فانظر، أيّة واقية وأيّة حافظة، وأيّ حارس، وأيّ حصن أنشأه لها هذا القول! وأيّ حظّ كان لها حين صدّقوا بهذا الخبر هذا التصديق! والطّمع هو الذي أثار هذا الأمر من مدافنه، والفقر هو الذي اجتذب هذا الطّمع واجتلبه. ولكن الويل لها إن ألّحت على غنيّ عالم، وخاصّة إن كان مع جدته وعلمه حديدا عجولا.
793 [اعتقاد العامة في أمير الذّبّان]
وقد كانوا يقتلون الذباب الكبير الشديد الطنين الملحّ في ذلك، الجهير الصوت، الذي تسميه العوامّ: «أمير الذّبّان»، فكانوا يحتالون في صرفه وطرده وقتله، إذا أكربهم بكثرة طنينه وزجله وهماهمه فإنّه لا يفتر. فلمّا سقط إليهم أنّه مبشّر بقدوم غائب وبرء سقيم، صاروا إذا دخل المنزل وأوسعهم شرّا، لم يهجه أحد منهم.
وإذا أراد الله عزّ وجلّ أن ينسئ في أجل شيء من الحيوان هيّأ لذلك سببا، كما أنّه إذا أراد أن يقصر عمره ويحين يومه هيّأ لذلك سببا. فتعالى الله علوّا كبيرا! ثمّ رجع بنا القول إلى إلحاح الذّبّان.
794 [إلحاح الذّباب]
كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار، لم ير النّاس حاكما قطّ ولا زمّيتا ولا ركينا، ولا وقورا حليما، ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك. كان يصلّي الغداة في منزله، وهو قريب الدّار من مسجده، فيأتي مجلسه فيحتبي ولا يتّكئ، فلا يزال منتصبا ولا يتحرّك له عضو، ولا يلتفت، ولا يحلّ حبوته [2] ولا يحوّل رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقّيه، حتّى كأنّه بناء مبنيّ، أو صخرة منصوبة. فلا يزال كذلك، حتّى يقوم إلى صلاة الظهر ثمّ يعود إلى مجلسه فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمّ يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثمّ ربما عاد إلى محلّه، بل كثيرا ما كان يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءة العهود والشّروط والوثائق، ثمّ يصلّي العشاء الأخيرة وينصرف.
فالحق يقال: لم يقم في طول تلك المدّة والولاية مرّة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء ولا غيره من الشّراب. كذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي
[1] وردت القصة في ثمار القلوب 396 (725)، وأمالي المرتضى 2/ 105 (4/ 22).
[2] الاحتباء: أن يضم الرجل رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها، وهو منهي عنه كما في الحديث الوارد في النهاية 1/ 335، واللسان (حبا).(3/163)
قصارها، وفي صيفها وفي شتائها. وكان مع ذلك لا يحرّك يده، ولا يشير برأسه.
وليس إلّا أن يتكلم ثمّ يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة. فبينا هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السّماطين بين يديه، إذ سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثمّ تحوّل إلى مؤق عينه، فرام الصّبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضّه ونفاذ خرطومه كما رام من الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرّك أرنبته، أو يغضّن وجهه، أو يذبّ بإصبعه. فلمّا طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التّغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحّى ريثما سكن جفنه، ثمّ عاد إلى مؤقه بأشدّ من مرّته الأولى فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصّبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه وزاد في شدّة الحركة وفي فتح العين، وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته ثمّ عاد إلى موضعه، فما زال يلحّ عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده. فلم يجد بدّا من أن يذبّ عن عينيه بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمقه، وكأنّهم لا يرونه، فتنحّى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته ثمّ عاد إلى موضعه، ثمّ ألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أنّ فعله كلّه بعين من حضره من أمنائه وجلسائه. فلمّا نظروا إليه قال: أشهد أنّ الذّباب ألحّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب! وأستغفر الله! فما أكثر من أعجبته نفسه فأراد الله عزّ وجلّ أن يعرّفه من ضعفه ما كان عنه مستورا! وقد علمت أني عند الناس من أزمت الناس، فقد غلبني وفضحني أضعف خلقه! ثمّ تلا قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً لََا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [1].
وكان بيّن اللّسان، قليل فضول الكلام، وكان مهيبا في أصحابه، وكان أحد من لم يطعن عليه في نفسه، ولا في تعريض أصحابه للمنالة.
795 [قصّة في إلحاح الذباب]
فأمّا الذي أصابني أنا من الذّبّان، فإنّي خرجت أمشي في المبارك [2] أريد دير الربيع، ولم أقدر على دابّة، فمررت في عشب أشب [3] ونبات ملتفّ كثير الذّبّان،
[1] 73/ الحج: 22.
[2] المبارك: اسم نهر بالبصرة احتفره خالد القسري، والمبارك: نهر وقرية فوق واسط. معجم البلدان 5/ 50.
[3] عشب أشب: ملتف «القاموس: أشب».(3/164)
فسقط ذباب من تلك الذّبّان على أنفي، فطردته، فتحولّ إلى عيني فطردته، فعاد إلى موق عيني، فزدت في تحريك يديّ فتنحّى عني بقدر شدّة حركتي وذبّي عن عيني ولذبّان الكلإ والغياض والرّياض وقع ليس لغيرها ثمّ عاد إليّ فعدت عليه ثمّ عاد إليّ فعدت بأشدّ من ذلك، فلما عاد استعملت كمّي فذببت به عن وجهي، ثمّ عاد، وأنا في ذلك أحثّ السّير، أؤمّل بسرعتي انقطاعه عنّي فلما عاد نزعت طيلساني [1] من عنقي فذببت به عنّي بدل كمّي فلما عاود ولم أجد له حيلة استعملت العدو، فعدوت منه شوطا تامّا لم أتكلف مثله مذ كنت صبيّا، فتلقّاني الأندلسيّ فقال لي:
ما لك يا أبا عثمان! هل من حادثة؟ قلت: نعم أكبر الحوادث، أريد أن أخرج من موضع للذّبّان عليّ فيه سلطان! فضحك حتى جلس. وانقطع عني، وما صدّقت بانقطاعه عنّي حتّى تباعد جدّا.
796 [ذبّان العساكر]
والعساكر أبدا كثيرة الذّبّان. فإذا ارتحلوا لم ير المقيم بعد الظّاعن منها إلا اليسير.
وزعم بعض النّاس أنّهنّ يتبعن العساكر، ويسقطن على المتاع، وعلى جلال الدّواب، وأعجاز البراذين التي عليها أسبابها حتى تؤدّي إلى المنزل الآخر.
وقال المكّيّ: يتبعوننا ليؤذونا، ثمّ لا يركبون إلّا أعناقنا ودوابّنا!
797 [تخلّق الذّباب]
ويقول بعضهم: بل إنما يتخلّق من تلك العفونات والأبخرة والأنفاس، فإذا ذهبت فنيت مع ذهابها، ويزعمون أنّهم يعرفون ذلك بكثرتها في الجنائب، وبقلّتها في الشمائل.
قالوا: وربّما سددنا فم الآنية التي فيها الشّراب بالصّمامة، فإذا نزعناها وجدنا هناك ذبابا صغارا.
وقال ذو الرّمّة [3]: [من الطويل] وأيقنّ أنّ القنع صارت نطافه ... فراشا وأنّ البقل ذاو ويابس
[1] الطيلسان: ضرب من الأكسية، أصله فارسي «اللسان: طلس».
[2] انظر الفقرة (803).
[3] ديوان ذي الرمة 1121، واللسان (فرش، قنع، ذوي)، والتاج (فرش، قنع)، والعين 1/ 171، والتهذيب 1/ 258، 11/ 346، 15/ 438، وديوان الأدب 1/ 188.(3/165)
القنع: الموضع الذي يجتمع فيه نقران الماء. والفراش: الماء الرقيق الذي يبقى في أسفل الحياض.
وأخبرني رجل من ثقيف، من أصحاب النّبيذ أنّهم ربّما فلقوا السّفرجلة أيام السّفرجل للنّقل والأكل، وليس هناك من صغار الذّبّان شيء البتّة ولا يعدمهم أن يروا على مقاطع السّفرجل ذبابا صغارا. وربّما رصدوها وتأمّلوها، فيجدونها تعظم حتّى تلحق بالكبار في السّاعة الواحدة.
798 [حياة الذّباب والجعلان بعد موته]
قال: وفي الذّبان طبع كطبع الجعلان، فهو طبع غريب عجيب. ولولا أنّ العيان قهر أهله لكانوا خلقاء أن يدفعوا الخبر عنه فإنّ الجعل إذا دفن في الورد مات في العين، وفنيت حركاته كلّها، وعاد جامدا تارزا [1] ولم يفصل الناظر إليه بينه وبين الجعل الميّت، ما أقام على تأمله. فإذا أعيد إلى الروث عادت إليه حركة الحياة من ساعته.
وجرّبت أنا مثل ذلك في الخنفساء، فوجدت الأمر فيها قريبا من صفة الجعل، ولم يبلغ كلّ ذلك إلّا لقرابة ما بين الخنفساء والجعل.
ودخلت يوما على ابن أبي كريمة، وإذا هو قد أخرج إجّانة [2] كان فيها ماء من غسالة أوساخ الثياب، وإذا ذبّان كثيرة قد تساقطن فيه من اللّيل فموّتن. هكذا كنّ في رأي العين. فغبرن كذلك عشيّتهنّ وليلتهنّ، والغد إلى انتصاف النهار، حتّى انتفخن وعفنّ واسترخين وإذا ابن أبي كريمة قد أعدّ آجرّة جديدة، وفتات آجرّ جديد، وإذا هو يأخذ الخمس منهنّ والستّ، ثمّ يضعهنّ على ظهر الآجرّة الجديدة، ويذرّ عليهنّ من دقاق ذلك الآجرّ الجديد المدقوق بقدر ما يغمرها فلا تلبث أن يراها قد تحرّكت، ثمّ مشت، ثمّ طارت إلّا أنّه طيران ضعيف.
799 [غلام ابن أبي كريمة]
وكان ابن أبي كريمة يقول: لا والله، لا دفنت ميّتا أبدا حتّى ينتن! قلت:
وكيف ذاك؟ قال: إنّ غلامي هذا نصيرا مات، فأخّرت دفنه لبعض الأمر، فقدم أخوه تلك اللّيلة فقال: ما أظنّ أخي مات! ثمّ أخذ فتيلتين ضخمتين، فروّاهما دهنا ثمّ
[1] التارز: اليابس لا روح فيه والميت «القاموس: ترز».
[2] الإجانة: الوعاء يغسل فيه الثياب «القاموس: أجن».(3/166)
أشعل فيها النّار، ثمّ أطفأهما وقرّبهما إلى منخريه، فلم يلبث أن تحرّك. وها هو ذا قد تراه! قلت له: إن أصحاب الحروب والذين يغسلون الموتى، والأطباء، عندهم في هذا دلالات وعلامات فلا تحمل على نفسك في واحد من أولئك ألّا تستره بالدفن حتى يجيف.
والمجوس يقرّبون الميّت من أنف الكلب، ويستدلون بذلك على أمره فعلمت أنّ الذي عاينّاه من الذّبّان قد زاد في عزمه.
800 [النّعر]
والنّعر: ضرب من الذّبان، والواحدة نعرة. وربما دخلت في أنف البعير أو السّبع، فيزمّ بأنفه للذي يلقى من المكروه بسببه. فالعرب تشبّه ذا الكبر من الرجال إذا صعّر خده، وزمّ أنفه بذلك البعير في تلك الحال. فيقال عند ذلك: «فلان في أنفه نعرة» [1]، و «في أنفه خنزوانة» [2]. وقال عمر: «والله لا أقلع عنه أو أطيّر نعرته» [3].
ومنها القمع، وهو ضرب من ذبّان الكلأ. وقال أوس [4]: [من الطويل] ألم تر أن الله أنزل مزنه ... وعفر الظّباء في الكناس تقمّع
وذلك مما يكون في الصيف وفي الحرّ.
801 [أذى الذّبّان للدوابّ]
والذّبان جند من جند الله شديد الأذى. وربّما كان أضرّ من الدّبر [5] في بعض الزمان، وربما أتت على القافلة بما فيها وذلك أنّها تغشى الدوابّ حتّى تضرب بأنفسها الأرض وهي في المفاوز وتسقط، فيهلك أهل القافلة لأنهم لا يخرجون من تلك المفاوز على دوابهم وكذلك تضرب الرّعاء بإبلهم، والجمالون بجمالهم عن تلك الناحية، ولا يسلكها صاحب دابّة، ويقول بعضهم لبعض: بادروا قبل حركة الذّبان، وقبل أن تتحرك ذّبان الرّياض والكلأ!
[1] في الأمثال (في رأسه نعرة)، والمثل في مجمع الأمثال 2/ 69، والمستقصى 2/ 83، وجمهرة الأمثال 2/ 99.
[2] جمهرة الأمثال 2/ 99.
[3] النهاية 5/ 80. أي حتى أخرج جهله من رأسه.
[4] ديوان أوس بن حجر 57، واللسان والتاج (قمع، حزن)، والمقاييس 8/ 28، والمخصص 8/ 183، والمجمل 4/ 124، والتهذيب 1/ 291، وبلا نسبة في الجمهرة 941.
[5] الدبر: جماعة النحل والزنابير «القاموس: دبر».(3/167)
والزّنابير لا تكاد تدمي إذا لسعت بأذنابها. والذّبّان تغمس خراطيمها في جوف لحوم الدوابّ، وتخرق الجلود الغلاظ حتى تنزف الدّم نزفا. ولها مع شدّة الوقع سموم. وكذلك البعوضة ذات سمّ، ولو زيد في بدن البعوضة وزيد في حرقة لسعها إلى أن يصير بدنها كبدن الجرّارة [1] فإنها أصغر العقارب لما قام له شيء، ولكان أعظم بليّة من الجرّارة النصيبية [2] أضعافا كثيرة. وربّما رأيت الحمار وكأنّه ممغّر أو معصفر. وإنّهم مع ذلك ليجلّلون حمرهم ويبرقعونها، وما يدعون موضعا إلّا ستروه بجهدهم، فربّما رأيت الحمير وعليها الرّجال فيما بين عبدسي [3] والمذار [4] بأيديهم المناخس والمذابّ، وقد ضربت بأنفسها الأرض واستسلمت للموت. وربّما رأيت صاحب الحمير إذا كان أجيرا يضربها بالعصا بكلّ جهده، فلا تنبعث.
وليس لجلد البقرة والحمار والبعير عنده خطر. ولقد رأيت ذبابا سقط على سالفة [5] حمار كان تحتي، فضرب بأذنيه، وحرّك رأسه بكلّ جهده، وأنا أتأمّله وما يقلع عنه، فعمدت بالسّوط لأنحّيه به فنزا عنه، ورأيت مع نزوه عنه الدّم وقد انفجر كأنّه كان يشرب الدّم وقد سدّ المخرج بفيه، فلمّا نحّاه طلع.
802 [ونيم الذّباب]
وتزعم العامّة أنّ الذّبّان يخرأ على ما شاء قالوا: لأنّا نراه يخرأ على الشيء الأسود أبيض، وعلى الأبيض أسود.
[1] الجرارة، كجبانة: عقيرب تجر ذنبها «القاموس: جرر».
[2] الجرارة النصيبية: نسبة إلى نصيبين، وهي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام وسبب كثرة عقاربها أن أنو شروان الملك حاصرها وما قدر أن يفتحها، فأمر أن تجمع إليه العقارب. فحملوا العقارب من قرية تعرف بطيرانشاه من عمل شهرزور، فرماهم بها في العرادات والقوارير. وكان يملأ القارورة من العقارب ويضعها في العرادة وهي على هيئة المنجنيق، فتقع القارورة وتنكسر وتخرج تلك العقارب، حتى ضجّ أهلها وفتحوا له البلد، وأخذها عنوة، وذلك أصل عقارب نصيبين. معجم البلدان 5/ 288.
[3] عبدسي: اسم مصنعة كانت برستاق كسكر، خربها العرب، وبقي اسمها على ما كان حولها من العمارة. معجم البلدان 4/ 77.
[4] المذار: مدينة بين واسط والبصرة، فتحها عتبة بن غزوان أيام عمر بن الخطاب. معجم البلدان 4/ 88.
[5] السالفة: ما تقدم من العنق «القاموس: سلف».(3/168)
ويقال قد ونم الذّباب في معنى خرئ الإنسان وعرّ الطائر. وصام النّعام، وذرق الحمام. قال الشاعر [1]: [من الوافر] وقد ونم الذّباب عليه حتّى ... كأنّ ونيمه نقط المداد
وليس طول كوم البعير إذا ركب النّاقة، والخنزير إذا ركب الخنزيرة، بأطول ساعة من لبث ذكورة الذّبان على ظهور الإناث عند السّفاد.
803 [تخلق الذّباب]
[2] والذّباب من الخلق الذي يكون مرّة من السّفاد والولاد، ومرّة من تعفّن الأجسام والفساد الحادث في الأجرام.
والباقلاء إذا عتق شيئا في الأنبار [3] استحال كلّه ذبابا، فربّما أغفلوه في تلك الأنبار فيعودون إلى الأنبار [3] وقد تطاير من الكوى والخروق فلا يجدون في الأنبار إلّا القشور.
والذّباب الذي يخلق من الباقلاء يكون دودا، ثمّ يعود ذبابا. وما أكثر ما ترى الباقلاء مثقّبا في داخله شيء كأنّه مسحوق، إذا كان الله قد خلق منه الذّبّان وصيّره.
وما أكثر ما تجده فيه تامّ الخلق. ولو تمّ جناحاه لقد كان طار.
804 [حديث شيخ عن تخلق الذّباب]
وحدّثني بعض أصحابنا عن شيخ من أهل الخريبة قال: كنت أحبّ الباقلاء، وأردت، إمّا البصرة وإما بغداد ذهب عنّي حفظه فصرت في سفينة حملها باقلاء، فقلت في نفسي: هذا والله من الحظّ وسعادة الجدّ، ومن التّوفيق والتسديد، ولقد أربع من وقع له مثل هذا الذي قد وقع لي: أجلس في هذه السفينة على هذا الباقلاء، فآكل منه نيّا ومطبوخا ومقلوّا، وأرضّ [4] بعضه وأطحنه، وأجعله مرقا وإداما، وهو يغذو غذاء صالحا، ويسمن، ويزيد في الباه. فابتدأت فيما أمّلته، ودفعنا السّفينة،
[1] البيت للفرزدق في ديوانه 215 (طبعة الصاوي)، واللسان والتاج (ونم)، والمجمل 4/ 556، والجمهرة 992، وبلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 255، والمخصص 8/ 186، والتهذيب 15/ 535، 16/ 209.
[2] انظر الفقرة (797).
[3] الأنبار: جمع نبر، وهو بيت التاجر ينضّد فيه المتاع، والأنبار أيضا: أكداس الطعام «القاموس: نبر».
[4] أرضّ: أدق «القاموس: رضض».(3/169)
فأنكرت كثرة الذّبّان. فلما كان الغد جاء منه ما لم أقدر معه على الأكل والشرب.
وذهبت القائلة وذهب الحديث، وشغلت بالذّبّ. على أنهنّ لم يكنّ يبرحن بالذّبّ، وكنّ أكثر من أن أكون أقوى عليهنّ لأنّي كنت لا أطرد مائة حتى يخلفها مائة مكانها. وهنّ في أول ما يخرجن من الباقلاء كأنّ بهنّ زمانة [1] فلما كان طيرانهنّ أسوأ كان أسوأ لحالي، فقلت للملاح: ويلك! أيّ شيء معك حتى صار الذبان يتبعك! قد والله أكلت وشربت! قال: أو ليس تعرف القصّة؟ قلت: لا والله! قال:
هي والله من هذه الباقلاء، ولولا هذه البليّة لجاءنا من الرّكاب كما يجيئون إلى جميع أصحاب الحمولات. وما ظننته إلّا ممن قد اغتفر هذا للين الكراء، وحبّ التفرّد بالسفينة. فسألته أن يقربني إلى بعض الفرض [2]، حتى أكتري من هناك إلى حيث أريد، فقال لي: أتحبّ أن أزوّدك منه؟ قلت: ما أحبّ أن ألتقي أنا والباقلاء في طريق أبدا!.
805 [من كره الباقلاء]
ولذلك كان أبو شمر لا يأكل الباقلاء، وكان أخذ ذلك عن معلّمه معمّر أبي الأشعث. وكذلك كان عبد الله بن مسلمة بن محارب والوكيعيّ ومعمّر، وأبو الحسن المدائني، برهة من دهرهم.
وكان يقول: لولا أنّ الباقلاء عفن فاسد الطّبع، رديء يخثّر الدّم ويغلّظه ويورث السّوداء وكلّ بلاء لما ولّد الذّبان. والذّبان أقذر ما طار ومشى! وكان يقول: كلّ شيء ينبت منكوسا فهو رديء للذّهن، كالباقلاء والباذنجان.
وكان يزعم أنّ رجلا هرب من غرمائه فدخل في غابة باقلاء، فتستّر عنهم بها، فأراد بعضهم إخراجه والدخول فيها لطلبه، فقال: أحكمهم وأعلمهم كفاكم له بموضعه شرّا! وكان يقول: سمعت ناسا من أهل التجربة يحلفون بالله: إنّه ما أقام أحد أربعين يوما في منبت باقلاء وخرج منه إلّا وقد أسقمه سقما لا يزايل جسمه.
وزعم أنّ الذي منع أصحاب الأدهان والتربية بالسمسم من أن يربّوا السّماسم [3]
[1] الزمانة: العاهة «القاموس: زمن».
[2] الفرض: جمع فرضة، وهي محطّ السفن من البحر «القاموس: فرض».
. [3] السّماسم: طائر «القاموس: سمم». وفي حياة الحيوان 1/ 566: (السّمائم: جمع سمامة، وهو ضرب من الطير كالخطاف، وقيل هو السنونو، وهو الطير الأبابيل الذي أرسله الله تعالى على أصحاب الفيل).(3/170)
بنور الباقلاء، الذي يعرفون من فساد طبعه، وأنّه غير مأمون على الدّماغ وعلى الخيشوم والصّماخ [1]، ويزعمون أنّ عمله الذي عمله هو القصد إلى الأذهان بالفساد.
وكان يزعم أنّ كلّ شيء يكون رديئا للعصب فإنّه يكون رديئا للذّهن، وأن البصل إنما كان يفسد الذهن إذ كان رديّا للعصب، وأن البلاذر [2] إنما صار يصلح العقل ويورث الحفظ لأنّه صالح للعصب.
وكان يقول: سواء عليّ أكلت الذّبان أو أكلت شيئا لا يولّد إلّا الذّبان، وهو لا يولّده إلّا هو. والشيء لا يلد الشيء إلّا وهو أولى الأشياء به، وأقربها إلى طبعه، وكذلك جميع الأرحام، وفيما ينتج أرحام الأرض وأرحام الحيوان، وأرحام الأشجار، وأرحام الثّمار، فيما يتولّد منها وفيها.
806 [حديث أبي سيف حول حلاوة الخرء]
وبينما أنا جالس يوما في المسجد مع فتيان من المسجديّين مما يلي أبواب بني سليم، وأنا يومئذ حدث السّنّ إذ أقبل أبو سيف الممرور وكان لا يؤذي أحدا، وكان كثير الظّرف من قوم سراة حتى وقف علينا، ونحن نرى في وجهه أثر الجدّ، ثمّ قال مجتهدا: والله الذي لا إله إلّا هو إن الخرء لحلو. ثمّ والله الذي لا إله إلّا هو إنّ الخرء لحلو. ثم والله الذي لا إله إلّا هو إن الخرء لحلو، يمينا باتّة يسألني الله عنها يوم القيامة! فقلت له: أشهد أنّك لا تأكله ولا تذوقه، فمن أين علمت ذلك؟ فإن كنت علمت أمرا فعلّمنا مما علمك الله. قال: رأيت الذّبّان يسقط على النّبيذ الحلو، ولا يسقط على الحازر [3]، ويقع على العسل ولا يقع على الخلّ، وأراه على الخرء أكثر منه على التّمر. أفتريدون حجّة أبين من هذه؟ فقلت: يا أبا سيف بهذا وشبهه يعرف فضل الشّيخ على الشابّ.
807 [تخلق بعض الحيوان من غير ذكر وأنثى]
[4] ثمّ رجع بنا القول إلى ذكر خلق الذّبان من الباقلاء. وقد أنكر ناس من العوامّ
[1] الصماخ: خرق الأذن، والأذن نفسها «القاموس: صمخ».
[2] البلاذر: يسمى باليونانية أنقرديا ومعناها: الشبيه بالقلب إلماعا إلى شكل الثمر، وهو نبات طبي من فصيلة البطميات، تؤكل ثماره وتسمى تفاح الأكاجو، وتفاح البلاذر، انظر معجم الألفاظ الزراعية للشهابي 36.
[3] الحازر: الحامض من اللبن والنبيذ «القاموس: حزر».
[4] انظر الفقرة (812).(3/171)
وأشباه العوامّ أن يكون شيء من الخلق كان من غير ذكر وأنثى. وهذا جهل بشأن العالم، وبأقسام الحيوان. وهم يظنّون أنّ على الدّين من الإقرار بهذا القول مضرّة.
وليس الأمر كما قالوا. وكلّ قول يكذّبه العيان فهو أفحش خطأ، وأسخف مذهبا، وأدلّ على معاندة شديدة أو غفلة مفرطة.
وإن ذهب الذّاهب إلى أن يقيس ذلك على مجاز ظاهر الرّأي، دون القطع على غيب حقائق العلل، فأجراه في كلّ شيء قال قولا يدفعه العيان أيضا، مع إنكار الدّين له.
وقد علمنا أنّ الإنسان يأكل الطّعام ويشرب الشّراب، وليس فيهما حيّة ولا دودة، فيخلق منها في جوفه ألوان من الحيّات، وأشكال من الدّيدان من غير ذكر ولا أنثى. ولكن لابدّ لذلك الولاد واللّقاح من أن يكون عن تناكح طباع، وملاقاة أشياء تشبه بطباعها الأرحام وأشياء تشبه في طبائعها ملقّحات الأرحام.
808 [استطراد لغوي بشواهد من الشعر]
وقد قال الشاعر: [من الكامل] فاستنكح اللّيل البهيم فألقحت ... عن هيجه واستنتجت أحلاما
وقال الآخر: [من مجزوء الكامل] وإذا الأمور تناكحت ... فالجود أكرمها نتاجا
وقال ذو الرّمّة: [من الطويل] وإنّي لمدلاج إذا ما تناكحت ... مع اللّيل أحلام الهدان المثقّل [1]
وقال عليّ بن معاذ: [من السريع] للبدر طفل في حضان الهوا ... مستزلق من رحم الشّمس [2]
وقال دكين الرّاجز [3]، أو أبو محمد الفقعسيّ: [من الرجز] وقد تعللت ذميل العنس ... بالسّوط في ديمومة كالتّرس ... إذا عرّج اللّيل بروج الشّمس
[1] الهدان: الأحمق الثقيل «القاموس: هدن».
[2] أزلقت الفرس: ألقت ولدها تاما «القاموس: زلق».
[3] تقدم الرجز في الفقرة (577) صفحة 37.(3/172)
وقال أمية بن أبي الصّلت [1]: [من الكامل] والأرض نوّخها الإله طروقة ... للماء حتّى كلّ زند مسفد [2] ... والأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها مقابرنا وفيها نولد
وذكر أميّة الأرض فقال [3]: [من البسيط] والطّوط نزرعه فيها فنلبسه ... والصّوف نجتزّه ما أردف الوبر [4] ... هي القرار فما نبغي بها بدلا ... ما أرحم الأرض إلّا أنّنا كفر ... وطعنة الله في الأعداء نافذة ... تعيي الأطبّاء لا تثوى لها السّبر [5]
ثمّ رجع إليها فقال:
منها خلقنا وكانت أمّنا خلقت ... ونحن أبناؤها لو أنّنا شكر [6]
809 [ما تستنكره العامة من القول]
وتقول العرب: الشمس أرحم بنا! فإذا سمع السامع منهم أنّ جالينوس قال:
عليكم بالبقلة الرحيمة السّلق استشنعه السامع، وإذا سمع قول العرب: الشمس أرحم بنا، وقول أميّة [7]: [من البسيط] ما أرحم الأرض إلا أنّنا كفر
لم يستشنعه، وهما سواء.
فإذا سمع أهل الكتاب يقولون: إنّ عيسى ابن مريم أخذ في يده اليمنى غرفة، وفي اليسرى كسرة خبز، ثم قال: هذا أبي، للماء، وهذه أمّي، لكسرة الخبز.
استشنعه، فإذا سمع قول أميّة [8]: [من الكامل] والأرض نوّخها الإله طروقة ... للماء حتّى كل زند مسفد
لم يستشنعه.
[1] ديوان أمية بن أبي الصلت 356، والأول في اللسان والتاج (سفد)، والثاني في المخصص 13/ 180، وبلا نسبة في المذكر والمؤنث للأنباري 187.
[2] في ديوانه: (نوّخها: أبركها. والطروقة: أنثى الفحل، شبه الماء والأرض بالأنثى والفحل).
[3] ديوان أمية بن أبي الصلت 385.
[4] في ديوانه (الطوط: القطن، وقيل: قطن البردي خاصة، أردف: توالى وتتابع).
[5] في ديوانه (السبر: جمع سبار، وهو فتيلة تجعل في الجرح. وثوى في المكان: أطال الإقامة به).
[6] في ديوانه (شكر: جمع شاكر، وهو خلاف الجاحد).
[7] تقدم البيت في نهاية الفقرة السابقة.
[8] تقدم البيت في الفقرة السابقة.(3/173)
والأصل في ذلك أنّ الزّنادقة أصحاب ألفاظ في كتبهم، وأصحاب تهويل لأنّهم حين عدموا المعاني ولم يكن عندهم فيها طائل، مالوا إلى تكلّف ما هو أخضر وأيسر وأوجز كثيرا.
810 [حظوة بعض الألفاظ لدى بعض النّاس]
ولكلّ قوم ألفاظ حظيت عندهم. وكذلك كلّ بليغ في الأرض وصاحب كلام منثور، وكلّ شاعر في الأرض وصاحب كلام موزون فلا بد من أن يكون قد قد لهج وألف ألفاظا بأعيانها ليديرها في كلامه، وإن كان واسع العلم غزير المعاني، كثير اللّفظ.
فصار حظّ الزّنادقة من الألفاظ التي سبقت إلى قلوبهم، واتّصلت بطبائعهم، وجرت على ألسنتهم التناكح، والنتائج، والمزاج والنّور والظلمة، والدفّاع والمنّاع، والساتر والغامر، والمنحلّ، والبطلان، والوجدان، والأثير والصّدّيق وعمود السبح، وأشكالا من هذا الكلام. فصار وإن كان غريبا مرفوضا مهجورا عند أهل ملّتنا ودعوتنا، وكذلك هو عند عوامّنا وجمهورنا، ولا يستعمله إلّا الخواصّ وإلّا المتكلّمون.
811 [لكل مقام مقال ولكل صناعة شكل]
وأنا أقول في هذا قولا، وأرجو أن يكون مرضيا. ولم أقل «أرجو» لأني أعلم فيه خللا، ولكنّي أخذت بآداب وجوه أهل دعوتي وملّتي، ولغتي، وجزيرتي، وجيرتي وهم العرب. وذلك أنّه قيل لصحار العبديّ: الرجل يقول لصاحبه، عند تذكيره أياديه وإحسانه: أما نحن فإنّا نرجو أن نكون قد بلغنا من أداء ما يجب علينا مبلغا مرضيا. وهو يعلم أنّه قد وفّاه حقّه الواجب، وتفضّل عليه بما لا يجب. قال صحار: كانوا يستحبّون أن يدعوا للقول متنفّسا، وأن يتركوا فيه فضلا، وأن يتجافوا عن حقّ إن أرادوه لم يمنعوا منه.
فلذلك قلت «أرجو». فافهم فهّمك الله تعالى.
فإنّ رأيي في هذا الضّرب من هذا اللفظ، أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها، والعادة فيها، أن ألفظ بالشّيء العتيد [1] الموجود، وأدع التكلّف لما عسى ألّا يسلس ولا يسهل إلّا بعد الرّياضة الطويلة.
[1] العتيد: الحاضر المهيأ «القاموس: عتد».(3/174)
وأرى أن ألفظ بألفاظ المتكلمين ما دمت خائضا في صناعة الكلام مع خواصّ أهل الكلام فإن ذلك أفهم لهم عني، وأخفّ لمؤنتهم عليّ.
ولكل صناعة ألفاط قد حصلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلّا بعد أن كانت مشاكلا بينها وبين تلك الصناعة.
وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلّمين في خطبة، أو رسالة، أو في مخاطبة العوام والتجار، أو في مخاطبة أهله وعبده وأمته، أو في حديثه إذا تحدث، أو خبره إذا أخبر.
وكذلك فإنّه من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب، وألفاظ العوامّ وهو في صناعة الكلام داخل. ولكلّ مقام مقال، ولكلّ صناعة شكل.
812 [خلق بعض الحيوان من غير ذكر وأنثى]
ثم رجع بنا القول إلى ما يحدث الله عزّ وجلّ من خلقه من غير ذكر ولا أنثى.
فقلنا [1]: إنّه لابدّ في ذلك من تلاقي أمرين يقومان مقام الذّكر والأنثى، ومقام الأرض والمطر. وقد تقرب الطّبائع، وإن لم تتحوّل في جميع معانيها، كالنطفة والدّم، وكاللّبن والدّم.
وقد قال صاحب المنطق: أقول بقول عامّ: لابدّ لجميع الحيوان من دم، أو من شيء يشاكل الدّم.
ونحن قد نجد الجيف يخلق منها الدّيدان، وكذلك العذرة. ولذلك المجوسيّ كلما تبرّز ذرّ على برازه شيئا من التراب لئلا يخلق منها ديدان. والمجوسيّ لا يتغوّط في الآبار والبلاليع لأنّه بزعمه يكرم بطن الأرض عن ذلك، ويزعم أنّ الأرض أحد الأركان التي بنيت العوالم الخمسة عليها بزعمهم: أبرسارس وأبرمارس وأبردس وكارس وحريرة أمنة. وبعضهم يجعل العوالم ستة ويزيد أسرس، ولذلك لا يدفنون موتاهم ولا يحفرون لهم القبور، ويضعونهم في النّواويس وضعا.
قالوا: ولو استطعنا أن نخرج تلك الجيف من ظهور الأرضين وأجواف الأحراز [2]، كما أخرجناها من بطون الأرضين لفعلنا. وهم يسمّون يوم القيامة روز رستهار، كأنّه يوم تقوم الجيف. فمن بغضهم لأبدان الموتى سمّوها بأسمج أسمائهم.
[1] انظر الفقرة (807).
[2] الأحراز: جمع حرز، وهو المكان الحصين «القاموس: حرز».(3/175)
قالوا: وعلى هذا المثال أعظمنا النّار والماء، وليسا بأحقّ بالتعظيم من الأرض.
وبعد فنحن ننزع الصّمامة من رؤوس الآنية التي يكون فيها بعض الشراب، فنجد هنالك من الفراش ما لم يكن عن ذكر ولا أنثى، وإنما ذلك لاستحالة بعض أجزاء الهواء وذلك الشراب إذا انضمّ عليه ذلك الوعاء. وهذا قول ذي الرمّة وتأويل شعره، حيث يقول [1]: [من الطويل] وأبصرن أن القنع صارت نطافه ... فراشا وأنّ البقل ذاو ويابس
وكذلك كلّ ما تخلق من جمّار النّخلة وفيها، من ضروب الخلق والطّير، وأشباه الطير، وأشباه بنات وردان [2]، والذي يسمّى بالفارسية فاذو، وكالسّوس، والقوادح [3]، والأرضة، وبنات وردان اللاتي يخلقن من الأجذاع والخشب والحشوش. وقد نجد الأزج [4] الذي يكبس فيه اليخّ [5] بخراسان، كيف يستحيل كله ضفادع. وما الضّفدع بأدلّ على الله من الفراش.
وإنما يستحيل ذلك الثّلج إذا انفتح فيه كقدر منخر الثّور، حتّى تدخله الرّيح التي هي اللاقحة، كما قال الله عزّ وجلّ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ} [6]، فجعلها لاقحة ولم يجعلها ملقحة.
ونجد وسط الدّهناء [7] وهي أوسع من الدوّ [8] ومن الصّمّان [9] وعلى ظهر مسجد الجامع في غبّ المطر من الضّفادع ما لا يحصى عدده. وليس أنّ ذلك كان عن ذكر وأنثى، ولكنّ الله خلقها تلك الساعة من طباع تلك التّربة وذلك المطر
[1] ديوان ذي الرمة 1121، واللسان (فرش، قنع، ذوي)، والتاج (فرش، قنع)، والعين 1/ 171، وديوان الأدب 1/ 188، والتهذيب 1/ 258، 11/ 346، 15/ 438.
[2] بنات وردان: دويبة تتولد في الأماكن الندية، وأكثر ما تكون في الحمامات والسقايات، وهي تألف الحشوش، أي قطع النخل. حياة الحيوان 2/ 429.
[3] القوادح: جمع قادحة، وهي الدودة «القاموس: قدح». وحياة الحيوان: 2/ 194.
[4] الأزج: ضرب من الأبنية «القاموس: أزج».
[5] اليخ: كلمة فارسية تعني الثلج. انظر السامي في الأسامي 343، وقد وردت هذه الفقرة في ربيع الأبرار 5/ 440.
[6] 22/ الحجر: 15.
[7] الدهناء: واد ببادية البصرة في أرض بني سعد معجم البلدان 2/ 493.
[8] الدّوّ: أرض ملساء بين مكة والبصرة على الجادة، ليس فيها جبل ولا رمل. معجم البلدان 2/ 490.
[9] الصمّان: أرض فيها غلظ وارتفاع، وفيها قيعان واسعة، وهي متاخمة للدهناء، وقيل: الصمان جبل في أرض تميم أحمر ليس له ارتفاع، انظر معجم البلدان 3/ 423.(3/176)
وذلك الهواء المحيط بهما، وتلك الرّيح المتحرّكة. وإن زعموا أن تلك الضّفادع كانت في السّحاب، فالذي أقرّوا به أعجب من الذي أنكروه. وإنما تقيم الضّفادع وتتربّى وتتوالد في مناقع المياه، في أرض تلاقي ماء. والسّحاب لا يوصف بهذه الصفة. قد نجد الماء يزيد في دجلة والفرات فتنزّ البطون والحفائر التي تليها من الأرض، فيخلق من ذلك الماء السّمك الكثير، ولم يكن في تلك الحفائر الحدث [1]، ولا في بحر تلك الأرضين شيء من بيض السّمك.
ولم نجد أهل القاطول [2] يشكّون في أنّ الفأر تخلّق من أرضهم، وأنّهم ربّما أبصروا الفأرة من قبل أن يتم خلقها. فنسبوا بأجمعهم خلق الفأر إلى الذكر والأنثى، وإلى بعض المياه والتّرب والأجواء والزمان، كما قالوا في السمك، والضّفادع، والعقارب.
813 [ضعف اطراد القياس والرأي في الأمور الطبيعية]
فإن قاس ذلك قائس فقال: ليس بين الذّبّان وبنات وردان وبين الزّنابير فرق، ولا بين الزّنابير والدّبر والخنافس فرق، ولا بين الزّرازير والخفافيش ولا بين العصافير والزّرازير فرق فإذا فرغوا من خشاش الأرض صاروا إلى بغاثها ثم إلى أحرارها، ثم إلى الطواويس والتدّارج [3] والزمامج [4] حتى يصعدوا إلى الناس. قيل لهم: ليس ذلك كذلك، وينبغي لكم بديّا أن تعرفوا الطّبيعة والعادة، والطبيعة الغريبة من الطبيعة العامّية، والممكن من الممتنع، وأنّ الممكن على ضربين: فمنه الذي لا يزال يكون، ومنه الذي لا يكاد يكون، وما علة الكثرة والقلة، وتعرفوا أنّ الممتنع أيضا على ضربين: فمنه ما يكون لعلة موضوعة يجوز دفعها، وما كان منه لعلة لا يجوز دفعها، وفصل ما بين العلة التي لا يجوز دفعها وهي على كل حال علة، وبين الامتناع الذي لا علة له إلّا عين الشيء وجنسه.
وينبغي أن تعرفوا فرق ما بين المحال والممتنع، وما يستحيل كونه من الله عزّ وجلّ وما يستحيل كونه من الخلق.
[1] الأحداث: أمطار أول السنة. «القاموس: حدث».
[2] القاطول: اسم نهر كأنه مقطوع من دجلة، وهو نهر كان في موضع سامرّا قبل أن تعمر، وكان الرشيد أول من حفره. معجم البلدان 4/ 297.
[3] التدرج: طائر يغرد في البساتين بأصوات طيبة حياة الحيوان. 1/ 230.
[4] الزمج: طائر من الجوارح يصيد به الملوك الطير، وهو دون العقاب، تسميه العجم «دو برادران».
حياة الحيوان 1/ 538.(3/177)
وإذا عرفتم الجواهر وحظوظها من القوى، فعند ذلك فتعاطوا الإنكار والإقرار، وإلّا فكونوا في سبيل المتعلم، أو في سبيل من آثر الرّاحة ساعة على ما يورث كدّ التعلّم من راحة الأبد. قد يكون أن يجيء على جهة التوليد شيء يبعد في الوهم مجيئه، ويمتنع شيء هو أقرب في الوهم من غيره لأنّ حقائق الأمور ومغيّبات الأشياء، لا تردّ إلى ظاهر الرّأي، وإنما يردّ إلى الرّأي ما دخل في باب الحزم والإضاعة وما هو أصوب وأقرب إلى نيل الحاجة. وليس عند الرّأي علم بالنّجح والإكداء كنحو مجيء الزّجاج من الرّمل، وامتناع الشّبه [1] والزئبق من أن يتحوّل في طبع الذّهب والفضّة. والزئبق أشبه بالفضّة المايعة من الرّمل بالزجاج الفرعونيّ. والشّبه الدمشقي بالذهب الإبريز أشبه من الرّمل بفلق [2] الزجاج النقيّ الخالص الصافي.
ومن العجب أنّ الزّجاج وهو مولّد قد يجري مع الذهب في كثير مفاخر الذّهب إذ كان لا يغيّر طبعه ماء ولا أرض والفضّة التي ليست بمولدة إذا دفنت زمانا غير طويل استحالت أرضا. فأمّا الحديد فإنّه في ذلك سريع غير بطيء.
وقد زعم ناس أنّ الفرق الذي بينهما إنما هو أنّ كلّ شيء له في العالم أصل وخميرة، لم يكن كالشيء الذي يكتسب ويجتلب ويلفّق ويلزّق، وأن الذّهب لا يخلو من أن يكون ركنا من الأركان قائما منذ كان الهواء والماء والنار والأرض. فإن كان كذلك فهو أبعد شيء من أن يولّد النّاس مثله. وإن كان الذّهب إنما حدث في عمق الأرض، بأن يصادف من الأرض جوهرا. ومن الهواء الذي في خلالها جوهرا، ومن الماء الملابس لها جوهرا، ومن النار المحصورة فيها جوهرا، مع مقدار من طول مرور الزمان، ومقدار من مقابلات البروج. فإن كان الذّهب إنما هو نتيجة هذه الجواهر على هذه الأسباب، فواجب ألّا يكون الذهب أبدا إلّا كذلك.
فيقال لهؤلاء: أرأيتم الفأرة التي خلقت من صلب جرذ ورحم فأرة، وزعمتم أنّها فأرة على مقابلة من الأمور السّماويّة والهوائيّة والأرضية وكانت نتيجة هذه الخصال، مع استيفاء هذه الصّفات؟ ألسنا قد وجدنا فأرة أخرى تهيّأ لها من أرحام الأرضين، ومن حضانة الهواء، ومن تلقيح الماء، ومن مقابلات السماويّات والهوائيّات. فالزّمان أصار جميع ذلك سببا لفأرة أخرى مثلها. وكذلك كلّ ما عددناه فمن أين يستحيل أن يخلط الإنسان بين مائيّة طبيعية ومائيّة جوهر؟ إمّا من طريق
[1] الشّبه: النحاس الأصفر. «القاموس: شبه».
[2] فلق: جمع فلقة، وهي القطعة. «القاموس: فلق».(3/178)
التبعيد والتقريب، ومن طريق الظّنون والتجريب، أو من طريق أن يقع ذلك اتفاقا، كما صنع النّاطف [1] الساقط من يد الأجير في مذاب الصّفر [2] حتى أعطاه ذلك اللّون، وجلب ذلك النّفع، ثم إنّ الرّجال دبرته وزادت ونقصت، حتى صار شبها ذهبيّا. هذا مع النّوشاذر المولّد من الحجارة السّود.
فلو قلتم: إنّ ذلك قائم الجواز في العقل مطّرد في الرّأي، غير مستحيل في النّظر. ولكنّا وجدنا العالم بما فيه من النّاس منذ كانا فإنّ النّاس يلتمسون هذا وينتصبون له، ويكلفون به. فلو كان هذا الأمر يجيء من وجه الجمع والتوليد والتركيب والتجريب، أو من وجه الاتفاق، لقد كان ينبغي أن يكون ذلك قد ظهر من ألوف سنين وألوف إذ كان هذا المقدار أقلّ ما تؤرّخ به الأمم، ولكان هذا مقبولا غير مردود. وعلى أنّه لم يتبيّن لنا منه أنّه يستحيل أن يكون الذّهب إلّا من حيث وجد. وليس قرب كون الشيء في الوهم بموجب لكونه، ولا بعده في الوهم بموجب لامتناعه.
ولو أنّ قائلا قال: إنّ هذا الأمر إذ قد يحتاج إلى أن تتهيّأ له طباع الأرض، وطباع الماء، وطباع الهواء، وطباع النار، ومقادير حركات الفلك، ومقدار من طول الزمان.
فمتى لم تجتمع هذه الخصال وتكمل هذه الأمور لم يتمّ خلق الذّهب. وكذلك قد يستقيم أن يكون قد تهيأ لواحد أن يجمع بين مائتي شكل من الجواهر، فمزجها على مقادير، وطبخها على مقادير، وأغبّها مقدارا من الزمان، وقابلت مقدارا من حركات الأجرام السماويّة، وصادفت العالم بما فيه على هيئة، وكان بعض ما جرى على يده اتفاقا وبعضه قصدا، فلما اجتمعت جاء منها ذهب فوقع ذلك في خمسة آلاف سنة مرّة، ثمّ أراد صاحبه المعاودة فلم يقدر على أمثال مقادير طبائع تلك الجواهر، ولم يضبط مقادير ما كان قصد إليه في تلك المرّة، وأخطأ ما كان وقع له اتّفاقا، ولم يقابل من الفلك مثل تلك الحركات، ولا من العالم مثل تلك الهيئة، فلم يعد له ذلك.
فإن قال لنا هذا القول قائل وقال: بيّنوا لي موضع إحالته، ولا تحتجّوا بتباعد اجتماع الأمور به، فإنّا نقر لكم بتباعدها. هل كان عندنا في ذلك قول مقنع، والدّليل الذي تثلج به الصّدور؟! وهل عندنا في استطاعة النّاس أن يولّدوا مثل ذلك، إلّا بأن
[1] الناطف: ضرب من الحلوى، ويسمى القبّيط، لأنه يتنطّف قبل استضرابه، أي يقطر قبل خثورته.
«اللسان: نطف».
[2] الصفر: النحاس أو الذهب. «القاموس: صفر».(3/179)
يعرض هذا القول على العقول السليمة، والأفهام التّامّة وتردّه إلى الرسل والكتب؟! فإذا وجدنا هذه الأمور كلها نافية له، كان ذلك عندنا هو المقنع. وليس الشأن فيما يظهر اللّسان من الشكّ فيه والتّجويز له، ولكن ليردّه إلى العقل فإنّه سيجده منكرا ونافيا له، إذا كان العقل سليما من آفة المرض. ومن آفة التخبيل.
814 [ضروب التخبيل]
والتخبيل ضروب: تخبيل من المرار، وتخبيل من الشّيطان، وتخبيل آخر كالرجل يعمد إلى قلب رطب لم يتوقّح [1]، وذهن لم يستمرّ [2]، فيحمله على الدقيق وهو بعد لا يفي بالجليل، ويتخطّى المقدّمات متسكعا [3] بلا أمارة، فرجع حسيرا [4] بلا يقين، وغبر زمانا لا يعرف إلّا الشكوك والخواطر الفاسدة، التي متى لاقت القلب على هذه الهيئة، كانت ثمرتها الحيرة، والقلب الذي يفسد في يوم لا يداوى في سنة، والبناء الذي ينقض في ساعة لا يبنى مثله في شهر.
815 [قولهم: هذا نبيذ يمنع جانبه]
ثم رجع بنا القول إلى ذكر الذّبّان
قيل لعلّويه كلب المطبخ: أيّ شيء معنى قولهم: «هذا نبيذ يمنع جانبه»؟
قال: يريدون أن الذّبّان لا يدنو منه. وكان الرّقاشي حاضرا فأنشد قول ابن عبدل: [من الخفيف] عشّش العنكبوت في قعر دنّي ... إنّ ذا من رزيّتي لعظيم ... ليتني قد غمرت دني حتّى ... أبصر العنكبوت فيه يعوم ... غرقا لا يغيثه الدّهر إلّا ... زبد فوق رأسه مركوم [5] ... مخرجا كفّه ينادي ذبابا ... أن أغثني فإنّني مغموم ... قال: دعني فلن أطيق دنوّا ... من شراب يشمّه المزكوم
قال: والذّبّان يضرب به المثل في القذر وفي استطابة النّتن، فإذا عجز الذّباب عن شمّ شيء فهو الذي لا يكون أنتن منه.
[1] وقح وقاحة: صلب. «القاموس: وقح».
[2] يستمر: يقوى، ومنه يوم نحس مستمر: أي قوي. «القاموس: مرر».
[3] تسكع: تحير. «القاموس: سكع».
[4] حسر: كفرح وضرب: أعيا، فاستحسر فهو حسير. «القاموس: حسر».
[5] الركم: جمع شيء فوق آخر حتى يصير ركاما مركوما. «القاموس: ركم».(3/180)
ولذلك حين رمى ابن عبدل محمّد بن حسّان بن سعد بالبخر، قال [1]: [من الوافر] وما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند [2] ... يرين حلاوة ويخفن موتا ... وشيكا إن هممن له بورد
816 [أبو ذبّان]
ويقال لكلّ أبخر: أبو ذبّان، وكانت فيما زعموا كنية عبد الملك بن مروان [3] وأنشدوا قول أبي حزابة: [من الرجز] أمسى أبو ذبّان مخلوع الرّسن ... خلع عنان قارح من الحصن [4]
وقد صفت بيعتنا لابن حسن
817 [شعر فيه هجاء بالذباب]
قال رجل يهجو هلال بن عبد الملك الهنائيّ: [من الوافر] ألا من يشتري منّي هلالا ... مودّته وخلّته بفلس ... وأبرأ للذي يبتاع منّي ... هلالا من خصال فيه خمس ... فمنهنّ النغانغ والمكاوي ... وآثار الجروح وأكل ضرس [5] ... ومن أخذ الذباب بإصبعيه ... وإن كان الذّباب برأس جعس [6]
818 [التسوية بين الذبان والناس في العجز]
قالوا: وضرب الله عزّ وجلّ لضعف النّاس وعجزهم مثلا، فقال: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً لََا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [7] فقال
[1] الأغاني 2/ 413، وفيه البيت الأول مع أبيات أخرى.
[2] القند: كلمة معرّبة تعني عسل قصب السكر إذا جمّد. «القاموس: قند».
[3] ثمار القلوب 197 (393)، وعيون الأخبار 4/ 61، والمرصع 177، ولطائف المعارف 26، وقيل إن الذباب كان يسقط إذا قارب فاه من شدة رائحته.
[4] القارح: الذي وقعت سنه الرّباعية. «القاموس: قرح». الحصن: جمع حصان.
[5] النغانغ: جمع نغنغ كبرقع وهو لحمة في الحلق «القاموس: نغنغ».
[6] الجعس: الرجيع. «القاموس: جعس».
[7] 73/ الحج: 22.(3/181)
بعض النّاس: قد سوّى بين الذّبّان والنّاس في العجز: وقالوا: فقد يولّد النّاس من التّعفين الفراش وغير الفراش وهذا خلق، على قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [1] وعلى قوله: {أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} * [2] وعلى قول الشاعر [3]: [من الكامل] وأراك تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثمّ لا يفري
قيل لهم: إنما أراد الاختراع، ولم يرد التّقدير.
819 [قول في شعر]
وأمّا قول ابن ميّادة [4]: [من الطويل] ألا لا نبالي أن تخندف خندف ... ولسنا نبالي أن يطنّ ذبابها [5]
فإنّما جعل الذّباب هاهنا مثلا، وقد وضعه في غير موضع تحقير له وموضع تصغير. وهو مثل قوله [6]: [من الطويل] بني أسد كونوا لمن قد علمتم ... موالي ذلّت للهوان رقابها ... فلو حاربتنا الجنّ لم نرفع العصا ... عن الجنّ حتّى لا تهرّ كلابها
وليس يريد تحقير الكلاب.
ويقال: هو ذباب العين، وذباب السّيف، ويقال تلك أرض مذبّة أي كثيرة الذّباب.
وقال أبو الشّمقمق في هجائه لبعض من ابتلي به [7]: [من الرمل] أسمج النّاس جميعا كلّهم ... كذباب ساقط في مرقه
ويقال إن اللبن إذا ضرب بالكندس [8] ونضح به بيت لم يدخله ذبّان.
[1] 110/ المائدة: 5.
[2] 14/ المؤمنون: 23.
[3] ديوان زهير 82، واللسان (خلق، فرا)، وعمدة الحفاظ (خلق)، والمقاييس 2/ 214، 4/ 497، وديوان الأدب 2/ 123، وكتاب الجيم 3/ 49، والمخصص 4/ 111، والتهذيب 7/ 26، 15/ 242، وبلا نسبة في الجمهرة 619، والتاج (فرا).
[4] ديوان ابن ميادة 78، وحماسة القرشي 143، والأغاني 2/ 333، والمختار من شعر بشار 3/ 579.
[5] في ديوانه «تخندف: تهرول، خندف: امرأة إلياس بن مضر واسمها ليلى. الطنين: صوت الذباب».
[6] أي ابن ميادة، انظر المصادر في الحاشية قبل السابقة.
[7] ديوان أبي الشمقمق 157.
[8] الكندس: عروق نبات داخله أصفر وخارجه أسود، مقيء مسله جلاء للبهق. «القاموس: كدس».(3/182)
820 [أبو حكيم وثمامة بن أشرس]
وسمعت أبا حكيم الكيمائي وهو يقول لثمامة بن أشرس: قلنا لكم إنّنا ندلكم على الإكسير، فاستثقلتم الغرم، وأردتم الغنم بلا غرم. وقلنا لكم: دعونا نصنع هذه الجسور صنعة لا تنتقض أبدا، فأبيتم. وقلنا لكم: ما ترجون من هذه المسنّيات [1] التي تهدمها المدود [2]، وتخرّبها المراديّ [3]؟! نحن نعمل لكم مسنّيات [1] بنصف هذه المؤونة، فتبقى لكم أبدا. ثم قولوا للمدود أن تجتهد جهدها، وللمراديّ أن تبلغ غايتها فأبيتم. وقولوا لي: الذّباب ما ترجون منها؟! وما تشتهون من البعوض؟
وما رغبتكم في الجرجس [4]؟ لم لا تدعوني أخرجها من بيوتكم بالمؤونة اليسيرة؟
وهو يقول هذا القول وأصحابنا يضحكون، وابن سافري جالس يسمع.
فلما نزلنا أخذ بيده ومضى به إلى منزله، فغدّاه وكساه وسقاه، ثمّ قال له:
أحببت أن تخرج البعوض من داري. فأمّا الذّباب فإني أحتمله. قال: ولم تحتمل الأذى وقد أتاك الله بالفرج؟ قال: فافعل. قال: لابدّ لي من أن أخلط أدوية وأشتري أدوية قال: فكم تريد؟ قال: أريد شيئا يسيرا. قال: وكم ذاك؟ قال: خمسون دينارا.
قال: ويحك! خمسون يقال لها يسير؟! قال: أنت ليس تشتهي الرّاحة من قذر الذّبّان ولسع البعوض! ثمّ لبس نعليه وقام على رجليه. فقال له: اقعد. قال: إن قعدت قبل أن آخذها ثمّ اشتريت دواء بمائة دينار لم تنتفع به فإنّي لست أدخّن هذه الدّخنة، إلّا للذين إذا أمرتهم بإخراجهنّ أخرجوهن. ولا أكتمك ما أريد إنّي لست أقصد إلّا إلى العمّار [5]. فما هو إلّا أن سمع بذكر العمّار حتى ذهب عقله، ودعا له بالكيس وذهب ليزن الدنّانير، فقال له: لا تشقّ على نفسك! هاتها بلا وزن عددا، وإنّما خاف أن تحدث حادثة، أو يقع شغل، فتفوت. فعدّها وهو زمع [6] فغلط بعشرة دنانير، فلما انصرف وزنها وعدّها فوجد دنانيره تنقص، فبكر عليه يقتضيه الفضل، فضحك أبو حكيم حتّى كاد يموت، ثمّ قال: تسألني عن الفرع وقد استهلك الأصل؟! ولم يزل يختلف إليه ويدافعه حتّى قال له ثمامة: ويلك أمجنون أنت؟! قد ذهب المال
[1] المسنيات: جمع سانية وهي العرم، والعرم هي الأحباس تبنى في الأودية. «القاموس: سني، عرم».
[2] المدود: السّيول.
[3] المرادي: جمع مردي كشرطي، وهو خشبة تدفع بها السفينة «القاموس: مرد».
[4] الجرجس: لغة في القرمص وهو البعوض الصغار حياة الحيوان 1/ 273.
[5] عمّار البيوت: سكانها من الجن. (اللسان: عمر 4/ 607).
[6] الزمع: الدهش والخوف. «القاموس: زمع».(3/183)
والسّخرية مستورة. فإن نافرته فضحت نفسك، وربحت عداوة شيطان هو والله أضرّ عليك من عمّار بيتك، الذي ليس يخرجون عنك الذباب والبعوض بلا كلفة، مع حقّ الجوار. قال: هم سكّاني وجيراني. قالوا: لو كان سمع منك أبو حكيم هذه الكلمة لكانت الخمسون دينارا مائة دينار!!.
821 [شعر في أصوات الذّباب وغنائها]
ومما قيل في أصوات الذباب وغنائها، قال المثقّب العبديّ [1]: [من الوافر] وتسمع للذّباب إذا تغنّى ... كتغريد الحمام على الغصون
وقال آخر: [من مجزوء الكامل] حوّ مساربه تغ ... نّى في غياطله ذبابه [2]
وقال أبو النجم [3]: [من الرجز] أنف ترى ذبابها تعلّله ... من زهر الرّوض الذي يكلّله [4]
وقال أيضا [5]: [من الرجز] والشيخ تهديه إلى طحمائه ... فالرّوض قد نوّر في عزّائه [6] ... مختلف الألوان في أسمائه ... نورا تخال الشّمس في حمرائه [7] ... مكلّلا بالورد من صفرائه ... يجاوب المكّاء من مكّائه [8] ... صوت ذباب العشب في درمائه ... يدعو كأنّ العقب من دعائه [9] ... صوت مغنّ مدّ في غنائه
[1] ديوان المثقب العبدي 182، واللسان والتاج (ذبب)، والمفضليات 291، وبلا نسبة في المجمل 2/ 335، والمقاييس 2/ 349، والجمهرة 222، والتاج واللسان (وكك).
[2] الحوة: سواد إلى الخضرة، أو حمرة إلى السواد، والأحوى: الأسود والنبات الضارب إلى السواد لشدة خضرته. «القاموس: حوو»، المسارب: جمع مسربة، وهي المرعى. «القاموس: سرب».
الغيطلة: الشجر الكثيف الملتف «القاموس: غطل».
[3] ديوان أبي النجم 157، والأول في اللسان والتاج (أنف).
[4] الأنف: روضة لم يرعها أحد «القاموس: أنف».
[5] ديوان أبي النجم 6462.
[6] في ديوانه «قال أبو زيد: الشيخ شجرة وثمرتها جرو كجرو الخرّيع، وهي شجرة العصفر، والطحماء:
ضرب من النبات. تهديه: تهاديه» وفيه «العزاء: الأرض التي بلّها المطر فتماسكت».
[7] في ديوانه «أراد أرضا جاءت بعشب وزهر مختلف الألوان».
[8] في ديوانه «المكّاء: نوع من القنابر حسن الصوت».
[9] في ديوانه «الدرماء: نبت لا يطول، بل يتجمع في نموه يشبه الكبد، يريد أن المكاء يجاوب ذباب الدرماء حين يصوّت مغنيا».(3/184)
وقال الشمّاخ [1]: [من الطويل] يكلفها ألّا تخفّض صوتها ... أهازيج ذبّان على عود عوسج ... بعيد مدى التطريب أوّل صوته ... سحيل وأعلاه نشيج المحشرج [2]
822 [المغنّيات من الحيوان]
والأجناس التي توصف بالغناء أجناس الحمام والبعوض، وأصنف الذّبّان من الدّبر، والنّحل، والشّعراء، والقمع والنّعر، وليس لذبّان الكلب غناء، ولا لما يخرج من الباقلاء. قال الشاعر [3]: [من الرجز] تذبّ عنها بأثيث ذائل ... ذبّان شعراء وصيف ماذل [4]
823 [ألوان الذّبّان]
وذبّان الشّعراء حمر. قال: والذّبّان التي تهلك الإبل زرق.
قال الشاعر: [من الرجز] تربّعت والدّهر ذو تصفّق ... حالية بذي سبيب مونق [5] ... إلّا من أصوات الذّباب الأزرق ... أو من نقانق الفلا المنقنق
والذّبّان الذي يسقط على الدواب صفر.
وقال أرطأة بن سهيّة [6]، لزميل بن أمّ دينار: [من الكامل] أزميل إنّي إن أكن لك جازيا ... أعكر عليك وإن ترح لا تسبق ... إنّي امرو تجد الرّجال عداوتي ... وجد الرّكاب من الذّباب الأزرق
وإذا مرّ بك الشّعر الذي يصلح للمثل وللحفظ، فلا تنس حظّك من حفظه.
[1] ديوان الشماخ 97.
[2] السحيل: أشد نهاق الحمار. «القاموس: سحل».
[3] الرجز بلا نسبة في نهاية الأرب 10/ 299.
[4] الأثيث: الكثير الملتف. «القاموس: أثث». ذائل: طويل «القاموس: ذيل». الماذل: الذي تطيب نفسه عن الشيء يتركه ويسترجي غيره. «اللسان: مذل».
[5] التصفق: التقلب والتحول «القاموس: صفق» حالية: مزينة. السبيب: العضاه أو ذوائب الأشجار.
«القاموس: سبب». المونق: المعجب. «القاموس: ونق».
[6] البيتان لأرطأة بن سهية في الأغاني 13/ 38، ولسالم بن دارة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 385، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 1/ 203، والأول بلا نسبة في المقاييس 4/ 106.(3/185)
وقال المتلمس [1]: [من الطويل] فهذا أوان العرض جنّ ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمّس [2]
وبه سمّي المتلمّس.
وقال ابن ميّادة: [3] [من البسيط] بعنتريس كأنّ الدّبر يلسعها ... إذا تغرّد حاد خلفها طرب [4]
824 [ما يسمّى بالذّبان]
والدّليل على أنّ أجناس النّحل والدّبر كلّها ذبّان، ما حدث به عبّاد بن صهيب، وإسماعيل المكّي عن الأعمش، عن عطيّة بن سعيد العوفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كلّ ذباب في النار إلّا النّحلة» [5].
وقال سليمان: سمعت مجاهدا يكره قتل النّحل وإحراق العظام. يعني في الغزو.
وحدثنا عنبسة قال: حدّثنا حنظلة السّدوسيّ قال: أنبأنا أنس بن مالك، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عمر الذّباب أربعون يوما. والذّباب في النار».
825 [بحث كلاميّ في عذاب الحيوان والأطفال]
وقد اختلف النّاس في تأويل قوله: «والذباب في النار» وقال قوم: الذّباب خلق خلق للنّار. كما خلق الله تعالى ناسا كثيرا للنّار، وخلق أطفالا للنّار. فهؤلاء قوم خلعوا عذرهم فصار أحدهم إذا قال: ذلك عدل من الله عزّ وجلّ فقد بلغ أقصى العذر، ورأى أنّه إذا أضاف إليه عذاب الأطفا فقد مجّده. ولو وجد سبيلا إلى أن يقول إنّ ذلك ظلم لقاله ولو وجد سبيلا إلى أن يزعم أن الله تعالى يخبر عن شيء أنّه
[1] ديوان المتلمس 123، والاشتقاق 317، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 662، والجمهرة 747، واللسان والتاج (لمس، عرض)، والخزانة 4/ 185، والبيان 1/ 375، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 377، والمخصص 14/ 96.
[2] في اللسان «الأزرق: الذباب. وقيل: كل واد عرض وكل واد فيه شجر فهو عرض». اللسان «عرض».
[3] ديوان ابن ميادة 59.
[4] العنتريس: الناقة الصلبة القوية. «ديوانه».
[5] الحديث في ثمار القلوب 839.(3/186)
يكون وهو لا يكون، ثم يقول إلّا أنّ ذلك صدق لقاله. إلّا أنّه يخاف السّيف عند هذه، ولا يخاف السّيف عند تلك. وإن كانت تلك أعظم في الفرية من هذه.
وبعض يزعم أنّ الله عزّ وجلّ إنّما عذّب أطفال المشركين ليغمّ بهم آباءهم. ثمّ قال المتعاقلون منهم: بل عذّبهم لأنّه هكذا شاء، ولأنّ هذا له. فليت شعري أيحتسب بهذا القول في باب التمجيد لله تعالى لأنّ كل من فعل ما يقدر عليه فهو محمود، وكل من لم يخف سوط أمير فأتى قبيحا فالذي يحسن ذلك القبيح أنّ صاحبه كان في موضع أمن، أو لأنّه آمن يمتنع من مطالبة السلطان. فكيف وكون الكذب والظّلم والعبث واللهو والبخل كلّه محال ممّن لا يحتاج إليه، ولا تدعوه إليه الدواعي.
وزعم أبو إسحاق أنّ الطّاعات إذا استوت استوى أهلها في الثّواب، وأنّ المعاصي إذا استوت استوى أهلها في العقاب. وإذا لم يكن منهم طاعة ولا معصية استووا في التفضّل.
وزعم أنّ أجناس الحيوان وكلّ شيء يحسّ ويألم، في التفضّل سواء وزعم أنّ أطفال المشركين والمسلمين كلّهم في الجنّة. وزعم أنّه ليس بين الأطفال ولا بين البهائم والمجانين فرق، ولا بين السّباع في ذلك وبين البهائم فرق.
وكان يقول: إنّ هذه الأبدان السبعيّة والبهيمية لا تدخل الجنّة، ولكنّ الله عزّ وجلّ ينقل تلك الأرواح خالصة من تلك الآفات فيركّبها في أيّ الصّور أحبّ.
وكان أبو كلدة، ومعمر، وأبو الهذيل وصحصح، يكرهون هذا الجواب.
ويقولون: سواء عند خواصّنا وعوامّنا، أقلنا: إنّ أرواح كلابنا تصير إلى الجنّة، أم قلنا:
إن كلابنا تدخل الجنّة ومتى ما اتّصل كلامنا بذكر الكلب على أيّ وجه كان فكأنّا عندهم قد زعمنا أنّ الجنّة فيها كلاب. ولكنّا نزعم [1] أنّ جميع ما خلق الله تعالى من السّباع والبهائم والحشرات والهمج فهو قبيح المنظرة مؤلم، أو حسن المنظرة ملذّ فما كان كالخيل والظباء، والطواويس، والتّدارج فإنّ تلك في الجنّة، ويلذّ أولياء الله عزّ وجلّ بمناظرها. وما كان منها قبيحا في الدّنيا مؤلم النظر جعله الله عذابا إلى عذاب أعدائه في النّار فإذا جاء في الأثر: أنّ الذّباب في النّار، وغير ذلك من الخلق، فإنّما يراد به هذا المعنى.
وذهب بعضهم إلى أنها تكون في النّار، وتلذّ ذلك، كما أن خزنة جهنّم والذين يتولّون من الملائكة التّعذيب، يلذّون موضعهم من النار.
[1] هذا القول نقله الثعالبي في ثمار القلوب (839).(3/187)
وذهب بعضهم إلى أنّ الله تعالى يطبعهم على استلذاذ النّار والعيش فيها، كما طبع ديدان الثلج والخلّ على العيش في أماكنها [1].
وذهب آخرون إلى أنّ الله عزّ وجلّ يحدث لأبدانهما علّة لا تصل النّار إليها، وتنعم قلوبهما وأبدانهما من وجه آخر كيف شاء. وقالوا: وقد وجدنا النّاس يحتالون لأنفسهم في الدّنيا حيلا، حتى يدخل أحدهم بعض الأتاتين [2] بذلك الطلاء، ولا تضرّه النار، وهو في معظمها، وموضع الجاحم [3] منها. ففضل ما بين قدرة الله وقدرة عباده أكثر من فضل ما بين حرّ نار الدّنيا والآخرة.
وذهب بعضهم إلى أنّ سبيلها فيها كسبيل نار إبراهيم فإنّه لما قذف فيها بعث الله عزّ وجلّ ملكا يقال له ملك الظلّ، فكان يحدّثه ويؤنسه فلم تصل النار إلى أذاه، مع قربه من طباع ذلك الملك.
وكيفما دار الأمر في هذه الجوابات فإن أخسّها وأشنعها أحسن من قول من زعم أنّ الله تعالى يعذّب بنار جهنّم من لم يسخطه ولا يعقل كيف يكون السخط.
ومن العجب أنّ بعضهم يزعم أن الله تعالى إنما عذّبه ليغمّ أباه. وإنما يفعل ذلك من لا يقدر على أن يوصل إليهم ضعف الاغتمام، وضعف الألم الذي ينالهم بسبب أبنائهم. فأمّا من يقدر على إيصال ذلك المقدار إلى من يستحقه، فكيف يوصله ويصرفه إلى من لا يستحقّه؟ وكيف يصرفه عمّن أسخطه إلى من لم يسخطه؟ هذا وقد سمعوا قول الله عزّ وجلّ: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذََابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصََاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ. كَلََّا إِنَّهََا لَظى ََ. نَزََّاعَةً لِلشَّوى ََ} [4] وكيف يقول هذا القول من يتلو القرآن؟! ثمّ رجع بنا القول إلى الذبّان وأصناف الذّبّان.
826 [الذبان أجهل الخلق]
والذّبّان أجهل الخلق لأنّها تغشى النّار من ذات أنفسها حتى تحترق. وقال الشاعر: [من المتقارب] ختمت الفؤاد على حبّها ... كذاك الصّحيفة بالخاتم
[1] انتهى ما نقله الثعالبي في ثمار القلوب (839).
[2] الأتاتين: جمع أتّون، وهو الموقد. «اللسان: أتن».
[3] الجاحم: المكان الشديد الحر. «القاموس: جحم».
[4] 1611/ المعارج 70.
[5] البيتان بلا نسبة في ثمار القلوب 399 (730)، والأوائل للعسكري 1/ 144.(3/188)
هوت بي إلى حبها نظرة ... هويّ الفراشة للجاحم
وقال آخر [1]: [من الوافر] كأنّ مشافر النّجدات منها ... إذا ما مسّها قمع الذّباب ... بأيدي مأتم متساعدات ... نعال السّبت أو عذب الثّياب
827 [كراع الأرنب]
وقال بعض الشعراء [2]، يهجو حارثة بن بدر الغدانيّ: [من الكامل] زعمت غدانة أنّ فيها سيّدا ... ضخما يواريه جناح الجندب
وزعم ناس أنّه قال: [من الكامل] يرويه ما يروي الذّباب فينتشي ... سكرا، وتشبعه كراع الأرنب [3]
قالوا: لا يجوز أن يقول: «يرويه ما يروي الذباب» و «يواريه جناح الجندب» ثم يقول: «ويشبعه كراع الأرنب».
وإنما [4] ذكر كراع الأرنب لأنّ يد الأرنب قصيرة، ولذلك تسرع في الصّعود، ولا يلحقها من الكلاب إلّا كلّ قصير اليد. وذلك محمود من الكلب. والفرس توصف بقصر الذّراع.
828 [قصة في الهرب من الذّباب]
وحدّثني الحسن بن إبراهيم العلويّ قال: مررت بخالي، وإذا هو وحده يضحك، فأنكرت ضحكه لأنّي رأيته وحده، وأنكرته، لأنّه كان رجلا زمّيتا ركينا [5]، قليل الضحك. فسألته عن ذلك فقال: أتاني فلان يعني شيخا مدينيا وهو مذعور فقلت له: ما وراءك؟ فقال: أنا والله هارب من بيتي! قلت ولم؟ قال: في بيتي ذباب أزرق، كلما دخلت ثار في وجهي، وطار حولي وطنّ عند أذني، فإذا وجد
[1] البيتان بلا نسبة في أساس البلاغة (قمع).
[2] البيتان للأبيرد بن المعذر الرياحي في ديوانه 273، والأغاني 13/ 127، والوافي 6/ 193، ولزياد الأعجم في المنتخب 129، وبلا نسبة في ثمار القلوب 325 (603)، والأول بلا نسبة في المقاييس 3/ 10.
[3] الكراع: قائمة الدابة.
[4] ثمار القلوب 325 (604).
[5] الزمّيت: الوقور «القاموس: زمت». الركين: الرزين. «القاموس: ركن».(3/189)
مني غفلة لم يخطئ موق عيني. هذا والله دأبه ودأبي دهرا معه. قلت له: إنّ شبه الذباب بالذباب كشبه الغراب بالغراب فلعلّ الذي آذاك اليوم أن يكون غير الذي آذاك أمس، ولعلّ الذي آذاك آمس غير الذي آذاك أوّل من أمس، فقال: أعتق ما أملك إن لم أكن أعرفه بعينه منذ خمس عشرة سنة. فهذا هو الذي أضحكني.
829 [قصة في سفاد الذباب]
وقال الخليل بن يحيى: قد رأيت الخنزير يركب الخنزيرة عامّة نهاره، ورأيت الجمل يركب الناقة ساعة من نهاره. وكنت قبل ذلك أغبط العصفور والعصم فإنّ الذّكر وإن كان سريع النّزول عن ظهر الأنثى فإنّه لسرعة العودة، ولكثرة العدد، كأنّه في معنى الخنزير والجمل وحتّى رأيت الذّباب وفطنت له، فإذا هو يركب الذّبابة عامّة نهاره. فقال له محمد بن عمر البكراوي: ليس ذلك هو السّفاد. قال: أمّا الذي رأت العينان فهذا حكمه. فإن كنت تريد أن تطيب نفسك بإنكار ما تعرف ممّا قسم الله عزّ وجلّ بين خلقه، من فضول اللّذّة، فدونك.
ويزعمون أنّ للورل [1] في ذلك ما ليس عند غيره.
830 [قصّة آكل الذّبّان]
وأنشد ابن داحة في مجلس أبي عبيدة، قول السّيّد الحميريّ [2]: [من الكامل] أترى ضهاكا وابنها وابن ابنها ... وأبا قحافة آكل الذّبان ... كانوا يرون، وفي الأمور عجائب ... يأتي بهنّ تصرّف الأزمان ... أنّ الخلافة في ذؤابة هاشم ... فيهم تصير وهيبة السّلطان
وكان ابن داحة رافضيّا، وكان أبو عبيدة خارجيّا صفريا، فقال له: ما معناه في قوله: «آكل الذّبّان»؟ فقال: لأنّه كان يذبّ عن عطر ابن جدعان. قال: ومتى احتاج العطّارون إلى المذابّ؟! قال: غلطت إنّما كان يذب عن حيسة ابن جدعان. قال:
فابن جدعان وهشام بن المغيرة، كان يحاس لأحدهما الحيسة [3] على عدّة أنطاع [4]،
[1] الورل: دابة على خلقة الضب، إلا أنه أعظم منه، وليس في الحيوان أكثر سفادا منه. حياة الحيوان 2/ 418417.
[2] ديوان السيد الحميري 449.
[3] الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا ثم يندر منه نواه. «القاموس: حيس».
[4] الأنطاع: جمع نطع، وهو بساط من الأديم. «القاموس: نطع».(3/190)
فكان يأكل منها الراكب والقائم والقاعد فأين كانت تقع مذبّة أبي قحافة من هذا الجبل؟! قال: كان يذبّ عنها ويدور حواليها. فضحكوا منه، فهجر مجلسهم سنة.
831 [تحقير شأن الذّبابة]
قال: وفي باب تحقير شأن الذبابة وتصغير قدرها، يقول الرسول: «لو كانت الدّنيا تساوي عند الله تعالى جناح ذبابة ما أعطى الكافر منها شيئا» [1].
832 [أعجوبة في ذبان البصرة]
وعندنا بالبصرة في الذبّان أعجوبة، لو كانت بالشّامات أو بمصر لأدخلوها في باب الطّلّسم وذلك أنّ التّمر يكون مصبوبا في بيادر التمر في شقّ البساتين، فلا ترى على شيء منها ذبابة لا في اللّيل، ولا في النّهار، ولا في البردين [2] ولا في أنصاف النهار، نعم وتكون هناك المعاصر، ولأصحاب المعاصر ظلال، ومن شأن الذّباب الفرار من الشّمس إلى الظّلّ. وإنّما تلك المعاصر بين تمرة ورطبة، ودبس وثجير [3]، ثمّ لا تكاد ترى في تلك الظّلال والمعاصر، في انتصاف النهار، ولا في وقت طلب الذّبّان الكنّ، إلّا دون ما تراه في المنزل الموصوف بقلّة الذّبّان.
وهذا شيء يكون موجودا في جميع الشّقّ الذي فيه البساتين. فإن تحوّل شيء من تمر تلك الناحية إلى جميع ما يقابلها في نواحي البصرة، غشيه من الذّبان ما عسى إلّا يكون بأرض الهند أكثر منه وليس بين جزيرة نهر دبيس [4]، وبين موضع الذّبان إلّا فيض البصرة، ولا بين ما يكون من ذلك بنهر أذرب وبين موضع الذبّان ممّا يقابله، إلّا سيحان [5]، وهو ذلك التمر وتلك المعصرة، ولا تكون تلك المسافة إلّا مائة ذراع أو أزيد شيئا أو أنقص شيئا.
833 [نوم عجيب لضروب من الحيوان]
وأعجوبة أخرى، وهي عندي أعجب من كلّ شيء صدّرنا به جملة القول في
[1] أخرجه الترمذي من حديث سهل بن سعد الساعدي برقم 2321، والسيوطي في الجامع الصغير برقم 7480، وانظر جامع الأصول 4/ 510.
[2] البردان: الغداة والعشي، أو الظل والفيء. «القاموس: برد».
[3] الثجير: ما عصر من العنب فجرت سلافته وبقيت عصارته، وثفل البسر يخلط بالتمر. «اللسان:
ثجر».
[4] نهر دبيس: نهر بالبصرة سمي باسم رجل قصّار كان يقصر عليه الثياب. معجم البلدان 5/ 320.
[5] سيحان: نهر بالبصرة كان للبرامكة. معجم البلدان 3/ 293.(3/191)
الذباب. فمن العجب أن يكون بعض الحيوان لا ينام كالصافر والتنوّط فإنّهما إذا كان اللّيل فإن أحدهما يتدلّى من غصن الشّجرة، ويضمّ عليه رجليه، وينكّس رأسه، ثمّ لا يزال يصيح حتّى يبرق النور. والآخر لا يزال يتنقّل في زوايا بيته، ولا يأخذه القرار، خوفا على نفسه، فلا يزال كذلك، وقد نتف قبل ذلك ممّا على ظهور الأشجار مما يشبه الليف فنفشه، ثمّ فتل منه حبلا، ثمّ عمل منه كهيئة القفّة، ثمّ جعله مدلّى بذلك الحبل، وعقده بطرف غصن من تلك الأغصان إلّا أنّ ذلك بترصيع ونسج، ومداخلة عجيبة ثمّ يتّخذ عشّه فيه، ويأوي إليه مخافة على نفسه.
والأعراب يزعمون أنّ الذّئب شديد الاحتراس، وأنّه يرواح بين عينيه، فتكون واحدة مطبقة نائمة وتكون الأخرى مفتوحة حارسة ولا يشكّون أنّ الأرنب تنام مفتوحة العينين.
وأمّا الدّجاج والكلاب فإنما تعزب [1] عقولهما في النّوم، ثمّ ترجع إليهما بمقدار رجوع الأنفاس. فأمّا الدّجاج فإنها تفعل ذلك من الجبن وأمّا الكلب فإنّه يفعل ذلك من شدّة الاحتراس.
وجاؤوا كلهم يخبرون أن الغرانيق والكراكيّ لا تنام أبدا إلّا في أبعد المواضع من النّاس، وأحرزها من صغار سباع الأرض، كالثعلب وابن آوى. وأنها لا تنام حتى تقلّد أمرها رئيسا وقائدا، وحافظا وحارسا، وأن الرئيس إذا أعيا رفع إحدى رجليه، ليكون أيقظ له.
834 [سلطان النوم]
وسلطان النّوم معروف. وإن الرّجل ممن يغزو في البحر، ليعتصم بالشّراع وبالعود وبغير ذلك، وهو يعلم أن النّوم متى خالط عينيه استرخت يده، ومتى استرخت يده باينه الشيء الذي كان يركبه ويستعصم به، وأنه متى باينه [2] لم يقدر عليه، ومتى عجز عن اللّحاق به فقد عطب. ثمّ هو في ذلك لا يخلو، إذا سهر ليلة أو ليلتين، من أن يغلبه النّوم ويقهره، وإمّا أن يحتاج إليه الحاجة التي يريه الرأي الخوّان، وفساد العقل المغمور بالعلّة الحادثة، أنّه قد يمكن أن يغفي وينتبه في أسرع الأوقات، وقبل أن تسترخي يده كلّ الاسترخاء، وقبل أن تباينه الخشبة إن كانت خشبة.
[1] عزب: بعد وغاب. «القاموس: عزب».
[2] باين: فارق. «القاموس: بين».(3/192)
835 [أعجب من نوم الذبان]
وليس في جميع ما رأينا وروينا، في ضروب نوم الحيوان، أعجب من نوم الذّبّان، وذلك أنّها ربما جعلت مأواها بالليل دروند الباب [1] وقد غشّوه ببطانة ساج [2] أملس كأنّه صفاة، فإذا كان اللّيل لزقت به، وجعلت قوائمها مما يليه، وعلّقت أبدانها إلى الهواء. فإن كانت لا تنام البتّة ولا يخالطها عزوب [3] المعرفة فهذا أعجب: أن تكون أمّة من أمم الحيوان لا تعرف النّوم، ولا تحتاج إليه. وإن كانت تنام ويعزب عنها ما يعزب [3] عن جميع الحيوان سوى ما ذكرنا، فما تخلو من أن تكون قابضة على مواضع قوائمها، ممسكة بها، أو تكون مرسلة لها مخلّية عنها. فإن كانت مرسلة لها فكيف لم تسقط وهي أثقل من الهواء؟! وإن كانت ممسكة لها فكيف يجامع التشدّد والتثبيت النّوم؟!.
836 [بعض ما يعتري النائم]
ونحن نرى كلّ من كان في يده كيس أو درهمأو حبل، أو عصا فإنّه متى خالط عينيه النّوم استرخت يده وانفتحت أصابعه. ولذلك يتثاءب المحتال للعبد الذي في يده عنان دابّة مولاه، ويتناوم له وهو جالس لأنّ من عادة الإنسان إذا لم يكن بحضرته من يشغله، ورأى إنسانا قبالته ينود [4] أو ينعس، أن يتثاءب وينعس مثله. فمتى استرخت يده أو قبضته عن طرف العنان، وقد خامره سكر النّوم، ومتى صار إلى هذه الحال ركب المحتال الدّابّة ومرّ بها.
[1] في اللسان «نجف»: (النجاف هو أسكفّة الباب، قال الأزهري: هو درونده أي أعلاه).
[2] الساج: الطيلسان الأخضر أو الأسود «القاموس: ساج».
[3] عزب: بعد وغاب «القاموس: عزب».
[4] ينود: يتمايل من النعاس. «القاموس: نود».(3/193)
باب القول في الغربان
اللهم جنبنا التكلّف، وأعذنا من الخطأ، واحمنا العجب بما يكون منه، والثّقة بما عندنا، واجعلنا من المحسنين.
نذكر على اسم الله جمل القول في الغربان، والإخبار عنها، وعن غريب ما أودعت من الدّلالة، واستخزنت من عجيب الهداية.
وقد كنّا قدّمنا ما تقول العرب في شأن منادمة الغراب والدّيك وصداقته له، وكيف رهنه عند الخمّار، وكيف خاس به وسخر منه وخدعه وكيف خرج سالما غير غارم، وغانما غير خائب، وكيف ضربت به العرب الأمثال، وقالت فيه الأشعار، وأدخلته في الاشتقاق لزجرها عند عيافتها وقيافتها، وكيف كان السبب في ذلك.
837 [ذكر الغراب في القرآن]
فهذا إلى ما حكى الله عزّ وجلّ من خبر ابني آدم، حين قرّبا قربانا فحسد الذي لم يتقبّل منه المتقبل منه، فقال عندما همّ به من قتله، وعند إمساكه عنه، والتّخلية بينه وبين ما اختار لنفسه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحََابِ النََّارِ وَذََلِكَ جَزََاءُ الظََّالِمِينَ} [1]. ثم قال: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخََاسِرِينَ فَبَعَثَ اللََّهُ غُرََاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوََارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [2] حتّى قال القائل، وهو أحد ابني آدم ما قال: فلولا أنّ للغراب فضيلة وأمورا محمودة، وآلة وسببا ليس لغيره من جميع الطّير لما وضعه الله تعالى في موضع تأديب الناس، ولما جعله الواعظ والمذكّر بذلك. وقد قال الله عزّ وجلّ:
[1] 29/ المائدة: 5.
[2] 3130/ المائدة: 5.(3/194)
{فَبَعَثَ اللََّهُ غُرََاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوََارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [1]، فأخبر أنّه مبعوث، وأنه هو اختاره لذلك من بين جميع الطّير.
قال صاحب الدّيك: جعلت الدّليل على سوء حاله وسقوطه الدّليل على حسن حاله وارتفاع مكانه. وكلما كان ذلك المقرّع به أسفل كانت الموعظة في ذلك أبلغ.
ألا تراه يقول: {يََا وَيْلَتى ََ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هََذَا الْغُرََابِ فَأُوََارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النََّادِمِينَ} [1].
ولو كان في موضع الغراب رجل صالح، أو إنسان عاقل، لما حسن به أن يقول: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا العاقل الفاضل الكريم الشّريف. وإذا كان دونا وحقيرا فقال: أعجزت وأنا إنسان أن أحسن ما يحسنه هذا الطائر، ثمّ طائر من شرار الطير. وإذا أراه ذلك في طائر أسود محترق، قبيح الشّمائل، رديء المشية، ليس من بهائم الطير المحمودة، ولا من سباعها الشريفة، وهو بعد طائر يتنكّد به ويتطيّر منه، آكل جيف، رديء الصيّد. وكلما كان أجهل وأنذل كان أبلغ في التّوبيخ والتّقريع.
وأمّا قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النََّادِمِينَ} [1] فلم يكن به على جهة الإخبار أنّه كان قتله ليلا، وإنما هو كقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلََّا مُتَحَرِّفاً لِقِتََالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى ََ فِئَةٍ فَقَدْ بََاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللََّهِ} [2]. ولو كان المعنى وقع على ظاهر اللّفظ دون المستعمل في الكلام من عادات الناس، كان من فرّ من الزّحف ليلا لم يلزمه وعيد.
وإنما وقع الكلام على ما عليه الأغلب من ساعات أعمال الناس، وذلك هو النّهار دون اللّيل.
وعلى ذلك المعنى قال صالح بن عبد الرحمن، حين دفعوا إليه جوّابا الخارجيّ ليقتله، وقالوا: إن قتله برئت الخوارج منه، وإن ترك قتله فقد أبدى لنا صفحته. فتأوّل صالح عند ذلك تأويلا مستنكرا: وذلك أنّه قال: قد نجد التّقيّة تسيغ الكفر، والكفر باللسان أعظم من القتل والقذف بالجارحة. فإذا جازت التقيّة في الأعظم كانت في الأصغر أجوز. فلما رأى هذا التأويل يطّرد له، ووجد على حال بصيرته ناقصة، وأحسّ بأنّه إنما التمس عذرا ولزّق الحجّة تلزيقا فلمّا عزم على قتل جوّاب، وهو عنده واحد الصّفرية في النّسك والفضل قال: إني يوم أقتل جوّابا على هذا الضّرب من التأويل
[1] 31/ المائدة: 5.
[2] 16/ الأنفال: 8.(3/195)
لحريص على الحياة! ولو كان حين قال إني يوم أقتل جوّابا إنما عنى النهار دون اللّيل، كان عند نفسه إذا قتله تلك القتلة ليلا لم يأثم به. وهذا أيضا كقوله تعالى: {وَلََا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فََاعِلٌ ذََلِكَ غَداً إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [1].
ولو كان هذا المعنى إنما يقع على ظاهر اللفظ دون المستعمل بين الناس، لكان إذا قال من أوّل الليل: إني فاعل ذلك غدا في السّحر، أو مع الفجر أو قال الغداة:
إني فاعل يومي كلّه، وليلتي كلها، لم يكن عليه حنث، ولم يكن مخالفا إذا لم يستثن، وكان إذن لا يكون مخالفا إلّا فيما وقع عليه اسم غد. فأمّا كلّ ما خالف ذلك في اللّفظ فلا. وليس التّأويل كذلك لأنّه جلّ وعلا إنما ألزم عبده أن يقول: إن شاء الله، ليتّقى عادة التألّي [2] ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبدّ والمستغني، وعلى أن يكون عند ذلك ذاكر الله، لأنه عبد مدبّر، ومقلّب ميّسر، ومصرّف مسخّر.
وإذا كان المعنى فيه، والغاية التي جرى إليها اللفظ، إنما هو على ما وصفنا، فليس بين أن يقول أفعل ذلك بعد طرفة، وبين أن يقول أفعل ذلك بعد سنة فرق.
وأمّا قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النََّادِمِينَ} فليس أنّه كان هنالك ناس قتلوا إخوتهم وندموا فصار هذا القاتل واحدا منهم وإنما ذلك على قوله لآدم وحوّاء عليهما السلام: {وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونََا مِنَ الظََّالِمِينَ} * [3]، على معنى أن كلّ من صنع صنيعكما فهو ظالم.
838 [الاستثناء في القسم]
وعجبت من ناس ينكرون قولنا في الأستثناء، وقد سمعوا الله عزّ وجلّ يقول:
{إِنََّا بَلَوْنََاهُمْ كَمََا بَلَوْنََا أَصْحََابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهََا مُصْبِحِينَ. وَلََا يَسْتَثْنُونَ. فَطََافَ عَلَيْهََا طََائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نََائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [4]، مع قوله عزّ وجلّ: {وَلََا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فََاعِلٌ ذََلِكَ غَداً إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [5].
839 [تسمية الغراب ابن دأية]
والعرب تسمّي الغراب ابن دأية، لأنّه إذا وجد دبرة [6] في ظهر البعير، أو في عنقه
[1] 23/ الكهف: 18.
[2] الإلّ: الحلف «القاموس: ألل».
[3] 35/ البقرة: 2.
[4] 2017/ القلم: 68.
[5] 23/ الكهف: 18.
[6] الدبرة: القرحة. «القاموس: دبر».(3/196)
قرحة سقط عليها، ونقره وأكله، حتّى يبلغ الدّايات. قال الشاعر [1]: [من الطويل] نجيبة قرم شادها القتّ والنّوى ... بيثرب حتى نيّها متظاهر [2] ... فقلت لها سيري فما بك علّة ... سنامك ملموم ونابك فاطر [3] ... فمثلك أو خيرا تركت رذيّة ... تقلّب عينيها إذا مرّ طائر [4]
ومثله قول الرّاعي: [من الطويل] فلو كنت معذورا بنصرك طيّرت ... صقوري غربان البعير المقيد
هذا البيت لعنترة، في قصيدة له. ضرب ذلك مثلا للبعير المقيّد ذي الدّبر، إذا وقعت عليه الغربان.
840 [علّة غرز الريش والخرق في ظهر البعير]
وإذا كان بظهر البعير دبرة غرزوا في سنامه إمّا قوادم ريش أسود وإمّا خرقا سودا، لتفزع الغربان منه، ولا تسقط عليه. قال الشاعر، وهو ذو الخرق الطّهوي [5]: [من البسيط] لما رأت إبلي حطت حمولتها ... هزلى عجافا عليها الرّيش والخرق [6] ... قالت ألا تبتغي عيشا نعيش به ... عمّا نلاقي، فشرّ العيشة الرّنق
الرّنق، بالرّاء المهملة، وبالنون، هو الكدر غير الصافي.
وقال آخر: [من البسيط] كأنّها ريشة في غارب جرز ... في حيثما صرفته الرّيح ينصرف
[1] الأبيات للجون المحرزي أو لأبي الربيس التغلبي في الخزانة 6/ 85، ولأبي الربيس التغلبي في شرح أبيات سيبويه 1/ 572، وبلا نسبة في البيان والتبيين 3/ 307306، والأول بلا نسبة في اللسان والتاج (ضزز)، والثالث في اللسان والتاج (رهب).
[2] القرم: الفحل الكريم. «القاموس: قرم». القت: العلف. نيها: شحمها.
[3] ناب فاطر: مشقوق وظاهر. «القاموس: فطر».
[4] الرذية: الناقة المهزولة من السير. «القاموس: رذي».
[5] البيتان في الأصمعيات 125124، والتاج (خرق)، والأول في اللسان (خرق)، والمقاييس 2/ 173، والجمهرة 591، والمجمل 2/ 178.
[6] العجف: ذهاب السّمن وهو أعجف وهي عجفاء. والجمع عجاف. «القاموس: عجف».(3/197)
جرز: عظيم. قال رؤبة [1]: [من الرجز] عن جرز منه وجوز عار
وقد توضع الرّيش في أسنمتها وتغرز فيها لغير ذلك [2]، وذلك أنّ الملوك كانت تجعل الرّيش علامة لحباء الملك، تحميها بذلك وتشرّف صاحبها.
قال الشاعر [3]: [من الكامل] يهب الهجان بريشها ورعائها ... كاللّيل قبل صباحه المتبلج [4]
ولذلك قالوا في الحديث: فرجع النّابغة من عند النّعمان وقد وهب له مائة من عصافيره بريشها [5].
وللرّيش مكان آخر: وهو أنّ الملوك إذا جاءتها الخرائط بالظّفر غرزت فيها قوادم ريش سود.
841 [غربان الإبل]
وقال الشاعر [6]: [من الطويل] سأرفع قولا للحصين ومالك ... تطير به الغربان شطر المواسم ... وتروى به الهيم الظماء، ويطّبي ... بأمثاله الغازين سجع الحمائم
يعني غربان الليل. وأمّا قوله: «وتروى به الهيم الظّماء» فمثل قول الماتح [7]:
[من الرجز] علقت يا حارث عند الورد ... بجاذل لا رفل التّردّي [8] ... ولا عييّ بابتناء المجد
[1] الرجز ليس لرؤبة بل للعجاج في ديوانه 1/ 117، واللسان والتاج (جزر، همم، وري)، والجمهرة 170، وبلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 183، والتهذيب 5/ 382، 10/ 608، والمخصص 4/ 136، والعين 3/ 358.
[2] البيان 3/ 96، ومجالس ثعلب 35.
[3] البيت بلا نسبة في البيان 3/ 96.
[4] الهجان: الإبل البيض. «القاموس: هجن».
[5] الأغاني 11/ 28، 39، والشعر والشعراء 71، 75، وأساس البلاغة (عصفر).
[6] البيت الأول بلا نسبة في اللسان والتاج (غرب)، والتهذيب 8/ 120.
[7] الرجز في البيان 1/ 4. الماتح: المستقي من أعلى البئر، والمائح: الذي يملأ الدلو من أسفل البئر «اللسان: متح».
[8] جذل الشيء يجذل جذولا: انتصب وثبت لا يبرح. «اللسان: جذل». الرفل: الذي يجر ثوبه متبخترا. «اللسان: رفل». التردي: ارتداء اللباس.(3/198)
وقالوا في البعير إذا كان عليه حمل من تمر أو حبّ، فتقدّم الإبل بفضل قوّته ونشاطه، فعرض ما عليه للغربان. قال الرّاجز [1]: [من الرجز] قد قلت قولا للغراب إذ حجل ... عليك بالقود المسانيف الأول [2] ... تغدّ ما شئت على غير عجل
ومثله [3]: [من الرجز] يقدمها كلّ علاة مذعان ... حمراء من معرّضات الغربان [4]
842 [أمثال في الغراب]
ويقال: «أصحّ بدنا من غراب»، و «أبصر من غراب» [5]، و «أصفى عينا من غراب» [6].
وقال ابن ميّادة [7]: [من الطويل] ألا طرقتنا أمّ أوس ودونها ... حراج من الظلّماء يعشى غرابها ... فبتنا كأنّا بيننا لطميّة ... من المسك، أو داريّة وعيابها [8]
[1] الرجز بلا نسبة في المخصص 10/ 167، والتنبيه للبكري 48، ومجالس ثعلب 112، واللسان والتاج (سنف).
[2] المسانيف: المتقدمة «اللسان: سنف».
[3] الرجز للشماخ في ديوانه 417416، وله أو للأجلح بن قاسط في اللسان والتاج (عرض)، وللأجلح بن قاسط في اللسان (علا)، ولرجل من غطفان في التنبيه للبكري 47. وبلا نسبة في التهذيب 1/ 461، والمقاييس 4/ 118، 279، والمجمل 3/ 471، والمخصص 4/ 17، 7/ 137، وأساس البلاغة (عرض)، والجمهرة 355، 748، 1320، وأمالي القالي 1/ 119، والمعاني الكبير 1/ 259.
[4] في التنبيه للبكري: (العلاة: الشديدة الصلبة، مشبهة بالعلاة، وهو السندان)، وفيه: (الحمر أجلد الإبل، والمعرضات التي تقدم الإبل فتقع الغربان على حملها إن كان تمرا أو غيره فتأكله).
[5] مجمع الأمثال 1/ 115، والدرة الفاخرة 1/ 78، وجمهرة الأمثال 1/ 240، والمستقصى 1/ 21، وفصل المقال 491، وأمثال ابن سلام 360.
[6] المثل برواية (أصفى من عين الغراب) في مجمع الأمثال 1/ 417، والدرة الفاخرة 1/ 250، 263، وجمهرة الأمثال 1/ 567، والمستقصى 1/ 210.
[7] ديوان ابن ميادة 77، والمستقصى 1/ 21، والأول في اللسان والتاج وأساس البلاغة (حرج)، والتهذيب 4/ 140، وثمار القلوب 461 (673)، والمعاني الكبير 1/ 258.
[8] في ديوانه: (اللطمية: من معانيها: الجمال التي تحمل العطر، وهي عند ابن الأعرابي سوق الإبل، والمقصود بها هنا الوعاء الذي يوضع فيه المسك. دارية: المسك المنسوب إلى دارين، وهو مرفأ في البحرين كانت ترفأ إليه السفن التي فيها المسك. العياب: الوعاء الذي يوضع فيه المسك).(3/199)
يقول [1]: إذا كان الغراب لا يبصر في حراج الظلماء. وواحد الحراج حرجة، وهي هاهنا مثل، حيث جعل كلّ شيء التفّ وكثف من الظلام حراجا، وإنّما الحراج من السّدر وأشباه السّدر.
يقول: فإذا لم يبصر فيها الغراب مع حدّة بصره، وصفاء مقلته فما ظنّك بغيره؟! وقال أبو الطمحان القينيّ [2]: [من الطويل] إذا شاء راعيها استقى من وقيعة ... كعين الغراب صفوها لم يكدّر
والوقيعة: المكان الصلب الذي يمسك الماء، والجمع الوقائع.
843 [استطراد لغوي]
قال: وأنشدنا أبو عمرو بن العلاء، في الوقائع: [من الطويل] إذا ما استبالوا الخيل كانت أكفهم ... وقائع للأبوال والماء أبرد [3]
يقول: كانوا في فلاة فاستبالوا الخيل في أكفهم، فشربوا أبوالها من العطش.
ويقال شهد الوقيقة والوقعة بمعنى واحد. قال الشاعر [4]: [من الطويل] لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... على زفر داء من الشّرّ باقيا
وقال زفر بن الحارث [5]: [من الطويل] لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعا بيننا متنائيا
وقال الأخطل [6]: [من الطويل] لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعوّل
[1] ثمار القلوب 461 (673).
[2] البيت لأبي الطمحان في الأغاني 13/ 14، وقصائد جاهلية نادرة 220، وأشعار اللصوص 1/ 78، والمعاني الكبير 259، وثمار القلوب (673)، وبلا نسبة في المخصص 10/ 162، والجمهرة 944.
[3] البيت لمالك بن نويرة في ديوانه 64، والأصمعيات 195، والسمط 347، واللسان (بول)، وبلا نسبة في اللسان (وقع)، والجمهرة 944، والاشتقاق 291.
[4] البيت لجواس بن القعطل الكلبي في المؤتلف والمختلف 74.
[5] ديوان زفر بن الحارث الكلابي 171، والحماسة البصرية 1/ 26، والأغاني 19/ 196، والتاج (رهط)، ومعجم البلدان 3/ 21 (راهط)، وحماسة القرشى 136، والوحشيات 50، وهو بلا نسبة في اللسان (شأي) وقافيته فيه (متشائيا) مكان (متنائيا).
[6] ديوان الأخطل 32، ومعجم البلدان 1/ 427 (بشر)، والتاج (بشر)، والجمهرة 310، وبلا نسبة في اللسان (عول).(3/200)
844 [أمثال من الشعر والنثر في الغراب]
وفي صحّة بدن الغراب يقول الآخر [1]: [من المنسرح] إنّ معاذ بن مسلم رجل ... قد ضجّ من طول عمره الأبد ... قد شاب رأس الزّمان واكتهل الدّه ... ر وأثواب عمره جدد ... يا نسر لقمان كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد ... قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنّك الوتد ... تسأل غربانها إذا حجلت ... كيف يكون الصّداع والرّمد
ويقال: «أرض لا يطير غرابها» [2]. قال النّابغة [3]: [من الكامل] ولرهط حرّاب وقد سورة ... في المجد ليس غرابها بمطار [4]
جعله مثلا. يعني أنّ هذه الأرض تبلغ من خصبها أنّه إذا دخلها الغراب لم يخرج منها، لأنّ كلّ شيء يريده فيها.
وفي زهو الغراب يقول حسّان، في بعض قريش [5]: [من الكامل] إنّ الفرافصة بن الاحوص عنده ... شجن لأمّك من بنات عقاب ... أجمعت أنّك أنت ألأم من مشى ... في فحش مومسة وزهو غراب
ويقال: «وجد فلان تمرة الغراب» [6]، كأنّه يتّبع عندهم أطيب التمر.
ويقال: «إنّه لأحذر من غراب» [7] و: «أشد سوادا من غراب» [8].
[1] الأبيات للخزرجي في مروج الذهب 2/ 322، ووفيات الأعيان 5/ 218، وثمار القلوب (695)، ولمحمد بن مناذر في العقد الفريد 3/ 55، وبغية الوعاة 393، ولابن عبدل في الدرة الفاخرة 316، وبلا نسبة في أمالي الزجاجي 17، والمعاني الكبير 58، وعيون الأخبار 4/ 59، وإنباه الرواة 3/ 290، والبيت الثاني في مجالس ثعلب 163.
[2] المثل في كتاب الأمثال لأبي عكرمة الضبي 73.
[3] ديوان النابغة الذبياني 55، واللسان والتاج (قدد، سور، طير)، وأساس البلاغة (غرب).
[4] في ديوانه: حراب وقد: رجلان من بني أسد. والسورة: المنزلة الرفيعة. وقوله: «ليس غرابها بمطار» أي شرفهم ثابت باق وليس بزائل.
[5] ديوان حسان 116، والثاني في ثمار (491)، واللسان (زنك)، والتاج (زوك)، وبلا نسبة في اللسان (زوك)، والمخصص 3/ 103، والمجمل 3/ 33، والمقاييس 3/ 37.
[6] مجمع الأمثال 2/ 362، وجمهرة الأمثال 2/ 333، والمستقصى 2/ 373، والأمثال لمجهول 116.
[7] مجمع الأمثال 1/ 226، وجمهرة الأمثال 1/ 396، والمستقصى 1/ 62، والأمثال لمجهول 7، والدرة الفاخرة 1/ 133، 156، 196.
[8] المثل في المستقصى 1/ 192برواية «أشد سوادا من حنك الغراب».(3/201)
وقد مدحوا بسواد الغراب. قال عنترة [1]: [من الكامل] فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم
وقال أبو دؤاد [2]: [من البسيط] تنفي الحصى صعدا شرقيّ منسمها ... نفي الغراب بأعلى أنفه الغردا [3]
والمغاريد: كمء. صغار. وأنشد [4]: [من البسيط] يحجّ مأمومة في قعرها لجف ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد [5]
وقد ذكرنا شدّة منقاره، وحدّة بصره في غير هذا المكان.
845 [شعر في مديح السواد]
وقالوا في مديح السواد، قال امرؤ القيس [6]: [من البسيط] العين قادحة واليدّ سابحة ... والأذن مصغية واللّون غربيب
وفي السّواد يقول ربيّعة أبو ذؤاب الأسدي [7]، قاتل عتيبة بن الحارث بن شهاب: [من الكامل] إن المودة والهوادة بيننا ... خلق كسحق اليمنة المنجاب [8] ... إلّا بجيش لا يكتّ عديده ... سود الجلود من الحديد غضاب [9]
[1] البيت من معلقته في ديوانه 17، والخزانة 7/ 390، والمقاصد النحوية 4/ 487، وبلا نسبة في شرح المفصل 3/ 55، 6/ 24.
[2] ديوان أبي دؤاد 308.
[3] منسم الناقة: خفها «اللسان: نسم».
[4] البيت لعذار بن درة الطائي في اللسان والتاج (حجج، لفف)، والمجمل 2/ 32، 4/ 266، والتنبيه والإيضاح 1/ 197، وبلا نسبة في اللسان والتاج (غرد)، والمقاييس 1/ 23، 2/ 30، 5/ 235، والجمهرة 86، 633، 1234، والمخصص 13/ 182، 16/ 62، والتهذيب 3/ 390، والكامل 1/ 65 (طبعة المعارف).
[5] في الكامل قوله «في قعرها لجف» أي تقلع، ويقال تلجفت البئر إذا انقلع طيّها من أسفلها.
[6] البيت لامرئ القيس في ديوانه 226، والجمهرة 516، ولعمران بن إبراهيم الأنصاري في شرح شواهد الإيضاح 497، ولإبراهيم بن عمران في اللسان (قصب)، وبلا نسبة في الجمهرة 278، واللسان (لحب، قبب)، والتاج (قبب)، والتهذيب 8/ 299، وأساس البلاغة (قدح).
[7] البيتان في أمالي القالي 1/ 72، والأول في اللسان والتاج (يمن)، والثاني في الجمهرة 79، وبلا نسبة في اللسان والتاج (كتت).
[8] اليمنة: ضرب من برود اليمن. «اللسان: يمن».
[9] كتّ القوم يكتّهم: عدّهم وأحصاهم، وأكثر ما يستعملونه في النفي. «اللسان: كتت».(3/202)
846 [شعر ومثل في شيب الغراب]
وفي المثل: «لا يكون ذلك حتّى يشيب الغراب» [1]. وقال العرجيّ [2]: [من الخفيف] لا يحول الفؤاد عنه بودّ ... أبدا أو يحول لون الغراب
وقال ساعدة بن جؤيّة [3]: [من الكامل] شاب الغراب ولا فؤادك تارك ... عهد الغضوب ولا عتابك يعتب
847 [نقر الغراب للدماغ والعيون]
ومما يذكر للغراب ما حدّث به أبو الحسن، عن أبي سليم، أنّ معاوية قال لأبي هوذة بن شمّاس الباهليّ: لقد هممت أن أحمل جمعا من باهلة في سفينة ثم أغرقهم! فقال أبو هوذة: إذن لا ترضى باهلة بعدّتهم من بني أمية! قال: اسكت أيّها الغراب الأبقع! وكان به برص، فقال أبو هوذة: إنّ الغراب الأبقع ربّما درج إلى الرّخمة حتى ينقر دماغها، ويقلع عينيها! فقال يزيد بن معاوية: ألا تقتله يا أمير المؤمنين؟
فقال: مه! ونهض معاوية. ثمّ وجهه بعد في سريّة فقتل. فقال معاوية ليزيد: هذا أخفى وأصوب [4]! وقال آخر [5] في نقر الغراب العيون: [من الوافر] أتوعد أسرتي وتركت حجرا ... يريغ سواد عينيه الغراب ... ولو لاقيت علباء بن جحش ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال أبو حيّة في أنّ الغراب يسمّونه الأعور تطيّرا منه [6]: [من الكامل] وإذا تحلّ قتودها بتنوفة ... مرّت تليح من الغراب الأعور [7]
لأنها تخاف من الغربان، لما تعلم من وقوعها على الدّبر.
[1] المستقصى 2/ 59، وفصل المقال 474، 482، وجمهرة الأمثال 1/ 363.
[2] ديوان العرجي 116، ورواية صدره: (لم أحل عنك ما حييت بودي).
[3] البيت لساعدة بن جؤية في شرح أشعار الهذليين 1098، واللسان والتاج (شيب، عتب، غضب)، والعين 4/ 413.
[4] انظر الخبر في البرصان 7069.
[5] البيتان لعبيد بن الأبرص، والأول في ديوانه 1، والتهذيب 8/ 187، وبلا نسبة في اللسان (روغ)، والثاني في ديوانه 24، والعمدة 1/ 103.
[6] ديوان أبي حية النميري 59، والمعاني الكبير 260، ورواية البيت في ديوانه:
(آلت إذا ما حلّ عنها رحلها ... جعلت تضيف من الغراب الأعور).
[7] تليح: تحذر وتشفق.(3/203)
848 [مدح لون الغراب]
ومما يمدح به الشّعراء بلون الغراب قال أبو حيّة [1]: [من الوافر] غراب كان أسود حالكيّا ... ألا سقيا لذلك من غراب
وقال أبو حيّة [2]: [من المتقارب] زمان عليّ غراب غداف ... فطيّره الدّهر عني فطارا ... فلا يبعد الله ذاك الغداف ... وإن كان لا هو إلّا ادّكارا ... فأصبح موضعه بائضا ... محيطا خطاما محيطا عذارا [3]
وقال أبو حيّة في غير ذلك، وهو مما يعدّ للغراب [4]: [من الطويل] كأنّ عصيم الورس منهنّ جاسد ... بما سال من غربانهنّ من الخطر [5]
849 [استطراد لغوي]
والغراب ضروب، ويقع هذا الاسم في أماكن، فالغراب حدّ السكين والفأس، يقال فأس حديدة الغراب. وقال الشّماخ [6]: [من الطويل] فأنحى عليها ذات حدّ غرابها ... عدوّ لأوساط العضاه مشارز [7]
المشارزة: المعاداة والمخاشنة.
والغراب: حدّ الورك ورأسه الذي يلي الظهر، ويبدأ من مؤخّر الرّدف. والجمع غربان. قال ذو الرّمّة [8]: [من الطويل] وقرّبن بالزّرق الحمائل بعد ما ... تقوّب من غربان أوراكها الخطر [9]
[1] ديوان أبي حية 121.
[2] ديوان أبي حية 43، وحماسة القرشي 282281، وطبقات ابن المعتز 145، وأمالي المرتضى 1/ 445، ونسب البيت خطأ إلى الكميت في اللسان (غرب).
[3] في ديوانه: (بائض: من باض النبت إذا صوّح، وبائض: أي مبيض. خطام: أي ما خطم به من الشعر.
[4] ديوان أبي حية 52.
[5] في ديوانه: (العصيم: الدرن والوسخ والبول إذا يبس على فخذ الناقة).
[6] ديوان الشماخ 185، واللسان والتاج (غرب، شرز)، والجمهرة 321، والعين 4/ 413، وديوان الأدب 1/ 439.
[7] في ديوانه: (أنحى عليها: عرض عليها: أي أقبل يقطعها. ذات حد: فأس ذات حد. غرابها:
حدها. العضاه: شجر عظيم له شوك. الشرز: القطع).
[8] ديوان ذي الرمة 566، والجمهرة 234، 703، 1097، واللسان (غرب، خطر، زرق، جمل).
[9] في ديوانه: (الزرق: أكثبة الدهناء). ويقال: «جمائل وجمال».(3/204)
تقوّب: تقشر ما على أوراكها من سلحها وبولها، من ضربها بأذنابها.
850 [غراب البين]
وكلّ غراب فقد يقال له غراب البين إذا أرادوا به الشؤم، أمّا غراب البين نفسه، فإنّه غراب صغير. وإنّما قيل لكلّ غراب غراب البين، لسقوطها في مواضع منازلهم إذا بانوا عنها. قال أبو خولة الرّياحيّ [1]: [من الطويل] فليس بيربوع إلى العقل فاقة ... ولا دنس يسودّ منه ثيابها ... فكيف بنوكي مالك إن كفرتم ... لهم هذه، أم كيف بعد خطابها ... مشائم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلّا ببين غرابها
851 [الوليد بن عقبة وعبد الله بن الزبير]
ومن الدّليل على أنّ الغراب من شرار الطّير، ما رواه أبو الحسن قال: كان ابن الزبير يقعد مع معاوية على سريره، فلا يقدر معاوية أن يمتنع منه، فقال ذات يوم: أما أحد يكفيني ابن الزبير؟ فقال الوليد بن عقبة: أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين. فسبق فقعد في مقعده على السرير، وجاء ابن الزبير فقعد دون السرير، ثمّ أنشد ابن الزبير:
[من الطويل] تسمّى أبانا بعد ما كان نافعا ... وقد كان ذكوان تكنّى أبا عمرو
فانحدر الوليد حتى صار معه، ثم قال: [من الوافر] ولولا حرّة مهدت عليكم ... صفيّة ما عددتم في النّفير ... ولا عرف الزبير ولا أبوه ... ولا جلس الزبير على السرير ... وددنا أنّ أمّكم غراب ... فكنتم شرّ طير في الطيور
852 [القواطع والرواجع والأوابد]
قال أبو زيد [2]: إذا كان الشتاء قطعت إلينا الغربان، أي جاءت بلادنا، فهي
[1] الأبيات لأبي الأحوص الرياحي في البيان 2/ 261260، والبيت الثالث للأخوص الرياحي في الإنصاف 193، والخزانة 4/ 158، 160، 164، وشرح شواهد المغني 871، وشرح المفصل 2/ 52، والكتاب 1/ 165، 306، وشرح أبيات سيبويه 1/ 74، 2/ 105، واللسان (شأم)، والمؤتلف 49، وهو للفرزدق في الكتاب 3/ 29، وديوانه 23، وبلا نسبة في الخزانة 8/ 295، 554، والخصائص 2/ 354، وشرح المفصل 5/ 68، 7/ 57، ومغني اللبيب 478.
[2] ورد الخبر في ثمار القلوب (656655).(3/205)
قواطع إلينا، فإذا كان الصيف فهي رواجع. والطير التي تقيم بأرض شتاءها وصيفها أبدا فهي الأوابد. والأوابد أيضا هي الدواهي، يقال جاءنا بآبدة. ومنها أوابد الوحش.
ومنها أوابد الأشعار. والأوابد أيضا: الإبل إذا توحّش منها شيء فلم يقدر عليه إلا بعقر. وأنشد أبو زيد في الأوابد [1]: [من الرجز] ومنهل وردته التقاطا ... طام فلم ألق به فرّاطا [2] ... إلّا القطا أوابدا غطاطا [3]
853 [صوت الغراب]
ويقال نغق الغراب ينغق نغيقا، بغين معجمة، ونعت ينعب نعيبا بعين غير معجمة. فإذا مرّت عليه السّنون الكثيرة وغلظ صوته قيل شحج يشحج شحيجا.
وقال ذو الرّمّة [4]: [من الطويل] ومستشحجات بالفراق كأنّها ... مثاكيل من صيّابة النّوب نوّح [5]
والنّوبة توصف بالجزع.
854 [أثر البادية في رجال الروم والسند]
وأصحاب الإبل يرغبون في اتخاذ النوبة والبربر والرّوم للإبل، يرون أنهم يصلحون على معايشها، وتصلح على قيامهم عليها.
ومن العجب أنّ رجال الرّوم تصلح في البدو مع الإبل، ودخول الإبل بلاد الروم هو هلاكها.
[1] الرجز لنقادة الأسدي في اللسان (فرط، لقط)، والتاج (فرط، لغط، لقط)، وبلا نسبة في اللسان (لغط، رجم)، والكتاب 1/ 371، والتهذيب 8/ 58، 16/ 252، والعين 5/ 101، والمقاييس 5/ 23، والمجمل 4/ 287، والمخصص 14/ 226، والتاج (ترجم)، وديوان الأدب 2/ 308، وإصلاح المنطق 68، 96.
[2] الفراط: المتقدمات إلى الماء «اللسان: فرط».
[3] الغطاط: ضرب من القطا، الطوال الأرجل، البيض البطون، الغبر الظهور، الواسعة العيون. «اللسان:
غطط».
[4] ديوان ذي الرمة 1207، واللسان (صيب، شحج، ثكل)، والتاج (صيب، شحج)، وأساس البلاغة (ثكل، صيب)، والعين 7/ 167، والمخصص 3/ 153، 4/ 30، 8/ 134، والتهذيب 4/ 117، وبلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 460، والجمهرة 1024.
[5] الصيابة: الخالص والصميم والخيار من الشيء والسيد. «القاموس: صيب».(3/206)
فأمّا السند فإنّ السّنديّ صاحب الخربة [1] إذا صار إلى البدو، وهو طفل، خرج أفصح من أبي مهديّة، ومن أبي مطرف الغنويّ. ولهم طبيعة في الصّرف، لا ترى بالبصرة صيرفيّا إلا وصاحب كيسه سنديّ.
855 [تفوق أهل السند]
واشترى محمّد بن السّكن، أبا روح فرجا السّندي، فكسب له المال العظيم.
فقلّ صيدلانيّ عندنا إلّا وله غلام سنديّ. فبلغوا أيضا في البربهار والمعرفة بالعقاقير، وفي صحّة المعاملة، واجتلاب الحرفاء مبلغا حسنا.
وللسّند في الطبخ طبيعة، ما أكثر ما ينجبون فيه.
وقد كان يحيى بن خالد أراد أن يحوّل إجراء الخيل عن صبيان الحبشان والنّوبة، إلى صبيان السند، فلم يفلحوا فيه، وأراد تحويل رجال السّند إلى موضع الفرّاشين من الرّوم، فلم يفلحوا فيه.
وفي السّند حلوق [2] جياد، وكذلك بنات السّند.
856 [استطراد لغوي]
والغراب يسمّى أيضا حاتما. وقال عوف بن الخرع [3]: [من الطويل] ولكنّما أهجو صفيّ بن ثابت ... مثبّجة لاقت من الطّير حاتما [4]
وقال المرقّش، من بني سدوس [5]: [من مجزوء الكامل] ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
[1] الخربة: سعة خرق الأذن، وكل ثقب مستدير. «القاموس: خرب».
[2] حلوق: جمع حلق، أراد أن أصواتهم جيدة.
[3] البيت في الأصمعيات 169.
[4] المثبجة: البوم. «القاموس: ثبج».
[5] الأبيات للمرقش في اللسان والتاج (وقي)، والمعاني الكبير 262، والأزمنة والأمكنة 2/ 352، 1187، والتهذيب 4/ 450، 9/ 375، وله أو لخزز بن لوذان في اللسان والتاج (حتم، يمن)، والمؤتلف 143، ولرجل من بني سدوس في الاختيارين 171، وللمرقم في عيون الأخبار 1/ 145 (ورد الاسم في الحاشية، وأثبت المحقق في المتن «المرقش» مدعيا أنه الصواب)، وحماسة البحتري 255، وبلا نسبة في الوحشيات 166، وذيل الأمالي 107106، وزهر الآداب 524، والعمدة 2/ 262، والأغاني 11/ 9.(3/207)
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم ... وكذاك لا خير ولا ... شرّ على أحد بدائم
وأنشد لخثيم بن عديّ [1]: [من الطويل] وليس بهيّاب إذا شدّ رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم ... ولكنّه يمضي على ذاك مقدما ... إذا صدّ عن تلك الهنات الخثارم
والخثارم: هو المتطيّر من الرّجال. وأما قوله: «واق وحاتم» فحاتم هو الغراب، والواقي هو الصّرد، كأنّه يرى أنّ الزّجر بالغراب إذا اشتقّ من اسمه الغربة، والاغتراب، والغريب، فإنّ ذلك حتم. ويشتق من الصّرد التصريد، والصّرد وهو البرد. ويدلك على ذلك قوله [2]: [من الطويل] دعا صرد يوما على غصن شوحط ... وصاح بذات البين منها غرابها [3] ... فقلت: أتصريد وشحط وغربة ... فهذا لعمري نأيها واغترابها
فاشتقّ التّصريد من الصّرد، والغربة من الغراب، والشّحط من الشّوحط.
ويقال أغرب الرّجل: إذا اشتدّ مرضه، فهو مغرب.
قال: والعنقاء المغرب، العقاب، لأنها تجيء من مكان بعيد.
857 [أصل التطير في اللغة]
قال: وأصل التطيّر إنما كان من الطّير ومن جهة الطير، إذا مرّ بارحا [4] أو سانحا [5]، أو رآه يتفلى وينتتف، حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من النّاس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عند ذلك وتطيّروا عندها، كما تطيّروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال. فكان زجر الطّير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطيّر، ثمّ استعملوا ذلك في كلّ شيء.
[1] البيتان للرقاص الكلبي أو لخثيم بن عدي في اللسان والتاج (حتم، خثرم، وقي)، ولخثيم بن عدي في التهذيب 7/ 690، وبلا نسبة في المخصص 8/ 152، 13/ 25، والعين 5/ 239.
[2] البيتان بلا نسبة في زهر الآداب 524.
[3] الشوحط: شجر تتخذ منه القسي. «القاموس: شحط».
[4] البارح: من الصيد ما مرّ من ميامنك إلى مياسرك. «القاموس: برح».
[5] السانح: ضد البارح، ومنه «من لي بالسانح بعد البارح» أي بالمبارك بعد الشؤم. «القاموس:
سنح».(3/208)
858 [أسماء الغراب]
والغراب لسواده إن كان أسود، ولاختلاف لونه إن كان أبقع، ولأنّه غريب يقطع إليهم، ولأنّه لا يوجد في موضع خيامهم يتقمّم، إلّا عند مباينتهم لمساكنهم، ومزايلتهم لدورهم، ولأنّه ليس شيء من الطير أشدّ على ذوات الدّبر من إبلهم من الغربان، ولأنه حديد البصر فقالوا عند خوفهم من عينه «الأعور». كما قالوا: «غراب» لاغترابه وغربته «وغراب البين»، لأنّه عند بينونتهم يوجد في دورهم.
ويسمّونه «ابن داية»، لأنّه ينقب عن الدّبر حتّى يبلغ إلى دايات العنق وما اتصل بها من خرزات الصّلب، وفقار الظهر.
859 [مراعاة التفاؤل في التسمية]
وللطّيرة سمّت العرب المنهوش بالسّليم، والبرّيّة بالمفازة، وكنوا الأعمى أبا بصير، والأسود أبا البيضاء، وسمّوا الغراب بحاتم، إذ كان يحتم الزّجر به على الأمور.
فصار تطيّرهم من القعيد والنّطيح [1] ومن جرد الجراد، ومن أن الجرادة ذات ألوان، وجميع ذلك دون التّطيّر بالغراب.
860 [ضروب من الطّيرة]
ولإيمان العرب بباب الطّيرة والفأل عقدوا الرّتائم [2]، وعشّروا إذا دخلوا القرى تعشير الحمار [3]، واستعملوا في القداح الآمر، والناهي، والمتربّص. وهنّ غير قداح الأيسار.
861 [اشتقاق أسماء في الطيرة]
ويدلّ على أنهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون، قول سوّار ابن المضرّب [4]: [من الوافر] تغنّى الطائران ببين ليلى ... على غصنين من غرب وبان
[1] القعيد: ما جاء من ورائك من ظبي أو طائر. «القاموس: قعد». والنطيح: ما جاء من أمامك من الطير والوحش. «القاموس: نطح».
[2] كان من أراد سفرا يعمد إلى شجرة فيعقد غصنين منها، فإن رجع وكانا على حالهما قال: إن أهله لم تخنه، وإلا فقد خانته، وذلك الرتم والرتيمة. «القاموس: رتم».
[3] كانوا يزعمون أن الرجل إذا ورد أرض وباء وضع يده خلف أذنه فنهق عشر نهقات نهيق الحمار ثم دخلها أمن من الوباء، وعشّر الحمار: تابع النهيق عشر نهقات. «اللسان: عشر».
[4] البيتان لسوار بن المضرب في الأصمعيات 243، ولجحدر العكلي في الحماسة البصرية 2/ 98، وأشعار اللصوص 1/ 195، وأمالي القالي 1/ 282، والكامل 1/ 85، وللمعلوط في عيون الأخبار 1/ 149، وبلا نسبة في الوحشيات 183.(3/209)
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
فاشتقّ كما ترى الاغتراب من الغرب، والبينونة من البان.
وقال جران العود [1]: [من الطويل] جرى يوم رحنا بالجمال نزفّها ... عقاب وشحّاج من البين يبرح ... فأمّا العقاب فهي منها عقوبة ... وأمّا الغراب فالغريب المطوّح
فلم يجد في العقاب إلّا العقوبة. وجعل الشّحاج هو الغراب البارح وصاحب البين، واشتقّ منه الغريب المطوّح.
ورأى السّمهريّ غرابا على بانة ينتف ريشه، فلم يجد في البان إلّا البينونة، ووجد في الغراب جميع معاني المكروه، فقال [2]: [من الطويل] رأيت غرابا واقعا فوق بانة ... ينتّف أعلى ريشه ويطايره ... فقلت، ولو أني أشاء زجرته ... بنفسي، للنهديّ: هل أنت زاجره ... فقال: غراب باغتراب من النّوى ... وبالبان بين من حبيب تعاشره
فذكر الغراب بأكثر ممّا ذكر به غيره، ثمّ ذكر بعد شأن الريش وتطايره. وقال الأعشى [3]: [من الرمل] ما تعيف اليوم في الطير الرّوح ... من غراب البين أو تيس برح
فجعل التّيس من الطّير، إذ تقدم ذكر الطير، وجعله من الطير في معنى التطيّر.
وقال النّابغة [4]: [من الكامل] زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا ... وبذاك خبّرنا الغراب الأسود
[1] ديوان جران العود 3، والشعر والشعراء 451.
[2] الأبيات للسمهري في الأغاني 21/ 239، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 1/ 211، وأشعار اللصوص 1/ 39، ولكثير في عيون الأخبار 1/ 148، وزهر الآداب 525، والبيت الأول بلا نسبة في اللسان والتاج (نشش)، والمخصص 8/ 131.
[3] ديوان الأعشى 287، واللسان والتاج (روح، عيف)، وأساس البلاغة (عيف)، والعين 3/ 292، والجمهرة 939، 1080، والمقاييس 2/ 455، 4/ 197، والمجمل 2/ 432، والمخصص 9/ 57، والتهذيب 3/ 231، 5/ 222، والتنبيه والإيضاح 2/ 243.
[4] ديوان النابغة الذبياني 89، والخصائص 1/ 240، والأغاني 11/ 8، وبلا نسبة في اللسان (وجه).(3/210)
وقال عنترة [1]: [من الكامل] ظعن الذين فراقهم أتوقّع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع ... حرق الجناح كأنّ لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هشّ مولع ... فزجرته ألّا يفرّخ بيضه ... أبدا ويصبح خائفا يتفجّع ... إنّ الذين نعبت لي بفراقهم ... هم أسهروا ليلى التّمام فأوجعوا
فقال: «وجرى ببينهم الغراب» لأنّه غريب، ولأنه غراب البين، ولأنّه أبقع. ثم قال: «حرق الجناح» تطيرا أيضا من ذلك. ثمّ جعل لحيي رأسه جلمين، والجلم يقطع. وجعله بالأخبار هشّا مولعا، وجعل نعيبه وشحيجه كالخبر المفهوم.
862 [التشاؤم بالغراب]
قال: فالغراب أكثر من جميع ما يتطيّر به في باب الشؤم. ألا تراهم كلما ذكروا ممّا يتطيرون منه شيئا ذكروا الغراب معه! وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره، ثم إذا ذكروا كلّ واحد من هذا الباب لا يمكنهم أن يتطيروا منه إلّا من وجه واحد، والغراب كثير المعاني في هذا الباب، فهو المقدّم في الشؤم.
863 [دفاع صاحب الغراب]
قال صاحب الغراب: الغراب وغير الغراب في ذلك سواء. والأعرابيّ إن شاء اشتقّ من الكلمة، وتوهّم فيها الخير، وإن شاء اشتقّ منها الشرّ. وكلّ كلمة تحتمل وجوها.
ولذلك قال الشاعر: [من الطويل] نظرت وأصحابي ببطن طويلع ... ضحيّا وقد أفضى إلى اللّبب الحبل [2] ... إلى ظبية تعطو سيالا تصوره ... يجاذبها الأفنان ذو جدد طفل [3]
[1] ديوان عنترة 48، والأول والثاني في اللسان والتاج (بين)، والثاني في اللسان (حرق)، وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (حرق)، والمخصص 1/ 73، والجمهرة 519.
[2] طويلع: هضبة بمكة، وواد في طريق البصرة إلى اليمامة، وموضع بنجد. (معجم البلدان 4/ 51).
الحبل: الرمل المستطيل. «القاموس: حبل». اللبب: ما استرق من الرمل. «القاموس: لبب».
[3] السيال: نبات له شوك أبيض طويل. «القاموس: سيل». الجدد: الخطوط. «القاموس: جدد».(3/211)
فقلت وعفت: الحبل حبل وصالها ... تجذّذ من سلماك وانصرم الحبل [1] ... وقلت: سيال! قد تسلّت مودّتي ... تصور غصونا! صار جثمانها يعلو [2] ... وعفت الغرير الطّفل طفلا أتت به ... فقلت لأصحابي: مضيّكم جهل ... رجوعي حزم وامترائي ضلّة ... كذلك كان الزّجر يصدقني قبل
وقال ابن قيس الرّقيّات [3]: [من الخفيف] بشّر الظّبي والغراب بسعدى ... مرحبا بالذي يقول الغراب
وقال آخر [4]: [من الطويل] بدا إذ قصدنا عامدين لأرضنا ... سنيح فقال القوم: مرّ سنيح ... وهاب رجال أن يقولوا وجمجموا ... فقلت لهم: جار إليّ ربيح ... عقاب بإعقاب من الدار بعد ما ... مضت نيّة لا تستطاع طروح ... وقالوا: دم! دامت مودّة بيننا ... وعاد لنا غض الشباب صريح ... وقال صحابي: هدهد فوق بأنة! ... هدى وبيان في الطريق يلوح ... وقالوا: حمامات! فحمّ لقاؤها ... وطلح! فنيلت والمطيّ طليح
قالوا: فهو إذا شاء جعل الحمام من الحمام والحميم والحمى. وإن شاء قال:
«وقالوا حمامات فحمّ لقاؤها» وإذا شاء اشتق البين من البان. وإذا شاء اشتقّ منه البيان.
وقال آخر [5]: [من الطويل] وقالوا: عقاب! قلت عقبى من الهوى ... دنت بعد هجر منهم، ونزوح ... وقالوا: حمامات! فحمّ لقاؤها ... وعاد لنا حلو الشّباب ربيح ... وقالوا: تغنّى هدهد فوق بانة! ... فقلت: هدى نغدو به ونروح
ولو شاء الأعرابيّ أن يقول إذا رأى سواد الغراب: سواد سودد، وسواد الإنسان:
[1] عفت: من العيافة والزجر. تجذد: تقطع. «القاموس: جذذ». سلماك: أي حبيبته سلمى.
[2] تصور: تقطع. «القاموس: صور».
[3] ديوان ابن قيس الرقيات 84.
[4] الأبيات لأبي حية النميري 130129، والحماسة البصرية 2/ 189188، والأمالي 1/ 24، وزهر الآداب 523.
[5] الأبيات لأبي حية النميري. انظر مصادرها في الحاشية السابقة.(3/212)
شخصه، وسواد العراق: سعف نخله، والأسودان: الماء والتمر، وأشباه ذلك لقاله.
قال: وهؤلاء بأعيانهم الذين يصرّفون الزّجر كيف شاؤوا، وإذا لم يجدوا من وقوع شيء بعد الزّجر بدّا هم الذين إذا بدا لهم في ذلك بداء أنكروا الطّيرة والزّجر البتّة.
864 [تطير النابغة]
وقد زعم الأصمعي أنّ النّابغة خرج مع زبّان بن سيّار يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة إذ نظر النّابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات ألوان، فتطيّر وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه! فلما رجع زبّان من تلك الغزوة سالما غانما، قال [1]: [من الوافر] تخبّر طيره فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير ... أقام كأنّ لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير ... تعلّم أنّه لا طير إلّا ... على متطير وهو الثّبور ... بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير
فزعم كما ترى زبّان وهو من دهاة العرب وساداتهم أنّ الذي يجدونه إنّما هو شيء من طريق الاتفاق، وقال: [من الوافر] تعلّم أنّه لا طير إلا ... على متطيّر وهو الثّبور
وهذا لا ينقض الأول من قوله: أمّا واحدة فإنه إن جعل ذلك من طريق العقاب للمتطير لم ينقض قوله في الاتفاق. وإن ذهب إلى أنّ مثل ذلك قد يكون ولا يشعر به اللّاهي عن ذلك والذي لا يؤمن بالطيرة، فإنّ المتوقّع فهو في بلاء مادام متوقعا. وإن وافق بعض المكروه جعله من ذلك.
865 [تطير ابن الزبير]
ويقال إنّ ابن الزبير لما خرج مع أهله من المدينة إلى مكّة، سمع بعض إخوته ينشد: [من الطويل] وكلّ بني أمّ سيمسون ليلة ... ولم يبق من أعيانهم غير واحد
[1] الأبيات لزبان بن سيّار في البيان 3/ 305304، والبيتان الثالث والرابع له في العمدة 2/ 262، وهما بلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 146، واللسان والتاج (طير)، والثالث بلا نسبة في اللسان والتاج وأساس البلاغة (علم)، والمخصص 3/ 29.(3/213)
فقال لأخيه: ما دعاك إلى هذا؟ قال: أما إني ما أردته! قال: ذلك أشدّ له.
وهذا منه إيمان شديد بالطيرة كما ترى.
866 [بعض من أنكر الطيرة]
وممن كان لا يرى الطيرة شيئا المرقش. من بني سدوس، حيث قال [1]: [من مجزوء الكامل] إني غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم ... فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم ... فكذاك لا خير ولا ... شرّ على أحد بدائم
قال سلامة بن جندل [2]: [من البسيط] ومن تعرّض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بدّ مشؤوم
وممن كان ينكر الطيرة ويوصي بذلك، الحارث بن حلزة، وهو قوله قال أبو عبيدة: أنشدنيها أبو عمرو، وليست إلا هذه الأبيات، وسائر القصيدة مصنوع مولد وهو قوله [3]: [من السريع] يا أيها المزمع ثم انثنى ... لا يثنك الحازي ولا الشاحج ... ولا قعيد أغضب قرنه ... هاج له من مربع هائج ... بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره خالج ... يترك ما رقّح من عيشه ... يعيث فيه همج هامج ... لا تكسع الشّول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
وقال الأصمعي: قال سلم بن قتيبة: أضللت ناقة لي عشراء، وأنا بالبدو، فخرجت في طلبها، فتلقاني رجل بوجهه شين من حرق النار، ثم تلقّاني رجل آخذ بخطام بعيره، وإذا هو ينشد [4]: [من مجزوء الكامل] فلئن بغيت لها البغا ... ة فما البغاة بواجدينا
[1] تقدمت الأبيات مع تخريجها في الفقرة (856) ص 208207.
[2] ديوان سلامة بن جندل 252، والبيت لعلقمة في ديوانه 67، والمفضليات 401، وأمالي المرتضى 1/ 578، والحماسة البصرية 2/ 385.
[3] الأبيات في المفضليات 430، والبيان والتبيين 3/ 304303، والبخلاء 164.
[4] البيت للبيد في ديوانه 323، وعيون الأخبار 1/ 145.(3/214)
ثم من بعد هذا كلّه، سألت عنها بعض من لقيته. فقال لي: التمسها عند تلك النار. فأتيتهم فإذا همّ قد نتجوها حوارا [1]، وقد أوقدوا لها نارا فأخذت بخطامها وانصرفت.
867 [عدم إيمان النّظّام بالطيرة]
وأخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النّظّام قال: جعت حتّى أكلت الطين، وما صرت إلى ذلك حتّى قلبت قلبي أتذّكر: هل بها رجل أصيب عنده غداء أو عشاء، قما قدرت عليه، وكان علي جبّة وقميصان، فنزعت القميص الأسفل فبعته بدريهمات، وقصدت إلى فرضة الأهواز، أريد قصبة الأهواز، وما أعرف بها أحدا. وما كان ذلك إلّا شيئا أخرجه الضّجر وبعض التعرّض. فوافيت الفرضة فلم أصب فيها سفينة، فتطيّرت من ذلك. ثم إني رأيت سفينة في صدرها خرق وهشم فتطيرت من ذلك أيضا، وإذا فيها حمولة، فقلت للملاح: تحملني؟ قال: نعم. قلت: ما اسمك؟
قال: «داوداذ» وهو بالفارسية الشّيطان، فتطيرت من ذلك. ثم ركبت معه، تصكّ الشمال وجهي، وتثير بالليل الصّقيع على رأسي. فلما قربنا من الفرصة صحت: يا حمّال! معي لحاف لي سمل، ومضربة خلق، وبعض ما لا بدّ لمثلي منه، فكان أول حمّال أجابني أعور فقلت لبقّار كان واقفا: بكم تكري ثورك هذا إلى الخان؟ فلما أدناه من متاعي إذا الثّور أعضب القرن، فازددت طيرة إلى طيرة، فقلت في نفسي:
الرّجوع أسلم لي. ثم ذكرت حاجتي إلى أكل الطين فقلت: ومن لي بالموت؟! فلما صرت في الخان وأنا جالس فيه، ومتاعي بين يديّ وأنا أقول: إن أنا خلفته في الخان وليس عنده من يحفظه فشّ الباب وسرق، وإن جلست أحفظه لم يكن لمجيئي إلى الأهواز وجه. فبينا أنا جالس إذ سمعت قرع الباب، قلت: من هذا عافاك الله تعالى؟
قال: رجل يريدك، قلت: ومن أنا؟ قال: أنت إبراهيم. فقلت: ومن إبراهيم؟ قال:
إبراهيم النّظّام. قلت: هذا خنّاق، أو عدوّ، أو رسول سلطان! ثم إني تحاملت وفتحت الباب، فقال: أرسلني إليك إبراهيم بن عبد العزيز ويقول:
نحن وإن كنّا اختلفنا في بعض المقالة، فإنّا قد نرجع بعد ذلك إلى حقوق الإخلاق والحرّيّة. وقد رأيتك حين مررت بي على حال كرهتها منك، وما عرفتك حتى خبّرني عنك بعض من كان معي وقال: ينبغي أن يكون قد نزعت بك حاجة.
[1] الحوار: ولد الناقة. «القاموس: حور».(3/215)
فإن شئت فأقم بمكانك شهرا أو شهرين، فعسى أن نبعث إليك ببعض ما يكفيك زمنا من دهرك. وإن اشتهيت الرّجوع فهذه ثلاثون مثقالا، فخذها وانصرف، وأنت أحقّ من عذر.
قال: فهجم والله عليّ أمر كاد ينقضني. أما واحدة: فأنّي لم أكن ملكت قبل ذلك ثلاثين دينارا في جميع دهري. والثّانية: أنّه لم يطلع مقامي وغيبتي عن وطني، وعن أصحابي الذين هم على حال أشكل بي وأفهم عنّي. والثّالثة: ما بيّن لي من أنّ الطيرة باطل وذلك أنّه قد تتابع عليّ منها ضروب، والواحدة منها كانت عندهم معطبة.
قال: وعلى مثل ذلك الاشتقاق يعمل الذين يعبّرون الرّؤيا.
868 [ضروب من العجب في غربان البصرة]
وبالبصرة من شأن الغربان ضروب من العجب، لو كان ذلك بمصر أو ببعض الشامات [1]: لكان عندهم من أجود الطّلّسم. وذلك أنّ الغربان تقطع إلينا في الخريف، فترى النّخل وبعضها مصرومة [2]، وعلى كلّ نخلة عدد كثير من الغربان، وليس منها شيء يقرب نخلة واحدة من النّخل الذي لم يصرم، ولو لم يبق عليها إلا عذق واحد. وإنّما أو كار جميع الطير المصوّت في أقلاب تلك النّخل، والغراب أطير وأقوى منها ثم لا يجترئ أن يسقط على نخلة منها، بعد أن يكون قد بقي عليها عذق واحد.
869 [منقار الغراب]
ومنقار الغراب معول، وهو شديد النّقر. وإنّه ليصل إلى الكمأة المندفنة في الأرض بنقرة واحدة حتى يشخصها. ولهو أبصر بمواضع الكمأة من أعرابيّ يطلبها في منبت الإجردّ [3] والقصيص [4]، في يوم له شمس حارّة. وإن الأعرابيّ ليحتاج إلى أن
[1] الشامات: بلاد الشام.
[2] صرم: قطع «القاموس: صرم».
[3] الإجرد: نبت يدل على الكمأة، واحدته إجردّة، وقال النضر: الإجرد: بقل، يقال: له حب كأنه الفلفل. «اللسان: جرد».
[4] القصيص: جمع قصيصة، وهي شجرة تنبت في أصلها الكمأة، وقد يجعل غسلا للرأس.
«اللسان: قصص».(3/216)
يرى ما فوقها من الأرض فيه بعض الانتفاخ والانصداع، وما يحتاج الغراب إلى دليل.
وقال أبو دؤاد الإياديّ [1]: [من البسيط] تنفي الحصى صعدا شرقي منسمها ... نفي الغراب بأعلى أنفه الغردا
ولو أنّ الله عزّ وجلّ أذن للغراب أن يسقط على النخلة وعليها الثّمرة لذهبت، وفي ذلك الوقت لو أنّ إنسانا نقر العذق نقرة واحدة لا نتثر عامّة ما فيه، ولهلكت غلّات الناس. ولكنّك ترى منها على كلّ نخلة مصرومة الغربان الكثيرة، ولا ترى على التي تليها غرابا واحدا، حتى إذا صرموا ما عليها تسابقن إلى ما سقط من التمر في جوف الليف وأصول الكرب [2] لتستخرجه كما يستخرج المنتاخ [3] الشّوك.
870 [حوار في نفور الغربان من النخل]
فإن قال قائل: إنما أشباح تلك الأعذاق المدلّاة كالخرق السّود التي تفزع الطير أن يقع على البزور، وكالقودام السّود تغرز في أسنمة ذوات الدبر من الإبل، لكيلا تسقط عليها الغربان. فكأنها إذا رأت سواد الأعذاق فزعت كما يفزع الطير من الخرق السّود.
قال الآخر: قد نجد جميع الطير الذمي يفزع بالخرق السّود فلا يسقط على البزور، يقع كله على النخل وعليه الحمل، وهل لعامّة الطيّر وكور إلا في أقلاب النّخل ذوات الحمل.
قال الآخر: يشبه أن تكون الغربان قطعت إلينا من مواضع ليس فيها نخل ولا أعذاق، وهذا الطير الذي يفزع بالخرق السّود إنّما خلقت ونشأت في المواضع التي لم تزل ترى فيها النّخيل والأعذاق. ولا نعرف لذلك علة سوى هذا.
قال الآخر: وكيف يكون الشأن كذلك ومن الغربان غربان أوابد بالعراق فلا تبرح تعشّش في رؤوس النّخل، وتبيض وتفرخ، إلّا أنّها لا تقرب النّخلة التي يكون عليها الحمل.
[1] ديوان أبي دؤاد 308.
[2] الكرب: أصول السعف الغلاظ العراض التي تيبس فتصير مثل الكتف واحدتها كربة. «اللسان:
كرب».
[3] المنتاخ: المنقاش، والنتخ: إخراج الشوك بالمنتاخ. «اللسان: نتخ».(3/217)
والدّليل على أنها تعشش في نخل البصرة، وفي رؤوس أشجار البادية قول الأصمعيّ: [من المتقارب] ومن زردك مثل مكن الضّباب ... يناوح عيدانه السيمكان [1] ... ومن شكر فيه عشّ الغراب ... ومن جيسران وبنداذجان [2]
وقال أبو محمد الفقعسيّ [3]، وهو يصف فحل هجمة [4]: [من الرجز] يتبعها عدبّس جرائض ... أكلف مربدّ هصور هائض [5] ... بحيث يعتش الغراب البائض
871 [التطير والتفاؤل من الطير والنبات]
والعامّة تتطيّر من الغراب إذا صاح صيحة واحدة، فإذا ثنّى تفاءلت به.
والبوم عند أهل الرّيّ وأهل مرو يتفاءل به، وأهل البصرة يتطيرون منه. والعربيّ يتطير من الخلاف، والفارسي يتفاءل إليه، لأنّ اسمه بالفارسية «باذامك» أي يبقى، وبالعربية خلاف، والخلاف غير الوفاق.
والريحان يتفاءل به، لأنه مشتقّ من الرّوح، ويتطيرّ منه لأن طعمه مرّ، وإن كان في العين والأنف مقبولا.
وقال شاعر من المحدثين [6]: [من الكامل] أهدى له أحبابه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر
[1] الزردك: الجزر، وهي كلمة فارسية. الضباب: جمع ضب. المكن: البيض.
[2] شكر النخل: كثرت فراخه، وشكير النخيل: هو الخوص الذي حول السعف، «اللسان: شكر».
الجيسران: جنس من أفخر النخل معرب «عيون الأخبار 3/ 297».
[3] الرجز لأبي محمد الفقعسي في اللسان (بيض، جرض)، والتاج (عشش، جرض)، وكتاب الجيم 1/ 239، وبلا نسبة في اللسان (عشش)، والتاج (بيض)، والعين 1/ 69، والمقاييس 4/ 46، والمخصص 8/ 125، 16/ 127.
[4] الهجمة: من الإبل أولها أربعون إلى ما زادت، أو ما بين السبعين إلى المائة أو إلى دوينها «القاموس: هجم».
[5] جمل عدبس: شديد وثيق الخلق عظيم. «اللسان: عدبس». الجرائض: الجمل الذي يحطم كل شيء بأنيابه. «اللسان: جرض». المربد: الذي لونه بين السواد والغبرة. «اللسان: ربد». الهصور:
الذي يأخذ طرف العود ويثنيه وقيل للأسد هصور، لأنه يكسر ويميل. «اللسان: هصر». هاض:
كسر «اللسان: هيض».
[6] البيتان للعباس بن الأحنف في زهر الآداب 1017، ونهاية الأرب 11/ 83.(3/218)
متطيّرا ممّا أتاه، فطعمه ... لونان باطنه خلاف الظّاهر
والفرس تحبّ الآس [1] وتكره الورد، لأن الورد لا يدوم، والآس دائم.
قال: وإذا صاح الغراب مرتين فهو شرّ، وإذا صاح ثلاث مرّات فهو خير، على قدر عدد الحروف.
872 [عداوة الحمار للغراب]
ويقال: إنّ بين الغراب والحمار عداوة. كذا قال صاحب المنطق.
وأنشدني بعض النحويّين [2]: [من الرجز] عاديتنا لا زلت في تباب ... عداوة الحمار للغراب
873 [أمثال في الغراب]
ويقال: «أصحّ من غراب». وأنشد ابن أبي كريمة لبعضهم، وهو يهجو صريع الغواني مسلم بن الوليد: [من الوافر] فما ريح السّذاب أشدّ بغضا ... إلى الحيّات منك إلى الغواني [3]
وأنشد: [من الوافر] وأصلب هامة من ذي حيود ... ودون صداعه حمّى الغراب [4]
وزعم لي داهية من دهاة العرب الحوّائين، أنّ الأفاعي وأجناس الأحناش، تأتي أصول الشّيح والحرمل، تستظل به، وتستريح إليه.
ويقال: «أغرب من غراب». وأنشد قول مضرّس بن لقيط: [من الطويل] كأني وأصحابي وكرّي عليهم ... على كلّ حال من نشاط ومن سأم ... غراب من الغربان أيّام قرّة ... رأين لحاما بالعراص على وضم [5]
874 [حديث الطيرة]
وقد اعترض قوم علينا في الحديث الذي جاء في تفرقة ما بين الطيرة والفأل،
[1] الآس: ضرب من الرياحين، وهو شجرة ورقها عطر «اللسان: أوس».
[2] تقدم البيت في الفقرة (285)، ص 281.
[3] البيت بلا نسبة في ربيع الأبرار 1/ 277.
[4] الحيود: ما شخص من نواحي الرأس. «القاموس: حيد».
[5] الوضم: ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب أو حصير، والجمع: أوضام. «القاموس: وضم».(3/219)
وزعموا أنّه ليس لقوله: «كان يعجبه الفأل الحسن ويكره الطيرة» [1] معنى. وقالوا:
إن كان ليس لقول القائل: يا هالك، وأنت باغ، وجه ولا تحقيق، فكذلك إذا قال: يا واجد، ليس له تحقيق، وليس قوله يا مضلّ ويا مهلك، أحقّ بأن يكون لا يوجب ضلالا ولا هلاكا من قوله يا واجد، ويا ظافر، من ألّا يكون يوجب ظفرا ولا وجودا.
فإمّا أنّ يكونا جميعا يوجبان، وإما أن يكونا جميعا لا يوجبان. قيل لهم: ليس التأويل ما إليه ذهبتم. لو أن النّاس أمّلوا فائدة الله عزّ وجلّ ورجوا عائدته، عند كلّ سبب ضعيف وقويّ، لكانوا على خير. ولو غلطوا في جهة الرّجاء لكان لهم بنفس ذلك الرّجاء خير. ولو أنهم بدل ذلك قطعوا أملهم ورجاءهم من الله تعالى، لكان ذلك من الشرّ والفأل، أن يسمع كلمة في نفسها مستحسنة. ثمّ إن أحبّ بعد ذلك أو عند ذلك أنّ يحدث طمعا فيما عند الله تعالى، كان نفس الطمع خلاف اليأس.
وإنما خبّر أنّه كان يعجبه. وهذا إخبار عن الفطرة كيف هي، وعن الطبيعة إلى أيّ شيء تتقلب.
وقد قيل لبعض الفقهاء [2]: ما الفأل؟ قال: أن تسمع وأنت مضلّ: يا واجد، وأنت خائف: يا سالم. ولم يقل إنّ الفأل يوجب لنفسه السلامة. ولكنّهم يحبّون له إخراج اليأس وسوء الظن وتوقّع البلاء من قلبه على كل حال وحال الطيرة حال من تلك الحالات ويحبون أن يكون لله راجيا، وأن يكون حسن الظن. فإن ظنّ أن ذلك المرجوّ يوافق بتلك الكلمة ففرح بذلك فلا بأس.
875 [تطير بعض البصريين]
وقال الأصمعيّ [3]: هرب بعض البصريين من بعض الطّواعين، فركب ومضى بأهله نحو سفوان، فسمع غلاما له أسود يحدو خلفه، وهو يقول: [من الرجز] لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي ميعة مطّار [4] ... أو يأتي الحين على مقدار ... قد يصبح الله أمام السّاري
فلما سمع ذلك رجع بهم.
[1] في النهاية 3/ 405 (أنه كان يتفاءل ولا يتطير).
[2] هو ابن عون، كما في عيون الأخبار 1/ 146.
[3] الخبر مع الشعر في زهر الآداب 1066، والبيان 3/ 278، وعيون الأخبار 1/ 144، ومحاضرات الأدباء 2/ 225. وأمالي المرتضى 4/ 112.
[4] المطار: السريع الجري.(3/220)
876 [معرفة في الغربان]
قال: والغربان تسقط في الصحارى تلتمس الطّعم، ولا تزال كذلك، فإذا وجبت [1] الشمس نهضت إلى أو كارها معا. وما أقلّ ما تختلط البقع بالسّود المصمتة.
877 [الأنواع الغريبة من الغربان]
قال: ومنها أجناس كثيرة عظام كأمثال الحداء السّود، ومنها صغار. وفي مناقيرها اختلاف في الألوان والصور. ومنها غربان تحكي كلّ شيء سمعته، حتى إنها في ذلك أعجب من الببغاء. وما أكثر ما يتخلّف منها عندنا بالبصرة في الصيف، فإذا جاء القيظ قلّت. وأكثر المتخلّفات منها البقع. فإذا جاء الخريف رجعت إلى البساتين، لتنال مما يسقط من التمر في كرب النّخل وفي الأرض، ولا تقرب النّخلة إذا كان عليها عذق واحد، وأكثر هذه الغربان سود، ولا تكاد ترى فيهنّ أبقع.
878 [قبح فرخ الغراب]
وقال الأصمعيّ: قال خلف: لم أر قطّ أقبح من فرخ الغراب! رأيته مرّة فإذا هو صغير الجسم، عظيم الرأس، عظيم المنقار، أجرد أسود الجلد، ساقط النفس، متفاوت الأعضاء.
879 [غربان البصرة]
قال: وبعضها يقيم عندنا في القيظ. فأمّا في الصّيف فكثير. وأمّا في الخريف فالدّهم. وأكثر ما تراه في أعالي سطوحنا في القيظ والصيف البقع. وأكثر ما تراه في الخريف في النخل وفي الشتاء في البيوت السّود.
وفي جبل تكريت [2] في تلك الأيّام، غربان سود كأمثال الحداء السّود عظما.
880 [تسافد الغربان]
وناس يزعمون أنّ تسافدها على غير تسافد الطير، وأنّها تزاقّ بالمناقير، وتلقح من هناك.
[1] وجبت الشمس: سقطت للمغيب. «اللسان: وجب».
[2] تكريت: بلدة مشهورة بين بغداد والموصل. معجم البلدان 2/ 38.(3/221)
881 [نوادر وأشعار]
نذكر شيئا من نوادر وأشعار وشيئا من أحاديث، من حارّها وباردها.
قال ابن نجيم: كان ابن ميّادة يستحسن هذا البيت لأرطأة بن سهيّة [1]: [من الطويل] فقلت لها يا أمّ بيضاء إنّه ... هريق شبابي واستشنّ أديمي
صار شنّا.
وكان الأصمعي يستحسن قول الطرمّاح بن حكيم، في صفة الظّليم [2]: [من الكامل] مجتاب شملة برجد لسراته ... قدرا وأسلم ما سواه البرجد [3]
ويستحسن قوله في صفة الثّور [4]: [من الكامل] يبدو وتضمره البلاد كأنّه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد
وكان أبو نواس يستحسن قول الطّرماح [5]: [من الطويل] إذا قبضت نفس الطّرماح أخلقت ... عرى المجد واسترخى عنان القصائد
وقال كثير [6]: [من الطويل] إذا المال يوجب عليك عطاؤه ... صنيعة برّ أو خليل توامقه ... منعت وبعض المنع حزم وقوّة ... فلم يفتلتك المال إلّا حقائقه
وقال سهل بن هارون يمدح يحيى بن خالد [7]: [من الطويل] عدوّ تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما
[1] البيت لأرطأة بن سهية في العمدة 1/ 274، ولأبي حية النميري في ديوانه 194، واللسان والتاج (شنن)، وللطرماح في ديوانه 319.
[2] ديوان الطرماح 144 (114)، والمعاني الكبير 328، وربيع الأبرار 5/ 453.
[3] في ديوانه: (مجتاب: لابس. البرجد: كساء ضخم مخطط فيه سواد وبياض، شبّه ريش الظليم به).
[4] ديوان الطرماح 146 (117)، وأساس البلاغة (ضمر)، وديوان المعاني 2/ 131، والأغاني 6/ 95، والعمدة 1/ 260.
[5] ذيل ديوان الطرماح 311، والبيان 1/ 46.
[6] ديوان كثير 309، واللسان والتاج (فلذ)، وأمالي المرتضى 2/ 261، وبلا نسبة في أساس البلاغة (فلذ)، وديوان الأدب 2/ 400.
[7] البيت له في البيان 3/ 352، والبخلاء 14، وزهر الآداب 616، ولكثير في العقد الفريد 6/ 192.(3/222)
قال: وكان ربعيّ بن الجارود يستحسن قوله: [من الوافر] فخير منك من لا خير فيه ... وخير من زيارتك القعود
وقال الأعشى [1]: [من البسيط] قد نطعن العير في مكنون فائله ... وقد يشيط على أرماحنا البطل ... لا تنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل
وقال العلاء بن الجارود [2]: [من مجزوء الرمل] أظهروا للنّاس نسكا ... وعلى المنقوش داروا ... وله صاموا وصلّوا ... وله حجّوا وزاروا ... وله قاموا وقالوا ... وله حلّوا وساروا ... لو غدا فوق الثريّا ... ولهم ريش لطاروا
وقال الآخر في مثل ذلك [3]: [من الكامل] شمر ثيابك واستعدّ لقابل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم ... وامش الدّبيب إذا مشيت لحاجة ... حتى تصيب وديعة ليتيم
وقال أبو الحسن: كان يقال: «من رقّ وجهه رقّ علمه».
وقال عمر: «تفقّهوا قبل أن تسودوا» [4].
وقال الأصمعي: «وصلت بالعلم، وكسبت بالملح» [5].
ومن الأشعار الطيبة قول الشاعر في السمك والخادم [6]: [من الخفيف] مقبل مدبر خفيف ذفيف ... دسم الثّوب قد شوى سمكات
[1] ديوان الأعشى 113، والأول في اللسان والتاج (شيط، فيل)، وأساس البلاغة (شيط)، وشرح المفصل 5/ 64، والثاني في اللسان (دنا)، والخزانة 9/ 453، 10/ 170، والمقاصد النحوية 3/ 291، وعمدة الحفاظ وأساس البلاغة (فتل)، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 386، والمقتضب 4/ 141.
[2] الأبيات لمحمود الوراق في العقد الفريد 2/ 141، 4/ 337.
[3] البيتان لمساور الوراق في الأغاني 18/ 150، والبيان 3/ 105، والعقد 3/ 216، 6/ 366.
[4] ورد قول عمر بن الخطاب في النهاية 2/ 418.
[5] ورد قول الأصمعي في البيان 1/ 199، 243.
[6] البيتان بلا نسبة في اللسان والتاج (شبط).(3/223)
من شبابيط لجة ذات غمر ... حدب من شحومها زهمات [1]
ففكّر فيهما فإنّهما سيمتعانك ساعة.
وقال الشاعر [2]: [من الكامل] إن أجز علقمة بن سيف سعيه ... لا أجزه ببلاء يوم واحد ... لأحبّني حبّ الصبيّ ورمّني ... رمّ الهديّ إلى الغنيّ الواجد ... ولقد شفيت غليلتي ونقعتها ... من آل مسعود بماء بارد
وقال رجل من جرم [3]: [من الطويل] نبئت أخوالي أرادوا عمومتي ... بشنعاء فيها ثامل السّمّ منقعا ... سأركبها فيكم وأدعى مفرّقا ... وإن شئتم من بعد كنت مجمّعا
882 [أحاديث مستحسنة]
وقال يونس بن حبيب: ما أكلت في شتاء شيئا قطّ إلّا وقد برد، ولا أكلت في صيف شيئا إلّا وقد سخن.
وقال أبو عمرو المدينيّ: لو كانت البلايا بالحصص، ما نالني كما نالني:
اختلفت الجارية بالشاة إلى التّيّاس اختلافا كثيرا، فرجعت الجارية حاملا والشاة حائلا.
وقال جعفر بن سعيد [4]: الخلاف موكّل بكلّ شيء يكون، حتى القذاة في الماء في رأس الكوز، فإن أردت أن تشرب الماء جاءت إلى فيك، وإن أردت أن تصبّ من رأس الكوز لتخرج رجعت.
883 [حديث أبي عمران وإسماعيل بن غزوان]
وقال إسماعيل بن غزوان: بكرت اليوم إلى أبي عمران، فلزمت الجادّة،
[1] زهمات: سمينات «اللسان: زهم».
[2] الأبيات للمرناق الطائي في معجم الشعراء 446، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1590، وبلا نسبة في البيان 3/ 233، والبيت الثاني لفدكي بن أعبد في اللسان والتاج (لمم).
[3] البيتان لقيس بن رفاعة في الوحشيات 60، ومعجم الشعراء 197، والأشباه والنظائر للخالديين 1/ 123.
[4] الخبر في ثمار القلوب 494 (880)، وربيع الأبرار 1/ 230.(3/224)
فاستقبلني واحد فلزم الجادّة التي أنا عليها، فلما غشيني انحرفت عنه يمنة فانحرف معي، فعدت إلى سمتي فعاد، فعدت فعاد ثمّ عدت فعاد. فلولا أنّ صاحب برذون فرّق بيننا لكان إلى الساعة يكدّني. فدخلت على أبي عمران فدعا بغدائه، فأهويت بلقمتي إلى الصّباغ فأهوى إليه بعضهم، فنحّيت يدي فنحّى يده، ثمّ عدت فعاد، ثمّ نحيت فنحّى، فقلت لأبي عمران: ألا ترى ما نحن فيه؟ قال سأحدّثك بأعجب من هذا، أنا منذ أكثر من سنة أشفق أن يراني ابن أبي عون الخياط، فلم يتّفق لي أن يراني مرّة واحدة، فلما أن كان أمس ذكرت لأبي الحارث الصّنع في السلامة من رؤيته، فاستقبلني أمس أربع مرّات!
884 [نوادر من الكلام البليغ]
وذكر محمّد بن سلام، عن محمّد بن القاسم قال: قال جرير: أنّا لا أبتدي ولكنّي أعتدي [1].
وقال أبو عبيدة: قال الحجّاج: أنا حديد حقود حسود! [2] قال: وقال قديد بن منيع، لجديع بن عليّ: لك حكم الصبيّ على أهله! [3] وقال أبو إسحاق وذكر إنسانا [4]: هو والله أترف من ربيب ملك [5]، وأخرق من امرأة [6]، وأظلم من صبي [7].
وقال لي أبو عبيدة: ما ينبغي أن يكون كان في الدنيا مثل هذا النّظام. قلت:
وكيف؟ قال: مرّ بي يوما فقلت: والله لأمتحننّه، ولأسمعنّ كلامه فقلت له: ما عيب الزّجاج قال: يسرع إليه الكسر، ولا يقبل الجبر من غير أن يكون فكّر أو ارتدع!
[1] البيان 3/ 165.
[2] البيان 3/ 255.
[3] ثمار القلوب 538 (949).
[4] انظر البيان 1/ 247، ورسائل الجاحظ 1/ 196.
[5] الدرة الفاخرة 2/ 445، والمثل برواية: (أترف من ربيب نعمة) في مجمع الأمثال 1/ 150، والدرة الفاخرة 1/ 97، والمستقصى 1/ 34، وجمهرة الأمثال 1/ 286.
[6] المثل برواية (أخرق من أمة)، وبرواية (أخرق من صبي) في المستقصى 1/ 99، وجمهرة الأمثال 1/ 431.
[7] مجمع الأمثال 1/ 446، والمستقصى 1/ 234، وجمهرة الأمثال 2/ 27، والدرة الفاخرة 1/ 293.(3/225)
قال: وقال جبّار بن سلمى بن مالك وذكر عامر بن الطفيل فقال [1]: كان لا يضل حتّى يضلّ النّجم، ولا يعطش حتّى يعطش البعير ولا يهاب حتّى يهاب السيل، كان والله خير ما يكون حين لا تظنّ نفس بنفس خيرا.
وقال ابن الأعرابيّ: قال أعرابي [2]: اللهمّ لا تنزلني ماء سوء فأكون امرأ سوء! يقول: يدعوني قلّته إلى منعه.
وقال محمّد بن سلام، عن حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس: إنّ الأحنف كان يكره الصّلاة في المقصورة، فقال له بعض القوم: يا أبا بحر، لم لا تصلي في المقصورة؟ قال: وأنت لم لا تصلّي فيها؟ قال: لا أترك.
وهذا الكلام يدل على ضروب من الخير كثيرة.
ودخل عبد الله بن الحسن على هشام في ثياب سفره، فقال: اذكر حوائجك.
فقال عبد الله: ركابي مناخة، وعليّ ثياب سفري! فقال: إنّك لا تجدني خيرا منّي لك الساعة.
قال أبو عبيدة [3]: بلغ عمر بن عبد العزيز قدوم عبد الله بن الحسن، فأرسل إليه: إني أخاف عليك طواعين الشام، وإنّك لا تغنم أهلك خيرا لهم منك فالحق بهم، فإنّ حوائجهم ستسبقك.
وكان ظاهر ما يكلّمونه به ويرونه إيّاه جميلا مذكورا، وكان معناهم الكراهة لمقامه بالشام، وكانوا يرون جماله، ويعرفون بيانه وكماله فكان ذلك العمل من أجود التدبير فيه عند نفسه.
885 [شعر في الزهد والحكمة]
وأنشد: [من الطويل] تليح من الموت الذي هو واقع ... وللموت باب أنت لا بدّ داخله [4]
وقال آخر: [من الوافر] أكلكم أقام على عجوز ... عشنزرة مقلّدة سخابا [5]
[1] البيان 1/ 54، والأغاني 17/ 61.
[2] البيان 1/ 405، 2/ 283، 3/ 269.
[3] ثمار القلوب 435 (789).
[4] تليح: تخاف «القاموس: ليح». وانظر مجالس ثعلب 349.
[5] العشنزرة: الشديدة الخلق العظيمة من كل شيء. «القاموس: عشنزر». السّخاب: القلادة من سكّ وقرنفل ومحلب بلا جوهر. «القاموس: سخب».(3/226)
وقال آخر [1]: [من البسيط] الموت باب وكل الناس داخله ... فليت شعري بعد الباب ما الدّار ... لو كنت أعلم من يدري فيخبرني ... أجنّة الخلد مأوانا أم النّار
وقال آخر [2]: [من الكامل] اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد ... واعلم بأنّ المرء غير مخلّد ... فإذا ذكرت مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبيّ محمد
وقال آخر: [من مجزوء الكامل] والشمس تنعى ساكن ال ... دّنيا ويسعدها القمر ... أين الذين عليهم ... ركم الجنادل والمدر ... أفناهم غلس العشا ... ء يهزّ أجنحة السّحر ... ما للقلوب رقيقة ... وكأنّ قلبك من حجر ... ولقلّما تبقى وعو ... دك كلّ يوم يهتصر
وقال زهير [3]: [من الطويل] ومن يوف لا يذمم ومن يفض قلبه ... إلى مطمئن البرّ لا يتجمجم ... ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه ... ومن لا يكرّم نفسه لا يكرّم ... ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على النّاس تعلم ... ومن لا يزل يسترحل النّاس نفسه ... ولا يعفها يوما من الذّمّ يندم
وقال زهير أيضا [4]: [من البسيط] يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتّى إذا ما ضاربوا اعتنقا
[1] البيتان لأبي العتاهية في ديوانه 141، والبيت الأول في الأغاني 21/ 305تمثل به الحسن البصري.
[2] البيتان لأبي العتاهية في ديوانه 111110.
[3] الأبيات من معلقته في ديوانه 3736، والأول في اللسان (جمم، فضا)، والتاج (كشح، كنن)، والثاني في اللمع 215، وعجزه لأبي المثلم الهذلي في اللسان (كرم)، والثالث في الدرر 4/ 184، 5/ 82، وشرح شواهد المغني 386، 738، 743، وبلا نسبة في الهمع 2/ 35، 58، ومغني اللبيب 330، والرابع في اللسان والتاج (رحل)، والتهذيب 5/ 8.
[4] ديوان زهير 51، وعيون الأخبار 1/ 190، واللسان (وصل)، والتهذيب 1/ 253، والعين 5/ 168، والمقاييس 4/ 160، وبلا نسبة في اللسان (عنق).(3/227)
وقال [1]: [من الوافر] وجار البيت والرّجل المنادي ... أمام الحيّ عقدهما سواء [2] ... جوار شاهد عدل عليكم ... وسيّان الكفالة والتّلاء [3] ... فإن الحقّ مقطعه ثلاث: ... يمين، أو نفار، أو جلاء
فتفهّم هذه الأقسام الثلاثة، كيف فصّلها هذا الأعرابيّ! وقال أيضا [4]: [من الطويل] فلو كان حمد يخلد النّاس لم تمت ... ولكنّ حمد المرء ليس بمخلد ... ولكنّ منه باقيات وراثة ... فأورث بنيك بعضها وتزوّد ... تزوّد إلى يوم الممات فإنّه ... وإن كرهته النّفس آخر معهد
وقال الأسديّ [5]: [من الطويل] فإني أحبّ الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم
وقال الحادرة [6]: [من الطويل] فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بإحساننا إنّ الثّناء هو الخلد
وقال الغنوي [7]: [من الكامل] فإذا بلغتم أهلكم فتحدّثوا ... ومن الحديث مهالك وخلود
[1] الأبيات من القصيدة الثالثة في ديوانه، وترتيب الأبيات فيه (56، 45، 42) وهي في الصفحات 70، 67، 66، والبيت الثاني في اللسان والتاج (تلا)، وأساس البلاغة (تلو)، والتهذيب 14/ 318، وبلا نسبة في المخصص 6/ 84، والثالث في اللسان والتاج (نفر، قطع، جلا)، والتهذيب 1/ 194، 11/ 185، والمخصص 12/ 200، 16/ 29، والعين 1/ 138، 8/ 268، وعيون الأخبار 1/ 67.
[2] في ديوانه: (المنادي: المجالس، من النادي والندي).
[3] في ديوانه: (التلاء: الحوالة، قال أبو عبيدة: التلاء: أن يكتب على سهم أو قدح فلان جار فلان، يقال أتله سهما. وقد أتليته ذمة أي: أعطيته ذمة.
[4] البيتان (21) في ديوانه 170، والثالث فيه 164، والأول في شرح شواهد المغني 2/ 642، والدرر 5/ 101، وبلا نسبة في الهمع 2/ 66، ومغني اللبيب 1/ 256، والثالث في اللسان (بضع)، والتاج (غفر، بضع)، وأساس البلاغة (غفر).
[5] البيت في البيان 3/ 320، ورسائل الجاحظ 1/ 304.
[6] ديوان الحادرة 73، والبيان 1/ 320، والوساطة 340، وبلا نسبة في رسائل الجاحظ 1/ 304، وعيون الأخبار 1/ 161.
[7] البيت للغنوي في رسائل الجاحظ 1/ 304، وعيون الأخبار 1/ 161، ولأبي بن هريم في ديوان الحادرة 73.(3/228)
وقال آخر [1]: [من الطويل] فقتلا بتقتيل وعقرا بعقركم ... جزاء العطاس لا يموت من اتّأر
وقال زهير [2]: [من المنسرح] والإثم من شرّ ما تصول به ... والبرّ كالغيث نبته أمر [3]
أي كثير. ولو شاء أن يقول:
والبرّ كالماء نبته أمر
استقام الشعر، ولكن كان لا يكون له معنى، وإنّما أراد أن النبات يكون على الغيث أجود. ثمّ قال [4]: [من المنسرح] قد أشهد الشّارب المعذّل لا ... معروفه منكر ولا حصر [5] ... في فتية ليّني المآزر لا ... ينسون أحلامهم إذا سكروا [6] ... يشوون للضّيف والعفاة ويو ... فون قضاء إذا هم نذروا [7]
يمدح كما ترى أهل الجاهليّة بالوفاء بالنّذور أنشدني حبّان بن عتبان، عن أبي عبيدة، من الشّوارد التي لا أرباب لها، قوله [8]: [من مجزوء الكامل] إن يغدروا أو يفجروا ... أو يبخلوا لم يحفلوا ... يغدوا عليك مرجّلي ... ن كأنّهم لم يفعلوا ... كأبي براقش كلّ يو ... م لونه يتخيّل
[1] البيت للمهلهل في البيان 3/ 320، والتهذيب 11/ 145، وبلا نسبة في المقاييس 4/ 79، ورسائل الجاحظ 1/ 304.
[2] ديوان زهير 230، وأمالي القالي 1/ 103.
[3] في ديوانه: (أمر: كثير يزداد).
[4] انظر الحاشية قبل السابقة.
[5] في ديوانه: (المعذل: الملوّم. حصر: ضيّق).
[6] في ديوانه: (ليّني: أي أنهم ملوك، ليست ثيابهم بغلاظ جافية، لا ينسون أحلامهم: أراد أنهم حلماء لا يجهلون ولا يسفهون).
[7] في ديوانه: (العفاة: الذين يأتونه ويطلبون ما عنده).
[8] الأبيات لبعض بني أسد في الخزانة 9/ 91، والكتاب 3/ 87، وشرح المفصل 1/ 36، واللسان والتاج (برقش)، وبلا نسبة في رسائل الجاحظ 2/ 338، والبيان 3/ 333، وعيون الأخبار 2/ 29، وديوان المعاني 1/ 182، وذيل الأمالي 83، وثمار القلوب (394)، وشرح أبيات سيبويه 2/ 206، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 515، والثالث في أساس البلاغة (برقش، خيل)، والتنبيه والإيضاح 2/ 312.(3/229)
وقال الصّلتان السعديّ، وهو غير الصّلتان العبديّ [1]: [من المتقارب] أشاب الصغير وأفنى الكبي ... ر كرّ الغداة ومرّ العشي ... إذا ليلة هرّمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي ... نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي ... تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي ... إذا قلت يوما لدى معشر ... أروني السّريّ أروك الغني ... ألم تر لقمان أوصى بني ... هـ وأوصيت عمرا فنعم الوصي ... وسرّك ما كان عند امرئ ... وسرّ الثّلاثة غير الخفي
أنشدني محمّد بن زياد الأعرابيّ: [من الطويل] ولا تلبث الأطماع من ليس عنده ... من الدّين شيء أن تميل به النّفس ... ولا يلبث الدّحس الإهاب تحوزه ... بجمعك أن ينهاه عن غيرك الترس [2]
وأنشدني أبو زيد النحويّ لبعض القدماء [3]: [من الطويل] ومهما يكن ريب المنون فإنّني ... أرى قمر اللّيل المعذّر كالفتى ... يعود ضئيلا ثم يرجع دائبا ... ويعظم حتّى قيل قد ثاب واستوى ... كذلك زيد المرء ثمّ انتقاصه ... وتكراره في إثره بعد ما مضى
وقال أبو النّجم [4]: [من الرجز] ميّز عنه قنزعا من قنزع ... مرّ اللّيالي أبطئي وأسرعي ... أفناه قيل الله للشّمس اطلعي ... ثمّ إذا واراك أفق فارجعي
وقال عمرو بن هند [5]: [من الطويل] وإن الذي ينهاكم عن طلابها ... يناغي نساء الحيّ في طرّة البرد
[1] الأبيات للصلتان العبدي وليست للسعدي كما صرح الجاحظ وهي في معجم الشعراء 49، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1210، وعيون الأخبار 3/ 132، والشعر والشعراء 316، والعقد الفريد 2/ 123، ومعاهد التنصيص 1/ 74، والسمط 532، 766.
[2] الدحس: الفساد. «القاموس: دحس».
[3] الأبيات لحسان السعدي في نوادر أبي زيد 112111، ولحنظلة بن أبي عفراء الطائي في معجم البلدان 2/ 506 (دير حنظلة)، ولبعض شعراء طيء في أمالي المرتضى 2/ 76.
[4] ديوان أبي النجم 133، واللسان (قرن، قنزع)، وبلا نسبة في التهذيب 9/ 94، والمخصص 1/ 71، والجمهرة 815، 1154، وخلق الإنسان 75.
[5] البيتان لعمرو بن عبد هند في البيان 3/ 34، ولعبد هند بن زيد التغلبي في الوحشيات 19.(3/230)
يعلّل والأيّام تنقص عمره ... كما تنقص النّيران من طرف الزّند
وقال ابن ميّادة [1]: [من البسيط] هل ينطق الرّبع بالعلياء غيّره ... سافي الرّياح ومستنّ له طنب [2]
وقال أبو العتاهية [3]: [من الرجز] أسرع في نقص امرئ تمامه
وقال [4]: [من الخفيف] ولمرّ الفناء في كلّ شيء ... حركات كأنّهنّ سكون
وقال ابن ميّادة [5]: [من الطويل] أشاقك بالقنع الغداة رسوم ... دوارس أدنى عهدهنّ قديم ... يلحن وقد جرّمن عشرين حجّة ... كما لاح في ظهر البنان وشوم
وقال آخر [6]: [من البسيط] في مرفقيها إذا ما عونقت جمم ... على الضّجيع وفي أنيابها شنب [7]
وقال ابن ميّادة في جعفر ومحمد ابني سليمان، وهو يعني أمير المؤمنين المنصور [8]: [من الطويل] وفى لكما يا ابني سليمان قاسم ... بجدّ النّهى إذ يقسم الخير قاسمه ... فبيتكما بيت رفيع بناؤه ... متى يلق شيئا محدثا فهو هادمه ... لكم كبش صدق شذّب الشّول عنكم ... وكسّر قرني كلّ كبش يصادمه [9]
[1] ديوان ابن ميادة 57، والأغاني 2/ 304.
[2] في ديوانه: (استن المطر: أي انصب. الطنب: هو في الأصل حبل الخباء والسرادق، وهو هنا كناية عن غزارة المطر).
[3] ديوان أبي العتاهية 636، وعيون الأخبار 2/ 322، والسمط 104، والرسالة الموضحة 109، والبيان 1/ 154، والأشباه والنظائر للخالديين 1/ 39، والعقد الفريد 3/ 58.
[4] ديوان أبي العتاهية 374.
[5] البيت لابن ميادة أو لمزاحم العقيلي في ديوان ابن ميادة 251، ولمزاحم في ديوانه 20، ومعجم البلدان 4/ 407 (قنع)، والتاج (قنع).
[6] البيت لابن ميادة في ديوانه 58، والأغاني 2/ 304.
[7] في ديوانه: (الجمم: كثرة اللحم. الشنب: رقة وعذوبة في الأسنان).
[8] ديوان ابن ميادة 225224.
[9] في ديوانه: (شذب: طرد. الشول من الإبل: التي نقصت ألبانها).(3/231)
باب في من يهجى ويذكر بالشؤم
قال دعبل بن عليّ، في صالح الأفقم وكان لا يصحب رجلا إلّا مات أو قتل، أو سقطت منزلته [1]: [من الكامل] قل للأمين أمين آل محمّد ... قول امرئ شفق عليه محام ... إيّاك أن تغترّ عنك صنيعة ... في صالح بن عطيّة الحجّام ... ليس الصّنائع عنده بصنائع ... لكنهنّ طوائل الإسلام ... اضرب به نحر العدوّ فإنّه ... جيش من الطاعون والبرسام
وقال محمد بن عبد الله في محمد بن عائشة: [من مجزوء الرمل] للهلاليّ قتيل ... أبدا في كلّ عام ... قتل الفضل بن سهل ... وعليّ بن هشام ... وعجيفا آخر القو ... م بأكناف الشآم ... وغدا يطلب من يق ... تل بالسّيف الحسام ... فأعاذ الله منه ... أحمدا خير الأنام
يعني أحمد بن أبي دؤاد.
وقال عيسى بن زينب في الصخري، وكان مشؤوما: [من السريع] يا قوم من كان له والد ... يأكل ما جمّع من وفر ... فإنّ عندي لابنه حيلة ... يموت إن أصحبه الصخري ... كأنما في كفّه مبرد ... يبرد ما طال من العمر
887 [شعر في مديح وهجاء]
وقال الأعشى [2]: [من المتقارب] فما إن على قلبه غمرة ... وما إن بعظم له من وهن
[1] الأبيات في الأغاني 20/ 157، والأبيات قالها في صالح بن عطية الأضجم الذي كان من أقبح الناس وجها.
[2] ديوان الأعشى 69، وبلا نسبة في اللسان والتاج (وهن)، والعين 4/ 92، والتهذيب 6/ 444.(3/232)
وقال الكميت [1]: [من المنسرح] ولم يقل عند زلّة لهم ... كرّوا المعاذير إنّما حسبوا
وقال آخر [2]: [من الطويل] فلا تعذراني في الإساءة إنّه ... شرار الرّجال من يسيء فيعذر
وقال العتّابي [3]: [من الكامل] رحل الرّجاء إليك مغتربا ... حشدت عليه نوائب الدّهر ... ردّت عليك ندامتي أملي ... وثنى إليك عنانه شكري ... وجعلت عتبك عتب موعظة ... ورجاء عفوك منتهى عذري
وقال أعشى بكر [4]: [من المنسرح] قلّدتك الشّعر يا سلامة ذا ... الإفضال والشّيء حيث ما جعلا ... والشّعر يستنزل الكريم كما اس ... تنزل رعد السّحابة السّبلا ... لو كنت ماء عدّا جممت إذا ... ما ورد القوم لم تكن وشلا [5] ... أنجب آباؤه الكرام به ... إذ نجلاه فنعم ما نجلا ... استأثر الله بالبقاء وبالحم ... د وولّى الملامة الرّجلا
وقال الكذّاب الحرمازيّ لقومه، أو لغيرهم [6]: [من الرجز] لو كنتم شاء لكنتم نقدا ... أو كنتم ماء لكنتم ثمدا [7] ... أو كنتم قولا لكنتم فندا [8]
[1] البيت في شرح القصائد الهاشميات 57 (ضمن كتاب الروضة المختارة)، والبيان 1/ 198.
[2] البيت في أدب الدنيا والدين للماوردي 31، وتقدم في الفقرة 607.
[3] ديوان العتابي 72، وعيون الأخبار 1/ 100، وطبقات ابن المعتز 263.
[4] ديوان الأعشى 285.
[5] الوشل: القليل. «القاموس: وشل».
[6] الرجز للّعين المنقري في الأزمنة والأمكنة 2/ 277، وبلا نسبة في التاج (غرد، قرد)، والأضداد 405، والأشباه والنظائر للخالديين 2/ 164، ومجمع الأمثال 1/ 284، والمستقصى 1/ 131، والفاخر 30، والدرة الفاخرة 205، وجمهرة الأمثال 1/ 469، وثمار القلوب (568).
[7] النقد: جنس من الغنم قبيح الشكل. «القاموس: نقد». ثمد: ماء قليل. «القاموس: ثمد».
[8] الفند: الكذب. «القاموس: فند».(3/233)
وقال الأعشى في الثياب [1]: [من الخفيف] فعلى مثلها أزور بني قي ... س إذا شطّ بالحبيب الفراق ... المهينين ما لهم في زمان السّ ... وء حتّى إذا أفاق أفاقوا ... وإذا ذو الفضول ضنّ على المو ... لى وصارت لخيمها الأخلاق [2] ... ومشى القوم بالعماد إلى الرّز ... حى وأعيا المسيم أين المساق [3] ... أخذوا فضلهم هناك وقد تج ... ري على عرقها الكرام العتاق ... وإذا الغيث صوبه وضع القد ... ح وجنّ التّلاع والآفاق ... لم يزدهم سفاهة شرب الخم ... ر ولا اللهو فيهم والسّباق ... واضعا في سراة نجران رحلي ... ناعما غير أنني مشتاق ... في مطايا أربابهنّ عجال ... عن ثواء وهمّهنّ العراق ... درمك غدوة لنا ونشيل ... وصبوح مباكر واغتباق [4] ... وندامى بيض الوجوة كأنّ الشّ ... رب منهم مصاعب أفناق [5] ... فيهم الخصب والسّماحة والنج ... دة جمعا والخاطب المسلاق [6] ... وأبيّون لا يسامون ضيما ... ومكيثون والحلوم وثاق [7] ... وترى مجلسا يغصّ به المح ... راب بالقوم والثّياب رقاق
وقال أيضا [8] في الثّياب: [من المتقارب] أزور يزيد وعبد المسيح ... وقيسا هم خير أربابها ... وكعبة نجران حتم علي ... ك حتّى تناخي بأبوابها ... إذا الحبرات تلوّت بهم ... وجرّوا أسافل هدّابها
[1] ديوان الأعشى 265263.
[2] الخيم: السجية «القاموس: خيم».
[3] العماد: الأخبية. الرزحى: النوق الهزال. المسيم: راعي الإبل.
[4] الدرمك: الذي يدرمك حتى يكون دقاقا من كل شيء الدقيق والكحل وغيرهما. «اللسان:
درمك». النشيل: ما نشل من لحم القدر بمائه. «اللسان: نشل».
[5] الأفناق: جمع فنيق، وهو الفحل من الإبل. «اللسان: فنق».
[6] الخطيب المسلاق: البليغ. «القاموس: سلق».
[7] المكيث: الرزين. «القاموس: مكث». الحلوم: العقول.
[8] ديوان الأعشى 223، والأول والثاني في التاج (نجر).(3/234)
وفي الثّياب يقول الآخر [1]: [من الطويل] أسيلم ذاكم لا خفا بمكانه ... لعين ترجّي أو لأذن تسمّع ... من النّفر البيض الذين إذا انتموا ... وهاب الرّجال حلقة الباب قعقعوا ... جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدّهان رأسه فهو أنزع ... إذا النّفر السّود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أجادوا وأوسعوا
وقال كثيّر [2]: [من الطويل] يجرّر سربالا عليه كأنّه ... سبيّ هلال لم تفتق شرانقه
وقال الجعدي [3]: [من الوافر] أتاني نصرهم وهم بعيد ... بلادهم بأرض الخيزران
يريد أرض الخصب والأغصان اللّيّنة.
وقال الشاعر [4]: [من البسيط] في كفّه خيزران ريحها عبق ... بكفّ أروع في عرنينه شمم
لأن الملك لا يختصر إلّا بعود لدن ناعم. وقال آخر [5]: [من الطويل] تجاوبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدنيها من الأرض لينها
وقال آخر [6]: [من الطويل] نبتّم نبات الخيزرانيّ في الثرى ... حديثا، متى ما يأتك الخير ينفع
وقال المسيّب بن علس: [من الوافر] قصار الهمّ إلّا في صديق ... كأنّ وطابهم موشى الضّباب [7]
[1] الأبيات لأبي الربيس في الخزانة 6/ 8078، 8983، وبلا نسبة في البيان 1/ 396، 3/ 305، ورسائل الجاحظ 1/ 221، والبرصان 324، والبخلاء 232، والعقد الفريد 5/ 343، والكامل 1/ 105 (طبعة المعارف)، الخزانة 6/ 156.
[2] البيت لكثير في ديوانه 308، واللسان وأساس البلاغة (سبي)، والمعاني الكبير 673، والتاج (هلل)، وللراعي النميري في ملحق ديوانه 308، والتاج (سبي).
[3] ديوان النابغة الجعدي 165، واللسان والتاج (خزر).
[4] تقدم البيت وتخريجه في الفقرة 624.
[5] البيت بلا نسبة في البيان 3/ 62.
[6] البيت للنجاشي الحارثي في ديوانه 110، والخزانة 11/ 387، 395، 397، والمقاصد النحوية 4/ 344، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 515، والهمع 2/ 78.
[7] الوطاب: سقاء اللبن. «القاموس: وطب». وشى الشيء: استخرجه برفق «القاموس: وشي».
الضباب: جمع ضب.(3/235)
888 [عين الرضا وعين السخط]
وقال المسيب بن علس [1]: [من الكامل] تامت فؤادك إذ عرضت لها ... حسن برأي العين ما تمق [2]
وقال ابن أبي ربيعة [3]: [من الرمل] حسن في كلّ عين من تود
وقال عبد الله بن معاوية [4]: [من الطويل] وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ... ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا
وقال روح أبو همّام [5]: [من الطويل] وعين السّخط تبصر كلّ عيب ... وعين أخي الرّضا عن ذاك تعمى
889 [شعر وخبر]
وقال الفرزدق [6]: [من الطويل] ألا خبّروني أيّها النّاس إنّما ... سألت ومن يسأل عن العلم يعلم ... سؤال امرئ لم يغفل العلم صدره ... وما السائل الواعي الأحاديث كالعمي
وقيل لدغفل: أنّى لك هذا العلم؟ قال: لسان سؤول، وقلب عقول [7] وقال النابغة [8]: [من الطويل] فآب مضلوه بعين جليّة ... وغودر بالجولان حزم ونائل [9]
[1] البيت في الشعر والشعراء 84.
[2] تامت فؤادك: استعبدته. «القاموس: تيم». تمق: تحب. «القاموس: ومق».
[3] صدر البيت (فتضاحكن وقد قلن لها)، وهو في ديوانه 321.
[4] ديوان عبد الله بن معاوية 90، وعيون الأخبار 3/ 11، 76، والحماسة البصرية 2/ 55، والحماسة المغربية 1241، والأغاني 12/ 214، 233، وثمار القلوب 327 (499).
[5] البيت في تزيين الأسواق 30.
[6] ديوان الفرزدق 759.
[7] القول لدغفل في عيون الأخبار 2/ 118، وله أو لعبد الله بن عباس في البيان 1/ 8584.
[8] ديوان النابغة الذبياني 121، واللسان والتاج (ضلل، جلا)، والتهذيب 11/ 187، 465، والجمهرة 1044، وبلا نسبة في الجمهرة 1077، والمقاييس 1/ 496، 3/ 356، والمجمل 3/ 277.
[9] في ديوانه: (بعين جلية: أي بخبر صادق أنه قد مات. وغودر بالجولان: أي دفن وترك. والجولان:
موضع بالشام. وقوله: «حزم ونائل» أي رجل ذو حزم. والنائل: العطاء).(3/236)
مضلوه: دافنوه، على حدّ قوله تعالى: {أَإِذََا ضَلَلْنََا فِي الْأَرْضِ} [1].
وقال المخبّل [2]: [من الطويل] أضلّت بنو قيس بن سعد عميدها ... وفارسها في الدّهر قيس بن عاصم
قوال زهير أو غيره في سنان بن أبي حارثة [3]: [من الكامل] إن الرّزيّة لا رزيّة مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلّت
ولذلك زعم بعض النّاس أنّ سنان بن أبي حارثة خرف فذهب على وجهه، فلم يوجد [4].
900 [من هام على وجهه فلم يوجد]
ويزعمون أنّ ثلاثة نفر هاموا على وجوههم فلم يوجدوا: طالب بن أبي طالب، وسنان بن أبي حارثة، ومرداس بن أبي عامر.
وقال جرير [5]: [من الطويل] وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... عليّ من الفضل الذي لا يرى ليا
وقال امرؤ القيس [6]: [من الطويل] وهل يعمن إلّا خليّ منعّم ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال [7]
وقال الأصمعي: هو كقولهم: «استراح من لا عقل له!» وقال ابن أبي ربيعة [8]: [من الطويل] وأعجبها من عيشها ظلّ غرفة ... وريّان ملتفّ الحدائق أخضر ... ووال كفاها كلّ شيء يهمّها ... فليست لشيء آخر اللّيل تسهر
[1] 10/ السجدة: 32.
[2] ديوان المخبل السعدي 318، واللسان والتاج وأساس البلاغة (ضلل).
[3] ديوان زهير 248، والأغاني 10/ 299، وصدر البيت تناوله أكثر من شاعر منهم لبيد في ديوانه 155، وعجزه: (فقدان كل أخ كضوء الكوكب)، ومنهم الفرزدق في ديوانه 1/ 161وعجزة: (فقدان مثل محمد ومحمد)، وهو بلا نسبة في الأزهية 286وعجزة: (أخواي إذ قتلا بيوم واحد).
[4] الأغاني 10/ 299، وفيه عدة روايات، وانظر رسائل الجاحظ 2/ 375.
[5] البيت لجرير في عيون الأخبار 3/ 18، وبهجة المجالس 709، والسمط 289، والموشح 308، ولسيار ابن هبيرة في ذيل الأمالي 74، ولعبد الله بن معاوية في ديوانه 87، وبلا نسبة في اللسان (حيا).
[6] ديوان امرئ القيس 27، ورواية صدره: (وهل يعمن إلا سعيد ومخلّد).
[7] في ديوانه: (الأوجال: جمع وجل وهو الفزع).
[8] ديوان عمر 95، والبيان 3/ 318.(3/237)
باب في مديح الصّالحين والفقهاء
901 [شعر في مديح العلماء ورثائهم]
قال ابن الخيّاط [1]، يمدح مالك بن أنس: [من الكامل] يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان ... هدي التقيّ وعز سلطان التّقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان
وقال ابن الخياط في بعضهم: [من الطويل] فتى لم يجالس مالكا منذ أن نشا ... ولم يقتبس من علمه فهو جاهل
وقال آخر [2]: [من البسيط] فأنت باللّيل ذئب لا حريم له ... وبالنّهار على سمت ابن سيرين
وقال الخليل بن أحمد وذكروا عنده الحظّ والجدّ، فقال: أمّا الجدّ فلا أقول فيه شيئا، وأمّا الحظّ فأخزى الله الحظّ، فإنه يبلّد الطالب إذا اتّكل عليه ويبعد المطلوب إليه من مذمّة الطّالب.
وقال ابن شبرمة: [من البسيط] لو شئت كنت ككرز في تعبّده ... أو كابن طارق حول البيت والحرم ... قد حال دون لذيذ العيش خوفهما ... وسارعا في طلاب العزّ والكرم
وقال آخر [3] يرثي الأصمعيّ: [من البسيط] لا درّ درّ خطوب الدهر إذ فجعت ... بالأصمعيّ لقد أبقت لنا أسفا
[1] البيتان لابن الخياط في الكامل 1/ 408، وله أو لعبد الله بن المبارك في زهر الآداب 115، ولعبد الله بن المبارك في العقد الفريد 1/ 268، وبلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 294.
[2] البيت بلا نسبة في البيان 3/ 173، وثمار القلوب 70 (177).
[3] الأبيات لأبي العالية الشامي في تاريخ بغداد 10/ 420419، ضمن أخبار الأصمعي.(3/238)
عش ما بدا لك في الدّنيا فلست ترى ... في الدّهر منه ولا من علمه خلفا
وقال الحسن بن هانئ [1]، في مرثية خلف الأحمر: [من الرجز] لو كان حيّ وائلا من التّلف ... لوألت شغواء في أعلى الشّعف [2] ... أمّ فريخ أحرزته في لجف ... مزغّب الألغاد لم يأكل بكف [3] ... هاتيك أم عصماء في أعلى الشّرف ... تظلّ في الطّبّاق والنّزع الألف [4] ... أودى جماع العلم مذ أودى خلف ... قليذم من العيالم الخسف [5]
وقال يرثيه في كلمة له [6]: [من المنسرح] بتّ أعزّي الفؤاد عن خلف ... وبات دمعي إلّا يفض يكف [7] ... أنسى الرّزايا ميت فجعت به ... أضحى رهينا للتّرب في جدف [8] ... كان يسنّى برفقه غلق ال ... أفهام في لا خرق ولا عنف ... يجوب عنك التي عشيت لها ... حيران، حتّى يشفيك في لطف ... لا يهم الحاء في القراءة بالخا ... ء ولا لامها مع الألف ... ولا مضلّا سبل الكلام ولا ... يكون إسناده عن الصّحف ... وكان ممن مضى لنا خلفا ... فليس إذ مات عنه من خلف
وقال آخر [9] في ابن شبرمة: [من الرجز] إذا سألت الناس أين المكرمه ... والعزّ والجرثومة المقدّمه ... وأين فاروق الأمور المحكمه ... تتابع النّاس على ابن شبرمه
[1] ديوان أبي نواس 577.
[2] في ديوانه: (وائلا: ناجيا. وألت: نجت. الشغواء: العقاب. الشعف: رأس الجبل).
[3] في ديوانه: (اللجف: محبس السيل، أو كل ما أشرف على الغار من صخرة ونحوها. المزغب: ذو الزغب وهو الريش الدقيق. الألغاد: جمع لغد وهو لحم الحلق).
[4] العصماء: من الظباء والوعول ما كان في ذراعيها أو أحدهما بياض وسائرهما متخلف. الشرف:
المكان المرتفع.
[5] القليذم: البئر الغزيرة. العيالم: جمع عيلم وهو البحر أو البئر الكثيرة الماء. الخسف: جمع خسيفة وهي البئر حفرت في حجارة فنبعت بماء كثير لا ينقطع).
[6] ديوان أبي نواس 576575.
[7] في ديوانه: (يكف: يسيل).
[8] (الجدف: القبر).
[9] الرجز ليحيى بن نوفل في البيان 1/ 337، ولرؤبة في أمالي الزجاجي 100، وليس في ديوانه.(3/239)
902 [شعر مختار]
وقال ابن عرفطة [1]: [من الطويل] ليهنيك بغض للصّديق وظنّة ... وتحديثك الشّيء الذي أنت كاذبه ... وأنّك مشنوء إلى كلّ صاحب ... بلاك، ومثل الشر يكره جانبه ... وإنّك مهداء الخنا نطف النّثا ... شديد السّباب رافع الصّوت غالبه
وقال النّابغة الجعدي [2]: [من المتقارب] أبى لي البلاء وأنّي امرؤ ... إذا ما تبيّنت لم أرتب
وليس يريد أنّه في حال تبيّنه غير مرتاب، وإنّما يعني أنّ بصيرته لا تتغيّر وقال ابن الجهم، ذات يوم: أنا لا أشكّ! قال له المكيّ: وأنا لا أكاد أوقن! وقال طرفة [3]: [من الطويل] وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضى في الطّخية المتورّد [4] ... وتقصير يوم الدّجن والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء الممدّد [5] ... أرى قبر نحّام بخيل بماله ... كقبر غويّ في البطالة مفسد [6] ... لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطّول المرخى وثنياه باليد [7] ... أرى الموت أعداد النّفوس ولا أرى ... بعيدا غدا، ما أقرب اليوم من غد [8] ... وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد ... وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر ... إذا خطرت أيدي الرّجال بمشهد
[1] تقدم تخريج الشعر في نهاية الفقرة (599).
[2] ديوان النابغة الجعدي 27، والبيان 1/ 100، والمقاييس 1/ 294.
[3] الأبيات من معلقته في ديوانه، البيت الأول ص 32، والثاني والثالث ص 33، والرابع ص 34، والسادس ص 36، والخامس في ديوانه 44 (طبعة سلغسون).
[4] في ديوانه: (الكر: العطف. المضائق: الخائف والمذعور. المحنب: الذي في يده انحناء. السيد:
الذئب)، والبيت في اللسان (حنب، ورد، ضيف)، والتاج (ورد، ضيف)، والتهذيب 14/ 166.
[5] في ديوانه: (الدجن: الغيم. البهكنة: المرأة الحسنة الخلق السمينة الناعمة)، والبيت في اللسان (خدر)، والجمهرة 754، والمخصص 13/ 200.
[6] في ديوانه: (النحّام: الحريص على الجمع والمنع. الغوي: الغاوي الضال). والبيت في اللسان والتاج (نحم)، والتهذيب 4/ 381، وبلا نسبة في العين 3/ 252.
[7] في ديوانه: (الطّول: الحبل الذي يطول للدابة فترعى فيه. الإرخاء: الإرسال. الثني: الطرف)، والبيت في اللسان (طول، ثنى، مها)، والتاج (طول، ثنى)، والمقاييس 3/ 434، والجمهرة 926، وأساس البلاغة وعمدة الحفاظ (طول)، والعين 7/ 451.
[8] البيت في اللسان (عدد)، والتهذيب 1/ 92، 8/ 170.(3/240)
باب القول في الجعلان والخنافس
903 [صداقة الحيوانات لبعضها]
وسنقول في هذه المحقرات من حشرات الأرض، وفي المذكور من بغاث الطّير وخشاشه، ممّا يقتات العذرة ويوصف باللؤم، ويتقزّز من لمسه وأكل لحمه، كالخنفساء والجعل، والهداهد والرّخم، فإنّ هذه الأجناس أطلب للعذرة من الخنازير.
فأوّل ما نذكر من أعاجيبها صداقة ما بين الخنافس والعقارب، وصداقة ما بين الحيّات والوزغ.
وتزعم الأعراب أنّ بين ذكورة الخنافس وإناث الجعلان تسافدا وأنهما ينتجان خلقا ينزع إليهما جميعا.
وأنشد خشنام الأعور النحويّ عن سيبويه النّحويّ، عن بعض الأعراب في هجائه عدوّا له كان شديد السّواد: [من الرجز] عاديتنا يا خنفسا كام جعل ... عداوة الأوعال حيّات الجبل [1] ... من كلّ عود مرهف النّاب عتل ... يخرق إن مسّ وإن شمّ قتل [2]
ويثبت أكل الأوعال للحيّات الشّعر المشهور، الذي في أيدي أصحابنا، وهو:
[من الرمل] علّ زيدا أن يلاقي مرّة ... في التماس بعض حيّات الجبل ... غاير العينين مفطوح القفا ... ليس من حيّات حجر والقلل [3]
[1] كام: سفد. «القاموس: كوم».
[2] العتل: الشديد. «القاموس: عتل».
[3] مفطوح: عريض. «القاموس: فطح».(3/241)
يتوارى في صدوع مرّة ... ربذى الخطفة كالقدح المؤل [1] ... وترى السمّ على أشداقه ... كشعاع الشّمس لاحت في طفل [2] ... طرد الأروى فما تقربه ... ونفى الحيّات عن بيض الحجل
وإنما ذكر الأورى من بين جميع ما يسكن الجبال من أصناف الوحش، لأنّ الأروى من بينها تأكل الحيّات، للعداوة التي بينها وبين الحيّات.
904 [استطراد لغوي]
والأروى: إناث الأوعال، واحدتها أرويّة. والناس يسمّون بناتهم باسم الجماعة، ولا يسمّون البنت الواحدة باسم الواحدة منها: لا يسمّون بأرويّة، ويسمّون بأروى.
وقال شماخ بن ضرار [3]: [من الوافر] فما أروى وإن كرمت علينا ... بأدنى من موقّفة حرون [4]
وأنشد أبو زيد في جماعة الأوريّة [5]: [من الطويل] فما لك من أروى، تعاديت بالعمى ... ولاقيت كلابا مطلّا وراميا [6]
يقال: تعادى القوم وتفاقدوا: إذا مات بعضهم على إثر بعض.
وقالت في ذلك ضباعة بنت قرط، في مرثية زوجها هشام بن المغيرة [7]: [من السريع] إنّ أبا عثمان لم أنسه ... وإنّ صمتا عن بكاه لحوب
[1] الربذ: السريع «القاموس: ربذ». المؤل. المحدد. «القاموس: ألل».
[2] الطّفل: الغروب. «القاموس: طفل».
[3] ديوان الشماخ 319، والسمط 663، وأمالي القالي 2/ 29، واللسان والتاج (وقف، حرن)، والمقاييس 2/ 47، والمخصص 8/ 30، 15/ 210.
[4] في ديوانه: (الموقفة: من التوقيف وهو البياض مع السواد، والمراد هنا: الأروية التي في قوائمها خطوط تخالف لونها، والحرون من الدواب: التي إذا استدر جريها وقفت فلم تبرح. والمعنى: إن هذه المرأة ليست بأقرب منالا من الأروية التي تعتصم بأعلى الجبل فتمتنع على الصياد).
[5] البيت لعمرو بن أحمر في ديوانه 173، واللسان (أبي)، والتاج (عدو، أبي)، والتهذيب 3/ 116، 15/ 104، وبلا نسبة في اللسان (عدا)، والجمهرة 236، 1091، والمجمل 3/ 456، والمخصص 5/ 72، 6/ 125، 13/ 155.
[6] في ديوانه: (تعاديت بالعمى: يدعون عليها بالهلاك. الكلاب: الصائد. المطل: المشرف المترصد).
[7] البيتان في العمدة 1/ 278، وانظر أعلام النساء 2/ 355.(3/242)
تفاقدوا من معشر ما لهم ... أيّ ذنوب صوّبوا في القليب [1]
905 [طلب الحيّات البيض]
وأما قوله: [من الرمل] ونفى الحيّات عن بيض الحجل
فإنّ الحيّات تطلب بيض كلّ طائر وفراخه. وبيض كلّ طائر مما يبيض على الأرض أحبّ إليها. فما أعرف لذلك علّة إلا سهولة المطلب.
والأيائل تأكل الحيّات، والخنازير تأكل الحيّات وتعاديها.
906 [عداوة الحمار للغراب]
وزعم صاحب المنطق أن بين الحمار والغراب عداوة. وأنشدني بعض النحويّين [2]: [من الرجز] عاديتنا لا زلت في تباب ... عداوة الحمار للغراب
وأنشد ابن أبي كريمة لبعض الشّعراء في صريع الغواني [3]: [من الوافر] فما ريح السّذاب أشدّ بغضا ... إلى الحيّات منك إلى الغواني
907 [أمثال في الخنفساء]
ويقال: «ألجّ من الخنفساء» [4]، و «أفحش من فاسية» وهي الخنفساء و «أفحش من فالية الأفاعي» [5].
والفساء يوصف بن ضربان من الخلق: الخنفساء، والظّربان وفي لجاج الخنفساء يقول خلف الأحمر [6]: [من المتقارب] لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصّواب ... ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب
[1] الذّنوب: الدلو العظيمة «القاموس: ذنب». القليب: البئر. «القاموس: قلب».
[2] تقدم الرجز في الفقرة (872).
[3] تقدم البيت في الفقرة (873).
[4] المستقصى 1/ 308، ومجمع الأمثال 2/ 250، وأمثال ابن سلام 374، والدرة الفاخرة 2/ 369.
[5] المستقصى 1/ 267، ومجمع الأمثال 2/ 85، والدرة الفاخرة 1/ 331، وجمهرة الأمثال 2/ 89، 106.
[6] البيتان في حياة الحيوان 1/ 437، ومعجم الأدباء 16/ 161.(3/243)
908 [طول ذماء الخنفساء]
وقال الرقاشي: ذكرت صبر الخنزير على نفوذ السهام في جنبه، فقال لي أعرابيّ: الخنفساء أصبر منه، ولقد رأيت صبيّا من صبيانكم البارحة وأخذ شوكة وجعل في رأسها فتيلة، ثمّ أوقد نهارا، ثمّ غرزها في ظهر الخنفساء، حتّى أنفذ الشّوكة. فغبرنا ليلتنا وإنّها لتجول في الدّار وتصبح لنا. والله إنّي لأظنها كانت مقربا [1]، لانتفاخ بطنها.
قال: وقال القنانيّ: العواساء: الحامل من الخنافس، وأنشد [2]: [من الرجز] بكرا عواساء تفاسا مقربا
909 [أعاجيب الجعل]
قال: ومن أعاجيب الجعل أنّه يموت من ريح الورد، ويعيش إذا أعيد إلى الرّوث. ويضرب بشدّة سواد لونه المثل. قال الرّاجز وهو يصف أسود سالخا [3]: [من الرجز] مهرّت الأشداق عود قد كمل ... كأنّما قمّص من ليط جعل [4]
والجعل يظلّ دهرا لا جناح له، ثم ينبت له جناحان، كالنمل الذي يغبر دهرا لا جناح له، ثم ينبت له جناحان، وذلك عند هلكته.
910 [تطور الدعاميص]
والدّعاميص [5] قد تغبر حينا بلا أجنحة، ثم تصير فراشا وبعوضا. وليس كذلك الجراد والذّبّان، لأنّ أجنحتها تنبت على مقدار من العمر ومرور من الأيام.
وزعم ثمامة، عن يحيى بن خالد: أنّ البرغوث قد يستحيل بعوضة.
[1] مقرب: قرب ولادها. «القاموس: قرب».
[2] الرجز بلا نسبة في اللسان (قنب، عوس، فسا)، والتاج (فسا)، والمقاييس 4/ 187، والمخصص 2/ 18، وديوان الأدب 4/ 136، والتهذيب 3/ 88، 9/ 195، 13/ 95.
[3] الرجز بلا نسبة في البيان 3/ 225.
[4] الهرت: الواسع. «القاموس: هرت». العود: المسن من الإبل. «القاموس: عود». قمّص: ألبس قميصا. الليط: قشر القصب. «القاموس: لوط».
[5] الدعموص: دويبة أو دودة سوداء تكون في الغدران إذا نشّت. «القاموس: دعمص»، وانظر حياة الحيوان 1/ 479.(3/244)
911 [عادة الجعل]
والجعل يحرس النّيام، فكلما قام منهم قائم فمضى لحاجته تبعه، طمعا في أنّه إنّما يريد الغائط. وأنشد بعضهم قول الشاعر [1]: [من البسيط] يبيت في مجلس الأقوام يربؤهم ... كأنّه شرطيّ بات في حرس
وأنشد بعضهم لبعض الأعراب في هجائه رجلا بالفسولة، وبكثرة الأكل، وبعظم حجم النّجو [2]: [من الرجز] حتّى إذا أضحى تدرّى واكتحل ... لجارتيه ثمّ ولّى فنثل ... رزق الأنوقين القرنبى والجعل
سمى القرنبي والجعل إذ كانا يقتاتان الزّبل أنوقين. والأنوق: الرّخمة، وهي أحد ما يقتات العذرة. وقال الأعشى [3]: [من الرجز] يا رخما، قاظ على ينخوب ... يعجل كفّ الخارئ المطيب [4]
المطيب: الذي يستطيب بالحجارة، أي يتمسّح بها. وهم يسمّون بالأنوق كلّ شيء يقتات النّجو والزّبل، إلّا أنّ ذلك على التشبيه لها بالرّخم في هذا المعنى وحده.
وقال آخر [5]: [من الرجز] يا أيهذا النّابحي نبح القبل ... يدعو عليّ كلما قام يصل [6] ... رافع كفّيه كما يفري الجعل ... وقد ملأت بطنه حتى أتل ... غيظا فأمسى ضغنه قد اعتدل
والقبل: ما أقبل عليك من الجبل. وقوله أتل، أي امتلأ عليك غيظا فقصّر في مشيته. وقال الجعديّ [7]: [من الرمل] منع الغدر فلم أهمم به ... وأخو الغدر إذا همّ فعل
[1] البيت بلا نسبة في البرصان 157، وتقدم في الفقرة (185).
[2] تقدم الرجز في الفقرة (184).
[3] ديوان الأعشى 315، واللسان (خرأ، طلب، طيب، قيظ، رخم)، والتاج (سلب، قلب، رخم) والتنبيه والإيضاح 1/ 14، والتهذيب 14/ 40، وبلا نسبة في اللسان (سلب)، والتهذيب 12/ 435، والجمهرة 340، 1194.
[4] ينخوب: موضع لم يحدده ياقوت، معجم البلدان 5/ 450وفيه استشهد برجز الأعشى.
[5] الرجز بلا نسبة في نوادر أبي زيد 49، والأول والثاني في اللسان (قبل)، والرابع والخامس في اللسان والتاج (أتل)، والمقاييس 1/ 47.
[6] القبل: الجبل. «اللسان: قبل».
[7] ديوان النابغة الجعدي 96، والبخلاء 243، واللسان والتاج (قبل)، والتهذيب 9/ 165، وبلا نسبة في الجمهرة 372.(3/245)
خشية الله وأنّي رجل ... إنما ذكري كنار بقبل
وقال الرّاجز وهو يهجو بعضهم بالفسولة، وبكثرة الأكل، وعظم حجم النّجو [1]:
بات يعشّي وحده ألفي جعل
وقال عنترة [2]: [من الوافر] إذا لاقيت جمع بني أبان ... فإني لائم للجعد لاحي ... كسوت الجعد جعد بني أبان ... ردائي بعد عري وافتضاح
ثم شبّهه بالجعل فقال:
كأنّ مؤشر العضدين جحلا ... هدوجا بين أقلبة ملاح [3] ... تضمن نعمتي فغدا عليها ... بكورا أو تهجّر في الرّواح
وقال الشمّاخ [4]: [من الطويل] وإن يلقيا شأوا بأرض هوى له ... مفرّض أطراف الذّراعين أفلج
والشأو هاهنا: الرّوث، كأنه كثره حتّى ألحقه بالشأو الذي يخرج من البئر، كما يقول أحدهم إذا أراد أن ينقي البئر: أخرج من تلك البئر شأوا أو شأوين، يعني من التراب الذي قد سقط فيها، وهو شيء كهيئة الزّبيل الصّغير.
والشاو: الطّلق. والشأو: الفوت.
والمفرّض الأفلج الذي عنى، هو الجعل، لأنّ الجعل في قوائمه تحزيز، وفيها تفريج.
912 [معرفة في الجعل]
وللجعل جناحان لا يكادان يريان إلّا عند الطّيران، لشّدة سوادهما، وشبههما بجلده، ولشدّة تمكنهما في ظهره.
[1] تقدم الرجز في الفقرة (186).
[2] ديوان عنترة 115.
[3] مؤشر: مرقق. الجحل: العظيم من الجعلان. «اللسان: جحل». الهدوج: الذي يمشي رويدا «اللسان: هدج». أقلبة: جمع قليب، وهو البئر. «اللسان: قلب». والبيت في اللسان (قلب، ملح، أشر، حجل) (والتاج، قلب، ملح، أشر) والمخصص 17/ 35.
[4] ديوان الشماخ 93، واللسان (فرض، قرض، شأي)، والتاج (فرض، شأي)، والتهذيب 11/ 447، والعين 6/ 297، وبلا نسبة في التهذيب 8/ 343.(3/246)
قال الشاعر، حيث عدّد الخونة، وحثّ الأمير على محاسبتهم: [من البسيط] واشدد يديك بزيد إن ظفرت به ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل
والجعل لا يدحرج إلّا جعرا يابسا، أو بعرة.
وقال سعد بن طريف، يهجو بلال بن رباح مولى أبي بكر [1]: [من البسيط] وذاك أسود نوبيّ له ذفر ... كأنّه جعل يمشي بقرواح [2]
وسنذكر شأنه وشأن بلال في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
913 [أبو الخنافس وأبو العقارب]
وكان بالكوفة رجل من ولد عبد الجبّار بن وائل بن حجر الحضرميّ يكنى أبا الخنافس راضيا بذلك، ولم تكن الكنية لقبا ولا نبزا، وكان من الفقهاء، وله هيئة ورواء. وسألته: هل كان في آبائه من يكنى أبا الخنافس؟ فإن أبا العقارب في آل سلم مولى بني العباس كثير على اتّباع أثر. وكان أبو الخنافس هذا اكتنى به ابتداء.
914 [طول ذماء الخنفساء]
وقال لي أبو الفضل العنبريّ: يقولون: الضّبّ أطول شيء ذماء، والخنفساء أطول منه ذماء، وذلك أنه يغرز في ظهرها شوكة ثاقبة، وفيها ذبالة تستوقد وتصبح لأهل الدّار، وهي تدبّ بها وتجول! وربما كانت في تضاعيف حبل قتّ، أو في بعض الحشيش والعشب والخلا، فتصير في فم الجمل فيبتلعها من غير أن يضغم الخنفساء، فإذا وصلت إلى جوفه وهي حيّة جالت فيه، فلا تموت حتى تقتله.
فأصحاب الإبل يتعاورون تلك الأواريّ والعلوفات، خوفا من الخنافس.
915 [هجاء جواس لحسّان بن بحدل]
وقال جوّاس بن القعطل في حسّان بن بحدل: [من الكامل] هل يهلكنّي لا أبالكم ... دنس الثياب كطابخ القدر ... جعل تمطّى في عمايته ... زمر المروءة ناقص الشّبر [3]
[1] البيت في البرصان 156.
[2] القرواح: البارز الذي لا يستره من السماء شيء، وهو الفضاء. «القاموس: قرح».
[3] الزمر: القليل. «القاموس: زمر». الشبر: العطاء. «القاموس: شبر».(3/247)
لزبابة سوداء حنظلة ... والعاجز التّدبير كالوبر [1]
فأمّا الهجاء والمدح، ومفاخرة السّودان والحمران، فإنّ ذلك كلّه مجموع في كتاب «الهجناء والصّرحاء» وقد قدّمنا في صدر هذا الكتاب جملة في القول في الجعلان وغير ذلك من الأجناس اللئيمة والمستقذرة، في باب النّتن والطّيب، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
[1] الزبابة: فأر عظيم أصم أو أحمر الشعر أو بلا شعر. «القاموس: زبب».(3/248)
باب القول في الهدهد
وأما القول في الهدهد، فإنّ العرب والأعراب كانوا يزعمون أنّ القنزعة التي على رأسه ثواب من الله تعالى على ما كان من برّه لأمّه! لأنّ أمّه لما ماتت جعل قبرها على رأسه، فهذه القنزعة عوض عن تلك الوهدة.
والهدهد طائر منتن الريح والبدن، من جوهره وذاته، فربّ شيء يكون منتنا من نفسه، من غير عرض يعرض له، كالتيوس والحيّات وغير ذلك من أجناس الحيوان فأمّا الأعراب فيجعلون ذلك النّتن شيئا خامره بسبب تلك الجيفة التي كانت مدفونة في رأسه. وقد قال في ذلك أميّة أو غيره من شعرائهم. فأمّا أميّة فهو الذي يقول [1]: [من الكامل] اعلم بأنّ الله ليس كصنعه ... صنيع ولا يخفى على الله ملحد ... وبكلّ منكرة له معروفة ... أخرى على عين بما يتعمّد ... جدد وتوشيم ورسم علامة ... وخزائن مفتوحة لا تنفد ... عمن أراد بها وجاب عنانها ... لا يستقيم لخالق يتزيّد ... غيم وظلماء وغيث سحابة ... أزمان كفّن واستراد الهدهد [2] ... يبغي القرار لأمّه ليجنّها ... فبنى عليها في قفاه يمهد [3] ... مهدا وطيئا فاستقلّ بحمله ... في الطّير يحملها ولا يتأوّد [4] ... من أمّه فجزي بصالح حملها ... ولدا، وكلف ظهره ما تفقد ... فتراه يدلح ما مشى بجنازة ... فيها وما اختلف الجديد المسند [5]
[1] ديوان أمية 356353.
[2] في ديوانه: (استراد: خرج يبحث عن الكلأ، وأراد خروج الهدهد باحثا عن مكان صالح لدفن أمه).
[3] في ديوانه (يجنها: يدفنها بالجنن وهو القبر).
[4] في ديوانه (تأود: تعوّج وتثنى).
[5] في ديوانه (دلح الرجل بحمله: مر متثاقلا غير منبسط الخطو. المسند: الدهر).(3/249)
916 [معرفة الهدهد بمواضع المياه]
[1] ويزعمون أنّ الهدهد هو الذي كان يدلّ سليمان عليه السلام على مواضع المياه في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها.
917 [سؤال في الهدهد]
[2] ويروون أنّ نجدة الحروريّ أو نافع بن الأزرق قال لابن عباس: إنّك تقول إنّ الهدهد إذا نقر الأرض عرف مسافة ما بينه وبين الماء، والهدهد لا يبصر الفخّ دوين التراب، حتى إذا نقر التّمرة انضمّ عليه الفخّ! فقال ابن عبّاس: «إذا جاء القدر عمي البصر» [3].
ومن أمثالهم: «إذا جاء الحين غطّى العين» [4].
وابن عباس إن كان قال ذلك فإنّما عنى هدهد سليمان عليه السلام بعينه فإنّ القول فيه خلاف القول في سائر الهداهد.
وسنأتي على ذكر هذا الباب من شأنه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد قال الناس في هدهد سليمان، وغراب نوح، وحمار عزير، وذئب أهبان بن أوس، وغير ذلك من هذا الفنّ، أقاويل، وسنقول في ذلك بجملة من القول في موضعه إن شاء الله.
918 [اتخاذ الهدهد عشه من الزبل]
وقد قال صاحب المنطق وزعم في كتاب الحيوان، أنّ لكلّ طائر يعشّش شكلا يتخذ عشّه منه، فيختلف ذلك على قدر اختلاف المواضع وعلى قدر اختلاف صور تلك القراميص والأفاحيص. وزعم أنّ الهدهد من بينها يطلب الزّبل، حتّى إذا وجده نقل منه، كما تنقل الأرضة من التّراب، ويبني منه بيتا، كما تبني الأرضة، ويضع جزءا على جزء، فإذا طال مكثه في ذلك البيت، وفيه أيضا ولد، أو في مثله، وتربّى ريشه وبدنه بتلك الرائحة، فأخلق به أيضا أن يورث ابنه النّتن الذي علقه، كما أورث جدّه أباه، وكما أورثه أبوه. قال: ولذلك يكون منتنا.
[1] ثمار القلوب 384 (706).
[2] المصدر السابق، والكامل 3/ 226225 (أبو الفضل إبراهيم).
[3] ورد قول ابن عباس في مجمع الأمثال 1/ 123، وأمثال ابن سلام 326، وجمهرة الأمثال 1/ 118، والأمثال لمجهول 32.
[4] المستقصى 1/ 123، وأمثال ابن سلام 326، وهو برواية (إذا جاء الحين حارت العين) في مجمع الأمثال 1/ 20، وجمهرة الأمثال 1/ 10، 119118، والأمثال لمجهول 32.(3/250)
وهذا وجه أن كان معلوما أنّه لا يتّخذ عشّه إلّا من الزّبل.
فأمّا ناس كثير، فيزعمون أن ربّ بدن يكون طيب الرّائحة، كفأرة المسك التي ربما كانت في البيوت. ومن ذلك ما يكون منتن البدن، كالذي يحكى عن الحيّات والأفاعي والثّعابين، ويوجد عليه التّيوس.
919 [طائر الاغتيولس]
وذكر صاحب المنطق أنّ الطير الكبير، الذي يسمى باليونانية اغتيولس، يحكم عشّه ويتقنه، ويجعله مستديرا مداخلا كأنّه كرة معمولة. وروى أنّهم يزعمون أنّ هذا الطائر يجلب الدّارصينيّ من موضعه، فيفرش به عشّه، ولا يعشّش إلّا في أعالي الشّجر المرتفعة المواضع.
قال: وربّما عمد الناس إلى سهام يشدّون عليها رصاصا، ثمّ يرمون بها أعشتها، فيسقط عليهم الدّارصينيّ، فيلتقطونه ويأخذونه.
920 [زعم البحريين في الطير]
ويزعم البحريّون أنّ طائرين يكونان ببلاد السّفالة [1]، أحدهما يظهر قبل قدوم السفن إليهم، وقبل أن يمكن البحر من نفسه، لخروجهم في متاجرهم فيقول الطائر:
قرب آمد، فيعلمون بذلك أنّ الوقت قد دنا، وأن الإمكان قد قرب.
قالوا: ويجيء به طائر آخر، وشكل آخر، فيقول: سمارو. وذلك في وقت رجوع من قد غاب منهم، فيسمّون هذين الجنسين من الطير: قرب، وسمارو، كأنّهم سمّوهما بقولهما، وتقطيع أصواتهما، كما سمّت العرب ضربا من الطّير القطا، لأن القطا كذلك تصيح، وتقطيع أصواتها قطا، وكما سمّوا الببغاء بتقطيع الصّوت الذي ظهر منه.
فيزعم أهل البحر أنّ ذينك الطائرين لا يطير أحدهما أبدا إلّا في إناث، وأنّ الآخر لا يطير أبدا إلّا في ذكورة.
921 [وفاء الشفنين]
وزعم لي بعض الأطباء ممن أصدّق خبره، أنّ الشّفنين [2] إذا هلكت أنثاه لم يتزوّج وإن طال عليه التعزّب. وإن هاج سفد ولم يطلب الزواج.
[1] السفالة: آخر مدينة تعرف بأرض الزنج، معجم البلدان 3/ 224.
[2] الشفنين: هو اليمام، ومن طبعه إيثار العزلة. حياة الحيوان 1/ 601.(3/251)
922 [من عجائب الطير]
وحكوا أنّ عندهم طائرين، أحدهما وافي الجناحين وهو لم يطر قطّ، والآخر وافي الجناحين، ولكنه من لدن ينهض للطّيران فلا يزال يطير ويقتات من الفراش وأشباه الفراش، وأنّه لا يسقط إلّا ميّتا. إلّا أنهم ذكروا أنه قصير العمر.
923 [كلام في قول أرسطو]
ولست أدفع خبر صاحب المنطق عن صاحب الدارصيني، وإن كنت لا أعرف الوجه في أنّ طائرا ينهض من وكره في الجبال، أو بفارس أو باليمن، فيؤمّ ويعمد نحو بلاد الدارصيني، وهو لم يجاوز موضعه ولا قرب منه. وليس يخلو هذا الطائر من أن يكون من الأوابد أو من القواطع. وإن كان من القواطع فكيف يقطع الصّحصحان [1] الأملس وبطون الأودية، وأهضام الجبال [2] بالتّدويم في الأجواء، وبالمضيّ على السّمت، لطلب ما لم يره ولم يشمّه ولم يذقه. وأخرى فإنّه لا يجلب منه بمنقاره ورجليه، ما يصير فراشا له ومهادا، إلا بالاختلاف الطويل. وبعد فإنّه ليس بالوطيء الوثير، ولا هو له بطعام.
فأنا وإن كنت لا أعرف العلّة بعينها فلست أنكر الأمور من هذه الجهة. فاذكر هذا.
924 [قول أبي الشيص في الهدهد]
وقال أبو الشّيص في الهدهد [3]: [من البسيط] لا تأمننّ على سرّي وسرّكم ... غيري وغيرك أو طيّ القراطيس ... أو طائر سأحلّيه وأنعته ... ما زال صاحب تنقير وتدسيس ... سود براثنه، ميل ذوائبه ... صفر حمالقه، في الحسن مغموس ... قد كان همّ سليمان ليذبحه ... لولا سعايته في ملك بلقيس
وقد قدّمنا في هذا الكتاب في تضاعيفه، عدّة مقطّعات في أخبار الهدهد.
[1] الصحصحان: ما استوى من الأرض. «القاموس: صحح».
[2] الأهضام: جمع هضم مسقط الجبل، وهو ما دنا من السهل من أصله. «اللسان: هضم».
[3] الأبيات في الحماسة البصرية 2/ 341، وعيون الأخبار 1/ 41، والمختار من شعر بشار، ونهاية الأرب 10/ 248، وحياة الحيوان 2/ 394.(3/252)
باب القول في الرخم
وقال: إنّ لئام الطير ثلاثة: الغربان، والبوم، والرّخم
925 [أسطورة الرخم]
ويقال: إنّه قيل للرّخمة: ما أحمقك! قالت: وما حمقي، وأنا أقطع في أوّل القواطع، وأرجع في أوّل الرّواجع، ولا أطير في التّحسير [1]. ولا أغتر بالشّكير [2]، ولا أسقط على الجفير [3].
وقد ذكرنا تفسير هذا. وقال الكميت [4]: [من مجزوء الكامل] إذ قيل يا رخم انطقي ... في الطّير، إنّك شرّ طائر
926 [شر الطير]
وقال أبو الحسن المدائني: أمر بعض ملوك العجم الجلندي بن عبد العزيز الأزديّ، وكان يقال له في الجاهلية عرجدة، فقال له: صد لي شرّ الطير، واشوه بشرّ الحطب، وأطعمه شرّ الناس. فصاد رخمة وشواها ببعر، وقرّبها إلى خوزيّ [5]. فقال له الخوزيّ: أخطأت في كلّ شيء أمرك به الملك: ليس الرّخمة شرّ الطير، وليس البعرة شرّ الحطب، وليس الخوزيّ شرّ الناس. ولكن اذهب فصد بومة، واشوها بدفلى، وأطعمها نبطيّا ولد زنى. ففعل، وأتى الملك فأخبره، فقال: ليس يحتاج إلى ولد زنى! يكفيه أن يكون نبطيّا.
[1] التحسير: سقوط ريش الطائر. «القاموس: حسر».
[2] الشكير: الريش الصغير. «القاموس: شكر».
[3] الجفير: جعبة السهام «القاموس: جفر».
[4] ديوان الكميت 1/ 227، والسمط 300، والمستقصى 1/ 81، والمعاني الكبير 292.
[5] نسبة إلى خوزستان.(3/253)
927 [الغراب والرخمة]
والغراب يقوى على الرّخمة، والرخمة أعظم من الغراب وأشدّ. والرّخمة تلتمس لبيضها المواضع البعيدة، والأماكن الوحشيّة، والجبال الشامخة، وصدوع الصّخر.
فلذلك يقال في بيض الأنوق ما يقال [1].
928 [ما قيل في بيض الأنوق]
وقال عتبة بن شمّاس [2]: [من الخفيف] إنّ أولى بالحقّ في كلّ حقّ ... ثمّ أولى أن يكون حقيقا ... من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جدّه الفاروقا ... ردّ أموالنا علينا وكانت ... في ذرى شاهق تفوت الأنوقا
وطلب رجل من أهل الشام الفريضة من معاوية فجاد له بها، فسأل لولده، فأبى، فسأله لعشيرته، فقال معاوية [3]: [من الخفيف] طلب الأبلق العقوق، فلمّا ... لم يجده أراد بيض الأنوق
وليس يكون العقوق إلّا من الإناث، فإذا كانت من البلق كانت بلقاء. وإنما هذا كقولهم: «زلّ في سلى جمل» [4]، والجمل لا يكون له سلى [5].
وقد يرون بيض الأنوق، ولكنّ ذلك قليلا ما يكون، وأقلّ من القليل، لأنّ بيضها في المواضع الممتنعة، وليست فيها منافع فيتعرض في طلبها للمكروة.
[1] ثمار القلوب (717).
[2] الأبيات لعتبة بن شماس في الكامل 1/ 400 (طبعة المعارف)، 2/ 271 (أبو الفضل إبراهيم)، والعقد الفريد 3/ 393، والأول والثاني في اللسان والتاج (فرق)، والأبيات لبعض ولد عيينة بن حصن في ثمار القلوب (718)، والبيت الثاني مع جملة أبيات لرجل من الأنصار في رسائل الجاحظ 2/ 286، والثالث لعقبة بن أسماء في المستقصى 1/ 25.
[3] الخبر مع البيت في ثمار القلوب (718)، والكامل 1/ 401 (طبعة المعارف)، 2/ 271 (أبو الفضل إبراهيم)، والنهاية 1/ 77، والدرة الفاخرة 299، وجمهرة الأمثال 2/ 64، وربيع الأبرار 3/ 316، واللسان (عقق)، والبيت في الفاضل 46، والمصون 30، ونظام الغريب 207، والإصابة (1098) 8/ 206، واللسان والتاج (أنق)، والتهذيب 1/ 62، 9/ 324، والجمهرة 371، والمقاييس 1/ 149.
[4] المثل برواية: (وقع القوم في سلى جمل)، وهو في مجمع الأمثال 2/ 360، والدرة الفاخرة 1/ 299، وجمهرة الأمثال 2/ 366، والمستقصى 2/ 377، وأمثال ابن سلام 343.
[5] ثمار القلوب (529).(3/254)
وأنا أظنّ أن معاوية لم يقل كما قالوا: ولكنّه قدم في اللّفظ بيض الأنوق، فقال:
«طلب بيض الأنوق، فلما لم يجده طلب الأبلق العقوق».
929 [ما يسمّى بالهدهد]
وأمّا قول ابن أحمر [1]: [من الكامل] يمشي بأوظفة شديد أسرها ... شمّ السنابك لا تقي بالجدجد [2] ... إذ صبّحته طاويا ذا شرّة ... وفؤاده زجل كعزف الهدهد
فقد يكون ألّا يكون عنى بهذا الهدهد، لأنّ ذكورة الحمام وكلّ شيء غنّى من الطير وهدر ودعا، فهو هدهد. ومن روى «كعزف الهدهد» [3] فليس من هذا في شيء.
وقد قال الشاعر في صفة الحمام: [من الكامل] وإذا استشرن أرنّ فيها هدهد ... مثل المداك خضبته بجساد [4]
930 [ميل بعض النساء إلى المال]
وخطب رجل جميل امرأة، وخطبها معه رجل دميم فتزوجت الدّميم لماله، وتركته، فقال [5]: [من الطويل] ألا يا عباد الله ما تأمرونني ... بأحسن من صلّى وأقبحهم بعلا ... يدبّ على أحشائها كلّ ليلة ... دبيب القرنبى بات يقرو نقا سهلا [6]
[1] البيت الأول في ديوان ابن أحمر 56، واللسان والتاج (جدد، وقي)، والتنبيه والإيضاح 2/ 13، والتهذيب 9/ 375، وبلا نسبة في الجمهرة 182، والثاني في ديوانه 59، واللسان والتاج (هدد).
[2] الأوظفة: جمع وظيف، وهو مستدق الذراع والساق من الخيل والإبل وغيرها. «القاموس: وظف».
السنبك: طرف الحاف. ر «القاموس: سنبك». لا تقي: لا تتوقاه. الجدجد: الأرض الصلبة المستوية «القاموس: جدد».
[3] في اللسان «هدد»: (الهدهد: أصوات الجن ولا واحد له).
[4] استشارت: سمنت وحسنت «القاموس: شار». المداك: حجر يدق به الطيب. الجساد: الزعفران «القاموس: جسد».
[5] البيتان للأخطل في حياة الحيوان 2/ 209 (القرنبى)، وليسا في ديوانه، وبلا نسبة في الكامل 1/ 282 (طبعة المعارف)، 595 (الدالي)، والأول في قطر الندى 202، والهمع 2/ 70، والدرر 5/ 115، والثاني في اللسان والتاج (قرنب).
[6] في الكامل: (القرنبى: دويبة على هيئة الخنفس منقطة الظهر، وفي قوائمها طول على الخنفس وهي ضعيفة المشي).(3/255)
931 [الأجناس التي تطلب العذرة]
والأجناس التي تريد العذرة وتطلبها كثيرة، كالخنازير، والدّجاج، والكلاب، والجراد، وغير ذلك. ولكنها لا تبلغ مبلغ الجعل والرّخمة.
932 [أكل الأعراب لبعض الحيوان]
وقال ابن أبي كريمة: كنت عند أبي مالك عمرو بن كركرة، وعنده أعرابيّ، فجرى ذكر القرنبى. قال: فقلت له: أتعرف القرنبى؟ قال: وما لي لا أعرف القرنبى؟! فو الله لربّما لم يكن غدائي إلّا القرنبى يحسحس [1] لي. قال: فقلت له: إنها دويبّة تأكل العذرة. قال: ودجاجكم تأكل العذرة! وقال [2]: قال بعض المدنيّين لبعض الأعراب: أتأكلون الحيّات والعقارب والجعلان والخنافس؟ فقال: نأكل كلّ شيء إلّا أمّ حبين [3]. قال: فقال المدنيّ:
«لتهن أمّ الحبين العافية».
قال: وحدثنا ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [4]: «من الدوابّ أربع لا يقتلن: النملة، والنّحلة، والصّرد، والهدهد».
باب في الخفاش
933 [القول في الخفاش]
فأوّل ذلك أنّ الخفّاش طائر، وهو مع أنّه طائر من عرض الطير فإنّه شديد الطّيران، كثير التكفّي في الهواء، سريع التقلّب فيه، ولا يجوز أن يكون طعمه إلا من البعوض، وقوته إلا من الفراش وأشباه الفراش، ثمّ لا يصيده إلّا في وقت طيرانه في الهواء، وفي وقت سلطانه، لأنّ البعوض إنّما يتسلط بالليل. ولا يجوز أن يبلغ ذلك إلّا بسرعة اختطاف واختلاس، وشدّة طيران، ولين أعطاف وشدّة متن، وحسن تأتّ، ورفق في الصّيد. وهو مع ذلك كلّه ليس بذي ريش، وإنما هو لحم وجلد. فطيرانه بلا ريش عجب، وكلما كان أشدّ كان أعجب.
[1] حسحس اللحم: جعله على الجمر. «القاموس: حسس».
[2] الخبر في عيون الأخبار 3/ 209، وثمار القلوب (410)، والمرصع 140، والدرة الفاخرة 479، وأدب الكاتب 216.
[3] أم حبين: دويبة على قدر الكف. ثمار القلوب (410).
[4] عيون الأخبار 2/ 89.(3/256)
934 [من أعاجيب الخفاش]
ومن أعاجيبه أنّه لا يطير في ضوء ولا في ظلمة. وهو طائر ضعيف قوى البصر، قليل شعاع العين الفاصل من النّاظر. ولذلك لا يظهر في الظّلمة، لأنّها تكون غامرة لضياء بصره، غالبة لمقدار قوى شعاع ناظره. ولا يظهر نهارا، لأنّ بصره لضعف ناظره يلتمع في شدة بياض النهار. ولأنّ الشيء المتلألئ ضارّ لعيون الموصوفين بحدّة البصر، ولأن شعاع الشمس بمخالفة مخرج أصوله وذهابه، يكون رادعا لشعاع ناظره، ومفرّقا له. فهو لا يبصر ليلا ولا نهارا. فلما علم ذلك واحتاج إلى الكسب والطّعم، التمس الوقت الذي لا يكون فيه من الظلام ما يكون غامرا قاهرا، وعاليا غالبا. ولا من الضّياء ما يكون معشيا رادعا، ومفرّقا قامعا. فالتمس ذلك في وقت غروب القرص، وبقيّة الشّفق، لأنّه وقت هيج البعوض وأشباه البعوض، وارتفاعها في الهواء، ووقت انتشارها في طلب أرزاقها. فالبعوض يخرج للطعم، وطعمه دماء الحيوان، وتخرج الخفافيش لطلب الطعم، فيقع طالب رزق على طالب رزق، فيصير ذلك هو رزقه.
وهذا أيضا مما جعل الله في الخفافيش من الأعاجيب.
935 [البائضة والوالدة]
[1] ويزعمون أن السّك [2] الآذان والممسوحة، من جميع الحيوان، أنها تبيض بيضا، وأنّ كلّ أشرف [3] الآذان فهو يلد ولا يبيض. ولا ندري لم كان الحيوان إذا كان أشرف الآذان ولد، وإذا كان ممسوحا باض.
ولآذان الخفافيش حجم ظاهر، وشخوص بيّن. وهي وإن كانت من الطير فإنّ هذا لها، وهي تحبل وتلد، وتحيض، وترضع.
936 [ما يحيض من الحيوان]
والناس يتقزّزون من الأرانب والضّباع، لمكان الحيض.
وقد زعم صاحب المنطق أنّ ذوات الأربع كلّها تحيض، على اختلاف في القلّة والكثرة. والزّمان، والحمرة والصفرة، والرقّة والغلظ. قال: ويبلغ من ضنّ أنثى
[1] عيون الأخبار 2/ 88، ومحاضرات الأدباء 4/ 676.
[2] السّكك: صغر الأذن ولزوقها بالرأس وقلة إشرافها «القاموس: سكك».
[3] أذن شرفاء: طويلة. «القاموس: شرف».(3/257)
الخفافيش بولدها ومن خوفها عليه، أنها تحمله تحت جناحها، وربّما قبضت عليه بفيها، وربّما أرضعته وهي تطير، وتقوى من ذلك، ويقوى ولدها على ما لا يقوى عليه الحمام والشّاهمرك، وسباع الطير.
937 [معارف في الخفاش]
وقال معمر أبو الأشعث: ربّما أتأمت الخفافيش فتحمل معها الولدين جميعا، فإن عظما عاقبت بينهما.
والخفّاش من الطير، وليس له منقار مخروط، وله فم فيما بين مناسر السّباع وأفواه البوم. وفيه أسنان حداد صلاب مرصوفة من أطراف الحنك، إلى أصول الفك، إلّا ما كان في نفس الخطم.
وإذا قبضت على الفرخ وعضت عليه لتطير به، عرفت ذرب أسنانها [1]، فعرفت أي نوع ينبغي أن يكون ذلك العض، فتجعله أزما ولا تجعله عضّا ولا تنييبا ولا ضغما، كما تفعل الهرّة بولدها، فإنّها مع ذرب أنيابها، وحدّة أظفارها ودقّتها، لا تخدش لها جلدا، إلا أنها تمسكها ضربا من الإمساك، وتأزم عليها ضربا من الأزم قد عرفته.
ولكل شيء حدّ به يصلح، وبمجاوزته والتقصير دونه يفسد.
وقد نرى الطّائر يغوص في الماء نهاره، ثم يخرج منه كالشّعرة سللها من العيجن، غير مبتلّ الرّيش، ولا لثق الجناحين. ولو أنّ أرفق الناس رفقا، راهن على أن يغمس طائرا منها في الماء غمسة واحدة ثمّ خلّى سربه ليكون هو الخارج منه، لخرج وهو متعجّن الريش، مفسد النظم، منقوض التأليف. ولكان أجود ما يكون طيرانا أن يكون كالجادف. فهذا أيضا من أعاجيب الخفاش.
938 [من أعاجيب الخفافيش]
ومن أعاجيبها تركها ذرى الجبال وبسيط الفيافي، وأقلاب النخل، وأعالي الأغصان، ودغل الغياض والرياض، وصدوع الصّخر، وجزائر البحر، ومجيئها تطلب مساكن الناس وقربهم، ثم إذا صارت إلى بيوتهم وقربهم، قصدت إلى أرفع مكان وأحصنه، وإلى أبعد المواضع من مواضع الاجتياز، وأعرض الحوائج.
[1] ذرب أسنانها: حدتها «القاموس: ذرب».(3/258)
939 [طول عمر الخفاش]
ثمّ الخفّاش بعد ذلك من الحيوان الموصوف بطول العمر، حتى يجوز في ذلك العقاب والورشان إلى النسر، ويجوز حد الفيلة والأسد وحمير الوحش، إلى أعمار الحيّات.
ومن أعاجيب الخفافيش أنّ أبصارها تصلح على طول العمر، ولها صبر على طول فقد الطّعم. فيقال إنّ اللواتي يظهرن في القمر من الخفافيش المسنّات المعمّرات، وإنّ أولادهن إذا بلغن لم تقو أبصارهنّ على ضياء القمر.
ومن أعاجيبها أنها تضخم وتجسم وتقبل الشّحم على الكبر وعلى السنّ.
940 [القدرة التناسلية]
وقد زعم صاحب المنطق أنّ الكلاب السلوقيّة كلما دخلت في السنّ كان أقوى لها على المعاظلة.
وهذا غريب جدا، وقد علمنا أنّ الغلام أحدّ ما يكون وأشبق وأنكح وأحرص، عند أوّل بلوغه. ثم لا يزال كذلك حتى يقطعه الكبر أو إصفاء أو تعرض له آفة.
ولا تزال الجارية من لدن إدراكها وبلوغها وحركة شهوتها على شبيه بمقدار واحد من ضعف الإرادة. وكذلك عامّتهنّ. فإذا اكتهلن وبلغت المرأة حدّ النّصف فعند ذلك يقوى عليها سلطان الشّهوة والحرص على الباه، فإنما تهيج الكهلة عند سكون هيج الكهل وعند إدبار شهوته، وكلال حدّه.
941 [قول النساء في الخفافيش]
وأما قول النساء وأشباه النساء في الخفافيش، فإنهم يزعمون أن الخفاش إذا عضّ الصبي لم ينزع سنه من لحمه حتى يسمع نهيق حمار وحشيّ. فما أنسى فزعي من سنّ الخفاش، ووحشتي من قربه! إيمانا بذلك القول، إلى أن بلغت.
وللنساء وأشباه النساء في هذا وشبهه خرافات، عسى أن نذكر منها شيئا إذا بلغنا إلى موضعه إن شاء الله.
942 [ضعف البصر لدى بعض الحيوان]
ومن الطير وذوات الأربع ما يكون فاقد البصر بالليل، ومنها ما يكون سيّء البصر. فأمّا قولهم: إنّه الفأرة والسنّور وأشياء أخر أبصر باللّيل، فهذا باطل.
والإنسان رديء البصر باللّيل، والذي لا يبصر منهم باللّيل تسمّيه الفرس شبكور وتأويله أنّه أعمى ليل [1]، وليس له في لغة العرب اسم أكثر من أنّه يقال لمن لا يبصر باللّيل بعينه: هدبد. ما سمعت إلّا بهذا، فأمّا الأغطش فإنّه السيّء البصر بالليل والنهار جميعا.(3/259)
ومن الطير وذوات الأربع ما يكون فاقد البصر بالليل، ومنها ما يكون سيّء البصر. فأمّا قولهم: إنّه الفأرة والسنّور وأشياء أخر أبصر باللّيل، فهذا باطل.
والإنسان رديء البصر باللّيل، والذي لا يبصر منهم باللّيل تسمّيه الفرس شبكور وتأويله أنّه أعمى ليل [1]، وليس له في لغة العرب اسم أكثر من أنّه يقال لمن لا يبصر باللّيل بعينه: هدبد. ما سمعت إلّا بهذا، فأمّا الأغطش فإنّه السيّء البصر بالليل والنهار جميعا.
وإذا كانت المرأة مغربة العين فكانت رديّة البصر، قيل لها: جهراء. وأنشد الأصمعيّ في الشاء [2]: [من الكامل] جهراء لا تألو إذا هي أظهرت ... بصرا ولا من عيلة تغنيني
وذكروا أنّ الأجهر الذي لا يبصر في الشمس. وقوله «لا تألو» أي لا تستطيع.
وقوله: «أظهرت» صارت في الظهيرة. «والعيلة»: الفقر. قال: يعني به شاة.
وقال يحيى بن منصور، في هجاء بعض آل الصّعق: [من البسيط] يا ليتني، والمنى ليست بمغنية، ... كيف اقتصاصك من ثأر الأحابيش ... أتنكحون مواليهم كما فعلوا ... أم تغمضون كإغماض الخفافيش
وقال أبو الشمقمق، وهو مروان بن محمد [3]: [من مجزوء الرمل] أنا بالأهواز محزو ... ن وبالبصرة داري ... في بني سعد وسعد ... حيث أهلي وقراري ... صرت كالخفاش لا أب ... صر في ضوء النهار
وقال الأخطل التغلبيّ [4]: [من الطويل] وقد غبر العجلان حينا إذا بكى ... على الزّاد ألقته الوليدة في الكسر ... فيصبح كالخفاش يدلك عينه ... فقبّح من وجه لئيم ومن حجر [5]
وقالوا: السحاة مقصورة: اسم الخفاش، والجمع سحا كما ترى.
[1] نقل الزمخشري هذا القول في أساس البلاغة (هدب).
[2] البيت لأبي العيال الهذلي في شرح أشعار الهذليين 415، واللسان والتاج (جهر، ألا)، والمخصص 6/ 164، وديوان الأدب 2/ 261، وللهذلي في التهذيب 6/ 49، 15/ 432، والمقاييس 1/ 129.
[3] ديوان أبي الشمقمق 136.
[4] ديوان الأخطل 183، والأول في العين 5/ 307، والثاني في اللسان والتاج (حجر).
[5] حجر: أراد محجر العين. ديوانه 183.(3/260)
943 [لغز في الخفاش]
وقالوا في اللّغز، وهم يعنون الخفّاش [1]: [من الطويل] أبى شعراء النّاس لا يخبرونني ... وقد ذهبوا في الشّعر في كلّ مذهب ... بجلدة إنسان وصورة طائر ... وأظفار يربوع وأنياب ثعلب
944 [النهي عن قتل الضفادع والخفافيش]
هشام الدّستوائي قال: حدّثنا قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن عمر أنّه قال: «لا تقتلوا الضّفادع فإنّ نقيقهنّ تسبيح. ولا تقتلوا الخفّاش فإنّه إذا خرب بيت المقدس قال: يا ربّ سلّطني على البحر حتّى أغرقهم».
حماد بن سلمة قال: حدّثنا قتادة، عن زرارة بن أوفى، قال: قال عبد الله بن عمر: «لا تقتلوا الخفّاش، فإنّه استأذن في البحر: أن يأخذ من مائه فيطفئ نار بيت المقدس حيث حرق. ولا تقتلوا الضّفادع فإنّ نقيقها تسبيح».
قال: وحدثنا عثمان بن سعيد القرشي قال: سمعت الحسن يقول: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الوطواط، وأمر بقتل الأوزاغ».
قال: والخفاش يأتي الرّمانة وهي على شجرتها، فينقب عنها، فيأكل كلّ شيء فيها حتى لا يدع إلّا القشر وحده. وهم يحفظون الرّمّان من الخفافيش بكلّ حيلة.
قال: ولحوم الخفافيش موافقة للشواهين والصّقورة والبوازي، ولكثير من جوارح الطير، وهي تسمن عنها، وتصحّ أبدانها عليها. ولها في ذلك عمل محمود نافع عظيم النّفع، بيّن الأثر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
تمّ المصحف الثالث من كتاب الحيوان ويليه المصحف الرابع وأوله في الذّرّ
[1] نهاية الأرب 10/ 284.(3/261)
الجزء الرابع
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم نبدأ في هذا الجزء، بعون الله وتأييده، بالقول في جملة الذّرّة والنملة، كما شرطنا به آخر المصحف الثّالث. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
باب في الذّرّة والنملة
945 [خصائص النملة]
قد علمنا أنّ ليس عند الذّرّة غناء الفرس في الحرب، والدّفع عن الحريم. ولكنّا إذا أردنا موضع العجب والتّعجيب، والتّنبيه على التدبير، ذكرنا الخسيس القليل، والسّخيف المهين، فأريناك ما عنده من الحسّ اللطيف، والتّقدير الغريب، ومن النظر في العواقب، ومشاكلة الإنسان ومزاحمته.
والإنسان هو الذي سخّر له هذا الفلك بما يشتمل عليه.
وقد [1] علمنا أنّ الذّرّة تدّخر للشتاء في الصّيف، وتتقدّم في حال المهلة، ولا تضيع أوقات إمكان الحزم. ثم يبلغ من تفقّدها وحسن خبرها [2]، والنظر في عواقب أمرها، أنّها تخاف على الحبوب التي ادّخرتها للشّتاء في الصيف، أن تعفن وتسوّس، [فتنقلها من] [3] بطن الأرض، فتخرجها إلى ظهرها، لتيبّسها وتعيد إليها جفوفها، وليضربها النّسيم، وينفى عنها اللّخن والفساد.
ثمّ ربّما كان بل يكون أكثر مكانها نديّا [4]. وخافت أن تنبت نقرت موضع القطمير من وسط الحبّة، وتعلم أنّها من ذلك الموضع تبتدئ وتنبت وتنقلب [5]، فهي تفلق الحبّ كلّه أنصافا. فأمّا إذا كان الحب من حبّ الكزبرة، فلقته أرباعا، لأنّ
[1] الخبر في ثمار القلوب (643).
[2] في ثمار القلوب: «ثم تبلغ من نقدها وصحة تمييزها».
[3] في الأصل: «ويقبلها» والتصحيح من ثمار القلوب.
[4] في الثمار: «ثم ربما بل في أكثر الأوقات اختارت ذلك ليلا، لأنه أخفى، وفي القمر لأنها فيه أبصر، فإن كان مكانها نديّا».
[5] في الثمار: «تنبت وتصلب».(4/262)
أنصاف حبّ الكزبرة ينبت من بين جميع الحبوب. فهي على هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوان، حتّى ربّما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس.
ولها، مع لطافة شخصها وخفّة وزنها، وفي الشمّ والاستراوح ما ليس لشيء.
وربّما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد، فتسقط من يده الواحدة أو صدر الواحدة، وليس يرى بقربه ذرّة ولا له بالذّرّ عهد في ذلك المنزل، فلا يلبث أن تقبل ذرّة قاصدة إلى تلك الجرادة، فترومها وتحاول قلبها ونقلها، وسحبها وجرّها، فإذا أعجزتها بعد أن بلغت عذرا، مضت إلى جحرها راجعة، فلا يلبث ذلك الإنسان أن يراها قد أقبلت، وخلفها صويحباتها كالخيط الأسود الممدود، حتى يتعاونّ عليها فيحملنها.
فأوّل ذلك صدق الشّمّ لما لا يشمّه الإنسان الجائع. ثمّ بعد الهمّة، والجراءة على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرّة، وأكثر من مائة مرّة.
وليس شيء من الحيوان يقوى على حمل ما يكون ضعف وزنه مرارا غيرها.
وعلى أنها لا ترضى بأضعاف الأضعاف، إلّا بعد انقطاع الأنفاس.
946 [كلام النمل]
فإن قلت: وما علّم الرّجل أنّ الّتي حاولت نقل الجرادة فعجزت، هي التي أخبرت صويحباتها من الذّرّ، وأنها كانت على مقدّمتهن؟ قلنا: لطول التّجربة، ولأنّا لم نر ذرّة قط حاولت نقل جرادة فعجزت عنها، ثمّ رأيناها راجعة، إلّا رأينا معها مثل ذلك، وإن كنّا لا نفصل في العين بينها وبين أخواتها، فإنّه ليس يقع في القلب غير الذي قلنا. وعلى أنّنا لم نر ذرّة قطّ حملت شيئا أو مضت إلى جحرها فارغة، فتلقاها ذرّة، إلّا واقفتها ساعة وخبّرتها بشيء. فدلّ ذلك على أنّها في رجوعها عن الجرادة، إنّما كانت لأشباهها كالرّائد لا يكذب أهله [1].
ومن العجب أنّك تنكر أنّها توحي إلى أختها بشيء، والقرآن قد نطق بما هو أكثر من ذلك أضعافا. وقال رؤبة بن العجّاج [2]: [من الرجز] لو كنت علّمت كلام الحكل ... علم سليمان كلام النّمل [3]
[1] في مجمع الأمثال 2/ 233، وجمهرة الأمثال 1/ 474: «الرائد لا يكذب أهله».
[2] ديوان رؤبة 131، واللسان والتاج (حكل، فطحل)، والجمهرة 562، والتهذيب 4/ 101، والمجمل 2/ 94، وبلا نسبة في المخصص 2/ 122، والمقاييس 2/ 91، وديوان الأدب 1/ 158.
[3] الحكل: ما لا يسمع له صوت كالذر والنمل. «اللسان: حكل».(4/263)
وقال الله عز وجلّ: {حَتََّى إِذََا أَتَوْا عَلى ََ وََادِ النَّمْلِ قََالَتْ نَمْلَةٌ يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ لََا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضََاحِكاً مِنْ قَوْلِهََا وَقََالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [1] فقد أخبر القرآن أنها قد عرفت سليمان وأثبتت عينه، وأنّ علم منطقها عنده، وأنها أمرت صويحباتها بما هو أحزم وأسلم. ثمّ أخبر أنها تعرف الجنود من غير الجنود، وقد قالت: {وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ}. ونخالك أيها المنكر تبسّمه بحالهنّ، أنّك لم تعرف قبل ذلك الوقت وبعده، شيئا من هذا الشكل من الكلام، ولا تدبيرا في هذا المقدار. وأمّا ما فوق ذلك فليس لك أن تدّعيه. ولكن، ما تنكر من أمثاله وأشباهه وما دون ذلك، والقرآن يدلّ على أنّ لها بيانا، وقولا، ومنطقا يفصل بين المعاني التي هي بسبيلها؟! فلعلها مكلّفة، ومأمورة منهيّة، ومطيعة عاصية. فأوّل ذلك أن المسألة من مسائل الجهالات.
وإنّ من دخلت عليه الشّبهة من هذا المكان لناقص الرّويّة رديّ الفكرة.
وقد علمنا، وهم ناس ولهم بذلك فضيلة في الغريزة وفي الجنس والطّبيعة. وهم ناس إلى أن ينتهوا إلى وقت البلوغ ونزول الفرض حتى لو وردت ذرّة لشربت من أعلاه.
947 [شعر فيه ذكر النمل]
وقال أبو دهبل [2]: [من المديد] آب هذا اللّيل فاكتنعا ... وأمرّ النّوم فامتنعا [3] ... في قباب وسط دسكرة ... حولها الزّيتون قد ينعا [4] ... ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا [5] ... خرفة، حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جلّق بيعا [6]
[1] 1918/ النمل: 27.
[2] الأبيات لأبي دهبل الجمحي في ديوانه 85، والمستقصى 1/ 51، وليزيد بن معاوية في ديوانه 22، والمقاصد النحوية 1/ 48، ومعجم البلدان 5/ 42 (الماطرون)، وللأحوص الأنصاري في ديوانه 221، وليزيد أو للأحوص في الخزانة 7/ 309، والكامل 1/ 227226 (طبعة المعارف)، والثاني للأخطل في اللسان والتاج (دسكر)، والثالث له في اللسان (مطرن).
[3] اكتنع الليل: حضر ودنا. «اللسان: كنع». أمرّ: صار مرّا.
[4] الدسكرة: بناء كالقصر حوله بيوت للأعاجم يكون فيها الشراب والملاهي. «اللسان: دسكر».
[5] الماطرون: موضع بالشام قرب دمشق. معجم البلدان 5/ 42.(4/264)
عند غيري فالتمس رجلا ... يأكل التّنّوم والسّلعا [1] ... ذاك شيء لست آكله ... وأراه مأكلا فظعا
وقال أبو النّجم في مثل ذلك [2]: [من الرجز] 1وكان نشّاب الرّياح سنبله ... واخضرّ نبتا سدره وحرمله [3] ... 3وابيضّ إلّا قاعه وجدوله ... وأصبح الرّوض لويّا حوصله [4] ... 5واصفرّ من تلع فليج بقله ... وانحتّ من حرشاء فلج خردله [5] ... 7وانشقّ عن فصح سواء عنصله ... وانتفض البروق سودا فلفله [6] ... 9واختلف النّمل قطارا ينقله ... طار عن المهر نسيل ينسله [7]
948 [استطراد لغوي]
قال أبو زيد: الحمكة القملة، وجمعه حمك. وقد ينقاس ذلك في الذّرّة.
قال أبو عبيدة: قرية النمل من التّراب [8]، وهي أيضا جرثومة النمل.
وقال غيره: قرية النمل ذلك التراب والجحر بما فيه من الذرّ والحبّ والمازن.
والمازن هو البيض، وبه سمّوا مازن.
[1] التنّوم: شجر له حمل صغار كمثل حب الخروع، ويتفلق عن حب يأكله أهل البادية. «اللسان:
تنم».
[2] ديوان أبي النجم 159157، والرابع في اللسان (حصل)، والتهذيب 4/ 241، والسادس والتاسع في اللسان والتاج (قطر، حرش)، وبلا نسبة في الجمهرة 218، 513، والسادس في المقاييس 2/ 39، و (6، 8، 9) بلا نسبة في الاشتقاق 298، و (7، 8) في التاج (نفض)، والجمهرة 218، و (8) في اللسان والتاج (فلل)، و (8، 9) في أساس البلاغة (فلل)، و (10) في اللسان والتاج (عتل).
[3] في ديوانه: (السدر: شجر النبق. الحرمل: نبت له ورق كورق الصفصاف).
[4] في ديوانه: (حوصله: مجتمع الماء فيه).
[5] في ديوانه: (التلع: السيل أو مجرى الماء من مكان عال. الفليج: المتسع ذو الأفلاج، والأفلاج:
الأودية الصغيرة. انحتّ: سقط وطاح. الحرشاء: اسم لخردل البر).
[6] في ديوانه: (انشق: انفتح وكبّ ثمرته بعد أن أتم النضج. العنصل: بصل البر. البروق: شجر هش ضعيف له ثمر حبه أسود صغير كالفلفل).
[7] في ديوانه: (القطار أصلا أن تتلو الإبل بعضها مقطورة، وكذا جاء النمل يجمع الحب بجد ونشاط. النسيل: الساقط من الريش والصوف والشعر).
[8] في المخصص 8/ 120: (قرية النمل وجرثومته: ما يجمع من التراب).(4/265)
قال أبو عمرو: الزّبال ما حملت النملة بفيها، وهو قول ابن مقبل [1]:
[من المتقارب] كريم النّجار حمى ظهره ... فلم يرتزأ بركوب زبالا [2]
949 [شعر في التعذيب بالنمل]
وأنشد ابن نجيم: [من الخفيف] هلكوا بالرّعاف والنمل طورا ... ثمّ بالنّحس والضّباب الذّكور
وقال الأصمعيّ في تسليط الله الذّرّ على بعض الأمم [3]: [من الخفيف] لحقوا بالزّهويين فأمسوا ... لا ترى عقر دارهم بالمبين ... سلّط الله فازرا وعقيفا ... ن فجازاهم بدار شطون ... يتبع القارّ والمسافر منهم ... تحت ظلّ الهدى بذات الغصون
فازر، وعقيفان: صنفان من الذّرّ. وكذلك ذكروه عن دغفل بن حنظلة الناسب [4]. ويقال: إنّ أهل تهامة هلكوا بالرّعاف مرتين. قال: وكان آخر من مات بالرّعاف من سادة قريش، هشام بن المغيرة.
قال أميّة بن أبي الصّلت في ذلك [5]: [من الخفيف] نزع الذّكر في الحياة وغنا ... وأراه العذاب والتّدميرا [6] ... أرسل الذّرّ والجراد عليهم ... وسنينا فأهلكتهم ومورا [7]
[1] ديوان ابن مقبل 237 (176)، واللسان والتاج (رزأ، زبل)، والجمهرة 334، والتهذيب 13/ 216، وديوان الأدب 1/ 466، وهو لابن أحمر في أساس البلاغة (زبل)، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في المخصص 8/ 120.
[2] في ديوانه: (النجار: الأصل. الزبال: ما تحمل النملة بفيها، والمعنى أنه فحل لم يركب وأودع للفحلة).
[3] البيت الثاني بلا نسبة في اللسان والتاج (عقف)، والتهذيب 1/ 266، وروايته:
(سلّط الذرّ فازر أو عقيفا ... ن فأجلاهم لدار شطون).
[4] في اللسان: (قال دغفل النسابة: ينسب النمل إلى عقفان والفازر. فعقفان جدّ السود، والفازر:
جد الشقر).
[5] ديوان أمية 402، 404، 405.
[6] رواية صدره في ديوانه: (سلب الذكر في الحياة جزاء).
[7] في ديوانه: (عليهم: الضمير لآل فرعون، لأن الله أهلكهم بالطوفان والجراد. والمور: التراب تثيره الرياح).(4/266)
ذكر الذّرّ إنّه يفعل الشر ... رّ وإن الجراد كان ثبورا [1]
950 [النبي سليمان والنملة]
وقرأ أبو إسحاق قوله عز وجلّ: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمََانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتََّى إِذََا أَتَوْا عَلى ََ وََادِ النَّمْلِ} [2]، فقال [3]: كان ذلك الوادي معروفا بوادي النمل، فكأنّه كان حمى. وكيف ننكر أن يكون حمى؟! والنّمل ربّما أجلت أمّة من الأمم عن بلادهم.
ولقد سألت أهل كسكر فقلت: شعيركم عجب، وأرزكم عجب، وسمككم عجب، وجداؤكم عجب، وبطّكم عجب، ودجاجكم عجب، فلو كانت لكم أعناب! فقالوا: كلّ أرض كثيرة النّمل لا تصلح فيها الأعناب. ثمّ قرأ: {قََالَتْ نَمْلَةٌ يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ} [4] فجعل تلك الجحرة مساكن. والعرب تسميها كذلك ثمّ قال: {لََا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ} [4] فجمعت من اسمه وعينه، وعرفت الجند من قائد الجند، ثم قالت: {وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} فكانوا معذورين، وكنتم ملومين، وكان أشدّ عليكم. فلذلك قال: {فَتَبَسَّمَ ضََاحِكاً مِنْ قَوْلِهََا} [5] لما رأى من بعد غورها وتسديدها، ومعرفتها. فعند ذلك قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى ََ وََالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صََالِحاً تَرْضََاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبََادِكَ الصََّالِحِينَ} [5]
951 [أمثال في النمل]
قال: ويقال: «ألطف من ذرّة» و: «أضبط من نملة» [6].
قال: والنملة أيضا: قرحة تعرض للسّاق، وهي معروفة في جزيرة العرب.
قال: ويقال: «أنسب من ذرّة».
[1] في ديوانه: (الثبور: الهلاك، وصفه بالمصدر، يريد أنه مهلك).
[2] 1817/ النمل: 27.
[3] ثمار القلوب 345 (639).
[4] 18/ النمل: 27.
[5] 19/ النمل: 27.
[6] المستقصى 1/ 214، ومجمع الأمثال 1/ 427، وجمهرة الأمثال 2/ 12، والدرة الفاخرة 1/ 282.(4/267)
952 [تفسير بيت من الشعر]
فأمّا قوله [1]: [من الخفيف] لو يدبّ الحوليّ من ولد الذّ ... رّ عليها لأندبتها الكلوم
فإنّ الحوليّ منها لا يعرف من مسانّها، وإنما هو كما قال الشاعر: [من الطويل] تلقّط حوليّ الحصى: في منازل ... من الحيّ أمست بالحبيبين بلقعا
قال: وحوليّ الحصى: صغارها. فشبّهه بالحوليّ من ذوات الأربع.
953 [أحاديث في النمل]
ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من الدّوابّ أربع لا يقتلن: النّملة، والنّحلة، والصّرد، والهدهد».
وحدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، قال: حدّثنا الحسن بن سعد، مولى علي بن عبد الرحمن بن عبد الله قال: «نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم منزلا فانطلق لحاجته، فجاء وقد أوقد رجل على قرية نمل، إمّا في شجرة وإمّا في أرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فعل هذا؟! أطفئها أطفئها!».
ويحيى بن أيوب، عن أبي زرعة بن جرير، قال أنبأنا أبو زرعة عن أبي هريرة قال: «نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة، فعضّته نملة، فقام إلى نمل كثير تحت شجرة فقتلهنّ، فقيل له: أفلا نملة واحدة؟!» [2].
وعبد الله بن زياد المدنيّ، قال: أخبرني ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة، فقرصته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثمّ أمر بقرية النّمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمّة من الأمم يسبّحون الله تعالى؟! فهلّا نملة واحدة!» [3].
يحيى بن كثير، قال: حدّثنا عمر بن المغيرة بن الحارث الزّمّاني، عن هشام
[1] ديوان حسان 433، والتاج (ندب).
[2] أخرجه البخاري في بدء الخلق برقم 3141، ومسلم في السلام برقم 2241.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد برقم 2856.(4/268)
الدّستوائي قال: إنّ النّمل والذّرّ إذا كانا في الصّيف كلّه ينقلن الحبّ، فإذا كان الشتاء وخفن أن ينبت فلقنه.
هشام بن حسّان، أنّ أهل الأحنف بن قيس لقوا من النّمل أذى، فأمر الأحنف بكرسيّ فوضع عند جحرهنّ، فجلس عليه ثمّ تشهّد فقال: لتنتهنّ أو لنحرّقنّ عليكنّ، أو لنفعلنّ أو لنفعلنّ! قال: فذهبن.
وعوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير قال: قال أبو موسى الأشعريّ: إنّ لكلّ شيء سادة، حتّى إنّ للنمل سادة.
عبد الله بن زياد المدنيّ، قال: أنبأنا ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرج نبيّ من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة رأسها إلى السماء، فقال ذلك النبيّ: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذا النّمل!».
مسعر بن كدام، قال حدّثنا زيد القمّيّ، عن أبي الصّدّيق النّاجي قال: «خرج سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهمّ إنّا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقيك، فإمّا أن تسقينا وترزقنا، وإمّا أن تميتنا وتهلكنا! فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم!» [1].
954 [تأويل آية]
وحدثني أبو الجهجاه قال: سأل أبو عمرو المكفوف عن قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا أَتَوْا عَلى ََ وََادِ النَّمْلِ قََالَتْ نَمْلَةٌ يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ لََا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضََاحِكاً مِنْ قَوْلِهََا} [2] فقلت له: إن نذيرا يعجب منه نبيّ من الأنبياء ثمّ يعظم خطره حتى يضحكه لعجيب! قال: فقال: ليس التأويل ما ذهبت إليه. قال: فإنّه قد يضحك النبيّ، عليه السلام، من الأنبياء من كلام الصبيّ، ومن نادرة غريبة. وكلّ شيء يظهر من غير معدنه، كالنّادرة تسمع من المجنون، فهو يضحك، فتبسّم سليمان عندي على أنّه استظرف ذلك المقدار من النّملة. فهذا هو التأويل.
[1] تفسير ابن كثير 3/ 372.
[2] 1918/ النمل: 27.(4/269)
955 [سادة النمل]
وقال أبو الجهجاه: سألته عن قول أبي موسى: إنّ لكلّ شيء سادة حتى الذّرّ.
قال: يقولون: إنّ سادتها اللّواتي يخرجن من الجحر، يرتدن بجماعتها، ويستبقن إلى شمّ الذي هو من طعامهنّ.
وقال زهير [1]: [من الطويل] وقال سأقضي حاجتي ثمّ أتّقي ... عدوّي بألف من ورائي ملجّم ... فشدّ ولم تفزع بيوت كثيرة ... لدى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم [2]
قال بعض العلماء: قرية النمل.
956 [استطراد لغوي]
قال: ويقال في لسانه حبسة: إذا كان في لسانه ثقل يمنعه من البيان. فإذا كان الثّقل الذي في لسانه من قبل العجمة قيل: في لسانه حكلة. والحكل من الحيوان كلّه ما لم يكن له صوت يستبان باختلاف مخارجه، عند حرجه وضجره، وطلبه ما يغذوه، أو عند هياجه إذا أراد السّفاد، أو عند وعيد لقتال، وغير ذلك من أمره.
957 [سبب اختلاف كلام الناس في رأي الهند]
وتزعم الهند أنّ سبب ما له كثر كلام الناس واختلفت صور ألفاظهم، ومخارج كلامهم، ومقادير أصواتهم في اللّين والشّدّة، وفي المدّ والقطع كثرة حاجاتهم.
ولكثرة حاجاتهم كثرت خواطرهم وتصاريف ألفاظهم، واتّسعت على قدر اتّساع معرفتهم.
قالوا: فحوائج السّنانير لا تعدو خمسة أوجه: منها صياحها إذا ضربت، ولذلك صورة. وصياحها إذا دعت أخواتها وآلافها، ولذلك صورة. وصياحها إذا دعت أولادها للطّعم، ولذلك صورة. وصياحها إذا جاعت، ولذلك صورة. فلما قلّت وجوه المعرفة ووجوه الحاجات، قلّت وجوه مخارج الأصوات. وأصواتها تلك فيما بينها هو كلامها.
وقالوا: ثمّ من الأشياء ما يكون صوتها خفيّا فلا يفهمه عنها إلا ما كان من
[1] البيتان من معلقته في ديوانه 29.
[2] في ديوانه: (أم قشعم: الحرب أو المنية).(4/270)
شكلها. ومنها ما يفهم صاحبه بضروب الحركات والإشارات والشمائل. وحاجاتها ظاهرة جليّة، وقليلة العدد يسيرة. ومعها من المعرفة ما لا يقصّر عن ذلك المقدار، ولا يجوزه.
وراضة الإبل، والرّعاء، وروّاض الدّوابّ في المروج، والسّوّاس، وأصحاب القنص بالكلاب والفهود، يعرفون باختلاف الأصوات والهيئات والتشوّف، واستحالة البصر، والاضطراب، ضروبا من هذه الأصناف، ما لا يعرف مثله من هو أعقل منهم، إذا لم يكن له من معاينة أصناف الحيوان ما لهم. فالحكل من الحيوان من هذا الشكل.
وقد ذكرناه مرّة قال رؤبة [1]: [من الرجز] لو أنّني عمّرت عمر الحسل ... أو أنّني أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النّمل
958 [تفسير معنى الحكل]
وقال أبو العباس محمّد بن ذؤيب الفقيميّ، وهو الذي يقال له العمانيّ في بعض قصائده في عبد الملك بن صالح. والعمانيّ ممن يعدّ ممن جمع الرّجز والقصيد، كعمر بن لجإ، وجرير بن الخطفي، وأبي النّجم وغيرهم.
قال العمانيّ [2]: [من الطويل] ويعلم قول الحكل لو أنّ ذرّة ... تساود أخرى لم يفته سوادها
يقول: الذّرّ الذي لا يسمع لمناجاته صوت، لو كان بينها سواد لفهمه.
والسّواد هو السّرار. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: «أذنك حتى أساودك» أي تسمع سوادي. وقالت ابنة الخسّ: قرب الوساد وطول السّواد [3].
قال أبو كبير الهذليّ [4]: [من الكامل] ساودت عنها الطّالبين فلم أنم ... حتى نظرت إلى السّماك الأعزل [5]
[1] ديوان رؤبة 131، واللسان والتاج (حكل) والبيان 1/ 40.
[2] البيت في المعاني الكبير 636، والبيان 1/ 40، 325، وبهجة المجالس 1/ 423، وأساس البلاغة (حكل)، وبلا نسبة في اللسان (حكل)، والمختار من شعر بشار 8.
[3] ورد قولها في البيان 1/ 324، ومجالس ثعلب 304، وربيع الأبرار 3/ 158، وهو من الأمثال في المستقصى 1/ 195، ومجمع الأمثال 2/ 93، وجمهرة الأمثال 2/ 114، 126.
[4] شرح أشعار الهذليين 1079، واللسان (سهر).
[5] السماك الأعزل: نجم وقّاد شبهوه بالأعزل من الرجال، وهو الذي لا سلاح معه، وهو منزل القمر.
العمدة 2/ 254.(4/271)
وقال النمر بن تولب [1]: [من الكامل] ولقد شهدت إذا القداح توحّدت ... وشهدت عند اللّيل موقد نارها ... عن ذات أولية أساود ربّها ... وكأنّ لون الملح تحت شفارها
وقد فسّرنا شأن الحكل.
وقال التيميّ الشاعر المتكلم وأنشد لنفسه وهو يهجو ناسا من بني تغلب معروفين [2]: [من الكامل] عجم وحكل لا تبين، ودينها ... عبادة أعلاج عليها البرانس [3]
ففصل بين الحكل والعجم مثل ذوات الحافر والظّلف والخفّ، وجعل الحكل كالذّرّ والنّمل والخنافس، والأشكال التي ليست تصيح من أفواهها. فقال لي يومئذ حفص الفرد: أشهد أنّ الذي يقال فيه حقّ، كان والله نصرانيّا، ثمّ صار يخبر عن النصارى كما يخبر عن الأعراب!
959 [بين الأصمعي والمفضّل]
وقال الأصمعيّ للمفضّل، لما أنشد المفضّل جعفر بن سليمان قول أوس بن حجر [4]: [من المنسرح] وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جدعا [5]
فجعل الذّال معجمة، وفتحها، وصحّف، وذهب إلى الأجذاع. قال الأصمعيّ:
[1] ديوان النمر بن تولب 351، وأدب الكاتب 514، والسمط 783، والمخصص 14/ 67، والأول في اللسان والتاج (ولي) والتهذيب 15/ 453، والبيتان بلا نسبة في رصف المباني 369.
[2] البيت في البيان 1/ 40، ورواية صدره: (ولكن حكلا لا تبين وديتها).
[3] العلج: الرجل من كفار العجم، والرجل القوي الضخم من الكفار. «اللسان: علج». البرانس: جمع برنس: وهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به، أو هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام. «اللسان: برنس».
[4] البيت لأوس بن حجر في ديوانه 55، والخصائص 3/ 306، واللسان (تلب، جدع، هدم)، والتاج (تلب، هدم)، والتهذيب 1/ 346، والمخصص 14/ 64، والمزهر 2/ 378، ولبشر بن أبي خازم في ديوانه 127 (150)، ولبشر أو لأوس في التاج (جدع)، وبلا نسبة في الجمهرة 1313، والمقاييس 1/ 432، وديوان الأدب 2/ 35، والعقد الفريد 2/ 483.
[5] في ديوان بشر: (الهدم: الثوب الخلق الرث، وذات هدم: يعني امرأة ضعيفة. النواشر: عروق السواعد. تولب: أراد به طفلها وهو في الأصل ولد الحمار. الجدع: السيئ الغذاء).(4/272)
إنما هي: «تولبا جدعا» الدّال مكسورة. وفي الجدع يقول أبو زبيد [1]: [من البسيط] ثمّ استقاها فلم يقطع نظائمها ... عن التضبّب لا عبل ولا جدع
وإنما ذلك كقول ابن حبناء الأشجعي: [من الوافر] وأرسل مهملا جدعا وخفّا ... ولا جدع النّبات ولا جديب
فنفخ المفضّل، ورفع بها صوته، وتكلّم وهو يصيح. فقال الأصمعي: لو نفخت بالشّبّور لم ينفعك! تكلّم بكلام النّمل وأصب! والشّبّور: شيء مثل البوق، والكلمة بالفارسية. وهو شيء يكون لليهود، إذا أراد رأس الجالوت أن يحرّم كلام رجل منهم نفخوا عليه بالشّبّور.
960 [تحريم الكلام لدى اليهود والنصارى]
وليس تحريم الكلام من الحدود القائمة في كتبهم، ولكنّ الجاثليق ورأس الجالوت، لا يمكنهما في دار الإسلام حبس ولا ضرب، فليس عندهما إلّا أن يغرّما المال، ويحرّما الكلام. على أنّ الجاثليق كثيرا ما يتغافل عن الرّجل العظيم القدر، الذي له من السّلطان ناحية.
وكان طيمانو رئيس الجاثليق، قد همّ بتحريم كلام عون العباديّ، عندما بلغه من اتخاذ السّراري، فتوعّده وحلف: لئن فعل ليسلمنّ! وكما ترك الأشقيل وميخاييل وتوفيل، سمل عين منويل وفي حكمهم أنّ من أعان المسلمين على الرّوم يقتل وإن كان ذا رأي سملوا عينيه ولم يقتلوه فتركوا سنّتهم فيه.
وقد ذكرنا شأنهم في غير ذلك، في كتابنا على النّصارى فإن أردته فاطلبه هنالك.
961 [معنى بيت لابن أبي ربيعة]
وقال عمر بن أبي ربيعة [2]: [من الكامل] لو دبّ ذرّ فوق ضاحي جلدها ... لأبان من آثارهنّ حدور
والحدر: الورم والأثر يكون عن الضّرب.
[1] ديوان أبي زبيد 645، والطرائف الأدبية 100، وأساس البلاغة (جدع).
[2] ديوان عمر بن أبي ربيعة 125، واللسان والتاج وأساس البلاغة (حدر)، وبلا نسبة في اللسان (بين)، والمخصص 2/ 80، والتهذيب 4/ 408، والعين 3/ 179.(4/273)
962 [التكنّي بالنمل]
وقد يسمّى بنملة ونميلة، ويكتنون بها. وتسمّوا بذرّ، واكتنوا بأبي ذرّ.
ويقال: سيف في متنه ذرّ، وهو ذرّيّ السّيف.
963 [أشعار تصف السيف]
وقال ابن ضبّة [1]: [من الهزج] وقد أغدو مع الفتيا ... ن بالمنجرد التّرّ [2] ... وذى البركة كالتّابو ... ت والمحزم كالقرّ [3] ... معي قاضبة كالمل ... ح في متنيه كالذّرّ ... وقد أعتسر الضّرب ... ة تثني شثن الشّتر
وقال الآخر: [من الوافر] تكاد الرّيح ترميها صرارا ... وترجف إن يلثّمها خمار ... وتحسب كلّ شيء قيل حقّا ... ويرعب قلبها الذّرّ الصّغار
وقال أوس بن حجر، في صفة السّيف [4]: [من الطويل] كأن مدبّ النّمل يتّبع الرّبا ... ومدرج ذرّ خاف بردا فأسهلا [5] ... على صفحتيه بعد حين جلائه ... كفى بالّذي أبلى وأنعت منصلا [6]
قال [7]: وخطب إلى عقيل بن علّفة بعض بناته رجل من الحرقة من جهينة، فأخذه فشدّه قماطا، ودهن استه بربّ وقمطه وقرّبه من قرية النّمل، فأكل النمل حشوة بطنه.
[1] الأبيات في الوحشيات 74، واللسان والتاج (ترر)، والتهذيب 14/ 249، والجمهرة 325، 355، وأساس البلاغة (ثرر).
[2] المنجرد: الفرس السبّاق القصير الشعر. (القاموس: جرد).
التر: السريع الركض والمعتدل الأعضاء من الخيل. (القاموس: ترر).
[3] البركة: الصدر. (القاموس: برك). القر: الهودج. (القاموس: قرر).
[4] ديوان أوس بن حجر 85، والشعر والشعراء 100، والأول في عيون الأخبار 2/ 187، ومعاهد التنصيص 1/ 135.
[5] في ديوانه: (يقول: اشتد على النمل البرد في أعلى الوادي فأسهل، أي أتى السهل فاستبان أثره).
[6] في ديوانه: (الجلاء: الصقل. أبلي: أشفيك من نعته وأحدثك عنه. النصل: السيف).
[7] الخبر في الأغاني 12/ 255برواية مختلفة.(4/274)
964 [ذكر النمل في الشعر]
وقال ذو الرّمّة [1]: [من الطويل] وقرية لا جنّ ولا أنسيّة ... مداخلة أبوابها بنيت شزرا [2] ... نزلنا بها ما نبتغي عندها القرى ... ولكنّها كانت لمنزلنا قدرا
وقال أبو العتاهية [3]: [من الكامل] أخبث بدار همّها أشب ... جثل الفروع كثيرة شعبه ... إنّ استهانتها بمن صرعت ... لبقدر ما تعلو به رتبه ... وإذا استوت للنّمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبه
وقال البعيث: [من الطويل] ومولى كبيت النمل لا خير عنده ... لمولاه إلّا سعيه بنميم
965 [أقوال في النمل]
قال: وقد سمعت بعض الأعراب يقول: إنّه لنمام نمليّ. على قولهم: «كذب عليّ نمل» إذا أرادوا أن يخبروا أنه نمام. وقال حميد بن ثور، في تهوين قوّة الذّرّ [4]:
[من الطويل] منعّمة، لو يصبح الذّرّ ساريا ... على جلدها بضّت مدارجه دما
وقال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [5].
قال: وقيل لعائشة رضي الله تعالى عنها، وقد تصدّقت بحبّة عنب:
أتصدّقين بحبّة عنب؟! قالت: «إن فيها لمثاقيل ذرّ» [6].
[1] ديوان ذي الرمة 1432، والمعاني الكبير 636، وشروح سقط الزند 1556.
[2] في ديوانه: (يريد قرية النمل. «مداخلة»: بعضها في بعض، وقوله: «بنيت شزرا»، أي: ليست بمستقيمة، هي معوجّة).
[3] ديوان أبي العتاهية 49، وثمار القلوب 346 (641).
[4] ديوان حميد بن ثور 17، وعيون الأخبار 4/ 144، والأغاني 4/ 354.
[5] 87/ الزلزلة: 99.
[6] ورد قول عائشة رضي الله عنها في تفسير الآية التي تقدمت، انظر تفسير ابن كثير 4/ 577.(4/275)
966 [لغز في النّمل]
وممّا قيل في الشّعر من اللّغز [1]: [من المتقارب] فما ذو جناح له حافر ... وليس يضرّ ولا ينفع
يعني النّمل. فزعم أنّ للنّمل حافرا، وإنّما يحفر جحره، وليس يحفره بفمه.
967 [التعذيب بالنمل]
وعذّب عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشيّ بأنواع العذاب فقيل له: إن أردت ألّا يفلح أبدا فمرهم أن ينفخوا في دبره النّمل. ففعلوا فلم يفلح بعدها.
968 [ما يّدخر قوته من الحيوان]
قالوا: وأجناس من الحيوان تدّخر، وتشبّه في ذلك بالإنسان ذي العقل والرّويّة، وصاحب النّظر في العواقب، والتفكير في الأمور: مثل الذّرّ، والنّمل، والفأر، والجرذان، والعنكبوت، والنّحل. إلّا أنّ النحل لا يدّخر من الطعام إلّا جنسا واحدا، وهو العسل.
969 [أكل الذّرّ والضباع للنمل]
وزعم اليقطريّ أنّك لو أدخلت نملة في جحر ذرّ لأكلتها، حتى تأتي على عامّتها. وذكر أنّه قد جرّب ذلك.
وقال صاحب المنطق: إنّ الضّباع تأكل النمل أكلا ذريعا، وذلك أن الضّباع تأتي قرية النّمل في وقت اجتماع النّمل، فتلحس ذلك النّمل بلسانها، بشهوة شديدة، وإرادة قويّة.
970 [أكل النمل للأرضة]
قالوا: وربّما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم، وأكلت كلّ شيء لهم.
ولا تزال كذلك حتى ينشو في تلك القرى النّمل، فيسلّط الله ذلك النّمل على تلك الأرضة، حتى تأتي على آخرها. وعلى أنّ النّمل بعد ذلك سيكون له أذى، إلّا أنّه دون الأرضة تعدّيا. وما أكثر ما يذهب النّمل أيضا من تلك القرى، حتى تتمّ لأهلها السّلامة من النّوعين جميعا.
[1] البيت في محاضرات الأدباء 2/ 305.(4/276)
وزعم بعضهم أنّ تلك الأرضة بأعيانها تستحيل نملا، وليس فناؤها لأكل النّمل لها، ولكنّ الأرضة نفسها تستحيل نملا. فعلى قدر ما يستحيل منها يرى النقص [1] في عددها. ومضرّتها على الأيام.
971 [مثل في النمل]
قال: وبالنّمل يضرب المثل يقال: «جاؤوا مثل النّمل» [1].
والزّنج نوعان [2]: أحدهما يفخر بالعدد، وهم يسمّون النّمل، والآخر يفخر بالصّبر وعظم الأبدان، وهم يسمّون الكلاب. وأحدهما يكبو والآخر ينبو. فالكلاب تكبو، والنّمل تنبو [2].
972 [أجنحة النّمل سبب هلاكها]
قال: ومن أسباب هلاك النّمل نبات الأجنحة له. وقد قال الشاعر [3]: [من الكامل] وإذا استوت للنّمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبه
وإذا صار النّمل كذلك أخصبت العصافير لأنها تصطادها في حال طيرانها.
973 [وسيلة لقتل النمل]
قالوا [4]: وتقتل بأن يصبّ في أفواه بيوتها القطران والكبريت الأصفر، ويدسّ في أفواهها الشّعر. وقد جرّبنا ذلك فوجدناه باطلا. انتهى.
[1] في المستقصى 2/ 48: «جاءت مثل النمل».
[2] البيان 3/ 51، ورسائل الجاحظ 1/ 211 «رسالة فخر السودان».
[3] البيت لأبي العتاهية في ديوانه 49، وثمار القلوب 346 (641).
[4] ربيع الأبرار 5/ 482.(4/277)
باب جملة القول في القرد والخنزير
وفي تأويل المسخ، وكيف كان، وكيف يمسخ الناس على خلقتهما دون كلّ شيء، وما فيهما من العبرة والمحنة وفي خصالهما المذمومة، وما فيهما من الأمور المحمودة وما الفصل الذي بينهما في النّقص، وفي الفضل، وفي الذمّ وفي الحمد.
974 [ذكر الحيوان في القرآن]
وقد ذكر الله عزّ وجلّ في القرآن العنكبوت، والذّرّ والنّمل، والكلب، والحمار، والنّحل، والهدهد، والغراب، والذئب، والفيل والخيل، والبغال، والحمير، والبقر، والبعوض، والمعز، والضأن، والبقرة، والنعجة، والحوت، والنّون. فذكر منها أجناسا، فجعلها مثلا في الذّلّة والضّعف، وفي الوهن، وفي البذاء، والجهل.
وقال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا} [1] فقلّلها كما ترى وحقّرها، وضرب بها المثل. وهو مع ذلك جلّ وعلا، لم يمسخ أحدا من حشو أعدائه وعظمائهم بعوضة.
وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً لََا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [2]. إنّما قرّع الطالب في هذا الموضع [3] بإنكاره وضعفه، إذ عجز ضعفه عن ضعف مطلوب لا شيء أضعف منه، وهو الذباب. ثمّ مع ذلك لم نجده جلّ وعلا، ذكر أنّه مسخ أحدا ذبابا.
وقال: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [3] فدلّ بوهن بيته على وهن خلقه، فكان هذا القول دليلا على التّصغير والتّقليل. وإنما لم يقل: إنّي مسخت أحدا من أعدائي عنكبوتا.
[1] 26/ البقرة: 2.
[2] 73/ الحج: 22.
[3] 41/ العنكبوت: 29، وانظر ثمار القلوب (635) ففيه التعليق نفسه الذي أورده الجاحظ.(4/278)
وقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [1] فكان في ذلك دليل على ذمّ طباعه، والإخبار عن تسرّعه وبذائه. وعن جهله في تدبيره، وتركه وأخذه. ولم يقل إني مسخت أحدا من أعدائي كلبا.
وذكر الذّرّة فقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [2] فكان ذلك دليلا على أنّه من الغايات في الصّغر والقلّة، وفي خفّة الوزن وقلة الرجحان. ولم يذكر أنّه مسخ أحدا من أعدائه ذرّة.
وذكر الحمار فقال: {كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً} [3] فجعله مثلا في الجهل والغفلة، وفي قلّة المعرفة وغلظ الطّبيعة. ولم يقل إنّي مسخت أحدا من أعدائي حمارا. وكذلك جميع ما خلق وذكر من أصناف الحيوان بالذّمّ والحمد.
فأمّا غير ذلك ممّا ذكر من أصناف الحيوان، فإنّه لم يذكره بذمّ ولا نقص، بل قد ذكر أكثرهنّ بالأمور المحمودة، حتّى صار إلى ذكر القرد فقال: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنََازِيرَ} [4] فلم يكن لهما في قلوب النّاس حال. ولو لم يكن جعل لهما في صدور العامّة والخاصّة من القبح والتّشويه، ونذالة النّفس، ما لم يجعله لشيء غيرهما من الحيوان، لما خصّهما الله تعالى بذلك.
وقد علمنا أنّ العقرب أشدّ عداوة وأذى، وأفسد، وأنّ الأفعى والثّعبان وعامّة الأحناش، أبغض إليهم وأقتل لهم، وأنّ الأسد أشدّ صولة، وأنّهم عن دفعهم له أعجز، وبغضهم له على حسب قوّته عليهم، وعجزهم عنه، وعلى حسب سوء أثره فيهم.
ولم نره تعالى مسخ أحدا من أعدائه على صورة شيء من هذه الأصناف.
ولو كان الاستنذال والاستثقال والاستسقاط أراد، لكان المسخ على صورة بنات وردان أولى وأحقّ. ولو كان التّحقير والتّصغير أراد، لكانت الصّؤابة والجرجسة أولى بذلك. ولو كان إلى الاستصغار ذهب لكان الذّرّ والقمل والذّباب أولى بذلك.
والدّليل على قولنا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّهََا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ} [5] وليس أن النّاس رأوا شيطانا قطّ على صورة، ولكن
[1] 176/ الأعراف: 7.
[2] 87/ الزلزلة: 99، وانظر التعليق نفسه في ثمار القلوب (645).
[3] 5/ الجمعة: 62.
[4] 60/ المائدة: 5.
[5] 6564/ الصافات: 37، وانظر التعليق نفسه في ثمار القلوب (157).(4/279)
لما كان الله تعالى قد جعل في طباع جميع الأمم استقباح جميع صور الشّياطين، واستسماجه وكراهته، وأجرى على ألسنة جميعهم ضرب المثل في ذلك رجع بالإيحاش والتّنفير، وبالإخافة والتقريع، إلى ما قد جعله الله في طباع الأوّلين والآخرين وعند جميع الأمم على خلاف طبائع جميع الأمم.
وهذا التأويل أشبه من قول من زعم من المفسّرين، أنّ رؤوس الشّياطين نبات نبت باليمن. [وقول بعضهم: إن الشياطين ها هنا: الحيّات] [1].
وقال الله عزّ وجلّ لنبيّه: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [2] فذكر أنه رجس، وذكر الخنزير، وهو أحد المسوخ، ولم يذكر في هذه الآية التي أحصى فيها أصناف الحرام، وأباح ما وراء ذلك القرد.
وصار بعضهم إلى تحريمه من جهة الحديث. وهو عند كثير منهم يحتمل المعارضة.
975 [مساوئ الخنزير]
فلولا أنّ في الخنزير معنى متقدّما سوى المسخ، وسوى ما فيه من قبح المنظر وسماجة التمثيل، وقبح الصوت، وأكل العذرة، مع الخلاف الشديد واللّواط المفرط والأخلاق السمجة، ما ليس في القرد الذي هو شريكه في المسخ لما ذكره دونه.
976 [تحريم الخنزير في القرآن، دون القرد]
وقد زعم ناس أنّ العرب لم تكن تأكل القرود. وكان من تنصّر من كبار القبائل وملوكها يأكل الخنزير، فأظهر لذلك تحريمه إذ كان هناك عالم من الناس، وكثير من الأشراف والوضعاء، والملوك والسّوقة، يأكلونه أشدّ الأكل، ويرغبون في لحمه أشدّ الرغبة.
قالوا: ولأنّ لحم القرد ينهى عن نفسه. ويكفي الطبائع في الزّجر عنه غنثه. ولحم الخنزير ممّا يستطاب ويتواصف، وسبيل لحم القرد كسبيل لحم الكلب، بل هو شرّ
[1] الزيادة من ثمار القلوب (157).
[2] 145/ الأنعام: 6.(4/280)
منه وأخبث. وقد قال الشاعر للأسديّ الذي ليم بأكل لحم الكلب [1]: [من الرجز] يا فقعسيّ لم أكلته لمه ... لو خافك الله عليه حرّمه ... فما أكلت لحمه ولا دمه
وليس يريد بقوله: «لو خافك الله عليه» أنّ الله يخافه على شيء أو يخافه من شيء. ولكنّه لمّا كان الكلب عنده مما لا يأكله أحد ولا يخاف على أكله إلّا المضطرّ، جعل بدل قوله: أمن الكلب على أكل لحمه، أنّ الله هو الذي لم يخف ذلك فيحرّمه. وهذا ممّا لا تقف الأعراب عليه، ولا تتّبع الوهم مواضعه لأنّ هذا باب يدخل في باب الدّين، فيما يعرف بالنّظر.
977 [أكل لحوم بعض الحيوانات]
وقد يأكل أجراء الكلاب ناس، ويستطيبونها فيما يزعمون. ويقولون: إنّ جرو الكلب أسمن شيء صغيرا، فإذا شبّ استحال لحمه، كأنّه يشبّه بفرخ الحمام مادام فرخا وناهضا، إلى أن يستحكم ويشتدّ.
وما أكثر من يأكل السّنانير. والذين يأكلونها صنفان من الناس: أحدهما الفتى المغرور، الذي يقال له أنت مسحور، ويقال له: من أكل سنّورا أسود بهيما لم يعمل فيه السحر، فيأكله لذلك. فإذا أكله لهذه العلّة، وقد غسل ذلك وعصره، أذهب الماء زهومته، ولم يكن ذلك المخدوع بمستقذر ما استطابه. ولعلّه أيضا أن يكون عليه ضرب من الطّعام فوق الذي هو فيه، فإذا أكله على هذا الشّرط، ودبّر هذا التدبير، ولم ينكره، عاوده. فإذا عاوده صار ذلك ضراوة له.
والصّنف الآخر أصحاب الحمام فما أكثر ما ينصبون المصائد للسّنانير، التي يلقّون منها في حمامهم. وربّما صادف غيظ أحدهم وحنقه وغضبه عليه، أن يكون السّنّور مفرط السّمن، فيدع قتله ويذبحه. فإذا فعل ذلك مرّة أو مرتين، صار ضراوة عليها. وقد يتقزّز الرّجل من أكل الضّبّ والورل والأرنب، فما هو إلّا أن يأكله مرّة لبعض التّجربة، أو لبعض الحاجة، حتى صار ذلك سببا إلى أكلها، حتى يصير بهم الحال إلى أن يصيروا أرغب فيها من أهلها.
وها هنا قوم لا يأكلون الجراد الأعرابيّ السمين، ونحن لا نعرف طعاما أطيب منه. والأعراب إنّما يأكلون الحيّات على شبيه بهذا الترتيب ولهذه العوارض.
[1] الرجز في اللسان (روح، لوم)، والبخلاء 234، والمخصص 3/ 4، والمقاصد النحوية 4/ 555.(4/281)
وزعم بعض الأطبّاء والفلاسفة، أنّ الحيّات والأفاعي تؤكل نيئة ومطبوخة، ومشويّة، وأنّها تغذو غذاء حسنا.
وزعم أبو زيد، أنّه دخل على رؤبة، وعنده جرذان قد شواهنّ، فإذا هو يأكلهنّ، فأنكر ذلك عليه، فقال رؤبة: هنّ خير من اليرابيع والضّباب وأطيب لأنها عندكم تأكل الخبز والتمر وأشباه ذلك. وكفاك بأكل الجرذان [1]! ولولا هول الحيّات في الصّدور من جهة السّمرم، لكانت جهة التقذّر أسهل أمرا من الجرذان.
وناس من السّفالة يأكلون الذّبّان. وأهل خراسان يعجبون باتخاذ البزماورد من فراخ الزّنابير، ويعافون أذناب الجراد الأعرابيّ السمين. وليس بين ريح الجراد إذا كانت مشويّة وبين ريح العقارب مشويّة فرق. والطّعم تبع للرائحة: خبيثها لخبيثها، وطيّبها لطيّبها.
وقد زعم ناس، ممن يأكلون العقارب مشويّة ونيئة، أنها كالجراد السّمان.
وكان الفضل بن يحيى يوجّه خدمه في طلب فراخ الزّنابير ليأكلها. وفراخها ضرب من الذّبان.
فأمّا لحوم البراذين فقد كثر علينا وفينا، حتى أنسنا به. وزعم بعضهم أنّه لم يأكل أطيب من رأس برذون وسرّته. فأمّا السّرّة والمعرف [2] فإنهم يزاحمون بها الجداء والدّجاج. ويقدّمون الأسرام المحشوّة.
ومن أصحابنا من يأكل السراطين أكلا ذريعا. فأما الرق [3] والكوسج [4] فهو من أعجب طعام البحريّين. وأهل البحر يأكلون البلبل فهو اللّحم الذي في جوف الأصداف.
والأعرابيّ إذا وجد أسود سالخا، رأى فيه ما لا يرى صاحب الكسمير في كسميره.
[1] ورد الخبر في الأغاني 20/ 350، وفيه أنه يأكل الفئران.
[2] المعرفة: موضع العرف من الفرس.
[3] الرق: ضرب من دواب الماء يشبه التمساح، والرق أيضا: العظيم من السلاحف. حياة الحيوان 1/ 527.
[4] الكوسج: نوع من السمك تنفر منه الحيوانات البحرية، وهي القرش. حياة الحيوان 2/ 299.(4/282)
وخبّرني كم شئت من الناس، أنّه رأى أصحاب الجبن الرّطب بالأهواز وقراها، يأخذون القطعة الضّخمة من الجبن الرّطب، وفيها ككواء الزنابير، وقد تولّد فيها الدّيدان، فينفضها وسط راحته، ثمّ يقمحها في فيه، كما يقمح السّويق والسّكّر، أو ما هو أطيب منه.
978 [آيات في تعذيب الناس بالحيوان]
وقد خبّر الله تعالى عن أصحاب النّقم، وما أنزل الله من العذاب، وما أخذ من الشكل والمقابلات، فقال: {فَكُلًّا أَخَذْنََا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِ حََاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنََا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنََا} [1]، وقال:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحََابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبََابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجََارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [2].
وليس من هذه الأصناف شيء أبلغ في المثلة والشّنعة، ممّن جعل منهم القردة والخنازير.
979 [الأهلي والوحشي من الحيوان]
فالخنزير يكون أهليا ووحشيا، كالحمير والسّنانير، مما يعايش النّاس. وكلها لا تقبل الآداب. وإنّ الفهود وهي وحشيّة تقبل كلها، كما تقبل البوازي، والشّواهين، والصقورة، والزّرّق، واليؤيؤ، والعقاب، وعناق الأرض، وجميع الجوارح الوحشيّات.
ثمّ يفضلها الفهد بخصلة غريبة وذلك أنّ كبارها ومسانّها أقبل للآداب، وإن تقادمت في الوحش، من أولادها الصغار، وإن كانت تقبل الآداب لأنّ الصغير إذا أدّب فبلغ، خرج جبينا مواكلا، والمسنّ الوحشيّ يخلص لك كله، حتى يصير أصيد وأنفع.
وصغار سباع الطّير وكبارها على خلاف ذلك، وإن كان الجميع يقبل الأدب.
والخنزير وإن كان أهليّا فإنه لا يقبل الأدب على حال، حتى كأنّه وإن كان بهيمة في طباع ذئب.
وذلك أن أعرابيّا أخذ جرو ذئب وكان التقطه التقاطا، فقال: أخذته وهو لا يعرف أبويه ولا عملهما، وهو غرّ لم يصد شيئا، فهو إذا ربّيناه وألّفناه، أنفع لنا من
[1] 40/ العنكبوت: 29.
[2] / الفيل: 105.(4/283)
الكلب. فلمّا شبّ عدا على شاة له فقتلها وأكل لحمها، فقال الأعرابيّ [1]: [من الوافر] أكلت شويهتي وربيت فينا ... فمن أدراك أنّ أباك ذيب
فالذئب وجرو الذئب إذا كانا سبعين وحشيّين كانا ثمّ من أشدّ الوحش توحّشا وألزمها للقفار، وأبعدها من العمران.
والذّئب أغدر من الخنزير والخنّوص [2] وهما بهيمتان.
980 [ضرر الخنزير]
وأمّا ضرره وإفساده، فما ظنّك بشيء يتمنّى له الأسد؟! وذلك أن الخنازير إذا كانت بقرب ضياع قوم، هلكت تلك الضّياع، وفسدت تلك الغلّات. وربّما طلب الخنزير بعض العروق المدفونة في الأرض فيخرّب مائة جريب، ونابه ليس يغلبه معول. فإذا اشتدّ عليهم البلاء تمنّوا أن يصير في جنبتهم أسد. ولربّما صار في ضياعهم الأسد فلا يهيجونه، ولا يؤذونه، ولو ذهب إنسان ليحفر له زبية منعوه أشدّ المنع إذ كان ربّما حمى جانبهم من الخنازير فقط. فما ظنّك بإفسادها، وما ظنّك ببهيمة يتمنّى أن يكون بدلها أسد؟! ثمّ مع ذلك إذا اجتمعوا للخنازير بالسّلاح، وبالآلات والأدوات التي تقتل بها، فربّما قتل الرّجل منهم، أو عقره العقر الذي لا يندمل لأنّه لا يضرب بنابه شيئا إلّا قطعه، كائنا ما كان. فلو قتلوا في كلّ يوم منها مائة وقتلت في كلّ يوم إنسانا واحدا، لما كان في ذلك عوض.
والخنازير تطلب العذرة، وليست كالجلّالة [3] لأنها تطلب أحرّها وأرطبها وأنتنها، وأقربها عهدا بالخروج. فهي في القرى تعرف أوقات الصّبح والفجر، وقبل ذلك وبعده لبروز النّاس للغائط. فيعرف من كان في بيته نائما في الأسحار ومع الصّبح، أنّه قد أسحر وأصبح، بأصواتها ومرورها، ووقع أرجلها في تلك الغيطان، وتلك المتبرّزات. وبذلك ضربوا المثل ببكور الخنزير، كما ضربوا المثل بحذر الغراب وروغان الثّعلب.
[1] الخبر والبيت في عيون الأخبار 2/ 5، وثمار القلوب (581)، ومجمع الأمثال 1/ 446، والمستقصى 1/ 233، وجمهرة الأمثال 2/ 30، والدرة الفاخرة 294، والتذكرة الحمدونية 2/ 248، ومحاضرات الأدباء 1/ 122 (1/ 249).
[2] الخنوص: ولد الخنزير. (القاموس: خنص).
[3] الجلّالة: البقرة تتبع النجاسات، والجلة: البعرة. (القاموس: جلل).(4/284)
على أنّ الثّعلب ليس بأروغ من الخنزير، ولا أكدّ للفارس، ولا أشدّ إتعابا لصاحبه.
981 [بعض أسباب مسخ الإنسان]
[1] فأمّا قبح وجهه فلو أنّ القبح [2] والإفلاس، والغدر والكذب، تجسّدت ثمّ تصوّرت لما زادت على قبح الخنزير. وكلّ ذلك بعض الأسباب التي مسخ لها الإنسان خنزيرا.
وإنّ القرد لسمج الوجه، قبيح [في] [3] كلّ شيء. وكفاك به أنّه للمثل المضروب ولكنّه في وجه آخر مليح. فملحه يعترض على قبحه فيمازجه ويصلح منه. والخنزير أقبح منه لأنّه ضرب مصمت بهيم. فصار أسمج ببعيد.
982 [نزو الذكر على الذكر]
وحدّثني بعض أهل العلم، ممّن طال ثواؤه في أرض الجزيرة، وكان صاحب أخبار وتجربة، وكان كلفا يحبّ التبيّن، معترضا للأمور، يحبّ أن يفضي إلى حقائقها، وتثبيت أعيانها بعللها، وتمييز أجناسها، وتعرّف مقادير قواها وتصرّف أعمالها، وتنقّل حالاتها وكان يعرف للعلم قدره، وللبيان فضله.
قال: ربّما رأيت الخنزير الذّكر وقد ألجأه أكثر من عشرين خنزيرا إلى مضيق، وإلى زاوية، فينزون عليه واحدا واحدا، حتى يبلغ آخرهم.
وخبّرني هذا الرّجل وغيره من أهل النظر وأصحاب الفكر، أنّهم رأوا مثل ذلك من الحمير. وذكروا أنّ ذلك إما تأنيت في طبعه، وإمّا أن يكون له في أعينها من الاستحسان شبيه بالذي يعتري عيون بعض الرجال في الغلمان، والأحداث الشّباب.
وقد يكون هذا بين الغزانق والكراكيّ. والتّسافد بين الذّكر والأنثى. والسافد والمسفود إذا كانا من جميع الذكورة، كثير في جميع أصناف الحيوان، إلّا أنّه في جميع الخنازير والحمير أفشى. وأمّا تسافد الحمام الذّكر والأنثى للذّكر، فأكثر من أن يكون فيه تنازع.
[1] وردت هذه الفقرة في ثمار القلوب 321 (598).
[2] في ثمار القلوب (الكفر).
[3] إضافة من ثمار القلوب.(4/285)
983 [معارف في الخنزير]
وباب آخر ممّا ذكر صاحب المنطق، فزعم أنّ من الخنازير ما له ظلف واحد، وليس لشيء من ذوات الأنياب في نابه من القوّة والذّرب ما للخنزير الذكر، وللجمل، والفهد، والكلب. قال: والإنسان يلقي أسنانه، وكذلك الحافر والخفّ. قال:
والخنزير لا يلقي أسنانه البتّة.
ويقال: إنّ عبد الصّمد بن عليّ لم يثغر قط، وأنّه دخل قبره بأسنان الصّبا.
984 [أسنان الذئب والحية]
وزعم بعضهم أنّ أسنان الذّئب مخلوقة في الفكّ، ممطولة في نفس العظم.
وذلك ممّا توصف به أسنان الحيّة. قال الشّاعر: [من السريع] مطلن في اللّحيين مطلا إلى ... الرّأس وأشداق رحيبات
والشّاعر يمدح الشيء فيشدّد أمره، ويقوّي شأنه، وربّما زاد فيه، ولعلّ الذي قال في الذّئب ما قال، هذا أراد. ولا يشكّون أنّ الضّبع كذلك.
985 [مرق لحم الحيوان]
قال وليس يجمد مرق لحم الحيوان السّمين، مثل الخنزير والفرس، وأمّا ما كان كثير الثرب فمرقته تجمد، مثل مرق لحم المعزى.
986 [طباع بعض الحيوان عند الهيج]
قال: والخنزير الذّكر يقاتل في زمن الهيج، فلا يدع خنزيرا إلّا قتله، ويدنو من الشّجرة ويدلك جلده، ثمّ يذهب إلى الطين والحمأة فيتلطخ به، فإذا تساقط عاد فيه.
قال: وذكورة الخنازير تطرد الذّكورة عن الإناث، وربّما قتل أحدهما صاحبه وربّما هلكا جميعا، وكذلك الثّيران والكباش والتّيوس في أقاطيعها، وهي قبل ذلك الزّمان متسالمة.
والجمل في تلك الحالة لا يدع جملا ولا إنسانا يدنو من هجمته [1]. والجمل خاصّة يكره قرب الفرس، ويقاتله أبدا.
[1] الهجمة من الإبل: أولها أربعون، أو ما بين السبعين إلى المائة. (القاموس: هجم).(4/286)
ومثل هذا يعرض للذّئبة والذّئب. والأسد ليس ذلك من صفاتها لأنّ بعضها لا يأوي إلى بعض، بل ينفرد كلّ واحد بلبؤته. وإذا كان للذّئبة الأنثى جراء ساءت أخلاقها وصعبت، وكذلك إناث الخيل والفيل: يسوء خلقها في ذلك الزّمان.
والفيّالون يحمونها النّزو لأنها إذا نزت جهلت جهلا شديدا، واعتراها هيج لا يقام له. وإذا كان ذلك الزّمان أجادوا عقله، وأرسلوه في الفيلة الوحشيّة. فأمّا الخنزير والكلب فإنهما لا يجهلان على النّاس لمكان الألفة.
قال: وزعم بعض النّاس أنّ إناث الخيل تمتلئ ريحا في زمان هيجها، فلا يباعدون الذّكورة عنها. وإذا اعتراها ذلك ركضت ركضا شديدا، ثمّ لا تأخذ غربا ولا شرقا، بل تأخذ في الشّمال والجنوب.
ويعرض مثل هذا العرض لإناث الخنازير. فإذا كان زمن هياج الخنازير، تطأطئ رؤوسها، وتحرّك أذنابها تحريكا متتابعا، وتتغيّر أصواتها إذا طلبت السّفاد. وإذا طلبت الخنزيرة السّفاد بالت بولا متتابعا.
987 [مدد الحمل للحيوان]
قال: وإناث الخنازير تحمل أربعة أشهر. وأكثر ما تحمل عشرون خنّوصا [2].
وإذا وضعت أجراء كثيرة لم تقو على رضاعها وتربيتها.
قال: وإناث الخنازير تحمل من نزوة واحدة، وربّما كان من أكثر. وإذا طلبت الذّكر لم تنزع حتى تطاوع وتسامح، وترخي أذنابها. فإذا فعلت ذلك تكتفي بنزوة واحدة.
ويعلف الذّكر الشّعير في أوان النّزو، ويصلح للأنثى.
والخنزيرة تضع في أربعة أشهر، والشّاة في خمسة، والمرأة والبقرة في تسعة أشهر، والحافر كله في سنة.
988 [خصائص الخنزير]
قال: ومتى قلعت العين الواحدة من الخنزير هلك. وكثير من الخنازير تبقى خمسة عشر عاما. والخنزير ينزو إذا تمّ له ثمانية أشهر، والأنثى تريد الذّكر إذا تمّت لها ستّة أشهر. وفي بعض البلدان ينزو إذا تمّ له أربعة أشهر، والخنزيرة إذا تمّت لها ستّة أشهر، ولكنّ أولادهما لا تجيء كما يريدون. وأجود النّزو أن يكون ذلك منه
وهو ابن عشرة أشهر إلى ثلاث سنين. وإذا كانت الخنزيرة بكرا ولدت جراء ضعافا وكذلك البكر من كل شيء.(4/287)
قال: ومتى قلعت العين الواحدة من الخنزير هلك. وكثير من الخنازير تبقى خمسة عشر عاما. والخنزير ينزو إذا تمّ له ثمانية أشهر، والأنثى تريد الذّكر إذا تمّت لها ستّة أشهر. وفي بعض البلدان ينزو إذا تمّ له أربعة أشهر، والخنزيرة إذا تمّت لها ستّة أشهر، ولكنّ أولادهما لا تجيء كما يريدون. وأجود النّزو أن يكون ذلك منه
وهو ابن عشرة أشهر إلى ثلاث سنين. وإذا كانت الخنزيرة بكرا ولدت جراء ضعافا وكذلك البكر من كل شيء.
989 [الحلال والحرام من الطيبات في القرآن]
وقال الله تبارك وتعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} [1] ثمّ ذكر غير الطيّبات فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمََا أَكَلَ السَّبُعُ إِلََّا مََا ذَكَّيْتُمْ وَمََا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلََامِ، ذََلِكُمْ فِسْقٌ} [2] ثمّ قال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللََّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللََّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنََازِيرَ وَعَبَدَ الطََّاغُوتَ أُولََئِكَ شَرٌّ مَكََاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوََاءِ السَّبِيلِ} [3] وقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُحَرِّمُوا طَيِّبََاتِ مََا أَحَلَّ اللََّهُ لَكُمْ وَلََا تَعْتَدُوا إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [4].
وقوله تعالى: {طَيِّبََاتِ} تحتمل وجوها كثيرة، يقولون: هذا ماء طيّب، يريدون العذوبة. وإذا قالوا للبرّ والشّعير والأرز طيّب، فإنما يريدون أنّه وسط، وأنّه فوق الدّون. ويقولون: فم طيّب الرّيح، وكذلك البرّ، يريدون أنّه سليم من النّتن، ليس أنّ هناك ريحا طيبة ولا ريحا منتنة. ويقولون: حلال طيّب، وهذا لا يحل لك، ولا يطيب لك، وقد طاب لك أي حل لك، كقول: {فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ مِنَ النِّسََاءِ مَثْنى ََ وَثُلََاثَ وَرُبََاعَ} [5].
990 [استطراد لغوي]
قال طويس المغنّي لبعض ولد عثمان بن عفّان [6]: لقد شهدت زفاف أمّك المباركة إلى أبيك الطيّب. يريد الطّهارة. ولو قال: شهدت زفاف أمّك الطيّبة إلى أبيك المبارك، لم يحسن ذلك لأنّ قولك طيّب إنّما يدلّ على قدر ما اتّصل به من الكلام.
[1] 172/ البقرة: 2.
[2] 3/ المائدة: 5.
[3] 160/ المائدة: 5.
[4] 87/ المائدة: 5.
[5] 3/ النساء: 4.
[6] الخبر في البيان 1/ 263، ورواية الخبر فيه: (قال سعيد بن عثمان بن عفان لطويس المغني: أيّنا أسف أنا أم أنت يا طاوس؟ قال: بأبي أنت وأمي لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب).(4/288)
وقد قال الشّاعر [1]: [من الكامل] والطيّبون معاقد الأزر
وقد يخلو الرّجل بالمرأة فيقول: وجدتها طيّبة. يريد طيّبة الكوم [2]، لذيذة نفس الوطء. وإذا قالوا: فلان طيّب الخلق، فإنما يريدون الظّرف والملح.
وقال الله عزّ وجلّ: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [3] يريد ريحا ليست بالضعيفة ولا القويّة.
ويقال: لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه. وقال الله عزّ وجلّ:
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [4] وقال: {لَقَدْ كََانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتََانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمََالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [5] وذلك إذ كانت طيّبة الهواء والفواكه، خصيبة.
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ الْغََافِلََاتِ الْمُؤْمِنََاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} [6] ثم قال: {الْخَبِيثََاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثََاتِ وَالطَّيِّبََاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبََاتِ أُولََئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمََّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [7].
وفي هذا دليل على أنّ التأويل في امرأة نوح وامرأة لوط، عليهما السلام، على غير ما ذهب إليه كثير من أصحاب التّفسير: وذلك أنهم حين سمعوا قوله عزّ وجلّ:
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كََانَتََا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ فَخََانَتََاهُمََا فَلَمْ يُغْنِيََا عَنْهُمََا} [8] فدلّ ذلك على أنّه لم يعن الخيانة في الفرج.
[1] صدر البيت: (النازلين بكل معترك) وهو للخرنق بنت بدر بن هفان في حماسة القرشي 367، وأشعار النساء 163، والحماسة البصرية 1/ 227، والأمالي 2/ 158، وأمالي المرتضى 1/ 206، والسمط 548، والخزانة 5/ 41، 42، 44، واللسان (نضر)، وأساس البلاغة (أزر)، والمقاصد النحوية 3/ 602، 4/ 72، والكتاب 1/ 202، 2/ 57، 58، 64، وشرح أبيات سيبويه 2/ 16.
[2] كام المرأة: نكحها. (القاموس: كوم).
[3] 22/ يونس: 10.
[4] 4/ النساء: 4.
[5] 15/ سبأ: 34.
[6] 23/ النور: 24.
[7] 26/ النور: 24.
[8] 10/ التحريم: 66.(4/289)
وقد يقع اسم الخيانة على ضروب: أوّلها المال، ثمّ يشتقّ من الخيانة في المال الغشّ في النصيحة والمشاورة. وليس لأحد أن يوجّه الخبر إذا نزل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحرم الرّسل، على أسمج الوجوه، إذا كان للخبر مذهب في السّلامة، أو في القصور على أدنى العيوب.
وقد علمنا أنّ الخيانة لا تتخطّى إلى الفرج حتّى تبتدئ بالمال. وقد يستقيم أن يكونا من المنافقين فيكون ذلك منهما خيانة عظيمة. ولا تكون نساؤهم زواني، فيلزمهم أسماء قبيحة. وقال الله عزّ وجلّ: {فَإِذََا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللََّهِ مُبََارَكَةً طَيِّبَةً} [1] وقال: {فَكُلُوا مِمََّا رَزَقَكُمُ اللََّهُ حَلََالًا طَيِّباً} [2] وقال: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيََاةً طَيِّبَةً} [3] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللََّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبََادِهِ وَالطَّيِّبََاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [4] وقال:
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [5] و: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [6] وقال: {وَظَلَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْغَمََامَ وَأَنْزَلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ} [7] فقوله: طيّب، يقع في مواضع كثيرة، وقد فصّلنا بعض ذلك في هذا الباب.
[1] 61/ النور: 24.
[2] 114/ النحل: 16.
[3] 97/ النحل: 16.
[4] 32/ الأعراف: 7.
[5] 26/ إبراهيم: 14.
[6] 24/ إبراهيم: 14.
[7] 57/ البقرة: 2.(4/290)
ثم رجع بنا القول إلى موضعنا من ذكر الخنزير
ثمّ قال: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [1] ألا تراه قد ذكر أصناف ما حرّم ولم يذكرها بأكثر من التّحريم، فلمّا ذكر الخنزير قال: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ}؟! فجعل الخنزير وإن كان غير ميتة أو ذكر الذّابح عليه اسم الله، أنّه رجس. ولا نعلم لهذا الوجه إلّا الذي خصّه الله به من ذكر المسخ، فأراد تعظيم شأن العقاب ونزول الغضب، وكان ذلك القول ليس ممّا يضرّ الخنزير، وفيه الزّجر عن محارمه، والتّخويف من مواضع عذابه. وإن قيل: ينبغي أن يكون مسخ صورة القرد، فهلّا ذكره في التحريم مع أصناف ما حرّم، ثمّ خصّه أيضا أنّه من بينها رجس، وهو يريد مذهبه وصفته؟ قلنا. إنّ العرب لم تكن تأكل القرود، ولا تلتمس صيدها للأكل. وكلّ من تنصّر من ملوك الرّوم والحبشة والصّين، وكلّ من تمجّس من ملك أو سوقة، فإنّهم كانوا يرون للحم الخنزير فضيلة، وأنّ لحومها ممّا تقوم إليه النفوس، وتنازع إليه الشّهوات.
وكان في طباع الناس من التكرّه للحوم القردة، والتقذّر منها ما يغني عن ذكرها. فذكر الخنزير إذ كان بينهما هذا الفرق، ولو ذكر ذلك وألحق القرد بالخنزير لموضع التحريم، لكان ذلك إنما كان على وجه التوكيد لما جعله الله تعالى في طبائعهم من التكرّه والتقذّر، ولا غير ذلك.
وقال الله عزّ وجلّ: {وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمََا إِلََّا مََا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمََا أَوِ الْحَوََايََا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ} [2].
991 [بعض وجوه التحريم]
وقد أنبأك كما ترى عن التّحريم أنّه يكون من وجوه: فمنها ما يكون كالكذب والظلم والغشم والغدر وهذه أمور لا تحلّ على وجه من الوجوه. ومنها ما يحرم في العقل من ذبح الإنسان الطّفل. وجعل في العقول التبيّن بأنّ خالق الحيوان أو المالك له، والقادر على تعويضه، يقبح ذلك في السماع على ألسنة رسله.
[1] 45/ الأنعام: 6.
[2] 146/ الأنعام: 6.(4/291)
وهذا ممّا يحرم بعينه لا أنه حرّم لعلة قد يجوز دفعها. والظلم نفسه هو الحرام، ولم يحرّم لعلة غير نفسه.
وباب آخر، وهو ما جاء من طريق التعبّد، وما يعرف بالجملة، ويعرف بالتفسير.
ومنه ما يكون عقابا، ويكون مع أنه عقاب امتحانا واختبارا، كنحو ما ذكر من قوله: {ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [1] وكنحو أصحاب البقرة الذين قيل لهم: اذبحوا بقرة فإنّي أريد أن أضرب بها القتيل ثم أحييهما جميعا. ولو اعترضوا من جميع البقر بقرة فذبحوها، كانوا غير مخالفين. فلمّا ذهبوا مذهب التشكك والتعلّل، ثم التعرّض، والتعنّت في طريق التعنّت، صار ذلك سبب تغليظ الفرض [2].
وقد قال الله عزّ وجلّ: {مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسََادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمََا قَتَلَ النََّاسَ جَمِيعاً} [3] وقال الله تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرََاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهََاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبََاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبََائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلََالَ الَّتِي كََانَتْ عَلَيْهِمْ} [4] ومثله: {رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ وَاعْفُ عَنََّا} [5] يجوز أن يكون إنّما يريدون صرف العذاب، ويجوز أن يكون إنما يريدون تخفيف الفرائض. وقد يجوز أن يكون على قول من قال: لا أستطيع النظر إلى فلان، على معنى الاستقبال.
وباب آخر من التّحريم، وهو قوله: {كُلُّ الطَّعََامِ كََانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرََائِيلَ إِلََّا مََا حَرَّمَ إِسْرََائِيلُ عَلى ََ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرََاةُ} [6].
992 [شعر في الخنزير]
وقال مروان بن محمد [7]: [من المنسرح] يمشي رويدا يريد ختلكم ... كمشي خنزيرة إلى عذره
[1] 146/ الأنعام: 6.
[2] ثمار القلوب (560).
[3] 32/ المائدة: 5.
[4] 157/ الأعراف: 7.
[5] 86/ البقرة: 2.
[6] 93/ آل عمران: 3.
[7] ديوان أبي الشمقمق 138.(4/292)
وقال آخر [1]: [من الخفيف] نعم جار الخنزيرة المرضع الغر ... ثى إذا ما غدا، أبو كلثوم ... طاويا قد أصاب عند صديق ... من ثريد ملبّد مأدوم ... ثمّ أنحى بجعره حاجب الشّم ... س فألقى كالمعلف المهدوم
993 [جرير والحضرمي]
وقال أبو الحسن: وفد جرير على هشام، فقال الحضرمي: أيّكم يشتمه؟
فقالوا: ما أحد يقدم عليه! قال: فأنا أشتمه ويرضى ويضحك! قال: فقام إليه فقال:
أنت جرير؟ قال: نعم. قال: فلا قرّب الله دارك ولا حيّا مزارك! يا كلب! فجعل جرير ينتفخ، ثمّ قال له: رضيت في شرفك وفضلك وعفافك أن تهاجي القرد العاجز؟! يعني الفرزدق. فضحك.
فحدّث صديق لي أبا الصّلع السّنديّ بهذا الحديث، قال: فشعري أعجب من هذا لأني شتمت البخلاء، فشتمت نفسي بأشدّ ممّا شتمتهم. فقال: وما هو؟ قال قولي: [من مجزوء الرمل] لا ترى بيت هجاء ... أبدا يسمع منّي ... الهجا أرفع ممّن ... قدره يصغر عنّي
994 [احتيال بعض الناس]
قال أبو الحسن: كان واحد يسخر بالنّاس، ويدّعي أنّه يرقي من الضّرس إذا ضرب على صاحبه. فكان إذا أتاه من يشتكي ضرسه قال له إذا رقاه: إيّاك أن تذكر إذا صرت إلى فراشك القرد فإنّك إن ذكرته بطلت الرّقية! فكان إذا آوى إلى فراشه أوّل شيء يخطر على باله ذكر القرد، ويبيت على حاله من ذلك الوجع، فيغدو إلى الذي رقاه فيقول له: كيف كنت البارحة؟ فيقول: بتّ وجعا! فيقول: لعلّك ذكرت القرد! فيقول: نعم! فيقول: من ثمّ لم تنتفع بالرّقية!
995 [شعر لبعض ظرفاء الكوفيين]
وقال بعض ظرفاء الكوفيّين [1]: [من الوافر] فإن يشرب أبو فرّوخ أشرب ... وإن كانت معتّقة عقارا
[1] الأبيات في البيان 3/ 311.
[2] البيتان لبعض الكوفيين في عيون الأخبار 3/ 16، واللسان والتاج (فرخ).(4/293)
وإن يأكل أبو فرّوخ آكل ... وإن كانت خنانيصا صغارا [1]
996 [قرد يزيد بن معاوية]
وقال يزيد بن معاوية [2]: [من الطويل] فمن مبلغ القرد الذي سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان ... تعلّق أبا قيس بها إن أطعتني ... فليس عليها إن هلكت ضمان
997 [شعر في الهجاء]
وزعم الجرداني، أنّ بشّارا الأعمى، لم يجزع من هجاء قطّ كجزعه من بيت حمّاد عجرد، حيث يقول [3]: [من الهزج] ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد
وقال بشير بن أبي جذيمة العبسيّ [4]: [من الطويل] أتخطر للأشراف حذيم كبرة ... وهل يستعدّ القرد للخطران ... أبى قصر الأذناب أن يخطروا بها ... ولؤم قرود وسط كلّ مكان ... لقد سمنت قردانكم آل حذيم ... وأحسابكم في الحيّ غير سمان
الأصمعيّ عن أبي الأشهب عن أبي السليل قال: ما أبالي أخنزيرا رأيت يجرّ برجله، أو مثل عبيد ينادي: يال فلان!
998 [استطراد لغوي]
الأصمعيّ عن أبي ظبيان قال [5]: الخوز هم البناة الذين بنوا الصّرح واسمهم مشتقّ من الخنزير. ذهب إلى اسمه بالفارسية خوك، فجعلت العرب خوك خوزا. إلى هذا ذهب.
[1] الخنانيص: جمع خنوص، وهو ولد الخنزير. (القاموس: خنص).
[2] البيتان في مروج الذهب 3/ 266، ونهاية الأرب 9/ 337، والمخصص 13/ 177، وحياة الحيوان 2/ 201 (قرد).
[3] البيت في البيان 1/ 30، والأغاني 14/ 329، 333، وطبقات ابن المعتز 25، 67، والمؤتلف 235، وثمار القلوب (147).
[4] الأبيات في شرح ديوان الحماسة للتبريزي 4/ 9.
[5] معجم البلدان 2/ 404 (خوز).(4/294)
999 [القول في المسخ]
وقد قال النّاس في المسخ بأقاويل مختلفة: فمنهم من زعم أنّ المسخ لا يتناسل ولا يبقى إلّا بقدر ما يكون موعظة وعبرة، فقطعوا على ذلك الشهادة. ومنهم من زعم أنّه يبقى ويتناسل، حتى جعل الضّبّ والجرّيّ، والأرانب، والكلاب وغير ذلك، من أولاد تلك الأمم التي مسخت في هذه الصّور. وكذلك قولهم في الحيّات.
وقالوا في الوزغ: إن أباها، لمّا صنع في نار إبراهيم وبيت المقدس ما صنع، أصمّه الله وأبرصه، فقيل: «سامّ أبرص». فهذا الذي نرى هو من ولده حتّى صار في قتله الأجر العظيم، ليس على أنّ الذي يقتله كالذي يقتل الأسد والذّئاب، إذا خافها على المسلمين.
وقالوا في سهيل، وفي الزّهرة، وفي هاروت وماروت، وفي قيرى وعيرى أبوي ذي القرنين، وجرهم، ما قالوا.
فأمّا القول في نفس المسخ فإنّ النّاس اختلفوا في ذلك: فأمّا الدّهريّة فهم في ذلك صنفان: فمنهم من جحد المسخ وأقرّ بالخسف والرّيح والطّوفان، وجعل الخسف كالزّلازل، وزعم أنّه يقرّ من القذف بما كان من البرد الكبار فأمّا الحجارة فإنّها لا تجيء من جهة السّماء. وقال: لست أجوّز إلّا ما اجتمعت عليه الأمّة أنّه قد يحدث في العالم. فأنكر المسخ البتّة.
1000 [أثر البيئة]
وقال الصّنف الآخر: لا ننكر أن يفسد الهواء في ناحية من النواحي فيفسد ماؤهم وتفسد تربتهم، فيعمل ذلك في طباعهم على الأيّام، كما عمل ذلك في طباع الزّنج، وطباع الصّقالبة، وطباع بلاد يأجوج ومأجوج.
وقد رأينا العرب وكانوا أعرابا حين نزلوا خراسان، كيف انسلخوا من جميع تلك المعاني، وترى طباع بلاد الترك كيف تطبع الإبل والدّوابّ وجميع ماشيتهم: من سبع وبهيمة، على طبائعهم. وترى جراد البقول والرّياحين وديدانها خضراء، وتراها في غير الخضرة على غير ذلك [1]. وترى القملة في رأس الشابّ الأسود الشّعر سوداء، وتراها في رأس الشّيخ الأبيض الشّعر بيضاء، وتراها في رأس الأشمط شمطاء، وفي
[1] رسائل الجاحظ 1/ 220.(4/295)
لون الجمل الأورق. فإذا كانت في رأس الخضيب بالحمرة تراها حمراء. فإن نصل خضابه صار فيها شكلة، من بين بيض وحمر.
وقد نرى حرّة بني سليم، وما اشتملت عليه من إنسان، وسبع، وبهيمة، وطائر، وحشرة فتراها كلّها سوداء [1].
وقد خبّرنا من لا يحصى من النّاس أنّهم قد أدركوا رجالا من نبط بيسان [2]، ولهم أذناب إلّا تكن أذناب التماسيح والأسد والبقر والخيل وإلّا كأذناب السّلاحف والجرذان، فقد كان لهم عجوب [3] طوال كالأذناب.
وربّما رأينا الملّاح النّبطيّ في بعض الجعفريّات على وجهه شبه القرد. وربّما رأينا الرّجل من المغرب فلا نجد بينه وبين المسخ، إلّا القليل.
وقد يجوز أن يصادف ذلك الهواء الفاسد، والماء الخبيث، والتربة الرديّة، ناسا في صفة هؤلاء المغربيّين والأنباط، ويكونون جهّالا، فلا يرتحلون ضنانة بمساكنهم وأوطانهم، ولا ينتقلون. فإذا طال ذلك عليهم زاد في تلك الشعور، وفي تلك الأذناب، وفي تلك الألوان الشّقر، وفي تلك الصّور المناسبة للقرود.
قالوا: ولم نعرف، ولم يثبت عندنا بالخبر الذي لا يعارض، أنّ الموضع الذي قلب صور قوم إلى صور الخنازير، هو الموضع الذي نقل صور قوم إلى صور القرود.
وقد يجوز أن تكون هذه الصّور انقلبت في مهبّ الريح الشمالي، والأخرى في مهبّ الجنوب. ويجوز أن يكون ذلك كان في دهر واحد ويجوز أن يكون بينهما دهر ودهور.
قالوا: فلسنا ننكر المسخ إن كان على هذا الترتيب لأنّه إن كان على مجرى الطّبائع، وما تدور به الأدوار، فليس ذلك بناقض لقولنا، ولا مثبت لقولكم.
قال أبو إسحاق: الذي قلتم ليس بمحال، ولا ينكر أن يحدث في العالم برهانات، وذلك المسخ كان على مجرى ما أعطوا من سائر الأعاجيب، والدّلائل والآيات. ونحن إنّما عرفنا ذلك من قبلهم. ولولا ذلك لكان الذي قلتم غير ممتنع.
ولو كان ذلك المسخ في هذا الموضع على ما ذكرتم، ثمّ خبر بذلك نبيّ، أو دعا به نبيّ، لكان ذلك أعظم الحجّة.
[1] رسائل الجاحظ 2/ 313، وانظر الرسائل 1/ 220219. وربيع الأبرار 5/ 481.
[2] بيسان: مدينة بالأردن بالغور الشامي، وهي بين حوران وفلسطين. معجم البلدان 1/ 527.
[3] العجوب: جمع عجب، وهو أصل الذنب. (القاموس: عجب).(4/296)
فأما أبو بكر الأصمّ، وهشام بن الحكم، فإنّهما كانا يقولان بالقلب، ويقولان:
إنّه إذا جاز أن يقلب الله خردلة من غير أن يزيد فيها جسما وطولا أو عرضا جاز أن يقلب ابن آدم قردا من غير أن ينقص من جسمه طولا أو عرضا.
وأمّا أبو إسحاق فقد كان لولا ما صحّ عنده من قول الأنبياء وإجماع المسلمين على أنّه قد كان، وأنّه قد كان حجّة وبرهانا في وقته لكان لا ينكر مذهبهم في هذا الموضع.
وقوله هذا قول جميع من قال بالطّبائع، ولم يذهب مذهب جهم، وحفص الفرد.
وقال ابن العنسيّ يذكر القرد: [من الطويل] فهلّا غداة الرّمل يا قرد حذيم ... تؤامرها في نفسها تستشيرها
1001 [القول في تحريم الخنزير]
قال: وسأل سائلون في تحريم الخنزير عن مسألة فمنهم من أراد الطّعن، ومنهم من أراد الاستفهام، ومنهم من أحبّ أن يعرف ذلك من جهة الفتيا إذ كان قوله خلاف قولنا.
قالوا: إنّما قال الله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [1]، فذكر اللّحم دون الشّحم، ودون الرّأس، ودون المخّ، ودون العصب، ودون سائر أجزائه ولم يذكره كما ذكر الميتة بأسرها، وكذلك الدّم لأنّ القول وقع على جملتهما، فاشتمل على جميع خصالهما بلفظ واحد، وهو العموم. وليس ذلك في الخنزير لأنّه ذكر اللّحم من بين جميع أجزائه وليس بين ذكر اللّحم والعظم فرق، ولا بين اللّحم والشّحم فرق. وقد كان ينبغي في قياسكم هذا لو قال: حرّمت عليكم الميتة والدّم وشحم الخنزير، أن تحرّموا الشحم، وإنّما ذكر اللّحم، فلم حرّمتم الشحم وما بالكم تحرّمون الشّحم عند ذكر غير الشّحم! فهلّا حرّمتم اللّحم بالكتاب، وحرّمتم ما سواه بالخبر الذي لا يدفع!؟ فإن بقيت خصلة أو خصلتان ممّا لم تصيبوا ذكره في كتاب منزّل، وفي أثر لا يدفع، رددتموه إلى جهة العقل.
قلنا: إنّ النّاس عادات، وكلاما يعرّف كل شيء بموضعه، وإنما ذلك على قدر استعمالهم له، وانتفاعهم به.
وقد يقول الرجل لوكيله: اشتر لي بهذا الدّينار لحما، أو بهذه الدراهم، فيأتيه باللّحم فيه الشّحم والعظم، والعرق والعصب والغضروف. والفؤاد والطّحال، والرّئة،
[1] 3/ المائدة: 5.(4/297)
وببعض أسقاط الشاة وحشو البطن. والرأس لحم، والسّمك أيضا لحم. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا} [1]. فإن كان الرّسول ذهب إلى المستعمل من ذلك، وترك بعض ما يقع عليه اسم لحم، فقد أخذ بما عليه صاحبه. فإذا قال حرّمت عليكم لحما، فكأنّه قال: لحم الشّاة والبقرة والجزور. ولو أنّ رجلا قال: أكلت لحما وإنما أكل رأسا أو كبدا أو سمكا لم يكن كاذبا. وللنّاس أن يضعوا كلامهم حيث أحبّوا، إذا كان لهم مجاز إلّا في المعاملات.
فإن قلت: فما تقول في الجلد؟ فليس للخنزير جلد، كما أنّه ليس للإنسان جلد إلّا بقطع ما ظهر لك منه بما تحته، وإنّما الجلد ما يسلخ ويدحس [2] فيتبرأ ممّا كان به ملتزقا ولم يكن ملتحما، كفرق ما بين جلد الحوصلة والعرقين.
فإن سألت عن الشّعر، وعن جلد المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع، فإنّي أزعم أنّ جلده لا يدبغ ولا ينتفع به إلّا الأساكفة، والقول في ذلك أنّ كلّه محرّم. وإنما ذلك كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [3] وكقوله عزّ وجلّ: {وَلََا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فََاعِلٌ ذََلِكَ غَداً إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [4].
والعرب تقول للرّجل الصانع نجّارا، إن كان لا يعمل بالمثقب والمنشار ونحوه ولا يضرب بالمضلع ونحو ذلك، وتسميّه خبّازا إذا كان يطبخ ويعجن. وتسمّي العير لطيمة، وإن لم يكن فيها ما يحمل العطر إلّا واحد. وتقول: هذه ظعن فلان للهوادج إذا كانت فيها امرأة واحدة. ويقال: هولاء بنو فلان وإن كانت نساؤهم أكثر من الرجال.
فلما كان اللحم هو العمود الذي إليه يقصد، وصار في أعظم الأجزاء قدرا، دخل سائر تلك الأجزاء في اسمه. ولو كان الشّحم معتزلا من اللّحم ومفردا في جميع الشّحام، كشحوم الكلى والثّروب، لم يجز ذلك. وإذا تكلمت على المفردات لم يكن المخّ لحما، لا الدّماغ، ولا العظم، ولا الشّحم، ولا الغضروف، ولا الكروش، ولا ما أشبه ذلك. فلما قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [5] وكانت
[1] 14/ النحل: 16.
[2] دحس الرجل الشاة: أدخل يده بين جلدها وصفاقها للسلخ.
[3] 16/ الأنفال: 8.
[4] 23/ الكهف: 18.
[5] 3/ المائدة: 5.(4/298)
هذه الأشياء المشبّهة باللّحم تدخل في باب العموم في اسم اللحم، كان القول واقعا على الجميع.
وقال الشاعر: [من الكامل] من يأتنا صبحا يريد غداءنا ... فالهام منضجة لدى الشّحّام ... لحم نضيج لا يعنّي طابخا ... يؤتى به من قبل كلّ طعام
1002 [مسألة الهدهد]
وإذ قد ذكرنا بعض الكلام، والمسائل في بعض الكلام، فسنذكر شأن الهدهد والمسألة في ذلك. قال الله عزّ وجلّ: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقََالَ مََا لِيَ لََا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كََانَ مِنَ الْغََائِبِينَ. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} [1] ثم قال:
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [2] يعني الهدهد. فقال لسليمان المتوعد له بالذّبح عقوبة له والعقوبة لا تكون إلا على المعصية لبشريّ آدميّ لم تكن عقوبته الذّبح، فدلّ ذلك على أنّ المعصية إنما كانت له، ولا تكون المعصية لله إلّا ممّن يعرف الله، أو ممّن كان يمكنه أن يعرف الله تعالى فترك ما يجب عليه من المعرفة وفي قوله لسليمان: {أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهََا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [3]. ثمّ قال بعد أن عرف فصل ما بين الملوك والسّوقة، وما بين النّساء والرجال، وعرف عظم عرشها، وكثرة ما أوتيت في ملكها، قال: {وَجَدْتُهََا وَقَوْمَهََا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لََا يَهْتَدُونَ} [4] فعرف السّجود للشمس وأنكر المعاصي. ثمّ قال: {أَلََّا يَسْجُدُوا لِلََّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مََا تُخْفُونَ وَمََا تُعْلِنُونَ} [5] ويتعجّب من سجودهم لغير الله. ثمّ علم أنّ الله يعلم غيب السّموات والأرض، ويعلم السّرّ والعلانية. ثمّ قال: {اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [6] وهذا يدلّ على أنّه أعلم من ناس كثير من المميّزين المستدلّين الناظرين.
[1] 21/ النمل: 27.
[2] 22/ النمل: 27.
[3] 22/ النمل: 27.
[4] 24/ النمل: 27.
[5] 25/ النمل: 27.
[6] 26/ النمل: 27.(4/299)
قال سليمان: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكََاذِبِينَ} [1] ثمّ قال: {اذْهَبْ بِكِتََابِي هََذََا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مََا ذََا يَرْجِعُونَ. قََالَتْ يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتََابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمََانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ. أَلََّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [2] {فَلَمََّا جََاءَ سُلَيْمََانَ قََالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمََالٍ فَمََا آتََانِيَ اللََّهُ خَيْرٌ مِمََّا آتََاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [3] وذلك أنّها قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنََاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [4] ثمّ قال سليمان للهدهد: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لََا قِبَلَ لَهُمْ بِهََا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهََا أَذِلَّةً وَهُمْ صََاغِرُونَ} [5] وقال: {يََا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهََا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قََالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقََامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قََالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتََابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمََّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قََالَ هََذََا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمََا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [6] فطعن في جميع ذلك طاعنون، فقال بعضهم: قد ثبت أنّ الهدهد يحتمل العقاب والعتاب، والتّكليف والثّواب، والولاية، ودخول الجنّة بالطّاعة، ودخول النّار بالمعصية لأنّ المعرفة توجب الأمر والنهي، والأمر والنهي يوجبان الطاعة والمعصية، والطاعة والمعصية يوجبان الولاية والعداوة، فينبغي للهداهد أن يكون فيها العدوّ والوليّ، والكافر والمسلم، والزّنديق والدّهريّ.
وإذا كان حكم الجنس حكما واحدا لزم الجميع ذلك. وإن كان الهدهد لا يبلغ عند جميع الناس في المعرفة مبلغ الذرّة، والنملة، والقملة، والفيل، والقرد، والخنزير، والحمام وجميع هذه الأمم، تقدّمها عليه في المعرفة فينبغي أن تكون هذه الأصناف المتقدّمة عليه، في عقول هذه الأمّة والأنبياء.
وقد رأينا العلماء يتعجّبون من خرافات العرب والأعراب في الجاهليّة ومن قولهم في الدّيك والغراب، ويتعجّبون من الرّواية في طوق الحمام فإنّ الحمام كان رائد نوح على نبينا وعليه السلام.
[1] 27/ النمل: 27.
[2] 3128النمل: 27.
[3] 36/ النمل: 27.
[4] 34/ النمل: 27.
[5] 37/ النمل: 27.
[6] 4038/ النمل: 27.(4/300)
وهذا القول الذي تؤمنون به في الهدهد، من هذا النوع.
قلنا: إنّ الله تعالى لم يقل: وتفقّد الطّير فقال ما لي لا أرى هدهدا من عرض الهداهد، فلم يوقع قوله على الهداهد جملة، ولا على واحد منها غير مقصود إليه، ولم يذهب إلى الجنس عامّة، ولكنّه قال: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقََالَ مََا لِيَ لََا أَرَى الْهُدْهُدَ} [1] فأدخل في الاسم الألف واللام، فجعله معرفة فدلّ بذلك القصد على أنّه ذلك الهدهد بعينه. وكذلك غراب نوح، وكذلك حمار عزير، وكذلك ذئب أهبان ابن أوس فقد كان لله فيه وفيها تدبير، وليجعل ذلك آية لأنبيائه، وبرهانا لرسله.
ولا يستطيع أعقل الناس أن يعمل عمل أجرإ النّاس، كما لا يستطيع أجرأ النّاس أن يعمل أعمال أعقل الناس. فبأعمال المجانين والعقلاء عرفنا مقدارهما من صحّة أذهانهما وفسادها، وباختلاف أعمال الأطفال والكهول عرفنا مقدارهما في الضعف والقوّة، وفي الجهل والمعرفة. وبمثل ذلك فصلنا بين الجماد والحيوان، والعالم وأعلم منه، والجاهل وأجهل منه. ولو كان عند السّباع والبهائم ما عند الحكماء والأدباء، والوزراء والخلفاء والأمم والأنبياء، لأثمرت تلك العقول، باضطرار، إثمار تلك العقول. وهذا باب لا يخطئ فيه إلّا المانيّة [2] وأصحاب الجهالات فقط. فأمّا عوامّ الأمم، فضلا عن خواصهم، فهم يعلمون من ذلك مثل ما نعلم. وإنما يتفاضل بالبيان والحفظ، وبنسق المحفوظ. فأمّا المعرفة فنحن فيها سواء. ولم نعرف العقل وعدمه ونقصانه، وإفادته، وأقدار معارف الحيوان إلّا بما يظهر منها. وبتلك الأدلّة عرفنا فرق ما بين الحيّ والميت، وبين الجماد والحيوان.
فإن قال الخصم: ما نعرف كلام الذّئب، ولا معرفة الغراب، ولا علم الهدهد.
قلنا: نحن ناس نؤمن بأنّ عيسى عليه السلام خلق من غير ذكر وإنّما خلق من أنثى وأنّ آدم وحوّاء خلقا من غير ذكر وأنثى، وأنّ عيسى تكلّم في المهد، وأنّ يحيى بن زكريّا نطق بالحكمة في الصّبا، وأنّ عقيما ألقح، وأنّ عاقرا ولدت [3] وبأشياء كثيرة
[1] 20/ النمل: 27.
[2] المانية: ويقال: المنانية والمنائية والمانوية، هم الزنادقة أصحاب ماني بن فاتك الذي كان يقول:
إن مبدأ العالم من كونين أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما في صراع مستمر لا ينتهي إلا بانتهاء الدنيا. انظر فهرست ابن النديم 456وما يليها، ومروج الذهب 7/ 629.
[3] إشارة إلى قوله تعالى: {قََالَ رَبِّ أَنََّى يَكُونُ لِي غُلََامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عََاقِرٌ} [آل عمران: 40]، وقوله تعالى: {قََالَ رَبِّ أَنََّى يَكُونُ لِي غُلََامٌ وَكََانَتِ امْرَأَتِي عََاقِراً} [مريم: 8]، وقوله تعالى: {قََالَتْ يََا وَيْلَتى ََ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهََذََا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72].(4/301)
خرجت خارجية من نسق العادة. فالسّبب الذي به عرفنا أنّه قد كان لذلك الهدهد مقدار من المعرفة، دون ما توهّمتم وفوق ما مع الهدهد. ومتى سألتمونا عن الحجّة فالسبيل واحدة. ونحن نقرّ بأنّ من دخل الجنة من المجانين والأطفال يدخلون عقلاء كاملين، من غير تجارب وتمرين وترتيب. فمسألتكم عما ألهم الهدهد، هي المسألة عمّا ألهم الطفل في الجنة.
فإن قال قائل: فإنّ ذلك القول كلّه، الذي كان من الهدهد، إنما كان على الإلهام والتّسخير، ولم يكن ذلك عن معرفة منه، فلم قال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [1]؟ قلنا: فإنّه قد يتوعّد الرّجل ابنه وهو بعد لم يجر عليه الأحكام بالضّرب الوجيع، إن هو لم يأت السّوق، أو يحفظ سورة كذا وكذا فلا يعنّفه أحد على ذلك الوعيد. ويكذب فيضربه على الكذب، ويضرب صبيا فيضربه لأنه ضربه.
وهو في ذلك قد حسن خطّه، وجاد حسابه، وشدا من النّحو والعروض والفرائض شدوا حسنا، ونفع أهله، وتعلم أعمالا، وتكلّم بكلام، وأجاب في الفتيا بكلام فوق معاني الهدهد في اللّطافة والغموض. وهو في ذلك لم يكمل لاحتمال الفرض والولاية والعداوة.
فإن قال: فهل يجوز لأحد أن يقول لابنه: إن أنت لم تأت السّوق ذبحتك وهو جادّ؟ قلنا: لا يجوز ذلك. وإنّما جاز ذلك في الهدهد لأنّ سليمان ومن هو دون سليمان من جميع العالم له أن يذبح الهدهد والحمام والدّيك، والعناق والجدي.
والذّبح سبيل من سبل مناياهم. فلو ذبحه سليمان لم يكن في ذلك إلّا بقدر التّقديم والتأخير، وإلّا بقدر صرف ما بين أن يموت حتف أنفه، أو يموت بالذّبح. ولعلّ صرف ما بينهما لا يكون إلّا بمقدار ألم عشرين درّة [2]. ولعلّ نتف جناحه يفي بذلك الضرب. وإذا قلنا ذلك فقد أعطينا ذلك الهدهد بعينه حقّ ما دلّت عليه الآية، ولم نجز ذلك في جميع الهداهد، ولم نكن كمن ينكر قدرة الله على أن يركّب عصفورا من العصافير ضربا من التراكيب يكون أدهى من قيس بن زهير. ولو كان الله تعالى قد فعل ذلك بالعصافير لظهرت كذلك دلائل.
على أنّا لو تأوّلنا الذّبح على مثال تأويل قولنا في ذبح إبراهيم إسماعيل عليهما السلام وإنما كان ذلك ذبحا في المعنى لغيره أو على معنى قول القائل: أمّا أنا
[1] 21/ النمل: 27.
[2] الدّرّة: درة السلطان التي يضرب بها. (اللسان: درر).(4/302)
فقد ذبحته وضربت عنقه، ولكن السيف خانني. أو على قولهم: المسك الذّبيح، أو على قولهم: فجئت وقد ذبحني العطش لكان ذلك مجازا.
ولو أنّ صبيّا من صبياننا سئل، قبل أن يبلغ فرض البلوغ بساعة، وكان رأى ملكة سبإ في جميع حالاتها، لما كان بعيدا ولا ممتنعا أن يقول: رأيت امرأة ملكة، ورأيتها تسجد للشّمس من دون الله، ورأيتها تطيع الشّيطان وتعصي الرّحمن، ولا سيما إن كان من صبيان الخلفاء والوزراء، أو من صبيان الأعراب.
والدّليل على أنّ ذلك الهدهد كان مسخّرا وميسّرا، مضيّه إلى اليمن، ورجوعه من ساعته.
ولم يكن من الطّير القواطع فرجع إلى وكره. والدّليل على ذلك أنّ سليمان عليه السلام لم يقل: نعم قد رأيت كلّ ما ذكرت، وأنت لم تعلم حين مضيت بطّالا هاربا من العمل، أتكدي أم تنجح، أو ترى أعجوبة أو لا تراها. ولكنّه توعّده على ظاهر الرّأي، ونافره القول ليظهر الآية والأعجوبة.
1003 [طعن الدهرية في ملك سليمان]
ثمّ طعن في ملك سليمان وملكة سبإ، ناس من الدّهريّة، وقالوا: زعمتم أنّ سليمان سأل ربّه فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لََا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [1] وأنّ الله تعالى أعطاه ذلك، فملّكه على الجنّ فضلا عن الإنس، وعلّمه منطق الطّير، وسخّر له الرّيح، فكانت الجنّ له خولا، والرّياح له مسخرة ثمّ زعمتم وهو إمّا بالشّام وإمّا بسواد العراق أنّه لا يعرف باليمن ملكة هذه صفتها. وملوكنا اليوم دون سليمان في القدرة، لا يخفى عليهم صاحب الخزر، ولا صاحب الروم، ولا صاحب الترك، ولا صاحب النّوبة، وكيف يجهل سليمان موضع هذه الملكة، مع قرب دارها واتّصال بلادها! وليس دونها بحار ولا أوعار والطريق نهج للخفّ والحافر والقدم.
فكيف والجنّ والإنس طوع يمينه. ولو كان، حين خبّره الهدهد بمكانها، أضرب عنها صفحا، لكان لقائل أن يقول: ما أتاه الهدهد إلّا بأمر يعرفه. فهذا وما أشبهه دليل على فساد أخباركم.
قلنا: إنّ الدّنيا إذا خلّاها الله وتدبير أهلها، ومجاري أمورها وعاداتها كان لعمري كما تقولون. ونحن نزعم أنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان أنبه أهل
[1] 35/ ص: 38.(4/303)
زمانه لأنّه نبيّ ابن نبيّ، وكان يوسف وزير ملك مصر من النّباهة بالموضع الذي لا يدفع، وله البرد، وإليه يرجع جواب الأخبار، ثمّ لم يعرف يعقوب مكان يوسف، ولا يوسف مكان يعقوب عليهما السلام دهرا من الدّهور، مع النّباهة، والقدرة، واتّصال الدار.
1004 [القول في موسى بن عمران]
وكذلك القول في موسى بن عمران ومن كان معه في التّيه، فقد كانوا أمّة من الأمم يتكسّعون أربعين عاما، في مقدار فراسخ يسيرة ولا يهتدون إلى المخرج. وما كانت بلاد التّيه إلّا من ملاعبهم ومنتزهاتهم. ولا يعدم مثل ذلك العسكر الأدلّاء والجمّالين، والمكارين [1]، والفيوج [2]، والرّسل، والتّجار. ولكنّ الله صرف أوهامهم، ورفع ذلك الفصل [3] من صدورهم.
1005 [القول في الشياطين]
وكذلك القول في الشّياطين الذين يسترقون السّمع في كلّ ليلة، فنقول: إنّهم لو كان كلما أراد مريد منهم أن يصعد ذكر أنّه قد رجم صاحبه، وأنّه كذلك منذ كان لم يصل معه أحد إلى استراق السّمع، كان محالا أن يروم ذلك أحد منهم مع الذّكر والعيان.
ومثل ذلك أنّا قد علمنا أنّ إبليس لا يزال عاصيا إلى يوم البعث. ولو كان إبليس في حال المعصية ذاكرا لإخبار الله تعالى أنّه لا يزال عاصيا وهو يعلم أنّ خبره صدق، كان محالا أن تدعوه نفسه إلى الإيمان، ويطمع في ذلك، مع تصديقه بأنّه لا يختار الإيمان أبدا.
ومن المحال أن يجمع بين وجود الاستطاعة وعدم الدّواعي وجواز الفعل.
ولو أنّ رجلا علم يقينا أنّه لا يخرج من بيته يومه ذلك، كان محالا أن تدعوه نفسه إلى الخروج، مع علمه بأنّه لا يفعل. ولكنّ إبليس لما كان مصروف القلب عن ذكر ذلك الخبر، دخل في حدّ المستطيعين.
[1] المكارين: جمع مكار، وهو الذي يؤجر دابته للناس. انظر اللسان (كرى).
[2] الفيوج: جمع فيج: رسول السلطان الذي يسعى بالكتب. (اللسان: فيج).
[3] الفصل: التمييز. (اللسان: فصل).(4/304)
ومثل ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بشره الله بالظّفر وتمام الأمر [1] بشرّ أصحابه بالنّصر، ونزول الملائكة. ولو كانوا لذلك ذاكرين في كلّ حال، لم يكن عليهم من المحاربة مؤونة. وإذا لم يتكلفوا المؤونة لم يؤجروا. ولكنّ الله تعالى بنظره إليهم رفع ذلك في كثير من الحالات عن أوهامهم ليحتملوا مشقّة القتال، وهم لا يعلمون:
أيغلبون أم يغلبون أو يقتلون أم يقتلون.
ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن، بعد أن تحدّاهم الرّسول بنظمه. ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه. ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهة لعظمت القصّة على الأعراب وأشباه الأعراب، والنّساء وأشباه النساء، ولألقى ذلك للمسلمين عملا، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض العرب، ولكثر القيل والقال.
فقد رأيت أصحاب مسيلمة، وأصحاب ابن النواحة إنما تعلّقوا بما ألّف لهم مسيلمة من ذلك الكلام، الذي يعلم كلّ من سمعه أنّه إنّما عدا على القرآن فسلبه، وأخذ بعضه، وتعاطى أن يقارنه. فكان لله ذلك التّدبير، الذي لا يبلغه العباد ولو اجتمعوا له.
فإن كان الدّهريّ يريد من أصحاب العبادات والرّسل، ما يريد من الدّهريّ الصّرف، الذي لا يقرّ إلا بما أوجده العيان، وما يجري مجرى العيان فقد ظلم.
وقد علم الدّهريّ أنّنا نعتقد أنّ لنا ربّا يخترع الأجسام اختراعا وأنّه حيّ لا بحياة، وعالم لا بعلم، وأنّه شيء لا ينقسم، وليس بذي طول ولا عرض ولا عمق، وأنّ الأنبياء تحيي الموتى. وهذا كلّه عند الدهريّ مستنكر، وإنما كان يكون له علينا سبيل لو لم يكن الذي ذكرنا جائزا في القياس، واحتجنا إلى تثبيت الرّبوبيّة وتصديق الرّسالة، فإذا كان ذلك جائزا، وكان كونه غير مستنكر، ولا محال، ولا ظلم، ولا عيب، فلم يبق له إلّا أن يسألنا عن الأصل الذي دعا إلى التّوحيد، وإلى تثبيت الرسل.
وفي كتابنا المنزّل الذي يدلّنا على أنّه صدق، نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدّلائل التي جاء بها من جاء به.
وفيه مسطور أنّ سليمان بن داود غبر حينا وهو ميّت معتمدا على عصاه، في الموضع الذي لا يحجب عنه إنسيّ ولا جنّيّ، والشّياطين مهم المكدود بالعمل الشديد، ومنهم المحبوس والمستعبد، وكانوا كما قال الله تعالى:
[1] إشارة إلى وقعة أحد، وهي التي ورد ذكرها في سورة آل عمران الآيات 126122.(4/305)
{يَعْمَلُونَ لَهُ مََا يَشََاءُ مِنْ مَحََارِيبَ وَتَمََاثِيلَ وَجِفََانٍ كَالْجَوََابِ وَقُدُورٍ رََاسِيََاتٍ} [1] وقال: {وَالشَّيََاطِينَ كُلَّ بَنََّاءٍ وَغَوََّاصٍ. وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفََادِ} [2]، وأنّه غبر كذلك حينا وهو تجاه أعينهم، فلا هم عرفوا سجيّة وجوه الموتى، ولا هو إذ كان ميّتا سقط سقوط الموتى.
وثبت قائما معتمدا على عصاه، وعصاه ثابتة قائمة في يده، وهو قابض عليها.
وليست هذه الصّفة صفة موتانا.
وقال: {فَلَمََّا قَضَيْنََا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مََا دَلَّهُمْ عَلى ََ مَوْتِهِ إِلََّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمََّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مََا لَبِثُوا فِي الْعَذََابِ الْمُهِينِ} [3] ونحن دون الشّياطين والجنّ في صدق الحسّ، ونفوذ البصر. ولو كنّا من بعض الموتى بهذا المكان، لما خفي علينا أمره وكان أدنى ذلك أن نظنّ ونرتاب.
ومتى ارتاب قوم وظنّوا وماجوا وتكلموا وشاوروا، لقنوا وثبّتوا. ولا سيّما إذا كانوا في العذاب ورأوا تباشير الفرج.
ولولا الصّرفة. التي يلقيها الله تعالى على قلب من أحبّ، ولولا أنّ الله يقدر على أن يشغل الأوهام كيف شاء، ويذكّر بما يشاء، وينسّي ما يشاء، لما اجتمع أهل داره وقصره، وسوره وربضه، وخاصّته، ومن يخدمه من الجنّ والإنس والشّياطين، على الإطباق بأنّه حيّ. كذلك كان عندهم. فحدث ما حدث من موته، فلمّا لم يشعروا به كانوا على ما لم يزالوا عليه. فعلمنا أنّ الجنّ والشّياطين كانت توهم الأغبياء والعوامّ والحشوة والسّفلة، أنّ عندهما شيئا من علم الغيب والشياطين لا تعلم ذلك فأراد الله أن يكشف من أمرهم للجهّال ما كان كشفه للعلماء. فبهذا وأشباهه من الأمور نحن إلى الإقرار به مضطرون بالحجج الاضطراريّة فليس لخصومنا حيلة إلّا أن يواقفونا، وينظروا في العلّة التي اضطرتنا إلى هذا القول فإن كانت صحيحة فالصّحيح لا يوجب إلا الصحيح. وإن كانت سقيمة علمنا أنّما أتينا من تأويلنا.
وأما قوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ} [4] فإنّ التعذيب يكون بالحبس، كما قال الله عزّ وجلّ:
{لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مََا لَبِثُوا فِي الْعَذََابِ الْمُهِينِ} [5]. وإنّما كانوا مخيّسين [6].
[1] 13/ سبأ: 34.
[2] 38/ ص: 38.
[3] 14/ سبأ: 34.
[4] 21/ النمل: 27.
[5] 14/ سبأ: 34.
[6] المخيس، هو من قولهم: إبل مخيسة أي لا تسرح.(4/306)
وقد يقول العاشق لمعشوقته: يا معذّبتي! وقد عذّبتني! ومن العذاب ما يكون طويلا، ومنه ما يكون قصير الوقت. ولو خسف الله تعالى بقوم في أقلّ من عشر ساعة لجاز لقائل أن يقول: كان ذلك يوم أحلّ الله عذابه ونقمته ببلاد كذا وكذا.
1006 [القول في الخنزير]
وقال أبو ناصرة: الخنزير ربّما قتل الأسد، وما أكثر ما يلحق بصاحب السّيف والرّمح، فيضربه بنابه، فيقطع كلّ ما لقيه من جسده: من عظم وعصب، حتى يقتله.
وربّما احتال أن ينبطح على وجهه على الأرض، فلا يغني ذلك عنه شيئا.
وليس لشيء من الحيوان كاحتمال بدنه لوقع السهام، ونفوذها فيه.
وهو مع ذلك أروغ من ثعلب، إذا أراده الفارس. وإذا عدا أطمع في نفسه كلّ شيء، وإذا طولب أعيا الخيل العتاق. والخنزير مع ذلك أنسل الخلق لأنّ الخنزيرة تضع عشرين خنّوصا، وهو مع كثرة إنساله من أقوى الفحول على السّفاد، ومع القوّة على السّفاد هو أطولها مكثا في سفاده، فهو بذلك أجمع للفحولة.
وإذا كان الكلب والذّئب موصوفين بشدّة القلب لطول الخطم، فالخنزير أولى بذلك.
وللفيل ناب عجيب، ولكنّه لقصر عنقه لا يبلغ النّاب مبلغا، وإنّما يستعين بخرطومه، وخرطومه هو أنفه، والخطم غير الخرطوم.
قال أبو ناصرة: وله طيب، وهو طيب لحمه ولحم أولاده. وإذا أرادوا وصف اختلاط ودك الكركيّ [1] في مرق طبيخ، قالوا كأنّ إهالته إهالة [2] خنزير لأنّه لا يسرع إليها الجمود. وسرعة جمود إهالة الماعز في الشّتاء عيب. وللضّأن في ذلك بعض الفضيلة على الماعز ولا يلحق بالخنزير.
وإذا نقص من الإنسان عظم واحتيج إلى صلته في بعض الأمراض لم يلتحم به إلّا عظم الخنزير.
وإذا ضرب فصاح لم يكن السّامع يفصل بين صوته وبين صوت صبيّ مضروب.
[1] الودك: الدسم (القاموس: ودك). الكركي: طائر كبير، أغبر طويل الساقين. (حياة الحيوان 2/ 244).
[2] الإهالة: الشحم. (القاموس: هال).(4/307)
وفي إطباق جميع الأمم على شهوة أكله واستطابة لحمه، دليل على أنّ له في ذلك ما ليس لغيره.
1007 [زعم المجوس في المنخنقة والموقوذة والمتردية]
والمجوس تزعم أنّ المنخنقة والموقوذة والمتردّية، وكلّ ما اعتبط [1] ولم يمت حتف أنفه، فهو أطيب لحما وأحلى لأنّ دمه فيه، والدم حلو دسم. وإنما عافه من عافه من طريق العادة والدّيانة، لا من طريق الاستقذار والزّهد الذي يكون في أصل الطبيعة.
1008 [اختلاف ميل الناس إلى الطعام]
وقد عاف قوم الجرّيّ والضّباب [2] على مثل ذلك، وشغف به آخرون.
وقد كانت العرب في الجاهليّة تأكل دم الفصد، وتفضّل طعمه، وتخبر عمّا يورث من القوّة.
قال: وأيّ شيء أحسن من الدّم، وهل اللّحم إلا دم استحال كما يستحيل اللّحم شحما؟ ولكنّ الناس إذا ذكروا معناه، ومن أين يخرج وكيف يخرج، كان ذلك كاسرا لهم، ومانعا من شهوته.
1009 [ما يغير نظر الإنسان إلى الأشياء]
وكيف حال النّار في حسنها، فإنّه ليس في الأرض جسم لم يصبغ أحسن منه.
ولولا معرفتهم بقتلها وإحراقها وإتلافها، والألم والحرقة المولدين عنها، لتضاعف ذلك الحسن عندهم. وإنّهم ليرونها في الشّتاء بغير العيون التي يرونها بها في الصّيف. ليس ذلك إلّا بقدر ما حدث من الاستغناء عنها.
وكذلك جلاء السّيف فإنّ الإنسان يستحسن قدّ السّيف وخرطه، وطبعه وبريقه. وإذا ذكر صنيعه والذي هيئ له، بدا له في أكثر ذلك، وتبدّل في عينه، وشغله ذلك عن تأمّل محاسنه.
ولولا علم النّاس بعداوة الحيّات لهم، وأنهها وحشيّة لا تأنس ولا تقبل أدبا، ولا
[1] اعتبط: مات من غير علة. (القاموس: عبط).
[2] الجرّي: ضرب من السمك. الضباب: جمع ضب.(4/308)
ترعى حقّ تربية، ثمّ رأوا شيئا من هذه الحيّات، البيض، المنقّشة الظّهور لما بيّتوها ونوّموها إلّا في المهد، مع صبيانهم.
1010 [ردّ على من طعن في تحريم الخنزير]
فيقال لصاحب هذه المقالة: تحريم الأغذية إنّما يكون من طريق العبادة والمحنة، وليس أنه جوهر شيء من المأكول يوجب ذلك. وإنّما قلنا: إنّا وجدنا الله تعالى قد مسخ عبادا من عباده في صور الخنزير دون بقيّة الأجناس، فعلمنا أنّه لم يفعل ذلك إلّا لأمور اجتمعت في الخنزير. فكان المسخ على صورته أبلغ من التّنكيل. لم نقل إلّا هذا.
1011 [القول في القرد]
والقرد يضحك ويطرب، ويقعي ويحكي، ويتناول الطّعام بيديه ويضعه في فيه، وله أصابع وأظفار، وينقي الجوز، ويأنس الأنس الشّديد، ويلقن بالتّلقين الكثير، وإذا سقط في الماء غرق ولم يسبح كالإنسان قبل أن يتعلّم السّباحة. فلم تجد النّاس للذي اعترى القرد من ذلك دون جميع الحيوان علّة إلّا هذه المعاني التي ذكرتها، من مناسبة الإنسان من قبلها.
ويحكى عنه من شدّة الزّواج، والغيرة على الأزواج، ما لا يحكى مثله إلّا عن الإنسان لأنّ الخنزير يغار، وكذلك الجمل والفرس، إلّا أنها لا تزاوج. والحمار يغار ويحمي عانته الدّهر كلّه، ويضرب فيها كضربه لو أصاب أتانا من غيرها. وأجناس الحمام تزاوج ولا تغار.
واجتمع في القرد الزّواج والغيرة، وهما خصلتان كريمتان، واجتماعهما من مفاخر الإنسان على سائر الحيوان. ونحن لم نر وجه شيء غير الإنسان أشبه صورة وشبها، على ما فيه من الاختلاف، ولا أشبه فما ووجها بالإنسان من القرد. وربّما رأينا وجه بعض الحمر إذا كان ذا خطم، فلا نجد بينه وبين القرد إلّا اليسير.
وتقول الناس: «أكيس من قشّة» [1] و «أملح من ربّاح» [2] ولم يقل أحد:
أكيس من خنزير، وأملح من خنّوص. وهو قول العامّة: «القرد قبيح ولكنّه مليح».
[1] المثل في مجمع الأمثال 2/ 169، والفاخر 81، وجمهرة الأمثال 2/ 175، والمستقصى 1/ 297، وأمثال ابن سلام 370، والدرة الفاخرة 2/ 366.
[2] الرباح: ذكر القرد. (القاموس: ربح).(4/309)
وقال النّاس في الضبّ: إنه مسخ. وقالوا: انظر إلى كفّه وأصابعه. فكفّ القرد وأصابعه أشبه وأصنع. فقدّمت القرد على الخنزير من هذا الوجه.
1012 [علة تحريم لحم الخنزير]
وأمّا القول في لحمه، فإنّا لم نزعم أنّ الخنزير هو ذلك الإنسان الذي مسخ، ولا هو من نسله، ولم ندع لحمه من جهة الاستقذار لشهوته في العذرة، ونحن نجد الشّبّوط والجرّيّ، والدّجاج، والجراد، يشاركنه في ذلك ولكن للخصال التي عدّدنا من أسباب العبادات. وكيف صار أحقّ بأن تمسخ الأعداء على صورته في خلقته.
1013 [حديث عبيد الكلابي]
قال: وقلت مرّة لعبيد الكلابيّ وأظهر من حبّ الإبل والشّغف بها ما دعاني إلى أن قلت له: أبينها وبينكم قرابة؟ قال: نعم، لها فينا خؤولة. إنّي والله ما أعني البخاتيّ، ولكني أعني العراب، التي هي أعرب! قلت له: مسخك الله تعالى بعيرا! قال: الله لا يمسخ الإنسان على صورة كريم، وإنما يمسخه على صورة لئيم، مثل الخنزير ثم القرد. فهذا قول أعرابيّ جلف تكلم على فطرته.
1014 [تأويل آية]
وقد تكلم المخالفون في قوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كََانَتْ حََاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتََانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لََا يَسْبِتُونَ لََا تَأْتِيهِمْ كَذََلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمََا كََانُوا يَفْسُقُونَ} [1].
وقد طعن ناس في تأويل هذه الآية، بغير علم ولا بيان، فقالوا: وكيف يكون ذلك وليس بين أن تجيء في كلّ هلال فرق، ولا بينها إذا جاءت في رأس الهلال فرق، ولا بينها إذا جاءت في رأس السّنة فرق.
1015 [هجرة السمك]
وهذا بحر البصرة والأبلّة، يأتيهم ثلاثة أشهر معلومة معروفة من السنة السّمك الأسبور، فيعرفون وقت مجيئه وينتظرونه، ويعرفون وقت انقطاعه ومجيء غيره، فلا يمكث بهم الحال إلّا قليلا حتّى يقبل السّمك من ذلك البحر، في ذلك الأوان، فلا
[1] 163/ الأعراف: 7.(4/310)
يزالون في صيد ثلاثة أشهر معلومة من السّنة، وذلك في كلّ سنة مرّتين لكل جنس.
ومعلوم عندهم أنه يكون في أحد الزمانين أسمن، وهو الجواف، ثمّ يأتيهم الأسبور، على حساب مجيء الأسبور والجواف. فأمّا الأسبور فهو يقطع إليهم من بلاد الزّنج.
وذلك معروف عند البحريّين. وأنّ الأسبور في الوقت الذي يقطع إلى دجلة البصرة لا يوجد في الزّنج، وفي الوقت الذي يوجد في الزنج لا يوجد في دجلة. وربّما اصطادوا منها شيئا في الطريق في وقت قطعها المعروف، وفي وقت رجوعها. ومع ذلك أصناف من السمك كالإربيان، والرّقّ، والكوسج، والبرد، والبرستوج. وكلّ ذلك معروف الزّمان، متوقع المخرج.
وفي السّمك أوابد وقواطع، وفيها سيّارة لا تقيم. وذلك الشبه يصاب. ولذلك صاروا يتكلمون بخمسة السنة، يهذّونها [1]، سوى ما تعلّقوا به من غيرها.
ثمّ القواطع من الطير قد تأتينا إلى العراق منهم في ذلك الإبّان جماعات كثيرة، تقطع إلينا ثمّ تعود في وقتها.
1016 [رد على المعترض]
قلنا لهؤلاء القوم: لقد أصبتم في بعض ما وصفتم، وأخطأتم في بعض. قال الله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتََانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لََا يَسْبِتُونَ لََا تَأْتِيهِمْ} [2] ويوم السبت يدور مع الأسابيع، والأسابيع تدور مع شهور القمر. وهذا لا يكون مع استواء من الزمان. وقد يكون السبت في الشتاء والصّيف والخريف، وفيما بين ذلك. وليس هذا من باب أزمان قواطع السّمك وهيج الحيوان وطلب السّفاد، وأزمان الفلاحة، وأوقات الجزر والمدّ وفي سبيل الأنواء، والشجر كيف ينفض الورق والثمار والحيّات كيف تسلخ، والأيائل كيف تلقي قرونها، والطير كيف تنطق ومتى تسكت.
ولو قال لنا قائل: إني نبيّ وقلنا له: وما آيتك؟ وعلامتك؟ فقال: إذا كان في آخر تشرين الآخر أقبل إليكم الأسبور من جهة البحر، ضحكوا منه وسخروا به.
ولو قال: إذا كان يوم الجمعة أو يوم الأحد أقبل إليكم الأسبور، حتّى لا يزال يصنع ذلك في كلّ جمعة علمنا اضطرارا إذا عاينّا الذي ذكر على نسقه أنّه صادق، وأنّه لم يعلم ذلك إلّا من قبل خالق ذلك. تعالى الله عن ذلك.
[1] الهذّ: سرعة القراءة. «القاموس: هذذ».
[2] 163/ الأعراف: 7.(4/311)
وقد أقررنا بعجيب ما نرى من مطالع النّجوم، ومن تناهي المدّ والجزر على قدر امتلاء القمر، ونقصانه وزيادته، ومحاقه [1] واستراره [2]. وكلّ شيء يأتي على هذا النّسق من المجاري، فإنّما الآية فيه لله وحده على وحدانيّته.
فإذا قال قائل لأهل شريعة [3] ولأهل مرسى، من أصحاب بحر أو نهر أو واد، أو عين، أو جدول: تأتيكم الحيتان في كلّ سبت، أو قال: في كلّ رمضان. ورمضان متحوّل الأزمان في الشّتاء والصيف والرّبيع والخريف. والسّبت يتحوّل في جميع الأزمان. فإذا كان ذلك كانت تلك الأعجوبة فيه دالة على توحيد الله تعالى، وعلى صدق صاحب الخبر، وأنّه رسول ذلك المسخّر لذلك الصّنف. وكان ذلك المجيء خارجا من النّسق القائم، والعادة المعروفة. وهذا الفرق بذلك بيّن. والحمد لله.
1017 [شنعة المسخ على صورة الخنزير والقرد]
قال الله تعالى: {فَلَمََّا عَتَوْا عَنْ مََا نُهُوا عَنْهُ قُلْنََا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خََاسِئِينَ} [4] وفي الموضع الذي ذكر أنّه مسخ ناسا خنازير قد ذكر القرود. ولم يذكر أنّه مسخ قوما خنازير، ولم يمسخ منهم قرودا. وإذا كان الأمر كذلك فالمسخ على صورة القردة أشنع إذ كان المسخ على صورتها أعظم، وكان العقاب به أكبر. وإنّ الوقت الذي قد ذكر أنّه قد مسخ ناسا قرودا فقد كان مسخ ناسا خنازير. فلم يدع ذكر الخنازير وذكر القرود إلّا والقرود في هذا الباب أوجع وأشنع وأعظم في العقوبة، وأدلّ على شدّة السّخطة. هذا قول بعضهم.
1018 [استطراد لغوي]
قال: ويقال لموضع الأنف من السّباع الخطم، والخرطوم وقد يقال ذلك للخنزير والفنطيسة [5]، والجمع الفناطيس. وقال الأعرابيّ: كأنّ فناطيسها كراكر [6] الإبل.
[1] المحاق: آخر الشهر، أو ثلاث ليال من آخره، أو أن يستسر القمر فلا يرى غدوة ولا عشية.
(القاموس: محق).
[2] استرار القمر: اختفاؤه. (اللسان: ستر).
[3] الشريعة: مورد الماء. (اللسان: شرع).
[4] 166/ الأعراف: 7.
[5] فنطيسة الخنزير: خطمه. (اللسان: فنطس).
[6] الكراكر: جمع كركر، وهو وعاء قضيب البعير والتيس. (اللسان: كركر).(4/312)
1019 [خصائص حيوانات بعض البلدان]
وقال صاحب المنطق: لا يكون خنزير ولا أيّل بحريّا. وذكر أنّ خنازير بعض البلدان يكون لها ظلف واحد، ولا يكون بأرض نهاوند حمار لشدّة برد الموضع، ولأنّ الحمار صرد.
وقال: في أرض كذا وكذا لا يكون بها شيء من الخلد، وإن نقله إنسان إليها لم يحفر، ولم يتّخذ بها بيتا. وفي الجزيرة التي تسمّى صقلّية لا يكون بها صنف من النمل، الذي يسمّى أقرشان.
1020 [قول أهل الكتابين في المسخ]
وأهل الكتابين [1] ينكرون أن يكون الله تعالى مسخ النّاس قرودا وخنازير، وإنما مسخ امرأة لوط حجرا. كذلك يقولون.
باب في الحيات
القول في الحيات اللهمّ جنّبنا التكلف، وأعذنا من الخطل، واحمنا من العجب بما يكون منّا، والثّقة بما عندنا، واجعلنا من المحسنين.
حدثنا أبو جعفر المكفوف النحويّ العنبريّ، وأخوه روح الكاتب ورجال من بني العنبر، أن عندهم في رمال بلعنبر حيّة تصيد العصافير وصغار الطير بأعجب صيد. زعموا أنها إذا انتصف النهار واشتدّ الحرّ في رمال بلعنبر، وامتنعت الأرض على الحافي والمنتعل، ورمض [2] الجندب، غمست هذه الحيّة ذنبها في الرّمل، ثم انتصبت كأنها رمح مركوز، أو عود ثابت، فيجيء الطائر الصغير أو الجرادة، فإذا رأى عودا قائما وكره الوقوع على الرّمل لشدّة حرّه، وقع على رأس الحيّة، على أنّها عود.
فإذا وقع على رأسها قبضت عليه. فإن كان جرادة أو جعلا أو بعض ما لا يشبعها مثله، ابتلعته وبقيت على انتصابها. وإن كان الواقع على رأسها طائرا يشبعها مثله أكلته وانصرفت. وأنّ ذلك دأبها ما منع الرّمل جانبه في الصّيف والقيظ، في انتصاف النهار والهاجرة. وذلك أنّ الطائر لا يشكّ أنّ الحيّة عود، وأنه سيقوم له مقام الجذل [3] للحرباء، إلى أن يسكن الحرّ ووهج الرّمل.
[1] أهل الكتابين: اليهود والنصارى.
[2] الرمض: شدة الحر. (اللسان: رمض).
[3] الجذل: أصل الشجرة وغيرها، أو ما عظم من أصول الشجر. (القاموس: جذل).(4/313)
وفي هذا الحديث من العجب أن تكون هذه الحيّة تهتدي لمثل هذه الحيلة.
وفيه جهل الطائر بفرق ما بين الحيوان والعود. وفيه قلة اكتراث الحيّة بالرّمل الذي عاد كالجمر، وصلح أن يكون ملّة [1] وموضعا للخبزة، ثمّ أن يشتمل ذلك الرّمل على ثلث الحيّة ساعات من النّهار، والرمل على هذه الصفة. فهذه أعجوبة من أعاجيب ما في الحيّات.
وزعم لي [2] رجال من الصّقالبة، خصيان وفحول، أنّ الحيّة في بلادهم تأتي البقرة المحفّلة [3] فتنطوي على فخذيها وركبتيها إلى عراقيبها، ثمّ تشخص صدرها نحو أخلاف ضرعها، حتى تلتقم الخلف فلا تستطيع البقرة مع قوّتها أن تترمرم [4].
فلا تزال تمصّ اللبن، وكلما مصّت استرخت. فإذا كادت تتلف أرسلتها.
وزعموا أن تلك البقرة إمّا أن تموت، إمّا أن يصيبها في ضرعها فساد شديد تعسر مداواته.
والحيّة تعجب باللبن. وإذا وجدت الأفاعي الإناء غير مخمّر كرعت فيه، وربّما مجّت فيه ما صار في جوفها، فيصيب شارب ذلك اللبن أذى ومكروه كثير.
ويقال إنّ اللبن محتضر [5]. وقد ذهب ناس إلى العمّار، على قولهم إنّ الثوب المعصفر محتضر [5]. فظنّ كثير من العلماء أنّ المعنى في اللبن إنما رجع إلى الحيّات.
والحيّة تعجب باللّفّاح [6] والبطّيخ، وبالحرف [7]، والخردل المرخوف [8] وتكره ريح السذاب [9] والشّيح، كما تكره الوزغ ريح الزّعفران.
[1] الملّة: الرماد الحار والجمر. (القاموس: ملل).
[2] نهاية الأرب 9/ 139.
[3] المحفلة: الناقة أو البقرة أو الشاة لا يحلبها صاحبها أياما حتى يجتمع لبنها في ضرعها، فإذا احتلبها المشتري وجدها غزيرة فزاد في ثمنها، فإذا حلبها بعد ذلك، وجدها ناقصة اللبن عما حلبه أيام تحفيلها. (اللسان: حفل).
[4] تترمرم: تتحرك. (اللسان: رمم).
[5] محتضر: تحضره الجن. (اللسان: حضر).
[6] اللفاح: نبات يقطيني أصفر شبيه بالباذنجان طيب الرائحة. (اللسان: لفح).
[7] الحرف: حب الرشاد. (القاموس: حرف).
[8] المرخوف: المسترخي. (القاموس: رخف).
[9] السذاب: ضرب من البقول. (القاموس: سذب).(4/314)
وليس في الأرض شيء جسمه مثل جسم الحيّة، إلا والحيّة أقوى بدنا منه أضعافا. ومن قوّتها أنها إذا أدخلت رأسها في جحرها، أو في صدع إلى صدرها، لم يستطع أقوى النّاس وهو قابض على ذنبها بكلتا يديه أن يخرجها لشدّة اعتمادها، وتعاون أجزائها. وليست بذات قوائم لها أظفار أو مخالب أو أظلاف، تنشبها في الأرض، وتتشبث بها، وتعتمد عليها. وربما انقطعت في يدي الجاذب لها، مع أنها لدنة ملساء علكة فيحتاج الرفيق في أمرها عند ذلك، أن يرسلها من يديه بعض الإرسال، ثمّ ينشطها كالمختطف والمختلس، وربما انقطع ذنبها في يد الجاذب لها. فأمّا أذناب الأفاعي فإنها تنبت.
ومن عجيب ما فيها من هذا الباب، أنّ نابها يقطع بالكاز [1]، فينبت حتى يتمّ نباته في أقلّ من ثلاث ليال.
والخطّاف في هذا الباب خلاف الخنزير لأنّ الخطاف إذا قلمت إحدى عينيه رجعت. وعين البرذون يركبها البياض، فيذهب في أيّام يسيرة.
وناب الأفعى يحتال له بأن يدخل في فيها حمّاض أترجّ [2]، ويطبق لحيها الأعلى على الأسفل، فلا تقتل بعضّتها أياما صالحة.
والمغناطيس الجاذب للحديد، إذا حكّ عليه الثّوم، لم يجذب الحديد.
1021 [خصائص الأفعى]
والأفعى لا تدور عينها في رأسها، وهي تلد وتبيض، وذلك أنها إذا طرّقت [3] ببيضها تحطّم في جوفها، فترمي بفراخها أولادا، حتى كأنها من الحيوان الذي يلد حيوانا مثله.
وفي الأفاعي من العجب أنها تذبح حتى يفرى منها كلّ ودج، فتبقى كذلك
[1] الكاز: المقطع. «السامي في الأسامي 147».
[2] في القاموس «ترج»: (الأترجّ، والأترجّة والتّرنجة والتّرنج: نبات معروف، حامضه مسكّن غلمة النساء ويجلو اللون والكلف، وقشره في الثياب يمنع السوس). وفي معجم الألفاظ الزراعية 163 164. (جنس الليمون فيه أنواع البرتقال والأترج والنارنج والليمون الحلو والحامض، وهي تسمى الموالح في مصر والحوامض في الشام، وما في جوف ثماره يسمى الحمّاض. جنس شجر مثمر من الفصيلة البرتقالية).
[3] طرّقت ببيضها: حان لها أن يخرج بيضها. (القاموس: طرق).(4/315)
أيّاما لا تموت. وأمرت الحاوي فقبض على خرزة [1] عنقها، فقلت له: اقبضها من الخرزة [1] التي تليها قبضا رفيقا. فما فتح بينها بقدر سمّ الإبرة حتّى بردت ميّتة.
وزعم أنّه قد ذبح غيرها من الحيّات فعاشت على شبيه بذلك، ثمّ إنه فصل تلك الخرزة [1] على مثال ما صنع بالأفعى، فماتت بأسرع من الطّرف.
1022 [قوة بدن الممسوح]
وكلّ شيء ممسوح البدن، ليس بذي أيد ولا أرجل، فإنّه يكون شديد البدن، كالسّمكة والحيّة.
1023 [سم الأفعى]
وزعم أحمد بن غالب قال: باعني حوّاء ثلاثين أفعى بدينارين، وأهدي إليّ خمسا اصطادها من قبالة القلب، في تلك الصحارى على شاطئ دجلة. قال: وأردتها للتّرياق. قال: فقال لي حين جاءني بها: قل لي: من يعالجها؟ قال: فقلت له: فلان الصيدلانيّ. فقال: ليس عن هذا سألتك، قل لي: من يذبحها ويسلخها؟ قال: قلت:
هذا الصيدلانيّ بعينه. قال: أخاف أن يكون مغرورا من نفسه. إنّه والله إن أخطأ موضع المفصل من قفاه، وحركته أسرع من البرق، فإن كان لا يحسن ولا يدري كيف يتغفله، فينقره نقرة، لم يفلح بعدها أبدا. ولكني سأتطوّع لك بأن أعمل ذلك بين يديه. قال: فبعثت إليه. وكان رأسه إلى الجونة [2]، فيغفل الواحدة فيقبض على قفاها بأسرع من الطّرف، ثمّ يذبحها. فإذا ذبحها سال من أفواهها لعاب أبيض، فيقول: هذا هو السم الذي يقتل! قال: فجالت يده جولة، وقطرت من ذلك اللّعاب قطرة على طرف قميص الصيدلانيّ. قال: فتفشّى ذلك القاطر حتّى صار في قدر الدّرهم العظيم. ثم إنّ الحوّاء امتحن ذلك الموضع فتهافت في يده، وبقيت الأفاعي مذبّحة تجول في الطست ويكدم بعضها بعضا، حتى أمسينا.
قال: وبكرت على أبي رجاء إلى باب الجسر، أحدّثه بالحديث، فقال لي وددت أنّي رأيت موضع القطرة من قميص الصّيدلاني! قال: فو الله مارمت حتّى مرّ معي إلى الصّيدلانيّ، فأريته موضعه.
وأصحابنا يزعمون أنّ لعاب الأفاعي لا يعمل في الدّم. إلّا أنّ أحمد بن المثنّى
[1] الخرزة: فقرة من فقرات العنق. (القاموس: خرز).
[2] الجونة: سلة صغيرة مستديرة مغشاة أدما تكون مع العطارين. اللسان (جون).(4/316)
زعم أنّ من الأفاعي جنسا لا يضرّ الفراريج من بين الأشياء، ولا أدري أيّ الخبرين أبعد: أخبر ابن غالب في تفسيخ الثّوب، أو خبر ابن المثنى في سلامة الفرّوج على الأفعى؟
1024 [ما تضيء عينه من الحيوان]
وزعم محمد بن الجهم أنّ العيون التي تضيء بالليل كأنها مصابيح، عيون الأسد والنمور، والسّنانير والأفاعي. فبينا نحن عنده إذ دخل عليه بعض من يجلب الأفاعي من سجستان، ويعمل التّرياقات، ويبيعها أحياء ومعمولة [1]، فقال له:
حدّثهم بالذي حدّثتني به من عين الأفعى. قال: نعم، كنت في منزلي نائما في ظلمة، وقد كنت جمعت رؤوس أفاع كنّ عندي، لأرمي بها، وأغفلت تحت السّرير رأسا واحدا، ففتحت عيني تجاه السّرير في الظلمة، فرأيت ضياء إلّا أنّه ضئيل ضعيف رقيق، فقلت: عين غول أو بعض أولاء السّعالى، وذهبت نفسي في ألوان من المعاني، فقمت فقدحت نارا، وأخذت المصباح معي، ومضيت نحو السرير فلم أجد تحته إلّا رأس أفعى، فأطفأت السّراج ونمت وفتحت عيني، فإذا ذلك الضوء على حاله، فنهضت فصنعت كصنيعي الأوّل، حتى فعلت ذلك مرارا. قال: فقلت آخر مرّة: ما أرى شيئا إلّا رأس أفعى، فلو نحّيته! فنحّيته وأطفأت السّراج، ثمّ رجعت إلى منامي، ففتحت عيني فلم أر الضّوء، فعلمت أنّه من عين الأفعى، ثمّ سألت عن ذلك، فإذا الأمر حقّ، وإذا هو مشهور في أهل هذه الصّناعة.
1025 [علة قوة بدن الحية]
قال: وربّما قبض الرّجل الشديد الأسر والقوّة القبضة على قفا الحيّة فتلتفّ عليه فتصرعه. وفي صعودها وفي سعيها خلف الرّجل الشديد الحضر، أو عند هربها حتّى تفوت وتسبق، وليست بذات قوائم، وإنما تنساب على بطنها، وفي تدافع أجزائها وتعاونها، وفي حركة الكلّ من ذات نفسها، دليل على إفراط قوّة بدنها.
ومن ذلك أنها لا تمضغ، وإنما تبتلع، فربّما كان في البضعة أو في الشيء الذي ابتلعته عظم، فتأتي جذم شجرة، أو حجرا شاخصا [2] فتنطوي عليه انطواء شديدا فيتحطّم ذلك العظم حتّى يصير رفاتا.
[1] في حياة الحيوان 1/ 401 «الحية»: (يحرم أكل الترياق المعمول من لحومها).
[2] شخص: ارتفع. (القاموس: شخص).(4/317)
ثمّ يقطع ذنبها فينبت. ثمّ تعيش في الماء، إن صارت في الماء، بعد أن كانت برّيّة، وتعيش في البرّ بعد أن طال مكثها في الماء وصارت مائية.
قال: وإنّما أتتها هذه القوّة، واشتدّت فقر ظهرها هذه الشّدّة لكثرة أضلاعها، وذلك أنّ لها من الأضلاع عدد أيّام الشّهر. وهي مع ذلك أطول الحيوان عمرا.
1026 [موت الحية]
ويزعمون أنّ الحيّة لا تموت حتف أنفها، وإنّما تموت بعرض يعرض لها. ومع ذلك فإنه ليس في الحيوان شيء هو أصبر على جوع من حيّة لأنّها إن كانت شابّة فدخلت في حائط صخر، فتتبّعوا موضع مدخلها بوتد أو بحجر، ثمّ هدموا هذا الحائط، وجدوها هناك منطوية وهي حيّة. فالشّابة تذكر بالصّبر عند هذه العلّة. فإن هرمت صغرت في بدنها، وأقنعها النّسيم، ولم تشته الطعم. وقد قال الشاعر: وهو جاهليّ [1]: [من الرجز] فابعث له من بعض أعراض اللّمم ... لميمة من حنش أعمى أصم ... قد عاش حتى هو لا يمشي بدم ... فكلّما أقصد منه الجوع شم
وهذا القول لهذا المعنى. وفي هذا الوجه يقول الشاعر [2]: [من الرجز] داهية قد صغرت من الكبر ... صلّ صفا ما ينطوي من القصر ... طويلة الإطاق من غير خفر ... كمطرق قد ذهبت به الفكر [3] ... جاء بها الطوفان أيّام زخر
1027 [صبر الحية على فقد الطّعم]
ومن أعاجيبها أنها وإن كانت موصوفة بالشّره والنّهم، وسرعة الابتلاع، فلها في الصّبر في أيّام الشّتاء ما ليس للزّهيد. ثمّ هي بعد ممّا يصير بها الحال إلى أن تستغني عن الطّعم.
[1] الرجز بلا نسبة في البرصان 233، والسمط 490، واللسان (حنش)، والتهذيب 4/ 186.
[2] الرجز للنابغة في ديوان المعاني 2/ 145، والحماسة الشجرية 274273، وبلا نسبة في الخزانة 2/ 457، والمخصص 8/ 109، 16، 106، 185، والمنصف 3/ 16، وأساس البلاغة (حرو)، وربيع الأبرار 5/ 475.
[3] الإطراق: إرخاء العينين. (القاموس: طرق).(4/318)
1028 [النمس والثعابين]
ثمّ قد يزعمون أنّ بمصر دويبّة يقال لها النمس يتّخذها الناطور إذا اشتدّ خوفه من الثّعابين لأنّ هذه الدّابة تنقبض وتنضمّ، تتضاءل وتستدقّ، حتّى كأنها قديدة [1] أو قطعة حبل، فإذا عضّها الثّعبان وانطوى عليها زفرت، وأخذت بنفسها وزخرت جوفها فانتفخ. فتفعل ذلك وقد انطوى عليها، فتقطعه قطعا من شدّة الزّخرة. وهذا من أعجب الأحاديث.
1029 [القواتل من الحيات]
والثّعابين إحدى القواتل. ويزعمون أنها ثلاثة أجناس لا ينجع فيها رقية ولا حيلة، كالثعبان، والأفعى، والهنديّة. ويقال: إنّ ما سواها فإنما يقتل مع ما يمدّها من الفزع فقد يفعل الفزع وحده فكيف إذا قارن سمّها؟! وسمّها إن لم يقتل أمرض.
1030 [ما يفعل الفزع في المسموم]
ويزعمون أنّ رجلا قال [2] تحت شجرة، فتدلّت عليه حيّة منها فعضّت رأسه، فانتبه محمرّ الوجه، فحكّ رأسه، وتلفّت، فلم ير شيئا، فوضع رأسه ينام، وأقام مدّة طويلة لا يرى بأسا، فقال له بعض من كان رأى تدلّيها عليه ثمّ تقلّصها عنه وهروبها منه: هل علمت من أيّ شيء كان انتباهك تحت الشّجرة؟ قال: لا والله، ما علمت.
قال: بلى، فإنّ الحيّة الفلانيّة نزلت عليك حتّى عضّت رأسك، فلما جلست فزعا تقلّصت عنك وتراجعت. ففزع فزعة وصرخ صرخة كانت فيها نفسه. وكأنهم توّهموا أنّه لما فزع واضطراب، وقد كان ذلك السمّ مغمورا ممنوعا فزال مانعه، وأوغله ذلك الفزع، حين تفتّحت منافسه، إلى موضع الصّميم والدّماغ وعمق البدن، فانحلّ موضع العقد الذي انعقدت عليه أجزاؤه وأخلاطه.
وأنشد الأصمعيّ: [من الرجز] نكيثة تنهشه بمنبذ
[1] قديدة: تصغير القدة، وهي جمع القد. والقد: سيور تقد من جلد فطير غير مدبوغ، فتشد بها الأقتاب والمحامل. (اللسان: قدد).
[2] قال يقيل قيلولة: نام في نصف النهار.(4/319)
وأنشد لأبي دؤاد الإياديّ [1]: [من الخفيف] فأتاني تقحيم كعب لي المن ... طق إن النّكيثة الإقحام [2]
قال: فالفزع إمّا أن يكون يوصل السمّ إلى المقاتل، وإمّا أن يكون معينا له، كتعاون الرّجلين على نزع وتد. فهم لا يجزمون على أنّ الحيّة من القواتل البتّة، إلّا أن تقتل إذا عضّت النائم والمغشيّ عليه، والطفل الغرير، والمجنون الذي لا يعقل، وحتّى تجرّب عليه الأدوية.
1031 [الترياق وانقلاب الأفعى]
وكنت يوما عند أبي عبد الله أحمد بن أبي دؤاد، وكان عنده سلمويه وابن ماسويه، وبختيشوع بن جبريل، فقال: هل ينفع التّرياق من نهشة أفعى؟ فقال بعضهم: إذا عضّت الأفعى فأدركت قبل أن تنقلب نفع الترياق، وإن لم تدرك لم ينفع لأنهم إن قلّلوا من التّرياق قتله السّمّ، وإن كثّروا منه قتله الفاضل عن مقدار الحاجة.
قلت: فإنّ ابن أبي العجوز خبّرني بأنها ليست تنقلب لمجّ السمّ وإفراغه، ولكنّ الأفعى في نابها عصل [3]، وإذا عضّت استفرغت إدخال النّاب كلّه، وهو أحجن أعصل، فيه مشابه من الشّصّ، فإذا انقلبت كان أسهل لنزعه وسلّه. فأمّا لصبّ السّمّ وإفراغه فلا. قال: والله لعلّه ما قلت! قلت: ما أسرع ما شككت!!.
ثمّ قلت له: فكأنما وضعوا الترياق واجتلبوا الأفاعي وضنّوا وعزموا على أنه لا ينفع إلّا بدرك الأفعى قبل أن تنقلب! وكيف صار التّرياق بعد الانقلاب لا يكون إلّا في إحدى منزلتين: إمّا أن يقتل بكثرته، وإمّا ألّا ينفع بقلّته! فكأنّ الترياق ليس نفعه إلّا في المنزلة الوسطى التي لا تكون فاضلة ولا ناقصة! ولكني أقول لك: كيف يكون نفعه إذا كان الترياق جيّدا قويّا، وعوجل فسقي المقدار الأوسط، قبل أن يبلغ الصّميم، ويغوص في العمق. وعلى هذا وضع، وهم كانوا أحزم وأحذق من أن يتكلّفوا شيئا، ومقداره من النّفع لا يوصل إلى معرفته.
[1] ديوان أبي دؤاد 338، والأصمعيات 186.
[2] في ديوانه: (تقحيمه: توركه قولا نابيا، وهو إدخال الكلام بعضه في إثر بعض. كعب: قيل إنه ابن مامة بلغه عنه أمر يكرهه. النكيثة: الخطة الصعبة).
[3] العصل: الاعوجاج. (القاموس: عصل).(4/320)
ويقول بعض الحذّاق: إنّ سقي التّرياق بعد النهش بساعة أو ساعتين موت المنهوش.
ثم قلت له: وما علّمك؟ وبأيّ سبب أيقنت أنها تمجّ من جوف نابها شيئا؟! ولعله ليس هنالك إلّا مخالطة جوهر ذلك النّاب لدم الإنسان! أولسنا قد نجد من الإنسان من يعضّ صاحبه فيقتله، ويكون معروفا بذلك؟! وقد تقرّون أنّ الهنديّة والثّعبان يقتلان، إمّا بمخالطة الرّيق الدم، وإمّا بمخالطة السّنّ الدّم، من غير أن تدّعوا أنّ أسنانهما مجوّفة. وقد أجمع جميع أصحاب التجارب أنّ الحيّة تضرب بقصبة فتكون أشدّ عليها من العصا. وقد يضرب الرجل على جسده بقضبان اللّوز وقضبان الرّمان، وقضبان اللّوز أعلك [1] وألدن، ولكنّها أسلم، وقضبان الرّمّان أخفّ وأسخف ولكنها أعطب.
وقد يطأ الإنسان على عظم حيّة أو إبرة عقرب، وهما ميتتان، فيلقى الجهد.
وقد يخرج السّكّين من الكير وهو محمى، فيغمس في اللبن فمتى خالط الدّم قام مقام السمّ، من غير أن يكون مجّ في الدّم رطوبة غليظة أو رقيقة.
وبعض الحجارة يكوى بها وهو رخو الأورام حتى يفرقها ويحمصها [2] من غير أن يكون نفذ إليها شيء منه، وليس إلّا الملاقاة.
قلت: ولعلّ قوى قد انفصلت من أنياب الأفاعي إلى دماء النّاس. وقد رووا أنّه قيل لجالينوس: إنّ ها هنا رجلا يرقي العقارب فتموت، أو تنحلّ فلا تعمل، فرآه يرقيها ويتفل عليها، فدعا به بحضرة جماعة وهو على الرّيق، ودعا بغدائه فتغدّى معه، ثمّ دعي له بالعقارب فتفل عليها، فلم يجد لعابه يصنع شيئا إلّا أن يكون ريقا.
وهو حديث يدور بين أهل الطبّ، وأنت طبيب. فلم أره في يومه ذلك قال شيئا إلّا من طريق الحزر والحدس، والبلاغات.
1032 [سموم الحيات والعقارب]
وسموم الحيّات ذوات الأنياب، والعقارب ذوات الإبر، إنما تعمل في الدّم بالإجماد والإذابة. وكذا سموم ذوات الشعر والقرون والجمّ، إنما تعمل في العصب، ومنها ما يعمل في الدم.
[1] أعلك: أشد وأمتن، وطعام عالك: متين الممضغة. (القاموس: علك).
[2] انحمص: انقبض وتضاءل. (القاموس: حمص).(4/321)
1033 [شرب المسموم للّبن]
وحدّثني بعض أصحابنا قال: كنت إمّا برماي وإما بباري وهما بلاد حيّات وأفاع، ونحن في عرس، إذ أدخلوا الخدر العروس فأبطؤوا عليه شيئا، فأغفى وتلوّت على ذراعه أفعى، فذهب ينفضها وحجمت على ذراعه وقد يقال ذلك إذا كانت العضّة في صورة شرط الحجّام فصرخ وجاؤوا يتعادون [1] فوجدوها فقتلوها، وسقوه في تلك اللّيلة لبن أربعين عنزا، كلّما استقرّ في جوفه قعب من ذلك اللّبن قاء فيخرج منه كأمثال طلع الفحّال [2] الأبيض، فيه طرائق من دسم تعلوه خضرة، حتى استوفى ذلك اللّبن كله. قال: فعندها قال شيخ من أهل القرية: إن كنتم أخرجتم ذلك السّمّ فقد أخرجتم نفسه معه! قال: فغبر أيّاما بأسوإ حال ثمّ مات. قال: وكنت أعجب من سرعة استحالة اللّبن وجموده.
1034 [اكتفاء الحيات والضباب بالنسيم]
قلت: والحيّات البرّيّة إذا هرمت تنسّمت النّسيم فاكتفت بذلك، وكذلك الضّباب إذا هرمت.
قال: ولا يكون ذلك للمائيّة من حيّات الغياض وشطوط الأنهار، ومناقع المياه.
1035 [الحيات المائية]
قال: والحيّات المائيّة، إمّا أن تكون برّيّة أو جبليّة، فاكتسحتها السّيول واحتملتها في كثير من أصناف الحشرات والدّوابّ والسّباع، فتوالدت تلك الحيّات وتلاقحت هناك. وإمّا أن تكون كانت أمهاتها وآباؤها في حيّات الماء. وكيف دارت الأمور فإنّ الحيّات في أصل الطّبع مائيّة. وهي تعيش في النّدى، وفي الماء، وفي البرّ وفي البحر، وفي الصّخر والرّمل. ومن طباعها أن ترقّ وتلطف على شكلين: أحدهما لطول العمر، والآخر للبعد من الرّيف. وعلى حسب ذلك تعظم في المياه والغياض.
قال: وكلّ شيء في الماء ممّا يعايش السمك، مما أشبه الحيّات كالمارماهي والأنكليس فإنها كلها على ضربين: فأحدهما من أولاد الحيات انقلبت بما عرض لها من طباع البلد والماء. والآخر من نسل سمك وحيات تلاقحت إذ كان طباع السمك قريبا من طباع تلك الحيّات. والحيّات في الأصل مائيّة، وكلّها كانت حيّات.
[1] يتعادون: يتبارون في العدو. (القاموس: عدو).
[2] الطلع: نور النخل. (القاموس: طلع). الفحال: ذكر النخل. (القاموس: فحل).(4/322)
1036 [قرابة بعض النبات لبعض]
وقد زعم أهل البصرة أنّ مشان [1] الكوفة قريب من برنيّ [2] البصرة، قلبته البلدة.
ويزعم أهل الحجاز أنّ نخل النارجيل [3] هو نخل المقل [4]، ولكنّه انقلب لطباع البلدة. وأشباه ذلك كثير.
ويزعمون أنّ الفيلة مائية الطّباع بالجاموسيّة والخنزيريّة التي فيها.
1037 [الذئب والنسيم]
قال: والذّئب أيضا، وإن كان عندهم ممّا لا يجتزي بالنّسيم، فإنّه من الحيوان الذي يفتح فاه للنّسيم ليبرد جوفه من اللهيب الذي يعتري السّباع ولأنّ ذلك يمدّ قوّته، ويقطع عنه ببرودته ولطافته الرّيق. فإن كان ذا سعر إذا عدا احتشى ريحا.
1038 [صبر الذئب والأسد على الطعام]
وربّما جاع الأسد ففعل فعل الذّئب، فالأسد والذّئب يختلفان في الجوع والصبر لأنّ الأسد شديد النّهم، رغيب حريص شره وهو مع ذلك يحتمل أن يبقى أيّاما لا يأكل شيئا. والذّئب وإن كان أقفر منزلا، وأقلّ خصبا، وأكثر كدّا وإخفاقا، فلا بدّ له من شيء يلقيه في جوفه، فإذا لم يجد شيئا استعار النسيم، [وربما استفّ التراب] [5].
1039 [حيلة بعض الجائعين]
والنّاس إذا جاعوا واشتدّ جوعهم شدّوا على بطونهم العمائم. فإن استقلوا، وإلّا شدّوا الحجر.
1040 [شعر في الذئب]
وأنشد: [من الطويل] كسيد الغضا العادي أضلّ جراءه ... على شرف مستقبل الرّيح يلحب [6]
[1] المشان: نوع من الرطب إلى السواد دقيق، هو أعجمي. (اللسان: مشن).
[2] البرني: ضرب من التمر أصفر مدور. (اللسان: برن).
[3] النارجيل: جوز الهند. (اللسان: نرجل).
[4] المقل: حمل الدوم، واحدته مقلة، والدوم: شجرة تشبه النخلة في حالاتها. (اللسان: مقل).
[5] الزيادة من ثمار القلوب 310 (578)، حيث وردت الفقرة كلها.
[6] السيد: الذئب. (القاموس: سيد). الجراء: جمع جرو. الشرف: ما علا من الأرض. (القاموس:
شرف). يلحب: يسرع. (القاموس: لحب).(4/323)
كأنّه يجمع استدخال الرّيح والنّسيم، فلعلّه أن يجد ريح جرائه.
وقال الرّاجز [1]: [من الرجز] يستخبر الرّيح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصّفا الموقّع [2]
1041 [شمّ الظليم]
والظّليم يكون على بيضه فيشمّ ريح القانص من أكثر من غلوة، ويبعد عن رئاله فيشمّ ريحها من مكان بعيد.
وأنشدني يحيى بن نجيم بن زمعة قال [3]: [من الرجز] أشمّ من هيق وأهدى من جمل [4] وأنشدني عمرو بن كركرة: [من الرجز] ما زال يشتمّ اشتمام الهيق
قال: وإنّما جعله ذئب غضا لأنهم يقولون: ذئب الخمر أخبث.
ويقولون: شيطان الحماطة: يريدون الحيّة [5].
1042 [الحيّات الخفيفة والثقيلة]
وكلّ حيّة خفيفة الجسم فهي شيطان. والثّقال لا تنشط من أرض إلى أرض، وتثقل عمّا تبلغه المستطيلات الخفاف. وقال طرفة [6]: [من الطويل] تلاعب مثنى حضرميّ كأنّه ... تعمّج شيطان بذي خروع قفر
[1] الرجز لأبي الرديني العكلي في البيان 1/ 82، والخزانة 3/ 105 (بولاق)، وبلا نسبة في البرصان 198، واللسان والتاج (مخر، قرع)، وديوان الأدب 1/ 311.
[2] في البرصان: (وصف الراجز استرواح الذئب وحرصه على استنشاق الريح). المقراع: الفأس.
(اللسان: قرع).
[3] الرجز بلا نسبة في البرصان 303، وثمار القلوب (652)، واللسان (نعم)، والتهذيب 3/ 14.
[4] الهيق: ذكر النعام. (اللسان: هيق).
[5] ثمار القلوب (623).
[6] لم يرد البيت في ديوان طرفة، وهو بلا نسبة في اللسان (حبب، عمج، خرع، شطن، ثنى)، والتاج (حبب، خرع، ثنى)، والمقاييس 2/ 28، 3/ 148، 4/ 137، والمجمل 2/ 30، والمخصص 7/ 110، 8/ 109، وديوان الأدب 2/ 60، 440.(4/324)
الكرماني عن أنس ولا أدري من أنس هذا في صفة ناقة: [من الطويل] شناحية فيها شناح كأنّها ... حباب بكفّ الشّأو من أسطع حشر [1]
والحباب: الحيّة الذّكر.
1043 [المضاف إلى النبات من الحيوان]
وكما يقولون [2]: ذئب الخمر، يقولون: أرنب الخلّة [3]، وتيس الرّبل، وضبّ السّحا [3]. والسّحا بقلة تحسن حاله من أكلها.
وكذلك يقولون: «ما هو إلّا قنفذ برقة» [4] لأنه يكون أخبث له.
1044 [خصائص البلدان]
وذلك كلّه على قدر طبائع البلدان والأغذية العاملة في طبائع الحيوان. ألا ترى أنّهم يزعمون أنّ من دخل أرض تبّت [5] لم يزل ضاحكا مسرورا، من غير عجب حتّى يخرج منها. ومن أقام بالموصل حولا ثم تفقّد قوّته وجد فيها فضلا. ومن أقام بالأهواز حولا فتفقّد عقله ذو فراسة وجد النّقصان فيه بيّنا. كما يقال في حمّى خيبر، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وجرب الزّنج. وقال الشمّاخ [6]: [من الوافر] كأنّ نطاة خيبر زوّدته ... بكور الورد ريّثة القلوع [7]
وقال أوس بن حجر [8]: [من الطويل] كأنّ به إذ جئته خيبريّة ... يعود عليه وردها وقلالها [9]
[1] الشناحية: الناقة الطويلة الجسم. (القاموس: شنح). الشأو: الزمام. (القاموس: شأو). الأسطع:
العنيق الطويل. (القاموس: سطع).
[2] ثمار القلوب 330 (577، 614).
[3] الخلة والسحا: شجرة شاكة. (القاموس: خلل، سحى).
[4] برقة: الأرض ذات الحجارة المختلفة الألوان. وللعرب مئة برقة، من بينها (برقة أنقد) وهو القنفذ.
انظر معجم البلدان 1/ 390وما بعد.
[5] تبت: بلد بأرض الترك، أو هي مملكة متاخمة للصين والهند. معجم البلدان 2/ 10، وانظر الفقرة في ثمار القلوب 310 (577، 794)، وعيون الأخبار 1/ 219.
[6] ديوان الشماخ 223، واللسان (صلل، نطا)، والتاج (نطا)، وبلا نسبة في اللسان والتاج (قلع)، والتهذيب 1/ 25، 14/ 31، ومعجم البلدان 5/ 291 (نطاة).
[7] في ديوانه: (نطاة خيبر: قيل: هي خيبر نفسها علم لها، وقيل واد بخيبر، وقيل: حصن بها. زودته:
أعطته زادا. بكور الورد: يعني حمى تباكر بوردها جسمه. ريثة القلوع: بطيئة الذهاب والانكشاف).
[8] ديوان أوس 100، وثمار القلوب 436 (791)، والسمط 918.
[9] في ديوانه: (الورد: ورود الحمى).(4/325)
وقال آخر [1]: [من الرجز] كأنّ حمّى خيبر تملّه
وكذلك القول في وادي جحفة، وفي مهيعة، وفي أصول النخل حيث كان.
وقال عبد الله بن همام السّلوليّ في دماميل الجزيرة [2]: [من الطويل] أتيح له من شرطة الحيّ جانب ... غليظ القصيرى لحمه متكاوس ... تراه إذا يمضي يحكّ كأنّما ... به من دماميل الجزيرة ناخس
فحدّثني أبو زفر الضّراري قال [3]: مات ضرار بن عمرو وهو ابن تسعين سنة بالدّماميل. قلت: والله إنّ هذا لعجب! قال: كلّا، إنّما احتملها من الجزيرة.
وكذلك القول في طواعين الشّام. قال أحد بني المغيرة، فيمن مات منهم بطواعين الشام، ومن مات منهم بطعن الرّماح أيّام تلك المغازي [4]: [من السريع] من ينزل الشّام ويعرس به ... فالشّام إن لم يفنه كاذب ... أفنى بني ريطة فرسانهم ... عشرين لم يقصص لهم شارب ... ومن بني أعمامهم مثلهم ... لمثل هذا عجب العاجب ... طعن وطاعون مناياهم ... ذلك ما خطّ لنا الكاتب
1045 [قدوم عبد الله بن الحسن على عمر بن عبد العزيز وهشام]
قال [5] ولمّا قدم عبد الله بن الحسن بن الحسن رضي الله عنهم، على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في حوائج له، فلمّا رأى مكانه بالشام، وعرف سنّه وسمته وعقله، ولسانه، وصلاته وصيامه، فلم يكن شيء أحبّ إليه من ألّا يراه أحد من أهل الشام، فقال له: إنّي أخاف عليك طواعين الشّام فإنّك لن تغنم أهلك أكثر
[1] الرجز لليلى الأخيلية في ديوانها 99، ولعمرة بنت الحمارس في أشعار النساء 155، وبلا نسبة في ثمار القلوب (791).
[2] البيتان في البرصان 147، ومعجم البلدان 2/ 134 (جزيزة أقور). والثاني بلا نسبة في الجمهرة 565، 1051.
[3] ثمار القلوب (794).
[4] الأبيات للمهاجر بن خالد بن الوليد في الإصابة 6/ 160رقم 8329، وتاريخ الطبري 4/ 65، ولبعض بني المغيرة في ثمار القلوب 435 (789)، والتعازي للمبرد 215.
[5] ثمار القلوب 435 (789).(4/326)
منك، فالحق بهم فإنّ حوائجك ستسبقك إليهم. ثمّ قدم على هشام، فكره عبد الله أن يدخل منزل له حتّى يأتيه في ثياب سفره مخافة سوء ظنّه. فلما أعلمه الحاجب مكانه، ودخل عليه وعاينه، كره أن يقيم بها طرفة عين. قال: اذكر حوائجك. قال:
أحطّ رحلي وأضع ثياب سفري، وأتذكّر حوائجي. قال: إنّك لن تجدني في حال خيرا لك منّي الساعة! يريد أنّ القلوب أرقّ ما تكون إذا تلاقت العيون عن بعد عهد.
وليس ذلك أراد.
1046 [طحال البحرين]
والعامّة تنشد [1]: [من الطويل] من يسكن البحرين يعظم طحاله ... ويغبط بما في بطنه وهو جائع
ونظر دكين الرّاجز، إلى أبي العباس محمّد بن ذويب الفقيميّ الرّاجز، وهو غليّم مصفرّ مطحول، وهو يمتح على بكرة ويرتجز. فقال: من هذا العمانيّ؟ فلزمته هذه النّسبة [2].
1047 [جرب الزنج]
وحدّثني يوسف الزّنجي أنّه لا بدّ لكلّ من قدم من شقّ العراق إلى بلاد الزّنج ألّا يزال جربا، ما أقام بها. وإن أكثر من شرب نبيذها، أو شراب النّارجيل، طمس الخمار على عقله، حتّى لا يكون بينه وبين المعتوه إلّا الشّيء اليسير [3].
1048 [طبيعة المصيصة]
وخبّرني كم شئت من الغزاة، أن من أطال الصّوم بالمصيصة في أيّام الصّيف، هاج به المرار. وأنّ كثيرا منهم قد جنّوا عن ذلك الاحتراق [4].
1049 [حمى الأهواز]
فأمّا قصبة الأهواز، فإنّها قلبت كلّ من نزلها من بني هاشم إلى كثير من
[1] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (بطن)، والمستقصى 1/ 319، وزهر الأكم 3/ 7، ومجمع الأمثال 1/ 278، وفصل المقال 435، ورسائل الجاحظ 1/ 341، ونوادر المخطوطات 1/ 261، والشعر والشعراء 475 (ليدن)، 2/ 755 (شاكر)، وثمار القلوب (794).
[2] الخبر في الشعر والشعراء 475 (ليدن)، 2/ 755 (شاكر).
[3] الخبر في ثمار القلوب (795).
[4] الخبر في عيون الأخبار 1/ 219، وثمار القلوب (795)، ولطائف المعارف 230.(4/327)
طباعهم وشمائلهم، ولا بدّ للهاشميّ، قبيح الوجه كان أو حسنا، أو دميما كان أو بارعا رائعا، من أن يكون لوجهه وشمائله طبائع يبين بها من جميع قريش وجميع العرب. فلقد كادت البلدة أن تنقل ذلك فتبدّله، ولقد تخيّفته وأدخلت الضّيم عليه، وبيّنت أثرها فيه فما ظنّك بصنيعها في سائر الأجناس [1]؟! ولفساد عقولهم، ولؤم طبع بلادهم، لا تراهم مع تلك الأموال الكثيرة، والضّياع الفاشية، يحبّون من البنين والبنات ما يحبّه أوساط أهل الأمصار على الثّروة واليسار، وإن طال ذلك. والمال منبهة كما تعلمون.
وقد يكتسب الرّجل، من غيرهم، المويل [2] اليسير، فلا يرضى لولده حتّى يفرض له المؤدّبين، ولا يرضى لنسائه مثل الذي كان يرضاه قبل ذلك. وليس في الأرض صناعة مذكورة، ولا أدب شريف ولا مذهب محمود، لهم في شيء منه نصيب وإن خسّ [3]. ولم أر بها وجنة حمراء لصبيّ ولا صبيّة، ولا دما ظاهرا ولا قريبا من ذلك. وهي قتّالة للغرباء.
وعلى أنّ حمّاها خاصّة ليست للغريب بأسرع منها إلى القريب. ووباؤها وحمّاها، في وقت انكشاف الوباء ونزوع الحمّى عن جميع البلدان.
وكلّ محموم في الأرض فإنّ حمّاه لا تنزع عنه، ولا تفارقه وفي بدنه منها بقيّة، فإذا نزعت عنه فقد أخذ منها عند نفسه البراءة، إلى أن يعود إلى الخلط، وأن يجمع في جوفه الفساد [4].
وليست كذلك الأهواز لأنها تعاود من نزعت عنه من غير حدث، كما تعاود أصحاب الحدث لأنّهم ليسوا يؤتون من قبل النّهم [5]، ومن قبل الخلط والإكثار، وإنّما يؤتون من عين البلدة.
وكذلك جمعت سوق الأهواز الأفاعي في جبلها الطّاعن في منازلها، المطلّ عليها والجرّارات [6] في بيوتها ومقابرها ومنابرها. ولو كان في العالم شيء هو شرّ من
[1] الخبر في عيون الأخبار 1/ 220219، وثمار القلوب (792)، ولطائف المعارف 175.
[2] المويل: تصغير المال.
[3] بعدها في معجم البلدان 1/ 286: الأهواز: «أو دقّ أو جلّ».
[4] في معجم البلدان: «فإذا نزعت فقد وجد في نفسه منها البراءة، إلا أن تعود لما يجتمع في بطنه من الأخلاط الرديئة».
[5] في معجم البلدان: «من قبل التّخم والإكثار من الأكل وإنما يؤتون من عين البلدة».
[6] الجرارات: العقارب.(4/328)
الأفعى والجرّارة، لما قصّرت قصبة الأهواز عن توليده وتلقيحه. وبليتها أنّها من ورائها سباخ [1] ومناقع مياه غليظة وفيها أنهار تشقها تسايل كنفهم، ومياه أمطارهم ومتوضّآتهم.
فإذا طلعت الشّمس فطال مقامها، وطالت مقابلتها لذلك الجبل، قبل بالصّخرية التي فيه تلك الجرّارات. فإذا امتلأت يبسا وحرارة، وعادت جمرة واحدة، قذفت ما قبلت من ذلك عليهم.
وقد تحدث تلك السّباخ وتلك الأنهار بخارا فاسدا، فإذا التقى عليهم ما تحدث السّباخ وما قذفه ذلك الجبل، فسد الهواء. وبفساد الهواء يفسد كلّ شيء يشتمل عليه ذلك الهواء.
وحدّثني إبراهيم بن عباس بن محمد بن منصور، عن مشيخة من أهل الأهواز، عن القوابل، أنهنّ ربّما قبلن [2] الطّفل المولود، فيجدنه في تلك السّاعة محموما.
يعرفن ذلك ويتحدّثن به.
1050 [عيون فراخ الحيات والخطاطيف]
قال: ويعرض لفراخ الحيّات مثل الذي يعرض لفراخ الخطاطيف فإنّ نازعا لو نزع عيون فراخ الخطاطيف، وفراخ الحيّات، لعادت بصيرة.
1051 [مفارقة السلحفاة والرق والضفدع للماء]
وزعم أنّ السّلحفاة والرّقّ، والضّفدع، ممّا لا بدّ له من التنفّس، ولا بدّ لها من مفارقة الماء، وأنّها تبيض وتكتسب الطعم وهي خارجة من الماء، وذلك للنّسب الذي بينها وبين الضّب، وإن كان هذا برّيّا وهذا بحريّا.
1052 [شبه بعض الحيوان البري بنظيره من البحري]
ويزعمون أنّ ما كان في البرّ من الضبّ والورل والحرباء، والحلكاء، وشحمة الأرض، والوزغ والعظاء [3] مثل الذي في البحر من السّلحفاة والرّقّ، والتّمساح،
[1] سباخ: جمع سبخة، وهي الأرض تعلوها ملوحة. (القاموس: سبخ).
[2] قبلت القابلة الولد: تلقته عند خروجه. (القاموس: قبل).
[3] الورل والضب والحرباء وشحمة الأرض والوزغ، كلها متناسبة في الخلق. حياة الحيوان 2/ 418 (الورل).(4/329)
والضّفدع، وأنّ تلك الأجناس البرّية وإن اختلفت في أمورها، فإنّها قد تتشابه في أمور، وأنّ هذه الأجناس البحرية من تلك، ككلب الماء من كلب الأرض.
1053 [صبر بعض الحيوان عن الطعم]
وقد زعم صاحب المنطق أنّ الحيّة وسامّ أبرص من العظاء، والتّمساح، تسكن في أعشّتها الأربعة أشهر الشديدة البرد، لا تطعم شيئا، وأنّ سائر الحيّات تسكن بطن الأرض. فأمّا الأفاعي فإنّها تسكن في صدوع الصّخر.
وليس لشيء من الحيوان من الصّبر عن الطّعم ما لهذه الأجناس. وإنّ الفيل ليناسبها من وجهين: أحدهما من طول العمر، فإنّ منها ما قد عاش أربعمائة سنة.
والوجه الآخر أنّ الفيلة مائيّة وهذه الأجناس مائيّة وإن كان بعضها لا يسكن الماء.
1054 [داهية الغبر]
قال: وسمعت يونس بن حبيب يقول [1]: «داهية الغبر» قال [2]: وقيل ذلك لأنها ربّما سكنت بقرب ماء، إمّا غدير وإما عين، فتحمي ذلك الموضع. وربما غبر ذلك الماء في المنقع حينا وقد حمته. وقال الكذّاب الحرمازيّ [3]: [من الرجز] يا ابن المعلّى نزلت إحدى الكبر ... داهية الدّهر وصمّاء الغبر
قال: وسأل الحكم بن مروان بن زنباع، عن بني عبد الله بن غطفان، قال: أفعى إن أيقظتها لسعتك، وإن تركتها لم تضرك.
1055 [نادرة تتعلق بالحيات]
وذكر عن سعيد بن صخر قال: نهش رجل من أهل البادية كثير المال، فأشفى على الموت، فأتاهم رجل فقال: أنا أرقيه، فما تعطوني؟ فشارطوه على ثلاثين درهما، فرقاه وسقاه أشياء ببعض الأخلاط، فلمّا أفاق قال الرّاقي والمداوي: حقي! قال الملدوغ: وما حقه، قالوا: ثلاثون درهما. قال أعطيه من مالي ثلاثين درهما في نفثات نفثها، وحمض سقاه! لا تعطوه شيئا!
[1] من الأمثال قولهم «إنه لداهية الغبر» وهو في مجمع الأمثال 1/ 44، وجمهرة الأمثال 1/ 450، والمستقصى 1/ 421، وفصل المقال 141، وأمثال ابن سلام 99، والغبر: عين ماء بعينه تألفه الحيات.
[2] ورد القول في أساس البلاغة «غبر».
[3] الرجز في مصادر المثل السابق، واللسان والتاج وأساس البلاغة (غبر).(4/330)
1056 [حديث سكر الشطرنجي]
وحدّثني بعض أصحابنا عن سكّر الشّطرنجيّ، وكان أحمق القاصّين، وأحذقهم بلعب الشّطرنج، وسألته عن خرق كان في خرمة [1] أنفه فقلت له: ما كان هذا الخرق؟ فذكر أنّه خرج إلى جبّل [2] يتكسّب بالشّطرنج، فقدم البلدة وليس معه إلّا درهم واحد، وليس يدري أينجح أم يخفق، ويجد صاحبه الذي اعتمده أم لا يجده؟
فورد على حوّاء [3] وبين يديه جون [4] عظام فيها حيات جليلة.
والحيّة إذا عضّت لم تكن غايتها النّهش أو العضّ، وأن ترضى بالنّهش، ولكنّها لا تعضّ إلّا للأكل والابتلاع. وربّما كانت الحيّات عظاما جدّا ولا سموم لها، ولا تعقر بالعضّ، كحيات الجولان.
وفي البادية حيّة يقال لها الحفّاث، والحفّاث من الحيّات تأكل الفأر وأشباه الفأر، ولها وعيد منكر، ونفخ وإظهار للصّولة، وليس وراء ذلك شيء. والجاهل ربّما مات من الفزع منها. وربّما جمعت الحيّة السّمّ وشدّة الجرح، والعضّ والابتلاع، وحطم العظم.
فوقف سكّر على الحوّاء وقد أخرج من جونته أعظم حيّات في الأرض، وادّعى نفوذ الرّقية وجودة التّرياق، فقال له سكّر: خذ منّي هذا الدّرهم، وارقني رقية لا تضرّني معها حيّة أبدا! قال: فإنّي أفعل. قال: فأرسل قبل ذلك حيّة، حتّى ترقيني بعد أن تعضّني، فإن أفقت علمت أنّ رقيتك صحيحة. قال: فإنّي أفعل، فاختر أيّتهنّ شئت. فأشار إلى واحدة ممّا تعضّ للأكل دون السّمّ، فقال: دع هذه، فإنّ هذه إن قبضت على لحمك لم تفارقك حتى تقطعك! قال: فإنّي لا أريد غيرها. وظنّ أنّه إنّما زواها عنه لفضيلة فيها. قال: أمّا إذ أبيت إلّا هذه فاختر موضعا من جسدك حتّى أرسلها عليه. فاختار أنفه، فناشده وخوّفه، فأبى إلّا ذلك أو يردّ عليه درهمه. فأخذها الحّواء وطواها على يده، كي لا يدعها تنكز [5] فتقطع أنفه من أصله. ثمّ أرسلها عليه. فلما أنشبت أحد نابيها في شقّ أنفه صرخ عليه صرخة جمعت عليه أهل تلك
[1] الخرمة: موضع الخرم من الأنف. (القاموس: خرم).
[2] جبّل: بلدة بين النعمانية وواسط في الجانب الشرقي. معجم البلدان 2/ 103.
[3] رجل حوّاء وحاو: يجمع الحيات. (اللسان: حوا).
[4] جون: جمع جونة، وهي سليلة «تصغير سلة» مغشاة أدما تكون مع العطارين. (القاموس: جون).
[5] نكزت الحية: لسعت بأنفها. (القاموس: نكز).(4/331)
البلدة، ثمّ غشي عليه، فأخذ الحوّاء فوضع في السّجن، وقتلوا تلك الحيّات، وتركوه حتّى أفاق كانّه أجنّ الخلق، فتطوّعوا بحمله فحملوه مع المكاري [1]، وردّوه إلى البصرة، وبقي أثر نابها في أنفه إلى أن مات.
1057 [أظلم من حية]
قال: وأشياء من الحشرات لا تتخذ لنفسها ولا لبيضها ولا أولادها بيوتا، بل تظلم كلّ ذي جحر جحره، فتخرجه منه، أو تأكله إنّ ثبت لها.
والعرب تقول للمسيء: «أظلم من حيّة» لأنّ، الحيّة لا تتّخذ لنفسها بيتا. وكلّ بيت قصدت نحوه هرب أهله منه. وأخلوه لها.
1058 [الورل والحية]
والورل يقوى على الحيّات ويأكلها أكلا ذريعا. وكلّ شدّة يلقاها ذو جحر منها فهي تلقى مثل ذلك من الورل. والورل ألطف جرما من الضّبّ.
وزعم أنّهم يقولون: «أظلم من ورل» [2] كما يقولون: «أظلم من حيّة» [3]، وكما يقولون: «أظلم من ذئب» [4] ويقولون: «من استرعى الذّئب ظلم» [5].
1059 [الورل والضبّ]
وبراثن الورل أقوى من براثن الضّبّ. والضّباب تحفر جحرتها في الكدى [6].
والورل لا يحفر لنفسه بل يخرج الضّبّ من بيته. فتزعم الأعراب أنّه إنما صار لا يحفر لنفسه إبقاء على براثنه. ويمنع الحيّة أن تحفر بيتها أنّ أسنانها أكلّ من أسنان الفأر ومن التي تحفر بالأفواه والأيدي، كالنمل والذّرّ وما أشبه ذلك. والحيّة لا ترى أن تعاني ذلك، وحفر غيرها ومعاناته يكفيها.
[1] المكاري: من يكري الناس دابته، أي يؤجرها. (انظر القاموس: كرى).
[2] مجمع الأمثال 1/ 445، وجمهرة الأمثال 2/ 30، والمستقصى 1/ 234.
[3] مجمع الأمثال 1/ 445، وجمهرة الأمثال 2/ 29، والمستقصى 1/ 232وفصل المقال 492.
[4] مجمع الأمثال 1/ 446، وجمهرة الأمثال 2/ 30، والمستقصى 1/ 234.
[5] مجمع الأمثال 2/ 302، وجمهرة الأمثال 2/ 265، والمستقصى 2/ 352، وأمثال ابن سلام 294، والفاخر 265، والدرة الفاخرة 1/ 294.
[6] الكدى: جمع كدية، وهي الأرض الصلبة. (القاموس: كدي).(4/332)
1060 [شعر في ظلم الحية]
وفي ضرب المثل بظلم الحيّة، يقول مضرّس بن لقيط [1]: [من الطويل] لعمرك إنّي لو أخاصم حيّة ... إلى فقعس ما أنصفتني فقعس ... إذا قلت مات الدّاء بيني وبينهم ... سعى حاطب منهم لآخر يقبس ... فما لكم طلسا إليّ كأنّكم ... ذئاب الغضا والذّئب بالليل أطلس [2]
وجعله أطلس لأنّه حين تشتدّ ظلمة اللّيل فهو أخفى له، ويكون حينئذ أخبث له وأضرى.
وقال حريز بن نشبة العدويّ، لبني جعفر بن كلاب، وضرب جور الحيّة والذّئب في الحكم مثلا، فقال [3]: [من البسيط] كأنّني حين أحبو جعفرا مدحي ... أسقيهم طرق ماء غير مشروب [4] ... ولو أخاصم أفعى نابها لثق ... أو الأساود من صمّ الأهاضيب [5] ... لكنتم معها إلبا، وكان لها ... ناب بأسفل ساق أو بعرقوب [6] ... ولو أخاصم ذئبا في أكيلته ... لجاءني جمعكم يسعى مع الذّيب [7]
1061 [فم الأفعى]
قال: والحيّة واسعة الشّحو والفم، لها خطم، ولذلك ينفذ نابها. وكذلك كلّ ذي فم واسع الشّحو، كفم الأسد. فإذا اجتمع له سعة الشّحو وطول اللّحيين، وكان ذا خطم وخرطوم فهو أشدّ له كالخنزير، والذّئب والكلب. ولو كان لرأس الحيّة عظم كان أشدّ لعضّتها، ولكنّه جلد قد أطبق على عظمين رقيقين مستطيلين بفكّها الأعلى والأسفل. ولذلك إذا أهوى الرّجل بحجر أو عصى، رأيتها تلوّي رأسها وتحتال
[1] الأبيات للأسدي في البيان 2/ 160، ولعامر بن لقيط الأسدي في حماسة البحتري 380، ومحاضرات الراغب 1/ 174.
[2] الأطلس: وهو الذي في لونه غبرة إلى سواد. (القاموس: طلس).
[3] ورد البيتان الثاني والرابع في البيان 2/ 160مع نسبتهما إلى الفزاري.
[4] ماء طرق: بالت فيه الإبل وبعرت. (القاموس: طرق).
[5] لثق: مبتل. (القاموس: لثق).
[6] ألب القوم إليه: أتوه من كل جانب، وانضم بعضهم إلى بعض. (القاموس: ألب).
[7] الأكيلة: شاة تنصب ليصاد بها الذئب ونحوه وهي قبيحة. (القاموس: أكل).(4/333)
في ذلك، وتمنعه بكلّ حيلة، لأنّها تعلم وتحسّ بضعف ذلك الموضع منها، وهو مقتل. وما أكثر ما يكون في أعناقها تخصير [1]، ولتندورها أغباب [2]، وذلك في الأفاعي أعمّ. وذلك الموضع المستدقّ [1] إنّما هو شيء كهيئة الخريطة، وكهيئة فم الجراب، منضمّ الأثناء، مثنّى الغضون. فإذا شئت أن تفتح انفتح لك فم واسع.
ولذلك قال إبراهيم بن هانئ: كان فتح فم الجراب يحتاج إلى ثلاثة أيد، ولولا أنّ الحمالين قد جعلوا أفواههم بدل اليد الثّالثة لقد كان ذلك ممتنعا حتّى يستعينوا بيد إنسان.
وهذا ممّا يعدّ في مجون ابن هانئ.
وكذلك حلوق الحيّات وأعناقها وصدورها، قد تراها فتراها في العين دقيقة، ولا سيّما إذا أفرطت في الطّول.
1062 [شراهة الحية والأسد]
وهي تبتلع فراخ الحمام. والحية أنهم وأشره من الأسد. والأسد يبلع البضعة العظيمة من غير مضع، وذلك لما فيه من فضل الشره. وكذلك الحيّة. وهما واثقان بسهولة وسعة المخرج.
1063 [تنّين أنطاكية]
وممّا عظّمها وزاد في فزع النّاس منها، الذي يرويه أهل الشام، وأهل البحرين، وأهل أنطاكية، وذلك أنّي رأيت الثلث الأعلى من منارة مسجد أنطاكية أظهر جدّة من الثلثين الأسفلين، فقلت لهم: ما بال هذا الثلث الأعلى أجدّ وأطرى؟ قالوا: لأنّ تنّينا [3] ترفّع من بحرنا هذا، فكان لا يمرّ بشيء إلّا أهلكه، فمرّ على المدينة في الهواء، محاذيا لرأس هذه المنارة، وكان أعلى ممّا هي عليه، فضربه بذنبه ضربة، حذفت من الجميع أكثر من هذا المقدار، فأعادوه بعد ذلك، ولذلك اختلف في المنظر.
ولم يزل أهل البقاع يتدافعون أمر التّنّين. ومن العجب أنّك تكون في مجلس
[1] تخصير: دقّة.
[2] أغباب: جمع غبب، وهو اللحم المتدلي تحت الحنك. (القاموس: غبب).
[3] التنين: ضرب من الحيات كأكبر ما يكون منها، وطوله نحو فرسخين. حياة الحيوان 1/ 233.(4/334)
وفيه عشرون رجلا، فيجري ذكر التّنّين فينكره بعضهم. وأصحاب التثبت يدّعون العيان. والموضع قريب، ومن يعاينه كثير. وهذا اختلاف شديد.
1064 [الحية الأصلة]
والأعراب تقول في الأصلة قولا عجيبا: تزعم أنّ الحيّة التي يقال لها الأصلة لا تمرّ بشيء إلّا احترق. مع تهاويل كثيرة، وأحاديث شنيعة.
1065 [الأجدهاني]
وتزعم الفرس أنّ الأجدهاني أعظم من البعير، وأنّ لها سبعة رؤوس، وربّما لقيت ناسا فتبتلع من كلّ جهة فم ورأس إنسانا. وهو من أحاديث الباعة والعجائز.
1066 [الحية ذات الرأسين]
وقد زعم صاحب المنطق أنّه قد ظهرت حيّة لها رأسان. فسألت أعرابيّا عن ذلك فزعم أنّ ذلك حقّ. فقلت له: فمن أي جهة الرّأسين تسعى؟ ومن أيّهما تأكل وتعضّ؟ فقال: فأمّا السّعي فلا تسعى، ولكنّها تسعى إلى حاجتها بالتقلب، كما يتقلّب الصّبيان على الرّمل. وأمّا الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغدّى بفم. وأمّا العضّ فإنها تعضّ برأسيها معا!! فإذا به أكذب البريّة. وهذه الأحاديث كلها، ممّا يزيد في الرعب منها، والاستهالة لمنظرها.
1067 [فرانق الأسد]
ومثل شأن التّنّين مثل أمر فرانق [1] الأسد، فإنّ ذكره يجري في المجلس، فيقول بعضهم: أنا رأيته وسمعته!
1068 [فزع الناس من الحية]
وربما زاد في الرعب منها والاستهالة لمنظرها قول جميع المحدّثين: إنّ من أعظم ما خلق الله الحية والسّرطان والسّمك!
1069 [طول عمر الحية]
وتقول الأعراب: إنّ الحية أطول عمرا من النّسر، وإن الناس لم يجدوا حية قطّ ماتت حتف أنفها، وإنما تموت بالأمر يعرض لها. وذلك لأمور منها قولهم: إنّ فيها شياطين، وإنّ فيها من مسخ، وإنّ إبليس إنما وسوس إلى آدم وإلى حوّاء من جوفها.
[1] الفرانق: معرب بروانك. (القاموس: فرنق).(4/335)
وزعم لي الفضل بن إسحاق، أنه كان لأبيه نخّان [1]، وأنّ طول كلّ نخّ تسعة عشر ذراعا.
1070 [تخلّق القشور للحيات]
ومن الحيّات الجرد والزعر، وذلك فيها من [الغالب] [2].
ومنها ذوات شعر، ومنها ذوات قرون. وإنّما يتخلق لها في كلّ عام قشر وغلاف [فهي تسلخ القشور الناعمة والغلف، التي على مقادير أجسادها، وإنما يستدل بالقشور، فأما الجلود فإن أبدانها لا تفارقها إلا بسلخ السكين] [3].
1071 [تقشر جلد الإنسان]
وأمّا الجلود فإنّ الأرمينيّ زعم أنه كان عندهم رجل ينقشر من جلده وينسلخ في كلّ شهر مرّة. قال فجمع ذلك فوجد فيه ملء جراب أو قال: أكثر.
1072 [علة الفزع من الحية]
وأمّا الذي لا أشك في أنه قد زاد في أقدارها في النفوس، وعظّم من أخطارها، وهوّل من أمرها، ونبّه على ما فيها من الآية العجيبة والبرهان النيّر، والحجّة الظاهرة، فما في قلب العصا حيّة، وفي ابتلاعها ما هوّل به القوم وسحروا من أعين النّاس، وجاؤوا به من الإفك. قال الله عزّ وجلّ: {وَقََالَ مُوسى ََ يََا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى ََ أَنْ لََا أَقُولَ عَلَى اللََّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرََائِيلَ قََالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهََا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ. فَأَلْقى ََ عَصََاهُ فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ} [4]، إلى قوله: {فَأَلْقَوْا حِبََالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [5].
فإن قلت: إنه إنما حوّل العصا ثعبانا لأنهم جاؤوا بحبال وعصيّ فحوّلوها في أعين الناس كلها حيّات، فلذلك قلب الله العصا حية على هذه المعارضة. ولو كانوا
[1] النّخّ: بساط طويل. (القاموس: نخخ).
[2] الإضافة من حياة الحيوان 392/ 1، وفيه: (ومن أنواعها: الأزعر وهو غالب فيها، ومنها ما هو أزبّ ذو شعر، ومنها ذوات القرون وأرسطو ينكر ذلك).
[3] ما بين القوسين زيادة من ثمار القلوب (630)، وقد نقله الثعالبي عن الجاحظ، وفي الأصل «فأما مقادير أجسامها فقط»، وهي كلمات لا تفيد معنى.
[4] الأعراف: 107104.
[5] الشعراء: 44.(4/336)
حين سحروا أعين الناس جعلوا حبالهم وعصيّهم ذئابا في أعين الناس ونمورا، لجعل الله عصا موسى ذئبا أو نمرا، فلم يكن ذلك لخاصّة في بدن الحية.
قلنا: الدّليل على باطل ما قلتم، قول الله تعالى: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ. قََالَ هِيَ عَصََايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهََا وَأَهُشُّ بِهََا عَلى ََ غَنَمِي وَلِيَ فِيهََا مَآرِبُ أُخْرى ََ قََالَ أَلْقِهََا يََا مُوسى ََ فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ} [1] وقال الله عزّ وجلّ: {إِذْ قََالَ مُوسى ََ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نََاراً} [2] إلى قوله: {وَأَلْقِ عَصََاكَ فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ كَأَنَّهََا جَانٌّ وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يََا مُوسى ََ لََا تَخَفْ إِنِّي لََا يَخََافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [3] فقلبت العصا جانّا، وليس هناك حبال ولا عصيّ. وقال الله: {قََالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلََهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قََالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قََالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ فَأَلْقى ََ عَصََاهُ فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ} [4] فقلب العصا حيّة كان في حالات شتّى. فكان هذا ممّا زاد في قدر الحية.
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال في دعائه أن لا يميته الله لديغا [5]. وتأويل ذلك: أنّه صلى الله عليه وسلم ما استعاذ بالله من أن يموت لديغا، وأن تكون ميتته بأكل هذا العدوّ، إلا وهو من أعداء الله، بل من أشدّهم عداوة.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أشدّ النّاس عذابا بوم القيامة من قتل نبيّا أو قتله نبيّ» كأنّه كان في المعلوم أنّ النبيّ لا يقتل أحدا، ولا يتفّق ذلك إلّا في أشرار الخلق. ويدلّ على ذلك، الذي اتفّق من قتل أبيّ بن خلف بيده، والنّضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاصي صبرا [6].
وحدّثت عن عبد الله بن أبي هند، قال: حدّثني صيفي بن أبي أيّوب، أنه سمع أبا بشير الأنصاريّ يقول: «كان رسول صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من هؤلاء السّبع: كان يقول:
اللهمّ إني أعوذ بك من الهدم [7] وأعوذ بك من التردّي، وأعوذ بك من الغمّ
[1] طه: 18.
[2] النمل: 7.
[3] النمل: 10.
[4] الشعراء: 3229.
[5] في النهاية 4/ 245 (أعوذ بك أن أموت لديغا).
[6] قتله صبرا: حبسه ورماه حتى مات (القاموس: صبر).
[7] في النهاية 5/ 252 «أنه كان يتعوذ من الأهدمين» هو أن ينهار عليه بناء، أو يقع في بئر أو أهوية.(4/337)
والغرق [1]، وأعوذ بك من الحرق والهرم، وأعوذ بك أن يتخبّطني الشّيطان عند الموت وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك من أن أموت لديغا» [2].
وطلحة بن عمرو قال: حدثني عطاء أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من الأسد والأسود، وأعوذ بك من الهدم» [3].
1073 [استطراد لغوي]
قال: ويقال للحيّة: صفرت تصفر صفيرا، والرجل يصفر بالطير للتنفير، وبالدوابّ وببعض الطير للتعليم. وتتخذ الصّفّارة يصفر بها للحمام وللطير في المزارع. قال أعشى همدان يهجو رجلا: [من الكامل] وإذا جثا للزّرع يوم حصاده ... قطع النّهار تأوّها وصفيرا
1074 [لسان الحية]
والحيّة مشقوقة اللسان سوداؤه. وزعم بعضهم أن لبعض الحيّات لسانين. وهذا عندي غلط، وأظنّ أنّه لما رأى افتراق طرف اللسان قضى بأنّ له لسانين.
1075 [عجيبة للضب]
ويقال: إن للضّبّ أيرين، ويسمّى أير الضّبّ نزكا. قال الشاعر [4]: [من الطويل] كضبّ له نزكان كانا فضيلة ... على كلّ حاف في الأنام وناعل [5]
قال أبو خلف النمريّ: سئل أبو حيّة النميري عن أير الضّبّ، فزعم أنّ أير الضّب كلسان الحيّة: الأصل واحد، الفرع اثنان.
[1] رواه السيوطي في الجامع الصغير 1541رواية عن النسائي والحاكم.
[2] النهاية 4/ 245.
[3] في حياة الحيوان 1/ 38 «الأسود السالخ»: (روى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب». والأسود نوع من الأفعوان شديد السواد، سمي بذلك لأنه يسلخ جلده كل عام.
[4] البيت لحمران ذي الغصة في اللسان والتاج (نزك)، والتهذيب 10/ 101، 15/ 109، وبلا نسبة في الجمهرة 825، واللسان والتاج (سبحل)، والمقاييس 5/ 416، وأساس البلاغة (نزك)، وعيون الأخبار 2/ 98، والمخصص 8/ 97، ومحاضرات الأدباء 2/ 303، وربيع الأبرار 5/ 469.
[5] الناعل: من لبس نعلا.(4/338)
1076 [عقاب الحية في زعم المفسرين]
وبعض أصحاب التفسير يزعم أنّ الله عاقب الحيّة حين أدخلت إبليس في جوفها، حتى كلّم آدم وحوّاء وخدعهما على لسانها، ببشر خصال: منها شقّ اللسان.
قالوا: فلذلك ترى الحيّة إذا ضربت للقتل كيف تخرج لسانها لتري الضّارب عقوبة الله، كأنها تسترحم. وصاحب هذا التفسير لم يقل ذلك إلّا لحيّة كانت عنده تتكلم، ولولا ذلك لأنكر آدم كلامها، وإن كان إبليس لا يحتال إلّا من جهة الحيّة، ولا يحتال بشيء غير مموّه ولا مشبّه.
1077 [استطراد لغوي]
قال: ويقال: أرض محواة ومحياة من الحيّات، كما يقال أرض مضبّة وضببة من الضّباب، وفائرة من الفأر.
1078 [هذا أجل من الحرش]
وقال الأصمعيّ في تفسير قولهم في المثل: «هذا أجلّ من الحرش» [1]: إنّ الضّبّ قال لابنه: إذا سمعت صوت الحرش فلا تخرجنّ! قال: وذلك أنّهم يزعمون أن الحرش تحريك اليد عند جحر الضّبّ، ليخرج إذا ظنّ أنه حية قال: وسمع ابنه صوت الحفر فقال: يا أبه هذا الحرش؟ قال: يا بنيّ، هذا أجلّ من الحرش! فأرسلها مثلا.
1079 [الحيوانات التي تأكل الحيات]
بين الحيات وبين الخنازير عداوة، والخنازير تأكلها أكلا ذريعا. وسموم ذوات الأنياب من الحيّات، وذوات الإبر، سريعة في الخنازير، وهي تهلك عند ذلك هلاكا وشيكا، فلذلك لا ترضى بقتلها حتى تأكلها. وتأكل الحيّات العقبان، والأيائل، والأراويّ، والأوعال، والسّنانير والشّاهمرك [2]، والقنفذ. إلّا أن القنفذ أكثر ما يقصد إلى الأفاعي، وإنما يظهر بالليل. قال الرّاجز: [من الرجز] قنفذ ليل دائم التّجآب
وهذا الراجز هو أبو محمد الفقعسيّ.
[1] المثل في مجمع الأمثال 1/ 186، وجمهرة الأمثال 1/ 298، 332، والمستقصى 1/ 50، 384، والفاخر 242، 289، وفصل المقال 471، وأمثال ابن سلام 342، والدرة الفاخرة 1/ 118.
[2] الشاهمرك: الفتي من الدجاج، وهو معرب «الشاه مرغ». ومعناه ملك الدجاج. حياة الحيوان 1/ 594.(4/339)
1080 [القول في القنفذ]
وكذلك يشبه النّمّام، والمداخل، والدّسيس، بالقنفذ، لخروجه بالليل دون النهار، ولاحتياله للأفاعي. قال عبدة بن الطبيب [1]: [من الكامل] اعصوا الذي يلقي القنافذ بينكم ... متنصّحا وهو السّمام الأنقع ... يزجي عقاربه ليبعث بينكم ... حربا كما بعث العروق الأخدع [2] ... حرّان لا يشفي غليل فؤاده ... عسل بماء في الإناء مشعشع [3] ... لا تأمنوا قوما يشب صبيهم ... بين القوابل بالعداوة ينشع [4]
وهذا البيت الآخر يضم إلى قول مجنون بني عامر [5]: [من الطويل] أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ويضم إليه قول ابن أود: «الطينة تقبل الطبائع ما كانت ليّنة».
ثم قال عبدة بن الطّبيب [6]، في صلة الأبيات التي ذكر فيها القنفذ والنّميمة:
[من الكامل] إنّ الذين ترونهم خلّانكم ... يشفي صداع رؤوسهم أن تصرعوا ... قوم إذا دمس الظّلام عليهم ... جذعوا قنافذ بالنميمة تمزع
وهذا الشعر من غرر الأشعار. وهو ممّا يحفظ.
وقال الأوديّ [7]: [من البسيط] كقنفذ القنّ لا تخفى مدارجه ... خبّ إذا نام عنه الناس لم ينم [8]
[1] ديوان عبدة بن الطبيب 47، وشرح اختيارات المفضل 693وحماسة البحتري 240.
[2] في ديوانه: يزجي: يسوق ويدفع، والأخدعان: عرقا الرقبة.
[3] في ديوانه: شعشع العسل بالماء: خلطه.
[4] القوابل: جمع قابلة، وهي التي تتلقى الولد وقت الولادة. ينشع بالعداوة: أي توضع في فمه ليشربها.
[5] البيت لمجنون ليلى في ديوانه 282، والبيان 2/ 42، وليزيد بن الطثرية في ديوانه 109، والحماسة الشجرية، ولعمر بن أبي ربيعة في عيون الأخبار 3/ 9.
[6] البيتان في المفضليات 147، وحماسة البحتري 155.
[7] ديوان الأفوه الأودي 24، وهو لأيمن بن خريم في ديوان المعاني 2/ 144.
[8] القن، بالكسر، قرية في ديار فزارة، وبالضم، جبل من جبال أجإ عند ذي الجليل واد. (معجم البلدان 4/ 408). الخب: الخداع.(4/340)
وفي عهد آل سجستان على العرب حين افتتحوها [1]: لا تقتلوا قنفذا ولا ورلا ولا تصيدوا، لأنها بلاد أفاع. وأكثر ما يجتلب أصحاب صنعة الترياق والحواؤون الأفاعي من سجستان. وذلك كسب لهم وحرفة ومتجر. ولولا كثرة قنافذها لما كان لهم بها قرار.
والقنفذ لا يبالي أيّ موضع قبض من الأفعى. وذلك أنه إن قبض على رأسها أو على قفاها فهي مأكولة على أسهل الوجوه، وإن قبض على وسطها أو على ذنبها، جذب ما قبض عليه، فاستدار وتجمّع، ومنحه سائر بدنه، فمتى فتحت فاها لتقبض على شيء منه، لم تصل إلى جلده مع شوكه النّابت فيه. والأفعى تهرب منه، وطلبه لها وجراءته عليها، على حسب هربها منه وضعفها عنه.
1081 [أمثال في الحية والورل والضّبّ]
وأمّا قولهم: «أضل من حيّة» و «أضلّ من ورل» [2] و «أضلّ من ضبّ» [2].
فأمّا الحيّة فإنّها لا تتّخذ لنفسها بيتا، والذّكر لا يقيم في الموضع، وإنما يقيم على بيضها بقدر ما تخرج فراخها وتقوى على الكسب والتماس الطعم، ثمّ تصير الأنثى سيّارة، فمتى وجدت جحرا دخلت واثقة بأنّ السّاكن فيه بين أمرين: إمّا أقام فصار طعما لها، وإمّا هرب فصار البيت لها ما أقامت فيه ساعة، كان ذلك من ليل أو نهار.
1082 [بيض الحيات وجسمها]
وقد رأيت بيض الحيّات وكسرتها لأتعرّف ما فيها. فإذا هو بيض مستطيل أكدر اللون أخضر، وفي بعضه نمش [3] ولمع [4]. فأمّا داخله فلم أرقيحا قطّ، ولا صديدا خرج من جرح فاسد، إلّا والّذي في بيضها أسمج منه وأقذر. ويزعمون أنها كثيرة البيض جدّا، وأنّ السلامة في بيضها على دون ذلك، وأنّ بيضها يكون منضّدا في جوفها طولا على غرار واحد، وعلى خيط واحد.
وهي طويلة البطن والأرحام. وعدد أضلاعها عدد أيام الشهر. وكان ذلك بعض ما زاد في شدّة بدنها.
[1] مروج الذهب 1/ 235، وعيون الأخبار 1/ 220، وثمار القلوب (626)، وكان ذلك سنة 81هـ.
[2] مجمع الأمثال 1/ 426، والمستقصى 1/ 218، وفصل المقال 163، وجمهرة الأمثال 2/ 11، والدرة الفاخرة 1/ 288.
[3] النمش: نقط بيض وسود، أو بقع تقع في الجلد تخالف لونه. (القاموس: نمش).
[4] اللمع: كل لون خالف لونا. (القاموس: لمع).(4/341)
1083 [أكثر الحيوان نسلا]
والخلق الكثير الذّرء [1] الدّجاج. والضّبّ أكثر بيضا من الدّجاجة. والخنزيرة تضع عشرين خنّوصا.
ويخرج من أجواف العقارب عقارب صغار، كثيرة العدد جدّا. وعامّة العقارب إذا حبلت كان حتفها في ولادها، لأنّ أولادها إذا استوى خلقها أكلت بطون الأمّهات حتّى تثقبها. وتكون الولادة من ذلك الثّقب، فتخرج ولأمهات ميّتة.
وأكثر من ذلك كله ذرء السّمك، لأنّ الإنسان لو زعم أنّ بيضة واحدة من بعض الأسبور عشرة آلاف بيضة، لكان ذلك لعظم ما تحمل، ولدقّة حبّه وصغره. ولكن يعتريها أمران: أحدهما الفساد، والآخر أنّ الذكورة في أوان ولادة الإناث تتبع أذنابها، فكلّما زحرت بشيء التقمته والتهمته.
ثمّ السّمك بعد ذلك في الجملة إنما طبعها أن يأكل بعضها بعضا.
1084 [علة كثرة الأولاد]
ويزعمون أن الكثرة في الأولاد إنّما تكون من العفن واللّخن [2]، وعلى قدر كثرة المائيّة وقلّتها. فذهبوا إلى أنّ أرحام الرّوميّات والنّصرانيّات أكثر لخنا ورطوبة، لأنّ غسل الفروج بالماء البارد مرارا في اليوم، ممّا يطيّب الأرحام، وينفي اللّخن [2] والعفن، ويزعمون أنّ المرأة إذا كان فرجها نظيفا، وكانت معطّرة قويّة المنّة [3] قلّ حملها، فإن أفرطت في السّمن عادت عاقرا. وسمان الرّجال لا يكاد يعتريهم ذلك.
وكذلك العاقر من إناث الإبل والبقر والغنم والنّخل. إذا قويت النّخلة وكانت شابّة، وسمن جمّارها، صارت عاقرا لا تحمل، فيحتالون عند ذلك بإدخال الوهن عليها.
1085 [طعن في التعليل السابق]
وقد طعن في ذلك ناس فقالوا: إنّ في الضّبّ على خلاف ما ذكرتم. قد تبيض الأنثى سبعين بيضة فيها سبعون حسلا [4]. ولولا أنّ الضّبّ يأكل ولده لانتفشت
[1] الذرء: النسل. (القاموس: ذرأ).
[2] اللخن: قبح ريح الفرج، ولخن: أنتن. (القاموس: لخن).
[3] لعله الصواب: سريّة البنّة، أي طيبة الرائحة.
[4] الحسل: ولد الضب، وهو واضح من المعنى.(4/342)
الصحارى ضبابا. والضب لا يحفر إلّا في كدية [1] وفي بلاد العراد [2]. وإذا هرمت تبلّغت بالنّسيم. وهذا كله ممّا يستدلّ به على بعد طبعها من اللّخن والعفن.
وقيل لهم: قد يمكن أن يكون ذلك كذلك في جميع صفاتها إلّا في أرحامها فقط.
1086 [سفاد الحيات]
وليس للحيّات سفاد معروف ينتهي إليه علم، ويقف عليه عيان. وليس عند الناس في ذلك إلّا الذي يرون من ملاقاة الحيّة للحيّة، والتواء كلّ منهما على صاحبه، حتى كأنهما زوج خيزران مفتول، أو خلخال مفتول. فأمّا أن يقفوا على عضو يدخل أو فرج يدخل فيه فلا.
1087 [شعر في الأيم والجرادة الذكر]
والعرب تذكر الحيّات بأسمائها وأجناسها. فإذا قالوا: أيم، فإنما يريدون الذّكر دون الأنثى. ويذكرونه عند جودة الانسياب، وخفّة البدن، كما تذكر الشّعراء في صفة الخيل الجرادة الذّكر، دون الأنثى. فهم وإن ألحقوا لها فإنما يريدون الذّكر. قال بشر بن أبي خازم [3]: [من الوافر] جرادة هبوة فيها اصفرار
لأنّ الأنثى لا تكون صفراء، وإنما الموصوف بالصّفرة الذّكر، لأن الأنثى تكون بين حالتين: إمّا أنّ تكون حبلى ببيضها فهي مثقلة، وإمّا أن تكون قد سرأت [4] وقذفت بيضها، فهي أضعف ما تكون.
قال الشاعر [5]: [من الطويل] أتذهب سلمى في اللّمام ولا ترى ... وفي اللّيل أيم حيث شاء يسيب [6]
[1] الكدية: الأرض الصلبة الغليظة. (القاموس: كدي).
[2] العراد: حشيش طيب الرائحة. (اللسان: عرد).
[3] صدر البيت: (مهارشة العنان كأن فيها) وهو في ديوان بشر بن أبي خازم 74، واللسان (عرر)، والتهذيب 1/ 102، 6/ 79، وبلا نسبة في المخصص 16/ 115، واللسان وأساس البلاغة (هرش)، والتاج (عرر، هرش).
[4] سرأت: باضت. (القاموس: سرأ).
[5] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (سيب).
[6] اللمام: اللقاء اليسير. سابت الحية تسيب: مضت مسرعة.(4/343)
1088 [آثار الحيات والعظاء في الكثبان]
وإذا انسابت في الكثبان والرّمل، يبين مواضع مزاحفها، وعرفت آثارها.
وقال آخر [1]: [من الوافر] كأنّ مزاحف الحيّات فيها ... قبيل الصّبح آثار السّياط
وكذلك يعرفون آثار العظاء. وأنشد ابن الأعرابيّ: [من الطويل] بها ضرب أذناب العظاء كأنها ... ملاعب ولدان تخطّ وتمصع [2]
وقال الآخر، وهو يصف حيّات [3]: [من المتقارب] كأنّ مزاحفها أنسع ... جررن فرادى ومثناتها
وقال ثمامة الكلبيّ [4]: [من الوافر] كأنّ مزاحف الهزلى صباحا ... خدود رصائع جدلت تؤاما
والهزلى من الحيّات. قال جرير أو غيره [5]: [من الطويل] ومن ذات أصفاء سهوب كأنها ... مزاحف هزلى بينها متباعد [6]
وقال بعض المحدثين، وذكر حال البرامكة كيف كانت، وإلى أيّ شيء صارت: [من الكامل] وإذا نظرت إلى التّرى بعراصهم ... قلت: الشجاع ثوى بها والأرقم
وقال البعيث [7]: [من الطويل] لقى حملته أمّة وهي ضيفة ... فجاءت بيتن للضيافة أرشما [8]
[1] البيت للمتنخل الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1273، والشعر والشعراء 2/ 664، وجمهرة اللغة 527، واللسان (زحف)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (زحف)، والمخصص 16/ 101.
[2] تمصع: تسرع. (القاموس: مصع).
[3] نهاية الأرب 10/ 146، والأنسع جمع نسع، بالكسر، وهو سير يصفر ويجعل زماما للبعير.
[4] البيت في أساس البلاغة (هزل).
[5] البيت للّعين المنقري في الوحشيات 267، وبلا نسبة في اللسان (صوى).
[6] الأصفاء: جمع صفا، والصفا جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء.
[7] البيت الأول للبعيث في التاج (رشم، يتن)، واللسان (ضيف، رشم، يتن)، ولجرير في ذيل ديوانه 1041، واللسان (نزر، لقا)، والتاج (نزر)، والعين 6/ 262، وبلا نسبة في المقاييس 2/ 396، 3/ 382، والمجمل 2/ 380، 3/ 298، والمخصص 3/ 66، 17/ 30، وديوان الأدب 2/ 268، 3/ 209، واللسان والتاج (نزل)، والبيت الثاني للبعيث في اللسان والتاج (سمسم).
[8] اللقى: الذي لا يدري ابن من هو، ضيفة: أي أن أمه دعيت إلى ضيافة، فحملت به، وهذه كناية الزنى. اليتن: من يخرج رجلاه عند الولادة قبل رأسه. الأرشم: من يتشمم الطعام.(4/344)
مدامن جوعات كأنّ عروقه ... مسارب حيّات تسرّبن سمسما [1]
1089 [أعجوبة جلد الحية]
[وليس في الأرض قشر ولا ورقة] [2]، ولا ثوب، ولا جناح، ولا ستر عنكبوت، إلا وقشر الحيّة أحسن منه وأرقّ، وأخفّ وأنعم، وأعجب صنعة وتركيبا.
ولذلك وصف كثيّر قميص ملك، فشبّهه بسلخ الحيّة، حيث يقول [3]: [من الطويل] إذا ما أفاد المال أودى بفضله ... حقوق، فكره العاذلات يوافقه ... يجرّر سربالا عليه كأنّه ... سبيء لهزلى لم تقطّع شرانقه [4]
والسّبيء: السّلخ والجلد. قال الشاعر [5]: [من الطويل] وقد نصل الأظفار وانسبأ الجلد
1090 [صمم النعام والأفعى]
وترعم العرب أنّ النّعام والأفعى صمّ لا تسمع، وكذلك هما من بين جميع الخلق. وسنذكر من ذلك في هذا الموضع طرفا، ونؤخر الباقي إلى الموضع الذي نذكر فيه جملة القول في النّعام.
وقد ابتلينا بضربين من الناس، ودعواهما كبيرة، أحدهما يبلغ من حبه للغرائب أن يجعل سمعه هدفا لتوليد الكذابين، وقلبه قرارا لغرائب الزّور. ولكلفه بالغريب، وشغفه بالطّرف، لا يقف على التّصحيح والتمييز، فهو يدخل الغثّ في السمين، والممكن في الممتنع، ويتعلّق بأدنى سبب ثمّ يدفع عنه كلّ الدّفع.
والصّنف الآخر، وهو أنّ بعضهم يرى أنّ ذلك لا يكون منه عند من يسمعه يتكلم إلا من خاف التقزّز من الكذب.
فزعم ناس أنّ الدّليل على أنّ الأفاعي صمّ، قول الشاعر: [من الرجز] أنعت نضناضا من الحيّات ... أصمّ لا يسمع للرّقاة [6]
[1] مدامن جوعات: مدمن جوع.
[2] الزيادة من ثمار القلوب (630) 340.
[3] البيتان لكثير عزة في ديوانه 308، والمعاني الكبير 673، وللراعي النميري في ديوانه 308.
[4] الهزلى: الحيات. (القاموس: هزل).
[5] الشطر بلا نسبة في اللسان والتاج (سبأ).
[6] النضناض: حية لا تستقر في مكان، أو إذا نهشت قتلت من ساعتها، أو التي أخرجت لسانها تحركه. (القاموس: نضض). الرقاة: جمع راق.(4/345)
قد ذكروا بالصّمم أجناسا من خبيثات الحيّات، وذهبوا إلى امتناعها من الخروج عند رقية الرّاقي عند رأس الجحر، فقال بعضهم: [من الرجز] وذات قرنين من الأفاعي ... صمّاء لا تسمع صوت الدّاعي
ويزعمون أنّ كلّ نضناض أفعى. وقال آخر [1]: [من المتقارب] ومن حنش لا يجيب الرّقا ... ة أرقش ذي حمة كالرّشا [2] ... أصمّ سميع طويل السّبا ... ت منهرت الشدق عاري النسا [3]
فزعم أنّه أصمّ سميع، فجاز له أن يجعله أصمّ بقوله: «ومن حنش لا يجيب الرّقاة» وقال الآخر [4]: [من السريع] أصمّ أعمى لا يجيب الرّقى ... يفترّ عن عصل حديدات [5]
والأفعى ليس بأعمى، وعينه لا تنطبق، وإن قلعت عينه عادت. وهو قائم العين كعين الجرادة، كأنها مسمار مضروب. ولها بالليل شعاع خفيّ. قال الرّاعي يصف الأفعى: [من الطويل] ويدني ذراعيه إذا ما تبادرا ... إلى رأس صلّ قائم العين أسفع
وهذه صفة سليم الأفعى، فيجوز أن يكون الشاعر وصفها بالتمنع من الخروج بالصّمم، كما وصفها بالعمى، لمكان السّبات وطول الإطراق.
قال الشاعر [6]: [من المتقارب] أصمّ سميع طويل السّبات ... منهرت الشّدق عاري القرا
وقال آخر: [من السريع] منهرت الشّدق رقود الضّحى ... سار طمور بالدّجنّات [7]
[1] البيتان لأبي صفوان الأسدي في الحماسة البصرية 2/ 344، وأمالي القالي 2/ 238، وحماسة الخالديين 359.
[2] في الأمالي: (الحمة: سمه وضره، والرشاء: الحبل).
[3] في الأمالي: (المنهرت: واسع مشق الشدق).
[4] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (سبت) والتهذيب 12/ 388.
[5] الأعصل: الأعوج.
[6] تقدم شرح البيت في الحاشية قبل السابقة.
[7] الطمور: الوثوب. (القاموس: طمر).(4/346)
وتارة تحسبه ميّتا ... من طول إطراق وإخبات [1] ... يسبته الصّبح وطورا له ... نفخ ونفث في المغارات
ويعلم أنّه وصف أفعى بقوله: [من السريع] أصمّ أعمى لا يجيب الرّقى ... يفترّ عن عصل حديدات ... منهرت الشّدق رقود الضّحى «الخ» ثم ذكر أنيابه، فقال:
قدّمن عن ضرسيه واستأخرا ... إلى صماخين ولهوات
فجعله أعصل الأنياب، منهرت الأشداق، ثمّ وصفها بالسّبات وطول الإطراق، وبسرعة النّشطة [2]، وخفّة الحركة، إذا هّمت بذلك وكانت تعظم.
1091 [شعر في صفة الحية]
وقد وصفتها امرأة جاهليّة بجميع هذه الصّفة، إلّا أنها زادت شيئا. والشّعر صحيح. وليس في أيدي أصحابنا من صفة الأفاعي مثلها.
وقد رأيت عند داود بن محمّد الهاشميّ كتابا في الحيّات، أكثر من عشرة أجلاد، ما يصحّ منها مقدار جلد ونصف.
ولقد ولّدوا على لسان خلف الأحمر، والأصمعيّ، أرجازا كثيرة. فما ظنّك بتوليدهم على ألسنة القدماء! ولقد ولّدوا على لسان جحشويه في الحلاق أشعارا ما قالها جحشويه قط. فلو تقذّروا من شيء تقذّروا من هذا الباب.
والشّعر الذي في الأفعى [3]: [من الكامل] قد كاد يقتلني أصمّ مرقّش ... من حبّكم، والخطب غير كبير ... خلقت لهازمه عزين ورأسه ... كالقرص فلطح من دقيق شعير ... ويدير عينا للوقاع كأنّها ... سمراء طاحت من نفيض برير
[1] الإخبات: الإطراق والسكون. (القاموس: طرق).
[2] نشطت الحية: عضت بنابها. (القاموس: نشط).
[3] انظر الأبيات مع تخريجها في الأصمعيات رقم 35.(4/347)
وكأنّ ملقاه بكلّ تنوفة ... ملقاك كفّة منخل مأطور [1] ... وكأنّ شدقيه إذا استعرضته ... شدقا عجوز مضمضت لطهور
فقد زعمت [2] كما ترى أنها تدير عينا، وزعم الأوّل أنها قائمة العين [3]. إلّا أن تزعم أنها لم ترد بالإدارة أن مقلتها تزول عن موضعها، ولكنّها أرادت أنّها جوّالة في إدراك الأشخاص، البعيدة والقريبة، والمتيامنة والمتياسرة وقد يجوز أن يكون إنّما جعلها سميعة لدقّة الحسّ، وكثرة الاكتراث وجودة الشمّ، لا جودة السّمع فإنّ الذين زعموا أنّ النّعامة صمّاء زعموا أنّها تدرك من جهة الشمّ والعين، جميع الأمور التي كانت تعرفها من قبل السّمع لو كانت سميعة. وقد قال الشاعر في صفة الحيّة [4]: [من البسيط] تهوي إلى الصّوت والظلماء عاكفة ... تعرّد السّيل لاقى الحيد فاطّلعا [5]
هذا بعد أن قال:
إني وما تبتغي منّي كملتمس ... صيدا وما نال منه الرّيّ والشّبعا ... أهوى إلى باب جحر في مقدّمه ... مثل العسيب ترى في رأسه نزعا ... اللّون أربد والأنياب شابكة ... عصل ترى السمّ يجري بينها قطعا [6] ... أصم ما شمّ من خضراء أيبسها ... أو شمّ من حجر أوهاه فانصدعا
فقد جعل لها أنيابا عصلا، ووصفها بغاية الخبث، وزعم أنها تسمع. فهؤلاء ثلاثة شعراء.
1092 [الثقة بالعلماء]
فإن قلت: إنّ المولّد لا يؤمن عليه الخطأ، إذ كان دخيلا في ذلك الأمر، وليس كالأعرابيّ الذي إنما يحكي الموجود الظاهر له، الذي عليه نشأ، وبمعرفته غذي.
[1] التنوفة: الأرض المتباعدة الأطراف. (القاموس: تنف). كفة النخل: إطاره. (القاموس: كفف).
[2] يقصد الشاعرة قائلة الأبيات.
[3] أي الراعي النميري في البيت الذي تقدم قبل قليل.
[4] الأبيات للزماني في يحيى بن أبي حفصة وهي في الوحشيات 86، وسيذكرها الجاحظ مرة أخرى.
انظر الفقرة (1150). ص: 398.
[5] عرد فلان: ترك الطريق. (القاموس: عرد). الحيد: ما شخص من الجبل. (القاموس: حيد).
[6] عصل: جمع أعصل، وهو الأعوج. (القاموس: عصل).(4/348)
فالعلماء الذين اتّسعوا في علم العرب، حتى صاروا إذا أخبروا عنهم بخبر كانوا الثّقات فيما بيننا وبينهم، هم الذين نقلوا إلينا. وسواء علينا جعلوه كلاما وحديثا منثورا، أو جعلوه رجزا وقصيدا موزونا.
ومتى أخبرني بعض هؤلاء بخبر لم أستظهر عليه بمسألة الأعراب. ولكنه إن تكلم وتحدّث، فأنكرت في كلامه بعض الإعراب، لم أجعل ذلك قدوة حتى أوقفه عليه، لأنّه ممّن لا يؤمن عليه اللّحن الخفيّ قبل التفكر. فهذا وما أشبهه حكمه خلاف الأوّل.
1093 [ضروب من الرّقية]
والرّقية تكون على ضروب: فمنها الذي يدّعيه الحوّاء والرّقّاء وذلك يشبه بالذي يدّعي ناس من العزائم على الشياطين والجن، وذلك أنهم يزعمون أن في تلك الرّقية عزيمة لا يمتنع منها الشيطان، فكيف العامر [1]؟! وأن العامر إذا سئل بها أجاب، فيكون هو الذي يتولى إخراج الحيات من الصّخر. فإن كان الأمر على ما قالوا فما ينبغي أن يكون بين خروج الأفاعي الصمّ وغيرها فرق، إذا كانت العزائم والرّقى والنّفث ليس شيئا يعمل في نفس الحيّة، وإنّما هو شيء يعمل في الذي يخرج الحيّة.
وإذا كان ذلك كذلك فالسّميع والأصمّ فيه سواء.
وكذلك يقولون في التّحبيب والتّبغيض، وفي النّشرة وحلّ العقدة، وفي التّعقيد والتحليل.
ويزعمون أنّ الجن لا تجيب صاحب العزيمة حتى يتوحّش ويأتي الخرابات والبراريّ، ولا يأنس بالناس، ويتشبّه بالجنّ، ويغسل بالماء القراح [2]، ويتبخّر باللّبان الذّكر، ويراعي المشتري فإذا دقّ ولطف، وتوحّش وعزم، أجابته الجنّ، وذلك بعد أن يكون بدنه يصلح هيكلا لها، وحتّى يلذّ دخوله وادي منازلها، وألّا يكره ملابسته والكون فيه. فإن هو ألحّ عليها بالعزائم، ولم يأخذ لذلك أهبته خبلته، وربّما قتلته، لأنها تظنّ أنّه متى توحّش لها، واحتمى، وتنظف فقد فرغ. وهي لا تجيب بذلك فقط، حتى يكون المعزّم مشاكلا لها في الطّباع.
فيزعمون أنّ الحيّات إنما تخرج إخراجا، وأنّ الذي يخرجها هو الذي يخرج سمومها من أجساد النّاس، إذا عزم عليها.
[1] يزعمون أن العامر هم من الجن الذين يسكنون بيوت الناس.
[2] القراح: الخالص. (القاموس: قرح).(4/349)
والرّقية الأخرى بما يعرف من التعويذ. قال أبو عبيدة: سمعت أعرابيّا يقول:
قد جاءكم أحدكم يسترقيكم فارقوه. قال: فعوّذوه ببعض العوائذ.
والوجه الآخر مشتقّ من هذا ومحمول عليه، كالرّجل يقول: ما زال فلان يرقي فلانا حتّى لان وأجاب.
1094 [قول الشعراء والمتكلمين في رقى الحيات]
وقد قالت الشعراء في الجاهليّة والإسلام في رقى الحيات، وكانوا يؤمنون بذلك ويصدقون به، وسنخبر بأقاويل المتكلمين في ذلك، وبالله التوفيق.
ومنهم من زعم أنّ إخراج الحيّة من جحرها إلى الرّاقي، إنما كان للعزيمة والإقسام عليها، ولأنّها إذا فهمت ذلك أجابت ولم تمتنع.
وكان أميّة بن أبي الصّلت، لا يعرف قولهم في أنّ العمّار هم الذين يجيبون العزائم بإخراج الحيّات من بيوتها، وفي ذلك يقول [1]: [من البسيط] والحيّة الذّكر الرّقشاء أخرجها ... من جحرها أمنات الله والقسم ... إذا دعا باسمها الإنسان أو سمعت ... ذات الإله بدا في مشيها رزم [2] ... من خلفها حمّة لولا الذي سمعت ... قد كان ثبتها في جحرها الحمم [3] ... ناب حديد وكفّ غير وادعة ... والخلق مختلف في القول والشّيم [4] ... إذا دعين بأسماء أجبن لها ... لنافث يعتديه الله والكلم [5] ... لولا مخافة ربّ كان عذّبها ... عرجاء تظلع، في أنيابها عسم [6] ... وقد بلته فذاقت بعض مصدقه ... فليس في سمعها، من رهبة صمم [7] ... فكيف يأمنها أم كيف تألفه ... وليس بينهما قربى، ولا رحم!
[1] ديوان أمية 462461.
[2] في ديوانه: (الرزم: عدم القدرة على النهوض هزالا أو إعياء، وهذا إشارة إلى زحف الحية في سيرها).
[3] في ديوانه: (الحمة، بكسر الحاء: الموت. والجمع: حمم).
[4] في ديوانه: (الحديد: القاطع. كف: أراد كف الحية على التشبيه، وأراد به ما لديها من استعداد للشر دائم).
[5] في ديوانه: (النافث: أراد به الحاوي).
[6] في ديوانه: (تظلع: تعرج، أي تزحف وتتلوى، العشم: اليبس).
[7] في ديوانه: (بلاه: اختبره. المصدق: الجدّ والصلابة).(4/350)
يقول: لو أنّها أخرجت حين استحلفت بالله لما خرجت، إذ ليس بينهما قربى ولا رحم. ثمّ ذكر الحمّة والنّاب.
وقال آخرون: إنما الحيّة مثل الضبّ والضّبع، إذا سمع بالله والهدم والصّوت خرج ينظر. والحوّاء [1] إذا دنا من الجحر رفع صوته وصفّق بيديه، وأكثر من ذلك، حتى يخرج الحيّة، كما يخرج الضب والضّبع.
وقال كثيّر [2]: [من الطويل] وسوداء مطراق إليّ من الصّفا ... أنيّ إذا الحاوي دنا فصدا لها [3]
والتّصدية. التّصفيق، قال الله تعالى: {وَمََا كََانَ صَلََاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلََّا مُكََاءً وَتَصْدِيَةً} [4] الآية. فالمكاء: صوت بين النّفخ والصّفير، والتّصدية: تصفيق اليد باليد.
فكان الحوّاء يحتال بذلك للحيّة، ويوهم من حضر أنّه بالرّقية أخرجها، وهو في ذلك يتكلم ويعرّض، إلّا أنّ ذلك صوت رفيع. وهو لو رفع صوته ببيت شعر أو بخرافة، لكان ذلك والذي يظهر من العزيمة عند الحيّة سواء. وإنّما ينكر الصّوت، كما ينكره الضّبّ وغير ذلك من الوحش.
ثم قال [5]: [من الطويل] كففت يدا عنها وأرضيت سمعها ... من القول حتّى صدّقت ما وعى لها ... وأشعرتها نفثا بليغا، فلو ترى ... وقد جعلت أن ترعني النّفث بالها ... تسلّلتها من حيث أدركها الرّقى ... إلى الكفّ لما سالمت، وانسلالها
فقال كما ترى:
كففت يدا عنها وأرضيت سمعها (البيت) ثم قال:
وأشعرتها نفثا بليغا فلو ترى
[1] الحواء: الذي يجمع الأفاعي. (القاموس: حوي).
[2] ديوان كثير 85، والمعاني الكبير 670.
[3] الصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء.
[4] 35/ الأنفال: 8.
[5] ديوان كثير 86.(4/351)
وقال الأعشى [1]: [من الطويل] أبا مسمع إني امرؤ من قبيلة ... بنى لي عزّا موتها وحياتها ... فلا تلمس الأفعى يديك تريدها ... إذا ما سعت يوما إليها سفاتها
وقال آخر: [من الرجز] يدعو به الحيّة في أقطاره ... فإن أبى شمّ سفا وجاره
والسّفا: التراب اليابس بين التربين. يقال سفا وسفاة.
1095 [من حيل الحواء والراقي]
والحوّاء والرّاقي يري النّاس أنّه إذا رأى جحرا لم يخف عليه: أجحر حيّة هو أم جحر شيء غيره، فإن كان جحر حيّة لم يخف عليه أهي فيه أم لا، ثمّ إذا رقى وعزّم فامتنعت من الخروج، وخاف أن تكون أفعى صمّاء لا تسمع، وإذا أراغها [2] ليأخذها فأخطأ، لم يأمن من أن تنقره نقرة لا يفلح بعدها أبدا، فهو عند ذلك يستبري بأن يشمّ من تراب الجحر، فلا يخفى عليه: أهي أفعى أم حيّة من سائر الحيات. فلذلك قال:
يدعو به الحية في أقطاره (البيت) والوجار: الجحر.
1096 [ريح الأفعى]
وزعم لي بعض الحوّائين أنّ للحيّات نتنا وسهكا [3]، وأن ريح الأفعى معروفة.
وليس شيء أغلق، ولا أعنق [4]، ولا أسرع أخذا لرائحة من طين أو تراب، وأنّه إذا شمّ من طينة الجحر لم يخف عليه. وقال: اعتبر ذلك بهذا الطين السداني والرّاهطي إذا ألقي في الزّعفران والكافور، أو غيره ذلك من الطّيب، فإنّه متى وضع إلى جنب روثة أو عذرة، قبل ذلك الجسم.
[1] البيتان للأعشى في ديوانه 135، ولخالد بن زهير الهذلي في شرح أشعار الهذليين 221، ومعجم الشعراء 276، ولأبي ذؤيب الهذلي في المخصص 15/ 125، وبلا نسبة في اللسان (سفا)، والجمهرة 850، 1073، والاشتقاق 73، والمخصص 10/ 63، والتهذيب 13/ 94.
[2] أراغ: طلب. (القاموس: طلب).
[3] السّهك: ريح كريهة ممن عرق. (القاموس: سهك).
[4] أعنق: أي أسرع.(4/352)
والرّقاء يوهم النّاس إذا دخل دورهم لاستخراج الحيّات أنّه يعرف أماكنها برائحتها، فلذلك يأخذ قصبة ويشعب رأسها، ثم يطعن بها في سقف البيت والزّوايا، ثمّ يشمها ويقول مرة: فيها حيّات ويقول مرّة: بلى فيها حيّات، على قدر الطمع في القوم، وفي عقولهم.
1097 [تأثير الأصوات في المخلوقات]
وأمر الصّوت عجيب، وتصرّفه في الوجوه عجب. فمن ذلك أنّ منه ما يقتل، كصوت الصاعقة. ومنها ما يسرّ النفوس حتى يفرط عليها السّرور فتقلق حتى ترقص، وحتّى ربما رمى الرّجل بنفسه من حالق [1]. وذلك مثل هذه الأغاني المطربة.
ومن ذلك ما يكمد. ومن ذلك ما يزيل العقل حتى يغشى على صاحبه، كنحو هذه الأصوات الشجية، والقراءات الملحّنة. وليس يعتريهم ذلك من قبل المعاني لأنهم في كثير من ذلك لا يفهمون معاني كلامهم. وقد بكى ماسرجويه من قراءة أبي الخوخ، فقيل له: كيف بكيت من كتاب الله ولا تصدّق به؟ قال: إنما أبكاني الشجا! وبالأصوات ينوّمون الصّبيان والأطفال.
والدّوابّ تصرّ [2] آذانها إذا غنّى المكاري. والإبل تصرّ آذانها إذا حدا في آثارها الحادي، وتزداد نشاطا، وتزيد في مشيها. ويجمع بها الصّيّادون السّمك في حظائرهم التي يتّخذونها له. وذلك أنّهم يضربون بعصيّ معهم، ويعطعطون [3]، فتقبل أجناس السّمك شاخصة الأبصار مصغية إلى تلك الأصوات، حتّى تدخل في الحظيرة ويضرب بالطّساس للطّير، وتصاد بها. ويضرب بالطّساس للأسد وقد أقبلت، فتروعها تلك الأصوات.
وقال صاحب المنطق: الأيائل تصاد بالصّفير والغناء. وهي لا تنام مادامت تسمع ذلك من حاذق الصوت. فيشغلونها بذلك ويأتون من خلفها فإن رأوها مسترخية الآذان وثبوا عليها، وإن كانت قائمة الأذنين فليس إليها سبيل.
والصّفير تسقى به الدوابّ الماء، وتنفّر به الطير عن البذور.
[1] الحالق: الجبل المرتفع. (القاموس: حلق).
[2] صرت الدابة أذنها: نصبتها للاستماع. (القاموس: صرر).
[3] العطعطة: تتابع الأصوات واختلاطها في الحرب وغيرها، وحكاية صوت المجان (القاموس: عطط).(4/353)
وزعم صاحب المنطق أنّ الرّعد الشّديد إذا وافق سباحة السّمك في أعلى الماء رمت ببيضها قبل انتهاء الأجل. وربّما تمّ الأجل فتسمع الرّعد الشّديد، فيتعطّل عليها أيّاما بعد الوقت.
وقال أبو الوجيه العكليّ: أحبّ السّحابة الخرساء ولا أحبها! فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنها لا تخرس حتى تمتلئ ماء وتصبّ صبّا كثيرا، ويكون غيثا طبقا [1].
وفي ذلك الحيا [2]. إلّا أنّ الكماة لا تكون على قدر الغيث. ذهب إلى أنّ للرّعد في الكمأة عملا.
وقال جعفر بن سعيد: سأل كسرى عن الكمأة فقيل له: لا تكون بالمطر دون الرّعد، ولا بالرّعد دون المطر. قال: فقال كسرى: رشّوا بالماء واضربوا بالطبول! وكان من جعفر على التمليح. وقد علم جعفر أنّ كسرى لا يجهل هذا المقدار.
فالحيّة واحدة من جميع أجناس الحيوان الذي للصّوت في طبعه عمل. فإذا دنا الحوّاء وصفق بيديه، وتكلم رافعا صوته حتى يزيّد، خرج إليه كلّ شيء كان في الجحر، فلا يشكّ من لا علم له أنّ من لا علم له أنّ لحيّة خرجت من جهة الطاعة وخوف المعصية، وأنّ العامر [3] أخرجها تعظيما للعزيمة، ولأنّ المعتزم مطاع في العمّار. والعامّة أسرع شيء إلى التّصديق.
1098 [شعر في الروح وهيكلها]
وفي الرّوح، وفي أنّ البدن هيكل لها، يقول سليمان الأعمى وكان أخا مسلم ابن الوليد الأنصاريّ. وكانوا لا يشكون بأنّ سليمان هذا الأعمى، كان من مستجيبي بشار الأعمى، وأنّه كان يختلف إليه وهو غلام فقبل عنه ذلك الدّين. وهو الذي يقول [4]: [من المديد] إنّ في ذا الجسم معتبرا ... لطلوب العلم مقتبسه ... هيكل للرّوح ينطقه ... عرقه والصّوت من نفسه
[1] الطبق: المطر العامّ. (القاموس: طبق).
[2] الحيا: الخصب. (القاموس: حيي).
[3] العامر: زعموا أنه من الجن الذين يسكنون بيوت الناس. (القاموس: عمر).
[4] الأبيات في نكت الهميان 160، والبيتان الأخيران في البيان 3/ 202، وعيون الأخبار 3/ 61، والكامل 2/ 370 (طبعة المعارف).(4/354)
لا تعظ إلّا اللّبيب فما ... يعدل الضّلع على قوسه ... ربّ مغروس يعاش به ... فقدته كفّ مغترسه ... وكذاك الدّهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
1099 [قول في شعر لأمية بن أبي الصلت]
وكانت العرب تقول: كان ذلك إذ كان كلّ شيء ينطق، وكان ذلك والحجارة رطبة.
قال أميّة [1]: [من الوافر] وإذ هم لا لبوس لهم تقيهم ... وإذ صمّ السّلام لهم رطاب [2] ... بآية قام ينطق كلّ شيء ... وخان أمانة الدّيك الغراب ... وأرسلت الحمامة بعد سبع ... تدلّ على المهالك لا تهاب ... تلمّس هل ترى في الأرض عينا ... وعاينة بها الماء العباب ... فجاءت بعد ما ركضت بقطف ... عليها التّأط والطّين الكباب [3] ... فلما فرّسوا الآيات صاغوا ... لها طوقا كما عقد السّخاب [4] ... إذا ماتت تورّثه بنيها ... وإن تقتل فليس له انسلاب
ضفذكر رطوبة الحجارة، وأنّ كلّ شيء قد كان ينطق. ثمّ خبّر عن منادمة الدّيك الغراب، واشتراط الحمامة على نوح، وغير ذلك ممّا يدلّ على ما قلنا. ثم ذكر الحيّة، وشأن إبليس وشأنها، فقال: [من الوافر] كذي الأفعى تربّبها لديه ... وذي الجنّيّ أرسلها تساب [5] ... فلا ربّ البريّة يأمننها ... ولا الجنيّ أصبح يستتاب
[1] ديوان أمية 340337. وشرح الأبيات التالية من ديوانه.
[2] «اللبوس: الثياب. السلام: الحجارة، الواحدة سلمة، وكانت العرب تزعم أن الحجارة كانت رطبة لينة في قديم الزمان».
[3] «القطف: ما قطف من ثمار وسواها. والثأط: الطين الأسود المنتن. الكباب: الطين اللازب.
الكثاب: المجتمع».
[4] «فرسوا الآيات: تثبتوا منها، والآيات مفردها آية، وهي العلامة، السخاب: القلادة، وأراد به ما يرى في عنق الحمامة شبه الطوق».
[5] «ذو الأفعى: لعله يريد به آدم عليه السلام. ترببها: رباها، ذو الجني: إبليس. سابت الحية وانسابت: جرت».(4/355)
فإن قلت: إنّ أميّة كان أعرابيّا، وكان بدويّا، وهذا من خرافات أعراب الجاهليّة، وزعمت أنّ أميّة لم يأخذ ذلك عن أهل الكتاب فإني سأنشدك لعديّ بن زيد، وكان نصرانيّا ديانا، وترجمانا، وصاحب كتب، وكان من دهاة أهل ذلك الدّهر.
1100 [آدم عليه السلام والحية]
قال عديّ بن زيد، يذكر شأن آدم ومعصيته، وكيف أغواه، وكيف دخل في الحية، وأنّ الحية كانت في صورة جمل فمسخها الله عقوبة لها، حين طاوعت عدوّه على وليّه. فقال [1]: [من البسيط] قضى لستّة أيّام خليقته ... وكان آخرها أن صوّر الرّجلا ... دعاه آدم صوتا فاستجاب له ... بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا ... ثمّت أورثه الفردوس يعمرها ... وزوجه صنعة من ضلعه جعلا ... لم ينهه ربّه عن غير واحدة ... من شجر طيّب: أن شمّ أو أكلا ... فكانت الحيّة الرّقشاء إذ خلقت ... كما ترى ناقة في الخلق أو جملا ... فعمدا للتي عن أكلها نهيا ... بأمر حوّاء لم تأخذ له الدّغلا ... كلاهما خاط إذ بزّا لبوسهما ... من ورق التّين ثوبا لم يكن غزلا ... فلاطها الله إذ أغوت خليفته ... طول اللّيالي ولم يجعل لها أجلا [2] ... تمشي على بطنها في الدّهر ما عمرت ... والتّرب تأكله حزنا وإن سهلا ... فأتعبا أبوانا في حياتهما ... وأوجدا الجوع والأوصاب والعللا ... وأوتيا الملك والإنجيل نقرؤه ... نشفي بحكمته أحلامنا عللا ... من غير ما حاجة إلّا ليجعلنا ... فوق البريّة أربابا كما فعلا
1101 [عقاب حواء وآدم والحية]
فرووا أنّ كعب الأحبار قال: مكتوب في التوارة أنّ حوّاء عند ذلك عوقبت بعشر خصال، وأنّ آدم لمّا أطاع حوّاء وعصى ربّه عوقب بعشر خصال، وأنّ الحيّة التي دخل فيها إبليس عوقبت أيضا بعشر خصال.
[1] ديوان عدي بن زيد 160159.
[2] ينسب هذا البيت أيضا لأمية بن أبي الصلت في ديوانه 460، واللسان (ليط). وفي ديوانه:
«لاطها: لعنها، أو ألصقها بالتراب. لم يجعل لها أجلا: أراد أنها لا تموت بأجلها حتى تقتل قتلا».(4/356)
وأوّل خصال حوّاء التي عوقبت بها وجع الافتضاض، ثم الطلق، ثمّ النّزع، ثمّ بقناع الرّأس، وما يصيب الوحمى والنفساء من المكروه، والقصر في البيوت، والحيض، وأنّ الرّجال هم القوّامون عليهنّ، أن تكون عند الجماع هي الأسفل.
وأمّا خصال آدم صلى الله عليه وسلم: فالذي انتقص من طوله، وبما جعله الله يخاف من الهوامّ والسّباع، ونكد العيش، وبتوقع الموت، وبسكنى الأرض، وبالعري من ثياب الجنّة، وبأوجاع أهل الدنيا، وبمقاساة التحفظ من إبليس، وبالمحاسبة بالطّرف، وبما شاع عليه من اسم العصاة.
وأمّا الحيّة فإنها عوقبت بنقص جناحها، وقطع أرجلها، والمشي على بطنها، وبإعراء جلدها حتى يقال: «أعرى من حيّة» وبشقّ لسانها لذلك كلما خافت من القتل أخرجت لسانها لتريهم العقوبة وبما ألقي عليها من عداوة النّاس، وبمخافة الناس، وبجعله لها أوّل ملعون من اللّحم والدّم، وبالذي ينسب إليها من الكذب والظلم [1].
فأمّا الظلم فقولهم: «أظلم من حيّة» [2] وأما الكذب فإنها تنطوي في الرّمل على الطّريق وتدخل بعض جسدها في الرّمل، فتظهر كأنها طبق خيزران. ومنها حيّات بيض قصار تجمع بين أطرافها على طرق الناس، وتستدير كأنها طوق أو خلخال، أو سوار ذهب أو فضة ولما تلقي على نفسها من السّبات، ولما تظهر من الهرب من الناس. وكلّ ذلك إنما تغرّهم وتصطادهم بتلك الحيلة، فذلك هو كذبها.
1102 [عقاب الأرض]
قال: وعوقبت الأرض حين شربت دم ابن آدم بعشر خصال: أنبت فيها الشّوك، وصيّر فيها الفيافي، وخرق فيها البحار، وملّح أكثر مائها، وخلق فيها الهوامّ والسّباع، وجعلها قرارا لإبليس والعاصين، وجعل جهنّم فيها، وجعلها لا تربي ثمرتها. إلّا في الحرّ، وهي تعذّب بهم إلى يوم القيامة، وجعلها توطأ بالأخفاف، والحوافر، والأظلاف، والأقدام، وجعلها مالحة الطّعم.
ثم لم تشرب بعد دم ابن آدم دم أحد من ولده، ولا من غير ولده. قال: ولذلك
[1] انظر الفقرة 1076.
[2] مجمع الأمثال 1/ 445، وجمهرة الأمثال 2/ 29، والمستقصى 1/ 232، والدرة الفاخرة 1/ 293، وفصل المقال 492.(4/357)
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لأبي مريم الحنفيّ: «لأنا أشدّ لك بغضا من الأرض للدم» [1].
وزعم صاحب المنطق أنّ الأرض لا تشرب الدّم، إلّا يسيرا من دماء الإبل خاصّة.
1103 [اختبار العسل]
وإذا أرادوا أن يمتحنوا جودة العسل من رداءته، قطروا على الأرض منه قطرة.
فإذا استدارت كأنها قطعة زئبق، ولم تأخذ من الأرض ولم تعطها فهو الماذيّ الخالص الذّهبيّ. فإن كان فيه غشوشة نفشت القطرة على قدر ما فيها، وأخذت من الأرض وأعطتها. وإن لم يقدروا على اللّحم الغريض دفنوه وغرّقوه في العسل، فإنهم متى رجعوا فغسلوه عنه وجدوه غضّا طريّا، لأنّه ذهبيّ الطّباع، ليس بينه وبين سائر الأجرام شيء. فهو لا يعطيه شيئا ولا يأخذ منه. وكذلك الذّهب إذا كان مدفونا.
1104 [زمن الفطحل]
وهذه الأحاديث، وهذه الأشعار، تدلّ على أنّهم قد كانوا يقولون: إنّ الصخور كانت رطبة ليّنة، وإنّ كلّ شيء قد كان يعرف وينطق وإنّ الأشجار والنّخل لم يكن عليها شوك. وقد قال العجّاج، أو رؤبة [2]: [من الرجز] أو عمر نوح زمن الفطحل ... والصّخر مبتلّ كطين الوحل
1105 [مرويات كعب الأحبار]
وأنا أظنّ أنّ كثيرا ممّا يحكى عن كعب أنّه قال: «مكتوب في التوراة» أنّه إنّما قال: «نجد في الكتب»، وهو إنّما يعني كتب الأنبياء، والذي يتوارثونه من كتب سليمان وما في كتبهم من مثل كتب إشعياء وغيره. والذين يروون عنه في صفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأشباه ذلك، فإن كانوا صدقوا عليه وكان الشيخ لا يضع الأخبار فما كان وجه كلامه عندنا إلّا على ما قلت لك.
[1] انظر عيون الأخبار 3/ 13، والكامل 1/ 355، (طبعة المعارف)، والبيان 1/ 376، 2/ 89، 3/ 60.
[2] الرجز لرؤبة في ديوانه 128.(4/358)
1106 [نطق الحية]
وفي أنّ الحيّة قد كانت تسمع وتنطق، يقول النّابغة في المثل الذي ضربه، وهو قوله [1]: [من الطويل] أليس لنا مولى يحبّ سراحنا ... فيعذرنا من مرّة المتناصره ... ليهنكم أن قد نفيتم بيوتنا ... محلّ عبيدان المحلّئ باقره [2] ... وإني للاق من ذوي الضّغن نكبة ... بلا عثرة والنفس لا بدّ عاثره ... كما لقيت ذات الصّفا من حليفها ... وما انفكّت الأمثال في الناس سائره ... فقالت له: أدعوك للعقل وافرا ... ولا تغشينّي منك للظّلم بادره [3] ... فواثقها بالله حتّى تراضيا ... فكانت تديه الجزع خفيا وظاهره ... فما توفّى العقل إلّا أقلّه ... وجارت به نفس عن الخير جائره ... تفكّر أنّى يجمع الله شمله ... فيصبح ذا مال ويقتل واتره ... فظلّ على فأس يحدّ غرابها ... ليقتلها، والنّفس للقتل حاذره [4] ... فلما وقاها الله ضربة فأسه ... ولله عين لا تغمّض ساهره ... فقال: تعالي نجعل الله بيننا ... على العقل حتّى تنجزي لي آخره ... فقالت: يمين الله، أفعل إنّني ... رأيتك ختّارا يمينك فاجره ... أبى لك قبر لا يزال مواجها ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره [5]
فذهب النّابغة في الحيّات مذهب أميّة بن أبي الصّلت، وعديّ بن زيد، وغيرهما من الشعراء.
1107 [حال الصخور والأشجار في ماضي الزمان]
وأنشدني عبد الرحمن بن كيسان: [من الطويل] فكان رطيبا يوم ذلك صخرها ... وكان خضيدا طلحها وسيالها [6]
[1] ديوان النابغة الذبياني 203202. وشرح الأبيات التالية منه.
[2] في ديوانه «المحلئ: الذي يمنع الإبل أن ترد الماء، والباقر: جماعة البقر».
[3] «العقل: عزم الدية».
[4] «يحد غرابها: يعني طرفها وحدّها».
[5] «فاقرة: مؤثرة».
[6] خضد الشوك: قطعه. (القاموس: خضد).(4/359)
فزعم كما ترى أنّ الصّخور كانت ليّنة، وأنّ الأشجار: الطلح والسّيال كانت خضيدا لا شوك عليها.
وزعم بعض المفسّرين وأصحاب الأخبار، أنّ الشّوك إنما اعتراها في صبيحة اليوم الذي زعمت النّصارى فيه أنّ المسيح ابن الله.
وكان مقاتل يقول حدّثنا بذلك عنه أبو عقيل السّواق، وكما أحد رواته والحاملين عنه إنّ الصّخور كانت ليّنة، وإنّ قدم إبراهيم عليه السلام أثرت في تلك الصخرة، كتأثير أقدام الناس في ذلك الزّمان. إلّا أنّ الله تعالى توفّى تلك الآثار، وعفّى عليها، ومسحها ومحاها، وترك أثر مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم. والحجّة إنما هي في إفراده بذلك ومحو ما سواه من آثار أقدام الناس. ليس أنّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان وطئ على صخرة خلقاء يابسة فأثّر فيها.
1108 [فضل المتكلمين والمعتزلة]
وأنا أقول على تثبيت ذلك بالحجة. ونعوذ بالله من الهذر والتكلف وانتحال ما لا أقوم به. أقول: إنّه لولا مكان المتكلمين لهلكت العوامّ من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوامّ من جميع النّحل. فإن لم أقل، ولولا أصحاب إبراهيم وإبراهيم لهلكت العوامّ من المعتزلة، فإني أقول: إنه قد أنهج لهم سبلا، وفتق لهم أمورا، واختصر لهم أبوابا ظهرت فيها المنفعة، وشملتهم بها النعمة.
1109 [ما يحتاج إليه الناس]
وأنا أزعم أن الناس يحتاجون بديّا إلى طبيعة ثم إلى معرفة، ثم إلى إنصاف.
وأوّل ما ينبغي أن يبتدئ به صاحب الإنصاف أمره ألّا يعطى نفسه فوق حقها، وألّا يضعها دون مكانها، وأن يتحفظ من شيئين فإن نجاته لا تتمّ إلّا بالتحفظ منهما:
أحدهما تهمة الإلف، والآخر تهمة السّابق إلى القلب والله الموفق.
1110 [معاناة الجاحظ في تأليف هذا الكتاب]
وما أكثر ما يعرض في وقت إكبابي على هذا الكتاب، وإطالتي الكلام، وإطنابي في القول، بيت ابن هرمة، حيث يقول [1]: [من البسيط] إنّ الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلجّ بهم عيّ وإكثار
[1] ديوان ابن هرمة 124.(4/360)
وقولهم في المثل: «كل مجر في الخلاء يسرّ» [1].
وأنا أعوذ بالله أن أغرّ من نفسي، عند غيبة خصمي، وتصفح العلماء لكلامي، فإني أعلم أن فتنة اللسان والقلم، أشدّ من فتنة النساء، والحرص على المال.
وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه، أوّل ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب، والرابعة أني لو تكلفت كتابا في طوله، وعدد ألفاظه ومعانيه، ثمّ كان من كتب العرض والجوهر، والطّفرة، والتولد، والمداخلة، والغرائز، والتماس لكان أسهل وأقصر أياما، وأسرع فراغا لأني كنت لا أفزع فيه إلى تلقّط الأشعار، وتتبّع الأمثال، واستخراج الآي من القرآن، والحجج من الرّواية، مع تفرّق هذه الأمور في الكتب، وتباعد ما بين الأشكال. فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ، ومن سوء تأليف، أو من تقطيع نظام، ومن وقوع الشيء في غير موضعه فلا تنكر، بعد أن صوّرت عندك حالي التي ابتدأت عليها كتابي.
ولولا ما أرجو من عون الله على إتمامه إذ كنت لم ألتمس به إلّا إفهامك مواقع الحجج لله، وتصاريف تدبيره، والذي أودع أصناف خلقه من أصناف حكمته لما تعرّضت لهذا المكروه.
فإن نظرت في هذا الكتاب فانظر فيه نظر من يلتمس لصاحبه المخارج، ولا يذهب مذهب التعنّت، ومذهب من إذا رأى خيرا كتمه، وإذا رأى شرّا أذاعه.
وليعلم من فعل ذلك أنّه قد تعرّض لباب إن أخذ بمثله، وتعرّض له في قوله وكتبه، أن ليس ذلك إلّا من سبيل العقوبة، والأخذ منه بالظلامة. فلينظر فيه على مثال ما أدّب الله به، وعرّف كيف يكون النظر والتفكير والاعتبار والتعليم فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مََا فِيهِ} [2].
1111 [الحكمة في الأشياء الصغيرة]
فينبغي أن تكون إذا مررت بذكر الآية والأعجوبة، في الفراشة والجرجسة، ألّا تحقر تلك الآية، وتصغّر تلك الأعجوبة لصغر قدرهما عندك، ولقلّة معرفتهما عند
[1] مجمع الأمثال 2/ 135، 145، وفصل المقال 203، وأمثال ابن سلام 136، والمستقصى 2/ 229.
[2] 63، 93/ البقرة: 2.(4/361)
معرفتك، لصغر أجسامهما عند جسمك. ولكن كن عند الذي يظهر لك من تلك الحكم، ومن ذلك التّدبير، كما قال الله عزّ وجلّ: {وَكَتَبْنََا لَهُ فِي الْأَلْوََاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [1] ثم قال: {فَخُذْهََا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهََا} [1] ثمّ قال الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وََاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مََا فِيهِ} [2]. وقد قال عامر بن عبد قيس: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان» [3].
1112 [حث على التنبّه عند النظر]
وأنا أعيذ نفسي بالله أن أقول إلّا له، وأعيذك بالله أن تسمع إلّا له. وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى ََ لََا يَسْمَعُوا وَتَرََاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ} [4] فاحذر من أن تكون منهم، وممّن ينظر إلى حكمة الله وهو لا يبصرها، وممّن يبصرها بفتح العين واستماع الآذان ولكن بالتوقف من القلب، والتثبت من العقل، وبتحفيظه وتمكينه من اليقين، والحجّة الظاهرة. ولا يراها من يعرض عنها.
وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَلََا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قََالُوا سَمِعْنََا وَهُمْ لََا يَسْمَعُونَ} [5] وقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللََّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ} [6] ولو كانوا صمّا بكما وكانوا هم لا يعقلون، لما عيّرهم بذلك، كما لم يعيّر من خلقه معتوها كيف لم يعقل، ومن خلقه أعمى كيف لم يبصر، وكما لم يلم الدوابّ، ولم يعاقب السّباع. ولكنّه سمّى البصير المتعامي أعمى، والسميع المتصامم أصمّ، والعاقل المتجاهل جاهلا.
وقد قال الله عزّ وجلّ: {فَانْظُرْ إِلى ََ آثََارِ رَحْمَتِ اللََّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ ذََلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ََ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [7] فانظر كما أمرك الله، وانظر من الجهة التي دلّك منها، وخذ ذلك بقوة. قال تعالى: {خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مََا فِيهِ} * [8].
[1] 145/ الأعراف: 7.
[2] 171/ الأعراف: 7.
[3] البيان 1/ 8483.
[4] 57/ الكهف: 18.
[5] 21/ الأنفال: 8.
[6] 22/ الأنفال: 8.
[7] 50/ الروم: 30.
[8] 163/ البقرة: 2، 171/ الأعراف: 7.(4/362)
1113 [عود إلى القول في الحيات]
ثمّ رجع بنا القول إلى ما في الحيّات من العلم والعبرة، والفائدة والحكمة ولذلك قال أبو ذرّ الغفاريّ: «لقد تركنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما يمرّ بنا طائر إلا وعندنا من شأنه علم». وهذا القول صحيح عن أبي ذر، ولم يخصّ أبو ذرّ خشاش الطّير من بغاثها وأحرارها، ولا ما يدخل في بابة الهمج. وقد أريناك من تحقيق قوله طرفا. ولعلك إن جمعت نظرك إلى نظرنا، أن تستتمّ هذا الباب، فقد قال الشاعر [1]: [من الطويل] خليليّ ليس الرأي في رأي واحد ... أشيرا عليّ اليوم ما تريان
وقال الأحنف: «ما من الناس أحد إلّا وقد تعلّمت منه شيئا، حتّى من الأمة الورهاء والعبد الأوره».
والحيّات مختلفات الجهات جدّا، وهي من الأمم التي يكثر اختلاف أجناسها في الضّرر والسمّ، وفي الصّغر والعظم، وفي التعرّض للنّاس، وفي الهرب منهم. فمنها ما لا يؤذي إلّا أن يكون الناس قد آذوها مرّة. وأمّا الأسود فإنّه يحقد ويطالب، ويكمن في المتاع حتى يدرك بطائلته. وله زمان يقتل فيه كلّ شيء نهشه.
وأمّا الأفعى فليس ذلك عندها، ولكنها تظهر في الصّيف مع أوّل الليل، إذا سكن وهج الرّمل وظاهر الأرض فتأتي قارعة الطّريق حتى تستدير وتطحن كأنّها رحى، ثمّ تلصق بدنها بالأرض وتشخص رأسها لئلّا يدركها السّبات، معترضة لئلّا يطأها إنسان أو دابّة فتنهشه. كأنّها تريد ألّا تنهش إلّا بأن يتعرّض لها، وهي قد تعرّضت لنهشه باعتراضها في الطّريق وتناومها عليه! وهي من الحيّات التي ترصد وتوصف بذلك. قال معقل بن خويلد [2]: [من الطويل] أبا معقل لا توطئنكم بغاضتي ... رؤوس الأفاعي في مراصدها العرم
يريد: الأفاعي في مراصدها. وكلّ منقّطة فهي عرماء، من شاة أو غير ذلك.
وقال آخر: [من الرجز] وكم طوت من حنش وراصد ... للسّفر في أعلى البيات قاصد
[1] البيت لعطارد بن قران الحنظلي في الحماسة البصرية 1/ 107، ولطهمان بن عمرو الدارمي في معجم البلدان 2/ 463 (دمخ)، وبلا نسبة في محاضرات الراغب 1/ 12 (1/ 29).
[2] البيت لمعقل الهذلي في شرح أشعار الهذليين 383، واللسان (رصد، بغض، عرم)، والتاج (بغض، عرم)، وبلا نسبة في التهذيب 2/ 391، والمقاييس 4/ 293، والمخصص 7/ 194، 8/ 111.(4/363)
والأفعى تقتل في كلّ حال وفي كلّ زمان. والشّجاع يواثب ويقوم على ذنبه، وربّما بلغ رأسه رأس الفارس.
وليس يقتلها إذا تطوّقت على الطّريق وفي المناهج، أو اعترضتها لتقطعها عابرة إلى الجانب الآخر شيء كأقاطيع الشّياه إذا مرّت بها، وكذلك الإبل الكثيرة إذا مرّت، فإنّ الحيّة إذا وقعت بين أرجلها كان همتها نفسها، ولم يكن لها همة إلّا التّخلص بنفسها لئلّا تعجلها بالوطء. فإن نجت من وطء أيديها، لم تنج من وطء أرجلها. وإن سلمت من واحدة لم تسلم من التي تليها، إلى آخرها.
وقال عمر بن لجأ، وهو يصف إبله [1]: [من الرجز] تعرّض الحيّات في غشاشها
وقال ذو الأهدام: [من الرجز] تعجلها عن نهشها والنّكز
ومن ذلك أنّ العقرب تقع في يد السّنّور، فيلعب بها ساعة من اللّيل وهي في ذلك مسترخية مستخذية لا تضربه. والسّنانير من الخلق الذي لا تسرع السّموم فيه.
1114 [مسالمة الأفعى للقانص والراعي]
وربّما باتت الأفعى عند رأس الرّجل وعلى فراشه فلا تنهشه. وأكثر ما يوجد ذلك من القانص والرّاعي. قال الشاعر [2]: [من الوافر] تبيت الحيّة النّضناض منه ... مكان الحبّ مستمع السّرار
قال: الحبّ: الحبيب. والنضناض من الحيّات: الذي يحرّك لسانه. وعن عيسى بن عمر قال: قلت لذي الرّمّة: ما النضناض؟ فأخرج لسانه يحرّكه.
وإنما يصف القانص وأنّه يبيت بالقفر. ومثله قول أبي النجم [3]: [من الرجز] تحكي لنا القرناء في عرزالها ... جري الرّحى تجري على ثفالها
[1] ديوان عمر بن لجأ 151، والأغاني 8/ 70وحلقات الشعراء 1/ 224، واللسان (عفر).
[2] صواب الرواية «يستمع السرارا» والبيت للراعي النميري في ديوانه 149، وأمالي القالي 2/ 23، واللسان والتاج (حبب، نضض) والتنبيه والإيضاح 1/ 56، والتهذيب 11/ 470، والجمهرة 64، وكتاب الجيم 1/ 162، وبلا نسبة في المخصص 4/ 43، 8/ 110، وأساس البلاغة (نضض)، والمجمل 2/ 30.
[3] الرجز لأبي النجم في ديوانه 161، وللأعشى في اللسان والتاج (عرزل، قرن)، وبلا نسبة في الجمهرة 794، 1150.(4/364)
العرزال: المكان وفي ذلك يقول أبو وجزة [1]: [من البسيط] تبيت جارته الأفعى وسامره ... ربد به عاذر منهنّ كالجرب
وقوله: ربد، يريد البعوض. وعاذر: أثر.
1115 [مسالمة الأفعى]
قال: وبات يحيى بن منقاش مع دارم الدارميّ، فلما أصبح يحيى رأى بينهما أفعى مستوية، فوثب يحيى ليقتلها، فقال له دارم. قد أعتقتها وحرّرتها! ولم تقتلها وهي ضجيعتي من أوّل الليل؟ فقال يحيى: [من الطويل] أعوذ بربّي أن ترى لي صحبتي ... يطيف بنا ليلا محرّر دارم ... من الخرس لا ينجو صحيحا سليمها ... وإن كان معقودا بحلي التمائم
1116 [القول في العقرب]
والعقارب في ذلك دون الحيّات، إلّا الجرّارات، فإنها ربّما باتت في لحاف الرّجل اللّيلة بأسرها، وتكون في قميصه عامّة يومها، فلا تلسعه. فهي بالأفعى أشبه.
فأمّا سائر العقارب فإنها تقصد إلى الصّوت، فإذا ضربت إنسانا فرّت كما يصنع المسيء الخائف للعقاب.
والعقرب لا تضرب الميت ولا المغشيّ عليه، ولا النائم إلّا أن يحرك شيئا من جسده، فإنها عند ذلك تضربه.
ويقال إنها تأوي مع الخنافس وتسالمها، ولا تصادق من الحيّات إلا كلّ أسود سالخ.
وحدّث أبو إسحاق المكي قال: كان في دار نصر بن الحجاج السّلمي عقارب إذا لسعت قتلت، فدبّ ضيف لهم على بعض أهل الدّار فضربته عقرب على مذاكيره، فقال نصر يعرّض به [2]: [من المتقارب] وداري إذا نام سكّانها ... أقام الحدود بها العقرب
[1] البيت لأبي وجزة في اللسان والتاج وأساس البلاغة (رمد)، والمقاييس 2/ 438، والمجمل 2/ 420، والتهذيب 14، 121.
[2] البيتان في حياة الحيوان 2/ 52 (العقرب).(4/365)
إذا غفل الناس عن دينهم ... فإن عقاربها تضرب
قال: فأدخل النّاس بها حوّاء، وحكوا له شأن تلك العقارب، فقال: إن هذه العقارب تستقي من أسود سالخ. ونظر إلى موضع في الدار فقال: احفروا هاهنا.
فحفروا عن أسودين: ذكر وأنثى، وللذّكر خصيتان ورأوا حول الذّكر عقارب كثيرة فقتلوها.
قال: وقال الفضل بن عبّاس حين راهنه عقرب بالشّعر، وقيل لكلّ واحد منهما:
لست في شيء حتّى تغلب صاحبك، فقال الفضل [1]: [من السريع] قد تجر العقرب في سوقنا ... لا مرحبا بالعقرب التّاجره ... كل عدوّ يتّقى مقبلا ... وعقرب تخشى من الدّابره ... كلّ عدوّ كيده في استه ... فغير ذي أيد ولا ضائره ... قد ضاقت العقرب واستيقنت ... بأنّ لا دنيا ولا آخره ... إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النّعل لها حاضره
واسم أم حارثة بن بدر، عقرب. وآل أبي موسى يكتنون بأبي العقارب. ومن هؤلاء الذين يكتنون بالعقرب: ابن أبي العقرب الليثيّ الخطيب الفصيح، الراوية.
ورووا أنّ عقربا لسعت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «لعنها الله، فإنّها لا تبالي من ضربت!» وقال الضّبيّ: أنا عقرب، أضرّ ولا أنفع [2].
وكان الرّجل تلسعه الجرّارة بعسكر مكرم، أو بجند يسابور، فتقتله وربّما تناثر لحمه، وربّما تعفّن وأنتن، حتى لا يدنو منه أحد إلّا وهو مخمّر أنفه، مخافة إعدائه، ولا سيما إن كان قد نال من اللحم وهو لا يعلم أنّ الوخزة التي وخزها كانت من جرّارة.
وكانوا إذا شعروا بها دعوا حجاما، يحجم ذلك الموضع ويمصّه، قبل أن يتفشى فيه السمّ ويدخل تلك المداخل. فكان الحجّام لا يجيئهم حتى يقبض دنانير كثيرة. وإنما كانوا يجودون له بذلك لما كان لصاحبهم في ذلك من الفرج، وما على الحجام في ذلك من ضرر. وذلك أن وجهه ربّما اسمارّ واربدّ، وربّما عطّلت مقاديم
[1] الأبيات في عيون الأخبار 1/ 256، وحياة الحيوان 2/ 61 (العقرب).
[2] ورد الخبر في عيون الأخبار 2/ 103، وربيع الأبرار 5/ 476.(4/366)
أسنانه وتوجّعت عليه، فيلقى من ذلك الجهد، وذلك لما كان يتّصل إلى فيه من بخار الدّم، ومن ذلك السمّ المخالط لذلك الدّم. ثمّ إنّهم بعد ذلك حشوا أذناب المحاجم بالقطن، فصار القطن لا يمنع قوّة المصّ والجذب، ولم يدعه يصل إلى فم الحجام.
ثمّ إنّهم بعد مدّة سنيّات [1] أصابوا نبتة في بعض الشّعب [2]، فإذا عالجوا الملسوع بها حسنت حاله.
والجرّارات تألف الأخواء [3] التي تكون بحضرة الأتاتين [4]، وتألف الحشوش [5] والمواضع الناريّة. وسمّها نار.
وقيل لماسرجويه: قد نجد العقرب تلسع رجلين فتقتل أحدهما ويقتلها الآخر، وربّما نجت ولم تمت، كما أنّه ربّما عقرت ولم تفت، ونجدها تضرب رجلين في ساعة واحدة، فيختلفان في سوء الحال. ونجدها تختلف مواضع ضررها على قدر الأغذية، وعلى قدر الأزمان، وعلى قدر مواضع الجسد. ونجد واحدا يتعالج بالمسوس [6] فيحمده، ونجد آخر يدخل يده في مدخل حارّ من غير أن يكون فيه ماء فيحمده، ونجد آخر يعالجه بالنّخالة الحارّة فيحمدها، ونجد آخر يحجم ذلك الموضع فيحمده، ونجد كلّ واحد من هؤلاء يشكو خلاف ما يوافقه، ثم إنّا نجده يعاود ذلك العلاج عند لسعة أخرى فلا يحمده! قال ماسرجويه: لما اختلفت السّموم في أنفسها بالجنس والقدر، وفي الزّمان، باختلاف ما لاقاه اختلف الذي وافقه على حسب اختلافه.
وكان يقول: إنّ قول القائل في العقرب: شرّ ما تكون حين تخرج من جحرها، ليس يعنون من ليلتها إذ كان لا بدّ من أن يكون لها نصيب من الشدّة ولكنّهم إنما يعنون: في أوّل ما تخرج من جحرها عند استقبال الصّيف، بعد طول مكثها في غير عالمنا وغذائنا وأنفاسنا ومعايشنا.
[1] سنيات: جمع سنية، تصغير سنة.
[2] الشعب: جمع شعبة، وهي المسيل في الرمل، أو التلعة الصغيرة. (القاموس: شعب).
[3] الأخواء: جمع خوى، وهو اللين من الأرض. (القاموس: خوى).
[4] الأتاتين: جمع أتون، وهو موقد النار. (القاموس: أتن).
[5] الحشوش: جمع حش، وهو المخرج لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين. (القاموس:
حشش).
[6] المسوس: كل ما شفى الغليل. (القاموس: مسس). وهو دواء يعالج به الملسوع والملدوغ.(4/367)
والعامّة تزعم أنها شرّ ما تكون إذا ضربت الإنسان وقد خرج من الحمام لتفتح المسامّ، وسعة المجاري، وسخونة البدن. ولذلك صار سمها في الصيف أشدّ. هذا قول أبي إسحاق. كأنّه كان يرى أنّ الهواء كلما كان أحرّ، وكان البدن أسخن كان شرّا.
ونحن نجدهم يصرخون من لسعتها اللّيل كلّه، وإذا طلعت الشمس سكن ما بهم. فإذا بقيت فضلة من تلك الجارحة في الشمس فما أكثر ما يسكن. وسمومها باللّيل أشدّ، إلّا أن يزعم أنّ أجواف الناس في برد الليل أسخن وفي حرّ النهار أفتر.
1117 [الحية الدّساس]
وزعم لي بعض العلماء ممّن قد روى الكتب، وهو في إرث منها، أنّ الحية التي يقال لها: الدسّاس، تلد ولا تبيض وأنّ أنثى النمور لم تضع نمرا قط إلّا ومعه أفعى.
1118 [استحالة الكمأة إلى أفاع]
والأعراب تزعم أنّ الكمأة تبقى في الأرض فتمطر مطرة صيفيّة، فيستحيل بعضها أفاعي. فسمع هذا الحديث منّي بعض الرّؤساء الطّائيّين، فزعم لي أنّه عاين كمأة ضخمة فتأمّلها، فإذا هي تتحرّك، فنهض إليها فقلعها، فإذا هي أفعى. هذا ما حدّثته عن الأعراب، حتّى برئت إلى الله من عيب الحديث.
1119 [زعم صاحب المنطق في الحيات]
وزعم صاحب المنطق أنّ الوزغة والحيّات تأكل اللّحم والعشب. وزعم أنّ الحيّات أظهر كلبا من جميع الحيوان، مع قلّة شرب الماء. وأنّ الأسد مع نهمه قليل شرب الماء. قال: ولا تضبط الحيّات أنفسها إذا شمّت ريح السّذاب، وربّما اصطيدت به وإذا أصابوها كذلك وجدوها وقد سكرت.
قال: والحيات تبتلع البيض، والفراخ، والعشب.
1120 [سلخ الحيوان]
وزعم أنّ الحيات تسلخ جلودها في أوّل الرّبيع، عند خروجها من أعشّتها وفي أوّل الخريف.
وزعم أن السّلخ يبتدئ من ناحية عيونها أوّلا. قال: ولذلك يظنّ بعض من يعانيها أنها عمياء.
وهي تسلخ من جلودها في يوم وليلة من الرّأس إلى الذّنب، ويصير داخل الجلد هو الخارج، كما يسلخ الجنين من المشيمة، وكذلك جميع الحيوان المحزّز الجسد، وكلّ طائر لجناحه غلاف مثل الجعل والدّبر وكذلك السّرطان، يسلخ أيضا، فيضعف عند ذلك من المشي.(4/368)
وزعم أن السّلخ يبتدئ من ناحية عيونها أوّلا. قال: ولذلك يظنّ بعض من يعانيها أنها عمياء.
وهي تسلخ من جلودها في يوم وليلة من الرّأس إلى الذّنب، ويصير داخل الجلد هو الخارج، كما يسلخ الجنين من المشيمة، وكذلك جميع الحيوان المحزّز الجسد، وكلّ طائر لجناحه غلاف مثل الجعل والدّبر وكذلك السّرطان، يسلخ أيضا، فيضعف عند ذلك من المشي.
وتسلخ جلودها مرارا.
والسّلخ يصيب عامّة الحيوان [1]: أمّا الطير فسلخها تحسيرها [2]، وأمّا ذوات الحوافر فسلخها عقائقها [3]، وسلخ الإبل طرح أوبارها، وسلخ الجراد انسلاخ جلودها، وسلخ الأيائل إلقاء [4] قرونها، وسلخ الأشجار إسقاط ورقها. [5]
والأسروع: دويبّة تنسلخ فتصير فراشة. وقال الطّرمّاح شعرا [6]: [من الكامل] وتجرّد الأسروع واطّرد السّفا ... وجرت بجاليها الحداب القردد [7] ... وانساب حيّات الكثيب وأقبلت ... ورق الفراش لما يشبّ الموقد [8]
يصف الزّمان.
والدّعموص ينسلخ، فيصير إمّا بعوضة وإما فراشة.
وزعم ثمامة عن يحيى بن برمك أنّ البرغوث ينسلخ فيصير بعوضة، وأنّه البعوضة التي من سلخ دعموص ربّما انسلخت برغوثا.
والنمل تحدث لها أجنحة ويتغيّر خلقها، وذلك هو سلخها. وهلكها يحين عند طيرانها.
والجراد ينسلخ على غير هذا النوع. قال الرّاجز [9]: [من الرجز] ملعونة تسلخ لونا لونين
[1] ثمار القلوب (631).
[2] التحسير: سقوط ريش الطائر. (القاموس: حسر).
[3] العقائق: جمع عقيقة، وهي شعر المولود. (القاموس: عقق).
[4] في ثمار القلوب (نصول قرونها).
[5] بعده في ثمار القلوب «والسراطين تسلخ فتضعف عند ذلك».
[6] ديوان الطرماح 134، (111) ومنه شرح المفردات.
[7] «السفا: التراب الذي تسفيه الرياح، ويكون ذلك في الصيف حين تجف الأرض. واطراده: حمل الريح السفا دفعة بعد دفعة. والجائل: ما سفرته الريح من حطام النبت وسواقط ورق الشجر فجالت به. الحداب: جمع حدب، وهو ما أشرف من الأرض وغلظ. والقردد: الأرض المرتفعة إلى جانب وهدة، والبيت كناية عن إقبال الصيف».
[8] «ورق الفراش: جمع أورق، أي الذي لونه لون الرماد».
[9] الرجز لعوف بن ذروة في نوادر أبي زيد 48، وقبله (من كل سفعاء القفا والخدين).(4/369)
1121 [اختلاف ضرر الأفاعي ونحوها باختلاف البلدان]
قال: وعضّ السّباع ذوات الأربع، ولدغ الهوامّ، يختلف بقدر اختلاف البلدان كالذي يبلغنا عن أفاعي الرّمل، وعن جرّارات قرى الأهواز، وعقارب نصيبين [1]، وثعابين مصر، وهنديّات [2] الخرابات.
وفي الشّبثان [3]، والزّنابير، والرّتيلات [4] ما يقتل. فأمّا الطّبّوع [5] فإنّه شديد الأذى. وللضّمج [6] أذى لا يبلغ ذلك.
1122 [أقوال لصاحب المنطق]
وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمّى باليونانية: «طبقون» حيّة صغيرة شديدة اللّدغ، إلا أن تعالج بحجر، يخرج من بعض قبور قدماء الملوك.
ولم أفهم هذا، ولم كان ذلك.
وإذا أكل بعض ذوات السموم من جسد بعضها، كانت أردأ ما تكون سما، مثل العقارب والأفاعي.
قال: والأيّل إذا ألقى قرونه علم أنّه قد ألقى سلاحه فهو لا يظهر. وكذلك إن سمن علم أنّه يطلب، فلا يظهر. وكذلك أوّل ما ينبت قرنه يعرّضه للشمس ليصلب ويجفّ. وإن لدغت الأيّل حيّة أكل السّراطين فلذلك نظنّ أنّ السّراطين صالحة للّديغ من الناس.
قال: وإذا وضعت أنثى الأيّل ولدا أكلت مشيمتها. فيظنّ أنّ المشيمة شيء يتداوى به من علّة النفاس.
قال: والدّبّة إذا هربت دفعت جراءها بين يديها، وإن خافت على أولادها غيّبتها، وإذا لحقت صعدت في الشجر وحملت معها جراءها.
قال: والفهد إذا عراه الدّاء الذي يقال له: «خانق الفهود» أكل العذرة فبرئ منه.
[1] انظر القول في عقارب نصيبين في معجم البلدان 5/ 288 (نصيبين).
[2] الهنديات: ضرب من الأفاعي.
[3] الشبثان: دويبة تكون في الرمل، سميت بذلك لتشبثها بما دبت عليه. حياة الحيوان 1/ 595.
[4] الرتيلى: جنس من العناكب، وتسمى عقرب الحيات، لأنها تقتل الحيات. حياة الحيوان 1/ 523.
[5] الطبوع: دويبة ذات سم، أو من جنس القردان لعضته ألم شديد. (القاموس: طبع).
[6] الضمج: دويبة منتنة تلسع. (القاموس: ضمج).(4/370)
قال: والسّباع تشتهي رائحة الفهود، والفهد يتغيّب عنها، وربّما فرّ بعضها منه فيطمع في نفسه، فإذا أراده السّبع وثب عليه الفهد فأكله.
قال: والتمساح يفتح فاه إذا غمّه ما قد تعلق بأسنانه، حتى يأتي طائر فيأكل ذلك، فيكون طعاما له وراحة للتّمساح.
قال: وأمّا السّلحفاة فإنّها إذا أكلت الأفعى أكلت صعترا جبليّا، وقد فعلت ذلك مرارا، فربما عادت فأكلت منها ثمّ أكلت من الصّعتر مرارا كثيرة، فإذا أكثرت من ذلك هلكت.
قال: وأمّا ابن عرس، فإنّه إذا قاتل الحيّة بدأ بأكل السّذاب، لأنّ رائحة السّذاب مخالفة للحيّة، كما أن سامّ أبرص لا يدخل بيتا فيه زعفران.
قال: والكلاب إذا كان في أجوافها دود أكلت سنبل القمح.
قال: ونظنّ أنّ ابن عرس يحتال للطير بحيلة الذئب للغنم فإنه يذبحها كما يفعل الذئب بالشاة.
قال: وتتقاتل الحيّات المشتركة في الطّعم.
وزعم أنّ القنافذ لا يخفى عليها شيء من جهة الرّيح وتحوّلها وهبوبها، وأنّه كان بقسطنطينيّة رجل يقدّم ويعظّم لأنه كان يعرف هبوب الرّيح ويخبرهم بذلك وإنما كان يعرف الحال فيها بما يرى من هيئة القنافذ.
1123 [القول في العيون]
والعيون الحمر للعرض المفارق، كعين الغضبان، وعين السّكران، وعين الكلب، وعين الرّمد.
والعيون الذهبيّة، عيون أصناف البزاة من بين العقاب إلى الزّرّق.
والعيون التي تسرج بالليل، عيون الأسد، وعيون النمور، وعيون السّنانير، وعيون الأفاعي.
قال أبو حيّة [1]: [من الطويل] غضاب يثيرون الذّحول، عيونهم ... كجمر الغضا ذكّيته فتوقّدا
[1] ديوان أبي حية 136 «الذحول: جمع ذحل، وهو الثأر».(4/371)
وقال آخر [1]: [من الكامل] ومدجّج يسعى بشكّته ... محمرّة عيناه كالكلب
رجع بالكلب إلى صفة المدجّج.
وقال معاوية لصحار العبديّ: يا أحمر! قال: والذهب أحمر! قال يا أزرق! قال:
والبازي أرزق! وأنشدوا [2]: [من الطويل] ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الطير شكل عيونها
وقال آخر: [من الطويل] وشكلة عين لو حبيت ببعضها ... لكنت مكان العين مرأى ومسمعا
ومن العيون المغرب [3]، والأزرق، والأشكل، والأسجر [4]، والأشهل [5]، والأخيف [6]. وذلك إذا اختلفا.
وعين الفأرة كحلاء، وهي أبصر بالليل من الفرس والعقاب.
وفي حمرة العينين وضيائهما يقول محمّد بن ذؤيب العمانيّ، في صفة الأسد:
[من الرجز] أجرأ من ذي لبدة همّاس ... غضنفر مضبّر رهّاس [7] ... منّاع أخياس إلى أخياس ... كأنّما عيناه في مراس [8] ... شعاع مقباس إلى مقباس
وقال المرّار: [من المنسرح] كأنّما وقد عينيه النّمر
[1] البيت للحارث بن الطفيل في الأغاني 13/ 224، وبلا نسبة في اللسان والتاج (دجج)، والمقاييس 2/ 265، والمجمل 2/ 258، والعين 6/ 11، والمخصص 8/ 95، والتهذيب 10/ 467، والكامل 1211 (طبعة الدالي).
[2] البيت بلا نسبة في اللسان (غير، شكل، شهل)، والتاج (شكل).
[3] المغرب: الأبيض. (اللسان: غرب).
[4] الشكلة في العين: حمرة في بياض العين، ومثلها الأسجر.
[5] الأشهل: حمرة في سواد العين. (القاموس: شهل).
[6] الأخيف: زرقة إحدى العينين، وسواد الأخرى. (القاموس: خيف).
[7] الهماس: الشديد الغمز بضرسه. (القاموس: همس). الرهاس: الذي يطأ الأرض بشدة.
(القاموس: رهس).
[8] الأخياس: جمع خيس، وهو الأجمة يكون فيها الأسد. (القاموس: خيس).(4/372)
أصوات خشاش الأرض
نحو الضبّ، والورل، والحيّة، والقنفذ، وما أشبه ذلك.
يقال للضبّ والحيّة والورل: فحّ يفحّ فحيحا. وقال رؤبة [1]: [من الرجز] فحّي فلا أفرق أن تفحّي ... وأن ترحّي كرحى المرحّي [2] ... أصبح من نحنحة وأحّ ... يحكي سعال النّشر الأبحّ [3]
قال: الفحيح: صوت الحيّة من فيها. والكشيش والنشيش: صوت جلدها إذا حكّت بعضه ببعض. قال الرّاجز في صفة الشّخب والحب [4]: [من الرجز] حلبت للأبرش وهو مغض ... حمراء منها شخبة بالمخض ... ليست بذات وبر مبيضّ ... كأنّ صوت شخبها المرفضّ ... كشيش أفعى أجمعت لعصّ
ويقال للضّبّ والورل: كش يكش كشيشا. وأنشد أبو الجرّاح [5]: [من الطويل] ترى الضّبّ إن لم يرهب الضبّ غيره ... يكشّ له مستنكرا ويطاوله [6]
[1] ديوان رؤبة 3736.
[2] الفرق: الخوف. (القاموس: فرق).
[3] أن ترحي: أن تستديري. (القاموس: رحى).
[4] الرجز لمعتمر بن قطبة في التاج (كشش)، وبلا نسبة في اللسان وأساس البلاغة (كشش) والمخصص 8/ 115، والتهذيب 9/ 424، والخزانة 4/ 571 (بولاق).
[5] البيت لابن ميادة في ديوانه 193، والمعاني الكبير 649.
[6] يطاوله: يبارزه ويغالبه.(4/373)
باب من ضرب المثل للرّجل الداهية وللحيّ الممتنع بالحيّة
قال ذو الإصبع العدوانيّ [1]: [من الهزج] عذير الحيّ من عدوا ... ن كانوا حيّة الأرض ... بغى بعضهم ظلما ... فلم يرع على بعض ... وفيهم كانت السّادا ... ت والموفون بالقرض
1124 [أمثال أشعار في الحية]
يقال: «فلان حيّة الوادي» [2]، و: «ما هو إلّا صلّ أصلال» [3]. والصّلّ: الداهية والحيّة. قال النّابغة [4]: [من البسيط] ماذا رزئنا به من حيّة ذكر ... نضناضة بالرّزايا، صلّ أصلال
وقال آخر: [من المنسرح] صلّ صفا تنطف أنيابه ... سمام ذيفان مجيرات
وقال آخر [5]: [من المديد] مطرق يرشح سمّا، كما ... أطرق أفعى ينفث السمّ صلّ
ومن أمثالهم: «صمّي صمام» [6]، و: «صمّي ابنة الجبل»، [6] وهي الحيّة.
[1] ديوان ذي الإصبع العدواني 46، والأصمعيات 72، والحماسة البصرية 1/ 269، والمعمرون والوصايا 58، والخزانة 5/ 286.
[2] في جمهرة الأمثال 2/ 27، والدرة الفاخرة 1/ 293 (أظلم من حية الوادي).
[3] جمهرة الأمثال 2/ 357، والمستقصى 1/ 422، وفصل المقال 140، وأمثال ابن سلام 99.
[4] ديوان النابغة الذبياني 165، واللسان والتاج (صلل)، والمستقصى 1/ 422، وبلا نسبة في ثمار القلوب (624)، وأساس البلاغة (صلل).
[5] البيت من قصيدة تنسب للشنفرى، ولخلف الأحمر، ولتأبط شرا، انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 833، والتبريزي 2/ 162.
[6] مجمع الأمثال 1/ 320، وجمهرة الأمثال 1/ 578، والدرة الفاخرة 2/ 499، والمستقصى 2/ 143، وفصل المقال 189، 474، 478، وأمثال ابن سلام 348.(4/374)
قال الكميت [1]: [من الوافر] إذا لقي السّفير لها ونادى ... بها: صمّي ابنة الجبل، السّفير
ومن أمثالهم: «جاء بأمّ الرّبيق على أريق» [2]، أمّ الرّبيق: إحدى الحيات. وأريق:
أمّ الطّبق. ضربوا به مثلا في الدواهي. وأصلها من الحيّات قال [3]: [من البسيط] إذا وجدت بواد حيّة ذكرا ... فاذهب ودعني أمارس حية الوادي
وفي المثل: «أدرك القويّمة لا تأكلها الهويّمة» [4] يعني الصبي الذي يدرج ويتناول كلّ شيء سنح له، ويهوي به إلى فيه. كأنه قال لأمّه: أدركيه لا تأكله الهامّة! وهي الحيّة. وهو قوله في التعويذ: «ومن كلّ شيطان وهامّة، ونفس وعين لامّة».
وقال الأخطل، في جعلهم الرّجل الشّجاع وذا الرّأي الدّاهية حية وكذلك يجعلون إذا أرادوا تعظيم شأنها. وإذا أرادوا ذلك فما أكثر ما يجعلون الحيّة ذكرا. قال الأخطل [5]: [من الطويل] أنبئت كلبا تمنّى أن يسافهنا ... وطالما سافهونا ثمّ ما ظفروا ... كلفتمونا رجالا قاطعي قرن ... مستلحقين كما يستلحق اليسر [6] ... ليست عليهم إذا عدّت خصالهم ... خصل وليس لهم إيجاب ما قمروا ... قد أنذروا حيّة في رأس هضبته ... وقد أتتهم به الأنباء والنذر ... باتوا رقودا على الأمهاد ليلهم ... وليلهم ساهر فيها، وما شعروا ... ثمّت قالوا أمات الماء حيّته ... وما يكاد ينام الحية الذّكر
1125 [حيّة الماء]
وما أكثر ما يذكرون حيّة الماء لأنّ حيّات الماء فيها تفاوت. إمّا أن تكون لا تضرّ كبير ضرر، وإمّا أن تكون أقتل من الحيّات والأفاعي.
[1] ديوان الكميت 1/ 167، واللسان (صمم).
[2] مجمع الأمثال 1/ 169، وجمهرة الأمثال 1/ 47، والمستقصى 2/ 41، وأمثال ابن سلام 348، وفصل المقال 477.
[3] البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه 48، وله أو للحارث بن بدر في شرح شواهد الإيضاح 428، وبلا نسبة في ثمار القلوب 335 (623)، والمخصص 16/ 101، والجمهرة 576.
[4] المستقصى 1/ 116، ومجمع الأمثال 1/ 264.
[5] ديوان الأخطل 516515وشرح المفردات التالية منه.
[6] اليسر: صاحب القداح في القوم.(4/375)
1126 [سبب وجود الحيات في بعض البيوت]
ويقال إنّ الهنديّات إنّما تصير في البيوت والدّور، والإصطبلات، والخرابات لأنّها تحمل في القضب وفي أشباه ذلك.
والحيّات تأكل الجراد أكلا شديدا، فربّما فتح رأس كرزه وجرابه وجوالقه، الذي يأتي الجراد، وقد ضربه برد السّحر، وقد تراكم بعضه على بعض لأنّها موصوفة بالصّرد.
والحيّات توصف بالصّرد، كذلك الحمير، والماعز من الغنم. ولذلك قال الشاعر [1]: [من الطويل] بليت كما يبلى الوكاء ولا أرى ... جنابا ولا أكناف ذروة تخلق [2] ... ألوّي حيازيمي بهنّ صبابة ... كما تتلوّى الحيّة المتشرّق
وإنما تشرّق إذا أدركها برد السّحر ولم تصر بعد إلى صلاحها، وإذا خرجت بالليل تكتسب الطعم كما يفعل ذلك سائر السّباع. فربما اجترف صاحب الكرز الجراد، فأدخله كرزه، وفيه الأفعى وأسود سالخ، حتى ينقل ذلك إلى الدّور، فرّبما لقى النّاس منها جهدا.
وقال بشر بن المعتمر، في شعره المزاوج [3]: [من الرجز] يا عجبا والدّهر ذو عجائب ... من شاهد وقلبه كالغائب ... وحاطب يحطب في بجاده ... في ظلمة الليل وفي سواده [4] ... يحطب في بجاده الأيم الذكر ... والأسود السّالخ مكروه النّظر
1127 [شعر في حية الماء]
فممن ذكر حيّة الماء، عبد الله بن همّام السلوليّ فقال: [من البسيط] كحيّة الماء لا تنحاش من أحد ... صلب المراس إذا ما حلّت النّطق
[1] البيتان لصخر بن الجعدي الخضري في الأغاني 22/ 35، والبيت الأول في معجم البلدان 3/ 5 (ذروة)، والثاني في العمدة 2/ 58.
[2] الوكاء: السقاء، ورباط القربة وغيرها. (القاموس: وكي). الجناب: موضع بالقرب من خيبر والمدينة. معجم البلدان.
[3] الرجز في ثمار القلوب (910).
[4] البجاد: الكساء. (القاموس: بجد).(4/376)
وقال الشّمّاخ بن ضرار [1]: [من البسيط] خوص العيون تبارى في أزمّتها ... إذا تفصّدن من حرّ الصّياخيد [2] ... وكلّهن تباري ثني مطّرد ... كحية الماء ولّى غير مطرود [3]
وقال الأخطل [4]: [من الطويل] ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حيّة البحر
وقال أيضا [5]: [من الطويل] هلمّ ابن صفّار فإنّ قتالنا ... جهارا وما منّا ملاوذة العذر ... فإنّك في قيس لتال مذبذب ... وغيرك منهم ذو الثّناء وذو الفخر ... ونحن منعنا ماء دجلة منكم ... ونمنع ما بين العراق إلى البشر ... ألا يا ابن صفّار فلا ترم العلى ... ولا تذكرن حيّات قومك في الشّعر ... فما تركت حيّاتنا لك حيّة ... تحرّك في أرض براح ولا بحر
وقال نفيع يعيّره بالكحيل [6]: [من الطويل] فإن تك قتلاكم بدجلة غرّقت ... فما أشبهت قتلى حنين ولا بدر ... ثووا إذ لقونا بالكحيل كما ثوى ... شمام إلى يوم القيامة والحشر [7] ... بدجلة حالت حربنا دون قومنا ... وأوطاننا ما بين دجلة فالحضر ... ولو كنتم حيّات بحر لكنتم ... غداة الكحيل إذ تقومون في الغمر
1128 [ما يشبّه بالأيم]
فالأيم الحيّة الذكر يشبهون به الزّمام، وربّما شبّهوا الجارية المجدولة الخميصة
[1] ديوان الشماخ 114، والأول في أساس البلاغة (صخد)، والثاني في المعاني الكبير 668.
[2] في ديوانه: «أخذت هذه الإبل الغائرات العيون تتسابق سائلة العرق من حر الهواجر».
[3] في ديوانه: «يباري: يعارض. ثني مطرد: يعني زماما طويلا، وشبهه بحية الطود، وهو الجبل، لأنه في خشونة، فهو يتلوى إذا مشى، وجعله غير مطرود، لأنه أراد أنه لم يطرد فيستعجل، ويمر مرا مستقيما».
[4] ديوان الأخطل 181، وبلا نسبة في عيون الأخبار 2/ 97، والبيان 1/ 270. وتقدم في 3/ 130.
[5] ديوان الأخطل 188.
[6] المؤتلف والمختلف 195.
[7] الكحيل: موضع بالجزيرة، كان فيه يوم للعرب. (معجم البلدان 4/ 439)، شمام: اسم جبل لباهلة. (معجم البلدان 3/ 361).(4/377)
الخواصر، في مشيها، بالأيم لأنّ الحيّة الذّكر ليس له غبب، وموضع بطنه مجدول غير متراخ. وقال ابن ميّادة [1]: [من الطويل] قعدت على السّعلاة تنفض مسحها ... وتجذب مثل الأيم في بلد قفر [2] ... تيمّم خير النّاس من آل حاضر ... وتحمل حاجات تضمّنها صدري [3]
1129 [شعر في حمرة العين]
وقال الآخر في حمرة عين الأفعى [4]: [من البسيط] لولا الهراوة والكفّات أوردني ... حوض المنيّة قتّال لمن علقا [5] ... أصمّ منهرت الشّدقين ملتبد ... لم يغذ إلّا المنايا من لدن خلقا [6] ... كأنّ عينيه مسماران من ذهب ... جلاهما مدوس التّألاق فائتلقا [7]
وقال في حمرة عيون النّاس في الحرب وفي الغضب، ابن ميّادة [8]: [من الطويل] وعند الفزاري العراقي عارض ... كأنّ عيون القوم في نبضة الجمر
وفي حمرة العين من جهة الخلقة، يقول أبو قردودة، في ابن عمار حين قتله النّعمان [9]: [من البسيط] إنّي نهيت ابن عمّار وقلت له: ... لا تأمنن أحمر العينين والشعره ... إنّ الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيرانهم شرره ... يا جفنة كإزاء الحوض قد هدمت ... ومنطقا مثل وشي اليمنة الحبره
[1] ديوان ابن ميادة 152، ومنه شرح المفردات التالية.
[2] «السعلاة: اسم ناقة لابن ميادة. المسح: الكساء من الشعر. الأيم: الحية».
[3] «الحاضر: الحي العظيم أو القوم».
[4] الأبيات بلا نسبة في البيان 3/ 60.
[5] الكفات: جمع كفة، وهي إحدى آلات الصيد.
[6] منهرت: واسع. (القاموس: هرت).
[7] المدوس: خشبة يشد عليها مسن، يدوس بها الصيقل السيف حتى يجلوه. (اللسان: دوس).
[8] ديوان ابن ميادة 154.
[9] الأبيات في معجم الشعراء 59، ونوادر المخطوطات 2/ 222، والوحشيات 146، وقصائد جاهلية نادرة 167، والبيان 1/ 223، 349.(4/378)
1130 [أسماء الحية]
وأكثر ما يذكرون من الحيات بأسمائها دون صفاتها: الأفعى، والأسود، والشجاع، والأرقم. قال عمر بن لجأ [1]: [من الرجز] يلزق بالصّخر لزوق الأرقم
وقال آخر [2]: [من الطويل] ورفّع أولى القوم وقع خرادل ... ووقع نبال مثل وقع الأساود
1131 [أولاد الأفاعي]
وفي بعض كتب الأنبياء، أنّ الله تبارك وتعالى قال لبني إسرائيل: «يا أولاد الأفاعي».
1132 [مثل وشعر في الحية]
ويقال: «رماه الله بأفعى حارية» [3] وهي التي تحري، وكلما كبرت في السن صغرت في الجسم. وأنشد الأصمعيّ في شدّة اسوداد أسود سالخ: [من الرجز] مهرّت الأشداق عود قد كمل ... كأنما قيّظ من ليط جعل
وقال جرير في صفة عروق بطن الشّبعان [4]: [من الطويل] وأعور من نبهان أمّا نهاره ... فأعمى، وأمّا ليله فبصير ... رفعت له مشبوبة يلتوي بها ... يكاد سناها في السماء يطير ... فلما استوى جنباه لاعب ظلّه ... عريض أفاعي الحالبين ضرير
قال: ويقال: «أبصر من حيّة» [5]، كما يقال: «أسمع من فرس» [6]، و «أسمع من عقاب» [7]. وقال الراجز: [من الرجز] أسمع من فرخ العقاب الأشجع
[1] ديوان عمر بن لجأ 162.
[2] البيت لعروة بن مرة الهذلي في شرح أشعار الهذليين 663، واللسان والتاج (وكع).
[3] مجمع الأمثال 1/ 390.
[4] ديوان جرير 877، والأول في معجم الشعراء 88، والثالث في أساس البلاغة (فعي).
[5] المستقصى 2/ 20.
[6] الدرة الفاخرة 1/ 218، ومجمع الأمثال 2/ 349، وأمثال ابن سلام 360، وبرواية (أسمع من فرس بيهماء في غلس) في فصل المقال 492، والمستقصى 1/ 173، ومجمع الأمثال 1/ 349.
[7] المستقصى 1/ 173، وهو برواية (أسمع من فرخ العقاب) في مجمع الأمثال 1/ 355.(4/379)
وقال آخر [1]: [من الطويل] أسود شرى لاقت أسود خفيّة ... تساقوا على حرد دماء الأساود [2]
ضرب المثل بجنسين من الأسود، إذ كانا عنده الغاية في الشدّة والهول، فلم يقنع بذلك حتى ردّ ذلك كلّه إلى سموم الحيّات.
1133 [ما يشبّه بالأسود]
وفي هول منظر الأسود يقول الشاعر [3]: [من الكامل] من دون سيبك لون ليل مظلم ... وحفيف نافجة وكلب موسد ... والضّيف عندك مثل أسود سالخ ... لا بل أحبّهما إليك الأسود
ويصفون ذوائب الناس، فإذا بلغوا الغاية شبهوها بالأساود. قال جران العود [4]:
[من الطويل] ألا لا تغرّنّ امرأ نوفليّة ... على الرّأس منها، والترائب وضّح [5] ... ولا فاحم يسقى الدّهان كأنّه ... أساود يزهاها لعينك أبطح [6]
قال: والخرشاء: القشرة الغليظة بعد أن تنقب فيخرج ما فيها، وجماعه الخراشيّ، غير مهموز. قال: وخرشاء الحيّة: سلخها حين تسلخ. وقال: هذا أسود سالخ، وهذان أسودان سالخان، وأساود سالخة. وقال مرقّش [7]: [من السريع] إن يغضبوا يغضب لذاكم كما ... ينسلّ عن خرشائه الأرقم
[1] البيت للأشهب بن رميلة في ديوانه 232، والبيان 4/ 55، والحماسة البصرية 1/ 269، وأمالي القالي 1/ 8، والسمط 35، والخزانة 6/ 27، وشرح شواهد المغني 2/ 517، واللسان (حرد، خفا)، ومعجم ما استعجم 2/ 506، والمقاصد النحوية 1/ 483، والمنصف 1/ 67، والأضداد 229، وصدر البيت في معجم البلدان 3/ 330 (شرى).
[2] شرى: جبل بنجد أو تهامة موصوف بكثرة السباع. (معجم البلدان 3/ 30). خفية: أجمة في سواد الكوفة، ينسب إليها الأسود. (معجم البلدان 2/ 380).
[3] تقدم البيتان في الفقرة 268.
[4] ديوان جران العود 37، واللسان والتاج (نفل)، والتهذيب 15/ 358، والخزانة 10/ 19، والخصائص 2/ 414.
[5] النوفلية: شيء يتخذه نساء الأعراب من صوف يكون في غلظ أقل من الساعد، ثم يحشى ويعطف، فتضعه المرأة على رأسها. انظر التهذيب 15/ 358.
[6] الأبطح: بطن واد فيه رمل وحجارة.
[7] المفضليات 240.(4/380)
1134 [علة تعليق الحلي والخلاخيل على السليم]
وكانوا يرون أنّ تعليق الحلي، وخشخشة الخلاخيل على السّليم، ممّا لا يفيق ولا يبرأ إلّا به. وقال زيد الخيل [1]: [من الطويل] أيم يكون النعل منه ضجيعة ... كما علّقت فوق السليم الخلاخل
وخبّرني خالد بن عقبة، من بني سلمة بن الأكوع، وهو من بني المسبع، أنّ رجلا من حزن، من بني عذرة، يسمّى أسباط، قال في تعليقهم الحلي على السّليم [2]: [من الطويل] أرقت فلم تطعم لي العين مهجعا ... وبتّ كما بات السليم مقرّعا ... كأني سليم ناله كلم حيّة ... ترى حوله حلي النّساء مرصّعا
وقال الذّبيانيّ [3]: [من الطويل] فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة ... من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع [4] ... يسهّد من ليل التّمام سليمها ... لحلي النّساء في يديه قعاقع [5]
1135 [استطراد فيه لغة وشعر]
قال: ويقال لسان طلق ذلق [6]. يقال للسليم إذا لدغ: قد طلّق، وذلك حين ترجع إليه نفسه. وهو قول النابغة [7]: [من الطويل] تناذرها الرّاقون من سوء سمّها ... تطلّقه طورا وطورا تراجع
[1] ديوان زيد الخيل 191، وأمالي الزجاجي 107.
[2] البيت الثاني في عيار الشعر 53.
[3] ديوان النابغة الذبياني 33، والخزانة 2/ 457، والسمط 489، وشرح شواهد المغني 2/ 902، والمقاصد النحوية 4/ 73، واللسان والتاج (طور، نذر، نقع). والثاني في اللسان والتاج (سهد، قعع)، والعين 1/ 64، والتهذيب 6/ 115، وبلا نسبة في المخصص 2/ 41.
[4] في ديوانه «ساورتني: واثبتني. ضئيلة: حية دقيقة قد أتت عليها سنون كثيرة، فقلّ لحمها واشتدّ سمّها. الرقش: التي فيها نقط سواد وبياض. ناقع: ثابت».
[5] في ديوانه «ليل التمام: أطول ليالي الشتاء، والسليم: الملدوغ».
[6] في الإتباع والمزاوجة 109 «طلق ذلق: من ذلقت الشيء: حددته» والطلق: الفصيح.
[7] ديوان النابغة 34، والخزانة 2/ 459، 4/ 46، 48، وشرح شواهد الإيضاح 126، 152، والمعاني الكبير 663، واللسان (عدد، طور، نذر، طلق، حين)، والتاج (عدد، طور، نذر)، والجمهرة 922، وأساس البلاغة (نذر، طلق)، والتهذيب 1/ 89، 2/ 16، 5/ 255، 9/ 293، 14/ 421، 16/ 261، وبلا نسبة في المخصص 8/ 113، 9/ 65، والمقاييس 3/ 421.(4/381)
وقال العبدي [1] إن كان قاله: [من الطويل] تبيت الهموم الطّارقات يعدنني ... كما تعتري الأهوال رأس المطلّق
وأنشد [2]: [من الوافر] تلاقي من تذكّر آل ليلى ... كما يلقى السّليم من العداد
والعداد: الوقت. يقال: إنّ تلك اللّسعة لتعادّه: إذا عاده الوجع في الوقت الذي لسع فيه.
1136 [الحمل المصليّ]
وذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم السّمّ الذي كان في الحمل المصليّ، الذي كانت اليهوديّة قدّمته إليه فنال منه، فقال: «إنّ تلك الأكلة لتعادّني» [3].
1137 [نفع الحية]
وفي الحيّة قشرها، وهو أحسن من كلّ ورقة وثوب، وجناح، وطائر وأعجب من ستر العنكبوت، وغرقئ البيض.
ويقال في مثل، إذا مدحوا الخفّ اللّطيف، والقدم اللّطيفة قالوا: كأنّه لسان حيّة.
وبالحيّة يتداوى من سمّ الحيّة. وللدغ الأفاعي يؤخذ التّرياق الذي لا يوجد إلّا بمتون الأفاعي. قال كثيّر [4]: [من الوافر] وما زالت رقاك تسلّ ضغني ... وتخرج من مكامنها ضبابي ... وترقيني لك الحاوون حتّى ... أجابك حيّة تحت الحجاب
[1] البيت للممزق العبدي في الأصمعيات 164، وبلا نسبة في اللسان (طلق)، والتهذيب 16/ 261، وديوان الأدب 2/ 369، والجمهرة 922، والمقاييس 3/ 421.
[2] البيت بلا نسبة في اللسان (عدد)، والتاج (عدد، أول)، والعين 1/ 80، والجمهرة 332، والمخصص 5/ 88، والتهذيب 1/ 89.
[3] انظر السيرة 2/ 338337، والتنبيه والإشراف 257، وأسماء المغتالين في نوادر المخطوطات 2/ 147، وتاريخ الطبري 3/ 15، وثمار القلوب (874)، والنهاية 3/ 189، والبخاري في المغازي، ومسند أحمد 6/ 18.
[4] ديوان كثير 280، والأغاني 21/ 383، والسمط 62، والأول في أساس البلاغة (رقي)، والجمهرة 72، والمعاني الكبير 644، وبلا نسبة في اللسان والتاج (ضبب).(4/382)
1138 [قصة امرأة لدغتها حية]
جويبر بن إسماعيل، عن عمّه، قال: حججت فإنّا لفي وقعة مع قوم نزلوا منزلنا، ومعنا امرأة، فنامت فانتبهت وحيّة منطوية عليها، قد جمعت رأسها مع ذنبها بين ثدييها، فهالها ذلك وأزعجنا، فلم تزل منطوية عليها لا تضرّها بشيء، حتّى دخلنا أنصاب الحرم [1]، فانسابت فدخلت مكّة، فقضينا نسكنا وانصرفنا، حتّى إذ كنّا بالمكان الذي انطوت عليها فيه الحيّة، وهو المنزل الذي نزلناه، نزلت فنامت واستيقظت، فإذا الحيّة منطوية عليها، ثمّ صفرت الحيّة فإذا الوادي يسيل حيّات عليها، فنهشتها حتّى نقت عظامها، فقلت لجارية كانت لها: ويحك: أخبرينا عن هذه المرأة. قالت: بغت ثلاث مرّات، كلّ مرّة تأتي بولد، فإذا وضعته سجرت التّنّور، ثمّ ألقته فيه.
1139 [قول امرأة في عليّ والزّبير وطلحة]
قال ونظرت امرأة إلى عليّ، والزّبير، وطلحة، رضي الله تعالى عنهم، وقد اختلفت أعناق دوابّهم حين التقوا، فقالت: من هذا الذي كأنه أرقم يتلمّظ؟ قيل لها: الزّبير. قالت: فمن هذا الذي كأنّه كسر ثمّ جبر؟ قيل لها: عليّ. قالت: فمن هذا الذي كأنّ وجهه دينار هرقليّ؟ قيل لها: طلحة.
1140 [استطراد لغوي]
وقال أبو زيد: نهشت أنهش نهشا. والنّهش: هو تناولك الشّيء بفيك، فتمضغه فتؤثّر فيه ولا تجرحه. وكذلك نهش الحيّة. وأمّا نهش السّبع فتناوله من الدّابّة بفيه، ثمّ يقطع ما أخذ منه فوه. ويقال نهشت اللحم أنهشه نهشا، وهو انتزاع اللّحم بالثّنايا للأكل. ويقال نشطت العقد نشطا: إذا عقدته بأنشوطة. ونشطت الإبل تنشط نشطا: إذا ذهبت على هدى أو غير هدى، نزعا أو غير نزع. ونشطته الحيّة فهي تنشطه نشطا، وهو أن تعضّه عضّا. ونكزته الحيّة تنكزه نكزا، وهو طعنها الإنسان بأنفها. فالنّكز من كلّ دابّة سوى الحيّة العضّ. ويقال: نشطته شعوب نشطا وهي المنيّة.
قال: وتقول العرب. نشطته الشّعوب، فتدخل عليها التعريف.
[1] أنصاب الحرم: حدوده. (القاموس: نصب).(4/383)
ويسمون النهيش سليما على الطيرة. قال ابن ميّادة: [1] [من الطويل] كأنّي بها لما عرفت رسومها ... قتيل لدى أيدي الرّقاة سليم
وممّا يضربون به المثل بالحيّات في دواهي الأمر، كقول الأقيبل القينيّ [2]:
[من البسيط] لقد علمت وخير القول أنفعه ... أنّ انطلاقي إلى الحجّاج تغرير ... لئن ذهبت إلى الحجّاج يقتلني ... إنّي لأحمق من تحدى به العير ... مستحقبا صحفا تدمى طوابعها ... وفي الصّحائف حيّات مناكير
وقال الأصمعيّ: يقال للحيّة الذّكر أيّم وأيم، مثقّل ومخفف، نحو ليّن ولين، وهيّن وهين. قال الشاعر [3]: [من البسيط] هينون لينون أيسار ذوو يسر ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار
وأنشد في تخفيف الأيم وتشديده [4]: [من الكامل] ولقد وردت الماء لم تشرب به ... زمن الرّبيع إلى شهور الصّيّف ... إلّا عواسر كالمراط معيدة ... باللّيل مورد أيّم متغضّف
الصّيّف، يعني مطر الصّيف. والعواسر: يعني ذئابا رافعة أذنابها.
والمراط: السهام التي قد تمرّط ريشها. ومعيدة: يعني معاودة للورد. يقول هو مكان لخلائه يكون فيه الحيّات، وترده الذّئاب. ومتغضّف يريد بعضه على بعض، يريد تثني الحيّة.
وأنشد لابن هند: [من البسيط] أودى بأمّ سليمى لاطئ لبد ... كحيّة منطو من بين أحجار
[1] ديوان ابن ميادة 251.
[2] المؤتلف والمختلف 24، والبيت الثالث في اللسان والتاج (نكر)، والتهذيب 10/ 192، وبلا نسبة في العين 5/ 355.
[3] تقدم تخريج البيت في (ج 2ص 300).
[4] البيتان لأبي كبير الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1085، واللسان (عود، عبس، مرط، صيف، غضف، أيم)، والتاج (عبس، عود، مرط، غضف، أمل، عسل)، والتهذيب 2/ 82، 3/ 130، 8/ 16، 15/ 551، وللهذلي في الجمهرة 248، وبلا نسبة في اللسان والتاج (عسر)، والمقاييس 1/ 166.(4/384)
وقال محمد بن سعيد: [من البسيط] قريحة لم تدنّيها السّياط ولم ... تورد عراكا ولم تعصر على كدر ... كمنطوى الحيّة النّضناض مكمنها ... في الصّدر ما لم يهيّجها على زور ... الليث للّيث منسوب أظافره ... والحيّة الصّلّ نجل الحيّة الذّكر
وقال ذو الرّمّة [1]: [من الطويل] وأحوى كأيم الضّال أطرق بعدما ... حبا تحت فينان من الظّلّ وارف
قال: ويقال انبسّت الحيّات: إذا تفرّقت وكثرت. وذلك عند إقبال الصّيف. قال أبو النّجم [2]: [من الرجز] وانبس حيّات الكثيب الأهيل
وقال الطّرمّاح [3]: [من الكامل] وتجرّد الأسروع واطّرد السّفا ... وجرت بجاليها الحداب القردد ... وانساب حيّات الكثيب وأقبلت ... ورق الفراش لما يشبّ الموقد
قال: ويقال جبأ عليه الأسود من حجره: إذا فاجأه. وهو يجبأ جبأ وجبوا.
وقال رجل من بني شيبان [4]: [من الطويل] وما أنا من ريب المنون بجبّإ ... وما أنا من سيب الإله بيائس [5]
1141 [شرع الحيّة في اللبن]
قال: ويقال: اللّبن محتضر فغطّ إناءك. كأنّهم يرون أنّ الجنّ تشرع فيه، على
[1] ديوان ذي الرمة 1636، والمخصص 10/ 195، وبلا نسبة في اللسان (ورف، فين، حبا)، والتاج (ورف)، والتهذيب 15/ 239.
[2] ديوان أبي النجم 188، والطرائف الأدبية 62، والجمهرة 69، والمقاييس 1/ 181، والمجمل 1/ 229، واللسان (عدل)، والتاج (عدل، هيل)، وبلا نسبة في المخصص 7/ 7، واللسان (بسس)، والتهذيب 12/ 316.
[3] ديوان الطرماح 134 (111).
[4] البيت لمفروق بن عمرو الشيباني في اللسان والتاج (جبأ)، وكتاب الجيم 1/ 117، والتنبيه والإيضاح 1/ 8، وبلا نسبة في العين 6/ 191، والمخصص 3/ 26، 15/ 148، والمقاييس 1/ 504، والمجمل 1/ 481، وديوان الأدب 4/ 174، واللسان والتاج (سيب)، والتهذيب 11/ 215، 216، 13/ 99.
[5] الجبأ: الهيوب الجبان.(4/385)
تصديق الحديث في قول المفقود لعمر، حين سأله وقد استهوته الجانّ: ما كان طعامهم؟ قال الرّمّة. يريد العظم البالي. قال: فما شرابهم؟ قال: الجدف. قال: وهو كلّ شراب لا يخمّر.
وتقول الأعراب: ليس ذلك إلّا في اللّبن. وأمّا النّاس فيذهبون إلى أنّ الحيّات تشرع في اللّبن، وكذلك سامّ أبرص، كذلك الحيّات تشرع في كثير من المرق.
1142 [حديث في المعصفر]
وجاء في الحديث: «لا تبيتوا في المعصفر فإنها محتضرة» أي يحضرها الجنّ والعمّار.
1143 [شعر فيه مجون]
وقال الشاعر فيما يمجنون به، من ذكر الأفعى [1]: [من الوافر] رماك الله من أير بأفعى ... ولا عافاك من جهد البلاء ... أجبنا في الكريهة حين تلقى ... ونعظا ما تفتّر في الخلاء!! ... فلولا الله ما أمسى رفيقي ... ولولا البول عوجل بالخصاء
وقال أبو النّجم [2]: [من الكامل] نظرت فأعجبها الذي في درعها ... من حسنها ونظرت في سرباليا ... فرأت لها كفلا ينوء بخصرها ... وعثا روادفه وأخثم ناتيا [3] ... ورأيت منتشر العجان مقبّضا ... رخوا حمائله وجلدا باليا ... أدني له الرّكب الحليق كأنّما ... أدني إليه عقاربا وأفاعيا [4]
وقال آخر [5]: [من الطويل] مريضة أثناء التّهادي كأنّما ... تخاف على أحشائها أن تقطّعا ... تسيب انسياب الأيم أخصره النّدى ... يرفّع من أطرافه ما ترفّعا
[1] الأبيات في المحاسن والمساوئ 75.
[2] ديوان أبي النجم 236235، والأغاني 10/ 158، وطبقات الشعراء 747.
[3] الوعث: المكان السهل الدهس تغيب فيه الأقدام. الأخثم: المرتفع الغليظ. ناتيا: ناتئا، بارزا.
[4] الركب: الفرج.
[5] البيتان لمسلم بن الوليد «صريع الغواني» في الحماسة البصرية 2/ 221220، وفيه المزيد من المصادر، ولم يرد البيتان في ديوانه.(4/386)
1144 [شعر في العقربان]
وقال إياس بن الأرتّ [1]: [من السريع] كأنّ مرعى أمّكم سوءة ... عقربة يكومها عقربان ... إكليلها زول وفي شولها ... وخز حديد مثل وخز السنان ... كلّ امرئ قد يتّقى مقبلا ... وأمّكم قد تتّقى بالعجان
وقال آخر [2] لمضيفه: [من الوافر] تبيت تدهده القذّان حولي ... كأنّك عند رأسي عقربان [3] ... فلو أطعمتني حملا سمينا ... شكرتك والطّعام له مكان
1145 [شعر في الأفاعي]
وقال النّابغة [4]: [من المتقارب] فلو يستطيعون دبّت لنا ... مذاكي الأفاعي وأطفالها [5]
وقال رجل من قريش: [من البسيط] ما زال أمر ولاة السّوء منتشرا ... حتّى أظلّ عليهم حيّة ذكر ... ذو مرّة تفرق الحيّات صولته ... عفّ الشّمائل قد شدّت له المرر ... لم يأتهم خبر عنه يلين له ... حتّى أتاهم به عن نفسه الخبر
وقال بشار [6]: [من الطويل] تزلّ القوافي عن لساني كأنّها ... حمات الأفاعي ريقهنّ قضاء
وقال: [من الطويل] فكم من أخ قد كان يأمل نفعكم ... شجاع له ناب حديد ومخلب ... أخ لو شكرتم فعله لو عضضتم ... رؤوس الأفاعي عضّ لا يتهيّب
[1] تقدمت الأبيات في الفقرة [462].
[2] البيتان لهيزدان بن اللعين المنقري في ذيل الأمالي 17، والأول له في معجم الشعراء 469مع بيت آخر، وهما بلا نسبة في عيون الأخبار 3/ 230.
[3] تدهده: تدحرج. القذان: جمع قذة، وهي البراغيث.
[4] لم يرد البيت في ديوان النابغة الذبياني.
[5] المذاكي: جمع المذكّي، وهو المسن من كل شيء.
[6] ديوان بشار بن برد 1/ 129، والمختار من شعر بشار 90.(4/387)
وقال الحارث دعيّ الوليد، في ذكر الأسود بالسمّ من بين الحيّات: [من الطويل] فإن أنت أقررت الغداة بنسبتي ... عرفت وإلّا كنت فقعا بقردد [1] ... ويشمت أعداء ويجذل كاشح ... عمرت لهم سمّا على رأس أسود
وقال آخر: [من البسيط] ومعشر منقع لي في صدورهم ... سمّ الأساود يغلي في المواعيد ... وسمتهم بالقوافي فوق أعينهم ... وسم المعيديّ أعناق المقاحيد [2]
وقال أبو الأسود [3]: [من المنسرح] ليتك آذنتني بواحدة ... جعلتها منك آخر الأبد ... تحلف ألّا تبرّني أبدا ... فإنّ فيها بردا على كبدي ... إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حيّة على رصد
وقال أبو السّفّاح يرثي أخاه يحيى بن عميرة ويسمّيه بالشجاع: [من السريع] يعدو فلا تكذب شدّاته ... كما عدا اللّيث بوادي السّباع [4] ... يجمع عزما وأناة معا ... ثمّت ينباع انبياع الشجاع [5]
وقال المتلمّس [6]: [من الطويل] فأطرق إطراق الشجاع، ولو يرى ... مساغا لنابيه الشّجاع لصمّما
وقال معمر بن لقيط أو ابن ذي القروح: [من الطويل] شموس يظلّ القوم معتصما به ... وإن كان ذا حزم من القوم عاديا
[1] الفقع: كمأة رخوة، ويقال في الأمثال «أذل من فقع بقرقرة» ويضرب المثل للذليل، وذاك أن الفقع يوطأ بالأرجل، ولا يمتنع على من جناه، والمثل في مجمع الأمثال 1/ 284، والدرة الفاخرة 1/ 304، وجمهرة الأمثال 1/ 469، والمستقصى 1/ 134. وأمثال ابن سلام 367.
[2] المقاحيد: جمع مقحاد، وهو ما عظم سنامه من الإبل. (القاموس: قحد).
[3] الأبيات لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه 239، وعيون الأخبار 3/ 189، والأبيات لأبي زبيد في ديوانه 605، والعقد الفريد 5/ 298.
[4] البيتان للسفاح بن بكير اليربوعي في شرح اختيارات المفضل 1363، والثاني في التاج (بوع)، وهو بلا نسبة في اللسان (بوع، نبع، ثمم)، والتهذيب 15/ 71، والمقاييس 1/ 319.
[5] ينباع: يثب ويسطو.
[6] ديوان المتلمس 34، والأصمعيات 246، والخزانة 7/ 487، والمؤتلف والمختلف 71، وبلا نسبة في الجمهرة 757، وشرح المفصل 3/ 128.(4/388)
أبيت كما بات الشجاع إلى الذّرى ... وأغدو على همّي وإن بتّ طاويا ... وإنّي أهضّ الضّيم منّي بصارم ... رهيف وشيخ ماجد قد بنى ليا
وهكذا صفة الأفعى لأنها أبدا نابتة مستوية، فإن أنكرت شيئا فنشطتها كالبرق الخاطف.
ووصف آخر أفعى، فقال [1]: [من الرجز] وقد أراني بطويّ الحسّ ... وذات قرنين طحون الضّرس ... نضناضة مثل انثناء المرس ... تدير عينا كشهاب القبس ... لمّا التقينا بمضيق شكس ... حتى قنصت قرنها بخمس [2]
وهم يتهاجون بأكل الأفاعي والحيّات. قال الشاعر: [من الطويل] فإياكم والرّيف لا تقربنّه ... فإن لديه الموت والحتم قاضيا ... هم طردوكم عن بلاد أبيكم ... وأنتم حلول تشتوون الأفاعيا
وقال عمر بن أبي ربيعة [3]: [من الطويل] ولمّا فقدت الصّوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبّت بالعشاء وأنؤر ... وغاب قمير كنت أرجو مغيبه ... وروّح رعيان وهوّم سمّر ... ونفّضت عنّي اللّيل أقبلت مشية ال ... حباب، وركني خيفة القوم أزور
1146 [ضرب المثل بسمّ الأساود]
وضرب كلثوم بن عمرو، المثل بسمّ الأساود، فقال [4]: [من الطويل] تلوم على ترك الغنى باهليّة ... طوى الدّهر عنها كلّ طرف وتالد ... رأت حولها النّسوان يرفلن في الكسا ... مقلّدة أجيادها بالقلائد [5] ... يسرّك أنّي نلت ما نال جعفر ... من الملك، أو ما نال يحيى بن خالد
[1] ورد البيت الثاني مع بيتين آخرين في اللسان والتاج (نهس).
[2] الشكس: الضيق. (اللسان: شكس).
[3] ديوان عمر بن أبي ربيعة 96، والخزانة 5/ 318، وشرح المفصل 10/ 11، وشرح شواهد الإيضاح 512.
[4] ديوان كلثوم بن عمرو العتابي 65، والبيان 3/ 353، وعيون الأخبار 1/ 231، ومحاضرات الراغب 1/ 92، والحماسة الشجرية 140، ونهاية الأرب 6/ 151، وغرر الخصائص 408.
[5] يرفلن: يتبخترن. الكسا: جمع كسوة.(4/389)
وأنّ أمير المؤمنين أعضّني ... معضّهما بالمرهفات البوارد! [1] ... ذريني تجئني ميتتي مطمئنّة ... ولم أتقحّم هول تلك الموارد ... فإن كريمات المعالي مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود
1147 [القول في الحيّات]
وفي التشنيع لحيّات الجبل، يقول اللّعين المنقريّ [2]، لرؤبة بن العجّاج: [من البسيط] إني أنا ابن جلا إن كنت تعرفني ... يا رؤب، والحيّة الصّماء في الجبل ... أبا الأراجيز يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيز جلب اللؤم والكسل
الأصمعيّ، قال: حدّثني ابن أبي طرفة. قال [3] مرّ قوم حجّاج من أهل اليمن مع المساء، برجل من هذيل، يقال له أبو خراش، فسألوه القرى، فقال لهم: هذه قدر، وهذه مسقاة، وبذلك الشّعب ماء! فقالوا: ما وفّيتنا حقّ قرانا! فأخذ القربة فتقلّدها يسقيهم، فنهشته حيّة.
قال أبو إسحاق: بلغني وأنا حدث، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن اختناث فم القربة، والشرب منه» [4]. قال: فكنت أقول إنّ لهذا الحديث لشأنا، وما في الشرب من فم قربة حتّى يجيء فيها هذا النهي؟! حتّى قيل: إنّ رجلا شرب من فم قربة، فوكعته حيّة فمات، وإنّ الحيّات تدخل في أفواه القرب، فعلمت أنّ كلّ شيء لا أعرف تأويله من الحديث، أنّ له مذهبا وإن جهلته.
وقال الشاعر في سلخ الحيّة: [من الرجز] حتّى إذا تابع بين سلخين ... وعاد كالميسم أحماه القين [5] ... أقبل وهو واثق بثنتين: ... بسمّه الرّأس ونهش الرّجلين
قال: كأنه ذهب إلى أنّ سمّه لا يكون قاتلا مجهزا حتّى تأتي عليه سنتان.
[1] المرهفات: السيوف المرققات. البوارد: التي تثبت في الضريبة ولا تنثني.
[2] البيتان للّعين المنقري في الوحشيات 63، والتاج (رجز)، وللمكعبر الضبي في حماسة البحتري 13.
[3] الخبر في الأغاني 21/ 227، والإصابة 2341.
[4] مسند أحمد 3/ 6، وسنن أبي داود في الأشربة 3/ 330، ومسلم صفحة 1600، والنهاية 2/ 82.
[5] الميسم: أداة الوسم. (القاموس: وسم). القين: الحداد. (القاموس: قين).(4/390)
وزعم بعضهم أنّ السّلخ للحيّة مثل البزول والقروح للخف والحافر. قال: وليس ينسلخ إلّا بعد سنين كثيرة، ولم يقفوا من السّنين على حدّ.
وزعم بعضهم أنّ الحيّة تسلخ في كلّ عام مرّتين، والسلخ في الحيات كالتّحسير من الطير، وأنّ الطير لا تجتمع قويّة إلّا بعد التحسير وتمام نبات الرّيش.
وكذلك الحيّة، تضعف في أيام السّلخ ثمّ تشتدّ بعد.
قال الأصمعيّ: أخبرني أبو رفاعة، شيخ من أهل البادية، قال: رأيت في المنام كأني أتخطّى حيّات. فمطرت السماء، فجعلت أتخطى سيولا.
وحكى الأصمعيّ أنّ رجلا رأى في المنام في بيوته حيّات، فسأل عن ذلك ابن سيرين أو غيره، فقال: هذا رجل يدخل منزله أعداء المسلمين. وكانت الخوارج تجتمع في بيته.
قال العرجيّ [1]، في دبيب السمّ في المنهوش: [من الطويل] وأشرب جلدي حبّها ومشى به ... كمشي حميّا الكأس في جلد شارب ... يدبّ هواها في عظامي وحبها، ... كما دبّ في الملسوع سمّ العقارب
وقال العرجيّ في العرماء من الأفاعي، وكونها في صدوع الصّخر، فقال [2]: [من الطويل] تأتي بليل ذو سعاة فسلّها ... بها حافظ هاد ولم أرق سلما ... كمثل شهاب النّار في كفّ قابس ... إذا الرّيح هبت من مكان تضرّما ... أبرّ على الحوّاء حتى تناذروا ... حماه محاماة من الناس، فاحتمى ... يظلّ مشيحا سامعا، ثمّ إنها ... إذا بعثت لم تأل إلّا تقدّما
قال: ويقال: تطوّت الحيّة. وأنشد العرجيّ [3]: [من الخفيف] ذكرتني إذ حيّة قد تطوّت ... فرقا عند عرسه في الثياب [4]
[1] ديوان العرجي 146، والبصائر والذخائر 2/ 447، وهما للعرجي أو عامر بن مالك الفزاري في الحماسة البصرية 2/ 229، وبلا نسبة في حماسة القرشي 260.
[2] ديوان العرجي 37.
[3] ديوان العرجي 115، ورواية صدره فيه: (وركوب إذا الجبان تطوّى).
[4] تطوت: انقبضت والتفت، فرقا: خوفا.(4/391)
وقال الشّماخ، أو البعيث [1]: [من الطويل] وأطرق إطراق الشجاع وقد جرى ... على حدّ نابيه الذّعاف المسمّم
1148 [ما ينبح من الحيوان]
والأجناس التي تذكر بالنّباح: الكلب، والحيّة [2]، والظّبي إذا أسنّ، والهدهد.
وقد كتبنا ذلك مرة ثمّ.
قال أبو النّجم [3]: [من الرجز] والأسد قد تسمع من زئيرها ... وباتت الأفعى على محفورها ... تأسيرها يحتكّ في تأسيرها ... مرّ الرّحى تجري على شعيرها [4] ... كرعدة الجراء أو هديرها ... تضرّم القصباء في تنّورها ... توقّر النّفس على توقيرها ... تعلّم الأشياء في تنقيرها ... في عاجل النفس وفي تأخيرها
1149 [أقسام الحيوان من حيث تحركه]
وسنذكر مسألة وجوابها. وذلك أنّ ناسا زعموا أنّ جميع الحيوان على أربعة أقسام. شيء يطير، وشيء يمشي، وشيء يعوم، وشيء ينساح.
وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ، يَخْلُقُ اللََّهُ مََا يَشََاءُ} [5].
وقد وضع الكلام على قسمة أجناس الحيوان، وعلى تصنيف ضروب الخلق، ثمّ قصّر عن الشيء الذي وضع عليه كلامه، فلم يذكر ما يطير وما يعوم، ثمّ جعل ما ينساح، مثل الحيّات والدّيدان، ممّا يمشي والمشي لا يكون إلّا برجل، كما أنّ العضّ لا يكون إلا بفم، والرّمح لا يكون إلّا بحافر وذكر ما يمشي على أربع، وهاهنا
[1] ملحق ديوان الشماخ 461.
[2] في المخصص 8/ 115 (الأفاعي تكش خلا الأسود، فإنه يصفر وينبح ويضبح).
[3] ديوان أبي النجم 114113.
[4] التأسير: السير يؤسر به السرج، وجعله هنا لجلد الحية.
[5] 45/ النور: 24.(4/392)
دوابّ كثيرة تمشي على ثمان قوائم، وعلى ستّ، وعلى أكثر من ثمان. ومن تفقّد قوائم السّرطان وبنات وردان، وأصناف العناكب عرف ذلك.
قلنا: قد أخطأتم في جميع هذا التّأويل وحدّه. فما الدّليل على أنّه وضع كلامه في استقصاء أصناف القوائم؟ وبأيّ حجة جزمتم على ذلك؟ وقد قال الله عزّ وجلّ:
{وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ} * [1] وترك ذكر الشّياطين والنّار لهم آكل، وعذابهم بها أشدّ. فترك ذكرهم من غير نسيان، وعلى أنّ ذلك معلوم عند المخاطب. وقد قال الله عزّ وجلّ: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوََاجاً} [2] أخرج من هذا العموم عيسى ابن مريم، وقد قصد في مخرج هذا الكلام إلى جميع ولد آدم. وقال:
{هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [3] أدخل فيها آدم وحوّاء. ثمّ قال على صلة الكلام: {إِنََّا خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشََاجٍ نَبْتَلِيهِ} [4] أخرج منها آدم وحوّاء وعيسى ابن مريم.
وحسن ذلك إذ كان الكلام لم يوضع على جميع ما تعرفه النّفوس من جهة استقصاء اللّفظ. فقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ} [5] كان على هذا المثال الذي ذكرنا. وعلى أنّ كلّ شيء يمشي على أربع فهو مما يمشي على رجلين، والذي يمشي على ثمان هو مما يمشي على أربع، وعلى رجلين وإذا قلت: لي على فلان عشرة آلاف درهم، فقد خبّرت أنّ لك عليه ما بين درهم إلى عشرة آلاف.
وأمّا قولكم: إنّ المشي لا يكون إلّا بالأرجل، فينبغي أيضا أن تقولوا {فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ} [6]: إنّ ذلك خطأ لأنّ السّعي لا يكون إلّا بالأرجل.
وفي هذا الذي جهلتموه ضروب من الجواب:
أمّا وجه منه: فهو قول القائل وقول الشّاعر: «ما هو إلّا كأنه حيّة» و: «كأنّ مشيته مشية حيّة» يصفون ذلك، ويذكرون عنده مشية الأيم والحباب، وذكور
[1] 24/ البقرة: 2.
[2] 11/ فاطر: 35.
[3] 1/ الإنسان: 76.
[4] 2/ الإنسان: 76.
[5] 45/ النور: 24.
[6] 20/ طه: 20.(4/393)
الحيّات. ومن جعل للحيّات مشيا من الشعراء، أكثر من أن نقف عليهم. ولو كانوا لا يسمّون انسيابها وانسياحها مشيا وسعيا، لكان ذلك مما يجوز على التشبيه والبدل، وأن قام الشيء مقام الشيء أو مقام صاحبه فمن عادة العرب أن تشبّه به في حالات كثيرة. وقال الله تعالى: {هََذََا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [1] والعذاب لا يكون نزلا، ولكنّه أجراه مجرى كلامهم، كقول حاتم حين أمروه بفصد بعير، وطعنه في سنامه، وقال:
«هذا فصده!» [2].
وقال الآخر [3]: [من الرجز] فقلت يا عمرو اطعمنّي تمرا ... فكان تمري كهرة وزبرا [4]
وذمّ بعضهم الفأر، وذكر سوء أثرها في بيته، فقال [5]: [من الرجز] يا عجّل الرّحمن بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب
يقول: هذا هو عمارتها. كما يقول الرّجل، «ما نرى من خيرك ورفدك إلّا ما يبلغنا من حطبك علينا، وفتّك في أعضادنا!» [6].
وقال النّابغة في شبيه بهذا، وليس به [7]: [من الطويل] ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
ووجه آخر: أنّ الأعراب تزعم وكذلك قال ناس من الحوّائين والرّقائين إنّ للحيّة حزوزا في بطنه، فإذا مشى قامت حزوزه، وإذا ترك المشي تراجعت إلى مكانها، وعادت تلك المواضع ملسا. ولم توجد بعين ولا لمس، ولا يبلغها إلّا كلّ حوّاء دقيق الحسّ.
وليس ذلك بأعجب من شقشقة الجمل العربيّ فإنّه يظهرها كالدّلو، فإذا هو أعادها إلى لهاته تراجع ذلك الجلد إلى موضعه، فلا يقدر أحد عليه بلمس ولا عين.
[1] 56/ الواقعة: 56.
[2] في مجمع الأمثال 2/ 394 (هكذا فصدي) والفصد: شق العرق لاستخراج دمه.
[3] الرجز بلا نسبة في المخصص 2/ 134، والبيان 1/ 153، والأضداد 178.
[4] الكهرة: الانتهار. الزبر: الزجر.
[5] الرجز بلا نسبة في ديوان المعاني 2/ 151، والبيان 1/ 152، وربيع الأبرار 5/ 470.
[6] البيان 1/ 153152.
[7] ديوان النابغة الذبياني 44، والخزانة 3/ 327، 331، 334، وشرح شواهد المغني 349، ومعاهد التنصيص 3/ 107، واللسان (قرع، فلل).(4/394)
وكذلك عروق الكلى إلى المثانة التي يجري فيها الحصى المتولّد في الكلية إذا قذفته تلك العروق إلى المثانة، فإذا بال الإنسان انضمّت العروق واتّصلت بأماكنها، والتحمت حتى كان موضعها كسائر ما جاوز تلك الأماكن.
ووجه آخر: وهو أنّ هذا الكلام عربيّ فصيح إذ كان الذي جاء به عربيّا فصيحا، ولو لم يكن قرآنا من عند الله تبارك وتعالى، ثمّ كان كلام الذي جاء به، وكان ممّن يجهل اللّحن ولا يعرف مواضع الأسماء في لغته، لكان هذا خاصّة ممّا لا يجهله.
فلو أنّنا لم نجعل لمحمّد صلى الله عليه وسلم، فضيلة في نبوّة، ولا مزيّة في البيان والفصاحة، لكنّا لا نجد بدّا من أن نعلم أنّه كواحد من الفصحاء. فهل يجوز عندكم أن يخطئ أحد منهم في مثل هذا في حديث، أو وصف أو خطبة، أو رسالة، فيزعم أن كذا وكذا يمشي أو يسعى أو يطير، وذلك الذي قال ليس من لغته ولا من لغة أهله؟! فمعلوم عند هذا الجواب، وعند ما قبله، أنّ تأويلكم هذا خطأ.
وقال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فََاكِهُونَ} [1] وأصحاب الجنّة لا يوصفون بالشّغل، وإنما ذلك جواب لقول القائل: خبّرني عن أهل الجنّة، بأيّ شيء يتشاغلون؟ أم لهم فراغ أبدا؟ فيقول المجيب: لا، ما شغلهم إلّا في افتضاض الأبكار، وأكل فواكه الجنّة، وزيارة الإخوان على نجائب الياقوت! وهذا على مثال جواب عامر بن عبد قيس، حين قيل له وقد أقبل من جهة الحلبة، وهو بالشام: من سبق؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم! قيل: فمن صلّى؟ قال: أبو بكر! قال: إنّما أسألك عن الخيل! قال: وأنا أجيبك عن الخير! [2] وهو كقول المفسّر حين سئل عن قوله: {لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهََا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [3] فقال: ليس فيها بكرة وعشيّ. وقد صدق القرآن، وصدق المفسّر، ولم يتناكرا، ولم يتنافيا لأنّ القرآن ذهب إلى المقادير، والمفسّر ذهب إلى الموجود، من دوران ذلك مع غروب الشّمس وطلوعها.
[1] 55/ يس: 36.
[2] البيان 2/ 282.
[3] 62/ مريم: 19.(4/395)
وعلى ذلك المعنى روي عن عمر أنّه قال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما» [1].
قد كان المسلمون يتكلمون في الصّلاة ويطبّقون [2] إذا ركعوا، فنهى عن ذلك إمام من الأئمّة، وضرب عليه، بعد أن أظهر النّسخ، وعرّفهم أن ذلك من المنسوخ، فكأنّ قائلا قال: أتنهانا عن شيء، وقد كان على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم. وقد قدّم الاحتجاج في النّاسخ والمنسوخ.
ومن العجب أنّ ناسا جعلوا هذا القول على المنبر من عيوبه. فإن لم يكن المعنى فيه على ما وصفنا، فما في الأرض أجهل من عمر حين يظهر الكفر في الإسلام على منبر الجماعة، وهو إنّما علاه بالإسلام. ثمّ في شيء ليس له حجّة فيه ولا علة. وأعجب منه تلك الأمّة، وتلك الجماعة التي لم تنكر تلك الكلمة في حياته، ولا بعد موته ثمّ ترك ذلك جميع التّابعين وأتباع التّابعين، حتّى أفضى الأمر إلى أهل دهرنا هذا.
وتلك الجماعة هم الذين قتلوا عثمان على أن سيّر رجلا، وهذا لا يقوله إلّا جاهل أو معاند.
وعلى تأويل قوله: {هََذََا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [3] قال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ الْمِهََادُ} [4] وقال تعالى: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا، قََالُوا بَلى ََ وَلََكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذََابِ عَلَى الْكََافِرِينَ} [5] فجعل للنّار خزائن، وجعل لها خزنة، كما جعل في الجنّة خزائن وجعل لها خزنة.
[1] البيان 2/ 282، المتعتان هما متعة النساء ومتعة الحج، والأول يسمى نكاح المتعة، وقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، أما متعة الحج: فهي محرمة على مكان مكة في الحديث «ليس لأهل مكة تمتع ولا قران»، وانظر القول في هاتين المتعتين في النهاية 4/ 292، وهاتان المتعتان حرمتا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قول عمر بن الخطاب: «أنا أنهي عنهما كما نهى عنهما الرسول» وليس المراد أن الرسول أحلهما، وعمر حرمهما.
[2] في النهاية 3/ 114، «كان يطبق في صلاته: هو أن يجمع بين أصابع يديه ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع والتشهد» وانظر البيان 2/ 282.
[3] 20/ طه: 20.
[4] 56/ ص: 38.
[5] 71/ الزمر: 39.(4/396)
ولو أنّ جهنّم فتحت أبوابها، ونحّي عنها الخزنة، ثمّ قيل لكلّ لصّ في الأرض، ولكلّ خائن في الأرض: دونك فقد أبيحت لك! لما دنا منها، وقد جعل لها خزائن وخزنة. وإنّما هذا على مثال ما ذكرنا. وهذا كثير في كلام العرب.
والآي التي ذكرنا في صدق هذا الجواب، كلها حجج على الخوارج في إنكارهم المنزلة بين المنزلتين.
1150 [شعر في الحيات]
وقال خلف الأحمر في ذكر الحيّات: [من الوافر] يرون الموت دوني إن رأوني ... وصلّ صفا لنابيه ذباب [1] ... من المتحرّمات بكهف طود ... حرام ما يرام له جناب [2] ... أبى الحاوون أن يطؤوا حماه ... ولا تسري بعقوته الذّئاب [3] ... كأنّ دما أمير على قراه ... وقطرانا أمير به كباب [4] ... إذا ما استجرس الأصوات أبدى ... لسانا دونه الموت الضباب ... إذا ما الليل ألبسه دحاه ... سرى أصمى تصيح له الشّعاب [5]
فقلت لحيّان بن عتبي: لم قال موسى بن جابر الحنفيّ: [من الرمل] طرد الأروى فما تقربه ... ونفى الحيّات عن بيض الحجله
قال: لأنّ الذّئاب تأكل الحيّات. قلت: فلم قال خلف الأحمر:
ولا تسري بعقوته الذئاب؟
قال: لأنّ الذّئاب تأكل الحيّات. فظننت أنّه حدس ولم يقل بعلم.
وقال الزّياديّ في يحيى بن أبي حفصة [6]: [من البسيط] إني ويحيى وما يبغي كملتمس ... صيدا وما نال منه الرّيّ والشّبعا
[1] ذباب الناب: طرفه الحاد. (القاموس: ذبب).
[2] طود حرام: جبل لا يستطاع القرب منه.
[3] العقوة: الساحة. (القاموس: عقو).
[4] أمار الدم: أساله. (القاموس: أمر). القرا: الظهر. (القاموس: قرا). الكباب: التراب. (القاموس:
كبب).
[5] الأصمى: الشديد الوثاب.
[6] تقدمت الأبيات في الفقرة (1091).(4/397)
أهوى إلى باب جحر في مقدّمه ... مثل العسيب ترى في رأسه قزعا ... اللّون أربد والأنياب شابكة ... عصل ترى السّمّ يجري بينها قطعا ... يهوي إلى الصّوت والظلماء عاكفة ... تعرد السّيل لاقى الحيد فاطّلعا ... لو نال كفّك آبت منه مخضبة ... بيضاء قد جللت أنيابها قزعا ... بيعت بوكس قليل فاستقلّ بها ... من الهزال أبوها بعد ما ركعا
فردّ عليه يحيى فقال [1]: [من البسيط] كم حيّة ترهب الحيّات صولته ... يحمى لريديه قد غادرته قطعا [2] ... يلقين حيّة قفّ ذا مساورة ... يسقى به القرن من كأس الرّدى جرعا [3] ... تكاد تسقط منهنّ الجلود لما ... يعلمن منه إذا عاينّه، قزعا [4] ... أصمّ ما شمّ من خضراء أيبسها ... أو مسّ من حجر أوهاه فانصدعا [5]
وقال آخر: [من السريع] وكم طوت من حنش راصد ... للسّفر في أعلى الثّنيّات ... أصمّ أعمى لا يجيب الرّقى ... يفترّ عن عصل حديدات [6] ... منهرت الشدق رقود الضحى ... سار طمور في الدّجنّات [7] ... ذي هامة رقطاء مفطوحة ... من الدّواهي الجبليّات ... صلّ صفا، تنطف أنيابه ... سمام ذيفان مجيرات [8] ... مطلن في اللّحيين مطلا إلى ... رأس وأشداق رحيبات ... قدّمن عن ضرسين واستأخرا ... إلى سماخين ولهوات [9] ... يسبته الصّبح وطورا له ... نفخ ونفث في المغارات [10]
[1] الوحشيات 8786.
[2] الرّيد: الحرف الناتئ من الجبل. (القاموس: ريد).
[3] القف: مرتفع حجري. (القاموس: قفف).
[4] القزع: القطع من السحاب، ويعني هنا القطع المتفرقة. (القاموس: قزع).
[5] تقدم هذا البيت مع أبيات الزماني «الزيادي» في الفقرة (1091).
[6] عصل، جمع أعصل، وهو الملتوي والمعوج. (القاموس: عصل).
[7] منهرت: واسع. (القاموس: هرت). الطمور: الوثاب. (القاموس: طمر).
[8] تنطف: تقطر. (القاموس: نطف). الذيفان: السم القاتل. (القاموس: ذيف).
[9] لهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق.
[10] سبته: أنامه. (القاموس: سبت).(4/398)
وتارة تحسبه ميّتا ... من طول إطراق وإخبات [1]
وقال آخر، وهو جاهليّ [2]: [من الرجز] لا همّ إن كان أبو عمرو ظلم ... وخانني في علمه وقد علم ... فابعث له في بعض أعراض اللّمم ... لميمة من حنش أعمى أصم ... أسمر زحّافا من الرّقط العرم ... قد عاش حتى هو لا يمشي بدم [3] ... فكلّما أقصد منه الجوع شم ... حتى إذا أمسى أبو عمرو ولم ... يمسّ منه مضض ولا سقم ... قام وودّ بعدها أن لم يقم ... ولم يقم لإبل ولا غنم ... ولا لخوف راعه ولا لهم ... حتّى دنا من رأس نضناض أصم ... فخاضه بين الشّراك والقدم [4] ... بمذرب أخرجه من جوف كم ... كأنّ وخز نابه إذا انتظم [5] ... وخزة إشفى في عطوف من أدم [6]
ومخالب الأسد وأشباه الأسد من السّباع، تكون في غلف، إذا وطئت على بطون أكفها ترفّعت المخالب ودخلت في أكمام لها، وهو قول أبي زبيد [7]: [من الوافر] بحجن كالمحاجن في فتوخ ... يقيها فضّة الأرض الدّخيس [8]
وكذلك أنياب الأفاعي، هي ما لم تعضّ فمصونة في أكمام، ألا تراه يقول [9]:
[من الرجز] فخاضه بين الشّراك والقدم ... بمذرب أخرجه من جوف كم
[1] الإطراق: النظر إلى الأرض والسكوت. (القاموس: طرق). الإخبات: الخشوع. (القاموس: خبت).
[2] الرجز لخلف الأحمر في مجمع الذاكرة 1/ 162، وبلا نسبة في البرصان 234233، وسمط اللآلي 490.
[3] العرم: جمع أعرم، وهو المنقط بسواد وبياض. (القاموس: عرم).
[4] نضنض الشيء: حركه. (القاموس: نضض).
[5] المذرب: عنى به ناب الحية.
[6] الإشفى: المخرز. الأدم: الجلد المدبوغ. (القاموس: أدم).
[7] ديوان أبي زبيد الطائي 632. والبرصان 233، والمعاني الكبير 1036.
[8] الحجن: المخالب، والمحجن: العصا المعوجة، والفتوخ: الاسترخاء واللين، القضة: الحصى الصغار، الدخيس: لحم الكفين.
[9] تقدم الرجز قبل ستة أسطر.(4/399)
وقال آخر [1]: [من الرجز] أنعت نضناضا كثير الصّقر ... مولده كمولد ابن الدّهر [2] ... كانا جميعا ولدا في شهر ... يظلّ في مرأى بعيد القعر ... بين حوافي سدر وصخر [3]
وقال: [من الطويل] وكيف وقد أسهرت عينك تبتغي ... عنادا لنابي حيّة قد تربّدا [4] ... من الصّمّ يكفي مرّة من لعابه ... وما عاد إلّا كان في العود أحمدا [5]
وقال خلف الأحمر وهي مخلوطة فيها شيء، وله شيء، من الغبرة وما علمت أنّ وصف عين الأفعى على معرفة واختبار غيره وهو قوله [6]: [من الرجز] 1أفعى رخوف العين مطراق البكر ... داهية قد صغرت من الكبر [7] ... 3صلّ صفا ما ينطوي من القصر ... طويلة الإطراق من غير حسر [8] ... 5كأنّما قد ذهبت به الفكر ... شقّت له العينان طولا في شتر ... 7مهروتة الشدقين حولاء النظر ... جاء بها الطّوفان أيام زخر ... 9كأنّ صوت جلدها إذا استدرّ ... نشيش جمر عند طاه مقتدر
1151 [أحاديث في الوزغ]
هشام بن عروة قال: أخبرني أبي أنّ عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها كانت تقتل الأوزاغ.
[1] الرجز بلا نسبة في المخصص 13/ 208.
[2] الصقر: أراد به لعابه وسمه.
[3] السدر: البحر.
[4] تربد: صار أربد، والربدة بالضم لون إلى الغبرة. (القاموس: ربد).
[5] من الأمثال قولهم: (العود أحمد)، والمثل في مجمع الأمثال 2/ 34، 233، والمستقصى 335، وجمهرة الأمثال 2/ 41، وفصل المقال 252، وأمثال ابن سلام 169.
[6] الأبيات (3، 4، 7، 2) للنابغة في ديوان المعاني، وربيع الأبرار 5/ 475، وحماسة ابن الشجري 274273، ولخلف الأحمر في مجمع الذاكرة 1/ 144143.
[7] رخوف: مسترخية.
[8] الصل: من أخبث الحيات، الإطراق: النظر إلى الأرض مع السكون. (القاموس: طرق).(4/400)
يحيى بن أبي أنيسة، عن الزّهري، عن عروة، عن عائشة قالت [1]: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للوزغ: فويسق».
قالت [1]: «ولم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله».
قال: قالت عائشة رضي الله عنها [1]: «سمعت سعدا يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله».
عبد الرحمن بن زياد قال: أخبرني هشام عن عروة عن عائشة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للوزغ: الفويسق».
أبو بكر الهذليّ، عن معاذ عن عائشة قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ وفي يدي عكّاز فيه زجّ، فقال: يا عائشة ما تصنعين بهذا؟ قلت: أقتل به الوزغ في بيتي. قال: إن تفعلي فإنّ الدّوابّ كلها، حين ألقي إبراهيم صلى الله عليه وسلم في النّار، كانت تطفئ عنه، وإنّ هذا كان ينفخ عليه، فصمّ وبرص» [2].
وهذه الأحاديث كلها يحتجّ بها أصحاب الجهالات، ومن زعم أنّ الأشياء كلها كانت ناطقة، وأنها أمم مجراها مجرى الناس.
1152 [تأوّل آيات من الكتاب]
وتأوّلوا قوله تعالى: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ} [3]، وقالوا: قال الله عزّ وجلّ: {إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهََا وَأَشْفَقْنَ مِنْهََا وَحَمَلَهَا الْإِنْسََانُ إِنَّهُ كََانَ ظَلُوماً جَهُولًا} [4] وقال تعالى: {يََا جِبََالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [5] وقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجََارَةِ لَمََا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهََارُ وَإِنَّ مِنْهََا لَمََا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمََاءُ وَإِنَّ مِنْهََا لَمََا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ} [6].
[1] أخرج البخاري في بدء الخلق برقم 3130 «عن ابن شهاب، عن عروة: يحدث عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للوزغ: فويسق. ولم أسمعه أمر بقتله، وزعم سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله». وأخرجه مسلم في باب استحباب قتل الوزغ برقم 2239.
[2] في النهاية 5/ 181 «ومنه حديث عائشة: لما أحرق بيت المقدس كانت الأوزاغ تنفخه»، وانظر أحاديث قتل الوزغ في جامع الأصول 10/ 237236.
[3] 38/ الأنعام: 6.
[4] 72/ الأحزاب: 33.
[5] 10/ سبأ: 34.
[6] 74/ البقرة: 2.(4/401)
فذهبت الجهمية ومن أنكر إيجاد الطّبائع مذهبا، وذهب ابن حائط ومن لفّ لفّه من أصحاب الجهالات مذهبا، وذهب ناس من غير المتكلمين، واتّبعوا ظاهر الحديث وظاهر الأشعار، وزعموا أنّ الحجارة كانت تعقل وتنطق، وإنما سلبت المنطق فقط. فأمّا الطير والسّباع فعلى ما كانت عليه.
قالوا: والوطواط، والصّرد، والضفدع، مطيعات ومثابات والعقرب، والحيّة والحدأة، والغراب، والوزغ، والكلب، وأشباه ذلك، عاصيات معاقبات.
ولم أقف على واحد منهم فأقول له: إنّ الوزغة التي تقتلها على أنّها كانت تضرم النّار على إبراهيم أهي هذه أم هي من أولادها فمأخوذة هي بذنب غيرها؟ أم تزعم أنّه في المعلوم أن تكون تلك الوزغ لا تلد ولا تبيض ولا تفرخ إلّا من يدين بدينها، ويذهب مذهبها؟! وليس هؤلاء ممّن يفهم تأويل الأحاديث، وأيّ ضرب منها، يكون مردودا، وأيّ ضرب منها يكون متأوّلا، وأيّ ضرب منها يقال إنّ ذلك إنّما هو حكاية عن بعض القبائل.
ولذلك أقول: لولا مكان المتكلمين لهلكت العوامّ، واختطفت واسترقت، ولولا المعتزلة لهلك المتكلمون.
1153 [أحاديث في الوزغ]
شريك عن التّخميّ، عن ليث، عن نافع، أنّ ابن عمر كان يقتل الوزغ في بيته ويقول هو شيطان! هشام بن حسّان، عن خالد الرّبعيّ، قال: لم يكن شيء من خشاش الأرض إلّا كان يطفئ النّار عن إبراهيم، إلّا الوزغ، فإنّه كان ينفخ عليه.
حنظلة بن أبي سفيان، قال: سمعت القاسم بن محمّد يقول إنّ الأوازغ كانت يوم حرق بيت المقدس تنفخه والوطاوط بأجنحتها.
شريك عن النّخعيّ، عن جابر، عن ابن عباس، قال: الوزغ شريك الشيطان.
أبو داود الواسطيّ قال: أخبرنا أبو هاشم، قال [1]: من قتل وزغة حطّ الله عنه سبعين خطيئة، ومن قتل سبعا كان كعتق رقبة.
[1] الجامع الصغير للسيوطي رقم 8915. وانظر جامع الأصول 10/ 237236.(4/402)
هشام بن حسّان، عن واصل مولى أبي عيينة، عن عقيل، عن يحيى بن يعمر، قال: لأن أقتل مائة من الوزغ أحبّ إليّ من أن أعتق مائة رقبة.
وهذا الحديث ليس من شكل الأوّل، لأنّ يحيى بن يعمر لم يزعم أنّه يقتله لكفره أو لكفر أبيه، ولكنها دابّة تطاعم الحيّات وتزاقّها وتقاربها، وربّما قتلت بعضّتها، وتكرع في المرق واللّبن ثمّ تمجّه في الأناء فينال النّاس بذلك مكروه كبير، من حيث لا يعلمون. وقتله في سبيل قتل الحيّات والعقارب.
1154 [صنع السم من الأوزاغ]
وأهل السّجن يعملون منها سموما أنفذ من سم البيش [1]، ومن ريق الأفاعي، وذلك أنّهم يدخلون الوزغ قارورة، ثمّ يصبّون فيها من الزّيت ما يغمرها، ويضعونها في الشّمس أربعين يوما، حتّى تختلط بالزّيت وتصير شيئا واحدا، فإن مسح السّجين منه على رغيف مسحة يسيرة فأكل منه عشرة أنفس ماتوا. ولا أدري لم توخّوا من مواضع الدّفن عتب الأبواب.
1155 [أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه]
يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي الزّبير، عن جابر بن عبد الله، قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع ونهانا عن أربع، أمرنا أن نجيف أبوابنا، وأن نخمّر آنيتنا، وأن نوكي أسقيتنا، وأن نطفئ سرجنا. فإنّ الشّيطان إذا وجد بابا مجافا لم يفتحه، وإناء مخمّرا لم يكشفه، وسقاء موكى لم يحلّه. وإنّ الفويسقة تأتي المصباح فتضرمه على أهل البيت [2]. ونهانا عن أربع: نهانا عن اشتمال الصّمّاء، وأن يمشي أحدنا في النّعل الواحدة أو الخفّ الواحد، وأن يحتبي الرّجل منّا في الثّوب الواحد ليس عليه غيره، وأن يستلقي أحدنا على ظهره ويرفع إحدى رجليه على الأخرى» [3].
وهذا الحديث ليس هذا موضعه، وهو يقع في باب جملة القول في النّار، وهو يقع بعد هذا الذي يلي القول في النعام.
[1] البيش: نبت ببلاد الهند، وهو سم. (اللسان: بيش).
[2] أخرج البخاري في بدء الخلق برقم 3138 (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما رفعه قال:
«خمروا الآنية، وأوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، واكفتوا صبيانكم عند العشاء، فإن للجن انتشارا وخطفة، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت» وانظر الحديث رقم 3106، والحديث الذي أخرجه مسلم في الأشربة برقم 2012.
[3] أخرج البخاري في الصلاة برقم 360 (عن أبي سعيد الخدري أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد، ليس على فرجه منه شيء)، وانظر أيضا الأحاديث التي أرقامها 1890، 2037، 2040، 5482، 5484، 5927.(4/403)
1156 [أحاديث في قتل الحيات]
شعبة أبو بسطام، قال أخبرني أبو قيس، قال: جلست إلى علقمة بن قيس، وربيع بن خثيم فقال ربيع: قولوا وافعلوا خيرا تجزوا خيرا، وقال علقمة: من استطاع منكم ألّا يرى الحيّة، إلّا قتلها إلّا التي مثل الميل فإنّها جانّ. وإنّه لا يضرّه قتل حيّة أو كافر.
إسماعيل المكي، عن أبي إسحاق، عن علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود:
من قتل حيّة فقتل كافرا.
ثم سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول: من قتل حيّة أو عقربا قتل كافرا.
وهذا ممّا يتعلق به أصحاب ابن حائط، وتأويله في الحديث الآخر.
عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي قال: سمعت القاسم بن عبد الرحمن، يقول: قال عبد الله: من قتل حيّة أو عقربا فكأنّما قتل كافرا. فعلى هذا المعنى يكون تأليف الحديث.
سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما سالمناهنّ مذ حاربناهنّ».
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قالت عائشة: «من ترك قتل حيّة مخافة أثآرها فعليه لعنة الله والملائكة».
الرّبيع بن صبيح عن عطاء الخراسانيّ قال: كان فيما أخذ على الحيّات ألّا يظهرن. فمن ظهر منهنّ حلّ قتله. وقتالهنّ كقتال الكفّار، ولا يترك قتلهنّ إلا شاكّ.
وهذا ممّا يتعلّق به أصحاب ابن حائط.
محمد بن عجلان قال: سمعت أبي يحدّث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما سالمناهنّ مذ حاربناهنّ».
ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير قال: أخبرني أبو الطفيل أنّه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «اقتلوا من الحيّات ذا الطفيتين، والكلب الأسود البهيم ذا الغرّتين» [1].
قال: والغرّة: حوّة تكون بعينيه.
[1] النهاية 3/ 130، 354، وأخرج البخاري في بدء الخلق برقم 3123 (عن ابن عمر رضي الله عنهما:
أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: «اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر، فإنهما يطمسان البصر، ويستسقطان الحبل)، وأخرجه مسلم في السلام، باب قتل الحيات، رقم 2233.(4/404)
1157 [قول صاحب المنطق في طعام الحيوان ومسكنه]
قال صاحب المنطق: الطير على ضربين: أوابد وقواطع، ومنه ما يأكل اللحم لا يأكل غيره وإن لم يكن ذا سلاح. فأمّا ذو السّلاح فواجب أن يكون طعامه اللّحم.
ومن الطّير ما يأكل الحبوب لا يعدوها، ومنه المشترك الطّباع، كالعصفور والدّجاج والغراب. فإنها تأكل النوعين جميعا، وكطير الماء، يأكل السّمك ويلقط الحبّ.
ومنه ما يأكل شيئا خاصّا، مثل جنس النّحل المعسّل الذي غذاؤه شيء واحد، وجنس العنكبوت، فإن طعم النحل المعسّل العسل، والعنكبوت يعيش من صيد الذباب.
ومن الحيوان ما له مسكن ومأوى، كالخلد، والفأر، والنّمل، والنّحل، والضّبّ. ومنه ما لا يتّخذ شيئا يرجع إليه كالحيّات لأنّ ذكورة الحيّات سيّارة، وإناثها إنّما تقيم في المكان إلى تمام خروج الفراخ من البيض، واستغناء الفراخ بأنفسها.
ومنها ما يكون يأوي إلى شقوق الصّخور والحيطان، والمداخل الضّيّقة، مثل سامّ أبرص.
قال: والحيّات تألفها كما تألف العقارب الخنافس. والعظايا تألف المزابل والخرابات. والوزغ قريبة من النّاس.
1158 [زعم زرادشت في العظايا وسوامّ أبرص]
وزعم زرادشت أنّ العظايا ليست من ذوات السّموم، وأنّ سامّ أبرص من ذوات السّموم، وأنّ أهرمن [1] لما قعد ليقسم السّموم. كان الحظ الأوفر لكلّ شيء سبق إلى طلبه، كالأفاعي، والثّعابين والجرّارات، وأنّ نصيب الوزغ نصيب وسط قصد، لا يكمل أن يقتل، ولكنّه يزاقّ [2] الحيّة، فتميره [3] ممّا عندها. ومتى دبر [4] الوزغ جاء منه السمّ القاتل، أسرع من سمّ البيش، ومن لعاب الأفاعي، فأمّا العظاية فإنّها احتبست عن الطّلب حتى نفذ السمّ، وأخذ كلّ شيء قسطه، على قدر السّبق والبكور، فلما جاءت العظاية وقد فني السمّ، دخلها من الحسرة، وممّا علاها من الكرب، حتى جعلت وجهها إلى الخرابات والمزابل، فإذا رأيت العظاية تمشي مشيا
[1] يرى زرادشت أن «أهرمن» هو رمز لقوة الشر، وأن «أرموزد» رمز لقوة الخير، وأنهما يظلان في نزاع إلى أن تتغلب قوة الخير على قوة الشر.
[2] زق الطائر فرخه: أطعمه. (القاموس: زقق).
[3] الميرة: الطعام. (القاموس: مير).
[4] دبر: أدركه الهرم. (القاموس: دبر).(4/405)
سريعا ثمّ تقف، فإنّ تلك الوقفة إنّما هي لما يعرض لها من التذكّر والحسرة على ما فاتها من نصيبها من السمّ.
1159 [الرد على ما زعم زرادشت]
ولا أعلم العظاية في هذا القياس إلّا أكثر شرورا من الوزغ لأنها لولا إفراط طباعها في الشّرارة، لم يدخلها من قوّة الهمّ مثل الذي دخلها ولم يستبن للنّاس من اغتباط الوزغ بنصيبه من السمّ، بقدر ما استبان من ثكل العظاية، وتسلّلها وإحضارها وبكائها وحزنها، وأسفها على ما فاتها من السّمّ.
1160 [زعم زرادشت في خلق الفأرة والسّنّور]
ويزعم زرادشت، وهو مذهب المجوس، أنّ الفأرة من خلق الله، وأنّ السّنّور من خلق الشّيطان، وهو إبليس، وهو أهرمن [1]. فإذا قيل له: كيف تقول ذلك والفأرة مفسدة، تجذب فتيلة المصباح فتحرق بذلك البيت والقبائل الكثيرة، والمدن العظام، والأرباض الواسعة، بما فيها من النّاس والحيوان والأموال، وتقرض دفاتر العلم، وكتب الله، ودقائق الحساب، والصّكاك [2]، والشّروط وتقرض الثّياب، وربّما طلبت القطن لتأكل بزره فتدع اللّحاف غربالا، وتقرض الجرب، وأوكية الأسقية والأزقاق والقرب فتخرج جميع ما فيها وتقع في الآنية وفي البئر، فتموت فيه وتحوج النّاس إلى مؤن عظام وربّما عضّت رجل النّائم، وربّما قتلت الإنسان بعضّتها. والفأر بخراسان ربّما قطعت أذن الرّجل. وجرذان أنطاكية تعجز عنها السّنانير، وقد جلا عنها قوم وكرهها آخرون لمكان جرذانها، وهي التي فجرت المسنّاة [3]، حتى كان ذلك سبب الحسر [4] بأرض سبأ وهي المضروب بها المثل، وسيل العرم ممّا تؤرخ بزمانه العرب. والعرم: المسنّاة. وإنما كان جرذا.
وتقتل النّخل والفسيل، وتخرّب الضّيعة، وتأتي على أزمّة الركاب والخطم، وغير ذلك من الأموال.
[1] أهرمن: رمز لقوة الشر، وانظر الفقرة (1158).
[2] الصكاك: جمع صك، وهو الكتاب. (القاموس: صكك).
[3] المسناة: السد الذي يعترض به الوادي.
[4] حسر الماء عن الأرض: نضب.(4/406)
والنّاس ربما اجتلبوا السّنانير ليدفعوا بها بوائق الفأر فكيف صار خلق الضّارّ المفسد من الله، وخلق النّافع من الضّرر من خلق الشيطان؟! والسّنّور يعدى به على كلّ شيء خلقه الشّيطان من الحيّات، والعقارب، والجعلان، وبنات وردان، والفأرة لا نفع لها، ومؤنها عظيمة.
قال: لأنّ السّنّور لو بال في البحر لقتل عشرة آلاف سمكة! فهل سمعت بحجّة قطّ، أو بحيلة، أو بأضحوكة، أو بكلام ظهر على تلقيح هرة، يبلغ مؤن هذا الاعتلال؟! فالحمد لله الذي كان هذا مقدار عقولهم واختيارهم.
وأنشد أبو زيد [1]: [من الرجز] والله لو كنت لهذا خالصا ... لكنت عبدا آكل الأبارصا
يعني جماع سامّ أبرص: أبارص.
1161 [تأثير أكل سامّ أبرص والسمانى]
وسامّ أبرص ربّما قتل أكله، وليس يؤكل إلّا من الجوع الشّديد. وربما قتل السّنانير وبنات عرس، والشّاهمرك [2]، وجميع اللّقاطات.
وقال آخر [3]: [من الوافر] كأنّ القوم عشّوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم
وهو شيء يعرض عن أكل دسم الضّأن، وهو أيضا يلقى على دسمه النّعاس.
وقد يفعل ذلك الحيق. والخشخاش.
والخشخاش يسمّى بالفارسيّة «أناركبو» وتأويله رمّان الخسّ. وإنما اشتقّ له ذلك إذ كان يورث النّعاس، كما يورثه الخس.
وأكل الطّعام الذي فيه سمان يورث الدّوار. وزعموا أنّ صبيّا من الأعراب فيما
[1] لم يرد الرجز في نوادر أبي زيد، وهو بلا نسبة في اللسان والتاج وأساس البلاغة (برص)، وشرح المفصل 9/ 23، 36، والمخصص 8/ 101، والمقاييس 1/ 219، ورصف المباني 195، والمنصف 2/ 232، والجمهرة 312، والبرصان 92.
[2] الشاهمرك: الفتي من الدجاج. حياة الحيوان «شامرك».
[3] ديوان ذي الرمة 1097، واللسان والتاج (نعج)، والمعاني الكبير 694، والجمهرة 486، والتنبيه والإيضاح 1/ 220، وخلق الإنسان 275، وبلا نسبة في المخصص 5/ 80، وديوان الأدب 2/ 228، والمقاييس 5/ 448، والتهذيب 1/ 381.(4/407)
مضى من الدّهر، صاد هامة على قبر، فظنها سمان، فأكلها فغثت نفسه، فقال [1]:
[من الرجز] نفسي تمقّس من سمانى الأقبر
ويقال: غثت نفسه غثيانا وغثيا، ولقست تلقس لقسا، وتمقّست تتمقّس تمقسا: إذا غثيت.
1162 [أكل الحيات]
وأخبرني صباح بن خاقان، قال: كنت بالبادية، فرأيت ناسا حول نار فسألت عنهم، فقالوا: قد صادوا حيات فهم يشوونها ويأكلونها إذ نظرت إلى رجل منهم ينهش حية قد أخرجها من الجمر، فرأيته إذا امتنعت عليه يمدّها كما يمدّ عصب لم ينضج. فما صرفت بصري عنه حتّى لبط به [2]، فما لبث أن مات، فسألت عن شأنه، فقيل لي: عجّل عليها قبل أن تنضج وتعمل النّار في متنها.
وقد كان قد بغداد وفي البصرة جماعة من الحوّائين، يأكل أحدهم أيّ حيّة أشرت إليها في جونته، غير مشويّة. وربّما أخذ المرارة وسط راحته، فلطعها بلسانه، ويأكل عشرين عقربانة نيّة بدرهم. وأما المشويّ فإنّ ذلك عنده عرس.
1163 [شعر في الحيات]
وقال كثيّر [3]: [من الوافر] وما زالت رقاك تسلّ ضغني ... فتخرج من مكامنها ضبابي ... وترقيني لك الحاوون حتّى ... أجابت حيّة خلف الحجاب
وقال أبو عدنان، وذكر ابن ثروان الخارجيّ، حين كان صار إلى ظهر البصرة، وخرج إليه من خرج من بني نمير: [من الطويل] حسبت نميرا يا ابن ثروان كالألى ... لقيتهم بالأمس: ذهلا ويشكرا ... كما ظنّ صيّاد العصافير أنّ في ... جميع الكوى، جهلا، فراخا وأطيرا
[1] الرجز بلا نسبة في اللسان (مقس، سمن)، والجمهرة 429، 852، والمقاييس 5/ 432، والتهذيب 8/ 425، والمجمل 4/ 341.
[2] لبط به: صرع.
[3] ديوان كثير 280، وتقدم البيتان في الفقرة (1137).(4/408)
فأدخل يوما كفّه جحر أسود ... فشرشره بالنّهش حتى تشرشرا [1]
أراد قول رؤبة [2]: [من الرجز] كنتم كمن أدخل في حجر يدا ... فأخطأ افعى ولاقى الأسودا ... لو مسّ حرفي حجر تقصّدا ... بالشّمّ لا بالسمّ منه قصدا [3]
فقدّم الأسود على الأفعى، وهذا لا يقوله من يعرف مقدار سمّ الحيات، وقال عنترة [4]: [من الطويل] حلفنا لهم والخيل تردي بنا معا ... نزايلكم حتّى تهرّوا العواليا ... عوالي سمر من رماح ردينة ... هرير الكلاب يتّقين الأفاعيا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا ذا الطّفيتين والأبتر» [5].
شبّه الخيطين على ظهره بخوص المقل. وأنشدت لأبي ذؤيب [6]: [من الطويل] عفت غير نؤي الدّار لأيا أبينه ... وأقطاع طفي قد عفت في المعاقل [7]
والطّفي: خوص المقل.
وهم يصفون بطن المرأة الهيفاء الخميصة البطن، ببطن الحيّة. وهي الأيم.
وقال العجّاج [8]: [من الرجز] وبطن أيم وقواما عسلجا [9]
[1] شرشره: قطعه.
[2] ديوان رؤبة 173، والوساطة 13.
[3] تقصد: تكسر.
[4] ديوان عنترة 8180 (دار صادر)، والأول في اللسان والتاج (هرر)، والجمهرة 127، وديوان الأدب 3/ 140، والتنبيه والإيضاح 2/ 227، وهما بلا نسبة في أساس البلاغة (هرر).
[5] أخرجه البخاري في بدء الخلق برقم 3123، ومسلم في السلام برقم 2233.
[6] شرح أشعار الهذليين 140، واللسان والتاج (قطع، طفا)، والتهذيب 14/ 32، وللهذلي في المقاييس 3/ 414.
[7] النؤي: الحفير حول الخباء أو الخيمة يمنع السيل. المعاقل: جمع معقل، وهو المكان تعقل فيه الإبل.
[8] ديوان العجاج 2/ 36، واللسان والتاج (عسلج، أيم)، والتهذيب 3/ 312، 15/ 551، والجمهرة 722، والمخصص 10/ 214، والعين 2/ 315، ونسب إلى رؤبة في المقاييس 1/ 166، وليس في ديوانه.
[9] قوام عسلج: ناعم ينثني ويميل.(4/409)
وقال أدهم بن أبي الزّعراء، وشبّه نفسه بحيّة: [من الطويل] وما أسود بالبأس ترتاح نفسه ... إذا حلبة جاءت ويطرق للحسّ ... به نقط حمر وسود كأنما ... تنضّح نضحا بالكحيل وبالورس [1] ... أصمّ قطاريّ يكون خروجه ... قبيل غروب الشّمس مختلط الدّمس [2] ... له منزل، أنف ابن قترة يغتذي ... به السمّ، لم يظهر نهارا إلى الشّمس [3] ... يقيل إذا ما قال بين شواهق ... تزلّ العقاب عن نفانفها الملس [4] ... بأجرأ منّي يا ابنة القوم مقدما ... إذا الحرب دبّت أو لبست لها لبسي [5]
فأجابه عنترة الطائي، فقال [6]: [من الطويل] عساك تمنى من أراقم أرضنا ... بأرقم يسقى السمّ من كلّ منطف [7]
وقال عنترة [8]: [من الطويل] أترجو حياة يا ابن بشر بن مسهر ... وقد علقت رجلاك في ناب أسودا ... أصمّ جباليّ إذا عضّ عضّة ... تزايل عنه جلده فتبدّدا ... بسلع صفا لم يبد للشّمس قبلها ... إذا ما رآه صاحب اليمّ أرعدا [9] ... له ربقة في عنقه من قميصه ... وسائره عن متنه قد تقدّدا [10] ... رقود ضحيّات، كأن لسانه ... إذا سمع الأجراس مكحال أرمدا [11] ... يفيت النّفوس قبل أن يقع الرّقى ... وإن أبرق الحاوي عليه وأرعدا [12]
[1] الكحيل: قطران أسواد اللون يطلى به الإبل، والورس: نبت يصبغ به.
[2] القطاري: الضخم.
[3] ابن قترة: حية خبيثة، تنطوي ثم تنقز ذراعا أو نحوها.
[4] النفانف: جمع نفنف، وهو صقع الجبل الذي كأنه جدار مبني مستو.
[5] لبسي: أي لباس الحرب.
[6] البيت في شرح ديوان الحماسة للتبريزي 1/ 118، ومحاضرات الراغب 2/ 305.
[7] المنطف: الموضع ينطف منه السم، أي يقطر.
[8] الأبيات بلا نسبة في لسان العرب، الأول والثاني في (قطر)، والثالث في (سلع)، والخامس في (ضحا).
[9] السلع: الشق. اليم: الحية. أرعد: أصابته رعدة.
[10] الربقة: الحبل. قميصه: جلده المنسلخ.
[11] المكحال الأرمد: ما يكتحل به، وهو أشد سوادا من غيره.
[12] يفيت النفوس: يميتها.(4/410)
وقال آخر [1]: [من البسيط] لا ينبت العشب في واد تكون به ... ولا يجاورها وحش ولا شجر ... ربداء شابكة الأنياب ذابلة ... ينبو، من اليبس، عن يافوخها الحجر ... لو سرّحت بالنّدى ما مسّها بلل ... ولو تكنّفها الحاوون ما قدروا [2] ... قد حاوروها فما قام الرّقاة لها ... وخاتلوها فما نالوا ولا ظفروا ... تقصر الورل العادي بضربتها ... نكزا، ويهرب عنها الحيّة الذّكر [3]
جملة القول في الظليم
1164 [أعاجيب في الظليم]
فممّا فيه من الأعاجيب أنّه يغتذي الصّخر، ويبتلع الحجارة، ويعمد إلى المرو، والمرو من الحجارة التي توصف بالملاسة، ويبتلع الحصى، والحصى أصلب من الصّخر، ثمّ يميعه ويذيبه في قانصته، حتّى يجعله كالماء الجاري، ويقصد إليه وهو واثق باستمرائه وهضمه، وأنّه له غذاء وقوام.
وفي ذلك أعجوبتان: إحداهما التّغذّي بما لا يتغذّي به. والأخرى استمراؤه وهضمه للشيء الذي لو ألقي في شيء ثم طبخ أبدا ما انحلّ ولا لان، والحجارة هو المثل المضروب في الشدّة. قال الشاعر: [من البسيط] حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وقال آخر [4]: [من البسيط] ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم [5]
ووصف الله قلوب قوم بالشدّة والقسوة، فقال: {فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [6]، وقال في التشديد: {نََاراً وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ} [7]. لأنه حين حذر
[1] الأبيات لعمرو بن شأس في ديوانه 80، والحماسة البصرية 2/ 343.
[2] في ديوانه «أي ينزلق عنها الندى لملاستها».
[3] في ديوانه «النكز: طعن الحية الحيوان بأنفها».
[4] البيت لابن مقبل في ديوانه 273 (198)، وشرح شواهد المغني 2/ 661، وبلا نسبة في اللسان (أمت، نعم)، والتاج (نعم) والخزانة 11/ 304، والخصائص 1/ 318وشرح الأشموني 3/ 602، وشرح المفصل 1/ 87، ومغني اللبيب 1/ 270.
[5] في ديوانه «الحجر الملموم: المجموع بعضه إلى بعض، وهو الصلب المستدير».
[6] 74/ البقرة: 2.
[7] 6/ التحريم: 66.(4/411)
النّاس أعلمهم أنّه يلقي العصاة في نار تأكل الحجارة.
ومن الحجارة ما يتّخذه الصفّارون [1] علاة [2] دون الحديد لأنّه أصبر على دقّ عظام المطارق والفطّيسات [3].
فجوف النعامة يذيب هذا الجوهر الذي هذه صفته.
1165 [أكل النعام الحصى والحجارة]
وقال ذو الرّمّة [4]: [من البسيط] أذاك أم خاضب بالسّيّ مرتعه ... أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب [5] ... شخت الجزارة مثل البيت سائره ... من المسوح خدبّ شوقب خشب [6] ... كأنّ رجليه مسماكان من عشر ... صقبان لم يتقشّر عنهما النّجب [7] ... الهاه آء وتنّوم، وعقبته ... من لائح المرو، والمرعى له عقب [8]
وقال أبو النّجم [9]: [من الرجز] والمرو يلقيه إلى أمعائه ... في سرطم ماد على التوائه [10] ... يمور في الحلق على علبائه ... تمعّج الحيّة في غشائه [11] ... هاد ولو حار بحوصلائه [12] ومن زعم أنّ جوف الظّليم إنما يذيب الحجارة بقيظ الحرارة فقد أخطأ. ولكن
[1] الصفارون: جمع صفّار، وهو الذي يعمل الصفر أي النحاس الأصفر.
[2] العلاة: السندان، وهو ما يطرق عليه الحديد.
[3] الفطيسات: جمع فطيس، وهي المطرقة العظيمة.
[4] ديوان ذي الرمة 117114، ومنه شرح المفردات.
[5] في ديوانه «يريد: أذاك الثور شبه ناقتي في سرعتها أم ظليم، والخاضب: الظليم الذي أكل الربيع فاحمرت ساقاه. وأبو ثلاثين: الظليم، لأنه أبو ثلاثين فرخا. والسي: ما استوى من الأرض».
[6] «شخت الجزارة: دقيق القوائم والرأس. المسوح: الشعر. خدب: ضخم. شوقب: طويل. خشب:
غليظ جاف».
[7] «المسماكان: عودان يسمك بهما البيت، العشر: شجر. صقبان: طويلان. النجب: لحاء الشجر.
[8] «آء: نبت، وكذلك التنوم، لاح من المرو: ظهر من الحجارة البيض».
[9] ديوان أبي النجم 5655، وعيون الأخبار 2/ 86.
[10] المرو: الحجارة البيض، السرطم: البلعوم. ماد: مال واضطرب.
[11] ماريمور: اضطرب وتردد، العلباء: عصب العنق. التمعج: التلوي.
[12] هاد: مهتد.(4/412)
لابدّ من مقدار للحرارة ونحو غرائز أخر، وخاصّيّات أخر، ألا ترى أنّ القدور التي يوقد تحتها الأيّام واللّيالي، لا تذوب.
1166 [القول في الخاصّيّات والمقابلات والغرائز]
وسأدلك على أنّ القول في الخاصّيّات والمقابلات والغرائز حقّ. ألا ترى أنّ جوف الكلب والذّيب يذيبان العظام ولا يذيبان نوى التمر، ونوى التمر أرخى وألين وأضعف من العظام المصمتة. وما أكثر ما يهضم العظم. وقد يهضم العظم جوف الأسد وجوف الحيّة. إذا ازدردت بضع اللحم بالشّره والنّهم، وفيها بعض العظام.
والبراذين التي يحيل أجوافها القتّ والتّبن روثا، لا تستمري الشعير.
والإبل تقبض بأسنانها على أغصان أمّ غيلان، وله شوك كصياصي [1] البقر، والقضبان علكة [2] يابسة جرد، وصلاب متينة، فتستمرئها وتجعلها ثلطا [3]، ولا تقوى على هضم الشّعير المنقع، وليس ذلك إلّا بالخصائص والمقابلات.
وقد قدّر كلّ شيء لشيء. ولولا ذلك لما نفذ خرطوم البعوضة والجرجسة في جلد الفيل والجاموس، ولما رأيت الجاموس يهرب إلى الانغماس في الماء مرّة، ومرّة يتلطّخ بالطّين، ومرّة يجعله أهله على ربيث الدكان. ولو دفعوا إليك مسلّة شديدة المتن، لما أدخلتها في جلد الجاموس إلّا بعد التكلّف، وإلّا ببعض الاعتماد.
والذي سخّر جلد الجاموس حتّى انفرى وانصدع لطعنة البعوضة، وسخّر جلد الحمار لطعنة الذّباب، وسخّر الحجارة لجوف الظليم، والعظم لجوف الكلب هو الذي سخّر الصّخر الصّلب لأذناب الجراد، إذا أرادت أن تلقي بيضها فإنّها في تلك الحال متى عقدت ذنبها في ضاحي صخرة انصدعت لها. ولو كان انصداعها من جهة الأسر [4]، ومن قوّة الآلة، ومن الصّدم وقوّة الغمز، لا نصدعت لما هو في الحسّ أشدّ وأقوى، ولكنّه على جهة التّسخير، والمقابلات، والخصائص.
وكذلك عود الحلفاء، مع دقّته ورخاوته ولين انعطافه، إذا نبت في عمق الأرض، وتلقّاه الآجرّ والخزف الغليظ، ثقب ذلك، عند نباته وشبابه، وهو في ذلك عبقر نضير.
وزعم لي ناس من أهل الأردنّ، أنّهم وجدوا الحلفاء قد خرق جوف القار [5].
[1] صياصي البقر: قرونها.
[2] علكة: شديدة.
[3] الثلط: الروث.
[4] من جهة الأسر: من جهة القوة.
[5] القار: الزفت.(4/413)
وزعم لي أبو عتّاب الجرّار، أنّه سمع الأكرة يخبرون أنّهم وجدوه قد خرق فلسا بصريّا [1].
وليس ذلك لشدّة الغمز وحدّة الرأس، ولكنه يكون على قدر ملاقاة الطباع.
ويزعمون أنّ الصّاعقة تسقط في حانوت الصّيقل [2] فتذيب السّيوف بطبعها، وتدع الأغماد على شبيه بحالها، وتسقط على الرّجل ومعه الدراهم فتسبك الدّراهم، ولا يصيب الرجل أكثر من الموت.
والبحريّون عندنا بالبصرة والأبلّة التي تكون فيها الصّواعق. لا يدعون في صحون دورهم وأعالي سطوحهم، شيئا من الصّفر إلّا رفعوه لأنّها عندهم تنقضّ من أصل مخارجها، على مقدار من محاذاة الأرض، ومقابلة المكان. فإذا كان الصّفر لها ضاحيا، عدلت إليه عن سننها [3].
وما أنكر ما قالوا. وقد رأيتهم يستعملون ذلك.
وقد يسقط النّوى في تراب المتوضّإ، فإذا صهرج [4] نبت، فإذا انتهى إلى الصّاروج أمسك. وإن كان الصّاروج رقيقا فإن قيّر، وجعل غلظه بقدر طول الإبهام، نبت ذلك النّوى حتّى يخرق ذلك القار.
ولو رام رجل خرقه بمسمار أو سكّة، لما بلغ إرادته حتى يشقّ على نفسه.
والذي سخّر هذه الأمور القويّة في مذهب الرّأي وإحساس النّاس، هو الذي سخّر القمقم، والطّيجن [5]، والمرجل، والطّست [6]، لإبرة العقرب. فما أحصي عدد من أخبرني من الحوّائين، من أهل التّجارب، أنّها ربّما خرجت من جحرها في اللّيل لطلب الطّعم. ولها نشاط وعرام، فتضرب كلّ ما لقيت ولقيها: من حيوان، أو نبات، أو جماد.
وزعم لي خاقان بن صبيح واستشهد المثنّى بن بشر، وما كان يحتاج خبره إلى شاهد لصدقه أنّه سمع في داره نقرة وقعت على قمقم وقد كان سمع بهذا
[1] الفلس: من أجزاء الدرهم.
[2] الصيقل: من يصقل السيوف، أي يشحذها ويجلوها.
[3] السنن: الطريق.
[4] صهرج المتوضأ: عمل بالصاروج، وهو النورة أو أخلاطها.
[5] الطيجن: المقلى الذي يقلى فيه.
[6] الطست: الطشت.(4/414)
الحديث فنهض نحو الصّوت، فإذا هو بعقرب فتعاورها هو والمثني بنعالهما حتى قتلاها، ثمّ دعوا بماء فصبّاه في القمقم في عشيّتهما، وهو صحيح لا يسيل منه شيء.
فمن تعجّب من ذلك فليصرف بديّا تعجّبه إلى الشيء الذي تقذفه بذنبها العقرب في بدن الإنسان والحمير والبغال، فليفكّر في مقدار ذلك من القلة والكثرة.
فقد زعم لي ناس من أهل العسكر أنّهم وزنوا جرّارة [1] بعد أن ألسعوها فوجدوا وزنها على تحقيق الوزن على مقدار واحد، فإن كان الشيء المقذوف من شكل الشيء الحارّ، فلم قصّرت النّار عن مبلغ عمله؟! وإن كان من شكل الشيء البارد فلم قصّر الثلج عن مبلغ عمله؟! فقد وجب الآن أنّ السمّ ليس يقتل بالحرارة، ولا بالبرودة إذا كان باردا. ولو وجدنا فيما أردنا شيئا بلغ مبلغ الثّلج والنار لذكرناه.
فقد دلّ ما ذكرنا على أنّ جوف النّعامة ليس يذيب الصّخر الأملس بالحرارة، ولكنّه لا بدّ على كلّ حال من مقدار من الحرارة، مع خاصيّات أخر، ليست بذات أسماء، ولا تعرف إلّا بالوهم في الجملة.
1167 [علة قتل السم]
والسمّ يقتل بالكمّ والكيف والجنس، والكمّ المقدار، والكيف: الحدّ.
والجنس: عين الجوهر وذاته.
وتزعم الهند أنّ السمّ إنما يقتل بالغرابة، وأنّ كلّ شيء غريب خالط جوف حيوان قتله. وقد أبى ذلك ناس فقالوا: وما باله يكون غريبا إذا لاقى العصب واللّحم، وربّما كان عاملا فيهما جميعا. بل ليس يقتل إلّا بالجنس، وليس تحسّ النّفس إلّا بالجنس، ولو كان الذي يميت حسّهما إنّما يميته لأنّه غريب. جاز أيضا أن يكون الحسّاس إنما حسّ لأنه غريب، ولو كان هذا جائزا لقيل في كلّ شيء.
وقال ابن الجهم: لولا أنّ الذهب المائع، والفضّة المائعة، يجمدان إذا صارا في جوف الإنسان. وإذا جمدا لم يجاوزا مكانهما لكانا من القواتل بالغرابة.
وهذا القول دعوى في النّفس، والنّفس تضيق جدّا. وما قرأت للقدماء في النفس الأجلاد الكثيرة. وإنما يستدلّ ببقاء تلك الكتب على وجه الدّهر إلى يومنا هذا، ونسخ الرّجال لها أمّة بعد أمّة، وعمرا بعد عمر، على جهل أكثر النّاس بالكلام. والمتكلمون يريدون أن يعلموا كلّ شيء، ويأبى الله ذلك. فهذا باب من أعاجيب الظليم.
[1] الجرارة: العقارب صغيرة تجر أذنابها.(4/415)
باب آخر وهو عندي أعجب من الأول
وهو ابتلاعه الجمر حتى ينفذ إلى جوفه، فيكون جوفه هو العامل في إطفائه، ولا يكون الجمر هو العامل في إحراقه.
وأخبرني إبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النّظّام وكنّا لا نرتاب بحديثه إذا حكى عن سماع أو عيان أنّه شهد محمد بن عبد الله يلقي الحجر في النّار، فإذا عاد كالجمر قذف به قدّامه، فإذا هو يبتلعه كما يبتلع الجمر. كنت قلت له: إنّ الجمر سخيف سريع الانطفاء إذا لقي الرّطوبات، ومتى أطبق عيه شيء يحول بينه وبين النّسيم خمد، والحجر أشدّ إمساكا لما يتداخله من الحرارة، وأثقل ثقلا، وألزق لزوقا وأبطأ انطفاء، فلو أحميت الحجارة! فأحماها ثم قذف بها إليه، فابتلع الأولى فارتبت به، فلما ثنى وثلّث اشتدّ تعجبي له، فقلت له: لو أحميت أواقيّ الحديد، ما كان منها ربع رطل ونصف رطل! ففعل، فابتلعه، فقلت: هذا أعجب من الأوّل والثّاني، وقد بقيت علينا واحدة، وهو أن ننظر: أيستمري الحديد كما يستمري الحجارة؟ ولم يتركنا بعض السفهاء وأصحاب الخرق [1] أن نتعرّف ذلك على الأيّام.
وكنت عزمت على ذبحه وتفتيش جوفه وقانصته، فلعلّ الحديد يكون قد بقي هناك لا ذائبا ولا خارجا فعمد بعض ندمائه إلى سكّين فأحمي، ثم ألقاه إليه فابتلعه، فلم يجاوز أعلى حلقه حتى طلع طرف السّكين من موضع مذبحه، ثمّ خرّ ميّتا. فمنعنا بخرقه من استقصاء ما أردنا.
1168 [شبه النعامة بالبعير وبالطائر]
وفي النّعامة أنّها لا طائر ولا بعير، وفيها من جهة المنسم والوظيف [2] والخرمة [3]، والشقّ الذي في أنفه، ما للبعير. وفيها من الرّيش والجناحين والذّنب والمنقار، ما للطائر. وما كان فيها من شكل الطّائر أخرجها ونقلها إلى البيض، وما كان فيها من شكل البعير لم يخرجها ولم ينقلها إلى الولد. وسماها أهل
[1] الخرق: العمق.
[2] الوظيف: مستدق الذراع والرجل من الإبل.
[3] الخرمة: موضع الخرم من الأنف.(4/416)
فارس: «أشتر مرغ»، كأنّهم قالوا: هو طائر وبعير.
وقال يحيى بن نوفل [1]: [من الوافر] فأنت كساقط بين الحشايا ... تصير إلى الخبيث من المصير ... ومثل نعامة تدعى بعيرا ... تعاظمها إذا ما قيل طيري ... فإن قيل احملي قالت فإنّي ... من الطّير المربّة بالوكور [2]
ثمّ هجا خالدا فقال:
وكنت لدى المغيرة عير سوء ... تصول، من المخافة، للزّئير ... لأعلاج ثمانية وعلج ... كبير السّنّ ذي بصر ضرير ... هتفت بكلّ صوتك: أطعموني ... شرابا، ثمّ بلت على السّرير
وإنما قيل ذلك في النّعامة لأنّ النّاس يضربون بها المثل للرّجل إذا كان ممّن يعتلّ في كلّ شيء يكلفونه بعلة، وإن اختلف ذلك التكليف، وهو قولهم: «إنما أنت نعامة، إذا قيل لها احملي قالت: أنا طائر، وإذا قيل لها طيري قالت: أنا بعير»،
1169 [قصة أذني النعامة]
وتزعم الأعراب أنّ النّعامة ذهبت تطلب قرنين، فرجعت مقطوعة الأذنين فلذلك يسمّونه الظليم، ويصفونه بذلك [3].
وقد ذكر أبو العيال الهذليّ ذلك، فقال [4]: [من الكامل] وإخال أنّ أخاكم وعتابه ... إذ جاءكم بتعطّف وسكون ... يمسي إذا يمسي ببطن جائع ... صفر ووجه ساهم مدهون [5] ... فغدا يمثّ ولا يرى في بطنه ... مثقال حبّة خردل موزون [6]
[1] الأبيات ليحيى بن نوفل في البيان 2/ 267266، ومحاضرات الراغب 2/ 298، وعيون الأخبار 2/ 86، وبلا نسبة في اللسان والتاج (نعم)، والتهذيب 3/ 15.
[2] أربّ الطائر بوكره: لزمه.
[3] في فصل المقال 361، ومجمع الأمثال 1/ 406، 2/ 139 «ذهبت النعامة تطلب قرنين، فرجعت مصلمة الأذنين». وانظر الفقرة (1206).
[4] شرح أشعار الهذليين 422.
[5] الصفر: الخالي. الساهم: الضامر.
[6] يمث: يرى على جلده مثل الدهن.(4/417)
أو كالنّعامة إذ غدت من بيتها ... ليصاغ قرناها بغير أذين ... فاجتثّت الأذنان منها فانثنت ... صلماء ليست من ذوات قرون [1]
1170 [تقليد الغراب للعصفور]
ويقولون: ذهب الغراب يتعلم مشية العصفور، فلم يتعلّمها، ونسي مشيته، فلذلك صار يحجل ولا يقفز قفزان العصفور.
1171 [مشي طوائف من الحيوان]
والبرغوث والجرادة ذات قفز، ولا تمشي مشية لدّيك والصّقر والبازي، ولكن تمشي مشية المقيّد أو المحجّل خلقه.
قال أبو عمران الأعمى، في تحوّل قضاعة إلى قحطان عن نزار [2]: [من الطويل] كما استوحش الحيّ المقيم ففارقوا ال ... خليط فلا عزّ الّذين تحمّلوا ... كتارك يوما مشية من سجيّة ... لأخرى ففاتته فأصبح يحجل
1172 [عظام النعامة]
ومن أعاجيبها أنّها مع عظم عظامها، وشدّة عدوها، لا مخّ فيها.
وفي ذلك يقول الأعلم الهذلي [3]: [من الوافر] على حتّ البراية زمخريّ الس ... واعد ظلّ في شري طوال
يعني ظليما شبّه به عدو فرسه. والحتّ: السريع. والشّري: الحنظل. وبرايته:
قوّته على ما يبريه من السّير. والسّواعد: مجاري مخّه في العظم وكذلك مجاري عروق الضّرع، يقال لها السّواعد.
قال: ونظنّ إنّما قيل لها ذلك لأنّ بعضها يسعد بعضا، كأنّه من التّعاون أو من المواساة.
[1] الصلماء: المقطوعة الأذنين.
[2] البيتان لأبي عمران الأعجم في البرصان 140.
[3] البيت للأعلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين 320، واللسان (حتت، سعد، زمخر) والتاج (سعد، زمخر، بري، شرا)، والتنبيه والإيضاح 1/ 161، والمقاييس 1/ 233، 2/ 28، وللهذلي في جمهرة اللغة 1145، 2109، وبلا نسبة في الجمهرة 77، والتهذيب 2/ 73، 7/ 38، 669.(4/418)
قال: والزّمخريّ: الأجوف. ويقال: إنّ قصب عظم الظّليم لا مخّ له. وقال أبو النّجم [1]: [من الرجز] هاو يظلّ المخّ في هوائه
وواحد السّواعد: ساعد.
وقال صاحب المنطق: ليس المخّ إلّا في المجوّفة، مثل عظم الأسد.
وفي بعض عظامه مخّ يسير. وكذلك المخّ قليل في عظام الخنازير، وليس في بعضها منه شيء البتّة.
1173 [بيض النعام]
ومن أعاجيبها [2] أنّها مع عظم بيضها تكثّر عدد البيض، ثمّ تضع بيضها طولا، حتى لو مددت عليها خيطا لما وجدت لها منه خروجا عن الأخرى، تعطي كلّ بيضة من ذلك قسطه، ثمّ هي مع ذلك ربّما تركت بيضها وذهبت تلتمس الطّعام، فتجد بيض أخرى فتحضنه، وربّما حضنت هذه بيض تلك، وربّما ضاع البيض بينهما.
وأمّا عدد بيضها ورئالها فقد قال ذو الرّمّة [3]: [من البسيط] أذاك أم خاضب بالسّيّ مرتعه ... أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب
وفي وضعها له طولا وعرضا على خطّ وسطر، يقول [4]: [من الوافر] وما بيضات ذي لبد هجفّ ... سقين بزاجل حتّى روينا [5] ... وضعن فكلّهنّ على غرار ... هجان اللّون لم تقرع جنينا ... يبيت يحفهنّ بمرفقيه ... ويلحفهنّ هفهافا ثخينا [6]
[1] ديوان أبي النجم 57.
[2] ربيع الأبرار 5/ 451.
[3] ديوان ذي الرمة 114، وتقدم البيت في الفقرة (1165).
[4] الأبيات لعمرو بن أحمر في ديوانه 158، والأول في اللسان والتاج (هجف، زجل)، والجمهرة 122، وديوان الأدب 1/ 359، 3/ 52، وبلا نسبة في الجمهرة 471، والثاني في اللسان والتاج (قفف، هفف).
[5] هجف: طويل ضخم، الزاجل: ما يسيل من مؤخر الظليم على البيض حين يحضنه.
[6] لحفه: غطاه باللحاف. الهفهاف: أراد به جناحه.(4/419)
وقال الآخر [1]: [من البسيط] تهوي بها مكربات في مرافقها ... فتل صلاب مياسير معاجيل [2] ... يدا مهاة، ورجلا خاضب سنق ... كأنّه من جناه الشّري مخلول [3] ... هيق هجفّ وزفّانيّة مرطى ... زعراء، ريش جناحيها هراميل [4] ... كأنما منثنى أقماع ما هصرت ... من العفاء بليتيها ثآليل [5] ... تروّحا من سنام العرق فالتبطا ... إلى القنان التي فيها المداحيل [6] ... إذا استهلّا بشؤبوب فقد فعلت ... بما أصابا من الأرض الأفاعيل [7] ... فصادفا البيض قد أبدت مناكبها ... منها الرّئال، لها منها سرابيل [8] ... فنكّبا ينقفان البيض عن بشر ... كأنها ورق البسباس مغسول [9]
1174 [تشبيه القدر الضخمة بالنعامة]
والشّعراء يشبّهون القدر الضّخمة التي تكون بمنزل العظيم وأشباهه من
[1] الأبيات للشماخ في ديوانه 280277ومنه شرح المفردات.
[2] «تهوي: تسرع. مكربات: مشدودات. يعني أن أذرعها مشدودة في مرافقها شدا محكما. فتل:
جمع أفتل، أي مندمجة شديدة. صياب: لا تحيد عن القصد، مياسير: خفاف تلاين في مشيها.
معاجيل: تعجل بالسير.
[3] المهاة: بقر الوحش. الخاضب: الظليم. السنق: الشبعان كالمتخم. من جناه الشري: من تناوله الحنظل. مخلول: في فمه خلال، وأصله أن يلهج الفصيل الذي برضاع أمه، فيجعل عود في لسانه لئلا يرضع.
[4] «الهيق: الطويل. الهجف: الظليم المسن، أو هو الجافي الثقيل الضخم. الزفانية: الخفيف السريع. مرطى: سريعة. زعراء: قليلة الريش. هراميل: جمع هرمول، وهي قطعة من الشعر تبقى في نواحي الرأس وكذلك من الريش والوبر».
[5] الاهتصار والانهصار: سقوط الغصن على الأرض وأصله في الشجر. أقماع: جمع قمع، وأصله الذي على رأس الثمرة، شبّه آثار ما سقط من ريشها بأقماع الثمرة. العفاء: الريش الذي يكون على الزف الصغار، بليتيها: بصفحتي عنقها. الثآليل: البثرات تكون في الجسد.
[6] تروحا: سارا في الرواح. سنام العرق: أعلاه. والعرق: موضع على فراسخ من هيت، وجبل بين البصرة واليمامة. التبطا: من اللبط، وهو عدو مع وثب. مداحيل: مداخل تحت الجرف».
[7] «استهلا بشؤبوب: اشتد عدوهما. والمراد هنا: الدفعة من العدو».
[8] «المعنى أنهما وجدا البيض قد انفلق عن أعلى الرئال، وبقي أسفلها فيه فكان لها كالسرابيل».
[9] «نكبا: مالا. ينقفان: ينقبان ويقشران. البشر: جمع بشرة. البسباس: نبت طيب الرائحة».(4/420)
الأجواد، بالنّعامة. قال الرّمّاح، ابن ميّادة [1]: [من الطويل] وقلت لها لا تعجلي ... كذلك تقري الشوك ما لم تردد ... إلى جامع مثل النّعامة يلتقي ... عوازبه فوق
جامع: يعني القدر. وجعلها مثل النّعامة.
وقال ابن ميادة [2] يمدح الوليد بن يزيد: [من الطويل] نتاج العشار المنقيات إذا شتت ... روابدها مثل النّعام العواطف [3]
وقال الفرزدق [4]: [من الطويل] وقدر كحيزوم النّعامة أحمشت ... بأجذال خشب زال عنها هشيمها [5]
1175 [لعب الذئب بالنعام]
وضحك أبو كلدة حين أنشد شعر ابن النّطّاح، وهو قوله [6]: [من الكامل] والذّئب يلعب بالنّعام الشّارد
قال: وكيف يلعب بالنّعام، والذّئب لا يعرض لبيض النّعام وفراخه حين لا يكونان حاضرين، أو يكون أحدهما، لأنّهما متى ناهضاه ركضه الذّكر فرماه إلى الأنثى، وأعجلته الأنثى فركضته ركضة تلقيه إلى الذّكر فلا يزالان كذلك حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا، وإذا حاول ذلك منه أحدهما لم يقو عليه. قال: فكيف يقول: [من الكامل] والذّئب يلعب بالنّعام الشّارد
وهذه حاله مع النّعام؟!
[1] البيتان فيهما نقص وتحريف، وهما في ديوانه 120نقلا عن الحيوان.
[2] ديوان ابن ميادة 172.
[3] في ديوانه «العشار: جمع، والعشراء من الإبل: الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر، والعرب يسمونها عشارا بعدما تضع ما في بطونها، وقيل: العشراء من الإبل كالنفساء من النساء» المنقيات: جمع منقية وهي السمينة. الروابد: عنى بها القدور المقيمة على النار. والعواطف:
الحانيات على أولادها.
[4] البيت للفرزدق في البخلاء 225، وأساس البلاغة (حمش)، وأمالي المرتضى 4/ 29، وليس في ديوانه.
[5] الحيزوم: الصدر، أو ما استدار بالظهر والبطن. أحمشت: أشبع وقودها.
[6] ديوان بكر بن النطاح 241، نقلا عن الحيوان.(4/421)
وزعم أنّ نعامتين اعتورتا ذئبا فهزمتاه، وصعد شجرة، فجالدهما، فنقره أحدهما، فتناول الذّئب رأسه فقطعه، ثمّ نزل إلى الآخر فساوره فهزمه.
1176 [جبن الظليم]
والظّليم يوصف بالجبن، ويوصف بالنّفار والتّوحّش وقال سهم بن حنظلة [1]، في هجائه بني عامر: [من المتقارب] إذا ما رأيت بني عامر ... رأيت جفاء ونوكا كثيرا ... نعام تجرّ بأعناقها ... ويمنعها نوكها أن تطيرا
1177 [شدة ضرر النعامة]
والنّعامة تتخذها النّاس في الدّور، وضررها شديد، لأنّها ربّما رأت في أذن الجارية أو الصبيّة قرطا فيه حجر، أو حبّة لؤلؤ، فتخطفه لتأكله. فكم أذن قد خرقتها! وربّما رأت ذلك في لبّة [2] الصبيّ أو الصبيّة، فتضربه بمنقارها، فربّما خرقت ذلك المكان.
1178 [تشبيه الفرس بالظليم]
وممّا يشبّه به الفرس ممّا في الظليم، قول امرئ القيس بن حجر [3]: [من الطويل] وخدّ أسيل كالمسنّ وبركة ... كجؤجؤ هيق دفّه قد تموّرا [4]
وقال عقبة بن سابق: [من الخفيف] وله بركة كجؤجؤ هيق ... ولبان مضرّج بالخضاب [5]
وقال أبو داؤد الإيادي [6]: [من مجزوء الكامل] يمشي كمشي نعامت ... ين يتابعان أشقّ شاخص [7]
[1] البيتان في عيون الأخبار 2/ 87، والحماسة البصرية 2/ 287.
[2] اللّبة: موضع القلادة من الصدر.
[3] ديوان امرئ القيس 267.
[4] البركة والجؤجؤ: الصدر. الهيق: ذكر النعام. الدف: صفحة الجنب. تمور: سقط منه النسيل وهو الريش.
[5] البركة والجؤجؤ: الصدر. الهيق: ذكر النعام. اللبان: وسط الصدر. مضرج بالخضاب: ملطخ بالدم.
[6] ديوان أبي دؤاد 322، واللسان والتاج (مصص)، والمعاني الكبير 3، 40، والجمهرة 1331.
[7] في ديوانه: «إذا مشى اضطرب فارتفعت عجزه مرة وعنقه مرة أخرى، وكذلك مشي النعامتين إذا تتابعتا تقاصر واحدة وتطاول واحدة، فإذا مشت المتقدمة ارتفع الصدر، وإذا مشت المتأخرة ارتفع العجز. الأشق: الطويل.(4/422)
وقال آخر: [من الوافر] كأنّ حماته كردوس فحل ... مقلّصة على ساقي ظليم [1]
وقال أبو داؤد الإياديّ [2]: [من الكامل] كالسّيد ما استقبلته وإذا ... ولّى تقول ململم ضرب [3] ... لأم إذا استقبلته ومشى ... متتابعا ما خانه عقب [4] ... يمشي كمشي نعامة تبعت ... أخرى إذا ما راعها خطب
القول فيما اشتقّ له من البيض اسم
قال العدبّس الكنانيّ: باضت البهمى [5]: أي سقطت نصالها [6] وباض الصّيف، وباض القيظ: اشتدّ الحرّ وخرج كلّ ما فيه من ذلك.
وقال الأسديّ: [من الطويل] فجئنا وقد باض الكرى في عيوننا ... فتى من عيوب المقرفين مسلّما [7]
وقال أميّة بن أبي الصّلت [8]: [من الخفيف] ركبت بيضة البيات عليهم ... لم يحسّوا منها سواها نذيرا [9]
وقال الرّاعي [10]، يهجو ابن الرّقاع: [من البسيط] لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا ابن الرّقاع، ولكن لست من أحد ... تأبى قضاعة لم تقبل لكم نسبا ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد
[1] الحماة: عضلة الساق. الكردوس: واحد الكراديس وتعني رؤوس العظام.
[2] ديوان أبي دؤاد 284ومنه شرح المفردات التالية.
[3] في ديوانه «ململم: مجتمع الخلق. ضرب: خفيف اللحم».
[4] «اللأم: الشديد من الخيل وغيرها. عقب: جري بعد جري».
[5] البهمى: نبت تجد به الغنم وجدا شديدا ما دام أخضر، فإذا يبس هرّ شوكه وامتنع، والبهمى:
ترتفع نحو الشبر ونباتها ألطف من نبات البر. انظر اللسان (بهم).
[6] النصال: سنابل البهمى.
[7] المقرف: الهجين الذي أمه عربية وأبوه غير عربي.
[8] ديوان أمية بن أبي الصلت 404.
[9] في ديوانه «البيضة، هنا: الشدة. والبيات الاسم من قولهم: بيّت القوم، إذا أوقع بهم ليلا وأخذهم بغتة».
[10] ديوان الراعي 203، وثمار القلوب 392 (720)، واللسان والتاج (بيض)، والعمدة 2/ 189، والأول في اللسان والتاج (رقع)، والثاني في التهذيب 3/ 124، 12/ 85، واللسان والتاج (بلد)، وبلا نسبة في اللسان والتاج (دعا).(4/423)
وفي المديح قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «أنا بيضة البلد»، [1] ومنه «بيضة الإسلام» [2]. وبيضة القبّة: أعلاها، وكذلك الصّومعة، والبيض: قلانس الحديد.
وقال أبو حيّة النّميريّ [3]: [من الوافر] وصدّ الغانيات البيض عنّي ... وما إن كان ذلك عن تقالي [4] ... رأين الشّيب باض على لداتي ... وأفسد ما عليّ من الجمال [5]
وبيض الجرح والخراج والحبن [6]: الوعاء الذي يجمع فيه الصّديد، إذا خرج برئ وصلح.
وقد يسمّون ما في بطون إناث السّمك بيضا، وما في بطون الجراد بيضا، وإن كانوا لا يرون قشرا يشتمل عليه، ولا قيضا [7] يكون لما فيه حضنا.
والخرشاء: قشرة البيض إذا خرج ما فيه. وسلخ الحيّة يقال له الخرشاء.
1179 [شعر في التشبيه بالبيض]
وقال الأعشى [8] في تشبيه اللّفاء الحسناء [9] بالبيضة: [من السريع] أو بيضة في الدّعص مكنونة ... أو درّة سيقت إلى تاجر [10]
وقال في بيض الحديد [11]: [من الطويل] كأنّ نعام الدّوّ باض عليهم ... إذا شام يوما للصّريخ المندّد [12]
[1] ثمار القلوب 392 (720)، والعمدة 2/ 189، وهو من الأمثال في مجمع الأمثال 1/ 97، وجمهرة الأمثال 1/ 231، وفصل المقال 417، 438، 487.
[2] في ثمار القلوب (722): بيضة الإسلام: هي مجتمعه وحوزته.
[3] ديوان أبي حية النميري 168.
[4] التقالي: المباغضة.
[5] لداتي: جمع لدة، وهو من يولد معك.
[6] الحبن. الدمل.
[7] القيض: القشرة العليا اليابسة على البيضة.
[8] ديوان الأعشى 189، وبلا نسبة في اللسان والتاج (حرب)، والتهذيب 5/ 23، والجمهرة 1256.
[9] اللفاء: الضخمة الفخذين في اكتناز.
[10] مكنونة: مخبأة. الدعص: الرمل المستدير.
[11] ديوان الأعشى 289.
[12] الدو: الفلاة: شام: نظر، أو: سلّ سيفه. الصريخ: المستغيث.(4/424)
وقال الأعشى [1]: [من الطويل] أتتنا من البطحاء يبرق بيضها ... وقد رفعت نيرانها فاستقلّت
وقال زيد الخيل [2]: [من الطويل] كأنّ نعام الدّوّباض عليهم ... فأحداقهم تحت الحديد خوازر [3]
قال: ويقال تقيّضت البيضة، والإناء، والقارورة، تقيّضا: إذا انكسرت فلقا.
فإذا هي لم تتفلّق فلقا وهي متلازقة، فهي منقاضة انقياضا. وقيض البيضة: قشرتها اليابسة. وغرقئها: القشرة الرّقيقة التي بين اللّحم وبين الصّميم. قال: والصّميم:
الجلدة.
قال: ويقال غرقأت البيضة: إذا خرجت وليس لها قشر ظاهر غير الغرقئة.
قال الرّدّاد: غرقأت الدّجاجة بيضها، فالبيضة مغرقأة. والخرشاء: القشرة الغليظة من البيضة، بعد أن تثقب فيخرج ما فيها من البلل وجماعها الخراشيّ، غير مهموز.
قال: وقال ردّاد: خرشاء الحيّة: سلخها حين تنسلخ.
قال: وتغدّى أعرابيّ عند بعض الملوك، فدبّت على حلقه قملة، فتناولها فقصعها بإبهامه وسبّابته، ثمّ قتلها، فقالوا له: ويلك! ما صنعت؟! فقال: بأبي أنتم وأمي، ما بقي إلا خرشاؤها! وقال المرقّش [4]: [من السريع] إن تغضبوا نغضب لذاكم كما ... ينسلّ من خرشائه الأرقم [5]
وقال دريد بن الصّمّة في بيض الحديد [6]:
قال: ويقال في الحافر نزا ينزو. وأمّا الظّليم فيقال: قعا يقعو، مثل البعير.
[1] ديوان الأعشى 309، وأمالي ابن الشجري 2/ 165، وحماسة ابن الشجري 41.
[2] البيت لزيد الخيل في ديوانه 211، ولمعقر بن أوس بن حمار في الأغاني 11/ 161، ولمعقر بن حمار في قصائد جاهلية نادرة 111، وصدر البيت بلا نسبة في المقاييس 3/ 112.
[3] الخازر: من ينظر بلحاظ عينيه.
[4] المفضليات 240.
[5] الأرقم من الحيات: الذي فيه سواد وبياض.
[6] سقط البيت من الأصل، ولم يرد في ديوان دريد بن الصمة شعر قاله في بيضة الحديد.(4/425)
يقال: قاع يقوع قوعا وقياعا، وقعا يقعو قعوا. فهذا ما يسوّون فيه بينه وبين البعير.
ويقال: خفّ البعير، والجمع أخفاف. ومنسم البعير، والجمع مناسم وكذلك يقال للنّعامة.
وقال الرّاعي [1]: [من الطويل] ورجل كرجل الأخدريّ يشيلها ... وظيف على خفّ النّعامة أروح [2]
وقال جران العود [3]: [من الطويل] لها مثل أظفار العقاب ومنسم ... أزجّ كظنبوب النّعامة أروح [4]
قال: والزّاجل: ماء الظّليم وهو كالكراض من ماء الفحل. وأنشد لابن أحمر [5]: [من الوافر] وما بيضات ذي لبد هجفّ ... سقين بزاجل حتّى روينا
وقال الطّرمّاح [6]: [من الخفيف] سوف تدنيك من لميس سبندا ... ة أمارت بالبول ماء الكراض [7]
وربّما استعاروا المناسم. قال الشاعر: [من الرجز] توعدني بالسّجن والآدات ... إذا عدت تأظبت أدات ... تربط بالحبل أكيرعات
قال: ويقال لولد النّعام: الرّأل، والجمع رئال ورئلان وحفّان. وحفّانة
[1] ديوان الراعي 44.
[2] الأخدري: الحمار الوحشي. يشيل: يرفع.
[3] ديوان جران العود 6.
[4] في ديوانه «يقول: أظفارها كمخالب العقاب. والمنسم طرف خف النعامة. والأزج: المقوس.
الظنبوب: أنف عظم السوق».
[5] ديوان عمرو بن أحمر 158، وتقدم في الفقرة (1173).
[6] ديوان الطرماح 266 (172)، واللسان (نضج، مور، يعر، كرض)، والتاج (مور، يعر، كرض)، والتهذيب 3/ 182، 10/ 36، 557، 15/ 298، والجمهرة 751، والعين 5/ 301، والمقاييس 5/ 170، وبلا نسبة في المجمل 4/ 222، 564.
[7] في ديوانه «سبنداة: الناقة الجريئة. أمارت: أسالت وأجالت. والكراض: ماء الفحل. وأمارته: أي أسالته مع البول، فلم تعقد عليه، ولم تحمل فتضعف، وعدم الحمل أقوى للناقة».(4/426)
للواحدة، والجمع حفّان وحسكل. ويقال: هذا خيط نعام وخيطان. وقال الأسود بن يعفر: [من الكامل] وكأنّ مرجعهم مناقف حنظل ... لعب الرّئال بها وخيط نعام
ويقال: قطيع من نعام، ورعلة من نعام.
وقال الأصمعيّ: الرّعلة: القطعة من النّعام. والسّرب من الظّباء والقطا. والإجل من الظّلف.
وقال طفيل الغنويّ [1] في بيضة الحيّ وما أشبه ذلك: [من الطويل] ضوابع تنوي بيضة الحيّ بعدما ... أذاعت بريعان السّوام المعزّب [2]
قال: ويقال: للظليم إذا رعى في هذا النّبات ساعة وفي هذا ساعة قد عقّب يعقّب تعقيبا. وأنشدني لذي الرّمّة [3]: [من البسيط] ألهاه آء وتنّوم وعقبته ... من لائح المرو والمرعى له عقب
قال: ويقال للرجل، إذا كان صغير الأذنين لاصقتين بالرّأس: أصمع وامرأة صمعاء. ويقال: خرج السهم متصمّعا: إذا ابتلّت قذذه من الدّم وانضمّت. وقال أبو ذؤيب [4]: [من الكامل] سهما فخرّ وريشه متصمّع
ويقال: أتانا بثريدة مصمّعة: إذا دقّقها وحدّد رأسها. وصومعة الرّاهب منه لأنها دقيقة الرأس. وفلان أصمع القلب: إذا كان ذكيا حديدا ماضيا. وقال طرفة [5]:
[من الطويل] لعمري لقد مرّت عواطس جمّة ... ومرّ قبيل الصّبح ظبي مصمّع [6]
[1] ديوان طفيل الغنوي 29، والعين 2/ 25.
[2] في ديوانه «الضبع: أن تهوي بأيديها إلى أعضادها، بيضة الحي: معظمهم. أذاعت: فرّقت. ريعان كل شيء: أوله. السوام: ما يسرح من إبل أو بقر أو غنم. المعزب: الذي بعد عن أهله لا يروح عليهم».
[3] ديوان ذي الرمة 114.
[4] صدر البيت (فرمى فأنفذ من نحوص عائط)، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 22، واللسان والتاج (نجد، صمع)، والعين 1/ 317، والمجمل 3/ 242، والتهذيب 2/ 60، 10/ 665، وللهذلي في الجمهرة 887، وبلا نسبة في المقاييس 3/ 311، والمخصص 6/ 94.
[5] البيت في ملحق ديوان طرفة 156 «طبعة مكس سلغسون»، واللسان والتاج (عطس، سمع) والتهذيب 2/ 65، وبلا نسبة في المخصص 8/ 26.
[6] العواطس: جمع عاطس، وهو ما استقبلك من الظباء.(4/427)
أراد: ماضيا.
وقال الشاعر في بيضة البلد: [من البسيط] أقبلت توضع بكرا لا خطام لها ... حسبت رهطك عندي بيضة البلد
ويشبّه عظام جماجم الرؤوس ببيض النّعام. وقال الأعرج القينيّ: [من الوافر] بكينا بالرّماح غداة طرق ... على قتلى بناصفة كرام [1] ... جماجم غودرت بحمام عرق ... كأنّ فراشها بيض النّعام [2]
وقال مقاتل بن طلبة [3]: [من الطويل] رأيت سحيما فاقد الله بينها ... تنيك بأيديها وتأبى أيورها
وقال السّحيمي يردّ عليه: [من الطويل] مقاتل، بشّرها ببيض نعامة ... وإن لم تبشّرها فأنت أميرها
وقال أبو الشّيص الخزاعي في بيضة الخدر: [من البسيط] وأبرز الخدر من ثنييه بيضته ... وأعجل الرّوع نصل السّيف يخترط [4] ... فثمّ تفديك منّا كلّ غانية ... والشّيخ يفديك والولدان والشّمط [5]
وقال جحش بن نصيب: [من الطويل] كأنّ فلاق الهام تحت سيوفنا ... خذاريف بيض عجّل النّقف طائره [6]
وقال مهلهل [7] في بيضة الخدر: [من الكامل] وتجول بيضات الخدور حواسرا ... يمسحن فضل ذوائب الأيتام [8]
[1] ناصفة: موضع في العقيق بالمدينة، ويوم ناصفة من أيام العرب. معجم البلدان 5/ 252.
[2] الفراش: كل عظم رقيق.
[3] البيت في عيون الأخبار 4/ 96.
[4] الثنيان: مثنى ثني، والجمع أثناء، وهي المحاني، والمعاطف. يخترط: يستل من غمده.
[5] الشمط: جمع أشمط، وشمطاء، وهو الذي اختلط بياض رأسه بسواده.
[6] الفلاق: جمع فلاقة، وهي القطعة، والخذاريف: جمع خذروف: وهي كل شيء مبعثر من شيء.
نقف الطائر البيضة: ثقبها.
[7] البيت في الأصمعيات 156.
[8] حواسر: كاشفات رؤوسهن.(4/428)
وهو وما قبله يدلان على أنهم لا يشبّهون ببيض النّعام إلّا الأبكار.
قال الشاعر [1]: [ممن الطويل] وبيض أفقنا بالضّحى من متونها ... سماوة بيض كالخباء المقوّض [2] ... هجوم عليها نفسه، غير أنّه ... متى يرم في عينيه بالشّخص ينهض [3]
يعني بالبيض بيض النّعام. وسماوة الشيء: شخصه. لأنّ الظّليم لما رآهم فزع ونهض. وهذا البيت أيضا يدلّ على أنّه فروقة [4].
وقال ذو الرّمّة [5] في بيض النّعام: [من الطويل] تراه إذا هبّ الصّبا درجت به ... غرابيب من بيض هجائن دردق [6]
قال: والصّبا والجنوب تهبّان في أيام يبس البقل، وهو الوقت الذي يثقب النّعام فيه البيض. يقول: درجت به رئلان سود غرابيب، وهي من بيض هجائن: أي بيض.
والدّردق: الصّغار، وهو من صغر الرّئلان.
قال طفيل بن عوف الغنويّ [7]، وذكر كيف يأخذون بيض النّعام: [من الطويل] عوازب لم تسمع نبوح مقامة ... ولم تر نارا تمّ حول مجرّم [8]
[1] ديوان ذي الرمة 18321831، والخزانة 8/ 157، والثاني بلا نسبة في اللسان والتاج (هجم)، والكتاب 1/ 110.
[2] في ديوانه «سماوة جون»، وفيه: «السماوة: شخصه، أي: فزعناه فقام عن بيضه. والخباء: البيت.
المقوض: الذي هلك وقلعت أوتاده».
[3] في ديوانه: «بالشبح ينهض»، وفيه: «هجوم عليها: يعني الظليم، يرمي نفسه على بيضه، الشبح:
الشخص، ينهض: إذا رأى شخصا فرّ وهرب».
[4] فروقة: كثير الفزع.
[5] ديوان ذي الرمة 480، والمعاني الكبير 354، والأزمنة والأمكنة 2/ 81.
[6] في ديوانه «إنما اختار الصبا لأنها تهب في الشتاء، والنعام لا يبيض إلا في الشتاء. فلذلك درجت في هذا الوقت. غرابيب: سود، الواحد: غربيب، يعني الفراخ. من بيض: يقول: هذه الفراخ خرجت من بيض بيض. والهجائن: البيض. دردق: صغار، لا واحد لها».
[7] ديوان طفيل الغنوي 7877، وأمالي القالي 2/ 83، والأول في أساس البلاغة (تمم، نبح)، وهما لابن مقبل في ديوانه 276.
[8] في ديوانه «عوازب: لا تروح إلى أهلها بالقفر. النبوح: أصوات كلاب المقيمين. تم حول: يقال:
مضى له حول مجرم، إذا كان تماما».(4/429)
سوى نار بيض أو غزال معفّر ... أغنّ من الخنس المناخر توءم [1]
هذه إبل راع معزب صاحب بواد وبدوة لا يأتي المحاضر والمياه حيث تكون النّيران. وهو صاحب لبن وليس صاحب بقل، فإبله لا ترى نارا سوى نار بيض أو غزال.
1180 [نار الصّيد]
وهذه النّار هي النّار التي يصطاد بها الظّباء والرّئلان وبيض النّعام [2] لأنّ هذه كلّها تعشى إذا رأت نارا، ويحدث لها فكرة فيها ونظر. والصبيّ الصغير كذلك.
وأوّل ما يعابث الرّضيع، أوّل ما يناغي، المصباح.
وقد يعتري مثل ذلك الأسد، ويعتري الضّفدع لأنّ الضّفدع ينقّ، فإذا رأى نارا سكت. وهذه الأجناس قد تغترّ بالنّار، ويحتال لها بها.
1181 [تشبيه الغيوم بالنّعام]
وتوصف الغيوم المتراكمة بأنّ عليها نعاما. قال الشّاعر [3]: [من المتقارب] كأنّ الرّباب دوين السّحا ... ب نعام تعلّق بالأرجل [4]
وقال آخر [5]: [من الطويل] خليليّ لا تستسلما وادعوا الّذي ... له كلّ أمر أن يصوب ربيع ... حيا لبلاد أبعد المحل أهلها ... وفي العظم شيء في شظاه صدوع [6] ... بمستنضد غرّ النّشاص كأنها ... جبال عليهنّ النّسور وقوع [7]
1182 [استطراد لغوي]
وقال آخر [8]: [من الكامل] وضع النّعامات الرّجال بريدها ... من بين مخفوض وبين مظلّل [9]
[1] في ديوانه «يقول: سوى نار بيض نعام أو غزال يصيدونه. والأخنس: القصير الأنف. توءم: اثنان في بطن.
[2] في ثمار القلوب 462 (830): نار الصيد ويطلب بها أيضا بيض النعام في أفاحيصها ومكامنها.
[3] البيت لعبد الرحمن بن حسان أو لعروة بن جلهمة المازني في اللسان والتاج (ربب)، والتنبيه والإيضاح 1/ 80، ولحسان بن ثابت في زهر الآداب 240.
[4] الرباب: السحاب المتعلق.
[5] الأبيات بلا نسبة في ربيع الأبرار 1/ 139.
[6] الحيا: الخصب. المحل: الجدب. الشظي: عظيم لاصق بالركبة.
[7] المستنضد: السحاب المتراكم، والنشاص: السحاب المرتفع بعضه فوق بعض.
[8] البيت لأبي كبير الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 97، وبلا نسبة في المخصص 5/ 135.
[9] الرّيد: حرف الجبل الناتئ.(4/430)
والنعائم في السماء [1]، والنعائم والنّعامتان من آلات البئر. والنعامة: بيت الصائد.
وقال في مثل ذلك عروة بن مرّة الهذليّ [2]: [من الطويل] وذات ريد كزنق الفأس مشرفة ... طريقها سرب بالنّاس مجبوب [3] ... لم يبق من عرشها إلّا نعامتها ... حالان منهزم منها ومنصوب [4]
1183 [مسكن الأروى والنعام]
وفي المثل: «ما يجمع بين الأروى والنّعام» [5] لأنّ الأروى تسكن الجبال ولا تسهل [6]، والنّعام تسكن السهل ولا ترقى في الجبال. ولذلك قال الشاعر [7]: [من المتقارب] وخيل تكردس بالدّارعين ... كمشي الوعول على الظّاهره [8]
وقال كثيّر [9]: [من الكامل] يهدي مطايا كالحنيّ ضوامرا ... بنياط أغبر شاخص الأميال [10]
[1] هي منزلة من منازل القمر بها ثمانية كواكب نيّرة، أربعة منها في المجرة تسمى الواردة وأربعة خارجة منها تسمى الصادرة، وشبهت بالخشبات التي تكون على البئر يعلق بها البكرة والدلاء.
انظر العمدة 2/ 55، وصبح الأعشى 2/ 179.
[2] البيتان لأبي خراش الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 160159، والبيت الأول في اللسان (سرب)، والتاج (دعب، سرب).
[3] في ديوان الهذليين: «الريد: حرف ناتئ من الجبل. كذلق الفأس: كحدّ الفأس، طريقها سرب: شائع».
[4] في ديوان الهذليين «قوله: من عرشها: هو أن يوضع فوق هذه الدعامة ثمام أو شيء يستظل تحته، فيقول: لم يبق من عرش هذه إلا جذلان: عودان، واحد قائم، والآخر ساقط».
[5] مجمع الأمثال 2/ 271، والمستقصى 2/ 335، وأمثال ابن سلام 279، وجمهرة الأمثال 2/ 169.
[6] تسهل: تنزل في السهل من الأرض.
[7] البيت للمهلهل في التهذيب 6/ 250، 10/ 46، واللسان والتاج (ظهر)، وله أو لعبيد في اللسان والتاج (كدس)، وبلا نسبة في المقاييس 5/ 165، والمخصص 10/ 69، والبرصان 143.
[8] الدارع: لابس الدرع الحديدي. الظاهر: أعلى الجبل.
[9] ديوان كثير 287.
[10] الحنيّ: جمع حنية، وهي القوس، الأغبر: الطريق ذو الغبرة. شاخص: قائم.(4/431)
فكأنّه إذ يغتدي متسنّما ... وهدا فوهدا ناعق برئال [1]
1184 [تشبيه النعام بالسحاب]
وقال الأعشى [2]، في تشبيه النّعام بما يتدلّى من السّحاب من قطع الرّباب:
[من مجزوء الكامل] يا هل ترى برقا على ال ... جبلين يعجبني انجيابه [3] ... من ساقط الأكناف ذي ... زجل أربّ به سحابه [4] ... مثل النّعام معلّقا ... لمّا زقا ودنا ربابه [5]
وقال وشبّه ناقته بالظّليم [6]: [من الكامل] وإذا أطاف لبابه بسديسه ... ومسافرا ولجا به وتزيّدا ... شبّهته هقلا يباري هقلة ... ربداء في خيط نقانق أربدا [7]
وذكر زهير [8] الظّليم وأولاده، حتّى شبّه ناقته بالظّليم: [من الطويل] كأنّي وردفي والقراب ونمرقي ... على خاضب السّاقين أزعر نقنق [9] ... تراخى به حبّ الضّحاء وقد رأى ... سماوة قشراء الوظيفين عوهق [10] ... تحنّ إلى ميل الحبابير جثّم ... لدى سكن من بيضها المتفلّق [11] ... تحطّم عنها عن خراطم أسيح ... وعن حدق كالسّبج لم يتفلّق
[1] الوهد: الأرض المنخفضة. ناعق: من نعق الراعي بالغنم: دعاها وصاح بها.
[2] ديوان الأعشى 339.
[3] انجيابه: انكشافه.
[4] الزجل: الصوت. أرب به: أقام.
[5] زقا: صاح.
[6] ديوان الأعشى 279.
[7] الهقل: الفتي من النعام. الصعل: الطويل من النعام. الربداء، الرمادية اللون. الخيط: جماعة النعام. النقانق: الخفيف من النعام.
[8] ديوان زهير 178177، والشرح التالي منه.
[9] «ردفه: عيبه أو حقيبة، النمرق: الوسادة. خاضب: قد خضب البقل ساقيه. أزعر: قليل الريش.
نقنق: ينقنق في صوته، ويقال هو اسم الظليم».
[10] تراخى: تطاول. تباعد به حبّه لأن يتضحّى، والضحاء للإبل: مثل الغداء للناس. وسماوة الشيء: أعلى شخصه. وقشراء: نعامة متقشرة الساق لا ريش عليها. والوظيف: عظم الساق. وعوهق: طويلة العنق.
[11] «تحن هذه النعامة. الحبابير: فراخها. ويقال: هي جمع حبارى. جثم: جاثمة أقامت في موضعها. سكن: حيث تسكن إليه، وهو الموضع الذي باضت فيه».(4/432)
السّبج: الخرز
1185 [النعامة فرس خالد بن نضلة]
وكان اسم فرس خالد بن نضلة: «النّعامة». قال: [من الطويل] تدارك إرخاء النّعامة حنثرا ... ودودان أدّته إليّ مكبّلا
1186 [تشبيه مشي الشيخ بهدجان الرئال]
وقال عروة بن الورد [1]: [من الطويل] أليس ورائي أن أدبّ على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي ... رهينة قعر البيت كلّ عشيّة ... يطيف بي الولدان أهدج كالرّأل
شبّه هدجان الشّيخ الضّعيف في مشيته بهدجان الرّأل.
وقال أبو الزّحف [2]: [من الرجز] أشكو إليك وجعا بركبتي ... وهدجانا لم يكن في مشيتي ... كهدجان الرّأل حول الهيقت [3]
وقال آخر، ولست أدري أيّهما حمل على صاحبه: [من الرجز] أشكو إليك وجعا بمرفقي ... وهدجانا لم يكن في خلقي ... كهدجان الرّأل حول النّقنق
ولم يفضحه إلّا قوله:
أشكو إليك وجعا بمرفقي
لأنّ الأوّل حكى أنّ وجعه في المكان الذي يصيب الشّيوخ، ووجع المرفق مثل وجع الأذن، وضربان الضّرس ليس من أوجاع الكبر في شيء.
[1] ديوان عروة بن الورد 54.
[2] الرجز لأبي الزحف في الشعر والشعراء 433 (ليدن)، ولأبي علقمة التيمي في نوادر أبي زيد 255، وبلا نسبة في اللسان وأساس البلاغة والتاج (هدج)، والجمهرة 227، 452، وأمالي القالي 1/ 189.
[3] الهيقة: النعامة الطويلة.(4/433)
1187 [شعر فيه ذكر النعامة]
وقال ابن ميّادة [1]، وذكر بني نعامة من بني أسد وقد كان قطريّ بن الفجاءة يكنى أبا نعامة: [من الطويل] فهل يمنعنّي أن أسير ببلدة ... نعامة، مفتاح المخازي وبابها
1188 [جعل البيضة الفاسدة مثلا]
وهجا دريد بن الصّمّة رجلا فجعل البيضة الفاسدة مثلا له، ثمّ ألحق النّسر بأحرار الطّير وكرامها وما رأيتهم يعرفون ذلك لنسر فقال [2]: [من الطويل] فإنّي على رغم العذول لنازل ... بحيث التقى عيط وبيض بني بدر ... أيا حكم السّوءات لا تهج واضطجع ... فهل أنت إن هاجيت إلّا من الخضر ... وهل أنت إلّا بيضة مات فرخها ... ثوت في سلوخ الطير في بلد قفر ... حواها بغاث: شرّ طير علمتها ... وسلّاء ليست من عقاب ولا نسر
1189 [استطراد لغوي]
ويقال للأنثى من ولد النّعامة: قلوص على التشبيه بالنّعام من الإبل. وهذا الجمع إلى ما جعلوه له من اسم البعير، وإلى ما جعلوا له من الخفّ والمنسم، والخرمة، وغير ذلك.
قال عنترة [3]: [من الكامل] تأوي له قلص النّعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم [4]
[1] ديوان ابن ميادة 79.
[2] الأبيات لدريد بن الصمة في ديوانه 71، ولابن ميادة في ديوانه 281، ورأى محقق ديوان ابن ميادة أن الأبيات لابن ميادة وليست لدريد بن الصمة وعلل ذلك اعتمادا على ما جاء في البيت الثاني حيث ورد اسم «الحكم الخضري» الذي كان معاصرا لابن ميادة وكانت بينهما علاقة عدائية مشهورة.
[3] البيت لعنترة من معلقته في ديوانه 20، واللسان والتاج (قلص، حزق، طمم)، والتهذيب 13/ 207، والمجمل 2/ 57، والجمهرة 213، 894، والمقاييس 2/ 53، وبلا نسبة في المخصص 2/ 120، 122، وشرح المفصل 8/ 153.
[4] في ديوانه «الحزق: الجماعات. الطمطم: الذي لا يفصح».(4/434)
وقال شماخ بن ضرار [1]: [من الطويل] قلوص نعام زفّها قد تموّرا [2]
1190 [وصف الرئال]
ووصف لبيد الرّئال فقال [3]: [من الوافر] فأضحت قد خلت إلّا عرارا ... وعزفا، بعد أحياء حلال [4] ... وخيطا من خواضب مزلفات ... كأنّ رئالها ورق الإفال [5]
وقال حسان بن ثابت، رضي الله عنه [6]: [من الوافر] لعمرك إنّ إلّك في قريش ... كإلّ السّقب من رأل النّعام [7]
وقد عاب عليه هذا البيت ناس، وظنّوا أنّه أراد التبعيد، فذكر شيئين قد يتشابهان من وجوه. وحسان لم يرد هذا، وإنما أراد ضعف نسبه في قريش، وأنّه حين وجد أدنى نسب انتحل ذلك النّسب.
1191 [النعامة، فرس الحارث بن عباد]
وقال الفرزدق وذكر الفرس الذي يقال له: «النّعامة» وهو فرس الحارث بن
[1] صدر البيت: (وقد أنعلتها الشمس نعلا كأنه)، وهو في ديوان الشماخ 138، واللسان والتاج (قلص)، والمخصص 8/ 56، 158، وبلا نسبة في الجمهرة 894.
[2] في ديوانه: «القلوص: الأنثى الشابة من الرئال، الزف: صغير الريش. تمور: سقط».
[3] ديوان لبيد 7372، والأول في اللسان والتاج (خيط)، والتهذيب 7/ 503، والعين 4/ 239، والثاني في اللسان والتاج (عرر)، والعين 1/ 86، وبلا نسبة في المقاييس 4/ 35، والمخصص 17/ 124.
[4] العرار: صوت الظليم. والعزف: صوت الرياح أو الجن. أحياء حلال: أقوام مقيمون.
[5] الخيط: جماعة النعام. الخواضب: الظلمان المحمرة سوقها. رئال: فراخ. إفال: جمع أفيل، وهو الفصيل من الإبل.
[6] ديوان حسان 465، واللسان والتاج (ألل)، وديوان الأدب 4/ 155، وكتاب الجيم 3/ 226، وبلا نسبة في المقاييس 1/ 21، والعين 8/ 361، والمخصص 3/ 151. والبيت قاله حسان لأبي سفيان بن الحارث.
[7] في ديوانه: «الآل: الرحم. السقب: ولد الناقة ساعة يولد. الرأل: ولد النعام. يقول: إن قرابتك من قريش كقرابة ولد الناقة لرأل النعام، أي لست منهم في نسب».(4/435)
عباد، التي يقول فيها [1]: [من الخفيف] قرّبا مربط النّعامة منّي ... لقحت حرب وائل عن حيال
وقول الفرزدق [2]: [من الطويل] ترييك نجوم اللّيل والشّمس حيّة ... كرام بنات الحارث بن عباد ... نساء أبوهنّ الأغرّ، ولم تكن ... من الحتّ في أجبالها وهداد [3] ... أبوها الذي آوى النّعامة بعدما ... أبت وائل في الحرب غير تماد
وقد مدحوا بنات الحارث بن عباد هذا، فمن ذلك قوله [4]: [من الكامل] جاؤوا بحارشة الضّباب كأنّهم ... جاؤوا ببنت الحارث بن عباد [5]
ويلحق هذا البيت بموضعه، من قولهم. باض الصّيف، وباض القيظ.
وقال مضرّس [6]: [من الطويل] بلمّاعة قد باكر الصّيف ماءها ... وباضت عليها شمسه وحرائره
1192 [ابن النعامة، فرس خزز بن لوذان]
وابن النّعامة: فرس خزز بن لوذان. وهو الذي يقول لامرأته حين أنكرت عليه إيثاره فرسه باللبن [7]: [من الكامل] كذب العتيق وماء شنّ بارد ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي [8]
[1] البيت للحارث بن عباد في الأصمعيات 71، والحماسة البصرية 1/ 16، والسمط 757، والخزانة 1/ 472، 473، واللسان (قلص، نعم، عنن)، والتاج (نعم، عنن)، وأساس البلاغة (حول، لقح)، والأغاني 5/ 47، وديوان المعاني 2/ 63، وذيل الأمالي 27، والأزهية 280، وتقدم البيت الأول في الفقرة (8) 1/ 21.
[2] ديوان الفرزدق 159 (طبعة الصاوي)، والأغاني 21/ 290289.
[3] في الأغاني: «من الأزد في جاراتها وهداد». الحت وهداد: قبيلتان من الأزد.
[4] البيت لامرأة من بني مرة بن عباد في ثمار القلوب 240 (465).
[5] في ثمار القلوب: «بنت الحارث بن عباد: ممن يتمثّل بها من النساء في الشرف والجمال».
[6] البيت في اللسان والتاج (حرر).
[7] الأبيات لخزز بن لوذان في البرصان 175، والبيان 3/ 317، وله أو لعنترة في اللسان (نعم)، والخزانة 6/ 183، والأغاني 10/ 180، ولعنترة في ديوانه 33، وانظر الحماسة البصرية 1/ 16، وأمالي الشجري 1/ 260، وحماسة الشجري 8.
[8] في ديوان عنترة «كذب، هنا: بمعنى وجب. العتيق: التمر. الشن: القربة البالية».(4/436)
إنّي لأخشى أن تقول خليلتي ... هذا غبار ساطع فتلبّب [1] ... إنّ العدوّ لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحّلي وتخضبي ... ويكون مركبك القعود وحدجه ... وابن النّعامة يوم ذلك مركبي [2]
1193 [شعر في النعامة]
وقال أبو بكر الهذليّ [3]: [من الكامل] وضع النّعامات الرّجال بريدها ... يرفعن بين مشعشع [4] ومهلّل
وقال ذو الإصبع العدوانيّ [5]: [من البسيط] ولي ابن عمّ على ما كان من خلق ... مخالف لي أقليه ويقليني [6] ... أزرى بنا أنّنا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني [7]
وقال أبو داؤد الإياديّ في ذكر الصّيد، وذكر فرسه [8]: [من الخفيف] وأخذنا به الصّرار وقلنا ... لحقير بنانه أضمار [9] ... وأتى يبتغي تفرّس أمّ البي ... ض شدّا وقد تعالى النهار ... غير جعف أوابد ونعام ... ونعام خلالها أثوار ... في حوال العقارب العمر فيها ... حين ينهضن بالصّباح عذار
ثم قال:
يتكشّفن عن صرائع ستّ ... قسّمت بينهنّ كأس عقار ... بين ربداء كالمظلّة أفق ... وظليم مع الظّليم حمار
[1] تلبب: تشمر للحرب.
[2] في ديوان عنترة «القعود: ما اتخذه الراعي من الإبل للركوب، ابن النعامة: صدر القدم».
[3] ديوان الهذليين 2/ 97، والمخصص 5/ 135.
[4] الريد: الحرف الناتئ في عرض الجبل.
[5] ديوان ذي الإصبع 89، والمفضليات 160، واللسان (نعم).
[6] أقليه ويقليني: أبغضه ويبغضني.
[7] شالت نعامتهم: تفرقت كلمتهم وذهب عزهم.
[8] ديوان أبي دؤاد 320319، والشرح التالي من الديوان.
[9] «الصرار: الأماكن المرتفعة، أي انحاز بحصانه إليها. لحقير: أي للخادم الذي يخدمه أو للصائد.
بنانه أضمار: لعلها: ثيابه أطمار».(4/437)
ومهاتين حرس ورئال ... وشبوب كأنّه أوثار [1]
ووصف علقمة بن عبدة [2] ناقته، وشبّهها بأشياء منها، ثمّ أطنب في تشبيهه إيّاها بالظّليم: [من البسيط] تلاحظ السّوط شزرا وهي ضامزة ... كما توجسّ طاوي الكشح موشوم [3] ... كأنّها خاضب زعر قوائمه ... أجني له باللّوى شري وتنّوم [4] ... يظلّ في الحنظل الخطبان ينقفه ... وما استطفّ من التّنّوم مخذوم [5] ... فوه كشقّ العصا لأيا تبيّنه ... أسكّ ما يسمع الأصوات مصلوم [6] ... يكاد منسمه يختلّ مقلته ... كأنّه حاذر للنّخس مشهوم [7] ... حتى تذكّر بيضات وهيّجه ... يوم رذاذ، عليه الرّيح مغيوم ... فلا تزيّده في مشيه نفق ... ولا الزّفيف دوين الشّدّ مسؤوم [8] ... يأوي إلى حسكل زعر حواصلها ... كأنّهنّ إذا برّكن جرثوم [9] ... وضّاعة كعصيّ الشّرع جؤجؤه ... كأنّه بتناهي الرّوض علجوم [10]
[1] «الأوثار: الثوب الأبيض المحشو، وقيل البرذعة، وذلك أنه سمين، أما حرس ورئال فلم أهتد للصواب فيهما».
[2] ديوان علقمة 6257، والمفضليات 400399، والشرح التالي من ديوانه.
[3] الشزر: النظر بمؤخر العين. ضامزة: ضامّة لحييها لا تجتر، وذلك أسرع لها. توجس: تسمع حسّا.
الطاوي: الضامر الكشح، الموشوم: المنقط القوائم بسواد.
[4] الخاضب: الظليم الذي أكل الربيع. الزعر: القليلة الريش. اللوى: ما التوى من الرمل، وهو هاهنا موضع بعينه. الشري: شجر الحنظل. التنوم: نبت.
[5] الخطبان من الحنظل: الذي صارت فيه خطوط صفر وحمر. ينقفه: يكسره، ويستخرج حبه، ويأكله. والمخذوم: المقطوع. استطف: ارتفع، أي: يقطع ما ارتفع من أغصانه ويرعاه.
[6] فوه كشق العصا: أي ما تكاد تستبين ما بين منقاريه لشدة التصاقهما. وقوله «أسك ما يسمع»، أراد:
أسكّ الشيء الذي يسمع الأصوات، والسكك: صغر الأذن وضيقها والمصلوم: المقطوع الأذن من الأصل.
[7] «يكاد منسمه» يريد: ظفره. وقوله «يختل مقلته» يريد: أنه يزج برجليه زجّا شديدا ويخفض عنقه، ويمدها في عدوه، فيكاد ظفره يصيب مقلته فيشقها، والمشهوم: الفزع، والشهم: الذكي القلب.
[8] «التزيد» فوق المشي. و «النفق» الذاهب المنقطع، و «الزفيف» دون العدو و «الشد» العدو الشديد. و «المسؤوم» المملول. يقول: لشدة عدو هذا الظليم وحرصه على إدراك البيض أو الأفراخ لا يسأم الزفاف.
[9] يأوي هذا الظليم إلى فراخ، «زعر» أي أن ريش القوادم لم ينبت بعد لصغرها و «الجرثومة» أصل الشجرة.
[10] الوضع: ضرب من العدو، «كعصي الشرع» شبه عنق الظليم بالبربط، وهو العود، و «الشرع» أوتاره. و «الجؤجؤ» الصدر، و «تناهي الروض» حيث ينتهي السيل ويستقر. و «العلجوم» الليل، شبه الظليم به لسواده، و «العلجوم» أيضا، الجمل الضخم، ويحتمل أن يشبه الظليم به في عظم خلقه.(4/438)
حتى تلافى وقرن الشّمس مرتفع ... أدحيّ عرسين فيه البيض مركوم [1] ... يوحى إليها بإنقاض ونقنقة ... كما تراطن في أفدانها الرّوم [2] ... صعل، كأنّ جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم [3] ... تحفّه هقلة سطعاء خاضبة ... تجيبه بزمار فيه ترنيم [4]
1194 [النعامة التي تطحن]
الأصمعيّ قال: أخبرني رجل من أهل البصرة قال: أرسل شيخ من ثقيف ابنه فلانا ولم يحفظ اسمه إلى ابن سيرين، فكلمه بكلام، وأمّ ابنه هذا قاعدة، ولا يظنّ أنّها تفطن، فقال له: يا بنيّ اذهب إلى ابن سيرين، فقل له: رجل رأى أنّ له نعامة تطحن. قال: فقلت له فقال: هذا رجل اشترى جارية فخبّأها في بني حنيفة.
قال: فجئت أبي فأخبرته، فنافرته أمّي، وما زالت به حتى اعترف أنّ له جارية في بني حنيفة.
وما أعرف هذا التأويل. ولولا أنّه من حديث الأصمعي مشهور ما ذكرته في كتابي.
1195 [مسيلمة الكذاب]
وأمّا قول الشاعر الهذليّ في مسيلمة الكذاب، في احتياله وتمويهه وتشبيه ما يحتال به من أعلام الأنبياء، بقوله [من الطويل] ببيضة قارور وراية شادن ... وتوصيل مقصوص من الطير جادف
[1] «تلافى» تدارك، و «الأدحي» مبيض النعام، لأنها تدحوه بأرجلها، أي تبسطه وتسهله، وأراد «بالعرسين» الظليم والنعامة، لأن كل واحد منهما عرس لصاحبه، و «المركوم» الذي ركب بعضه بعضا لكثرته.
[2] «الإنقاض والنقنقة» صوته، و «تراطن الروم» ما لا يفهم من كلامهم، وإنما أراد أن الظليم يكلم النعامة بما لا يفهمه غيرهما، كما تتكلم العجم بما لا تفهم عنها العرب. و «الأفدان» جمع فدن، وهو القصر. وإنما ذكر الأفدان لأن الروم أهل أبنية وقصور.
[3] «الصّعل» الرقيق العنق، الصغير الرأس من الظّلمان، وقوله «بيت» يعني: بيتا من شعر أو وبر، «الخرقاء» المرأة التي لا تحسن عملا، «المهجوم» الساقط المهدوم.
[4] «الهقلة: النعامة. و «السطعاء»: الطويلة العنق، و «الخاضعة» التي أمالت رأسها ووضعته للرعي.
و «الزمار» صوت النعامة، والعرار: صوت الظليم.
[5] الخبر مع البيت التالي في ربيع الأبرار 4/ 343/ 345.(4/439)
قال: هذا شعر أنشدناه أبو الزّرقاء سهم الخثعمي، هذا منذ أكثر من أربعين سنة. والبيت من قصيدة قد كان أنشدنيها فلم أحفظ منها إلّا هذا البيت.
فذكر أنّ مسيلمة طاف قبل التنبّي، في الأسواق التي كانت بين دور العجم والعرب، يلتقون فيها للتسوّق والبياعات، كنحو سوق الأبلّة، وسوق لقه، وسوق الأنبار، وسوق الحيرة.
قال: وكان يلتمس تعلّم الحيل والنّيرجات [1]، واختيارات النّجوم والمتنبئين.
وقد كان أحكم حيل السّدنة [2] والحوّاء [3] وأصحاب الزّجر [4] والخطّ [5] ومذهب الكاهن والعيّاف والسّاحر، وصاحب الجنّ الذي يزعم أنّ معه تابعه.
قال: فخرج وقد أحكم من ذلك أمورا. فمن ذلك أنّه صبّ على بيضة من خلّ قاطع والبيض إذا أطيل إنقاعه في الخلّ لان قشره الأعلى، حتّى إذا مددته استطال واستدقّ وامتدّ كما يمتدّ العلك، أو على قريب من ذلك قال: فلمّا تمّ له فيها ما طاول وأمّل، طوّلها ثمّ أدخلها قارورة ضيّقة الرّأس، وتركها حتّى جفّت ويبست. فلمّا جفّت انضمّت، وكلما انضمّت استدارت، حتى عادت كهيئتها الأولى. فأخرجها إلى مجّاعة، وأهل بيته، وهم أعراب، وادّعى بها أعجوبة، وأنّها جعلت له آية. فآمن به في ذلك المجلس مجّاعة. وكان قد حمل معه ريشا في لون ريش أزواج حمام، وقد كان يراهنّ في منزل مجّاعة مقاصيص. فالتفت، بعد أن أراهم الآية في البيض، إلى الحمام فقال لمجّاعة: إلى كم تعذّب خلق الله بالقصّ؟! ولو أراد الله للطّير خلاف الطّيران لما خلق لها أجنحة، وقد حرّمت عليكم قصّ أجنحة الحمام! فقال له مجّاعة كالمتعنت: فسل الذي أعطاك في البيض هذه الآية أن ينبت لك جناح هذا الطائر الذّكر السّاعة! فقلت لسهم: أما كان أجود من هذا وأشبه أن يقول: فسل الذي أدخل لك هذه البيضة فم هذه القارورة أن يخرجها كما أدخلها. قال. فقال: كأنّ القوم كانوا
[1] النيرنجات: علم الحيل، وهو فرع من فروع علم السحر، وهو علم يعرف به طريق الاحتيال في جلب المنافع. انظر: كشف الظنون 1/ 694، وانظر اللسان والتاج (نرج).
[2] السدنة: جمع سادن، وهو خادم بيت الصنم، وخادم الكعبة.
[3] الحواء: جمع حاو، وهو الذي يجمع الحيات.
[4] الزجر: العيافة، وهو ضرب من التكهن.
[5] الخط: خط الزاجر، وهو أن يخط بإصبعه في الرمل ويزجر.(4/440)
أعرابا، ومثل هذا الامتحان من مجّاعة كثير، ولعمري إنّ المتنبئ ليخدع ألفا مثل قيس ابن زهير، قبل أن يخدع واحدا من آخر المتكلمين، وإن كان ذلك المتكلم لا يشقّ غبار قيس فيما قيس بسبيله.
قال مسيلمة: فإن أنا سألت الله ذلك، فانتبه له حتى يطير وأنتم ترونه، أتعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: نعم. قال: فإني أريد أن أناجي ربّي، وللمناجاة خلوة، فانهضوا عنّي، وإن شئتم فادخلوه هذا البيت وأدخلوني معه، حتى أخرجه إليكم السّاعة في الجناحين يطير، وأنتم ترونه. ولم يكن القوم سمعوا بتغريز الحمام، ولا كان عندهم باب الاحتياط في أمر المحتالين. وذلك أن عبيدا الكيّس، فإنّه المقدّم في هذه الصناعة، لو منعوه السّتر والاختفاء، لما وصل إلى شيء من عمله جلّ ولا دقّ ولكان واحدا من النّاس.
فلما خلا بالطائر أخرج الريش الذي قد هيّأه، فأدخل طرف كلّ ريشة ممّا كان معه، في جوف ريش الحمام المقصوص، من عند المقطع والقصّ. وقصب الرّيش أجوف، وأكثر الأصول حداد وصلاب. فلما وفّى الطّائر ريشه صار في العين كأنّه برذون موصول الذّنب، لا يعرف ذلك إلّا من ارتاب به. والحمام بنفسه قد كان له أصول ريش، فلما غرّزت تمت فلما أرسله من يده طار. وينبغي ألّا يكون فعل ذلك بطائر قد كانوا قطوه بعد أن ثبت عندهم. فلما فعل ذلك ازداد من كان آمن به بصيرة، وآمن به آخرون لم يكونوا آمنوا به، ونزع منهم في أمره كلّ من كان مستبصرا في تكذيبه.
قال: ثمّ إنّه قال لهم وذلك في مثل ليلة منكرة الرّياح مظلمة، في بعض زمان البوارح [1] إنّ الملك على أن ينزل إليّ، والملائكة تطير، وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة وقعقعة، فمن كان منكم ظاهرا فليدخل منزله فإنّ من تأمّل اختطف بصره! ثمّ صنع راية من رايات الصّبيان التي تعمل من الورق الصّينيّ، ومن الكاغد [2]، وتجعل لها الأذناب والأجنحة، وتعلّق في صدورها الجلاجل [3]، وترسل يوم الرّيح بالخيوط الطّوال الصّلاب.
[1] البوارح: جمع بارحة، وهي الريح الشديدة التي تحمل التراب.
[2] الكاغد: القرطاس الذي يكتب فيه.
[3] الجلاجل: الأجراس الصغيرة.(4/441)
قال: فبات القوم يتوقّعون نزول الملك، ويلاحظون السّماء، وأبطأ عنهم حتّى قام جلّ أهل اليمامة وأطنبت الرّيح [1] وقويت، فأرسلها، وهم لا يرون الخيوط، واللّيل لا يبين عن صورة الرّقّ، وعن دقّة الكاغد. وقد توهّموا قبل ذلك الملائكة.
فلمّا سمعوا ذلك ورأوه تصارخوا وصاح: من صرف بصره ودخل بيته فهو آمن! فأصبح القوم وقد أطبقوا على نصرته والدّفع عنه. فهو قوله [2]: [من الطويل] ببيضة قارور وراية شادن ... وتوصيل مقصوص من الطير جادف
فقلت لسهم: يكون مثل هذا الأمر العجيب، فلا يقول فيه شاعر، ولا يشيع به خبر؟! قال: أو كلما كان في الأرض عجب، أو شيء غريب، فقد وجب أن يشيع ذكره، ويقال فيه الشّعر، ويجعل زمانه تاريخا! ألسنا معشر العرب نزعم أنّ كسرى أبرويز، وهو من أحرار فارس، من الملوك الأعاظم، وسليل ملوك، وأبو ملوك، مع حزمه ورأيه وكماله، خطب إلى النّعمان بن المنذر، وإلى رجل يرضى أن تكون امرأته ظئرا لبعض ولد كسرى، وهو عامله، ويسمّيه كسرى عبدا، وهو مع ذلك أحيمر أقيشر، إمّا من أشلاء قصيّ بن معد، وإما من عرض لخم. وهو الذي قالوا: تزوّج مومسة وهي الفاجرة ولا يقال لها مومسة إلّا وهي بذلك مشهورة وعرفها بذلك، وأقام عليها، وهجي بها ولم يحفل بهجائهم. وممّا زاد في شهرتها قصّة المرقش. وناكها قرّة بن هبيرة حين سباها. فعلم بذلك وأقام عليها، ثمّ لم يرض حتّى قال لها: هل مسّك؟ قالت: وأنت والله لو قدر عليك لمسّك! فلم يرض بها حتى قال لها: صفيه لي. فوصفته حتّى قالت: كأنّ شعر خدّيه حلق الدّرع! وبال على رأسه خلف ابن نوالة الكناني عام حجّ، ونصّره عديّ بن زيد بأحمق سبب [3]. وخطب أخوه المنذر إلى عبيدة بن همام، فردّه أقبح الرّدّ، وقال [4]: [من المتقارب]
[1] أطنبت الريح: اشتدت.
[2] تقدم البيت في بداية هذه الفقرة.
[3] نصّره: أدخله في النصرانية، وكان سبب تنصّر النعمان وكان يعبد الأوثان قبل ذلك أنه مر على المقابر ومعه عدي بن زيد الذي قال له إن هذه المقابر تقول:
كنا كما كنتم فغيّرنا دهر ... فسوق كما صرنا تصيرونا
فدخلته رقة، وخرجا مرة أخرى، ومرّا على المقابر فأنشده عدي أبياتا أخرى فرجع النعمان وتنصر، انظر تفصيل الخبر في الأغاني 2/ 135134.
[4] البيتان للأسود بن يعفر في ديوانه 67، واللسان والتاج (نكر)، والأول في التنبيه والإيضاح 2/ 218، والبيتان بلا نسبة في الكامل 920، 1077 (الدالي)، والأول في المخصص 17/ 12، وديوان الأدب 1/ 261، 3/ 435، والعين 8/ 137.(4/442)
أتوني ولم أرض ما بيّتوا ... وقد طرقوني بأمر نكر ... لأنكح أيّمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حرّ لحر
ثمّ مع ذلك خطب إليه كسرى بعض بناته فرغب بها عنه، حتّى كان ذلك سبب هربه وعلّة لقتله فهل رأيت شاعرا في ذلك الزّمان مع كثرة الشعراء فيه، ومع افتخارهم بالذي كان منهم في يوم جلولى [1] ويوم ذي قار، وفي وقائع المثنّى بن حارثة وسعد بن أبي وقّاص فهل سمعت في ذلك بشعر صحيح طريف المخرج، كما سمعته في جميع مفاخرهم ممّا لا يداني هذا المفخر؟! ولقد خطب بعض إخوته إلى رجال من نزار، من غير أهل البيوتات، فرغبوا عنهم.
وأمّ النعمان سلمى بنت الصّائغ [2]: يهوديّ من أنباط الشام، ثمّ كان نجله لفعل غير محمود.
وقد قال جبلة بن الأيهم، لحسّان بن ثابت: قد دخلت عليّ ورأيتني، فأين أنا من النّعمان؟ قال: والله [3]
فالنّعمان مع هذه المثالب كلّها قد رغب بنفسه عن مصاهرة كسرى، وهو من أنبه الأكاسرة. وكما كان أبرويز أعظم خطرا، كانت أنفته أفخر للعرب، وأدلّ على ما يدّعون من العلوّ في النسب وكان الأمر مشهودا ظاهرا، ومردّدا على الأسماع مستفيضا. فإذ قد تهيّأ أن يكون مثل هذا الأمر الجليل، والمفخر العظيم، والعرب أفخر الأمم، ومع ذلك قد أغفلوه فشأن مسيلمة أحقّ بأن يجوز ذلك عليه.
[1] جلولاء: طسوج من طساسيج السواد في طريق خراسان، بينها وبين خانقين سبعة فراسخ، وبها كانت الوقعة المشهورة على الفرس للمسلمين سنة 16. «معجم البلدان 2/ 156». وانظر أيام العرب 291290.
[2] في البيان 3/ 246: «سلمى بنت عقاب»، وفي الأغاني 11/ 13: «سلمى بنت عطية».
[3] ثمة نقص يمكن استدراكه من الأغاني 15/ 161 «لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمصك خير من رأسه، ولخطؤك خير من صوابه، ولصمتك خير من كلامه، ولأمك خير من أبيه، ولخدمك خير من قومه»، وفي الأغاني ورد أن صاحب الحديث هو عمرو بن الحارث الأعرج، وليس جبلة، وأن القول الذي استدركته ينسب إلى حسان وإلى النابغة.(4/443)
وأنشدني يوسف لبعض شعراء بني حنيفة، وكان يسمّى مسيلمة ويكنى أبا ثمامة [1]: [من مجزوء الكامل] لهفي عليك أبا ثمامه ... لهفي على ركني شمامه ... كم آية لأبيهم ... كالشّمس تطلع من غمامه
وقد كتبنا قصّته وقصّة ابن النّوّاحة (في كتابنا الذي ذكرنا فيه فصل ما بين النبيّ والمتنبي) وذكرنا جميع المتنبئين، وشأن كلّ واحد منهم على حدته، وبأيّ ضرب كان يحتال، وذكرنا جملة احتيالاتهم، والأبواب التي تدور عليها مخاريقهم.
فإن أردت أن تعرف هذا الباب فاطلب هذا الكتاب فإنّه موجود.
1196 [هجاء عبد القيس للنعمان]
وقد هجا عبد القيس بن خفاف البرجميّ، النّعمان بن المنذر، في الجاهليّة، وذكر ولادة الصّائغ له فقال [2]: [من الخفيف] لعن الله ثمّ ثنّى بلعن ... ابن ذا الصّائغ، الظلوم الجهولا ... يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثمّ لا يرزأ العدوّ فتيلا [3]
1197 [سهم الحنفي]
وكان سهم الحنفيّ يلي طبرستان، لمعن بن زائدة، مع حداثة سنه يومئذ، وكان له مروءة وقدر في نفسه.
1198 [حظ القبائل من الشعر]
وبنو حنيفة مع كثرة عددهم، وشدّة بأسهم، وكثرة وقائعهم، وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرا كلها ومع ذلك لم نر قبيلة قطّ أقلّ شعرا منهم. وفي إخوتهم عجل قصيد ورجز، وشعراء ورجّازون. وليس ذلك لمكان الخصب وأنّهم أهل مدر، وأكّالو تمر لأنّ الأوس والخزرج كذلك، وهم في الشعر كما قد علمت. وكذلك عبد
[1] البيتان في المعارف 405.
[2] البيتان لعبد القيس بن خفاف في الأغاني 11/ 13، وللنابغة الذبياني في ديوانه 170، والشعر والشعراء 76 (ليدن)، 71 (شاكر)، والأول في اللسان (ربذ)، والثاني بلا نسبة في المقاييس 4/ 472، والمخصص 13/ 254.
[3] الفتيل: الهنة التي في شق النواة.(4/444)
القيس النّازلة قرى البحرين، فقد تعرف أنّ طعامهم أطيب من طعام أهل اليمامة.
وثقيف أهل دار ناهيك بها خصبا وطيبا، وهم وإن كان شعرهم أقلّ، فإنّ ذلك القليل يدلّ على طبع في الشعر عجيب. وليس ذلك من قبل رداءة الغذاء، ولا من قلّة الخصب الشّاغل والغنى عن النّاس وإنّما ذلك عن قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز، والبلاد والأعراق مكانها.
وبنو الحارث بن كعب قبيل شريف، يجزون مجاري ملوك اليمن، ومجاري سادات أعراب أهل نجد ولم يكن لهم في الجاهليّة كبير حظّ في الشعر. ولهم في الإسلام شعراء مفلقون.
وبنو بدر كانوا مفحمين، وكان ما أطلق الله به ألسنة العرب خيرا لهم من تصيير الشعر في أنفسهم.
وقد يحظى بالشعر ناس ويخرج آخرون، وإن كانوا مثلهم أو فوقهم. ولم تمدح قبيلة في الجاهليّة، من قريش، كما مدحت مخزوم. ولم يتهيّأ من الشّاهد والمثل لمادح في أحد من العرب، ما تهيّأ لبني بدر.
وقد كان في ولد زرارة لصلبه، شعر كثير، كشعر لقيط وحاجب وغيرهما من ولده. ولم يكن لحذيفة ولا حصن، ولا عيينة بن حصن، ولا لحمل بن بدر. شعر مذكور.
وقد كان عبد العزيز بن مروان أحظى في الشعر من كثير من خلفائهم. ولم يكن أحد من أصحابنا، من خلفائنا وأئمتنا، أحظى في الشعر من الرّشيد. وقد كان يزيد ابن مزيد وعمّه، ممّن أحظاه الشّعر.
وما أعلم في الأرض نعمة بعد ولاية الله، أعظم من أن يكون الرّجل ممدوحا.
1199 [الصّمّ من الحيوان]
تقول العرب: ضربان من الحيوان لا يسمعان الأصوات. وذلك عامّ في الأفاعي والنّعام.
واعتدّ من ادّعى للنّعام الصّمم بقول علقمة [1]: [من البسيط] فوه كشقّ العصا لأيا تبيّنه ... أسكّ ما يسمع الأصوات مصلوم
[1] تقديم تخريج البيت والأبيات التالية في الفقرة (1193).(4/445)
قال: ولا يصلح أن تكون «ما» في الموضع الذي ذكر لأنّ ذلك يصير كقول القائل: التمر حلو، والثّلج بارد، والنّار حارّة. ولا يحتاج إلى أن يخبر أنّ الذي يسمع هذا الصّوت لأنه لا مسموع إلّا الصّوت.
قال خصمه: فقد قال علقمة بن عبدة: [من البسيط] حتّى تلافى وقرن الشّمس مرتفع ... أدحيّ عرسين فيه البيض مركوم ... يوحي إليها بإنقاض ونقنقة ... كما تراطن في أفدانها الرّوم
ثم قال:
تحفّه هقلة سفعاء خاذلة ... تجيبه بزمار فيه ترنيم
واحتجّ من زعم أنها تسمع، بقوله [1]: [من الطويل] وصحم صيام بين صمد ورجلة ... وبيض تؤام بين ميث ومذنب [2] ... متى ما تشأ تسمع عرارا بقفرة ... يجيب زمارا كاليراع المثقب [3]
وقال الطّرمّاح [4]: [من الكامل] يدعو العرار بها الزّمار كأنّه ... ألم تجاوبه النّساء العوّد [5]
قال: وصوت النعامة الذّكر: العرار. وصوت الأنثى: الزّمار.
وأنشد الذي زعم أنّها لا تسمع، قول أسامة بن الحارث الهذليّ [6]: [من الطويل] تذكّرت إخواني فبتّ مسهّدا ... كما ذكرت بوّا من اللّيل فاقد [7]
[1] البيتان للبيد، والأول في ديوانه 12، وصدره في اللسان (صحم)، وهو بلا نسبة في التهذيب 4/ 273، والثاني في ديوانه 18.
[2] في ديوانه «الصحم: الحمير، وأصحم: أسود اللون من كل لون. صيام: قيام. الصمد: الغلظ.
والرجلة: رجلة الوادي، مسيله وجمعه رجل. وبيض: يريد بيض النعام. تؤام: اثنان اثنان.
الميث: الأرض السهلة. المذنب: مجرى الماء».
[3] في ديوانه «العرار: صوت النعام الذكر، والزمار صوت الأنثى. واليراع: القصب يتخذ منها زمارات».
[4] ديوان الطرماح 143 (115)، والجمهرة 123، والمعاني الكبير 343.
[5] في ديوانه «يدعو: بمعنى يجيب هاهنا. والعوّد: اللواتي يعدن المريض الألم، أي يزرنه».
[6] ديوان الهذليين 2/ 202201، وشرح أشعار الهذليين 1296.
[7] في ديوان الهذليين «البوّ: جلد يحشى للفاقد ولدها، يذبح أو يموت فترأمه وتدرّ عليه، فإذا ذكرته حنّت».(4/446)
لعمري لقد أمهلت في نهي خالد ... عن الشّام إمّا يعصينّك خالد [1] ... وأمهلت في إخوانه فكأنّما ... تسمّع بالنّهي النّعام المشرّد
وقال الذي زعم أنّها تسمع: فقد قال الله عزّ وجلّ: {أُولََئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى ََ أَبْصََارَهُمْ} [2] ولو عنى أنّ عماهم كعمى العميان، وصممهم كصمم الصّمّان، لما قال: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} [3] وإنّما ذلك كقوله: {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ إِذََا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} * [4] وكيف تسمع المدبر عنك! ولذلك يقال: «إنّ الحبّ يعمي ويصمّ» [5]. وقد قال الهذليّ: [من الطويل] تسمّع بالنّهي النّعام المشرّد
والشارد النافر عنك لا يوصف بالفهم. ولو قال: تسمع بالنّهي، وسكت كان أبلغ فيما يريد. وهو كما قال الله تعالى: {وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ إِذََا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} * [4]. قال الرّاجز [6]: [من الرجز] ردي ردي ورد قطاة صمّا ... كدريّة أعجبها برد الما [7]
أي لأنها لا تسمع صوتا يثنيها ويردّها.
وأنشد قول الشاعر [8]: [من الطويل] دعوت خليدا دعوة فكأنما ... دعوت به ابن الطّود أو هو أسرع
والطّود: الجبل. وابنه: الحجر الذي يتدهده [9] منه، كقوله [10]: [من الطويل] كجلمود صخر حطّه السّيل من عل
[1] في ديوان الهذليين «أمهلت: أي نهيته في مهلة قبل أن يأزف أمره، أي جعلت له مهلة ولم أجد بنفسه، وكان نهاه أن يهاجر، وقوله: إما يعصينك خالد، أي: عصاك خالد».
[2] 23/ محمد: 47.
[3] 24/ محمد: 47.
[4] 80/ النمل: 27.
[5] هذا القول من الأمثال في مجمع الأمثال 1/ 78، 196، وجمهرة الأمثال 1/ 356والمستقصى 2/ 56، وفصل المقال 320، وأمثال ابن سلام 224، والأمثال لمجهول 57.
[6] الرجز بلا نسبة في اللسان والتاج (صمم)، والوساطة 402.
[7] الكدرية: ضرب من القطا قصار الأذناب، والقطا: ثلاثة أضرب، كدري وجوني وغطاط. انظر اللسان (كدر).
[8] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (طود)، وأساس البلاغة (بني، طود) والتهذيب 14/ 4، والمخصص 13/ 202.
[9] يتدهده: يتدحرج.
[10] صدر البيت (مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا) وهو لامرئ القيس من معلقته في ديوانه 19، واللسان(4/447)
وقال الرّاجز [1]: [من الرجز] ومنهل أعور إحدى العينين ... بصير أخرى وأصمّ الأذنين
كأنّه كان في ذلك المنهل بيران، والآبار أعين، فغوّرت إحدى البيرين وتركت الأخرى وقوله: «أصمّ الأذنين» لما أن كان عنده في الأرض فضاء وخلاء، حيث لا يسمع فيه صوت. جعله أن كان لا يسمع صوتا أصمّ وإن كان ذلك لفقد الأصوات.
قال: وقد قال الحارث بن حلّزة قولا يدلّ على أنّها تسمع، حيث قال [2]: [من الخفيف] ولقد أستعين يوما على اله ... مّ إذا خفّ بالثّويّ الثّواء ... بزفوف كأنها هقلة أ ... مّ رئال دوّيّة سفعاء [3]
ثم قال:
آنست نبأة وأفزعها القن ... اص عصرا وقد دنا الإمساء ... فترى خلفهنّ من سرعة المش ... ي منينا كأنّه أهباء [4]
ولو قال: «أفزعها القنّاص» ولم يقل: «آنست نبأة» والنّبأة الصّوت لكان لكم في ذلك مقال.
وقال امرؤ القيس [5]: [من الطويل] وصمّ صلاب ما يقين من الوجى ... كأنّ مكان الرّدف منه على رال [6]
وإنما يعني أنها مصمتة غير جوفاء. وقال الآخر [7]: [من البسيط] قل ما بدا لك من زور ومن كذب ... حلمي أصمّ وأذني غير صمّاء
(علا)، والتاج (فرر)، والجمهرة 126، والعين 7/ 174، والخزانة 2/ 397، 3/ 242، 243، والمقاصد النحوية 3/ 449، وبلا نسبة في اللسان والتاج (حطط).
[1] الرجز بلا نسبة في اللسان (عور، صمم).
[2] الأبيات من معلقته في شرح القصائد السبع 440، وشرح القصائد العشر 373.
[3] الزفوف: الناقة السريعة. الهقلة: النعامة. الرئال: فراخ النعامة. السفعاء: السوداء.
[4] المنين: الغبار الدقيق. الإهباء: إثارة التراب، والأهباء: الغبار المرتفع في الجو.
[5] ديوان امرئ القيس 36، واللسان والتاج (رأل، قطا، وقي)، وبلا نسبة في المخصص 8/ 56.
[6] في ديوانه «أراد بالصم: حوافره. وقوله: «ما يقين من الوجّى»، أي لا يهبن المشي من حفا، لصلابتهن. والرأل: فرخ النعامة، وهو مشرف المؤخر، فشبّه قطاة الفرس لإشرافها بمؤخر الرأل».
[7] البيت لبشار بن برد في ديوانه 1/ 125، وجمهرة الأمثال 1/ 140، وبلا نسبة في اللسان والتاج (صمم).(4/448)
يريد أنّ حلمه ليس بسخيف متخلخل، وليس بخفيف سار، ولكنّه مصمت.
قال الشاعر [1]: [من الطويل] وأسأل من صمّاء ذات صليل
وإنّما يريد أرضا يابسة، ورملة نشّافة، تسأل الماء: أي تريده وتبتلعه وهي في ذلك صمّاء.
1200 [ذكر الصّمّ في القرآن الكريم]
وقد قال الله لناس يسمعون: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَرْجِعُونَ} [2] ذلك على المثل. وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} [3]. وذلك كلّه على ما فسّرنا. وقال: {وَالَّذِينَ إِذََا ذُكِّرُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهََا صُمًّا وَعُمْيََاناً} [4] وقال أيضا: {إِنَّمََا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلََا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعََاءَ إِذََا مََا يُنْذَرُونَ} [5].
1201 [شعر في الصمم]
وقال عنترة [6]: [من الطويل] ظللنا نكرّ المشرفيّة فيهم ... وخرصان صمّ السّمهريّ المثقف [7]
وقال العجير السّلوليّ [8]: [من الطويل] وقد جذب القوم العصائب مؤخرا ... ففيهنّ عن صلع الرّجال حسور ... فظلّ رداء العصب ملقى كأنّه ... سلى فرس تحت الرّجال عقور [9]
[1] صدر البيت (أجل، لا، ولكن أنت أشأم من مشى)، والبيت بلا نسبة في اللسان والتاج (صمم)، ورصف المباني 59، والجنى الداني 360.
[2] 18/ البقرة: 2.
[3] 171/ البقرة: 2.
[4] 73/ الفرقان: 25.
[5] 45/ الأنبياء: 21.
[6] ديوان عنترة 52.
[7] في ديوانه «المشرفية: سيوف منسوبة إلى مشارف الشام. الخرصان: الرماح، الواحد خرص. لدن:
لينة».
[8] الأبيات في البيان 1/ 123، ومجالس ثعلب 523، والأغاني 13/ 6968.
[9] العصب: ضرب من البرود. السلى: الجلدة التي يكون فيها الولد.(4/449)
لو ان الصّخور الصّمّ يسمعن صلقنا ... لرحن وفي أعراضهنّ فطور [1]
وقال زهير [2]: [من المديد] ليتني خلقت للأبد ... صخرة صمّاء في كبد ... لا تشكّي شرّ جارتها ... خلقت غليظة الكبد
وقالت جمل بنت جعفر: [من الطويل] بني جعفر لا سلم حتّى نزوركم ... بكلّ ردينيّ وأبيض ذي أثر [3] ... وحتّى تروا وسط البيوت مغيرة ... تصمّكم بالضّرب حاشية الذّعر [4] ... تبين لذي الشّكّ الذي لم يكن درى ... ويبصرها الأعمى ويسمع ذو الوقر [5]
وقال دريد [6]: [من الوافر] متى كان الملوك قطينا ... عليّ ولاية صمّاء منّي
1202 [مثل وحديث في الصمم]
ومن الأمثال قولهم: «صمّت حصاة بدم» [7] قال: فأصله أن يكثر القتل وسفك الدّماء، حتّى لو وقعت حصاة على الأرض لم يسمع لها صوت لأنّها لا تلقى صلابة الأرض.
وقد جاء في بعض الحديث: «إذا كانت تلك الملاحم بلغت الدّماء الثّنن» [8] يعني ثنن الخيل، وهو الشّعر الذي خلف الحافر.
[1] الصلق: الصياح والولولة والصوت الشديد. الأعراض: الجوانب والنواحي. فطور: تشقق.
[2] لم يرد البيتان في ديوان زهير.
[3] الرديني: رمح ينسب إلى امرأة تسمى ردينة. الأبيض: السيف. الأثر: فرند السيف.
[4] مغيرة: عنى بها خيلا مغيرة.
[5] الوقر: ذهاب السمع، أو ثقل في الأذن.
[6] ديوان دريد بن الصمة 113، ونقله محقق الديوان عن كتاب الحيوان، وذكر في الحاشية أن رواية عجز البيت في المستقصى 1/ 143: (عليّ ولاية صمّي صمام)، و «صمي صمام» من الأمثال في جمهرة الأمثال 1/ 578، ومجمع الأمثال 1/ 320، والدرة الفاخرة 2/ 499، وأمثال ابن سلام 348، وفصل المقال 189، 474، 478.
[7] مجمع الأمثال 1/ 393، والمستقصى 2/ 143، وفصل المقال 474، وجمهرة الأمثال 1/ 578، وأمثال ابن سلام 346.
[8] الحديث في النهاية 1/ 224، وهو من حديث فتح نهاوند، وانظر المثل «بلغت الدماء الثنن» في مجمع الأمثال 1/ 93، وأمثال ابن سلام 346، والمستقصى 2/ 13.(4/450)
وقال الزّبير بن عبد المطّلب [1]: [من الوافر] وينبي نخوة المختال عنّي ... جراز الحدّ ضربته صموت [2]
لأنّ السّيف إذا مرّ في العظم مرّا سريعا فلم يكن له صوت كان في معنى الصامت.
1203 [شعر في الصمم]
وقال ابن ميّادة [3]: [من الطويل] متى أدع في قيس بن عيلان خائفا ... إلى فزع تركب إليّ خيولها ... بملمومة كالطّود شهباء فيلق ... رداح يصمّ السّامعين صليلها [4]
لأنّ الصّوت إذا اشتدّ جدّا لم يفهم معناه، إن كان صاحبه أراد أن يخبر عن شيء. ومتى كثرت الأصوات صارت وغى [5]، ومنع بعضها بعضا من الفهم. فإذا لم يفهمها صار في معنى الأصمّ، فجاز أن يسمّى باسم الأصمّ.
وعلى ذلك قال الأضبط بن قريع، حين آذوه بنو سعد فتحوّل من جوارهم في آخرين فآذوه، فقال: «بكلّ واد بنو سعد» [6].
وقال جران العود [7]: [من الطويل] وقالت لنا والعيس صعر من البرى ... وأخفافها بالجندل الصّمّ تقذف [8]
[1] البيت في اللسان والتاج (صمت)، وحماسة القرشي 92.
[2] ينبي: يبعد. سيف جراز: ماض نافذ.
[3] ديوان ابن ميادة 197196.
[4] في ديوانه «ملمومة: أي كتيبة عظيمة مجتمعة. الطود: الجبل العظيم. الشهباء: البيضاء، لما فيها من بياض السلاح. الفيلق: الكثيرة السلاح. الرداح: الكثيرة الفرسان، الثقيلة السير لكثرتها».
[5] الوغى: الأصوات في الحرب، وغمغمة الأبطال في حومة الحرب.
[6] مجمع الأمثال 1/ 105، وجمهرة الأمثال 1/ 61.
[7] ديوان جران العود 16.
[8] العيس: الإبل الخالصة البياض. البرى: جمع برة، وهي الحلقة التي توضع في أنف البعير. صعر من البرى: موائل من جذبها. الجندل: الحجارة.(4/451)
1204 [قول منكر صمم النعام]
وقال الذي ينكر صمم شيء من الخلق: اعتللتم في صمم النّعام بقول زهير:
[من الوافر] [أصكّ مصلّم الأذنين أجنى ... له بالسّيّ تنّوم وآء] [1]
وبقول أوس بن حجر [2]: [من الطويل] وينهى ذوي الأحلام عنّي حلومهم ... وأرفع صوتي للنّعام المخزّم
يريد خرق أنفه، وهو في موضع الخرمة من البعير.
وأمّا قوله: «وأرفع صوتي للنّعام» فإنما خصّ بذلك النّعام لأنّها تجمع الشّرود والنّفار، إلى الموق وسوء الفهم. ولو قال: «وأرفع صوتي للحمير والدّوابّ» لكان كذلك. والمصلّمة: السّكّ التي ليس لآذانها حجم.
1205 [رد على منكر الصمم]
قال: قول الذي زعم أنها ليست بصماء لا يجوز لأنّ الدواب تسمع وتفهم الزّجر، وتجيب الدّعاء. بل لو قال: وأرفع صوتي للصخور والحجارة، كان صوابا، وكان لرفع صوته معنى إذ كان الرّفع والوضع عند الصّخور سواء. وليس كذلك الدوابّ. ولو كان إنما جعله مصلّما، وجعل آذان النّعام مصلومة، لأنه ليس لآذانها حجم فالطير كله كذلك إلّا الخفّاش. وكلّ شيء يبيض من الحيوان فليس لها حجم آذان. ففي قصدهم بهذه الكلمة إلى النّعام، بين جميع ما ليس لأذنيه حجم، دليل على أنّ تأويلكم خطأ. قال علقمة بن عبدة [3]: [من البسيط] فوه كشقّ العصا لأيا تبيّنه ... أسكّ ما يسمع الأصوات مصلوم
[1] لم يرد البيت في الأصل، ورأيت أن أثبته اعتمادا على ما سيأتي في نهاية الفقرة التالية، والبيت في ديوان زهير 58.
[2] ديوان أوس بن حجر 122، وفيه «المصلم»، مكان «المخزم»، والمعاني الكبير 340، وديوان الأدب 1/ 193، وبلا نسبة في اللسان والتاج وأساس البلاغة (خزم)، والتهذيب 7/ 219، والمجمل 2/ 183، والجمهرة 595، والمقاييس 2/ 178، والمعاني الكبير 344.
[3] تقدم تخريج البيت وشرحه في الفقرة (1193).(4/452)
وقالت كبشة بنت معد يكرب [1]: [من الطويل] وأرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه ألّا تغلّوا لهم دمي [2] ... ولا تأخذوا منهم إفالا وأبكرا ... وأترك في بيت بصعدة مظلم [3] ... جدعتم بعبد الله آنف قومكم ... بني مازن أن سبّ راعي المخزّم ... فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم ... فمشّوا بآذان النّعام المصلّم
فلو كانت إنّما تريد أنّه ليس لمسامعها حجم، كانت الدّنيا لها معرضة. وقال عنترة [4]: [من الكامل] وكأنّما أقص إلإكام عشيّة ... بقريب بين المنسمين مصلّم [5] ... تأوي له حزق النّعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم [6]
ولو كان عنترة إنّما أراد عدم الحجم، لقد كانت الدّنيا له معرضة.
وقال زهير [7]: [من الوافر] بآرزة الفقارة لم يخنها ... قطاف في الرّكاب ولا خلاء [8]
[1] الأبيات لكبشة بنت معدي كرب في الحماسة البصرية 1/ 7473، والأغاني 15/ 230، والأمالي 2/ 226، وذيل الأمالي 190، ومعجم البلدان 3/ 406 (صعدة)، والخزانة 3/ 77 (بولاق)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 217، والتبريزي 1/ 117، ومعجم الأديبات الشواعر 412، وحماسة البحتري 30.
[2] تغلوا: تخونوا.
[3] الإفال: جمع أفيل، زنة أمير، وهو من أولاد الإبل ما أتى عليها سبعة أشهر أو ثمانية. والأبكر:
جمع بكر، وهو ولد الناقة. صعدة: مخلاف من مخاليف اليمن. وفي قولها: «بيت بصعدة مظلم» إشارة إلى زعم العرب من أن القتيل إذا ثأروا به أضاء قبره، أما إذا قبلت ديته أو هدر دمه فإن قبره يبقى مظلما.
[4] ديوان عنترة 20.
[5] أقص: أكسر. الإكام: جمع أكمة، وهي الرابية. المنسمان: الظفران المقدمان في الخف.
[6] تقدم شرح البيت مع تخريج واف له في الفقرة (1189).
[7] ديوان زهير 5857، والبيت الأول في اللسان والتاج (خلأ، أرز، قطف)، والمقاييس 1/ 79، والعين 7/ 383، والجمهرة 1056، والتهذيب 7/ 577، 13/ 249، والمجمل 1/ 179، وبلا نسبة في الجمهرة 64، 1069، والمخصص 7/ 162، والبيت الثاني في اللسان والتاج (أوأ، هوى)، والمقاييس 6/ 15، والمخصص 3/ 64، 15/ 120، والمجمل 4/ 455، والبيت الثالث في اللسان (أوأ، جنأ، سكك، صلم، خنا، سيا) والتاج (أوأ، سكك، تنم، صلم) وكتاب الجيم 1/ 279، والتهذيب 9/ 340، 11/ 197، 14/ 307، والتنبيه والإيضاح 1/ 5، وبلا نسبة في المقاييس 1/ 33، والجمهرة 250، والمجمل 1/ 155.
[8] في ديوانه: «الآرزة: الدانية بعضها إلى بعض. الفقارة: فقر الظهر. القطاف: مقاربة الخطو وضيق الشحوة وألا يكون وساعا. الركاب: الإبل. الخلاء: أن تبرك فلا تبرح.(4/453)
كأنّ الرحل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء [1] ... أصكّ مصلّم الأذنين، أجنى ... له بالسّيّ تنّوم وآء [2]
1206 [رد منكر صمم النعام]
قال القوم: فإنّا لا نقول ذلك، ولكنّ العرب في أمثالها تقول: إنّ النّعامة ذهبت تطلب قرنين فقطعوا أذنيها [3]. ليجعلوها مثلا في الموق وسوء التدبير. فإذا ذكر الشّاعر الظّليم، وذكر أنّه مصلّم الأذنين، فإنما يريد هذا المعنى. فكثر ذلك حتى صار قولهم: مصلم الأذنين، مثل قولهم صكّاء. وسواء قال صكّاء، أو قال نعامة، كما أنّه سواء قال خنساء أو قال مهاة ونعجة وبقرة وظبية لأنّ الظّباء والبقر كلها فطس خنس وإذا سمّوا امرأة خنساء فليس الخنس والفطس يريدون، بل كأنهم قالوا: مهاة وظبية. ولذلك قال المسيّب بن علس [4]، في صفة النّاقة: [من الكامل] صكّاء ذعلبة إذا استقبلتها ... حرج إذا استدبرتها هلواع [5]
فتفهّم هذا البيت، فإنه قد أحسن فيه جدّا.
والصّكك في الناس، والاصطكاك في رجلي الناقة عيب. فهو لم يكن ليصفها بما فيه عيب، ولكنّه لا يفرق بين قوله صكّاء، وبين قوله نعامة، وكذلك لا يفرّقون بين قولهم أعلم، وبين قولهم: بعير. قال الراجز: [من الرجز] إني لمن أنكر أو توسّما ... أخو خناثير يقود الأعلما [6]
[1] في ديوانه «الصعل: الظليم الدقيق العنق، الصغير الرأس. جؤجؤه: صدره. هواء: لا مخّ فيه. وقال الأصمعي: جؤجؤه هواء: أراد لا عقل له».
[2] في ديوانه «الصكك: اصطكاك العرقوبين، ويقال: إنما يكون ذلك إذا مشى. مصلم الأذنين: لا أذني له. أجنى: أي أدرك أن يجنى. السي: أرض. تنوم: الواحدة تنومة، شجيرة غبراء تنبت حبا دسما. آء: الواحدة: آءة، وهي ثمر السّرح».
[3] انظر الفقرة (1169).
[4] ديوان المسيب بن علس 616، وذيل الأمالي 132، والمفضليات 61، واللسان والتاج (هلع)، والتهذيب 1/ 144.
[5] ذعلبة: سريعة، جسيمة طويلة على وجه الأرض. هلواع: مستخفة كأنها تفزع من النشاط، والهلع: الخفة.
[6] الخناثير: الدواهي.(4/454)
كأنه يقول: يقود بعيرا. وهو كقول عنترة [1]: [من الكامل] وحليل غانية تركت مجدّلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
1207 [ردّ مدّعي الصّمم]
فقال من ادّعى للنّعام الصّمم: أمّا قولكم: من الدّليل على أن النّعامة تسمع قول الشاعر [2]: [من الكامل] تدعو النّعام به العرار
وقوله [3]: [من الطويل] متى ما تشأ تسمع عرارا بقفرة ... يجيب زمارا كاليراع المثقّب
وقوله [4]: [من الخفيف] آنست نبأة وأفزعها القنّاص عصرا وقد دنا الإمساء فليس ذلك أراد. وقد يراك الأخرس من النّاس والأخرس أصمّ فيعرف ما تقول، بما يرى من صورة حركتك، كما يعرف معانيك من إشارتك، ويدعوك ويطلب إليك بصوت وهو لم يسمع صوتك قط فيقصد إليه، ولكنه يريد تلك الحركة، وتلك الحركة تولد الصّوت، أراده هو أو لم يرده. ويضرب فيصيح، وهو لم يقصد إلى الصّياح، ولكنّه متى أدار لسانه في جوبة الفم بالهواء الذي فيه، والنّفس الذي يحضره جمّاع [5] الفم، حدث الصّوت. وهذا إنما غايته الحركة فيعرف صورة تلك الحركة.
والأخرس يرى النّاس يصفّقون بأيديهم، عند دعاء إنسان، أو عند الغضب والحدّ، فيعرف صورة تلك الحركة لطول تردادها على عينيه، كما يعرف سائر الإشارات. وإذا تعجّب ضرب بيديه كما يضربون.
فالنّعامة تعرف صورة إشارة الرّئلان وإرادتها، فتعقل ذلك، وتجاوبها بما تعقل عنها من الإشارة والحركة، وغدت لحركتها أصوات. ولو كانا يسمعان لم تزد حالهما في التّفاهم على ذلك.
[1] ديوان عنترة 24، وتقدم البيت في 3/ 148.
[2] البيت للطرماح في ديوانه 143 (115).
[3] البيت للبيد في ديوانه 18.
[4] البيت للحارث بن حلزة من معلقته، وقد تقدم في ص 448.
[5] الجمّاع: مجتمع الأصل.(4/455)
1208 [الشّمّ عند الحيوان]
والعرب تقول: «أشمّ من نعامة» [1] و: «أشمّ من ذرّة» [1]. قال الرّاجز [2]:
[من الرجز] أشمّ من هيق وأهدى من جمل
وقال الحرمازيّ، في أرجوزته [2]: [من الرجز] وهو يشتمّ اشتمام الهيق
قال: وأخبرنا ابن الأعرابيّ أنّ أعرابيّا كلم صاحبه، فرآه لا يفهم عنه ولا يسمع فقال: «أصلخ كصلخ النّعامة!» [3].
وقد يكون الفرس في الموكب وخلفه، على قاب غلوتين، حجر أو رمكة [4]، فيتحصّن [5] تحت راكبه، من غير أن تكون صهلت.
والذّئب يشتمّ ويستروح من ميل، والذّرّة تشتمّ ما ليس له ريح، ممّا لو وضعته على أنفك ما وجدت له رائحة وإن أجدت التشمّم، كرجل الجرادة تنبذها من يدك في موضع لم تر فيه ذرّة قطّ، فلا تلبث أن ترى الذّرّ إليها كالخيط الأسود الممدود.
وقال الشّاعر [6]، وهو يصف استرواح الناس: [من الطويل] وجاء كمثل الرّأل يتبع أنفه ... لعقبيه من وقع الصّخور قعاقع [7]
فإنّ الرّأل يشتم رائحة أبيه وأمّه والسّبع والإنسان من مكان بعيد. وشبّه به رجلا جاء يتّبع الرّيح فيشتمّ.
[1] المثل في الدرة الفاخرة 1/ 253، وجمهرة الأمثال 1/ 538، 560، ومجمع الأمثال 1/ 385، 391، والمستقصى 1/ 197.
[2] تقدم الرجز في 324.
[3] في مجمع الأمثال 1/ 406 «صلخا كصلخ النعامة».
[4] الحجر: أنثى الخيل. والرمكة: البرذونة.
[5] يتحصن: تبدو منه أمارات الذكورة.
[6] البيت بلا نسبة في البرصان 304، وأساس البلاغة (أنف).
[7] الرأل: فرخ النعام.(4/456)
1209 [استطراد لغوي]
وقال الآخر [1]: [من الكامل] والمرء لم يغضب لمطلب أنفه ... أو عرسه لكريهة لم يغضب
ومطلب أنفه: فرج أمّه لأنّ الولد إذا تمّت أيّامه في الرّحم، قلا [2] مكانه وكرهه، وضاق به موضعه، فطلب بأنفه موضع المخرج ممّا هو فيه من الكرب، حتّى يصير أنفه ورأسه على فم الرّحم، تلقاء فم المخرج. فالأناء [3] والمكان يرفعانه في تلك الجهة، والولد يلتمس تلك الجهة بأنفه، ولولا أنّه يطلب الهواء من ذاته، ويكره مكانه من ذاته، ثمّ خرج إلى عالم آخر خلاف عالمه الذي ربّي فيه، لمات كما يموت السّمك إذا فارقه الماء. ولكنّ الماء لمّا كان قابلا لطباع السمك غاذيا لها، والسّمك مريدا له، كان في مفارقته له عطبه. وكان في مفارقة الولد لجوف البطن واغتذائه فضلات الدّم، ما لا ينقص شيئا من طباعه وطباع المكان الذي كان له مرّة مسكنا. فلذلك قال الشّاعر الجاهلي [4]: [من الكامل] والمرء لم يغضب لمطلب أنفه ... أو عرسه لكريهة لم يغضب
يقول: متى لم يحم فرج أمّه وامرأته، فليس ممّن يغضب من شيء يؤول إليه.
1210 [قول المتكلّمين في صمم الأخرس]
وزعم المتكلّمون أنّ الأخرس أصمّ، وأنّه لم يوت من العجز عن المنطق لشيء في لسانه، ولكنّه إنّما أتي في ذلك لأنّه حين لم يسمع صوتا قطّ، مؤلّفا أو غير مؤلّف، لم يعرف كيفيّته فيقصد إليه. وأنّ جميع الصّمّ ليس فيهم مصمت [5]، وإنما يتفاوتون في الشّدّة واللّين فبعضهم يسمع الهدّة والصّاعقة، ونهيق الحمار إذا كان قريبا منه، والرّعد الشّديد، لا يسمع غير ذلك. ومنهم من يسمع السّرار، وإذا رفعت له الصّوت لم يسمع. ومتى كلّمته وقرّت الشّكاية في أذنه، فهم عنك كلّ الفهم. وإن
[1] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (أنف)، والتهذيب 1/ 68.
[2] قلا: كره وأبغض.
[3] الأناء: آن الشيء: حان.
[4] تقدم البيت في بداية هذه الفقرة.
[5] مصمت: تام الصمم.(4/457)
تكلّمت على ذلك المقدار في الهواء، ولم يكن ينفذ في قناة تحصره وتجمعه، حتّى تؤدّيه إلى دماغه لم يفهمه.
فالأصمّ في الحقيقة إنّما هو الأخرس، والأخرس إنّما سمّي بذلك على التشبيه والقرابة. ومتى ضرب الأصمّ من النّاس إنسانا أو شيئا غيره، ظنّ أنّه لم يبالغ، حتّى يسمع صوت الضربة. قال الشّاعر [1]: [من الطويل] أشار بهم لمع الأصمّ فأقبلوا ... عرانين، لا يأتيه للنّصر محلب [2]
وقال الأسديّ [3]: [من المتقارب] وأوصيكم بطعان الكماة ... فقد تعلمون بأن لا خلودا ... وضرب الجماجم ضرب الأصمّ ... حنظل شابة يجنى الهبيدا [4]
وقال الهذلي [5]: [من البسيط] فالطعن شغشغة والضّرب معمعة ... ضرب المعوّل تحت الدّيمة العضدا [6]
وإنما جعله تحت الدّيمة لأنّ الأغصان والأشجار تصير ألدن وأعلك، فيحتاج
[1] البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه 10 (61)، واللسان والتاج (حلب، صمم)، وأساس البلاغة (صمم)، والتهذيب 5/ 85، 12/ 127، والتنبيه والإيضاح 1/ 68، وبلا نسبة في المجمل 2/ 99، والمقاييس 2/ 96.
[2] في ديوانه «لمع الرجل بيده: أشار بها، ولمع الأصم: أي كما تشير للأصم بإصبعك. والضمير يعود على مقدم الجيش. والعرانين: الرؤساء. والمحلب: المعين من غير قومه، يقول: أشار إليهم فأقبلوا مسرعين. ولا يأتيه سوى قومه وبني عمه يكفونه».
[3] البيتان بلا نسبة في اللسان (صمم)، والتهذيب 12/ 127، والثاني في اللسان والتاج (شوب)، والتهذيب 6/ 219.
[4] الأصم: عنى به الظليم من النعام. شابة: موضع بنجد. الهبيد: حب الحنظل.
[5] البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي في شرح أشعار الهذليين 674، واللسان والتاج (عضد، هقع، شغغ، عول)، والتنبيه والإيضاح 2/ 39، والجمهرة 945، 1172، والمجمل 3/ 147، وديوان الأدب 3/ 434، وكتاب الجيم 2/ 272، وللهذلي في التهذيب 1/ 127، 3/ 198، 16/ 32، وبلا نسبة في الجمهرة 206، والمقاييس 3/ 169، 4/ 350، والمخصص 5/ 135، 6/ 90.
[6] في ديوان الهذليين 2/ 40 «شغشغة: حكاية لصوت الطعن حين يدخل. هيقعة: حكاية لصوت الضرب والوقع. وقوله: ضرب المعول، المعوّل: الذي يبني عالة، والعالة: شجر يقطعه الراعي فيستظل به من المطر يكون الرجل يحتاج إلى الكن فيقطع شجرة فيضعها على شجرتين فيستظل تحتها. والعضد: ما قطع من الشجر، وجعل تحت الديمة لأنه أسمع لصوته إذا ابتلّ».(4/458)
الذي يضرب تلك الأصول قبل المطر، إلى عشر ضربات حتّى يقطع ذلك المضروب فإذا أصابه المطر احتاج إلى أكثر من ذلك.
1211 [تفسير بيت من الشعر]
وأنشدني يحيى الأغر: [من المتقارب] كضرب القيون سبيك الحديد يوم الجنائب ضربا وكيدا [1] فلم أعرفه فسألت بعض الصّياقلة فقال: نعم، هذا بيّن معروف. إذا أخرجنا الحديدة من الكير في يوم شمال [2]، واحتاجت في القطع إلى مائة ضربة، احتاجت في قطعها يوم الجنوب إلى أكثر من ذلك، وإلى أشدّ من ذلك الضّرب لأنّ الشمال ييبّس ويقصف، والجنوب يرطّب ويلدّن.
1212 [الأخرس]
والإنسان أبدا أخرس، إذا كان لا يسمع ولا يتبيّن الأصوات التي تخرج من فيه، على معناه [3]. ويقال في غير الإنسان، على غير ذلك. قال كثيّر [4]: [من الطويل] ألم تسألي يا أمّ عمرو فتخبري ... سلمت وأسقاك السّحاب البوارق ... بكيا لصوت الرّعد خرس روائح ... ونعق ولم يسمع لهن صواعق
1213 [السحابة الخرساء]
وتقول العرب: «مازلت تحت عين خرساء». والعين: السحابة تبقى أيّاما تمطر. وإذا كثر ماؤها وكثف، ولم يكن فيها مخارق تمدح ببرق [5].
[1] القيون: جمع قين، وهو الحداد. الجنائب: جمع جنوب، وهي الريح. الوكيد: الشديد.
[2] أي في يوم رياحه شمالية.
[3] معناه: أي المعنى الحقيقي للخرس.
[4] ديوان كثير 417.
[5] «قال أبو حنيفة: عين خرساء وسحابة خرساء: لا رعد فيها ولا برق، ولا يسمع لها صوت رعد.
قال وأكثر ما يكون ذلك في الشتاء، لأن شدة البرد تخرس البرد، وتطفئ البرق». (اللسان:
خرس).(4/459)
ومتى رأيت البرق سمعت الرّعد بعد. والرّعد يكون في الأصل قبله، ولكنّ الصّوت لا يصل إليك في سرعة البرق لأنّ البارق والبصر أشدّ تقاربا من الصّوت والسّمع. وقد ترى الإنسان، وبينك وبينه رحله فيضرب بعصا إمّا حجرا، وإمّا دابّة، وإمّا ثوبا، فترى الضّرب، ثمّ تمكث وقتا إلى أن يأتيك الصّوت.
فإذا لم تصوّت السّحابة لم تبشّر بشيء، وإذا لم يكن لها رزّ [1] سمّيت خرساء.
1214 [الصخرة الصماء]
وإذا كانت الصّخرة في هذه الصّفة سمّيت صماء. قال الأعشى [2]: [من الكامل] وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... مكروهة يخشى الكماة نزالها
وعلى غير هذا المعنى قال كثيّر [3]: [من الطويل] كأني أنادي صخرة، حين أعرضت ... من الصّمّ لو تمشي بها العصم زلّت
ومن هذا الشّكل قول زهير [4]: [من الكامل] وتنوفة عمياء لا يجتازها ... إلا المشيّع ذو الفؤاد الهادي [5] ... قفر هجعت بها، ولست بنائم، ... وذراع يلقية الجران وسادي [6]
[1] الرز: الصوت.
[2] ديوان الأعشى 83، واللسان والتاج (حصف)، والتهذيب 4/ 252، والمقاييس 2/ 67، والمجمل 2/ 71، والعين 3/ 121.
[3] ديوان كثير 97، والموشح 252، والمقاصد النحوية 2/ 409408.
[4] ديوان زهير 244، والبيت الثاني في اللسان والتاج (هجع)، وبلا نسبة في المخصص 5/ 104، والبيت الثالث في أساس البلاغة (لحظ)، والإنصاف 778.
[5] في ديوانه: «التنوفة: القفر. يجتازها: يجاوزها. عمياء: لا طريق بها. المشيع: الجريء الشجاع الذي كأنّ معه من يشيّعه، أي لجرأته».
[6] في ديوانه: «هجعت: نمت. ولست بنائم: أي لم أنم على تحقيق نوم. كقولك نمت ولم أنم.
والجران: باطن الحلق ما أصاب الأرض، وإنما تضعه من الإعياء. يقول: توسدت ذراع هذه الناقة من الكلال والتعب. توسّد ذراع ناقته، حين نزل، وقد ألقت جرانها بالأرض، وهو باطن الحلقوم، من التعب والكلال».(4/460)
ووقعت بين قتود عنس ضامر ... لحّاظة طفل العشيّ سناد [1]
فجعل التّنوفة عمياء، حين لم تكن بها أمارات.
1215 [الحيوان الأعمى]
ودابّة يقال لها الزّبابة، عمياء صمّاء، تشبه الفأرة وليست بالخلد لأنّ الخلد أعمى وليس بأصمّ. والزباب يكون في الرّمل. وقال الشاعر [2]: [من مجزوء الكامل] وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا
وكلّ مولود في الأرض يولد أعمى، إن كان تأويل العمى أنّه لا يبصر إلّا بعد أيام. فمنه ما يفتح عينيه بعد أيّام كالجرو إلّا أولاد الدّجاج فإنّ فراريجها تخرج كاسية كاسبة.
1216 [شعر فيه مجون]
وقال أبو الشمقمق وجعل الأير أعمى أصمّ على التشبيه فقال [3]: [من الطويل] فسلّم عليه فاتر الطرف ضاحكا ... وصوّت له بالحارث بن عباد ... بأصلع مثل الجرو جهم غضنفر ... معاود طعن جائف وسناد ... أصمّ وأعمى ينغض الدّهر رأسه ... يسير على ميل بغير قياد [4]
1217 [قول لمن زعم أن النعامة تسمع]
وقال من زعم أنّ النّعامة تسمع: يدلّ على ذلك قول طرفة [5]: [من المنسرح] هل بالدّيار الغداة من خرس ... أم هل بربع الجميع من أنس
[1] في ديوانه: «القتود: أحناء الرحل، عيدان الرحل. الواحد قتد. عنس: ناقة. لحّاظة: تنظر وتتلفّت حين اصفرّت الشمس للمغيب في الوقت الذي تكلّ فيه الإبل. لحاظة: تلحظ يمينا وشمالا.
طفل العشي: قبيل العشي. سناد، مشرفة».
[2] البيت للحارث بن حلزة في عيون الأخبار 2/ 96، والمعاني الكبير 656، وأدب الكاتب 196، والسمط 504، والخزانة 5/ 113، وشعراء النصرانية 417، واللسان والتاج (زبب)، والتهذيب 13/ 171، والجمهرة 1000، 1120، ومعجم البلدان 3/ 129 (الزباء).
[3] ديوان أبي الشمقمق 133.
[4] أنغض رأسه: حركه إلى أسفل وأعلى.
[5] ديوان طرفة 155 (طبعة مكس سلغسون).(4/461)
سوى مهاة تقرو أسرّته ... وجؤذر يرتعي على كنس [1] ... أو خضاب يرتعي بهقلته ... متى ترعه الأصوات يهتجس [2]
فقد قال طرفة كما ترى:
متى ترعه الأصوات يهتجس
وقال الآخر: جوابنا في هذا هو جوابنا فيما قبله.
1218 [فكاهة]
وروى الهيثم بن عديّ، وسمعه بعض أصحابنا من أبي عبيدة، قال: تضارط أعرابيّان عند خالد بن عبد الله، أحدهما تميميّ والآخر أزديّ فضرط الأزديّ ضرطة ضئيلة، فقال التميميّ: [من الطويل] حبقت عجيفا محثلا ولو انّني ... حبقت لأسمعت النّعام المشرّدا [3] ... فمرّ كمّر المنجنيق وصوته ... يبذّ هزيم الرّعد، بدءا عمرّدا [4]
1219 [سبب إطلاق لقب نعامة على بعض الناس]
وزعم أبو عمرو الشّيبانيّ عن بعض العرب، أنّ كلّ عربيّ وأعرابيّ كان يلقّب نعامة، فإنما يلقّب بذلك لشدّة صممه. وأنّه سأله عن الظليم: هل يسمع؟ فقال:
يعرف بأنفه وعينه، ولا يحتاج معهما إلى سمع. وأنشدني: [من الطويل] فجئتك مثل الهقل يشتمّ رأله ... ولا عرف إلّا سوفها وشميمها [5]
وزعم أنّ لقب بيهس نعامة، وأنه لقّب بذلك لأنّه كان في خلق نعامة، وكان
[1] المهاة: البقرة الوحشية. تقرو: تقصد. الأسرة: جمع سر. وهو أفضل موضع في الوادي. الجؤذر:
ولد البقرة الوحشية. الكنس: جمع كناس، وهو بيت الوحش.
[2] الخاضب: الظليم. الهقلة: النعامة. يهتجس: هجسه: رده عن الأمر فانهجس.
[3] العجيف: المهزول. المحثل: الهزيل.
[4] المنجنيق: آلة ترمى بها الحجارة، فارسيتها: من چهـ نيك، أي: أنا ما أجودني. يبذ: يغلب.
الهزيم: صوت الرعد. البدء: السيد والشاب العاقل. العمرّد: الطويل.
[5] الهقل: ذكر النعام. الرأل: فرخ النعام. العرف: الريح طيبة أو غير طيبة. السوف: الشم.(4/462)
شديد الصّمم مائقا. فأنشد لعديّ بن زيد [1]: [من الطويل] ومن حذر الأيّام ما حزّ أنفه ... قصير وخاض الموت بالسّيف بيهس [2] ... نعامة لمّا صرّع القوم رهطه ... تبيّن في أثوابه كيف يلبس
وقال المتنخّل الهذليّ [3] وذكر سيفا: [من السريع] منتخب اللّبّ له ضربة ... خدباء كالعطّ من الخذعل [4]
يقول: هذا السّيف أهوج لا عقل له. والخدب في هذا الموضوع: الهوج.
وتهاوي الشيء لا يتمالك. ويقال للسّيف لا يبالي ما لقي.
1220 [شعر في التشبيه بالنعام]
وقال الأعشى [5] في غير هذا الباب: [من المتقارب] كحوصلة الرّال في جريها ... إذا جليت بعد إقعادها [6]
«كحوصلة الرّأل» يصف الخمر بالحمرة. جليت: أخرجت وهو مأخوذ من جلوة العروس القاعدة، إذا قعدت عن الطّلب. ومثله في غير الخمر قول علقمة [7]: [من البسيط] تأوي إلى حسكل حمر حواصله ... كأنّهنّ إذا برّكن جرثوم
[1] البيتان في ملحق ديوان عدي بن زيد 200، وللمتلمس في ديوانه 113، 116، والخزانة 7/ 290، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 659، وحماسة البحتري 20، والفاخر 64، وبلا نسبة في البيان 4/ 17.
[2] قصير: هو قصير بن سعد اللخمي، وقصته مشهورة مع الزباء ملكة تدمر، وبه ضرب المثل «لأمر ما جدع قصير أنفه»، وهذا المثل في المستقصى 2/ 383، ومجمع الأمثال 1/ 290، والأمثال لمجهول 116.
[3] شرح أشعار الهذليين 1260، واللسان (خذعل)، وديوان الهذليين 2/ 12.
[4] في ديوان الهذليين: «منتخب، أي منخوب اللب. يقول: ذهب عقله. يقول: كأنه ليس له عقل من مرّه لا يتماسك. والخدب: الاسترخاء، وركوب من الرجل لرأسه، وهو مثل الهوج. والعط:
الشّقّ. والخذعل: المرأة الحمقاء. ويقال: هذه الحمقاء لا تداوي الشق، تدعه كما هو».
[5] ديوان الأعشى 121.
[6] في جريها: أي عند سيلانها وتدفقها من فم الدن. الرأل: فرخ النعام، وحوصلته حمراء لتجردها من الريش.
[7] تقدم تخريج البيت وشرحه في الفقرة 1193، ص 438.(4/463)
وقال الأخنس بن شهاب [1]: [من الطويل] تظلّ بها ربد النّعام كأنّها ... إماء تزجّي بالمساء حواطب [2]
تزجّي: تدفع وذلك أنّه يثقل حملها فتمشي مشية النّعامة. وقال الرّاجز [3]:
[من الكامل] وإذا الرّياح تروّحت بعشيّة ... رتك النّعام إلى كثيف العرفج [4]
والرّتك: مشي سريع. يقول تبادر إلى الكثيف تستتر به من البرد. وقال [5]:
[من الكامل] رتك النّعامة في طريق حام [6]
1221 [زعم في استقبال الظليم للريح]
وليس لقول من زعم أنّ الظليم إذا عدا استقبل الرّيح [7]، وإنّما ذلك مخافة أن تكون الرّيح من خلفه فتكبته معنى لأنّا نجدهم يصفون جميع ما يستدعونه باستقبال الرّيح. قال عبدة بن الطّبيب [8]، يصف الثّور: [من البسيط] مستقبل الرّيح يهفو وهو مبترك ... لسانه عن شمال الشّدق معدول [9]
[1] البيت في المفضليات 204، والموشح 44، والشعر والشعراء 79 (ليدن)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 724.
[2] في المفضليات: «الربد: جمع أربد وربداء، والربدة سواد في بياض. الحواطب: اللاتي يحملن الحطب. وإنما خصّ العشيّ لأن الإماء المحتطبات يرجعن فيه إلى أهاليهن».
[3] كذا، والصواب «الشاعر». وهو للحارث بن حلزة في شرح اختيارات المفضل 1142، والمفضليات 256، والتاج (رتك).
[4] الكثيف: الملتف. العرفج: شجر سريع الالتهاب.
[5] صدر البيت: (ومجدّة نسّأتها فتكمّشت)، وهو لامرئ القيس في ديوانه 115، وأساس البلاغة (كمش).
[6] في ديوانه: (قوله: «ومجدة»، أي ربّ ناقة لها جدّ في السير وسرعة. ومعنى «تكمشت»، أسرعت وجدّت لا تفتر. وشبّه سرعة سيرها برتك النعامة، وهو تقارب خطوها في سرعة.
والحامي: الحار المتوهّج. وصف أنه صار في الهاجرة).
[7] ربيع الأبرار 5/ 452.
[8] ديوان عبدة بن الطبيب 61، والمفضليات 140.
[9] في المفضليات: «مستقبل الريح: يستروح بها من حرارة التعب وجهد العدو. المبترك: المعتمد في سيره لا يترك جهدا، معدول: ممال. يريد أنه قد دلع لسانه يلهث من الإعياء».(4/464)
ووصف الذّيب طفيل الغنويّ، فقال [1]: [من الطويل] كسيد الغضا العادي أضلّ جراءه ... على شرف مستقبل الرّيح يلحب
1222 [استطراد]
ويلحق بموضع ذكر الضّرب الشديد، قولهم في المثل: «ضربناهم ضرب غرائب الإبل» [2]. قال أبو حيّة [3]: [من الطويل] جديرون يوم الرّوع أن يخضبوا القنا ... وأن يتركوا الكبش المدجّج ثاويا [4] ... ضربناهم ضرب الجنابى على جبى ... غرائب تغشاه حرارا ضواريا [5]
وإذا جاءت عطاشا قد بلغ منها العطش واليبس، قيل: جاءت تصلّ أجوافها صليلا. قال الرّاعي [6]: [من الكامل] فسقوا صوادي يسمعون عشيّة ... للماء في أجوافهنّ صليلا
قال: وأنشدنا أبو مهديّة، لمزاحم العقيليّ [7]: [من الطويل] غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها ... تصلّ، وعن قيض بزيزاء مجهل [8]
[1] ديوان طفيل الغنوي 45، والمعاني الكبير 1/ 162، 319، وتقدم البيت في الصفحة 323.
[2] المثل برواية «ضربه ضرب غرائب الإبل»، ويروى «اضربه ضرب غريبة الإبل»، والمثل في مجمع الأمثال 1/ 419، وجمهرة الأمثال 2/ 8، والمستقصى 1/ 215، وأمثال ابن سلام 270، ومثله حديث الحجاج في النهاية 3/ 349 «لأضربنّكم ضرب غريبة الإبل»، وذلك أن الإبل إذا وردت الماء فدخل فيها غريبة من غيرها ضربت وطردت، حتى تخرج منها.
[3] ديوان أبي حية النميري 105104.
[4] القنا: الرماح. الكبش: القائد. المدجج: ذو السلاح. ثاويا: مقتولا.
[5] رواية البيت في الأصل:
(ضربناهم ضرب الحساما غرائب ... وإذا جاءك عطاشا لعسا حرارا ضواريا)
[6] ديوان الراعي النميري 223، واللسان والتاج (صلل)، والجمهرة 143، 1321، وراجع المزيد من مصادر البيت في ديوانه 224223.
[7] ديوان مزاحم العقيلي 11، والخزانة 10/ 147، 150، ونوادر أبي زيد 163، واللسان والتاج (صلل، علا)، وشرح شواهد المغني 1/ 425، وشرح المفصل 8/ 38، وشرح شواهد الإيضاح 230، والأزهية 194، والدرر 4/ 187، وبلا نسبة في مغني اللبيب 1/ 146، 2/ 532، والخزانة 6/ 535، ومجالس ثعلب 304، وأوضح المسالك 3/ 58، وأسرار العربية 103، وهمع الهوامع 2/ 36. والمخصص 14/ 57، والكتاب 4/ 231.
[8] في الكتاب «يصف قطاة غدت عن فرخها طالبة للورد بعد تمام الخمس، وهو أن ترد الماء يوما(4/465)
قال الزّيزاء: المكان الغليظ.
وقال آخر [1]: [من الطويل] ألم تعلمي يا أمّ حسّان أنّني ... إذا عبرة نهنهتها فتجلّت [2] ... رجعت إلى صدر كجرّة حنتم ... إذا قرعت صفرا من الماء صلّت [3]
1223 [اختبار لأحد الحوّاء]
وزعم ابن أبي العجوز الحوّاء، أنّ الأفاعي صمّ، فلذلك لا تجيب الرّقى، ثمّ زعم لي في ذلك المجلس أنّ أمير المؤمنين المنصور، أراد امتحان رقى حيّة وأن يتعرّف صحّتها من سقمها، وأنّه أمر فصاغوا له أفعى من رصاص، فجاءت ولا يشكّ النّاظر فيها وأنّه أمر بإلزاقها في موضع من السّقف وأنّه أحضره وقال له: إنّ هذه الأفعى قد صارت في هذه الدّار، وقد كرهتها لمكانها فإن احتلت لي برقية، أو بما أحببت أحسنت إليك. قال: إن أردت أن آخذها هربت، ولكن أرقيها حتى تنزل! فرقاها فلما رآها لا تتحرّك زاد في رفع صوته وألقى قناعه، فلما رآها لا تتحرّك نزع عمامته وزاد في رفع صوته. فلما رآها لا تتحرّك نزع قلنسوته وزاد في رفع صوته. فلما رآها لا تتحرّك نزع ثيابه، وزاد في رفع صوته، حتّى أزبد، وتمرّغ في الأرض، فلما فعل ذلك سال ذلك الرّصاص وذاب، حتى صار بين أيديهم، فأقرّ عند ذلك المنصور بجودة رقيته.
فقلت له: ويلك! زعمت قبيل أنّ الأفاعي لا تجيب الرّقى لأنها لا تسمع، وهي حيوان، ثمّ زعمت أنّها أجابت، وهي جماد!!
1224 [نفار النعامة وغيرها]
وقال الشّاعر: [من الطويل]
ثم تتركه ثلاثا وتعود إليه في الخامس. والظمء: ما بين الوردين، والقيض: قشور البيض. يريد أنها أفرخت بيضها لتوّها، فهي تسرع في طيرانها في ذهابها وإيابها إشفاقا وحرصا. المجهل: الذي لا يهتدى فيه».
[1] البيتان لعمرو بن شأس في ديوانه 79، والأغاني 11/ 199، والبيت الثاني في اللسان (حنتم) وكتاب الجيم 1/ 205، والمذكر والمؤنث للأنباري 317، وبلا نسبة في الجمهرة 143، والمخصص 17/ 16، والتهذيب 12/ 112، والتاج (حنتم).
[2] في ديوانه «أم حسان: زوجة الشاعر، واسمها: حية بنت الحارث بن سعد. نهنهتها: كففتها».
[3] في ديوانه «الحنتم: جرار خضر تضرب إلى الحمرة. صلت: صوتت». صفرا: خالية.(4/466)
وربداء يكفيها الشّميم وما لها ... سوى الرّبد من أنس بتلك المجاهل
يخبر أنّ النّعامة لا تستأنس بشيء من الوحش، وأنّ الشّمّ يغنيها في فهم ما تحتاج إليه.
وهي مع ذلك إذا صارت إلى دور النّاس، فليس معها من الوحشة منهم، على قدر ما يذكرون.
وفي الوحش ما يأنس، وفيها ما لا يأنس. وقال كثيّر [1]: [من الطويل] فأقسمت لا أنساك ما عشت ليلة ... وإن شحطت دار وشطّ مزارها ... وما استنّ رقراق السّراب وما جرت ... ببيض الرّبا أنسيّها ونوارها [2]
ووصف بلادا قفارا غير مأنوسة فقال [3]: [من الخفيف] ما ترى العين حولها من أنيس ... قربها غير رابدات الرّئال [4]
خصّها بالذّكر لأنها أنفر وأشرد، وأقلّ أنسا من جميع الوحش.
وقال الأحيمر [5]: كنت آتي الظّبي حتى آخذ بذارعيه وما كان شيء من بهائم الوحش ينكرني إلّا النّعام. وأنشد قول ذي الرّمّة [6]: [من الطويل] وكلّ أحمّ المقلتين كأنّه ... أخو الإنس من طول الخلاء المغفّل [7]
[1] ديوان كثير 431430.
[2] استن: اضطرب. النور: النافر الذي لا يستأنس من الحيوان.
[3] ديوان كثير 398.
[4] رابدات: مقيمات. الرئال: فراخ النعام.
[5] هو الأحيمر السعدي، وتمام الخبر في عيون الأخبار 2/ 88: «كنت حين خلعني قومي وأطلّ السلطان دمي، وهربت وترددت في البوادي، ظننت أني قد جزت نخل وبار أو قريب منها، وذلك أني كنت أرى النوى في رجع الذئاب، وكنت أغشى الظباء وغيرها من بهائم الوحش، فلا تنفر مني، لأنها لم تر أحدا قبلي، وكنت أمشي إلى الظبي السمين فآخذه، وعلى ذلك رأيت جميع تلك الوحوش إلا النعام، فإنه لم أره إلا نافرا فزعا».
[6] ديوان ذي الرمة 1462، وعيون الأخبار 2/ 88، والمعاني الكبير 754، وجمهرة الأمثال 2/ 317، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 1/ 343.
[7] في ديوانه «يريد: وكل ثور أسود العينين كأنه أخو الإنس لا ينحاش من الناس، لا يفزع منهم لأنه لا يعرفهم» والمغفل: الذي لا علامة فيه ولا أثر.(4/467)
يدلّ على ذلك في قدر ما شاهدنا أنّهم يخرجون إلى الصّحارى الأغفال، التي لم يذعر صيدها، ولا يطؤها النّاس، فيأتون الوحش فوضى هملا، ومعهم كلابهم وفهودهم تتلوى بأيديهم، فيتقدّمون إلى المواضع التي لو كانوا ابتدؤوا الصّيد من جهتها لأخذوا ما أخذوا فإذا نفرت وحوش هذه الأرض، ومرّت بالأرض المجاورة لها، نفرت سكّان تلك الأرض مع هذه النّوافر، ولا تعود تلك الصحارى إلى مثل ما كانت عليه، من كثرة الوحش حينا.
ومتى لم تنفّرها الأعراب بالكلاب والقسيّ، ونصب الحبائل، رتعت بقربهم، ثمّ دنت منهم أوّلا فأوّلا، حتى تطأ أكناف بيوتهم. وهي اليوم في حير [1] المعتصم بالله والواثق بالله على هذه الصّفة.
1225 [إقبال الظّباء على الناس]
وخبّرني إبراهيم بن السّنديّ قال خبرني عبد الملك بن صالح، وإسحاق بن عيسى، وصالح صاحب الموصل، أنّ خالد بن برمك، بينا هو على سطح من سطوح القرى مع قحطبة، وهم يتغدّون، وذلك في بعض منازلهم، حين فصلوا من خراسان إلى الجبل. قال: وبين قحطبة وبين الأعداء مسيرة أيّام وليال. قال: فبينا خالد يتغدّى معه وذلك حين نزلوا وبهم كلال السّير، وحين علّقوا [2] على دوابّهم، ونصبوا قدورهم، وقرّبوا سفرهم [3].
قال فنظر خالد إلى الصّحراء، فرأى أقاطيع الظّباء قد أقبلت من جهة الصّحارى، حتى كادت تخالط العسكر، فقال لقحطبة: أيّها الأمير! ناد في النّاس: «يا خيل الله اركبي» [4] فإنّ العدوّ قد حثّ إليك السّير، وغاية أصحابك أن يسرجوا ويلجموا قبل أن يروا سرعان الخيل [5]. فقام قحطبة مذعورا، فلما لم ير شيئا يروعه، ولم ير غبارا قال لخالد: ما هذا الرّأي! قال: أيّها الأمير! لا تتشاغل بي وبكلامي، وناد في النّاس.
أما ترى أقاطيع الوحش قد أقبلت، فارقت مواضعها حتّى خالطت الناس؟! إنّ وراءها
[1] الحير: البستان.
[2] في اللسان «العليق: القضيم يعلق على الدابة» والقضيم: الشعير.
[3] السّفر: جمع سفرة، وهي طعام المسافر.
[4] الحديث أورده الجاحظ في البيان 2/ 15، وتقدم في الفقرة (243)، 1/ 222.
[5] سرعان الخيل: أوائلها.(4/468)
جمعا عظيما!. قال: فو الله ما ألجموا وأسرجوا حتى رأوا ساطع الغبار، ولا تلبّسوا [1] وتسلّحوا حتّى رأوا الطليعة [2]. فما التأموا حتى استوى أصحاب قحطبة على ظهور خيولهم. ولولا نظرة خالد بن برمك وفراسته، لقد كان ذلك الجيش اصطلم [3].
1226 [قصة في قوة الشمّ]
وكان إبراهيم بن السّنديّ يحدّثنا من صدق حسّ أبيه في الشّمّ، بشيء ما يحكى مثله إلّا عن السّباع والذّرّ والنّعام. وزعم أنّ أباه قال ذات يوم: أجد ريح بول فأرة! ثمّ تشمّم وأجال أنفه في المجلس، فقال: هو في تلك الزّاوية! فنظروا فإذا على طرف البساط من البلل بقدر الدّرهم، أو أوسع شيئا، فقضوا أنّه بول فأرة.
قال: وشهدته مرّة وأشراطه [4] قيام على رأسه في السّماطين [5]، فقال: أجد ريح جورب عفن منتن! فتشمّمنا بأجمعنا، فلم نجد شيئا، ثمّ تشمّم وقال: انزعوا خفّ ذاك. فنزعوا خفّه، فكلّما مدّ النازع له شيئا بدا من لفافته. فما زال النّتن يكثف ويزداد، حتى خلع خفّه ونزعه من رجله، فظهر من نتن لفافته ما عرف به صدق حسّه. ثمّ قال: انزعوا الآن أخفافكم بأجمعكم، فلا بدّ من ألّا يكون في جميع اللّفائف منتن غير لفافته، أو تكون لفافته أنتنها فنزعوا، فلم يجدوا في جميعها لفافة منتنة غيرها.
وأنشدوا [6]: [من الطويل] غزا ابن عمير غزوة تركت لنا ... ثناء كنتن الجورب المتخرّق
1227 [أقوى درجات التشمم]
وليس الذي يحكى من صدق الحسّ في الشّم عن بعض النّاس، وعن النّعام والسّباع، والفأر والذّرّ، وضروب من الحشرات من شكل ما نطق به القرآن العظيم،
[1] تلبسوا: لبسوا ثياب الحرب.
[2] طليعة الجيش: أولهم.
[3] اصطلم الجيش: استؤصل وأبيد.
[4] الأشراط: الحرس.
[5] السماطين: مثنى سماط، وهو الصف من الناس.
[6] البيت بلا نسبة في ثمار القلوب 486 (867)، والمستقصى 1/ 382، والوساطة 400، وتقدم في 1/ 157.(4/469)
من شأن يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسّلام حين يقول تعالى: {قََالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلََا أَنْ تُفَنِّدُونِ، قََالُوا تَاللََّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلََالِكَ الْقَدِيمِ} [1]. وكان هذا من يعقوب بعد أن قال يوسف {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هََذََا فَأَلْقُوهُ عَلى ََ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [2]. ولذلك قال: {وَلَمََّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قََالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلََا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [1] ثمّ قال: {فَلَمََّا أَنْ جََاءَ الْبَشِيرُ أَلْقََاهُ عَلى ََ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً} [3].
وإنّما هذا علامة ظهرت له خاصة إذ كان النّاس لا يشتمّون أرواح [4] أولادهم إذا تباعدوا عن أنوفهم، وما في طاقة الحصان الذي يجد ريح الحجر [5] ممّا يجوز الغلوتين والثّلاث [6]. فكيف يجد الإنسان وهو بالشّام ريح ابنه في قميصه، ساعة فصل من أرض مصر؟! ولذلك قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} [7].
1228 [بعض المجاعات]
وقد غبر [8] موسى وهو يسير أربعين عاما، لا يذوق ذواقا [9]. وجاع أهل المدينة في تلك الحطمة [10]، حتى كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدّون الحجر على بطونهم، من الجوع والجهد [11]. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطّيبين الطاهرين
[1] 94/ يوسف: 12.
[2] 93/ يوسف: 12.
[3] 96/ يوسف: 12.
[4] الأرواح: جمع ريح: وهي الرائحة.
[5] الحجر: أنثى الخيل.
[6] الغلوة: قدر رمية بسهم، وانظر الفقرة (1208)، ص 455.
[7] 96/ يوسف: 12.
[8] غبر: مكث.
[9] الذواق: المأكول والمشروب، فعال بمعنى مفعول، وفي الحديث «لم يكن يذم ذواقا» انظر النهاية 2/ 172.
[10] الحطمة: هي السنة الشديدة الجدب، ومنه حديث جعفر «كنا نخرج سنة الحطمة».
[11] كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا على مضر بقوله: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف» فكان القحط سبع سنين متتالية، حتى أكلوا القد والعظام. فنال ذلك الجدب النبي وأصحابه. حتى شد المسلمون على بطونهم الحجارة من الجوع. انظر صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، حديث 961، وكتاب صفة الصلاة، حديث 771، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، حديث 675، ومسند أحمد 2/ 239، 255، وثمار القلوب 37 (113).(4/470)
يقول: «إنّي لست كأحدكم، إنّي أبيت عند ربّي، يطعمني ويسقيني» [1].
1229 [جدال في ذبح الحيوان وقتله]
ورجال ممّن ينتحل الإسلام، يظهرون التقذّر من الصّيد، ويرون أنّ ذلك من القسوة، وأنّ أصحاب الصّيد لتؤدّيهم الضّراوة التي اعترتهم من طروق الطّير في الأوكار، ونصب الحبائل للظّباء، التي تنقطع عن الخشفان [2] حتى تموت هزلا وجوعا، وإشلاء السّباع على بهائم الوحش وستسلم أهلها إلى القسوة، وإلى التهاون بدماء النّاس.
والرّحمة شكل واحد. ومن لم يرحم الكلب لم يرحم الظّبي، ومن لم يرحم الظّبي لم يرحم الجدي، ومن لم يرحم العصفور لم يرحم الصّبيّ. وصغار الأمور تؤدّي إلى كبارها.
وليس ينبغي لأحد أن يتهاون بشيء ممّا يؤدي إلى القسوة يوما ما. وأكثر ما سمعت هذا الباب، من ناس من الصّوفيّة، ومن النّصارى لمضاهاة النّصارى سبيل الزّنادقة، في رفض الذبائح، والبغض لإراقة الدّماء، والزّهد في أكل اللّحمان.
وقد كان يرحمك الله على الزّنديق ألّا يأتي ذلك في سباع الطّير، وذوات الأربع من السّباع. فأما قتل الحيّة والعقرب، فما كان ينبغي لهم البتّة أن يقفوا في قتلهما طرفة عين لأنّ هذه الأمور لا تخلو من أن تكون شرّا صرفا، أو يكون ما فيها من الخير مغمورا بما فيها من الشرّ. والشّرّ شيطان، والظّلمة عدوّ النّور. فاستحياء الظلمة وأنت قادر على إماتتها، لا يكون من عمل النّور. بل قد ينبغي أن تكون رحمة النّور لجميع الخلائق والنّاس، إلى استنقاذهما من شرور الظّلمة.
وكما ينبغي أن يكون حسنا في العقل استحياء النّور والعمل في تخليصه والدّفع عنه فكذلك ينبغي أن يكون قتل الظّلمة وإماتتها، والعون على إهلاكها، وتوهين أمرها حسنا.
[1] أخرج البخاري في الصوم برقم 1860، ومسلم في الصيام برقم 1104 (عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تواصلوا. قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى، أو: إني أبيت أطعم وأسقى) وأعاده البخاري في التمني برقم 6814.
[2] الخشفان: جمع خشف، وهو ولد الظبية عندما يتحرك للمشي.(4/471)
والبهيمة التي يرون أن يدفعوا عنها أيضا ممزوجة [1]، إلّا أنّ شرّها أقلّ. فهم إذا استبقوها فقد استبقوا الشّرور المخالطة لها.
فإن زعموا أنّ ذلك إنّما جاز لهم لأنّ الأغلب على طباعها النّور فليغتفروا في هذا الموضع إدخال الأذى على قليل ما فيها من أجزاء الشّرّ كما اغتفروا ما في إدخال الروح والسّرور على ما في البهيمة من أجزاء الظّلمة لدفعهم عن البهيمة إذ كان أكثر أجزائها من النّور.
وإنّما ذكرت ما ذكرت لأنّهم قالوا: الدّليل على أنّ الذي أنتم فيه، من أكل الحيوان كلّ يوم من الذبائح، مكروه عند الله، أنّكم لم تروا قطّ ذبّاحي الحيوان ولا قتّالي الإنسان، ولا الذين لا يقتاتون إلّا اللّحمان يفلحون أبدا. ويستغنون كنحو صيّادي السّمك وصيّادي الوحش وأصناف الجزّارين والقصّابين، والشّوّائين والطهّائين والفهّادين والبيازرة [2] والصّقّارين والكلابين لا ترى أحدا منهم صار إلى غنى ويسر، ولا تراه أبدا إلا فقيرا محارفا [3]، وعلى حال مشبهة بحاله الأولى.
وكذلك الجلادون، ومن يضرب الأعناق بين يدي الملوك. وكذلك أصحاب الاستخراج والعذاب، وإن أصابوا الإصابات، وجميع أهل هذه الأصناف.
نعم وحتّى ترى بعضهم وإن خرج نادرا خارجيّا، ونال منهم ثروة وجاها وسلطانا، فإمّا أن يقتل، وإمّا يغتصب نفسه بميتة عاجلة، عند سروره بالثّروة، أو يبعث الله عليه المحق [4] فلا ينمو له شيء، وإما ألّا يجعل من نسلهم عقبا مذكورا، ولا ذكرا نبيها وذرّيّة طيبة، مثل الحجّاج بن يوسف، وأبي مسلم، ويزيد بن أبي مسلم ومثل أبي الوعد، ومثل رجال ذكروهم لا نحبّ أن نسميهم.
قال: فإنّ هؤلاء، مع كثرة الطّروقة [5] وظهور القدرة، ومع كثرة الإنسال، قد قبح الله أمرهم، وأخمل أولادهم. فهم بين من لم يعقب، أو بين من هو في معنى من لم يعقب.
[1] ممزوجة: أي ممزوج فيها الخير بالشر.
[2] البيازرة: جمع بيزار، وهو القائم بأمر البازي.
[3] المحارف: المحروم.
[4] المحق: النقصان.
[5] الطروقة: الزوجة، والمرأة.(4/472)
فقلت للنّصارى بديّا: كيف كان النّاس أيّام الحكم بما في التّوراة أيّام موسى وداود، وهما صاحبا حروب وقتل، وسباء وذبائح؟! نعم حتى كان القربان كله أو عامّته حيوانا مذبوحا، لذلك سمّيتم بيت المذبح.
ولسنا نسألكم عن سيرة النّصارى اليوم، ولكنّا نسألكم عن دين موسى وحكم التّوراة، وحكم صاحب الزّبور. وما زالوا عندكم إلى أن أنكروا ربوبيّة المسيح، على أكثر من حالنا اليوم في الذبائح. وأنتم في كثير من حالاتكم تغلون علينا السّمك، حتى نتوخّى أيّاما بأعيانها، فلا نشتري السّمك إلا فيها طلبا للإمكان والاسترخاص، وهي يوم الخميس، ويوم السّبت، ويوم الثّلاثاء لأنّ شراءكم في ذلك اليوم يقلّ. على أنّكم تكثرون من الذّبائح في أيّام الفصح، وهل تدعون أكل الحيوان إلّا أيّاما معدودة، وساعات معلومة؟!.
فإذا كانت الحرفة والمحن إنّما لزما القصّابين والجزّارين والشّوّائين، وأصناف الصّيّادين، من جهة العقوبة فأنتم شركاء صيّادي السّمك خاصّة لأنّكم آكل الخلق له، وأنتم أيضا شركاء القصّابين في عامّة الدّهر. فلا أنتم تدينون للإسلام فتعرفوا ما عليكم ولكم، وفصل ما بين الرّحمة والقسوة، وما الرّحمة، وفي أيّ موضع يكون ذلك القتل رحمة؟ فقد أجمعوا على أنّ قتل البعض إحياء للجميع، وأنّ إصلاح النّاس. في إقامة جزاء الحسنة والسيئة. {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} [1].
والقود حياة. وهذا شيء تعمل به الأمم كلها، غير الزّنادقة. والزّنادقة لم تكن قطّ أمّة، ولا كان لها ملك ومملكة، ولم تزل بين مقتول وهارب ومنافق. فلا أنتم زنادقة. ولا ينكر لمن كان ذلك مذهبه أن يقول هذا القول.
فأنتم لا دهريّة، ولا زنادقة، ولا مسلمون ولا أنتم راضون بحكم الله أيّام التّوراة.
فإن كان هذا الحكم قد أمر الله به وهو عدل فليس بين الزّمانين فرق.
وبعد فإنّا نجدكم تأكلون السّمك أكلا ذريعا، وتتقذرون من اللّحمان! أفلأنّ السّمك لا يألم القتل، أم لأنّ السّمك لمّا قتلتموه بلاسكّين لم يحسّ قتله؟! فالجميع حيوان، وكلّ مقتول يألم، وكلّ يحسّ. فكيف صار أكل اللّحم قسوة، وأكل السّمك ليس بقسوة؟!. وكيف صار ذبح البهائم قسوة ولا تكون تفرقة ما بين
[1] 179/ البقرة: 2(4/473)
السّمك والماء حتّى تموت قسوة! وكيف صار ذبح الشّاة قسوة وصيد السمك بالسّنانير المذرّبة المعقّفة [1] ليس لها شعائر تخالف العقاف المنصوص في جهاتها.
وكيف وهي وإن لم تنشب في أجوافها، وتقبض على مجامع أرواحها، لم تقدر على أخذها؟!.
وكيف صار وجء اللّبّة [2] من الجزور أقسى من ضرب النبائل؟! أم كيف صار طعن العير بالرّمح، ونصب الحبائل للظّباء، وإرسال الكلاب عليها أشدّ من وقع النّبائل في ظهر السّمك؟! ولأنّكم تكثرون قولكم: لا نأكل شيئا فيه دم أيّام صومنا، فللسّمك دم، ولا بدّ لجميع الحيوان من دم أو شيء يشاكل الدّم، فما وجه اعتلالكم بالدّم؟! ألأنّ كلّ شيء فيه دم فهو أشدّ ألما؟ فكيف نعلم ذلك؟ وما الدّليل عليه؟
فإن زعمتم أنّ ذلك داخل في باب التعبّد والمصلحة، لا في باب القياس والرّحمة والقسوة، فهذا باب آخر. إلّا أن تدّعوا أنّ ذوات الدّماء أقوى للأبدان، وآشر [3] للنّفوس، فأردتم بذلك قلّة الأشر وضعف البدن. فإن كان ذلك كذلك فقد ينبغي أن يكون هذا المعنى مستبينا في آكلي السّمك من البحريين.
وأمّا ما ذكرتم من ملازمة الحرفة لهؤلاء الأصناف، فإنّ كلّ من نزلت صناعته، ودقّ خطر تجارته، كذلك سبيله.
وأحلّ الكسب كلّه وأطيبه عند جميع النّاس سقي الماء، إمّا على الظّهر، وإمّا على دابّة. ولم أر سقّاء قطّ بلغ حال اليسار والثّروة وكذلك ضرّاب اللّبن، والطّيّان، والحرّاث. وكذلك ما صغر من التّجارات والصّناعات.
ألا ترون أنّ الأموال كثيرا ما تكون عند الكتّاب، وعند أصحاب الجوهر، وعند أصحاب الوشي والأنماط [4]، وعند الصّيارفة والحنّاطين [5]، وعند البحريّين
[1] المذربة: المحددة: المعقفة: الملوية.
[2] الوجء: الطعن. اللبة: موضع النحر.
[3] الأشر: المرح والنشاط.
[4] الأنماط: ضرب من البسط.
[5] الحناطين: بائعو الحنطة، أي البر.(4/474)
والبصريين. والجلّاب [1] أبدا، والبيازرة [2] أيسر ممّن يبتاع منهم.
وجمل الأموال حقّ بأن تربح الجمل من تفاريق الأموال. وكذلك سبيل القصّاب والجزّار، والشّوّاء، والبازيار [2]، والفهّاد.
وأمّا ما ذكرتم من انقطاع نسل القساة، وخمول أولادهم، كانقطاع نسل فرعون، وهامان، ونمرود، وبخت نصّر، وأشباههم، فإنّ الله يقول: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} * [3].
وإن شئتم أن تعدّوا من المذكورين بالصّلاح أكثر من هؤلاء ممّن كان عقيما أو كان ميناثا [4]، أو يكون ممّن نبت لهم أولاد سوء عقّوهم في حياتهم، وعرّضوهم للسّبّ بعد موتهم لوجدتموهم.
وعلى أني لم أنصب نفسي حربا للحجّاج بن يوسف، ويزيد بن أبي مسلم، أتحرى بهما، وهما عندي من أهل النّار. ولكنّي عرفت مغزاكم.
وعلى أنّكم ليس القصّابين أردتم، ولكنّكم أردتم دين المسلمين.
وقد خرج الحجّاج من الدّنيا سليما في بدنه، وظاهر نعمته، وعليّ مرتبته من الملك، ومكانه من جواز الأمر والنّهي.
فإن كان الله عندكم سلّمه وعاقب أولاده، وكان ذلك دينكم فإنّ هذا قول إن خاطبتم به الجبريّة [5] فعسى أن تتعلّقوا منهم بسبب فأمّا من صحّح القول بالعدل فإنّ هذا القول عنده من الخطإ الفاحش الذي لا شبهة فيه.
1230 [شعر في فقر القانص]
وكان ممّا أنشدوا من الدّليل على أنّ القانص لا يزال فقيرا قول ذي الرّمة [6]:
[من البسيط]
[1] الجلّاب: الذين يجلبون العبيد للتجارة.
[2] البيازرة: جمع بيزار، وهو القائم بأمر البازي، وبيزار: معرب بازيار.
[3] 164/ الأنعام: 6، 15/ الإسراء: 17، 18/ فاطر: 35، 7/ الزمر: 39.
[4] المئناث: الذي لا يولد له إلا الإناث.
[5] الجبرية: فرقة يقوم مذهبها على نفي الفعل حقيقة عن العبد، وإسناده إلى الله تعالى.
[6] ديوان ذي الرمة 10195. وشرح المفردات التالية منه.(4/475)
حتّى إذا ما لها في الجدر واتّخذت ... شمس النّهار شعاعا بينها طبب [1] ... ولاح أزهر مشهور بنقبته ... كأنّه حين يعلو عاقرا لهب [2] ... هاجت به جوّع طلس مخصّرة ... شوازب لاحها التّغريث والجنب [3] ... جرد مهرّتة الأشداق ضارية ... مثل السّراحين في أعناقها العذب [4] ... ومطعم الصّيد هبّال لبغيته ... ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب [5] ... مقزّع أطلس الأطمار ليس له ... إلّا الضّراء وإلّا صيدها نشب [6] ... فانصاع جانبه الوحشيّ وانكدرت ... يلحبن لا يأتلي المطلوب والطّلب [7]
قال: فجعله كما ترى مقزّعا أطلس الأطمار، وخبّر أنّ كلابه نشبه، وأنّه ألفى أباه كذلك.
[1] «حتى إذا ما لها» الثور: من اللهو. «في الجدر»: وهو نبت، أي: يلهو في هذا النبت ويرعى فيه، وقوله: «واتخذت شمس النهار شعاعا»، أي: حين طلعت. «بينه طبب»، يريد بين الشعاع، «طبب» أي طرائق الشمس.
[2] «لاح»: ظهر. «أزهر»، يعني الثور في بياضه. «نقبته» يعني لونه. «لهب» شعلة نار. وشبهه بالنار في بياضه وإضاءته حين يعلو عاقرا. و «العاقر» من الرمل: المشرف الذي لا ينبت أعلاه. و «لاح أزهر مشهورا» يعني: الفجر.
[3] «شوازب»: يبّس. «لاحها»: أضمرها الجوع. و «الجنب»: يقاد للصيد، و «الجنب»: الذي لصقت رئته بجنبه. و «الغرثان»: الجائع.
[4] جرد: جمع أجرد، وهو القليل الشعر، ورواية ديوانه «غضف»، وتعني الكلاب التي تنقلب آذانها على مؤخرها. و «مهرتة الأشداق»، يريد: واسعة الأشداق. وأصل «الهرت»: الشق. و «ضارية»:
قد ضريت. يريد: الكلاب. «مثل السراحين»، يريد: مثل الذئاب. «العذب، يريد: القلائد التي في أعناقها من السيور».
[5] «ومطعم الصيد». يريد: الصائد، يرزق الصيد. و «هبّال»: محتال. «لبغيته» لطلبه.
[6] «مقزع»، يريد: الصائد، مخفّف الشعر، في رأسه بقايا شعر، و «أطلس الأطمار» «أطماره»:
أخلاقه، و «أطلس»، يقول: أطماره فيها غبسة، أي: هي وسخة ليست بواضحة تضرب إلى السواد. وقوله: «ليس له نشب»، أي: متاع. «إلا الضراء»، يريد: الكلاب وصيدها. وواحد الضراء: ضرو، وضروة.
[7] «فانصاع» الثور: مضى على أحد شقّيه. و «جانبه الوحشي». جانبه الأيمن. و «انكدرت الكلاب»: انتقضت «يلحبن»: يمررن مستقيمات. وقوله: «لا يأتلي المطلوب والطلب»، أي: لا يألو «المطلوب»: وهو الثور. و «الطلب»: وهو الكلاب، الوحد: طالب.(4/476)
وأنشدوا في ذلك قول الآخر: [من الطويل] وأعصم أنسته المنيّة نفسه ... رعى النبع والظّيّان في شاهق وعر [1] ... موارده قلت تصفّقه الصّبا ... بنيق مزلّ، غير كدر ولا نزر [2] ... قرته السّحاب ماءها، وتهدّلت ... عليه غصون دانيات من السّمر [3] ... أتيح له طلح إزاه بكفّه: ... هتوف وأشباه تخيّرن من حجر [4] ... أبو صبية لا يستدرّ إذا شتا ... لقوحا، ولا عنزا، وليس بذي وفر [5] ... له زوجة شمطاء يدرج حولها ... فطيم تناجيه، وآخر في الحجر [6] ... مشوّهة لم تعب طيبا ولم تبت ... تقتّر هنديّا بليل على جمر [7] ... محدّدة العرقوب ثلّم نابها ... تعرّقها الأوذار من فقر الحمر [8] ... مسفّعة الخدّين، سوّد درعها ... تقدّرها باللّيل، والأخذ بالقدر [9] ... كغول الفلاة لم تخضّب بنانها ... ولم تدر ما زيّ الخرائد بالمصر [10] ... فأرسل سهما أرهف القين حدّه ... فأنفذ حضنيه فخرّ على النّحر [11]
[1] الأعصم: الوعل بإحدى يديه بياض. النبع والظيان: من شجر الجبال.
[2] قلت: النقرة في الجبل، يستنقع فيها الماء إذا انصب السيل. تصفقه: تضربه. الصبا: الريح الشرقية. النيق: أعلى موضع في الجبل. مزل: تزلق عليه الأقدام ولا تثبت. الكدر: نقيض الصّفو. نزر: قليل.
[3] تهدلت: تدلت. السمر: بضم الميم «وسكّنت للشعر»: جمع سمرة، وهي شجر الطلح، والسمر أيضا: ضرب من العضاه.
[4] الطّلح: المتعب والمعيى. إزاه: هي بكسر الهمزة والمد: أي سبب عيشه. الهتوف: القوس المصوتة. أشباه: يريد أنها سهام متشابهة. حجر: موضع باليمامة تنسب إليه السهام والنصال.
[5] اللقوح: الناقة الحلوب. الوفر: الغنى.
[6] الشمطاء: التي شعرها أسود يخالطه بياض، وهو يصور في هذا البيت كثرة عياله.
[7] عبّأ الطيب: صنعه وخلطه. التقتير: تهييج القتار، وهو ريح البخور. الهندي: أراد: العود الهندي الذي يتبخر به.
[8] العرقوب: عصب غليظ فوق عقب الرّجل. ثلّم نابها: كسر حرفه. التعرق: أكل العظم الذي على اللحم. الأوذار: قطع لحم صغيرة. الفقر: جمع فقرة، وهي الواحدة من عظام الصلب. الحمر: أراد بها ما يصطاده من حمر الوحش.
[9] مسفعة: مسودة. الدرع: القميص.
[10] الخرائد: جمع خريدة، وهي البكر لم تمسس، أو الخفرة الطويلة السكوت، الخافضة الصوت، المتسترة.
[11] القين: الحداد. أرهف السهم: رقّقه. أنفذ حصنيه: خرق جنبيه. النحر: أعلى الصدر، أو موضع القلادة.(4/477)
1231 [مساءلة أبي إسحاق للمنانية]
كان أبو إسحاق يسأل المنانيّة [1]، عن مسألة قريبة المأخذ قاطعة، وكان يزعم أنّها ليست له.
وذلك أنّ المنانيّة تزعم أنّ العالم بما فيه، من عشرة أجناس: خمسة منها خير ونور، وخمسة منها شرّ وظلمة. وكلّها حاسّة وحارّة.
وأنّ الإنسان مركّب من جميعها على قدر ما يكون في كلّ إنسان من رجحان أجناس الخير على أجناس الشّرّ، ورجحان أجناس الشّرّ على أجناس الخير.
وأنّ الإنسان وإن كان ذا حواسّ خمسة، فإنّ في كلّ حاسّة متونا من ضدّه من الأجناس الخمسة. فمتى نظر الإنسان نظرة رحمة فتلك النّظرة من النّور، ومن الخير.
ومتى نظر نظرة وعيد، فتلك النّظرة من الظلمة. وكذلك جميع الحواسّ.
وأنّ حاسّة السّمع جنس على حدة، وأنّ الذي في حاسّة البصر من الخير والنّور، لا يعين الذي في حاسّة السّمع من الخير ولكنه لا يضادّه، ولا يفاسده، ولا يمنعه. فهو لا يعينه لمكان الخلاف والجنس، ولا يعين عليه لأنّه ليس ضدّا.
وأنّ أجناس الشّرّ خلاف لأجناس الشّرّ، ضدّ لأجناس الخير. وأجناس الخير يخالف بعضها بعضا ولا يضادّ. وأنّ التّعاون والتآدي [2] لا يقع بين مختلفها، ولا بين متضادّها، وإنما يقع بين متفقها.
قال: فيقال للمنانيّ: ما تقول في رجل قال لرجل: يا فلان، هل رأيت فلانا؟
فقال المسؤول: نعم قد رأيته. أليس السّامع قد أدّى إلى النّاظر، والنّاظر قد أدّى إلى الذّائق؟! وإلّا فلم قال اللّسان: نعم! إلّا وقد سمع الصّوت صاحب اللّسان؟! وهذه المسألة قصيرة كما ترى، ولا حيلة له بأن يدفع قوله.
1232 [مساءلة المأمون لزنديق]
ومسألة أخرى، سأل عنها أمير المؤمنين الزّنديق الذي كان يكنى بأبي عليّ،
[1] المنانية: أتباع ماني. انظر الفهرست 472456.
[2] التآدي: التعاون.(4/478)
وذلك عند ما رأى من تطويل محمّد بن الجهم وعجز العتبي وسوء فهم القاسم بن سيّار، فقال له المأمون: أسألك عن حرفين فقط. خبّرني: هل ندم مسيء قطّ على إساءته، أو نكون نحن لم نندم على شيء كان منّا قط؟! قال: بل ندم كثير من المسيئين على إساءتهم. قال: فخبّرني عن النّدم على الإساءة، إساءة أو إحسان؟ قال:
إحسان. قال: فالذي ندم هو الذي أساء أو غيره؟ قال: الذي ندم هو الذي أساء. قال:
فأري صاحب الخير هو صاحب الشّرّ، وقد بطل قولكم: إنّ الذي ينظر نظر الوعيد غير الذي ينظر نظر الرحمة. قال: فإني أزعم أنّ الذي أساء غير الذي ندم. قال: فندم على شيء كان منه أو على شيء كان من غيره؟ فقطعه بمسألته [1]، ولم يتب ولم يرجع، حتى مات، وأصلاه الله نار جهنّم.
1233 [شعر في هجو الزنادقة]
وقد ذكر حمّاد عجرد ناسا في هجائه لبشار [2]، فقال: [من الكامل] لو كنت زنديقا، عمار، حبوتني ... أو كنت أعبد غير ربّ محمّد ... أو كنت عندك أو تراك عرفتني ... كالنّضر أو ألفيت كابن المقعد ... أو كابن حمّاد ربيئة دينكم ... جبل وما جبل الغويّ بمرشد [3] ... لكنّني وحّدت ربّي مخلصا ... فجفوتني بغضا لكلّ موحّد ... وحبوت من زعم السّماء تكوّنت، ... والأرض خالقها لها لم يمهد ... والنّسم مثل الزّرع آن حصاده ... منه الحصيد ومنه ما لم يحصد [4]
وحمّاد هذا أشهر بالزّندقة من عمارة بن حربية، الذي هجاه بهذه الأبيات.
وأمّا قوله:
وحبوت من زعم السّماء تكوّنت
فليس يقول أحد: إنّ الفلك بما فيه من التّدبير، تكوّن بنفسه ومن نفسه!
[1] قطعه بمسألته: غلبه بالحجة.
[2] كذا؟ ونص الشعر يوضح أن المهجو اسمه عمارة، وليس بشارا.
[3] الربيئة: الطليعة وعين القوم.
[4] النّسم: جمع نسمة، وتعني الإنسان. وقد سكنت السين للضرورة.(4/479)
فجهل حمّاد بهذا المقدار من مقالة القوم، كأنّه عندي ممّا يعرفه من براءته الساحة.
فإن كان قد أجابهم فإنما هو من مقلّديهم.
وهجا حمّاد بن الزّبرقان، حمادا الراوية فقال [1]: [من الكامل] نعم الفتى لو كان يعرف ربّه ... ويقيم وقت صلاته حمّاد ... هدلت مشافره الدّنان فأنفه ... مثل القدوم يسنّها الحدّاد [2] ... وابيضّ من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد
فقد كان كما ترى:
هدلت مشافره الدنان فأنفه ... مثل القدوم (البيت) فقد رأيت جماعة ممّن يعاقرون الشّراب، قد عظمت آنفهم. وصارت لهم خراطيم، منهم روح الصّائغ، وعبد الواحد صاحب اللؤلويّ وجماعة من ندمان [3] حمّاد بن الصّباح، وعبد الله أخو نهر ابن عسكر وناس كثير.
ويدلّ على ذلك من المنافرة قول جرير [4] للأخطل: [من الكامل] وشربت بعد أبي ظهير وابنه ... سكر الدّنان كأنّ أنفك دمّل
وكان منهم يونس بن فروة. وفي يونس يقول حمّاد عجرد [5]: [من الكامل] أما ابن فروة يونس فكأنّه ... من كبره أير الحمار القائم ... ما النّاس عندك غير نفسك وحدها ... والخلق عندك ما خلاك بهائم ... إنّ الذي أصبحت مفتونا به ... سيزول عنك وأنف جارك راغم ... فتعضّ من ندم يديك على الذى ... فرّطت فيه، كما يعض النّادم ... فلقد رضيت بعصبة آخيتهم ... وإخاهم لك بالمعرّة لازم ... فعلمت حين جعلتهم لك دخلة ... أني لعرضك في إخائك ظالم [6]
[1] الأبيات في البرصان 300، والأغاني 6/ 86، وطبقات ابن المعتز 69، وبهجة المجالس 1/ 526، والعقد الفريد 4/ 321، والشعر والشعراء 181، وديوان المعاني 1/ 314، والمخصص 17/ 6، وأمالي المرتضى 1/ 91، والخزانة 4/ 132 (بولاق).
[2] الدنان: جمع دنّ، وهو من الأوعية التي يحفظ فيها الخمر. القدوم، قدوم النّجّار.
[3] ندمان: النديم على الشراب، وتستخدم «ندمان» في الإفراد والجمع.
[4] ديوان جرير 477، والبرصان 301.
[5] الأبيات في جمع الجواهر 209، والبيتان الأول والثاني في العمدة 2/ 239، وهما بلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 272.
[6] دخلة الرجل: بطانته.(4/480)
1234 [ذكر بعض الزنادقة]
[1] وكان حمّاد عجرد، وحمّاد الرّاوية، وحمّاد بن الزّبرقان، ويونس بن هارون، وعلي بن الخليل، ويزيد بن الفيض، وعبادة وجميل بن محفوظ، وقاسم، ومطيع، ووالبة بن الحباب، وأبان بن عبد الحميد، وعمارة بن حربية، يتواصلون، وكأنهم نفس واحدة وكان بشّار ينكر عليهم.
ويونس الذي زعم حماد عجرد أنّه قد غرّ نفسه بهؤلاء، كان أشهر بهذا الرّأي منهم، وقد كان كتب كتابا لملك الرّوم في مثالب العرب، وعيوب الإسلام، بزعمه.
1235 [هجاء أبي نواس لأبان اللاحقي والزنادقة]
وذكر أبو نواس أبان بن عبد الحميد اللّاحقي، وبعض هؤلاء، ذكر إنسان يرى لهم قدرا وخطرا، في هجائيّة لأبان، وهو قوله [3]: [من المجتث] جالست يوما أبانا ... لا درّ درّ أبان ... ونحن حضر رواق ال ... أمير بالنهروان ... حتّى إذا ما صلاة الأ ... أولى أتت لأذان ... فقام ثمّ بها ذو ... فصاحة وبيان ... فكلّ ما قال قلنا ... إلى انقضاء الأذان ... فقال: كيف شهدتم ... بذا، بغير عيان؟! ... لا أشهد الدّهر حتّى ... تعاين العينان! ... فقلت: سبحان ربّي! ... فقال: سبحان ماني [3]! ... فقلت: عيسى رسول ... فقال: من شيطان! ... فقلت: موسى كليم ال ... مهيمن المنّان ... فقال: ربّك ذو مق ... لة إذا ولسان!
[1] هذه الفقرة بتمامها نقلها الصولي في أخبار الشعراء المحدثين، ص 10، ولم يصرح بالنقل، وهي أيضا في الأغاني 18/ 101.
[2] الأبيات لأبي نواس في ديوانه 543، والأغاني 23/ 156، وأخبار الشعراء المحدثين 11.
[3] ماني: رجل فارسي له مذهب يقول بالنور والظلمة، وهما العنصران المسيطران على الوجود.
والنور مبعث الخير، كما أن الظلمة مبعث الشر.(4/481)
فنفسه خلقته ... أم من؟! فقمت مكاني ... عن كافر يتمرّى ... بالكفر بالرّحمن [1] ... يريد أن يتسوّى ... بالعصبة المجّان ... بعجرد وعباد ... والوالبيّ الهجان ... وقاسم ومطيع ... ريحانة النّدمان
وتعجّبي من أبي نواس، وقد كان جالس المتكلمين أشدّ من تعجّبي من حمّاد، حين يحكي عن قوم من هؤلاء قولا لا يقوله أحد. وهذه قرّة عين المهجوّ.
والذي يقول: سبحان ماني يعظم أمر عيسى تعظيما شديدا فكيف يقول: إنّه من قبل شيطان؟! وأما قوله: «فنفسه خلقته أم من» فإنّ هذه مسألة نجدها ظاهرة على ألسن العوامّ. والمتكلمون لا يحكون هذا عن أحد.
وفي قوله: «والوالبيّ الهجان» دليل على أنّه من شكلهم.
والعجب أنّه [2] يقول في أبان: إنّه ممّن يتشبه بعجرد ومطيع، ووالبة بن الحباب، وعليّ بن الخليل [3]، وأصبغ [4] وأبان فوق ملء الأرض من هؤلاء، ولقد كان أبان، وهو سكران، أصحّ عقلا من هؤلاء وهم صحاة. فأمّا اعتقاده فلا أدري ما أقول لك فيه: لأنّ النّاس لم يؤتوا في اعتقادهم الخطأ المكشوف، من جهة النظر.
ولكن للنّاس تأسّ وعادات، وتقليد للآباء والكبراء، ويعملون على الهوى، وعلى ما يسبق إلى القلوب، ويستثقلون التّحصيل، ويهملون النّظر، حتى يصيروا في حال متى عاودوه وأرادوه، نظروا بأبصار كليلة، وأذهان مدخولة، ومع سوء عادة. والنّفس لا تجيب وهي مستكرهة. وكان يقال: «العقل إذا أكره عمي». ومتى عمي الطّباع وجسا وغلط وأهمل، حتّى يألف الجهل، لم يكد يفهم ما عليه وله. فلهذا وأشباهه قاموا على الإلف، والسّابق إلى القلب.
[1] يتمرى: يتزين.
[2] أي أبا نواس، وهذا التعليق نقله الصولي في أخبار الشعراء المحدثين 12.
[3] لم يرد اسمه في الأبيات التي رواها الجاحظ، وفي ديوان أبي نواس:
«وابن الخليع عليّ ... ريحانة الندمان».
[4] لم يرد اسمه في سائر أبيات القصيدة.(4/482)
1236 [شعر لحماد عجرد]
وقال حمّاد عجرد: [من مجزوء الرمل] اعلموا أنّ لودّي ... ثمنا عندي ثمينا ... ليت شعري أيّ حكم ... قد أراكم تحكمونا ... أن تكونوا غير معطي ... ن وأنتم تأخذونا ... ابن لقمان بن عاد ... في است هذا الدّين دينا [1]
وما رأيت أحدا وضع لقمان بن عاد في هذا الموضع، غيره! وقال حمّاد عجرد في بشار: [من مجزوء الكامل] يا ابن الخبيثة إنّ أمّ ... ك لم تكن ذات اكتتام ... وتبدّلت ثوبان ذا الأ ... ير المضبّر والعرام [2] ... ثوبان دقّاق الأزز ... بأرواث حسام ... عرد كقائمة السّر ... ير يبيلها عند الرّطام [4] ... وأتت سميعة بعدها ... بالمصملّات العظام [4] ... أخت لهم كانت تكابر ... أن تسافح من قيام
وقال حمّاد يذكر بشارا: [من السريع] غزالة الرجسة أو بنتها ... سميعة الناعية الفهرا
وقال وذكر أمّه: [من الكامل] أبني غزالة يا بني جشم استها ... ليحقكم أن تفرحوا لا تجزعوا [5]
[1] ابن: فعل أمر من بنى يبني. ولقمان: منادى، حذفت أداة ندبه.
[2] المضبّر: المكتنز لحما والشديد. عرام الجيش: حدتهم وشدتهم وكثرتهم. والشاعر استعار هذه الصفة.
[3] العرد: الصلب الشديد. يبليها: يجعلها تبول. الرطام: أن يخالطها مستوعبا.
[4] المصمئلات: الدواهي.
[5] الجشم: الجوف.(4/483)
وما كان ينبغي لبشّار أن يناظر حمادا من جهة الشعر وما يتعلّق بالشّعر، لأنّ حمّادا في الحضيض، وبشّارا مع العيّوق. وليس في الأرض مولّد قرويّ يعدّ شعره في المحدث إلّا وبشّار أشعر منه.
1237 [شعر في هجو بعض الزنادقة]
وقال أبو الشمقمق [1] في جميل بن محفوظ: [من المتقارب] وهذا جميل على بغله ... وقد كان يعدو على رجله ... يروح ويغدو كأير الحمار ... ويرجع صفرا إلى أهله [2] ... وقد زعموا أنّه كافر ... وأنّ التّزندق من شكله ... كأني به قد دعاه الإمام ... وآذن ربّك في قتله
1238 [عيوب المعنى في شعر أبي نواس]
وأمّا أبو نواس فقد كان يتعرّض للقتل بجهده. وقد كانوا يعجبون من قوله [3]:
[من المديد] كيف لا يدنيك من أمل ... من رسول الله من نفره
فلما قال [4]: [من المنسرح] فاحبب قريشا لحبّ أحمدها ... واشكر لها الجزل من مواهبها
جاء بشيء غطّى على الأوّل.
وأنكروا عليه قوله: [من الرجز] لو أكثر التّسبيح ما نجّاه
[1] ديوان أبي الشمقمق 148.
[2] صفرا: خالي اليدين.
[3] ديوان أبي نواس 430، والكامل للمبرد 1/ 243 (المعارف)، والموشح 279، وعلق المبرد على البيت بقوله: «وهو لعمري كلام مستهجن موضوع في غير موضعه، لأن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه ولا يضاف إلى غيره».
[4] ديوان أبي نواس 508.(4/484)
فلما قال [1]: [من البسيط] يا أحمد المرتجى في كلّ نائبة ... قم سيّدي نعص جبّار السّموات [2]
غطّى هذا على الأوّل. وهذا البيت مع كفره مقيت جدا. وكان يكثر في هذا الباب.
وأما سوى هذا الفنّ فلم يعرفوا له من الخطإ إلا قولّه [3]: [من السريع] أمستخبر الدّار هل تنطق ... أنا مكان الدار لا أنطق ... كأنها إذ خرست جارم ... بين ذوي تفنيده مطرق [4]
فعابوه بذلك، وقالوا: لا يقول أحد: لقد سكت هذا الحجر، كأنّه إنسان ساكت، وإنما يوصف خرس الإنسان بخرس الدّار، ويشبّه صممه بصمم الصّخر.
وعابوه بقوله، حين وصف عين الأسد بالجحوظ، فقال [5]: [من السريع] كأنّ عينه إذا التهبت ... بارزة الجفن عين مخنوق
وهم يصفون عين الأسد بالغؤور. قال الرّاجز [6]: [من الرجز] كأنما ينظر من جوف حجر
وقال أبو زبيد [7]: [من البسيط] كأنّ عينيه في وقبين من حجر ... قيضا اقتياضا بأطراف المناقير [8]
ومع هذا فإنّا لا نعرف بعد بشّار أشعر منه.
[1] ديوان أبي نواس 174.
[2] أحمد: هو أحمد بن أبي صالح، وقد كان أبو نواس يتعشقه.
[3] لم يرد البيتان في ديوان أبي نواس، وورد البيت الثاني في الصناعتين 86.
[4] الجارم: الجاني. التفنيد: التكذيب، والمراد هنا: اللوم والعذل.
[5] ديوان أبي نواس 452، والصناعتين 134.
[6] الرجز لحميد الأرقط في أراجيز العرب 22، وبلا نسبة في الصناعتين 134.
[7] ديوان أبي زبيد 623، والصناعتين 134.
[8] الوقب في الحجر: نقرة يجتمع فيها الماء. قيضا: حفرا. اقتياضا: استئصالا. المناقير: جمع منقار، وهو حديدة كالفأس ينقر بها.(4/485)
وقال أبو زبيد [1]: [من الطويل] وعينان كالوقبين في ملء صخرة ... ترى فيهما كالجمرتين تسعّر
1239 [قصة راهبين من الزّنادقة]
وحدّثني أبو شعيب القلّال، وهو صفريّ [2]، قال: رهبان الزّنادقة سيّاحون كأنهم جعلوا السّياحة بدل تعلق النّسطوري [3] في المطامير [4].
ومقام الملكانيّ [5] في الصّوامع، ومقام النّسطوريّ في المطامير [4].
قال: ولا يسيحون إلا أزواجا. ومتى رأيت منهم واحدا فالتفتّ رأيت صاحبه، والسّياحة عندهم ألّا يبيت أحدهم في منزل ليلتين. قال: ويسيحون على أربع خصال: على القدس، والطّهر، والصّدق، والمسكنة. فأمّا المسكنة، فأن يأكل من المسألة، وممّا طابت به أنفس النّاس له حتّى لا يأكل إلّا من كسب غيره الذي عليه غرمه ومأثمه، وأمّا الطهر فترك الجماع، وأمّا الصّدق فعلى ألّا يكذب. وأما القدس فعلى أن يكتم ذنبه، وإن سئل عنه.
قال: فدخل الأهواز منهم رجلان، فمضى أحدهما نحو المقابر للغائط، وجلس الآخر بقرب حانوت صائغ، وخرجت امرأة من بعض تلك القصور ومعها حقّ [6] فيه أحجار نفيسة، فلما صعدت من الطّريق إلى دكان الصّائغ زلقت فسقط الحقّ من يدها، وظليم لبعض أهل تلك الدّور يتردّد فلما سقط الحقّ وباينه الطّبق [7]، تبدّد ما
[1] ديوان أبي زبيد 608، والصناعتين 134.
[2] جاء في اللسان «صفر»: «الصفرية: جنس من الخوارج، وقيل قوم من الحرورية سموا صفرية لأنهم نسبوا إلى صفرة ألوانهم، وقيل: إلى عبد الله بن صفّار فهو على هذا القول الأخير من النسب النادر، وفي الصحاح: صنف من الخوارج نسبوا إلى زياد بن الأصفر رئيسهم، وزعم قوم أن الذي نسبوا إليه هو عبد الله بن الصفار).
[3] في اللسان «نسطر»: (النسطورية: أمة من النصارى يخالفون بقيتهم).
[4] المطامير: حفر تحفر في الأرض توسّع أسافلها تخبأ فيها الحبوب.
[5] الملكاني، ويقال: الملكائي: واحد جماعة الملكانية أو الملكائية، وهم منسوبون إلى «ملكا» ويعني بالسريانية «الملك»، والمقصود بهم: أتباع مذهب فياصرة الروم. انظر مفاتيح العلوم 23، والملل والنحل 2/ 62.
[6] الحقّ: وعاء من خشب أو العاج.
[7] الطبق: غطاء كل شيء.(4/486)
فيه من الأحجار، فالتقم ذلك الظّليم أعظم حجر فيه وأنفسه، وذلك بعين السّائح ووثب الصّائغ وغلمانه فجمعوا تلك الأحجار، ونحّوا النّاس وصاحوا بهم فلم يدن منهم أحد، وفقدوا ذلك الحجر، فصرخت المرأة، فكشف القوم وتناحوا [1]، فلم يصيبوا الحجر، فقال بعضهم: والله ما كان بقربنا إلّا هذا الرّاهب الجالس، وما ينبغي أن يكون إلّا معه! فسألوه عن الحجر فكره أن يخبرهم أنه في جوف الظليم فيذبح الظليم، فيكون قد شارك في دم بعض الحيوان، فقال ما أخذت شيئا! وبحثوه وفتّشوا كلّ شيء معه وألحّوا عليه بالضّرب، وأقبل صاحبه وقال: اتّقوا الله! فأخذوه وقالوا:
دفعته إلى هذا حتّى غيّبه! فقال: ما دفعت إليه شيئا! فضربوهما ليموتا. فبينما هما كذلك إذ مرّ رجل يعقل، ففهم عنهم القصّة، ورأى ظليما يتردّد فقال لهم: أكان هذا الظليم يتردّد في الطريق حين سقط الحجر؟ قالوا: نعم. قال: فهو صاحبكم.
فعوّضوا أصحاب الظليم، وذبحوه وشقّوا عن قانصته، فوجدوا الحجر وقد نقص في ذلك المقدار من الزّمان شبيها بشطره، إلّا أنها أعطته لونا صار الذي استفادوه من جهة اللّون أربح لهم من وزن ذلك الشّطر أن لو كان لم يذهب.
ونار القانصة غير نار الحجر.
[1] تناحوا: تباعدوا.(4/487)
باب في النّيران وأقسامها
القول في النّيران وأقسامها [1] ونحن ذاكرون جملا من القول في النّيران وأجناسها، ومواضعها، وأيّ شيء منها يضاف إلى العجم، وأيّ شيء منها يضاف إلى العرب، ونخبر عن نيران الدّيانات، وغير الدّيانات، وعمّن عظّمها وعمّن استهان بها، وعمّن أفرط في تعظيمها حتّى عبدها. ونخبر عن المواضع التي عظّم فيها من شأن النّار.
1240 [نار القربان]
[2] فمن مواضعها التي عظّمت بها أنّ الله عزّ وجلّ جعلها لبني إسرائيل في موضع امتحان إخلاصهم، وتعرّف صدق نياتهم، فكانوا يتقرّبون بالقربان. فمن كان منهم مخلصا نزلت نار من قبل السّماء حتّى تحيط به فتأكله، فإذا فعلت ذلك كان صاحب القربان مخلصا في تقرّبه. ومتى لم يروها وبقي القربان على حاله، قضوا بأنّه كان مدخول القلب فاسد النّية. ولذلك قال الله تعالى في كتابه: {الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ عَهِدَ إِلَيْنََا أَلََّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتََّى يَأْتِيَنََا بِقُرْبََانٍ تَأْكُلُهُ النََّارُ قُلْ قَدْ جََاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنََاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} [3].
والدّليل على أنّ ذلك قد كان معلوما، قول الله عزّ وجلّ: {قَدْ جََاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنََاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} ثمّ إنّ الله ستر على عباده، وجعل بيان ذلك في الآخرة. وكان ذلك التّدبير مصلحة ذلك الزّمان [4]، ووفق طبائهم وعللهم، وقد كان القوم من المعاندة والغباوة على مقدار لم يكن لينجع فيهم ويكمل لمصلحتهم إلا ما كان في هذا الوزن، فهذا باب من عظم شأن النّار في صدور النّاس.
[1] انظر ثمار القلوب (841819)، الباب التاسع والأربعين، في النيران.
[2] ثمار القلوب 455، (821).
[3] 183/ آل عمران: 3.
[4] في ثمار القلوب: «وكان ذلك التدبير مصلحة في ذلك الأمر».(4/488)
1241 [نار موسى]
[1] وممّا زاد في تعظيم شأن النّار في صدور النّاس قول الله عزّ وجلّ: {وَهَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ مُوسى ََ. إِذْ رَأى ََ نََاراً فَقََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً. فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ يََا مُوسى ََ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [2]، وقال عزّ وجلّ: {إِذْ قََالَ مُوسى ََ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نََاراً سَآتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهََابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ وَمَنْ حَوْلَهََا وَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} [3].
وكان ذلك مما زاد في قدر النّار في صدور النّاس.
1242 [نار إبراهيم]
[4] ومن ذلك نار إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال الله عزّ وجلّ: {قََالُوا سَمِعْنََا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقََالُ لَهُ إِبْرََاهِيمُ. قََالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى ََ أَعْيُنِ النََّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [5] ثم قال: {قََالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فََاعِلِينَ} [6] فلما قال الله عزّ وجلّ:
{قُلْنََا يََا نََارُ كُونِي بَرْداً وَسَلََاماً عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ} [7] كان ذلك ممّا زاد في نباهة النّار وقدرها في صدور النّاس.
[1] نار موسى: تضرب مثلا للشيء الهين اليسير يطلب فيتوصل بسببه إلى الشيء الخطير، والغنيمة الباردة. انظر ثمار القلوب (820116)، حيث نقل الثعالبي عن الجاحظ.
[2] 129/ طه: 20.
[3] 87/ النمل: 27.
[4] نار إبراهيم: يضرب بها المثل في البرد والسلامة. انظر ثمار القلوب (103، 820)، حيث نقل الثعالبي عن الجاحظ.
[5] 6160/ الأنبياء: 21.
[6] 68/ الأنبياء: 21.
[7] 69/ الأنبياء: 21.(4/489)
باب آخر
1243 [نار الشجر]
[1] وهو قوله عزّ وجلّ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نََاراً فَإِذََا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [2].
والنّار من أكبر الماعون، وأعظم [المنافع] [3] المرافق [في هذه الدنيا على عباده] [3]. ولو لم يكن فيها إلّا أنّ الله عزّ وجلّ قد جعلها الزاجرة عن المعاصي، لكان ذلك ممّا يزيد في قدرها، وفي نباهة ذكرها.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النََّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهََا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ} [4]، ثم قال: {نَحْنُ جَعَلْنََاهََا تَذْكِرَةً وَمَتََاعاً لِلْمُقْوِينَ} [5]. فقف عند قوله [6]: {نَحْنُ جَعَلْنََاهََا تَذْكِرَةً وَمَتََاعاً} فإن كنت بهذا القول مؤمنا فتذكّر ما فيها من النعمة أولا ثم آخرا، ثم توهّم مقادير النعم وتصاريفها [7].
1244 [نار الله]
[8] وقد علمنا أنّ الله عذّب الأمم بالغرق، والرّياح، وبالحاصب، والرّجم، وبالصّواعق، وبالخسف، والمسخ، وبالجوع، وبالنقص من الثمرات، ولم يبعث عليهم نارا، كما بعث عليهم ماء وريحا وحجارة. [وإنما] [9] جعلها من عقاب الآخرة [وعذاب العقبى] [9]، ونهى أن يحرق بها شيء من الهوامّ [10]، وقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] [9]: «لا تعذّبوا بعذاب الله» [11]. فقد عظّمها كما ترى.
[1] ثمار القلوب 823.
[2] 80/ يس: 36.
[3] الزيادة من ثمار القلوب.
[4] 7271/ الواقعة: 56.
[5] 73/ الواقعة: 56.
[6] في ثمار القلوب: «فكم تحت قوله».
[7] في ثمار القلوب: «من تبصرة، بما فيها من مقادير النعم وتصاريف النقم».
[8] ثمار القلوب (81980)، وقد نقل الثعالبي هذه الفقرة عن الجاحظ.
[9] الزيادة من ثمار القلوب.
[10] في ثمار القلوب «من الحيوان».
[11] أخرجه البخاري في الجهاد برقم 2854 (حدثنا سفيان، عن أيوب، عن عكرمة: أن عليّا رضي الله عنه حرّق قوما، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرّقهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله». ولقتلتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه»، وأعاده البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين برقم 6524، وانظر جامع الأصول 3/ 481، والجامع الصغير 9830، وفيه: رواه أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك.(4/490)
فتفهّم رحمك الله فقد أراد الله إفهامك.
وقال الله تعالى للثّقلين: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ فَلََا تَنْتَصِرََانِ، فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} [1]، فجعل الشّواظ والنّحاس، وهما النّار والدّخان، من الآية. ولذلك قال على نسق الكلام: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} [1] ولم يعن أن التّعذيب بالنّار نعمة يوم القيامة، ولكنه أراد التّحذير بالخوف والوعيد بها، غير إدخال النّاس فيها، وإحراقهم بها.
1245 [نار الشجر]
وقال المرّار بن منقذ [2]: [من الكامل] وكأنّ أرحلنا بجوّ محصب ... بلوى عنيزة من مقيل التّرمس ... في حيث خالطت الخزامى عرفجا ... يأتيك قابس أهلها لم يقبس
أراد خصب الوادي ورطوبته. وإذا كان كذلك لم تقدح عيدانه، فإن دخلها مستقبس لم يور نارا.
وقال كثيّر [3]: [من الطويل] له حسب في الحيّ، وار زناده ... عفار ومرخ حثّه الوري عاجل [4]
والعفار والمرخ، من بين جميع العيدان التي تقدح، أكثرها في ذلك وأسرعها.
قال: ومن أمثالهم: «في كلّ الشّجر نار، واستمجد المرخ والعفار» [5].
1246 [نار الاستمطار]
[6] ونار أخرى، وهي النّار التي كانوا يستمطرون بها في الجاهليّة الأولى فإنهم
[1] 35/ الرحمن: 55.
[2] البيتان للمرار بن سعيد في ديوانه 461، وأشعار اللصوص 363، وللأسدي في البيان 3/ 34، والبيت الثاني للأسدي في المخصص 10/ 176، 11/ 32، وتقدم البيتان في 3/ 62، فقرة (613) مع نسبتهما للأسدي.
[3] ديوان كثير 277، والمخصص 11/ 27.
[4] وار: متقد.
[5] المستقصى 2/ 183، وفصل المقال 202، وجمهرة الأمثال 1/ 173، 2/ 92، ومجمع الأمثال 2/ 74، وثمار القلوب (823)، وقيل إن معناه: أنهما أخذا الفضل وذهبا بالمجد.
[6] ثمار القلوب (829)، وانظر الخزانة 7/ 147، والأوائل 35، ونهاية الأرب 3/ 120، ومحاضرات الراغب 1/ 152.(4/491)
كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات وركد عليهم البلاء، واشتدّ الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار، استجمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر، ثمّ عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها، السّلع والعشر [1]، ثمّ صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النّيران، وضجّوا بالدّعاء والتضرّع. فكانوا يرون أنّ ذلك من أسباب الشّقيا. ولذلك قال أميّة [2]: [من الخفيف] سنة أزمة تخيّل بالنّا ... س ترى للعضاه فيها صريرا [3] ... إذ يسفّون بالدّقيق وكانوا ... قبل لا يأكلون شيئا فطيرا [4] ... ويسوقون باقرا يطرد السّه ... ل مهازيل خشية أن يبورا [5] ... عاقدين النّيران في شكر الأذ ... ناب عمدا كيما تهيج البحورا [6] ... فاشتوت كلها فهاج عليهم ... ثمّ هاجت إلى صبير صبيرا [7] ... فرآها الإله ترشم بالقط ... ر وأمسى جنابهم ممطورا [8] ... فسقاها نشاصه واكف الغى ... ث منهّ إذ رادعوه الكبيرا [9] ... سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت البنقورا [10]
[1] السلع والعشر: ضربان من الشجر.
[2] ديوان أمية بن أبي الصلت 399396، وعيار الشعر 60، 2/ 395، والحماسة البصرية 2/ 395.
[3] في ديوانه: «سنة جدبة: شديدة القحط، وهي من الأزم، وهو العض بالفم أو بالأنياب. تخيل بالناس: تشتبه عليهم فيتوهمون الخير ولا خير فيها. العضاه: كل شجر له شوك».
[4] في ديوانه: «سففت الدقيق: أخذته غير معجون. الفطير: العجين الذي لم يختمر.
[5] في ديوانه: «الباقر: جماعة البقر. يبور: يهلك».
[6] في ديوانه: «الشكر: مفردها شكير، وهو من الشعر». والريش والنبت ما نبت صغاره بين كباره.
تهيج البحور: أراد تبعث المطر الغزير الذي يشبه البحور بغزارته».
[7] في ديوانه: «وهاجت السماء: غيمت وكثرت ريحها، وهاجت الإبل: عطشت. والصبير: السحاب يثبت يوما وليلة لا يبرح، كأنه يصبر، أي يحبس».
[8] في ديوانه: «الرشم: الأثر والعلامة».
[9] في ديوانه: «النشاص: السحاب المرتفع. والواكف: الهاطل. منهّ: فاعل من نهّى الشيء وانتهى وتناهى، إذا بلغ نهايته. وردعه عن الأمر: كفّه، ورادعوه: للمشاركة فهم كفّوا عما بهم من إثم، وهو كفّ عن الانحباس والتشديد عليهم. والكبيرا صفة قامت مقام الموصوف بعد حذفه، والتقدير: رادعوه الشر الكبيرا. منهّ: حال «نشاصه»، أي سقاها نشاصه بالغا نهايته، وكان حقها أن تكون «منهّيا» ولكنه حذف الياء ضرورة كحذفها في الرفع والجر.
[10] في ديوانه: «السلع والعشر: ضربان من الشجر. وعال الشيء فلانا: ثقل عليه، يريد أن السنة أثقلت البقر بما حملتها من السلع والعشر».(4/492)
هكذا كان الأصمعيّ ينشد هذه الكلمة، فقال له علماء بغداد: صحفت، إنما هي البيقور، مأخوذة من البقر.
وأنشد القحذمي للورل الطائيّ [1]: [من البسيط] لا درّ درّ رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر ... أجاعل أنت بيقورا مسلّعة ... ذريعة لك بين الله والمطر [2]
قال: ويقال بقر، وبقير، وبيقور، وباقر. ويقال للجماعة منها قطيع، وإجل، وكور، وأنشد [3]: [من الطويل] فسكّنتهم بالقول حتى كأنّهم ... بواقر جلح أسكنتها المراتع [4]
وأنشد [5]: [من البسيط] ولا شبوب من الثيران أفرده ... عن كوره كثرة الإغراء والطّرد [6]
1247 [نار الحلف]
[7] ونار أخرى، هي التي توقد عند التّحالف فلا يعقدون حلفهم إلّا عندها.
فيذكرون عند ذلك منافعها، ويدعون إلى الله عزّ وجلّ، بالحرمان والمنع من منافعها، على الذي ينقض عهد الحلف، ويخيس بالعهد.
[1] البيتان للورل الطائي في الحماسة البصرية 2/ 396، واللسان والتاج (بقر، سلع)، ورسالة النيروز لابن فارس 2/ 19 (ضمن نوادر المخطوطات)، وهما للودك الطائي في ثمار القلوب 580 (830)، وللوديك الطائي في نهاية الأرب 1/ 110، والبيت الثاني في التنبيه والإيضاح 2/ 87، وبلا نسبة في التهذيب 2/ 99، والمجمل 1/ 282، وديوان الأدب 2/ 61.
[2] في الحماسة البصرية 2/ 396395: (تزعم العرب أنه إذا أمسكت السماء قطرها وأرادوا أن يستمطروا، عمدوا إلى شجرتين يقال لهما: السلع والعثير «العشر»، فعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النار وأصعدوهما في جبل وعر، واتبعوا آثارهما يدعون الله تعالى ويستسقون، ويفعلون ذلك تفاؤلا للبرق).
[3] البيت لقيس بن عيزارة في شرح أشعار الهذليين 950، وديوان الهذليين 3/ 76، واللسان والتاج (جلح)، وبلا نسبة في اللسان والتاج (بقر).
[4] في ديوان الهذليين: «جلح: بقر لا قرون لها. والمراتع: مواضع ترتع».
[5] البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 60، وديوان الهذليين 1/ 126، واللسان والتاج (كور)، والتنبيه والإيضاح 2/ 201، وبلا نسبة في المخصص 8/ 33، 42.
[6] في ديوان الهذليين: «يقال للمسنّ من الثيران: شبوب ومشبّ وشبب. والكور: القطيع».
[7] ثمار القلوب (826).(4/493)
ويقولون في الحلف: الدّم الدّم، والهدم الهدم [1]، يحرّكون الدّال في هذا الموضع لا يزيده طلوع الشمس إلا شدّا، وطول اللّيالي إلّا مدّا، ما بلّ البحر صوفة [2]، وما أقام رضوى في مكانه، (إن كان جبلهم رضوى [3]).
وكلّ قوم يذكرون جبلهم، والمشهور من جبالهم.
وربّما دنوا منها حتى تكاد تحرقهم.
ويهوّلون على من يخاف عليه الغدر، بحقوقها ومنافعها، والتّخويف من حرمان منفعتها. وقال الكميت [4]: [من المتقارب] كهولة ما أوقد المحلفو ... ن للحالفين وما هوّلوا
وأصل الحلف والتّحالف، إنما هو من الحلف والأيمان. ولقد تحالفت قبائل من قبائل مرّة بن عوف، فتحالفوا عند نار فدنوا منها، وعشوا [5] بها، حتّى محشتهم. فسمّوا: المحاش [6].
وكان سيدهم والمطاع فيهم، أبو ضمرة يزيد بن سنان بن أبي حارثة. ولذلك يقول النّابغة [7]: [من الكامل] جمّع محاشك يا يزيد فإنّني ... جمّعت يربوعا لكم وتميما [8]
[1] مجمع الأمثال 1/ 265، وهو من حديث بيعة العقبة في النهاية 5/ 251وفيه: «الهدم بالتحريك: القبر. يعنى إني أقبر حيث تقبرون. وقيل: هو المنزل، أي منزلكم منزلي. والهدم بالسكون وبالفتح أيضا: هو إهدار دم القتيل: يقال: دماؤهم بينهم هدم: أي مهدرة. والمعنى: إن طلب دمكم فقد طلب دمي، وإن أهدر دمكم فقد أهدر دمي لاستحكام الألفة بيننا».
[2] مجمع الأمثال 2/ 230، والمستقصى 2/ 246، الصوفة: واحدة الصوف، وصوف البحر: شيء على شكل هذا الصوف الحيواني.
[3] رضوى: جبل بالمدينة.
[4] ديوان الكميت 2/ 14، واللسان والتاج وأساس البلاغة (هول)، والتهذيب 6/ 415، والبيان 3/ 8، والخزانة 3/ 14 (بولاق).
[5] عشي بالنار، كرضي ودعا، ساء بصره.
[6] محشته النار: أحرقته. وانظر الحاشية بعد التالية.
[7] ديوان النابغة الذبياني 102، والرواية فيه «أعددت يربوعا»، والبيت الأول في اللسان والتاج (حوش، محش، حشا)، والتهذيب 4/ 196، 5/ 141، والعين 3/ 261، والمقاييس 2/ 65، 5/ 299، والمجمل 2/ 68، 4/ 311، وبلا نسبة في الجمهرة 539.
[8] في ديوانه: «كان يزيد بن سنان بن أبي حارثة يمحش المحاش، وهم بنو خصيلة بن مرة، وبنو نشبة بن غيظ بن مرة على بني يربوع بن غيظ بن مرة رهط النابغة، فتحالفوا على بني يربوع على النار، فسموا المحاش، لتحالفهم على النار. قال الأصمعي: المحاش أربعة أحياء من فزارة(4/494)
ولحقت بالنّسب الذي عيّرتني ... وتركت أصلا يا يزيد ذميما [1]
وقوله: «تميم» يريد: تميمة [2]. فحذف الهاء.
1248 [التحالف والتعاقد على الملح]
وربّما تحالفوا وتعاقدوا على الملح. والملح شيئان: أحدهما المرقة، والأخرى اللّبن. وأنشدوا لشتيم بن خويلد الفزاري [3]: [من المتقارب] لا يبعد الله ربّ العباد ... والملح ما ولدت خالده
وأنشدوا فيه قول أبي الطّمحان [4]: [من الطويل] وإني لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبرا
وذلك أنّه كان جاورهم، فكان يسقيهم اللّبن فقال: أرجو أن تشكروا لي ردّ إبلي، على ما شربتم من ألبانها، وما بسطت من جلد أشعث أغبر. كأنّه يقول: كنتم مهازيل والمهزول يتقشّف جلده وينقبض فبسط ذلك من جلودكم.
1249 [نار المسافر]
[5] ونار أخرى، وهي النّار التي كانوا ربّما أوقدوها خلف المسافر، وخلف الزّائر
ومرة، وقال ابن الأعرابي: المحاش: الذين لا خير فيهم ولا غناء عندهم، يقال: محشته النار، إذا أحرقته وأفسدته. وقوله: «أعددت يربوعا» يريد: يربوع بن غيظ بن مرة، و «تميما» أراد: تميم بن ضبة من عذرة بن سعد بن ذبيان».
[1] في ديوانه: «وقوله: ولحقت بالنسب الذي عيرتني، يريد النسب الذي نفاه إليه، وعيّره به، وذلك أن ابنة النابغة كانت تحت يزيد فطلقها، فقيل له: لم طلقتها؟ فقال: لأنه رجل من عذرة، فنفى النابغة انتسابه إليهم، وزعم أنه نسب يزيد، إلا أنه تركه، وانتفى منه، وهو معنى قوله: وتركت أصلك يا يزيد ذميما»، أي «مذموما».
[2] أي حذف الهاء للترخيم في غير موضع النداء، وأراد: تميمة بن ضبة، وانظر الحاشية قبل السابقة.
[3] البيت لشتيم بن خويلد الفزاري في اللسان (لوم)، وأساس البلاغة (ملح)، ولعبد الله بن الزبعري في ديوانه 35، ولنهيكة بن الحارث المازني في الخزانة 4/ 164 (بولاق)، وبلا نسبة في الكامل 1/ 295 (المعارف)، والفاخر 9، واللسان (ملح) والمخصص 1/ 26، والتهذيب 5/ 100، 102.
[4] البيت في الشعر والشعراء 229 (ليدن)، والكامل 1/ 295، (المعارف)، والاشتقاق 451، واللسان والتاج، وأساس البلاغة وعمدة الحفاظ (ملح)، وبلا نسبة في الجمهرة 569، والمخصص 1/ 26.
[5] ثمار القلوب 459 (826)، وسماها في الأوائل 37 «نار الطرد». وانظر المعاني الكبير 433، والخزانة 7/ 148، ومحاضرات الراغب 1/ 154.(4/495)
الذي لا يحبّون رجوعه. وكانوا يقولون في الدّعاء: أبعده الله وأسحقه، وأوقد نارا خلفه، وفي إثره! وهو معنى قول بشار [1] وضربه مثلا: [من المتقارب] صحوت وأوقدت للجهل نارا ... وردّ عليك الصّبا ما استعارا
وأنشدوا [2]: [من الطويل] وجمّة أقوام حملت ولم تكن ... لتوقد نارا إثرهم للتندّم
والجمّة: الجماعة يمشون في الصلح. وقال الراجز [3] في إبله: [من الرجز] تقسم في الحقّ وتعطى في الجمم
يقول: لا تندم على ما أعطيت في الحمالة، عند كلام الجماعة فتوقد خلفهم نارا كي لا يعودوا.
1250 [نار الإنذار]
[4] ونار أخرى وهي النّار التي كانوا إذا أرادوا حربا، وتوقّعوا جيشا عظيما، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلا على جبلهم نارا ليبلغ الخبر أصحابهم.
وقد قال عمرو بن كلثوم [5]: [من الوافر] ونحن غداة أوقد في خزاز ... رفدنا فوق رفد الرّافدينا
وإذا جدّوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين. وهو قول الفرزدق [6]:
[من الكامل] لولا فوارس تغلب ابنة وائل ... سدّ العدوّ عليك كلّ مكان
[1] البيت لبشار بن برد في ديوانه 4/ 65، والمختار من شعر بشار 340، وثمار القلوب (827) وبلا نسبة في اللسان والتاج (وقد)، والتهذيب 9/ 250.
[2] البيت بلا نسبة في اللسان (نور)، والتهذيب 15/ 232، وعيار الشعر 54، والمعاني الكبير 1/ 433، وثمار القلوب (827).
[3] الرجز بلا نسبة في جمهرة اللغة 496، وروايته: (أضرب في النقع وأعطي في الجمم).
[4] ثمار القلوب 461 (829)، وسماها في الأوائل 37 «نار الأهبة»، وانظر الخزانة 7/ 152، ومطلع الفوائد 42.
[5] البيت برقم 68من معلقته في شرح القصائد السبع 409، وشرح القصائد العشر 352، واللسان والتاج (خزر، خزز)، والبيان 3/ 22، والمعاني الكبير 434، ومعجم البلدان 2/ 419 (خزاز)، ومعجم ما استعجم 2/ 496.
[6] ديوان الفرزدق 2/ 345 (صادر)، 883882 (الصاوي)، والبيت الأول في اللسان (مضح)، وبلا نسبة في المقتضب 3/ 360.(4/496)
ضربوا الصّنائع والملوك وأوقدوا ... نارين أشرفتا على النّيران
1251 [نار الحرّتين]
[1] ونار أخرى، وهي «نار الحرّتين»، وهي نار خالد بن سنان، أحد بني مخزوم، من بني قطيعة بن عبس. ولم يكن في بني إسماعيل نبيّ قبله. وهو الذي أطفأ الله به نار الحرّتين. وكانت ببلاد بني عبس، فإذا كان اللّيل فهي نار تسطع في السّماء، وكانت طيّئ تنفش [2] بها إبلها من مسيرة ثلاث، وربّما ندرت منها العنق [3] فتأتي على كلّ شيء فتحرقه. وإذا كان النهار فإنما هي دخان يفور. فبعث الله خالد بن سنان فاحتفر لها بئرا، ثمّ أدخلها فيها، والنّاس ينظرون ثمّ اقتحم فيها حتى غيّبها.
وسمع بعض القوم وهو يقول: [هلك الرّجل! فقال خالد بن سنان] [4]: كذب ابن راعية المعز، لأخرجنّ منها وجبيني يندى! فلمّا حضرته الوفاة، قال لقومه: إذا أنا متّ ثمّ دفنتموني، فاحضروني بعد ثلاث فإنّكم ترون عيرا أبتر يطوف بقبري، فإذا رأيتم ذلك فانبشوني فإني أخبركم بما هو كائن إلى يوم القيامة. فاجتمعوا لذلك في اليوم الثالث، فلما رأوا العير [5] وذهبوا ينبشونه، اختلفوا، فصاروا فرقتين، وابنه عبد الله في الفرقة التي أبت أن تنبشه، وهو يقول: لا أفعل! إني إذا أدعى ابن المنبوش! فتركوه.
وقد قدمت ابنته على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبسط لها رداءه وقال: هذه ابنة نبيّ ضيّعه قومه.
قال: وسمعت سورة: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} فقالت: قد كان أبي يتلو هذه السورة.
والمتكلّمون لا يؤمنون بهذا، ويزعمون أنّ خالدا هذا كان أعرابيّا وبريّا، من أهل شرج وناظرة [6]، ولم يبعث الله نبيّا قطّ من الأعراب ولا من الفدّادين [7] أهل
[1] ثمار القلوب 456 (821)، وانظر الإصابة 2351.
[2] تنفش: ترعى.
[3] ندرت: ظهرت وبدت. العنق: القطعة أو الطائفة.
[4] ما بين المعكوفتين مستدرك من الإصابة 2351، وهو ضروري لإتمام المعنى، ولم يرد في ثمار القلوب.
[5] العير: الحمار الوحشي.
[6] شرج وناظرة: ماءان لعبس. معجم البلدان (ناظرة).
[7] الفدادون: أهل البادية الذين يعيشون في بيوت من وبر الإبل.(4/497)
الوبر، وإنما بعثهم من أهل القرى، وسكّان المدن [1].
وقال خليد عينين [2]: [من الطويل] وأي نبيّ كان في غير قومه ... وهل كان حكم الله إلّا مع النّخل
وأنشدوا [3]: [من الوافر] كنار الحرّتين لها زفير ... يصمّ مسامع الرّجل السّميع
1252 [تعظيم النار وعبادتها]
وما زال النّاس كافّة، والأمم قاطبة حتى جاء الله بالحقّ مولعين بتعظيم النّار حتى ضلّ كثير من النّاس لإفراطهم فيها، أنهم يعبدونها [4].
فأما النار العلويّة، كالشمس والكواكب، فقد عبدت البتّة. قال الله تعالى:
{وَجَدْتُهََا وَقَوْمَهََا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} [5].
وقد يجيء في الأثر وفي سنّة بعض الأنبياء، تعظيمها على جهة التعبّد والمحنة، وعلى إيجاب الشكر على النّعمة بها وفيها. فيغلط لذلك كثير من النّاس، فيجوزون الحدّ، ويزعم أهل الكتاب أنّ الله تعالى أوصاهم بها، وقال: «لا تطفئوا النّيران من بيوتي». فلذلك لا تجد الكنائس والبيع [6]، وبيوت العبادات، إلّا وهي لا تخلو من نار أبدا، ليلا ولا نهارا حتّى اتّخذت للنّيران البيوت والسّدنة. ووقفوا عليها الغلّات الكثيرة.
1253 [نار المجوس]
أبو الحسن عن مسلمة وقحدم، أنّ زيادا بعث عبد الله بن أبي بكرة، وأمره أن
[1] بعد ذلك في ثمار القلوب: «والله أعلم حيث يجعل رسالاته».
[2] تقدم البيت في 1/ 266.
[3] البيت لخليد عنين في الأوائل 39، وشرح شواهد المغني 1/ 310، وبلا نسبة في ثمار القلوب (821).
[4] في ثمار القلوب: «حتى ظنّ كثير من الناس لإفراطهم أنهم يعبدونها».
[5] 24/ النمل: 27.
[6] البيع: جمع بيعة، وهي كنيسة اليهود أو النصارى.(4/498)
يطفئ النيران، فأراد عبد الله أن يبدأ بنار جور فيطفئها [1]، فقيل له: ليست للمجوس نار أعظم من نار الكاريان [2] من دار الحارث. فإن أطفأتها لم يمتنع عليك أحد، وإن أطفأت سافلتها استعدّوا للحرب وامتنعوا. فابدأ بها. فخرج إلى الكاريان فتحصّن أهلها في القلعة. وكان رجل من الفرس من أهل تلك البلاد معروف بالشدّة. لا يقدر عليه أحد، وكان يمرّ كلّ عشيّة بباب منزله استخفافا وإذلالا بنفسه، فغمّ ذلك عبد الله، فقال: أما لهذا أحد؟! وكان مع عبد الله بن أبي بكرة رجل من عبد القيس، من أشدّ النّاس بطشا، وكان جبانا، فقالوا له: هذا العبدي، هو شديد جبان. وإن أمرته به خاف القتال فلم يعرض له. فاحتل له حيلة. فقال: نعم.
قال: فبينا هو في مجلسه إذ مرّ الفارسيّ، فقال عبد الله: ما رأيت مثل خلق هذا، وما في الأرض كما زعموا أشدّ منه بطشا! ما يقوى عليه أحد! فقال العبدي:
ما تجعلون لي إن احتملته حتّى أدخله الدّار وأكتفه؟ فقال له عبد الله: لك أربعة آلاف درهم. فقال: تفون لي بألف؟ قال: نعم! فلمّا كان الغد مرّ الفارسيّ، فقام إليه العبديّ فاحتمله فيما امتنع ولا قدر أن يتحرّك، حتّى أدخله الدّار وضرب به الأرض ووثب عليه النّاس فقتلوه، وغشي على العبدي حين قتلوه. فلما قتل أعطى أهل القلعة بأيديهم [3]. فقتل ابن أبي بكرة الهرابذة، وأطفأ النّار، ومضى يطفئ النّيران حتّى بلغ سجستان.
والمجوس تقدّم النّار في التّعظيم على الماء، وتقدّم الماء في التّعظيم على الأرض. ولا تكاد تذكر الهواء.
1254 [نار السعالي والجن والغيلان]
ونار أخرى، التي يحكونها من نيران السّعالي [4] والجنّ وهي غير نار الغيلان.
وأنشد أبو زيد لسهم بن الحارث [5]: [من الطويل]
[1] ورد مثل هذا الكلام في معجم البلدان (جور).
[2] الكاريان: مدينة بفارس صغيرة، ورستاقها عامر، وبها بيت نار معظم عند المجوس. معجم البلدان (الكاريان).
[3] أعطوا بأيديهم: استسلموا.
[4] السعالي: جمع سعلاة، وهي أخبث الغيلان، ويزعمون أنها أنثى الجن. حياة الحيوان 1/ 555.
[5] الأبيات لشمر بن الحارث الضبي في الحماسة البصرية 2/ 246، ولشمير بن الحارث في نوادر أبي زيد 123، ولتأبط شرا في ديوانه 257255.(4/499)
ونار قد حضأت بعيد هدء ... بدار لا أريد بها مقاما [1] ... سوى تحليل راحلة وعين ... أكالئها مخافة أن تناما ... أتوا ناري، فقلت منون أنتم ... فقالوا: الجنّ! قلت: عموا ظلاما [2] ... فقلت: إلى الطّعام، فقال منهم ... زعيم: نحسد الإنس الطعاما
وهذا غلط وليس من هذا الباب، وسنضعه في موضعه إن شاء الله تعالى. بل الذي يقع ههنا قول أبي المطراب عبيد بن أيّوب [3]: [من الطويل] فلله درّ الغول أيّ رفيقة ... لصاحب قفر خائف متقفّر [4] ... أرنّت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حواليّ نيرانا تبوخ وتزهر [5]
1255 [نار الاحتيال]
[6] وما زالت السّدنة تحتال للنّاس جهة النّيران بأنواع الحيل، كاحتيال رهبان كنيسة القمامة ببيت المقدس بمصابيحها، وأنّ زيت قناديلها يستوقد لهم من غير نار، في بعض ليالي أعيادهم قال [7]: وبمثل احتيال السّادن لخالد بن الوليد، حين رماه بالشّرر ليوهمه أنّ ذلك من الأوثان، أو عقوبة على ترك عبادتها وإنكارها، والتعرّض لها حتى قال [8]:
[من الرجز] يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إنّي وجدت الله قد أهانك
حتى كشف الله ذلك الغطاء، من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1256 [نار الصيد]
[9] ونار أخرى، وهي النّار التي توقد للظباء وصيدها، لتعشى إذا أدامت النّظر،
[1] حضأت: أشعلت.
[2] منون أنتم: أي من أنتم.
[3] البيتان في أشعار اللصوص 218.
[4] المتقفر: الذي يتبع آثار الصيد، وفي أشعار اللصوص «يتستر» مكان «المتقفر».
[5] تبوخ: تسكن وتفتر. تزهر: تضيء.
[6] ثمار القلوب (74)، حيث نقل عن الجاحظ.
[7] ربيع الأبرار 1/ 181.
[8] الرجز بلا نسبة في ثمار القلوب (75).
[9] ثمار القلوب (830).(4/500)
وتختل من ورائها، ويطلب بها بيض النعام في أفاحيصها ومكناتها.
ولذلك قال طفيل الغنوي [1]: [من الطويل] عوازب لم تسمع نبوح مقامة ... ولم تر نارا تمّ حول مجرّم ... سوى نار بيض أو غزال بقفرة ... أغنّ من الخنس المناخر توءم
1257 [نار التهويل]
[2] وقد يوقدون النّيران يهوّلون بها على الأسد إذا خافوها، والأسد إذا عاين النّار حدق إليها وتأمّلها، فما أكثر ما تشغله عن السابلة، ومرّ أبو ثعلب الأعرج. على وادي السّباع، فعرض له سبع، فقال له المكاري:
لو أمرت غلمانك فأوقدوا نارا، وضربوا على الطّساس [الذي معهم] [3] ففعلوا فأحجم عنها [4]، فأنشدني له ابن أبي كريمة، في حبّه بعد ذلك للنّار، ومدحه لها وللصوت الشّديد، بعد بغضه لهما وهو قوله [5]: [من الطويل] فأحببتها حبّا هويت خلاطها ... ولو في صميم النّار نار جهنّم ... وصرت ألذّ الصّوت لو كان صاعقا ... وأطرب من صوت الحمار المرقّم [6]
1258 [نار الاصطلاء]
[7] وروي أنّ أعرابيّا اشتدّ عليه البرد، فأصاب نارا، فدنا منها ليصطلي بها، وهو يقول: اللهم لا تحرمنيها في الدّنيا ولا في الآخرة!.
1259 [سكوت الضفدع عند رؤية النار]
وممّا إذا أبصر النّار اعترته الحيرة، الضّفدع فإنّه لا يزال ينقّ فإذا أبصر النّار سكت.
[1] البيتان في ديوان طفيل الغنوي 77، وثمار القلوب (75)، وتقدم البيتان مع شرحهما في الفقرة 1179.
[2] ثمار القلوب 461 (828).
[3] الزيادة من ثمار القلوب (829).
[4] في ثمار القلوب: «فأحجم عنهم الأسد».
[5] البيتان بلا نسبة في ثمار القلوب (829).
[6] الحمار المرقم: المخطط القوائم.
[7] ثمار القلوب 828.(4/501)
1260 [نار الحباحب]
[1] ومن النّيران «نار الحباحب» وهي أيضا «نار أبي الحباحب». وقال أبو حيّة [2]: [من الطويل] يعشّر في تقريبه فإذا انحنى ... عليهنّ في قفّ أرنّت جنادله [3] ... وأوقدن نيران الحباحب والتقى ... غضا تتراقى بينهنّ ولاوله [4]
وقال القطاميّ [5] في نار أبي الحباحب: [من الطويل] تخوّد تخويد النّعامة بعدما ... تصوّبت الجوزاء قصد المغارب [6] ... ألا إنما نيران قيس إذا اشتوت ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
ويصفون نارا أخرى، وهي قريبة من نار أبي الحباحب، وكلّ نار تراها العين ولا حقيقة لها عند التماسها [7]، فهي نار أبي الحباحب. ولم أسمع في أبي حباحب نفسه شيئا.
1261 [نار البرق]
وقال الأعرابيّ، وذكر البرق [8]: [من الطويل] نار تعود به للعود جدّته ... والنّار تشعل نيرانا فتحترق
يقول: كلّ نار في الدّنيا فهي تحرق العيدان وتبطلها وتهلكها، إلّا «نار البرق»،
[1] ثمار القلوب (832)، والخزانة 7/ 150، والأوائل 42، ومجمع الأمثال 2/ 149، وشروح سقط الزند 2/ 507506.
[2] ديوان أبي حية النميري 7170.
[3] في ديوانه: «القف: الأرض ذات حجارة عظام. أرنّت: صوتت. الجنادل: الحجارة الكبيرة. أي تصوت الحجارة لضرب بعضها بعضا».
[4] في ديوانه «الولاول: الأصوات، جمع ولولة».
[5] ديوان القطامي 50، والبيت الثاني له في ثمار القلوب (833)، وهو للنابغة الذبياني في ملحق ديوانه 228، واللسان والتاج (حبحب)، وبلا نسبة في المخصص 11/ 26.
[6] خوّد البعير والظليم: أسرع واهتز في مشيه. تصوبت: انحدرت. الجوزاء: نجم.
[7] نقل الثعالبي هذا القول عن الجاحظ، وبعده: «كقدح الخيل من حوافرها النار إذا وطئت المرو والصفا والجلاميد الكبار». ثمار القلوب (832).
[8] البيت لابن ميادة في ديوانه 276، والسمط 1/ 445، والحماسة البصرية 2/ 349، ولعدي بن الرقاع في الوحشيات 279، والحماسة الشجرية 2/ 783، ومحاضرات الراغب 2/ 327، وبلا نسبة في المخصص 9/ 102، والأمالي 1/ 180، وزهر الآداب 1/ 178، ونهاية الأرب 1/ 114.(4/502)
فإنّها تجيء بالغيث. وإذا غيثت الأرض ومطرت أحدث الله للعيدان جدّة. وللأشجار أغصانا لم تكن.
1262 [نار اليراعة]
ونار أخرى، وهي شبيهة بنار البرق، ونار أبي حباحب، وهي «نار اليراعة»، واليراعة: طائر صغير، إن طار بالنّهار كان كبعض الطّير، وإن طار باللّيل كان كأنّه شهاب قذف أو مصباح يطير.
1263 [الدفء برؤية النار]
وفي الأحاديث السّائرة المذكورة في الكتب، أنّ رجلا ألقي في ماء راكد في شتاء بارد، في ليلة من الحنادس [1]، لا قمر ولا ساهور [2] وإنما ذكر ذلك، لأنّ ليلة العشر والبدر والطّوق الذي يستدير حول القمر، يكون كاسرا [3] من برد تلك الليلة قالوا: فما زال الرجل حيّا وهو في ذلك تارز [4] جامد، ما دام ينظر إلى نار، كانت تجاه وجهه في القرية، أو مصباح، فلما طفئت انتفض.
1264 [نار الخلعاء والهرّاب]
وقال الشّاعر [5]: [من الطويل] ونار قبيل الصّبح بادرت قدحها ... حيا النّار قد أوقدتها للمسافر [6]
يقول: بادرت اللّيل، لأنّ النّار لا ترى بالنهار، كأنه كان خليعا أو مطلوبا.
وقال آخر: [من الطويل] ودوّيّة لا يثقب النّار سفرها ... وتضحي بها الوجناء وهي لهيد [7]
[1] الحنادس: ثلاث ليال من الشهر مظلمات.
[2] الساهور: التسع البواقي من الشهر.
[3] كاسرا: مخففا.
[4] التارز: الصلب الشديد.
[5] البيت لكعب بن زهير في ديوانه 185، وأساس البلاغة (قهر)، وبلا نسبة في اللسان (حيا).
[6] حيا النار: أراد: حياة النار فحذف الهاء. «اللسان: حيا».
[7] يثقب النار: يشعلها. السفر: المسافرون. الوجناء: الناقة الشديدة. اللهيد: المجهدة المتعبة.(4/503)
كأنّهم كانوا هرّابا، فمن حثهم السّير لا يوقدون لبرمة ولا ملّة لأنّ ذلك لا يكون إلّا بالنزول والتمكث، وإنما يجتازون بالبسيسة [1]، أو بأدنى علقة. وقال بعض اللّصوص [2]: [من الرجز] ملسا بذود الحدسيّ ملسا ... نبّهت عنهن غلاما غسّا [3] ... لمّا تغشّى فروة وحلسا ... من غدوة حتّى كأنّ الشّمسا [4] ... بالأفق الغربيّ تكسى ورسا ... لا تخبزا خبزا وبسّا بسّا [5] ... ولا تطيلا بمناخ حبسا ... وجنّباها أسدا وعبسا
قال: والبسيسة: أن يبلّ الدّقيق بشيء حتى يجتمع ويؤكل.
1265 [نار الوشم]
ونار أخرى، وهي «نار الوشم والميسم» يقال للرجل: ما نار إبلك؟ فيقول:
علاط [6]، أو خباط [7]، أو حلقة [8] أو كذا وكذا.
1266 [رجز لبعض اللصوص]
وقرّب بعض اللّصوص إبلا من الهواشة [9]، وقد أغار عليها من كلّ جانب،
[1] البسيسة: سيفسرها الجاحظ بعد روايته الأبيات.
[2] الرجز للهفوان العقيلي، أحد بني المنتفق في معجم الشعراء 476475، وأشعار اللصوص 631، ونوادر أبي زيد 12، 70، وبلا نسبة في المخصص 104، 127، والأبيات (1، 6، 7) بلا نسبة في اللسان والتاج (خبز، بسس، حدس، ملس)، والتهذيب 7/ 215، 216، 12/ 316، 458، وديوان الأدب 2/ 160، والجمهرة 69، والمقاييس 1/ 181، 2/ 240، والمجمل 1/ 228.
[3] ملس الإبل: ساقها في خفية. الذود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر. الحدسي: منسوب إلى بني حدس بن أراش اللخمي، وهو الذي سرقوا إبله. الغسّ:
الضعيف اللئيم.
[4] الحلس: الكساء الذي على ظهر البعير تحت القتب.
[5] الورس: نبت له نور يشبه الزعفران. البس: الحلب.
[6] العلاط: سمة في عرض عنق البعير والناقة، والعلاط: يكون في العنق عرضا.
[7] الخباط: سمة تكون في الفخذ طويلة عرضا، وهي لبني سعد، وقيل هي التي تكون على الوجه، أو هي فوق الخد.
[8] الحلقة: سمة على شكل الحلقة، في الفخذ أو أصل الأذن، وانظر المخصص 7/ 156154 حيث أفرد بابا في سمات الإبل.
[9] هاشت الإبل: نفرت في الغارة فتبددت وتفرقت.(4/504)
وجمعها من قبائل شتى، فقرّبها إلى بعض الأسواق، فقال له بعض التّجار: ما نارك؟
وإنما يسأله عن ذلك لأنهم يعرفون بميسم كلّ قوم كرم إبلهم من لؤمها. فقال [1]:
[من الرجز] تسألني الباعة ما نجارها ... إذ زعزعوها فسمت أبصارها [2] ... فكلّ دار لأناس دارها ... وكلّ نار العالمين نارها
وقال الكردوس المرادي [3]: [من الطويل] تسائلني عن نارها ونتاجها ... وذلك علم لا يحيط به الطّمش
والطّمش: الخلق. والورى: النّاس خاصّة تمّ المصحف الرابع من كتاب الحيوان، ويليه إن شاء الله تعالى المصحف الخامس.
وأوله: نبدأ في هذا الجزء بتمام القول في نيران العجم والعرب، ونيران الدّيانة، ومبلغ أقدارها.
[1] الرجز بلا نسبة في اللسان (نجر، نور)، والتهذيب 11/ 41، 15/ 231، والتاج (نجر، نور، بيع)، والخزانة 3/ 213 (بولاق)، ومحاضرات الراغب 2/ 290، وحلية المحاضرة 2/ 137، وأشعار اللصوص 648.
[2] زعزعوها: ساقوها سوقا شديدا.
[3] البيت للكردوس المرادي في حلية المحاضرة 2/ 137، وأشعار اللصوص 649.(4/505)
فهرس الجزءين الثالث والرابع من كتاب الحيوان(4/507)
فهرس أبواب المصحف الثالث
باب ذكر الحمام 3
باب في صدق الظن وجودة الفراسة 27
باب من المديح بالجمال وغيره 5
باب آخر في مثل ذلك من الغضب وفي ذكر الجنون في المواضع التي يكون ذكره فيها محمودا 54
باب من الفطن وفهم الرّطانات والكنايات والفهم والإفهام 63
باب ذكر خصال الحرم 72
باب ذكر الحمام 75
باب ومن كرم الحمام 110
باب ليس في الأرض جنس يعتريه الأوضاح 119
باب الحمام طائر لئيم 124
باب القول في أجناس الذّبّان 143
باب رجع القول إلى ذكر الذّبّان 180
باب القول في الغربان 194
باب فيمن يهجى ويذكر بالشّؤم 232
باب في مديح الصّالحين والفقهاء 238
باب القول في الجعلان والخنافس 241
باب القول في الهدهد 249
باب القول في الرّخم 253
باب القول في الخفاش 256(4/509)
فهرس أبواب المصحف الرابع
القول في الذّرّة والنمّل 262
باب جملة القول في القرد والخنزير 278
رجع القول إلى ذكر الخنزير 291
القول في الحيّات 313
ومن أعاجيب الحيّات 373
أصوات خشاش الأرض 373
باب من ضرب المثل للرجل الداهية وللحيّ الممتنع بالحية 374
جملة القول في الظّليم 411
باب آخر وهو أعجب من الأول 416
القول فيما اشتقّ له من البيض اسم 423
القول في النيران 488
باب آخر 490(4/510)
الجزء الخامس
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
تتمة القول في النيران وأقسامها
القول في نيران العرب والعجم
أول المصحف الخامس من كتاب الحيوان في الكتاب على بقية النبران نبدأ في هذا الجزء بتمام القول في نيران العرب والعجم، ونيران الدّيانة ومبلغ أقدارها عند أهل كلّ ملّة وما يكون منها مفخرا، وما يكون منها مذموما، وما يكون صاحبها بذلك مهجورا.
ونبدأ بالإخبار عنها وبدئها، وعن نفس جوهرها، وكيف القول في كمونها وظهورها، إن كانت النار قد كانت موجودة العين قبل ظهورها، وعن كونها، على المجاورة كان ذلك أم على المداخلة، وفي حدوث عينها إن كانت غير كامنة، وفي إحالة الهواء لها والعود جمرا، إن كانت الاستحالة جائزة، وكانت الحجّة في تثبيت الأعراض صحيحة. وكيف القول في الضّرام الذي يظهر من الشجر، وفي الشّرر الذي يظهر من الحجر. وما القول في لون النار في حقيقتها. وهل يختلف الشّرار في طبائعها، أم لا اختلاف بين جميع جواهرها، أم يكون اختلافها على قدر اختلاف مخارجها ومداخلها، وعلى قدر اختلاف ما لاقاها وهيّجها؟
1267 [قول أبي إسحاق النظام في النار]
ونبدأ، باسم الله وتأييده، بقول أبي إسحاق.
قال أبو إسحاق: الناس اسم للحرّ والضّياء. فإذا قالوا: أحرقت أو سخّنت، فإنما الإحراق والتسخين لأحد هذين الجنسين المتداخلين، وهو الحرّ دون الضياء.
وزعم أن الحرّ جوهر صعّاد. وإنما اختلفا، ولم يكن اتّفاقهما على الصعود موافقا بين جواهرهما لأنهما متى صارا من العالم العلويّ إلى مكان صار أحدهما فوق صاحبه.
وكان يجزم القول ويبرم الحكم بأنّ الضياء هو الذي يعلو إذا انفرد، ولا يعلى.
قال: ونحن إنما صرنا إذا أطفأنا نار الأتّون [1] وجدنا أرضه وهواه وحيطانه حارّة، ولم نجدها مضيئة، لأن في الأرض، وفي الماء الذي قد لابس الأرض، حرّا كثيرا، وتداخلا متشابكا وليس فيهما ضياء. وقد كان حرّ النار هيّج تلك الحرارة فأظهرها، ولم يكن هناك ضياء من ملابس فهيّجه الضياء وأظهره، كما اتصل الحرّ بالحرّ فأزاله من موضعه، وأبرزه من مكانه. فلذلك وجدنا أرض الأتّون [1]، وحيطانها، وهواها حارّة، ولم نجدها مضيئة.(5/3)
وكان يجزم القول ويبرم الحكم بأنّ الضياء هو الذي يعلو إذا انفرد، ولا يعلى.
قال: ونحن إنما صرنا إذا أطفأنا نار الأتّون [1] وجدنا أرضه وهواه وحيطانه حارّة، ولم نجدها مضيئة، لأن في الأرض، وفي الماء الذي قد لابس الأرض، حرّا كثيرا، وتداخلا متشابكا وليس فيهما ضياء. وقد كان حرّ النار هيّج تلك الحرارة فأظهرها، ولم يكن هناك ضياء من ملابس فهيّجه الضياء وأظهره، كما اتصل الحرّ بالحرّ فأزاله من موضعه، وأبرزه من مكانه. فلذلك وجدنا أرض الأتّون [1]، وحيطانها، وهواها حارّة، ولم نجدها مضيئة.
وزعم أبو إسحاق أنّ الدليل على أن في الحجر والعود نارا مع اختلاف الجهات، أنه يلزم من أنكر ذلك أن يزعم أن ليس في السّمسم دهن ولا في الزّيتون زيت.
ومن قال ذلك لزمه أن يقول: أن ليس في الإنسان دم، وأنّ الدّم إنّما تخلّق عند البطّ [2]، وكان ليس بين من أنكر أن يكون الصّبر [3] مرّ الجوهر، والعسل حلو الجوهر قبل ألّا يذاقا، وبين السمسم والزيتون قبل أن يعصرا فرق.
وإن زعم الزاعم أنّ الحلاوة والمرارة عرضان، والزيت والخلّ جوهر، وإذا لزم من قال ذلك في حلاوة العسل، وحموضة الخلّ، وهما طعمان لزمه مثل ذلك في ألوانهما، فيزعم أنّ سواد السّبج [4]، وبياض الثلج، وحمرة العصفر، وصفرة الذهب، وخضرة البقل، إنما تحدث عند رؤية الإنسان، وإن كانت المعاينة والمقابلة غير عاملتين في تلك الجواهر.
قال: فإذا قاس ذلك المتكلّم في لون الجسم بعد طعمه، وفي طوله وعرضه وصورته بعد رائحته، وفي خفته وثقل وزنه، كما قاس في رخاوته وصلابته فقد دخل في باب الجهالات، ولحق بالذين زعموا أن القربة ليس فيها ماء، وإن وجدوها باللمس ثقيلة مزكورة [5] وإنما تخلّق عند حلّ رباطها. وكذلك فليقولوا في الشمس والقمر، والكواكب، والجبال، إذا غابت عن أبصارهم.
قال: فمن هرب عن الانقطاع إلى الجهالات، كان الذي هرب إليه أشدّ عليه.
[1] الاتّون: الموقد.
[2] بطّ الجرح: شقه، والمبطة: المبضع.
[3] الصّبر: عصارة شجر مر.
[4] السبج: الخرز الأسود.
[5] مزكورة: مملوءة.(5/4)
وكان يضرب لهما مثلا ذكرته لظرافته:
حكى عن رجل أحدب سقط في بئر، فاستوت حدبته وحدثت له أدرة [1] في خصيته، فهنّاه رجل عن ذهاب حدبته، فقال: الذي جاء شرّ من الذي ذهب!
1268 [رد النظام على ضرار في إنكار الكمون]
وكان أبو إسحاق يزعم أن ضرار بن عمرو قد جمع في إنكاره القول بالكمون الكفر والمعاندة لأنه كان يزعم أن التوحيد لا يصحّ إلا مع إنكار الكمون، وأن القول بالكمون لا يصحّ إلا بأن يكون في الإنسان دم. وإنما هو شيء تخلّق عند الرّؤية.
قال: وهو قد كان يعلم يقينا أنّ جوف الإنسان لا يخلو من دم.
قال: ومن زعم أن شيئا من الحيوان يعيش بغير الدم، أو شيء يشبه الدم، فواجب عليه أن يقول بإنكار الطبائع ويدفع الحقائق بقول جهم في تسخين النار وتبريد الثلج، وفي الإدراك والحسّ، والغذاء والسّمّ. وذلك باب آخر في الجهالات.
ومن زعم أن التوحيد لا يصلح إلا بألّا يكون في الإنسان دم، وإلا بأن تكون النار لا توجب الإحراق، والبصر الصحيح لا يوجب الإدراك فقد دلّ على أنه في غاية النقص والغباوة، أو في غاية التكذيب والمعاندة.
وقال أبو إسحاق: وجدنا الحطب عند انحلال أجزائه، وتفرّق أركانه التي بني عليها، ومجموعاته التي ركّب منها وهي أربع: نار، ودخان، وماء، ورماد، ووجدنا للنار حرّا وضياء، ووجدنا للماء صوتا، ووجدنا للدّخان طعما ولونا ورائحة، ووجدنا للرّماد طعما ولونا ويبسا، ووجدنا للماء السائل من كل واحد من أصحابه. ثمّ وجدناه ذا أجناس ركّبت من المفردات.
ووجدنا الحطب ركّب على ما وصفنا، فزعمنا أنه ركّب من المزدوجات، ولم يركّب من المفردات.
قال أبو إسحاق: فإذا كان المتكلم لا يعرف القياس ويعطيه حقه فرأى أنّ العود حين احتكّ بالعود أحدث النار فإنه يلزمه في الدخان مثل ذلك، ويلزمه في الماء السائل مثل ذلك. وإن قاس قال في الرّماد مثل قوله في الدخان والماء. وإلا فهو إما جاهل، وإمّا متحكم.
[1] الأدرة: انتفاخ في الخصية.(5/5)
وإن زعم أنه إنما أنكر أن تكون النار كانت في العود، لأنه وجد النار أعظم من العود، ولا يجوز أن يكون الكبير في الصغير، وكذلك الدخان فليزعم أن الدخان لم يكن في الحطب، وفي الزّيت وفي الزّيت وفي النّفط.
فإن زعم أنهما سواء، وأنه إنما قال بذلك لأن بدن ذلك الحطب لم يكن يسع الذي عاين من بدن النار والدخان، فليس ينبغي لمن أنكر كمونها من هذه الجهة أن يزعم أنّ شرر القدّاحة والحجر لم يكونا كامنين في الحجر والقدّاحة.
وليس ينبغي أن ينكر كمون الدم في الإنسان، وكمون الدّهن في السمسم، وكمون الزيت في الزيتون. ولا ينبغي أن ينكر من ذلك إلا ما لا يكون الجسم يسعه في العين.
فكيف وهم قد أجروا هذا الإنكار في كلّ ما غاب عن حواسّهم من الأجسام المستترة بالأجسام حتى يعود بذلك إلى إبطال الأعراض؟! كنحو حموضة الخلّ، وحلاوة العسل، وعذوبة الماء، ومرارة الصبر.
قال: فإن قاسوا قولهم وزعموا أن الرماد حادث، كما قالوا في النار والدّخان، فقد وجب عليهم أن يقولوا في جميع الأجسام مثل ذلك كالدقيق المخالف للبرّ في لونه، وفي صلابته، وفي مساحته، وفي أمور غير ذلك منه. فقد ينبغي أن يزعم أن الدقيق حادث، وأن البرّ قد بطل.
وإذا زعم ذلك زعم أنّ الزّبد الحادث بعد المخض لم يكن في اللبن، وأنّ جبن اللبن حادث، وقاس ماء الجبن على الجبن. وليس اللبن إلا الجبن والماء.
وإذا زعم أنهما حادثان، وأن اللبن قد بطل، لزمه أن يكون كذلك الفخّار، الذي لم نجده حتى عجنّا التراب اليابس المتهافت على حدته، بالماء الرّطب السيّال على حدته، ثم شويناه بالنار الحارّة الصّعّادة على حدتها. ووجدنا الفخار في العين واللمس والذّوق والشّمّ، وعند النّقر والصّكّ على خلاف ما وجدنا عليه النار وحدها، والماء وحده، والتّراب وحده فإنّ ذلك الفخار هو تلك الأشياء. والحطب هو تلك الأشياء، إلا أن أحدها من تركيب العباد، والآخر من تركيب الله.
والعبد لا يقلب المركّبات عن جواهرها بتركيبه ما ركب منها.
والحجر متى صكّ بيضة كسرها، وكيف دار الأمر، سواء كانت الرّيح تقلبه أو إنسان.
فإن زعموا أن الفخار ليس ذلك التّراب، وذلك الماء، وتلك النار، وقالوا مثل ذلك في جميع الأخبصة [1] والأنبذة، كان آخر قياسهم أن يجيبوا بجواب أبي الجهجاه فإنه زعم أن القائم غير القاعد، والعجين غير الدقيق. وزعم ولو أنه لم يقل ذلك أن الحبّة متى فلقت فقد بطل الصحيح، وحدث جسمان في هيئة نصفي الحبّة. وكذلك إذا فلقت بأربع فلق، إلى أن تصير سويقا، ثم تصير دقيقا، ثم تصير عجينا، ثم تصير خبزا، ثم تعود رجيعا وزبلا، ثم تعود ريحانا وبقلا، ثم يعود الرجيع أيضا لبنا وزبدا لأن الجلّالة [2] من البهائم تأكله، فيعود لحما ودما.(5/6)
والحجر متى صكّ بيضة كسرها، وكيف دار الأمر، سواء كانت الرّيح تقلبه أو إنسان.
فإن زعموا أن الفخار ليس ذلك التّراب، وذلك الماء، وتلك النار، وقالوا مثل ذلك في جميع الأخبصة [1] والأنبذة، كان آخر قياسهم أن يجيبوا بجواب أبي الجهجاه فإنه زعم أن القائم غير القاعد، والعجين غير الدقيق. وزعم ولو أنه لم يقل ذلك أن الحبّة متى فلقت فقد بطل الصحيح، وحدث جسمان في هيئة نصفي الحبّة. وكذلك إذا فلقت بأربع فلق، إلى أن تصير سويقا، ثم تصير دقيقا، ثم تصير عجينا، ثم تصير خبزا، ثم تعود رجيعا وزبلا، ثم تعود ريحانا وبقلا، ثم يعود الرجيع أيضا لبنا وزبدا لأن الجلّالة [2] من البهائم تأكله، فيعود لحما ودما.
وقال: فليس القول إلا ما قال أصحاب الكمون، أو قول هذا.
1269 [ردّ النظام على أصحاب الأعراض]
قال أبو إسحاق: فإن اعترض علينا معترض من أصحاب الأعراض فزعم أن النار لم تكن كامنة، وكيف تكمن فيه وهي أعظم منه؟ ولكنّ العود إذا احتكّ بالعود حمي العودان، وحمي من الهواء المحيط بهما الجزء الذي بينهما، ثم الذي يلي ذلك منهما، فإذا احتدم رقّ، ثم جفّ والتهب. فإنما النار هواء استحال.
والهواء في أصل جوهره حارّ رقيق، وهو جسم رقيق، وهو جسم خوّار، جيّد القبول، سريع الانقلاب.
والنار التي تراها أكثر من الحطب، إنما هي ذلك الهواء المستحيل، وانطفاؤها بطلان تلك الأعراض الحادثة من النارية فيه. فالهواء سريع الاستحالة إلى النار، سريع الرجوع إلى طبعه الأول. وليس أنها إذا عدمت فقد انقطعت إلى شكل لها علويّ واتصلت، وصارت إلى تلادها [3]، ولا أنّ أجزاءها أيضا تفرقت في الهواء، ولا أنها كانت كامنة في الحطب، متداخلة منقبضة فيه، فلما ظهرت انبسطت وانتشرت.
وإنما اللهب هواء استحال نارا لأن الهواء قريب القرابة من النار، والماء هو حجاز بينهما، لأنّ النار يابسة حارة، والماء رطب بارد، والهواء حارّ رطب، فهو يشبه الماء من جهة الرطوبة والصفاء، ويشبه النار بالحرارة والخفة فهو يخالفهما ويوافقهما فلذلك جاز أن ينقلب إليهما انقلابا سريعا، كما ينعصر الهواء إذا استحال رطبا
[1] الأخبصة: حلوى تصنع من التمر والسمن.
[2] الجلّالة: البقرة تتبّع النجاسات، والجلّة: البعر.
[3] أصل التلاد: المال القديم الأصلي، وهو يريد القول: رجعت إلى معدنها وأصلها الأول.(5/7)
وحدث له كثافة، إلى أن تعود أجزاؤه مطرا. فالماء ضدّ النار، والهواء خلاف لهما، وليس بضدّ. ولا يجوز أن ينقلب الجوهر إلى ضده حتى ينقلب بديّا إلى خلافه. فقد يستقيم أن ينقلب الماء هواء، ثم ينقلب الهواء نارا، وينقلب الهواء ماء، ثم ينقلب الماء أرضا. فلا بدّ في الانقلاب من الترتيب والتدريج. وكلّ جوهر فله مقدمات لأن الماء قد يحيل الطين صخرا، وكذلك في العكس، فلا يستحيل الصخر هواء، والهواء صخرا، إلا على هذا التنزيل والترتيب.
وقال أبو إسحاق لمن قال بذلك من حذّاق أصحاب الأعراض: قد زعمتم أن النار التي عاينّاها لم تخرج من الحطب، ولكنّ الهواء المحيط بهما احتدم واستحال نارا. فلعلّ الحطب الذي يسيل منه الماء الكثير، أن يكون ذلك الماء لم يكن في الحطب، ولكنّ ذلك المكان من الهواء استحال ماء. وليس ذلك المكان من الهواء أحقّ بأن يستحيل ماء من أن يكون سبيل الدخان في الاستحالة سبيل النار والماء.
فإن قاس القوم ذلك، فزعموا أن النار التي عاينّاها، وذلك الماء والدخان في كثافة الدخان وسواده، والذي يتراكم منه في أسافل القدور وسقف المطابخ إنما ذلك هواء استحال، فلعلّ الرماد أيضا، هواء استحال رمادا.
فإن قلتم: الدّخان في أول ثقله المتراكم على أسافل القدور، وفي بطون سقف مواقد الحمامات، الذي إذا دبّر ببعض التدبير جاء منه الأنقاس [1] العجيبة أحق بأن استحال أرضيّا. فإن قاس صاحب العرض، وزعم أن الحطب انحلّ بأسره، فاستحال بعضه رمادا كما قد كان بعضه رمادا مرة، واستحال بعضه ماء كما كان بعضه ماء مرة، وبعضه استحال أرضا، كما كان بعضه أرضا مرة، ولم يقل إن الهواء المحيط به استحال رمادا، ولكنّ بعض أخلاط الحطب استحال رمادا ودخانا، وبعض الهواء المتصل به استحال ماء وبعضه استحال نارا، على قدر العوامل، وعلى المقابلات له.
وإذا قال صاحب العرض ذلك كان قد أجاب في هذه الساعة على حدّ ما نزّلته لك.
وهذا باب من القول في النار. وعلينا أن نستقصي للفريقين والله المعين.
1270 [ردّ على منكري كمون النار في الحطب]
وباب آخر، وهو أن بعض من ينكر كمون النار في الحطب قالوا: إن هذا الحرّ
[1] الأنقاس: جمع نقس، وهو المداد.(5/8)
الذي رأيناه قد ظهر من الحطب، لو كان في الحطب لكان واجبا أن يجده من مسّه كالجمر المتوقد، إذا لم يكن دونه مانع منه. ولو كان هناك مانع لم يكن ذلك المانع إلا البرد لأن اللون والطعم والرائحة لا يفاسد الحرّ، ولا يمانعه إلا الذي يضادّه، دون الذي يخالفه ولا يضاده.
فإن زعم زاعم أنه قد كان هناك من أجزاء البرد ما يعادل ذلك الحرّ ويطاوله، ويكافيه ويوازيه فلذلك صرنا إذا مسسنا الحطب لم نجده مؤذيا، وإنما يظهر الحرق ويحرق لزوال البرد، إذا قام في مكانه وظهر الحرّ وحده فظهر عمله. ولو كان البرد المعادل لذلك الحرّ مقيما في العود على أصل كمونه فيه. لكان ينبغي لمن مسّ الرّماد بيده أن يجده أبرد من الثلج. فإذا كان مسه كمسّ غيره، فقد علمنا أنه ليس هناك من البرد ما يعادل هذا الحرّ الذي يحرق كلّ شيء لقيه.
فإن زعم أنهما خرجا جميعا من العود، فلا يخلو البرد أن يكون أخذ في جهته، فلم وجدنا الحرّ وحده وليس هو بأحق أن نجده من ضدّه. وإن كان البرد أخذ شمالا، وأخذ الحرّ جنوبا، فقد كان ينبغي أن يجمد ويهلك ما لاقاه، كما أهلك الحر وأحرق وأذاب كلّ ما لاقاه.
قالوا: فلما وجدنا جميع أقسام هذا الباب، علمنا أن النار لم تكن كامنة في الحطب.
قال أبو إسحاق: والجواب عن ذلك أنا نزعم أن الغالب على العالم السفليّ الماء والأرض، وهما جميعا باردان، وفي أعماقهما وأضعافهما من الحر ما يكون مغمورا ولا يكون غامرا، ويكون مقموعا ولا يكون قامعا لأنه هناك قليل، والقليل ذليل، والذليل غريب، والغريب محقور. فلما كان العالم السفلي كذلك، اجتذب ما فيه من قوة البرد وذلك البرد الذي كان في العود عند زوال مانعه لأن العود مقيم في هذا العالم. ثم لم ينقطع ذلك البرد إلى برد الأرض، الذي هو كالقرص له، إلا بالطّفرة [1] والتخليف [2]، لا بالمرور على الأماكن والمحاذاة لها وقام برد الماء منه مقام قرص الشمس من الضياء الذي يدخل البيت للخرق الذي يكون فيه، فإذا سدّ فمع السّدّ ينقطع إلى قرصه، وأصل جوهره.
[1] الطفرة: الوثبة.
[2] التخليف: التّرك.(5/9)
فإذا أجاب بذلك أبو إسحاق لم يجد خصمه بدّا من أن يبتدئ مسألة في إفساد القول بالطفرة والتخليف.
ولولا ما اعترض به أبو إسحاق من الجواب بالطفرة في هذا الموضع، لكان هذا مما يقع في باب الاستدلال على حدوث العالم.
1271 [قول النظام في الكمون]
وكان أبو إسحاق يزعم أن احتراق الثوب والحطب والقطن، إنما هو خروج نيرانه منه، وهذا هو تأويل الاحتراق، وليس أن نارا جاءت من مكان فعملت في الحطب، ولكن النار الكامنة في الحطب لم تكن تقوى على نفي ضدّها عنها، فلما اتصلت بنار أخرى، واستمدّت منها، قويتا جميعا على نفي ذلك المانع، فلما زال المانع ظهرت. فعند ظهورها تجزّأ الحطب وتجفف وتهافت لمكان عملها فيه.
فإحراقك للشيء إنما هو إخراجك نيرانه منه.
وكان يزعم أن حرارة الشمس، إنما تحرق في هذا العالم بإخراج نيرانها منه.
وهي لا تحرق ما عقد العرض وكثّف تلك النداوة لأن التي عقدت تلك الأجزاء من الحر أجناس لا تحترق، كاللون والطعم والرائحة، والصوت. والاحتراق إنما هو ظهور النار عند زوال مانعها فقط.
وكان يزعم أن سمّ الأفعى مقيما في بدن الأفعى، ليس يقتل، وأنه متى مازج بدنا لا سمّ فيه لم يقتل ولم يتلف، وإنما يتلف الأبدان التي فيها سموم ممنوعة مما يضادّها. فإذا دخل عليها سم الأفعى، عاون السم الكامن ذلك السمّ الممنوع على مانعه. فإذا زال المانع تلف البدن. فكان المنهوش عند أبي إسحاق، إنما كان أكثر ما أتلفه السمّ الذي معه.
وكذلك كان يقول في حرّ الحمّام، والحر الكامن في الإنسان: أنّ الغشي الذي يعتريه في الحمام ليس من الحر القريب، ولكن من الحر الغريب، حرّك الحرّ الكامن في الإنسان، وأمدّه ببعض أجزائه، فلما قوي عند ذلك على مانعه فأزاله، صار ذلك العمل الذي كان يوقعه بالمانع واقعا به. وإنما ذلك كماء حار يحرق اليد، صبّ عليه ماء بارد، فلما دخل عليه الماء البارد صار شغله بالداخل، وصار من وضع يده فيه ووضع يده في شيء قد شغل فيه بغيره. فلما دفع الله، عزّ وجلّ، عنه ذلك الجسم
الذي هو مشغول به، صار ذلك الشّغل مصروفا إلى من وضع يده فيه إذ كان لا ينفكّ من عمله.(5/10)
وكذلك كان يقول في حرّ الحمّام، والحر الكامن في الإنسان: أنّ الغشي الذي يعتريه في الحمام ليس من الحر القريب، ولكن من الحر الغريب، حرّك الحرّ الكامن في الإنسان، وأمدّه ببعض أجزائه، فلما قوي عند ذلك على مانعه فأزاله، صار ذلك العمل الذي كان يوقعه بالمانع واقعا به. وإنما ذلك كماء حار يحرق اليد، صبّ عليه ماء بارد، فلما دخل عليه الماء البارد صار شغله بالداخل، وصار من وضع يده فيه ووضع يده في شيء قد شغل فيه بغيره. فلما دفع الله، عزّ وجلّ، عنه ذلك الجسم
الذي هو مشغول به، صار ذلك الشّغل مصروفا إلى من وضع يده فيه إذ كان لا ينفكّ من عمله.
وكان مع ذلك يزعم أنك لو أطفأت نار الأتّون [1] لم تجد شيئا من الضوء، ووجدت الكثير من الحر لأن الضياء لما لم يكن له في الأرض أصل ينسب إليه، وكان له في العلوّ أصل، كان أولى به.
وفي الحقيقة أنهما جميعا قد اتصلا بجوهرهما من العالم العلويّ. وهذا الحر الذي تجده في الأرض، إنما هو الحرّ الكامن الذي زال مانعه.
هكذا كان ينبغي أن يقول. وهو قياسه.
وكان يزعم أنك إن أبصرت مصباحا قائما إلى الصّبح أن الذي رأيته في أول وهلة قد بطل من هذا العالم، وظفر من الدهن بشيء من وزنه وقدره بلا فضل [2]، ثم كذلك الثالث والرابع والتاسع. فأنت إن ظننت أن هذا المصباح ذلك، فليس به، ولكن ذلك المكان لما كان لا يخلو من أقسام متقاربة متشابهة، ولم يكن في الأول شية [3] ولا علامة، وقع عندك أن المصباح الذي رأيته مع طلوع الفجر، هو الذي رأيته مع غروب الشّفق.
وكان يزعم أن نار المصباح لم تأكل شيئا من الدّهن ولم تشربه، وأن النار لا تأكل ولا تشرب، ولكن الدهن ينقص على قدر ما يخرج منه من الدخان والنار الكامنين، اللذين كانا فيه. وإذا خرج كلّ شيء فهو بطلانه.
باب في المجاز والتشبيه بالأكل
1272 [المجاز والتشبيه الأكل]
وقد يقولون ذلك أيضا على المثل، وعلى الاشتقاق، وعلى التشبيه.
فإن قلتم: فقد قال الله عزّ وجلّ في الكتاب: {الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ عَهِدَ إِلَيْنََا أَلََّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتََّى يَأْتِيَنََا بِقُرْبََانٍ تَأْكُلُهُ النََّارُ} [4] علمنا أن الله، عزّ وجلّ، إنما كلمهم بلغتهم.
[1] الأتّون: الموقد.
[2] الفضل: الزيادة.
[3] الشية: اللون يخالف معظم اللون.
[4] 183/ آل عمران: 3.(5/11)
وقد قال أوس بن حجر [1]: [من الطويل] فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكّلا [2] ... وقد أكلت أظفاره الصّخر كلما ... تعايا عليه طول مرقى توصّلا
فجعل النحت والتّنقّص أكلا.
وقال خفاف بن ندبة [3]: [من البسيط] أبا خراشة أمّا كنت ذا نفر ... فإنّ قومي لم تأكلهم الضبع
والضّبع: السّنة. فجعل تنقّص الجدب، والأزمة، أكلا.
باب آخر مما يسمونه أكلا
وقال مرداس بن أديّة [4]: [من البسيط] وأدّت الأرض منّي مثل ما أكلت ... وقرّبوا لحساب القسط أعمالي
وأكل الأرض لما صار في بطنها: إحالتها له إلى جوهرها.
باب آخر في المجاز والتشبيه بالأكل
باب آخر
1273 [في المجاز والتشبيه بالأكل]
وهو قول الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً} [5] وقوله
[1] ديوان أوس بن حجر 87، والسمط 492، والأول في اللسان والتاج (شرط، عصم)، وأساس البلاغة (شرط)، والعين 6/ 236، والجمهرة 726، والسمط 492، والفاخر 123، والثاني في أساس البلاغة (أكل).
[2] في ديوانه: «قال ابن السكيت: أشرط نفسه: جعلها علما للموت، ومنه أشراط الساعة. ويقال:
أشرط نفسه في ذلك الأمر أي خاطر بها. والمعصم: المتعلق بالحبل. والسبب: الحبل».
[3] البيت لخفاف بن ندبة في ديوانه 533، وللعباس بن مرداس في ديوانه 106، والاشتقاق 313، والخزانة 4/ 13، 14، 17، 200، 5/ 445، 6/ 532، 11/ 62، وشرح شذور الذهب 242، وشرح شواهد المغني 1/ 116، 179، وشرح قطر الندى 140، وشرح المفصل 2/ 99، 8/ 132، والكتاب 1/ 293، والمقاصد النحوية 2/ 55، واللسان (خرش، ضبع)، وبلا نسبة في الأزهية 147، والإنصاف 71، ومغني اللبيب 1/ 35، واللسان والتاج (ما)، وأوضح المسالك 1/ 265، والجنى الداني 528.
[4] البيت في شعر الخوارج 50.
[5] 10/ النساء: 4.(5/12)
تعالى، عزّ اسمه: {أَكََّالُونَ لِلسُّحْتِ} [1]. وقد يقال لهم ذلك وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة، ولبسوا الحلل، وركبوا الدوابّ، ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل.
وقد قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً} [2]. وهذا مجاز آخر.
وقال الشاعر في أخذ السّنين من أجزاء الخمر [3]: [من الخفيف] أكل الدّهر ما تجسّم منها ... وتبقّى مصاصها المكنونا [4]
وقال الشاعر: [من السريع] مرّت بنا تختال في أربع ... يأكل منها بعضها بعضا [5]
وهل قوله [6]: «وقد أكلت أظفاره الصّخر»، إلا كقوله [7]: [من الطويل] كضبّ الكدى أفنى براثنه الحفر [8]
وإذا قالوا: أكله الأسد، فإنما يذهبون إلى الأكل المعروف. وإذا قالوا: أكله الأسود [9]، فإنما يعنون النّهش واللّدغ والعضّ فقط.
وقد قال الله عزّ وجلّ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [10].
ويقال: هم لحوم الناس.
[1] 42/ المائدة: 5
[2] 10/ النساء: 4.
[3] البيت لأبي نواس في ديوانه 30.
[4] المصاص: خالص كل شيء، ورواية الديوان «وتبقى لبابها»، المكنون: المستور.
[5] أربع: أراد: صواحبها، وأراد أنها في تثنّيها وتعطّفها كأنما يأكل بعضها بعضا.
[6] جزء من بيت لأوس بن حجر، ورد في الصفحة السابقة.
[7] صدر البيت: (ترى الشّرّ قد أفنى دوائر وجهه)، وهو لخالد بن علقمة في ديوان علقمة الفحل 110، ولابن الطيفان خالد بن علقمة بن مرثد في المؤتلف والمختلف 221، وللزبرقان بن بدر في المقاصد النحوية 4/ 171، وللحصين بن القعقاع في ثمار القلوب (613).
[8] في ديوان علقمة: «قد أفنى دوائر وجهه، أي: قد ملأ الشر وجهه أجمع فأنت تستبين أثر الشر وتغييره في وجهه. وقوله: كضب الكدى: الضب لا يحتفر أبدا إلا في مكان صلب كيلا يهدم عليه جحره، واستعار للضب أنامل مكان البراثن لما أخبر عنه بمثل ما يخبر به عن الآدميين من الحفر».
[9] الأسود: ضرب خبيث من الأفاعي.
[10] 12/ الحجرات: 49.(5/13)
وقال قائل لإسماعيل بن حماد: أيّ اللّحمان أطيب؟ قال: لحوم الناس، هي والله أطيب من الدجاج، ومن الفراخ، والعنوز الحمر [1].
ويقولون في باب آخر: فلان يأكل الناس. وإن لم يأكل من طعامهم شيئا.
وأما قول أوس بن حجر [2]: [من الطويل] وذو شطبات قدّه ابن مجدّع ... له رونق ذرّيّه يتأكّل [3]
فهذا على خلاف الأول. وكذلك قول دهمان النهري [4]: [من الرمل] سألتني عن أناس أكلوا ... شرب الدّهر عليهم وأكل
فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز.
باب آخر في مجاز الذوق
باب آخر
1274 [في مجاز الذوق]
وهو قول الرّجل إذا بالغ في عقوبة عبده: ذق! و: كيف ذقته؟! و: كيف وجدت طعمه! وقال عزّ وجلّ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [5].
وأما قولهم: «ما ذقت اليوم ذواقا» [6]، فإنه يعني: ما أكلت اليوم طعاما، ولا شربت شرابا، وإنما أراد القليل والكثير، وأنه لم يذقه، فضلا عن غير ذلك.
[1] العنوز: جمع عنز، وهي الأنثى من المعز.
[2] ديوان أوس بن حجر 95، وديوان المعاني 2/ 57.
[3] في ديوانه: «الشطبات: جمع شطبة، وهي الطريقة من طرائق السيف. قده: قطعه وصنعه. وابن مجدع: قين مشهور بصنع السيوف. الرونق: ماء السيف وصفاؤه وحسنه. الذري: التلألؤ واللمعان. يتأكل: يبرق ويلمع بشدة».
[4] لم يرد البيت منسوبا إلى دهمان النهري في المصادر المتاحة، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه 92، 98، والأزهية 285، واللسان والتاج (طرب، أكل)، وأساس البلاغة (شرب)، والمعاني الكبير 1208، وأمالي المرتضى 1/ 66، وبلا نسبة في مجمع الأمثال 1/ 42، وانظر المستقصى 2/ 283.
[5] 49/ الدخان: 44.
[6] المثل في مجمع الأمثال 2/ 281، والمستقصى 2/ 321، وأمثال ابن سلام 390.(5/14)
وقال بعض طبقات الفقهاء، ممن يشتهي أن يكون عند الناس متكلما: ما ذقت اليوم ذواقا على وجه من الوجوه، ولا على معنى من المعاني، ولا على سبب من الأسباب، ولا على جهة من الجهات، ولا على لون من الألوان.
وهذا من عجيب الكلام! قال: ويقول الرجل لوكيله: ايت فلانا فذق ما عنده وقال شمّاخ بن ضرار [1]: [من الطويل] فذاق فأعطته من اللّين جانبا ... كفى، ولها أن يغرق السهم حاجز
وقال ابن مقبل [2]: [من البسيط] أو كاهتزاز ردينيّ تذاوقه ... أيدي التّجار فزادوا متنه لينا [3]
وقال نهشل بن حرّيّ [4]: [من الوافر] وعهد الغانيات كعهد قين ... ونت عنه الجعائل مستذاق [5]
الجعائل: من الجعل.
وتجاوزوا ذلك إلى أن قال يزيد بن الصّعق، لبني سليم حين صنعوا بسيّدهم العباس ما صنعوا. وقد كانوا توّجوه وملّكوه، فلما خالفهم في بعض الأمر وثبوا عليه، وكان سبب ذلك قلة رهطه. وقال يزيد بن الصّعق [6]: [من الوافر] وإن الله ذاق حلوم قيس ... فلما ذاق خفّتها قلاها
[1] ديوان الشماخ 190، وجمهرة أشعار العرب 832، والتهذيب 9/ 263، واللسان والتاج وأساس البلاغة (ذوق)، وبلا نسبة في المقاييس 2/ 365، والمخصص 6/ 47.
[2] ديوان ابن مقبل 328 (232)، والحماسة البصرية 2/ 91، والأمالي 1/ 229، والموشح 15، واللسان والأساس (ذوق).
[3] في ديوانه: «الرديني: الرمح، منسوب إلى ردينة، وهي امرأة كانت تتقن هي وزوجها سمهر صنع الرماح بخط هجر. والتجار: جمع تاجر، وهو الذي يتجر في الشيء، أو الحاذق في الأمر. شبّه تثني النساء في مشيهن باهتزاز الرمح اللدن».
[4] ديوان نهشل بن حري 117، واللسان والتاج (ذوق، لمق)، وجمهرة الأمثال 1/ 23، ومجمع الأمثال 1/ 41، والمستقصى 1/ 125، ونسب خطأ إلى جرير في أساس البلاغة (ذوق)، وهو بلا نسبة في التهذيب 9/ 263.
[5] القين: الحداد أو العامل. ونت: أبطأت. الجعائل: جمع جعالة، وهو ما يجعل للعامل على عمله.
مستذاق: مختبر.
[6] البيتان في أشعار العامريين الجاهليين 63.(5/15)
رآها لا تطيع لها أميرا ... فخلّاها تردّد في خلاها [1]
فزعم أن الله، عزّ وجلّ، يذوق.
وعند ذلك قال عباس الرّعلي يخبر عن قلّته وكثرتهم، فقال [2]: [من الطويل] وأمّكم تزجي التّؤام لبعلها ... وأمّ أخيكم كزّة الرّحم عاقر [3]
وزعم يونس أنّ أسلم بن زرعة لما أنشد هذا البيت اغرورقت عيناه.
وجعل عباس أمّه عاقرا إذ كانت نزورا. وقد قال الغنويّ [4]: [من الكامل] وتحدثوا ملأ لتصبح أمّنا ... عذراء لا كهل ولا مولود
جعلها إذ قلّ ولدها كالعذراء التي لم تلد قطّ. لما كانت كالعذراء جعلها عذراء.
وللعرب إقدام على الكلام، ثقة بفهم أصحابهم عنهم. وهذه أيضا فضيلة أخرى.
وكما جوّزوا لقولهم أكل وإنما عضّ، وأكل وإنما أفنى، وأكل وإنما أحاله، وأكل وإنما أبطل عينه جوّزوا أيضا أن يقولوا: ذقت ما ليس بطعم، ثم قالوا:
طعمت، لغير الطعام. وقال العرجيّ [5]: [من الطويل] وإن شئت حرّمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا [6]
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [7]، يريد: لم يذق طعمه.
[1] خلّاها: تركها. الخلى: جمع خلاة، وهو الرطب من النبات.
[2] تقدم البيت في الفقرة (255) 1/ 239.
[3] تزجي: تسوق. التؤام: جمع توءم، وهو المولود مع غيره في بطن. كزة: قليلة الخير.
[4] البيت لأبيّ بن هرثم الغنوي في تهذيب إصلاح المنطق 368، وبلا نسبة في إصلاح المنطق 150، واللسان والتاج (ملأ)، والتهذيب 15/ 405.
[5] البيت للعرجي في ديوانه 109، واللسان والتاج (نقخ، برد)، والتنبيه والإيضاح 1/ 292، 2/ 10، ولعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 315، وللحارث بن خالد المخزومي في ديوانه 117، وبلا نسبة في المقاييس 1/ 243، والتهذيب 14/ 105، وديوان الأدب 1/ 102.
[6] النقاخ: الماء البارد العذب الصافي. البرد: الريق.
[7] 249/ البقرة: 2.(5/16)
وقال علقمة بن عبدة [1]: [من البسيط] وقد أصاحب فتيانا طعامهم ... حمر المزاد ولحم فيه تنشيم [2]
يقول: هذا طعامهم في الغزو والسفر البعيد الغاية، وفي الصيف الذي يغيّر الطعام والشراب.
والغزو على هذه الصفة من المفاخر ولذلك قال الأول [3]: [من مجزوء الكامل] لا لا أعقّ ولا أحو ... ب ولا أغير على مضر ... لكنّما غزوي إذا ... ضجّ المطيّ من الدّبر
وعلى المعنى الأول قول الشاعر [4]: [من الرجز] قالت ألا فاطعم عميرا تمرا ... وكان تمري كهرة وزبرا
وعلى المعنى الأول قال حاتم: «هذا فصدي أنه!» [5] ولذلك قال الرّاجز [6]: [من الرجز] لعامرات البيت بالخراب
يقول: هذا هو عمارتها.
[1] ديوان علقمة 77، وأساس البلاغة (نشم)، والمفضليات 403، وبلا نسبة في اللسان والتاج (نشم)، والتهذيب 11/ 382.
[2] في ديوانه: «قوله: طعامهم خضر المزاد، فيه قولان: أحدهما أن يكون ماؤهم في مزادة، قد طحلبت لطول الغزو أو السفر وتغيرت والآخر: أن يريد أن الماء نفد عندهم لطول السفر، فكانوا إذا جهدهم العطش افتظّوا الكروش فشربوا ما فيها من الماء وذلك الماء أخضر لما في الكروش من بقية العلف. و «التنشيم» التغيير. ووصف في البيت جلادته، وبعد همته».
[3] البيتان للحارث بن يزيد جد الأحيمر السعدي، وهما في البيان 3/ 200، وتقدما في 1/ 88.
[4] تقدم البيتان في 4/ 394.
[5] ورد هذا القول في عمدة الحفاظ 1/ 134، 3/ 106، وهو من الأمثال في مجمع الأمثال 2/ 394، وانظر الأغاني 17/ 391، وديوان حاتم الطائي 275، البيت رقم 104وتعليق المحقق عليه، والفصد: كانوا يفصدون النوق في الجدب، ويستقبلون موضع الفصد برأس معى، فإذا امتلأ شدوا رأسه وشووه وأكلوه ضرورة. وانظر ما تقدم في 4/ 394، س 6.
[6] الرجز بلا نسبة في البيان 1/ 152، وديوان المعاني 2/ 151، وربيع الأبرار 5/ 470، وتقدم في 4/ 394، وسيعيده الجاحظ في الصفحة 141.(5/17)
1275 [تأويل النظام لقولهم: النار يابسة]
وكان أبو إسحاق يتعجب من قولهم: النار يابسة. قال: أما قولهم: الماء رطب، فيصح لأنا نراه سيّالا. وإذا قال الأرض يابسة، فإنما يريد التراب المتهافت فقط. فإن لم يرد إلا بدن الأرض الملازم بعضه لبعض لما فيها من اللّدونة فقط، فقد أخطأ، لأن أجزاء الأرض مخالطة لأجزاء الماء، فامتنعت من التهافت على أقدار ذلك.
ومتى حفرنا ودخلنا في عمق الأرض، وجدنا الأرض طينا بل لا تزال تجد الطين أرطب حتى تصير إلى الماء. والأرض اليوم كلها أرض وماء، والماء ماء وأرض، وإنما يلزمها من الاسم على قدر الكثرة والقلة. فأما النار فليست بيابسة البدن. ولو كانت يابسة البدن لتهافتت تهافت التراب، ولتبرّأ بعضها من بعض. كما أن الماء لما كان رطبا كان سيّالا.
ولكن القوم لما وجدوا النار تستخرج كل شيء في العود من النار فظهرت الرطوبات لذلك السبب، ووجدوا العود تتميز أخلاطه عند خروج نيرانه التي كانت إحدى مراتعها من التمييز فوجدوا العود قد صار رمادا يابسا متهافتا ظنوا أن يبسه إنما هو مما أعطته النار وولّدت فيه.
والنار لم تعطه شيئا، ولكن نار العود لما فارقت رطوبات العود، ظهرت تلك الرطوبات الكامنة والمانعة، فبقي من العود الجزء الذي هو الرماد، وهو جزء الأرض وجوهرها لأن العود فيه جزء أرضيّ، وجزء مائيّ، وجزء ناريّ، وجزء هوائيّ، فلما خرجت النار واعتزلت الرطوبة بقي الجزء الأرضيّ.
فقولهم: النار يابسة، غلط، وإنما ذهبوا إلى ما تراه العيون، ولم يغوصوا على مغيّبات العلل.
وكان يقول: ليس القوم في طريق خلّص المتكلمين، ولا في طريق الجهابذة المتقدّمين.
1276 [علاقة الذكاء بالجنس]
وكان يقول: إنّ الأمّة التي لم تنضجها الأرحام [1]، ويخالفون في ألوان أبدانهم،
[1] أراد بذلك سكان الإقليم السادس والسابع في التقسيم البلداني القديم، وهم من الجنس الأبيض.(5/18)
وأحداق عيونهم، وألوان شعورهم، سبيل الاعتدال لا تكون عقولهم وقرائحهم إلا على حسب ذلك. وعلى حسب ذلك تكون أخلاقهم وآدابهم، وشمائلهم، وتصرّف هممهم في لؤمهم وكرمهم، لاختلاف السّبك وطبقات الطبخ. وتفاوت ما بين الفطير والخمير [1]، والمقصّر والمجاوز وموضع العقل عضو من الأعضاء، وجزء من تلك الأجزاء كالتفاوت الذي بين الصّقالبة والزّنج [2].
وكذلك القول في الصور ومواضع الأعضاء. ألا ترى أن أهل الصين والتّبّت، حذّاق الصناعات، لها فيها الرّفق والحذق، ولطف المداخل، والاتساع في ذلك، والغوص على غامضه وبعيده. وليس عندهم إلا ذلك فقد يفتح لقوم في باب الصناعات ولا يفتح لهم في سوى ذلك.
1277 [تخطئة من زعم أن الحرارة تورث اليبس]
قال: وكان يخطّئهم في قولهم: إن الحرارة تورث اليبس، لأن الحرارة إنما ينبغي أن تورث السخونة، وتولّد ما يشاكلها. ولا تولد ضربا آخر مما ليس منها في شيء. ولو جاز أن تولّد من الأجناس التي تخالفها شكلا واحدا لم يكن ذلك الخلاف بأحقّ من خلاف آخر. إلا أن يذهبوا إلى سبيل المجاز: فقد يقول الرجل: إنما رأيتك لأني التفتّ. وهو إنما رآه لطبع في البصر الدرّاك [3]، عند ذلك الالتفات.
وكذلك يقول: قد نجد النار تداخل ماء القمقم [4] بالإيقاد من تحته، فإذا صارت النار في الماء لابسته، واتصلت بما فيه من الحرارات، والنار صعّادة فيحدث عند ذلك للماء غليان لحركة النار التي قد صارت في أضعافه. وحركتها تصعّد. فإذا ترفّعت أجزاء النار رفعت معها لطائف من تلك الرّطوبات التي قد لابستها فإذا دام ذلك الإيقاد من النار الداخلة على الماء، صعدت أجزاء الرطوبات
وأما من أنضجتهم الأرحام فهم سكان الأقاليم الثالث والرابع والخامس، وأما من جاوزت أرحامهم حد الإنضاج فهم سكان الإقليمين الأول والثاني، وهم الزنوج، انظر ما تقدم 3/ 119، ومقدمة ابن خلدون 73.
[1] الفطير: ما يختبز من ساعته قبل أن يختمر، والخمير: ما ترك حتى اختمر.
[2] جعل الصقالبة والزنج متضادات، أي أن الصقالبة لم تنضجهم الأرحام، أما الزنج فقد زادت الأرحام في إنضاجهم.
[3] الدرّاك: المدرك.
[4] القمقم: ضرب من الأواني، وهو من نحاس وغيره، يسخن فيه الماء ويكون ضيق الرأس.(5/19)
الملابسة لأجزاء النار. ولقوة حركة النار وطلبها التّلاد [1] العلويّ، كان ذلك. فمتى وجد من لا علم له في أسفل القمقم كالجبس [2]، أو وجد الباقي من الماء مالحا عند تصعّد لطائفه، على مثال ما يعتري ماء البحر ظنّ أن النار التي أعطته اليبس.
وإن زعموا أن النار هي الميبّسة على معنى ما قد فسرنا فقد أصابوا. فإن ذهبوا إلى غير المجاز أخطؤوا.
وكذلك الحرارة، إذا مكنت في الأجساد بعثت الرطوبات ولابستها، فمتى قويت على الخروج أخرجتها منه، فعند خروج الرطوبات توجد الأبدان يابسة، ليس أن الحرّ يجوز أن يكون له عمل إلا التسخين والصعود والتقلب إلى الصعود من الصعود، كما أن الاعتزال من شكل الزوال [3].
وكذلك الماء الذي يفيض إلى البحر من جميع ظهور الأرضين وبطونها، إذا صار إلى تلك الحفرة العظيمة. فالماء غسّال مصّاص، والأرض تقذف إليه ما فيها من الملوحة.
وحرارة الشمس والذي يخرج إليه [4] من الأرض، من أجزاء النيران المخالطة يرفعان لطائف الماء بارتفاعهما، وتبخيرهما. فإذا رفعا اللطائف، فصار منهما مطر وما يشبه المطر، وكان ذلك دأبهما، عاد ذلك الماء ملحا لأن الأرض إذا كانت تعطيه الملوحة، والنيران تخرج منه العذوبة واللطافة كان واجبا أن يعود إلى الملوحة.
ولذلك يكون ماء البحر أبدا على كيل واحد، ووزن واحد لأن الحرارت تطلب القرار وتجري في أعماق الأرض، وترفع اللطائف [5] فيصير مطرا، وبردا، وثلجا، وطلّا [6]. ثم تعود تلك الأمواه سيولا تطلب الحدور [7]، وتطلب القرار، وتجري في أعماق الأرض، حتى تصير إلى ذلك الهواء. فليس يضيع من ذلك الماء شيء، ولا يبطل منه شيء. والأعيان قائمة. فكأنه منجنون [8] غرف من بحر، وصبّ في جدول يفيض إلى ذلك النهر.
[1] التّلاد: أراد: الموطن الأول، وانظر الفقرة (1269)، ص 7، س 19.
[2] الجبس: الذي يبنى به.
[3] إيضاحا لهذه العبارة انظر ص 18.
[4] أي إلى البحر.
[5] اللطائف: أراد بها: الأبخرة الدقيقة.
[6] البرد: حب الغمام. الطل: المطر الضعيف.
[7] الحدور: مكان الانحدار.
[8] المنجنون: دولاب يستقى عليه. وهو على شكل الناعورة.(5/20)
فهو عمل الحرارات [1] إذا كانت في أجواف الحطب، أو في أجواف الأرضين، أو في أجواف الحيوان.
والحر إذا صار في البدن، فإنما هو شيء مكره، والمكره لا يألو يتخلص وهو لا يتخلص إلا وقد حمل معه كلّ ما قوي عليه، مما لم يشتد، فمتى خرج خرج معه ذلك الشيء.
قال: فمن ههنا غلط القوم.
1278 [قول الدّهرية في أركان العالم]
قال أبو إسحاق: قالت الدهرية في عالمنا هذا بأقاويل: فمنهم من زعم أن عالمنا هذا من أربعة أركان: حرّ، وبرد، ويبس، وبلّة [2]. وسائر الأشياء نتائج، وتركيب، وتوليد. وجعلوا هذه الأربعة أجساما.
ومنهم من زعم أن هذا العالم من أربعة أركان: من أرض، وهواء، وماء، ونار.
وجعلوا الحر، والبرد، واليبس، والبلّة أعراضا في هذه الجواهر. ثم قالوا في سائر الأراييح، والألوان، والأصوات: ثمار هذه الأربعة [3]، على قدر الأخلاط، في القلة والكثرة، والرقة والكثافة.
فقدّموا ذكر نصيب حاسّة اللمس فقط، وأضربوا عن أنصباء الحواسّ الأربع.
قالوا: ونحن نجد الطّعوم غاذية وقاتلة، وكذلك الأراييح [4]. ونجد الأصوات ملذة ومؤلمة، وهي مع ذلك قاتلة وناقصة للقوى متلفة. ونجد للألوان في المضار والمنافع، واللّذاذة والألم، المواقع التي لا تجهل، كما وجدنا مثل ذلك في الحر والبر، واليبس والبلّة، ونحن لم نجد الأرض باردة يابسة، غير أنا نجدها مالحة، أي ذات مذاقة ولون كما وجدناها ذات رائحة، وذات صوت متى قرع بعضها بعضا.
فبرد هذه الأجرام وحرها، ويبسها ورطوبتها، لم تكن فيها لعلة كون الطّعوم والأراييح والألوان فيها. وكذلك طعومها، وأراييحها وألوانها، لم تكن فيها لمكان كمون البرد، واليبس، والحر، والبلّة فيها.
[1] الحرارت: جمع حرارة.
[2] البلّة: البلل.
[3] أي: الحر والبر واليبس والبلة.
[4] الأراييح: جمع للريح، وهو الرائحة.(5/21)
ووجدنا كلّ ذلك إما ضارّا وإما نافعا، وإما غاذيا وإما قاتلا، وإما مؤلما وإما ملذّا.
وليس يكون كون الأرض مالحة أو عذبة، ومنتنة أو طيبة أحقّ بأن يكون علة لكون اليبس والبرد، والحر والرطوبة، من أن يكون كون الرطوبة واليبس، والحر والبرد علّة لكون اللون والطعم والرائحة.
وقد هجم الناس على هذه الأعراض الملازمة، والأجسام المشاركة هجوما واحدا، على هذه الحلية والصورة ألفاها الأول والآخر.
قال: فكيف وقع القول منهم على نصيب هذه الحاسّة [1]، وحدها ونحن لم نر من البلّة، أو من اليبس نفعا ولا ضرّا، تنفرد به دون هذه الأمور؟!.
قال: والهواء يختلف على قدر العوامل فيه من تحت ومن فوق، ومن الأجرام المشتملة عليه والمخالطة له. وهو جسم رقيق، وهو في ذلك محصور، وهو خوّار سريع القبول. وهو مع رقّته يقبل ذلك الحصر مثل عمل الريح والزّقّ [2]، فإنها تدفعه من جوانبه، وذلك لعلة الحصر ولقطعه عن شكله.
والهواء ليس بالجسم الصعاد، والجسم النّزّال، ولكنه جسم به تعرف المنازل والمصاعد.
والأمور ثلاثة: شيء يصعد في الهواء، وشيء ينزل في الهواء، وشيء مع الهواء. فكما أن الصاعد فيه، والمنحدر لا يكونان إلا مخالفين، فالواقع معه لا يكون إلا موافقا.
ولو أنّ إنسانا أرسل من يده وهو في قعر الماء زقّا [2] منفوخا، فارتفع الزّقّ لدفع الريح التي فيه، لم يكن لقائل أن يقول: ذلك الهواء شأنه الصعود بل إنما ينبغي أن يقول: ذلك الهواء من شأنه أن يصير إلى جوهره، ولا يقيم في غير جوهره إلا أن يقول: من شأنه أن يصعد في الماء، كما أن من شأن الماء أن ينزل في الهواء، وكما أن الماء يطلب تلاد الماء، والهواء يطلب تلاد الهواء.
قالوا: والنار أجناس كثيرة مختلفة. وكذلك الصاعد. ولا بدّ إذا كانت مختلفة
[1] أي حاسة اللمس.
[2] المزق: أي الهواء المحصور في الزق، والزق: السقاء والقربة.(5/22)
أن يكون بعضها أسرع من بعض، أو يكون بعضها إذا خرج من عالم الهواء، وصار إلى نهاية، إلى حيث لا منفذ ألّا يزال فوق الآخر الذي صعد معه، وإن وجد مذهبا لم يقم عليه.
ويدلّ على ذلك أنا نجد الضياء صعّادا، والصوت صعّادا، ونجد الظلام رابدا [1]، وكذلك البرد والرّطوبة. فإذا صح أن هذه الأجناس مختلفة، فإذا أخذت في جهة، علمنا أن الجهة لا تخالف بين الأجناس ولا توافق، وأن الذي يوافق بينهما ويخالف اختلاف الأعمال.
ولا يكون القطعان متفقين، إلا بأن يكون سرورهما سواء. وإذا صارا إلى الغاية، صار اتصال كل واحد منهما بصاحبه، كاتصال بعضه ببعض. ثم لا يوجد أبدا، إلا إمّا أعلى، وإما أسفل.
قال أبو إسحاق: فيستدل على أن الضياء أخفّ من الحر بزواله. وقد يذهب ضوء الأتّون، وتبقى سخونته.
قال أبو إسحاق: لأمر ما حصر الهواء في جوف هذا الفلك. ولا بد لكل محصور من أن يكون تقلبه وضغطه على قدر شدة الحصار. وكذلك الماء إذا اختنق.
قال: والريح هواء نزل لا غير. فلم قضوا على طبع الهواء في جوهريته باللدونة، والهواء الذي يكون بقرب الشمس، والهواء الذي بينهما على خلاف ذلك؟
ولولا أن قوى البرد غريزية فيه، لما كان مروّحا عن النفوس، ومنفّسا عن جميع الحيوان إذا اختنق في أجوافها البخار والوهج المؤذي، حتى فزعت إليه واستغاثت به، وصارت تجتلب من روحه وبرد نسيمه، في وزن ما خرج من البخار الغليظ، والحرارة المستكنّة.
قال: وقد علموا ما في اليبس من الخصومة والاختلاف. وقد زعم قوم أن اليبس إنما هو عدم البلّة. قالوا: وعلى قدر البلة قد تتحول عليه الأسماء. حتى قال خصومهم: فقولوا أيضا إنما نجد الجسم باردا على قدر قلة الحرّ فيه.
وكذلك قالوا في الكلام: إن الهواء إنما يقع عندنا أنه مظلم لفقدان الضياء،
[1] الرابد: المقيم.(5/23)
ولأن الضياء قرص قائم، وشعاع ساطع فاصل، وليس للظلام قرص. ولو كان في هذا العالم شيء يقال له ظلام، لما قام إلا في قرص، فكيف تكون الأرض قرصة، والأرض غبراء، ولا ينبغي أن يكون شعاع الشيء أسبغ منه [1].
قال: والأول لا يشبه القول في اليبس والبلة، والقول في الحر والبرد، والقول في اليبس والرطوبة. والقول في الخشونة واللين، لأن التراب لو كان كله يابسا، وكان اليبس في جميع أجزائه شائعا، لم يكن بعضه أحق بالتقطيع والتبرد والتهافت، من الجزء الذي نجده متمسكا [2].
قال خصمه: ولو كان أيضا التهافت الذي نجده فيه إنما هو لعدم البلة، وكله قد عدم البلّة، لكان ينبغي للكل أن يكون متهافتا، ولا نجد منه جزأين متلازقين.
فإن زعمتم أنه إنما اختلف في التهافت على قدر اختلاف اليبس، فينبغي لكم أن تجعلوا اليبس طبقات، كما يجعل ذلك للخضرة والصّفرة.
وقال إبراهيم: أرأيت لو اشتمل اليبس الذي هو غاية التّراب كله كما عرض لنصفه، أما كان واجبا أن يكون الافتراق داخلا على الجميع؟ وفي ذلك القول بالجزء الذي لا يتجزأ.
وأبو إسحاق، وإن كان اعترض على هؤلاء في باب القول في اليبس، فإنّ المسألة عليه في ذلك أشد.
وكان أبو إسحاق يقول: من الدليل على أن الضياء أخفّ من الحرّ أنّ النار تكون منها على قاب غلوة [3] فيأتيك ضوؤها ولا يأتيك حرها. ولو أن شمعة في بيت غير ذي سقف، لارتفع الضوء في الهواء حتى لا تجد منه على الأرض إلا الشيء الضعيف، وكان الحرّ على شبيه بحاله الأول.
1279 [رد النظام على الديصانية]
وقال أبو إسحاق: زعمت الديصانية [4] أن أصل العالم إنما هو من ضياء وظلام،
[1] أسبغ منه: أكبر منه.
[2] متمسكا: عنى به: الحجر ونحوه.
[3] الغلوة: مقدار رمية السهم.
[4] الديصانية: فرقة من المجوس، وهم أصحاب ديصان، الذي كان قبل ماني. والمذهبان متقاربان، ويختلفان في اختلاط النور والظلمة. انظر فهرست ابن النديم 474، والملل والنحل 2/ 88.(5/24)
وأن الحرّ والبرد، واللون والطعم والصوت والرائحة، إنما هي نتائج على قدر امتزاجهما [1].
فقيل لهم: وجدنا الحبر إذا اختلط باللبن صار جسما أغبر، وإذا خلطت الصّبر [2] بالعسل صار جسما مرّ الطعم على حساب ما زدنا. وكذلك نجد جميع المركبات. فما لنا إذا مزجنا بين شيئين من ذوات المناظر، خرجنا إلى ذوات الملامس، وإلى ذوات المذاقة والمشّمة؟! وهذا نفسه داخل على من زعم أن الأشياء كلها تولدت من تلك الأشياء الأربعة [3]، التي هي نصيب حاسة واحدة [4].
1280 [نقد النظام لبعض مذاهب الفلاسفة]
وقال أبو إسحاق: إن زعم قوم أن ههنا جنسا هو روح، وهو ركن خامس لم نخالفهم.
وإن زعموا أن الأشياء يحدث لها جنس إذا امتزجت بضرب من المزاج، فكيف صار المزاج يحدث لها جنسا وكلّ واحد منه إذا انفرد لم يكن ذا جنس، وكان مفسدا للجسم، وإن فصل عنها أفسد جنسها؟! وهل حكم قليل ذلك إلا كحكم كثيره؟ ولم لا يجوز أن يجمع بين ضياء وضياء فيحدث لهما منع الإدراك؟!.
فإن اعتلّ القوم بالزاج [5] والعفص [6] والماء، وقالوا: قد نجد كلّ واحد من هذه الثلاثة ليس بأسود، وإذا اختلطت صارت جسما واحدا أشدّ سوادا من الليل، ومن السّبج [7]، ومن الغراب قال أبو إسحاق: بيني وبينكم في ذلك فرق. أنا أزعم أن السواد قد يكون كامنا ويكون ممنوع المنظرة، فإذا زال مانعه ظهر، كما أقول في
[1] أي الضياء والظلام.
[2] الصّبر: عصارة شجر مر، ونبات الصّبر كنبات السوسن الأخضر، غير أن ورق الصبر أطول وأعرض وأثخن كثيرا، وهو كثير الماء جدا.
[3] المراد بالأشياء الأربعة: الأرض والهواء، والماء، والنار، أو: الحر والبرد واليبس والبلة، انظر الفقرة (1278)، ص 21.
[4] هي حاسة اللمس، انظر الفقرة (1278) السطر السادس فيها.
[5] الزاج: يقال له: الشب اليماني، وهو من الأدوية، وهو من أخلاط الحبر، فارسي معرب.
[6] العفص: شجر وثمر معروف بهذا الاسم، يتخذ منه الحبر.
[7] السبح: الخرز الأسود.(5/25)
النار والحجر [1] وغير ذلك من الأمور الكامنة. فإن قلتم بذلك فقد تركتم قولكم.
وإن أبيتم فلا بدّ من القول. قال أبو إسحاق: وقد خلط أيضا كثير منهم فزعموا أن طباع الشيخ البلغم.
ولو كان طباعه البلغم، والبلغم ليّن رطب أبيض، لما ازداد عظمه نحولا، ولونه سوادا، وجلده تقبّضا.
وقال النّمر بن تولب [2]: [من الطويل] كأنّ محطّا في يدي حارثيّة ... صناع علت منّي به الجلد من عل [3]
وقال الراجز [4]: [من الرجز] وكثرت فواضل الإهاب [5]
قال: ولكنهم لما رأوا بدنه يتغضّن، ويظهر من ذلك التغضّن رطوبات بدنية كالبلغم من الفم، والمخاط السائل من الأنف، والرّمص [6] والدمع من العين، ظنوا أن ذلك لكثرة ما فيه من أجزاء الرطوبات. وأرادوا أن يقسّموا الصّبا والشباب، والكهولة والشيوخة على أربعة أقسام كما تهيأ لهم ذلك في غير باب.
وإذا ظهرت تلك الرطوبات، فإنما هي لنفي اليبس لها، ولعصره قوى البدن.
ولو كان الذي ذكروا لكان دمع الصّبا أكثر ومخاطه أغزر، ورطوباته أظهر. وفي البقول والرياحين والأغصان والأشجار ذلك إذ كانت في الحداثة أرطب، وعلى مرور السنين والأيام أيبس.
قال الرّاجز [7]: [من الرجز]
[1] يقصد كمون النار واختفاءها في الحجر الذي تقتدح منه النار.
[2] ديوان النمر بن تولب 367، واللسان والتاج (حطط)، والجمهرة 99، والبرصان 189، وبلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 53.
[3] في ديوانه: «المحط: حديدة أو خشبة يصقل بها الجلد حتى يلين ويبرق، وأراد بالحارثية:
النسبة إلى الحارث بن كعب لأنهم أهل أدم. شبّه برقان بدنه لماء الشباب بالأديم المصقول».
[4] الرجز بلا نسبة في البرصان 189.
[5] الإهاب: الجلد ما لم يدبغ.
[6] الرمص: هو البياض الذي تقطعه العين ويجتمع في زوايا الأجفان.
[7] الرجز في البيان 1/ 440399، 2/ 69، وعيون الأخبار 2/ 321، والفاضل للمبرد 70، والعقد 2/ 52، واللسان والتاج (عكر)، والتهذيب 1/ 305.(5/26)
اسمع أنبّئك بآيات الكبر ... نوم العشيّ وسعال بالسّحر [1] ... وسرعة الطّرف وضعف في النظر ... وتركي الحسناء في قبل الطّهر [2] ... وحذر أزداده إلى حذر ... والناس يبلون كما يبلى الشجر [3]
وكان يتعجّب من القول بالهيولى.
وكان يقول: قد عرفنا مقدار رزانة [4] البلّة. وسنعطيكم أن للبرد وزنا. أليس الذي لا تشكّون فيه أن الحر خفيف ولا وزن له، وأنه إذا دخل في جرم له وزن صار أخفّ. وإنكم لا تستطيعون أن تثبتوا لليبس من الوزن مثل ما تثبتون للبلّة. وعلى أنّ كثيرا منكم يزعم أن البرد المجمد للماء هو أيبس.
وزعم بعضهم أن البرد كثيرا ما يصاحب اليبس، وأن اليبس وحده لو حلّ بالماء لم يجمد، وأن البرد وحده لو حلّ بالماء لم يجمد، وأن الماء أيضا يجمد لاجتماعهما عليه. وفي هذا القول أن شيئين مجتمعين قد اجتمعا على الإجماد، فما تنكرون أن يجتمع شيئان على الإذابة؟!.
وإن جاز لليبس أن يجمد جاز للبلّة أن تذيب.
قال أبو إسحاق: فإن كان بعض هذه الجواهر صعّادا وبعضها نزّالا، ونحن نجد الذهب أثقل من مثله من هذه الأشياء النزّالة، فكيف يكون أثقل منها وفيه أشياء صعّادة؟!.
فإن زعموا أن الخفة إنما تكون من التّخلخل والسّخف [5]، وكثرة أجزاء الهواء في الجرم. فقد ينبغي أن يكون الهواء أخفّ من النار، وأن النار في الحجر، كما أن فيه هواء. والنار أقوى رفع الحجر من الهواء الذي فيه.
[1] بعده في البيان، والفاضل وعيون الأخبار:
(وقلة النوم إذا الليل اعتكر ... وقلة الطعم إذا الزاد حضر)
[2] بعده في الفاضل: (وكثرة النسيان فيما يدّكر).
[3] بعده في الفاضل: (فهذه أعلام آيات الكبر).
[4] الرزانة: النقل.
[5] التخلخل: أن يكون الجسم غير متضام الأجزاء، والسخف: الخفة والرقة.(5/27)
وكان يقول: من الدليل على أن النار كامنة في الحطب، أن الحطب يحرق بمقدار من الإحراق، ويمنع الحطب أن يخرج جميع ما فيه من النيران، فيجعل فحما، فمتى أحببت أن تستخرج الباقي من النار استخرجته، فترى النار عند ذلك يكون لها لهب دون الضرام. فمتى أخرجت تلك النار الباقية، ثم أوقدت عليها ألف عام لم تستوقد. وتأويل: «لم تستوقد» إنما هو ظهور النار التي كانت فيه. فإذا لم يكن فيه شيء فكيف يستوقد؟.
وكان يكثر التعجّب من ناس كانوا ينافسون في الرّآسة، إذا رآهم يجهلون جهل صغار العلماء، وقد ارتفعوا في أنفسهم إلى مرتبة كبار العلماء.
وذلك أن بعضهم كان يأخذ العود فينقيه [1] فيقول: أين تلك النار الكامنة؟! ما لي لا أراها، وقد ميّزت العود قشرا بعد قشر؟!.
1281 [استخراج الأشياء الكامنة]
فكان يقول في الأشياء الكامنة: إن لكل نوع منها نوعا من الاستخراج، وضربا من العلاج. فالعيدان تخرج نيرانها بالاحتكاك، واللبن يخرج زبده بالمخض، وجبنه يجمع بإنفحّة [2]، وبضروب من علاجه.
ولو أن إنسانا أراد أن يخرج القطران من الصّنوبر، والزّفت من الأرز [3] لم يكن يخرج له بأن يقطع العود ويدقّه ويقشره، بل يوقد له نارا بقربه، فإذا أصابه الحرّ عرق وسال، في ضروب من العلاج.
ولو أن إنسانا مزج بين الفضة والذهب، وسبكهما سبيكة واحدة، ثم أراد أن يعزل أحدهما من صاحبه لم يمكنه ذلك بالفرض [4] والدّق. وسبيل التفريق بينهما قريبة سهلة عند الصّاغة، وأرباب الحملانات [5].
1282 [رد النظام على أرسطاطاليس]
وزعم أبو إسحاق أن أرسطاطاليس كان يزعم أن الماء الممازج للأرض لم
[1] ينقيه: يستخرج نقيّه، وأصل النقي: مخ العظام.
[2] الإنفحة: شيء يستخرج من بطن الجدي الرضيع، أصفر، يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ.
[3] الزفت: ما يسيل من شجر الصنوبر، والأرز: شجر الصنوبر.
[4] الفرض: القطع والحز.
[5] ورد في القاموس المحيط: «وفي اصطلاح الصاغة ما يحمل على الدراهم من الغش».(5/28)
ينقلب أرضا، وأن النار الممازجة للماء لم تنقلب ماء. وكذلك ما كان من الماء في الحجر، ومن النار في الأرض والهواء. وأن الأجرام إنما يخفّ وزنها وتسخف [1]، على قدر ما فيها من التخلخل [2] ومن أجزاء الهواء. وأنها ترزن [3] وتصلب وتمتن على قدر قلّة ذلك فيها.
ومن قال هذا القول في الأرض والماء والنار والهواء، وفيما تركّب منها من الأشجار وغير ذلك لم يصل إلى أن يزعم أن في الأرض عرضا يحدث، وبالحرا [4] أن يعجز عن تثبيت كون الماء والأرض والنار عرضا.
وإذا قال في تلك الأشجار بتلك القالة [5]، قال في الطول والعرض، والعمق، وفي التربيع والتثليث والتدوير، بجواب أصحاب الأجسام. وكما يلزم أصحاب الأعراض [6] أصحاب الأجسام [7] بقولهم في تثبيت السكون والحركة أن القول في حراك الحجر كالقول في سكونه كذلك أصحاب الأجسام يلزمون كلّ من زعم أن شيئا من الأعراض لا ينقض أنّ الجسم يتغير في المذاقة والملمسة والمنظرة والمشمّة من غير لون الماء. وفي برودة نفس الأرض وتثبيتها كذلك.
ومتى وجدنا طينة مربّعة صارت مدوّرة، فليس ذلك بحدوث تدوير لم يكن.
فكان عنده تغيّره في العين أولى من تغيّر الطينة في العين من البياض إلى السواد.
وسبيل الصلابة والرّخاوة والثقل والخفّة، سبيل الحلاوة والملوحة، والحرارة والبرودة.
[1] السخف: الخفة والرقة.
[2] التخلخل: أن يكون الجسم غير متضام الأجزاء.
[3] ترزن: تثقل.
[4] الحرا: الجدير والخليف، وبالحرا: بالأجدر.
[5] القالة: القول.
[6] أصحاب الأعراض: يزعمون أن الإنسان أعراض مجتمعة وكذلك الجسم أعراض مجتمعة من لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة وغير ذلك، وهو مذهب أصحاب ضرار بن عمرو، ويعرفون بالضرارية.
انظر مروج الذهب 7/ 436، مقالات الأشعري 281، 305، 317.
[7] أصحاب الأجسام: يزعمون أن ليس في العالم إلا جسم، وأن الألوان والحركات ما هي إلا أجسام، وهو مذهب أصحاب هشام بن الحكم، ويعرفون بالهشامية. انظر الفصل 5/ 66، وما سيأتي في الفقرة (1285) ص 32.(5/29)
1283 [أصحاب القول بالاستحالة]
وليس يقيس القول في الأعراض إلا من قال بالاستحالة. وليس في الاستحالة شيء أقبح من قولهم في استحالة الجبل الصّخير [1] إلى مقدار خردلة، من غير أن يدخل أجزاءه شيء على حال. فهو على قول من زعم أنّ الخردلة تتنصّف أبدا أحسن. فأما إذا قال بالجزء الذي لا يتجزأ، وزعم أن أقل الأجسام، الذي تركيبه من ثمانية أجزاء لا تتجزأ، أو ستة أجزاء لا تتجزأ، يستحيل جسما على قدر طول العالم وعرضه وعمقه فإنّا لو وجدناه كذلك لن نجد بدّا من أن نقول: إنا لو رفعنا من أوهامنا من ذلك شبرا من الجميع، فإن كان مقدار ذلك الشبر جزءا واحدا فقد وجدناه جسما أقلّ من ثمانية أجزاء ومن ستة أجزاء. وهذا نقض الأصل. مع أنّ الشبر الذي رفعناه من أوهامنا، فلا بدّ إن كان جسما أن يكون من ستة أجزاء أو من ثمانية أجزاء. وهذا كله فاسد.
1284 [الأضواء والألوان]
والنار حرّ وضياء، ولكلّ ضياء بياض ونور، وليس لكلّ بياض نور وضياء. وقد غلط في هذا المقام عالم من المتكلمين.
والضياء ليس بلون، لأن الألوان تتفاسد، وذلك شائع في كلها، وعامّ في جميعها فاللبن والحبر يتفاسدان، ويتمازج التراب اليابس والماء السائل، كما يتمازج الحارّ والبارد، والحلو والحامض. فصنيع البياض في السواد، كصنيع السواد في البياض. والتفاسد الذي يقع بين الخضرة والحمرة، فبذلك الوزن يقع بين البياض وجميع الألوان.
وقد رأينا أن البياض ميّاع [2] مفسد لسائر الألوان. فأنت قد ترى الضياء على خلاف ذلك لأنه إذا سقط على الألوان المختلفة كان عمله فيها عملا واحدا، وهو التفصيل بين أجناسها، وتمييز بعضها من بعض، فيبين عن جميعها إبانة واحدة، ولا تراه يخصّ البياض إلا بما يخص بمثله السواد، ولا يعمل في الخضرة إلا مثل عمله في الحمرة، فدلّ ذلك على أن جنسه خلاف أجناس الألوان، وجوهره خلاف جواهرها، وإنما يدل على اختلاف الجواهر اختلاف الأعمال فباختلاف الأعمال واتفاقها تعرف اختلاف الأجسام واتفاقها.
[1] الصخير: الكثير الصخر.
[2] مياع: سيّال.(5/30)
جملة القول في الضد والخلاف والوفاق
قالوا: الألوان كلها متضادّة، وكذلك الطعوم، وكذلك الأراييح، وكذلك الأصوات، وكذلك الملامس: من الحرارة والبرودة، واليبس والرطوبة، والرخاوة والصلابة، [والملاسة] [1] والخشونة. وهذه جميع الملامس.
وزعموا أن التضادد إنما يقع بين نصيب الحاسّة الواحدة فقط. فإذا اختلفت الحواس صار نصيب هذه الحاسة الواحدة من المحسوسات، خلاف نصيب تلك الحاسة، ولم يضادّها بالضّدّ كاللّون واللون لمكان التفاسد، والطعم والرائحة لمكان التفاسد.
ولا يكون الطعم ضدّ اللون، ولا اللون ضدّ الطعم، بل يكون خلافا. ولا يكون ضدّا ولا وفاقا، لأنه من غير جنسه، ولا يكون ضدّا، لأنه [لا] [1] يفاسده.
وزعم من لا علم له من أصحاب الأعراض [2]، أن السواد إنما ضادّ البياض، لأنهما لا يتعاقبان، ولا يتناوبان، ولأنهما يتنافيان.
قال القوم: لو كان ذلك من العلة، كان ينبغي لذهاب الجسم قدما أن يكون بعضه يضاد بعضا، لأن كونه في المكان الثاني لا يوجد مع كونه في المكان الثالث.
وكذلك التربيع: كطينة لو ربّعت بعد تثليثها، ثم ربّعت بعد ذلك. ففي قياسهم أن هذين التربيعين ينبغي لهما أن يكونا متضادّين، إذ كانا متنافيين، لأن الجسم لا يحتمل في وقت واحد طولين، وأن الضدّ يكون على ضدين: يكون أحدهما أن يخالف الشيء الشيء من وجوه عدة، والآخر [أن] [3] يخالفه من وجهين [أو وجه] [3] فقط.
قالوا: والبياض يخالف الحمرة ويضادّها، لأنه يفاسدها ولا يفاسد الطعم وكذلك البياض للصفرة والحوّة [4] والخضرة. فأما السواد خاصة فإن البياض يضاده بالتفاسد، وكذلك التفاسد، وكذلك السواد.
وبقي لهما خاصة من الفصول في أبواب المضادة: أن البياض ينصبغ ولا يصبغ، والسواد يصبغ ولا ينصبغ، وليس كذلك سائر الألوان لأنها كلها تصبغ وتنصبغ.
[1] زيادة يقتضيها المعنى.
[2] انظر الحاشية السادسة، ص 29.
[3] زيادة يقتضيها المعنى.
[4] الحوة: سواد إلى خضرة، أو حمرة إلى سواد.(5/31)
قالوا: فهذا باب يساق.
باب آخر
إن الصفرة متى اشتدت صارت حمرة، ومتى اشتدت الحمرة صارت سوادا، وكذلك الخضرة متى اشتدت صارت سوادا.
والسواد يضاد البياض مضادة تامة، وصارت الألوان الأخر فيما بينها تتضاد عادة، وصارت الطّعوم والأراييح والملامس تخالفها ولا تضادها.
1285 [أصل الألوان]
وقد جعل بعض من يقول بالأجسام [1] هذا المذهب دليلا على أن الألوان كلّها إنما هي من السواد والبياض، وإنما تختلفان على قدر المزاج. وزعموا أن اللون في الحقيقة إنما هو البياض والسواد، وحكموا في المقالة الأولى بالقوة للسواد على البياض إذ كانت الألوان كلها كلما اشتدت قربت من السواد، وبعدت من البياض، فلا تزال كذلك إلى أن تصير سوادا.
وقد ذكرنا قبل هذا قول من جعل الضياء والبياض جنسين مختلفين، وزعم أن كلّ ضياء بياض وليس كلّ بياض ضياء.
1286 [عظم شأن المتكلمين]
وما كان أحوجنا وأحوج جميع المرضى أن يكون جميع الأطباء متكلمين، وإلى أن يكون المتكلمون علماء فإن الطبّ لو كان من نتائج حذاق المتكلمين ومن تلقيحهم له، لم نجد في الأصول التي يبنون عليها من الخلل ما نجد.
1287 [ألوان النّيران والأضواء]
وزعموا أن النار حمراء، وذهبوا إلى ما ترى العين، والنار في الحقيقة بيضاء.
ثم قاسوا على خلاف الحقيقة المرّة الحمراء [2]، وشبّهوها بالنار. ثم زعموا أن المرة الحمراء مرّة. وأخلق بالدخان أن يكون مرّا. وليس الدخان من النار في شيء.
[1] انظر الحاشية 6ص 29.
[2] المرة: مزاج من أمزجة البدن الأربعة. وهي البلغم والدم والصفراء والسوداء، والمرة هي المرة الصفراء. قال داود في التذكرة: «والطبيعي منها أحمر عند المفارقة، أصفر بعدها».(5/32)
وكل نور وضياء هو أبيض، وإنما يحمرّ في العين بالعرض الذي يعرض للعين.
فإذا سلمت من ذلك، وأفضت إليه العين رأته أبيض، وكذلك نار العود تنفصل من العود، وكذلك انفصال النار من الدّهن ومعها الدخان ملابسا لأجزائها. فإذا وقعت الحاسة على سواد أو بياض في مكان واحد، كان نتاجهما [1] في العين منظرة [2] الحمرة.
ولو أنّ دخانا عرض بينك وبينه قرص الشمس أو القمر لرأيته أحمر. وكذلك قرص الشمس في المشرق أحمر وأصفر، للبخار والغبار المعترض بينك وبينه.
والبخار والدخان أخوان.
ومتى تحلّق القرص في كبد السماء، فصار على قمة رأسك ولم يكن بين عينيك وبينه إلا بقدر ما تمكن البخار من الارتفاع في الهواء صعدا وذلك يسير قليل فلا تراه حينئذ إلا في غاية البياض.
وإذا انحطّ شرقا أو غربا صار كلّ شيء بين عينيك وبين قرصها من الهواء، ملابسا للغبار والدخان والبخار، وضروب [3] الضّباب والأنداء [4] فتراها إما صفراء، وإما حمراء.
ومن زعم أن النار حمراء فلم يكذب إن ذهب إلى ما ترى العين، ومن ذهب إلى الحقيقة والمعلوم في الجوهرية، فزعم أنها حمراء، ثم قاس على ذلك جهل وأخطأ.
وقد نجد النار تختلف على قدر اختلاف النّفط الأزرق، والأسود، والأبيض.
وذلك كله يدور في العين مع كثرة الدخان وقلته.
ونجد النار تتغير في ألوانها في العين، على قدر جفوف الحطب ورطوبته، وعلى قدر أجناس العيدان والأدهان، فنجدها شقراء، ونجدها خضراء إذا كان حطبها مثل الكبريت الأصفر.
[1] نتاجهما: أي نتاج السواد والبياض.
[2] المنظرة: المنظر.
[3] الضروب: الأنواع.
[4] الأنداء: جمع ندى.(5/33)
1288 [سبب تلون السحاب]
ونجد لون السحاب مختلفا في الحمرة والبياض، على قدر المقابلات والأعراض، ونجد السحابة بيضاء، فإذا قابلت الشمس بعض المقابلة، فإن كانت السحابة غربية أفقيه والشمس منحطّة، رأيتها صفراء، ثم سوداء، تعرض للعين لبعض ما يدخل عليها.
1289 [شعر في ألوان النار]
وقال الصّلتان الفهميّ في النار: [من الطويل] وتوقدها شقراء في رأس هضبة ... ليعشو إليها كلّ باغ وجازع [1]
وقال مزرّد بن ضرار [2]: [من الطويل] فأبصر ناري وهي شقراء أوقدت ... بعلياء نشز، للعيون النواظر [3]
وقال آخر [4]: [من الطويل] ونار كسحر العود يرفع ضوءها ... مع الليل هبّات الرياح الصّوارد [5]
والغبار يناسب بعض الدخان. ولذلك قال طفيل الغنويّ [6]: [من الطويل] إذا هبطت سهلا كأنّ غباره ... بجانبها الأقصى دواخن تنضب [7]
لأن دخانه يكون أبيض يشبه الغبار، وناره شقراء.
والعرب تجمع الدخان دواخن. وقال الأزرق الهمدانيّ: [من الطويل] ونوقدها شقراء من فرع تنضب ... وللكمت أروى للنّزال وأشبع
[1] يعشو إلى النار: يقصد إليها. الباغي: الطالب. الجازع: الذي يقطع الوادي أو الأرض.
[2] البيت لمزرد بن ضرار في البخلاء 243، ويروى عجز البيت: (بليل فلاحت للعيون النواظر) ونسب إلى جبيهاء الأسدي في اللسان والتاج (حفر)، وإلى جبيهاء الأشجعي في حماسة ابن الشجري 258.
[3] في البخلاء: «جعلها شقراء ليكون أضوأ لها، وكذلك النار إذا كان حطبها يابسا كان أشد لحمرة ناره، وإذا كثر دخانه قلّ ضوءه». النشر: المكان المرتفع.
[4] البيت بلا نسبة في البخلاء 243، وشرح ديوان الحماسة 2/ 136، والزهرة 321.
[5] السّحر: الرئة وما يتعلق بالحلقوم. العود: الجمل المسن. الصوارد: جمع صرد، وهو البرد.
[6] ديوان طفيل الغنوي 25، والمعاني الكبير 1/ 58.
[7] تنضب: شجر ضخام وورقه متقبض، وعيدانه بيض، له شوك قصار، ينبت بالحجاز.(5/34)
وذلك أن النار إذا ألقي عليها اللحم فصار لها دخان، اصهابّت [1] بدخان ماء اللحم وسواد القتار [2]. وهذا يدل أيضا على ما قلنا.
وفي ذلك يقول الهيّبان الفهميّ: [من الوافر] له فوق النّجاد جفان شيزى ... ونار لا تضرّم للصّلاء [3] ... ولكن للطّبيخ، وقد عراها ... طليح الهمّ مستلب الفراء [4] ... وما غذيت بغير لظى، فناري ... كمرتكم الغمامة ذي العفاء [5]
وقال سحر العود: [من الوافر] له نار تشبّ على يفاع ... لكلّ مرعبل الأهدام بالي [6] ... ونار فوقها بجر رحاب ... مبجّلة تقاذف بالمحال [7]
1290 [اختلاف ألوان النار]
ويدلّ أيضا على ما قلنا: أن النار يختلف لونها على قدر اختلاف جنس الدّهن والحطب والدخان، وعلى قدر كثرة ذلك وقلّته، وعلى قدر يبسه ورطوبته قول الراعي حين أراد أن يصف لون ذئب فقال [8]: [من الكامل] وقع الربيع وقد تقارب خطوه ... ورأى بعقوته أزلّ نسولا [9]
[1] اصهابت، صارت صهباء، وهي الحمرة يعلوها سواد.
[2] القتار: ما يتصاعد من الشواء.
[3] النجاد: جمع نجد، وهو ما غلظ من الأرض وارتفع. الشيزى: شجر تعمل منه القصاع والجفان.
الصلاء: مقاساة حر النار، أو التمتع بها في الشتاء.
[4] عراها: غشيها وقصدها. الطليح: المتعب المعيى.
[5] المرتكم: المتراكم، أي المجتمع. عفاء السحاب: كالخمل في وجهه لا يكاد يخلف.
[6] اليفاع: التل. المرعبل: الممزق. الأهدام: جمع هدم، وهو الثوب الخلق البالي.
[7] البجر: جمع بجراء، وهي العظيمة البطن، وأراد بها هنا القدور. الرحاب: الواسعات. المبجلة المعظمة. المحال: جمع محالة، وهي الفقرة من فقار البعير.
[8] ديوان الراعي 240239، والأول في اللسان (نهش)، والتاج (نسل)، وبلا نسبة في الازمنة والأمكنة 2/ 113، والبيت الثاني في اللسان (نهش)، والتاج (نهش، شكل)، والتهذيب 5/ 158، 6/ 83، 85، والتنبيه والإيضاح 11/ 327، وبلا نسبة في اللسان والتاج (وضح، شهل)، والثالث في الجمهرة 464والتهذيب 11/ 33، واللسان والتاج (تلع، رجل)، وبلا نسبة في الجمهرة 1300، والمجمل 2/ 468وتقدم البيت في 2/ 431.
[9] وقع الربيع: أي مثل شدة ضرب المطر للأرض. العقوة: الساحة، وما حول الدار، الأزلّ: السريع وعنى به الذئب. النسول: مشية الذئب إذا أسرع.(5/35)
متوضّح الأقراب فيه شهبة ... هشّ اليدين تخاله مشكولا [1] ... كدخان مرتجل بأعلى تلعة ... غرثان ضرّم عرفجا مبلولا [2]
المرتجل: الذي أصاب رجلا من جراد، فهو يشويه. وجعله غرثان لكون الغرث لا يختار الحطب اليابس على رطبه، فهو يشويه بما حضره. وأدار هذا الكلام، ليكون لون الدخان بلون الذئب الأطحل [3] متفقين.
1291 [تعظيم زرادشت لشأن النار]
وزرادشت هو الذي عظم النار وأمر بإحيائها، ونهى عن إطفائها، ونهى الحيّض عن مسها والدنوّ منها. وزعم أن العقاب في الآخرة إنما هو بالبرد والزمهرير والدّمق [4].
1292 [سبب تخويف زرادشت أصحابه بالبرد والثلج]
وزعم أصحاب الكلام أن زرادشت وهو صاحب المجوس جاء من بلخ، وادعى أن الوحي نزل عليه على جبال سيلان، وأنه حين دعا سكان تلك الناحية الباردة، الذين لا يعرفون إلا الأذى بالبرد، ولا يضربون المثل إلا به حتى يقول الرجل لعبده: لئن عدت إلى هذا لأنزعنّ ثيابك، ولأقيمنّك في الريح، ولأوقفنّك في الثلج! فلما رأى موقع البرد منهم هذا الموقع، جعل الوعيد بتضاعفه، وظنّ أنّ ذلك أزجر لهم عما يكره.
وزرادشت في توعده تلك الأمة بالثلج دون النار، مقرّ بأنه لم يبعث إلا إلى أهل تلك الجبال. وكأنه إذا قيل له: أنت رسول إلى من؟ قال لأهل البلاد الباردة، الذين لابدّ لهم من وعيد، ولا وعيد لهم إلا بالثلج.
وهذا جهل منه، ومن استجاب له أجهل منه.
1293 [ردّ على زرادشت في التخويف بالثلج]
والثلج لا يكمل لمضادّة النار، فكيف يبلغ مبلغها؟ والثلج يؤكل ويشرب،
[1] المتوضح: الأبيض.
الأقراب: جمع قرب وهي الخاصرة. الشهية: لون بياض يصدعه سواد في خلاله. الهش: الخفيف.
المشكول: المشدود بالشكال، وهو عقال الدابة.
[2] التلعة: ما ارتفع من الأرض. الغرثان: الجوعان. العرفج: نبت سريع الالتهاب.
[3] الذئب الأطحل: الذي لونه كلون الرماد.
[4] الدمق: الثلج مع الريح يغشى الإنسان من كل أوب، حتى يكاد يقتل من يصيبه.(5/36)
ويقضم قضما، ويمزج بالأشربة، ويدفن فيه الماء وكثير من الفواكه.
وربما أخذ بعض المترفين القطعة منه كهامة [1] الثور، فيضعها على رأسه ساعة من نهار، ويتبرّد بذلك.
ولو أقام إنسان على قطعة من الثلج مقدار صخرة في حمدان ريح [2] ساعة من نهار، لما خيف عليه المرض قطّ.
فلو كان المبالغة في التنفير والزجر أراد، وإليه قصد لذكر ما هو في الحقيقة عند الأمم أشدّ. والوعيد بما هو أشد، وبما يعم بالخوف سكان البلاد الباردة والحارة أشبه، إذا كان المبالغة يريد.
والثلج قد يداوى به بعض المرضى، ويتولد فيه الدود، وتخوضه الحوافر، والأظلاف، والأخفاف، والأقدام، بالليل والنهار، في الأسفار.
وفي أيام الصيد يهون على من شرب خمسة أرطال نبيذ أن يعدو عليه خمسة أشواط.
1294 (معارضة بعض المجوس في عذاب النار)
وقد عارضني بعض المجوس وقال: فلعلّ أيضا صاحبكم إنما توعّد أصحابه بالنار، لأن بلادهم ليست ببلاد ثلج ولا دمق [3]، وإنما هي ناحية الحرور والوهج والسّموم [4]، لأن ذلك المكروه أزجر لهم. فرأي هذا المجوسي أنه قد عارضني! فقلت له: إن أكثر بلاد العرب موصوفة بشدة الحر في الصيف. وشدة البرد في الشتاء لأنها بلاد صخور وجبال، والصخر يقبل الحر والبرد ولذلك سمت الفرس بالفارسية، العرب والأعراب: «كهيان»، والكه بالفارسية هو الجبل. فمتى أحببت أن تعرف مقدار برد بلادهم في الشتاء وحرّها في الصيف، فانظر في أشعارهم، وكيف قسّموا ذلك، وكيف وضعوه لتعرف أن الحالتين سواء عندهم في الشدة.
1295 [القول في البرودة والثلج]
والبلاد ليس يشتد بردها على كثرة الثلج، فقد تكون بلدة أبرد وثلجها أقل،
[1] الهامة: الرأس.
[2] حمدان الريح: لعله من قولهم: يوم محتمد: أي شديد الحر.
[3] الدمق: الثلج مع الريح يغشى الإنسان من كل أوب حتى يكاد يقتل من يصيبه.
[4] السموم: الريح الحارة.(5/37)
والماء ليس يجمد للبرد فقط، فيكون متى رأينا بلدة ثلجها أكثر، حكمنا أن نصيبها من البرد أوفر.
وقد تكون الليلة باردة جدا، وتكون صنّبرة [1] فلا يجمد الماء، ويجمد فيما هو أقلّ منها بردا. وقد يختلف جمود الماء في الليلة ذات الريح، على خلاف ما يقدّرون ويظنون.
وقد خبرني من لا أرتاب بخبره، أنهم كانوا في موضع من الجبل، يستغشون [2] به بلبس المبطّنات [3]، ومتى صبوا ماء في إناء زجاج، ووضعوه تحت السماء، جمد من ساعته.
فليس جمود الماء بالبرد فقط، ولا بد من شروط ومقادير، واختلاف جواهر، ومقابلات أحوال، كسرعة البرد في بعض الأدهان، وإبطائه عن بعض وكاختلاف عمله في الماء المغلى، وفي الماء المتروك على حاله وكاختلاف عمله في الماء والنبيذ، وكما يعتري البول من الخثورة والجمود، على قدر طبائع الطعام والقلة.
والزّيت خاصة يصيبه المقدار القليل من النار، فيستحيل من الحرارة إلى مقدار لا يستحيل إليه ما هو أحرّ.
1296 [ردّ آخر على المجوس]
وحجة أخرى على المجوس. وذلك أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، لو كان قال: لم أبعث إلا إلى أهل مكة لكان له متعلق من جهة هذه المعارضة. فأما وأصل نبوّته، والذي عليه مخرج أمره وابتداء مبعثه إلى ساعة وفاته، أنه المبعوث إلى الأحمر والأسود، وإلى الناس كافة [4]، وقد قال الله تعالى:
[1] الصنبرة: الشديدة البرد.
[2] يستغشون: يتغطون.
[3] المبطنات: ثياب مبطنة بالفراء.
[4] انظر مسند أحمد 1/ 250، 301، 403. وصحيح البخاري في كتاب التيمم، الحديث 328، وكتاب المساجد، الحديث 427، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، الحديث 531، والدارمي في «السير»، والنسائي في «الطهارة». وفي النهاية 1/ 437 «بعثت إلى الأحمر والأسود، أي العرب والعجم لأن الغالب على ألوان العجم الحمرة والبياض، وعلى ألوان العرب الأدمة والسمرة.
وقيل: أراد الجن والإنس. وقيل: أراد بالأحمر: الأبيض مطلقا.(5/38)
{قُلْ يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [1] وقد قال تعالى: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} [2] فلم يبق أن يكون مع ذلك قولهم معارضة، وأن يعدّ في باب الموازنة.
1297 [ما قيل من الشعر في البرد]
ومما قالوا في البرد قول الكميت [3]: [من المتقارب] إذا التفّ دون الفتاة الضّجيع ... ووحوح ذو الفروة المرمل [4] ... وراح الفنيق مع الرائحات ... كإحدى أوائلها المرسل [5]
وقال الكميت أيضا في مثل ذلك [6]: [من البسيط] وجاءت الريح من تلقاء مغربها ... وضنّ من قدره ذو القدر بالعقب [7] ... وكهكه المدلج المقرور في يده ... واستدفأ الكلب في المأسور ذي الذّئب [8]
وقال في مثله جران العود [9]: [من الوافر] ومشبوح الأشاجع أريحيّ ... بعيد السّمع، كالقمر المنير [10] ... رفيع الناظرين إلى المعالي ... على العلّات في الخلق اليسير [11] ... يكاد المجد ينضح من يديه ... إذا دفع اليتيم عن الجزور [12]
[1] 158/ الأعراف: 7.
[2] 36/ المدثر: 74.
[3] ديوان الكميت 2/ 14، والبيت الأول في اللسان والتاج (فرا)، والتهذيب 15/ 241.
[4] وحوح الرجل من البرد: إذا ردد نفسه في حلقه حتى تسمع له صوتا. الفروة: الوفضة التي يجعل فيها السائل صدقته. المرمل: الذي نفذ زاده.
[5] الفنيق: الفحل المكرم من الإبل، لا يركب لكرامته على أهله.
[6] ديوان الكميت 1/ 127، والبيت الثاني في اللسان والتاج والأساس (كهه).
[7] العقب: جمع عقبة، وهي المرقة ترد في القدر المستعارة، فقد كانوا إذا استعاروا قدرا ردوا فيها شيئا من المرق.
[8] كهكه المقرور تنفس في يده ليسخنها بنفسه من شدة البرد.
المأسور: المشدود بالإسار وهو القد الذي يؤسر به القتب، والقتب: وهو الفرجة بين دفّتي الرحل.
[9] ديوان جران العود 2824.
[10] مشبوح الأشاجع: عريض الكف، والأشجع، العصب الذي على ظاهر الكف. الأريحي: الذي يرتاح للمعروف. السمع: المقصود بها: الذكر الحسن.
[11] على العلات: على كل حال.
[12] الجزور: الناقة المجزورة. جزر الناقة: نحرها وقطعها.(5/39)
وألجأت الكلاب صبا بليل ... وآل نباحهنّ إلى الهرير [1] ... وقد جعلت فتاة الحي تدنو ... مع الهلّاك من عرن القدور [2]
وقال في مثل ذلك ابن قميئة [3]: [من الخفيف] ليس طعمي طعم الأرامل إذ ق ... لّص درّ اللّقاح في الصّنّبر [4] ... ورأيت الإماء كالجعثن البا ... لي عكوفا على قرارة قدر [5] ... ورأيت الدخان كالودع [6] الأه ... جن ينباع من وراء السّتر ... حاضر شركم وخيركم د ... رّ خروس من الأرانب بكر [7]
وقال في مثل ذلك [8]: [من الكامل] وإذا العذارى بالدّخان تقنّعت ... واستعجلت نصب القدور فملّت ... درّت بأرزاق العيال مغالق ... بيديّ من قمع العشار الجلّة [9]
[1] البليل: الريح الباردة التي كأنها يقطر منها الماء لبردها.
آل: جمع وصار. الهرير: صوت الكلب في صدره.
[2] فتاة الحي: أي الفتاة المصونة. الهلاك: الصعاليك. العرن: ريح القدر.
[3] ديوان عمرو بن قميئة 7877، ورسائل الجاحظ 2/ 357 (كتاب البغال)، والبيت الأخير في البخلاء 214، وبلا نسبة في اللسان والتاج (خرس)، والجمهرة 584، والمقاييس 2/ 167.
[4] اللقاح: جمع لقحة وهي الناقة الحلوب. قلص درها: ارتفع لبنها.
الصنبر: شدة البرد.
[5] الجعثن: أصل كل شجرة إلا شجرة لها خشب، شبههن به في التقبض وشوه الخلق مما أضرّ بهن الجرب وسوء الغذاء.
عكوفا: مستديرات حولها. القرارة: ما لزق بأسفل القدر من مرق، أو حطام تابل محترق، أو سمن، أو غيره.
[6] الودع: خرز بيض جوف في بطونها شق كشق. النواة. الأهجن: الأبيض، جعل الدخان أبيض لضعف ناره. ينباع يجري جريا لينا.
[7] الدر: اللبن. الخروس: صاحبة الخرسة، والخرسة طعام النفساء، والخرس: الطعام الذي يتخذ صبيحة الولادة للرجال والنساء، وانظر تعليق الجاحظ في البخلاء 214213.
[8] البيتان لسلمى بن ربيعة في الخزانة 8/ 36، 44، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 55، ونوادر أبي زيد 121، والأمالي 1/ 81، ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات 162، وبلا نسبة في شرح اختيارات المفضل 816.
[9] درّت: در الضرع: كثر لبنه. العيال: جمع عيل، وهو الفقير. المغالق: جمع مغلق وهي قداح الميسر. القمع: الأسنمة. العشار: جمع عشراء، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر. الجلة:
العظام الكبار، جمع جليل.(5/40)
وقال الهذليّ [1]: [من البسيط] وليلة يصطلي بالفرث جازرها ... يختصّ بالنّقرى المثرين داعيها ... لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... من الشّتاء ولا تسري أفاعيها
وفي الجمد والبرد والأزمات يقول الكميت [2]: [من الوافر] وفي السنة الجماد يكون غيثا ... إذا لم تعط درّتها الغضوب [3] ... وروّحت اللّقاح مبهلات ... ولم تعطف على الرّبع السّلوب [4] ... وكان السّوف للفتيان قوتا ... تعيش به وهيّبت الرقوب [5]
وفي هذه القصيدة يقول في شدة الحر:
وخرق تعزف الجنّان فيه ... لأفئدة الكماة لها وجيب [6] ... قطعت ظلام ليلته ويوما ... يكاد حصى الإكام به يذوب
وقال آخر لمعشوقته [7]: [من الطويل] وأنت التي كلفتني البرد شاتيا ... وأوردتنيه فانظري أيّ مورد [8]
فما ظنك ببرد يؤدّي هذا العاشق إلى أن يجعل شدّته عذرا له في تركه الإلمام بها. وذلك قوله في هذه القصيدة [9]:
فيا حسنها إذ لم أعج أن يقال لي ... تروّح فشيعنا إلى ضحوة الغد ... فأصبحت مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها كالقابض الماء باليد
[1] تقدم تخريج البيتين في 1/ 258الفقرة (269)، 2/ 290الفقرة (293).
[2] ديوان الكميت 1/ 84، والبيت الأول بلا نسبة في اللسان والتاج (جمد)، والتهذيب 10/ 679، والثالث للكميت في أساس البلاغة (سوف)، والأزمنة والأمكنة 2/ 299.
[3] سنة جماد: لا مطر فيها. الغضوب: الناقة العبوس.
[4] روّحت: رعيت وقت الرواح. المبهلات: المهملات. الرّبع: الفصيل ينتج وقت الربيع.
السلوب: الناقة فقدت ولدها.
[5] السّوف: الأماني. الرقوب: هي التي لا تدنو إلى الحوض من الزحام، وذلك لكرمها.
[6] الخرق: الفلاة الواسعة تنخرق فيها الريح. الجنّان: الجن.
عزيفها: تصويتها. الوجيب: الخفقان والاضطراب.
[7] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (برك)، والتهذيب 10/ 228، والعين 5/ 367، وكتاب الجيم 1/ 81.
[8] الرواية في المصادر السابقة: «البرك» مكان «البرد»، والبرك: مستنقع الماء وشبه حوض يحفر في الأرض، لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض.
[9] ديوان مسكين الدارمي 36.(5/41)
ومما يقع في الباب قبل هذا، ولم نجد له بابا قول مسكين الدّارميّ: [من الوافر] وإني لا أقوم على قناتي ... أسبّ الناس كالكلب العقور [1] ... وإني لا أحلّ ببطن واد ... ولا آوي إلى البيت القصير ... وإني لا أحاوص عقد ناد ... ولا أدعو دعائي بالصفير [2] ... ولست بقائل للعبد أوقد ... إذا أوقدت بالعود الصّغير
ولو تأملت دخان أتّون [3] واحد، من ابتدائه إلى انقضائه، لرأيت فيه الأسود الفاحم، والأبيض الناصع.
والسواد والبياض، هما الغاية في المضادّة، وذلك على قدر البخار والرطوبات.
وفيما بينهما ضروب من الألوان.
وكذلك الرماد، منه الأسود، ومنه الأبيض، ومنه الأصهب، ومنه الخصيف [4].
وذلك كله على قدر اختلاف حالات المحترق وجواهره.
فهذا بعض ما قالوا في البرد.
1298 [ما قيل من الشعر في صفة الحر]
وسنذكر بعض ما قالوا في صفة الحر. قال مضرّس بن زرارة بن لقيط [5]: [من الطويل] ويوم من الشّعرى كأنّ ظباءه ... كواعب مقصور عليها ستورها [6]
[1] القناة: العصا. الكلب العقور: الذي يعقر، أي يجرح ويعض.
[2] يقال: فلان يحاوص فلانا، أي ينظر إليه بمؤخر عينيه ويخفي ذلك. النادي: مجلس القوم.
الصفير: التصويت بالفم والشفتين.
[3] الأتون: الموقد.
[4] رماد خصيف: قيه سواد وبياض.
[5] الأبيات في الحماسة البصرية 2/ 243، من قصيدة تنسب إلى مضرس بن ربعي بن لقيط الأسدي، أو شبيب بن البرصاء، أو عوف بن الأحوص الكلابي، والأبيات في الأزمنة والأمكنة 2/ 161، والثاني والثالث في الألفاظ لابن السكيت 552، والثاني في اللسان والتاج (نور)، وراجع المزيد من المصادر في حاشية الحماسة البصرية 2/ 243.
[6] الشعرى: كوكب نيّر يقال له المرزم يطلع بعد الجوزاء وطلوعه في شدة الحر. كواعب: جمع كاعب، وهي الجارية قد نهد ثديها.(5/42)
تدلّت عليها الشمس حتى كأنه ... من الحر يرمى بالسكينة نورها [1] ... سجودا لدى الأرطى كأن رؤوسها ... علاها صداع أو فوال يصورها [2]
وقال القطاميّ [3]: [من البسيط] فهن معترضات والحصى رمض ... والريح ساكنة والظلّ معتدل [4] ... حتى وردن ركيّات الغوير وقد ... كاد الملاء من الكتّان يشتعل [5]
وقال الشماخ بن ضرار [6]: [من الطويل] كأنّ قتودي فوق جأب مطرّد ... من الحقب لاحته الجداد الغوارز [7] ... طوى ظمأها في بيضة القيظ بعدما ... جرت في عنان الشّعريين الأماعز [8] ... وظلّت بيمؤود كأن عيونها ... إلى الشمس، هل تدنو، ركيّ نواكز [9]
[1] السكينة: السكون. النور: جمع نوار، وهي النفور من الظباء والوحش.
[2] الأرطى: شجر تتخذ الظباء في أصوله كنسها. فوال: جمع فالية، وهي التي تفلي الرأس. يصورها: يميلها.
[3] ديوان القطامي 2726، والبيت الأول بلا نسبة في اللسان والتاج (رمض)، والتهذيب 12/ 32، والبيت الثاني في اللسان والتاج (عور)، ونظام الغريب 222.
[4] في ديوانه: «فهن: يعني النوق. الحصى رمض: حار».
[5] الركيات: جمع ركية وهي البئر. الغوير: موضع. الكتان: هاهنا القطن.
[6] ديوان الشماخ 176175، وجمهرة أشعار العرب 824، والبيت الأول في اللسان والتاج (جدد)، والعين 6/ 8، والجمهرة 706، والتهذيب 10/ 462، وبلا نسبة في الجمهرة 264، والمجمل 1/ 419، والبيت الثاني في اللسان والتاج (بيض، عنن)، والأساس (بيض)، والعين 1/ 90، والمقاييس 4/ 19، والجمهرة 825، والكامل 928 (الدالي)، وبلا نسبة في التهذيب 1/ 110، 12/ 89، والثالث في اللسان والتاج (مأد).
[7] في ديوانه: «القتود: جمع قتد، وهو خشب الرحل. الجأب: الصلب الشديد من حمير الوحش المطرد: الذي طردته الرماة، أعني مطاردة الصائد إياه. الحقب: جمع أحقب، وهو الحمار الأبيض الحقوين. لاحته: غيرته. الجداد: جمع جدود، وهي التي يبس لبنها. الغوارز: جمع غارز، وهي التي قلّت ألبانها».
[8] في ديوانه: «طوى ظمأها: زاد فيه. بيضة القيظ: وقت اشتداد الحر وتلهبه. الشعريان: هما شعرى العبور وشعرى الغميصاء، وهما من نجوم القيظ. الأماعز: جمع أمعز: أي جرى بها السراب بعد ما طلعت الشعرى».
[9] في ديوانه: «يمؤود: واد بعطفان. هل: بمعنى إذ، أي حين تدنو. الركي: الآبار. النواكز: الغوائر، نكزت البئر تنكز نكوزا: إذا ذهب ماؤها».(5/43)
ولهذه الأبيات كان الحطيئة والفرزدق يقدّمان الشماخ بغاية التقديم.
وقال الراعي [1]: [من الوافر] ونار وديقة في يوم هيج ... من الشّعرى نصبت لها الجبينا [2] ... إذا معزاء هاجرة أرنّت ... جنادبها وكان العيس جونا [3]
وقال مسكين الدارمي [4]: [من الطويل] وهاجرة ظلّت كأنّ ظباءها ... إذا ما اتّقتها بالقرون سجود ... تلوذ لشؤبوب من الشّمس فوقها ... كما لاذ من حرّ السّنان طريد [5]
وقال جرير [6]: [من الطويل] وهاجد موماة بعثت إلى السّرى ... وللنّوم أحلى عنده من جنى النّحل [7] ... يكون نزول الركب فيها كلا ولا ... غشاشا ولا يدنون رحلا إلى رحل [8] ... ليوم أتت دون الظلال سمومه ... وظلّ المها صورا جماجمها تغلي [9]
وفيها يقول جرير: [من الطويل] تمنّى رجال من تميم لي الرّدى ... وما ذاد عن أحسابهم ذائد مثلي [10]
[1] ديوان الراعي النميري 266، والأزمنة والأمكنة 1/ 287، والأول في اللسان والتاج (هيج).
[2] الوديقة: حر نصف النهار: يوم هيج: يوم ريح.
[3] المعزاء: الأرض الحزنة الغليظة. الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر. أرنّت: صوّتت.
[4] ديوان مسكين الدارمي 32، وحماسة القرشي 463، ومعاهد التنصيص 2/ 119، والبيت الثاني بلا نسبة في اللسان والتاج (أول) والتهذيب 15/ 441، والجمهرة 1305.
[5] تلوذ: تلجأ. الشؤبوب: الدفعة من المطر، واستعارها هنا ليدل على شدة حرارة الشمس.
[6] ديوان جرير 461 (الصاوي)، والنقائض 161160، والأبيات من قصيدة في هجاء البعيث والفرزدق.
[7] الهاجد: الساهر. الموماة: الفلاة.
[8] كلا: أي مثل «لا» سرعة النطق بها. الغشاش: العجلة.
[9] دون الظلال: قريبا منها. السموم: الريح الحارة.
المها: جمع مهاة، وهي البقرة الوحشية. الصور: جمع أصور وهو المائل العنق.
[10] بهذا البيت يرد جرير على الفرزدق الذي قال:
(أنا الضامن الراعي عليهم وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي)
وهذا البيت هو الثامن من قصيدته في النقائض 157127، وديوانه 2/ 153 (صادر).(5/44)
1299 [احتجاج النظام للكمون]
وقال أبو إسحاق: أخطأ من زعم أن النار تصعد في أول العود، وتنحدر وتغوص فيه، وتظهر عليه، وتأخذ منه عرضا.
وقال: العود، النار في جميعه كامنة، وفيه سائحة، وهي أحد أخلاطه. والجزء الذي يرى منها في الطرف الأول، غير الجزء الذي في الوسط والجزء الذي في الوسط غير الجزء الذي في الطرف الآخر. فإذا احتكّ الطرف فحمي زال مانعه، وظهرت النار التي فيه. وإذا ظهرت حمي لشدة حرها الموضع الذي يليها، وتنحّى أيضا مانعه.
وكذلك الذي في الطرف الآخر ولكن الإنسان إذا رأى النار قد اتصلت في العود كله، وظهرت أولا فأوّلا، ظن أن الجزء الذي كان في المكان الأول قد سرى إلى المكان الثاني، ثم إلى المكان الثالث. فيخبر عن ظاهر ما يرى ولا يعرف حقيقة ما بطن من شأنها.
وقال أبو إسحاق: ولو كانت العيدان كلها لا نار فيها، لم يكن سرعة ظهورها من العراجين، ومن المرخ والعفار [1]، أحقّ منها بعود العنّاب [2] والبرديّ [3] وما أشبه ذلك. لكنها لمّا كانت في بعض العيدان أكثر، وكان مانعها أضعف، كان ظهورها أسرع، وأجزاؤها إذا ظهرت أعظم. وكذلك ما كمن منها في الحجارة. ولو كانت أجناس الحجارة مستوية في الاستسرار [4] فيها، لما كان حجر المرو أحقّ بالقدح إذا صكّ بالقدّاحة، من غيره من الحجارة، ولو طال مكثه في النار ونفخ عليه بالكير.
ولم صار لبعض العيدان جمر باق، ولبعضها جمر سريع الانحلال، وبعضها لا يصير جمرا؟ ولم صار البرديّ مع هشاشته ويبسه ورخاوته، لا تعمل فيه النيران؟
ولذلك إذا وقع الحريق في السّوق سلم كل مكان يكون بين أضعاف البردي. ولذلك ترى النار سريعة الانطفاء في أضعاف البرديّ، ومواضع جميع اللّيف.
وقال أبو إسحاق: فلم اختلفت في ذلك؟ إلا على قدر ما يكون فيها من النار، وعلى قدر قوة الموانع وضعفها.
[1] المرخ والعفار: شجران يتخذ منهما زناد القدح.
[2] العنّاب: شجر مثمر من الفصيلة السّدرية، له ثمرة نووية حلوة تؤكل. معجم الألفاظ الزراعية 372.
[3] في اللسان «حفأ»: (الحفأ: البردي. وقيل: هو البردي الأخضر ما دام في منبته، وقيل هو أصله الأبيض الرطب الذي يؤكل) وفي معجم الألفاظ الزراعية 209: (البردي نوع مائي كانوا يصنعون ورق البردي من لحائه). وانظر المخصص 11/ 166.
[4] الاستسرار: الكمون.(5/45)
ولم صارت تقدح على الاحتكاك حتى تلهبت، كالساج [1] في السفن إذا اختلط بعضه ببعض عند تحريك الأمواج لها؟ ولذلك أعدّوا لها الرجال لتصبّ من الماء صبّا دائما. وتدوّم الريح فتحتك عيدان الأغصان في الغياض، فتلتهب نار فتحدث نيران.
ولم صار العود يحمى إذا احتكّ بغيره؟ ولم صار الطّلق [2] لا يحمى؟ فإن قلت لطبيعة هناك، فهل دللتمونا إلا على اسم علّقتموه على غير معنى وجدتموه؟ أولسنا قد وجدنا عيون ماء حارة وعيون ماء بارد، بعضها يبرص وينفط الجلد [3]، وبعضها يجمد الدم ويورث الكزاز [4]؟ أولسنا قد وجدنا عيون ريح [5] وعيون نار [6]؟ فلم زعمتم أن الريح والماء كانا مختنقين في بطون الأرض ولم تجوّزوا لنا مثل ذلك في النار؟ وهل بين اختناق الريح والماء فرق؟ وهل الريح إلا هواء تحرّك؟ وهل بين المختنق والكامن فرق؟.
وزعم أبو إسحاق: أنه رمى بردائه في بئر النبي صلّى الله عليه وسلّم التي من طريق مكة، فردّته الريح عليه.
وحدّثني رجل من بني هاشم قال: كنت برامة [7]، من طريق مكة فرميت في بئرها ببعرة فرجعت إليّ، ثم أعدتها فرجعت، فرميت بحصاة فسمعت لها حريقا [8] وحفيفا [9] شديدا وشبيها بالجولان، إلى أن بلغت قرار الماء.
[1] الساج: شجر يعظم جدّا، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق أمثال التراس الديلمية، يتغطى الرجل بورقة منه فتكنه «أي تستره» من المطر، وله رائحة طيبة. تشابه رائحة ورق الجوز مع رقة ونعمة.
«اللسان: سوج».
[2] الطّلق: نبت تستخرج عصارته فيتطلى به الذين يدخلون في النار. «اللسان: طلق».
[3] يبرص: يصيب بالبرص. ينفط: أصابه بالنفطة، وهي في أصلها بشرة تخرج في اليد من العمل ملأى ماء.
[4] الكزاز: تشنج يصيب الإنسان.
[5] عيون ريح: تنجم عن تحلل مواد عضوية في باطن الأرض، فتنشأ أبخرة وتتجمع، ثم تندفع إلى ظاهر الأرض.
[6] عيون نار: هي ما تعرف بالبراكين.
[7] رامة: منزل بينه وبين الرمادة ليلة، في طريق البصرة إلى الكوفة. «معجم البلدان: رامة».
[8] الحريق: الصريف، وفي الحديث: «يحرقون أنيابهم غيظا وحنقا» أي يحكّون بعضها ببعض.
والصوت الذي سمعه ذلك الرجل من الحصاة إنما هو لدفع الهواء إياها إلى أعلى ومحاولتها هي النزول.
[9] الحفيف: صوت الشيء تسمعه كالرنّة.(5/46)
وزعم أبو إسحاق أنه رأى عين نار في بعض الجبال، يكون دخانها نهارا وليلا.
أو ليس الأصل الذي بني عليه أمرهم: أن جميع الأبدان من الأخلاط الأربعة [1]: من النار، والماء، والأرض، والهواء؟ فإذا رأينا موضعا من الأرض يخرج منه ماء قلنا: هذا أحد الأركان فما بالنا إذا رأينا موضعا من الأرض يخرج منه نار لم نقل مثل ذلك فيه؟.
ولم نقول في حجر النار إنه متى وجد أخف من مقدار جسمه من الذهب والرّصاص والزئبق، إنما هو لما خالطه من أجزاء الهواء الرّافعة له؟ وإذا وجدناه أعلك علوكة، وأمتن متانة، وأبعد من التهافت جعلنا ذلك لما خالطه من أجزاء الماء. وإذا وجدناه ينقض الشرر، ويظهر النار جعلنا لك للذي خالطه من الهواء؟ ولم جعلناه إذا خف عن شيء بمقدار جسمه، لما خالطه من أجزاء الهواء، ولا نجعله كذلك لما خالطه من أجزاء النار؟! ولا سيما إذا كانت العين تجده يقدح بالشرر، ولم تجر أجزاء الهواء فيه عندنا عيانا. فلم أنكروا ذلك، وهذه القصة توافق الأصل الذي بنوا عليه أمرهم؟.
قال: أو ليس من قوله أنه لولا النيران المتحركة في جوف الأرض، التي منها يكون البخار الذي بعضه أرضيّ وبعضه مائيّ لم يرتفع ضباب، ولم يكن صواعق ولا مطر ولا أنداء.
1300 [الصواعق وما قيل فيها]
ومتى كان البخار حارّا يابسا قدح وقذف بالنار التي تسمى «الصاعقة»، إذا اجتمعت تلك القوى في موضع منه. فإن كانت القوى ريحا كان لها صوت، وإن كانت نارا كانت لها صواعق. حتى زعم كثير من الناس [أن بعض السيوف من خبث نيران الصواعق] [2]، وذلك شائع على أفواه الأعراب والشعراء. قال أبو الهول الحميري [3]: [من الخفيف]
[1] انظر الفقرة (1278)، ص 21.
[2] الزيادة من ثمار القلوب (888).
[3] الأبيات لأبي الهول الحميري أو ابن يامين البصري في الوحشيات 280، وثمار القلوب 498 (888887)، والعقد 1/ 180، ووفيات الأعيان 6/ 109، وفوات الوفيات 2/ 204، ومروج الذهب 4/ 195، وديوان المعاني 2/ 52، والحماسة الشجرية 797، وحماسة القرشي 454، 455، والسمط 604، وإعجاز القرآن 242، والأنوار ومحاسن الأشعار 1/ 33، وزهر الآداب 781.(5/47)
حاز صمصامة الزّبيديّ من بي ... ن جميع الأنام موسى الأمين [1] ... سيف عمرو، وكان فيما سمعنا ... خير ما أطبقت عليه الجفون [2] ... أوقدت فوقه الصواعق نارا ... ثم ساطت به الزّعاف المنون [3]
وقال منهم آخر [4]: [من الكامل] يكفيك من قلع السماء عقيقة ... فوق الذّراع ودون بوع البائع [5]
قال الأصمعيّ: الانعقاق: تشقّق البرق. ومنه وصف السيف بالعقيقة، وأنشد [6]: [من الوافر] وسيفي كالعقيقة وهو كمعي [7]
وقال الأخطل [8]: [من الطويل] وأرّقني من بعد ما نمت نومة ... وعضب إباطي كالعقيق يماني [9]
[1] الصمصامة: سيف عمرو بن معدي كرب، وهو من أشهر سيوف العرب، وقد وهبه عمرو لخالد بن سعيد بن العاص عامل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اليمن، فلم يزل في آل سعيد إلى أيام هشام بن عبد الملك، فاشتراه خالد القسري بمال خطير وأنقذه إلى هشام فلم يزل الأمر عند بني مروان حتى زال الأمر عنهم، ثم طلبه السفاح والمنصور والمهدي، فلم يجدوه، وجدّ الهادي في طلبه حتى ظفر به، وطلب من الشعراء أن يقولوا فيه، فقالوا وأطالوا، حتى قام أبو الهول الحميري وأنشد قصيدته فوهبه الهادي الصمصامة. انظر وفيات الأعيان 6/ 109، وثمار القلوب (888886)، والأغاني 15/ 211، وزهر الآداب 780، والعقد الفريد 1/ 180.
[2] الجفون: جمع جفن، وهو قراب السيف.
[3] السوط: الخلط. الزعاف: السم السريع القتل.
[4] البيت لمنصور النمري في ديوانه 109، وبلا نسبة في الوحشيات 281، والأنوار ومحاسن الأشعار 1/ 30، والأشباه والنظائر للخالديين 2/ 44.
[5] القلع: جمع قلعة، وهي السحابة الضخمة. العقيقة: السيف. فوق الذراع: أي طوله فوق الذراع:
البوع: قدر مدّ اليدين وما بينهما من البدن.
[6] عجز البيت: (سلاحي لا أفلّ ولا فطارا)، وهو لعنترة في ديوانه 43، واللسان والتاج (فطر، كمع، عقق، فلل)، والتهذيب 13/ 303، وديوان الأدب 1/ 188، 442، وبلا نسبة في الجمهرة 755.
[7] في ديوانه: «العقيقة: شعاع البرق. كمعي: ضجيعي، ووأراد: لا يفارقني. أفل: ذو فلول، أي مثلم. الفطار: فيه صدوع وشقوق لا يقطع».
[8] ديوان الأخطل 294، ورواية عجزه في الديوان: (وعضب، جلت عنه القيون، بطاني).
[9] العضب: السيف القاطع. إباطي: تحت إبطي.
[1] أي فقد الماء.(5/48)
جملة من القول في الماء
ونذكر بعون الله وتأييده جملة من القول في الماء ثمّ نصير إلى ذكر ما ابتدأنا به، من القول في النار ذكروا أن الماء لا يغذو، وإنما هو مركب ومعبر وموصل للغذاء. واستدلّوا لذلك بأن كلّ رقيق سيّال فإنك متى طبخته انعقد، إلا الماء. وقالوا في القياس: إنه لا ينعقد في الجوف عند طبخ الكبد له، فإذا لم ينعقد لم يجئ منه لحم ولا عظم.
ولأننا لم نر إنسانا قطّ اغتذاه وثبت عليه روحه، وإن السمك الذي يموت عند فقده [1] ليغذوه سواه مما يكون فيه دونه.
قال خصمهم: إنما صار الماء لا ينعقد لأنه ليس فيه قوى مستفادة مأخوذة من قوى الجواهر. والماء هو الجوهر القابل لجميع القوى. فبضرب من القوى والقبول يصير دهنا، وبضرب آخر يصير خلّا، وبضرب آخر يصير دما، وبضرب آخر يصير لبنا.
وهذه الأمور كلها إنّما اختلفت بالقوى العارضة فيها. فالجوهر المنقلب في جميع الأجرام [2] السّيّالة، إنما هو الماء. فيصير عند ضرب من القبول دهنا، وعند ضرب من القبول لبنا.
وعصير كل شيء ماؤه والقابل لقوى ما فيه. فإذا طبخت الماء صرفا، سالما على وجهه، ولا قوى فيه، لم ينعقد وانحلّ بخارا حتى يتفانى وإنما ينعقد الكامن من الملابس له. فإذا صار الماء في البدن وحده ولم يكن فيه قوى لم ينعقد. وانعقاده إنما هو انعقاد ما فيه.
والماء لا يخلو من بعض القبول ولكنّ البعض لا ينعقد ما لم يكثر.
وزعم أصحاب الأعراض [3] أن الهواء سريع الاستحالة إلى الماء، وكذلك الماء إلى الهواء، للمناسبة التي بينهما من الرطوبة والرقة. وإنما هما غير سيّارين. ويدل على ذلك اجتذاب الهواء للماء وملابسته له، عند مصّ الإنسان بفيه فم الشّرابة [4].
ولذلك سرى الماء وجرى في جوف قصب الخيزران، إذا وضعت طرفه في الماء.
[2] الأجرام: الأجسام.
[3] انظر الحاشية السادسة، ص 29.
[4] الشرابة: هي التي تسميها العامة سارقة الماء، أعني الأنبوبة المعطوفة المعمولة من زجاج أو غيره.
فيوضع أحد رأسيها في الماء أو غيره من الرطوبات المائية، ويمص الرأس الآخر إلى أن يصل الماء إليه وينصبّ منه، فلا يزال يسيل إلى أن ينكشف رأسه الذي في الماء. انظر مفاتيح العلوم 144، وانظر ما سيذكره الجاحظ في الصفحة 64حيث سماها هناك «السكابة».(5/49)
وكذلك الهواء، فيه ظلام الليل وضياء النهار وما كان فيه من الأشباح. والحدقة لا ترى من الضياء العارض في الهواء ما تباعد منها.
1301 [ألوان الماء]
والماء يرقّ فيكون له لون، ويكون عمقه مقدارا عدلا فيكون له لون، فإن بعد غوره وأفرط عمقه رأيته أسود.
وكذلك يحكون عن الدّردور [1].
ويزعمون أن عين حوارا ترمى بمثل الزنوج.
فتجد الماء جنسا واحدا، ثم تجد ذلك الجنس أبيض إذا قلّ عمقه، وأخضر إذا كان وسطا، وأسود إذا بعد غوره.
ويختلف منظره على قدر اختلاف إنائه وأرضه، وما يقابله. فدلّ ذلك على أنه ليس بذي لون، وإنما يعتريه في التخييل لون ما يقابله ويحيط به. ولعلّ هذه الأمور إذا تقابلت أن تصنع في العين أمورا، فيظنّ الإنسان مع قرب المجاورة والالتباس، أن هذه الألوان المختلفة إنما هي لهذا الماء الرائق الخالص، الذي لم ينقلب في نفسه، ولا عرض له ما يقلبه. وكيف يعرض له ويقلبه وعين كل واحد منهما غير عين صاحبه؟ وهو يرى الماء أسود كالبحر، متى أخذ منه أحد غرفة رآه كهيئته إذا رآه قليل العمق.
ويتشابهان أيضا لسرعة قبولهما للحر والبرد، والطّيب والنّتن والفساد والصلاح.
1302 [حجة للنظام في الكمون]
قال أبو إسحاق: قال الله عزّ وجلّ عند ذكر إنعامه على عباده وامتنانه على خلقه، فذكر ما أعانهم به من الماعون: {أَفَرَأَيْتُمُ النََّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهََا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ} [2]، وكيف قال «شجرتها» وليس في تلك الشجرة
[1] الدّردور: موضع في وسط البحر يجيش ماؤه، لا تكاد تسلم منه السفينة يقال: لجّجوا فوقعوا في الدردور، والدردور: الماء الذي يدور ويخاف منه الغرق. انظر اللسان «درر»، والسامي في الأسامي 383، وفيه «الدردور: دوامة الماء».
[2] 71/ الواقعة: 76.(5/50)
شيء. وجوفها وجوف الطّلق [1] في ذلك سواء. وقدرة الله على أن يخلق النار عند مسّ الطّلق، كقدرته على أن يخلقها عند حكّ العود وهو، تعالى وعز، لم يرد في هذا الموضع إلا التعجيب [2] من اجتماع النار والماء.
وهل بين قولكم في ذلك وبين من زعم أن البذر الجيّد والرديء والماء العذب والملح، والسّبخة [3] والخبرة [4] الرّخوة، والزمان المخالف والموافق، سواء، وليس بينها من الفرق إلا أن الله شاء أن يخلق عند اجتماع هذه {حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا} [5] دون تلك الأضداد.
ومن قال بذلك وقاسه في جميع ما يلزم من ذلك، قال كقول الجهميّة في جميع المقالات، وصار إلى الجهالات، وقال بإنكار الطبائع والحقائق.
وقال الله عزّ وجلّ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نََاراً فَإِذََا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [6].
ولو كان الأمر في ذلك على أن يخلقها ابتداء لم يكن بين خلقها عند أخضر الشجر وعند اليابس الهشيم فرق، ولم يكن لذكر الخضرة الدّالة على الرطوبة معنى.
وقد ذكرنا جملة من قولهم في النار. وفي ذلك بلاغ لمن أراد معرفة هذا الباب. وهو مقدار قصد، لا طويل ولا قصير.
فأما القول في نار جهنم، وفي شواظها [7] ودوامها وتسعّرها وخبوّها والقول في خلق السماء من دخان والجانّ من نار السّموم [8]، وفي مفخر النار على الطين، وفي احتجاج إبليس بذلك فإنا سنذكر من ذلك جملة في موضعه إن شاء الله تعالى.
1303 [حسن النار]
ونحن راجعون في القول في النار إلى مثل ما كنا ابتدأنا به القول في صدر هذا
[1] الطلق: نبت تستخرج عصارته فيتطلى به الذين يدخلون في النار. «اللسان: طلق».
[2] عجبه تعجيبا: حمله على التعجب.
[3] السبخة: أرض ذات نزّ وملح.
[4] الخبرة: منقع الماء في أصول السّدر، ومنبت السّدر في القيعان.
[5] 2927/ عبس: 80.
[6] 80/ يس: 36.
[7] شواظ النار: لهبها الذي لا دخان فيه.
[8] السموم: الريح الحارة.(5/51)
الكلام، حتى نأتي من أصناف النيران على ما يحضرنا، إن شاء الله تعالى.
قالوا: وليس في العالم جسم صرف غير ممزوج، ومرسل غير مركب، ومطلق القوى، غير محصور ولا مقصور، أحسن من النار.
قال: والنار سماوية علوية لأن النار فوق الأرض، والهواء فوق الماء، والنار فوق الهواء.
ويقولون: «شراب كأنه النار»، و «كأن لون وجهها النار». وإذا وصفوا بالذكاء قالوا: «ما هو إلا نار» وإذا وصفوا حمرة القرمز [1] وحمرة الذهب قالوا: «ما هو إلا نار».
قال: وقالت هند [2]: «كنت والله في أيام شبابي أحسن من النار الموقدة!».
وأنا أقول: لم يكن بها حاجة إلى ذكر «الموقدة» وكان قولها: «أحسن من النار» يكفيها. وكذلك اتهمت هذه الرواية.
وقال قدامة حكيم المشرق في وصف الذّهن [3]: «شعاع مركوم [4]، ونسم معقود، ونور بصّاص [5]. وهو النار الخامدة، والكبريت الأحمر» [6].
ومما قال العتّابي: «وجمال كل مجلس بأن يكون سقفه أحمر، وبساطه أحمر».
وقال بشّار بن برد: [من الطويل] هجان عليها حمرة في بياضها ... تروق بها العينين والحسن أحمر [7]
وقال أعرابيّ: [من الطويل] هجان عليها حمرة في بياضها ... ولا لون أدنى للهجان من الحمر
[1] القرمز: صبغ أرمني أحمر، يقال: إنه من عصارة دود يكون في آجامهم، فارسي معرب.
[2] هي هند بنت الخس، والخبر في ثمار القلوب 640 (828)، والتمثيل والمحاضرة 262، ومحاضرات الأدباء 2/ 277، وانظر أخبارها في بلاغات النساء 8680، والمزهر 2/ 545540.
[3] الخبر في محاضرات الأدباء 2/ 277.
[4] مركوم: مجموع.
[5] بصاص: لمّاع وبرّاق.
[6] الكبريت الأحمر: يسمى حجر الفلاسفة، ويدخل في عمل الذهب عند أهل الصنعة. انظر قاموس الأطبا 1/ 72، واللسان والتاج (كبرت)، ومفاتيح العلوم 150 «حجر الصنعة». ومن الأمثال قولهم: «أعز من الكبريت الأحمر»، والمثل في مجمع الأمثال 2/ 44، والمستقصى 1/ 245، وجمهرة الأمثال 2/ 33.
[7] الهجان: البيضاء، وقوله: «الحسن أحمر» من الأمثال في مجمع الأمثال 1/ 199، وجمهرة الأمثال 1/ 366، وفصل المقال 344، وأمثال ابن سلام 38، والمستقصى 1/ 312.(5/52)
1304 [تعظيم الله شأن النار]
قال [1]: ومما عظم الله به شأن النار أنها تنتقم في الآخرة من جميع أعدائه.
وليس يستوجبها بشريّ من بشريّ، ولا جنيّ من جنيّ بضغينة ولا ظلم، ولا جناية ولا عدوان، ولا يستوجب النار إلا بعداوة الله عزّ وجلّ وحده، وبها يشفي صدور أوليائه من أعدائهم في الآخرة.
1305 [تعظيم الله لما أضافه إلى نفسه]
وكل شيء أضافه الله إلى نفسه فقد عظّم شأنه، وشدّد أمره. وقد فعل ذلك بالنار [2]، فقالوا بأجمعهم: دعه في نار الله وسقره، وفي غضب الله ولعنته، وسخط الله وغضبه. هما ناره أو الوعيد بناره، كما يقال: بيت الله، وزوّار الله، وسماء الله، وعرش الله.
ثم ذكرها فامتنّ بها على أهل الأرض من وجهين [3]: أحدهما قوله عزّ وجلّ:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نََاراً فَإِذََا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [4] فجعلها من أعظم الماعون معونة، وأخفها مؤونة.
1306 [استطراد لغوي]
والماعون الأكبر: الماء والنار، ثم الكلأ والملح.
قال الشاعر في الماعون بيتا جامعا، أحسن فيه التأدية حيث قال [5]: [من البسيط] لا تعدلنّ أتاويّين قد نزلوا ... وسط الفلاة بأصحاب المحلّات [6]
والمحلّات هي الأشياء التي إذا كانت مع المسافرين حلّوا حيث شاؤوا، وهي القدّاحة، والقربة، والمسحاة. فقال: إياك أن تعدل، إذا أردت النّزول، من معه أصناف
[1] ثمار القلوب 454 (820).
[2] ثمار القلوب (80).
[3] ثمار القلوب 457 (823)، فقرة «نار الشجر».
[4] 80/ يس: 36.
[5] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (حلل، أتو)، وأساس البلاغة (حلل). والمخصص 13/ 225، والمقاييس 1/ 52، 5/ 474، والبيان 3/ 23.
[6] الأتاوي: الغريب في غير وطنه.(5/53)
الماعون بأتاويّين، يعني واحدا أتى من هاهنا، وآخر أتى من هاهنا. كأنهم جماعة التقوا من غير تعريف بنسب ولا بلد.
وإذا تجمعوا أفذاذا [1] لم يكمل كلّ واحد منهم خصال المحلّات.
قال أبو النجم [2]: [من الرجز] يضعن بالفقر أتاويّات ... معترضات غير عرضيّات [3]
وقالت امرأة من الكفار، وهي تحرّض الأوس والخزرج، حين نزل فيهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه: [من المتقارب] أطعتم أتاويّ من غيركم ... فلا من مراد ولا مذحج
ولم ترد أنهما أشرف من قريش، ومن الحيّين كعب وعامر، ولكنها أرادت أن تؤلّب وتذكي العصبيّة.
وقالوا: لا تبتنى المدن إلا على الماء والكلإ والمحتطب. فدخلت النار في المحتطب إذ كان كلّ عود يوري.
وأما الوجه الآخر [4] من الامتنان بها، فكقوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ فَلََا تَنْتَصِرََانِ} [5] ثم قال على صلة الكلام: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} [6]. وليس يريد أنّ إحراق الله عزّ وجلّ العبد بالنار من آلائه ونعمائه.
ولكنه رأى [7] أن الوعيد الصادق إذا كان في غاية الزجر عما يطغيه ويرديه [8] فهو من النعم السابغة والآلاء العظام.
[1] الرجز لأبي النجم في ديوانه 74، ولحميد الأرقط في اللسان (عرض، هيه، أتي)، والتاج (عرض، صنبع، أتو)، والتهذيب 1/ 459، 463، 14/ 351، وبلا نسبة في التاج (هيه)، والجمهرة 1321، وشرح المفصل 4/ 6665.
[2] يضعن: من الوضع، وهو ضرب من العدو فوق الخبب. الأتاويات: الغريبات. معترضات: نشيطات لم يكسلهن السفر. عرضيات: من غير صعوبة.
[3] البيت لعصماء بنت مروان اليهودي في أنساب الأشراف 373، ولامرأة هجت الأنصار في اللسان والتاج (أتى)، والتهذيب 2/ 359.
[4] ثمار القلوب 457 (824)، فقرة «نار الشجر».
[5] في ثمار القلوب «كقوله للثقلين».
[6] 35/ الرحمن: 55.
[7] في ثمار القلوب «أراد».
[8] يرديه: يهلكه.(5/54)
وكذلك نقول في خلق جهنم: إنها نعمة عظيمة، ومنّة جليلة، إذا كان زاجرا عن نفسه ناهيا، وإلى الجنة داعيا. فأما الوقوع فيها فما يشكّ أنه البلاء العظيم.
وكيف تكون النقم نعما! ولو كانت النقمة نعمة لكانت رحمة، ولكان السّخط رضا وليس يهلك على البينة إلا هالك. وقال الله عزّ وجلّ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى ََ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [1].
1307 [من مواعظ الحسن البصري]
وقال الحسن: «والله يا ابن آدم، ما توبقك إلا خطاياك! قد أريد بك النجاة فأبيت إلا أن توقع نفسك»!.
وشهد الحسن بعض الأمراء، وقد تعدّى إقامة الحدّ، وزاد في عدد الضرب، فكلمه في ذلك، فلما رآه لا يقبل النصح قال: أما إنك لا تضرب إلا نفسك، فإن شئت فقلّل، وإن شئت فكثّر.
وكان كثيرا ما يتلو عند ذلك: {فَمََا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النََّارِ} [2].
1308 [عقاب الآخرة وعقاب الدنيا]
والعقاب عقابان: فعقاب آخرة، وعقاب دنيا. فجميع عقاب الدنيا بليّة من وجه، ونعمة من وجه. إذ كان يؤدّي إلى النعمة وإن كان مؤلما. فهو عن المعاصي زاجر، وإن كان داخلا في باب الامتحان والتعبّد، مع دخوله في باب العقاب والنعمة إذ كان زجرا، وتنكيلا لغيره. وقد كلّفنا الصبر عليه، والرضا به، والتسليم لأمر الله فيه.
وعقاب الآخرة بلاء صرف، وخزي بحت. لأنه ليس بمخرج منه، ولا يحتمل وجهين.
1309 [معارف في النار]
وقال أبو إسحاق: الجمر في الشمس أصهب [3]، وفي الفيء أشكل [4]، وفي ظلّ
[1] 42/ الأنفال: 8.
[2] 175/ البقرة: 2
[3] الأصهب: الأبيض تخالطه حمرة.
[4] الأشكل: الأسود تخالطه حمرة.(5/55)
الأرض الذي هو الليل أحمر. وأيّ صوت خالطته النار فهو أشد الأصوات، كالصاعقة، والإعصار الذي يخرج من شقّ [1] البحر، وكصوت الموم [2]، والجذوة من العود إذا كان في طرفه نار ثم غمسته في إناء فيه ماء نوى منقع.
ثم بالنار يعيش أهل الأرض من وجوه: فمن ذلك صنيع الشمس في برد الماء والأرض لأنها صلاء جميع الحيوان، عند حاجتها إلى دفع عادية البرد. ثمّ سراجهم الذي يستصبحون به، والذي يميزون بضيائه بين الأمور.
وكلّ بخار يرتفع من البحار والمياه وأصول الجبال، وكل ضباب يعلو، وندى يرتفع ثم يعود بركة ممدودة على جميع النبات والحيوان فالماء الذي يحلّه ويلطّفه، ويفتح له الأبواب، ويأخذ بضبعه [3] من قعر البحر والأرض النار المخالطة لهما من تحت، والشمس من فوق.
1310 [عيون الأرض]
وفي الأرض عيون نار، وعيون قطران، وعيون نفط وكباريت وأصناف جميع الفلزّ من الذهب والفضة والرّصاص والنّحاس. فلولا ما في بطونها من أجزاء النار لما ذاب في قعرها جامد، ولما انسبك في أضعافها شيء من الجواهر، ولما كان لمتقاربها جامع، ولمختلفها مفرّق.
1311 [قول العرب في الشمس]
قال: وتقول العرب [4] «الشمس أرحم بنا».
وقيل لبعض العرب: أيّ يوم أنفع؟ قال: يوم شمال وشمس.
وقال بعضهم [5] لامرأته: [من الوافر] تمنّين الطّلاق وأنت عندي ... بعيش مثل مشرقة الشّمال [6]
[1] الشّق: الناحية والجانب.
[2] في اللسان «موم»: (الموم: الشمع، معرب، واحدته مومة).
[3] الضبع: العضد كلها أو وسطها.
[4] انظر تعليق الجاحظ في 3/ 173، الفقرة (809).
[5] البيت بلا نسبة في عيون الأخبار 4/ 125، وأخبار النساء 79، واللسان والتاج (شرق)، والمخصص 23/ 9.
[6] المشرقة مثلثة الراء: الموضع الذي تشرق عليه الشمس. الشمال: الريح الشمالية.(5/56)
وقال عمر [1]: «الشمس صلاء العرب». وقال عمر: «العربيّ كالبعير، حيثما دارت الشمس استقبلها بهامته».
ووصف الرّاجز إبلا فقال [2]: [من الرجز] تستقبل الشمس بجمجماتها
وقال قطران العبسيّ [3]: [من الطويل] بمستأسد القريان حوّ تلاعه ... فنوّاره ميل إلى الشمس زاهرة [4]
1312 [نبات الخيريّ]
والخيريّ [5] ينضم ورقه بالليل، وينفتح بالنهار.
ولإسماعيل بن غزوان في هذا نادرة. وهو أن سائلا سألنا من غير أهل الكلام، فقال: ما بال ورق الخيريّ ينضم بالليل وينتشر بالنهار؟ فانبرى له إسماعيل بن غزوان فقال: لأن برد الليل وثقله، من طباعهما الضمّ والقبض والتّنويم، وحرّ شمس النهار من طباعه الإذابة، والنشر، والبسط، والخفّة، والإيقاظ. قال السائل: فيما قلت دليل، ولكنه! قال إسماعيل: وما عليك أن يكون هذا في يدك، إلى أن تصيب شيئا هو خير منه.
وكان إسماعيل أحمر حليما، وكذلك كان الحراميّ. وكنت أظن بالحمر الألوان التسرع والحدّة، فوجدت الحلم فيهم أعمّ. وكنت أظن بالسمان الخدال [6] العظام أنّ الفالج إليهم أسرع، فوجدته في الذين يخالفون هذه الصّفة أعمّ.
[1] ثمار القلوب (279).
[2] الرجز لعمر بن لجأ في ديوانه 154، والأصمعيات 35، والرواية فيهما: «واتقت الشمس بجمجماتها»، وبلا نسبة في ثمار القلوب (279).
[3] البيت للحطيئة في ديوانه 20، والأغاني 2/ 155وبلا نسبة في المخصص 10/ 219.
[4] في ديوانه: «استأسد النبت: طال وأتم. القريان: مجاري الماء إلى الرياض، وأحدها قريّ. الحوّ:
التي قد اشتدت خضرتها حتى ضربت إلى السواد. التلاع: مسيل الماء إلى الوادي، واحدها تلعة.
النوّار: الزهر. زاهره: ما زهر منه».
[5] الخيري: جنس زهر من الفصيلة الصليبية. يعرف بالعربية باسم «المنثور»، وهو نوع ينبت بريا ويتبقلونه لوجود عقد نشوية في جذورها طمعها يشبه طعم الكستناء. انظر معجم الألفاظ الزراعية 307.
[6] الخدال: جمع خدل، وهو الممتلئ الأعضاء لحما في رقة عظام.(5/57)
1313 [أثر الجوّ في الأبدان]
وقال إياس بن معاوية: «صحّة الأبدان مع الشمس». ذهب إلى أهل العمد والوبر.
وقال مثنّى بن بشير: «الحركة خير من الظل والسّكون».
وقد رأينا لمن مدح خلاف ذلك كلاما، وهو قليل.
وقيل لابنة الخسّ: أيّما أشدّ: الشتاء أم الصيف؟ قالت: ومن يجعل الأذى كالزمانة [1]؟!.
وقال أعرابيّ: لا تسبّوا الشّمال فإنها تضع أنف الأفعى، وترفع أنف الرّفقة.
وقال خاقان بن صبيح، وذكر نبل الشتاء وفضله على نبل الصيف فقال:
«تغيب فيه الهوام، وتنجحر [2] فيه الحشرات، وتظهر الفرشة والبزّة [3]، ويكثر فيه الدّجن [4] وتطيب فيه خمرة [5] البيت، ويموت فيه الذّبان والبعوض، ويبرد الماء، ويسخن الجوف، ويطيب فيه العناق».
وإذا ذكرت العرب برد الماء وسخونة الجوف قالت [6]: «حرّة تحت قرّة».
ويجود فيه الاستمراء لطول الليل، ولتفصّي الحرّ [7].
وقال بعضهم: لا تسرّنّ بكثرة الإخوان، ما لم يكونوا أخيارا فإن الإخوان غير الخيار بمنزلة النار، قليلها متاع، وكثيرها بوار [8].
[1] الزّمانة: العاهة والآفة. والخبر في البيان 1/ 313، وفيه «من جعل بؤسا كأذى»، وانظر أخبارها في بلاغات النساء 8680، والمزهر 2/ 545540.
[2] تنجحر: تدخل في الجحر.
[3] البزة: الهيئة والشارة واللبس.
[4] الدجن: ظل الغيم في اليوم المطير.
[5] الخمرة مثلثة الراء: الرائحة الطيبة.
[6] مجمع الأمثال 1/ 197، وجمهرة الأمثال 1/ 341، 355، وهو مثل يضرب للذي يظهر خلاف ما يضمر.
[7] تفصي الحر: ذهابه وخروجه.
[8] البوار: الهلاك.(5/58)
1314 [نار الزحفتين]
قال [1]: ومن النيران «نار الزّحفتين»، وهي نار أبي سريع، وأبو سريع هو العرفج [2].
وقال قتيبة بن مسلم، لعمر بن عبّاد بن حصين: والله للسّؤدد أسرع إليك من النار في يبيس العرفج [2]!.
وإنما قيل لنار العرفج: نار الزحفتين لأن العرفج [2] إذا التهبت فيه النار أسرعت فيه وعظمت، وشاعت واستفاضت، في أسرع من كل شيء. فمن كان في قربها [3] يزحف عنها، ثم لا تلبث أن تنطفئ من ساعتها، في مثل تلك السرعة فيحتاج الذي يزحف عنها أن يزحف إليها من ساعته فلا تزال للمصطلي كذلك، ولا يزال المصطلي بها كذلك. فمن أجل ذلك قيل: «نار الزّحفتين».
قال [4]: وقيل لبعض الأعراب: ما بال نسائكم رسحا [5]؟ قال: أرسحهنّ عرفج الهلباء [6].
1315 [شرط الراعي على المسترعي]
وهذا شرط الراعي فيما بينه وبين من استرعاه ماشيته في القارّ والحارّ [7]، وذلك أن شرطهم عليه أن يقول المسترعي للراعي [8]: «إن عليك أن تردّ ضالّتها، وتهنأ جرباها [9]، وتلوط [10] حوضها. ويدك مبسوطة في الرّسل [11] ما لم تنهك حلبا، أو تضرّ بنسل».
[1] الخبر في ثمار القلوب 197 (394393)، 462 (831)، وانظر مجالس ثعلب 146، والنبات لابن حنيفة، ومطلع الفوائد 42.
[2] العرفج: ضرب من النبت، واحدته عرفجة، وهو نبات طيب الريح أغبر إلى الخضرة، وله زهرة صفراء وليس له حب ولا شوك. وهو سريع الاشتعال بالنار، ولهبه شديد الحمرة. «اللسان: عرفج».
[3] في ثمار القلوب «فمن كان قريبا منها».
[4] مجالس ثعلب 146، والمخصص 11/ 37، واللسان (رسح).
[5] الرسحاء: القليلة لحم العجز والفخذين.
[6] الهلباء: موضع بين اليمامة ومكة.
[7] القار والحار: أي البارد والساخن.
[8] انظر البيان 3/ 57، واللسان «ثمن».
[9] يهنأ الجربى. يعالجها بالهناء، وهو ضرب من القطران، يطليها به.
[10] لاط الحوض بالطين: طيّنه.
[11] الرسل: اللبن.(5/59)
قال: فيقول عند ذلك الراعي لرب الماشية، بعد هذا الشرط: «ليس لك أن تذكر أمّي بخير ولا شرّ ولك حذفة [1] بالعصا عند غضبك، أخطأت أو أصبت، ولي مقعدي من النار وموضع يدي من الحارّ [والقارّ] [2]»
1316 [شبه ما بين النار والإنسان]
قال: ووصف بعض الأوائل شبه ما بين النار والإنسان، فجعل ذلك قرابة ومشاكلة، قال: وليس بين الأرض وبين الإنسان، ولا بين الإنسان، والماء، ولا بين الهواء والإنسان، مثل قرابة ما بينه وبين النار لأن الأرض إنما هي أمّ للنبات، [وليس للماء] [3] إلا أنه مركب. وهو لا يغذو إلّا ما يعقده الطبخ وليس للهواء فيه إلا النسيم والمتقلّب. وهذه الأمور وإن كانت زائدة، وكانت النفوس تتلف مع فقد بعضها، فطريق المشاكلة والقرابة غير طريق إدخال المرفق وجرّ المنفعة، ودفع المضرّة.
قال: وإنما قضيت لها بالقرابة، لأني وجدت الإنسان يحيا ويعيش في حيث تحيا النار وتعيش، وتموت وتتلف حيث يموت الإنسان ويتلف.
وقد تدخل نار في بعض المطامير [4] والجباب [5]، والمغارات، والمعادن [6]، فتجدها متى ماتت هناك علمنا أن الإنسان متى صار في ذلك الموضع مات. ولذلك لا يدخلها أحد ما دامت النار إذا صارت فيها ماتت. ولذلك يعمد أصحاب المعادن والحفاير إذا هجموا على فتق في بطن الإرض أو مغارة في أعماقها أو أضعافها، قدّموا شمعة في طرفها أو في رأسها نار، فإن ثبتت النار وعاشت دخلوا في طلب الجواهر من الذهب وغير ذلك. وإلا لم يتعرّضوا له. وإنما يكون دخولهم بحياة النار، وامتناعهم بموت النار.
وكذلك إذا وقعوا على رأس الجبّ الذي فيه الطعام، لم يجسروا على النزول
[1] الحذفة: الرمية عن جانب.
[2] زيادة من البيان واللسان.
[3] زيادة يقتضيها المعنى.
[4] المطامير: حفر تحفر في الأرض، توسّع أسافلها، تخبأ فيها الحبوب.
[5] الجباب: جمع جب، وهو البئر البعيدة القعر، الكثيرة الماء.
[6] المعادن: جمع معدن، وهو موضع تستخرج منه جواهر الأرض.(5/60)
فيه، حتى يرسلوا في ذلك الجبّ قنديلا فيه مصباح أو شيئا يقوم مقام القنديل، فإن مات لم يتعرّضوا له، وحرّكوا في جوفه أكسية [1] وغيرها من أجزاء الهواء.
قال: وممّا يشبّه النار فيه بالإنسان، أنك ترى للمصباح قبل انطفائه ونفاد دهنه، اضطراما وضياء ساطعا، وشعاعا طائرا، وحركة سريعة وتنقضا [2] شديدا، وصوتا متداركا. فعندها يخمد المصباح.
وكذلك الإنسان، له قبل حال الموت، ودوين انقضاء مدّته بأقرب الحالات، حال مطمعة تزيد في القوة على حاله قبل ذلك أضعافا، وهي التي يسمونها «راحة الموت»، وليس له بعد تلك الحال لبث.
1317 [قول رئيس المتكلّمين في النفس]
وكان رئيس من المتكلمين، وأحد الجلّة المتقدمين، يقول في النفس قولا بليغا عجيبا، لولا شنعته لأظهرت اسمه، وكان يقول: الهواء اسم لكل فتق، وكذلك الحيّز [3]. والفتق لا يكون إلا بين الأجرام الغلاظ، وإلا فإنما هو الذي يسميه أصحاب الفلك «اللّجّ». وإذا هم سألوهم عن خضرة الماء قالوا: هذا لجّ الهواء، وقالوا: لولا أنك في ذلك المكان لرأيت في اللّجّ الذي فوق ذلك مثل هذه الخضرة. وليس شيء إلا وهو أرق من كتيفه أو من الأجرام الحاصرة له. وهو اسم لكل متحرّك ومتقلّب لكل شيء فيه من الأجرام المركبة. ولا يستقيم أن يكون من جنس النسيم، حتى يكون محصورا، إما بحصر كتيفي كالسفينة لما فيها من الهواء الذي به حملت مثل وزن جرمها الأضعاف الكثيرة، وإما أن يكون محصورا في شيء كهيئة البيضة المشتملة على ما فيها، كالذي يقولون في الفلك الذي هو عندنا: سماء.
قال: وللنسيم الذي هو فيه معنى آخر، وهو الذي يجعله بعض الناس ترويحا عن النفس، يعطيها البرد والرّقّة والطّيب، ويدفع النّفس، ويخرج إليه البخار والغلظ، والحرارات الفاضلة [4]، وكلّ ما لا تقوى النّفس على نفيه واطّراده.
[1] أكسية: جمع كساء.
[2] التنقض: صوت الفتيلة إذا قاربت الانطفاء.
[3] الحيز: عند المتكلمين هو الفراغ المتوهّم الذي يشغله شيء ممتد كالجسم، أو غير ممتد كالجوهر الفرد، انظر التعريفات للجرجاني 99.
[4] الفاضلة: الزائدة.(5/61)
قال: وليس الأمر كذلك. بل أزعم أنّ النفس من جنس النسيم وهذه النفس القائمة في الهواء المحصور، عرض لهذه النفس المتفرّقة في أجرام جميع الحيوان، وهذه الأجزاء التي في هذه الأبدان، هي من النسيم في موضع الشعاع والأكثاف، والفروع التي تكون من الأصول.
قال: وضياء النفس كضياء دخل من كوّة [1] فلما سدّت الكوّة انقطع بالطّفرة إلى عنصره من قرص الشمس وشعاعها المشرق فيها، ولم يقم في البيت مع خلاف شكله من الجروم [2]. ومتى عمّ السّدّ لم تقم النفس في الجرم فوق لا.
وحكم النفس عند السّدّ إذ كنا لا نجدها بعد ذلك كحكم الضياء بعد السدّ، إذ كنا لا نجده بعد ذلك.
فالنفس من جنس النسيم، وبفساده تفسد الأبدان، وبصلاحه تصلح. وكان يعتمد على أن الهواء نفسه هو النفس والنسيم، وأن الحرّ واللدونة وغير ذلك من الخلاف، إنما هو من الفساد العارض.
قيل له: فقد يفسد الماء فتفسد الأجرام من الحيوان بفساده، ويصلح فتصلح بصلاحه، وتمنع الماء وهي تنازع إليه فلا تحلّ [3] بعد المنازعة إذا تمّ المنع، وتوصل بجرم الماء فتقيم في مكانها. فلعل النفس عند بطلانها في جسمها قد انقطعت إلى عنصر الماء بالطّفرة.
وبعد فما علّمك؟ لعلّ الخنق هيّج على النفس أضدادا لها كثيرة، غمرتها حتى غرقت فيها، وصارت مغمورة بها.
وكان هذا الرئيس يقول: لولا أن تحت كلّ شعرة وزغبة مجرى نفس لكان المخنوق يموت مع أوّل حالات الخنق، ولكن النفس قد كان لها اتصال بالنسيم من تلك المجاري على قدر [من] [4] الأقدار، فكان نوطها [5] جوف الإنسان. فالرّيح والبخار لمّا طلب المنفذ فلم يجده، دار وكثف وقوي فامتدّ له الجلد فسدّ له
[1] الكوة: خرق في الحائط.
[2] الجروم: جمع جرم، وهو الجسد والجسم.
[3] تحل: تقيم.
[4] زيادة يقتضيها المعنى.
[5] نوطها: متعلقها.(5/62)
المجاري. فعند ذلك ينقطع النفس. ولولا اعتصامها بهذا السبب لقد كانت انقطعت إلى أصلها من القرص، مع أول حالات الخنق.
وكان يقول: إن لم تكن النفس غمرت بما هيّج عليها من الآفات، ولم تنقطع للطّفر إلى أصلها جاز أن يكون الضياء الساقط على أرض البيت عند سدّ الكوّة أن يكون لم ينقطع إلى أصله. ولكن السدّ هيّج عليه من الظلام القائم في الهواء ما غمره، وقطعه عن أصله. ولا فرق بين هذين.
وكان يعظّم شأن الهواء، ويخبر عن إحاطته بالأمور ودخوله فيها، وتفضّل قوّته عليها.
وكان يزعم أن الذي في الزّقّ [1] من الهواء، لو لم يكن له مجار ومنافس، ومنع من كل وجهة لأقلّ الجمل الضخم.
وكان يقول: وما ظنّك بالرّطل من الحديد أو بالزّبرة [2] منه، أنه متى أرسل في الماء خرقه، كما يخرق الهواء! قال: والحديد يسرع إلى الأرض إذا أرسلته في الهواء، بطبعه وقوّته، ولطلبه الأرض المشاكلة له، ودفع الهواء له، وتبرّيه منه، ونفيه له بالمضادة، واطّراده له بالعداوة.
قال: ثمّ تأخذ تلك الزّبرة [2] فتبسطها بالمطارق، فتنزل نزولا دون ذلك لأنها كلما اجتمعت فكان الذي يلاقيها من الماء أصغر جرما، كانت أقوى عليه.
ومتى ما أشخصت [3] هذه الزّبرة [2] المفطوحة المبسوطة المسطوحة، بنتق [4] الحيطان في مقدار غلظ الإصبع، حمل مثل زنته المرار الكثيرة وليس إلا لما حصرت تلك الإصبع من الهواء. وكلما كان نتوّ الحيطان أرفع كان للأثقال أحمل، وكان الهواء أشدّ انحصارا.
قال: ولولا أن ذلك الهواء المحصور متّصل بالهواء المحصور في جرم الحديد، وفي جرم الخشب والقار، فرفع بذلك الاتصال السفينة علوّا لما كان يبلغ من حصر ارتفاع إصبع للهواء ما يحمله البغل.
[1] الزق: وعاء من الجلد ينقل فيه الخمر.
[2] الزبرة: القطعة من الحديد.
[3] أشخصت: رفعت.
[4] النتق: الرفع.(5/63)
ويدلّ على ذلك شأن السكّابة [1] فإنّك تضع رأس السكّابة الذي يلي الماء في الماء، ثم تمصه من الطرف الآخر، فلو كان الهواء المحصور في تلك الأنبوبة إنما هو مجاور لوجه الماء، ولم يكن متصلا بما لابس جرم الماء من الهواء، ثم مصصته بأضعاف ذلك الجذب إلى ما لا يتناهى لما ارتفع إليك من الماء شيء رأسا.
وكان يقول في السّبيكة التي تطيل عليها الإيقاد، كيف لا تتلوّى، فما هو إلا أن ينفخ عليها بالكير [2] حتى تدخل النيران في تلك المداخل، وتعاونها الأجزاء التي فيها من الهواء.
وبمثل ذلك قام الماء في جوف كوز المسقاة المنكس. ولعلمهم بصنيع الهواء إذا احتصر وإذا حصر، جعلوا سمك [3] الصّينية مثل طولها. أعني المركب الصّينيّ.
وكان يخبر عن صنيع الهواء بأعاجيب.
وكان يزعم [4] أنّ الرّجل إذا ضربت عنقه سقط على وجهه، فإذا انتفخ انتفخ غرموله وقام وعظم. فقلبه عند ذلك على القفا. فإذا جاءت الضّبع لتأكله فرأته على تلك الحال، ورأت غرموله على تلك الهيئة، استدخلته وقضت وطرها من تلك الجهة، ثم أكلت الرّجل، بعد أن يقوم ذلك عندها أكثر من سفاد الذّيخ.
والذّيخ: ذكر الضّباع العرقاء [5].
وذكر بعض الأعراب أنه عاينها عند ذلك، وعند سفاد الضّبع لها، فوجد لها عند تلك الحال حركة وصياحا، لم يجده عندها في وقت سفاد الذّيخ لها.
ولذلك قال أبو إسحاق لإسماعيل بن غزوان: «أشهد بالله إنك لضبع». لأن إسماعيل شدّ جارية له على سلّم وحلف ليضربنّها مائة سوط دون الإزار ليلتزق جلد السّوط بجلدها، فيكون أوجع لها فلما كشف عنها رطبة بضّة خدلة [6]، وقع عليها، فلما قضى حاجته منها وفرغ، ضربها مائة سوط. فعند ذلك قال أبو إسحاق ما قال.
[1] انظر الصفحة 49، حيث سماها هناك «الشرابة».
[2] الكير: الزق الذي ينفخ فيه الحداد.
[3] السّمك: الارتفاع.
[4] هو اليقطري كما سيأتي في 6/ 450.
[5] العرفاء: الكثيرة شعر الرقبة.
[6] الخدلة: الممتلئة الأعضاء لحما في رقة عظام.(5/64)
1318 [أحوال الغرقى]
[1] وإذا غرقت المرأة رسبت. فإذا انتفخت وصارت في بطنها ريح وصارت في معنى الزقّ، طفا بدنها وارتفع، إلا أنها تكون منكبّة، ويكون الرّجل مستلقيا.
وإذا ضربت عنق الرّجل وألقي في الماء لم يرسب، وقام في جوف الماء وانتصب، ولم يغرق، ولم يلزم القعر، ولم يظهر. كذلك يكون إذا كان مضروب العنق، كان الماء جاريا أو كان ساكنا. حتى إذا خفّ وصار فيه الهواء، وصار كالزّقّ المنفوخ، انقلب وظهر بدنه كله، وصار مستلقيا، كان الماء جاريا أو كان قائما.
فوقوفه وهو مضروب العنق، شبيه بالذي عليه طباع العقرب التي فيها الحياة، إذا ألقيتها في ماء غمر [2]، لم تطف ولم ترسب، وبقيت في وسط عمق الماء، لا يتحرّك منها شيء.
والعقرب من الحيوان الذي لا يسبح. فأما الحيّة فإنها تكون جيّدة السباحة، إذا كانت من اللواتي تنساب وتزحف. فأمّا أجناس الأفاعي التي تسير على جنب فليس عندها في السباحة طائل.
والسّباحة المنعوتة، إنما هي للإوزّة والبقرة والكلب. فأمّا السمكة فهي الأصل في السباحة، وهي المثل، وإليها جميع النسبة.
والمضروب العنق يكون في عمق الماء قائما. والعقرب يكون على خلاف ذلك.
رجع إلى ذكر النار
1319 [مناغاة الطفل للمصباح]
ثمّ رجع بنا القول إلى ذكر النار.
قال: والنار من الخصال المحمودة أنّ الطفل لا يناغي شيئا كما يناغي المصباح. وتلك المناغاة نافعة له في تحريك النفس، وتهييج الهمة، والبعث على الخواطر، وفتق اللهاة، وتسديد [3] اللسان، وفي السرور الذي له في النفس أكرم أثر.
[1] ورد الخبر في عيون الأخبار 2/ 63.
[2] الغمر: الماء الكثير.
[3] تسديد اللسان: تقويمه.(5/65)
1320 [قول الأديان في النار]
قال: وكانت النار معظّمة عند بني إسرائيل، حيث جعلها الله تعالى تأكل القربان، وتدل على إخلاص المتقرّب، وفساد نية المدغل [1]، وحيث قال الله لهم [2]: «لا تطفئوا النّار من بيوتي». ولذلك لا تجد الكنائس والبيع أبدا إلا وفيها المصابيح تزهر [3]، ليلا ونهارا، حتى نسخ الإسلام ذلك وأمرنا بإطفاء النيران، إلا بقدر الحاجة.
فذكر ابن جريح قال: أخبرني أبو الزّبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:
أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال [4]: «إذا رقدت فأغلق بابك، وخمّر [5] إناءك، وأوك سقاءك [6]، وأطفئ مصباحك، فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يكشف إناء، ولا يحلّ وكاء. وإن الفأرة الفويسقة تحرق أهل البيت».
وفطر بن خليفة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال [7]: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أغلقوا أبوابكم، وأوكوا أسقيتكم وخمّروا آنيتكم، وأطفئوا سرجكم، فإن الشيطان لا يفتح غلقا، ولا يحلّ وكاء، ولا يكشف غطاء. وإن
[1] المدغل الذي يدخل في أمره ما يفسده.
[2] تقدم هذا القول في 4/ 498، س 1514.
[3] تزهر: تتلألأ.
[4] أخرج البخاري في بدء الخلق، حديث رقم 3106: (حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء، عن جابر رضي الله عنه، عن النبى قال: إذا استجنح الليل، أو: كان جنح الليل، فكفّوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلّوهم، وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله، وخمّر إناءك واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئا)، وانظر صحيح مسلم في الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، رقم:
2012، وأخرج البخاري في بدء الخلق، حديث رقم 3138: (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما رفعه قال: خمّروا الآنية، وأوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، واكفتوا صبيانكم عند العشاء، فإنّ للجنّ انتشارا وخطفة، وأطفؤوا المصابيح عند الرّقاد، فإنّ الفويسقة ربما اجترّت الفتيلة فأحرقت أهل البيت).
[5] خمّر: من التخمير وهو التغطية.
[6] أوك: من الإيكاء وهو الشد، والوكاء اسم ما يشدّ به فم القربة ونحوها. والسقاء: ما يوضع فيه الماء أو اللبن ونحو ذلك.
[7] انظر صحيح البخاري في بدء الخلق، حديث رقم 3128، وفي الأشربة، حديث رقم 5300، 5301، وفي الاستئذان، حديث رقم 5937، 5938، ومسند أحمد 3/ 301، 388.(5/66)
الفويسقة تضرّم البيت على أهله. وكفّوا مواشيكم وأهليكم حين تغرب الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء».
قال: ويدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر بحفظها إلا بقدر الحاجة إليها، ويأمر بإطفائها إلا عند الاستغناء عنها ما حدّث به عباد بن كثير قال: حدّثني الحسن بن ذكوان عن شهر بن حوشب قال [1]: «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تحبسوا صبيانكم عند فحمة العشاء، وأن تطفئوا المصابيح، وأن توكئوا الأسقية، وأن تخمّروا الآنية، وأن تغلّقوا الأبواب». قال: فقام رجل فقال: يا رسول الله إنه لا بدّ لنا من المصابيح، للمرأة النّفساء، وللمريض، وللحاجة تكون. قال: فلا بأس إذا، فإن المصباح مطردة للشيطان، مذبّة للهوام [2]، مدلّة [3] على اللصوص.
1321 [نار الغول]
قال: ونار أخرى، وهي التي تذكر الأعراب أن الغول توقدها بالليل، للعبث والتخليل، وإضلال السابلة.
قال أبو المطراب عبيد بن أيوب العنبريّ [4]: [من الطويل] فلله درّ الغول أيّ رفيقة ... لصاحب قفر خائف متقتّر ... أرنّت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حواليّ نيرانا تبوخ وتزهر
1322 [جمرات العرب]
قال: وجمرات العرب: عبس، وضبّة، ونمير [5]. يقال لكلّ واحد منهم: جمرة [6].
[1] انظر الحاشية السابقة.
[2] الذّبّ: الطرد. الهوام: الحيات وكل ذي سم يقتل سمه. انظر اللسان: «همم».
[3] مدلّة: يدلّ.
[4] تقدم البيتان في 4/ 500، وهما في اللسان والتاج (لحن)، والتهذيب 4/ 63، والشعر والشعراء 493 (ليدن).
[5] اختلف العلماء في تعيين جمرات العرب، ففي ثمار القلوب 126 (277): «بنو ضبة، وبنو الحارث بن كعب، وبنو نمير بن عامر وبنو عبس بن بغيض، وبنو يربوع بن حنظلة»، وفي النقائض 2/ 946، وزهر الآداب 55، «بنو ضبة وبنو الحارث وبنو نمير»، وفي العمدة 2/ 197: «ضبة وعبس والحارث بن كعب»، وانظر السمط 424، والمحبر 234، والأوائل للعسكري 2/ 190، واللسان (جمر)، والشريشي 1/ 298، والعقد 2/ 233، والكامل 2/ 233، (أبو الفضل إبراهيم).
1/ 377 (المعارف). وقول الجاحظ نقله صاحب اللسان في مادة (جمر) 4/ 145.
[6] الجمرة: كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم، لا يحالفون أحدا، ولا ينضمون إلى أحد، تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لمقارعة القبائل كما صبرت عبس لقيس كلها. ثمار القلوب 126 (277)، واللسان (جمر). وانظر سبب التسمية في العمدة 2/ 198197.(5/67)
وقد ذكر أبو حيّة النّميري قومه خاصّة فقال [1]: [من الطويل] وهم جمرة لا يصطلي الناس نارهم ... توقّد لا تطفا لريب النّوائب
ويروى: الدوابر [2].
ثم ذكر هذه القبائل فعمّهم بذلك، لأنها كلّها مضريّة، فقال [3]: [من الطويل] لنا جمرات ليس للناس مثلها ... ثلاث فقد جرّبن كلّ التّجارب ... نمير وعبس تتّقى صقراتها ... وضبّة قوم بأسهم غير كاذب
يعني شدّتها [4].
إلى كلّ قوم قد دلفنا بجمرة ... لها عارض [5] جون قويّ المناكب
وعلى ذلك المعنى قيل: «قد سقطت الجمرة»، إذا كان في استقبال زمان الدّفاء [6]. ويقولون: قد سقطت الجمرة الأولى، والثانية، والثالثة [7].
1323 [استطراد لغوي]
والجمار: الحصى الذي يرمى به. والرّمي: التجمير، قال الشاعر [8]: [من الطويل] ولم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحجّ أفتنّ ذا هوى
[1] ديوان أبي حية النميري 119.
[2] هذه الرواية في تهذيب اللغة 11/ 75.
[3] البيتان الأول والثاني في ديوان أبي حية النميري 119، واللسان والتاج (جمر)، والتهذيب 11/ 75، ولم يرد البيت الثالث في ديوانه.
[4] شدتها تفسير لكلمة «صقراتها» في البيت السابق.
[5] العارض: السحاب المعترض في الأفق والجبل. الجون: الأسود والأبيض.
[6] الدفاء: مصدر دفئت من البرد.
[7] يكون سقوط الجمرات في شهر شباط ولسبع منه تسقط الجمرة الأولى وهي الجبهة، والأربع عشرة منه تسقط الجمرة الثانية، وهي الزّبرة، ولإحدى وعشرين منه تسقط الجمرة الثالثة وهي الصّرفة فينصرف البرد. انظر مروج الذهب 2/ 341340، الباب (56)، في ذكر شهور السريانيين، والأزمنة والأمكنة 1/ 276، وعجائب المخلوقات 56 «فصل: في شهور الروم».
[8] البيت لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 459، والأغاني 2/ 270، 272، 277، والكامل 1/ 376 (المعارف)، والموشح 203.(5/68)
والتجمير أيضا: أن يرمى بالجند في ثغر [1] من الثّغور، ثم لا يؤذن لهم في الرجوع.
وقال حميد الأرقط: [من الرجز] فاليوم لا ظلم ولا تتبير ... ولا لغاز إن غزا تجمير [2]
وقال بعض من جمّر من الشعراء في بعض الأجناد [3]: [من الطويل] معاوي إمّا أن تجهّز أهلنا ... إلينا، وإما أن نؤوب معاويا ... أجمّرتنا تجمير كسرى جنوده ... ومنّيتنا حتى مللنا الأمانيا
وقال الجعديّ [4]: [من الخفيف] كالخلايا أنشأن من أهل سابا ... ط بجند مجمّر بأوال
ويقال قد أجمر الرجل: إذا أسرع أو أعجل مركبه.
وقال لبيد [5]: [من الرمل] وإذا حرّكت غرزي أجمرت ... أو قرابي، عدو جون قد أبل [6]
وقال الراجز: [من الرجز] أجمر إجمارا له تطميم
التّطميم: الارتفاع والعلوّ. ويقال: أجمر ثوبه، إذا دخّنه [7].
والمجمرة والمجمر: الذي يكون فيه الدّخنة. وهو مأخوذ من الجمر.
[1] الثغر: الموضع الذي يكون حدّا فاصلا بين المسلمين والكفار.
[2] التتبير: الإهلاك.
[3] البيتان لسهم بن حنظلة في أساس البلاغة (جمر)، والبيت الثاني بلا نسبة في اللسان والتاج (جمر)، والتهذيب 11/ 74.
[4] ديوان النابغة الجعدي 232.
[5] ديوان لبيد 176، واللسان والتاج (جمر، غرز، أبل)، والعين 6/ 122، 8/ 342، والمقاييس 1/ 41، والتهذيب 8/ 46.
[6] في ديوانه: «أجمر الرجل والبعير: أسرع وعدا. والغرز للناقة مثل الركاب للفرس والبغل فهو ركاب الرحل. أبل: جزأ عن الماء بالرطب».
[7] في اللسان: «أجمرت الثوب وجمّرته: إذا بخرته بالطيب».(5/69)
ويقال: قد جمّرت المرأة شعرها إذا ضفرته. والضّفر يقال له الجمير [1]. قال:
ويسمى الهلال قبل ليلة السّرار [2] بليلة: «ابن جمير» قال أبو حردبة [3]: [من الكامل] فهل الإله يشيّعني بفوارس ... لبني أميّة في سرار جمير
وأنشدني الأصمعيّ: [من الرجز] مضفورها يطوى على جميرها
ويقال: قد تجمّر القوم، إذا هم اجتمعوا حتى يصير لهم بأس، ويكونوا كالنار على أعدائهم فكأنهم جمرة، أو كأنهم جمير من شعر مضفور، أو حبل مرصّع القوى [4].
وبه سمّيت تلك القبائل والبطون من تميم: الجمار [5].
والمجمّر مشدّد الميم: حيث يقع حصى الجمار. وقال الهذلي [6]: [من الطويل] لأدركهم شعث النّواصي كأنهم ... سوابق حجّاج توافي المجمّرا
ويقال خفّ مجمّر: إذا كان مجتمعا شديدا.
ويقال: عدّ فلان إبله أو خيله أو رجاله جمارا [7]: إذا كان ذلك جملة واحدة.
وقال الأعشى [8]: [من المتقارب] فمن مبلغ وائلا قومنا ... وأعني بذلك بكرا جمارا
قال: ويقال في النار وما يسقط من الزّند: السّقط، والسّقط، والسّقط. ويقال:
هذا مسقط الرمل، أي منقطع الرمل، ويقال: أتانا مسقط النّجم، إذا جاء حين غاب.
[1] الجمير: ما جمّر من الشعر، أي ضفر.
[2] ليلة السرار: آخر ليلة من الشهر، وفيها يختفي القمر.
[3] البيت لأبي حردبة في أشعار اللصوص 134.
[4] حبل مرصع: معقود عقدا مثلثا متداخلا. القوى: طاقات الحبل.
[5] انظر ما تقدم في الحاشية 5صفحة 67.
[6] البيت لحذيفة بن أنس الهذلي في شرح أشعار الهذليين 557، واللسان والتاج (جمر).
[7] جمارا: جماعة.
[8] ديوان الأعشى 99، واللسان والتاج (جمر).(5/70)
ويقال رفع الطائر سقطيه [1]. وقال الشاعر [2]: [من البسيط] حتى إذا ما أضاء الصّبح وانبعثت ... عنه نعامة ذي سقطين معتكر [3]
أراد ناحيتي الليل.
ويقال: شبّت النار والحرب تشبّ شبّا، وشببتها أنا أشبّها شبّا، وهو رجل شبوب للحرب.
ويقال: حسب ثاقب، أي مضيء متوقد. وكذلك يقال في العلم. ويقال: هب لي ثقوبا، وهو ما أثقبت [4] به النار، من عطبة [5] أو من غيرها. ويقال: أثقب النار إذا فتح عينها لتشتعل. وهو الثّقوب، ويقال: ثقب الزند ثقوبا، إذا ظهرت ناره. وكذلك النار. والزند الثاقب الذي إذا قدح ظهرت النار منه.
ويقال: ذكت النار تذكو ذكوّا، إذا اشتعلت. ويقال ذكّها إذا أريد اشتعالها.
وذكاء اسم للشمس، مضموم الذال المعجمة، وابن ذكاء: الصبح، ممدود مضموم الذال. وقال العجّاج [6]: [من الرجز] وابن ذكاء كامن في كفر
وقال ثعلبة بن صعير المازني [7]. وذكر ظليما ونعامة: [من الكامل]
[1] السقطان: الجناحان.
[2] البيت للراعي النميري 129، واللسان والتاج وأساس البلاغة (سقط)، والتهذيب 8/ 391، وبلا نسبة في المجمل 3/ 79.
[3] النعامة هنا: سواد الليل. السقطين: أوله وآخره. المعتكر: الذي اشتد سواده واختلط.
[4] أثقبت النار: أشعلتها.
[5] العطبة: القطن أو خرق تؤخذ بها النار.
[6] لم يرد الرجز في ديوان العجاج، وهو لحميد الأرقط في المرصع 179، ولحميد (؟) في اللسان (كفر)، والتاج (كفر، ذكا)، وبلا نسبة في اللسان (ذكا)، والمقاييس 1/ 303، وديوان الأدب 1/ 111، والتهذيب 10/ 338، والمخصص 6/ 78، 9/ 19، 13/ 207، 16/ 36، وثمار القلوب 210 (418)، وعمدة الحفاظ 2/ 45 (ذكو).
[7] البيت لثعلبة بن صعير المازني في المفضليات 130، واللسان (رثد، كفر، ثقل، يمن، ذكا، يدي)، والتاج (رثد، كفر، ثقل، يمن، ذكا)، وأساس البلاغة (ثقل)، والتهذيب 9/ 78، 10/ 197، 338، 14/ 89، والجمهرة 419، 787، 1064، 1322، والمخصص 6/ 78، 2/ 487، 5/ 191، والعين 5/ 400، وعمدة الحفاظ 2/ 45 (ذكو).(5/71)
فتذكّرا ثقلا رثيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر [1]
وأما الذكاء مفتوح الذال ممدود فحدّة الفؤاد، وسرعة اللّقن [2].
وقالوا: أضرمت النار حتى اضطرمت وألهبتها حتى التهبت، وهما واحد.
والضّرام من الحطب: ما ضعف منه ولان. والجزل: ما غلظ واشتدّ. فالرّمث [3] وما فوقه جزل [4]. والعرفج [5] وما دونه ضرام [6]. والقصب وكل شيء ليس له جمر فهو ضرام. وكل ماله جمر فهو جزل.
ويقال: ما فيها نافخ ضرمة، أي ما فيها أحد ينفخ نارا.
ويقال: صليت الشاة فأنا أصليها صليا إذا شويتها، فهي مصليّة. ويقال: صلي الرجل النار يصلاها، وأصلاه الله حرّ النار إصلاء. وتقول: هو صال حرّ النار، في قوم صالين وصلّى.
ويقال: همدت النار تهمد همودا، وطفئت تطفأ طفوءا، إذا ماتت. وخمدت تخمد خمودا، إذا سكن لهبها وبقي جمرا حارّا.
وشبّت النار تشبّ شبوبا إذا هاجت والتهبت، وشبّ الفرس بيديه فهو يشبّ شبابا، وشبّ الصبيّ يشبّ شبابا. ويقال: ليس لك عضّاض ولا شبّاب.
ويقال: عشا إلى النار فهو يعشو إليها عشوا وعشوّا، وذلك يكون من أول الليل، يرى نارا فيعشو إليها يستضيء بها. قال الحطيئة [7]: [من الطويل]
[1] الثقل: المتاع وكل شيء مصون، وأراد به بيضها. الرثيد: المنضود بعضه فوق بعض. الكافر:
الليل لأنه يغطي بظلمته كل شيء.
[2] اللقن: الفهم، وغلام لقن: سريع الفهم.
[3] الرمث: شجر يشبه الغضى.
[4] الجزل: الحطب اليابس.
[5] العرفج: ضرب من النبات طيب الريح أغبر إلى الخضرة، وله زهرة صفراء وليس له حب ولا شوك.
[6] الضّرام: ما دقّ من الحطب ولم يكن جزلا.
[7] البيت للحطيئة في ديوانه 81، وإصلاح المنطق 198، والخزانة 3/ 74، 7/ 156، 9/ 92، 94، والكتاب 3/ 86، وشرح أبيات سيبويه 2/ 65، ومجالس ثعلب 467، والمقاصد النحوية 4/ 639، واللسان (عشا)، وبلا نسبة في الجمهرة 871، والخزانة 5/ 210، وشرح المفصل 2/ 66، 4/ 148، 7/ 45، 53، وشرح ابن عقيل، وشرح عمدة الحافظ 363، وعمدة الحفاظ 3/ 78 (عشو)، 4/ 67 (متي).(5/72)
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وقال الأعشى [1]: [من الطويل] وبات على النار الندى والمحلق
ويقال: عشي الرجل يعشى عشاوة، وهو رجل أعشى، وهو الذي لا بيبصر بالليل. وعشي الرجل على صاحبه يعشى عشا شديدا.
1324 [نار الحرب]
ويذكرون نارا أخرى، وهي على طريق المثل [والاستعارة] [2]، لا على طريق الحقيقة، كقولهم في نار الحرب. قال ابن ميّادة [3]: [من الطويل] يداه: يد تنهلّ بالخير والنّدا ... وأخرى شديد بالأعادي ضريرها [4] ... وناراه: نار نار كلّ مدّفع ... وأخرى يصيب المجرمين سعيرها [5]
وقال ابن كناسة: [من الخفيف] خلفها عارض يمدّ على الآ ... فاق ستريين من حديد ونار [6] ... نار حرب يشبّها الحدّ والج ... دّ وتعشي نوافذ الأبصار [7]
وقال الرّاعي: [من الطويل] وغارتنا أودتم ببهراء، إنها ... تصيب الصّريح مرّة والمواليا [8] ... وكانت لنا ناران: نار بجاسم ... ونار بدمخ يحرقان الأعاديا
[1] صدر البيت: (تشبّ لمقرورين يصطليانها)، وهو في ديوان الأعشى 275، وأساس البلاغة (رضع)، والخزانة 7/ 144، 155، 157، وشرح شواهد المغني 1/ 303، واللسان (حلق)، وبلا نسبة في الخزانة 9/ 119، وشرح شواهد المغني 1/ 416، ومغني اللبيب 1/ 101، 143.
[2] الزيادة من ثمار القلوب (825).
[3] ديوان ابن ميادة 129.
[4] التضرير: الشدة.
[5] الكل: اليتيم. المدفّع: الفقير الذليل.
[6] العارض: أراد به الجيش.
[7] الحد: الحدة والبأس. تعشي البصر: تضعفه. النوافذ: النافذات النظر.
[8] بهراء: اسم قبيلة. الصريح: الخالص النسب.(5/73)
جاسم: بالشام. ودمخ: جبل بالعالية [1].
1325 [نار القرى]
ونار أخرى [2]، وهي مذكورة على الحقيقة لا على المثل، وهي من أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي ترفع للسّفر، ولمن يلتمس القرى. فكلما كان موضعها أرفع كان أفخر.
وقال أميّة بن أبي الصّلت [3]: [من الخفيف] لا الغيابات منتواك ولكن ... في ذرى مشرف القصور ثواكا [4]
وقال الكناني [5]: [من المتقارب] وبوّأت بيتك في معلم ... رفيع المباءة والمسرح [6] ... كفيت العفاة طلاب القرى ... ونبح الكلاب لمستنبح [7] ... ترى دعس آثار تلك المط ... يّ أخاديد كاللّقم الأفيح [8] ... ولو كنت في نفق رائغ ... لكنت على الشّرك الأوضح [9]
وأنشدني أبو الزّبرقان [10]: [من الوافر]
[1] العالية: عالية نجد.
[2] الخبر في ثمار القلوب (824)، والخزانة 7/ 147، والأوائل 43.
[3] ديوان أمية بن أبي الصلت 428.
[4] في ديوانه: «الغيابات: مفردها غيابة، وهي ما انخفض من الأرض. المنتوى: الموضع يقصده القوم حين تحولهم من مكان إلى مكان. الثواء: الإقامة».
[5] الكناني: لعل الصواب «العماني»، فقد أنشد الأصفهاني في الأغاني 18/ 316بيتين على الوزن والروي نفسهما وهما:
نمته العرانين من هاشم ... إلى النسب الأوضح الأصرح ... إلى نبعة فرعها في السماء ... ومغرسها سرّة الأبطح
[6] المباءة: المنزل.
[7] العفاة: جمع عاف، وهو من يطلب المعروف. المستنبح: الذي يضل الطريق فينبح لترد عليه الكلاب بنباحها، فيستدل على أهل المنزل.
[8] اللقم: وسط الطريق. الأفيح: الواسع.
[9] الشرك: وسط الطريق.
[10] البيتان لأبي زياد الأعرابي في الحماسة المغربية 297، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1592، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 4/ 71، والخزانة 6/ 467، ومعاهد التنصيص 2/ 59، وشرح الشريشي 2/ 321، وبلا نسبة في ثمار القلوب (825).(5/74)
له نار تشبّ بكلّ ريع ... إذا الظلماء جلّلت البقاعا [1] ... وما إن كان أكثرهم سواما ... ولكن كان أرحبهم ذراعا [2]
ويروى: «ولم يك أكثر الفتيان مالا».
وفي نار القرى يقول الآخر: [من الطويل] على مثل همّام ولم أر مثله ... تبكّي البواكي أو لبشر بن عامر ... غلامان كان استوردا كلّ مورد ... من المجد ثمّ استوسعا في المصادر ... كأنّ سنا ناريهما كلّ شتوة ... سنا الفجر يبدو للعيون النّواظر
وفي ذلك يقول عوف بن الأحوص [3]: [من الطويل] ومستنبح يخشى القواء ودونه ... من اللّيل بابا ظلمة وستورها [4] ... رفعت له ناري فلمّا اهتدى بها ... زجرت كلابي أن يهرّ عقورها ... فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ... إذا ردّ عافي القدر من يستعيرها [5] ... ترى أنّ قدري لا تزال كأنّها ... لذي الفروة المقرور أمّ يزورها [6] ... مبرّزة لا يجعل السّتر دونها ... إذا أخمد النيران لاح بشيرها [7]
[1] الريع: المكان المرتفع. جللت: غطت.
[2] السوام: الإبل الراعية.
[3] الأبيات لعوف بن الأحوص أو لمضرس بن ربعي أو شبيب بن البرصاء في الحماسة البصرية 2/ 243242، وأشعار العامريين 49، ولشبيب بن البرصاء في الأغاني 12، 275، والبيتان الثالث والخامس للأعشى في ديوانه 371، والثالث لمضرس الأسدي في اللسان والتاج (عفا)، وللكميت في أساس البلاغة (عفو) وليس في ديوانه، وبلا نسبة في اللسان (فور)، وأساس البلاغة (زبن)، والمقاييس 4/ 57، والتهذيب 3/ 228، وعمدة الحفاظ (عفو)، وللمزيد من المصادر انظر الحماسة البصرية والمفضليات.
[4] في المفضليات: «المستنبح: الذي يضل الطريق فينبح لتجيبه الكلاب، فيستدل على الحي فيقصدهم. القواء: الخالي من الأرض، أي يخشى أن يهلك فيه».
[5] في المفضليات: «عافي القدر: قال الأصمعي: كانوا في الجدب إذا استعار أحدهم قدرا ردّ فيها شيئا من طبيخ، فالعافي: ما يبقونه فيها».
[6] في المفضليات: «ذو الفروة: السائل المستجدي، وفروته: جعبته التي يضع فيها ما يعطى.
المقرور: الذي اشتد به البرد».
[7] في المفضليات: «مبرزة: يعني النار. بشيرها: ضوؤها، يبشر الناظر إليه ويستدل به على الخير».(5/75)
إذا الشّول راحت ثمّ لم تفد لحمها ... بألبانها ذاق السّنان عقيرها [1]
1326 [ما قيل من الشعر في الماء]
أما إن ذكرنا جملة من القول في الماء من طريق الكلام وما يدخل في الطب، فسنذكر من ذلك جملة في باب آخر:
قالوا [2]: مدّ الشعبي يده وهو على مائدة قتيبة بن مسلم يلتمس الشراب، فلم يدر صاحب الشراب اللبن، أم العسل، أم بعض الأشربة؟ فقال له: أي الأشربة أحبّ إليك؟ قال: أعزّها مفقودا، وأهونها موجودا! قال قتيبة: اسقه ماء.
وكان أبو العتاهية في جماعة من الشعراء عند بعض الملوك، إذ شرب رجل منهم ماء، ثمّ قال: «برد الماء وطاب»! فقال أبو العتاهية: اجعله شعرا. ثمّ قال: من يجيز هذا البيت؟ فأطرق القوم مفكرين، فقال أبو العتاهية: سبحان الله! وما هذا الإطراق؟! ثمّ قال [3]: [من مجزوء الرمل] برد الماء وطابا ... حبّذا الماء شرابا
وقال الله عزّ وجلّ: {أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [4] ثمّ لم يذكره بأكثر من السلامة من التغيّر، إذ كان الماء متى كان خالصا سالما لم يحتج إلى أن يشرب بشيء غير ما في خلقته من الصّفاء والعذوبة، والبرد والطّيب، والحسن، والسّلس في الحلق. وقد قال عديّ بن زيد [5]: [من الرمل] لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري [6]
[1] في المفضليات: «الشول: الإبل التي شولت ألبانها، أي ارتفعت. راحت: رجعت من المرعى.
يقول: إذا راحت ولم يكن بها لبن عقرتها».
[2] الخبر باختصار في عيون الأخبار 2/ 200.
[3] الخبر مع البيت في ديوان أبي العتاهية 486، ومروج الذهب 4/ 175، وشذرات الذهب 2/ 25، والمثل السائر 1/ 176.
[4] 15/ محمد: 47، والآسن: المتغير.
[5] ديوان عدي بن زيد 93، والبيان 3/ 359، والأغاني 2/ 114، ومعجم الشعراء 81، واللسان والتاج (عصر، غصص، شرق)، وأساس البلاغة (عصر)، وعمدة الحفاظ 2/ 265 (شرق)، والخزانة 8/ 508، 11/ 15، 203، والعين 4/ 342، والجمهرة 731، والمقاييس 3/ 264، 4/ 383، والمقاصد النحوية 4/ 454، وبلا نسبة في الاشتقاق 269، والكتاب 3/ 121، ومغني اللبيب 1/ 268، وهمع الهوامع 2/ 66.
[6] في معجم الشعراء 81: «ينشد هذا البيت فيمن تستغيث به وتلجأ إليه»، الاعتصار: أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء، وهو أن يشربه قليلا قليلا.(5/76)
قال أبو المطراب عبيد بن أيّوب العنبريّ [1]: [من الطويل] وأوّل خبث الماء خبث ترابه ... وأوّل خبث النّجل خبث الحلائل [2]
وأوصى رجل من العرب ابنته ليلة زفافها بوصايا، فكان مما قال لها [3]:
«احذري مواقع أنفه، واغتسلي بالماء القراح [4]، حتى كأنك شنّ [5] ممطور!» وأوصت امرأة ابنتها بوصايا، فكان منها: «وليكن أطيب طيبك الماء».
وزعموا أنها القائلة لبنتها: [من الرجز] بنيّتي إن نام نامي قبله ... وأكرمي تابعه وأهله ... ولا تكوني في الخصام مثله ... فتخصميه فتكوني بعله [6]
ومن الأمثال: [من الطويل] فأصبحت مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها كالقابض الماء باليد
وأخذ المسيح عليه السّلام في يده اليمنى ماء، وفي يده اليسرى خبزا فقال:
«هذا أبي، وهذا أمّي»، فجعل الماء أبا، لأن الماء من الأرض يقوم مقام النطفة من المرأة.
وإذا طبخ الماء ثمّ برد لم تلقح عليه الأشجار، وكذلك قضبان الشجر.
والحبوب والبذور لو طبخت طبخة ثمّ بذرت لم تعلق.
وقالوا في النظر إلى الماء الدائم الجريان ما قالوا [7].
وجاء في الأثر: من كان به برص قديم فليأخذ درهما حلالا، فليشتر به عسلا، ثمّ يشربه بماء سماء، فإنه يبرأ بإذن الله.
[1] البيت في أشعار اللصوص 229.
[2] النجل: الولد. الحلائل: جمع حليلة، وهي الزوج.
[3] ورد القول للفرافصة بن الأحوص يوصي ابنته نائلة حين جهزها إلى عثمان بن عفان انظر الوصية في عيون الأخبار 4/ 76، والأغاني 16/ 323.
[4] القراح: الماء الخالص.
[5] الشن: القربة الخلق.
[6] خصمه: غلبه في الجدال.
[7] يقصد ما جاء في الأثر: «ثلاثة يذهبن الحزن: الماء، والخضرة، والوجه الحسن».(5/77)
والنزيف هو الماء عند العرب.
وما ظنّكم بشراب خبث وملح فصار ملحا زعاقا [1]، وبحرا أجاجا [2]، ولّد العنبر الورد [3]، وأنسل الدّرّ النفيس، فهل سمعت بنجل أكرم ممن نجله، ومن نتاج أشرف ممن نسله.
وما أحسن ما قال أبو عبّاد كاتب ابن أبي خالد حيث يقول [4]: «ما جلس بين يديّ رجل قط، إلا تمثّل لي أنني سأجلس بين يديه. وما سرّني دهر قطّ، إلا شغلني عنه تذكر ما يليق بالدهور من الغير».
قال الله عزّ وجلّ: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمََّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سََاقَيْهََا} [5]. لأن الزجاج أكثر ما يمدح به أن يقال: كأنه الماء في الفيافي.
وقال الله عزّ وجلّ: {هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ} [6].
وقال القطاميّ [7]: [من البسيط] وهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي
وقال الله عزّ وجلّ: {وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ} [8].
فيقال: إنه ليس شيء إلا وفيه ماء، أو قد أصابه ماء. أو خلق من ماء. والنّطفة ماء، والماء يسمى نطفة. وقال الله تعالى: {وَكََانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمََاءِ} [9]. قال ابن عباس: موج مكفوف.
وقال عزّ وجلّ: {وَنَزَّلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً مُبََارَكاً} [10].
[1] الزعاق: الشديد الملوحة.
[2] الأجاج: الشديد الملوحة.
[3] العنبر: ضرب من الطيب.
[4] الخبر في البيان 1/ 408.
[5] 44/ النمل: 27، والخطاب موجه إلى بلقيس، وكان سليمان قد بنى لها قصرا من الزجاج، ثمّ أرسل الماء تحته وألقى فيه السمك وغيره.
[6] 12/ فاطر: 35.
[7] ديوان القطامي 81، واللسان (صدى)، وأساس البلاغة (نبذ).
[8] 45/ النور: 24.
[9] 7/ هود: 11.
[10] 9/ ق: 50.(5/78)
وحين اجتهدوا في تسمية امرأة بالجمال. والبركة، والحسن. والصّفاء، والبياض قالوا: ماء السماء [1]. وقالوا: المنذر بن ماء السماء.
ويقال: صبغ له ماء، ولون له ماء، وفلان ليس في وجهه ماء، وردّني فلان ووجهي بمائه. قال الشاعر: [من الطويل] ماء الحياء يجول في وجناته
وقالت أمّ فروة [2] في صفة الماء: [من الطويل] وما ماء مزن أيّ ماء تقوله ... تحدّر من غرّ طوال الذّوائب ... بمنعرج أو بطن واد تحدّبت ... عليه رياح المزن من كلّ جانب ... نفى نسم الرّيح القذى عن متونه ... فما إن به عيب تراه لشارب ... بأطيب ممن يقصر الطّرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب
1327 [حب الحيوان لأنواع من الماء]
[3] والإبل لا تحبّ من الماء إلا الغليظ. والحوافر لا تحبّ العذوبة وتكره الماء الصافي، حتى ربّما ضرب الفرس بيده الشريعة ليثوّر الماء ثمّ يشربه.
والبقر تعاف الماء الكدر، ولا تشرب إلا الصافي.
والظباء تكرع في ماء البحر الأجاج، وتخضم الحنظل.
1328 [استطراد لغوي]
والأبيضان: الماء، واللبن. والأسودان: الماء، والتمر.
وسواد العراق: ماؤه الكثير. والماء إن كان له عمق اشتدّ سواده في العين.
1329 [شعر في صفة الماء]
وقال العكليّ في صفة الماء: [من الرجز]
[1] به لقبت أم المنذر بن امرئ القيس، واسمها ماوية بنت عوف بن جشم، وسميت بماء السماء تشبيها به في الحسن والصفاء والطهارة. وانظر ثمار القلوب 446 (808).
[2] الأبيات في الوحشيات 202، ومعجم الأدبيات الشواعر 312، وتقدمت الأبيات في 3/ 24، الفقرة (569).
[3] وردت هذه الفقرة في ربيع الأبرار 5/ 395.(5/79)
عاده من ذكر سلمى عوّده ... والليل داج مطلخمّ أسوده [1] ... فبتّ ليلي ساهرا ما أرقده ... حتى إذا الليل تولى كبده ... وانكبّ للغور انكبابا فرقده ... وحثّه حاد كميش يطرده [2] ... أغرّ أجلى مغرب مجرّده ... أصبح بالقلب جوى ما يبرده [3] ... ماء غمام في الرّصاف مقلده ... زلّ به عن رأس نيق صدده [4] ... عن ظهر صفوان مزلّ مجسده ... حتى إذا السّيل تناهى مدده [5] ... وشكّد الماء الذي يشكّده ... بين نعامى ودبور تلهده [6] ... كلّ نسيم من صبا تستورده ... كأنما يشهده أو يفقده ... فهو شفاء الصاد مما يعمده [7]
وقال آخر [8] في الماء: [من الكامل] يا كأس ما ثغب برأس شظيّة ... نزل أصاب عراصها شؤبوب [9]
[1] البيت مخروم، ويمكن إتمامه ب «قد عاده»، أو «عاوده». مطلخم: مظلم متراكب.
[2] الغور: الغروب. الفرقد أراد: الفرقدين، وهما كوكبان قريبان من القطب. الكميش: السريع الجاد في السوق. الحادي عنى به: الصبح.
[3] الأغر: الأبيض. الأجل: الحسن الوجه الذي انحسر الشعر عن جبهته. المغرب: الأبيض. المجرد:
ما جرد عنه الثياب من الجسد.
[4] الرّصافة: حجارة مرصوف بعضها إلى بعض في مسيل ماء. المقلد: المجمع. زلّ: سقط. النيق:
الحرف من حروف الجبل. الصدد: الناحية.
[5] الصفوان: الحجارة الصلدة الضخمة. المزل: موضع الزلل، أي السقوط. المجسد: أصله الثوب يلي الجسد.
[6] الشكد: العطاء، وأراد به: المدد الذي يتلقاه من السيل. النعامى: ريح الجنوب. الدبور: الريح الغربية. تلهد: تدفع دفعا شديدا.
[7] الصاد: الظمآن.
[8] الأبيات بلا نسبة وهي موزعة في المصادر التالية، والأول في كتاب الجيم 1/ 243، والثاني في اللسان (عقب)، ومعجم ما استعجم 155، والثالث في اللسان والتاج (لوب، دغش)، والتهذيب 16/ 163.
[9] كأس: وفي كتاب الجيم «ليل» وهما اسم من يشبب بها. الثغب: ماء مستنقع في صخرة.
الشظية: رأس من رؤوس الجبل. النزل: السريع السيل. العراص: جمع عرصة، هي الأرض الواسعة.
الشؤبوب: الدفعة من المطر.(5/80)
ضحيان شاهقة يرفّ بشامه ... نديان، يقصر دونه اليعقوب [1] ... بألذّ منك مذاقة لمحلّا ... عطشان داغش ثم عاد يلوب [2]
وقال جرير [3]: [من الكامل] لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة ... تدع الحوائم لا يجدن غليلا [4] ... بالعذب من رصف القلات مقيله ... قضّ الأباطح لا يزال ظليلا [5]
1330 [فضل الماء]
قال: وفي الماء أنّ أطيب شراب عمل وركّب، مثل السّكنجبين [6]، والجلّاب [7]، والبنفسج وغير ذلك مما يشرب من الأشربة، فإن لذّ وطاب، فإنّ تمام لذّته إن يجرع شاربه بعد شربه له جرعا من الماء، يغسل بها فمه، ويطيّب بها نفسه، وهو في هذا الموضع كالخلّة والحمض جميعا [8] وهو لتسويغ الطعام في المريء [9]، والمركب والمعبر، والمتوصّل به إلى الأعضاء.
فالماء يشرب صرفا وممزوجا، والأشربة لا تشرب صرفا، ولا ينتفع بها إلا بممازجة الماء.
[1] الضحيان: البارز للشمس. شاهقة: عالية. البشام: نبت طيب الريح والطعم. يرف: يهتز. نديان:
أصابه الندى.
[2] المحلا: الممنوع من الماء. داغش: من المداغشة، وهي أن يحوم حول الماء من العطش. يلوب:
يدور حول الماء.
[3] ديوان جرير 453 (الصاوي)، وهما لجرير أو لبيد في اللسان والتاج (وجد)، ولم يردا في ديوان لبيد، والأول لجرير في اللسان والتاج (نقع)، والمقاصد النحوية 4/ 591، ومغني اللبيب 1/ 272، وشرح شواهد الشافية 53، وللبيد في شرح شافية ابن الحاجب 1/ 32، وبلا نسبة في المنصف 1/ 187، وهمع الهوامع 2/ 66، وشرح المفصل 10/ 60، وسر صناعة الإعراب 2/ 596.
[4] في ديوان جرير: «النقع: الري. الحائم: الطالب للحاجة، وهو من يحوم حول الماء».
[5] في ديوان جرير: «القلات: جمع قلت وهي البئر في الصخرة من ماء السماء ولا مادة لها من الأرض. القض: الموضع الخصب، وهو أعذب ماء وأصفى».
[6] السكنجبين: معرب من الفارسية، وأصله فيها «سركنكبين»، و «سركا» تعني الخل، و «أنكبين» تعني العسل. انظر السامي في الأسامي 201، 204.
[7] الجلاب: ماء الورد.
[8] الخلة: ما فيه حلاوة من النبت، والحمض: ما فيه حموضة أو ملوحة.
[9] المريء: مجرى الطعام والشراب.(5/81)
وهو بعد طهور الأبدان، وغسول الأدران.
وقالوا: هو كالماء الذي يطهر كلّ شيء، ولا ينجّسه شيء.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في بئر رومة [1]: «الماء لا ينجّسه شيء».
ومنه ما يكون منه الملح، والبرد، والثّلج، فيجتمع الحسن في العين، والكرم في البياض والصفاء، وحسن الموقع في النفس.
وبالماء يكون القسم، كقول الشاعر: [من السريع] غضبى ولا والله يا أهلها ... لا أشرب البارد أو ترضى
ويقولون: لو علم فلان أنّ شرب البارد يضع من مروءته لما ذاقه.
وسمّى الله عز وجل أصل الماء غيثا بعد أن قال: {وَكََانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمََاءِ} [2].
ومن الماء ماء زمزم، وهو لما شرب له [3]. ومنه [ما] [4] يكون دواء وشفاء بنفسه، كالماء للحمّى.
1331 [علّة ذكر النار في كتاب الحيوان]
قد ذكرنا جملة من القول في النار، وإن كان ذلك لا يدخل في باب القول في أصناف الحيوان، فقد يرجع إليها من وجوه كريمة نافعة الذكر، باعثة على الفكر، وقد يعرض من القول ما عسى أن يكون أنفع لقارئ هذا الكتاب من باب القول في الفيل، والزّندبيل [5]، وفي القرد والخنزير، وفي الدّب والذئب، والضّبّ والضّبع، وفي السّمع والعسبار [6].
وعلى أن الحكمة ربما كانت في الذّبابة مع لطافة شخصها، ونذالة قدرها،
[1] رومة: أرض بالمدينة بين الجرف وزغابة نزلها المشركون عام الخندق وفيها بئر رومة، اسم بئر ابتاعها عثمان بن عفان وتصدق بها. معجم البلدان 3/ 104. والحديث التالي ورد في مسند أحمد 1/ 337برواية «إن الماء لا ينجس».
[2] 7/ هود: 11.
[3] أخرجه ابن ماجة في المناسك، باب رقم 78.
[4] زيادة يقتضيها المعنى.
[5] الزندبيل: كبير الفيلة. «حياة الحيوان 1/ 540».
[6] السمع: ولد الذئب من الضبع. «حياة الحيوان 1/ 564». العسبار: ولد الضبع من الذئب.
«حياة الحيوان 2/ 22».(5/82)
وخساسة حالها أظهر منها في الفرس الرّائع، وإن كان الفرس أنفع في باب الجهاد، وفي الجاموس مع عظم شخصه، وفي دودة القزّ، وفي العنكبوت أظهر منها في الليث الهصور، والعقاب الشّغواء [1].
وربما كان ذكر العظيم الجثة الوثيق البدن، الذي يجمع حدّة الناب وصولة الخلق أكثر فائدة، وأظهر حكمة من الصّغير الحقير، ومن القليل القميّ [2]. كالبعير والصّؤابة، والجاموس والثعلب والقملة.
وشأن الأرضة أعجب من شأن الببر [3] مع مسالمة الأسد له، ومحاربته للنمر.
وشأن الكركيّ [4] أعجب من شأن العندليب، فإن الكركيّ من أعظم الطّير، والعندليب أصغر من ابن تمرة [5].
ولذلك ذكر يونس بعض لاطة الرّواة فقال [6]: «يضرب ما بين الكركيّ إلى العندليب». يقول: لا يدع رجلا ولا صبيّا إلّا عفجه.
ويشبه ذلك هجاء خلف الأحمر أبا عبيدة، حيث يقول: [من السريع] ويضرب الكركي إلى القنبر ... لا عانسا يبقي ولا محتلم
والعانس من الرجال مثله من النساء.
فلسنا نطنب في ذكر العظيم الجثة لعظم جثّته، ولا نرغب عن ذكر الصّغير الجثة، لصغر جثّته، وإنما نلتمس ما كان أكثر أعجوبة، وأبلغ في الحكمة، وأدلّ عند العامة على حكمة الرّبّ. وعلى إنعام هذا السّيّد.
وربّ شيء الأعجوبة فيه إنما هي في صورته، وصنعته، وتركيب أعضائه، وتأليف أجزائه، كالطاووس في تعاريج ريشه، وتهاويل ألوانه، وكالزّرافة في عجيب
[1] الشغواء: العقاب سميت بذلك لفضل منقارها الأعلى على الأسفل. «حياة الحيوان 1/ 601».
[2] القمي: مخفف القميء، وهو الصغير الجسم.
[3] الببر: ضرب من السباع، شبيه بابن آوى، ويقال إنه متولد من الزبرقان واللبوة. «حياة الحيوان 1/ 159».
[4] الكركي: طائر كبير أغبر طويل الساقين. «حياة الحيوان 2/ 244».
[5] ابن تمرة: أصغر ما يكون من الطير، يجرس الزهر والشجر، كما تجرس النحل والدبر. «المخصص 8/ 165».
[6] في مجمع الأمثال 2/ 428: «يصيد ما بين الكركي إلى العندليب». وانظر كنايات الثعالبي 27.(5/83)
تركيبها، ومواضع أعضائها. والقول فيهما شبيه بالقول في التّدرج والنّعامة.
وقد يكون الحيوان عجيب صنعة البدن، ثم لا يذكر بعد حسن الخلق بخلق كريم، ولا حسّ ثاقب، ولا معرفة عجيبة، ولا صنعة لطيفة. ومنه ما يكون كالببغاء، والنحلة، والحمامة، والثعلب، والدّرّة [1]، ولا تكون الأعجوبة في تصويره، وتركيب أعضائه، وتنضيد ألوان ريشه في وزن تلك الأشياء التي ذكرناها، أو يكون العجب فيما أعطى في حنجرته من الأغاني العجيبة، والأصوات الشجيّة المطربة، والمخارج الحسنة مثل العجب فيما أعطي من الأخلاق الكريمة، أو في صنعة الكفّ اللطيفة، والهداية الغريبة، أو المرفق النافع، أو المضرّة التي تدعو إلى شدّة الاحتراس، ودقة الاحتيال، فيقدّم في الذكر لذلك.
1332 [العقعق]
وأيّ شيء أعجب من العقعق [2] وصدق حسّه، وشدّة حذره، وحسن معرفته، ثم ليس في الأرض طائر أشدّ تضييعا لبيضه وفراخه منه. والحبارى مع أنها أحمق الطير، تحوط بيضها أو فراخها أشدّ الحياطة [3]، وبأغمض معرفة، حتى قال عثمان بن عفان، رضي الله عنه: «كلّ شيء يحب ولده حتى الحبارى» [4]. يضرب بها المثل في الموق [5].
ثم العقعق مع حذقه بالاستلاب، وبسرعة الخطف، لا يستعمل ذلك إلا فيما لا ينتفع به، فكم من عقد ثمين خطير، ومن قرط شريف نفيس، قد اختطف من بين أيدي قوم، فإمّا رمى به بعد تحلّقه في الهواء، وإما أحرزه ولم يلتفت إليه أبدا.
وزعم الأصمعيّ أنّ عقعقا مرة استلب سخابا [6] كريما لقوم، فأخذ أهل السّخاب أعرابيّة كانت عندهم، فبينما هي تضرب، وتسحب وتسبّ إذ مرّ العقعق
[1] الدّرّة: الببغاء. «حياة الحيوان 1/ 478».
[2] العقعق: طائر على قدر الحمامة وعلى شكل الغراب. «حياة الحيوان 2/ 67».
[3] وردت هذه الفقرة من قوله «وأي شيء أعجب» في ثمار القلوب (701)، وربيع الأبرار 5/ 449.
[4] الحديث في النهاية 1/ 328، وهو من الأمثال في مجمع الأمثال 2/ 146، والمستقصى 2/ 227.
[5] الموق: حمق في غباوة.
[6] السخاب: القلادة، والخبر مع البيت التالي في ربيع الأبرار 5/ 449.(5/84)
والسّخاب في منقاره، فصاحوا به فرمى به، فقالت الأعرابية وتذكَّرت السلامة بعد أن كانت قد ابتليت ببليّة أخرى فقالت [1]: [من الطويل] ويوم السّخاب من تعاجيب ربّنا ... كما أنه من بلدة السّوء نجّاني
تعني الذين كانت نزلت بهم من أهل الحاضرة.
1333 [كلام في الاستطراد]
ولا بأس بذكر ما يعرض. ما لم يكن من الأبواب الطّوال. التي ليس فيها إلا المقاييس المجرّدة، والكلامية المحضة، فإن ذلك مما لا يخفّ سماعه ولا تهشّ النفوس لقراءته. وقد يحتمل ذلك صاحب الصناعة، وملتمس الثواب والحسبة [2]، إذا كان حليف فكر، أليف عبر، فمتى وجدنا من ذلك بابا يحتمل أن يوشّح بالأشعار الظريفة البليغة. والأخبار الطريفة العجيبة، تكلّفنا ذلك، ورأيناه أجمع لما ينتفع به القارئ.
ولذلك استجزنا أن نقول في باب النار ما قلنا.
وأنا كاتب لك بعد هذا إذ كنت قد أمللتك بالتطويل، وحملتك على أصعب المراكب، وأوعر الطّرق، إذ قد ذكرنا فيه جملة صالحة من كلام المتكلمين، ولا أرى أن أزيد في سآمتك، وأحمّلك استفراغ طاقتك، بأن أبتدئ القول في الإبل، والبقر، والغنم، والأسد، والذئاب، والحمير، والظباء، وأشباه ذلك، مما أنا كاتبه لك.
ولكني أبدأ بصغار الأبواب وقصارها، ومحقّراتها، وملاحها، لئلا تخرج من الباب الأول، إلا وأنت نشيط للباب الثاني، وكذلك الثالث والرابع إلى آخر ما أنا كاتبه لك، إن شاء الله.
1334 [سرد منهج سائر الكتاب]
ونبدأ بذكر ما في العصفور، ثم نأخذ في ذكر ما في الفأر والعقرب، والذي بينهما من العداوة، مع سائر خصالهما.
ثم القول في العقرب والخنفساء، وفي الصداقة بينهما، مع سائر خصالهما.
[1] البيت بلا نسبة في اللسان (سخب، وشح)، والتاج (سخب)، والتهذيب 7/ 187.
[2] الحسبة: الأجر والثواب.(5/85)
ثم القول في السّنّور، وبعض القول في العقرب.
ثم القول في البعوض والبراغيث، ثم القول في القمل والصّئبان. ثم القول في الورل والضّبّ. ثم القول في اليربوع والقنفذ. ثم القول في النسور والرّخم.
ثم القول في العقاب، وفي الأرنب. ثم القول في القردان والضفادع. ثم القول في الحبارى وما أشبه ذلك. وإن كنا قد استعملنا في هذا الكتاب جملا من أخبار ما سمينا بذلك.
وسنذكر قبل ذكرنا لهذا الباب أبوابا من الشعر طريفة، تصلح للمذاكرة، وتبعث على النشاط معه وتستخفّ معه قراءة ما طال من الكتب الطوال.
ولولا سوء ظني بمن يظهر التماس العلم في هذا الزمان، ويذكر اصطناع الكتب في هذا الدهر لما احتجت في مداراتهم واستمالتهم، وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم، مع كثرة فوائد هذا الكتاب إلى هذه الرياضة الطويلة، وإلى كثرة هذا الاعتذار، حتى كأنّ الذي أفيده إياهم أستفيده منهم، وحتى كأنّ رغبتي في صلاحهم، رغبة من يرغب في دنياهم، ويتضرّع إلى ما حوته أيديهم.
هذا. ولم أذكر لك من الأبواب الطوال شيئا، ولو قد صرت إلى ذكر فرق ما بين الجنّ والإنس، وفرق ما بين الملائكة والأنبياء، وفرق ما بين الأنثى والذكر، وفرق ما بينهما وبين ما ليس بأنثى ولا ذكر، حتى يمتدّ بنا القول في فضيلة الإنسان على جميع أصناف الحيوان، وفي ذكر الأمم والأعصار، وفي ذكر القسم والأعمار، وفي ذكر مقادير العقول والعلوم والصناعات. ثم القول في طباع الإنسان منذ كان نطفة إلى أن يفنيه الهرم، وكيف حقيقة ذلك الردّ إلى أرذل العمر، فإن مللت الكتاب واستثقلت القراءة، فأنت حينئذ أعذر، ولحظّ نفسك أبخس. وما عندي لك من الحيلة إلا أن أصوّره لك في أحسن صورة، وأقلّبك منه في الفنون المختلفة، فأجعلك لا تخرج من الاحتجاج بالقرآن الحكيم إلا إلى الحديث المأثور، ولا تخرج من الحديث إلا إلى الشّعر الصحيح، ولا تخرج من الشّعر الصحيح الظريف إلا إلى المثل السائر الواقع، ولا تخرج من المثل السائر الواقع إلا إلى القول في طرف الفلسفة، والغرائب التي صحّحتها التجربة، وأبرزها الامتحان، وكشف قناعها البرهان، والأعاجيب التي للنفوس بها كلف شديد وللعقول الصحيحة إليها النزاع القويّ.
ولذلك كتبته لك، وسقته إليك، واحتسبت الأجر فيك.
فانظر فيه نظر المنصف من الأكفاء والعلماء، أو نظر المسترشد من المتعلّمين والأتباع. فإن وجدت الكتاب الذي كتبته لك يخالف ما وصفت فانقصني من نشاطك له على قدر ما نقصتك مما ينشطك لقراءته، وإن أنت وجدتني إذا صحّ عقلك وإنصافك قد وفّيتك ما ضمنت لك فوجدت نشاطك بعد ذلك مدخولا، وحدّك مفلولا فاعلم أنا لم نؤت إلا من فسولتك [1]، ومن فساد طبعك، ومن إيثارك لما هو أضرّ بك.(5/86)
ولذلك كتبته لك، وسقته إليك، واحتسبت الأجر فيك.
فانظر فيه نظر المنصف من الأكفاء والعلماء، أو نظر المسترشد من المتعلّمين والأتباع. فإن وجدت الكتاب الذي كتبته لك يخالف ما وصفت فانقصني من نشاطك له على قدر ما نقصتك مما ينشطك لقراءته، وإن أنت وجدتني إذا صحّ عقلك وإنصافك قد وفّيتك ما ضمنت لك فوجدت نشاطك بعد ذلك مدخولا، وحدّك مفلولا فاعلم أنا لم نؤت إلا من فسولتك [1]، ومن فساد طبعك، ومن إيثارك لما هو أضرّ بك.
[1] الفسولة: النذالة.(5/87)
باب في مديح النصارى واليهود والمجوس والأنذال وصغار الناس
من ذلك ما هو مديح رغبة، ومنه ما هو إحماد [1].
أنشدنا أبو صالح مسعود بن قند الفزاريّ، في ناس خالطهم من اليهود: [من الوافر] وجدنا في اليهود رجال صدق ... على ما كان من دين يريب [2] ... لعمرك إنّني وابني عريض ... لمثل الماء خالطه الحليب ... خليلان اكتسبتهما وإني ... لخلّة ماجد أبدا كسوب
وقال أبو الطّمحان الأسديّ، وكان نديما لناس من بني الحدّاء وكانوا نصارى، فأحمد ندامهم فقال [3]: [من الطويل] كأن لم يكن في القصر مقاتل ... وزورة ظلّ ناعم وصديق [4] ... ولم أرد البطحاء أمزج ماءها ... بخمر من البرّوقتين عتيق [5] ... معي كلّ فضفاض القميص كأنه ... إذا ما جرى فيه المدام فنيق [6] ... بنو الصّلت والحدّاء كلّ سميدع ... له في العروق الصالحات عروق [7] ... وإني وإن كانوا نصارى أحبّهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق
[1] الإحماد: مصدر أحمده، أي وجده مستحقا للحمد.
[2] يريب: يحمل على الريب.
[3] الأبيات لطخيم بن أبي الطخماء الأسدي في الكامل للمبرد 1/ 26 (المعارف)، و 5857 (الدالي). ومعجم البلدان 3/ 157 (زورة). والبيتان الأول والثاني في معجم البلدان 1/ 405 (البرووقتان).
[4] زورة: هو زورة بن أبي أوفى: موضع بين الكوفة والشام، أو موضع بالكوفة. معجم البلدان 3/ 157.
[5] البطحاء: موضع بعينه قريب من ذي قار. معجم البلدان 1/ 446. البروقتان: موضع قرب الكوفة، معجم البلدان 1/ 405وفيه «برووقتان» بواوين.
[6] في الكامل «قوله: معي كل فضفاض القميص» يريد أن قميصه ذو فضول، وإنما يقصد إلى ما فيه من الخيلاء». الفنيق: الفحل المكرم من الإبل.
[7] السميدع: السيد الكريم السخي الموطأ الأكناف.(5/88)
وقال ابن عبدل، أو غيره، في مجوسيّ ساق عنه صداقا فقال [1]: [من المتقارب] شهدت عليك بطيب المشا ... ش وأنّك بحر جواد خضم [2] ... وإنك سيد أهل الجحيم ... إذا ما تردّيت فيمن ظلم ... نظيرا لهامان في قعرها ... وفرعون والمكتني بالحكم [3] ... كفاني المجوسيّ مهر الرّبا ... ب، فدى للمجوسيّ خالي وعم
فقال له المجوسيّ: جعلتني في النار؟ أما ترضى أن تكون مع من سمّيت؟ قال:
بلى. قال: فمن تعني بالحكم؟ قال: أبا جهل بن هشام.
وأنشدني أبو الرّديني العكليّ، لبعض العكليّين، وكان قين لهم أحدّ جلما [4] له، فقال يمدحه: [من الرجز] يا سود يا أكرم قين في مضر ... لك المساعي كلّها والمفتخر ... على قيون الناس، والوجه الأغر ... كان أبوك رجلا لا يقتسر [5] ... ثبتا إذا ما هو بالكير ازبأر ... زادك نفخا تلتظي منه سقر [6] ... حتى يطير حوله منها شرر ... قد عطف الكتيف حتى قد مهر [7] ... بالشّعب إن شاء وإن شاء سمر ... ما زال مذ كان غلاما يشتبر [8] ... له على العير إكاف وثفر ... والكلبتان والعلاة والوتر [9] ... فانظر ثوابي، والثّواب ينتظر ... في جلميّ والأحاديث عبر [10]
[1] الأبيات للأقيشر الأسدي في ديوانه 76، والأغاني 11/ 266، والخزانة 2/ 282، وبهجة المجالس 2/ 755، ونهاية الأرب 4/ 53، ومعاهد التنصيص 3/ 249، والبيتان (21) بلا نسبة في عيون الأخبار 2/ 196.
[2] طيب المشاش: طيب النفس. خضم: السيد المعطاء.
[3] هامان: وزير فرعون. أبو الحكم: كنية أبي جهل.
[4] الجلم: المقراض يجزّ به.
[5] يقتسر: يقهر ويغلب.
[6] الكير: الزق الذي ينفخ فيه الحداد. ازبأر: انتفش وتهيأ للعمل.
[7] الكتيف: حديدة طويلة عريضة.
[8] الشعب: الجمع والإصلاح. سمر الحديد ونحوه: شده بالمسمار. الشبر: الأجر والعطاء.
[9] العير: الحمار. الإكاف: برذعة الحمار. الثفر: سير في مؤخر السرج. الكلبتان: آلة للحداد يأخذ بها الحديد المحمى. العلاة: سندان الحداد يضرب عليها الحديد.
[10] الجلم: المغراض يجزّ به.(5/89)
باب من أراد أن يمدح فهجا
1335 [خطأ الأخطل]
قال سعيد بن سلم: لما قال الأخطل بالكوفة: أخطأ الفرزدق حين قال [1]: [من الكامل] أبني غدانة إنني حرّرتكم ... فوهبتكم لعطيّة بن جعال [2] ... لولا عطيّة لاجتدعت أنوفكم ... من بين ألأم أعين وسبال [3]
كيف يكون قد وهبهم له وهو يهجوهم بمثل هذا الهجاء؟! قال: فانبرى له فتى من بني تميم فقال له: وأنت الذي قلت في سويد بن منجوف [4]: [من الطويل] وما جذع سوء رقّق السّوس جوفه ... لما حمّلته وائل بمطيق
أردت هجاءه فزعمت أنّ وائلا تعصب به الحاجات، وقدر سويد لا يبلغ ذلك عندهم، فأعطيته الكثير ومنعته القليل [5]! وأردت أن تهجو حاتم بن النعمان الباهليّ، وأن تصغّر شأنه، وتضع منه، فقلت [6]: [من الوافر] وسوّد حاتما أن ليس فيها ... إذا ما أوقد النيران نار
فأعطيته السّودد من قيس ومنعته ما لا يضرّه [7].
[1] ديوان الفرزدق 726، والنقائض 276275.
[2] في النقائض: «قوله: حررتكم، يعني أعتقتكم وجعلتكم أحرارا. وعطية، كان خليلا للفرزدق، وهو من سادة بني غدانة».
[3] اجتدعت: قطعت. السبال: جمع سبلة وهي ما على الشارب من الشعر أو ما على الذقن إلى طرف اللحية.
[4] ديوان الأخطل 666، والأغاني 8/ 312، وطبقات ابن سلام 469، والموشح 135.
[5] في ديوان الأخطل 666: «قال سويد: لم تحسن أن تهجوني، إنما أنا سيّد بني سدوس، فجعلتني سيد وائل كلها»، وانظر الأغاني 8/ 312، وطبقات ابن سلام 471.
[6] ديوان الأخطل 475.
[7] في ديوانه: «هذا حاتم بن النعمان الباهلي، يقول: سوّده أنه ليس في قيس نار توقد لمكرمة ولا ضيفان، غير ناره».(5/90)
وأردت أن تمدح سماك بن زيد الأسدي فهجوته فقلت [1]: [من البسيط] نعم المجير سماك من بني أسد ... بالطّفّ إذ قتلت جيرانها مضر ... قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فاليوم طيّر عن أثوابه الشرر
وقلت [2] في زفر بن الحارث: [من البسيط] بني أميّة إني ناصح لكم ... فلا يبيتنّ فيكم آمنا زفر ... مفترشا كافتراش الليث كلكله ... لوقعة كائن فيها لكم جزر
فأردت أن تغري به بني أميّة فوهّنت أمرهم، وتركتهم ضعفاء ممتهنين، وأعطيت زفر عليهم من القوة ما لم يكن في حسابه.
1336 [أبو العطاف وعمرو بن هداب]
قال [3]: ورجع أبو العطاف من عند عمرو بن هدّاب، في يومين كانا لعمرو، وأبو العطّاف يضحك. فسئل عن ذلك فقال: أما أحد اليومين فإنّه جلس للشعراء، فكان أول من أنشده المديح فيه طريف بن سوادة، فما زال ينشده أرجوزة له طويلة، حتى انتهى إلى قوله: [من الرجز] أبرص فيّاض اليدين أكلف ... والبرص أندى باللهى وأعرف [4] ... مجلوّذ في الزّحفات مزحف [5]
المجلوّذ: السريع.
وكان عمرو أبرص فصاح به ناس: ما لك؟ قطع الله لسانك!. قال عمرو: مه، البرص من مفاخر العرب. أما سمعتم ابن حبناء يقول [6]: [من البسيط]
[1] ديوان الأخطل 673، 674، والأغاني 8/ 312، وطبقات ابن سلام 470، وبعد البيتين «يقال: إن سماكا قال للأخطل. ما تحسن أن تمدح، كان هذا كلاما يقال، فذهبت بمدحتي، فصيرتني قينا حقّا».
[2] ديوان الأخطل 203.
[3] الخبر مع الرجز في البرصان 3534، ومحاضرات الأدباء 2/ 133.
[4] اللهى: العطايا.
[5] المزحف: الكثير الزحف إلى العدو.
[6] البيتان في عيون الأخبار 4/ 64، وأمالي القالي 2/ 233، والسمط 716، والمؤتلف 105، والبرصان 25، والأغاني 13/ 91.(5/91)
إنّي امرؤ حنظليّ حين تنسبني ... لامل عتيك ولا أخوالي العوق ... لا تحسبنّ بياضا فيّ منقصة ... إنّ اللهاميم في أقرابها بلق
أو ما سمعتم قول الآخر [1]: [من الرجز] يا كأس لا تستنكري نحولي ... ووضحا أوفى على خصيلي [2] ... فإنّ نعت الفرس الرّجيل ... يكمل بالغرّة والتّحجيل [3]
أو ما سمعتم بقول أبي مسهر [4]: [من الطويل] يشتمني زيد بأن كنت أبرصا ... فكلّ كريم لا أبالك أبرص
ثم أقبل على الرّاجز فقال: ما تحفظ في هذا؟ قال: أحفظ والله قوله [5]: [من الرجز] يا أخت سعد لا تعرّي بالرّوق ... ليس يضرّ الطّرف توليع البلق [6] ... إذا جرى في حلبة الخيل سبق
ومحمد بن سلّام يزعم أنه لم ير سابقا قطّ أبلق ولا بلقاء [7].
وقد سبق للمأمون فرس، إمّا أبلق وإما بلقاء.
وأنشدني أبو نواس لبعض بني نهشل [8]: [من الرمل] نفرت سودة عنّي أن رأت ... صلع الرّأس وفي الجلد وضح [9]
[1] الرجز لمعاوية بن حزن بن موءلة في البرصان 21، وفي هامش معجم الشعراء 316، وبلا نسبة في عيون الأخبار 4/ 65.
[2] أوفى: ارتفع. الخصيل: جمع خصلة، وهي الشعر المجتمع.
[3] الرجيل، من الإبل والدواب: الصبور على طول المشي الذي لا يعرق. الغرة: البياض في وجه الفرس.
التحجيل: البياض في قوائمه.
[4] البيت في عيون الأخبار 4/ 64، والبرصان 35.
[5] الرجز للحارث بن حلزة في البرصان 24، وبلا نسبة في عيون الأخبار 4/ 65.
[6] عرّه: سبّه. الرّوق: الجمال المعجب. الطرف: الجواد الكريم العتيق. التوليع: التلميع من البرص.
البلق: استطالة البياض وتفرقه. والمعنى: لا يأسرك الجمال المعجب فإن الفرس الكريم لا يضره ما به من وضح إذا أتى يوم الحلبة سابقا.
[7] ورد القول في البرصان 24.
[8] الأبيات لسويد بن أبي كاهل في البرصان 32، ولبعض بني نهشل في عيون الأخبار 4/ 65، وربيع الأبرار 5/ 115، وحماسة البحتري 2/ 11.
[9] الوضح: البرص.(5/92)
قلت يا سودة، هذا والذي ... يفرج الكربة منّا والكلح ... هو زين لي في الوجه كما ... زيّن الطّرف تحاسين القرح [1]
وزعم أبو نواس أنهم كانوا يتبركون به، وأن جذيمة الوضّاح كان يفخر بذلك.
وزعم أصحابنا أن بلعاء بن قيس، لمّا شاع في جلده البرص قال له قائل: ما هذا يا بلعاء؟ فقال: «هذا سيف الله جلاه!». وكنانة تقول: «سيف الله حلّاه» [2].
ثم رجع الحديث إلى أبي العطّاف وضحكه. قال [3]: وأما اليوم الآخر فإنّ عمرا لمّا ذهب بصره، ودخل عليه الناس يعزّونه، دخل عليه إبراهيم بن جامع، وهو أبو عتّاب من آل أبي مصاد، وكان كالجمل المحجوم، فقام بين يدي عمرو فقال: يا أبا أسيّد لا تجزعنّ من ذهاب عينيك وإن كانتا كريمتيك فإنك لو رأيت ثوابهما في ميزانك تمنيت أن يكون الله عزّ وجلّ قد قطع يديك ورجليك، ودقّ ظهرك، وأدمى ضلعك.
قال: فصاح به القوم وضحك بعضهم. فقال عمرو: معناه صحيح، ونيته حسنة، وإن كان قد أخطأ في اللفظ [4].
1337 [بين الجاحظ وأبي عتاب]
وقلت لأبي عتّاب: بلغني أن عبد العزيز الغزّال قال: ليت أن الله لم يكن خلقني، وأني الساعة أعور. قال أبو عتّاب: بئس ما قال وددت والله أن الله لم يكن خلقني وأنّي الساعة أعمى مقطوع اليدين والرّجلين.
وأتى بعض الشعراء أبا الواسع وبنوه حوله، فاستعفاه أبو الواسع من إنشاد مديحه، فلم يزل به حتى أذن له. فلما انتهى إلى قوله: [من البسيط] فكيف تنفى وأنت اليوم رأسهم ... وحولك الغرّ من أبنائك الصّيد
قال أبو الواسع: ليتك تركتهم رأسا برأس!
[1] الطرف: الجواد الكريم العتيق. القرح: بياض يسير في وجه الفرس.
[2] انظر هذا القول في البرصان 32، والأغاني 13/ 91وعيون الأخبار 4/ 63، والمعارف 580، والكنايات للثعالبي 35، وربيع الأبرار 5/ 115.
[3] الخبر في البيان 2/ 318317، والبرصان 34، وعيون الأخبار 2/ 48، وربيع الأبرار 5/ 115.
[4] في البرصان 34: «فقال عمرو يرعى له حسن نيته ويلغى سوء لفظه».(5/93)
ومدح الممزّق أبو عباد بن الممزّق، بشر بن أبي عمرو وليس هو بشر بن أبي عمرو بن العلاء فقال [1]: [من الكامل] من كان يزعم أن بشرا ملصق ... فالله يجزيه وربّك أعلم [2] ... تنبيك قامته وقلّة لحمه ... وتشادق فيه ولون أسحم [3] ... إنّ الصّريح المحض فيه دلالة ... والعرق منكشف لمن يتوسّم [4] ... أما لسانك واحتباؤك في الملا ... فزرارة العدسيّ عندك أعجم [5] ... إني لأرجو أن يكون مقالهم ... زورا، وشانئك الحسود المرغم [6]
1338 [خطأ الكميت في المديح]
ومن المديح الخطإ الذي لم أر قطّ أعجب منه، قول الكميت بن زيد وهو يمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلو كان مديحه لبني أميّة لجاز أن يعيبهم بذلك بعض بني هاشم، أو لو مدح به بعض بني هاشم لجاز أن يعترض عليه بعض بني أميّة، أو لو مدح أبا بلال الخارجيّ لجاز أن تعيبه العامّة، أو لو مدح عمرو بن عبيد لجاز أن يعيبه المخالف، أو لو مدح المهلّب لجاز أن يعيبه أصحاب الأحنف.
فأما مديح النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمن هذا الذي يسوؤه ذلك حيث قال [7]: [من المنسرح] فاعتتب الشّوق من فؤادي والشع ... ر إلى من إليه معتتب [8] ... إلى السّراج المنير أحمد لا ... يعدلني رغبة ولا رهب [9]
[1] الأبيات للمازني في البيان 2/ 151، وفيه قبل إنشاد الأبيات «ومما قالوا في التشديق وفي ذكر الأشداق».
[2] الملصق: الدعي في القوم، وليس منهم بنسب.
[3] التشادق: من الشدق، وهو سعة الشدق.
[4] العرق: الأصل.
[5] الاحتباء: هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها.
[6] الشانئ: المبغض. المرغم: المقهور.
[7] الأبيات للكميت في شرح الهاشميات 5251، والبيان 2/ 239والعمدة 2/ 143.
[8] اعتتب: انصرف.
[9] لا يعدلني: لا يحولني.(5/94)
عنه إلى غيره، ولو رفع النا ... س إليّ العيون وارتقبوا [1] ... وقيل: أفرطت بل قصدت ولو ... عنّفني القائلون أو ثلبوا [2] ... إليك يا خير من تضمّنت الأرلجّ ... ض ولو عاب قولي العيب [3] ... بتفضيلك اللسان ولو ... أكثر فيك الضّجاج واللّجب [4] ... أنت المصفّى المحض المهذّب في ال ... نّسبة إن نصّ قومك النّسب
ولو كان لم يقل فيه عليه السّلام إلا مثل قوله [5]: [من الطويل] وبورك قبر أنت فيه وبوركت ... به، وله أهل بذلك يثرب ... لقد غيّبوا برّا وحزما ونائلا ... عشيّة واراك الصّفيح المنصّب [6]
فلو كان لم يمدحه عليه السّلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب لما كان ذلك بالمحمود، فكيف مع الذي حكينا قبل هذا؟!
1339 [غلط بعض الشعراء في المديح والفخر]
ومن الأشعار الغائظة لقبيلة الشاعر وهي الأشعار التي لو ظنّت الشعراء أن مضرّتها تعود بعشر ما عادت به، لكان الخرس أهون عليها من ذلك القول فمن ذلك قول لبيد بن ربيعة [7]: [من الكامل] أبني كلاب كيف تنفى جعفر ... وبنو ضبينة حاضرو الأجباب [8] ... قتلوا ابن عروة ثمّ لطّوا دونه ... حتى تحاكمتم إلى جوّاب [9] ... يرعون منخرق اللديد كأنهم ... في العزّ أسرة حاجب وشهاب [10]
[1] رفع الناس إلي العيون: أوعدوني. ارتقبوا: أي ارتقبوا لي الشر.
[2] أفرطت: تغاليت. قصدت: أي اعتدلت في محبتهم. ثلبوا: عابوا.
[3] العيب: العيابون.
[4] لجّ: تمادى. الضجاج والضجيج واحد: الصياح عند المكروه. اللجب: الصياح.
[5] البيتان في شرح هاشميات الكميت 3332، والبيان 2/ 240.
[6] واراك: سترك. الصفيح: الحجارة العريضة، جمع صفيحة. المنصب: يعني جحارة القبر.
[7] ديوان لبيد 2423، والنقائض 300.
[8] في ديوانه: «ضبينة: قبيلة. جب وأجباب: آبار. قال الأصمعي: بنو ضبينة حي الذين قتلوا عروة، وقد كانوا قتلوا ابن أخ لجوّاب، فقال جوّاب: لا أديه لأنهم قتلوا ابن أخي فيكون قتيل بقتيل».
[9] في ديوانه: «لطوا: ستروا هو يلط دون قدره أي يستر. جعلوا جوّاب حكما. عروة بن عتبة بن جعفر. جواب: رجل من بني أبي بكر بن كلاب».
[10] في ديوانه: «منخرق اللديد: حيث انخرق فمضى. واللديد: جانبا الوادي جميعا وجمعها(5/95)
متظاهر حلق الحديد عليهم ... كبني زرارة أو بني عتّاب [1] ... قوم لهم عرفت معدّ فضلها ... والحقّ يعرفه ذوو الألباب
ومن هذا الباب قول منظور بن زبّان بن سيّار بن عمرو بن جابر الفزاري، وهو أحد سادة غطفان: [من الطويل] فجاؤوا بجمع محزئلّ كأنهم ... بنو دارم إذا كان في الناس دارم [2]
وذلك أن تميما لما طال افتخار قيس عليها بأن شعراء تميم كانت تضرب المثل بقبائل قيس ورجالها، فغبرت تميم زمانا لا ترفع رؤوسها حتى أصابت هذين الشعرين من هذين الشّاعرين العظيمي القدر، فزال عنها الذّلّ وانتصفت، فلو علم هذان الشاعران الكريمان ماذا يصنعان بعشائرهما لكان الخرس أحبّ إليهما.
قال أبو عبيدة: ومن ذلك قول الحارث بن حلّزة، وأنشدها الملك [3] وكان به وضح [4] وأنشده من وراء ستر فبلغ من استحسانه القصيدة إلى أن أمر برفع السّتر.
ولكراهتهم لدنوّ الأبرص منهم قال لبيد بن ربيعة [5]، للنّعمان بن المنذر، في الربيع بن زياد: [من الرجز] مهلا أبيت اللّعن لا تأكل معه ... إنّ استه من برص ملمّعه [6] ... وإنه يدخل فيها إصبعه ... يدخلها حتى يواري أشجعه [7]
كأنما يطلب شيئا ضيّعه
ألدة. أسرة حاجب: قوم الرجل حاجب هذا الدارمي، وشهاب من بني يربوع فيهم العز فيقول كأنا مثلهم».
[1] لم يرد البيت في متن الديوان، واستدركه المحقق من النقائض في حاشية الصفحة 24من ديوانه.
حلق الحديد: ما تنسج منه الدروع. تظاهر: ركب بعضه بعضا وتضاعف.
[2] احزأل القوم: اجتمعوا. دارم: هم بنو دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة.
[3] الملك: هو عمرو بن هند، والقصيدة التي أنشدها هي معلقته. انظر البرصان 24.
[4] الوضح: البرص. وكان الحارث بن حلزة أبرص. انظر اللسان (برص) والبرصان 24.
[5] ديوان لبيد 343، والبرصان 57، وعيون الأخبار 4/ 65، ومجالس ثعلب 382، وشرح المفصل 2/ 98، ومجمع الأمثال 2/ 33، وأمالي المرتضى 2/ 36، والبيتان (43) في اللسان والتاج (شجع)، وبلا نسبة في المخصص 2/ 6.
[6] في دوان لبيد: «الملمع: الذي يكون في جسده بقع تخالف سائر لونه».
[7] في ديوان لبيد: «الأشجع: أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف».(5/96)
قال ابن الأعرابيّ: فلما أنشد الملك لبيد في الربيع بن زياد ما أنشد قال الربيع:
أبيت اللّعن، والله لقد نكت أمّه، قال: فقال لبيد: قد كانت لعمري يتيمة في حجرك، وأنت ربيتها، فهذا بذاك، وإلا تكن فعلت ما قلت فما أولاك بالكذب! وإن كانت هي الفاعلة فإنها من نسوة لذلك فعل. يعني بذلك أنّ نساء عبس فواجر، لأن أمه كانت عبسيّة.
والعربيّ يعاف الشيء ويهجو به غيره، فإن ابتلي بذلك فخر به. ولكنه لا يفخر به لنفسه من جهة ما هجا به صاحبه. فافهم هذه فإن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم قد يمدحون الشيء الذي قد يهجون به. وهذا باطل، فإنه ليس شيء إلا وله وجهان وطرفان وطريقان.
فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين، وإذا ذمّوا ذكروا أقبح الوجهين.
والحارث بن حلّزة فخر ببكر بن وائل على تغلب، ثم عاتبهم عتابا دلّ على أنهم لا ينتصفون منهم، فقال [1]: [من الخفيف] وأتانا عن الأراقم أنبا ... ء وخطب نعنى به ونساء [2] ... يخلطون البريء منا بذي الذّن ... ب ولا ينفع الخليّ الخلاء ... زعموا أن كلّ من ضرب العي ... ر موال لنا وأنّا الولاء [3] ... إنّ إخواننا الأراقم يغلو ... ن علينا في قولهم إحفاء [4]
ثم قال:
واتركوا الطّيخ والتّعاشي وإمّا ... تتعاشوا ففي التعاشي الدّاء [5] ... واذكروا حلف ذي المجاز وما ق ... دّم فيه، العهود والكفلاء [6] ... حذر الجور والتّعدّي وهل ين ... قض ما في المهارق الأهواء [7]
[1] الأبيات من معلقته في شرح القصائد العشر 379، وشرح القصائد السبع 449.
[2] الأراقم: أحياء من بني تغلب وبكر بن وائل.
[3] العير: الوتد، أي كل من يضرب وتدا ألزمونا ذنبه.
[4] الغل: تجاوز الحد. الإحفاء: الاستقصاء، أو هو من أحفيت الدابة: إذا كلفتها ما لا تطيق حتى تحفى.
[5] الطيخ: الكبرة والعظمة. التعاشي: التعامي والتجاهل.
[6] ذو المجاز: موضع جمع فيه عمر بن هند بكرا وتغلب، وأصلح بينهما، وأخذ منهما الوثائق والرهون.
[7] المهارق: جمع مهرق وهو الصحيفة.(5/97)
واعلموا أننا وإياكم في ... ما اشترطنا يوم اختلفنا سواء ... أم علينا جناح كندة أن يغ ... نم غازيهم ومنّا الجزاء [1] ... أم علينا جرّا حنيفة أم ما ... جمّعت من محارب غبراء [2] ... أم علينا جرّا قضاعة أم لي ... س علينا فيما جنوا أنداء [3] ... ليس منّا المضرّبون، ولا قي ... س، ولا جندل، ولا الحدّاء [4] ... أم جنايا بني عتيق فمن يغ ... در فإنا من غدرهم برآء ... عننا باطلا وظلما كما تع ... تر عن حجرة الرّبيض الظّباء [5]
ومن المديح الذي يقبح، قول أبي الحلال في مرثية يزيد بن معاوية، حيث يقول: [من الرجز] يا أيّها الميت بحوّارينا ... إنّك خير الناس أجمعينا [6]
وقال الآخر: [من الرجز] مدحت خير العالمين عنقشا ... يشبّ زهراء تقود الأعمشا [7]
وقال الآخر: [من الرجز] إنّ الذي أمسى يسمّى كوزا ... اسما نبيها لم يكن تنبيزا [8] ... لما ابتدرنا القصب المركوزا ... وجدتني ذا وثبة أبوزا [9]
[1] الجناح: الإثم.
[2] الجرّا والجراء: الجناية. الغبراء: الصعاليك والفقراء.
[3] الأنداء: جمع ندى وهو ما يصيب الإنسان.
[4] المضربون: قوم من بني تغلب ضربوا بالسيف. الحداء: قبيلة من ربيعة.
[5] العنن: الاعتراض. تعتر: تذبح. الحجرة: الموضع الذي يكون فيه الغنم. الربيض: جماعة الشاء.
وكان الرجل ينذر إن بلغ الله غنمه مائة ذبح منها واحدة للأصنام، ثم ربما ضنت نفسه بها فأخذ ظبيا وذبحه مكان الشاة الواجبة عليه.
[6] حوارين: حصن من ناحية حمص، وقيل هي التي تدعى القريتين، وهي من تدمر على مرحلتين، وبها مات يزيد بن معاوية. انظر معجم البلدان 2/ 316 (حوارين)، 4/ 335 (القريتان).
[7] عنقش: اسم من أسمائهم. الزهراء: المضيئة، أراد بها النار، أي إن هذه النار يهتدي بها الأعمش فكيف بغير الأعمش.
[8] التنبيز: التلقيب.
[9] القصب: أراد به الرماح. المركوز: المغروز في الأرض ونحوها. الأبوز: الذي يأبز في عدوه، أي يقفز.(5/98)
ودخل بعض أغثاث [1] شعراء البصريين على رجل من أشراف الوجوه يقال في نسبه [2]، فقال: إني مدحتك بشعر لم تمدح قطّ بشعر هو أنفع لك منه. قال: ما أحوجني إلى المنفعة، ولا سيّما كلّ شيء منه يخلد على الأيام، فهات ما عندك فقال: [من السريع] سألت عن أصلك فيما مضى ... أبناء تسعين وقد نيّفوا [3] ... فكلّهم يخبرني أنه ... مهذّب جوهره يعرف
فقال له: قم في لعنة الله وسخطه! فلعنك الله ولعن من سألت ولعن من أجابك!!
باب في السّخف والباطل
باب
1340 [في السّخف والباطل]
وسنذكر لك بابا من السّخف، وما نتسخّف به لك، إذ كان الحق يثقل ولا يخفّ إلا ببعض الباطل.
أنشدنا أبو نواس في التدليك: [من الرجز] إن تبخلي بالرّكب المحلوق ... فإنّ عندي راحتي وريقي
وهذا الشعر مما يقال إن أبا نواس ولّده.
ومما يظنّ أنه ولّده قوله: [من الرجز] لم أر كاللّيلة في التوفيق ... حرا على قارعة الطريق ... كأنّ فيه لهب الحريق
وأنشدني ابن الخاركي لبعض الأعرب في التدليك: [من الرجز] لا بارك الإله في الأحراح ... فإن فيها عدم اللّقاح ... لا خير في السفاح واللّقاح ... إلا مناجاة بطون الرّاح
[1] أغثاث: جمع غث وهو الرديء السيئ الخلق، والخبر مع الشعر في عيون الأخبار 2/ 53.
[2] أي يطعن في نسبه.
[3] في عيون الأخبار «أبناء سبعين».(5/99)
وأنشدني محمد بن عبّاد: [من الرجز] تسألني ما عتدي وعن ددي ... فإنني يا بنت آل مرثد [1] ... راحلتي رجلاي وامراتي يدي
وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المدنيّين: [من المنسرح] أصفي هوى النفس، غير متّئب ... حليلة لا تسومني نفقه [2] ... تكون عوني على الزمان لل ... كسب، إذا ما أخفقت، مرتفقه [3]
وشعر في ذلك سمعناه على وجه الدهر، وهو قوله [4]: [من البسيط] إذا نزلت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا عار ولا حرج
وأنشدنا أبو خالد النّميريّ [5]: [من البسيط] لو أنها رخصة قضّيت من وطري ... لكنّ جلدتها تربي على السّفن [6] ... أشكو إلى الله نعظا قد بليت به ... وما ألاقي من الإملاق والحزن [7]
وقال الذّكوانيّ يردّ على الأول قوله: [من البسيط] جلدي عميرة فيه العار والحوب ... والعجز مطّرح والفحش مسبوب [8] ... وبالعراق نساء كالمها قطف ... بأرخص السّوم خدلات مناجيب [9] ... وما عميرة من ثدياء حالية ... كالعاج صفّرها الأكنان والطّيب [10]
قال: مثل هذا الشعر كمثل رجل قيل له: أبوك ذاك الذي مات جوعا؟ قال:
فوجد شيئا فلم يأكله؟!
[1] العتد: الفرس التام الخلق السريع الوثبة. الدد: اللهو واللعب.
[2] أتّأب الرجل: استحيا. الحلية: عنى بها كفه. تسومني: تكلفني.
[3] مرتفقة: منتفعة.
[4] البيت في محاضرات الأدباء 2/ 115 (3/ 256).
[5] البيتان لأبي حية النميري في ديوانه 195، والسمط 670.
[6] في ديوانه: «رخصة: ناعمة أي يده. السفن: قطعة خشناء من جلد ضب أو جلد سمكة يسحج بها القدح حتى تذهب عنه آثار المبراة».
[7] الإملاق: الفقر والحاجة.
[8] الحوب: الهلاك. مسبوب: مقطوع.
[9] قطف جمع قطوف، وهي الضيقة المشي البطيئة. خدلات: ممتلئات الأعضاء. المناجيب: جمع منجاب، وهي التي تلد النجباء.
[10] الثدياء: العظيمة الثدي. حالية: عليها الحلي. الأكنان: جمع كن، وهو البيت.(5/100)
وقال الحرامي: [من الوافر] عيال عالة وكساد سوق ... وأير لا ينام ولا ينيم
باب مما قالوا في السرّ
قال ابن ميّادة [1]: [من الطويل] أتظهر ما في الصّدر أم أنت كاتمه ... وكتمانه داء لمن هو كاتمه ... وإضماره في الصدر داء وعلّة ... وإظهاره شنع لمن هو عالمه
وتقول العرب: «من ارتاد لسرّه [موضعا] [2] فقد أشاعه».
وأرى الأول قد أذن في واحد [3] وهو قوله [4]: [من المتقارب] وسرّك ما كان عند امرئ ... وسرّ الثلاثة غير الخفي
وقال الآخر [5] فيما يوافق فيه المثل الأول: [من المتقارب] فلا تفش سرّك إلا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا ... فإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا
وقال مسكين الدّارميّ [6]: [من الطويل] إذا ما خليلي خانني وائتمنته ... فذاك وداعيه وذاك وداعها
[1] ديوان ابن ميادة 224.
[2] ورد القول في عيون الأخبار، وكلمة «موضعا» زيادة منه.
[3] في واحد: يعني إفشاء السر إلى واحد.
[4] البيت للصلتان العبدي في عيون الأخبار 1/ 39، وعجزه في محارضات الأدباء 1/ 59 (125).
وتقدم في 3/ 230.
[5] البيت لأنس بن أسيد في أدب الدنيا والدين للماوردي 279، ويعزى إلى علي بن أبي طالب أو لغيره في الكامل 2/ 17 (المعارف)، وعيون الأخبار 1/ 39، وبلا نسبة في محاضرات الأدباء 1/ 59 (1/ 125)، ورسائل الجاحظ 1/ 146، 2/ 155.
[6] ديوان مسكين الدارمي 52، والحماسة البصرية 2/ 35، ورسائل الجاحظ 1/ 152، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 1116، وعيون الأخبار 1/ 39، وأمالي القالي 2/ 176، وأمالي المرتضى 2/ 62.(5/101)
رددت عليه ودّه وتركتها ... مطلّقة لا يستطاع رجاعها ... وإني امرؤ مني الحياء الذي ترى ... أعيش بأخلاق قليل خداعها ... أواخي رجالا لست أطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أني جماعها ... يظلّون شتّى في البلاد، وسرّهم ... إلى صخرة أعيا الرّجال انصداعها
وقال أبو محجن الثّقفي [1]: [من البسيط] وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وأكتم السّرّ فيه ضربة العنق [2]
وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه [3]: «من كتم سرّه كان الخيار في يده».
وقال بعض الحكماء: «لا تطلع واحدا من سرّك، إلا بقدر ما لا تجد فيه بدّا من معاونتك».
وقال آخر [4]: «إنّ سرّك من دمك، فانظر أين تريقه!».
وقال الشاعر [5]: [من البسيط] ولو قدرت على نسيان ما اشتملت ... مني الضلوع من الأسرار والخبر ... لكنت أوّل من بنسى سرائره ... إذ كنت من نشرها يوما على خطر
وقال الآخر: [من الرمل] فإذا استودعت سرّا أحدا ... فقد استودعت بالسرّ دمك
وقال قيس بن الخطيم [6]: [من الطويل] وإن ضيّع الإخوان سرّا فإنني ... كتوم لأسرار العشير أمين ... يكون له عندي إذا ما ائتمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين
[1] البيت لأبي محجن الثقفي في اللسان والتاج (فنأ، فجر، فنع)، والمخصص 12/ 280، وهو في ديوانه 19، 21، والرواية فيه:
وأكشف المأزق المكروب غمّته ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق ... وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وقد أكرّ وراء المجحر البرق.
[2] في ديوانه: «ذو فنع: ذو كثرة. وأصل الفنع: الحسن».
[3] نسبه البيهقي للرسول صلّى الله عليه وسلّم في المحاسن والمساوئ 2/ 57ضمن حديث طويل، وورد القول لعتبة ابن أبي سفيان في عيون الأخبار 1/ 41، والعقد الفريد 1/ 35، ولعنبسه بن أبي سفيان في الفاضل للمبرد 101، ونهاية الأرب 6/ 82.
[4] ورد القول منسوبا إلى المنصور في المحاسن والمساوئ 2/ 56، والعقد الفريد 1/ 35.
[5] البيتان بلا نسبة في لباب الآداب 241، وعيون الأخبار 1/ 39، وأدب الدنيا والدين للماوردي 281.
[6] ديوان قيس بن الخطيم 163، وأمالي القالي 2/ 77، والفاضل 102، والمقاصد النحوية 4/ 566.(5/102)
وقيل لمزبّد: يا مزبّد، ما هذا الذي تحت حضنك؟ فقال: يا أحمق، فلم خبأته [1]؟! وقال أبو الشّيص: [من الطويل] ضع السرّ في صمّاء ليست بصخرة ... صلود كما عاينت من سائر الصّخر ... ولكنها قلب امرئ ذي حفيظة ... يرى ضيعة الأسرار هترا من الهتر [2] ... يموت وما ماتت كرائم فعله ... ويبلى وما يبلى نثاه على الدّهر [3]
وقال سحيم الفقعسيّ، في نشر ما يودع من السّرّ [4]: [من الطويل] ولا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي ... وإن قليل العقل من باب ليله ... تقلّبه الأسرار جنبا إلى جنب
وقال الفرّار السّلميّ وهذا الشعر في طريق شعر سحيم، وإن لم يكن في معنى السرّ وهو قوله [5]: [من الكامل] وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت بها يدي ... وتركتهم تقص الرّماح ظهورهم ... من بين منجدل وآخر مسند [6] ... ما كان ينفعني مقال نسائهم ... وقتلت دون رجالهم: لا تبعد
1341 [تخاذل أسلم بن زرعة]
وقيل لأسلم بن زرعة إنك إن انهزمت من أصحاب مرداس بن أديّة غضب عليك الأمير عبيد الله بن زياد قال: يغضب عليّ وأنا حيّ أحبّ إليّ من أن يرضى عني وأنا ميّت.
[1] ورد الخبر في عيون الأخبار 1/ 39.
[2] الهتر بالفتح: مزق العرق، وبالضم: ذهاب العقل من بر أو مرض، وبالكسر: الباطل والخطأ في الكلام.
[3] النثا: ما أخبرت به الرجل من حسن أو سيئ.
[4] البيتان بلا نسبة في الحماسة المغربية 1292، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1850، وللتبريزي 4/ 167، وعيون الأخبار 1/ 41.
[5] الأبيات في الحماسة البصرية 1/ 28، ومحاضرات الأدباء (3/ 186)، وعيون الأخبار 1/ 164.
[6] تقص: تكسر. المنجدل: المصروع الملقى على الجدالة، وهي الأرض. المسند: الذي أسند إلى ما يمسكه وبه رمق.(5/103)
قال: وولي دستبى [1] فخرج إليها في أصحابه، فلما شارفها عرضت له الخوارج، وكان أكثر منهم عددا وعدّة، فقال: والله لأصافّنّهم، ولأعبّينّ أصحابي فلعلهم إذا رأوا كثرتهم انصرفوا، ولا أزال بذلك قويّا في عملي هذا. فلما رأت الخوارج كثرة القوم نزلوا عن خيولهم فعرقبوها [2] وقطّعوا أجفان سيوفهم، ونبذوا كل دقيق كان معهم، وصبّوا أسقيتهم. فلما رأى ذلك رأى الموت الأحمر. فأقبل عليهم فقال: عرقبتم دوابّكم وقطّعتم أجفان سيوفكم، ونبذتم دقيقكم؟ خار الله لنا ولكم! ثم ضرب وجوه أصحابه وانصرف عنهم.
1342 [ضيق صدر النظّام بحمل السرّ]
وكان أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام. أضيق الناس صدرا بحمل سرّ وكان شرّ ما يكون إذا يؤكّد عليه صاحب السر وكان إذا لم يؤكّد عليه ربما نسي القصّة، فيسلم صاحب السرّ.
وقال له مرة قاسم التمّار: سبحان الله ما في الأرض أعجب منك، أودعتك سرّا فلم تصبر عن نشره يوما واحدا، والله لأشكونّك للناس! فقال: يا هؤلاء، سلوه نممت عليه مرة واحدة، أو مرتين، أو ثلاثا، أو أربعا، فلمن الذنب الآن؟
فلم يرض بأن يشاركه في الذّنب، حتى صيّر الذّنب كله لصاحب السرّ.
1343 [شعر في حفظ السرّ]
وقال بعض الشعراء [3]: [من المتقارب] ختمت الفؤاد على سرّها ... كذاك الصحيفة بالخاتم ... هوى بي إلى حبّها نظرة ... هويّ الفراشة للجاحم [4]
وقال البعيث [5]: [من الطويل] فإن تك ليلى حمّلتني لبانة ... فلا وأبي ليلى إذا لا أخونها [6]
[1] دستبى: كورة كبيرة كانت مقسومة بين الري وهمذان. معجم البلدان 2/ 454.
[2] عرقبوها: حزوا عراقيبها بالسيوف. وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها.
[3] البيتان بلا نسبة في ثمار القلوب 399 (730)، وتقدما في 3/ 188، 189.
[4] الجاحم: النار العظيمة في مهواة.
[5] البيت الأول لمجنون ليلى في ديوانه 268، وبلا نسبة في أمالي القالي 1/ 71.
[6] اللبانة: الحاجة.(5/104)
حفظت لها السرّ الذي كان بيننا ... ولا يحفظ الأسرار إلا أمينها
وقال رجل من بني سعد [1]: [من الوافر] إذا ما ضاق صدرك عن حديث ... فأفشته الرجال فمن تلوم ... إذا عاتبت من أفشى حديثي ... وسرّي عنده فأنا الظلوم ... وإني حين أسأم حمل سرّي ... وقد ضمّنته صدري سؤوم ... ولست محدّثا سرّي خليلا ... ولا عرسي، إذا خطرت هموم ... وأطوي السرّ دون الناس، إني ... لما استودعت من سرّ كتوم
1344 [حال من يودع سره الصبيان]
قال: وقيل لشيخ: ويحك هاهنا ناس يسرق أحدهم خمسين سنة، ويزني خمسين سنة، ويصنع العظائم خمسين سنة، وهو في ذلك كله مستور جميل الأمر، وأنت إنما لطت منذ خمسة أشهر، وقد شهرت به في الآفاق! قال: بأبي أنت. ومن يكون سرّه عند الصّبيان أيّ شيء تكون حاله!
1345 [وصية العباس لابنه في حفظ السر]
أبو الحسن، عن محمد بن القاسم الهاشمي قال: قال العباس بن عبد المطلب لعبد الله ابنه: «يا بنيّ أنت أعلم منّي، وأنا أفقه منك، إن هذا الرجل يدنيك يعني عمر بن الخطاب فاحفظ عني ثلاثا: لا تفش له سرّا، ولا تغتابنّ عنده أحدا، ولا يطّلعنّ منك على كذبة».
باب في ذكر المنى
قال [2]: سئل ابن أبي بكرة: أيّ شيء أدوم إمتاعا؟ قال: المنى.
قال [3]: وقال يزيد بن معاوية على منبره: ثلاث يخلقن العقل، وفيها دليل على الضّعف: سرعة الجواب، وطول التمنّي، والاستغراق في الضّحك!
[1] الأبيات لرجل من بني عبد شمس بن سعد في لباب الآداب 243، بلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 39.
[2] الخبر في عيون الأخبار 1/ 261، ومحاضرات الأدباء 1/ 216 (2/ 454).
[3] الخبر في عيون الأخبار 1/ 261260.(5/105)
وقال عباية الجعفي: ما سرّني بنصيبي من المنى حمر النّعم! وقال الأصمعي: قال ابن أبي الزّناد: المنى والحلم أخوان [1].
وقال معمّر بن عبّاد: «الأماني للنّفس، مثل التّرّهات [2] للّسان».
وقال الشاعر: [من البسيط] الله أصدق والآمال كاذبة ... وجلّ هذي المنى في الصّدر وسواس
وقال الآخر [3]: [من البسيط] إذا تمنّيت مالا بتّ مغتبطا ... إنّ المنى روس أموال المفاليس ... لولا المنى متّ من همّ ومن حزن ... إذا تذكرت ما في داخل الكيس
وقال بعض الأعراب [4]: [من الطويل] منى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى ... وإلّا فقد عشنا به زمنا رغدا ... أمانيّ من سلمى حسان كأنما ... سقتني بها سلمى على ظما بردا
وقال بشار [5]: [من الطويل] كررنا أحاديث الزمان الذي مضى ... فلذّ لنا محمودها وذميمها
وروى الأصمعيّ عن بعضهم أنه قال: الاحتلام أطيب من الغشيان، وتمنّيك للشيء أوفر حظا في اللّذة من قدرتك عليه.
قال: كأنه ذهب إلى أنه إذا ملك وجبت عليه في ذلك الملك حقوق، وخاف الزوال واحتاج إلى الحفظ.
[1] الخبر بلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 261، ومحاضرات الأدباء 1/ 216 (2/ 454).
[2] الترهات: الأباطيل.
[3] البيت الأول بلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 261، وعجزه في محاضرات الأدباء 1/ 217، وهذا المعنى أخذه الخالدي فقال:
ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رؤوس أموال المفاليس
وهذا البيت في تزيين الأسواق 456، ويتيمة الدهر 2/ 192.
[4] البيتان في ذيل الأمالي 102، وعيون الأخبار 1/ 261، ومحاضرات الأدباء 1/ 216 (2/ 454)، وشرح عمدة الحفاظ 368.
[5] البيت في عيون الأخبار 1/ 261.(5/106)
وقال: وفي الحديث المأثور: «ما عظمت نعمة الله على أحد إلّا عظمت مؤونة الناس عليه».
قال: وقيل لمزبّد: أيسرّك أن عندك قنّينة شراب؟ قال: يا ابن أمّ، من يسرّه دخول النار بالمجاز؟! قال: وقدّموا إلى أبي الحارث جمّيز جام خبيص [1] وقالوا له: أهذا أطيب أم الفالوذج [2]؟ قال: لا أقضي على غائب! قال: وقال مدينيّ لرجل: أيسرّك أن هذه الدار لك؟ قال: نعم. قال: وليس إلا نعم فقط؟ قال: فما أقول؟ قال: تقول: نعم، وأحمّ [3] سنة! قال: نعم، وأنا أعور.
قال [4]: وقيل لمزبّد: أيسرّك أن هذه الجبّة لك؟ قال: نعم، وأضرب عشرين سوطا. قال: ولم تقول هذا؟ قال: لأنه لا يكون شيء إلا بشيء.
قال [5]: وقال عبد الرحمن بن أبي بكرة: من تمنّى طول العمر فليوطّن نفسه على المصائب.
يقول: إنه لا يخلو من موت أخ، أو عمّ، أو ابن عمّ، أو صديق، أو حميم وقال المجنون [6]: [من الطويل] أيا حرجات الحيّ حيث تحمّلوا ... بذي سلم لاجادكنّ ربيع [7] ... وخيماتك اللاتي بمنعرج اللّوى ... بلين بلى لم تبلهنّ ربوع ... فقدتك من قلب شعاع، فطالما ... نهيتك عن هذا وأنت جميع [8] ... فقرّبت لي غير القريب، وأشرفت ... مناك ثنايا ما لهنّ طلوع
[1] الجام: إناء من فضة. الخبيص: حلوى تصنع من التمر والسمن.
[2] الفالوذج: حلوى تصنع من الدقيق والماء والعسل.
[3] أحمّ: أصابته الحمى.
[4] الخبر في عيون الأخبار 1/ 263، وهو برواية مختلفة في محاضرات الأدباء 1/ 218 (2/ 257).
[5] الخبر في ربيع الأبرار 3/ 102.
[6] الأبيات لمجنون ليلى في ديوانه 190، 192، ولقيس بن ذريح في ديوانه 115114، ولجميل ابن معمر في ديوانه 122.
[7] الحرجات: جمع حرجة وهي الشجرة بين الأشجار لا تصل إليها الآكلة. ذو سلم: اسم موضع.
[8] قلب شعاع: متفرق موزع.(5/107)
1346 [أمانيّ الخوارج]
قال [1]: وقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث: لولا أربع خصال ما أعطيت عربيّا طاعة: لو ماتت أمّ عمرو يعني أمّه ولو نسبت، ولو قرأت القرآن، ولو لم يكن رأسي صغيرا.
قال: وقدم عبد الملك، وكان يحبّ الشّعر فبعثت إلى الرواة، فما أتت عليّ سنة حتى رويت الشاهد والمثل، وفصولا بعد ذلك. وقدم مصعب وكان يحبّ النّسب، فدعوت النّسّابين فتعلّمته في سنة. ثم قدم الحجّاج، وكان يدني على القرآن، فحفظته في سنة.
قال: وقال يزيد بن المهلّب: لا أخرج حتى أحجّ، وأحفظ القرآن، وتموت أمّي. فخرج قبل ذلك كلّه.
وقال عبيد الله بن يحيى: كان من أصحابنا بمرو جماعة، فجلسنا ذات يوم نتمنّى، فتمنّيت أن أصير إلى العراق من أيامي سالما، وأن أقدم فأتزوّج سماع [2]، وألي كسكر [3].
قال: فقدمت سالما، وتزوجت سماع، ووليت كسكر.
1347 [أخبار وأشعار في نهري دجلة والفرات]
قال: ووقف هشام بن عبد الملك على الفرات، ومعه عبد الرحمن بن رستم، فقال هشام: ما في الأرض نهر خير من الفرات! فقال عبد الرحمن: ما في الأرض نهر شرّ من الفرات، أوّله للمشركين، وآخره للمنافقين.
وقال أبو الحسن: الفرات ودجلة رائدان [4] لأهل العراق لا يكذبان.
قال الأصمعيّ وأبو الحسن: فهما الرائدان، وهما الرّافدان.
[1] الخبر في البيان 2/ 114.
[2] سماع: اسم امرأة، وهو مبني على الكسر لأنه على وزن فعال كقطام.
[3] ألي: أصير واليا عليها. كسكر: كورة واسعة بين الكوفة والبصرة، ينسب إليها الفراريج الكسكرية لأنها تكثر بها جدّا. معجم البلدان 4/ 461، وقد تحدث الجاحظ عن ذلك في 3/ 141، الفقرة (750).
[4] الرائد: هو الذي يرسله قومه في طلب الكلأ. وفي مجمع الأمثال 2/ 223: «الرائد لا يكذب أهله».(5/108)
وقال الفرزدق [1]: [من الوافر] أمير المؤمنين وأنت عفّ ... كريم، لست بالوالي الحريص [2] ... بعثت إلى العراق ورافديه ... فزاريّا أحذّ يد القميص [3] ... ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص [4] ... تفيهق بالعراق أبو المثنّى ... وعلّم قومه أكل الخبيص [5]
1348 [نهر أم عبد الله]
قال [6]: وبينا غيلان بن خرشة، يسير مع [عبد الله] [7] بن عامر، إذ وردا على نهر أمّ عبد الله [8] فقال ابن عامر: ما أنفع هذا النهر لأهل هذا المصر! قال غيلان:
أجل أيها الأمير، والله إنهم ليستعذبون [9] منه، وتفيض مياههم إليه، ويتعلم صبيانهم فيه العوم، وتأتيهم ميرتهم [10] فيه.
فلما أن كان بعد ذلك ساير ذات يوم زيادا وكان زياد عدوّا لابن عامر فقال زياد: ما أضرّ هذا النهر بأهل هذا المصر! فقال: أجل والله أيها الأمير! تنزّ منه دورهم، ويغرق فيه صبيانهم، ويبعضون ويبرغثون [11]!
[1] ديوان الفرزدق 1/ 389 (دار صادر)، 487 (الصاوي)، والكامل 2/ 73 (المعارف)، والكنايات للجرجاني 74، وزهر الآداب 56، والفاضل 111.
[2] الحريص: ذو الحرص والحرص: الجشع.
[3] علق ابن قتيبة في الشعر والشعراء 24 «ليدن» على هذا البيت بقوله: «يريد: أوليتها خفيف اليد، يعني في الخيانة، فاضطرته القافية إلى ذكر القميص. ورافداه: دجلة والفرات».
[4] المخاض: الحوامل من النوق. القلوص: الشابة من الإبل. إفال: جمع أفيل وهو الفصيل. وفي البيت إشارة إلى أن بني فزارة يرمون بإتيان الإبل. انظر زهر الآداب 56.
[5] تفيهق: من التفيهق في الكلام، وهو التوسع فيه والتنطع. الخبيص: حلوى تصنع من التمر والسمن.
[6] الخبر في البيان 1/ 395394، والعمدة 1/ 48، (باب البلاغة).
[7] زيادة من البيان والعمدة.
[8] نهر أم عبد الله: بالبصرة منسوب إلى أم عبد الله بن عامر بن كريز أمير البصرة في أيام عثمان.
معجم البلدان 5/ 317.
[9] يستعذبون: يستقون.
[10] الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، أي يجتلبه.
[11] يبعضون: يؤذيهم البعوض. يبرغثون: يؤذيهم البرغوث.(5/109)
باب في العصافير
القول في العصافير وسنقول باسم الله وعونه في العصفور بجملة من القول.
وعلى أنّا قد ذكرنا من شأنه أطرافا ومقطّعات من القول تفرّقن في تضاعيف تلك الأصناف. وإذا طال الكلام وكثرت فنونه، صار الباب القصير من القول في غماره مستهلكا، وفي حومته غرقا، فلا بأس أن تكون تلك الفقر مجموعات، وتلك المقطّعات موصولات، وتلك الأطراف مستقصيات مع الباقي من ذكرنا فيه ليكون الباب مجتمعا في مكان واحد. فبالاجتماع تجتمع القوة، ومن الأبعاض يلتئم الكلّ، وبالنظام تظهر المحاسن.
1349 [دعوى الإحاطة بالعلم]
ولست أدّعي في شيء من هذه الأشكال الإحاطة به، والجمع لكل شيء فيه.
ومن عجز عن نظم الكثير، وعن وضعه في مواضعه كان عن بلوغ آخره، وعن استخراج كل شيء فيه أعجز. والمتح [1] أهون من الاستنباط [2]، والحصد أيسر من الحرث.
وهذا الباب لو ضمّنه على كتابه من هو أكثر مني رواية أضعافا، وأجود مني حفظا بعيدا، وكان أوسع مني علما وأتمّ عزما، وألطف نظرا وأصدق حسّا، وأغوص على البعيد الغامض، وأفهم للعويص الممتنع، وأكثر خاطرا وأصحّ قريحة، وأقلّ سآمة، وأتمّ عناية، وأحسن عادة مع إفراط الشهوة، وفراغ البال، وبعد الأمل، وقوة الطمع في تمامه، والانتفاع بثمرته، ثم مدّ له في العمر، ومكّنته المقدرة لكان قد ادّعى معضلة، وضمن أمرا معجزا، وقال قولا مرغوبا عنه، متعجّبا منه ولكان لغوا ساقطا، وحارضا بهرجا [3] ولكان ممن يفضل قوله على فعله، ووعده على مقدار إنجازه لأن الإنسان، وإن أضيف إلى الكمال وعرف بالبراعة، وغمر [4] العلماء فإنه
[1] المتح: جذب الماء بالدلو من رأس البئر.
[2] الاستنباط: استخراج الماء بحفر الأرض وبحثها.
[3] الحارض: الفاسد الضعيف. البهرج: الرديء.
[4] غمر العلماء: علاهم شرفا.(5/110)
لا يكمل أن يحيط علمه بكلّ ما في جناح بعوضة، أيام الدنيا، ولو استمد بقوة كلّ نظّار حكيم واستعار حفظ كلّ بحّاث واع [1] وكلّ نقّاب في البلاد، ودرّاسة للكتب.
وما أشكّ أن عند الوزراء في ذلك ما ليس عند الرعيّة من العلماء، وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء، وعند الأنبياء ما ليس عند الخلفاء، وعند الملائكة ما ليس عند الأنبياء، والذي عند الله أكثر، والخلق عن بلوغه أعجز، وإنما علّم الله كلّ طبقة من خلقه بقدر احتمال فطرهم، ومقدار مصلحتهم.
1350 [القول في قوله تعالى: {عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا}]
فإن قلت: فقد علّم الله عزّ وجلّ آدم الأسماء كلّها [2] ولا يجوز تعريف الأسماء بغير المعاني وقلت: ولولا حاجة الناس إلى المعاني، وإلى التعاون والترافد، لما احتاجوا إلى الأسماء. وعلى أن المعاني تفضل [3] عن الأسماء، والحاجات تجوز مقادير السّمات، وتفوت ذرع العلامات [4] فممّا لا اسم له خاصّ الخاصّ. والخاصّيّات كلها ليست لها أسماء قائمة.
وكذلك تراكيب الألوان، والأراييح، والطعوم، ونتائجها.
وجوابي في ذلك: أن الله عزّ وجلّ لم يخبرنا أنه قد كان علّم آدم كلّ شيء يعلمه تعالى، كما لا يجوز أن يقدره على كلّ شيء يقدر عليه.
وإذا كان العبد المحدود الجسم، المحدود القوى، لا يبلغ صفة ربّه الذي اخترعه، ولا صفة خالقه الذي ابتدعه فمعلوم أنه إنما عنى بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} [5] علم مصلحته في دنياه وآخرته.
وقال الله عزّ وجلّ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [6]. وقال الله عزّ وجلّ:
[1] واع: حافظ.
[2] انظر المزهر 1/ 28.
[3] تفضل: تزيد.
[4] الذرع: الطاقة. العلامات: السمات.
[5] 31/ البقرة: 2.
[6] 76/ يوسف: 12.(5/111)
{وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ} [1]. وقال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظََاهِراً مِنَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} [2]. وقال تقدّست أسماؤه: {وَمََا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلََّا هُوَ} [3]. وقال الله عزّ وجلّ: {وَيَخْلُقُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} [4].
وهذا الباب من المعلوم، غير باب علم ما يكون قبل أن يكون لأن باب (كان) قد يعلم بعضه، وباب (يكون) لا سبيل إلى معرفة شيء منه. والمخاطبة وقعت على جميع المتعبّدين، واشتملت على جميع أصناف الممتحنين، ولم تقع على أهل عصر دون عصر، ولا على أهل بلد دون بلد، ولا على جنس دون جنس، ولا على تابع دون متبوع ولا على آخر دون أوّل.
أجناس الطير التي تألف دور الناس
العصافير، والخطاطيف، والزّرازير، والخفافيش. فبين هذه [وبين الناس] [5] مناسبة ومشاكلة، وإلف ومحبّة.
والخطاطيف تقطع [6] إليهم وتعزب [7] عنهم. والعصافير لا تفارقهم. وإن وجدت دارا مبنية لم تسكنها حتى يسكنها إنسان. ومتى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج منها ذلك الإنسان. فبفراقه تفارق، وبسكناه تسكن، وهذه فضيلة لها على الخطاطيف.
والحمام لا يقيم معهم في دورهم إلا بعد أن يثبّتوه ويعلّموه، ويرتّبوا حاله ويدرّجوه. ومنها ما هو وحشيّ طورانيّ [8]، وربما توحّش بعد الأنس والعصافير على خلاف ذلك، فلها بذلك فضيلة على الحمام، وعلى الخطّاف.
[1] 27/ لقمان: 31.
[2] 7/ الروم: 30.
[3] 31/ المدثر: 74.
[4] 8/ النحل: 16.
[5] إضافة يقتضيها المعنى.
[6] تقطع: تنتقل من بلد إلى آخر.
[7] تعزب: تبعد.
[8] الطوراني: في معجم البلدان 4/ 24 (طرآن): «قال أبو حاتم: حمام طرآني من طرأ علينا فلان أي طلع، ولم نعرفه، قال: والعامة تقول طوراني وهو خطأ» وفيه أيضا: طرآن: جبل فيه حمام كثير إليه ينسب الحمام الطرآني».(5/112)
وقد يدرّب العصفور ويثبّت فيستجيب من المكان البعيد، ويثبت ويدجن.
فهو مما يثبت ويعايش الناس، من تلقاء نفسه مرة، وبالتثبيت مرة. وليس كذلك شيء مما يأوي إلى الناس من الطير.
وقد بلغني أن بعض ما يستجيب منها قد درّب فرجع من ميل. فأما الهداية من تلقاء نفسه فمن الفراسخ الكثيرة.
1351 [انتقال العصافير إلى البساتين]
وحدّثني حمّويه الخريبيّ وأبو جراد الهزاردريّ قالا: إذا كان زمان البيادر لم يبق بالبصرة عصفور إلا صار إلى البساتين، إلا ما أقام على بيضه وفراخه. وكذلك العصافير إذا خرج أهل الدّار من الدّار، فإنه لا يقيم في تلك الدار عصفور إلا على بيض أو فراخ. فإذا لم يكن لها استوحشت، والتمست لأنفسها الأوكار في الدّور المعمورة. ولذلك قال أبو يعقوب إسحاق الخريمي [1]: [من المنسرح] فتلك بغداد ما تبنّى من ال ... وحشة في دورها عصافرها
قالا [2]: فعلى قدر قرب القبائل من البساتين سبق العصافير إليها، فإذا جاءت العصافير التي تلي أقرب القبائل منها إلى أوائل البساتين فوجدت عصافير ما هو أقرب إليها منها قد سبقت إليها تعدّتها إلى البساتين التي تليها وكذلك صنيع ما بقي من عصافير القبائل الباقية حتى تصير عصافير آخر البصرة إلى آخر البساتين. وذلك شبيه بعشرين فرسخا. فإذا قضت حاجتها، وانقضى أمر البيادر أقبلت من هناك، على أمارات لها معروفة، وعلامات قائمة، حتى تصير إلى أو كارها.
1352 [ضروب الطير]
والطير كله على ثلاثة أضرب: فضرب من بهائم الطير، وضرب كسباع الطير، وضرب كالمشترك المركّب منها جميعا [3].
فالبهيمة كالحمام وأشباه الحمام، مما يغتذي الحبوب والبزور والنبات، ولا يغتذي غير ذلك.
[1] ديوان الخريمي 32.
[2] يقصد حمويه وأبا جراد اللذين ورد اسمهما في بداية الفقرة.
[3] انظر عيون الأخبار 2/ 89.(5/113)
والسبع [1]: الذي لا يغتذي إلا اللحم.
وقد يأكل الأسد الملح [2]، ليس على طريق التغذي، ولكن على طريق التّملّح والتحمّض.
1353 [ما يشارك فيه العصفور بهائم الطير]
فممّا يشارك فيه العصفور بهائم الطير، أنه ليس بذي مخلب ولا منسر [3]، وهو مما إذا سقط على عود قدّم أصابعه الثلاث، وأخّر الدّابرة [4]. وسباع الطير تقدّم إصبعين، وتؤخّر إصبعين.
ومما شارك فيه السّبع [5] أنّ بهائم الطير تزقّ فراخها، والسّباع تلقم فراخها.
1354 [ضروب الفراخ]
والفراخ على ثلاثة أضرب: ففرخ كالفرّوج لا يزق ولا يلقم وهو يظهر كاسبا [6]. وفرخ كفرخ الحمام وأشباه الحمام، فهو يزقّ ولا يلقم. وفرخ كفرخ العقاب والبازي، والزرّق، والشاهين والصقر، وأشباهها من السّباع فهو يلقم ولا يزقّ.
فأشبهها العصفور من هذا الوجه.
وفيه من أخلاق السّباع [7]: أنه يصيد الجرادة، والنمل الطيّار، ويأكل اللحم، ويلقم فراخه اللحم.
وليس في الأرض رأس أشبه برأس حيّة من رأس عصفور [8]
1355 [الأجناس التي تعايش الناس]
والأجناس التي تعايش الناس: الكلب، والسّنّور، والفرس، والبعير، والحمار، والبغل، والحمام، والخطّاف، والزّرزور، والخفّاش، والعصفور.
[1] أي السبع من سباع الطير.
[2] انظر ما تقدم في 3/ 127، الفقرة (722).
[3] المنسر: منقار الطير الجارح.
[4] الدابرة: الإصبع التي من وراء رجل الطائر، وانظر عيون الأخبار 2/ 89.
[5] أي السبع من سباع الطير.
[6] كاسبا: أي يكسب القوت لنفسه منذ يخرج من بيضته.
[7] عيون الأخبار 2/ 89.
[8] ربيع الأبرار 5/ 454.(5/114)
1356 [أطول الحيوان عمرا وأقصره]
قالوا [1]: وليس في جميعها أطول عمرا من البغل، ولا أقصر عمرا من العصفور.
قالوا: ونظن ذلك إنما كان لقلّة سفاد البغل، وكثرة سفاد العصفور.
ويزعمون أن محمد بن سليمان أنزى البغال على البغلات، كما أنزى العتاق على الحجور، والبراذين [2] على الرّماك [3]، والحمير على الأتن [4]، فوجد تلك الفحولة من البغال بأعيانها، أقصر أعمارا من سائر الحافر، حين سوّى بينها في السّفاد، ووجد البغال تلقح إلقاحا فاسدا لا يتمّ ولا يعيش.
وذكروا أن قصر العمر لم يعرض لإناثها كما عرض لذكورتها.
وهذا شبيه بما ذكر صاحب المنطق [5] في العصافير، فإنه ذكر أن إناثها أطول أعمارا. وأن ذكورتها لا تعيش إلا سنة واحدة.
1357 [السمن يجعل الأنثى عاقرا]
والمرأة تنقطع عن الحبل قبل أن ينقطع الرجل عن الإحبال بدهر، وتفرط في السمن فتصير عاقرا، ويكون الرجل أسمن منها فلا يصير عاقرا.
وكذلك الحجر، والرّمكة، والأتان. وكذلك النخلة المطعمة. ويسمن لبّ الفحّال [6] فيكون أجود لإلقاحه. وهما يختلفان كما ترى.
1358 [الأجناس الفاضلة من الحيوان]
وللعصفور فضيلة أخرى. وذلك أنّ من فضل الجنس أن تتميز ذكورته في العين من إناثه، كالرجل والمرأة، والدّيك والدجاجة، والفحال والمطعمة، والتّيس والصفيّة [7]، والطاوس، والتّدرج [8]، والدّرّاج [9] وإناثها.
[1] ربيع الأبرار 5/ 397.
[2] البرذون: هو من الخيل ما كان أبواه أعجميان. حياة الحيوان 1/ 168.
[3] الرمكة: أنثى البرذون. حياة الحيوان 1/ 528.
[4] الأتن: جمع أتان: الحمارة. حياة الحيوان 1/ 27.
[5] أي أرسطو.
[6] الفحال: ذكر النخل.
[7] الصفية: أنثى المعز
[8] التدرج: طائر كالدراج يغرد في البساتين بأصوات طيبة، يكون بأرض خراسان وغيرها من بلاد فارس. حياة الحيوان 1/ 230.
[9] الدراج: طائر أسود باطن الجناحين وظاهرهما أغبر على خلقة القطا إلا أنه ألطف. حياة الحيوان 1/ 477.(5/115)
وليس ذلك كالحجر والفرس، والرّمكة والبرذون، والناقة والجمل، والعير والأتان، والأسد واللّبؤة، فإن هذه الأجناس تقبل نحوك فلا ينفصل في العين الأنثى من الذكر، حتى تتفقّد مواضع القنب [1] والأطباء [2]، وموضع الضّرع والثّيل [3]، وموضع ثفر الكلبة [4] من القضيب.
لأنّ للعصفور الذّكر لحية سوداء. وليس اللحية إلا للرجل والجمل، والتيس، والدّيك، وأشباه ذلك. فهذه أيضا فضيلة للعصفور. وذكر ابن الأعرابيّ أن للناقة عثنونا [5] كعثنون الجمل، وأنها متى كان عثنونها أطول كان فيها أحمد.
1359 [حب العصافير فراخها]
وليس في الأرض طائر، ولا سبع ولا بهيمة، أحنى على ولد، ولا أشدّ به شعفا، وعليه إشفاقا [6] من العصافير. فإذا أصيبت بأولادها، أو خافت عليها العطب، فليس بين شيء من الأجناس من المساعدة، مثل الذي مع العصافير، لأن العصفور يرى الحيّة قد أقبلت نحو حجره وعشّه ووكره، لتأكل بيضه أو فراخه، فيصيح ويرنّق [7] فلا يسمع صوته عصفور إلا أقبل إليه وصنع مثل صنيعه، بتحرّق ولوعة، وقلق، واستغاثة وصراخ، وربما أفلت الفرخ وسقط إلى الأرض وقد ذهبت الحيّة فيجتمعن عليه، إذا كان قد نبت ريشه أدنى نبات، فلا يزلن يهيّجنه، ويطرن حوله، لعلمها أن ذلك يحدث للفرخ قوة على النّهوض فإذا نهض طرن حواليه ودونه، حتى يحتثثنه [8] بذلك العمل.
وكان الخريميّ ينشد [9]: [من الرجز] واحتثّ كلّ بازل ذقون ... حتى رفعن سيرة اللّجون [10]
[1] القنب: وعاء قضيب الدابة.
[2] الأطباء: حلمات الضرع التي من خفّ وظلف وحافر وسبع، وهي جمع طبي.
[3] الثيل: وعاء قضيب البعير وغيره.
[4] الثفر: كالحياء للناقة، وهو لكل ذات مخلب.
[5] العثنون: شعيرات طوال تحت حنك البعير.
[6] الشعف: أن يذهب الحب بفؤاده.
[7] رنق الطائر: خفق بجناحيه في الهواء وثبت ولم يطر.
[8] الحث: الاستعجال.
[9] ديوان الخريمي 80، وبلا نسبة في اللسان (خدر)، والتهذيب 7/ 266.
[10] في ديوانه، احتث: أسرع في سيره. البازل من الإبل: ما كان في التاسعة. الذقون: التي تميل ذقنها إلى الأرض تستعين بذلك على السير. اللجون: الثقيل المشي من الإبل.(5/116)
وينشد [1]: [من الرجز] واحتثّ محتثّاتها الخدورا [2]
وتقول العرب [3]: «العاشية تهيج الآبية» [4].
ولو أن إنسانا أخذ فرخي عصفور من وكره، ووضعهما بحيث يراهما أبواهما في منزله، لوجد العصفور يتقحّم في ذلك المنزل، حتى يدخل في ذلك القفص، فلا يزال في تعهّده بما يعيشه حتى يستغني عنه. ثم يحتملان في ذلك غاية التغرير والخطار وذلك من فرط الرّقّة على أولادهما.
1360 [ضروب الحيوان التي لا تمشي]
وأجناس الحيوان التي لا تستطيع أن تسمح [5] بالمشي ضروب: منها الضبع، لأنها خلقت عرجاء، فهي أبدا تخمع. قال الشاعر [6]: [من الوافر] وجاءت جيأل وأبو بنيها ... أحمّ المأقيين به خماع [7]
وقال مدرك بن حصن [8]: [من الطويل] من الغثر ما تدري أرجل شمالها ... بها الظّلع إمّا هرولت أم يمينها [9]
[1] الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 533، وبلا نسبة في اللسان والتاج (خدر).
[2] في اللسان: «الخدور: التي تخلفت عن الإبل، فلما نظرت إلى التي تسير سارت معها».
[3] مجمع الأمثال 2/ 9، وجمهرة الأمثال 2/ 57، والمستقصى 1/ 331، وفصل المقال 516، والفاخر 160، وأمثال ابن سلام 394.
[4] العاشية: واحدة العواشي، وهي الإبل والغنم التي ترعى بالليل. الآبية: التي تأبى الرعي.
[5] أسمحت: انقادت.
[6] البيت لمشعث العامري في الأصمعيات 148، ومعجم الشعراء 447، والمعاني الكبير 215، والدرة الفاخرة 2/ 399، ومجمع الأمثال 2/ 355، واللسان (جأل)، والتاج (خمع)، وللمثقب العبدي في ملحق ديوانه 277، واللسان (خمع)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (مأق)، والجمهرة 1170، والبرصان 162، والمذكر والمؤنث للأنباري 108.
[7] جيأل: علم جنس لأنثى الضبع غير مصروف للعلمية والتأنيث، وصرف هنا للشعر. أحم: أسود.
المأق: طرف العين مما يلي الأنف. الخماع: العرج.
[8] البيت لمدرك بن محصن في اللسان والتاج (ظلع)، والبرصان 164، وبلا نسبة في اللسان (عرن).
[9] الغثراء: الغبراء أو قريب منها، واسم الضبع.(5/117)
والذئب أقزل [1] شنج [2] النسا، وإن أحثّ إلى المشي فكأنه يتوجّى [3].
وكذلك الظّبي، شنج النّسا، فهو لا يسمح بالمشي. قال الشاعر [4]: [من الهزج] وقصرى شنج الأنسا ... ء نبّاح من الشّعب [5]
ظبي أشعب: إذا كان بعيد ما بين القرنين. ولا يسمع له نباح. وإذا أراد العدو، فإنما هو النّقز [6] والوثب، ورفع القوائم معا.
ومن ذلك الأسد فإنه يمشي كأنه رهيص [7]، وإذا مشى تخلّع [8].
قال أبو زبيد [9]: [من البسيط] إذا تبهنس يمشي خلته وعثا ... وعت سواعد منه بعد تكسير [10]
ومن ذلك الفرس، لا يسمح بالمشي. وهو يوصف بشنج النسا.
وقال الشاعر [11]: [من الرمل] شنج الأنساء من غير فحج [12]
[1] الأقزل: الأعرج الدقيق الساقين.
[2] شنج النسا: متقبضه.
[3] يتوجى: يشتكي باطن خفه.
[4] البيت لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه 288، واللسان والتاج (شعب، شنج، نبح، قصر)، والمعاني الكبير 142، ولعقبة بن سابق في الأصمعيات 41، وبلا نسبة في همع الهوامع 2/ 120، والمقرب 1/ 228.
[5] القصرى: أسفل الأضلاع.
[6] النقز: الوثب.
[7] الرهيص: من الرهص، وهو الفخر، وأن يصيب حافر الدابة شيء يوهنه.
[8] تخلع: مشى مشية متفككة.
[9] ديوان أبي زبيد الطائي 623، والبرصان 141.
[10] في ديوانه: «تبهنس: تبختر. وعثا: يمشي في وعث، وهو ما كثر فيه الرمل. وعى الساعد: يقول كأنها قد انكسرت ثم جبرت بعد».
[11] صدر البيت: (شنج المرسن مجبول القرى)، وهو لعمرو بن العاص في البرصان 140.
[12] مجبول القرى: قوي الظهر. الفحج: تداني صدور القدمين وتباعد العقبين في المشي، وهو عيب في الفرس.(5/118)
ومن ذلك الغراب، فإنه يحجل كأنه مقيّد. قال الشاعر [1]: [من الطويل] كتارك يوما مشية من سجيّة ... لأخرى ففاتته فأصبح يحجل
وقال الطرّمّاح [2]: [من الكامل] شنج النسا أدفى الجناح كأنه ... في الدّار بعد الظّاعنين مقيّد [3]
والسّنّور، والفهد، وأشباههما في طريق الأسد.
والحيّة تمشي. ومنها ما يثب، ومنها ما ينتصب ويقوم على ذنبه.
والأفعى إذا نهشت أو انباعت للنّهش [4]، لم تستقلّ [5] ببدنها كلّه ولكنها تستقلّ [5] ببدنها الذي يلي الرأس، بحركة ونشط أسرع من اللّمح.
والجرادة تطير وتمشي وتطمر [6]. فإذا صرت إلى العصفور ذهب المشي البتّة.
وأكثر ما عند البرغوث الطّمور [6] والوثوب.
وقال الحسن بن هانئ [7] يصف رجلا يفلي القمل والبرغوث بأنامله:
أو طامريّ واثب ... لم ينجه منه وثابه
لأن البرغوث مشّاء وثّاب.
قال: وقول الناس [8]: «طامر بن طامر» [9]، إنما يريدون البرغوث.
[1] البيت لأبي عمران الأعمى كما تقدم في 4/ 418، الفقرة (1171) وهو في العققة والبررة 355 (نوادر المخطوطات)، ونسب إلى أبي عمران الأعجم في البرصان 140.
[2] ديوان الطرماح 130 (109)، واللسان والتاج (شنج، حرق، وقال)، والعين 8/ 81، والتهذيب 10/ 451، والمعاني الكبير 151، والبرصان 23، 140.
[3] في ديوانه: «شنج النسا: أي قصير النسا متقبضه، وهو لا يسمح بالمشي، ولذلك يحجل الغراب.
النسا: عرق يستبطن الفخذ. أدفى الجناح: طويل الجناح. الظاعنون: الراحلون عن الديار. يريد:
أن هذا الغراب يألف الديار إذا رحل عنها أهلها، فكأه مقيد فيها».
[4] النهش: العض. انباعت: بسطت نفسها.
[5] تستقل: من قولهم: استقل الطائر في سطيرانه: إذا نهض للطيران وارتفع.
[6] تطمر: تثب.
[7] البيت في نهاية الأرب 1/ 178، والبرصان 143.
[8] هذا القول من الأمثال في مجمع الأمثال 1/ 432، والمستقصى 2/ 398، والفاخر 58، وجمهرة الأمثال 1/ 42، وثمار القلوب 213 (422).
[9] يقال المثل لمن لا يعرف أبوه ولا يدري من هو.(5/119)
والعصفور ليس يعرف إلا أن يجمع رجليه ثم يثب، فيضعهما معا ويرفعهما معا. فليس عنده إلا النّقزان [1]. ولذلك سمّي العصفور نقّازا.
وهو العصفور والجمع عصافير، ونقّاز والجمع نقاقيز. وهو الصّعو. ويزعمون أن العرب تجعل الخرّق [2] والقنبر، والحمّر، وأشباه ذلك كله، من العصافير.
والعصفور طيرانه نقزان أيضا، فهو لا يسمح بالطيران كما لا يسمح بالمشي.
1361 [شدة وطء العصفور والكلب]
وليس لشيء جسمه مثل جسم العصفور مرارا كثيرة، من شدّة الوطء، وصلابة الوقع على الأرض، إذا مشى، أو على السطح ما للعصفور، فإنك إذا كنت تحت السّطح الذي يمشي عليه العصفور حسبت وقعه عليه وقع حجر.
والكلب منعوت بشدة الوطء، وكذلك الخصيان من كل شيء. والعصفور يأخذ بنصيبه من ذلك أكثر من قسط جسمه من تلك الأجسام بالأضعاف الكثيرة.
1362 [ضروب الحيوان التي تمشي]
والذّباب من الطير الذي يجيد المشي. ويمشي مشيا سبطا حثيثا، وحسنا مستويا.
والقطاة مليحة المشية، مقاربة الخطو.
وقد توصف مشية المرأة بمشية القطاة. وقال الكميت [3]: [من الكامل] يمشين مشي قطا البطاح تأوّدا ... قبّ البطون رواجح الأكفال [4]
وقال الشاعر [5]: [من مجزوء الرمل] يتمشين كما تم ... شي قطا أو بقرات
لأن البقرة تتبختر في مشيتها.
[1] النقزان: الوثبان.
[2] الخرّق: ضرب من العصافير.
[3] ديوان الكميت 2/ 53، ومعجم الشعراء 239، والبرصان 144، والحماسة البصرية 2/ 89، والأغاني 8/ 227، 16/ 151، ولباب الآداب 371.
[4] القبب: دقة الخصر وضمور البطن.
[5] البيت بلا نسبة في البرصان 144، واللسان (شجا).(5/120)
وقلت لابن دبوقاء [1]: أي شيء أول التّشاجي [2]؟ قال: التباهر والقرمطة [3] في المشي. وقال [4]: [من مجزوء الكامل] فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
وكلّ حيوان من ذوات الرجلين والأربع، إذا انكسرت لها قائمة تحاملت بالصحيحة، إلا النعامة فإنها تسقط البتّة.
1363 [كثرة سفاد العصفور]
قال [5]: وكثرة عدد السّفاد، والمبالغة في الإبطاء، والدّوام في كثرة العدد لضروب من الحيوان فالإنسان يغلب هذه الأجناس بأن ذلك دائم منه في جميع الأزمنة. فأما الإبطاء في حال السّفاد فللجمل والورل والذّبان والخنازير. فهذه فضيلة لذة لهذه الأجناس والأصناف. فأما كثرة العدد فللعصافير.
1364 [سفاد التيس]
وقد زعم أبو عبد الله العتبيّ الأبرص، وكان قاطع الشهادة عند أصحابنا البصريّين أن الذي يقال له المشرطيّ قرع في يوم واحد نيفا وثمانين [6] قرعة.
إلا أن ذلك منه ومن مثله ينمحق حتى يعود جافرا [7] في الأيام القليلة.
1365 [تيس بني حمّان]
وبنو حمّان يزعمون أن تيس بني حمّان قرع وألقح بعد أن ذبح [8]. وفخروا بذلك، فقال بعض من يهجوهم: [من الطويل] وألهى بني حمّان عسب عتودهم ... عن المجد حتى أحرزته الأكارم [9]
[1] هذا الخبر نقله ابن منظور عن الجاحظ في اللسان، مادة (شجا)، 14/ 424.
[2] التشاجي: تمنّع المرأة وتحازنها.
[3] التباهر: إظهار البهر، وهو انقطاع النفس من الإعياء. القرمطة: مقاربة الخطو.
[4] البيت للمنخل اليشكري في الأغاني 21/ 3، والأصمعيات 60، وبلا نسبة في أساس البلاغة (شطو).
[5] انظر رسائل الجاحظ 2/ 316315 (كتاب البغال).
[6] سيأتي الخبر ص 253.
[7] أجفر الرجل: انقطع عن الجماع.
[8] ثمار القلوب (564) وفيه أن تيس بني حمان قفط سبعين عنزا بعد ما فريت أوداجه.
[9] العسب: ماء الفحل. العتود: الجدي قد بلغ السفاد، والبيت للفرزدق في ربيع الأبرار 5/ 409.(5/121)
1366 [زعم لصاحب المنطق في سفاد الثور]
وزعم صاحب المنطق، في كتاب الحيوان، أن ثورا فيما سلف من الدهر سفد وألقح من ساعته بعد أن خصي.
فإذا أفرط المديح وخرج من المقدار، أو أفرط التعجيب وخرج من المقدار احتاج صاحبه إلى أن يثبته بالعيان، أو بالخبر الذي لا يكذّب مثله، وإلا فقد تعرّض للتكذيب.
ولو جعلوا حركتهم خبرا وحكاية، وتبرؤوا عن عيبه ما ضرّهم ذلك، وكان ذلك أصون لأقدارهم، وأتمّ لمروءات كتبهم.
1367 [القول في الجناح واليد والرجل]
وقالوا: وكلّ طائر جيّد الجناح، يكون ضعيف الرجلين، كالزّرزور والخطّاف وجناحاهما أجود من جناح العصفور. ورجل العصفور قويّة.
والجناحان هما يدا الطائر لأنهم يجعلون كلّ طائر وإنسان ذا أربع: فجناحا الطائر يداه، ويدا الإنسان جناحاه. ولذلك إن قطعت يد الإنسان لم يجد العدو.
وكذلك إن قطعت رجل الطائر لم يجد الطّيران.
والدابة قد تقوم على رجليها دون يديها، والإنسان قد يمشي على أربع. قالوا:
فهم في عدد الأيدي والأرجل سواء. وفي الآلات الأربع إلا أن الآلة تكون في مكان ببعض الأعمال أليق، وهو عليها أسهل، فتجذبها طبائعها إلى ما فيها من ذلك، كمشي الدابة على يديها، وثقل ذلك على الإنسان.
والحمام يضرب بجناحه الحمام، ويقاتله به، ويدفع به عن نفسه. فقوادمه [1] هي أصابعه، وجناحه هو يده، ورجله كالقدم. وهي رجل وإن سمّوها كفّا، حين وجدوها تكفّ به، كما يصنع الإنسان بكفّه.
وكلّ مقطوع اليدين، وكل من لم يخلق له يدان فهو يصنع برجليه عامّة ما يصنعه الوافر الخلق بيديه.
وكل سبع يكون شديد اليدين فإنه يكون ضعيف الرجلين.
وكل شيء من ذوات الأربع، من البراثن والحوافر، فإن أيديها أكبر من أرجلها.
والناس أرجلهم أكبر من أيديهم، وأقدامهم أكبر من أكفّهم.
[1] القوادم: أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح، الواحدة قادمة.(5/122)
وجعلوا ركبهم في أرجلهم، وجعلوا ركب الدّواب في أيديها.
1368 [فائدة العصافير وضررها]
وللعصافير طباهجات [1] وقلايا [2] تدعى العصافيريّة، ولها حشاوي يطعمها العوامّ المفلوج. والعوامّ تأكلها للقوّة على الجماع. وعظام سوقها وأفخاذها أحدّ وأذرب من الإبر. وهي مخوفة على المعدة والأمعاء.
وهي تخرّب السّقف تخريبا فاحشا. وتجتلب الحيّات إلى منازل الناس لحرص الحيات على ابتلاع العصافير وفراخها وبيضها.
1369 [عمر العصفور والذباب والبغل]
والذين زعموا أن ذكورتها لا تعيش إلا سنة، يحتاجون إلى أن يعرّفوا الناس ذلك. وكيف يستطيعون تعريفهم؟! وقد تكون القرى بقرب المزارع والبيادر مملوءة عصافير، ومملوءة من بيضها وفراخها، وهم مع ذلك لم يروا عصفورا قط ميتا.
والذين يزعمون أن الذباب لا يعيش أكثر من أربعين يوما، وكانوا لا يكادون يرون ذبابة ميتة أعذر، لأنهم ذهبوا إلى الحديث [3]. وأصحاب الحديث لا يؤاخذون بما يؤاخذ به الفلاسفة.
والذين زعموا أن البغل إنما طال عمره لقلّة السّفاد، والعصفور إنما قصر عمره لكثرة السّفاد وغلمته [4] لو قالوا بذلك على جهة الظنّ والتقريب، لم يلمهم أحد من العلماء. والأمور المقرّبة غير الأمور الموجبة، فينبغي أن يعرفوا فصل ما بين الموجب والمقرّب، وفصل ما بين الدليل وشبه الدليل ولعلّ طول عمر البغل يكون للذي قالوا، ولشيء آخر.
وليس ينبغي لنا أن نجزم على هذه العلّة فقط، إلا بعد أن يحيط علمنا بأن عمره لم يفضل على أعمار تلك الأجناس إلا لهذه العلّة.
[1] طباهجات: جمع طباهجة، وهو ضرب من قلي اللحم، وهو ما يسمى «الكباب». انظر المخصص 4/ 128، ومعجم البلدان (كباب).
[2] قلايا: جمع قلية، وهي اللحم المقلي.
[3] ورد الحديث في 3/ 151، الفقرة (765)، وهو «أن عمر الذباب أربعون يوما».
[4] انظر ما تقدم في فقرة 1356ص 116115.(5/123)
1370 [بعض خصال العصفور]
والعصفور لا يستقرّ ما كان خارجا من وكره، حتى كأنه في دوام الحركة وصبيّ. له صوت حديد مؤذ.
وزعموا أن البلبل لا يستقر أبدا وهذا غلط، لأن البلبل إنما يقلق لأنه محصور في قفص. والذين عاينوا البلابل والعصافير في أو كارها، وغير محصورة في الأقفاص، يعلمون فضل العصفور على البلبل في الحركة.
فأما صدق الحسّ، وشدّة الحذر، والإزكان [1] الذي ليس عند خبيث الطير [2]، ولا عند الغراب [3] فإن عند العصفور منه ما ليس عند جميع ما ذكرنا، لو اجتمعت قواهم، وركّبوا في نصاب واحد.
من ذلك أنه يغمّ بحدّة صوته بعض من يقرب منه، فيصيح به ويهوي بيديه إلى الأرض كأنه يريد أن يرميه بحجر فلا يراه يحفل بذلك. فإن وقعت يده على حصاة طار من قبل أن يتمكّن من أخذها.
1371 [علة العداوة بين الحمار وعصفور الشوك]
وزعم صاحب المنطق أن بين الحمار وعصفور الشّوك عداوة. وقال: لأن الحمار يدخل الشجر والشّوك، فربما زاحم الموضع الذي فيه وكره فيبدّد عشّه.
وربما نهق الحمار فسقط فرخ العصفور أو بيضه من جوف وكره. قال: ولذلك إذا رآه العصفور رنّق [4] فوق رأسه، وعلى عينيه، وآذاه بطيرانه وصياحه.
وربّما كان العصفور أبلق [5]. ويصاب فيه الأصبغ [6]، والجراديّ [7]، والأسود، والفيقع [8]، والأغبس [9]. فإذا أصابوه كذلك باعوه بالثّمن الكثير.
[1] الإزكان: الفطنة والحدس الصادق.
[2] الخبيث: الخداع.
[3] من الأمثال قولهم: «أحذر من غراب»، والمثل في مجمع الأمثال 1/ 226، وجمهرة الأمثال 1/ 343، 396، والمستقصى 1/ 62.
[4] رنّق الطائر: خفق بجناحيه ورفرف ولم يطر.
[5] البلق: سواد وبياض.
[6] الأصبغ: المبيض الذنب.
[7] الجرادي: الذي لونه لون الجراد.
[8] الفقيع: الأبيض.
[9] الأغبس: الذي لونه لون الرماد.(5/124)
1372 [تأويل عبد الأعلى]
[1] وقال أبو بدر الأسيديّ: قيل لعبد الأعلى القاصّ: لم سمّي العصفور عصفورا؟
قال: لأنه عصى وفرّ. وقيل: ولم سمّي الطّفشيل [2] طفشيلا؟ قال: لأنه طفا وشال.
وقيل له: لم سمي الكلب القلطيّ قلطيّا؟ [3] قال: لأنه قلّ ولطئ. وقيل له: لم سمي الكلب السّلوقيّ سلوقيّا؟ قال: لأنه يستلّ ويلقى.
1373 [حديث في قتل العصفور]
قال [4]: وحدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن صهيب مولى ابن عامر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من إنسان يقتل عصفورا أو ما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها». قيل: يا رسول الله: وما حقها؟
قال: «أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فترمي بها».
1374 [صياح العصافير ونحوها]
ويقال: قد صرّ العصفور يصرّ صريرا. قال: ويقال للعصافير والمكاكيّ [5] والقنابر، والخرّق [6]، والحمّر: قد صفر يصفر صفيرا. وقال طرفة بن العبد [7]: [من الرجز] يا لك من قبّرة بمعمر ... خلا لك الجوّ فبيضي واصفري ... ونقّري ما شيت أن تنقّري
ويقال: قد نطق العصفور. وقال كثيّر [8]: [من الطويل] سوى ذكرة منها إذا الرّكب عرّسوا ... وهبّت عصافير الصّريم النواطق [9]
[1] البخلاء: 106.
[2] الطفشيل: ضرب من اللحم يعالج بالبيض والجزر والعسل، وهو لفظ فارسي معرب. انظر معجم استينجاس 313.
[2] الكلب القلطي: ضرب من الكلاب القصيرة.
[3] الكلب القلطي: ضرب من الكلاب القصيرة.
[4] انظر الجامع الصغير 8025.
[5] المكاكي: جمع مكاء، وهو نوع من القنابر له صفير حسن. حياة الحيوان 2/ 322.
[6] الخرّق: نوع من العصافير. حياة الحيوان 1/ 413.
[7] تقدم تخريج الرجز في 3/ 30.
[8] ديوان كثير 417.
[9] الصريم: الصبح، أو الليل، وهي من الأضداد.(5/125)
ولذكر العصفور موضع آخر: وذلك أنّ العصافير تصيح مع الصّبح. وقال كلثوم ابن عمرو [1]: [من البسيط] يا ليلة لي بحوّارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير
وقال خلف الأحمر [2]: [من المتقارب] فلما أصاتت عصافيره ... ولاحت تباشير أرواقه [3] ... غدا يقتري أنفا عازبا ... ويلتسّ ناضر أوراقه [4]
وقال الوليد بن يزيد [5]: [من مجزوء الوافر] فلما أن دنا الصبح ... بأصوات العصافير
1375 [أحلام العصافير]
ولها موضع آخر. وذلك أنهم يضربون المثل بأحلام العصافير لأحلام السّخفاء [6]. وقال دريد بن الصّمّة [7]: [من البسيط] يا آل سفيان ما بالي وبالكم ... أنتم كثير وفي أحلام عصفور
وقال حسّان بن ثابت [8]: [من البسيط] لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
ومن هذا الباب في معنى التّصغير والتّحقير، قول لبيد [9]: [من الطويل] فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحّر
[1] البيت في العمدة 1/ 267، والموشح 293، وبلا نسبة في معجم البلدان 2/ 315 (حوارين)، وتقدم في 2/ 407.
[2] البيتان في مجمع الذاكرة 1/ 156.
[3] أصاتت: صوتت. الأرواق: جمع روق، وأرواق الليل أثناء ظلمته.
[4] يقتري: يتتبع. أنفا: لم يرعه أحد قبله. عازبا: بعيدا. يلتس: يأكل.
[5] البيت للوليد بن يزيد في الكامل 1/ 12 (المعارف)، وليس في ديوانه، وهو ليزيد بن ضبة في الأغاني 7/ 94، 97.
[6] ثمار القلوب 388 (713).
[7] ديوان دريد بن الصمة 74، وثمار القلوب 388 (713).
[8] ديوان حسان بن ثابت 1/ 219 (دار صادر)، وثمار القلوب 388 (713)، والخزانة 4/ 72، وشرح شواهد المغني 1/ 210، والكتاب 2/ 73، والمقاصد النحوية 2/ 362، وشرح أبيات سيبويه 1/ 554.
[9] ديوان لبيد 56، واللسان (سحر)، والتهذيب 4/ 292، وديوان الأدب 2/ 353، والبيان(5/126)
والمسحّر: المخدّع، على قوله [1]: [من الوافر] ونسحر بالطعام وبالشّراب
وقال لبيد [2]: [من الوافر] عصافير وذبّان ودود ... وأجرأ من مجلّحة الذّئاب [3]
فكأنه يخبر عن ضعف طباع الإنسان.
وقال قوم: المسحّر، يعني كلّ ذي سحر، يذهب إلى الرئة لقوله: [من الوافر] ونسحر بالطعام وبالشراب
1376 [قولهم: صرمت سحري منك]
ولذكر السّحر موضع آخر، يقول الرجل لصاحبه [4]: «صرمت سحري منك»، أي لست منك. وقال خفاف بن ندبة [5]: [من الوافر] ولولا ابنا تماضر أن يساؤوا ... وأنّي منك غير صريم سحر
فكأنه قال: لست كذلك منك.
وقال قيس بن الخطيم [6]: [من الوافر] تقول ظعينتي لما استقلّت ... أتترك ما جمعت صريم سحر
أي قد تركته آيسا منه.
1/ 189، وينسب البيت إلى أمية بن أبي الصلت، انظر ديوانه 550، وبلا نسبة في الجمهرة 511، والمقاييس 3/ 138، والمجمل 3/ 123، والعين 3/ 135، والمخصص 1/ 27.
[1] عجز البيت: (أرانا موضعين لأمر غيب)، وهو لامرئ القيس في ديوانه 97، واللسان والتاج (سحر)، والتنبيه والإيضاح 2/ 131، والعين 3/ 135، والجمهرة 511.
[2] البيت ليس للبيد بل لامرئ القيس في ديوانه 97، واللسان (جلح، سحر) والتاج (جلح)، والجمهرة 440، 511، والتهذيب 4/ 149.
[3] المجلحة: الجريئة.
[4] في مجمع الأمثال 1/ 175 (جاء صريم سحر).
[5] ديوان خفاف بن ندبة 472، والأغاني 15/ 85، وديوان قيس بن الخطيم 181، وعجزه بلا نسبة في أساس البلاغة (صرم).
[6] ديوان قيس بن الخطيم 181، وبلا نسبة في اللسان والتاج (سحر)، وأساس البلاغة (صرم).(5/127)
وأنشد الآخر [1]: [من الوافر] أيذهب ما جمعت صريم سحر ... ظليفا، إنّ ذا لهو العجيب [2] ... كذبتم والّذي رفع المعالي ... ولمّا يخضب الأسل الخضيب [3]
1377 [العصفور والضب]
وإذا وصفوا شدّة الحرّ، وصفوا كيف يوفي [4] الحرباء على العود والجذل [5]، وكيف تلجأ العصافير إلى جحرة الضّباب [6] من شدة الحرّ.
وقال أبو زبيد [7]: [من الخفيف] أيّ ساع سعى ليقطع شربي ... حين لاحت للصّابح الجوزاء [8] ... واستكنّ العصفور كرها مع الضّ ... بّ وأوفى في عوده الحرباء ... ونفى الجندب الحصى بكراعي ... هـ وأذكت نيرانها المعزاء [9] ... من سموم كأنّها لفح نار ... صقرتها الهجيرة الغرّاء [10]
وأنشدوا [11]: [من الطويل] تجاوزت والعصفور في الجحر لاجئ ... مع الضّبّ والشّقذان تسمو صدورها
قال: الشّقذان [12]: الحرابيّ. قوله: «تسمو» أي ترتفع على رأس العود. والواحد من الشّقذان شقذان، بتحريك القاف وفتح الشين.
[1] البيت الأول بلا نسبة في اللسان والتاج (سحر، صرم)، وأساس البلاغة (صرم)، ومجمع الأمثال 1/ 175.
[2] ظليفا: إذا أخذه بغير ثمن.
[3] الأسل: الرماح. الخضيب: الذي خضب بالحمرة، ويقصد: الدم في القتال.
[4] يوفي: يشرف.
[5] الجذل: أصل الشجرة.
[6] الجحرة: جمع جحر. الضّباب: جمع ضب.
[7] ديوان أبي زبيد 579، والحماسة البصرية 2/ 358357، والخزانة 7/ 322، وستأتي الأبيات ص 295.
[8] في ديوانه: «الشّرب: النصيب من الماء. الصابح: من صبحت الإبل، إذا سقيتها في أول النهار».
[9] في ديوانه: «الجندب: ذكر الجراد. كراعا الجندب: رجلاه». المعزاء: الأرض الغليظة ذات الأحجار.
[10] السموم: الريح الحارة. صقرتها: شدة حرها. الهجيرة: نصف النهار عند اشتداد الحر.
[11] البيت لذي الرمة في ديوانه 238، واللسان (شقذ)، والتهذيب 18/ 312.
[12] في اللسان (شقذ): «أي تشخص في الشجر، وقيل الشّقذان: الحشرات كلها والهوام، واحدتها شقذة. والشقذان: الذئب والصقر والحرباء».(5/128)
1378 [عصافير النعمان]
وأكرم فحل كان للعرب من الإبل كان يسمى عصفورا، وتسمى أولاده عصافير النّعمان [1].
وكانوا يقولون: صنع به الملك كذا وكذا، وحباه بكذا وكذا، ووهب له مائة من عصافيره.
وعصفور، وداعر، وشاغر، وذو الكبلين: فحولة إبل النعمان.
وعصافير الرّحل [2] واحدها عصفور.
1379 [عصفور القواس]
وعصفور القوّاس إليه تضاف القسيّ العصفورية [3]. وقد ذكره ابن يسير حين دعا على حمام له بالشّواهين، والصّقورة، والسّنانير والبنادق، فقال [4]: [من الكامل] من كلّ أكلف بات يدجن ليله ... فغدا بغدوة ساغب ممطور [5] ... ضرم يقلّب طرفه متأنّسا ... شيئا فكنّ له من التّقدير [6] ... يأتي لهنّ ميامنا ومياسرا ... صكّا بكلّ مذلّق مطرور [7] ... لا ينج منه شريدهنّ، فإن نجا ... شيء فصار بجانبات الدّور [8] ... لمشمّرين عن السّواعد حسّر ... عنها بكلّ رشيقة التّوتير [9] ... ليس الذي تشوي يداه رميّة ... فيهم بمعتذر ولا معذور [10] ... يتبوّعون مع الشروق غديّة ... في كل معطية الجذاب نتور [11]
[1] هو النعمان بن المنذر، انظر الأغاني 11/ 28، وانظر ما تقدم في 3/ 198.
[2] عصافير الرحل: خشبات تكون في الرحل يشد بها رؤوس الأحناء.
[3] انظر البيان 3/ 72، الحاشية الثانية.
[4] الأبيات لمحمد بن يسير الرياشي في ديوانه 8079، والأغاني 14/ 3934، وانظر البيان 3/ 73.
[5] في ديوانه: «الكلفة: لون بين السواد والحمرة. الدّجن: إلباس الغيم أقطار السماء. الساغب:
الجائع. الممطور: الذي أصابه المطر».
[6] في ديوانه: «ضرم: اشتد جوعه. تأنّس البازي: نظر رافعا رأسه».
[7] الصك: الضرب. المذلق: المحدد. المطرور: المحدد أيضا.
[8] الجانب: الغريب.
[9] مشمرين عن السواعد: يقصد الصيادين بالسهام. التوتير: شد الوتر.
[10] أشوى الرمية: لم يصب الصيد.
[11] يتبوع: يمد باعه. معطية الجذاب: عند المجاذبة، وأراد بها القوس. النتور: الشديدة الجذب.(5/129)
عطف السّيات موانع في بذلها ... تعزى إذا نسبت إلى عصفور [1] ... ينفثن عن جذب الأكفّ سواسيا ... متشابهات صغن بالتّدوير [2] ... تجري لها مهجّ النّفوس وإنّها ... لنواصل سلب من التّحسير [3] ... ما إن يني متباين متباعد ... في الجوّ يحسر طرف كلّ بصير [4] ... عن سمتهنّ إذا قصدن لجمعه ... متقطّرا متضمّخا بعبير [5] ... فيؤوب ناجيهنّ بين مجلهق ... دام، ومخلوب إلى منسور [6] ... عاري الجناح من القوادم والقرا ... كاس عليه بصائر التامور [7]
1380 [شعر في العصفور]
وقال أبو السّريّ، وهو معدان الأعمى المديبريّ، وهو يذكر ظهور الإمام، وأشراط خروجه، فقال: [من الخفيف] في زمان تبيض فيه الخفافي ... ش وتسقى سلافة الجريال [8] ... ويقيم العصفور سلما مع الأي ... م وتحمي الذّئاب لحم السّخال [9]
يقول: إذا ظهر الإمام فآية ذلك أن تبيض الخفافيش وهي اليوم تلد وتحلّ لنا الخمر، وتسالم الحيّات العصافير، والذئاب السّخال.
1381 [طول سجود عيسى بن عقبة]
ورووا في طول سجود عيسى بن عقبة، أنه كان يطيل ذلك حتى يظنّ العصفور
[1] سية القوس: ما عطف من طرفيها.
[2] النفث: النفخ. سواسيا: متشابهات.
[3] المهج: جمع مهجة، وهي الدم أو دم القلب. نواصل: جمع ناصل. السلب: جمع سليب، وأصلها الشجرة سلبت ورقها وأغصانها. التحسير: سقوط ريش الطائر.
[4] يني: يبطئ.
[5] السمت: القصد. متقطر: ساقط على قطره، أي جانبه. المتضمخ: المتطيب.
[6] الجلاهق: البندق، ومنه قوس الجلاهق، وأصله بالفارسية جله، وهي كبة غزل، الكثير جلها.
والجلاهق: الطين المدور المدملق. انظر اللسان (جلهق). المخلوب: الذي أصابه مخلب الطير الجارح. المنسور: الذي أصابه منسر النسر، وهو منقاره.
[7] القوادم: أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح. القرا: الظهر. البصائر: جمع بصيرة، وهي الدم.
التامور: دم القلب.
[8] الجريال: صفوة الخمر.
[9] الأيم: الحية الأبيض اللطيف. السخال: جمع سخلة، وهي ولد الشاة.(5/130)
أنه كالشيء الذي لا يخاف جانبه، وحتى يظنّ العصفور أنه سارية، فيسقط عليه.
وذكر عمر بن الفضل، عن الأعمش، عن يزيد بن حيّان قال [1]: كان عيسى بن عقبة إذا سجد وقعت العصافير على ظهره من طول سجوده.
وكان محمد بن طلحة يسجد حتى إن العصافير ليسقطن على ظهره ما يحسبنه إلا حائطا.
1382 [الشيخ والعصفور]
وفي المثل: أنّ شيخا نصب للعصافير فخّا، فارتبن به وبالفخ، وضربه البرد، فكلما مشى إلى الفخّ وقد انضمّ على عصفور، فقبض عليه ودقّ جناحه، وألقاه في وعائه، دمعت عينه مما كان يصكّ وجهه من برد الشّمال. قال: فتوامرت [2] العصافير بأمره وقلن: لا بأس عليكنّ، فإنه شيخ صالح رحيم رقيق الدّمعة! قال: فقال عصفور منها: لا تنظروا إلى دموع عينيه، ولكن انظروا إلى عمل يديه!
1383 [استطراد]
ومن أمثال العامّة للشيء تتعرّفه بغير مؤونة: «الحجر مجّان [3]، والعصفور مجّان!».
قال: ويقال عصفور وعصفورة. وأنشد قوله [4]: [من الطويل] ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما [5]
1384 [شعر فيما يصوّره الفزع]
وقال في هذا المعنى جرير، وإن لم يكن ذكر العصفور، حيث يقول [6]: [من الكامل]
[1] ورد الخبر في عيون الأخبار 2/ 365.
[2] توامرت: تآمرت.
[3] المجان: الكثير الكافي. وأخذه مجانا: أي بلا بدل.
[4] البيت لجرير في ديوانه 323، وشرح شواهد المغني 2/ 662، وله أو للبعيث في حماسة البحتري 261، وللعوام بن شوذب في العقد الفريد 5/ 195، واللسان (زنم)، والمعاني الكبير 927، ومعجم الشعراء 163، والمقاصد النحوية 4/ 467، والوساطة 423، والوحشيات 230، والنقائض 585، ولابن حوشب في معجم البلدان 4/ 130 (العظالى)، ولمغيرة بن طارق في أمالي اليزيدي 66، والمراثي لليزيدي 168، وبلا نسبة في تذكره النحاة 73، والجمهرة 828، والجنى الداني 182، ومغني اللبيب 1/ 270، والرسالة الموضحة 65، وديوان المعاني 1/ 195، وعيون الأخبار 1/ 166.
[5] المسوّمة: الخيل المعلمة بعلامة. عبيد: يعني عبيد بن ثعلبة. أزنم: يعني أزنم بن عبيد بن ثعلبة ابن يربوع.
[6] ديوان جرير 53، والرسالة الموضحة 64، والمختار من شعر بشار 9، والعقد الفريد 3/ 132.(5/131)
ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ... خيلا تشدّ عليكم ورجالا
قال يونس: أخذ هذا المعنى من قول الله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [1].
وقال الشاعر [2]: [من الطويل] كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفّة حابل [3] ... يؤدّى إليه أنّ كلّ ثنيّة ... تيمّمها ترمي إليه بقاتل [4]
وقال بشّار في شبيه ذلك [5]: [من الوافر] كأنّ فؤاده كرة تنزّى ... حذار البين لو نفع الحذار [6] ... جفت عيني عن التّغميض حتى ... كأنّ جفونها عنه قصار ... يروّعه السّرار بكلّ أمر ... مخافة أن يكون به السّرار [7]
وقال عبيد بن أيّوب [8]: [من الطويل] لقد خفت حتى لو تطير حمامة ... لقلت عدوّ أو طليعة معشر ... فإن قيل خير قلت هذا خديعة ... وإن قيل شرّ قلت حقّا فشمرّ ... وخفت خليلي ذا الصّفاء ورابني ... وقلت: فلانا أو فلانة فاحذر
[1] 4/ المنافقون: 63.
[2] البيتان لعبد الله بن العجاج في الأغاني 13/ 162، وديوانه 312311، ولعبيد بن أيوب العنبري في أشعار اللصوص 130، والحماسة البصرية 1/ 29، ولباب الآداب 325324، وللطرماح في ملحق ديوانه (316)، وله أو لعبيد بن أيوب في مجموعة المعاني 130، وبلا نسبة في الكامل 2/ 103 (المعارف)، والبيت الأول بلا نسبة في اللسان والتاج (كفف)، والتهذيب 4/ 139، وثمار القلوب 743، (898) ونسب سهوا إلى الأعشى في عمدة الحفاظ (عرض).
[3] كفة الحابل: حبالة الصائد التي يأخذ بها الصيد.
[4] يؤدّى إليه: يخيل إليه. الثنية: الطريق في الجبل. تيممها: قصدها.
[5] الأبيات لبشار بن برد في ديوانه 1/ 249، والمختار من شعره 7، وأمالي القالي 2/ 61، والحماسة البصرية 2/ 116، والكامل 2/ 50 (المعارف)، وطبقات ابن المعتز 29، ولنصيب في ديوانه 89، ولهما معا في اللسان (نزا)، وانظر ما ورد في حاشية الحماسة البصرية 2/ 116.
[6] تنزى: أصلها تتنزى: تتوثب.
[7] السرار: المسارة.
[8] الأبيات في أشعار اللصوص 221، والحماسة البصرية 1/ 111، وحماسة البحتري 260، ومجموعة المعاني 77.(5/132)
وقال أبان اللّاحقيّ [1]: [من الخفيف] اخفض الصّوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل الكلام
1385 [من ملح أحاديث الأصمعي]
ومن ملح أحاديث الأصمعيّ، قال: حدّثني شيخ من أهل المدينة وكان عالي السّنّ قال: قال الغاضري: كانت هذه الأرض لقوم ابتدؤوها وشقّوها، وكانت الثمرة إذا أدركت قال قائلهم لقيّمه: اثلم الحائط، ليصيب المارّ مما فيه والمعتفي [2]. ثم يقول: أرسل إلى آل فلان بكذا وكذا، وإلى آل فلان بكذا وكذا. فإذا بيعت الثمرة قال: أرسل إلى فلان بكذا وكذا ودينار، وإلى فلان بكذا وكذا. فيضجّ [3] الوكيل.
فيقول: ما أنت وهذا؟! لا أمّ لك! فلما عمرت الأرضون وأغنّت [4] أقطعها [5] قوم سواهم، فإنّ أحدهم ليسدّ حائطه، ويصغّر بابه، ثم يدلج [6] فيمرّ فيقول: ما هذه الثّلمة [7]؟! ويستطيف [8] من وراء الحائط، فهو أطول من معقل [9] أبي كريز.
وإذا دخل حائطه دخل معه بقذّافة، فإذا رأى العصفور على القنا [10] رماه، فيقع العصفور مشويّا على قرص [11]، والقرص كالعصفور.
1386 [العصافير الهبيرية]
وبحمص العصافير الهبيريّة، وهي تطعم على رفوف. وتكون أسمن من السّمانى، وأطيب من كلّ طير. وهي تهدى إلى ملوكنا. وهي قليلة هناك.
[1] البيت في أخبار الشعراء المحدثين 37، والأغاني 23/ 166، والخزانة 3/ 458 (بولاق)، وبلا نسبة في البيان 1/ 269، وعيون الأخبار 1/ 41، ومحاضرات الأدباء 1/ 60 (126).
[2] المعتفي: طالب المعروف.
[3] يضج: يصيح.
[4] أغنت: كثر عشبها.
[5] الإقطاع: أن يقطعه قطعة من الأرض.
[6] أدلج: سار من أول الليل.
[7] الثلمة: الفرجة.
[8] استطاف: دار حول الشيء.
[9] المعقل: الحصن.
[10] القنا: عذق النخلة بما فيه من الرطب.
[11] القرص: يعني قرص الخبز أي الرغيف.(5/133)
1387 [شعر للراعي في نطق العصفور]
وقال الرّاعي [1]: [من البسيط] ما زال يركب روقيه وكلكله ... حتى استثار سفاة دونها الثّأد [2] ... حتى إذا نطق العصفور وانكشفت ... عماية الليل عنه وهو معتمد [3]
وقال الراعي [4]: [من البسيط] وأصفر مجدول من القدّ مارن ... يلاث بعينيها فيلوى ويطلق [5] ... لدى ساعدي مهريّة شدنية ... أنيخت قليلا والعصافير تنطق [6]
1388 [صيد العصافير]
قال [7]: وتصاد العصافير بأهون حيلة. وذلك أنهم يعملون لها مصيدة، ويجعلون لها سلّة في صورة المحبرة التي يقال لها: اليهودية، المنكوسة الأنبوبة ثم ينزل في جوفها عصفور واحد، فتنقضّ عليه العصافير ويدخلن عليه، وما دخل منها فإنه لا يجد سبيلا إلى الخروج منها. فيصيد الرجل منها في اليوم الواحد المئين [8] وهو وادع، وهنّ أسرع إلى ذلك العصفور من الطير إلى البوم إذا جعلن في المصائد.
ومتى أخذ رجل فراخ العصافير من أوكارها، فوضعها في قفص بحيث تراها الآباء والأمّهات، فإنها تأتيها بالطّعم على الخطر الشديد، والخوف من الناس والسّنانير، مع شدة حذرها، ودقّة حسّها. ليس ذلك إلا لبرّها بأولادها، وشدة حبّها لها.
باب في العقارب والفأر والسنانير
1389 [القول في العقارب والفأر والسنانير]
نقول في العقارب والفأر والجرذان بما أمكن من القول. وإنما ذكرنا العقارب
[1] ديوان الراعي النميري 56.
[2] الروق: القرن. الكلكل: الصدر. السفاة: التراب. الثأد: الثرى.
[3] عماية الليل: ظلمته. معتمد: أي يسري طول الليل.
[4] ديوان الراعي 180.
[5] الأصفر المجدول: عنى به زمام الناقة. السير يقد من جلد غير مدبوغ. المارن: اللين. اللوث:
الطي واللي.
[6] المهرية: الناقة المنسوبة إلى مهرة بن حيدان، وهو حي من أحياء العرب. الشدنية: الناقة المنسوبة إلى شدن، وهو موضع باليمن.
[7] الخبر في عيون الأخبار 2/ 95، والعقد الفريد 4/ 263.
[8] المئين: جمع مائة، وفي عيون الأخبار «مائتين».(5/134)
مع ذكرنا للفأر، للعداوة التي بين الفأر والعقارب. كما رأينا أن نذكر السّنانير في باب ذكر الفأر، للعداوة التي بينهما.
فإن قلت: قد عرفنا عداوة الفأر للعقرب، فكيف تعادي الفأرة السنّور، والفأرة لا تقاوم السنّور؟! قيل: لعمري إن جرذان أنطاكية لتساجل السنانير في الحرب التي بينهما، وما يقوم لها ولا يقوى عليها إلا الواحد بعد الواحد. وهي بخراسان قويّة جدّا، وربما قطعت أذن النائم [1].
وفي الفأر ما إذا عضّ قتل. أخبرني أبو يونس الشريطي أنه عاين ذلك.
وأنا رأيت سنّورا عندنا ساور جرذا في بيت الحطب، فأفلت الجرذ منه وقد فقأ عين السّنّور.
1390 [قتال الحيوان]
والقتال يكون بين الدّيكة، وبين الكباش والكلاب والسّمانى [2] والقبج [3]، وضروب مما يقبل التّحريش، ويواثب عند الإغراء.
1391 [قتال الجرذان]
ويزعمون [4] أنهم لم يروا قتالا قطّ بين بهيمتين ولا سبعين أشدّ من قتال يكون بين جرذين. فإذا ربط أحدهما بطرف خيط، وشدّ رجل الآخر بالطّرف الآخر من الخيط، فلهما عند ذلك من الخلب والخمش [5] والعضّ، والتّنييب [6] والعفاس [7]، ما لا يوجد بين شيئين من ذوات العقار والهراش. إلا أن ذلك ما داما في الرّباط، فإذا
[1] ربيع الأبرار 5/ 472.
[2] السماني: على وزن الحبارى اسم لطائر يلبد بالأرض ولا يكاد يطير إلا أن يطار، ويسمى قتيل الرعد، من أجل أنه إذا سمع الرعد مات، وهو من الطيور القواطع لا يدرى من أين يأتي. حياة الحيوان 1/ 563.
[3] القبج: واحده قبجة الحجل، والقبجة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى. حياة الحيوان 2/ 195.
[4] ربيع الأبرار 5/ 472.
[5] الخلب والخمش: الخدش والجرح.
[6] التنييب: العض بالأنياب.
[7] اعتفس القوم: اصطرعوا.(5/135)
انحلّ أو انقطع ولّى كلّ واحد منهما عن صاحبه، وهرب في الأرض، وأخذ في خلاف جهته الآخر.
1392 [قتال الجرذ والعقرب]
وإن جعلا في إناء من قوارير، أعني الجرذ والعقرب، وإنما ذكرت القوارير، لأنها لا تستر عن أعين الناس صنيعهما، ولا يستطيعان الخروج لملاسة الحيطان فالفأرة عند ذلك تختل العقرب، فإن قبضت على إبرتها قرضتها [1]، وإن ضربها العقرب ضربا كثيرا فاستنفدت سمّها كان ذلك من أسباب حتفها.
ودخلت مرة أنا وحمدان بن الصباح على عبيد بن الشّونيزي فإذا عنده برنيّة [2] زجاج، فيها عشرون عقربا وعشرون فأرة، فإذا هي تقتتل، فخيّل لي أن تلك الفأر قد اعتراها ورم من شدة وقع اللسع. ورأيت العقارب قد كلّت عنها وتاركتها، ولم أر إلا هذا المقدار الذي وصفت.
وحدثنا عنها عبيد بأعاجيب. ولو كان عبيد إسنادا [3] لخبّرت عنه، ولكنّ موضع البياض من هذا الكتاب خير من جميع ما كان لعبيد.
1393 [أعاجيب في الجرذ]
وللجرذ تدبير في الشيء يأكله أو يحسوه، فإنه ليأتي القارورة الضّيّقة الرأس، فيحتال حتى يدخل طرف ذنبه في عنقها. فكلّما ابتلّ بالدّهن أخرجه فلطعه، ثم أعاده، حتى لا يدع في القارورة شيئا.
ورأيت من الجرذان أعجوبة، وذلك أن الصيادة لما سقطت على جرذ منها ضخم، اجتمعن لإخراجه وسلّ عنقه من الصيّادة، فلما أعجزهنّ ذلك قرضن الموضع المنضمّ عليه من جميع الجوانب، ليتسع الخرق فيجذبنه. فهجمت على نحاتة لو اعتمدت بسكين على ذلك الموضع لظننت أنه لم يكن يمكنني إلا شبيه بذلك.
1394 [علة دفن السنور خرأه]
وزعم [4] بعض الأطباء أن السنور إنما يدفن خرأه ثم يعود إلى موضعه فيشتمّه
[1] قرضت: قطعت، والخبر في ربيع الأبرار 5/ 471، ومحاضرات الأدباء (4/ 668).
[2] البرنية: شبه فخارة ضخمة خضراء، وربما كانت من القوارير الثخان الواسعة الأفواه.
[3] إسنادا: أي ممن يصح إسناد الخبر إليه.
[4] ربيع الأبرار 5/ 472.(5/136)
فإن كان يجد من ريحه بعد شيئا زاد عليه من التراب، لأنّ الفأرة لطيفة الحسّ، جيّدة الشّمّ، فإذا وجدت تلك الرائحة عرفتها فأمعنت في الهرب، فلذلك يصنع السنّور ما يصنع.
1395 [فأرة العرم]
[1] ولا يشكّ الناس [في] [2] أن أرض سبإ وجنّتيها إنما خربتا حين دخلهما سيل العرم والعرم: المسنّاة وأن الذي فجّر المسنّاة، وسبّب لدخول الماء الفأرة.
والسّيل إذا دخل أخرب بقدر قوّته. وقوّته من ثلاثة أوجه: إمّا أن تدفعه ريح في مكان يفحش فيه الريح، وإما أن يكون وراءه وفوقه ماء كثير، وإما أن يصيب حدورا عميقا.
1396 [حديث ثمامة عن الفأر]
وأما حديث ثمامة فإنه قال: لم أر قطّ أعجب من قتال الفأر، كنت في الحبس وحدي، وكان في البيت الذي أنا فيه جحر فأر، يقابله جحر آخر، فكان الجرذ يخرج من أحد الجحرين فيرقص ويتوعّد، ويضرب بذنبه، ثم يرفع صدره ويهزّ رأسه. فلا يزال كذلك حتى يخرج الجرذ الذي يقابله، فيصنع كصنيعه. فبينما هما إذ عدا أحدهما فدخل جحره، ثم صنع الآخر مثل ذلك. فلم يزل ذلك دأبهما في الوعيد وفي الفرار، وفي التحاجز وفي ترك التّلاقي. إلا أني في كل مرة أظنّ للذي يظهر لي من جدهما واجتهادهما، وشدة توعّدهما، أنهما سيلتقيان بشيء أهونه العضّ والخمش، ولا والله إن التقيا قطّ؟ فعجبت من وعيد دائم لا إيقاع معه، ومن فرار دائم لا ثبات معه، ومن هرب لا يمنع من العودة، ومن إقدام لا يوجب الالتقاء. وكيف يتوعّد صاحبه ويتوعده الآخر؟ وبأيّ شيء يتوعده، وهما يعلمان أنهما لا يلتقيان أبدا؟ فإن كان قتالهما ليس هو إلا الصّخب والتّنييب [3] فلم يفرّ كلّ واحد منهما حتى يدخل جحره؟ وإن كان غير ذلك فأيّ شيء يمنعهما من الصّدمة؟ وهذا أعجب.
[1] ثمار القلوب (609).
[2] إضافة من ثمار القلوب، حيث نقل الخبر عن الجاحظ.
[3] التنييب: إنشاب الأنياب.(5/137)
1397 [أطول الحيوان ذماء وأقصره]
وتقول العرب [1]: «الضبّ أطول شيء ذماء» [2].
ولا أعلم في الأرض شيئا أقصر ذماء [2]، ولا أضعف منّة [3] ولا أجدر أن يقتله اليسير من الفأر.
1398 [لعب السنور بالفأر]
وبلغ من تحرّزه واحتياطه، أنه يسكن السقوف، فربما فاجأه السّنّور وهو يريد أن يعبر إلى بيته والسّنّور في الأرض والفأرة في السّقف، ولو شاءت أن تدخل بيتها لم يكن للسّنّور عليها سبيل، فتتحيّر، فيقول السّنّور بيده كالمشير بيساره: ارجع. فإذا رجعت أشار بيمينه: أن عد فيعود. وإنما يطلب أن تعيا أو تزلق أو يدار بها [4]. ولا يفعل ذلك بها ثلاث مرّات، حتى تسقط إلى الأرض، فيثب عليها. فإذا وثب عليها لعب بها ساعة ثم أكلها. وربما خلّى سبيلها، وأظهر التغافل عنها فتمعن في الهرب، فإذا ظنّت أنها نجت وثب عليها وثبة فأخذها. فلا يزال كذلك كالذي يحبّ أن يسخر من صاحبه، وأن يخدعه، وأن يأخذه أقوى ما يكون طمعا في السّلامة، وأن يورثه الحسرة والأسف، وأن يلذّ بتنغيصه وتعذيبه.
وقد يفعل مثل ذلك العقاب بالأرنب، ويفعل مثل ذلك السّنّور بالعقرب.
1399 [أكل الجرذان واليرابيع والضباب والضفادع]
وقال أبو زيد [5]: دخلت على رؤبة هو يملّ [6] جرذانا، فإذا نضجت أخرجها من الجمر فأكلها، فقلت له: أتأكل الجرذان؟! قال: هي خير من اليرابيع والضّباب.
إنها عندكم تأكل التّمر والجبن والسويق والخبز، وتحسو الزّيت والسمن.
وقد كان ناس من أهل سيف البحر [7] من شقّ فارس يأكلون الفأر والضفادع،
[1] مجمع الأمثال 1/ 437، والمستقصى 1/ 227، وجمهرة الأمثال 2/ 20، والدرة الفاخرة 1/ 284، 286، 2/ 438.
[2] الذماء: بقية الروح.
[3] المنة: القوة.
[4] يدار بها: يصيبها الدوار. وهو شبه الدوران يأخذ في الرأس.
[5] الخبر في الأغاني 20/ 350، وربيع الأبرار 5/ 472.
[6] يمل: يشوي في الملة، وهي الرماد الحار الجمر.
[7] سيف البحر: شاطئه.(5/138)
ممقورة [1] ومملوحة، وكانوا يسمونها: جنك جنك [2] ووال وال [3].
وقال أوس بن حجر [4]: [من الطويل] لحينهم لحي العصا فطردنهم ... إلى سنة جرذانها لم تحلّم [5]
يقال: تحلّم الصّبيّ: إذا بدأ في السّمن فإذا زاد على المقدار قيل قد ضبّب، أي سمن سمنا متناهيا.
1400 [مثل وشعر في الجرذ]
ويقال [6]: «أسرق من زبابة». والزّبابة: الفأرة. ويقال [7]: «أسرق من جرذ».
وقال أنس بن أبي إياس لحارثة بن بدر حين ولي أرض سرّق [8]: [من الطويل] أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق ... وباه تميما بالغنى إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق ... فإنّ جميع الناس إمّا مكذّب ... يقول بما تهوى وإمّا مصدّق ... يقولون أقوالا ولا يعلمونها ... وإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحققوا ... فلا تحقرن يا حار شيئا أصبته ... فحظّك من ملك العراقين سرّق
فلما بلغت حارثة بن بدر قال: لا يعمى عليك الرّشد.
1401 [تمني كثرة الجرذان]
قال [9]: ووقفت عجوز على قيس بن سعد، فقالت: أشكو إليك قلّة الجرذان.
[1] المقر: إنقاع السمك المالح في الماء.
[2] جنك: كلمة فارسية تعني الجميل والمليح. انظر معجم استينجاس 1100.
[3] وال: كلمة فارسية تعني السمك الكبير. انظر معجم استينجاس 1453.
[4] ديوان أوس بن حجر 119، واللسان والتاج (حلم، لحى)، والتهذيب 5/ 108، والجمهرة 566، 975، والمجمل 2/ 96، والمقاييس 2/ 93، 5/ 240، وديوان الأدب 2/ 461، وكتاب الجيم 1/ 204، وبلا نسبة في المخصص 1/ 32، 2/ 78.
[5] لحينهم لحي العصا: قشرنهم كما يقشر لحاء العصا.
[6] مجمع الأمثال 1/ 353، وجمهرة الأمثال 1/ 533، والمستقصى 1/ 167، والدرة الفاخرة 1/ 232.
[7] المستقصى 1/ 167، والدرة الفاخرة 1/ 218.
[8] سرق: إحدى كور الأهواز، والأبيات التالية تقدمت مع تخريجها وشرحها في 3/ 59.
[9] انظر الخبر في عيون الأخبار 3/ 129.(5/139)
قال: ما ألطف ما سألت! لأملأنّ بيتك جرذانا. تذكر أنّ بيتها قفر من الأدم والمأدوم، فأكثر لها يا غلام من ذلك.
قال [1]: وسمعت قاصّا مدينيّا يقول في دعائه: اللهمّ أكثر جرذاننا وأقلّ صبياننا.
1402 [فزع الناس من الفأر]
وبين الفأر وبين طباع كثير من الناس منافرة، حتى إنّ بعضهم لو وطئ على ثعبان، أو رمي بثعبان لكان الذي يدخله من المكروه والوحشة والفزع، أيسر مما يدخله من الفأرة لو رمي بها، أو وطئ عليها.
وخبرني رجال من آل زائدة بن مقسم، أن سليمان الأزرق دعي لحيّة شنعاء قد صارت في دارهم، فدخلت في جحر، وأنه اغتصبها نفسها حتى قبض على ما ألفى منها، ثم أدارها على رأسه كما يصنع بالمخراق [2]، وأهوى بها إلى الأرض ليضربها بها، فابتدرت من حلقها فأرة كانت ازدردتها. فلما رأى الفأرة هرب وصرخ صرخة.
قالوا: فأخذ مشايخنا الغلمان بإخراج الفأرة وتلك الحيّة الشنعاء إلى مجلس الحيّ ليعجّبوهم من إنسان قتل هذه وفرّ من هذه.
1403 [علة نتن جلود الحيات]
وسألت بعض الحوّائين ممن يأكل الأفاعي فما دونها، فقلت: ما بال الحيات منتنة الجلود والجروم [3]؟ قال: أمّا الأفاعي فإنّها ليست بمنتنة، لأنها لا تأكل الفأر، وأما الحيّات عامة فإنها تطلب الفأر طلبا شديدا. وربما رأيت الحيّة وما يكون غلظها إلا مثل غلظ إبهام الكبير، ثم أجدها قد ابتلعت الجرذ أغلظ من الذّراع. فأنكر نتن الحيّات إلا من هذا الوجه. ولم أر الذي قال قولا.
1404 [رجز في الجرذان]
ودخل أعرابيّ بعض الأمصار، فلقي من الجرذان جهدا، فرجز بها ودعا عليها، فقال [4]: [من الرجز]
[1] انظر الخبر في عيون الأخبار 3/ 129، وربيع الأبرار 5/ 472.
[2] المخراق: منديل أو نحوه، يلف ويلوى ليضرب به أو يفزع به.
[3] الجروم: جمع جرم، وهو الجسد.
[4] الرجز في ربيع الأبرار 5/ 470، وديوان المعاني 2/ 151، ونهاية الأرب 10/ 168.(5/140)
يعجّل الرحمن بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب ... حتى يعجّلن إلى الثياب ... كحل العين وقصّ الرقاب [1] ... مستتبعات خلفة الأذناب ... مثل مداري الحصن السّلّاب [2]
ثم دعا عليهنّ بالسّنّور فقال:
أهوى لهنّ أنمر الإهاب ... منهرت الشّدق حديد النّاب [3] ... كأنما برثن بالحراب
1405 [تشبيه عضلات الإنسان بالجرذان]
وتوصف عضل الحفّار والماتح [4] والذي يعمل في المعادن، فتشبّه بالجرذان، إذا تفلّق لحمه عن صلابة، وصار زيما [5]. قال الرّاجز [6]: [من الرجز] أعددت للورد، إذا الورد حفز ... غربا جرورا وجلالا خزخز [7] ... وماتحا لا ينثني إذا احتجز ... كأنّ جوف جلده إذا احتفز [8] ... في كلّ عضو جرذين أو خزز
والخزز: ذكر الأرانب واليرابيع.
1406 [أنواع الفأر]
والزّباب، والخلد، واليرابيع، والجرذان، كله فأر. ويقال لولد اليرابيع درص وأدراص. والخلد أعمى، لا يزال كذلك. والزّباب أصمّ، لا يزال كذلك. وأنشد [9]:
[من مجزوء الكامل]
[1] وقص: جمع وقصاء، وهي القصيرة العنق.
[2] المداري: جمع مدرى، وهو المشط. الحصن: جمع حصان، ووهي المرأة العفيفة.
[3] الإهاب: الجلد. منهرت: واسع. الحديد: الحاد.
[4] الماتح: الذي نيزع الماء من رأس البئر.
[5] أيما: متفرقا.
[6] الرجز بلا نسبة في اللسان والتاج (خزز)، والجمهرة 1167، والمنصف 1/ 27، والتهذيب 6/ 555، وسر صناعة الإعراب 2/ 477.
[7] الغرب: الدلو العظيمة. الجلال: الجليل العظيم، وأراد به البعير. الخزخز: القوي الشديد.
[8] الماتح: الذي ينزع الماء من رأس البئر. احتجز: شد إزاره على حجزته، والحجزة: معقد الإزار احتفز: اجتهد.
[9] تقدم البيت في الفقرة (2015)، 4/ 458، وهو للحارث بن حمزة. في عيون الأخبار 2/ 96،(5/141)
وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا
هكذا أنشدونا.
1407 [شعر وخبر في الفأر]
وأنشد الأصمعي لمزرّد بن ضرار، في تشبيه الجرع في حلوق [1] الإبل بجثمان [2] الزّباب وهو الشكل الذي وصفناه فقال في وصف ضيف له سقاه، فوصف جرعه:
[من الطويل] فقلت له اشرب لو وجدت بهازرا ... طوال الذّرى من مفرهات خناجر [3] ... ولكنما صادفت ذودا منيحة ... لمثلك يأتي للقرى غير عاذر [4] ... فأهوى له الكفّين وامتدّ حلقه ... بجرع كأثباج الزّباب الزّنابر [5]
وقال أعرابيّ وهو يطنز [6] بغريم له، ويذكر قرص الفأر الصّكاك، عند فراره منه:
«الزم الصّكّ لا يقرضه الفأر!» تهزّؤوا به [7]: [من البسيط] أهون عليّ بسيّار وصفوته ... إذا جعلت ضرارا دون سيّار [8] ... التّابعي ناشرا عندي صحيفته ... في السوق بين قطين غير أبرار [9] ... جاؤوا إليّ غضابا يلغطون معا ... يشفي إراتهم أن غاب أنصاري [10] ... لمّا أبوا جهرة إلا ملازمتي ... أجمعت مكرا بهم في غير إنكار
واللسان والتاج (بب)، والخزانة 5/ 113، والتهذيب 13/ 171، والمعاني الكبير 656.
[1] الحلوق: جمع حلق.
[2] الجثمان: الجسم.
[3] البهازر: جمع بهزرة، وهي الناقة الجسمية الضخمة. الذرى أعالي أسنمة الإبل. المفرهات: التي تلد الفره، والفره: جمع فاره: وهو النشيط القوي. الخناجر: جمع خنجر وخنجرة، وهي الناقة الغزيرة.
[4] الذود: الجماعة من الإبل. المنيحة: منحة اللبن.
[5] أثباج: جمع ثبج، وهو معظم كل شيء. الزنابر: جمع زنبور.
[6] الطنز: السخرية.
[7] الأبيات لصخر بن الجعد في الأغاني 22/ 38، ومعجم البلدان 1/ 301 (بئر مطلب)، وبلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 254، والعقد الفريد 2/ 300، والوحشيات 296. ر
[8] الصفوة: خالص الأصدقاء.
[9] القطين: الأتباع.
[10] اللغط: الجلبة. الإرات: جمع إرة، وهي النار.(5/142)
وقلت: إني سيأتيني غدا جلبي ... وإنّ موعدكم دار ابن هبّار ... وما أواعدهم إلا لأربثهم ... عني فيخرجني نقضي وإمراري [1] ... وما جلبت إليهم غير راحلة ... تخدي برحلي وسيف جفنه عاري [2] ... إنّ القضاء سيأتي دونه زمن ... فاطو الصحيفة واحفظها من الفار ... وصفقة لا يقال الرّبح تاجرها ... وقعت فيها وقوع الكلب في النار [3]
1408 [تشبيه فم الإنسان بفم الفأرة]
والعرب تعيب الإنسان إذا كان ضيّق الفم، أو كان دقيق الخطم، يشبّهون ذلك بفم الفأرة. وقال عبدة بن الطبيب [4]: [من البسيط] ما مع أنك يوم الورد ذو لغط ... ضخم الجزارة بالسّلمين وكّار [5] ... تكفي الوليدة في الباديّ مؤتزرا ... فاحلب فإنك حلّاب وصرّار [6] ... ما كنت أول ضبّ صاب تلعته ... غيث فأمرع واسترخت به الدار [7] ... أنت الذي لا نرجّي نيله أبدا ... جلد النّدى، وغداة الرّوع خوّار [8] ... تدعو بنيّيك عبّادا وحذيمة ... فا فأرة شجّها في الجحر محفار [9]
1409 [شعر أبي الشمقمق في الفأر والسنور]
وقال أبو الشّمقمق [10] في الفأر والسّنّور: [من الخفيف] ولقد قلت حين أقفر بيتي ... من جراب الدّقيق والفخّاره ... ولقد كان آهلا غير قفر ... مخصبا خيره كثير العماره ... فأرى الفأر قد تجنّبن بيتي ... عائذات منه بدار الإماره
[1] ربثته: حبسته عن حاجته. النقض: نقض الفتل. الإمرار: إجادة فتل الحبل.
[2] تخدي: تسرع.
[3] يقال: يفسخ. أقلته البيع: فسخته.
[4] ديوان عبدة بن الطبيب 38، ونوادر أبي زيد 47.
[5] اللغط: الجلبة. الجزارة: القوائم، يعني بها يديه ورجليه. السلم: الدلو. الوكار: الممتلئ.
[6] الصرار: الذي يصر ضرع الناقة بالصرار لئلا يحتلبها حالب.
[7] التلعة: ما ارتفع من الأرض.
[8] الخوار: الضعيف.
[9] بنييك: مثنى بني، وهو تصغير ابن. شجّ: كسر. المحفار: ما يحتفر به.
[10] ديوان أبي الشمقمق 139138.(5/143)
ودعا بالرّحيل ذبّان بيتي ... بين مقصوصة إلى طيّاره ... وأقام السّنّور في البيت حولا ... ما يرى في جوانب البيت فاره ... ينغض الرّأس منه من شدّة الجو ... ع وعيش فيه أذى ومراره [1] ... قلت لمّا رأيته ناكس الرّأ ... س كئيبا، في الجوف منه حراره ... ويك صبرا فأنت من خير سن ... ور رأته عيناي قطّ بحاره ... قال: لا صبر لي، وكيف مقامي ... ببيوت قفر كجوف الحماره ... قلت: سر راشدا إلى بيت جار ... مخصب رحله عظيم التّجاره ... وإذا العنكبوت تغزل في دنّي ... وحبّي والكوز والقرقاره [2] ... وأصاب الجحام كلبي فأضحى ... بين كلب وكلبة عيّاره [3]
وقال أيضا: [من الخفيف] ولقد قلت حين أجحرني البر ... د كما تجحر الكلاب ثعاله [4] ... في بييت من الغضارة قفر ... ليس فيه إلا النّوى والنّخاله [5] ... عطّلته الجرذان من قلّة الخير ... وطار الذّباب نحو زباله [6] ... هاربات منه إلى كلّ خصب ... جيدة لم يرتجين منه بلاله [7] ... وأقام السّنّور فيه بشرّ ... يسأل الله ذا العلا والجلاله ... أن يرى فأرة، فلم ير شيئا ... ناكسا رأسه لطول الملاله ... قلت لمّا رأيته ناكس الرأ ... س كئيبا يمشي على شرّ حاله ... قلت صبرا يا ناز رأس السّنا ... نير، وعلّلته بحسن مقاله [8] ... قال: لا صبر لي، وكيف مقامي ... في قفار كمثل بيد تباله [9]
[1] ينغض الرأس: يحركه إلى فوق وإلى أسفل.
[2] الدن: الراقود العظيم، وهو كهيئة الحب. والحب: الجرة الضخمة. القرقارة: الإناء.
[3] الجحام: داء يأخذ الكلب في رأسه.
[4] أجحره: جعله يدخل في جحره. ثعالة: علم للثعلب.
[5] بييت: تصغير بيت. الغضارة: الطين اللازب الأخضر.
[6] زبالة: موضع بعد القاع من الكوفة.
[7] البلالة: الندوة.
[8] ناز: كلمة فارسية تعني السنور. انظر معجم استينجاس 1372.
[9] بيد: جمع بيداء، وهي الفلاة. تبالة: بلد من أرض تهامة في طريق اليمن.(5/144)
لا أرى فيه فأرة أنغض الرأ ... س ومشيي في البيت مشي خياله [1] ... قلت: سر راشدا فخار لك الله ... ولا تعد كربج البقاله [2] ... فإذا ما سمعت أنّا بخير ... في نعيم من عيشة ومناله ... فائتنا راشدا ولا تعدونّا ... إن من جاز رحلنا في ضلاله ... قال لي قولة، عليك سلام ... غير لعب منه ولا ببطاله [3] ... ثمّ ولّى كأنه شيخ سوء ... أخرجوه من محبس بكفاله
وقال أيضا [4]: [من مجزوء الرمل] نزل الفأر ببيتي ... رفقة من بعد رفقه ... حلقا بعد قطار ... نزلوا بالبيت صفقه ... ابن عرس رأس بيتي ... صاعدا في رأس نبقه ... سيفه سيف حديد ... شقّه من ضلع سلقه [5] ... جاءنا يطرق باللّيل ... فدقّ الباب دقّه ... دخل البيت جهارا ... لم يدع في البيت فلقه [6] ... وتترّس برغيف ... وصفق نازويه صفقه [7] ... صفقة أبصرت منها ... في سواد العين زرقه ... زرقة مثل ابن عرس ... أغبش تعلوه بلقه [8]
وقال أيضا: [من مجزوء الرمل] أخذ الفأر برجلي ... جفلوا منها خفافي [9] ... وسراويلات سوء ... وتبابين ضعاف [10]
[1] أنغض الرأس: أحركه إلى فوق وإلى أسفل.
[2] كربج: حانوت البقال. انظر معجم استينجاس 1021.
[3] البطالة: اللهو والجهالة.
[4] الأبيات (1، 3، 8، 9) في حياة الحيوان 2/ 99 (ابن عرس).
[5] السلقة: الأنثى من الذئاب.
[6] الفلقة: الكسرة من الخبز.
[7] تترس بالشيء: جعله كالترس. نازويه: كلمة فارسية تعني السنور. انظر معجم استينجاس 1372.
[8] الأغبس: ما لونه الغبسة، وهي لون الرماد. البلقة: سواد وبياض.
[9] جفلوا: نزعوا. خفاف: جمع خف.
[10] التبابين: جمع تبان، وهو سروال صغير مقدار شبر يستر العورة.(5/145)
درجوا حولي بزفن ... وبضرب بالدّفاف [1] ... قلت: ما هذا؟ فقالوا: ... أنت من أهل الزّفاف ... ساعة ثمّت جازوا ... عن هواي في خلاف ... نقروا استي وباتوا ... دون أهلي في لحافي ... لعقوا استي وقالوا ... ريح مسك بسلاف [2] ... صفعوا نازوية حتى ... استهلّت بالرّعاف [3]
1410 [أحاديث في الفأرة والهرة]
يروى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال [4]: «خمس يورثن النسيان: أكل التفاح، وسؤر الفأرة، والحجامة في النقرة، ونبذ القملة، والبول في الماء الراكد».
وابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال [5]: «إذا رقدت فأغلق بابك، وخمّر إناءك، وأوك سقاءك، وأطفئ مصباحك فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يكشف إناء، ولا يحل وكاء، وإن الفأرة الفويسقة تحرّق على أهل البيت».
قالوا: في قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في السنانير: «إنهنّ من الطّوّافات عليكم» [6]، وفي تفريقه بين سؤر السّنّور وسؤر الكلب دليل على حبّه لاتخاذهنّ. وليس لاتخاذهنّ وجه إلا إفناء الفأر وقتل الجرذان. فكأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما أحبّ استحياء السنانير، فقد أحبّ إهلاك الفأر.
وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال [7]: «عذبت امرأة في هرّة سجنتها ويقال: ربطتها فلم تطعمها ولم تسقها، ولم ترسلها تأكل من خشاش الأرض».
[1] الزفن: الرقص. الدفاف: جمع دف.
[2] السلاف: الخمر الخالصة.
[3] الرعاف: سيلان دم الأنف.
[4] انظر عيون الأخبار 3/ 272: وسيأتي الحديث ص 204.
[5] انظر الحاشية الرابعة للصفحة 65.
[6] أخرجه أبو داود في الطهارة 1/ 19، والترمذي في الطهارة 1/ 154، وأحمد في المسند 5/ 296.
[7] أخرجه البخاري في المساقاة برقم 2235، 2236، وفي بدء الخلق برقم 3140، وفي الأنبياء 3295.(5/146)
وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال [1]: «دخلت امرأة ممن كان قبلكم النار في هرّة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تصيب من خشاش الأرض [2]، حتى ماتت فأدخلت النار، كلما أقبلت نهشتها، وكلما أدبرت نهشتها».
قال: وذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، صاحب المحجن يجرّ قصبه [3] في النار حتى قال [4]:
«وحتى رأيت فيها صاحبة الهرّة التي ربطتها، فلم تدعها تأكل من خشاش الأرض».
1411 [وصف السنور بصفة الأسد]
قال ابن يسير في صفة السّنّور فوصفه بصفة الأسد، إلا ما وصفه به من التنمير، فإن السنور يوصف بصفة الأسد، إذا أرادوا به الصورة والأعضاء، والوثوب والتخلّع في المشي. ألا إن في السنانير السود والنّمر والبلق [5]، والخلنجيّة [6]. وليس في ألوان الأسد من ذلك شيء، إلا كما ترون في النوادر: من الفأرة البيضاء، والفاختة البيضاء، والورشان الأبيض، والفرس الأبيض فقال ابن يسير في دعائه على حمام ذلك الجار حين انتهى إلى ذكر السنور [7]: [من الكامل] وخبعثن في مشيه متبهنس ... خطف المؤخّر كامل التصدير [8] ... مما أعير مفرّ أغضف ضيغم ... عن كلّ أعصل كالسّنان هصور [9] ... متسربل ثوب الدّجى أو غبشة ... شيبت على متنيه بالتّنمير [10]
[1] أخرجه البخاري في المساقاة برقم 2235، 2236، وفي بدء الخلق برقم 3140، وفي الأنبياء 3295.
[2] خشاش الأرض: الحشرات والهوام وما أشبهها.
[3] المحجن: كل عصا معوجة. القصب: اسم للأمعاء.
[4] مسند أحمد 3/ 318.
[5] البلق: جمع أبلق، وهو الذي فيه بياض وسواد.
[6] الخلنجية: التي لها خطوط وطرائق مثل الخطوط والطرائق التي ترى في خشب الخلنج، والتي ترى في الجزع، وهو الخرز اليماني. انظر معجم استينجاس 472.
[7] ديوان محمد بن يسير الرياشي 80.
[8] الخبعثن: الأسد، وأراد به هنا السنور. المتبهنس: المتبختر. التصدير: حزام البعير، وأراد به هنا موضع الحزام.
[9] فرّ الدابة: كشف عن أسنانها ليعرف عمرها. الأغضف: الأسد المسترخي جفنه الأعلى على عينه.
الأعصل: المعوج. الهصر: الكسر.
[10] الغبشة: ظلمة آخر الليل.(5/147)
يختصّ كلّ سليل سابق غاية ... محض النّجار مهذّب مخبور [1]
1412 [فزع الناقة من الهر]
وإذا وصفوا الناقة بأنها رواع [2] شديدة التفزّع، لفرط نشاطها ومرحها، وصفوها بأن هرّا قد نيّب [3] في دفّها. وأكثر ما يذكرون في ذلك الهرّ لأنه يجمع العضّ بالناب، والخمش بالمخالب. وليس كل سبع كذلك.
وقال ضابئ بن الحارث [4]: [من الطويل] بأدماء حرجوج ترى تحت غرزها ... تهاويل هرّ أو تهاويل أخيلا [5]
وقد أوس بن حجر [6]: [من البسيط] كأن هرّا جنيبا تحت مغرضها ... والتفّ ديك برجليها وخنزير [7]
وقال عنترة [8]: [من الكامل] وكأنّما ينأى بجانب دفّها ال ... وحشيّ من هزج العشيّ مؤوّم [9] ... هرّ جنيب كلما عطفت له ... غضبى اتّقاها باليدين وبالفم [10]
والفيل يفزع من السّنور فزعا شديدا.
1413 [شعر في هجاء السّنّور]
ومما يقع في باب الهجاء، للسنور، قول عبد الله بن عمرو بن الوليد، في أمّ سعيد بنت خالد: [من الوافر]
[1] السليل: الولد. سابق غابة: يسبق إلى الغاية. مخبور: من خبره: إذا امتحنه.
[2] رواع: من الروع، وهو الفزع.
[3] نيّب: عض بالناب.
[4] البيت في الأصمعيات 181.
[5] أدماء: يريد ناقة بيضاء. الحرجوج: الجسيمة الطويلة على وجه الأرض. الغرز: للناقة مثل الحزام للفرس. التهاويل: ما يهول به. الأخيل: طائر صغير يتشاءمون به.
[6] ديوان أوس بن حجر 42، والموشح 86، وعيار الشعر 179.
[7] في ديوانه: «جنيب: مجنوب، جنب الدابة قادها إلى جنبه. الغرضة: حزام الرحل.
[8] البيتان من معلقة عنترة في ديوانه 2221، واللسان والتاج (هزج)، والأول في اللسان (وحش، دفف، أوم)، والتاج (أوم)، وبلا نسبة في المخصص 1/ 61، والثاني في اللسان (غضب).
[9] في ديوانه «الدف: الجنب. الجانب الوحشي: اليمين. الهزج: الصوت. المؤوم: القبيح الرأس العظيمة. قوله: من هزج العشي، أي: من خوف هزج العشي».
[10] هر: بدل من هزج العشي. اتقاها: استقبلها.(5/148)
وما السّنّور في نفسي بأهل ... لغزلان الخمائل والبراق [1] ... فطلّقها فلست لها بأهل ... ولو أعطيت هندا في الصّداق [2]
1414 [الرجم بالسنانير والكلاب]
قال صاحب الكلب: قالوا: ولما مات القصبيّ وكان من موالي بني ربيعة بن حنظلة، وهو عمرو القصبي، ومات بالبصرة رجم بالسنانير الميّتة. قال: وقد صنعوا شبيها بذلك بخالد بن طليق، حين زعم أهله أن ذلك كان عن تدبير محمد بن سليمان.
وقالوا: ولم نر الناس رموا أحدا بالكلاب الميّتة. والكلاب أكثر من السنانير حيّة وميّتة. فليس ذلك إلا لأن السنانير أحقر عندهم وأنتن.
1415 [استطراد لغوي]
قال: ويقال للجرذان العضلان. وأولاد الفأر أدراص، والواحد درص. وكذلك أولاد اليرابيع. يقال: أدراص ودروص. وقال أوس بن حجر [3]: [من الطويل] وودّ أبو ليلى طفيل بن مالك ... بمنعرج السّوبان لو يتقصّع [4]
قال: واليرابيع: ضرب من الفأر. قال: ويقال: نفّق اليربوع ينفّق تنفيقا: إذا عمل النافقاء، وهي إحدى مجاحره، ومحافره. وهي النافقاء والقاصعاء، والدّامّاء، والراهطاء. وقال الشاعر [5]: [من الوافر] فما أمّ الرّدين وإن أدلّت ... بعالمة بأخلاق الكرام ... إذا الشيطان قصّع في قفاها ... تنفّقناه بالحبل التّؤام [6]
[1] البراق: جمع برقة وهي أرض ذات حجارة مختلفة الألوان.
[2] الهند: اسم للمائة من الإبل. الصداق: المهر.
[3] ديوان أوس بن حجر 58، ومعجم ما استعجم 709 (السؤبان)، والجمهرة 367، وبلا نسبة في المقاييس 5/ 92.
[4] في ديوانه: «يريد: تمنى لو يختفي. وأصله من تقصع اليربوع، وهو أن يدخل قاصعاءه.
والسؤبان: واد في ديار بني تميم ويوم من أيام عامر وتميم وفيه فرّ طفيل بن مالك».
[5] البيتان بلا نسبة في اللسان والتاج (نفق)، والتهذيب 9/ 193، والثاني في اللسان والتاج والأساس (قصع).
[6] تنفقناه: استخرجناه. التؤام: المزدوجات.(5/149)
فإذا طلب من إحدى هذه الحفائر نافق، أي فخرج النّافقاء، وإن طلب من النافقاء قصّع. ويقال: أنفقته إنفاقا: إذا صاح به حتى يخرج. ونفق هو: إذا خرج من النافقاء.
1416 [احتيال اليرابيع]
وفي احتيال اليرابيع بالنافقاء، والقاصعاء، والدّمّاء والرّاهطاء، وفي جمعها التراب على نفس باب الجحر، وفي تقدمها بالحيلة والحراسة، وفي تغليطها لمن أرادها، والتّورية بشيء عن شيء، وفي معرفتها بباب الخديعة، وكيف توهم عدوّها خلاف ما هي عليه، ثم في وطئها على زمعاتها [1]، في السهولة وفي الأرض اللينة، كي لا يعرف أثرها الذي يقتصّه [2]، وفي استعمالها واستعمال بعض ما يقاربها في الحيلة التوبير والتوبير: الوطء على مآخير أكفّها العجب العجيب.
1417 [أنفاق الزباء]
وزعم أبو عقيل بن درست، وشدّاد الحارثيّ، وحسين الزهريّ أن الزباء الروميّة إنما عملت تلك الأنفاق التي ذكرها الشاعر فقال [3]: [من الوافر] أقام لها على الأنفاق عمرو ... ولم تشعر بأنّ لها كمينا
على تدبير اليرابيع في محافيرها هذه، ومخارجها التي أعدّتها ومداخلها، وعلى قدر ما يفجؤها من الأمر.
وأن أهل تبّت والرّوم، إنما استخرجوا الاحتيال بالأنفاق والمطامير والمخارق على تدبير اليرابيع.
1418 [اشتقاق المنافق]
وإنما سمّى الله عزّ وجلّ الكافر في باطنه المورّي بالإيمان، والمستتر بخلاف ما يسرّ بالمنافق، على النافقاء والقاصعاء، وعلى تدبير اليربوع في التورية بشيء عن شيء. قال الشاعر [4]: [من الوافر] إذا الشيطان قصّع في قفاها ... تنفقّناه بالحبل التّؤام
[1] الزمعات: الشعرات المدلاة في مؤخر رجل الشاة والظبي.
[2] يقتصه: يتتبعه.
[3] ديوان عدي بن زيد 183.
[4] تقدم البيت في 149.(5/150)
وهذا الاسم لم يكن في الجاهلية لمن عمل بهذا العمل. ولكن الله عزّ وجلّ اشتق لهم هذا الاسم من هذا الأصل.
1419 [كلمات إسلامية لم تكن في الجاهلية]
وقد علمنا أن قولهم لمن لم يحجّ: «صرورة» [1]، ولمن أدرك الجاهلية والإسلام: «مخضرم» [2]، قولهم وتسميتهم لكتاب الله: «قرآنا» «فرقانا»، وتسميتهم للتمسّح بالتراب: «التيمّم»، وتسميتهم للقاذف ب «فاسق» أن ذلك لم يكن في الجاهلية.
وإذا كان للنابغة أن يبتدئ الأسماء على الاشتقاق من أصل اللغة، كقوله [3]:
[من البسيط] والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد [4]
وحتى اجتمعت العرب على تصويبه، وعلى اتباع أثره، وعلى أنها لغة عربية فالله الذي له أصل اللغة أحقّ بذلك.
1420 [شعر شمّاخ في الزّموع]
وذكر شمّاخ بن ضرار الزّموع [5]، وكيف تطأ الأرنب على زمعاتها [5] لتغالط الكلاب وجميع ما يطالبها فذكر بديئا شأن العير والعانة، فقال [6]: [من الوافر] إذا ما استافهنّ ضربن منه ... مكان الرّمح من أنف القدوع [7]
[1] في النهاية 3/ 22 «الصرورة: أصله من الصر: الحبس والمنع».
[2] في النهاية 2/ 42 «قيل لكل من أدرك الجاهلية والإسلام مخضرم، لأنه أدرك الخضرمتين. وأصل الخضرمة: أن يجعل الشيء بين بين».
[3] صدر البيت: (إلا الأواري لأيا ما أبيّنها)، وهو في ديوان النابغة الذبياني 15، والأغاني 11/ 31، والخزانة 4/ 122، 11/ 36، واللسان (جلد، ظلم، بين)، والكتاب 2/ 321، والدرر 3/ 159، 6/ 257، والمقاصد النحوية 4/ 315، 578.
[4] في ديوانه: «الأواري: محابس الخيل ومرابطها. النؤي: حاجز من تراب حول الخباء لئلا يدخله السيل. المظلومة: الأرض التي لم تمطر فجاءها السيل فملأها. الجلد: الأرض الصلبة».
[5] الزمعات: الشعرات المدلاة في مؤخر رجل الأرنب.
[6] ديوان الشماخ 232227.
[7] في ديوانه: «استافهن: شمهن. القدوع: الفحل يريد الناقة الكريمة ولا يكون كريما، فلا يزال يضرب أنفه بالرمح أو غيره حتى يرجع.(5/151)
وقد جعلت ضغائنهنّ تبدو ... بما قد كان نال بلا شفيع [1] ... مدلّات، يردن النّأي منه ... وهنّ بعين مرتقب تبوع [2]
ثم أخذ في صفة العقاب، وصار إلى صفة الأرنب فقال:
كأنّ متونهنّ مولّيات ... عصيّ جناح طالبة لموع [3] ... قليلا ما تريث إذا استفادت ... غريض اللّحم عن ضرم جزوع [4]
ثم قال:
فما تنفكّ بين عويرضات ... تجرّ برأس عكرشة زموع [5] ... تطارد سيد صارات، ويوما ... على خزّان قارات الجموع [6] ... تلوذ ثعالب الشّرفين منها ... كما لاذ الغريم من التّبيع [7] ... نماها العزّ في قطن، نماها ... إلى فرخين في وكر رفيع [8] ... ترى قطعا من الأحناش فيها ... جماجمهنّ كالخشل النّزيع
والزّموع: التي تمشي على زمعاتها: مآخير رجليها قال أبو المفضل: توبّر بيديها، وتمشي على زمعاتها على رجليها، وهي مواضع الثّنن [9] من الدوابّ، والزّمع المعلّق خلف الظّلف من الشاة والظبي والثور.
[1] في ديوانه: «ضغائنهن: ما في قلوبهن من الحقد عليه. يريد: أنهن كنّ يمكنه منهن بلا حاجة إلى شفيع له في ذلك، فلما حملن أبدين ضغائنهن المخبوءة بما نال منهن من قبل».
[2] في ديوانه: «مدلات: جمع مدلة، من أدلت المرأة: إذا أبدت غضبا وهي راضية. النأي: البعد».
[3] في ديوانه: «متونهن: ظهورهن. موليات: مدبرات. عصي جناح: أصول الريش. طالبة: يريد عقابا طالبة للصيد. لموع: من لمع الطائر بجناحيه: حركهما في طيرانه وخفق بما».
[4] في ديوانه «تريث: تبطئ. غريض اللحم: طريه. الضرم: الشديد الجوع».
[5] في ديوانه: «عويرضات: اسم موضع كثير الآبار والحياض. العكرشة: الأرنبة الضخمة. زموع:
تمشي على زمعتها، وهي الشعرة المدلاة في مؤخر رجلها».
[6] في ديوانه: «السيد: الذئب. صارات، جمع صارة، وصارة: اسم جبل في ديار بني أسد، وقيل: جبل قرب فيد، وقيل: جبل بين تيماء ووادي القرى. خزان: جمع خرز، وهو ذكر الأرانب. قارات:
جمع قارة: وهي الجبل الصغير والأكمة العظيمة الجموع. الجماعات، يريد: جموع أحياء العرب».
[7] في ديوانه: «تلوذ: تستتر وتفر. الغريم: الذي عليه الدين والذي له الدين جميعا، والمراد هنا الأول. التبيع: صاحب الدين. يعني: أن هذه الثعالب تجد في الهرب من العقاب، كما يجد المدين في الهرب من صاحب الدين».
[8] في ديوانه: «قطن: جبل بنجد في بلاد بني أسد. الوكر: عش الطائر. رفيع: مرتفع».
[9] الثنن: جمع ثنّة، وهي شعرات مدلاة في مؤخرة الحافر.(5/152)
قال: وكل ذلك توبير. وهو أن تطأ على مآخير قوائمها، كي لا يعرف أثرها إنسان ولا كلب.
وذكر أنها تطارد ذئبا مرّة، وخززا مرة، وهو الذّكر من الأرانب والعكرشة:
الأنثى، والخرنق: ولدها. فإذا قلت أرنب، أو عقاب فليس إلا التأنيث. هذه العقاب، وهذه الأرانب، إلا أن تقول: خزز.
وقطن: جبل معروف. والأحناش: الحيات. وأحناش الأرض: الضبّ، والقنفذ، واليربوع، وهي أيضا حشرات الأرض. فجعل الحية حنشا على قولهم: «قد آذتني دوابّ رأسي»: يعنون القمل وعلى قوله تعالى: {مََا دَلَّهُمْ عَلى ََ مَوْتِهِ إِلََّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [1].
قال أبو المفضّل العنبري: ما أراد إلا الحيّات بأعيانها في هذا الموضع، فإن العقبان أسرع إلى أكل الحيّات، من الحيّات إلى أكل الفأر. ويدلّ على أنه إنما أراد رؤوس الحيّات بأعيانها، قوله [2]: [من الوافر] ترى قطعا من الأحناش فيها ... جماجمهنّ كالخشل النزيع
لأن أرؤس الحيات سخيفة، قليلة اللّحم والعظام. فلذلك شبّهها بالخشل النزيع. والخشل: المقل السخيف اليابس الخفيف.
1421 [شعر فيه ذكر المقل والحتيّ]
قال خلف الأحمر [3]: [من الوافر] سقى حجّاجنا نوء الثّريّا ... على ما كان من مطل وبخل ... هم جمعوا النّعال فأحرزوها ... وسدّوا دونها بابا بقفل ... إذا أهديت فاكهة وشاة ... وعشر دجائج بعثوا بنعل ... ومسواكين طولهما ذراع ... وعشر من رديّ المقل خشل [4]
[1] 14/ سبأ: 34.
[2] انظر الكلام على هذا البيت في الصفحة السابقة.
[3] الأبيات لخلف الأحمر في البيان 3/ 111، وطبقات ابن المعتز 148، والشعر والشعراء 764 (شاكر)، والبيتان الأخيران في الوحشيات 235، والأبيات بلا نسبة في عيون الأخبار 3/ 38.
[4] المقل: ثمر الدّوم. الخشل: المقل السخيف اليابس الخفيف.(5/153)
فإن أهديت ذاك ليحملوني ... على نعل فدقّ الله رجلي [1] ... أناس تائهون، لهم رواء [2] ... تغيم سماؤهم من غير وبل [3] ... إذا انتسبوا ففرع من قريش ... ولكنّ الفعال فعال عكل [4]
والحتيّ، المقل على وجهه، وقال أبو ذؤيب [4]: [من البسيط] لا درّ درّي إن أطعمت نازلهم ... قرف الحتيّ وعندي البرّ مكنوز [5]
باب آخر مما للسنور فيه فضيلة على جميع أصناف الحيوان ما خلا الإنسان
وإذا قال القائل: فلان وضع كتابا في أصناف الحيوان فليس يدخل فيها الملائكة والجنّ. وعلى هذا كلام الناس.
وللحيوان موضع آخر، وهو قول الله عزّ وجلّ في كتابه: {وَإِنَّ الدََّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوََانُ} [6].
قد علمنا أن العجم من السّباع والبهائم، كلما قربت من مشاكلة الناس كان أشرف لها والإنسان هو الفصيح وهو الناطق.
1422 [إطلاق الناطق على الحيوان]
وقد يشتقّون لسائر الحيوان الذي يصوّت ويصيح، اسم الناطق إذا قرنوه في
[1] الدق: الكسر.
[2] تائهون: من التيه، وهو الكبر. الرواء: من الرؤية، وهو حسن المنظر في البهاء. الوبل: المطر الغزير.
[3] عكل: قبيلة فيهم غباوة وقلة فهم.
[4] البت لأبي ذؤيب الهذلي في البيان 1/ 17، وشرح شواهد الشافية 488، وللمتنخل الهذلي في الجمهرة 67، والسمط 157، وشرح أشعار الهذليين 1263، وديوان الهذليين 2/ 87، واللسان (برر، كنز)، والتاج (حتي)، والمعاني الكبير 384، وللهذلي في الكتاب 2/ 89، واللسان (حتا)، وبلا نسبة في اللسان (درر).
[5] لا در دره: أي لا كان له خير يدر على الناس، وفي ديوان الهذليين: «يقول: لا رزقت الدر، كأنه قال ذلك لنفسه كالهازئ. وقرف كل شيء ما قرف يعني ققشره. والحتي: المقل، وهو الدّوم».
[6] 64/ العنكبوت: 29، والحيوان في هذه الآية مصدر كالحياة.(5/154)
الذكر إلى الصامت. ولهذا الفرق أعطوه هذه المشاكلة، وهذا الاشتقاق. فإذا تهيأ من لسان بعضها من الحروف مقدار يفضل به على مقادير الأصناف الباقية، كان أولى بهذا الاسم عندهم. فلما تهيأ للقطاة ثلاثة أحرف قاف. وطاء، وألف، وكان ذلك هو صوتها، سمّوها بصوتها. ثم زعموا أنها صادقة في تسميتها نفسها قطا. قال الكميت [1]: [من مجزوء الكامل] كالناطقات الصادقا ... ت الواسقات من الذّخائر [2]
وقال الآخر وذكر القطاة [3]: [من الطويل] وصادقة قد خبّرت، ما بعثتها ... طروقا، وباقي الليل في الأرض مسدف [4]
فجعلها مخبرة، وجعل خبرها صدقا، حين زعمت أنها قطا وإنّ كانت القطاة لم ترم [5] ذلك.
والعرب تتوسع في كلامها. وبأي شيء تفاهم الناس فهو بيان، إلا أن بعضه أحسن من بعض.
والذي تهيأ للشاة قولها: ما، ولذلك قال ذو الرّمة [6]: [من البسيط] لا يرفع الصّوت إلا ما تخوّنه ... داع يناديه باسم الماء مبغوم [7]
وقال أبو عبّاد النميريّ لخربق العميريّ، وكان يتعشّقه ورآه قد اشترى أضحية، فقال: [من المجتث] يا ذابح الماه ماه ... فعلت فعل الجفاه ... أما رحمت من المو ... ت يا خريبق شاه
والصبيان هم الذين يسمون الشاة: ماه، كأنهم سموها بالذي سمعوه منها، حين جهلوا اسمها.
[1] ديوان الكميت 1/ 236، وأساس البلاغة (أبي)، والعمدة 2/ 27.
[2] الواسقات: الجامعات.
[3] البيت للفرزدق في اللسان والتاج (عشش)، وليس في ديوانه.
[4] طروقا: ليلا. مسدف: مظلم.
[5] رام الشيء: أراده.
[6] ديوان ذي الرمة 390، والخزانة 4/ 344، والخصائص 3/ 29.
[7] الماء: حكاية صوت الشاة. بغمت الظبية: صاحت إلى ولدها بأرخم ما يكون من صوتها.(5/155)
وقيل لصبي يلعب على بابهم [1]: من أبوك يا غلام؟ وكان اسم أبيه كلبا فقال: وو وو.
وزعم صاحب المنطق، أن كل طائر عريض اللسان، والإفصاح بحروف الكلام منه أوجد.
ولابن آوى صياح يشبه صياح الصبيان. وكذلك الخنزير. وقد تهيأ للكلب مثل: عف عف، ووو وو، وأشباه ذلك. وتهيّأ للغراب القاف. وقد تهيّأ للهزاردستان وهو العندليب ألوان أخر، وقد تهيّأ للببغاء من الحروف أكثر. فإذا صرت إلى السنانير وجدتها قد تهيّأ لها من الحروف العدد الكثير، ومتى أحببت أن تعرف ذلك فتسمّع تجاوب السنانير، وتوعّد بعضها لبعض في جوف الليل، ثم أحص ما تسمعه وتتبّعه، وتوقّف عنده، فإنك ترى من عدد الحروف ما لو كان لها من الحاجات والعقول والاستطاعات ثمّ ألّفتها لكانت لغة صالحة الموضع، متوسّطة الحال.
1423 [العلة في صعوبة بعض اللغات]
واللغات إنما تشتدّ وتعسر على المتكلم بها على قدر جهله بأماكنها التي وضعت فيها، وعلى قدر كثرة العدد وقلّته، وعلى قدر مخارجها، وخفّتها وسلسها، وثقلها وتعقّدها في أنفسها، كفرق ما بين الزّنجي والخوزي فإن الرجل يتنخّس [2] في بيع الزّنج وابتياعهم شهرا واحدا فيتكلّم بعامّة كلامهم، ويبايع الخوز، ويجاورهم زمانا فلا يتعلّق منهم بطائل.
والجملة: أنّ من أعون الأسباب على تعلّم اللغة فرط الحاجة إلى ذلك. وعلى قدر الضرورة إليها في المعاملة يكون البلوغ فيها، والتقصير عنها.
1424 [مناسبة الهر للإنسان]
والسنور يناسب الإنسان في أمور [3]: منها أنه يعطس، ومنها أنه يتثاءب، ومنها أنه يتمطّى ويغسل وجهه وعينيه بلعابه، وتلطع الهرّة وبر جلد ولدها بعد الكبر، وفي الصغر، حتى يصير كأن الدّهان تجري في جلده.
[1] الخبر في البيان 1/ 64.
[2] يتنخس: يحترف النّخاسة، وهي بيع الرقيق والعبيد.
[3] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 427.(5/156)
1425 [ما يتهيأ للغربان من الحروف]
ويتهيأ لبعض الغربان من الحروف والحكاية ما لا يعشره [1] الببغاء.
1426 [نفع خرء الفأر]
وزعمت الأطباء أن خرء الفأر يسقاه صاحب الأسر فيطلق عن بوله. والأسر هو حصر البول ولكن لا يسمّى بذلك. وهو الأسر بالألف، دون الياء.
ويصيب الصبيّ الحصر فيحتمل من خرء الفأر فيطلق عنه. فقد تهيأ في خرء الفأر دواءان لداءين قاتلين مجهزين. ولذلك قيل [2] لأعرابيّ قد اجتمعت فيه أوجاع شداد: أيّ شيء تشتكي؟ قال: أمّا الذي يعمدني [3] فحصر وأسر.
1427 [استطراد لغوي]
يقال: خثى الثور يخثي خثيا. وواحد الأخثاء خثي كما ترى.
ويقال: خزق الطائر، وذرق، ومزق، وزرق.
قال ابن الأعرابيّ: لا يكون النّجو جعرا حتى يكون يابسا.
ويقال: ونم الذّباب. واسم نجوه: الونيم. وقال الشاعر [4]: [من الوافر] وقد ونم الذّباب عليه حتى ... كأنّ ونيمه نقط المداد
وهو ونيم الذّباب، وعرّة الطائر، وصوم النّعام، وروث الحمار، وبعر البعير والشاة والظبي، وخثي البقر.
وقال الزّبير: «من أهدى لنا مكتلا من عرّة أهدينا له مكتلا من تمر» [5].
[1] يعشره: يبلغ عشره.
[2] الخبر في البيان 1/ 410، واللسان 3/ 303 (عمد).
[3] عمده: أضناه وأوجعه.
[4] البيت للفرزدق في ديوانه 215 (الصاوي)، واللسان والتاج (ونم)، والمجمل 4/ 556، والجمهرة 992، وبلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 255، والمخصص 8/ 186، والتهذيب 15/ 535، 16/ 209، وتقدم البيت في 3/ 169.
[5] النهاية 3/ 205: (ومنه حديث سعد أنه كان يدمل أرضه بالعرة، أي يصلحها. وفي رواية: كان يحمل مكيال عرة إلى أرض له بمكة).(5/157)
قال: العرّة اسم لجميع ما يكون من جميع الحيوان. ولذا قال الزبير ما قال.
قال: ويقال: رمصت الدجاجة، وذرقت، وسلحت. فإذا صاروا إلى الإنسان والفأرة قالوا: خرء الإنسان وخرء الفأرة. ويقال خروءة الفأرة أدخلوا الهاء فيه، كما قالوا ذكورة للذّكران. وقد يستعار ذلك لغير الإنسان والفأرة. قالت دختنوس بنت لقيط بن زرارة، في يوم شعب جبلة [1]: [من مجزوء الكامل] فرّت بنو أسد خرو ... ء الطّير عن أربابها [2]
فلذلك يقال لبني أسد: خروء الطير. وقيل لهم: عبيد العصا [3] ببيت قاله صاحبهم بشر بن أبي خازم [4]، قالها لأوس بن حارثة: [من الطويل] عبيد العصا لم يتّقوك بذمة ... سوى سيب سعدى إنّ سيبك واسع [5]
1428 [اتقاء ألسن الشعراء]
فيجب على العاقل بعد أن يعرف ميسم الشّعر مضرّته، أن يتّقي لسان أخسّ الشّعراء وأجهلهم شعرا بشطر ماله بل بما أمكن من ذلك. فأما العربيّ أو المولى الرّاوية، فلو خرج إلى الشعراء من جميع ملكه لما عنّفته.
والذي لا يكثرث لوقع نبال الشعر، كما قال الباخرزيّ [6]: [من المنسرح] ما لي أرى الناس يأخذون ويعطو ... ن ويستمتعون بالنّشب [7] ... وأنت مثل الحمار أبهم لا ... تشكو جراحات ألسن العرب
[1] يوم شعب جبل: كان لعامر وعبس على ذبيان وتميم، واجتمعت فيه أسد وغطفان إلى لقيط، ودارت الدائرة على ذبيان وتميم، وقتل لقيط، وأسر أخوه حاجب. انظر معجم البلدان 2/ 104، والأغاني 11/ 131، والنقائض 654، والعمدة 2/ 203.
[2] البيت في الأغاني 11/ 146، والنقائض 666، ومعجم الأدبيات 225، وبلاغات النساء 256، وشاعرات العرب 52، ومراثي شواعر العرب 53، والدر المنثور 191، والجمهرة 1096.
[3] عبيد العصا: مثل يضرب للذليل الذي يكون نفعه في ضره، وعزه في إهانته. والمثل في مجمع الأمثال 2/ 19، والفاخر 192. والمستقصى 2/ 398، ثمار القلوب (895).
[4] ديوان بشر بن أبي خازم 115 (142)، والبيان 3/ 40، وثمار القلوب (895).
[5] في ديوانه: «السيب: العطاء. سعدى: هي سعدى بنت حصن الطائي أم أوس بن حارثة، وبشر يمدح أوس بن حارثة في هذا البيت. ويهجو بني أسد، وبنو أسد قوم بشر، فهو يتقرب إليه بهجاء قومه».
[6] البيتان بلا نسبة في عيون الأخبار 2/ 41.
[7] النشب: المال.(5/158)
ولأمر مّا قال حذيفة لأخيه، والرماح شوارع في صدره: «إياك والكلام المأثور» [1].
وهذا مذهب فرعت [2] فيه العرب جميع الأمم. وهو مذهب جامع لأسباب الخير.
1429 [استطراد لغوي]
قال: ويقال لموضع الغائط: الخلاء، والمذهب، والمخرج، والكنيف والحشّ، والمرحاض، والمرفق.
وكل ذلك كناية واشتقاق، وهذا أيضا يدلك على شدة هربهم من الدناءة والفسولة، والفحش والقذع.
قال: وعن اليزيديّ: رجع الرجل، من الرجيع وخبرني أبو العاص عن يونس، قال: ليس الرجيع إلا رجيع القول والسّفر والجرّة. قال الله تعالى: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ} [3] وقال الهذليّ وهو المتنخّل [4]:
[من السريع] أبيض كالرّجع رسوب إذا ... ما ثاخ في محتفل يختلي [5]
وفي الحديث [6]: «فلما قدمنا الشام وجدنا مرافقهم [7] قد استقبل بها القبلة، فكنّا ننحرف ونستغفر الله».
[1] قال حذيفة هذا القول في يوم الهباءة، وورد هذا القول في البيان 2/ 105، والعقد الفريد 3/ 316، وتقدم هذا القول في 60/ 3. ويقوم الهباءة: هو يوم الجفر، وكان لعبس على ذبيان، وفيه قتل حذيفة بن بدر وأخوه حم لسيدا بني فزارة. انظر العمدة 2/ 202، ومعجم البلدان 5/ 389 (هباءة).
[2] فرع القوم: علاهم شرفا.
[3] 11/ الطارق: 86، والرجع في هذه الآية هو المطر.
[4] البيت للمتنخل الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1260، واللسان (رسب، ثوخ، رجع، حفل)، والتاج (حفل)، والتهذيب 1/ 364، 5/ 77، والمخصص 6/ 21، 10/ 129، والتنبيه والإيضاح 1/ 283، وللهذلي في ديوان الأدب 1/ 116، وبلا نسبة في الجمهرة 460.
[5] في ديوان الهذليين 2/ 13: «الرجع: الغدير فيه ماء المطر. المحتفل: معظم الشيء، ومحتفل الوادي معظمه. ثاخ وساخ واحد، أي غاب. يختلي: يقطع. الرسوب: الذي إذا وقع غمض مكانه لسرعة قطعه».
[6] الحديث لأبي أيوب في النهاية 2/ 247 (رفق).
[7] مرافقهم: أراد الكنف والحشوش. «النهاية 2/ 247».(5/159)
1430 [شعر ابن عبدل في الفأرة والسنّور]
وقال ابن عبدل في الفأرة والسنّور: [من الخفيف] يا أبا طلحة الجواد أغثني ... بسجال من سيبك المقسوم [1] ... أحي نفسي فدتك نفسي فإني ... مفلس قد علمت ذاك عديم ... أو تطوّع لنا بسلف دقيق ... أجره إن فعلت ذاك عظيم [2] ... قد علمتم فلا تعامس عنّي ... ما قضى الله في طعام اليتيم [3]
أراد: لا تعامسوا. فاكتفى بالضمة من الواو. وأنشد [4]: [من الوافر] فلو أنّ الأطبّا كان حولي ... وكان مع الأطباء الأساة ... ليس لي غير جرّة وأصيص ... وكتاب منمنم كالوشوم [5] ... وكساء أبيعه برغيف ... قد رقعنا خروقه بأديم [6] ... وإكاف أعارنيه نشيط ... هو لحاف لكلّ ضيف كريم [7] ... ونبيذ مما يبيع صهيب ... يذر الشّيخ رمحه ما يقوم ... ربّ حلّا فقد ذكرت أصيصي ... ولحافي حتى يغور النّجوم ... كل بيت عليه نصف رعيف ... ذاك قسم عليهم معلوم ... فرّ منه مولّيا فار بيتي ... ولقد كان ساكنا ما يريم ... قلت: هذا صوم النصارى فحلّوا ... لا تليحوا شيوخكم في السّموم [8] ... ضحك الفأر ثم قلن جميعا ... أهو الحقّ كلّ يوم تصوم ... قلت: إن البراء قد قام في ال ... نّاس بإذن وأنت فينا ذميم [9] ... حملوا زادهم على خنفسات ... وقراد مخيّس مزموم [10]
[1] سجال: جمع سجل، وهو الدلو العظيمة. السيب: العطاء.
[2] السلف: الجراب الضخم.
[3] التعامس: التغافل.
[4] البيت بلا نسبة في مجالس ثعلب 88، والإنصاف 385، وشرح المفصل 7/ 5، 9/ 80، والمقاصد النحوية 4/ 551، والخزانة 5/ 229، 231، وهمع الهوامع 1/ 58، والدرر 1/ 178.
[5] الأصيص: إناء كهيئة الجرة له عروتان يحمل فيه الطين، أو هو الخابية تزرع فيه الرياحين.
[6] الأديم: الجلد.
[7] الإكاف: البرذعة. نشيط: اسم رجل.
[8] لا تليحوا: لا تهلكوا. السموم: الريح الحارة.
[9] البراء: الليلة الأولى أو الأخيرة، أو اليوم الأول أو الأخير من الشهر.
[10] خنفسات: جمع خنفسة. مخيس: مذلل. مزموم: وضع عليه الزمام.(5/160)
وإذا ضفدع عليه إكاف ... علّموه بعد النّفار الرّسيم [1] ... خطموا أنفه بقطعة حبل ... يا لقومي لأنفه المخطوم ... نصبوا منجنيقهم حول بيتي ... يا لقومي لبيتي المهدوم [2] ... وإذا في الغباء سمّ بريص ... قائم فوق بيتنا بقدوم [3] ... قلت: بيت الجرين مجمع صدق ... كان قدما لجمعكم معلوم [4] ... قلن: لولا سنّورتاه احتفرنا ... مسكنا تحت تمره المركوم [5] ... إن تلاق سنّورتاه فضاء ... تذرانا وجمعنا كالهزيم ... عشّش العنكبوت في قعر دنّي ... إنّ ذا من رزيّتي لعظيم ... ليتني قد غمرت دنّي حتى ... أبصر العنكبوت فيه يعوم ... غرقا لا يغيثه الدهر إلا ... زبد فوق رأسه مركوم ... مخرجا كفّه ينادي ذبابا ... أن أغثني فإنني مظلوم ... قال ذرني فلن أطيق دنوّا ... من نبيذ يشمّه المزكوم
وقال في الفأر والسنور: [من المنسرح] قد قال سنّورنا وأعهده ... قد كان عضبا مفوّها لسنا [6] ... الو أصبحت عندنا جنازتها ... لحنّطت واشترى لها كفنا [7] ... ثم جمعنا صحابتي وغدوا ... فيهم كريب يبكي وقام لنا ... كلّ عجوز حلو شمائلها ... كانت لجرذان بيتنا شجنا [8] ... من كلّ حدباء ذات خشخشة ... أو جرذ ذي شوارب أرنا [9]
[1] الرسيم: ضرب من السير.
[2] المنجنيق: آلة حربية ثقيلة تستخدم لقذف الأحجار والسهام وقوارير النفط أو أي مقذوفات أخرى باتجاه العدو. وكلمة «منجنيق» دخلت العربية من الفارسية تحريفا لعبارة «من جه نيك» وقيل إنها تعني «أنا ما أجودني»، أو بكلمة «منجك» ومعناها «الارتفاع إلى فوق». انظر الأنيق في المناجنيق 16.
[3] الغباء: الغبار. سم بريص: أراد سام أبرص.
[4] الجرين: موضع التمر الذي يجفف.
[5] سنورتاه: مثنى سنورة. المركوم: المجموع.
[6] العضب: الحديد في الكلام.
[7] حنطت: طيبت بالحنوط، وهو طيب يخلط للميت خاصة.
[8] عجوز: أي من السنانير.
[9] حدباء: أي من الجرذان. الخشخشة: صوت كل شيء يابس. وأراد ما تصدره من صوت حين تقضم الخبز اليابس ونحوه. الأرن: النشيط.(5/161)
سقيا لسنّوة فجعت بها ... كانت لميثاء حقبة سكنا [1]
1431 [ضروب الفأر]
قال: والفأر ضروب: فمنها الجرذان والفأر المعروفان، وهما كالجواميس والبقر، وكالبخت والعراب. ومنها الزباب. ومنها الخلد. واليرابيع شكل من الفأر، واسم ولد اليربوع درص، مثل ولد الفأر.
ومن الفأر فأرة المسك [2]، وهي دويبة تكون في ناحية تبّت، تصاد لنوافجها وسررها [3]، فإذا اصطادها صائد عصب سرّتها بعصاب شديد، وسرّتها مدلاة، فيجتمع فيها دمها فإذا أحكم ذلك ذبحها.
وما أكثر من يأكلها فإذا ماتت قوّر السرة التي كان عصبها له والفأرة حيّة، ثم دفنها في الشعير حتى يستحيل ذلك الدم المحتقن هناك، الجامد بعد موتها، مسكا ذكيا، بعد أن كان ذلك الدّم لا يرام نتنا.
قال: وفي البيوت أيضا قد يوجد فأر مما يقال له: فأر المسك، وهي جرذان سود ليس عندها إلا تلك الرائحة اللازمة له.
قال: وفي الجرذان جنس لها عبث بالعقود والشّنوف [4]، والدراهم والدنانير، على شبيه بالذي عليه خلق العقعق [5] إلا أن هذه الجرذان تفرح بالدنانير والدراهم، وبخشخاش الحلي. وذلك أنها تخرجها من جحورها في بعض الزمان، فتلعب عليها وحواليها، ثم تنقلها واحدا واحدا، حتى تعيدها عن آخرها إلى موضعها.
فزعم الشّرقيّ بن القطاميّ وقد رووه عن شوكر أن رجلا [6] من أهل الشام اطّلع على جرذ يخرج من جحره دينارا دينارا، فلما رآه قد أخرج مالا صالحا استخفّه الحرص، فهمّ أن يأخذه، ثم أدركه الحزم، وفتح له الرزق المقسوم بابا من الفطنة،
[1] ميثاء: اسم لامرأة. الحقبة: مدة من الدهر. سكنا: هو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيره.
[2] هذا القول حتى قوله «لا يرام نتنا» نقله ابن منظور في اللسان 5/ 4342 (فأر)، والنويري في نهاية الأرب 10/ 171.
[3] النوافج: جمع نافجة، وهي وعاء المسك. السرر: جمع سرة وهي الوقبة في وسط البطن.
[4] الشنوف: جمع شنف، وهو القرط.
[5] العقعق: طائر مولع بالسرقة. انظر ما تقدم في ص 8584.
[6] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 473.(5/162)
فقال: الرأي أن أمسك عن أخذه ما دام يخرج، فإذا رأيته يدخل فعند أوّل دينار يغيّبه ويعيده إلى مكانه أثب عليه، فأجترف المال.
قال: ففعلت وعدت إلى موضعي الذي كنت أراه منه. فبينما هو يخرج إذ ترك الإخراج، ثم جعل يرقص ويثب إلى الهواء، ويذهب يمنة ويسرة ساعة، ثم أخذ دينارا فولّى به، فأدخله الجحر، فلما رأيت ذلك قمت إلى الدنانير فأخذتها، فلما عاد ليأخذ دينارا آخر فلم يجد الدنانير أقبل يثب في الهواء، ثم يضرب بنفسه الأرض، حتى مات.
وهذا الحديث من أحاديث النساء وأشباه النساء.
باب آخر يدّعونه للفأر
وهو الذي ينظر فيه أصحاب الفراسة في قرض الفأر، كما ينظر بعضهم في الخيلان [1]، وفي الأكتاف، وفي أسرار الكفّ [2].
ويزعمون [3] أنّ أبا جعفر المنصور نزل في بعض القرى، فقرض الفأر مسحا له كان يجلس عليه، فبعث به ليرفأ [4]، فقال لهم الرفّاء: إنّ هنا أهل بيت يعرفون بقرض الفأر ما ينال صاحب المتاع من خير أو شر، فلا عليكم أن تعرضوه عليهم قبل أن تصلحوه. فبعث المنصور إلى شيخهم، فلما وقعت عينه على موضع القرض وثب وقام قائما ثم قال: من صاحب هذا المسح؟ فقال المنصور: أنا. فقام ثم قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! والله لتلينّ الخلافة أو أكون جاهلا أو كذابا! ذكر هذا الحديث عمر بن مجمّع السّكوني الصّريمي وقد قضى على بعض البلدان.
[1] الخيلان: جمع خال، وهو نكتة سوداء في البدن.
[2] أسرار الكف: خطوطها.
[3] الخبر في نهاية الأرب 10/ 168.
[4] رفأ الثوب: لأم خرقه.(5/163)
1432 [فأرة المسك]
وسألت [1] بعض العطارين من أصحابنا المعتزلة عن فأرة المسك فقال: ليس بالفأرة، وهو بالخشف أشبه. ثم قصّ عليّ شأن المسك وكيف يصطنع. وقال، لولا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تطيّب بالمسك لما تطيّبت به، فأمّا الزباد [2] فليس مما يقرب ثيابي منه شيء.
قلت له: وكيف يرتضع الجدي من لبن خنزيرة فلا يحرم لحمه؟ قال: لأنّ ذلك اللبن استحال لحما، وخرج من تلك الطبيعة، ومن تلك الصورة، ومن ذلك الاسم.
وكذلك لحوم الجلّالة [3]. فالمسك غير الدّم، والخلّ غير الخمر. والجوهر ليس يحرم بعينه، وإنما يحرم للأعراض والعلل. فلا تقزّز منه عند تذكرك الدّم الحقين فإنه ليس به. وقد تتحوّل النار هواء، والهواء ماء، فيصير الشبه الذي بين الماء والنار بعيدا جدّا.
1433 [بيت الفأر]
والجرذان لا تحفر بيوتها على قارعة طريق، وتجتنب الخفض لمكان المطر، وتجتنب الجوادّ [4] لأن الحوافر تهدم عليها بيوتها. فإذا أخرجها وقع حافر فرس، مع هذا الصّنيع، دلّ ذلك على شدة الجري والوقع. وقال امرؤ القيس [5] يصف فرسه:
[من الطويل] فللسّوط ألهوب وللرّجل درّة ... وللزّجر منه وقع أهوج منعب [6]
[1] هذا الخبر نقله ابن منظور في اللسان 5/ 4342 (فأر)، وجعله متصلا مع الخبر الذي ورد في ص 162.
[2] الزباد: ضرب من الطب، وهو عرق حيوان يشبه السنور.
[3] الجلالة: التي تأكل العذرة وتتبع النجاسات.
[4] الجواد: جمع جادة، وهي معظم الطريق.
[5] ديوان امرئ القيس 51، والأول في اللسان والتاج (نعب)، والجمهرة 1193، والتهذيب 6/ 315، وبلا نسبة في المخصص 6/ 166، وهو بقافية (مهذب) في اللسان والتاج (لهب، هذب)، وبلا نسبة في المقاييس 5/ 214، والثاني في شرح شذور الذهب 202، والأساس (نوط)، والثالث في اللسان (عكد، غبا)، والتاج (عكد)، والتهذيب 8/ 208، والرابع في اللسان والتاج (نفق، خفي)، والمقاييس 2/ 202، والعين 4/ 314، والتهذيب 7/ 596، وبلا نسبة في التاج (جلب).
[6] في ديوانه: «يقول: إذا حركه بساقه ألهب الجري، أي أتى بجري شديد كالتهاب النار، وإذا ضربه بالسوط درّ بالجري، وإذا زجره وقع منه موقعه من الأهوج الذي لا عقل معه أي كأن هذا الفرس(5/164)
فأدرك، لم يعرق مناط عذاره ... يدرّ كخذروف الوليد المثقّب [1] ... ترى الفأر في مستعكد الأرض لاجئا ... إلى جدد الصحراء من شدّ ملهب [2] ... خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنّما ... خفاهنّ ودق من سحاب مركّب [3]
خفاهنّ: أظهرهنّ. وقرأ بعضهم: {إِنَّ السََّاعَةَ آتِيَةٌ أَكََادُ أُخْفِيهََا} [4]، بفتح الألف [5] أي أظهرها. وقال امرؤ القيس [6]: [من المتقارب] فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
وقال أعرابيّ [7]: إن بني عامر جعلتني على حنديرة [8] أعينها، تريد أن تختفي دمي [9].
1434 [استطراد لغوي]
وقال أبو عبيدة: أربعة أحرف تهمزها عقيل من بين جميع العرب، تقول [10]:
فأرة، ومؤسى، وجؤنة، وحؤت [11].
مجنون أهوج لما يبدو من شدة حركته ونشاطه عند الزجر. والمنعب: الذي يستعين بعنقه. في الجري ويمده».
[1] رواية صدر البيت في الديوان «فأدرك لم يجهد ولم يثن شأوه». أي أدرك الفرس الوحش دون مشقة أو تعب. لم يثن شأوه: أي أدركها في طلق واحد دون أن تثنيه لسرعته، وشبهه لسرعته وخفته بالخذروف المثقب إذا أداره الوليد. والخذروف: عود أو قصبة مشقوقة، يفرض في وسطه، ثم يشد بخيط، فإذا أمر دار وسمعت له حفيفا. وهو لعبة للصبيان.
[2] رواية صدر البيت في الديوان «ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبا»، المستعكد: الغليظ من الأرض. الجدد: ما استوى من الأرض وصلب. المهلب: لشديد العدو الملتهب في الجري.
[3] في ديوانه: «خفاهن: أي أظهرهن، أي استخرجهن. الأنفاق: الأسراب تحت الأرض. الودق:
المطر».
[4] 15/ طه: 20.
[5] هي قراء الحسن وعاصم وابن كثير وأبي الدرداء ومجاهد وسعيد بن الجبير وقتادة وحميد.
المحتسب 2/ 47، والبحر المحيط 6/ 232، وعمدة الحفاظ 1/ 518 (خفي).
[6] البيت لامرئ القيس في ديوانه 186، واللسان (خفا)، والتاج (خفي)، ولعمرو بن أحمر في ملحق ديوانه 180، وبلا نسبة في التهذيب 7/ 595.
[7] ورد في اللسان 14/ 235 (خفي): «ومنه قول الغنوي لأبي العالية: إن بني عامر أرادوا أن يختفوا دمي».
[8] الحنديرة: حدقة العين.
[9] أي تريد أن تقتلني خفية دون أن يعلم بي.
[10] في اللسان 5/ 43 (فأر): «وعقيل تهمز الفأرة والجؤنة والمؤسى «والحؤت».
[11] المؤسى: موسى الحلاق، يذكر ويؤنث. الجؤنة: ظرف لطيب العطار. الحؤت: الحوت.(5/165)
فأصناف ما يقع عليه اسم الفأرة: فأرة البيش، وفأرة البيت، وفأرة المسك، وفأرة الإبل. وفي فأرة المسك يقول حميد الأرقط: [من الرجز] ممطورة خالط منها النّشر ... ذا أرج شقّق عنه الفأر
وفي فأرة الإبل قال الشاعر [1]: [من البسيط] كأنّ فأرة مسك في مباءتها ... إذا بدا من ضياء الصّبح تبشير [2]
وهذا شبيه بالذي قال الراعي [3] وليس به: [من الطويل] تبيت بنات القفر عند لبانه ... بأحقف من أنقاء توضح هائل [4] ... كأن القطار حرّكت في مبيته ... جديّة مسك في معرّس قافل [5]
1435 [فأرة الإبل]
قال الأصمعيّ: قلت لأبي مهدية: كيف تقول: لا طيب إلا المسك؟ قال:
فأين أنت من العنبر؟! قال: فقلت: لا طيب إلا المسك والعنبر. قال: فأين البان؟! فقلت: لا طيب إلا المسك والعنبر والبان [6]. قال: فأين أنت عن أدهان بحجر [7]؟! قال: فقلت: لا طيب إلا المسك، والعنبر. والبان، وأدهان بحجر. قال: فأين فأرة الإبل صادرة؟! قال الأصمعيّ: فأرة الإبل [8].
[1] البيت بلا نسبة في ثمار القلوب (612).
[2] مباءة الإبل: مناخها ومعطنها.
[3] ديوان الراعي النميري 209.
[4] بنات القفر: بنات النقا، وبنت النقا تعرف باسم شحمة الأرض، وو هي دويبة صغيرة تغوص في الرمل وتسبح فيه سباحة السمك في الماء. «انظر ثمار القلوب (736)، والمخصص 8/ 101».
اللبان: الصدر. الأحقف: المائل من الرمل. الأنقاء: الكثبان. توضح: اسم موضع بعينه.
[5] القطار: جمع قطر وهو المطر. الجدية: القطعة من المسك. المعرس: مبيت القوم من آخر الليل. القافل: الراجع من السفر.
[6] البان: شجر يسمو ويطول في استواء مثل بغات الأسل، وليس لخشبه صلابة، ينبت في الهضب، وثمرته تشبه قرون اللوبياء، ولها حب، ومن ذلك الحب يستخرج دهن البان.
[7] حجر: قصبة اليمامة.
[8] نبّه محقق ثمار القلوب (611) إلى وجود نقص هنا يمكن استدراكه من نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج 16/ 350، وذكر في الحاشية «وليس للإبل فأرة، وإنما هي رائحة طيبة تفوح منها إذا رعت العشب وزهره، ثم شربت فعرقت فاح منها رائحة طيبة، يقال لها: فأرة الإبل»، وانظر اللسان 5/ 43 (فأر).(5/166)
1436 [فأرة البيش والسمندل]
وفأرة البيش دويبة تغتذي السّموم فلا تضرها. والبيش سمّ، وحكمه حكم الطائر الذي يقال له: سمندل فإنه يسقط في النار فلا يحترق ريشه
2237 [الخشب الذي لا يحترق]
ونبّيت عن أمير المؤمنين المأمون أنه قال: لو أخذ الطّحلب فجفف في الظّلّ، ثم أسقط في النّيران لم يحترق.
ولولا ما عاينوا من شأن الطّلق والعود الذي يجاء به من كرمان [1] لاشتدّ إنكارهم.
وزعم [2] ابن أبي حرب أن قسّا راهن على أن الصليب الذي في عنقه من خشب، أنه لا يحترق لأنه من العود الذي كان صلب عليه المسيح، وأنه كان يفتن بذلك ناسا من أهل النظر، حتى فطن له بعض المتكلمين، فأتاهم بقطعة عود يكون بكرمان [1]. فكان أبقى على النار من صليبه.
1438 [مساوي السنانير]
قال صاحب الكلب: والسنور لصّ لئيم، وشره خؤون. فمن ذلك أن صاحب المنزل يرمي إليه ببعض الطعم، فيحتمله احتمال المريب، واللصّ المغير، حتى يولج به خلف حبّ أو راقود، أو عدل [3] أو حطب، ثم لا يأكله إلا وهو يتلفَّت يمينا وشمالا، كالذي يخاف أن يسلب ما أعطي، أو يعثر على سرقته فيعاقب. ثم ليس في الأرض خبثة إلا وهو يأكلها، مثل الخنافس والجعلان، وبنات وردان، والأوزاغ، والحيّات، والعقارب، والفأر، وكلّ نتن وكل خبثة، وكلّ مستقذر.
وهذه الأنعام تدخل الغيض، فتجتنب مواضع السموم بطبائعها، وتتخطاها ولا تلتفت لفتها. وربما أشكل الشيء على البعير، فيمتحنه بالشّمة الواحدة. فلا تغلط الإبل إلا في البيش وحده. ولا تغلط الخيل إلا في الدّفلى [4] وحده.
[1] كرمان: ولاية بين فارس ومران وسجستان وخراسان.
[2] انظر هذا الزعم في عيون الأخبار 2/ 107، وثمار القلوب (663).
[3] الحب: الجرة الضخمة. الراقود: إناء من خزف مستطيل. العدل: نصف العدل على أحد جنبي البعير.
[4] انظر مثل هذه الفقرة في ربيع الأبرار 5/ 427.(5/167)
والسنانير تموت عن أكل الأوزاغ والحيّات والعقارب، وما لا يحصى عدده من هذه الحشرات، فهذا يدلّ على جهل بمصلحة المعاش، وعلى حسّ غليظ وشره شديد.
1439 [هيج الحيوان]
قالوا: وكل أنثى من جميع الحيوان، ما خلا المرأة، فلا بدّ لها من هيج في زمان معلوم، ثم لا يعرف ذلك منها وفيها إلا بالدلائل والآثار، أو ببعض المعاينة.
وإناث السنانير، إذا هجن للسّفاد، آذين بصياحهنّ أهل القبائل ليلا ونهارا، بشيء ظاهر قاهر عليّ. لا يعتريهن فترة ولا ملالة ولا سآمة. فربّ رجل حرّ شديد الغيرة، وهو جالس مع نسائه وهنّ يتردّدن على مثل هذه الهيئة، ويصرخن في طلب السّفاد. فكم من حرة قد خجلت، وحرّ قد انتقضت طبيعته.
وليس لشيء من فحولتها [1] مثل ذلك. فكل جنس في العالم من الحيوان فذكورته أظهر هيجا، إلا السّنانير.
وليس لشيء من فحولة الأجناس مثل الذي للجمل من الإزباد، وهجران الرّعي، وترك الماء، حتى تنضمّ أياطله [2]، ويتورّم رأسه، ويكون كذلك الأيام الكثيرة. وهو في ذلك الوقت لو حمّل على ظهره مع امتناعه شهرا من الطعام ثلاثة أضعاف حمله لحملها.
1440 [أمنية المكي وإسماعيل بن غزوان]
ونظر المكيّ إلى جمل قد أزبد وتلغّم، وطار على رأسه منه كشقق البرس [3]، وقد زمّ بأنفه، وهو يهدر ويقبقب [4]، لا يعقل شيئا إلا ما هو فيه، فقال لإسماعيل بن غزوان: والله لوددت أن أهل البصرة رأوني يوما واحدا إلى الليل على هذه الصفة، وأنّي خرجت من قليل مالي وكثيره! فقال له إسماعيل: وأي شيء لك في ذلك؟ قال:
كنت والله لا أصبح حتى يوافي داري جميع نساء أهل البصرة، وجواريك فيهنّ فلا
[1] أي فحولة السنانير.
[2] الأياطل: جمع أيطل، وهو الخاصرة.
[3] الشقق: جمع شقة، وهي السبيبة المستطيلة من الثياب. البرس: القطن.
[4] يقبقب: يرجع في هديره.(5/168)
أبدا إلا بهنّ! قال إسماعيل: إنك والله ما سبقتني إلا إلى القول، وأما النية والأمنيّة فأنا والله أتمنّى هذا منذ أنا صبيّ!.
1441 [حال بعض الحيوان عند معاينة الأنثى]
وللحمار والفرس عند معاينة الحجر والأتان هيج وصياح، وقلق وطلب.
والجمل يقيم على تلك الصّفة عاين أو لم يعاين، ثم يدنى من هذه الذّكورة إناثها فلا تسمح بالإمكان إلا بعد أن تسوّى وتدارى.
1442 [مقارنة بين السنور والكلب والحمام]
قالوا: والسنانير إذا انتقل أربابها من دار إلى دار، كان وطنها أحبّ إليها منهم، وإن أثبتت أعيانهم. فإن هم حوّلوها فأنكرت الدار لم تقم على معرفتهم، فربما هربت من دارهم الحادثة ولم تعرف دارهم الأولى، فتبقى متردّدة: إما وحشية، وإما مأخوذة، وإما مقتولة.
والكلب يخلّي الدار، ويذهب مع أهل الدار. والحمام في ذلك كالسنور.
1443 [اختلاف أثمان السنور]
قال صاحب الكلب: السنور يسوى في صغره درهما، فإذا كبر لم يسو شيئا [1]. وقال العمّيّ [2]: [من الطويل] فإنّك فيما قد أتيت من الخنا ... سفاها، وما قد ردت فيه بإفراط ... كسنّور عبد الله، بيع بدرهم ... صغيرا فلمّا شبّ بيع بقيراط
وصاحب هذا الشعر، لو غبر مع امرئ القيس بن حجر، والنابغة الذّبياني، وزهير ابن أبي سلمى، ثم مع جرير والفرزدق، والراعي والأخطل، ثم مع بشار وابن هرمة، وابن أبي عيينة، ويحيى بن نوفل وأبي يعقوب الأعور، ألف سنة لما قال بيتا واحدا مرضيا أبدا.
وقد يضاف هذا الشعر إلى بشّار، وهو باطل.
[1] ورد مثل هذا القول في ثمار القلوب (608)، وربيع الأبرار 5/ 428.
[2] البيتان لبشار بن برد في ديوانه 4/ 111، ومجمع الأمثال 2/ 173، ووفيات الأعيان 6/ 190، وعقلاء المجانين 89، وانظر الحاشية السابقة.(5/169)
1444 [حلاق الحيوان وبعض الأمم]
وزعم لي من لا أردّ خبره، أن الحلاق قد يعرض للسنانير، كما يعرض للخنازير والحمير.
وزعم لي بعض أهل النظر، أنّ الزّنج أشبهوا الحمير في كلّ شيء، حتى في الحلاق فإنه ليس على ظهرها زنجيّ إلا وهو حلقيّ.
وقد غلط. ليس عليها زنجيّ عليه مؤونة من أن يناك. وليس هذا تأويل الحلاق. وتأويل الحلاق أن يكون هو الطالب.
والنبيذ يهتك ستر الحلقيّ، وينقض عزم المتجمّل [1]. وهم يشربون النبيذ أبدا. وسوء الاحتمال له، وسرعة السكر إليهم عامّ فيهم.
وعندنا منهم أمم. فلو كان هذا المعنى حقّا لكان علمه ظاهرا. فخبّرني صاحبنا هذا [2] أن في منزل أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي هرّين ذكرين عظيمين، يكوم أحدهما الآخر، وذلك كثيرا ما يكون. وأن المنكوح لا يمانع الناكح، ولا يلتمس منه مثل الذي يبذله له.
1445 [أكل الهرة أولادها]
قالوا: والهرة تأكل أولادها. فكفاك بهذه الخصلة لؤما وشرها، وعقوقا وغلظ قلب! وقال السيّد الحميريّ وذكر مسير عائشة، رضي الله تعالى عنها، إلى البصرة مع طلحة والزّبير، حين شهدت ما لم يشهدا، وأقدمت على ما نكصا عنه [3]: [من السريع] جاءت مع الأشقين في هودج ... تزجي إلى البصرة أجنادها ... كأنّها في فعلها هرّة ... تريد أن تأكل أولادها
ولبئس ما قال في أمّ المؤمنين وبنت الصدّيق! وقد كان قادرا على أن يوفّر على عليّ رضي الله عنه فضله، من غير أن يشتم الحواريّين، وأمّهات المؤمنين، ولو
[1] المتجمل: المتصبر الذي يظهر للناس خلاف ما يبطن من الألم.
[2] تقدم الخبر في 3/ 9392.
[3] ديوان السيد الحميري 173.(5/170)
أراد الحقّ لسار فيها وفي ذكرها سيرة علي بن أبي طالب. فلا هو جعل عليّا قدوة، ولا هو رعى للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرمة.
وذكورة سنانير الجيران تأكل أولاد الهرة، ما دمن صغارا أو فوق الصغار شيئا، وتقتلها وتطلبها أشدّ الطلب. والأمهات تحرسها منها وتقاتل دونها، مع عجزها عن الذكورة.
1446 [الألوان الأصلية في الحيوان]
قال أبو إسحاق: السنور الذي هو السنور، هو المنمّر، وهو الأنمر، وهو الذي يقال له: البقّاليّ، وذلك لكثرة اتخاذ البقالين لها، من بين سائر السنانير، لأنها أصيد للفأر.
قال: وجميع ألوان السنانير إنما هي كالشّيات الدّاخلة على اللون.
قال: وكذلك الحمار، إنما هو الأخضر، والألوان الأخر داخلة عليه.
قال: فأما الأسد فليست بذات شيات، ولا تعدو لونا واحدا، ويكون ذلك اللون متقاربا غير متفاوت.
1447 [أحوال إناث السنانير وذكورها]
قال: ومن فضيلة ما في السنانير، أنها تضع في السّنة مرتين وكذلك الماعزة في القرى، إلا ما داس الحبّ.
قال: ويحدث لإناث السنانير من القوة والشجاعة إذا كامها الفحل وهرب منها عند الفراغ فلو لحقته قطّعته.
ويحدث للذكر استخذاء، كما يحدث للذئب القويّ إذا ناله الخدش اليسير، ويحدث للضعيف من الجرأة عليه حتى يثب عليه فيأكله فلا يمتنع منه. كما قال الشاعر [1]: [من الطويل] وكنت كذئب السّوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
ويحدث مثل ذلك للجرذ إذا خصي، من الحرد على سائر الجرذان، حتى يثب فيقطّعها، وتهرب منه ضعفا عنه.
[1] البيت للفرزدق في ديوانه 2/ 187 (صادر)، 749 (الصاوي)، واللسان والتاج (سوأ، حول)، والتنبيه والإيضاح 1/ 20، والتهذيب 5/ 246، وبلا نسبة في اللسان والتاج (دمي).(5/171)
وسائر الحيوان إنما يعتريه الضّعف عن أمثاله إذا خصي وترك أمثاله على حالها.
1448 [قول زرادشت في الفأر والسنور والردّ عليه]
ثم رجعنا إلى قول زرادشت في الفأر.
زعم زرادشت أن الفأرة من خلق الله. وأن السنّور من خلق الشيطان. فقيل للمجوس: ينبغي على أصل قولكم أن يكون الشيء الذي خلق الله خيرا كله ونفعا كلّه، ومرفقا [1] كله، ويكون ما خلق الشيطان على خلاف ذلك. ونحن نجد عيانا أن الذي قلتم به خطأ. رأينا الناس كلهم يرون أن الفأر بلاء ابتلوا به، فلم يجدوا بدّا من الاحتيال لصرف مضرّته، كالداء النازل الذي يلتمس له الشفاء. ثم وجدناهم قد أقاموا السنانير مقام التداوي والتعالج، وأقاموا الفأر مقام الداء الذي أنزله الله، وأمر بالتداوي منه، فاجتلبوا لذلك السنانير وبنات عرس، ثم نصبوا لها ألوان الصيّادات، وصنعوا لها ألوان السّموم والمعجونات التي إذا أكلت منها ماتت. واستفرهوا [2] السنانير واختاروا الصيّادات.
واجتبوا السّنّور دون ابن عرس، لأن ابن عرس يعمل في الفأر والطير كعمل الذّئب بالغنم، فأوّل ما يصنع بالفريسة أن يذبحها، ثم لا يأكلها إلا في الفرط.
والسّنّور يقتل ثم يأكل. فالفار من السنور أشدّ فزعا، وهو الذي قوبل به طباعها وطباعه.
وكما أن الذي يأكل الدجاج كثير، وأن الذي جعل بإزائه ابن آوى. وكما أن الذي يأكل الغنم كثير، والذي جعل بإزائها الذئب.
والأسد أقوى منه على النعجة، والنّعجة من الذّئب أشد فرقا [3].
والحيّات تطالب الفأر والجرذان، وهي من السنور أشد فزعا.
وإن كان في الجرذان ما يساوي السنور فإنها منه أشد فزعا.
فإن كنتم إنما جعلتموه من خلق الشيطان لأكله صنفا واحدا من خلق الله فالأصناف التي يأكلها من خلق الشيطان أكثر.
[1] المرفق: ما استعين به.
[2] يستفره: يختار الفاره الجيد.
[3] الفرق: الخوف.(5/172)
وزعم زرادشت أن السّنّور لو بال في البحر، لقتل عشرة آلاف سمكة.
فإن كان إنما استبصر في ذمّه في قتل السمك فالسمك أحقّ بأن يكون من خلق الشيطان لأن السمك يأكل بعضه بعضا، والذكر يتبع الأنثى في زمان طرح البيض، فكلما قذفت به التهمه. وإن غرق إنسان في الماء، بحرا كان أو واديا، أو بعض ذوات الأربع فالسمك أسرع إلى أكله من الضّباع والسنور إلى الجيف.
وعلى أنّ اعتلاله على السنور، وقوله: لو بال في البحر قتل عشرة آلاف سمكة.
فما يقول فيمن زعم أن الجرذ لو بال في البحر قتل مائة ألف سمكة؟ وبأي شيء يبين منه؟ وهل ينبغي لمن كسر هذا القول الظاهر الكسر، المكشوف الموق [1] أن يفرح؟! وهل تقرّ الجماعة والأمم بأنّ في الفأر شيئا من المرافق؟! وهل يمازج مضرّتها شيء من الخير وإن قلّ؟! أو ليست الفأر والجرذان هي التي تأكل كتب الله تعالى، وكتب العلم، وكتب الحساب وتقرض الثّياب الثمينة، وتطلب سرّ نوى [2] القطن، وتفسد بذلك اللّحف والدّواويج [3] والجباب، والأقبية والخفاتين [4]، وتحسو الأدهان، فإن عجزت أفواهها أخرجتها بأذنابها؟! أو ليست التي تنقب السّلال وتقرض الأوكية [5] وتأكل الجرب حتى يعلّق المتاع في الهواء إذا أمكن تعليقه؟!.
وتجلب إلى البيوت الحيّات للعداوة التي بينها وبين الحيّات، ولحرص الحيّات على أكلها، فتكون سببا في اجتماعها في منازلهم، وإذا كثرن قتلن النفوس.
وقال ابن أبي العجوز: لولا مكان الفأر لما أقامت الحيّات في بيوت الناس، إلا ما لا بال به من الإقامة.
وتقتل الفسيل [6] والنخل، وتهلك العلف والزرع، وربما أهلكن القراح [7] كله، وحملن شعير الكدس وبرّه.
[1] الموق: الحمق.
[2] سر النوى: لبه.
[3] الدواويج: جمع دوّاج، وهو ضرب من الثياب.
[4] الخفاتين: جمع خفتان، وهو ثوب يلبس تحت السلاح، أي الدرع ونحوه. انظر معجم استينجاس 468.
[5] الأوكية: جمع وكاء، وهو رباط القربة.
[6] الفسيل: صغار النخل.
[7] القراح: الأرض المخلصة لزرع أو لغرس.(5/173)
أو ليس معلوما من أخلاقها اجتذاب فتائل المصابيح رغبة في تلك الأدهان، حتى ربما جذبتها جهلا وفي أطرافها الأخر السّرج تستوقد فتحرق بذلك القبائل الكثيرة، بما فيها من الناس والأموال والحيوان؟!.
وهي بعد آكل للبيض وأصناف الفراخ من الحيّات لها.
فكيف لم تكن من هذه الجهة من خلق الشيطان؟!.
هذا، وبين طباعها وطباع الإنسان منافرة شديدة، ووحشة مفرطة. وهي لا تأنس بالناس وإن طالت معايشتها لهم والسّنّور آنس الخلق بهم.
وكيف تأنس بهم وهم لا يقلعون عن قتلها ما لم تقلع هي عن مساءتهم؟! فلو كنّ مما يؤكل لكان في ذلك بعض المرفق [1]. فكيف وإنها لتلقى في الطريق ميّتة، فما يعرض لها الكلب الجائع! فالأمم كلها على التفادي منها واتخاذ السنانير لها.
وزرادشت بهذا العقل دعا الناس إلى نكاح الأمهات، وإلى التوضؤ بالبول، وإلى التوكيل في نيك المغيبات، وإلى إقامة سور للسّنب [2]، وصاحب الحائض والنفساء [3].
1449 [سبب نجاح زرادشت]
ولولا أنّه صادف دهرا في غاية الفساد، وأمّة في غاية البعد من الحرية ومن الغيرة والألفة، ومن التقزّز والتنظف، لما تمّ له هذا الأمر.
وقد زعم ناس أن ذلك إنما كان وإنما تمّ لأنه بدأ بالملك [4] فدعاه على قدر ما عرف من طباعه وشهوته وخلقه. فكان الملك هو الذي حمل على ذلك رعيّته.
والذي قال هذا القول ليس يعرف من الأمور إلا بقدر ما باين [5] به العامّة لأنه لا يجوز أن يكون الملك حمل العامّة على ذلك، إلا بعد أن يكون زرادشت ألفى
[1] المرفق: المنفعة.
[2] سور للسنب: كلمتان فارسيتان معناهما عيد للخفض، ونساء المجوس يحتفلون يوم تطهير المرأة.
[3] من عادة المجوس تكريم صاحب الحائض في أول يوم يحدث الطمث فيه لابنته البالغ، لأنه أصبح أبا مستعدّا لزيادة البشر.
[4] الملك هو يستاسف بن لهراسف، أتاه زرادشت بدين المجوسية. انظر مروج الذهب 1/ 270 (باب ملوك الفرس الأولى).
[5] باين: فارق.(5/174)
على ذلك الفساد أجناد الملك. ولم يكن الملك ليقوى على العامة بأجناده، وبعشرة أضعاف أجناده، إلا أن يكون في العامة عالم من الناس، يكونون أعوانا للأجناد على سائر الرعية.
وعلى أن الملوك ليس لها في مثل هذه الأمور علّة تدعو إلى المخاطرة بملكها، وإنما غاية الملوك كل شيء لا بد للملوك منه، فأمّا ما فضل عن ذلك فإنها لا تخاطر بأصول الملك تطلب الفضول، إلا من كان ملكه في نصاب إمامة، وإمامته في نصاب نبوّة، فإنه يتّبع كلّ شيء توجبه الشريعة، وإن كان ذلك سبيل الرأي لأن الذي شرع الشريعة أعلم بغيب تلك المصلحة.
وقد ينبغي أن يكون ذلك الزمان كان أفسد زمان، وأولئك الأهل كانوا شرّ أهل. ولذلك لم تر قطّ ذا دين تحوّل إلى المجوسيّة عن دينه. ولم يكن ذلك المذهب إلا في شقّهم وصقعهم [1] من فارس والجبال وخراسان. وهذه كلها فارسية.
1450 [أثر البيئة في العقيدة]
فإن تعجّبت من استسقاطي لعقل كسرى أبرويز وآبائه، وأحبائه وقرابينه وكتّابه وأطبائه، وحكمائه وأساورته فإني أقول في ذلك قولا تعرف به أني ليس إلى العصبيّة ذهبت.
اعلم أني لم أعن بذلك القول الذين ولدوا بعد على هذه المقالة، ونشؤوا على هذه الدّيانة، وغذوا بهذه النّحلة، وربّوا جميعا على هذه الملة فقد علمنا جميعا أن عقول اليونانية فوق الدّيانة بالدهرية والاستبصار في عبادة البروج والكواكب وعقول الهند فوق الديانة بطاعة البدّ [2]، وعبادة البددة [3]، وعقول العرب فوق الدّيانة بعبادة الأصنام والخشب المنجور، والحجر المنصوب، والصخرة المنحوتة.
فداء المنشأ والتقليد، داء لا يحسن علاجه جالينوس ولا غيره من الأطباء.
وتعظيم الكبراء، وتقليد الأسلاف، وإلف دين الآباء، والأنس بما لا يعرفون غيره، يحتاج إلى علاج شديد. والكلام في هذا يطول.
فإن آثرت أن تتعجب، حتى دعاك التعجّب إلى ذكر أبرويز فاذكر سادات قريش، فإنهم فوق كسرى وآل كسرى.
[1] الشق والصقعة: الناحية.
[2] البددة: جمع بد، وهي كلمة فارسية معناها الصنم.(5/175)
1451 [دفاع صاحب السنور]
وقال المحتجّ للسنانير: قد قالوا: «أبر من هرّة» [1] و «أعق من ضبّ» [2]، وهذا قول الذين عاينوها تأكل أولادها. وزعموا أن ذلك من شدة الحبّ لها. وقال بعضهم: إنما يعتريها ذلك من جنون يعتريها عند الولادة، وجوع يذهب معه علمها بفرق ما بين جرائها وجراء غيرها من الأجناس، ولأنها متى أشبعت أو أطعمت شطر شبعها لم تعرض لأولادها. والرد على الأمم أمثالها عمل مسخوط. والعرب لا تتعصب للسنّور على الضبّ فيتوهّم عليها في ذلك خلاف الحقّ، وإنما هذا منكم على جهة قولكم في السنور إذا نجث [3] لنجوه ثم ستره، ثم عاود ذلك المكان فشمّه فإذا وجد رائحة زاد عليه من التراب. فقلتم: ليس الكرم وستر القبيح أراد، وإنما أراد تأنيس الفأر. فنحن لا ندع ظاهر صنيعه الذي لا حكم له إلا الجميل لما يدّعي مدّع من تصاريف الضمير.
وعلى أن الذي قلتموه إن كان حقّا فالذي أعطيتموه من فضيلة التدبير أكثر مما سلبتموه من فضيلة الحياء.
1452 [العيون التي تسرج بالليل]
قال: والعيون التي تسرج بالليل: عيون الأسد، والأفاعي والسنانير، والنّمور.
والأسد سجر [4] العيون. وعيون السنانير منها زرق، ومنها ذهبية، كعيون أحرار الطير وعتاقها. وعيون الأفاعي بين الزّرق والذهبية. وقال حسان بن ثابت [5]: [من الطويل] ثريد كأنّ السّمن في حجراته ... نجوم الثّريّا أو عيون الضّياون
[1] مجمع الأمثال 1/ 116، والدرة الفاخرة 1/ 75، 82، وجمهرة الأمثال 1/ 204، 243، والمستقصى 1/ 17.
[2] مجمع الأمثال 2/ 47، والدرة الفاخر 1/ 306، وجمهرة الأمثال 2/ 69، والمستقصى 1/ 250، وأمثال ابن سلام 369.
[3] بخيث البئر والحفرة: ما خرج من ترابهما.
[4] السجرة: حمرة في العين في بياضها، وبعضهم يقول: إذا خالطت الحمرة الزرقة فهي أيضا سجراء.
وقال بعضهم: هي الحمرة في سواد العين، وقيل: البياض الخفيف في سواد العين، وقيل: هي كدرة في بطن العين من ترك الكحل. اللسان 4/ 347 (سجر).
[5] لم يرد البيت في ديوان حسان بن ثابت، وهو بلا نسبة في اللسان والتاج (ضون).(5/176)
الضيّون: السّنّور.
1453 [تحقيق في الألوان]
وإذا قال الناس: ثوب أزرق فإنهم يذهبون إلى لون واحد. وإذا وصفوا بذلك العين وقع على لونين لأن البازي يسمى أزرق وكذلك العقاب، والزّرّق، وكل شيء ذهبي العين. فإذا قالوا: سنور أزرق لم يدر، أذهبوا إلى ألوان الثياب أم إلى ألوان عيون البزاة.
وقد قال صحار العبديّ حين قال له معاوية: يا أزرق! قال: البازي أزرق.
وأنشد [1]: [من الطويل] ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الطير شكل عيونها
والذهب قد يقال له أصفر، ويقال له أحمر.
وقال بعض بني مروان لبعض ولد متمّم بن نويرة: يا أحمر! قال: الذهب أحمر.
فلذلك زعم أن عتاق الطير شكل عيونها.
وقال الأخطل [2]: [من الطويل] وما زالت القتلى تمور دماؤهم ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
فالشّكلة عندهم تقع على الصّفرة والحمرة إذا خالطا غيرهما.
1454 [الزرق العيون من العرب]
فمن الزرق من الناس صحار العبديّ، وعبد الرحمن ابنه، وداود بن متمّم بن نويرة، والعباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، ومرون بن محمد بن مروان، وسعيد بن قيس الهمداني، وزرقاء اليمامة. وهي عنز، من بنات لقمان بن عاديا.
ومن الزّرق ممن كانوا يتشاءمون به: قيس بن زهير، وكان أزرق وكان بكرا وابن بكرين [3].
[1] البيت بلا نسبة في ثمار القلوب (654) وتقدم البيت والخبر قبله في 4/ 372.
[2] البيت ليس للأخطل بل لجرير في ديوانه 143، والخزانة 9/ 477، 479، والأزهية 216، والجنى الداني 552، والدرر 4/ 32، وشرح شواهد المغني 1/ 377، وشرح المفصل 8/ 18، واللمع 163، ومغني اللبيب 1/ 128، والمقاصد النحوية 4/ 386، والتاج (شكل)، وبلا نسبة في أسرار العربية 267، والدرر 4/ 112، وشرح الأشموني 3/ 562، واللسان (شكل)، وهمع الهوامع 1/ 248، 2/ 24.
[3] البكر: أول ولد الرجل، والعرب تتشاءم به إذا كان ذكرا، فإذا كان كلّ من أبويه أيضا كذلك، قيل له(5/177)
وكانت البسوس زرقاء وبكرا بنت بكرين. ولها حديث لا أحقّه.
وكانت الزّبّاء زرقاء. والزرق العيون، من بني قيس بن ثعلبة، منهم المرقّشان، وغيرهما.
1455 [الحمر الحماليق من العرب]
والحمر الحماليق [1]، من بني شيبان. وكان النعمان أزرق، أقشر، أحمر العينين، أحمر الحماليق. وفيه يقول أبو قردودة حين نهى ابن عمار عن منادمته [2]:
[من البسيط] إني نهيت ابن عمّار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشّعره ... إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيرانهم شرره ... يا جفنة كإزاء الحوض قد هدموا ... ومنطقا مثل وشي اليمنة الحبره
1456 [شعر في الزرق]
وقال عبد الله بن همام السّلوليّ: [من البسيط] ولا يكوننّ مال الله مأكلة ... لكلّ أزرق من همدان مكتحل
وقال آخر [3]: [من الطويل] لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كلّ ضبّيّ من اللؤم أزرق
وفي باب آخر يقول زهير [4]: [من الطويل] فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم [5]
بكر بكرين، وهو النهاية في الشؤم. ثمار القلوب 533 (942) وانظر عيون الأخبار 2/ 64، والحيوان 3/ 88، الفقرة (659).
[1] الحملاق: باطن الجفن الأحمر الذي إذا قلب للكحل بدت حمرته، وقيل الحماليق من الأجفان ما يلي المقلة من لحمها.
[2] تقدمت الأبيات في 4/ 378.
[3] البيت لسويد بن أبي كاهل في الأغاني 21/ 396، وبلا نسبة في اللسان والتاج (زرق)، والجمهرة 708، والمخصص 1/ 100، 10/ 83. ومجالس ثعلب 367، وخلق الإنسان 133.
[4] ديوان زهير 22، واللسان (ورد، زرق، جمم)، والتاج (ورد، زرق)، والأساس (خيم، زرق)، والتهذيب 7/ 608، 8/ 629، وبلا نسبة في اللسان (خيم، عصا)، والمخصص 12/ 62، والجمهرة 12/ 62.
[5] في ديوانه: «زرقا جمامه: إذا صفا الماء رأيته أزرق إلى الخضرة، والجمام: ما اجتمع من الماء.(5/178)
1457 [معارف في حمرة العين]
وقال يونس: لم أر قرشيّا قطّ أحمر عروق العينين إلا كان سيّدا شجاعا.
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان أشكل العينين ضليع الفم [1].
1458 [الدعاء على الفأر بالسنانير]
قال: ونزل أبو الرّعل الجرميّ بعض قرى أنطاكية فلقي من جرذانها شرّا، فدعا عليها بالسنانير فقال: [من البسيط] يا رب شعث برى الإسآد أو جههم ... ومنزل الحكم في طه وحاميم [2] ... أتح لشيخ ثوى بالشّام مغتربا ... نائي النّصير بعيد الدّار مهموم ... تكنّفته قريبات الخطى دكن ... وقص الرّقاب لطيفات الخراطيم [3] ... حجن المخالب والأنياب شابكة ... غلب الرّقاب رحيبات الحيازيم [4] ... ثاروا لهنّ فما تنفكّ من قنص ... لكلّ ذيّالة مقّاء علجوم [5] ... حتى أبيت وزادي غير منعكم ... على النّزيل ولا كرزي بمعكوم [6]
وأنشدني ابن أبي كريمة، ليزيد بن ناجية السّعدي: سعد بن بكر، وكان لقي من الفأر جهدا، فدعا عليهنّ بالسنانير، فقال: [من الكامل] أزهير ما لك لا يهمّك ما بي ... أخزى إله محمد أصحابي ... كحل العيون، صغيرة آذانها ... جنح الحنادس يعتورن جرابي [7]
وضعن عصي: أي أقمن. والمتخيم: المقيم. والحاضر: الذين حضروا الماء، والحاضرة: أهل القرى».
[1] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل 4/ 1820، والترمذي في المناقب 5/ 603، وأحمد في المسند 5/ 86، 88، 97، 103.
[2] الشعث: جمع أشعث. وهو المتلبد الشعر. الإسآد: سير الليل كله. طه وحاميم: أراد بهما سور القرآن.
[3] الداكنة: لون يضرب إلى الغبرة بين الحمرة والسواد، أو هو لون يضرب إلى السواد. الوقص: جمع وقصاء، وهي القصيرة العنق.
[4] الأحجن: المعوج. الأغلب: الغليظ الرقبة. الحيزوم: الصدر.
[5] الذيالة: الطويلة الذيل. المقاء: الطويلة في دقة. العلجوم: الشديد السواد.
[6] الكرز: ضرب من الجوالق، أو هو الخرج. المعكوم: المشدود.
[7] الحندس: الظلمة. وأسود حندس: شديد السواد، كقولك: أسود حالك.(5/179)
شمّ الأنوف لريح كلّ قفيّة ... يلحظن لحظ مروّع مرتاب [1] ... دكن الجباب تدرّعت أبدانها ... صعل الرّؤوس طويلة الأذناب [2] ... شخت المخالب والأنايب والشّوى ... ثجل الخصور رحيبة الأقراب [3] ... أسقى الإله بلادهنّ سحائبا ... غرّ النّشاص بعيدة الأطناب [4] ... ترمي بغبس كاللّيوث تسربلت ... منها الجلود مدارع السّنجاب [5] ... غلب الرّقاب لطيفة أعجازها ... فطح الجباه رهيفة الأنياب [6] ... متبهنسات للطّراد كأنها ... آساد بيشة أدمجت بخضاب [7]
ونحن نظنّ أنّ هذه القصيدة من توليد ابن أبي كريمة.
1459 [معارف في السنور والفأر]
والسّنور ثاقب البصر بالليل. وكذلك الفأرة سوداء العينين، وهي في ذلك ثاقبة البصر.
والسّنور ضعيف الهامة. وهامته من مقاتله. ولا يستطيع أن يذوق الطعام الحارّ والحامض.
1460 [مقارنة بين السّنور والكلب]
قال: وللسنور فضيلة أخرى: أنه كثير الأسماء القائمة بأنفسها، غير المشتقات.
ولا أنها تجمع الصفات والأعمال، بل هي أسماء قائمة. من ذلك: القطّ، والهرّ، والضيّون، والسنّور.
وليس للكلب اسم سوى الكلب، ولا للدّيك اسم إلا الديك.
[1] القفية: المختار.
[2] الداكنة: لون يضرب إلى الغبرة بين الحمرة والسواد، أو هو لون يضرب إلى السواد. الجباب: جمع جبة، وهي موصل ما بين الساق والفخذ. الصعل: جمع أصعل وصعلاء، وهو الخفيف الرأس.
[3] الشخيت: الدقيق. الأنايب: أصلها الأناييب، وهي جمع ناب. الشوى: اليدان والرجلان، وقيل اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وشوى الفرس: قوائمه.
[4] النشاص: السحاب المرتفع. الأطناب: جمع طنب، وهو حبل الخباء.
[5] الغبسة: لون الرماد. المدارع: الثياب.
[6] غلب: غلاظ. فطع: واسعات عريضات.
[7] التبهنس: التبختر. بيشة: اسم موضع تنسب إليه الآساد.(5/180)
وليس للأسد اسم إلا الأسد واللّيث، وأمّا الضيغم، والخنابس، والرّئبال، وغيرها فليست بمقطوعة، والباقي ليست بأسماء مقطوعة ولا تصلح في كل مكان.
وكذلك الخمر. فإذا قالوا: قهوة، ومدامة، وسلاف، وخندريس وأشباه ذلك، فإنما تلك أسماء مشتركة. وكذلك السيف. وليس هذه الأسماء عند العامة كذلك.
قال: وعلى السّنور من المحبة، ولا سيما من محبّة النّساء، ومعه من الإلف والأنس والدنوّ، والمضاجعة والنوم في اللّحاف الواحد ما ليس مع الكلب، ولا مع الحمام، ولا مع الدّجاج، ولا مع شيء مما يعايش الناس.
هذا، ومنها الوحشي والأهليّ فلولا قوّة حبّه للناس لما كان في هذا المعنى أكثر من الكلاب، والكلاب كلّها أهلية.
قالوا: وليس بعجيب أن يكون الكلب طيّب الفم لكثرة ريقه، ولبعد قرابته ومشاكلته للأسد، وإنما العجب في طيب فم السنّور، وكأنه في الشّبه من أشبال الأسد.
ومن يقبّل أفواه السنانير وأجراءها من الخرائد [1] وربّات الحجال، والمخدّرات، والمطهّمات [2]، والقينات [3] أكثر من أن يحصى لهنّ عدد، وكلهنّ يخبرن عن أفواهها [4] بالطّيب والسلامة مما عليه أفواه السباع، وأفواه ذوات الجرّة [5] من الأنعام.
وما رأينا وضيعة قطّ ولا رفيعة، قبّلت فم كلب أو ديك. وما كان ذلك من حارس قطّ، ولا من كلاب، ولا من مكلّب [6]، ولا من مهارش.
والسنور يخضب، وتصاغ له الشنوف [7] والأقرطة، ويتحف [8] ويدلّل.
ومن رأى السنور كيف يختل العصفور، مع حذر العصفور، وسرعة طيرانه
[1] الخريدة: الكبر التي تمسس قط، وقيل هي الحيية الطويلة السكوت الخافضة الصوت الخضرة المتسترة.
[2] المطهم: الحسن التام كل شيء منه على حدته فهو بارع الجمال.
[3] القينات: جمع قينة، وهي الأمة.
[4] ربيع الأبرار 5/ 428.
[5] الجرّة: ما يخره البعير ونحوه من جوفه ثم يمضغه ويبلعه.
[6] الكلّاب: صاحب الكلاب. المكلب: الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد.
[7] الشنوف: الأقراط التي تعلق في الأذن.
[8] يتحف: تقدم إليه التحف.(5/181)
على أن جهته في الصيد جهة الفهد والأسد. ومن رآه كيف يرتفع بوثبته إلى الجرادة في حال طيرانها علم أنه أسرع من الجرادة.
وله إهاب فضفاض، وقميص من جلده واسع، يموج فيه بدنه. وهو مما يضبع [1] لسعة إبطيه، ولو شاء إنسان أن يعقد صلبه، ويثني أوّله على آخره، كما يثنى المخراق [2]، وكما يثنى قضيب الخيزران لفعل.
ويوصف الفرس بأنه رهل اللّبان [3]، رحيب الإهاب، واسع الآباط. وعيب الحمار للكزازة التي في يديه، وفي منكبيه، وانضمامهما إلى إبطيه، وضيق جلده، وإنما يعدو بعنقه.
1461 [التجارة في السنانير]
قالوا: وللسنور تجّار وباعة، ودلّالون، وناس يعرفون بذلك. ولها راضة [4].
وقال السّنديّ بن شاهك [5]: ما أعياني أحد من أهل الأسواق: من التجّار، ومن الباعة والصنّاع، كما أعياني أصحاب السنانير، يأخذون السنّور الذي يأكل الفراخ والحمام، ويواثب أقفاص الفواخت والوراشين والدّباسي [6] والشّفانين [7]، ويدخلونه في دنّ، ويشدّون رأسه، ثم يدحرجونه على الأرض حتى يشغله الدّوار، ثم يدخلونه في قفص فيه الفراخ والحمام، فإذا رآه المشتري رأى شيئا عجبا، وظنّ أنه قد ظفر بحاجته. فإذا مضى به إلى البيت مضى بشيطان، فيجمع عليه بليّتين إحداهما أكل طيوره وطيور الجيران، والثانية أنه إذا ضري عليها لم يطلب سواها.
ومررت يوما وأنا أريد منزل المكّي بالأساورة [8] وإذا امرأة قد تعلّقت برجل وهي تقول: بيني وبينك صاحب المسلحة [9] فإنك دللتني على سنّور، وزعمت أنه
[1] يضبع: يمد ضبعيه في سيره، والضبع: وسط العضد بلحمه.
[2] المخراق: منديل أو نحوه، يلف ويلوى ليضرب به أو يفزع به.
[3] الرهل: الاسترخاء. اللبان: الصدر.
[4] راضة: جمع رائض، وهو الذي يروض الدواب.
[5] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 428.
[6] الدباسي: ضرب من الحمام الوحشي، منسوب إلى دبس الرطب.
[7] الشفنين: ضرب من الحمام حسن الصوت.
[8] الأساورة: قوم من العجم بالبصرة نزلوها قديما كالأحامرة بالكوفة. انظر اللسان 4/ 388 (سور).
[9] المسلحة: قوم ذوو سلاح.(5/182)
لا يقرب الفراخ، ولا يكشف القدور، ولا يدنو من الحيوان، وزعمت أنك أبصر الناس بسنور، فأعطيتك على بصرك ودلالتك دانقا [1] فلما مضيت به إلى البيت مضيت بشيطان قد والله أهلك الجيران بعد أن فرغ منا. ونحن منذ خمسة أيام نحتال في أخذه، وها هو ذا قد جئتك به فردّ عليّ دانقي [1]، وخذ ثمنه من الذي باعني. ولا والله إن تبصر من السنانير قليلا ولا كثيرا! قال الدلّال: انظروا بأيّ شيء تستقيلني [2]؟! ولا والله إن في ناحيتنا فتى هو أبصر بسنور منّي، وذلك من منّ سيّدي ومولاي! فقلت للدّلّال: ولا والله إن في هذه الناحية فتى هو أشكر لله منك.
1462 [أكل السنانير]
وناس يأكلون السنانير ويستطيبونها. وليس يأكل الكلب أحد إلا في الفرط والعامة تزعم [3] أن من أكل السّنّور الأسود لم يعمل فيه السحر. والكلب لا يؤكل.
1463 [أكل الديك]
والديك خبيث اللحم عضله، إلا أن يخصى. وتلك حيلة لأهل حمص وليست عندنا فيه حيلة. وقال جحشويه: [من الخفيف] كيف صبري عن مثل جمجمة الهرّ تثنّى بمسبطرّ متين [4] ليس يخفى عليك حين تراها ... أنها عدّة لداء دفين
1464 [سكينة التابوت]
قالوا [5]: وزعم بعض أهل الكتاب، وبعض أصحاب التفسير، أن السّكينة التي كانت في تابوت موسى كانت رأس هرّ [6].
[1] الدانق: سدس الدينار والدرهم.
[2] استقاله: طلب إليه أن يقيله، أي أن يفسخ ما بينه وبينه.
[3] ورد هذا الزعم في ربيع الأبرار 5/ 428، وتقدم في 2/ 360، الفقرة (407)، وس 13.
[4] المسبطر: كل شيء ممتد.
[5] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 428.
[2] إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التََّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} 248: البقرة.(5/183)
1465 [استطراد لغوي]
قالوا: وقلتم في الاشتقاق من اسم الكلب: كليب، وكلاب، ومكلبة، ومكالب، وأصاب القوم كلبة الزمان، مثل هلبة، وهي الشدّة.
والكلاب واحدها كلب، وتجمع على كلاب وأكلب وكليب، كما يجمع البخت بخيتا وأبختا.
والكلّاب بتثقيل اللام: صاحب الكلاب. والمكلّب، بتثقيل اللام وضمّ الميم:
الذي يعلّم الكلاب الصّيد. وقال طفيل الغنويّ [1]: [من الطويل] تباري مراخيها الزّجاج كأنها ... ضراء أحسّت نبأة من مكلّب [2]
وقال الآخر [3]: [من الكامل] خوص تراح إلى الصّداح إذا غدت ... فعل الضّراء تراح للكلّاب [4]
والكلب: داء يقع في الإبل، فيقال كلبت الإبل تكلب كلبا، وأكلب القوم: إذا وقع في إبلهم الكلب. ويقال كلب الكلب واستكلب: إذا ضري وتعوّد أكل الناس، ويقال للرّجل إذا عضّه الكلب الكلب: قد كلب الرّجل.
ويقال: إن الرّجل الكلب يعضّ إنسانا آخر، فيأتون رجلا شريفا، فيقطر لهم من دم إصبعه، فيسقون ذلك الكلب فيبرأ [5]. وقال الكميت [6]: [من البسيط] أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفى بها الكلب
قالوا: فقد يقولون للسنور هرّ، وللأنثى هرّة. ويقال من ذلك هرّ الكلب يهرّ
[1] ديوان طفيل الغنوي 24، واللسان والتاج (بوأ، كلب)، والمخصص 16/ 30، والتهذيب 15/ 598، وكتاب الجيم 2/ 24، 3/ 170، والجمهرة 1053، والمجمل 1/ 300، والمقاييس 5/ 134، وبلا نسبة في الجمهرة 376، 1066.
[2] المراخي: جمع مرخاء وهي السهلة العدو. الزجاج: الأسنة. الضراء: أشلاء الكلب على الصيد مأخوذ من أضريته بمعنى عودته. النبأة: الصوت.
[3] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (روح).
[4] الخوص: جمع خوصاء وهي الغائرة العين من الإبل. تراح: تجد راحة. الصداح: الغناء.
[5] انظر بداية الجزء الثاني من كتاب الحيوان هذا.
[6] ديوان الكميت 1/ 81، واللسان والتاج (كلب).(5/184)
هريرا، وتسمّى المرأة بهرّة، ويكنى الرّجل أبا هرّ، وأبا هريرة. وقال الأعشى [1]: [من البسيط] ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وقال امرؤ القيس [2]: [من الكامل] دار لهرّ والرّباب وفرتنى ... ولميس قبل تفرّق الأيّام [3]
وقال ابن أحمر [4]: [من السريع] إنّ امرأ القيس على عهده ... في إرث ما كان بناه حجر ... بنّت عليه الملك أطنابها ... كأس رنوناة وطرف طمر [5] ... يلهو بهند فوق أنماطها ... وفرتنى تسعى عليه وهر [6]
1466 [أطباء الهرة ومدة حملها]
قال: وللهرة ثمانية أطباء: أربعة تقابل أربعة، أوّلهنّ بين الإبط والصّدر، وآخرهنّ عند الرّفغ. وتحمل خمسين يوما، وتضع جراها عميا. وليس بين تفقيحها وتفقيح جراء الكلاب إلا اليسير.
1467 [إيثار الهرة والديك]
والهرّة من الخلق الذي يؤثر على نفسه، ولها فضيلة في ذلك على الدّيك الذي له الفضيلة في ذلك على جميع الحيوان، إلا أن الديك لا يفعل ذلك بالدجاج إلا مادام شابّا. ولا يفعل ذلك بأولاده، ولا يعرفهم وإنما يفعل ذلك بالدجاج على غير الزّواج، وعلى غير القصد إلى واحدة يقصد إليها بالهوى.
والهرّة يلقى إليها الشيء الطيب وهي جائعة، فتدعو أولادها، وقد استغنين عن اللبن، وأطقن الأكل والتقمّم والتكسّب، نعم حتى ربما فعلت ذلك بهنّ وهنّ في
[1] ديوان الأعشى 105، واللسان (جهنم)، والتاج (ودع)، والمقاييس 4/ 126.
[2] ديوان امرئ القيس 114.
[3] في ديوانه: «يقول: هذه الديار لهند وصواحبها، إذ نحن جيرة قبل أن تحدث الأيام الفراق».
[4] ديوان عمرو بن أحمر 6362، واللسان (رنا).
[5] الرنوناة: الدائمة على الشرب. الطرف: الخيل العتيق الكريم. الطمر: الوثاب.
[6] فقح الجرو: فتح عينيه وهو صغير.(5/185)
العين شبيهات بها في العظم فلا تزال ممسكة عن تلك الشحمة على جوعها، ومع شره السنانير، حتى يقبل ولدها فيأكله.
ورجل من أصحابنا ائتمنوه على مال، فشدّ عليه فأخذه، فلما لامه بعض نصحائه قال: يطرحون اللحم قدّام السّنّور فإذا أكله ضربوه! فضرب شره السنور مثلا لنفسه.
والهرّة ربما رموا إليها بقطعة اللحم، فتقصد نحوها حتى تقف عليها، فإذا أقبل ولدها تجافت عنها. وربما قبضت عليها بأسنانها فرمت بها إليه بعد شمّ الرائحة، وذوق الطعم.
1468 [نقل الهرة أولادها]
والهرّة تنقل أولادها في المواضع، من الخوف عليها. ولا سبيل لها في حملها إلا بفيها. وهي تعرف دقّة أطراف أنيابها، وذرب أسنانها. فلها بتلك الأنياب الحداد ضرب من القبض عليها، والعضّ لها، بمقدار تبلغ به الحاجة، ولا تؤثّر فيها ولا تؤذيها.
1469 [مخالب الهرة والأسد]
فأما كفّها والمخالب المعقّفة الحداد التي فيها، فإنها مصونة في أكمامها.
فمتى وقعت كفّها على وجه الأرض صارت في صون، ومتى أرادت استعمالها نشرتها وافرة، غير مكلومة ولا مثلومة، كما وصف أبو زبيد كفّ الأسد فقال [1]: [من الوافر] بحجن كالمحاجن في قنوب ... يقيها قضّة الأرض الدّخيس
1470 [أنياب الأفاعي]
كذلك مخالبها ومخالب الأسد، وأنياب الأفاعي. وقد قال الرّاجز، وهو جاهليّ [2]: [من الرجز] حتّى دنا من رأس نضناض أصمّ ... فخاضه بين الشّراك والقدم [3] ... بمذرب أخرجه من جوف كم [4]
[1] ديوان أبي زيد الطائي 632، والبرصان 233، والمعاني الكبير 675. وتقدم البيت في 4/ 400.
[2] تقدم الرجز في 4/ 399.
[3] النضناض: الحية تحرك لسانها. الشراك. سير النعل.
[4] المذرب: الحاد، وأراد به هنا الناب.(5/186)
1471 [زعم بعض المفسرين والقصّاص في خلق السنانير والخنازير]
وزعم بعض المفسرين أن السنور خلق من عطسة الأسد، وأن الخنزير خلق من سلحة [1] الفيل لأن أصحاب التفسير يزعمون أن أهل سفينة نوح لما تأذّوا بكثرة الفأر وشكوا إلى نوح ذلك سأل ربّه الفرج، فأمره أن يأمر الأسد فيعطس. فلما عطس خرج من منخريه زوج سنانير: ذكر وأنثى. خرج الذّكر من المنخر الأيمن، والأنثى من المنخر الأيسر. فكفياهم مؤونة الجرذان. ولما تأذّوا بريح نجوهما شكوا ذلك إلى نوح، وشكا ذلك إلى ربّه. فأمره أن يأمر الفيل فليسلح. فسلح زوج خنازير فكفياهم مؤونة رائحة النجو.
وهذا الحديث نافق عند العوامّ، وعند بعض القصّاص.
1472 [إنكار تخلّق الحيوان من غير الحيوان، والرد عليه]
وقد أنكر ناس أن يكون الفأر تخلّق في أرحام إناثها من أصلاب ذكورتها ومن أرحام بعض الأرضين [2] كطينة القاطول [3] فإن أهلها زعموا [4] أنهم ربما رأوا الفأرة لم يتمّ خلقها بعد، وإن عينيها لتبصّان [5]، ثم لا يريمون حتى يتمّ خلقها وتشتدّ حركتها.
وقالوا: لا يجوز لشيء خلق من الحيوان أن يخلق من غير الحيوان. ولا يجوز أن يكون شيء له في العالم أصل أن يؤلّف الناس أشياء تستحيل إلى مثل هذا الأصل.
فأنكروا من هذا الوجه تحويل الشبه [6] ذهبا، والزّيبق فضة.
وقد علمنا أن للنّوشاذر في العالم أصلا موجودا. وقد يصعّدون [7] الشّعر ويدبّرونه حتى يستحيل كحجر النوشاذر، ولا يغادر منه شيئا في عمل ولا بدن.
[1] السّلح: النجو.
[2] الأرضون: جمع أرض.
[3] القاطول: نهر كان في موضع سامرا قبل أن تعمّر، وكان الرشيد أول من حفر هذا النهر وبنى على فوهته قصرا. معجم البلدان 4/ 297.
[4] ورد هذا الزعم في ربيع الأبرار 5/ 473.
[5] بص: لمع.
[6] الشّبه: النحاس الأصفر.
[7] التصعيد: شبيه بالتقطير.(5/187)
وقد يدبّرون الرّماد والقلي [1] فيستحيل حجارة سودا إذا عمل منها أرحاء [2] كان لها في الرّيع [3] فضيلة.
قالوا [4]: وللمردارسنج [5] في العالم أصل قائم. والرصاص يدبّر فيستحيل مرداسنجا [5]. وللرّصاص في العالم أصل قائم، فيدبّرون المرداسنج [5] فيستحيل رصاصا.
وللتّوتياء [6] أصل قائم، فيدبرون أقليميا [7] النّحاس فتستحيل توتياء.
وكذلك المينا [8]، له أصل قائم، وقد عمله الناس.
وكذلك الحجارة السّود للطحين وغير ذلك.
فأما قولهم: لا يجوز أن يكون شيء من الحيوان يخلق من ذكر وأنثى فيجيء من غير ذكر وأنثى فقد قلنا في جميع ذلك في صدر كتابنا هذا بما أمكننا.
1473 [معارف في الحيّات والأفاعي]
وقال: الحيّات كلها تعوم [9]، إلا الأفاعي، فإنها لا يعوم منها إلا الجبليّات.
قال: والحيّة إن رأت حيّة ميتة لم تأكلها، ولا تأكل الفأر ولا الجرذان الميتة، ولا العصافير الميتة، مع حرص الحية عليها، ولا تأكل إلا لحم الشيء الحيّ، إلا أن يدخل الحوّاء في حلوقها اللحم إدخالا. فأما من تلقاء نفسها فإن وجدته، وهي جائعة لم تأكله.
فينبغي أن يكون صاحب المنطق إنما عنى بقوله: «أخبث ما تكون ذوات السموم إذا أكل بعضها بعضا» الابتلاع دون كل شيء. وهم لا يعرفون ذلك في
[1] القلي: شيء يتخذ من حريق الحمض، وانظر عيون الأخبار 2/ 108.
[2] الأرحاء. جمع جمع رحى، وهي الحجر التي يطحن به الحب.
[3] الريع: فضل كل شيء.
[4] الخبر في عيون الأخبار 2/ 109.
[5] المردارسنج: ما يكون من سائر المعادن المطبوخة إلا الحديد. انظر معجم استينجاس 1212.
[6] التوتياء: حجر يكتحل به.
[7] أقليميا: زبد يعلو المعدن عند سبكه.
[8] المينا: جوهر الزجاج الذي يعمل منه الزجاج. انظر معجم استينجاس 1346.
[9] انظر الحديث عن الحيات المائية في 4/ 322، الفقرة (1035).(5/188)
الحيّات إلا للأسود، فإنه ربما كان مع الأفاعي في جونة، فيجوع فيبتلعها. وذلك إذا أخذها من قبل رؤوسها، وإن رام ذلك من جهة الرأس فعضته الأفعى قتلته.
وزعموا أن الحية لا تصّاعد في الحائط الأملس ولا في غير الأملس، فإنما يقول ذلك أصحاب المخاريق [1] والذين يستخرجون الحيات بزعمهم من السقوف، ويشمون أراييح أبدانها من أطراف القصب، إذا مسحوها في ترابيع البيوت.
قالوا: وقد تصعد الحيّات في الدّرج وأشباه الدّرج لتطلب بيوت العصافير، والفأر، والخطاطيف، والزّرازير، والخفافيش، وتتحامى في السّقف.
باب في العقرب
القول في العقرب وسنذكر تمام القول في العقرب إذ كنا قد ذكرنا من شأنها شيئا في باب القول في الفأر.
1474 [نفع العقرب]
ولمّا قيل ليحيى بن خالد، النازل في مربّعة الأحنف وزعموا أنهم لم يروا رجلا لم يختلف إلى البيمارستانات [2] ولا رجلا مسلما ليس بنصرانيّ ولا رجلا لم ينصب نفسه للتكسب بالطب كان أطبّ منه فلما قيل له: إن القينيّ قال [3]: «أنا مثل العقرب أضرّ ولا أنفع» قال: ما أقلّ علمه بالله عزّ وجلّ لعمري إنها لتنفع إذا شقّ بطنها ثم شدّ على موضع اللّسعة، فإنها حينئذ تنفع منفعة بينة! والعقرب تجعل في جوف فخّار مشدود الرّأس مطيّن الجوانب، ثم يوضع الفخّار في تنّور، فإذا صارت العقرب رمادا سقي من ذلك الرّماد من به الحصاة مقدار نصف دانق [4].
[1] المراد بالمخاريق: ألاعيب المشعوذين.
[2] البيمارستان: كملة فارسية تعني دار المرضى. انظر معجم استينجاس 224، واللسان والتاج (مرس).
[3] تقدم الخبر في 4/ 366مع نسبته إلى الضبي، والخبر أيضا في ربيع الأبرار 5/ 476، وعيون الأخبار 2/ 103.
[4] انظر هذه الفقرة في ربيع الأبرار 5/ 476، وعيون الأخبار 2/ 103.(5/189)
وقال حنين: وقد يسقى منه الدانق وأكثر، فيفتّت الحصاة من غير أن يضرّ بشيء من الأعضاء والأخلاط. وخير الدواء ما قصد إلى العضو السقيم، وسلمت عليه الأعضاء الصحيحة.
وقال يحيى: وقد تلسع أصحاب ضروب من الحميات العقارب فيفيقون، وتلسع الأفاعي فتموت، ومنها ما يلسع بعضها بعضا فيموت الملسوع، فهي من هذا الوجه تكفي الناس مؤونة عظيمة.
وتلقى العقرب في الدّهن وتترك فيه، حتى يأخذ الدهن منها ويمتصّ ويجتذب قواها كلها بعد الموت، فيكون ذلك الدهن يفرّق الأورام الغلاط. وقد عرف ذلك حنين.
1475 [بعض أعاجيب العقرب]
ومن أعاجيبها أنها لا تسبح، ولا تتحرك إذا ألقيت في الماء كيف كان الماء:
ساكنا أو جاريا [1].
والعقرب تطلب الإنسان وتقصد نحوه، فإذا قصد نحوها فرّت وهربت وتقصد أيضا نحو الإنسان، فإذا ضربته هربت، هرب من قد أساء، وتعلم أنها مطلوبة.
والزنابير تطالب من تعرّض لها وتقصد لعينه، ولا تكاد تعرض للكافّ عنها.
1476 [المودّة والمسالمة في الحيوان]
وبين العقارب وبين الخنافس مودة. والمودّة غير المسالمة.
والمسالمة: أن يكون كل واحد من الجنسين لا يعرض للآخر بخير ولا شر، بعد أن يكون كل واحد منهما مقرّبا لصاحبه.
والعداوة أن يعرض كل واحد منهما لصاحبه بالشرّ والأذى والقتل، ليس من جهة أن أحدهما طعام لصاحبه.
والأسد ليس يثب على الإنسان والحمار والبقرة والشاة من جهة العداوة، وإنما يثب عليه من طريق طلب المطعم. ولو مرّ به وهو غير جائع لم يعرض له الأسد.
[1] محاضرات الراغب 2/ 305 (4/ 672).(5/190)
والنمر على غير ذلك. ولكن قد يقال: إن بين الببر [1] والأسد مسالمة.
والمودة: كما يكون بين العقارب والخنافس، فإنّ بعضها يتألف بعضا، وليست تلك بمسالمة، وكما بين الحيّات والوزغ، فإنها تساقى السّمّ وتزاقّ، وكما بين ضروب من العقارب وأسود سالخ [2].
والأسود ربّما جاع في جونة الحوّاء فأكل الأفعى وربما عضّته الأفعى فقتلته.
1477 [علاقة الرائحة بالطعم]
وريح العقارب إذا شويت مثل ريح الجراد.
وما زلت أظنّ أن الطعم أبدا يتبع الرائحة، حتى حقّق ذلك عندي بعض من يأكلها مشوية ونيّة، أنه ليس بينها وبين الجراد الأعرابي السمين فرق.
1478 [معاينة الخرق الذي في إبرة العقرب]
وزعم لي بختيشوع بن جبريل، أنه عاين الخرق الذي في إبرة العقرب. وإن كان صادقا كما قال، فما في الأرض أحدّ بصرا منه. وإنه لبعيد، وما هو بمستنكر.
1479 [من أعاجيب العقرب]
وفي العقارب أعجوبة أخرى لأنه يقال: إنها مائية الطّباع، وإنها من ذوات الذّرو [3] والإنسال وكثرة الولد، كما يعتري ذلك السّمك والضّبّ والخنزيرة، في كثرة الخنانيص [4].
1480 [موت العقرب بعد الولادة]
قال [5]: ومع ذلك إن حتفها في أولادها، وإن أولادها إذا بلغن وحان وقت الولادة، أكلن جلد بطنها من داخل، حتى إذا خرقنه خرجن منه وماتت الأمّ.
[1] الببر: ضرب من السباع، شبيه بابن آوى، ويقال إنه متولد من الزبرقان واللبوة. حياة الحيوان 1/ 159.
[2] أسود سالخ: ضرب من الحيات، وهو شر الحيات. حياة الحيوان 1/ 41.
[3] الذرو: الذرية.
[4] الخنانيص: جمع خنّوص، وهو ولد الخنزير.
[5] انظر ما تقدم في 4/ 342، ونهاية الأرب 10/ 147.(5/191)
وقد يطأ الإنسان على العقرب وهي ميتة، فتغترز إبرتها في رجله، فيلقى الجهد الجاهد وربما أمرضت، وربّما قتلت.
قال: وفي أشعار اللّغز قيل في أكل أولاد العقرب بطن الأمّ، وأنّ عطبها في أولادها [1]: [من الطويل] وحاملة لا يكمل الدّهر حملها ... تموت ويبقى حملها حين تعطب
وليس هذا شيئا.
1481 [ولادة العقرب من فيها]
خبّرني من أثق بعقله، وأسكن إلى خبره، أنه أرى العقرب عيانا وأولادها يخرجن من فيها، وذكر عددا كثيرا، وأنها صغار بيض على ظهورها نقط سود، وأنها تحمل أولادها على ظهرها، وأنه عاين ذلك مرة أخرى. فقلت: إن كانت العقرب تلد من فيها فأخلق بها أن يكون تلاقحها من حيث تلد أولادها!.
1482 [العقارب القاتلة]
والعقارب القاتلة تكون في موضعين [2]: بشهرزور. وقرى الأهواز، إلا أن القواتل التي بالأهواز جرّارات [3]. ولم نذكر عقارب نصيبين، لأن أصلها فيما لا يشكّون فيه من شهرزور حين حوصر أهلها ورموا بالمجانيق [4]، وبكيزان محشوّة من عقارب شهرزور، حتّى توالدت هناك، فأعطى القوم بأيديهم.
1483 [لغز في العقرب]
ومن اللّغز فيها في غير هذا الجنس: [من الطويل] وما بكرة مضبورة مقمطرّة ... مسرّة كبر أن تنال فتمرضا [5] ... بأشوس منها حين جاءت مدلّة ... لتقتل نفسا أو تصيب فتمرضا [6] ... فلما دنا نادى أوابا بنعم غيرها ... ديرا إذا نال الغريفة أو قضا
[1] البيت بلا نسبة في محاضرات الأدباء 2/ 305 (4/ 672)، ونهاية الأرب 10/ 147.
[2] انظر الخبر في ثمار القلوب (632).
[3] الجرارات ضرب من العقارب تجرر أذنابها. انظر ما تقدم في 4/ 329328، 366.
[4] المجانيق: جمع منجنيق. انظر ما تقدم في الحاشية الثانية ص 161.
[5] البكرة: الفتية من الإبل. المضبورة: المكتنزة اللحم. المقمطرة: الشديدة.
[6] الشوس: النظر بمؤخر العين.(5/192)
1484 [استخراج العقارب بالجراد والكرّاث]
قال [1]: والعقارب تستخرج من بيوتها بالجراد: تشدّ الجرادة في طرف عود، ثم تدخل الجحر، فإذا عاينتها تعلقت بها، فإذا أخرج العود خرجت العقرب وهي متعلقة بالجرادة.
فأما إبراهيم بن هانىء فأخبرني أنه كان يدخل في جحرها خوط [2] كرّاث، فلا يبقى منها عقرب إلا تبعته.
1485 [ألسنة الحيات والأفاعي]
ألسنة الحيّات كلها سود. وألسنة الأفاعي حمر، إلا أنها مشقوقة.
1486 [جرّارات الأهواز]
وسنذكر عقارب الشتاء وعقيرب الحرّ. وكلّ شيء من هذا الباب، ولكنا نبدأ بذكر جرّارات الأهواز.
ذكروا أنّ أقتلها عقارب عسكر مكرم، وأنها متى ضربت رجلا فظنّ أن تلك العضة عضّة نملة، أو وخزة شوكة، فنال من اللحم تضاعف ما به.
وربما باتت مع الرجل في إزاره فلم تضربه.
وهي لا تدبّ على كل شيء له غفر [3]، ولا تدبّ على المسوح [4]، وما أكثر ما تأوي في أصول الآجرّ الذي قد أخرج من الأتاتين [5] ونضّد في الأنابير [6].
وكان أهل العسكر يرون [7] أن من أصلح ما يعالج به موضع اللسعة أن يحجم، وكان الحجّام لا يرضى إلا بدنانير ودنانير، لأن ثناياه ربما نصلت، وجلد وجهه ربما
[1] ورد الخبر في ربيع الأبرار 5/ 484.
[2] الخوط: القضيب من النبات.
[3] الغفر: زئبر الثوب وما شاكله، والزئبر: ما يعلو الثوب الجديد مثل ما يعلو الخز، أو هو ما يظهر من درز الثوب.
[4] المسوح: جمع مسح، وهو الكساء من الشعر.
[5] الأتاتين: جمع أتون، وهو الموقد.
[6] الأنابير: جمع أنبار، وهو أهراء الطعام، والهري: بيت كبير ضخم يجمع فيه طعام السلطان.
[7] انظر هذا الخبر في ربيع الأبرار 5/ 477.(5/193)
تبطّط [1] من السمّ الذي يرتفع إلى فيه، بمصّته وجذبته من أذناب المحاجم [2]. حتى عمدوا بعد ذلك إلى شيء من قطن، فحشوا به تلك الأنبوبة، فإذا جذب بمصّته فارتفع إليه من بخار الدّم أجزاء من ذلك السم، تعلقت بالقطن، ولم تنفذ إلى فيه. والقطن ليس مما يدفع قوّة المص. ثم وقعوا بعد ذلك على حشيشة فوجدوا فيها الشفاء!
1487 [من أعاجيب العقرب]
ومن أعاجيب ما في العقرب أنا وجدنا عقارب القاطول يموت بعضها عن لسع بعض، ثم لا يموت عن لسعها شيء غير العقارب [3].
ونجد العقرب تلسع إنسانا فيموت الإنسان، وتسلع آخر فتموت هي. فدلّ ذلك على أنها كما تعطي تأخذ، وأن للناس أيضا سموما عجيبة. ولذلك صار بعضهم إذا عضّ قتل.
ومن أعاجيبها أنها تضرب الطست [4] أو القمقم [5] فتخرقه. وربما ضربته فتثبت فيه إبرتها ثم تنصل حتى تبين منها.
1488 [العنبر وأثره في الطيور والبال]
والعنبر يقذفه البحر إلى عبريه [6]، فلا يأكل منه شيء إلا مات، ولا ينقره طائر بمنقار إلا نصل فيه منقاره. فإذا وضع رجليه نصلت [7] أظفاره. فإن كان قد أكل منه قتله ما أكل. وإن لم يكن أكل فإنه ميت لا محالة، لأنه إذا بقي بغير منقار، ولم يكن للطائر شيء يأكل به مات.
والبحريّون والعطّارون يخبروننا أنهم ربما وجدوا فيه المنقار والظفر. وإنّ البال [8] ليأكل منه اليسير فيموت.
[1] تبطط: تشقق.
[2] المحاجم: جمع محجم، وهي الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة.
[3] ربيع الأبرار 5/ 476.
[4] الطست: إناء من آنية الصفر أي النحاس.
[5] القمقم: إناء من نحاس وغيره، ويسخن فيه الماء، ويكون ضيق الرأس.
[6] عبر البحر: شاطئه.
[7] نصلت: خرجت.
[8] البال: الحوت العظيم. انظر تفصيل القول فيه في حياة الحيوان 1/ 159.(5/194)
والبال: سمكة ربما كان طولها أكثر من خمسين ذراعا.
1489 [أعاجيب لسع العقرب]
ومن أعاجيب العقارب أنها تلسع الأفعى فتموت الأفعى ولا تموت هي، وتلسع بعض الناس، فتموت هي، ولا ينال الملسوع منها من المكروه قليل ولا كثير. ويزعم العوامّ أن ذلك إنما يكون لمن لسعت أمّه عقرب وهو حمل في بطنها.
وقد لسعت عقرب رجلا مفلوجا، فذهب عنه الفالج [1]. وقصة هذا المفلوج معروفة، وقد عرفها صليبا وغيره من الأطباء.
ومن العقارب طيارات وجرارات، ومعقّفات، وخضر، وحمر.
1490 [اختلاف السموم، واختلاف علاجها]
وتختلف سموم العقارب بأسباب: منها اختلاف أجناسها، كالجرّارة وغيرها، ومنها اختلاف التّرب كفرق ما بين جرّارات عقارب شهرزور [2] وعسكر مكرم.
وتختلف مضرّة سمومها على قدر طباع الملسوع. ويختلف قدر سمومها على قدر مواضع اللسعة، وعلى قدر اختلاف ما بين النهار والليل، وعلى قدر ما صادفت عليه الملسوع من غذائه، ومن تفتح منافسه، وعلى قدر ما تصادف عليه العقرب من الحبل وغير الحبل وعلى قدر لسعتها في أوّل الليل عند خروجها من جحرها بعد أن أقامت فيه شتوتها. وأشدّ من ذلك أن تلسع أوّل ما تخرج من جحرها بعد أن أقامت فيه يومها.
قال ماسرجويه: فلذلك اختلفت وجوه العلاج، فصار ضرب من العلاج يفيق عنه إنسان ولا يصلح أمر الآخر.
1491 [لسعة الزنبور]
وخبرني ثمامة عن أمير المؤمنين المأمون أنه قال [3]: قال لي بختيشوع بن جبريل وسلمويه، وابن ماسويه: «إن الذباب إذا دلك به موضع لسعة الزنبور سكن»
[1] عيون الأخبار 2/ 103، وربيع الأبرار 5/ 477.
[2] تقدم الحديث عن عقارب شهرزور في 192.
[3] عيون الأخبار 2/ 104103، والعقد الفريد 4/ 263، وربيع الأبرار 5/ 460.(5/195)
فلسعني زنبور فحككت على موضعه أكثر من عشرين ذبابة فما سكن إلا في قدر الزمان الذي كان يسكن فيه من غير علاج. فلم يبق في يدي منهم إلا أن يقولوا: كان هذا الزنبور حتفا قاضيا، ولولا هذا العلاج لقتلك.
1492 [حجج الأطبّاء]
وكذلك هم إذا سقوا دواء فضرّ، أو قطعوا عرقا فضرّ، قالوا: أنت مع هذا العلاج الصّواب تجد ما تجد! فلولا ذلك العلاج كنت الساعة في نار جهنم.
وقيل لي وقرأت في كتاب الحيوان إنّ ريح السّذاب [1] يشتد على الحيّات. فألقيت على وجوه الأفاعي جرز السّذاب فما كان عندها إلا كسائر البقل.
فلو قلت لهم في هذا شيئا لقالوا: الحيّات غير الأفاعي. وهذا باطل. الأفاعي نوع من الحيات. وكلهم قد عمّ ولم يخص.
1493 [ما يدّخر من الحيوان]
وجميع الحشرات والأحناش، وجميع العقارب وهذه الدّبابات [2] التي تعضّ وتلسع، التي تكمن في الشتاء لا تأكل شيئا في تلك الأشهر ولا تشرب، وكذا كل شيء من الهمج والحشرات مما لا يتحرّك في الشتاء إلا النمل والذّرّ والنحل، فإنها قد ادخرت ما يكفيها، وليست كغيرها مما تثبت حياته مع ترك الطعم.
1494 [حرص العقارب والحيات على أكل الجراد]
وللعقرب ثماني أرجل وهي حريصة على أكل الجراد. وكذلك الحيات. وما أكثر ما تلدغ وتنهش صاحب الجراد [3].
1495 [أثر المرضع في الرضيع]
ومن عجيب سمّ الأفاعي ما خبرني به بعض من يخبر شأن الأفاعي قال [4]:
[1] السذاب: نوع من النعناع. «السامي في الأسامي 395»، وفي عيون الأخبار 2/ 9 «الحيات تكره ريح السذاب والشيح».
[2] الدبابات: التي تدب من الحيوان، أي تمشي على هينة.
[3] صاحب الجراد: أي الذي يصطاد الجراد. وانظر ما تقدم في 193، وفي 4/ 376، الفقرة (1126).
[4] ربيع الأبرار 5/ 476.(5/196)
كنت بالبادية ورأيت ناقة ترتع، وفصيلها يرتضع من أخلافها، إذ نهشت الناقة على مشافرها أفعى، فبقيت واقفة سادرة، والفصيل يرتضع، فبينا هو يرتضع إذ خرّ ميّتا.
فكان موته قبل موت أمّه من العجب. وكان مرور السمّ في تلك الساعة القصيرة أعجب، وكان ما صار من فضول سمها في لبن الضّرع حتى قتل الفصيل قبل أمه عجبا آخر.
والمرأة المرضع تشرب النبيذ فيسكر عن لبنها الرضيع وتشرب دواء المشي فيعتري الرضيع الخلفة [1]. فلذلك يختار الحكماء لأولادهم الظئر البريئة من ألأدواء:
في عقلها، وفي بدنها.
وتوهّموا أن اللبن إنما نجع في الفصيل لقرابة ما بين اللبن والدّم، فصار ذلك السمّ أسرع إليه منه إلى أمه. ولعل ضعف الفصيل قد أعان أيضا على ذلك.
1496 [قصتان في من لسعته العقرب]
قال أبو عبيدة [2]: لسعت أعرابيّا عقرب بالبصرة، فخيف عليه فاشتدّ جزعه، فقال بعض الناس: ليس شيء خيرا له من أن تغسل له خصية زنجي عرق وكانت ليلة غمقة [3] فلما سقوه قطب [4]، فقيل له: طعم ماذا تجد؟ قال: طعم قربة جديدة.
وخبرني محمد وعليّ ابنا بشير، أن ظئرا لسليمان بن رياش لسعتها عقرب فملأت الدنيا صراخا، فقال سليمان: اطلبوا لها هذه العقرب، فإن دواءها أن تلسعها لسعة أخرى في ذلك المكان، فقالت العجوز: قد برئت، وقد سكن وجعي، ولا حاجة لي إلى هذا العلاج. قال: فأتوه بعقرب لا والله إن يدرى: أهي تلك أم غيرها؟ فأمر بها فأمسكت فقالت: أنشدك بالله واللبن فأبى وأرسلها عليها. فلسعتها فغشي عليها ومرضت زمانا وتساقط شعر رأسها. فقيل لسليمان في ذلك فقال: يا مجانين! لا والله إن ردّ عليّ روحها إلا اللسعة الثانية. ولولا هي لقد كانت ماتت.
[1] الخلفة: استطلاق البطن.
[2] عيون الأخبار 2/ 103، وربيع الأبرار 5/ 476.
[3] غمقة: ثقيلة الندى مع سكون الريح.
[4] قطب: زوى ما بين عينيه.(5/197)
باب القول في القمل والصّؤاب
وسنقول في القمل والصّؤاب ما وجدنا تمكينا من القول، إن شاء الله تعالى.
1497 [ما زعمه إياس بن معاوية والرد عليه]
ذكروا عن إياس بن معاوية، أنه زعم أن الصّئبان ذكورة القمل والقمل إناثها، وأن القمل من الشّكل الذي تكون إناثه أعظم من ذكورته.
وذكروا عنه أنه قال: وكذلك الزّرارقة والبزاة. فجعل البزاة في الإناث.
وليس فيما قال شيء من الصواب والتّسديد. وقد خبّرناكم [1] عن حكايته في الشّبّوط، حين جعله كالبغل، وجعله مخلوقا من بين البنّيّ والزّجر.
والقمل يعتري من العرق والوسخ، إذا علاهما ثوب، أو ريش، أو شعر، حتى يكون لذلك المكان عفن وخموم.
1498 [أثر لون الشّعر في لون القملة]
[2] والقملة تكون في رأس الأسود سوداء، ورأس الأبيض الشعر بيضاء، وتكون خصيفة [3] اللون، وكالحبل الأبرق [4] إذا كانت في رأس الأشمط [5]. وإذا كانت في رأس الخاضب بالحمرة كانت حمراء، وإن كان الخاضب ناصل الخضاب كان في لونها شكلة [6]، إلا أن يستولي على الشعر النّصول فتعود بيضاء.
وهذا شيء يعتري القمل، كما تعتري الخضرة دود البقل، وجراده وذبابه، وكلّ شيء يعيش فيه.
1499 [أثر البيئة في الحيوان]
وليس ذلك بأعجب من حرّة بن سليم، فإن من طباع تلك الحرة أن تسوّد كل
[1] انظر ما تقدم في 1/ 98، الفقرة (112).
[2] انظر ما تقدم في 4/ 296295، وربيع الأبرار 5/ 481.
[3] الخصيفة: ما فيها لونان من سواد وبياض.
[4] في اللسان: «الخصيف من الحبال ما كان أبرق، بقوة سوداء، وأخرى بيضاء».
[5] الشمط: بياض في شعر الرأس يخالف سواده.
[6] الشكلة: بياض وحمرة قد اختلطا.(5/198)
شيء يكون فيها [1]: من إنسان، أو فرس، أو حمار، أو شاة، أو بعير، أو طائر، أو حيّة.
ولم نسمع ببلدة أقوى في هذا المعنى من بلاد الترك، فإنها تصوّر إبلهم وخيلهم، وجميع ما يعيش فيها، على صورة التّرك.
1500 [تولد القمل]
والقمل يعرض لثياب كلّ الناس إذا عرض لها الوسخ والعرق، والخموم، إلا ثياب المجذّمين [2] فإنهم لا يقملون.
وإذا قمل إنسان وأفرط عليه ذلك، زأبق [3] رأسه إن كنّ في رأسه أو جسده، وإن كنّ في ثيابه، فموّتن.
وقال أبو قطيفة لأصحابه [4]: أتدرون ما يذرأ [5] القمل! قالوا: لا. قال: ذاك والله من قلة عنايتكم بما يصلح أبدانكم! يذرأ القمل الفساء.
فأما ثمامة فحدثني عن يحيى بن خالد البرمكي، أن شيئين يورثان القمل [6]:
أحدهما الإكثار من التّين اليابس، والآخر بخار اللّبان إذا ألقي على المجمرة.
1501 [الإنسان القمل الطباع]
وربما كان الإنسان قمل الطباع، وإن تنظّف وتعطّر وبدّل الثياب، كما عرض لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام، استأذنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في لباس الحرير فأذن لهما فيه [7] ولولا أنهما كانا في حدّ ضرورة لما أذن لهما فيه، مع ما قد جاء في ذلك من التشديد [8].
[1] انظر ما تقدم في 4/ 296، س 43، وربيع الأبرار 5/ 481.
[2] الأجذم: المقطوع اليد، وقيل: هو الذي ذهبت أنامله. وفي ربيع الأبرار 5/ 480 (وثياب أكثر الناس تقمل، إلا ثياب المخدمين المترفين).
[3] زأبق: طلى بالزئبق.
[4] انظر الخبر في البخلاء 114.
[5] يذرأ: يكثر.
[6] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 480.
[7] أخرجه البخاري في اللباس، حديث رقم 5501 «عن أنس قال: رخّص النبي صلّى الله عليه وسلّم للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير، لحكة بهما».
[8] انظر هذا الخبر في ربيع الأبرار 5/ 480.(5/199)
فلما كان في خلافة عمر، رأى عمر على بعض بني المغيرة من أخواله، قميص حرير، فعلاه بالدّرّة [1]، فقال المغيريّ: أو ليس عبد الرحمن بن عوف يلبس الحرير؟
قال: وأنت مثل عبد الرحمن لا أمّ لك!
1502 [الاحتيال للبراغيث]
واحتاج أصحابنا إلى التسلّم من عضّ البراغيث، أيام كنّا بدمشق، ودخلنا أنطاكية، فاحتالوا لبراغيثها بالأسرّة فلم ينتفعوا بذلك لأن براغيثهم تمشي.
وبراغيثهم نوعان: الأبجل والبقّ، إنما سمّوا ذلك الجنس على شبيه بما حكى لي ثمامة عن يحيى بن خالد البرمكيّ، فإنّ يحيى زعم أن البراغيث من الخلق الذي يعرض له الطيران فيستحيل بقّا، كما يعرض الطيران للنّمل، وكما يعرض الطيران للدّعاميص فإن الدعاميص إذا انسلخت صارت فراشا.
فكان أصحابنا قد لقوا من تلك البراغيث جهدا. وكانت لها بليّة أخرى: وذلك أن الذي تسهره البراغيث لا يستريح إلا أن يقتلها بالعرك والقتل. وإلى أن يقبض عليها فيرمي بها إلى الأرض من فوق سريره فيرى أنهنّ إذا صرن عشرين كان أهون عليه من أن يكنّ إحدى وعشرين. فكان الرجل إذا رام ذلك من واحدة منها نتنت يده وكانوا ملوكا، ومثل هذا شديد على مثلهم، فما زالوا في جهد منها حتى لبسوا قمص الحرير الصّينيّ، وجعلوها طويلة الأردان والأبدان فناموا مستريحين [2].
1503 [خروج القمل من جسم الإنسان]
وخبّرني كم شئت من أطبّاء الناس وأصحاب التجارب، منهم من يقشعر من الكذب، ويتقزز منه أنهم رأوا القمل عيانا وهو يخرج من جلد الإنسان. فإذا كان الإنسان قملا كان قمله مستطيلا، في شبيه بخلقة الديدان الصغار البيض.
ويذكر أن مثل ذلك قد كان عرض لأيوب النبي، صلّى الله عليه وسلّم، حين كان امتحن بتلك الأوجاع حتى سمّي: «المبتلى» وخبّرني شيخ من بني ليث، أنه اعتراه جرب، وأنه تطلّى بالمرتك [3] والدّهن،
[1] الدرة: درة السلطان التي يضرب بها.
[2] الخبر باختصار في ربيع الأبرار 5/ 479.
[3] المرتك: هو المردارسنج، ويكون من سائر المعادن المطبوخة إلا الحديد. انظر معجم استينجاس 1212.(5/200)
ثم دخل الحمّام فرأى قملا كثيرا، يخرج من تلك الجلب [1] والقروح.
وخبّرني أبو موسى العباسيّ صديقنا أنه كان له غلام بمصر، وكان الغلام ربما أخذه إبرة ففتح بها فتحا في بعض جسده، في الجلد، فلا يلبث أن يطلع من تحت الجلد في القيح قملة.
1504 [قمل الحيوان]
والقمل يسرع إلى الدّجاج والحمام، إذا لم يغتسل ويكن نظيف البيت. وهو يعرض للقرد [2]، ويتولّد من وسخ جلد الأسير وما في رأسه من الوسخ. ولذلك كانوا يضجّون ويقولون: أكلنا القدّ [3] والقمل!
1505 [تلبيد الشعر]
وكانوا يلبّدون شعورهم، وذلك العمل هو التلبيد، والحاجّ الملبّد هو هذا.
وقال الشاعر: [من الكامل] يا ربّ، ربّ الراقصات عشيّة ... بالقوم بين منى وبين ثبير [4] ... زحف الرّواح قد انقضت منّاتهم ... يحملن كلّ ملبّد مأجور [5]
وقال عبد الله بن العجلان النهديّ: [من المنسرح] إني وما مار بالفريق وما ... قرقر بالجلهتين من سرب [6]
جماعة من القطا وغيره، واحدتها سربة وعبر بها ها هنا عن الحجّاج.
من شعر كالغليل يلبد بال ... قمل وما مار من دم سرب [7] ... والعتر عتر النّسيك يخفر بال ... بدن لحلّ الإحرام والنّصب [8]
[1] الجلب: جمع جلبة، وهي القشرة تعلو الجرح عند البرء.
[2] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 480.
[3] القد: سير من جلد غير مدبوغ.
[4] الراقصات: الإبل تسرع في سيرها. ثبير: جبل من أعظم جبال مكة.
[5] زحف: جمع زحوف، وهي الناقة أعيت فجرّت فرسنها. المنّة: القوة.
[6] الفريق: تصغير فرق أو فرق، وهو اسم موضع بتهامة. «معجم البلدان 4/ 260». القرقرة: عنى بها تلبية الحجيج.
[7] الغليل: القت والنوى والعجين تعلفه الإبل. السرب: السائل.
[8] العتر: ما عتر أي ذبح. النسيك: الذبيح.(5/201)
وقال أميّة بن أبي الصّلت [1]: [من البسيط] شاحين آباطهم لم ينزعوا تفثا ... ولم يسلّوا لهم قملا وصئبانا [2]
ويروى: «لم يقربوا تفثا» قال الله عزّ وجلّ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [3]. وما أقل ما ذكروا التّفث في الأشعار.
والتلبيد: أن يأخذ شيئا من خطميّ وآس وسدر، وشيئا من صمغ فيجعله في أصول شعره وعلى رأسه، كي يتلبد شعره ولا يعرق ويدخله الغبار، ويخمّ فيقمل.
وكانوا يكرهون تسريح الشعر وقتل القمل. فكان ذلك العمل يقلّ معه القمل.
وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لكعب بن عجرة: هل آذاك هوامّ رأسك؟!» [4]
1506 [تعيير هوازن وأسد بأكل القرّة]
وقال ابن الكلبيّ [5]: عيّرت هوازن وأسد بأكل القرّة [6]. وهما بنو القملة.
وذلك أن أهل اليمن كانوا إذا حلقوا رؤوسهم بمنى وضع كل رجل منه على رأسه قبضة من دقيق. فإذا حلقوا رؤوسهم سقط ذلك الشّعر مع ذلك الدقيق، ويجعلون الدقيق صدقة. فكان ناس من الضّركاء [7] وفيهم ناس من قيس وأسد، يأخذون ذلك الشعر بدقيقه، فيرمون بالشعر، وينتفعون بالدقيق.
وأنشد لمعاوية بن أبي معاوية الجرميّ، في هجائهم [8]: [من الطويل]
[1] ديوان أمية بن أبي الصلت 518.
[2] في ديوانه: «شحا الرجل: باعد بين خطاه، وشحا الرجل فاه: فتحه. والآباط: مفردها: إبط، وأراد بذلك رفع الحجاج أيديهم بالدعاء. والسّلّ: انتزاع الشيء وإخراجه برفق كإخراج الشعرة من العجين. والتفث: نتف الشعر وقص الأظفار وكل ما يحل بعد الخروج من الإحرام».
[3] 29/ الحج: 22.
[4] أخرجه البخاري في الإحصار وجزاء الصيد، حديث رقم 1719، 1720، 1722، ومسلم في الحج، باب: جواز حلق للرأس للمحرم إن كان به أذى، رقم 1201.
[5] الخبر مع البيتين التاليتين في كتاب الأصنام لابن الكلبي 4948، ومعجم البلدان 1/ 238 (الأقيصر)، واللسان والتاج (قرر).
[6] القرة: ناقة تؤخذ من المغنم قبل قسمة الغنائم فتنحر وتصلح ويأكلها الناس، يقال لها قرة العين.
[7] الضركاء: جمع ضريك، وهو الفقير الهالك سوء الحال.
[8] البيتان في البخلاء 217، وانظرهما في مصادر الحاشية قبل السابقة.(5/202)
ألم تر جرما أنجدت وأبوكم ... مع الشعر في قصّ الملبّد شارع [1] ... إذا قرَّة جاءت يقول أصب بها ... سوى القمل إني من هوازن ضارع
1507 [شعر في هجو القملين]
وقال بعض العقيليّين، ومرّ بأبي العلاء العقيليّ وهو يتفلّى، فقال [2]: [من الكامل] وإذا مررت به مررت بقانص ... متصيّد في شرقة مقرور [3] ... للقمل حول أبي العلاء مصارع ... من بين مقتول وبين عقير ... وكأنهنّ لدى خبون قميصه ... فذّ وتوءم سمسم مقشور [4] ... ضرج الأنامل من دماء قتيلها ... حنق على أخرى العدوّ مغير [5]
وقال الحسن بن هانىء [6]، في أيوب، وقد ذهب عني نسبه، وطالما رأيته في المسجد: [من مجزوء الكامل] من ينأ عنه مصاده ... فمصاد أيوب ثيابه ... تكفيه فيها نظرة ... فتعلّ من علق حرابه [7] ... يا ربّ محترس بخب ... ن الدّرز تكنفه صؤابه [8] ... فاشي النّكاية غير معلو ... م إذا دبّ انسيابه ... أو طامريّ واثب ... لم ينجه عنه وثابه
الطامريّ: البرغوث. ثم قال:
أهوى له بمذلّق الغربين إصبعه نصابه [9]
[1] أنجدت: دخلت بلاد نجد.
[2] الأبيات لبعض العقيليين في نهاية الأرب 10/ 177، ولبعض الأسديين في الحماسة المغربية 1283، وبلا نسبة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1843، والتبريزي 4/ 164، والبيتان (32) بلا نسبة في ديوان المعاني 2/ 150، ومحاضرات الأدباء 2/ 133 (3/ 294).
[3] الشرقة: المكان الذي يتشرق فيه في الشتاء. المقرور: الذي أصابه القر وهو البرد.
[4] الخبن: خياطة الثوب لتقليصه. الفذ: الفرد.
[5] الضرج: المصبوغ بالحمرة.
[6] لم ترد الأبيات في ديوان أبي نواس، وهي في نهاية الأرب 10/ 178.
[7] تعل: تشرب مرة بعد مرة. العلق: الدم.
[8] الخبن: خياطة الثوب لتقليصه.
[9] مذلق: حاد. الغربين: مثنى غرب وهو حد السلاح.(5/203)
لله درّك من أخي ... قنص أصابعه كلابه [1]
1508 [أحاديث وأخبار في القمل]
وفي الحديث أن أكل التفاح، وسؤر الفأرة، ونبذ القملة يورث النّسيان [2].
وفي حديث آخر أنّ الذي ينبذ القملة لا يكفى الهمّ.
والعامة تزعم أن لبس النّعال السود يورث الغمّ والنسيان.
وتناول أعرابيّ قملة دبّت على عنقه، ففدغها ثم قتلها بين باطن إبهامه وسبّابته، فقيل له: ما تصنع ويلك بحضرة الأمير؟! فقال: بأبي أنت وأميّ: وهل بقي منها إلا خرشاؤها؟ يعني جلدتها وقشرتها وكل وعاء فهو خرشاء.
1509 [المأمون وسعيد بن جابر]
وحدثني إبراهيم بن هانىء، قال: حدّثني سعيد بن جابر، قال: لما كادت الأجناد تحيط ببغداد من جوانبها. قال لنا المخلوع [3]: لو خرجنا هكذا قطربّل [4] على دوابنا، ثم رجعنا من فورنا، كان لنا في ذلك نشرة [5]، قال: فلما صرنا هناك هجمنا على موضع خمّارين، فرأى أناسا قد تطافروا [6] من بعض تلك الحانات، فسأل عنهم، فإذا هم أصحاب قمار ونرد ونبيذ، فبعث في آثارهم فردّوا وقال لنا: أشتهي أن أسمع حديثهم، وأرى مجلسهم وقمارهم. قال: فدخلنا إلى موضعهم، فإذا تخت النّرد قطعة لبد، وإذا فصوص النّرد من طين، بعضه مسوّد وبعضه متروك، وإذا الكعبان من عروة كوز محكّكة، وإذا بعضهم يتكئ على دنّ خال وتحتهم بوار قد تنسّرت [7]. قال: فبينا هو يضحك منهم إذ رأيت قملة تدب على ذيله، فتغفّلته وأخذتها فرآني وقد تناولت شيئا، فقال لي: أي شيء تناولت؟ فقلت: دويبّة دبت
[1] القنص: الصيد.
[2] تقدم الحديث في 146.
[3] المخلوع: هو الخليفة محمد الأمين، وانظر الخبر في ربيع الأبرار 5/ 481480.
[4] قطربل: اسم قرية بين بغداد وعكبرا ينسب إليها الخمر وكانت متنزها للبطالين وحانة للخمارين.
معجم البلدان 4/ 371.
[5] النشرة: ضرب من الرقية والعلاج يعالج به المجنون والمريض.
[6] الطفر: الوثوب.
[7] البواري: جمع بارية وهي الحصير المعمول من القصب. تنسرت: انتشرت.(5/204)
على ذيلك من ثياب هؤلاء. قال: وأيّ دابة هي؟ قلت: قملة. قال: أرنيها فقد والله سمعت بها! قال: فتعجبت يومئذ من المقادير كيف ترفع رجالا في السماء، وتحطّ آخرين في الثّرى!
1510 [لذة قصع القمل على الأظفار]
قال: والقرد يتفلّى، فإذا أصاب قملة رمى بها إلى فيه.
ونساء العوامّ يعجبهنّ صوت قصع القمل على الأظفار.
ورأيت مرة أنا وجعفر بن سعيد، بقَّالا في العتيقة وإذا امرأته جالسة بين يديه، وزوجها يحدّثها وهي تفلّي جيبها وقد جمعت بين باطن إبهامها وسبّابتها عدّة قمل، فوضعتها على ظفر إبهامها الأيسر، ثم قلبت عليها ظفرها الأيمن فشدختها به، فسمعت لها فرقعة، فقلت لجعفر: فما منعها أن تضعها بين حجرين؟ قال: لها لذة في هذه الفرقعة، والمباشرة أبلغ عندها في اللذة. فقلت: فما تكره مكان زوجها؟
قال: لولا أن زوجها يعجب بذلك لنهاها!
1511 [شعر لابن ميادة]
وقال ابن ميّادة [1]: [من الطويل] سقتني سقاة المجد من آل ظالم ... بأرشية أطرافها في الكواكب [2] ... وإنّ بأعلى ذي النّخيل نسيّة ... يسيّرن أعيارا شداد المناكب [3] ... يشلن بأستاه عليهنّ دسمة ... كما شال بالأذناب سمر العقارب [4]
[1] ديوان ابن ميادة 8483، والبيت الأول في طبقات ابن المعتز 107، والشعر والشعراء 772 (شاكر)، وعجزه منسوب لابن مناذر في الصناعتين 316.
[2] الأرشية: جمع رشاء، وهو حبل الدلو.
[3] ذو النخيل: موضع قرب مكة. نسية: مصغر نسوة. الأعيار: جمع عير، وهو الحمار.
[4] يشلن: يرفعن. الدسمة: أصله ما يشد به خرق السقاء.(5/205)
باب في البرغوث
باب
1512 [القول في البرغوث]
[1] والبرغوث أسود أحدب نزّاء، من الخلق الذي لا يمشي صرفا.
وبما قال بعضهم: دبيبها من تحتي أشدّ عليّ من عضّها.
وليس ذلك بدبيب. وكيف يمكنه الدّبيب وهو ملزق على النّطع بجلد جنب النائم؟! ولكنّ البرغوث خبيث، فمتى أراد الإنسان أن ينقلب من جنب إلى جنب، انقلب البرغوث واستلقى على ظهره، ورفع قوائمه فدغدغه بها، فيظنّ من لا علم عنده أنه إنما يمشي تحت جنبه.
وقد ذكرنا من شأنه في مواضع، ولو كان الباب يكبر حتى يكون لك مجموعا ولم تعرفه تكلفت لك جمعه.
1513 [شعر في البرغوث]
وقال بعض الأعراب [2]: [من البسيط] ليل البراغيث عنّاني وأنصبني ... لا بارك الله في ليل البراغيث [3] ... كأنهنّ وجلدي إذ خلون به ... أيتام سوء أغاروا في المواريث
وقال محبوب بن أبي العشنّط النهشليّ [4]: [من البسيط] لروضة من رياض الحزن أو طرف ... من القريّة جرد غير محروث [6] ... للنّور فيه إذا مجّ النّدى أرج ... يشفي الصّداع ويشفي كلّ ممغوث [7]
[1] وردت الفقرة في ربيع الأبرار 5/ 479.
[2] البيتان بلا نسبة في كتاب العين 4/ 467، وربيع الأبرار 5/ 479، ومحاضرات الأدباء 2/ 306 (4/ 673).
[3] عناه: أنصبه وجشمه العناء.
[4] الأبيات في اللسان (توت)، والخزانة 11/ 258، ومعجم البلدان 4/ 340 (القرية)، والأول والثالث في التاج (توث)، و (4، 5، 6) في ربيع الأبرار 5/ 479.
[5] الحزن: اسم موضع. الطرف: الناحية. القرية: من قرى اليمامة. الجرد: لا نبات فيه.
[6] النور: الزهر. الممغوث: المحموم.(5/206)
أملا وأحلى لعيني إن مررت به ... من كرخ بغداد ذي الرّمّان والتّوث [1] ... الليل نصفان: نصف للهموم فما ... أقضى الرّقاد، ونصف للبراغيث ... أبيت حين تساميني أوائلها ... أنزو وأخلط تسبيحا بتغويث [2] ... سود مداليج في الظلماء مؤذية ... وليس ملتمس منها بمشبوث [3]
وقد جعل «التوث» بالثاء. ووجه الكلام بالتاء. وتعجيمها نقطتان من فوقها.
وقال آخر [4]: [من الطويل] وإنّ امرأ تؤذيّ البراغيث جلده ... ويخرجنه من بيته لذليل ... ألا ربّ برغوث تركت مجدّلا ... بأبيض ماضي الشّفرتين صقيل [5]
وقال آخر: [من الطويل] لقد علم البرغوث حين يعضّني ... ببغداد إني بالبلاد غريب
وقال آخر: [من الطويل] لقيت من البرغوث جهدا ولا أرى ... أميرا على البرغوث يقضي ولا يعدي ... يقلّبني فوق الفراش دبيبه ... وتصبح آثار تبيّن في جلدي
وقال آخر [6]: [من الطويل] ألا يا عباد الله من لقبيلة ... إذا ظهرت في الأرض شدّ مغيرها ... فلا الدّين ينهاها ولا هي تنتهي ... ولا ذو سلاح من معدّ يضيرها
وقال يزيد بن نبيه الكلّابي: [من الطويل] أصبحت سالمت البراغيث بعد ما ... مضت ليلة مني وقلّ رقودها
[1] أملا: أملأ. الكرخ: موضع ببغداد.
[2] تساميني: تعاليني. أنزو: أثب. التغويث: الصياح بالقول «واغوثاه».
[3] المداليج: جمع مدلاج، وهو من أدلج: إذا سافر ليلا. مشبوث: مأخوذ.
[4] البيت الثاني فيه إقواء، وهو بلا نسبة في محاضرات الأدباء 2/ 306 (3/ 674).
[5] مجدلا: ملقيا على الجدالة وهي الأرض. الأبيض: السيف، وأراد به هنا أظفاره.
[6] البيتان بلا نسبة في ديوان المعاني 2/ 149، وربيع الأبرار 5/ 479، ونهاية الأرب 10/ 173، وإذا كان الجاحظ قد جعل هذين البيتين في البراغيث فإنه في الصفحة 232فيما سيأتي قال: «وفي القردان يقول الآخر، قال: وبعضهم يجعلها في البراغيث، وهذا باطل».(5/207)
فيا ليت شعري هل أزورنّ بلدة ... قليل بها أوباشها وسنيدها [1] ... وهل أسمعنّ الدّهر أصوات ضمّر ... تطالع بالركبان صعرا خدودها [2] ... وهل أرينّ الدهر نارا بأرضها ... بنفسي وأهلي أرضها ووفودها ... تراطن حولي كلما ذرّ شارق ... ببغداد أنباط القرى وعبيدها
وقال آخر: [من البسيط] لا بارك الله في البرغوث، إن له ... لذعا شديدا كلذع الكيّ بالنار ... أقول والنجم قد غارت أوائله ... وغلّس المدلج الساري بأسحار [3] ... لبرقة من براق الحزن أعمرها ... فيها الظّباء تراعي غبّ أمطار [4] ... أشفى لدائي من درب به نبط ... ومنزل بين حجّام وجزّار ... من ينحر الشّول لا يخطي قوائمها ... بمدية كشرار النار بتّار [5]
وقال آخر: [من الخفيف] إنّ هذا المصلوب لا شك فيه ... هو من بعد صلبه مبعوث ... حلّ من حيث ليس يأكله ال ... بقّ ولا يهتدي له البرغوث ... بين حنوي مطيّة إن يسقها ... سائقاها فذاك سير مكيث [6] ... فعليه الدبار والخزي لمّا ... قلت من ذا فقال لصّ خبيث [7]
وقال أبو الرماح الأسديّ [8]: [من الطويل] تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بحنو الغضا ليل عليّ يطول ... يؤرّقني حدب صغار أذلة ... وإن الذي يؤذينه لذليل ... إذا جلت بعض الليل منهن جولة ... تعلّقن بي أو جلن حيث أجول
[1] الأوباش: الأخلاط من الناس. السنيد: الدعي.
[2] الضمّر: الإبل الضامرة. الأصعر: المائل.
[3] غلس: سار في الغلس وهو ظلمة آخر الليل. المدلج: الذي يسافر ليلا.
[4] البرقة: غلظ فيه حجارة ورمل وطين. أعمرها: أسكنها. تراعي: ترعى مع سواها. غب الشيء:
بعده.
[5] الشول: الإبل التي نقصت ألبانها. المدية: الشفرة. البتار: القطّاع.
[6] الحنو: كل شيء فيه اعوجاج. المكيث: البطيء.
[7] الدبار: الهلاك.
[8] الأبيات في ديوان المعاني 2/ 150، وربيع الأبرار 5/ 480، ونهاية الأرب 10/ 303.(5/208)
إذا ما قتلناهنّ أضعفن كثرة ... علينا ولا ينعى لهنّ قتيل ... ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... وليس لبرغوث عليّ سبيل
وقال أبو الشّمقمق [1]: [من المنسرح] يا طول يومي وطول ليلتيه ... إن البراغيث قد عبثن بيه ... فيهنّ برغوثة مجوّعة ... قد عقدت بندها بفقحتيه [2]
وقال آخر [3]: [من الطويل] هنيئا لأهل الرّي طيب بلادهم ... وأن أمير الرّيّ يحيى بن خالد ... تطاول في بغداد ليلي ومن يكن ... ببغداد يلبث ليله غير راقد ... بلاد إذا جنّ الظلام تقافزت ... براغيثها من بين مثنى وواحد ... ديازجة سود الجلود كأنها ... بغال بريد أرسلت في مذاود [4]
وقال آخر [5]: [من الرجز] أرّقني الأسيود الأسكّ ... ليلة حكّ ليس فيها شكّ ... أحكّ حتى ماله محكّ ... أحكّ حتى مرفقي منفكّ
وقال آخر: [من الرجز] يا أمّ مثواي عدمت وجهك ... أنقذني ربّ العلا من مصرك ... ولذع برغوث أراه مهلكي ... أبيت ليلي دائم التحكّك
تحكّك الأجرب عند المبرك
وقال آخر: [من البسيط] الحمد لله برغوث يؤرّقني ... أحيلك الجلد لا سمع ولا بصر [6]
[1] ديوان أبي الشمقمق 153، ومحاضرات الأدباء 2/ 306 (4/ 672).
[2] البند: العلم الكبير.
[3] الأبيات بلا نسبة في ديوان المعاني 2/ 149، وربيع الأبرار 5/ 480، ومعجم البلدان 1/ 466 (بغداد).
[4] ديازجة: جمع ديزج، وهو الأخضر. المذاود: جمع مذود، وهو معلف الدابة.
[5] الرجز بلا نسبة في اللسان والتاج (قذذ، حكك، سكك)، والتهذيب 8/ 274، والجمهرة 101، والأساس (قذذ).
[6] أحيلك: تصغير أحلك، والحلكة: شدة السواد.(5/209)
وقال آخر: [من الرجز] قبيلة في طولها وعرضها ... لم يطبقوا عينا لهم بغمضها ... خوف البراغيث وخوف عضّها ... كأنّ في جلودها من مضّها [1] ... عقاربا ترفضّ من مرفضّها ... إن دام هذا هربت من أرضها [2] ... يا ربّ فاقتل بعضها ببعضها
1514 [معارف في البرغوث]
قال: والبرغوث في صورة الفيل. وزعموا أنها تبيض وتفرخ، وأنهم رأوا بيضها رؤية العين. والبراغيث تناكح وهي مستدبرة ومتعاظلة [3]. وهي من الجنس الذي تطول ساعة كومها.
1515 [شدة استقذار الناس للقمل]
وليس الناس لشيء مما يعضّهم ويؤذيهم، من الجرجس، والبقّ، والبراغيث والذّبان أشد استقذارا منهم للقمل. ومن العجب أنّ قرابته أمسّ. فأما قملة النّسر، وهي التي يقال لها بالفارسية: «دده»، وهي تكون بالجبل، فإنها إذا عضّت قتلت.
1516 [القول في البعوض ونتائج عضها]
حدّثني إبراهيم بن السّنديّ قال: لما كان أبي بالشام واليا، أحبّ أن يسوّي بين القحطانيّ والعدناني، وقال: لسنا نقدّمكم إلا على الطاعة لله عزّ وجلّ، وللخلفاء، وكلّكم إخوة، وليس للنّزاري عندي شيء ليس لليمانيّ مثله.
قال: وكان يتغدّى مع جملة من جلّة [4] الفريقين، ويسوّي بينهم في الإذن والمجلس. وكان شيخ اليمانية يدخل عليه معتمّا، وقد جذب كور عمامته حتى غطى بها حاجبه وكان لا ينزعها في حر ولا برد، فأراد فتى من قيس وقد كان أبي يستخليه ويقرّبه أن يسقطه من عين أبي ويوحشه منه، فقال له ذات يوم ووجد المجلس خاليا: إني أريد أن أقول شيئا ليس يخرجه مني إلا الشكر والحرية، وإلا
[1] المض: الحرقة والألم.
[2] ترفض: تتفرق.
[3] تعاظلت: لزم بعضها بعضا في السفاد.
[4] الجلة: العظماء.(5/210)
المودة والنصيحة، ولولا ما أعرف من تقزّزك وتنطّسك [1] وأنك متى انتبهت على ما أنا ملقيه إليك لم آمن أن تستغشّني [2]، وإن لم تظهره لي. إن هذا اليمانيّ إنما يعتم أبدا، ويمدّ طرّة [3] العمامة حتى يغطّي بها حاجبيه لأن به داء لو علمت به لم تؤاكله! قال: فقال أبي: فرماني والله بمعنى كاد ينقض عليّ جميع ما بيدي، وقلت:
والله لئن أكلت معه وبه الذي به إنّ هذا لهو البلاء، ولئن منعت الجميع مؤاكلتي لأوحشنهم جميعا بعد المباسطة والمباثّة [4] والملابسة والمؤاكلة، ولئن خصصته بالمنع أو أقعدته على غير مائدتي. ليغضبنّ، ولئن غضب ليغضبنّ معه كل قحطاني بالشام. فبت بليلة طويلة. فلما كان الغد وجلست، ودخلوا للسلام، جرى شيء من ذكر السموم وغرائب أعمالها، فأقبل عليّ ذلك الشيخ فقال: عندي من هذا بالمعاينة ما ليس عند أحد. خرجت مع ابن اخي هذا، ومع ابن عمّي هذا، ومع ابني هذا، أريد قريتي الفلانية، فإذا بقرب الجادّة بعير قد نهشته أفعى. وإذا هو وافر اللحم، وكل شيء حواليه من الطّير والسباع ميت، فقمنا منه على قاب أرماح نتعجب، وإذا عليه بعوض كثيرة.
فبينا أنا أقول لأصحابي: يا هؤلاء، إنكم لترون العجب: أول ذلك أن بعيرا مثل هذا يتفسّخ من عضة شيء لعله أن لا يكون في جسم عرق من عروقه، أو عصبة من عصبه، فما هذا الذي مجّه فيه، وقذفه إليه؟ ثم لم يرض بأن قتله حتى قتل كلّ طائر ذاق منه، وكلّ سبع عضّ عليه. وأعجب من هذا قتله لأكابر السّباع والطير، وتركه قتل البعوضة، مع ضعفها ومهانتها! فبينا نحن كذلك إذ هبّت ريح من تلقاء الجيفة، فطيّرت البعوض إلى شقّنا، وتسقط بعوضة على جبهتي، فما هو إلا أن عضتني إذ اسمأدّ [5] وجهي تورّم رأسي، فكنت لا أضرب بيدي إلى شيء أحكّه من رأسي وحاجبي، إلا انتثر في يدي.
فحملت إلى منزلي في محمل وعولجت بأنواع العلاج، فبرأت بعد دهر طويل. على أنه أبقى عليّ من الشّين أنه تركني أقرع الرأس. أمرط الحاجبين.
[1] التقزز: التباعد من الدنس. التنطس: التقذر والتقزز.
[2] استغشه: ظن به الغش.
[3] طرة الشيء: طرفه.
[4] المباثة: من البث وهو إظهار الحديث.
[5] اسمأد: ورم وانتفخ.(5/211)
قال: والقوم يخوضون معه في ذلك الحديث، خوض قوم قد قتلوا [1] تلك القصة يقينا.
قال: فتبسمت، ونكس الفتى القيسيّ رأسه، فظن الشيخ أنه قد جرى بيننا في ذلك ذرء [2] من القول، فقال: إن هذا القيسيّ خبيث، ولعله أن يكون قد احتال لك بحيلة! قال إبراهيم: فلم أسمع في السموم بأعجب من هذا الحديث.
1517 [طلسمات البعوض والعقرب]
ويزعم أهل أنطاكية أنهم لا يبعضون لطلّسم هناك. ولو ادعى أهل عقر الدّير، المتوسطة لأجمة ما بين البصرة وكسكر لكان طلّسمهم أعجب.
ويزعم [3] أهل حمص أن فيها طلّسما من أجله لا تعيش فيها العقارب. وإن طرحت فيها عقرب غريبة ماتت من ساعتها.
ولعمري إنه ليجوز أن تكون بلدة تضادّ ضربا من الحيوان فلا يعيش فيها ذلك الجنس، فيدعي كذّابو أهلها أن ذلك برقية، أو دعوة، أو طلّسم.
1518 [ألم عضة البرغوث والقملة والبعوض]
والبرغوث إذا عض، وكذاك القملة، فليس هناك من الحرقة والألم ما له مدة قصيرة ولا طويلة.
وأما البعوض فأشهد أن بعوضة عضت ظهر قدمي، وأنا بقرب كاذة والعوجاء [4]، وذلك بعد أن صلى الناس المغرب، فلم أزل منها في أكال وحرقة، وأنا أسير في السفينة، إلى أن سمعت أذان العشاء.
ولذلك يقال: إن البعوضة لو ألحقت بمقدار جرم الجرّارة [5] فإنّها أصغر العقارب ثم زيدت من تضاعيف ما معها من السّمّ على حسب ذلك لكانت شرّا من
[1] قتله يقينا: أحاط به علما.
[2] ذرء من القول: طرف منه.
[3] ورد هذا الزعم في ربيع الأبرار 5/ 477.
[4] كاذة: قرية من قرى بغداد. العوجاء: اسم موضع.
[5] الجرارة: عقارب صغار تجرر أذنابها، انظر ما ما تقدم في 192، فقرة 1482.(5/212)
الدّويبّة التي تسمى بالفارسية: «دده» وهي أكبر من القملة شيئا، وتكون بمهرجان قذق [1]. فإنها مع صغر جسمها تفسخ الإنسان في أسرع من الإشارة باليد، وهي تعضّ ولا تلسع، وهي من ذوات الأفواه، وهي التي بزعمهم يقال لها «قملة النّسر». وذلك أن النّسر في بعض الزمان، إذا سقط بتلك الأرض سقطت منه قملة تستحيل هذه الدابة الخبيثة.
والبعوضة من ذوات الخراطيم.
وحدّثني محمد بن هاشم السّدريّ قال: كنت بالزّطّ [2]. فكنت والله أرى البعوضة تطير عن ظهر الثور فتسقط على الغصن من الأغصان، فتقلس [3] ما في بطنها، ثم تعود.
والبعوضة تغمس خرطومها في جلد الجاموس، كما يغمس الرجل أصابعه في الثريد.
ومن العجب أن بين البصرة وواسط شطرين. فالشّطر الذي يلي الطّف وباب طنج يبيت أهله في عافية، وليس عندهم من البعوض ما يذكر، والشطر الذي يلي زقاق الهفّة لا ينام أهله من البعوض. فلو كان هذا ببلاد الشام أو بلاد مصر لادّعوا الطّلّسم.
وحدّثني إبراهيم النّظام قال [4]: وردنا فم زقاق الهفة، في أجمة البصرة، فأردنا النفوذ فمنعنا صاحب المسلحة [5]، فأردنا التأخّر إلى الهور [6] الذي خرجنا منه، فأبى علينا. ووردنا عليه وهو سكران وأصحابه سكارى، فغضب على ملّاح نبطيّ، فشدّه قماطا، ثم رمى به في الأجمة، على موضع أرض تتصل بموضع أكواخ صاحب المسلحة [7]. فصاح الملاح: اقتلني أيّ قتلة شئت وأرحني! فأبى وطرحه، فصاح،
[1] مهرجان قذق: كورة حسنة واسعة ذات مدن وقرى الصيمرة من نواحي الجبال عن يمين القاصد من حلوان العراق إلى همذان. معجم البلدان 5/ 233.
[2] الزط: نهر قديم من أنهار البطيحة «معجم البلدان 3/ 140». والبطيحة: أرض واسعة بين واسط والبصرة «معجم البلدان 1/ 450».
[3] تقلس: تقيء.
[4] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 462.
[5] المسلحة: القوم الذين يحرسون الثغور من العدو.
[6] الهور: يقال جرف هور: أي واسع بعيد.
[7] المسلحة: القوم الذين يحرسون الثغور من العدو.(5/213)
ثم عاد صياحه إلى الأنين، ثم خفت وناموا في كللهم [1] وهم سكارى. فجئت إلى المقموط، وما جاوز وقت عتمة، فإذا هو ميت، وإذا هو أشد سوادا من الزنجي. وأشد انتفاخا من الزقّ المنفوخ، وذلك كله بقدر ما بين العشاء والمغرب. فقلت: إنها لمّا لسبته ولسعته من كلّ جانب لسعا على لسع إن اجتماع سمومها فيه أربت [2] على نهشة أفعى بعيدا. فهي ضرر ومحنة، ليس فيها شيء من المرافق.
1519 [نفع العقرب]
والعقارب بأكلها مشوية من بعينه ريح السّبل [3]، فيجدها صالحة. ويرمى بها في الزيت، حتى إذا تفسّخت وامتصّ الزيت ما فيها من قواها فطلوا بذلك الدهن الخصى [4] التي فيها النفخ فرّق تلك الريح حتّى تخمص [5] الجلدة، ويذهب الوجع.
فإذا سمعت بدهن العقارب فإنما يعنون هذا الدهن.
باب في البعوض
باب
1520 [أجناس البعوض]
في البقّ، والجرجس [6] والشّرّان [7]، والفراش، والأذى.
وقال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا} [8]، قال: يريد فما دونها.
وهو قول القائل للرجل يقول: فلان أسفل الناس وأنذلهم! فيقول: هو فوق ذلك! يضع قوله فوق، في موضع: هو شرّ من ذلك.
[1] الكلّة: ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى به من البعوض.
[2] أربت: زادت.
[3] ريح السبل: داء يصيب في العين.
[4] الخصى: جمع خصية.
[5] تخمص الجلدة: يذهب ورمها.
[6] الجرجس: البعوض الصغار.
[7] الشران: جمع شرانة، وهي دويبة مثل البعوض.
[8] 26/ البقرة: 2.(5/214)
قال: وضروب من الطير لا تلتمس أرزاقها إلا بالليل، منها الخفّاش، والبومة، والصّدى [1]، والضّوع [2]، وغراب الليل.
والبعوض بالنهار تؤذي بعض الأذى، وإنما سلطانها بالليل. وكذلك البراغيث.
وأما القمل فأمره في الحالات مستو. وليس للذّبّان بالليل عمل. إلا أنّي متى بيت معي في القبة ما صار إليها، وسكن فيها من الذّبّان، ولم أطردها بالعشيّ وبعد العصر، فإني لا أجد فيها بعوضة واحدة.
1521 [شعر في البعوض]
وقال الرّاجز في خرطوم البعوضة [3]: [من الرجز] مثل السّفاة دائم طنينها ... ركّب في خرطومها سكّينها [4]
وقال الهذليّ [5]: [من الوافر] كأنّ وغى الخموش بجانبيه ... وغى ركب أميم ذوي هياط [6]
والخموش: أصناف البعوض. والوغى: أصوات الملتفة التي لا يبين واحدها عن معنى، وهو كما تسمع من الأصوات الجيشين إذا التقيا على الحرب، وكما تسمع من ضجّة السوق.
وقال الكميت وهو يذكر قانصا وصاحب قترة [7] لأنه لا يبتني بيته إلّا عند
[1] الصدى: ذكر البوم، وتقول العرب إنه يخلق من رأس المقتول، يصيح في هامة المقتول إذا لم يؤخذ بثأره يقول: اسقوني اسقوني حتى يقتل قاتله. حياة الحيوان 1/ 610.
[2] الضوع: طائر من طير الليل من جنس الهوام، وقيل: هو ذكر البوم. حياة الحيوان 1/ 649.
[3] الرجز في ذيل الأمالي 129، وتقدم في 3/ 151، الفقرة (766).
[4] السفاة: الشوك.
[5] البيت للمتنخل الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1272، واللسان (خمش، زيط، لغط، وعي، وغي) والتاج (خمش، زأط، زيط، لغط، وعي، وغي)، والتنبيه والإيضاح 2/ 317، وللهذلي في الجمهرة 603، 1255، والمخصص 8/ 185، والأساس (وعي)، وبلا نسبة في التهذيب 13/ 234، والمقاييس 2/ 219.
[6] في ديوان الهذليين 2/ 25: «الخموش: البعوض. والهياط: الصياح والمجادلة ويقال: فعلته بعد الهياط والمياط، أي بعد الجلبة والصوت. والوغى والوعى واحد، وهو الصوت في الحرب».
[7] القترة: البئر: يحتفرها الصائد يكمن فيها.(5/215)
شريعة [1] ينتابها الوحش فقال وهو يصف البعوض [2]: [من الطويل] به حاضر من غير جنّ تروعه ... ولا أنس ذو أرنان وذو زجل [3]
والحاضر: الذي لا يبرحه البعوض، لأن البعوض من الماء يتخلّق فكيف يفارقه، والماء الراكد لا يزال يولده؟! فإن صار نطافا أو ضحضحا [4] استحال دعاميص، وانسلخت الدّعاميص فصارت فراشا وبعوضا. وقال ذو الرّمة [5]: [من الطويل] وأيقنّ أنّ القنع صارت نطافه ... فراشا وأن البقل ذاو ويابس
وصف الصّيف. وقال أبو وجزة [6]، وهو يصف القانص والشريعة والبعوض:
[من البسيط] تبيت جارته الأفعى وسامره ... رمد به عاذر منهنّ كالجرب
رمد في لونها، يعني البعوض، وهي التي تسامر القانص وتسهره. والعاذر:
الأثر. يقول: في جلده عواذير وآثار كآثار الجرب من لسع البعوض، وهو مع ذلك وسط الأفاعي.
وقال الراجز يصف البعوض [7]: [من الرجز] وليلة لم أدر ما كراها ... أمارس البعوض في دجاها [8] ... كلّ زجول خفق حشاها ... ستّ لدى إيفائها شواها [9] ... لا يطرب السامع من غناها ... حنّانة أعظمها أذاها
[1] الشريعة: مورد الماء.
[2] ديوان الكميت 2/ 93، والمقاييس 2/ 463، والمجمل 2/ 439، والمعاني الكبير 607، وبلا نسبة في اللسان والتاج (رون).
[3] الأرونان: الصوت. الزجل: الجلبة.
[4] النطاف: جمع نطفة، وهي القليل الماء. الضحضح: الماء القليل يكون في الغدير وغيره.
[5] ديوان ذي الرمة 1121، وتقدم في 3/ 165، 176.
[6] تقدم البيت في 4/ 365، الفقرة (1114).
[7] الرجز بلا نسبة في اللسان والتاج (بعض)، ومحاضرات الأدباء 2/ 306 (4/ 673).
[8] الكرى: النوم. المراس: شدة المعالجة.
[9] الزجول: الكثير الزجل، وهو الجبلة. الخفق: المضطرب. الشوى: اليدان والرجلان.(5/216)
1522 [أرجل الجرادة والعقرب والنملة والسرطان]
وكذلك قوائم الجرادة، هي ستّ: يدان، ورجلان، والميشاران وبهما تعتمد إذا نزت [1].
فأما العقرب فلها ثمان أرجل. وللنملة ست أرجل.
وللسّرطان ثمان أرجل، وهو في ذلك يستعين بأسنانه، فكأنه يمشي على عشر. وعيناه في ظهره. وما أكثر من يشويه ويأكله للشهوة، لا للحاجة ولا للعلاج.
1523 [شعر في البعوض]
وقال الرّاجز [2]، ووصف حاله وحال البعوض: [من الرجز] 1لم أر كاليوم ولا مذ قطّ ... أطول من ليلي بنهر بطّ ... 3كأنما نجومه في ربط ... أبيت بين خطّتي مشتطّ ... 5من البعوض ومن التغطّي ... إذا تغنّين غناء الزّطّ [3] ... 7وهنّ منّي بمكان القرط ... فثق بوقع مثل وقع الشّرط
وقال أيضا [4]: [من الرجز] إذا البعوض زجلت أصواتها ... وأخذ اللحن مغنّياتها ... لم تطرب السامع خافضاتها [5] ... كلّ زجول تتّقى شذاتها [6] ... صغيرة، عظيمة أذاتها ... تنقص عن بغيتها بغاتها ... ولا تصيب أبدا رماتها ... رامحة، خرطومها قناتها [7]
وأنشدني جعفر بن سعيد: [من الرجز]
[1] نزت: وثبت.
[2] الأبيات (1، 2، 4، 5) بلا نسبة في اللسان والتاج (بطط). والأبيات (6، 7، 8) بلا نسبة في محاضرات الأدباء 2/ 306 (4/ 673)، وربيع الأبرار 5/ 463.
[3] الزط: جيل من الهند.
[4] الرجز بلا نسبة في ديوان المعاني 2/ 148، ونهاية الأرب 10/ 302، ومجموعة المعاني 196.
[5] بعد هذا البيت في ديوان المعاني ونهاية الأرب: «وأرّق العينين رافعاتها».
[6] الشذاة: الأذى.
[7] الرامحة: ذات الرمح. القناة: الرمح.(5/217)
ظللت بالبصرة في تهواش ... وفي براغيث أذاها فاشي [1] ... من نافر منها وذي اهتماش ... يرفع جنبيّ عن الفراش ... فأنا في حكّ وفي تخراش ... تترك في جنبيّ كالخراش [2] ... وزوجة دائمة الهراش ... تغلي كغلي المرجل النّشّاش [3] ... تأكل ما جمّعت من تهباشي ... بل أمّ معروف خموش ناش [4]
وقال رجل من بني حمّان، وقع في جند الثغور: [من الطويل] أأنصر أهل الشّام ممّن يكيدهم ... وأهلي بنجد ساء ذلك من نصر ... براغيث ترذيني إذا الناس نوّموا ... وبقّ أقاسيه على ساحل البحر [5] ... فإن يك فرض بعدها لا أعد له ... وإن بذلوا حمر الدنانير كالجمر [6]
باب في العنكبوت
قال الله عزّ وجلّ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} [7]، ثم قال على إثر ذلك: {وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ} [8] يريد ذكره بالوهن. وكذلك هو. ولم يرد إحكام الصنعة في الرّقّة والصّفاقة، واستواء الرقعة، وطول البقاء، إذا كان لا يعمل فيه تعاور الأيام، وسلم من جنايات الأيدي.
[1] التهواش: الاختلاط. الفاشي: المنتشر.
[2] الخرش: الخدش والخمش.
[3] الهراش: القتال، وأصله هراش الكلاب. المرجل: القدر. النشاش: الذي ينش، أي يصوت عند الغليان.
[4] الهبش: الجمع والكسب. الخموش: البعوض.
[5] ترذيني: تهزلني وتضعفني.
[6] الفرض: العطية المرسومة.
[7] 41/ العنكبوت: 29.
[8] 43/ العنكبوت: 29.(5/218)
1524 [شعر في العنكبوت]
وقال الحدّانيّ: [من الطويل] يزهّدني في ودّ هارون أنه ... غذته بأطباء ملعّنة عكل ... كأنّ قفا هارون إذ قام مدبرا ... قفا عنكبوت سلّ من دبرها غزل ... ألا ليت هارونا يسافر جائعا ... وليس على هارون خفّ ولا نعل
وقال مزرّد بن ضرار: [من الطويل] ولو أنّ شيخا ذا بنين كأنما ... على رأسه من شامل الشّيب قونس [1] ... ولم يبق من أضراسه غير واحد ... إذا مسّه يدمى مرارا ويضرس [2] ... تبيّت فيه العنكبوت بناتها ... نواشئ حتى شبن أو هنّ عنّس ... لظلّ إليها رانيا وكأنه ... إذا كشّ ثور من كريص منمّس [3]
1525 [أجناس العنكبوت ونسيجها]
قال: ومن أجناس العنكبوت جنس رديء التدبير، لأنه ينسج ستره على وجه الأرض، والصخور. ويجعله على ظهر الأرض خارجا، وتكون الأطراف داخلة. فإذا وقع عليه شيء مما يغتذيه من شكل الذّبّان وما أشبه ذلك أخذه.
وأما الدقيق الصّنعة فإنه يصعّد بيته ويمدّ الشّعرة ناحية القرون والأوتاد، ثم يسدّي من الوسط، ثم يهيّئ اللّحمة، ويهيّئ مصيدته في الوسط، فإذا وقع عليها ذباب تحرّك ما هناك ارتبط ونشبت به [4]، فيتركه على حاله حتى إذا وثق بوهنه وضعفه، غلّه [5] وأدخله إلى خزانته. وإن كان جائعا مصّ من رطوبته ورمى به. فإذا فرغ رمّ ما تشعّث من نسجه.
وأكثر ما يقع على تلك المصيدة من الصّيد عند غيبوبة الشمس.
[1] القونس: مقدم بيضة السلاح.
[2] الضرس: خور يصيب الضرس أو السن عند أكل شيء حامض.
[3] رانيا: من الرنو، وهو إدامة النظر. كشّ: صوّت. الثور: القطعة من الأقط، والأقط: لبن جامد مستحجر. «انظر النهاية 1/ 228». الكريص: الأقط المجموع المدقوق. المنمس: الذي فسد وأنتن.
[4] نشبت به: علقت به المصيدة.
[5] غله: قيّده.(5/219)
وإنما تنسج الأنثى. فأما الذكر فإنه ينقض ويفسد.
وولد العنكبوت أعجب من الفرّوج، الذي يظهر إلى الدنيا كاسبا [1] محتالا مكتفيا.
قال: وولد العنكبوت يقوم على النسج ساعة يولد.
قال: والذي ينسج به لا يخرج من جوفه، بل من خارج جسده.
وقال الحدّانيّ [2]: [من الطويل] كأن قفا هارون إذ قام مدبرا ... قفا عنكبوت سلّ من دبرها غزل
فالنحل، والعنكبوت، ودود القزّ، تختلف من جهات ما يقال إنه يخرج منها.
1526 [العنكبوت الذي يسمى الليث]
ومن العناكب جنس يصيد الذّباب صيد الفهود، وهو الذي يسمى: «الليث» وله ستّ عيون. وإذا رأى الذّباب لطئ بالأرض، وسكّن أطرافه. وإذا وثب لم يخطئ [3]. وهو من آفات الذّبّان، ولا يصيد إلا ذبّان الناس.
1527 [قتل الذبّان للأسد]
[4] وذبّان الأسد على حدة، وذبّان الكلاب على حدة، وليس يقوم لها شيء. وهي أشدّ من الزنابير، وأضرّ من العقارب الطيّارة. وفيها من الأعاجيب أنها تعضّ الأسد، كما يعضّ الكلب ذبّان الكلب.
وكذلك ذبّان الكلأ، لما يغشى الكلأ من بعير وغير ذلك. ولها عضّ منكر، ولا يبلغ مبلغ ذبّان الأسد.
فمن أعاجيبها سوى شدة عضّها وسمّها، وأنها مقصورة على الأسد، وأنها متى رأت بأسد دما من جراح أو رمي، ولو في مقدار الخديش الصغير فإنها تستجمع عليه، فلا تقلع عنه حتى تقتله.
[1] كاسبا: يكسب قوته بنفسه.
[2] تقدم البيت في الصفحة السابقة 219.
[3] ورد القول في نهاية الأرب 10/ 291، وثمار القلوب (570)، والجملة الأخيرة في الثمار: «فمتى سكن ووثب لم يخطئ».
[4] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 461.(5/220)
1528 [قتل الذر للحية]
وهذا شبيه بما يروى ويخبر عن الذَّرّ، فإن الذَّرّ متى رأت بحيّة خدشا لم تقلع عنه حتى تقتله، وحتى تأكله.
1529 [شدة ولوع النمل بالأراك]
ولقد أردت أن أغرس في داري أراكة، فقالوا لي: إن الأراكة إنما تنبت من حبّ الأراك، وفي نباتها عسر، وذلك أن حبّ الأراك يغرس في جوف طين، وفي قواصر [1]، ويسقى الماء أياما. فإذا نبت الحبّ وظهر نباته فوق الطين، وضعت القوصرة [1] كما هي في جوف الأرض، ولكنها إلى أن تصير في جوف الأرض، فإن الذرّ يطالبها مطالبة شديدة. وإن لم تحفظ منها بالليل والنهار أفسدتها.
فعمدت إلى منارات من صفر [2] من هذه المسارج [3]، وهي في غاية الملاسة واللّين، فكنت أضع القوصرة على التّرس الذي فوق العمود الأملس، فأجد فيها الذرّ الكثير، فكنت أنقل المنارة من مكان إلى مكان، فما أفلح ذلك الحبّ.
1530 [ضروب العناكب]
قال: والعناكب ضروب: فمنها هذا الذي يقال له الليث، وهو الذي يصيد الذبّان صيد الفهد، وقد ذكرنا في صدر هذا الكلام [4] حذقه ورفقه، وتأتّيه وحيلته.
ومنها أجناس طوال الأرجل، والواحدة منها إذا مشت على جلد الإنسان تبثّر [5]. ويقال إن العنكبوت الطويلة الأرجل، إنما اتخذت بيتا وأعدّت فيه المصايد والحبائل، والخيوط التي تلتفّ على ما يدخل بيتها من أصناف الذّبان وصغار الزنابير لأنها حين علمت أنها لا بدّ لها من قوت، وعرفت ضعف قوائمها، وأنها تعجز عما يقوى عليه الليث، احتالت بتلك الحيل.
فالعنكبوت، والفأر، والنحل، والذّرّ، والنمل، من الأجناس التي تتقدم في إحكام شأن المعيشة.
[1] القوصرة: وعاء من قصب يرفع فيه التمر.
[2] الصفر: النحاس.
[3] المسرجة: التي فيها الفتيل.
[4] انظر ص 220219.
[5] تبثر: ظهرت فيه بثور.(5/221)
ومنها جنس رديء، مشنوء [1] الصورة، غليظ الأرجل، كثيرا ما يكون في المكان التّرب من الصناديق والقماطر والأسفاط. وقد قيل: إنّ بينه وبين الحيّة، كما بين الخنفساء والعقرب.
وإناث العناكب هي العوامل: تغزل وتنسج. والذّكر أخرق ينقض ولا ينسج.
وإن كان ما قال صاحب المنطق حقّا فما أغرب الأعجوبة في ذلك، وذلك أنه زعم أن العنكبوت تقوى على النَّسج، وعلى التقدم في إحكام شأن المعاش حين تولد.
1531 [الكاسب من أولاد الحيوان]
وقالوا: وأشياء من أولاد الحيوان تكون عالمة بصناعتها، عارفة بما يعيشها ويصلحها، حتى تكون في ذلك كأمهاتها وآبائها، حين تخرج إلى الدنيا، كالفرّوج من ولد الدجاج، والحسل من ولد الضّباب، وفرخ العنكبوت.
وهذه الأجناس، مع الفأر والجرذان، هي التي من بين جميع الخلق تدّخر لنفسها ما تعيش به من الطّعم.
باب في النحل
زعم صاحب المنطق أن خليّة من خلايا النحل فيما سلف من الزمان، اعتلت ومرض ما كان فيها من النحل، وجاء نحل من خليّة أخرى يقاتل هذا النحل حتى أخرجت العسل، وأقبل القيّم على الخلايا يقتل بذلك النحل الذي جاء إلى خليته.
قال: فخرج النحل من الخليّة يقاتل النحل الغريب، والرجل بينها يطرد الغريب، فلم تلسعه نحل الخليّة التي هو حافظها، لدفعه المكروه عنها.
قال: وأجود العسل ما كان لونه لون الذهب.
1532 [تقسيم النحل للأعمال]
قال: والنحل تجتمع فتقسم الأعمال بينها، فبعضها يعمل الشّمع، وبعضها يعمل العسل، وبعضها يبني البيوت، وبعضها يستقي الماء ويصبّه في الثّقب، ويلطخه بالعسل.
[1] المشنوء: المكروه.(5/222)
ومنه ما يبكّر إلى العمل. ومن النحل ما يكفّه [1] حتى إذا نهضت واحدة طارت كلها. يقال: «بكر بكور اليعسوب»، يريد أمير النحل لأنها تتبعه غدوة إلى عملها.
ومنها ما ينقل العسل من أطراف الشجر، ومنها ما ينقل الشّمع الذي تبني به، فلا تزال في عملها حتى إذا كان الليل آبت إلى مآبها.
1533 [استطراد لغوي]
قال: والأري: عمل العسل. يقال: أرت تأري أريا. والأري في غير هذا الموضع: القيء [2]. وقال أبو ذؤيب [3]: [من الطويل] بأري التي تأري إلى كل مغرب ... إذا اصفرّ ليط الشمس حان انقلابها [4]
ومغارب: جمع مغرب. وكل شيء واراك من شيء فهو مغرب، كما جعله أبو ذؤيب. والأصل مغرب الشمس. وقال أبو ذؤيب [5]: [من الطويل] فبات بجمع ثمّ تمّ إلى منى ... فأصبح رأدا يبتغي المزج بالسّحل [6]
المزج: العسل. والسّحل: النقد.
1534 [ما له رئيس من الحيوان]
ومن الحيوان ما يكون لكل جماعة منها رأس وأمير، ومنها ما لا يكون ذلك له.
فأما الحيوان الذي لا يجد بدّا ولا مصلحة لشأنه إلا في اتخاذ رئيس ورقيب فمثل ما يصنع الناس، ومثل ما تتخذ النحل والغرانيق، والكراكيّ [7].
[1] يكفه: يجمعه.
[2] أي ما تجمعه من العسل في أجوافها ثم تلفظه.
[3] البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 48، وديوان الهذليين 1/ 75، واللسان (ليط)، والتاج (لوط).
[4] في ديوان الهذليين: «قوله: إذا اصفر ليط الشمس، أراد لونها. قوله: حان انقلابها، أي في ذلك الوقت إلى موضعها».
[5] البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 95، وديوان الهذليين 1/ 41، واللسان (رود، جمع، سحل، تمم)، والتاج (سحل)، وديوان الأدب 1/ 126، وللهذلي في التهذيب 4/ 307، وبلا نسبة في المخصص 2/ 115، 12/ 29.
[6] في ديوان الهذليين: «قوله: بجمع، يعني المزدلفة. وأصبح رأدا: يعني رائدا: طالبا».
[7] الكراكي: جمع كركي: وهو طائر كبير، ذهب بعض الناس إلى أنه الغرنوق، وهو أغبر طويل الساقين، وهو من الحيوان الذي لا يصلح إلا برئيس. حياة الحيوان 2/ 244.(5/223)
فأما الإبل والحمير والبقر، فإن الرياسة لفحل الهجمة [1]، ولعير العانة [2]، ولثور الرّبرب [3]. وذكورتها لا تتخذ الرّقباء من الذّكورة.
وقد زعم [4] ناس أن الكراكيّ لا ترى أبدا إلا فرادى فكأن الذي يجمعها الذكر، ولا يجمعها إلا أزواجا.
ولا أدري كيف هذا القول؟! والنحل أيضا تسير بسيرة الإبل والبقر والحمير، لأن الرئيس هو الذي يوردها ويصدرها، وتنهض بنهوضه، وتقع بوقوعه. واليعسوب هو فحلها. فترى كما ترى، سائر الحيوان الذي يتخذ رئيسا إنما هي إناث الأجناس، إلا الناس فإنهم يعلمون أن صلاحهم في اتخاذ أمير وسيّد، ورئيس.
وزعم بعضهم أن رياسة اليعسوب، وفحل الهجمة، والثور، والعير، لأحد أمرين: أحدهما لاقتدار الذّكر على الإناث، والآخر لما في طباع الإناث من حبّ ذكورتها.
ولو لم تتأمّر عليها الفحول لكانت هي لحبّها الفحول تغدو بغدوّها، وتروح برواحها.
قالوا: وكذلك الغرانيق والكراكيّ [5]. فأما ما ذكروا من رؤساء الإبل والبقر والجواميس والحمير، فما أبعدهم في ذلك عن الصواب.
وأما إلحاقهم الغرانيق والكراكي [5] بهذه المنزلة فليس على ما قالوا.
وعلى أنّا لا نجد بدّا من أن يعلم أن ذكورتها أقوى على قسر الإناث وجمعها إليها من الإناث.
وعلى أنه لا بد من أن يكون بعض طاعة الإناث لها من جهة ما في طباعها من حبّ ذكورتها.
[1] الهجمة: القطعة الضخمة من الإبل، وقيل: هي ما بين الثلاثين والمائة، وقيل: الهجمة أولها الأربعون إلى ما زادت، وقيل: ما بين السبعين إلى المائة.
[2] العانة: جماعة حمر الوحش.
[3] الربرب: القطيع عن بقر الوحش.
[4] انظر هذا الزعم في ربيع الأبرار 5/ 453.
[5] انظر الحاشية الأخيرة في الصفحة السابقة.(5/224)
ولو كان اتخاذ الغرانيق والكراكيّ الرؤساء والرّقباء إنما علته المعرفة لم يكن للغرانيق والكراكيّ في المعرفة فضل على الذّر والنمل، وعلى الذّئب والفيل، وعلى الثعلب والحمام.
أما الغنم فهي أغثر وأموق [1] من أن تجري في باب هذا القول.
وقد تخضع الحيات للحية، والكلاب للكلب، والدّيوك للديك، حتى لا تروّمه [2] ولا تحاول مدافعته.
1535 [هيبة الكلاب]
ولقد خرجت في بعض الأسحار في طلب الحديث، فلما صرت في مرّبعة المحلّة، ثار إليّ عدّة من الكلاب، من ضخامها، ومما يختاره الحرّاس. فبينا أنا في الاحتيال لهنّ وقد غشينني إذ سكتن سكتة واحدة معا، ثم أخذ كل واحد في شقّ كالخائف المستخفي، وسمعت نغمة [3] إنسان، فانتهزت تلك الفرصة من إمساكهنّ عن النّباح، فقلت: إنّ ههنا لعلّة إذ أقبل رجلان ومعها كلب أزبّ [4] ضخم دوسر [5]، وهو في ساجور [6]، ولم أر كلبا قط أضخم منه، فقلت: إنهنّ إنما أمسكن عن النّباح وتسترن، من الهيبة له! وهي مع ذلك لا تتخذ رئيسا.
1536 [سادة الحيوان]
وروي عن عبّاد بن صهيب، عن عوف بن أبي جميلة، عن قسامة بن زهير قال:
قال أبو موسى [7]: «إن لكل شيء سادة حتى إن للنمل سادة». فقال بعضهم: سادة النمل: المتقدّمات.
وهذا تخريج، ولا ندري ما معنى ما قال أبو موسى في هذا.
ولو كان اتخاذ الرئيس من النحل، والكراكيّ، والغرانيق [8]، والإبل، والحمير،
[1] الغثر والموق: الحمق.
[2] أي تكفيه مؤونة الطلب.
[3] النغمة: الكلام الخفي.
[4] الأزب: الكثير الشعر.
[5] الدوسر: الضخم الشديد.
[6] الساجور: القلادة التي توضع في عنق الكلب.
[7] هو أبو موسى الأشعري كما تقدم قوله في 4/ 269، الفقرة (953).
[8] انظر الحاشية الأولى ص 223.(5/225)
والثيران، لكثرة ما معها من المعرفة لكانت القرود، والفيلة والذرّ، والثعالب، أولى بذلك. فلا بد من معرفة، ولا بد من طباع وصنعة.
والحمام يزجلن [1] من لؤلؤة [2]، وهنّ بصريّات وبغداديّات، وهنّ جمّاع من هاهنا وهاهنا، فلا تتخذ رئيسا.
1537 [طعن ناس من الملحدين في آية النّحل]
وقد طعن ناس من الملحدين، وبعض من لا علم له بوجوه اللغة وتوسّع العرب في لغتها، وفهم بعضها عن بعض، بالإشارة والوحي فقالوا: قد علمنا أن الشمع شيء تنقله النحل، مما يسقط على الشجر، فتبني بيوت العسل منه، ثم تنقل من الأشجار العسل الساقط عليها، كما يسقط التّرنجبين [3]، والمنّ [4]، وغير ذلك. إلا أن مواضع الشمع وأبدانه خفيّ. وكذلك العسل أخفى وأقلّ. فليس العسل بقيء ولا رجع [5]، ولا دخل للنحلة في بطن قطّ.
1538 [رد الجاحظ على الملحدين]
وفي القرآن قول الله عزّ وجلّ: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمََّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [6].
ولو كان إنما ذهب إلى أنه شيء يلتقط من الأشجار، كالصّموغ وما يتولد من طباع الأنداء والأجواء والأشجار إذا تمازجت لما كان في ذلك عجب إلا بمقدار ما نجده في أمور كثيرة.
[1] يزجلن: يرسلن على بعد.
[2] لؤلؤة: قلعة قرب طرسوس. ولؤلؤة: ماء بسماوة كلب. معجم البلدان 5/ 26.
[3] الترنجبين: مادة تتجمع فوق بعض النبات شبيهة بالعسل.
[4] المن: قيل هو الترنجبين، وقيل: هو صمغة حلوة تنزل على الشجر. انظر عمدة الحفاظ 4/ 115 (منن).
[5] الرجع: النجو والروث.
[6] 6968/ النحل: 16.(5/226)
1539 [زعم الجهّال في نبوة النحل]
قلنا: قد زعم ابن حائط وناس من جهّال الصّوفيّة، أن في النحل أنبياء، لقوله عزّ وجلّ: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}. وزعموا أن الحواريّين كانوا أنبياء لقوله عز وجل: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوََارِيِّينَ} [1].
قلنا: وما خالف إلى أن يكون في النحل أنبياء؟! بل يجب أن تكون النحل كلها أنبياء، لقوله عزّ وجلّ على المخرج العامّ: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، ولم يخصّ الأمهات والملوك واليعاسيب، بل أطلق القول إطلاقا.
وبعد فإن كنتم مسلمين فليس هذا قول أحد من المسلمين. وإلا تكونوا مسلمين فلم تجعلون الحجة على نبوة النحل كلاما هو عندكم باطل؟!
1540 [قول في المجاز]
وأما قوله عزّ وجلّ: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ} [2] فالعسل ليس بشراب، وإنما هو شيء يحوّل بالماء شرابا، أو بالماء نبيذا. فسماه كما ترى شرابا، إذ كان يجيء منه الشراب.
وقد جاء في كلام العرب أن يقولوا: جاءت السماء اليوم بأمر عظيم.
وقد قال الشاعر [3]: [من الوافر] إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
فزعموا أنهم يرعون السماء، وأنّ السماء تسقط.
ومتى خرج العسل من جهة بطونها وأجوافها فقد خرج في اللغة من بطونها وأجوافها.
ومن حمل اللغة على هذا المركب، لم يفهم عن العرب قليلا ولا كثيرا وهذا
[1] 111/ المائدة: 5.
[2] 69/ النحل: 16.
[3] البيت لمعود الحكماء (معاوية بن مالك) في المفضليات 359، والأصمعيات 214، وأشعار العامريين 54، والسمط 448، ومعجم الشعراء 310، والحماسة البصرية 1/ 79، ونسب خطأ إلى جرير في العمدة 1/ 266، وإلى الفرزدق في التاج (سما)، وبلا نسبة في المقاييس 3/ 98، والمخصص 7/ 195، 16/ 30، وديوان الأدب 4/ 47، والأمالي 1/ 181.(5/227)
الباب هو مفخر العرب في لغتهم، وبه وبأشباهه اتسعت. وقد خاطب بهذا الكلام أهل تهامة، وهذيلا، وضواحي كنانة. وهؤلاء أصحاب العسل. والأعراب أعرف بكل صمغة سائلة، وعسلة ساقطة، فهل سمعتم بأحد أنكر هذا الباب أو طعن عليه من هذه الحجة؟!
1541 [أحاديث وأقوال في العسل]
حدّث عن سفيان الثَّوريّ، قال حدّثنا أبو طعمة عن بكر بن ماعز، عن ربيع بن خثيم قال: «ليس للمريض عندي دواء إلا العسل».
وعن هشام بن حسان، عن الحسن أنه كان يعجبه إذا استمشى [1] الرجل أن يشرب اللبن والعسل.
إبراهيم بن أبي يحيى، قال: بلغني عن ابن عباس: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الشراب أفضل؟ قال: الحلو البارد» [2].
وسفيان الثوري عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال:
«عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل» [3].
شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: مضى رجل إلى ابن مسعود فقال: إن أخي يشتكي بطنه، وقد نعتت له الخمر. فقال: سبحان الله! ما كان الله ليجعل شفاءه في رجس، وإنما جعل الشفاء في اثنين: في القرآن والعسل.
سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي المتوكّل الناجيّ، عن أبي سعيد الخدريّ: «أن رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال إن أخي يشتكي بطنه، فقال عليه السّلام: اسقه عسلا. ثم أتاه فقال: قد فعلت. قال: اسقه عسلا. ثم أتاه فقال: قد فعلت. فقال: اسقه عسلا. ثم أتاه الرابعة، فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك. اسقه عسلا! فسقاه فبرأ الرجل» [4].
قال: والذي يدلّ على صحة تأويلنا لقول الله عزّ وجلّ:
[1] استمشى: شرب المشى، وهو الدواء المسهل، وانظر عيون الأخبار 3/ 206.
[2] انظر عيون الأخبار 3/ 205.
[3] رواه ابن ماجة، والحاكم في المستدرك. انظر الجامع الصغير 5534.
[4] أخرجه البخاري في الطب برقم 5360، ومسلم في السلام برقم 2217.(5/228)
{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ} [1]، أن تكون المعجونات كلها إنما بالعسل، وكذلك الأنبجات [2].
1542 [كيفية معرفة العسل الجيد]
وإذا ألقي في العسل اللحم الغريض [3] فاحتاج صاحبه إليه بعد شهر أخرجه طريّا لم يتغير.
وإذا قطرت منه قطرة على وجه الأرض، فإن استدار كما يستدير الزّئبق، ولم يتفشّ، ولم يختلط بالأرض والتراب فهو الصحيح. وأجوده الذهبيّ [4].
1543 [لذة شراب العسل]
ويزعم أصحاب الشراب أنهم لم يروا شرابا قطّ ألذّ ولا أحسن ولا أجمع لما يريدون، من شراب العسل الذي ينتبذ بمصر. وليس في الأرض تجار شراب ولا غير ذلك أيسر منهم.
وفيه أعجوبة: وذلك أنهم لا يعملونه إلا بماء النّيل أكدر ما يكون. وكلما كان أكدر كان أصفى. وإن عملوه بالصافي فسد.
وقد يلقى العسل على الزّبيب، وعلى عصير الكرم فيجوّدهما.
1544 [التشبيه بالعسل]
وهو المثل في الأمور المرتفعة، فيقولون: ماء كأنه العسل. ويصفون كلّ شيء حلو، فيقولون [5]: كأنه العسل. ويقال: هو معسول اللسان [6]. وقال الشاعر [7]: [من الطويل]
[1] 69/ النحل: 16.
[2] «الأنبج: حمل شجر بالهند يربّب بالعسل على خلقة الخوخ محرف الرأس، يجلب إلى العراق في جوفه نواة كنواة الخوخ، فمن ذلك اشتقوا اسم الأنبجات التي تربب بالعسل من الأترج والإهليلج ونحوه، قال أبو حنيفة: شجر الأنبج كثير بأرض العرب، وهو لونان: أحدهما ثمرته في مثل هيئة اللوز لا يزال حلوا من أول نباته، وآخر في هيئة الإجاص يبدو حامضا ثم يحلو إذا أينع». انظر اللسان (نبج).
[3] الغريض: الطري. انظر عيون الأخبار 3/ 206.
[4] انظر عيون الأخبار 3/ 205.
[5] من الأمثال قولهم: «أحلى من العسل»، والمثل في مجمع الأمثال 1/ 229، والمستقصى 1/ 72.
[6] من الأمثال قولهم: «كلام كالعسل وفعل كالأسل» والمثل في مجمع الأمثال 2/ 133.
[7] البيت بلا نسبة في البيان 1/ 195، واللسان والتاج (شحح).(5/229)
لسانك معسول ونفسك شحّة ... ودون الثّريّا من صديقك مالكا [1]
1545 [التنويه بالعسل في القرآن]
وقال الله عزّ وجلّ في كتابه، وذكر أنهار الجنة، فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهََا أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهََارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهََارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ. وَأَنْهََارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [2]. فاستفتح الكلام بذكر الماء، وختمه بذكر العسل. وذكر الماء واللبن فلم يذكرهما في نعتهما ووصفهما إلا بالسلامة من الأسن والتغيّرو وذكر الخمر والعسل فقال: {مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ} و {مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، فكان هذا ضربا من التفضيل، وذكرها [3] في مواضع أخر [4] فنفى عنها عيوب خمر الدنيا. فقال عزّ وجلّ اسمه: {لََا يُصَدَّعُونَ عَنْهََا وَلََا يُنْزِفُونَ} [5]. فكان هذا القول الأول أظهر دليل على التفضيل.
باب في القراد
باب
1546 [القول في القراد]
يقال: «أسمع من قراد» [6] و «ألزق من قراد» [7] و «ما هو إلا قراد ثفر» [8]. وقال الشاعر [9]: [من الطويل]
[1] الشح: البخل.
[2] 15/ محمد: 47.
[3] أي الخمر.
[4] المواضع التي ذكرت فيها الخمر في القرآن هي الآية 47من الصافات، والآية 23من الطور، والآيتان 1918من الواقعة، والآيات 175من الإنسان.
[5] 19/ الواقعة: 56.
[6] يقال هذا المثل لأن القراد يسمع أصوات الإبل من مسيرة يوم، والمثل في مجمع الأمثال 1/ 349، وجمهرة الأمثال 1/ 531، والمستقصى 1/ 173، وفصل المقال 492، وأمثال ابن سلام 360.
[7] يقال هذا المثل لأن القراد يعرض لاست الجمل فيلزق بها كما يلزق النمل بالخصى، والمثل في مجمع الأمثال 2/ 249.
[8] الثفر: مؤخر السرج، وهو يشد تحت ذنب الدابة.
[9] البيت للحصين بن القعقاع في اللسان (سنت، قرد)، والتاج (سنت، ألس)، والمجمل 3/ 94، والتنبيه والإيضاح 1/ 165، 2/ 47، وللأعشى في الأساس (قرد)، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في اللسان (بختر، ألس)، والتاج (بختر)، والجمهرة 636، 1214، والمقاييس 3/ 104، والمخصص 3/ 84، 8/ 122، وديوان الأدب 1/ 332، والتهذيب 12/ 385، 13/ 71.(5/230)
هم السمن بالسنّوت لا ألس فيهم ... وهم يمنعون جارهم أن يقرّدا [1]
السنّوت، عند أهل مكة: العسل. وعند آخرين: الكمّون.
وقال الحطيئة [2]: [من الوافر] لعمرك ما قراد بني كليب ... إذا نزع القراد بمستطاع
قال: وذلك أن الفحل يمنع أن يخطم [3]. فإذا نزعوا من قراداته شيئا لذّ لذلك، وسكن إليه، ولان لصاحبه، فعند ذلك يلقي الخطام في رأسه.
قال: وأخبرني فراس بن خندق، وأبو برزة قال: كان جحدر إذا نزلت رفقة قريبا منه، أخذ شنة [4] فجعل فيها قردانا، ثم نثرها بقرب الإبل فإذا وجدت الإبل مسّها نهضت، وشدّ الشّنّة في ذنب بعض الإبل، فإذا سمعت صوت الشّنّة، وعملت فيها القردان نفرت. ثم كان يثب في ذروة ما ندّ [5] منها، ويقول: ارحم الغارّة [6] الضّعاف! يعني القردان.
قال أبو برزة: ولم تكن همّته تجاوز بعيرا.
1547 [القراد في الهجاء]
قال رشيد بن رميض [7]: [من الوافر] لنا عزّ ومأوانا قريب ... ومولى لا يدبّ مع القراد
وهجاهم الأعشى فقال [8]: [من الطويل]
[1] الألس: الخيانة.
[2] ديوان الحطيئة 138، واللسان (قرد، ذلل)، والتاج (ذلل)، والمعاني الكبير 629، 1112، ومجمع الأمثال 1/ 27.
[3] يخطم: يوضع على أنفه الخطام.
[4] الشنة: القربة الخلق.
[5] ندّ: شرد.
[6] الغارة: الغافلة.
[7] البيت بلا نسبة في اللسان والتاج (دبب)، والأمالي 2/ 126، ومجمع الأمثال 2/ 396.
[8] ديوان الأعشى 135، والأول في اللسان (طها)، والجمهرة 929، والأساس 363، وبلا نسبة في الجمهرة 1079، والمقاييس 3/ 427، والمخصص 7/ 84، والتهذيب 6/ 376.(5/231)
فلسنا لباغي المهملات بقرفة ... إذا ما طما بالليل منتشراتها [1] ... أبا مسمع أقصر، فإن قصيدة ... متى تأتكم تلحق بها أخواتها [2]
وهجاهم حضين بن المنذر فقال: [من الوافر] تنازعني ضبيعة أمر قومي ... وما كانت ضبيعة للأمور ... وهل كانت ضبيعة غير عبد ... ضممناه إلى نسب شطير [3] ... وأوصاني أبي، فحفظت عنه ... بفكّ الغلّ عن عنق الأسير ... وأوصى جحدر فوقى بنيه ... بإرسال القراد على البعير
قال: وفي القردان يقول الآخر قال: وبعضهم يجعلها في البراغيث وهذا باطل [4]: [من الطويل] ألا يا عباد الله من لقبيلة ... إذا ظهرت في الأرض شدّ مغيرها ... فلا الدّين ينهاها ولا هي تنتهي ... ولا ذو سلاح من معدّ يضيرها
فمن أصناف القردان: الحمنان، والحلم، والقرشام، والعلّ، والطّلح.
1548 [شعر ومثل في القرد]
وقال الطّرمّاح [5]: [من الخفيف] لمّا وردت الطّويّ والحوض كال ... صيّرة دفن الإزاء ملتبده [6] ... سافت قليلا على نصائبه ... ثم استمرّت في طامس تخده [7]
[1] المهملات: الإبل المرسلة بغير رعاء. القرفة: التهمة. طما: ارتفع.
[2] أبو سمع: جد المسامعة، وهو شيبان بن شهاب من بني قيس.
[3] الشطير: البعيد والغريب.
[4] تقدم البيتان في ص 207.
[5] ديوان الطرماح 210209 (146145).
[6] في ديوانه: «الطوي: البئر المطوية بالحجارة، وطيها: بناؤها. الصيرة: حظيرة من حجارة تتخذ للغنم والبقر. ودفن الإزاء: أي مندفن الإزاء، وهو مصب الماء في الحوض، والملتبد: المتلبد، أي تلبد فيه التراب بعضه على بعض».
[7] في ديوانه: «سافت: شمّت. ونصائبه: ما نصب حول الحوض من الحجارة، وجعل كالحائط له.
واستمرت: أي مرت في سيرها لم تشرب. والطامس: الطريق الذي انطمست آثاره. وتخذه: أي تخذ فيه، من الوخد، وهو ضرب من السير سريع».(5/232)
وقد لوى أنفه بمشفرها ... طلح قراشيم شاحب جسده [1] ... علّ طويل الطّوى كبالية السّف ... ع متى يلق العلوّ يصطعده [2]
وفي لزوق القراد يقول الراعي [3]: [من الكامل] نبتت مرافقهنّ فوق مزلّة ... لا يستطيع بها القراد مقيلا
والعرب تقول: «ألزق من البرام!» [4]، كما تقول: «ألزق من القراد!» [5]. وهما واحد.
1549 [شعر لأمية في الأرض والسماء]
وذكر أمية بن أبي الصّلت، خلق السماء، وإنه ذكر من ملاستها أن القراد لا يعلق بها، فقال [6]: [من الكامل] والأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها معاقلنا وفيها نولد ... فيها تلاميذ على قذفاتها ... حبسوا قياما فالفرائص ترعد [7] ... فبني الإله عليهم مخصوفة ... خلقاء لا تبلى ولا تتأوّد [8]
[1] في ديوانه: «الطلح: القراد المهزول. والقراشيم: جمع قرشوم، وهو القراد العظيم، وقيل: هي شجرة تأوي إليها القردان».
[2] في ديوانه: «العل: القراد الكبير المهزول. والطوى: الجوع. والسفع: السود، ويريد حب الحنظل هاهنا، وهو إذا بلي اسودّ. يصطعد: أي يصعد في بدن البعير.
[3] ديوان الراعي النميري 241، وشرح أبيات سيبويه 2/ 332، وشرح اختيارات المفضل 250، 983، والكتاب 4/ 89، واللسان حبس، زلل)، والتاج (زلل)، والمخصص 9/ 55، 16/ 122.
[4] مجمع الأمثال 2/ 249، والدرة الفاخرة 2/ 369، 370، وجمهرة الأمثال 2/ 180، 217، والمستقصى 1/ 323.
[5] مجمع الأمثال 2/ 249.
[6] ديوان أمية بن أبي الصلت 357356، والأول في المخصص 13/ 180، وبلا نسبة في المذكر والمؤنث 187، والثاني في كتاب العين 7/ 112، وبلا نسبة في المخصص 6/ 151، والثالث في المعاني الكبير 633.
[7] في ديوانه: «التلاميذ: الخدم والأتباع، ولعله أراد بهم النساك لأنهم يأوون إلى الجبال. والقذفات:
كل ما أشرف من رؤوس الجبال. الفرائص: مفردها فريصة، وهي اللحمة بين الجنب والكتف ترعد عند الفزع. وترعد: ترتجف».
[8] في ديوانه: «المخصوفة: المؤلفة من عدة أطباق، وأراد: «سماء مخصوفة» فحذف الموصوف.
والخلقاء: الملساء. وتتأود: تتثنى وتتجعد».(5/233)
فلو أنّه تحدو البرام بمتنها ... زلّ البرام عن التي لا تقرّد [1]
1550 [استطراد لغوي]
قال: القراد أول ما يكون وهو الذي لا يكاد يرى من صغر قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قرادا، ثم يصير حلمة.
قال: ويقال للقراد: العلّ، والطّلح، والقتين، والبرام، والقرشام.
قال: والقمّل واحدتها قمّلة، وهي من جنس القردان، وهي أصغر منها.
1551 [تخلق القراد والقمل]
قال: والقردان يتخلّق من عرق البعير، ومن الوسخ والتلطّخ بالثّلوط [2] والأبوال، كما يتخلّق من جلد الكلب، وكما يتخلق القمل من عرق الإنسان ووسخه، إذا انطبق عليه ثوب أو شعر أو ريش.
والحلم يعرض لأذني الكلب أكثر ذلك.
1552 [أمثال وأشعار وأخبار في القراد]
قال: ويقال «أقطف من حلمة» [3]، و «ألزق من برام» [4]، و «أذلّ من قراد» [5].
وقال الشاعر [6]: [من الطويل] يكاد خليلي من تقارب شخصه ... يعضّ القراد باسته وهو قائم
وقال أبو حنش لقيس بن زهير: «والله لأنت بها أذلّ من قراد!» [5]، فقدّمه وضرب عنقه.
[1] في ديوانه: «تحدو: تسوق. شبه البرام بالإبل، والبرام: القراد، وهو للبعير كالقمل للإنسان. ومتن الشيء: ما ظهر منه، والمعنى أنها ملساء الأديم، فلو مشى عليها القراد لزلّ وسقط».
[2] الثلوط: جمع ثلط، وهو الرقيق من الرجع والسلح.
[3] القطف: تقارب الخطو وبطؤه، والمثل في مجمع الأمثال 2/ 129، وجمهرة الأمثال 2/ 115، والمستقصى 1/ 285، والدرة الفاخرة 2/ 351.
[4] مجمع الأمثال 2/ 249.
[5] المستقصى 1/ 34، ومجمع الأمثال 1/ 283، وجمهرة الأمثال 1/ 468، 458، الدرة الفاخرة 1/ 203.
[6] البيت في الأغاني 9/ 11، و 15/ 333، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1622، ومحاضرات الأدباء 2/ 129 (3/ 285).(5/234)
وقال الراجز [1]: [من الرجز] قردانه في العطن الحوليّ ... بيض كحبّ الحنظل المقليّ [2] ... من الخلاء ومن الخويّ [3]
ويقال لحلمة الثّدي: القراد. وقال عديّ بن الرّقاع [4]: [من الطويل] كأن قرادي صدره طبعتهما ... بطين من الجولان كتّاب أعجم
والقراد يعرض لاست الجمل، والنمل يعرض للخصى. وقال الشاعر [5]: [من المتقارب] وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل
وقال الممزّق [6]: [من الطويل] تناخ طليحا ما تراع من الشّذا ... ولو ظلّ في أوصالها العلّ يرتقي [7]
ويروى: «فباتت ثلاثا لا تراع». يصف شدة جزعها من القردان.
وقال بشار بن برد: [من الوافر] أعادي الهمّ منفردا بشوق ... على كبدي كما لزق القراد
وكانوا إذا خافوا الجدب والأزمة تقدموا في عمل العلهز. والعلهز: قردان يعالج
[1] الرجز بلا نسبة في اللسان والتاج (صيص).
[2] العطن: مبرك الإبل. الحولى: الذي أتى عليه الحول.
[3] الخوي: الخلاء.
[4] البيت لعدي بن الرقاع في ديوانه 98، والتنبيه والإيضاح 2/ 47، وله أو لملحة الجرمي في اللسان والتاج (قرد)، ولابن ميادة في ديوانه 255، وأساس البلاغة (قرد)، والجمهرة 566، ولهم جميعا في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1749، ولملحة الجرمي في اللسان (بندك، عجم)، وبلا نسبة في المخصص 2/ 22، 148.
[5] لم يرد البيت في ديوان الأخطل، وهو له في الخزانة 1/ 460، والسمط 854، والعقد الفريد 3/ 360، ولكعب بن جعيل في الخزانة 1/ 460، ولعتبة بن الوعل في المؤتلف والمختلف 84، وبلا نسبة في الاشتقاق 336، والكتاب 1/ 417، وشرح أبيات سيبويه 1/ 378، والمقتضب 4/ 350.
[6] البيت للممزق العبدي في الأصمعيات 165، وبلا نسبة في الجمهرة 157.
[7] الطليح: المعيية الحسرة. الشذا: ذباب أزرق عظيم يقع على الدواب. الأوصال: المفاصل والأعضاء. العل: القراد الضخم أو المهزول.(5/235)
بدم الفصد مع شيء من وبر. فيدّخرون ذلك كما يدّخر من خاف الحصار الأكارع [1] والجاورس [2].
والشّعوبيّة تهجو العرب بأكل العلهز، والفثّ [3]، والدّعاع [4]، والهبيد [5]، والمغافير [6]، وأشباه ذلك. وقال حسان بن ثابت [7]: [من الخفيف] لم يعلّلن بالمغافير والصّم ... غ ولا شري حنظل الخطبان
وقال الطّرمّاح [8]: [من الخفيف] لم تأكل الفثّ والدعاع ولم ... تنقف هبيدا يجنيه مهتبده
وقال الأصمعيّ: قال رجل من أهل المدينة لرجل: أيسرّك أن تعيش حتى تجيء حلمة [9] من إفريقية مشيا؟ قال: فأنت يسرّك ذلك؟ قال: أخاف أن يقول إنسان: إنها بمخيض، فيغشى عليّ! ومخيض على رأس بريد من المدينة.
ويقولون: أمّ القراد، للواحدة الكبيرة منها. ويتسمّون بقراد، ويكتنون بأبي قراد. وقد ذكر ذلك أبو النجم فقال [10]: [من الرجز] للأرض من أمّ القراد الأطحل [11]
وفي العرب بنو قراد.
[1] الأكارع: مفردها كراع، وهو مستدق الساق.
[2] الجاورس: حب الدّخن، وهو الذرة الدقيقة.
[3] الفث: حب يشبه الجاورس، يطحن ويختبز منه.
[4] الدعاع: خبز أسود يأكله الفقراء في الجدب.
[5] الهبيد: حب الحنظل، كانوا ينقعونه لتذهب مرارته.
[6] المغافير: صمغ العرفط والرمث، حلو يؤكل.
[7] ديوان حسان بن ثابت 475، والأزمنة والأمكنة 2/ 303.
[8] ديوان الطرماح 206 (143)، واللسان والتاج (فثث)، والتهذيب 15/ 67، والأزمنة والأمكنة 2/ 303.
[9] حلمة: جمع الحلم، وهي القرادة الصغيرة.
[10] ديوان أبي النجم 201، والمقاييس 1/ 24، والطرائف الأدبية 67.
[11] الطحلة: لون بين الغبرة والبياض بسواد قليل كلون الرماد.(5/236)
باب في الحبارى
ونقول في الحبارى بقول موجز، إن شاء الله تعالى.
قال ابن الأعرابي: قال أعرابيّ [1] «إنه ليقتل الحبارى هزلا ظلم الناس بعضهم لبعض!». قال يقول: إذا كثرت الخطايا منع الله عزّ وجلّ درّ السّحاب. وإنما تصيب الطير من الحبّ ومن الثمر على قدر المطر.
وقال الشاعر [2]: [من الخفيف] يسقط الطير حيث ينتثر الح ... بّ وتغشى منازل الكرماء
وهذا مثل قوله [3]: [من الرجز] أما رأيت الألسن السّلاطا ... والأذرع الواسعة السّباطا [4] ... إن الندى حيث ترى الضّغاطا [5]
1553 [شعر وأمثال في الحبارى]
وقالوا في المثل: «مات فلان كمد الحبارى» [6]: وقال أبو الأسود الدؤلي [7]:
[من الوافر] وزيد ميّت كمد الحبارى ... إذا ظعنت هنيدة أو تلمّ
[1] الخبر في البيان 3/ 161.
[2] البيت لبشار في عيون الأخبار 1/ 91، 3/ 26، والأغاني 3/ 194، وبلا نسبة في البيان 1/ 178، ومجالس ثعلب 48.
[3] الرجز للتميمي في البيان 1/ 177، وبلا نسبة في الجمهرة 902، والبيت الثالث لرؤبة في ديوانه 177، وعيون الأخبار 1/ 91، والتاج (ضغط)، والبخلاء 241وفي حاشيته أنه لرؤبة أو لأبي نخيلة في الكامل 1/ 118.
[4] السليط: الفصيح. السبط: الممتد السوي.
[5] الندى: الكرم. الضغاط: الزحام.
[6] مجمع الأمثال 2/ 271.
[7] ديوان أبي الأسود الدؤلي 188، واللسان والتاج (حبر)، والتهذيب 5/ 36، وثمار القلوب (705)، وبلا نسبة في الجمهرة 168، وصدر البيت بلا نسبة في محاضرات الأدباء 2/ 105 (4/ 662).(5/237)
ويروى: «ملمّ» وهو اسم امرأة.
وذلك أن الطير تتحسّر [1] وتتحسّر معها الحبارى. والحبارى إذا نتفت أو تحسّرت أبطأ نبات ريشها، فإذا طار صويحباتها ماتت كمدا [2].
وأما قوله: «أو تلمّ» يقول: أو تقارب أن تظعن [3].
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «كلّ شيء يحبّ ولده حتى الحبارى!» [4]. يضرب بها المثل في الموق [5].
1554 [سلاح الحبارى في سلاحها]
قال [6]: وللحبارى خزانة بين دبره وأمعائه، له فيها أبدا سلح رقيق لزج، فمتى ألحّ عليها الصقر وقد علمت أن سلاحها [7] من أجود سلاحها، وأنها إذا ذرقته بقي كالمكتوف، أو المدبّق [8] المقيّد فعند ذلك تجتمع الحباريات على الصقر فينتفن ريشه كلّه طاقة طاقة [9] وفي ذلك هلاك الصقر.
1555 [سلاح بعض الحيوان]
قال: وإنما الحبارى في سلاحها كالظّرابيّ في فسائها، وكالثعلب في سلاحه [7]، وكالعقرب في إبرتها، والزنبور في شعرته، والثور في قرنه، والدّيك في صيصيته [10]، والأفعى في نابها، والعقاب في كفّها، والتمساح في ذنبه.
وكلّ شيء معه سلاح فهو أعلم بمكانه. وإذا عدم السّلاح كان أبصر بوجوه
[1] تتحسر: تخرج من الريش العتيق إلى الحديث.
[2] ورد هذا القول في ثمار القلوب (705).
[3] تظعن: ترحل.
[4] ورد قول عثمان في النهاية 1/ 328، وهو من الأمثال في مجمع الأمثال 2/ 146، والمستقصى 2/ 227.
[5] الموق: الحمق.
[6] الخبر في نهاية الأرب 10/ 215، وانظر ربيع الأبرار 5/ 448، وما تقدم في 1/ 162.
[7] السّلاح: النجو.
[8] المدبق: الذي ألزق بالدبق، والدبق: حمل شجر في جوفه كالغراء يلزق بجناح الطائر فيصاد به.
[9] الطاقة: شعبة من ريحان، أو قوة من الخيط.
[10] الصيصة: الشوكة التي في رجل الديك.(5/238)
الهرب كالأرنب في إيثارها للصّعداء، لقصر يديها، وكاستعمال الأرانب للتوبير [1] والوطء على الزّمعات [2]، واتخاذ اليرابيع. القاصعاء والنّافقاء، والدّامّاء، والراهطاء [3].
1556 [شعر في الحبارى]
وقال الشاعر [4]: [من الوافر] وهم تركوك أسلح من حبارى ... رأت صقرا وأشرد من نعام
يريد: نعامة. وقال قيس بن زهير: [من الطويل] متى تتحزّم بالمناطق ظالما ... لتجري إلى شأو بعيد وتسبح ... تكن كالحبارى إن أصيبت فمثلها ... أصيب وإن تفلت من الصّقر تسلح
وقال ابن أبي فنن، يصف ناسا من الكتّاب، في قصيدة له ذكر فيها خيانتهم، فقال [5]: [من الوافر] رأوا مال الإمام لهم حلالا ... وقالوا الدّين دين بني صهارى ... ولو كانوا يحاسبهم أمين ... لقد سلحوا كما سلح الحبارى
1557 [الخرب والنهار]
والخرب: ذكر الحبارى. والنهار: فرخ الحبارى. وفرخها حارض [6] ساقط لا خير فيه. وقال متمّم بن نويرة [7]: [من الطويل] وضيف إذا أرغى طروقا بعيره ... وعان ثوى في القدّ حتى تكنّعا [8]
[1] التوبير: الوطء على مآخير كفها، وانظر ما تقدم في الفقرة 1416ص 150.
[2] الزمعة: الشعرة المدلاة في مؤخر رجل الأرنب.
[3] انظر ما تقدم ص 150149.
[4] البيت لأوس بن غلفاء في الأصمعيات 233، والمفضليات 388، واللسان (لفف، لقم)، والكامل 1/ 286 (المعارف)، ولدجاجة بن عتر في الجمهرة 886، وبلا نسبة في التاج (حبر).
[5] ديوان أحمد بن أبي فنن 163 «ضمن: شعراء عباسيون».
[6] الحارض: الضعيف البنية.
[7] ديوان متمم بن نويرة 110109، وشرح اختيارات المفضل 11741173، والأول في اللسان والتاج (كنع)، والتهذيب 1/ 319، والكامل 1058 (الدالي)، والثاني في اللسان والتاج (حثل)، والمقاييس 2/ 137، وبلا نسبة في المخصص 1/ 29.
[8] طروقا: ليلا. العاني: الأسير. ثوى: أقام. القدم: السير من الجلد، وأراد به القيد. تكنع: تقبض.(5/239)
وأرملة تمشي بأشعث محثل ... كفرخ الحبارى رأسه قد تصوّعا [1]
وقال أعرابيّ [2]: [من الرجز] أحبّ أن أصطاد ضبّا سحبلا ... وخربا يرعى ربيعا، أرملا [3]
فجعل الخرب أرمل، لأن ريشه يكون أكثر. وقد ذكرنا ما في هذا الباب فيما قد سلف من كتابنا [4].
1558 [خبر فيه ذكر الحبارى]
وقال أبو الحسن المدائنيّ: قال سعيد النّواء: قدمت المدينة فلقيت عليّ بن الحسين، فقلت: يا ابن رسول الله، متى يبعث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟
قال: إذا بعث الناس.
قال: ثم تذاكرنا أيام الجمل فقال: ليته كان ممنوعا قبل ذلك بعشرين سنة أو كلمة غير هذه قال: فأتيت حسن بن حسن. فذكرت له ما قال، فقال: لوددت والله أنه كان يقاتلهم إلى اليوم! قال: فخرجت من فوري ذلك إلى عليّ بن الحسين، فأخبرته بما قال، فقال: إنه لقليل الإبقاء على أبيه.
قال: وبلغ الخبر المختار فقال: أيضرّب [5] بين ابني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ لأقتلنّه! فتواريت ما شاء الله، ثم لم أشعر إلا وأنا بين يديه، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك! قال فقلت: أنت استمكنت مني؟ أما والله لولا رؤيا رأيتها لما قدرت عليّ! قال: وما رأيت؟ فقلت: رأيت عثمان بن عفان. فقالت: أنت عثمان بن عفان؟ فقال: أنا حبارى، تركت أصحابي حيارى، لا يهود ولا نصارى! فقال: يا أهل الكوفة انظروا إلى ما أرى الله عدوّكم! ثم خلّى سبيلي. [وقد روي هذا الكلام عن شتير بن شكل، أنه رأى معاوية في النوم فقال الكلام الذي روي عن عثمان.
[1] الأشعث: المتلبد الشعر، وأراد ولدها. المحثل: الذي أسيء غذاؤه. تصوع: تقبض وتشقق.
[2] الرجز بلا نسبة في اللسان والتاج (رمل، سحبل)، والتهذيب 15/ 205.
[3] السحبل: الضخم. أرمل: من الرّملة، وأصلها الخط الأسود في الثور، وعنى به هنا طرائق الريش.
[4] لعل الموضع الذي يشير إليه الجاحظ قد سقط من الكتاب، إذ لم أهتد إليه.
[5] يضرب: يحرض.(5/240)
ووجه كلام عليّ بن الحسين الذي رواه عنه سعيد النواء، إن كان صادقا فإنه للذي كان يسمع من الغالية [1]، من الإفراط والغلوّ والفحش.
فكأنه إنما أراد كسرهم، وأن يحطّهم عن الغلوّ إلى القصد [2] فإن دين الله عزّ وجلّ بين التقصير والغلوّ، وإلا فعليّ بن الحسين أفقه في الدين، وأعلم بمواضع الإمامة، من أن يخفى عليه فضل [3] ما بين عليّ وبين طلحة والزّبير.
1559 [شعر ومعرفة في الحبارى]
وقال الكميت [4]: [من الطويل] وعيد الحبارى من بعيد تنفّشت ... لأزرق مغلول الأظافير بالخضب [5]
والحبارى طائر حسن. وقد يتّخذ في الدور.
وناس كثير من العرب وقريش يستطيبون محسيّ الحبارى جدّا.
قال: والحبارى من أشد الطير طيرانا، وأبعدها مسقطا وأطولها شوطا، وأقلّها عرجة [6]. وذلك أنها تصطاد بظهر البصرة عندنا، فيشقّق عن حواصلها. فيوجد فيه الحبّة الخضراء غضّة، لم تتغير ولم تفسد.
وأشجار البطم [7] وهي الحبّة الخضراء بعيدة المنابت منّا وهي علوية أو ثغريّة [8]، أو جبليّة. فقال الشاعر [9]: [من المنسرح] ترتعي الضّرو من براقش أو هيلا ... ن أو يانعا من العتم
[1] الغالية: الذين يغالون ويبالغون في شأن علي بن أبي طالب.
[2] القصد: الاعتدال.
[3] الفضل: الزيادة.
[4] ديوان الكميت 1/ 127، والمقاييس 2/ 128.
[5] الأزرق: البازي أو العقاب. المغلول: غل شعره بالطيب أدخله فيه. الخضب: عنى به دماء ما يقتنص من الحيوان.
[6] العرجة: أن تعرج على المنزل وتحتبس.
[7] البطم: شجر في حجم الفستق والبلوط، سبط الأوراق والحطب، يكثر بالجبال، وحبه مفرطح في عناقيد كالفلفل، وعليه قشر أخضر داخله آخر خشبي يحوي اللب كالفستق.
[8] علوية: نسبة إلى عالية نجد، والثغرية نسبة إلى أحد ثغور الشام.
[9] البيت للنابغة الجعدي في ديوانه 151، واللسان والتاج (برقش، هيل، عتم، ضرا)، والمجمل 4/ 461، والمقاييس 4/ 225، وكتاب الجيم 2/ 298، ومعجم البلدان (براقش، هيلان)، والأمالي 1/ 173، والسمط 431.(5/241)
شجر الزيتون. والضّر وشجر البطم، وهي الحبّة الخضراء بالجبال شجرتها.
وقال الكودن العجليّ، ويروى العكلي: «البطم لا يعرفه أهل الجلس»، وبلاد نجد هي الجلس، وهو ما ارتفع. والغور هو ما انخفض.
وبراقش: واد باليمن، كان لقوم عاد. وبراقش: كلبة كانت تتشاءم بها العرب [1]. وقال حمزة بن بيض [2]: [من الخفيف] بل جناها أخ عليّ كريم ... وعلى أهلها براقش تجني
باب في الضأن والمعز
القول في الضأن والمعز قال صاحب الضّأن: قال الله تبارك وتعالى: {ثَمََانِيَةَ أَزْوََاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [3]، فقدّم ذكر الضأن.
وقال عزّ وجلّ: {وَفَدَيْنََاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [4]. وقد أجمعوا على أنه كبش. ولا شيء أعظم مما عظّم الله عزّ وجلّ، ومن شيء فدي به نبيّ.
وقال تعالى: {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ} [5] ولم يقل إنّ هذا أخي له تسع وتسعون عنزا ولي عنز واحدة لأن الناس يقولون: كيف النعجة؟ يريدون الزوجة.
وتسمي المها من بقر الوحش نعاجا ولم تسمّ بعنوز. وجعله [6] الله عزّ وجلّ السّنّة في الأضاحي. والكبش للعقيقة [7] وهدية العرس وجعل الجذع [8] من
[1] إشارة إلى المثل «على أهلها تجني براقش»، والمثل في مجمع الأمثال 2/ 14، وهو برواية «دلت» في جمهرة الأمثال 2/ 52، والمستقصى 2/ 165، وفصل المقال 459، وأمثال ابن سلام 333.
[2] البيت لحمزة بن البيض في مجمع الأمثال 2/ 14، والمستقصى 2/ 165، والرسالة الموضحة 77، والبيان 1/ 269، وثمار القلوب (585)، ورسائل الجاحظ 1/ 297، واللسان والتاج (برقش)، والتنبيه والإيضاح 2/ 313.
[3] 143/ الأنعام: 6.
[4] 107/ الصافات: 37.
[5] 33/ ص: 38.
[6] أي الضأن.
[7] العقيقة: ما يذبح يوم حلق الشعر الذي يولد به الطفل.
[8] الجذع: أصلها الصغير السن، والجذع يختلف في أسنان الإبل والخيل والبقر والشاء، وقال ابن الأعرابي: في الجذع من الضأن: إن كان ابن شابين أجذع لستة أشهر إلى سبعة أشهر، وإن كان(5/242)
الضأن كالثّنيّ [1] من المعز في الأضحية.
وهذا ما فضّل الله به الضأن في الكتاب والسّنّة.
1560 [فضل الضأن على المعز]
تولّد الضأن مرة في السّنة، وتفرد ولا تتئم. والماعزة قد تولّد مرتين، وقد تضع الثلاث وأكثر وأقلّ.
والبركة والنّماء والعدد في الضأن، والخنزيرة كثيرة الخنانيص. يقال إنها تلد عشرين خنّوصا. ولا نماء فيها [2].
قال: وفضل الضأن على المعز أن الصوف أغلى وأثمن وأكثر قدرا من الشعر.
والمثل السائر: «إنما فلان كبش من الكباش». وإذا هجوه قالوا: «إنما هو تيس من التيوس» إذا أرادوا النتن أيضا. فإذا أرادوا الغاية في الغباوة قالوا [3]: «ما هو إلا تيس في سفينة!».
والحملان يلعب بها الصبيان، والجداء لا يلعب بها. ولبن الضأن أطيب وأخثر [4] وأدسم، وزبده أكثر. ورؤوس الضأن المشويّة هي الطيبة المفضلة، ورؤوس المعز ليس عندها طائل.
ويقال رؤوس الحملان، ولا يقال رؤوس العرضان [5].
ويقال للّوطيّ الذي يلعب بالحدّر [6] من أولاد الناس: «هو يأكل رؤوس
ابن هرمين أجذع لثمانية أشهر إلى عشرة أشهر، وقيل الجذع من الضأن لثمانية أشهر أو تسعة «اللسان: جذع».
[1] الثني من المعز: ما كان في السنة الثالثة «اللسا: جذع».
[2] وردت الفقرة في ربيع الأبرار 5/ 410، والعقد الفريد 4/ 257، وعيون الأخبار 2/ 74.
[3] هذا المثل استخدمه أبو الشمقمق في هجائه بشار بن برد وهو قوله:
«هللينه هللينه ... طعن قثّاة سفينه» ... «إنّ بشار بن برد ... تس أعمى في سفينه»
انظر البيتين في الأغاني 3/ 195، 247، ونكت الهميان 126.
[4] الخثورة: نقيض الرقة.
[5] العرضان: جمع العريض، وهو الجدي الذي أتى عليه نحو سنة.
[6] الحدّر: جمع حادر، وهو الغلام الجميل والسمين.(5/243)
الحملان» لمكان ألية الحمل، ولأنه أخدل [1] وأرطب. ولم يقولوا في الكناية والتعريض: هو يأكل رؤوس العرضان.
والشّواء المنعوت شواء الضأن، وشحمه يصير كلّه إهالة [2] أوّله وآخره. والمعز يبقى شحمه على حاله، وكذلك لحمه. ولذلك صار الخبّازون الحذّاق قد تركوا الضأن لأن المعز يبقى شحمه ولحمه، فيصلح لأن يسخّن مرات، فيكون أربح لأصحاب العرس.
والكباش للهدايا وللنطاح [3]. فتلك فضيلة في النجدة وفي الثقافة، ومن الملوك من يراهن عليها، ويضع السّبق عليها، كما يراهن على الخيل.
والكبش الكراز [4] يحمل الراعي وأداة الراعي. وهو له كالحمار في الوقير [5].
ويعيش الكرّاز عشرين سنة.
وإذا شبق الراعي واغتلم اختار النعجة على العنز. وإذا نعتوا شكلا من أشكال مشي البراذين [6] الفرّه [7] قالوا: هو يمشي مشي النّعاج.
وقال الله عزّ وجلّ: {وَمِنْ أَصْوََافِهََا وَأَوْبََارِهََا وَأَشْعََارِهََا} [8] فقدّم الصّوف.
والبخت [9] هي ضأن الإبل، منها الجمّازات [10]. والجواميس هي ضأن البقر.
يقال للجاموس الفارسية: «كاوماش».
ولا يذكر الماعز بفضيلة إلا ارتفاع ثمن جلده، وغزارة لبنه. فإذا صرت إلى عدد كثرة النّعاج وجلود النعاج والضأن كلّها أربى ذلك على ما يفضل به الماعز الضأن في ثمن الجلد، والغزر في اللبن.
[1] أخدل: ممتلئ.
[2] الإهالة: ما أذيب من الألية والشحم.
[3] إشارة إلى التقامر بنطاحها.
[4] الكرز: الخرج الكبير يضع فيه الراعي زاده، والكراز: الذي يضع عليه الراعي كرزه فيحمله.
[5] الوقير: الغنم بكلبها وحمارها وراعيها.
[6] البرذون: هو من الخيل ما كان من غير نتاج العراب.
[7] الفرّه: جمع فاره، وهو النشيط القوي.
[8] 80/ النحل: 16.
[9] البخت: الإبل الخراسانية التي تنتج من عربية وفالج، والفالج البعير ذو السنامين.
[10] الجمز: السرعة في العدو.(5/244)
1561 [قول ابنة الخس ودغفل في المعز]
وقيل لابنة الخسّ: ما تقولين في مائة من الماعز؟ قالت: قنى! قيل: فمائة من الضأن؟ قالت: غنى. قيل: فمائة من الإبل؟ قالت: منى! [1] وسئل دغفل بن حنظلة عن بني مخزوم، فقال: معزى مطيرة، عليها قشعريرة، إلا بني المغيرة فإن فيهم تشادق الكلام، ومصاهرة الكرام [2].
1562 [بعض الأمثال في ذمّ العنز]
وتقول العرب: «لهو أصرد من عنز جرباء!» [3] وتقول العرب: «العنز تبهي ولا تبني» [4] لأن العنز تصعد على ظهور الأخبية فتقطعها بأظلافها، والنعجة لا تفعل ذلك.
هذا. وبيوت الأعراب إنما تعمل من الصوف والوبر، فليس للماعز فيها معونة، وهي تخرّقها. وقال الأول [5]: [من مجزوء البسيط] لو نزل الغيث لأبنين امرأ ... كانت له قبّة، سحق بجاد [6]
أبناه: إذا جعل له بناء. وأبنية العرب: خيامهم ولذلك يقولون: بنى فلان على امرأته البارحة.
1563 [ضرر لحم الماعز]
وقال لي شمؤون الطبيب: يا أبا عثمان، إياك ولحم الماعز فإنه يورث الهمّ، ويحرّك السّوداء، ويورث النّسيان، ويفسد الدم وهو والله يخبّل الأولاد! [7].
[1] الخبر في ربيع الأبرار 5/ 408، وعيون الأخبار 2/ 73، والمزهر 2/ 545، والعقد الفريد 4/ 257.
[2] الخبر في البيان 1/ 121.
[3] مجمع الأمثال 1/ 413، وجمهرة الأمثال 1/ 585، والمستقصى 1/ 207، وأمثال ابن سلام 367.
[4] مجمع الأمثال 2/ 269، وجمهرة الأمثال 2/ 240، والمستقصى 1/ 348، وفصل المقال 192، وأمثال ابن سلام 129، والمثل يضرب لمن يفسد ولا يصلح.
[5] البيت لأبي مارد الشيباني في التاج (بني)، وبلا نسبة في اللسان (خضض، بني)، والمخصص 5/ 122، والتهذيب 15/ 493، والأساس (بني)، والخصائص 1/ 36.
[6] القبة: البيت من الأدم. السحق: الخلق. البجاد: كساء مخطط.
[7] ورد هذا القول دون ذكر اسم الطبيب في عيون الأخبار 2/ 74.(5/245)
وقال الكلابيّ: «العنوق بعد النّوق» [1]، ولم يقل: الحمل بعد الجمل.
وقال عمرو بن العاص للشيخ الجهنيّ المعترض عليه في شأن الحكمين: وما أنت والكلام يا تيس جهينة؟! ولم يقل يا كبش جهينة لأن الكبش مدح والتّيس ذمّ.
وأما قوله: «إن الظّلف لا يرى مع الخفّ» فالبقر والجواميس والضأن والمعز في ذلك سواء.
قال: وأتي عبد الملك بن مروان في دخوله الكوفة على موائد بالجداء، فقال:
فأين أنتم عن العماريس [2]؟ فقيل له: عماريس الشّام أطيب!.
وفي المثل: «لهو أذلّ من النقد» [3]. النقد هو المعز. وقال الكذّاب الحرمازيّ [4]:
[من الرجز] لو كنتم قولا لكنتم فندا ... أو كنتم ماء لكنتم زبدا ... أو كنتم شاء لكنتم نقدا ... أو كنتم عودا لكنتم عقدا
1564 [اشتقاق الأسماء من الكبش]
قال: والمرأة تسمى كبشة، وكبيشة. والرجل يكنى أبا كبشة، وقال أبو قردودة [5]: [من المتقارب] كبيشة إذ حاولت أن تب ... ين يستبق الدّمع مني استباقا ... وقامت تريك غداة الفراق ... كشحا لطيفا وفخذا وساقا [6]
[1] نسب هذا المثل إلى العلاء الكلابي في البيان 1/ 285، وفيه أنه ولي عملا خسيسا بعد أن كان على عمل جسيم، وانظر المثل في مجمع الأمثال 2/ 12. العنوق: جمع عناق وهي الأنثى من ولد المعزى إذا أتت عليها سنة، والنوق: جمع ناقة.
[2] العماريس: جمع عمروس وهو الخروف أو الجدي إذا بلغا العدو. وفي النهاية 3/ 299: «في حديث عبد الملك بن مروان: أين أنت من عمروس راضع».
[3] مجمع الأمثال 1/ 284، والمستقصى 1/ 131، والدرة الفاخرة 2/ 446، وجمهرة الأمثال 1/ 458، 469، والأمثال لمجهول 9.
[4] الرجز بلا نسبة في مظان المثل، وهو للعين المنقري في الأزمنة والأمكنة 2/ 277، وتقدم في 3/ 233.
[5] الأبيات لأبي قردودة في قصائد جاهلية نادرة 169، والبيت الثالث بلا نسبة في اللسان والتاج (خلق).
[6] الكشح: الخصر اللطيف.(5/246)
ومنسدلا كمثاني الحبا ... ل توسعه زنبقا أو خلاقا [1]
وأول هذه القصيدة:
كبيشة عرسي تريد الطّلاقا ... وتسألني بعد وهن فراقا
1565 [قول القصاص في تفضيل الكبش على التيس]
وقال بعض القصّاص [2]: ومما فضل الله عزّ وجلّ به الكبش أن جعله مستور العورة من قبل ومن دبر، وممّا أهان الله تعالى به التيس أن جعله مهتوك الستر، مكشوف القبل والدّبر.
1566 [التيس في الهجاء]
وقال حسّان بن ثابت الأنصاريّ [3]: [من الطويل] سألت قريشا كلها فشرارها ... بنو عامر شاهت وجوه الأعابد [4] ... إذا جلسوا وسط النّديّ تجاوبوا ... تجاوب عتدان الربيع السّوافد [5]
وقال آخر [6]: [من الوافر] أعثمان بن حيّان بن أدم ... عتود في مفارقه يبول ... ولو أني أشاء قد ارفأنّت ... نعامته ويعلم ما أقول [7]
وقال الشاعر: [من الكامل] سميّت زيدا كي تزيد فلم تزد ... فعاد لك المسمي فسمّاك بالقحر [8] ... وما القحر إلا التّيس يعتك بوله ... عليه ويمذي في الّلبان وفي النّحر [9]
[1] المنسدل: المسترسل، أي الشعر. المثاني: جمع مثناة، وهو الحبل. الزنبق: دهن الياسمين.
الخلاق: ضرب من الطيب.
[2] ورد القول في عيون الأخبار 2/ 76، وربيع الأبرار 5/ 409، والعقد الفريد 4/ 258.
[3] ديوان حسان بن ثابت 208.
[4] الأعابد: جمع عبد.
[5] الندي: النادي، وهو مجلس القوم. عتدان: جمع عتود، وهو الجدي إذا بلغ السفاد.
[6] البيتان للمرار بن سعيد الفقعسي في ديوانه 471، وأشعار اللصوص 369، والثاني في اللسان والتاج (نعم).
[7] ارفأنت نعامته: سكن بعد غضبه.
[8] القحر: البعير المسن.
[9] يعتك عليه: يغلبه.(5/247)
1567 [شدة نتن التّيوس]
فالتّيس كالكلب لأنه يقزح [1] ببوله، فيريد به حاقّ [2] خيشومه. وبول التّيس من أخثر البول وأنتنه، وريح أبدان التّيوس إليها ينتهي المثل. ولو كان هذا العرض في الكبش لكان أعذر له لأن الخموم واللخن، والعفن والنّتن، لو عرض لجلد ذي الصّوف المتراكم، الصّفيق الدقيق، والملتفّ المستكثف لأن الرّيح لا تتخلّله، والنسيم لا يتخرّقه لكان ذلك أشبه.
فقد علمنا الآن أن للتيس مع تخلخل شعره، وبروز جلده [3] وجفوف عرقه، وتقطع بخار بدنه فضلا ليس لشيء سواه. والكلب يوصف بالنّتن إذا بلّه المطر.
والحيّات توصف بالنّتن. ولعل ذلك أن يجده من وضع أنفه على جلودها.
وبول التّيس يخالط خيشومه. وليس لشيء من الحيوان ما يشبه هذا، إلا ما ذكرنا من الكلب، على أن صاحب الكلب قد أنكر هذا.
وجلود التّيوس، وجلود آباط الزّنج، منتنة العرق، وسائر ذلك سليم. والتيس إبط كله [4]، ونتنه في الشتاء كنتنه في الصيف. وإنا لندخل السكّة وفي أقصاها تيّاس [5]، فنجد نتنها من أدناها، حتى لا يكاد أحدنا يقطع تلك السكة إلا وهو مخمّر الأنف. إلا ما كان مما طبع الله عزّ وجلّ عليه البلويّ وعليّا الأسواري فإن بعضهما صادق بعضا على استطابة ريح التيوس. وكان ربما جلسا على باب التّيّاس ليستنشقا تلك الرائحة، فإذا مرّ بهما من يعرفهما وأنكر مكانهما، ادّعيا أنهما ينتظران بعض من يخرج إليهما من بعض تلك الدّور.
1568 [المكّيّ وجاريته سندرة]
فأما المكي فإنه تعشّق جارية يقال لها سندرة، ثم تزوجها نهاريّة [6] وقد
[1] قزح ببوله: أرسله دفعا.
[2] الحاق: وسط الشيء.
[3] بروز جلده: أي ظهوره لخفة الشعر الذي عليه.
[4] أي أنه منتن البدن كله.
[5] التياس: صاحب التيوس.
[6] الزواج النهاري: يفهم منه أن كلّا من الزوجين لا يلقى صاحبه إلا في النهار، وأورد الجاحظ في البخلاء 124: «قالت له امرأة: ويحك يا أبا القماقم إني قد تزوجت زوجا نهاريا، والساعة وقته، وليست عليّ هيئة، فاشتر لي بهذا الرغيف آسا، وبهذا الفلس دهنا، فإنك تؤجر. فعسى الله أنه يلقي محبتي في قلبه. فيرزقني على يدك شيئا أعيش به، فقد والله ساءت حالي، وبلغ المجهود مني».(5/248)
دعاني إلى منزلها غير مرّة، وخبّرني أنها كانت ذات صنان، وأنه كان معجبا بذلك منها، وأنها كانت تعالجه بالمرتك [1]، وأنه نهاها مرارا حتى غضب عليها في ذلك.
قال: فلما عرفت شهوتي كانت إذا سألتني حاجة ولم أقضها قالت: والله لأتمرتكنّ، ثم والله لأتمرتكنّ، ثمّ والله لأتمرتكنّ! فلا أجد بدّا من أن أقضي حاجتها كائنا ما كان.
1569 [اشتهاء ريح الكرياس]
وحدّثني مويس بن عمران، وكان هو والكذب لا يأخذان في طريق، ولم يكن عليه في الصدق مؤونة، لإيثاره له حتى كان يستوي عنده ما يضرّ وما لا يضر قال:
كان عندنا رجل يشتهي ريح الكرياس [2] لا يشفيه دونه شيء، فكان قد أعدّ مجوبا [3] أو سكة حديد في صورة المبرد، فيأتي الكراييس التي تكون في الأزقة القليلة المارة، فيخرق الكرياس ولا يبالي، أكان من خزف أو من خشب، ثم يضع منخريه عليه، حتى يقضي وطره.
قال: فلقي الناس من سيلان كراييسهم شرّا حتى عثروا عليه فما منعهم من حبسه إلا الرحمة له من تلك البليّة، مع الذي رأوا من حسن هيئته، فقال لهم: يا هؤلاء، لو مررتم بي إلى السلطان كان يبلغ من عقابي أكثر مما أبلغ من نفسي؟ قالوا:
لا والله! وتركوه.
1570 [نتن العنز]
قالوا: وهذا شأن التّيس، وهو أبو العنز. «ولا تلد الحيّة إلا حيّة» [4]، ولا بد لذلك النّتن عن ميراث في ظاهر أو باطن. وأنشدوا لابن أحمر [5]: [من البسيط] إني وجدت بني أعيا وجاملهم ... كالعنز تعطف روقيها فترتضع [6]
وهذا عيب لا يكون في النّعاج.
[1] المرتك: هو المردارسنج، ويكون من سائر المعادن المطبوخة إلا الحديد. انظر معجم استينجاس 1212.
[2] الكرياس: هو الكنيف الذي يكون مشرفا على سطح بقناة إلى الأرض، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تستقبل القبلة بغائط أو بول يعني الكنف. انظر اللسان «كرس».
[3] الجوب: القطع.
[4] المستقصى 2/ 390، ومجمع الأمثال 2/ 259.
[5] ديوان عمرو بن أحمر 120، واللسان والتاج (رضع)، والمعاني الكبير 689، وعيون الأخبار 2/ 75، وبلا نسبة في ديوان الأدب 2/ 410، والأساس (رضع).
[6] أعيا: أبو بطن من أسد. الجامل: قطيع من الإبل معها رعيانها وأربابها. الروق: القرن.(5/249)
والعنز هي التي ترتضع من خلفها وهي محفَّلة [1]، حتى تأتي على أقصى لبنها، وهي التي تنزع الوتد وتقلب المعلف، وتنثر ما فيه.
وإذا ارتعت الضائنة [2] والماعزة في قصيل [3]، نبت ما تأكله الضائنة [2]، ولا ينبت ما تأكله الماعزة، لأن الضائنة تقرض بأسنانها وتقطع، والماعزة تقبض عليه فتثيره وتجذبه، وهي في ذلك تأكله. ويضرب بها المثل بالموق [4] في جلبها حتفها على نفسها. وقال الفرزدق [5]: [من الطويل] فكانت كعنز السّوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت التّراب تثيرها
1571 [تيس بني حمان]
وقال الشاعر [6]: [من الطويل] لعمرك ما تدري فوارس منقر ... أفي الرأس أم في الإست تلقى الشّكائم [7] ... وألهى بني حمّان عسب عتودهم ... عن المجد حتى أحرزته الأكارم
وذلك أن بني حمّان تزعم أن تيسهم قرع شاة بعد أن ذبح وأنه ألقحها [8].
1572 [أعجوبة في الضأن]
قالوا: في الضأن أعجوبة وذلك أن النعجة ربما عظمت أليتها حتى تسقط على الأرض، ويمنعها ذلك من المشي، فعند الكبش رفق في السّفاد، وحذق لم يسمع بأعجب منه، وذلك أنه يدنو منها ويقف منها موقفا يعرفه، ثم يصكّ [9] أحد جانبي الألية بصدره، بمقدار من الصكّ يعرفه، فيفرج عن حياها [10] المقدار الذي لا يعرفه غيره، ثم يسفدها في أسرع من اللّمح.
[1] المحفلة: التي ترك حلبها أياما حتى يجتمع لبنها.
[2] الضائنة: الشاة من الغنم.
[3] القصيل: الذي تعلف به الدواب.
[4] الموق: الحمق.
[5] ديوان الفرزدق 249، والبيان 3/ 259، وسيأتي البيت في ص 253.
[6] البيتان للفرزدق في ربيع الأبرار 5/ 409، وتقدم البيت الثاني بلا نسبة في الصفحة 121.
[7] منقر: هو ابن عبيد بن الحارث بن عمرو التميمي. الشكيمة: الحديدة المعترضة في فم الفرس.
[8] ثمار القلوب (564)، وفيه أن تيس بني حمان قفط سبعين عنزا بعد ما قطعت أوداجه.
[9] يصك: يضرب.
[10] الحيا: الفرج من ذوات الخف.(5/250)
1573 [فضل الضأن على الماعز]
وقالوا: والضأن أحمل للبرد والجمد وللرّيح والمطر.
قالوا: ومن مفاخر الضأن على المعز أن التمثيل الذي كان عند كسرى والتّخيير [1]، إنما كان بين النعجة والنخلة، ولم يكن هناك للعنز ذكر وعلى ذلك الناس إلى اليوم.
والموت إلى المعزى أسرع، وأمراضها أكثر. وإنما معادن [2] الغنم الكثير الذي عليه يعتمد الناس الجبال، والمعز لا تعيش هناك. وأصواف الكباش أمنع للكباش من غلظ جلود المعز. ولولا أن أجواف الماعز أبرد وكذلك كلاها، لما احتشت من الشّحم كما تحتشي.
1574 [جمال ذكورة الحيوان وقبح التيوس]
[3] وذكورة كلّ جنس أتمّ حسنا من إناثها. وربما لم يكن للإناث شيء من الحسن، وتكون الذكورة في غاية الحسن كالطواويس والتّدارج [4]. وإناثها لا تدانيها في الحسن، ولها من الحسن مقدار، وربما كنّ دون الذّكورة، ولهنّ من الحسن مقدار، كإناث الدّراريج والقبج [5] والدجاج والحمام، والوراشين، وأشباه ذلك.
وإذا قال الناس: تيّاس، عرف معناه واستقذرت صناعته. وإذا قالوا: كبّاش، فإنما يعنون بيع الكباش واتخاذها للنّطاح.
والتّيوس قبيحة جدّا. وزاد في قبحها حسن الصّفايا [6].
1575 [التشبيه بالكباش والتفاؤل بها]
وإذا وصفوا أعذاق [7] النخل العظام قالوا: كأنّها كباش.
[1] التخيير: التفضيل.
[2] المعادن: المواطن. عدن بالمكان: أقام.
[3] وردت هذه الفقرة في عيون الأخبار 2/ 75.
[4] التدارج: جمع تدرج، وهو طائر كالدراج يغرد في البساتين بأصوات طيبة، حياة الحيوان 1/ 230.
[5] الدراج: طائر أسود باطن الجناحين وظاهرهما أغبر على خلقة القطا، إلا أنه ألطف. حياة الحيوان 1/ 477.
[6] الصفايا: جمع صفية، وهي أنثى المعز.
[7] عذق النخل: العرجون بما فيه من الشماريخ.(5/251)
وقال الشاعر: [من الطويل] كأنّ كباش السّاجسيّة علّقت ... دوين الخوافي أو غراير تاجر [1]
وصوّر عبيد الله بن زياد، في زقاق قصره، أسدا، وكلبا، وكبشا [2] فقرنه مع سبعين عظيمي الشأن: وحشيّ، وأهليّ تفاؤلا به.
1576 [ذم العنز في الشعر]
ومما ذمّوا فيه العنز دون النعجة قول أبي الأسود الدّؤلي [3]: [من الطويل] ولست بمعراض إذا ما لقيته ... يعبّس كالغضبان حين يقول ... ولا بسبس كالعنز أطول رسلها ... ورئمانها يومان ثم يزول [4]
وقال أبو الأسود أيضا [5]: [من المتقارب] ومن خير ما يتعاطى الرجال ... نصيحة ذي الرّأي للمجتبيها ... فلا تك مثل التي استخرجت ... بأظلافها مدية أو بفيها ... فقام إليها بها ذابح ... ومن تدع يوما شعوب يجيها [6] ... فظلّت بأوصالها قدرها ... تحشّ الوليدة أو تشتويها [7]
وقال مسكين الدارميّ [8]: [من الطويل] إذا صبّحتني من أناس ثعالب ... لترفع ما قالوا منحتهم حقرا [9] ... فكانوا كعنز السّوء تثغو لحينها ... وتحفر بالأظلاف عن حتفها حفرا [10]
وقال الفرزدق [11]: [من الطويل]
[1] الساجسية: الضأن الحمر. الخوافي: السعفات اللواتي يلين القلبة. الغراير: الجوالق.
[2] الخبر في عيون الأخبار 1/ 147.
[3] ديوان أبي الأسود الدؤلي 137.
[4] الرّسل: اللبن. الرئمان: العطف.
[5] ديوان أبي الأسود الدؤلي 143.
[6] الشعوب: المنية. يجيها: يجئها.
[7] الأوصال: الأعضاء. تحش: أي تحش النار.
[8] ديوان مسكين الدارمي 38، والبيت الثاني منسوب إلى الأعور الشني في حماسة البحتري 286.
[9] الحقر: الاحتقار.
[10] الثغاء: صوت المعز والشاء. الحين: الهلاك.
[11] ديوان الفرزدق 249، والبيان 3/ 259، وتقدم البيت الثاني في ص 250، وسيأتي الأول في ص 313.(5/252)
وكان يجير الناس من سيف مالك ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها ... وكان كعنز السّوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت التراب تثيرها
1577 [أمنية أبي شعيب القلال]
وقال رمضان لأبي شعيب القلّال وأبو الهذيل حاضر: أيّ شيء تشتهي؟
وذلك نصف النهار، وفي يوم من صيف البصرة. قال أبو شعيب: أشتهي أن أجيء إلى باب صاحب سقط [1]، وله على باب حانوته ألية معلقة، من تلك المبزَّرة المشرّجة [2]، وقد اصفرّت، وودكها يقطر من حاقّ السّمن [3]، فآخذ بحضنها ثم أفتح لها فمي، فلا أزال كدما كدما، ونهشا نهشا، وودكها يسيل على شدقي، حتى أبلغ عجب الذّنب [4]! قال أبو الهذيل: ويلك قتلتني قتلتني!! يعني من الشهوة.
باب في الماعز
قال صاحب الماعز: في أسماء الماعز وصفاتها، ومنافعها وأعمالها، دليل على فضلها. فمن ذلك أن الصفية [5] أحسن من النعجة. وفي اسمها دليل على تفضيلها.
ولبنها أكثر أضعافا، وأولادها أكثر أضعافا، وزبدها أكثر وأطيب.
وزعم [6] أبو عبد الله العتبيّ أن التيس المشراطيّ قرع في يوم واحد نيّفا وثمانين قرعة. وكان قاطع الشهادة. وقد بيع من نسل المشراطيّ وغيره الجدي بثمانين درهما. والشاة بنحو من ذلك.
وتحلب خمسة مكاكيك وأكثر. وربما بيع الجلد جلد الماعز فيشتريه الباضوركي [7] بثمانين درهما وأكثر.
[1] السقط: ما لا خير فيه، وربما أراد به أحشاء الذبيحة.
[2] المبزرة: التي وضع فيها البزر. المشرجة: المشققة.
[3] حاق السمن: تمامه.
[4] عجب الذنب: أصله.
[5] الصفية: أنثى المعز.
[6] تقدم هذا الزعم ص 121.
[7] الباضوركي: لغة في البازر كان، وهي كلمة فارسية تعني المشتط في السوم والبيع.(5/253)
والشاة إذا كانت كذلك فلها غلّة نافعة تقوم بأهل البيت.
والنعال البقريّة من السّبت [1] وغير السّبت مقسوم نفعها بين الماعز والبقر، لأن للشّرك [2] من جلودها خطرا. وكذلك القبال والشّسع [3].
ووصف حميد بن ثور جلدا من جلودها، فقال [4]: [من الطويل] تتابع أعوام علينا أطبنها ... وأقبل عام أصلح الناس واحد ... وجاءت بذي أونين مازال شاته ... تعمّر حتى قيل هل مات خالد
وقال راشد بن سهاب [5]: [من الطويل] ترى رائدات الخيل حول بيوتنا ... كمعزى الحجاز أعوزتها الزّرائب
1578 [لحم الماعز والضأن]
ومن منافعها الانتفاع بشحم الثرب والكلية، وهما فوق شحم الألية. وإذا مدحوا اللحم قالوا: لحم الماعز الخصيّ الثّنيّ! وقال الشاعر [6]: [من الوافر] كأن القوم عشّوا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم
والممرورون الذين يصرعون، إذا أكلوا لحم الضأن اشتدّ ما بهم، حتى يصرعهم ذلك في غير أوان الصرع.
وأوان الصّرع الأهلّة وأنصاف الشهور. وهذان الوقتان هما وقت مدّ البحر وزيادة الماء. ولزيادة القمر إلى أن يصير بدرا أثر بين في زيادة الدّماء والأدمغة، وزيادة جميع الرطوبات [7].
[1] السبت: الجلد المدبوغ.
[2] الشرك: جمع شراك، وهو سير النعل.
[3] قبال النعل: زمام بين الإصبع الوسطى والتي تليها. الشسع: السير الذي يدخل في الثقب الكائن في صدر النعل.
[4] ديوان حميد بن ثور 67، وفيه «هزلنها» مكان «أطبنها»، و «ينعش» مكان «أصلح».
[5] وهم الجاحظ فالبيت للأخنس بن شهاب في المفضليات 206، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 724، وللحماسي في الأساس (زرب).
[6] البيت لذي الرمة في ملحق ديوانه 1097، وتقدم في 4/ 407، الفقرة (1161).
[7] الفقرة من قوله: «والممرورون الذين يصرعون» في عيون الأخبار 2/ 74.(5/254)
1579 [بعض الأمثال في المعز والضأن]
ويقال: «فلان ماعز من الرّجال» [1]، و «فلان أمعز من فلان». والعتاق معز الخيل، والبراذين ضأنها.
وإذا وصفوا الرّجل بالضعف والموق [2] قالوا: «ما هو إلا نعجة من النعاج».
ويقولون في التقديم والتأخير: «ما له سبد ولا لبد» [3].
وقال الشاعر [4]: [من الكامل] نشبي وما جمّعت من صفد ... وحويت من سبد ومن لبد ... همم تقاذفت الهموم بها ... فنزعن من بلد إلى بلد ... يا روح من حسمت قناعته ... سبب المطامع من غد وغد [5] ... من لم يكن لله متّهما ... لم يمس محتاجا إلى أحد
وهذا شعر رويته على وجه الدهر.
وزعم لي حسين بن الضّحّاك أنه له. وما كان ليدّعي ما ليس له.
وقال لي سعدان المكفوف: لا يكون: «فنزعن من بلد إلى بلد» بل كان ينبغي أن يقول: «فنازعن» [6].
1580 [فضل الماعز]
وقال: والماعزة قد تولّد في السنة مرتين، إلا ما ألقي منها في الدّياس [7]. ولها في الدّياس نفع موقعه كبير. وربما باعوا عندنا بطن الماعز [8] بثمن شاة من الضأن.
[1] رجل ماعز: إذا كان حازما مانعا ما وراءه شهما.
[2] الموق: الحمق.
[3] مجمع الأمثال 2/ 270، والمستقصى 2/ 331، والفاخر 21، وجمهرة الأمثال 2/ 267، وأمثال ابن سلام 388.
[4] الأبيات لحسين بن الضحاك في ديوانه 4847، والبيت الأخير لأبي نواس في ديوانه 161 «طبعة محمود فريد».
[5] الرّوح: الاستراحة والفرح والسرور. حسمت: قطعت.
[6] نازعن: غالبن وجاذبن. نزعن: انتقلن.
[7] الدّياس: الدوس، وهو شدة وطء الشيء بالأقدام، وداس الناس الحب وأداسوه: درسوه.
[8] أراد ما في بطنها من الحمل، وهو منهي عنه.(5/255)
قال: والأقط [1] للمعز. وقرونها هي المنتفع بها.
قال: والجدي أطيب من الحمل وأكرم. وربما قدموا على المائدة الحمل مقطوع الألية من أصل الذّنب ليوهموا أنه جدي.
وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وعقول الخلفاء فوق عقول الرّعية، وهم أبصر بالعيش، استعملوا ذلك أو تركوه فقال [2]: أترون أني لا أعرف الطيبات؟
لباب البرّ بصغار المعزى! وملوكنا يحمل معهم في أسفارهم البعيدة الصفايا الحوامل، المعروفات أزمان الحمل والوضع، ليكون لهم في كل منزل جداء معدّة. وهم يقدرون على الحملان السّمان بلا مؤونة.
والعناق الحمراء والجداء، هي المثل في المعز والطّيب. ويقولون: جداء البصرة، وجداء كسكر.
وسلخ الماعز على القصّاب أهون. والنّجّار يذكر في خصال السّاج [3] سلسه [4] تحت القدوم والمثقب والميشار.
1581 [أمارات حمل الشاة]
وقيل لأعرابي [5]: بأي شيء تعرف حمل شاتك؟ قال: إذا تورّم حياها ودجت [6] شعرتها واستفاضت خاصرتها.
وللداجي يقال: قد كان ذلك وقد دجا ثوب الإسلام [7]، وكان ذلك وثوب الإسلام داج.
[1] الأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض.
[2] الخبر في البيان 1/ 18.
[3] الساج: شجر يعظم جدّا، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق أمثال التراس الديلمية، يتغطى الرجل بورقة منه، فتكنه «أي تستره» من المطر، وله رائحة طيبة تشبه رائحة ورق الجوز «اللسان:
سوج».
[4] السلس: اللين والسهولة.
[5] ورد قول الأعرابي في عيون الأخبار 2/ 75، وتقدم في، 3/ 122، الفقرة (712).
[6] دجت شعرتها: طالت.
[7] دجا الإسلام: شاع وكثر، وانظر النهاية 2/ 103102، وما تقدم في 3/ 122، الفقرة (712).(5/256)
1582 [المرعزيّ وقرابة الماعزة من الناس]
قال: وللماعز المرعزيّ [1] وليس للضأن إلا الصوف.
والكساء كلها صوف ووبر وريش وشعر، وليس الصوف إلا للضأن.
وذوات الوبر كالإبل والثعالب، والخزز [2] والأرنب، وكلاب الماء، والسّمّور [3]، والفنك [4]، والقاقم [5]، والسّنجاب، والدّباب [6].
والتي لها شعر كالبقر والجواميس، والماعز، والظباء، والأسد، والنمور، والذئاب، والببور [7]، والكلاب، والفهود، والضباع، والعتاق، والبراذين، والبغال، والحمير، وما أشبه ذلك.
والإنسان الذي جعله الله تعالى فوق جميع الحيوان في الجمال والاعتدال، وفي العقل والكرم، ذو شعر.
فالماعزة بقرابتها من الناس بهذا المعنى أفخر وأكرم.
1583 [الماعز التي لا ترد]
وزعم الأصمعيّ أن لبني عقيل ما عزا لا ترد [8] فأحسب واديهم أخصب واد وأرطبه. أليس هذا من أعجب العجب؟!.
1584 [جلود الماعز]
ومن جلودها تكون القرب، والزّقاق [9]، وآلة المشاعل [10]، وكلّ نحي [11]
[1] المرعزي: شيء كالصوف يخلص من بين شعر العنز.
[2] الخزز: ذكر الأرانب.
[3] السمور: حيوان بري يشبه السنور، وزعم بعض الناس أنه النمس. حياة الحيوان 1/ 574.
[4] الفنك: دويبة يؤخذ منها الفرو. حياة الحيوان 2/ 175.
[5] القاقم: دويبة تشبه السنجاب، ويشبه جلده جلد الفنك. حياة الحيوان 2/ 195.
[6] الدباب: جمع دب.
[7] الببر: ضرب من السباع شبيه بابن آوى. حياة الحيوان 1/ 159.
[8] ترد: من ورود الماء.
[9] الزقاق: جمع زق، وهو كل وعاء اتخذ للشراب ونحوه.
[10] المشاعل: جمع مشعل: وهو شيء من جلود له أربع قوائم ينبذ فيه.
[11] النحي: الزق، وقيل: ما كان للسمن خاصة.(5/257)
وسعن [1]، ووطب [2]، وشكيّة [3] وسقاء، ومزادة، مسطوحة كانت أو مثلوثة [4].
ومنها ما يكون الخون [5]، وعكم السّلف [6]، والبطائن والجرب. ومن الماعزة تكون أنطاع [7] البسط، وجلال [8] الأثقال في الأسفار، وجلال قباب الملوك، وبقباب الأدم تتفاخر العرب. وللقباب الحمر قالوا: مضر الحمراء. وقال عبيد بن الأبرص [9]: [من البسيط] فاذهب إليك فإني من بني أسد ... أهل القباب وأهل الجرد والنادي [10]
1585 [الفخر بالماعز]
وقالوا: وفخرتم بكبشة وكبيشة وأبي كبشة [11]، فمنّا عنز اليمامة وعنز وائل، ومنا ماعز بن مالك، صاحب التوبة النّصوح.
وقال صاحب الماعز: وطعنتم على الماعزة بحفرها عن حتفها [12]، فقد قيل ذلك للضأن. من ذلك قول البكري للعنبريّة، وهي «قيلة» وصار معها إلى النبيّ فسأله الدّهناء [13]، فاعترضت عنه قيلة، فقال لها البكريّ: إني وإياك كما قال القائل [14]:
[1] السعن: قربة تشبه دلو السقائين.
[2] الوطب: سقاء اللبن، وهو جلد الجذع فما فوقه.
[3] الشكية: وعاء كالدلو أو كالقربة الصغيرة.
[4] المثلوثة: المزادة تكون من ثلاثة جلود.
[5] الخون: جمع خوان، وهي المائدة يوضع عليها الطعام.
[6] العكم: حبل يربط به. السلف: الجراب.
[7] النطع: بساط من الأديم.
[8] جلال كل شيء غطاؤه.
[9] ديوان عبيد بن الأبرص 49، والخزانة 11/ 257، وبلا نسبة في شرح المفصل 4/ 33.
[10] في ديوانه: «اذهب إليك: زجر، يريد: اذهب إلى قومك بدليل قوله: فإن من بني أسد أهل القباب، لأن السادة وحدهم الذين تضرب فوقهم القباب. الجرد: الخيل القليلة الشعر. أهل النادي: ذكره أيضا لأن السادة هم الذين يجتمعون فيه».
[11] انظر ما تقدم في ص 246.
[12] انظر ما تقدم في 253252، فقرة 1576 «ذم العنز في الشعر».
[13] الدهناء: واد في بلاد تميم ببادية البصرة.
[14] المثل برواية «حتفها تحمل ضأن بأظلافها»، وهو في مجمع الأمثال 1/ 192، وفصل المقال 456، والمستقصى 2/ 59، وأمثال ابن سلام 329، وهو برواية «كالباحثة عن حتفها بظلفها» في الأمثال لمجهول 87.(5/258)
«عن حتفها تبحث ضأن بأظلافها!»، فقالت له العنبرية: مهلا، فإنك ما علمت:
جوادا بذي الرّجل [1]، هاديا في الليلة الظلماء، عفيفا عن الرفيقة! فقال: لازلت مصاحبا بعد أن أثنيت عليّ بحضرة الرسول بهذا!.
1586 [ضرر الضأن ونفع الماعز]
وقالوا: والنعجة حرب [2]، واتّخاذها خسران، إلا أن تكون في نعاج سائمة، لأنها لا ترفع رأسها من الأكل. والنعجة آكل من الكبش، والحجر آكل من الفحل، والرّمكة آكل من البرذون. والنعجة لا يقوم نفعها بمؤونتها. والعنز تمنع الحيّ الجلاء [3]، فإن العرب تقول: إن العنوق [4] تمنع الحيّ الجلاء.
والصفيّة من العراب أغزر من بختية [5] بعيدا.
ويقال [6]: «أحمق من راعي ضأن ثمانين!».
1587 [كرم الماعز]
وأصناف أجناس الأظلاف وكرامها بالمعز أشبه، لأن الظّباء والبقر من ذوات الأذناب والشعر، وليست من ذوات الألايا [7] والصوف.
والشّمل [8]، والتعاويذ والقلائد، إنما تتّخذ للصفايا، ولا تتّخذ للنعاج، ولا يخاف على ضروعها العين والنفس.
والأشعار التي قيلت في الشاء إذا تأمّلتها وجدت أكثرها في المعز: في صفاياها وفي حوّها [9]، وفي تيوسها وفي عنوقها وجدائها.
[1] ذو الرجل: موضع في ديار كلب.
[2] الحرب: أن يسلب الرجل ما له.
[3] الجلاء: النزوح.
[4] العنوق: جمع عناق، وهي أنثى المعزى، إذا أتت عليها سنة.
[5] البختية: الخراسانية تنتج بين عربية وفالج.
[6] المثل في مجمع الأمثال 1/ 224، وأمثال ابن سلام 365، وجمهرة الأمثال 1/ 391، والمستقصى 1/ 79، والبرصان 213.
[7] الألايا: جمع ألية.
[8] الشمل: جمع شمال، وهو شبه مخلاة يغشى بها ضرع العنز إذا ثقل.
[9] الحو: جمع أحوى وحواء، والحوة: سواد إلى الخضرة.(5/259)
وقال مخارق بن شهاب المازنيّ وكان سيّدا كريما، وكان شاعرا فقال يصف تيس غنمه [1]: [من الطويل] وراحت أصيلانا كأنّ ضروعها ... دلاء وفيها واتد القرن لبلب [2] ... له رعثات كالشّنوف وغرّة ... شديخ ولون كالوذيلة مذهب [3] ... وعينا أحمّ المقلتين وعصمة ... ثنى وصلها دان من الظّلف مكثب [4] ... إذا دوحة من مخلف الضّال أربلت ... عطاها كما يعطو ذرى الضّال قرهب [5] ... تلاد رقيق الخدّ إن عدّ نجره ... فصردان نعم النّجر منه وأشعب [6] ... أبو الغرّ والحوّ اللواتي كأنها ... من الحسن في الأعناق جزع مثقّب [7] ... إذا طاف فيها الحالبان تقابلت ... عقائل في الأعناق منها تحلّب [8] ... ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وضيف ابن قيس جائع يتحوّب [9]
قال [10]: فوفد ابن قيس هذا، على النّعمان، فقال له: كيف المخارق فيكم؟
قال: سيّد شريف، من رجل يمدح تيسه، ويهجو ابن عمّه! وقال الراجز [11]: [من الرجز] أنعت ضأنا أمجرت غثاثا [12]
[1] الأبيات في عيون الأخبار 2/ 77، عدا البيتين (5، 7)، والأبيات (1، 2، 3، 6، 8) في محاضرات الأدباء 2/ 293 (4/ 647)، والأخير في العمدة 2/ 39، والبيان 4/ 43.
[2] الواتد: الثابت. اللبلب: ذو اللبلبة، أي الشفقة على المعزى.
[3] الرعثة: زنمة تحت الأذن. الشنف: القرط. غرة شديخ: غشت الوجه من الناصية إلى الأنف.
الوذيلة: المرآة، أو قطعة من الفضة مجلوة.
[4] العصمة: بياض في ذراعي الظبي أو الوعل. ثنى: اثنان.
[5] المخلف: من يخرج الخلفة، وهو الورق الذي يخرج بعد ورق. الضال: شجر. أربلت: كثر ربلها، والربل: ورق يتفطر في آخر القيظ ببرد الليل من غير مطر. القرهب: الثور الضخم.
[6] التلاد: الذي ولد عندك. البخر: الأصل والحسب. صردان وأشعب: آباء هذا التيس.
[7] الجزع: خرز فيه سواد وبياض.
[8] الأعناق الجماعات. التحلب: السيلان. وأراد غزارة لبنها.
[9] يتحوب: يتوجع.
[10] ورد هذا القول في عيون الأخبار 2/ 77، والعمدة 2/ 4039.
[11] الرجز بلا نسبة في تهذيب اللغة 2/ 337، وانظر الجمهرة 85، والتاج (رعل).
[12] الغث: الهزيل.(5/260)
والمجر: أن تشرب فلا تروى. وذلك من مثالبها.
وقال رجل لبعض ولد سليمان بن عبد الملك: ماتت أمّك بغرا، وأبوك بشما [1].
وقال أعرابي [2]: [من الكامل] مولى بن تيم، ألست مؤدّيا ... منيحتنا كما تؤدّى المنائح [3] ... فإنّك لو أدّيت صعدة لم تزل ... بعلياء عندي، ما ابتغي الرّبح رابح [4] ... لها شعر داج وجيد مقلّص ... وخلق زخاريّ وضرع مجالح [5] ... ولو أشليت في ليلة رجبيّة ... لأرواقها هطل من الماء سافح [6] ... لجاءت أمام الحالبين وضرعها ... أمام صفاقيها مبدّ مضارح [7] ... وويل أمّها كانت نتيجة واحد ... ترامى بها بيد الإكام القراوح [8]
1588 [أصناف الظلف وأصناف الحافر]
ليس سبيل أصناف الظّلف في التشابه سبيل أصناف الحافر، والخفّ. واسم النّعم يشتمل على الإبل والبقر والغنم. وبعد بعض الظلف من بعض، كبعده من الحافر والخف لأن الظلف للضأن والمعز والبقر والجواميس والظّباء والخنازير وبقر الوحش، وليس بين هذه الأجناس تسافد ولا تلاقح، لا الغنم في الغنم من الضأن والماعز، ولا الغنم في سائر الظلف ولا شيء من سائر تلك الأجناس تسافد غيرها أو تلاقحها. فهي تختلف في الصوف والشعر، وفي الأنس والوحشة، وفي عدم التلاقح والتسافد، وليس كذلك الحافر والخفّ.
[1] البغر: المجر، وقد فسرها الجاحظ آنفا. البشم: التخمة عن الدسم.
[2] الأبيات لجبيهاء الأشجعي في المفضليات 168167، والأغاني 18/ 97.
[3] المنيحة: الناقة يمنحها الرجل صاحبه ليحتلبها ثم يردها. ثم كثر ذلك حتى قيل للهبة منيحة.
[4] صعدة: اسم العنز التي منحه إياها.
[5] مقلص: طويل. الزخاري: الكثير اللحم والشحم. الضرع المجالح: الذي يدر على الجوع والقر.
[6] أشليت: دعيت، أي للحلب. رجبية: ليلة من ليالي الشتاء. لأرواقها: لسحابها.
[7] الصفاقان: ما اكتنف الضرع من عن يمين وشمال إلى السرة. المبد: الذي يوسع ما بين رجليها لعظمه. مضارح: من الضرح، وهو التنحية والدفع.
[8] ويل أمها: تعجب منها، والعرب كانت تمدح الرجل بذلك. البيد: جمع بيداء. القرواح: جمع قرواح، وهو المنبسط من الأرض لا يستتر منه شيء.(5/261)
1589 [رجز في العنز]
وقال الراجز [1]: [من الرجز] لهفي على عنزين لا أنساهما ... كأنّ ظلّ حجر صغراهما ... وصالغ معطرة كبراهما
قوله: صالغ، يريد انتهاء السنّ. والمعطرة: الحمراء مأخوذة من العطر. وقوله:
«كأن ظلّ حجر صغراهما» يريد أنها كانت سوداء، لأن ظلّ الحجر يكون أسود، وكلما كان الساتر أشدّ اكتنازا كان الظلّ أشدّ سوادا.
1590 [أظل من حجر]
وتقول العرب: ليس شيء أظلّ من حجر [2]، ولا أدفأ من شجر [3]، وليس يكون ظلّ أبرد ولا أشدّ سوادا من ظلّ جبل. وكلما كان أرفع سمكا، وكان مسقط الشمس أبعد، وكان أكثر عرضا وأشدّ اكتنازا، كان أشدّ لسواد ظله.
ويزعم المنجّمون أن الليل ظلّ الأرض، وإنما اشتدّ جدّا لأنه ظلّ كرة الأرض.
وبقدر ما زاد بدنها في العظم ازداد سواد ظلّها.
وقال حميد بن ثور [4]: [من الطويل] إلى شجر ألمى الظلال كأنها ... رواهب أحرمن الشراب عذوب
والشفّة الحمّاء يقال لها لمياء. يصفون بذلك اللّثة. فجعل ظلّ الأشجار الملتفّة ألمى.
[1] الرجز بلا نسبة في اللسان والتاج (عطر)، والتهذيب 2/ 164. ومحاضرات الأدباء 2/ 293 (4/ 646).
[2] في مجمع الأمثال 1/ 447 «أظل من حجر»، وفي الدرة الفاخرة 2/ 438 «أكثف ظلّا من حجر» وذلك لكثافة ظله، وانظر ثمار القلوب (802)، وعيون الأخبار 4/ 41، والأمالي 2/ 12، والتنبيه للبكري 90.
[3] في الدرة الفاخرة 1/ 198، وجمهرة الأمثال 1/ 443، 456: «أدفأ من شجرة».
[4] ديوان حميد بن ثور 57، واللسان والتاج (حرم، لمى)، وديوان الأدب 4/ 97، وكتاب الجيم 3/ 219، وبلا نسبة في الأساس (لمي).(5/262)
1591 [أقط الماعز]
وقال امرؤ القيس بن حجر [1]: [من الوافر] لنا غنم نسوقّها غزار ... كأنّ قرون جلّتها العصيّ [2]
فدلّ بصفة القرون على أنها كانت ماعزة. ثم قال:
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ [3]
فدلّ على أن الأقط منها يكون.
1592 [استطراد لغوي]
وقال: ويقال لذوات الأظلاف: قد ولّدت الشاة والبقرة، مضمومة الواو مكسورة اللام مشدودة. يقال هذه شاة تحلب قفيزا، ولا يقال تحلب، والصواب ضم التاء وفتح اللام.
ويقال أيضا: وضعت، في موضع ولّدت. وهي شاة زبّى، من حين تضع إلى خمسة عشر يوما وقال أبو زيد: إلى شهرين من غنم رباب، مضمومة الرّاء على فعال، كما قالوا: رجل ورجال، وظئر وظؤار وهي ربّى بيّنة الرّباب والرّبّة بكسر الرّاء، ويقال هي في ربابها. وأنشد [4]: [من الرجز] حنين أمّ البوّ في ربابها [5]
والرّباب مصدر، وفي الرّبى حديث عمر: «دع الرّبّى والماخض والأكولة» [6].
وقال أبو زيد: ومثل الرّبّى من الضأن الرّغوث، قال طرفة [7]: [من الوافر]
[1] ديوان امرئ القيس 137136، وعيون الأخبار 2/ 76، والبخلاء 123، ومحاضرات الأدباء 2/ 293 (4/ 647)، والأول في اللسان والتاج (سوق)، والأساس (جلل)، والثاني في الأمالي 1/ 18، واللسان (وسع، سمن)، والتاج (وسع، شبع، سمن)، وديوان الأدب 1/ 132.
[2] الجلة: جمع جليل، وهو المسن من الغنم وغيرها.
[3] الأقط: شيء يصنع من اللبن المخيض على هيئة الجبن.
[4] الرجز بلا نسبة في اللسان والتاج (ربب)، والتهذيب 15/ 181، والمخصص 7/ 178.
[5] البو: ولد الناقة، أو جلده يحشى تبنا أو نحوه لتعطف عليه فتدر.
[6] الحديث في النهاية 2/ 180، 4/ 306.
[7] ديوان طرفة بن العبد 48، واللسان (رغث، خور)، والتاج (رغث)، والمقاييس 2/ 416، والتهذيب 8/ 90، والمخصص 7/ 49، 178، والمجمل 2/ 399، والأساس (رغث).(5/263)
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبّتنا تخور
وقالوا: إذا وضعت العنز ما في بطنها قيل سليل ومليط. وقال أبو زيد: هي ساعة تضعه من الضأن والمعز جميعا، ذكرا كان أو أنثى: سخلة، وجمعها سخل وسخال. فلا يزال ذلك اسمه ما رضع اللبن، ثم هي البهمة للذكر والأنثى، وجمعها بهم. وقال الشاعر [1]: [من البسيط] وليس يزجركم ما توعظون به ... والبهم يزجرها الراعي فتنزجر
ويروى: «يزجر أحيانا». وإذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمهاتها، وأكلت من البقل واجترّت، فما كان من أولاد المعز فهو جفر، والأنثى جفرة، والجمع جفار.
ومنه حديث عمر رضي الله عنه، حين قضى في الأرنب يصيبها المحرم بجفر [2].
فإذا رعى وقوي وأتى عليه حول فهو عريض، وجمعه عرضان. والعتود نحو منه، وجمعه أعتدة وعتدان. وقال يونس: جمعه أعتدة وعتد. وهو في ذلك كلّه جدي، والأنثى عناق. وقال الأخطل [3]: [من البسيط] واذكر غدانة عتدانا مزنّمة ... من الحبلّق يبنى حولها الصّير [4]
ويقال له إذا تبع أمّه وفطم: تلو، والأنثى: تلوة لأنه يتلو أمّه.
ويقال للجدي: إمّر والأنثى أمّرة. وقالوا: هلّع وهلّعة. والبدرة: العناق أيضا.
والعطعط: الجدي. فإذا أتى عليه الحول فالذكر تيس والأنثى عنز. ثم يكون جذعا في السّنة الثانية، والأنثى جذعة. ثم ثنيّا في الثالثة، والأنثى ثنيّة. ثم يكون رباعيا في الرابعة، والأنثى رباعية. ثم يكون سديسا، والأنثى سديس أيضا مثل الذكر بغير هاء.
ثم يكون صالغا والأنثى صالغة. والصالغ بمنزلة البازل من الإبل، والقارح من الخيل.
ويقال: قد صلغ يصلغ صلوغا، والجمع الصّلّغ. وقال رؤبة [5]: [من الرجز]
[1] البيت بلا نسبة في ربيع الأبرار 5/ 311.
[2] في النهاية 1/ 278: «في الأرنب يصيبها المحرم جفرة».
[3] ديوان الأخطل 209، واللسان (حبلق، غدن)، والتاج (صير، حبلق، غدن)، والمقاييس 4/ 217، والتهذيب 2/ 196، 5/ 303، 12/ 230، وديوان الأدب 2/ 88، وبلا نسبة في اللسان (عتد، صير).
[4] في ديوانه: «غدانة: ابن يربوع. الحبلق: أولاد المعز الصغار الأجسام القصار. الصير: الحظائر».
[5] ديوان رؤبة 98، واللسان (رزع، صلغ)، والتاج (كبش، رزغ، صلغ).(5/264)
والحرب شهباء الكباش الصّلّغ
وليس بعد الصالغ شيء.
وقال الأصمعيّ: الحلّام والحلّان من أولاد المعز خاصة. وجاء في الحديث [1]:
«في الأرنب يصيبها المحرم حلّام». قال ابن أحمر [2]: [من البسيط] تهدي إليه ذراع البكر تكرمة ... إمّا ذكيّا وإمّا كان حلّانا
ويروى: «ذراع الجدي» ويروى: «ذبيحا»، والذبيح هو الذي أدرك أن يضحّى به. وقال مهلهل بن ربيعة [3]: [من الرجز] كلّ قتيل في كليب حلّام ... حتى ينال القتل آل همام [4]
وقالوا في الضأن كما قالوا في المعز، إلا في مواضع. قال الكسائي: هو خروف، في موضع العريض، والأنثى خروفة. ويقال له حمل، والأنثى من الحملان رخل والجمع رخال، كما يقال ظئر وظؤار وتوءم وتؤام. والبهمة: الضأن والمعز جميعا.
فلا يزال كذلك حتى يصيف. فإذا أكل واجترّ فهو فرير وفرارة وفرفور، وعمروس.
وهذا كله حين يسمن ويجتر. والجلام، بكسر الجيم وتعجيم نقطة من تحت الجيم. قال الأعشى [5]: [من المتقارب] سواهم جذعانها كالجلام ... وأقرح منها القياد النسورا
يعني الحوافر.
واليعر: الجدي، بإسكان العين، وقال البريق الهذليّ [6]: [من الطويل]
[1] الحديث لعمر بن الخطاب في النهاية 1/ 278، وانظر الحاشية الثانية، ص السابقة 264.
[2] ديوان عمرو بن أحمر 155، واللسان (حلن)، والتنبيه والإيضاح 1/ 234، والتهذيب 3/ 439، والتاج (ذبح، حلل، حلن)، والمخصص 7/ 187، 13/ 284، وديوان الأدب 1/ 337، والأمالي 2/ 90، والسمط 725، والمعاني الكبير 683، وبلا نسبة في الجمهرة 1232، واللسان (حلن)، والعين 3/ 28، والمقاييس 1/ 21، والمجمل 2/ 22.
[3] الرجز للمهلهل في الأغاني 5/ 47، والأمالي 2/ 90، واللسان والتاج (حلم)، وبلا نسبة في الجمهرة 566، 1232، والمجمل 2/ 97، والمخصص 6/ 96.
[4] في الأمالي 2/ 90: «يقول: كل قتيل صغير ليس هو بوفاء من كليب بمنزلة الحلّام الذي ليس بوفاء أن يذبح للنسك، حتى نال القتل آل همام فإنهم وفاء به».
[5] ديوان الأعشى 149، واللسان (نسر، جلم)، والتاج (جلم)، والتهذيب 11/ 102، والمقاييس 1/ 467، والمجمل 1/ 446، وبلا نسبة في المخصص 6/ 145، 7/ 187.
[6] صدر البيت: (أسائل عنهم كلما جاء راكب)، وهو للبريق الهذلي في شرح أشعار الهذليين(5/265)