ومع الظاء {مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، ومع الذال {مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمََّا} [ص: 8]، ومع الثاء {مِنْ ثَمَرَةٍ} [البقرة: 25]، ومع الفاء {مَنْ فَعَلَ هََذََا} [الأنبياء: 59].
وإنما خفيت النون مع هذه الحروف لأنها حروف الفم، والنون أيضا لها مخرج من الفم، والإخفاء في طلب الخفة به كالإدغام في طلب الخفة به، فلما أمكن استعمال الخيشوم
__________
(1) أشرنا من قبل إلى مذهب بعض العرب وبعض القراء في إخفاء النون قبل الغين والخاء (انظر ص 363 من هذا البحث).
(2) قال في الموضح (174و): وحقيقته السترة، لأن المخرج يستتر بالاتصال.
(3) قال المازني: إظهارها عند هذه الحروف لحن. (انظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 260).(1/378)
وحده في النون ثم استعمال الفم وحده فيما كان أخف عليهم من استعمال الفم في إخراج النون ثم عودهم إليه فيما بعدها. وهذا معنى قول سيبويه رضي الله عنه: (كان أخف عليهم ألا يستعملوا ألسنتهم إلا مرة واحدة» (1) ولا يقع لبس في خروجها من الخيشوم. وساغ ذلك في حروف الفم دون حروف الحلق لقرب مدخل الخيشوم ومخرجه من حروف الفم دون حروف الحلق» (2).
ولم يسهم دارسو الأصوات العربية من المحدثين في تجلية حقيقة الإخفاء بشيء زيادة على ما قاله علماء التجويد، بل إن النفر القليل الذين تحدثوا عن الموضوع جاء كلامهم فيه من التردد وعدم الوضوح بما يبعده عن مرتبة الحقيقة المقررة. قال الدكتور إبراهيم أنيس:
«الدرجة التي تلي إظهار النون هي ما اصطلح القدماء على تسميته بالإخفاء، ويكون هذا مع خمسة عشر صوتا عند جمهور القراء هي: القاف والفاء، وليس ما سموه بالإخفاء إلا محاولة الإبقاء على النون، وذلك بإطالتها مما أدى إلى ما نسميه بالغنة. هذا إلى أننا نلحظ مع ما يسمونه بالإخفاء ميل النون إلى مخرج الصوت المجاور لها» (3). وقد لخص الدكتور أحمد مختار عمر النص السابق بقوله وهو يتحدث عن النون المخفاة: «فهي تطول وتميل إلى مخرج الصوت الذي بعدها» (4).
إن كون النون المخفاة تطول، وكونها تميل إلى مخرج الصوت الذي بعدها أمران لم يوفّ النصان السابقان حظهما من الوضوح، ونبدأ بمناقشة كون النون المخفاة تميل إلى مخرج الصوت الذي بعدها، ثم نناقش كون النون المخفاة تطول عند الكلام عن مقدار طول الغنة بعد قليل.
إن القول بأن (النون المخفاة تميل إلى مخرج الصوت الذي بعدها) لا يتضح منه المقصود بذلك الميل ولا مقداره. بينما يقرر علماء التجويد أن معتمد اللسان في الفم عند النطق بالنون المخفاة ينتقل إلى مخرج الصوت الذي بعدها، فهو ليس مجرد ميل، إنما انتقال إلى مخرج الصوت التالي، كما يحدث عند الإدغام، إلا أن الغنة باقية في الإخفاء بينما هي تزول في الإدغام. يؤكد ذلك ما نسمعه من نطق مجيدي قراءة القرآن الكريم اليوم، وأقوال
__________
(1) الكتاب 4/ 454.
(2) الموضح 177ظ.
(3) الأصوات اللغوية ص 7271.
(4) دراسة الصوت اللغوي ص 334.(1/379)
علماء التجويد التي نقلنا بعضها قبل قليل، ونضيف إلى ذلك قول مكي: «فالغنة التي في الحرف الخفي هي النون الخفية، وذلك أن النون الساكنة مخرجها من طرف اللسان وأطراف الثنايا، ومعها غنة تخرج من الخياشيم، فإذا خفيت لأجل ما بعدها زال مع الخفاء ما كان يخرج من طرف اللسان منها، وبقي ما كان يخرج من الخياشيم ظاهرا» (1).
إن الدارس حين يتأمل نطق مثل (من قال) و (من كان) يجد أن معتمد النون قد انتقل من طرف اللسان إلى أقصاه حيث يعتمد للصوت التالي للنون. وكذلك الحال في مثل (إن جاء) و (إن شاء) فإن معتمد اللسان لصوت النون ينتقل إلى مخرج الجيم والشين. ومثل ذلك يحدث في مثل (من تاب) و (عن ذكر) و (من سأل) و (من فعل). واللسان يعتمد للنون وللصوت الذي بعدها في كل ذلك اعتمادة واحدة، إلا أن الجزء الأول منها مصحوب بغنة هي بقية النون، بينما الجزء الأخير من الاعتماد هو للصوت الذي يلي النون خاليا من الغنة.
ويلاحظ هنا أن اعتماد اللسان للنون المخفاة إذا كان عند صوت شديد (انفجاري) فإن الغنة تخرج خالصة من الخياشيم، وأن اعتماده لها إذا كان عند صوت رخو (احتكاكي) فإن النّفس في أثناء خروجه من الأنف يكون مصحوبا بتسرب جزء منه من الفم من الموضع الذي يعتمد فيه للحرف الذي يأتي بعد النون، يتأكد ذلك بسد الأنف في أثناء النطق بالحالتين حيث تبطل الغنة في الحالة الأولى، من غير أن يشعر الناطق بجريان النفس من الفم، بينما تبطل الغنة في الحالة الثانية ويظل النفس جاريا في مخرج الحرف. هذا ما نجده من ملاحظة نطق مجيدي قراءة القرآن في زماننا، مع ما نشعر به من حاجة الموضوع إلى تحليل صوتي آلي دقيق، لا يتيسر لنا القيام به الآن.
أما كون الإخفاء (محاولة الإبقاء على النون وذلك بإطالتها مما أدى إلى ما نسميه بالغنة) كما ذهب إليه بعض المحدثين فأمر يفتقر إلى الوضوح، ولا يخلو من القصور. فالإخفاء ليس محاولة للإبقاء على النون إنما يمثل درجة من درجات تأثرها بما يجاورها من الأصوات. كما أن القول بإطالة النون حتى تؤدي إلى الغنة كلام لا يتناسب مع حقيقة صوت النون الذي لا تنفك عنه الغنة إلا إذا أدغم إدغاما كاملا.
ولم يترك علماء التجويد الأمر غامضا، فقد بينوا حقيقة الإخفاء، وحذروا من إطالة
__________
(1) الكشف 1/ 166.(1/380)
الغنة معه، فقال المرعشي: «وليحذر من تطويل غنة الإخفاء» (1). وقال أيضا: «واجعل غنة النون أكمل من غنة الميم، لأنها أغن من الميم، لكن احذر عن تطنين الغنة عند الوقف عليهما لأن إظهار الغنة وإن احتاج إلى تمديد لكن المبالغة في التمديد لحن، وهو معنى التطنين» (2)، وكان علماء التجويد قد حذروا من تطنين النون، ويعدون ذلك من معايب النطق التي يجب أن يجتنبها القراء (3).
وحاول بعض علماء التجويد المتأخرين توضيح مقدار الزمن الذي يستغرقه نطق الغنة، على مقدار ما أسعفتهم وسائلهم وقد أشار المرعشي إلى أنه لم ير في مؤلف تقدير امتداد الغنة (4)، لكنه قال: «لكن لا يصل امتدادها إلى قدر ألف أو أزيد» (5). وكان الدركزلي أكثر وضوحا في ذلك حيث قال: «وأما زمنها فهو أطول من زمن الحرف وأقصر من زمن الحرفين، فيكون قريبا من زمن المد الطبيعي» (6).
وقياس طول الصوت يعد من دقائق علم الأصوات التي لا تزال تفتقر إليها دراسة الأصوات العربية في الوقت الحاضر، ومحاولة علماء التجويد تحديد زمن الغنة أمر جدير بالملاحظة، ولم يكن ذلك مقتصرا على الغنة كما أنه لم يكن محصورا لدى علماء التجويد المتأخرين. وكان عبد الوهاب القرطبي متميزا بمعالجة هذا الجانب، مكثرا من الموازنة بين أطوال الأصوات. من ذلك قوله: «إن زمان النطق بالحرف الممدود أطول من زمان النطق بغيره، كما أن زمان النطق بالحرف المتحرك أطول من زمان النطق بالحرف الساكن» (7). وقوله عن المشدد: «ويلزم اللسان أو غيره من المخارج موضعا واحدا، إلا أن مكثه واحتباسه في المشدد لما حدث من التضعيف أكثر من مكثه واحتباسه في المخفف» (8). ثم قوله: «الواجب
__________
(1) جهد المقل 56ظ. وقد قال النابلسي (كفاية المستفيد 9و): «وليحترز القارئ من المد قبل إخفاء النون في نحو (كنتم) لئلا يتولد منها واو فتصير: كونتم». وانظر: زكريا الأنصاري: تحفة نجباء العصر ص 4.
(2) جهد المقل 63ظ.
(3) انظر: السعيدي: التنبيه 46و، 51و.
(4) جهد المقل 31ظ.
(5) بيان جهد المقل 5ظ.
(6) خلاصة العجالة 50و.
(7) الموضح 166و، وانظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 468.
(8) الموضح 169و 169ظ.(1/381)
معرفته من كيفية النطق بالمشدد وصفة التلفظ به وهو أن يكون مقدار زمان النطق بحرفين ساكن ومتحرك، ولا يزيد على ذلك فيصير كأنه نائب مناب أكثر من حرفين، ولا يقصر دونه» (1)
ومن ذلك أيضا قوله: «وإن زمان النطق بالتليين أطول من زمان النطق بالتشديد، لأن المد يبقى مع التليين ويذهب مع التشديد، فلذلك كان زمان التليين أطول» (2).
وإذا كان علماء التجويد لم يوفقوا في تحديد زمن كل صوت بالثانية وأجزائها فإن هذا أمر لا تزال الدراسة الصوتية المعاصرة تفتقر إليه. ويظل لعلماء التجويد فضل السبق في طرق أبواب الموضوع واستخدام الملاحظة الذاتية في تقريب زمن نطق الأصوات عن طريق الموازنة بينها وقياس طول الصوت بالنسبة إلى صوت آخر، واعتقد أن مثل قول المرعشي الآتي لا يزال مقبولا تؤيده الملاحظة الذاتية وإن كان بحاجة إلى التحديد الدقيق، يقول المرعشي:
«وبالجملة إن الحروف على أربع مراتب:
آنيّ لا يمتد أصلا، وهي الحروف الشديدة.
وزمانيّ يمتد قدر ألف، وهي حروف المد.
وزمانيّ يقرب من قدر ألف، وهي الضاد المعجمة وحروف التفشي.
وزمانيّ يقرب من الآني، وهي بواقي الحروف» (3).
وما قرره علماء التجويد من كون طول زمن الغنة يقرب من زمن حرف المد، وأنه ينبغي التحفظ من إطالة الغنة عند الإخفاء، كان شيئا عاما حاول بعض علماء التجويد التفصيل فيه، فجعلوا الإخفاء على درجات بحسب قرب أو بعد النون عن الأصوات التي تخفى عندها النون. فقال الداني: «وإخفاؤهما على قدر قربهما وبعدهما، فما قربا منه كانا عنده أخفى مما بعدا عنه» (4). وقال عبد الوهاب القرطبي: «إن حروف الإخفاء أيضا ترتبت في التوسط، فكان فيها أقرب وأبعد، فكان الإخفاء في الأقرب أكثر منه في الأبعد، فصار الأبعد بين الإخفاء والإظهار» (5).
__________
(1) الموضح 169ظ.
(2) الموضح 174و.
(3) جهد المقل 17ظ.
(4) التحديد 22و.
(5) الموضح 178و.(1/382)
ووضح المرعشي ذلك بقوله: «الإخفاء يشبه المد، لأن التلفظ بالغنة الظاهرة يحتاج إلى التراخي واعلم أن الإخفاء على ثلاث مراتب، يتوقف بيانها على تقديم مقدمة، وهي أن الغنة صفة النون الساكنة وأثرها الباقي عند إخفاء ذاتها فمعنى صغر إخفاء النون كبر أثرها الباقي، ومعنى كبر إخفائها صغر أثرها الباقي، إذ ذاتها معدومة عند الإخفاء على كل حال.
وحروف الإخفاء على ثلاث مراتب: أقربها مخرجا إلى النون ثلاث: الطاء والدال المهملتان والتاء المثناة الفوقية، وأبعدها القاف والكاف، والبواقي متوسطة في القرب والبعد
أقول (المرعشي): وبالجملة إن مراتب الحروف ثلاث: فإخفاؤهما عند الحروف الثلاث الأول أزيد، وغنتهما الباقية قليلة، بمعنى أن زمان امتداد الغنة قصير. وإخفاؤهما عند القاف والكاف أقل وغنتهما الباقية كثيرة، بمعنى أن زمان امتدادها طويل. وإخفاؤهما عند بواقي الأحرف متوسط، فزمان غنتهما متوسط. ولم أر في مؤلف تقدير امتداد الغنة في هذه المراتب» (1).
وقسم الدركزلي الإخفاء إلى كبير وصغير وذلك حيث قال: «الإخفاء نوعان، كبير وصغير أي غير تام. فالأول لا يكون إلّا عند القاف والكاف، والثاني عند ما عداهما من باقي الحروف المذكورة» (2).
وتقسيم الإخفاء إلى مراتب سواء أمرتبتين كانت أم ثلاثا مقبول من الناحية الصوتية، وتؤيده الملاحظة الذاتية، لكن الأمر لا يزال بحاجة إلى أجهزة مختبر الصوت التي يمكن أن نتبين من خلالها درجات إخفاء النون عند حروف الإخفاء الخمسة عشر، وهذه الملاحظة لا تغض من قيمة ما قدّمه علماء التجويد في دراسة ظاهرة الإخفاء وغيرها من أحكام النون الساكنة، لأن الداسات الصوتية العربية المعاصرة لم تصل إلى المرحلة التي وصل إليها علماء التجويد في دراسة كثير من الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب.
رأي في أحكام النون الساكنة والتنوين:
إن علماء التجويد حين اختلفوا في حصر أحكام النون الساكنة والتنوين بين ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة لم يكن اختلافهم يتجاوز التقسيم الشكلي إلى الاختلاف في حقيقة فهم الظواهر الصوتية، فكان لكل واحد منهم وجهة نظر يعتمد عليها في حصر أحكام النون الساكنة
__________
(1) جهد المقل 31و 31ظ.
(2) خلاصة العجالة 64ظ.(1/383)
من غير أن تتناقض مع مذاهب غيره من العلماء، كما يتضح من العرض السابق لآرائهم. وهذه محاولة لإعادة النظر في مذاهب علماء التجويد في حصر أحكام النون الساكنة من حيث التقسيم لا من حيث المادة، ثم محاولة اختيار المذهب الأكثر انسجاما مع حقائق الدرس الصوتي.
وهذه المحاولة تعتمد على فهم معين لنطق صوت النون، هذا الفهم يقوم على أساس أن نطق النون يتميز بكون طرف اللسان يعتمد على اللثة فينسد مجرى النفس عبر الفم، فيتحول إلى الخيشوم، فتحصل الغنة التي هي جوهر صوت النون مع ما يصاحب ذلك من دوي يحصل في الفم. وحين تتجاور النون ساكنة مع بقية الحروف فإنها تتأثر بها، ولذلك التأثر درجتان:
تأثر كامل وناقص، فإذا انحصر التأثر بزوال معتمد طرف اللسان على اللثة وانتقل صوب مخرج الصوت الآتي بعد النون مع بقاء جريان النفس من الألف، وهو صوت الغنة، فالتأثر حينئذ ناقص. وإذا امتد التأثر إلى وقف جريان النفس من الأنف، وهو يعني زوال الغنة، إلى جانب زوال معتمد اللسان من موضع النون فإن التأثر حينئذ كامل، فينقلب صوت النون إلى جنس الصوت الآتي بعده ويدغم فيه إدغاما محضا. وهذا كله مقرر في كلام علماء التجويد، مؤيد بنتائج الدرس الصوتي الحديث، ولكن الأمر الذي تباينت فيه كلمة علماء التجويد هو في استخدام المصطلحات وفي نسبة الأصوات إلى كل حالة من أحوال النون الساكنة، على نحو ما ذكرنا في أول الكلام عن هذا الموضوع.
وتتلخص هذه المحاولة في تقسيم أحكام النون الساكنة والتنوين إلى ثلاثة أحكام، وهي: الإظهار والإخفاء والإدغام. فإذا حافظت النون على معتمدها في الفم مع بقاء الغنة من الأنف كان إظهارا، وإذا زال معتمدها في الفم مع بقاء الغنة من الأنف كان إخفاء وإذا زال معتمدها مع زوال الغنة كان إدغاما. وهذه نظرة ذهب إليها بعض علماء التجويد، وقد نسبها زكريا الأنصاري إلى الجعبري (1). وقال علي القاري: «وقد قال بعض المحققين في أحكام النون الساكنة والتنوين: التحقيق أنها ثلاثة: إظهار، وإدغام محض وغيره وسبق بيانه، وإخفاء مع قلب ودونه» (2).
وما نذهب إليه يختلف جزئيا مع ما ذهب إليه الجعبري ونقله علي القاري، وذلك في
__________
(1) تحفة نجباء العصر ص 2.
(2) المنح الفكرية ص 4544.(1/384)
جعل الإدغام محضا وغير محض، ونحن لا نرى أن يطلق مصطلح الإدغام إلا إذا كان محضا، أما إذا كان غير محض، وهو ما بقيت معه الغنة، فالأولى أن يسمى إخفاء وقد قال قديما أحمد ابن نصر الشذائي (ت 373هـ) وهو تلميذ ابن مجاهد: «المخفى ما تبقى معه غنة» (1). ومن ثم يمكن أن تدرس أحكام النون الساكنة على هذا النحو:
1 - الإظهار، وذلك عند حروف الحلق الستة، بغض النظر عن إخفاء بعض العرب وبعض القراء النون قبل الخاء والغين.
2 - الإدغام، وأعني به الإدغام التام أو الكامل أو المحض الذي لا يبقى معه للنون أثر، وذلك مع اللام والراء، حيث تصير النون قبل الراء راء، وقبل اللام لاما، من غير أن يلتفت إلى ما رواه بعض علماء العربية وبعض علماء القراءة من إبقاء الغنة مع اللام والراء.
أما إدغام النون في النون فهذا أمر مفروغ منه على أساس قاعدة أن المثلين إذا التقيا وكان أولهما ساكنا أدغم الأول في الثاني وارتفع العضو بهما ارتفاعة واحدة وشدد الصوت.
وأما الواو والياء فإن جمهور القراء يذهبون إلى إدغام النون فيهما مع إبقاء الغنة ونحن لهذا السبب نرى أن يلحقا بباب الإخفاء. وهو ما ذهب إليه عدد من كبار علماء التجويد كما ذكرناه عند الكلام عن إدغام النون فيهما من قبل.
وأما الميم فإن تأثر النون الساكنة بها يمكن أن يسمى إدغاما لأن النون تحولت إلى مثل الصوت الذي بعدها، وهو الميم، وذلك في مثل (من ماء) حيث تصير في النطق (مم ماء).
ويمكن أن يسمى إخفاء لأن الإخفاء هو أن يزول معتمد النون في الفم ويبقى صوت الغنة، وهو ما يحصل في هذه الحالة، فإن معتمد النون قد زال من طرف اللسان وانتقل إلى مخرج الصوت الآتي بعد النون، وهو الميم التي يعتمد لها في الشفتين. لكن حدث هنا أن الميم صوت يشارك النون في الغنة، فحين انتقل معتمد النون إلى مخرج الميم مع بقاء الغنة بدت النون مثل الميم، لأن معتمدهما صار واحدا، مع جريان الغنة معهما من الأنف، وتوفرت حينئذ شروط الإدغام.
3 - الإخفاء: وهو ما يزول معه معتمد النون من الفم وينتقل إلى مخرج الصوت الآتي بعد النون بأن يتقدم أو يتأخر حسب طبيعة الصوت، مع المحافظة على الغنة. وهو حكم ينطبق على النون إذا وقعت قبل الحروف الخمسة عشر التي ذكرها علماء التجويد، إلى جانب الواو
__________
(1) التحديد 15ظ.(1/385)
والياء، وقد تحدثنا قبل قليل عن الأساس الذي يلحقان بموجبه بحروف الإخفاء، وإلى جانب صوت الباء، ولعل ذكر الباء مع حروف الإخفاء يبدو أمرا غريبا، لكن لا ينبغي أن نستوحش من ذلك، لأنه من الناحية النطقية ينطبق عليه تعريف الإخفاء. وكان الفراء قد سماه إخفاء كما ذكرناه حين درسنا حكم القلب.
فالنون الساكنة إذا وقعت قبل الباء في مثل (من بعد) لا تدغم في الباء لأنها لم تقرب منها قرب اللام والراء، كما أنها لا تظهر لأن الباء لم تبعد من النون بعد حروف الحلق. ومن ثم كانت النون في مرتبة متوسطة بين الإظهار والإدغام، فانتقل معتمد النون في الفم إلى معتمد الصوت الآتي بعدها وهو الباء، ولكن الصوت الناتج حينئذ من انتقال معتمد النون إلى الشفتين مع إبقاء صوت الغنة هو مثل صوت الميم، وما حدث في هذه الحالة، هو عين ما حدث في مثل (من ماء) حين آلت النون إلى صوت الميم، لكن الصوت الآتي بعد النون في (من ماء) صوت أنفي أغن بينما الصوت الآتي بعد النون في مثل (من بعد) صوت ليس فيه غنة.
إننا حين نقول إن النون قلبت ميما في مثل (من بعد) يجب أن نقول من الناحية النطقية أن النون قلبت ميما بالطريقة نفسها في مثل (من ماء)، ولكن الميم الناتجة من انتقال مخرج النون إلى الشفتين صادفت في الحالة الأولى صوتا ليس فيه غنة فتوقف تأثر النون عند حد صيرورتها ميما، وصادف في الحالة الثانية صوتا أنفيا ينتج بنفس الطريقة فتبع قلب النون ميما إدغامها في الميم.
إن ما حصل للنون الساكنة قبل الميم والباء يشبه من الناحية النطقية ما حصل للنون قبل القاف والكاف وما سواهما من حروف الإخفاء الخمسة عشر التي يذكرها علماء التجويد، وما يحصل للنون قبل الياء الواو أيضا، فإذا قلنا (من قال) أو (من كان) فإن معتمد النون بدلا من أن يتقدم نحو الشفتين كما في مثل (من بعد) و (من ماء) يتراجع نحو أقصى اللسان، ويظل النفس جاريا من الأنف، وهو ما نسميه بالغنة.
والفرق بين النون المخفاة في (من قال) وبين النون المخفاة في (من بعد) ليس صوتيا بالدرجة الأساس، وذلك لأن تعريف الإخفاء ينطبق على الحالتين فهما متفقتان نطقيّا أو عضويا، من حيث انتقال معتمد النون في الفم مع بقاء الغنة من الأنف. وإنما الفرق بينهما أن الصوت الناتج من انتقال معتمد النون إلى مخرج الصوت الآتي بعدها في (من بعد) يعد حرفا مستقلا في اللغة العربية، بينما الصوت الناتج من انتقال معتمد النون إلى مخرج الصوت الآتي بعدها في (من قال) ليس حرفا أو وحدة صوتية مستقلة إنما هو تنوع موقعي لصوت النون.
فالأصوات الأنفية في العربية اثنان: النون ويعتمد لها بطرف اللسان على اللثة، والميم ويعتمد لها بين الشفتين. ويمكن من الناحية النطقية إنتاج عدد آخر من الأصوات الأنفية، وذلك في كل حالة يمكن أن يحصل فيها اعتماد في الفم مع بقاء صوت الغنة جاريا من الأنف، وهو ما ينطبق على جميع الأصوات الناتجة من إخفاء النون عند حروف الفم الخمسة عشر والياء والواو أيضا، ولكن جميع هذه الأصوات الأنفية تعد تنوعا موقعيا لصوت النون، ولا يعد أي منها صوتا مستقلا يدخل في بنية الكلمة العربية كأن يقع فاء أو عينا أو لاما.(1/386)
والفرق بين النون المخفاة في (من قال) وبين النون المخفاة في (من بعد) ليس صوتيا بالدرجة الأساس، وذلك لأن تعريف الإخفاء ينطبق على الحالتين فهما متفقتان نطقيّا أو عضويا، من حيث انتقال معتمد النون في الفم مع بقاء الغنة من الأنف. وإنما الفرق بينهما أن الصوت الناتج من انتقال معتمد النون إلى مخرج الصوت الآتي بعدها في (من بعد) يعد حرفا مستقلا في اللغة العربية، بينما الصوت الناتج من انتقال معتمد النون إلى مخرج الصوت الآتي بعدها في (من قال) ليس حرفا أو وحدة صوتية مستقلة إنما هو تنوع موقعي لصوت النون.
فالأصوات الأنفية في العربية اثنان: النون ويعتمد لها بطرف اللسان على اللثة، والميم ويعتمد لها بين الشفتين. ويمكن من الناحية النطقية إنتاج عدد آخر من الأصوات الأنفية، وذلك في كل حالة يمكن أن يحصل فيها اعتماد في الفم مع بقاء صوت الغنة جاريا من الأنف، وهو ما ينطبق على جميع الأصوات الناتجة من إخفاء النون عند حروف الفم الخمسة عشر والياء والواو أيضا، ولكن جميع هذه الأصوات الأنفية تعد تنوعا موقعيا لصوت النون، ولا يعد أي منها صوتا مستقلا يدخل في بنية الكلمة العربية كأن يقع فاء أو عينا أو لاما.
ومن ذلك يتأكد أن أحكام النون الساكنة حين تلتقي بغيرها تعد من الناحية النطقية (أي العضوية) ثلاثة أحكام هي: الإظهار والإخفاء والإدغام ولكن هناك جانب آخر ينبغي أن يؤخذ بالحسبان، وهو أن جعل حكم النون الساكنة قبل الباء داخلا في الإخفاء يتعارض مع مبدأ تبسيط القواعد الذي يتطلبه تعليم المبتدئين. ومن ثم فإن هذا المبدأ يقتضي أن نفرد حكم النون الساكنة قبل الباء كما فعل جمهور علماء التجويد حين سموا هذه الحالة بالقلب أو الإقلاب.
ولا شك أن التمييز بين مستويين من الدرس الصوتي وهما المستوى التعليمي والمستوى التحليلي الوصفي الخالص أمر مطلوب، وقد مر بنا أن البقري حين عرض أحكام النون الساكنة قال: «والأولى أن تعد خمسة تقريبا للمبتدئين وتسهيلا عليهم» (1). ومن ثم فنحن إذا نظرنا إلى الموضوع من الناحية الصوتية المحضة نقول إن أحكام النون الساكنة ثلاثة، وإذا نظرنا إلى الموضوع من الناحية التعليمية جعلناها أربعة بإضافة حكم القلب أو الإقلاب لأنه من غير اليسير على المبتدئين تصور أن يكون حكم النون الساكنة قبل الباء إخفاء وهم يرون صيرورتها في النطق ميما.
2 - أحكام الميم الساكنة:
إن تأثر الميم الساكنة بمجاورة غيرها من الأصوات يكاد يكون معدوما، على الرغم من أنها تشارك النون في صفة الأنفية، حيث تنطبق الشفتان عند نطق الميم ويجري النفس غنة في الخياشيم. وهناك عاملان أثرا في علاقة الميم بغيرها من الأصوات، هما:
العامل الأول: هو أن الإدغام يكثر في حروف الفم ويقل في حروف الحلق والشفتين (2)، قال الداني: «واعلم أن أصل الإدغام إنما هو حروف الفم واللسان لكثرتها في
__________
(1) غنية الطالبين ص 47.
(2) انظر: سيبويه: الكتاب 4/ 448و 449و 450و 462.(1/387)
الكلام وقرب تناولها، ويضعف في حروف الحلق وحروف الشفتين لقلتها وبعد تناولها» (1).
وقال مكي: «يجب أن تعلم أن حروف الحلق لا يدغمن في حروف الفم ولا في حروف الشفتين. وقد تدغم بعض حروف الحلق في بعض لتقارب المخارج. وتعلم أن حروف الفم لا تدغم في حروف الحلق ولا في حروف الشفتين وتعلم أن حروف الشفتين لا تدغم في حروف الحلق ولا في حروف الفم لبعد ما بينهن في المخرج» (2). وكان السعيدي قد بيّن أساس كل تأثر بين الأصوات حين قال: «ولا يكون الإخفاء والإدغام إلا لمقاربة الحرفين أو لتزاحمهما في المخرج الواحد» (3).
العامل الثاني: هو أن كل حرف فيه زيادة صوت لا يدغم فيما هو أنقص صوتا منه لما يلحق الإدغام من الاختلال (4). وقد قال ابن الباذش: «والمزايا التي تذهب للإدغام خمس، وهي: الاستطالة والتفشي والتكرير والصفير والغنة» (5). ومن العلماء من يعد الأصوات التي تمتنع أن تدغم في غيرها خمسة هي الراء والشين والضاد والفاء والميم، ومن العلماء من يعدها ثمانية يضيف إليها السين والصاد والزاي (6).
وقد وضح الداني علل امتناع إدغام بعض الأصوات في غيرها، وهي عنده ثمان (7)، وذلك حيث قال: «وكلما تقاربت المخارج وتدانت كان الإدغام أقوى، وما تكافأ في المنزلة من المتقاربين فإدغامه جائز، لأنه لا يعرض ما يمنعه من الإدغام. وما تفاضل بالإدغام في المنزلة بزيادة الصوت فإدغامه ممتنع لما يدخله من الاختلال بذهاب صوته بالإدغام، فلا يدغم الأفضل في الأنقص لذلك، ويدغم الأنقص في الأفضل لأنه يخرج بذلك إلى الحرف الأقوى.
وإخراج الأضعف إلى الأقوى جائز لأنه يقوى فيه.
وجملة الحروف التي تمتنع من الإدغام لزيادة صوتها ثمانية أحرف، وقد جمعتها في
__________
(1) الإدغام الكبير 6و.
(2) الكشف 1/ 140.
(3) اختلاف القراء 60ظ.
(4) ابن الباذش: الإقناع 1/ 170. وانظر: سيبويه: الكتاب 4/ 447، وابن يعيش: شرح المفصل 10/ 133.
(5) الإقناع 1/ 188.
(6) انظر: القرطبي: الموضح 159و.
(7) انظر: التحديد 19ظ.(1/388)
قولك (فزم ضرس شص): الشين والضاد والراء والصاد والسين والزاي والميم والفاء. أما الشين فمن أجل تفشيها. وأما الضاد فلاستطالتها، وأما الراء فلتكريرها، وأما الصاد والسين والزاي فلصفيرهن، وأما الميم فلغنتها، وأما الفاء فلتفشيها» (1).
وقد أثر هذان العاملان في علاقة الميم بغيرها من الأصوات لأن الميم شفوية غناء، فالعامل الأول يحد من المجال الذي يمكن أن يحدث فيه التأثر، ويقصره على حروف الشفتين مثل الباء والواو وتلحق بهما الفاء. والعامل الثاني يمنع أن يقع التأثر بين الميم والأصوات الأخرى التي تشاركها في المخرج، لتميز الميم عليها بالغنة، ومن ثم يكاد الدارس يسقط من موضوع الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب كل ما يتعلق بأحكام الميم الساكنة لولا بعض المناقشات التي دارت بين علماء التجويد، مما هو جدير بالوقوف عنده، ولولا بعض الروايات التي يلاحظ فيها تأثر الميم بالأصوات المجاورة. وقد قسم المتأخرون من علماء التجويد والقراءات أحكام الميم الساكنة إلى ثلاثة أقسام هي (2):
أالإدغام:
وذلك إذا لقيت الميم الساكنة ميما أخرى، قال مكي: «وإذا لقي الميم وهي ساكنة ميم أخرى وجب الإدغام» (3). وذلك نحو {خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29]، {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس: 40]، و {وَلَهُمْ مََا يَدَّعُونَ} [يس: 57]. والميم في هذا مثل غيرها من الأصوات المتماثلة إذا التقت، وكان الصوت الأول ساكنا. ولا تدغم الميم في غيرها. قال الداني عن الميم: «فإذا التقى بمثله أدغم فيه لا غير» (4).
ب الإظهار:
وذلك إذا وقع بعد الميم الساكنة بقية حروف المعجم ما عدا الباء. ويجب إنعام بيانها لا سيما إذا وقع بعدها فاء أو واو لمشاركتها لهما في المخرج. قال الداني: «وإن التقى بالفاء أو الواو أنعم بيانه للغنة التي فيه» (5). وقال السعيدي: «ومما يحفظ أيضا إسكان الميم الساكنة إذا أردت إظهارها عند الفاء والواو في مثل قوله تعالى عند الفاء {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ} [البقرة:
__________
(1) الإدغام الكبير 6و 6ظ.
(2) انظر: ابن الجزري: النشر 1/ 222. المرعشي: جهد المقل 32.
(3) الرعاية ص 207.
(4) التحديد 40ظ.
(5) التحديد 40ظ. وانظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 177.(1/389)
15] وعند الواو نحو قوله {أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ} [الأعراف: 71] وما أشبه هذه الحروف. يلفظ بهذه الميمات كلها ساكنة ويتوقّى فيها من الحركة، فإذا أطبقت شفتيك للميم وأوردت النطق بالفاء ألحقت ثنيتيك بمخرج الفاء من الشفة السفلى، وليكن ذلك عند انفتاح شفتيك من الميم في وقت واحد من غير اضطراب بينهما ولا إبطاء، فإن ذلك يؤدي إلى تحريك الميم» (1).
وقد وضّح عبد الوهاب القرطبي حقيقة الإظهار بقوله: «فأما الإظهار فهو حكم يجب عند اجتماع حرفين تباعدا إما في المخرج أو في الخاصية، والأول منهما ساكن فأما كيفية اللفظ بالمظهر فأن يكون قطعك مخرج الحرف المظهر بإسكانه وأخذك في الحرف المتحرك بعده في زمان واحد ووقت واحد من غير إبطاء يوهم التشديد ولا إزعاج يأخذ بك إلى الإقلال والتحريك، وهذا مع إخلاص سكون الساكن وإشباع حركة المتحرك» (2).
وقال أبو العلاء الهمذاني العطار: «وإظهارها عند الواو أسهل منه عند الفاء، وذلك لأن الميم توافق الواو في المخرج، فأما عند الفاء فيحتاج إلى تكلف لأن الفاء بانحدارها إلى الفم باعدت الميم» (3). ويبدو لي أن ملاحظة العطار صحيحة لكن التعليل لا يمكن القطع به، وذلك لأن البعد في المخرج أدعى إلى سهولة الإظهار، ولعل ما في الفاء من التفشي هو السبب في أن إظهار الميم قبل الواو أسهل منه عند الفاء.
وهناك روايات لا يأخذ بها جمهور القراء جاء فيها إدغام الميم الساكنة في الفاء، قال الداني: «على أن أحمد بن أبي سريج قد روى عن الكسائي إدغامه في الفاء، وذلك غير صحيح ولا جائز» (4). وقال السعيدي: «وهو رديء عند أهل الأداء، وقليل من يأخذ به لبعد مخرج الفاء من الميم في الشفة السفلى. وقد قال أبو مزاحم الخاقاني في قصيدته بيتا في هذا المعنى وهو (5):
ولا تدغمنّ الميم إن جئت بعدها ... بحرف سواها واقبل العلم بالشكر
__________
(1) التنبيه 52ظ 53و. وانظر: القرطبي: الموضح 176ظ.
(2) الموضح 174و.
(3) التمهيد 155ظ.
(4) التحديد 40ظ.
(5) انظر: بحث (علم التجويد: نشأته ومعالمه الأولى) في مجلة كلية الشريعة، العدد السادس 1980ص 352.(1/390)
وله أيضا بيت آخر في هذا المعنى وهو:
أدغم إذا ما قرأت اللام في الراء ... وبيّن الميم عند الواو والفاء (1)
وقال الشذائي: «إدغام الميم في الفاء لحن» (2).
وكذلك جاء في بعض الروايات إخفاء الميم عند الواو والفاء. وهو يخالف مذهب الجمهور (3)، كما أن العلاقة بين الميم وكل من الواو والفاء لا يتضح معها وجه لإخفاء الميم عندهما، لكون الأصوات الثلاثة من مخرج واحد، ومعنى الإخفاء انتقال المخرج وبقاء الغنة، وذلك لا يستقيم إلا إذا فسرنا الإخفاء على نحو آخر، قال ابن الباذش: «فأما الفاء والواو فغير ممكن فيهما الإخفاء إلا بإزالة مخرج الميم من الشفتين، وقد تقدم امتناع ذلك، فإن أرادوا بالإخفاء أن يكون الإظهار رفيقا غير عنيف فقد اتفقوا على المعنى واختلفوا في تسميته إظهارا أو إخفاء، ولا تأثير لذلك، وأما الإدغام المحض فلا وجه له» (4).
ج الإخفاء:
وذلك عند الباء فقط على خلاف بين أهل الأداء. قال الداني: «فإن التقت الميم بالباء نحو {آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] و {أَمْ بَعِيدٌ} [الأنبياء: 109] وما أشبهه فعلماؤنا مختلفون في العبارة عنها معها. فقال بعضهم: هي مخفاة لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على إحداهما. وهذا مذهب ابن مجاهد فيما حدثنا به الحسين بن علي عن أحمد بن نصر عنه.
قال: والميم لا تدغم في الباء لكنها تخفى، لأن لها صوتا في الخياشيم تواخي به النون الخفيفة. وإلى هذا ذهب شيخنا علي بن بشر رحمه الله. قال أبو العباس محمد بن يونس النحوي المقرئ: في أهل اللغة من يسمي الميم الساكنة عند الباء إخفاء، قال سيبويه: المخفى بوزن المظهر (5).
وقال آخرون هي مبينة للغنة التي فيها. قال أبو الحسين بن المنادي: أخذنا عن أهل الأداء بيان الميم الساكنة عند الواو والفاء والباء في حسن من غير إفحاش. وقال أحمد بن
__________
(1) التنبيه 53و.
(2) ابن الباذش: الإقناع 1/ 181.
(3) الأهوازي: الوجيز 13ظ، والسخاوي: جمال القراء 193ظ.
(4) الإقناع 1/ 182181.
(5) ما عثرت عليه في الكتاب (4/ 438) هو أن المخفى بزنة المتحرك.(1/391)
يعقوب التائب: أجمع القراء على تبيين الميم الساكنة وترك إدغامها إذا لقيتها باء في جميع القرآن. وقال: وكذلك الميم عند الفاء، وذهب إلى هذا جماعة من شيوخنا. وحكاه أحمد بن صالح عن ابن مجاهد، وبالأول أقول» (1).
وقال مكي: «وإذا سكنت الميم وجب أن يتحفظ بإظهارها ساكنة عند لقائها باء أو فاء أو واوا لا بد من بيان الميم الساكنة في هذا كله ساكنة من غير أن يحدث فيها شيء من حركة، وإنما ذلك خوف الإخفاء والإدغام لقرب مخرج الميم من مخرجهن، لأنهن كلهن يخرجن من ما بين الشفتين» (2).
وقال أبو العلاء الهمذاني العطار: «وأكثر أهل الأداء على إظهارها أيضا عند الباء» (3).
وقال المرادي: «القول بالبيان أشهر، وعليه الأكثر» (4).
وقال ابن الباذش: «قال لي أبي رضي الله عنه: المعوّل عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء، ولا يتجه إخفاؤها عندهن إلا بأن يزال مخرجها من الشفة، ويبقى مخرجها من الخيشوم، كما يفعل ذلك في النون المخفاة. وإنما ذكر سيبويه الإخفاء في النون دون الميم (5)، ولا ينبغي أن تحمل الميم على النون في هذا إلا أن يريد القائلون بالإخفاء انطباق الشفتين على الحرفين انطباقا واحدا، فذلك ممكن في الباء وحدها في نحو: أكرم بزيد» (6).
ويبدو لي أن القول بإظهار الميم الساكنة عند الباء هو الصحيح، وذلك لأن انطباق الشفتين على الحرفين انطباقا واحدا لا يكفي لتسمية ذلك بالإخفاء الذي قد يلتبس معناه لا سيما إذا انصرف الذهن إلى معنى إخفاء النون عند حروف الفم. وقولنا بالإظهار هنا لا يراد منه قطع نطق الميم عن الباء، لأن ذلك يكون في الغاية من الثقل والاستبشاع (7). والمتأمل يجد أن نطق الميم الساكنة قبل الباء يكون واحدا عند من سماه إخفاء وعند من سماه إظهارا.
__________
(1) التحديد 40ظ، ولخص القرطبي في الموضح (178ظ) كلام الداني المذكور هنا.
(2) الرعاية ص 207206.
(3) التمهيد 155ظ.
(4) المفيد 115و.
(5) انظر: الكتاب 4/ 454.
(6) الإقناع 1/ 181.
(7) انظر: القرطبي: الموضح 178ظ.(1/392)
فالاختلاف على الأرجح لفظي فالأولى إغفاله وإجراء حكم الميم الغالب عليها وهو الإظهار.
وكان المرعشي قد عالج هذا الموضوع ودقق في خفاياه وفرّق بين حالة الإخفاء وحالة الإظهار من الناحية الصوتية، وذلك حيث قال: «إن معنى إخفاء الميم ليس إعدام ذاتها بالكلية بل إضعافها وستر ذاتها في الجملة بتقليل الاعتماد على مخرجها وهو الشفتان، لأن قوة الحرف وظهور ذاته إنما هو بقوة الاعتماد على مخرجها
وبالجملة إن الميم والباء يخرجان بانطباق الشفتين، والباء أدخل وأقوى انطباقا كما سبق في بيان المخارج، فتلفظ بالميم في (أن بورك) بغنة ظاهرة وبتقليل انطباق الشفتين جدا، ثم تلفظ بالباء قبل فتح الشفتين بتقوية انطباقهما وتجعل المنطبق من الشفتين في الباء أدخل من المنطبق في الميم.
فزمان انطباقهما في (أنبورك) أطول من زمان انطباقهما في (أبّورك)، وزمان انطباقهما في الميم أطول من زمان انطباقهما في الباء لأجل الغنة الظاهرة حينئذ في الميم، إذ الغنة الظاهرة يتوقف تلفظها على امتداد.
ولو تلفظت بإظهار الميم هنا لكان زمان انطباقهما فيه كزمان انطباقهما في الباء لإخفاء الغنة حينئذ، ويقوى انطباقهما في إظهار الميم فوق انطباقهما في إخفائه، لكن دون قوة انطباقهما في الباء، إذ لا غنة في الباء أصلا، بخلاف الميم الظاهرة فإنها لا تخلو عن أصل الغنة وإن كانت خفية. والغنة تورث للاعتماد ضعفا» (1).
ولا يبدو الفرق جليا بين إخفاء الميم وإظهارها في كلام المرعشي السابق، مع تقديرنا لدقة تحليله، ولا نكاد نجد تفسيرا لقوله في أول كلامه: إن إخفاء الميم هو إضعافها بتقليل الاعتماد على مخرجها، فالناطق لا يحتاج إلى تكلف هذا النوع من الإخفاء حين ينطق الميم ساكنة قبل الباء، ويكفيه أن يضم شفتيه ويجري النفس من الخيشوم حتى تستوفي الميم حظها من الغنة، ثم يضغط الهواء عند الشفتين قبل أن ينفرجا حتى ينال الباء حظه من الشدة، فانطباق الشفتين للحرفين انطباق واحد وهو شيء تقتضيه طبيعة الصوتين، وهما في أثناء ذلك يحتفظ كل صوت منهما بخواصه النطقية (2).
__________
(1) جهد المقل 30ظ 31و.
(2) يفسر بعض المجودين المعاصرين إخفاء الميم عند الباء على نحو لا يتضح له أصل في كلام علماء التجويد الذين اطلعت على كتبهم. وهو أنهم يرون أن الإخفاء هو أن تجافي بين شفتيك حين تنطق(1/393)
ويتضح من العرض السابق أن أحكام الميم الساكنة إذا تجاوزنا بعض الروايات الضعيفة تنحصر في الإظهار، فإدغام الميم لا يتأتى إلا في مثلها، وهذا لا يستلزم إفراده بحكم مستقل، وإخفاؤها عند الباء لا يظهر له وجه، ويحمله كثير من العلماء على معنى الإظهار. ومن ثم قلت في أول دراسة هذا الموضوع أنه لولا بعض المناقشات ولولا بعض الروايات لما وجد الدارس مسوغا لإفراد أحكام الميم الساكنة ببحث مستقل.
سادسا حقيقة النطق بالحرف المشدد:
الإدغام يعني النطق بصوتين متماثلين الأول منهما ساكن والثاني متحرك، سواء حصلت تغييرات صوتية تؤدي إلى التقاء المثلين أم أن الصوتين متماثلان أصلا. قال ابن يعيش: «إذا أدغمت المثلين المتحركين عملت شيئين أسكنت الأول وأدغمته في الثاني، مثل: جعل لك، وجعل لهم. فإن كان الأول ساكنا قبل الإدغام عملت شيئا واحدا وهو الإدغام، مثل: قل لهم، واجعل له. وإذا أدغمت المتقاربين المتحركين عملت ثلاثة أشياء: أسكنت الأول منهما، وقلبت الأول إلى لفظ الثاني، وأدغمت، نحو: بيّت طائفة. وإن كان أحد المتقاربين ساكنا في أصله مثل لام المعرفة فليس إلا عملان: قلب الأول، وإدغامه، مثل: الرّجل والذّاهب» (1).
ويراد بالتشديد الإدغام، وبالحرف المشدد الحرف المدغم، سواء أكان الإدغام ناتجا من التركيب مثل: جعل لك، والرّجل، أم كان من بنية الكلمة مثل: شدّ ومدّ وقدّم وقطّع. وقد قال الخليل إن «التشديد علامة الإدغام» (2). ويسمّى التشديد أيضا التضعيف، وذكر سيبويه أن علامة التضعيف الشين (3).
وكانت عناية علماء التجويد بظاهرة الإدغام وبالمشددات كبيرة، وقد وقفنا من قبل على جوانب منها. ونريد أن نختم الحديث عن موضوع الإدغام بالنظر في بعض النقاط التي تتعلق
__________
بالميم شيئا قليلا، ثم تطبقهما عند نطق الباء بعدها. وكان الشيخ عامر السيد عثمان، وهو أحد علماء القراءة في الأزهر، ومحقق الجزء الأول من كتاب (لطائف الإشارات لفنون القراءات) للقسطلاني بالاشتراك مع الدكتور عبد الصبور شاهين لا يقبل ممن يقرأ عنده إطباق الشفتين عند نطق الميم قبل الباء ويأبى إلا انفراجهما، وذلك عند ترددي عليه للقراءة سنة 1975م، وقت إقامتي في القاهرة لدراسة الماجستير. ولكني لم أجد في كتب علم التجويد ما يؤكد هذا الاتجاه في فهم إخفاء الميم.
(1) شرح المفصل 10/ 131.
(2) العين 1/ 49.
(3) الكتاب 4/ 169.(1/394)
بحقيقة الصوت المدغم أو المشدد. ولا شك في أن علماء التجويد كانوا مدركين أن المشدد هو الصوت المدغم. قال عبد الوهاب القرطبي: «أما التشديد فيحدث إذا التقى حرفان مثلان أو حرفان متقاربان الأول منهما ساكن والثاني متحرك، فيقلب أحدهما إلى الآخر فيجب الإدغام، وذلك بأن يجعل الاعتماد على الحرفين مرة، فيكون النطق بهما دفعة من غير وقف على الأول ولا فصل بين الحرفين بحركة ولا روم، ويكون الحرفان ملفوظا بهما ويصيران بالتداخل كحرف واحد لا مهلة بين بعضه وبعضه، ويلزم اللسان أو غيره من المخارج موضعا واحدا، إلا أن مكثه واحتباسه في المشدد لما حدث من التضعيف أكثر من مكثه واحتباسه في المخفف، كقولك: قطّ وثمّ، وكان الأصل قطط وثمم. وقد جّعل، وهل ثوب، والأصل فيه قد جعل وهل ثوب» (1).
وتندرج الموضوعات المتعلقة ببيان حقيقة النطق بالصوت المشدد في نقطتين اثنتين، الأولى تتعلق بطول الصوت المشدد، والثانية تتعلق بمراتب التشديد، وما يتبع ذلك من بيان عناية علماء التجويد بالمشددات إذا تتابعت.
1 - طول الحرف المشدد:
كل صوت لغوي يحتاج إلى زمن معين لإنتاجه، يمكن أن نقول مثلا إن صوت الدال يحتاج إلى ربع الثانية لإنتاجه، ومثله صوت التاء. ونحن هنا غير متأكدين من زمن نطق الدال في واقع اللغة، وإنما قلنا ربع الثانية ليستقيم لنا المثال، وربما كان في الحقيقة أقل من ذلك أو أكثر. مع علمنا أيضا أن طول الصوت قد يتأثر بموقعه فلا شك أن الصوت إذا كان ساكنا يختلف عنه إذا كان متحركا، كذلك يختلف إذا كان موقوفا عليه أو غير موقوف عليه.
والصوت المشدد ينتج من التقاء صوتين ساكن ثم متحرك، والقضية التي كانت موضع نقاش بين علماء التجويد هي هل أن طول الصوت المشدد يساوي ضعف طول الصوت المفرد، أي هل يساوي الدال في (قدّم) والتاء في (بتّ) دالين وتاءين، ويحتاج كل منهما من الوقت ضعف ما يحتاجه الدال المفرد والتاء المفرد، فيستغرقان من الوقت نصف ثانية؟ أم أنهما بسبب الإدغام يفقدان بعض خواصهما فيقل زمانهما عن نصف ثانية؟
كان لعلماء التجويد مذهبان في فهم طبيعة الصوت المشدد، الأول هو أن المشدد يقوم مقام حرفين ويستغرق نطقه ما يستغرقه الحرفان من الوقت. والثاني أن زمان الصوت المشدد
__________
(1) الموضح 169وانظر: الداني: التحديد 14ظ.(1/395)
أطول من زمان الحرف الواحد، وأقصر من زمان الحرفين.
وكان مكي (ت 437هـ) قد أخذ بالمذهب الأول، وذلك حيث قال: «اعلم أن المشدد المفرد في القرآن والكلام كثير، وكل حرف مشدد مقام مقام حرفين في الوزن واللفظ، والحرف الأول منهما ساكن والثاني متحرك» (1). وقال في موضع آخر: «فإذا اجتمع في اللفظ حرفان مشددان فهما بوزن أربعة أحرف، فيجب على القارئ أن يبين ذلك في لفظه، ويعطي كل حرف حقه من التشديد البالغ، والتشديد المتوسط، ومتى فرّط في ذلك فيهما أسقط حرفين في تلاوته، وإن فرط في أحدهما أسقط حرفا من تلاوته» (2). وقال مكي أيضا: «فإذا اجتمع في اللفظ ثلاث مشددات متواليات فهن مقام ستة أحرف في الوزن والأصل» (3). ومثال التشديد المفرد {وَعَلَّمَ} [البقرة: 31]، و {مِنْ مََاءٍ} [البقرة: 164]، ومثال اجتماع المشددين: {اطَّيَّرْنََا} [النمل: 47]، و {وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24]، ومثال اجتماع الثلاثة {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشََاهُ} [النور: 40].
وذهب عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ) هذا المذهب أيضا حيث قال: «الواجب معرفته من كيفية النطق بالمشدد وصفة التلفظ به هو أن يكون مقدار زمان النطق بحرفين ساكن ومتحرك، ولا يزيد على ذلك فيصير كأنه نائب مناب أكثر من حرفين، ولا يقصر دونه فيكون قد أخل من الكلام بحرف، بل يتحرى من ذلك ما يكفيه مئونة الزيادة والنقصان، وينظم له المقصود في أبهى معرض من الحسن والإحسان» (4).
وقال طاش كبري زاده (ت 968هـ): «وكيفيته أن يجعل أول الحرفين اللذين يراد إدغام الأول في الثاني من جنس الثاني، وتسلب حركة المتحرك منهما، فأدخل الأول منهما في الثاني تقديرا، ونبا اللسان بهما نبوة واحدة، فصارا لشدة الامتزاج في السمع كالحرف الواحد، وإلا فهو حرفان في الحقيقة، وعوّض التشديد، وهو حبس الصوت في الحيز بعنف، وليس التشديد عوضا عن الحرف المدغم، بل عما فاته من الاستقلال في اللفظ، وإذا أصغيت إلى لفظك سمعته ساكنا مشددا ينتهي إلى محرك مخفف» (5).
__________
(1) الرعاية ص 219. وانظر: ابن الجزري: التمهيد ص 74.
(2) الرعاية ص 221.
(3) الرعاية ص 225.
(4) الموضح 169ظ.
(5) شرح المقدمة الجزرية 23ظ.(1/396)
وقال أبو الفتوح الوفائي (ت 1020هـ): «الناطق بالحرف المدغم ناطق بحرفين أولهما ساكن والثاني متحرك» ثم قال: «الصحيح أن الحرفين ملفوظ بهما» (1).
أما المذهب الثاني الذي يقدّر الحرف المشدد بأقل من حرفين فيمكن أن يفهم ذلك من قول الداني (ت 444هـ): «ويلزم اللسان موضعا واحدا، غير أن احتباسه في موضع الحرف لما زاد فيه من التضعيف أكثر من احتباسه بالحرف الواحد» (2).
وكان الأسترآباذي (ت 688هـ) قد صرح بذلك في قوله: «والذي أرى أنه ليس الإدغام الإتيان بحرفين، بل هو الإتيان بحرف واحد مع اعتماد على مخرجه قويّ، سواء كان الحرف متحركا نحو يمدّ زيد، أو ساكنا نحو يمدّ، وقفا» (3). كما أن الجاربردي قال: «وزمانه أطول من زمان الحرف الواحد، وأقصر من زمان الحرفين» (4). وقد أخذ بهذا المذهب بعض علماء التجويد المتأخرين فنقلوا قول الجاربردي (5).
وقال المرعشي (ت 1150هـ): «اعلم أن هيئة الحرف المشدد أن يعتمد على المخرج اعتمادة واحدة قوية فوق الاعتماد في المخفف». فيكون الأول كالمستهلك لعدم استقلاله في التلفظ، «ومعنى عدم استقلاله في التلفظ عدم الفراغ عند تلفظه قبل الثاني، والفراغ إنما يكون برفع اللسان في اللساني، والشفة في الشفوي، والحلق في الحلقي، عن مخرج الحرف، وذلك الرفع إن وجد يكون فاصلا بين الحرفين ويستقل الحرف الأول، وينتفي الإدغام.
فحقيقة الإدغام التلفظ بالمثل الثاني قبل الفراغ عن المثل الأول، ومعنى وحدة الاعتماد في المشدد في قول الرضي هو عدم وجود ذلك الفاصل» (6).
ذلك هو رأي علماء التجويد في الحرف المشدد، فأين يقف رأيهم بالنسبة إلى الدرس الصوتي المعاصر؟ الواقع أن علماء الأصوات المحدثين لم يبتعدوا كثيرا عما قرره علماء التجويد، بل إنهم لم يتجاوزوه إن أردنا الدقة. ذلك أن بعضهم ذهب إلى أن المشدد لا يقابل
__________
(1) الجواهر المضية 53و، 54ظ.
(2) التحديد 15و.
(3) شرح الشافية 3/ 235.
(4) شرح الشافية ص 234.
(5) أحمد فائز الرومي: شرح الدر اليتيم 15و. والمرعشي: جهد المقل 24و.
(6) جهد المقل 24و. وانظر: الرضي الأسترآباذي: شرح الشافية 3/ 235.(1/397)
صوتين مستقلين إنما هو صوت واحد أطيل زمن الاعتماد عليه (1). وقد قال بعضهم: «التشديد مد للحروف الصامتة نظير لمد الحروف الصائتة» (2).
وذهب بعض المحدثين إلى أن الصوت المشدد يقابل صوتين اثنين، وقال: «إن طريقة لفظ الأصوات اللغوية ليس هو المقياس لاعتبارها صوتا واحدا أو صوتين، وإنما المقياس هو التحليل الذي يفسر الظواهر اللغوية تفسيرا أفضل. ومن وجهة النظر هذه نجد أنه لا بد من اعتبار الصوت المشدد في اللغة العربية صوتين لغويين متماثلين لا صوتا واحدا، وذلك لأسباب عدة» (3). وذكر عدة أسباب تتلخص في أن الصوت المشدد يقابل صوتين في بنية الكلمة العربية فالدال في (ارتدّ) تقابل صوتين في (ارتددت) والنون في (أسنّة) تقابل صوتين في (سنان). والدال في (مدّ) تساوي صوتين لأنها على وزن (فعل) بدليل (مددت). وكذلك فإن العروض العربي يقتضي اعتبار المشدد صوتين صحيحين متواليين (4).
ونحن هنا أمام اتجاهين في معالجة الصوت المشدد، الاتجاه الأول يعتمد على التحليل الصوتي فيكون الصوت المشدد على أساسه صوتا واحدا أطيل الاعتماد عليه، ولكن دون أن يستغرق زمان صوتين اثنين في طوله. والاتجاه الثاني يعتمد على التحليل الصرفي، فيكون الصوت المشدد على أساسه قائما مقام صوتين متماثلين صحيحين غير ناقصين.
ويبدو لي أن المنهج الصحيح في فهم الصوت المشدد ينبغي أن يراعي نوع الدراسة التي يعالجها الدارس، وعلى أساسها تتحدد طبيعة الصوت المشدد. فالدرس الصوتي يعتمد في تحديد الصوت المشدد على ما هو منطوق ومسموع، بينما الدرس الصرفي يعتمد في تحديد طبيعة الصوت المشدد على دوره في بنية الكلمة.
وذهب الدكتور عبد الصبور شاهين إلى أن الصوت المشدد ينبغي أن ينظر إليه من ناحيتين الأولى صوتية (نطقية)، والثانية صرفية، وذلك حيث قال: «فإذا نظرنا في نطق الصامت المضعف إلى طبيعة العملية النطقية ووحدتها قلنا: إنه صامت طويل، يشبه الحركة الطويلة التي تساوي ضعف الحركة القصيرة. هذا من الناحية الصوتية.
__________
(1) انظر: فندريس: اللغة ص 49.
(2) برجستراسر: التطور النحوي ص 34.
(3) داود عبده: أبحاث في اللغة العربية ص 30.
(4) انظر: المصدر نفسه ص 3330.(1/398)
وأما إذا نظرنا إلى أصله من الناحية الصرفية، أي من حيث جواز تقسيمه إلى صامتين قصيرين، قلنا: إنه صامت مكرر» (1).
ويلاحظ هنا أن كلام دارسي الأصوات المعاصرين عن المشدد يتجه إلى القول بأنه صوت طويل أو أنه صوتان متواليان، أكثر من اتجاهه إلى تحديد طول الصوت المشدد وتحديد زمان النطق به على نحو واضح ومحدد، كما لاحظنا في كلام علماء العربية وعلماء التجويد حين قالوا: «إن زمان النطق بالمشدد أطول من زمان الحرف الواحد، وأقصر من زمان الحرفين»، فقول المعاصرين إن المشدد صوت طويل لا يوضح الزمان الذي يحتاج إليه نطقه.
ولما كان علم التجويد يعنى بالناحية الصوتية والعملية النطقية فإني أميل إلى القول بأن الصوت المشدد صوت طويل يحتاج نطقه إلى زمان أطول من زمان الصوت الواحد ولكنه أقصر من زمان الصوتين. ولا نستطيع الدخول في التفاصيل واستخدام أجزاء الثانية في تحديد زمان النطق بالصوت المشدد، لكون ذلك غير متيسر الآن، وربما مضى وقت غير قصير قبل أن يتمكن دارسو الأصوات العربية من الحديث عن الزمن الذي يحتاجه نطق كل صوت من أصوات اللغة العربية. ويظل علماء التجويد في كلامهم عن طول الصوت والزمان الذي يحتاجه في النطق متقدمين على ما كتبه دارسو الأصوات العربية في زماننا الذي تقدمت فيه الدراسات الصوتية في العالم تقدما لم يقف عند حد، وصار يعتمد على أدق الأجهزة في اختبار الأصوات وقياس أطوالها، ولكن شيئا من ذلك لم يوضع في خدمة الدراسات الصوتية العربية بشكل جديّ ومتيسر للباحثين.
2 - درجات التشديد:
يتفاوت الصوت المشدد في مقدار التلبث في نطقه تبعا لطبيعة الصوت المشدد، فلا شك في أن الصوت الشديد حين يشدد يكون نطقه أسرع من نطق الصوت الرخو إذا شدد.
وهما أسرع في النطق من الصوت المشدد الأغن. وقد قسم علماء التجويد المشددات إلى مراتب تبعا لذلك. وبين أيدينا محاولتان لتقسيم المشددات الأولى ذكرها مكي في كتابه (الرعاية)، والثانية نقلت عن ابن وثيق.
قال مكي (ت 437هـ): «اعلم أن الحروف المدغمات على ثلاثة أضرب:
ضرب مدغم فيه زيادة مع الإدغام الذي فيها، وذلك نحو الراء المشددة، فيها إخفاء
__________
(1) المنهج الصوتي للبنية العربية ص 207.(1/399)
تكريرها مع الإدغام الذي فيها، فهو زيادة في الإدغام، وزيادة في التشديد.
والثانية: إدغام لا زيادة فيه، وهو كل ما أدغم لا إخفاء معه ولا إظهار غنة، ولا إطباق ولا استعلاء معه، نحو الياء من (ذرّيّة)، والياء والجيم من (لجّيّ) فهذا تشديده دون الراء المشددة، لأجل زيادة الإخفاء للتكرير في الراء.
والثالث: مدغم فيه نقص من الإدغام، وذلك نحو ما ظهرت معه الغنة أو الإطباق أو الاستعلاء نحو (من يؤمن) و (أحطت) و (ألم نخلقكم) فهذا تشديده دون تشديد الثاني الذي لا نقص معه في إدغامه ولا زيادة» (1).
والمحاولة الثانية نقلها ابن الجزري في كتابه (التمهيد) على هذا النحو: «قاعدة: ذكر صاحب التجريد (2)، فيما حكاه عن أبي إسحاق إبراهيم بن وثيق (ت 654هـ) أن المشددات على ثلاث مراتب:
الأولى: ما يشدد بخطرفة (3)، وهو بلا غنة فيه.
الثانية: ما يشدد بتراخ، قال: وهو ما شدد وبقيت فيه غنة مع الإدغام، وهو إدغام الحرف الأول بكماله، وذلك لأجل الغنة.
الثالثة: ما يشدد بتراخي التراخي، وهو إدغام النون الساكنة والتنوين في الواو والياء، انتهى.
قلت (ابن الجزري): وهذا قول حسن، وتظهر فائدته في نحو (إنّ ربّي على صراط مستقيم. وّ إن تولوا) (4) فأبلغ التشديد على الباء ثم الميم، ثم الواو» (5).
ويولي علماء التجويد عناية خاصة بالأصوات الغنّ إذا شددت سواء أكان التشديد خالصا أم ناقصا لأجل الغنة التي فيها، والتي تحتاج إلى تمهل لأنها تشبه صوت المد. من ذلك قول
__________
(1) الرعاية ص 229.
(2) أبو الحسن علي بن يعقوب بن شجاع، المعروف بالعماد بن أبي زهران الموصلي (ت 682هـ) وهو تلميذ ابن وثيق، ومؤلف كتاب التجريد في التجويد (انظر: ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 584).
(3) الخطرفة: يمكن أن تفسر بالسرعة (انظر: لسان العرب لابن منظور 10/ 426خطرف).
(4) في المصحف {صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا} [هود: 5756]. لكن الذي يناسب كلام ابن الجزري هو (وإن لم)، ومن ثم أبقيت النص على ما مثّل به.
(5) التمهيد ص 75.(1/400)
عبد الوهاب القرطبي: «وينبغي أن يكون التشديد ولا غنة فيه بزنة حرفين، ومع الغنة أقل من إظهار حرفين» (1). وكذلك قوله في الميم والنون إذا شددتا: «وينبغي أن يكون تشديد هذا الباب أعني تشديد الميمين آخذا حالا متوسطة من غير إشباع ولا ترفيه، لما يحافظ عليه من إبقاء الغنة وكذلك حال النون» (2).
وقال علي القاري: «بالغ في إظهار الغنة الصادرة من نون وميم مشددتين، نحو أنّ وثمّ.
وإنما قدرنا المبالغة لأن الغنة صفة لازمة للنون والميم تحركتا أو سكنتا ظاهرتين أو مخفاتين أو مدغمتين» (3).
والناظر في كتب علم التجويد يلاحظ اهتمام علماء التجويد بالمشددات، لا سيما إذا تتابعت، وقد بالغ مكي في العناية بذلك، حتى حملته تلك العناية على أن يفرد بابا مستقلا طويلا للمشددات، تحدث فيه عن المشدد إذا جاء مفردا، وعما اجتمع فيه مشددان، وعما اجتمع فيه ثلاثة مشددات. كما تحدث فيه عن مراتب المشددات وعن الوقف على الصوت المشدد (4).
ولم يهمل علماء التجويد الآخرون موضوع المشدد، لكن لا يتناسب مع منهجنا في البحث أن ننقل كل ما نجده في كتب علم التجويد عن هذا الموضوع، ولهذا سوف نكتفي بإيراد بعض النصوص التي توضح جانبا من جهد علماء التجويد في هذا المجال. وهي وما تقدم في صدر الكلام عن المشدد كافية في إعطاء صورة واضحة عن موقف علماء التجويد من موضوع المشددات.
فمن ذلك قول الداني: «ينبغي أن يعطى كل مشدد حقه من الإدغام، من غير إفراط ولا سكت ولا قطع على أول المدغم» (5). وقول أبي العلاء الهمذاني العطار: «إذا توالى حرفان مشددان أو ثلاثة أحرف مشددة نحو قوله {قَدْ بَيَّنَّا} [البقرة: 118] و {زَيَّنََّا} [الأنعام:
108] و {وَمِنْ شَرِّ النَّفََّاثََاتِ} [الفلق: 4]، ونظائرها، فأخلق بتمييزها» (6).
__________
(1) الموضح 170ظ.
(2) الموضح 172و.
(3) المنح الفكرية ص 39.
(4) الرعاية ص 235219.
(5) التحديد 30ظ.
(6) التمهيد 152و.(1/401)
وقد نبّه عبد الوهاب القرطبي على ضرورة العناية بالمشددات إذا تتابعت، أكثر من العناية بالمشدد المفرد، وذلك حيث قال: «ومما تتعين ملاحظته في باب التشديد ترك التفريط فيه، واعتماد مؤاخاته، فيما إذا توالت عدة تشديدات وتجاورت لأن بعضه يصير كالمثقال للبعض، فيعلم باجتماعه وتواليه ناقصه من زائده، وتصير نسبة الإفراط فيه إلى التفريط فيه نسبة المشدد إلى المخفف، فيبين خلل ذلك، بخلاف ما إذا كان التشديد متفرقا فإنه لا يكون هناك ما يوزن به، فلا يبين الخلل فيه» (1).
سابعا الترقيق والتفخيم:
التفخيم والإطباق والاستعلاء من واد واحد، وقد سبق الحديث عن هذه الصفات وعن أضدادها: الترقيق والانفتاح والاستفال في مبحث صفات الحروف (2). وإنما عدنا إلى هذا الموضوع مرة أخرى لأن بعض أحكامه ناشئة عن التركيب. فالإطباق والاستعلاء وضداهما من صفات الأصوات اللازمة، وهي تورث موصوفها التفخيم، لكن بعض الأصوات يلحقها التفخيم أو الترقيق حين تجاور أصواتا أخرى.
قال المرعشي: «والتفخيم في الاصطلاح عبارة عن سمن يدخل على جسم الحرف فيمتلئ الفم بصداه. والتفخيم والتسمين والتجسيم والتغليظ بمعنى واحد. والترقيق عبارة عن نحول جسم الحرف فلا يمتلئ الفم بصداه (3). وحروف الاستعلاء كلها مفخمة، ولا يجوز تفخيم شيء من حروف الاستفالة إلا الراء واللام في بعض أحوالهما، وسيجيء بيان ذلك، وإلا الألف المدية فإنها تابعة لما قبلها
ثم اعلم أن التفخيم لازم للاستعلاء، فما كان استعلاؤه أبلغ كان تفخيمه أبلغ، فحروف الإطباق أبلغ في التفخيم من باقي حروف الاستعلاء وبالجملة إن قدر التفخيم على قدر الاستعلاء والإطباق» (4).
وهناك اتجاه لدى بعض علماء التجويد نحو تخصيص مصطلح معين يستخدم مع اللام في مقابل الترقيق وهو التغليظ، ومع الراء في مقابل الترقيق وهو التفخيم. كما أن بعضهم
__________
(1) الموضح 173و.
(2) انظر ص 287من هذا البحث.
(3) أصل التعريف الوارد هنا لكل من التفخيم والترقيق هو لابن الطحان في كتابه: مرشد القارئ 135و.
(4) جهد المقل 15ظ، وانظر: علي القاري: المنح الفكرية ص 26، والنابلسي: كفاية المستفيد 11ظ.(1/402)
استخدم للتعبير عن الترقيق في الراء الإمالة بين اللفظين، وهو تجوز إذ الإمالة تختص بالألف (1) أو على حد تعبير بعضهم: الترقيق في الحرف دون الحركة، والإمالة في الحركة دون الحرف» (2).
وذكر المرادي أن حروف الاستعلاء من غير المطبقة لا تفخيم فيها، وهي القاف والغين والخاء. وذلك حيث قال: «وقول بعضهم إن الخاء مفخمة على كل حال، وكذلك الغين، يعني بالتفخيم ما في صوتها من الاستعلاء. والتحقيق إن المفخم من حروف الاستعلاء أربعة أحرف، وهي المطبقة، وباقي حروف الاستعلاء أعني القاف والغين والخاء لا تفخيم فيها، وبين التفخيم والاستعلاء فرق مذكور في موضعه» (3).
ومن ثم فإن المرادي حين ذكر حروف التفخيم أخرج منها الحروف الثلاثة، وذلك حين قال: «واعلم أن الحروف بالنسبة إلى التفخيم والترقيق أربعة أقسام:
1 - مفخم مطلقا، وهو حروف الإطباق.
2 - ومرقق مطلقا وهو سائر الحروف إلا الراء واللام.
3 - وما أصله التفخيم وقد يرقق، وهو الراء.
4 - وما أصله الترقيق وقد يفخم، وهو اللام» (4).
وقد خالف المرادي جميع من اطلعت على آرائهم من علماء العربية وعلماء التجويد حين أخرج الحروف الثلاثة من حروف التفخيم. وقوله السابق (وبين التفخيم والاستعلاء فرق مذكور موضعه) لم نقف على الموضع الذي أشار إليه. والذي يفهم من كلام علماء التجويد هو أن التفخيم صفة صوتية ناتجة عن الإطباق والاستعلاء، ومن ثم وجدنا المرعشي يقول:
«وبالجملة إن قدر التفخيم على قد الاستعلاء والإطباق» (5). وقد أكد الدرس الصوتي الحديث إن التفخيم ظاهرة صوتية ناتجة عن الإطباق، حيث يأخذ اللسان شكلا مقعرا، وعن الاستعلاء حيث يتراجع أقصى اللسان نحو أقصى الحنك (6).
__________
(1) انظر: ابن الجزري: النشر 2/ 90.
(2) انظر: الداني: التحديد 39و، وعلي القاري: المنح الفكرية ص 26.
(3) المفيد 105و.
(4) شرح الواضحة ص 55.
(5) جهد المقل 16و.
(6) انظر: تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 90.(1/403)
ويبدو أن الوفائي كان يرد على مذهب المرادي السابق حين قال: «ثم اعلم أن الحروف بالنسبة إلى التفخيم والترقيق على أربعة أقسام: منها ما هو مفخم مطلقا، وهي حروف الإطباق الأربعة وبقية حروف الاستعلاء على الصواب» (1) فقوله (على الصواب) فيه إشارة إلى مذهب من خالف، وهو المرادي.
وقد قال علي القاري: «وأما الحروف المستعلية فمفخمة كلها من غير استثناء شيء منها» (2). إلا أن تفخيم حروف الاستعلاء على درجات، لأن قدر التفخيم على قدر الاستعلاء والإطباق. قال المرعشي: «اعلم أن التفخيم لازم للاستعلاء، فما كان استعلاؤه أبلغ كان تفخيمه أبلغ، فحروف الإطباق أبلغ في التفخيم من باقي حروف الاستعلاء، كما صرح به ابن الجزري في نظمه، ولما كانت الطاء المهملة أقوى في الإطباق من أخواتها كان تفخيمها أزيد من تفخيم أخواتها، كما في الرعاية والتمهيد.
أقول (المرعشي): لما كان الصاد والضاد متوسطتين في الإطباق كما عرفت كانتا متوسطتين في التفخيم أيضا، ولما كانت الظاء المعجمة أضعف حروف الإطباق في الإطباق كان تفخيمها أقل من تفخيم أخواتها، وبالجملة إن قدر التفخيم على قدر الاستعلاء والإطباق.
فالطاء المهملة أفخم الحروف. ولما كان القاف أبلغ في الاستعلاء من الغين والخاء المعجمتين كما عرفت كان أفخم منها. قال (3): وحروف الاستعلاء عن ابن الطحان الأندلسي (4) ثلاثة أضرب في مقدار التفخيم:
الأول: ما تمكن أي قوي فيه التفخيم وهو ما كان مفتوحا.
والثاني: ما كان دونه وهو المضموم.
والثالث: ما كان دون المضموم وهو المكسور» (5).
ويبدو أن كون الحروف الثلاثة: القاف والخاء والغين أقل الحروف المفخمة تفخيما هو
__________
(1) الجواهر المضية 50ظ.
(2) المنح الفكرية ص 21.
(3) انظر: ابن الجزري: التمهيد ص 38، والنشر 1/ 218.
(4) هو عبد العزيز بن علي بن محمد الأندلسي (ت حوالي 560هـ) المعروف بابن الطحان، وهو مؤلف كتاب (الأنباء في تجويد القرآن) وكتاب (مرشد القارئ إلى تحقيق معالم المقارئ). انظر: رقم 11من قائمة مصادر علم التجويد في هذا البحث.
(5) جهد المقل 15ظ 16و.(1/404)
الذي حمل المرادي على إخراجها من المفخمات، وهو الذي حمل بعض المحدثين على القول إن لها بعض القيمة التفخيمية لكنها لا توصف بأنها مفخمة (1). لكن الذي عليه جمهور العلماء هو أن جميع حروف الاستعلاء مفخمة، وقد تقدم بشأنها ما فيه الكفاية. وبقي أن ننظر في الأحوال التي تفخم فيها الحروف الثلاثة: الراء واللام، ثم الألف التي سنتحدث عنها بعد ذلك.
1 - تفخيم الراء وترقيقها:
اختلف علماء القراءة والتجويد في أصل الراء هل هو التفخيم أو الترقيق. فذهب الجمهور إلى الأول. واحتج له مكي بقوله: «الدليل على أن أصلها التغليظ (أي التفخيم) أن كل راء غير مكسورة فتغليظها جائز، وليس كل راء يجوز فيها الترقيق. ألا ترى أنك لو قلت:
رغدا، ورقد، ونحوه، بالترقيق لغيّرت لفظ الراء إلى نحو الإمالة؟ وهذا لا يمال، ولا علة فيه توجب الإمالة فيه» (2).
ولا يتضح وجه لاستدلال مكي على أن أصل الراء التفخيم بقوله: «إن كل راء غير مكسورة فتغليظها جائز» لأن هذا القول معناه أن الراء غير المكسورة يجوز فيها الترقيق والتفخيم، وهو ما لا يقوم به دليل، وكلام مكي بنصه السابق لا يخلو من تناقض، لأنه مسوق للاستدلال به على أن الأصل في الراء التفخيم بينما هو يمكن أن يستدل به على العكس. ولو كان النص (كل راء مكسورة فتغليظها جائز، وليس كل راء غير مكسورة يجوز فيها الترقيق) لكان مستقيما. ونقل القسطلاني عبارة مكي على هذا النحو (كل راء مكسورة تغليظها غير جائز) (3). وهو تصرف في العبارة لا يحل الإشكال الموجود في النص.
واحتج غير مكي «على أن أصل الراء التفخيم بكونها متمكنة في ظهر اللسان فقربت بذلك من الحنك الأعلى الذي به تتعلق حروف الإطباق، وتمكنت منزلتها لما عرض لها من التكرار حتى حكموا للفتحة فيها بأنها في تقدير فتحتين، كما حكموا للكسرة فيها بأنها في قوة كسرتين.
«وقال آخرون: ليس للراء أصل في التفخيم ولا في الترقيق، وإنما يعرض لها ذلك
__________
(1) انظر: تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 96و 102101.
(2) الكشف 1/ 209، وانظر: ابن الجزري: النشر 2/ 108.
(3) لطائف الإشارات 1/ 201.(1/405)
بحسب حركتها فترقق مع الكسرة لتسفلها، وتفخم مع الفتحة والضمة لتصعدهما، فإذا سكنت جرت على حكم المجاور لها وإنما كلام العرب على تمكينها من الطرف إذا انكسرت فيحصل الترقيق المستحسن فيها إذا ذاك، وعلى تمكينها إلى ظهر اللسان إذا انفتحت أو انضمت فيحصل لها التغليظ الذي يناسب الفتحة والضمة» (1).
ومع أن الكلام عن أصل الراء هل هو التفخيم أو الترقيق لا يغير من أحكامها شيئا إلا أن القول بأن تفخيمها وترقيقها تابع لحركتها أولى من غيره، فإن حكم الراء يتضح ارتباطه بحركتها أو حركة ما قبلها على نحو واضح وأكيد.
وقد لخص ابن الجزري حكم الراء من حيث الترقيق والتفخيم بقوله: «ترقق مع الكسرة لتسفلها، وتفخم مع الفتحة والضمة لتصعدها» (2). وهذا قانون عام في موضوع الراء، وقد تكفلت كتب القراءات وكتب التجويد بشرحه وتفصيل الأحكام التي تنبني عليه على نحو ليس فيه اضطراب ولا غموض. وكانت لعلماء التجويد طرائق متعددة في عرض تلك الأحكام.
فمن علماء التجويد من يقسم أحكام الراء بحسب الاتفاق والاختلاف في التفخيم والترقيق (3). ومن ذلك قول القسطلاني: «وأنت إذا اعتبرت مذاهبهم فيها وجدتها على ثلاثة أقسام: قسم لم يختلفوا في تفخيمه عملا بالأصل، وقسم اختلفوا فيه فرققه ورش، وقسم لم يختلفوا في ترقيقه وذلك لموجب، هو إذا كانت الراء مكسورة كسرة لازمة أو عارضة تامة أو ناقصة، سواء كانت أولا أو وسطا أو طرفا، منونة أو غير منونة، سكن ما قبلها أو تحرك، وقع بعدها حرف مستفل أو مستعل في اسم أو فعل» (4).
ومن علماء التجويد من قسم أحكام الراء بحسب حركتها هي، قال المرعشي: «أما الراء فهي إما متحركة وإما ساكنة، والساكنة إما ساكنة لأجل الوقف أو لا، فهنا ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في الراء المتحركة، وهي إما مكسورة، وهي ترقق بلا خلاف، سواء كانت كسرتها لازمة مثل {رِزْقِ} [البقرة: 60] أم عارضة (5) مثل {وَذَرِ الَّذِينَ} [الأنعام:
70]. وسواء لم يقع بعدها حرف استعلاء كما في المثالين المذكورين، أو وقع نحو
__________
(1) النشر 2/ 109108، وانظر: الدركزلي: خلاصة العجالة 164ظ.
(2) النشر 2/ 108.
(3) انظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 324، وابن الجزري: النشر 2/ 91.
(4) اللئالئ السنية ورقة 18و.
(5) في الأصل (وأما متحركة) لكن الذي يناسب السياق هو (أم عارضة).(1/406)
{الرِّقََابِ} [البقرة: 177]. وإما مفتوحة أو مضمومة، وهما تفخمان نحو {رَبِّ الْعََالَمِينَ} [الفاتحة: 2] و {رُؤْيََاكَ} [يوسف: 5]، كذا قال. أقول: هذا عند جمهور القراء وعاصم معهم، وليس عند الجميع، لأن ورشا يرقق الراء المضمومة بعد الكسرة اللازمة
وكذا يرقق المفتوحة مع إمالتها قليلا بعد الياء الساكنة وبيان تلك المواضع في كتب القراءات
الفصل الثاني: في الراء الساكنة التي ليس سكونها لأجل الوقف، وهي إما واقعة بعد الفتحة أو الضمة فإنها حينئذ تفخم بلا خلاف ولا اشتراط شيء، نحو {الْعَرْشِ} [الأعراف:
54] و {كُرْهٌ} [البقرة: 216] و {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] و {وَأْمُرْ} [الأعراف: 145]. وإما واقعة بعد الكسرة فإنها حينئذ ترقق بشروط ثلاثة:
الأول: أن تكون الكسرة لازمة غير عارضة.
والثاني: أن تكون الكسرة متصلة بالراء في كلمتها.
والثالث: أن لا يكون بعد الراء في كلمتها حرف استعلاء
الفصل الثالث: في حكم الراء الساكنة التي سكونها لأجل الوقف عليها، وإنما قيد به لأنها إذا وقف عليها وكانت ساكنة قبل الوقف عليها نحو: {وَانْحَرْ}، {وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فهي كما في الوصل في جميع الأحوال وقد سبق بيانه. وإما إذا كانت متحركة قبله وسكنت لأجل الوقف عليها بالروم فهي كما في الوصل وإن وقف عليها بالسكون المحض فإن كان ما قبل الراء الساكنة مكسورا فالراء ترقق عند الجميع وإن كان ما قبل الراء الساكنة في الوقف مفتوحا أو مضموما فإنها تفخم حينئذ عند الجميع» (1).
واكتفى عبد الغني النابلسي بحصر المواضع التي ترقق فيها الراء، وذلك حيث قال:
«وأما الراء فهي مفخمة حيث وقعت، لا يجوز ترقيقها إلا بأحد سببين:
السبب الأول: كسرها مطلقا، ولو كسرة عارضة، نحو: {وَأَنْذِرِ النََّاسَ} [إبراهيم:
44] و {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [المزمل: 8].
السبب الثاني للترقيق: كسر ما قبلها فيما إذا كانت ساكنة سكونا لازما، نحو {فِرْعَوْنَ}
[البقرة: 49] أو عارضا نحو {بُعْثِرَ} [العاديات: 9] في حالة الوقف بشرط أن لا يكون بعدها حرف مفخم نحو: {فِرْقَةٍ} [التوبة: 122]، و {قِرْطََاسٍ} [الأنعام: 7]،
__________
(1) جهد المقل 21ظ 23ظ.(1/407)
و {لَبِالْمِرْصََادِ} [الفجر: 14]، وأن لا تكون الكسرة قبلها عارضة نحو {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة:
106]، وإلا تفخم.
والياء الساكنة تقوم مقام كسر ما قبلها نحو {قَدِيرٌ} [البقرة: 20] و {خَبِيرٌ} [البقرة:
234] حالة الوقف. والحرف الساكن بين الراء وبين الكسرة ليس بمانع من الترقيق، نحو {أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] حالة الوقف، ولو كان صادا نحو {ادْخُلُوا مِصْرَ} [يوسف:
99]، (أو طاء) (1) نحو {عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12] فإن الراء ترقق في جميع ذلك. وفيما عدا ذلك تفخم» (2).
وقد وضّح عبد الوهاب القرطبي كيفية إنتاج الراء المرققة والراء المفخمة، وذلك حيث قال: «واعلم أن الراء يتغير اللفظ بها من حيث أنها ترق في حال وتغلظ في حال وذلك تابع لحركتها وسكونها، فإن كانت متحركة فلا تخلو من أن تكون مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة.
فإن كانت مكسورة رقّت، وكان العمل فيها برأس اللسان، ومعتمدها أدخل إلى جهة الحلق في الحنك الأعلى يسيرا، وأخذ اللسان من الحنك أقل مما يأخذ مع المفخمة، فينخفض اللسان حينئذ فلا ينحصر الصوت بينه وبين الحنك فتجيء الرقة
فإن كانت مضمومة أو مفتوحة فخّمت، وكان ما يأخذه طرف اللسان منها أكثر مما يأخذه مع الترقيق، وكان معتمد اللسان أخرج في الحنك الأعلى يسيرا، فينبسط حينئذ اللسان وينحصر الصوت بينه وبين الحنك، فيحدث التفخيم لذلك» (3).
وكانت عناية دارسي الأصوات العربية من المحدثين بأحكام الراء محدودة، ويكاد الدكتور إبراهيم أنيس يكون أكثرهم اهتماما بالموضوع، لكن كلامه الموجز في ذلك جاء مشحونا بجوانب القصور، فهو يقول: «ورغم اختلاف القراء في تفخيم الراء وترقيقها إلى حد يشبه الاضطراب، يمكن أن نستخلص من تلك الآراء المتشعبة ضوابط عامة يكاد يجمع عليها القراء» (4). ولا يقال عن مثل هذا الكلام إلا ما قاله ابن الجزري من قبل: «وهذا كلام من لم يطلع على مذاهب القوم في اختلافهم في ترقيق الراءات» (5). فما هي مظاهر الاضطراب التي
__________
(1) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق، ويدل عليها ما ورد في جهد المقل (ورقة 23ظ) للمرعشي.
(2) كفاية المستفيد 12و.
(3) الموضح 161و.
(4) الأصوات اللغوية ص 66.
(5) النشر 2/ 9695.(1/408)
يشكو منها الدكتور إبراهيم أنيس، وأين تلك الآراء المتشعبة التي ضل في متاهاتها؟
إن الدارس حين يلاحظ تعدد الحالات المتعلقة بظاهرة ترقيق الراء لا ينبغي أن يحمله ذلك على رمي علماء القراءة بالاضطراب ولا الاعتماد بأن ذلك التعدد من علامات القصور في دراسة الموضوع، بل إن الدارس الحديث يرى في ذلك التعدد المنهج الصحيح لدراسة الظواهر اللغوية، ذلك المنهج الذي يعنى بوصف الظواهر اللغوية كما هي من غير أن يكون من هدفه اختصارها أو توحيدها، بل غاية ما يمكن أن يفعله بعد وصفها هو تقديم تفسير لها.
وإذا تجاوزنا مقولة الدكتور إبراهيم أنيس السابقة وانتقلنا إلى النظر في الضوابط العامة التي وضعها وجدناه يقع في أخطاء كان يكفيه في تجنبها أن يرجع إلى أي كتاب من كتب علم التجويد أو كتب القراءات، وينظر في موضوع أحكام الراء. ولكي لا يظنّ أننا نبالغ حين ننسب التقصير إلى رائد الدراسات الصوتية العربية الحديثة أنقل نص الضوابط التي وضعها لأحكام الراء وذلك حيث قال: «ويمكن أن نستخلص من تلك الآراء المتشعبة ضوابط عامة يكاد يجمع عليها القراء.
1 - تفخم الراء المفتوحة إلا إذا سبقها كسرة أو ياء مد، نحو: رزقكم صبروا. ولكنها ترقق في مثل: لم يكن الله ليغفر لهم فقد خسر خسرانا مبينا وإن كانت لكبيرة.
2 - ترقق الراء المكسورة مطلقا مثل: رزق رجس.
3 - وأما الساكنة التي يسبقها كسر فترقق مثل: فرعون، إلا إذا وليها صوت استعلاء مثل: قرطاس.
أما الراء المضمومة أو الساكنة وقبلها ضم فحكمها غامض لا نكاد نهتدي فيه إلى رأي ينطبق على ما نسمعه من أفواه القراء في الوقت الحاضر» (1).
وأول ما يلاحظ على هذه الضوابط أنها تفتقر إلى المنهج الواضح في عرض أحكام الراء، ثم هي بعد ذلك تتضمن بعض جوانب القصور، فما ورد في رقم (1) يحتاج إلى تعديل أو توضيح، فما دام الأمر بصدد وضع ضوابط (يكاد يجمع عليها القراء) فيكفي أن يقال حينئذ (تفخم الراء المفتوحة)، لأن ترقيق الراء المفتوحة التي قبلها كسرة أو ياء انفرد به ورش دون سائر القراء. ولا يناسب واقع الحال إطلاق القول بترقيق مثل {لِيَغْفِرَ} و {خَسِرَ} و {لَكَبِيرَةٌ} لأن الجمهور يفخمونها على الأصل في تفخيم الراء المفتوحة.
__________
(1) الأصوات اللغوية ص 66.(1/409)
وما جاء في خاتمة الضوابط من كلام عن الراء المضمومة أو الساكنة وقبلها ضم من أن (حكمها غامض) لا يقوم على دليل، فالنصوص الواردة في كتب علم التجويد والقراءات صريحة في وصف مثل تلك الراء بالتفخيم وهو المسموع من القراء اليوم. يقول مكي (فأما الراء المفتوحة والمضمومة فكل القراء على تغليظها) (1). وقال عبد الوهاب القرطبي: «فإن كانت مضمومة أو مفتوحة فخّمت» (2). وقال المرعشي: «الراء الساكنة التي ليس سكونها لأجل الوقف، وهي إما واقعة بعد الفتحة أو الضمة فإنها حينئذ تفخم بلا خلاف ولا اشتراط شيء» (3).
إن الضوابط العامة التي قدمها الدكتور إبراهيم أنيس لترقيق الراء وتفخيمها تعطي مثالا لما لحق الدرس الصوتي العربي الحديث من ضرر بسبب عدم الاطلاع على ما كتبه علماء التجويد في دراسة الأصوات، فأحكام الراء التي ذكرها علماء التجويد يمكن أن تلخص، بغض النظر عن التفصيلات، فيما يأتي:
1 - ترقق الراء إذا كانت مكسورة أو جاءت ساكنة بعد كسر.
2 - تفخم الراء إذا كانت مضمومة أو مفتوحة أو جاءت ساكنة بعد فتح أو ضم.
2 - تفخيم اللام وترقيقها:
الغالب على اللام في العربية الترقيق، وهو الأصل فيها لكثرته (4). وضد الترقيق التفخيم، ويرادفه التسمين والتغليظ، ويذهب بعض العلماء إلى استخدام التغليظ في اللام، والتفخيم في الراء (5). ويتأتى تفخيم اللام بأن يكون العمل فيها بوسط اللسان، وأدخل قليلا من مخرجها (6).
وتفخم اللام في حالتين، الأولى متفق عليها بين جمهور القراء، والثانية انفرد بها ورش عن نافع، وترقق فيما عداهما.
__________
(1) الكشف 1/ 210.
(2) الموضح 161و.
(3) جهد المقل 22و.
(4) القرطبي: الموضح 164و.
(5) ابن الجزري: النشر 2/ 111.
(6) القرطبي: الموضح 164و. وانظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 65.(1/410)
الحالة الأولى:
هي أن اللام من اسم الله المعظم تفخم إذا وقعت بعد ضمة أو فتحة، وترقق إذا سبقت بكسرة. وقد وضح الداني ذلك بقوله: «فأما اللام من اسم (الله) عز وجل فالجميع مجمعون على ترقيقها مع الكسرة من أجلها، عارضة كانت أو غير عارضة نحو: (بسم الله)، و (الحمد لله) فإن وليها فتحة أو ضمة أجمعوا على تغليظها من أجلهما، نحو: {قََالَ اللََّهُ}
[المائدة: 110]، و {ضَرَبَ اللََّهُ} [إبراهيم: 24]» (1).
وقدم بعض علماء التجويد لتفخيم اللام في اسم الله تعالى تعليلا غير صوتي، فقال عبد الوهاب القرطبي: «والوجه في تفخيم اللام في اسم الله تعالى ذكره ما يحاول من التنبيه على فخامة المسمى به وجلاله، وذلك أصل فيه إلا أن يمنع منه مانع» (2).
وقدم السعيدي تعليلا صوتيا لترقيق اللام في اسم الله تعالى بعد الكسرة فقال: «وإنما كرهوا التفخيم بعد الكسرة لأن الكسرة حرف مستفل والتفخيم فيما تصاعد، فصعب عليهم أن ينتقلوا من التسفل (إلى التفخيم) (3) والتفخيم فيما تصاعد، فيكون في ذلك كلفة على اللسان» (4).
ويبدو لي أن تفخيم اللام في اسم الله تعالى نطق قديم، وأنه كان يشمل نطق اسم الله المعظم إذا وقعت قبله كسرة أيضا. ولما كان نطق اللام الغالب في العربية الترقيق وأن الكسرة يناسبها الترقيق، كان من المقبول صوتيا أن ترقق اللام بعد الكسرة، وتحافظ على التفخيم بعد الفتحة والضمة اللتين يناسبهما التفخيم. ومن ثم فإن تعليل علماء التجويد لترقيق هذه اللام يندرج في ميل الأصوات إلى المناسبة والمشاكلة في اللفظ، أما تعليل ظاهرة التفخيم فلا يدخل في مجال الدرس الصوتي، وربما لجأ إليه بعض علماء التجويد حين لم يجدوا تفسيرا صوتيا لهذه الظاهرة.
ورب قائل يقول: لماذا لا يكون أصل اللام في اسم الله تعالى الترقيق، مثل حكم اللام في سائر الكلمات الأخرى، وأنها فخمت قبل الضمة والفتحة لأنهما يناسبهما التفخيم؟
فنقول: إن ذلك احتمال وارد. ولكن نقول: لماذا لم تفخم اللام في سائر الكلمات الأخرى
__________
(1) التحديد 39و. وانظر: السعيدي: التنبيه 51. ومكي: الرعاية ص 165والكشف 1/ 219.
(2) الموضح 164ظ.
(3) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.
(4) السعيدي: اختلاف القراء 60و. وانظر: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 99و.(1/411)
حين تقع بعد ضمة أو فتحة نحو: اللّبن واللحم والليل وغيرها من الكلمات المماثلة لولا أن التفخيم أصل في اللام في اسم الله خاصة، وأن الترقيق فيه بعد الكسرة تحوّل لاحق حصل في حقبة سبقت نزول القرآن الكريم.
وهناك رواية جاءت مخالفة لما أجمع عليه القراء من تفخيم اللام من اسم الله تعالى بعد الفتحة والضمة، وهي منقولة عن بعض أهل البصرة، وقد وافقهم فيها أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم العطار البغدادي (ت 354هـ). حيث جاء أنهم يقرءون بترك التفخيم في اسم الله تعالى.
قال السعيدي في ذلك: «وأهل البصرة ينكرون التفخيم ولا يستعملونه في قراءتهم، وكذلك أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم المقرئ من أهل بغداد، وهو صدر في القراءة، فكان ينكر التفخيم إنكارا شديدا، ويقول: يلزمكم أن تقولوا: اللبن واللجام فتفخم كلا اللامين، من هذا الجنس الغالب على أهل بغداد. وسائر الناس (على) (1) التفخيم في القرآن والأذان والكلام.
ورأيت العرب في البادية والحجاز واليمن يفخمون سائر اللامات، فيقولون: ثلاثة، فيفخمونها، وهي لغة أهل الشام والمغرب، ولا يجوز ذلك في القرآن إلا لقوم تلك لغتهم، فلا يقدرون على تحويل لسانهم» (2).
لا يلتفت أكثر علماء القراءة إلى رواية من ينكر تفخيم اللام في اسم الله المعظم، ويعدون ذلك شذوذا. فقد روى أحمد بن أبي عمر أن أبا الفضل الخزاعي قال: «الاختيار التفخيم، وعليه الأئمة من القراء وأهل اللغة. وإياك أن تفخم اللام إذا انكسر ما قبلها فإنه من أسمج اللفظ وأقبح اللحن، إلا لقوم تلك لغتهم فلا يقدرون على غيرها» (3).
وقال علم الدين السخاوي: «وقد وقع الإجماع منهم على تغليظ اللام من اسم الله عز وجل، إذا لم يكن قبلها كسرة، وعلى ترقيقها مع الكسرة نحو: (لله). وترقيقها في هذا طلبا للمشاركة وتفخيمها في غيره من خصائص هذا الاسم الشريف تعظيما له» (4).
__________
(1) زيادة ليست في الأصل.
(2) اختلاف القراء في اللام والنون 60و.
(3) الإيضاح 99و.
(4) جمال القراء 194ظ.(1/412)
وقد تحدث ابن الجزري عن هذا الموضوع، ونقل عدة نصوص كلها تؤكد ما ذكرناه من أن جمهور العلماء يقولون بتفخيم اللام من اسم الله تعالى بعد الضمة والفتحة. وهذا نص كلامه: «قال الحافظ أبو عمرو والداني في جامعه (1)، حدثني الحسن بن شاكر البصري، قال ثنا أحمد بن نصر يعني الشذائي، قال: التفخيم في هذا الاسم، يعني مع الفتحة والضمة، ينقله قرن عن قرن، وخالف عن سالف. قال: وإليه كان شيخنا أبو بكر بن مجاهد وأبو الحسين بن المنادي يذهبان، انتهى.
«وقد شذ أبو علي الأهوازي فيما حكاه من ترقيق هذه اللام، يعني بعد الفتح والضم، عن السّوسيّ وروح (2). وتبعه في ذلك من رواه عنه كابن الباذش في إقناعه (3)، وغيره. وذلك مما لا يصح في التلاوة، ولا يؤخذ به في القراءة» (4).
الحالة الثانية:
روى المصريون عن ورش عن نافع تغليظ اللام إذا تحركت بالفتح ووليها من قلبها صاد أو ظاء أو طاء، وتحركت هذه الحروف الثلاثة (5) بالفتح أو سكنت لا غير. نحو: {الصَّلََاةَ}
[البقرة: 3]، و {فَيُصْلَبُ} [يوسف: 41]، و {الطَّلََاقَ} [البقرة: 227]، و {مُعَطَّلَةٍ}
[الحج: 45]، و {وَمَنْ أَظْلَمُ} [البقرة: 114]، و {ظَلَمُوا} [البقرة: 59]، وما أشبهه.
والقراء بعد يرققونها من غير إفحاش (6).
وقد علل ذلك عبد الوهاب القرطبي بقوله: «وأما مذهب ورش فوجهه طلب المناسبة بين الحروف، كما في إمالة الألف وترقيق الراء والقلب والتشديد» (7). وهذا تفسير صوتي
__________
(1) أي (جامع البيان في القراءات السبع المشهورة)، وهو مخطوط، وله عدة نسخ، وكنت قد اطلعت عليه سنة 1975م بدار الكتب المصرية في القاهرة (رقم 3م قراءات).
(2) انظر: الوجيز 9و. والسوسي هو أبو شعيب صالح بن زياد (ت 261هـ)، روى قراءة أبي عمرو بن العلاء عن اليزيدي (انظر: ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 332). وروح هو روح بن عبد المؤمن البصري (ت 234هـ) وهو من جلة أصحاب يعقوب الحضرمي (انظر: غاية النهاية 1/ 285).
(3) الإقناع 1/ 338337.
(4) النشر 2/ 116115.
(5) ذكر معها عبد الوهاب القرطبي صوت الضاد (انظر: الموضح 164و).
(6) انظر: الداني: التيسير ص 58والتحديد 38ظ، ومكي: الرعاية ص 164. وابن الباذش الإقناع 1/ 339، وابن الجزري: النشر 2/ 111.
(7) الموضح 164ظ.(1/413)
صحيح لهذه الظواهر الناشئة عن التركيب كما أنه تعليل صحيح لظاهرة تفخيم اللام في مذهب ورش، وذلك لأن فتحة اللام تناسب التفخيم، كما أن حروف الإطباق قبلها تقتضي ارتفاع ظهر اللسان وانطباقه على الحنك الأعلى وهو يشبه ما يحدث عند تفخيم اللام إلى حد كبير (1).
وقد قال مكي: «وعلة من فخم هذا النوع أنه لما تقدم اللام حرف مفخم مطبق مستعل أراد أن يقرّب اللام نحو لفظه، فيعمل اللسان في التفخيم عملا واحدا» (2).
ومع أن مذهب ورش في اللام إذا جاورت صوتا مطبقا له تفسير صوتي واضح إلا أن أحدا من القراء لم يذهب مذهبه. وقشي شيء اختص المصريون برواية مذهب ورش في اللام لم يشاركهم فيها سواهم (3). ومن ثم قال أبو العلاء الهمذاني العطار: «فأما ما رويناه عن
ورش من تغليظ اللام إذا انفتحت بعد صاد أو ظاء نحو: الصلاة، وصلوات، وصلى، وظلم، وظلموا، فإن ذلك وما يجري مجراه لا يؤخذ به ما وجد مندوحة منه» (4).
ولا أستبعد أن تكون لطبيعة التأثر الصوتي السابق الذي وقع من الصوت الأول وهو الصوت المطبق باتجاه الصوت الثاني وهو اللام علاقة بقلة من أخذ بذلك الاتجاه في تغليظ اللام من القراء، لأن أكثر صور التأثر بين الأصوات في العربية هي أن تكون من الصوت الثاني باتجاه الصوت الأول.
* * * __________
(1) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 65.
(2) الكشف 1/ 119.
(3) النشر 2/ 111.
(4) التمهيد 154و 154ظ.(1/414)
المبحث الثالث الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الذائبة
مضى الحديث عن موقف علماء التجويد من إنتاج الأصوات الذائبة وتحديد مخارجها وتوضيح العلاقة بين الحركات وحروف المد، وكل ما يتصل بالخصائص الصوتية لهذا القسم من أصوات العربية (1). وهذا المبحث معقود للكلام عن موقف علماء التجويد من الظواهر الصوتية المتعلقة بالأصوات الذائبة الناشئة عن التركيب، وبيان مقدار إدراكهم لأثر التركيب على خصائص تلك الأصوات.
وكان دارسو الأصوات العربية المعاصرون قد رددوا القول بأن علماء العربية القدامى لم يعنوا بالحركات العناية اللائقة بها. وقد أشرت إلى خطأ هذه المقولة من قبل (2). وفي هذا المبحث دليل جديد نضعه بجانب ما أوردناه سابقا عن الأصوات الذائبة، وإني لأعتقد أن الأمر قد تجاوز مرحلة تصيد النصوص النادرة لإثبات أن علماء العربية القدامى قد اعتنوا بدراسة الحركات، فالدارس هنا أمام ما لا يحصى من النصوص، لا بل أنه أمام فصول وأبواب كاملة تعالج موضوع الأصوات الذائبة (الحركات وحروف المد). على نحو مبوب ومفصل يشمل كل ما يتصل بكيفية نطق الحركات وما يعرض لها في التركيب من ظواهر صوتية. وهذه إشارة إلى من خصص فصلا أو بابا لدراسة ما يتعلق بالحركات مما اطلعت عليه من كتب علم التجويد:
1 - باب ذكر أحوال الحركات في الوقف، وبيان الروم والإشمام في كتاب (التحديد في الإتقان والتجويد) (3)، لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444هـ).
2 - الباب الثالث في الكلام على الحركات والسكون في كتاب (الموضح في علم
__________
(1) انظر: المبحث السادس من الفصل الثاني من هذا البحث.
(2) انظر: المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا البحث.
(3) التحديد 41ظ 43و.(1/415)
التجويد) (1). لعبد الوهاب بن محمد القرطبي (ت 462هـ).
3 - فصل في حدود الحركات والسكون في كتاب (مرشد القارئ) (2)، لأبي الأصبغ عبد العزيز بن علي بن محمد الأندلسي، المعروف بابن الطحان (ت حوالي 560هـ).
4 - الباب التاسع: في كيفية التلفظ حال التلاوة بها (بحروف العربية) في كتاب (التمهيد في التجويد) لأبي العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني العطار (ت 569هـ).
وقد قال في أول هذا الباب: «اعلم أن هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام، فالقسم الأول في حروف المد واللين، والقسم الثاني في الحلقية، والقسم الثالث فيما عداهما. وإنما بدأنا باللينة لأنها أكثر دورا من غيرها، والحركات ناشئة عنها» (3).
وتلك عناوين تندرج تحتها تفصيلات كثيرة، سوف نتعرف على كثير منها في هذا المبحث، حيث ندرس الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب التي تخص الأصوات الذائبة، والتي يمكن أن نصنفها إلى صنفين ظواهر صوتية تتعلق بالنوعية، وظواهر صوتية تتعلق بالكمية. ولعلماء التجويد كلام عن موقع الحركة بالنسبة للحرف، وعن كيفية نطق الحركات والمحافظة على خواصها حين تكون في التركيب، وأجد من المناسب الحديث عن ذلك قبل دراسة الظواهر الصوتية النوعية والكمية.
1 - موقع الحركة من الحرف:
كان ابن جني قد درس في كتابه (سر صناعة الإعراب) موضوع موقع الحركة من الحرف حين النطق بالكلمات، وهل هي في المرتبة قبله، أو معه، أو بعده؟ وقد ناقش هذه الاحتمالات الثلاثة، ورجح أن تكون الحركة منطوقة بعد الحرف، لا قبله ولا معه (4). وأشار في كتابه (الخصائص) إلى أن ذلك مذهب سيبويه (5).
ودرس علماء التجويد هذا الموضوع في كتبهم، لكن بعضهم نحا منحى ابن جني في العرض والاستدلال، على نحو ما فعل عبد الوهاب القرطبي، وبعضهم نحا منحى آخر، كما
__________
(1) الموضح 183و 188و.
(2) مرشد القارئ 135ظ 136ظ.
(3) التمهيد 147ظ. وقد استغرق القسم الأول الأوراق 147ظ 150ظ.
(4) سر صناعة الإعراب 1/ 3732، ونقل السيوطي ذلك في الأشباه والنظائر 1/ 156152.
(5) الخصائص 2/ 321.(1/416)
فعل مكي بن أبي طالب الذي يفهم من كلامه أنه يناقش قضية تاريخية تتلخص في معرفة أيهما كان أسبق في الاستخدام اللغوي الحروف أم الحركات؟ وهو يرجح أن الحروف والحركات لم يسبق أحدهما الآخر في الاستعمال (1). ويبدو لي أن مناقشة الموضوع على هذا النحو تشبه الكلام عن نشأة اللغة في عدم جدواها من ناحية الدرس اللغوي.
أما عبد الوهاب القرطبي فإنه اقتفى أثر ابن جني في مناقشة الموضوع، واستدل بأدلته (2). وهي معروفة منذ أن تداول الدارسون المحدثون كتاب (سر صناعة الإعراب) بعد طبع الجزء الأول منه. لكن عبد الوهاب القرطبي ختم كلامه عن الموضوع بملاحظة دقيقة استدل بها على أن الحركة تحدث مع الحرف. فهو بعد أن نقل ما ذكره ابن جني من مذهب أبي علي الفارسي إلى أن الحركة تحدث مع الحرف، قال مؤيدا هذا المذهب:
«ومما يبينه أيضا أن الحركات الثلاث إنما عملهن بالفم، فإذا ضممته حدث الضم، وإن كسرته حدث الكسر، ومتى فتحته حدث الفتح، وفي حال تحريك الحرف بالضم يكون اللافظ به قاطعا للصوت على مخرج الحرف وضاما شفتيه معا في حالة واحدة، من غير أن يتخلل بينهما زمان محسوس. وكذلك في حال كسر الحرف يكون كاسرا بفمه مع قطع الصوت على مخرج الحرف المكسور. وكذلك في حال الفتح يكون قاطعا للصوت على مخرج الحرف مع فتح فمه من غير فصل بينهما. وهذا دليل على أن الحركة تحدث مع الحرف المتحرك من غير تقدم عليه ولا تأخر عنه» (3).
ولا شك في أن ملاحظة عبد الوهاب القرطبي السابقة صحيحة ودقيقة، فلو تأملنا حالة أعضاء النطق عند التلفظ بهذه الكلمات: قرب، وقول، وقسم. لوجدنا أن شكل أعضاء النطق عند بداية التلفظ يختلف في كل كلمة عنه في الكلمة الأخرى، على الرغم من أن الكلمات الثلاث تتفق في البدء بصوت القاف. فحين تنطق الكلمة الأولى نجد أن الناطق يضم شفتيه في ذات الوقت الذي يبدأ بنطق صوت القاف، بينما يفتح شفتيه في الكلمة الثانية، ويكسر هما في الكلمة الثالثة. وهذا أمر يؤيد ما ذكره عبد الوهاب القرطبي في النص السابق. ولكني أعتقد أن ذلك لا يدل على أن الحركة تحدث مع الحرف بقدر ما يدل على شدة اتصال الحركة بالحرف
__________
(1) الرعاية ص 8077. وقد أخذ هذه الفكرة عن مكي كل من: ابن الجزري: التمهيد ص 2019 والقسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 187186.
(2) الموضح 151و 151ظ.
(3) الموضح 151ظ.(1/417)
بحيث أن أعضاء النطق تبدأ بالتهيؤ للصوت الثاني قبل الفراغ من نطق الصوت الأول. وذلك لأن عملية النطق الاعتيادية سريعة جدا بحيث لا تدع فرصة لنطق الصوت مستقلا ثم البدء بنطق الصوت الذي يأتي بعده، وذلك لشدة اتصال الأصوات المتجاورة. ولولا ذلك التداخل وشدة الاتصال لما حدث تأثر الأصوات بعضها ببعض بحيث يؤثر الصوت الثاني في الأول.
2 - العناية بكيفية نطق الحركات:
أولى علماء التجويد الحركات عناية خاصة، فوضحوا كيفية نطقها والمحافظة على خواصها عند ما تتوالى في التركيب وحين تجاور أصوات اللين خاصة، لما بينها وبين الحركات من تقارب في النطق.
فمن ذلك قول الداني: «فأما المحرك من الحروف بالحركات الثلاث: الفتحة والكسرة والضمة فحقه أن يلفظ به مشبعا، ويؤتى بالحركات كوامل، من غير اختلاس ولا توهين يؤولان إلى تضعيف الصوت بهن، ولا إشباع زائد، ولا تمطيط بالغ يوجبان الإتيان بعدهن بألف وياء وواو غير ممكنات فضلا عن الإتيان بهن ممكنات.
وأما المسكن من الحروف فحقه أن يخلى من الحركات الثلاث ومن بعضهن، من غير وقف شديد ولا قطع مسرف عليه سوى احتباس اللسان في موضعه قليلا في حال الوصل» (1).
ومثل ذلك قول عبد الوهاب القرطبي في أول الباب الثالث الذي خصصه للكلام عن الحركات: «قد بينا أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وكشفنا فيما تقدم عن حقيقة السكون، فلا حاجة إلى اقتصاصه ثانيا، والذي يخص هذا الباب التنبيه على كيفية أداء ذلك واللفظ به، فنقول: الذي ينبغي أن يعتمده القارئ من ذلك أن يحفظ مقادير الحركات والسكنات، فلا يشبع الفتحة بحيث تصير ألفا، ولا الضمة بحيث تخرج واوا، ولا الكسرة بحيث تتحول ياء، فيكون واضعا للحرف موضع الحركة، ولا يوهنا ويختلسها ويبالغ فيضعف الصوت عن تأديتها ويتلاشى النطق بها وتتحول سكونا» (2).
وكذلك نبه علماء التجويد على العناية بالحركات حين تتوالى، فيؤتى بها على وزن واحد، قال عبد الوهاب القرطبي: «إذا توالت الحركات في مثل {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف:
4]، {إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} [الأنبياء: 22]، {وَيَتَّخِذُ مََا يُنْفِقُ قُرُبََاتٍ} [التوبة: 99]،
__________
(1) التحديد 12ظ. وأورد الداني هذا النص في شرح قصيدة أبي مزاحم 138ظ.
(2) الموضح 183و.(1/418)
و {رُسُلُكُمْ} [غافر: 50] و {رُسُلُهُمْ} [الأعراف: 101]، وما أشبه ذلك من قليل التوالي وكثيره، ينبغي أن يتعمل للتسوية بينهن بحيث لا تنفرد إحداهن بإشباع وتمطيط والأخرى باختلاس وتوهين. لأن ذلك يظهر ويبين أكثر من بيانه وظهوره فيما إذا لم تتوال الحركات» (1).
ولاحظ علماء التجويد أن الحركات في آخر الكلمات قد يطغى بها اللسان، فحذروا من ذلك واستثنوا بعض المواضع التي يحتاج فيها إلى التعمل لإظهار الحركة في أواخر الكلمات في الدرج لا الوقف. وقد جمع ذلك كله عبد الوهاب القرطبي في قوله: «اعلم أن أواخر الكلم إذا كانت متحركة وجب أن تكون حركاتها مطففة لأن اللسان عند انقضائها يكاد يطغى، لأن النّفس لما تستشعره من فراغ الكلمة تجد راحة من اللفظ فتلقي بعض ما عندها من الصوت المعد العتيد، ويخرج النّفس معه، فتتوفر الحركة، فنبه على اجتناب طغيان اللسان بها بترك التمكث فيها لذلك، كقولك {الْحَمْدُ لِلََّهِ} [الفاتحة: 2] {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} [الفاتحة:
7].
هذا هو الأصل، إلا أن يمنع مانع، والمانع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدهما: أن يكون آخر الكلمة حرفا خفيا، والحروف الخفية أربعة: الألف والواو والياء والهاء. وقد تقدم ذكرها آنفا في هذا الكتاب، إلا أن الألف لا يتحرك، فمتى كان حرف من هذه الحروف في آخر كلمة أو في أي موضع كان منها تعين إشباع حركته وسكونه، لأن الحركة والسكون يخفيان بخفائه، فتعين إظهارهما.
الثاني: أن يكون آخر الكلمة حرفا من حروف الحلق، فإن الحركات والسكنات تثقل بثقلها فلا تظهر، فحض أئمة القراء على إظهارها لذلك، وسواء جاءت هذه الحروف، أعني الخفية والحلقية وسطا أو طرفا، فإن إشباع حركاتها وسكونها يتعين كقوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 85]، {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ} [مريم: 98]، {يَهْدِي بِهِ اللََّهُ} [المائدة: 16]، {وَرَفَعْنََاهُ} [مريم: 57]، {يُسَبِّحُ لَهُ} [النور: 36]، {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [الواقعة: 74] {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] {حَتََّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} [الكهف: 60] {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ}
[يس: 37]، {لِسَبَإٍ فِي} [سبأ: 15]، {وَاتَّبِعْ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ} [يونس: 109]، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38]، {فَإِنَّ اللََّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39]، {فَبِهُدََاهُمُ اقْتَدِهْ}
[الأنعام: 90] وما أشبه ذلك.
__________
(1) الموضح 186ظ. وانظر: الداني: التحديد 31ظ.(1/419)
الثالث: اجتماع حرفين مثلين في آخر كلمة وأول أخرى، كقوله تعالى {الرَّحِيمِ * مََالِكِ} [الفاتحة: 43]، {الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]، {مََا كُنْتَ تَعْلَمُهََا} [هود:
49]. وسواء وقع المثلان وسطا أو طرفين تتعين توفية حركتهما، كقوله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} [الأعراف: 176]، {أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 150] {قََالَ لَهُمْ} [طه: 61]، {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، {ثََالِثُ ثَلََاثَةٍ} [المائدة:
73]، {تَعْرِفُ فِي} [الحج: 72]، {حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]، {الْحَقُّ قُلْ} [الأنعام: 66] وما أشبه ذلك، لأن تكرار الحرف الواحد ثقيل في اللفظ لما فيه من الشبه بمشي المقيد الذي يرفع رجله ويردها إلى الموضع الذي منه رفعها. وهذا دليل الثقل، ولأجله استخف الإدغام.
ومتى لم توف الحركة حقها سبق السكون والإدغام، لأن اللسان يفر إلى الأخف ويطلبه، سيما إذا كان الحرفان خفيين، كقوله تعالى {وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ} [النحل: 90]، {وَوُضِعَ الْكِتََابُ}
[الزمر: 69]، أو حرفي حلق، كقوله تعالى: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23]، {لََا أَبْرَحُ حَتََّى} [الكهف: 60]. وقد يكونان حرفي حلق ومن الحروف الخفية، كقوله تعالى {فِيهِ هُدىً} [البقرة: 2]. وذلك أولى أن تكون حركته وافية.
وجميع ما ذكرناه احتياجه إلى إظهار الحركة عليه من الحروف هو محتاج إلى إظهار السكون عليه أيضا، فإن الحروف الخفية وحروف الحلق يتعين إظهار السكون عليهما كما تعين إظهار الحركة» (1).
والحركات إذا أتت قبل الواو والياء أو بعدهما وجب العناية بنطقها خشية ذهابها أو الزيادة في تمكينها حتى يتولد عنها حرف من جنسها. وقد عقد كثير من علماء التجويد فصولا ومباحث لتوضيح كيفية النطق بالحركات في مثل ذلك (2). وكان السعيدي أكثر علماء التجويد عناية بهذا الموضوع حيث عقد أربعة أبواب في كتابه (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) لمعالجة ما يتعلق بهذا الموضوع.
وقد خصص السعيدي الباب الأول للواو إذا انفتحت وما قبلها مضموم حيث قال: «باب الواو إذا انفتحت وما قبلها مضموم، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي} [التوبة: 33]، و {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، و {لَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ} [الحج: 58]، و {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
__________
(1) الموضح 183ظ 184و.
(2) انظر: السعيدي: التنبيه 48ظ، ومكي: الرعاية 209، والداني: التحديد 29ظ، والقرطبي: الموضح 185و. والعطار: التمهيد 148ظ.(1/420)
ينبغي أن تكون الضمة قبل هذه الواوات وما أشبهها مختلسة غير مشبعة، ولا يزاد على لفظها فتزول عن حد الاختلاس إلى الإشباع، فإنها إذا أشبعت الضمة قبلها صارت في اللفظ واوين، الأولى ساكنة والثانية مفتوحة، كقوله: هوو الذي، وقل هو والله أحد، ولهو وخير الرازقين، وما أشبهها وذلك غير جائز عند أهل الضبط.
وكذلك إذا كانت الواو مشددة وقبلها ضمة تختلس الضمة قبلها، ولا يزاد على لفظها، كقوله تعالى: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، و {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى ََ قُوَّتِكُمْ} [هود:
52]، و {وَالنُّبُوَّةَ} [آل عمران: 79] في قراءة من لا يهمز، وما أشبهها. فإنها إن أزيلت عن حد الاختلاس ضعف تشديد الواو بعدها، وإنما تحرك ضمة هذه القاف بمقدار ضمة القاف من قولك: قدّ، والصاد من قولك: صدّ، وما أشبههما» (1).
وبالطريقة نفسها عالج السعيدي في الباب الآخر (الياء إذا انفتحت وما قبلها مكسور) (2). وفي البابين الآخرين تحدث السعيدي عن (الواوين إذا اجتمعتا والأولى ساكنة مضموم ما قبلها والثانية مفتوحة) وعن (الياءين إذا اجتمعتا والأولى ساكنة مكسور ما قبلها والثانية مفتوحة) (3).
وذكر الداني في كتابه (التحديد) مجموعة من الحالات التي يجب على القارئ أن يعتني بها ويحافظ على الحركات فيها (4). وقد أوردها القرطبي في كتابه (الموضح) بعد أن زاد عليها وأعاد ترتيبها على هذا النحو: «والحركة تشبع في الياء والواو إذا كانتا خفيفتين، في أول الكلام كانتا أو في وسطه أو في آخره، مثل قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ} [البقرة: 104]، {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ} [البقرة: 225]، {قُلِ الْعَفْوَ كَذََلِكَ} [البقرة: 219]، {وَتَشََاوُرٍ}
[البقرة: 233] فأشبعها في جميع ذلك.
ولا تتهيب الضمة في الواو سواء كانت لالتقاء الساكنين أو لغيره، في مثل قوله تعالى:
{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [البقرة: 94]، {وَلََا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} [البقرة: 237]، و {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6].
__________
(1) التنبيه 48ظ.
(2) التنبيه 48و.
(3) التنبيه 49و.
(4) التحديد 29ظ.(1/421)
وأشبع بيان حركة الواوين بتكلف وتثبت في مثل قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتََابُ}
{وَوَرِثَ سُلَيْمََانُ} [النمل: 16] وما أشبه ذلك.
وإذا انضم ما قبل الواو الساكنة منهما فأشبع ضمة الأولى لتخلص إلى سكون الثانية، كقوله تعالى {مََا وُورِيَ عَنْهُمََا} [الأعراف: 20]، و {دََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ} [الأنعام: 84]، وما أشبه ذلك.
وكذلك أشبع الحركة من غير تشديد في الياءين والواوين في مثل قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ} [الفرقان: 49]، و {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66]، و {وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ} [النحل: 90]، و {مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجََارَةِ} [الجمعة: 11]، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، {أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} [البقرة: 254].
وإذا كان بعدها حرف مشدد في مثل قوله: {يََا صََاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 39] تعين تخليص تخفيف الياء وكسرها من تشديد السين، وكذلك {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20]، {بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ} [الحجرات: 1].
ومتى كانت الواو والياء مشددتين وبعدهما مثلهما فدونك الإشباع فيهما من أجل حراسة الإدغام، كقوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصََالِ} [الأعراف: 205]، و {وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
[الكهف: 28]» (1).
ويؤكد علماء التجويد ترك التكلف في نطق الحركات حتى لا تخرج عن حدها، وحتى تأتي القراءة سهلة خالية من التكلف. وقد قال ابن البناء في (باب في تعديل الوزن والترتيل):
«يجب على قارئ القرآن أن يأتي بحروف القرآن في وزن عادل وترتيل متماثل، بجعل مفتوح الحروف ومنصوبها لبقة التعالي خفيفة التوالي، ومضمومها ومرفوعها إشارة لطيفة، وكذلك مكسورها ومخفوضها حركة خفية، إلا ما كان من ذلك محتاجا إلى الإشباع فإنه حينئذ يشبع من غير تعد» (2).
أولا الظواهر النوعية:
تكاد التأثيرات الصوتية النوعية التي تلحق الأصوات الذائبة عند وقوعها في التركيب تنحصر في الألف وأختها الفتحة حيث يلحقهما التفخيم والترقيق تبعا للأصوات التي
__________
(1) الموضح 185و.
(2) بيان العيوب 176ظ.(1/422)
تجاورهما، أما الواو وأختها الضمة والياء وأختها الكسرة فإنها أقل تأثرا.
وقد وضع علماء التجويد قاعدة في معرفة تفخيم الألف وترقيقها، وهي تنطبق على الفتحة أيضا، قال ابن الجزري: «الألف حرف هوائي لا يوصف بإمالة ولا تفخيم» (1). وقال علي القاري: «الألف تتبع ما قبلها في تفخيمها وترقيقها» (2). وقال أيضا: «إذا كانت بعد حرف مستعل فإنها تكون تابعة له في التفخيم بناء على القاعدة المقررة من أن الألف لازمة للحرف الذي قبلها» (3). وقال: «إذ يعرف كل من له أدنى دراية أن الحروف إذا فخمت تفخم حركتها وإذا رققت رققت فكذا ما يكون تابعا لحركتها، أعني الألف» (4) وقال الشيخ أحمد فائز الرومي: «والحاصل أن ترقيق الألف وتفخيمه يعرف بتطبيق قاعدة تبعية الألف لما قبلها» (5).
ان قد ظهر بين علماء التجويد في القرن الثامن الهجري اتجاه نحو إخراج الألف من بين حروف التفخيم على كل حال، حتى لو وقعت بعد حرف مستعل. ويبدو أن الجعبري (ت 732هـ) هو رائد هذا الاتجاه، فقد قال في قصيدته (تحقيق التعليم في الترقيق والتفخيم) وهو يتحدث عن (متفق اشي شي لتفخيم من الحروف) (6):
فالإطباق فخّم باتفاق كصادق ... وطاب وضاق الظالمون ففسّرا
وإن فخمت غين وخاء وقافها ... أو انضمّ هذا قول تفخيمها انصرا
وإياك واستصحاب تفخيم لفظها ... إلى الألفات التاليات فتعثرا
وقد أخذ هذا القول عن الجعبري تلميذه أبو بكر عبد الله بن أيدغدي بن عبد الله الشهير بابن الجندي (ت 769هـ) قال ابن الجزري (ت 833هـ): «وقال شيخنا ابن الجندي رحمه الله: وتفخيم الألف بعد حروف الاستعلاء خطأ، وذلك نحو: خائفين، وغالبين، وقال، وطال، وخاف، وغاب، ونحو ذلك» (7). وأخذ به أيضا ابن الجزري في أول حياته العملية، حيث قال في كتابه (التمهيد في علم التجويد) وهو يتحدث عن الخاء: «واحذر إذا فخمتها قبل
__________
(1) النشر 2/ 91.
(2) المنح الفكرية ص 22.
(3) المنح الفكرية ص 21.
(4) المنح الفكرية ص 22.
(5) شرح الدر اليتيم 30ظ.
(6) تحقيق التعليم 29و 29ظ.
(7) التمهيد ص 38.(1/423)
الألف أن تفخم الألف معها، فإنه خطأ لا يجوز» (1).
ويبدو أن الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ) كان يأخذ بهذا الاتجاه أيضا، فقد قال في (شرح الواضحة): «الألف لا حظ لها في التفخيم» (2). وقال في (المفيد شرح عمدة المجيد): «ومما يجب الاحتراز منه تفخيم الألف، وخصوصا عند مجاورة المفخم» (3).
ولكن هذا الاتجاه ظهر من يعارضه في القرن الثامن الهجري ذاته. حتى أن ابن بضحان الدمشقي (ت 743هـ) كتب كتاب (التذكرة والتبصرة لمن نسي تفخيم الألف أو أنكره» (4).
وقد قال فيه: «اعلم أيها القارئ أن من أنكر تفخيم الألف فإنكاره صادر عن جهله أو غلظ طباعه، أو عدم اطلاعه، أو تمسكه ببعض كتب التجويد التي أهمل مصنفوها فيها التصريح بذكر تفخيم الألف». وكان قد وقف على هذا الكتاب أستاذ العربية والقراءات أبو حيان الأندلسي، فكتب عليه: «طالعته فرأيته قد حاز إلى صحة النقل كمال الدراية، وبلغ في حسنه الغاية» (5).
وابن الجزري الذي كان متحمسا لنصرة مذهب شيخه ابن الجندي، وشيخ شيخه الجعبري، في كتابه (التمهيد في علم التجويد) الذي ألفه سنة 769هـ (6). رجع عن ذلك في كتابه (النشر في القراءات العشر) الذي انتهى من تأليفه سنة 799هـ (7). حيث قال فيه: «وأما الألف فالصحيح أنها لا توصف بترقيق ولا تفخيم بل بحسب ما يتقدمها، فإنها تتبعه ترقيقا وتفخيما، وما وقع في كلام بعض أئمتنا من إطلاق ترقيقها فإنما يريدون التحذير مما يفعله بعض العجم من المبالغة في لفظها إلى أن يصيروها كالواو، أو يريدون التنبيه على ما هي مرققة فيه. وأما نص بعض المتأخرين على ترقيقها بعد الحروف المفخمة فهو شيء وهم فيه، ولم يسبقه إليه أحد، وقد رد عليه الأئمة المحققون من معاصريه. ورأيت من ذلك تأليفا للإمام أبي عبد الله محمد بن بضحان سماه: التذكرة والتبصرة لمن نسي تفخيم الألف أو
__________
(1) التمهيد ص 38، وانظر: الصفاقسي: تنبيه الغافلين ص 56.
(2) الواضحة ص 66.
(3) المفيد 104و.
(4) انظر: رقم 26من قائمة مصادر علم التجويد في الفصل الأول من هذا البحث.
(5) نقلا عن ابن الجزري: النشر 1/ 216215.
(6) انظر: التمهيد ص 83.
(7) انظر: النشر 2/ 469.(1/424)
أنكره» (1).
ويبدو أن القاعدة القائلة إن الألف تتبع ما قبلها في الترقيق والتفخيم قد استقرت بعد عصر ابن الجزري وبفضل ما كتبه عن الموضوع في كتابه النشر. وقد قال علي القاري (ت 1014هـ): «والحاصل أن الصحيح بل الصواب هو الذي مشى عليه الناظم في النشر» (2).
وقال الصفاقسي (ت 1118هـ): «فالصواب ما في النشر والتعويل عليه لا على ما في التمهيد» (3).
وتطرق المرعشي إلى ترقيق وتفخيم الواو والياء المديين فقال: «ولما كان في الياء والواو المديين عمل عضو في الجملة كما سبق لم يكونا تابعين لما قبلهما، بل هما مرققان في كل حال، كذا يفهم من إطلاقاتهم، ولعل الحق أن الواو المدية تفخم بعد الحرف المفخم» (4).
لكنه عاد إلى الموضوع مرة أخرى يتأمله ويتعمق فيه حتى انتهى إلى أن قال في كتابه (بيان جهد المقل): «قوله (ولعل الحق أن الواو المدية تفخم بعد المفخم) وذلك لأن ترقيقها بعد المفخم في نحو: الطور، والصور، وقوا، لا يمكن إلا بإشرابها صوت الياء المدية بأن يحرك وسط اللسان إلى جهة الحنك، كما يشهد به الوجدان الصادق، مع أن الواو ليس فيه عمل اللسان أصلا، وقد رجوت أن يوجد التصريح بذلك أو الإشارة إليه في كتب هذا الفن لكني أعياني الطلب، فمن وجده فليكتبه هنا. وأما الياء المدية فلا شك في أنها مرققة في كل» (5).
وقد جاء الدرس الصوتي الحديث يؤيد ما ذهب إليه جمهور علماء التجويد من أن الحركات وحروف المد، والألف خاصة، تتبع ما قبلها في الترقيق والتفخيم، فهذا أحد دارسي الأصوات العربية من المعاصرين يقول: «فالفتحة مثلا قد تكون مفخمة، وقد تكون مرققة وقد تكون بين التفخيم والترقيق، فهي مفخمة مع أصوات الإطباق، وهي الصاد والضاد والطاء والظاء، وهي في الحالة الوسطى بين التفخيم والترقيق مع القاف والغين والخاء، ولكنها مرققة في المواقع الصوتية الأخرى. فلدينا إذن بحسب النطق الفعلي ثلاثة أمثلة للفتحة أو ستة حين نأخذ الطول والقصر في الاعتبار، إذ أن الفتحة الطويلة يعتريها ما يعترى الفتحة القصيرة من
__________
(1) النشر: 1/ 215.
(2) المنح الفكرية ص 2322.
(3) تنبيه الغافلين ص 57.
(4) جهد المقل 15ظ.
(5) بيان جهد المقل 18ظ.(1/425)
التفخيم وإخوته.
وهذا الشيء نفسه يطبق على الكسرة والضمة (طويلة وقصيرة) فهما مفخمتان مع أصوات الإطباق، وبين التفخيم والترقيق مع القاف والغين والخاء. ولكنهما مرققتان مع الأصوات الأخرى. فلدينا ثلاث كسرات (أو ست)، وثلاث ضمات (أو ست)، فالحركات العربية إذن بهذا الاعتبار السياقي تسع أو ثماني عشرة» (1).
ويتضح من هذا أن مفهوم الترقيق والتفخيم في الحروف الذائبة (الحركات وحروف المد) يكاد يكون متفقا عليه بين علماء التجويد ودارسي الأصوات من المحدثين. ما عدا نقطتين، والأولى اعتبار الحركات بين الترقيق والتفخيم بعد القاف والغين والخاء لدى المحدثين بينما هي مفخمة لدى علماء التجويد. ويمكن أن نجد في قول المرعشي:
«وبالجملة أن قدر التفخيم على قدر الاستعلاء والإطباق» (2). ما يقرّب بين وجهة نظر الطرفين. والنقطة الثانية: شمول الضمة والكسرة، وواو المد وياءه بأحكام الترقيق والتفخيم لدى المحدثين، بينما كان كلام علماء التجويد يدور بشكل أساسي حول الفتحة والألف، لأنه أكثر ظهورا فيهما، وقد ذهب المرعشي إلى شمول واو المد بها، بينما عد الياء مرققة. ولا تزال هذه النقطة بحاجة إلى مزيد من الدرس فيما يبدو لنا.
ثانيا الظواهر الكمية:
الأصوات الذائبة في العربية، وهي الحركات وحروف المد، لكل منها مقدار محدد من الطول، كما أن لكل صوت من الأصوات الجامدة مقدارا من الطول أيضا، ولا يتحقق ذات الصوت إلا بعد أن يستوفي حظه من الطول. ويبدو أن الأصوات الذائبة أكثر تعرضا للزيادة والنقصان في زمن النطق من الأصوات الجامدة، لأن طبيعة نطقها تحتمل ذلك، حيث يمكن للناطق أن يمد صوته بالأصوات الذائبة ما أسعفه النفس.
وما الفرق بين الحركات وحروف المد إلا بمقدار الزمن الذي يستغرقه نطق كل منها، فالحركة إذا أطيل زمن النطق بها صارت حرف مد، وكذلك حرف المد إذا قصر زمن النطق به رجع إلى الحركة، لأن الفرق بين الحركات وحروف المد فرق في الكمية لا أكثر. وهذا الأمر كان واضحا عند علماء التجويد وضوحا لا مزيد عليه.
__________
(1) كمال محمد بشر: الأصوات ص 193192.
(2) جهد المقل 15ظ.(1/426)
وكان علماء التجويد قد أدركوا أن الحركات وحروف المد تتعرض للزيادة والنقص في طولها عند ما تكون في التركيب، فدرسوا ذلك وحددوا مواضعه، وبحثوا في علله وأسبابه، وحذروا من عوارضه وشوائبه. وكان من ذلك ما هو خاص بالحركات وما هو خاص بحروف المد. على نحو ما يتضح من العرض الآتي.
1 - الظواهر الصوتية الكمية الخاصة بالحركات:
الحركات الرئيسة في العربية ثلاث: الفتحة والضمة والكسرة. ولها في النطق مقدار يجب على الناطق أن يراعيه من غير زيادة ولا نقصان. وقد مضى في صدر هذا المبحث من النصوص التي أكد فيها علماء التجويد على العناية بحفظ مقادير الحركات بلا توهين يؤدي بها إلى السكون ولا إشباع يؤول بها إلى التمطيط حتى تصير الحركة حرفا.
وقد لاحظ علماء التجويد أن الحركات يلحقها في التركيب من التغيير ما يؤدي إلى حذفها أو تقصيرها، فتحدثوا عن هذه الظاهرة وحددوا مواضعها، وميزوا بين درجاتها، وكان قد سبقهم إلى كثير من ذلك علماء العربية منذ زمن سيبويه، إلا أننا حين ننظر في جهود علماء التجويد في هذا المجال نجدها تتميز ببعض النظرات الشاملة التي تدرك العلاقة بين الظواهر، كما تتميز بدقة التحليل، وعمق إدراك الظواهر.
ومن النصوص المتميزة لدى علماء التجويد التي عالجت ما يلحق الحركات في التركيب من التقصير الفصل الذي كتبه ابن الطحان (ت حوالي 560هـ) في كتابه (مرشد القارئ) وجعل عنوانه (فصل في حدود الحركات والسكون) وقال فيه:
«الحركات ثلاث: رفع ونصب وخفض، فحق كل حرف تحرك بأحدها أن يلفظ به ممكنا من مخرجه، معتمدا عليه في مدرجه حتى يحكي بجميع صفته وتمام حركته، معتدلة في الوزن الحسن، يعتمد بعد أدائها حتى يوجب الاعتماد والخروج عن الحد حدوث حرف يقوم عن ذاتها، فبإشباع الفتحة يحدث الألف، وبإشباع الضمة يحدث الواو، وبإشباع الكسرة تحدث الياء.
وتنقسم الحركات الثلاث المذكورة على (أربع) (1) درجات:
الدرجة الأولى: الكمال، وهو الحركة التي ذكرناها، حتى يصرفها عن ذلك صارف.
الدرجة الثانية: الاختلاس، وقد حددناه وذكرنا أن حركته تامة في الوزن تمام حركة
__________
(1) في الأصل (ثلاث)، لكن الذي يناسب السياق هو (أربع).(1/427)
الكمال ببرهان النظر والاستدلال.
الدرجة الثالثة: الإخفاء، وهو نقصان الصوت بحرفها.
الدرجة الرابعة: الروم وقد شرحناه. وبمقدار ما يبقى من حركته عند علمائنا حكم حركة الكمال على ما يتحقق في مكانه إن شاء الله.
فيجب على القارئ أن تكون عنايته (تامة) (1) بإكمال الحركة، حتى يخاطب بغيره من الدرجات. فمتى استعمل غير الإكمال فيما لم يجيء به توقيف فقد لحن لأن القراءة سنة.
وأما حد السكون، فالسكون نوعان: حي وميت» (2).
فالحركات الثلاث تتعرض للتقصير حتى يصل ذلك إلى حد السكون، وهو زوال الحركة البتة. وبعض ذلك يرتبط بالوقف وبعضه لا يختص بمكان من الكلام. والمصطلحات التي ذكرها ابن الطحان، وهي الروم والإخفاء والاختلاس، ومثلها الإشمام الذي ذكره ابن الطحان في مكان سابق (3)، كلها مصطلحات قديمة ذكرها سيبويه في الكتاب (4). وقصدنا هنا أن نعرض كيفية معالجة علماء التجويد لهذه الظواهر.
أالروم والإشمام:
يعرض الروم والإشمام للحركات عند الوقف قال سيبويه: «فأما المرفوع والمضموم فإنه يوقف عنده على أربعة أوجه: بالإشمام، وبغير الإشمام كما تقف عند المجزوم والساكن، وبأن تروم الحركة التحريك، وبالتضعيف» (5).
وقد فصّل الداني ذلك تفصيلا في قوله: «اعلموا أن الأصل أن يوقف على الكلم المتحرك في الوصل، إذا كانت حركاتهن إعرابا وبناء، بالسكون لأن الوقف ضد الوصل، لأن معنى الوقف أن يوقف عن الحركة أي تترك، كما يقال وقفت عن كلامك، أي تركته.
واختار عامة شيوخنا ورؤساء أئمتنا في مذهب الجماعة الوقف على ذلك بالإشارة لما فيها من الدلالة على كيفية الحركة في الوصل، طلبا للبيان. والإشارة على ضربين، تكون روما
__________
(1) الكلمة غير واضحة في الأصل.
(2) مرشد القارئ 135ظ 136و.
(3) مرشد القارئ 135و.
(4) الكتاب 4/ 168و 202و 439.
(5) الكتاب 4/ 168.(1/428)
وتكون إشماما.
والروم أتم من الإشمام، لأنه تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب معظمها، فيسمع لها صويت خفي يدرك معرفته الأعمى بحاسة سمعه، ويستعمل في الحركات الثلاث. إلا أن عادة القراء أن لا يروموا المنصوب ولا المفتوح لخفتهما وسرعة ظهور هما إذا حاول الإنسان الإتيان ببعضهما، فيبدو الإشباع لذلك.
وأما الإشمام فلرؤية العين لا غير، إذ هو إيماء بالشفتين إلى الحركة بعد إخلاص السكون للحروف، فلا يقرع السمع، ولذلك لا يعرفه إلا البصير، ويستعمل فيما يعالج بالشفتين من الحركات، وهو الرفع والضم لا غير» (1).
وقد لخص المرعشي موانع الإشمام والروم في الحركات وذلك حيث قال: «اعلم أن الروم والإشمام لا يكونان في هاء التأنيث، ولا في ميم الجمع، ولا في الحركة العارضة في الوصل. والمراد من هاء التأنيث تاء التأنيث المبدلة هاء في الوقف والمراد بميم الجمع ما يوصل بواو عند بعض القراء. والحركة العارضة هي الحركة العارضة لالتقاء الساكنين، نحو:
لم يكن الذين» (2).
ومذهب النحاة أن الروم يكون في الحركات الثلاث، إلا أنه في المنصوب والمفتوح يحتاج إلى رياضة لخفة الفتحة وتناول اللسان لها بسرعة (3). ولذلك لم يجزه القراء فيه (4). قال عبد الوهاب القرطبي: «وإنما كان الروم في المكسور والمضموم إعرابا كان أو بناء دون المفتوح وإن كان الأصل استواءهما في الروم، لأن المفتوح أخف، وحركته أسرع ظهورا، فلو رام الرائم الإتيان ببعضها وجزئها جاء كلها وجملتها» (5).
أما الإشمام فإن جمهور النحاة والقراء لا يرون جوازه في غير المرفوع، وما نقل عن بعض القراء من جوازه في المجرور يحمل على الروم (6). وقد أطلق بعض العلماء كلمة الإشمام على خلط الضمة بالكسرة في مثل (قيل وسيء) في بعض القراءات. وقد قال مكي:
__________
(1) التحديد 41ظ 42و. وانظر: مكي: الكشف 1/ 122، والقرطبي: الموضح 187ظ.
(2) جهد المقل 54ظ.
(3) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 173.
(4) المرادي: شرح التسهيل 312ظ.
(5) الموضح 187ظ، وانظر: المرعشي: جهد المقل 54و.
(6) أبو حيان: ارتشاف الضرب ص 173.(1/429)
«وهي ترجمة على مذهب الكوفيين لأنهم يترجمون عن الإشمام الذي لا يسمع بالروم ويترجمون عن الروم الذي يسمع بالإشمام» (1). كما أن بعض العلماء أطلق كلمة الإشمام على خلط الصاد بالزاي في مثل (الصراط) (2).
وعلل علماء التجويد وجه انحصار الإشمام بالضمة دون الفتحة والكسرة، فقال عبد الوهاب القرطبي: «واختص به المرفوع والمضموم دون المكسور والمجرور والمفتوح والمنصوب لأن الضم من الشفتين، وإذا أومأ بشفته نحوه أمكن الإيماء وأدركه الرائي وإن انقطع الصوت، لأن الرائي يدرك مخرج هذه الحركة وهو الشفتان، فأمكن أن يدركها، أما في المجرور والمكسور والمنصوب والمفتوح فإنما امتنع لأن الكسر ليس من الشفة، وإنما من مخرج الياء، ومخرج الياء من شجر الفم، والنظر لا يدرك حركته، وكذلك الفتح من الألف، ولا آلة للألف يدركها النظر، لأن مخرجها من الحلق. والرائي لا يدركه ولا يدرك حركته، والصوت ينقطع دون الشروع في هذا الجزء من الحركة، فلم يبق للنظر ولا للسمع وصول إلى إدراكه فامتنع الإشمام فيه لذلك» (3).
والإشمام لا يكون خاصا بالوقف، بل قد يكون في الوصل أيضا، قال الداني: «وأما المشم من الحروف في حال الوصل أو الوقف فحقه أن يخلص سكون الحرف ثم يومى بالعضو، وهما الشفتان» (4). وقال ابن الطحان: «والإشمام عبارة عن ضم الشفتين، وهو بالأوائل والأواسط والأطراف، يكون دليلا على الضمة فيكون صوغه بأوائل الكلم مع الشروع في كسر الحرف المشم، ويكون صوغه بأوساطها (عند) (5) سكونها الخالص في مدغماتها، ويكون صوغه بأطرافها عند سكونها الوقفي وإثر حصوله. ولا يقصد به أن يقرع سمعا في جميعها، فإن حد الإسماع غير مقصود، فلعلة خافية إلا على من اقتدى بسنة التجويد العالية» (6).
ويعلل علماء التجويد ظاهرة الروم والإشمام في الوقف بالدلالة على كيفية الحركة في
__________
(1) مكي: الكشف 1/ 122، وانظر: الداني: التحديد 13ظ.
(2) انظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 106105والمرعشي: جهد المقل 54ظ.
(3) الموضح 187ظ. وانظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 505.
(4) التحديد 13ظ.
(5) ساقطة من الأصل المخطوط.
(6) مرشد القارئ 135و.(1/430)
الوصل، قال مكي: «اعلم أن الروم والإشمام إنما استعملتهما العرب في الوقف لتبيين الحركة، كيف كانت في الوصل. وأصل الروم أظهر للحركة من أصل الإشمام، لأن الروم يسمع ويرى، والإشمام يرى ولا يسمع. فمن رام الحركة أتى بدليل قوي على أصل حركة الكلمة في الوصل، ومن أشم الحركة أتى بدليل ضعيف على ذلك» (1).
ولا نلاحظ اليوم أحدا من متكلمي العربية الفصحى يحرص على روم أو إشمام في وقفه، حتى بدا ذلك أمرا غريبا على المسامع، اللهم إلا إذا كان ذلك لدى نفر قليل من علماء القراءة المتمسكين بالرواية.
ب الاختلاس والإخفاء:
هذان المصطلحان يشيران إلى تقصير يلحق الحركات لكنه غير محدد بمقدار واضح، ويبدو أنهما أعم دلالة على ذلك من الروم، وإن كانا من جنسه، قال الداني: «فأما ما ضعفت صوتك بحركته ولم تتمه فنحو الروم والإخفاء والاختلاس، وقد قدمنا أنه محرك في الحقيقة» (2).
ويعرّف علماء التجويد الاختلاس بأنه «عبارة عن الإسراع بالحركة إسراعا يحكم السامع به أن الحركة قد ذهبت، وهي كاملة في الوزن» (3). وقال الداني: «وأما المختلس حركته من الحروف فحقه أن يسرع اللفظ به إسراعا، يظن السامع أن حركته قد ذهبت من اللفظ لشدة الإسراع، وهي كاملة في الوزن تامة في الحقيقة، إلا أنها لم تمطط، ولا ترسل بها، فخفي إشباعها ولم يتبين تحقيقها» (4).
وقال الداني أيضا بعد أن ذكر المختلس والمرام: «وكذا المخفى حركته من الحروف سواء. قال سيبويه: المخفى بوزن المظهر (5). وقال غيره: هو بزنته ألا إنه أنقص صوتا منه.
وحقيقته في اللغة السترة، ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّ السََّاعَةَ آتِيَةٌ أَكََادُ أُخْفِيهََا} [طه: 15] أي:
أسترها. والمخفى شيئان: حرف وحركة. فإخفاء الحرف نقصان صوته، وإخفاء الحركة نقصان تمطيطها» (6).
__________
(1) الكشف 1/ 122. وانظر: القرطبي: الموضح 187و.
(2) شرح قصيدة أبي مزاحم 138ظ.
(3) ابن الطحان: مرشد القارئ 135ظ.
(4) التحديد 13و.
(5) الكتاب 4/ 438.
(6) التحديد 13و 13ظ.(1/431)
وتحدث الداني عن إخفاء الحركات أيضا وقال: «فأما إخفاء الحركات فهو اختلاسها والإسراع باللفظ بها من غير تسكين ولا تشديد، وهو عند النحويين بزنة متحرك، يعنون أن الصوت يضعف لا أنه (1) يسكن رأسا، وذلك في قوله تعالى: {قََالُوا يََا أَبََانََا مََا لَكَ لََا تَأْمَنََّا}
[يوسف: 11] في قول الجماعة (2). وقوله {شَهْرُ رَمَضََانَ} [البقرة: 185] و {يَحِلُّ لَكُمْ}
[النساء: 19] و {مِنَ الرِّزْقِ قُلْ} [الأعراف: 32]، وشبه ذلك من مذهب أبي عمرو» (3).
ويبدو من ذلك أن الروم والاختلاس والإخفاء من حيث تقصير الحركة شيء واحد، حتى قال أحمد بن أبي عمر، وهو يتحدث عن الإخفاء: «وهو بين الأمرين، كالاختلاس بين الحركة والسكون، وكالإشمام بين الحركة والروم» (4). ولكن يبدو أن كلّا من الاختلاس والإخفاء يستعمل في موضع معين، وكلاهما يرتبط بمذهب أبي عمرو بن العلاء في القراءة.
فمصطلح الاختلاس يستخدم للإشارة إلى مذهب أبي عمرو في مثل {بََارِئِكُمْ} [البقرة:
54] و {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109]. قال ابن مجاهد: «واختلفوا في كسر الهمزة واختلاس حركتها وإشباعها في قوله {إِلى ََ بََارِئِكُمْ} فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يكسرون الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف. واختلف عن أبي عمرو وقال سيبويه (5): كان أبو عمرو يختلس الحركة من {بََارِئِكُمْ} و {يَأْمُرُكُمْ} وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات، فيرى من سمعه أنه قد أسكن، ولم يكن يسكن وقال اليزيدي في ذلك كله أنه كان يسكن اللام من الفعل في جميعه. والقول ما أخبرتك به من أنه كان يؤثر التخفيف في قراءته كلها، والدليل على إيثاره التخفيف أنه كان يدغم من الحروف ما لا يكاد يدغمه غيره، ويلين الساكن من الهمز، ولا يهمز همزتين، وغير ذلك» (6).
وأما إخفاء الحركة فيستخدم في ما أدغمه أبو عمرو بن العلاء من الإدغام الكبير وقبل الحرف الأول حرف ساكن، وذلك مثل قوله تعالى: {مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ} وقوله {شَهْرُ رَمَضََانَ} وما كان مثله. قال سيبويه: «وإذا كان قبل الحرف المتحرك الذي بعده حرف مثله
__________
(1) في الأصل (لانه).
(2) انظر: الداني: التيسير ص 127. والتحديد 135ظ، والمرعشي: جهد المقل 55و.
(3) شرح قصيدة أبي مزاحم 137ظ.
(4) الإيضاح 114و.
(5) انظر: الكتاب 4/ 202.
(6) كتاب السبعة ص 156154. وانظر: الداني: التيسير ص 73. وابن الباذش: الإقناع 1/ 485.(1/432)
سواء، حرف ساكن لم يجز أن يسكن، ولكنك إن شئت أخفيت وكان بزنته متحركا» (1).
وقال الداني: «وأهل الأداء يقولون ترام حركة أول المدغم في ذلك، فيجعلونه إخفاء، والمخفى بمنزلة المتحرك، وهو الوجه في العربية، وبذلك قرأت وبه آخذ» (2). وقال في موضع آخر: «قال أبو عمرو: وقد اختلف علماؤنا من القراء والنحويين في كيفية الإشارة إلى حركة المدغم. فقال بعضهم يكون إيماء إليها بالشفتين من غير إحداث شيء في جسم الحرف، فجعلوا ذلك إدغاما صحيحا، لأن الإيماء بالعضو لا يكون إلا بعد تسكين الحرف رأسا.
وقال آخرون: حقيقة الإشارة في ذلك أن تكون بالحركة إلى الحرف لا بالعضو إليها لأن ذلك آكد في البيان عن كيفيتها فجعلوا ذلك إخفاء لا إدغاما صحيحا، لأن الحرف إذا أشير إليه بحركته لم تذهب حركته رأسا بل يضعف الصوت بها تضعيفا لا غير. وهي مع ذلك في زنة المتحرك التام الممطط اللفظ، وإلى هذا ذهب في ذلك عامة أهل الأداء ابن مجاهد وسائر أصحابه: أبي طاهر بن أبي هاشم، وأبي بكر الشذائي، وأبي الفرج الشنبوذي، وغيرهم.
وهو اختيار شيخنا أبي الفتح نضر الله وجهه (3)، أشير بالعضو إلى حركة الحرف المدغم فلا يقرع سمعه، وكان ضريرا، فيرده عليّ حتى أسمعه صوت الحركة فيستحسن ذلك ويرضاه.
وكان ربما لفظ لي بذلك كذلك ووقفني عليه» (4).
وذكر ابن يعيش أن ابن مجاهد قال: «يترجمون عنه بإدغام وليس بإدغام، إنما هو إخفاء، والإخفاء اختلاس الحركة وتضعيف الصوت». ثم قال ابن يعيش: «وعلى هذا الأصل ينبغي أن يحمل كل موضع يذكر القراء أنه مدغم، والقياس يمنع منه، على الإخفاء، مثل (شهر رمضان) وما أشبه ذلك من حرف مدغم قبله ساكن صحيح» (5).
وقال الأسترآباذي: «وأما ما نسب إلى أبي عمرو من الإدغام في نحو {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ}
و {شَهْرُ رَمَضََانَ} فليس بإدغام حقيقي، بل هو إخفاء أول المثلين إخفاء يشبه الإدغام» (6).
__________
(1) الكتاب 4/ 438.
(2) الإدغام الكبير 12و.
(3) يعني فارس بن أحمد، ت 401هـ، انظر: ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 65.
(4) الإدغام الكبير 26و 26ظ. وانظر: السيرافي: شرح كتاب سيبويه 6/ 629.
(5) شرح المفصل 10/ 147، وانظر أيضا 10/ 123و 140.
(6) شرح الشافية 3/ 247، وانظر أيضا 3/ 274.(1/433)
وليس غرضنا هنا الدخول في تفصيلات هذا النوع من الإدغام الكبير لأنا ذكرنا من قبل أن الإدغام الكبير درسه القراء في كتب القراءات، ولم يتعرض له علماء التجويد في كتبهم.
وإنما نريد أن نوضح أن إخفاء الحركات يستخدم في مثل هذا النوع من التركيب، حيث قال عنه بعض القراء بأنه إدغام صحيح، بينما قال عنه بعضهم وأكثر النحويين بأنه ليس بإدغام ولكن يحمل على إخفاء الحركة. ولكن لا بد من أن نذكر قولين من أقوال أئمة النحاة أنصفا ولم يتعصبا، وهما ابن الحاجب وأبو حيان، وكلاهما من القراء، فهما أدرى بمذاهب الفريقين.
قال ابن الحاجب (ت 646هـ) «والأولى الرد على النحويين في منع الجواز، وليس قولهم بحجة إلا عند الإجماع، ومن القراء جماعة من النحويين، فلا يكون إجماع النحويين حجة عليهم مع مخالفة القراء لهم، ثم ولو قدّر أن القراء ليس فيهم نحوي فإنهم ناقلون لهذه اللغة، وهم مشاركون للنحويين في نقل اللغة، فلا يكون إجماع النحويين حجة دونهم. وإذا ثبت ذلك كان المصير إلى قول القراء أولى، لأنهم ناقلوها عمن ثبتت عصمته عن الغلط في مثله، ولأن القراءة ثبتت تواترا، وما نقله النحويون آحاد، ثم ولو سلم أنه ليس بتواتر فالقراء أعدل وأكثر، فكان الرجوع إليهم أولى» (1).
وقال أبو حيان (ت 745هـ): «والذي قرأناه وتلقيناه عن المشايخ أهل الأداء إدغام ما ذكرناه. والذين رووا ذلك عن أبي عمرو أئمة ثقات، منهم علماء بالنحو كأبي محمد اليزيدي وغيره، فوجب قبوله، وإن لم يجزه البصريون غير أبي عمرو، فأبو عمرو رأس في البصريين، ولم يكن ليقرأ إلا بما قرأ وروى، لأن القراءة سنة متبعة، غاية ما في ذلك أن يكون قليلا في كلام العرب» (2).
وقد وازن بعض علماء التجويد بين الحركة المختلسة والحركة المرامة. قال أبو بكر أحمد بن الجزري: «والاختلاس والروم يشتركان في التبعيض، وبينهما عموم وخصوص، فالروم أخص، من كونه لا يكون في الفتح والنصب، ويكون في الوقف دون الوصل، والثابت من الحركة أقل من المحذوف (3). والاختلاس أعم، من كونه يتناول الحركات الثلاث ولا
__________
(1) الإيضاح في شرح المفصل 2/ 479. وانظر: الجاربردي: شرح الشافية ص 240.
(2) انظر: المرادي: شرح التسهيل 307و، والسيوطي: همع الهوامع 6/ 285.
(3) قال ابن الطحان (مرشد القارئ 135و): «والروم عبارة عن النطق ببعض الحركة، ويكون الفاني منها أكثر من الباقي».(1/434)
يختص بالآخر. والثابت من الحركة أكثر من المحذوف، وذلك أن تأتي بثلثيها كأن الذي تحذفه أقل مما تأتي به، وهذا لا تحكمه إلا المشافهة» (1). وقال بعض علماء التجويد: أن الروم هو الإتيان بثلث الحركة (2). وهو يوافق قول أحمد بن الجزري أن الذاهب من الحركة أكثر من الثابت.
ويلاحظ الدارس في بعض النصوص استخدام كلمة (الاختلاس) بمعنى غير المعنى الذي ذكرناه هنا، وهو الإتيان ببعض الحركة. فقول السعيدي مثلا في باب الواو إذا انفتحت وما قبلها مضموم، نحو قوله تعالى {هُوَ الَّذِي} وما كان مثله: «ينبغي أن تكون الضمة قبل هذه الواوات وما أشبهها مختلسة غير مشبعة، ولا يزاد على لفظها فتزول عن حد الاختلاس إلى الإشباع، فإنها إذا أشبعت الضمة قبلها صارت في اللفظ واوين، الأولى ساكنة، والثانية مفتوحة، كقوله: هو والذي» (3) فلا يراد بالاختلاس هنا إنقاص الحركة حقها من المد، وإنما يقصد به إعطاؤها حقها مع التحفظ من الإشباع والزيادة في المد، لأنه موضع تميل الضمة فيه إلى الطول، فيتولد منها حينئذ حرف من جنسها وهو الواو، وفي ذلك إخلال بالتلاوة.
وقال عبد الوهاب القرطبي: «ويفرق بين المشبع والمختلس في اللفظ ككسرة ما قبل الياء في (إني أخاف) و (يدي إليك) فإن هذه الكسرات تشبع ما دامت الياء ساكنة، فإذا تحركت بالفتح عادت الحركة التي قبلها إلى الاختلاس، لأنك لو أشبعت كسرة ما قبلها مع الفتح فيها صارت في تقدير ياءين، وذلك مستكره» (4).
ومن ثم قال عبد الوهاب القرطبي نفسه: «فإذا سمعت حض أئمة القراءة وأصحاب الأداء على اختلاس الحركة في موضع ما فإنما ذلك لأن الحركة تظهر على ذلك الحرف، وفي ذلك المكان، وينطاع بها اللسان أكثر من انطياعه بها على حرف آخر وفي موضع آخر، فيكون الإشباع إليها أسرع» (5).
__________
(1) الحواشي المفهمة 77ظ. وانظر: طاش كبري زاده: شرح المقدمة الجزرية 46و.
(2) عبد الدائم الأزهري: الطرازات المعلمة 75ظ. والبقري: غنية الطالبين ص 82.
(3) التنبيه 48ظ.
(4) الموضح 184ظ.
(5) الموضح 183و.(1/435)
الوقف وأثره على الحركات:
قال أبو حيان: «الوقف قطع النطق عند إخراج آخر اللفظة (1). وهو اختياري، وهو غير الوقف الذي يكون استثباتا وإنكارا وترنما. وغالبه تلزمه تغييرات إما في الحركة بحذف، وهو السكون، أو بروم أو إشمام. وإما في الكلمة بزيادة عليها، إما بتضعيف، وإما بهاء السكت.
أو بنقص بحذف حرف العلة، أو بقلب آخر الكلمة إلى حرف علة، وبإبدال حرف صحيح منه» (2).
والحرف الذي يوقف عليه لا يكون إلا ساكنا، لأن الوقف أول السكوت الذي ينقطع فيه عمل اللسان ويسكن، كما أن الذي يبتدأ به لا يكون إلا متحركا، وقد استعمل العرب في الوقف الروم والإشمام والتضعيف والنقل إلى جانب السكون (3). وقد تحدثنا عن الروم والإشمام من قبل. والوقف بالتضعيف والنقل لا يأخذ به القراء (4). وبقي أن نوضح موقف علماء التجويد من الوقف على السكون.
والسكون معناه سلب الحركة (5)، أو هو عدم الحركة (6). عند علماء العربية وعلماء التجويد وكذلك هو عند المحدثين (7). وحقيقة اللفظ بالسكون أن تخلي الحرف المسكن من الحركات الثلاث، من غير وقف شديد ولا قطع مسرف عليه، سوى احتباس اللسان في موضعه قليلا في حال الوصل (8).
وقال عبد الوهاب القرطبي: «وكذلك السكون ينبغي ألّا تستوفيه إشباعا فيخرج إلى التشديد أو السكوت ومساواة حال قطع الكلام بوصله، ولا يزعجه وينفر فيصير حركة أو بعضها، بل يجعل الحركات والسكنات وزنا واحدا، وقدرا معلوما، وكيلا سواء، حذو النعل
__________
(1) انظر أيضا: ابن الجزري: النشر 1/ 240. والنابلسي: كفاية المستفيد 20و.
(2) ارتشاف الضرب ص 170.
(3) ابن الباذش: الإقناع 1/ 504.
(4) انظر: المصدر السابق 1/ 512511.
(5) ابن يعيش: شرح المفصل 9/ 67. وعلي القاري: المنح الفكرية ص 71.
(6) الدركزلي: خلاصة العجالة 189ظ.
(7) انظر: كمال محمد بشر: دراسات في علم اللغة 1/ 201.
(8) الداني: شرح قصيدة أبي مزاحم 138ظ، والتحديد 13و.(1/436)
بالنعل والقذة بالقذة (1)، هذا مسلك هذا الباب الذي ينبغي أن يركبه، وعماده الذي يجب أن يتطبع به» (2).
وتنبه علماء التجويد إلى ما يمكن أن يلحق الحرف الساكنة من محاذير عند الوقف، فقال ابن البناء: «ويحذر في الساكن من عيبين:
أحدهما: السرعة به حتى يصير متحركا.
والثاني: التشديد له حتى يزيده ثقلا» (3).
وقال عبد الوهاب القرطبي: وفيما قدمناه من قوله تعالى: {لََا شِيَةَ} [البقرة: 71]، وال {هََاوِيَةٌ} (4)، و {وََاهِيَةٌ} [الحاقة: 16] وما أشبه ذلك، ينبغي أن يتوقى الإفراط في إشباع فتحة الياء، وإن كانت الياء حرفا خفيا، سيما في الوقف، فإن الوقف موضع استراحة واستنفاد للصوت وقطع له. وكثيرا ما ترى القراء في هذا الزمان (5) إذا وقفوا على مثل هذا أشبعوا الفتحة ومططوا حتى تصير ألفا، فيقولون: ما هياه، نار حامياه. فقس على هذا جميع ما يرد عليك من الحركات التي تكون على الحروف قبل أواخر الكلم مثل {الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]، و {الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2]، و {وَالْبَلَدُ} [الأعراف: 58] وما أشبه ذلك فإن الحكم فيه واحد لا يختلف» (6).
ونبّه علماء التجويد على التحفظ في الوقف على المشدد، قال مكي: «اعلم أن الوقف على الحرف المشدد فيه صعوبة على اللسان، لاجتماع ساكنين في الوقف غير منفصلين، كأنه حرف واحد، فلا بد من إظهار التشديد في الوقف في اللفظ، وتمكين ذلك حتى يظهر في السمع التشديد» (7).
ولم يغب عن ذهن علماء التجويد أن بعض الكلمات لها أحكام خاصة في الوقف،
__________
(1) مثل يضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. والقذة: ريش السهم. (انظر: لسان العرب لابن منظور 5/ 39قذذ).
(2) الموضح 183و.
(3) بيان العيوب 175ظ.
(4) القارعة 9: (فأمه هاوية).
(5) توفي عبد الوهاب القرطبي سنة 462هـ.
(6) الموضح 184ظ، وانظر أيضا 167ظ.
(7) الرعاية ص 233.(1/437)
وذلك مثل المنون المنصوب، فإنه يوقف عليه بألف ممكنة سواء كان ممدودا أو غير ممدود نحو {عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 11] و {فَيَذْهَبُ جُفََاءً} [الرعد: 17] وما أشبه ذلك، إلا أن يكون في آخر الموقوف عيه تاء التأنيث، فإن الألف لا تلحقه حينئذ، لأن هذه التاء تنقلب في الوقف هاء ساكنة في كل الأحوال (1).
2 - الظواهر الصوتية الكمية الخاصة بحروف المد:
حروف المد هي الألف، ولا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، والواو التي قبلها ضمة، والياء التي قبلها كسرة. وتتعرض حروف المد في التركيب للتقصير حتى تصير حركة، وتتعرض للتطويل حتى تصير ضعف طولها الأصلي أو أكثر. ولكل حالة من ذلك موضع معين في التركيب. وكانت عناية علماء التجويد بظاهرة التطويل (أي المد) أكثر من عنايتهم بظاهرة التقصير، وذلك لتنوع أسباب المد، وتعدد درجاته، واختلاف القراء فيه. أما تقصير حروف المد فله موضع واحد، ولا اختلاف فيه بين القراء، ومن ثم فقد أغفل كثير من العلماء ذكره، استغناء بشهرته عن تكلف الكلام عنه.
وتقصير حروف المد، ويعبرون عنه قديما بحذف حروف المد، وردت الإشارة إليه في كلام علماء العربية، لكن ليس في سياق الحديث عن المد، وإنما في سياق الكلام عن تميز حروف المد الثلاثة عن سائر الحروف. قال المبرد: «وهي حروف بائنة من جميع الحروف، لأنها لا يمد صوت إلا بها، والإعراب منها، وتحذف لالتقاء الساكنين في المواضع التي تحرك فيها غيرها، نحو قولك: هذا الغلام، وأنت تغزو القوم وترمي الغلام. ولو كان غيرها من السواكن لحرّك لالتقاء الساكنين، نحو: اضرب الغلام، وقل الحق» (2).
وقال الأزهري، وهو يتحدث عن الواو والياء إذا لم يكن قبلهما حركة من جنسهما:
«والواو والياء إذا جاءتا بعد فتحة قويتا، وإذا تحركتا كانتا أقوى ومن تبيان ذلك أن الألف اللينة والياء بعد الكسرة والواو بعد الضمة إذا لقيهن حرف ساكن بعدهن سقطن. كقولك: عبد الله ذو العمامة، كأنك قلت: ذل. وتقول: رأيت ذا العمامة كأنك قلت: ذل. وتقول: مررت بذي العمامة، كأنك قلت: ذل، ونحو ذلك كذلك في الكلام أجمع. والياء والواو بعد الفتحة إذا سكنتا ولقيهما ساكن بعدهما فإنهما يتحركان ولا يسقطان أبدا، كقولك: لو انطلقت يا فلان.
__________
(1) انظر: القرطبي: الموضح 178و. المرعشي: جهد المقل 53و.
(2) المقتضب 1/ 210.(1/438)
وقولك للمرأة: اخشي الله، وللقوم: اخشوا الله. وإذا وقفت قلت: اخشوا، واخشي» (1).
وتحدث بعض علماء التجويد عن ذلك، لكن في سياق الكلام عن المد، فقال علم الدين السخاوي، وهو يتحدث عن حروف المد الثلاثة: «ولقاؤها الساكن على ثلاثة أضرب:
ساكن مدغم، نحو: الضالّين. وساكن غير مدغم، نحو: نون ولام وميم، وما جاء في فواتح السور، فإنها تمد في ذلك كله مدا ممكنا. فإن كان الساكن في كلمة أخرى نحو {قََالُوا اطَّيَّرْنََا بِكَ} [النمل: 47] حذف حرف المد لانفصاله، وكذلك إن كان الساكن مظهرا نحو: {وَأُولُوا الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، و {كََانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء: 176]، و {عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا} [المائدة:
23]» (2).
أما موضوع تطويل حروف المد فقد حظي بعناية كبيرة من علماء التجويد المتقدمين والمتأخرين على السواء، فوضحوا وعللوا، وقسموا وبالغوا في التقسيم. وقد وضح المرادي خطة لدراسة الموضوع فقال: «والكلام على ذلك يتضح ببيان ستة أشياء هي: المد، وحروفه، وعلة اختصاصها به، والأصل منها، وأمكنها فيه، وسببه» (3). وقد وضح المرادي موضوع المد على أساس هذه الخطة، وهي تستغرق أكثر المباحث المتعلقة بالموضوع، ونحن ندرس الموضوع في الفقرات الآتية:
أتعريف المد:
عرّفه المرادي بقوله: «المد هو تطويل صوت الحرف لإشباع مخرجه» (4).
وعرفه عبد الدائم الأزهري بقوله: «وأصل المد في اللغة الزيادة، يقال: مددت الشيء إذا زدته، ومنه {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 125]. واصطلاحا: عبارة عن إطالة الصوت بالحرف الممدود» (5).
وعرفه القسطلاني بقوله: «المد عبارة عن زيادة المط في حروف المد على المد الطبيعي، وهو الذي لا تقوم ذات الحرف إلا به. والقصر عبارة عن ترك تلك الزيادة وإبقاء المد
__________
(1) تهذيب اللغة 1/ 52.
(2) جمال القراء 188ظ. وانظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 463.
(3) المفيد 103ظ.
(4) المفيد 104و.
(5) الطرازات المعلمة 50و. وانظر: ابن بلبان: بغية المستفيد 56و.(1/439)
الطبيعي على حاله» (1).
وعرفه طاش كبري زاده بقوله: «المد في الاصطلاح طول زمان صوت الحرف» (2).
وهذه التعريفات تقاربت في اللفظ، وتطابقت في الدلالة، فهي تجمع على أن المد إطالة صوت المد زيادة على ما فيه من مد طبيعي لا تقوم ذات الحرف إلا به، ولتلك الزيادة أسباب، ولها مقدار، نوضحها بعد قليل إن شاء الله.
وكان علي القاري قد قال: «ولا يخفى أن المد ليس حرفا ولا حركة، بل زيادة على كمية حرف المد» (3). وهذه ملاحظة ذات معنى بعيد في فهم حقيقة ظاهرة المد. فقول علي القاري أن المد ليس بحرف ولا حركة معناه أنه لا يؤدي إلى تغيير المعاني. فالحروف الذائبة في العربية لها درجتان من الطول قصيرة وهي الحركات، وطويلة وهي حروف المد. وكل زيادة في مد الصوت بعد ذلك لا تؤدي إلى درجة ثالثة يكون لها شأن في تغيير المعنى، إنما تكون تلك الزيادة نوعا من التأثر الناتج عن التركيب حين تقع حروف المد في سياقات معينة، وتكون زيادة المد مثل بقية الظواهر التي تلحق الأصوات في التركيب سواء أكانت جامدة أم ذائبة.
وكان ابن الطحان قد جمع المصطلحات التي تتعلق بموضوع المد والقصر، وقدّم تعريفا موجزا لكل منها. وهو في ذلك يعرّف المد بأنه الصوت الجاري في حروف المد، سواء كان ذلك الصوت يمثل ذاتها أو ما يعرض لها من الزيادة. ويبدو لي أن نقل تلك التعريفات ضروري لتوضيح بعض النصوص القديمة التي تعالج موضوع المد.
قال ابن الطحان:
«والمد: عبارة عن أصوات حروف المد واللين، وهو نوعان: طبيعي وعرضي.
فالطبيعي هو الذي لا تقوم ذات حرف المد دونه.
والعرضي هو الذي يعرض زيادة على الطبيعي لموجب يوجبه، يرد في مكانه، إن شاء الله.
والمط: هو المد نفسه لغة ثانية فيه.
واللين: عبارة عن ما يجري من الصوت في حرف المد ممزوجا بالمد طبيعة وارتباطا، لا ينفصل أحد هما في ذلك عن الآخر، وهو أجرى في الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما. كما أن
__________
(1) اللئالئ السنية 26ظ.
(2) شرح المقدمة الجزرية 31ظ. وانظر: النابلسي: كفاية المستفيد 12ظ.
(3) المنح الفكرية ص 45.(1/440)
المد أجرى فيهما إذا انكسر ما قبل الياء، وانضم ما قبل الواو.
والقصر: عبارة عن صيغة حرف المد واللين، وهو المد الطبيعي.
والاعتبار: عبارة عنه أيضا في بعض القراءات، وذلك أن بعضهم يعتبر حرف المد واللين مع الهمزة. فإن كانا منفصلين لم يزد على الصيغة شيئا (1).
والتمكين: عبارة عن الصيغة أيضا. وقد يعبر به عن المد العرضي، يقال منه: مكّن، إذا أريدت الزيادة.
والإشباع: عبارة عن إتمام الحكم المطلوب من تضعيف الصيغة لمن له ذلك. ويستعمل أيضا عبارة عن أداء الحركات كوامل غير منقوصات ولا مختلسات» (2).
ويرى بعض علماء التجويد أن الألف أمكن حروف المد، بينما يرى بعضهم أن الواو أمكن ثم الياء ثم الألف. قال ابن الباذش: «ولا خلاف في تمكين حروف المد واللين، وإن لم يلقهن شيء مما ذكرنا، تمكينا وسطا، من غير إشباع ولا زيادة، نحو (قال، وقولوا، وقيل، وتاب، ويتوب) وشبهه. وإن سمّي هذا مقصورا فعلى معنى أنه قصر عن المد المشبع، لا أنه (3) لا مد فيه البتة. وأمكنهن في المد الألف ثم الياء، ثم الواو. وكان أبو القاسم يحكي لنا عن أبي بكر الصقلي (4) أنه كان يذهب إلى أن أمكنهن في المد الواو ثم الياء ثم الألف. وهكذا وضع هذا أبو بكر في كتابه المعروف بالاقتداء» (5).
وقال المرادي: «والأصل في حروف المد الألف، لأنها حرف مد، ولأنها أوسع مخرجا من الواو والياء. وأمكن حروف المد فيه الألف ثم الياء ثم الواو. وهذا مذهب سيبويه. ولذلك اختار بعض القراء تفضيل الألف على الياء، والياء على الواو في التلاوة. والذي أخذ به أكثر الأئمة استواء الثلاثة في مقدار المد، وهو الذي قرأنا به. وما ذهب إليه الصقلي من أن أمكنهن في المد الواو ثم الياء ثم الألف بعيد» (6).
__________
(1) ذكره ابن الباذش في كتابه الإقناع 1/ 465.
(2) مرشد القارئ 133و.
(3) في الأصل (لانه)، وهو يعارض معنى سياق الكلام.
(4) هو محمد بن أبي الحسن، يعرف بابن نبت العروق (عاش في القرن الخامس). انظر: ابن الجزري:
غاية النهاية 2/ 127.
(5) الإقناع 1/ 468.
(6) المفيد 104و.(1/441)
ولا شك في أن حروف المد الثلاثة متفاوتة في سعة المخرج، فبينما تضم الشفتان في الواو. ويقترب ظهر اللسان من وسط الحنك الأعلى في الياء، يكون مجرى الهواء في الحلق والفم مفتوحا، لا يعترض الصوت معه عارض في نطق الألف (1)، لكن ذلك لم يؤثر في مقدار الزيادة التي تلحق كل حرف من حروف المد، ومن ثم قال المرادي: (والذي أخذ به أكثر الأئمة استواء الثلاثة في مقدار المد).
ب سبب المد:
أشار علماء العربية إلى ظاهرة المد، فقد قال ابن جني: «ألا ترى أن الألف والياء والواو اللواتي هن حروف توامّ كوامل قد تجدهن في بعض الأحوال أطول وأتم منهن في بعض.
وذلك قولك: يخاف وينام، ويسير ويطير، ويقوم ويسوم، فتجد فيهن امتدادا واستطالة ما.
فإذا أوقعت بعدهن الهمزة أو الحرف المدغم ازددن طولا وامتدادا» (2).
وردد علماء التجويد ما ذكره ابن جني من أسباب المد، لكنهم أفاضوا في التقسيم والتمثيل والتعليل. قال مكي، وهو يتحدث عن الألف: «فإذا لا صفته همزة لم يكن بد من تمكين مده. ومده إذا كانت الهمزة بعده آكد، نحو جاء، وشاء. وكذلك يمد إذا كان بعده ساكن مشددا وغير مشدد. وزيادة تطويل المد ونقصه فيه على حسب ما ذكرناه في غير هذا الكتاب مع اختلاف القراءة عن القراء» (3).
ومثل ذلك قول الداني، وهو يتحدث عن الألف أيضا: «وإن لقي همزة أو حرفا ساكنا، مظهرا أو مدغما، زيد في تمكينه وإشباع مده، بيانا للهمزة لخفائها، وليتميز بذلك الساكنان أحدهما من الآخر ولا يجتمعا. وكذلك حكم الياء المكسور ما قبلها، والواو المضموم ما قبلها مع الهمزة والساكن ومع غيرهما كحكم الألف سواء» (4).
وقال عبد الوهاب القرطبي: «أما المد فهو حكم يجب لحروف المد واللين إذا كان عقبها همزة أو ساكن مدغم أو مظهر: كالسماء، والبناء، وقائل، وبائع. وكالضالّين، والعادّين، والصاخّة. ونستعين، والأبرار، ويوقنون، ويعلمون، إذا وقفت عليها. وما أشبه ذلك» (5).
__________
(1) انظر: ابن جني: سر صناعة الإعراب 1/ 8.
(2) سر صناعة الإعراب 1/ 2019.
(3) الرعاية ص 134.
(4) التحديد 24ظ.
(5) الموضح 166و.(1/442)
قال المرادي: «وسبب المد أحد شيئين، وهما: الهمزة والسكون» (1).
وأضاف بعض علماء التجويد سببا آخر، وهو السبب المعنوي، فقالوا: السبب المقتضي لزيادة المد قسمان: معنوي ولفظي، فالمعنوي هو قصد المبالغة في النفي في مثل (لا ريب فيه) ومنه مد التعظيم في نحو (لا إله إلا الله). واللفظي هو ما مد من أجل الهمزة والسكون.
لكن المعنوي سبب ضعيف إذا لم يعاضده سبب آخر كما في (لا إله إلا الله) (2). وكلام علماء التجويد عن المد يدور على ما كان سببه الهمزة أو السكون.
ج تعليل ظاهرة المد:
تفسير الظواهر الصوتية جزء من مهمات دارس الأصوات، وذلك لاكتشاف الأسباب التي تكمن وراء الظواهر، ولا يتأتى ذلك دائما. وكان لعلماء التجويد محاولات في تعليل الظواهر الصوتية، معظمها مبني على أسس صوتية. وقد مر منها في هذا البحث شيء غير قليل.
وكان ابن جني قد حاول تعليل المد قبل الهمزة والمشدد. فقال في تعليل زيادة المد قبل الهمزة: «إنما تمكن المد فيهن مع الهمزة أن الهمزة حرف نأى منشؤه، وتراخى مخرجه، فإذا أنت نطقت بهذه الأحرف المصوتة قبله، ثم تماديت بهن نحو طلن وشعن في الصوت، فوفين له وزدن في بيانه ومكانه، وليس كذلك إذا وقع بعدهن غيرها وغير المشدد. ألا تراك إذا قلت:
كتاب، وحساب، وسعيد، وعمود، وضروب، وركوب، لم تجدهن لدنات ولا ناعمات، ولا وافيات مستطيلات، كما تجدهن إذا تلاهن الهمزة أو الحرف المشدد» (3).
وقال أيضا في تعليل المد قبل المشدد: «وأما سبب نعمتهن ووفائهن وتماديهن إذا وقع المشدد بعدهن فلأنهن كما ترى سواكن وأول المثلين مع التشديد ساكن، فيجفو عليهم أن يلتقي ساكنان حشوا في كلامهم، فحينئذ ما ينهضون بالألف بقوة الاعتماد عليها، فيجعلون طولها ووفاء الصوت بها عوضا مما كان يجب لالتقاء الساكنين: من تحريكها، إذا لم يجدوا عليه تطرّقا، ولا بالاستراحة إليه تعلقا. وذلك نحو شابّة ودابّة» (4).
__________
(1) المفيد 104و.
(2) انظر: ابن الجزري: النشر 1/ 344. والطبلاوي: مرشدة المشتغلين 10و.
(3) الخصائص 3/ 125.
(4) الخصائص 3/ 126. وانظر: السيوطي: الأشباه والنظائر 1/ 166.(1/443)
واشتغل علماء التجويد بتعليل ظاهرة المد، فكانوا بين موجز ومطيل، فالداني اكتفى بقوله وهو يتحدث عن الألف: «وإن لقي همزة أو حرفا ساكنا مظهرا أو مدغما، زيد في تمكينه وإشباع مده، بيانا للهمزة لخفائها، وليتميز بذلك الساكنان أحدهما من الآخر ولا يجتمعا» (1).
وقال مكي في تعليل المد قبل الهمزة: «إن هذه الحروف خفية، والهمزة حرف جلد بعيد المخرج، صعب في اللفظ، فلما لاصقت حرفا خفيا خيف عليه أن يزداد بملاصقة الهمزة له خفاء، فبين بالمد ليظهر» (2). وتعليل مكي هذا يختلف عن التعليل السابق، لأن المد في رأي مكي هو حفاظ على حرف المد لخفائه، لا حفاظ على الهمزة.
وعلل مكي المد قبل الحرف المشدد بقوله: «فلما وقع بعد حروف المد واللين وحرفي اللين (3) حرف مشدد وأوله ساكن، وحروف المد واللين وحرفا اللين سواكن لم يمكن أن يوصل إلى اللفظ بالمشدد بساكن قبله، فاجتلبت مدة تقوم مقام الحركة، يوصل بها إلى اللفظ بالمشدد. وكانت المدة أولى لأن الحرف الذي قبل المشدد حرف مد، فزيد في مده، لتقوم المدة مقام الحركة، فيتوصل بذلك إلى اللفظ بالمشدد، وهذا إجماع من العرب ومن النحويين.
والعلة في المد للساكن غير المشدد يقع بعد حروف المد واللين كالعلة في المد للمشدد، لأن بالمدة يوصل إلى اللفظ بالساكن بعد حرف المد واللين، فليس في كلام العرب ساكن يلفظ به إلا وقبله حرف متحرك، أو مده على حرف مد، تقوم مقام الحركة» (4).
وعلل عبد الوهاب القرطبي المد ببيان الهمزة، وبالفرق بين الساكنين. ولولا ما في كلامه من الوضوح والعمق وبعد النظرة لاكتفيت بالنصوص السابقة. قال: «العلة في وجوب المد تختلف. فعلة وجوبه فيما إذا كان بعد حرف المد همزة أن حرف المد في غاية الخفاء والخفة، والهمزة في غاية الظهور والثقل، فهما ضدان، فجاء المد مقرّبا لهذه الحروف ومظهرا لخفائها، لتحصل هناك مناسبة ما تحصن الهمزة وتحرسها، ولولا ذلك لم يؤمن من أن يغلب خفاؤها على الهمزة فتضعف وتتلاشى.
__________
(1) التحديد 24ظ.
(2) الكشف 1/ 46.
(3) يريد الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما. وفي مدهما اختلاف سوف نذكره.
(4) الكشف 1/ 60.(1/444)
فأما إذا انفتح ما قبل الياء والواو فإنهما لا يمدان إذا عقبتهما الهمزة في مثل {خَلَوْا إِلى ََ}
[البقرة: 14]، و {تَعََالَوْا إِلى ََ} [آل عمران: 64]، و {ابْنَيْ آدَمَ} [المائدة: 27]، و {مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40]، لأن اللسان ينبسط بهما فثقلان ولا تخفيان خفاء الواو والياء والألف مع حركاتهن، فلم يجب المد لذلك.
فالحاصل أن هذه الحروف إنما مدت لئلا يكون اللسان منتقلا عن الأخف إلى الأثقل دفعة، فلا يتحقق مخرج الهمزة، فقويت بالمد إرادة لبيان الهمزة، وقصدا لتحقيق مخرجها، وتوخي تمكن النطق بها، ولهذه العلة استحب إظهار السكون قبلها إبرازا بيّنا شافيا. وسيأتي ذلك.
فأما إذا كان بعدها حرف ساكن مظهر أو مدغم فإنما وجب فيه المد للفرق بين الساكنين لما التقيا، لأن الممدود نظير المتحرك، من حيث إن زمان النطق بالحرف الممدود أطول من زمان النطق بغيره، كما أن زمان النطق بالحرف المتحرك أطول من زمان النطق بالحرف الساكن، فصار المد في كونه فاصلا كالحركة. وهو معنى قول سيبويه: إن الإدغام حسن لأن حرف المد بمنزلة المتحرك في الإدغام (1). يعني أن الممدود صار بزيادته وطوله كالمتحرك، ولهذا لو أردنا تطويل الحرف أيّ زمان شئنا لم يمكن إلا في حروف المد، والمدغم في مثله ينحى بالحرفين فيه نحو الحرف الواحد، فاجتمع فيه مد الحرف الذي هو قائم مقام الحركة وكون الحرفين كالحرف الواحد، وفي الثاني حركة، فحسن الإدغام لذلك. فصار كأنه لم يلتق ساكنان» (2).
ويتلخص من ذلك أن علماء العربية وعلماء التجويد يجعلون علة المد قبل الهمزة لبيانها هي، وقبل المشدد للفصل بين الساكنين، إلا أن مكيا جعل المد قبل الهمزة من أجل المحافظة على حرف المد لا لبيان الهمزة، وهو خلاف ما أجمعوا عليه، وقد نقل علم الدين السخاوي أنه: «قال الزجاج وابن قتيبة موجب تمكين المد بيان الهمزة لا بيان الممدود، لأن الهمزة خفية، ومع خفائها ففي إخراجها كلفة، لأنها تخرج من الصدر كالسعلة لشدتها وبعد مخرجها فقويت بتمكين المد في حرف المد قبلها. وأما زيادة تمكين المد مع الساكن فلأجل التقاء الساكنين، فكان المد كالحركة، لأنه يتميز به أحد هما عن الآخر» (3).
__________
(1) انظر: الكتاب 4/ 419و 438.
(2) الموضح 166و 166ظ.
(3) جمال القراء 188ظ.(1/445)
ولم تلق ظاهرة المد عناية من قبل دارسي الأصوات العربية المحدثين، ومن ثم فإنها لم تمتحن بوسائل الدرس الصوتي الحديث، إلا ما قاله الدكتور إبراهيم أنيس في تعليل ظاهرة المد، وهو تعليل مبني على الملاحظة الذاتية: «أما السر في هذه الإطالة فهو كما يبدو لي الحرص على صوت اللين وطوله، لئلا يتأثر بمجاورة الهمزة أو الإدغام لأن الجمع بين صوت اللين والهمزة كالجمع بين متناقضين، إذا الأول يستلزم أن يكون مجرى الهواء معه حرا طليقا، وأن تكون فتحة المزمار حين النطق به منبسطة منفرجة، في حين أن النطق بالهمزة يستلزم انطباق فتحة المزمار انطباقا محكما يليه انفراجها فجأة، فإطالة صوت اللين مع الهمزة يعطي المتكلم فرصة ليتمكن من الاستعداد للنطق بالهمزة التي تحتاج إلى مجهود عضوي كبير وإلى عملية صوتية تباين كل المباينة الوضع الصوتي الذي تتطلبه أصوات اللين.
«وهذا هو نفس السر في إطالة صوت اللين حين يليه صوت مدغم، لأن طبيعة اللغة العربية ونسجها تستلزم قصر أصوات اللين الطويلة (أي حروف المد) حين يليها صوتان ساكنان، فحرصا على صوت اللين وإبقاء على ما فيه من طول بولغ في طوله لئلا تصيبه تلك الظاهرة التي شاعت في اللهجات العربية قديمها وحديثها، من ميل صوت اللين إلى القصر حين يليه صوتان ساكنان» (1).
وتعليل الدكتور إبراهيم أنيس لظاهرة المد قبل الحرف المشدد يوافق ما ذهب إليه جمهور علماء التجويد، لكن مذهبه في تعليل المد قبل الهمزة لا يوافق إلا ما ذهب إليه مكي بن أبي طالب، ومع ذلك فإن تحليل الدكتور إبراهيم أنيس لظاهرة المد قبل الهمزة والصوت المشدد يصب في نفس الاتجاه الذي سار فيه علماء التجويد، وهو يؤكد موقفهم، فالتحليل للظاهرة واحد، ثم قال علماء التجويد إن المد من أجل المحافظة على الهمزة، وقال الدكتور إبراهيم أنيس أنه من أجل المحافظة على صوت المد.
ولا يعني الاختلاف في تعليل ظاهرة ما الشك في وجودها، فسواء ثبتت صحة ما قاله جمهور علماء التجويد في تعليل ظاهرة المد أو ما قاله غيرهم فإن ذلك لا يغير شيئا من أصالة المد في العربية عموما وقراءة القرآن خصوصا، فقد ذكر المد علماء العربية، ورواه علماء القراءة مشافهة، وأكدوا ذلك بأحاديث مرفوعة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تتضمن وصف قراءته بالمد (2).
__________
(1) الأصوات اللغوية ص 160159.
(2) انظر: الداني: التحديد 4و، والعطار: التمهيد 61ظ، 70و. والسيوطي: الإتقان 1/ 271.(1/446)
ونحن اليوم إذا أصغينا إلى قراء القرآن المتقنين وهم يطبقون المدود في مواضعها ويعطون كل حرف حقه من المد وجدنا ذلك لطيفا سائغا لا تكلف فيه ولا اضطراب، وإذا سمعنا قارئا يمد في غير مواضع المد بدا ذلك نابيا معيبا ثقيلا على الآذان، مما يدل على أن أحكام المد إنما بنيت على أساس صوتي صحيح.
وأثار بعض علماء التجويد قضية قل من تعرض لها، وهي أن مراعاة أحكام المد ليس لازمة في كل أشكال النطق العربي، وأنها تلزم في قراءة القرآن فحسب، فقد قال مكي بن أبي طالب: «والهمزة إذا وقعت بعد حرف المد واللين لك أن تدع إشباع المد في الكلام، فتقول:
صائم وقائم بغير إشباع، قد ثبتت الألف والهمزة ولا تشبع، فأما في القرآن فلا بد من إشباع المد اتباعا للرواية» (1). وما قاله ابن جني من أن حروف المد الثلاثة: «إذا أوقعت بعدهن الهمزة أو الحرف المدغم ازددن طولا وامتدادا» (2). يشير إلى أن المد ثابت في كلام العرب.
كل ما في الأمر أن قراءة القرآن يجب أن تتوفر فيها كل مظاهر العناية والإتقان في توفية الحروف حقوقها من الأحكام الخاصة بها، بينما تتفاوت درجة عناية المتكلم بنطقه فيما عدا القرآن الكريم.
د أقسام المدود:
ترتبط ظاهرة المد بسببين هما: وقوع الهمزة أو الساكن بعد حرف المد، وقد قسم علماء التجويد المتقدمون المد على هذا الأساس، لكن غلب على كثير من المتأخرين منهم الحرص على تنويع تلك الأقسام حتى خرج الأمر إلى ما لا فائدة منه.
وكان الداني (ت 444هـ) من أوائل علماء التجويد الذين حاولوا وضع مصطلحات محددة لأقسام المد، وذلك حيث قال: «وأما الممدود فعلى ضربين: طبيعي ومتكلف.
فالطبيعي: حقه أن يؤتى بالألف والياء والواو التي هي حروف المد واللين ممكنات على مقدار ما فيهن من المد الذي هو صيغتهن، من غير زيادة ولا إشباع، وذلك إذا لم تلق واحدة منهن همزة ولا حرفا ساكنا، ويسمّي هذا الضرب القراء مقصورا
والمتكلف حقه أن يزاد في تمكين الألف والياء والواو على ما فيهن من المد الذي لا يوصل إلى النطق لهن إلا به، من غير إفراط في التمكين، ولا إسراف في التمطيط، وذلك إذا
__________
(1) الكشف 1/ 68.
(2) سر صناعة الإعراب 1/ 20.(1/447)
لقين الهمزات والحروف السواكن لا غير» (1).
واستخدم ابن الطحان (ت حوالي 560هـ): المد الطبيعي والمد العرضي، حيث قال:
«وهو نوعان طبيعي وعرضي، فالطبيعي هو الذي لا تقوم ذات حرف المد دونه. والعرضي هو الذي يعرض زيادة على الطبيعي لموجب يوجبه» (2).
وقد سمّى بعض المتأخرين من علماء التجويد قسمي المد المذكورين باسم المد الأصلي والمد الفرعي (3). لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل فصلوا في ذكر أقسام المد الفرعي حتى جاوزت عند بعضهم العشرين قسما.
وهناك رواية تجعل أقسام المد الفرعي عشرة، أقدم من ذكرها من علماء التجويد ممن اطلعت على كتبهم هو علم الدين السخاوي (ت 643هـ)، لكنه لم يعين القائل بذلك واكتفى بالقول: «وقد سمّى قوم من القراء المد بأسماء مختلفة باختلاف مواضعه، وجعلوه متفاوتا على حسب مواقعه، وجعلوه عشرة أنواع، فقالوا». ثم ذكر تلك الأنواع مع التوضيح والتمثيل، وهي مد الحجز، والعدل والتمكين، والفصل، والروم، والفرق، والبنية، والمبالغة، والبدل، والأصل. ثم قال: «فهذه عشرة أسماء ما أرى لها كبيرة فائدة» (4).
ونقل السيوطي تلك الرواية منسوبة لأبي بكر بن مهران النيسابوري، وذلك حيث قال:
«قال أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري: مدات القرآن على عشرة أوجه» (5).
ثم ذكرها على نحو ما وردت في الرواية التي نقلها علم الدين السخاوي. وابن مهران هو مؤلف كتاب (الغاية في القراءات العشر)، وغيره، وكان قد توفي سنة 381هـ.
ويبدو أن الرواية السابقة هي جزء من كتاب لابن مهران وضعه في المدود. فقد قال ابن
__________
(1) التحديد 14و 14ظ.
(2) مرشد القارئ 133و.
(3) انظر: زكريا الأنصاري: تحفة نجباء العصر ص 5. والوفائي: الجواهر المضية 80و، وابن بلبان: بغية المستفيد 56و.
(4) جمال القراء 188ظ.
(5) الإتقان 1/ 275، وهذه أمثلة تلك الأنواع كما ذكرها السيوطي: فمد الحجز نحو (أأنذرتهم)، ومد العدل نحو (الضالين)، ومد التمكين نحو (الملائكة)، ومد البسط ويسمى مد الفصل أيضا نحو (بما أنزل)، ومد الروم نحو (ها أنتم)، ومد الفرق نحو (الآن)، ومد البنية نحو (ماء)، ومد المبالغة نحو (لا إله إلا الله)، ومد البدل نحو (آدم)، ومد الأصل نحو (جاء).(1/448)
الجزري في كتابه (النشر) وهو يتحدث عن مد المبالغة: «قال ابن مهران في كتاب المدات له:
إنما سمي مد المبالغة لأنه طلب للمبالغة في نفي إلهية سوى الله سبحانه» (1). وذكر ابن الجزري كتاب (المدات) في ترجمة ابن مهران في كتاب (غاية النهاية) (2). وإذا صح أن تلك الأقسام العشرة للمد وردت في كتاب (المدات) لابن مهران، فإن ذلك يعني أن هذه الأقسام كانت معروفة قبل القرن الخامس حين ظهرت المؤلفات الكبرى في علم التجويد، لكن لم ترد أي إشارة إلى تلك الأقسام في كتب علم التجويد التي ظهرت في ذلك القرن مثل (الرعاية) لمكي (ت 437هـ) و (التحديد) للداني (ت 444هـ) و (الموضح) للقرطبي (ت 462هـ). وقد أشرت قبل قليل إلى أن أقدم مصدر ذكرت فيه، من المصادر التي اطلعت عليها هو كتاب (جمال القراء) لعلم الدين السخاوي المتوفى سنة 643هـ.
وقد أثرت الرواية المنقولة عن ابن مهران في ألقاب المدود وأقسامها على طريقة تقسيم المد عند المتأخرين من علماء التجويد فقد أخذوا بتلك الألقاب وزادوا فيها، فجعلها خالد الأزهري (ت 905هـ) أربعة عشر قسما (3). وذكر السمرقندي (ت 780هـ) ستة عشر قسما (4).
وذكر أبو الفتوح الوفائي (ت 1020هـ) أن بعضهم ذكر للمد تسعة وعشرين لقبا» (5).
وكان علم الدين السخاوي قد قال عن أسماء المد العشرة المذكورة في الرواية التي نقلها: «فهذه عشرة أسماء ما أرى لها كبيرة فائدة» (6). وقال علي القاري: «وأما ما ذكره خالد من أن أقسام المد أربعة عشر، وكذا عد غيره تسعة وعشرين فكلها مندرجة فيما ذكر إجمالا، وإنما اختلف باختلاف الأسماء» (7). وقال الوفائي بعد أن ذكر التسعة والعشرين لقبا: «وإذا تأملت وجدت أكثر هذه الألقاب متداخلا، وأكثر التعاليل غير ناهض، ومرجع ما عد منها زيادة على المد الطبيعي إلى الهمزة والسكون» (8). وقال المرعشي: «والاشتغال بمعرفة تلك
__________
(1) النشر 1/ 344.
(2) غاية النهاية 1/ 50.
(3) الحواشي الأزهرية ص 37.
(4) روح المريد 138و، وانظر: الطبلاوي: مرشدة المشتغلين 11ظ.
(5) الجواهر المضية 80ظ.
(6) جمال القراء 188ظ 189و.
(7) المنح الفكرية ص 50.
(8) الجواهر المضية 82ظ.(1/449)
الأسامي قليل الجدوى» (1). واعتقد أن هؤلاء العلماء أنصفوا ولم يتجاوزوا الحقيقة في موقفهم من تلك الأقسام.
وكان بعض المتأخرين أكثر اعتدالا ممن ذكرنا في موضوع ألقاب المدود. فقسموا المدود باعتبار السبب، فما كان بسبب الهمزة قسموه إلى متصل ومنفصل، وما كان بسبب السكون قسموه إلى لازم وعارض (2). وبعضهم قسم اللازم إلى كلميّ مثقل نحو (الصاخّة)، وإلى حرفيّ مخفف نحو (صاد وقاف) (3).
ومن الجدير بالذكر هنا أن نشير إلى عناية علماء التجويد بموضوع الحروف المقطعة، وكيفية نطقها، ومقدار المد فيها. وقد أفرد لها بعضهم بابا مستقلا (4). وقد أدرج المتأخرون هذه الحروف في أنواع المدود التي ذكروها على نحو ما سبق من قريب. وقد لخص عبد الوهاب القرطبي أحوال تلك الحروف في المد حيث قال:
«فالحاصل أن هذه الحروف على ستة أضرب:
ضرب لا مد فيه ولا تمكين، وهو ألف.
وضرب دون الممكن المقصور وفوق الحركة، وهو العين.
وضرب ممكن مقصور، وهو الطاء والحاء والهاء، وما أشبه ذلك.
وضرب فوق ذلك بأدنى مد، وهو الكاف والقاف وصاد ونون في قراءة من أظهر، ونستعين في حال الوقف بغير روم.
وضرب ممدود أتم المد في (لم) و (صاد ذكر) و (نون والقلم) في قراءة من أمحض الإدغام. وكذلك (زكرياء) و (السماء) و (الضالين) وما أشبهه.
وضرب ممدود مدا وسطا بين مد القاف والكاف، وبين مد (لم) و (صاد ذكر) في قراءة من أدغم، وهو النون إذا أدغمت بغنة في (نون والقلم) وفي (نستعين) إذا وقف عليها بروم أو إشمام) (5).
__________
(1) جهد المقل 37ظ.
(2) المرادي: المفيد 104و.
(3) انظر: زكريا الأنصاري: تحفة نجباء العصر ص 5، والوفائي: الجواهر المضية 80و.
(4) انظر: السعيدي: التنبيه 53و، والعطار: التمهيد 157و.
(5) الموضح 169و.(1/450)
ويشير بعض علماء التجويد إلى أن الواو والياء إذا انفتح ما قبلهما وكانتا ساكنتين أو متحركتين خرجتا عن مضارعة الألف ودخلتا في شبه الحروف الصحاح في خلو المد (1). قال المرعشي: «إن حرفي اللين لما اشتركا مع حروف المد في عدم الصلابة وضعف المخرج، وهذا معنى اللين، سهل فيهما إحداث المد وإن لم يكن لهما مد أصلي، فقد يسبق اللسان إلى (2) إحداث المد معهما بدون سبب يدعو إليه. وهذا لحن. ولذا يلفظ بعض الناس الياء في الشيطان وعليهم، والواو في يوم وأمثالها كالمد الطبيعي. وبعض من أراد الحذر يسكت على الواو والياء، وذلك لا يجوز. فطريق الحذر عن ذلك سرعة التلفظ في الواو والياء، وعدم السكت عليهما قدر ألف إذ بذلك يحدث مد طبيعي البتة. وإنما قيدنا عدم المكث بقدر ألف لأن حروف الرخو لا تخلو عن مكث قليل عليها لأنها زمانية يجري فيها الصوت زمانا» (3).
ويشترط لحصول المد في الواو والياء إذا انفتح ما قبلهما أن تقعا قبل ساكن عارض للوقف، سواء كان الساكن همزة نحو شيء وسوء بفتح السين، أم لم يكن همزة مثل الصيف وخوف. والقراء مختلفون في مقدار مده على تفصيل يمكن أن يعرف من كتب القراءات (4).
هـ مقادير المدود:
إن أهم ما تتميز به حروف المد هو قابليتها على الامتداد بعد أن تستوفي نصيبها من المد الذي ينقلها من الحركة إلى الحرف، بخلاف غيرها من الأصوات الجامدة، لا سيما الشديدة (أي الانفجارية) فإنها آنية الحدوث، وكذلك الرخوة (الاحتكاكية) فإنها وإن كانت زمانية يمتد بها الصوت مدة، لكن ذلك الامتداد لا يبلغ مقدار ألف، أي مقدار نطق حرف المد.
وقد لخص المرادي مذاهب القراء في اعتبار الزيادة في المد وعدم اعتبارها، فقال:
«وسبب المد أحد شيئين، وهما الهمز والسكون. أما الهمز فقسمان: لاحق وسابق.
فالسابق نحو (آمنوا). وهذا لم يعتبره من القراء إلا ورش في بعض طرقه. واللاحق نوعان:
متصل مثل (جاء)، ومنفصل مثل (يا أيها). والمتصل معتبر عند جميع القراء، والمنفصل معتبر عند أكثرهم، ولم يعتبره ابن كثير والسوسي. واختلف في ذلك عن قالون،
__________
(1) انظر: الداني: التحديد 43و. والعطار: التمهيد 148ظ، وابن بلبان: بغية المستفيد 57و.
(2) في الأصل (عن).
(3) جهد المقل 62ظ 63و.
(4) انظر: مكي: الكشف 1/ 45، والسمرقندي: روح المريد 137و. وابن الجزري: النشر 1/ 348 350، والمرعشي: جهد المقل 37ظ 38ظ.(1/451)
والدوري (1). ومنهم من أجرى في المتصل الخلاف المذكور في المنفصل (2).
وأما السكون فقسمان لازم وعارض للوقف. فاللازم معتبر عند الجميع، والعارض للوقف يجوز اعتباره وعدم اعتباره، وتفصيل ذلك في كتب القراءات» (3).
وفرّق بعض علماء التجويد بين ما كان سبب المد فيه همزة وبين ما كان سبب المد فيه التشديد، قال السعيدي «تجعل المدة التي جاءت للتشديد، نحو: يبلغانّ [الإسراء:
23] (4)، و {الصَّاخَّةُ} [عبس: 33]، و {الطَّامَّةُ} [النازعات: 34]، و {أَتُحََاجُّونِّي} [الأنعام:
80]، وما أشبهها دون المدة التي تجيء للهمزة: نحو قوله: {قََائِماً} [آل عمران: 18]، و {قََائِلُونَ} [الأعراف: 4]، و {نََائِمُونَ} [الأعراف: 97]، و {التََّائِبُونَ} [التوبة: 112] وما أشبهها» (5).
لكن عبد الوهاب القرطبي قال: «وسواء كان المد موجودا في كلمة واحدة ك {السَّمََاءِ}
[البقرة: 19]، وال {بِنََاءً} (6)، و {الْأَخِلََّاءُ} [الزخرف: 67]، و {الضََّالِّينَ} [الفاتحة:
7]، و {الْعََادِّينَ} [المؤمنون: 113]، و {الصََّافِنََاتُ} [ص: 31]، أو متركبا من كلمتين كقوله تعالى: {مِنَ الرِّبََا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]، و {الزِّنى ََ إِنَّهُ كََانَ} [الإسراء:
32]، و {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [مريم: 21]، و {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] مدغما أو مظهرا فكله في وجوب المد فيه على حد سواء، وإنما يختلف في الطول والقصر باختلاف اللغات ويزيد وينقص بحسب طرق القراءات.
وذكر بعض المتأخرين إن المد فيما مده لأجل الساكنين في مثل قوله تعالى:
{الضََّالِّينَ}، و {الظََّانِّينَ} [الفتح: 6]، وما أشبه ذلك أقصر من المد فيما مده لأجل الهمز كالسماء، وزكرياء، وما أشبه ذلك. قالوا: من أجل أن المد فيه بدل من حركة. وأكثر القراء
__________
(1) السوسي يروي قراءة أبي عمرو بن العلاء، وقالون يروي قراءة نافع، والدوري يروي قراءة الكسائي.
(انظر: الداني: التيسير ص 74).
(2) أنكر ابن الجزري أن يكون هناك خلاف في اعتبار المد المتصل (انظر: النشر 1/ 315).
(3) المفيد 104و.
(4) قرأ حمزة والكسائي (يبلغانّ) بألف قبل النون المشددة والباقون بدون ألف (انظر: الداني: التيسير ص 139).
(5) التنبيه 47ظ، ومثله: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 71و.
(6) في القرآن (بناء) البقرة 22، وغافر 64.(1/452)
وجمهورهم على التسوية بين البابين في المد، وهو الوجه، لأن المد إنما جعل بدلا من الحركة ليقوى به الساكن، كذلك أيضا ألحق قبل الهمز ليقوى به الحرف الضعيف. فقد استويا في استيجابه من وجه واحد، فلا وجه للفرق» (1).
وذكر عبد الوهاب القرطبي أيضا «أن المد يقصر في حروف المد واللين، إذا كان بعدها ساكن يوقف عليه في مثل قوله تعالى: {يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، {نَسْتَعِينُ}
[الفاتحة: 5]، {الظََّالِمُونَ} [البقرة: 229]، {الْخََاسِرُونَ} [البقرة: 27]، (القنطار) (2)، {وَالْكُفََّارَ} [المائدة: 57]، {الْأَبْرََارِ} [آل عمران: 193]، وما أشبه ذلك عن المد في {دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، و {الضََّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، وإن كان المراد به الفصل بين الساكنين. وإنما قصر عنه وإن استويا في السبب من أجل أن الساكن هاهنا موقوف عليه، والجمع بين الساكنين في الوقف غير ممتنع، فلم تمس الحاجة إلى الفصل بينهما بالمد في الموضع الذي يجوز فيه الجمع بين الساكنين، وهو الوقف، كما مست إلى الفصل به في الموضع الذي لا يجوز فيه الجمع، وهو الوسط. فجعل المد في حرف المد واللين إذا كان الساكن بعده وسطا أتم منه إذا كان بعد حرف المد واللين حرف ساكن يوقف عليه للمعنى الذي أشرنا إليه، وهو لطيف جدا، فتدبره إن شاء الله» (3).
ويلاحظ أن كلام متقدمي علماء التجويد ينحو منحى عاما في تحديد مراتب المدود، بينما يغلب على كلام المتأخرين النزوع نحو تقييد أنواع المدود وقياسها. فالداني (ت 444هـ) حين ذكر المد الطبيعي قال عنه: «ويقدرونه مقدار ألف إن كان ألفا، ومقدار ياء إن كان ياء، ومقدار واو إن كان واوا». وقال عن المتكلف: «وحقيقة النطق بذلك أن تمد الأحرف الثلاثة ضعفي مدهنّ في الضرب الأول، والقراء يقدرون ذلك مقدار ألفين، إن كان حرف المد ألفا، ومقدار ياءين إن كان ياء، ومقدار واوين إن كان واوا، لما دخلته من زيادة التمكين وإشباع المد دلالة على تحقيقه وتفاضله» (4).
ثم تغلب على علماء التجويد نزعة التفصيل كلما تقدمنا مبتعدين عن عصر الداني. فنجد أبا العلاء الهمذاني العطار يقول عن مقدار المد فيما كان المد فيه لأجل الساكن المشدد:
__________
(1) الموضح 168و.
(2) آل عمران (بقنطار).
(3) الموضح 167و. وانظر: ابن الجزري: النشر 1/ 318.
(4) التحديد 14و.(1/453)
«واختلف أهل الأداء في مقدار هذا المد: فأهل التحقيق يمدونه على قدر أربع ألفات، وبعضهم على قدر ثلاث ألفات. وأهل الحدر يمدونه على قدر ألفين إحداهما حرف المد الساكن، والثانية الفاصلة بين الساكنين، فأما المحققون فعذرهم في تطويل المد في هذا الباب أن الحادرين يمدونه بقدر ألفين. وشرط التحقيق أن يزاد على الحدر مثله. ثم كل من نقص تحقيقه نقص مده» (1).
وتكاد مقادير المد الزائد على أنواعها تنحصر بين المد مقدار ألفين، أي ضعف المد الطبيعي، وبين المد قدر خمس ألفات، وبين ذلك مراتب من المد بحسب مذاهب القراء، وبحسب نوع المد ومكانه، وبحسب أسلوب القراءة من الحدر والتحقيق (2).
ويشير علماء التجويد أن ضبط تلك المقادير هو من باب التقريب لا التحديد، قال السمرقندي: «وذلك يكون تقريبا لا تحديدا، فمن يحقق القراءة ويمكنها فمده على قدر تحقيقه، ومن يحدر مده على قدر حدره، وذلك يفهم من أفواه الرجال مشافهة وعيانا» (3).
وقال أحمد بن الجزري: «وهذا كله تقريب لا تحديد، ولا يضبطه إلا المشافهة والإدمان» (4).
وحاول بعض علماء التجويد المتأخرين ابتكار وسائل لقياس مقادير المد وضبطها، فالقول إن مقدار المد ألف أو ألفان مثلا لا يكفي لبيان الزمن الذي يحتاجه نطق المد، فلا بد من إيجاد وسيلة تساعد في ضبط زمن نطق الوحدة المستعملة في قياس طول المد وهي الألف، أي زمن نطق صوت الألف. ولدينا نصان حول الموضوع، لاثنين من شراح المقدمة الجزرية، وليس لديّ دليل الآن على وجود محاولة أقدم منهما.
قال طاش كبرى زاده (ت 968هـ): «ويعرف مقدار المدات:
إما بقولك (آ) مرة أو مرتين، إلى غير ذلك.
أو تعد عددا، وتمد صوتك بقدر ذلك.
__________
(1) التمهيد 159و.
(2) انظر: المرادي: المفيد 104ظ، والسمرقندي: روح المريد 137ظ 138و. وأحمد بن الجزري:
الحواشي المفهمة 51ظ 53و. وعلي القاري: المنح الفكرية ص 50. والوفائي: الجواهر المضية 76و 78و. وتفصيل ذلك كله عند ابن الجزري: النشر 1/ 362313.
(3) روح المريد 138و.
(4) الحواشي المفهمة 53و.(1/454)
أو تعقد الأصابع وتمد بقدر ذلك.
لكن هذا كله تقريب، ولا يضبطه إلا المشافهة من لفظ المشايخ والسماع من فم الأستاذ الراسخ. ثم الإدمان على ذلك» (1). وفي هذا النص ثلاث طرق لقياس زمن نطق الألف.
وقال علي القاري (ت 1014هـ): «وإما معرفة مقدار المدات المقدرة بالألفات فأن تقول (آ) (2) مرة أو مرتين أو زيادة. وتمد صوتك بقدر قولك: ألف ألف، أو كتابتها، أو بقدر عقد أصابعك في امتداد صوتها. وهذا كله تقريب لا تحديد للشأن. إذ لا يضبطه إلا المشافهة والإدمان» (3). وفي هذا النص أربع طرق لقياس زمن نطق الألف.
ويتحصل من الجمع بين النصين خمس طرق لقياس زمن نطق الألف الذي اتخذه علماء التجويد أساسا لقياس مقادير المدود وتلك الطرق هي:
1 - أن تقول (آ) مرة أو مرتين أو أكثر، كل مرة تساوي نطق ألف.
2 - العقد بالأصابع، ولعل معناه الطرق بأي من الأصابع على الإبهام، كل طرقة تقابل نطق ألف.
3 - أن تعد عددا، فتقول: واحد، اثنان، ثلاثة الخ. وقد انفرد بذكر هذه الطريقة طاش كبري زاده، وهي موضع نظر، لأن كل واحد من الأعداد المذكورة يتضمن صوت الألف إلى جانب أصوات أخرى، فكل كلمة تعادل في النطق أكثر من ألف.
4 - أن تمد صوتك بقدر قولك: ألف ألف.
5 - أو كتابتها، أي كتابة (ا)، وليس كتابة (ألف) فيما نرجح، وانفرد علي القاري بذكر هاتين الطريقتين.
وإذا كان استخدام أجهزة القياس الدقيقة في ضبط مقادير المدود غير متيسر الآن (4)، فإن الطرق السابقة التي ذكرها علماء التجويد تظل صالحة للاستخدام حتى يتيسر استخدام طرق أكثر دقة وتحديدا لقياس مقادير المدود.
وكان واضحا لدى علماء التجويد أن مقادير المدود تختلف باختلاف أسلوب القراءة،
__________
(1) شرح المقدمة الجزرية 33و.
(2) (آ) ليست في الأصل، وأثبتها استنادا إلى النص السابق.
(3) المنح الفكرية ص 48.
(4) انظر: إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 159.(1/455)
فالقراءة بالتحقيق تحتاج إلى وقت أطول من القراءة بالحدر، وهو ما ينعكس على زمن نطق المدات. على نحو ما سنذكر عند بحث موضوع أساليب القراءة إن شاء الله تعالى.
ومحاذير المدود:
حروف المد تقبل التمطيط والزيادة ما أسعف النّفس في ذلك، لكنّ للمد عند علماء الأداء حدا إذا تجاوزه أخل بالقراءة، وصار ذلك لحنا، وقد درس علماء التجويد ما يمكن أن يعرض للمد من محاذير وعيوب. ويمكن أن نلخص ما قالوه في النقاط الآتية:
1 - الإفراط في المد:
قال ابن البناء في كتابه (بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء): «وكذلك يحذر من زيادة الممدود الذي يخرجه عن حده، فيعتقد أنه تجويد، وإنه فيه من المحسنين، ولا يعلم أنه من المسيئين» (1).
والتحذير من الزيادة في المد قديم، فقد روى السعيدي أن عبد الله بن صالح العجلي (ت في حدود 220هـ) قال: «قرأ أخ لي أكبر مني على حمزة فجعل يمد، فقال له حمزة: لا تفعل، أما علمت أن ما كان فوق الجعودة فهو قطط، وما كان فوق البياض فهو برص، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة» (2).
وتحدث الحسن بن قاسم المرادي عن ذلك فقال: «الإفراط في مد حروف المد، وهو تجاوز الحد. يقال أفرط في الأمر، أي جاوز فيه الحد، وليس من التجويد في شيء، بل هو من اللحن الخفي، وربما خرج إلى الجلي. وللمد حد يوقف عنده ومقدار لا يصح تجاوزه.
ومراتب القراء فيه مختلفة بحسب تفاوتهم في الترتيل والحدر والتوسط. وأطولهم مدا ورش وحمزة، ومقدار مدهما ثلاث ألفات تقريبا. ولا تحصيل لمن قال. مقدار خمسة» (3).
وقال علي القاري: «والحاصل أنه لا يجوز الزيادة على مقدار خمس ألفات إجماعا، فما يفعله بعض الأئمة، وأكثر المؤذنين فمن أقبح البدع، وأشد الكراهة» (4). ويقصد علي القاري إطالتهم المدود فوق ما هو مقرر لذلك.
__________
(1) بيان العيوب 175ظ.
(2) التنبيه 46و.
(3) المفيد 103و.
(4) المنح الفكرية ص 50.(1/456)
وقال المرعشي وهو يعلق على كلام لابن الجزري في الترقيق والتفخيم: «تبين من كلام ابن الجزري في النشر (1) أن أكثر غلطات قراء الزمان في تفخيم الحروف المرققة أقول (المرعشي): ينبغي أن يزاد ويقال أكثر غلطاتهم أيضا في زيادة المد الطبيعي في غير محل زيادة، وترك الزيادة في محلها، وإحداث مد فيما ليس فيه مد أصلا» (2). ولا يزال كلام المرعشي ينطبق بدرجة كبيرة على قراء زماننا، وإن كانت النسبة تتفاوت بين بلد وآخر وقارئ وآخر.
2 - الترعيد:
من عيوب المد ترعيد الصوت بالمدات. وهو مكروه منهي عنه. وقد وضح ابن البناء الترعيد بقوله: «ومن العيوب الترعيد، وصفته تعليق الصوت بتريد الحنجرة، كأنه يروم منزلة من التطريب والحدر في إفساد الحروف، ومنع لمدارج الكلام من امضائها على سواء» (3).
وقال عبد الوهاب القرطبي: «أما الترعيد في القراءة فهو أن يأتي بالصوت إذا قرأ مضطربا كأنه يرتعد من برد أو ألم» (4).
وقد حذر من ذلك السعيدي حيث قال: «ومما يحفظ أيضا ترعيد المدات في مثل قوله {بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] وكذلك {السُّفَهََاءُ} [البقرة: 13]، و {وَالشُّعَرََاءُ} [الشعراء: 224]، و {وَالْفَحْشََاءِ} [البقرة: 169]، و {مََا يَشََاءُ} [آل عمران:
40]، و {جََاءَ} [النساء: 43] وما أشبه هذه الحروف، تمد مدّا حسنا مستويا مستقيما، بلا ترعيد ولا تهزيز ولا اضطراب عند إخراجهن» (5).
وقال عبد الوهاب القرطبي بعد أن تحدث عن أحكام المد: «وقد بقي الآن أن نبين ما يستكره في المد وننبه عليه ليتجنب، ونمثله في مواضع قريبة ليستدل بالأقل على الأكثر.
فنقول: ينبغي أن يكون الصوت في حال المد سليما من ترعيد وتمطيط. خالصا من اضطراب وتهزيز، صافيا في إجراء النفس معه وتكدير رونقه به» (6).
__________
(1) النشر 1/ 222215.
(2) جهد المقل 57ظ.
(3) بيان العيوب 175ظ.
(4) الموضح 188و، وانظر: ابن الباذش: الإقناع 1/ 556.
(5) التنبيه 52ظ.
(6) الموضح 168و.(1/457)
3 - إشراب المد غنة:
يحدث في بعض الأحيان أن يجري نفس من الألف أثناء نطق حروف المد، فيؤدي ذلك إلى سماع غنة خفيفة تلابس أصوات حروف المد: وهذا هو معنى إشراب المد غنّة.
وقد حذر علماء التجويد من ذلك وعدوه لحنا يجب أن تبرأ القراءة منه. وقد قال أحمد بن أبي عمر: «فإن سكنت الياء وانكسر ما قبلها أو سكنت الواو وانضم ما قبلها أشبعتهما من غير غنة نحو يؤمنون، والمؤمنون، والمؤمنين» (1).
وقال الحسن بن شجاع التوني: «ويحترز من إدغام حرف المد، نحو {فِي يُوسُفَ}
[يوسف: 7] و {قََالُوا وَهُمْ} [الشعراء: 96]. وإذا وقفت على مثل (يعلمون، ويؤمنون) فاحذر من الغنة فيها» (2).
وكان المرعشي أكثر علماء التجويد عناية بهذه الظاهرة والتحذير منها، فقد قال:
«وليحذر عن إعطاء الغنة لغير حروفها، كما يفعله بعض الناس في الياء المدية والواو المدية، في مثل: نستعين، وطس، ويستهزءون، تبعا لغنة النون» (3).
وقال في مكان آخر: «إن الغنة لما أشبهت المد يلائم إحداث الغنة مع تلفظ المد، ولذا يلفظ بعض الناس المد مصحوبا بالغنة. في مثل (نستعين) وهو لا يشعر بذلك، وهو لحن. وطريق معرفة حدوثها في مثل ذلك أن تلفظه مرة مع الإمساك على أنفك، ومرة بدونه، فإن اختلف صوت المد في الحالين فاعلم أنه مصحوب بها. وطريق الحذر عنها منع النفس الجاري مع المد من التجاوز إلى الخيشوم، وامتحان صوته بالإمساك على الأنف وتركه إلى أن يتعود تخليص المد عنها» (4).
وكلام المرعشي عن ظاهرة إشراب المد صوت الغنة يدل على فقه عميق بإنتاج الأصوات وما لها من صفات، وما يلحقها في التركيب من شوائب وانحرافات، وقد عز أن توجد مثل هذه النصوص فيما كتب الدارسون المحدثون عن الأصوات العربية، فلله ذرّ المرعشي كم عنده من دقائق الأقوال وعظيم الأفكار!
__________
(1) الإيضاح 71و.
(2) المفيد في علم التجويد 10و.
(3) جهد المقل 61ظ.
(4) جهد المقل 62ظ.(1/458)
وما يتصل بما نحن بصدده من إشراب المدود غنة ما قاله أحمد بن أبي عمر عما يلحق الألفات في اللحن: «ويختلف اللحن في الألفات عند الوقف عليها، كقوله: لشتى، اليسرى، والعسرى، وقديرا، عليما، ونحو ذلك. فمن الناس من يقف عليها وعلى أمثالها بنبرة الألف.
ومنهم من يقف عليها بالغنة، ومنهم من يقف عليهم بالهاء، وكلها لحن» (1).
* * * __________
(1) الإيضاح 72و.(1/459)
الملحقات
ملحق رقم (1) علم التجويد في القرن الرابع الهجري
المتأمل فيما ذكرناه في الفصل الأول عن نشأة علم التجويد يجد أن مدة من الزمن تفصل بين ظهور قصيدة أبي مزاحم الخاقاني (ت 325هـ) وبين ظهور أول كتاب في علم التجويد يؤلف بعدها، وهو كتاب (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) للسعيدي (ت في حدود 410هـ)، ولا نجد خلال تلك الفترة التي قد تبلغ خمسا وثمانين سنة أي ملمح عن نشاط تأليفي في علم التجويد، على الرغم من أن هذه المدة التي تستغرق معظم سني القرن الرابع للهجرة تعد من الفترات المتميزة في تاريخ الحضارة الإسلامية. فهل كانت هذه الفترة خالية فعلا من أي جهد في علم التجويد أو أن هناك جهودا ذهبت أخبارها واندثرت نصوصها عبر القرون؟
لا نجد في المصادر التاريخية المتيسرة ما يساعدنا على الإجابة عن ذلك السؤال على نحو مفصل وأكيد، وقد عثرت على نص في أحد كتب أبي عمرو الداني (ت 444هـ) المخطوطة يمكن أن يكون أساسا ينبني عليه الجواب عن السؤال السابق. أما الكتاب فهو الأرجوزة المسماة (المنبهة في الحذق والإتقان وصفة التجويد للقرآن) التي مطلعها:
الحمد لله العليّ الفرد ... أهل المعالي والثنا والمجد
وهي تتألف في الأصل من ألفين وستمائة بيت، لكن النسخة التي نعتمد عليها ناقصة، ولا تتضمن إلا أربعمائة واثنين وستين بيتا من أولها (1).
أما النص فهو أحد الفصول الباقية من (المنبهة) وهو الفصل الرابع عشر الذي جعل المؤلف عنوانه: (القول في أهل الأداء)، وهو يتألف من واحد وعشرين بيتا، وتحدث في
__________
(1) تحتفظ الخزانة العامة للكتب والوثائق بالرباط بهذه النسخة تحت رقم 2809 (د 2186).(1/460)
الفصول الثلاثة التي تسبقه عن القراء السبعة وشيوخهم والرواة عنهم، وقراء الشواذ من غيرهم، وتحدث في الفصل الذي يليه عن المصنفين للحروف الذين جمعوا في كتبهم وجوه القراءات، ولا يساورنا شك في أن مراد الداني بقوله (أهل الأداء) هو أصل التجويد أي علماء التجويد، لا سيما أنه يستخدم هذه العبارة في كتابه (التحديد في الإتقان والتجويد) مريدا بها علماء التجويد (1). فهو يريد أن يتحدث إذن عن علماء التجويد الذين سبقوه، وعاشوا في الحقبة التي نحن بصددها، وهو قد خصص فصلا آخر للحديث عن المؤلفين في القراءات وميزه عن الفصل الذي تحدث فيه عن أهل الأداء. وسوف نورد أولا نص ذلك الفصل، ثم نعود إليه ندرسه بعد ذلك.
قال أبو عمرو الداني بعد أن ذكر القراء السبعة وأئمتهم ورواتهم وغيرهم من القراء (2):
القول في أهل الأداء 1وقد سما (3) في هذه الصناعة ... قوم هم أئمة الجماعة
2 - من اقتدى بقولهم مسدّد ... موفق لرشدهم مؤيد
3 - فابن مجاهد بهذا العلم ... مضطلع مشتهر بالفهم
4 - وبعده محمد بن الصلت ... وأحمد بن جعفر ذو الثبت
5 - ومثلهم في الضبط والإتقان ... محمد النقاش ذو البيان
6 - ومثله محمد المعدّل ... وهو رويس ضابط مفضل
7 - ومثله ابن عابد الرزاق ... إمام مصره أبو إسحاق
8 - ومثلهم محمد الداجوني ... وأحمد المعروف باليقطين
__________
(1) انظر مثلا: التحديد ورقة 23و، 25و، 41و، 42ظ، 43و. وانظر أيضا: كتاب الإدغام الكبير (له):
13 - و، 20ظ، 21و. وقد قال المرعشي في كتابه (ترتيب العلوم ص 57): «وأما علم التجويد، ويسمى علم الأداء».
(2) المنبهة ص 1716.
(3) رسمت في الأصل المخطوط بالياء، وقد قرأتها في أول وهلة (تسمى) وهكذا أثبتها في الرسالة، لكن الدكتور حسام النعيمي نبهني وقت مناقشة هذه الرسالة إلى أن الوزن لا يستقيم معها، وحين عدت إلى النسخة المصورة للمخطوطة وجدت أنها (سمى)، وهو ما يستقيم معه الوزن لكن رسمها الاصطلاحي يكون بالألف لأن أصلها الواو.(1/461)
9 - وأحمد التائب والصواف ... وجعفر بن أحمد الخصاف
10 - وابن عبيد الله ذو الإتقان ... موسى أبو مزاحم الخاقاني
11 - وأحمد بن الفضل وابن مقسم ... وكلهم مفضل مقدّم
12 - وأحمد بن جعفر الحوفيّ ... وابن أبي هاشم النحويّ
13 - وابن بنان واسمه بكّار ... وهو جليل وله مقدار
14 - ومثلهم عليّ القزاز ... وأحمد بن صالح البزاز
15 - وابن علي زيد الكوفيّ ... والشنبوذيّ الفتى الذكيّ
16 - وصالح وابن الجلندى الموصلي ... وأحمد الجلّاء ذو التبتل
17 - وأحمد (الدقني) (1) وابن أشتة ... ولست مثلهم تراه البتة
18 - وأحمد بن نصر الشذائي ... وهؤلاء جلة القراء
19 - في عصرهم فكل ما رووه ... لنا قبلناه كما أدّوه
20 - إذ كلهم أئمة ثقات ... لفضلهم كأنهم ما ماتوا
21 - أخبارهم موضوعة موقوفة ... مشهورة مروية معروفة
ولست أقصد هنا تقديم ترجمة مفصلة لهؤلاء العلماء الذين ذكرهم الداني، ولكني سوف أتحدث عن أربعة منهم فقط أذكر بعض أخبارهم وأتتبع نشاطهم المتعلق بعلم التجويد وهو الأمر الذي نهدف إلى الكشف عنه في هذه المحاولة، بقدر ما تسعف به المصادر:
1 - ابن مجاهد:
هو أحمد بن موسى بن العباس البغدادي (ت 324هـ)، وهو كما وصفه ابن الجزري:
«شيخ الصنعة، وأول من سبّع السبعة» (2). ولا نجد من بين الكتب التي ألفها وذكرها ابن النديم كتابا يمكن أن يكون في علم التجويد (3)، ومع ذلك فهناك عدد من الروايات التي نقلت عن ابن مجاهد وهي تعالج أدق القضايا الصوتية، ولا نجدها في كتابه المطبوع (السبعة في القراءات).
من ذلك ما رواه الداني عنه أنه قال: «اللحن لحنان، جلي وخفي، فالجلي لحن
__________
(1) كلمة غير واضحة في الأصل.
(2) غاية النهاية 1/ 139، وانظر: كحالة: معجم المؤلفين 2/ 188.
(3) انظر: الفهرست ص 34.(1/462)
الإعراب، والخفي ترك إعطاء الحرف حقه من تجويد لفظه» (1). وقد صارت هذه المقولة أساسا لدراسات علماء التجويد: ومن ذلك ما نقله الداني أيضا عنه من قوله: «النون الساكنة والتنوين تبينان عند الحاء والهاء والعين ضرورة من غير تعمل» (2).
2 - أحمد بن جعفر (ورد ذكره في البيت الرابع):
أرجح أنه ابن المنادي المتوفى سنة 336هـ، قال ابن النديم: «وله مائة ونيّف وعشرون كتابا في علوم متفرقة، وكان الغالب عليه علوم القرآن» (3)، ولا نعرف عن تلك الكتب شيئا محددا، لكني وجدت ابن البناء (ت 471هـ) يقول عن ابن المنادي بعد أن ذكر جملة من (عيوب الأصوات): «وهذا وما أشبهه من المعايب كرهها العلماء بالقراءة وذوو المعرفة بالأخذ، وذكروا فيها التصانيف، وناهيك بصاحبنا أبي الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المنادي رحمه الله فإنه أخذ من ذلك الحظ الأوفر والنصيب الأكبر» (4).
ووجدت محمدا المرعشي (ت 1150هـ) يقول في أول كتابه (جهد المقل): «ومتى قلت علماء الأداء، وأهل الأداء فالمراد منهم علماء هذا الفن كمكي وابن المنادي وأبي عمر والداني» (5). ونجد في كتاب (التحديد) لأبي عمرو الداني عددا من النصوص منقولة عن ابن المنادي من ذلك «قال أبو الحسين بن المنادي: «أخذنا عن أهل الأداء بيان الميم الساكنة عند الواو والفاء في حسن من غير إفحاش» (6). ومن ذلك أيضا ما نقله الداني عن أحمد بن نصر الشذائي أنه قال: «وإلى هذا كان يذهب ابن مجاهد، في هذه القراءة وغيرها، وبه قرأنا، وبه كان يختار، ويمثله كان يأخذ ابن المنادي، رحمة الله عليهما» (7).
3 - ابن أشتة (ورد ذكره في البيت السابع عشر):
هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الأصبهاني (ت بمصر سنة 360هـ)، قال عنه ابن الجزري: «أستاذ كبير، وإمام شهير، ونحوي محقق، ثقة، سكن مصر، قال الداني: ضابط
__________
(1) التحديد 22ظ.
(2) المصدر نفسه 20ظ.
(3) الفهرست ص 41.
(4) بيان العيوب 176و.
(5) جهد المقل 2و.
(6) التحديد 41و.
(7) المصدر نفسه 12ظ.(1/463)
مشهور مأمون ثقة عالم بالعربية بصير بالمعاني، حسن التصنيف، صاحب سنة، قلت: وكتابه المحبّر كتاب جليل يدل على عظم مقداره وله كتاب المفيد في الشاذ، قرأ على أبي بكر بن مجاهد» (1).
وقد صرح ابن خير الإشبيلي في فهرسته أن كتاب المحبر في القراءات (2)، ولكن يبدو أنه بحث في مقدماته بعض المباحث المتعلقة بعلم التجويد كمخارج الحروف وصفاتها، نستدل على ذلك بما ذكره نشوان بن سعيد الحميري (ت 573هـ) في مقدمة معجمه المسمى (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) في فصل (مخارج الحروف وتقسيمها) فقد قال «وحروف الاستعلاء سبعة، يجمعها قولك: قظ ضغط خص. جمع ذلك أبو بكر بن أشتة البغدادي في كتاب المحبر» (3).
4 - أحمد بن نصر الشذائي (ورد ذكره في البيت الثامن عشر):
هو أبو بكر أحمد بن نصر بن منصور الشذائي البصري (ت 373هـ)، قال عنه الداني:
«مشهور بالضبط والإتقان، عالم بالقراءة بصير بالعربية» (4). وذكر الذهبي أن فارس بن أحمد قال: «أمنّ أصحاب ابن مجاهد أربعة: أبو طاهر بن أبي هاشم، وأبو بكر بن أشتة، وأبو بكر الشذائي، ونسي الرابع» (5).
وقد نقل الداني في كتاب (التحديد) كثيرا من النصوص عن الشذائي، كما نقل بواسطته كثيرا من الروايات عن ابن مجاهد، فمما أسنده الداني إليه قوله: «حدثني الحسين بن علي حدثنا أحمد بن نصر بن منصور، ووصف قراءة أئمة القراءة السبعة، فقال: «فأما صفة قراءة» (6). وقوله: «وقال لي الحسين بن علي: قال لنا أحمد بن نصر: المخفى ما تبقى معه غنة» (7).
ومما نقله عن ابن مجاهد من طريق الشذائي النصان اللذان أوردناهما قبل قليل عند
__________
(1) غاية النهاية 2/ 184.
(2) فهرسة ابن خير ص 24.
(3) شمس العلوم 1/ 22.
(4) نقلا عن الذهبي: معرفة القراء 1/ 258.
(5) المصدر نفسه 1/ 258.
(6) التحديد 12و.
(7) المصدر نفسه 15ظ.(1/464)
حديثنا عن ابن مجاهد، ومن ذلك أيضا قوله: «وهذا مذهب ابن مجاهد فيما حدثنا به الحسين بن علي، عن أحمد بن نصر، عنه، قال: والميم لا تدغم في الباء لكنها تخفى، لأن لها صوتا في الخياشيم، تواخي به النون الخفيفة» (1).
وإنما اكتفيت بالحديث عن هؤلاء الأربعة، مع ما تقدم من كلامنا عن أبي مزاحم في الفصل الأول، من مجموع من ذكرهم الداني، وهم ستة وعشرون، لأني وجدت عن هؤلاء الأربعة روايات توضح جانبا من نشاطهم في الدرس الصوتي أكثر مما وجدت عمن سواهم، كما أني وجدت الداني نفسه يكثر من ذكرهم في كتابه (الإدغام الكبير)، قال مرة: «واختلف أهل الأداء في قوله في غافر (وإن يك كاذبا) فكان ابن مجاهد وابن المنادى يختاران فيه الإظهار» (2). وقال وهو يتحدث عن منع إمالة الألف قبل الراء في مثل (النهار): «وهذا مذهب ناس من البصريين النحويين، وقوم من أهل الأداء المتصدرين، منهم أبو الحسين بن المنادى، وأحمد بن نصر الشذائي، ومحمد بن عبد الله بن أشتة، والحسين بن محمد بن حبش الدينوري وقال آخرون وهم الأكثر الإمالة ثابتة» (3).
وينبغي أن أشير هنا إلى أن الوثيقة التاريخية الموجودة أمامنا، وهي الفصل الذي نقلناه عن (المنبهة) جاءت عن عالم خبير متخصص في هذا الشأن، وكان قد كتب كتابا مستقلا في طبقات القراء (4)، فاتنا بفقدانه علم كثير، ولم يبق منه إلا روايات تضمنتها بعض الكتب لا سيما (معرفة القراء) للذهبي، و (غاية النهاية) لابن الجزري.
والنتيجة التي نستخلصها مما ذكره الداني في (المنبهة) عن أهل الأداء، ومن النصوص التي أوردناها عن بعض من ذكرهم الداني هي أن النشاط المتعلق بعلم التجويد لم ينقطع في تلك الفترة الفاصلة بين ظهور قصيدة أبي مزاحم الخاقاني وظهور أول كتاب في علم التجويد بعدها، وما النصوص والروايات التي ذكرناها عن ابن مجاهد وابن المنادى وابن أشتة والشذائي إلا دليل أكيد ومعلم بارز من معالم ذلك النشاط، وغاية ما في الأمر أن ذلك النشاط غابت عنا تفصيلاته وحجبت عنا مؤلفاته.
__________
(1) المصدر نفسه 40ظ 41و. وانظر أيضا: 22ظ، 23و، 24و.
(2) الإدغام الكبير 13و.
(3) المصدر نفسه 20ظ.
(4) انظر: ابن خير: فهرسة ابن خير ص 72، والذهبي: معرفة القراء 1/ 326، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 505.(1/465)
ولنا أن نتساءل هنا عن النصوص التي نقلناها قبل قليل هل أوردها المصنفون في كتب القراءات التي ألفوها، أو أنهم ذكروها في كتب مستقلة صنفوها في علم التجويد؟ الإجابة القاطعة عن هذا التساؤل غير متيسرة الآن، لأن ما وصل إلينا من كتب القراءات المؤلفة في تلك المدة قليل جدا بل نادر لا يوضح لنا شيئا من الأمر، ومع ذلك فإني أميل إلى القول بوجود كتب مستقلة عالجت موضوع الأصوات العربية في إطار علم التجويد، ترجع إلى ذلك العصر، إما أنها ذهبت، أو أن وقت ظهورها وكشفها لم يحن بعد، ويمكن الرجوع إلى ما نقلته عن مؤلفات ابن المنادى، وقول ابن البناء فيه، للوقوف على أساس ميلنا إلى هذا القول.
وسواء أكان ذلك النشاط التجويدي قد وقع في كتب مستقلة أم تضمنته كتب القراءات فإنه يشير إلى أن القرن الرابع الهجري قد شهد نشأة علم التجويد وأن القصيدة الخاقانية لم تكن العمل الوحيد الذي أنتجته جهود علماء الأداء في هذا القرن، وإنما كانت بدايته المتميزة التي انتهت إلى العديد من الكتب في القرن الخامس للهجرة وما تلاه من قرون.
* * *
ملحق رقم (2) أساليب القراءة(1/466)
* * *
ملحق رقم (2) أساليب القراءة
يتفاوت النطق بالألفاظ عند الكلام بين السرعة والتمهل حسب حاجة المتكلم وما يقتضيه المقام، ويمكن للمتكلم أن يرفع صوته وأن يخفضه كما يريد. وقد درس علماء التجويد الكيفية التي يجب أن يسلكها قارئ القرآن في نطق ألفاظ الذكر الحكيم من حيث السرعة والتمهل، ووضحوا الطرائق المأثورة التي التزمها القراء وتناقلوها، وبينوا مذهب القراء السبعة في ذلك، وحددوا المختار لدى كل واحد منهم.
وقد سمى بعض علماء القراءة والتجويد الكيفية التي يجب أن يقرأ بها القرآن باسم (أسلوب القراءة)، فقال ابن الباذش (ت 540هـ) في (باب اختلاف مذاهبهم في كيفية التلاوة وتجويد الأداء): «اعلم أن القراء مجمعون على التزام التجويد، وهو إقامة مخارج الحروف وصفاتها، فأما أسلوب القراءة من حدر وترتيل، بعد إحراز ما ذكرنا، فهم فيه متباينون غير مستوين» (1).
وقد سماها بعضهم باسم (مراتب القراءة) فقال ابن الكيال (ت 929هـ): «واعلم أن التجويد على ثلاثة مراتب: ترتيل وتدوير وحدر بإسكان الدال» (2). وسماها أبو الفضل الرازي (ت 454هـ) بأوجه القراءة، حيث قال: «القراءة على ثلاثة أوجه: ترتيل وحدر وزمزمة» (3).
وسواء أكانت الكلمة المستخدمة في ذلك: أسلوبا أم مرتبة أم وجها، فإن القرآن كما قال ابن الجزري: «يقرأ بالتحقيق وبالحدر وبالتدوير، الذي هو التوسط بين الحالين، مرتلا مجودا بلحون العرب وأصواتها وتحسين اللفظ والصوت بحسب الاستطاعة» (4).
__________
(1) الإقناع 1/ 552.
(2) الأنجم الزواهر 82ظ.
(3) نقلا عن أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 67و.
(4) النشر 1/ 205.(1/467)
ويفهم من النصوص السابقة أن الترتيل يستخدم مرادفا للتحقيق، فبعض علماء التجويد يستخدم التحقيق في مقابل الحدر، وبعضهم يستخدم الترتيل في مقابل الحدر. وأما التدوير فللتوسط بين المنزلتين. وقد قال أبو العلاء الهمذاني العطار بعد أن ذكر مذاهب القراء في كيفية القراءة: «ومن بعد فاعلم أن هذه الأوجه التي ذكرناها تؤول إلى ضربين: أحدهما التحقيق، والآخر الحدر» (1).
1 - التحقيق:
أما التحقيق فهو «مصدر من حققت الشيء، أي عرفته يقينا. والعرب تقول: بلغت حقيقة هذا الأمر، أي بلغت يقين شأنه. والاسم منه الحق، فمعناه أن يؤتى بالشيء على حقه من غير زيادة فيه ولا نقصان منه» (2).
ومعنى التحقيق في الاصطلاح هو كما يقول الداني (ت 444هـ): «التحقيق الوارد عن أئمة القراءة حده أن توفّى الحروف حقوقها من المد إن كانت ممدودة، ومن التمكين إن كانت ممكنة، ومن الهمز إن كانت مهموزة، ومن التشديد إن كانت مشددة، ومن الإدغام إن كانت مدغمة، ومن الفتح إن كانت مفتوحة، ومن الإمالة إن كانت ممالة، ومن الحركة إن كانت متحركة، ومن السكون إن كانت مسكنة، من غير تجاوز ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف.
على ما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى. فأما ما يذهب إليه بعض أهل الغباوة من أهل الأداء من الإفراط في التمطيط، والتعسف في التفكيك والإسراف في إشباع الحركات وتخليص السواكن إلى غير ذلك من الألفاظ المستبشعة والمذاهب المكروهة فخارج عن مذاهب الأئمة وجمهور سلف الأمة. وقد وردت الآثار بكراهة ذلك وبكيفية حقيقته» (3).
وقد أكد الداني هذا المعنى في كتاب آخر من كتبه حيث قال: «ينبغي لمن أخذ نفسه من القراء بالتحقيق أن لا يفرط في ذلك، وأن يكون جميع ما يلفظ به من الممدود والممكن والمدغم والمظهر والمهموز والمشدد والمسكن وإشباع الحركات وغير ذلك على وزن ومقدار، ولا يجاوز به الحد الذي علم من مذاهب الأئمة، ولا يتعدى في ذلك المنهاج والطريق الذي عليه الأكابر من علماء هذه الصناعة، فإن استعمل خلاف ما ذكرناه وأفرط في
__________
(1) التمهيد 88و.
(2) التحديد 2ظ 3و. وانظر: ابن الجزري: النشر 1/ 205، وابن منظور: لسان العرب 11/ 333 حقق.
(3) التحديد 9و.(1/468)
جميع ذلك، وتكلف الزيادة في التمطيط والتعسف في التفكيك فقد خرج بفعله ذلك عما عليه الجمهور من أئمة القراءة، وعن السائر الموجود المتعارف عليه في لغة العرب» (1).
وذكر أحمد بن أبي عمر (ت بعد 500هـ) أركان قراءة التحقيق حيث قال: «ومعناه أن يقرأ القرآن فيؤدى كل حرف منه حقه من التشديد والتخفيف، والمد والقصر، والتسكين والتحريك، والوصل والقطع، والإشباع والاختلاس، والإظهار والإدغام والإخفاء، والتفخيم والاضجاع، والهمز وترك الهمز، لا زيادة في كل ذلك ولا نقصان. فحد الحرف المشدد أن لا يكون مخففا، وحد الحرف المخفف أن لا يكون مشددا فهذه الأشياء التي وصفناها هي حدود التحقيق» (2).
وما ذكره أحمد بن أبي عمر لا يخرج عما ذكره الداني من صفة قراءة التحقيق، فقد اتضح من هذا الوصف العام لها أنها تقتضي العناية بتأدية الأصوات من مخارجها وتوفيتها صفاتها وما لها من أحكام تنشأ عن التركيب، ولا يؤخذ في قراءة التحقيق بالسرعة بل بالتمكث والأناة مع عدم الخروج عن حدها بالمبالغة في أداء ما للحروف من أحكام مثل المد والإدغام والتشديد ونحوها بل توفّى هذه الأحكام بقدر ما تحتاج من العناية.
2 - الترتيل:
أما الترتيل فقد نقلنا في أول هذا الملحق بعض النصوص التي يفهم منها أن الترتيل والتحقيق واحد، وهناك نصوص أخرى في هذا الاتجاه فقد نقل أحمد بن أبي عمر عن أبي العباس أحمد بن يحيى الملقب بثعلب أنه قال: «التحقيق والترتيل واحد» (3). ويفهم من كلام أحمد بن أبي عمر أنه يأخذ بقول ثعلب حيث قال: «فالترتيل مأمور به، ومرغوب فيه، وهو مثل التحقيق والتفخيم، وهو المختار عندنا في قراءة القرآن، لأن الذي بلغنا من صفة قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها كانت قراءة مفسرة حرفا حرفا» (4).
ونقل أحمد بن أبي عمر أيضا عن الشيخ أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي (ت 454هـ) أنه قال: «القراءة على ثلاثة أوجه: ترتيل وحدر وزمزمة، والتجويد والإحسان
__________
(1) شرح قصيدة أبي مزاحم 136و 136ظ.
(2) الإيضاح 66و.
(3) الإيضاح 66ظ.
(4) الإيضاح 66ظ.(1/469)
مصحوباها. فالترتيل للفكرة والإفادة والرياضة، والحدر للاستكثار والدراسة. والزمزمة القراءة في النفس خاصة (1). وهي ضرب من الحدر» (2). وواضح من هذا النص أن الرازي استخدم الترتيل في معنى مطابق لمعنى التحقيق.
وذهب بعض علماء التجويد إلى التمييز بين التحقيق والترتيل، فبعضهم يجعل الترتيل صفة من صفات التحقيق، وبعضهم يجعله درجة أقل من التحقيق. قال الداني: «والترتيل مصدر من رتّل فلان كلامه: أتبع بعضه بعضا على مكث وتؤدة، والاسم منه الرّتل. والعرب تقول: ثغر رتل، إذا كان متفرقا. وهو صفة من صفات التحقيق وليس به، لأن الترتيل يكون بالهمز وتركه والقصر لحرف المد، والتخفيف والاختلاس، وليس ذلك في التحقيق» (3). وقال في موضع آخر: «والترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط، والتحقيق لرياضة الألسن وترقيق الألفاظ الغليظة، وإقامة القراءة، وإعطاء كل حرف حقه من المد والهمز والإشباع والتفكيك، ويؤمن معه تحريك ساكن، واختلاس حركة متحرك» (4).
ونحا هذا المنحى أيضا أبو العلاء الهمذاني العطار (ت 569هـ)، وذلك حيث قال:
«اعلم أن التحقيق والترتيل يتفقان من وجه ويفترقان من وجه. فأما وجه اتفاقهما فمن حيث إن الترتيل صفة من صفات التحقيق وليس به، وذاك أنه مصدر رتّل الرجل كلامه إذا أتبع بعضه بعضا على تؤدة وتمهل، والتحقيق مصدر حققت الشيء والاسم منه الحق، ومعناه أن يؤتى بالشيء على حقه. وقد علمت أن إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها ومراتبها إلى غير ذلك مما أوضحناه قبل موجود في كلا المذهبين.
وأما وجه افتراقهما فمن حيث أن الترتيل يكون بتحقيق الهمزات وتخفيفها واختلاس الحركات وإقرارها، والتحقيق بخلاف ذلك» (5).
والفرق عند من ميز بين التحقيق والترتيل ليس كبيرا كما ترى، ومن ثم تغاضى كثير من علماء التجويد عن ذلك الفرق وعدو هما مترادفين. وقد قال الشيخ أحمد فائز الرومي في
__________
(1) قال ابن البناء (بيان العيوب 180ظ): «والهمهمة إخراج أدنى صوت لا تفهم معه الحروف. والزمزمة إفهام بعض الحروف دون بعض».
(2) الإيضاح 67و.
(3) التحديد 2ظ. وانظر: ابن منظور: لسان العرب 13/ 281رتل.
(4) التحديد 3و.
(5) التمهيد 89ظ.(1/470)
شرحه على (الدر اليتيم): «كيفية التلاوة لها حالات ثلاث: تحقيق، وهو عند الجمهور بمعنى الترتيل، فسره به فقال: أي ترتيل. وفرق بعضهم بينهما بأن التحقيق يكون للرياضة والتعليم والتمرين والترتيل يكون للتدبر والتفكر» (1).
3 - الحدر:
أما الحدر «فأصله الحط، وكل ما حططته من علو إلى سفل فقد حدرته» (2). وهو «مصدر من حدر بالفتح يحدر بالضم، إذا أسرع، فهو من الحدور الذي هو الهبوط، لأن الإسراع من لازمه، بخلاف الصعود» (3). ولدينا عدة نصوص قديمة في بيان معنى الحدر في الاصطلاح.
من ذلك قول أحمد بن الحسين بن مهران (ت 381هـ): «هو أن يقرأ القارئ قراءة سهلة سريعة خفيفة من غير أن يخل بحرف، بل يؤدي كل حرف حقه من السكون والحركة والمد والتشديد، وهو يمر في قراءته مع هذه الشرائط مرا سريعا» (4).
قال ابن البناء في (باب وصف حدر القراءة): «يجب أن يراعي في حدره المفتوح فيدنيه عن التبليغ، والمخفوض والمرفوع فيوقعهما بلا تخفيف، ويمرن لسانه على المشدد والمهموز والمنون والممدود والمقصور والمدغم والمظهر في إعطاء كل نوع من ذلك حقه في سرعة غير قلقلة ولا رخوة، ولا يستلن مدارج النفس يطلب غايته دون استيداع الحروف مقارها.
وليحذر أن يفسد بإسراعه الحروف المأخوذة عليه رعايتها، فليس الحدر يوجب ترك ممدود، ولا منون مظهر، ولا مدغم، ولا مخفى، وإنما روى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يترك الهمز إذا أدرج القراءة تخفيفا. فمن لم يحرس في درجه ما ذكرت كان خلله كثيرا وفساده عظيما» (5).
وقال أبو علي الأهوازي في وصف قراءة الحدر: «وأما الحدر فإنه القراءة السهلة السمحة الرتلة، العذبة الألفاظ، اللطيفة المعنى، التي لا يخرج القارئ فيها عن طباع العرب،
__________
(1) شرح الدر اليتيم 27و.
(2) العطار: التمهيد 87و.
(3) ابن الجزري: النشر 1/ 207. وانظر: ابن منظور: لسان العرب 5/ 244حدر.
(4) نقلا عن: أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 66ظ.
(5) بيان العيوب 177و.(1/471)
وعما تكلمت به الفصحاء بعد أن يأتي بالرواية عن الإمام من أئمة القراءة على ما نقل عنه من المد والهمز، والقطع والوصل، والتشديد والتخفيف، والإمالة والتفخيم، والاختلاس والإشباع، فإن خالف شيئا من ذلك كان مخطئا» (1). وقد وضح ابن الجزري معنى الحدر أيضا بما لا يخالف ما ورد في هذه النصوص من وصف الحدر بإدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها (2).
ويذكر علماء التجويد أن الغرض من القراءة حدرا هو كثرة القراءة وسرعتها لمن يرغب في ختم القرآن وكثرة الحسنات. قال الخزاعي: «إنما يستعمل القارئ الحدر وسرعة القراءة مع تقويم الألفاظ لتكثر حسناته إذ كان له بكل حرف عشر حسنات، وذلك بعد معرفته بالمد من غير تمطيط وبالهمز من غير لكز لساكنه ومتحركه، بل يأتي بها بسهولة من غير عنف ولا صعوبة» (3).
وقال الداني: «فأما الحدر والهذرمة فلا بأس أن يستعملها من أراد درس القرآن لكي تكثر حسناته. إذ له بكل حرف عشر حسنات، أو من رغب في كثرة الختم لما لمن ختم من الأجر لنزول الرحمة عند الختم» (4).
العلاقة بين الحدر والتحقيق:
التدوير هو عبارة عن التوسط بين المقامين من التحقيق والحدر (5). ولم يطل علماء التجويد في الكلام عنه، لأن المهم أن يضبط طرفا القراءة: التحقيق والحدر، وقد اتضح بما سقناه من النصوص أن صفة التحقيق هي التأني في القراءة مع إيفاء الأصوات حقوقها من المخارج والصفات وما ينشأ لها عن التركيب من الأحكام، وصفة الحدر هي السرعة في القراءة، إلى الحد الذي لا تختل به صفة القراءة وتبطل أحكامها. وكل أوجه القراءة، كما قال أبو العلاء الهمذاني العطار (تؤول إلى ضربين: أحد هما التحقيق، والآخر الحدر» (6).
ولا تتضح من النصوص السابقة حدود فاصلة بين قراءة التحقيق وقراءة الحدر إلا ما
__________
(1) انظر: القرطبي: الموضح 188ظ. وابن الباذش: الإقناع 1/ 559. والمرادي: المفيد 100ظ.
(2) النشر: 1/ 207.
(3) نقلا عن أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 66ظ 67و.
(4) شرح قصيدة أبي مزاحم 12و.
(5) ابن الجزري: النشر 1/ 207.
(6) التمهيد 88ظ.(1/472)
ذكرناه من اقتران التحقيق بالتأني، واقتران الحدر بالسرعة، وما يناسب ذلك من المحافظة على أحكام التركيب، لكن أبا العلاء الهمذاني العطار قدّم لنا ميزانا دقيقا نادرا للفصل بين الحدر والتحقيق، وهو أن «شرط التحقيق أن يزاد على الحدر مثله».
فقد قال وهو يتحدث عن المد بسبب الساكن المشدد: «واختلف أهل الأداء في مقدار هذا المد. فأهل التحقيق يمدونه على قدر أربع ألفات، وبعضهم على قدر ثلاث ألفات. وأهل الحدر يمدونه على قدر ألفين إحداهما حرف المد الساكن، والثانية المدة الفاصلة بين الساكنين. فأما المحققون فعذرهم في تطويل المد في هذا الباب أن الحادرين يمدونه بقدر ألفين، وشرط التحقيق أن يزاد على الحدر مثله، ثم كل من نقص تحقيقه نقص مده» (1).
وهذه القاعدة التي ذكرها أبو العلاء الهمذاني العطار (شرط التحقيق أن يزاد على الحدر مثله) يمكن أن تطبق على المدود بشكل واضح، لكن تطبيقها على الظواهر يحتمل مثل هذه النسبة، ولعل ما كانت الغنة فيه ظاهرة يمكن أن تطبق عليه القاعدة السابقة، على اعتبار أن الغنة تشبه المد في طول الزمن الذي يستغرقه نطق صوتها.
ويؤكد علماء التجويد على أن مراعاة أحكام التجويد مطلوبة في الحدر كما هي مطلوبة في التحقيق، فقال بعضهم: «أحق الناس بالتجويد من راعاه في الحدر» (2). وينقلون أن ابن مجاهد سئل: «من أقرأ الناس؟ فقال: من حقق في الحدر» (3).
وقال المرادي في ذلك المعنى: «والقراء مجمعون على التزام التجويد في جميع أحوال القراءة من ترتيل وحدر وتوسط، وربما توهم قوم أن التجويد إنما يكون مع الترتيل، لاعتقادهم أن التجويد إنما هو الإفراط في المد وإشباع الحركات ونحو ذلك مما لا يتأتى مع الحدر، وليس كما توهموه. وإنما حقيقة تجويد القراءة ما قدمته لك (4). وذلك متأت مع الحدر كما يتأتى مع الترتيل. ولا ينكر أن الترتيل أتم مدا وتحريكا وإسكانا من الآخذ بالحدر، ولكن في جميع ذلك لا بد من إقامة مخارج الحروف وصفاتها» (5).
__________
(1) التمهيد 159و.
(2) العطار: التمهيد 88ظ.
(3) أحمد بن أبي عمر: الإيضاح 67و. والعطار: التمهيد 88ظ.
(4) يشير إلى قوله قبل هذا النص: «إن التجويد هو إعطاء كل حرف حقه من مخرجه وصفته».
(5) المفيد 100ظ.(1/473)
تقسيم الأهوازي لأساليب القراءة:
وقد نقلت عن أبي علي الأهوازي رواية جعل القراءة فيها على عشرة أضرب وهي قوله:
«اعلم أن القرآن يقرأ على عشرة أضرب: بالتحقيق، وباشتقاق التحقيق، وبالتجويد، وبالتمطيط، وبالحدر، وبالترعيد، والترقيص، وبالتطريب، وبالتلحين، وبالتحزين.
قال الأهوازي: سمعت جماعة من شيوخي يقولون: لا يجوز للمقرئ أن يقرئ منها بخمسة أضرب: بالترعيد، والترقيص، والتطريب، والتلحين، والتحزين. وأجازوا الإقراء بالخمسة الباقية، إذ ليس للخمسة أثر، ولا فيه نقل عن أحد من السلف، بل ورد إلينا أن بعض السلف كان يكره القراءة بذلك» (1).
أما الخمسة التي يجوز القراءة بها فقد تحدثنا عن اثنين منها، وهما التحقيق والحدر.
والثلاثة الباقية بين التحقيق والحدر على هذا الترتيب: الحدر، والتجويد، والتمطيط، واشتقاق التحقيق، والتحقيق. ومع أننا نعتقد أن هذا التقسيم لا يخرج عما حددناه من قبل فإن توضيح المصطلحات الثلاثة صار أمرا ضروريا حتى يعرف القارئ حقيقتها.
أما التجويد عند الأهوازي، وهو هنا يستخدمه بمعنى خاص فهو «أن يضيف إلى ما ذكرت في الحدر مراعاة تجويد الإعراب، وإشباع الحركات، وتبيين السواكن وإظهار بيان حركة المتحرك بغير تكلف ولا مبالغة» (2).
«وأما التمطيط فهو أن يضيف إلى ما ذكرت زيادة المد في حروف المد واللين، مع جري النّفس في المد، ولا تدرك حقيقة التمطيط إلا مشافهة» (3).
«وأما اشتقاق التحقيق فهو أن يزيد على ما ذكرت من التجويد روم السكوت على كل ساكن ولا يسكت، فيقع للمستمع أنه يقرأ بالتحقيق، وكذلك جميع ما نذكره من التحقيق فإنه يرومه. وهي تقرأ بعد القراءة بالتحقيق ليعلم أنه قد ضبط ذلك» (4).
وربما كان كلام الأهوازي عن ضروب القراءة الخمسة التي لا تجوز بها القراءة أكثر فائدة للدارس وهو يبحث في تاريخ الظواهر الصوتية، لأنها تشير إلى شيوع ظواهر صوتية معينة في
__________
(1) نقلا عن: القرطبي: الموضح 118و، وابن الباذش: الإقناع 1/ 555. والمرادي: المفيد 117ظ.
(2) المصادر الثلاثة السابقة 188ظ، 1/ 560، 118وعلى الترتيب السابق.
(3) المصادر الثلاثة السابقة 189و، 1/ 560، 118و.
(4) المصادر الثلاثة السابقة 189و، 1/ 561، 118و.(1/474)
عصر معين، قلّ أن يعثر على نصوص تتحدث عنها. وسبق أن ذكرنا الترعيد في محاذير المد.
«وأما الترقيص فهو أن يروم السكوت على السواكن، ثم ينفر مع الحركة كأنه في عدو وهرولة. وربما دخل ذلك على من يطلب التجويد والتحقيق، وهو أدق معرفة من الترعيد».
«وأما التطريب فهو أن يتنغم بالقراءة ويترنم، ويزيد في المد في موضع المد وغيره، وربما أتى في ذلك بما لا يجوز في العربية، وربما دخل ذلك على من يقرأ بالتمطيط».
«وأما التلحين فهو الأصوات المعروفة عند من يغني بالقصائد وإنشاد الشعر، وهي سبعة ألحان
«وقد اختلف السلف في جواز ذلك، فكرهه قوم وأجازه آخرون. فأما الإقراء به فلا يجوز، ولا بالتطريب، ولا بالترقيص، ولا بالتحزين، ولا بالترعيد، على ذلك وجدت علماء القراءة في سائر الأمصار
«وأما التحزين فإنه ترك القارئ طباعه وعادته في الدرس إذا تلا، فيلين الصوت، ويخفض النغمة كأنه ذو خشوع وخضوع، ويجري ذلك مجرى الرياء، لا يؤخذ به، ولا يقرأ على الشيوخ إلا بغيره».
قال الأهوازي: وإنكار شيوخنا الأخذ بما ذكرت عنهم نقل نقلوه، لأنهم متبعون غير مبتدعين» (1).
القراءة بالألحان:
وما ذكره الأهوازي من عدم جواز قراءة القرآن بالتلحين أمر أجمع عليه علماء التجويد بالقراءة، ولم ينفرد به، حتى لقد ألّف أبو البركات محمد بن أحمد بن محمد المعروف بابن الكيال (2). كتابا مستقلا، سماه (الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر) قال في أوله: «وبعد فهذا كتاب مختصر مفيد في تحريم قراءة القرآن المجيد بلحون أهل الفسق والكبائر الداخلين في الوعيد، واستحباب قراءته وفضلها بلحون العرب وأصواتها، بالترتيل والتجويد، وردع قراء المحافل والجنائز الجهلة الطغام، الذين لم يستضيئوا بنور
__________
(1) المصادر الثلاثة السابقة 188و 188ظ، 1/ 558556، 117ظ 118و. على الترتيب السابق.
(2) ذكر البغدادي في إيضاح المكنون (1/ 131) (أنه توفي سنة 929هـ، لكن ذكره مع اختلاف يسير في الاسم).(1/475)
القرآن» (1).
وكان الداني قد قال: «فإذا قرأ القرآن فليستعمل عند قراءته الخشية والتباكي والتفهم لما يتلو، وليزيّنه بصوته الذي خصه الله عز وجل به، ووهبه إياه، وليتجنب عند ذلك الألحان المطرية والأصوات المستعملة والنغمات الملهية، فإنها مكروهة عند أهل العلم حديثا وقديما» (2).
وقال ابن البناء في (باب وصف قراءة الألحان): «وقد كرهها جماعة من العلماء وأئمة القرآن لخروجها عن سنن القراءة المألوفة وشرائطها الموصوفة ومراعاة أصوات مصنوعة وأدوات موضوعة. وهم في الاهتمام بمراعاة شرائط التلاوة أولى، فإن استعملوها أخلّوا بما وضعوه، وإن لم يستعملوها أخلوا بواجب فيها لا بد منه، فكم فيها من قصر لممدود ومد لمقصور وتحريك لساكن وتسكين لمتحرك وهمز لمخفّف ومخفّف لهمز، وإظهار لمدغم ومدغم لمظهر، مع أشياء كثيرة يطول شرحها وتعدادها حققها العلماء وميّزها القراء.
فإن سمعها سامع فأنكر نسب إلى الفظاظة والغلظ، وإن أقرهم على ذلك مع الكراهة فهو إقرار على الخطأ مع العلم به، وإن غلب عليه هواه بتحسين ما يلحنون، وهم في التحقيق عنده يلحنون، فصدف عن الكراهة وأقرّ المكروه عند اللذة الداخلة على سمعه وقلبه فهذا ممن غلب هواه، وكان من الغاوين. والأسلم على جميع الأحوال مجانبتها، كما ذكر العلماء، وحذر منها الأتقياء: سفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وابن المبارك وغيرهم» (3).
وقال أبو العلاء الهمذاني العطار: «وتزيين القراءة هو إعطاء الحروف حقوقها على ما بيناه قبل، لا ما أحدثه العمي المقبريون، والغثر الأعجميون، لأن ذلك يفضي إلى تغيير المقاصد والمعاني ويقرب قراءة الوحي المنزل من ألحان الأغاني» (4).
وينبغي أن يفرق بين القراءة بالألحان وبين الأمر بتحسين الصوت بالتلاوة، فتحسين الصوت مطلوب وردت فيه الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأجمع العلماء على مراعاة ذلك في قراءة القرآن، فقد رووا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: (زينوا القرآن بأصواتكم) وأنه قال: (ليس منا من
__________
(1) الأنجم الزواهر 79ظ.
(2) شرح قصيدة أبي مزاحم 135و.
(3) بيان العيوب 178و.
(4) التمهيد 11ظ.(1/476)
لم يتغن بالقرآن). وتأويل ذلك عند أكثر العلماء أنه تزيين الصوت وتحسينه وتحزينه. وقد قيل لابن أبي مليكة: يا أبا محمد أرأيت إن لم يكن حسن الصوت قال: يحسنه ما استطاع (1).
وطريق تحسين الصوت في القراءة هو مراعاة أحكام التجويد لا مراعاة ما تقتضيه الألحان. وتزيين القراءة هو بإعطاء الحروف حقوقها من المخارج والصفات لا بما أحدثه العمي المقبريون والغثر الأعجميون، كما وصفهم من قبل أبو العلاء الهمذاني العطار رحمه الله تعالى، ورحم من سواه من علماء التجويد، الذين بفضل جهودهم ظل القرآن يقرأ بلحون العرب وأصواتها مميزا عن الألحان المخترعة التي تناسب الغناء، ولا تليق بكلام الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
التنغيم:
يمكن تعريف التنغيم بأنه (ارتفاع الصوت وانخفاضه أثناء الكلام) (2). وتستخدم كلمة (موسيقى الكلام) مكان التنغيم عند بعض الدارسين (3). أو كلمة التلوين الموسيقى عند بعضهم (4). وكل لغة لها، بالنسبة لكل مجموعة من الكلمات أو الجمل، نماذج للتنغيم متميزة تماما إلى الحد الذي يمكّن الشخص من أن يتعرف على اللغة المتكلمة أمامه، حتى إذا لم يميز فعلا واحدة من كلماتها (5).
ودراسة التنغيم جديدة على الدرس الصوتي العربي، نقلها دارسو الأصوات العربية المحدثون عن الدرس الصوتي الغربي، ولا تزال البحوث التطبيقية الخاصة باللغة العربية محدودة. وهناك شكوى من صعوبة البحث عن نظام التنغيم في العربية (6). حتى إن بعضهم قال: «إن تقعيده أمر يكاد يكون مستحيلا»، لأن معظم أمثلة التنغيم في العربية ولهجاتها من النوع غير التمييزي الذي يعكس إما خاصة لهجية أو عادة نطقية للأفراد (7).
__________
(1) انظر: الداني: شرح قصيدة أبي مزاحم 135و، وأحمد بن أبي عمر: الإيضاح 65و. والعطار: التمهيد 46و.
(2) تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص 164.
(3) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية ص 176.
(4) كمال محمد بشر: الأصوات ص 245.
(5) ماريوباي: أسس علم اللغة ص 95.
(6) إبراهيم أنيس: الأصوات العربية ص 176.
(7) أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 315.(1/477)
وتكاد الأمثلة القليلة لتطبيق دراسة التنغيم في اللغة العربية تقصر في استخدام التنغيم للتفريق بين الجملة الخبرية والجملة الاستفهامية، وكذلك الجملة التعجبية، فالتنغيم عنصر أساسي في تمييز هذا النوع من الجمل، على الرغم من وجود عناصر أخرى تركيبية تساعد في الوصول إلى ذلك التمييز (1).
إن من الأمور التي لم يعرفها دارسو الأصوات العربية من المحدثين أن علماء التجويد أدركوا ظاهرة التنغيم وعرفوا أمثلتها، واستخدم بعضهم كلمة النغمة، بينما اكتفى آخرون باستخدام عبارة (رفع الصوت وخفضه) وهو معنى التنغيم عند المحدثين.
ومن أقدم النصوص المتعلقة بظاهرة التنغيم، مما اطلعت عليه من مصادر علم التجويد، ما قاله أبو العلاء الهمذاني العطار وهو يتحدث عن اللحن الخفي: «وأما اللحن الخفي فهو الذي لا يقف على حقيقته إلا نحارير القراء ومشاهير العلماء، وهو على ضربين: أحد هما لا تعرف كيفيته ولا تدرك حقيقته إلا بالمشافهة وبالأخذ من أفواه أولي الضبط والدراية. وذلك نحو مقادير المدات، وحدود الممالات والملطّفات والمشبعات والمختلسات، والفرق بين النفي والإثبات، والخبر والاستفهام، والإظهار والإدغام، والحذف والإتمام، والروم والإشمام، إلى ما سوى ذلك من الأسرار التي لا تتقيد بالخط، واللطائف التي لا تؤخذ إلا من أهل الإتقان والضبط» (2). فقول أبي العلاء: الفرق بين النفي والإثبات، والخبر والاستفهام داخل في موضوع التنغيم، وإن جاءت العبارة عامة موجزة.
وكان محمد بن محمود بن محمد السمرقندي الأصل، الهمذاني المولد، البغدادي الدار، المتوفى سنة 780هـ قد فصّل هذا الموضوع تفصيلا لم يسبق إليه، فيما عرفت من كتب هذا العلم، كما أن أحدا من الذين جاءوا بعده لم يبلغوا مبلغه، ولا أبالغ إن قلت: إن كلام المحدثين في الموضوع لا يصل إليه من حيث القيمة العملية لا التفصيلات النظرية، فيما نجده مكتوبا عن الموضوع بالعربية.
قال السمرقندي في قصيدته (العقد الفريد):
إذا (ما) لنفي أو لجحد فصوتها ار ... فعن وللاستفهام مكّنن وعدّلا
وفي غير اخفض صوتها والذي بما ... شبيه بمعناه فقسه لتفضلا
__________
(1) انظر: كمال محمد بشر: الأصوات ص 246245، وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 315.
(2) التمهيد 119ظ 120و.(1/478)
كهمزة الاستفهام مع من وأن وإن ... وأفعل تفضيل وكيف وهل ولا
قال في الشرح: «مثال ذلك: (ما قلت)، وبرفع الصوت ب (ما) يعلم أنها نافية، وإذا خفض الصوت يعلم أنها خبرية، وإذا جعلها بين بين يعلم أنها استفهامية. وهذه العادة جارية في جميع الكلام وفي جميع الألسن» (1). وهذا كلام غاية في الوضوح والدقة، وهو يتميز بنظرة شمولية نادرة، تتجاوز المثال الجزئي الواحد إلى عموم اللغة، وتتجاوز اللغة الواحدة إلى غيرها من اللغات، وقوله: (وهذه العادة جارية في جميع الكلام، وفي جميع الألسن) دليل أكيد على ما نقول.
وقد طبّق السمرقندي فكرة رفع الصوت وخفضه على عدة صور نطقية متماثلة في البنية ولا يفرق بينها إلا طريقة التنغيم. من ذلك صيغة (أفعل) التي تكون للتفضيل، فقد قال:
«فينبغي أن يفرق بالصوت بين الذي بمعنى التفضيل، والذي ليس بمعنى التفضيل» (2). وكذلك الفرق بين (لا) النافية و (لا) الناهية (3). وكذلك اللام التي لتأكيد الفعل وبعدها همزة وصل مثل (لا تبعتم) تشتبه بلا النافية التي بعدها همزة وصل في التلفظ نحو (لا انفصام لها)، وقال السمرقندي: «والفرق بينهما أنه في نحو (لا انفصام) يكتب بألفين، وفي نحو (لا تبعتم) يكتب بألف واحدة، ويرفع الصوت على (لا) ويخفض على اللام فهذا ما وصل إلينا من الأئمة رواية ودراية ومشافهة وبيانا» (4).
واستخدم المرعشي كلمة (النغمة) نقلا عن النسفي صاحب التفسير المسمى (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) وذلك حيث قال: «قال صاحب المدارك في قوله تعالى: {قََالَ: اللََّهُ عَلى ََ مََا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]: بعضهم يسكت على (قال) لأن المعنى: قال يعقوب، غير أن السكت يفصل بين القول والمقول. وذا لا يجوز، فالأولى أن يفرق بينهما بالصوت، فيقصر بقوة النغمة اسم الله تعالى، انتهى (5). أقول (المرعشي): قوله (فيقصر) معناه: يمنع اسم الله تعالى عن أي يكون فاعلا لقال بقوة النغمة، فيعلم أنه ليس بفاعل لقال» (6).
__________
(1) روح المريد في شرح العقد الفريد 139ظ.
(2) روح المريد 141و 141ظ.
(3) روح المريد 141ظ.
(4) روح المريد 141ظ.
(5) انظر: مدارك التنزيل (طبعة دار الكتاب العربي بيروت) 2/ 230.
(6) جهد المقل 56و.(1/479)
وكذلك استخدم الدركزلي كلمة (نغمات) وذلك حيث قال: «قال بعض المحققين:
ينبغي أن يقرأ القرآن على سبع نغمات: فما جاء من أسمائه تعالى وصفاته فبالتعظيم والتوقير، وما جاء من المفتريات عليه فبالإخفاء والترقيق، وما جاء في ردها فبالإعلان والتفخيم، وما جاء من ذكر الجنة فبالشوق والطرب، وما جاء من ذكر النار والعذاب فبالخوف والرهب، وما جاء من ذكر الأوامر فبالطاعة والرغبة، وما جاء من ذكر المناهي فبالإبانة والرهبة. انتهى» (1).
ولا شك في أن أكثر هذه الأقسام يتضح فيها إمكانية تنويع النغمة عند نطقها، لكن بعضا منها لا يتبين فيه ذلك.
ومهما تكن هذه الملاحظات التي أبداها علماء التجويد في موضوع التنغيم موجزة وبحاجة إلى التدقيق والتوضيح فإنها تبدو أسعد حظا مما كتبه دارسو الأصوات العربية في كثير من الجوانب. لا سيما ما كتبه السمرقندي الذي له كتاب اسمه (نجوم البيان في الوقوف، وماءات القرآن) ذكره في (روح المريد في شرح العقد الفريد) أثناء كلامه عن الماءات (2). لا أستبعد أن يكون فصّل فيه فكرته عن رفع الصوت وخفضه التي ذكرها في (روح المريد).
* * * __________
(1) خلاصة العجالة 213و.
(2) روح المريد 140و.(1/480)
ملحق رقم (3) عيوب النطق
يعجز بعض الناس عن نطق صوت معين أو أكثر من أصوات اللغة، فيبدل الصوت الذي يعجز عنه بصوت آخر، وتتفاوت درجات العجز، ويظل هذا العجز مصاحبا للإنسان، وقد ينفع في تجاوزه العلاج والمران. وتدرس هذه الظاهرة في إطار ما يسمى بأمراض الكلام أو عيوب النطق.
وعلى الرغم من أن كثيرا من الدارسين المعاصرين لا يعدون البحث في عيوب النطق وعلاجها من اختصاص علماء الأصوات، إنما يدخل في أبحاث علم النفس وحقل الطب، إلا أن الدراسات الصوتية تظل ضرورية لهذا النوع من البحث، لأن تشخيص عيوب النطق ومحاولة علاجها يتطلب معرفة تامة بطبيعة الصوت اللغوي وكيفية إنتاجه وفهم خواصه، مثل ما يتطلب معرفة بوسائل العلاج النفسي والطبي على حد سواء (1).
وقد كان يظن أن اللغة العربية لم تعرف هذا اللون من البحث ولا التأليف فيه حتى الوقت الحاضر، فقد قال أحد المشتغلين في هذا الميدان: «عند ما تقلّب الطرف في المكتبة العربية يلفت نظرك أمر له شأنه وخطورته، وترى في جانب من جوانبها ثغرة تتطلع إلى من يسدها، وفراغا ينتظر من يملؤه، وأحسسنا جميعا بالحاجة إلى كتاب يتناول عيوب النطق والكلام» (2).
وظهر لي بعد تتبع كتب علم التجويد ودراستها أن علماء التجويد كانوا قد درسوا موضوع عيوب النطق وكيفية علاجها، وألفوا في ذلك كتبا مستقلة منذ ما يقرب من ألف سنة، إلا أن جهودهم في هذا المجال لم تكن معروفة لدى المعاصرين، مثل ما كانت جهودهم في
__________
(1) انظر: عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص 24. وكمال محمد بشر: الأصوات ص 22هامش 1.
وأحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي ص 353.
(2) مصطفى فهمي: أمراض الكلام ص 3. وانظر أيضا مقدمة تحقيق كتاب (سر صناعة الإعراب) لابن جني ص 19.(1/481)
دراسة موضوع علم الأصوات بشكل عام مهملة ومجهولة أيضا.
وقد كتب عبد الوهاب القرطبي (ت 462هـ) فصلا موجزا عن عيوب النطق في آخر كتابه (الموضح في التجويد) (1). وألف ابن البناء (وهو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الله البغدادي، المعروف بابن البناء ت 471هـ) كتابا مستقلا في عيوب النطق هو كتاب (بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء، وإيضاح الأدوات التي بني عليها الإقراء) (2). ويبدو أن كتاب (بيان العيوب) لم يكن الكتاب الوحيد المؤلف في هذا الموضوع قديما (3). فقد قال ابن البناء، بعد أن ذكر جملة من عيوب الأصوات: «وهذا وما أشبهه من المعايب كرهها العلماء بالقراءة وذوو المعرفة بالأخذ، وذكروا فيها التصانيف، وناهيك بصاحبنا أبي الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المنادي، رحمه الله، فإنه أخذ من ذلك الحظ الأوفر والنصيب الأكبر» (4).
وابن المنادي هذا هو أحد أعلام بغداد في القرن الرابع الهجري (ت 336هـ). قال عنه ابن النديم: «وله مائة ونيف وعشرون كتابا، في علوم متفرقة» (5). ولكن لم يصل إلينا من تلك الكتب سوى كتاب واحد، هو كتاب (متشابه القرآن) (6). ونرجح اعتمادا على قول ابن البناء السابق أن من بين كتب ابن المنادي المفقود ما عالج فيه موضوع (عيوب النطق) لا سيما أن ابن البناء نقل مادة (باب وصف العوارض باللسان والحيلة في إذهاب بعضها من الإنسان) عن ابن المنادي) (7).
ويمكن أن نصنف الظواهر التي درسها علماء التجويد في باب عيوب النطق إلى الأصناف الآتية:
__________
(1) الموضح 189ظ 190ظ.
(2) توجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل. ضمن مجموع رقمه (5/ 20 مخطوطات المدرسة الإسلامية) وتقع في عشر ورقات.
(3) هناك كتاب (اللثغة) لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى سنة 252هـ. توجد منه نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، تحت رقم 163فلسفة ومنطق، وقد ورد وصف لمحتوياته في كتاب (في البحث الصوتي عند العرب) للدكتور خليل إبراهيم العطية. ص 9694.
(4) بيان العيوب 176و.
(5) الفهرست ص 41.
(6) انظر: فوائد سزكين: تاريخ التراث العربي 1/ 213.
(7) بيان العيوب 181ظ.(1/482)
1 - أمراض الكلام:
وهي الناشئة عن خلل في آلة النطق، وذلك مثل: التّمتمة وهي الترديد في التاء، والفأفأة وهي الترديد في الفاء، والحبسة وهي تعذر الكلام عند إرادته، واللّثغة أن تعدل بحرف إلى حرف، والغنّة أن تشرب الحرف صوت الخيشوم، والخنّة أشد منها (1).
2 - عيوب الأصوات:
وهي العيوب التي يقع فيها المتكلم لا بسبب خلل في آلة النطق، وإنما بسبب عادات نطقية منحرفة للمتكلم يسهل علاجها بالتنبيه عليها، وذلك مثل: الترعيد الذي ذكرناه في محاذير المدود، ومثل اللّكز وهو خاص بالهمز وهو «دفع الحرف بالنفس عن شدة إخراج له به» (2). وقد قال علماء التجويد: «إن الهمزة يجب أن تخرج إخراجا سهلا على تؤدة من غير لكز ولا اعتماد عليها» (3).
3 - عيوب الجوارح والهيئات:
وذلك مثل تحريك الرأس عن يمين وشمال، كالالتفات، أو تحريكه بزعزعة من سفل إلى علو أو علو إلى سفل، كالإيماء بنعم ولا في المخاطبات. ومنه عبوس الوجه وتقطيبه ونحو ذلك من هيئات الجوارح (4).
4 - انحرافات النطق اللهجية:
وذلك مثل الكشكشة، والتّلتلة، والطمطمانيّة، والعنعنة (5).
ولم يكتف علماء التجويد الذين درسوا موضوع أمراض الكلام الناشئة عن نقص آلة النطق بوصف العيوب، بل حاولوا علاجها. وقد عقد ابن البناء بابا في كتابه (بيان العيوب) عن (وصف العوارض باللسان والحيلة في إذهاب بعضها من الإنسان) نقله عن ابن المنادي. وهذا مقطع مما ورد في ذلك الباب: «فإن كان القارئ أرتّا، وهو الذي يدغم حرفا في حرف، فإنه يجب أن يصرّ حين القطع ليتمكن بمدافعة النفس علوا، ثم يأخذ في قراءته وليعل من صوته
__________
(1) انظر: القرطبي: الموضح 189ظ. وابن البناء: بيان العيوب 182ظ.
(2) ابن البناء: بيان العيوب 175و.
(3) العطار: التمهيد 151ظ. وانظر: السعيدي 52و.
(4) ابن البناء: بيان العيوب 174ظ 175و.
(5) القرطبي: الموضح 190و.(1/483)
قليلا في تعاهد حسن وإقدام على درسه. وإن كان تمتاما، وهو الذي يكرر التاء فإنه يستعمل مثل ما ذكرناه من الأرتّ وزيادة بحسب قوة العارض من كل ما يدفعه به، فيشدد صوته، ويمد نفسه، ويصلب فكيه» (1).
وختم ابن المنادي كلامه في معالجة أمراض الكلام بقوله: «فإن جاهد ذلك بطول السعي وتكرير التثقيل فانتفع به وإلا فلا بد له من الدنو إلى الصواب فإن لم يغلب شهوته لدفع ذلك عنه فليخفض صوته بالحرف المعلول، وليجهر بما سواه، فإن تجويده للعليل زيادة في علته، وإن كان كذلك فهمسه أصلح من جهره» (2).
ولا يقلل من قيمة كلام التجويد في موضوع أمراض الكلام وعيوب النطق أن دراسة هذا الموضوع تقدمت في عصرنا كثيرا، فإن عناية علماء التجويد بهذا الموضوع دليل على بعد نظرهم وعمق تفكيرهم. ويكفي أنهم درسوا هذا الموضوع منذ عشرة قرون (3)، بينما لم يعرف العالم هذا النوع من الدراسة إلا منذ وقت قريب.
* * * __________
(1) بيان العيوب 181ظ 182و.
(2) بيان العيوب 182ظ.
(3) كان الجاحظ (عمرو بن بحرت 255هـ) قد ذكر بعض عيوب اللفظ في كتابه (البيان والتبيين)، انظر: 1/ 12و 34و 39و 73من الطبعة التي حققها عبد السلام هارون، القاهرة 1948م. كذلك فعل المبرد (محمد بن يزيد ت 285هـ) في كتابه (الكامل في اللغة والأدب) انظر 2/ 582578من الطبعة التي حققها د. زكي مبارك، طبعة الحلبي، القاهرة 1937م. وذكر ثابت بن أبي ثابت في كتابه (خلق الإنسان) بعض تلك العيوب (انظر ص 186182).(1/484)
الخاتمة
استوفيت في الفصول الثلاثة التي يتألف منها هذا البحث الكلام عن علم التجويد من جانبيه التاريخي والموضوعي، فقد تتبعت في الفصل الأول تاريخ علم التجويد نشأة وتأليفا ومنهجا، وتناولت في الفصل الثاني جهود علماء التجويد في دراسة الأصوات من حيث كيفية نطقها وتحديد مخارجها وصفاتها. ثم تناولت في الفصل الثالث جهودهم في دراسة الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب، وهذه هي الموضوعات الرئيسية لعلم الأصوات النطقي، قد أشبعها علماء التجويد بحثا وتأليفا.
إن أهم نتائج هذا البحث من الناحية اللغوية الكشف عن علم التجويد مصدرا أصيلا من مصادر الدراسة الصوتية العربية، وهذه النتيجة ليست مبنية على أساس كثرة الكتب المؤلفة في علم التجويد، ولا على أساس المادة الغزيرة التي تتضمنها تلك الكتب فحسب، وإنما على الإنجازات القيمة التي حققها علماء التجويد في مجال دراسة الأصوات أيضا. وإذا كان من غير الممكن أن نذكر كل تلك الإنجازات على نحو مفصل في الخاتمة فإن تلخيص أهمها أمر يكفي في تأكيد النتيجة المذكورة.
في الفصل الأول وردت جملة حقائق تتعلق بتاريخ علم التجويد وكتبه ومنهج علماء التجويد في دراسة الأصوات اللغوية. وقد تبين في المبحث الأول أن نشأة علم التجويد ترجع إلى أوائل القرن الرابع الهجري، حين ظهرت قصيدة أبي مزاحم الخاقاني (ت 325هـ) التي قالها في حسن أداء القرآن، كما ظهر أول مرة مصطلح (التجويد) حين استخدمه ابن مجاهد (ت 324هـ)، ولم يحل القرن الخامس حتى كانت أكبر كتب علم التجويد قد ظهرت في مشرق العالم الإسلامي ومغربه. مثل (الرعاية) لمكي، و (التحديد) للداني، و (الموضح) للقرطبي، و (التحديد) لابن البناء.
وفي المبحث الثاني الذي تتبعت فيه الكتب المؤلفة في علم التجويد تجلت كثرة تلك المؤلفات وتنوع موضوعاتها وطريقة التأليف فيها، نظما ونثرا، عامة وخاصة. وهذا أمر له دلالة كبيرة في الدراسة الصوتية العربية، إذ أنه يعني وجود علم موضوعه دراسة الأصوات له
كتبه المستقلة الخاصة به.(1/485)
وفي المبحث الثاني الذي تتبعت فيه الكتب المؤلفة في علم التجويد تجلت كثرة تلك المؤلفات وتنوع موضوعاتها وطريقة التأليف فيها، نظما ونثرا، عامة وخاصة. وهذا أمر له دلالة كبيرة في الدراسة الصوتية العربية، إذ أنه يعني وجود علم موضوعه دراسة الأصوات له
كتبه المستقلة الخاصة به.
وفي المبحث الثالث تبين الأساس الذي قامت عليه الدراسة الصوتية عند علماء التجويد، وهو اجتناب اللحن الخفي، وكان ابن مجاهد قد قسم اللحن قسمين: اللحن الجلي واللحن الخفي. فالجلي هو تغيير حركات الإعراب، والخفي هو ترك إعطاء الحرف حقه من مخرجه وصفته، وقد صارت قضايا اللحن الجلي ميدان دراسة علماء النحو، وقضايا اللحن الخفي ميدان دراسة علماء التجويد. وقد اتضح من هذا المبحث أن الدراسة الصوتية عند علماء التجويد ليست وسيلة لدراسة معجمية أو صرفية، كما هو الحال عند علماء اللغة والنحو، بل كانت عنده لأغراض صوتية خالصة.
وفي المبحث الرابع بيان لمنهج علماء التجويد في دراسة الأصوات، هو منهج يتميز بأنه شامل لكل جوانب الدرس الصوتي، ويتمثل ذلك الشمول بقول الحسن بن قاسم المرادي (ت 749هـ): «إن تجويد القراءة يتوقف على أربعة أمور:
أحدهما: معرفة مخارج الحروف.
والثاني: معرفة صفاتها.
والثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام.
والرابع: رياضة اللسان بذلك وكثرة التكرار».
وكان علماء التجويد قد أفاضوا في بحث هذه الأمور الأربعة، لكن المشتغلين بدراسة الأصوات العربية من المحدثين لم يتمكنوا من إيفاء هذه الأمور حقها من البحث، ولا سيما الأمر الثالث الذي أهمل أكثرهم دراسته.
وقد تميز منهج علماء التجويد أيضا بأنه منهج صوتي خالص لم تختلط مباحث علم الأصوات فيه بمباحث علوم لغوية أخرى.
واتضح في المبحث الخامس أن علم التجويد علم لغوي محض، وهو يقابل ما يسمى في زماننا بعلم الأصوات اللغوية، وكل ما في الأمر أن ميدان علم التجويد لم يتجاوز نص القرآن الكريم، وكان ارتباط علم التجويد بالقرآن الكريم قد أعطى هذا العلم حياة متجددة نشطة.
وقد اتضح لنا في الفصل الثاني أن علماء التجويد كانوا مدركين لطبيعة الصوت الإنساني، وكيفية إنتاجه، وأسس تصنيفه، وخصائص كل صنف.
فتبين في المبحث الأول أن علماء التجويد كانوا على معرفة تامة بأعضاء آلة النطق ودور كل عضو في إنتاج الأصوات، وقد عرف بعضهم الحنجرة، وإن لم تصل تلك المعرفة إلى حد إدراك دور الوترين الصوتيين في إنتاج الأصوات، وهو أمر لا يغض من قيمة كلامهم في الموضوع، بل إننا نلاحظ في كلامهم عن أعضاء آلة النطق ميزات جديدة قياسا على ما نجده عند علماء العربية، وتتلخص تلك الميزات في:(1/486)
وقد اتضح لنا في الفصل الثاني أن علماء التجويد كانوا مدركين لطبيعة الصوت الإنساني، وكيفية إنتاجه، وأسس تصنيفه، وخصائص كل صنف.
فتبين في المبحث الأول أن علماء التجويد كانوا على معرفة تامة بأعضاء آلة النطق ودور كل عضو في إنتاج الأصوات، وقد عرف بعضهم الحنجرة، وإن لم تصل تلك المعرفة إلى حد إدراك دور الوترين الصوتيين في إنتاج الأصوات، وهو أمر لا يغض من قيمة كلامهم في الموضوع، بل إننا نلاحظ في كلامهم عن أعضاء آلة النطق ميزات جديدة قياسا على ما نجده عند علماء العربية، وتتلخص تلك الميزات في:
1 - أنهم وصفوا أعضاء آلة النطق ولم يكتفوا بذكر أسمائها.
2 - استعان بعضهم بعلم التشريح في وصفها.
3 - خصص بعضهم فصلا للحديث عنها.
4 - استعان عدد منهم بالرسم التوضيحي لتوزيع مخارج الحروف على أعضاء آلة النطق.
وفي المبحث الثاني تبين أن علماء التجويد عرفوا كيفية إنتاج الأصوات اللغوية بكل تفصيلاتها، فقد عرفوا أن الهواء الخارج من الرئتين هو مادة الصوت الإنساني، وأدرك بعضهم أثر الوترين الصوتيين فيه، وقد سمى بعضهم النغمة التي يصدرها الوتران مع بعض الأصوات (صوت الصدر) اقتداء سيبويه، وسماها ابن البناء (ت 471هـ) (ترديد الحنجرة)، وسماها طاش كبري زاده (ت 968هـ) ومحمد المرعشي (ت 1150هـ) باسم (الصوت القوي) و (الصوت الجهري). وقد سموا الصوت الذي تصاحب إنتاجه تلك النغمة مجهورا، والصوت الذي لا تصاحب إنتاجه تلك النغمة مهموسا. وكان علماء العربية قد سبقوا إلى استخدام هذين المصطلحين.
وعرف علماء التجويد أن الذي ميز بين الأصوات بعد ذلك هو اختلاف مواضع القطع، أي اختلاف المخارج، ثم اختلاف الكيفيات (الصفات) المصاحبة لحدوث الصوت في مخرجه من جهر وهمس، وشدة ورخاوة وتوسط، وإطباق وانفتاح.
وفي المبحث الثالث تبين كيف استخدم علماء التجويد مصطلح (الحروف الجامدة) و (الحروف الذائبة) للتعبير عن صنفي الأصوات اللذين اضطرب المشتغلون بدراسة الأصوات العربية من المحدثين استخدام مشي شيء مصطلحين مناسبين للتعبير عنهما، فاستخدم بعضهم (الحرف والحركة) وبعضهم (الساكن والعلة) وبعضهم (الصامت والمصوت)، ولم يجمعوا على استخدام شيء معين منها، وذلك لعدم كفايتها في التعبير عن المعنى الذي يريدون التعبير عنه. وقد جاء استخدام علماء التجويد لمصطلح (الجامد والذائب) في غاية الدقة والوضوح في التعبير عن المقصود، وأرجو أن يشيع بعد الآن استخدام هذين المصطلحين، فلعل دارسي
الأصوات العربية المحدثين يجدون فيهما المصطلحين اللذين يؤديان المعنى المقصود بدقة كاملة.(1/487)
وفي المبحث الثالث تبين كيف استخدم علماء التجويد مصطلح (الحروف الجامدة) و (الحروف الذائبة) للتعبير عن صنفي الأصوات اللذين اضطرب المشتغلون بدراسة الأصوات العربية من المحدثين استخدام مشي شيء مصطلحين مناسبين للتعبير عنهما، فاستخدم بعضهم (الحرف والحركة) وبعضهم (الساكن والعلة) وبعضهم (الصامت والمصوت)، ولم يجمعوا على استخدام شيء معين منها، وذلك لعدم كفايتها في التعبير عن المعنى الذي يريدون التعبير عنه. وقد جاء استخدام علماء التجويد لمصطلح (الجامد والذائب) في غاية الدقة والوضوح في التعبير عن المقصود، وأرجو أن يشيع بعد الآن استخدام هذين المصطلحين، فلعل دارسي
الأصوات العربية المحدثين يجدون فيهما المصطلحين اللذين يؤديان المعنى المقصود بدقة كاملة.
وفي المبحث الرابع اتضحت طريقة علماء التجويد في تحديد مخارج الحروف الجامدة، وهم في ذلك يسيرون على خطى سيبويه بشكل عام، مع بعض الإضافات التي توضح كلام سيبويه، أو تكمله، أو تعدله على نحو مذهب بعضهم في جعل الحروف العربية الأصلية واحدا وثلاثين حرفا بدل التسعة والعشرين، وذلك بإضافة ياء المد وواو المد على التسعة والعشرين، وهذا مذهب يؤيده الدرس الصوتي الحديث. وقد أفرد علماء التجويد حروف المد الثلاثة وخصصوا لها مخرجا مستقلا، ولم يعدّ أكثرهم الألف من حروف الحلق، وميزوا بين الياء والواو الجامدتين، وبينهما حينما تكونان ذائبتين (أي حرفي مد).
ولا يعني التزام علماء التجويد بطريقة سيبويه في ترتيب المخارج أن ذلك ناتج عن قصور منهم في تحديد المخارج، بل لأن طريقة سيبويه في ترتيب المخارج كانت في غاية الدقة والضبط وهذه حقيقة اعترف بها المحدثون بكل صراحة، ويؤيد هذا أن علماء التجويد حين رأوا أن تحديد سيبويه لمخارج حروف المد غير منضبط لم يترددوا في الخروج عليه.
ونجد في المبحث الخامس الذي بينت فيه تصنيف الأصوات الجامدة بحسب الصفات طريقة جديدة في دراسة صفات الحروف، وذلك بتقسيمها إلى صفات مميّزة مثل الجهر والهمس، والشدة والرخاوة، والإطباق والانفتاح وإلى صفات محسّنة مثل القلقلة، والغنة، والصفير، والتكرير، والتفشي، والاستطالة، والانحراف، وهذه الطريقة تدل على إدراك عميق لطبيعة تلك الصفات وأثرها في تنوع الصوت الإنساني. وختمت هذا المبحث بتوضيح عناية علماء التجويد بوصف الأصوات وتحديد صفات كل صوت والطريقة المثلى لذلك.
وقد تحدثت في هذا المبحث عن بعض المشكلات الصوتية التي أثارها وصف علماء العربية وعلماء التجويد لكل من الهمزة والقاف والطاء بأنها أصوات مجهورة، وهي الآن ليست كذلك. فبينت موقف علماء التجويد من هذه القضية. وقد اتضح لي أن بعض علماء التجويد كان مدركا للتحول الذي أصاب صوت الطاء حتى صار صوتا مهموسا.
وكانت مشاركة علماء التجويد في دراسة مشكلة الضاد العربية مشاركة كبيرة، وقد اتبعوا في معالجة هذه المشكلة منهجا صوتيا، بخلاف اللغويين والنحاة الذين كانت عنايتهم متجهة نحو إحصاء الألفاظ التي يرد فيها الضاد والظاء. وألف علماء التجويد في هذا الموضوع عدة كتب تتسم بالنظرة الدقيقة لجوانب هذه المشكلة، على نحو ما لاحظنا في كتاب (بغية المرتاد
لتصحيح الضاد) لعلي بن محمد المعروف بابن غانم المقدسي (ت 1004هـ) وكتاب (كيفية أداء الضاد) لمحمد المرعشي (ت 1150هـ).(1/488)
وكانت مشاركة علماء التجويد في دراسة مشكلة الضاد العربية مشاركة كبيرة، وقد اتبعوا في معالجة هذه المشكلة منهجا صوتيا، بخلاف اللغويين والنحاة الذين كانت عنايتهم متجهة نحو إحصاء الألفاظ التي يرد فيها الضاد والظاء. وألف علماء التجويد في هذا الموضوع عدة كتب تتسم بالنظرة الدقيقة لجوانب هذه المشكلة، على نحو ما لاحظنا في كتاب (بغية المرتاد
لتصحيح الضاد) لعلي بن محمد المعروف بابن غانم المقدسي (ت 1004هـ) وكتاب (كيفية أداء الضاد) لمحمد المرعشي (ت 1150هـ).
وفي المبحث السادس يتضح مقدار عناية علماء التجويد بدراسة الأصوات الذائبة (حروف المد والحركات) سواء أكان ذلك من حيث تخصيص فصول مستقلة في كتب علم التجويد لبحثها، أم من حيث طريقة دراستها. وقد تمكن علماء التجويد من إدراك ما تتصف به الأصوات الذائبة من اتساع مخارجها وحرية مرور الهواء في أثناء النطق بها. وهي تكوّن عندهم مجموعة واحدة من الأصوات تتألف من حروف المد الثلاثة: الألف، والواو والياء إذا كانت حركة ما قبلهما من جنسهما، إضافة إلى الحركات الثلاث: الفتحة والضمة والكسرة.
ومذهب جمهور علماء التجويد أن الفتحة من الألف، والكسرة من الياء والضمة من الواو.
وقد أدرك عدد منهم العلاقة بين الحركة والحرف الذي هي منه، فقال بعضهم الحركة ثلث الحرف، ومذهب الأكثرين أن الحركة نصف الحرف، وأن الألف مركب من فتحتين، والياء مركب من كسرتين، والواو مركب من ضمتين. وقد حددوا مخارج حروف المد وربطوا بين مخارجها ومخارج الحركات، وميزوا بين قيمتين صوتيتين للواو والياء، وذلك حين تكونان حرفي لين مرة (أي جامدتين)، وحين تكونان حرفي مد مرة أخرى (أي ذائبتين).
ولم يستطع دارسو الأصوات العربية المحدثون أن يقدموا في دراستهم للأصوات الذائبة (حروف المد والحركات) شيئا متميزا على ما قدمه علماء التجويد. وقد تبين لي أن سبب ما يذكره بعض المحدثين من أن علماء العربية أهملوا دراسة موضوع الأصوات الذائبة أو أنهم قصروا فيه هو عدم تعمقهم في دراسة كتب علماء العربية وعدم اطلاعهم على كتب علم التجويد.
وكانت دراسة الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب، وما يلحق الأصوات من تغيير بسبب المجاورة من الأمور التي تميز ببحثها علماء التجويد، فكانت معالجتهم لهذا الموضوع أعمق وأوسع من معالجة علماء العربية، ولم يبحث هذا الموضوع إلا عدد قليل من الدارسين المحدثين، على نحو ما بيّنا في الفصل الثالث.
كان علماء التجويد على معرفة تامة بميل الأصوات نحو التماثل عند ما تتجاوز في الكلام المتصل على ما تبين في المبحث الأول، لأن المجاورة لها تأثير، كما يقول عبد الدائم الأزهري (ت 870هـ) وأدرك علماء التجويد أن ما يحصل للأصوات عند المجاورة من تغيير هو من باب الاقتصاد بالمجهود والميل نحو الأسهل والأخف في النطق.
ولم يكتف علماء التجويد بذلك بل نجدهم يتعمقون في دراسة ظواهر التأثر الخاصة بالأصوات الجامدة فقسموا التأثر إلى ما يسمى بالمقبل والمدبر والمتبادل، والإدغام إلى صغير وكبير، وناقص وتام، وإلى إدغام متماثلين ومتجانسين ومتقاربين، وإلى قوي وضعيف، وقد تميز بعض علماء التجويد بالكلام عن الشوائب الصوتية التي تلحق بعض الحروف بسبب المجاورة، مثل الجهر والهمس، والإطباق والانفتاح والأنفية. ولم تغادر هذه التقسيمات شيئا من الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب إلا شملته.(1/489)
كان علماء التجويد على معرفة تامة بميل الأصوات نحو التماثل عند ما تتجاوز في الكلام المتصل على ما تبين في المبحث الأول، لأن المجاورة لها تأثير، كما يقول عبد الدائم الأزهري (ت 870هـ) وأدرك علماء التجويد أن ما يحصل للأصوات عند المجاورة من تغيير هو من باب الاقتصاد بالمجهود والميل نحو الأسهل والأخف في النطق.
ولم يكتف علماء التجويد بذلك بل نجدهم يتعمقون في دراسة ظواهر التأثر الخاصة بالأصوات الجامدة فقسموا التأثر إلى ما يسمى بالمقبل والمدبر والمتبادل، والإدغام إلى صغير وكبير، وناقص وتام، وإلى إدغام متماثلين ومتجانسين ومتقاربين، وإلى قوي وضعيف، وقد تميز بعض علماء التجويد بالكلام عن الشوائب الصوتية التي تلحق بعض الحروف بسبب المجاورة، مثل الجهر والهمس، والإطباق والانفتاح والأنفية. ولم تغادر هذه التقسيمات شيئا من الظواهر الصوتية الناشئة عن التركيب إلا شملته.
ويتميز كلام علماء التجويد عن الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الجامدة بالشمول والعمق، فلم يدعوا قضية إلا درسوها وتعمقوا في فهمها وتفسيرها، وهو أمر قصرت فيه دراسات المحدثين كثيرا، وكتب علم التجويد يمكن أن تسد ذلك النقص الكبير في الدرس الصوتي العربي الحديث، كما وضحنا ذلك في المبحث الثاني.
ولم تقف عناية علماء التجويد بالظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الجامدة بل تجاوزت ذلك إلى دراسة ما يتعلق بالأصوات الذائبة. فقد تحدثوا عن الظواهر النوعية والظواهر الكمية حديثا مفصلا، تجاوز الظواهر العامة الواضحة إلى معالجة قضايا تتميز بالدقة والعمق مثل تحديدهم العيوب الصوتية التي يمكن أن تلحق أصوات المد، على نحو ما ورد في المبحث الثالث.
وإذا ضممنا ما قاله علماء التجويد عن الظواهر الصوتية التأثرية الخاصة بالأصوات الذائبة إلى ما قالوه عن كيفية إنتاج هذه الأصوات وأنواعها ومخارجها وصفاتها والعلاقة بينها تكونت لدينا دراسة متكاملة عن الأصوات الذائبة، لا يزال الدرس الصوتي العربي الحديث يفتقر إليها، على الرغم من أن كثيرا من الدارسين المحدثين يأخذون على علماء العربية عدم عنايتهم بهذا النوع من الأصوات.
أما الملحقات فالأول منها يؤكد على أن القرن الرابع الهجري شهد دراسات صوتية كثيرة قام بها كبار علماء القراءة، ولا يتضح الآن هل قاموا بتلك الدراسات في إطار كتب القراءات أو في كتب خاصة بعلم التجويد، وذلك لاندثار أكثر كتب تلك الحقبة.
وفي الملحق الثاني كان حديث علماء التجويد عن أساليب القراءة شديد الصلة بعلم التجويد، لأن بعض الأحكام التجويدية تتغير تبعا لطريقة الأداء أو أسلوب القراءة من حدر وترتيل وتحقيق. ويتصل بهذا الموضوع قضية القراءة بالألحان المخترعة المعروفة لدى أصحاب الموسيقى، وقد أنكر علماء التجويد هذا النوع من القراءة، وفرقوا بين القراءة بتلك
الألحان وبين الأمر بتحسين الصوت بالقراءة والتغني بالقرآن على نحو لا يخرج عن طريقة العرب المعهودة في النطق التي تكفل علم التجويد ببيانها. ومن الموضوعات الدقيقة التي ألمح إليها علماء التجويد وتتعلق بالأداء موضوع التنغيم، الذي لا تزال مباحثه في اللغة العربية محدودة، وقد وردت إشارات قيمة عنه لدى بعض علماء التجويد.(1/490)
وفي الملحق الثاني كان حديث علماء التجويد عن أساليب القراءة شديد الصلة بعلم التجويد، لأن بعض الأحكام التجويدية تتغير تبعا لطريقة الأداء أو أسلوب القراءة من حدر وترتيل وتحقيق. ويتصل بهذا الموضوع قضية القراءة بالألحان المخترعة المعروفة لدى أصحاب الموسيقى، وقد أنكر علماء التجويد هذا النوع من القراءة، وفرقوا بين القراءة بتلك
الألحان وبين الأمر بتحسين الصوت بالقراءة والتغني بالقرآن على نحو لا يخرج عن طريقة العرب المعهودة في النطق التي تكفل علم التجويد ببيانها. ومن الموضوعات الدقيقة التي ألمح إليها علماء التجويد وتتعلق بالأداء موضوع التنغيم، الذي لا تزال مباحثه في اللغة العربية محدودة، وقد وردت إشارات قيمة عنه لدى بعض علماء التجويد.
وفي الملحق الثالث تبينت لنا مشاركة علماء التجويد الواسعة في دراسة موضوع عيوب النطق أو أمراض الكلام. وقد بلغ اهتمام بعض علماء التجويد بهذا الموضوع أن أفرده بتأليف مستقل، كما فعل ابن البناء (ت 471هـ) في كتابه (بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء).
وهو عمل كان مجهولا لدى المحدثين حتى زعم بعضهم أن المكتبة العربية لم تعرف التأليف في هذا الموضوع إلا في العصر الحديث.
وقد ظهرت لي من خلال هذا البحث جملة حقائق تتصل بطبيعة الدرس الصوتي في كتب علم التجويد، وبموقف المحدثين من تلك الكتب، وبمستقبل الدراسات الصوتية العربية، منها:
1 - إن علم الأصوات العربي القديم يتمثل بكتب علم التجويد أكثر مما يتمثل بالنصوص المبثوثة في كتب النحو والصرف والمعاجم، وذلك لأن كتب علم التجويد كتب مخصصة لدراسة الأصوات، دون غيرها، وربط علم الأصوات العربي بكتب التجويد، مع عدم إهمال دراسات علماء العربية، سوف يكون أمرا مفيدا.
2 - إن الإهمال التام والتجاهل الكامل لكتب علم التجويد من قبل المشتغلين بدراسة الأصوات العربية يناقض مقتضى المنهج العلمي الصحيح، ففي الوقت الذي يكثرون فيه من ترديد أقوال الخليل وسيبويه وابن جني لا نجد أحدا منهم يعنى بالمادة الصوتية التي تضمنتها كتب علم التجويد. وإذا كان لهم عذر في أن أهم كتب علم التجويد لا يزال مخطوطا فإني أرجو أن يكون هذا البحث كافيا لإقناعهم بضرورة الالتفات إلى تلك الكتب والاحتفال بها دراسة وتحقيقا.
3 - إن محافظة اللغة العربية على نظامها الصوتي منذ نزول القرآن الكريم حتى عصرنا أمر يعد من الحالات الفريدة التي يحق للأمة أن تعتز بها، وتعود هذه الظاهرة في جملتها إلى ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم، وقد أسهمت جهود علماء التجويد في استمرار النطق الفصيح في ألسنة الناطقين بالعربية، وكانت كتب علم التجويد تقدم الإطار النظري الذي ظل يحرس تلك الجهود ويوجهها.
ولا أشك في أن إهمال تدريس مبادئ علم التجويد وترك العناية بالجانب العملي منها يعد من أسباب ضعف الملكة اللغوية لدى عامة المثقفين في بلادنا، ويتجلى ذلك الضعف في تشوّه صورة النطق الفصيح على ألسنتهم، ومما يزيد الأمر سوءا عدم ضبط القواعد النحوية.(1/491)
3 - إن محافظة اللغة العربية على نظامها الصوتي منذ نزول القرآن الكريم حتى عصرنا أمر يعد من الحالات الفريدة التي يحق للأمة أن تعتز بها، وتعود هذه الظاهرة في جملتها إلى ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم، وقد أسهمت جهود علماء التجويد في استمرار النطق الفصيح في ألسنة الناطقين بالعربية، وكانت كتب علم التجويد تقدم الإطار النظري الذي ظل يحرس تلك الجهود ويوجهها.
ولا أشك في أن إهمال تدريس مبادئ علم التجويد وترك العناية بالجانب العملي منها يعد من أسباب ضعف الملكة اللغوية لدى عامة المثقفين في بلادنا، ويتجلى ذلك الضعف في تشوّه صورة النطق الفصيح على ألسنتهم، ومما يزيد الأمر سوءا عدم ضبط القواعد النحوية.
وما قامت به وزارة التربية في السنوات الأخيرة من تدريس القرآن الكريم في مرحلتي الدراسة الابتدائية والثانوية وفتح دورات لتزويد المعلمين والمدرسين بمبادئ النطق الفصيح يعد خطوة مهمة تبشر بخير كبير. وأعتقد أن العناية بعلم التجويد في مراحل الدراسة المتقدمة خاصة في معاهد إعداد المعلمين ودور المعلمين وأقسام اللغة العربية وكلية الشريعة أمر ضروري لترسيخ النطق العربي الفصيح في ألسنة الذين سوف يتصدون لمهمة تعليم اللغة العربية وتعليم قراءة القرآن في المدارس.
4 - إن هذا البحث هو في الواقع بداية لأبحاث أخرى يمكن أن تعنى بالدراسات الصوتية عند علماء التجويد، إذ أن علماء كبارا مثل مكي بن أبي طالب، وأبي عمرو الداني، وعبد الوهاب القرطبي، ومحمد المرعشي، جديرون بأبحاث مستقلة تهتم بكتبهم وتعنى بإبراز جهودهم في دراسة الأصوات العربية.
5 - إن النهوض بالدراسات الصوتية العربية يقتضي عملا مزدوجا يهتم في أحد جوانبه بالدراسات الصوتية العربية القديمة، لا سيما كتب علم التجويد التي ظل معظمها مجهولا لدى الدارسين المحدثين. ويهتم في جانبه الآخر بترجمة نتائج الأبحاث الصوتية الحديثة المكتوبة باللغات الأجنبية، مع الاهتمام باستخدام أجهزة الاختبار الصوتي، ولعل إنشاء مركز للدراسات الصوتية العربية كفيل بالقيام بأعباء ذلك العمل، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين * * *(1/492)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين * * *
فهرس الأعلام
(1)
إبراهيم أنيس (دكتور): 13، 85، 92، 106، 110، 111، 112، 114، 115، 118، 123، 127، 135، 159، 160، 161، 174، 176، 179، 180، 182، 183، 184، 185، 187، 206، 207، 208، 209، 212، 213، 218، 227، 236، 241، 244، 245، 257، 266، 271، 273، 280، 287، 301، 306، 307، 311، 315، 321، 325، 327، 328، 333، 335، 364، 365، 370، 374، 379، 408، 409، 410، 414، 446، 455، 477.
إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري: 35.
إبراهيم بن عمر أبو الحسن البقاعي: 39.
إبراهيم محمد نجا (دكتور): 43.
أحمد بن أحمد بن إبراهيم الطيبي: 39.
أحمد بن جعفر بن محمد، أبو الحسين المعروف بابن المنادي: 76، 461، 463، 465، 466، 482، 483، 484.
أحمد حسن فرحات (دكتور): 27.
أحمد بن حنبل: 476.
أحمد (الدقني، كذا): 462.
أحمد بن أبي سريج: 390.
أحمد بن صالح: 392، 462.
أحمد بن جعفر الحوفيّ: 462.
أحمد الجلاء (أحمد بن إبراهيم): 462.
أحمد بن عبد اللطيف البركوي: 39.
أحمد بن عبد الله بن الزبير أبو العباس الخابوري الحلبي: 30.
أحمد بن علي المقيني: 32.
أحمد بن عمّار المهدوي: 25، 76، 159، 172، 186، 368.
أحمد بن أبي عمر (أبو عبد الله الأندرابي الخراساني): 15، 17، 25، 48، 52، 58، 66، 69، 118، 129، 153، 156، 162، 163، 173، 176، 182، 183، 185، 188، 196، 197، 249، 255، 260، 262، 264، 293، 312، 335، 337، 339، 411، 412، 432، 452، 458، 459، 467، 469، 471، 472، 473، 477.
أحمد بن عمر أبو السعود الأسقاطي: 36.
أحمد فائز الرومي: 40، 93، 126، 157، 203، 260، 266، 397، 423، 470.
أحمد بن فارس: 214، 215.
أحمد فروخي: 43.
أحمد بن الفضل: 462.
أحمد بن نصر بن منصور الشذائي: 17، 48، 59، 348، 363، 385، 391، 413، 433، 462، 463، 464، 465.
أحمد مختار عمر (دكتور): 13، 15، 85، 90، 91، 101، 109، 110، 111، 164، 168، 174، 180، 182، 183، 192، 193، 202، 206، 213، 217، 225، 242، 264، 269، 307، 308، 328، 335، 336، 364، 379، 477، 478، 481.
أحمد بن يحيى السوسي: 37.
أحمد بن يحيى ثعلب: 469.
أحمد بن يعقوب التائب: 391.
أحمد اليقطين (أحمد بن محمد بن عبد الله):
461.
ابن أبي الأحوص الحسين بن عبد
__________
(1) جعلت هذا الفهرس شاملا للأعلام الواردة في الهوامش أيضا، وقد انتويت في أول الأمر تمييزها بعلامة، ولكني وجدت أنّ ذلك يطيل الفهرس لكثرته، وقد رتّبت الأعلام من غير التفات إلى: ال، وابن، وأبو، ونحوها.(1/493)
العزيز.
الأخفش (أبو الحسن سعيد بن مسعدة):
112، 113، 115، 254.
إدريس الكلاك: 43.
الأزهري (أبو منصور محمد بن أحمد):
20، 45، 108، 247، 253، 254، 309، 313، 321، 438، 439.
الأسترآباذي محمد بن الحسن.
أبو الأسود الدولي: 302.
ابن أشتة (محمد بن عبد الله): 462، 463، 464، 465.
الأشنانداني (سعيد بن هارون): 254.
الأصمعي (عبد الملك بن قريب): 97.
الأهوازي الحسن بن علي.
أوتو برتزل (مستشرق): 25، 76.
ابن الباذش (أحمد بن علي بن أحمد): 25، 320، 321، 338، 339، 348، 359، 361، 362، 364، 357، 369، 372، 373، 375، 376، 378، 388، 389، 391، 392، 406، 413، 430، 432، 436، 439، 441، 457، 467، 472، 474.
برافمان (مستشرق): 298.
برتزل أوتو برتزل.
برجستراسر (مستشرق): 108، 223، 226، 227، 315، 328، 335، 336، 398.
ابن بضحان محمد بن بضحان.
البغدادي (إسماعيل باشا بن محمد أمين):
30، 31، 32، 35، 36، 38، 40، 41، 42، 43، 475.
البقري محمد بن القاسم.
بكار بن بنان (بكار بن أحمد بن بكار بن بنان): 462.
أبو بكر أحمد بن محمد بن الجزري: 13، 34، 55، 58، 59، 101، 107، 164، 166، 168، 177، 190، 203، 266، 282، 299، 336، 433، 435.
أبو بكر بن محمد البروسي: 38.
أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري:
15.
ابن بلبان محمد بن بدر الدين.
ابن البناء (أبو علي الحسن بن عبد الله البغدادي): 28، 64، 66، 85، 88، 91، 183، 422، 437، 456، 457، 463، 466، 470، 471، 476، 482، 483، 485، 487، 491.
تمام حسان (دكتور): 85، 113، 148، 169، 180، 192، 193، 207، 212، 225، 240، 287، 405، 477.
التوني الحسن بن شجاع بن محمد.
ثابت بن أبي ثابت: 89، 91، 93، 484.
الجاحظ (عمرو بن بحر): 484.
الجاربردي (أحمد بن الحسن بن يوسف):
93، 123، 130، 357، 358، 397، 434.
جان كانتينو (مستشرق): 14، 97، 111، 127، 134، 135، 165، 168، 179، 180، 183، 185، 187، 192، 195، 207، 209، 212، 223، 227، 240، 245، 251، 264، 272، 298، 299، 307، 328، 364.
جبلة بن سحيم: 318.
الجرمي (صالح بن إسحاق): 153، 154.
ابن الجزري (أبو الخير محمد بن محمد بن محمد): 13، 15، 16، 17، 18، 25، 26، 27، 30، 31، 32، 33، 34، 37، 42، 47، 53، 55، 58، 59، 61، 68، 70، 74، 168، 169، 170، 172، 177، 186، 189، 196، 197، 216، 228، 230، 240، 255، 259، 260، 262، 263، 270، 271، 282، 285، 286، 290، 291، 292، 299، 301، 319، 331، 336، 338، 339، 353،
357، 359، 361، 365، 372، 373، 374، 389، 400، 403، 404، 405، 406، 408، 410، 413، 417، 423، 424، 425، 433، 434، 435، 436، 441، 443، 449، 451، 452، 453، 454، 457، 462، 463، 465، 467، 468، 471، 472.(1/494)
ابن الجزري (أبو الخير محمد بن محمد بن محمد): 13، 15، 16، 17، 18، 25، 26، 27، 30، 31، 32، 33، 34، 37، 42، 47، 53، 55، 58، 59، 61، 68، 70، 74، 168، 169، 170، 172، 177، 186، 189، 196، 197، 216، 228، 230، 240، 255، 259، 260، 262، 263، 270، 271، 282، 285، 286، 290، 291، 292، 299، 301، 319، 331، 336، 338، 339، 353،
357، 359، 361، 365، 372، 373، 374، 389، 400، 403، 404، 405، 406، 408، 410، 413، 417، 423، 424، 425، 433، 434، 435، 436، 441، 443، 449، 451، 452، 453، 454، 457، 462، 463، 465، 467، 468، 471، 472.
الجعبري (إبراهيم بن عمر بن إبراهيم):
31، 33، 34، 35، 266، 270، 314، 320، 361، 384، 423، 424.
جعفر بن إبراهيم السنهوري: 29، 34، 35، 39.
جعفر بن أحمد الخصاف: 462.
جعفر بن محمد المستغفري: 29.
ابن الجلندا الموصلي (محمد بن علي):
462.
ابن الجندي (أبو بكر عبد الله بن آي دغدي بن عبد الله): 33، 423، 424.
ابن جني (أبو الفتح عثمان بن جني): 7، 10، 20، 46، 75، 106، 108، 112، 123، 147، 166، 174، 177، 182، 185، 187، 190، 192، 205، 220، 242، 245، 248، 254، 255، 258، 268، 276، 280، 285، 294، 295، 303، 309، 321، 339، 340، 416، 417، 442، 443، 447، 481، 491.
أبو حاتم (سهل بن محمد السجستاني): 52.
حاتم الضامن (دكتور): 228.
ابن الحاجب (أبو عمرو عثمان بن عمر):
75، 106، 116، 117، 118، 123، 178، 184، 198، 215، 216، 329، 246، 332، 357، 358، 373، 434.
حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله): 24، 30، 32، 36، 37، 38، 39، 40، 66.
حامد بن أحمد بن جعفر بن بسطام: 116، 125.
حسام سعيد محمود النعيمي (دكتور): 166، 172، 187، 193، 226، 242، 245، 247، 257، 280، 340، 461.
الحسن بن أحمد، أبو العلاء الهمذاني العطار: 29، 52، 55، 58، 78، 125، 197، 205، 221، 255، 264، 268، 302، 305، 311، 313، 318، 348، 361، 390، 392، 401، 414، 446، 450، 451، 453، 468، 470، 472، 473، 476، 477، 478.
حسن بن إسماعيل بن عبد الله الدركزلي الموصلي: 41، 42، 54، 65، 74، 87، 90، 92، 94، 95، 202، 228، 252، 304، 311، 321، 381، 383، 406، 416، 436، 480.
الحسن بن شاكر (انظر: الحسين بن شاكر):
413.
الحسن بن شجاع بن محمد بن الحسن التوني: 39، 202، 263، 276، 400، 458.
حسن ظاظا (دكتور): 166.
الحسن بن علي بن إبراهيم، أبو علي الأهوازي: 26، 391، 413، 471، 474، 475.
الحسن بن قاسم بن عبد الله، المعروف بابن أم قاسم المرادي: 13، 33، 34، 47، 48، 53، 55، 57، 58، 63، 74، 76، 81، 102، 124، 150، 151، 153، 179، 185، 186، 190، 198، 202، 203، 229، 268، 270، 329، 331، 360، 368، 373، 374، 392، 403، 404، 405، 424، 429، 434، 439، 441، 442، 443، 450، 451، 454، 456، 472، 473، 474، 486.
حسني شيخ عثمان: 43.
الحسين بن شاكر السمسار: 17، 48.
الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص الأندلسي، المعروف بابن الناظر
الغرناطي: 4، 31، 48، 76، 77، 373.(1/495)
الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص الأندلسي، المعروف بابن الناظر
الغرناطي: 4، 31، 48، 76، 77، 373.
الحسين بن علي: 363، 391، 464، 465.
الحسين بن محمد بن حبش الدينوري: 465.
الحسيني (أبو الفضائل عباد بن أحمد بن إسماعيل): 181، 263.
حفص (ابن سليمان الكوفي): 452.
حمزة الأصفهاني: 306.
حمزة (ابن حبيب الزيات): 344، 369، 432، 452، 456.
الحميدي (محمد بن فتوح): 28.
أبو حيان الأندلسي (محمد بن يوسف): 46، 47، 75، 124، 166، 168، 186، 216، 232، 239، 269، 424، 429، 434، 436.
خالد الأزهري: 13، 35، 55، 93، 449.
ابن خالويه (الحسين بن أحمد): 367.
ابن خروف علي بن محمد بن علي.
خليل إبراهيم العطية (دكتور): 482.
الخليل بن أحمد: 10، 20، 45، 86، 89، 91، 94، 108، 112، 114، 136، 163، 166، 173، 180، 190، 191، 234، 235، 247، 252، 253، 255، 256، 263، 276، 277، 278، 289، 294، 309، 313، 314، 324، 333، 394، 491.
خليل بن عثمان بن عبد الرحمن القرافي، المعروف بابن المشبب: 34.
ابن خير الإشبيلي (محمد بن خير بن عمر):
26، 464، 465.
الداني عثمان بن سعيد: 275، 285.
ابن أبي داود (عبد الله بن سليمان): 15.
داود عبده (دكتور): 398.
داود العطار: 43.
داود بن عمر الأنطاكي الحكيم: 95.
ابن درستويه (عبد الله بن جعفر): 306.
الدركزلي حسن بن إسماعيل. ابن دريد (محمد بن الحسن): 20، 153، 214، 215، 254، 264.
الدلجي (شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد): 36.
ابن الدهان (أبو شجاع محمد بن علي): 85، 137، 141.
الدوري (حفص بن عمر): 452.
الذهبي (محمد بن أحمد): 18، 464، 465.
الربعي (علي بن عيسى): 118.
الرحبي محمد بن علي بن محمد.
رضي الدين الأسترآباذي محمد بن الحسن.
الرماني (علي بن عيسى): 118.
رمضان عبد التواب (دكتور): 325.
روح بن عبد المؤمن البصري: 413.
الزبيدي (محمد بن الحسن): 20.
الزّجّاج (إبراهيم بن السّريّ): 112، 445.
الزّجّاجيّ (عبد الرحمن بن إسحاق): 20، 338.
الزركشي (بدر الدين محمد بن عبد الله):
16.
زكريا الأنصاريّ (زكريا بن محمد بن أحمد): 13، 34، 36، 360، 361، 381، 384، 448، 450.
زكي مبارك (دكتور): 484.
الزمخشري (محمود بن عمر): 75، 123، 256.
ابن أبي زهران (علي بن يعقوب عماد الدين الموصلي): 30، 277.
زيد بن علي الكوفي: 462.
أبو زيد اللغوي (سعيد بن أوس): 91.
زين العابدين بن محيي الدين الأنصاري:
36.
ابن السراج (محمد بن السري): 255.
السعيدي (علي بن جعفر الرازي): 18، 19، 20، 27، 49، 54، 65، 73، 344، 345، 348، 353، 362، 376، 377،
381، 388، 389، 390، 411، 412، 420، 421، 435، 450، 452، 456، 457، 460، 483.(1/496)
السعيدي (علي بن جعفر الرازي): 18، 19، 20، 27، 49، 54، 65، 73، 344، 345، 348، 353، 362، 376، 377،
381، 388، 389، 390، 411، 412، 420، 421، 435، 450، 452، 456، 457، 460، 483.
سفيان بن عيينة: 476.
السكاكي (يوسف بن أبي بكر): 96.
السلامي (محمد بن إبراهيم بن محمد): 42.
سليمان الجمزوري: 43.
السمرقندي (محمد بن محمود بن محمد بن أحمد): 16، 33، 67، 88، 89، 90، 91، 92، 276، 203، 205، 259، 263، 265، 271، 285، 286، 303، 308، 311، 372، 373، 449، 451، 454، 478، 479، 480.
السمنودي منصور بن عيسى.
سهل بن محمد بن أحمد الأصبهاني الحاجي:
28.
السوسي (أبو شعيب صالح بن زياد): 413، 451.
سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان): 10، 20، 46، 75، 86، 88، 89، 90، 92، 93، 94، 106، 112، 116، 117، 278، 279، 123، 124، 128، 129، 130، 134، 142، 145، 147، 154، 160، 171، 172، 173، 176، 181، 183، 184، 187، 188، 191، 192، 204، 207، 209، 210، 213، 214، 215، 219، 220، 227، 233، 234، 238، 239، 240، 245، 246، 247، 248، 258، 259، 262، 264، 268، 269، 271، 272، 273، 275، 278، 279، 294، 302، 305، 308، 309، 310، 312، 313، 314، 319، 321، 323، 324، 332، 337، 344، 345، 355، 356، 360، 362، 363، 367، 368، 370، 371، 372، 375، 376، 377، 379، 381، 387، 388، 391، 392، 394، 416، 427، 428، 431، 432، 441، 445، 487، 488، 491.
السيد الشريف علي بن محمد.
السيرافي (الحسن بن عبد الله): 112، 114، 116، 142، 215، 216، 238، 239، 262، 264، 312، 324، 363، 367، 368، 369، 376، 381، 433.
ابن سينا (أبو علي الحسين بن سينا): 87، 88، 95، 137، 141، 315.
السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر): 15، 24، 47، 76، 150، 153، 157، 186، 295، 320، 321، 345، 416، 434، 443، 446، 448.
شاده (مستشرق): 107، 113، 134، 207، 209، 223، 226، 246.
الشاطبي (القاسم بن فيرة): 42، 265، 282.
أبو شامة المقدسي (عبد الرحمن بن إسماعيل): 48، 68، 91، 178، 179، 181، 183، 184، 221، 249، 259، 261، 263، 272، 281، 282، 360.
الشذائي أحمد بن نصر.
شريح بن محمد بن شريح أبو الحسن الرعيني: 4، 28، 66، 76، 77، 155، 159، 166، 167، 170، 262، 270، 357.
شعلة الموصلي (محمد بن أحمد): 68، 157.
شوقي ضيف (دكتور): 21.
ابن أبي شيبة (عبد الله بن محمد): 15.
صالح (لعله: صالح بن إدريس): 462.
صالح القرمادي: 85، 111.
صبيح حمود الشاتي: 142.
الصفاقسي علي بن محمد بن سليم.
الصواف (الحسن بن الحسين): 462.
طاش كبري زاده (عصام الدين أحمد بن مصطفى): 36، 70، 85، 93، 104، 105، 106، 109، 110، 118، 126،
130، 164، 195، 210، 357، 435، 440، 454، 455، 487.(1/497)
طاش كبري زاده (عصام الدين أحمد بن مصطفى): 36، 70، 85، 93، 104، 105، 106، 109، 110، 118، 126،
130، 164، 195، 210، 357، 435، 440، 454، 455، 487.
أبو طاهر بن أبي هاشم (عبد الواحد بن عمر): 433، 464.
الطبلاوي محمد بن سالم.
ابن الطحان (أبو حميد عبد العزيز علي الإشبيلي): 4، 28، 91، 174، 181، 183، 185، 186، 189، 197، 255، 262، 268، 269، 318، 319، 321، 322، 323، 324، 325، 360، 375، 377، 402، 404، 416، 427، 428، 430، 431، 434، 440، 448.
ابن عابد الرزاق (إبراهيم بن عبد الرزاق):
461.
عاصم (ابن أبي النجود): 451، 452، 407، 432.
ابن عامر (عبد الله بن عامر اليحصبي):
432.
عامر السيد عثمان (الشيخ): 394.
ابن عبد البر (يوسف بن عبد الله): 27.
عبد الدائم بن علي الأزهري الحديدي: 35، 55، 60، 99، 164، 189، 191، 203، 266، 301، 329، 337، 435، 489.
عبد الرحمن أيوب (دكتور): 13، 85، 89، 92، 94، 95، 195، 207، 213، 218، 307، 481.
عبد الرحمن أبو النصر النحراوي: 36.
عبد السلام هارون: 174، 176، 484.
عبد الصبور شاهين (دكتور): 113، 141، 142، 214، 241، 280، 394، 398.
عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الديريني:
30.
عبد العزيز بن علي الإشبيلي أبو الأصبغ:
144.
عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي: 41، 67، 72، 74، 202، 203، 282، 283، 335، 337، 338، 354، 358، 381، 402، 407، 436، 440.
عبد الفتاح إسماعيل شلبي (دكتور): 317، 318.
عبد القادر الجيلاني: 41.
عبد الكريم بن عبد الباري بن عبد الرحمن الصعيدي: 31.
عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي:
302.
عبد الله توفيق الصباغ: 43.
عبد الله الجبوري: 37.
عبد الله بن صالح العجلي: 456.
عبد الله بن عمر: 318.
عبد الله بن مسعود: 15.
عبد المجيد الخطيب: 43.
عبد المنعم بن غلبون: 317.
عبد الهادي الفضلي (دكتور): 20، 33.
عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب القرطبي: 4، 27، 49، 50، 51، 53، 59، 64، 66، 68، 69، 73، 74، 82، 85، 87، 92، 103، 108، 113، 116، 117، 124، 125، 128، 139، 142، 145، 148، 150، 151، 152، 153، 160، 171، 172، 173، 174، 177، 179، 181، 183، 185، 187، 188، 190، 192، 200، 201، 204، 206، 207، 210، 213، 215، 221، 224، 229، 239، 240، 246، 247، 248، 250، 252، 257، 259، 260، 264، 265، 266، 269، 272، 275، 277، 279، 285، 286، 290، 293، 295، 297، 298، 302، 303، 311، 312، 313، 319، 321، 329، 333، 334، 335، 336، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349، 350، 353، 356، 363، 364، 370، 371، 372، 375، 378، 381، 382، 388، 389، 390، 392، 401، 402، 408، 410،
411، 413، 416، 417، 418، 419، 420، 421، 429، 430، 431، 435، 436، 437، 438، 442، 444، 449، 450، 452، 453، 457، 472، 474، 482، 483، 485، 492.(1/498)
عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب القرطبي: 4، 27، 49، 50، 51، 53، 59، 64، 66، 68، 69، 73، 74، 82، 85، 87، 92، 103، 108، 113، 116، 117، 124، 125، 128، 139، 142، 145، 148، 150، 151، 152، 153، 160، 171، 172، 173، 174، 177، 179، 181، 183، 185، 187، 188، 190، 192، 200، 201، 204، 206، 207، 210، 213، 215، 221، 224، 229، 239، 240، 246، 247، 248، 250، 252، 257، 259، 260، 264، 265، 266، 269، 272، 275، 277، 279، 285، 286، 290، 293، 295، 297، 298، 302، 303، 311، 312، 313، 319، 321، 329، 333، 334، 335، 336، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349، 350، 353، 356، 363، 364، 370، 371، 372، 375، 378، 381، 382، 388، 389، 390، 392، 401، 402، 408، 410،
411، 413، 416، 417، 418، 419، 420، 421، 429، 430، 431، 435، 436، 437، 438، 442، 444، 449، 450، 452، 453، 457، 472، 474، 482، 483، 485، 492.
أبو عبيد (القاسم بن سلام): 15، 52.
عثمان بن سعيد، أبو عمرو الداني: 4، 15، 17، 18، 19، 24، 27، 48، 49، 55، 58، 59، 60، 61، 66، 69، 70، 71، 74، 75، 77، 89، 90، 92، 93، 113، 116، 117، 124، 125، 128، 172، 179، 181، 185، 186، 188، 190، 192، 197، 201، 204، 205، 207، 208، 212، 221، 222، 227، 229، 240، 248، 255، 259، 261، 268، 269، 271، 272، 273، 275، 290، 291، 292، 293، 294، 312، 314، 316، 317، 318، 319، 320، 321، 329، 330، 332، 337، 338، 339، 342، 346، 347، 348، 349، 350، 351، 353، 354، 356، 359، 361، 362، 363، 364، 365، 367، 368، 369، 370، 372، 373، 375، 377، 382، 387، 388، 391، 392، 397، 401، 403، 413، 415، 418، 419، 420، 421، 428، 430، 431، 432، 433، 436، 442، 444، 446، 447، 449، 451، 452، 453، 460، 461، 462، 463، 464، 465، 468، 469، 470، 472، 476، 477، 485، 492.
عدنان محمد سلمان (دكتور): 11.
ابن عصفور (علي بن مؤمن): 112، 146، 147، 153، 182، 187، 239، 338.
عضد الدين الإيجي (عبد الرحمن بن محمد): 127.
العطار الحسن بن أحمد. علاء الدين الطرابلسي: 37.
أبو العلاء الهمذاني العطار الحسن بن أحمد.
علم الدين السخاوي (علي بن محمد بن عبد الصمد): 30، 33، 55، 88، 313، 318، 321، 338، 356، 357، 373، 391، 412، 439، 445، 448، 449.
علي أحمد صبره: 43.
أبو علي الأهوازي الحسن بن علي.
علي بن بري اللغوي: 31.
علي بن بشر: 391.
علي بن سليمان المنصوري: 38.
علي بن أبي طالب: 16.
علي بن علي أبو الضياء الشبراملسي: 36.
علي القاري (ابن سلطان محمد): 13، 37، 60، 68، 90، 101، 104، 105، 107، 109، 119، 127، 144، 158، 164، 172، 190، 198، 203، 255، 274، 299، 300، 304، 305، 309، 310، 336، 358، 361، 365، 366، 373، 384، 401، 403، 404، 423، 425، 436، 440، 449، 454، 455، 456.
علي القزاز: 462.
علي بن محمد الجرجاني، السيد الشريف:
127، 271.
علي بن محمد بن خليل المعروف بابن غانم المقدسي: 30، 38، 46، 91، 209، 211، 231، 232، 233، 234، 235، 489.
علي بن محمد بن سليم النوري الصفاقسي:
13، 41، 424، 425.
علي بن محمد بن علي بن برّي.
علي بن محمد بن علي الإشبيلي المعروف بابن خروف: 159، 170، 239، 320.
عمر بن إبراهيم المسعدي: 37.
عمر بن الخطاب: 228.
عمر رضا كحالة: 34، 37، 85، 95،
118، 462.(1/499)
عمر رضا كحالة: 34، 37، 85، 95،
118، 462.
عمر بن علي بن عمر السراج القزويني:
33.
أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد.
أبو عمرو بن العلاء: 138، 339، 353، 376، 413، 432، 433، 434، 452، 471.
عياض (ابن موسى القاضي): 28.
ابن غانم المقدسي علي بن محمد بن خليل.
فارس بن أحمد: 365، 433، 464.
الفارسي (أبو علي الحسن بن أحمد): 239، 417.
الفاسي محمد بن الحسن: 282، 283.
أبو الفتوح سيف الدين بن عطاء الله الوفائي:
37، 67، 90، 91، 93، 94، 122، 129، 164، 177، 198، 199، 285، 287، 292، 357، 397، 404، 448، 449، 450، 454.
الفخر الرازي (محمد بن عمر): 137، 202، 252.
الفخر الموصلي (أبو المعالي محمد بن أبي الفرج بن بركة): 29، 69، 183، 206، 270.
الفراء (يحيى بن زياد): 142، 148، 153، 154، 312، 332، 334، 355، 356، 376، 377.
فرج توفيق الوليد: 43، 264.
أبو الفرج الشنبوذي (محمد بن أحمد):
433.
أبو الفضل الخزاعي (محمد بن جعفر):
59، 412.
أبو الفضل الرازي (عبد الرحمن بن أحمد بن بندار العجلي): 27، 58، 139، 140، 330، 467، 470.
فندريس: 398.
فؤاد سزكين: 26. ابن الفوطي (عبد الرزاق بن أحمد): 29.
ابن أم قاسم: الحسن بن قاسم.
أبو القاسم (خلف بن إبراهيم): 441.
قاسم دو براجا: 39.
ابن القاصح (علي بن عثمان بن محمد):
34، 317.
قالون (عيسى بن مينا): 451، 452.
ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم): 445.
القرطبي عبد الوهاب بن محمد.
القسطلاني (أحمد بن محمد بن أبي بكر):
25، 32، 36، 55، 78، 87، 101، 107، 144، 155، 164، 203، 216، 266، 267، 270، 282، 285، 287، 289، 290، 291، 301، 314، 321، 323، 374، 394، 405، 406، 417، 439.
قطرب (محمد بن المستنير): 153، 154، 155.
القيرواني مكي.
ابن كثير (القارئ): 432، 451.
كحالة عمر رضا كحالة.
الكسائي (علي بن حمزة): 249، 344، 352، 356، 390، 432، 452.
كمال الدين الطائي: 43.
كمال محمد بشر (دكتور): 13، 89، 90، 92، 94، 110، 111، 127، 130، 136، 144، 148، 161، 164، 165، 167، 168، 172، 174، 179، 180، 182، 183، 185، 187، 190، 192، 193، 194، 206، 208، 213، 222، 223، 224، 225، 236، 240، 241، 243، 244، 251، 268، 271، 287، 290، 291، 292، 306، 308، 311، 315، 320، 325، 426، 436، 477، 478، 481.
الكندي (يعقوب بن إسحاق): 482.
ابن الكيال (محمد بن أحمد بن محمد):
467.(1/500)
ابن الكيال (محمد بن أحمد بن محمد):
467.
ابن كيسان (محمد بن أحمد): 117، 118، 153، 369.
المارديني محمد بن قيصر:
ماريوباي: 108، 242، 267، 269، 307، 477.
المازني (أبو عثمان بكر بن محمد): 199، 378.
ابن مالك (محمد بن عبد الله بن مالك): 75، 146، 151، 228.
مالمبرك: 102.
المبارك بن الحسن الشهرزوري: 25.
ابن المبارك (عبد الله): 476.
المبرد (محمد بن يزيد): 20، 46، 248، 258، 259، 262، 264، 294، 312، 313، 314، 321، 367، 368، 370، 375، 377، 438، 484.
مبرمان (أبو بكر محمد بن علي): 239.
ابن مجاهد (أحمد بن موسى بن العباس):
17، 18، 21، 48، 49، 52، 59، 76، 316، 318، 333، 339، 348، 363، 364، 365، 369، 373، 385، 391، 392، 413، 430، 432، 433، 461، 462، 463، 464، 465، 473، 485، 486.
محمد بن إبراهيم بن يوسف الحلبي: 36.
محمد بن أحمد: 369.
محمد بن أحمد الشهير بصوفي زاده: 37.
محمد بن أحمد بن داود الدمشقي المعروف بابن النجار: 37.
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي:
26.
محمد بن أحمد العجلي: 26.
محمد بن أحمد بن مفلح: 39.
محمد بن إسماعيل الإزميري: 38.
محمد الأنطاكي: 142.
محمد بن بدر الدين بن عبد القادر الشهير بابن بلبان الحنبلي: 439، 448، 451.
محمد بن بضحان الدمشقي: 32، 424.
محمد بن أبي بكر المرعشي الشهير بساجقلي زاده: 22، 23، 38، 41، 54، 61، 62، 63، 69، 74، 78، 79، 93، 94، 96، 101، 105، 106، 107، 108، 119، 121، 126، 127، 132، 176، 178، 179، 181، 182، 183، 184، 188، 190، 191، 197، 206، 209، 211، 212، 221، 222، 226، 231، 237، 238، 246، 248، 249، 250، 255، 259، 261، 264، 266، 267، 270، 271، 272، 273، 274، 279، 280، 283، 304، 309، 310، 320، 335، 337، 350، 351، 352، 353، 354، 358، 359، 365، 381، 382، 383، 389، 393، 397، 402، 403، 404، 406، 408، 410، 425، 426، 429، 430، 432، 438، 449، 451، 457، 458، 461، 463، 479، 487، 489، 492.
محمد بن بير علي البركوي: 39.
محمد جلبي بن علي الرومي (الشهير بحكيم زاده): 43.
محمد بن حامد بن محمد الأصفهاني: 29، 34.
محمد بن الحسن رضي الدين الأسترآباذي:
85، 87، 93، 106، 116، 118، 123، 128، 130، 144، 153، 157، 158، 174، 178، 182، 188، 213، 214، 239، 246، 357، 367، 368، 371، 374، 397، 433.
محمد بن أبي الحسن المعروف بابن نبت العروق: 441.
محمد بن الحسن، أبو عبد الله الفاسي: 197، 264، 265.
محمد بن الحسن بن مقسم العطار البغدادي:
412.(1/501)
محمد بن الحسن بن مقسم العطار البغدادي:
412.
محمد حسين الأصفهاني: 97، 100، 462.
محمد الداجوني: 461.
محمد بن سالم بن علي، ناصر الدين الطبلاوي: 34، 224، 304، 337، 353، 443، 449.
محمد سالم محيسن: 43.
محمد الشاذلي النيفر: 41.
محمد الصادق قمحاوي: 43.
محمد بن الصلت: 461.
محمد ضياء أبو البقاء: 37.
محمد بن عبد الله بن محمد الرحبي (انظر:
محمد بن علي بن محمد الرحبي): 42.
محمد بن عتيق بن علي التجيبي الغرناطي:
30.
محمد بن علي بن خلف الحسيني الحداد:
43.
محمد بن علي بن طولون: 57.
محمد بن علي بن محمد الرحبي: 42.
محمد بن علي المرشدي: 40.
محمد بن عمر (المعروف بقورد أفندي):
37.
محمد بن عمر بن عبد القادر الكفيري الدمشقي: 41.
محمد بن عمر بن مبارك الحضرمي الملقب ب (بحرق): 36، 300.
محمد عواد حمودي العاني: 43.
محمد بن أبي الفتح البعلي: 37.
محمد بن القاسم بن إسماعيل البقري: 34، 40، 189، 263، 269، 361، 435.
محمد بن قيصر بن عبد الله المارديني: 31، 300.
محمد بن محمد بن إبراهيم الشريشي الخراز: 31.
محمد بن محمد بن رجب البهنسي الدمشقي:
34.
محمد محمود المشهور بأبي ريمة: 43. محمد المعدل: 461.
محمد مكي نصر: 43.
محمد النقاش: 461.
محمد يعقوب تركستاني (دكتور): 28.
محمد بن يونس النحوي المقرئ: 391.
محمود السعران (دكتور): 89، 90، 94، 110، 111، 121، 125، 174، 180، 181، 182، 185، 187، 192، 193، 206، 207، 208، 212، 218، 225، 241، 245، 246، 258، 261، 267، 271، 276، 280، 287، 306.
محيي الدين عبد القادر الخطيب: 43.
المرادي الحسن بن قاسم.
المرعشي محمد بن أبي بكر.
ابن (؟) مريم الشيرازي نصر بن علي بن محمد (يعرف بابن أبي مريم).
أبو مزاحم الخاقاني موسى بن عبيد الله:
المسيبي (محمد بن إسحاق): 363.
مصطفى فهمي (دكتور): 481.
ابن المظفر (الليث).
ابن مقسم محمد بن الحسن.
مكي بن أبي طالب القيسي: 4، 13، 19، 20، 21، 24، 27، 48، 54، 55، 60، 61، 65، 66، 67، 74، 75، 76، 88، 102، 103، 113، 117، 124، 125، 149، 153، 154، 156، 173، 174، 179، 181، 183، 184، 188، 196، 200، 201، 203، 204، 205، 207، 208، 212، 221، 222، 227، 228، 229، 237، 247، 248، 255، 256، 257، 259، 261، 264، 265، 267، 268، 269، 270، 271، 272، 275، 276، 277، 278، 280، 281، 282، 285، 286، 291، 294، 296، 303، 305، 313، 314، 316، 319، 321، 332، 335، 337، 340، 341، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349،
350، 351، 353، 354، 356، 359، 361، 362، 367، 368، 369، 370، 371، 372، 375، 377، 380، 388، 389، 392، 399، 401، 405، 410، 411، 413، 414، 417، 420، 429، 430، 431، 437، 442، 444، 445، 446، 447، 449، 451، 463، 485، 492.(1/502)
مكي بن أبي طالب القيسي: 4، 13، 19، 20، 21، 24، 27، 48، 54، 55، 60، 61، 65، 66، 67، 74، 75، 76، 88، 102، 103، 113، 117، 124، 125، 149، 153، 154، 156، 173، 174، 179، 181، 183، 184، 188، 196، 200، 201، 203، 204، 205، 207، 208، 212، 221، 222، 227، 228، 229، 237، 247، 248، 255، 256، 257، 259، 261، 264، 265، 267، 268، 269، 270، 271، 272، 275، 276، 277، 278، 280، 281، 282، 285، 286، 291، 294، 296، 303، 305، 313، 314، 316، 319، 321، 332، 335، 337، 340، 341، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349،
350، 351، 353، 354، 356، 359، 361، 362، 367، 368، 369، 370، 371، 372، 375، 377، 380، 388، 389، 392، 399، 401، 405، 410، 411، 413، 414، 417، 420، 429، 430، 431، 437، 442، 444، 445، 446، 447، 449، 451، 463، 485، 492.
ملا حسين بن إسكندر الرومي الحنفي: 37، 40، 210.
ابن أبي مليكة (عبد الله بن عبيد الله): 477.
ابن المنادي أحمد بن جعفر.
منصور بن عيسى بن غازي السمنودي الأنصاري: 37، 40، 267.
ابن منظور (محمد بن مكرم): 16، 61، 89، 118، 122، 180، 263، 313، 400، 468، 470، 471.
المهدوي أحمد بن عمار.
ابن مهران (أحمد بن الحسين): 448، 449.
موسى بن أحمد بن إسحاق الشهبي: 33.
موسى بن الحسين المعدل: 25.
موسى بن عبيد الله بن يحيى، أبو مزاحم الخاقاني البغدادي: 17، 18، 19، 24، 25، 26، 27، 48، 49، 54، 64، 66، 73، 390، 436، 460، 462، 465، 470، 472، 476، 477، 485.
النابلسي: عبد الغني بن إسماعيل: 282، 283، 335، 337، 338.
ابن الناظر الحسين بن عبد العزيز: 4.
ابن الناظم أبو بكر أحمد بن الجزري.
ناقع (ابن أبي نعيم): 319، 363، 410، 413، 432، 452.
ابن النديم (محمد بن إسحاق): 18، 118، 463، 482.
النسفي (عبد الله بن أحمد): 479.
نشوان بن سعيد الحميري: 464.
نصر بن علي بن محمد الشيرازي، يعرف بابن أبي مريم: 25، 272.
نصير (ابن يوسف النحوي): 356.
هاشم بن أحمد بن عبد الواحد الحلبي: 29.
الهذلي (أبو القاسم يوسف بن علي).
هنري فليش (مستشرق): 114، 141، 142، 207، 227، 299، 300، 325.
الوادي آشي (محمد بن جابر): 32.
ابن وثيق (إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن الإشبيلي): 30، 96، 229، 330، 337، 338، 400.
ورش (عثمان بن سعيد): 319، 330، 363، 407، 409، 410، 413، 414، 451، 456.
الوفائي أبو الفتوح: 285، 287.
ياقوت (ابن عبد الله الحموي):
اليزيدي (يحيى بن المبارك): 413، 432.
يعقوب الحضرمي: 413، 479.
ابن يعيش (يعيش بن علي بن يعيش): 46، 107، 113، 129، 147، 185، 188، 207، 215، 239، 256، 260، 265، 273، 321، 334، 388، 394، 433، 436.
يوسف الخليفة أبو بكر: 43، 212، 213، 227.
يوسف بن علي بن محمد الحلالي: 37، 48.(1/503)
يوسف بن علي بن محمد الحلالي: 37، 48.
المصادر
1 - آلورد: فهرس المخطوطات العربية بالمكتبة الملكية في برلين (بالألمانية) ج 101 برلين 18991887م. (فيه نصوص عربية منقولة من المخطوطات، وقد استفدت من هذه النصوص الواردة في الجزء الأول فقط).
2 - إبراهيم أنيس (دكتور): الأصوات اللغوية، ط 4، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1971م.
3 - أحمد بن أبي عمر (أبو عبد الله الأندرابي الخراساني ت بعد 500هـ): الإيضاح في القراءات العشر واختيار أبي عبيد وأبي حاتم. مخطوط في جامعة استانبول (رقم 1350) ومنه نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (رقم 9قراءات وتجويد).
4 - أحمد مختار عمر (دكتور): البحث اللغوي عند العرب، مطابع سجل العرب، توزيع دار المعارف بمصر 1971م.
5 - أحمد مختار عمر (دكتور): دراسة الصوت اللغوي، ط 1، مطابع سجل العرب، توزيع مكتبة عالم الكتب، القاهرة 1396هـ 1976م.
6 - الأزهري (الشيخ خالد بن عبد الله ت 905هـ): الحواشي الأزهرية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر بمصر (د. ت).
7 - الأزهري (عبد الدائم بن علي ت 870هـ): الطرازات المعلمة في شرح المقدمة، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (رقم 20165)، طبع في دار عمار للنشر والتوزيع، عمان الأردن.
8 - الأزهري (أبو منصور محمد بن أحمد ت 370هـ): تهذيب اللغة ج 1، تحقيق عبد السلام هارون، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1384هـ 1964م.
9 - الأسترآباذي (رضي الدين محمد بن الحسن ت 686هـ): شرح شافية ابن الحاجب، ج 3، تحقيق محمد الزفزاف وآخرين، مطبعة حجازي بالقاهرة.
10 - الأصبهاني (محمد حسين): أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (رقم 1019).(1/505)
9 - الأسترآباذي (رضي الدين محمد بن الحسن ت 686هـ): شرح شافية ابن الحاجب، ج 3، تحقيق محمد الزفزاف وآخرين، مطبعة حجازي بالقاهرة.
10 - الأصبهاني (محمد حسين): أرجوزة البيان في حكم تجويد القرآن، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (رقم 1019).
11 - ابن الأنباري (أبو بكر محمد بن القاسم بن بشارت 328هـ): كتاب إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل، تحقيق محيي الدين عبد الرحمن رمضان، مجمع اللغة العربية بدمشق 1976م.
12 - الأنصاري (القاضي زكريا بن محمد بن أحمد ت 926هـ): تحفة نجباء العصر في أحكام النون الساكنة والتنوين والمد والقصر، مخطوط في مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب بجامعة بغداد (الرقم 1212).
13 - الأنصاري (السابق): الدقائق المحكمة في شرح المقدمة، هامش متن الجزرية لابن الجزري، مكتبة ومطبعة محمد صبيح بمصر 1375هـ 1956م.
14 - الأهوازي (أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم 446هـ): الوجيز في شرح أداء القراء الثمانية أئمة الأمصار الخمسة، وهم السبعة المشهورون ويعقوب، مخطوط في مكتبة جستربتي (الرقم 3603) وقد اعتمدت على النسخة المصورة التي يحتفظ بها الدكتور حاتم الضامن.
15 - أوتو برتزل (مستشرق ألماني): علم القراءات. مجلة إسلاميكا (بالألمانية) سنة 1934 (ص 471و 246230و 331290) (في المقال نصوص عربية منقولة من كتب القراءات والتجويد المخطوطة، وقد استفدت من هذه النصوص).
16 - ابن الباذش (أبو جعفر أحمد بن علي بن أحمد ت 540هـ): الإقناع في القراءات السبع، ط 1، تحقيق د. عبد المجيد قطامش، من منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، مطبعة دار الفكر بدمشق، 1403هـ.
17 - برجستراسر (مستشرق ألماني ت 1933م): التطور النحوي للغة العربية، (سلسلة محاضرات ألقاها في الجامعة المصرية سنة 1929م)، عني بطبعها محمد حمدي البكري، مطبعة السماح، القاهرة.
18 - البغدادي (إسماعيل باشا بن محمد أمين ت 1339هـ 1920م): إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، عني بتصحيحه وطبعه محمد شرف الدين يالتقايا ورفعت بيلكه الكليسي، ج 1، استانبول 1945م، ج 2، استانبول 1947م.
19 - البغدادي (السابق): هدية العارفين (أسماء المؤلفين وآثار المصنفين)، طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة في مطبعتها البهية، ج 1، استانبول 1951م، ج 2، استانبول 1955م.(1/506)
18 - البغدادي (إسماعيل باشا بن محمد أمين ت 1339هـ 1920م): إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، عني بتصحيحه وطبعه محمد شرف الدين يالتقايا ورفعت بيلكه الكليسي، ج 1، استانبول 1945م، ج 2، استانبول 1947م.
19 - البغدادي (السابق): هدية العارفين (أسماء المؤلفين وآثار المصنفين)، طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة في مطبعتها البهية، ج 1، استانبول 1951م، ج 2، استانبول 1955م.
20 - البقاعي (أبو الحسن إبراهيم بن عمر ت 885هـ): القول المفيد في أصول التجويد، مخطوط في الخزانة العامة بالرباط، الرقم 634 (503د) الأوراق 167و 172و.
21 - البقري (محمد بن القاسم ت 1111هـ): غنية الطالبين ومنية الراغبين، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 12975).
22 - ابن بلبان الحنبلي (شمس الدين محمد بن بدر الدين بن عبد القادر ت 1083هـ):
بغية المستفيد في علم التجويد، مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد (الرقم 11/ 5437 مجاميع)، الأوراق 54و 64ظ.
23 - ابن البناء (أبو علي الحسن بن عبد الله ت 471هـ): بيان العيوب التي يجب أن يجتنبها القراء وإيضاح الأدوات التي بني عليها الإقراء، مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل (الرقم 5/ 20من مخطوطات المدرسة الإسلامية) الرسالة السادسة من المجموع، الأوراق 174و 184و، ط. دار عمار الأردن.
24 - تمام حسان (دكتور): اللغة العربية معناها ومبناها، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1973م.
25 - تمام حسان: مناهج البحث في اللغة، ط 2، دار الثقافة، الدار البيضاء 1394هـ 1974م.
26 - التوني (الحسن بن شجاع بن محمد بن الحسن، عاش في القرن التاسع تقديرا):
المفيد في علم التجويد، مخطوط في مكتبة الفاتيكان (الرقم 581)، الأوراق 201.
27 - ثابت بن أبي ثابت (من علماء القرن الثالث الهجري): كتاب خلق الإنسان، تحقيق عبد الستار فراج، مطبعة الحكومة، الكويت 1965م.
28 - الجاربردي (فخر الدين أبو المكارم أحمد بن الحسن بن يوسف التبريزي، ت 746هـ): شرح الشافية، طبعة حجرية قديمة سنة 1305هـ.
29 - جان كانتينو (مستشرق فرنسي): دروس في علم أصوات العربية، ترجمة صالح القرمادي، الجامعة التونسية 1966م.
30 - ابن الجزري (أبو بكر أحمد بن محمد. ت بعد سنة 829هـ): الحواشي المفهمة
في شرح المقدمة، مخطوط في مكتبة الأوقاف في بغداد (الرقم 2404).(1/507)
30 - ابن الجزري (أبو بكر أحمد بن محمد. ت بعد سنة 829هـ): الحواشي المفهمة
في شرح المقدمة، مخطوط في مكتبة الأوقاف في بغداد (الرقم 2404).
31 - ابن الجزري (أبو الخير محمد بن محمد بن محمد ت 833هـ): التمهيد في علم التجويد، ط 1، القاهرة 1326هـ 1908م.
32 - ابن الجزري (السابق): غاية النهاية في طبقات القراء، تحقيق برجستراسر، مكتبة الخانجي بمصر ج 1سنة 1351هـ 1932م، ج 2سنة 1352هـ 1933م.
33 - ابن الجزري (السابق): متن الجزرية في معرفة تجويد الآيات القرآنية (وهو الأرجوزة المسماة بالمقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه)، بهامشه: الدقائق المحكمة في شرح المقدمة للقاضي زكريا الأنصاري، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح بميدان الأزهر بمصر 1375هـ 1956م.
34 - ابن الجزري (السابق): النشر في القراءات العشر، يطلب من المكتبة التجارية الكبرى بمصر، مطبعة مصطفى محمد بمصر.
35 - الجعبري (برهان الدين إبراهيم بن عمر ت 732هـ): تحقيق التعليم في الترقيق والتفخيم (نظم) مخطوطة في مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد (الرقم 1002/ 3). الأوراق 3528.
36 - الجعبري (السابق): الهبات الهنيات في المصنفات الجعبريات، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 30124).
37 - ابن جني (أبو الفتح عثمان ت 392هـ): الخصائص، ط 2، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر بيروت.
38 - ابن جني (السابق): سر صناعة الإعراب، ط 1، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1374هـ 1954م.
39 - حاتم الضامن (دكتور): مقدمة تحقيق كتاب (الاعتماد في نظائر الظاء والضاد لابن مالك) مجلة المجمع العلمي العراقي، ج 3، مج 31السنة 1400هـ 1980م.
40 - ابن الحاجب (أبو عمرو عثمان بن عمر ت 646هـ): الإيضاح في شرح المفصل، ج 2، تحقيق د. موسى بناي العليلي، مطبعة العاني بغداد 1983، سلسلة إحياء التراث الإسلامي رقم 50تصدرها وزارة الأوقاف بغداد.
41 - حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله ت 1067هـ 1657م): كشف الظنون عن
أسامي الكتب والفنون، عني بتصحيحه وطبعه محمد شرف الدين يالتقايا ورفعت بيلكه الكليسي، مج 1، استانبول 1941م، مج 2، استانبول 1943م.(1/508)
41 - حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله ت 1067هـ 1657م): كشف الظنون عن
أسامي الكتب والفنون، عني بتصحيحه وطبعه محمد شرف الدين يالتقايا ورفعت بيلكه الكليسي، مج 1، استانبول 1941م، مج 2، استانبول 1943م.
42 - حسام سعيد النعيمي (دكتور): الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني، من منشورات وزارة الثقافة والإعلام في الجمهورية العراقية 1980م.
43 - حسن ظاظا (دكتور): كلام العرب، دار المعارف بمصر 1971م.
44 - الحسيني (أبو الفضائل عباد بن أحمد بن إسماعيل، كان حيا سنة 704هـ):
كاشف المعاني في شرح حرز الأماني، مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل (الرقم 3/ 2مخطوطات حسن باشا الجليلي).
45 - الحميدي (أبو عبد الله محمد بن فتوح ت 488هـ): جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس وأسماء رواة الحديث وأهل الفقه والأدب وذوي النباهة والشعر، ط 1، صححه محمد بن تاويت الطنجي، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، مطبعة السعادة، القاهرة 1372هـ 1952م.
46 - أبو حيان الأندلسي (أثير الدين محمد بن يوسف بن علي ت 745هـ): ارتشاف الضرب من لسان العرب، مخطوط في المكتبة الأحمدية بحلب (الرقم 899)، وقد اعتمدت على النسخة المصورة عنها التي يحتفظ بها الدكتور حاتم الضامن.
47 - الخاقاني (أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى البغدادي ت 325هـ): القصيدة الخاقانية، تحقيق غانم قدوري حمد، منشورة ضمن بحث (علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى) في مجلة كلية الشريعة بجامعة بغداد، العدد السادس 1400هـ 1980م.
48 - ابن خالويه (الحسين بن أحمد): الحجة في القراءات السبع، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق بيروت 1971م.
49 - خليل إبراهيم العطية (دكتور): في البحث الصوتي عند العرب، منشورات دار الجاحظ للنشر، سلسلة الموسوعة الصغيرة رقم (124) بغداد 1983.
50 - ابن خير الإشبيلي (أبو بكر محمد بن خير بن عمر ت 575هـ): فهرست ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضروب العلم وأنواع المعارف، الطبعة الثانية المنقحة والمنقطة، دار الآفاق الجديدة بيروت 1399هـ 1979م.
51 - الداني (أبو عمرو عثمان بن سعيد ت 444هـ): كتاب الإدغام الكبير، مخطوط في
مكتبة المتحف البريطاني (الرقم 3067مشرقيات)، ومنه نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (الرقم 3قراءات وتجويد).(1/509)
51 - الداني (أبو عمرو عثمان بن سعيد ت 444هـ): كتاب الإدغام الكبير، مخطوط في
مكتبة المتحف البريطاني (الرقم 3067مشرقيات)، ومنه نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (الرقم 3قراءات وتجويد).
52 - الداني (السابق): التحديد في الإتقان والتجويد، مخطوط في مكتبة وهبي أفندي (ملحقة بالمكتبة السليمانية باستانبول) (الرقم 40/ 1)، طبع في دار عمار الأردن، بتحقيق الدكتور غانم قدوري الحمد.
53 - الداني (السابق): التيسير في القراءات السبع، عني بتصحيحه أوتو برتزل، مطبعة الدولة باستانبول 1930م.
54 - الداني (السابق): شرح قصيدة أبي مزاحم الخاقاني، مخطوط في مكتبة جستربتي (الرقم 3653/ 10)، الأوراق 143127.
55 - الداني (السابق): المحكم في نقط المصاحف، تحقيق د. عزة حسن، وزارة الثقافة والإرشاد، دمشق 1960م.
56 - الداني (السابق): المنبهة في الحذق والإتقان وصفة التجويد للقرآن، مخطوط في الخزانة العامة للكتب في الرباط، الرقم 2809 (د 2186).
57 - الداني (السابق): الموضح لمذاهب القراء واختلافهم في الفتح والإمالة، مخطوط في المكتبة الأزهرية رقم 103 (7661) قراءات. ومنه نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (رقم 96قراءات وتجويد).
58 - ابن أبي داود (أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني ت 316هـ):
كتاب المصاحف، ط 1، صححه آرثر جفري، المطبعة الرحمانية بمصر 1936.
59 - داود عبده (دكتور): أبحاث في اللغة العربية، مكتبة لبنان، بيروت 1973م.
60 - الدركزلي (حسن بن إسماعيل بن عبد الله الموصلي ت 1327هـ): خلاصة العجالة في بيان مراد الرسالة، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 23513).
61 - ابن دريد (أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي ت 321هـ): كتاب جمهرة اللغة، ط 1، مطبعة دائرة المعارف، حيدرآباد الدكن 1344هـ).
62 - ابن الدهان (أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب ت 592هـ): تقويم النظر في الأدلة واختلاف الفقهاء. مخطوط في دار الكتب المصرية (الرقم 52فقه شافعي). وقد اعتمدت على النسخة المصورة عنها التي يحتفظ بها الدكتور عبد القادر رحيم الهيتي.
63 - الذهبي (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد ت 748هـ): معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، ط 1، دار الكتب الحديثة القاهرة 1969م.(1/510)
62 - ابن الدهان (أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب ت 592هـ): تقويم النظر في الأدلة واختلاف الفقهاء. مخطوط في دار الكتب المصرية (الرقم 52فقه شافعي). وقد اعتمدت على النسخة المصورة عنها التي يحتفظ بها الدكتور عبد القادر رحيم الهيتي.
63 - الذهبي (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد ت 748هـ): معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، ط 1، دار الكتب الحديثة القاهرة 1969م.
64 - رمضان عبد التواب (دكتور): فصول في فقه العربية، ط 1، مكتبة دار التراث القاهرة 1973م.
65 - الرومي (الشيخ أحمد فائز): شرح الدر اليتيم للبركوي (ت 981هـ) مخطوط في مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد (الرقم 610).
66 - الزبيدي (أبو بكر محمد بن الحسن ت 379هـ): الواضح في علم العربية، تحقيق د. أمين علي السيد، دار المعارف بمصر 1975.
67 - الزجاج (أبو إسحاق إبراهيم بن السري ت 316هـ): معاني القرآن وإعرابه، ج 1، تحقيق د. عبد الجليل عبده شلبي، منشورات المكتبة العصرية بيروت صيدا، طبع بالهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة 1973م.
68 - الزجاجي (أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق ت 337هـ): كتاب الجمل، ط 2، تحقيق ابن أبي شنب، مطبعة كلنكسيك، باريس 1957م 1376هـ.
69 - الزركشي (بدر الدين محمد بن عبد الله ت 794هـ): البرهان في علوم القرآن، ط 2، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1972م.
70 - السخاوي (علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد ت 643هـ):
جمال القراء وكمال الإقراء، مخطوط في دار الكتب الظاهرية بدمشق، الرقم 333 (44 القراءات).
71 - ابن السراج (أبو بكر محمد بن السري ت 316هـ): الاشتقاق، ط 1، تحقيق محمد صالح التكريتي، مطبعة المعارف، بغداد 1973م.
72 - السعيدي (أبو الحسن علي بن جعفر الرازي ت في حدود 410هـ): اختلاف القراء في اللام والنون، مخطوط في مكتبة المتحف البريطاني الرقم (4254مشرقيات) الأوراق 60و 61ظ.
73 - السعيدي (السابق): التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي، مخطوط في مكتبة وهبي أفندي (ملحق بالمكتبة السليمانية باستانبول) (الرقم 40/ 2)، الأوراق 5445.
74 - السكاكي (أبو يعقوب بن محمد بن علي ت 626هـ): مفتاح العلوم، ط 1،
المطبعة الأدبية بمصر 1317هـ.(1/511)
74 - السكاكي (أبو يعقوب بن محمد بن علي ت 626هـ): مفتاح العلوم، ط 1،
المطبعة الأدبية بمصر 1317هـ.
75 - السمرقندي (محمد بن محمود بن محمد ت 780هـ): روح المريد في شرح العقد الفريد في نظم التجويد، مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل (الرقم 2/ 22 مخطوطات مدرسة الحجيات)، الأوراق 124ظ 143ظ.
76 - السمنودي (منصور بن عيسى بن غازي الأنصاري، كان حيا سنة 1084هـ): تحفة الطالبين في تجويد كتاب رب العالمين. مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل (الرقم 3/ 19مخطوطات جامع النبي شيت)، الأوراق 251.
77 - سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان ت 180هـ): الكتاب، تحقيق عبد السلام محمد هارون ج 2، دار الكتاب العربي القاهرة 1968م، ج 3و 4الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1973م، 1975م.
78 - السيرافي (أبو سعيد الحسن بن عبد الله ت 368هـ): شرح كتاب سيبويه، ج 6 مخطوط بدار الكتب المصرية رقم (528نحو تيمور) نسخة مصورة يحتفظ بها الدكتور محمد البكاء.
79 - السيرافي (السابق): ما ذكره الكوفيون من الإدغام، تحقيق صبيح حمود الشاتي، مجلة المورد، مج 12، ع 2، السنة 1403هـ 1983م.
80 - ابن سينا (أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا ت 428هـ): أسباب حدوث الحروف، نشره ولاديمير أخو ليدياني، دار النشر متسنياربا، تفليس 1966.
81 - السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911هـ): الإتقان في علوم القرآن، ط 1، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني القاهرة 1967م.
82 - السيوطي (السابق): الأشباه والنظائر في النحو، ط 2، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد 1359هـ.
83 - السيوطي (السابق): همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، ج 6، تحقيق د.
عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية، الكويت 1400هـ 1980م.
84 - أ. شاده (مستشرق ألماني): علم الأصوات عند سيبويه وعندنا (محاضرة ألقاها في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية) ونشرت في صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية
1931 - م، العدد الخامس ص 193، والعدد السادس ص 2613.(1/512)
84 - أ. شاده (مستشرق ألماني): علم الأصوات عند سيبويه وعندنا (محاضرة ألقاها في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية) ونشرت في صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية
1931 - م، العدد الخامس ص 193، والعدد السادس ص 2613.
85 - أبو شامة المقدسي (عبد الرحمن بن إسماعيل ت 665هـ): إبراز المعاني من حرز الأماني، مخطوط في مكتبة الأوقاف في بغداد (الرقم 2407).
86 - الشريف الجرجاني (علي بن محمد ت 816هـ): شرح المواقف، ج 5، ط 1، مطبعة السعادة بمصر 1325هـ 1907م.
87 - شعلة الموصلي (أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد ت 656هـ): كنز التهاني في شرح حرز الأماني، مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد (الرقم 2406).
88 - ابن أبي شيبة (أبو بكر عبد الله بن محمد ت 235هـ): الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار ج 1، تحقيق محمد جهانكير علي الأنصاري، حيدرآباد، الهند 1386هـ.
89 - الصفاقسي (أبو الحسن علي بن محمد النوري ت 1118هـ): تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع من الخطأ حال تلاوتهم لكتاب الله المبين، تقديم وتصحيح محمد الشاذلي النيفر، المطبعة الرسمية، تونس 1974م.
90 - طاش كبري زاده (أحمد بن مصطفى ت 968هـ): شرح المقدمة الجزرية، مخطوط في مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد (الرقم 621/ 3).
91 - الطبلاوي (شيخ الإسلام ناصر الدين محمد بن سالم بن علي ت 966هـ): مرشدة المشتغلين في أحكام النون الساكنة والتنوين. مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 690/ 5)، الأوراق 141.
92 - ابن الطحان (أبو الأصبغ عبد العزيز بن علي بن محمد الإشبيلي ت بعد 560هـ):
مرشد القارئ إلى تحقيق معالم المقارئ. مخطوط في مكتبة جستربتي بدبلن (الرقم 3925/ 4)، الأوراق 136128.
93 - ابن الطحان (السابق): نظام الأداء (مقدمة في الوقف والابتداء) مخطوط في مكتبة جستربتي بدبلن (الرقم 3925/ 5)، الأوراق 144137.
94 - ابن عبد البر (أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري ت 463هـ): الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق علي محمد البجاوي، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها.
95 - عبد الرحمن أيوب (دكتور): أصوات اللغة، ط 1، مطبعة دار التأليف، القاهرة 1963م.
96 - عبد الرحمن أيوب: محاضرات في اللغة، مطبعة المعارف بغداد 1966م.(1/513)
95 - عبد الرحمن أيوب (دكتور): أصوات اللغة، ط 1، مطبعة دار التأليف، القاهرة 1963م.
96 - عبد الرحمن أيوب: محاضرات في اللغة، مطبعة المعارف بغداد 1966م.
97 - عبد الصبور شاهين (دكتور): في التطور اللغوي، ط 1، مكتبة دار العلوم، القاهرة 1395هـ 1975م.
98 - عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث، دار القلم القاهرة 1966م.
99 - عبد الصبور شاهين: المنهج الصوتي للبنية العربية، مؤسسة الرسالة، بيروت 1400هـ 1980م.
100 - عبد الفتاح إسماعيل شلبي (دكتور): الإمالة في القراءات واللهجات العربية، ط 2، دار نهضة مصر، القاهرة 1391هـ 1971م.
101 - عبد الهادي الفضلي (دكتور): القراءات القرآنية تاريخ وتعريف ط 2، دار القلم بيروت 1980م.
102 - أبو عبيد (القاسم بن سلام ت 224هـ): غريب الحديث ط 1، دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الهند 19671964م.
103 - ابن عصفور (علي بن مؤمن ت 669هـ): المقرب، تحقيق أحمد عبد الستار الجواري وعبد الله الجبوري، مطبعة العاني، بغداد 19721971م.
104 - ابن عصفور (السابق): الممتع في التصريف، ط 1، تحقيق د. فخر الدين قباوة، المطبعة العربية، حلب 1390هـ 1970م.
105 - العطار (أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني ت 569هـ): التمهيد في التجويد، مخطوط في مكتبة جستربتي بدبلن (الرقم 3954)، وهو منسوب في فهرس المكتبة (ج 4ص 70) إلى أبي بكر جعفر بن محمد المستغفري المتوفى سنة 432هـ) (يراجع رقم 12من مصادر علم التجويد في المبحث الثاني من الفصل الأول من هذا البحث)، وقد كتبت بحثا في تحقيق نسبة الكتاب لأبي العلاء، منشور في مجلة الرسالة الإسلامية ببغداد العددان 178 179بغداد 1985م، طبع في دار عمار الأردن، تحقيق د. غانم قدوري الحمد.
106 - عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، المكتبة العربية بدمشق 1957م.
107 - عياض (القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض ت 544هـ): ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك. تحقيق د. أحمد بن بكير محمود، دار
مكتبة الحياة، بيروت.(1/514)
107 - عياض (القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض ت 544هـ): ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك. تحقيق د. أحمد بن بكير محمود، دار
مكتبة الحياة، بيروت.
108 - ابن غانم المقدسي (علي بن محمد بن خليل ت 1004هـ): بغية المرتاد لتصحيح الضاد، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 11068/ 7)، الأوراق 1/ 10.
109 - غانم قدوري حمد: علم التجويد نشأته ومعالمه الأولى، مجلة كلية الشريعة بجامعة بغداد، العدد السادس 1400هـ 1980م (ص 936331).
110 - غانم قدوري حمد: قضية الجيم في العربية، مجلة الأقلام، العدد الرابع، السنة الثالثة عشرة، بغداد 1978م.
111 - غانم قدوري حمد: مؤلف التفسير المسمى (المباني لنظم المعاني)، مجلة الرسالة الإسلامية، العددان 165164بغداد 1404هـ 1984م.
112 - غانم قدوري حمد: المصوتات عند علماء العربية، مجلة كلية الشريعة بجامعة بغداد، العدد الخامس 1399هـ 1979م (ص 456391).
113 - ابن فارس (أبو الحسين أحمد ت 395هـ): الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها، تحقيق السيد أحمد صقر، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1977م.
114 - الفارسي (أبو علي الحسن بن أحمد ت 377هـ): الحجة في علل القراءات السبع، ج 1، تحقيق علي النجدي ناصف وآخرين، دار الكتاب العربي، القاهرة 1965م 1385هـ.
115 - الفاسي (أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد ت 656هـ): اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 1634)، وهي مجهولة المؤلف لسقوط الورقة الأولى من المخطوط، وتوصلت إلى معرفة المؤلف بمقارنتها بالمخطوط المرقم (2453) في مكتبة الأوقاف في بغداد.
116 - الفخر الموصلي (أبو المعالي محمد بن أبي الفرج ت 621هـ): الدر الموصوف (لعله المرصوف) في صف مخارج الحروف، مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة في الموصل (الرقم 5/ 20مخطوطات المدرسة الإسلامية، الرسالة الخامسة)، الأوراق 173168.
117 - الفخر الرازي (محمد بن عمر ت 606هـ): التفسير الكبير، ط 2، دار الكتب العلمية، طهران.
118 - الفراء (أبو زكريا يحيى بن زياد ت 207م): معاني القرآن تحقيق محمد علي
النجار وآخرين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.(1/515)
118 - الفراء (أبو زكريا يحيى بن زياد ت 207م): معاني القرآن تحقيق محمد علي
النجار وآخرين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
119 - الفراهيدي (أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد) كتاب العين، ج 1، تحقيق د.
مهدي المخرومي ود. إبراهيم السامرائي، دار الرشيد للنشر، وزارة الثقافة والإعلام في الجمهورية العراقية، مطابع الرسالة، الكويت 1400هـ 1980م.
120 - فرج توفيق الوليد: قواعد التلاوة وعلم التجويد، ط 1، دار الرسالة للطباعة، بغداد 1394هـ 1974م.
121 - ج. فندريس: اللغة، تعريب عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1950م.
122 - فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي، مج 1، ج 1، ترجمة د. فهمي أبو الفضل، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1971م.
123 - فؤاد السيد: فهرس المخطوطات المصورة، ج 1، معهد المخطوطات العربية، القاهرة 1954م.
124 - ابن الفوطي (أبو الفضل عبد الرزاق بن أحمد الحنبلي ت 723هـ): تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب، ج 4، ق 3، تحقيق د. مصطفى جواد، وزارة الثقافة والإرشاد، دمشق 1965م.
125 - القاري (الملا علي بن سلطان محمد المكي ت 1014هـ): المنح الفكرية على متن الجزرية، المطبعة الميمنية بمصر 1322هـ.
126 - ابن القاصح (علي بن محمد بن عثمان ت 801هـ): نزهة المشتغلين في أحكام النون الساكنة والتنوين، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 690/ 4).
127 - القرطبي (أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب ت 462هـ):
الموضح في التجويد، مخطوط في مكتبة الأوقاف في الموصل (الرقم 2/ 22مخطوطات مدرسة الحجيات)، الأوراق 144و 190ظ، طبع في دار عمار الأردن، تحقيق د. غانم قدور الحمد.
128 - القسطلاني (أحمد بن محمد بن أبي بكر ت 923هـ): لطائف الإشارات لفنون القراءات، ج 1، تحقيق د. عبد الصبور شاهين، والشيخ عامر السيد عثمان، لجنة إحياء التراث الإسلامي في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة 1392هـ 1972م.
129 - القسطلاني (السابق): اللآلئ السنية في شرح المقدمة الجزرية، مخطوط في مكتبة الأوقاف ببغداد (الرقم 2402).(1/516)
128 - القسطلاني (أحمد بن محمد بن أبي بكر ت 923هـ): لطائف الإشارات لفنون القراءات، ج 1، تحقيق د. عبد الصبور شاهين، والشيخ عامر السيد عثمان، لجنة إحياء التراث الإسلامي في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة 1392هـ 1972م.
129 - القسطلاني (السابق): اللآلئ السنية في شرح المقدمة الجزرية، مخطوط في مكتبة الأوقاف ببغداد (الرقم 2402).
130 - كمال محمد بشر (دكتور): دراسات في علم اللغة، ج 1، دار المعارف بمصر 1969م.
131 - كمال محمد بشر: علم اللغة العام، القسم الثاني: الأصوات، ط 2، دار المعارف بمصر 1971م.
132 - ابن الكيال (أبو البركات محمد بن أحمد بن محمد ت 929هـ): كتاب الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر، مخطوط في مكتبة جستربتي الرقم (3419/ 2)، الأوراق 10079.
133 - المارديني (شمس الدين محمد بن قيصر النحوي ت 721هـ): الدر النضيد في معرفة التجويد (نظم)، مخطوط في مكتبة جستربتي (الرقم 3653/ 4)، الأوراق 7560.
134 - ماريوباي: أسس علم اللغة، ترجمة د. أحمد مختار عمر، منشورات جامعة طرابلس بليبيا 1973م.
135 - المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد ت 285هـ): المقتضب، ج 1، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، لجنة إحياء التراث الإسلامي في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة.
136 - ابن مجاهد (أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس البغدادي ت 324هـ): كتاب السبعة في القراءات، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر 1972م.
137 - محمد الأنطاكي: الوجيز في فقه اللغة، مكتبة الشهباء، حلب 1969م.
138 - محمود السعران (دكتور): علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، دار المعارف بمصر 1962م.
139 - المرادي (بدر الدين الحسن بن قاسم المشهور بابن أم قاسم ت 749هـ): شرح التسهيل، نسخة مصورة تحتفظ بها مكتبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة بغداد (الرقم 2052).
140 - المرادي (السابق): شرح الواضحة في تجويد الفاتحة، تحقيق د. عبد الهادي الفضلي، دار القلم، بيروت.
141 - المرادي (السابق): المفيد في شرح عمدة المجيد في علم التجويد، مخطوط في مكتبة جستربتي بدبلن (الرقم 3653/ 7)، الأوراق 118100.(1/517)
140 - المرادي (السابق): شرح الواضحة في تجويد الفاتحة، تحقيق د. عبد الهادي الفضلي، دار القلم، بيروت.
141 - المرادي (السابق): المفيد في شرح عمدة المجيد في علم التجويد، مخطوط في مكتبة جستربتي بدبلن (الرقم 3653/ 7)، الأوراق 118100.
142 - المرعشي (محمد بن أبي بكر المعروف بساجقلي زاده ت 1150هـ): بيان جهد المقل، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 11068/ 5).
143 - المرعشي (السابق): جهد المقل، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 11068/ 4)، طبع في دار عمار للنشر والتوزيع الأردن، تحقيق د. سالم قدوري الحمد.
144 - المرعشي (السابق): كيفية أداء الضاد. مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 11068/ 6).
145 - مصطفى فهمي (دكتور): أمراض الكلام، ط 4، مكتبة مصر 1975م.
146 - مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ): الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، تحقيق د. أحمد حسن فرحات، دمشق 1393هـ 1973م، طبع في دار عمار الأردن.
147 - مكي (السابق): الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، تحقيق د.
محيي الدين رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1394هـ 1974م.
148 - ملا حسين بن اسكندر الحنفي (ت في حدود 1084هـ): بيان المشكلات على المبتدئين من جهة التجويد في القرآن المبين، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 24380) وهناك نسخ أخرى مخطوطة في المكتبة نفسها.
149 - ملا حسين (السابق): لباب التجويد للقرآن المجيد، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 10104).
150 - ابن منظور (أبو الفضل محمد بن مكرم ت 711هـ): لسان العرب، ط 1، بولاق.
151 - النابلسي (عبد الغني بن إسماعيل ت 1143هـ): كفاية المستفيد في علم التجويد، مخطوط في مكتبة المتحف ببغداد (الرقم 10895).
152 - ابن النديم (محمد بن إسحاق): الفهرست، تحقيق رضا تحديد، طهران 1971م.
153 - نشوان بن سعيد الحميري (ت 573هـ): شمس العلوم ودواء كلام العرب من
الكلوم، ج 1، ق 1، تحقيق ك. و. سترستين، مطبعة بريل بليدن 1370هـ 1953م.(1/518)
153 - نشوان بن سعيد الحميري (ت 573هـ): شمس العلوم ودواء كلام العرب من
الكلوم، ج 1، ق 1، تحقيق ك. و. سترستين، مطبعة بريل بليدن 1370هـ 1953م.
154 - الهمذاني (المنتجب بن يعقوب ت 643هـ): الدرة الفريدة في شرح القصيدة، مخطوط في مكتبة الأوقاف ببغداد (الرقم 2379).
155 - هنري فليش: التفكير الصوتي عند العرب في ضوء سر صناعة الإعراب، ترجمة د. عبد الصبور شاهين، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج 23، 1388هـ 1968م.
156 - هنري فليش (الأب اليسوعي): العربية الفصحى، ط 1، تعريب د. عبد الصبور شاهين، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1966م.
157 - ابن وثيق (أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن الإشبيلي ت 654هـ):
كتاب في تجويد القراءة ومخارج الحروف، مخطوط في مكتبة أيا صوفيا باستانبول (الرقم 39/ 7). ومنه نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (الرقم 62قراءات وتجويد)، الأوراق 7976.
158 - الوفائي (أبو الفتوح سيف الدين بن عطا الله ت 1020هـ): الجواهر المضية على المقدمة الجزرية، مخطوط في مكتبة الأوقاف ببغداد، الرقم (2402/ 2).
159 - ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626هـ): معجم البلدان، ليبزج 1867م.
160 - ابن يعيش (موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش ت 643هـ): شرح المفصل، إرادة الطباعة المنيرية بمصر.
161 - يوسف الخليفة أبو بكر: أصوات القرآن كيف نتعلمها ونعلمها، ط 1، مكتبة الفكر الإسلامي، الخرطوم 1392هـ 1973م.
162 - يوسف بن محمد الحلالي (عاش قبل 859هـ): موجز في التجويد، مخطوط في مكتبة جستربتي (الرقم 3653/ 11)، الأوراق 147ظ 156و.(1/519)