في هذا الموضع، إنما قال: {وما يشعركم}؟ ثم ابتدأ فأوجب فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون. ولو قال: {وما يشعركم أنها}
كان ذلك عنه (1) عذرا لهم، وأهل المدينة يقولون: أنها * فقال الخليل: هي بمنزلة قول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا. أي: لعلّك، فكأنه قال: لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون (2).
قوله (3): {وما يشعركم} ما * فيه استفهام، وفاعل {يشعركم} ضمير ما *، ولا يجوز أن يكون نفيا، لأن الفعل فيه يبقى بلا فاعل.
فإن قلت: يكون نفيا ويكون فاعل {يشعركم} ضمير اسم الله تعالى (4): قيل: ذلك لا يصحّ، لأن التقدير يصير: وما يشعركم الله انتفاء إيمانهم، وهذا لا يستقيم.
ألا ترى أن الله تعالى (5) قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله:
{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} [الأنعام / 111]، فالمعنى: ما (6) يدريكم إيمانهم إذا جاءت، فحذف المفعول، وحذف المفعول كثير والتقدير: ما (7) يدريكم إيمانهم إذا
__________
(1) سقطت من (ط). ومن سيبويه.
(2) انظر سيبويه 1/ 462، 463.
(3) وسقطت من (م).
(4) في (ط): عز وجل.
(5) في (ط): سبحانه.
(6) في (ط): وما.
(7) في (ط): وما.(3/377)
جاءت: أي: هم لا يؤمنون، مع مجيء الآية إياهم.
فأما {يشعركم}، فإنك تقول: شعرت بالشيء كما تقول:
دريت به، وقال: دريته، فيجوز أن يكون شعرت مثله في أنه يتعدّى مرة بحرف، ومرّة بلا حرف كدريت، فمن عدّاه بالحرف جاز أن يكون أنّ في قول من لم يجعله بمعنى: لعلّ، في موضع جر، لأن الكلام لما طال صار كالبدل منه (1) وجاز أن يكون في موضع نصب.
فأما قراءة ابن كثير وأبي عمرو: فالتقدير فيها: وما يشعركم إيمانهم. فحذف المفعول، أي: لو جاءت الآية التي اقترحوها لم يؤمنوا، ثم قال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون [الأنعام / 109]، كما قال: {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله}
[الأنعام / 111] [أي: إلّا أن يشاء إجبارهم على الإيمان] (2).
ولو فتح أنّ، وجعلها التي في نحو: بلغني أن زيدا منطلق، لكان عذرا لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل: إنّ زيدا لا يؤمن، فقلت: ما يدريك أنه لا يؤمن، فالمعنى أنه: يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذرا لمن نفى الإيمان عنه.
فأما وجه قراءة من فتح أنّ، فإن في فتحها تأويلين:
أحدهما: أن يكون بمعنى لعلّ كقوله (3):
__________
(1) في (ط): منها.
(2) سقط ما بين معقوفين من (ط).
(3) البيت لأبي النجم وقد ورد شطره الثاني عند سيبويه 1/ 460وفي(3/378)
قلت لشيبان ادن من لقائه
أنّا نغدّي القوم من شوائه
أي: لعلنا. وقال آخر (1):
أريني جوادا مات هزلا لأنني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا
وقال الفرزدق (2):
هل انتم عائجون بنا لأنّا
نرى العرصات أو أثر الخيام (3)
__________
الإنصاف 2/ 591برواية: كما تغدّي الناس من شوائه.
على أن كما هنا معناها لعل.
(1) البيت سبق في 2/ 225وانظر اللسان (أنف).
(2) في (م): وقال آخر.
(3) ديوان الفرزدق 835مطلع قصيدة مدح بها هشام بن عبد الملك وهجا جريرا، وروايته فيه «لعنا» بدل «لأنا».
وفي الإنصاف 224ورواية صدره فيه: ألا يا صاحبي قفا لغنا قال ابن الأنباري: تلعبت العرب بهذه الكلمة فقالوا: لعلّ، ولعلن، ولعنّ بالعين غير المعجمة ولغن بالغين معجمة ورعنّ، وعن، وغن، ولغلّ، وغلّ. أهـ منه. ولم يورد فيها اللغة التي أوردها الفارسي، والتي هي من إبدال العين همزة.
وانظر التصريح على التوضيح 1/ 192وشرح شواهد الشافية 466، واللسان (لغن).
وقد ورد البيت مفردا. برواية المصنف في ديوان جرير (ط الصاوي) ص 565وفي اللسان (أنن) كذلك.(3/379)
فالمعنى: وما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، وهذا ما (1) فسّره الخليل في قوله: ائت السوق أنّك تشتري لنا شيئا، أي: لعلّك، وقال عديّ بن زيد (2):
أعاذل ما يدريك أن منيّتي
إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
وفسّر على (3): لعل منيّتي. ويدل على صحة ذلك وجودته في المعنى: أنه قد جاء في التنزيل لعل بعد العلم، وذلك قوله: {وما يدريك لعله يزكى} [عبس / 3]، {وما يدريك لعل الساعة قريب} [الشورى / 17]، فكما جاء لعلّ بعد العلم، كذلك يكون (4) {أنها إذا جاءت} بمنزلة: لعلّها إذا جاءت.
والتأويل الآخر لم يذهب إليه الخليل وسيبويه، وهو أن يكون أنّها في قوله: {أنها إذا جاءت لا يؤمنون} أنّ الشديدة التي تقع بعد الأفعال التي هي عبارات عن ثبات الشيء وتقرّره نحو: علمت، وتبينت، وتيقنت، على أن تكون لا زائدة فيكون التقدير: وما يشعركم أنّها إذا جاءت يؤمنون (5).
والمعنى على هذا (6) أنها: لو (7) جاءت لم يؤمنوا. ومثل
__________
(1) سقطت ما من ط.
(2) انظر اللسان مادة / أنن /.
(3) سقطت «على من (ط).
(4) في (ط): تكون.
(5) في (م): لا يؤمنون، والوجه ما في (ط).
(6) سقطت من (م).
(7) في (م): «إذ» بدل: «لو».(3/380)
لا هذه في أنها تكون في تأويل: زائدة، وفي أخرى: غير زائدة. قول الشاعر (1):
أبا جوده لا البخل واستعجلت به
نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
ينشد: أبا جوده لا البخل، ولا البخل، فمن نصب البخل جعلها زائدة، كأنه قال: أبا جوده البخل، ومن قال: لا البخل، أضاف «لا» إلى البخل (2).
ومثل هذه الآية في أنّ لا فيها زائدة قوله: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} [الأنبياء / 95] فهذه تحتمل تأويلين: تكون لا في أحدهما زيادة (3)، وأنّ في موضع رفع بأنّه خبر المبتدأ الذي هو: حرام * والمعنى: وحرام على قرية أنهم لا يرجعون، أي: أنّهم يرجعون، والتقدير: وحرام على قرية مهلكة رجوعهم إلى أهلهم كما قال:
{فلا يستطيعون توصية، ولا إلى أهلهم يرجعون}
[يس / 50]، فلا * على هذا التأويل زيادتها كزيادتها في قوله:
{لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد / 29]، وكزيادتها في قول الشاعر (4):
__________
(1) سبق في 1/ 69وانظر معاني القرآن للأخفش، ص 294.
(2) قال الأخفش: أراد أبى جوده «لا» التي هي للبخل، لأن «لا» قد تكون للجود والبخل، لأنه لو قال: امنع الحق، أو: لا تعط المساكين، فقال:
لا، كان هذا جودا منه.
(3) في (ط): زائدة.
(4) سبق في 1/ 164.(3/381)
أفعنك لا برق كأنّ وميضه
غاب تسنّمه ضرام مثقب
والوجه الآخر: أن تكون لا غير زائدة، ولكنها متصلة بأهلكنا، كأنه قال (1): وحرام على قرية أهلكناها بأنّهم لا يرجعون، أي: أهلكناهم بالاصطلام والاستئصال بأنّهم (2) إنما لا يرجعون إلى أهليهم للاستئصال الواقع بهم والإبادة لهم.
وخبر المبتدأ على هذا محذوف تقديره: وحرام على قرية أهلكناها بالاستئصال بقاؤهم أو حياتهم، ونحو ذلك، مما يكون في الكلام دلالة عليه، فهذه في أحد التأويلين مثل قوله: {أنها إذا جاءت لا يؤمنون} وأنت تريد به يؤمنون.
الانعام: 109
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى (3): {لا يؤمنون}.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائيّ: {لا يؤمنون}
بالياء. وروى حفص عن عاصم، وحسين الجعفي (4) عن أبي بكر عن عاصم بالياء أيضا.
وقرأ ابن عامر وحمزة: لا تؤمنون بالتاء (5).
وجه القراءة بالياء: أن قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} [الأنعام / 109] إنّما يراد به قوم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): لأنهم.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (م).
(5) السبعة ص 265.(3/382)
مخصوصون. يدلّك على ذلك قوله: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى} [الأنعام / 111]، وليس كل الناس بهذا الوصف فالمعنى: وما يشعركم أيها المؤمنون، لعلّهم (1) إذا جاءت (2) الآية التي اقترحوها (3) لم يؤمنوا، قال: وجه (4) الياء في قوله: {لا يؤمنون} أنّ (5) المراد بمن نفى عنه الإيمان، هم الغيب المقسمون، والوجه على هذا: لا يؤمنون، أي: لا يؤمن هؤلاء الغيب المقسمون، وليس الخطاب للمؤمنين فيكون قوله:
لا تؤمنون بالتاء.
ووجه القراءة بالتاء: أنه انصراف من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بالمخاطبين في يؤمنون هم الغيب المقسمون الذي أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون مثل قوله {الحمد لله} [الفاتحة / 1]، ثم قال: {إياك نعبد} ونحو ذلك مما يصرف إلى الخطاب بعد الغيبة.
الانعام: 111
اختلفوا في ضمّ القاف وكسرها من قوله تعالى (6): {كل شيء قبلا} [الأنعام / 111].
فقرأ نافع وابن عامر: كل شيء قبلا، والعذاب قبلا [الكهف / 55] بكسر القاف فيهما (7)، وفتح الباء.
__________
(1) في (ط): لعله.
(2) في (ط): جاءتهم.
(3) في (ط): اقترحوا.
(4) في (م): فالوجه.
(5) في (م): يؤمنون لأن.
(6) في (ط): عز وجل.
(7) في (ط): منهما.(3/383)
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {كل شيء قبلا} (1)
و {العذاب قبلا}.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {كل شيء قبلا} مضمومة القاف، والعذاب قبلا مكسورة القاف (2).
قال أبو زيد: يقال: لقيت فلانا قبلا، ومقابلة، وقبلا، وقبلا، وقبليّا، وقبيلا، وكلّه واحد وهو المواجهة (3)، فالمعنى في القراءتين على ما قاله أبو زيد واحد وإن اختلفت الألفاظ.
وقال أبو عبيدة: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا} جماعة قبيل أي: أصناف، أو يأتيهم العذاب قبلا [الكهف / 55] أي معاينة (4).
فوجه قراءة نافع وابن عامر كل شيء قبلا والعذاب قبلا: أن المعنى: لو حشرنا عليهم كلّ شيء معاينة، أو أتاهم العذاب معاينة، لم يؤمنوا. كأنّهم من شدّة عنادهم وتركهم الإذعان، والانقياد للحق يشكّون في المشاهدات التي لا شكّ فيها.
ومثل قوله: أو يأتيهم العذاب قبلا أي: معاينة، قوله:
{فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم، قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} [الأحقاف / 24]،
__________
(1) في (ط): مضمومة القاف.
(2) السبعة ص 266265.
(3) النوادر ص 570569 (ط. الفاتح).
(4) مجاز القرآن 1/ 204والنقل عنه بتصرف.(3/384)
وقوله: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم}
[الطور / 44].
وقراءة عاصم. وحمزة، والكسائي: {كل شيء قبلا}، يحتمل ثلاثة أضرب:
يجوز أن يكون قبلا جمع قبيل، الذي يعنى به الكفيل، ويجوز أن يكون جمع قبيل الذي يعنى به الصنف، كما فسّره أبو عبيدة، ويجوز أن يكون قبلا بمعنى قبل، كما فسّره أبو زيد. فليس بالسهل أن يحمل على القبيل الذي هو الكفيل لأنهم إذا لم يؤمنوا مع إنزال الملائكة إليهم، وأن يكلّمهم الموتى، مع أن ذلك (1) مما يبهر ظهوره، ويضطرّ مشاهدته، فأن لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول لا يبهر ولا يضطرّ، ويجوز أن لا يصدّق، أجدر.
فإن قلت: إن موضع الآية الباهرة في قول من حمل {قبلا} على أنه جمع قبيل الذي هو الكفيل، هو حشر كلّ شيء. وفي الأشياء المحشورة ما ينطق وما لا ينطق، فإذا نطق بالكفالة من لا (2) ينطق، كان ذلك موضع بهر الآية فهو قول.
وأمّا إذا حملت قوله: {قبلا} على أنّه جمع القبيل الذي هو الصنف، كما قال أبو عبيدة، فإنّ موضع إبانة الآية حشر جميع الأشياء جنسا جنسا، وجميع الأشياء ليس في العرف أن تجتمع
__________
(1) في (ط): ذاك.
(2) في (ط): ما لا ينطق.(3/385)
وتنحشر إلى موضع، فموضع ما يبهر هو اجتماعها، مع أنّ ذلك ليس في العرف.
وإن حملت قوله: {قبلا} على أنّه بمعنى، قبل، أي:
مواجهة، كما فسره أبو زيد، فإن قبلا حال من المفعول به، والمعنى: حشرناه مواجهة ومعاينة، وهو في المعنى كقراءة نافع وابن عامر قبلا *: معاينة.
فأما قراءة عاصم وحمزة والكسائي {أو يأتيهم العذاب قبلا} [الكهف / 55] فمعناه: مواجهة، ولا يجوز أن يكون القبيل الذي يراد به الكفيل، ولا يمتنع أن يكون جمع قبيل الذي هو الصنف، فيكون المعنى: أو يأتيهم العذاب صنفا صنفا، فمما (1) جاء القبل فيه بمعنى المقابلة قوله: {إن كان قميصه قد من قبل} [يوسف / 26] ألا ترى أنه قد قوبل به قوله: {قد من دبر} [يوسف / 27].
فأما قوله: {أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} [الإسراء / 92] فلا يخلو من أن يكون بمعنى الكفيل، أو يكون معناه معاينة، كما حكاه أبو زيد. فإذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدرا كالنذير والنكير، وهو في موضع حال من المفعول به، ولو أراد به الكفيل لكان خليقا أن يجمع على: فعلاء كما قالوا: كفلاء، لأنّه في الأصل صفة، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء.
ويدلّ على أن المراد بالقبيل: المعاينة لا الكفيل قوله: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا}
__________
(1) في (ط): ومما.(3/386)
[الفرقان / 21] وكما اقترح ذلك غيرهم في قوله: {أرنا الله جهرة} [البقرة / 55].
وأما قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا} (1) [الأنعام / 111]. فعلى الأضرب الثلاثة التي مضى ذكرها.
وقراءتهما: العذاب قبلا [الكهف / 55]، فعلى المعاينة كما قال أبو زيد وأبو عبيدة.
الانعام: 114
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: {إنه منزل من ربك}
[الأنعام / 114] مشدّدة الزاي، وخفّفها الباقون، وأبو بكر عن عاصم أيضا (2).
حجّة التشديد: {تنزيل الكتاب من الله} [الجاثية / 2]، وحجة التخفيف: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم}
[النحل / 64] و: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه}
[النساء / 166].
الانعام: 115
اختلفوا في التوحيد والجمع في قوله (3): وتمت كلمات ربك [الأنعام / 115]، في أربعة مواضع:
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وتمت كلمات ربك جماعا، وفي يونس {حقت عليهم كلمت ربك} في الموضعين [9633]، وفي حم * المؤمن [6] كلمة ربك *. على واحدة.
__________
(1) قوله: {ما كانوا ليؤمنوا} سقط من (م).
(2) السبعة 266.
(3) في (ط) من قوله عز وجل.(3/387)
وقرأ نافع وابن عامر هذه المواضع الأربعة كلّها كلمات * جماعة.
وقرأهنّ عاصم وحمزة والكسائيّ بالتوحيد كلمة *، ولم يختلفوا في غير هذه المواضع الأربعة (1).
الكلمة والكلمات والله أعلم ما جاء من (2) وعد، ووعيد، وثواب، وعقاب، فلا تبديل فيه ولا تغيير له، كما قال:
{ما يبدل القول لدي} [ق / 29]، وقال: {لا مبدل لكلماته}
[الكهف / 27]. فكأنّ (3) التقدير، وتمّت ذوات الكلمات، ولا يجوز أن يعنى بالكلمات الشرائع هنا، كما عني بقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} [البقرة / 124]، وقوله:
{وصدقت بكلمات ربها} [التحريم / 12]، لأنه قد قال: {لا مبدل لكلماته}، والشرائع يجوز فيها النسخ والتبديل.
و {صدقا، وعدلا} مصدران ينتصبان على الحال من الكلمة، تقدير ذلك: صادقة وعادلة، وقد قدّمنا شيئا من القول فيما تقدم من هذا الكتاب.
ووجه قراءة ابن كثير وأبي عمرو: وتمت كلمات ربك جماعا، وفي سورة يونس {حقت عليهم كلمت ربك} في الموضعين، وفي حم * (4) المؤمن: {حقت كلمة ربك} على
__________
(1) السبعة 266.
(2) في ط: في.
(3) في (م): وكان.
(4) سقطت من (م).(3/388)
واحد. وقرأ نافع وابن عامر هذه المواضع كلّها: كلمات * جماعة. وجه جميع (1) ذلك: أنّه لما كان جمعا كان في المعنى جمعا.
ووجه الإفراد أنهم قد قالوا: الكلمة، يعنون (2) الكثرة كقولهم: قال زهير في كلمته، يعني: قصيدته، وقال قسّ في كلمته، يعني: خطبته، فقد وقع المفرد على الكثرة، فلما كان كذلك أغنى عن الجمع، وممّا جاء على ذلك قوله: {وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا}
[الأعراف / 137]، فإنما هو، والله أعلم، قوله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} إلى آخر الآية [القصص / 5]. فسمي هذا القصص كلّه كلمة.
وقال مجاهد [في قوله] (3): {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها} [الفتح / 26]، قال: لا إله إلّا الله. فإذا وقعت الكلمة على الكثرة، جاز أن يستغنى بها عن لفظ الجميع (4)، وجاز أن يجمع على المعنى من حيث كان في المعنى جمعا.
وأما قراءة عاصم وحمزة والكسائي بالتوحيد (5)، فهو على ما ذكرنا من أنّ الكلمة قد جاءت يراد بها الكثرة والجمع،
__________
(1) في (ط): جمع.
(2) في (م) يعني.
(3) سقطت من (م).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): بالتوحيد كله فهو(3/389)
ويؤكد ذلك أمر آخر وهو أن المضاف قد يقع على الكثرة في نحو قوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم / 34].
الانعام: 119
اختلفوا في ضمّ الفاء والحاء من قوله عز وجل (1): وقد فصل لكم ما حرم عليكم [الأنعام / 119] ونصبهما.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: وقد فصل لكم ما حرم عليكم. مرفوعتان جميعا.
وقرأ نافع، وعاصم في رواية حفص: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} بنصبهما جميعا.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائيّ: وقد فصل بفتح الفاء، ما حرم عليكم بضم الحاء (2).
حجة من ضمّ الحاء من حرم * و [الفاء من] (3) فصل * قوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}
[المائدة / 3]: فهذا تفصيل هذا العام المجمل بقوله: حرم * فكما أن الاتفاق هاهنا على {حرمت} {الميتة} كذلك يكون الذي أجمل فيه في قوله: وقد حرم عليكم على ما فصّل (4)، وكما وجب حرم بضم الحاء لقوله: {حرمت عليكم الميتة}، كذلك ضمّ فصل * لأنّ هذا المفصّل هو ذلك المحرّم الذي قد أجمل في هذه الآية ذكره. وقال: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب}
__________
(1) سقطت من (م).
(2) السبعة 267.
(3) سقط ما بين معقوفين من (ط) وفيها حرّم وفصّل.
(4) عبارة (ط): في قوله: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم}.(3/390)
{مفصلا} [الأنعام / 114] فمفصلا يدل على فصّل.
وحجة نافع وعاصم في إحدى الروايتين عنه في: {فصل لكم ما حرم عليكم} قوله: {قد فصلنا الآيات} [الأنعام / 97] وحجّتهما في حرم * قوله: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} [الأنعام / 151]، {الذين يشهدون أن الله حرم هذا}
[الأنعام / 150].
ويدلّ على الفتح قوله: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم} [الأنعام / 119] ينبغي أن يكون الفعل مبنيا للفاعل لتقدم ذكر اسم الله تعالى (1).
ووجه قراءة عاصم في إحدى الروايتين وحمزة والكسائيّ وقد فصل لكم ما حرم بضم الحاء وفتح الفاء قوله: {قد فصلنا الآيات}.
ووجه حرم * قوله: {حرمت عليكم الميتة}
[المائدة / 3]، وهو تفصيل المحرّم في قوله (2): ما حرم عليكم * ومعنى وقد فصل لكم ما حرم عليكم هو ما فصّله في قوله: {حرمت عليكم الميتة والدم} الآية [المائدة / 3] ومعنى {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام / 119]. إلّا (3) ما أباحه عند الضرورة من الميتة وغيرها من المحرّمات بقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} [البقرة / 173]، وقوله: {فمن اضطر}
__________
(1) في (ط): عزّ وجلّ.
(2) في (ط): بقوله.
(3) سقطت من (م).(3/391)
{في مخمصة غير متجانف لإثم، فإن الله غفور رحيم}
[المائدة / 3].
الانعام: 199
اختلفوا في ضمّ الياء وفتحها (1) في قوله [جلّ وعزّ] (2): وإن كثيرا ليضلون [الأنعام / 119] في ستة مواضع.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضلون، هاهنا. وفي يونس [88]: {ربنا ليضلوا عن سبيلك} وفي سورة إبراهيم [30]:
{أندادا ليضلوا} وفي سورة الحج [9]: {ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله}، وفي لقمان [6]: {ليضل عن سبيل الله بغير علم}، وفي الزّمر [8] {أندادا ليضل عن سبيله} بفتح الياء في هذه المواضع الستة.
وقرأ نافع وابن عامر ليضلون بأهوائهم بغير علم وفي يونس ربنا ليضلوا بفتح الياء فيهما، وفي الأربعة التي بعد هذين الموضعين يضمان الياء.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ في الستة المواضع بضم الياء (3).
قال أبو زيد: أبرمت الرّجل إبراما، وأضللته إضلالا حتى برم برما وضلّ ضلالة. قال: وتقول: ضللت الطريق، والدّار أضلّها ضلالا، وأضللت الفرس والناقة والصبيّ إضلالا، وكذلك كلّ ما ضلّ عنك فذهب.
__________
(1) في (ط): «من» بدل «في».
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 267.(3/392)
وإذا كان الحيوان مقيما فأخطأت مكانه، فهو بمنزلة ما لا يبرح. مثل الدار والطريق فهو كقولك: ضللت ضلالة.
وقال أبو عبيدة (1) في قوله: {فإنما يضل عليها}
[يونس / 108] فإنما ضلاله لنفسه وهداه لنفسه (2).
وقال (3) أبو عبيدة (4) في قوله: {أن تضل إحداهما}
[البقرة / 282] أي: تنسى (5)، يقال: ضللت أي: نسيت قال:
{فعلتها إذا وأنا من الضالين} [الشعراء / 20] أي: نسيت، وضللت وجه الأمر.
وقال أبو الحسن (6) في قوله: {في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [طه / 52] تقديره: ولا يضلّ عن ربي، ففاعل يضل * على تقدير أبي الحسن (كتاب) (7) المتقدم ذكره، وكان الأصل:
لا يضلّ عن ربّي، لأن الضلال يتعدى (8) بعن، يدلّك على ذلك قوله: {وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة / 77]. فلما حذف عن، وصل الفعل إلى المفعول به.
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 284.
(2) في (ط): لها.
(3) في (ط): قال.
(4) سقطت من (ط).
(5) مجاز القرآن 1/ 83.
(6) هو سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط. ولم يرد النقل في معاني القرآن المطبوع.
(7) في (ط): الكتاب.
(8) عبارة (ط): لأن الضلالة تتعدى.(3/393)
قال أبو علي: يقال (1): ضلّ زيد عن قصد الطريق، وأضلّه غيره عنه، وقال (2): {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة / 77]، وقال: {أضل أعمالهم} [محمد / 1]، فهذا كقوله: {فأحبط الله أعمالهم} [الأحزاب / 19] وكقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} إلى قوله {لم يجده شيئا} [النور / 39]، وكقوله: {لا يقدرون على شىء مما كسبوا} [البقرة / 264] أي: على جزاء شيء مما كسبوا من الخير لبطوله بالإحباط.
وقال: {أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا}
[غافر / 74]، فهذا في الآلهة التي كانوا يعبدونها كقوله:
{فزيلنا بينهم} [يونس / 28]، فزيّلنا (3): إنما هو فعّلنا من زال يزيل.
وقولهم: زلته فلم ينزل، وفي غير الآلهة قوله: يوم القيامة يفصل بينكم [الممتحنة / 3]. وقوله: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} [الروم / 14].
وأما (4) قراءة ابن كثير وأبي عمرو وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم [الأنعام / 119] أي: يضلّون باتّباع أهوائهم، كما قال: {واتبع هواه} [الأعراف / 176]. أي: يضلّون في أنفسهم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): قال.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): فأما.(3/394)
من غير أن يضلّوا غيرهم من أتباعهم بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه، وغير ذلك مما (1) يتبعونه، ويأخذون به ممّا لا شيء يوجبه من شرع ولا عقل نحو السائبة والبحيرة، وغير ذلك ممّا كان يفعله أهل الجاهلية.
وأما قراءتهما في سورة (2) يونس [88]: ربنا ليضلوا عن سبيلك، فالذي قاله (3) أبو الحسن أن اللام في ليضلوا * إنما هو لما يؤول إليه الأمر فالمعنى إنك آتيت فرعون وملأه زينة ليضلّوا عن سبيلك، فلا يؤمنوا، فقوله: {فلا يؤمنوا} [يونس / 88] عطف على النصب الحادث مع اللام في ليضلوا * وما بين ذلك من قوله: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم} [يونس / 88]، اعتراض بين (آتيت) وما يتّصل به، كما كان قوله: {قل إن الهدى هدى الله} [آل عمران / 73] كذلك. وهذا الضّرب من الاعتراض كثير، وقد جاء بين الصّلة والموصول في قوله: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وترهقهم ذلة} [يونس / 27].
فالمعنى: ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينة فضلّوا، كما أن معنى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}
[القصص / 8]. أي: فكان كذلك، فالفتح في قوله: ليضلوا * أحسن لهذا المعنى، لأنهم هم ضلّوا وطغوا لما أوتوه من الزينة والأموال.
__________
(1) في (م): ما.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): يراه.(3/395)
وقراءتهما في إبراهيم [10]: وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله أي لم ينتفعوا بما اتخذوا من الأنداد، إلّا ليزيغوا عن الطريق المستقيم الذي نصبت الأدلة عليه، فقوله: ليضلوا * فتح الياء فيه حسن (1) لذلك.
وقوله في الحج [9]: ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، أي: يجادل في الله بغير علم مستكبرا ثاني عطفه، ولاويا عنقه، ليضلّ عن سبيل الله، ويذهب عنه، لا أنّ له على ذلك حجّة أو لديه فيه بيان (2). ومثل ذلك في هذا المعنى {إذا فريق منهم بربهم يشركون، ليكفروا} [الروم / 33] فيمن جعل اللام الجارّة، أي: أشركوا ليكفروا بما بيناه لهم، لا لأن لهم على ذلك حجّة ولا بيانا.
وفي لقمان [6]: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، أي: يذهب عنه، وقيل في {لهو الحديث}: أنه سماع الغناء، روينا ذلك عن الكندي عن المؤمّل عن ابن عليّة عن ليث عن مجاهد.
وفي الزّمر [8]: وجعل لله أندادا، ليضل عن سبيله وقد (3) تقدم القول فيه.
قال: وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ في المواضع الستة بضم الياء. ومن حجة من ضمّ الياء في هذه المواضع أنه يدلّ
__________
(1) في (ط): أحسن.
(2) في (ط): بيانا.
(3) في (م): قد بإسقاط الواو.(3/396)
على أنّ الموصوف بذلك يكون في الضلال أذهب، ومن الهدى أبعد، ألا ترى أن كلّ مضلّ ضالّ، وليس كلّ ضالّ مضلا، لأن الضالّ قد يكون ضلاله مقصورا عليه (1) نفسه لا يتعداه إلى سواه، والمضلّ (2) أكثر استحقاقا للذم، وأغلظ حالا من الضال، لتحمّله إثم من أضلّه، كما قال: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}
[النحل / 25]. وقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}
[العنكبوت / 13]. والمواضع التي فتح فيها الياء من فتح، يسوغ فيها تقدير الإضلال ويستقيم. فقوله: {وإن كثيرا ليضلون} [الأنعام / 119]. على تقدير: ليضلّون أشياعهم فحذف المفعول به، وحذف المفعول به كثير. ويقوي ذلك قوله: {وما أضلنا إلا المجرمون} [الشعراء / 99] وقال: {ربنا هؤلاء أضلونا} [الأعراف / 38]، وكذلك في يونس [88] {ربنا ليضلوا عن سبيلك} أي: ليضلّوا أشياعهم، ألا ترى أن (3) في قصّتهم {وأضلهم السامري} [طه / 85]، وكذلك {أندادا ليضلوا} [إبراهيم / 30] أي ليضلّوا أشياعهم، وكذلك في المواضع الأخر، هذا التقدير سائغ (4) فيها، وغير ممتنع من هذا التقدير.
فأما قراءة نافع وابن عامر ليضلون بأهوائهم
__________
(1) في (ط): على.
(2) في (ط): فالمضل.
(3) سقطت من (ط).
(4) عبارة (م): وكذلك هذا التقدير في الموضع الآخر، هذا التقدير سائغ.(3/397)
[الأنعام / 119]، وفي يونس: ربنا ليضلوا عن سبيلك فحجتهما في فتح الياء حجة ابن كثير وأبي عمرو وقد تقدم القول فيه. وحجتهما في الأربعة المواضع: حجة عاصم وحمزة والكسائي.
الانعام: 122
قرأ نافع وحده أو من كان ميتا مشدّدة.
[الأنعام / 122].
وقرأ الباقون: {ميتا} بالتخفيف (1).
أبو عبيدة الميتة * مخففة، وهو تخفيف: ميّتة، بالتشديد (2)
ومعناهما واحد ثقّل أو خفّف (3) قال ابن الرّعلاء الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء
إنّما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله، قليل الرّجاء (4)
وقد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله: {أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل / 21]، وكذلك قوله:
{أومن كان ميتا فأحييناه} أي: صادفناه حيّا بالإسلام من بعد الكفر، كالكافر المصرّ على كفره!؟.
__________
(1) السبعة 269.
(2) بالتشديد زيادة من (ط).
(3) في (ط): ثقّل أو خفّف، وفي مجاز القرآن: ثقلت أو خففت.
(4) سبق الأول في ص 27من هذا الجزء. قال أبو عبيدة: واسم ابن الرعلاء: كوتي. والكؤتي والكوتي يهمز ولا يهمز، والكوتي من الخيل(3/398)
فأما (1) قوله: {وجعلنا له نورا يمشي به في الناس}
[الأنعام / 122]، فيحتمل أمرين: أحدهما أن يراد به النور المذكور في قوله: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} [الحديد / 12]، وقوله {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم}
[الحديد / 13]، ويجوز أن يراد بالنور: الحكمة التي يؤتاها المسلم بإسلامه، لأنه إذا جعل الكافر لكفره في الظلمات، فالمؤمن بخلافه.
والتخفيف مثل التشديد، والمحذوف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو (2)، وأعلّت (3) بالحذف كما أعلّت بالقلب.
الانعام: 125
اختلفوا في تشديد الياء وتخفيفها (4) من قوله عز وجل (5): {ضيقا} [الأنعام / 125].
فقرأ ابن كثير وحده: ضيقا * ساكنة الياء، وفي الفرقان [13] مكانا ضيقا خفيفتين (6).
وقرأ الباقون التي في سورة الأنعام: {ضيقا} مشدّدة.
__________
والحمير القصار، قال: فلا أدري أيكون في الناس أم لا؟ ولا أدري الرعلاء أبوه أو أمه. انظر مجاز القرآن 1/ 148، 149.
(1) في (ط): وأما.
(2) وأصلها: ميوت.
(3) في (ط): أعلّت.
(4) في (ط): والتخفيف.
(5) سقطت من (م).
(6) في (م): خفيفتان.(3/399)
وكذلك روى حجّاج بن محمد الأعور عن عقبة بن سنان عن أبي عمرو ضيقا * خفيفا. أخبرني بذلك أبو بكر (1)
محمد بن عبد الله المقري، قال: حدثنا عبد الرزّاق بن الحسن قال: حدثنا أحمد بن جبير مقرئ أنطاكيّة، قال: حدثنا حجّاج الأعور، عن عقبة، عن أبي عمرو أنّه قرأ: ضيقا * خفيفا (2).
الضّيق والضّيّق: مثل: الميت والميّت، في أن المحذوف مثل المتمّ في المعنى، والياء مثل الواو في الحذف، وإن لم يعتلّ بالقلب، كما اعتلّت الواو به، وأتبعت (3) الياء الواو في هذا كما أتبعتها في قولهم: اتّسر. قالوا في اتسار الجزور:
اتّسروها، فجعلت بمنزلة اتعد.
الانعام: 125
واختلفوا (4) في فتح الراء وكسرها من قوله عزّ وجلّ (5):
{حرجا} [الأنعام / 125].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي:
{حرجا} مفتوحة الراء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر: حرجا * مكسورة الراء.
__________
(1) سقطت من (م).
(2) السبعة 268.
(3) في (ط): اتبعت.
(4) في (ط): اختلفوا. وجاء على هامش (ط) كلمة: (بلغت).
(5) سقطت من (م).(3/400)
وروى حفص عن عاصم {حرجا} مثل أبي عمرو (1).
قال أبو زيد: حرج عليه السحور، يحرج حرجا: إذا أصبح قبل أن يتسحّر، وحرم عليه حرما، وهما واحد، وحرمت على المرأة الصلاة تحرم حرما، وحرجت عليها الصلاة تحرج حرجا، وهما واحد.
وقال أبو زيد: حرج فلان يحرج حرجا، إذا هاب أن يتقدم على الأمر، أو قاتل فصبر وهو كاره.
من فتح الراء كان وصفا بالمصدر، مثل: قمن وحرى (2)، ودنف، ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها، ولا يكون (3)
كبطل، لأن اسم الفاعل في الأمر العامّ من فعل إنما يجيء على فعل. ومن قرأ: حرجا * فهو مثل دنف، وفرق، ومعنى الكلمة فيما فسّر أبو زيد: الضّيق والكراهة.
الانعام: 125
واختلفوا في تشديد العين وتخفيفها، وإدخال الألف وإخراجها من قوله عزّ وجلّ: {كأنما يصعد في السماء}
[الأنعام / 125].
فقرأ ابن كثير وحده: كأنما يصعد في السماء. ساكنة الصاد بغير ألف خفيفة.
__________
(1) السبعة ص 268.
(2) قمن: بفتح الميم، يقال: أنت قمن أن تفعل كذا، أي خليق وجدير لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنق، فإن كسرت الميم أو قلت: قمين، ثنيت وجمعت. ومثلها حرى.
(3) في (ط): تكون.
الحجة ج 3م / 26.(3/401)
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي:
{يصعد} مشدّدة العين بغير ألف.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: يصاعد بألف مشدّدة الصاد.
وروى حفص عن عاصم مشدّدة بغير ألف {يصعد} مثل حمزة (1).
قراءة ابن كثير يصعد في السماء من الصعود، والمعنى أنه في نفوره من (2) الإسلام وثقله عليه بمنزلة من تكلّف (3) ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يستطاع.
ومن قال: يصّعّد أراد: يتصعّد، فأدغم، ومعنى يتصعّد:
أنه كأنه يتكلف ما يثقل عليه وكأنه (4) يتكلف شيئا بعد شيء، كقولهم (5): يتفوّق ويتجرّع ونحو ذلك مما يتعاطى فيه الفعل شيئا بعد شيء، ويصّاعد مثل: يتصعّد في المعنى مثل:
ضاعف وضعّف وناعم ونعّم.
فإن قلت: هل يجوز أن يكون فاعل {يشرح صدره}
الضمير، العائد إلى من * كأنّ المهديّ (6) يشرح صدر نفسه؟
__________
(1) السبعة 269.
(2) في (ط): عن.
(3) في (ط): يكلّف.
(4) في (ط): فكأنه.
(5) في (ط): كقوله.
(6) في (ط): المهتدي.(3/402)
فإن ذلك صحيح في المعنى، والأشبه أن يكون الضمير الذي فيه عائدا (1) إلى اسم الله عزّ وجلّ (2) لقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} [الزمر / 22]، وقوله: {ألم نشرح لك صدرك} [الانشراح / 1] وكذلك يكون الضمير الذي في قوله {يشرح صدره} لاسم الله تعالى (3)، والمعنى أنّ الفعل مسند إلى اسم الله تعالى (3) في اللفظ، وفي المعنى: للمنشرح (5)
صدره، وإنّما نسبه إلى ضمير اسم الله لأنّه بقوته كان وتوفيقه كما قال: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال / 17]، ويدلّك على أن المعنى لفاعل الإيمان إسناد هذا الفعل إلى الكافر في قوله: {ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله} [النحل / 106]، فكما أسند الفعل إلى فاعل الكفر كذلك يكون إسناده في المعنى إلى فاعل (6) الإيمان. ومعنى شرح الصدر: اتساعه للإيمان أو الكفر وانقياده له، وسهولته عليه، يدلّك على ذلك وصف خلاف المؤمن بخلاف الشرح الذي (7) هو اتساع وهو قوله: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} [الأنعام / 125] كأنما يفعل ما يعجز عنه، ولا يستطيعه لثقله عليه وتكاؤده له.
فأما قوله: كأنما يصاعد في السماء: فمن قال: يصّاعد
__________
(1) في (م): عائد.
(2) سقطت من (م).
(3) سقطت من (ط).
(5) في (م) المنشرح.
(6) في (ط): الفاعل الإيمان.
(7) في (ط): والذي.(3/403)
ويصّعّد، فهو من المشقّة وصعوبة الشيء ومن (1) ذلك قوله:
{يسلكه عذابا صعدا} [الجن / 17]. وقوله: {سأرهقه صعودا}
[المدثر / 17]. أي: سأغشّيه عذابا صعودا، أي عقوبة (2)
صعودا أي: شاقا. ومن ذلك قول عمر (3): «ما تصعّدني شيء كما تصعّدتني (4) خطبة النكاح»، أي: ما شق عليّ شيء (5)
مشقّتها، وكأنّ (6) ذلك لما يتكلفه الخطيب في مدحه وإطرائه للمملك، وربما لم يكن كذلك، فتحتاج إلى تطلّب المخلص، فلذلك شقّ (7). ومن ذلك (8) قول الشاعر (9):
وإن سيادة الأقوام فاعلم
لها صعداء مطلبها شديد
فكأنّ معنى يصعد ... يتكلّف (10) مشقة في ارتقاء
__________
(1) في (ط): من.
(2) في (ط): وعقوبة.
(3) انظر النهاية لابن الأثير 3/ 30واللسان (صعد).
(4) في (ط): تصعدني.
(5) سقطت من (م).
(6) في (م): وكان.
(7) في (ط): يشق.
(8) في (ط): ومنه.
(9) رواية اللسان (صعد) لهذا البيت هي:
وإن سياسة الأقوام فاعلم
لها صعداء مطلعها طويل
ولم ينسبه.
(10) في (م): تصعّد: تتكلف(3/404)
صعدا (1)، وعلى هذا قالوا: عقبة عنوت وعنتوت (2)، وعقبة كئود، ولا تكون السماء في هذا القول المظلّة للأرض، ولكن كما قال سيبويه: القيدود: الطويل في غير سماء، يريد به (3)
في غير ارتفاع صعدا (4)، وعلى هذا قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة / 144].
فأما قوله: {يجعل صدره ضيقا حرجا} فعلى تأويلين:
أحدهما: التسمية في قوله (5): {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا} [الزخرف / 19]، أي: سمّوهم بذلك، فكذلك (6)
يسمى القلب ضيّقا بمحاولة الإيمان وحرجا عنه.
والآخر: الحكم كقولهم: اجعل البصرة بغداد، وجعلت حسني قبيحا، أي: حكمت بذلك، ولا يكون هذا من الجعل الذي يراد به الخلق، ولا الذي يراد به (7) الإلقاء كقولك:
جعلت متاعك بعضه (8) على بعض، وقوله: {ويجعل الخبيث بعضه على بعض} [الأنفال / 37].
__________
(1) في (م): صعداء.
(2) معناها: العقبة الشاقة والصعبة (انظر اللسان عنت).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (م): صعداء.
(5) في (ط): كقوله.
(6) في (ط): وكذلك.
(7) سقطت من (ط).
(8) ضبطت في (م) بضم الضاد.(3/405)
الانعام: 128
[قوله: ويوم بحشرهم [الأنعام / 128].
حفص عن عاصم {ويوم يحشرهم} بالياء.
وقرأ الباقون بالنون (1).
أما الياء فلقوله: {لهم دار السلام عند ربهم}
[الأنعام / 127]، {ويوم يحشرهم}، والنون كالياء في المعنى، والذي يتعلق به اليوم: هو القول المضمر. ويقوي النون قوله:
{وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} [الكهف / 47]، وقوله:
{ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه / 124].
الانعام: 135
اختلفوا في: الجمع والتوحيد في (2) قوله تعالى (3):
{على مكانتكم} [الأنعام / 135].
فقرأ الجميع: على (4) مكانتكم على الواحد، واختلف عن عاصم فروى أبو بكر علي مكاناتكم جماع في كلّ القرآن.
وروى حفص عن عاصم، وشيبان النحوي عن عاصم:
{مكانتكم} واحدة في كلّ القرآن. حدثني موسى بن إسحاق قال: حدّثنا هارون بن حاتم قال: حدّثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن عاصم أنه قرأ: {على مكانتكم} واحدة، وكذلك قرأ الباقون على التوحيد أيضا (5).
__________
(1) السبعة 269وما بين معقوفين منه.
(2) في (ط): من.
(3) في (ط): عزّ وجلّ.
(4) سقطت من (م).
(5) السبعة ص 269.(3/406)
قال أبو زيد: يقال (1): رجل مكين عند السلطان من قوم مكناء (2)، وقد مكن مكانة، وقال أبو عبيدة: على مكانتكم، أي: على حيالكم [وناحيتكم] (3)، وما جاء في التنزيل من قوله: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف / 54]، وقوله:
{مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام / 6] يدلّ (4)
على أن المكانة: المنزلة والتّمكّن، كأنه: اعملوا على قدر منزلتكم، وتمكّنكم من (5) دنياكم، فإنّكم لن تضرّونا بذلك شيئا، كما قال: {لن يضروكم إلا أذى} [آل عمران / 111]، ومثل هذا قوله: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون} [هود / 21].
ووجه الإفراد: أنه مصدر، والمصادر في أكثر الأمر مفردة.
ووجه الجمع أنها قد تجمع كقولهم: الحلوم والأحلام.
قال (6):
__________
(1) في (م) قال.
(2) في (م): مكنّا.
(3) مجاز القرآن 1/ 206وما بين معقوفين زيادة منه.
(4) في (م): فدلّ.
(5) في (ط): في.
(6) البيت للأعشى من قصيدة يمدح فيها قيس بن معديكرب ورواية الديوان:
إذا ما هم جلسوا بالعشي ... فأحلام عاد وأيدي هضم
واليد الهضوم: هي التي تجود بما لديها، وجمعها هضم.
وانظر ديوانه / 41واللسان مادة (هضم).(3/407)
فأمّا إذا جلسوا بالعشيّ ... فأحلام عاد وأيد هضم
والأمر العام على الوجه الأول.
الانعام: 135
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعزّ] (1): {من تكون له عاقبة الدار} [الأنعام / 135]، هاهنا وفي القصص [الآية / 37].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر (2) من تكون له * بالتاء. وكذلك قراءتهم في سورة القصص.
وقرأ حمزة والكسائيّ: يكون له * في الموضعين بالياء (3).
العاقبة: مصدر كالعافية، وتأنيثه غير حقيقي، فمن أنّث فكقوله (4): {وأخذت الذين ظلموا الصيحة} (5) [هود / 94]، ومن ذكّر فكقوله: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [هود / 67].
وكقوله: {قد جاءتكم موعظة من ربكم} [يونس / 57]، {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى} [البقرة / 275]، وكلا الأمرين حسن كثير.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (م).
(3) السبعة 270.
(4) في (ط): فكقولهم.
(5) في (ط): {فأخذتهم الصيحة} [الحجر / 73].(3/408)
الانعام: 136
اختلفوا في فتح الزاي في قوله تعالى: {بزعمهم}
[الأنعام / 136] وضمّها (1).
فقرأ الكسائيّ وحده بزعمهم * مضمومة الزاي.
وقرأ الباقون: بزعمهم مفتوحة (2) الزاي (3).
القول فيه (4) أنهما لغتان.
وقرأ ابن عامر وحده: {وما ربك بغافل عما تعملون}
[النمل / 93] بالتاء، وقرأ الباقون بالياء (5).
الانعام: 137
اختلفوا في قوله [جلّ وعزّ] (6)، {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} [الأنعام / 137].
فقرأ ابن عامر وحده وكذلك زين * برفع الزاي لكثير من المشركين قتل برفع اللام، أولادهم * بنصب الدال، شركايهم * بياء.
وقرأ الباقون: {زين} بفتح (7) الزاي {لكثير من المشركين قتل} بنصب اللام، {أولادهم} خفض {شركاؤهم} رفع (8).
__________
(1) عبارة (ط): اختلفوا في ضم الزاء وفتحها من قوله عزّ وجلّ بزعمهم *.
(2) في (ط): بفتح.
(3) السبعة 270.
(4) في (ط): فيهما.
(5) ذكر هذا الحرف سابق لمكانه هنا. وسيتكلم المصنف عنه في موضعه من السورة. ولعله من إقحام الناسخ.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): بنصب.
(8) السبعة 270.(3/409)
الشركاء على قول العامة فاعل {زين} وهو مثل: {لا ينفع نفسا إيمانها} [الأنعام / 158]، لمّا تقدم ذكر المشركين كنّى عنهم في قوله: {شركاؤهم} كما أنه لما تقدم ذكر النفس وإبراهيم في قوله {لا ينفع نفسا إيمانها} {وإذ ابتلى إبراهيم ربه}
[البقرة / 124] كنّى عن الاسمين المتقدم ذكرهما. و {قتل أولادهم} مفعول {زين}، وفاعل {زين} {شركاؤهم}، ولا يجوز أن يكون الشركاء فاعل المصدر الذي هو القتل كقوله: ولولا دفاع الله الناس [البقرة / 251]، لأنّ {زين} حينئذ يبقى بلا فاعل، ولأن الشركاء ليسوا قاتلين، إنما هم مزيّنون القتل للمشركين، وأضيف المصدر الذي هو القتل إلى المفعولين الذين هم الأولاد، كقوله: {لا يسأم الإنسان من دعاء الخير}
[فصلت / 49] ونحو ذلك مما يحذف معه الفاعلون والمعنى:
قتلهم أولادهم، فحذف المضاف إليه الذي هو الفاعل، كما حذف ضمير الإنسان في قوله {من دعاء الخير}. والمعنى: من دعائه الخير. وأما (1) قول ابن عامر: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم، فإن الفعل المبنيّ للمفعول به، أسند إلى القتل فاعمل المصدر عمل الفعل، وأضافه إلى الفاعل، ونظير ذلك قوله: ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض فاسم الله فاعل، كما أنّ الشركاء فاعلون، والمصدر مضاف إلى الشركاء الذين هم فاعلون، والمعنى: قتل شركائهم أولادهم، ففصل بين المضاف والمضاف إليه، بالمفعول به،
__________
(1) في (ط): فأما.(3/410)
والمفعول به (1) مفعول المصدر، وهذا قبيح قليل في الاستعمال، ولو عدل (2) عنها إلى غيرها كان أولى، ألا ترى أنه لم (3) يفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام وحال السعة، مع اتساعهم في الظروف حتى أوقعوها مواقع لا يقع فيها غيرها نحو: {إن فيها قوما جبارين} [المائدة / 22].
ونحو (4):
للهجر حولا كميلا (5)
ونحو قوله:
فلا تلحني فيها فإنّ بحبّها ... أخاك مصاب القلب جمّ بلابله (6)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): (عدل).
(3) في (ط): أنه إذا لم.
(4) سقطت من (م): نحو.
(5) هذه قطعة من بيت للعباس بن مرداس وتمامه:
على أنّني بعد ما قد مضي ... ثلاثون للهجر حولا كميلا
وبعده:
يذكرنيك حنين العجول ... ونوح الحمامة تدعو هديلا
انظر سيبويه 1/ 292وشرح أبيات المغني 7/ 203، والخزانة 1/ 573.
(6) هو من شواهد سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها.
انظر سيبويه 1/ 280. الخزانة 3/ 572شرح أبيات المغني 8/ 105.(3/411)
ألا ترى أنه قد فصل بين أنّ واسمها (1) بما يتعلق بخبرها، ولو كان بغير الظرف لم يجز ذلك، ألا ترى أنهم لا يجيزون: إن زيدا عمرا ضارب، إذا نصبت زيدا بضارب، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام، مع اتساعهم في الظرف في الكلام، وإنما جاز (2) في الشعر كقوله (3):
كما خطّ الكتاب بكفّ يوما ... يهوديّ
كان لا يجوز في المفعول به الذي لم يتّسع (4) فيه بالفصل، به أجدر.
ووجه ذلك على ضعفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر الفصل على حدّ ما قرأه، قال الطّرمّاح (5):
__________
(1) في (ط): أن وبين اسمها.
(2) في (ط): جاء.
(3) جزء من بيت لأبي حية النميري وتمامه:
كما خطّ الكتاب بكفّ يوما ... يهوديّ يقارب أو يزيل
وهو يصف رسم الدار التي وقف عليها ويشبهه بالكتابة وكانت الكتابة يتعاطاها اليهود، وقوله: يقارب أي: يدني بعض خطه من بعض. وقوله:
يزيل أي: يميز بين الحروف ويباعد بينها انظر الخصائص 2/ 405 شواهد العينى 3/ 470اللسان: مادة / عجم / وفيه: كتحبير الكتاب.
(4) في (ط): يتّسع.
(5) سبق في ص 118من هذا الجزء.(3/412)
يطفن بحوزيّ المراتع لم يرع ... بواديه من قرع القسيّ الكنائن (1)
وزعموا أن أبا الحسن أنشد (2):
زجّ القلوص أبي مزادة وهذان البيتان مثل قراءة ابن عامر، ألا ترى أنه قد فصل فيهما (3) بين المصدر والمضاف إليهما (4)، كما فصل ابن عامر بين المصدر، وما حكمه أن يكون مضافا إليه؟ وذكر سيبويه في هذه الآية قراءة أخرى، وهي: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، وحمل الشركاء فيها على فعل مضمر غير هذا الظاهر (5).
[كأنه لما قيل: وكذلك زين لكثير من المشركين] (6).
قيل: من زيّنه؟ فقال: زيّنه شركاؤهم. قال: ومثل ذلك قوله (7):
__________
(1) في (م): الكتائب وهو تحريف.
(2) عجز بيت وصدره:
فزججتها بمزجّة.
زجّه: طعنه بالرمح انظر الخصائص 2/ 406العيني 3/ 468. الخزانة 2/ 251ابن يعيش 3/ 19.
(3) في (ط): فيما.
(4) في (ط): إليه.
(5) انظر سيبويه 1/ 146.
(6) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(7) البيت من مقطعة اختلف في نسبتها، وقد بسط ذلك الخلاف البغدادي في الخزانة 1/ 152. وانظر ديوان لبيد / 361 (ط الكويت) وسيبويه 1/ 145ونسبه للحارث بن نهيك والخصائص 2/ 353.(3/413)
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط ممّا تطيح الطوائح
كأنّه لما قال: ليبك يزيد، دلّ على أن له باكيا، فقال:
يبكيه ضارع، ومثل هذه الآية على هذه القراءة قوله: يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال [النور / 36]، كأنّه لما قال:
يسبح * فدلّ على {يسبح} (1) فقيل له (2): من يسبحه؟ قال:
يسبّحه رجال.
الانعام: 139
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعزّ]: (3) [{وإن يكن ميتة} في الرفع والنصب] (4) [الأنعام / 139].
فقرأ ابن كثير: {وإن يكن} بالياء ميتة * رفعا خفيفا.
وقرأ ابن عامر: وإن تكن بالتاء، ميتة * رفعا.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر [وإن تكن] (5) بالتاء، {ميتة} نصبا، وروى حفص عنه بالياء ميتة نصبا.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: {يكن}
بالياء، {ميتة} نصبا (6).
__________
(1) في (ط): مسبح.
(2) سقطت من (م).
(3) سقطت من (ط).
(4) ما بين المعقوفتين ورد في (ط) كما يلي: وإن تكن وفي الرفع والنصب من قوله (ميتة).
(5) سقطت من (ط).
(6) السبعة 271270.(3/414)
قراءة ابن كثير: {وإن يكن} بالياء، ميتة * رفعا، أنه لم يلحق الفعل علامة التأنيث لمّا كان الفاعل المسند إليه تأنيثه غير حقيقي، ولم يجعل في {يكن} شيئا.
والمعنى: وإن وقع ميتة، أو حدث ميتة.
وألحق ابن عامر الفعل علامة التأنيث، لما كان الفاعل في اللفظ مؤنثا، وأسند الفعل إلى الميتة، كما فعل ذلك ابن كثير.
وأما قراءة أبي عمرو ومن تبعه {وإن يكن ميتة} فإنه (1)
ذكّر الفعل لأنه مسند إلى ضمير ما تقدم في (2) قوله: {ما في بطون هذه الأنعام} [الأنعام / 139]، وهو مذكّر، وانتصب الميتة لما كان الفعل مسندا إلى الضمير، ولم يسنده إلى الميتة، كما فعل ابن كثير وابن عامر.
وأما قراءة عاصم في رواية أبي بكر، تكن * بالتاء.
{ميتة} فإنّه أنّث، وإن كان المتقدم مذكرا لأنه حمله على المعنى، وما في بطون (3) الأنعام حوران فحمل على المعنى كما قالوا: ما جاءت حاجتك، فأنث الضمير لمّا كان في المعنى حاجة.
ورواية حفص {يكن} بالياء، ميتة على لفظ المتقدم الذي هو مذكر.
__________
(1) في (ط): فكأنّه.
(2) في (ط): من.
(3) في (ط): وما في بطون هذه الأنعام.(3/415)
الانعام: 140
اختلفوا في التخفيف والتشديد في التاء في (1) قوله [جلّ وعزّ]: (2) {قد خسر الذين قتلوا أولادهم} [الأنعام / 140].
فقرأ ابن كثير وابن عامر قتلوا * مشددة التاء.
وقرأ الباقون {قتلوا} (3) خفيفة التاء (4).
التشديد للتكثير مثل: {مفتحة لهم الأبواب} [ص / 50]، والتخفيف يدلّ على الكثرة (5).
الانعام: 141
اختلفوا في فتح الحاء وكسرها من قوله عزّ وجلّ: (6)
{يوم حصاده} [الأنعام / 141].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائيّ حصاده بكسر الحاء.
وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر {حصاده} مفتوحة الحاء (7).
قال سيبويه: جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال: فعال وذلك الصّرام، والجرام (8)، والجذاذ (9)،
__________
(1) في (ط): من.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة 271. وانظر ما سبق في سورة آل عمران آية 169.
(5) قال مكي بن أبي طالب: لأن التخفيف للتقليل والتكثير، فهو كالتشديد في أحد وجهيه، وهو الاختيار لإجماع القراء عليه. الكشف 1/ 364. وانظر.
ما سبق في سورة آل عمران آية 169.
(6) سقطت من (م).
(7) السبعة 271.
(8) في (ط): الجزاز، وكذلك هي في سيبويه، والجرام: من جرم النخل وهو قطعة.
(9) في (ط): وسيبويه: الجداد بدالين: وهما بمعنى.(3/416)
والقطاع، والحصاد، وربّما دخلت اللغة في بعض هذا، فكان فيه فعال، وفعال (1). فقد (2) تبيّنت مما قال: أن الحصاد والحصاد لغتان، فأما قول النابغة (3):
يمدّه كلّ واد مزبد لجب ... فيه ركام من الينبوت والحصد
فإن محمّد بن السّريّ روى فيه: الحصد، وذكر أن بعضهم رواه: الخضد، وفسّر الخضد: ما تكسّر من الشجر.
قلل أبو علي: ويجوز أن يكون الحصد الذي يفسره (4)
ابن السرّي: الحصاد حذف الألف منه، كما يقصر الممدود، وكأن المحصود سمّي الحصاد باسم المصدر، كالخلق، والصيد، وضرب الأمير، ونسج اليمن، ونحو ذلك، ويدلّك (5)
على ذلك قول الأعشى (6):
__________
(1) سيبويه 2/ 217.
(2) في (ط): وقد.
(3) رواية البيت في ديوانه ص 27:
يمده كلّ واد مترع لجب ... فيه ركام من الينبوت والخضد
واللجب: المصوّت لشدة جريه والينبوت: شجر الخرّوب.
(4) في (ط): لم يفسره.
(5) في (ط): ويدلّ.
(6) البيت من قصيدة طويلة في ديوانه ص 99يمدح فيها هوذة بن علي الحنفي ورواية الديوان: لها جرس. يصف صوت الدروع في الحرب.(3/417)
له زجل كحفيف الحصا ... د صادف بالليل ريحا دبورا
والحفيف إنما يكون للمحصود، ومثل ذلك قول العجّاج (1):
هذّ الحصاد بغروب المنجل
الانعام: 143
اختلفوا في فتح العين وإسكانها من المعز [الأنعام / 143].
فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، من المعز بفتح العين.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائيّ {من المعز} ساكنة العين (2).
من قرأ: المعز فإن المعز جمع، يدلّ على ذلك قوله: ومن المعز اثنين (3) ومن الضأن اثنين ولو كان واحدا لم يسغ فيه هذا، فأما انتصاب اثنين فمحمول على أنشأ، التقدير:
__________
(1) شطر بيت من الرجز جاءت روايته في ديوانه 1/ 311:
سوق الحصاد بغروب المنجل وقبله:
خضمّة الذّراع هذّ المختلي وقد جاءت «هذّ» في (م) و (ط) بإثبات الألف بعدها، وهو سبق قلم من النساخ. والهذ: القطع. والغروب: جمع غرب، وغرب كل شيء:
حدّه. وسوق في الرواية الثانية: جمع سارق. والرجز في وصف سيف قاطع.
(2) السبعة 269.
(3) سقط من (ط): (ومن المعز اثنين) وكتبت في (م) على هامش النسخة.(3/418)
أنشأ ثمانية أزواج، أنشأ من كذا اثنين.
فأمّا المعز في جمع ماعز، فهو: مثل خادم، وخدم، وطالب، وطلب، وحارس، وحرس، وحكى أحمد بن يحيى:
رائح وروح، وقال أبو الحسن: هو جمع على غير واحد، وكذلك المعزى، وحكى أبو زيد: الأمعوز، وأنشد (1):
كالتيس في أمعوزه المتربّل وقال (2): المعيز، كالكليب والضئين، قال (3):
ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان
فأما من قال: المعز بإسكان العين: فهو على هذا جمع أيضا، كما كان في قول من فتح العين جمعا أيضا، وجمع ماعز عليه، كما قالوا: صاحب وصحب وتاجر وتجر، وراكب وركب.
وأبو الحسن (4) يرى هذا الجمع مستمرا فيردّه في التصغير إلى
__________
(1) عجز بيت لربيعة بن مقروم الضبي وصدره:
أخلصته صنعا فآض محملجا والمتربّل: الذي قد أكل الرّبل (ضرب من الشجر)، والأمعوز: القطيع من الظباء. انظر النوادر 297 (ط. الفاتح). والمحملج: يقال للعير الذي دوخل خلقه اكتنازا (اللسان).
(2) في ط: وقالوا.
(3) البيت لامرئ القيس. والمعيز اسم لجماعة المعز وحنانك ذا الحنان:
يعني رحمتك يا ذا الرحمة. انظر ديوانه / 143.
(4) في (ط): الحسين والأظهر ما في (م).(3/419)
الواحد فيقول في تحقير ركب: رويكبون، وفي تجر:
تويجرون، وسيبويه يراه اسما من أسماء الجمع، وأنشد أبو عثمان في الاحتجاج لقول سيبويه (1):
بنيته بعصبة من ماليا ... أخشى ركيبا أو رجيلا غاديا
فتحقيره له على لفظه من غير أن يردّه إلى الواحد الذي هو فاعل، ويلحق الواو والنون أو الياء، يدل على أنه اسم للجمع. وأنشد أبو زيد (2):
وأين ركيب واضعون رحالهم ... إلى أهل [بعل من مقامة أهودا] (3)
وقال أبو عثمان: البقرة عند العرب: نعجة، والظبية عندهم ما عزة، والدليل على أن ذلك كما ذكره قول ذي الرمة (4):
__________
(1) الشاهد في المنصف 2/ 101. شرح المفصل 5/ 77شرح شواهد الشافية / 150ولم ينسب.
(2) البيت لعبد القيس بن خفاف البرجمي ورواية عجزه في النوادر ص 114:
إلى أهل نار من أناس بأسودا وقبله عنده:
إذا ما اتصلت قلت يال تميم ... وأين تميم من مقامة أهودا
(3) ما بين معقوفين سقط من «م».
(4) في ديوانه 1/ 231 (إذا ما رآها) بدلا من (إذا ما علاها) وكذلك (أو يثيرها).(3/420)
إذا ما علاها راكب الصّيف لم يزل ... يرى نعجة في مرتع ويثيرها
مولّعة خنساء ليست بنعجة ... يدمن أجواف المياه وقيرها
فقوله: لم يزل يرى نعجة يريد به (1) بقرة ألا ترى أنّه قال: مولّعة خنساء، والخنس والتوليع: إنما يكونان في البقر دون الظباء، وقوله: ليست بنعجة، معناه: أنه (2) ليست بنعجة أهلية، يدلك على ذلك أنه لا يخلو من أن يريد أنه (3) ليست بنعجة أهلية، أو ليست بنعجة، فلا يجوز أن يحمل على أنها ليست بنعجة، لأنك إن حملته على هذا، نفيت ما أوجبه من قوله: لم يزل يرى نعجة، فإذا لم يجز ذلك، علمت أنه يريد بقوله: ليست بنعجة، ليست بنعجة أهلية.
والدّلالة على أنّ الظبية ما عزة قول أبي ذؤيب (4).
__________
ومعنى البيتين: هذه الرملة مأوى الوحش فلا يزال راكبها بالصيف يرى نعجة، وهي نعجة وحشية لا إنسية تألف أجواف المياه أولادها وسيزيد المصنف ذلك إيضاحا وبسطا.
(1) ساقط من (ط).
(2) في (ط): أنها.
(3) في (ط): أنها.
(4) من قصيدة في 41بيتا. يرثي فيها نشيبة بن محرث، والبيت هو التاسع والثلاثون من أبياتها. انظر شرح السكري 1/ 86قوله: عادية: رجال يعدون، والمحص بالصاد المهملة: عدو شديد، وانبتارها: في شرح السكري: وانبتارها، يقول: تنبتر من الخيل فتسبق وتمضي.(3/421)
وعادية تلقي الثياب كأنّها ... تيوس ظباء محصها وانبتارها
وقوله: تيوس ظباء، كقوله: تيوس معز، ولو كانت عندهم ضائنة، ولم تكن ماعزة لقال: كأنّها كباش ظباء.
ويدلّ على أن نعجة في قوله: ليست بنعجة، يريد به النعجة الأهلية قوله (1):
يدمن أجواف المياه وقيرها (2)
والوقير: الشاء يكون فيها كلب وحمار (3) فيما روي عن الأصمعي
الانعام: 145
واختلفوا (4) في الياء والتاء من قوله عزّ وجلّ (5): {إلا أن يكون ميتة} [الأنعام / 145].
فقرأ ابن كثير وحمزة: إلا أن تكون * بالتاء، {ميتة}
نصبا.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، والكسائيّ: {إلا أن يكون} بالياء، {ميتة} نصبا، وقد روى نصر بن علي عن أبيه قال: سمعت أبا عمرو يقرأ: {إلا أن يكون} وإلا أن تكون * بالياء والتاء.
__________
(1) في (م): بقوله.
(2) سبق قريبا.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): اختلفوا.
(5) سقطت من (م).(3/422)
وقرأ ابن عامر وحده: إلا أن تكون * بالتاء، ميتة * رفعا (1).
قول ابن كثير وحمزة محمول على المعنى، كأنّه قال: إلّا أن تكون العين أو النفس أو الجثّة ميتة، ألا ترى أن المحرّم لا يخلو من جواز العبارة عنه بأحد هذه الأشياء؟، وليس قوله:
{إلا أن يكون} كقولك: ما جاءني القوم لا يكون زيدا، وليس زيدا، في أن الضمير الذي يتضمّنه في الاستثناء، لا يظهر ولا يدخل الفعل علامة تأنيث، لأنّ الفعل إنما يكون عاريا من علامة ومن أن يظهر معه الضمير، إذا لم يدخل عليه أن، وأمّا (2) إذا دخله أن فعلى حكم سائر الأفعال.
وقول أبي عمرو ومن معه: {إلا أن يكون ميتة} نصبا، فإنه جعل فيه ضميرا مما تقدّم، وهو أقيس من الأول، كأنّه قال (3): إلّا أن يكون الموجود ميتة، ويجوز أن يكون أضمر مؤنثا، كما أضمره ابن كثير وحمزة، إلّا أنه ذكر الفعل لمّا تقدّم.
ويؤكد ذلك (4) ما روي عن أبي عمرو من (5) أنه قرأ بالتاء والياء، وقول ابن عامر على: إلّا (6) أن تقع ميتة، أو تحدث
__________
(1) السبعة: 272.
(2) في (ط): فأما.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (م).
(5) سقطت من (ط).
(6) عبارة (ط): على أن لا.(3/423)
ميتة، فألحق علامة التأنيث الفعل كما لحق في نحو: {قد جاءتكم موعظة من ربكم} [يونس / 57].
الانعام: 152
واختلفوا (1) في تشديد الذّال وتخفيفها من قوله تعالى (2): يذكرون * [الأنعام / 57].
واختلوا (1) في تشديد الذّال وتخفيفها من قوله تعالى (2): يذكرون * [الأنعام / 152].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: يذكرون *، وتذكرون *، و {يذكر الإنسان} [مريم / 67]، و {أن يذكر} [الفرقان / 62]، و {ليذكروا} [الإسراء / 41الفرقان / 50]، مشددا ذلك كله.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: كلّ ذلك بالتشديد إلّا قوله: {أولا يذكر الإنسان} [مريم / 67]، فإنهم خفّفوها.
وروى عليّ بن نصر بن علي عن أبيه عن أبان عن عاصم: تذكرون خفيفة الذال في كل القرآن، وكذلك روى حفص عن عاصم.
وقرأ حمزة والكسائيّ: يذكرون * مشدّدا إذا كان بالياء، وتذكرون (5) مخففا إذا كان بالتاء.
واختلفوا في سورة الفرقان في قوله: {لمن أراد أن يذكر}
[الآية / 62]، فقرأ حمزة وحده: أن يذكر * مخفّفة، وقرأ الكسائي: {أن يذكر} مشدّدة، واتفقا على تخفيف الذّال في
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) في (ط): عزّ وجلّ.
(5) ضبطها في (م): (تذكرون) بتسكين الذال وضم الكاف.(3/424)
بني إسرائيل [41] والفرقان [50] في قوله: ليذكروا خفيفة، وشدّدها الباقون.
واتّفقوا على تخفيف ذال قوله (1): {وما يذكرون} ورفع الكاف في المدثر [56].
فقرأ نافع: وما تذكرون بالتاء ورفع الكاف. وقرأ الباقون بالياء (2).
قال سيبويه قالوا (3): ذكرته ذكرا، كحفظته حفظا، وقالوا:
ذكرا مثل: شربا، وذكر: فعل متعد إلى مفعول واحد، قال:
{فاذكروني أذكركم} [البقرة / 152]، {واذكروا نعمة الله عليكم}
[الأحزاب / 9]، فإذا ضاعفت العين تعدى إلى مفعولين نحو:
ذكّرت زيدا أمره، قال (4):
يذكّرنيك حنين العجول ... ونوح الحمامة تدعو هديلا
ونقله بالهمزة في القياس كتضعيف العين، وتقول: ذكّرته
__________
(1) عبارة (ط): على تخفيف الذال من قوله.
(2) السبعة 273272.
(3) سقطت من (م).
(4) البيت للعباس بن مرداس انظر مجالس ثعلب 424والإنصاف 308وابن يعيش 4/ 130والخزانة 1/ 573و 3/ 119وشرح أبيات المغني 7/ 203 وقد جاء في سيبويه 1/ 292مع آخر قبله بغير نسبة.
والعجول من الإبل: الواله التي فقدت ولدها. والهديل: الذكر من الحمام.(3/425)
فتذكّر تفعّل، لأن تذكّر مطاوع فعّل، كما أن تفاعل (1) مطاوع فاعل، قال: إذا مسهم طيف (2) من الشيطان تذكروا [الأعراف / 201]، وقد تعدّى تفعّلت، قال (3):
تذكّرت أرضا بها أهلها ... أخوالها فيها وأعمامها
وأنشد أبو زيد (4):
تذكّرت ليلى لات حين ادّكارها ... وقد حني الأصلاب ضلّا بتضلال
فقال: ادّكارها، كما قال: {وتبتل إليه تبتيلا}
[المزمل / 8]، ونحو ذلك مما لا يجيء المصدر فيه على فعله، وجاء المصدر على ذكرى بألف التأنيث، كما جاء على فعلى، نحو: الدعوى والعدوى، وتترى فيمن لم يصرف، وعلى فعلى نحو: شورى، وقالوا في الجمع: الذّكر فجعلوه بمنزلة سدرة وسدر، كما جعلوا العلى مثل الظلم، وقالوا: الدكر، بالدال، حكاه سيبويه، والقياس: الذّكر بالذال المعجمة،
__________
(1) في (م): (يفاعل) وهو خطأ.
(2) طيف: قراءة ابن كثير وأبي عمر والكسائي، وستأتي في موضعها.
(3) البيت لعمرو بن قميئة وهو من شواهد سيبويه، أورده شاهدا على نصب أعمامها وأخوالها بإضمار فعل انظر سيبويه 1/ 144والخصائص 2/ 427المحتسب 1/ 116.
(4) البيت لعمرو بن شأس أدرك الإسلام. وهو أول مقطّعة. انظر النوادر 225 (ط الفاتح) واللسان (ضلل) وذكر أن هذه العبارة «ضلا بتضلال» تقال للباطل.(3/426)
وكذلك روي بيت ابن مقبل (1):
من بعض ما يعتري قلبي من الدّكر لما كثر تصرف الكلمة (2) بالدّال، نحو {ادكر}
[يوسف / 45]، و {هل من مدكر} [القمر / 15]، وقال (3):
وبدّلت شوقا بها وادّكارا أشبهت تقوى، وتقيّة، وتقاة، وهذا أتقى من هذا، وفي التنزيل: {وادكر بعد أمة} [يوسف / 45]، وفيه: {فهل من مدكر}، ويجوز في القياس أن يكون ادّكرت متعديا مثل: شويته، واشتويته، وحفرته واحتفرته، وعرّوته، واعتريته، وفي التنزيل: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا}
[هود / 54]، وكذلك: عرّه، واعترّه، ويقوي ذلك قول الشاعر (4):
تذكرت ليلى لات حين (5) ادّكارها فأضاف المصدر إلى المفعول به.
فأما قوله: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض}
__________
(1) صدر البيت:
يا ليت لي سلوة يشفى الفؤاد بها انظر ديوانه / 81.
(2) عبارة (ط): لمّا كثر تصرّف بالكلمة بالدال.
(3) عجز بيت للأعشى في ديوانه ص 45:
وبانت بها غربات النّوى
(4) تقدم ذكره قريبا.
(5) في (ط): حين لات حين، بزيادة حين قبل لات وهو خطأ.(3/427)
[الأنفال / 26]، فمن الذكر الذي يكون عن النسيان، والمعنى: قابلوا أحوالكم (1) التي أنتم عليها الآن، بتلك الحال المتقدمة ليتبيّن لكم موضع النعمة فتشكروا عليه، وهذا قريب من قوله: {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} [الأعراف / 86]، فقوله (2): {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} [الأنعام / 152].
أي: ذلك الذي تقدم ذكره في (3) ذكر مال اليتيم، وأن لا يقرب إلّا بالتي هي أحسن، وإيفاء الكيل، واجتناب البخس، والتطفيف فيهما، وتحرّي الحقّ على مقدار الطاقة والاجتهاد، ولذلك (4) أتبع بقوله: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}
[الأنعام / 152]، والقول بالقسط والحقّ، ولو كان المقول فيه، والمشهود له، والمحكوم (5) له، ذا قربى، والوفاء بالعهد، لينجز ما وعد عليه من قوله: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} [الفتح / 10].
هذا كلّه مما وصّى به، ليتذكروه، ويأخذوا به، ولا (6)
يطرحوه، فيتذكرون، هو الوجه والمعنى عليه، لأنه أمر نافذ بأخذ بعد أخذ، ووقت (7) بعد وقت، فهو من باب التفوّق والتجرّع، وكذلك التذكّر من قوله: أولا يذكر الإنسان أنا
__________
(1) في (ط): حالكم.
(2) في (ط): وقوله.
(3) في (ط): من.
(4) في (م): وكذلك.
(5) في (ط): أو المحكوم.
(6) في (ط): فلا.
(7) في (م): ووقتا بعد وقت.(3/428)
{خلقناه من قبل} [مريم / 67]، إنما (1) هو حضّ على الشكر على خلقه وإحيائه وتعريضه للنعيم الدائم والخلود فيه.
فأما قوله: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر} [الفرقان / 62] أي أن (2) يتفكّر، فيتبيّن (3) شكر الله، وموضع النعمة، وإتقان الصنعة، فيستدلّ منه على التوحيد، فيستوجب بذلك المنزلة الرفيعة، وقوله تعالى (4): {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا} [الفرقان / 50]، أي: صرفنا هذا الماء المنزل بينهم في مراعيهم ومزارعهم وشربهم، ليتفكروا في ذلك في مكان النعمة به.
قال أحمد (5): وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع وابن عامر (6) كلّ ذلك بالتشديد إلّا قوله: أو لا يذكر الإنسان [مريم / 67]، فإنّهم خفّفوها، كأنهم ذهبوا في تخفيف ذلك، إلى أنّ إيجاده وإنشاءه هو (7) دفعة واحدة، فحضّ على ذكر تلك النعمة، فلم يلزم عندهم أن يكون على لفظ التكثير، وما يحدث مرّة بعد مرّة، والباقون كأنهم ذهبوا إلى أنّه ينبغي أن يتذكّر ذلك مرّة بعد مرّة، وإن كان دفعة كما يتذكر الأشياء الأخر
__________
(1) في (ط): وإنما.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (م) فيبين. وعليها فإن ضبط ما بعدها يختلف من الفتح إلى الضم.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (م).
(6) عبارة (ط): وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر.
(7) في (ط): أي هو دفعة واحدة.(3/429)
المتكرّرة، ليكون شكره للنعمة بمكان ذلك متتابعا. كما يكون ذلك في الحال المتكررة.
قال: أحمد (1) وروى نصر بن علي عن أبيه عن أبان عن عاصم (2) تذكرون خفيفة الذّال في كلّ القرآن، وكذلك روى حفص عن عاصم.
والقول في ذلك أن التخفيف مثل التشديد في المعنى، إنما هو تتذكرون فحذف لاجتماع المتقاربة بالحذف كما خفّفه غيره بالإدغام، ويمكن أن يقال: إنّ الحذف أولى لأنه أخفّ في اللفظ، والدلالة على المعنى قائمة.
قال أحمد (3): وقرأ حمزة والكسائيّ يذكرون * مشدّدا إذا كان بالياء، يتذكّرون، مخففا إذا كان بالتاء، هذا مثل رواية أبان وحفص عن عاصم (4).
فأما تشديد حمزة والكسائي يذكرون *، إذا كان بالياء، وتخفيفها (5) إذا كان بالتاء، فإنهما ثقّلا يذكرون * بالياء، لأنه لم تجتمع المتقاربة مع الياء، كما اجتمعت مع التاء، ألا ترى أن الياء ليست بمقاربة للتاء، كما أن التاء مثل له (6) في
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): نصر عن أبيه عن عاصم.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): عنه. بدل عن عاصم.
(5) في (ط): وتخفيفهما.
(6) في (ط): لها.(3/430)
يتذكّرون، فلما لم تجتمع المقاربة ولا الأمثال مع الياء، إنّما ولم يحذفا، وحذفا في: يتذكرون * لاجتماع التاءين، وكون الدال معهما (1) مقاربة لهما. وهذا اعتبار حسن، وهو كاعتبار عاصم في رواية أبان وحفص عنه.
فأمّا اختلافهم في سورة الفرقان في قوله: {لمن أراد أن يذكر} [الفرقان / 62]، وقرأ (2) حمزة وحده أن يذكر * مخفّفة، وقرأ (2) الكسائي: {أن يذكر} مشدّدة، والتشديد على أن (4)
يتذكر نعم الله تعالى (5) ويذكّر ليدرك العلم بقدرته، ويستدل على توحيده كما قال: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الروم / 8]، {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}
[الأعراف / 185] وتخفيف حمزة على أنّه يذكر ما نسيه في أحد هذين الوقتين في الوقت الآخر، وهو (6) فيما زعموا قراءة الأعمش، ويجوز أن يكون على: يذكر تنزيه الله وتسبيحه، أي: يذكر ما ندب إليه من (7) قوله عزّ من قائل (8): {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا}
[الأحزاب / 41]، ويجوز أن يكون على: أراد أن يذكر نعم الله
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): وقراءة.
(4) في (ط): أنه.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): وهي.
(7) في (ط): في.
(8) سقطت من (ط): عز من قائل.(3/431)
عليه، فيشكر (1) لها، كما قال: {اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم}
[المائدة / 11]، {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه}
[المائدة / 7]، أي: تلقّوها بالشكر.
قال أحمد: واتفقا على تخفيف الدال في بني إسرائيل وفي الفرقان في قوله: ليذكروا * خفيفة، وشدّدها الباقون.
أما في بني إسرائيل فقوله: ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا، وما يزيدهم إلا نفورا [الإسراء / 41]، فمعنى {صرفنا في هذا القرآن}: صرّفنا ضروب القول فيه من الأمثال وغيرها مما يوجب الاعتبار به والتفكّر فيه، كما قال: {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} [القصص / 51]، وقال:
{وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون} [طه / 113]. وقال (2):
{وما يزيدهم إلا نفورا} أي وما يزيدهم تصريف القول إلّا نفورا، أضمر الفاعل لدلالة ما تقدّم عليه، كما قال: {فلما جاءهم نذير ما زادهم} [فاطر / 42]، أي: ما زادهم مجيئه إلّا نفورا، ومعنى: {ما زادهم إلا نفورا} أراد: زادهم (3) نفورا عند مجيئه، فنسب ذلك إلى السورة، والنذير. أو الآية على الاتساع لمّا ازدادوا هم عند ذلك نفورا وعنادا، كما قال: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} [إبراهيم / 36]، وإنما ضلّ الناس، ولم تضلّهم الأصنام، وكذلك: {فزادتهم رجسا إلى رجسهم}
__________
(1) في (ط): فيشكرها.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (م) زادوهم.(3/432)
[التوبة / 125]. وأما ما في الفرقان مما اتّفق حمزة والكسائيّ على تخفيفه، وشدّدهما غيرهما (1) فقوله: {ولقد صرفناه بينهم}
[الفرقان / 50]، أي: الماء المنزل من السماء سقيا لهم وغيثا، ليذكروا موضع النعمة فيشكروه، ويتقبّلوه (2) بالشكر، فأبى أكثر الناس الشكر لمكانه، وكفروا بالنعمة (3) به، وقد يقال: إن كفر النعمة به قولهم: مطرنا بنوء كذا، وكذلك قوله: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة / 82] فكأنّه على هذا تجعلون شكر رزقكم التكذيب، ومثل ذلك ما أنشده أبو زيد:
فكان ما ربحت تحت (4) الغيثرة ... وفي الزّحام أن وضعت عشره (5)
قال [أحمد] (6) واتفقوا على تخفيف ذال قوله: {وما يذكرون} ورفع الكاف في المدّثر [56]. فقرأ نافع: وما تذكرون بالتاء ورفع الكاف. وقرأ الباقون بالياء.
__________
(1) في (ط): وشدده غيرهما.
(2) في (ط): فيشكروا ويتقبلوه.
(3) في (ط): النعمة.
(4) في (ط): وسط، وفي النوادر: ما أصبت وسط.
(5) من رجز ذكر أبو زيد في نوادره ص 407 (ط الفاتح) سبب وروده ولم ينسبه.
والغيثرة: الجماعة من الناس المختلطون من الناس الغوغاء (اللسان غثر عن أبي زيد) ووضع في تجارته: غبن وخسر فيها (اللسان وضع وأورد الرجز).
(6) سقطت من (ط).(3/433)
وروي عن الحسن في قوله: {كلا إنها تذكرة}
[المدثر / 54]، قال: القرآن، فأما قوله: {فمن شاء ذكره}
[المدثر / 55]، فتقديره أن ذلك ميسّر له كما قال: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر / 17]، أي: لأن يحفظ ويدرس، فيؤمن عليه التحريف والتبديل الذي جاز على غيره من الكتب لتيسيره للحفظ، ودرس الكثرة له وخروجه بذلك عن الحدّ الذي يجوز معه التبديل له، والتغيير، وقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر / 9]، فأما قوله: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل / 5]، فليس على ثقل الحفظ له، واعتياصه، ولكن كما قال الحسن: إنّهم ليهذّونه هذّا (1)، ولكن العمل به ثقيل.
ويجوز أن يكون المراد به ثقيل على من عانده، فردّه ولم ينقد له، كما قال: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون} [القلم / 51]، وقوله (2):
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} [الحج / 72]، وكقوله: {ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر. فقال إن هذا إلا سحر يؤثر. إن هذا إلا قول البشر}
[المدثر / 2522].
فأما وجه الياء فلأن قبله ما يدل عليه الياء، وهو قوله:
{كلا بل لا يخافون الآخرة} [المدثر / 53]، {وما يذكرون}
__________
(1) هذّ القرآن يهذّه هذّا: أي سرده سردا.
(2) سقطت من (ط).(3/434)
[المدثر / 56] ووجه آخر، وهو: أنه يجوز أن يكون فاعل {يذكرون} قوله: {فمن شاء ذكره} [المدثر / 55]، وقوله: {فمن شاء ذكره}، لا يخلو من أن يكون صلة أو جزاء، وكيف كان لم يمتنع أن يكون فاعل هذا الفعل.
ووجه التاء أنه يجوز أن يعنى به الغيب، والمخاطبون، فغلّب الخطاب (1) ويجوز أن يكون على: قل لهم: وما تذكرون مثل: وما تشاءون.
الانعام: 153
اختلفوا في فتح الألف وكسرها وتخفيف النون وتشديدها [وتحريك الياء وإسكانها] من قوله تعالى (2): {وأن هذا صراطي مستقيما} [الأنعام / 153].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، {وأن هذا صراطي مستقيما}، مفتوحة الألف مشدّدة النون، {صراطي}
ساكنة الياء.
وقرأ ابن عامر: وأن هذا مفتوحة (3) الألف ساكنة النون، صراطي مفتوحة الياء.
وقرأ حمزة والكسائي وإن * مكسورة الألف مشددة النون، {صراطي} ساكنة الياء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر: سراطي بالسين.
__________
(1) في (م): له الخطاب.
(2) في (ط): عزّ وجلّ.
(3) في (م): ساكنة مفتوحة.(3/435)
وقرأ حمزة بين الصاد والزاي، واختلف عنه وقد ذكر.
وقرأ (1) الباقون بالصّاد (2).
من فتح أن * فقياسه (3) قول سيبويه (4): أنه حمله (5) على {فاتبعوه} لأنّه قال في قوله: {لإيلاف قريش} [قريش / 1]، وقوله: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون} (6)
[المؤمنون / 52]، وقوله (7): {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن / 18]، أن المعنى: لهذا فليعبدوا، ولأن هذه أمّتكم، ولأن المساجد لله فلا تدعوا، فكذلك لأن هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه.
ومن خفّف فقال: وأن هذا صراطي فإنّ المخففة في قوله يتعلّق بما يتعلّق به المشدد (8)، وموضع هذا * رفع بالابتداء، وخبره: صراطي وفي أن * ضمير القصة، والحديث، وعلى هذه الشريطة يخفّف، وليست المفتوحة كالمكسورة إذا خففت، وعلى هذا قول الأعشى (9):
__________
(1) سقطت من (م).
(2) السبعة 273وما بين معقوفين زيادة منه.
(3) في (ط): القياس.
(4) انظر سيبويه 1/ 464في «باب آخر من أبواب أن».
(5) في (ط): حملها.
(6) في الأصل: «فاعبدون» وهي من سورة الأنبياء / 92، وهو خلاف ما عند سيبويه، الذي أثبتناه.
(7) سقطت من (ط).
(8) في (ط): تتعلق بما تتعلق به المشددة.
(9) ورد عجز البيت في ديوانه ص 59برواية:
أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل(3/436)
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يحفى وينتعل
والفاء التي (1) في قوله: {فاتبعوه}، مثل الفاء التي (1) في قوله: بزيد فامرر.
ومن كسر إن * استأنف بها، والفاء في قوله {فاتبعوه}
على قوله عاطفة جملة على جملة، وعلى القول الأول زيادة.
الانعام: 158
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى (3): {تأتيهم الملائكة} [الأنعام / 158].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: {تأتيهم} بالتاء.
وقرأ حمزة والكسائيّ: يأتيهم * بالياء (4).
وقد تقدّم (5) هذا النحو في غير موضع.
الانعام: 159
اختلفوا في تشديد الراء وتخفيفها، وإدخال الألف وإخراجها من قوله تعالى (6): {فرقوا} [7] دينهم [الأنعام / 159].
فقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
__________
انظر: شرح أبيان المغني للبغدادي 1/ 147وانظر تخريجه فيه.
(1) سقطت من (ط).
(3) في (ط): عزّ وجلّ.
(4) السبعة 273، 274.
(5) في (ط): وقد تقدم القول في هذا النحو.
(6) في (ط) عزّ وجلّ.
(7) في (م): فارقوا.(3/437)
{فرقوا دينهم} مشدّدة وكذلك في الروم [32].
وقرأ حمزة والكسائيّ ب فارقوا بألف، وكذلك في الروم (1).
من قال: {فرقوا} فتقديره: يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، كما قال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}
[البقرة / 18]، فهم خلاف المسلمين الذين وصفوا بالإيمان به كلّه، في قوله: {وتؤمنون بالكتاب كله} [آل عمران / 119].
وقال: {إن الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض}
[النساء / 150].
ويجوز أن يكون المعنى في قوله: [يريدون أن يفرّقوا بين دين الله ودين رسله: لا يؤمنون بجميعه] (2) كمن وصف بذلك في قوله: {وتؤمنون بالكتاب كله} [آل عمران / 119].
ومن قرأ: فارقوا فالمعنى: باينوه، وخرجوا عنه. وإلى معنى: فرّقوا (3)، يؤول، ألا ترى أنّهم لمّا آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه فارقوه كلّه، فخرجوا عنه ولم يتبعوه.
وأما قوله: {يومئذ يتفرقون} [الروم / 14] فالمعنى:
__________
(1) السبعة: 274.
(2) في (ط) جاء ما بين معقوفين كما يلي: ويريدون أن يفرقوا بين دين الله ورسله يفرقون بين دين الله ودين رسله أيؤمنون بجميعه.
(3) في (ط): فرقوه.(3/438)
يصيرون فرقة فرقة من قوله: {فريق في الجنة وفريق في السعير}
[الشورى / 7].
الانعام: 161
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ (1) دينا قيما [الأنعام / 161].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: دينا قيما مفتوحة القاف مشدّدة الياء (2).
وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة والكسائي {دينا قيما}
مكسورة القاف خفيفة الياء. (3).
حجة من قرأ: دينا قيما قوله: {وذلك دين القيمة}
[البينة / 5]، كأنه دين الملة القيّمة، فعلى هذا يكون وصفا للدّين، إذا كانت نكرة كما كان وصفا للملّة، لأنّ الملّة هي الدين، وزعموا أنه في قراءة أبيّ وهذا صراطي دينا قيما.
قال أبو الحسن: قال أهل المدينة: دينا قيما وهي حسنة، ولم نسمعها من العرب، قال: وهي في معنى المستقيم.
فأما قيما * فهو مصدر كالشّيع (4)، ولم يصحّح كما صحّح عوض، وحول، وقد كان القياس، ولكنه شذّ عن القياس، كما شذّ أشياء من نحوه عن القياس نحو: ثيرة،
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (م).
(3) السبعة 274.
(4) في (ط): مثل الشيع.(3/439)
ونحو قولهم: جياد في جمع جواد، وكان القياس الواو، كما قالوا: طويل وطوال، قال الأعشى:
جيادك في الصّيف في نعمة ... تصان الجلال وتنطى الشعيرا (1)
فأما انتصاب دينا، فيحتمل نصبه ثلاثة أضرب:
أحدها: أنه لما قال: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} [الأنعام / 161]، استغني بجري ذكر الفعل عن ذكره فقال: {دينا قيما}، أي: هداني دينا قيما، كما قال: {اهدنا الصراط المستقيم}. وإن شئت نصبته على: اعرفوا، لأن هدايتهم إليه تعريف، فحمله على: اعرفوا دينا قيما. وإن شئت حملته على الاتّباع كأنه قال: اتّبعوا دينا قيما، والزموه، كما قال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر / 55].
الانعام: 162
قال: كلّهم (2) قرأ: {محياي} [الأنعام / 162]، محرّكة الياء {ومماتي} ساكنة الياء غير نافع، فإنه أسكن الياء في محياي ونصبها في مماتي (3).
إسكان الياء في {محياي} شاذّ عن القياس والاستعمال، فشذوذه عن القياس أن فيه التقاء ساكنين، لا يلتقيان على هذا الحد في محياي، وأما شذوذه عن الاستعمال، فإنك لا تكاد
__________
(1) البيت في ديوان الأعشى 99من قصيدة يمدح فيها هوذة الحنفي. وفيه:
وتعطى بدل وتنطى، والجلال: ج جل وهو ما تلبسه الدابة لتصان به.
(2) في (ط): وكلهم.
(3) السبعة: 274.(3/440)
تجده في نثر ولا نظم، ووجهها مع ما وصفنا، وبعض البغداديين، قد حكى أنه سمع، أو حكي له:
التقت حلقتا البطان (1) بإسكان الألف مع سكون لام المعرفة، وحكى غيره: له ثلثا المال، وليس هذا مثل قوله:
{حتى إذا اداركوا فيها جميعا} [الأعراف / 38] لأن هذا في المنفصل مثل دابّة في المتصل، ومثل هذا ما جوّزه يونس في قوله: اضربان زيدا، واضربنان زيدا، وسيبويه ينكر هذا من قول يونس.
الانعام: 44
قرأ ابن عامر وحده فتحنا عليهم * [الأنعام / 44].
مشدّدة، وقرأها الباقون مخفّفة (2).
حجة التشديد {مفتحة لهم الأبواب} [ص / 50]، وحجة التخفيف قوله (3):
ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها (4)
__________
(1) من أمثال العرب التي تضرب للأمر إذا اشتد.
انظر الأمثال لابن سلّام / 343واللسان (بطن).
(2) السبعة 257وقد ذكرنا فيما تقدم أن مكان هذه الآية متأخر الذكر.
(3) صدر بيت للراعي من قصيدة في ديوانه ص 28وعجزه:
دوني وأفتح بابا بعد إرتاج انظر الكامل 1/ 242.
(4) هنا ينتهي الجزء الثاني من نسخة (ط) لابن غلبون في حين تتابع (م) الكلام في سورة الأعراف.(3/441)
[انتهى بحمد الله الجزء الثالث من الكتاب ويتلوه في الجزء الرابع: اختلافهم في سورة الأعراف](3/443)
الجزء الرابع
بسم الله [الرحمن الرحيم عونك يا رب] (1)
ذكر اختلافهم في سورة الأعراف
الاعراف: 3
اختلفوا في تشديد الذال وتخفيفها وزيادة ياء (2) في قوله تعالى (3): {قليلا ما تذكرون} [الأعراف / 3].
فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر قليلا ما تذّكّرون مشدّدة الذال والكاف.
وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص:
{تذكرون} خفيفة الذال شديدة الكاف.
وقرأ ابن عامر: قليلا ما يتذكّرون بياء وتاء. وقد روي عنه بتاءين (4).
من قرأها: تذكّرون أراد: تتذكرون، فأدغم تاء تفعّل في الذال، وإدغامها فيه حسن، لأن التاء مهموسة، والذال مجهورة، والمجهور أزيد صوتا، وأقوى من المهموس، فحسن
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من (ط).
(2) في (م): تاء.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) السبعة 278.(4/5)
إدغام الأنقص في الأزيد، ولا يسوغ إدغام الأزيد في الأنقص ألا ترى أن الصاد وأختيها لم يدغمن في مقاربهنّ لما فيهنّ من زيادة الصفير.
و (ما) في قوله: ما تذكّرون (1) موصولة بالفعل، وهي معه بمنزلة المصدر، والمعنى: قليل (2) تذكّركم. ولا ذكر في الصلة يعود إليها كما لا يكون في صلة أن ذكر.
وقراءة عاصم وحمزة والكسائي في المعنى مثل قراءة من تقدم ذكره، إلّا أنّهم حذفوا التاء، التي أدغمها هؤلاء، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة. ويقوي ذلك قولهم:
اسطاع يسطيع (3)، فحذفوا أحد الثلاثة المتقاربة.
وقول ابن عامر: تتذكّرون بتاءين كقراءة من قرأ:
تذّكّرون، وتذكّرون إلا أنه أظهر ما أدغمه من قال: تذّكّرون وما حذفه من قال: تذكرون.
وقول ابن عامر: يتذكّرون بياء وتاء، وجهه أنه مخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم (4) أي: قليلا تذكّر هؤلاء الذين ذكّروا بهذا الخطاب.
الاعراف: 10
وكلّهم (5) قرأ: (معايش) [الأعراف / 10] بغير همز.
__________
(1) في (م): ما يذكّرون.
(2) في (ط): قليلا.
(3) في (م): استطاع يستطيع.
(4) عبارة (م): أنه وجهه أنه مخاطبة النبي.
(5) في (ط): كلهم بإسقاط الواو.(4/6)
وروى خارجة عن نافع: (معايش) ممدود مهموز (1)، وهذا غلط (2).
قوله: {وجعلنا لكم فيها معايش}.
معايش فيه جمع معيشة، واعتل معيشة لأنه على (3) وزن يعيش، وزيادته زيادة تختصّ الاسم دون الفعل، فلم يحتج إلى الفصل بين الاسم والفعل، كما احتيج إليه فيما كانت (4) زيادته مشتركة نحو الهمزة في: أجاد، وهو أجود منك. وموافقة الاسم لبناء الفعل، يوجب في الاسم الاعتلال، ألا ترى أنّهم أعلّوا بابا ودارا ويوم راح لمّا كان على وزن الفعل، وصحّحوا نحو:
حول، وعيبة ولومة لما لم يكن على مثال الفعل، فمعيشة موافقة للفعل في البناء، ألا ترى أنه مثل: يعيش، في الزّنة، وتكسيرها يزيل مشابهته، في البناء فقد علمت بذلك زوال المعنى الموجب للإعلال (5) في الواحد في الجمع (6)، فلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في اللفظ، ولأن (7)
التكسير معنى لا يكون في الفعل، إنما يختصّ به الاسم وإذا كانوا قد صححوا نحو الجولان والهيمان والغثيان (8)، مع قيام
__________
(1) في (ط): ممدودا مهموزا.
(2) السبعة 278.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): كان.
(5) في (ط): للاعتلال.
(6) في (ط): في الجميع.
(7) في (ط): لأن بسقوط الواو.
(8) سقطت من (ط).(4/7)
بناء الفعل فيه لما لحقه من الزيادة التي يختصّ بها الاسم فتصحيح قولهم (معايش) الذي قد زال مشابهة الفعل عنه في اللفظ والمعنى لا إشكال في تصحيحه، وفي وجوب العدل عن إعلاله، ومن أعلّ فهمز فمجازه على وجه الغلط، وهو أن معيشة على وزن: سفينة، فتوهّمهما: فعيلة فهمز كما يهمز (1)
مصائب، ومثل ذلك ممّا (2) يحمل على الغلط قولهم في جمع مسيل: أمسلة، وقد جاء ذلك في شعر هذيل. قال أبو ذؤيب (3):
وأمسلة مدافعها خليف فتوهموه فعيلة. وإنّما هو مفعلة فالميم في أمسلة على هذا ميم مفعل، وقد حكى يعقوب وغيره مسيل ومسل، فالميم على هذا فاء، ومسيل: فعيل وليس بمفعل من سال.
ومن همز: مداين، لم يجعله: مفعلة، من دان (4) ولكنّه
__________
(1) في (ط): فهمزها كما همز.
(2) في (م): ما.
(3) عجز بيت وصدره:
بواد لا أنيس به يباب وقبله:
فقال له أرى طيرا ثقالا ... تخبّر بالغنيمة أو تخيف
ويباب: قفر ليس فيه أحد ومدافعها: التي تدفع إلى الأودية.
وخليف: الطريق في أصل الجبل. انظر شرح أشعار الهذليين للسكري 1/ 185.
(4) في (ط): دان يدين.(4/8)
فعلية، يدل على ذلك: مدن ولا يجوز أن يكون: مفعلة، من دان يدين، ومن أخذه من ذلك، كان مدينة مفعلة عنده، وجمعها: مداين بتصحيح الياء.
الاعراف: 25
واختلفوا في ضم التاء [وفتحها من قوله] (1): {ومنها تخرجون} [الأعراف / 25].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو، ونافع، وعاصم {ومنها تخرجون}، بضم التاء وفتح الراء هاهنا، وفي الروم: {وكذلك تخرجون، ومن آياته} [الآية / 19] مثله. وفي الزخرف [11]:
{كذلك تخرجون}، مثله، وفي الجاثية [35]: {فاليوم لا يخرجون منها}، وقرأ في: سأل سائل: {يوم يخرجون}
[المعارج / 43]، وفي الروم [25]: {إذا أنتم تخرجون} ففتح (2)
التاء والياء في هذين، ولم يختلف الناس فيهما.
وقرأ حمزة والكسائي: ومنها تخرجون في الأعراف، بفتح التاء وضم الراء، وفي الروم: وكذلك تخرجون مثله، وفي الجاثية: فاليوم لا يخرجون منها مثله وكذلك (3) الزخرف [11] يخرجون.
وفتح ابن عامر التاء في الأعراف فقط (4). وضمّها في
__________
(1) سقط من (م) ما بين معقوفين.
(2) في (ط): بفتح.
(3) في (ط): وفي الزخرف كذلك.
(4) سقطت من (م).(4/9)
الباقي. وأما قوله: يخرج منهما اللؤلؤ [الرحمن / 22] فقرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ، وابن عامر: {يخرج منهما} بنصب الياء وضم الراء.
وقرأ نافع وأبو عمرو: يخرج منهما بضم الياء وفتح الراء، وروى أبو هشام عن حسين الجعفي، عن أبي عمرو (نخرج منهما) بنون مضمومة (اللّؤلؤ والمرجان) نصبهما.
حدثني محمد بن عيسى المقرئ، عن أبي هشام (1)، عن حسين الجعفي، عن أبي عمرو: (نخرج) بنون مضمومة (2).
ومن قرأ: (يخرجون) بضم الياء فحجّته قوله: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} (3)
[المؤمنون / 35]. وقوله: {كذلك نخرج الموتى} [الأعراف / 57].
وحجّة من قال: (تخرجون) اتفاق الجميع في قوله: ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [الروم / 25] بفتح التاء.
ومن حجّته قوله: {إلى ربهم ينسلون} [يس / 51] فأسند الفعل إليهم.
ومن حجته أنه أشبه بما قبله من قوله: {قال فيها تحيون
__________
(1) كذا في (ط) وفي (م): عن أبي هاشم.
(2) السبعة 279.
(3) في (م) قطع الآية وقال: إلى قوله: أنكم مخرجون.
} {وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف / 25]، ومن حجّتهم قوله: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف / 29].(4/10)
__________
(3) في (م) قطع الآية وقال: إلى قوله: أنكم مخرجون.
{وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف / 25]، ومن حجّتهم قوله: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف / 29].
فأمّا قوله: يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان [الرحمن / 22]، فمن قال: (تخرج منهما) (1) فعلى أنه أسند الفعل (2)
إلى الله تعالى (3)، كما قال: {فأخرجنا به من كل الثمرات}
[الأعراف / 57]، ومن قال: (يخرج) جعله مطاوع أخرج، كما تقول: أخرجته فخرج، والأوّل أدخل في الحقيقة، وقال:
{يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}، واللؤلؤ (4) يخرج من الملح.
وزعم أبو الحسن: أن قوما قالوا: إنّه يخرج منهما جميعا، ويجوز أن يكون: {يخرج منهما} في المعنى (5): يخرج من الملح، فقال: {يخرج منهما} على أنه يخرج من أحدهما، فحذف المضاف، ومثل ذلك في حذف المضاف قوله: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}
[الزخرف / 31].
والرجل (6) إنما يكون من قرية واحدة، كما أنّ اللؤلؤ يخرج من الملح، وإنما المعنى: على رجل من رجلي
(1) سقط من (ط). منهما.
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(3) في (ط): عز وجل.
(4) في (ط): واللؤلؤ إنما.
(5) في (ط): والمعنى.
(6) في (ط): فالرجل.(4/11)
القريتين عظيم (1)، والقريتان: مكة والطائف (2).
الاعراف: 26
اختلفوا في رفع السين ونصبها من قوله تعالى (3):
{ولباس التقوى} [الأعراف / 26].
فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة: ولباس التقوى رفعا.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائيّ: (ولباس التّقوى) نصبا (4).
أما النصب: فعلى أنه حمل على (أنزل) من قوله: (قد أنزلنا عليكم لباسا ولباس التّقوى) [الأعراف / 26]، وأنزلنا هنا كقوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} [الحديد / 25]، وكقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر / 6]، أي: خلق، وقوله (5): (ذلك) على هذا: مبتدأ، وخبره (خير).
ومن رفع فقال: {ولباس التقوى ذلك خير} قطع اللباس من الأول واستأنف (6) به فجعله مبتدأ.
وقوله (ذلك) صفة أو بدل أو عطف بيان، ومن قال: إنّ (ذلك) لغو، لم يكن على قوله دلالة، لأنه يجوز أن يكون على ما
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط) بعدها: «والرجلان ينص الشيخ» ولم يذكر شيئا بعدها.
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة 280.
(5) في (ط): فقوله.
(6) في (ط): فاستأنف.(4/12)
ذكرنا (1)، و (خير) خبر للباس (2) والمعنى: لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب له إلى الله مما خلق له من اللباس والرياش الذي يتجمّل (3) به، وأضيف اللباس إلى التقوى، كما أضيف في قوله (4): {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف}
[النحل / 112] إلى الجوع (5).
الاعراف: 32
اختلفوا في رفع التاء ونصبها من قوله (6): {خالصة يوم القيامة} [الأعراف / 32].
فقرأ نافع وحده (خالصة) رفعا.
وقرأ الباقون: {خالصة} نصبا (7).
قال أبو الحسن: أخرج لعباده في الحياة الدنيا، [قال أبو علي] (8): لا يخلو القول في قوله {في الحياة الدنيا}
[الأعراف / 32] من أن يتعلق ب (حرّم) أو: ب (زينة)، أو:
ب (أخرج)، أو: ب (الطيبات)، أو: ب (الرّزق) من قوله: {من الرزق} [الأعراف / 32] أو بقوله: {آمنوا} [الأعراف / 32] فلا يمتنع من أن يتعلّق ب (حرّم) فيكون التقدير: قل من حرّم في
__________
(1) العبارة في (ط): على واحد مما ذكرنا.
(2) في (ط): خبر اللباس.
(3) في (ط): يتحمل، بالحاء المهملة. وهو تصحيف.
(4) في (ط): عزّ وجل.
(5) في (ط): الجوع والخوف.
(6) في (ط): قوله عز وجل.
(7) السبعة ص 280.
(8) سقطت من (م).(4/13)
الحياة الدنيا، ويكون (1) المعنى: قل من حرّم ذلك وقت الحياة الدنيا زينة، ولا يجوز أن يتعلّق بزينة لأنّه مصدر، أو جار مجراه، وقد وصفتها (2)، فإذا وصفتها (2)، لم يجز أن يتعلّق بها شيء بعد الوصف، كما لا يتعلق به بعد العطف عليه، ويجوز أن يتعلق بأخرج لعباده في الحياة الدنيا.
فإن قلت: فهلّا (4) لم يجز تعلّقه بقوله: {أخرج لعباده}
لأنّ فيه فصلا بين الصلة والموصول بقوله: {قل هي للذين آمنوا} [الأعراف / 32]، وهو كلام مستأنف ليس في الصلة؟
قيل: لا يمتنع الفصل به لأنّه ممّا يسدّد القصة، وقد جاء: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وترهقهم ذلة}
[يونس / 27] [فقوله: وترهقهم] (5) معطوف على كسبوا، فكذلك: {قل هي للذين آمنوا}، ويجوز أيضا أن يتعلق بالطيبات، تقديره: والمباحات من الرزق. ويجوز أن يتعلق بالرزق أيضا، وإن كان موصولا، ويجوز أن يتعلق بآمنوا، الذي هو صلة الذين أي: آمنوا في الحياة الدنيا، فكلّ ما ذكرنا من هذه الأشياء يجوز أن يتعلق به هذا الظرف.
فأمّا (6) قوله: (خالصة) فمن رفعه (7) جعله خبرا للمبتدإ
__________
(1) في (ط): أو يكون.
(2) في (ط): وصفناها.
(4) في (ط): هلّا بسقوط الفاء.
(5) سقطت من (م).
(6) في (ط): وأما.
(7) في (ط): رفع.(4/14)
الذي هو هي، ويكون للذين آمنوا تثبيتا للخلوص، ولا شيء فيه على هذا (1)، ومن قال: هذا حلو حامض، أمكن أن يكون (للذين آمنوا) خبرا، و (خالصة) خبر آخر، ويكون الذكر فيه على ما تقدّم وصفه في هذا الكتاب.
ومن نصب {خالصة} كان: حالا ممّا في قوله: {للذين آمنوا}، ألا ترى أنّ فيه ذكرا يعود إلى المبتدأ الذي هو هي؟
فخالصة حال عن ذلك الذكر، والعامل في الحال ما في اللام من معنى الفعل، وهي متعلقة بمحذوف، وفيه الذكر الذي كان يكون في المحذوف، ولو ذكر ولم يحذف، وليس متعلقا بالخلوص، كما تعلق به في قول من رفع.
قال سيبويه: وقد قرءوا هذا الحرف على وجهين: (قل هي للّذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) بالرفع والنصب (2)، فجعل اللام الجارّة لغوا في قول من رفع، (خالصة) ومستقرا في قول من نصب (خالصة).
والقول فيما ذهب إليه أبو الحسن (3) من أن المعنى: التي أخرج لعباده في الحياة الدنيا، أنّه إن علّق {في الحياة الدنيا}، ب (حرّم)، أو (أخرج)، فلا يخلو من أن تنصب (خالصة) أو ترفعه (4)، فإن رفعته فصلت بين الابتداء والخبر بالأجنبي، ألا
__________
(1) في (ط): ولا شيء على هذا فيه.
(2) انظر الكتاب 1/ 262.
(3) عبارة (ط): والقول فيما ذهب إليه سيبويه أبو الحسن. وهذا سهو من الناسخ.
(4) في (ط): فلا يخلو من أن ينصب خالصة أو يرفعه.(4/15)
ترى أن قوله: {في الحياة الدنيا} إذا لم يكن متصلا ب (آمنوا) كان أجنبيا من الابتداء والخبر، وإن نصبت (خالصة)، فصلت بين الحال وذي الحال بأجنبي منهما، كما فصلت بين الابتداء والخبر؟ فإذا (1) كان كذلك لم يحسن، وليس باعتراض فيكون فيه تسديد.
ومن حجة أبي الحسن أن يقول: إن المفصول به في هذا الموضع بين ما لا (2) يحسن الفصل بينهما بالأجنبي، ظرف، ولا يمتنع الفصل بالظرف، وإن كان أجنبيا مما يفصل به (3)
بينهما. ألا ترى أنّهم لم يجيزوا: كانت زيدا الحمّى تأخذ؟
ولم يفصلوا بين الفاعل وفعله بالمفعول به، ولو كان مكان المفعول به ظرف، لأجازوا ذلك، وذلك (4) قولهم: إنّ في الدار زيدا قائم، فأجازوا الفصل بالظرف، وإن كان أجنبيا من العامل والمعمول فيه، وعلى هذا جاء (5):
فلا تلحني فيها فإنّ بحبّها ... أخاك مصاب القلب جمّ بلابله
وحجة من رفع «خالصة» أنّ المعنى: هي تخلص للّذين آمنوا يوم القيامة، وإن شركهم فيها غيرهم من الكافرين في الدنيا.
__________
(1) في (ط): وإذا.
(2) في (م): بين لا يحسن الفصل.
(3) سقطت من (م).
(4) في (م) وذلك إن.
(5) سبق في 3/ 411.(4/16)
ومن نصب، فالمعنى عنده: هي ثابتة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة لهم. وانتصاب (خالصة) على الحال، وهو أشبه لقوله: {إن المتقين في جنات وعيون آخذين}
[الذاريات / 1615]، ونحو ذلك مما انتصب فيه الاسم على الحال بعد الابتداء وخبره وما يجري مجراه إذا كان فيه معنى فعل.
الاعراف: 38
اختلفوا في التاء والياء (1) في قوله تعالى (2): {ولكن لا تعلمون} [الأعراف / 38].
فقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر (لكلّ ضعف، ولكن لا يعلمون) بالياء.
وروى حفص عن عاصم بالتاء. وكذلك قرأ الباقون بالتاء (3).
وجه القراءة بالتاء في (4) قوله: {ولكن لا تعلمون} أن المعنى: لكلّ ضعف، أي: لكلّ فريق من المضلّين والمضلّين ضعف ولكن لا تعلمون أيّها المضلّون والمضلّون. ومن قرأ بالياء: حمل الكلام على كلّ، لأنّه، وإن كان للمخاطبين، فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة، فحمل على اللفظ دون المعنى،
__________
(1) في (ط) من.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) السبعة ص 280.
(4) كذا في (ط): وسقطت من (م).(4/17)
ومثل هذا في المعنى: {قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار} [ص / 61].
الاعراف: 40
اختلفوا في التخفيف والتشديد في قوله تعالى (1):
(لا تفتح لهم) [الأعراف / 40].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: {لا تفتح}
بالتاء مشددة التاء الثانية.
وقرأ أبو عمرو (لا تفتح) بالتاء خفيفة ساكنة الفاء.
وقرأ حمزة والكسائيّ: (لا يفتح) بالياء خفيفة (2).
حجة من قال (3): {تفتح} قوله: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} [ص / 50] فقياس مفتحة: تفتّح، وقوله: (وفتّحت السماء فكانت أبوابا) [النبأ / 19]، لأن المعنى (4) في فتّحت السماء على أبوابها، والمعنى: فكانت ذات أبواب.
وحجّة من خفف قوله: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر}
[القمر / 11]، وقوله: {فتحنا عليهم أبواب كل شيء}
[الأنعام / 44]، و (فتحنا) قد يقع على التكثير كما يقع (فتّحنا)، ومن قال: (لا يفتح) بالياء، فلتقدّم الفعل، ويشهد للتأنيث قوله: {مفتحة لهم الأبواب} [ص / 50]. ألا ترى أنّ
__________
(1) في (ط): في الياء والتخفيف والتاء والتشديد من قوله عز وجل. وما في (ط) موافق للسبعة.
(2) السبعة ص 280.
(3) في (ط) من قرأ.
(4) كذا في (ط) وسقطت من (م).(4/18)
اسم الفاعل يجري مجرى الفعل، وقد أنّث، وكذلك الفعل ينبغي أن يؤنّث، وأما قوله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج}
[الأنبياء / 96] فإنّما خفّف لأنّ المعنى: فتح سدّ يأجوج ومأجوج (1) فأجرى التأنيث على لفظ يأجوج، وإن كان المعنى على السدّ، أو يكون: فتحت أرض يأجوج، لأنّ فتح سدّها فتح أرضهم فهو فتح واحد لا تكرير فيه، فيحسن التشديد.
ومعنى: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، أي: لا تصعد أعمالهم إليها.
وروي في تفسير قوله: {فما بكت عليهم السماء والأرض}
[الدخان / 29]، أنّ موضع المؤمن الذي كان يرتفع إليه عمله الصالح، يبكي عليه إذا مات، وقال [الله عزّ وجلّ] (2): {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر / 10].
الاعراف: 44
كلّهم قرأ: {قالوا نعم} [الأعراف / 44] بفتح العين والنون في كلّ القرآن غير الكسائي فإنّه قرأ: (نعم) بفتح النون وكسر العين في كلّ القرآن (3).
قال أبو الحسن: (نعم، ونعم) لغتان، قال: وفي القراءة: الفتح.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(3) السبعة ص 281.(4/19)
قال (1) سيبويه: نعم: عدة وتصديق، قال: وإذا استفهمت أجبت بنعم (2)، ولم يحك سيبويه فيها الكسر.
والذي يريده بقوله: عدة وتصديق أنّه يستعمل عدة، ويستعمل تصديقا، وليس يريد أن التصديق يجتمع مع العدة، ألا ترى أنّه إذا قال: أتعطيني؟، فقال: نعم، كان عدة، ولا تصديق في هذا، وإذا قال: قد كان كذا وكذا (3) فقلت:
نعم، فقد صدّقته ولا عدة في هذا.
فليس قوله في نعم أنّه عدة وتصديق كقوله في إذا:
إنّها جواب وجزاء (4)، لأنّ إذا، يكون جوابا في الموضع الذي يكون فيه جزاء، يقول: أنا آتيك، فتقول: إذا أكرمك، فيكون جوابا لكلامه.
ويكون جزاء أيضا في هذا الموضع فقد علمت أنّ قوله في نعم عدة وتصديق ليس كقوله في إذا: إنّها جواب وجزاء، وقوله: إذا استفهمت أجبت بنعم، تريد: استفهمت عن موجب أجبت بنعم، تقول: أيقوم زيد؟ فتقول: نعم (5)، ولو كان مكان الإيجاب نفي لقلت: بلى، ولم تقل: نعم، كما تقول في جواب الإيجاب.
__________
(1) في (ط) وقال.
(2) الكتاب 2/ 312.
(3) سقطت من (م).
(4) قاله سيبويه في 2/ 312.
(5) جاء هنا على هامش (ط) كلمة (بلغت) دلالة على المقابلة.(4/20)
قال تعالى (1): {ألست بربكم قالوا بلى}
[الأعراف / 172] [ولم يقل: نعم] (2)، وقال: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى} [القيامة / 3] (3).
ويجوز في القياس على قول من قال: شهد، أن تكسر النون من نعم في لغة من كسر العين، كما كسرت الفاء في شهد.
فإن قلت: إنّ ذلك إنّما جاء في الأسماء والأفعال، فالقول أنّ نعم، وإن كان حرفا، فإنّه: إذا (4) كان على لفظ الأسماء جاز أن تجرى (5) في القياس مجراها، ألا ترى أنّهم أمالوا «بلى» وإن كان حرفا لما كان على لفظ (6) الأسماء؟
الاعراف: 44
اختلفوا في تشديد النون وتخفيفها (7) في قوله عز وجل (8): {أن لعنة الله} [الأعراف / 44].
فقرأ ابن كثير في رواية قنبل، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: {أن لعنة الله} خفيفة النون ساكنة.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(3) انظر للاستزادة في هذا الموضوع رسالة: شرح كلّا وبلى ونعم، والوقف على كل واحدة منهن في كتاب الله عزّ وجلّ لمكي، بتحقيق الدكتور فرحات، ومن منشورات دار المأمون للتراث.
(4) في (ط): لما.
(5) في (ط): يجرى.
(6) في (ط): ألفاظ.
(7) في (ط) من.
(8) سقطت من (م).(4/21)
حدثني نصر (1) بن محمد القاضي عن البزّي عنهم (أنّ لعنة الله) نصبا.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: (أنّ لعنة الله) نصبا، (على الظالمين) مشددة النون.
حدثني الحسين بن بشر الصوفي، عن روح بن عبد المؤمن، عن محمد بن صالح المرّي عن شبل عن ابن كثير مثله (أنّ) مشدّدة، وكذلك روى خلف والهيثم عن عبيد عن شبل عن ابن كثير مثله (أنّ لعنة الله) نصبا.
وكلّهم قرأ التي في سورة (2) النّور: {أن لعنة الله} [الآية / 7]، {وأن غضب الله} [الآية / 9] بالتشديد، غير نافع فإنّه قرأ: (أن لعنة الله)، و (وأن غضب الله) (3)
مخففتين (4).
__________
(1) في السبعة: مضر، بدل، نصر، وأظنه الصواب وما في الأصل تصحيف، ومضر هذا هو الذي روى القراءة سماعا عن أحمد بن محمد البزي كما في طبقات القراء للجزري 2/ 299، أما نصر فلم أجد أنه روى عن البزي. وقال الجزري هو: مضر بن محمد بن خالد بن الوليد أبو محمد الضبي الأسدي الكوفي، معروف وثقوه.
(2) سقطت من (م).
(3) كذا الأصل وهو الصواب، وفي السبعة ص 282: «أن غضب الله» بالمصدر وهذه القراءة في سيبويه واستشهد بها في 1/ 480على قراءة من خفف «أن» ورفع «غضب» وهي قراءة يعقوب، ونسبها أبو حيان في البحر المحيط 6/ 434إلى أبي رجاء، وقتادة، وعيسى، وسلام، وعمرو بن ميمون، والأعرج، والحسن أيضا، انظر فهرس سيبويه ص 34صنعة الأستاذ أحمد راتب النفاخ.
(4) السبعة ص 281، 282، وفي الكلام تقديم وتأخير، واختلاف يسير في(4/22)
{أذن مؤذن} [الأعراف / 44]، بمنزلة أعلم.
قال سيبويه: أذّنت: إعلام بتصويت (1)، فالتي تقع بعد العلم إنّما هي المشددة أو المخفّفة عنها، والتقدير (2): أعلم معلم أنّ لعنة الله. ومن خفّف (أن) كان على إرادة إضمار القصة والحديث، تقديره: أنّه لعنة الله، ومثل ذلك قوله: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس / 10]، التقدير:
(أنّه)، ولا تخفّف (أن) هذه إلّا وإضمار القصة والحديث يراد معها، ومن ثقّل نصب بأنّ ما بعدها، كما ينصب بالمشددة المكسورة، فالمكسورة (3) إذا خففت لا يكون ما بعدها على إضمار القصة والحديث، كما تكون المفتوحة كذلك. والذي فصل بينهما أنّ المفتوحة موصولة، والموصولة تقتضي صلتها، فصارت لاقتضائها (4) الصلة أشدّ اتصالا بما بعدها من المكسورة، فقدّر بعدها الضمير الذي هو من جملة صلتها، وليست المكسورة كذلك. ومن المفتوحة قول الأعشى (5):
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يحفى وينتعل
__________
العبارة، ولكن المؤدى واحد.
(1) الكتاب 2/ 236، وعبارة سيبويه: «وأذّنت: النداء والتصويت بإعلان».
(2) في (ط): فالتقدير.
(3) في (ط): والمكسورة.
(4) عبارة (م): والموصول يقتضي صلتها لاقتضائها.
(5) سبق انظر 3/ 437.(4/23)
وأمّا (1) قراءتهم في النور {أن غضب الله} فإنّ (أنّ) في موضع رفع بأنّه (2) خبر المبتدأ فأمّا تخفيف نافع {أن لعنة الله}
فحسن، وهو بمنزلة قوله {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس / 10].
وأمّا (3) تخفيفه (أن غضب الله)، فإن قال قائل: فهلّا (4) لم يستحسن هذا، لأنّ المخففة من المشدّدة (5) لا يقع بعدها الفعل، حتى يدخل عوض من حذف أن، ومن أنّها تولى ما لا يليه من الفعل، يدلّ على ذلك قوله: {علم أن سيكون منكم}
[المزمل / 20]، وقوله: {أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا}
[طه / 89] وقوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله} [الحديد / 29].
قيل: استجاز هذا، وإن لم يدخل معه شيء من هذه الحروف، لأنّه (6) دعاء، وليس شيء من هذه الحروف يحتمل الدخول معه، ونظير هذا في أنّه لمّا كان دعاء لم يلزمه العوض. قوله: {نودي أن بورك من في النار ومن حولها}
[النمل / 8] فولي قوله: (نودي) أن، وإن لم يدخل معها عوض، كما لم يدخل في قراءة نافع (أن غضب الله عليها)
__________
(1) في (ط): فأما.
(2) في (ط): لأنه.
(3) في (ط): فأما.
(4) في (ط): هلّا.
(5) في (ط): الشديدة.
(6) في (م): فلأنه.(4/24)
[النور / 9]. والدعاء قد استجيز معه ما لم يستجز مع غيره، ألا ترى أنّهم قالوا: «أما إن (1) جزاك الله خيرا» وحمله سيبويه (2)
على إضمار القصة في «إن» المكسورة، ولم يضمر القصة مع المكسورة إلّا في هذا الموضع؟!
الاعراف: 43
كلّهم قرأ: {وما كنا لنهتدي} [الأعراف / 43]. بواو غير ابن عامر فإنّه قرأ ما كنا بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام (3).
وجه الاستغناء عن حرف العطف في قوله: {وما كنا لنهتدي} أنّ الجملة ملتبسة بما قبلها، فأغنى التباسها به عن حرف العطف. وقد تقدّم ذكر ذلك، ومثل ذلك قوله:
{سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} [الكهف / 22]، فاستغنى عن الحرف العاطف بالتباس إحدى الجملتين بالأخرى.
الاعراف: 42
قرأ (4) ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر {أورثتموها}
[الأعراف / 42] غير مدغمة وكذلك في الزخرف [72].
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ {أورثتموها} (5) مدغمة، وكذلك في الزخرف (6).
[قال أبو علي] (7) من ترك الإدغام فلتباين المخرجين،
__________
(1) في (ط): أن.
(2) انظر الكتاب 1/ 482.
(3) السبعة ص 280. ومكان الكلام عن هذا الحرف جاء متأخرا عن موضعه كما هو ملحوظ.
(4) في (ط): وقرأ.
(5) جاء رسمها في السبعة: (أورثّموها) كلفظها.
(6) السبعة ص 281.
(7) سقطت من (م).(4/25)
وأن الحرفين في حكم الانفصال، وإن كانا في كلمة واحدة.
ألا ترى أنّهم لم يدغموا {ولو شاء الله ما اقتتلوا}
[البقرة / 253]، وإن كانا مثلين لمّا لم يكونا لازمين، ألا ترى أن تاء «افتعل» قد يقع بعدها غير التاء؟، فكذلك «أورث» قد يقع بعدها غير التاء فلا يجب الإدغام.
ووجه الإدغام أن الثاء والتاء مهموستان متقاربتان فاستحسن الإدغام (1) من أدغم. وقد جعل قوم تاء المضمر (2)
بمنزلة غيرها، مما يتصل بالكلمة لأنّ الفعل لا يقدّر منفصلا من الفاعل، بل يقدّر متصلا (3) بدلالة قولهم فعلت، وإسكانهم اللام في قولهم: يفعلن (4) ومجيئهم بالإعراب بعد الفاعل، وقد قال قوم: فحصط برجلي، فأبدلوا تاء الضمير طاء، وقالوا:
فزد، فأبدلوا منها الدال كما أبدلوا في نحو: اذدكر، ونحو اصطبر (5) فعلى هذا يحسن الإدغام في أورثتموها.
الاعراف: 54
واختلفوا في تشديد الشين وتخفيفها في قوله جلّ وعزّ (6): {يغشي الليل النهار} [الأعراف / 54].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر {يغشى} ساكنة الغين خفيفة، وكذلك في الرعد [3].
__________
(1) في (م): ضبط الجملة بالبناء للمفعول، وليس بالوجه.
(2) في (ط): الضمير.
(3) في (ط): متصلا به.
(4) عبارة (م): وقولهم يفعلون.
(5) في (ط): ازدجر واصطبر.
(6) في (ط): من قوله. وسقطت: عزّ وجلّ، وهي كذلك في السبعة.(4/26)
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائيّ (يغشّي) مفتوحة الغين مشددة (1)، وكذلك في الرّعد.
وروى حفص عن عاصم {يغشي} ساكنة الغين خفيفة (2)
فيهما.
وأمّا قوله: (إذ يغشاكم النّعاس) (3) [الأنفال / 11]، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو إذ يغشاكم النّعاس رفعا، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي يغشيكم بضم الياء وفتح الغين وتشديد الشين، {النعاس} نصبا.
وقرأ نافع: (إذ يغشيكم) من أغشى (النعاس) نصبا (4).
قولهم: غشي، فعل متعدّ (5) إلى مفعول واحد يدلّ على ذلك قوله (6): {وتغشى وجوههم النار} [إبراهيم / 50]، و {غشيهم من اليم ما غشيهم} [طه / 78]، فإذا نقلت الفعل المتعدي إلى المفعول الواحد بالهمزة أو بتضعيف العين تعدى إلى مفعولين.
وقد جاء التنزيل بالأمرين جميعا فمما (7) جاء بتضعيف
__________
(1) في السبعة: مشدّدة الشين.
(2) في (ط): مخففة، والسبعة بدون «فيهما».
(3) في (م) زيادة كلمة رفعا وليست ضرورية.
(4) السبعة ص 282مع اختلاف يسير في العبارة.
(5) في (ط) يتعدى وكتب فوق الكلمة متعد.
(6) سقطت قوله من (م) وتكررت في (ط).
(7) في «م»: «بالأمرين فيما جاء»(4/27)
العين قوله: {فغشاها ما غشى} [النجم / 54]، فما في موضع نصب بأنّه المفعول الثاني، ومما جاء بنقل الهمزة، قوله:
{فأغشيناهم فهم لا يبصرون} [يس / 9]، فهذا منقول بالهمزة، والمفعول الثاني محذوف، والمعنى: فأغشيناهم العمى عنهم أو فقد الرؤية. فإذا جاء التنزيل بالأمرين فكل واحد من الفريقين ممّن قرأ: (يغشي، ويغشّي) أخذ بما جاء في التنزيل، وكذلك إن أخذ آخذ بالوجهين جميعا كما روي عن عاصم الأمران جميعا، وكذلك من قرأ: {إذ يغشيكم النعاس}، [الأنفال / 11]، (ويغشيكم النعاس) [الكاف والميم مفعول أول] (1)، وهذا كقولهم فرّحته وأفرحته، وغرّمته وأغرمته، قال: {يغشي الليل النهار} [الأعراف / 54] ولم يقل: ويغشي النهار الليل، كما قال: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل / 81]، ولم يذكر تقيكم البرد للعلم بذلك من الفحوى، ومثل هذا لا يضيق، وكلّ واحد من اللّيل والنهار منتصب بأنّه مفعول به.
والفعل قبل النقل: غشي الليل النهار، فإذا نقلت قلت:
أغشى الله اللّيل النّهار وغشّى الله (2)، فصار ما كان فاعلا قبل النقل مفعولا أول (3).
الاعراف: 54
وقرأ ابن عامر وحده: والشمس والقمر والنّجوم مسخّرات بأمره [الأعراف / 54]. رفعا كلها، ونصب الباقون هذه الحروف كلّها (4).
__________
(1) زيادة في (ط).
(2) في (ط): وغشى الله الليل النهار.
(3) في (م): أولا.
(4) السبعة 282.(4/28)
حجّة من نصب، قوله: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن} [فصلت / 37]، فكما أخبر في هذه أنّه خلق الشمس والقمر، كذلك يحمل على خلق في قوله: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} {والشمس والقمر والنجوم مسخرات}
[الأعراف / 54].
وحجة ابن عامر قوله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض} [الجاثية / 13]، وممّا في السماء: الشمس والقمر. فإذا أخبر بتسخيرها حسن الإخبار عنها به، كما أنّك إذا قلت: ضربت زيدا (1)، استقام أن تقول: زيد مضروب.
الاعراف: 55
قرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر (تضرّعا وخفية) [الأعراف / 55] بكسر الخاء هاهنا وفي الأنعام [63].
وقرأ الباقون: {خفية} مضمومة الخاء جميعا (2).
وروى حفص عن عاصم {خفية} مضمومة الخاء فيهما (3).
القول في ذلك: أن خفية و (خفية) (4) لغتان فيما حكاهما أبو الحسن.
__________
(1) في (ط): ضرب زيد.
(2) في (ط): فيها.
(3) السبعة 283.
(4) في (م) خيفة: والصواب ما في (ط). وفي القاموس «خفا»: وخفيت له،(4/29)
قال: والخفية: الإخفاء، والخيفة (1): الخوف والرهبة.
قال أبو علي: فالهمزة في الإخفاء منقلبة عن الياء، بدلالة الخفية، كما أنّ الألف في الغنى منقلبة عن الياء بدلالة ما حكاه أبو زيد من قولهم: أدام الله لك الغنية (2) وفي التنزيل {ما نخفي وما نعلن} [إبراهيم / 38] فمقابلة الإخفاء له فيها (3)
بالإعلان، [ويدلك أنّ الإخفاء والإعلان] (4) كالإسرار والإجهار. قال: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} [الملك / 13] قالوا (5): خفيت الشيء إذا أظهرته، قال (6):
يخفي التراب بأظلاف ثمانية ... في أربع مسّهنّ الأرض تحليل
فيمكن أن يكون: أخفيت الشيء: أزلت إظهاره، وإذا
__________
كرضيت، خفية بالضم والكسر: اختفيت. وقال في مادة «خاف»: يخاف خوفا وخيفا ومخافة، وخيفة بالكسر وأصلها خوفة وجمعها خيف: فزع.
(1) في (ط) الخفية، وصوابه ما أثبتناه.
(2) في (م): الغيّة.
(3) سقطت من (م).
(4) عبارة ما بين معقوفين في (ط): يدلك على الإخفاء والإعلان سواء.
(5) في (ط): وقالوا.
(6) البيت من مفضلية طويلة برقم 26ص 140وبشرح ابن الأنباري ص 282 لعبدة بن الطبيب، واسمه يزيد بن عمرو، قالها بعد القادسية، يصف فيه ثورا وحشيا، قال ابن الأنباري في شرحه: يخفي التراب: يستخرجه لشدة عدوه.
ويقال: خفيت الشيء إذا استخرجته، قال أبو زيد يقول: إذا عدا فلا تمسّ قوائمه الأرض إلّا بقدر تحلّة اليمين.
وانظر الخصائص 3/ 81ونوادر أبي زيد ص 154.(4/30)
أزلت إظهاره، فقد كتمته، ومثل ذلك قولهم: أشكيته: إذا أزلت شكواه، قال (1) وأنشد أبو زيد:
تمدّ بالأعناق أو تلويها ... وتشتكي لو أنّنا نشكيها (2)
فأما (3) قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية}
[الأعراف / 55] فمما يدل على أن رفع الصوت بالدّعاء، لا يستحبّ، والخوف لله ممّا أمر به، ومدح عليه من قوله:
(وخافوني) (4) [آل عمران / 175] وقوله: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل / 50]، والمعنى: خافوا عقابي، كما قال:
{ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء / 57].
الاعراف: 57
اختلفوا في قوله (5): وهو الّذي يرسل الرّياح نشرا بين يدي رحمته [الأعراف / 57]، فقرأ ابن كثير: وهو الّذي يرسل الرّيح واحدة، (نشرا) مضمومة النون والشين.
وقرأ أبو عمرو، ونافع: (الرياح) جماعة (نشرا) مضمومة النون والشين أيضا (6). وقرأ ابن عامر: (الرّياح) جماعة (7) (نشرا) مضمومة النون ساكنة الشين.
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) ورد الرجز في الخصائص دون أن يذكر قائله. وهو في وصف إبل قد أتعبها السير فهي تمد أعناقها. انظر الخصائص 3/ 77. الخزانة 4/ 530.
(3) في (ط): وأما.
(4) في (ط) «وخافون».
(5) في (ط): عز وجل.
(6) سقطت من (م).
(7) سقطت من (م).(4/31)
وقرأ عاصم: {الرياح} جماعة. {بشرا} بالباء. ساكنة الشين منونة.
وقرأ حمزة والكسائيّ: (الريح) على التوحيد، (نشرا) بفتح النون ساكنة الشين منونة (1).
القول في إفراد الريح وجمعها (2):
اعلم أنّ الريح اسم على فعل، والعين منه واو، فانقلبت في الواحد للكسرة.
فأمّا في الجمع القليل: أرواح، فصحّت لأنّه لا شيء فيه يوجبها (3) الإعلال، ألا ترى أن الفتحة لا توجب إعلال هذه الواو في نحو قوم، وقول، وعون؟
وأمّا (4) في الجمع الكثير فرياح، فانقلبت (5) الواو ياء للكسرة التي قبلها، وإذا كانت قد انقلبت في نحو ديمة، وديم، وحيلة وحيل، فأن تنقلب في رياح أجدر لوقوع الألف بعدها، والألف تشبه الياء (6)، والياء إذا تأخّرت عن الواو أوجبت فيها الإعلال فكذلك الألف لشبهها بها، وقد يجوز أن يكون (الريح) على لفظ الواحد، ويراد بها الكثرة. كقولك: كثر
__________
(1) سقطت من (ط). وانظر السبعة ص 283.
(2) بين (ط) و (م) تقديم وتأخير في عدة صفحات ولكن الكلام مستقيم.
(3) في (ط): يوجب.
(4) في (ط): فأما.
(5) في (ط) انقلبت بسقوط الفاء.
(6) في (ط): التاء وهو تصحيف.(4/32)
الدينار والدرهم، والشاء والبعير، و {إن الإنسان لفي خسر}
[العصر / 2]، ثم قال: {إلا الذين آمنوا} [العصر / 3]، فكذلك من قرأ: (الريح نشرا)، فأفرد، ووصفه (1) بالجمع، فإنّه حمله على المعنى وقد أجازه أبو الحسن. (2) وقد (3) قال:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا (4).
فمن نصب حمله على المعنى لأن المفرد يراد به الجمع، وهذا وجه (5) قراءة ابن كثير. ألا ترى أنّه أفرد الريح، ووصفه بالجمع في قوله: (نشرا بين يدي رحمته) [الأعراف / 57]، فلا تكون الريح على هذا إلّا اسم الجنس (6).
__________
(1) في (م) وصفه.
(2) في (ط): وقد أجاز أبو الحسن ذلك.
(3) سقطت من (ط).
(4) جزء من بيت لعنترة وتمامه:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم
وهو من معلقته.
والأسحم: الأسود وصف رهط عشيقته بالغنى والتمول.
انظر الديوان ص 193وشرح المعلقات السبع للزوزني / 139والخزانة 3/ 310.
(5) في (ط): فهذا وجه.
(6) كذا في (ط)، وعبارة (م) اسما الجنس.(4/33)
وقول من جمع الريح، إذا وصفها بالجميع (1) الذي هو (نشرا) أحسن، لأنّ الحمل على المعنى ليس بكثرة الحمل على اللفظ، ويؤكد ذلك قوله: {الرياح مبشرات} فلمّا وصفت بالجمع جمع الموصوف أيضا.
ومما جاء فيه الجمع القليل بالواو قول ذي الرّمّة (2):
إذا هبّت الأرواح من نحو جانب ... به آل ميّ هاج شوقي هبوبها
وليس ذلك كعيد وأعياد، لأنّ هذا بدل لازم، وليس البدل في الريح كذلك. فأمّا ما
جاء في الحديث من أنّ النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم (3)
كان يقول إذا هبّت ريح: «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (4)
، فلأنّ عامّة ما جاء في التنزيل، على لفظ الرياح للسقيا والرحمة كقوله: [عزّ من قائل] (5): {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر / 22]. وكقوله (6): {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} [الروم / 46] وقوله (7) {الله الذي يرسل الرياح فتثير
__________
(1) في (ط): بالجمع.
(2) انظر ديوانه 2/ 694.
(3) سقطت من (ط).
(4) ذكره الخطابي في شأن الدعاء ص 190وغريب الحديث 1/ 679 والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 135وابن حجر في المطالب العالية 3/ 238والإمام النووي في الأذكار، انظر شرحها لابن علان 4/ 276، 277.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): وقوله.
(7) سقطت من (م).
} {سحابا فيبسطه في السماء} [الروم / 48].(4/34)
__________
(7) سقطت من (م).
{سحابا فيبسطه في السماء} [الروم / 48].
وما (1) جاء بخلاف ذلك جاء على الإفراد كقوله: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} [الذاريات / 41]، وقوله:
{وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر} [الحاقة / 6]، {بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها}
[الأحقاف / 24]، فجاءت في هذه المواضع على لفظ الإفراد وفي خلافها على لفظ الجميع (2).
أبو عبيدة (3): (نشرا) أي متفرقة من كلّ جانب، وقال أبو زيد: قد أنشر الله الريح إنشارا، إذا بعثها، وقد أرسلها نشرا بعد الموت.
قال أبو علي: أنشر الله الريح إنشارا (4) مثل أحياها، فنشرت هي، أي: حييت، والدليل على أنّ إنشار الريح إحياؤها قول المرّار الفقعسي (5):
(1) في (ط): ومما جاء.
(2) في (ط): الجمع.
(3) في (ط): وقال أبو عبيدة. وعبارته في مجاز القرآن 1/ 217، أي:
«متفرقة من كل مهب وجانب وناحية». وما عندنا هو في بعض روايات نسخة في هامش المجاز.
(4) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(5) هو المرار بن سعيد بن حبيب الفقعسي أبو حسان، شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية انظر الأعلام 7/ 199فقد أحال على مواطن ترجمته.
ورواية اللسان للبيت:
وهبت له ريح الجنوب وأنشرت ... له ريدة يحيي الممات نسيمها
والريدة: الريح اللينة. انظر اللسان مادة / ريد /.(4/35)
وهبّت له ريح الجنوب وأحييت ... له ريدة يحيي المياه نسيمها
وكما (1) جاء أحييت كذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم:
أنشر الله الريح، معناه: الإحياء. وممّا يدلّ على ذلك (2) أنّ الريح قد وصفت بالموت، كما وصفت بالحياة: قال (3).
إني لأرجو أن تموت الريح ... فأقعد اليوم وأستريح
فقال: تموت الريح. بخلاف ما قاله الآخر:
وأحييت له ريدة
والرّيدة: الريح، قال (4):
أودت به ريدانة صرصرّ وقراءة (5) من قرأ (نشرا) يحتمل ضربين: يجوز أن يكون جمع ريح نشور، وريح ناشر. ويكون (6): ناشر على معنى
__________
(1) في (ط): فكما.
(2) سقطت من (م).
(3) ذكره اللسان في مادة / موت / ولم ينسبه ويروى (فأسكن اليوم).
(4) عجز بيت لابن ميادة في شعره ص 122وتمامه:
أهاجك المنزل والمحضرّ ... أودت به ريدانة صرصرّ
وانظر المنصف 2/ 11وقد جاءت القافية في شعره مخففة.
(5) في (ط): فقراءة.
(6) في (ط): ويكون ريح ناشر.(4/36)
النسب فإذا جعلته جمع نشور احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون النشور بمعنى المنتشر، كما أنّ الركوب بمعنى المركوب.
قال (1):
وما زلت خيرا منك مذ عضّ كارها ... بلحييك عاديّ الطريق ركوب
وقال أوس:
تضمّنها وهم ركوب كأنّها (2) * إذا ضمّ جنبيه المخارم رزدق (3)
كأنّ المعنى: ريح أو رياح منشرات (4).
ويجوز أن يكون نشرا: جمع نشور يراد به الفاعل، كأنّه كطهور ونحوه من الصفات.
ويجوز أن يكون نشرا: جمع ناشر، كشاهد وشهد، وبازل وبزل، وقاتل وقتل، وقال الأعشى (5):
إنا لأمثالكم يا قومنا قتل
__________
(1) سبق في 3/ 243.
(2) في (ط): كأنه.
(3) الوهم: الطريق الواضح والركوب: الذي قد ذلّله كثرة الوطء مرة بعد مرة، والمخارم: ج مخرم وهو منقطع أنف الجبل والرزدق في اللسان:
السطر من النخيل والصف من الناس، وهو معرب. انظر ديوانه / 77.
(4) في (ط): منشرة.
(5) صدر البيت:
كلا زعمتم بأنّا لا نقاتلكم انظر ديوانه / 61.(4/37)
وقول ابن عامر: نشرا يحتمل الوجهين: أن يكون جمع فعول وفاعل، فخفّف العين، كما يقال: كتب ورسل، ويكون جمع فاعل كبازل وبزل وعائط وعيط.
وأمّا قراءة حمزة والكسائيّ نشرا فإنه (1) يحتمل ضربين:
يجوز أن يكون المصدر حالا من الريح فإذا جعلته حالا منها احتمل أمرين: أحدهما أن يكون النّشر الذي هو خلاف الطيّ، كأنّها كانت (2) بانقطاعها كالمطويّة، ويجوز على تأويل أبي عبيدة (3)، أن تكون متفرقة في وجوهها.
والآخر: أن يكون النشر، الذي هو الحياة في قوله (4):
يا عجبا للميّت الناشر فإذا حملته على ذلك وهو الوجه، كان المصدر يراد به الفاعل كما تقول: أتانا ركضا، أي: راكضا، ويجوز أن يكون المصدر يراد به المفعول، كأنّه يرسل الرياح إنشارا، أي: محياة فحذف الزوائد من المصدر كما قالوا: عمرك الله، وكما قال (5):
فإن يهلك فذلك كان قدري أي: تقديري.
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(3) سبق قول أبي عبيدة قريبا.
(4) عجز بيت للأعشى وصدره:
حتى يقول الناس ممّا رأوا انظر ديوانه / 141
(5) سبق في 2/ 129.(4/38)
والضرب الآخر: أن يكون نشرا على قراءتهما ينتصب انتصاب المصادر من باب {صنع الله} [النمل / 88].
لأنه إذا قال {يرسل الرياح} دلّ هذا الكلام على: ينشر الريح نشرا أو تنشر نشرا، من قوله (1):
كما تنشّر بعد الطية الكتب ... ومن نشرت الريح مثل نشر الميت.
وقراءة عاصم: {بشرا} فهو جمع بشير، وبشر من قوله:
{يرسل الرياح مبشرات} [الروم / 46]. أي تبشّر بالمطر والرحمة، وجمع بشيرا على بشر، ككتاب وكتب (2).
الاعراف: 59
اختلفوا في الرفع والخفض في قوله تعالى (3):
{من إله غيره} [الأعراف / 59].
فقرأ الكسائي وحده ما لكم من إله غيره * خفضا، وقرأ الباقون: [{ما لكم من إله غيره}] رفعا في كلّ القرآن.
وقرأ حمزة والكسائيّ: هل من خالق غير الله [فاطر / 3] خفضا.
__________
(1) هو عجز بيت لذي الرّمّة وصدره:
أم دمنة نسفت عنها الصبا سفعا الدمنة: واحدة الدمن وهو ما سوّد بالرماد. والسفعة ما خالف لون الأرض وهو يضرب إلى السواد. انظر ديوانه 1/ 15. واللسان / طوى / وفيه: من دمنة.
(2) إلى هنا ينتهي التقديم والتأخير المشار إليه في الصفحة 32.
(3) في (ط): من قوله عز وجل. وفي السبعة: «ومن قوله».(4/39)
وقرأ الباقون: {غير الله} رفعا (1).
وجه قراءة الكسائي في: ما لكم من إله غيره * بالجرّ أنّه جعل غيرا صفة لإله على اللفظ، وجعل لكم مستقرا، أو جعله غير مستقر، وأضمر الخبر، والخبر: ما لكم في الوجود أو العالم، ونحو ذلك، لا بدّ من هذا الإضمار (2)، إذا لم يجعل لكم (3) مستقرا لأنّ الصفة والموصوف، لا يستقلّ بهما كلام.
وحجة من قرأ ذلك رفعا {ما لكم من إله غيره} قوله: {وما من إله إلا الله} [آل عمران / 62]، فكما أنّ قوله إلّا الله بدل من قوله: {ما من إله} كذلك قوله: غير الله يكون بدلا من قوله {من إله} و {غيره} يكون بمنزلة الاسم الذي (4) بعد إلّا، وهذا الذي ذكرنا أولى أن يحمل عليه من أن يجعل غير صفة لإله على الموضع.
فإن قلت: ما تنكر أن يكون {إلا الله} صفة لقوله: {من إله} على الموضع. كما كان قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء / 22]. صفة لآلهة.
فالقول أنّ «إلّا» بكونها استثناء أعرف، وأكثر من كونها صفة، وإنّما جعلت صفة على التشبيه بغير فإذا كان بالاستثناء أولى حملنا: {هل من خالق غير الله} على الاستثناء من المنفي
__________
(1) السبعة ص 284وما بين معقوفين منه.
(2) كذا في (ط). وفي (م): والإضمار.
(3) سقطت من (م).
(4) في (م): الأسماء الذي.(4/40)
في المعنى، لأنّ قوله: {هل من خالق غير الله} بمنزلة: ما من خالق غير الله، ولا بدّ من إضمار الخبر، كأنّه: ما من خالق للعالم غير الله، ويؤكّد ذلك قوله: {لا إله إلا الله}
[محمد / 19] فهذا استثناء من منفي مثل: لا أحد في الدار إلّا زيد.
فأمّا قراءة حمزة والكسائيّ: هل من خالق غير الله فعلى أن جعلا غير * صفة للخالق، وأضمر الخبر كما تقدّم.
والباقون جعلوه استثناء بدلا من المنفي، وهو الأولى عندنا لما تقدّم من الاستشهاد عليه من قوله: {وما من إله إلا الله} [آل عمران / 62].
الاعراف: 62
واختلفوا (1) في تشديد اللّام وتخفيفها من قوله تعالى:
{أبلغكم} [الأعراف / 62].
فقرأ أبو عمرو وحده: أبلغكم * ساكنة الباء خفيفة اللّام مضمومة الغين في كلّ القرآن.
وقرأ الباقون: {أبلغكم} بفتح الباء وتشديد اللّام في كلّ القرآن (2).
القول: إنّ بلغ * فعل يتعدى إلى مفعول واحد (3) في
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) السبعة ص 284مع اختلاف يسير.
(3) سقطت من (ط).(4/41)
نحو: بلغني خبرك (1)، وبلغت أرضك جريبا (2).
فإذا نقلته تعدى إلى مفعولين. والنقل تارة يكون بالهمز وأخرى بتضعيف العين، وكلا الأمرين قد جاء به التنزيل، قال:
{فإن تولوا فقد أبلغتكم} [هود / 57].
فهذا. نقل بالهمزة، والنّقل بالتضعيف، يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته [المائدة / 67]، فكلا الأمرين في التنزيل، وكلّ واحدة من اللغتين مثل الأخرى في مجيء التنزيل بهما،
وفي الحديث:
«اللهم هل بلّغت» (3).
الاعراف: 81، 80
واختلفوا في الاستفهامين يجتمعان، فاستفهم فيها (4)
بعضهم، واكتفى بعضهم بالأول من الثاني.
فممن استفهم بهما جميعا عبد الله بن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وحمزة (5) كانوا يقرءون: ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة أئنكم لتأتون الرجال
__________
(1) في (ط): خبركم.
(2) الجريب من الأرض مقدار معلوم من الذراع والمساحة وهو عشرة أقفزة، انظر اللسان / جرب /.
(3) من حديث طويل في مسلم برقم (901) باب صلاة الكسوف.
(4) كذا الأصل «فيها» وفي السبعة «بهما» وقال محققه في الحاشية عن الأصل وت وش: «فيهما». ولعل هذه الأخيرة هي المرادة عندنا وسقط الميم من الناسخ، بدليل ما جاء بعدها من قوله: فممن استفهم بهما
(5) قراءة العبارة في (ط): أبي بكر عنه وحمزة.(4/42)
[الأعراف / 80، 81]، {أإذا كنا ترابا} [الرعد / 5]، وما كان مثله في كلّ (1) القرآن باستفهام.
وروى حفص عن عاصم: {إنكم} في الأعراف. مثل نافع، وكذلك في العنكبوت [2928] غير أنّهم اختلفوا في الهمز.
وقرأ عاصم بهمزتين، وكذلك حمزة، ولم يهمز ابن كثير، وأبو عمرو إلّا واحدة.
وممّن اكتفى بالاستفهام الأول من الثاني: نافع والكسائيّ فكانا يقرءان: أءذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد [الرعد / 5]، أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون [الصافات / 16]، وما كان مثله في القرآن كلّه، إلّا أن الكسائيّ همز همزتين ونافع لم يهمز إلّا واحدة.
وخالف نافع الكسائي في قصة لوط، فكان نافع يمضي على ما أصّل (2)، وكان الكسائيّ يقرأ بالاستفهامين جميعا في قصة لوط، ثم اختلفا في العنكبوت (3): {أئنكم لتأتون الرجال} [الآية / 29] فكان نافع يستفهم بالثاني ولا يستفهم بالأول، وكان الكسائيّ يستفهم بهما جميعا.
اختلفوا (4) في سورة النمل في قوله: {وقال الذين كفروا
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): أصله.
(3) في (ط): واختلفا في قوله في العنكبوت.
(4) في (ط): واختلفوا.
} {أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا} [67] باستفهام.(4/43)
__________
(4) في (ط): واختلفوا.
{أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا} [67] باستفهام.
فقرأ (1) الكسائيّ {أإذا كنا ترابا} بهمزتين. وو آباؤنا إننا بنونين من غير استفهام.
وقرأ ابن عامر ضد قراءة نافع والكسائي (2) في عامّة ذلك، فكان لا يستفهم بالأول ويستفهم بالثاني، وهمز (3)
همزتين في كلّ القرآن إلّا في حرفين فإنه خالف فيهما هذا الأصل فقرأ في الواقعة: {أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا}
[الآية / 47]، جمع بين الاستفهامين. وفي النازعات: {أئنا لمردودون في الحافرة} [الآية / 10] بالاستفهام، إذا كنا عظاما * [الآية / 11] بغير استفهام، وقرأ في النمل غير ذلك:
وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا لمخرجون [الآية / 67] كقراءة الكسائي، ومضى في العنكبوت على الأصل الذي أصّل من ترك الاستفهام في الأول (4).
قوله: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها} [الأعراف / 80] {إنكم لتأتون الرجال} [الأعراف / 81]. كل واحد من الاستفهامين كلام مستقل لا حاجة بواحد من الكلامين إلى الآخر فيما يستقل به.
(1) في (ط): «وقرأ».
(2) في (ط): ضد قراءة الكسائي.
(3) في (ط): ويهمز.
(4) انظر السبعة ص 285، 286ففي النص اختلاف عمّا هنا من حيث بسط المسألة والتقديم والتأخير.(4/44)
فلو قال: إنّ قوله: {إنكم لتأتون الرجال} تقرير فهو بمنزلة الإخبار، وإن كان على لفظ الاستفهام (1) وإذا (2) كان كذلك جعلت: أئنكم (3) لتأتون الرجال تفسيرا للفاحشة، كما أن قوله: {للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء / 176] تفسير للوصية لكان (4) قولا.
فأمّا قوله: أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا [النمل / 67] فليس مثل قوله: {أتأتون الفاحشة} [الأعراف / 80] أئنكم لتأتون الرجال [الأعراف / 81]، لأنّ الاستفهامين هنا قد استثقلا وليس كذلك قوله: {أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا}، ألا ترى أنّ قوله: إذا * في قوله: {إذا كنا ترابا}، ظرف من الزمان يقتضي أن يكون متعلقا بشيء، وليس في الكلام ما يتعلق به.
فإن قلت: فلم لا يتعلق إذا * بقوله: كنا *؟ قيل: لا يجوز ذلك، لأنّ كنّا مضاف إليه، ألا ترى أنّ إذا مضاف إلى كنّا، والمضاف والمضاف إليه لا يكون منهما كلام مستقل، كما لا يكون من الصفة والموصوف.
فإن قلت: فاجعل الفعل في موضع جزم بإذا لتكون إذا معمولة. فإنّ ذلك لم يجيء في الكلام، إنّما يجيء في الشعر،
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) في (ط): فإذا.
(3) في (ط): إنكم.
(4) جملة «لكان قولا» جواب لقوله: «فلو قال».(4/45)
فإذا كان كذلك، فلا بدّ من تعليق إذا بشيء يكون معمولا، ويستقلّ به الكلام، وذلك نبعث أو نحشر، التقدير: أنبعث إذا كنا ترابا. فحذف نبعث في اللفظ لدلالة: {أئنا لمبعوثون} عليه ولا يجوز أن يتعلق إذا في (1) قوله: {أإذا كنا ترابا} بقوله:
مبعوثون لأنّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ما بعد الاستفهام، ولكن يتعلق بالمضمر الذي ذكرنا.
ومثل ذلك قوله: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} [الفرقان / 22]، فقوله: {يوم يرون الملائكة} متعلق بما دلّ عليه هذا الكلام من قوله: يحزنون، ولا يتعلق بشيء مما بعد لا * من قوله: {لا بشرى يومئذ للمجرمين}.
قال: روى (2) حفص عن عاصم إنكم * في الأعراف مثل نافع وكذلك في العنكبوت، غير أنّهم اختلفوا في الهمز.
فقرأ عاصم بهمزتين، وكذلك حمزة، ولم يهمز ابن كثير، وأبو عمرو، إلّا واحدة، يريد أحمد بن موسى بقوله: إلّا واحدة، أنهم خففوا إحدى الهمزتين، ولم يحقّقوهما كما حقّقهما عاصم وحمزة.
قال: وممّن اكتفى بالاستفهام الأول من الثاني نافع
__________
(1) في (ط): من قوله.
(2) في (ط): وروى.(4/46)
والكسائيّ، وكانا يقرءان: أئذا كنا ترابا، إنا لفي خلق جديد [الرعد / 5] أءذا متنا وكنا ترابا إنا لمبعوثون [الواقعة / 47] وما كان مثله في القرآن كلّه، إلّا أنّ الكسائيّ همز همزتين ونافع لم يهمز إلّا واحدة.
يريد أحمد بقوله: إلّا أنّ الكسائيّ همز همزتين، أنّه حقّقهما كما يحقّقهما عاصم وحمزة، وخفّف نافع إحداهما (1).
والقول في قوله: أءذا كنا ترابا، إنا لفي خلق جديد:
أنّ إذا متعلق بفعل مضمر يدلّ عليه قوله: إنا لفي خلق جديد * تقديره: أإذا كنّا ترابا نبعث أو نحشر أو نعاد، لأنّ قوله:
إنا لفي خلق جديد *، يدلّ على هذا الضرب من الفعل، ولا يجوز أن يتعلق إذا بجديد لأنّ ما بعد إن لا تعمل (2) فيما قبلها، كما أنّ ما بعد لام الابتداء، لا يعمل فيما قبلها، وكذلك القول في (3) قوله: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون [المؤمنون / 82].
قال أحمد: وخالف نافعا الكسائيّ في قصة لوط، فكان نافع يمضي على ما أصّل، وكان الكسائيّ يقرأ بالاستفهامين جميعا في قصة لوط: وقد (4) تقدم ذكر ذلك.
قال أحمد: واختلفا في قوله في العنكبوت: أئنكم
__________
(1) في (م) احديهما.
(2) في (ط): لا يعمل.
(3) سقطت في من (ط).
(4) في (ط): قد تقدم.(4/47)
لتأتون الرجال، فكان نافع يستفهم بالثاني ولا يستفهم بالأول، وكان الكسائيّ يستفهم بهما جميعا.
كل واحد من الاستفهامين جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء، فمن ألحق حرف الاستفهام جملة نقلها به من الخبر إلى الاستخبار، ومن لم يلحقها بقّاها على الخبر.
واختلفا (1) في سورة النمل في قوله: {وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا} [الآية / 67].
فقرأ نافع وقال الذين كفروا إئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا باستفهام.
وقرأ الكسائيّ: {أئذا كنا ترابا} بهمزتين، وآباؤنا إننا بنونين من غير استفهام.
وجه قراءة نافع: إذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا أن إذا * لا بدّ من أن يحمل على فعل، يدلك على ذلك أنّه لا يخلو من أن يترك الكلام على ظاهره فلا يضمر شيء، أو يضمر الفعل ليحمل إذا عليه، فلا يجوز إن ترك (2) على ظاهره، لأنّ ما بعد الاستفهام. لا يعمل فيما قبله، وكذلك ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها، وقد اجتمع الأمران في قوله: إذا كنا ترابا أئنا.
فإذا لم يجز حمل إذا على شيء من هذا الكلام ظاهر،
__________
(1) في (ط): قال: واختلفا. وفي السبعة: واختلف الكسائي ونافع انظر ص 286.
(2) في (ط): يترك.(4/48)
فلا بدّ من إضمار الفعل وتقدير ذلك الفعل: أنبعث أو نحشر، أو نخرج، ودلّك (1) قوله: إنا لمبعوثون * على ذلك، وكذلك قراءة الكسائي: {أإذا كنا ترابا، وآباؤنا} بهمزتين أيضا، وينبغي أن يقدر فعل في الكلام، يتعلق إذا به، يدلّ على ذلك أنّ إذا لا يجوز تعلّقها بشيء قبلها، لأنّ ما في حيّز الاستفهام ينقطع مما قبله، فلا يتعلق به، ولا يجوز أن يتعلق [ما بعد إنّ من قوله] (2): إنّنا، لأنّ إنّ لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، كما أنّ الاستفهام، ولام الابتداء، كذلك. ومثلهما في هذا لا * النافية التي تبنى مع المفرد المنكور على الفتح، نحو: لا رجل فإذا لم يجز تعلّقها بما قبلها، ولا بما بعدها فلا بدّ من فعل مضمر يتعلق به إذا، وهو الفعل الذي تقدّم ذكره، ولا يجوز تعلّق إذا بالفعل الذي بعدها، لأنّها مضافة إليه، ولو جاز ذلك لجاز:
القتال زيدا حين يأتي، يريد: القتال حين يأتي زيدا.
وأمّا قراءته: إننا * بنونين فلأنّه جاء به على الأصل، ومن قرأ: إنا * حذف من النونات واحدة كراهة اجتماع الأمثال والمحذوفة، وهي الوسطى، لأن علامة الضمير لا تحذف.
فإن قلت: إن التكرير إنّما وقع بالتي هي علامة الضمير، فهي لذلك أولى بالحذف. قيل: إنه * وإن كان كذلك لم يحذف، لأنّها لم تحذف في موضع، ونظير ذلك في أن الحذف وقع في غير الآخر قولهم: في تحقير ذا * ذيّا حذف
__________
(1) في (ط): ويدلك.
(2) ما بين معقوفين ورد في (ط): بما بعد إن في قوله.(4/49)
الأول من الأمثال، وكان أصله: ذييّا، فلم تحذف الياء للتحقير، ولم تحذف التي هي لام لما كان يلزم من تحريك ياء التحقير، وهي لم تحرّك في موضع.
قال (1): وقرأ ابن عامر ضدّ قراءة نافع والكسائي في عامة ذلك، فكان لا يستفهم بالأول ويستفهم بالثاني، ويهمز همزتين في كلّ القرآن إلّا في حرفين.
[قال أبو علي] (2): إلحاق حرف الاستفهام الأول نحو:
أءذا كنا ترابا إنا لمبعوثون أحسن لأمرين:
أحدهما: أنّ قوله: لمبعوثون * (3)، لمّا كان يدلّ على يبعث ونحوه مما يتعلق إذا * به صار كجزء من الكلام الذي دخل عليه حرف الاستفهام.
والآخر: أنّ الكلام الأول إذا دخل عليه الاستفهام قد ذكر حرفه، وأريد في الكلام الثاني كان أحسن لأنّه على الاستفهام أدلّ.
ووجه قول ابن عامر: أنّ الدلالة مما تذكر بعد قد يكون كالدّلالة فيما يذكر قبل، ألا ترى أنّ من قرأ: ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم [آل عمران / 180] إنما يريد: لا تحسبنّ بخل الذين يبخلون
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): إنا لمبعوثون.(4/50)
فأضمر البخل لدلالة ما يجيء من بعد عليه في (1) قوله:
{يبخلون} فكذلك الاستفهام إذا ذكر حرفه بعد، يدل على إرادته فيما تقدمه.
ووجه قراءة ابن عامر في الواقعة: {أإذا متنا وكنا ترابا أئنا}
[الآية / 47]. فعلق إذا * بالمضمر على ما تقدّم، وقراءته في النازعات: أئنا لمردودون في الحافرة. إذا كنا [الآية / 1110] فإنّ قوله إذا * إذا لم يدخل عليه حرف الاستفهام، جاز تعلقه بقوله: {مردودون}، وإذا (2) ألحق إذا حرف الاستفهام، لم يكن بدّ من إضمار فعل.
قال: وقرأ في النمل غير ذلك: وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا لمخرجون [الآية / 67]، كقراءة الكسائي، ومضى في العنكبوت على ما أصّل من ترك الاستفهام في (3)
الأول.
قوله: إذا كنا ترابا * ينبغي أن يتعلق بمضمر على نحو (4)
ما تقدّم به القول في نحوه.
الاعراف: 75
قرأ ابن عامر في الأعراف [75] في قصة صالح: وقال الملأ الذين استكبروا بإثبات الواو، وكذلك هي في مصاحفهم.
__________
(1) في (ط): من.
(2) في (ط): ولو وفي (م) كانت لو فشطب عليها وصححها على الهامش وإذا.
(3) في (م): (من) وما أثبته من (ط) وموافق للسبعة.
(4) سقطت نحو من (ط).(4/51)
وقرأ الباقون بغير واو، وكذلك هي في مصاحفهم (1).
قد قلنا فيما تقدّم في نحو هذه الواو أنّ إثباتها حسن وحذفها حسن.
الاعراف: 96
كلّهم قرأ {لفتحنا عليهم} [الأعراف / 96] خفيفة غير ابن عامر، فإنّه قرأ لفتحنا عليهم مشددة التاء (2).
قد تقدّم القول في هذا.
الاعراف: 98
اختلفوا في فتح الواو وإسكانها من قوله تعالى (3): {أوأمن} [الأعراف / 98].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: أو أمن بإسكان (4)
الواو.
وروى ورش عن نافع أو امن (5) يفتح (6) ويدع الهمزة، ويلقي حركتها على الواو.
وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {أو أمن}
بتحريك الواو، غير أن ابن كثير كان ينصب الواو في الصافات [17] والواقعة [48].
وكان نافع وابن عامر يقفانها في الثلاثة المواضع (7).
__________
(1) السبعة 284.
(2) السبعة ص 286.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) في (ط) بسكون.
(5) رسمها في (ط): (أو من).
(6) سقطت «يفتح» من (ط).
(7) السبعة ص 287.(4/52)
[قال أبو علي] (1): أو: حرف استعمل على ضربين:
أحدهما: أن يكون بمعنى أحد الشيئين أو الأشياء في الخبر والاستفهام.
والآخر: أن يكون للإضراب عمّا قبلها في الخبر والاستفهام، كما أنّ «أم» المنقطعة في الاستفهام، والخبر كذلك.
فأمّا «أو» (2) التي تكون لأحد الشيئين أو الأشياء، فمثاله في الخبر: زيد أو عمرو جاء، وزيد أو عمرو ضربته كما تقول:
أحدهما جاء، وأحدهما ضربته، وهي إذا كانت للإباحة، كذلك أيضا، وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، ويدلّك على أنّها ليست بمعنى الواو أنّه إذا جالس أحدهما فقد ائتمر للأمر، ولم يخالفه، وإنّما جاز له الجمع بين مجالستهما من حيث كان كلّ واحد منهما مجالسته بمعنى مجالسة الآخر، ليس من حيث كانت «أو» بمعنى الواو، وقول الشاعر (3):
وكان سيّان أن لا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرّت (4) السّوح إنّما حسن له استعمال أو، مع أنّه لا يجوز: سيّان
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) سبق انظر 1/ 266.
(4) في (ط): فاغبرّت.(4/53)
أحدهما أنّه رأى نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين فيجوز له أن يجمع بين مجالستهما.
وأمّا «أو» التي تجيء للإضراب بعد الخبر والاستفهام، فكقولك: أنا أخرج، ثم تقول: أو أقيم، أضرب (1) عن الخروج وأثبت الإقامة، كأنّك قلت: لا بل أقيم، كما أنّك في قولك: «إنّها لإبل أم شاء» مضرب عن الأول، ولا تقع بعد أو هذه إلّا جملة، كما لا تقع (2) بعد «أم» إذا كانت للإضراب إلّا جملة.
ومن ثمّ قال سيبويه: في قوله (3): {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [الإنسان / 24]، إنّك لو قلت: أو لا تطع كفورا، انقلب المعنى (4)، وإنّما كان ينقلب المعنى لأنّه إذا قال: لا تطع آثما أو كفورا، فكأنّه قال: لا تطع هذا الضّرب، ولا تطع هؤلاء، وإنّما لزمه أن لا يطيع أحدا (5) منهما، لأنّ كلّ واحد منهما في معنى الآخر في وجوب ترك الطاعة له، كما جاز له أن يجمع بين مجالسة الحسن وابن سيرين، لأنّ كلّ واحد منهما أهل للمجالسة، ومجالسة كلّ واحد منهما كمجالسة الآخر، ولو قال: لا تطع آثما أو لا تطع كفورا، كان بقوله: أو لا تطع، قد
__________
(1) في (ط): أضربت.
(2) في (ط): يقع.
(3) في (ط): قوله عز وجل.
(4) انظر سيبويه 1/ 491489.
(5) في (ط): واحدا.(4/54)
أضرب عن ترك طاعة الأوّل، فكان يجوز أن يطيعه، وفي جواز ذلك انقلاب المعنى.
فوجه قراءة من قرأ: أو أمن، أنّه جعل أو للإضراب لا على أنّه أبطل الأوّل، ولكن كقوله (1): {الم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه} [السجدة / 21]، ثم قال: {أم يقولون افتراه}
[السجدة / 3]، فجاء هذا ليبصّروا ضلالتهم، فكأنّ المعنى:
أأمنوا هذه الضروب من معاقبتهم، والأخذ لهم، وإن شئت جعلته أو التي في قولك: ضربت زيدا أو عمرا، كأنّك أردت:
أفأمنوا إحدى هذه العقوبات؟
ووجه قراءة من قرأ: {أوأمن أهل القرى}
[الأعراف / 98] أنّه أدخل همزة الاستفهام على حرف العطف، كما دخل في نحو قوله: {أثم إذا ما وقع} [يونس / 51].
وقوله: {أوكلما عاهدوا عهدا} [البقرة / 100].
ومن حجة من قرأ ذلك: أنّه أشبه بما قبله وما بعده، ألا ترى أنّ قبله: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا} وبعده {أفأمنوا مكر الله} [الأعراف / 99] {أولم يهد للذين يرثون الأرض}
[الأعراف / 100]، فكما أنّ هذه الأشياء، حروف عطف دخل عليها حرف الاستفهام، كذلك يكون قوله: {أوأمن}.
الاعراف: 105
اختلفوا في تشديد الياء وتخفيفها من قوله جلّ وعزّ:
حقيق علي أن لا أقول [الأعراف / 105].
__________
(1) في (ط): كقوله عز وجل.(4/55)
فقرأ نافع وحده: حقيق على أن لا أقول بتشديد الياء ونصبها.
وقرأ الباقون بتخفيف الياء وهي مرسلة (1).
حجة نافع (2) في قوله عزّ وجلّ (3): حقيق علي وإيصاله له بعلي * أنّه يسوغ من وجهين:
أحدهما: أنّ «حقّ» الذي هو (4) فعل، قد تعدّى بعلى، قال: {فحق علينا قول ربنا} [الصافات / 31]، وقال: {فحق عليها القول} [الإسراء / 16]، فحقيق يتصل بعلى من هذا الوجه.
والوجه (5) الآخر: أنّ حقيق بمعنى واجب، فكما أنّ وجب يتعدى بعلى، كذلك تعدى {حقيق} به إذا أريد به ما أريد بواجب.
وأمّا من قرأ: حقيق على فجاز تعدّيه (6) بعلى من الوجهين اللّذين ذكرنا.
وقد قالوا: هو حقيق بكذا، فيجوز على هذا أن يكون (7)
__________
(1) السبعة ص 287وفي العبارة اختلاف يسير والمؤدى واحد.
(2) في (م): نافع وغيره.
(3) «عز وجل» زيادة في (ط).
(4) سقطت من (م).
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): تعديته.
(7) في (ط): تكون.(4/56)
على بمنزلة الباء تقول: «حقيق على أن». فتضع على موضع الباء.
قال أبو الحسن: قال (1): {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} [الأعراف / 86]، فكما وقعت الباء في قوله: {بكل صراط توعدون} موقع على، كذلك وقعت على موقع الباء في قوله: {حقيق على أن لا}.
قال: والأول أحسنهما عندنا (2)، يعني: حقيق على أن لا بالألف غير مضاف إلى المتكلم.
قال: لأنّ حقيق على، معناها الباء، أي حقيق بذا، قال:
وليس ذلك بالمقيس لو قلت: ذهبت على زيد، وأنت تريد بزيد لم يجز، قال (3): وجاز في علي * (4) لأنّ القراءة قد وردت به.
الاعراف: 111
اختلفوا في الهمز وإسقاطه من قوله تعالى (5): {قالوا أرجه وأخاه} [الأعراف / 111].
فقرأ ابن كثير أرجئهو وأخاه مهموز بواو بعد الهاء في اللّفظ، وقرأ أبو عمرو مثله، غير أنّه كان يضم الهاء ضمة من غير أن يبلغ بها الواو، وكانا يهمزان مرجئون [التوبة / 106] وترجئ من تشاء [الأحزاب / 51].
__________
(1) في (ط): كما قال عز وجل.
(2) انظر معاني القرآن 2/ 307.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): «الآية» بدل: «علي».
(5) في (ط): عز وجل.(4/57)
وقرأ نافع [وحده] (1) أرجه وأخاه بكسر الهاء، ولا يبلغ بها الياء، ولا يهمز. هذه رواية المسيّبي وقالون.
وروى ورش عنه: أرجهي وأخاه يصلها بياء، ولا يهمز بين الجيم والهاء، وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع.
وقال خلف وابن سعدان عن إسحاق عن نافع أنّه وصل (2) الهاء بياء.
وقرأ ابن عامر: أرجئه وأخاه في رواية هشام بن عمار مثل أبي عمرو.
وفي رواية ابن ذكوان: كسرها بالهمز، وكسر الهاء (3)
أرجئه، وهمز مرجئون وترجئ، وهذا غلط، لا يجوز كسر الهاء مع الهمز (4)، وإنما يجوز إذا كان قبلها ياء ساكنة أو كسرة.
واختلف عن عاصم فروى هارون بن حاتم عن حسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ مثل أبي عمرو أرجئه مهموزا.
وقال خلف عن يحيى عن أبي بكر أنه ربما كان همزها ورفع الهاء.
__________
(1) زيادة من (ط) وليست في (م) ولا في السبعة.
(2) في (م): يصل. وما أثبتناه من (ط) والسبعة.
(3) في السبعة: «بالهمز وكسر الهاء».
(4) في (ط): الهمزة.(4/58)
وحدّثني محمد بن الجهم عن ابن أبي أميّة عن أبي بكر عن عاصم أرجئه مهموز (1) ساكنة الهاء.
وقال محمد بن الجهم فيما نحسب شكّ ابن الجهم:
بهمز (2) الألف التي قبل الراء.
وقال إبراهيم بن أحمد الوكيعي عن أبيه عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم: أرجئه مهموز (3) جزم. حدّثني موسى بن إسحاق القاضي، عن أبي هشام عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم: أرجه جزم (4) بغير همز.
وكذلك روى خلف عن يحيى عنه جزم (4).
وكذلك حدثني عبد الله بن شاكر عن يحيى عن أبي بكر:
بجزم الهاء، والكسائي عن أبي بكر [عن عاصم] (6): بجزم الهاء، ولم يذكر هو (7) الهمز.
[قال الأعشى عن أبي بكر عن عاصم أرجه بغير همز، ويهمز مرجئون ولا يهمز {ترجي} أبو البحتري عن يحيى عن أبي بكر عنه أنه لا يهمز ترجي ولا مرجون] (8).
__________
(1) في (ط): مهموزا. وفي السبعة: مهموزة.
(2) في السبعة: هي بهمز.
(3) في (ط): مهموزا.
(4) في (ط): جزما.
(6) سقطت من (ط).
(7) في السبعة: هؤلاء.
(8) ما بين معقوفين زيادة من السبعة.(4/59)
و (1) قال هبيرة عن حفص عن عاصم: أنه جزم الهاء في الأعراف، وجرّها في الشعراء [36].
وقال غير هبيرة عن حفص: أرجه جزم (2) ولا يهمز {مرجون} و {ترجى} وفي الشعراء {أرجه} جزم (2)، وكذلك قال وهيب [بن عبد الله] (4) عن الحسن بن مبارك عن أبي حفص عمرو بن الصباح (5) عن أبي عمر عن عاصم.
وقرأ حمزة والكسائي {أرجه وأخاه}.
واختلفا في الهاء فأسكنها حمزة مثل عاصم، ووصلها الكسائي بياء فقال (6) أرجهي وأخاه (7).
قال أبو زيد: أرجأت الأمر إرجاء: إذا أخّرته، فقوله:
أرجئه. أفعله من هذا، وضمّ الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره، وأن لا يبلغ الواو أحسن لأنّ الهاء خفيّة، فلو بلغ بها الواو لكان كأنّه قد جمع بين (8) ساكنين، ألا ترى أنّ من قال: ردّ يا فتى،
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط) جزما.
(4) سقطت من (ط) ومن السبعة.
(5) هو عمرو بن الصباح بن صبيح أبو حفص البغدادي الضرير مقرئ حاذق.
وقد ورد اسمه في (م) عمر بن الصباح وهو خطأ. انظر طبقات القراء 1/ 601.
(6) سقطت من (م).
(7) انظر السبعة ص 287، 288ففي النص اختلاف يسير غير الزيادة التي أشرت إليها.
(8) عبارة (م): كأنه جمع ساكنين.(4/60)
فضمّ، فإنّه إذا وصل بالدّال الضمير (1) المؤنث قال: ردّها، ففتح، كما تقول: ردّا، لخفاء الهاء، فكذلك أرجئه لا ينبغي أن يبلغ بها الواو، فيصير كأنّه جمع بين ساكنين.
ومن قال: أرجئهو فألحق الواو، فلأنّ الهاء متحركة ولم يلتق ساكنان، لأنّ الهاء فاصل، فقال: أرجئهو كما تقول:
اضربهو قبل، ولو كان مكان الباء حرف لين لكان وصلها بالواو أقبح، نحو: عليهو (2)، لاجتماع حروف متقاربة مع أن الهاء، ليس بحاجز قوي في الفصل، واجتماع المتقاربة في الكراهة كاجتماع الأمثال.
قال: وقرأ نافع: أرجه وأخاه بكسر الهاء، ولا يبلغ بها الياء، ولا يهمز. هذه رواية المسيّبي وقالون.
وروى ورش: أرجهي يصلها بياء، ولا يهمز بين الجيم والهاء.
وكذلك قال إسماعيل بن جعفر.
[قال أبو علي] (3): وصل الهاء بياء إذا قال: أرجهي لأنّ هذه الهاء توصل في الإدراج بواو أو ياء، نحو: بهو أو (4)
بهي وضربهو، ولا تقول في الوصل: به، ولا به، ولا ضربه
__________
(1) في (ط): الدال بضمير.
(2) في (ط): عليهمو.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): و.(4/61)
حتّى. تشبع فتقول: بهو فاعلم، وبهي داء، أو: بهو داء، إلّا في ضرورة شعر كقوله (1):
وما له من مجد تليد قال (2): وقرأ (3) ابن عامر: أرجئه وأخاه في رواية هشام ابن عمّار مثل أبي عمرو، وفي رواية ابن ذكوان كسرها بالهمز.
[قال أبو علي] (4): كسر الهاء مع الهمز غلط، لا يجوز، وإنّما يجوز إذا كان قبلها ياء ساكنة أو كسرة، ولو خفّف الهمزة فقلبها ياء فقال: أرجيه، فكسر الهاء لم يستقم، لأنّ هذه الياء في تقدير الهمزة فكما لم يدغم نحو: رؤيا، إذا خفّفت (5) الهمزة، لأنّ الواو في تقدير الهمزة، كذلك لا يحسن (6)
تحريك الهاء بالكسر مع الياء المنقلبة عن الهمز (7).
وقياس من قال: ريّا، فأدغم، أن يحرّك الهاء أيضا بالكسر، وعلى هذا المسلك قول من قال: أنبيهم [البقرة / 33] إذا كسر الهاء مع قلب الهمزة ياء.
__________
(1) صدر بيت للأعشى في ديوانه ص 115تقدم ذكره في الجزء الأول ص 205.
(2) جاء على هامش (ط): بلغت. دلالة على المقابلة.
(3) في (ط): قرأ.
(4) سقطت من (م).
(5) ضبطها في «م» بالبناء للفاعل.
(6) في (ط): لا يجوز.
(7) في (ط): الهمزة.(4/62)
قال: واختلف عن عاصم، فروى هارون بن حاتم عن حسين الجعفي عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ مثل قراءة (1)
أبي عمرو أرجئه مهموز (2).
وقال خلف عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم (3) أنه كان (4) ربّما همزها ورفع الهاء.
وروى أبان عن عاصم: {أرجه} جزم (5)، [قال أبو علي] (6): وهذا لأنّه قد جاء في أرجأت لغتان: أرجأت، وأرجيت، وإذا (7) قال: {أرجه} كان من أرجيت.
الاعراف: 112
اختلفوا في قوله جلّ وعزّ: {يأتوك بكل ساحر عليم}
[الأعراف / 112].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر في الأعراف وفي يونس [79]: {بكل ساحر عليم} بالألف (8)
قبل الحاء. وقرءوا في [الشعراء / 37] سحار * بألف بعد الحاء.
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) في (ط): مهموزا.
(3) سقطت من (ط).
(4) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(5) في (ط): جزما.
(6) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(7) في (ط): فإذا.
(8) في (ط) بألف.(4/63)
وقرأ حمزة والكسائيّ ثلاثتهنّ سحار * بألف بعد الحاء (1).
[قال أبو علي] (2): من حجة من قال: ساحر قوله:
{ما جئتم به السحر} [يونس / 81]، والفاعل من السّحر، ساحر يدلّك (3) على ذلك قوله: {فألقي السحرة ساجدين}
[الأعراف / 120]. و {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم}
[الشعراء / 40].
والسّحرة جمع ساحر، ككاتب وكتبة، وفاجر وفجرة.
ومن حجّتهم: {سحروا أعين الناس} [الأعراف / 116]، واسم الفاعل على سحروا: ساحر.
ومن حجّة من قال: سحار *، أنّه قد وصف بعليم، ووصفه به يدلّ على تناهيه فيه، وحذقه به فحسن لذلك أن يذكروا بالاسم الدّالّ على المبالغة في السحر.
الاعراف: 113
اختلفوا في الاستفهام والخبر (4) في قوله: أئن لنا لأجرا [الأعراف / 113].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية حفص هاهنا {إن لنا لأجرا} مكسورة الألف على الخبر، وفي الشعراء: آين لنا
__________
(1) السبعة ص 289.
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(3) في (ط): ويدل.
(4) في (ط): من قوله. وقد تكررت في (ط).(4/64)
[الآية / 41] ممدودة مفتوحة الألف غير أنّ حفصا روى عن عاصم في الشعراء أئن لنا لأجرا بهمزتين.
وقرأ أبو عمرو آئن لنا ممدودة في السورتين.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر فيما أرى وحمزة والكسائي بهمزتين. في الموضعين جميعا (1).
[قال أبو علي] (2): الاستفهام أشبه في هذا الموضع (3)، لأنّهم يستعلمون (4) عن الأجر، وليس يقطعون على أنّ لهم الأجر.
ويقوي ذلك إجماعهم في الشعراء، وربّما حذفت همزة الاستفهام.
قال أبو الحسن في قوله عزّ وجلّ (5) {وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل} [الشعراء / 22]، أنّ من الناس من يذهب إلى أنّه على الاستفهام، وقد جاء ذلك في الشعر قال (6):
__________
(1) السبعة ص 289.
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(3) عبارة (ط): الاستفهام في هذا الموضع أشبه.
(4) في (ط): يستعملون، وهو سهو من الناسخ.
(5) سقطت من (ط).
(6) البيت من أبيات ستة في أمالي القالي 1/ 66تنسب لحضرمي بن عامر الأسدي واستشهد به البغدادي في شرح أبيات المغني 1/ 35، على حذف ألف الاستفهام دون دليل في اللفظ عليها إلّا بما يعطيه معنى الكلام.(4/65)
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا
وهذا أقبح من قوله (1):
وأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر ... أتوني فقالوا من ربيعة أم (2) مضر لأنّ أم قد تدلّ على الهمزة.
الاعراف: 117
كلّهم قرأ: تلقف * بتشديد القاف إلّا عاصما فإنّه قرأ:
{تلقف} ساكنة اللّام خفيفة القاف (3) [الأعراف / 117].
أبو عبيدة: تلقف، وتلقم واحد، قال: {ما يأفكون}
ما يسحرون (4).
وما روي عن عاصم من (5) قراءته: {تلقف} ينبغي أن يكون مضارع لقف * مثل لقم يلقم.
وروى ابن أبي بزّة وعبد الوهاب بن فليح، بإسنادهما عن ابن كثير فإذا هي تلقف * مشددة التاء.
وكان قنبل يروي عن القواس بإسناده عن ابن كثير أنّه قرأ
__________
(1) البيت لعمران بن حطان كما في الكامل للمبرد 3/ 172رابع أبيات سبعة وفي الخصائص 2/ 281، وأمالي ابن الشجري 1/ 267.
(2) في (م): أو. وما أثبتناه يتمشى مع ما أراده المؤلف.
(3) السبعة ص 290.
(4) مجاز القرآن 1/ 225وعبارته فيه: «تلقف ما يأفكون» أي تلهم ما يسحرون ويكذبون، أي: تلقمه».
(5) في (ط): في.(4/66)
تلقف * (1) خفيفة التاء مشددة القاف في هذه وأخواتها، في كلّ القرآن (2).
كأنّه لفظ بها بألف ولام، هي تلقف *، فإذا ابتدأت تلقف * ابتدأت بها خفيفة التاء، ولا يمكن غير ذلك.
[قال أبو علي] (3) وجه ما روي عن ابن كثير: فإذا هي تلقف * أنّه أدغم بالتاء (4)، فسكنت المدغمة ولو كان هذا في الماضي، لاجتلبت له همزة الوصل مثل: {فادارأتم فيها} (5)
[البقرة / 72]، و {ازينت} [يونس / 24]، ولكن همزة الوصل، لا تجتلب في المضارع لمشابهتها (6) اسم الفاعل، وإن آخره معرب.
فإذا ابتدأ بها قال (7): تلقف * يثبت (8) التاء التي للمضارعة، ويحذف التاء التي للمطاوعة في تفعّل، وليس القياس أن تجتلب في المعرب همزة الوصل، والأسماء التي جاء ذلك فيها وليست بجارية على الأفعال شاذّة في (9) القياس قليلة.
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) انظر السبعة، ص 290.
(3) زيادة من (ط).
(4) سقطت من (م).
(5) وردت في الأصل. ادّارأتم وراد في (م): كلمة: به.
(6) في (ط): لمشابهته.
(7) في (م): قلت.
(8) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(9) في (ط): عن.(4/67)
الاعراف: 123
اختلفوا في قوله جلّ وعزّ: {قال فرعون آمنتم به}
[الأعراف / 123].
فقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر أآمنتم به بهمزة ومدة على الاستفهام (1).
قياس قول أبي عمرو: أآمنتم بهمزة مفتوحة بعدها ألف، والألف التي بعدها هي الألف التي تفصل بها بين الهمزتين، كما يفصل بين النونات في «اخشينانّ» والهمزة الثانية التي بعد هذه الألف هي همزة أفعل في قولك: أأمن، والألف بعدها هي المنقلبة عن الفاء التي هي همزة لاجتماع همزتين في: أأمن أوقعت الألف بعد الهمزة المخففة، كما وقعت بعد الهمزة. [إذا قلت] (2): اقرأ آية (3) فحققت الهمزتين جميعا، هذا (4) قياس قوله، إلّا أنّه يشبه أن يكون ترك قياس قوله هاهنا لما كان يلزم من (5) اجتماع المتشابهة فترك الألف التي تدخل بين الهمزتين في نحو: «آأنت» (6). وخفف الهمزة الثانية، التي هي همزة أفعل من أأمن (7)، وبعدها الألف المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء، يدلّ على ذلك قولهم فيما ترجموا عنه بهمزة ومدّة على الاستفهام، وكذلك ما ترجموا عنه من قولهم.
__________
(1) السبعة ص 290، وقد أوردت (ط) الكلام عن الحرف جميعه الوارد في السبعة، ثم فصلت الكلام عن القراءات. في حين اقتصرت (م) على الكلام عن الحرف حين وروده. والنسختان متفقتان في هذا.
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(3) في (م): «اقرأ انّه».
(4) في (ط): هذا هو.
(5) في (ط): في.
(6) جاء رسمها في (الأصل): أاأنت.
(7) في (م): أآمن.(4/68)
وكذلك في طه [71]، والشعراء [49] في تقدير همزة بعدها ألفان.
فالهمزة همزة الاستفهام، والألفان الأولى منهما: الهمزة المخففة التي هي في أفعلتم والثانية المنقلبة عن الفاء.
قال: وقال البزيّ عن أبي الإخريط (1) عن ابن كثير قال فرعون وآمنتم [الأعراف / 123]. بواو بعد النون بغير همزة (2).
القول فيه: أنّه أبدل من همزة الاستفهام اللاحقة لأفعلتم، واوا لانضمام ما قبلها، وهي النون المضمومة في قوله: {فرعون}، وهذا في المنفصل كالمتصل في تودة، فقوله:
ن وا مثل: تود من تودة (3)، وقوله: بغير همزة يريد بغير همزة بعد الواو المنقلبة عن همزة الاستفهام، يريد أنّه خفّف همزة أفعلتم، من آمنتم فجعلها بين الهمزة والألف، وهذا على قول أهل الحجاز لأنّهم يخفّفون الهمزتين إذا اجتمعتا، كما يخففون الواحدة.
قال أحمد بن موسى: قال قنبل عن القواس مثل رواية البزيّ عن أبي الإخريط، غير أنّه كان يهمز بعد الواو (4).
__________
(1) هو: وهب بن واضح أبو الإخريط ويقال أبو القاسم المكي مقرئ أهل مكة وروى عنه أحمد بن محمد البزي وغيره. انظر طبقات القراء 2/ 361.
(2) السبعة ص 290.
(3) جاءت في (م) مهموزة جميعها.
(4) السبعة ص 290. وقد زاد بعد الواو (قال فرعون وآمنتم به): وأحسبه وهم.
وفي (ط): وأحسبه غلط.(4/69)
قال أبو علي: همز بعد الواو لأنّ هذه الواو هي منقلبة عن همزة الاستفهام وبعد همزة الاستفهام همزة أفعلتم، فحقّقها ولم يخفّفها كما خفّف في القول الأول لمّا خفف الأولى حقّق الثانية.
ووجهه [أن الأول لما زال عن لفظة الهمزة] (1) بانقلابها واوا حقّق الهمزة بعدها، لأنّه لم يجتمع همزتان.
ووجه القول الأول أنّ الواو لمّا كان انقلابها عن الهمزة في تخفيف قياسي كان في حكم الهمزة، فلم تحقّق معها الثانية، كما لا تحقق مع الهمزة نفسها، لأنّ الواو في حكمها، كما أنّها لما كانت في حكمها في قولهم: رويا * في تخفيف رؤيا * لم يدغموها في الياء، كما لم تدغم الهمزة فيها، وكما جعلوا الواو في حكم الهمزة في رويا، فلم (2) تدغم كذلك جعل (3) الواو في قوله نوا * من قوله (4) قال فرعون وامنتم في حكم الهمزة فخفف الهمزة الثانية التي (5) في أفعلتم.
قال أحمد: وقال قنبل في طه: {ءامنتم} [71] بلفظ الخبر من غير مدّ (6).
[قال أبو علي] (7): وجه الخبر فيه أنّه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم بإيمانهم والإنكار له عليهم.
__________
(1) في (ط): الأولى لما زالت عن لفظ الهمز.
(2) في (ط): فلم تكن.
(3) في (ط): جعلوا.
(4) كذا في (ط) وعبارة (م) هنا: «قوانوا».
(5) سقطت «التي» من (م).
(6) السبعة ص 291290.
(7) سقطت من (ط).(4/70)
ووجه الاستفهام أنّه استفهام على وجه التقرير (1)، يوبّخهم به وينكره (2) عليهم.
قال قنبل في الشعراء: قال: أآمنتم مثل أبي عمرو ويمدّ.
[قال أبو علي] (3): يريد أنّه يزيد الاستفهام، فألحق همزة الاستفهام وخفف همزة أآمنتم وهي الهمزة التي بعد همزة الاستفهام، وتخفيفها أن تجعل بين بين.
وقرأ حمزة والكسائيّ في المواضع الثلاثة: أآمنتم بهمزتين، الثانية ممدودة (4).
[قال أبو علي] (5): حقّقا الهمزتين على ما يريانه من تحقيقهما، والهمزة الثانية ممدودة لأنّ الهمزة الثانية تتصل بها الألف المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء في الأمر.
وما بعد هذا روايات لا عمل فيها.
الاعراف: 127
اختلفوا في التخفيف والتشديد من قوله عز وجل (6):
{سنقتل أبناءهم} [الأعراف / 127] {ويقتلون أبناءكم}
[الأعراف / 141].
فقرأ ابن كثير: سنقتل خفيفة، و {يقتلون} مشددة
__________
(1) في (ط): التقريع لهم ويوبخهم به.
(2) في (ط): وينكر.
(3) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(4) السبعة 291.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(6) سقطت من (ط).(4/71)
وشدّدهما جميعا أبو عمرو وعاصم وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ، وخفّفهما جميعا نافع، يقتلون * وسنقتل [بالتخفيف] (1) (2).
[قال أبو علي] (3) التثقيل حسن. لأنّه يراد به الكثير (4)، والتثقيل لذا المعنى أخصّ، والتخفيف يقع على التكثير، وغيره فمن خفّف فلأنّه يصلح للتكثير أيضا، ومن جمع بين التخفيف والتثقيل كان آخذا بالوجهين.
الاعراف: 128
وقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: {يورثها} [128] ساكنة الواو خفيفة الراء، وكذلك في مريم [63].
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر عنه: {يورثها} خفيفة مثل حمزة.
وأخبرني الخزّاز [أحسبه] (5) أحمد بن علي عن هبيرة عن حفص عن عاصم يورثها مشدّدة الراء، ولم يروها [عن عاصم] (6) عن حفص غير هبيرة، وهو غلط، والمعروف عن عاصم (7) يورثها خفيفة. وفي سورة مريم لم يختلفوا في قوله: {تلك الجنة التي نورث} [الآية / 62]، أنّها خفيفة (8).
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) السبعة ص 292.
(3) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(4) في (ط): التكثير.
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).
(7) في السبعة: عن «حفص».
(8) السبعة ص 292.(4/72)
قال أبو علي: حجة (1) التخفيف قوله: {وأورثكم أرضهم وديارهم} [الأحزاب / 27]، وقوله: {كذلك وأورثناها قوما آخرين}
[الدخان / 28]، {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون}
[الأعراف / 137].
ووجه التشديد أنّك تقول: ورث زيد مالا، وفي التنزيل:
{وورثة أبواه} [النساء / 11] فهو متعدّ فنقول (2) في نقله بالهمزة وبتضعيف العين والتخفيف أولى لمجيء التنزيل عليه.
قال أبو زيد: ورث الرجل أباه يرثه وراثة، وميراثا، وورثا، وأورث الرجل ابنه مالا إيراثا حسنا، وورّث الرجل بني فلان ماله توريثا، وذلك إذا أدخل في ماله على ورثته من ليس منهم، فجعل له نصيبا.
قال أبو علي: فالقراءة بالتثقيل على وجه ما حكاه أبو زيد، وحملها عليه بعيد، ولكنّه يكون على قول الأعشى (3):
مورّثة مالا وفي الحي رفعة
الاعراف: 137
واختلفوا (4) في ضمّ الراء وكسرها من قوله تعالى (5):
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) (م): فيقول.
(3) صدر بيت عجزه:
لما ضاع فيها من قروء نسائكا والقرء: الحيض أو هو ما بين الحيضتين.
انظر ديوانه / 91وفيه الحمد بدل الحي.
(4) في (ط): اختلفوا.
(5) سقطت من (ط).(4/73)
{يعرشون} [الأعراف / 137] [النحل / 68].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم {يعرشون} بكسر الراء، وفي النحل مثله.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر بضم الراء فيهما.
الاعراف: 138
واختلفوا (1) في ضم الكاف وكسرها من قوله عز وجل:
يعكفون [الأعراف / 138] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {يعكفون} بضم الكاف.
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو يعكفون بكسر الكاف.
وقرأ حمزة والكسائي: يعكفون (2).
[قال أبو علي] (3): كل واحد من الضمّ والكسر في عيني الكلمتين لغة، ومثل: يعكف، ويعكف، ويعرش، ويعرش، قولهم: يحشر ويحشر، ويفسق، ويفسق.
قال أبو عبيدة: يعرشون * أي يبنون (4)، والعرش في هذا الموضع: البناء، ويقال: عرش مكة أي: بناؤه (5).
__________
(1) في (م): اختلف.
(2) السبعة ص 292.
(3) سقطت من (م).
(4) مجاز القرآن 1/ 227وفيه: وعريش مكة: خيامها.
(5) في (ط): بناؤها.(4/74)
وقال أبو الحسن: يعرشون ويعرشون لغتان، وكذلك يبطش ويبطش، ويحشر ويحشر، ويعكف ويعكف، وينفر وينفر.
الاعراف: 143
واختلفوا (1) في المدّ والقصر [في قوله جلّ وعزّ] (2):
{دكا} [الأعراف / 143].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وابن عامر: {جعله دكا}
منونة مقصورة هاهنا (3) وفي الكهف [98] مثله (4).
وقرأ عاصم في الأعراف: دكا منونة مقصورة، [وقرأ في] (5) الكهف [98]: دكاء ممدودة غير منونة.
وقرأ حمزة والكسائي: دكاء في الموضعين ممدودة غير منوّنة (6).
قال أبو زيد: دككت على الميّت التراب أدكّه دكّا: إذا دفنته، وهلت عليه التراب أهيله هيلا، وهما واحد، ودككت الرّكيّة دكا: إذا دفنتها، ودكّ الرجل فهو مدكوك: إذا مرض.
قال (7) أبو عبيدة: جعله دكا أي: مندكا، والدّكّ والدكّة مصدر، وناقة دكّاء ذاهبة السّنام، والدك: المستوي، وأنشد للأغلب:
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) في (ط): من قوله.
(3) سقطت من (م).
(4) سقطت من (ط) «مثله».
(5) كذا في (ط)، وفي (م): وفي الكهف. وما أثبتناه موافق للسبعة أيضا.
(6) السبعة: ص 293.
(7) سقطت من (م).(4/75)
هل غير غار دكّ غارا فانهدم (1)
قال (2) أبو الحسن: {جعله دكا} لأنّه لمّا قال: جعله كأنّه قال: دكّه، أو أراد جعله ذا دكّ، ويقال: دكّاء: جعلوها كالناقة (3) الدكّاء التي لا سنام لها (4) فكأنّه (5) بقي أكثره، قال (6): والأوّل أكثر القراءتين.
[قال أبو علي] (7): والمضاف محذوف على قول (8) أبي الحسن.
وفي التنزيل: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة}
[الحاقة / 14]، وفيه: {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا}
[الفجر / 21].
الاعراف: 144
اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله تعالى (9):
{برسالاتي} [الأعراف / 144].
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 228وفي النقل اختلاف يسير. والرجز من أشطار.
وانظر السمط ص 801.
(2) في (ط): وقال.
(3) انظر معاني القرآن 2/ 309للأخفش.
(4) في (ط): مثل الناقة.
(5) في (ط): وكأنه.
(6) سقطت من (م).
(7) سقطت من (م).
(8) في (ط): تقدير.
(9) في (ط): عز وجل.(4/76)
فقرأ ابن كثير ونافع برسالتي واحدة، وقرأ الباقون {برسالاتي} جماعة (1).
الرسالة تجري مجرى المصدر، فتفرد في موضع الجمع، وإن لم يكن المصدر من «أرسل» يدلّك على أنّه جار مجراه قول الأعشى (2).
غزاتك بالخيل أرض العدوّ * وجذعانها كلفيظ العجم فإعماله إيّاه إعمال المصدر، يدلّك على ذلك أنّه يجري مجراه، والمصدر قد يقع لفظ الواحد منه، والمراد به الكثرة.
قال (3):
فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم * جزاء العطاس لا ينام من اتّأر [فكان المعنى على الجميع] (4) لأنّه مرسل بضروب من الرسالة، والمصادر قد تجمع مثل الحلوم والألباب (5).
وقال عزّ وجل (6): {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}
__________
(1) السبعة ص 293.
(2) رواية الديوان: مقادك بالخيل. ولفيظ أي ملفوظ، والعجم: النّوى. انظر ديوانه / 37.
(3) سبق انظر 2/ 291.
(4) في (ط): وكأن المعنى على الجمع.
(5) عبارة (ط): مثل الحلوم والأشغال والألباب.
(6) كذا في (ط) وسقطت من (م).(4/77)
[لقمان / 19]، فجمع الأصوات لمّا أريد بها أجناس مختلفة صوت الحمار بعضها، وأفرد صوت الحمار، وإن كان المراد به الكثرة لأنّه ضرب واحد.
الاعراف: 146
اختلفوا في التخفيف والتثقيل من قوله [جلّ وعزّ] (1):
{وإن يروا سبيل الرشد} [الأعراف / 146].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر {سبيل الرشد} بضم الراء خفيفة.
وقرأ حمزة والكسائيّ: سبيل الرشد مثقّلة بفتح الراء والشين.
وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائيّ في الكهف: مما علمت رشدا [الآية / 66] مضمومة الراء خفيفة.
وقرأ أبو عمرو رشدا * مفتوحة الراء خفيفة.
وقرأ ابن عامر رشدا * مضمومة الراء والشين ثقيلة.
هكذا في كتابي عن ابن ذكوان رشدا * بضم الراء والشين.
ورأيت في رواية غيره رشدا * خفيفة الشين موقوفة أخبرني بذلك أحمد بن يوسف [التغلبي] عن عبد الله بن ذكوان عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عنه.
وروى هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر {رشدا} بضم الراء موقوفة الشين خفيفة (2).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة ص 294وفي النص اختلاف يسير وما بين معقوفين زيادة منه.(4/78)
قال أبو علي: الرشد، والرّشد حكي أنّ أبا عمرو فرّق بينهما، فقال الرّشد: الصلاح، والرّشد: الدين، مثل قوله {مما علمت رشدا} [الكهف / 66].
قال [أبو علي] (1): وقد جاء: {فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} [الجن / 14]، فهذا في الدين وكذلك: {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا} [الكهف / 66]، وهيئ لنا من أمرنا رشدا [الكهف / 10] فهذا كله في الدين، وهذه التي في الأعراف يجوز أن يكون (2) يعني به الدين. كأنّ المعنى: وإن يروا سبيل الخير زاغوا عنه، وعدلوا فلم يتخذوه سبيلا، أي لم يأخذوا به. وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا، ألا تراه يقول: {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا}، ومقابلته بالغيّ يدلّ على الضلالة والزيغ عن طريق الدين والهدى.
وقال: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر / 42]، والتي في سورة (3) النساء في قوله: {فإن آنستم منهم رشدا، فادفعوا إليهم أموالهم}
[الآية / 6] فمن إصلاح المال والحفظ له، وقد جاء الرّشد في غير الدين. قال (4):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(4) البيت لذي الرمة من قصيدة يمدح فيها هلال بن أحوز التميمي والدهناء موضع ببلاد تميم، يمدّ ويقصر. انظر الديوان 1/ 175.(4/79)
حنّت إلى نعم الدّهنا فقلت لها ... أمّي هلالا على التوفيق (1) والرّشد ويدلّ على تقوية قول أبي عمرو في فصله بين الرّشد والرّشد، وأنّه ليس بلغتين على حدّ العجم والعجم، والعرب والعرب، ونحو ذلك: أن سيبويه قال: بعضهم يقول: البخل كالفقر، والبخل كالفقر، وبعضهم يقول: البخل كالكرم، فلم يحمل البخل والبخل على مثال (2): العجم والعجم والثّكل والثّكل، وكذلك (3) الرّشد والرّشد.
الاعراف: 148
واختلفوا (4) في ضمّ الحاء وكسرها من قوله تعالى (5):
{من حليهم} [الأعراف / 148].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم {من حليهم} بضم الحاء.
وقرأ حمزة والكسائي: من حليهم بكسر الحاء، وكلّهم شدّد الياء (6).
الواحد من الحليّ: حلي، وجمعه: حليّ، ومثله: ثدي وثديّ، ومن الواو: حقو وحقيّ قال (7):
__________
(1) في (م): الإقصاد.
(2) في (ط): مثل.
(3) في (ط): فكذلك.
(4) في (ط): اختلفوا.
(5) في (ط): عز وجل.
(6) انظر السبعة ص 294.
(7) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يعتذر فيها إلى النعمان والسليم: اللديغ(4/80)
يسهّد من نوم العشيّ سليمها ... لحلي النّساء في يديه قعاقع
قال: لحلي النساء على أحد أمرين: إمّا على حدّ قوله (1):
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا وقوله: (2)
قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس (3)
أو يكون على حدّ قوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم / 34النحل / 18] فيريد به الكثرة، [أمّا فعول فإنّه يكون مفردا، ويكون جمعا. فإذا كان مفردا. جاء على ضربين: أحدهما أن يكون مصدرا وهو العام الكثير، مثل:
القعود والدخول والمضيّ.
وقد جاء اسما في قولهم: الأتيّ والسّدوس (4).
__________
قلب عن معناه، والحلي: الخلاخل ويعلق عليه لئلا ينام، وكانوا يقولون:
إنه إذا نام دب السّمّ فيه. انظر ديوانه / 46.
(1) صدر بيت عجزه في الكتاب 1/ 108:
فإنّ زمانكم زمن خميص
(2) في (م): وقولهم.
(3) عجز بيت لجرير من قصيدة يهجو بها التّيم وصدره:
تدعوك تيم وتيم في قرى سبأ انظر ديوانه / 325شرح الصاوي. وانظر ابن الشجري 2/ 38، 343، والمخصص 1/ 31.
(4) السدوس: الطيلسان.(4/81)
وإذا كان جمعا كان على ضربين: أحدهما أن يكون جمعا للثلاثة مثل: كعب وكعوب، والآخر أن يكون لما زاد على الثلاثة نحو: شاهد وشهود، وحاضر وحضور فإذا كان جمعا للثلاثة، فالثلاثة المجموع بها على ضربين: صحيح ومعتل، ومن المعتل: المجموع على فعول ما كان لامه حرف علة وذلك نحو: ثدي وثدي، وحقو وحقيّ، مما كان من الياء نحو قولهم: حليّ في جمع حلي، فواو فعول قلبت ياء لوقوعها قبل الياء التي هي لام، كما أبدلت واو مفعول من مرميّ لذلك، وأبدلت من ضمة عين فعول كسرة، كما أبدلت ضمّة عين مفعول في: مرميّ، وإن كانت اللام واوا أبدلت منها الياء وذلك نحو: حقو وحقيّ] (1)، وقال الشاعر (2):
بريحانة من بطن حلية نوّرت ... لها أرج ما حولها غير مسنت
فإن كان هذا المكان سمّي بواحد حلي، كتمرة، وتمر، كان حلي جمعا، ويكون قوله: لحلي النساء جمعا قد أضيف إلى جمع.
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط) وكتب على هامش (م).
(2) البيت للشنفرى الأزدي من قصيدة قالها يوم قتل حرام بن جابر قاتل أبيه قوله: بريحانة، يريد: طيب ريحها. يقول: ما حولها غير مسنت فهو أطيب لها وأحسن.
وقد سبق في 2/ 372، وانظر اللسان (روح).(4/82)
وقال: أو من ينشأ في الحلية [الزخرف / 18]، وقال:
{وتستخرجون حلية تلبسونها} [فاطر / 12]، فيجوز أن تكون الحلية إنّما كسرت مع علامة التأنيث، وفتح بلا هاء فقال (1):
حلي، كما قالوا: البرك للصدر، والبركة قال (2):
ولوح ذراعين في بركة وقالوا: كان زياد أشعر (3) بركا. فأمّا (4) وجه قول من ضمّ من حليهم فإنّ حليا لا يخلو من أن يكون جمعا على حدّ نخل وتمر، أو مفردا فيكون: حلي وحليّ، كقولهم: كعب وكعوب وفلس وفلوس، إلّا أنّه لما جمع أبدل من الواو الياء لإدغامها في الياء وأبدل من الضمة كسرة كما أبدلت في (5) مرميّ ومخشيّ، ونحو ذلك. فأمّا الحاء التي هي فاء في الحلي، فإنّها بقيت مضمومة كما كانت مضمومة في: كعوب وفلوس، ويجوز أن يكون جمعا كتمر، وجمع على فعول كما جمع صفا على صفيّ في نحو (6):
مواقع الطّير على الصّفيّ
__________
(1) في (ط): فقيل.
(2) صدر بيت للنابغة الجعدي وعجزه:
إلى جؤجؤ رهل المنكب والبركة: الصدر، ورهل: مسترخ من السمن لا من الضعف والجؤجؤ:
الصدر أو مجتمع رءوس عظام الصدر، انظر شعره / 21.
(3) في (م): أسعر.
(4) في (ط): وأما.
(5) في (ط): من.
(6) عجز بيت منسوب إلى الأخيل الطائي وصدره:(4/83)
وممّا يحتمل أن تكون الضمة أبدلت فيه كسرة قولهم:
بكيت، والمحتزن البكيّ (1)
فالبكيّ يجوز أن يكون فعيلا، ويكون باك وبكيّ، كعالم وعليم، وشاهد وشهيد، فالكسرة من (2) العين على هذا كسرة فعيل، ويجوز أن يكون فعولا، أبدلت الواو منها (3) ياء، وأبدلت من ضمّتها الكسرة (4) كقولهم: أدحيّ النّعام، وآريّ الدابة (5) هما فاعول، إلّا أنّ اللام من أدحيّ واو قلبت ياء، ومن آريّ ياء والكسرة في البناء (6) مبدلة ضمة.
ووجه قول حمزة والكسائي في كسرهما الحاء من حليهم، هو أنّ المكسر من المجموع (7) قد غيّر (8) عمّا كان الواحد عليه في اللفظ والمعنى، كما أن الاسم المضاف إليه كذلك، ألا ترى أنّ الاسم المكسر في الجمع يدلّ بالتكسير
__________
كأنّ متنيه من النّفيّ ومواقع الطير: مواضع وقوعها التي اعتادت إتيانها والصّفيّ ج صفا والصفا: ج صفاة وهي الحجر الصلد الضخم لا ينبت شيئا.
انظر الجمهرة 3/ 153ومجالس ثعلب 1/ 207، واللسان (صفا).
(1) البكيّ: كثير البكاء. انظر ما سبق 1/ 74.
(2) في (ط): في.
(3) في (ط): منه.
(4) في (ط): كسرة.
(5) أدحي النعام: مبيضها في الرمل، والآري: محبس الدابّة (اللسان: دحي أري).
(6) عبارة (ط): في البناءين مبدلة من ضمة.
(7) في (ط) الجموع
(8) في (ط): غيره.(4/84)
على الكثرة، وأن الفاء قد غيّر في التكسير كما أن الاسم المضاف إليه كذلك؟ وذلك أنّه بالنّسب صار صفة، وكان قبل اسما، وقد تغيّر في اللفظ بما (1) لحقه من الزيادة فلمّا تغيّر الاسم تغييرين وهو: إبدال الواو ياء وإبدال الضمة كسرة كما غيّر في الإضافة تغييرين، قوي هذا التغيير على تغيير الفاء، كما قوي النسب للتغييرين على حذف الياء من (2) نحو: حنفي، وجدلي في النسب إلى حنيفة، وجديلة (3)، وكذلك حليّ وعصيّ.
فإن قلت: فهلّا لزم هذا التغيير في الجمع هاهنا (4)، كما لزم في النسب؟.
قيل: إنّ النسب قد جاء منه ما لم يغيّر (5)، وترك على أصله، وذلك قولهم في الإضافة إلى سليقة: سليقي، وإلى عميرة كلب: عميري، فجاء غير مغيّر مع التغييرين اللاحقين للاسم في النسب فكذلك جاء حليّ على الأصل مع هذين (6)
التغييرين اللاحقين للاسم.
وأما (7) نحو: عصيّ وقنيّ فقد لحقه مع هذين التغييرين اللذين ذكرنا تغيير ثالث، وهو إبدال الواو ياء، وكذلك ما كان
__________
(1) في (ط): لما.
(2) في (ط): في.
(3) عبارة (ط): وفي النسب إلى حنيفة وجديلة فكذلك.
(4) ساقطة من (م).
(5) في (ط): يغيره.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): فأما.(4/85)
من ذلك جمعا، الآخر منه واو، فإنّه يلزم بدل الواو منه ياء نحو عصيّ وحقي ودليّ فهذا مستمر، إلّا أن يشذّ منه شيء، فيجيء على الأصل نحو ما حكاه من قولهم: إنّكم لتنظرون في نحو كثير (1)، ونحو ما أنشده (2) أحمد بن يحيى (3):
وأصبحت من أدنى حموّتها حما فجاءت الواو في الحموّة مصححة، وكان القياس أن تنقلب ياء من حيث كان جمعا. فأمّا إلحاق (4) تاء التأنيث له فعلى حدّ عمومة وخيوطة (5)، وليس لحاق هذه التاء ممّا يمنع القلب، ألا ترى أن الذي يوجب القلب فيه هو أنّه جمع، وما كان من هذا النحو واحدا كالمضيّ والصّلي، مصدر صلي فإنّ الفاء منه، لا تكسر كما كسر في الجموع، لأنّ الواحد لم يتغيّر فيه المعنى كما تغيّر في الجمع.
وحكى أبو عمر عن أبي زيد آوى إليه إويّا، وممّا يؤكد
__________
(1) في (ط): كثيرة.
(2) في (م): أنشد.
(3) عجز بيت أورده اللسان دون أن ينسبه وكان لقائله امرأة فطلقها وتزوجها أخوه فقال:
لقد أصبحت أسماء حجرا محرما ... وأصبحت من أدنى حموّتها حما
أي: أصبحت أخا زوجها بعد ما كنت زوجها.
انظر اللسان مادة / حما /.
(4) في (ط): لحاق.
(5) جمع خيط، مثل فحولة زادوا الهاء لتأنيث الجمع (اللسان: خيط).(4/86)
كسر الفاء في هذا النحو من الجمع قولهم: قسيّ في (1) جمع قوس، ألا ترى أنّا لا نعلم أحدا يسكن إلى روايته حكى فيه غير الكسر في الفاء فهذا ممّا يدل (2) على تمكن الكسرة في هذا الباب الذي هو الجمع، وربما أبدلت اللّامات إذا كانت واوات من الأسماء، وليس ذلك على حدّ الإبدال في عصيّ وحقيّ، لو كان على هذا الحدّ للزم هذا الضرب من الآحاد كما لزم الجموع، وإنّما ألزمت الآحاد التغيير، كما لزمت أدل وأحق وأجر، وذلك أنّه لما قرب من الطّرف أبدلت كما أبدل هذا الضرب، وعلى هذا قالوا: مسنيّة (3)، ومعدي، ومن ذلك قولهم: العتوّ قال تعالى (4): {وعتوا عتوا كبيرا} [الفرقان / 21] فصحّحت، وأبدلت في قوله: أيهم أشد على الرحمن عتيا [مريم / 69]، وقد بلغت من الكبر عتيا [مريم / 8] فهذا مصدر، ولو كان اسما على حد: شاهد، وشهود، للزم فيه البدل كقولهم: الجثيّ في جمع جاث لأنّه من يجثو، ولكنّه أبدل على حدّ مسني ومعديّ، وقالوا (5): أنا أجوؤك وأنبؤك، وهو منحدر من الجبل، فأتبعوا الحركة الحركة، فإن (6) لم يكن في الكلمة تغييران، فهذا التغيير في الجمع على ما قرأه حمزة والكسائي أقوى.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): يدلك.
(3) أرض مسنية: أي مرويّة.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): وقد قالوا.
(6) في (ط): وإن.(4/87)
وأمّا قولهم في جمع: الفتى فتوّ فهو على قول أبي الحسن من باب نحوّ وحموّة (1)، لأنّه يرى أنّه من الواو وفي (2)
قول غيره أذهب في باب الشذوذ.
ألا ترى أنّه إذا قلب ما كان من الواو إلى الياء نحو:
حقي وعصي، فالذي من الياء (3) أجدر أن يترك على ما هو عليه، فإذا أبدل منها الواو في الجمع مع أنّها من الياء كان على خلاف ما جاء عليه الجمهور والكثرة.
الاعراف: 149
اختلفوا في الياء والتاء من قوله جلّ وعزّ: {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} [الأعراف / 149]، وفي الرفع والنصب من قوله تعالى (4): ربنا *.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم: {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} بالياء والرفع، وقرأ حمزة والكسائي لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا بالتاء ونصب ربنا (5).
القول في ذلك أنّ من قرأ: {لئن لم يرحمنا ربنا} جعل الفعل للغيبة، وارتفع {ربنا} به، وكذلك: {ويغفر لنا} فيه ضمير {ربنا} وهو مثل {يرحمنا} في الإسناد إلى الغيبة.
ومن قرأ: لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا جعل تغفر لنا
__________
(1) في (ط): حمو.
(2) في (ط): في.
(3) في (م): والذي من الواو.
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة ص 294. وفي (م): (ربّنا) نصب.(4/88)
للخطاب، وفيه ضمير الخطاب وربنا * نداء. والذي (1) كان في قراءة من قدمنا قوله فاعلا، وحذف حرف التنبيه معه لأنّ عامة ما في التنزيل من ذلك، يحذف حرف التنبيه منه (2)، كقوله:
{ربنا انك آتيت فرعون وملأه زينة} {ربنا ليضلوا} {ربنا اطمس}
[يونس / 88]، {ربنا إني أسكنت من ذريتي} [إبراهيم / 37]، {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} [آل عمران / 194].
الاعراف: 150
اختلفوا في كسر الميم وفتحها من قوله جلّ وعزّ: قال ابن أم [الأعراف / 150].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم {قال ابن أم} نصبا، وفي طه [94] مثلها.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائيّ: قال ابن أم بكسر الميم، فأما (3) الهمزة فمضمومة (4).
[قال أبو علي] (5) من قال: يا ابن أمّ فقال سيبويه:
قالوا: يا ابن أمّ، ويا ابن عمّ فجعلوا ذلك بمنزلة اسم واحد لأن هذا أكثر في كلامهم من يا ابن أبي، ويا غلام غلامي.
قال أبو علي: جعلوهما بمنزلة اسم واحد، ولم يرفضوا
__________
(1) في (ط): وهو الذي.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وأما.
(4) السبعة ص 295.
(5) سقطت من (ط).(4/89)
الأصل الذي هو إضافة الأول إلى الثاني كما رفضوا الأصل في خطايا، والتصحيح للعين، في: قال، وباع وخاف. ونحو ذلك مما يرفض فيه الأصل فلا يستعمل، ألا ترى قول أبي زبيد (1):
يا ابن أمّي ويا شقيّق نفسي ... أنت خلّيتني لأمر شديد (2)
فهذا بمنزلة القصوى الذي استعمل فيه الأصل الذي رفض في غيره، فكذلك قولهم: يا ابن أمي.
ومن قال: يا ابن أمّ، فبنى الاسمين على الفتح، والفتحة (3) في: ابن، ليست النصبة التي كانت تكون في الاسم المضاف المنادى، ولكن بني على الحركة التي كانت تكون للإعراب، كما أنّ قولهم: لا رجل كذلك، وكما (4) أن:
مكانك، إذا أردت به الأمر لا تكون الفتحة فيه الفتحة التي كانت فيه وهو ظرف، ولكنّه على حدّ الفتحة التي كانت (5) في رويدك.
__________
(1) في (م): زيد. وهو تحريف.
(2) أبو زبيد: هو أبو زبيد الطائي، والبيت في سيبويه 1/ 318، وأمالي ابن الشجري 2/ 74، وشرح المفصل 2/ 12.
(3) في (ط): فالفتحة.
(4) في (ط): فكما.
(5) سقطت من (ط).(4/90)
فإن قلت: لم (1) لا نقول: إنها نصبة؟، فالمراد (2) يا ابن أمّا، فحذف الألف كما حذفت (3) ياء الإضافة في غلامي [في النداء] (4).
قيل: ليس مثله، ألا ترى أنّ من حذف الياء من: يا غلام، أثبتها في يا غلام غلامي؟ فلو كانت الألف مقدرة في:
يا ابن أمّ (5)، لم يكن يحذف، كما لم يحذف في قوله (6):
يا بنت (7) عمّا لا تلومي واهجعي فالألف لا تحذف حيث تحذف الياء، ألا ترى أن من قال {ذلك ما كنا نبغ} [الكهف / 64]، {والليل إذا يسر}
[الفجر / 4]، فحذف الياء من الفواصل، وما أشبه الفواصل من الكلام التام، لم يكن عنده في نحو قوله (8): {والليل إذا
__________
(1) في (ط): فلم.
(2) في (ط): والمراد يابن.
(3) كذا في (ط) وفي (م) حذف.
(4) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(5) في (م): أما.
(6) من أرجوزة لأبي النجم العجلي يخاطب امرأته أم الخيار، وهي ابنة عمه ولها يقول: قد أصبحت أم الخيار تدعي * علي ذنبا كله لم أصنع انظر سيبويه 1/ 318المحتسب 4/ 238شرح المفصل 2/ 12، 13 وانظر شرح أبيات المغني 6/ 161159.
(7) رسمها في (م) (عمى) بالألف المقصورة.
(8) سقطت من (ط).
} {يغشى والنهار إذا تجلى} [الليل / 1]، إلّا الإثبات.(4/91)
__________
(8) سقطت من (ط).
{يغشى والنهار إذا تجلى} [الليل / 1]، إلّا الإثبات.
فإن قلت: فقد حذفت الألف في نحو:
رهط (1) مرجوم، ورهط ابن المعلّ (2)
وهو يريد المعلّى، وقد أنشد أبو الحسن (3):
فلست بمدرك ما فات مني ... بلهف ولا بليت ولا لو أنّي
يريد بلهفى فحذف الألف.
فالقول: إن ذلك في الشعر ولا يجوز (4) في الاختيار وحال السّعة فلا (5) ينبغي أن يحمل قوله: {يابن أم} على هذا.
وقياس من أجاز ذلك أن تكون فتحة الابن نصبة، والفتحة في أمّ ليست كالتي في عشر من خمسة عشر، ولكن مثل الفتحة التي في الميم من: يا بنت عمّا.
وحجة من قال: {يا بن أم لا تأخذ} أن سيبويه قال: وقد
(1) في (ط): من رهط. وهو خطأ.
(2) سبق البيت في 1/ 79، وهو من ملحقات قصيدة لبيد اللامية في ديوانه ص 99ط. الكويت.
(3) معاني القرآن 1/ 65، 72وهو من شواهد الخصائص 3/ 135، والمحتسب 1/ 277و 323والأمالي الشجرية 2/ 74والإنصاف 390 والعيني 4/ 248والخزانة (عرضا) 1/ 63واللسان مادة (لهف). ولم ينسب.
(4) في (ط): ولا يكون.
(5) في (ط): ولا.(4/92)
قالوا أيضا: يا بن أمّ ويا بن عمّ، كأنهم جعلوا الأول والآخر اسما واحدا ثم أضافوه كقولك: يا أحد عشر أقبلوا. قال (1) وإن شئت قلت: حذفوا هذه الياء لكثرة هذا في كلامهم وعلى ذا قال الشاعر:
يا بنت عمّا لا تلومي واهجعي (2)
الاعراف: 157
اختلفوا في كسر الألف وفتحها من قوله تعالى (3):
{إصرهم} [الأعراف / 157].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {إصرهم} بكسر الألف.
وقرأ ابن عامر: آصارهم ممدودة الألف على الجمع (4).
[قال أبو علي] (5) الإصر: مصدر يقع على الكثرة مع إفراد لفظه، يدلك (6) على ذلك قوله: {ويضع عنهم إصرهم}
[الأعراف / 157]، فأضيف وهو مفرد إلى الكثرة، ولم يجمع، وقال: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا} [البقرة / 286]، {ولو شاء
__________
(1) سقطت من (م).
(2) انظر سيبويه 1/ 318.
(3) في (ط) عز وجل.
(4) السبعة ص 295.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(6) في (ط): يدل.
} {الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} [البقرة / 20]، وقال: {لا يرتد إليهم طرفهم} [إبراهيم / 43]، وقال: {ينظرون من طرف خفي}
[الشورى / 45].(4/93)
__________
(6) في (ط): يدل.
{الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} [البقرة / 20]، وقال: {لا يرتد إليهم طرفهم} [إبراهيم / 43]، وقال: {ينظرون من طرف خفي}
[الشورى / 45].
فالوجه الإفراد كما أفرد في غير هذا الموضع.
وجمع ابن عامر كأنّه أراد ضروبا من المآثم مختلفة، فجمع لاختلافها، والمصادر قد تجمع إذا اختلفت ضروبها كما تجمع سائر الأجناس، وإذا كانوا قد جمعوا ما يكون ضربا واحدا كقوله (1):
هل من حلوم لأقوام فتنذرهم ... ما جرّب النّاس من عضّي وتضريسي
فأن يجمع ما يختلف من المآثم أجدر.
فجعل إصرا وآصارا، بمنزلة عدل، وأعدال، ويقوي ذلك قوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}
[العنكبوت / 13] والثقل مصدر كالشّبع والصّغر والكبر.
الاعراف: 161
اختلفوا في قوله [جلّ وعزّ] (2): نغفر (3) لكم خطاياكم [الأعراف / 161].
فقرأ ابن كثير وعاصم، وحمزة، والكسائيّ: {نغفر لكم
(1) البيت سبق في 1/ 299.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): يغفر.
} {خطيئاتكم} بالتاء مهموزة على الجمع.(4/94)
__________
(3) في (ط): يغفر.
{خطيئاتكم} بالتاء مهموزة على الجمع.
وقرأ أبو عمرو: {نغفر لكم} بالنون، خطاياكم * من غير (1) همز، مثل: قضاياكم، ولا تاء فيها.
وقرأ نافع: تغفر لكم * بالتاء مضمومة، خطيئاتكم بالهمز، وضم التاء على الجمع، وكذلك روى محبوب عن أبي عمرو: تغفر لكم * [بالتاء مضمومة] (2) خطيئاتكم بالهمز، وضم التاء، وتابعه ابن عامر على التاء من تغفر لكم وضمّها، وقرأ: خطيئتكم واحدة مهموزة مرفوعة (3).
من قرأ: {نغفر لكم}، فهو على (4): {وإذ قيل لهم ادخلوا نغفر لكم}. والتي في البقرة: {نغفر} والنون هناك أحسن لقوله: {وإذ قلنا} [البقرة / 58]. وفي الأعراف: {وإذ قيل لهم} [الآية / 161]، والمعنى فيمن قرأ في الأعراف:
{نغفر لكم}، كأنّه قيل لهم: ادخلوا نغفر. أي: إن دخلتم غفرنا، فأمّا خطيئاتكم فجمع خطيئة، صححها في الجمع، كما كسّرت على خطايا، وكلا الأمرين شائع وحسن (5)، فخطايا في اللفظ مثل قضايا إلّا أنّ الألف في قضايا منقلبة عن ياء هي لام الفعل، والألف في خطايا منقلبة عن ياء منقلبة عن همزة وهي لام الفعل.
(1) في (ط): بغير.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة ص 296.
(4) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(5) في (ط): سائغ حسن.(4/95)
فإن قلت: فهلّا رددت الهمزة في خطايا، لأنّك إنّما كنت قلبتها ياء لاجتماع الهمزتين وقد زال اجتماعهما، فهلّا قلت:
خطايأكم *؟.
فإن ذلك لا يستقيم لأنّ الياء في خطايا منقلبة عن همزة فعيلة، فحكمها حكم ما انقلب عنها، ألا ترى أنّ حكم الهمزة في حمراء حكم ما انقلب (1) عنها من الألف، وحكم هرق، حكم أرق؟ فلو سمّيت بها لم تصرف كما لا تصرف أرق، وكذلك حكم الهمزة في علباء، حكم الياء في درحاية (2)، فكذلك حكم الياء في خطايا، حكم الهمزة التي انقلبت عنها، وإذا كان كذلك، فاجتماع الهمزتين في الحكم قائم، وإن لم يكن اللفظ عليه.
فأمّا (3) قراءة نافع: تغفر بالتاء مضمومة فلأنّه (4) أسند إليها خطيئاتكم، وهو مؤنث، فأنّث وبنى الفعل للمفعول فقال:
تغفر *، ولم يقل نغفر لأنّ بناءه للمفعول أشبه بما قبله، ألا ترى أنّ قبله: {وإذ قيل لهم} وليس هذا مثل ما في البقرة، لأنّ
__________
(1) عبارة (ط): حكم ما انقلبت عنه في الألف.
(2) رجل درحاية: كثير اللحم قصير سمين ضخم البطن لئيم الخلقة وقد وردت هذه الكلمة في بيت للراجز:
إمّا تريني رجلا دعكاية ... عكوّكا إذا مشى درحاية
انظر اللسان / درح /.
(3) في (ط): وأما.
(4) في (ط): فلأنه قد أسند.(4/96)
في البقرة: {وإذ قلنا}، ف {نغفر لكم} في البقرة، إنّما (1) هو على: قلنا.
وممّا يقوي قراءة من قرأ: {نغفر} بالنون ما بعده من قوله: {وسنزيد المحسنين}.
الاعراف: 164
اختلفوا في الرفع والنصب من قوله تعالى (2): معذرة إلى ربكم [الأعراف / 164].
فقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي معذرة رفعا.
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر في رواية يحيى بن آدم عنه، وغيره معذرة رفعا مثل حمزة وروى الحسين (3) بن علي الجعفي عن أبي بكر وحفص عن عاصم {معذرة} نصبا (4).
قال أبو زيد: عذرته. أعذره عذرا، ومعذرة وعذرى.
فعلى (5). حجة (6) من رفع: أن سيبويه قال: ومثله [في
__________
(1) في (ط): إنّما.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وروى حسين بن علي.
(4) السبعة ص 296.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(6) في (ط): وحجة.(4/97)
قراءته] (1) على الابتداء ويريد مثل حنان في (2) قوله:
فقالت: حنان ما أتى بك هاهنا (3)
ومثله في أنّه على الابتداء، وليس على فعل قوله:
قالوا: معذرة إلى ربكم [الأعراف / 164] لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه، ولكنّهم قيل لهم:
لم تعظون قوما؟ فقالوا: معذرة. أي: موعظتنا معذرة إلى ربكم.
وحجة من نصب {معذرة}: أن سيبويه قال: لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله، وإليك من كذا وكذا لنصب.
الاعراف: 165
واختلفوا في قوله جل وعز (4): {بعذاب بئس}
[الأعراف / 165].
فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي:
{بئيس} على وزن فعيل، الهمزة بين الباء والياء (5) منون.
وقرأ نافع بعذاب بيس بما بكسر الباء من غير همز وينوّن.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) عبارة (ط): في أنه على الابتداء يريد مثل حنان في قوله.
(3) أنشده سيبويه عن بعض العرب الموثوق بهم وعجزه:
أذو نسب أم أنت بالحي عارف انظر سيبويه 1/ 175161اللسان مادة (حنن). الخزانة 1/ 277.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (م): بين الياء والباء.(4/98)
وروى أبو قرّة عن نافع {بئيس} على وزن فعيل مثل حمزة.
وروى خارجة عن نافع بيس * بفتح الباء من غير همز منون على وزن فعل.
وقرأ ابن عامر: بعذاب بئس بما على وزن فعل مثل نافع غير أنه مهموز فكذلك (1) ما روي عن نافع من قوله: بعذاب بئس.
وروى حفص عن عاصم [{بئيس}] مثل حمزة.
وروى حسين الجعفي عن أبي بكر عن عاصم بيأس (2)
على وزن فيعل بفتح الهمزة (3)، أخبرني (4) موسى بن إسحاق عن هارون بن حاتم عنه. وحدثني أبو البختريّ عن يحيى بن آدم عن أبي بكر قال: كان حفظي عن عاصم بيأس بما على وزن فيعل ثم دخلني منها (5) شك، فتركت روايتها عن عاصم وأخذتها عن الأعمش {بئيس بما} مثل حمزة.
حدثني محمد بن الجهم قال: حدثني ابن أبي أمية عن أبي بكر قال: كان حفظي عن عاصم بيئس على وزن فيعل (6)
__________
(1) في (ط): وكذلك.
(2) جاء رسمها في (ط): (بيئس).
(3) في (م) الباء.
(4) في (ط): وأخبرني.
(5) في (ط): فيها.
(6) ورد في حاشية (ط) التعليقة التالية: في الأصل بئيس على وزن فعيل.(4/99)
ثم دخلني منها شك فتركت روايتها عن عاصم، وأخذتها عن الأعمش بعذاب بئيس [على وزن فعيل] (1)
قال أبو زيد: قد بؤس الرجل يبؤس بأسا (2)، إذا كان شديد البأس، وقال في البؤس: قد (3) بئس يبأس بؤسا وبيسا وبأسا، والبأساء الاسم.
[قال أبو علي] (4): يحتمل قول من قال: بئيس أمرين:
أحدهما أن يكون فعيلا من بؤس يبؤس، إذا كان شديد البأس مثل: {من عذاب شديد} [إبراهيم / 2]، والآخر أن يكون من عذاب بئيس، فوصف بالمصدر، والمصدر على فعيل وقد جاء كثيرا كالنذير، والنكير، والشحيح. وعذير الحي، والتقدير: من عذاب ذي بئيس، أي عذاب ذي بؤس.
وأما ما روي عن نافع من قوله: بعذاب بيس، فإنه جعل بيس الذي هو فعل اسما فوصف به، ومثل ذلك
قوله (5): «إنّ الله ينهى عن قيل وقال» و «عن قيل وقال»
وقال (6):
أصبح الدهر وقد ألوى بهم ... غير تقوالك من قيل وقال
__________
(1) زيادة من (ط). السبعة ص 297. وما بين معقوفين غير ما أشير إليه منه.
(2) في (م): بأسا شديدا.
(3) زيادة من (ط).
(4) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(5) نص الحديث كما
جاء في صحيح البخاري: «إنّ الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» البخاري. كتاب الأدب 8/ 4.
(6) ذكره اللسان في مادة (لوى) دون أن ينسبه. وفي (ط): قال. بسقوط الواو.(4/100)
ومثل ذلك: «من شبّ إلى دبّ»، و «من شبّ إلى (1)
دبّ» (2)، فكما استعملت هذه الألفاظ أسماء وأفعالا، كذلك بئس * جعله اسما بعد أن كان فعلا فصار وصفا. ونظيره من الصفة: نقض، ونضو، وهرط (3).
وما روي عن نافع من قوله: بعذاب بيس بفتح الباء من غير همز، فهو أيضا فعل في الأصل، وصف، كما أن بيس كذلك.
وأمّا (4) إبداله من الهمزة الياء، فإنّ سيبويه حكى أنّه سمع بعض العرب يقول: بيس * فلا يحقّق الهمزة، ويدع الحرف على الأصل، يريد على الأصل الذي هو فعل، كأنّه (5) يسكن العين، كما يسكن في (6) علم، ويقلب الهمزة ياء، لأنّه لمّا أسكنها لم يجز فيها أن تجعل بين بين، فأخلصها ياء.
وقراءة ابن عامر: بعذاب بئس بالهمز، فهي قراءة
__________
(1) كذا عبارة (م) وفي (ط): مذ شبّ في الموطنين.
(2) من أمثال العرب وتمامه: أعييتني من شبّ إلى دبّ أي من الصبا إلى الهرم، وورد في (ط): مذ شبّ إلى دبّ ومذ شب إلى دب.
انظر المستقصى في أمثال العرب 1/ 257اللسان مادة / شبب / والأمثال لابن سلام / 122.
(3) الهرط: النعجة الكبيرة المهزولة والهرط أيضا: لحم مهزول. اللسان مادة / هرط /.
(4) في (ط): فأما.
(5) في (ط): فكأنه.
(6) في (ط): من.(4/101)
نافع (1) بعذاب بيس إلّا أنّ ابن عامر حقّق الهمزة. وما رواه أبو بكر عن عاصم بعذاب بيأس فإنه يكون وصفا مثل ضيغم، وحيدر، وهو بناء كثير في الصفة، ولا يجوز كسر العين في (2) بيأس، لأنّ فيعل (3) بناء اختصّ به ما كان عينه ياء، أو واوا، مثل: سيد وميت وطيب ولين، ولم يجيء مثل ضيغم، وقد جاء في المعتل فيعل، حكى سيبويه عيّن، وأنشد لرؤبة (4):
ما بال عيني (5) كالشّعيب العيّن (6)
فينبغي أن يحمل بيأس على الوهم ممّن رواه عن عاصم والأعمش.
الاعراف: 170
اختلفوا في التخفيف والتشديد (6) في قوله جلّ وعزّ:
والذين يمسكون بالكتاب [الأعراف / 170].
فقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر: والذين يمسكون
__________
(1) في (ط): فهو مثل قراءة نافع
(2) في (ط): من. وانظر اللسان مادة (بأس)، فقد ذكر أن من القراء من كسر العين.
(3) في (ط) فيعلا.
(4) سقطت من (م).
(5) في (م): عين.
(6) بيت له من مشطور الرجز وبعده:
وبعض أعراض الشجون الشّجّن وهو من شواهد سيبويه 2/ 372. والشّعيب: القربة الصغيرة. والعين البالية. شبه عينه لبكائه بالقربة القديمة التي يسيل الماء من خرزها.
انظر أدب الكاتب 598 (ط. الرسالة) الاقتضاب / 472الخصائص 2/ 3485/ 214، شواهد الشافية / 59، ديوانه / 160وفيه «العيّن» بالكسر.(4/102)
خفيفا، وكذلك قرأ (1): {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}
[الممتحنة / 10] خفيفا (2).
وروى عنه حفص: يمسكون مشدّدة، {ولا تمسكوا}
خفيفا.
وقرأ ابن كثير ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ، {والذين يمسكون} مشددة {ولا تمسكوا} خفيفة.
وقرأ أبو عمرو: {والذين يمسكون} وو لا تمسكوا مشدّدتين مضمومة التاء.
انفرد أبو عمرو بقوله: ولا تمسكوا أنّها مشدّدة، والباقون يخفّفونها (3).
[قال أبو علي] (4) حجة من قرأ: يمسكون بتخفيف السين قوله: {فإمساك بمعروف} [البقرة / 229].
وقوله: {أمسك عليك زوجك}، [الأحزاب / 37]، {وكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة / 4].
وقول الجميع: يمسكون بالكتاب أولى من الرواية التي انفرد بها من قال: يمسكون بالكتاب عن عاصم، وذلك أنّ التشديد هاهنا إذا أريد به الكثرة كان أولى من التخفيف لقوله:
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (م).
(3) السبعة ص 297مع اختلاف يسير.
(4) سقطت من (م).(4/103)
{وتؤمنون بالكتاب كله} [آل عمران / 119]، أي لا تؤمنون ببعض الكتاب (1) وتكفرون ببعض، فأنتم خلاف (2) من حكي عنهم: {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} [النساء / 150] واتفاق الجماعة غير أبي عمرو في قوله: {ولا تمسكوا}
بالتخفيف حسن، لأنّ ذلك في إمساك المرأة، وقد قال فيه:
{فإمساك بمعروف}، وقال: {أمسك عليك زوجك}
[الأحزاب / 37]، وقال: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} [البقرة / 231]. وقال: {فأمسكوهن في البيوت}
[النساء / 15]، وقال: {ولا تمسكوهن ضرارا} [البقرة / 231]، فعلى هذا قول الجماعة: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}
[الممتحنة / 10] وقول أبي عمرو: إنّ أفعل، وفعّل قد (3)
يكونان بمعنى واحد.
الاعراف: 172
اختلفوا في الجمع والتوحيد في قوله جلّ وعزّ (4): من ظهورهم ذرياتهم [الأعراف / 172].
فقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي {من ظهورهم ذريتهم} واحدة.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر: ذرياتهم * جماعة (5).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): بخلاف.
(3) سقطت من (ط).
(4) عبارة (ط): من قوله.
(5) السبعة ص 298.(4/104)
[قال أبو علي] (1) قولهم: الذريّة تكون جمعا وتكون واحدا، فمما جاء فيه (2) ذرية يراد به الواحد قوله: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة،} {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى}
[آل عمران / 39].
فهذا مثل قوله: {فهب لي من لدنك وليا، يرثني}
[مريم / 5]، {يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى}
[مريم / 7].
وممّا جاء فيه جمعا قوله: {وكنا ذرية من بعدهم}
[الأعراف / 173]، ومنه قوله: {ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء / 32]، فمن أفرد جعله جمعا فاستغنى عن جمعه بوقوعه على الجميع. ومن جمع فمن حجته أن يقول: لا يخلو من أن يكون واحدا، أو جمعا فإن كان واحدا، فلا إشكال في جواز الجمع فيه، وإن كان جمعا فجمعه أيضا حسن، لأنّك قد رأيت الجموع المكسّرة قد جمعت نحو: الطرقات، والجزرات (3)، وصواحبات يوسف.
ومن حجة من أفرد فلم يجمع، أنّ الذريّة قد وقع على
__________
(1) سقطت من (م).
(2) زيادة من (ط).
(3) جزر وجزرات: جمع الجمع كطرق وطرقات، وهي جمع جزر والجزر جمع الجزور وهي الناقة المجزورة أي المعدة للذبح. انظر اللسان / جزر /.(4/105)
الواحد والجميع (1) بدلالة ما تقدم ذكره، كما أنّ قوله:
بشر تقع (2) على الواحد والجميع، فالجميع كقوله: {أبشر يهدوننا} [التغابن / 6]، و {إن أنتم إلا بشر مثلنا}
[إبراهيم / 10]، والواحد كقوله: {ما هذا بشرا إن هذا}
[يوسف / 31]، {ولئن أطعتم بشرا مثلكم} {أيعدكم أنكم}
[المؤمنون / 3433]، فكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير، كذلك لا تجمع الذريّة. فأمّا مثال ذرية من الفعل فيجوز أن يكون فعلولة من الذرّ، فأبدلت من الراء التي هي اللّام الأخيرة ياء كما أبدلت من دهديّة يدلّك على البدل فيه قوله (3):
دهدوهة (4) ويحتمل أن يكون فعّيلة منه، فأبدلت من الراء الياء، كما تبدل من هذه الحروف للتضعيف، وإن وقع فيها الفصل، ويحتمل أن يكون فعليّة نسبا إلى الذرّ، إلّا أنّ الفتحة أبدلت منها الضمة، كما أبدلوا في الإضافة إلى الدهر دهري، وإلى السهل: سهلي، ويجوز أن تكون فعّيلة من ذرأ الله الخلق، اجتمع على تخفيفها، كما اجتمع على تخفيف البرية *. ويجوز أن تكون فعّيلة من قوله: {تذروه الرياح} [الكهف / 45]، [أبدلت
__________
(1) في (ط): الجمع.
(2) في (ط): يقع.
(3) في (ط): قولهم.
(4) الدهدوهة: كالدحروجة وهو ما يجمعه الجعل من الخرء وفي الحديث:
«كما يدهده الجعل النتن بأنفه».
ودهدهت الحجر إذا دحرجته، انظر اللسان / دهده /.(4/106)
من الواو الياء لوقوع ياء قبلها] (1)، ويقوي ذلك أنّ في بعض الحروف {ذرية من حملنا} [الإسراء / 3].
الاعراف: 173، 172
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى (2): أن يقولوا يوم القيامة {أو تقولوا} [الأعراف / 173172].
فقرأ أبو عمرو وحده: أن يقولوا * أو يقولوا بالياء جميعا، وقرأ الباقون جميعا بالتاء (3).
حجة أبي عمرو: أنّ الذي تقدّم من الكلام على الغيبة، وذلك قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم} [الأعراف / 172] كراهة أن يقولوا أو لئلا يقولوا (4)، ويؤكد ذلك ما جاء بعد من الإخبار عن الغيبة وهو قوله: {قالوا بلى} [الأعراف / 172].
وحجة من قرأ بالتاء: أنّه قد جرى في الكلام خطاب فقال (5): {ألست بربكم، قالوا: بلى شهدنا}
[الأعراف / 172]، وكلا الوجهين حسن، لأنّ الغيب هم المخاطبون في المعنى.
الاعراف: 180
واختلفوا (6) في ضمّ الياء وفتحها من قوله تعالى (7):
{يلحدون} [الأعراف / 180].
__________
(1) في (م): «أبدلت من الواو والياء لوقوع ما قبلها»، والوجه ما في (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة ص 298.
(4) قراءة (ط): ولئلا يقولوا.
(5) في (ط): قال.
(6) في (ط): اختلفوا.
(7) سقطت من (ط).(4/107)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
{يلحدون} بضمّ الياء، وكذلك في سورة النحل [103]، والسجدة [40].
وقرأ حمزة الأحرف الثلاثة بفتح الياء والحاء.
وقرأ الكسائي في النحل: لسان الذي يلحدون إليه بفتح الياء والحاء وفي الأعراف والسجدة (1) {يلحدون} [بضم الياء] (2).
[قال أبو علي] (3) حجة من قرأ: {يلحدون} قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} [الحج / 25]، ويدلّ على أن ألحد أكثر، قولهم: ملحد كما قال:
ليس الإمام بالشحيح الملحد (4)
ولا تكاد تسمع لاحدا. وزعم أبو الحسن وغيره: أنّ ألحد ولحد لغتان: فمن جمع بينهما في قراءته، فكأنّه أراد الأخذ بكلّ واحد (5) من اللغتين، وكأنّ (6) الإلحاد: العدول عن الاستقامة والانحراف عنها، ومنه اللحد: الذي يحفر في جانب القبر خلاف الضريح الذي يحفر في وسطه.
__________
(1) يريد بالسجدة هنا (فصلت) وقد ورد في نسخة في السبعة عند فصلت تسميتها بالسجدة، انظر ص 576.
(2) ما بين قوسين سقط من (ط) والسبعة وانظر السبعة ص 298.
(3) زيادة من (ط).
(4) عجز بيت لحميد الأرقط وهو من شواهد سيبويه 1/ 387، وانظر السمط ص 649.
(5) في (ط): واحدة.
(6) في (م): وكان.(4/108)
الاعراف: 186
اختلفوا في الياء والنون. والرفع والجزم في قوله (1):
{ويذرهم} [الأعراف / 186].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ونذرهم بالنون والرفع.
وقرأ أبو عمرو: {ويذرهم} بالياء والرفع، وكذلك قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحفص عن عاصم: {ويذرهم} بالياء والرفع.
[وقرأ حمزة والكسائي: ويذرهم بالياء مع الجزم خفيفة.
وكذلك حدثني الخزّاز عن هبيرة عن حفص عن عاصم ويذرهم] (2) [مثل حمزة] (3).
[قال أبو علي] (4) حجة من رفع أنّه قطعه مما قبله فإمّا أن يكون أضمر المبتدأ فصار {ويذرهم} في موضع خبر المبتدأ المحذوف، وإمّا أن يكون استأنف الفعل فرفعه.
وأمّا قول أبي عمرو: {ويذرهم} بالياء على الغيبة، فلتقدم اسم الله تعالى (5)، وهو على لفظ الغيبة.
ومن قال: ونذرهم بالنون فالمعنى فيه مثل الياء.
وأمّا قراءة حمزة والكسائي: ويذرهم بجزم الفعل
__________
(1) قراءة (ط): من قوله عز وجل.
(2) ما بين قوسين تكرر في (ط).
(3) السبعة ص 299وما بين معقوفين زيادة من (ط) والسبعة.
(4) سقطت من (م).
(5) زيادة من (ط).(4/109)
فوجهها فيما يقول (1) سيبويه أنّه عطف على موضع الفاء، وما بعدها من قوله: {فلا هادي له} [الأعراف / 186]، لأن موضع الفاء مع ما بعدها جزم فحمل ويذرهم على الموضع، والموضع جزم (2). ومثل ذلك قول الشاعر (3):
أنّى سلكت فإنّني لك كاشح ... وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
ومثله قول أبي داود (4):
فأبلوني بليّتكم لعلّي ... أصالحكم وأستدرج نويّا
حمل أستدرج على موضع الفاء المحذوفة من قوله:
فلعلي أصالحكم. والموضع جزم.
ومثله في الحمل على الموضع قوله: {فأصدق وأكن}
[المنافقين / 10].
ألا ترى أنّه (5) لو لم تلحق الفاء لقلت: لولا أخّرتني
__________
(1) في (ط): يقوله.
(2) انظر سيبويه 1/ 448.
(3) ذكره البحر المحيط في 4/ 433غير منسوب وقد سبق انظر 2/ 401.
(4) أبلوني بليّتكم: اصنعوا صنعا جميلا ونويا: نواي والنوى: النية أي الوجه الذي يقصده المرء. أستدرج: أرجع أدراجي من حيث كنت والمعنى:
أحسنوا إلي لعلي أصالحكم وأعود إلى جواركم.
انظر ديوانه / غرنباوم / 350وهو من شواهد شرح أبيات المغني برقم 669ج 6/ 292.
(5) في (ط): أنك.(4/110)
[إلى أجل قريب] (1) أصّدّق لأنّ معنى لولا أخرتني: أخّرني أصّدّق، فحمل قوله: {وأكن} على ذلك.
الاعراف: 190
اختلفوا في ضم الشين والمدّ، والقصر والكسر (2) في قوله جلّ وعز (3): {جعلا له شركاء} [الأعراف / 190].
فقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: {جعلا له شركاء} جمع شريك بضم الشين والمدّ، وكذلك حفص عن عاصم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع: شركا مكسورة الشين على المصدر لا على الجمع (4).
[قال أبو علي] (5) وجه قول (6) من قال: جعلا له شركا أنّه حذف المضاف كأنّه أراد جعلا له ذا شرك أو ذوي (7)
شرك، فإذا جعلا له ذوي شرك فيما آتاهما كان في المعنى كقوله: جعلا له شركاء، فالقراءتان على هذا تئولان إلى معنى واحد والضمير الذي في له * يعود إلى اسم الله، كأنّه جعلا لله شركاء فيما آتاهما.
قال أبو الحسن: وكان ينبغي لمن قرأ: جعلا له شركا
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) في (ط): وكسرها والقصر.
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة ص 299.
(5) سقطت من (م).
(6) سقطت من (م).
(7) في (ط): وذوي.(4/111)
أن يقول: جعلا لغيره شركا (1)، وقول من قرأ: جعلا له شركا يجوز أن يريد: جعلا لغيره شركا فحذف المضاف، فالضمير على هذا أيضا في له *: لاسم الله، ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره، ولا يقدّر حذف المضاف في قوله: {جعلا له}.
وأنت تريد لغيره، ولكن تقدر حذف المضاف إلى شرك، فيكون المعنى: جعلا له ذوي شرك، وإذا جعلا له ذوي شرك، كان في المعنى مثل: جعلا لغيره شركا، فلا يحتاج إلى تقدير جعلا لغيره شركا، لأنّ تقدير حذف المضاف من شرك بمنزلة جعلا لغيره شركا، ومثل: جعلا له شركا، قوله: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه} [الرعد / 16]، لأنّه تقرير بمنزلة: {أم يقولون افتراه} [يونس / 38].
ويجوز في قوله: جعلا له شركا (2) جعل أحدهما له شركا، أو ذوي شرك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما حذف من قوله: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف / 31]، والمعنى: على رجل من أحد رجلي القريتين.
وكذلك قوله: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}
[الرحمن / 22] عند من رأى أن اللؤلؤ يخرج من الماء الملح، تقديره عنده: يخرج من أحدهما، فيكون الذي جعل له (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن 2/ 316.
(2) في (ط): شركاء.
(3) سقطت من (ط).(4/112)
شركا (1)، أحدهما، ويخرج آدم إلى (2) هذا من أن ينسب إليه ذلك. وذهب أحد أهل النّظر إلى أن الضّمير في جعلا للوالدين (3)، كأنّه الذكر والأنثى.
فإن قلت: إنّه لم يجر لهما ذكر فيكنى عنهما، فإنّ فيما جرى من الكلام دلالة على اسميهما فجاز لذلك إضمارهما، كأشياء تضمر لدلالة الأحوال عليها، وإن لم يجر لهما (4) في اللفظ ذكر. من ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم: إذا كان غدا فائتني (5)، فأضمر ما كانوا فيه من الرخاء والبلاء (6)، ولم يجر لهما ذكر.
الاعراف: 193
اختلفوا في تشديد التاء وتخفيفها (7) من قوله تعالى (8):
{لا يتبعوكم} [الأعراف / 193].
فقرأ نافع وحده: لا يتبعوكم ساكنة التاء وبفتح الباء.
وقرأ الباقون: {لا يتبعوكم} مشددا (9).
قال أبو زيد: تقول: رأيت القوم فأتبعتهم اتباعا، إذا
__________
(1) في (ط): شركاء.
(2) في (ط): على هذا.
(3) في (ط): للولدين.
(4) في (ط): لها.
(5) سيبويه 1/ 114.
(6) في (ط) أو البلاء.
(7) سقطت من (م).
(8) في (ط): عز وجل.
(9) السبعة ص 299.(4/113)
سبقوك، فأسرعت نحوهم. ومرّوا عليّ فاتّبعتهم اتّباعا، إذا ذهبت معهم، ولم يستتبعوك، قال: وتبعتهم أتبعهم تبعا، مثل ذلك.
[قال أبو علي] (1): معنى القراءتين على هذا واحد.
ألا ترى أن أبا زيد قال: إنّ تبعتهم مثل اتّبعتهم، والمعنى على تركهم الانقياد للحقّ والإذعان للهدى، وما (2)
شرّع لهم، ودعوا إليه، وكأنّ اتّبع أكثر في استعمالهم من تبع، وإن كانا فيما حكاه أبو زيد بمعنى. ألا ترى أنّ قوله: {واتبع هواه} [الأعراف / 176] القراءة فيه على افتعل.
الاعراف: 195
وقال (3) أحمد: وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {ثم كيدون} [الأعراف / 195] بغير ياء في الوصل والوقف.
وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ابن جمّاز وإسماعيل بن جعفر بالياء في الوصل وكذلك ابن عامر في رواية ورش وقالون والمسيّبي بغير ياء في وصل ولا وقف.
وفي كتابي عن ابن ذكوان عن ابن عامر: ثم كيدوني بياء، وحفظي بغير ياء.
كذا حدثني أحمد بن يوسف بإسناده عن ابن ذكوان (4).
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط) وما جاء.
(3) سقطت الواو من (ط).
(4) السبعة ص 300.(4/114)
القول في ذلك أن الفواصل وما أشبه الفواصل من الكلام التام تجري مجرى القوافي لاجتماعهما في أنّ الفاصلة آخر الآية، كما أنّ القافية آخر البيت، وقد ألزموا الحذف هذه الياءات إذا كانت في القوافي في قوله (1):
فهل يمنعنّي ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
والياء التي هي لام كذلك نحو قوله (2):
يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهوديّ المصلّ
وقد تمّ الوزن دونهما (3). ومن أثبت فلأنّ الأصل الإثبات، وقد جاء الإثبات في هذا النحو في (4) القوافي أيضا كقوله (5):
وهم أصحاب يوم عكاظ إنّي
__________
(1) في (ط): كقوله والبيت للأعشى، وقد سبق في 3/ 219.
(2) البيت للبيد، والأحلاس: ما يوضع على ظهر البعير كلباس ويكون عادة من القماش الرقيق انظر ديوانه / 147ط. صادر واللسان مادة / لمس /.
(3) في (ط): دونها. هذا، والبيت الأول من المتقارب والثاني من التخفيف.
(4) في (ط): من.
(5) في (ط): قوله.
وهذا عجز بيت للنابغة وصدره:
وهم وردوا الجفار على تميم وقد سبق في 3/ 219.(4/115)
وربّما أثبت هذا النحو في الغلوّ والغالي، وإن كان وزن البيت قد تمّ دونه.
الاعراف: 196
واختلفوا (1) في قوله [جلّ وعز] (2): إن وليي الله [الأعراف / 196].
فقرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: وليي الله بثلاث ياءات: الأولى ساكنة، والثانية مكسورة، والثالثة هي (3) ياء الإضافة مفتوحة.
وقال ابن اليزيدي عن أبيه عن أبي عمرو أنه قال: لام الفعل مشمّة (4) كسرا وياء الإضافة منصوبة.
وقال ابن سعدان عن اليزيدي عنه أنّه قرأ: ولي الله يدغم الياء. قال أبو بكر: والترجمة التي قال ابن سعدان عن اليزيدي في إدغام الياء، ليست بشيء، لأنّ الياء الوسطى التي (5) هي لام الفعل متحركة وقبلها ساكن، والياء الزائدة ساكنة ولا يجوز إسكانها وإدغامها، وقبلها ساكن، ولكني أحسبه أراد حذف الياء الوسطى وإدغام الياء الزائدة في ياء الإضافة.
وقال أبو زيد عن أبي عمرو: إن ولي الله مدغمة، وإن شاء بالبيان قال: وليي الله مثقّلة.
__________
(1) في (ط) اختلفوا.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وهي.
(4) في السبعة مشتّمة.
(5) سقطت من (م).(4/116)
وروى العباس (1) بن الفضل كذلك مثقّلة (2) عن أبي عمرو مثله (3).
[قال أبو علي] (4): لا يخلو ما رواه أبو زيد عن أبي عمرو من قوله: إن وليي الله من أن يدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة، أو يحذف الياء التي هي لام الفعل، فإذا حذفها أدغم ياء فعيل في الياء التي هي ياء الإضافة، فلا يجوز أن يدغم الياء التي هي لام في ياء الإضافة لأنّه إذا فعل ذلك انفكّ الإدغام.
ويذهب سيبويه (5) إلى أنك إذا قلت: هذا وليّ يزيد وعدوّ وليد، لم يجز إدغام الياء التي هي لام في ياء يزيد، لأنّك حيث أدغمت الياء في وليّ (6)، والواو في عدوّ، ذهب (7) المد للإدغام، فصارت الياء والواو بمنزلة غيرهما من الحروف التي لا تكون للمدّ، واستدلّ على ذلك بجواز ليّا في القافية مع طيّا ودوّا مع غزوا، فلو أدغمت شيئا من ذلك عاد المدّ إلى الحرف الذي كان ذاك المدّ عنه بالإدغام، وعود المدّ إليه بانفكاك الإدغام بمنزلة تحريك الساكن في نحو: قرم (8) موسى، واسم
__________
(1) في (ط) أبو العباس.
(2) في (ط) منقلبة.
(3) السبعة ص 300.
(4) سقطت من (م).
(5) انظر الكتاب 2/ 410.
(6) في (م): وليي.
(7) في (ط): وذهب.
(8) في (م): قوم. والقرم: الفحل الذي يترك من الركوب والعمل ويودع للفحلة (اللسان).(4/117)
مالك، فكما لا يدغم هذا أحد، كذلك لا ينبغي إدغام الياء التي هي لام في وليّ (1) لعود (2) المدّ إليه بانفكاك الإدغام، وعود المدّ بمنزلة تحريك الراء (3) في قرم (4) موسى، ألا ترى أن المدّ قد قام مقام الحركة في دابّة، وتمودّ الثوب وتضربينّي، فكما لم يجز التحريك في راء قرم موسى، كذلك لا يجوز إدغام الياء (5) التي هي لام في ياء الإضافة. فإن قلت: فليست ياء الإضافة منفصلة لأنّها لا تنفرد.
قيل: إنّها في حكم المنفصل كما أنّ اقتتلوا في حكم المنفصل لاجتماعهما جميعا في أنّ كلّ واحد من الحرفين، يجري في الكلام، ولا يلزمه به مثله، وإذا (6) لم يجز هذا لما ذكرنا، ثبت أنّ اللّام من وليّ حذفها حذفا كما حذفت اللّام من قوله (7): ما باليت به بالة.
وكما حذفت من قولهم: حانة، وكما حذفت الهمزة التي هي لام في قول أبي الحسن من أشياء، وكما حذفت الهمزة في قولهم: سواية إذا أردت به (8) سوائية مثل الكراهية.
__________
(1) (م): وليي.
(2) (م): ليعود.
(3) في (ط): الواو.
(4) في (م): قوم.
(5) سقطت من (م).
(6) في (ط): فإذا.
(7) لعله يقصد قول ابن عباس: ما أباليه بالة. وفي الحديث الشريف: وتبقى حثالة لا يباليهم الله بالة (البخاري 8/ 114) (اللسان مادة / بلا).
(8) سقطت من (م).(4/118)
وكما استمر الحذف في التحقير في هذه اللامات نحو:
عطيّ في تحقير: عطاء، بدلالة قولهم: سميّة فلما حذفت اللّام أدغمت ياء فعيل في ياء (1) الإضافة، فقلت: وليّ الله، فهذه الفتحة فتحة ياء الإضافة.
فإن قلت: فأبو عمرو لا يرى حذف الياء الثالثة إذا اجتمعت ثلاث ياءات، لأن سيبويه حكي عنه أنّه يقول في تحقير أحوى فيمن قال: أسيد: أحيّ (2). قيل: هذا لا يدل على ما ذكرت من أنّه يرى الجمع بين ثلاث ياءات في نحو تحقير سماء، وذلك أنّه استجاز أحيّ، لأنّ في أوّل الكلمة الزيادة التي تكون في الفعل، وقد جرى هذا مجرى الفعل في أنّه منع الصرف، فكما جرى مجرى الفعل فيما ذكرنا، كذلك ما جرى (3)
مجراه في جواز اجتماع ثلاث ياءات في أحيّ، كما اجتمع في الفعل نحو أحيّي، ورأيت أحيي قبل (4) وفي الاسم الجاري عليه نحو: محيّي، فلا يدل هذا على جواز عطيّ عنده، بل يفصل بينهما بما ذكرناه (5).
ألا ترى أنّ سيبويه ألزمه عطي على قوله: أحيّ، ولو كان يرى عطيّ، كما يرى أن يقول: أحيّ لم يلزمه سيبويه (6) ذلك،
__________
(1) سقطت من (م).
(2) الكتاب 2/ 131.
(3) في (ط): جري.
(4) سقطت من (م).
(5) في (ط): ذكرنا.
(6) سقطت من (ط).(4/119)
فكأن أبا عمرو في قوله: إن ولي الله شبّه المنفصل بالمتصل، فحذف إحدى الياءات من وليّ، كما يحذف من عطيّ.
وقرأ أبو عمرو أيضا: إن وليي الله كما (1) قرأ غيره، ولم يحذف الياء، فقصر حذف الياء إذا اجتمعت ثلاث ياءات على المتصل، ولم يجر المنفصل مجرى المتصل في هذا المذهب الآخر الذي وافق فيه الأكثر.
الاعراف: 201
واختلفوا في إثبات الألف وإسقاطها من قوله عز وجل (2): طيف * [الأعراف / 201].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: طيف * بغير ألف.
وقرأ نافع وابن عامر، وعاصم، وحمزة: {طائف} بألف [وهمز] (3).
أبو زيد: طاف الرجل يطوف (4) طوفا، إذا أقبل وأدبر، وأطاف يطيف إطافة، إذا جعل يستدير بالقوم ويأتيهم من نواحيهم، وطاف الخيال يطيف طيفا، إذا ألمّ في المنام.
أبو عبيدة: طيف من الشيطان: أي: يلمّ به لمّا وأنشد الأعشى (5):
__________
(1) في (ط) على ما قرأ غيره.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة ص 301وما بين معقوفين زيادة منه.
(4) في (م): وهو يطوف.
(5) غبّ الشيء: عاقبته وما يليه السرى: السير في الليل ألم به: خالطه(4/120)
وتصبح عن غبّ السّرى وكأنّما ... ألمّ بها من طائف الجنّ أولق (1)
فقد ثبت ممّا (2) قاله أبو زيد من قولهم: يطيف طيفا، أنّ الطيف مصدر، فكأنّ (3) المعنى: إذا مسّهم وخطر لهم خطرة من الشيطان، ويكون: طائف بمعناه، مثل العاقبة والعافية، ونحو ذلك مما جاء المصدر فيه على فاعل وفاعلة.
والطيف أكثر لأنّ المصدر على هذا الوجه (4)، أكثر منه على وزن فاعل، فطيف كالخطرة والطائف كالخاطر، وقال (5):
ألا يا لقوم لطيف الخيا ... ل أرّق من نازح ذي دلال
وقال آخر (6):
فإذا بها وأبيك طيف جنون
__________
الطائف: ما يطوف بالإنسان ويلم به. ألق الرجل: فهو مألوق أي: جنّ أو أصابه مسّ من جنون.
انظر ديوانه / 221وفي (ط): وأنشد للأعشى.
(1) مجاز القرآن 1/ 236.
(2) في (م): ما.
(3) في (م): «وكان».
(4) في (ط): الوزن.
(5) البيت لأمية بن أبي عائذ. انظر اللسان مادة / طوف /. وفيه: لقومي، بدل:
لقوم.
(6) سقطت من (م): آخر. والشطر عجز بيت لأبي العيال الهذلي وصدره:
ومنحتني فرضيت حين منحتني انظر شرح أشعار الهذليين للسكري 1/ 415، واللسان (طيف).(4/121)
قال أبو الحسن: الطيف أكثر في كلام العرب.
الاعراف: 202
اختلفوا في فتح الياء وضمها (1) في قوله عزّ وجلّ (2):
{يمدونهم في الغي} [الأعراف / 202].
فقرأ نافع وحده: يمدونهم بضم الياء وكسر الميم.
وقرأ الباقون: {يمدونهم} بفتح الياء (3) وضمّ الميم (4).
[قال أبو علي] (5) عامة ما جاء في التنزيل فيما يحمد ويستحبّ أمددت على أفعلت كقوله: إنما نمدهم به من مال وبنين [المؤمنون / 55].
وقوله: {وأمددناهم بفاكهة} [الطور / 22]، وقال (6):
أتمدونني بمال [النمل / 36] وما كان خلافه (7) يجيء على مددت قال: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} [البقرة / 15].
وقال أبو زيد: أمددت القائد بالجند، وأمددت الدواة، وأمددت القوم بمال ورجال، وقال أبو عبيدة: يمدّونهم في الغي، أي: يزينون لهم [الغي والكفر ويقال]: مدّ له في غيه:
__________
(1) في (ط): من.
(2) سقطت من (ط).
(3) تكررت في (ط).
(4) السبعة ص 301.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(6) في (ط): قال.
(7) في (م): كلامه.(4/122)
[زينه له وحسنه وتابعه عليه] (1).
قال أبو عبيدة: هكذا يتكلمون بهذا، فهذا ممّا يدل أن (2)
الوجه فتح الياء، كما ذهب إليه الأكثر.
ووجه قول نافع أنّه بمنزلة قوله: {فبشرهم بعذاب أليم}
[آل عمران / 21].
وقوله: {فسنيسره للعسرى} (3) [الليل / 10].
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 237وما بين معقوفين زيادة منه.
(2) في (ط): على أن.
(3) جاء على هامش (ط): بلغت.(4/123)
بسم الله الرّحمن الرّحيم (1)
[ذكر اختلافهم في] (2) سورة الأنفال
الانفال: 9
اختلفوا في فتح الدال وكسرها من قوله جلّ وعز:
{مردفين} [الأنفال / 9].
فقرأ نافع وحده: مردفين بفتح الدال، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {مردفين}
[بكسر الدال] (3)، وروى المعلّى بن منصور عن أبي بكر عن عاصم مردفين بفتح الدال (4).
قال أبو علي: من قال {مردفين} احتمل وجهين: أحدهما أن يكونوا مردفين مثلهم. كما تقول: أردفت زيدا دابّتي، فيكون المفعول الثاني محذوفا في الآية، وحذف المفعول كثير.
والوجه الآخر في {مردفين}: أن يكونوا جاءوا بعدهم.
__________
(1) في (م): بسم الله.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة: 304.(4/124)
قال أبو الحسن: تقول العرب: بنو فلان يردفوننا، أي:
يجيئون (1) بعدنا.
قال أبو عبيدة: مردفين: جاءوا بعد، وردفني (2)، وأردفني واحد، وهذا الوجه كأنّه أبين لقوله: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}
[الأنفال / 9] أي: جائين بعد لاستغاثتكم ربّكم، وإمداده (3)
إياكم بهم، فمردفين على هذا صفة للألف (4) الذين هم الملائكة.
ومردفين: على أردفوا الناس أي: أنزلوا بعدهم، فيجوز على هذا أن يكون حالا من الضمير المنصوب في ممدّكم مردفين بألف من الملائكة.
الانفال: 11
اختلفوا في قوله [جل وعز] (5): إذ يغشاكم النعاس [الأنفال / 11] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: إذ يغشاكم النعاس بفتح الياء [وجزم الغين] (6) وفتح الشين، [وألف بعدها] (7)
النعاس رفعا.
__________
(1) في (ط): هم يجيئون.
(2) في مجاز القرآن 1/ 241: «جاءوا بعد قوم قبلهم. وبعضهم يقول:
ردفني، أي: جاء بعدي، وهما لغتان».
(3) في (م): فإمداده.
(4) في (ط): صفة الألف.
(5) سقطت من (ط).
(6) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(7) كذا في (ط) وسقطت من (م).(4/125)
وقرأ نافع: يغشيكم بضم الياء وجزم الغين وكسر الشين {النعاس} نصبا.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {يغشيكم}
بضم الياء وفتح الغين مشدّدة الشين مكسورة: {النعاس} بنصب السين (1).
قال أبو علي: حجّة من قرأ يغشاكم قوله سبحانه (2):
{أمنة نعاسا يغشى} [آل عمران / 154]، فكما أسند الفعل إلى النعاس أو الأمنة التي هي من النعاس، كذلك على هذا: إذ يغشاكم النعاس.
وأما من قرأ: يغشيكم و {يغشيكم} (3) فالمعنى واحد، وقد جاء بهما التنزيل قال: {فأغشيناهم فهم لا يبصرون}
[يس / 9]، وقال: {فغشاها ما غشى} [النجم / 54] وقال: {كأنما أغشيت وجوههم قطعا} [يونس / 27].
ومن حجّة من قرأ: إذ يغشيكم أو {يغشيكم} أنه أشبه بما بعده، ألا ترى أنّ بعده وينزل عليكم من السماء [الأنفال / 11]، فكما أنّ ينزل * مسندا إلى اسم الله سبحانه (4)، كذلك {يغشيكم} ويغشيكم (5).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 304.
(3) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(4) في (ط): تعالى بدل سبحانه.
(5) في (ط): يغشي ويغشّي.(4/126)
الانفال: 18
اختلفوا في فتح الواو وإسكانها وتشديد الهاء وتخفيفها من قوله جلّ وعز (1): موهن كيد الكافرين [الأنفال / 18].
فقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو موهن * بفتح الواو مشدّدة الهاء منونة، كيد الكافرين * نصبا.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم، موهن * ساكنة الواو منونة، كيد الكافرين * نصبا.
وروى حفص عن عاصم {موهن كيد} مضاف (2) بتسكين الواو وكسر الهاء وضمّ النون من غير تنوين، وكسر الدال من {كيد} (3).
قال أبو علي: تقول: وهن الشيء وأوهنته أنا، كما تقول: فرح وأفرحته وخرج وأخرجته، فمن قرأ موهن * كان من أوهن، مثل: مخرج من أخرج أي: جعلته واهنا.
فأما: موهن * فهو من: وهّنته، كما تقول: خرّج وخرّجته، وعرّف وعرّفته [وغرّم وغرّمته] (4).
وزعم أبو عثمان أن أبا زيد قال: سمعت من الأعراب من يقرأ: فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله [آل عمران / 146]، فوهن يهن، على هذا مثل: ومق يمق، وولي يلي وهو أيضا ينقل بالهمزة، وبتثقيل العين، فالأمران فيهما حسن. قال
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): مضافا.
(3) السبعة 305304.
(4) سقطت من (م).(4/127)
أبو الحسن: الخفيفة قراءة الناس، وهو أجود في المعنى وبها نقرأ.
الانفال: 19
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله [جلّ وعزّ] (1):
{وأن الله مع المؤمنين} [الأنفال / 19].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائيّ: وإن الله مع المؤمنين بكسر الألف.
وقرأ نافع وابن عامر: {وأن الله مع المؤمنين} بفتح الألف، وكذلك روى حفص عن عاصم فتحا (2).
قال أبو علي: قول من كسر الهمزة أنه منقطع ممّا قبله، ويقوّي ذلك أنهم زعموا أنّ في حرف عبد الله: والله مع المؤمنين.
ومن فتح فوجهه: {ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت} [الأنفال / 19]، ولأن الله مع المؤمنين. أي: لذلك لن تغني عنكم فئتكم شيئا.
الانفال: 42
اختلفوا في كسر العين وضمّها من قوله جلّ وعزّ:
{بالعدوة} [الأنفال / 42].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالعدوة *، وبالعدوة * (3)
العين فيهما مكسورة.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ بضم العين فيهما (4).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 305.
(3) في (ط): بالعدوة والعدوة.
(4) السبعة 306.(4/128)
قال أبو الحسن: تقرأ بالكسر، وهو كلام العرب لم يسمع منهم غير ذلك، وقال (1): وهي قراءة أبي عمرو وعيسى، قال:
وبها قرأ يونس، وزعم يونس أنه سمعها من العرب. قال (2)
أحمد بن يحيى: الضم في العدوة أكثر اللغتين، وقال أبو عبيدة (3): هما لغتان، وأكثر القراءة بالضم.
الانفال: 42
اختلفوا في الإدغام والإظهار من قوله [جل وعز] (4): {ويحيا من حي عن بينة} [الأنفال / 42].
فقرأ ابن كثير في رواية قنبل، وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: {من حي عن بينة} بياء واحدة مشدّدة.
حفص عن عاصم بياء واحدة أيضا: {حي}.
وقال البزّي عن أصحابه عن ابن كثير: حيي عن بينة بياءين، الأولى مكسورة والثانية مفتوحة.
وحدثني الحسين بن بشر الصوفي (5) قال: حدّثنا روح بن عبد المؤمن قال: حدثنا محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير أنه قرأ من حيي بياءين، ظاهرة (6) مثل رواية البزّي.
__________
(1) في (ط): قال بحذف الواو.
(2) في (ط): وقال.
(3) في (ط): وقال غيره. وقد ورد الكلام عن هذا الحرف في مجاز القرآن 1/ 246ولم يرد نقل أبي علي فيه.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (م) الحسن والصواب ما في (ط) وقد سبقت ترجمته.
(6) في السبعة: ظاهرتين.(4/129)
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع بياءين: الأولى مكسورة والثانية مفتوحة حيي * (1).
[قال] (2) أبو عبيدة: الحياة والحيوان، والحيّ واحد (3)، فهذه على ما حكاه أبو عبيدة، مصادر، فالحياة كالجلبة، والحدمة (4)، والحيوان كالغليان والنّزوان، والحيّ، كالعيّ، قالوا (5): حيي يحيا حيّا، كما قالوا: عيي يعيا عيّا، فمن ذلك قوله (6):
كنّا بها إذ (7) الحياة حيّ فهذا كقوله: إذ (7) الحياة حياة.
ومن زعم (9) أنّ حيّ، جمع حياة، كبدنة وبدن، فإن قوله غير متّجه لأن باب المصادر الأعمّ فيها أن لا تجمع (10)، ولأنه لو كان جمعا لفعل (11) لجاء فيه الضمّ، والكسر، كما جاء في
__________
(1) السبعة 307306.
(2) سقطت من (ط).
(3) انظر مجاز القرآن 2/ 117.
(4) الحدمة: صوت التهاب النار أو لهيبها. انظر اللسان (حدم).
(5) في (م): وقالوا.
(6) رجز للعجاج. وقد سبق في 3/ 368وروايته في ديوانه 1/ 486:
وقد نرى إذ الحياة حي
(7) في (م): إذا.
(9) هم بعض البغداديين كما نقل الدكتور السطلي في تعليقاته المفيدة على شرح ديوان العجاج عن حاشية الأصل 1/ 488عن الفارسي.
(10) في (م) يجمع.
(11) في (ط): لفعل.(4/130)
قولهم: قرن ألوى، وقرون ليّ، فأن لم يسمع (1) في الحيّ إلا الكسر، ولم نعلم أحدا حكاه، ولا ادّعى أنه جمع فعل دلالة على أنّه لا مجاز له.
وذكر محمد بن السريّ أن بعض أهل اللغة قال في قول أمية (2):
يأتي بها حيّة تهديك رؤيتها * من صلب أعمى أصمّ الصّلب منقصم أن المعنى: يأتي بها حياة، وهذا على ما قاله هذا القائل مثل قولهم: عيب، وعاب، وذيم، وذام، ونحو ذلك مما جاء على فعل [وفعل] (3)، ولم يكن كآية، وغاية، لأنّ باب غاية وآية نادر، ألا ترى أن الأول من المعتلّين، يصحّح ويعلّ الثاني، مثل نواة وضواة، وحيا وحياة. وباب (4) آية على غير القياس.
ويمكن أن يكون قوله: «يأتي بها حية» يعني بها خلاف الميّتة، لأنها قد وصفت بالحياة، فيكون (5) صفة كسهلة، وعدلة، لأنّ النار قد وصفت بالحياة في نحو قوله (6):
__________
(1) في (ط): نسمع.
(2) لم يرد في ديوانه المجموع.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): فباب.
(5) في (ط): فتكون.
(6) البيت لابن مقبل وتقص: تدق وتكسر المقاصر: أصول الشجر واحدها مقصور. كربت: دنت. والمتنور: الذي ينظر إلى النار من بعيد. يقول:(4/131)
فبعثتها تقص المقاصر بعد ما * كربت حياة النّار للمتنوّر فإذا جعل لها حياة جاز أن يكون قوله: حيّة وصفا غير مصدر، ويقوّي ذلك قولهم في وصفها: خمدت وهمدت، فهذا خلاف الحياة. ويقوي ذلك قوله (1):
يهديك رؤيتها فإنّما يريد: يهدي ضياؤها الضالّ لتعرّفه قصده (2). ومن ذلك ما أنشده أبو زيد (3):
ونار قبيل الصبح بادرت قدحها ... حيا النار قد أوقدتها للمسافر
وقال أبو زيد: الحيوان لما فيه روح، والموتان والموات لما لا روح فيه.
فالحيوان في روايتي أبي زيد وأبي عبيدة على ضربين:
أحدهما: أن يكون مصدرا، كما حكاه أبو عبيدة، والآخر: أن يكون وصفا كما حكاه أبو زيد، والحيوان مثل الحي الذي هو صفة يراد به خلاف الميّت.
__________
بعثت ناقتي عند مغرب الشمس ودنو الليل.
انظر ديوانه / 126اللسان مادة / قصر قص نور /.
(1) سقطت «قوله» من (ط) ويشير في ذلك إلى بيت أمية الذي سبق ذكره.
(2) في (ط): فيعرفه مقصده.
(3) ذكره اللسان في مادة / حيا / ولم ينسبه.(4/132)
وقد جاء من (1) الصفة على هذا المثال نحو قولهم: رجل صميان للسريع الخفيف والزّفيان، قال (2):
وتحت رحلي زفيان ميلع فهذا أظهر من أن يقال: إنه وصف بالمصدر.
فأما قوله: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان}
[العنكبوت / 64]، فيحتمل أن يكون المعنى: وإنّ حياة الدار هي الحياة، لأنّه لا تنغيص فيها ولا نفاد لها، أي: فتلك الحياة هي الحياة، لا التي يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، فيكون الحيوان مصدرا على هذا.
ويجوز أن يكون الحيوان الذي هو خلاف الموتان، وقيل لها: الحيوان، لأنها لا تزول ولا تبيد، كما تبيد هذه الدار، وتزول، فتكون الدار قد (3) وصفت بالحياة لهذا المعنى، والمراد أهلها.
ويجوز أن يكون التقدير في قوله: {لهي الحيوان} هي ذات الحيوان، أي: الدار الآخرة هي ذات الحياة، كأنه لم يعتدّ بحياة هذه الدار حياة.
فأمّا القول في حروف الحيوان، فهو أن العين واللام منه مثلان في أصل الكلمة، أبدلت (4) من الثانية الواو لمّا لم
__________
(1) في (ط): في.
(2) سبق انظر 3/ 209.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): وأبدلت.(4/133)
يسغ الإدغام في هذا المثال، ألا ترى أن مثل طلل، وشرر يصح، ولا يدغم؟ فكذلك (1) الحيوان لم يجز فيه الإدغام، فيتوصّل (2) منه (3) إلى إزالة المثلين بالبدل. ووجب ذلك في الثاني منهما وهو الكثير العام في كلامهم لأن التكرير به (4)
وقع.
ومن زعم أنّ الحيوان ليس على هذا النحو الذي سلكه الخليل، ولكنّه بمنزلة قولهم: فاظ الميّت فيظا وفوظا (5)، ولم يستعمل من الفوظ فعل. فإنّ قوله غير متّجه لأنّ الحيوان لا يكون كالفيظ، والفوظ، ألا ترى أنه كثيرا ما تكون العين منه (6)
مرة ياء وأخرى واوا، وليس في كلامهم في الاسم والفعل ما عينه ياء ولامه واو، فإذا جعل هذا مثل الفوظ والفيظ، بناه على شيء لا يصحّ ولا نظير له.
وأما قولهم: الحيّة، فالعين واللام فيه مثلان، والدليل على ذلك ما حكاه من أنّهم يقولون في الإضافة إلى حيّة بن بهدلة (7): حيويّ، فلو كانت واوا لقالوا: حوويّ، كما قالوا في النسب إلى ليّة: لوويّ، وإذا ثبتت أن العين ياء بهذه الدلالة،
__________
(1) في (ط): وكذلك.
(2) في (م): فيوصل.
(3) في (ط): فيه.
(4) في (ط): بها.
(5) فاظ بمعنى: مات.
(6) سقطت من (ط).
(7) أبو بطن (انظر التاج حيي).(4/134)
علمت أن اللام ياء أيضا، ولا يصح أن تكون واوا.
فأما قولهم: الحوّاء في صاحب الحيّات، فليس من الحيّة، ولكنه (1) من: حويت لجمعه لها في جؤنه وأوعيته.
وعلى هذا قالوا: أرض محياة للتي بها الحيّات.
ومثل قولهم: الحوّاء، لمعالج الحيّات، قولهم: اللئّال لبائع اللؤلؤ، وليس اللئّال من اللّؤلؤ وكذلك (2) الحوّاء ليس من الحيّة.
ومن هذا الباب قولهم: حيا الغيث، فالحيا مثل المطر.
ومنه أيضا قولهم: حياء الناقة في أن حروفه (3) حروف الحي، وقالوا في جمعه: أحيّة وأحيية.
وقال أبو زيد في جمع حياء الناقة: حياء وأحياء، وهو فعال وأفعال، وحكى أيضا: جواد، وأجواد.
فأما ما حكاه بعض البغداديين من قولهم: فلان يبيع الحيوان والحيوات، فلا وجه للحيوات هنا، إلّا أن يكون جمع حياة، وحياة لم نعلمه جمع في موضع، ولا وجه له غير الجمع، ألا ترى أنه لا يحمل على فعلال، ولا فعوال، ولا غير ذلك من أبنية الآحاد (4) ولا تكون التاء بدلا من النون في الحيوان كما كان اللام بدلا منها في أصيلال، ألا ترى أن
__________
(1) في (ط): ولكنها.
(2) في (ط) فكذلك.
(3) في (ط): حروفها.
(4) جاء في (ط) على هامشها: بلغت.(4/135)
النون تبدل منها اللام في غير هذا الموضع، وهما حرفان متقاربان، والتاء لا تقارب النون فتجعله في الحيوات بدلا، وأما (1) ما روي من قوله (2):
ويأكل الحيّة والحيّوتا فأظن البيت أيضا بغداديا، وينبغي أن يكون الحيّوت مثل سفّود وكلّوب، ألا ترى أنه ليس في الكلام فعلوت، فيكون فيه بعض حروف الحي، وليس منه والتاء لام الفعل. فإن قلت:
فقد جاء المروت في قوله (3):
وما خليج من المروت ذو (4) حدب * [يرمي الضرير بعود الأيك والضّال
__________
(1) في (ط): فأما.
(2) رجز ذكره اللسان في مادة / حيا / وقال: أنشد الأصمعي:
ويأكل الحيّة والحيّوتا ... ويدمق الأغفال والتابوتا
ويخنق العجوز أو تموتا والحيّوت: هو ذكر الحية.
(3) البيت لأوس بن حجر ورواية الديوان:
يرمي الضرير بخشب الطلح والضّال والمروت: أرض فيها نبات ومسايل وهي من أرض العالية. الحدب:
ارتفاع الماء وتعاليه في النهر. الضرير: جانب الوادي.
يصف النهر في حال تدفقه وفيضانه وقذفه بالخشب على الجانبين.
انظر ديوانه / 105واللسان (مادة: مرت).
(4) في (م): ذي حدب.(4/136)
ويروى: بخشب الأيك] (1)، فإنه أيضا فعّول من المرت، ولا يكون: فعلوتا من المرور، لأنّ هذا الوزن لم يجيء في شيء.
فإن قلت: فهذا التأليف الذي هو: ح ي ت لم نعلمه في موضع.
فإن ذلك أسهل من أن يدخل في الأبنية ما ليس منها.
وإن قلت: فما تنكر أن يكون حيّوت فعلوت كالرّغبوت، فالتاء (2) فيه زيادة، وإنما أسكن لكراهة المثلين، كما أبدل في الحيوان لكراهة المثلين، ومع ذلك فلو لم يدغم ويثبت للزمك أن تجري اللام التي هي ياء بالضم، وإذا لزم تحريكها لزم إسكانها، فإذا لزم إسكانها لزم حذفها لالتقاء الساكنين.
فأسكنت العين من فعلوت لتحتمل (3) الياء الحركة لسكون ما قبلها، كما قلبت اللام من (4) طاغوت وحانوت وجالوت، لمّا لزم حركتها بالضم في فعلوت، فلمّا قلبت الكلمتان انقلب حرف العلّة فيهما، فإسكان العين من فعلوت في الحيّوت كقلب اللام من طاغوت وحانوت، فذلك إن قاله قائل أمكن أن يقول.
وتقول (5): إن المعتل يختص (6) بأبنية لا تكون في
__________
(1) ما بين معقوفين سقط من (ط) وجاء في (م) على الهامش.
(2) في (ط): والتاء فيه زائدة.
(3) في (م) لتحمّل الياء.
(4) في (ط): في.
(5) في (ط): ويقول.
(6) في (ط): اختص.(4/137)
الصحيح، فكذلك فعلوت جاء حيّوت عليه لما قدّمنا، وإن لم يجيء في غير المعتل. فأما قول الشاعر (1):
إذا شئت آداني صروم مشيّع ... معي وعقام يتّقي الفحل مقلت (2)
يطوف بها من جانبيها ويتّقي ... بها الشمس حيّ في الأكارع ميّت
من (3) أعمل الآخر من الفعلين، أضمر في الأول على شريطة التفسير، ومن أعمل الأول لم يضمر وكان التقدير:
يطوف بها حيّ من جانبيها. وفي يتّقي ذكر من حيّ.
ومعنى حيّ في الأكارع: حيّ في أسفل الأكارع، وأسفل الأكارع: الخفّ ومعنى ميّت، أي: ميت في غير هذا المكان، لأنه لا يثبت إلا في أسفل الأكارع في ذلك الوقت، فجعل عدمه في (4) هذه المواضع موتا له فيها.
__________
(1) ذكرهما القالي في أماليه فقال: وأملى علينا أبو بكر محمد بن السّريّ السراج دون أن ينسبهما.
وآداني: أعانني وقوّاني. وصروم بمعنى صارم وهو قلبه. ومشيّع:
شجاع كأن معه شيئا يشيعه. وعقام: عقيم. والمقلت: التي لا يبقى لها ولد كأنّها تقتلهم أي: تهلكهم. وقوله: حي في الأكارع ميت: يعني:
الظل كأنه مات مما سواه إلا من الأكارع، وذلك حين يقوم قائم النهار.
انظر الأمالي 2/ 236.
(2) في (ط): مقلب، وهو تصحيف.
(3) في (ط): فمن.
(4) في (ط): من.(4/138)
وقد يقولون: حيّ فلان، يريدون فلانا، وأنشد أبو زيد (1):
يا قرّ (2) إنّ أباك حيّ خويلد ... قد كنت خائفه على الإحماق
وأنشد أبو الحسن (3):
أبو بحر أشدّ الناس منّا ... علينا بعد حيّ أبي المغيرة
وروي عن أحمد بن إبراهيم (4):
وحيّ بكر طعنّا طعنة نجرا (5)
يريد: بكرا.
__________
(1) لجبّار بن سلمى: النوادر / 451 (ط الفاتح) وهو من شواهد الخزانة 2/ 216وقرّ: مرخم قرة، والإحماق: مصدر أحمق الرجل: إذا ولد له ولد أحمق. قال البغدادي: المعنى: أنني كنت أرى من أبيك مخايل تدل على أنه يلد ولدا أحمق، وقد تحقق بولادته إياك. وإيضاح الشعر ص 40.
(2) في (ط): أعمير.
(3) ورد هذا الشاهد في الخزانة 2/ 211 (عرضا) نقلا عن أبي علي في الإيضاح الشعري. غير منسوب. ونسبه اللسان (حيا) لأبي الأسود الدؤلي. وهو في ديوانه ص 48وإيضاح الشعر ص 41.
(4) ورد في اللسان (حيا):
وحيّ بكر طعنّا طعنة فجرى ولم يكمل عجزه، ولم ينسبه. وهو في الإيضاح الشعري ص 40. ص 98.
(5) في (م): بجراء.(4/139)
وسئل أعرابيّ عن قائل أبيات أنشدها فقال: قالهنّ حي رياح، يريد: رياحا.
فأما قول من أدغم، فقال: {حي عن بينة}
[الأنفال / 42]، فلأن الياء قد لزمتها الحركة وصارت (1) بلزوم الحركة لها مشابهة (2) للصحيح، ألا ترى أن من حذف الياء من قوله (3): جوار، وعذار في الجرّ والرّفع، لم يحذفها إذا تحرّكت بالفتح لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحيحة (4)، وقال (5)
في الوقف: {كلا إذا بلغت التراقي} [القيامة / 26] فلم تحذف، كما حذفت الياء من [نحو] (6) قوله: {الكبير المتعال}
[الرعد / 9].
ومن جعلها وصلا في نحو:
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري (7)
و: ما يمرّ وما (8) يحلو (9).
__________
(1) في (ط): فصار.
(2) في (ط): مشابها.
(3) سقطت «قوله» من (م).
(4) في (ط): الصحاح.
(5) في (ط): وقالوا.
(6) سقطت نحو من (ط).
(7) سبق انظر 1/ 405.
(8) في (م): ولا يحلو.
(9) جزء من بيت لزهير وتمامه:
وقد كنت من سلمى سنين ثمانيا ... على صير أمر ما يمرّ وما يحلو
يقال: مرّ الشيء: صار مرا، وهنا: ما يضرّ وما ينفع. على صير(4/140)
قد (1) يحذفها في الوقف، ولو تحركت لم يحذفها، فهذا ونحوه يدلّك على أنّها بالحركة قد صارت في حكم الصحيح، وإذا صارت (2) كذلك، جاز الإدغام فيها، كما جاز في الصحيح، وعلى هذا جاء ما أنشده من قوله (3):
عيّوا بأمرهم كما ... عيّت ببيضتها الحمامة
وقال (4):
فهذا أوان العرض حيّ ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمّس
وقال (5):
__________
أمر: على شرف منها. انظر ديوانه / 96، وشرح شواهد الشافية / 232.
(1) في (ط): وقد.
(2) في (ط): صار.
(3) البيت لعبيد بن الأبرص. ورواية الديوان ص 126:
برمت بنو أسد كما ... برمت ببيضتها الحمامة
وهو كذلك في الأغاني 9/ 82وانظر سيبويه 2/ 387ومعاني القرآن 2/ 324والمقتضب 6/ 182، والمنصف 2/ 191وشرح شواهد الشافية / 356واللسان مادة / حيا /.
(4) البيت للمتلمس يخاطب فيه النعمان بن المنذر خطاب تهكم فيقول:
كثر فيه الزرع وحيّ ذبابه.
والزنابير والأزرق: ضربان من الذباب، والعرض: من أودية اليمامة، وبهذا البيت لقب المتلمس، واسمه جرير بن عبد المسيح.
انظر الأغاني 23/ 524، والخصائص 2/ 377، والخزانة 2/ 152.
اللسان (عرض) وفيه: «جنّ ذبابه».
(5) البيت للنابغة الجعدي، انظر شعره / 92، الاقتضاب / 291، اللسان مادة (طرب).(4/141)
سألتني جارتي عن أمّتي ... وإذا ما عيّ ذو اللّبّ سأل
فجعلوا هذه الأشياء في الإدغام بمنزلة شمّوا (1) وعضّوا.
وعبرة هذا أنّ كلّ موضع يلزم ياء يخشى فيه الحركة، جاز الإدغام في اللام من حيي فأما قوله جلّ وعز (2): {على أن يحيي الموتى} [الأحقاف / 33]، فلا يجوز فيه الإدغام، لأن حركة النصب غير لازمة، ألا ترى أنها تزول في الرفع، وتذهب في الجزم مع الحرف! وإذا لم تلزم لم يجز (3) الاعتداد بها، كأشياء لم يعتدّ بها لمّا لم تلزم، نحو الواو الثانية في: ووري، ونحو ضمة الرفع، في: غزو، لزوالها في النصب والجرّ، ونحو احتمالهم الضمّة في: هذه فخذ، وإن لم يكن (4) في الكلام ضمّة قبلها كسرة، لما كانت غير لازمة، وهذا النحو كثير.
وقد أجاز ناس الإدغام في لام يعيا، وأنشدوا بيتا فيه (5):
تمشي بسدّة بيتها فتعي وهذا لا يتجه في القياس، ولم يأت في نثر ولا نظم معروف، وما كان كذلك وجب اطّراحه.
__________
(1) في (م): «سمّوا».
(2) سقطت من (ط): جل وعز.
(3) في (ط): يجب.
(4) في (ط): تكن.
(5) عجز بيت صدره:
فكأنّها بين النساء سبيكة انظر المنصف 2/ 206، المحتسب 2/ 269، اللسان مادة (عيا).
قال في المنصف: بيت شاذ، طعن في قائله، والقياس ينفيه ويسقطه.(4/142)
وقد كنّا بينّا فساد ذلك في المسائل المصلحة من كتاب أبي إسحاق (1).
فأمّا (2) قول من قال: حيي * فبيّن ولم يدغم قال سيبويه (3): أخبرنا بهذه اللغة يونس قال: وسمعنا بعض العرب يقول: أحيياء (4) وأحيية، فبيّن. ومما يقوّي البيان فيه أن مثال الماضي قد أجري حركته مجرى حركة المعرب، فلم تلحقه الهاء في الوقف، كما لم يلحق (5) المعربة، فكما أجريت مجرى المعربة في هذا، كذلك تجري مجراها (6) في ترك الإدغام فيها (7)، ومما يقوّي ذلك أن حركة اللام في حيي فيمن بيّن يزول لاتصالها (8) بالضمير، فصار زوال الحركة عن اللام في هذا البناء بمنزلة زوال حركة النصب عن المعرب لحدوث إعراب آخر فيه، ويقوّي ذلك قولهم: أعيياء، فبيّنوا مع أنّ الحركة غير مفارقة، فإذا لم يدغموا ما لم تفارقه الحركة، فأن لا يدغموا ما تفارقه الحركة أولى.
ومثل ذلك قولهم: أبيناء [جمع بيّن] (9)، والإخفاء في
__________
(1) هو أبو إسحاق الزجاج شيخ أبي علي، وسمى كتابه هذا «الأغفال» انظر معجم الأدباء 7/ 240.
(2) في (ط): وأما.
(3) الكتاب 2/ 388باب التضعيف في بنات الياء.
(4) في الكتاب: أعيياء.
(5) في (ط): تلحق.
(6) في (ط): مجراه.
(7) في (ط): فيه.
(8) في (ط): لاتصالها فيه.
(9) سقطت من (م).(4/143)
هذا النحو في قول من أظهر ولم يدغم [حسن] (1)، وهو بزنة المتحرك.
الانفال: 35
كلّهم قرأ (2): {وما كان صلاتهم} رفعا (3)، {عند البيت إلا مكاء وتصدية} نصبا (4) [الأنفال / 35]، إلا ما حدثني به موسى بن إسحاق الأنصاري. عن هارون بن حاتم عن حسين عن أبي بكر، ورواه أيضا خلّاد عن حسين عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ: وما كان صلاتهم نصبا، عند البيت إلا مكاء وتصدية رفعا جميعا (5).
حدثنا محمد بن الحسين (6) قال: حدثنا حسين بن الأسود، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش: أن عاصما قرأ: وما كان صلاتهم نصبا، عند البيت إلا مكاء وتصدية رفعا، قال الأعمش (7):
وإن لحن عاصم تلحن أنت (8)؟! قال أبو علي: الوجه: الرفع في قوله [جل وعزّ] (9):
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (م): رووا.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (م): جميعا.
(6) في (م): محمد بن الحسن.
(7) في السبعة: قال للأعمش.
(8) السبعة ص 306305.
(9) سقطت من (ط).(4/144)
{صلاتهم} لأنّه معرفة، والمعرفة أولى بأن يكون المحدّث عنها (1) من النّكرة، لأن النكرة شائعة غير مختصة، فتلتبس، ولا تختص لما فيها من الشّياع، فكرهوا أن يقربوا باب لبس، ويشبه أن يكون القارئ إنّما أخذ به، لمّا رأى الصلاة مؤنّثة (2)
في اللفظ، ولم يلحق الفعل علامة للتأنيث (3)، فلمّا لم ير فيه علامة التأنيث (4) أسنده إلى المذكّر (5) الذي هو المكاء ولم يكن ينبغي هذا، لأن الفعل الذي لم تلحقه علامة التأنيث قد أسند إلى المؤنّث كقوله: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة}
[هود / 67]، وقوله: {فكان عاقبتهما أنهما في النار}
[الحشر / 17] {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى}
[الروم / 10] {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} [النمل / 51]، {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} [الأعراف / 103] وليس هذا كقول من قال: {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء / 197]، لأنه قد يجوز أن يكون جعل في يكن * ضمير القصة، فلا يكون آية * مرتفعة بيكن، ولكن بخبر الابتداء، ألا ترى أنه إذا جعل في الجملة اسم المؤنث (6)، جاز أن يؤنّث الضمير الذي يضمر، على شريطة التفسير، وعلى
__________
(1) في (ط): عنه.
(2) في (ط): مؤنثا.
(3) في (ط): علامة التأنيث.
(4) في (ط): تأنيث.
(5) في (م): الذكر.
(6) في (ط): اسم مؤنث.(4/145)
ذلك جاء قوله [جلّ وعزّ] (1): {فإنها لا تعمى الأبصار}
[الحج / 46]، وقوله: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا}
[الأنبياء / 97].
وقال أبو عبيدة وغيره: المكاء: الصفير والتصدية:
التصفيق (2). وقال أبو زيد: مكت است الدابّة، فهي تمكو مكاء، إذا نفخت بالريح، قال: ولا تمكو إلّا است مفتوحة مكشوفة (3).
وقال أبو الحسن: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، ولم أسمع فيه بفعل.
قال أبو علي: قوله [جل وعزّ] (4): {إلا مكاء وتصدية}
الهمزة في المكاء منقلبة عن الواو، بدلالة ما حكاه أبو زيد من قوله (5): تمكو، وكذلك ما جاء من قوله (6):
تمكو فريصته
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) معاني القرآن 1/ 246.
(3) انظر اللسان مادة / مكا /.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): قولهم.
(6) جزء من بيت من معلقة عنترة وهو بتمامه:
وحليل غانية تركت مجدّلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
والفريصة: المضغة التي في مرجع الكتف، والأعلم: الجمل. انظر شرح المعلقات السبع لابن الأنباري 340.(4/146)
والمكاء: مصدر على فعال، وجاء على فعال، لأن الأصوات تجيء عليه كثيرا، كقولهم: النّباح والصّراخ، والعواء والدّعاء، وأما (1) المكّاء: المغرّد في الروض (2)، فهو من هذا الباب أيضا، ولكنّه كالخطّاف، وليس كالحسّان والكرّام، كما أنّ الجاهل والباقر ليس كالضّارب والشّاتم.
فأما التصدية: فمن أحد شيئين: قالوا (3): صدّ زيد عن الشيء وصددته عنه قال (4):
صدّت خليدة عنا ما تكلّمنا وقال (5):
صددت (6) الكأس عنّا أمّ عمرو
__________
(1) في (ط): فأما.
(2) في (ط): الرياض.
(3) في (ط): يقال.
(4) صدر بيت لأعشى ميمون وهو من قصيدته المشهورة التي مطلعها: ودع هريرة وروايته في الديوان ص 55 «هريرة» بدل «خليدة» وعجزه:
جهلا بأمّ خليد حبل من تصل
(5) صدر بيت لعمرو بن كلثوم وعجزه:
وكان الكأس مجراها اليمينا وقد أورده الزوزني في معلقته، وأسقطه ابن الأنباري منها. وقال الأعلم في حاشية الكتاب 1/ 113: ويروى هذا البيت لعمرو بن عدي ابن رقاش أخت جذيمة الأبرش. وقد أورد ابن رشيق في العمدة 2/ 283 هذا البيت مع آخر منسوبين لعمرو هذا وجعلهما شاهدا على الاستلحاق، وقال: استلحقهما عمرو بن كلثوم فهما في قصيدته، وكان عمرو بن العلاء وغيره لا يرون ذلك عيبا.
(6) في (م): صدتّ.(4/147)
فيمكن أن تكون التّصدية مصدرا من صدّ، بني الفعل منه على فعّل للتكثير، على حدّ {غلقت الأبواب} ليس على حدّ غرّمته، وفرّحته، لأنّ الفعل الذي هو على فعل متعدّ، فإنّما يكون [على] (1) فعّل على حدّ غلّق للتكثير، فبناء (2) الفعل على فعّل، والمصدر من فعّل على تفعيل وتفعلة، إلّا أن تفعلة في هذا كالمرفوض من مصدر التضعيف، كأنّهم عدلوا عنه إلى التفعيل، نحو: التحقيق، والتشديد، والتخفيف، لما يكون فيه من الفصل بين المثلين بالحرف الذي بينهما. كما لم يجعلوا شديدة في النسب كحنيفة وفريضة، وكما لم يجعلوا شديدا، وشحيحا، كفقيه وعليم، لما كان يلتقي في التضعيف، فعدلوا عنه إلى أفعلاء وأفعلة نحو: أشدّاء (3) وأشحّة لمّا لم يظهر المثلان في ذلك، فلمّا خرج المصدر على ما هو مرفوض في هذا النحو، أبدل من المثل الثاني الياء، وكأنّ (4) التصفيق منع من المصفّق للمصفّق به، وزجر له.
وفي الحديث «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» (5).
__________
(1) سقطت من ط.
(2) في (ط): فبني.
(3) في (ط): أشحاء.
(4) في (م): وكان.
(5) رواه البخاري في كتاب العمل في الصلاة باب التصفيق للنساء رقم 1203و 1204ومسلم في الصلاة 1/ 318وأبو داود 1/ 578والترمذي في المواقيت رقم 369والنسائي في السهو 3/ 11وابن ماجة في الإقامة رقم 1034والدارمي في الصلاة 1/ 317ومالك في الموطأ رقم 61 وأحمد في مسنده 2/ 261وغيرها.(4/148)
وقوله [جل وعزّ] (1): {رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء / 61]، يحتمل أنهم يمتنعون في أنفسهم عن اتباعك ونصرتك كما وصفوا بذلك في قوله: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} [المنافقون / 5]. ويجوز أن يكون المعنى على أنهم يمنعون غيرهم ويثبّطونهم عنكم (2)، كما قال [جل وعز] (3):
{وإن منكم لمن ليبطئن} [النساء / 72]. ويجوز أن يكون التقدير (4) في قوله تعالى (5): صاد والقرآن [ص / 1] أي:
صاد بالقرآن عملك وأمرك. (6) ومن ذلك الصدى، وهو انعكاس الصوت إذا فعل في موضع صقيل كثيف، وكأنّهم جعلوا ذلك معارضة للصوت لما كان يتبعه، كما أن المصفّق بمعارضته (7)
المصفّق به (8) يمنعه مما يأخذ فيه، والفاعل (9) على هذا من نفس الكلمة.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): عنك.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): التصدية. وفي أصل (م) جاءت كذلك لكن الناسخ شطبها وأثبت على الحاشية كلمة التقدير.
(5) سقطت من (ط) والعبارة فيها: من قوله.
(6) قال ابن جني في الخصائص 2/ 130: ومنه قراءة الحسن رضي الله عنه (صاد والقرآن) وكان يفسره: عارض القرآن بعملك، أي: قابل كلّ واحد منهما بصاحبه.
(7) في (م) بمعارضة.
(8) في (ط): له.
(9) في (ط): والياء.(4/149)
ومن ذلك قولهم: فلان صدا مال، إذا كان حسن القيام به والتعاهد له، فكأنّ المراد به: أنه يقابل بإصلاحه ما رأى فيه من فساد، وكذلك قولهم: هو إزاء مال، معناه: أنه يمنع من أن يشيع فيه الفساد لحسن قيامه وتعهّده.
قال (1): حدثنا علي بن سليمان [قال: يقال] (2): فلان صدا مال، وإزاء مال، وخال مال [وخايل مال] (3).
وسوبان (4) مال.
وقال (5):
هذا الزمان مولّ خيره آزي أي: ممتنع ليس بمتّصل (6)، ومن ذلك قول الشاعر (7):
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) قال ابن جني: هو فعلان من السّأب، وهو الزق للشراب. والتقاؤهما أن الزقّ إنما وضع لحفظ ما فيه، فكذلك هذا الراعي يحفظ المال ويحتاط له احتياط الزقّ على ما فيه. (الخصائص 2/ 131) وعنه في اللسان (سأب).
(5) صدر بيت لعمارة، عجزه:
صارت رءوس به أذناب أعجاز ذكره ابن جني في الخصائص 2/ 131، عن أبي علي. وانظر اللسان (أزا).
(6) في (ط): بمتسع.
(7) رجز نسبه في اللسان. (أزا) للباهلي. وأورد ما ذكره الفارسي، وقال: أي ضيق قليل الخير. وزرانيق الركي: أبنية تبنى على جوانب الآبار، وعلى(4/150)
ظلّ من الشعرى لنا (1) يوم أزي * يعوذ (2) منه بزرانيق الرّكيّ فأز وآز، كأسن وآسن، وهذا في المعنى كقوله (3):
ويوم من الشّعرى تظلّ ظباؤه ... بسوق العضاه عوّذا ما تبرّح
وتقدير بسوق، أي: بظلال سوقه، كما أن قوله:
بزرانيق (4) الركي، أي: بظلالها من حرّه، وكذلك العوذ (5) منه، أي من حرّه. ومثله (6):
وقدت لها الشّعرى فآ ... لفت الخدور بها الجآذر
__________
البئر زرنوقان يعلّق عليهما البكرة. والركي: جمع ركية: البئر.
وجاء في الخصائص 2/ 131برواية:
ظل لها يوم من الشّعرى أزي وكذا في اللسان (أزا). وانظر مجالس ثعلب 546.
(1) في (م): لها.
(2) في (ط): تعوذ. وفي اللسان: (نعوذ).
(3) البيت لذي الرّمة. وهو في ملحقات ديوانه 3/ 1857نقلا عن المعاني الكبير 2/ 790وشرحه فيه: لواجئ في الكنس تحت سوق العضاه، وهو شجر.
(4) سقطت من (م).
(5) في (ط) تعوذ.
(6) البيت للحطيئة، وهو في الديوان ص 165برواية «فآلفت الخدود بها الهواجر». يريد: الحر الذي كان بالشعرى، فجعلت الخدود مؤتلفة في الكنس من شدة الحر. وانظر المعاني الكبير 2/ 790.(4/151)
فوصف اليوم بأن يكون ذلك فيه، كقولهم: ليل نائم، ويجوز في قياس قول سيبويه: أن يكون الهمزة في إزاء من نفس الكلمة غير منقلبة عن شيء، ولو كان على ثلاثة أحرف، لم يكن من نفس الكلمة، ألا ترى أنّ نحو: أجاء، قليل!
الانفال: 37
اختلفوا في فتح الياء وضمّها من قوله [جل وعزّ] (1):
{ليميز الله} [الأنفال / 37] بفتح الياء خفيفة.
وقرأ حمزة والكسائي ليميز الله بضم الياء والتشديد (2).
فقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر:
ليميز الله بضم الياء والتشديد (2).
قال أبو علي: حجّة من قال (4): {ليميز} أنهم قد قالوا:
مزته فلم ينمز، حكاه يعقوب، ومما يثبت ذلك ما أنشده أبو زيد (5):
لما ثنى الله عنّي شرّ عدوته ... وانمزت لا مسئيا ذعرا ولا وجلا
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 306وكان من حق هذا الحرف التقديم على ما قبله في الكلام، إلا أنه كذا ورد في الأصول متأخرا عن الآية 42من الأنفال التي تقدم الكلام عليها.
(4) في (ط): قرأ.
(5) في النوادر ص 285وقائل البيت: مالك بن الريب، وهو من قصيدة أوردها صاحب الأغاني (23/ 312. ثقافة) مع اختلاف في رواية العجز.
وأورد بعضها أبو زيد. وقال: ومسئيا: أراد مسيئا، فقدم الهمزة، وهي لغة، يقال: رآني وراءني. انظر اللسان مادة / سأي /.(4/152)
وقال (1) أبو الحسن: خفّفها بعضهم، فجعلها من ماز يميز، قال (2): وبها نقرأ (3). وحجة من قال (4): ليميز الله أنه قد جاء في التنزيل: تميز، وتميّز: مطاوع ميّزته تقول: ميّزته فتميّز، كما تقول: قطّعته فتقطّع وذلك [قوله جل وعز] (5):
{وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ}. [الملك / 7و 8]، وقوله (6):
{تكاد تميز} دليل على شدة التفوّر، ولأن (7) التميّز انفصال بعض الأشياء من بعض، وذلك إنّما يكون بكثرة التقلّب والتزعزع، ودلّ (8) قوله [جل وعز] (9): {من الغيظ} على شدّة الفوران والتقلّب، لأنّ المغتاظ قد يكون منه التزعزع. وقد قال قوم في الغيظ والغضب (10): إنه غليان دم القلب لإرادة الانتقام.
وقد يراد التشبيه فتحذف حروفه كقوله (11):
حلبانة ركبانة صفوف ... تخلط بين وبر وصوف
__________
(1) في (ط): قال بسقوط الواو.
(2) سقطت من (ط).
(3) معاني القرآن 2/ 322.
(4) في (ط): قرأ.
(5) في (ط): في قوله.
(6) في (ط): فقوله.
(7) في (ط): لأن، بسقوط الواو.
(8) في (م): وذلك.
(9) سقطت من (ط).
(10) عبارة (م): وقد قال قوم من الغيظ أو الغضب أنه.
(11) سبق في 1/ 293وقد جاء ضبطه هنا بالضم في حلبانة وركبانة.(4/153)
وقال في صفة غليان القدر (1):
لهنّ نشيج بالنّشيل كأنّها (2) * ضرائر حرميّ تفاحش غارها وقد تقدم القول في هذا الحرف في سورة آل عمران.
الانفال: 59
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعزّ] (3): ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا [الأنفال / 59].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم، في رواية أبي بكر، والكسائيّ، ولا تحسبن الذين كفروا بالتاء وكسر السين، غير عاصم فإنّه فتح السين، وفي النور أيضا [57] بالتاء.
وروى حفص عن عاصم، وابن عامر وحمزة: {ولا يحسبن} بالياء وفتح السين.
وقرأ [عاصم] (4) في رواية حفص بالياء هنا (5)، وفي
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. وقوله لهن: يعود على القدر والنشيج:
الشهيق. وأصل النشيل: ما طبخ ثم أخذ من القدر ولم يجعل في إناء، ولكنه انتشل. فشبّه صوت غليانها بأصوات الضرائر. وحرمي من أهل الحرم أو قريش. وأهل الحرم أول من اتخذ الضرائر. تفاحش غارها:
غارت غيرة فاحشة. انظر شرح أشعار الهذليين 1/ 79. واللسان مادة (نشج).
(2) في (ط): كأنه.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): هاهنا.(4/154)
النور بالتاء. والباقون غير حمزة وابن عامر في السورتين بالتاء، وقرأهما حمزة بالياء (1).
قال أبو علي: من قرأ: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا.
بالتاء، ف {الذين كفروا}: المفعول الأول، و {سبقوا} المفعول الثاني، وموضعه نصب، ووجهه بيّن.
ومن قرأ: يحسبن الذين كفروا * بالياء، فلا يخلو القول فيه من أن يكون أسند يحسبن * إلى الذين كفروا، فجعل {الذين كفروا} الفاعل، فإن جعل {الذين كفروا} رفعا لإسناد الفعل إليهم، لم يحسن، لأنه لم يعمل يحسبن * في المفعولين، فلا يحمله على هذا، ولكن يحمله على أحد ثلاثة أشياء (2):
إما أن تجعل فاعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (3)، كأنه: ولا يحسبنّ النبي الذين كفروا، وهو قول أبي الحسن.
ويجوز أن يكون أضمر المفعول الأول، التقدير: ولا يحسبنّ الذين كفروا نفسهم سبقوا، أو إيّاهم سبقوا.
ويجوز أيضا أن تقدره على حذف «أن» كأنه: ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا فحذفت أن كما حذفتها في تأويل سيبويه، في قوله: {أفغير الله تأمروني أعبد} [الزمر / 64]،
__________
(1) السبعة: 307.
(2) في (ط): أوجه.
(3) سقطت من (ط).(4/155)
كأنّه: أفغير عبادة الله تأمرونّي، وحذف أن قد جاء في شيء من كلامهم. قال (1):
وإنّ لكيزا لم تكن ربّ علّة (2) * لدن صرّحت حجّاجهم فتفرقوا فحذف أن، والتقدير: لدن أن صرّحت، وأثبته (3)
الأعشى في قوله (4):
أراني لدن أن غاب رهطي كأنّما ... يرى بي فيكم طالب الضّيم أرنبا
وقد حذفت من الفعل وهي (5) مع صلتها في موضع الفاعل، أنشد أحمد بن يحيى (6):
__________
(1) هذا البيت لم نعثر على قائله. ولكيز: ابن أفصى بن عبد القيس بن أفصى ابن دعمي بن جديلة (التاج لكز).
(2) في (ط): عكة.
(3) في (م): أثبت.
(4) الديوان / 115وروايته فيه:
أراني لدن أن غاب قومي كأنما ... يراني فيهم طالب الحقّ أرنبا
وهو من قصيدة قالها يهجو عمرو بن المنذر بن عبدان ويعاتب بني سعد بن قيس.
(5) سقطت من (م).
(6) البيت لمعاوية الأسدي يهجو إبراهيم بن حوران. والقين: الحداد.
والكير: الزق الذي ينفخ فيه الحداد.
انظر الخصائص 2/ 434، وشرح المفصل 4/ 27وشرح شواهد المغني 2/ 691.(4/156)
وما راعنا إلا يسير بشرطة ... وعهدي به قينا يفشّ بكير
فإذا وجّهته على هذا، سدّ: أن سبقوا، مسدّ المفعولين، كما أن قوله [جلّ وعزّ] (1): {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا} [العنكبوت / 2] كذلك.
الانفال: 59
قال: وكلهم قرأ: {إنهم لا يعجزون} [الأنفال / 59] بكسر الألف، إلا ابن عامر فإنه قرأ (2): أنهم لا يعجزون بفتح الألف (3).
قال أبو عبيدة: {سبقوا} (4) معناها: فاتوا، و {إنهم} [5] لا يعجزون لا يفوتون (6). ومثل ما فسّره أبو عبيدة بفاتوا قوله:
{أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} [العنكبوت / 4]، وكما (7) أن ما بعد هذه الآية من قوله: {ساء ما يحكمون}
منقطعة من الجملة التي قبلها، كذلك يكون ما بعد هذه، فتكون إن مكسورة على أنها استئناف كلام، كما كان: {ساء ما يحكمون} كذلك.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): قرأها.
(3) السبعة: 308.
(4) في (ط): مسفوكا. وهي خطأ ناسخ.
(5) في (م): فإنهم.
(6) مجاز القرآن 1/ 249.
(7) في (ط): فكما.(4/157)
ووجه قول ابن عامر أنه جعله (1) متعلقا بالجملة الأولى، فيكون التقدير: لا تحسبنّهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون، فهم يجزون على كفرهم.
الانفال: 61
قرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر: وإن جنحوا للسلم [الأنفال / 61] بكسر السين.
وقرأ الباقون {للسلم} بفتح السين. وروى حفص عن عاصم {للسلم} أيضا بالفتح (2).
قال أبو زيد: فيما روى عنه الأثرم: جنح الرجل يجنح (3)
جنوحا: إذا أعطى بيده، أو عدل إلى ما يحبّ القوم، وجنح الليل يجنح جنوحا: إذا أقبل، وجنحت الإبل تجنح جنوحا (4):
إذا خفضت سوالفها في السير.
وقال أبو عبيدة: وإن جنحوا للسلم أي: رجعوا وطلبوا المسالمة (5)، قال: والسّلم والسّلم والسّلم واحد، قال رجل جاهلي (6):
__________
(1) في (ط): يجعله.
(2) السبعة: 308.
(3) وبابه خضع ودخل (مختار الصحاح).
(4) زيادة من (ط).
(5) عبارة أبي عبيدة في مجاز القرآن: أي: رجعوا إلى المسالمة، وطلبوا الصلح.
(6) في مجاز القرآن (1/ 250): رجل من أهل اليمن جاهلي. أقول: والبيت في الأغاني 13/ 271منسوب لمسعدة بن البختري، يقوله في نائلة بنت عمر بن يزيد الأسيدي وكان يهواها. وانظر تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج 43بتحقيق أحمد الدقاق، واللسان (سلم).(4/158)
أنائل إنني سلم ... لأهلك فاقبلي سلمي
أنشده [أبو زيد] (1) بالفتح فيما رواه التوّزي عنه، وقال أبو الحسن: الصّلح (2): فيه (3) الكسر والفتح لغتان، يعني: السّلم والسّلم، وقد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة (4).
قال: كلهم قرأ: {إذ يتوفى الذين كفروا} [الأنفال / 50] بالياء غير ابن عامر، فإنه قرأ: إذ تتوفى بتاءين (5).
قال أبو علي: قول ابن عامر: إذ تتوفى مثل قوله: {إذ قالت الملائكة}، ومثل قوله: {توفته رسلنا} [الأنعام / 61] [آل عمران / 45]، ونحو ذلك من الفعل المسند إلى المؤنث، ألحقت به علامة التأنيث.
و {إذ يتوفى} مثل قوله: {قد جاءكم بصائر من ربكم}
[الأنعام / 104]، {وقال نسوة في المدينة} [يوسف / 30] ونحو ذلك.
الانفال: 66، 65
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعزّ] (6): {وإن يكن منكم مائة يغلبوا} فإن تكن منكم مائة صابرة [الأنفال / 6665].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: {إن يكن منكم مائة
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) انظر معاني القرآن 2/ 325.
(3) في (ط): فيها.
(4) انظر 2/ 292.
(5) السبعة: 307.
(6) سقطت من (ط).
} {يغلبوا} و {فإن يكن} [1] منكم مائة صابرة بالياء فيهما (2).(4/159)
__________
(6) سقطت من (ط).
{يغلبوا} و {فإن يكن} [1] منكم مائة صابرة بالياء فيهما (2).
وقرأ أبو عمرو: وإن تكن منكم بالتاء والأخرى بالياء.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي الحرفين جميعا بالياء.
وليس عن نافع خلاف أنهما بالتاء، إلا ما رواه خارجة عن نافع أنهما بالياء (3).
قال أبو علي: قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر بالياء {إن يكن} (4)، لأنه يراد به المذكر ويدل (5) على ذلك قوله: {يغلبوا}
وكذلك ما وصف فيه المائة بقوله: {صابرة} لأنهم رجال في المعنى، فحملوا الكلام على أنهم مذكّرون في المعنى كما جاء: {فله عشر أمثالها} [الأنعام / 160]. فأنّث الأمثال على المعنى لما كانت حسنات.
وقراءة أبي (6) عمرو: فإن تكن منكم مائة صابرة لأنّه كما أنّث (7) صفة المائة، وهي قوله: {صابرة}، كذلك أنّث الفعل، وكأنّ التأنيث في قوله سبحانه (8): إن تكن منكم مائة
(1) في (ط) والسبعة: (تكن) بالتاء في الموضعين وهو خلاف ما سيذكره أبو علي في الكلام عن هذه القراءة.
(2) في (ط): بالتاء جميعا.
(3) السبعة: 308.
(4) في (ط): تكن. وهو تصحيف. وقد جاء على الهامش ما نصه: كذا في الأصل وهذا التفسير الذي فسره لمن قرأ بالياء.
(5) في (ط): يدلك.
(6) في (ط): وقرأ أبو.
(7) ضبطت في (ط): «أنّث» بالبناء للمعلوم في الموضعين.
(8) سقطت من (ط).(4/160)
أشدّ مشاكلة لقوله: {صابرة} من التذكير، وفي الأخرى (1) بالياء لأنه أخبر عنه بقوله: {يغلبوا} فكان التذكير أشدّ مشاكلة ليغلبوا، كما كان التأنيث في تكن * أشدّ مشاكلة لقوله: {صابرة}. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي الحرفين جميعا بالياء، حملوا ذلك على (2) المعنى، لأنهم في الموضعين جميعا رجال، فكان ذلك في الحمل على المعنى في قراءتهم كقوله: {فله عشر أمثالها}
[الأنعام / 160].
وقرأ (3) نافع جميعا بالتاء، فحمله على اللفظ، واللفظ مؤنّث، ورواه (4) خارجة بالياء، وذلك للحمل على المعنى دون اللفظ، وكلّ ذلك حسن.
الانفال: 66
اختلفوا في ضمّ الضّاد وفتحها من قوله [جلّ وعزّ] (5):
{وعلم أن فيكم ضعفا} [الأنفال / 66].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي:
ضعفا * ومن ضعف [الروم / 54] كلّ ذلك بضمّ الضاد (6).
وقرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد {ضعفا} في كلّ ذلك، وكذلك في [سورة] (7) الروم.
__________
(1) في (ط): وقرأ الأخرى.
(2) في (ط): حملوا على ذلك على المعنى.
(3) في (ط): وقراءة.
(4) في (ط): ورواية خارجة.
(5) سقطت من (ط).
(6) زاد في السبعة: في كل القرآن.
(7) سقطت من (ط).(4/161)
وخالف حفص عاصما، فقرأ عن نفسه لا عن عاصم في الروم: من ضعف وضعفا * بالضم جميعا (1).
[قال أبو علي] (2): قال سيبويه: قالوا: ضعف ضعفا، وهو ضعيف، وقال أيضا: قالوا (3) الفقر، كما قالوا: الضّعف، وقالوا: الفقر، كما قالوا: الضّعف (4): فعلمنا بذلك أنّ كل واحد من الضّعف والضّعف لغة، كما كان الفقر والفقر كذلك.
الانفال: 67
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعزّ] (5): {أن يكون له أسرى} [الأنفال / 67]. فقرأ أبو عمرو وحده أن تكون له بالتاء. وقرأ الباقون: {يكون} بالياء.
قال أبو علي: أنّث أبو عمرو تكون * على لفظ الأسرى، [لأن الأسرى] (6) وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنث اللفظ.
ومن قال: {يكون}، فلأن الفعل متقدم، والأسرى مذكّرون في المعنى، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل، وكلّ واحد من ذلك إذا انفرد يذكّر الفعل معه، يقال (7): جاء
__________
(1) السبعة: 309308.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وقالوا.
(4) انظر الكتاب 2/ 224: باب في الخصال التي تكون في الأشياء.
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (م).
(7) في (ط): مثل.(4/162)
الرجال، وحضر قبيلتك، وحضر القاضي امرأة، فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى.
وقال أبو الحسن: التذكير أحبّ إليّ، لأنّ الأسرى فعل للرجال وليس للنساء، تقول: النساء يفعلن، ولا تقول: الأسرى يفعلن، فتذكير فعلهم أحسن والتأنيث على المجاز.
الانفال: 70
[واختلفوا في قوله تعالى: قل لمن في أيديكم من الأسارى [الأنفال / 70]] (1).
فقرأ (2) أبو عمرو وحده: قل لمن في أيديكم من الأسارى بالألف. وقرأ الباقون: {من الأسرى} بغير ألف (3).
قال أبو علي: أسرى: أقيس من الأسارى وذلك أن أسير فعيل بمعنى مفعول، وما كان من باب فعيل الذي بمعنى مفعول، لا يجمع بالواو والنون ولا بالألف والتاء، كما أن فعولا (4) كذلك، لكنّه يجمع على فعلى نحو جريح وجرحى، وقتيل، وقتلى، وقال [جلّ وعزّ] (5): {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة / 178]، وعقير وعقرى، ولديغ ولدغى، وكثر هذا الجمع في هذا الباب، واستمر حتى
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).
(2) في (ط): قال.
(3) السبعة: 309.
(4) في (م): مفعولا.
(5) سقطت من (ط).(4/163)
شبّه به غيره مما ليس منه، وذلك (1) لموافقته إياه (2) في المعنى، وذلك مثل: مرضى، وموتى، وهلكى، ووج ووجيا (3)
فهذا أشبه (4) بفعيل الذي بمعنى مفعول، لمقاربته له في المعنى، وذلك [أن هذا أمر ابتلوا به، وأدخلوا فيه، وأصيبوا به، وهم له كارهون] (5) فصار لذلك في قول الخليل مشبها لفعيل الذي بمعنى (6) مفعول وليس مثله، يدلّ على ذلك أنهم قالوا: هالكون، وهلّاك، فجاءوا به على القياس، ولم يحملوه على المعنى، وكذلك قالوا: دامرون ودمّار (7)، وضامر وضمّر، فلم يجيئوا به على فعلى، وإنما قالوا: أسارى على التشبيه بكسالى، قال سيبويه: قالوا: أسارى شبّهوه بكسالى، وقالوا:
كسلى فشبّهوه بأسرى (8).
وأسارى في جمع أسير، ليس على بابه، وما عليه قياسه، كما أن أسراء، وقتلاء في جمع أسير، ليس على بابه، وإنّما شبّه بظرفاء حيث كان على وزنه، فأسارى في جمع أسير على
__________
(1) في (م): ولكنه.
(2) سقطت من (ط).
(3) الوجى: أن يشتكي البعير باطن خفه والفرس باطن الحافر. وانظر سيبويه 2/ 214.
(4) في (ط): شبّه.
(5) عبارة (ط): «أن هذه أمورا ابتلوا بها، وأدخلوا فيها، وأصيبوا بها وهم لها كارهون». وهذا نص كلام الخليل. أورده مع ما بعده سيبويه.
(6) في (ط): في معنى.
(7) رجل دامر: هالك لا خير فيه (اللسان دمر).
(8) الكتاب 2/ 213.(4/164)
التشبيه بغير بابه، وبابه أسرى، فكما شبّه أسير بكسلان، فقالوا: أسارى كما قالوا: كسالى، كذلك شبّه كسلان بأسير.
وقالوا في جمعه: كسلى، كما قالوا: أسرى. فعلى هذا يوجّه قول من قال: أسارى. فأمّا أسرى فهو على الباب المستمر الكثير.
وقال أبو الحسن: الأسرى ما لم يكن موثقا، والأسارى:
الموثقون، قال: والعرب لا تعرف ذلك، كلاهما عندهم سواء.
الانفال: 72
اختلفوا في فتح الواو وكسرها من قوله جلّ وعزّ: {من ولايتهم} [الأنفال / 72].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر: {من ولايتهم} و {الولاية} [الكهف / 44] بفتح الواو فيهما.
وقرأ حمزة: ولايتهم والولاية بالكسر فيهما.
وقرأ الكسائي: من ولايتهم بفتح الواو، والولاية بكسر الواو (1).
قال أبو عبيدة: {من ولايتهم}: مصدر المولى، يقال:
مولى بيّن الولاية إذا فتحت، فإذا كسرت فهو من وليت الشيء (2).
وقال أبو الحسن: {ما لكم من ولايتهم من شيء}، وهذا
__________
(1) السبعة: 309. وجاء في (م) زيادة: «وقرأ الباقون بالفتح».
(2) مجاز القرآن 1/ 251مع اختلاف في العبارة.(4/165)
من الولاية فهو مفتوح، وأما في السلطان، فالولاية بالكسر (1)، وكسر الواو في الأخرى لغة (2).
قال: وقرأ الأعمش: ما لكم من ولايتهم من شيء مكسورة (3).
قال أبو علي: الولاية هنا من الدين، فالفتح أجود. قال أبو الحسن: وهي قراءة الناس، إلّا أن الأعمش كسر الواو وهي لغة، وليست بذاك.
وحكى محمد بن يزيد عن الأصمعي: أن الأعمش لحن في كسره لذلك، وليس قوله هذا بشيء، لأنه إذا كانت لغة فيما حكاه أبو الحسن فليس بلحن.
__________
(1) في (ط): مكسورة الواو.
(2) معاني القرآن 2/ 325مع اختلاف في العبارة يسير.
(3) في (ط): مكسور.(4/166)
[بسم الله:
ذكر اختلافهم في] (1) سورة التوبة
التوبة: 12
اختلفوا في الهمزتين، وإسقاط إحداهما من قوله [جلّ وعزّ] (2): {أئمة} [التوبة / 12].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: أيمة * بهمز الألف، وبعدها ياء ساكنة، على أنّ نافعا يختلف (3) عنه في ذلك، فروى المسيّبي، وأبو بكر بن أبي أويس: آيمة ممدودة الهمزة، وياء بعدها كالساكنة، وقال أحمد بن صالح عن أبي بكر بن أبي أويس: أحفظ عن نافع: {أئمة} بهمزتين. وقال أبو عمارة عن يعقوب بن جعفر وإسحاق المسيّبي (4) عن أهل المدينة: أيمة * همزوا الألف بفتحة شبه الاستفهام، أخبرني بذلك إسماعيل بن أحمد عن أبي عمر الدّوري، عن أبي عمارة عن يعقوب.
وقال القاضي إسماعيل، عن قالون بهمزة واحدة.
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).
(2) في (ط): تعالى.
(3) في (ط): مختلف.
(4) في (م): إسحاق والمسيبي.(4/167)
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: أئمة بهمزتين (1).
قال أبو علي: المثلان إذا اجتمعا (2) في كلمة، ولم يكن الثاني منهما للإلحاق، ولم يكن على فعل نحو: طلل وشرر فحركة الأوّل منهما مرفوضة غير مستعملة، إلّا فيما لا اعتداد به من حرف شاذّ نحو: ألبب، ولححت عينه. وما يجيء في الشعر من نحو ذلك، فهو من الأصول المرفوضة التي لا تستعمل في حال (3) السّعة والاختيار. وإذا كان كذلك، فالحركة المقدّرة في أول المثلين من مودّ لم تخرج إلى اللفظ في هذا البناء، وإذا لم تخرج إليه كان ساكنا، وإذا سكن كانت الواو في مودّ في تقدير الحركة من غير أن تنقل إليه، كما أن الحركة في زوج وزوجة وعود وعودة كذلك. وإذا كانت الحركة في حكم الثبات في الواو، لم (4) يكن سبيل إلى قلبها، كما لم يكن لها إلى ذلك سبيل في زوجة، ولواذ، وعوض وحول (5)، ونحو ذلك، ولو كان الأمر فيه على غير هذا المسلك، لكان ميدّ لأنّ الحركة لو كانت مقدرة على العين لنقلتها إلى الياء، وقد قلبتها الكسرة، ومثل (6) هذا قولهم: إوزّ، ألا ترى أنه
__________
(1) السبعة: 312.
(2) في (ط): اجتمعتا.
(3) في (ط): أحوال.
(4) في (م): ولم.
(5) في (ط): وجوار.
(6) في (ط): وأصل.(4/168)
افعل، فصحّحوا الواو، ولم تقلبها الكسرة كما قلبت نحو:
ميزان، أنشد أبو عثمان (1):
كأنّ خزّا تحته وقزّا * أو فرشا محشوّة إوزّا وقال آخر (2):
يلقى (3) الإوزّون في أكناف دارتها وأما (4) قولهم: أيمة *، فهو في الأصل أفعلة، وواحدها إمام، فإذا جمعته على أفعلة ففيه همزة، هي فاء الفعل، وتزيد عليها همزة أفعلة الزائدة، فتجتمع همزتان، واجتماع الهمزتين في كلمة لا يستعمل تحقيقهما، ولا (5) تخلو الهمزة التي هي فاء الفعل (6) في أيمة * من أن تكون الحركة نقلت إليها بعد أن كانت ساكنة، أو وقعت في أول حالها متحركة من غير تقدير سكون فيها، ونقل الحركة إليها بعد، فلو ثبتت ساكنة، ونقلت إليها الحركة بعد لوجب أن تبدل ألفا كما أبدلت في آنية،
__________
(1) من رجز ذكره في مجالس العلماء ص 243والسمط 216والمخصص 8/ 166. واللسان (وزز). وقوله: إوزا، أي: ريش إوز.
(2) صدر بيت ذكره ابن يعيش في شرح المفصل 5/ 5واللسان في مادة / وزز / برواية: تلقى الإوزين، ولم ينسبه وعجزه:
فوضى وبين يديها التبن منثور وفي (ط): وقال الآخر. وإوزون: جمع إوزة.
(3) في (ط): تلقى.
(4) في (ط): فإما.
(5) في (ط): فلا.
(6) زيادة من (ط).(4/169)
وآزرة، ونحو ذلك، ولو أبدلت ألفا لجاز وقوع المدغم بعدها، ولم يحتج مع وقوع المدغم بعدها إلى القلب فيها، فلما لم تقلب ألفا ووقعت متحرّكة، ولم تحركها على أن الفتحة في الهمزة، صادفت الهمزة التي هي فاء (1) متحركة بالكسر، ولو صادفتها ساكنة لقلبتها (2) ألفا، فالحركة في أيمة * كالحركة في مودّ، ودلّ على هذا قولهم (3): إوزّ فلمّا لم تنقل الحركة إلى الفاء من العين، صارت الفاء كأنّها لم تزل مكسورة، فانقلبت (4) ياء، لأنّ الهمزتين لمّا لم تجتمعا في كلمة واحدة لزم الثانية منهما البدل.
وإذا لزم الثانية البدل كان بمنزلة ما لم يزل حرف لين، يدلّك على ذلك قولهم: أوادم، ونحو ذلك: جاء، في قول عامة النحويّين. وعلى هذا قاس النحويون، فقالوا: لو بنيت من جاء مثل: فعلل، لقلت: جيئا، وقد علمت أن الحركات تنزّل منزلة الحروف، فكما تعتلّ بعض الحروف لمجاورة بعضها للتقريب نحو: حتى يصدر الرعاء [القصص / 23] اعتلّت الصاد لمجاورة الدال، ونحو: اصطبر اعتلّت التاء لمجاورة المطبق، كذلك انقلبت الهمزة من أيمة * ياء لمجاورة الكسرة التي بعدها، كما انقلبت ياء لمجاورة (5) الحركة التي قبلها في
__________
(1) سقطت من (م).
(2) عبارة (ط): ولم تصادفها ساكنة فتقلبها.
(3) في (ط): من قوله قولهم.
(4) في (م): وانقلبت.
(5) في (م): بالمجاورة الحركة.(4/170)
ذيب. وأيضا فإن الهمزة (1) تشبه الألف لأنها من مخرجها وتقاربها، لأن كلّ (2) واحدة منهما تنقلب إلى صاحبتها في نحو: هو يضربها، وحبلأ، في وقف بعضهم، كما قلبت ألفا في الوقف عند أهل التخفيف في: لم يقرأ، وكما قلبت هي أيضا إليها في آدم، ورأس، والألف تعتلّ وتغيّر لما قبلها ولما بعدها في نحو: كتاب وعالم، كذلك قلبت الهمزة للحركة التي قبلها والتي بعدها في نحو: ذيب وأيمّة.
وكذلك الواو تعلّ للياء التي بعدها في نحو طوي طيّا، وللياء التي قبلها في مثل (3). ديّار وقيّام ونحوه، ولو كسّرت قولهم (4): أيمة * أو حقّرته، كما قلت: أسقية وأساق، لزم أن تقول: أويمة فتقلبها واوا لتحرّكها أيضا بالفتح (5)، كما قلبتها واوا في أوادم وآخر وأواخر.
فإن كسّرت قلت: أوامّ، ولا تقول: أييمة، فتقرر الياء في التحقير على ما كانت عليه في التكبير (6)، لزوال الكسرة الموجبة لانقلاب الهمزة إلى الياء، كما لا يجوز أن تقرّر الياء في ميزان ونحوه، إذا كسّرت أو حقّرت لزوال المعنى الموجب للياء وهو الكسر الذي في الميم، وكذلك الياء المنقلبة عن الهمزة في أيمة * ولا يجوز تقريرها في التحقير والتكسير، لزوال
__________
(1) في (م): فالهمزة.
(2) في (ط): ولأن كلّ.
(3) في (ط): في نحو.
(4) سقطت من (م).
(5) في (م) لتحركها بالفتحة.
(6) في (م): التكسير.(4/171)
الكسرة، كما لا يجوز أن تقرّر الياء إذا خفّفت ذئبا (1) وبئرا في التحقير والتكسير، لزوال الكسرة الموجبة لقلبها، وكذلك في:
هذا أفعل من هذا من: أممت، تقول: هذا أومّ من هذا (2)
لتحركها بالفتح، وهذا قول أبي الحسن.
وقول أحمد بن موسى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو:
أيمة * بهمز الألف وبعدها ياء ساكنة، غير أن نافعا يختلف عنه إلى آخر الفصل.
فالقول فيه: أن هذه التراجم مضطربة، وفي هذه الكلمة همزتان: الأولى (3) منهما همزة أفعلة، والثانية: فاء الفعل، فمن لم ير الجمع بينهما من النحويين، وهو أبو عمرو والخليل وسيبويه وأصحابهم (4)، قال: أيمة * فأبدل من الهمزة التي هي فاء (5)، الياء لانكسارها، فلم يجتمع (6) همزتان، ومن لم ير الجمع بين الهمزتين لم يجعل الثانية بين بين، لأنّها إذا كانت كذلك كانت في حكم الهمزة، ألا ترى أن العرب قالوا في فاعل من جاء وشاء وناء (7)، جاء، وشاء وناء؟ فقلبوا الثانية ياء محضة لانكسار ما قبلها، ولم يخفّفوا، ولو خفّفوها لزم أن
__________
(1) في (م): دينا. وهو تصحيف.
(2) في (ط): ذا.
(3) في (ط): الأول.
(4) وفي (م) وأصحابهما.
(5) في (ط): فاء الفعل.
(6) في (ط): تجتمع.
(7) سقطت من (ط).(4/172)
تكون بين الياء والهمزة في قول الخليل وسيبويه، وقول أبي عمرو (1) والعرب فيما ذكر سيبويه، أو تقلب (2) ياء في قول أبي الحسن فإذا كان كذلك فما ذكره من أن نافعا وابن كثير وأبا عمرو قرءوا بهمز الألف، وبعدها ياء ساكنة غير مستقيم، لأن الياء التي بعد ألف أفعلة متحركة بالكسر، فكيف تكون ساكنة، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله: بعدها ياء ساكنة. أنها همزة بين بين، لأنها لو كانت كذلك كانت في حكم أئمة المحقّقة، يدلّك على ذلك أنّ أبا عمرو إذا فصل بين الهمزتين بالألف في نحو (3):
أأنت أم أمّ سالم جعل الثانية بين بين، فلو لم يكن (4) في حكم الهمزة في هذه الحال، لم يفصل بينهما بالألف، كما يفصل بينهما من يفصل، إذا حقّق الهمزتين، وشيء آخر يدلّك (5) على أنّ المخففة في حكم المتحركة، وهو أنها لو كانت إذا خفّفت
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (م): وتقلب.
(3) جزء من بيت لذي الرمة وتمامه في ديوانه 2/ 768:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا آأنت أم أمّ سالم
والوعساء: رابية من الرمل وجلاجل: موضع أي: أأنت أحسن أم أم سالم؟ وانظر سيبويه 2/ 168. ورسمت «آأنت» في الأصل بثلاث ألفات:
«أاأنت».
(4) في (ط): تكن.
(5) في (ط): يدل.(4/173)
ساكنة لم يستقم قوله (1):
أأن رأت رجلا أعشى إذا خففت (2) الثانية، كما لم يستقم الشعر إذا أسكن، وكذلك قول الشاعر (3):
كلّ غرّاء إذا ما برزت لو كان إذا خفف الثانية كانت ساكنة لم يستقم، كما لم يستقم البيت الآخر.
فإذا لم يخل قوله: بعدها ياء ساكنة، من أن يريد به:
السكون الذي هو خلاف الحركة، أو يعني به: الهمزة التي تجعل بين بين، أو يعني به: إخفاء الحركة، ولم يجز واحد من الوجهين الأولين ثبت أنه إخفاء الحركة، والإخفاء تضعيف الصوت بالحركة، فهو يضارع السكون من جهة الإخفاء، وإن كان المخفيّ (4) في وزن المتحرك.
وأما ما ذكره من قوله (5) أن نافعا يختلف عنه في ذلك، فروى المسيّبي وأبو بكر بن أبي أويس: آئمة ممدودة الهمزة مختل، ألا ترى أنه لا مدّ في هذه الهمزة، كما لا مدّ في همزة أبد، وأجل، وأمد؟
__________
(1) جزء من بيت للأعشى سبق في 1/ 286.
(2) في (ط): خفف.
(3) سبق في 1/ 286.
(4) في (م): المخفى.
(5) زيادة في (م).(4/174)
وقوله: وياء بعدها كالساكنة، يحتمل وجهين: أحدهما:
تخفيف الهمزة، والآخر إخفاء الحركة، وذلك أن الهمزة إذا خففت، صارت مضارعة للساكن، وإن كانت في الوزن متحركة، ولذلك لم تخفف مبتدأة، فهذا إن أريد كان صحيحا في العبارة، إلّا أنه يفسد في هذا الموضع لخروجه (1) عن المذهبين، ألا ترى أن خلافهم فيها على ضربين، أحدهما:
إبدال الياء من الهمزة الثانية من (2) أئمة، والآخر: تحقيقهما، وهو (3) قراءة حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر، فيفسد لخروجه عن المذهبين، وإن كان قد يستقيم في اللفظ فإذا لم يجز ذلك لخروجه عن المذهبين، فينبغي أن يحمل ذلك على إخفاء حركة الياء المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء الفعل.
وما حكاه من قوله: قال أبو عمارة عن يعقوب بن جعفر وإسحاق المسيبي، عن أهل المدينة: همزوا الألف بفتحة شبه الاستفهام، فإنه يفهم منه أنهم أثبتوا في أيمة * همزة مفتوحة كفتحة همزة الاستفهام، ولم يذكر في الذي بعد الهمزة شيئا، وكذلك قال القاضي إسماعيل عن قالون بهمزة واحدة، فهذا مستقيم لا اختلاف فيه، إلا أنه لا يفهم من ذلك حكم الثانية.
قال: وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: أئمة بهمزتين، فالقول فيه أن تحقيق الهمزتين فيها ليس بالوجه، ومما يضعّف الهمزتين أنه لا نعلم أحدا حكى التحقيق فيهما
__________
(1) في (ط): بخروجه.
(2) في (ط): في.
(3) في (ط): وهي.(4/175)
في آدم، وآدر، وآخر، ونحو هذا، فكذلك ينبغي في القياس أن يكون أيمة *. فإن قلت: إن الثانية التي في آدم ساكنة، والثانية في أئمة متحركة، والمتحرك أقوى من الساكن. قيل:
المتحرك في هذا ليس بأقوى من الساكن، لأنك قد رأيت الكسرة توجب فيها الاعتلال والقلب، مع أنها متحركة في:
مئر، وذئب، فلم تكن الحركة لها مانعة من الاعتلال، كما كان جؤن، وتؤدة كذلك.
وحجتهم في الجمع بين الهمزتين في أإمة أن سيبويه زعم أن ابن أبي إسحاق كان يحقّق الهمزتين وناس معه.
قال سيبويه: وقد يتكلّم ببعضه العرب، وهو رديء، وقد تقدم القول في أوائل هذا الكتاب (1).
والدلالة على ضعف اجتماع الهمزتين، ووجهه من القياس، أن يقول: الهمزة حرف من حروف الحلق، كالعين وغيرها، وقد جمع بينهما في نحو: لعاعة (2)، وكعّ (3)، وكعّة، والفهّة (4)، وكذلك في غير هذه الحروف، فكما جاء أن اجتماع العينين كذلك، يجوز اجتماع الهمزتين.
التوبة: 12
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله جلّ وعز: {إنهم لا أيمان لهم} [التوبة / 12].
__________
(1) انظر 1/ 284.
(2) اللعاعة: الذي يتكلف الألحان من غير صواب. والمرأة اللعة: المليحة العفيفة.
(3) الكعّ: الضعيف العاجز. ورجل كع الوجه: رقيقه.
(4) الفهّ: كليل اللسان عييّ عن حاجته والأنثى فهّة.(4/176)
فقرأ ابن عامر وحده: لا إيمان لهم بكسر الألف.
وقرأ الباقون: {لا أيمان لهم} بفتح الألف (1).
قال أبو علي: حجة من قال: {لا أيمان لهم}، ففتح أن يقول: قد قال: {إلا الذين عاهدتم} [التوبة / 4] والمعاهدة يقع فيها أيمان * فإذا كان كذلك ففتح الهمزة أشبه بالموضع وأليق وأيضا، فقد قال: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم}
[التوبة / 13]، ويقوي ذلك أن المتقدم ذكره، إنما هو أيمان نكثوها. ومما يقوي أيمان * بفتح الهمزة أن قوله: فقاتلوا أيمة الكفر يعلم منه أنه لا إيمان لهم فإذا كان كذلك فالفتح في قوله جل وعزّ: {لا أيمان لهم} أولى، لأنه لا يكون تكريرا، ولم يقع عليه دلالة من الكلام الذي تقدمه.
فإن قلت: فكيف قال: {إنهم لا أيمان لهم} فنفى أيمانهم؟، ثم قال: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم}
[التوبة / 13] فأوجبها، فإنّما ذلك لأنّ المعنى لا أيمان لهم يفون بها، ولا أيمان لهم صادقة، كما أن قوله: {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} [مريم / 9] معناه: شيئا مذكورا، ويبيّن ذلك في الأخرى بقوله: {لم يكن شيئا مذكورا} [الإنسان / 1] وقد قالوا:
إنّك ولا شيئا سواء، فلو كان الكلام يراد به النفي، كان محالا، لأنّ لا شيء لا يساوي شيئا، وإنما جاز لما يراد بهذا الكلام من النقص المراد بهذا الكلام، فكذلك قوله: {لا أيمان لهم}
على هذا الحد.
__________
(1) السبعة: 312.(4/177)
ووجه قول ابن عامر أنّه ذكر أن الكسر قراءة الحسن، ووجه: لا إيمان لهم أن يجعله مصدرا من آمنته إيمانا، يريد به خلاف التخويف، ولا يريد به (1) مصدر آمن الذي هو صدّق، أي: ليس لأئمة الكفر من المشركين إيمان، كما يكون الإيمان الذي هو مصدر آمنته لذوي الذمّة من أهل الكتاب، لأنّ المشركين لا يقرّون، ولا يؤمنون إلّا أن يسلموا، فإن لم يسلموا فالسيف، ولا يؤمنون بتقرير بقبول جزية، كما يقرّ أهل الكتاب، ولا (2) يكون على هذا الإيمان الذي هو خلاف الكفر، فيكون تكريرا لدلالة ما تقدم من قوله تعالى: فقاتلوا أيمة الكفر على أن أهل الكفر لا إيمان لهم، لأن الإيمان على هذا إنما هو مصدر. آمنت المنقول من أمن الذي هو (3) خلاف خوّفت.
التوبة: 17
اختلفوا في الجمع والتّوحيد من قوله [جلّ وعزّ] (4): أن يعمروا مسجد الله [التوبة / 17].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: أن يعمروا مسجد الله على واحد، {إنما يعمر مساجد الله} [التوبة / 18] على الجمع.
أخبرني أبو حمزة الأنسي، قال: حدّثنا حجّاج بن المنهال عن حمّاد بن سلمة عن ابن كثير أنه قرأ: مسجد الله إنما يعمر مسجد الله بغير ألف على التوحيد.
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): فلا.
(3) عبارة (ط): من أمن وخلاف خوّفت.
(4) سقطت من (ط).(4/178)
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ على الجمع فيهما (1).
قال أبو علي: حجّة من أفرد فقال: مسجد الله أنه يعني به ما تأخر من قوله تعالى (2): {وعمارة المسجد الحرام}
[التوبة / 19]، فقال: ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله واستغنى (3) عن وصفه بالحرام بما تقدّم من (4) ذكره، ثم قال:
{إنما يعمر مساجد الله} يعني به: المسجد الحرام وغيره.
ويدل على أنهم ليس لهم عمارته كالمسلمين: قوله في الأخرى: {وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون}
[الأنفال / 34].
ووجه من قرأ: أن يعمروا مسجد الله إنما يعمر مسجد الله أنه عنى بالمسجد الثاني الأول في قوله: أن يعمروا مسجد الله فكرره، وسائر المساجد حكمه حكم المسجد الحرام، في أنه ينبغي أن يكون عمّاره أهله الذين هم أولى به.
ومن جمع فقال: {مساجد الله} بعد قوله: ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله. فلأنّ الجمع يشمل المسجد الحرام وغيره.
__________
(1) السبعة: 313.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): استغني.
(4) سقطت «من» من (ط).
() في (ط): يدل.(4/179)
ووجه قول من جمع في الموضعين: أن المشركين ليسوا بأولياء لمساجد المسلمين، لا المسجد الحرام ولا غيره، فإذا لم يكونوا أولياءها لم تكن لهم عمارتها، وإنّما عمارتها للمسلمين الذين هم أولياؤه، فدخل في ذلك المسجد الحرام وغيره.
التوبة: 24
واختلفوا (1) في الجمع والتوحيد من قوله [جلّ وعز] (2):
{وعشيرتكم} [التوبة / 24].
فقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر: وعشيراتكم على الجمع. وقرأ الباقون: {وعشيرتكم} واحدة، وقال حفص عن عاصم: واحدة (3).
قال أبو علي: وجه الجمع: أن كل واحد من المخاطبين له عشيرة، فإذا جمعت (4) قال: عشيراتكم من حيث كان المراد بهم الجمع.
وقول من أفرد: أن العشيرة واقعة على الجمع، فاستغني بذلك فيها (5) عن جمعها، ويقوّي ترك الجمع بالتاء أن أبا الحسن قال: لا تكاد العرب تجمع عشيرة عشيرات، إنّما يجمعونها على: عشائر.
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة: 313.
(4) في (ط): جمع.
(5) زيادة من (ط).(4/180)
التوبة: 30
اختلفوا في التنوين وتركه من قوله جلّ وعزّ: {عزير ابن الله} [التوبة / 30].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة:
عزير ابن الله بغير تنوين. وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو منوّنا (1)، حدّثني ابن أبي خيثمة قال: حدثني (2) القصبيّ عن عبد الوارث عن أبي عمرو بذلك.
وقرأ عاصم والكسائي: {عزير} منوّن (3).
قال أبو علي: من نوّن عزيرا، جعله مبتدأ، وجعل: ابنا خبره، وإذا كان كذلك فلا بدّ من إثبات التنوين في حال السّعة والاختيار، لأن عزيرا ونحوه ينصرف عجميّا كان أو عربيّا (4).
فأمّا (5) من حذف التنوين، فإنّ حذفه على وجهين:
أحدهما: أنه جعل الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد، كما جعلهما كذلك في قولهم (6): لا رجل ظريف، وحذف التنوين ولم يحرّك (7) لالتقاء الساكنين، كما يحرّك في:
__________
(1) في (ط): منون.
(2) في (ط): حدثنا.
(3) السبعة: 313.
(4) قال ابن الشجري 1/ 382: والتنوين في عزير للصرف لأنه مصغر الثلاثي ينصرف، وإن كان عجميا، كما ينصرف مكبره، وينصرف في هذه العدة وإن كان متحرك الأوسط، كما ينصرف إذا سكن أوسطه.
(5) في (ط): وأما.
(6) في (ط): قوله.
(7) قراءة (ط): وحذف التنوين ولم يحرّك.(4/181)
زيدن (1) العاقل، لأن الساكنين كأنّهما التقيا في تضاعيف كلمة واحدة، فحذف الأول منهما، ولم يحرّك لكثرة الاستعمال، فصار آخر الاسم في اتباعه حركة ما قبله بمنزلة إتباع الآخر ما قبله فيما حكاه أبو عثمان عن ابن إسحاق من قولهم: هذا مرء، ورأيت مرءا، ومررت بمرء (2).
فإن قلت: فقد تخالف الحركة الأولى الحركة الآخرة في المرء، وقولهم: امرؤ، وامرأ، وامرئ في نحو: مررت بعمر بن زيد، وإبراهيم بن عمرو، فلا تتبع الحركة الأولى الآخرة.
قيل: الفتح في هذا الموضع بمنزلة الكسر وفي حكمه، كما كان في قولهم: بمسلمات ورأيت مسلمات، كذلك فكما اتفقا في هذا الموضع، وإن اختلف لفظاهما. كذلك اتفقا في
__________
(1) جاء رسمها في (م): في زيد العاقل.
(2) قال المبرد في المقتضب 2/ 314: «فمن ذهب إلى أن حذف التنوين لالتقاء الساكنين قال: هذه هند بنت عبد الله، فيمن صرف هندا، لأنه لم يلتق ساكنان، فكان أبو عمرو بن العلاء يذهب إلى أن الحذف جائز، لأنهما بمنزلة اسم واحد لالتقاء الساكنين، ويحتج بما ذكرته لك في النداء من قولهم: يا زيد بن عبد الله، وقال: هذا هو بمنزلة قولك: هذا امرؤ، ومررت بامرئ، ورأيت امرأ. تكون الراء تابعة للهمزة، فكذلك آخر الاسم الأول تابع لنون ابن وهو وابن شيء واحد، تقول: هذا زيد بن عبد الله، ومررت بزيد بن عبد الله، ورأيت زيد بن عبد الله، فيقول: هذه هند بنت عبد الله، فيمن صرف هندا».(4/182)
نحو: عمر بن زيد، وعمرو (1) بن بشر. ولا يجوز إثبات التنوين في هذا الباب إذا كان صفة، وإن كان الأصل، لأنهم جعلوه من الأصول المرفوضة، كما أن إظهار الأوّل من المثلين في نحو: ضننوا، لا يجوز في الكلام، وإن كانا (2) بمنزلة اسم مفرد، والاسم المفرد لا يكون جملة مستقلة مفيدة في هذا النحو، فلا بد من إضمار جزء آخر [يقدر انضمامه إليه ليتمّ جملة] (3)، وتجعل الظاهر إمّا مبتدأ وإما خبر مبتدأ، فيكون التقدير: صاحبنا، و (4) نسيبنا أو نبيّنا عزير بن الله، إن قدّرت المضمر المبتدأ، وإن قدّرته بعكس ذلك جاز، فهذا أحد الوجهين.
والوجه الآخر: أن لا تجعلهما اسما واحدا، ولكن تجعل الأول من الاسمين المبتدأ والآخر الخبر، فيكون المعنى فيه على هذا كالمعنى في إثبات التنوين، وتكون القراءتان متّفقين، إلّا أنّك حذفت التنوين لالتقاء الساكنين، كما تحذف حروف اللين لذلك، ألا ترى أنه قد جرى مجراها في نحو: لم يك زيد منطلقا، وفي نحو: صنعانيّ، وبهرانيّ (5)، وقد أدغمت في الواو والياء كما أدغم (6) كلّ واحد من الواو والياء في الأخرى
__________
(1) في (ط): وعمر.
(2) في (ط): وإذا كان.
(3) عبارة (ط): يكون بانضمامه إليه جملة.
(4) في (ط): أو.
(5) بهراني: منسوب إلى بهراء وهي حي في اليمن.
(6) في (م): كما تدغم.(4/183)
بعد قلب الحرف إلى ما يدغم فيه، وقد وقعت زيادة لمعاقبة الألف (1) في: جرنفس، وجرافس (1)، وحذفوها في عزير كما حذفوا الألف من علبط (3)، وأبدلوا الألف من النون في نحو: رأيت زيدا، و {لنسفعا} [العلق / 15]، فلمّا (4) اجتمعت مع حروف اللين في هذه المواضع، وشابهتها كذلك يجوز أن تتّفق معها في الحذف لالتقاء الساكنين، وعلى هذا ما يروى من قراءة بعضهم (5): أحد الله، [الإخلاص / 21]، فحذف النون لالتقاء الساكنين وقد جاء ذلك في الشعر كثيرا، قال:
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشّيبة الأصلع (6)
__________
(1) في (ط): معاقبة للألف. والجرافس: من الإبل: الغليظ، ومن الرجال:
الشديد، والجر نفس كذلك.
(3) رجل علبط وعلابط: ضخم عظيم. والقطيع من الغنم. وقيل: كل غليظ علبط. وكل ذلك محذوف من فعالل، وليس بأصل لأنه لا تتوالى أربع حركات في كلمة واحدة (اللسان: علبط) وانظر سيبويه 2/ 335و 351.
(4) في (ط): فكما.
(5) وهي رواية عن هارون عن أبي عمرو، وسيأتي الكلام عنها في آخر الكتاب مبسوطا.
(6) البيت في النوادر 368 (ط الفاتح). والكامل 3/ 86والمقتضب 2/ 313 وأمالي ابن الشجري 1/ 382نقلا عن أبي علي. وفي معجم البلدان 1/ 249: أمج: بالجيم وفتح أوله وثانيه والأمج في اللغة العطش بلد من أعراض المدينة، منها حميد الأمجي، دخل على عمر بن عبد العزيز وهو القائل:
شربت المدام فلم أفلح ... وعوتبت فيها فلم أسمع(4/184)
وقال:
إذا غطيف السلميّ فرّا (1)
وقال:
وحاتم الطائيّ وهّاب المئي (2)
وقال (3):
__________
حميد الذي البيت. وضبطت في الأصل «الأصلع» بالضم.
علاه المشيب على حبّها ... وكان كريما فلم ينزع
وانظر الخزانة 4/ 555واللسان (أمج).
(1) شطر من أرجوزة وقبله:
لتجدنّي بالأمير برّا ... وبالقناة مدعسا مكرّا
انظر النوادر / 321، (ط الفاتح) أمالي ابن الشجري 1/ 383 والإنصاف 2/ 665اللسان (دعص ودعس) ومعاني القرآن 1/ 431.
(2) شطر بيت من أرجوزة قالتها امرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن ومطلعها:
حيدة خالي ولقيط وعلي ... وحاتم الطائيّ وهّاب المئي
انظر النوادر / 91. أمالي ابن الشجري 1/ 383الخزانة 3/ 304 اللسان / مأي / واستشهد في المنصف بالشطر الأول على تخفيف «علي» للقافية (المنصف 2/ 68).
(3) وقبله:
كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشام غارة شعواء
وهما في المنصف 2/ 231برواية: «وتلوي بخدام» ومعاني القرآن 1/ 432وأمالي ابن الشجري 1/ 383. قال فيه: والخدام: الخلخال.(4/185)
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
وهذا النحو (1) في الشعر كثير، والوجه فيه الحمل على الوجه الآخر، لأنه لم يستقر حذفه في (2) الكلام، وإن حصلت المشابهات بين النون وحروف اللين فيما رأيت.
التوبة: 30
اختلفوا في الهمز وإسقاطه من قوله جلّ وعزّ:
يضاهون [التوبة / 30].
فقرأ عاصم وحده: يضاهئون بالهمز. وقرأ الباقون:
يضاهون بغير همز (3).
قال أبو عبيدة: المضاهاة: التشبيه، ولم يحك الهمزة (4)، وقال أحمد بن يحيى: لم يتابع عاصما أحد على الهمزة (5).
و {الذين كفروا} [التوبة / 30] يشبه أن يكونوا المشركين الذين لا كتاب لهم، لأنهم ادّعوا في الملائكة أنها (6) بنات، قال: {ويجعلون لله البنات} [النحل / 57] وقال: {ألكم الذكر وله الأنثى} [النجم / 21]، وقال: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب
__________
أي: ترفع المرأة الكريمة ثوبها للحرب فيبدو خلخالها. وانظر قسم الشروح والتعليقات في المنصف 2/ 416على البيتين من قبل المحققين.
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): من.
(3) السبعة: 314.
(4) انظر مجاز القرآن 1/ 256.
(5) في (ط): الهمز.
(6) في (ط): أنهم.
} {للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا} [الزخرف / 17] وقال: {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} [الأنعام / 6] (1).(4/186)
__________
(6) في (ط): أنهم.
{للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا} [الزخرف / 17] وقال: {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} [الأنعام / 6] (1).
وليس يضاهئون فيمن همز من لفظ: ضهياء، لأن الهمزة في ضهياء زائدة بدلالة ضهيأ (2)، والياء أصل ألا ترى أنها لو كانت الياء فيها زائدة لكانت مكسورة الصدر؟ وأشبه (3)
أن يكون ما قرأ به عاصم من الهمز في يضاهئون لغة وهي فيما زعم الفرّاء عنه لغة الطائف (4)، فيكون في الكلمة لغتان مثل: أرجيت وأرجأت، ولا يجوز أن يكون من قولهم: امرأة ضهياء، وذلك أن (5) الهمزة في ضهياء قد قامت الدلالة على زيادتها، ألا ترى أنهم قالوا: ضهيأ (6)؟ فاشتقّوا من الكلمة ما سقطت فيه هذه الهمزة، فاشتقاقهم ضهيأ من ضهياء وهو (7)
بمنزلة اشتقاقهم جرواض من جرائض (8)،
(1) زيادة من (ط).
(2) قال سيبويه: وكذلك الهمزة لا تزال غير أولى إلا بثبت، فمما ثبت أنها فيه زائدة قولهم: ضهيأ، لأنك تقول: ضهياء كما تقول: عمياء. والضّهيأ:
شجر، وهي أيضا التي لا تحيض. وقالوا أيضا ضهياء (الكتاب 2/ 352) وانظر المنصف 1/ 105و 110. واللسان (ضها) وقد اضطربت (م) و (ط) في رسم كلمة ضهيأ في كل ما سيأتي وقد أثبتنا الهمزة فيها كما يقتضي سياق العبارة.
(3) في (ط): ويشبه.
(4) عبارة (ط): وهي فيما زعموا لغة أهل الطائف.
(5) في (ط): لأن.
(6) رسمت في الأصل: ضهياء.
(7) عبارة (م): فاشتقاقهم من ضهياء ضهياء هو.
(8) الجرواض: الجمل الضخم العظيم البطن. والجرائض: الأكول، الشديد(4/187)
وشنذارة (1) من شئذارة (2)، وزوبر من زئبر، وزعموا (3) أنهم يقولون:
زوبر الثوب إذا خرج زئبره [فكذلك يعلم من ضهيأ زيادة الهمزة في ضهياء] (4) وأمر آخر يعلم منه زيادة الهمزة في ضهياء، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون فعلا مقصورا أو فعيلا (5)، فلا يجوز أن يكون فعيلا لأن ذلك بناء لم يجيء في كلامهم، وما كان من هذا النحو الياء زائدة فيه، كان مكسور الصدر، نحو:
حذيم، وعثير، وحمير، وطريم (6) وقالوا في مريم، ومزيد، ومدين (7): إنها مفعل جاءت على الأصل وليس بفعيل، لأنّ ذلك لو كان إياه، لكان مكسور الصدر، ومن ثمّ قالوا في يهيرّى (8): إن الياء الأولى زائدة، ولو خفّفت فقلت: يهيرّ كانت
__________
القصل بأنيابه الشجر. انظر (اللسان: جرض) وانظر المنصف 1/ 106.
(1) رجل شنذارة: أي غيور. اللسان / شذر /.
(2) في (ط) وشيذارة من شيذار.
(3) في (ط): زعموا.
(4) قراءة العبارة ما بين معقوفين في (م): فكذلك يعلم من ضهياء أن الهمزة في ضهياء. وكتبت كلمة قصر فوق ألف ضهياء الأخيرة.
(5) قراءة (ط): مقصور أو فعيل.
(6) الحِذيَم: الحاذق الشديد، والعثير: الغبار، والطريم: السحاب أو العسل أو الطويل. (انظر اللسان).
(7) عبارة (ط) بعد قوله طريم: ومزيد ومدين ومريم قالوا إنها.
(8) اليهيرّ بياءين واليهيرّى: الماء الكثير، وذهب ماله في اليهيرّى، أي:
الباطل (اللسان هير) قال سيبويه 2/ 344، وقالوا: يهيّرى، فليس شيء من الأربعة على هذا المثال لحقته ألف التأنيث، وإنّما كان هذا فيما كان أوله حرف الزوائد، فهذا دليل على أنها من بنات الثلاثة، وعلى أن الياء الأولى زائدة. ولا نعلم في الأربعة على هذا المثال بغير ألف. وقالوا:
يهيرّ فحذفوا كما حذفوا مرعزّى.(4/188)
الأولى أيضا هي الزائدة، دون الثانية، لأنك لو حكمت بزيادة الثانية، لوجب أن يكون فعيلا (1)، وذلك بناء قد رفضوه فلم يستعملوه.
وأما (2) من قال: يجوز أن يكون فعيلا (3) ويضاهئون مشتق منه فقول لم يذهب إليه أحد علمناه، وهو ظاهر الفساد، لإتيانه ببناء لم يجيء في كلامهم.
فإن قال: فقد جاء (4) أبنية في كلامهم لا نظير لها، مثل:
كنهبل، فأجوّز فعيل، وإن لم يجيء كما جاء: كنهبل ونحوه.
قيل له: فأجز في غزويت أن يكون: فعويلا أو فعليلا، وإن كان فعويل لم يجيء واستدلّ على ذلك بمجيء كنهبل، كما استدللت على جواز فعيل: بقرنفل وكنهبل، وجوّز أن يكون فعويل، وإن لم يجيء ذلك في كلامهم، كما جاء قرنفل وكنهبل، وجوّز أيضا أن يكون فعليلا، وإن كان (5) حروف اللين لم تجىء أصولا في بنات الأربعة، واستدلّ عليه كما جاز أن يكون: رنوناة، فعوعلة، من الرنا (6) مثل: غدودن، وكما جاز
__________
(1) في (ط): فعيل.
(2) في (ط): فأما.
(3) في (ط): فعيل.
(4) قراءة (ط): فإن قال قد جاءت في الكلام نحو.
(5) في (ط): كانت.
(6) كتب على هامش (م): فوقها من رنا يرنو.(4/189)
أن يكون فعلعل مثل: حبربر (1). وكما جاز أن يكون فعلنا مثل: عفرنا، وعرضنا، وهذا نقض للأصول (2) التي عليها عمل العلماء، وهدم لها، وإنّما أدخله في هذا ما رامه من اشتقاق يضاهئون، وقد يجوز أن تجيء الكلمة غير مشتقة، وذلك أكثر من أن يحصى.
وأما (3) ما ذهب إليه من أن الهمزة زائدة في: غرقئ (4)
فخطأ قد قامت الدلالة على فساده، وذلك أن أبا زيد قد حكى أنهم يقولون: غرقأت الدجاجة بيضها، والبيضة مغرقأة به (5)
وليس في الكلام شيء على فعلأت، إلا أن يزعم أنه يثبت هذا أو يجيزه، كما جاء، كنهبل، فإن ركّب هذا قيل له: فجوّز في منجنيق أن يكون: منفعيلا (6)، وإن كان لم يجيء هذا النحو، على أن هذا أشبه مما ارتكبه، لأنه يكون في توالي الزائدتين (7)
في أوّلها مثل: انقحل (8). وليس هذا بقول يعرّج عليه، ولا يصغى إليه، ويلزمه أن يكون حماطة (9): فعللة، وقد انقلبت
__________
(1) يقال: ما أصبت منه حبربرا، أي: ما أصبت منه شيئا.
(2) في (م): الأصول.
(3) في (ط): فأما.
(4) الغرقئ: قشر البيضة.
(5) زيادة في (ط).
(6) في (ط): منفعيل.
(7) في (ط): الزيادتين.
(8) يقال: رجل انقحل وامرأة انقحلة، بكسر الهمزة: مخلقان من الكبر والهرم (اللسان قحل).
(9) الحماطة: حرقة وخشونة يجدها الرجل في حلقه. (اللسان حمط).(4/190)
الألف عن حرف علة (1).
فإن قال: هذا بناء لم يجيء قيل له: جوّز مجيئه، واجعله بمنزلة كنهبل (2)، وما ذكرته.
واتفقوا على همز (3) {النسيء} [التوبة / 37] وحده، وكسر سينه، إلا ما حدّثني به محمد بن أحمد بن واصل قال: حدثنا محمد بن سعدان، عن عبيد بن عقيل عن شبل عن ابن كثير أنه قرأ: إنما النسء زيادة على وزن النّسع.
حدثني ابن أبي خيثمة، وإدريس، عن خلف، عن عبيد، عن شبل، أنه قرأ: النسي مشدّدة الياء بغير همز. وقد روي عن ابن كثير: النسي بفتح النون وسكون السين وضم الياء مخففة، قال أبو بكر: والذي قرأت به على قنبل {النسيء}
بالمد والهمز مثل أبي عمرو، وكذلك الناس عليه بمكة (4).
قال أبو عبيدة فيما روى عنه التوّزيّ في قوله تعالى (5):
{إنما النسيء زيادة في الكفر}: كانوا قد وكّلوا قوما من بني كنانة يقال لهم: بنو فقيم، فكانوا يؤخّرون المحرّم، وذلك نسء (6)
الشهور، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت
__________
(1) في (ط): عن حرف العلة.
(2) في (ط): الكنهبل.
(3) في (ط): اتفقوا على همزة
(4) السبعة: 314.
(5) سقطت من (ط).
(6) رسمت في الأصل الهمزة على الألف: نسأ.(4/191)
العرب للموسم، فينادي مناد (1): [أن افعلوا ذلك لحرب أو لحاجة وليس كلّ سنة يفعلون ذلك] (2) فإذا أرادوا أن يحلّوا المحرّم، نادوا: هذا صفر، وإن المحرم الأكبر صفر، وربّما جعلوا صفرا محرّما مع ذي القعدة، حتى يذهب الناس إلى منازلهم، إذا نادى المنادي بذلك، وكانوا يسمّون المحرم وصفرا: الصّفرين، ويقدّمون صفرا سنة ويؤخرونه، والذي كان ينسؤها، حتى جاء الإسلام: جنادة بن عوف بن أبي أميّة، وكان في بني عدوان (3) قبل بني كنانة (4).
[قال أبو علي] (5): ووجه (6) قراءة ابن كثير: النسء أن هذا تأخير، وقد (7) جاء النّسء في أشياء معناها التأخير. قال أبو زيد: نسأت (8) الإبل في ظمئها، فأنا أنسؤها نس ءا: إذا زدتها في ظمئها يوما أو يومين، أو أكثر من ذلك، والمصدر: النّسء.
قال أبو زيد: ويقال: نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسؤها نس ءا إذا أخّرتها عنه.
وحجة من قرأ (9): {النسيء} أنه كأنّه أكثر في
__________
(1) في (م) ومجاز القرآن: منادي، بإثبات الياء.
(2) ما بين معقوفين ساقط من مجاز القرآن مع الفاء من إذا.
(3) عدوان بالتسكين: قبيلة من قيس، واسمه الحارث بن عمرو بن قيس، وإنما قيل ذلك لأنه عدا على أخيه فهمّ بقتله (التاج: عدو).
(4) مجاز القرآن 1/ 259258 (الحاشية).
(5) سقطت من (م).
(6) في (ط): وجه.
(7) في (م): قد.
(8) في (ط): قد نسأت.
(9) في (ط): قال.(4/192)
هذا (1) المعنى، قال أبو زيد: أنسأته الدّين إنساء إذا أخرته عنه. واسم ذلك النسيئة، والنّساء فكأنّ النسيء في الشهور: تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة، فيحرّمون بهذا التأخير ما أحلّ الله، ويحلّون ما حرّم الله، كما قال تعالى (2):
{يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله} [التوبة / 37] ألا ترى أن المحرم عين الشهر لا ما يوافقه في العدة، كما أن المحرّم فيه الإفطار على غير المريض والمسافر عين رمضان.
و {النسيء}: مصدر كالنذير والنّكير، وعذير الحي، ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، كما قال بعض الناس لأنه إن (3) حمل على ذلك، كان معناه: إنما المؤخّر زيادة في الكفر، والمؤخّر الشهر وليس الشهر نفسه بزيادة في الكفر، وإنّما الزيادة في الكفر تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة فأما نفس الشهر فلا.
وأما ما روي عن ابن كثير إنما النسي بالياء، فذلك يكون على إبدال الياء من الهمزة، ولا أعلمها لغة في التأخير، كما أنّ أرجيت: لغة في أرجأت.
وما روي عنه من قوله: النسيء بتشديد الياء، فعلى تخفيف الهمزة (4)، وليس هذا القلب مثل القلب في النّسيء لأن
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) قراءة (ط): لأنه إذا إن.
(4) في (ط): الهمز.(4/193)
النسيّ بتشديد الياء: على وزن فعيل، تخفيف قياسيّ، وليس النّسي كذلك، كما أن مقروّة في مقروءة: تخفيف قياسي، وسيبويه لا يجيز نحو هذا القلب الذي في النسي إلا في ضرورة الشعر، وأبو زيد يراه ويروي كثيرا منه عن العرب.
التوبة: 37
اختلفوا في فتح الياء وكسر الضّاد وضمّ الياء وفتح الضّاد من قوله تعالى (1): يضل به الذين كفروا [التوبة / 37].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر يضل به * بفتح الياء وكسر الضاد.
وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي: {يضل به} بضم الياء وفتح الضاد (2).
قال أبو علي: وجه من قرأ: يضل * أن {الذين كفروا} لا يخلون من أن يكونوا مضلّين لغيرهم، أو ضالين هم في أنفسهم، وإذا (3) كان كذلك، لم يكن في إسناد الضلال إليهم في قوله: يضل * إشكال ألا ترى أن المضلّ لغيره ضالّ بفعله إضلال غيره؟ كما أنّ الضالّ في نفسه الذي لم يضلّه غيره لا يمتنع إسناد الضلال إليه.
وأما {يضل} فالمعنى فيه (4) أنّ كبراءهم أو أتباعهم (5)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة: 314.
(3) في (ط): فإذا
(4) زيادة من (ط).
(5) في (ط): وأتباعهم.(4/194)
يضلّونهم بأمرهم إياهم بحملهم (1) على هذا التأخير في الشهور، وزعموا أنّ في التفسير: أنّ رجلا من كنانة يقال له:
أبو ثمامة، كان يقول للناس في منصرفهم من الحج: إن آلهتكم قد أقسمت لتحرّمنّ، وربما قال: لتحلّنّ، هذا الشهر، يعني:
المحرم، فيحلّونه ويحرّمون صفرا، وإن حرّموه أحلّوا صفرا، وكانوا يسمّونهما الصّفرين، فهذا إضلال من هذا المنادي لهم، يحملهم بندائه على ذلك، وقوله تعالى (2): {يضل} يفعل من هذا.
وزعموا أنّ في حرف ابن مسعود {يضل به الذين كفروا}، ويقوّي ذلك: ما أتبع هذا من الفعل المسند إلى المفعول، وهو قوله: {زين لهم سوء أعمالهم} [التوبة / 31]. أي: زيّن لهم ذلك حاملوهم عليه، وداعوهم إليه. ولو قرئ: يضل به الذين كفروا لكان الذين كفروا في موضع رفع، بأنهم الفاعلون (3)، والمفعول به محذوف تقديره: يضلّ به الذين كفروا تابعهيم والآخذين بذلك، ومعنى: يضل به الذين كفروا يضلّ بنسء الشهور.
التوبة: 54
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جل وعز] (4) أن يقبل منهم نفقاتهم [التوبة / 54] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {أن تقبل} بالتاء.
__________
(1) في (ط): بحملهم لهم
(2) عبارة (ط): فقوله يضل.
(3) في (ط): فاعلون.
(4) سقطت من (ط).(4/195)
وقرأ حمزة والكسائي: أن يقبل بالياء (1).
قال أبو علي: وجه القراءة بالتاء أنّ الفعل مسند إلى مؤنث في اللفظ، فأنّث ليعلم أنّ المسند إليه مؤنث.
ووجه الياء أن التأنيث ليس بتأنيث حقيقي، فجاز أن يذكّر كما قال تعالى (2): {فمن جاءه موعظة من ربه} [البقرة / 275] {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [هود / 67].
التوبة: 58
قال أحمد: كلّهم قرأ {يلمزك} [التوبة / 58] بكسر الميم: إلا ما روى حمّاد بن سلمة عن ابن كثير فإنّه روى عنه:
يلامزك حدّثني بذلك محمد بن الجهم عن ابن أبي أميّة البصري، عن حمّاد بن سلمة، وحدّثني الصّوفي، عن روح بن عبد المؤمن، عن محمد بن صالح، عن شبل، عن ابن كثير وأهل مكة: يلمزك ويلمزون [التوبة / 79] برفع الميم فيهما. وحدثني أبو حمزة الأنسي قال: حدثنا حجاج بن المنهال قال: حدثنا حمّاد بن سلمة قال: سمعت ابن كثير يقول: يلمزك بضم الميم (3).
أبو عبيدة: {يلمزك} أي: يعيبك، قال زياد الأعجم:
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن تغيبت كنت الهامز اللّمزة (4)
__________
(1) السبعة: 314.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة: 315.
(4) مجاز القرآن 1/ 263262وجاء عجزه برواية: «وإن أغيب فأنت العائب(4/196)
وقال قتادة: يلمزك: يطعن عليك، والعيب والطعن يشملان ما يكون فيهما في المغيب، وما يكون في المشهد. وفي الشّعر دلالة على قدحه فيه، وطعنه عليه في المغيب، لقوله:
تغيّبت، فيكون الهمز الغيبة (1)، وكذلك قوله [تعالى] (2): {هماز مشاء بنميم} [القلم / 11] يجوز أن يعنى الغيبة (3).
وحكى بعض الرواة أنّ أعرابيّا قيل له: أتهمز الفارة؟
قال (4): تهمزها الهرّة، فأوقع الهمز على الأكل. فالهمز كاللمز.
وقال عز وجل (5): {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا}
[الحجرات / 12].
وكأنّ الهمز أوقع على الأكل لمّا كان غيبة، وقال الأصمعي: فلان ذو وقيعة في الناس إذا كان يأكلهم، فلما أوقع الأكل عليه حسن أن يستعمل في خلافه: الغرث، فلذلك قال (6):
__________
اللمزة» وهو في اللسان (همز).
(1) في (ط): هو الغيبة.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): يعني به الغيبة.
(4) في (ط): فقال.
(5) سقطت من (ط).
(6) عجز بيت لحسان بن ثابت وصدره:
حصان رزان ما تزنّ بريبة وقد قاله في أم المؤمنين عائشة. غرثى: وصف المؤنث من الغرث وهو الجوع. ما تزنّ: أي ما تتّهم. والغوافل: ج غافلة، يعني: أنها لا تغتاب أحدا. انظر: ديوانه / 94والإنصاف 2/ 759اللسان / غرث / وزن /.(4/197)
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل والذي جاء في الآية من اللمز، عني به المشهد فيما دلّ عليه الأثر، والمعنى على حذف المضاف (1) التقدير: يعيبك في تفريق الصدقات.
ومن قرأ: يلامزك فينبغي أن يكون فاعلت فيه من واحد نحو: طارقت النّعل، وعافاه الله، لأنّ هذا لا يكون من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (2).
فأمّا يلمزك ويلمزك (3)، فلغتان مثل: يعكف ويعكف، ويحشر ويحشر، ويفسق ويفسق.
التوبة: 61
اختلفوا في التثقيل والتخفيف من قوله عز وجل (4): {هو أذن قل أذن خير لكم} [التوبة / 61]. فقرأ نافع وحده: هو أذن قل أذن خير لكم بإسكان الذال فيهما.
وقرأ الباقون: بتثقيل الأذن، وكلّهم يضيف [أذن] إلى خير *] (5).
قال أبو علي: من قال: أذن * فهو تخفيف من أذن، مثل: عنق، وطنب، وظفر. وكل ذلك يجيء على (6)
__________
(1) في (ط): الإضافة.
(2) في (ط): عليه السلام.
(3) في (ط): يلمز ويلمز.
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة: 315وما بين معقوفين زيادة منه، وسيذكرها المصنف في الشرح.
(6) في (ط): فيه.(4/198)
التخفيف، ويدلّك على اجتماع الجميع في الوزن الاتفاق في التكسير، تقول: أذن، وآذان، كما تقول: طنب وأطناب، وعنق وأعناق، وظفر وأظفار.
فأمّا القول في أذن في (1) الآية إذا خففت أو ثقّلت، فإنه يجوز أن يطلق على الجملة، وإن كانت عبارة عن جارحة منها.
كما (2) قال الخليل في الناب من الإبل: إنّه سمّيت به لمكان الناب البازل، فسميت الجماعة (3) كلّها به، وقريب من هذا قولهم للمرأة: ما أنت إلا رجيل، وللرجل: ما أنت إلّا مريّة، ويدلّ على أنهم أرادوا النّاب قولهم، في التصغير: نييب، فلم يلحقوا الهاء ولو كنت مصغّرا لها على حدّ تصغير الجملة (4)
لألحقت الهاء في التحقير، كما تلحق في تحقير قدم ونحوها، وعلى هذا قالوا للمرأة: إنما أنت بظر، فلم يؤنّثوا حيث أرادوا الجارحة دون الجملة، وقالوا للربيئة: هو عين القوم، وهذا عينهم.
ويجوز فيه شيء آخر، وهو أن الاسم يجري عليه كالوصف له لوجود معنى ذلك الاسم فيه وذلك كقول جرير (5):
تبدو فتبدي جمالا زانه خفر ... إذا تزأزأت السّود العناكيب
__________
(1) في (ط): من.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): الجملة.
(4) في (ط): التصغير للجملة.
(5) التزأزؤ: شدة العدو وسرعته. انظر ديوانه / 33.(4/199)
فأجرى العناكيب وصفا عليهن، يريد به (1): أنّهن في الحقارة والدّمامة، كالعناكيب.
وأنشد أبو عثمان (2):
مئبرة العرقوب إشفى المرفق فوصف المرفق بالإشفى (3)، لما أراد من الدقّة والهزال، وخلاف الدّرم (4)، وقال آخر (5):
فلولا الله والمهر المفدّى ... لأبت وأنت غربال الإهاب
فجعله غربالا لكثرة الخروق فيه من آثار الطعن، وكذلك قوله (6):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) شطر بيت من الرجز لا يعرف قائله والإشفى في الأصل: المثقب الذي للأساكفة، عنى أن مرفقها حديد كالإشفى (اللسان شفي). انظر الخصائص 2/ 221، 3/ 295، المخصص 1/ 1581/ 106.
(3) في (م): بأشفى، وهي في الشعر بفتح الهمزة كذلك والصواب ما في (ط).
(4) الدرم: استواء الكعب وعظم الحاجب. انظر اللسان / درم /.
(5) ينسب البيت إلى حسان بن ثابت أو عفيرة بنت طرامة. وليس في ديوان حسان. انظر الخصائص 2/ 221، 3/ 195الهمع 2/ 101الدرر 2/ 136شرح الألفية للأشموني 3/ 16.
(6) البيت من شواهد سيبويه 1/ 253وهو غير منسوب مع آخر قبله.
أراد أنه عظيم البطن كامرأة متئم تم لها تسعة أشهر ودخلت في العاشر واتكأت على مرفقيها فنتأ بطنها وعظم.
انظر شرح المفصل 1/ 36.(4/200)
حضجر كأمّ التوأمين توكّأت ... على مرفقيها مستهلّة عاشر (1)
لمّا أراد وصفه بالانتفاخ والضّخم، وأنّه ليس بضرب خفيف، فيكون متوقدا متنبّها لما يحتاج إليه، فكذلك قوله: هو أذن أجري على الجملة اسم الجارحة لإرادته كثرة استعماله لها في الإصغاء بها.
ويجوز أن يكون فعلا من أذن يأذن، إذا استمع، والمعنى أنه كثير الاستماع مثل شلل وأذن (2) وسجح، ويقوّي ذلك أنّ أبا زيد قال: قالوا رجل أذن، ويقن، إذا كان يصدّق بكلّ ما يسمع، وكما (3) أنّ يقن صفة، كبطل، كذلك: أذن كشلل، وقالوا: أذن يأذن: إذا استمع وفي التنزيل: {وأذنت لربها}
[الانشقاق / 2] أي: استمعت، وقالوا: ائذن لكلامي، أي:
استمع له،
وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ» (4)،
وقال الشاعر (5):
__________
(1) جاء على حاشية (ط) عبارة: بلغ سماعا.
(2) في (ط): شلك وأنف.
(3) في (ط): فكما
(4) الحديث بهذا اللفظ أخرجه مسلم في صلاة المسافرين رقم 234 (792)
وأخرجه البخاري في كتاب التوحيد برقم 7482بلفظ: «ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتغنى بالقرآن»
وهو من حديث أبي هريرة. ونقل البغدادي كلام أبي علي في شرح أبيات المغني في 8/ 102منه. وانظر اللسان (غنا).
(5) وهو عدي بن زيد.
انظر شرح حماسة التبريزي 4/ 24والمرزوقي 1451واللسان مادة / أذن / وشرح أبيات المغني 8/ 102.(4/201)
في سماع يأذن الشيخ له * [وحديث مثل ماذيّ مشار] (1)
وقول الشاعر:
إن همّي في سماع وأذن (2)
تقدير سماع فيه: المسموع (3)، فوضع المصدر موضع المفعول، ألا ترى أنك إن لم تحمله على هذا كان المعنى:
إن (4) همّي في سماع وسماع، وليس كذلك! ولكن المعنى:
إن (5) همّي في مسموع واستماعه، فحذف كما يحذف المفعول في الكلام، وهو كثير، وخاصّة مع المصدر.
قال أحمد: وكلّهم يضيف، [أي: يضيف] (6) أذنا إلى خير، ولا يصفون أذنا بخير، كما روي، من قراءة من وصف الأذن بالخير، فقال: أذن خير لكم.
__________
(1) ما بين قوسين زيادة من (ط).
(2) عجز بيت لعدي بن زيد أيضا وصدره:
أيّها القلب تعلل بددن انظر أمالي ابن الشجري 2/ 36. اللسان مادة / أذن / و / ددن / وشرح أبيات المغني 8/ 103.
(3) عبارة البغدادي التي نقلها عن الحجة هنا هي: فالسماع مصدر بمعنى المسموع.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (م) ما بين المعقوفين.(4/202)
والمعنى في الإضافة: مستمع خير وصلاح، ومصغ إليه ولا (1) مستمع شرّ وفساد.
التوبة: 61
قال أحمد: وكلّهم قرأ: {ورحمة} [التوبة / 61] رفعا إلّا حمزة، فإنه قرأ: أذن خير لكم ورحمة خفضا، حدثني محمد ابن يحيى الكسائي قال: حدثنا أبو الحارث قال: حدّثنا أبو عمارة حمزة بن القاسم عن يعقوب بن جعفر عن نافع:
ورحمة * مثل حمزة [قال أبو بكر] (2) وهو غلط (3).
قال أبو علي: من رفع فقال: {ورحمة} كان المعنى: أذن خير، ورحمة، أي: مستمع خير ورحمة، فجعله الرحمة لكثرة هذا فيه. وعلى هذا [قوله سبحانه] (4): {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء / 107] كما قال: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}
[التوبة / 128] ويجوز أن يقدر حذف المضاف من المصدر (5).
فأما (6) الجر في رحمة فعلى العطف على خبر، كأنه:
أذن خير ورحمة.
فإن قلت: أفيكون أذن رحمة؟
فإن هذا لا يمتنع، لأن الأذن في معنى: مستمع في
__________
(1) في (ط): لا، بإسقاط الواو.
(2) زيادة في (ط).
(3) السبعة: 316.
(4) سقطت من (ط).
(5) وتقدير الكلام: هل هو أذن خير لكم، وهو ذو رحمة.
(6) في (ط): وأما الجر(4/203)
الأقوال الثلاثة التي تقدّمت، وكأنه (1) مستمع رحمة، فجاز هذا كما كان مستمع خير، ألا ترى أن الرحمة من (2) الخير؟.
فإن قلت: فهلّا استغني بشمول الخير للرحمة وغيرها عن تقدير عطف الرحمة عليه؟ فالقول: إن ذلك لا يمتنع، كما لم يمتنع: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق / 1] ثم خصّص فقال: {خلق الإنسان من علق}، وإن كان قوله: {خلق} يعمّ الإنسان وغيره فكذلك الرّحمة، إذا كانت من الخير لم يمتنع أن يعطف (3)، فتخصّص الرحمة بالذّكر من بين ضروب الخير، لغلبة ذلك في وصفه وكثرته، كما خصّص الإنسان بالذّكر، وإن كان الخلق قد عمّه وغيره، والبعد بين الجارّ وما عطف عليه لا يمنع (4) من العطف، ألا ترى أنّ من قرأ: {وقيله يا رب}
[الزخرف / 88] إنّما يحمله على: {وعنده علم الساعة}
[الزخرف / 85] وعلم قيله.
فإن قلت: أيكون الجرّ في رحمة * على اللام في قوله:
{ويؤمن للمؤمنين} [التوبة / 61]، فإنّ ذلك ليس وجها، لأن اللام في قوله: {ويؤمن للمؤمنين} على حدّ اللام في (5) قوله:
{ردف لكم} أو على المعنى، لأن معنى يؤمن: يصدّق، فعدّي
__________
(1) في (ط): فكأنه.
(2) في (ط): مثل.
(3) في (ط): تعطف.
(4) في (م): لا يمتنع.
(5) في (ط): من.(4/204)
باللام، كما عدّي مصدّق به في (1) نحو: {مصدقا لما بين يدي من التوراة} [آل عمران / 50] ولا يكون يؤمن للرحمة، والمعنى: يؤمن الرحمة، لأن هذا الفعل لا يقع عليه في المعنى، ألا ترى أنك لا تقول: يصدّق الرحمة (2)؟ وزعموا أنّ الأعمش قرأ: قل أذن خير ورحمة لكم وكذلك هو (3) في حرف أبيّ وعبد الله زعموا.
التوبة: 66
اختلفوا في الياء والنون من قوله [جل وعز] (4): {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} [التوبة / 66].
فقرأ عاصم وحده: إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بالنّون جميعا. وقرأ الباقون: إن يعف عن طائفة منكم بالياء (5) تعذب (6) طائفة بالتاء (7).
قال أبو علي (8): حدثنا أحمد بن محمد البصريّ قال:
حدّثنا المؤمّل بن هشام قال: حدثنا إسماعيل بن عليّة عن ابن
__________
(1) سقطت من (م).
(2) قال مكي في «الكشف» 1/ 504: ولا يحسن عطف رحمة على المؤمنين، لأنه يصير المعنى: ويؤمن رحمة، إلا أن يجعل الرحمة القرآن، وتكون اللام زائدة، فيصير التقدير: ويؤمن رحمة، أي: يصدق رحمة، أي: القرآن، أي: يصدق القرآن.
(3) في (ط): هي.
(4) سقطت من (ط): جل وعز.
(5) بالياء المضمومة وفتح الفاء (الكشف 1/ 504).
(6) بالتاء المضمومة وفتح الذال. الكشف (1/ 504).
(7) السبعة: 316.
(8) سقطت من (ط).(4/205)
أبي نجيح، عن مجاهد في قوله سبحانه (1): {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور / 2] قال: أقلّه رجل، وقال عطاء:
أقلّه رجلان. حجة من قال: {إن نعف} قوله: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك} [البقرة / 52].
ومن قال: إن يعف فالمعنى: معنى تعف، وأمّا تعذّب:
بالتاء، فلأنّ الفعل في اللفظ مسند إلى مؤنّث.
التوبة: 98
اختلفوا في ضمّ السين وفتحها من قوله تعالى (2): {دائرة السوء} [التوبة / 98] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: دائرة السوء * بضمّ السّين، وكذلك في سورة الفتح [الآية: 6].
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {السوء}
بفتح السين فيهما، ولم يختلف في غيرهما.
حدثني الصوفيّ عن روح بن عبد المؤمن عن محمّد بن صالح عن شبل عن ابن كثير: {دائرة السوء} بفتح السّين، وكذلك في سورة (3) الفتح بالنصب.
وقرأ ابن محيصن: السوء * بضم السين (4).
قال أبو علي: الدائرة لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون صفة قد غلبت، أو تكون بمنزلة العافية، والعاقبة،
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة: 316.(4/206)
والصفة أكثر في الكلام، وينبغي أن [يكون] (1) يحمل عليها فالمعنى فيها أنها (2) خلّة تحيط بالإنسان حتى لا يكون له عنها (3) مخلص، يبيّن ذلك أن ما جاء في التنزيل منه يدلّ على هذا المعنى، فمن ذلك قوله سبحانه (4): {نخشى أن تصيبنا دائرة} [المائدة / 52] وقال تعالى (5): {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء} [الفتح / 6] وقال: {ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء} [التوبة / 98].
فإن قلت: فما معنى إضافته إلى السّوء أو إلى السّوء؟
فإنّه على وجه التأكيد، والزيادة في التبيين، ولو لم يضف لعلم هذا المعنى منها، كما أن نحو قوله: لحيي رأسه، وشمس النّهار، كذلك، ولو (6) لم يضافا عرف منهما هذا المعنى الذي فهم بالإضافة.
وأما (7) إضافتهما إلى السّوء أو إلى السّوء، فالقول فيه:
إن السّوء يراد به الرداءة والفساد، فهو خلاف الصدق الذي في قولك: ثوب صدق، وليس الصدق من صدق اللسان الذي هو خلاف الكذب، كما أن السّوء ليس من سؤته في المعنى، وإن
__________
(1) زيادة في (م).
(2) سقطت أنها من (م).
(3) في (ط): منها.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): لو لم.
(7) في (ط): فأما.(4/207)
كان اللفظ واحدا يدلّك على ذلك أنّك تقول: ثوب صدق، فتضيفه (1) إلى ما لا يجوز عليه الصدق والكذب في الأخبار.
فأمّا دائرة السوء بالضم فكقولك (2): دائرة الهزيمة ودائرة البلاء، فاجتمعا في جواز إضافة الدائرة إليهما من حيث أريد بكلّ واحدة منهما الرداءة والفساد، فمن قال: {دائرة السوء}
فتقديره الإضافة إلى الرداءة والفساد.
فمن (3) قال: دائرة السّوء فتقديره دائرة الضرر والمكروه، من ذلك (4): سؤته مساءة ومسائية، والمعنيان يتقاربان.
قال أبو زيد: قال العدوي: عليهم دائرة السوء [الفتح / 6]، وأمطرت مطر السوء [الفرقان / 40] فضمّ أوائلهما، وقال: رجل سوء، ففتح أولها.
وقال أبو الحسن: {دائرة السوء}، كما تقول: رجل السّوء، وأنشد (5):
وكنت كذئب السّوء لمّا رأى دما * بصاحبه يوما أحال على الدّم
__________
(1) في (ط): فتضيف.
(2) في (ط): فكقوله.
(3) في (ط): ومن.
(4) في (ط): من قولك.
(5) البيت للفرزدق من قصيدة في ديوانه 2/ 749والتنبيه للبكري ص 36.
قال فيه: إن الذئاب إذا رأت ذئبا قد عقر وظهر دمه، أكبّت عليه تقطعه وتمزقه وأنثاه معها تصنع كصنيعها. اه. وفي اللسان (حول) أحال الذئب على الدم: أقبل عليه قال الفرزدق: فكان كذئب البيت. وانظر السمط 1/ 243.(4/208)
قال: وقرئت دائرة السوء * وفي (1) ذا القياس تقول: رجل السّوء، قال: وذا ضعيف إلا أنك إذا قلت: كانت عليهم دائرة السّوء كان أحسن من رجل السّوء، ألا ترى أنك تقول: كانت عليهم دائرة الهزيمة؟ قال: والرجل لا يضاف إلى السّوء، كما يضاف هذا، لأن هذا تفسيره (2): الخير والشرّ، كما يقول:
سلكت (3) طريق الشرّ، وتركت طريق الخير (4).
التوبة: 99
اختلفوا في التخفيف والتثقيل من قوله [جلّ وعز] (5):
{ألا إنها قربة لهم} [التوبة / 99] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {قربة لهم} خفيفة.
واختلف عن نافع، فروى ابن جمّاز، وإسماعيل بن جعفر، عنه في رواية الهاشمي سليمان بن داود وغيره، وورش، والأصمعيّ، ويعقوب بن جعفر: قربة * مثقّل، وروى قالون والمسيبيّ وأبو بكر بن أبي أويس: {قربة} خفيفة، ولم يختلفوا في {قربات} أنها مثقّلة (6).
قال أبو علي: لا تخلو {قربة} من أن يكون الأصل فيه التخفيف أو التثقيل، ولا يجوز أن يكون التخفيف في الواحد الأصل ثم يثقّل، لأنّ ذلك يجيء على ضربين: أحدهما في
__________
(1) في (ط): ومن. والعبارة بعدها ليست في معاني القرآن، إلى قوله: قال.
(2) في معاني القرآن: يفسّر به.
(3) في الأصل تركت. وما أثبتناه من معاني القرآن.
(4) معاني القرآن 2/ 336335.
(5) سقطت من (ط).
(6) السبعة: 317.(4/209)
الوقف، والآخر أن يتبع الحركة التي قبلها، فما كان من ذلك في الوقف فنحو قوله (1).
أنا ابن مأويّة إذ جدّ النّقر وإنما هو النّقر، فحرك القاف بالحركة التي كانت تكون للّام في الإدراج، وما كان من إتباع ما قبلها، فنحو قول الشاعر (2):
إذا تجرّد نوح قامتا معه ... ضربا (3) أليما بسبت يلعج الجلدا
فالكسر في اللام إنما هو لاتباع حركة فاء الفعل، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون كالبيت الأول، لأنّ حرف الإعراب الذي [هو] (4) في هذا البيت قد تحرك بحركته التي يستحقّها، فظهر ذلك في اللفظ، والحركة التي حركت بها اللام التي هي عين في الجلد من قوله: الجلدا ليست كالضمة (5) في النّقر، وعلى هذا يكون قوله (6):
__________
(1) سبق في 1/ 34998.
(2) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي. تجرد: تهيأ. والنّوح النساء القيام أو الجماعة النائحة. ويلعج: يحرق، السّبت: النّعل.
انظر شرح السكري 2/ 672، الخصائص 2/ 333، النوادر / 204
(ط الفاتح) المصنف 2/ 308واللسان (جلد) والخزانة 3/ 172ضمن قصيدته.
(3) في (ط): عجلا.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (م): ليست نصبة كالضمة.
(6) جزء من بيت لزهير بن أبي سلمى وتمامه:(4/210)
فيد أوركك أتبع العين حركة الفاء التي هي فتحة الراء. فأمّا قول الأعشى (1):
أذاقتهم الحرب أنفاسها ... وقد تكره الحرب بعد السّلم
فيجوز فيه أن يكون أتبع حركة العين الفاء [حرك العين] (2) على حدّ ما حرك الجلدا. ويجوز أن يكون ألقى حركة الإعراب التي كانت تستحقها اللام على العين، وهذا أولى. وعلى قولهم: الجلدا، قالوا: رأيت الحجر، فحرّكوا العين اتباعا لحركة ما قبلها في الوقف، وليس قوله: قربة * في الآية موقوفا عليه، ولا ينبغي أن يحمل على التحريك اتباعا لحركة ثم استمروا وقالوا إنّ موعدكم ... ماء بشرقيّ سلمى فيد أو ركك
وفي رواية: «إن مشربكم».
وسلمى: أحد جبلي طيء وفيد: نجد قريب منهما. وركك: ماء قريب منها.
انظر شرح ديوانه / 167، والمحتسب 1/ 287/ 27ومعجم ما استعجم 1/ 150أسنمة وفي المنصف 2/ 309: قال أبو عثمان: وزعم الأصمعي قال: قلت لأعرابي، ونحن بالموضع الذي ذكره زهير فقال: ثم استمروا البيت: هل تعرف رككا؟ فقال: قد كان هنا ماء يسمى:
ركّا. فهذا مثل: فكك، حين احتاج إلى تحريكه بناه على: فعل. اه.
وانظر شرح ابن جني لكلام أبي عثمان فيه.
__________
(1) انظر ديوانه / 39.
(2) سقطت من (م).(4/211)
ما قبلها، لأن ذلك أيضا يكون في الوقف، أو في الضرورة فإذا لم يجز حملها على واحد من الأمرين، علمت أن الحركة هي الأصل في قربه * وأنّ الإسكان تخفيف، كما أسكنوا الرسل، والكتب، والطنب، والأذن، ونحو ذلك.
فأما (1) إذا جمعت فينبغي أن يكون {قربات} لأنه لا يخلو من أن يكون: كغرفة، أو كبسرة ومن أي الوجهين كان، فينبغي أن يثقّل في الجمع، ألا ترى أنه إذا ثقل ما أصله التخفيف نحو: الظلمات، والغرفات، فاجتلبت في الجمع الضمة، فأن تقرّ الحركة الثابتة في الكلمة أجدر، وينبغي في قول من خفّف فقال في الواحد: قربة إذا جمع أن يعيد الضمّة التي هي الأصل، و [وقع التخفيف فيها] (2)، لأنها أولى من المجتلبة، كما رددت الضمّة في نحو ضربتهم الآن، ومذ اليوم الذي كان لها في الأصل، ولم تجتلب حركة غريبة في الكلمة لالتقاء الساكنين.
والقربة: ما تقرّب به إلى الله تعالى من فعل خير، أو إسداء (3) عرف، ومثل قولهم: قربة، وقربة، بسرة وبسرة، وهدبة وهدبة. حكاه محمد بن يزيد.
التوبة: 103
اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله [جل وعز] (4): إن
__________
(1) في (ط): وأما.
(2) في (ط): ويقع التخفيف عليها.
(3) في (ط): وإسداء.
(4) سقطت من (ط).(4/212)
صلاتك [التوبة / 103] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونافع وابن عامر: إن صلواتك جماعة. وفي سورة هود: أصلواتك تأمرك [الآية / 87] وفي سورة المؤمنين: {على صلواتهم} [الآية / 9] جماعة كلهم.
وروى حفص عن عاصم: إن صلاتك على التوحيد، وفي سورة هود على التوحيد أيضا: {أصلاتك} فيهما (1)، وفي سورة المؤمنين: {على صلواتهم} هذه جماع وحدها.
وقرأ حمزة والكسائيّ في الثلاثة المواضع في سورة التوبة وهود والمؤمنين على التوحيد، ولم يختلفوا في سورة الأنعام [الآية / 92]، وسأل سائل (2) [23، 34] (3).
قال أبو علي: الصلاة في اللغة: الدّعاء، قال الأعشى في الخمر (4):
وقابلها الريح في دنّها ... وصلّى على دنّها وارتسم
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) هي سورة المعارج.
(3) السبعة 318317. وقد تجاوز أبو علي الكلام عن قوله سبحانه:
(تجري تحتها الأنهار) [التوبة / 100]. قال في السبعة: كلهم قرأ عند رأس المائة: ({تجري تحتها الأنهار}) غير ابن كثير وأهل مكة فإنهم قرءوا:
({تجري من تحتها}) بزيادة (من) وكذلك هي في مصاحف أهل مكة خاصة. (السبعة: 317).
(4) من قصيدة يمدح فيها قيس بن معديكرب، وارتسم الرجل لله: كبر ودعا وتعوذ. انظر ديوانه / 35.(4/213)
فكأن معنى: {وصل عليهم} أدع لهم، فإن دعاءك لهم (1)
تسكن إليه نفوسهم، وتطيب به، فأمّا قولهم: صلى الله على رسوله وعلى أهله (2) وملائكته، فلا يقال فيه: إنّه دعاء لهم من الله. كما لا يقال في نحو: {ويل يومئذ للمكذبين} (3) [الطور / 11] إنّه دعاء (4) عليهم، ولكنّ المعنى فيه: أن هؤلاء ممن يستحقّ عندكم أن يقال فيهم هذا النحو من الكلام، وكذلك قوله سبحانه (5): {بل عجبت ويسخرون} [الصافات / 12] فيمن ضمّ التاء (6)، وهذا مذهب سيبويه. وإذا كان الصلاة مصدرا وقع على الجميع والمفرد على لفظ واحد، كقوله: {لصوت الحمير}
[لقمان / 19] فإذا اختلف جاز أن يجمع لاختلاف ضروبه، كما قال: {إن أنكر الأصوات} (7) ومن المفرد الذي يراد به الجمع قوله سبحانه (8): {وادعوا ثبورا كثيرا} [الفرقان / 14] وممّا جاء من الصلاة (9) مفردا يراد به الجمع قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء} [الأنفال / 35] وقال: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة / 43] والزكاة في هذا كالصلاة، وكأن الرّكعات
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): ويل للمطففين وويل للمكذبين.
(4) في (ط): دعاء.
(5) سقطت من (ط).
(6) وهي قراءة حمزة والكسائي، وستأتي في موضعها. وانظر السبعة ص 547.
(7) عبارة (م): كما أنّ (أنكر الأصوات) كذلك.
(8) سقطت من (ط).
(9) عبارة (ط): في قوله الصلاة.(4/214)
المفروضة والمتنفّل بها سميت صلاة لما فيها من الدعاء إلا أنّه اسم شرعي، فلا يكون الدعاء على الانفراد، حتى ينضم إليها خلال أخر جاء بها الشرع، كما أن الحجّ: القصد في اللغة، فإذا أريد به النّسك، لم يتمّ بالقصد وحده دون خصال أخرى (1)
تنضمّ إلى القصد، وكما أن الاعتكاف لبث وإقامة، والشرعي ينضم إليه معنى آخر، وكذلك الصوم، وحسّن ذلك جمعها حيث جمعت لأنه صار بالتسمية بها وكثرة الاستعمال لها كالخارجة عن حكم المصادر، وإذا جمعت المصادر إذا اختلفت في (2) قوله: {إن أنكر الأصوات} [لقمان / 19] فأن تجمع ما صار بالتسمية كالخارج عن حكم المصادر أجدر، ألا ترى أنّ سيبويه جعل درّا من قولهم: لله درّك، بمنزلة: لله بلادك، وجعله خارجا من (3) حكم المصادر، فلم يعمله إعمالها، مع أنه لم يختص بالتسمية به شيء. وجعله بكثرة الاستعمال خارجا عن حكم المصادر، ولم يجز أن نضيف (4)
درّا إلى اليوم في قوله (5):
__________
(1) في (ط): أخر.
(2) في (ط): نحو قوله.
(3) في (ط): عن.
(4) في (ط): فلم يجز أن يضيف.
(5) عجز بيت لعمرو بن قميئة وصدره:
لما رأت ساتيدما استعبرت يصف فيه امرأة نظرت إلى جبل «ساتيدما» وهو بعيد عن بلادها فاستعبرت شوقا إليها. والشاهد فيه عند سيبويه: إضافة الدر إلى من، مع جواز الفصل بالظرف (اليوم) ضرورة.(4/215)
لله درّ اليوم من لامها على حدّ قوله: {بل مكر الليل والنهار} [سبأ / 33] فهذا يقوّي قول من جمع في نحو {حافظوا على الصلوات} [البقرة / 238].
فإن قلت: هلّا جعل بمنزلة درّ، فلم يجز فيه إلا الإفراد، إلا أن تختلف ضروبه، كما لم يجز في درّ الإعمال؟
قيل له (1): ليس كلّ شيء كثر استعماله يغيّر عن أحوال نظائره، فلم تغيّر الصلاة عما كان عليه في الأصل من كونه مصدرا، وإن كان قد سمّي به لأنّه وإن كان قد انضمّ إلى كونه دعاء غيره، فلم يخرج عن أن يكون الدعاء مرادا بها (2).
ومثل ذلك في كلامهم قولهم: أرأيت زيدا ما فعل، لم يخرجه عمّا كان عليه دخول معنى آخر فيه، فالتسمية به مما يقوي الجمع فيه إذا عنى به الرّكعات، لأنها جارية مجرى الأسماء والإفراد له في نحو: {وما كان صلاتهم عند البيت}
يجوّزه أنه في الأصل مصدر، فلم يجعل التسمية مزيلة له (1)
عما كان عليه في الأصل.
__________
انظر سيبويه 1/ 9991، المفصل 2/ 46، 3/ 772019، 8/ 66 الخزانة 2/ 24معجم البلدان (ساتيدما) المقتضب 4/ 377الإنصاف 2/ 432.
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): به.(4/216)
و (1) من أفرد فيما يراد به الرّكعات كان جوازه على ضربين:
أحدهما: على أنه في الأصل مصدر، وجنس، والمصادر لأنها أجناس مما تفرد (2) في موضع الجميع، إلّا أن تختلف فتجمع من أجل اختلافها.
والآخر: أن الواحد قد يقع في موضع الجمع، كقوله سبحانه (3): {يخرجكم طفلا} [غافر / 67] وقول جرير (4):
الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
وقال بعضهم: إن التي في التوبة (5)، والتي في هود، وفي المؤمنين، مكتوبات في المصحف بالواو، والتي في سأل سائل، مكتوبة بغير واو وإذا (6) اتّجه الإفراد والجمع في العربية ورجّح أحد الوجهين الموافقة لخطّ المصحف كان ذلك ترجيحا يجعله أولى بالأخذ به.
فأما من زعم أن الصلاة أولى لأن الصلاة للكثرة، وصلوات للقلة (7)، فلم يكن قوله متّجها، لأن الجمع بالتاء قد
__________
(1) في (ط): فمن.
(2) في (ط): يفرد.
(3) سقطت من (ط).
(4) سبق في ص 81من هذا الجزء.
(5) في (ط): براءة.
(6) في (ط): فإذا.
(7) في (ط): للقليل.(4/217)
يقع على الكثير كما يقع على القليل، كقوله سبحانه (1): {وهم في الغرفات آمنون} [سبأ / 37] وقوله: {إن المسلمين والمسلمات} [الأحزاب / 35] و {إن المصدقين والمصدقات}
[الحديد / 18] فقد وقع هذا الجمع على الكثير كما وقع على القليل، وإذا كان للشيء في العربية (2) وجهان، فأخذ أحد بأحد الوجهين وآخر بالوجه الآخر كان سائغا، وكذلك: إن أخذ بأحد الوجهين في موضع، وفي موضع آخر بالوجه الآخر وقال: {إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون} [المعارج / 23] و {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون / 2] وقال: {حافظوا على الصلوات} [البقرة / 238] فأفرد في موضع وجمع في آخر.
التوبة: 109
اختلفوا في ضمّ الألف وفتحها من قوله [جلّ وعزّ] (3):
{أفمن أسس بنيانه} [التوبة / 109].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي:
بفتح الألف في الحرفين جميعا، وفتح النون فيهما.
وقرأ نافع وابن عامر أسس * (4) بضم الألف بنيانه * برفع النون (5).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): في الشيء من العربية.
(3) سقطت من (ط).
(4) زادت (ط) هنا أسس بنيانه.
(5) السبعة: 318. وقد أخر أبو علي الكلام عن اختلافهم في إدخال الواو وإخراجها من قوله سبحانه: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) [التوبة / 107] إلى ما قبل نهاية السورة.(4/218)
[قال أبو علي] (1): البنيان: مصدر، وهو جمع على حد شعيرة وشعير لأنّهم قد قالوا: بنيانه في الواحد، قال أوس (2):
كبنيانة القرييّ موضع رحلها ... وآثار نسعيها من الدّفّ أبلق (3)
وجاء بناء المصادر على هذا المثال في غير هذا الحرف، وذلك نحو: الغفران، وليس بنيان جمع بناء، لأن فعلانا إذا كان جمعا نحو كثبان، وقضبان، لم تلحقه تاء التأنيث، وقد يكون ذلك في المصادر نحو ضرب ضربة وأكل أكلة، ونحو ذلك مما يكثر.
قال أبو زيد: يقال: بنيت أبني بنيا، وبناء وبنية، وجماعها: البنى، وأنشد (4):
بنى السماء فسوّاها ببنيتها ... ولم تمدّ بأطناب ولا عمد
فالبناء والبنية مصدران، ومن ثمّ قوبل به الفراش في
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) لم يرد في ديوانه (ط. صادر). وهو لكعب بن زهير في ديوان زهير بن أبي سلمى من قصيدة مشتركة بينهما، وليس في ديوان كعب انظر ديوان زهير بشرح ثعلب (ص 257ط. دار الكتب وص 185ط. دار الآفاق) وإيضاح الشعر للمصنف 343.
(3) القرييّ: في الأصل القرّي، وهو تحريف: وفي ديوانه ط. دار الكتب:
القرئي، والقريي: إضافة إلى القرية. شبه هذه الناقة ببنيان القرى، والدف: الجنب والنسع: سير تشد به الرحال، والأبلق: الأبيض في سواد.
(4) لم نعثر على قائله.(4/219)
قوله: {هو الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء}
[البقرة / 22]. فالبناء لمّا كان رفعا للمبني قوبل به الفراش الذي هو خلاف البناء.
ومن ثمّ وقع على ما كان فيه ارتفاع في نصبته، وإن لم يكن مصدرا كقول الشاعر (1):
لو (2) وصل الغيث أبنين امرأ ... كانت له قبّة سحق بجاد
أي: جعلت بناءه بعد القبّة خلق كساء، كأنه كان يستبدل بالقباب خباء من سحق كساء لإغارة هذه (3) الخيل عليهن.
فأما قراءة من قرأ: {أفمن أسس بنيانه} فبنى الفعل للفاعل، فلأنه الباني والمؤسس فأسند الفعل إليه، وبناه (4) له، كما أضاف البنيان إليه في قوله: {بنيانه} فكما أن المصدر مضاف إلى الفاعل كذلك يكون الفعل مبنيا له. ويدلّ على
__________
(1) ينسب هذا البيت إلى أبي مارد الشيباني، كما في الخصائص 1/ 38 والبجاد: الكساء المخطط. والسحق: البالي. قال ابن جني: والمعنى:
لو اتصل الغيث لأكلأت الأرض وأعشبت، فركب الناس خيلهم للغارات، فأبدلت الخيل الغني الذي كانت له قبة من قبته سحق بجاد، فبناه بيتا له بعد ما كان يبني لنفسه قبة فنسب ذلك البناء إلى الخيل، لما كانت هي الحاملة للغزاة الذين أغاروا على الملوك، فأبدلوهم من قبابهم أكسية أخلاقا، فضربوها لهم أخبية تظللهم.
انظر تنبيه البكري على أوهام القالي / 19والسمط 1/ 23واللسان (بني).
(2) في (ط): ولو.
(3) في (ط): هذا.
(4) في (ط): وبناؤه.(4/220)
ترجيح هذا الوجه اتفاقهم على قوله: أمن أسس بنيانه على.
ومن بنى الفعل للمفعول به لم يبعد أن يكون في المعنى كالأول، لأنه إذا أسس بنيانه فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنيانه هو له، وكان القول الأول أرجح لما قلنا.
التوبة: 109
اختلفوا في التثقيل والتخفيف من قوله [جل وعز] (1):
{جرف هار} [التوبة / 109].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: {شفا جرف}
مثقل.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة جرف مثقل.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة جرف ساكنة الراء.
وروى حفص عن عاصم {جرف} مثقّل مثل أبي عمرو (2).
قال أبو عبيدة: الشّفاء هو: الشّفير. والجرف: ما تجرّف من السيول من الأودية (3).
قال أبو علي: الجرف: بضم العين الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله: الشغل والشغل وقال: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل} [يس / 55] وقال البعيث (4):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة: 318.
(3) مجاز القرآن 1/ 268وفيه بعض الاختلاف، وكذا ما نقله عنه بعد.
(4) البعيث، هو خداش بن بشر، والبيت من قصيدة في النقائض يهجو فيها جريرا ويجيب الفرزدق.(4/221)
غداة لقينا من لؤيّ بن غالب ... هجان الثنايا واللقاء على شغل
ومثله: الطنب والطنب، والعنق والعنق، وكلا الوجهين حسن.
وقال أبو عبيدة: {على شفا جرف هار} مثقّل، قال: لأن ما يبنى على التقوى فهو أثبت أساسا من بناء يبنى على شفاء جرف.
والقول في ذلك أنه يجوز أن تكون المعادلة وقعت بين البناءين (1)، ويجوز أن يكون بين البانيين (2)، فإذا عادلت بين البانيين، كان المعنى: المؤسس بنيانه متّقيا خير أم المؤسّس بنيانه غير متّق؟ لأن قوله: {على شفا جرف} يدلّ على أن بانيه غير متّق لله ولا خاش له، ويجوز أن يقدّر حذف المضاف كأنّه أبناء من أسّس بنيانه متّقيا خير أم بناء من أسّس بنيانه على شفا جرف؟ والبنيان: مصدر وقع (3) على المبني مثل الخلق إذا عنيت به المخلوق، وضرب الأمير: إذا أردت به المضروب، وكذلك نسج اليمن. يدلّك على ذلك أنه لا يخلو من أن يراد
__________
والهجان: البيض. وقوله: واللقاء على شغل، أي: كان لقاؤنا إياهن ونحن محرمون مشاغيل عنهن. انظر نقائض جرير والفرزدق 1/ 136.
وفيه: هجان الغواني.
(1) في (ط): البانيين.
(2) في (ط): الباءين.
(3) في (ط): أوقع.(4/222)
به اسم الحدث، أو اسم العين (1)، فلا يجوز أن يكون الحدث، لأنه إنّما يؤسس المبني الذي هو عين.
ويبين ذلك أيضا قوله {على شفا} [2] جرف والحدث لا يعلو شفا جرف (3).
والجار في (4) قوله: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله} في موضع نصب على الحال تقديره: أفمن أسّس بنيانه متّقيا خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار؟. والمعنى:
أمّن أسّس بنيانه غير متق، أو: من أسس بنيانه معاقبا على بنائه؟ وفاعل انهار: البنيان، أي: انهار البنيان بالباني في نار جهنم، لأنه معصية، وفعل لما كرهه الله سبحانه (5) من الضرار، والكفر، والتفريق بين المؤمنين، و {على شفا جرف}: حال كما كان قوله جلّ وعز: {على تقوى من الله} حالا.
اختلفوا في الإمالة والفتح من قوله جل وعز: {هار فانهار} [التوبة / 109].
فقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية هبيرة عن حفص وحمزة: {هار} بفتح الهاء.
__________
(1) في (ط): أخي العين.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): لا يعلّق بشفا جرف.
(4) في (ط): من.
(5) سقطت من (ط).(4/223)
الأعشى عن أبي بكر (هار) (1) مفخّمة.
وأمال الهاء نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية يحيى عن أبي بكر، والكسائي، بالإمالة (2) وليس عندي عن ابن عامر في هذا شيء.
وقال غير أحمد بن موسى: قراءة ابن عامر مفخّمة (3).
قال أبو علي: أما حجّة من لم يمل فإنّ كثيرا من العرب لا يميلون هذه الألفات، وترك الإمالة هو الأصل.
والإمالة في {هار} حسنة لما في الراء من التكرير، فكأنك قد لفظت براءين مكسورتين، وبحسب كثرة الكسرات تحسن الإمالة، وكذلك (4) لو أملتها في الوقف كان أحسن من إمالتك نحو: هذا ماش وداع، لأنّك لم تلفظ (5) هنا بكسرة، وفي الراء كأنك قد لفظت بها لما فيها من التكرير بحرف مكسور إذا وقفت عليها.
وقد يجوز أن تميل نحو: هذا ماش في الوقف، وإن (6)
زالت الكسرة التي لها كنت تميل الألف كما جاز أن تميل الفتحة من (7) نحو {القتلى الحر} [البقرة / 178] مع ذهاب ما
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): مفخما. السبعة 319318والنقل عن غير أحمد جاء في الحاشية من نسخة ح.
(4) في (ط): فكذلك.
(5) جاء عن حاشية (ط): عبارة بلغت.
(6) في (ط): فإن.
(7) في (ط): في نحو.(4/224)
أملت الفتحة من أجله وهو الألف من (1) القتلى.
ومثل هذا قولهم: صعقيّ، تركت (2) الفاء التي كان كسرها لكسرة العين مع زوال كسرتها. وأما الهمزة من هار فمنقلبة عن الواو لأنّهم قد قالوا تهور البناء: إذا تساقط وتداعى، وفي الحديث: «حتى تهوّر الليل» (3) فهذا في الليل كالمثل والتشبيه بالبناء.
ويجوز في العين إذا قلبت همزة في هذا النحو ضربان:
أحدهما: أن تعلّ بالحذف كما أعلّت بالقلب، فيقال:
هار وشاك السلاح. ويجوز في قولهم: يوم راح، أن يكون فاعلا على الحذف وفعلا على غير الحذف.
والآخر: أن يعلّ بقلبها إلى موضع اللام فيصير في التقدير: فالع.
ويجوز في قولهم:
ضربت على شزن فهنّ شواعي (4)
__________
(1) في (ط): في القتلى.
(2) في (ط): ترك.
(3) تهور الليل: ذهب أكثره. وأول الحديث:
أخر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم العشاء حتى تهور الليل والحديث أخرجه مسلم رقم 311باب المساجد. وأخرجه أحمد في مسنده 2/ 537.
(4) عجز بيت صدره:
وكأن أولاها كعاب مقامر وهو في المقتضب 1/ 140والمنصف 2/ 57غير منسوب، ونسبه في اللسان والتاج (شاع شزن) إلى الأجدع بن مالك بن مسروق بن(4/225)
أن تكون فوالع من الشيء الشائع، ويكون المعنى: إنها متفرقة، ويكون فواعل من قولهم: غارة شعواء، وكذلك يجوز في قوله (1):
خفضوا أسنّتهم فكل ناعي (2)
ضربان: أحدهما: أن يكون مقلوبا من النائع الذي يراد به العطشان في (3) قوله:
والأسل النيّاعا (4)
أي: العطاش إلى دماء من يغزون.
__________
الأجدع. وعندهما: «صرعاها» بدل «أولاها» و «قداح» بدل «كعاب».
وكعاب المقامر: فصوص النرد. اللسان (لعب). والشزن: الكعب الذي يلعب به (اللسان «شزن» وجاء بالبيت شاهدا لذلك المعنى) واللاعب يضرب الكعاب بعضها ببعض قبل أن يلقيها في الأرض متفرقة. شبه أولى الخيل المغيرة أو صرعاها بذلك، وجاءت الخيل شوائع وشواعي على القلب أي: متفرقة.
(1) عجز بيت وصدره:
خيلان من قومي ومن أعدائهم وقد نسبه في اللسان (مادة نعا) إلى الأجدع الهمداني.
(2) في (م): ناع.
(3) في (ط): من قوله.
(4) جزء من بيت أنشده في اللسان (نوع) للقطامي. ونسبه ابن بري لدريد بن الصمة. وتمامه:
لعمر بني شهاب ما أقاموا ... صدور الخيل والأسل النياعا
الأسل: أطراف الأسنة. انظر المنصف 2/ 326.(4/226)
ويجوز أن يكون ناع من قولك: نعى ينعي، أي (1)
يقول: يا لثارات فلان.
ويجوز في {هار} التي في الآية أن يكون على قول من حذف. ويجوز أن تكون في (2) قول من قلب.
فأما جوازه على الحذف فلأن هذه الهمزة قد حذفت من (3) نحو هذه الكلم. وجوازه على القلب أن يكون مثل:
قاض، وداع، وقد سقطت اللام لالتقاء الساكنين.
وقال أبو الحسن: يقال: هرت تهار، مثل: خفت تخاف، قال: وجعله بعضهم من الياء، وبعضهم من الواو، فقال: يتهير، فإنه كان التجويز في عين يتهور أنه ياء من أجل قولهم: يتهير، فإنه يمكن أن يكون: يتهيّر، مثل: يتحيّر، فلا دلالة حينئذ في ذلك (4) على كونها من الياء، ولعله سمع شيئا غير هذا يعلم به أنه من الياء، فإن لم يسمع شيئا غير هذا، فإنه يجوز أن يقول:
إنّ يتهيّر: يتفعّل مثل (5) يتبيع، لأن باب التفعّل أكثر من باب التفعيل، فيحمل على الأكثر فيجوز على هذا فيما أنشده أبو زيد من قول الشاعر (6):
__________
(1) في (ط): أن.
(2) في (ط): على.
(3) في (ط): في.
(4) سقطت من (م).
(5) سقطت من (م).
(6) البيت في شرح أشعار الهذليين ورد في قصيدة ضمن شعر لصخر الغي 1/ 246قال السكري: وقد رويت لأبي ذؤيب، ويقال: إنها لأخي صخر الغي(4/227)
خليليّ لا يبقى على الدهر فادر ... بتيهورة بين الطّخاف العصائب
يجوز (1) أن يكون تيهورة: تفعولة، مثل: تعضوضة، إلا أنه قلبه ولو كان من الواو لكان توهورة ويجوز أن يكون تيهورة في الأصل فيعولا (2)، مثل: سيهوب، وعيثوم (3)، إلا أنه قلبت الواو التي هي عين إلى موضع (4) الفاء، ثم أبدل منها (5) التاء، كما أبدل في قولهم: تقوى وتقيّة، ونحو ذلك، فيكون على هذا: عيفولة. ويدلك على أن الكلمة من هذا الباب قول العجاج (6):
__________
يرثي بها أخاه صخرا. وهي في ديوان الهذليين لصخر الغي 2/ 52 كذلك. وروايته عندهما: «أعيني» و «فعيني» بدل «خليلي» قال السكري:
الفادر: الوعل المسن، والتّيهورة: ما اطمأن من الرمل أو: الهويّ في الجبل والرمل. والطخاف: ما رق من الغيم. العصائب من السحاب:
الشقائق. يقول: كأن الغيم بتكاثره على الجبل مثل العصائب، وهي الشقائق من السحاب (ديوان الهذليين). وانظر اللسان (طخف عصب) وقد نسب البيت مرة لصخر الغي، ومرة لأبي ذؤيب.
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): فيعول.
(3) العيثوم: الضخم الشديد من كل شيء (اللسان عثم).
(4) سقطت من (م).
(5) في (ط): منه.
(6) ديوانه 1/ 356وبعده:
من الحقاف همر يهمور أراط: جمع أرطى، وهو شجر، وتيهور: متساقط. وفي اللسان (تهر):
إلى أراطى. والنقا: الكثيب من الرمل.(4/228)
إلى أراط ونقا تيهور فإنّما وصفه بالانهيار، كما وصفه الآخر به في قوله (1):
كمثل هيل النّقا طاف الوليد به ... ينهار حينا وينهاه الثّرى حينا
والانهيار، والانهيال، يتقاربان في المعنى كما يتقاربان (2)
في اللفظ، ومثل ذلك في المعنى قول العجاج في صفة رمل:
شدّد منه وهو معطي الإسهال ... ضرب السّواري متنه بالتّهتال (3)
__________
(1) البيت من قصيدة لتميم بن مقبل، وروايته في ديوانه 326:
يمشين هيل النقا مالت جوانبه ... ينهال حينا وينهاه الثرى حينا
والهيل من الرمل: الذي لا يثبت مكانه حتى ينهال فيسقط.
وروايته في (ط):
«كمثل هيل نقا طاف المشاة به» وانظر الحماسة البصرية 2/ 90وفيها: «الندى» بدل «الثرى» والشعر والشعراء 458. قال ابن قتيبة: ومما يستحسن له قوله في النساء: يمشين البيت. مع آخرين.
(2) في (ط): تقاربا.
(3) سمط اللآلي 679وعنه في (ملحقات ديوان العجاج) 318وفيه: «عزّز» بدل «شدد» وهما بمعنى.
وانظر اللسان (ضنك). والخصائص 2/ 83. قوله: عزز المطر الأرض: لبّدها وشددها. ضرب السواري: أمطار الليل، شبه خلقها بالكثيب وقد أصابه المطر، وهو معطي الإسهال، أي: يعطيك من السهولة(4/229)
التوبة: 110
اختلفوا في فتح (1) التاء وضمّها من قوله جلّ وعزّ إلا أن تقطع قلوبهم [التوبة / 110] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي تقطع * بضم التاء.
وقرأ ابن عامر وحمزة: إلا أن تقطع بفتح التاء.
واختلف عن عاصم، فروى أبو بكر عنه مثل أبي عمرو، وروى حفص عنه (1) مثل حمزة تقطع * بفتح التاء (3).
قال أبو علي: قوله: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا} [التوبة / 110] البنيان: مصدر واقع على المبني، وإذا كان كذلك كان المضاف محذوفا تقديره: لا يزال بناء المبني الذي بنوا ريبة، أي: شكا في قلوبهم فيما كان من إظهار إسلامهم، وثباتا على النفاق إلا أن تقطع قلوبهم بالموت والبلاء، لا يخلص لهم إيمان ولا ينزعون عن النفاق.
فأما قراءة (4) من قرأ: {إلا أن تقطع} فلأنه يريد: حتى تبلى وتقطّع بالبلى (5)، أي: لا تثلج قلوبهم بالإيمان أبدا، ولا يندمون على الخطيئة التي كانت منهم في بناء المسجد.
__________
ما شئت. (اللسان: ضنك) التهتال: من هتلت السماء هتلا وهتلانا:
هطلت.
(1) سقطت من (ط).
(3) السبعة: 319.
(4) في (ط): قول.
(5) في (ط): «بالبلاء» ممدودا، وهما بمعنى. يقال: بلي الثوب يبلى بلى وبلاء، وأبلاه هو (اللسان بلي) وقد رسمت في (م) بالألف الممدودة.(4/230)
فأما قراءة (1) من قرأ: تقطع * فهو في المعنى مثل الأول إلّا أن الفعل أضيف إلى المقطّع المبلي للقلوب بالموت في المعنى. وفي الوجه الأول أسند إلى القلوب لمّا كانت هي البالية، وهذا مثل: مات زيد ومرض عمرو، وسقط الحائط، ونحو ذلك مما يسند فيه الفعل إلى من حدث فيه، وإن لم يكن له، وتقطع * نسب الفعل فيه إلى المقطّع المبلي، وإن لم يذكر في اللفظ فأسند الفعل الذي هو لغير القلوب في الحقيقة إلى القلوب. وزعموا أنّ في حرف أبيّ: حتى الممات وهذا يدلّ أنهم يموتون على نفاقهم، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوا من الإيمان وأخذوا من الكفر.
التوبة: 111
اختلفوا في قوله [جلّ وعزّ] (2): {فيقتلون ويقتلون}
[التوبة / 111].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
فيقتلون ويقتلون فاعل ومفعول. وقرأ حمزة والكسائي فيقتلون ويقتلون مفعول وفاعل (3).
قال أبو علي: من قال: {فيقتلون ويقتلون} فقدّم الفعل المسند إلى الفاعل على الفعل المسند إلى المفعول، فلأنهم يقتلون أولا في سبيل الله، ويقتلون، ولا يقتلون إذا قتلوا.
ومن قدّم الفعل المسند إلى المفعول به [على المسند
__________
(1) في (ط): وأما قول.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة: 319.(4/231)
إلى الفاعل] (1)، جاز أن يكون في المعنى مثل الذي تقدم لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم فإن لم يقدّر به (2)
التقديم كان المعنى في قوله: {فيقتلون} بعد قوله: فيقتلون:
يقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل، كما أنّ قوله سبحانه (3):
{فما ومهنوا لما أصابهم في سبيل الله} [آل عمران / 146]: ما وهن من بقي منهم (4) لقتل من قتل من الرّبّيّين.
التوبة: 126
قال أحمد: قرأ حمزة وحده: أولا ترون [التوبة / 126] بالتاء، وقرأ الباقون {يرون} بالياء (5).
قال أبو علي: أولا ترون: تنبيه، قال سيبويه عن الخليل: في قوله تعالى (6): {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} [الحج / 63] المعنى: انتبه أنزل الله من السماء ماء، فكان كذا وكذا، وليس قوله: {فتصبح}
جوابا بالفاء (7).
ووجه قراءة حمزة: أن المؤمنين نبّهوا على إعراض المنافقين عن النظر، والتدبّر لما ينبغي أن ينظروا فيه ويتدبروه، وذلك أنهم يمتحنون بالأمراض، والأسباب التي لا يؤمن معها
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) في (ط): فيه.
(3) سقطت من (ط).
(4) زيادة من (ط).
(5) السبعة: 320. وقد قدم المصنف الكلام هنا في هذا الحرف على غيره.
(6) سقطت من (ط).
(7) انظر الكتاب 1/ 424.(4/232)
الموت، فلا يرتدعون عن كفرهم، ولا ينزجرون عما هم عليه من النفاق، ولا يقدمون عملا صالحا يقدمون عليه إذا ماتوا فنبّه المسلمون على قلّة اعتبارهم واتعاظهم.
ومن قال: {أولا يرون} كان هذا التقريع بالإعراض عما يجب ألا يعرضوا عنه من التوبة والإقلاع عمّا هم عليه من النفاق لاحقا لهم من غير أن يصرف التنبيه إلى المسلمين في الخطاب، لأنّ المسلمين قد عرفوا ذلك من أمرهم، وكان الأولى أن يلحق التنبيه فعل من يراد تنبيهه وتقريعه بتركه ما ينبغي أن يأخذ به.
ومن قال: {يرون} وترون * جميعا (1) احتمل أن يكون من رؤية العين، وأن تكون المتعدّية إلى مفعولين، فإذا جعلتها المتعدية إلى مفعولين سدّ أنّ (2)، مسدّهما، وأن يكون من رؤية العين أولى، لأنهم يستبطئون في مشاهدة ذلك، والإعراض عنه على ترك الاعتبار به وهذا أبلغ في هذا الباب من المتعدية إلى مفعولين، ألا ترى أن تارك الاستدلال أعذر من المضرب عما يشاهد ويحس (3).
ولو قرأ قارئ: أولا يرون فبنى الفعل للمفعول به، كان أن * في موضع نصب بأنه مفعول الفعل الذي يتعدى إلى مفعول، وذلك أنك تقول: رأى عمرو كذا، وتقول: أريت
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): سدت أنّ.
(3) سقطت من (ط).(4/233)
عمرا كذا، فتعدّيه (1) إلى مفعولين بالنقل، فإذا بنيت الفعل للمفعول به تعدى إلى مفعول واحد، كالدرهم في قولك:
أعطي زيد درهما. ولا يكون يرون * هنا التي (2) في قولك:
أرى زيدا (3) منطلقا، لأن المعنى ليس على: يظنون أنهم يفتنون في كل عام، إنّما المعنى على أنهم يشاهدون ذلك فيعلمونه علم مشاهدة، وليس المعنى أنهم يظنّون الفتنة في كل عام، لأن ظنّ الفتنة ليس بموضع اعتبار، وإنما قرّعوا على ترك الاعتبار بالمشاهد (4)، وأنهم مع ذلك لا يتوبون ولا هم يتذكرون، فيعتبروا به، وينتهوا عما يلزمهم الانتهاء عنه والإقلاع (5) فبهذا كان يكون وجه من ضمّ الياء في (6) ترونه، ولا أدري أقرأ به أم لم يقرأ.
التوبة: 117
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جل وعز] (7): كاد تزيغ [التوبة / 117].
فقرأ حمزة وحفص عن عاصم: {كاد يزيغ} بالياء.
وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر: بالتاء (8) (9).
__________
(1) في (ط): فيعدى.
(2) في (ط): الذي.
(3) في (ط): «زيد» بالضم.
(4) في (ط): بالمشاهدة.
(5) قراءة (ط): الانتهاء والإقلاع عنه. مع تأخير كلمة (عنه).
(6) في (ط): من.
(7) سقطت من (ط).
(8) في (ط): وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم تزيغ بالتاء.
(9) السبعة: 319.(4/234)
قال أبو علي: يجوز أن يكون فاعل كاد أحد ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يضمر فيه القصة أو الحديث، وتكون تزيغ الخبر.
فإن قلت: إن أصل إضمار القصة أو الحديث إنما هو في الابتداء، نحو {هو الله أحد} ونحو قوله [سبحانه] (1) {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء / 97]، ثم تدخل على الاسم المبتدأ الذي هو ضمير الحديث أو القصة العوامل التي تدخل على المبتدأ، وليس كاد من العوامل التي تدخل على المبتدأ (2).
قيل: جاز ذلك فيها للزوم الخبر لها، فأشبهت العوامل الداخلة على المبتدأ (3) للزوم الخبر لها. فإن قلت: فهل يجوز أن يضمر في عسى ضمير القصة أو الحديث، لأن عسى أيضا يلزمها الخبر كما يلزم كاد.
قيل: لا يجوز ذلك لأن عسى يكون فاعله المفرد في كثير من الأمر فلا (4) يلزمه الخبر كقوله (5): {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} [البقرة / 216] فإذا كان فاعله المفرد في كثير من الأمر لم يحتمل الضمير الذي احتمله كاد، كما لم يحتمله سائر الأفعال التي
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): الابتداء.
(3) في (ط): الابتداء. وكتب فوقها على الهامش: المبتدأ.
(4) في (ط): ولا.
(5) في (ط): نحو قوله.(4/235)
تسند إلى فاعليها مما لا يدخل على المبتدأ.
فأما ما يجيء في الشعر من كاد أن يفعل وعسى يفعل، فليس به اعتداد لأن هذه الأشياء التي تجيء في الضرورة غير مأخوذ بها في حال السعة، ألا ترى أنهم قالوا: إوزّ، ومودّ، فجعلوا الأصل الإدغام ولم يقدّروا نقل الحركة فيها إلى ما قبلها، وإنما وقعت في أول أحوالها مدغمة، فدلّك هذا أنّ الإظهار في هذا النحو في الشعر لا اعتداد به، وكلّ ما أشبهه فهو على هذا الحكم، وإضمار القصة أو الحديث فيها قول سيبويه.
والوجه الثاني في (1) فاعل كاد أن يضمّنه ذكرا مما تقدّم لمّا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (2) والمهاجرون والأنصار قبيلا واحدا وفريقا جاز أن يضمر في كاد ما دل عليه مما تقدم (3) ذكره من القبيل، والحزب، والفريق، ونحو ذلك من الأسماء المفردة الدالة على الجمع، وقال: منهم، فحمله على المعنى كقوله [سبحانه] (4):
{من آمن بالله واليوم الآخر} ثم قال: {فلا خوف عليهم}
[المائدة / 69] فكذلك فاعل كاد على هذا الوجه.
والثالث في (5) فاعل كاد: أن يكون فاعلها القلوب، كأنه: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ، ولكنه قدم تزيغ
__________
(1) في (ط): من.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): ما تقدم.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): من.(4/236)
كما يقدم خبر كان في قوله (1) تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم / 147]، وجاز تقديمه، وإن كان فيه ذكر من القلوب، ولم يمتنع من حيث يمتنع الإضمار قبل الذكر، لما كان النية به التأخير، كما لم يمتنع: ضرب غلامه زيد، لمّا كان التقدير به التأخير، ألا ترى أن حكم الخبر أن يكون بعد الاسم، كما أن حكم المفعول به أن يكون بعد الفاعل؟
فأما من قرأ {يزيغ} بالياء فيجوز أن يكون ذهب إلى أنّ في كاد ضمير الحديث، فإذا اشتغل كاد بهذا الضمير ارتفع القلوب بيزيغ فذكر، وإن كان فاعله مؤنثا لتقدم الفعل.
ومن قرأ بالتاء تزيغ جاز أن يكون ذهب إلى أنّ القلوب مرتفعة بكاد، فلا يكون تزيغ فعلا مقدما كما كان عند الآخرين كذلك، فإذا لم يكن مقدّما قبح التذكير لتقدّم ذكر الفاعل كما قبح:
__________
(1) جاء في حاشية (ط): تعليقة نصها: «هذا الوجه منقول عن أبي الحسن الأخفش. ومثله قول العجاج:
إذا سمعت صوتها الخرّارا ... يهوي أصمّ وقعها الصّرارا
المعنى: أصمّ وقعها يهوي، بمعنى هاويا، فقدم الضمير، وهو حجة لأبي الحسن. اه. قلت: والبيت في ديوان العجاج 2/ 121من قصيدة طويلة ورواية الثاني: «صقعها» بدل «وقعها». والصقع: شدة وقع الشيء على شيء صلب. قال ابن قتيبة: «يقول: إذا سمعت صوت الحجر يهوي بين السماء والأرض، أصمّ وقعها الصرار، وهو طائر يقال له الجدجد أيضا» المعاني الكبير 2/ 1103.(4/237)
ولا أرض أبقل إبقالها (1)
ولم يقبح: أبقل أرض، ويجوز أن يكون الفعل المسند إلى القصة والحديث (2) يؤنث، إذا كان في الجملة التي يفسرها مؤنث، كقوله [جلّ وعز] (3): فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا [الأنبياء / 97] وقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار}
[الحج / 46] ألا ترى أن هي من (4) قوله: {فإذا هي شاخصة}
ضمير القصة، كما أن قوله [سبحانه] (5): {هو الله} في قوله:
{هو الله أحد} [الإخلاص / 6] مذكر وجاز تأنيث هي * التي هي ضمير القصة لذكر الأبصار المؤنثة في الجملة التي هي التفسير، وكذلك أنّثت في قوله: {فإنها لا تعمى الأبصار}
وكذلك يؤنّث الضمير الذي في كاد لذكر المؤنث في الجملة المفسّرة فتقول: كادت وتدغم التاء التي هي علامة التأنيث في: تاء تزيغ وتزيغ على هذا للقلوب، وهي مرتفعة به.
ويجوز إلحاق التاء في كاد من وجه آخر، وهو أن ترفع
__________
(1) عجز بيت لعامر بن جوين الطائى وصدره:
فلا مزنة ودقت ودقها وهو من شواهد سيبويه 1/ 240والخصائص 2/ 411والمحتسب 2/ 112وأمالي ابن الشجري 1/ 158، 161وابن يعيش 5/ 4والخزانة 1/ 21و 3/ 330وشرح أبيات المغني 8/ 17واللسان والتاج (بقل).
الشاهد فيه حذف التاء من أبقلت لضرورة الشعر.
(2) في (ط): القصة أو الحديث.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): في.
(5) سقطت من (ط).(4/238)
{قلوب فريق} بكاد، فيلحقه علامة التأنيث من حيث كان مسندا إلى مؤنث كقوله سبحانه (1): {قالت الأعراب} [الحجرات / 14] وتكون على هذا في تزيغ ضمير القلوب لأن النية بتزيغ التأخير.
التوبة: 107
اختلفوا في إدخال الواو وإخراجها من قوله [جلّ وعزّ] (2): {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا} [التوبة / 107].
فقرأ نافع وابن عامر: الذين اتخذوا مسجدا بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون: {والذين اتخذوا} (3) وكذلك هي في مصاحفهم (4).
قال أبو علي: وجه قول من ألحق الواو: أنه معطوف على ما قبله من نحو (5) قوله: {ومنهم من عاهد الله}
[التوبة / 75] {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة / 58] {ومنهم الذين يؤذون النبي} [التوبة / 61] {وآخرون مرجون} [6]
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) قراءة (ط): وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي (والذين) بواو وكذلك هي في السبعة.
(4) السبعة: 318.
(5) في (ط): في نحو.
(6) في (ط): مرجؤون. وكلتاهما قراءتان: الأولى قراءة جعفر ونافع وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف. والهمز قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، وأبي بكر عن عاصم ويعقوب. (انظر المبسوط في القراءات العشر لابن مهران 229).
{لأمر الله} [التوبة / 106] أي: منهم آخرون، ومنهم الّذين اتّخذوا مسجدا ضرارا وكفرا.(4/239)
__________
(6) في (ط): مرجؤون. وكلتاهما قراءتان: الأولى قراءة جعفر ونافع وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف. والهمز قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، وأبي بكر عن عاصم ويعقوب. (انظر المبسوط في القراءات العشر لابن مهران 229).
{لأمر الله} [التوبة / 106] أي: منهم آخرون، ومنهم الّذين اتّخذوا مسجدا ضرارا وكفرا.
ومن لم يلحق الواو لم يجز أن يكون {الذين} بدلا من قوله: {وآخرون مرجون} كما تبدل المعرفة من النّكرة، لأنّ المرجئين لأمر الله هم غير الذين اتخذوا المسجد ضرارا وكفرا (1)، ألا ترى أن متخذي المسجد قد أخبر عنهم أنّهم لا يؤمنون، ولا تثلج قلوبهم بالإيمان في قوله: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم} [التوبة / 110] وإذا وقع الخبر بتاتا على أنهم لا يؤمنون حتى (2) الممات، والمرجون لأمر الله، قد جوّز عليهم الإيمان، علمت أنهم ليسوا إياهم، فإذا لم يكونوا هم، لم يجز أن يبدلوا منهم.
ولكن من لم يلحق الواو جاز قوله على (3) أمرين: على أن يضمر: ومنهم الذين اتخذوا، كما أضمرت المبتدأ مع الحرف الداخل عليه في قولهم: لاها الله ذا (4)، والمعنى:
للأمر ذا، وكما أضمرت الحرف مع الفعل في قوله سبحانه (5):
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): إلى.
(3) سقطت من (ط).
(4) قوله: ها الله، معناه: والله، وجعل ها عوضا من الواو ولا يجوز أن يقال:
ها والله ذا، وفي إعراب «ذا» أربعة مذاهب أحدها ما ذكره المصنف.
انظر طرة المسائل العسكرية بتحقيق الدكتور محمد الشاطر أحمد ص 131130وسيبويه 2/ 145والمخصص 13/ 113وشرح الكافية للرضي 2/ 335، 336.
(5) سقطت من (ط).(4/240)
{فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} [آل عمران / 106] أي (1): فيقال لهم: أكفرتم، وكذلك حذف الخبر مع الحرف (2) اللاحق له في قول من قرأ: {الذين اتخذوا} بغير واو، ويجوز أن يكون أضمر الخبر بعد، كما أضمر بعد في قوله:
{إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام}
[الحج / 25] إلى قوله: {والبادي} [الحج / 45] والمعنى فيه:
ينتقم منهم، أو: يعذّبون، ونحو ذلك مما يليق بهذا المبتدأ، وحسن الحذف في الموضعين جميعا لطول الكلام بالمبتدإ وصلته.
التوبة: 123
قال أحمد: حدثني أحمد بن علي الخزّاز قال: حدثني محمد بن يحيى القطعيّ قال: حدثنا سعيد ابن أوس عن المفضل عن عاصم: أنه قرأ: غلظة [التوبة / 123] بفتح الغين.
وقرأ الباقون: {غلظة} بكسر الغين (3).
قال أبو علي قوله (4): {وليجدوا فيكم غلظة} في المعنى مثل قوله سبحانه (5): {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}
[التوبة / 73] [وقوله: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}] (6) [الفتح / 29] وقوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (م): الخبر اللاحق
(3) السبعة: 320.
(4) زيادة من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) سقط ما بين معقوفين من (م).
} {الكافرين} [المائدة / 54] أي: لا ينقادون لهم ولا يخفضون لهم جناحا وأذلة على المؤمنين، أي: يذلون لهم ذل الخضوع، فيتركون (1) الترفع عليهم فهذا (2) قريب من قوله: {رحماء بينهم}، ولم يرد بقوله: {أذلة على المؤمنين} ذلّ الهوان، ولكن الذلّ الذي يقتضيه الدين من إلانة الجانب له، وتسوّيه به.(4/241)
__________
(6) سقط ما بين معقوفين من (م).
{الكافرين} [المائدة / 54] أي: لا ينقادون لهم ولا يخفضون لهم جناحا وأذلة على المؤمنين، أي: يذلون لهم ذل الخضوع، فيتركون (1) الترفع عليهم فهذا (2) قريب من قوله: {رحماء بينهم}، ولم يرد بقوله: {أذلة على المؤمنين} ذلّ الهوان، ولكن الذلّ الذي يقتضيه الدين من إلانة الجانب له، وتسوّيه به.
قال أبو الحسن: {غلظة}: قراءة الناس بالكسر، وهي العربية، وبها نقرأ (3).
قال: ولا أعلم غلظة إلا لغة، وقال غيره: هي لغة.
(1) في (ط): ويتركون.
(2) في (ط): وهذا.
(3) انظر معاني القرآن 1/ 339.(4/242)
بسم الله (1) الرّحمن الرّحيم
[ذكر اختلافهم في] (2) سورة يونس
يونس: 1
اختلفوا في إمالة الراء وتفخيمها. فقرأ ابن كثير:
{الر} [1] مفتوحة الراء.
وقال حفص عن عاصم: الراء خفيفة تام (3) لا تمدّ الراء في كلّ القرآن غير مكسورة.
وقال هبيرة عن حفص عن عاصم: الراء مكسورة.
وقال (4) نافع في رواية المسيبي: الراء مفتوحة وليست بممدودة.
وقال أحمد بن صالح عن ورش وقالون: لا تفخّم الراء.
وقال ابن جمّاز عن نافع: بكسر الراء.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر: {الر} (5)
الراء على الهجاء مكسورة
__________
(1) في (م) بسم الله.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): وقرأ.
(5) سقطت من (ط).(4/243)
أبو بكر عن عاصم في رواية خلف عن يحيى بن آدم:
الراء مكسورة مثل أبي عمرو (1).
قال أبو علي: من قال: [الر فلم يمل فتحة الرّاء، فلأن الكثير (2) من العرب لا يميل ما يجوز فيه الإمالة عند غيرهم.
وحسّن ترك الإمالة هنا، أنّ معه حرفا يمنع الإمالة كما يمنعها المستعلي. فأما من أمال فقال: رايا. فلأنها أسماء لما يلفظ به من الأصوات المتقطعة في مخارج الحروف، كما أن غاق اسم للصوت الذي يصوّته الغراب، وكما أن طيخ اسم للصوت الذي يفعله الضاحك، فجازت الإمالة فيها من حيث كانت أسماء، ولم تكن كالحروف التي تمتنع فيها الإمالة نحو:
ما، ولا، وما أشبههما من الحروف.
فإن قلت: فهلّا امتنعت الإمالة في را، لشبه الراء بالمستعلي في منعها الإمالة؟ فالقول: إنه لم تمتنع الإمالة فيها لما أريد من تبيين أنه اسم، كما أنه (3) لم تمتنع الإمالة من (4)
خاف وطاب وصار مع المستعلي، لما أريد من طلب الكسرة في خفت وطبت وصرت، وكذلك جازت الإمالة في را * لما قصد بها من إعلام أنه اسم ليس بحرف. فإن قلت: فإن الأسماء لا تكون على حرفين أحدهما حرف لين، وإنما تكون على هذه الصفة الحروف نحو: ما ولا.
__________
(1) السبعة: 322.
(2) في (ط): كثيرا.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): في.(4/244)
فالقول: إن هذه الأسماء لم يمتنع أن تكون على حرفين أحدهما حرف لين، لأن التنوين لا يلحقها، فيؤمن لامتناع التنوين من اللحاق لها، أن تبقى على حرف واحد، وإذا أمن ذلك، لم يمتنع أن يكون الاسم على حرفين، أحدهما حرف لين، ألا ترى أنهم قالوا: هذه شاة، فجاء على حرفين، أحدهما حرف لين، لمّا أمن لحاق التنوين له، لاتصال علامة التأنيث به، وكذلك قولك: رأيت رجلا ذا مال، لاتصال المضاف إليه به، وكذلك قولهم: كسرت فازيد، ومثل شاة في كونها على حرفين: أحدهما حرف لين، لما دخلت عليه علامة التأنيث (1) قولهم في الباءة: باه كأنه أراد الباءة، فأبدل من الهمزة الألف، كما أبدل (2) في قوله (3):
لا هناك المرتع فاجمعت ألفان، فحذف إحداهما (4) لالتقاء الساكنين، فبقي الاسم على حرفين: أحدهما حرف لين، أنشدنا محمد بن السريّ عن أبي محمد اليزيدي:
فيا شرّ ملك ملك قيس بن عاصم * على أنّ قيسا لم يطأ باه محرم ومثل باه في القياس ما رواه محمد بن السري عن أحمد ابن يحيى عن سلمة قال: سمعت الفرّاء يحكي عن الكسائي أنه
__________
(1) في (م) في قولهم.
(2) في (ط): أبدلها.
(3) سبق انظر 1/ 398و 2/ 218.
(4) في (ط): أحدهما.(4/245)
سمع [من يقول] (1): اسقني شربة ما يا هذا، يريد: شربة ماء، فقصر، وأخرجه على لفظ من التي للاستفهام، هذا إذا مضى، فإذا (2) وقف قال: شربة ما.
والقول (3) فيه: كالقول في باه إلا أن باها (4) أحسن من ما، لتكثّرها (5) بعلامة التأنيث، وليس هذا كذلك، ووجهه أنه جعل الهمزة التي قلبت على غير القياس في حكم المخففة على القياس، وحذف إحدى الألفين لالتقاء الساكنين، فلحق التنوين الباقية، وحذفت كما حذفت من نحو: رحا وعصا.
وقد قيل في قولهم: م الله، إنه (6) محذوف من: أيمن الله (7)، وليس هذا بالكثير، ولا مما ينبغي أن يقاس عليه.
ومن ذلك: اللا في معنى: اللائي، هو على حرفين:
أحدهما حرف لين، لأن التنوين لا يلحقه، من (8) حيث لم يلحق ذا، لا من حيث كانت فيه الألف واللام، وينشد البغداديون في ذلك (9):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): وإذا.
(3) في (ط): القول.
(4) رسمت في (م): باة، وفي (ط): باه.
(5) في (ط): لتكثيرها.
(6) سقطت من (م).
(7) سقطت من (ط).
(8) في (م): فمن.
(9) ذكره ابن الشجري في أماليه 2/ 309، ولم ينسبه. والمصنف في إيضاح الشعر 463وقوله: البغداديون، يريد به الكوفيين.(4/246)
فدومي على العهد الّذي كان بيننا ... أم أنت من اللّا ما لهنّ عهود
ومن ذلك قولهم: أيش تقول؟ حكاه أبو الحسن والفرّاء.
والقول فيه: أنّه كان أي (1) شيء؟، فخففت الهمزة، وألقيت كسرتها على الياء، وكثر الكلام بها، فكرهت حركة الياء بالكسرة، كما كرهت في قاضين، وغازين ونحوه، فأسكنت والتقت مع التنوين، وكل واحد منهما ساكن، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فإذا وقفت عليها قلت: أيش فأسكنت.
ومن قال: برجلي، فأبدل من التنوين الياء، قال: أيشي.
فهذه الأسماء ما لم يلحق بها التنوين، لم يمتنع أن تكون على حرفين، أحدهما حرف لين، وإنّما لم يلحقها التنوين، ولم تعرب كما لم تعرب، ولم ينوّن ما كان منها زائدا على حرفين نحو: لام الف عين جيم، فكما أنّ هذه الحروف على الوقف، ولا تنوّن، كذلك ما كان منها نحو: را، يا، تا، ثا.
كما أن أسماء العدد كذلك، فإن أخبر عن شيء منها (2) فتمكّن لذلك، وأعرب (3)، ولحقه التنوين زيد على ما كان على حرفين أحدهما حرف لين، حرف مثل ما هو فيه، حتى يصير بالمزيد على ثلاثة أحرف، ومدّ إن كان الآخر الياء (4)، فقيل:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): منه.
(3) في (ط): فأعرب.
(4) في (ط): ألفا.(4/247)
باء، وياء (1)، وراء، كما تقول: ثلاثة أكثر من اثنين، فعلى هذا مجرى هذه الحروف.
فإن قلت: فهل يستدلّ (2) بجواز الإمالة في را، ويا، ونحوهما على أن الألف منقلبة عن الياء، كما تقول في ذا: إن الألف فيه منقلبة عن الياء.
فالقول: إن الاستدلال بجواز الإمالة في را ونحوها، أن الألف فيه منقلبة عن الياء: لا يصح (3)، لأنّه إنما أميل عندهم لما قدمنا من ذكره (4)، فليس بمنزلة قولهم: ذا، لأنّ را ونحوها أسماء للأصوات، والأصوات لا تشتق كما لا تشتق الحروف، فأما قولهم: ذا، فليس من الأصوات ولكنه من الأسماء المظهرة، ألا ترى أنه قد وصف، ووصف به، وحقّر في نحو:
مررت بذا الرجل، وبزيد ذا. وحقّروه فقالوا: ذيّا، من حيث كان اسما على الوصف الذي ذكرنا (5)، فصار بمنزلة سائر المظهرة، وساغ الاستدلال على حروفها، كما ساغ في غيره من الأسماء، فلذلك قال أبو الحسن: إن قولهم ذا من مضاعف الياء، وذلك أن سيبويه حكى فيه الإمالة، فإذا جازت فيه الإمالة (6) حمل على انقلاب الألف فيه عن الياء في الأمر
__________
(1) في (ط): وتاء.
(2) في (م) تستدل.
(3) في (م): لا تصح.
(4) قراءة (ط): لما قدم ذكره.
(5) في (ط): ذكر.
(6) سقطت من (ط).(4/248)
الأكثر، فإذا ثبت أن ألفه ياء، لم يجز أن تكون اللام واوا، لأنه ليس مثل حيوت (1)، وإذا لم يجز أن يكون واوا ثبت (2) أنه ياء، وأنه من باب حييت، وعييت.
فإن قلت: إنه قال فيه: إذا سمّى به رجلا: ذاء (3)، كما تقول في لا: لاء، وفي لو: لوّ، ولو كان كما ذكرت (4)، لوجب أن يكون: ذيا، كما قالوا: حيا وحييان، أو ذيّ، قيل:
الذي قاله عن الخليل ويونس إذا سمّي به رجل (5): ذاء، قياس، وذلك أن هذا الاسم قد ضارع با ويا وتا، ألا ترى أنه غير معرب، كما أن هذه الأسماء التي أريدت بها الأصوات غير معربة، فلمّا ساوتها في البناء جعلها (6) بمنزلتها إذا أعربها.
وممّا يدلّك على مشابهتها لها أن الألف ليست في موضع حركة، فيلزمها الانقلاب، كما أنها في را * ونحوها ليست في موضع حركة، فإذا كان كذلك كانت الألف في ذا بمنزلتها في هذه الأسماء التي هي نحو را، با، تا، والأول الذي قدمناه، وقلنا: إنه من باب حييت وعييت، قد قاله أبو الحسن.
ومن حيث قال الخليل في ذا: إنك إذا سميت به قلت:
ذاء، قال في ذو، من قولهم: هذا رجل ذو مال، إذا سميت به
__________
(1) في (ط): عيوت.
(2) في (م): «وثبت» وليس ذلك بمستقيم.
(3) في (م): «ذا» وليس بالوجه.
(4) في (ط): على ما ذكرت.
(5) قراءة (م): إذا سمي به رجلا.
(6) في (ط): جعلتها.(4/249)
رجلا، قلت: ذو، وقياس قول يونس عندي في ذو إذا سمّي (1) به رجل أن يكون بمنزلة قول الخليل، إلّا أنه حكى ذو عن الخليل، ولم يحكه عن يونس.
ولم نعلمهم نوّنوا من هذه الكلم شيئا، كما نوّنوا غاق، وكما نوّنوا صه، لأنهم ليس ينوّنون جميع هذه الأصوات، وإن كانوا قد نوّنوا بعضها، ألا ترى أنّا لا نعلمهم نوّنوا «طخ» الذي يحكى به الضحك، ولا «قبّ» الذي يحكي به وقع السيف، وإن كانوا قد نوّنوا «غاق» وغيره من الأصوات، وكذلك هذه الحروف التي هي: را، يا، تا.
ولا يقاس هذا، وإنّما يحكى منه ما سمع، فلا ينوّن ما لم ينوّن، كما لا يترك تنوين ما نوّن، وإنّما كان كذلك، لأن ما لم ينوّن جعل بمنزلة العلم معرفة، وليس يضعون هذه الأسماء التي للأعلام، وجارية مجراها على كل شيء، ألا ترى أنهم قالوا للبحر: خضارة (2)؟ ولم نعلمهم خصّوا البرّ باسم على هذا النحو، وقالوا: غدوة، فجعلوه بمنزلة طلحة، ولم يفعلوا ذلك في الطّهر، وقالوا: لقيته فينة، فجعلوه كالعلم، ولم يفعلوا ذلك ببرهة، وقالوا للغراب: ابن دأية، ولم يفعلوا ذلك بالرخم.
وقالوا في ضرب من الحيات: ابن قترة، ولم يفعلوا ذلك في كل (3) الأحناش، وكذلك هذا الباب.
__________
(1) في (ط): سمى به رجلا.
(2) في التاج (خضر): لخضرة مائه.
(3) في (ط): بكل.(4/250)
ومن ثمّ عاب الأصمعيّ على ذي الرمّة قوله (1):
وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم وزعم (2) أن المسموع فيه التنوين، وكأنّ ذا الرّمّة أجرى ذلك مجرى غاق وغاق وصه وصه، فأجراه مجرى بعض ما يشبهه من غير أن يكون سمع فيه ما قاله.
يونس: 2
اختلفوا في إثبات الألف وإسقاطها من قوله جلّ وعزّ:
لسحر مبين [يونس / 2].
فقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي: {لساحر مبين}
بألف، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر لسحر * بغير ألف (3).
قال أبو علي: يدلّ على قول من قال: سحر * قوله:
{فلما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون}
[الزخرف / 30]. ويدلّ على ساحر قوله تعالى (4): {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} [ص / 4]. والقول في الوجهين
__________
(1) صدر بيت عجزه:
وما بال تكليم الدّيار البلاقع يريد وقفنا على هذا الطلل فقلنا: إيه، أي: حدثنا عن أم سالم، وما كلامنا إياها وليس بها أحد يجيبنا! انظر ديوانه 2/ 778والخزانة 3/ 3119، شرح المفصل 4/ 7131، 9/ 15630.
(2) في (ط): ومن زعم.
(3) السبعة 322.
(4) سقطت من (ط).(4/251)
جميعا (1) قد تقدم (2) ومن قال: {ساحر} أراد الرجل (3)، ومن قال: سحر * أراد: الذي أوحي سحر، أي: الذي تقولون أنتم فيه: إنه أوحي: سحر، وليس كما تقولون: إنه وحي.
يونس: 5
اختلفوا في الياء والنون من قوله جلّ وعزّ (4): {يفصل الآيات} [يونس / 5].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص:
{يفصل الآيات} بالياء.
وروى محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير بالنون.
حدّثني مضر بن محمد عن البزّيّ بإسناده عن ابن كثير بالنون.
وحدّثني الحسن بن مخلد عن البزّيّ بالياء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي: نفصل * بالنون (5).
قال أبو علي: من قال: {يفصل} فلأنّه قد تقدم ذكر الله تعالى (6)، فأضمر الاسم في الفعل. ومن قال: نفصل بالنون فهذا المعنى يريد، ويقوّيه: {تلك آيات الله نتلوها}
[البقرة / 252، آل عمران / 108، الجاثية / 6] وقد تقدم
__________
(1) في (ط): أنه قد.
(2) زادت (ط): بعد قوله تقدم: «قوله (أن أوحينا إلى رجل منهم)». ولا وجه لهذه الزيادة.
(3) في (ط): أراد به الرجل.
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة 323.
(6) سقطت من (م).(4/252)
{أوحينا} فيكون نفصل * محمولا على {أوحينا} (1) إلا أن الياء أولى، لأنّ الاسم الذي يعود إليه أقرب إليه من {أوحينا} (2).
يونس: 11
اختلفوا في فتح القاف وضمّها من قوله جل وعزّ (3):
{لقضي إليهم أجلهم} [يونس / 11].
فقرأ ابن عامر وحده: لقضى إليهم بفتح القاف، أجلهم * نصبا.
وقرأ الباقون: {لقضي إليهم} بضمّ القاف، {أجلهم}
رفعا (4) (5).
قال أبو علي: اللام في قوله سبحانه: {لقضي} جواب لو * من (6) قوله: {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي} [يونس / 11]، فالمعنى والله أعلم: ولو يعجّل الله للناس دعاء الشرّ، أي ما يدعون به من الشرّ على أنفسهم في حال ضجر وبطر استعجالهم إياه (7) بدعاء الخير، فأضيف المصدر إلى المفعول (8)، وحذف الفاعل [كقوله
__________
(1) في (ط): محمولا عليه، إلا
(2) أخر الفارسي الكلام عن قوله ({هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا}) [يونس / 5] إلى ما بعد الكلام في اختلافهم على ({لقضي إليهم أجلهم}).
(3) جل وعز سقطت من (ط).
(4) في (ط): بضم اللام.
(5) السبعة 324.
(6) في (ط): في.
(7) في (ط): استعجاله إياهم.
(8) في (ط): المفعول به.(4/253)
{من دعاء الخير} [فصلت / 49] في حذف ضمير الفاعل] (1) والتقدير:
ولو يعجّل الله للناس الشرّ استعجالا مثل استعجالهم بالخير، لقضي إليهم أجلهم.
قال أبو عبيدة: {لقضي إليهم أجلهم}: لفرغ من أجلهم، وأنشد لأبي ذؤيب (2):
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السّوابغ تبّع (3)
ومثل ما أنشده (4) أبو عبيدة من قوله: قضاهما داود، قول الآخر (5):
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتّق
__________
(1) ما بين معقوفين سقط من (م).
(2) في الديوان: وعليهما ماذيّتان والمسرودتان: درعان تعاورهما بالطعن، والسرد: الخرز في الأديم وقضاهما: فرغ من عملهما، والصّنع: الحاذق بالعمل ويريد به هنا (تبّع)، انظر شرح السكري 1/ 39.
(3) مجاز القرآن 1/ 275.
(4) في (ط): أنشد.
(5) البيت للشمّاخ من قصيدة يرثي بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ورد في ديوانه: 449 «بوائج» بدل بوائق. قال الأصمعي (الصحاح):
انباجت عليهم بوائج منكرة: إذا انفتقت عليهم دواه. وانظر الأغاني 8/ 98. ونسبه في البيان والتبيين إلى مزرد أخي الشماخ 3/ 364 وكذا في الإصابة 6/ 85وذكر الأبيات المرزوقي في شرح الحماسة 3/ 1090والتبريزي في شرح الحماسة 3/ 65وورد هذا البيت في الاشتقاق 1/ 199مفردا. وفي اللسان مادة / كمم /.(4/254)
فالتقدير (1) في قوله: {لقضي إليهم أجلهم} أي: لفرغ من أجلهم ومدّتهم المضروبة للحياة، وإذا انتهت مدّتهم المضروبة للحياة، هلكوا. وهذا قريب من قوله تعالى (2):
ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا [الإسراء / 11].
وقالوا للميّت: مقضّ، كأنّه قضى (3) إذا مات، وقضّى: فعّل، التقدير فيه: استوفى أجله، وفرغ منه قال ذو الرّمّة (4):
إذا الشخص فيها هزّه الآل أغمضت ... عليه كإغماض المقضّي هجولها
المعنى (5): أغمضت هجول هذه البلاد على الشخص الذي فيها، فلم ير لغرقه في الآل، كإغماض المقضّي، وهو الميّت، لعينه (6)، وهذا في المعنى كقوله (7):
ترى قورها يغرقن في الآل مرّة ... وآونة يخرجن من غامر ضحل
__________
(1) في (ط): فالمعنى.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): تقضّى.
(4) ديوانه 2/ 926. والهجول: ما اطمأن من الأرض.
(5) في (ط): أي.
(6) في (ط): بعينه.
(7) البيت الذي الرّمة أيضا، والقور: الجبال الصغار، والواحدة: قارة وآونة:
الواحدة: اوان، أي: ومرّات يخرجن من غامر ضحل، يريد: السراب يغمر وهو صحل قليل ليس بشيء. انظر ديوانه 1/ 148.
ضحل(4/255)
فأما قوله سبحانه (1): {لقضي إليهم أجلهم} [يونس / 11] وما يتعلّق به هذا الجارّ، فإنه لمّا كان معنى قضى: فرغ، وكان قولهم: فرغ، قد يتعدّى بهذا الحرف في قوله (2):
ألان فقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين صرت لهم عذابا
وفي التنزيل: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} [الرحمن / 31] أمكن (3) أن يكون الفعل يتعدى (4) باللام كما تعدى بإلى، كما أن أوحى في قوله: {وأوحينا إليه} [يوسف / 15] قد تعدى بإلى (5)، واللام في قوله: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة / 5]، فلمّا كان معنى قضي فرغ، وفرغ تعلّق بها إلى، كذلك تعلّق بقضى (6).
ووجه قراءة ابن عامر: لقضى إليهم أجلهم على إسناد الفعل إلى الفاعل فلأن الذكر قد تقدم في قوله {ولو يعجل
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) نسبه اللسان إلى جرير مادة / أين / وفيه: «وقد نزعت» بدل «فرغت» ولم نعثر عليه في ديوانه بطبعتيه وقوله: ألان، أصلها الآن، سهلت همزتها للوزن الشعري.
(3) في (ط): فإنه يمكن.
(4) في (ط): تعدى.
(5) في (م): بالياء وهو سهو قلم من الناسخ.
(6) عبارة (م): «فلما كان معنى قضى فرغ تعلق بها كذلك تعلق بقضى» وما في (ط) أسد.
} {الله للناس الشر} [يونس / 10]. فقال: لقضى * على هذا، ومن حجّته في ذلك قوله سبحانه (1): {ثم قضى أجلا، وأجل مسمى عنده} [الأنعام / 2]، فهذا الأجل الذي في هذه الآية هو الأجل المضروب للمحيا، كما أن الأجل في قوله: لقضى إليهم أجلهم كذلك (2).(4/256)
__________
(6) عبارة (م): «فلما كان معنى قضى فرغ تعلق بها كذلك تعلق بقضى» وما في (ط) أسد.
{الله للناس الشر} [يونس / 10]. فقال: لقضى * على هذا، ومن حجّته في ذلك قوله سبحانه (1): {ثم قضى أجلا، وأجل مسمى عنده} [الأنعام / 2]، فهذا الأجل الذي في هذه الآية هو الأجل المضروب للمحيا، كما أن الأجل في قوله: لقضى إليهم أجلهم كذلك (2).
فكما أسند الفعل بالأجل (3) المضروب للحياة إلى الفاعل في قوله: {ثم قضى أجلا} عند الجميع كذلك أسنده ابن عامر في قوله: لقضى إليهم أجلهم إلى الفاعل، ولم يسنده إلى الفعل المبنيّ للمفعول، ويدلّ على أنّ الأجل في قوله {ثم قضى أجلا} أجل المحيا، وأن قوله (4): {وأجل مسمى عنده} أجل البعث، يبين ذلك قوله: {ثم أنتم تمترون}
[الأنعام / 2]، أي: أنتم أيها المشركون تشكّون في البعث، فلا تصدّقون به، وقوله: {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده}
[الأنعام / 2] في المعنى كقوله: {فأحياكم ثم يميتكم}
[الحج / 66].
ومن قرأ {لقضي} فبنى الفعل للمفعول به (5)، فلأنّه في المعنى كقول (6) من بنى الفعل للفاعل.
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): لذلك.
(3) في (ط): في الأجل.
(4) في (ط): أن قوله.
(5) سقطت من (م): «به».
(6) في (ط): مثل قول.(4/257)
يونس: 5
قال: وقرأ ابن كثير وحده (1): ضئاء والقمر نورا [يونس / 5] بهمزتين في كلّ القرآن، الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قرأت على قنبل، وهو غلط.
وقرأ الباقون بهمزة واحدة في كلّ القرآن.
وكان أصحاب البزّي، وابن فليح ينكرون هذا، ويقرءون مثل قراءة الناس {ضياء}.
وأخبرني الخزاعيّ عن عبد الوهاب بن فليح عن أصحابه عن ابن كثير: {ضياء} بهمزة بعد الألف في كلّ القرآن، ولا يعرفون الأخرى (2).
قال أبو علي: الضياء لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون جمع ضوء، كسوط، وسياط وحوض، وحياض، أو مصدر ضاء يضوء ضياء، كقولك: عاذ عياذا، وقام قياما وعاد عيادة (3) وعلى أيّ الوجهين حملته، فالمضاف محذوف.
المعنى: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور.
أو يكون: جعلا (4) النور والضياء لكثرة ذلك منهما.
فأمّا الهمزة في موضع العين من ضياء، فيكون على القلب، كأنه قدّم اللام التي هي همزة إلى موضع العين،
__________
(1) سقطت من (م): «وحده».
(2) السبعة ص 323.
(3) في (ط): عاذ عياذة، بالذال المعجمة وهو تصحيف.
(4) أي جعل الشمس والقمر. فالنور: المفعول الثاني.(4/258)
وأخّرت (1) العين التي هي واو إلى موضع اللام، فلما وقعت طرفا بعد ألف زائدة، انقلبت همزة، كما انقلبت في: شقاء وغلاء. وهذا إذا قدّرته جمعا كان أسوغ، ألا ترى أنهم قالوا:
قوس وقسيّ، فصحّحوا الواحد، وقلبوا في الجميع.
وإذا قدّرته مصدرا كان أبعد، لأن المصدر يجري على فعله في الصحّة والاعتلال، والقلب ضرب من الاعتلال، فإذا لم يكن في الفعل لم ينبغ أن يكون في المصدر أيضا، ألا ترى أنّهم قالوا (2): لاوذ لواذا، وبايع بياعا، فصحّحوهما في المصدر لصحتهما في الفعل، وقالوا: قام قياما فأعلّوه ونحوه لاعتلاله في الفعل.
يونس: 16
اختلفوا في فتح الراء وكسرها من قوله جل وعز (3):
{ولا أدراكم به} [يونس / 16].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص ونافع {ولا أدراكم به} بفتح الراء، والألف.
وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر (4)
وحمزة والكسائي: ولا أدريكم به بكسر الراء وبألف (5).
قال أبو علي قوله (6): {ولا أدراكم به} حكى سيبويه:
__________
(1) في (ط): وأخر.
(2) في (ط): قد قالوا.
(3) في (ط): تعالى.
(4) زيادة من (ط).
(5) في (ط): وبالألف. وفي السبعة ص 324بكسر الراء فقط.
(6) سقطت من (م).(4/259)
دريته، ودريت به، قال: والأكثر في الاستعمال بالباء، ويبيّن ما قاله من ذلك قوله سبحانه (1): {ولا أدراكم به}، ولو جاء (2)
على اللغة الأخرى لكان: ولا أدراكموه، وقالوا: الدّرية، فجاء على فعلة، كما قالوا: الشّعرة، والدّرية، والفطنة، وهي مصادر يراد بها ضروب من العلم.
وجاء هذا البناء في غير هذا النحو كقولهم: الردّة قال:
قليل ردّتي إلا أمامي (3)
فأمّا الدراية فكالهداية والدّلالة، وكأن الدراية التأنّي والتعمّل لعلم الشيء، وعلى هذا المعنى ما تصرّف (4)، ومن هذه الكلمة أنشد أبو زيد:
فإنّ غزالك الذي كنت تدّري ... إذا شئت ليث خادر بين أشبل (5)
قال أبو زيد: تدّري: تختل (6)، ومنه الدّريّة في قول أكثر الناس في الحجل الذي يستتر به الصائد من الوحش، كأنه يختل به، فيأتي الوحش من حيث لا تعلم.
وقالوا: داريت الرجل: إذا لا ينته وختلته.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): ولو كان.
(3) في (ط): إني قليل ردتي، ولم نعثر على قائل البيت ولا تتمته.
(4) في (م): «تصرف» بإسقاط ما.
(5) البيت لمطير بن الأشيم الأسدي جاهلي.
(6) النوادر 182 (ط. الفاتح).(4/260)
وإذا كان هذا الحرف على هذا، فالداري في وصف القديم لا يسوغ، فأما قول الراجز (1):
لا همّ لا أدري وأنت الداري فلا يكون حجة في جواز ذلك لأمرين: أحدهما: أنه لما تقدم لا أدري، استجاز أن يذكر الداري بعد ما (2) تقدم لا أدري، كما جاء: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه}
[البقرة / 194] ونحو ذلك، ولو لم يتقدم ذكر الاعتداء، لم يحسن في الابتداء الأمر بالاعتداء، وكذلك {إن تسخروا منا، فإنا نسخر منكم} [هود / 38]، وقوله سبحانه (3): {إنما نحن مستهزئون، الله يستهزىء بهم} [البقرة / 14].
والأمر الآخر: أن العرب (4) ربّما ذكروا أشياء لا مساغ لجوازها كقوله (5):
لا همّ إن كنت الذي بعهدي ... ولم تغيّرك الأمور بعدي
وقول الآخر (6):
لو خافك الله عليه حرّمه
__________
(1) وهو العجاج، وقد سبق انظر 1/ 260.
(2) في (ط): بعده لتقدم.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): الأعراب.
(5) سبق انظر 1/ 261.
(6) لسالم بن دارة، سبق 1/ 261.(4/261)
فأمّا الهمز (1) في {أدراكم} على ما يروى عن الحسن، فلا وجه له لأن الدّرء الدفع، على ما جاء في قوله سبحانه (2):
{فادرؤوا عن أنفسكم الموت} [آل عمران / 168]، وقوله:
{فادارأتم فيها} [البقرة / 72]، وما
روي من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ادرءوا الحدود بالشّبهات (3)».
وقولهم لما طعن (4) من الجبل فاندفع عن سائر الصفيحة: درء ودروء (5)، وقال:
وترمي دروء دونه بالأجادل (6)
فأما ما حكي من الهمز في الدّريئة للجمل الذي يختل به الوحش، فمن همز جعله من صفة يليق وصفه بها، وقال (7):
إنه يدفع به نحو الوحش، ولا يستقيم هذا المعنى في الآية.
__________
(1) في (م): الهمزة.
(2) سقطت من (ط).
(3) قال العجلوني في الكشف 1/ 71: رواه الحارثي في مسند أبي حنيفة عن ابن عباس مرفوعا، قال شيخنا يعني الحافظ ابن حجر: وفي سنده من لا يعرف. وقال أيضا في تخريج أحاديث مسند الفردوس: اشتهر على الألسنة والمعروف في كتب الحديث أنه من قول عمر بن الخطاب بغير لفظه. انتهى. وأخرجه الترمذي في الحدود رقم 1424عن عائشة بلفظ:
ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم إلى آخر الحديث. وفي سنده يزيد بن زياد الدمشقي ضعيف.
(4) في (ط): ظعن. وفي اللسان (طعن) عن الأزهري: طعن غصن من أغصان هذه الشجرة في دار فلان: إذا مال فيها شاخصا
(5) في اللسان (درء): الدرء: نادر يندر من الجبل وجمعه دروء.
(6) لم نعثر على قائله. والأجادل: الصقور مفرده أجدل.
(7) في (ط): وذاك.(4/262)
فأمّا إمالة الفتحة من الراء في {أدراكم به} وإمالة الألف عنها، فلأن الألف تنقلب إلى الياء في أدريته، وهما مدريان، وأمّا من لم يمل فلأنّ هذه الألفات كثير من العرب لا يميلونها، وهو الأصل، وعليه ناس كثير من العرب الفصحاء.
يونس: 18
اختلفوا في الياء والتاء من قوله سبحانه (1): {عما يشركون} [يونس / 18] في خمسة مواضع:
فقرأ ابن كثير ونافع هاهنا بالياء، وحرفين في النحل [الآية / 31] وحرفا في سورة (2) الروم، [الآية / 40]، وحرفا في النمل بالتاء، خير أما تشركون [59].
وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر خمسة (3) الأحرف بالياء، كذا في كتابي عن أحمد بن يوسف التغلبيّ عن ابن ذكوان عن ابن عامر: خمسة (3) الأحرف بالياء، ورأيت في كتاب موسى بن موسى عن ابن ذكوان بإسناده في سورة النمل بالتاء، وكذلك حدثني أحمد بن محمد بن بكر عن هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر: خمسة (3) الأحرف بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي: خمسة الأحرف بالتاء.
ولم يختلفوا في غير هذه الخمسة (6).
قال أبو علي: من قرأ في يونس: وتعالى عما تشركون
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): الخمسة الأحرف، وكذلك هي في السبعة. وكلاهما صواب.
(6) السبعة ص 324. وفيه اختلاف يسير عما هنا، ونقص قوله: وقرأ حمزة والكسائي خمسة الأحرف بالتاء.(4/263)
بالتاء، فلقوله: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما تشركون.
ومن قرأ بالياء احتمل وجهين:
أحدهما على: قل، كأنه قيل له (1): قل أنت: سبحانه وتعالى عما يشركون.
والوجه الآخر: على أنه (2) يكون هو سبحانه نزّه نفسه عما افتروه فقال: {سبحانه وتعالى عما يشركون}.
ومن قرأ في النّحل: سبحانه وتعالى عما تشركون [الآية / 1]، فعلى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أمر بأن يخاطبهم بذلك كأنّه:
قل لهم: تعالى عمّا تشركون.
ومن قرأ هذا بالياء، فعلى أنه نزّه نفسه فقال: {سبحانه وتعالى عما يشركون}، وفي النمل: من قرأ آلله خير أم ما تشركون [59] فهو على (3): قل لهم: آلله خير أم ما تشركون؟ فهذا بالتاء لأنهم مخاطبون. ومن قرأ بالياء لم يصرف الخطاب إليهم، فقيل: آلله خير أم ما يشركون على وجه التبكيت والتقريع لهم، كما قالوا. السعادة أحبّ إليك أم الشقاء!؟ وعلى هذا النحو يحمل هذا الضرب.
يونس: 22
اختلفوا في قوله [عزّ وجلّ] (4): {هو الذي يسيركم في
__________
(1) سقطت من (ط): «له».
(2) في (ط): أن
(3) في (ط): فعلى.
(4) سقطت من (ط).
} {البر والبحر} [يونس / 22]، فقرأ ابن عامر وحده: هو الذي ينشركم بالنون والشين، من النّشر.(4/264)
__________
(4) سقطت من (ط).
{البر والبحر} [يونس / 22]، فقرأ ابن عامر وحده: هو الذي ينشركم بالنون والشين، من النّشر.
وقرأ الباقون: {يسيركم} بضم الياء وفتح السين من السّير (1).
قال أبو علي: قالوا: سار الدابّة، وسرته. قال (2):
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها وقالوا أيضا: سيّرته قال لبيد (3)
لسيّان (4) حرب أو تبوءوا (5) بخزية ... وقد يقبل الضّيم الذّليل المسيّر
فهذا يدل على قراءة من قرأ: {يسيركم}. ويقوي هذا الوجه قوله سبحانه وتعالى: {فامشوا في مناكبها} [الملك / 15]، و {انتشروا في الأرض} [الجمعة / 10] {قل سيروا في الأرض}
[الأنعام / 11النمل / 69العنكبوت / 20الروم / 42].
(1) السبعة 325.
(2) صدر بيت لخالد بن زهير الهذلي يرد على أبي ذؤيب، وعجزه:
فأوّل راضي سنّة من يسيرها انظر شرح أبيات المغني 7/ 134والخصائص 2/ 212وشرح ديوان الهذليين للسكري 1/ 213والبحر المحيط 5/ 138.
(3) شرح ديوانه (ط. الكويت) ص 226.
(4) في الديوان: لشتّان.
(5) في (ط): تبوء.(4/265)
وحجة ابن عامر: أنّ ينشركم في المعنى مثل قوله:
{وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} [النساء / 1]، {ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة} [الشورى / 29]، فالبثّ تفريق ونشر في المعنى.
يونس: 23
قال: كلّهم قرأ: إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا [يونس / 23] رفعا إلّا ما رواه حفص (1) عن عاصم فإنّه روى عنه {متاع الحياة الدنيا} نصبا، حدّثني عبيد الله بن علي عن [نصر بن علي] (2) عن أبيه عن هارون عن ابن كثير {متاع}
نصبا (3).
قال أبو علي: قوله {على أنفسكم} يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون متعلّقا بالمصدر لأن فعله متعدّ (4) بهذا الحرف، يدلّك على ذلك قوله سبحانه (5): {بغى بعضنا على بعض} [ص / 22] و {ثم بغي عليه لينصرنه الله}
[الحج / 60]، فإذا جعلت الجارّ من صلة المصدر كان الخبر:
متاع الحياة الدنيا *، والمعنى: بغي بعضكم على بعض متاع الحياة (6) الدنيا، وليس مما يقرّب إلى الله، وإنما تأتونه لحبّكم العاجلة، وإيثارها على ما يقرّب إلى الله من الطاعات.
__________
(1) في حاشية (ط): عبارة: بلغت المقابلة.
(2) سقطت من (م).
(3) السبعة 335.
(4) في (م): يتعدى بإلى بهذا. وما في (ط): أسدّ.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): متاع في الدنيا.(4/266)
ويجوز أن تجعل على * متعلقا بمحذوف، ولا تجعله من صلة المصدر فإذا جعلته كذلك كان خبرا للمصدر، وفيه ذكر يعود إلى المصدر، كما أنك إذا قلت: الصلاة في المسجد، كان كذلك، والمعنى: أن المصدر مضاف إلى الفاعل، ومفعول المصدر محذوف، المعنى: إنّما بغي بعضكم على بعض عائد على أنفسكم، ف «على» هذا متعلّق بمحذوف دون المصدر المبتدأ، وهذا في المعنى كقوله: {ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله} [فاطر / 43]، {من نكث فإنما ينكث على نفسه}
[الفتح / 10]، وفي قوله سبحانه (1) {ثم بغي عليه لينصرنه الله}
[الحج / 60] إبانة عن هذا المعنى، ألا ترى أن المبغيّ عليه إذا نصره الله لم ينفذ فيه بغي الباغي عليه ولا كيده، فإذا لم ينفذ ذلك فيه صار كالعائد على الباغي.
فإذا (2) رفعت متاع الحياة الدنيا * على هذا التأويل، كان خبر مبتدأ محذوف، كأنك قلت:
ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا.
ومن نصب {متاع الحياة الدنيا} احتمل النصب فيه وجهين: أحدهما: أن تجعل على * من صلة المصدر، فيكون الناصب للمتاع هو المصدر الذي هو البغي، ويكون خبر المبتدأ محذوفا، وحسن حذفه لطول الكلام، ولأن بغيكم * يدلّ على تبغون، فيحسن الحذف لذلك، وهذا الخبر المقدّر، لو أظهرته
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): وإذا(4/267)
لكان يكون مذموم أو مكروه أو منهيّ عنه، أو نحو (1) ذلك.
والآخر: أن تجعل على * من قوله: {على أنفسكم} خبر المبتدأ، فإذا جعلته على هذا احتمل نصب متاع وجهين:
أحدهما: تمتّعون متاعا، فيدلّ انتصاب المصدر عليه.
والآخر: أن تضمر تبغون، وما يجري (2) مجرى ذكره قد تقدم، كأنه لو أظهره، لكان: تبغون متاع الحياة الدنيا، فيكون مفعولا له. ومثل هذا قوله تعالى (3): {إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} [الشعراء / 72] تقديره: مقتكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، ألا ترى أن قوله: {إذ تدعون} لا يجوز أن يتعلّق بالمصدر للفصل بين الصلة والموصول، فكذلك لا يجوز أن أن يتعلّق المنصوب بالمصدر في قوله: {إنما بغيكم على أنفسكم متاع} وقد جعلت على * خبرا لقوله: {إنما بغيكم على أنفسكم}
لفصلك بين الصّلة والموصول.
يونس: 27
اختلفوا في فتح الطاء وإسكانها من قوله [جل وعز] (4):
{قطعا من الليل} [يونس / 27].
فقرأ ابن كثير والكسائيّ: قطعا ساكنة الطاء، وقرأ الباقون: {قطعا} مفتوحة الطاء (5).
__________
(1) في (ط): ونحو.
(2) في (ط): لأن ما يجري.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة 325.(4/268)
قال (1) أبو عبيدة: {قطعا من الليل مظلما} جماعة قطعة (2) من الليل، وهو بعض الليل، وأتيته بقطع: أي بساعة من الليل، وقطع وأقطاع (3).
قال أبو علي: القطع: الجزء من الليل الذي فيه ظلمة يدلّ على ذلك قوله تعالى (4): {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} [الصافات / 138]، فقوله: {وبالليل} خلاف الإصباح الذي هو الوضح، فقوله (5): {وبالليل} يراد به الظلمة، والمعنيان في اللفظتين يتقاربان، وإن اختلفا، وذلك أن المراد وصف وجوههم بالسواد، كقوله سبحانه (6): {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} [الزمر / 60]. وقيل في قوله: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} [الرحمن / 41]: إنه سواد الوجوه، وزرقة الأعين في قوله: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقا} [طه / 102]، فإذا أغشيت وجوههم قطعا من اللّيل اسودّت وجوههم منه، كما أنها إذا أغشيت قطعا التي هي جمع قطعة اسودّت منها.
فأما قوله سبحانه (7): {مظلما} إذا أجريته على قطع
__________
(1) سقطت من (م): «قال».
(2) في (م): قطع.
(3) مجاز القرآن 1/ 278.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): ويقال.
(6) في (ط): كقوله تعالى.
(7) سقطت من (ط).(4/269)
فيحتمل نصبه وجهين: أحدهما: أن يكون صفة للقطع، وهو أحسن، لأنه على قياس قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك}
[الأنعام / 15592] وصف الكتاب بالمفرد بعد ما وصف بالجملة (1)، وأجري على النّكرة. ويجوز أن تجعله حالا من الذّكر الذي في الظّرف في قوله: {من الليل}، ولكن يكون {مظلما} صفة للقطع، ولا يكون حالا من الذكر الذي في الظرف.
ومن قرأ: {قطعا} لم يكن {مظلما} صفة للقطع، ولا حالا من الذكر الذي في قوله: {من الليل}، ولكن يكون حالا من الليل، والعامل في الحال ما يتعلق به {من الليل} وهو الفعل المختزل.
ومثل ذلك في إرادة الوصف بالسواد قوله (2):
ألا طرقت ليلى بنيّان بعد ما ... طلى الليل بيدا، فاستوت، وإكاما
أي: اسودّت لظلمة الليل، وقال الآخر (3):
__________
(1) قراءة (ط): وصفت الكتاب بالمفرد بعد ما وصفته بالجملة وأجريته.
(2) أنشده أبو علي في إيضاح الشعر ص 413وقال: أي: غشيته الظلمة، فصار البيد والإكام سواء في مرآة العين، وورد عنده برواية «طوى» بدل «طلى».
وورد في معجم البلدان (نيان) برواية: «كسا» قال: ونيان: جبل في بلاد قيس.
(3) البيت لذي الرمّة في ديوانه 2/ 685، والدويّة: المستوي من الأرض، منسوبة إلى الدوّ، والدوّ: الفلاة الواسعة اعتسفتها: قطعتها على غير(4/270)
ودوّيّة مثل السّماء اعتسفتها ... وقد صبغ الليل الحصى بسواد
أي: سوّدتها الظلمة.
يونس: 30
اختلفوا في التاء والباء من قوله [جلّ وعزّ] (1): {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} [يونس / 30].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
تبلو بالباء.
وقرأ حمزة والكسائي: تتلو بالتاء (2).
قال أبو علي: أمّا من قال: {تبلو} فمعناه: تختبر من قوله سبحانه (3): {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف / 168] أي: اختبرناهم، ومنه قولهم: البلاء ثم الثناء. أي: الاختبار للمثني عليه، ينبغي أن يكون قبل الثناء، ليكون الثناء عن علم بما يوجبه. ومعنى اختبارها ما أسلفت: أنّه إن قدّم خيرا أو شرا جوزي عليه، كما قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة / 87]، وقوله (4): {من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها} [فصلت / 46] ونحوها من الآية التي تدلّ على هذا المعنى.
ومن قال: تتلو فإنّه يكون من التلاوة التي هي القراءة،
__________
طريق. وانظر الإيضاح الشعري 414وشذور الذهب 123.
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 325.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).(4/271)
ودليله قوله: {أولئك يقرؤون كتابهم} [الإسراء / 71]، وقوله:
{إقرأ كتابك} [الإسراء / 14]، وقوله: {ورسلنا لديهم يكتبون}
[الزخرف / 80]، وقوله: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [الكهف / 49]، فإنّما يتلون ذكر ما كانوا قدّموه من صالح أعمالهم وسيّئها مما أحصاه الله ونسوه، فيكون: تتلو: تتبع. من قولهم: تلا بعد الفريضة: إذا أتبعها النفل.
قال (1):
على ظهر عاديّ كأنّ أرومه ... رجال يتلوّن الصّلاة قيام
فيكون المعنى في (2): تتلو كل نفس: تتبع كلّ نفس ما أسلفت من حسنة وسيّئة، فمن أحسن جوزي بالحسنات، ومن أساء جوزي به، فيكون على هذا في المعنى كمن قرأ:
{تبلو} بالباء.
يونس: 33
اختلفوا في قوله سبحانه (3): [حقت كلمة ربك [يونس / 33] في الجمع والتوحيد.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
__________
(1) البيت للبعيث. الأروم بفتح الهمزة: أصل الشجرة والقرن. وبضمها جمع إرم، وهي حجارة تنصب علما في المفازة. وتلّى فلان صلاته المكتوبة بالتطوع، أي: أتبعها.
انظر تهذيب اللغة للأزهري 14/ 252، 318واللسان (تلا).
(2) سقطت من (م).
(3) سقطت من (ط).(4/272)
{حقت كلمة ربك} واحدة وفي آخر السورة [96] كذلك.
وقرأ نافع وابن عامر: الحرفين كلمات * جماعة (1).
قال أبو علي: من قرأ: {كلمة ربك} على الإفراد احتمل وجهين: يجوز أن يكون جعل ما أوعد به الفاسقون كلمة، وإن كانت في الحقيقة كلما، لأنّهم قد يسمّون القصيدة والخطبة كلمة، وكذلك سمّي ما توعّد به الفاسقون من نحو قوله سبحانه (2): {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم} [الحج / 22] كلمة، كما أنّ قوله:
وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف / 137] يعني به (3): {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} إلى قوله: {يحذرون} [القصص / 5] كلمة.
ويجوز أن يكون كلمة ربك التي يراد به (4) الجنس، وقد أوقعت على بعض الجنس، كما أوقع الجنس على بعضه في قوله سبحانه (5): {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل}
[الصافات / 138]، وقول (6) بعض الهذليين (7):
__________
(1) السبعة 326.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): «يعنى به» بالبناء للمفعول.
(4) في (ط): بها.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): وقال.
(7) عجز بيت لجنوب أخت عمرو ذي الكلب من قصيدة ترثي بها أخاها عمرا وقبله:(4/273)
ببطن شريان يعوي عنده الذيب فأما من جمع فقال: كلمات ربك على الذين فسقوا فإنه جعل الكلم التي توعّدوا بها كلّ كلمة منها (1) كلمة، ثم جمع فقال: كلمات، وكلاهما وجه. فأما قوله سبحانه (2) {وكلمة الله هي العليا} [التوبة / 40]، فيجوز أن يعنى بها نحو قوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة / 21]، كما فسّر قوله:
{وألزمهم كلمة التقوى} [الفتح / 26] أنه: لا إله إلا الله، أخبرنا يوسف بن يعقوب بإسناد ذكره عن مجاهد [بهذا التأويل] (3).
يونس: 35
اختلفوا في قوله سبحانه (4): {أم من لا يهدي}
[يونس / 35].
فقرأ ابن كثير وابن عامر: يهدي * مفتوحة الياء والهاء، مشدّدة الدال.
وقرأ نافع وأبو عمرو: يهدي * بإسكان الهاء وتشديد الدال، غير أن أبا عمرو كان يشمّ الهاء شيئا من الفتح،
__________
أبلغ هذيلا وأبلغ من يبلّغها ... عنّي حديثا وبعض القول تكذيب
بأنّ ذا الكلب عمرا خيرهم حسبا ... ببطن شريان يعوي حوله الذيب
انظر شرح أشعار الهذليين 2/ 580والعيني 1/ 395الهمع 1/ 71الدرر 1/ 146شرح الأشموني للألفية 1/ 129.
(1) في (ط): كل واحدة منهما.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقط من (م): ما بين المعقوفين.
(4) سقطت من (ط).(4/274)
وروى ورش عن نافع: يهدي * بفتح الهاء مثل ابن كثير.
وقرأ حمزة والكسائي: يهدي * ساكنة الهاء خفيفة الدال.
وقرأ عاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم: يهدي * مكسورة الياء والهاء، مشدّدة الدال.
وروى حفص عن عاصم والكسائي عن أبي بكر عنه، وحسين عن أبي بكر عنه (1): يهدي * بفتح الياء وكسر الهاء (2).
قال أبو علي: من قرأ: لا يهدي * فقد نسبهم إلى غاية الذهاب عن الحقّ والزّيغ عنه في معادلتهم الآلهة بالقديم سبحانه، ألا ترى أن المعنى: أفمن يهدي غيره إلى طريق التوحيد والحقّ أحقّ أن يتّبع، أم من لا يهتدي هو، إلّا أن يهدى؟ والمعنى: أفمن يهدي غيره، فحذف المفعول الثابت في نحو قوله: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} [البقرة / 213].
فإن قلت: إن هذه التي اتخذوها لا تهتدي، وإن هديت، لأنّها موات من حجارة وأوثان ونحو ذلك.
قيل: إنّه كذلك، ولكنّ الكلام نزّل على أنّها إن هديت اهتدت، وإن لم تكن في الحقيقة كذلك، لأنهم لما اتخذوها آلهة عبّر عنها كما يعبّر عن الذي تجب له العبادة، ألا ترى أنه من قال: {ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) السبعة 326.
} {يستطيعون} [النحل / 73]، وكما قال: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} [الأعراف / 194].(4/275)
__________
(2) السبعة 326.
{يستطيعون} [النحل / 73]، وكما قال: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} [الأعراف / 194].
وإنّما هي موات، ألا ترى أنّه قال: {فادعوهم فليستجيبوا لكم} {ألهم أرجل يمشون بها} [الأعراف / 195194].
وكذلك قوله: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} [فاطر / 14] فأجري عليها (1) اللفظ بحسب (2) ما أجري على من يعلم فإلا ... على هذا بمنزلة
حتى، كأنه قال (3): أم من لا يهتدي حتّى يهدى، أي (4): أم من لا يعلم حتى يعلّم، ومن لا يستدلّ على شيء حتى يدلّ عليه، وإن كان لو دلّ أو أعلم لم يعلم ولم يستدلّ.
وقراءة حمزة والكسائي: أم من لا يهدي فإن المعنى فيه: أم من لا يهدي غيره، لكن (5) يهدى، أي: لا يعلم شيئا ولا يعرفه، لكن (5) يهدى، أي: لا هداية له، ولو هدي أيضا لم يهتد، إلا أن اللفظ جرى عليه، كما ذكرناه فيما تقدم.
فأمّا يهدّي ويهدّي ويهدي وتهدي، فمعانيها كلها: يفتعل، وإن اختلفت ألفاظها، فالجميع أدغموا التاء في الدال لمقاربتها لها. ألا ترى أن التاء والدال والطاء من حيّز واحد. واختلفوا
(1) في (ط): عليه.
(2) في (ط): على حسب.
(3) زيادة من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): ولكن.(4/276)
في تحريك الهاء، فمن قال: يهدي * ألقى حركة الحرف المدغم وهي الفتحة على الهاء، كما ألقاها على ما قبل المدغم في: معدّ وممدّ، وفي عدّ وفرّ وعضّ، ألا ترى أن الفاءات متحركة بحركة العينات، وكذلك يهدي *، لأنها في كلمة كما أن ممدّ ونحوه في كلمة، فمن (1) قال: {يهدي}
فحرّك الهاء بالكسر، فلأن الكلمة عنده أشبهت (2) المنفصلة، نحو: ضربّ بكر، فإذا أشبهت (3) المنفصلة، بدلالة الإظهار في نحو: اقتتلوا، لم تلق الحركة على ما قبل المدغم، كما أن المنفصل من نحو: قرم مالك (4)، واسم موسى، لا يلقى على الساكن منه حركة المدغم، فلمّا لم يجز إلقاء الحركة على الساكن ترك الهاء (5) على سكونها، فالتقت مع الحرف المدغم وهما ساكنان فحرّك الأول من الساكنين بالكسر لالتقاء الساكنين.
فإن قلت: فقد قالوا: عبشمس، فألقوا حركة المدغم في المنفصل على الأول منهما، وأجري المنفصل مجرى المتصل.
فذلك إنّما جاء في هذا الحرف وحده، ولم يعلم (6)
غيره، وشذّ ذلك، لأن الأعلام قد جاء فيها، وجاز ما لم يجز
__________
(1) في (ط): ومن.
(2) في (ط): تشبه عنده.
(3) في (ط): وإذا أشبه.
(4) في (م): قرم موسى.
(5) في (ط): تركت الهاء.
(6) في (ط): نعلم غيره. وجاء عن هامش (ط): بلغت.(4/277)
في غيرها، ولم يجيء، ألا ترى أن فيها (1) مثل: موهب، ومورق وتهلل وحيوة، فكذلك (2) جاء هذا في عبشمس.
ويدلّك على أن إلقاء الحركة ليس بأصل في هذا الباب تحريكهم الساكن فيه بالضم، وإتباعهم الحرف الساكن (3) ما قبله من الحركة، وذلك ما حكاه عن الخليل وهارون أنّ ناسا من العرب يقولون: مردفين (4) [الأنعام / 9]، ولست تجد هذا في ممدّ ونحوه.
فأمّا من قال: يهدي * بسكون الهاء، فقد قلنا في الجواز في جمع الساكنين في هذا النحو فيما تقدم (5)، ويقوّيه ما أنشده من قوله (6):
ومسحيّ مرّ عقاب كاسر وأمّا من أشمّ في هذا ولم يسكن، فالإشمام في حكم التحريك.
__________
(1) في (ط): فيه.
(2) في (ط): وكذلك.
(3) زادت (م): «حركة» بعد الساكن.
(4) نقله سيبويه وقال: فمن قال هذا فإنه يريد: مرتدفين، وإنما أتبعوا الضمّة الضمّة حيث حركوا، وهي قراءة لأهل مكة، كما قالوا: ردّ يا فتى، فضمّوا لضمّة الراء (الكتاب: 2/ 410) وانظر فهرس شواهد سيبويه 24للأستاذ النفاخ.
(5) انظر الجزء الثاني ص 396.
(6) سبق 2/ 397و 3/ 193.(4/278)
وأمّا من قال: يهدي بكسر الياء، فإنه يفتعل وأتبع الياء ما بعدها من الكسر.
فإن قلت: إنّ الياء التي للمضارعة لا تكسر، ألا ترى أن من قال: تعلم، لم يقل: يعلم.
قيل: لم تكسر الياء في يهدّي من حيث كسرت النون من نعلم والتاء في تعلم (1)، ولا كما كسرت حروف المضارعة فيما لحقت أوله همزة الوصل، ولا ما كان ينبغي أن تلحقه همزة الوصل نحو: تتغافل، ولكن لمعنى آخر، كما لم تكسر الياء في ييجل من حيث كسرت التاء في تعلم، ولو كسرت في ييجل من حيث كسرت النون في نعلم، لم تكسر في ييجل لأن من يقول نعلم: لا يقول: يعلم، ولكن كسرت الياء من (2) ييجل، لتنقلب الواو ياء، فكذلك كسرت في قوله: {يهدي} للإتباع، لا من حيث كسر: أنت تهتدي، وأنت تعلم، كما كسرت في ييجل لتنقلب الواو إلى الياء.
وقد كسروا الياء في ييبا، فقالوا: أنت تيبا وهو ييبا، فحرّكوا (3) بالكسر، والحركة في أنت تيبا، والكسرة فيه من حيث كسر أنت تعلم، وذلك أنّ المضارع لمّا كان على وزن يفعل نزّل الماضي كأنّه على فعل، فقالوا: أنت تيبا، كما قالوا:
__________
(1) في (ط): من حيث كسرت النون والتاء في نعلم وتعلم.
(2) في (ط): في.
(3) في (ط): فحركوا الياء.(4/279)
أنت تعلم وكما (1) قالوا: هما يشأيان بالياء، وهو من الشأو (2)، لمّا كان المضارع على يفعل، نزّل الماضي كأنّه على فعل، وإذا كان على فعل لزم انقلاب الواو التي هي لام إلى الياء، فجاء المضارع بالياء في يشأيان على هذا التنزيل، كما جاء تيبا، على أن الماضي منه على فعل، وكسرت الياء في ييبا كما كسرت الحروف الأخر التي للمضارعة على وجه الشذوذ، وإن (3) لم يكسروا الياء في غير هذا الحرف، ففي هذا بعض الإيناس بقول من قال: يهدي فكسر الياء، وإن كانت جهتا إيجاب الكسر فيهما مختلفتين.
يونس: 51
قال: كلّهم قرأ: {فليفرحوا، هو خير مما يجمعون}
[يونس / 58] بالياء، غير ابن عامر فإنّه قرأ: خير مما تجمعون بالتاء.
ولم يذكر عنه في: {فليفرحوا} شيء، هذه رواية ابن ذكوان وهشام جميعا (4).
وقال غير أحمد بن موسى: قراءة ابن عامر: {فبذلك فليفرحوا} بالياء (5) هو خير مما تجمعون بالتاء.
قال أبو علي: قوله سبحانه (6): {قل بفضل الله وبرحمته}
__________
(1) في (م): كما.
(2) الشأو: السبق، شأوت القوم شأوا: سبقتهم (اللسان).
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة 327، 328وسقط ما بعده منه.
(5) في (م): «فلتفرحوا، بالتاء».
(6) سقطت من (ط).(4/280)
[يونس / 58] الجار فيه متعلق بمضمر (1) استغني عن ذكره، لدلالة ما تقدّم من قوله سبحانه (2): {قد جاءتكم موعظة}
عليه (3) كما أنّ قوله: {آلآن وقد عصيت} [يونس / 91] يتعلّق الظرف فيه بمضمر، يدلّ عليه ما تقدّم ذكره من الفعل، وكذلك قوله: {آلآن وقد كنتم به تستعجلون} [يونس / 51]، فأمّا قوله {فبذلك فليفرحوا} فإن الجارّ في قوله: {فبذلك} يتعلق بقوله: {فليفرحوا} (4) لأنّ هذا الفعل يصل به، قال: {وفرحوا بها} [آل عمران / 120] وقال:
فرحت بما قد كان من سيّديكما (5)
فأما الفاء في قوله: {فليفرحوا} فزيادة يدل على ذلك أن المعنى: ما فرحوا بذلك، ومثل الآية في زيادة الفاء قول الشاعر (6):
وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي فالفاء في فاجزعي، زيادة، كما كانت التي في قوله:
{فليفرحوا} كذلك، ولا تكون إلا وبها الزيادة، لأنّ الظرف إنما
__________
(1) في (ط): يتعلق بضمير.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (م): «عليه».
(4) في (م): «يتعلّق ب (فليفرحوا)».
(5) لم نعثر على قائله أو تتمته.
(6) عجز بيت للنمر بن تولب في الجزء الأول، انظر ص 44.(4/281)
يتعلّق باجزعي، والجار في {فليفرحوا} فيما قبل الفاء [فكذلك يتعلّق بما قبل الفاء] (1).
وقرءوا: {فليفرحوا} لأنّهم جعلوه أمرا للغائب، واللام إنّما تدخل على فعل الغائب، لأنّ المواجه (2) استغني فيه عن اللام بقولهم: افعل، فصار شبيها بالماضي من (3) يدع الذي استغني عنه بترك.
ولو قلت، فلتفرحوا (4) فألحقت التاء لكنت مستعملا لما هو كالمرفوض، وإن كان الأصل، فلا ترجّح القراءة بالتاء، فإنّ (5) ذلك هو الأصل، لما قد ترى كثيرا من الأصول المرفوضة.
فأما قراءة (6) من قرأ من سواهم (7): فلتفرحوا فلأنه اعتبر الخطاب الذي قبل، وهو قوله سبحانه (8): قد جاءتكم موعظة فلتفرحوا [يونس / 5857]، وزعموا أنها في حرف أبيّ: فافرحوا.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط).
(2) في (ط): المواجهة.
(3) في (ط): في.
(4) في (م): فليفرحوا.
(5) في (م): فلا ترجّح القراءة بالتاء إن.
(6) سقطت من (ط).
(7) زيادة من (ط): «من سواهم».
(8) سقطت من (ط).(4/282)
قال أبو الحسن: وزعموا أنها لغة، قال: وهي (1) قليلة، يعني نحو: لتضرب، وأنت تخاطب.
فأما (2) قراءة ابن عامر: هو خير مما تجمعون بالتاء، فعلى أنّه عنى المخاطبين، والغيب جميعا، إلا أنّك غلّبت المخاطب على الغيبة، كما غلّبت التذكير على التأنيث، فكأنه أراد به المؤمنين وغيرهم.
ومن قرأ بالياء كان المعنى: فافرحوا بذلك أيّها المؤمنون، أي: افرحوا بفضل الله ورحمته، فإن ما آتاكموه من الموعظة، وشفاء ما في الصدور، وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه، خير مما يجمعه غيركم من أعراض الدنيا، ممّن فقد هذه الخلال التي حزتموها.
فإن قلت: فكيف جاء الأمر للمؤمنين بالفرح وقد ذمّ ذلك في غير موضع من التنزيل؟ من ذلك قوله سبحانه (3): {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} [القصص / 76] وقال: {إنه لفرح فخور} [هود / 10]، قيل: إن عامّة ما جاء مقترنا بالذمّ من هذه اللفظة إذا جاءت مطلقة، فإذا قيّدت لم يكن ذمّا، كقوله سبحانه (4): {يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران / 170]، وقد قيّدت في الآية بقوله {فبذلك}.
__________
(1) في (م): أنها لغة قليلة.
(2) في (ط): وأما.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).(4/283)
فإن قلت: فقد جاء قوله تعالى (1): {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله} [التوبة / 81] وهو مقيّد، وهو مع التقييد موضع ذمّ. فإن التقييد لا يمتنع أن يجيء في الذمّ، لأنّه يبيّنه كما يبيّن ما كان غير ذمّ، فأما الذي (2) يختصّ بالذمّ فهو أن يجيء على الإطلاق.
فأما قوله سبحانه (3): {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} [غافر / 83]، وقوله سبحانه (4): {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} [الروم / 4]، فالفرح بنصر الله المؤمنين محمود كما كان القعود عن رسول الله [صلّى الله عليه وآله وسلّم مذموم] (5)، فالتقييد في الموضعين (6) تبيين وتخصيص.
يونس: 61
اختلفوا في فتح الراء وضمّها من قوله جلّ وعزّ (7): {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} [يونس / 61].
فقرأ حمزة وحده: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر * بضمّ الراء فيهما، وقرأ الباقون (8): ولا أصغر، ولا أكبر بفتح الراء فيهما (9).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): المعنى، وهو سهو من الناسخ.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(6) سقطت «في الموضعين» من (م).
(7) سقطت من (ط).
(8) فصّل في السبعة «الباقون» فقال: فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والكسائي.
(9) السبعة 328.(4/284)
قال أبو علي: من فتح الراء في: {ولا أصغر}، {ولا أكبر}
[من أكبر وأصغر] (1) فلأنّ أفعل في الموضعين، في موضع جرّ لأنّه صفة للمجرور الذي هو قوله: {من مثقال ذرة}
[يونس / 61]، وإنّما فتح لأنّ أفعل إذا اتصل به منك كان صفة، وإذا كان صفة لم ينصرف في النكرة.
ومن رفع فقال: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر * حمله على موضع الموصوف، وذلك (2) أن الموصوف الذي هو {من مثقال ذرة} الجار والمجرور فيه في موضع رفع، كما كانا في موضعه في قوله: {كفى بالله شهيدا} [الفتح / 28] وقوله (3):
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت (4)
فحمل الصفة على الموضع، وممّا يجوز أن يكون محمولا على الموضع قوله: {ما لكم من إله غيره}
[الأعراف / 59]. يجوز أن يكون صفة بمنزلة مثل، ويجوز أن يكون استثناء كما تقول: ما لكم من إله إلا الله.
وممّا جاء من الحمل على الموضع قوله سبحانه (5):
__________
(1) من هامش (م): وليست في (ط).
(2) في (ط): وذاك.
(3) في (ط): وفي قوله.
(4) البيت لقيس بن زهير وتمامه:
بما لاقت لبون بني زياد وقد سبق في 1/ 93، 325و 2/ 99وانظر إيضاح الشعر ص 233، للمصنف.
(5) سقطت من (ط).(4/285)
{فأصدق وأكن من الصالحين} [المنافقون / 10]، وقوله:
{ويذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأعراف / 186].
وقال (1):
فلسنا بالجبال ولا الحديدا وقد يجوز أن يعطف قوله: ولا أصغر من ذلك * على ذرة * فيكون التقدير: ما (2) يعزب عن ربّك مثقال ذرة ولا مثقال أصغر، فإذا حمل على هذا لم يجز فيه إلا الجرّ، لأنه لا موضع للذّرّة غير لفظها، كما كان لقوله: {من مثقال ذرة}
موضع غير لفظه، ولا يجوز على قراءة حمزة أن يكون معطوفا على ذرة *، كما جاز في قول الباقين، لأنّه إذا عطف على ذرة * وجب أن يكون أصغر * مجرورا، وإنما فتح لأنّه لا ينصرف، وكذلك يكون على قول من عطفه على الجار الذي هو من *.
يونس: 71
قال: وروى نصر بن علي عن الأصمعيّ قال: سمعت نافعا يقرأ: فاجمعوا أمركم [71]، مفتوحة الميم من
__________
(1) عجز بيت لعقيبة الأسدي أو لعبد الله بن الزبير وصدره:
معاوي إننا بشر فأسجح انظر سيبويه 1/ 44837535234الخزانة 1/ 343، 2/ 143شرح المفصل 2/ 109، 4/ 9، السمط 149148شرح أبيات المغني 7/ 53.
(2) في (ط): وما يعزب، بزيادة الواو.(4/286)
جمع (1). وروى غير الأصمعي عن نافع مثل سائر (2) القرّاء.
وكلّهم قرأ: {فأجمعوا أمركم} بالهمز وكسر الميم من:
أجمعت (3).
قال أبو علي: ما رواه الأصمعي عن نافع من قراءته:
فاجمعوا أمركم من جمعت، فالأكثر (4) في الأمر أن يقال:
أجمعت، كما قال: {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم}
[يوسف / 102]. وقال (5):
هل أغدون يوما وأمري مجمع (6)
وقال (7):
أجمعوا أمرهم بليل فلمّا ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
فيمكن أن يكون أراد: فاجمعوا ذوي الأمر منكم. أي:
رؤساءكم ووجوهكم، كما قال سبحانه (8): {وإلى أولي الأمر منهم} [النساء / 83]، فحذف المضاف، وجرى على المضاف
__________
(1) في السبعة: أجمع. وهو سهو.
(2) سقطت من (م).
(3) السبعة 328.
(4) في (ط): والأكثر.
(5) في (ط): وكما قال:
(6) سبق انظر 3/ 320.
(7) البيت للحارث بن حلّزة من معلقته وقد ورد فيها برواية: عشاء، بدل بليل انظر شرح المعلقات السبع للزوزني / 158والمنصف 3/ 27.
(8) سقطت من (ط).(4/287)
إليه، ما كان يجري على (1) المضاف، لو ثبت، ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي كانوا (2)
يكيدونه به، فيكون بمنزلة قوله: {فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا}
[طه / 64]، على أنّ أبا الحسن زعم أنّ وصل الألف في فاجمعوا أمركم وشركاءكم، أكثر في كلام العرب، قال: وإنما يقطعونها إذا قالوا: أجمعوا على كذا وكذا، قال: والقراءة بالقطع عربيّة. ومن قرأ (3): اجمعوا، من: جمعت، حمل الشركاء على هذا الفعل الظاهر، لأنّك جمعت الشركاء، وجمعت القوم، وعلى هذا جاء: {ذلك يوم مجموع له الناس}
[هود / 103].
ومن قال: {فأجمعوا أمركم} على أفعل، أضمر للشركاء فعلا آخر كأنّه: فأجمعوا أمركم، واجمعوا شركاءكم، فدلّ المنصوب على الناصب، كقول الشاعر (4):
علفتها تبنا وماء باردا ... حتّى شتت همّالة عيناها
وكقول الآخر (5):
شرّاب ألبان وتمر وأقط
__________
(1) سقطت من (ط): على.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): قال.
(4) سبق انظر 1/ 312.
(5) في (ط): وقال الآخر. وقد سبق انظر 1/ 312.(4/288)
وكقوله (1):
متقلّدا سيفا ورمحا لمّا لم يجز أن يحمل الرمح على التقليد، أضمر له فعلا كما أضمر لنصب الشركاء لمّا لم يجز الحمل على: أجمعوا.
وزعموا أنّ في حرف أبيّ: وادعوا شركاءكم فحمل الكلام على الذي يراد به الانتصار، كقوله: {وادعوا من استطعتم من دون الله} [هود / 13] {وادعوا شهداءكم من دون الله} [البقرة / 23].
ويجوز أن يكون انتصاب الشركاء على أنه مفعول معه، أي: أجمعوا أمركم مع شركائكم، كقولهم: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطّيالسة. ويدلّك على جوازه أن الشركاء فاعله في المعنى، كما أن الطيالسة كذلك، ومن ثمّ قرأ الحسن فيما زعموا فاجمعوا أمركم وشركاؤكم.
وزعم أبو الحسن أن قوما يقيسون هذا الباب، ويجعلونه مستمرّا، وأن قوما يقصرونه على ما سمع، والقول الأوّل عندي أقيس.
يونس: 81
اختلفوا في مدّ الألف وترك المدّ من قوله سبحانه (2):
{السحر} [81].
__________
(1) في (ط): وقوله، وقد سبق أنظر 1/ 311.
(2) في (ط): عز وجل.(4/289)
فقرأ أبو عمرو وحده: آلسحر ممدودة الألف.
وكلّهم قرأها بغير مدّ، على لفظ الخبر (1).
قال أبو علي: قول أبي عمرو: ما جئتم به آلسحر، ما *: ترتفع فيه بالابتداء، و {جئتم به} في موضع الخبر، والكلام استفهام يدلك على ذلك استقلال الكلام بقوله: {جئتم به}، ولو كانت موصولة احتاجت إلى جزء آخر.
فأمّا وجه (2) الاستفهام مع علم موسى أنه سحر، فإنه على وجه التقرير، كما قال: أأنت قلت للناس [المائدة / 11] وهذا كثير، ولا يلتبس بالشرط وإن كان الشرط لا صلة له، لأنه لا جزاء هاهنا (3)، والشرط يلزمه الجزاء، ومن قال: زيدا مررت به، كان ما * في (4) قوله: {ما جئتم به} في موضع نصب بمضمر يفسّره {جئتم به} (5)، وعلى هذا قوله:
{ورهبانية ابتدعوها} [الحديد / 27] فمن (6) قال: آلسحر؟، فألحق حرف الاستفهام، كان السحر بدلا من ما * المبتدأ، ولزم إن يلحق السحر الاستفهام ليساوي المبدل منه، في أنّه استفهام، ألا ترى أنه ليس في قولك: {السحر} استفهام،
__________
(1) السبعة 328.
(2) سقطت من (م): «وجه».
(3) في (ط): هنا.
(4) سقطت من (م): «ما في».
(5) في (م): «ما جئتم به». ومن قوله يفسره اختلف الناسخ في المخطوطة (م): إلى نهاية الجزء الرابع.
(6) في (ط): ومن قال.(4/290)
وعلى هذا قالوا: كم مالك: أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت العشرون بدلا من كم، وألحقت أم، لأنك في قولك: كم درهما مالك؟ مدّع أنّ له مالا كما أنك في قولك: أعشرون أم ثلاثون، مالك؟ مدع أنه أحد الشيئين، ولا يلزم أن تضمر للسّحر خبرا على هذا لأنك إذا أبدلت من المبتدأ، صار في موضعه، وصار ما كان خبرا لما أبدلت منه في موضع خبر المبتدأ (1)، فأما قول الشاعر (2):
وكأنه لهق السّراة كأنّه * ما حاجبيه معيّن بسواد (3)
فإنه أبدل الحاجبين من الضمير (4) على حدّ قولك:
ضربت زيدا رأسه، فإن قلت: أبدل من الأول، وقدّر الخبر عن الأول، لأن المبدل منه قد لا يكون في نيّة الإسقاط (5) بدلالة إجازتهم: الذي مررت به زيد أبو عبد الله، ولو كان البدل في تقدير الإسقاط، وما لا يعتد به، لم يجز هذا الكلام فهو قول،
__________
(1) في (ط): البدل.
(2) في (ط): قوله.
(3) نسبه سيبويه (ط: بولاق) ص 80للأعشى، وليس في ديوانه. ونص البغدادي في الخزانة 2/ 372أنه من الأبيات الخمسين التي لا يعرف لها قائل. وانظر إيضاح الشعر ص 90و 558واللسان (عين) وشرح المفصل 3/ 67والهمع 5/ 348. يصف ثورا وحشيا شبه به بعيره.
لهق: أبيض، والسراة: أعلى الظهر، معين بسواد: مشتق من العينة، مصدر عين. إذا عظم سواد عينه في سعة.
(4) وهو الهاء في كأنه، وما: زائدة.
(5) في (م): إسقاط.(4/291)
وإن قلت: حمل الكلام على المعنى، فلما كان حاجباه بعضه حمل الكلام عليه كأنه قال: كأنّه بعضه معيّن بسواد، فأفرد لذلك فهو قول. وزعموا أن إلحاق الهمز (1) في السحر قراءة مجاهد وأصحابه.
ومن قال: {ما جئتم به السحر} كان ما * في قوله:
{ما جئتم} (2) موصولا، وجئتم به الصلة والهاء المجرورة عائدة على الموصول، وخبر المبتدأ الذي هو الموصول السحر، ومما يقوي هذا الوجه ما زعموا أنه في حرف عبد الله: ما جئتم به سحر (3).
يونس: 89
قال: وقرأ ابن عامر وحده: ولا تتبعان [يونس / 89] ساكنة التاء مخفّفة، مشدّدة النّون، وفي رواية الحلواني عن هشام بن عمّار: بالنون والتشديد، قال: وأحسب ابن ذكوان عنى بروايته خفيفة يعني التاء من تبع، قال: وإن كان كذلك فقد اتّفق هو وهشام في النون، وخالفه هشام في التاء (4)،
__________
(1) في (ط): الهمزة.
(2) زيادة من (م).
(3) الكلام متصل في (ط): بينما ينتهي هنا الجزء الرابع في (م): بقوله:
تم يتلوه إن شاء الله، تعالى وبه العون، في الجزء الخامس:
قال: قرأ ابن عامر وحده: (ولا تتبعانّ) [يونس / 89] مخففة التاء ساكنة مشددة النون، [والحمد لله رب العالمين كثيرا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلّم تسليما، وعلى أصحابه وأتباعه ومحبيه، وعلي بهم وجميع المسلمين وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم].
(4) السعة 329وأكمل بقوله: وقرأ الباقون: ({ولا تتبعان}) بكسر الباء وتشديد التاء والنون.(4/292)
وقال غير أحمد بن موسى: رواية الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر: تتبعان خفيفة التاء والنون.
قال أبو علي: من قرأ: {ولا تتبعان} فالنون فيها النون الشديدة، وهي إذا دخلت على يفعل فتح لدخولها، وبني الفعل معها على الفتح نحو: لتفعلنّ، ويحذف التي تثبت في نحو:
يفعلان، في الرفع مع النون الشديدة، كحذف الضمة في ليفعلن وإنما كسرت الشديدة بعد ألف التثنية في نحو: {ولا تتبعان} لوقوعها بعد ألف التثنية، فأشبهت التي تلحق الألف في رجلان، ويفعلان لمّا كانت زائدة مثلها، وداخلة لمعنى كدخولها، فإن قلت: إن قبلها نونا، وليست التي للتثنية، كذلك فإن النون لما كانت ساكنة وجمعت إلى السكون الخفاء، لم يعتدّ بها فصارت المكسورة كأنها وليت الألف، ومثله في أنّه لم يعتدّ فيه بالحاجز لسكونه قولهم: هو ابن عمّي دنيا (1)، وهو من الدّنوّ، وفتية، وهي من الواو فيما زعم سيبويه، ومنه قولهم في جمع عليّ، وصبيّ: علية وصبية وقالوا: عليان، وقد لا يعتدّون بالحاجز لخفائه، وإن كان متحرّكا، كما أجمعوا فيما زعم سيبويه على ردّها لخفاء الهاء وكما كرهوا كثير منهم: وضع عصاهو قبل، وخذوهو يا قوم، لأن الحرف لمّا كان خفيّا كان كأنّه التقى ساكنان، فإذا جاء ذلك في المتحرك فالساكن أولى.
فأمّا من قرأ: ولا تتبعان بتخفيف النون، فإنّه يمكن أن يكون خفّف الثقيلة للتضعيف، كما حذفوا: ربّ، وإنّ ونحوهما
__________
(1) جاء في اللسان (دنا): وقالوا: هو ابن عمي دنية، ودنيا، منوّن، ودنيا، غير منوّن، ودنيا، مقصور: إذا كان ابن عمه لحّا.(4/293)
من المضاعف، إلا أنه حذف الأول من المثلين، كما أبدلوا الأول من المثلين في نحو قيراط ودينار (1)، ولزم ذلك في هذا الموضع، لأن الحذف لو لحق الثانية للزم التقاء ساكنين على غير ما يستعمل في الأمر العام الشائع. ألا ترى أن اجتماع الساكنين على هذا الحد غير مأخوذ به عند العامّة، وإن شئت كان على لفظ الخبر، والمعنى: الأمر، كقوله: {يتربصن بأنفسهن} [البقرة / 228]، و {لا تضار والدة بولدها}
[البقرة / 233]، أي لا ينبغي ذلك، وإن شئت جعلته حالا من: استقيما، وتقديره: استقيما غير متبعين، ويدلّ على ذلك قول الشاعر (2):
ولا أسقي ولا يسقي شريبي ... ويرويه إذا أوردت مائي
وقول الآخر (3):
__________
(1) إذ أن أصل قيراط: قرّاط، ودينار: دنّار بالتشديد، لأن جمعهما: قراريط ودنانير، فأبدل من أحد حرفي تضعيفه وهو الأول ياء. والقيراط من الوزن معروف، وهو جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشرة في أكثر البلاد.
وأهل الشام يجعلونه جزءا من أربعة وعشرين (اللسان: قرط).
(2) أنشده القالي في أماليه 2/ 263عن الفراء دون أن ينسبه وبرواية: فلا أسقى ولا يسقى، وانظر السمط 2/ 901وبعده في المعاني الكبير 2/ 1265:
يعلّ وبعض ما أسقي نهال ... وأشربه على إبلي الظماء
وشريبه: الذي يشرب معه، والمعنى: لا أسقي حتى يسقي شريبي، كما تقول: لا آكل ولا يأكل أخي، أي: لا آكل حتى يأكل أخي.
(3) لم نعثر على قائله.(4/294)
أصاح الذي لو أنّ ما بي من الهوى ... به لم أرعه لا يعزّي وينظره
وكقول الفرزدق (1):
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلّت
يونس: 90
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله: {آمنت أنه}
[يونس / 90].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: {أنه}
بفتح الألف.
وقرأ حمزة والكسائيّ: آمنت إنه بكسر الألف (2).
قال أبو علي: من قال: آمنت أنّه فلأنّ هذا الفعل يصل بحرف الجر، في نحو {يؤمنون بالغيب} [البقرة / 3]، و {يؤمنون بالجبت} [النساء / 51]، فلما حذف الحرف وصل الفعل إلى أنّ، فصار في موضع نصب أو خفض على الخلاف في ذلك.
ومن قال: آمنت إنه حمله على القول المضمر، كأنه.
آمنت فقلت: إنه. وإضمار القول في هذا النحو كثير، ولإضمار القول من المزية هنا، أن قلت: إنه لا إله إلا الله في المعنى
__________
(1) انظر ديوانه 1/ 139، وهو في المعاني الكبير 2/ 1265، وشرح أبيات المغني الشاهد رقم 761669والإنصاف / 667وابن يعيش في المفصل 2/ 67. ولم يشيموا: لم يغمدوا سيوفهم حتى كثرت القتلى بها.
(2) السبعة 330.(4/295)
إيمان، فإذا قال: {آمنت} فكأنه قد ذكر ذلك.
يونس: 91
اختلفوا في قوله: آلآن وقد عصيت قبل [يونس / 91]، فروى المسيبيّ وقالون عن نافع أنه قرأ:
الآن * مستفهمة: جدّا (1)، وكذلك قال ابن أويس عن نافع بهمزة واحدة، وقال ورش أيضا: إنه كان يقرأ بفتح اللام، ومدّ الهمزة الأولى، ولا يهمز بعد اللام، والباقون يهمزون بعد اللام واللام ساكنة [الآن].
وقال أحمد بن صالح عن قالون بهمزة واحدة بعدها مدّة.
وقال أبو خليد عن نافع: آلآن ليس بعد اللام همزة.
وأصل قول ورش عن نافع، أنه إذا كانت الهمزة قبلها ساكن، ألقى حركة الهمزة على الساكن، وترك الهمز مثل:
الارض، بفتح اللام، والاسماء، بفتح اللام بحركة الهمزة، وآلآن: لا يهمز بعد اللام، ويفتح اللام بحركة الهمزة.
وقال ابن جبير: عن الكسائيّ عن إسماعيل عن نافع، وعن حجاج بن منهال الأعور، عن ابن أبي الزناد عن نافع:
آلان لا يهمز بعد اللام (2).
قال أبو علي (3): إن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أوّلها
__________
(1) كذا الأصل: جدّا. وفي السبعة: بهمزة واحدة.
(2) السبعة 327. وقد أورد الآية رقم 51لها أيضا وهي من السورة نفسها، وهي قوله سبحانه: (آلآن وقد كنتم به تستعجلون). هذا وقد رسمت (آلآن) في الأصل هكذا: (أالان).
(3) وانظر ما سبق في الجزء الأول ص 392وما بعدها.(4/296)
الهمزة، فخفّفت الهمزة فإن في تخفيفها وجهين: أحدهما: أن تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقرّ همزة الوصل فيقال:
الحمر: وقد حكى ذلك سيبويه (1).
وحكى أبو عثمان عن أبي الحسن أن ناسا يقولون:
لحمر. فيحذفون الهمزة التي للوصل، فالذين أثبتوا الوصل أثبتوها لأن التقدير باللام السكون، وإن كانت في اللفظ متحركة، كما كان التقدير فيها السكون في قولهم في التذكّر، إلى إذا تذكر نحو القليل والقوم (2) فكما لم تحذف الهمزة هنا، كذلك لم تحذف في نحو الحمر، ومثل ذلك في أنّ التقدير لما كان بالحركة السكون، قد جرى مجرى الساكن وإن كان متحرّكا في اللفظ قولهم: أردد الرجل، وآلى التحريك في المثلين لمّا كان الثاني فيهما في تقدير السكون، وإنّما تحرّك بحركة لا تلزم، فكذلك الحمر، وأما اللغة الأخرى فمن الدليل عليها ما أنشدنيه أحمد بن موسى عن الكسائيّ (3):
فقد كنت تخفي حبّ سمراء حقبة ... فبح لان منها بالذي أنت بائح
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 163في باب الهمز.
(2) كذا الأصل وفي الفقرة اضطراب ونسخة (م) مفقودة في هذا الجزء (وهو الخامس).
(3) البيت من قصيدة منحولة لعنترة بن شداد وردت في ديوانه ص 297 وروايته فيه:
تعزّيت عن ذكرى سميّة حقبة ... فبح عنك منها بالذي أنت بائح
وذكره ابن جني في الخصائص 3/ 90وابن الشجري 1/ 7كما هنا ولم ينسباه والعيني 1/ 479.(4/297)
فأسكن الحاء لما كانت اللام متحركة، ولو لم يعتدّ بالحركة، كما لم يعتدّ بها في الوجه الأول، فحرّك الحاء بالكسر، كما تحرّك به إذا قال: بح اليوم، لكن لما أسكن كان بمنزلة: بح بسرّك، وبح بأمرك، فنقول على قياس اللغة الأولى: قال لان [البقرة / 71] (1) فتحذف واو الضمير، لأن اللام في تقدير السكون، كما تحذفه في بح (2) اليوم، وعلى قياس اللغة الأخرى: قالوا لان فتثبت واو الضمير، لأن اللام لم تنزّل تنزيل السكون، ألا ترى أنه حذف الهمزة التي تجلب لسكون الحرف الذي تدخل عليه، وتقول على قياس اللغة الأولى: ملآن، إذا أردت: من الآن، فحذفت النون لالتقاء الساكنين، كما حذفته من قول الشاعر (3):
أبلغ أبا دختنوس مألكة ... غير الذي قد يقال ملكذب
وتقول على قياس اللغة الأخرى: من لان، فلا تحذف النون، لأنه لم يلتق ساكنان، كما لم تحرّك الحاء من قوله:
«فبح لان» فعلى هذا مجرى هذا الباب.
__________
(1) (قال لان) بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين، هي قراءة أهل المدينة. انظر تفسير القرطبي 1/ 455والخصائص 3/ 91.
(2) في الأصل: نحو اليوم والصواب بح اليوم كما أثبتنا.
(3) البيت في أمالي ابن الشجري 1/ 97والخصائص 1/ 311واللسان (ألك) قال ابن الشجري: أبو دختنوس: لقيط بن زرارة التميمي ودختنوس: اسم بنته، وكان مجوسيا، قال في اللسان: سماها باسم بنت كسرى. والمألكة: الرسالة. ووردت روايته فيه «عن» بدل «غير».(4/298)
أما ما ذكره من رواية المسيّبي وقالون عن نافع أنه قرأ:
الآن * مستفهمة جدّا، وكذلك قال ابن أبي أويس، عن نافع:
بهمزة واحدة، فقوله: مستفهمة جدّا لا يخلو من أحد أمرين:
إمّا أن يريد أنه كان يمدّ، فإن أراد ذلك كان على لغة من قال:
الحمر، فلمّا ألحق همزة الاستفهام مدّ، ويريد أنه كان يقطع الهمزة، فلا يصلها كما يصل، ولا يقطع إذا لم تكن للاستفهام، فإذا كان كذلك فهو على قول من قال: لحمر، ولا همزة فيه، فتنقلب ألفا مع همزة الاستفهام، ويمدّ، فهو كقوله:
{ألكم الذكر وله الأنثى} [النجم / 20] في أنّه لا يجوز أن يمدّ. ويقوي هذا الوجه ما قاله أحمد، وكذلك قال ابن أبي أويس عن نافع بهمزة واحدة. قال: وقال أحمد بن صالح عن قالون همزة واحدة بعدها مدّة، فهذا قد فسّر، ولا يكون هذا إلا على قول من قال: الحمر {ءالان}.
فأما ما روى ورش عن نافع من قوله: آلآن، إنه كان يقرأ بفتح اللام ومدّ الهمزة الأولى ولا يهمز بعد اللام، فإنّ ذلك على قول من قال: الحمر، كأنه قال: آلآن، فأثبت همزة الوصل مع تحرك اللام، كما أثبتها في قولهم: الحمر، فإذا دخلت همزة الاستفهام قلبت همزة الوصل ألفا، فقلت:
أالان، كما تقول: آلرجل قال ذاك؟ ومن فصل بين الهمزتين إذا التقتا بالألف فقال: أأنت أأنذرتهم لم يفصل هنا بها، لأنّه لا تثبت هنا همزتان، ألا ترى أن الثانية التي للوصل تقلب ألفا؟ فلا يحتاج إذن إلى الألف التي تفصل بين الهمزتين، كما تفصل بينه النونين إذا قلت: اضربنان زيدا، فعلى هذا وجه
قراءة نافع هذه التي حكاها ورش، وعلى هذا أيضا ما حكاه أحمد بن صالح عن قالون بهمزة واحدة بعدها مدة.(4/299)
أالان، كما تقول: آلرجل قال ذاك؟ ومن فصل بين الهمزتين إذا التقتا بالألف فقال: أأنت أأنذرتهم لم يفصل هنا بها، لأنّه لا تثبت هنا همزتان، ألا ترى أن الثانية التي للوصل تقلب ألفا؟ فلا يحتاج إذن إلى الألف التي تفصل بين الهمزتين، كما تفصل بينه النونين إذا قلت: اضربنان زيدا، فعلى هذا وجه
قراءة نافع هذه التي حكاها ورش، وعلى هذا أيضا ما حكاه أحمد بن صالح عن قالون بهمزة واحدة بعدها مدة.
قال: وكلّهم قرأ: ويوم نحشرهم، بالنون غير عاصم، فإن حفصا روى عنه: ويوم يحشرهم * بالياء (1). عند الخمس والأربعين (2) منها.
قال أبو علي: يحتمل قوله: {كأن لم يلبثوا} ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون صفة لليوم، والآخر: أن يكون صفة للمصدر المحذوف، والثالث: أن يكون حالا من الضمير في نحشرهم.
فإذا جعلته صفة لليوم، احتمل ضربين من التأويل:
أحدهما: أن يكون التقدير: كأن لم يلبثوا قبله إلا ساعة، فحذفت الكلمة بدلالة المعنى عليها، ومثل ذلك في حذف هذا النحو منه قوله: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف}
[الطلاق / 2] أي: أمسكوهنّ قبله. وكذلك: {فإن فاؤوا فإن الله} [البقرة / 226] أي قبل انقضاء الأربعة الأشهر، وكذلك قوله: {يتربصن بأنفسهن} [البقرة / 228]، قال أبو الحسن:
يتربّصن بعدّتهم.
__________
(1) السبعة 327.
(2) إذ ورد في الآية 28قوله سبحانه أيضا: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم الآية) وليست مقصودة في القراءة.
وتتمة الآية 45من سورة يونس: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلّا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين).(4/300)
ويجوز أن يكون المعنى: كأن لم يلبثوا قبله، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم حذفت الهاء من الصفة، كقولك: الناس رجلان: رجل أكرمت، ورجل أهنت.
ومثل هذا في حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه قوله:
{ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا، وهو واقع بهم}
[الشورى / 22]، التقدير: وجزاؤه واقع بهم، فحذف المضاف.
وإن جعلته صفة للمصدر كان على هذا التقدير الذي وصفنا، وتمثيله: {كأن لم يلبثوا} قبله، فحذف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم حذف العائد من الصفة، كما تحذفه من الصلة في نحو: {أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان / 41]، وإن جعلته حالا من الضمير المنصوب، لم تحتج إلى حذف شيء في اللفظ لأنّ الذكر من الحال قد عاد إلى ذي الحال، والمعنى: نحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم يلبث إلّا ساعة.
فأمّا يوم نحشرهم فإنه يصلح أن يكون معمولا لأحد شيئين، أحدهما: أن يكون معمول: {يتعارفون}، والآخر: أن يكون معمولا لما دلّ عليه قوله: {كأن لم يلبثوا}، فإذا جعلته معمولا لقوله: {يتعارفون} انتصب يوم * على وجهين: أحدهما:
أن يكون ظرفا معناه: يتعارفون في هذا اليوم، والآخر: أن يكون مفعولا على السعة على:
يا سارق الليلة أهل الدار (1)
__________
(1) سبق 1/ 20و 2/ 279.(4/301)
ومعنى {يتعارفون} يحتمل أمرين. أحدهما: أن يكون المعنى: يتعارفون مدّة إماتتهم التي وقع حشرهم بعدها وحذف المفعول للدّلالة عليه، كما حذف في مواضع كثيرة، وعدّي تفاعل، كما عدّي في قول ذي الرّمة (1):
تحاسنت ... به الوشي قرّات الرّياح وخورها
وأنشد أبو عبيدة (2).
تخاطأت النّبل أحشاءه أو يكون أعمل الفعل الذي دلّ عليه يتعارفون، ألا ترى أنّه قد دلّ على يستعملون ويتعرفون، ومن حذف المفعول قوله: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
__________
(1) جزء من بيت لذي الرمة وتمامه: ومن جردة غفل بساط تحاسنت * بها الوشي قرات الرياح وخورها وقرات الرياح: بواردها. والجردة من الرمل بمعنى الجرداء، وهي التي ليس فيها شجر، وغفل: ليس بها علم، والخور: أراد بها خور الرياح، وهو ما لان منها انظر ديوانه 1/ 232والمعاني الكبير 586، 1192.
(2) صدر بيت لأوفى بن مطر المازني وعجزه: وأخر يومي فلم يعجل مجاز القرآن 2/ 5وهو في السمط ص 465مع آخر قبله وهو: ألا أبلغا خلتي جابرا * بأن خليلك لم يقتل. وانظر شرح أبيات المغني 7/ 41واللسان (خطأ).
} {فأغشيناهم} [يس / 9]، التقدير: فأغشيناهم السدّ، أو مثل السدّ فهم لا يبصرون لما أغشيناهموه من ذلك. وتعرّفوا مدّة اللبث هاهنا، كما تعرّفوها في قوله: {قال قائل منهم كم لبثتم، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}
[الكهف / 19]، وكقوله: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} [المؤمنون / 112]، فتعارفهم مدّة لبثهم كما ذكرت لك في هذه الآي.(4/302)
__________
(2) صدر بيت لأوفى بن مطر المازني وعجزه: وأخر يومي فلم يعجل مجاز القرآن 2/ 5وهو في السمط ص 465مع آخر قبله وهو: ألا أبلغا خلتي جابرا * بأن خليلك لم يقتل. وانظر شرح أبيات المغني 7/ 41واللسان (خطأ).
{فأغشيناهم} [يس / 9]، التقدير: فأغشيناهم السدّ، أو مثل السدّ فهم لا يبصرون لما أغشيناهموه من ذلك. وتعرّفوا مدّة اللبث هاهنا، كما تعرّفوها في قوله: {قال قائل منهم كم لبثتم، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}
[الكهف / 19]، وكقوله: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} [المؤمنون / 112]، فتعارفهم مدّة لبثهم كما ذكرت لك في هذه الآي.
والآخر في التعارف ما جاء من قوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قال قائل إني كان لي قرين}، [الصافات / 5150] {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} [الطور / 2625] وتعرّفهم يكون على أحد هذين الوجهين. فعلى هذا يكون قوله: {ويوم نحشرهم} معمول يتعارفون، والآخر: أن يكون {يوم نحشرهم}
معمول ما دلّ عليه قوله: {كأن لم يلبثوا}، ألا ترى أن المعنى:
تشابه أحوالهم أحوال من لم يلبث، فيعمل في الظرف هذا المعنى، ولا يمنع المعنى من أن يعمل في الظرف، وإن تقدم الظرف عليه، كقولهم: أكلّ يوم لك ثوب، ومثل ذلك في الحمل على المعنى قوله: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} [الفرقان / 22] وقول أبي دواد (1):
قرّبنه ولا تقيلنّ واعلم ... أنّه اليوم إنّما هو ناد
(1) ليس في شعره المجموع ضمن «دراسات في الأدب العربي» لغرانباوم.(4/303)
فإذا حملته على هذا، لم يجز أن يكون صفة للمصدر، لأن الموصوف الذي هو المصدر موضعه بعد الفعل، تقديره:
يوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا، أو لم يلبثوا قبله، والصفة لا يتقدّم عليها ما تعمل فيه، ولا يجوز أيضا أن تجعله صفة لليوم على هذا، لأنّ الصفة لا تعمل في الموصوف، ألا ترى الصفة إيضاح للموصوف وتبيين له، كما أنّ الصلة كذلك، وإذا كان على هذا لم يسغ عمل واحد منهما فيما يوضحه ويبينه، لتنزّله منزلة بعضه، فإن قلت: فإذا قدّرت {كأن لم يلبثوا} تقدير الحال من الضمير هل يجوز أن يكون يوم ... معمولا له؟ فإنّ ذلك لا
يجوز لأنّ العامل في الحال نحشر، ونحشر قد أضيف اليوم إليه، فلا يجوز أن يعمل في المضاف المضاف إليه، ولا ما يتعلق بالمضاف إليه، لأنّ ذلك يوجب تقديمه على المضاف ألا ترى أنّه لم يجز: القتال زيدا حين تأتي.
وإذا جعلت {يتعارفون} العامل في يوم نحشرهم لم يجز أن يكون صفة لليوم على أنّك كأنّك وصفت اليوم بقوله: {كأن لم يلبثوا}، و {يتعارفون}، فوصفت يوم نحشرهم بجملتين، لم يجز أن يكون معمولا لقوله: {يتعارفون} لأنّ الصفة لا تعمل في الموصوف، وجاز وصف اليوم بالجمل، وإن أضيف لأنّ الإضافة ليست بمحضة فلم تعرّفه.
ويدلّ على النون في يوم نحشرهم قوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} [الكهف / 47] وقوله: {فجمعناهم جمعا} [الكهف / 99]، وقال: {ونحشره يوم القيامة أعمى}
[طه / 124].
ويدلّ على الياء قوله: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} [النساء / 87] ويدلّ على مقاربة الياء والنون في ذا النحو قوله: {وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه}
[طه / 127]، فنعلم من هذا أنّ كلّ واحد منهما يجري مجرى الآخر.(4/304)
ويدلّ على النون في يوم نحشرهم قوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} [الكهف / 47] وقوله: {فجمعناهم جمعا} [الكهف / 99]، وقال: {ونحشره يوم القيامة أعمى}
[طه / 124].
ويدلّ على الياء قوله: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} [النساء / 87] ويدلّ على مقاربة الياء والنون في ذا النحو قوله: {وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه}
[طه / 127]، فنعلم من هذا أنّ كلّ واحد منهما يجري مجرى الآخر.
يونس: 103
قال: كلّهم قرأ: {ننجي رسلنا} (1) [103] مشدّدة الجيم غير الكسائي وحفص عن عاصم فإنّهما قرءا: ننجي رسلنا (1)
خفيفة، وقرأ الكسائي وحده في سورة مريم: ثم ننجي الذين اتقوا [72] ساكنة النون.
وقرأ الباقون: {ننجي} بفتح النون الثانية وتشديد الجيم (3).
قال أبو علي: قالوا نجا زيد، قال (4):
نجا سالم والرّوح منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
فإذا عدّيته، فإن شئت قلت: أنجيته، وإن شئت قلت:
نجيّته، كما تقول فرح، وأفرحته وفرّحته.
ومن حجة من قال: ننجي *: {فأنجاه الله من النار}
__________
(1) في الأصل: (ننجي المؤمنين) وهي من سورة الأنبياء، وسيأتي الكلام عنها في موضعه. وكذلك ورد اللفظ عند ابن مجاهد، والظاهر أنه سهو تبعه عليه الفارسي.
(3) السبعة 330.
(4) لحذيفة بن أنس. في شرح أشعار الهذليين 2/ 558واللسان (جفن) وقد سبق انظر 4/ 322.(4/305)
[العنكبوت / 24]، وحجّة من قال: {ننجي} {ونجينا الذين آمنوا} [فصّلت / 18]، وكلاهما حسن، قال الشاعر (1):
ونجّى ابن هند سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرماح دواني
أبو بكر عن عاصم ونجعل الرجس [يونس / 100] بالنون، وروى حفص عن عاصم بالياء، وكذلك الباقون (2).
يونس: 100
حجة من قال: {يجعل} بالياء قوله: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} [الأنعام / 125]، وقد تقدم ذكر اسم الله في قوله: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله}
[يونس / 100]، والنون في هذا النحو مثل الياء، وقد تقدم ذكر ذلك.
فأما قوله: {الرجس} فقال أبو عبيدة: الرّجز: العذاب (3).
قال: والرجز والرجس واحد، والدّلالة على أن الرّجز العذاب.
قوله: {لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك} [الأعراف / 134] وقوله: {فلما كشفنا عنهم الرجز} [الأعراف / 135]، ومنه:
{فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء} [البقرة / 59]، وقال: والرجز فاهجر [المدثر / 5]، وكأن المعنى والله
__________
(1) البيت للنجاشي الحارثي قيس بن عمرو من قصيدة له في الوحشيات ص 114113. برواية: «ابن حرب» بدل «ابن هند» وانظر اللسان (جشش). والفرس الأجش: الغليظ الصهيل.
(2) السبعة ص 330.
(3) مجاز القرآن 1/ 41.(4/306)
أعلم وذا الرجز، أي: الذي يؤدّي عبادته إلى العذاب. قال أبو الحسن (1): وقال بعضهم: {والرجز فاهجر} (2) قال: وذكروا أنه صنم كانوا يعبدونه، قال: وأما الرّجز فهو الرّجس، قال، وقال:
{إنما المشركون نجس} [التوبة / 28]، قال: والنّجس: القذر.
وقال الكسائيّ فيما أخبرنا أبو بكر: الرّجس: النتن:
قال أبو علي: فكأنّ الرّجس على ضربين: أحدهما: أن يكون في معنى الرجس، وهو العذاب، والآخر: أن يعنى به النجس والقذر، ومن ذلك قوله: {أو لحم خنزير فإنه رجس}
[الأنعام / 145] فقوله: {ويجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون}
[الأنعام / 125] يجوز أن يراد به أنهم يعذّبون، كما قال:
{ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} [الفتح / 6]، ويجوز أن يكون المعنى فيه أنه يحكم بأنّهم رجس، كما قال:
{إنما المشركون نجس} [التوبة / 28]، أي: ليسوا من أهل الطهارة، فذمّوا على خروجهم، وإن لم تكن عليهم نجاسة من نحو البول والدم والخمر، والمعنى: أن الطّهارة الثابتة للمسلمين هم خارجون عنها، ومباينون لها، وهذه الطّهارة هي ما ثبت لهم من قوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة / 103].
__________
(1) أبو الحسن هو الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، وكلامه في معاني القرآن 1/ 98عند تفسيره آية البقرة / 59.
(2) قوله: (الرّجز) بضم الراء هي قراءة حفص والمفضل عن عاصم، وقراءة الباقين وأبي بكر بكسر الراء. وستأتي في موضعها.(4/307)
فقوله: {تطهرهم}، لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون المعنى: تطهّرهم أنت أيّها الآخذ بأخذها منهم، أو: الصدقة تطهّرهم، فقوله: {تزكيهم بها} يقوّي الوجه الأوّل، لأن «تزكّي» للآخذ، فكذلك يكون {تطهرهم} له، ويجوز أن يكون منقطعا، أي: وأنت تزكّيهم بها، فهذه طهارة من جهة الحكم، وإن لم تزل شيئا نجسا عن أبدانهم.
وقد ثبت للمسلمين أيضا الطّهارة بقوله: {يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} [التوبة / 108] فأمّا قوله: {طهر بيتي للطائفين} [الحج / 26] فيجوز أن يراد به: أخرج عنه ما يعبد من وثن من دون الله، حتى يطهر، لأنّ الأوثان قد أطلق عليها الرجس في قوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}
[الحج / 30] وقوله: والرجز فاهجر [المدثر / 5].
يونس: 87
حفص عن عاصم يقف تبويا [يونس / 87] بياء من غير همز، ذكر لي ذلك عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي مسلم عن أبيه عن حفص عن عاصم.
قال: وكان حمزة يقف تبوا * (1) غير أنه يليّن الهمزة، يشير إليها بصدره. والباقون يقفون بهمزة بعدها ألف في وزن تبوّعا (2).
قال أبو علي: حدثنا محمد بن السري (3) أن أبا زيد
__________
(1) رسمت في السبعة: (تبوّءا).
(2) السبعة 329.
(3) جاء على حاشية (ط): بلغت.(4/308)
قال: بوّأت فلانا منزلا تبويئا، والاسم البيئة: فقوله {تبوءا} في قوله: {أن تبوءا} (1) فعل يتعدى إلى مفعولين، يدلّ على ذلك قوله: {لنبوئنهم من الجنة غرفا} [العنكبوت / 58]، فأمّا اللام من قوله: {لقومكما} فكالّتي في قوله: {ردف لكم}
[النمل / 72]، والمفعول الأوّل لعلامة الضمير في قوله:
{لنبوئنهم}، ألا ترى أن المطاوع من الأفعال على ضربين:
أحدهما: أن لا يتعدّى نحو: انشوى وانثأى (2)، في مطاوع شويته وثأيته. والآخر: أن يتعدّى كما تعدّى ما هو مطاوع له، وذلك نحو: تعلّقته، وتقطّعته، فتعلّقته يتعدّى كما تعدّى علقته، وليس فيه أن ينقص مفعول المطاوع عمّا كان يتعدّى إليه ما هو مطاوع له. فإذا كان كذلك، كان اللّام على الحدّ الذي ذكرنا، ويقوّي ذلك قوله: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} [الحج / 26]، فدخلت اللام على غير المطاوع كما دخل على المطاوع في قوله: {أن تبوءا لقومكما}.
فأمّا قوله: {مكان البيت} فيحتمل ضربين: أحدهما: أن يكون ظرفا، والآخر: أن يكون مفعولا ثانيا، فأما الظرف فيدلّ عليه قوله (3):
__________
(1) تمام الآية: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشّر المؤمنين).
(2) من الثأي وهو خرم خرز الأديم، وثأيت الخرز إذا خرمته (اللسان ثأي).
(3) وهو ابن هرمة، والأرجح أنه من قصيدته التي مطلعها:
إنّ سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيء ما كان يرزؤها
انظر معجم مقاييس اللغة 1/ 312وشرح أبيات المغني(4/309)
وبوّئت في صميم معشرها ... فصحّ في قومها مبوّئها
فكما أن قوله: «في صميم معشرها» ظرف كذلك يكون {مكان البيت}.
والمفعول الثاني الذي ذكر في قوله: {لنبوئنهم من الجنة غرفا} [العنكبوت / 58]، ولم يذكر في هذه لأنّ الفعل من باب أعطيت، فيجوز أن لا يذكر، ويقتصر على الأول، ويجوز أن يكون مكان البيت مفعولا ثانيا (1)، وكذلك قوله: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق} [يونس / 93]، ويجوز أن يكون مكانا مثل مكان البيت، والمفعول الثاني فيه محذوف، وهو القرية * التي ذكرت في قوله: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها}
[الأعراف / 161]، ويجوز أن يكون مصدرا، أي تبوّؤ (2) صدق، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا من وجهين: أحدهما: أن تجعله اسما غير ظرف كما قال (3):
__________
6/ 202. وورد في اللسان (بوأ) بغير نسبة برواية «وتم في قومها» قال في شرحه: «إنها نزلت من الكرم في صميم النسب».
(1) على هامش (ط): بلغت.
(2) رسمت في الأصل هكذا: «تبوّأ» وآثرنا الرسم الإملائي المناسب للحركة.
(3) استشهد به سيبويه 1/ 207ولم ينسبه بينما نسبه الأعلم إلى الأخطل وليس في ديوانه للسكري وقد ورد في ديوان جرير (ط. الصاوي) ص 486ونسبه البغدادي إلى عتبة بن الوغل في الخزانة 1/ 458نقلا عن الآمدي في المؤتلف ص 115وانظر المقتضب 4/ 350الاشتقاق 336الشعراء / 631.
قال الأعلم: الشاهد فيه رفع المكان الآخر لأنه خبر عن الأول، ولا(4/310)
وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل
والآخر: أن تجعله بعد أن تستعمله ظرفا اسما، كما قال (1):
وسطها قد تفلّقا وفي التنزيل: {هم درجات عند الله} [آل عمران / 163].
ويجوز فيه وجه ثالث: وهو أن يتّسع فيقدّر نصبه، وإن كان مصدرا، تقدير انتصاب المفعول به، فأما قوله (2):
لها حكمها حتّى إذا ما تبوّأت ... بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا
فعلى حذف أحد المفعولين، أي: تبوّأت مرعاها مأوى، وتبوّأ الراعي بقعة مضجعا، وكذلك قوله: {وبوأكم في الأرض}
[الأعراف / 74] بوّأكم في الأرض منازل أو بلادا.
وأما قوله: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق}
[يونس / 93]، فالمبوّأ يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن
__________
يكون ظرفا، لأنه أراد تشبيه مكانه من وائل بمكان القراد من است الجمل في الدناءة والخسة.
(1) جزء بيت للفرزدق سبق بتمامه في 1/ 25239.
(2) البيت لعبيد بن الحصين الراعي النميري، وقد سمّي الراعي لأنه قال هذا البيت يصف فيه الإبل.
انظر الخصائص 2/ 178وفيه: «لها ما لها» بدل «لها حكمها» و «مرعى» بدل «مأوى». الاشتقاق 295، الجمهرة 2/ 347وفيها: «لها أمرها».(4/311)
بكون مكانا، والمفعول الثاني على هذا محذوف كما حذف من قوله: {وبوأكم في الأرض}، ويجوز أن ينصب المبوّأ على الاتساع، وإن كان مصدرا نصب المفعول به، ألا ترى أنه أجاز ذلك في قوله: أما الضّرب فأنت ضارب، وأما البيوت من قوله:
{بمصر بيوتا} فمفعول به، وليست البيوت بظرف لاختصاصها (1)
فالبيوت كالغرف من قوله: {لنبوئنهم من الجنة غرفا}
[العنكبوت / 58].
فأما قوله: {نتبوأ من الجنة حيث نشاء} [الزمر / 74]، فيجوز في قياس قول أبي الحسن أن يكون قوله: {من الجنة}
كقولك: نتبوّأ الجنّة. فأمّا قوله: {حيث نشاء} فيحتمل أن يكون ظرفا، فإذا جعلته ظرفا كان المفعول الثاني محذوفا، كأنه: نتبوّأ الجنّة منازلها حيث نشاء، ويجوز أن يكون: {حيث نشاء} في موضع نصب، بأنه المفعول الثاني، يدلّ على ذلك قول الشمّاخ:
وحلّأها عن ذي الأراكة عامر ... أخو الخضر يرمي حيث تكوى النّواحز (2)
__________
(1) في الأصل لاختصاها وهو سهو من الناسخ.
(2) حلّأها: منعها من الماء أي: الحمر عامر أخو الخضر: قانص مشهور كان من أرمى الناس ذو الأراكة: نخل بموضع من اليمامة لبني عجل، والنواحز: التي بها نحاز، وهو داء يأخذ الإبل والدواب في رئاتها فتسعل سعالا شديدا، قال ابن قتيبة في شرح البيت (المعاني الكبير 2/ 783).
والنواحز: التي بها نحاز فتكوى في جنوبها وأصول أعناقها. وانظر ديوانه / 182. وفي الأصل: «تكون» بدل «تكوى» وهو سهو من الناسخ.
وقد ورد في طرة النسخة (ط): هنا كلمة: بلغت.(4/312)
فأمّا قولك: بوّأت فلانا منزلا، وتعدّيه إلى مفعولين، فكأنه مفعول من قولك: باء فلان منزله، أي: لزمه، وإن كنّا لا نروي ذلك. ولكن يدلّ على ذلك قولهم: المباءة، وقالوا:
الإبل في المباءة، وهي المراح الذي تبيت فيه، فالمباءة اسم المكان، وإذا كان اسم المكان مفعلا، أو مفعلة، فالفعل منه قد يكون: فعل يفعل، فكأنّه: باء المنزل، وبوّأته أنا المنزل.
فأمّا وقف عاصم في قوله: تبويا، وقلبه الهمزة ياء في الوقف، وإن كان من بوّأت فلأنّ الهمزة قد تبدل منها في الوقف حروف اللين، ألا ترى أنهم قالوا: هو الكلو (1)، في الوقف، وقالوا: من الكلي، وإنما فعل ذلك بالهمزة عند الوقف لأنّها تخفى فيه كما تخفى الألف، فأبدل منها حرف اللين، كما أبدل من الألف في قولهم: أفعو وأفعي، لأن هذين الحرفين أظهر من الألف والهمزة وأبين للسمع. فإن قلت: فإنّما يفعل ذلك بالهمزة إذا كان آخر الكلمة، وليست الهمزة آخرا في تبويا قيل: يجوز أن يكون لم يعتدّ بالألف لما كانت للتثنية، والتثنية غير لازمة للكلمة، فلمّا لم تلزم لم يعتدّ بها، فصار الوقف كأنّه على الهمزة، لأن كثيرا من الحروف التي لا تلزم لا يعتدّ بها، ومن ثم لم تقع حرف رويّ، كما لم تقع ألف النّصب رويّا لاجتماعها معها في أنها لا تلزم، لأن من العرب من يقول: رأيت زيد، فلا يبدل ويحذف، وعلى هذا قوله (2):
__________
(1) أي: هو الكلأ.
(2) عجز بيت للأعشى وقد سبق في 1/ 141وانظر الخصائص 2/ 97 والخزانة 2/ 264وشرح المفصل 9/ 70.(4/313)
وآخذ من كلّ حيّ عصم ولا تثبت أيضا في موضع الرفع والجر، فصار الوقف لذلك كأنه على نفس الهمزة.
فأمّا وقف حمزة تبوا * فهذا على أنه خفّف الهمزة، وتخفيف هذه الهمزة أن تجعل بين بين، ولا تلحقه ألف التثنية.
على هذا يتأوله ناس من القراء وهو الصحيح. فأمّا قول أحمد:
يشير إليها بصدره، فهو من ترجمة القراء، وصحّته على ما ذكرت لك، وهذا في قول حمزة على وزن: تبوّعا، إلا أن الهمزة إذا خفّفت نقص الصوت بحركتها، فأشبهت الساكن، وهي متحركة في الحقيقة. فأمّا قوله: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان} [الحشر / 9]، فيكون على: تبوّءوا الدار، أي:
تبوّءوا دار الهجرة واعتقدوا الإيمان، لأن الإيمان ليس بمكان فيتبوّأ، فيكون كقوله: فأجمعوا أمركم وشركاءكم [يونس / 71]، ويجوز على: تبوّءوا الدار ومواضع الإيمان، ويجوز أن يكون: تبوّءوا الإيمان، على طريق المثل كما تقول:
تبوّءوا من بني فلان الصّميم، وعلى ذلك قول الشاعر (1):
وبوّئت في صميم معشرها ... فصحّ في قومها مبوّئها
كلّ هذه الوجوه ممكن.
__________
(1) تقدم ذكره قريبا ص 308.(4/314)
سورة هود
هود: 25
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله: {إني لكم نذير مبين} [25].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ: أني لكم * بفتح الألف.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة: {إني} بكسر الألف (1).
وجه قول من فتح: أنّهم يحملونها على {أرسلنا}، أي:
أرسلنا بأني لكم نذير، فإن قيل: لو كان محمولا على الأول لكان أنّه، لأنّ نوحا اسم للغيبة فالراجع إليه ينبغي أن يكون على لفظ الغيبة دون لفظ الخطاب قيل: هذا لا يمنع من حمله على {أرسلنا} وذلك أن الخطاب بعد الغيبة في نحو هذا سائغ، ألا ترى أن قوله: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء}
[الأعراف / 145] ثم قال: {فخذها بقوة}، فكذلك الآية التي اختلف في قراءتها.
__________
(1) السبعة 332.(4/315)
قال أبو علي: ووجه قول من كسر {إني} أنه حمله على القول المضمر، لأنه مما قد أضمر كثيرا في القرآن، وسائر الكلام كقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} [الرعد / 23] أي: يقولون، وقوله: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله} [الزمر / 3]، فهو على: قالوا ما نعبدهم. فكذلك قوله: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال لهم إني لكم نذير مبين}. فالكلام في هذا على وجهه، ولم يرجع إلى الخطاب بعد الغيبة، كما كان ذلك في قول من فتح أن *.
فإن قلت: فهلّا رجّحت قراءة من فتح أنّ على قراءة من كسرها، لأنّ قوله: {أن لا تعبدوا} [هود / 26] محمول على الإرسال، فإذا فتحت أنّ كان أشكل بما بعدها لحملها جميعا على الإرسال؟ قيل: لا يرجّح ما ذكرت الفتح وذلك أن قوله:
إني * من قوله: {إني لكم} في قول من كسر، يجوز أن يكون محمولا وما بعده على الاعتراض بين المفعول، وما يتصل به ممّا بعده، كما كان قوله: {قل إن الهدى هدى الله} اعتراضا بينهما في قوله: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} [آل عمران / 73]، فكذلك قوله: {إني لكم نذير مبين}.
هود: 27
اختلفوا في الهمز وتركه من قوله عزّ وجلّ: {بادي الراي} [هود / 27].
فقرأ أبو عمرو وحده: بادئ الراي. فهمز بعد الدال الراي لا يهمزه، وكلّهم قرأ: {الرأي} مهموزة غيره.
وقرأ الباقون: {بادي} بغير همز، وروى علي بن نصر عن أبي عمرو أنّه لا يهمز {الرأي}. اليزيدي عن أبي عمرو لا يهمز الراي إذا أدرج القراءة، أو قرأ في الصلاة ويهمز إذا حقّق (1).(4/316)
فقرأ أبو عمرو وحده: بادئ الراي. فهمز بعد الدال الراي لا يهمزه، وكلّهم قرأ: {الرأي} مهموزة غيره.
وقرأ الباقون: {بادي} بغير همز، وروى علي بن نصر عن أبي عمرو أنّه لا يهمز {الرأي}. اليزيدي عن أبي عمرو لا يهمز الراي إذا أدرج القراءة، أو قرأ في الصلاة ويهمز إذا حقّق (1).
قال أبو علي: حدثنا محمد بن السري أن اللحياني قال (2): يقال: أنت بادي الرأي تريد ظلمنا، لا يهمز، وبادئ الرأي مهموز، فمن لم يهمز أراد: أنت فيما أنت فيما بدا في الرأي وظهر، أي: ظاهر الرأي، ومن همز أراد: أنت أول الرأي ومبتدأه، وهما في القرآن: أراذلنا بادئ الرأي و {بادي الرأي} بهمز وبغير همز.
قال أبو علي: المعنى فيمن قال: {بادي الرأي} فجعله من بدا الشيء إذا ظهر، وما اتبعك إلا الأراذل فيما ظهر لهم من الرأي، أي لم يتعقّبوه بنظر فيه ولا تبيّن له. ومن همز أراد:
اتبعوك في أول الأمر من غير أن يتبعوا الرأي بفكر ورويّة فيه، وهاتان الكلمتان تتقاربان في المعنى، لأن الهمز في اللام فيها ابتداء للشيء وأوّله، واللام إذا كانت واوا كان المعنى الظّهور قال (3):
__________
(1) السبعة 332وزاد فيه: روي عنه الهمز وتركه، وهذه علته.
(2) انظر اللسان (بدأ).
(3) البيت لأبي خراش الهذلي في شرح أشعار الهذليين 3/ 1194، وقوله:
النهض: النجيح أي: المجدّ (اللسان نجح) ومثول: ذهاب، من: مثل يمثل: زال عن موضعه (اللسان مثل) وأنشد البيت. وروايته فيه «لما يرى» بدل «لصيده».(4/317)
يقرّبه النّهض النّجيح لصيده ... فمنه بدوّ مرّة ومثول
أي: يظهر مرة ويخفى أخرى، وابتداء الشيء يكون ظهورا، وإن كان الظهور قد يكون ابتداء وغير ابتداء، فلذلك تستعمل (1) كل واحد من الكلمتين في موضع الأخرى كقولهم:
أما بادي بد فإني أحمد الله، وأما بادئ بدء فإني أحمد الله (2)، وقيل في واحد الأبداء التي هي المفاصل من الإنسان وغيره: بدء وبدا مقصور غير مهموز. وجاز في اسم الفاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل، نحو: قريب، ومليّ، لأن فاعلا وفعيلا يتعاقبان على المعنى، نحو: عالم وعليم، وشاهد وشهيد، ووال ووليّ، وحسّن ذلك أيضا إضافته إلى الرأي.
وقد أجروا المصدر أيضا في إضافته إليه في قولهم: إما جهد رأي فإنك منطلق، فهذا لا يكون إلا ظرفا وفعل إذا كان مصدرا، وفاعل قد يتفقان في أشياء، وقد يجوز في قول من همز فقال: بادئ الرأي إذا خفف الهمز أن يقول: {بادي}
فيقلب الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، فيكون كقولهم: مير في جمع مئرة، وذيب في جمع ذئبة، والعامل في هذا الظرف هو قوله: {اتبعك} من قوله: {ما نراك اتبعك} [هود / 27]، التقدير: ما اتّبعك في أول رأيهم، أو فيما ظهر من رأيهم، إلّا
__________
(1) في الأصل: ما تستعمل.
(2) في اللسان (بدا): وقال اللحياني: أما بادئ بدء فإني أحمد الله، وبادي بدأة، وبادئ بداء، وبدا بدء، وبدأة بدأة، وبادي بدو، وبادي بداء. أي أما بدء الرأي فإني أحمد الله.(4/318)
أراذلنا، فأخّر الظرف وأوقع بعد إلّا، ولو كان بدل الظرف غيره لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت: ما أعطيت أحدا إلا زيدا درهما، فأوقعت بعد إلا اسمين لم يجز، لأن الفعل أو معنى الفعل في الاستثناء يصل إلى ما انتصب به بتوسط الحرف، ولا يصل الفعل بتوسط الحرف إلى أكثر من مفعول، ألا ترى أنك لو قلت: استوى الماء والخشبة، فنصبت الخشبة لم يجز أن تتبعه اسما آخر فتنصبه: فكذلك المستثنى إذا ألحقته إلّا، وأوقعت بعدها اسما مفردا، لم يجز أن تتبعه آخر، وقد جاز ذلك في الظرف، لأن الظرف قد اتّسع فيه في مواضع، ألا ترى أنهم قد قالوا: كم في الدار رجلا، ففصلوا بينهما في الكلام، وقالوا: إن بالزعفران ثوبك مصبوغ، ولو قلت: إن زيدا عمرا ضارب، تريد: إن عمرا ضارب زيدا، لم يجز، وقال الشاعر (1):
فلا تلحني فيها فإنّ بحبّها ... أخاك مصاب القلب جمّ بلابله (2)
وقياس الحال في هذا قياس الظرف في الجواز، وإن لم يجز غيرهما في ذلك. فإن قلت: فهلّا يجوز أن يكون قوله:
{ما نراك} من قوله: {وما نراك اتبعك} اعتراضا، بمنزلتها في قول الأعشى (3):
__________
(1) سبق في 3/ 411.
(2) جاءت في الأصل: بلا به. وهو سبق قلم.
(3) المذاكي من الخيل: التي قد بلغت أسنانها المسنفات: المتقدمات القلائص: الإبل، وكانوا في غاراتهم يركبون الإبل ويسوقون أمامها الخيل(4/319)
وما خلت أبقى بيننا من مودّة ... عراض المذاكي المسنفات القلائصا
والمعنى: وما أبقى بيننا من مودّة، ألا ترى أن قوله:
أبقى، لا يجوز أن يكون مفعول خلت، وإنما المعنى: وما أبقى بيننا من مودة، فكذلك يكون قوله: {وما نراك اتبعك}
كأنه: وما اتبعك ويكون: {نراك} اعتراضا فالقول: إن الآية لا تكون كالبيت، لأنّ الفعل قد تعدّى إلى المفعول، ولم يتعدّ في البيت إلى المفعول، فحسن الاعتراض به لمّا لم يتعدّ، كما جاز إلغاؤه في قولهم: زيد ظننت منطلق، ولو ألغيته وقد عدّيته إلى مفعول، لم يجز، وكذلك إذا اعترضت به، فلا يكون قوله {اتبعك} بمنزلة خلت في بيت الأعشى. فإن قلت: فقد قال آخر (1):
وما أراها تزال ظالمة ... تحدث لي قرحة وتنكؤها
فعدّى أرى إلى الضمير، وجعل أراها اعتراضا، قيل: لا يكون قوله: {نراك} بمنزلة قوله: وما أراها، وذلك أن الضمير في أراها يكون كناية عن المصدر فلا يقتضي مفعولا ثانيا، وفي قوله: {وما نراك} المفعول فيه للخطاب، والخطاب لا يكون كناية عن المصدر فلا تكون الآية في قياس البيت، فلو قلت:
__________
فلا يركبونها إلا إذا قاربوا موضع الغارة حتى لا يتعبوها ويجهدوها لينزلوا بها إلى القتال موفورة القوة والنشاط. انظر ديوان الأعشى / 151.
(1) البيت لابن هرمة. وهو من شواهد المغني، انظر شرح أبياته للبغدادي 6/ 221.(4/320)
ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا، لم يجز، وتصحيحها: ما ضرب القوم أحدا إلا بعضهم بعضا، تبدل الاسمين بعد إلا من الاسمين قبلها، فإن قلت: فكيف تقدير قول الأعشى:
وليس مجيرا إن أتى الحيّ خائفا ... ولا قائلا إلا هو المتعيّبا (1)
فإن المتعيّب يكون على مضمر تقديره: يقول المتعيّبا، تحمل: «إلا هو» على المعنى لأن المعنى: ولا يقول أحد إلا هو، فحملته في هذا على المعنى، كما حملته عليه في قولهم:
ما قام إلا هند. فإن قلت: أحمل المتعيّب على المعنى، لأن المعنى يقول: هو المتعيّبا، فهو قول.
فأما تحقيق الهمزة وتخفيفها في {الرأي}، فأهل تحقيق الهمز يحققونها، وأهل التخفيف يبدلون منها الألف، وكذلك ما أشبه هذا من نحو: الباس والراس والفاس.
هود: 28
اختلفوا في فتح العين وتخفيف الميم، وضمّ العين وتشديد الميم من قوله عز وجلّ: {فعميت عليكم}
[هود / 28].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر فعميت * بتخفيف الميم وفتح العين.
__________
(1) ليس مجيرا: أي أنه لا يملك أن يؤمن رجلا فيجعله في جواره لأن الناس لا يحترمون هذا الجوار، وإنما يحترمون جوار القوي، فلا يجرءون على أن ينالوا جاره بالأذى، والمتعيّب: اسم مفعول من تعيب، أي: عاب وتنقص، ديوانه / 113.(4/321)
وقرأ حمزة والكسائيّ {فعميت} بضم العين وتشديد الميم، وكذلك حفص عن عاصم {فعميت} مثل حمزة (1).
قال أبو علي: يدل على قوله: فعميت * اجتماعهم في قوله: {فعميت عليهم الأنباء يومئذ} [القصص / 66]، وهذه مثلها، ويجوز في قوله: فعميت عليكم أمران: أحدهما أن يكون عموا هم عنها، ألا ترى أن الرحمة لا تعمى وإنّما يعمى عنها، فيكون هذا كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، ونحو ذلك مما يقلب إذا لم يكن فيه إشكال، وفي التنزيل: ولا تحسبن الله مخلف وعده رسله [إبراهيم / 46] وقال الشاعر (2):
ترى الثور فيها مدخل الظلّ رأسه ... وسائره باد إلى الشّمس أجمع
والآخر: أن يكون معنى عميت: خفيت. كقوله (3):
__________
(1) السبعة 332.
(2) من شواهد سيبويه التي لم ينسبها. أراد: مدخل رأسه الظل. الكتاب 1/ 92أمالي المرتضى 1/ 55تأويل مشكل القرآن / 194.
(3) البيتان لذي الرمة و «صرى»: طال حبه وعافي الثنايا: دارس الطرق والآجن: المتغيّر، والمخاض: الحوامل، والضوارب: تضرب من دنا منها لأنها لواقح وقوله: شرك بالجر، ردّها على «ماء» في البيت السابق، ورواها في اللسان (عمي) بالنصب، وقال: وعم شرك، كما يقال: عم طريقا. وعم مسلكا، يريد: الطريق ليس بيّن الأثر، وشرك الطريق: جوادّه، الواحدة شركة. ورواية الديوان «شرك» بالرفع، وأشار في الشرح إلى رواية النصب ووجهها. وعجز البيت الثاني:
مراريّ مخشيّ به الموت ناضب قوله: بيني وبينه مراري، أي: بيني وبين الماء مراريّ، الواحدة(4/322)
وماء صرى عافي الثّنايا كأنّه ... من الأجن أبوال المخاض الضّوارب
عم شرك الأقطار بيني وبينه
أي: خفي. وقال آخر (1):
ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى في الحائرين العمّه
أي خفيّ الهدى، ألا ترى أنّ الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة. ومن هذا قيل للسحاب: العماء، لإخفائه ما يخفيه، كما قيل له الغمام، ومن هذا قول زهير (2):
ولكنّني عن علم ما في غد عم وقولهم: أتانا صكّة عميّ (3): إذا أتى في الهاجرة وشدّة الحرّ يحتمل عندنا تأويلين: أحدهما أن يكون المصدر أضيف
__________
مروراة، وهي الأرض البعيدة المستوية. وقوله: مخشيّ، رده على عم.
انظر ديوانه 1/ 200198واللسان مادة / صري وعمي /.
(1) البيت لرؤبة من أرجوزة يصف بها نفسه برواية «الجاهلين» بدلا من «الحائرين» في ديوانه. والرجل العمه: المتردد في رأيه أو أعمى القلب.
انظر ديوانه / 166واللسان مادة / عمه / وشرح شواهد الشافية / 202 وشرح شواهد العيني 3/ 345.
(2) عجز بيت لزهير وصدره:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله وهو من معلقته، انظر شرح المعلقات للزوزني / 86.
(3) في اللسان (صكك): الصكة: شدة الهاجرة، يقال: لقيته صكة عمي وصكة أعمى، وهو أشد الهاجرة حرا. قال بعضهم: عمي: اسم رجل من العماليق أغار(4/323)
إلى العمى (1) كما قالوا: ضرب التّلف، أي: الضّرب الذي يحدث عنه التلف، ويقوّي ذلك أنّه قد جاء في الشعر:
ويهجمها بارح ذو عمى (2)
أي: بارح يكون عنه العمى لشدّة حره.
ويمكن أن يكون العميّ تصغير أعمى على وجه الترخيم، وأضيف المصدر إلى المفعول به كقوله: {من دعاء الخير}
[فصلت / 49]، ولم يذكر الفاعل الذي هو الحر والتقدير:
صكّ الحرّ الأعمى، والمعنى: أنّ الحرّ من شدته، كأنّه يعمي من أصابه، والمصدر في الوجهين ظرف، نحو مقدم الحاج، وخفوق النجم. ومن قال: {عميت} اعتبر قراءة أبيّ والأعمش:
فعماها عليكم، وإسناد الفعل إلى المفعول به في {عميت}
من عماها في المعنى.
هود: 40
قال: وكلّهم قرأ من كل زوجين اثنين [هود / 40] مضافا، غير حفص، فإنه روى عن عاصم: من كل زوجين اثنين * منوّنا، وكذلك في المؤمنين [27].
أبو بكر عن عاصم: من كل زوجين مضاف (3).
قال أبو الحسن: تقول للاثنين: هما زوجان، وقال:
{ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات / 49]، وتقول للمرأة:
__________
على قوم وقت الظهيرة فاجتاحهم فجرى به المثل. ويقال: هو تصغير أعمى.
(1) جاء رسمها في الأصل بالألف الممدودة «العماء».
(2) لم نعثر على قائله. والبارح: الريح الحارّة في الصيف.
(3) السبعة 333.(4/324)
هي زوج، وهو زوجها، وقال: {وخلق منها زوجها}
[النساء / 6]، يعني المرأة. وقال: {أمسك عليك زوجك}
[الأحزاب / 37]، قال: وقال بعضهم: الزوجة، قال الأخطل (1):
زوجة أشمط مرهوب بوادره ... قد صار في رأسه التّخويص والنّزع
قال أبو الحسن: وقد يقال للاثنين هما زوج، قال لبيد (2):
من كلّ محفوف يظلّ عصيّه ... زوج عليه كلّة وقرامها
انتهى كلام أبي الحسن (3).
قال أبو علي: ويدلّ على أن الزوج يقع على الواحد قوله: {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} {ومن
__________
(1) ديوانه 1/ 360. خوصه الشيب: إذا أخذ رأسه كله، والبوادر: ج بادرة وهي ما يبدر أي يسبق من الحدة والغضب والنزع: انحسار الشعر من جانبي الجبهة.
(2) المحفوف: الهودج الذي ستر بالثياب عصيه: عصي الهودج والزوج: النمط الواحد من الثياب كذا فسره شراح المعلقات، وهو خلاف ما فسره أبو الحسن من أنه قد يقال للاثنين هما زوج قال في اللسان: وقال بعضهم: الزوج هنا النمط يطرح على الهودج ويشبه أن يكون سمي بذلك لاشتماله على ما تحته اشتمال الرجل على المرأة. وهذا ليس بقوي. كلة: ستر رقيق. القرام: الغطاء، وهو الستر المرسل على جانب الهودج. انظر شرح المعلقات السبع 531وديوانه / 166واللسان / زوج /.
(3) معاني القرآن 1/ 142مع اختلاف يسير وتقديم وتأخير.
} {الإبل اثنين} [1] ومن البقر اثنين [الأنعام / 143142]، قال:(4/325)
__________
(3) معاني القرآن 1/ 142مع اختلاف يسير وتقديم وتأخير.
{الإبل اثنين} [1] ومن البقر اثنين [الأنعام / 143142]، قال:
{وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر / 6].
قال الكسائيّ: فيما حدّثنا محمد بن السري أن أكثر كلام العرب بالهاء يعني في قولهم: هي زوجته، قال الكسائيّ:
وزعم القاسم معن أنه سمعها من الأزد أزد شنوءة. قال أبو علي: فأما ما كان من هذا في التنزيل، فليس فيه هاء، قال:
{اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة / 35]، ومما يدلّ على أنه بغير هاء قول الشاعر (2):
وأراكم لدى المحاماة عندي ... مثل صون الرجال للأزواج
فالأزواج: جمع زوج بلا هاء، ولو كان في الواحد الهاء لكان كروضة ورياض، فلما قال: أزواج، علمت أنه جعله مثل ثوب وأثواب، وحوض وأحواض. ويمكن أن يقول الكسائيّ:
إن هذا جمع على تقدير حذف التاء كما قيل: نعمة وأنعم، فجمع على حذف التاء مثل: قطع وأقطع وجرو وأجر، ويمكن أن يقول: إنه على قول من قال: زوج فلم يلحقه الهاء، ويقال: لكل زوجين قرينان، وقيل في قوله: {وزوجناهم بحور عين} [الدخان / 54] أي: قرنّاهم بهنّ، وليس من عقد التزويج على ما رويناه عن ابن سلام عن يونس (3)، وذاك أنه
(1) في الأصل: الاثنين وهو غلط.
(2) لم نقف على قائله.
(3) جاء على حاشية (ط): بلغت.(4/326)
حكى عن يونس أن العرب لا تقول: تزوجت بها، إنما يقولون:
تزوجتها، وحمل يونس، قوله: {وزوجناهم بحور عين} على:
قرناهم، والتنزيل يدل على ما قال يونس وذلك قوله: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} [الأحزاب / 37] ولو كان على تزوّجت بها لكان زوّجناك بها، وقال ابن سلّام، وقال أبو البيداء: تميم تقول: تزوجت امرأة، وتزوجت بامرأة، ولا يبعد أن يكون قوله:
{زوجناكها} على أنه حذف الحرف فوصل الفعل، فأما قوله:
{أو يزوجهم ذكرانا وإناثا} [الشورى / 50] فعلى معنى يقرنهم في هبته ذكرانا وإناثا، وكذلك قوله: {وكنتم أزواجا ثلاثة}
[الواقعة / 7]، فأصحاب الميمنة زوج، وأصحاب المشأمة زوج، والسابقون كذلك. وأما قوله: {وآخر من شكله أزواج}
[ص / 58] فإنّه يذكر في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله.
من قال: من كل زوجين اثنين كان قوله: {اثنين}
مفعول الحمل، والمعنى: احمل من الأزواج إذا كانت اثنين اثنين زوجين، فالزوجان في قوله: من كل زوجين يراد بهما الشّياع، وليس يراد بذلك الناقص عن الثلاثة، ومثل ذلك قوله:
فما لك بالذي ... لا تستطيع من الأمور يدان (1)
__________
(1) قطعة بيت تمامه:
فاعمد لما يعلو فمالك بالذي وهو في شرح الأبيات المشكلة الإعراب إيضاح الشعر للمصنف ص 151استشهد به هناك لما استشهد به هنا، وقال: أنشد الأصمعي لعلي بن الغدير الغنوي، وكذا نسبه العسكري في شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ص 408ونسبه في اللسان (يدي) (علا) إلى كعب بن سعد الغنوي.(4/327)
إنّما يريد تشديد انتفاء قوته عنه، وتكثيره، ويبين هذا المعنى قول الفرزدق (1):
وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما ... تعاطى القنا قوماهما أخوان
فرفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كلّ رحل، وإنما يريد الرفقاء إذا كانوا رفيقين رفيقين.
ومن نوّن فقال: {من كل زوجين اثنين} فحذف المضاف من كلّ، ونوّن، فالمعنى: من كلّ شيء ومن كلّ زوج زوجين اثنين، فيكون انتصاب اثنين على أنه صفة لزوجين. فإن قلت:
فالزوجان قد فهم أنّهما اثنان، فكيف جاز وصفهما بقوله:
{اثنين}، فإنّ ذلك إنّما جاء للتأكيد والتشديد كما قال: {لا تتخذوا إلهين اثنين} [النحل / 51]، وقد جاء في غير هذا من الصفات ما مصرفه إلى التأكيد، كمن قرأ: نعجة أنثى، وكقولهم: أمس الدابر، وأمس المدبر، وقوله: {نفخة واحدة}
[الحاقة / 13]، وقد علم من النفخة أنها واحدة. وقال: {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم / 20].
ومثل هذا في أنّه حمل مرة على الإضافة، وأخرى على التنوين قوله: {وآتاكم من كل ما سألتموه} [إبراهيم / 34] و {من كل ما سألتموه}. فمن أضاف كان المفعول محذوفا تقديره: من كلّ مسئول شيئا، أو مسئولا ونحو ذلك، ومثل ذلك: {يخرج لنا مما تنبت الأرض} [البقرة / 61] أي: شيئا، فحذف المفعول،
__________
(1) ديوانه / 870وانظر شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 208.(4/328)
ويجوز في قياس قول أبي الحسن أن يكون الجار والمجرور في موضع نصب، وتكون من زائدة في الإيجاب كما تكون زائدة في غير الإيجاب.
هود: 41
اختلفوا في ضمّ الميم وفتحها من قوله عز وجل:
مجراها [هود 41].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: مجراها بضم الميم.
وقرأ حمزة والكسائيّ: {مجراها} بفتح الميم وكسر الراء، وكذلك حفص عن عاصم: مجراها بفتح الميم، وكسر الراء من غير إضافة. قال: وليس يكسر في القرآن غير هذا الحرف، يعني الراء في: مجراها.
هود: 41
وكلّهم قرأ: {ومرساها} [41] بضم الميم.
وكان ابن كثير وابن عامر يفتحان الراء والسين (1).
وكان نافع وعاصم في رواية أبي بكر يقرءانها بين الكسر والتفخيم.
وكان أبو عمرو وحمزة والكسائيّ يميلون الراء من مجراها ويفتح أبو عمرو وحفص عن عاصم السين من {مرساها}، وأمالها حمزة والكسائي. وليس فيهم أحد جعلها نعتا (2).
__________
(1) في السبعة: يفتحان الراء من (مجرها) والسين من (مرساها).
(2) السبعة 333.(4/329)
قال أبو علي: يجوز في قوله: {بسم الله مجراها ومرساها} أن يكون حالا من شيئين: من الضمير الذي في قوله: {اركبوا} ومن الضمير الذي في {فيها}، فإن جعلت قوله:
{بسم الله مجراها} خبر مبتدأ مقدّم في قول من لم يرفع بالظرف، أو جعلته مرتفعا بالظرف، لم يكن قوله: بسم الله مجراها إلا جملة في موضع الحال من الضمير الذي في {فيها}، ولا يجوز أن يكون من الضمير في قوله: {اركبوا} لأنه لا ذكر فيها يرجع إلى الضمير، ألا ترى أن الظرف في قول من رفع بالظرف قد ارتفع به الظاهر، وفي قول من رفع في هذا النحو بالابتداء، قد حمل في الظرف ضمير المبتدأ! فإذا كان كذلك، خلت الجملة من ذكر يعود من الحال إلى ذي الحال، وإذا خلا من ذلك، لم يكن إلّا حالا من الضمير الذي في {فيها}
ويجوز أن يكون قوله: {بسم الله} حالا من الضمير الذي في {اركبوا}، على أن لا يكون الظرف خبرا عن الاسم الذي هو {مجراها} على ما كان في الوجه الأول، ولا يكون حالا عن الضمير على حدّ قولك: خرج بثيابه، وركب في سلاحه، والمعنى: ركب مستعدّا بسلاحه، أو متلبّسا بثيابه، وفي التنزيل: {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به}
[المائدة / 61]، فكأنّ المعنى: اركبوا متبرّكين باسم الله، ومتمسّكين بذكر اسم الله. فيكون في {بسم الله} ذكر يعود إلى المأمورين، فإن قلت: فكيف اتصال المصدر الذي هو:
{مجراها} بالكلام على هذا، فإنه يكون متعلّقا بما في {بسم الله} من معنى الفعل، وجاز تعلّقه به لأنه يكون ظرفا على
نحو: من مقدم الحاج، وخفوق النجم، كأنه: متبرّكين، أو متمسّكين في وقت الجري، أو الإجراء، أو الرسوّ، أو الإرساء، على حسب الخلاف بين القراء ولا يكون الظرف متعلقا ب {اركبوا} لأن المعنى ليس عليه، ألا ترى أنه لا يراد:(4/330)
{مجراها} بالكلام على هذا، فإنه يكون متعلّقا بما في {بسم الله} من معنى الفعل، وجاز تعلّقه به لأنه يكون ظرفا على
نحو: من مقدم الحاج، وخفوق النجم، كأنه: متبرّكين، أو متمسّكين في وقت الجري، أو الإجراء، أو الرسوّ، أو الإرساء، على حسب الخلاف بين القراء ولا يكون الظرف متعلقا ب {اركبوا} لأن المعنى ليس عليه، ألا ترى أنه لا يراد:
اركبوا فيها في وقت الجري والثبات، إنما المعنى: اركبوا الآن متبرّكين باسم الله في الوقتين اللذين لا ينفكّ الراكبون فيها منهما من الإرساء والإجراء، ليس يراد: اركبوا وقت الجري والرسوّ، فموضع مجراها نصب على هذا الوجه بأنه ظرف عمل فيه المعنى، وفي الوجه الأول رفع بالابتداء أو بالظرف، يدلّ على أنه في الوجه الأول رفع، وأن ذلك الفعل الذي كان يتعلق به، لا معتبر الآن قول الشاعر (1):
وا بأبي (2) أنت وفوك الأشنب ... كأنّما ذرّ عليه زرنب
وأما قوله: {مجراها} فحجة من فتح قوله: {وهي تجري بهم في موج كالجبال} [هود / 42]، ولو كان مجراها لكان: وهي تجريهم.
وحجّة من ضمّ: أن جرت بهم، وأجرتهم يتقاربان في المعنى، فإذا قال: {تجري بهم} فكأنّه قال: تجريهم، ويقال:
__________
(1) رجز لبعض بني تميم وهو الشاهد رقم 684من شواهد المغني والزرنب: النبات الطيب الرائحة وقد ورد في المغني: «الزرنب».
انظر شرح العيني 4/ 310التصريح 2/ 197والهمع 2/ 106والدرر 2/ 139واللسان مادة / زرنب /.
(2) في الأصل (ط): وا بأنت.(4/331)
جرى الشيء وجريت به، وأجريته، مثل: ذهب وذهبت به، وأذهبته. فمن قرأ: {مجراها} فهو مصدر من: جرى الشيء يجري، ويدلّ على {مجراها} قوله: {وهي تجري بهم}، ويقال: رسا الشيء يرسو، قال (1):
فصبرت عارفة لذلك حرّة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلّع
وقال: {والجبال أرساها} [النازعات / 32]، {وألقى في الأرض رواسي} [النحل / 15] فهذا يدلّ على رسا.
وقوله: {أيان مرساها} [الأعراف / 187] يدلّ على أرسى.
وأمّا إمالة الألف من {مرساها} وتفخيمها فكلاهما حسن.
وقول أحمد بن موسى: وليس منهم أحد جعلها اسما.
يريد: ليس منهم أحد جعله اسم الفاعل وأجراها على اسم الله، فيقول: مجريها ومرسيها. وهي قراءة قد قرأ بها غيرهم، وليس ذلك بالوجه، لأنها لم تجر بعد، ولو جرت لكان فعل حال، فلا يكون صفة للمعرفة، فإذا لم يحسن على هذا الوجه حمل على البدل، بدل النكرة من المعرفة، كقوله: {بالناصية ناصية كاذبة} [العلق / 1615].
__________
(1) البيت لعنترة العبسي من قصيدة قالها حين أغارت طيء على عبس ومعناه أني حبست نفسا عارفة للشدائد.
انظر ديوانه / 264والأمالي الشجرية 1/ 145واللسان مادة / عرف /.(4/332)
هود: 42
اختلفوا في كسر الياء وفتحها من قوله: {يا بني اركب معنا} [هود / 42].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: {يا بني اركب معنا} مضافة بكسر الياء.
وكذلك كلّ ما أضافه المتكلم إلى نفسه، فالياء فيه مكسورة، إذا كان الابن واحدا إلّا أنّ ابن كثير روي عنه في سورة لقمان أنه قرأ الأحرف الثلاثة [13، 16، 17] مختلفة الألفاظ فكان يقرأ (1): يا بني لا تشرك [13] بحذف ياء الإضافة، ولا يشدّد ويسكن الياء، وقرأ الثانية: {يا بني إنها} [16] مشدّدة الياء مكسورة. وقرأ الثالثة: يا بني أقم [17] مثل الأولى ساكنة الياء، هكذا قرأت على قنبل عن القوّاس وتابع البزيّ القواس في الأوليين، وخالفه في الثالثة [فقرأ]: {يا بني أقم}
بفتح الياء.
وروى أبو بكر عن عاصم {يا بني اركب معنا} مفتوحة الياء في هذا الموضع، وسائر القرآن مكسورة الياء مثل حمزة وروى حفص عنه بالفتح في كلّ القرآن {يا بني} إذا كان واحدا (2).
قال أبو علي: الكسر في الياء الوجه في قوله {يا بني}
وذلك أن اللام في ابن ياء أو واو حذفت من ابن، كما حذفت من اسم واثنين، وإذا حقّرت ألحقت ياء التحقير، فلزم أن تردّ
__________
(1) تكررت في (ط).
(2) السبعة 334333وما بين معقوفين منه.(4/333)
اللام التي حذفت، لأنّك لو لم تردّها لوجب أن تحرّك ياء التحقير بحركات الإعراب، وتعاقبها عليها، وهي لا تحرّك أبدا بحركة الإعراب ولا غيرها، ألا ترى أنّ من خفّف الهمزة الساكن ما قبلها نحو: {الخبء} [النحل / 27] لم يفعل ذلك في الهمزة في نحو: أفياء، إنّما تبدل من الهمزة ياء، ويدغم فيها ياء التحقير كما يفعل ذلك مع ياء خطيئة، وواو مقروءة، ونحو ذلك من حروف المدّ التي لا تحرك. فإذا قلت: إن ياء التصغير أجريت هذا المجرى، علمت أنها لا تحرّك، كما لا تتحرك حروف المدّ التي أجريت ياء التحقير مجراها. ومما يدلّ على امتناع إلقاء حركة الإعراب على ياء التحقير أن حروف اللين إذا كانت حرف الإعراب، انقلبت ألفا نحو: عصا وقفا، فإن قلت: كيف انقلبت وحركة الإعراب غير لازمة؟ هلّا لم تنقلب كما لم تنقلب الواو المضمومة همزة في نحو: {لا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة / 237] حيث كانت غير لازمة. قيل: إن الحركة من حركات الإعراب، وإن كانت لا تلزم بعينها الحرف، فلا بدّ من لزوم حركة لغير عينها، فصارت حرف الإعراب لذلك، كأنه قد لزمته حركة واحدة، وهذا المعنى يوجب القلب، ألا ترى أنّ مثال الماضي من نحو: دعا، ورمى، قد لزم حرف الإعراب فيه الانقلاب، وكذلك لزم انقلاب لام نحو: عصا، ورحا، لأنّه لا يخلو من أن تلزمه حركة ما. فصار لذلك بمنزلة دعا، وقضى، ولم يكن بمنزلة قولهم: هذا فخذ، إذا وقعت ضمّة الإعراب فيها بعد كسرة العين من فخذ، لأنها لا تلزم، فالحركة التي ليست بعينها في إيجاب القلب، ليست كالحركة المعيّنة، فلو لم تردّ
اللام مع ياء التحقير وجعلتها محذوفة في التحقير، كما حذفتها في التكسير، للزم الياء التي للتحقير الانقلاب، كما لزم سائر حروف الإعراب، فتبطل دلالتها على التحقير، كما أن الألف في التكسير لو حرّكتها لبطلت دلالتها على التكسير، فلذلك رددت اللام، فإذا رددتها، وأضفت إلى نفسك، اجتمعت ثلاث ياءات. الأولى منها التي للتحقير، والثانية لام الفعل والثالثة التي للإضافة، تقول: هذا بنيّي، فإذا ناديت جاز فيه وجهان: إثبات الياء وحذفها، فمن قال: {يا عبادي} فأثبت، فقياس قوله أن يقول: يا بنيّي. ومن قال: يا عباد * قال: {يا بني}، فحذف التي للإضافة وأبقى الكسرة دلالة عليها. وهذا الوجه هو الجيّد عندهم، وذاك أن الياء ينبغي أن تحذف في هذا الموضع لمشابهتها التنوين، وذاك من أجل ما بينهما من المقاربة، ومن ثمّ أدغم في الياء والواو وهي على حرف كما أن التنوين كذلك، ولا تنفصل من المضاف كما لا ينفصل التنوين لمّا شابهها من هذه الوجوه، ومن غيرها أجريت الياء مجرى التنوين في حذفها من المنادى، كحذف التنوين منه، فقالوا: يا بنيّ، كما تقول: يا غلام، فتحذف الياء، وتبقي الكسرة دلالة عليها، فتقول على هذا: يا بنيّ أقبل. فإن قلت:(4/334)
اللام التي حذفت، لأنّك لو لم تردّها لوجب أن تحرّك ياء التحقير بحركات الإعراب، وتعاقبها عليها، وهي لا تحرّك أبدا بحركة الإعراب ولا غيرها، ألا ترى أنّ من خفّف الهمزة الساكن ما قبلها نحو: {الخبء} [النحل / 27] لم يفعل ذلك في الهمزة في نحو: أفياء، إنّما تبدل من الهمزة ياء، ويدغم فيها ياء التحقير كما يفعل ذلك مع ياء خطيئة، وواو مقروءة، ونحو ذلك من حروف المدّ التي لا تحرك. فإذا قلت: إن ياء التصغير أجريت هذا المجرى، علمت أنها لا تحرّك، كما لا تتحرك حروف المدّ التي أجريت ياء التحقير مجراها. ومما يدلّ على امتناع إلقاء حركة الإعراب على ياء التحقير أن حروف اللين إذا كانت حرف الإعراب، انقلبت ألفا نحو: عصا وقفا، فإن قلت: كيف انقلبت وحركة الإعراب غير لازمة؟ هلّا لم تنقلب كما لم تنقلب الواو المضمومة همزة في نحو: {لا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة / 237] حيث كانت غير لازمة. قيل: إن الحركة من حركات الإعراب، وإن كانت لا تلزم بعينها الحرف، فلا بدّ من لزوم حركة لغير عينها، فصارت حرف الإعراب لذلك، كأنه قد لزمته حركة واحدة، وهذا المعنى يوجب القلب، ألا ترى أنّ مثال الماضي من نحو: دعا، ورمى، قد لزم حرف الإعراب فيه الانقلاب، وكذلك لزم انقلاب لام نحو: عصا، ورحا، لأنّه لا يخلو من أن تلزمه حركة ما. فصار لذلك بمنزلة دعا، وقضى، ولم يكن بمنزلة قولهم: هذا فخذ، إذا وقعت ضمّة الإعراب فيها بعد كسرة العين من فخذ، لأنها لا تلزم، فالحركة التي ليست بعينها في إيجاب القلب، ليست كالحركة المعيّنة، فلو لم تردّ
اللام مع ياء التحقير وجعلتها محذوفة في التحقير، كما حذفتها في التكسير، للزم الياء التي للتحقير الانقلاب، كما لزم سائر حروف الإعراب، فتبطل دلالتها على التحقير، كما أن الألف في التكسير لو حرّكتها لبطلت دلالتها على التكسير، فلذلك رددت اللام، فإذا رددتها، وأضفت إلى نفسك، اجتمعت ثلاث ياءات. الأولى منها التي للتحقير، والثانية لام الفعل والثالثة التي للإضافة، تقول: هذا بنيّي، فإذا ناديت جاز فيه وجهان: إثبات الياء وحذفها، فمن قال: {يا عبادي} فأثبت، فقياس قوله أن يقول: يا بنيّي. ومن قال: يا عباد * قال: {يا بني}، فحذف التي للإضافة وأبقى الكسرة دلالة عليها. وهذا الوجه هو الجيّد عندهم، وذاك أن الياء ينبغي أن تحذف في هذا الموضع لمشابهتها التنوين، وذاك من أجل ما بينهما من المقاربة، ومن ثمّ أدغم في الياء والواو وهي على حرف كما أن التنوين كذلك، ولا تنفصل من المضاف كما لا ينفصل التنوين لمّا شابهها من هذه الوجوه، ومن غيرها أجريت الياء مجرى التنوين في حذفها من المنادى، كحذف التنوين منه، فقالوا: يا بنيّ، كما تقول: يا غلام، فتحذف الياء، وتبقي الكسرة دلالة عليها، فتقول على هذا: يا بنيّ أقبل. فإن قلت:
فهلّا أثبت أبو عمرو الياء هنا، فقال: يا بنيي كما حكاه سيبويه عنه أنه قرأ: يا عبادي فاتقون (1) [الزمر / 39] بإثبات
__________
(1) الكتاب 1/ 316، قال الأستاذ النفاخ في فهرس شواهده: وغير معروف ذلك عن أبي عمرو عند القراء، وأخشى أن يكون قد التبس هذا الحرف على سيبويه بقوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم) [الزخرف / 68] فإن(4/335)
الياء في {يا عبادي} فإنه يجوز أن يحذفها هنا، وإن أثبتها في قوله: {يا عبادي} لاجتماع الأمثال، ويجوز أن يكون أخذ بالوجهين جميعا، لأن إثبات الياء في المفرد وجه، فجعله بمنزلة الهاء في غلامه، وبمنزلة الندبة في: وا غلامك.
قال أحمد: إلا أن ابن كثير روي عنه في سورة لقمان أنه قرأ الثلاثة الأحرف مختلفة الألفاظ، فكان يقرأ يا بني * بحذف ياء الإضافة، ولا يشدّد، ويسكن الياء.
قال أبو علي: إذا قرئت على هذا، فقد حذفت ياء الإضافة، وحذفت الياء التي هي لام الفعل وبقيت الياء التي للتصغير. ووجه ذلك أنه على قوله على: «يا بنيّ أقبل» في الوصل، فإذا وقف قال: يا بنيّ، بياءين، مدغمة الأولى منهما في الأخرى، وخفّف في الوقف، كما يخفف في ضر وسر، فالراء من ضر مشددة، وكما خفّف في قول عمران (1):
قد كنت جارك حولا ما تروّعني ... فيه روائع من إنس ولا جان
فخفف النون للوقف، وأطلقها كما شدّد للوقف، وأطلقها
__________
أبا عمرو قرأه بإثبات الياء ساكنة في الوصل والوقف، مع أنه في مصاحف أهل البصرة بغير ياء، واحتج لذلك بأنه رأى الياء ثابتة في مصاحف أهل المدينة والحجاز (الفهرس 42).
(1) هو عمران بن حطان الحروري، وهو في المحتسب 2/ 76واللسان (جنى) وروايته فيه: قد كنت عندك.(4/336)
في نحو «سبسبّا» (1) و «عيهلّي» (2). فلمّا حذفت الياء المدغم فيها بقيت الياء ساكنة، والموقوف عليها ياء التصغير، وكان ينبغي أن يكون ذلك في الوقف، فإن وصلها ساكنة فهو قياس «من إنس ولا جان» (3) في أنه خفّف، وأدرجه بحرف الإطلاق، وكذلك وصله بقوله: إنها * [لقمان / 16]. وغير هذا الوجه في القراءة أولى، وقياس هذا على ما ذكرت لك، ولو كان هذا في فاصلة كان أحسن، لأن الفاصلة في حكم القافية. فإن قلت:
فهلّا امتنع ذلك في الوقف على ياء التصغير، وياء التصغير لا يوقف عليها، ولا يلحق آخر الكلمة قيل: إنها ليست في حكم الآخرة، وإن كان اللفظ على ذلك من حيث كان الحرف المحذوف للتخفيف في الوقف في حكم المثبت، لأن الحذف ليس بلازم له، يدلّك على ذلك قول الشاعر (4):
إن عديا ركبت إلى عدي ... وجعلت أموالها في الحطمي
__________
(1) يشير في ذلك إلى بيت رؤبة:
وهبت الريح بمور هبا ... تترك ما أبقى الدبى سبسبّا
وقد سبق انظر 1/ 65و 410.
(2) يشير في ذلك إلى بيت منظور بن مرثد الأسدي وهو:
نسلّ وجد الهائم المغتلّ ... ببازل وجناء أو عيهل
وقد سبق انظر 1/ 151، 410و 2/ 362.
(3) سبق قريبا.
(4) سبق انظر 2/ 301.(4/337)
ارهن بنيك عنهم أرهن بني فالياء من بني مخففة للوقف، والتقدير: ارهن بنيّ يا هذا، فلمّا وقف عليه أسكن وخفّف، والياء المحذوفة في نية الثبات وحكمه، يدلّك على ذلك أنه لو كان على خلاف هذا لردّ النون في بنين، فلما لم يردّ النون، ولم يجز أن يردّها للخروج عن القافية، علمت أنها في حكم الثبات.
ومثل هذا ممّا هو في حكم الثبات في اللفظ، وإن كان محذوفا منه قوله (1):
وكحّل العينين بالعواور
__________
(1) من رجز لجندل بن المثنى الطهوي وهو:
غرّك أن تقاربت أباعري ... وأن رأيت الدهر ذا الدوائر
حنى عظامي وأراه ثاغرى ... وكحّل العينين بالعواور
وهو من شواهد سيبويه 2/ 374والخصائص 1/ 195 و 3/ 164و 326والمحتسب 1/ 290107. المنصف 2/ 49و 3/ 50شواهد الشافية 374واللسان مادة / عور /.
قال الأعلم: الشاهد فيه: تصحيح واو العواور الثانية، لأنه ينوي الياء المحذوفة من العواوير، والواو إذا وقعت في مثل هذا الموضع لم تهمز لبعدها من الطرف الذي هو أحق بالتغيير والاعتلال، ولو لم تكن فيه ياء منويّة للزم همزها. والعواوير: جمع عوّار، وهو وجع العين، وهو أيضا ما يسقط في العين فيؤلمها، وجعل ذلك كحلا للعين على الاستعارة.
(طرة الكتاب 2/ 374).(4/338)
فلولا أن الحرف في حكم الثبات، لهمزت كما همزت أوائل ونحوه.
ومثل هذا الحرف المحذوف للتخفيف، الحذف في قولهم: ضوء، وشيء، ومثله الحركة المحذوفة في قولهم:
لقضو الرجل، وقولهم: رضي. كلّ هذا وإن كان محذوفا في اللفظ فهو في حكم الثبات فيه، كما كان المحذوف فيه بعد ياء التحقير من: يا بني، في حكم الثبات.
وأمّا مخالفة البزيّ القواس في الثالثة، وقراءته لها: {يا بني أقم} بفتح الياء، ورواية أبي بكر عن عاصم في هذا الموضع كذلك فالقول فيه أنه أراد به الإضافة، كما أرادها في قوله: يا بني * إذا كسر الياء التي هي لام الفعل، كأنه قال: يا بني * ثم أبدل من الكسرة الفتحة، ومن الياء الألف، فصار: يا بنيّا، كما قال (1):
يا بنت عمّا لا تلومي واهجعي ثمّ حذف الألف، كما كان يحذف الياء في: {يا بني إنها} وقد حذفت الياء التي للإضافة، إذا أبدلت الألف منها، أنشد أبو الحسن (2):
فلست بمدرك ما فات مني ... بلهف ولا بليت ولا لوانّي
__________
(1) سبق ذكره في ص 91.
(2) سبق ذكره ص 92.(4/339)
قال: كذا سمعناه من العرب، فقوله: بلهف، إنّما هو بلهفى، فحذف الألف، وقد أجريت الألف مجرى الياء في الحذف في هذا النحو في الشعر وغيره، وإن لم يكثر فقالوا:
أصاب الناس جهد، ولو تر ما أهل مكة، فحذفت الألف من ترى (1). كما حذفت الياء من {يوم يأت لا تكلم نفس}
[هود / 105] ونحوه، وحذف في الشعر من القافية، كما حذفت الياء قال (2):
ورهط ابن المعل وكذلك حذف الألف في بنيّ، كما حذف في النداء نحو: يا بنيّ، ولا يجوز أن يكون الحذف فيه على إرادة الندبة، قال أبو عثمان: ومن قال ذلك فقد أخطأ، قال: وذلك أن من كان من العرب لا يلحق في الندبة الألف فإنه يجعله نداء، فلو حذفها صار نداء على غير جهة الندبة، قال أبو عثمان: ووضع الألف مكان الياء في الإضافة مطّرد، وأجاز: يا زيد أقبل (3). إذا أردت الإضافة، قال: وعلى هذا قراءة من
__________
(1) انظر 1/ 141.
(2) قطعة من بيت سبق في 1/ 79، 141و 4/ 92في هذا الجزء.
(3) في الكشف عن وجوه القراءات لمكي 1/ 530: وقد أجاز المازني: «يا زيدا تعال» يريد: يا زيدي، ثم أبدل من كسرة الدال فتحة، ومن الياء ألفا. قال المازني: وضع الألف مكان الياء مطرد، وعلى هذا قرأ ابن عامر: «يا أبت» بفتح التاء، أراد: يا أبتي.(4/340)
قرأ، يا أبت لم تعبد [مريم / 42] ويا قوم لا أسألكم [هود / 29]، وأنشد أبو عثمان (1):
وقد زعموا أنّي جزعت عليهما ... وهل جزع إن قلت وا بأباهما
فهذا الوجه أوجه من الإسكان، وقد أجازه أبو عثمان ورآه مطّردا، فعلى رأي أبي عثمان يكون ما رواه حفص عن عاصم أنه قرأ في كلّ القرآن: {يا بني} إذا كان واحدا.
هود: 46
اختلفوا في قوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} [46] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة: {إنه عمل} رفع منون. {غير صالح} برفع الراء. وقرأ الكسائيّ وحده: إنه عمل غير صالح بفتح العين وكسر الميم، وفتح اللام، غير صالح بنصب الراء (2).
قال أبو علي: قول من قال: {عمل} فنوّن عملا، أن الضمير في إنه * قد قيل فيه أن المراد به أنّ سؤالك ما ليس لك به علم غير صالح، ويحتمل أن يكون الضمير لما دلّ عليه: {اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} [هود / 42]، فيكون التقدير: إنّ كونك مع الكافرين وانحيازك إليهم، وتركك
__________
(1) البيت مع آخر بعده في النوادر ص 365 (ط. الفاتح) ونسبهما لامرأة من بني سعد جاهلية، وفي ابن يعيش 2/ 12. وفي اللسان (أبي) ونسبهما إلى درنى بنت سيار بن ضبرة ترثي أخويها ويقال لعمرة الخثيميّة. وقولها:
وا بأباهما تريد: وا بأبي هما.
(2) السبعة 334.(4/341)
الركوب معنا والدخول في جملتنا عمل غير صالح، ويجوز أن يكون الضمير لابن نوح كأنه جعل عملا غير صالح كما يجعل الشيء الشيء لكثرة ذلك منه كقولهم: الشعر زهير، أو يكون المراد أنه ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف.
فأما قول نوح: {إن ابني من أهلي} [هود / 45]، وقوله تعالى: {إنه ليس من أهلك} [هود / 46]، فيجوز أن يكون نوح قال ذلك على ظاهر ما شاهد من ابنه من متابعته له، وتصديقه إياه. فقال له: ليس من أهلك أي: من أهل دينك، فحذف المضاف، ويجوز أن يكون المعنى: ليس من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم من الغرق، لمخالفته لك من الدين، فبعّد المخالفة في الدين قرب النسب الذي بينكما للمباينة في الإيمان، كما تقرّب الموالاة فيه مع البعد في النسب، قال:
{إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات / 10].
ويجوز أن يكون الله تبارك وتعالى أطلع نوحا على باطن أمره، كما أطلع محمدا رسوله عليه السلام على ما استبطنه المنافقون.
ومن قرأ: إنه عمل غير صالح فقد زعموا أن ذلك روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (1)، فيكون هذا في المعنى كقراءة من قرأ:
{إنه عمل غير صالح} وهو يجعل الضمير لابن نوح، فتكون
__________
(1) أخرجه الترمذي في أبواب ثواب القرآن رقم 2932عن شهر بن حوشب عن أم سلمة وأبو داود في كتاب الحروف والقراءات رقم 3983. وانظر معاني القرآن 2/ 17.(4/342)
القراءتان متفقتين في المعنى، وإن اختلفتا في اللفظ.
فأمّا قوله: {ما ليس لك به علم} فيحتمل قوله: به * في الآية وجهين: أحدهما أن يكون كقوله (1):
كان جزائي بالعصا أن أجلدا إذا قدّمت بالعصا للتبيين، وكقوله: {وكانوا فيه من الزاهدين} [يوسف / 20]، {وإني لكما لمن الناصحين}
[الأعراف / 21]، {وأنا على ذلكم من الشاهدين}
[الأنبياء / 56] وزعم أبو الحسن أن ذلك إنما يجوز في حروف الجر، والتقدير فيه (2) التعليق بمضمر يفسّره هذا الذي ظهر بعد، وان كان يجوز تسلّطه عليه، ومثل ذلك قوله: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} [الفرقان / 22]، وقوله:
{ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أئنكم لفي خلق جديد} [سبأ / 7]، فانتصب {يوم يرون} بما دلّ عليه {لا بشرى يومئذ} ولا يجوز لما بعد لا * هذه أن تتسلّط على {يوم يرون} وكذلك قوله:
{أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون} [المؤمنون / 82]، فإذا * يتعلق بما دلّ عليه {إنا لمبعوثون} ولا يجوز أن يتسلط
__________
(1) من أرجوزة للعجاج وقبله:
ربيته حتى إذا تمعددا ... وآض نهدا كالحصان أجردا
انظر ملحقات ديوانه 2/ 281. المحتسب 2/ 310المنصف 1/ 313029/ 20المفصل 9/ 151الخزانة 3/ 562.
(2) جاء عن الهامش: بلغت.(4/343)
عليه، وكذلك {إني لكما لمن الناصحين} يتعلق بما يدل عليه النصح المظهر، وإن لم يتسلط عليه، والتقدير: إني ناصح لكما من الناصحين.
وكذلك: {ما ليس لك به علم} [هود / 46] يتعلّق بما يدلّ عليه قوله: {علم} الظاهر وإن لم يجز أن يعمل فيه، ويجوز في قوله: {ما ليس لك به علم} وجه آخر وهو أن يكون متعلّقا بالمستتر، وهو العامل فيه كتعلق الظرف بالمعاني كما نقول: ليس لك فيه رضا، فيكون به * في الآية بمنزلة: فيه، والعلم يراد به العلم المتيقن الذي يعلم به الشيء على حقيقته، ليس العلم الذي يعلم به الشيء على ظاهره، كالذي في قوله:
{فإن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة / 10] ونحو ما يعلمه الحاكم من شهادة الشاهدين، وإقرار المقرّ بما يدّعى عليه، ونحو ذلك مما يعلم به العلم الظاهر الذي يسع الحاكم الحكم بالشيء معه.
هود: 46
اختلفوا في قوله: {فلا تسألن ما ليس لك به علم}
[هود / 46].
فقرأ ابن كثير وابن عامر: فلا تسألن مفتوحة اللام مشدّدة النون غير واقعة. هكذا روى أبو عبيد عن هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر.
وروى ابن ذكوان فلا تسألن مفتوحة اللام مشدّدة النون مكسورة النون، فهذا يدلّ على أنها واقعة خلاف ما روى أبو عبيد.
وقرأ نافع: فلا تسألن كما قرأ ابن كثير وابن عامر، غير أنه كسر النون. واختلف عنه في إثبات الياء في الوصل وحذفها، فروى ابن جمّاز وورش والكسائيّ عن إسماعيل بن جعفر، وأبو بكر بن أبي أويس عن نافع: مشدّدة بالياء في الوصل. وقال المسيّبي وقالون في رواية القاضي عنه، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، وسليمان بن داود الهاشمي، عن إسماعيل بن جعفر وأبو بكر بن أبي أويس عن نافع فلا تسألن مكسورة من غير ياء في الوصل.(4/344)
وروى ابن ذكوان فلا تسألن مفتوحة اللام مشدّدة النون مكسورة النون، فهذا يدلّ على أنها واقعة خلاف ما روى أبو عبيد.
وقرأ نافع: فلا تسألن كما قرأ ابن كثير وابن عامر، غير أنه كسر النون. واختلف عنه في إثبات الياء في الوصل وحذفها، فروى ابن جمّاز وورش والكسائيّ عن إسماعيل بن جعفر، وأبو بكر بن أبي أويس عن نافع: مشدّدة بالياء في الوصل. وقال المسيّبي وقالون في رواية القاضي عنه، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، وسليمان بن داود الهاشمي، عن إسماعيل بن جعفر وأبو بكر بن أبي أويس عن نافع فلا تسألن مكسورة من غير ياء في الوصل.
وقال أحمد بن صالح عن ورش: {فلا تسألن} السين ساكنة والهمزة قبل اللام واللام ساكنة، والياء مثبتة في الوصل.
وقال أحمد بن صالح عن قالون: اللام ساكنة والسين ساكنة، والنون مكسورة بغير ياء في وصل ولا وقف.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ: {فلا تسألن ما ليس لك} خفيفة النون ساكنة اللام. وكان أبو عمرو يثبت الياء في الوصل مثل نافع في رواية من روى عنه ذلك.
وكان عاصم وحمزة والكسائي لا يثبتون الياء في الوصل والوقف (1).
قال أبو علي: سألت: فعل يتعدّى إلى مفعولين، وليس مما يدخل على المبتدأ وخبره، فيمتنع أن يتعدى إلى مفعول واحد، فمن قرأ: تسألن بفتح اللام، ولم يكسر النون، عدّى
__________
(1) السبعة 336335.(4/345)
السؤال إلى مفعول واحد في اللفظ، والمعنى على التعدي إلى ثان.
قال: وروى ابن ذكوان مفتوحة اللام مشدّدة النون مكسورة، فهذا يدلّ على أنها واقعة، يريد أن كسر نون فلا تسألن يدلّ على أنه قد عدّى السؤال إلى مفعولين أحدهما اسم المتكلم، والآخر الاسم الموصول، وحذفت النون المتصلة بياء المتكلّم لاجتماع النونات، كما حذفت النون من قولهم:
«إني» لذلك، وكما حذف من قوله (1):
يسوء الفاليات إذا فليني فأما إثبات الياء في الوصل فهو الأصل، وحذفها أخفّ والكسرة تدلّ عليها ويعلم أن المفعول مراد في المعنى
هود: 66
اختلفوا في فتح الميم وكسرها من قوله: يومئذ في ثلاثة مواضع: في هود [66] والنمل [89]، وسأل سائل [11].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {ومن خزي يومئذ}
و {من عذاب يومئذ} وهم من فزع يومئذ [النمل / 89] مضافا ثلاثهن بكسر الميم.
وقرأ عاصم وحمزة: {ومن خزي يومئذ} و {من عذاب يومئذ} مثل أبي عمرو وأصحابه، وخالفوهم في قوله: من فزع يومئذ، فنوّن عاصم وحمزة، وفتحا الميم في يومئذ.
وقرأ الكسائيّ: ومن خزي يومئذ ومن عذاب يومئذ
__________
(1) عجز بيت لعمرو بن معديكرب. سبق ذكره في 3/ 334.(4/346)
بفتح الميم فيهما مع الإضافة، وقرأ: {وهم من فزع} منونا، يومئذ نصبا.
واختلف عن نافع، فروى ابن جمّاز وأبو بكر بن أبي أويس، والمسيّبي وقالون، وورش، ويعقوب بن جعفر، كلّ هؤلاء عن نافع بالإضافة في الأحرف (1) الثلاثة وفتح الميم، وقال إسماعيل بن جعفر عنه: بالإضافة في الثلاثة، وكسر الميم، ولا يجوز كسر الميم إذا نوّنت {من فزع}، ويجوز فتحها وكسرها إذا لم تنوّن (2).
قال أبو علي: قوله: من خزي يومئذ يوم: من قوله:
يومئذ * ظرف كسرت أو فتحت في المعنى إلا أنّه اتّسع فيه، فجعل اسما، كما اتّسع في قوله: {بل مكر الليل والنهار}
[سبأ / 33]، فأضيف المكر إليهما، وإنما هو فيهما، وكذلك العذاب والخزي والفزع، أضفن إلى اليوم، والمعنى على أن ذلك كلّه في اليوم، كما أن المكر في الليل والنهار، يدلّك على ذلك قوله: {ولعذاب الآخرة أشق} [الرعد / 34]، {ولعذاب الآخرة أخزى} [فصلت / 16]، وقوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} [الأنبياء / 103] وقوله: {ففزع من في السموات ومن في الأرض} [النمل / 87]، وقوله: {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران / 192].
فأمّا العذاب عذاب الدنيا فعلى ضروب، قال: {وما كنا
__________
(1) في الأصل: الأحزاب، وهو تحريف وما أثبتناه من السبعة.
(2) السبعة 336.
} {معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء / 15]، والمعنى، والله أعلم: ما كنّا معذّبين عذاب الاستئصال، ومثلها: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا} [القصص / 59] كأن حجة العقل لا يستأصل بها إذا انفردت، ولم يؤخذ بها حتى يقع التنبيه عليها بالرسل، فإذا جاءت الرسل، فاقترحت عليهم الآيات، فلم يقع الإيمان عند مجيئها عذّب حينئذ عذاب الاستئصال، قال: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} [الإسراء / 59]، فأخذوا بالاستئصال، فلو أتيناكم أنتم بالآيات التي اقترحتموها من نحو أن ننزّل عليكم كتابا من السّماء، أو نفجّر من الأرض ينبوعا، ونحو ذلك مما اقترحوا، فلم يؤمنوا لمضى فيكم سنّة الأولين في امتناعهم من الإيمان، عند مجيء تلك الآيات، ومن ذلك قوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال / 33]، أي: ليعذبهم عذاب الاستئصال، لأنّ أمم الأنبياء إذا أهلكوا، لم يكن أنبياؤهم فيهم، وعلى هذا قال: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} [الدخان 21]، وقال: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} [هود / 81]، {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال / 33] أي: ومؤمنوهم يستغفرون ويصلّون، {وما لهم ألا يعذبهم الله} [الأنفال / 34] أي:(4/347)
__________
(2) السبعة 336.
{معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء / 15]، والمعنى، والله أعلم: ما كنّا معذّبين عذاب الاستئصال، ومثلها: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا} [القصص / 59] كأن حجة العقل لا يستأصل بها إذا انفردت، ولم يؤخذ بها حتى يقع التنبيه عليها بالرسل، فإذا جاءت الرسل، فاقترحت عليهم الآيات، فلم يقع الإيمان عند مجيئها عذّب حينئذ عذاب الاستئصال، قال: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} [الإسراء / 59]، فأخذوا بالاستئصال، فلو أتيناكم أنتم بالآيات التي اقترحتموها من نحو أن ننزّل عليكم كتابا من السّماء، أو نفجّر من الأرض ينبوعا، ونحو ذلك مما اقترحوا، فلم يؤمنوا لمضى فيكم سنّة الأولين في امتناعهم من الإيمان، عند مجيء تلك الآيات، ومن ذلك قوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال / 33]، أي: ليعذبهم عذاب الاستئصال، لأنّ أمم الأنبياء إذا أهلكوا، لم يكن أنبياؤهم فيهم، وعلى هذا قال: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} [الدخان 21]، وقال: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} [هود / 81]، {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال / 33] أي: ومؤمنوهم يستغفرون ويصلّون، {وما لهم ألا يعذبهم الله} [الأنفال / 34] أي:
بالسيف في صدّهم عن المسجد الحرام المسلمين من غير أن تكون لهم عليهم ولاية، وذلك لما منعوا عنه، فقال: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام} [الفتح / 25].
فأمّا قراءة من قرأ: {من عذاب يومئذ} فكسر الميم فلأن يوما اسم معرب، أضيف إليه ما أضيف من العذاب، والخزي
والفزع، فانجرّ بالإضافة، ولم يفتح اليوم فيبنيه لإضافته إلى المبني، لأن المضاف منفصل من المضاف إليه، ولا تلزمه الإضافة، فلمّا لم تلزم الإضافة المضاف لم يلزم فيه البناء، يدلّ على ذلك أنك تقول: ثوب خزّ، ودار زيد، فلا يجوز فيه إلا إعرابه، وإن كان الاسمان قد عملا بمعنى الحرف، ولا يلزمهما البناء، كما يلزم ما لا ينفك منه معنى الحرف في نحو أين، وكيف، ومتى، فكما لم يبن المضاف، وإن كان قد عمل عمل الحرف من حيث كان غير لازم، كذلك لم يبن يوم للإضافة إلى «إذ» لأن إضافته لا تلزم كما لم يبن المضاف، وإن كان قد عمل في المضاف إليه بمعنى اللام ومعنى «من» لمّا لم تلزم الإضافة.(4/348)
فأمّا قراءة من قرأ: {من عذاب يومئذ} فكسر الميم فلأن يوما اسم معرب، أضيف إليه ما أضيف من العذاب، والخزي
والفزع، فانجرّ بالإضافة، ولم يفتح اليوم فيبنيه لإضافته إلى المبني، لأن المضاف منفصل من المضاف إليه، ولا تلزمه الإضافة، فلمّا لم تلزم الإضافة المضاف لم يلزم فيه البناء، يدلّ على ذلك أنك تقول: ثوب خزّ، ودار زيد، فلا يجوز فيه إلا إعرابه، وإن كان الاسمان قد عملا بمعنى الحرف، ولا يلزمهما البناء، كما يلزم ما لا ينفك منه معنى الحرف في نحو أين، وكيف، ومتى، فكما لم يبن المضاف، وإن كان قد عمل عمل الحرف من حيث كان غير لازم، كذلك لم يبن يوم للإضافة إلى «إذ» لأن إضافته لا تلزم كما لم يبن المضاف، وإن كان قد عمل في المضاف إليه بمعنى اللام ومعنى «من» لمّا لم تلزم الإضافة.
ومن فتح فقال: من عذاب يومئذ ففتح، مع أنه في موضع جر، فلأن المضاف يكتسي من المصاف إليه التعريف والتنكير، ومعنى الاستفهام والجزاء في نحو: غلام من تضرب؟
وغلام من تضرب أضربه (1). والنفي في نحو قولهم: ما أخذت باب دار أحد، فلما كان يكتسي من المضاف إليه هذه الأشياء اكتسى منه الإعراب والبناء أيضا، إذا كان المضاف من الأسماء الشائعة نحو: يوم، وحين، ومثل، وشبيه بهذا الشّياع الأسماء الشائعة المبنية نحو: أين وكيف، ولو كان المضاف مخصوصا نحو: رجل وغلام، لم يكتس منه البناء كما اكتسى من الأسماء الشائعة، فمما جاء من ذلك:
__________
(1) قوله: غلام من تضرب؟ اكتسى المضاف من المضاف إليه الاستفهام.
وغلام من تضرب أضربه: اكتسى الجزاء. لم يمثل للتعريف، وهو مثل(4/349)
على حين عاتبت المشيب على الصّبا (1)
وقوله:
لم يمنع الشّرب منها غير أن هتفت (2)
ومن ذلك قوله: {إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}
__________
قولك: هذا غلام زيد.
(1) صدر بيت للنابغة في ديوانه ص 44، وعجزه:
وقلت ألمّا أصح والشيب وازع وهو من شواهد سيبويه 1/ 369والكامل 1/ 158والمنصف 1/ 58وابن الشجري 1/ 46و 2/ 264والمفصل 3/ 16، 81 و 4/ 91و 8/ 146والخزانة 3/ 151وشرح أبيات المغني 7/ 123
(2) صدر بيت لأبي قيس بن الأسلت وعجزه:
حمامة في غصون ذات أو قال أنشده سيبويه 1/ 369في «باب ما تكون فيه أنّ وأن مع صلتهما بمنزلة غيرهما من الأسماء» وقال: وذلك قولك: «ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا» فأن في موضع اسم مرفوع كأنه قال: ما أتاني إلا قولهم كذا وكذا. والحجة على أن هذا في موضع رفع أن أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعا:
لم يمنع الشرب منها غير البيت وزعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع، فقال الخليل: هذا كنصب بعضهم «يومئذ» في كل موضع الخ.
والبيت من شواهد ابن الشجري 1/ 46و 2/ 265وفيه بسط للمسألة.
والخزانة 2/ 45و / 144، 152وشرح أبيات المغني 3/ 395واللسان (وقل). وأوقال: جمع وقل، وهو ثمرة لشجرة المقل.(4/350)
[الذاريات / 23]. ومثل * في موضع رفع في قول سيبويه (1)، وقد جرى وصفا على النكرة إلا أنه فتح للإضافة إلى أنّ ومن ذلك (2):
وتداعى منخراه بدم ... مثل ما أثمر حمّاض الجبل
لما أضاف مثلا إلى المبنيّ وكان اسما شائعا بناه ولم يعربه، وأبو عثمان يذهب إلى أنه جعل مثلا مع ما بمنزلة اسم واحد، فبنى مثلا على الفتح، ولا دلالة قاطعة على هذا القول من هذا البيت، وإن كان ما ذهب إليه مستقيما لما نذكره في هذه المسألة إن شاء الله، فأمّا الكسر في إذ * فلالتقاء الساكنين، وذلك أن إذ من حكمها أن تضاف إلى الجملة من الابتداء والخبر، فلما اقتطعت عنها الإضافة نونت ليدل التنوين على أن المضاف إليه قد حذف فصار التنوين هنا ليدل على قطع الإضافة من المضاف كما صار يدلّ على انقضاء البيت في قول من نوّن في الإنشاد أواخر الأبيات. فقال (3):
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 470وقد أوردها بقراءة الرفع (مثل ما) وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وستأتي في موضعها من الذاريات. وانظر أمالي ابن الشجري 2/ 264، 265.
(2) البيت عند ابن يعيش في شرح المفصل 8/ 135ابن الشجري في أماليه 2/ 266واللسان في مادة / حمض / والحمّاض: بقلة برّية تنبت أيام الربيع في مسايل الماء ولها ثمرة حمراء
(3) مطلع أرجوزة للعجاج وبعده:
من طلل أمسى تخال المصحفا(4/351)
يا صاح ما هاج الدموع الذّرّفن ... و: أقلّي اللوم عاذل والعتابا (1)
و: يا أبتا علّك أو عساكن (2)
فكما دلّ التنوين في هذه الأواخر على انقطاع الإضافة عن المضاف إليه، كذلك يدلّ في يومئذ وحينئذ على ذلك، فكسرت الذال لسكونها وسكون التنوين. والتنوين يجيء على غير ضرب في كلامهم، منه هذا الذي ذكرناه، ومنه ما يدخل على كلم مبنية فيفصل بين المعرفة منها والنكرة مثل، غاق وغاق، ولا يجوز أن يكون هذا التنوين الذي في نحو رجل وفرس، لأن هذا التنوين لا يدخل إلا الأسماء المتمكّنة، وقد يمتنع من الدخول على بعض المتمكّن نحو ما لا ينصرف، فتعلم بهذا أن الذي في «إيه» ليس الذي يدخل المتمكن ومن ذلك التنوين الذي يدخل في مسلمات ونحوه في جمع المؤنث، ليس ذلك على الحدّ الذي في رجل، ونحوه لو كان كذلك لسقط من قوله: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله}
__________
وهو من شواهد سيبويه 2/ 299والعينى 1/ 26واراجيز البكري / 48وديوان العجاج 2/ 219.
(1) صدر بيت لجرير سبق ذكره في 1/ 73و 2/ 361و 376.
(2) عجز بيت لرؤبة في ديوانه ص 181وصدره:
تقول بنتي قد أنى أناكا وهو من شواهد سيبويه 1/ 992388والخصائص 2/ 96 والمقتضب 3/ 71والمحتسب 2/ 213وابن الشجري 2/ 10476 والإنصاف / 222والمفصل 2/ 12، 3/ 120و 7/ 132والخزانة(4/352)
[البقرة / 128]، فأما قول من أضاف من عذاب يومئذ وفزع يومئذ ومن خزي يومئذ فلأنها معارف تعرفت بالإضافة إلى اليوم، يدلّك على ذلك قوله: {ولعذاب الآخرة أشق}
[الرعد / 34]، وقوله: {ففزع من في السموات}
[النمل / 87]، وقوله: {فقد أخزيته} [آل عمران / 192]، فهذه أمور قد تعرّفت بالإضافة إلى اليوم، فالوجه فيها الإضافة إليه. فأمّا تنوين الكسائي {وهم من فزع يومئذ}، وتنكيره الفزع، فهو في التخصيص مثل العذاب والخزي، فحقّه الإضافة، كالأخريين، وكأنّه فصل فنوّن، ولم يضف، لأنه لما جاء الفزع الأكبر دلّ ذلك على ضروب منه. فإذا نوّن فقد وقع الأمن من جميع ذلك، أكبره وأوسطه وأدونه، والفتحة في قوله:
من فزع يومئذ ينبغي أن تكون فتحة لا نصبة، لأنه قد فتح من عذاب يومئذ ومن خزي يومئذ، فبنى يوما لمّا أضافه إلى غير متمكن، فكذلك يبنيه إذا نوّن المصدر. ويجوز في قوله: {يومئذ} على هذه القراءة أن يكون معمول المصدر، ويجوز أيضا أن يكون معمول اسم الفاعل.
هود: 68
اختلفوا في صرف {ثمود} وترك إجرائه في خمسة مواضع، في هود: ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [68]، وفي الفرقان: وعادا وثمودا وأصحاب الرس [38]، وفي العنكبوت: وعادا وثمودا وقد تبين لكم [38]، وفي النّجم: {وثمود فما أبقى} [51].
__________
2/ 441وهو الشاهد 1196275269من شواهد المغني.(4/353)
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر بالتنوين في أربعة مواضع: في هود: ألا إن ثمودا وفي الفرقان: وعادا وثمودا وأصحاب الرسّ وفي العنكبوت: وعادا وثمودا وقد تبين لكم وفي النجم: وثمودا فما أبقى، ولم يصرفوا: {ألا بعدا لثمود} [68].
وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف.
وقرأ الكسائي بصرفهنّ جمع.
واختلف عن عاصم في التي في سورة النجم فروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم أنه أجرى ثمودا في ثلاثة مواضع: في هود والفرقان، والعنكبوت ولم يجره في النجم.
وروى الكسائيّ عن أبي بكر وحسين الجعفي أيضا عن أبي بكر عن عاصم أنه أجرى الأربعة الأحرف، وروى حفص عن عاصم أنه لم يجر ثمود في شيء من القرآن مثل حمزة (1).
قال أبو علي: هذه الأسماء التي تجري على القبائل والأحياء على أضرب:
أحدها: أن يكون اسما للحيّ أو للأب، والآخر: أن يكون اسما للقبيلة. والثالث: أن يكون الغالب عليه الأب، أو الحيّ، أو القبيلة. والرابع: أن يستوي ذلك في الاسم، فيجيء على الوجهين، ولا يكون لأحد الوجهين مزيّة على الآخر في الكثرة.
__________
(1) السبعة 337.(4/354)
فممّا جاء على أنه اسم الحيّ قولهم: ثقيف وقريش، وكلّ ما لا يقال فيه بنو فلان، وأمّا ما جاء اسما للقبيلة، فنحو:
تميم، قالوا: تميم بن قرّ، قال سيبويه: وسمعناهم يقولون:
قيس ابنة عيلان، وتميم صاحبة ذلك (1). وقالوا: تغلب ابنة وائل، قال (2):
لولا فوارس تغلب ابنة وائل ... نزل العدوّ عليك كلّ مكان
وأما ما غلب اسما للحي أو القبيلة فقد قالوا: باهلة بن أعصر، وقالوا: يعصر، وباهلة اسم امرأة، قال سيبويه: ولكنه جعل اسم الحيّ ومجوس لم تجعل إلا اسم القبيلة، وسدوس أكثرهم يجعله اسم القبيلة وتميم أكثرهم يجعله اسم القبيلة، ومنهم من يجعله اسم الأب.
وأما ما استوى فيه أن يكون اسما للقبيلة، وأن يكون اسما للحيّ فقال سيبويه: ثمود وسبأ هما مرّة للقبيلتين، ومرّة للحيّين، وكثرتهما سواء، قال: وعادا وثمودا [الفرقان / 38] وقال: ألا إن ثمودا كفروا ربهم [هود / 68]، وقال: {وآتينا ثمود الناقة} [الإسراء / 59]، فإذا استوى في ثمود أن يكون مرة للقبيلة، ومرة للحيّ، ولم يكن يحمله على أحد الوجهين مزيّة
__________
(1) سيبويه 2/ 26وفيه بنت بدل: ابنة. وانظر باب أسماء القبائل والأحياء وما يضاف إلى الأم والأب. 2/ 25وباب: ما لم يقع إلا اسما للقبيلة 2/ 28.
(2) البيت للفرزدق من قصيدة يمدح فيها بني تغلب ويهجو جريرا انظر ديوانه / 883، والمقتضب 3/ 360.(4/355)
في الكثرة، فمن صرف في جميع المواضع كان حسنا، ومن لم يصرف في جميع المواضع فكذلك.
وكذلك إن صرف في موضع ولم يصرف في موضع آخر، إلا أنّه لا ينبغي أن يخرج عما قرأت به القرّاء، لأنّ القراءة سنّة، فلا ينبغي أن تحمل على ما تجوّزه العربيّة حتى ينضم إلى ذلك الأثر من قراءة القرّاء.
ومثل ثمود في أنّه يكون مرّة مذكّرا اسما للأب أو الحيّ، فيصرف، ومرّة يؤنّث فيكون اسما للقبيلة فلا يصرف قوله تعالى: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها}
[النمل / 91]، وفي الأخرى: {وهذا البلد الأمين}
[التين / 3]، فعبّر عن مكان بعينه مرّة بلفظ التذكير، وأخرى بلفظ التأنيث، والبلدة المحرّمة يعني بها مكة وكذلك {وهذا البلد الأمين} فوصف بالأمن مثل قوله: {ومن دخله كان آمنا}
[آل عمران / 97]، فجرى الوصف على البلد في اللفظ، والمعنى على من فيه من طارئ وقاطن، وهذا آمن في حكم الشرع لا يهاج فيه، ولا يفعل به ما يكون يفعله به غير آمن، ومن ذلك قول الشاعر (1):
كسا الله حيّي تغلب ابنة وائل ... من اللّؤم أظفارا بطيئا نصولها
__________
(1) البيت لعميرة بن جعيل التغلبي وهو من المفضلية / 63وهو في الشعر والشعراء 2/ 650والمعاني الكبير 1/ 503والخزانة 1/ 458.
قال ابن قتيبة: يقول: لم يؤتوا في لؤمهم من قبل أمهاتهم، ولكن ألزقها بالعفر وهو التراب الآباء.(4/356)
أضاف إلى نفسه فقال: حيي، ثم قال: تغلب ابنة وائل، فجمع بين الحي والقبيلة، وجعلهما بمنزلة، ومن هذا الباب ما أنشده سيبويه (1):
سادوا البلاد وأصبحوا في آدم ... بلغوا بها بيض الوجوه فحولا
القول في آدم أنّه لا يخلو أن يكون الاسم المخصوص، أو يراد به الحيّ أو القبيلة كتميم وتغلب وقريش، فلا يجوز أن يكون الاسم العلم لقوله: وأصبحوا في آدم، لو قلت: أصبحوا في زيد، وأنت تريد الاسم العلم، لم يجز كما يجوز ذلك إذا أردت به الاسم العام، كقوله (2):
أو تصبحي في الظّاعن المولّي فإذا لم يجز أن يكون العلم، ثبت أنه لا يخلو من أن يراد به الحيّ أو القبيلة أو يجوز الأمران فيه، ولا دلالة على إرادته واحدا منهما، ألا ترى أنه لو لم يصرف آدم لم تكن فيه دلالة على أحد هذه الأمور من اللفظ، لأنك إن أردت الحيّ لم تصرف كما تصرف أفكل اسم رجل، وإن أردت القبيلة، لم يجز أن ينصرف. كما أنك إذا سميت امرأة أفكل لم ينصرف، وكذلك لو استعمل فيه الأمران، فكذلك إذا صرفته في الشعر للضرورة، لم يكن فيه دليل على أحد الأمرين دون الآخر.
__________
(1) سيبويه 2/ 28ولم ينسبه. الهمع 1/ 35الدرر 1/ 10. وفي الأصل:
«ساروا» بدل «سادوا» والتصويب من سيبويه.
(2) سبق ذكره في 1/ 151و 2/ 133.(4/357)
فإذا لم ينفصل ذلك ولم يتميز في اللفظ، علمت أنه لا يخلو من واحد من ذلك، ولا سبيل إلى أن يقطع على شيء مما يحتمله من جهة اللفظ، فأما قوله (1):
أولئك أولى من يهود بمدحة ... إذا أنت يوما قلتها لم تؤنّب
فقد قامت الدّلالة على أن يهود استعملت على أنها للقبيلة ليس للحيّ من قوله: «أولئك أولى من يهود» لأنّ يهود لو كان الحيّ لم ينصرف، ولم يذكره سيبويه ليستشهد به على أن الاسم وضع للقبيلة، إنما أخبر أنّه في البيت للقبيلة، ويعلم ذلك في استعمالهم، ونحو ما أنشدناه أبو الحسن علي بن سليمان (2).
فرّت يهود وأسلمت جيرانها ... صمّي لما فعلت يهود صمام
وكذلك في الحديث: «تقسم يهود» (3)، فبهذا النحو علم أن هذا الاسم أريد به القبيلة. ومثل يهود في هذا مجوس ويدلّ على ذلك ما أنشده من قوله (4):
كنار مجوس تستعر استعارا
__________
(1) من شواهد سيبويه 2/ 29ونسبه لرجل من الأنصار.
(2) سبق ذكره في 3/ 342وقائله الأسود بن يعفر.
(3) الحديث في مسند أحمد بن حنبل 4/ 2بلفظ: ليقسم منكم خمسون أن يهود قتلته.
(4) نسبه سيبويه 2/ 28لامرئ القيس وصدره:
أحار ترى بريقا هبّ وهنا(4/358)
ألا ترى أنه لو كان للحي دون القبيلة، لانصرف، ولم يكن فيه مانع من الصرف.
هود: 69
اختلفوا في قوله: {قالوا سلاما قال سلام} [هود / 69، الذاريات / 25]، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: {قالوا سلاما قال سلام} بألف في السورتين جميعا.
وقرأ حمزة والكسائي: قالوا سلاما قال سلم بكسر السين وتسكين اللام في السورتين جميعا، هاهنا وفي سورة الذاريات [25] (1).
قال أبو علي: أخبرنا أبو إسحاق: قال سمعت محمد بن يزيد يقول: السلام في اللغة أربعة أشياء: فمنها مصدر سلّمت، ومنها: السلام جمع سلامة، ومنها السلام: اسم من أسماء الله تعالى، ومنها السلام: شجرة، ومنه قول الأخطل (2):
إلّا سلام وحرمل قال أبو علي: فقوله: دار السلام، يجوز أن يكون أضيفت إلى الله سبحانه تعظيما لها. ويجوز أن يكون: دار السلامة من العذاب، فمن جعل فيها كان على خلاف من وصف بقوله: {ويأتيه الموت من كل مكان} [إبراهيم / 17].
__________
وهو في ديوانه مما أجازه التوأم اليشكري لامرئ القيس عند ما تحداه بذلك. فقال امرؤ القيس الصدر وقال التوأم العجز. انظر ديوان امرئ القيس / 147.
(1) السبعة 338337.
(2) تمام البيت:(4/359)
فأما انتصاب قوله {سلاما} فلأنّه لم يحك شيء تكلّموا به، فيحكى كما تحكى الجمل، ولكن هو معنى ما تكلّمت به الرسل، كما أنّ القائل إذا قال: لا إله إلا (1) الله، فقلت: حقا، أو قلت: إخلاصا، اختلف القول في المصدرين لأنّك ذكرت معنى ما قال، ولم تحك نفس الكلام الذي هو جملة تحكى، فكذلك نصب سلاما في قوله: {قالوا سلاما} لمّا كان معنى ما قيل، ولم يكن نفس المقول بعينه.
وأما قوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}
[الفرقان / 63]، فقال سيبويه: زعم أبو الخطّاب أن مثله يريد:
مثل قولك: سبحان الله، تفسيره: براءة الله من السوء قولك للرجل: سلاما تريد: تسلّما منك، لا التبس بشيء من أمرك (2). فعلى هذا المعنى وجه ما في الآية، قال (3): وزعم أن قول أميّة (4):
سلامك ربّنا في كلّ فجر ... بريئا ما تغنّثك الذموم
__________
فرابية السّكران قفر فما بها ... لهم شبح إلّا سلام وحرمل
والسكران: اسم موضع والسلام: شجر صغار والواحدة:
سلمة والحرمل: ضرب من النبات انظر ديوانه 1/ 14.
(1) سقطت من الأصل.
(2) الكتاب 1/ 163.
(3) يريد أبا الخطاب، والنقل من سيبويه 1/ 164.
(4) سبق ذكره في 2/ 298151.(4/360)
على قوله: براءتك ربّنا من كلّ سوء.
فزعم سيبويه أن من العرب من يرفع سلاما إذا أراد معنى المبارأة، كما رفعوا حنان. قال: سمعنا بعض العرب يقول لرجل: لا تكوننّ منّي في شيء إلا سلام بسلام، أي: أمري وأمرك المبارأة والمتاركة، يريد أن حنانا في أكثر الأمر منصوب كما أن سلاما كذلك، فمن ذلك قوله (1):
حنانك ربّنا وله عنونا وقد رفع في قوله (2):
فقالت: حنان ما أتى بك هاهنا فإذا نصب سلاما بعد إلا، فانتصابه على ما كان ينتصب عليه قبل، وقوله: بسلام، صفة لسلام المنصوب، فإذا رفع كانت الجملة بعد إلا كقوله: ما أفعل كذا إلا حلّ ذاك أن أفعل، وتركوا إظهار الرافع. كما ترك إظهاره في قوله: حنان والمعنى:
أمرنا حنان وشأننا سلام.
وأما قوله: {قال سلام فما لبث} [هود / 69] فقوله:
{سلام} مرفوع لأنه من جملة الجملة المحكيّة، والتقدير فيه:
سلام عليكم، فحذف الخبر كما حذف من قوله: {فصبر جميل} [يوسف / 18] أي: صبر جميل أمثل، أو يكون المعنى: أمري سلام، وشأني سلام كما أن قوله: {فصبر
__________
(1) لم نعثر على قائله؟
(2) قد سبق ذكره عند كلامه على الأعراف / 164في هذا الجزء. ص 98.
} {جميل} يصلح أن يكون المحذوف منه المبتدأ، ومثل ذلك قوله: {فاصفح عنهم، وقل سلام} [الزخرف / 89] على حذف الخبر أو المبتدأ الذي سلام خبره.(4/361)
__________
(2) قد سبق ذكره عند كلامه على الأعراف / 164في هذا الجزء. ص 98.
{جميل} يصلح أن يكون المحذوف منه المبتدأ، ومثل ذلك قوله: {فاصفح عنهم، وقل سلام} [الزخرف / 89] على حذف الخبر أو المبتدأ الذي سلام خبره.
وأكثر ما يستعمل سلام بغير ألف ولام، وذاك أنّه في معنى الدعاء، فهو مثل قولهم: «خير بين يديك، وأمت في حجر لا فيك» (1) لما كان في معنى المنصوب استجيز فيه الابتداء بالنكرة، فمن ذلك قوله: {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي} [مريم / 47]، وقال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} [الرعد / 23].
وقال: {سلام على نوح في العالمين} [الصافات / 79]، {سلام على إبراهيم} [الصافات / 109] و {سلام على عباده الذين اصطفى} [النمل / 59]، ومما جاء في الشعر من ذلك (2):
لا سلام على عمرو
(1) الكتاب 1/ 166. وعنه في اللسان (أمت): قال سيبويه: وقالوا أمت في حجر لا فيك، أي: ليكن الأمت في الحجارة لا فيك، ومعناه أبقاك الله بعد فناء الحجارة، وهي مما يوصف بالخلود والبقاء. الأمت: العوج.
(2) من بيت لجرير في ديوانه ص 279وتمامه:
ونبّئت جوّابا وسكنا يسبّني ... وعمرو بن عفرا لا سلام على عمرو
وجوّاب وسكن وعمرو كلهم من بني ضبّة. والبيت من شواهد سيبويه 1/ 357والمقتضب 4/ 381واللسان مادة / سكن /.(4/362)
وقد جاء بالألف واللام، قال: {والسلام على من اتبع الهدى} [طه / 47]، {والسلام علي يوم ولدت} [مريم / 33].
وزعم أبو الحسن أن من العرب من يقول: سلام عليكم، ومنهم من يقول: السلام عليكم، فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوه حملوه على غير المعهود، وزعم أن منهم من يقول: سلام عليكم، فلا ينوّن، وحمل ذلك على وجهين: أحدهما: أنه حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الأصل من نحو: لم يك، ولا أدر، و {يوم يأت لا تكلم} [هود / 105]، والآخر: أنه لما كثر استعمال هذه الكلمة وفيها الألف واللام، حذفا منه لكثرة الاستعمال كما حذف من:
اللهم، فقالوا:
لا همّ إنّ عامر الفجور ... قد حبس الخيل على معمور (1)
وأمّا من قرأ: قالوا سلاما قال سلم [هود / 69] فإن سلما، يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون بمعنى سلام، فيكون المعنى: أمرنا سلم، أو سلم عليكم، ويكون سلم * في أنه بمعنى سلام، لقولهم: حلّ وحلال وحرم وحرام، فيكون على هذا قراءة من قرأ: قال سلم وسلام بمعنى واحد وإن اختلف اللفظان.
والآخر: أن يكون سلم خلاف العدوّ والحرب، كأنّهم لمّا كفّوا عن تناول ما قدّمه إليهم، {فنكرهم وأوجس منهم خيفة}
__________
(1) لم نعثر على قائله.(4/363)
[هود / 70] قال: أنا سلم ولست بحرب ولا عدوّ، فلا تمتنعوا من تناول طعامي، كما يمتنع من تناول طعام العدو.
وقرأ حمزة والكسائيّ في الذاريات أيضا سلم * والقول فيه كما ذكرناه في هذا الموضع سواء. ألا ترى أن ثمّ إيجاس خيفة وامتناعا من تناول ما قدّم إليهم مثل ما هاهنا.
هود: 71
اختلفوا في فتح الباء وضمّها من قوله: يعقوب * [71].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: ومن وراء إسحاق يعقوب رفعا.
وقرأ ابن عامر وحمزة: {يعقوب} نصبا.
واختلف عن عاصم، فروى عنه أبو بكر بالرفع، وروى حفص عنه بالنصب (1).
قال أبو علي: من رفع فقال: ومن وراء إسحاق يعقوب كان رفعه بالابتداء أو بالظرف في قول من رفع به، وكان بيّن الوجه.
ومن فتح فقال {يعقوب}: احتمل ثلاثة أضرب. أحدها: أن يكون يعقوب في موضع جرّ، المعنى: فبشّرناها بإسحاق ويعقوب، قال أبو الحسن: وهو أقوى في المعنى، لأنها قد بشّرت به، قال:
وفي إعمالها ضعف، لأنّك فصلت بين الجار والمجرور بالظرف. والآخر: أن تحمله على موضع الجار والمجرور كقوله (2):
__________
(1) السبعة 338.
(2) عجز بيت لكعب بن جعيل سبق في 1/ 28.(4/364)
إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا وبقراءة من قرأ: وحورا عينا [الواقعة / 22] بعد:
يطاف عليهم بكذا، ومثله (1):
فلسنا بالجبال ولا الحديدا والثالث: أن تحمله على فعل مضمر، كأنه: فبشّرناها بإسحاق، ووهبنا له يعقوب، فأمّا الأوّل فقد نصّ سيبويه على قبح مثله نحو: مررت بزيد أول من أمس، وأمس عمرو، وكذلك قال أبو الحسن: قال: لو قلت: مررت بزيد اليوم، وأمس عمرو لم يحسن، فأما الحمل على الموضع على حدّ:
مررت بزيد وعمرا، فالفصل فيه أيضا قبيح، كما قبح الحمل على الجر، وغير الجر في هذا في القياس مثل الجر في القبح، وذلك أن الفعل يصل بحرف العطف، وحرف العطف هو الذي يشرك في الفعل، وبه يصل الفعل إلى المفعول به، كما يصل بحرف الجر، ولو قال: مررت بزيد قائما، فجعل الحال من المجرور، لم يجز التقديم عند سيبويه، لأن الجارّ هو الموصل للفعل، فكما قبح التقديم عنده لضعف الجارّ والعامل، كذلك الحرف العاطف مثل الجار في أنه يشرك في الفعل، كما يوصل الجارّ الفعل، وليس نفس الفعل العامل في الموضعين جميعا، وإذا كان كذلك قبح الفصل بالظرف في العطف على الموضع، وقبح أيضا الفصل في حروف الرفع
__________
(1) عجز بيت لعقيبة الأسدي سبق انظر 284وسيأتي في ص 450.(4/365)
والنصب، كما قبح [] (1) إن العاطف فيهما مثله في الجار، وليس العامل نفس الرافع والناصب، كما أن العامل فيما بعد حرف العطف ليس الجارّ، إنّما يشركه فيه العاطف، وقد جاء ذلك في الشعر. قال ابن أحمر (2):
أبو حنش يؤرّقنا وطلق ... وعبّاد وآونة أثالا
ففصل بالظرف في العطف على الرافع، وقال الأعشى (3):
__________
(1) في الأصل كلمة غير واضحة بسبب كشط الكتابة بالتصاق الحبر بسبب الرطوبة ولعلها: «أن يكون».
(2) سبق في 1/ 233وهو من قصيدة يذكر فيها جماعة من قومه لحقوا بالشام فصار يراهم في النوم إذا أتى الليل وهو بالإضافة إلى ما ذكر في أمالي ابن الشجري 1/ 2128126/ 9392والخصائص 2/ 378والإنصاف / 354. وقوله: أثالا، ترخيم: أثالة فحذف تاء التأنيث، وهي مرفوعة معطوفة على أبو حنش، وأبقى فتحة اللام وجاء بعدها بألف الإطلاق.
(3) البيت في الديوان برواية (أردية الخمس) والعصب: ضرب من البرود، ونغل الأديم: فسد في الدباغ ونغل وجه الأرض إذا تهشم من الجدوبة وهذا البيت من قصيدة يمدح فيها سلامة ذا فائش انظر ديوانه / 233 وشرح أبيات المغني 2/ 164163والخصائص 2/ 395والمقرب 1/ 235واللسان (نغل).
قال ابن جني: أراد: تراها يوما كمثل أردية العصب، وأديمها يوما آخر نغلا، ففصل بالظرف بين حرف العطف والمعطوف به على المنصوب من قبله وهو (ها) من: تراها، وهذا أسهل من قراءة من قرأ: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) إذا جعلت (يعقوب) في موضع جر، وعليه تلقاه القوم من أنه مجرور الموضع. وإنما كانت الآية أصعب مأخذا(4/366)
يوما تراها كشبه أردية ال ... عصب ويوما أديمها نغلا
ففصل بالظرف بين المشترك في النصب، وما أشركه فيه، فإذا قبح الفصل في الحمل على الموضع كما قبح الفصل في الحمل على الجار فينبغي أن تحمل قراءة من قرأ: {يعقوب}
بالنصب على فعل آخر مضمر، يدلّ عليه بشرنا كما تقدم، ولا يحمل على الوجهين الآخرين لاستوائهما في القبح.
هود: 81
اختلفوا في همز الألف وإسقاطها في الوصل في قوله:
{فأسر بأهلك} [هود / 81].
فقرأ ابن كثير ونافع: فاسر بأهلك * من سريت بغير همز.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ:
{فأسر} من: أسريت (1).
قال أبو علي: حجّة [من] (2) قرأ بوصل الهمزة قوله (3):
__________
من قبل أن حرف العطف منها الذي هو الواو ناب عن الجار الذي هو الباء في قوله (بإسحاق) الخ كلامه في 2/ 395وهو يتفق مع أستاذه أبي علي.
(1) السبعة 338.
(2) زيادة ضرورية ليست في الأصل (ط).
(3) صدر بيت للنابغة الذبياني وعجزه:
تزجي الشمال عليه جامد البرد وسرت: إذا أمطرت ليلا وقوله: «من الجوزاء سارية» كقولك:(4/367)
سرت عليه من الجوزاء سارية فسارية تدلّ على سرت، وقول الآخر (1):
أقلّ به ركب أتوه تئيّة ... وأخوف إلّا ما وقى الله ساريا
وقول الآخر (2):
سرى بعد ما غار الثريا وبعد ما ... كأنّ الثّريّا حلّة الغور منخل
وحجّة من قطع: ما في التنزيل من قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} (3) [الإسراء / 1].
__________
سقينا بنوء كذا وكذا، أي أصابه المطر ليلا وتزجي: تسوق وتدفع على الثور جامد البرد، أي: ما صلب من الثلج.
انظر ديوانه / 8واللسان مادة: (سرا).
(1) البيت لسحيم بن وثيل، وقد سبقه:
مررت على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يظلم واديا
يقول: وافيت هذا الوادي ليلا وهو واد بعينه فأوحشني لكثرة سباعه، فرحلت عنه ولم أمكث فيه لوحشته والتئيّة: التلبث والمكث.
انظر سيبويه 1/ 233الخزانة 3/ 521.
(2) من شواهد سيبويه التي لم تنسب والشاهد فيه عنده نصب حلّة الغور على الظرف ومعناها: قصد الغور ومحله. وصف طارقا سرى في الليل، بعد أن غارت الثريا أول الليل، وذلك في استقبال زمن القيظ وشبه الثريا في اجتماعها واستدارة نجومها بالمنخل.
انظر الأعلم على طرة سيبويه 1/ 201.
(3) وانظر للاستزادة شرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي 2/ 294293عند كلامه على الإنشاد الثاني والأربعين بعد المائة.(4/368)
هود: 81
اختلفوا في نصب التاء (1) ورفعها من قوله: {إلا امرأتك} [هود / 81].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: إلا امرأتك * برفع التاء.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: {إلا امرأتك} نصبا (2).
قال أبو علي: الوجه في قولهم: ما أتاني أحد إلا زيد، الرفع على البدل من أحد، وهو الأشيع في استعمالهم، والأقيس، وقوته من جهة القياس أن معنى: ما أتاني أحد إلا زيد ومعنى: ما أتاني إلا زيد، واحد. فكما اتفقوا في: ما أتاني إلا زيد، على الرفع، وكان: ما أتاني أحد إلا زيد، بمنزلته وبمعناه اختاروا الرفع مع ذكر أحد، وأجروا ذلك مجرى: يذر، ويدع، في أنّ يذر لما كان في معنى يدع، فتح كما فتح يدع، وإن كان لم يكن في يذر حرف من حروف الحلق، وممّا يقوّي ذلك، أنّهم في الكلام وأكثر الاستعمال يقولون: ما جاءني إلا امرأة، فيذكّرون حملا على المعنى، ولا يكادون يؤنثون ذلك فيما زعم أبو الحسن إلا في الشعر كقوله (3):
__________
(1) في الأصل الألف والصواب ما أثبتناه.
(2) السبعة 338.
(3) البيت لذي الرمة ورواية الديوان:
طوى النّحز والأجراز ما في غروضها ... فما بقيت إلا الصدور الجراشع(4/369)
برى النّحز والأجرال ما في غروضها ... فما بقيت إلّا الضلوع الجراشع
وقال (1):
وما بقيت ... إلا النّحيزة والألواح والعصب
فكما أجروه على المعنى في هذا الموضع، فلم يلحقوا الفعل علامة التأنيث، كذلك أجروه عليه في نحو: ما جاءني أحد إلا زيد، فرفعوا الاسم الواقع بعد الاستثناء.
وأما من نصب فقال: ما جاءني أحد إلا زيدا، فإنه جعل النفي بمنزلة الإيجاب، وذلك أن قوله: ما جاءني أحد، كلام
__________
والنحز: ضرب الأعقاب والاستحثاث في السير، وهو أن يحرك عقبيه ويضرب بهما موضع عقبى الراكب والأجراز: الأمحال والواحد:
جرز ومحل، والجرل: المكان الصلب وجمعه أجرال، والغروض:
الواحد غرض وهو حزام الرحل والجرشع: واحد الجراشع وهو: المنتفخ الجنبين يقول: تملأ الغروض. انظر ديوانه 2/ 1296والمحتسب 2/ 207المفصل 2/ 87.
(1) جزء من بيت لذي الرمة وتمامه:
كأنها جمل وهم وما بقيت ... إلا النّحيزة والألواح والعصب
وجمل وهم: ضخم والنحيزة: الطبيعة وألواحها: عظامها.
يقول: هذه الناقة مذكرة، خلقتها خلقة جمل، وما بقيت منها بقية، أي: فنيت من السير والتعب.
انظر ديوانه 1/ 44.(4/370)
مستقلّ، كما أنّ: جاءني القوم، كذلك، فنصب مع النفي كما نصب مع الإيجاب من حيث اجتمعا في أن كل واحد منهما كلام مستقل، فأما قوله: {ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} فإذا جعلت قوله {إلا امرأتك} مستثنى من {لا يلتفت} كان الوجهان:
الرفع، والنصب، والوجه الرفع، وإن جعلت الاستثناء في هذه من قوله: فاسر بأهلك * لم يكن إلا النصب. وزعموا أن في حرف عبد الله أو أبيّ: فاسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك وليس فيه: {ولا يلتفت منكم أحد} فهذا تقوية لقول من نصب، لأنه في هذه القراءة استثناء من قوله: {فأسر بأهلك}
فكما أن الاستثناء من قوله: {فاسر بأهلك} دون أحد، كذلك إذا ذكرت أحدا يكون منه، ولا يكون على البدل من أحد.
قال سيبويه: ومن قال: أقول (1): ما أتاني القوم إلا أباك، لأنه بمنزلة قول (2): أتاني القوم إلا أباك، فإنه ينبغي له أن يقول:
{ما فعلوه إلا قليل منهم} [النساء / 66]. وحدثني يونس أن أبا عمرو كان يقول: الوجه: ما أتاني القوم إلا عبد الله، ولو كان هذا بمنزلة قوله: أتاني القوم، لما جاز أن تقول: ما أتاني أحد، كما لا يجوز: أتاني أحد، ولكنّ المستثنى بدل (3) من الاسم الأول (4). فهذا الكلام يعلم منه قدحه على قول من سوّى بين الإيجاب والنفي، واعتذر استقلال الكلام في
__________
(1) ساقطة من سيبويه.
(2) في سيبويه: قوله.
(3) في سيبويه: ولكن المستثنى في ذا الموضع مبدل.
(4) انتهى نقله عن سيبويه. انظر الكتاب 1/ 360.(4/371)
الموضعين، وقد تقدم ذكر الحجة على ذلك. فقول من رفع في الآية إلا امرأتك * أنه جعله بدلا من أحد * الثابت في قراءة العامة، وإذا ثبت أحد * لم يمتنع البدل منه، ولم يكن في ذلك كقراءة من لم يثبت في قراءته: {ولا يلتفت منكم أحد}، ومما يقوّي الرفع في قوله: ما جاءني أحد إلا زيد، أنه يحمل على المعنى، والمعنى: ما جاءني إلا زيد، كما حمل سيبويه قولهم: ما جاءني أحد إلا قد قال ذاك إلا زيدا، وعلى المعنى فلم يجز فيه إلا النصب في زيد، لمّا كان المعنى على: قال ذاك كلّ من جاءني إلا زيدا، فكما تحمل هذه المسألة على المعنى، ولم يجز فيه إلا النصب، كذلك قوله: ما جاءني أحد إلا زيد، ينبغي أن يحمل على المعنى، فيضعف النصب فيه، كما لم يجز إلا النصب في: ما جاءني أحد إلا قد قال ذاك إلا زيدا، لأن الاستثناء فيه من القائلين لا من أحد عنده.
قال أبو عمرو: وقد أجاز غير سيبويه فيها الرفع، قال:
وهو يجوز ضعيفا أو على بعد، ألا ترى أنك تقول: ما رأيت أحدا ضرب أحدا، يريد أن الرفع يجوز، لأن الكلام في تقدير النفي، بدلالة جواز وقوع أحد فيه، وأحد إنما يقع في النفي، فكما جاز وقوع أحد فيه بعد الصفة، كذلك يجوز فيه الرفع، وكان ذلك أيضا للحمل على المعنى، لأن الصفة هي الموصوف، فإذا نفي الموصوف، فكأنّ الصفة أيضا قد نفيت من حيث كان هو هو، ومن ثمّ جاز البدل من الضمير الذي في الصفة، لما كان الموصوف في المعنى في نحو قول عديّ (1):
__________
(1) البيت من شواهد سيبويه على رفع الكواكب على البدل من الضمير(4/372)
في ليلة لا نرى بها أحدا ... يحكي علينا إلا كواكبها
فأبدل من الضمير الذي في صفة المنفي وإن كان الكلام الذي فيه هذا الضمير موجبا في المعنى.
هود: 105
اختلفوا في إثبات الياء وإسقاطها في الوصل والوقف من قوله عز وجل: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه}
[هود / 105].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائيّ: يوم يأتي بياء في الوصل، ويحذفونها في الوقف. غير ابن كثير فإنه كان يقف بالياء ويصل بالياء فيما أحسب.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة بغير ياء في وصل ولا وقف (1).
قال أبو علي: اعلم أن فاعل يأتي في قوله: يوم يأتي لا تكلم نفس لا يخلو من أن يكون اليوم الذي أضيف إلى يأتي، أو اليوم المتقدم ذكره (2)، فلا يجوز أن يكون فاعله ضمير اليوم
__________
الفاعل في يحكي لأنه في المعنى منفي ولو نصب على البدل من أحد لكان أحسن لأن أحدا منفي في اللفظ والمعنى. والبدل منه أفضل.
انظر الأعلم 1/ 361على طرة الكتاب. وشرح أبيات المغني 3/ 233رقم الإنشاد 223، وقد نسب البيت إلى عدي بن زيد سيبويه وأبو علي، وصوب البغدادي نسبته إلى أحيحة بن الجلاح الأنصاري.
(1) السبعة 339338.
(2) وسيأتي بيانه.(4/373)
الذي أضيف إلى يأتي، وذلك أنك لو قلت: أزيدا يوم يوافقك توافقه لم يجز، لأنه لا يجوز أن تضيف يوم إلى يوافقك، لأن اليوم هو الفاعل، فلا يجوز أن يضاف إلى فعل نفسه، ألا ترى أنك لا تقول: جئتك يوم يسرّك، وذلك أنك إذا قلت: جئتك يوم يخرج زيد، فإنّما المعنى: يوم خروج زيد، فإنما تضيف المصدر إلى الفاعل فإذا قال: يوم يسرّك، فمعناه يوم سروره إياك، فإنّما حدّ هذا أن يكون اليوم معرّفا بفعل مسند إلى فاعل معرّف بذلك الفاعل، فإذا كان الفعل مضافا إلى اليوم فكأنك إنما عرّفت اليوم بنفسه، لأن الفعل يعرفه الفاعل، واليوم مضاف إلى الفعل المعرف باليوم، فصار هذا نظير قولك: هذا يوم (1)
حرّه ويوم برده، والهاء لليوم، وليس هذا مثل: سيّد قومه، وهذا مولى أخيه، فتضيفه إلى ما هو مضاف إليه، لأن أخاه وقومه وما أشبه ذلك شيء معروف، يقصد إليه، وقولك: يوم سروره زيدا، ويوم يسرّك، إنما هو مضاف إلى فعل، وإنما يقوم الفعل بفاعله، ليس أن الفعل شيء منفصل يقصد إليه في نفسه، وواحد أمّه، وعبد بطنه مضافان إلى الأم والبطن، وكلّ واحد منهما ظاهر يقوم بنفسه، وكذلك لا يجوز أن تضيف الظرف إلى جملة معرفة بضميره، وإن كانت ابتداء وخبرا، لا يجوز أن تقول: آتيك يوم ضحوته باردة، ولا: ليلة أولها مطير. فإن نوّنت في هذا وفي الأول حتى يخرج من حدّ الإضافة جاز فقلت:
أتيتك يوما بكرته حارّة، وأتيتك يوما يسرّك ويوما يوافقك. وهذا
__________
(1) في الأصل: «يو» بإسقاط الميم.(4/374)
قول أبي عثمان، فإذا لم يجز أن يكون قوله: يوم * في قوله:
يوم يأتي لا تكلم مضافا إلى يأتي * وفيه ضميره، ثبت أن في يأتي * ضمير اليوم المتقدم ذكره في قوله: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره} أي: ما نؤخّر أحداثه إلا لأجل معدود * يوم يأتي هذا اليوم الذي تقدّم ذكره {لا تكلم نفس}، فاليوم في قوله: يوم يأتي * يراد به الحين والبرهة، وليس على وضح النهار.
فأما قوله: {لا تكلم نفس إلا بإذنه} فإنه يحتمل ضربين، يجوز أن يكون حالا من الذكر الذي في يأتي *، ويحتمل أن يكون صفة لليوم المضاف إلى يأتي * لأن اليوم في يوم يأتي مضاف إلى الفعل، والفعل نكرة، فإذا كان كذلك لم يمتنع أن يوصف به اليوم كما توصف النكرات بالجمل من الفعل والفاعل، والمعنى: لا تكلّم فيه نفس، فحذف فيه، أو حذف الحرف، وأوصل الفعل إلى المفعول به، ثم حذف الضمير من الفعل الذي هو صفة كما يحذف من الصّلة، ومثل ذلك قولهم:
الناس رجلان: رجل أكرمت، ورجل أهنت. فإذا جعلته حالا من الضمير الذي في يأت، وجب أن تقدّر فيه أيضا ضميرا يرجع إلى ذي الحال، وتقديره: يوم يأتي لا تكلّم نفس، أي:
غير متكلّم فيه نفس، فيكون الضمير المقدّر المحذوف يرجع إلى الضمير الذي في يأتي * لأنّ الحال لا بدّ فيه من ذكر يعود إلى ذي الحال متى كانت جملة، كما لا بد من ذلك في الصفة، ومن قدّره حالا كان أجدر بأن تحذف الياء من يأتي لأنه كلام مستقلّ، فيشبه من أجل ذلك الفواصل، وإن لم يكن
فاصلة، كما أنّ حذف الياء من قوله: {ذلك ما كنا نبغ}
[الكهف / 64]، لما كان كلاما تامّا فأشبه الفاصلة، فحسن الحذف له، كما يحسن الحذف من الفواصل، وإن جعلته صفة لم يمتنع ذلك معها أيضا، لأن الصفة قد يستغني عنها الموصوف، كما أن الحال كذلك، إلا أنّ من الصفات ما لا يحسن أن يحذف منه، فذلك أشبه بغير الكلام التام.(4/375)
غير متكلّم فيه نفس، فيكون الضمير المقدّر المحذوف يرجع إلى الضمير الذي في يأتي * لأنّ الحال لا بدّ فيه من ذكر يعود إلى ذي الحال متى كانت جملة، كما لا بد من ذلك في الصفة، ومن قدّره حالا كان أجدر بأن تحذف الياء من يأتي لأنه كلام مستقلّ، فيشبه من أجل ذلك الفواصل، وإن لم يكن
فاصلة، كما أنّ حذف الياء من قوله: {ذلك ما كنا نبغ}
[الكهف / 64]، لما كان كلاما تامّا فأشبه الفاصلة، فحسن الحذف له، كما يحسن الحذف من الفواصل، وإن جعلته صفة لم يمتنع ذلك معها أيضا، لأن الصفة قد يستغني عنها الموصوف، كما أن الحال كذلك، إلا أنّ من الصفات ما لا يحسن أن يحذف منه، فذلك أشبه بغير الكلام التام.
فأما إثبات الياء وإسقاطها في الوصل والوقف، فمن أثبتها في الوصل فهو القياس البيّن، لأنّه لا شيء هاهنا يوجب حذف الياء إذا وصل، فأمّا حذفها في الوقف إذا قال: {يوم يأت}
فلأنها، وإن لم تكن في فاصلة، أمكن أن تشبّهها بالفاصلة، ومن الحجة في حذفها في الوقف أن هذه الياء تشبه الحركات المحذوفة في الوصل، بدلالة أنهم قد حذفوها كما حذفوا الحركة، فكما أن الحركة تحذف في الوقف، فكذلك ما أشبهها من هذه الحروف، فكان في حكمها.
فإن قلت: فقد حذفوا الألف في نحو: لم يخش، كما حذفوا الياء من: لم يرم، فهلّا حذفت الألف، قيل: إنّ الألف قد حذفت كما حذفت الياء، وإن كان حذفهم لها أقلّ منه في الياء لاستخفافهم لها، وذلك في قولهم: أصاب الناس جهد، ولو تر ما أهل مكة، وقولهم: {حاش لله} (1) [يوسف / 5131] وقوله (2):
__________
(1) انظر ما سبق في 1/ 141
(2) جزء من بيت للبيد سبق الحديث عنه في أكثر من موضع انظر 1/ 79 و 141.(4/376)
ورهط ابن المعلّ فحذفها في الوقف للقافية كما حذفت الياء.
وأمّا وقف ابن كثير بالياء فهو حسن، لأنها أكثر من الحركة في الصوت، فلا ينبغي إذا حذفت الحركة للوقف أن تحذف الياء له، كما لا تحذف سائر الحروف. ويقوّي ترك الحذف للياء في الوقف أن الكلام لم يتمّ في قوله: {يوم يأت}، ويدلّ على أنها تنزّل عندهم منزلة سائر الحروف تقديرهم إياه في نحو (1):
ألم يأتيك، والأنباء تنمي وفي نحو قوله (2):
هجوت زبّان ثم جئت معتذرا ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وتحريكهم لها في الشعر نحو (3):
__________
(1) سبق انظر 1/ 93و 325، 2/ 99.
(2) سبق انظر 1/ 325.
(3) جزء من بيت لابن قيس الرقيات وتمامه:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطّلب
ديوانه ص 7وهو من شواهد سيبويه 2/ 59والمقتضب 1/ 142 3/ 354والخصائص 1/ 262و 2/ 67و 81وهو الشاهد رقم 398 من شواهد المغني 4/ 386.(4/377)
لا بارك الله في الغواني هل
وقال (1):
فيوما يوافيني الهوى غير ماضي وأمّا حذف عاصم لها في الوصل والوقف فلأنه جعلها في الوصل والوقف بمنزلة ما استعمل محذوفا مما لم يكن ينبغي في القياس أن يحذف نحو: لم يك، ولا أدر، فلما حذفوا هذا ونحوه في الوصل والوقف، فكذلك حذفوا الياء من {يأت} فيهما.
هود: 108
اختلفوا في ضمّ السين وفتحها من قوله: سعدوا [هود / 108].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: سعدوا بفتح السين.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {سعدوا}
بضم السين (2).
قال أبو علي: حكى سيبويه: سعد يسعد سعادة فهو سعيد، وينبغي أن يكون غير متعدّ، كما أنّ خلافه الذي هو شقي كذلك، وإذا لم يكن متعدّيا لم يجز أن يبنى للمفعول به، لأنك إنما تبني الفعل للمفعول به إذا تعلّق به مفعول به، فأما إذا لم يكن له مفعول فلا يجوز أن تبنيه له، وإذا كان كذلك
__________
(1) سبق في 1/ 325و 2/ 99.
(2) السبعة 339.(4/378)
كان ضمّ السين من {سعدوا} مستثقلا إلّا أن يكون سمع فيه لغة خارجة عن القياس، أو يكون من باب فعل وفعلته، نحو:
غاض الماء وغضته، وحزن وحزنته، ولعلهم استشهدوا فيه بقولهم: مسعود، وأن مسعودا على سعدوا، ولا دلالة قاطعة على هذا، لأنه يجوز أن يكون مثل: أجنّه الله فهو مجنون، فالمفعول حاء في هذا على أنه حذفت الزيادة منه كما حذف من اسم الفاعل من نحو قوله (1):
يكشف عن جمّاته دلو الدّال إنّما هو: دلو المدلي.
وكذلك (2):
ومهمه هالك من تعرّجا في أحد القولين، والقول الآخر: أنهم زعموا أنهم يقولون: هلكني زيد، وأنه من لغة تميم. ومن الحذف قوله:
يخرجن من أجواز ليل غاض (3)
__________
(1) للعجاج سبق انظر 2/ 254.
(2) للعجاج، وقبله:
عصرا وخضنا عيشه المعذلجا والمعنى: من أقام بهذا المهمه فقد هلك. انظر ديوانه 2/ 43 والخصائص 2/ 210والمحتسب 1/ 92والمخصص 6/ 127والمقتضب 4/ 180.
(3) من أرجوزة لرؤبة يمدح فيها بلال بن أبي بردة وبعده:
نضو قداح النابل النواضي ديوانه / 82المقتضب 4/ 179المحتسب 2/ 242اللسان (غضا).(4/379)
يريد: مغض، وكذلك: {وأرسلنا الرياح لواقح}
[الحجر / 22]، وهي تلقح الشجر، فإذا ألقحتها وجب أن يكون في الجمع: ملاقح، فجاء على حذف الزيادة، فأما قول الطرمّاح (1):
قلق لأفنان الرّيا ... ح للاقح منها وحائل
فإن قوله للاقح ليس على: ألقحتها الريح، فحذفت منها الزيادة كما حذف من قوله:
يخرجن من أجواز ليل غاض ولكنه على معنى النسب تقديره: ذات لقاح منها، وكذلك: حائل ذات حيال، ولذلك حذفت منه التاء لأنها لم تجر على الفعل. ولو كانت الجارية على الفعل لثبتت العلاقة، كما ثبتت في قوله: {ولسليمان الريح عاصفة} [الأنبياء / 81] والنسب كقوله: {جاءتها ريح عاصف} [يونس / 22] والريح الجنوب تثير السحاب فينبسط ثم ينحلّ، والشمال بعكس هذا، وكذلك مسعود يجوز أن يكون على حذف الزيادة.
هود: 111
اختلفوا في تشديد الميم والنون من قوله: وإن كلا لما [هود / 111].
فقرأ ابن كثير ونافع: وإن * خفيفة، كلا لما * مخفّفتان.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع: وإن كلا خفيفة، {لما} مشدّدة.
__________
(1) تقدم ذكره في 2/ 252.(4/380)
وقرأ حمزة والكسائيّ: {وإن} مشدّدة النون، واختلفا في الميم من {لما}، فشدّدها حمزة، وخفّفها الكسائيّ.
وقرأ أبو عمرو مثل قراءة الكسائيّ، حفص عن عاصم {وإن} مشدّدة النون. {لما} مشدّدة أيضا.
وقرأ ابن عامر مثل قراءة حمزة (1).
قال أبو علي: قال سيبويه: هذه كلمة تكلّم بها العرب في حال اليمين، وليس كلّ العرب يتكلّم بها، تقول: لهنّك لرجل صدق، يريدون: إنّ، ولكنّهم أبدلوا الهاء مكان الألف لقولهم: هرقت، ولحقت هذه اللام إنّ كما لحقت ما حين قلت: إن زيدا لما لينطلقنّ (2).
قال أبو علي (3): اعلم أن أبا زيد قوله في ذلك خلاف ما ذهب إليه سيبويه، وذلك أنه قال: قال أبو أدهم الكلابي: «له ربّي لا أقول» فتح اللام وكسر الهاء في الإدراج، قال أبو زيد:
ومعناه: والله ربي لا أقول. وأنشد أبو زيد:
لهنّي لأشقى الناس إن كنت غارما ... لدومة بكرا ضيّعته الأراقم
__________
(1) السبعة 339.
(2) سيبويه 1/ 474وانظر المسائل العسكرية 255والخزانة 3/ 333 واللسان (أنن).
(3) نقل البغدادي كلام أبي علي في الخزانة 4/ 334عن كتابه نقض الهاذور. انظره مفصلا فيهما.(4/381)
وأنشد أبو زيد أيضا:
أبائنة حبّي نعم وتماضر ... لهنّا لمقضيّ علينا التهاجر (1)
قال: يقول لله أنا، وأنشد (2):
وأمّا لهنّك من تذكّر عهدها * لعلى شفا يأس وإن لم تيأس انتهى كلام أبي زيد. فاللام في له على قول أبي زيد، هي اللام التي هي عين الفعل، من إله. وكان الأصل لله فحذفت الجارة التي للتعريف فبقيت: له يا هذا.
فأما ألف فعال، فحذفت كما حذفت في الممدود إذا قصر، وقد قالوا: الحصد والحصاد وقد حذفت من هذا الاسم في غير هذا الموضع، قال (3):
ألا لا بارك الله في سهيل * إذا ما الله بارك في الرجال
__________
(1) وهو الشاهد الحادي والستون بعد الثمانمائة من شواهد الخزانة. وقد استشهد بعجزه.
(2) نسبه في النوادر 201للمرار الفقعسي، وروايته ثمة: «من تذكر أهلها».
(3) البيت غير منسوب في الخصائص 3/ 134، المحتسب 1/ 181، 299 و 2/ 82اللسان (أله) والخزانة 4/ 341الشاهد فيه حذف الألف من لفظ الجلالة الأول قبل الهاء، وهذا الحذف لضرورة الشعر، ذكره ابن عصفور في كتاب الضرائر ص 131، وانظر الضرائر للآلوسي ص 73، هذا والبيت من الوافر.(4/382)
وقد وافق سيبويه أبا زيد في حذف هاتين اللامين، فذهب في قولهم: «لاه أبوك» إلى أن الألف واللام التي للتعريف حذفتا (1)، وممّا يرجّح قول أبي زيد في المسألة أنه لو كانت الهاء في لهنّك بدلا من همزة إنّ لكان اللفظ: لإنك، فجمع بين إنّ واللام، ولم يجمع بينهما، ألا ترى أنهما إذا اجتمعتا فصل بينهما بأن تؤخر اللام في الخبر في نحو: {إن الإنسان ليطغى} [العلق / 6]، أو إلى الاسم في نحو: {إن في ذلك لآية} [الحجر / 77والنحل / 6967651311] فإن قلت: يكون قلبها هاء بمنزلة الفصل بينهما فيما ذكرت، فإذا قلبت لم يمتنع الجمع بينهما، كما أنه إذا فصل لم يمتنع قيل:
هذا لا يسوغ تقديره، ألا ترى أن سيبويه جعل الهاء إذا كانت بدلا من الهمزة في حكم الهمزة، فذهب إلى أنك لو سمّيت رجلا بهرق، كان بمنزلة أن تسمّيه: بأرق، فجعل الهاء إذا أبدلت من الهمزة في حكم الهمزة، فكذلك يكون في لهنّك لو كانت بدلا من الهمزة، لم يجز دخول اللام عليها، كما لم يجز دخول اللام قبل أن تبدل، وكذلك فعلت العرب في هذا النحو فلم يصرفوا صحراء وطرفاء لما أبدلوا الهمزة من ألف التأنيث، كما لم يصرفوا نحو: رضوى وتترى (2)، وكذلك قال أبو الحسن: لو أبدلت اللام من النون في أصيلان، فقلت: أصيلال ثم سمّيت به لم تصرف كما لم تصرف أصيلان في التسمية، فكذلك
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 273و 2/ 144.
(2) قال السيرافي: بعضهم يجعل الألف في تترى للتأنيث، وبعضهم يجعلها زائدة للإلحاق بجعفر ونحوه وفيه قول ثالث: وهو أن تكون الألف عوضا(4/383)
تمتنع اللام من أن تدخل على الراء إذا أبدلت همزتها هاء، كما تمتنع من الدخول قبل أن تبدل، وشيء آخر يرجح له قول أبي زيد: وهو أن اللام في لهنك إذا حمل على أنه لإنك، كما قال سيبويه، لم يخل من أن تكون متلقّية قسما أو غير متلقّية له، فلا يجوز أن تكون متلقّية لقسم، وإنّ تغني عنها، كما تغني هي عن إنّ فلا يجوز إذا أن تكون لتلقّي قسم، ولا يجوز أن تكون غير متلقّية له لأنها حينئذ تكون زائدة ولم تجىء اللام زائدة في هذا الموضع، وإنما جاءت زائدة في غير هذا، وهو فيما أنشده أحمد بن يحيى:
مرّوا سراعا فقالوا كيف صاحبكم * قال الذي سألوا أمسى لمجهودا (1)
وهي قليلة وليس يدخل هذا على قول أبي زيد، فأما قول سيبويه: ولحقت هذه اللام إنّ كما لحقت ما حين قلت: إنّ زيدا لما لينطلقنّ فالقول فيه أن اللام التي في: لما لينطلقن، ليست كاللام في: لهنّك، على قول سيبويه، ألا ترى أن اللام التي في: لما لينطلقنّ، هي اللام التي تقتضيه إنّ، واللام الأخرى هي التي لتلقي القسم، ودخلت ما لتفصل بين
__________
من التنوين، والقياس لا يأباه. وخط المصحف يدل على أحد القولين:
إما التأنيث وإما زيادة الألف للإلحاق، لأنها مكتوبة بالياء في المصحف:
تترى وأصل تترى: وترى. التاء الأولى بدل من الواو: لأنها من المواترة.
(حاشية الكتاب بتحقيق هارون: 3/ 211).
(1) البيت غير منسوب وقد ذكره ابن جني في الخصائص 1/ 2316/ 283 وانظر الخزانة 4/ 330.(4/384)
اللامين، لأنه إذا كره أن تجتمع اللام وإنّ، مع اختلاف لفظيهما لاتفاقهما في بعض المعنى، ففصل بينهما، فأن يفصل بين اللامين مع اتفاق اللفظين وبعض المعنيين أجدر، فليس اللام في لما لينطلقنّ وفق اللام في لهنّك، لأنها في: لما لينطلقنّ لام إنّ والثانية لام القسم، ولا تكون في قوله: لهنّك، لام يمين لأن إنّ يستغنى بها عن اللام، كما يستغنى باللام عن إنّ فتحصل اللام زائدة، والحكم بزيادتها ليس بالمتّجه، وليست كذلك التي في: لما لينطلقنّ، والتي في قوله: وإن كلا لما ليوفينهم.
ومن قرأ: وإن كلا لما بتشديد {إن}، وتخفيف لما *، وهي قراءة أبي عمرو والكسائي، فوجهه بيّن، وهو أنّه نصب كلّا بإنّ، وإنّ تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كما مثلتها قبلها في ذلك هذه اللام وهي لام الابتداء على الخبر في قوله: وإن كلا لما وقد دخلت في الخبر لام أخرى وهي التي يتلقّى بها القسم، وتختصّ بالدخول على الفعل، ويلزمها في أكثر الأمر إحدى النونين، فلما اجتمعت اللامان، واتفقا في تلقّي القسم، واتفقا في اللفظ، فصل بينهما بما، كما فصل بين إنّ واللام، فدخلت ما لهذا المعنى، وإن كانت زائدة لتفصل، وكما جلبت النون، وإن كانت زائدة في نحو: {فإما ترين من البشر} [مريم / 26]، وكما صارت عوضا من الفعل في قولهم: إمّا لي، وفي قوله (1):
__________
(1) صدر بيت للعباس بن مرداس وعجزه:
فإنّ قومي لم تأكلهم الضبّع(4/385)
أبا خراشة إمّا أنت ذا نفر فهذا بيّن. ويلي هذا الوجه في البيان قول من خفف إن ونصب {كلا} وخفّف لما *، وهي قراءة ابن كثير ونافع، قال سيبويه: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول:
إن عمرا لمنطلق، قال: وأهل المدينة يقرءون: وإن كلا لما ليوفينهم ربك يخففون وينصبون، كما قالوا:
كأن ثدييه حقان (1)
ووجه النصب بها مع التخفيف من القياس أنّ إنّ مشبهة في نصبها بالفعل، والفعل يعمل محذوفا، كما يعمل غير محذوف، وذلك في نحو: لم يك زيد منطلقا و: {فلا تك في مرية} [هود / 109] وكذلك: لا أدر.
فأما من خفف إن * ونصب كلا * وثقّل لما * فقراءته
__________
وهو من شواهد سيبويه 1481والخصائص 3812والمنصف 1163 وابن الشجري 25334/ 350والإنصاف 71والمفصل 2/ 99 و 8/ 132وهو الشاهد رقم 43ج 1/ 173من شواهد المغني والخزانة 2/ 80، 4/ 421. وقد جاء في الأصل «إما» بكسر الهمزة.
وفي جميع المصادر بفتحها «أمّا».
(1) عجز بيت صدره:
ووجه مشرق النّحر وهو من شواهد سيبويه التي لم تنسب. والنقل مع الشاهد في الكتاب 1/ 283وانظر الخزانة 4/ 358. وابن الشجري 2/ 237.(4/386)
مشكلة، وذلك أنّ إن * إذا نصب بها وإن كانت مخفّفة، كانت بمنزلتها مثقّلة، ولما * إذا شدّدت كانت بمنزلة إلّا.
وكذلك قراءة من شدّد {لما} وثقّل {إن} مشكلة، وهي قراءة حمزة وابن عامر وحفص عن عاصم، وذلك أنّ إن إذا ثقّلت وإذا خففت ونصبت، فهي في معنى الثقيلة، فكما لا يحسن: إنّ زيدا إلا منطلق، فكذلك لا يحسن تثقيل إن وتثقيل لما، فأمّا مجيء لما في قولهم: نشدتك الله لما فعلت، وإلّا فعلت، فقال الخليل: الوجه: لتفعلنّ، كما تقول:
أقسمت عليك، لتفعلنّ، وأما دخول إلا، ولما، فلأن المعنى الطلب، فكأنه أراد: ما أسألك إلا فعل كذا، فلم يذكر حرف النفي في اللفظ، وإن كان مرادا، كما كان مرادا في:
قولهم: «أهرّ ذا ناب (1)» أي ما أهرّه إلا شرّ، وليس في الآية معنى نفي ولا طلب.
فإن قال قائل: يكون المعنى: لمن ما، فأدغم النون في الميم بعد ما قلبها ميما فإن ذلك لا يسوغ، ألا ترى أن الحرف المدغم إذا كان قبله ساكن نحو: قرم مالك، لم يقو الإدغام فيه على أن يحرّك الساكن الذي قبل الحرف المدغم، فإذا لم يجز ذلك فيه، وكان تغييرا أسهل الحذف فأن لا يجوز الحذف الذي هو أذهب في باب التغيير من تحريك الساكن أجدر. على أنّ في هذه السورة ميمات اجتمعت في الإدغام،
__________
(1) مثل عربي تمامه: «شر أهرّ ذا ناب» انظر الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني 2/ 48والمستقصى في أمثال العرب للزمخشري 2/ 130.(4/387)
أكثر ممّا كان يجتمع في: لمن ما، ولم يحذف منها شيء، وذلك قوله: {على أمم ممن معك} [هود / 48]، فإذا لم يحذف شيء من هذا، فأن لا يحذف ثمّ أجدر.
وقد روي أنّه قد قرئ: {وإن كلا لما} منوّنا، كما قال:
{وتأكلون التراث أكلا لما} [الفجر / 19]، فوصف بالمصدر، فإن قال: إنّ لما فيمن ثقّل إنّما هي لمّا هذه وقف عليها بالألف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فذلك ممّا يجوز في الشعر، ووجه الإشكال فيه أبين من هذا الوجه.
وحكي عن الكسائيّ. أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في لمّا. ولم يبعد في ما قال، ولو خفّف مخفّف إن * ورفع كلّا بعدها، لجاز تثقيل لما * مع ذلك، على أن يكون المعنى: ما كلّ: إلّا ليوفّينّهم، فيكون ذلك كقوله: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} [الزخرف / 35]، لكان ذلك أبين من النصب في كلّ والتثقيل للمّا، وينبغي أن يقدّر المضاف إليه كلّ نكرة، ليحسن وصفه بالنكرة، ولا يقدّر إضافته إلى معرفة فيمتنع أن يكون لمّا وصفا له، ولا يجوز أن يكون حالا لأنه لا شيء في الكلام عاملا في الحال.
هود: 123
قرأ نافع وعاصم في رواية حفص: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود / 123] بضم الياء.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: يرجع * بفتح الياء (1).
__________
(1) السبعة 340.(4/388)
قال أبو علي: حجة من ضم قوله: {ثم ردوا إلى الله}
[الأنعام / 62] لأن المعنى ثم ردّ أمرهم إلى الله.
وهذا يدلّ على الاستسلام منهم كقوله: {بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات / 26]، ويقوّي ذلك قوله: {ألا له الحكم} [الأنعام / 62] أي: له الحكم في أمرهم، ويقوّي ذلك قوله: {إليه يرد علم الساعة وما يخرج من ثمرة من أكمامها} [فصلت / 47]، فهذه من الأمور المردودة إليه تعالى.
ومن قرأ: وإليه يرجع الأمر بفتح الياء، فلقوله: {والأمر يومئذ لله} [الانفطار / 19] فكونه له رجوع إليه وانفراد به من غير أن يشركه أحد. كما تحكم في هذه الدار الفقهاء والسلطان، ويقوي ذلك {وله الملك يوم ينفخ في الصور}
[الأنعام / 73].
هود: 123
قال: قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: {بغافل عما تعملون} [هود / 123] بالتاء. وقرأ الباقون: بغافل عما يعملون * بالياء، [وكذلك أبو بكر عن عاصم] (1).
قال أبو علي: حجّة التاء أن الخطاب يكون للنبي، عليه السلام، ولجميع الناس، والمعنى أنه يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، والخطاب يتوجه إلى جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، وهذا أعمّ من الياء.
وحجة الياء على: قل لهم: وما ربك بغافل عما يعملون.
__________
(1) السبعة 340وما بين معقوفين منه.(4/389)
سورة يوسف عليه السلام
يوسف: 4
اختلفوا في كسر التاء وفتحها من قوله: {يا أبت}
[يوسف / 4].
فقرأ ابن عامر وحده: يا أبت * بفتح التاء في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: بكسر التاء.
وابن كثير يقف على الهاء ب يا أبه وكذلك ابن عامر فيما أرى. والباقون يقفون بالتاء وهم يكسرون (1).
قال أبو علي: من فتح يا أبت * فله وجهان: أحدهما:
أن يكون مثل: يا طلحة أقبل. ووجه قول من قال: يا طلحة، أن هذا النحو من الأسماء التي فيها تاء التأنيث أكثر ما يدعى مرخّما، فلمّا كان كذلك ردّ التاء المحذوفة في الترخيم إليه، وترك الآخر يجري على ما كان عليه في الترخيم من الفتح، فلم يعتدّ بالهاء، وأقحمها، كما أن أكثر ما تقول: اجتمعت اليمامة، وهو يريد أهل اليمامة، فردّ الأهل ولم يعتدّ به، فقال:
__________
(1) السبعة 344.(4/390)
اجتمعت أهل اليمامة، فجعله على ما كان يكون عليه من الكثرة.
والوجه الآخر: أن يكون أراد: يا أبتا فحذف الألف كما يحذف التاء، فتبقى الفتحة دالّة على الألف، كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء، والدليل على قوة هذا الوجه كثرة ما جاء من هذه الكلمة على هذا الوجه كقول الشاعر (1):
وقد زعموا أني جزعت عليهما * وهل جزع أن قلت وا بأباهما وكقول رؤبة (2):
وهي ترثي يا أبا وابنيما وقال الأعشى (3):
ويا أبتا لا تزل عندنا * فإنّا نخاف بأن تخترم وقال رؤبة (4): يا أبتا علّك أو عساكا وقال آخر (5):
__________
(1) سبق ذكره في هذا الجزء / 339.
(2) روايته في الديوان «فهي ترثي بأب» وبعده:
إنّ تميما خلقت ملموما ديوانه / 185المفصّل 2/ 12.
(3) ديوانه / 41. تخترم: يقال: اخترمه الموت: أخذه.
(4) تقدم في هذا الجزء / 350.
(5) انظر المفصل 2/ 12.(4/391)
يا أبتا ويا أبه * حسنت إلا الرّقبه فلما كثرت هذه الكلمة في كلامهم هذه الكثرة ألزموها القلب والحذف على أن أبا عثمان قد رأى أن ذلك مطّردا في جميع هذا الباب.
وأما وقف ابن كثير على الهاء وقوله: يا أبه، فإنما وقف بالهاء لأن التاء التي للتأنيث يبدل منها الهاء في الوقف، فيتغيّر الحرف في الوقف ولذلك كما غيّر التنوين فانفتح ما قبله بأن أبدل منه الألف، وكما غيّرت الألف بأن أبدل منها قوم الهمزة في الوقف، وتغييرات الوقف كثيرة، فإن قلت: هلّا أبدلت التاء ياء في الوقف، ولم تبدل منها الهاء، لأنه مّمن يكسر، فيقرأ:
يا أبت * وإذا كان كذلك، فالإضافة في الاسم مرادة، كما أنه لو أضاف صحّح التاء ولم يبدل منها الهاء، كذلك إذا وقف، وهو يريدها قيل له: لا يلزم اعتبار الإضافة، لأنه إذا وقف عليها سكنت للوقف، وإذا سكنت كانت بمنزلة ما لا يراد فيه الإضافة، فتبدل منها الهاء، كما أنه إذا قال: يا طلحة أقبل، ففتح التاء ووقف عليها، أبدل التاء، فقد ساوى ما يراد به الإضافة ما لا يراد به الإضافة في الوقف، ويدلّ على صحة هذا أن سيبويه قال: لو رخّمت اسم رجل يسمى خمسة عشر، فحذفت الاسم الآخر للترخيم لقلت: يا خمسه، فأبدلت من التاء الهاء، ولم تصحّح التاء (1)، وإن كان الاسم الآخر
__________
(1) انظر سيبويه 1/ 342.(4/392)
المضموم إلى الصدر مرادا فيه، بدلالة ترك الآخر من الاسم الأوّل على الحركة التي كانت تكون عليها قبل أن تحذف الاسم الآخر للترخيم، فكذلك تبدل من التاء في يا أبت الهاء في الوقف، كما تبدل من سائر تاءات التأنيث الهاء في أكثر الاستعمال.
وأما ابن عامر، فإنه إن أراد بقوله: يا أبت * غير الإضافة وقف بالهاء، كما أنه لو نادى مثل طلحة وحمزة فوقف، وقف بالهاء، وإن أراد به الإضافة قال: يا أبت * فحذف الألف، كما حذف الباقون الياء في: {يا عباد فاتقون} [الزمر / 16]، فوقف بالهاء كان كوقف ابن كثير بالهاء، وإن كان يريد الإضافة لكسر التاء في {يا أبت}.
قال أحمد: والباقون يقفون بالتاء، وهم يكسرون، ووقف الباقون بالتاء في: {يا أبت} وفصلوا بين هذا وبين رجل يسمّى: خمسة عشر، ثم يرخّم، وبين: يا طلحة زيد، لأن المضاف إليه على حرف واحد، فهو لذلك بمنزلة الحركة، من حيث كان حرفا واحدا، والحرف قد يكون بمنزلة الحركة، من حيث كان حرفا واحدا، والحرف قد يكون بمنزلة الحركة، والدالّ على الاسم المضمر هنا حركة، والحركة لا تكون في تقدير الانفصال من الكلمة، كما أن الحرف الواحد كذلك، كما يكون الاسم الثاني في نحو: خمسة عشر، والمضاف إلى المظهر نحو: طلحة زيد، لأن المضاف إليه هنا في الأصل على حرف واحد قد حذف، وتركت الحركة تدل عليه، والحركة لا تكون في تقدير الانفصال من الكلمة، كما يكون الاسم الثاني في نحو خمسة عشر، وطلحة زيد في تقدير
الانفصال، ألا ترى أن المضاف إلى الظاهر يفصل بينهما في نحو (1):(4/393)
قال أحمد: والباقون يقفون بالتاء، وهم يكسرون، ووقف الباقون بالتاء في: {يا أبت} وفصلوا بين هذا وبين رجل يسمّى: خمسة عشر، ثم يرخّم، وبين: يا طلحة زيد، لأن المضاف إليه على حرف واحد، فهو لذلك بمنزلة الحركة، من حيث كان حرفا واحدا، والحرف قد يكون بمنزلة الحركة، من حيث كان حرفا واحدا، والحرف قد يكون بمنزلة الحركة، والدالّ على الاسم المضمر هنا حركة، والحركة لا تكون في تقدير الانفصال من الكلمة، كما أن الحرف الواحد كذلك، كما يكون الاسم الثاني في نحو: خمسة عشر، والمضاف إلى المظهر نحو: طلحة زيد، لأن المضاف إليه هنا في الأصل على حرف واحد قد حذف، وتركت الحركة تدل عليه، والحركة لا تكون في تقدير الانفصال من الكلمة، كما يكون الاسم الثاني في نحو خمسة عشر، وطلحة زيد في تقدير
الانفصال، ألا ترى أن المضاف إلى الظاهر يفصل بينهما في نحو (1):
لله درّ اليوم من لامها ولا يجوز ذلك في الضمير إذا كان على حرف واحد، ولا في الحركة. فجعلوا الياء المحذوفة في تقدير الثبات كما جعلوا الحركة كذلك، ويدل على أن الحركة في تقدير الثبات تحريكهم الساكن الذي قبل الحرف الموقوف عليه بالحركة التي تجب للحرف الموقوف عليه في الإدراج نحو (2):
إذ جدّ النّقر فكذلك تكون الحركة فيمن قرأ: {يا أبت}، إذا وقف، وقف بالتاء، كما أن الحركة إذا كانت ثابتة كالحرف، وقد جرت الحركة المحذوفة في غير هذا الموضع مجرى المثبتة، ألا ترى أنهم قالوا: لقضو الرجل، فكانت الحركة المحذوفة بمنزلة المثبتة وكذلك الحركة، في قولهم:
رضي وغزي وشقي، وقد حكي أن قوما يقفون على التاء في الوقف ولا يبدلون منها الهاء. وأنشد أبو الحسن (3):
__________
(1) عجز بيت لعمرو بن قميئة تقدم ذكره في ص 214من هذا الجزء.
(2) جزء من بيت تقدم ذكره في 1/ 98، 140، 349و 2/ 301 و 4/ 208.
(3) الأبيات منسوبة إلى سؤر الذّئب كما في اللسان. والحجفة: الترس من جلد الإبل. وقوله: بل جوز تيهاء، يريد: رب جوز تيهاء.
انظر الخصائص 1/ 304و 2/ 98المحتسب 2/ 92 المخصص 9/ 167/ 9684اللسان مادة (حجف) و (بلل).(4/394)
ما بال عين عن كراها قد جفت مسبلة تستنّ لما عرفت بل جوز تيهاء كظهر الحجفت أما ما أنشده أبو زيد وأبو الحسن من قول الشاعر (1):
تقول ابنتي لمّا رأتني شاحبا ... كأنّك فينا يا أبات غريب
فالقول فيه: أنه ردّ المحذوف من الأب، وزاد عليها التاء كما تزاد إذا كان اللام ساقطا، كما ردّ اللام الأخرى في إنشاد من أنشد (2):
تحيّزت ... ثباتا عليها ذلّها واكتئابها
__________
(1) البيت لأبي الحدرجان كما جاء في النوادر 575وهو من الشعراء المجهولين وانظر الخصائص 1/ 339واللسان (أبي).
(2) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي وتمامه:
فلما اجتلاها بالإيام تحيّزت ... ثبات عليها ذلّها واكتئابها
يصف النحل والرجل المشتار لعسلها والإيام: الدخان، تحيزت:
اجتمعت، ثبات: جماعات، الواحدة ثبة. ولم ترد لها رواية بالفتح كما استشهد بها أبو علي. يقول: إن النحل لجأت إلى خلاياها فدخّن عليها فخرجت وبرزت وهنا تحيزت وتضامّت جماعات يبدو عليها الذلّ والاكتئاب فقد تمكن منها المشتار.
ديوان الهذليين 1/ 79وشرحه للسكري 1/ 53والخصائص 3/ 304.(4/395)
لا يكون إلا كذلك، لأن أحدا لا يقول: رأيت مسلماتا، قال سيبويه (1): من حذف التنوين من نحو:
تخيّرها أخو عانات شهرا (2).
لم يقل: حللت عانات فيفتح إنما يكسر التاء، وقد ردّوا هذا المحذوف مع التاء، كما ردّوه مع غير التاء في قولهم: غد وغدو، وقالوا سما، في قولهم اسم، فردّ اللام. حكاه أحمد بن يحيى.
يوسف: 7
اختلفوا في التوحيد والجمع من قوله عزّ وجلّ: {آيات للسائلين} [يوسف / 7].
فقرأ ابن كثير: آية للسائلين واحدة.
وقرأ الباقون: {آيات للسائلين} جماعة (3).
وجه الإفراد أنه جعل شأنه كله آية، ويقوي ذلك قوله:
{وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [المؤمنون / 50]، فأفرد وكلّ واحد منهم على انفراده يجوز أن يقال فيه. آية * فأفرد مع ذلك.
ومن جمع جعل كلّ حال من أحواله آية، وجمع على
__________
(1) لم يرد هذا النقل في سيبويه فليتأمل.
(2) صدر بيت للأعشى وعجزه:
ورجّى أولها عاما فعاما انظر ديوانه / 197واللسان / عون / وفيه: «خيرها» بدل «أولها».
(3) السبعة 344.(4/396)
ذلك، على أن المفرد المذكور في الإيجاب يقع على الكثرة، كما يكون ذلك في غير الإيجاب. قال (1):
فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم ... جزاء العطاس لا ينام من اتّأر
يوسف: 9، 8
قال. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي: مبين اقتلوا [يوسف / 98] بضم التنوين.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة بكسر التنوين (2).
وجه قول من ضمّ التنوين: أن تحريكه يلزم لالتقاء الساكنين وهما التنوين والقاف في {اقتلوا} فلما التقيا لزم تحريك الأول منهما، وحركه بالضم ليتبع الضمّة الضمّة، كما قالوا: مدّ، وكما قالوا: «ظلمات» فأتبعوا الضمة الضمة، وكذلك: أن اقتلوا [النساء / 66]. فإذا كانوا قد أبدلوا من غير الضمة لتتبع. ضمّة الإعراب في نحو: أجوؤك وأنبؤك، وهو منحدر من الجبل، مع أن ضمة الإعراب، ليست لازمة، ولم يعتدّ بها في نحو: هذه كتف، ثابتة، فأن يتبعوا الضمّة الثانية في عين: {اقتلوا} اللازمة أولى.
ومن قال: {مبين اقتلوا}، لم يتبع الضمّ. كما أن من قال: مدّ وظلمات، لم يتبع، وكسر الساكن على ما يجري عليه
__________
(1) سبق انظر 2/ 291و 4/ 203.
(2) السبعة 345.(4/397)
أمر تحريك الأول من الساكنين المنفصلين في الأمر الشائع.
يوسف: 5
قال أحمد: كان الكسائيّ يميل قوله: {رؤياي} [100] و {رؤياك} [5] والرؤيا * [43] في كلّ القرآن. وروى أبو الحارث الليث بن خالد عن الكسائي أنه لم يمل هذا الحرف، {لا تقصص رؤياك} وحده، وأمال سائر القرآن. أبو عمر الدوري عن الكسائي الإمالة في ذلك كله، ولا يستثني.
وكان حمزة يفتح {رؤياك} والرؤيا *، في كل القرآن، وكذلك الباقون (1).
قال أبو علي: الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا، والبقيا، والشورى، إلا أنه لما صار اسما لهذا المتخيّل في المنام جرى مجرى الأسماء، كما أن درّا لما كثر في كلامهم في قولهم: لله درّك، جرى مجرى الأسماء، وخرج من حكم الإعمال، فلا يعمل واحد منهما إعمال المصادر.
وممّا يقوّي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم رؤى.
فصار بمنزلة ظلم، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسّر، والرؤيا على تحقيق الهمز، فإن خفّفت الرؤيا فقلبتها في اللفظ، ولم (2)
تدغم الواو في الياء وإن كانت قد تقدمتها ساكنة، كما تقلب نحو طيّ وليّ، لأن الواو في تقدير الهمزة، فهي لذلك غير لازمة، فإذا لم تلزم لم يقع الاعتداد فلم تدغم، كما لم تقلب
__________
(1) السبعة 344وقد جاء هذا الحرف عنده حسب ترتيبه في المصحف سابقا لقوله سبحانه: (مبين اقتلوا).
(2) كذا الأصل، والوجه: «لم» بحذف الواو.(4/398)
الأولى من {ووري عنهما} [الأعراف / 20] لما كانت الثانية غير لازمة، ومن ثمّ جاز: ضو وشي في تخفيف ضوء وشيء، فبقي الاسم على حرفين أحدهما حرف لين، وجاز تحرّك حرف اللين، وتصحيحه مع انفتاح ما قبله، لأن الهمزة في تقدير الثبات، وقد كسر أولها قوم فقالوا: «ريّا» فهؤلاء قلبوا الواو قلبا على غير وجه التخفيف، ومن ثم كسروا الفاء، كما كسروه من قولهم: قرن ألوى، وقرون ليّ.
يوسف: 10
اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله عز وجل في غيابة الجب [يوسف / 10].
فقرأ نافع وحده: غيابات جماعة.
وقرأ الباقون: غيابة واحدة (1).
قال أبو عبيدة: كلّ شيء غيّب عنك فهو غيابة. قال منخّل بن سبيع [وفي أخرى سميع] (2):
فإن أنا يوما غيّبتني غيابتي ... فسيروا بسيري في العشيرة والأهل (3)
وقال ابن أحمر (4):
__________
(1) السبعة 345.
(2) ما بين معقوفين ورد على هامش النسخة (ط).
(3) مجاز القرآن 1/ 302. والمنخل: هو المنخل بن سبيع بن زيد بن معاوية بن العنبر، له ترجمة في المؤتلف 178. ومعجم المرزباني 388، والبيت في معجم المرزباني والقرطبي 9/ 132، وصدره في التاج (غيب).
(4) شعره ص 171من قصيدة في هجاء يزيد بن معاوية، وانظر المحتسب(4/399)
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذاكما ما غيّبتني غيابيا
جمع غيابة.
قال: والجبّ: الركيّة التي لم تطو.
وجه قول من أفرد: أن الجبّ لا يخلو من أن يكون له غيابة واحدة، أو غيابات، فغيابة المفرد يجوز أن يعنى به الجمع، كما يعنى به الواحد، ووجه قول من جمع: أنه يجوز أن تكون له غيابة واحدة فجعل كلّ جزء منه غيابة، فجمع على ذلك، كقولهم: شابت مفارقه، وبعير ذو عثانين، ويجوز أن يكون للجب عدّة غيابات، فجمع لذلك، والدليل على جواز الجمع فيه قوله:
إلى ذاكما ما غيّبتني غيابيا فجعل له غيابات مع أن ذا الغيابة واحد، كذلك الجبّ المذكور في التنزيل، يجوز أن يكون له غيابات.
يوسف: 11
قال: وكلّهم قرأ: {لا تأمنا} [يوسف / 11]، بفتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضمّ اتفاقا (1).
وجهه: أن الحرف المدغم بمنزلة الحرف الموقوف عليه من حيث جمعها السكون، فمن حيث أشمّوا الحرف الموقوف
__________
2/ 228227. والخصائص 2/ 460وابن الشجري 2/ 317 والإنصاف / 483. وشواهد الشعر في كتاب سيبويه 129.
(1) السبعة 345.(4/400)
عليه إذا كان مرفوعا في الإدراج أشمّوا النون المدغمة في {تأمنا} وليس ذلك بصوت خارج إلى اللفظ، إنّما تهيئة العضو لإخراج ذلك الصوت به، ليعلم بالتهيئة أنه يريد ذلك المتهيّئ له، ويدلّك على أنه يجري مجرى الوقف أن الهمزة إذا كان قبلها ساكن حذفت حذفا، ولم تخفف بأن تجعل بين بين كما أنّها إذا ابتدئت لا تخفف، لأن التخفيف تقريب من الساكن، فكما لا يبتدأ بالساكن، كذلك لا يبتدأ بالمقرّب منه، ولو رام الحركة فيها لم يجز مع الإدغام، كما جاز الإشمام مع الإدغام لأن روم الحركة حركة، وإن كان الصوت قد أضعف بها، ألا ترى أنهم قالوا: إن روم الحركة يفصل به بين المذكر والمؤنث، نحو:
رأيتك، ورأيتك، وإذا كان كذلك، فالحركة تفصل بين المدغم والمدغم فيه، فلا يجوز الإدغام مع الحركة، وإن كانت قد أضعفت، لأن اللسان لا يرتفع عن الحرفين ارتفاعة واحدة، كما لا يرتفع إذا فصل بينهما حرف لانفكاك الإدغام بالحركة إذا دخلت بين المثلين أو المتقاربين، كانفكاكه بالحرف إذا دخل بينهما، وتضعيف الصوت بالحركة لا يمنع أن تكون الحركة مع تضعيفها في الفصل، كما أنّ الفصل بالحرف الضعيف القليل الجرس يجري مجرى الفصل بالحرف الزائد الصوت، ألا ترى أن الفصل بالنون التي هي من الخياشيم كالفصل بالصاد في منع المثلين من الإدغام، فكذلك الحركة التي قد أضعفت الصوت بها تفصل كما تفصل الحركة أشبعت ومططت، فهذا وجه الإدغام، والإشارة بالضم إلى الحرف المدغم.
وقد يجوز في ذلك وجه آخر في العربية وهو أن تبيّن
ولا تدغم، ولكنك تخفي الحركة، وإخفاؤها هو أن لا تشبعها بالتمطيط، ولكنك تختلسها اختلاسا، وجاز الإدغام والبيان جميعا، لأن الحرفين ليسا يلزمان، فلمّا لم يلزما صار بمنزلة:(4/401)
وقد يجوز في ذلك وجه آخر في العربية وهو أن تبيّن
ولا تدغم، ولكنك تخفي الحركة، وإخفاؤها هو أن لا تشبعها بالتمطيط، ولكنك تختلسها اختلاسا، وجاز الإدغام والبيان جميعا، لأن الحرفين ليسا يلزمان، فلمّا لم يلزما صار بمنزلة:
اقتتلوا * في جواز البيان فيه والإدغام جميعا، ومثل ذلك: {نعما يعظكم به} [النساء / 58]، فيمن أسكن العين، فالذي أسكن العين لم يدغم، كما يجوز أن يدغم من كسر العين، والذي كسر العين لم يحرك الساكن من أجل الإدغام، لأن تحريك ما قبل الحرف المدغم لا يجوز في الإدغام، إذا كان المدغم منفصلا من المدغم فيه، ولكن: نعم * على لغة من حرك العين قبل الإدغام، ولو حرّكه وألقى حركة المدغم عليه لوجب أن يكون مفتوحا أو يجوز فيه التحريك بالفتح، لأن حركة المدغم الفتحة من حيث كان آخر المثال الماضي.
يوسف: 12
اختلفوا في قوله تعالى: نرتع ونلعب [يوسف / 12].
فقرأ ابن كثير: نرتع ونلعب بفتح النون فيهما وكسر العين في نرتع من ارتعيت. وحدثني عبيد الله (1) بن علي قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا أبو بكر البكراوي عن إسماعيل المكي قال: سمعت ابن كثير يقرأ: نرتع ويلعب نرتع بالنون وكسر العين، {ويلعب} بالياء وجزم الباء.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر: نرتع ونلعب بالنون فيهما وتسكين الباء والعين.
__________
(1) جاء في هامش (ط): في أخرى: أبو بحر.(4/402)
وقرأ نافع: يرتع ويلعب مثل ابن كثير في كسر العين وهي بياء، و {يلعب} بالياء وجزم الباء.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {يرتع ويلعب} بالياء فيهما وجزم العين والباء (1).
قراءة ابن كثير: نرتع ويلعب بالياء (2) أحسن، لأنه جعل الارتعاء والقيام على المال لمن بلغ وجاوز الصّغر، وأسند اللعب إلى يوسف لصغره، ولا لوم على الصغير في اللعب ولا ذمّ، والدليل على صغر يوسف، قول إخوته: {وإنا له لحافظون}
[يوسف / 12]، ولو كان كبيرا لم يحتج إلى حفظهم، ويدلّ على ذلك أيضا قول يعقوب: {وأخاف أن يأكله الذئب} [يوسف / 13]، ولو لم يكن صغيرا قاوم الذئب، وإنما يخاف الذئب على من لا دفاع فيه ولا ممانعة عنده من شيخ فان وصبيّ صغير، وعلى هذا قال (3):
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
__________
(1) السبعة 346345.
(2) في قوله: (يلعب).
(3) البيتان للربيع بن ضبع الفزاري، وهما من شواهد سيبويه. وقد وصف الشاعر في البيتين انتهاء شبيبته وذهاب قوته، فلا يطيق حمل السلاح لحرب، ولا يملك رأس البعير إن نفر من شيء، وإذا خلا بالذئب خشيه على نفسه، وأنه لا يحتمل برد الرياح وأذى المطر لهزمه وضعفه.
انظر سيبويه 1/ 46النوادر 446 (ط: الفاتح) مع جملة أبيات الجمهرة / 52. التصريح 2/ 36المفصل 7/ 105ابن الشجري 4/ 118.(4/403)
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا
وفي المثل: «بما لا أخشى الذئب» (1).
وأما اللعب فمما لا ينبغي أن ينسب إلى أهل النسك والصلاح، ألا ترى قوله: {أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين}
[الأنبياء / 55] فقوبل اللعب بالحق، فدلّ أنه خلافه، وقال:
{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة / 65]، وقال: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} [الأعراف / 51].
فأما الارتعاء: فهو افتعال من رعيت مثل: شويت واشتويت، وكل واحد منهما متعدّ إلى مفعول به، قال الأعشى (2):
ترتعي السّفح فالكثيب فذاقا ... ر فروض القطا فذات الرّئال
وقال الآخر (3):
رعى بارض البهمى جميما وبسرة ... وصمعاء حتّى آنفته نصالها
__________
(1) المثل: «لقد كنت وما أخشى بالذئب» قال ذلك الأصمعي، وأصله أن الرجل كان يطول عمره حتى يخرف، فيصير إلى أن يخوّف بمجيء الذئب، كتاب الأمثال لأبي عبيد 118.
(2) ديوانه / 3.
(3) البيت لذي الرمة من قصيدة يهجو بها بني امرئ القيس. وروايته في الديوان 1/ 519: «رعت بارض وآنفتها».(4/404)
وقد يستقيم أن يقال: نرتع وترتع إبلهم فيما قال أبو عبيدة، ووجه ذلك أنه كان الأصل: ترتع إبلنا، ثم حذف المضاف، وأسند الفعل إلى المتكلمين فصار نرتع، وكذلك نرتعي على: ترتعي إبلنا، ثم يحذف المضاف فيكون: نرتعي.
وقال أبو عبيدة (1): نرتع: نلهو، وقد تكون هذه الكلمة على غير معنى اللهو، ولكن على معنى النّيل من الشيء، كقولهم: «القيد والرّتعة» (2)، وكان هذا على النيل والتناول مما يحتاج إليه الحيوان، وقد قال الأعشى (3):
صدر النهار تراعي ثيرة رتعا
__________
والبارض: ما بدأ أن يخرج، والجميم من كل نبت: ما ارتفع منه وبسرة: غضة، والصمعاء ما اجتماع فامتلأ كمامه من الثمرة فكاد يتفقأ، والنصال: ج نصل وهي شوكة تصيب أنوفها.
انظر معجم تهذيب اللغة 2/ 660/ 339و 12/ 412 واللسان مادة / صمع /.
(1) في مجاز القرآن 1/ 303.
(2) وهو من أمثال العرب نسبه في الأمثال لأبي عبيد ص 56للغضبان بن القبعثرى، قاله للعجاج عند ما حبسه. وتمامه: «القيد والرّتعة، والخفض والدّعة، وقلّة التّعتعة، ومن يك ضيف الأمير يسمن». وفي الفاخر ص 208أن أول من قاله: عمرو بن الصعق بن خويلد بن نفيل، وكانت شاكر من همدان أسروه فأحسنوا إليه وروّحوا عنه.
(3) عجز بيت للأعشى وصدره في ديوانه ص 105:
فظلّ يأكل منها وهي راتعة ... حدّ البيت
ثيرة جمع ثور. وانظر الخصائص 1/ 113، المنصف 1/ 349.(4/405)
وعلى هذا قالوا: رأيت مرتع إبلك، لمرادها الذي ترعى فيه، فهذا لا يكون على اللهو، لأنه جمع ثور راتع أو رتوع.
وأما قراءة أبي عمرو وابن عامر: نرتع ونلعب فيكون:
نرتع على: ترتع إبلنا، أو على أنّنا ننال مما نحتاج إليه وتنال معنا.
فأمّا نلعب فحكي أنّ أبا عمرو قيل له: كيف يقولون:
نلعب وهم أنبياء؟! فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، فلو صحّت هذه الحكاية عن أبي عمرو، وصحّ عنده هذا التاريخ فذاك وإلا فقد قال الشاعر (1):
جدّت جذاذ بلاعب وتقشّعت ... غمرات قالب لبسة حيران
فكأنّ اللاعب هنا الذي يشمّر في أمره فدخله بعض الهوينى، فهذا أسهل من الوجه الذي قوبل به الحق، وقد روي
عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لجابر: «فهلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك» (2)
فهذا كأنه يتشاغل بمباح وتنفيس وجمام من الجدّ وتعمّل لما يتقوّى به عمل النظر في العلم والعبادة، وقد روي عن بعض السلف أنه كان إذا أكثر النظر في مسائل الفقه قال:
«أحمضوا»،
وروي: «إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن
__________
(1) البيت غير منسوب في المعاني الكبير 2/ 964وفسره بقوله: لبس ثوبه مقلوبا من الدهش. وأنشده في إيضاح الشعر ص 270. برواية «جداد».
(2) أخرجه مسلم 2/ 1087برقم / 56/. ولا يقصد المصنف المدلول الاصطلاحي لكلمة «روي» والتي تدل على التمريض عند علماء مصطلح الحديث.(4/406)
المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» (1)
وليس هذا اللعب كاللعب في قوله: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب}
[التوبة / 65].
فأما قراءة عاصم وحمزة والكسائيّ {يرتع ويلعب جميعا بالياء، فإن كان يرتع من اللهو، كما فسّره أبو عبيدة، فلا يمتنع أن يخبر به عن يوسف لصغره، كما لا يمتنع أن ينسب إليه اللعب لذلك، فإن كان يرتع من النيل من الشيء، فذلك لا يمتنع عليه أيضا فوجهه بيّن، وهذا أبين من قول من قال:
ونلعب بالنون، لأنهم إنما سألوا إرساله ليتنفس بلعبه، ولم يسألوا إرساله ليلعبوا هم.
يوسف: 14
اختلفوا في همز} {الذئب} وتركه. [1413].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة: بالهمز.
وقرأ الكسائيّ وحده بغير همز.
حدثني عبيد الله عن نصر عن أبيه قال: سمعت أبا عمرو يقرأ: فأكله الذيب لا يهمز.
قال: وأهل الحجاز يهمزون.
وروى عباس بن الفضل عن أبي عمرو أنه لا يهمز.
وروى ورش عن نافع أنه لم يهمز، وقال ابن جمّاز:
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 199.(4/407)
أبو جعفر، وشيبة ونافع: لا يهمزون الذيب. قال أبو بكر: وهذا وهم، إنما هو أبو جعفر وشيبة لا يهمزانه، ونافع يهمز. كذا قال إسماعيل بن جعفر عنهم، وروى المسيّبي وأبو بكر بن أبي أويس وقالون، وإسماعيل ويعقوب ابنا جعفر (1) بن أبي كثير عن نافع أنه همز. وأخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد الحارثي البصري كريزان (2) عن الأصمعي قال: سألت نافعا عن الذئب والبئر، فقال: إن كانت العرب تهمزها فاهمزها (3).
قال أبو علي: الذئب مهموز في الأصل، وقالوا: تذاءبت الرّيح إذا جاءت من كلّ جهة، كأن المعنى أنها أتت كما يأتي الذئب. قال (4):
غدا كأنّ به جنّا تذاء به ... من كلّ أقطاره يخشى ويرتقب
أي: يأتيه من جميع جهاته فإذا خفّفت الهمزة منه قلبت ياء، وكذلك البير، ولو وقعت في ردف لقلبتها قلبا إلى الياء، كما تقلب ألف رال في قوله (5):
__________
(1) انظر ترجمته في طبقات القراء 2/ 389.
(2) انظر ترجمته في طبقات القراء 1/ 379.
(3) السبعة 346.
(4) البيت لذي الرمة في ديوانه 1/ 95. قوله: غدا: يريد غدا الثور كأن به جنونا.
(5) عجز بيت لامرئ القيس وصدره:
وصمّ صلاب ما يقين من الوجى(4/408)
كأنّ مكان الرّدف منه على رال وقد جمعوا فقالوا في العدد القليل: أذؤب، وقالوا: ذئب وذؤبان، كما قالوا زقّ وزقّان. قال (1):
وأزور يمطو في بلاد بعيدة ... تعاوى به ذؤبانه (2) وثعالبه وقالوا: ذئاب، قال (3):
ولكنّما أهلي بواد أنيسه ... ذئاب تبغّى الناس مثنى وموحد
فإن خفّفت الهمزة أبدلت منها الياء فقلت: دياب.
يوسف: 31
قال: وروى عبد الله عن أبيه عن عامر عن خارجة عن نافع: {وقالت اخرج} بكسر التاء [يوسف / 31]، ولم يروه غيره.
__________
أراد بالصم: حوافره، ما يقين من الوجى: لا يهبن المشي من حفا لصلابتهن، والرأل: فرخ النعامة فشبه موضع الرديف منها خلف الفارس بمؤخر الرأل. ديوانه / 36.
(1) البيت لذي الرمة وروايته في الديوان 2/ 848:
وأزور يمطو في بلاد عريضة ... تعاوى به ذؤبانه وثعالبه
وأزور: يعني الطريق فيه عوج، ويمطو: يمدّ.
(2) في الأصل (ط): رسمت: «ذيبانه» والوجه ما أثبتناه.
(3) لساعدة بن جؤية، سبق انظر 2/ 171.(4/409)
الباقون عن نافع: وقالت اخرج بضم التاء (1).
وقد ذكرته (2)
يوسف: 19
اختلفوا في فتح الياء وإثبات الألف وإسكانها، وإسقاط الألف من قوله عزّ وجلّ: يا بشراي هذا غلام [يوسف / 19].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: يا بشراي بفتح الياء وإثبات الألف (3).
وروى ورش عن نافع: يا بشراي [يوسف / 19] ومثواي [يوسف / 23] ومحياي [الأنعام / 162] وعصاي [طه / 18] بسكون الياء.
الباقون عن نافع: بتحريك الياء إلا محياي. ورأيت أصحاب ورش لا يعرفون هذا، ويروون عنه بفتح الياء في ذلك كلّه.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ: {يا بشرى بألف بغير ياء.
وعاصم بفتح الراء وحمزة والكسائيّ يميلانها} [4].
من قال: يا بشراي هذا فأضاف إلى الياء التي للمتكلم كان للألف التي هي حرف الإعراب عنده موضعان من وجهين:
أحدهما: أن الألف في موضع نصب من حيث كان نداء
__________
(1) السبعة 348وليس مكان هذا الحرف هنا من حيث ترتيب الآيات.
(2) ذكر نظائره في سورة يوسف / 98.
(3) زادت (ط): هنا: «وروى ورش عن نافع: (يا بشراي) بفتح الياء وإثبات الألف» ووضعت هذه الزيادة بين قوسين. ولم ترد في السبعة.
(4) السبعة ص 347. وجاء على هامش (ط): عبارة: بلغت.(4/410)
مضاف، والآخر: أن تكون في موضع كسر من حيث كانت بمنزلة حرف الإعراب في: غلامي.
والدليل على استحقاقها لهذا الموضع قولهم: كسرت فيّ، فلولا أنّ حرف الإعراب الذي ولي ياء الإضافة في موضع كسر ما كسرت الفاء من فيّ، فلما كسرت كما كسرت في قولهم: بفيك، وكما فتحت من قولهم: رأيت فاك، لما كانت في موضع الفتحة في قولك: رأيت غلامك، وانضمت في قولك: هذا فوك، لاتباعه الضمّة المقدرة فيها، كالتي في قولك: هذا غلامك، كذلك كسرت في قولهم: كسرت فيّ، وهذا يدل على أنه ليس يعرب من مكانين: ألا ترى أنها تبعت حركة غير الإعراب في قولك: كسرت فيّ يا هذا، كما تبعت الإعراب في: رأيت فاك.
ومن قال: {يا بشرى هذا غلام} احتمل وجهين: أحدهما:
أن يكون في موضع ضمّ مثل: يا رجل لاختصاصه بالنداء، كاختصاص الرجل ونحوه من الأسماء الشائعة به. والآخر: أن يكون في موضع نصب، وذلك لأنك أشعت النداء ولم تخصصه، كما فعلت في الوجه الأول، فصار كقوله: {يا حسرة على العباد} [يس / 30]، فالوجه الأول على أنه {بشرى}
مختصة بالنداء، والآخر: أن تنزّله من جملة كلّها مثلها في الشّياع، إلا أن التنوين لم يلحق بشرى لأنها لا تنصرف.
فأما قوله: {لا بشرى يومئذ للمجرمين} [الفرقان / 22]، فإن حرف الإعراب فيه يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: أن
يكون في موضع فتحة لبناء الذي في: لا ريب، و: لا رجل، والآخر: أن يكون في موضع نصب.(4/411)
فأما قوله: {لا بشرى يومئذ للمجرمين} [الفرقان / 22]، فإن حرف الإعراب فيه يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: أن
يكون في موضع فتحة لبناء الذي في: لا ريب، و: لا رجل، والآخر: أن يكون في موضع نصب.
فأما الوجه الذي يكون فيه في موضع فتحه للبناء، فأن تجعل قوله {للمجرمين} الخبر وتجعل {يومئذ} متعلقا باللام، وإن كان قوله: {يومئذ} متقدّما عليها. والوجه الذي يكون فيه في موضع نصب مثل: لا خيرا من زيد عندك هو أن تجعل {يومئذ} من صلة {بشرى}، فيصير لذلك اسما طويلا ينتصب لطوله في النفي، كما ينتصب المضاف، وكذلك في النداء، ولم يدخله التنوين، لأنه لم ينصرف، وامتناع دخول التنوين عليه لذلك ليس مما يمتنع أن تكون الألف في موضع فتح، وهو نصب، فأما من زعم أنّ {بشرى} اسم لرجل منادى فيحتاج إلى ثبات ذلك بخبر يسكن إليه، كما أنّ من قال في ولد يعقوب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنهم لم يكونوا أنبياء، حين أخبر عنهم باللعب، يحتاج إلى ذلك. ووجه نداء البشرى على الوجهين اللذين قدّمنا، والمعنى فيه: أن هذا الوقت من أوانك، ولو كنت ممّن تخاطب نحو: طبت الآن، ومثل ذلك: {يا حسرة على العباد} [يس / 30].
وأما فتح عاصم الراء في {بشرى} فحسن لمكان الراء، وهي تجري مجرى المستعلية، إذا كانت مفتوحة في منع الإمالة، وإمالة حمزة والكسائيّ إياها حسنة أيضا، لأن الراء في هذا النحو لا تمنع الإمالة، كما لا يمنع في طغى وصغى، وكما لم تمنع في قولهم: صار مكان كذا.
فأما قول نافع محياي ومماتي [الأنعام / 162]،
وجمعه بين الساكنين على غير حدّ دابّة وشابّة، فوجه ذلك أنّه يجوز أن يختص به الألف لزيادة المدّ الذي فيها على زيادة المدّ الذي في أختها، واختصت بهذا كما اختصت القوافي بالتأسيس، وكما اختصت في تخفيف الهمزة بعدها، نحو:(4/412)
فأما قول نافع محياي ومماتي [الأنعام / 162]،
وجمعه بين الساكنين على غير حدّ دابّة وشابّة، فوجه ذلك أنّه يجوز أن يختص به الألف لزيادة المدّ الذي فيها على زيادة المدّ الذي في أختها، واختصت بهذا كما اختصت القوافي بالتأسيس، وكما اختصت في تخفيف الهمزة بعدها، نحو:
هباءة، وليس شيء من ذلك الياء والواو، وكذلك يجوز أن تختص لوقوع الساكن بعدها فيما قرأه نافع.
ويقوّي ذلك ما ذهب إليه يونس، في قولهم في الخفيفة:
اضربان، واضربنان، فجمع بين الساكنين على الحدّ الذي قرأ به نافع.
وحكى هشام: «التقت حلقتا البطان» (1). فهذه الأشياء مثل ما قرأ به نافع من قوله: محياي، والتحريك للياء بعد الألف أكثر، وعليه العامة من القراء والعرب والنحويين.
والدليل على ضعف ذلك من طريق القياس مع قلته في السماع أنهم قالوا: جأنّ، ودأبّة، وأنشد (2):
خاطمها زأمّها كي يركبا فكرهوا التقاء الساكنين، مع أنّ الثاني منهما مدغم يرتفع اللسان عنه، وعن المدغم فيه ارتفاعة واحدة فإذا كره كارهون هذا الكثير في الاستعمال، فحكم ما قلّ في الاستعمال، ولم يكن على حدّ دابّة الرفض والاطّراح.
__________
(1) انظر الأمثال لابن سلام / 343.
(2) الرجز في اللسان (زمم) بغير نسبة، وروايته: «أن تذهبا» بدل «كي يركبا» وبعده:(4/413)
وقد قرأ ناس من غير القرّاء السبعة هذا النحو بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء الإضافة، فقالوا: هدي وبشري *، والقول في ذلك أن ما يضاف إلى الياء يحرّك بالكسر إذا كان الحرف صحيحا نحو: غلامي وداري. فلمّا لم تحتمل الألف الكسرة قرّبت الألف من الياء بقلبها إليها، كما كان الحرف يكون مكسورا والألف قريبة من الياء، فكذلك أبدل كلّ واحد منهما من الآخر في حاري وضاري. وقوله (1):
لنضربن بسيفنا قفيكا فإن قلت: أتقول إن في قولك: هديّ حركة مقدّرة في الياء المنقلبة عن الألف، كما كانت في غلامي؟ فالقول: إن الياء لا ينبغي أن تقدر فيها الحركة التي قدّرت في غلامي، لأن انقلابها إلى الياء فيه دلالة على الكسرة، فلم يلزم أن تقدّر فيه الحركة، كما لم تقدّر الحركة له في الألف والياء في رجلان، ورجلين، ألا ترى أنّه قال في حرف التثنية غير محرّك ولا منوّن، فإنّما يريد غير مقدّرة فيه الحركة التي تقدّر في نحو: قال وباع، ولو قدّرت فيها الحركة للزم أن تقلب الياء من رجلين، ولا تثبت ياء. فإن قلت: هلّا قلت: إن الحركة في بشري مقدّرة، وإن كانت الياء قد أبدلت من الألف فيها، لأن القلب ليس يختص بهذا الموضع، ألا ترى أنهم يقولون أيضا في الوقف: أفعي وأعشي، وإذا لم يختص بهذا الموضع، لم يكن مثل
__________
فقلت أردفني فقال: مرحبا
(1) من أرجوزة لرجل من حمير، سبق انظر: 1/ 41684.(4/414)
التثنية! قيل: هذا يختصّ به الوقف، فلا يثبت في الوصل ويسقط، وإذا لم تثبت لم يقع الاعتداد بها، وكان في تقدير الألف. فإن قلت: إنه قد حكي أن منهم من يقول في الوصل والوقف:
أفعي، وأعشي فالقول في ذلك: أنه يجوز أن يكون جعل الحرف في الوصل مثله في الوقف، كما يجري الوصل مجرى الوقف في أشياء. وكأنّهم أرادوا بذلك أن يكون الحرف أبين، على أنّي رأيت أبا إسحاق لا يرتضي هذه اللغة، ويقدح فيها من طريق القياس.
قال أبو الحسن: قرأ بعض أهل المدينة بالكسر للياء في الإضافة، قال: وذا رديء!.
قال أبو علي: لا وجه لذلك إلا أن يكون جاء به على قول من قال (1):
هل لك يا تافيّ فحذف الياء التي تتبع الياء وهذا قليل في الاستعمال، ورديء في القياس، ألا ترى أن الياء للمتكلم، بمنزلة الكاف للمخاطب، فكما لا تلحق الكاف زيادة في الأمر الشائع،
__________
(1) جزء من بيت للأغلب العجلي شاعر مخضرم، وهو من أرجوزة، وتمامه مع ما بعده:
قال لها هل لك يا تافيّ ... قالت له ما أنت بالمرضي
معاني القرآن 2/ 76، المحتسب 2/ 49، والخزانة 2/ 257.(4/415)
كذلك لا تلحق الياء زيادة الياء، ومن ألحق الكاف الزيادة فقال: أعطيتكاه جعل الكاف بمنزلة الهاء التي للغائب في لحاق الزيادة له، وعلى هذا ألحق التاء التي للخطاب حرف المد وذلك في قوله (1):
رميتيه فأصممت ... فما أخطأت الرّمية
عباس عن أبي عمرو أبي إبراهيم: لا يحرك الياء، الباقون بتحريك الياء، وروى اليزيدي عن أبي عمرو فتحها، لا فصل بين الإسكان والتحريك، بل يجريان مجرى واحدا، قال أبو الحسن: الياء تخفى بعد الهمزة، فكأنهم أرادوا إيضاحها فذا حجّتها.
يوسف: 23
اختلفوا في قوله جلّ وعزّ (2): {هيت لك} [يوسف / 23].
فقرأ ابن كثير: هيت لك بفتح الهاء، وتسكين الياء، وضم التاء.
وقرأ نافع وابن عامر: هيت * بكسر الهاء، وسكون الياء، ونصب التاء.
وروى هشام بن عامر بإسناده عن ابن عامر: هئت لك من تهيّأت لك بكسر الهاء وهمز الياء وضمّ التاء.
وكذلك حدّثني ابن بكر مولى بني سليم عن هشام. وقال
__________
(1) انظر 1/ 73.
(2) في الأصل (ط): جلّ وعزّ وجلّ.(4/416)
الحلواني عن هشام: هئت لك مهموز بكسر الهاء وفتح التاء، وهو خطأ، ولم يذكره ابن ذكوان (1).
أبو عبيدة: {هيت لك} أي: هلمّ لك، قال رجل لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه (2):
أبلغ أمير المؤمنين ... أخا العراق إذا أتيتا
أنّ العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا (3)
أي: هلمّ إلينا.
وقال أبو الحسن: وقد كسر بعضهم التاء، وهي لغة في ذا المعنى، ورفعت في ذا المعنى.
قال: وقراءة أهل المدينة: هيت لك في ذا المعنى، الهاء مكسورة، والتاء مفتوحة، قال: وقال بعضهم: هئت لك مهموز، جعلها من تهيّأت لك، وهي حسنة، إلا أن المعنى الآخر أثبت، لأنها دعته، والمفتوحة في ذا المعنى أكثر اللغات.
__________
(1) السبعة 347وزاد بعده: وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: (هيت لك) بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء.
(2) في مجاز القرآن: أنشدني أبو عمرو. والبيتان في المحتسب 1/ 337 والخصائص 1/ 279والمفصل 4/ 32واللسان مادة (هيت) غير منسوبين، وانظر حجة القراءات لابن زنجلة / 357.
(3) مجاز القرآن 1/ 305. قوله: عنق، أي: مائلون.(4/417)
فأما قولهم: هيّت فلان بفلان: إذا دعاه، فينبغي أن يكون مأخوذا من قوله: {هيت لك}.
كما أن قولهم: أفف (1) مأخوذ من أفّ، وجعلوها بمنزلة الأصوات، لموافقتها لها في البناء، واشتقوا منها كما اشتقوا من الأصوات نحو: دعدع إذا قالوا: داع داع، ويجري هذا المجرى: سبّح ولبّى إذا قال: سبحان الله، ولبّيك. وأنشد بعض البغداديين (2):
قد رابني أنّ الكريّ أسكتا ... لو كان معنيا بنا لهيّتا
أسكت: صار ذا سكوت، مثل: أجرب وأقطف (3).
قد تقدم من قول أبي الحسن الأخفش ما يعلم منه: أن في {هيت}، الذي يراد به اسم الفعل، ثلاث لغات: هيت لك، وهيت لك، وهيت لك إلا أن الهاء مكسورة وذلك قراءة نافع وابن عامر، ونسبه أبو الحسن إلى أهل المدينة ومثل هذه الكلمة في أن الآخر منها قد جازت فيه الحركات الثلاث لالتقاء
__________
(1) الأفف في اللسان: الضجر.
(2) ذكره اللسان ولم ينسبه في مادة / هيت /.
(3) أقحم الناسخ هنا ما سبق أن ذكره من الكلام على سورة يوسف / 31وهو قوله: «روى عبد الله عن أبيه عن ابن عباس، عن خارجة عن نافع (قالت اخرج) كسر التاء، ولم يروه غيره، الباقون عن نافع (قالت اخرج) بضم التاء». وقد رأينا أن حذفه من المتن أولى.(4/418)
الساكنين قولهم: كان من الأمر ذيت وذيت وذيت، ولو قرأ قارئ: {هيت لك} كان اسما للفعل، وفتح كما فتح الآخر من رويد، ألا ترى أنه اسم فعل، كما أن رويد اسم فعل، ولك على هذا للتبيين، بمنزلة لك في قولهم: هلمّ لك، ومثل تبيينهم إياه ب: لك، تبيينهم رويد بالكاف في رويدك، وتبيينهم ها، وهاء بقولهم: هاك، وهاءك، ولك في: هلمّ لك، يتعلق بهذا الاسم الذي سمّي الفعل به، ولا يجوز أن يتعلق بمضمر، لأنك لو علقته بمضمر لصار وصفا، وهذه الأسماء التي سمّيت بها الأفعال لا توصف، لأنها بمنزلة مثال الأمر، فكما لا يوصف مثال الأمر، كذلك لا توصف هذه الأسماء، وقول ابن كثير:
هيت لك بضم التاء لغة في ذا المعنى وحرّك الآخر بالضم، كما حرّك آخر ما ذكرته من ذيت، وحيث في أنه حرّك مرّة بالضم وأخرى بالفتح لالتقاء الساكنين. ومعنى هيت: هلمّ، وقد تقدم تفسيره بقول أبي عبيدة.
وقراءة ابن عامر فيما روى هشام عنه: هئت لك بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، وجهها أنه فعلت من الهيئة، والتاء في هئت ضمير الفاعل المسند إليه الفعل.
قال أبو زيد: هئت للأمر أهيء هيئة، وهيّأت، فهئت:
فعلت، وقال غير أبي زيد: رجل هيّئ صيّر شيّر، إذا كان حسن الهيئة والصورة، والشارة، ونظير ما حكاه أبو زيد من هئت وتهيأت قولهم: فئت وتفيّأت، وفي التنزيل {يتفيأ ظلاله}
[النحل / 48]، و {حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات / 9]، {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة / 226].
ويجوز في قراءة من حذف الهمزة أن يقول: هيت لك بغير همز، والتاء ضمير الفاعل، أن يكون خفّف الهمزة كما تخفّف من: جئت، وشئت، وفئت، ومن الأسماء نحو: ذيب، وبير. فإن قلت: فلم لا يكون: هئت * في الآية من: هؤت بالرجل خيرا أهوء به هوءا إذا أزننته به، حكاه أبو زيد، ويكون الفعل مبنيا للمفعول دون الفاعل مثل: سؤت زيدا، وسيء زيد، وسيئت، قيل: لا يشبه ذلك، لأن سياق الآية يدلّ على التهيؤ الذي هو استعداد، وليس المعنى على التّهمة والإزنان، ألا ترى أن المراودة وتغليق الأبواب إنما هو تهيّؤ وتعمّل لطلب الخلوة وما تلتمسه المرأة فيها! وأما ما رواه الحلواني عن هشام: هئت * مهموزا بفتح التاء وكسر الهاء، فهو أن يشبه أن يكون وهما من الراوي، لأن الخطاب يكون من المرأة ليوسف، وهو لم يتهيأ لها، يبيّن ذلك أن في السورة مواضع تدلّ على خلاف ذلك من قوله: {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} [يوسف / 23]، وقوله: {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} [يوسف / 30] وقوله: {أنا راودته عن نفسه} [يوسف / 32] وقوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} [يوسف / 32]، ولو كان على هذه الرواية لقالت له: هيت لي، فالوهم في هذه الرواية ظاهر.(4/419)
فعلت، وقال غير أبي زيد: رجل هيّئ صيّر شيّر، إذا كان حسن الهيئة والصورة، والشارة، ونظير ما حكاه أبو زيد من هئت وتهيأت قولهم: فئت وتفيّأت، وفي التنزيل {يتفيأ ظلاله}
[النحل / 48]، و {حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات / 9]، {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة / 226].
ويجوز في قراءة من حذف الهمزة أن يقول: هيت لك بغير همز، والتاء ضمير الفاعل، أن يكون خفّف الهمزة كما تخفّف من: جئت، وشئت، وفئت، ومن الأسماء نحو: ذيب، وبير. فإن قلت: فلم لا يكون: هئت * في الآية من: هؤت بالرجل خيرا أهوء به هوءا إذا أزننته به، حكاه أبو زيد، ويكون الفعل مبنيا للمفعول دون الفاعل مثل: سؤت زيدا، وسيء زيد، وسيئت، قيل: لا يشبه ذلك، لأن سياق الآية يدلّ على التهيؤ الذي هو استعداد، وليس المعنى على التّهمة والإزنان، ألا ترى أن المراودة وتغليق الأبواب إنما هو تهيّؤ وتعمّل لطلب الخلوة وما تلتمسه المرأة فيها! وأما ما رواه الحلواني عن هشام: هئت * مهموزا بفتح التاء وكسر الهاء، فهو أن يشبه أن يكون وهما من الراوي، لأن الخطاب يكون من المرأة ليوسف، وهو لم يتهيأ لها، يبيّن ذلك أن في السورة مواضع تدلّ على خلاف ذلك من قوله: {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} [يوسف / 23]، وقوله: {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} [يوسف / 30] وقوله: {أنا راودته عن نفسه} [يوسف / 32] وقوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} [يوسف / 32]، ولو كان على هذه الرواية لقالت له: هيت لي، فالوهم في هذه الرواية ظاهر.
يوسف: 24
اختلفوا في كسر اللام وفتحها من قوله جلّ وعزّ:
المخلصين *، [24].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: المخلصين ومخلصا * [مريم / 51] بكسر اللام، وتابعهم نافع في قوله:
إنه كان مخلصا في مريم بكسر اللام، وقرأ سائر القرآن {المخلصين} بفتح اللام، فأما ما فيه {الدين} [الأعراف / 29، والزمر / 11] أو {ديني} [الزمر / 14]، فلم: يختلف فيه أنه بكسر اللام.(4/420)
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: المخلصين ومخلصا * [مريم / 51] بكسر اللام، وتابعهم نافع في قوله:
إنه كان مخلصا في مريم بكسر اللام، وقرأ سائر القرآن {المخلصين} بفتح اللام، فأما ما فيه {الدين} [الأعراف / 29، والزمر / 11] أو {ديني} [الزمر / 14]، فلم: يختلف فيه أنه بكسر اللام.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: المخلصين، ومخلصا في سائر القرآن بفتح اللام (1).
حجّة من كسر اللام من المخلصين * ومخلصا * قوله:
{وأخلصوا دينهم لله} [النساء / 146]. فأما قراءة نافع في مريم: مخلصا بكسر اللام فعلى معنى أنه كان مخلصا دينه، أو مخلصا عبادته.
فأما ما فيه الدين كقوله: {مخلصين له الدين} [غافر / 14] {قل الله أعبد مخلصا له ديني} [الزمر / 14] فلأن الدين وديني مفعول به، وفي اسم الفاعل ذكر مرتفع بأنه فاعل. ومعنى: {مخلصا له ديني}: أي: أتوجه في عبادتي إليه، من غير مراءاة في ذلك، وكذلك {مخلصين له الدين} أي: لا يشركون في عبادته أحدا، كما قال: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}
[الكهف / 110]، ولم يكونوا كمن قال: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر / 3]. وأقول في ذلك: أخلصت ديني لله، ولا يكون أخلصت ديني لله، كما لا يكون: أخلصوا دينهم لله، ويجوز في التي في الزّمر: وهو {مخلصا له ديني}
أي: أخلصه أنا، ومخلصا له ديني أي: يخلص ديني له، يكون هو المخلص في المعنى، إلّا أنه بني الفعل للمفعول به، وهذا يجوز في العربية.
__________
(1) السبعة 348.(4/421)
وحجة من كسر اللام قوله: {وأخلصوا دينهم لله}، فإذا أخلصوا فهم مخلصون، كما أنهم إذا أخلصوا لهم كانوا مخلصين.
يوسف: 31
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: حاشا لله [31].
فقرأ أبو عمرو وحده: حاشا لله بألف.
وقرأ الباقون: {حاش لله} بغير ألف.
حدّثني عبيد الله بن علي قال: حدّثنا نصر بن علي قال:
أخبرنا الأصمعيّ قال: سمعت نافعا يقرأ: حاشا لله فيها بألف ساكنة، كذا في الحديث (1).
أبو عبيدة: {حاش لله} وحاشا لله يطلقونها، وهي تبرئة واستثناء. وأنشد (2):
حاشا أبي ثوبان إنّ به ... ضنّا على الملحاة والشّتم (3)
قال أبو علي: لا يخلو قولهم: {حاش لله} من أن يكون الحرف الجارّ، في الاستثناء، أو يكون فاعل من قولهم: حاشا يحاشي، فلا يجوز أن يكون الحرف الجارّ، لأن الحرف الجارّ
__________
(1) انظر مسند أحمد 2/ 296. السبعة 348.
(2) البيت للجميح الأسدي وهو من قصيدة مفضلية في المفضليات رقم 109 ص 367والأصمعيات ص 254والمحتسب 1/ 341الإنصاف 280 المفصل 2/ 84و 8/ 47وهو الشاهد رقم 184من شرح أبيات المغني ج 3/ 88والخزانة 2/ 150.
(3) مجاز القرآن 1/ 310.(4/422)
لا يدخل على مثله، ولأنّ الحروف لا تحذف إذا لم يكن فيها تضعيف، فإذا لم يكن الجارّ ثبت أنه الذي على فاعل، وهو مأخوذ من الحشا الذي يعنى به: الناحية. قال الهذليّ (1):
يقول الذي يمشي إلى الحرز أهله ... بأيّ الحشا صار الخليط المباين
فحاشا: فاعل من هذا، والمعنى أنه صار في حشا، أي:
في ناحية مما قرف فيه، أي: لم يقترفه، ولم يلابسه، وصار في عزلة عنه وناحية، وإذا كان فعلا من هذا الذي ذكرنا، فلا بدّ له من فاعل، وفاعله يوسف، كأنّ المعنى: بعد من هذا الذي رمي به لله، أي: لخوفه ومراقبة أمره.
فأما حذف الألف فيه، فلأن الأفعال قد حذف منها نحو:
لم يك، ولا أدر، ولم أبل. وقد حذفوا الألف من الفعل في قولهم: أصاب الناس جهد، ولو تر ما أهل مكة، فإنما هو:
ترى فحذفت الألف المنقلبة عن اللام، كما حذفت من حاشا من قوله: {حاش لله}.
ومن حجة الحذف: أنهم زعموا أنه في الخطّ محذوف، وقد قال رؤبة (2):
__________
(1) لمالك بن خالد الخناعي ويقال: إنها للمعطل والحشا: أجواف الأودية والخليط الذين يخالطون في الدار والمباين: المفارق المزايل. شرح أشعار الهذليين للسكري 1/ 446.
(2) من أرجوزة له في ديوانه 187وقبله:
مسرول في آلة مربّن ... يمشي العرضنى في الحديد المتقن(4/423)
وصّاني العجّاج فيما وصّني ومن ذلك قول الشاعر (1):
ولا يتحشّى الفحل إن أعرضت به ... ولا يمنع المرباع منها فصيلها
فحاشا وحشّى بمنزلة: ضاعف وضعّف، وتحشّى مطاوع حشّ، وإن لم أسمع فيه حشّى، فهذا لم يستعمل ما هو مطاوع له، كما أنّ قولهم: انطلق كذلك، والمعنى: لا يصير الفحل من عقره في ناحية، أي: لا يمنعه ذلك من عقره للنحر وإطعام الضيف، وكذلك: لا يمنع المرباع فصيلها، أي: لا يمنع المرباع من عقره لها فصيلها إشفاقا عليه، ولكن يعقرها، كما يعقر الفحل.
وأما قول أبي عمرو: حاشا فإنه جاء به على التمام، والأصل، قال أبو الحسن: ولم أسمعها إلا أنها قد كثرت في القراءة، فكأنه تمّم لأنه رأى الحذف في هذا النحو قليلا، ويدلّ على جودة التمام: أنّ «ترى» وإن كانت قد حذفت في بعض المواضع، فإتمامها جيّد، فكذلك حاشا.
يوسف: 47
اختلفوا في إسكان الهمزة وتحريكها وإسقاطها من قوله تعالى: {دأبا} [يوسف / 47].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وحمزة،
__________
(1) سبق انظر 1/ 38.(4/424)
والكسائي: دأبا ساكنة الهمزة إلا أنّ أبا عمرو كان إذا أدرج القراءة لم يهمزها.
وروى حفص عن عاصم: {دأبا} بفتح الهمزة. وروى أبو بكر [عنه] ساكنة الهمزة، وكذلك روى موسى الزابي عن عاصم بالفتح (1).
الأكثر في دأب * الإسكان، ولعلّ الفتح لغة فيكون كشمع وشمع، ونهر ونهر. وقصّ وقصص، وانتصاب {دأبا}
لمّا قال: {تزرعون} [يوسف / 47] دلّ على تدأبون فانتصب دأبا بما دلّ عليه {تزرعون} وغير سيبويه يجيز أن يكون انتصابه ب {تزرعون} كأنه إذا قال: تزرعون وفيه علاج ودءوب فقد قال: تدأبون، فانتصب دأبا به لا بالمضمر.
يوسف: 49
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: {وفيه يعصرون}
[يوسف / 49].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
{يعصرون} بالياء.
وقرأ حمزة والكسائي: تعصرون بالتاء (2).
قوله: {يعصرون} يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون العصر الذي يراد به الضغط الذي يلحق ما فيه دهن أو ماء، نحو: الزيتون، والسّمسم والعنب والتمر ليخرج ذلك منه! وهذا
__________
(1) السبعة 349وما بين معقوفين منه.
(2) السبعة 349.(4/425)
يمكن أن يكون تأويل الآية عليه (1)، لأن من المتأولين من يحكي أنهم لم يعصروا أربع عشرة سنة زيتا ولا عنبا، فيكون المعنى: تعصرون للخصب الذي أتاكم، كما كنتم تعصرون أيام الخصب وقبل الجدب الذي دفعتم إليه، ويكون:
{يعصرون} من العصر الذي هو الالتجاء إلى ما تقدّر النجاة به، قال ابن مقبل (2):
وصاحبي وهوه مستوهل زعل ... يحول بين حمار الوحش (2) والعصر أي: يحول بينه وبين الملجأ الذي يقدّر به النجاة.
وقال آخر (4):
في ضريح عليه عبء ثقيل ... ولقد كان عصرة المنجود
__________
(1) انظر الطبري في تفسيره 12/ 232.
(2) من قصيدة بلغت 78بيتا في ديوانه ص 96قال عنها ابن قتيبة في الشعراء 426: وهي أجود شعره. وهو في المعاني 26والجمهرة 2/ 354واللسان (زعل). قوله: صاحبي، يريد فرسه، والوهوه من الخيل: النشيط سريع الجري والمستوهل: الفزع النشيط والزعل:
النشيط الأشر والعصر: الملجأ.
(4) عجز هذا البيت هو عجز بيت لأبي زبيد الطائي وهو بتمامه:
صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
وهو في الطبري 12/ والاقتضاب 390والمحتسب 1/ 345 والبحر 5/ 315واللسان (عصر) و (نجد) والمنجود: المكروب.(4/426)
وقال أبو عبيدة: تعصرون: تنجون. وأنشد للبيد (1):
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقّافا بغير معصّر
قال: والعصر: المنجاة (2)، قال عدي (3):
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري
فأما من قال: {يعصرون} بالياء (4)، فإنه جعل الفاعلين الناس، لأن ذكرهم قد تقدّم هذا الفعل.
ومن قال: تعصرون، وجّه الخطاب إلى المستفتين الذين قالوا: أفتنا في كذا، وعلى هذا قالوا: {إلا قليلا مما تحصنون} [يوسف / 48]، إلا أن الناس أقرب إلى الفعل منهم ويجوز: أن يكون أريد المستفتون وغيرهم، إلا أنه حمل الكلام
__________
(1) في الديوان برواية (بدار معصّر) والمعصر: الملجأ والحرز (ديوانه / 68).
(2) مجاز القرآن 1/ 313. وقد خطأ أبا عبيدة في تفسيره هذا الطبري، فقال في جامع البيان 12/ 233: وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب يوجه معنى قوله: (وفيه يعصرون) إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من العصر، والعصر التي بمعنى المنجاة من قول أبي زبيد البيت الخ.
(3) هو من شواهد سيبويه 1/ 462والاشتقاق 269، والخزانة 3/ 594 والبحر المحيط 5/ 316. واللسان مادة / عصر /.
(4) في الأصل (تعصرون) بالتاء. والوجه ما أثبتناه.(4/427)
على المخاطبين. لأن الخطاب والغيبة، إذا اجتمعا غلّب الخطاب على الغيبة، كما يغلب التذكير على التأنيث.
يوسف: 56
وقرأ ابن كثير وحده: يتبوأ منها حيث نشاء [يوسف / 56] بالنون.
وقرأ الباقون بالياء (1).
قال أبو علي: يتبوأ منها حيث يشاء من قال: حيث يشاء، فيشاء مسند إلى فعل الغائب، كما كان {يتبوأ} كذلك.
ويقوي ذلك: {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء}
[الزمر / 74]. وكما أن قوله: حيث نشاء وفق فعل المتبوءين فكذلك قوله: {حيث يشاء} وفق لقوله: {يتبوأ} في إسناده إلى الغيبة.
وأما قراءة ابن كثير حيث نشاء فإنه على أحد وجهين:
إما يكون أسند المشيئة إليه، وهي ليوسف في المعنى، لأن مشيئته لما كانت بقوّته وإقداره عليها جاز أن ينسب إلى الله سبحانه، وإن كان في المعنى ليوسف، كما قال: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال / 17]، فأضيف الرمي إلى الله سبحانه لما كان بقوته، وإن كان الرمي للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
والآخر: أن يكون الموضع المتبوّأ مواضع نسك وقرب، أو مواضع يقام فيها الحقّ من أمر بمعروف أو نهي عن منكر،
__________
(1) السبعة 349وقد جاء الكلام عن هذا الحرف متأخرا في الأصل عن:
(وقال لفتيانه) الآية 62. ورتبناه حسب تسلسل الآيات.(4/428)
فالتبوّؤ في نحو هذه الأماكن والمكث فيها قرب إلى الله سبحانه، فهو يشاؤه ويريده.
ويقوي النون أن الفعل المعطوف عليه كذلك، وهو:
{نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين}
[يوسف / 56]، فأما اللام في قوله: {مكنا ليوسف}
[يوسف / 21]، وفي قوله: {إنا مكنا له في الأرض}
[الكهف / 84] فيجوز أن يكون على حدّ التي في قوله: {ردف لكم} [النمل / 72] و {للرؤيا تعبرون} [يوسف / 43]، يدلّ على ذلك قوله: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه}
[الأحقاف / 26]، وقوله: {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} [الأنعام / 6]. وتكون اللام في قوله: {ما لم نمكن لكم}
على هذا أيضا.
وقوله: {يتبوأ} في موضع نصب على الحال تقديره مكّنّاه متبوّئا حيث يشاء، فأما قوله: {حيث يشاء} فيحتمل موضعه أمرين، أحدهما: أن يكون في موضع نصب بأنه ظرف، والآخر: أن يكون في موضع بأنه مفعول به، ويدل على جواز هذا الوجه قول الشمّاخ (1):
وحلّأها عن ذي الأراكة عامر ... أخو الخضر يرمي حيث تكوى النّواحز
يوسف: 62
اختلفوا في النون والتاء من قوله عزّ وجلّ: {وقال لفتيانه}
[يوسف / 62].
__________
(1) سبق ذكره في هذا الجزء ص 310(4/429)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: لفتيته بالتاء.
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر عنه مثل أبي عمرو، وروى حفص عنه {لفتيانه} مثل حمزة بالنون.
وقرأ حمزة والكسائي: {لفتيانه} بالنون.
الفتية جمع فتى في العدد القليل، والفتيان في الكثير، فمثل فتى وفتية، أخ وإخوة، وولد وولدة، ونار ونيرة، وقاع وقيعة، ومثل الفتيان: برق وبرقان، وخرب وخربان وجار وجيران وتاج وتيجان. وقد جاء فعله في العدد القليل، فيما زادت عدّته على ثلاثة أحرف: نحو: صبيّ وصبية، وغلام وغلمة، وعلي وعلية.
فوجه البناء الذي للعدد القليل: أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكفون من الكثير.
ووجه الجمع الكثير: أنه يجوز أن يقال ذلك للكثير، ويتولى الفعل منهم القليل. ويقوّي البناء الكثير قوله: {اجعلوا بضاعتهم في رحالهم} [يوسف / 62]، فكما أن الرحال للعدد الكثير، لأن جمع القليل: أرحل: فكذلك المتولّون ذلك يكونون كثرة.
وقال أبو الحسن: كلام العرب: قل لفتيانك، وما فعل فتيانك؟ وإن كانوا في أدنى العدد، إلا أن يقولوا: ثلاثة
وأربعة، فإن قلت: هلّا كان فتية، أولى لقوله: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} [الكهف / 10]، ولقوله: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه} [يوسف / 76]، والأوعية للعدد القليل؟ قيل: لا دلالة على ما ذكرت من واحد من الأمرين، فأما قوله: الفتية في أصحاب الكهف، فزعموا أنهم كانوا أقل من عشرة، وأما قوله: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه}، فإنه وإن كان أفعلة لأدنى العدد، فإنه في هذا الباب يجوز أن يعنى به العدد الكثير، ألا ترى أنه لا يستعمل في هذا الباب البناء الذي لأكثر العدد، وهو فعل، فإذا رفضوا ذلك فيه، ولم يستعملوه، جاز أن يعنى به العدد الكثير، ألا ترى أن قولهم: رداء وكساء، ورشاء، وعباء، لا يقال في تكسيره إلّا: أعبية وأردية، وأرشية، وأكسية، ولم يجيء شيء منه على فعل، لأنه لو جاء على ذلك لم يخل من أن تخفف العين كما خفّف في رسل، ورسل، أو تثقّل كما ثقلت العين في رسل، فإن خففت العين في ذلك، لم يجز، لأن العين إذا خفّفت في هذا النحو كان في حكم التثقيل بدلالة قولهم: لقضو الرجل، ورضي، وغزي، فكما أن التخفيف في حكم التثقيل لتقريرهم حروف اللين على ما هي عليه، والحركة ثابتة غير محذوفة، كذلك في فعل، لو خفّف فقيل: رشي، كان في حكم التثقيل، ولم يثقل لما كان يلزم من القلب والإعلال، وقد يقوم البناء الذي للقليل مقام البناء الذي للكثير، وكذلك الكثير يقوم مقام القليل حيث لا قلب ولا إعلال، وذلك نحو: أرجل، وأقدام وأرسان، وفي الكثير قولهم: ثلاثة شسوع فإذا فعل ذلك فيما لا إعلال فيه،
فأن يرفض فيما يؤدي إلى ما ذكرنا من الإعلال والقلب أولى.(4/430)
وقال أبو الحسن: كلام العرب: قل لفتيانك، وما فعل فتيانك؟ وإن كانوا في أدنى العدد، إلا أن يقولوا: ثلاثة
وأربعة، فإن قلت: هلّا كان فتية، أولى لقوله: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} [الكهف / 10]، ولقوله: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه} [يوسف / 76]، والأوعية للعدد القليل؟ قيل: لا دلالة على ما ذكرت من واحد من الأمرين، فأما قوله: الفتية في أصحاب الكهف، فزعموا أنهم كانوا أقل من عشرة، وأما قوله: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه}، فإنه وإن كان أفعلة لأدنى العدد، فإنه في هذا الباب يجوز أن يعنى به العدد الكثير، ألا ترى أنه لا يستعمل في هذا الباب البناء الذي لأكثر العدد، وهو فعل، فإذا رفضوا ذلك فيه، ولم يستعملوه، جاز أن يعنى به العدد الكثير، ألا ترى أن قولهم: رداء وكساء، ورشاء، وعباء، لا يقال في تكسيره إلّا: أعبية وأردية، وأرشية، وأكسية، ولم يجيء شيء منه على فعل، لأنه لو جاء على ذلك لم يخل من أن تخفف العين كما خفّف في رسل، ورسل، أو تثقّل كما ثقلت العين في رسل، فإن خففت العين في ذلك، لم يجز، لأن العين إذا خفّفت في هذا النحو كان في حكم التثقيل بدلالة قولهم: لقضو الرجل، ورضي، وغزي، فكما أن التخفيف في حكم التثقيل لتقريرهم حروف اللين على ما هي عليه، والحركة ثابتة غير محذوفة، كذلك في فعل، لو خفّف فقيل: رشي، كان في حكم التثقيل، ولم يثقل لما كان يلزم من القلب والإعلال، وقد يقوم البناء الذي للقليل مقام البناء الذي للكثير، وكذلك الكثير يقوم مقام القليل حيث لا قلب ولا إعلال، وذلك نحو: أرجل، وأقدام وأرسان، وفي الكثير قولهم: ثلاثة شسوع فإذا فعل ذلك فيما لا إعلال فيه،
فأن يرفض فيما يؤدي إلى ما ذكرنا من الإعلال والقلب أولى.(4/431)
وقال أبو الحسن: كلام العرب: قل لفتيانك، وما فعل فتيانك؟ وإن كانوا في أدنى العدد، إلا أن يقولوا: ثلاثة
وأربعة، فإن قلت: هلّا كان فتية، أولى لقوله: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} [الكهف / 10]، ولقوله: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه} [يوسف / 76]، والأوعية للعدد القليل؟ قيل: لا دلالة على ما ذكرت من واحد من الأمرين، فأما قوله: الفتية في أصحاب الكهف، فزعموا أنهم كانوا أقل من عشرة، وأما قوله: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه}، فإنه وإن كان أفعلة لأدنى العدد، فإنه في هذا الباب يجوز أن يعنى به العدد الكثير، ألا ترى أنه لا يستعمل في هذا الباب البناء الذي لأكثر العدد، وهو فعل، فإذا رفضوا ذلك فيه، ولم يستعملوه، جاز أن يعنى به العدد الكثير، ألا ترى أن قولهم: رداء وكساء، ورشاء، وعباء، لا يقال في تكسيره إلّا: أعبية وأردية، وأرشية، وأكسية، ولم يجيء شيء منه على فعل، لأنه لو جاء على ذلك لم يخل من أن تخفف العين كما خفّف في رسل، ورسل، أو تثقّل كما ثقلت العين في رسل، فإن خففت العين في ذلك، لم يجز، لأن العين إذا خفّفت في هذا النحو كان في حكم التثقيل بدلالة قولهم: لقضو الرجل، ورضي، وغزي، فكما أن التخفيف في حكم التثقيل لتقريرهم حروف اللين على ما هي عليه، والحركة ثابتة غير محذوفة، كذلك في فعل، لو خفّف فقيل: رشي، كان في حكم التثقيل، ولم يثقل لما كان يلزم من القلب والإعلال، وقد يقوم البناء الذي للقليل مقام البناء الذي للكثير، وكذلك الكثير يقوم مقام القليل حيث لا قلب ولا إعلال، وذلك نحو: أرجل، وأقدام وأرسان، وفي الكثير قولهم: ثلاثة شسوع فإذا فعل ذلك فيما لا إعلال فيه،
فأن يرفض فيما يؤدي إلى ما ذكرنا من الإعلال والقلب أولى.
فأما قولهم: ثن في جمع ثنيّ، فمن الشاذّ الذي لم يعدّ إلى غيره، ورفض فيما عداه.
يوسف: 63
اختلفوا في الياء والنون من قوله عزّ وجلّ: {نكتل}
[يوسف / 63].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر.
{نكتل} بالنون.
وقرأ حمزة والكسائي: يكتل بالياء (1).
يدلّ على النون قوله: {ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير} [يوسف / 65]، ألا ترى أنهم إنما يميرون أهلهم مما يكتالونه، فيكون نكتل مثل نمير، وأيضا فإذا قالوا: نكتل، جاز أن يكون أخوهم داخلا معهم، وإذا قالوا: يكتل بالياء لم يدخلوا هم في هذه الجملة، وزعموا أن في قراءة عبد الله:
{نكتل} بالنون، وكان بالنون لقولهم: منع منّا الكيل لغيبة أخينا، فأرسله نكتل ما منعناه، لغيبته.
ووجه الياء كأنه يكتل هو حمله، كما نكتال نحن أحمالنا.
يوسف: 80
قال أحمد: روى خلف والهيثم عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: فلما استأيسوا منه [يوسف / 80] بغير همز.
__________
(1) السبعة 349، 350(4/432)
ومحمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير مثله.
وقرأ الباقون: {استيأسوا منه} الهمزة بين السين والياء، وكذلك قرأت على قنبل عن ابن كثير: {استيأسوا} مثل حمزة {ولا تيأسوا} [يوسف / 87].
وكلّهم قرأ في آخرها: {استيأس الرسل} [110] إلا ما ذكرت عن ابن كثير (1).
قولهم: يئس واستيأس مثل: عجب واستعجب، وسخر واستسخر، وفي التنزيل: {وإذا رأوا آية يستسخرون}
[الصافات / 14]، وقال أوس (2):
ومستعجب ممّا يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ومن قال: استأيس الرسل قلب العين إلى موضع الفاء فصارت استعفل (3)، ولفظه استأيس، ثم خفّف الهمزة وأبدلها ألفا لسكونها، وانفتاح ما قبلها فصار مثل راس وفاس، فإن قلت:
فلم لا يكون {استيأس} فأبدل من الياء الألف وإن كانت ساكنة كما قلب قوم نحو: يا تعد، ويا تزر، وياتيس؟ قيل: لو كان كذلك لكان: فلمّا استاأسوا، فكانت الهمزة التي هي عين مخففة، فإن خفّفها كانت بين بين كالتي في هاأة. والرواية عن ابن كثير: استأيسوا بالياء والهمزة لا تقلب ياء في هذا النحو
__________
(1) السبعة: 350.
(2) سبق في 1/ 352وانظر المحتسب 2/ 108.
(3) في الأصل «استفعل» والوجه ما أثبتناه.(4/433)
في التخفيف القياسيّ. وقد قلب هذا الحرف في غير هذا الموضع قالوا: أيس يأيس، وهذا مقلوب من يئس ييأس، وهو الأصل. يدلّك على ذلك، أن المصدر لا نعلمه جاء إلّا على تقديم الياء نحو قوله (1):
من يأسة اليائس أو حدادا ونحو ما أنشده أبو زيد (2):
بلا عزف تسلو ولكن يآسة ... وأشفى لمطلول العلاقة لو يسلو
فأما قولهم: الإياس وتسميتهم الرجل إياسا فليس مصدر أيس، ولو كان كذلك لكان من باب جبذ وجذب في أنّ كلّ واحد منهما أصل على حدة، وليس أحدهما مقلوبا عن صاحبه، ولكن إياسا مصدر أسته أؤوسه أوسا: إذا أعطيته، والإياس مثل القياس والقياد، وإنّما سمّي الرجل بإياس (3)
وأوس كما سمّي بعطاء وعطيّة، ومن ذلك قول النابغة الجعدي (4):
وكان الإله هو المستآسا
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) النوادر 562مع بيت سابق له دون عزو.
(3) جاء في الأصل (ط): «بإياس كما» وهي زيادة لا معنى لها.
(4) عجز بيت وصدره:
ثلاثة أهلين أفنيتهم والمستآس: المستعاض. انظر شعره 78واللسان مادة / أوس /.(4/434)
إنما هو مستفعل من العطاء، أي: يسأل أن يعطي، ومن فسره من أهل اللغة على غير هذا، فإنما هو تفسير على المعنى دون ما عليه اللفظ، فأمّا الأسو فهو من قولك: أسوت الجرح أأسوه أسوا، والفاعل آس كما ترى، والمفعول: مأسوّ وأسيّ.
وقول الحطيئة (1):
الأطبّة والإساء الإساء: فعال، مثل صاحب وصحاب، وآم وإمام، ومنه: {واجعلنا للمتقين إماما} [الفرقان / 74] في قول أبي الحسن، وقالوا: أسيّ فعيل مثل أسير، ومن ثم جمع على أساوى مثل أسارى. قال (2):
__________
(1) جزء من بيت للحطيئة وتمامه:
هم الآسون أمّ الرأس لمّا ... تواكلها الأطبّة والإساء
والآسون: المداوون، والآسي: الطبيب، فمعناه: أنهم يصلحون الفاسد وأم الرأس: الجلدة الرقيقة التي ألبست الدماغ. وتواكلها ذا إلى ذا: من تفاقمها. والإساء: جمع آسي، كما يقال: راعي ورعاء. والدواء بعينه انظر ديوانه / 102، ومعجم تهذيب اللغة 13/ 140واللسان (أسي).
(2) من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي يرثي نشيبة بن محرث وتمام البيت كما جاء في شرح أشعار الهذليين:
ترى شربها حمر الحداق كأنّهم ... أساوى إذا ما مار فيهم سوارها
والأساوى: الذين برءوسهم جراح، فأسيت، أي:(4/435)
كأنّهم أساوى إذا ما سار فيهم سوارها وقال (1):
أسيّ على أمّ الدّماغ حجيج فانقلبت الواو كما انقلبت في غزيّ، وأما أسيت آسى أسى في الحزن: وهو مثل: فرقت أفرق فرقا، فقالوا: أسيان، وأحسبني قد سمعت: أسوان، فإن لم يك كذلك، فأسيت مثل رضيت، أو يكون في الكلمة لغتان: الياء والواو، وقال: {فلا تأس على القوم} [المائدة / 26]: فكيف آسى على قوم، [الأعراف / 93]، و {لكي لا تأسوا على ما فاتكم}
[الحديد / 23]، وأما السّأو للهمّة فمصدر، وقوله (2):
__________
أصلحت وسوارها: سورتها والسّوار: دبيب الخمرة في الجسد شرح أشعار الهذليين للسكري 1/ 75.
(1) أبو ذؤيب أيضا، وصدر البيت:
وصبّ عليها الطيب حتى كأنها والأسي: المشجوج المداوى والآسي: الطبيب المداوي وأم الدماغ: الجليدة الرقيقة التي تجمع الدماغ. حاشية السكري 1/ 134 اللسان مادة / حجج /.
(2) جزء من بيت لذي الرمة وتمامه:
كأنني من هوى خرقاء مطّرف ... دامي الأظلّ بعيد الشأو مهيوم
ديوانه 1/ 382وجاءت روايته فيه «الشأو» بالشين بدل «السأو».
وفي تهذيب اللغة والصحاح واللسان والتاج روي بالسين المهملة. قال في اللسان: «السأو»: الوطن، ثم أنشد البيت. والسأو: الهمة، يقال: فلان بعيد السأو، أي: بعيد الهمة. وأنشد أيضا بيت ذي الرمة، قال: وفسره فقال:(4/436)
بعيد السّأو مهيوم التقدير: بعيد المكان الذي يحنّ إليه ويهيم بلحاقه به، فوضع المصدر موضع الصفة، فهو من باب: ضرب الأمير، ونسج اليمن.
وقال أبو عبيدة في قوله: أفلم ييأس الذين آمنوا [الرعد / 31]، ألم يتبيّن ويعلم، وأنشد لسحيم بن وثيل (1).
أقول لأهل الشّعب إذ ييسرونني ... ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم (2)
يروى: ييسرونني: أي يقتسمونني (3)، وبعضهم يقول:
يأسرونني من الأسر، وقال بعض البصريّين: {أفلم ييأس الذين آمنوا} أي: ألم يعلموا، قال: وهي لغة وهبيل من النّخع (4)،
__________
يعني همه الذي تنازعه نفسه إليه، ويروى هذا البيت بالشين المعجمة من الشأو، وهو الغاية. (اللسان سأو) ومطّرف: البعير الذي يؤتى به من وطنه إلى وطن غيره، فهو يحنّ إلى ألّافه ويشتاق. والأظل: باطن المنسم من الخفّ. (شرح ديوانه).
(1) نسب لولده جابر بن زهدم في المسائل البصريات 587برواية «يأسرونني» والمحتسب 1/ 357والأساس (يئس) واللسان (يسر) والبحر المحيط 5/ 392وزهدم: اسم فرس لسحيم.
(2) مجاز القرآن 1/ 332.
(3) قال في المسائل البصريات: وقد روي ييسرونني، أي: يقتسمونني، من يسرت الجزور.
(4) هي لغة حي من النخع وهو رهط شريك. انظر اللسان (يأس).(4/437)
هكذا رواه أبو عبد الله اليزيدي، وأنشد بيتا آخر (1):
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وينبغي أن تكون أن بعدها وهو قوله: {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} [الرعد / 31] مخفّفة من الثقيلة، وفيه ضمير القصة والحديث، كما أنه في قوله: {علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل / 20] {أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} [طه / 89]، على ذلك، وحسن وقوع الفعل بعدها لفصل الحرف، كما فصل في هذه المواضع الأخر.
ولا يجوز في: ييأس، هذا الذي بمعنى العلم الشذوذ الذي جاء في: حسب يحسب، ويئس ييأس، لأن ذلك إنما جاء في يئس الذي هو خلاف يرجو، والشذوذ حكمه أن يقصر على ما جاء فيه، ولا يتعدى إلى غيره، ويقوّي ذلك أنه يئس ييأس، إذا أريد به خلاف الرجاء مثل: علم يعلم، ويؤكد ذلك أيضا أن خلافه على هذا المثال وهو: جهل يجهل جهلا، ومصدره ينبغي أن يكون يأسا مثل: جهلا.
يوسف: 64
اختلفوا في إسقاط الألف وإثباتها، وفتح الحاء وكسرها من قوله: خير حفظا [يوسف / 64].
فقرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: خير حفظا بغير ألف.
__________
(1) البيت لرياح بن عدي. انظر المحتسب 1/ 357والبحر المحيط 5/ 392.(4/438)
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {حافظا} بألف (1).
وجه من قال: خير حفظا أنه قد ثبت قوله: {ونحفظ أخانا} [يوسف / 65] وقوله: {وإنا له لحافظون}
[يوسف / 12]، أنهم قد أضافوا إلى أنفسهم حفظا، فالمعنى على الحفظ الذي نسبوه إلى أنفسهم، وإن كان منهم تفريط في حفظهم ليوسف، كما أن قوله: {أين شركائي} [النحل / 27 القصص / 62] لم يثبت لله تعالى شريكا، ولكن المعنى على الشركاء الذين نسبتموهم إليّ فكذلك المعنى على الحفظ الذي نسبوه إلى أنفسهم، وإن كان منهم تفريط فإذا كان كذلك، كان معنى: الله خير حفظا من حفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم لقولكم: {ونحفظ أخانا} {وإنا له لحافظون} وإن كان منكم فيه تفريط، وإضافة خير إلى حفظ محال، ولكن تقول: حفظ الله خير من حفظكم، لأن الله حافظ (2)، بدلالة قوله: {حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء / 34].
وأما من قال: {خير حافظا} فينبغي أن يكون: {حافظا}
منتصبا على التمييز دون الحال كما كان حفظا * كذلك، ولا تستحيل الإضافة في قوله: {خير حافظا} وخير الحافظين كما تستحيل في: خير حفظا فإن قلت: فهل كان ثمّ حافظ كما ثبت أنه قد كان حفظ بما قدّمه، فالقول فيه: إنه قد ثبت أنه كان ثمّ حافظ لقوله: {وإنا له لحافظون}، ولقوله: {يحفظونه من
__________
(1) السبعة 350.
(2) في الأصل: «حفظا».
} {أمر الله} [الرعد / 11] فتقول: حافظ الله خير من حافظكم، كما قلت: حفظ الله خير من حفظكم، لأن لله سبحانه حفظة، كما أن له حفظا، فحافظه خير من حافظكم، كما كان حفظه خيرا من حفظكم، وتقول: هو أحفظ حافظ، كما تقول: هو أرحم راحم، لأنه سبحانه من الحافظين، كما كان من الراحمين، ولا يكون حافظا في الآية منتصبا على الحال.(4/439)
__________
(2) في الأصل: «حفظا».
{أمر الله} [الرعد / 11] فتقول: حافظ الله خير من حافظكم، كما قلت: حفظ الله خير من حفظكم، لأن لله سبحانه حفظة، كما أن له حفظا، فحافظه خير من حافظكم، كما كان حفظه خيرا من حفظكم، وتقول: هو أحفظ حافظ، كما تقول: هو أرحم راحم، لأنه سبحانه من الحافظين، كما كان من الراحمين، ولا يكون حافظا في الآية منتصبا على الحال.
قال: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: يوحي إليهم [109] بفتح الحاء، وفي رواية حفص: {نوحي إليهم} بالنون وكسر الحاء في جميع القرآن إلا في قوله في عسق: {كذلك يوحي إليك} [الشورى / 3] فإنه قرأ: يوحي بالياء مكسورة الحاء (1).
وجه: {نوحي} بالنون قوله: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء / 163].
ووجه: يوحى * قوله: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك} [هود / 36]، وقوله: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا} [الجن / 1]، وأما قراءة عاصم في عسق: {كذلك يوحي إليك} فلأن الفعل مسند إلى اسم الله تعالى، فارتفاع الاسم كأنه فاعل يوحي، ولو قرأ: {يوحى إليك وإلى الذين من قبلك} جاز، وأسند الفعل إلى الجار والمجرور وإن لم يكن في حسن ما قرأ به، وكان يكون اسم الله في قوله: {الله العزيز الحكيم} [الشورى / 3]: مبتدأ، والعزيز الحكيم، خبره إلّا أنّ
(1) السبعة 351.(4/440)
العزيز الحكيم أن تجيء به صفة جارية على اسم الله جلّ وعز، أحسن من أن تجعله خبرا عنه، وكذلك إذا أسندت الفعل إلى الاسم المفرد كان أولى من أن يسند الفعل إلى الجار والمجرور، ألا ترى أن الفعل في قوله: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} [الجن / 1] ومن قوله: {وأوحي إلى نوح} [هود / 36] أنه لم يسند في واحد من الموضعين إلى الجار والمجرور، وإنما أسند إلى أن في الموضعين جميعا، فلعل عاصما اعتبر ذلك في الموضعين، فأسند الفعل إلى الفاعل الذي هو اسم الله دون الجار والمجرور.
يوسف: 110
اختلفوا في تشديد الذّال وتخفيفها من قوله تعالى:
{وظنوا أنهم قد كذبوا} [110].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: كذبوا مشددة الذال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {كذبوا} خفيف. وكلهم ضم الكاف (1).
الضمير في {ظنوا} في قول من شدّد للرّسل تقديره: ظن الرّسل، أي: تيقّنوا، وظنّوا الظن الذي هو حسبان، ومعنى:
كذبوا * تلقّوا بالتكذيب، كقولهم: حيّيته، وخطّأته وفسّقته، وجدّعته، وعقّرته، وزنّيته. أي استقبلته بحيّاك الله، وجدعك الله وسقاك الله (2)، فتكذيبهم إياهم يكون بأن تلقوا بذلك كقوله: {وإن نظنك لمن الكاذبين} [الشعراء / 186]، أو بما
__________
(1) السبعة 351.
(2) ولم يورد لها مثلا فيما أورده من أفعال.(4/441)
يدل عليه، وإن خالفه في اللفظ، ومن حجة التثقيل قوله: {فقد كذبت رسل} [فاطر / 4]، وقوله: {فكذبوا رسلي}
[سبأ / 45]، وقوله: {إن كل} [1] إلا كذب الرسل [ص / 14].
وأما من خفّف فقال: {كذبوا} فهو من كذبتك الحديث، أي: لم أصدقك.
وفي التنزيل {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله}
[التوبة / 90]، وقياسه إذا اعتبر بالخلاف أن يتعدى إلى مفعولين، كما تعدّى صدق في قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} [الفتح / 27]، وقال الأعشى (2):
فصدقته وكذبته ... والمرء ينفعه كذابه
قال سيبويه: كذب يكذب كذبا، وقالوا: كذّابا، فجاءوا به على فعّال، وقد خففه الأعشى، وقال ذو الرمة (3):
وقد حلفت بالله ميّة ما الّذي ... أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
والضمير في قوله: {وظنوا أنهم قد كذبوا} للمرسل إليهم، التقدير: ظنّ المرسل إليهم أن الرّسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنهم إن لم يؤمنوا نزل بهم العذاب، وإنما ظنّوا
__________
(1) في الأصل المخطوط: إن كل نفس إلا كذب.
(2) سبق انظر 1/ 329.
(3) هذا البيت رواه ثعلب وليس في مخطوطات الديوان وهو من ثلاثة أبيات أضيفت إلى قصيدته انظر ديوان ذي الرمة 2/ 833.(4/442)
ذلك لما شاهدوه من إمهال الله إياهم، وإملائه لهم، فإن قلت: كيف يجوز أن يحمل الضمير في ظنّوا على أنه للمرسل إليهم الرسل، والذي تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل إليهم؟
قيل: إن ذلك لا يمتنع، لأن ذكر الرسل، يدلّ على المرسل إليهم لمقارنة أحد الاسمين للآخر، ولما في لفظ الرسل من الدلالة على المرسل إليهم، وقد قال الشاعر (1):
أمنك البرق أرقبه فهاجا ... فبتّ إخاله دهما خلاجا
أي بتّ أخال الرعد صوت دهم، فأضمر الرعد ولم يجر له ذكر لدلالة البرق عليه لمقارنة لفظ كلّ واحد منهما الآخر، وفي التنزيل: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل / 81] واستغني عن ذكر البرد، لدلالة الحرّ عليه، وإن شئت قلت: إنّ ذكرهم قد جرى في قوله: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} [يوسف / 109]، فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل وإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظنّ الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا أو كذبوا فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد الله، وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا، لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدّل لكلماته.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ورواية الديوان له «أو أومض ثم هاجا» والخلاج من الإبل: التي اختلجت أولادها عنها واحدها «خلوج» تخلج عنها إما بموت وإما بذبح، «دهما»: سودا. انظر شرح السكري 1/ 177.(4/443)
حدثنا أحمد بن محمد قال: حدّثنا المؤمّل بن إسماعيل ابن عليّة عن أبي المعلى عن سعيد بن جبير في قوله: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} قال: فقال ابن جبير: إن الرسل يئسوا من قومهم أن يؤمنوا، وإن قومهم ظنّوا أن الرسل قد كذبوا فيما قالوا لهم، فأتاهم نصر الله (1) على ذلك.
اختلفوا في قوله تعالى: فننجي من نشاء [110] فقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: فننجي من نشاء بنونين: الأولى مضمومة، والثانية ساكنة.
وروى نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو {فنجي من نشاء} يدغم. قال أحمد: هذا غلط في قوله: يدغم، ليس هذا موضعا يدغم فيه، إنما أراد أنّها محذوفة النون الثانية في الكتاب وفي اللفظ بنونين، الأولى متحركة، والثانية ساكنة، [ولا يجوز إدغام المتحرك في الساكن، لأن النون الثانية ساكنة، والساكن لا يدغم فيه متحرك] و [كذلك] النون لا تدغم في الجيم، [فمن قال: يدغم فهو غلط، ولكنها حذفت من الكتاب، أعني النون الثانية لأنها ساكنة تخرج من الأنف، فحذفت من الكتاب، وهي في اللفظ مثبتة]. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحفص وابن عامر: {فنجي من نشاء} مشدّدة الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة. وروى ابن اليتيم عن أبي حفص عمرو بن الصباح عن أبي عمر عن عاصم: {فنجي}
بنون واحدة.
__________
(1) في الأصل: فأتاهم الله نصر الله.(4/444)
وروى هبيرة عن حفص عن عاصم بنونين، وفتح الياء، وهذا غلط من قول هبيرة (1).
من قال: فننجي من نشاء كان ننجي * حكاية حال.
ألا ترى أن القصّة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال على ما كانت عليه، كما أنّ قوله: {إن ربك ليحكم بينهم} [النحل / 124] حكاية للحال الكائنة، وكما أنّ قوله: {ربما يود الذين كفروا} [الحجر / 2]، جاء (2) هذا النحو على الحكاية، كما أنّ قوله: {هذا من شيعته، وهذا من عدوه} [القصص / 15]، إشارة إلى الحاضر، والقصة ماضية لأنه حكى الحال.
ومن حكاية الحال قوله: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد}
[الكهف / 18]، فلولا حكاية الحال لم يعمل اسم الفاعل، لأنه إذا مضى اختصّ، وصار معهودا، فخرج بذلك من شبه الفعل، ألا ترى أن الفعل لا يكون معهودا، فكما أن اسم الفاعل إذا وصف أو حقّر لم يعمل عمل الفعل لزوال شبه الفعل عنه باختصاصه الذي يحدثه فيه التحقير والوصف كذلك إذا كان ماضيا.
فأما النون الثانية من ننجي * فهي مخفاة مع الجيم، كذلك النون مع سائر حروف الفم، لا تكون إلّا مخفاة، قال أبو عثمان: وتثبيتها معها لحن.
والنون مع الحروف ثلاث أحوال: الإدغام، والإخفاء،
__________
(1) السبعة 352وما بين معقوفين زيادة منه.
(2) جاء على هامش (ط) قوله: (كذا عنده).(4/445)
والبيان، فإنما تدغم إذا كانت مع مقاربها، كما يدغم سائر المقاربة فيما قاربة، والإخفاء فيها مع حروف الفم التي لا تقاربها، والبيان فيها مع حروف الحلق، فأما حذف النون الثانية من الخط فيشبه أن يكون لكراهة اجتماع المثلين فيه، ألا ترى أنهم كتبوا مثل: العليا، والدنيا، ويحيا، ونحو ذلك بالألف، ولولا اجتماعها مع الياء لكتبت بالياء، كما كتبت:
حبلى ويخشى، وما لم يكن فيه ياء، من هذا النحو بالياء فكأنهم لما كرهوا اجتماع المثلين في الخط، حذفوا النون، وقوّى ذلك أنه لا يجوز فيها إلا الإخفاء، ولا يجوز فيها البيان، فأشبه بذلك الإدغام، لأن الإخفاء لا يتبيّن فيه الحرف المخفى، كما أن الإدغام لا يبيّن فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام، فلما وافق النون المدغم في هذا الوجه استجيز حذفه في الخط، ومن ذهب إلى أن النون الثانية مدغمة في الجيم، فقد غلط لأنها ليست بمثل للجيم، ولا مقارب له، فإذا خلا الحرف من هذين الوجهين لم يدغم فيما اجتمع فيه.
ووجه قراءة عاصم: {فنجي من نشاء} أنه أتى به على لفظ الماضي لأن القصة ماضية. ويقوّي قوله: أنه قد عطف عليه فعل مسند إلى المفعول وهو قوله: {ولا يرد بأسنا}
[يوسف / 110] ولو كان ننجي * مسندا إلى الفاعل كقول من خالفه، لكان لا نردّ أشبه ليكون مثل المعطوف عليه.
وما رواه هبيرة عن حفص عن عاصم بنونين، وفتح الياء فهو غلط كما قال أحمد بن موسى من الراوي لأنه لا شيء هاهنا ينتصب به الياء من قوله: فننجي والنون الأولى
للمضارعة، فلا يجوز أن تنتصب من غير ناصب له.(4/446)
وما رواه هبيرة عن حفص عن عاصم بنونين، وفتح الياء فهو غلط كما قال أحمد بن موسى من الراوي لأنه لا شيء هاهنا ينتصب به الياء من قوله: فننجي والنون الأولى
للمضارعة، فلا يجوز أن تنتصب من غير ناصب له.
يوسف: 90
قال أحمد: وكلهم قرأ: {أإنك لأنت يوسف} [90] بالاستفهام غير ابن كثير فإنّه قرأ: إنك لأنت يوسف على الخبر (1).
يدلّ على الاستفهام، قوله: {أنا يوسف} [90]، فإنّما أجابهم عمّا استفهموا عنه، وزعموا أن في حرف أبيّ: أو أنت يوسف؟ فهذا يقوّي الاستفهام.
قال أبو الحسن في قوله: {وتلك نعمة تمنها علي}
[الشعراء / 22] أنه على الاستفهام، كأنه: أو تلك نعمة؟
فيجوز أن يكون قول ابن كثير على هذا، فتكون القراءتان على هذا متفقتين، وقلّما يحذف حرف الاستفهام.
قال: واختلفوا في الهمزة، فكان حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر: يهمزون همزتين.
الباقون (2): همزة واحدة (1).
هذا على أصولهم في الجمع بين همزتين وقد تقدم القول في ذلك.
يوسف: 90
قال قرأ ابن كثير وحده: إنه من يتقي ويصبر [90] بياء في الوصل والوقف، فيما قرأت على قنبل.
__________
(1) السبعة 351.
(2) جاء على هامش الأصل (ط): بلغت.(4/447)
الباقون بغير ياء في وصل ولا وقف (1).
وقراءة ابن كثير إنه من يتقي ويصبر فإن الله يحتمل ثلاثة أضرب: أحدهما: أن يقدّر في الياء الحركة، فيحذفها منها، فتبقى الياء ساكنة للجزم كما قدّر ذلك في (2):
ألم يأتيك والأنباء تنمي وهذا لا تحمله عليه، لأنه مما يجيء في الشعر دون الكلام. والآخر: أن يجعل من يتقي بمنزلة: الذي يتقي، ويحمل المعطوف على المعنى، لأن من يتقي إذا كان من بمنزلة الذي، كان بمنزلة الجزاء الجازم بدلالة أن كلّ واحد منهما يصلح دخول الفاء في جوابه، فإذا اجتمعا في ذلك لما يتضمنانه من معنى الجزاء، جاز أيضا أن يعطف عليه كما يعطف على الشرط المجزوم، لكونه بمنزلته فيما ذكرنا، ومثل ذلك: {فأصدق وأكن} [المنافقين / 10] حملت وأكن على موضع الفاء، ومثله أيضا قول من قال: {ويذرهم في طغيانهم}
[الأعراف / 186] جزما. ومثله قول الشاعر (3):
فأبلوني بليّتكم لعلي ... أصالحكم وأستدرج نويّا
__________
(1) السبعة 351.
(2) سبق انظر 1/ 32593و 2/ 99.
(3) البيت لأبي دؤاد، سبق انظر ص 110من هذا الجزء.(4/448)
فحمل على موضع الفاء المحذوفة، وما بعدها فكذلك يحمل {ويصبر} ومما يقارب ذلك قوله (1):
فلسنا بالجبال ولا الحديدا ونحو ذلك ممّا يحمل على المعنى، ويجوز أن يقدّر الضمة في قوله: {ويصبر} ويحذفها للاستخفاف، كما يحذف نحو:
عضد وسبع، وجاز هذا في حركة الإعراب، كجوازه في حركة البناء، وزعم أبو الحسن أنه سمع: {رسلنا لديهم}
[الزخرف / 80] بإسكان اللام من {رسلنا}، فكذلك يكون في قوله: {ويصبر فإن الله}. ومما يقوّي ذلك ويسوّغ حمله عليه أنه قرأ: {ويتقه} [النور / 52] ألا ترى أنه جعل تقه، بمنزلة:
كتف وعلم، فأسكن فكذلك يسكن على هذا: {ويصبر فإن الله لا يضيع}.
__________
(1) عجز بيت لعقيبة الأسدي، سبق في 284و 363.(4/449)
الجزء الخامس
سورة الرعد
الرعد: 3
اختلفوا في تخفيف الشين وتشديدها من قوله عزّ وجلّ:
{يغشي الليل النهار} [3].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص {يغشي} خفيفة.
وقرأ عاصم، في رواية أبي بكر، وحمزة والكسائي:
(يغشي) بفتح الغين وتشديد الشين (1).
وجه من قرأ: {يغشي} قوله: {فأغشيناهم} [يس / 9].
ووجه من قرأ: (يغشي) قوله: {فغشاها ما غشى}
[النجم / 54]، وكلا الأمرين قد جاء به التنزيل.
الرعد: 4
اختلفوا في الخفض والرّفع من قوله: (وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) [4].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص:
{وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} رفعا.
__________
(1) السبعة ص 356.(5/5)
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم، في رواية أبي بكر، وحمزة والكسائي: (وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) خفضا.
وكلّهم كسر الصّاد من: (صنوان) إلّا أنّ الحسن حدّثني عن أحمد بن يزيد الحلوانيّ، عن القوّاس عن حفص عن عاصم: {صنوان} بضمّ الصاد والتنوين، ولم يقله غيره عن حفص (1).
من رفع (زرعا) من قوله: {وجنات من أعناب وزرع}
جعله محمولا على قوله: {وفي الأرض} تقديره: وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وفي الأرض زرع ونخيل صنوان، فجعله محمولا على قوله: {وفي الأرض} ولم يجعله محمولا على ما الجنّات منه من الأعناب.
والجنّة على هذا يقع على الأرض التي فيها الأعناب دون غيرها، كما تقع على الأرض التي فيها النخيل دون غيرها ويقوّي ذلك قول زهير (2):
كأنّ عينيّ في غربي مقتلة ... من النّواضح تسقي جنّة سحقا
__________
(1) السبعة ص 356.
(2) قال شارح ديوانه ص 38: الغربان: الدلوان الضخمان، والمقتلة: المذللة يعني: الناقة.
يقول: كأن عيني من كثرة دموعهما في غربي ناقة ينضح عليها، قد قتلت بالعمل حتى ذلّت، والنواضح: جمح ناضح: كل بعير يستقى عليه.(5/6)
والمعنى: تسقي نخيل جنّة، يدلّك على ذلك أنّ السّحق لا يخلو من أن يكون صفة للنّخيل المرادة، أو للجنّة. فلا يجوز أن تكون من صفة الجنّة، لأنّ السّحق جمع سحوق، وإنّما يوصف بها النخيل إذا بسقت، فكأنه سمّى الأرض ذات النخيل جنّة، ولم يذكر أنّ فيها غيرها، فكما أنّ الجنّة تكون من النخيل من غير أن يكون فيها شيء آخر غيرها، كذلك تكون الكروم وإن لم يكن فيها غيرها، فهذا وجه قول من قطع قوله:
{وزرع} من إعراب ما قبله.
فأمّا من قرأ: (وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان) فإنه حمل الزرع والنخيل على الأعناب، كأنه: جنات من أعناب، ومن زرع ومن نخيل. والدّليل على أنّ الأرض إذا كان فيها النخل والكرم والزرع، سمّيت جنّة، قوله: {جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب، وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا}
[الكهف / 32]، فكما سميت الأرض ذات العنب والنخل والزرع جنّة، كذلك يكون في قول من قرأ: (وجنات من أعناب وزرع ونخيل) أن يكون الزرع والنخيل محمولين على الأعناب، فتكون الجنّة من هذه الأشياء، كما كانت منها في الآية الأخرى، ويقوّي ذلك أيضا قوله (1):
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنّة المغلّة
__________
(1) أمالي ابن الشجري 2/ 16معاني القرآن للفراء 3/ 176، الخزانة 4/ 341واللسان (حرد أله). وقوله: يحرد: يقصد.(5/7)
فقوله: المغلة في وصف الجنّة يدلّ على أن الجنة يكون فيها الزرع، لأن الغلّة إنّما هي ممّا يكال بالقفيز في أكثر الأمر، وممّا يقوّي ذلك قول زهير (1):
فتغلل لكم ما لا تغلّ لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
فبين الغلة بالقفيز والدرهم، ومن ذهب من الفقهاء إذا قال: أوصيت له بغلّة هذه القرية، أنّه يكون على ما فيه في الحال، والثاني، والثمرة على ما كان وقت الكلام للوصيّة دون ما يحدث من بعد يشهد له بيت زهير.
فإذا اجتمع النخل والكرم في أرض سمّيت جنّة بدلالة قوله: {وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب} [يس / 34] وقوله: {أو تكون لك جنة من نخيل وعنب} [الإسراء / 91]، وهذا يقوّي قول من جرّ النخيل في قوله: (وجنات من أعناب وزرع ونخيل)، لأنّه قد ثبت أنّ الجنّة تكون من الكرم والنخيل في الآيتين اللتين تلوناهما. والصّنوان فيما يذهب إليه أبو عبيدة، صفة للنخيل قال: والمعنى أن يكون الأصل واحدا، ثم يتشعب من الرءوس فيصير نخلا ويحملن. قال: وقال:
(وتسقى بماء واحد)، إنما تشرب من أصل واحد، {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} وهو الثمر (2).
__________
(1) شرح ديوان زهير ص 21. قال في معناه: إن هذه الحرب تغل لكم من هذه الدماء ما لا تغل قرى بالعراق: وهي تغل القفيز والدرهم وهذا تهكم منه واستهزاء.
(2) انظر مجاز القرآن 1/ 322.(5/8)
وأجاز غيره أن يكون الصنوان من صفة الجنّات، قال أبو علي: فكأنّه يكون يراد به في المعنى ما في الجنات، وإن جرى على لفظ الجنّات، وعلى هذا يجوز أن يرفع، وإن جرّت النخل، لأنّ الجنات مرفوعة، وهذا لم يحكه في قراءة السبعة.
وأما الكسرة التي في «صنوان» فليست التي كانت في صنو، كما أن الكسرة التي في «قنو» ليست التي كانت في {قنوان} لأنّ تلك قد حذفت في التكسير، وعاقبتها الكسرة التي يجلبها التكسير، وكذلك الكسرة التي في هجان، وأنت تريد الجمع، ليست الكسرة التي كانت في الواحد، ولكنّه مثل الكسرة في ظراف إذا جمعت عليه ظريفا، وكذلك الضمّة التي في الفلك، إذا أردت التكسير، لا تكون الضمّة التي كانت في الواحد، ولكن على حدّ أسد، وأسد، ووثن ووثن، وكذلك الضمّة التي في آخر منصور على قول من قال: يا جار، ليست التي كانت في قول من قال: يا جار.
وأمّا من ضمّ الصاد من صنوان، فإنه جعله مثل: ذئب وذؤبان، وربما تعاقب فعلان وفعلان، على البناء الواحد نحو حشّ (1) وحشّان وحشّان، فكذلك: صنوان، وأظنّ سيبويه قد حكى الضم فيه (2). والكسر فيه أكثر في الاستعمال.
الرعد: 4
اختلفوا في التاء والياء من قوله عزّ وجلّ: (تسقى بماء
__________
(1) الحش: جماعة النخل. والبستان (اللسان).
(2) الكتاب 2/ 180وفيه: قالوا: صنو وصنوان، وقنو وقنوان، وقال بعضهم: صنوان وقنوان، كقوله: ذؤبان.(5/9)
واحد) [4] وفي الياء والنّون من قوله: {ونفضل بعضها على بعض} [الرعد / 4].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (تسقى) بالتاء و {نفضل}
بالنون.
وحمزة والكسائي (تسقى) أيضا، ممالة القاف، وقرأ (ويفضل) بالياء مكسورة الضاد.
وقرأ عاصم وابن عامر: {يسقى} بالياء {ونفضل}
بالنون (1).
من قال: (تسقى بماء واحد) أراد: تسقى هذه الأشياء بماء واحد، ولا يكون التذكير لأنّك إن حملته على الزرع وحده، تركت غيره، وإن حملته على الجنّات مع حمله على الزرع فقد ذكّر المؤنّث.
ويقوّي التأنيث قوله: {ونفضل بعضها على بعض}، فكما حمل هذا على التأنيث كذلك يحمل (تسقى).
ومن قال: {يسقى} كان التقدير: يسقى ما قصصناه وما ذكرناه.
الرعد: 5
اختلفوا في الاستفهام وتركه من قوله: {أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد} [الرعد / 5].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (أيذا كنا ترابا أينا لفي خلق جديد) جميعا بالاستفهام، غير أنّ أبا عمرو يمدّ الهمزة، ثم
__________
(1) السبعة ص 357356.(5/10)
يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدّ.
وقرأ نافع: (أيذا كنا) مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المدّ، وقرأ: إنا لفي خلق جديد مكسورة على الخبر ووافقه الكسائيّ في اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني، غير أنّه كان يهمز همزتين.
وقرأ عاصم وحمزة: {أإذا كنا} {أئنا} بهمزتين فيهما.
وقرأ ابن عامر: (إذا كنا) مكسورة الألف من غير استفهام (آئنا) يهمز ثم يمدّ، ثم يهمز في وزن: عاعنا، هكذا قال لي أحمد بن محمد بن بكر عن هشام بن عمّار بإسناده عن ابن عامر، يدخل بينهما ألفا، فذكر بعض من روى عن ابن ذكوان عن يحيى بن الحارث {أإذا} بهمزتين لا ألف بينهما، مثل قراءة حمزة، والمعروف عن ابن عامر {أإذا} (1) بهمزتين من غير ألف (2).
من قرأ: {أإذا} [1] كنا ترابا، أئنا جميعا بالاستفهام فموضع {أإذا} نصب بفعل مضمر يدلّ عليه قوله: {أإنا لفي خلق جديد}
لأن هذا الكلام يدلّ على: نبعث ونحشر، فكأنّه قال: أنبعث إذا كنّا ترابا؟ ومن لم يدخل الاستفهام في الجملة الثانية كان موضع (إذا) أيضا نصبا بما دلّ عليه قوله: (إنا لفي خلق جديد) كأنه قال: أنبعث إذا كنا ترابا؟
__________
(1) في الأصل (ط): «أإ» بإسقاط (ذا).
(2) السبعة ص 358357.(5/11)
وما بعد إنّ، في أنّه لا يجوز أن يعمل فيما قبله، بمنزلة الاستفهام، فكما قدّرت هذا الناصب لإذا مع الاستفهام، لأنّ الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله كذلك تقدّره في إنّ لأنّ ما بعدها أيضا لا يعمل فيما قبلها.
وقول ابن عامر: (إذا كنا ترابا) من غير استفهام، {أئنا}
ينبغي أن يكون على مضمر، كما حمل ما تقدّم على ذلك، لأنّ ما بعد الاستفهام منقطع ممّا قبله.
فأمّا قول أحمد: إنّ أبا عمرو يمدّ الهمزة، ثمّ يأتي بالياء ساكنة فعبارة فيها تجوّز، وحقيقتها: إن أبا عمرو يأتي بهمزة الاستفهام. ويدخل بينها وبين همزة (إذا) مدّة، كما يفعل ذلك بقوله: {أأنذرتهم} [البقرة / 6] ونحو ذلك مما يفصل فيه بالألف بين الهمزتين، كما يفصل بها بين النونات في: اخشينان، ويأتي بالهمزة بعد الألف بين بين، كما يأتي به بعد الألف في أئذا، إنّما هي همزة بين بين، بين الكسرة والياء، وليست ياء محضة، كما أنّ الهمزة في «المسائل» ليست ياء محضة إنّما هي همزة بين بين، فهذا تحقيق ما يريد، إن شاء الله.
وقول أحمد بن موسى: وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدّ، فهذا ليس على التخفيف القياسي، ولو كان عليه، لوجب أن تكون الهمزة بين بين، بين الياء وبين الهمزة، كما أنّ قولهم: سئم في المتصل، و {إذ قال إبراهيم} (1) في المنفصل
__________
(1) من الآية 126، 260من البقرة، و 74من الأنعام، و 35من إبراهيم، و 26من الزخرف.(5/12)
كذلك، ولكنّه يبدل الياء من الهمزة إبدالا محضا، وهذا كما حكاه سيبويه من أنه سمع بعض العرب يقول: بيس (1)، وقد جاء في الشعر في يومئذ، يومئذ، والأوّل (2) يدلّان على قول ابن كثير.
الرعد: 9، 10
قال أحمد: قرأ ابن كثير (الكبير المتعالي. سواء منكم) (الرعد / 9، 10]، بياء في الوصل والوقف، وكذلك قال الحلواني عن أبي معمر (3) عن عبد الوارث عن أبي عمرو، وكذلك أخبرني أبو حاتم الرازي في كتابه إلي عن أبي زيد عن أبي عمرو. الباقون لا يثبتون الياء في وصل ولا وقف (4).
أما إثبات ابن كثير وأبي عمرو الياء في: (الكبير المتعالي) فهو في القياس، وليس ما فيه الألف واللام من هذا، كما لا ألف ولام فيه من هذا النحو، نحو: قاض وغاز.
قال سيبويه: إذا لم يكن في موضع تنوين يعني اسم الفاعل فإنّ البيان أجود في الوقف، وذلك قولك: هذا القاضي، وهذا العمي، لأنّها ثابتة في الوصل (5) يريد أن الياء مع الألف واللام تثبت ولا تحذف، كما تحذف من اسم الفاعل إذا لم يكن فيه الألف واللام، نحو هذا قاض فاعلم.
__________
(1). 2/ 255وقد ضبط بيس عنده بكسر الباء وتسكين الياء، ضبط قلم.
(2) كذا الأصل.
(3) زاد في السبعة: المنقري.
(4) السبعة ص 358.
(5) الكتاب 2/ 288باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف، وهي الياءات.(5/13)
فالياء مع غير الألف واللام تحذف في الوصل، فإذا حذفت في الوصل كان القياس أن تحذف في الوقف، وهي اللغة التي هي أشيع وأفشى، فإذا دخلت الألف واللام فلا تحذف اللام (1) في اللغة التي هي أكثر عند سيبويه.
وأمّا قول من حذف في الوصل والوقف في {المتعال}
فإنّ الحجّة في حذفها في الوقف أن سيبويه زعم: «أن من العرب من يحذف هذا في الوقف، شبّهوه بما ليس فيه ألف ولام، إذ كانت تذهب الياء في الوصل في التنوين لو لم تكن ألف ولام» (2).
وأمّا حذفهم لها في الوصل، فلم يكن القياس، لأنّه لم يضطرّ إلى حذفه شيء، كما اضطرّ إلى حذف ما لا ألف ولام فيه التقاء الساكنين، وكره التحريك فيه لتحرّك الياء بالكسر وهي لا تحرّك بضمّة ولا كسرة، ولكن حذف ذلك من حذف لأنّها في الفواصل، وما أشبه الفواصل من الكلام التامّ، تحذف تشبيها بالقوافي، والقوافي قد كثر حذف ذلك منها. والفواصل وما أشبهها في حكمها فحذفت منها كما حذفت في القوافي.
الرعد: 11
قال أحمد: وروى عباس عن خارجة إمالة الواو من أول {وال} [11]، قال: وكلّهم يفتحها (3).
__________
(1) كذا الأصل، والظاهر أن تكون الياء بدل اللام، إلا أن يقصد بها لام الكلمة.
(2) الكتاب الباب السابق 2/ 288.
(3) لم ترد في مكانها في السبعة.(5/14)
الإمالة في {وال} حسنة في قياس العربية، كما أنّها في عامر وواقد حسنة، لا مانع يمنع منها، ووال: فاعل، من ولي يلي. ووال ووليّ، كعالم وعليم، وقادر وقدير، وراحم ورحيم، والوالي والوليّ: من يلي أمرك خلاف العدو، والله وليّ المؤمنين.
الرعد: 16
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عزّ وجلّ: (أم هل تستوي الظلمات والنور) [16].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (تستوي) بالتاء.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بالياء.
حفص عن عاصم بالتاء (1).
التأنيث حسن، لأنّه فعل مؤنّث لم يفصل بينه وبين فاعله شيء، وعلى هذا جاء: {قالت الأعراب} [الحجرات / 14]، {وقالت اليهود} [البقرة / 113] {وقالت النصارى}
[التوبة / 30]، {وإذ قالت أمة منهم} [الأعراف / 164]، وقد جاء: {وقال نسوة في المدينة} [يوسف / 30] وقد جاء التأنيث في هذا النحو: {وإذ قالت أمة منهم} وهو اسم جماعة مؤنّثة، كما أنّ نسوة كذلك.
والتذكير سائغ، لأنّه تأنيث غير حقيقيّ، والفعل مقدّم.
__________
(1) السبعة ص 358.(5/15)
الرعد: 17
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عزّ وجلّ: (ومما توقدون عليه في النار) [17].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: (توقدون) بالتاء.
وقرأ حمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم بالياء.
علي بن نصر عن أبي عمرو (توقدون) ويقرأ أيضا:
{يوقدون} والغالب عليه (توقدون) بالتاء (1).
من قرأ بالتاء فلما قبله من الخطاب، وهو قوله: {قل أفاتخذتم} [16]، ويجوز أن يكون خطابا عامّا، يراد به الكافّة.
كأنّ المعنى: ممّا توقدون عليه أيّها الموقدون زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل، فأمّا الزّبد فيذهب جفاء لا ينتفع به كما لا ينتفع الكافر بما يتخذه من الآلهة، مثل الزبد الذي لا ينتفع به كما ينتفع بما يخلص منه الزبد من الماء والذهب والصّفر والفضّة.
ومن قرأ بالياء، فلأنّ ذكر الغيبة قد تقدّم في قوله: {أم جعلوا لله شركاء} [16]، ويجوز أن يراد به جميع الناس، ويقوّي ذلك قوله: {وأما ما ينفع الناس} [17]، فكما أن الناس يعمّ المؤمن والكافر، كذلك الضمير في {يوقدون} وقال: {ومما يوقدون عليه في النار}، فجعل الظرف متعلّقا بيوقدون، لأنّه قد يوقد على ما ليس في النار كقوله: {فأوقد لي يا هامان على
__________
(1) السبعة ص 358، 359.
} {الطين} [القصص 38] فهذا إيقاد على ما ليس في النار، وإن كان يلحقه وهجها ولهبها.(5/16)
__________
(1) السبعة ص 358، 359.
{الطين} [القصص 38] فهذا إيقاد على ما ليس في النار، وإن كان يلحقه وهجها ولهبها.
وأمّا قوله: {بورك من في النار ومن} [النمل / 8]، فالمعنى: من في قرب النار، وليس يراد به متوغّلها، ومن حولها ممّن لم يقرب منها قرب الآخرين، ألا ترى أنّ قوله:
{وممن حولكم من الأعراب منافقون} [التوبة / 99]، لم يقرب المنافقون الذين حولهم فيه قرب المخالطين لهم، حيث يحضرونه ويشهدونه في مشاهدهم.
حدّثنا أحمد بن محمد البصري قال: حدّثنا المؤمّل قال:
حدّثنا إسماعيل بن عليّة عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن يقول: الله {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} إلى قوله: {ابتغاء حلية}: الذهب والفضة، والمتاع: الصفر والحديد، كذلك يضرب الله الحقّ والباطل، كما أوقد على الذهب والفضة والصفر والحديد، فخلص خالصه {كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}، قال: وكذلك الحقّ بقي لأهله فانتفعوا به (1).
الرعد: 33
اختلفوا في (2): فتح الصاد وضمّها من قوله جلّ وعزّ:
(وصدوا عن السبيل) [33].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (وصدوا) بفتح الصاد، وفي حم المؤمن [37] مثله.
(1) انظر الطبري في تفسيره 13/ 135.
(2) جاء في (ط): ي قوله والوجه ما في السبعة.(5/17)
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ: {وصدوا عن السبيل}
بالضمّ فيهما (1).
وقال أبو عمر عن أبي الحسن: صدّ وصددته مثل: رجع ورجعته، ومن ذلك قول الشاعر (2):
صدّت كما صدّ عما لا يحلّ له ... ساقي نصارى قبيل الفصح صوّام
فهذا صدّت في نفسها. وقال آخر:
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو (3)
فأما قوله: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله}
[الحج / 25]، فالمعنى: يصدّون المسلمين عن المسجد الحرام، فكأنّ المفعول محذوف، وقوله: {رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء / 61]، يكون على: يصدّون عنك، أي: لا يبايعونك كما يبايعك المسلمون، ويجوز أن يكونوا يصدّون غيرهم عن الإيمان، كما صدّوا هم، ويثبّطونهم عنه.
__________
(1) السبعة ص 359.
(2) للنّمر بن تولب، وهو من شواهد سيبويه 2/ 29قال الأعلم: وصف ناقة عرض عليها الماء فعافته فصدّت عنه كما صد ساقي النصارى عما لا يحل له من الطعام والشراب في مدة صيامهم، وقبل يوم فصحهم.
(3) هو عمرو بن كلثوم، وعجزه:
وكان الكأس مجراها اليمينا وهو من معلقته، انظر شرحها للتبريزي ص 323(5/18)
وحجّة من قال: (وصدوا عن السبيل) فأسند الفعل إلى الفاعل: قوله: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله}
[محمد / 1] وقوله: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله}، وقال: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام}
[الفتح / 25]. فكما أسند الفعل إلى الفاعل في جميع هذه الآي، كذلك يكون مسندا إليهم في قوله: (وصدوا عن السبيل). وقد زعموا أن قوله: (وصدوا عن السبيل) نزلت في قوم جلسوا على الطريق، فصدّوا الناس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ومن بنى الفعل للمفعول به فقال: {وصدوا عن السبيل}، فإنّ فاعل الصدّ غواتهم والعتاة منهم في كفرهم. وقد يكون صدّ على نحو ما يقولون: حدّ فلان عن الخير، وصدّ عنه، يريد أنه لم يفعل خيرا، ولا يريد أن مانعا منعه منه.
فأمّا قوله: (وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل) [غافر / 37] فالفتح الوجه، لأنّه لم يصدّه عن الإيمان أحد، ولم يمنعه منه.
والذي زيّن له ذلك الشيطان، كما جاء في الأخرى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} [الأنفال / 48]، {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} [النمل / 24].
الرعد: 39
اختلفوا في تشديد الباء وتخفيفها من قوله جلّ وعزّ:
{ويثبت} [39].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {ويثبت} ساكنة الثاء.
خفيفة الباء.
وقرأ ابن عامر ونافع وحمزة والكسائيّ: (ويثبت) مشدّدة الباء مفتوحة الثاء (1).(5/19)
خفيفة الباء.
وقرأ ابن عامر ونافع وحمزة والكسائيّ: (ويثبت) مشدّدة الباء مفتوحة الثاء (1).
المعنى: يمحو الله ما يشاء ويثبته، فاستغني بتعدية الأوّل من الفعلين عن تعدية الثاني، والمعنى يثبته، ومثل ذلك قوله:
{والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} [الأحزاب / 35].
وزعم سيبويه أن من العرب من يعمل الأوّل من الفعلين، ولا يعمل الثاني في شيء كقولهم: متى رأيت، أو قلت: زيدا منطلقا (2). وقال الشاعر (3):
بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة ... ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب
ولم يعمل الثاني.
__________
(1) السبعة ص 359.
(2) أورد سيبويه في «باب الفاعلين والمفعولين اللذين كلّ منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به وما كان نحوه» الآية التي في الأحزاب / 35السابقة مستدلا بها على استغناء الفعل الثاني عن عمله بعمل الأول؟ ثم قال:
ومثل ذلك: «ونخلع ونترك من يفجرك». وهذا شاهد على استغناء عمل الأول بعمل الثاني وهو عكس ما سبق. ثم قال بعد صفحات في آخر الباب: «وقد يجوز ضربت وضربني زيدا. لأن بعضهم قد يقول: متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا؟ والوجه: متى رأيت أو قلت زيد منطلق». انظر الكتاب 1/ 37و 41.
(3) وهو الكميت يمدح آل البيت. المحتسب 1/ 183الخزانة 4/ 5 العيني 2/ 413الهمع 1/ 152الدرر 1/ 134.(5/20)
وهذا والله أعلم فيما يحتمل النّسخ والتبديل من الشرائع الموقوفة على المصالح على حسب الأوقات. فأمّا ما كان من غير ذلك فلا يمحى ولا يبدّل، وأمّ الكتاب: هو الذكر المذكور في قوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر}
[الأنبياء / 105] (1).
وحجة من قال: (يثبت) قوله: {وأشد تثبيتا} [النساء / 66] وقوله: (فتثبتوا) [النساء / 94] لأن تثبّت مطاوع ثبّت.
وحجّة من قال {يثبت} ما
روي عن عائشة: «كان إذا صلّى صلاة أثبتها»
(2) وقولهم: ثابت، من قوله: {بالقول الثابت} [إبراهيم / 27] لأنّ ثبت مطاوع أثبت، كما أن تثبّت مطاوع ثبّت.
الرعد: 42
اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله تعالى: وسيعلم الكافر [42].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (وسيعلم الكافر) واحدا.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: {الكفار} على الجمع (3).
العلم في قوله: (سيعلم الكافر) هو المتعدّي إلى
__________
(1) وانظر تفسير الطبري 13/ 171169.
(2) قطعة من حديث رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها رقم 298 والنسائي في المواقيت ص 281وأحمد 6/ 40، 61، 241.
(3) السبعة 359.(5/21)
مفعولين، بدلالة تعليقه ووقوع الاستفهام بعده، تقول: علمت لمن الغلام، فتعلّقه مع الجار كما تعلّقه مع غير الجار في نحو: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار}
[الأنعام / 135] وموضع الجار مع المجرور نصب من حيث سدّ الكلام الذي هو فيه مسدّ المفعولين، لا من حيث حكمت في نحو: مررت بزيد بأنّ موضعه نصب، ولكنّ اللام الجارة كانت متعلقة في الأصل بفعل فصار مثل: علمت بمن تمرّ، في أنّ الجار يتعلّق بالمرور، والجملة التي هي منها في موضع نصب، وقد علّق الفعل عنها.
فأمّا من قرأ: (الكافر) فإنّه جعل الكافر اسما شائعا كالإنسان في قوله: {إن الإنسان لفي خسر} [العصر / 2] وزعموا أنه لا ألف فيه، وهذا الحذف إنّما يقع في فاعل نحو:
خالد وصالح، ولا يكاد يحذف في فعّال (1) فذا حجّة لمن قال: الكافر.
وزعموا أن في بعض الحروف (2): وسيعلم الذين كفروا فهو يقوّي الجمع.
وقد جاء فاعل يراد به اسم الجنس، أنشد أبو زيد (3):
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي ... أو تصبحي في الظّاعن المولي
__________
(1) قال مكي في الكشف 2/ 24: لئلا يتغير بناء الجمع، ويشبه صورة المصدر.
(2) ذكر مكي في الكشف 2/ 23أنها في حرف أبي.
(3) سبق في 1/ 151و 2/ 133و 4/ 357.(5/22)
فهذا إنّما يكون على الكثرة، وليس المعنى على كافر واحد والجمع الذي هو الكفار، المراد في الآية لا إشكال فيه.
قال: ابن كثير وحده: يقف على (هادي) [7، 33] و (واقى) [34، 37]، وكذلك من (والي) [11] بالياء (1).
حجّة قول من لم يقف بالياء، وهو الوجه، أنك تقول في الوصل: هذا قاض وهاد وواق، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت فالتنوين يحذف في الوقف في الجر والرفع، لا يبدل منه شيء، والياء قد كانت انحذفت في الوصل، فيصادف الوقف الحركة التي هي كسرة في عين فاعل، فتحذفها كما تحذف حركة سائر المتحرّكات التي نقف عليها، فإذا حذفتها سكن الحرف في الوقف، كما تسكن سائر الحروف المتحركات فيه، فيصير (داع) و (واق) و (هاد)، هذا الكثير في الاستعمال، الشائع فيه.
ووجه قول ابن كثير أن سيبويه قال: حدثنا أبو الخطاب ويونس: أن بعض من يوثق به من العرب يقول: هذا داعي وعمي، فيقفون بالياء (2) ووجه ذلك أنّهم قد كانوا حذفوا الياء في الوصل لالتقائها مع التنوين ساكنة، وقد أمن في الوقف أن يلحق التنوين، فإذا أمن التنوين الذي كانت الياء حذفت في الوصل من أجل التقائها معها في الوصل، ردّت الياء فصار:
__________
(1) السبعة 360وفيه: وقرأ الباقون بغير ياء.
(2) الكتاب 2/ 288.(5/23)
هذا قاضي وهادي والأول أكثر في استعمالهم، ومن ثم قال الخليل في نداء قاض ونحوه: يا قاضي، بإثبات الياء، لأنّ النداء موضع لا يلحق فيه التنوين وإذا لم يلحق لم يلتق ساكن مع التنوين، فيلزم حذفها، فثبتت الياء في النداء لمّا أمن لحاق التنوين، كما ثبتت مع الألف واللام لما أمن التنوين معهما في نحو: (المتعالي) [الرعد / 9]، و (دعوة الداعي) [البقرة / 186]. كذلك تثبت في النداء لذلك.(5/24)
هذا قاضي وهادي والأول أكثر في استعمالهم، ومن ثم قال الخليل في نداء قاض ونحوه: يا قاضي، بإثبات الياء، لأنّ النداء موضع لا يلحق فيه التنوين وإذا لم يلحق لم يلتق ساكن مع التنوين، فيلزم حذفها، فثبتت الياء في النداء لمّا أمن لحاق التنوين، كما ثبتت مع الألف واللام لما أمن التنوين معهما في نحو: (المتعالي) [الرعد / 9]، و (دعوة الداعي) [البقرة / 186]. كذلك تثبت في النداء لذلك.
اختلافهم في سورة إبراهيم
إبراهيم: 1، 2
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
{الحميد * الله} [1، 2] على البدل.
وقرأ نافع وابن عامر: (الحميد * الله) رفعا.
حدثني عبيد الله بن عليّ قال: حدّثنا نصر بن علي عن الأصمعيّ عن نافع: {الله}.
حفص مثل أبي عمرو، ولم يرو عن نافع ذلك غيره (1).
قال أبو علي: من جرّ جعله بدلا من الحميد (2)، ولم يكن صفة، لأنّ الاسم، وإن كان في الأصل مصدرا، صفة، والمصادر يوصف بها كما يوصف بأسماء الفاعلين وكذلك كان هذا الاسم في الأصل (الإله) ومعناه: ذو العبادة، أي: العبادة تجب له. قال أبو زيد: تألّه الرجل: إذا نسك، وأنشد لرؤبة (3):
__________
(1) السبعة ص 362.
(2) وجعله مكي بدلا من العزيز، الذي قبله في الآية. الكشف 2/ 25.
(3) قبله: «لله درّ الغانيات المدّة» والمدّة: من مدهه يمدهه مدها مثل مدحه.
ديوانه: 165، والمحتسب 1/ 256، والمخصص 13/ 97، 17/ 136 ابن الشجري 2/ 15المفصل 1/ 3اللسان (أله) و (مده).(5/25)
سبّحن واسترجعن من تألّهي فهذا في أنه في الأصل مصدر قد وصف به مثل السلام والعدل، إلّا أنّ هذا الاسم غلب حتّى صار في الغلبة لكثرة استعمال هذا الاسم كالعلم.
وقد يغلب ما أصله الصفة، فيصير بمنزلة العلم، قال (1):
ونابغة الجعديّ بالرّمل بيته عليه صفيح
والأصل: النابغة، فلمّا غلب نزع منه الألف واللام، كما نزع من الأعلام نحو: زيد وجعفر، وربما استعمل في هذا النحو الوجهان، قال (2):
تقعدهم أعراق حذلم بعد ما رجا الهتم إدراك العلى والمكارم وقال (3):
وجلّت عن وجوه الأهاتم وأما قوله (4):
__________
(1) وهو لمسكين الدارمي وقد سبق في 3/ 343وانظر المقتضب 3/ 373 4/ 375.
(2) للفرزدق وليس في ديوانه، وهو أشبه بقصيدته التي يهجو فيها بني الأهتم في 2/ 785. وقد سبق انظر 3/ 339.
(3) للفرزدق أيضا سبق انظر 3/ 339.
(4) لجرير سبق انظر 3/ 341.(5/26)
والتّيم ألأم من يمشي وألأمهم ... ذهل بن تيم بنو السّوء المدانيس
فيجوز أن يكون جعل التيم، لمّا كان في الأصل مصدرا بمنزلة الصفة، ويجوز أن يكون جعل التيم جمع تيمي، كيهودي ويهود، وعلى هذا ما في التنزيل من قوله: {وقالت اليهود} [البقرة / 113المائدة / 18، 64التوبة / 30]، ألا ترى أن يهود قد جرى في كلامهم اسما للقبيلة، كما أن مجوس كذلك فلولا أن المراد بها الجمع، لم يدخلهما الألف واللام، كما لا تدخل المعارف نحو: زيد وجعفر، إلّا أنه جمع، فحذف الياءين اللتين للنسب، كما جمع: شعيرة وشعير فحذف الهاء، ومثل ذلك: روميّ وروم، وزنجيّ وزنج.
ومن رفع قطع من الأول، وجعل (الذي) الخبر، أو جعله صفة، وأضمر خبرا، ومثل ذلك في القطع قوله: (قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب) [سبأ / 3] فمن قطع ورفع جعل قوله: {لا يعزب عنه} [سبأ / 3] خبرا لقوله: (عالم الغيب)، ومن جرّ أجرى (عالم الغيب) صفة على الأول، وعلى هذا يجوز: من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن [يس / 52] إن شئت جعلت {هذا} صفة لقوله: {من مرقدنا} وأضمرت خبرا لقوله: {ما وعد الرحمن} وإن شئت جعلت قوله: {هذا} ابتداء، وجعلت قوله: {ما وعد الرحمن} خبرا، وكذلك: {عطاء حسابا * رب السموات والأرض وما بنيهما الرحمن}
[النبأ / 3736]، إن شئت جعلته صفة، وإن شئت جعلته ابتداء و {لا يملكون} خبره، ومثل ذلك: {إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم} [التوبة / 111]، ثم انقطع قوله: {التائبون}
[التوبة / 112] عنهم، واستؤنف به، وزعموا أن في بعض الحروف: التائبين على إتباع المؤمنين، فكذلك قراءة من قرأ: (الله) فقطعه مما قبله، واستأنف به.(5/27)
ومن رفع قطع من الأول، وجعل (الذي) الخبر، أو جعله صفة، وأضمر خبرا، ومثل ذلك في القطع قوله: (قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب) [سبأ / 3] فمن قطع ورفع جعل قوله: {لا يعزب عنه} [سبأ / 3] خبرا لقوله: (عالم الغيب)، ومن جرّ أجرى (عالم الغيب) صفة على الأول، وعلى هذا يجوز: من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن [يس / 52] إن شئت جعلت {هذا} صفة لقوله: {من مرقدنا} وأضمرت خبرا لقوله: {ما وعد الرحمن} وإن شئت جعلت قوله: {هذا} ابتداء، وجعلت قوله: {ما وعد الرحمن} خبرا، وكذلك: {عطاء حسابا * رب السموات والأرض وما بنيهما الرحمن}
[النبأ / 3736]، إن شئت جعلته صفة، وإن شئت جعلته ابتداء و {لا يملكون} خبره، ومثل ذلك: {إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم} [التوبة / 111]، ثم انقطع قوله: {التائبون}
[التوبة / 112] عنهم، واستؤنف به، وزعموا أن في بعض الحروف: التائبين على إتباع المؤمنين، فكذلك قراءة من قرأ: (الله) فقطعه مما قبله، واستأنف به.
إبراهيم: 19
اختلفوا في قوله جل وعز: {ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق} [19].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم:
{خلق} على فعل.
وقرأ حمزة والكسائي: (خالق) على فاعل (1).
وجه قول من قرأ: (خلق) أن ذلك أمر ماض فأخبروا عنه بلفظ المضيّ على فعل.
ووجه من قال: (خالق) أنّه جعله مثل: {فاطر السموات والأرض} [إبراهيم / 10يوسف / 101فاطر / 1] ألا ترى أنّ فاطرا بمعنى خالق، وكذلك قوله: (فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا) [الأنعام / 96] هو على فاعل دون فعل، وهما مما قد فعل فيما مضى.
إبراهيم: 22
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: (وما أنتم بمصرخي * إني) [22]، فحرّك حمزة ياؤها الثانية، إلى الكسر، وحرّكها الباقون إلى الفتح. وروى إسحاق الأزرق عن حمزة {بمصرخي} بفتح الياء الثانية (2)
__________
(1) السبعة ص 362وزاد: وكذلك في النور.
(2) السبعة ص 362.(5/28)
قال أبو علي: قال الفرّاء في كتابه في التصريف: هو قراءة الأعمش، ويحيى بن وثّاب قال: وزعم القاسم بن معن أنّه صواب، قال: وكان ثقة بصيرا، وزعم قطرب أنّه لغة في بني يربوع، يزيدون على ياء الإضافة ياء، وأنشد (1):
ماض إذا ما همّ بالمضيّ ... قال لها هل لك يا تافيّ
وقد أنشد الفراء ذلك أيضا (2).
ووجه ذلك من القياس: أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب، أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما، وكالكاف في: في أكبر منك، وهذا لك، فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة في: هذا لهو، وضربهو. ولحق الكاف أيضا الزيادة في قول من قال: أعطيتكاه وأعطيتكيه، فيما حكاه سيبويه (3)، وهما أختا الياء كذلك ألحقوا الياء الزيادة من المدّ، فقالوا: فيّي ثم حذفت الياء الزائدة على الياء، كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال (4):
له أرقان وزعم أبو الحسن أنها لغة، وكما حذفت الزيادة من الكاف، فقالوا: أعطيتكه وأعطيتُكِهِ، كذلك حذفت الياء اللاحقة
__________
(1) للأغلب العجلي سبق انظر الجزء 4/ 415. وبعده:
قالت له ما أنت بالمرضيّ.
(2) انظر معاني القرآن 2/ 76.
(3) الكتاب 2/ 296. ومثّل للزيادة بقوله: أعطيكيها وأعطيكيه للمؤنث، وأعطيكاه وأعطيكاها للتذكير.
(4) سبق في 1/ 203، 205.(5/29)
للياء كما حذف من أختيها، وأقرّت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة، فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرة، وكما لحقت الكاف والتاء والهاء الزيادة، كذلك لحقت الياء الزيادة، فلحاق التاء الزيادة نحو ما أنشد من قول الشاعر (1):
رميتيه فأصميت ... فما أخطأت الرّمية
فإذا كانت هذه الكسرة في الياء على هذه اللغة، وإن كان غيرها أفشى منها، وعضده من القياس ما ذكرنا لم يجز لقائل أن يقول: إن القراءة بذلك لحن لاستفاضة ذلك في السماع والقياس، وما كان كذلك لا يكون لحنا.
إبراهيم: 42
قال: روى عبّاس عن أبي عمرو: (إنما نؤخرهم ليوم) [إبراهيم / 42] بالنون ولم يروها غيره.
وقرأ الباقون بالياء (2). اليزيديّ وغيره عن أبي عمرو {يؤخرهم} على ياء.
وجه الياء أنّ لفظ الغيبة المفرد قد تقدّم، فيكون بالياء:
{ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} [3] إنما يؤخرهم
[42].
__________
(1) سبق انظر 1/ 73في الحاشية و 4/ 416.
(2) السبعة ص 363ولم يرد ما رواه اليزيدي بعد فيه.
(3) في الأصل: «فلا تحسبن الله مخلف وعده» وهي الآية 47من سورة إبراهيم وليس فيها موطن الاستشهاد، وقد جعلنا مكانها ما أثبتناه مما يتفق ومقتضى الكلام.(5/30)
ووجه النون أنّه قرأ في المعنى. مثل الياء، وقد تقدّم مثله.
إبراهيم: 46
اختلفوا في كسر اللام الأولى وفتح الثانية من قوله:
{لتزول منه الجبال} [46].
فقرأ الكسائي وحده: (لتزول منه الجبال) بفتح اللام الأولى من (تزول) وضمّ الثانية.
وقرأ الباقون: (لتزول) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية (1).
من قرأ: {وإن كان مكرهم لتزول منه} فإن (إن) على قوله: بمعنى «ما» التقدير: ما كان مكرهم لتزول، وإن مثل التي في قوله: {إن الكافرون إلا في غرور} [الملك / 20] وهذا مثل قوله: {ما كان الله ليذر المؤمنين} {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} [آل عمران / 179]. والمعنى: وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم أي: جزاء مكرهم، فحذف المضاف كما حذف من قوله: {ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم} [الشورى / 22]، أي: جزاؤه، أي: قد عرف الله مكرهم فهو يجازيهم عليه، وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، والجبال كأنه أمر النبيّ، وأعلامه ودلالته، أي: ما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل الجبال في امتناعه ممّن أراد إزالته.
ومن قرأ: (وإن كان مكرهم لتزول منه) كانت (إن)
__________
(1) السبعة ص 363.(5/31)
المخفّفة من الثقيلة على تعظيم أمر مكرهم، على خلاف القراءة الأخرى، وهو في تعظيم مكرهم، كقوله: {ومكروا مكرا كبارا} [نوح / 22] أي: قد كان مكرهم من كبره وعظمه يكاد يزيل ما هو مثل الجبال في الامتناع على من أراد إزالته وثباتها، ومثل هذا في تعظيم الأمر قول الشاعر (1):
ألم تر صدعا في السماء مبيّنا ... على ابن لبينى الحارث بن هشام
وقال (2):
بكى حارث الجولان من موت ربّه ... وحوران منه خاشع متضائل
وقال أوس (3):
ألم تكسف الشمس شمس النّهار ... مع النّجم والقمر الواجب
__________
(1) البحر المحيط 6/ 218ولم ينسبه لقائل.
(2) البيت للذبياني من قصيدة يرثي فيها النعمان ورواية الديوان:
بكى حارث الجولان من فقد ربّه ... وحوران منه موحّش متضائل
وحارث الجولان: جبل في الشام. انظر ديوانه / 121.
(3) رواية الديوان لهذا البيت:
ألم تكسف الشمس والبدر وال ... كواكب للجبل الواجب
والواجب: الساقط الذاهب. ديوانه / 10.(5/32)
فهذا كلّه على تعظيم الأمر وتفخيمه. ويدلّ على أن الجبال يعنى به أمر النبي، صلّى الله عليه وسلم، قوله بعد: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) [إبراهيم / 47] أي: فقد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم في قوله: {ليظهره على الدين كله} [التوبة / 33 الفتح / 28الصف / 9]، وقوله: {قل للذين كفروا ستغلبون}
[آل عمران / 12]، وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا في تعظيم الشيء وتفخيمه، قال ابن مقبل (1):
إذا متّ عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها شاعرا مثلي أطبّ وأشعرا
وأكثر بيتا شاعرا ضربت به ... بطون جبال الشعر حتى تيسّرا
إبراهيم: 40
اختلفوا في قوله: (وتقبل دعائي ربنا) [40] في إثبات الياء في الوصل والوقف.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وهبيرة عن حفص عن عاصم: (وتقبل دعائي ربنا) بياء في الوصل وقال البزي عن ابن كثير: يصل ويقف بياء، وقال قنبل عن ابن كثير: يشمّ الياء في الوصل ولا يثبتها، ويقف عليها بالألف.
والباقون: (دعاء) بغير ياء.
__________
(1) ديوانه 136ورواية البيت الأول «لها تاليا مثلي». والثاني:
«شاعرا ضربت له حزون جبال الشعر».
أمالي ابن الشجري 1/ 72وفيه: «حبال» بالحاء المهملة وفسرها بالأسباب. وعليها فلا شاهد فيه. الشعراء / 427دلائل الإعجاز / 391 392.(5/33)
وروى نصر بن علي عن الأصمعي قال: سمعت نافعا يقرأ: (وتقبل دعائي ربنا) بياء في الوصل وروى غير هذين عن نافع: بغير ياء في وصل ولا وقف.
وروى أبو عمارة عن أبي حفص عن أبي عمر عن عاصم: بغير ياء في وصل ولا وقف.
الكسائيّ وابن عامر: بغير ياء في وصل ولا وقف (1).
أما وقف ابن كثير ووصله بياء فهو القياس، وأما وصل عاصم: (وتقبّل دعائي) بياء فقياس. وأما ما رواه قنبل عن ابن كثير أنه يشمّ الياء في الوصل ولا يثبتها، فالقياس كما قدمنا، وهذا الوجه أيضا جائز لدلالة الكسرة على الياء، ولأنّ الفواصل وما أشبه الفواصل من الكلام التام يحسن الحذف فيه، كما يحسن في القوافي، وذلك كثير قال الأعشى (2):
فهل يمنعنّي ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
ومن شانئ كاسف وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن
وحذفها في الوقف أحسن من حذفها في الوصل، لأن الوقف موضع تغيير، يغيّر فيه الحرف الموقوف عليه كثيرا.
__________
(1) لم ترد في السبعة بهذا التفصيل انظر ص 363.
(2) سبق انظر 4/ 115.(5/34)
ذكر اختلافهم في سورة الحجر
الحجر: 2
اختلفوا في تشديد الياء وتخفيفها من قوله: {ربما} [2].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي:
(ربّما) مشدّدة. عليّ بن نصر قال: سمعت أبا عمرو يقرؤها على الوجهين جميعا، خفيفا وثقيلا.
وقرأ نافع وعاصم: {ربما} خفيفة (1).
قال أبو علي: أنشد أبو زيد (2):
ماويّ بل ربّتما غارة ... شعواء كالّلذعة بالميسم
__________
(1) السبعة 366.
(2) أنشده في نوادره ص 253 (ط. الفاتح) مع ثلاثة أبيات بعده نسبها لضمرة، وهو ضمرة بن ضمرة النهشلي، شاعر جاهلي. قال ابن قتيبة في المعاني الكبير 2/ 1005بعد إيراده البيت: يريد: كأنها في سرعتها لذعة بميسم في وبر.
والبيت في ابن الشجري 2/ 153وابن يعيش 8/ 31والخزانة 4/ 104عن النوادر، واللسان (ربب).(5/35)
وأنشد أيضا (1):
يا صاحبا ربّت إنسان حسن يسأل عنك اليوم أو يسألُ عن وقال السكري: ربّما، وربّتما، وربما، وربتما، وربّ:
حرف جر عند سيبويه، وتلحقها (ما) على وجهين: أحدهما أن تكون نكرة بمعنى شيء وذلك كقوله (2):
ربّما تكره النفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال
ف «ما» في هذا البيت اسم لما يقدّر من عود الذكر إليه من الصفة، والمعنى: ربّ شيء تكرهه النّفوس، وإذا عاد إليه الهاء كان اسما، ولم يجز أن يكون حرفا، كما أنّ قوله:
(أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين) [المؤمنون / 55]، لمّا عاد الذكر إليه علمت بذلك أنّه اسم.
فأمّا قوله: «له فرجة كحلّ العقال»، فإنّ فرجة يرتفع
__________
(1) البيت من رجز في النوادر ص 343ونقله عنه في الخزانة 3/ 323 و 4/ 105وفي ابن يعيش 8/ 32.
(2) لأمية بن أبي الصلت في ديوانه 444وهو من شواهد سيبويه 1/ 362270والمقتضب 1/ 42وابن الشجري 2/ 238والمفصل 4/ 2و 8/ 30والخزانة 2/ 541و 4/ 194وشرح أبيات المغني 5/ 212والدرر 1/ 4والهمع 1/ 928وفي اللسان مادة / فرج /.
وفي نسبة هذا البيت نزاع ذكره البغدادي في الخزانة فهو ينسب لأبي قيس اليهودي ولابن صرمة الأنصاري ولحنيف بن عمير ولنهار ابن أخت مسيلمة الكذاب، غير أن المشهور أنه لأمية (انظر الخزانة 2/ 542 543).(5/36)
بالظرف في قول الناس جميعا، ولا يرتفع بالابتداء. وأما قوله:
«كحلّ العقال» فإن موضع الكاف يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع نصب على الحال من له، والآخر: أن يكون في موضع رفع على أنه صفة لفرجة.
ويدلّك على أنّ ما تكون اسما إذا وقعت بعد ربّ، وقوع من بعدها في نحو قوله (1):
ألا ربّ من يهوى وفاتي ولو دنت ... وفاتي لذلّت للعدوّ مراتبه
وقال:
يا ربّ من يبغض أذوادنا ... رحن على بغضائه واغتدين (2)
وقال (3):
ألا ربّ من تغتشّه لك ناصح ومؤتمن بالغيب غير أمين
__________
(1) البيت لذي الرمة، ديوانه 2/ 858.
(2) البيت من شواهد سيبويه 1/ 270ونسبه لعمرو بن قميئة وتابعه ابن الشجري في أماليه 2/ 311، ونسبه في الوحشيات إلى عمرو بن لأي التيمي شاعر جاهلي وصوب هذه النسبة الأستاذ شاكر. وهو كذلك في معجم الشعراء للمرزباني ص 24. وانظر الحيوان 3/ 306 والمقتضب 1/ 41وابن يعيش 4/ 11. قال الأعلم في طرة سيبويه 1/ 270: يقول: نحن محسّدون لشرفنا وكثرة مالنا، والحاسد لا ينال منا أكثر من إظهار البغضاء لنا لعزّنا وامتناعنا.
(3) سيبويه 1/ 271ولم ينسبه، الهمع 1/ 92، 2/ 28، 39، الدرر 1/ 69، 2/ 21، 43اللسان (غشش نصح).(5/37)
فكما دخلت على من، وكانت نكرة، كذلك تدخل على ما على الحدّ الذي دخل في من، فهذا ضرب.
والضرب الآخر: أن تدخل كافّة نحو الآية، ونحو قول الشاعر (1):
ربّما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات
والنحويّون يسمّون ما هذه الكافّة، يريدون أنّها بدخولها كفّت الحرف عن العمل الذي كان له، وهيّأته لدخوله على ما لم يكن يدخل عليه. ألا ترى أنّ رب إنما تدخل على الاسم المفرد، ربّ رجل يقول ذاك، وربّه رجلا يقول ذاك، ولا تدخل على الفعل، فلمّا دخلت ما عليها هيّأتها للدّخول على الفعل، فمن ذلك قوله: ربما يود الذين كفروا [الحجر / 2]، فوقع الفعل بعدها في الآية، وهو على لفظ المضارع، ووقع في قوله:
ربّما أوفيت في علم على لفظ المضيّ، وهكذا ينبغي في القياس، لأنّها تدلّ
__________
(1) البيت لجذيمة الأبرش في سيبويه 1/ 154النوادر / 536 (ط. الفاتح) والمقتضب 3/ 15وابن الشجري 2/ 243والمفصل 9/ 40والهمع 2/ 38والدرر 2/ 9941والعيني 3/ 344. والخزانة 4/ 568567. وشرح أبيات المغني 3/ 163و 5/ 257.
وأوفيت على الشيء: أشرفت عليه، والعلم: الجبل، والشمال:
الريح التي تهب من ناحية القطب.(5/38)
على ما قد مضى وإنّما وقع في الآية على لفظ المضارع لأنّه حكاية لحال آتية، كما أن قوله: {وإن ربك ليحكم بينهم}
[النحل / 124] حكاية لحال آتية أيضا.
ومن حكاية الحال قول القائل (1):
جارية في رمضان الماضي ... تقطّع الحديث بالإيماض
ومن زعم أن الآية على إضمار كان، وتقدير: ربّما كان يودّ الذين كفروا، فقد خرج بذلك عن قول سيبويه، ألا ترى أنّ كان لا تضمر عنده، ولم يجز: عبد الله المقتول، وأنت تريد:
كن عبد الله المقتول.
فأمّا إضمارها بعد إن في قوله: إن خيرا فخير (2)، فإنّما جاز ذلك لاقتضاء الحرف له، فصار اقتضاء الحرف له كذكره.
فأمّا ما أنشده ابن حبيب لنبهان بن مشرق:
لقد رزئت كعب بن عوف وربّما ... فتى لم يكن يرضى بشيء يضيمها
فإن قوله: فتى، في «ربّما فتى» يحتمل ضروبا، أحدها:
أن يكون لمّا جرى ذكر رزئت، استغنى بجري ذكره عن أن يعيده،
__________
(1) من رجز منسوب لرؤبة وهو في ملحقات ديوانه / 176وانظر الخزانة 3/ 482 وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 94وقوله: من حكاية الحال، يريد بها الحال الماضية كما هو ظاهر. واستشهاد النحاة بهذا البيت هو من أجل قوله:
رمضان، حيث جاء بدون شهر، وإن كان إثباته أفصح كما نطق به القرآن.
(2) انظر سيبويه 1/ 130.(5/39)
فكأنّه قال: ربّما رزئت فتى، فيكون انتصاب فتى برزئت هذه المضمرة، كقوله: {آلآن وقد عصيت قبل} [يونس / 91]، فاستغنى بذكر (آمنت) المتقدّم عن إظهاره بعد، ويجوز أن ينتصب فتى برزئت هذه المذكورة، كأنّه قال: لقد رزئت كعب ابن عوف فتى، وربّما لم يكن يرضى، أي: رزئت فتى لم يكن يضام، ويكون هذا الفصل في أنه أجنبيّ بمنزلة قوله (1):
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه ويجوز أن يكون مرتفعا بفعل مضمر، كأنّه قال: ربّما لم يرض فتى، وكقوله (2):
وقلّما وصال على طول الصّدود يدوم
__________
(1) عجز بيت للفرزدق وصدره:
وما مثله في النّاس إلا مملّكا وهو من شواهد سيبويه 1/ 14 (في الحاشية، وهو من إنشاد الأخفش عند الشنتمري). ولم يرد في أصول الديوان ومعناه: وما مثل إبراهيم في الناس من يشبهه في الفضل إلا هشاما الذي أبو أمه أبو إبراهيم. وقد كان خال هشام وإبراهيم هو: إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك. انظر ديوانه 1/ 108.
(2) عجز بيت للمرار الفقعسي، وتمام صدره: «صددت فأطولت الصدود وقلما» وقد نسبه بعضهم إلى عمر بن أبي ربيعة.
انظر سيبويه 1/ 45912المنصف 1/ 2191/ 69والمحتسب 1/ 96أمالي ابن الشجري 2/ 144139وابن يعيش 4/ 43 و 7/ 116و 8/ 132و 10/ 76وشرح أبيات المغني 5/ 247 و 7/ 222، 241.(5/40)
ويجوز أن تكون «ما» نكرة بمنزلة شيء، ويكون فتى وصفا لها، لأنّها لما كانت كالأسماء المبهمة في إبهامها، وصفت بأسماء الأجناس، كأنه: ربّ شيء فتى لم يكن، فكان كذا وكذا، هذه الأوجه فيها ممكنة.
ويجوز في الآية أن تكون ما بمنزلة شيء، و (يودّ) صفة له وذلك أن ما لعمومها تقع على كلّ شيء، فيجوز أن يعنى بها الودّ، كأنه قال: ربّ ودّ يودّه الذين كفروا، ويكون يودّ في هذا الوجه أيضا حكاية حال، ألا ترى أنه لم يكن بعد، وهذه الآية في المعنى كقوله: {فارجعنا نعمل صالحا} [السجدة / 12]، وكقوله: ({حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون}
[المؤمنون / 99] وكتمنيّهم الردّ في قوله: {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا} [الأنعام / 27].
وأمّا قول من قال: (ربما) بالتخفيف، فلأنه حرف مضاعف، والحروف المضاعفة قد تحذف وإن لم يحذف غير المضاعف.
فمن المضاعف الذي حذف قولهم: إنّ، وأنّ، ولكنّ، قد حذف كلّ واحد من هذه الحروف، وليس كلّ المضاعف يحذف، لم أعلم الحذف في ثمّ.
وأمّا دخول التاء في «ربّتما» فإنّ من الحروف ما يدخل عليه حرف التأنيث نحو: ثمّ وثمّت، ولا ولات، قال (1):
__________
(1) البيت للأعشى ورواية الديوان ص 117: هنالك لا تجزونني ولا شاهد فيها. وهو من شواهد سيبويه 1/ 423.(5/41)
ثمّت لا تجزونني عند ذاكم ولكن سيجزيني الإله فيعقبا فكذلك ألحقت التاء في ربّ في قوله: ربّتما.
الحجر: 8
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: (ما تنزل الملائكة إلا بالحق) [8].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (ما تنزل الملائكة إلا بالحق) مفتوحة التاء والنون، والزاي مشدّدة، (الملائكة) رفع، فاعله.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (ما تنزل الملائكة) مضمومة [التاء] مفتوحة النون، (الملائكة) رفع لم يسمّ فاعله.
وقرأ حمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم: {ما ننزل الملائكة} بالنون مشدّدة الزاي، (الملائكة) نصبا، مفعول به، والأولى لم يختلفوا فيها (1).
حجّة من قرأ: (ما تنزّل) قوله: (تنزل الملائكة والروح فيها) [القدر / 4]، وحجة من قال: (ما تنزل الملائكة) قوله: {(ونزل الملائكة تنزيلا)} [الفرقان / 25].
وحجة من قال: (ننزل) قوله: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى} [الأنعام / 111].
__________
(1) السبعة ص 366. وما بين معقوفين زيادة منه.(5/42)
الحجر: 15
اختلفوا في تشديد الكاف وتخفيفها من قوله عزّ وجلّ:
سكرت [15].
فقرأ ابن كثير: (سكرت) خفيفة.
وقرأ الباقون: {سكرت} مشدّدة (1).
أبو عبيدة: (سكرت): غشّيت (2)، وكأن معنى {سكرت}:
لا ينفذ نورها، ولا تدرك الأشياء على حقيقتها، وكأنّ معنى الكلمة انقطاع الشيء عن سببه الجاري، فمن ذلك: سكر الماء، هو ردّه عن سيبه في الجرية، وقالوا: التسكير في الرأي قبل أن يعزم على شيء، فإذا عزم على أمر ذهب التسكير، ومنه السكر في الشراب، إنّما هو أن ينقطع عن ما هو عليه من المضاء في حال الصحو، فلا ينفذ رأيه ونظره على حدّ نفاذه في صحوه، وقالوا: سكران لا يبت، فعبروا عن هذا المعنى فيه.
ووجه التثقيل أنّ الفعل مسند إلى جماعة فهو مثل:
{مفتحة لهم الأبواب} [ص / 50] ووجه التخفيف أنّ هذا النحو من الفعل المسند إلى الجماعة قد يخفّف. قال (3):
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها وإنّما حملت التثقيل في {سكرت} على التكثير، على تنزيل أن (سكرت) بالتخفيف قد ثبت تعدّيه في قراءة ابن كثير،
__________
(1) السبعة 366.
(2) انظر مجاز القرآن 1/ 347.
(3) صدر بيت للراعي سبق ذكره في 3/ 441.(5/43)
والذي عليه الظاهر في سكر أنه يتعدى، وإذا بني الفعل للمفعول فلا بدّ من تنزيله معدّى، فيكون تعدّيه على قول ابن كثير مثل: شترت عينه، وشترتها، وعارت وعرتها.
ويجوز أن يكون أراد التثقيل، فحذفه لما كان زائدا، وهو يريده، كما جاز ذلك في المصادر وأسماء الفاعلين نحو قولهم:
عمرك الله، وقعدك الله (1)، و:
دلو الدالي (2)
و {الرياح لواقح} (3) [الحجر / 22]، ويجوز أن يكون فعلا قد سمع معدى في البصر. والتثقيل الذي هو قول الأكثر أعجب إلينا، ويكون التضعيف للتعدية.
__________
(1) قال سيبويه 1/ 162في «باب من المصادر ينتصب بإضمار الفعل المتروك إظهاره»: كأنه حيث قال: عمرك الله وقعدك الله. قال: عمّرتك الله، بمنزلة: نشدتك الله فصارت: عمرك الله، منصوبة بعمرتك الله، كأنّك قلت: عمّرتك عمرا، ونشدتك نشدا، ولكنّهم خزلوا الفعل لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ به فقعدك الله يجري هذا المجرى وإن لم يكن له فعل. ا. هـ. وقوله عمرتك الله: أي سألت تعميرك وطول بقائك.
وقيل: معناه ذكرتك به.
(2) قطعة من بيت من الرجز تمامه:
يكشف عن جمّاته دلو الدال وهو للعجاج، وقد سبق في 2/ 254وهو في المقتضب 4/ 179 والمخصص 9/ 167وايضاح الشعر للمؤلف 580، 590.
(3) قال المبرد المقتضب 4/ 179بعد ذكره للآية: ولو كان على لفظه لكان ملاقح، لأنه يقال: ألقحت فهي ملقحة، ولكنه على حذف الزوائد. وقد أشار الفارسي إلى ذلك في 2/ 253عند استشهاده بالآية والرجز.(5/44)
الحجر: 45
اختلفوا في فتح النون وكسرها من قوله جلّ وعزّ: فبم تبشرون [54].
فقرأ ابن كثير ونافع، كسرا، غير أن ابن كثير شدد النون، وخففها نافع.
وقرأ أبو عمرو وعاصم، وابن عامر وحمزة والكسائيّ:
{فبم تبشرون} بفتح النون (1).
تشديد ابن كثير النون أنّه أدغم النون الأولى التي لعلامة الرفع في الثانية المتّصلة بالياء التي هي المضمر المنصوب المتكلّم.
وفتحها (2) لأنّه لم يعدّ الفعل إلى المفعول به، كما عدّاه غيره، وحذف المفعول كثير.
ولو لم يدغم وبيّن لكان حسنا في القياس، مثل: اقتتلوا، في جواز البيان فيه والإدغام.
وأمّا قراءة نافع {فبم تبشرون} فإنّه أراد: «تبشرونني» وتعدية الفعل إلى المضمر المنصوب، لأنّ المعنى عليه، فأثبت ما أخذ به غيره من الكسرة التي تدلّ على الياء المفعولة، وحذف النون الثانية، لأنّ التكرير بها وقع، ولم يحذف الأولى
__________
(1) السبعة ص 367.
(2) كذا الأصل وقد انتقل إلى توجيه قراءة من فتح النون، والتي سيذكرها في آخر كلامه على الحرف أيضا.(5/45)
التي هي علامة الرفع، وقد حذفوا هذه النون في كلامهم لأنّها زائدة، ولأنّ علامة الضمير الياء دونها، ونظير حذفهم لها من المنصوب حذفهم لها من المجرور في قولهم: قدني، وقدي، قال (1):
قدني من نصر الخبيبين قدي فحذف وأثبت في بيت. وقال الأعشى في حذف هذه النون اللاحقة مع الياء (2):
فهل يمنعني ارتياد البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
وإنّما هو: يمنعنّني. وقال آخر (3):
أبا لموت الذي لا بدّ أنّي ... ملاق لا أباك تخوّفيني
فهذا مثل الآية. وقال (4):
تراه كالثّغام يعلم مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني
فحذف الثانية، فكذلك قراءة نافع.
__________
(1) لحميد الأرقط، وقد سبق 3/ 334.
(2) البيت للأعشى وقد سبق 4/ 115وص 34من هذا الجزء.
(3) سبق في 3/ 334.
(4) سبق 3/ 334، 4/ 346.(5/46)
ومن قرأ: {تبشرون} ففتح النون، فالنون علامة الرفع، ولم يعدّ الفعل فتجتمع نونان.
الحجر: 56
اختلفوا في فتح النون وكسرها من قوله: عزّ وجلّ:
(ومن يقنط) [56].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة: (من يقنط) بفتح النون في كلّ القرآن.
وقرأ أبو عمرو والكسائي: (ومن يقنط) بكسر النون.
وكلّهم قرأ: {من بعد ما قنطوا} بفتح النون (1).
قنط يقنط، وقنط يقنط، لغتان، ومثله: نقم ينقم، ونقم ينقم: لغتان، وكأن يقنط (2) أعلى، ويدلّ على ذلك اجتماعهم في قوله: {من بعد ما قنطوا}.
وحكي أنّ يقنط لغة، فهذا يدلّ على أن يقنط أكثر، لأن مضارع فعل يجيء على يفعل ويفعل، مثل: يفسق، ويفسق، ولا يجيء مضارع فعل على: يفعل (3).
الحجر: 59
اختلفوا في تخفيف الجيم وتشديدها من قوله عزّ وجلّ:
{إنا لمنجوهم} [59].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر {لمنجوهم} مشدّدة الجيم.
__________
(1) السبعة 367.
(2) ضبطت في الأصل بكسر النون وهو خلاف المراد.
(3) إنما يأتي على: يفعل. ويفعل.(5/47)
وقرأ حمزة والكسائي: (لمنجوهم) خفيفا (1).
حجّة التثقيل قوله: {ونجينا الذين آمنوا} [فصلت / 18].
وحجّة التخفيف: {فأنجاه الله من النار} [العنكبوت / 24].
الحجر: 60
قال: وكلّهم قرأ: {إلا امرأته قدرنا} [60] مشدّدة الدال، و {قدرناها} مثله في سورة النمل [الآية / 57] مشدّدا في كلّ القرآن إلّا عاصما، فإنّه خفّفها، في رواية أبي بكر، في كلّ القرآن، وشدّدها في رواية حفص في كلّ القرآن.
وقرأ ابن كثير وحده: (نحن قدرنا بينكم الموت) [الواقعة / 60] خفيفا والباقون يشدّدون.
وقرأ نافع والكسائيّ (فقدرنا فنعم القادرون) [المرسلات / 23] مشدّدة، وقرأ الباقون: {فقدرنا} مخففة.
وقرأ الكسائيّ وحده: (قدر فهدى) [الأعلى / 3]، خفيفا، وقرأ الباقون: قدر مشدّدة (2).
قال أبو علي: يقال: قدرت الشيء في معنى: قدّرته، يدلّك على ذلك قول الهذليّ (3):
__________
(1) السبعة 367.
(2) السبعة ص 367، 368.
(3) هو أبو ذؤيب الهذلي، وفى ديوانه 1/ 93بشرح السكري: «لرجلها» بدل «لساقها». والمفرهة: الناقة التي تجيء بأولاد فواره، والعنس: الصلبة الشديدة قدرت: هيأت، القفل: ما جف من ورق الشجر. والبيت في المنصف 3/ 70.(5/48)
ومفرهة عنس قدرت لساقها ... فخرّت كما تتابع الريح بالقفل
المعنى: قدّرت ضربتي لساقها فضربتها، فحذف ضربتها لدلالة الكلام عليه، كقوله: {فمن كان منكم مريضا ففدية}
[البقرة / 196] أي: فحلق. وهذا في المعنى كقول الآخر (1):
وإن تعتذر بالمحل من ذى ضروعها ... على الضيف يجرح (2) في عراقيبها نصلي وقال أيضا: يقدر في معنى يقدّر، قال الراجز (3):
يا ربّ قد أولع بي وقد عبث ... فاقدر له أصيلة مثل الحفث
المعنى: قدّر له ووفّقه، ويقال: قدر الشيء يقدره: إذا ضيّقه، قال: {ومن قدر عليه رزقه، فلينفق مما أتاه الله}
[الطلاق / 7]، وقال: {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} [العنكبوت / 62]، فقوله: {يقدر} مقابل لقوله:
{يبسط}، فقوله: {يقدر} خلاف: {يبسط}، وكذلك قوله: {فظن
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه 1/ 156. قوله: «من ذي ضروعها»: يريد: اللبن، والعراقيب: ج عرقوب، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها. والمعنى: إن اعتذرت بقلة اللبن بسبب القحط إلى الضيف أعقرها لتكون هي عوض اللبن. والبيت في المفصل 2/ 39والخزانة 1/ 284و 4/ 290، شرح أبيات المغني 6/ 132.
(2) في الأصل: يخرج.
(3) الحفث: حية عظيمة كالحراب، والأصيلة: تصغير أصلة، وهي حية ضخمة عظيمة قصيرة الجسم. والأصلة: للأفعى. وقائل الرجز مجهول.
} {أن لن نقدر عليه} [الأنبياء / 87] أي: ظنّ أن لن نضيّق عليه، وكونه: في بطن الحوت تضييق عليه، وخلاف الاتساع.(5/49)
__________
(3) الحفث: حية عظيمة كالحراب، والأصيلة: تصغير أصلة، وهي حية ضخمة عظيمة قصيرة الجسم. والأصلة: للأفعى. وقائل الرجز مجهول.
{أن لن نقدر عليه} [الأنبياء / 87] أي: ظنّ أن لن نضيّق عليه، وكونه: في بطن الحوت تضييق عليه، وخلاف الاتساع.
وقراءة ابن كثير: (قدرنا بينكم الموت) مخفّفا في معنى {قدرنا}.
وقراءة نافع والكسائي: {فقدرنا فنعم القادرون} بمعنى:
(قدرنا) الخفيفة، وعليه جاء: {القادرون} ومن قرأ: (قدرنا) مخفّفا، كان في معنى التشديد.
وقوله: {القادرون} بعد قدرنا يحتمل وجهين: أحدهما:
أن يكون قدرنا في معنى (قدرنا). فجاء {القادرون} على اللغة الخفيفة، كأنهما جميعا بين اللغتين.
ويجوز أن يكون: فنعم المقدّرون. فحذف تضعيف العين، كما حذفت الهمزة (1) من نحو:
دلو الدّالي (2).
و:
يخرجن من أجواز ليل غاض (3).
ونحو ذلك، وكذلك قراءة الكسائيّ: (قدر) فهذا خفيفا، ومعناه: قدّر، وكأن المشدّدة في هذا المعنى أكثر في الاستعمال، وفي التنزيل، كقوله: (قدر فيها أقواتها) [فصلت /
(1) كذا الأصل، والظاهر أن تكون «الزيادة» بدل «الهمزة» وانظر ما سبق عند إيراد الشاهدين. 4/ 380.
(2) أي: المدلي، وقد سبق قريبا / 44.
(3) أي: مغضي، وسبق في 4/ 380. وانظر مجاز القرآن 1/ 349.(5/50)
10]، {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان / 2].
{أصحاب الأيكة} [الحجر / 78]: لم يختلفوا في هذه السورة، ولا في سورة قاف (1) [14].
الحجر: 78
واختلفوا فى سورة الشعراء، وفي سورة ص [13]، فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر في سورة الشعراء: (أصحاب ليكة) (2) [176] غير أن ورشا روى عن نافع (الايكة) متروكة الهمزة (3)، مفتوحة اللام بحركة الهمزة، والهمزة ساقطة.
لأنه ألقى عليها (4) حركة الهمزة في الحجر، وفي قاف.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي (الأيكة) في كلّ القرآن (5).
قال أبو علي: تقول: هي أيكة، فإذا ألحقت لام المعرفة كانت الأيكة، قال الهذلي (6):
__________
(1) يريد أنهم أجمعوا على الخفض، وإدخال الألف واللام.
(2) بلام مفتوحة وبالنصب، على وزن فعلة.
(3) أيّ: مسهلة.
(4) أي على اللام.
(5) السبعة 368.
(6) أبو ذؤيب من قصيدة يرثي بها نشيبة بن محرّث في شرح أشعار الهذليين 1/ 77. الطرتان: طريقتان في جنبيها، وهو حيث ينقطع اختلاف لون الظهر من لون البطن والجنى: الثمر يضفو: يكثر ويسبغ عليها أي:
يطول عليها قصارها، فقال: إذا سبغ عليها القصار من أغصان الشجرة، فالطوال أحرى أن تكون أسبغ.(5/51)
موشّحة بالطّرتين دنا لها ... جنى أيكة يضفو عليها قصارها
وأنشد الأصمعي (1):
وما خليج من المرّوت ذو حدب ... يرمي الضرير بخشب الأيك والضّال
فأيك وأيكة، مثل: تمر وتمرة، فقد ثبت أن الأيك تعريف أيك، فإذا خفّفت الهمزة في أيكة، وقد ألحقتها الألف واللام، حذفتها، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء من أيكة، فيجوز فيها إذا استأنفت لغتان: من قال: الأحمر (2)، قال: «أليكة» ومن قال: لحمر، قال: «ليكة»، وإذا كان كذلك فقول من قال: ليكة، ففتح التاء، مشكل (3)، لأنّه فتح مع لحاق اللام الكلمة، وهذا في الامتناع كقول من قال: بلحمر، فيفتح الآخر مع لحاق لام المعرفة، وإنّما يخرج قول من قال:
(أصحاب ليكة) على أن هذا المعنى قد يسمى بكلمة تكون اللام فيها فاء، ويكون مقلوب: كيل، فإن لم يثبت هذا مشكلا (4)، ولم أسمع بها.
ويبعد أن يفتح نافع ذلك مع ما قال ورش عنه.
__________
(1) البيت لأوس وقد سبق في 4/ 136.
(2) ولفظها: (الحمر)، كما سبق أن رسمها في غير هذا الموضع.
(3) نشأ الإشكال من توجيهه الذي وجه به الكلمة، أما إذا نظر إليها على أنها على وزن: فعلة اسم للقرية التي كانوا فيها، كما حكاه أبو عبيد، فلا إشكال. انظر الكشف عن وجوه القراءات 2/ 32.
(4) كذا الأصل، وفي العبارة اضطراب.(5/52)
ذكر اختلافهم في سورة النحل
النحل: 2
اختلفوا في قوله تعالى: {ينزل الملائكة} [2] في التخفيف، والتشديد، والتاء، والياء.
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {ينزل الملائكة} بالياء، غير أنّ ابن كثير وأبا عمرو أسكنا النون، وخفّفا الزاي وشدّدها الباقون.
وروى الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم: (تنزل الملائكة) بالتاء مضمومة، وفتح الزاي. (الملائكة) رفع (1).
فاعل {ينزل} الضمير العائد إلى اسم الله تعالى، في {أتى أمر الله} [1].
فأمّا إسكان النون في (ينزل) وتخفيفها وتشديدها، فكل واحد من القراءتين سائغ قال: {إنا نحن نزلنا الذكر}
[الحجر / 9] وقال: {وأنزلنا إليك الذكر} [النحل / 44].
فأما ما روي عن عاصم من قوله: (تنزل الملائكة) فإنّه
__________
(1) السبعة ص 270مع اختلاف يسير، وبإسقاط الكسائي من قراءة: (ينزّل) بالياء.(5/53)
أنّث الفعل لإسناده إلى الملائكة، كما قال: {إذ قالت الملائكة}
[آل عمران / 45]، وبنى الفعل للمفعول، وأسند إليهم، والأوّل أبين.
النحل: 11
قال: كلّهم قرأ: {ينبت} [11] بالياء إلا عاصما، في رواية أبي بكر، فإنّه قرأ: (ننبت) بالنون، وروى حفص عنه بالياء (1).
{ينبت} بالياء، لتقدم قوله: {هو الذي أنزل من السماء ماء} [10]، ينبت وينبت، أشكل لما تقدّم من الإفراد، والنون لا تمتنع أيضا (2)، ويقال: نبت البقل، وأنبته الله وقد روي: أنبت البقل، والأصمعي: يأبى إلا نبت، ويزعم أن قصيدة زهير التي فيها:
حتى إذا أنبت البقل (3)
متّهمة. فأما قوله: {تنبت بالدهن} [المؤمنون / 20] فيجوز أن
__________
(1) السبعة ص 370.
(2) قال مكي في الحجة لهذه القراءة: إنه أجراه على الإخبار من الله جل ذكره عن نفسه، لتقدم لفظ الإخبار قبله في قوله: (لا إله إلا أنا) [2].
الكشف 2/ 34.
(3) جزء من بين لزهير من قصيدته اللامية التي يمدح فيها هرم بن سنان والحارث بن عوف، وتمام البيت:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
انظر ديوانه / 111واللسان (نبت).(5/54)
يكون الباء زائدة كقوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
[البقرة / 195]، و {ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم}
[النحل / 15]، فعدّى (ألقى) مرّة بالياء، ومرّة بغيرها.
وإذا ثبت: أنبت، في معنى: نبت، جاز أن تكون الباء للتعدي، كما أنّها لو كانت مع نبت كان كذلك، ويجوز أن تكون الهمزة في أنبت، للتعدي، والمفعول محذوف، والباء للحال كأنه تنبت ثمرة الدّهن، فحذف المفعول، وبالدهن في موضع حال كأنه: تنبت بالدهن، أي: تنبت الثمر، وفيه دهن، ويجوز في تنبت بالدهن، أي: بذي الدّهن، أي تنبت ما فيه دهن.
قال: وقرأ ابن عامر: (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) [54] رفع كلّه، وقرأ الباقون: بنصب ذلك كلّه، وأبو بكر عن عاصم.
وروى حفص عن عاصم مثل قراءة ابن عامر في {مسخرات} (1) وحدها، ونصب الباقي (2).
النصب في قوله: {والشمس والقمر} أحسن، ليكون معطوفا على ما قبله وداخلا في إعرابه، لاستقامته في المعنى، ألا ترى أن ما في التنزيل من نحو قوله: {وكلا ضربنا له الأمثال}
[الفرقان / 39]، وقوله: {والظالمين أعد لهم عذابا أليما}
[الإنسان / 31] يختار فيه النصب، ليكون مثل ما يعطف عليه،
__________
(1) ضبطها في الأصل بالكسر حسب سياقها الإعرابي، وآثرنا ما في السبعة.
(2) السبعة ص 370.(5/55)
ومشاكلا له، فكذلك إذا حمل ذلك على التسخير، كان أشبه، فإن قلت: فكيف جاء (مسخرات) بعد هذه الأشياء المنصوبة المحمولة على (سخر)؟ فإن ذلك لا يمتنع، لأنّ الحال تكون مؤكّدة ومجيء الحال مؤكّدة في التنزيل وفي غيره كثير، كقوله:
{وهو الحق مصدقا} [البقرة / 91]، و:
أنا ابن دارة معروفا (1)
و:
كفى بالنأي من أسماء كافي (2)
__________
(1) جزء من بيت لسالم بن دارة وتمامه:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للنّاس من عار
وقد جاء قوله: «معروفا» حالا مؤكدة لمضمون الجملة قبلها «أنا ابن دارة».
وهو من شواهد سيبويه 1/ 257والخصائص 2/ 340317268، و 3/ 60ابن الشجري 2/ 285الخزانة 1/ 553.
(2) صدر بيت لبشر بن أبي خازم الأسدي وهو مطلع قصيدة في ديوانه ص 142يمدح بها أوس بن حارثة لما خلي سبيله من الأسر والقتل وعجز البيت برواية الديوان:
وليس لحبها إذ طال شافي وفي البيت شاهدان: الأول على تسكين المنقوص في حالة النصب على أنه لغة، أو للضرورة، والأصل: كافيا. والثاني وهو الذي أراده المصنف، وهو مجيء «كاف» هذه حالا مؤكدة عنده.
انظر الكامل 2/ 729والمقتضب 4/ 22، والخصائص 2/ 268(5/56)
ويقوي النصب قوله: {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين}
[إبراهيم / 33]، فكما حملا هنا على التسخير كذلك في الأخرى، وكذلك النجوم قد حملت (1) على التسخير كذلك في {وهو الذي جعل} [2] لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر [الأنعام / 97].
وكأنّ ابن عامر قطعه عن سخّر، لئلّا يجعل الحال مؤكّدة، فابتدأ الشمس والقمر والنجوم، وجعل مسخّرات خبرا عنها. ويدل على جواز ذلك أنه إذا جاء: {سخر لكم الشمس والقمر} علم من هذا أنهما مسخران، فجاز الإخبار بالتسخير عنها لذلك.
النحل: 12
ووجه ما روي عن عاصم من الرفع في مسخّرات وحدها، أنّه لم يجعلها حالا مؤكّدة، وجعلها خبر ابتداء محذوف، كأنّه لما قال: {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم} [النحل / 12] قال بعد: هي مسخرات، فحذف المبتدأ، وأضمره لدلالة الخبر عليه، وهو إذا جعله خبر ابتداء محذوف فقد علم ذلك بما تقدّم، كما أنّه إذا جعل مسخرات حالا مؤكدة فقد علم ذلك بما تقدم، وهذا المعنى
__________
المنصف 2/ 115ابن الشجري 1/ 298296283183.
وابن يعيش 6/ 51و 10/ 103والخزانة 2/ 261وشرح الحماسة للمرزوقي ص 294، 790، 1032.
(1) في الأصل (ط): «قد حملت قد على التسخير» بإقحام قد الثانية.
(2) في الأصل: «سخر» بدل «جعل» وليس في القرآن آية أو قراءة بهذا اللفظ، وعليه فلا حجة فيها نصا.(5/57)
في الحال أسوغ منه في الخبر، لأنّ الخبر ينبغي أن يكون مفيدا، لم يجيء إلّا كذلك، ألا ترى أنّه حمل قوله على الحال، ولم يحمله على الخبر، والحال قد جاءت مؤكّدة.
النحل: 21، 20، 19
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} (1) والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا [النخل / 2120].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي: (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين تدعون) كلّهن بالتاء.
وقرأ عاصم: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} بالتاء، {والذين يدعون} بالياء.
أخبرنا الخزاز عن هبيرة، عن حفص عن عاصم: أنّه قرأهن ثلاثتهن بالياء. وقال ابن اليتيم عن أبي حفص عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم مثل أبي بكر عن عاصم.
وروى الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم: ذلك كلّه بالياء (2) في الثلاثة (3).
هذا يكون كلّه على الخطاب، لأنّ ما بعده خطاب كقوله بعد: {أفلا تذكرون}. وقوله: {وألقى في الأرض رواسي أن
__________
(1) لم ترد هذه الآية في الأصل.
(2) في السبعة: «بالتاء» بدل «بالياء».
(3) السبعة 371.
} {تميد بكم} [النحل / 15] {وإلهكم إله واحد} [النحل / 22]، فكلّ هذا خطاب، فإن قلت: إنّ فيه (والذين تدعون من دون الله) وهذا لا يكون خطابا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا للمسلمين، فإنّه يكون على إرادة: قل، كأنّه: قل لهم: (والذين تدعون من دون الله) فلا يمتنع الخطاب إذا كان على هذا الوجه، ولهذا قرأ عاصم:(5/58)
__________
(3) السبعة 371.
{تميد بكم} [النحل / 15] {وإلهكم إله واحد} [النحل / 22]، فكلّ هذا خطاب، فإن قلت: إنّ فيه (والذين تدعون من دون الله) وهذا لا يكون خطابا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا للمسلمين، فإنّه يكون على إرادة: قل، كأنّه: قل لهم: (والذين تدعون من دون الله) فلا يمتنع الخطاب إذا كان على هذا الوجه، ولهذا قرأ عاصم:
{والذين يدعون} بالياء، لما كان ذلك عنده إخبارا عن المشركين، ولم يجز أن يكون في الظاهر خطابا للمسلمين.
فأما ما روي عن عاصم من أنه قرأ كلّه بالياء، فهذا على توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كأنه: قل لهم: والله يعلم ما يسرّون وما يعلنون، والذين يدعون.
النحل: 27
اختلفوا في فتح النون وكسرها من قوله عزّ وجلّ:
{تشاقون فيهم} [27].
فقرأ نافع وحده: (تشاقون فيهم) بكسر النون وتخفيفها.
وقرأ الباقون: {تشاقون فيهم} بفتح النون (1).
قد ذكرنا وجه قول نافع فيما تقدم (2)، ومعنى (تشاقون):
تكونون في جانب والمسلمون في جانب، ولا تكونون معهم يدا واحدة. ومن هذا قيل لمن خرج عن طاعة الإمام وعن جملة جماعة المسلمين: شقّ العصا، أي: صار في جانب عنهم، فلم يكن ملائما لهم، ولا مجتمعا معهم في كلمتهم (3).
(1) السبعة ص 373.
(2) يريد في قوله عز وجل: {فبم تبشرون} الحجر / 54. انظر ص 45.
(3) على هامش النسخة كلمة «بلغت».(5/59)
النحل: 27
اختلفوا في الهمز من قوله عزّ وجلّ: {أين شركائي الذين} [27]، فقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر إن شاء الله وحمزة والكسائي: {أين شركائي الذين} بهمزة وفتح الياء.
وقال البزيّ عن ابن كثير: (شركاي الذين) بغير همز وفتح الياء، مثل: {هداي} [البقرة / 38].
وروى القوّاس عن ابن كثير: {شركائي الذين}
مهموزة (1).
الوجه فيه الهمز: لأن شريكا وشركاء كخليط وخلطاء، وفي التنزيل: {وإن كثيرا من الخلطاء} [ص / 24]، ولا نعلم أحدا جمعه على غير فعلاء.
ووجه القصر: أن هذا الضرب من الممدود قد قصر في الآحاد مرّة، ومدّ أخرى، قال (2):
وأربد فارس الهيجا إذا ما ... تقعرت المشاجر بالفئام
__________
(1) السبعة 371.
(2) البيت للبيد يرثي أخاه، ديوانه ص 200وفيه وفي مختار الشعر الجاهلي، 2/ 471: «بالخيام» بدل: «بالفئام» وتقعرت: تفوّضت والمشاجر:
مراكب للنساء أكبر من الهوادج.
وفي اللسان مادة (شجر) وفيه: «وأرثد» و «بالقيام» وفي مادة «فأم» كما هي عندنا. والفئام: عكم كالجوالق صغير الفم يغطى به مركب المرأة، يجعل واحد من هذا الجانب وآخر من هذا الجانب (اللسان).(5/60)
وقال آخر (1):
إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا ... فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد
فكذلك الجموع، وقد حذفت الهمزة إذا كانت لاما، قالوا في: سوائية: سواية (2)، وإنّما السوائية مثل الكراهية.
وذهب أبو الحسن في قولهم: أشياء، إلى أنه أفعلاء:
أشيئاء، فحذفت والوجه المدّ في (شركاي).
وأمّا قوله: {أين شركائي} فإنّ القديم سبحانه لم يثبت بهذا الكلام له شريكا، وإنما أضيف على حسب ما كانوا يقولونه وينسبونه، وكما أضيفت هذه الإضافة، فكذلك أضيف إليهم، فقال: {أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون}
[الأنعام / 22]، وفي أخرى: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} [يونس / 28]، فإنّما أضيفوا هذه الإضافة على حسب ما كانوا يسمّونهم ويعتقدونه فيهم، ومثل ذلك قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان / 49]، ومثله: {يا أيها الساحر ادع لنا ربك} [الزخرف / 49]، فهذا على حسب ما كانوا يقولون فيه، ويسمّونه به، وقد تقع الإضافة لبعض الملابسة دون التحقيق، كقول الشاعر (3):
__________
(1) لم يعرف قائله وهو في شرح أبيات المغني 7/ 191. وانشقت العصا:
تفرقت الجماعة.
(2) عند سيبويه 2/ 378: سؤته سوائية: هي: فعالية، بمنزلة علانية، والذين قالوا: سواية، حذفوا الهمزة، كما حذفوا همزة هار ولاث.
(3) وهو حريث بن عناب سبق انظر 2/ 50.(5/61)
إذا قلت قدني قال بالله حلفة ... لتغني عني ذا إنائك أجمعا
فأضاف الإناء إليه لشربه منه، والإناء في الحقيقة لمن يسقي به، دون من يشرب منه، ومثل ذلك قول الهذليّ، أنشدناه علي بن سليمان:
وكنت كعظم العاجمات اكتنفنه ... بأطرافها حتى استدقّ نُحولُها (1)
فهذا كما تقول لمن يحمل خشبة ونحوها: خذ طرفك، وآخذ طرفي، فتنسب إليه الطرف الذي يليه، كما تنسب إلى نفسك الطرف الذي يليك، فعلى هذا تجري الإضافة في قوله:
{أين شركائي}.
النحل: 28، 32
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: {تتوفاهم الملائكة} [3228].
فقرأ حمزة وحده: (يتوفاهم الملائكة) بالياء والتاء وبالإمالة.
وقرأ الباقون بتاءين في الموضعين.
أبو عمارة عن حفص عن عاصم مثل حمزة، وروى
__________
(1) لأبي ذؤيب، وعظم العاجمات: الإبل التي تمضغ العظم. والنحول: رمّ العظم، والواحد: نحل، واستدق نحولها: دقت دقّتها يريد: كنت للمصيبة كالعظم ترتمه الإبل. شرح أشعار الهذليين 1/ 175.(5/62)
هبيرة عن حفص عن عاصم، وابن اليتيم عن ابن عمر عن عاصم (1) مثل أبي بكر (2).
قول حمزة: (يتوفّاهم) بالياء، لأنّ الفعل متقدّم، والإمالة حسنة في هذا النحو من الفعل، وعلى هذا قرأ الأخرى بالياء أيضا.
وأما {تتوفاهم} فلأنّ الفعل مسند إلى جماعة، والجماعة مؤنث، كما جاء: {وإذ قالت الملائكة} [آل عمران / 42، 45] في غير موضع في التنزيل، وقرأ كثير من القراء: {كالذي استهوته الشياطين} [الأنعام / 71] ولو كان استهواه كان حسنا أيضا.
النحل: 33
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: {إلا أن تأتيهم الملائكة}
[33].
فقرأ حمزة والكسائي: (إلا أن يأتيهم الملائكة) بالياء.
وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر:
{تأتيهم} بالتاء (3).
قد تقدم القول في هذا ونحوه.
النحل: 37
اختلفوا في فتح الياء وضمّها من قوله: {فإن الله لا يهدي من يضل} [37].
__________
(1) في السبعة: وابن اليتيم عن عمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم:
بالتاء.
(2) السبعة ص 372.
(3) السبعة ص 372.(5/63)
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: (لا يهدى) برفع الياء وفتح الدال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {يهدي} بفتح الياء وكسر الدال.
ولم يختلفوا في {يضل} أنها مضمومة الياء مكسورة الضاد (1).
الراجع إلى اسم (إنّ) هو الذّكر الذي في قوله: {يضل}
في قراءة من قرأ: (يهدى)، ومن قرأ: {يهدي}: فمن جعل {يهدي} من: هديته:
جاز أن يعود الذكر الفاعل الذي فيه إلى اسم إنّ، ومن جعل {يهدي} في معنى: يهتدي، وجعل: {من يضل} مرتفعا به، فالراجع إلى اسم إنّ الذكر الذي في {يضل} كما كان كذلك في قول من قال: (يهدى) فالراجع إلى الموصول الذي هو (من) الهاء المحذوفة من الصّلة تقديره: «يضلّه» والمعنى: إن من حكم بإضلاله له وتكذيبه، فلا يهدى. ومثل هذا في المعنى قوله: {فمن يهديه من بعد الله}، [الجاثية / 23]، تقديره: من بعد إضلال الله إيّاه والمفعول محذوف، أي: بعد حكمه بإضلاله.
وقراءة عاصم وحمزة والكسائي: {لا يهدي من يضل} في المعنى كقوله: {من يضلل الله فلا هادي له}
[الأعراف / 186]، وهذا كقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين}
[البقرة / 258]، وقوله: {وما يضل به إلا الفاسقين}
[البقرة / 26] فموضع (من) نصب ب (يهدي) وقد قيل: إن
__________
(1) السبعة 372.(5/64)
(يهدي) في معنى يهتدي، بدلالة قوله: {لا يهدي إلا أن يهدى} [يونس / 35] فموضع (من) على هذا رفع، كما أنه لو قال: يهتدي كان كذلك.
قال: ولم يختلفوا في {يضل} أنّه مضموم الياء، فهذا من قولك: ضلّ الرجل، وأضلّه الله. أي: حكم بإضلاله، كقولك:
كفر زيد وأكفره الناس، أي: نسبوه إلى الكفر، وقالوا: إنه كافر، كما أن أسقيته قلت له: سقاك الله. قال (1):
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه ... تكلّمني أحجاره وملاعبه
النحل: 40
اختلفوا في فتح النون وضمّها من قوله تعالى: (كن فيكون) [40].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة: {كن فيكون} رفعا، وكذلك في كل القرآن.
وقرأ ابن عامر والكسائي: (فيكون) نصبا، وفي سورة يس [82] مثله فتح (2).
أمّا نصب الكسائي: (فيكون) هاهنا، وفي سورة يس فإنّه يحمله على أن، كأنّه: أن يقول فيكون، قال: وسمعت ذلك بالنصب مرارا ذكرها.
فأمّا ابن عامر فإنّه قد نصب (فيكون) وإن لم يكن قبله
__________
(1) الذي الرمة سبق ذكره في الجزء 3/ 302من كتابنا.
(2) السبعة: 373.(5/65)
أن نحو: إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [البقرة / 617آل عمران / 47] فإن نصب هنا على هذا الحدّ، فقد مضى القول عليه قبل (1)، وإن نصبه من حيث نصبه الكسائي، فمستقيم.
النحل: 48
اختلفوا في التاء والياء من قوله عزّ وجلّ: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} [النحل / 48].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء} [وكذلك] {أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده}، في العنكبوت [19]، بالياء جميعا.
واختلف عن عاصم، فروى يحيى بن آدم عن أبي بكر، وابن المنذر عن عاصم أيضا عن أبي بكر وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم في العنكبوت بالتاء. وروى حسين الجعفيّ والكسائيّ والأعشى وعبد الجبار بن محمد، عن أبي بكر عن عاصم، وحفص عن عاصم في العنكبوت بالياء، ولم يختلف عن عاصم في النحل أنّها بالياء.
وقرأ حمزة والكسائي: (أو لم تروا إلى ما لم خلق الله من شيء) بالتاء، أولم تروا كيف يبدئ الله بالتاء جميعا.
النحل: 48
وكلّهم قرأ: {يتفيأ ظلاله} [48] بالياء، غير أبي عمرو، فإنه قرأ: (تتفيأ) بالتاء (2).
__________
(1) انظر كلامه عن سورة البقرة / 117في 1/ 203.
(2) السبعة 374ولم يرد ما بعد فيه.(5/66)
النحل: 48
وقرأ حمزة وابن عامر: (ألم تروا إلى الطير) [79] بالتاء، وقرأ الباقون: بالياء.
قوله: {أولم يروا}.
حجة الياء: أن ما قبله غيبة، وهو قوله: {أن يخسف الله بهم أو يأتيهم العذاب} {أو يأخذهم} [45، 46] {أولم يروا} [48]، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه قد رأوا ذلك وتيقّنوه.
ومن قرأ بالتاء: أراد جميع الناس، فوقع التّنبيه على الجمع بقوله: (أولم تروا).
قال: كلّهم قرأ: {يتفيأ} بالياء، غير أبي عمرو، فإنّه قرأ بالتاء: التذكير والتأنيث في فعل هذا الضرب من الجميع، إذا تقدّم جميعا حسنان، وقد تقدّم في غير موضع.
فأمّا يتفيّأ، فيتفعل من الفيء، يقال: فاء الظلّ يفيء فيئا، إذا رجع وعاد بعد ما كان ضياء الشمس نسخه، ومنه فيء المسلمين: لما يعود عليهم وقتا بعد وقت من خراج الأرضين المفتتحة والغنائم، فإذا عدّي قولهم: فاء، عدّي بزيادة الهمزة، أو تضعيف العين، فممّا عدّي بنقل الهمزة: {ما أفاء الله على رسوله} [الحشر / 7] وبالتضعيف: فاء الظلّ وفيّأه الله، فتفيّأ: مطاوع فيّأه، فالفيء: ما نسخه ضوء الشمس، والظلّ: ما كان قائما لم تنسخه الشمس، مما يدل على ذلك قوله: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا} [الفرقان / 45]، فالشمس ينسخ ضياؤها هذا الظل، فإذا زال ضياء الشمس الناسخ للظلّ، فاء الظلّ، أي:
رجع كما كان أوّلا، قال أبو زيد: ظهّر تظهيرا، وذلك قبل
نصف النهار إلى أن تزيغ الشمس وزيغها: إذا فاء الفيء، انتهى كلام أبي زيد.(5/67)
رجع كما كان أوّلا، قال أبو زيد: ظهّر تظهيرا، وذلك قبل
نصف النهار إلى أن تزيغ الشمس وزيغها: إذا فاء الفيء، انتهى كلام أبي زيد.
قال أبو على: والضمير في قوله: {ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا} [الفرقان / 46]. يجوز أن يكون للظلّ، ويجوز أن يكون لضياء الشمس، لأنّ كل واحد منهما يقبض قبضا يسيرا على التدريج.
وقال: {أكلها دائم وظلها} [الرعد / 35]، وقال: {وظل ممدود} [الواقعة / 30]، هما في الجنّة، فيكون ظلّا، ولا يكون فيئا، لأنّ ضياء الشمس لا ينسخه، على أن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي (1):
فسلام الإله يغدو عليهم ... وفيوء الفردوس ذات الظّلال
وهذا الشعر قد أوقع فيه الفيء على ما لم تنسخه الشمس، وجمعه على فيوء، مثل بيت وبيوت، ويدلّ على أن الظل ما لم تنسخه الشمس قول النابغة: ذات الظلال، فسمّى ما في الجنة ظلّا، ويدل عليه قول الآخر (2):
فلا الظلّ من برد الضّحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشيّ تذوق
فجعل الظلّ وقت الضحى، لأنّ الشمس لم تنسخه في
__________
(1) شعره ص 231. والنوادر: 220 (ط: الفاتح) واللسان (ظلل).
(2) لحميد بن ثور ورواية الديوان ص 40: «منها بالضحى» وفي الأصل:
«من بعد برد الضحى» بإقحام كلمة «بعد» وينكسر البيت بها. وانظر اللسان (فيأ).(5/68)
ذلك الوقت، بدلالة ما تقدم حكايته، عن أبي زيد، وقال أبو عمر: أكثر ما تقول العرب: أفياء، وأنشد لعلقمة (1):
تتّبع أفياء الظّلال عشيّة ... على طرق كأنّهن سبوب
قال أبو علي: فقول علقمة: أفياء الظلال، يجوز أن يكون جمع فيئا على أفياء، وأضافه إلى الظلال، على معنى أن الفيء يعود به الظل الذي كان نسخه ضوء الشمس، وأضافها إلى الظلّ كما يضاف المصدر إلى الفاعل، وأفياء يكون للعدد القليل مثل: أبيات وأعيان، وفيوء للكثير، كالبيوت والعيون، وقال:
أرى المال أفياء الظّلال فتارة يئوب وأخرى يخبل المال خابله (2)
ومن هذا الباب قوله {حتى تفيء إلى أمر الله}
[الحجرات / 9] أي: ترجع عن بغيها إلى جملة أهل العدل، والفيء في الإيلاء مثل الرجعة في الطلاق، وهذه الآية في المعنى مثل قوله: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاو كرها وظلالهم بالغدو والآصال} [الرعد / 15]
__________
(1) علقمة الفحل والسبوب شقاق الكتان الواحد (سب).
يقول: إنها تسير في الهاجرة حتى تعيا، فإذا رأت فيئا مالت في سيرها إليه، تبتغيه لتستريح بذلك. ديوانه / 40/.
(2) الخبل: القرض والاستعارة، والإخبال: أن يعطى الرجل البعير أو الناقة ليركبها ويجتز وبرها، وينتفع بها ثم يردها. والمال: الإبل. (اللسان) ولم نقف للبيت على قائل.(5/69)
، وزعموا أن الحسن كان يقول: يا ابن آدم أما ظلك فيسجد لله، وأما أنت فتكفر بالله.
وقال: (ظلاله) فأضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، لأن الذي يعود إليه الضمير واحد، يدلّ على الكثرة، وهو قوله: {ما خلق الله} [البقرة / 228] وهذا مثل قوله: {لتستووا على ظهوره} [الزخرف / 13]، فأضاف الظهور وهو جمع إلى ضمير مفرد، لأنه يعود إلى واحد يراد به الكثرة، وهو قوله: {ما تركبون} [الزخرف / 12]، ومثل ذلك إضافة بين إلى ضمير المفرد في قوله: {يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما} [النور / 43]، ولو أنّث لجاز من وجهين:
أحدهما: على قياس {نخل خاوية} [الحاقة / 7] على قوله:
{وينشىء السحاب الثقال} [الرعد / 12].
وممّا ينسب إلى ثعلب أنه قال: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤية قال: كلّ ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظلّ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظلّ. وقال بعض أهل التأويل: الظلّ هو الشخص نفسه، ويدلّ عندي على ما قال:
قول علقمة (1):
__________
(1) هذا البيت ليس في ديوان علقمة، وإنما ينسب لعبدة بن الطبيب وهو من قصيدة له في المفضليات. وقد أنشده ابن عبد ربه في العقد الفريد 1/ 192والأخبية ج: خباء، والمراجيل: ج: مرجل وهو القدر الذي يطبخ فيها الطعام يقول: إنهم حين حطوا رحالهم أسرعوا فنحروا الذبائح وأوقدوا عليها ففارت قدورهم باللحم.(5/70)
إذا نزلنا نصبنا ظلّ أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
ألا ترى أنّهم ينصبون الظلّ الذي هو فيء، وإنما ينصبون الأخبية فيصير لها فيء ويمكن أيضا أن يستدلّ بقوله:
أفياء الظلال عشيّة أي: أفياء الشخوص، فيحمل على هذا دون ما تأوّلناه، وقال: ظلّ أخبية، ولم يقل: ظلال أخبية، كما تقول:
شخوص أخبية، ولكنّه أفرد كما قال (1):
جلد الجواميس يريد: جلودها، فوضع الواحد موضع الجميع، ولا يكون ذلك على حذف المضاف، كأنه: ذا ظلّ أخبية، لأنّك حينئذ تضيف الشيء إلى نفسه، ألا ترى أن ذا ظل في قولك: ذا ظل، هو الظل، ويقوّي ذلك قول عمارة (2):
__________
انظر شرح المفضليات: 1/ 284والإنصاف 1/ 29. وجاء في المفضليات برواية:
لما وردنا رفعنا ظل أردية ... وفار باللحم للقوم المراجيل
(1) يشير في ذلك إلى قول جرير:
تدعوك تيم وتيم في قرى سبأ ... قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
وقد سبق انظر 4/ 81.
(2) الرجز في نوادر أبي زيد: ص 197 (ط: الفاتح) وهو في وصف(5/71)
كأنّهنّ الفتيات اللّعس ... كأنّ في أظلالهنّ الشّمس
أي: في أشخاصهن، لأنّ شبه الشمس إنّما هو في أشخاصها، دون ما يفيء من أفيائها، ويزعم هذا المتأوّل أن المعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء له ظلّ من جبل وشجر وبناء يتفيّأ ظلاله، أي: يكون للأشخاص فيء عن اليمين والشمائل، إذا كانت الشمس عن يمين الشخص، كان الفيء عن شماله، وإذا كانت على شماله، كان الفيء عن يمينه! وقيل: أول النهار عن يمين القبلة، وآخره عن شمال القبلة.
وقول الشاعر:
أفياء الظلال عشيّة وقولهم: أظلّ القوم عليهم، فيهما دلالة أيضا على أن الظلّ نفس الشخص.
وكلّهم قرأ: (إلا رجالا يوحى إليهم) [43] بالياء، إلا عاصما في رواية حفص، فإنه قرأ: {نوحي إليهم} بالنون، وكسر الحاء (1).
وجه الفعل المبني للمفعول قوله: {وأوحي إلى نوح}
[هود / 36]، و {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه}
[الأنبياء / 25].
__________
النخل، واللعس: اللواتي في شفاههن سواد وهن بيضاوات واسم كأن ضمير الشأن المحذوف.
(1) السبعة 373.(5/72)
ووجه قراءة عاصم: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء / 163]. {وأوحينا إلى أم موسى} [يونس / 87].
النحل: 62
قال: قرأ نافع وحده: (وأنهم مفرطون) [62] بكسر الراء خفيفة من أفرطت.
وقرأ الباقون: {مفرطون} بفتح الراء، من أفرطوا فهم مفرطون (1).
أبو عبيدة: مفرطون: معجلون، قال: وقالوا: متروكون منسيّون (2)، وقال أبو زيد: فرط الرجل أصحابه، يفرطهم أحسن الفراطة، وهو رجل فارط. قال: والفارط: الذي يتقدم الواردة، فيصلح الدّلاء والأرسان، وقوله: مفرطون، يمكن أن يكون من هذا كأنه فرط هو، وأفرطه القوم، فكذلك:
(مفرطون)، كأنهم أعجلوا إلى النار فهم فيها فرط للذي يدخلون بعدهم، ومن هذا قولهم في الدعاء للطفل، ومن جرى مجراه:
«اجعله لنا فرطا»
(3) ومنه ما
في الحديث من قوله: «أنا فرطكم على الحوض»
(4).
__________
(1) السبعة 373.
(2) انظر مجاز القرآن 1/ 361.
(3) رواه البخاري في الجنائز رقم 1335.
(4) رواه البخاري في الرقاق باب في الحوض رقم 6575، 6576، 7049. ومسلم في الطهارة رقم (249) وابن ماجة في الفتن رقم 3944 وأحمد 1/ 257و 2/ 408و 3/ 18.(5/73)
فأما قول نافع فكأنه: من أفرط أي: صار ذا فرط:
فهو مفرط مثل: أقطف وأجرب أي: هو ذو فرط إلى النار، وسبق إليها، فالقراءتان على هذا متقاربتا المعنى.
قال أبو الحسن: قال أهل المدينة: مفرطون، أي أفرطوا في أعمالهم.
النحل: 66
اختلفوا في فتح النون وضمّها من قوله تعالى: {لعبرة نسقيكم} [66] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي {نسقيكم} بضم النون، وفي المؤمنين [21] مثله.
وقرأ ابن عامر ونافع وعاصم في رواية أبي بكر:
(نسقيكم) بفتح النون فيهما. حفص عن عاصم {(نسقيكم) بضم النون، وفي المؤمنين مثلها} [1].
قال أبو علي: تقول: سقيته حتى روي، أسقيه، وعلى هذا قوله {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} [الإنسان / 21]، وقال:
والذي هو يطعمني ويسقن [الشعراء / 79] وقال: {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} [محمد / 15]، وقال: {شاربون شرب الهيم} [الواقعة / 55] وقال (2):
انحنا فسمناها النّطاف فشارب ... قليلا وآب صدّ عن كلّ مشرب
__________
(1) السبعة 374.
(2) البيت للطفيل الغنوي وأنخنا: حططنا سمناها: عرضناها على الماء.
النطاف: الماء، والواحدة: نطفة. ديوانه / 28.(5/74)
وقوله: {ويسقى من ماء صديد} [إبراهيم / 16] مثل يضرب، وليس مثل يكرم، يدل على ذلك قوله: {وسقوا ماء حميما}، وتقدير {من ماء صديد} من ماء ذي صديد فهذا خلاف قوله: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} [الإنسان / 21].
فأما قوله: {وأسقيناكم ماء فراتا} [المرسلات / 27]، وقوله: {فأسقيناكموه} [الحجر / 22] فمعنى ذلك جعلناه سقيا لكم، كما تقول: أسقيته نهرا، أي جعلته شربا له، وقالوا:
سقيته في معنى: أسقيته يدل على ذلك قوله (1):
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال
فسقى قومي: ليس يريد به ما يروي عطاشهم، ولكن يريد: رزقهم سقيا لبلادهم، يخصبون منها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروي العطاش، ولغيرهم ما يخصبون منه، ويبيّن ذلك قول الشاعر (2):
أخطا الربيع بلادهم فسقوا ... ومن أجلهم أحببت كلّ يمان
فقوله: سقوا، دعا لهم بالسّقيا التي أخطأت بلادهم.
وهذا وإن كان الأكثر فيما يرفع العطش سقى، وفي السقيا:
__________
(1) البيت للبيد من قصيدة له يعاتب فيها قومه ومجد: ابنة تيم بن غالب ديوانه / 110والنوادر / 213.
(2) لم نعثر على قائله.(5/75)
أسقى، فإن من قرأ: {نسقيكم} يريد: إنّا جعلناه في كثرته، وإدامته كالسقيا، فهو كقولك: أسقيته نهرا. وأما من فتح النون، فإنه لما كان للشفة فتح النون، فجعله بمنزلة قوله:
{وسقاهم ربهم شرابا طهورا} والذين ضمّوا النون جعلوا ذلك لدوامه (1) عليهم كالسقيا لهم.
قال: كلهم قرأ: {أفبنعمة الله يجحدون} [71] بالياء، غير عاصم فإنه قرأ في رواية أبي بكر: (تجحدون) بالتاء. وروى حفص عن عاصم بالياء (2).
ومن قال: {يجحدون} بالياء، فلأنه يراد به غير المسلمين والمسلمون لا يخاطبون بجحدهم نعمة الله.
ووجه التاء: قل لهم: أفبنعمة الله بهذه الأشياء التي تقدم اقتصاصها تجحدون، ويقوّي الياء قوله: {وبنعمة الله هم يكفرون} [النحل / 72].
النحل: 68
قال: قرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر (يعرشون) [68] بضم الراء.
وقرأ الباقون بكسر الراء، وروى حفص عن عاصم:
{يعرشون} بكسر الراء (3).
هما لغتان: (يعرش ويعرش) ومثله: يحشر ويحشر، ويعكف
__________
(1) في الأصل: لدوامه.
(2) السبعة 374.
(3) السبعة 374.(5/76)
ويعكف، ويفسق ويفسق، قال أبو عبيدة (1): كلّ شيء مما عرش فهو عريش، وحكى الضم والكسر في يعرش.
النحل: 80
اختلفوا في فتح العين وإسكانها من قوله عز وجلّ: يوم ظعنكم [80]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (ظعنكم) بفتح العين.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {ظعنكم}، ساكنة العين (2).
هما لغتان. ومثل ذلك: الشّمع والشّمع، والنّهر والنّهر، قال الأعشى:
فقد أشرب الراح قد تعلمي ... ن يوم المقام ويوم الظّعن (3)
ولا يجوز أن يكون الظّعن مخففا عن الظّعن، كما أن عضدا وكتفا ونحو ذلك، مخفّف عن الكسر والضم، ألا ترى أن من قال: في عضد، وعضد لم يخفّف نحو: جمل ورسن كما أن الذي يقول: {والليل إذا يسر} [الفجر / 4] و {ذلك ما كنا نبغ} [الكهف / 64] لا يقول إلا: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} [الليل / 1، 2] وحرف الحلق وغيره في ذلك سواء.
النحل: 96
اختلفوا في قوله تعالى: (وليجزين الذين صبروا) [96] في الياء والنون.
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1/ 364.
(2) السبعة 375.
(3) انظر ديوانه / 17.(5/77)
فقرأ ابن كثير وعاصم: {ولنجزين الذين صبروا} بالنون.
وقرأ نافع، وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي:
(وليجزينّ) بالياء.
عليّ بن نصر عن أبي عمرو {ولنجزين} بالنون مثل عاصم ولم يختلفوا في قوله: {ولنجزينهم أجرهم}
[النحل / 97] أنها بالنون (1).
حجّة الياء: {وما عند الله باق} [النحل / 96] والنون في المعنى مثل الياء.
النحل: 103
اختلفوا في فتح الياء والحاء وضمها من قوله: {يلحدون}
[103] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {يلحدون}
بضم الياء وكسر الحاء وقرأ حمزة والكسائي (يلحدون) بفتح الياء والحاء (1).
حجة {يلحدون} بالضم قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد}
[الحج / 25] ويلحدون لغة. وينبغي أن يكون الضم أرجح من حيث كان لغة التنزيل.
النحل: 102
قال: قرأ ابن كثير: (روح القدس) [102] خفيفة ساكنة الدال.
الباقون {القدس} متحركة الدال (3).
__________
(1) السبعة 375.
(3) السبعة 375.(5/78)
قال: التحريك أكثر. والإسكان تخفيف من التحريك، وقد تقدم ذكر هذا الحرف.
النحل: 110
اختلفوا في فتح الفاء وضمها من قوله جل وعز: {فتنوا}
[110] فقرأ ابن عامر وحده: (فتنوا) بفتح الفاء والتاء. وقرأ الباقون: فتنوا بضم الفاء وكسر التاء.
حجة من قال: {فتنوا}: أن الآية في المستضعفين المقيمين كانوا بمكة، وهم: صهيب وعمّار وبلال. فتنوا وحملوا على الارتداد عن دينهم فمنهم من أعطى للتقيّة. وروي أن عمّارا كان ممّن أظهر ذلك ثم هاجروا إلى المدينة، فالآية فيهم، والمعنى على فتنوا.
فأمّا قول ابن عامر: (فتنوا): فيكون على أنه: فتن نفسه وكأنّ المعنى: من بعد ما فتن بعضهم نفسه بإظهار ما أظهر للتقية، وكأنه يحكي الحال التي كانوا عليها من إظهار ما أخذوا به من التقية، لأن الرحمة فيه لم تكن نزلت بعد، وهي قوله:
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} إلى قوله: {إلا المستضعفين} [النساء / 97، 98] وقوله: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [106].
النحل: 127
اختلفوا في فتح الضاد وكسرها من قوله عز وجل: {في ضيق} [127].
فقرأ ابن كثير: (في ضيق) كسرا، وكذلك روى أبو عبيد عن إسماعيل بن جعفر عن نافع، وخلف عن المسيبي عن نافع وهو غلط في روايتهما جميعا.
وقرأ الباقون: {في ضيق} وكذلك في النمل [70] من كسر هذه كسر تلك، ومن فتح هذه فتح تلك (1).(5/79)
فقرأ ابن كثير: (في ضيق) كسرا، وكذلك روى أبو عبيد عن إسماعيل بن جعفر عن نافع، وخلف عن المسيبي عن نافع وهو غلط في روايتهما جميعا.
وقرأ الباقون: {في ضيق} وكذلك في النمل [70] من كسر هذه كسر تلك، ومن فتح هذه فتح تلك (1).
وقال أبو عبيدة: {في ضيق}: تخفيف ضيّق، يقال: أمر ضيّق وضيق (2).
قال أبو الحسن: الضّيق والضّيق: لغتان في المصدر، وأما المثقلة فيكون فيها التخفيف، فيكون ضيق مثل ميت، وينبغي أن يحمل على أن ضيقا مصدر، لأنك إن حملته على أنه مخفف من ضيق، فقد أقمت الصفة مقام الموصوف من غير ضرورة، والمعنى: لا تك في ضيق. أي: لا يضق صدرك من مكرهم، كما قال: {وضائق به صدرك} [هود / 12] وليس المراد: لا تكن في أمر ضيّق، فمن فتح ضيقا، كان في معنى من كسر، وهما لغتان كما قال أبو الحسن.
النحل: 112
وكلّهم قرأ: {لباس الجوع والخوف} [112] بخفضهما إلا ما روى علي بن نصر وعباس بن الفضل وداود الأزديّ وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو: (لباس الجوع والخوف) بفتح الفاء. وروى اليزيدي وغيره عن أبي عمرو {لباس الجوع والخوف} بكسر الفاء (1).
قوله: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} المعنى فيه:
مقاربة الجوع لهم ومسّه إياهم، كمخالطة الذائق ما يذوقه، أو اللابس لما يلبسه، واتصاله به فأوقع عليه الذوق كما قال:
__________
(1) السبعة 376.
(2) مجاز القرآن 1/ 369.(5/80)
دونك ما جنيته فاحس وذق (1)
وكذلك لباس الجوع هو مسّه لهم كمسّ الثوب للابسه قال الشاعر (2):
وقد لبست بعد الزبير مجاشع ... ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما
يريد أن العار والسّبّة لحقهم، واتصل بهم لغدرهم، فجعل ذلك لباسا لهم، وقال أوس بن حجر:
وإن هزّ أقوام إلي وحدّدوا ... كسوتهم من برد برد متحم (3)
وقال آخر:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنّت فصارت عليه لباسا (4)
فإنّما المعنى أن اتصالها به ومسها له، كمسّ الملبوس للابسه، ومن ثمّ جاء في التنزيل: {هن لباس لكم وأنتم لباس
__________
(1) هذا شطر بيت. في البحر المحيط 5/ 543ولم ينسبه لقائل.
(2) هذا البيت لجرير، وقد سبق في 2/ 327.
(3) متحم: من البز الأتحمي وهو ضرب من برود اليمن، يقول: أكسوهم من أحسن ذلك البز، وإنما هذا مثل: أي أهجوهم هجاء يرى عليهم ويشتهرون به كما يشتهر به صاحب هذا اللباس. انظر ديوان أوس / 123وفيه: «خبر بز» بدل «برد برد».
(4) البيت للنابغة الجعدي وهو في شعره ص 81من قصيدة. والبحر المحيط 5/ 543ونسبه للأعشى وانظر مجاز القرآن 1/ 67.
} {لهن} [البقرة / 187] ولذلك سمى المرأة إزارا في قوله:(5/81)
__________
(4) البيت للنابغة الجعدي وهو في شعره ص 81من قصيدة. والبحر المحيط 5/ 543ونسبه للأعشى وانظر مجاز القرآن 1/ 67.
{لهن} [البقرة / 187] ولذلك سمى المرأة إزارا في قوله:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري (1)
فسمّى المرأة إزارا، كما جاء {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} فالجر على لباس الجوع ولباس الخوف، جعل مسّ كلّ واحد منهما لأصحابهما كمس الآخر لهم، وجعل للجوع لباسا كما جعله للخوف. ويقوّي الجر في الخوف أنّ في حرف أبيّ لباس الخوف والجوع فقد جعل للخوف لباسا، كما جعله للجوع.
وأما ما روي من نصب الخوف عن أبي عمرو فإنه حمله على الإذاقة، والخوف لا يذاق في الحقيقة، فإذا لم يذق على الحقيقة كان حمله على اللباس أولى، لأن اللباس أقرب إليه من الإذاقة، فحمله على الأقرب أولى، وليكونا محمولين على عامل واحد، كما كان في قوله: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} [البقرة / 155] الحمل على عامل واحد.
(1) البيت لجعدة بن عبد الله السلمي من قصيدة أرسلها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشير فيها إلى حال وال كان على مدينتهم. فدى لك: أي أهلي ونفسي انظر اللسان (أزر).(5/82)
ذكر اختلافهم في بني إسرائيل
الاسراء: 2
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عز وجل: {ألا تتخذوا من دوني وكيلا}.
فقرأ أبو عمرو وحده: (ألّا يتّخذوا) بالياء.
وقرأ الباقون: {ألا تتخذوا} بالتاء (1).
قال أبو علي: وجه قول من قرأ بالياء، أن المتقدم ذكرهم على لغة الغيبة فالمعنى: هديناهم أن لا يتخذوا من دوني وكيلا.
ومن قرأ بالتاء فهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغيبة مثل قوله: {الحمد لله} ثم قال: {إياك نعبد} [الفاتحة / 5]، والضمير في {تتخذوا} وإن كان على لغة الخطاب فإنّما يعني به الغيب في المعنى، ومن زعم أنّ (أن لا يتّخذوا من دوني) على إضمار القول، كأنّه يراد به: قال: أن لا تتخذوا، لم يكن قوله هذا متّجها، وذلك أن القول لا يخلو من أن يقع بعد جملة تحكى، أو معنى جملة يعمل في لفظه القول، فالأول كقوله: قال زيد: عمرو منطلق، فموضع الجملة نصب
__________
(1) السبعة 378.(5/83)
بالقول، والآخر: يجوز أن يقول القائل: لا إله إلا الله، فتقول: قلت حقّا، أو يقول: الثلج حار، فتقول: قلت باطلا، فهذا معنى ما قاله، وليس نفس المقول، وقوله: (أن لا تتخذوا) خارج من هذين الوجهين، ألا ترى أن {ألا تتخذوا} ليس هو بمعنى القول، كما أن قولك حقّا، إذا سمعت كلمة الإخلاص: معنى القول، وليس قوله:
(أن لا تتّخذوا) بجملة، فيكون كقولك: قال زيد: عمرو منطلق.
ويجوز أن تكون (أن) بمعنى: أي التي بمعنى التفسير، وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب كما انصرف منها إلى الخطاب في قوله: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} [ص / 6] والأمر، وكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله: (أن لا تتخذوا)، وكذلك قوله:
{أن اعبدوا الله ربي} [المائدة / 117] في وقوع الأمر بعد الخطاب، ويجوز أن يضمر القول ويحمل {تتخذوا} على القول المضمر إذا جعلت (أن) زائدة، فيكون التقدير: وجعلناه هدى لبني إسرائيل، فقلنا: لا تتخذوا من دوني وكيلا.
فيجوز إذن في قوله: (أن لا تتخذوا) ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون أن الناصبة للفعل، فيكون المعنى: وجعلناه هدى كراهة أن تتخذوا من دوني وكيلا، أو لأن لا يتخذوا من دوني وكيلا.
والآخر: أن تكون بمعنى (أي)، لأنه بعد كلام ناه، فيكون التقدير: أي لا تتخذوا.
والثالث: أن تكون (أن) زائدة وتضمر القول.
فأمّا قوله: {ذرية من حملنا}، [الإسراء / 3] فيجوز أن يكون
مفعول الاتخاذ، لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين، كقوله: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء / 125]. وقوله: {اتخذوا أيمانهم جنة}
[المجادلة / 16] فأفرد الوكيل وهو في معنى الجمع، لأن فعيلا يكون مفرد اللفظ والمعنى على الجمع، نحو قوله: {وحسن أولئك رفيقا}
[النساء / 69]. فإذا حمل على هذا كان مفعولا ثانيا في قول من قرأ بالتاء، والياء.(5/84)
فأمّا قوله: {ذرية من حملنا}، [الإسراء / 3] فيجوز أن يكون
مفعول الاتخاذ، لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين، كقوله: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء / 125]. وقوله: {اتخذوا أيمانهم جنة}
[المجادلة / 16] فأفرد الوكيل وهو في معنى الجمع، لأن فعيلا يكون مفرد اللفظ والمعنى على الجمع، نحو قوله: {وحسن أولئك رفيقا}
[النساء / 69]. فإذا حمل على هذا كان مفعولا ثانيا في قول من قرأ بالتاء، والياء.
ويجوز أن يكون نداء وذلك على قول من قرأ بالتاء: ألا تتخذوا يا ذرية، ولا يسهل أن يكون نداء على قول من قرأ بالياء، لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب، ولو رفع الذرية على البدل من الضمير في قوله: {أن لا تتخذوا} كان جائزا، وقد ذكر أنها قراءة. ولو رفع على البدل من الضمير المرفوع كان جائزا، ويكون التقدير: أن لا تتّخذ ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا، ولو جعله بدلا من قوله {بنى إسرائيل} جاز، وكان التقدير: وجعلناه هدى لذرية من حملنا مع نوح.
الاسراء: 7
اختلفوا في قوله: {ليسوءوا وجوهكم} [7].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وحفص عن عاصم:
{ليسوءوا} بالياء جماع، همزة بين واوين.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة: (ليسوء) على واحد بالياء.
وقرأ الكسائي: (لنسوء) بالنون (1).
قال أبو علي: قوله: {لتفسدن في الأرض مرتين} [الإسراء / 4] المعنى: فإذا جاء وعد الآخرة، أي: المرّة الآخرة من قوله: {لتفسدن
__________
(1) السبعة 378.
} {في الأرض مرتين} بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، فحذف بعثناهم، لأن ذكره قد تقدم، ولأنه جواب إذا وشرطها تقتضيه، فحذف للدّلالة عليه.(5/85)
__________
(1) السبعة 378.
{في الأرض مرتين} بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، فحذف بعثناهم، لأن ذكره قد تقدم، ولأنه جواب إذا وشرطها تقتضيه، فحذف للدّلالة عليه.
فأما {ليسوءوا} فقال أبو زيد: سؤته مساءة، ومسائية، وسواية.
وقال: {وجوهكم} على أنّ الوجوه مفعول به لسؤت، وعدي إلى الوجوه لأن الوجوه قد يراد بها ذوو الوجوه، كقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص / 88] وقال: {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة}
[عبس / 38، 39] وقال: {وجوه يومئذ ناضرة} [القيامة / 22] و {وجوه يومئذ باسرة} [القيامة / 24]. وقال النابغة:
أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع (1).
وكأنّ الوجوه إنما خصّت بذلك لأنها تدلّ على ما كان في ذوي الوجوه من الناس من حزن، ومسرّة، وبشارة، وكآبة.
فأما {ليسوءوا} فالحجة له أنه أشبه بما قبله وما بعده، ألا ترى أن الذي يراد قبله: بعثناهم، وبعده: ليدخلوا المسجد، وهو بيت المقدس، والمبعوثون في الحقيقة هم الذين يسوءونهم بقتلهم إياهم وأسرهم لهم، فهو وفق المعنى.
فأما وجه قول من قرأ: (ليسوء وجوهكم): بالياء، ففاعل ليسوء يجوز أن يكون أحد شيئين:
أحدهما: أن يكون اسم الله عز وجل لأن الذي تقدّم: {بعثنا}، و {رددنا لكم} و {أمددناكم بأموال}.
(1) انظر ديوانه ص 50والكتاب 1/ 252وابن الشجري 1/ 344، والخزانة 1/ 426.(5/86)
والآخر: أن يكون البعث دل عليه: بعثنا المتقدم كقوله: {لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم} [آل عمران / 180]، أي: البخل.
ومن قرأ (لنسوء) بالنون كان في المعنى كقول من قدر أن الفاعل ما تقدم من اسم الله، وجاز أن تنسب المساءة إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كانت من الذين جاسوا خلال الديار في الحقيقة لأنهم فعلوا المساءة بقوة الله عز وجل وتمكينه لهم، فجاز أن ينسب إليه كما: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال / 17].
الاسراء: 13
اختلفوا في قوله عز وجل: {كتابا يلقاه منشورا} [13].
فقرأ ابن عامر وحده: (كتابا يلقاه) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف.
وقرأ الباقون: {يلقاه} بفتح الياء وتسكين اللام وتخفيف القاف.
حمزة والكسائي: يميلان القاف (1).
من قرأ (يخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) فالمعنى: يخرج طائره له كتابا يلقاه منشورا، وهي قراءة الحسن ومجاهد فيما زعموا.
فأما طائره فقيل فيه: حظّه، وقيل: عمله. وما قدّم من خير أو شرّ، فيكون المعنى على هذا، ويخرج عمله كتابا أي ذا كتاب ومعنى ذا كتاب: أنه مثبت في الكتاب الذي قيل فيه {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [الكهف / 49] وقوله: {أحصاه الله ونسوه} [المجادلة / 6] وقال: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} [يونس / 30] وقوله: {هاؤم اقرؤوا كتابيه} [الحاقة / 19].
__________
(1) السبعة 378(5/87)
وإنما قيل لعمله طائر، وطير في بعض القراءة على حسب تعارف العرب لذلك في نحو قولهم: جرى طائره بكذا. ومثل هذا في ياسين: {قالوا طائركم معكم} [19] وفي الأعراف: {إنما طائرهم عند الله} [131]. وروينا عن أحمد بن يحيى عن أبي المنهال المهلبي قال: حدثنا أبو زيد الأنصاري: أن ما مرّ من طائر أو ظبى أو غيره فكلّ ذلك عندهم طائر، وأنشد أبو زيد لكثير في تصييرهم كل ما زجر طائرا، وإن كان ظبيا أو غيره من البهائم. فقال:
فلست بناسيها ولست بتارك إذا عرض الأدم الجواري سؤالها قال: ثم أخبر في البيت الثاني أن الذي زجره طائر فقال:
أأدرك من أم الحكيم غبطة ... بها خبّرتني الطّير أم قد أتى لها (1)
وأنشد لزهير في ذلك:
فلمّا أن تفرق آل ليلى ... جرت بيني وبينهم ظباء
جرت سنحا فقلت لها مروعا ... نوى مشمولة فمتى اللقاء (1)
قال أبو زيد: فقولهم: سألت الطير، وقلت للطير: إنما هو:
__________
(1) انظر ديوان زهير / 59. وفيه «تحمل أهل» بدل «تفرق آل» و «الظباء» بدل «ظباء» و «أجيزي» بدل «مروعا».(5/88)
زجرتها، وقولهم: خبرتني الظباء والطير بكذا: إنما هو وقع زجري عليها على كذا وكذا من خير وشرّ، ويقوّى ما ذكره أبو زيد قول الكميت:
ولا أنا ممّن يزجر الطير همّه ... أصاح غراب أم تعرّض ثعلب (1)
وأنشد لحسان بن ثابت:
ذريني وعلمي بالأمور وسيرتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا (2)
أي: رأيي ليس بمشئوم، وأنشد لكثير:
أقول إذا ما الطير مرّت مخيلة ... لعلّك يوما فانتظر أن تنالها
مخيلة: مكروهة. وهو من الأخيل.
فأمّا قوله {في عنقه} [الإسراء / 13] فمعناه والله أعلم: لزوم ذلك له وتعلّقه به، وهذا مثل قولهم: طوقتك كذا، وقلّدتك كذا، أي صرفته نحوك، وألزمته إياك. ومنه: قلده السلطان كذا، أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة، ومكان الطوق، قال الأعشى:
قلّدتك الشّعر يا سلامة ذا ال ... إفضال والشّعر حيث ما جعلا (3)
__________
(1) البيت من قصيدة للكميت من هاشمياته.
انظر شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 32، والخزانة 2/ 207.
(2) انظر ديوانه 1/ 44، وفيه: «وشيمتي» بدل «وسيرتي» واللسان (خيل).
(3) ديوانه / 235وفيه: «التفاضل» بدل «الإفضال» و «والشيء» بدل «والشعر».(5/89)
وقال أوس بن حجر:
تجول وفي الأعناق منها خزاية ... أوابدها تهوي إلى كلّ موسم (1)
وقال الهذليّ:
فليست كعهد الدار يا أمّ خالد ... ولكن أحاطت بالرّقاب السلاسل (2)
وأنشد الأصمعيّ:
إنّ لي حاجة إليك فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد
ومن قرأ: {ونخرج له يوم القيامة كتابا}، وهو قراءة الجمهور، فالكتاب ينتصب بأنه مفعول به كقوله: {هاؤم اقرؤوا كتابيه}
[الحاقة / 19] وقوله: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}
[الإسراء / 14]، {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} [الجاثية / 29].
فأما قوله: {يلقاه منشورا} فيدلّ عليه قوله: {وإذا الصحف نشرت} [التكوير / 10]. فأما من قرأ: (يلقاه) فهو من قولك: لقيت الكتاب، فإذا ضعفت قلت: لقانيه زيد، فيتعدى الفعل بتضعيف العين إلى مفعولين بعد ما كان يتعدّى بغير التضعيف إلى مفعول واحد. فإذا
__________
(1) ديوانه / 123، وفيه: «يخيل في» بدل «تجول»، و «منا» بدل «منها».
ويقصد: القصائد السائرة التي تنشد في المواسم وتكون خزاية في أعناق المهجوين.
(2) شرح أشعار الهذليين 3/ 1223ورواية صدره: «فليس كعهد الدار يا أمّ مالك» وأراد: الإسلام أحاط برقابنا فلا نستطيع أن نعمل شيئا.(5/90)
بني الفعل للمفعول به نقص مفعول من المفعولين، لأن أحدهما يقوم مقام الفاعل في إسناده فيبقى متعديا إلى مفعول واحد، وعلى هذا قوله: {ويلقون فيها تحية وسلاما} [الفرقان / 75] وفي البناء للفاعل:
{ولقاهم نضرة وسرورا} [الإنسان / 11].
وإمالة حمزة والكسائي القاف حسنة وتركها حسن.
الاسراء: 16
قال: ولم يختلفوا في قوله: {أمرنا مترفيها} [16] أنها خفيفة الميم، إلا ما روى خارجة عن نافع: (آمرنا) ممدودة مثل: {آمنا}، حدّثني موسى بن إسحاق القاضي قال: حدثنا هارون بن حاتم، قال:
حدّثنا أبو العباس ختن ليث قال: سمعت أبا عمرو يقرأ: (أمرنا مترفيها)، مشدّدة الميم.
وروى نصر بن عليّ عن أبيه عن حماد بن سلمة، قال سمعت ابن كثير يقرأ: (آمرنا) ممدودا (1).
قال أبو عبيدة: (أمّرنا) (2) أي: أكثرنا، يقال: أمر بنو فلان، إذا كثروا، وأنشد للبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوما يصيروا للقلّ والنّفد (3)
قال: وقال بعضهم أمرنا [مثل أخذنا وهي] في معنى: أكثرنا،
__________
(1) السبعة 379.
(2) في «مجاز القرآن»: (آمرنا) وهما سواء كما سيذكر المصنّف.
(3) ديوانه 160 (ط الكويت) من قصيدة وفيه: «للهلك» بدل «للقل».
وهي كذلك في مجاز القرآن. و «النكد» بدل «النفد».
قال شارحه: إن غبطوا يوما فإنهم يموتون، ويهبطوا هاهنا: يموتون.(5/91)
قال: وزعم يونس أن أبا عمرو قال: لا يكون في هذا المعنى أمرنا، قال أبو عبيدة: وقد وجدنا تثبيتا لهذه اللغة:
«سكّة مأبورة، ومهرة مأمورة»
(1). أي: كثيرة الولد. قال: وقال قوم: أمرنا: من الأمر والنهي (2).
قال أبو علي: لا يخلو قوله: {أمرنا} فيمن خفّف العين، من أن يكون فعلنا من الأمر، أو من: أمر القوم، وأمرتهم، مثل شترت عينه، وشترتها، ورجع ورجعته، وسار وسرته. فمن لم ير أن يكون {أمرنا}
من أمر القوم، إذا كثروا، كأبي عمرو، فإنّ يونس حكى ذلك عنه، فإنّه ينبغي أن يجعل أمرنا من الأمر الذي هو خلاف النهي، ويكون المعنى أمرناهم بالطاعة فعصوا، وفسقوا. ومن قال: (آمرنا مترفيها) فإنه يكون: أفعلنا، من أمر القوم، إذا كثروا، وآمرهم الله، أي:
أكثرهم. وذلك إن ضاعف فقال: أمّرنا، ونظير ذلك قولهم: سارت الدابة وسيّرتها، وسرتها، وفي التنزيل: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} [يونس / 22]. وقال لبيد:
لسيّان حرب أو تبوءوا بخزية ... وقد يقبل الضّيم الذليل المسيّر (3)
وكما عدّي بتضعيف العين، كذلك يعدّى بالنقل بالهمز، فيكون آمرنا. وزعم الجرميّ أن آمرنا أكثر في اللغة، ومثل أمر وأمرته، سلك وسلكته، وفي التنزيل: {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين}
__________
(1) وهو من حديث سويد بن هبيرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رواه أحمد في مسنده 3/ 468.
(2) مجاز القرآن 1/ 373وما بين معقوفين منه.
(3) ديوانه 226 (ط الكويت) وفيه: «لشتّان» بدل «لسيّان».(5/92)
[الحجر / 12] و {ما سلككم في سقر} [المدثر / 42] وقال:
حتّى إذا سلكوهم في قتائدة (1)
ويقوّي حمل {أمرنا} على النقل من أمر، وإن لا يجعل من الأمر الذي هو خلاف النهي، لأن الأمر بالطاعة على هذا يكون مقصورا على المترفين، وقد أمر الله بطاعته جميع خلقه، من مترف وغيره، ويحمل أمرنا على أنه مثل: آمرنا. ونظير هذا كثر وأكثره الله وكثره، ولا يحمل أمرنا على المعنى: جعلناهم أمراء، لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة عدّة أمراء، فإن قلت: يكون منهم الواحد بعد الواحد، فإنهم إذا كانوا كذلك لا يكثرون في حال، وإنما يهلك الله لكثرة المعاصي في الأرض، وعلى هذا جاء الأمر في التنزيل في قوله: {يا عباد الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياى فاعبدون} [العنكبوت / 56] فأمرهم بالهجرة من الأرض التي تكثر فيها المعاصي إلى ما كان بخلاف هذه الصفة.
ومما جاء فيه أمر بمعنى الكثرة قول زهير:
والإثم من شرّ ما يصال به ... والبرّ كالغيث نبته أمر (2)
فقوله: أمر: اسم الفاعل من أمر يأمر، وزعموا أن في حرف أبيّ (بعثنا فيها أكابر مجرميها) (3) فهذا يقوي معنى الكثرة.
__________
(1) هذا صدر بيت لعبد مناف بن ربع الهذلي عجزة:
شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا انظر شرح أشعار الهذليين 2/ 675واللسان (قتد) و (سلك). وجاءت روايته فيها: «أسلكوهم» بدل «سلكوهم». وقتائدة: مكان. والشل: الطرد، والجمالة: أصحاب الجمال.
(2) البيت في ديوان / 315، ما يصال به: ما يفتخر به.
(3) نص الآية في غير ما زعموه في الأنعام / 123: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها.(5/93)
الاسراء: 23
اختلفوا في فتح الفاء وكسرها من قوله: {فلا تقل لهما أف}
والتنوين [23].
فقرأ ابن كثير، وابن عامر (أفّ ولا) بفتح الفاء.
وقرأ نافع: {أف ولا} بالتنوين، وكذلك في الأنبياء [67] والأحقاف [17] حفص عن عاصم مثله.
وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي (أفّ) خفضا بغير تنوين (1).
قول ابن كثير: (أفّ ولا) الفاء فيه مبني على الفتح، لأنه وإن كان في الأصل مصدرا في قولهم: أفة وتفة، يراد بها: نتنا وذفرا، قد سمّي الفعل به فبني، وهذا في البناء على الفتح كقولهم: «سرعان ذي إهالة» (2) كما صار اسما لسرع، وكذلك أفّ، لما كان اسما لأتكره وأتفجّر ونحو ذلك، ومثل سرعان قولهم: وشكان ذلك، وأنشد أبو زيد:
لو شكان لو غنيتم وشمتم ... بإخوانكم والعزّ لم يتجمّع (3)
ومثل ذلك قولهم: رويد، في أنه سمّي به الفعل فبني ولم يلحق
__________
(1) السبعة 379.
(2) هذا مثل وأصله أن رجلا كان يحمق، اشترى شاة عجفاء يسيل رغامها هزالا وسوء حال، فظن أنه ودك، فقال: سرعان ذا إهالة. انظر اللسان (سرع) والأمثال لابن سلام 305.
(3) هذا البيت للحناك (أو الحبال) وهو أخو بني أبي بكر الكلابي جاهلي. كما في النوادر (ط. الفاتح) ص 284وفيه: «والغرّ لم يتجمعوا» وهو عند الآمدي في المؤتلف والمختلف 118، واللسان (وشك) مع اختلاف في الرواية. وفي النوادر عن أبي الحسن: الثبت عندي أن العرب تقول:
لو شكان ولو شكان بالضم والفتح(5/94)
التنوين، إلا أن هذا في الأمر والنهي، وأفّ في الخبر. وقال:
رويد عليّا جدّ ما ثدي أمّهم ... إلينا ولكن بغضهم متماين (1)
وقول نافع: {أف ولا} فإنه في البناء على الكسر مع التنوين مثل (أفّ) في البناء على الفتح، إلا أنه بدخول التنوين دل على التنكير مثل إيه، وصه، ومثله قولهم: فداء لك، فبنوه على الكسر وإن كان في الأصل مصدرا، كما كان أفة في الأصل كذلك، ومن قال: أفّ، ولم ينون جعله معرفة فلم ينوّن، كما أن من قال: صه وغاق (2) فلم ينوّن أراد به المعرفة، فإن قلت: ما موضع أفّ في هذه اللغات بعد القول، هل يكون موضعه نصبا كما ينتصب المفرد بعده، أو كما تكون الجمل فالقول إن موضعه موضع الجمل، كما أنك لو قلت: رويد، لكان موضعه موضع الجمل، وكذلك لو قلت: فدا.
قال أبو الحسن: وقول الذين قالوا: أفّ أكثر وأجود، ولو جاء أفّ لك، وأفّا لك، لاحتمل أمرين: أحدهما أن يكون الذي صار اسما للفعل، لحقه التنوين لعلامة التنكير. والآخر: أن يكون نصبا معربا، وكذلك الضم، فإن لم يكن معه لك كان ضعيفا، ألا ترى أنك لا تقول: ويل حتى توصل به: لك، فيكون في موضع الخبر.
__________
(1) البيت للمعطل الهذلي انظر شرح أشعار الهذليين 1/ 447والمقتضب 3/ 208، 278وفيه: ودّهم بدل بغضهم، وسيبويه 1/ 124واللسان (جدد)
(بين) والأشموني 3/ 202. والمين: الكذب. والمعنى: أمهلهم حتى يئوبوا إلينا ويرجعوا عماهم عليه من قطيعتهم وبغضهم، فقطيعتهم لنا على غير أصل وبغضهم إيانا لا حقيقة له. انظر شرح الأعلم 1/ 124.
(2) غاق: حكاية صوت الغراب فإن نكرته نونته، ثم سمي الغراب غاقا، فيقال:
سمعت صوت الغاق. انظر اللسان (غوق).(5/95)
الاسراء: 23
اختلفوا في التوحيد والتثنية من قوله عز وجل: {إما يبلغن عندك} [الإسراء / 23].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: (إمّا يبلغن عندك) على واحد. وقرأ حمزة والكسائي: (يبلغان) (1).
قال أبو علي: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما) مرتفع بالفعل وقوله: {أو كلاهما} معطوف عليه. والذكر الذي عاد من قوله (أحدهما) يغني عن إثبات علامة الضمير في (يبلغان) فلا وجه لمن قال: إن الوجه ثبات الألف لتقديم ذكر الوالدين. ووجه ذلك أنه على الشيء الذي يذكر على وجه التوكيد، ولو لم يذكر لم يقع بترك ذكره إخلال نحو قوله: {أموات غير أحياء} [النحل / 21] وقوله: {غير أحياء}
توكيد، لأن قوله {أموات} قد دلّ عليه.
الاسراء: 31
اختلفوا في قوله جل وعز: {خطئا كبيرا} [31].
فقرأ ابن كثير: (خطاءا كبيرا)، مكسورة الخاء، ممدودة مهموزة وقرأ ابن عامر: (خطأ) بنصب الخاء. والطاء وبالهمز من غير مدّ.
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: {خطأ}
مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموز مقصور.
وروى عبيد عن شبل عن ابن كثير {خطأ} مثل أبي عمرو (2).
قول ابن كثير: (خطاءا كبيرا)، يجوز أن يكون مصدر خاطأ،
__________
(1) السبعة 379.
(2) السبعة 379، 380.(5/96)
وإن لم يسمع خاطأ، ولكن قد جاء ما يدل عليه. وذلك أن أبا عبيدة أنشد:
تخاطأت النّبل أحشاءه (1)
وأنشد محمد بن السّري في وصف كمأة:
وأشعث قد ناولته أحرش القرى أربّت عليه المدجنات الهواضب (2)
تخاطأه القعّاص حتى وجدته وخرطومه (3) في منقع الماء راسب فتخاطأت يدلّ على خاطأ لأن تفاعل مطاوع فاعل كما أن تفعل مطاوع فعل.
وقول ابن عامر: (خطأ) فإن الخطأ ما لم يتعمّد، وما كان المأثم فيه موضوعا عن فاعله، وقد قالوا: أخطأ في معنى خطئ، كما أن خطئ في معنى أخطأ، وقال:
عبادك يخطئون وأنت ربّ ... كريم لا تليق بك الذموم (4)
ففحوى الكلام أنهم خاطئون، وفي التنزيل: {لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة / 286] فالمؤاخذة عن المخطئ موضوع، فهذا
__________
(1) سبق في ص 300.
(2) أحرش القرى: في ظهره أثر. والقعاص: من القعص وهو القتل المعجل.
الهواضب: الممطرة.
(3) في الأصل: خرطوموه.
(4) ورد في التهذيب (خطئ) 7/ 498واللسان (خطأ) بدون عز وجل وفيهما «يخطئون» بدل «يخطئون».(5/97)
يدلّ على أن أخطأنا في معنى خطئنا، وكما جاء أخطأ في معنى خطئ، كذلك جاء خطئ في معنى أخطأ في قوله:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا (1)
وفي قول الآخر:
والناس يحلون الأمير إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (2)
أي: أخطئوه. فكذلك قول ابن عامر: خطأ في معنى خطئا جاء الخطأ في معنى الخطء، كما جاء خطئ في معنى الخطأ.
ووجه قول من قرأ: {خطأ} بيّن، يقال: خطئ يخطأ خطئا: إذا تعمد الشيء، حكاه الأصمعى، والفاعل منه خاطئ، وقد جاء الوعيد فيه في قوله عز وجل: {لا يأكله إلا الخاطئون} [الحاقة / 37] ويجوز في قول ابن عامر أن يكون الخطأ لغة في الخطء. مثل: المثل والمثل، والشّبه والشّبه، والبدل والبدل. وقال أبو الحسن: هذا خطاء من رأيك. فيمكن أن يكون خطاء لغة فيه أيضا.
الاسراء: 33
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: (فلا تسرف في القتل) [33].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم: {فلا يسرف} بالياء جزما.
__________
(1) سبق انظر 2/ 115.
(2) سبق انظر 2/ 116وانظر معاني القرآن للأخفش 2/ 389.(5/98)
وقرأ حمزة وابن عامر والكسائي بالتاء جزما (1).
قوله: {فلا يسرف في القتل}: فاعل يسرف يجوز أن يكون أحد شيئين:
أحدهما: أن يكون القاتل الأول فيكون التقدير: فلا يسرف القاتل في القتل، وجاز أن يضمر، وإن لم يجر له ذكر، لأن الحال يدل عليه. فإن قلت: أمر بأن لا يسرف في القتل، والإسراف: مجاوزة الاقتصاد، بدلالة قوله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} [الفرقان / 67] أي: كان قصدا بين السرف وأن يقتر، ولا يكون في القتل قصد بين شيئين كما كان ذلك في الإنفاق، قيل: لا يمتنع أن يكون فيه الإسراف كما جاء في أموال اليتامى: {ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا} [النساء / 6] ولم يجز أن يأكل منه على الاقتصاد ولا على غيره. لقوله {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء / 10] وقال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء / 34] فحظر كل مال اليتيم حظرا عاما على جميع الوجوه، فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الأول: لا تسرف في القتل، لأنه يكون لقتله مسرفا، ويدلّ على جواز وقوع الإسراف عليه قوله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم}
[الزمر / 53] والقاتل يدخل في هذا في قوله: {إنه كان منصورا}، لقوله: {ومن قتل مظلوما} تقديره: فلا يسرف القاتل المبتدئ في القتل، لأنّ من قتل مظلوما كان منصورا كأن يقتصّ له وليّه أو السلطان إن لم يكن له وليّ
__________
(1) السبعة 380.(5/99)
غيره، ليكون هذا ردعا للقاتل عن القتل. كما أن قوله: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة / 179] كذلك، فالوليّ إذا اقتصّ فإنما يقتصّ للمقتول، ومنه انتقل إلى الوليّ بدلالة أن المقتول لو أنّه أبرأ من السبب المؤدّى إلى القتل لم يكن للولي أن يقتص، ولو صالح الوليّ من العمد على مال، كان للمقتول أن يؤدّي منه ديته (1)، ولا يمتنع أن يقال في المقتول: منصور، لأنّه قد جاء: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} [الأنبياء / 77].
والآخر: أن يكون في (يسرف) ضمير الولي فلا يسرف الولي في القتل، وإسرافه فيه: أن يقتل غير من قتل، أو يقتل أكثر من قاتل وليه، وكان مشركوا العرب يفعلون ذلك، والتقدير: فلا يسرف الوليّ في القتل، إن الولي كان منصورا بقتل قاتل وليّه، والاقتصاص من القاتل.
ومن قرأ: (فلا تسرف) بالتاء، احتمل أيضا وجهين:
أحدهما: أن يكون المبتدئ القاتل ظلما، فقيل له: لا تسرف أيها الإنسان فتقتل ظلما من ليس لك قتله، إن من قتل ظلما كان منصورا بأخذ القصاص له.
والآخر: أن يكون الخطاب للوليّ فيكون التقدير: لا تسرف في القتل أيها الوليّ، فتعدّى قاتل وليّك إلى من لم يقتله، إن المقتول ظلما كان منصورا، وكلّ واحد من المقتول ظلما. ومن وليّ المقتول قد تقدّم ذكره في قوله: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا}
[الإسراء / 33].
__________
(1) في الأصل: دينه.(5/100)
الاسراء: 35
اختلفوا في ضم القاف وكسرها من قوله عز وجل:
{بالقسطاس} [الإسراء / 35].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: (بالقسطاس) بضم القاف. وفي الشعراء [182] مثله.
حفص عن عاصم {بالقسطاس} كسرا.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر القاف فيهما جميعا (1).
قال: القسطاس والقسطاس لغتان، ومثله القرطاس والقرطاس.
قال أبو الحسن: الضمّ في القسطاس أكثر. وهذا كقوله: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} [الرحمن / 9]، وكقوله: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}
[المطففين / 2، 3] وكقوله: {ولا تنقصوا المكيال والميزان} [هود / 84] والوعيد في البخس في المكيال والميزان إنما يلحق من نقص أو بخس ما يتقارب بين الكيلين والوزنين، فأمّا ما لا يتقارب من الزيادة والنقصان بينهما فهو إن شاء الله موضوع، لأن ذلك لا يخلو الناس منه، فليس عليهم إلا الاجتهاد في الإيفاء. وكذلك جاء في الأنعام لما ذكرهما {لا نكلف نفسا إلا وسعها} [الأنعام / 152] إنما عليه الاجتهاد في تحرّيه الإيفاء وقصده له، وأما ما لا يضبط فموضوع عنه، لأنه لم يكلّف في ذلك إلا الوسع.
الاسراء: 31
اختلفوا في الإضافة والتنوين من قوله: {كان سيئه عند ربك}
[الإسراء / 38].
__________
(1) السبعة 380.(5/101)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (سيّئة) غير مضاف مؤنثا.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {سيئه} مضافا مذكّرا (1).
زعموا أن الحسن قرأ: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها}
[الإسراء / 38] وقال: قد ذكر أمورا قبل منها حسن ومنها سيّئ، فقال:
{كل ذلك كان سيئه} لأن فيما ذكر الحسن والسّيّئ من المذكور المكروه، ويقوّي ذلك قوله: {مكروها} التذكير فيه، ولو كان (سيّئه) غير مضاف لزم أن يكون مكروهة، فإن قيل: إن التأنيث غير حقيقي، ولا يمتنع أن يذكّر، قيل: تذكير هذا لا يحسن، وإن لم يكن حقيقيا لأن المؤنث قد تقدّم ذكره، ألا ترى أن قوله:
ولا أرض أبقل إبقالها (2)
مستقيم عندهم ولو قال: أبقل أرض، لم يستقبح، فليس ما تقدّم ذكره مما أريت بمنزلة ما لم يتقدّم ذكره، لأن المتقدم الذكر ينبغي أن يكون الراجع وفقه، كما يكون وفقه في التثنية والجمع، فإذا لم يتقدّم له ذكر لم يلزم أن يراعى هذا الذي روعي في المتقدم ذكره.
وجه من قال: (كل ذلك كان سيئه) أنه يشبه أن يكون لما رأى الكلام انقطع عند قوله {ذلك خير وأحسن تأويلا} [الإسراء / 35] وكان الذي بعد من قوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [36] أمرا حسنا فيه. كما كان بعد قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [23] إلى
__________
(1) السبعة 380.
(2) سبق في 4/ 238. وانظر الأشموني 2/ 53.(5/102)
قوله: {ولن تبلغ الجبال طولا} [37] منه حسن ومنه سيّئ، قال:
(كل ذلك كان سيئة)، فأفرد ولم يضف.
فإن قلت: فكيف ذكر المؤنث في قوله: {مكروها} فإنه يجوز أن لا يجعله صفة لسيئة، فيلزم أن يكون له فيه ذكر، ولكن يجعله بدلا، ولا يلزم أن يكون في البدل ذكر المبدل منه كما وجب ذلك في الصفة ويجوز أن يكون قوله: {مكروها} حالا من الذكر الذي في قوله: {عند ربك} على أن يجعل {عند ربك مكروها} صفة للنكرة سيئة.
والسيئة والحسنة قد جاءتا في التنزيل على ضربين: أحدهما مأخوذ بها، وحسنة مثاب عليها، كقوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} [الأنعام / 160] وتكون الحسنة والسيئة لما يستثقل في الطباع أو يستخفّ نحو قوله: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه}
[الأعراف / 131] وكقوله: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا}
[الأعراف / 95] فهذا على الخصب والجدب، وكذلك الفساد قد يكون فسادا معاقبا عليه كقوله: {ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص / 77] ويكون على ذلك: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} [الروم / 41] فهذا على الجدب، والبحر: الريف (1) قال:
حسبت فيه تاجرا بصريّا ... نشر من ملائه البحريّا (2)
__________
(1) انظر تفسير الطبري 21/ 49وتفصيل ذلك فيه.
(2) رجز في إيضاح الشعر 496للمصنّف. وهو مما أنشده الأصمعي، قال فيه:
أراد بالبحري: الريفيّ. وفي تهذيب اللغة (بحر) 5/ 41: البيت الأول، برواية: «كأن» بدل «حسبت».(5/103)
وكذلك السوء كقوله: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين}
[النحل / 27] وقوله: {تخرج بيضاء من غير سوء} [طه / 22] ومن الجدب والخصب قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} فقوله: {فمن نفسك} اي: عقوبة معجلة، كما أنّ قوله: {بما كسبت أيدي الناس} كذلك.
الاسراء: 41
اختلفوا في تشديد الذال وتخفيفها من قوله جل وعز:
{ليذكروا} [الإسراء / 41].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {ليذكروا}
مشدّدا، وكذلك في الفرقان [50].
وقرأ حمزة والكسائي (ليذكروا) وكذلك في الفرقان بالتخفيف (1).
{ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا} أي: صرّفنا القول فيه كما قال: {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} [القصص / 51] فهذا حجة من قال: {ليذكروا}، فالتّذكر هنا أشبه من الذكر، لأنه كأنه يراد به التدبّر، وليس التذكّر الذي بعد نسيان، ولكن كما قال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص / 29]، فإنّما المعنى: ليتدبروه بعقولهم، وليس المراد ليتذكروه بعد نسيانهم.
ووجه التخفيف أن التخفيف قد جاء في هذا المعنى، قال:
{خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه} [البقرة / 63] فهذا ليس على: لا تنسوا، ولكن تدبروه يقوي ذلك: {خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة / 93]
__________
(1) السبعة 380.(5/104)
ففي هذا بعث على البصر فيه والتدبر له، والأوّل لهذا المعنى ألزم به وأخصّ.
فأمّا قوله: {واذكروه كما هداكم} [البقرة / 198] فيراد به الذكر باللسان، لأن ضروب الذكر من التلبية وغيرها مندوب إليها، وكذلك قوله: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} [البقرة / 200] وكذلك ما في القرآن من قوله: {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا}
[الفرقان / 50] أي: ليدبروا نعمة الله عليهم في سقياهم ويشكروه عليها، {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} [الفرقان / 50]. فقوله: {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} قريب من قوله: {وما يزيدهم إلا نفورا}
[الإسراء / 41] أي: ما يزيدهم تصريفنا الآيات لهم وتكريرها إلا نفورا منهم عنها. فهذا على أنهم ازدادوا كفورا عند تفصيل الآي لهم، لا لأن تصريف الآي نفّرهم، ومثل هذا قوله: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [التوبة / 125] وكقوله في الأصنام:
{رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} [إبراهيم / 36] وإنما ضلّوا هم بعبادتها لا أنها هي فعلت بهم شيئا من ذلك، ويدلّ على أنّ التذكر قد لا يكون عن النسيان قوله:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل (1)
الاسراء: 42، 43، 44
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: {آلهة كما يقولون} {عما يقولون} يسبح [الإسراء / 42، 43، 44].
__________
(1) سبق في 1/ 317.(5/105)
فقرأ ابن كثير: {آلهة كما يقولون} بالياء: {عما يقولون} (يسبح له)، ثلاثتهنّ بالياء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: (كما تقولون) بالتاء هذه وحدها، {عما يقولون} (يسبح) بالياء في هذين الموضعين.
وقرأ أبو عمرو: (آلهة كما تقولون) بالتاء {عما يقولون} بالياء، {تسبح} بالتاء.
وروى حفص عن عاصم {آلهة كما يقولون} بالياء، {سبحانه وتعالى عما يقولون} كلاهما بالياء، {تسبح} بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي: (آلهة كما تقولون) {تسبح} كلّهن بالتاء (1).
من قرأ بالياء {عما يقولون} فالمعنى: عما يقول المشركون من إثبات آلهة من دونه فهو مثل قوله: (قل للذين كفروا سيغلبون) [آل عمران / 12] لأنهم غيب.
فأما من قرأ: {سبحانه وتعالى عما يقولون}، فإنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يعطف على {يقولون} كما عطف قوله:
(يحشرون إلى جهنّم) على (سيغلبون). والآخر: أن يكون نزّه نفسه سبحانه عن دعواهم، فقال: {سبحانه وتعالى عما يقولون} وقراءة نافع وعاصم وابن عامر: (كما تقولون) على ما تقدم. وقوله: {عما يقولون}
على أنه نزّه نفسه عن قولهم، ويجوز أن تحمله على القول، كأنه: قل أنت: سبحانه وتعالى عما يقولون.
فأما قوله: {كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} وذلك
__________
(1) السبعة 381(5/106)
أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، فقيل لهم: إن الذين عبدتموهم وجعلتموهم آلهة معه يبتغون أن يتخذوا إلى ذي العرش سبيلا بعبادتهم له وتقرّبهم إليه لها، ومثل ذلك قوله: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} [الدهر / 29] فهذا قول، وقال قوم من أهل التأويل: إنّ قوله: {إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} اتخذت سبيلا إلى مضادّته وممانعته، وزعموا أن ذلك بمنزلة قوله: {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله}
[المؤمنون / 91] وتعالى عما يقولون مما يدعونه ويفترونه من اتخاذ الولد، ومن أن يكون معه آلهة.
فأما قوله: {تسبح له السموات السبع} [الإسراء / 44] فكل واحد من الياء والتاء حسن وقد تقدم ذكر ذلك في مواضع، وزعموا أن في حرف عبد الله: (سبحت له السموات) فهذا يقوّي التأنيث هنا.
الاسراء: 49
اختلفوا في قوله عز وجل: {أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون}
[الإسراء / 49].
فقرأ ابن كثير (أيذا) يهمز، ثم يأتي بياء ساكنة من غير مدّ:
أيذا، (أينّا) مثله، وكذلك في كلّ القرآن. وكذلك روى أحمد بن صالح عن ورش وقالون عن نافع، غير أن نافعا كان لا يستفهم في أئنا، كان يجعل الثاني خبرا في كلّ القرآن.
وكذلك مذهب الكسائي غير أنه يهمز الأولى همزتين، وقد بيّنت قراءتهما، وما كانا يقولان في سورة النمل [67] والعنكبوت [28] في قوله: {أئنا لمخرجون}. وفي قوله: (أئنّكم لتأتون الفاحشة)، وشرحته في سورة الرّعد [5].
وقرأ عاصم وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعا.(5/107)
وكذلك مذهب الكسائي غير أنه يهمز الأولى همزتين، وقد بيّنت قراءتهما، وما كانا يقولان في سورة النمل [67] والعنكبوت [28] في قوله: {أئنا لمخرجون}. وفي قوله: (أئنّكم لتأتون الفاحشة)، وشرحته في سورة الرّعد [5].
وقرأ عاصم وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعا.
وكان ابن عامر يقرأ: (إذا كنّا) بغير استفهام بهمزة واحدة.
(أئنّا) بهمزتين، كان يمد بين الهمزتين مدّة، أخبرني بذلك أحمد بن محمد بن بكر عن هشام بن عمار.
وقرأ أبو عمرو: (آئذا) (آئنا) ممدودتين مهموزتين (1).
قول ابن كثير (أيذا) هو في الأصل أإذا وخفف الهمزة الثانية، وقياسها إذا خفّفت أن تجعل بين بين، بين الياء والهمزة، فقلبها ياء قلبا وأسكنها ولم يخفّفها تخفيفا قياسيا، ولكن على ما حكاه سيبويه من أن بعضهم قال: بئس وبيس، وشبه ابن كثير المنفصل بالمتصل، وعلى هذا ما جاء في الشعر في قولهم: يومئذ ويومئذ (2) ومن ألحق همزة الاستفهام (إنا) ومن لم يلحق، فموضع إذا عنده تصير بما دلّ عليه قوله: (إنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون) [الواقعة / 47، 48] لمبعوثون، لا يكون إلا كذلك، وقد تقدم تفسير هذا فيما تقدم.
الاسراء: 55
قال: قرأ حمزة وحده: داود زبورا [الإسراء / 55] مضمومة الزاي.
وقرأ الباقون {زبورا} بفتح الزاي (3).
يحتمل ضم الزاي أمرين: إما أن يكون جمع الزبور، فحذف الزيادة ثم جمع، ونظير ذلك قولهم في جمع ظريف ظروف.
وإمّا أن يكون سمّى ما أتى به داود، عليه السلام، زبرا كما
__________
(1) السبعة 382.
(2) لم أقف بعد على شاهد لما ذكره.
(3) السبعة: 382.(5/108)
سمّى القرآن كتابا، فسمّي الكتابان باسم المصدر، لأن زبرت بمنزلة كتبت، ثم جمع كأنه جعل أنحاء، ثم جعل كلّ نحو زبرا، ثم جمعه زبورا كما جمع الكتاب على كتب حيث صارت التسمية مثل عماد وعمد.
الاسراء: 62
قال: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (لئن أخرتني لأحتنكن) [الإسراء / 62] بياء في الوصل، ابن كثير يقف بياء.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف (1).
إثبات الياء حسن لأنه بفاصلة، فيحسن الحذف كما يحسن من القافية، نحو قوله:
فهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين (2)
وأما وقف ابن كثير بالياء فلأنه ليس بفاصلة، وأما من قرأ بغير ياء في وصل ولا وقف فلأنه أشبه ياء قاض من حيث كانت ياء قبلها كسرة، و {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} [هود / 105]، فحذفوها كما حذفت في هذا النحو من الأسماء والأفعال.
الاسراء: 64
قال: قرأ عاصم في رواية حفص: {بخيلك ورجلك} [64] مكسورة الجيم.
أبو بكر عن عاصم ساكنة الجيم، وكذلك قرأ الباقون (ورجلك) ساكنة الجيم (3).
__________
(1) السبعة 382.
(2) البيت للأعشى سبق انظر 3/ 219.
(3) السبعة 382.(5/109)
قال أبو علي: من أسكن فقال: (ورجلك) جعله جمع راجل، وقالوا: راجل ورجل، كما قالوا: تاجر وتجر، وراكب وركب، وصاحب وصحب، وقالوا: راجل ورجال، كما قالوا: صاحب وصاحب، وراع ورعاء، وفي التنزيل: {فرجالا أو ركبانا}
[البقرة / 239] وقال: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} [الحج / 27] وقالوا: رجلى ورجال.
فأما ما روى عن عاصم في قوله: {ورجلك}، فقال أبو زيد:
يقال: رجل رجل للراجل، ويقال: جاءنا حافيا رجلا، وأنشد أبو زيد (1):
أما أقاتل عن ديني على فرس ... ولا كذا رجلا إلّا بأصحاب
كأنه قال: أما أقاتل فارسا وراجلا، ورجل على ما حكاه أبو زيد صفة ومثله: ندس (2)، وحذر وأخر ونحوها، قد قالوا فيها: فعل وفعل، وكذلك جاء رجل كما جاء ندس.
ويجوز أن يكون فيمن أسكن الجيم أن يكون قوله: (ورجلك)، فعل الذي هو مخفّف من فعل أو فعل، مثل عضد وكتف، ويكون المضاف واحدا يعنى به الكثرة.
__________
(1) في النوادر ص 148 (ط. الفاتح) والبيت نسبه لحبيّ بن وائل، وأدرك قطري بن الفجاءة أحد بني مازن. وأنشد معه بيتا آخر. وعنده بأصحاب بفتح الهمزة: وفي شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 464: «بأصحابي».
(2) النّدس: هو الذي يبحث عن الأخبار ويكون بصيرا بها.
انظر سيبويه 3/ 630 (ط. هارون) واللسان (ندس).(5/110)
ومن أهل التأويل من يقول: إن قوله: (بخيلك ورجلك) يجوز أن يكون مثلا، كما تقول للرجل المجد في الأمر: جئت بخيلك ورجلك، وقد قيل: إن كل راكب في معصية الله فهو من خيل إبليس، وكلّ راجل في معصية الله فهو من رجالة إبليس، وفي التنزيل: {وجنود إبليس أجمعون} [الشعراء / 95] والجند يعم الفارس والراجل، فيجوز أن يكون الخيل والرّجل مثل من ذكر من جنوده.
الاسراء: 68، 69
اختلفوا في الياء والنون من قوله عز وجل: (أن نخسف بكم، أو نرسل عليكم أن نعيدكم فنرسل عليكم فنغرقكم) [الإسراء / 68، 69].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون ذلك كلّه.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ذلك كلّه بالياء (1).
من قرأ بالياء: فلأنه قد تقدم: {ضل من تدعون إلا إياه} {فلما نجاكم} [67] {أفأمنتم أن يخسف بكم}.
وأما من قرأ بالنون، فلأن هذا النحو قد يقطع بعضه من بعض وهو سهل، لأن المعنى واحد، ألا ترى أنه قد جاء: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل، ألا تتخذوا من دوني وكيلا} [الإسراء / 2، 3] فكما انتقل من الجميع إلى الإفراد لا تفاق المعنى، كذلك يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحد، وكلّ حسن، والخسف بهم نحو الخسف بمن كان قبلهم من الكفار، نحو قوم لوط وقوم فرعون.
__________
(1) السبعة 383.(5/111)
الاسراء: 72
اختلفوا في فتح الميم وكسرها من قوله جل وعز: {أعمى}، و (أعمى) [الإسراء / 72].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر، {أعمى فهو في الآخرة أعمى}
مفتوحتي الميم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: (أعمى فهو في الآخرة أعمى) بكسر الميم فيهما جميعا.
حفص عن عاصم: لا يكسرهما.
وقرأ أبو عمرو (في هذه أعمى) بكسر الميم {فهو في الآخرة أعمى} بفتحها. (1)
قال أبو علي: من قرأ {أعمى} بالفتحة غير ممالة كان قوله حسنا، لأن كثيرا من العرب لا يميلون هذه الفتحة.
ومن أمال الجميع فحسن، لأنه ينحو بالألف نحو الياء ليعلم أنها تنقلب إلى الياء، وإن كانت فاصلة أو مشبهة للفاصلة. والإمالة فيها حسنة لأن الفاصلة موضع وقف، والألف تخفى في الوقف، فإذا أمالها نحا بها نحو الياء ليكون أظهر لها وأبين. ومما يقوّي ذلك أنّ من العرب من يقلب هذه الألفات في الوقف ياءات ليكون أبين لها، فيقول:
أفعي، وحبلى، ومنهم من يقول: أفعو، وهم كأنّهم أحرص على البيان من الأولين من حيث كانت الواو أظهر من الياء، والياء أخفى منها من حيث كانت أقرب إلى الألف من الواو إليها.
وأما قراءة أبي عمرو: (أعمى فهو في الآخرة أعمى) فأمال الألف من الكلمة الأولى، ولم يملها في الثانية، فلأنه يجوز أن لا يجعل أعمى في الكلمة الثانية عبارة عن العوارف الجارحة، ولكن
__________
(1) السبعة 383.(5/112)
جعله أفعل من كذا، مثل: أبلد من فلان، فجاز أن يقول فيه: أفعل من كذا وإن لم يجز أن يقال ذلك في المصاب ببصره، وإذا جعله كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة لأن آخرها إنما هو من كذا، وإنما تحسن الإمالة في الأواخر لما تقدم. وقد حذف من أفعل الذي هو للتفضيل الجارّ والمجرور وهما مرادان في المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله: {فإنه يعلم السر وأخفى} [طه / 7] المعنى: أخفى من السر، وكذلك قولهم: عام أول، أي: أول من عامك، وكذلك قوله: {فهو في الآخرة أعمى} أي: أعمى منه في الدنيا، ومعنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إلى طرق الثواب ويؤكّد ذلك ظاهر ما عطف عليه من قوله: {وأضل سبيلا}، وكما أن هذا لا يكون إلّا على أفعل، كذلك المعطوف عليه، ومعنى أضلّ سبيلا في الآخرة: أن ضلاله في الدنيا قد كان ممكنا من الخروج منه، وضلاله في الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه، ويجوز أن يكون قوله: أعمى، فيمن تأوله أفعل من كذا على هذا التأويل أيضا.
الاسراء: 76
اختلفوا في كسر الخاء وإثبات الألف في قوله عز وجل:
(خلفك) [الإسراء / 76].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: (لا يلبثون خلفك).
حفص عن عاصم: {خلافك}.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {خلافك} (1).
زعم أبو الحسن أنّ خلافك في معنى خلفك، وأنّ يونس روى
__________
(1) السبعة 383، 384.(5/113)
ذلك عن عيسى وأن معناه: بعدك. فمن قرأ (خلفك) و {خلافك} فهو في تقدير القراءتين جميعا على حذف المضاف، كأنّه: لا يلبثون بعد خروجك. وكان حذف المضاف في الآية وفي قول ذي الرّمة:
له واحف والصّلب حتى تقطّعت ... خلاف الثّريّا من أريك مآربه (1)
المعنى: خلاف طلوع الثريا، وحسن حذف المضاف لأنه إحدى الجهات التي تضاف إلى الأسماء التي هي أعيان وليست أحداثا. وقد أضافوا هذه الظروف كما يضاف إلى أسماء الأعيان، وكأنّهم لم يستحبّوا إضافتها إلى خلاف ما جرى عليه كلامهم في إضافتها، كما أنّها لما جرت منصوبة في كلامهم تركوها على نصبها إذا وقعت في غير موضع النصب كقوله: {وإنا منا الصالحون ومنادون ذلك} [الجن / 11] وقوله: {يوم القيامة يفصل بينكم} [الممتحنة / 3] فكما تركوها على النصب هنا، كذلك أضافوها إلى الأسماء الأعيان، وكان كذلك من جعل قوله: {خلاف رسول الله} [التوبة / 81] اسما للجهة على حذف المضاف، كأنه: خلاف خروج رسول الله، ومن جعله مصدرا جعله مضافا إلى المفعول به، وعلى أيّ الأمرين حمل في سورة التوبة كان قوله: {بمقعدهم}. المقعد فيه مصدر في معنى القعود، ولا يكون اسما للمكان، لأن أسماء الأماكن لا يتعلّق بها شيء.
ومعنى قوله: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض} قال أبو
__________
(1) انظر ديوانه 2/ 842. واحف والصلب: موضعان: خلاف الثريا: يريد بعد طلوع الثريا، وأريك: اسم جبل بالبادية يقول: تقطعت حوائج هذا الحمار من هذا الموضع لأنه يبس مرعاه فتحول عنه إلى غيره.(5/114)
عبيدة: {ليخرجوك منها}. [الإسراء / 76] فأمّا الأرض فهو بلده، وحيث يستوطنه، وكذلك قوله: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة / 33]، إنما هو من حيث كانوا يتصرّفون فيه لمعاشهم ومصالحهم، ولا يجوز أن يعنى به جميع الأرض، لأنه لا سبيل إلى إخراجه من جميعها، وكذلك قوله: {فلن أبرح الأرض} [يوسف / 80] إنما يريد به الأرض التي كان قصدها للامتياز منها، فربّما أطلقت اللفظة، والمراد بها المكان المخصوص، وربما خصّص في اللفظ: {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره} [الشعراء / 35] إنما يعني به بلادهم ومواطنهم.
ولو أخرجوك من أرضك، لم يلبثوا بعدك إلا قليلا حتى يستأصلوا، وهذه الآية كقوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك، أو يقتلوك، أو يخرجوك} [الأنفال / 30] فلو أخرجوك لاستأصلناهم كسنّتنا في إخراج الرسل قبلك إذا أخرجوا من ديارهم، ومن ظهرانيهم. وقد أخرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة قال: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم} [محمد / 13] فحكم فيهم بالقتل، ولم يؤخذوا بالاستئصال لما سبق من القول بأنه لا تهلك هذه الأمة بالاستئصال.
وكذلك جاء {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون}
[الإسراء / 59].
الاسراء: 83
اختلفوا في قوله عز وجل (ونأى بجانبه) [الإسراء / 83].
فقرأ ابن كثير ونافع: (ونأى بجانبه) في وزن نعى حيث وقع بفتح النون والهمزة.
وقرأ ابن عامر وحده: (وناء بجانبه) مثل باع (1). وقرأ حمزة
__________
(1) في الأصل (ط): ناعء، وما أثبتناه من السبعة.(5/115)
والكسائي: (وناي) في رواية خلف عن سليم بإمالة النون وكسر (1)
الهمزة، كذلك حدثني أبو الزعراء (2) عن أبي عمر عن سليم عن حمزة.
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر أنه كسر هذه التي في سورة بني إسرائيل (3) وفتح الهمزة في السجدة (4) [51]. وروى حفص عن عاصم أنه فتحهما جميعا.
وأما أبو عمرو فروى عنه اليزيدي: (ونأى) مفتوحة الهمزة هاهنا وفي السجدة. وقال عبد الوارث مثله هاهنا. وقال في السجدة: بهمزة بعدها ياء، ونأى في وزن نعى (5).
وقال عباس: ونأي مكسورة مهموزة في وزن نعى: أعرض، أي: ولى عرضه، أي: ناحيته، كأنه لم يقبل على الدعاء والابتهال على حسب ما يقبل في حال البلوى والمحنة، ونأى بجانبه قال أبو عبيدة:
تباعد.
ابن كثير ونافع: (ونأى) لم يميلا واحدة من الفتحتين، وترك
__________
(1) في الأصل (ط): وكسرها. وما أثبتناه من السبعة.
(2) أبو الزعراء: عبد الرحمن بن عبدوس أبو الزعراء البغدادي ثقة ضابط محرر، أخذ القراءة عرضا عن أبي عمر الدوري بعدة روايات وأكثر عنه، روى عنه القراءات عرضا أبو بكر بن مجاهد وعليه اعتماده في العرض، قال ابن مجاهد: قرأت عليه لنافع نحوا من عشرين ختمة، وقرأت عليه للكسائي ولأبي عمرو وحمزة. مات سنة بضع وثمانين ومائتين. (انظر طبقات القراء 1/ 374).
(3) هي سورة الإسراء نفسها.
(4) هي سورة فصلت السجدة، من الحواميم.
(5) السبعة 384.
مجاز القرآن 1/ 389.(5/116)
الإمالة كثير سائغ، وهو قول أهل الحجاز. ابن عامر: ناء مثل ناع، وهذا على القلب، وتقديره فلع، ومثل هذا في القلب قولهم راء، ورأى قال:
وكلّ خليل راءني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد (1)
حمزة والكسائي: نأي بإمالة الفتحتين، ووجه ذلك أنه أمال فتحة الهمزة لأن الألف منقلبة من الياء التي في النأي، فأراد أن ينحو نحوها، وأمال فتحة النون لإمالة الفتحة فتحة الهمزة، وقد قالوا: رأيت عمادا، فأمالوا الألف لإمالة الألف، وكذلك أمالا الفتحة لإمالة الفتحة، لأنهم قد يجرون الحركة مجرى الحرف في أشياء.
ووجه رواية خلّاد عن سليم (ونأي) بفتح النون وكسر الهمزة أنه لم يمل الفتحة الأولى لإمالة الفتحة الثانية، كما لم يميلوا الألف لإمالة الألف في رأيت عمادا.
قال: واختلف عن عاصم، فروى أبو بكر أنه كسر هذه التي في بني إسرائيل، وفتح الهمزة في السجدة، إن كان يريد بهذه التي في بني إسرائيل كسر النون من غير أن يميل الفتحة التي في الهمزة فوجهها أن مضارع نأى ينأى على يفعل، فإذا كان المضارع على يفعل أشبه الماضي ما كان على فعل والعين همزة فكسرها كما كسر شهد، كما أن من قال: أبي يأبى كان على هذا، وهذا كقول من قال: {رأى} [2] القمر
__________
(1) البيت لكثير عزّة، انظر الكتاب 2/ 130، وابن الشجري 2/ 19واللسان (رأي).
(2) رسمتا في الأصل (ط): (رأ). بدون ألف. و (رأى) بكسر الراء وفتح الهمزة هي قراءة عاصم، وقد سبقت في 3/ 329.(5/117)
[الأنعام / 77] وإن كان يريد بقوله كسر هذه أنه أمال الفتحة، فهو مثل قول حمزة.
قال: وروى حفص عن عاصم أنه فتحهما جميعا، فهذا مثل قول ابن كثير ونافع قال: وأما أبو عمرو فروى عنه اليزيدي (نأى) مفتوحة الهمزة هاهنا وفي السجدة. قال: وقال عبد الوارث مثله هاهنا.
قال: وقال في السجدة بهمزة بعدها ياء، (ونأى) في وزن نعا، وقال عباس مثل ذلك.
قال أبو علي: قد مضى القول في ذلك كله.
الاسراء: 90
اختلفوا في ضم التاء والتشديد وفتحها والتخفيف من قوله:
{حتى تفجر لنا} [الإسراء / 90].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (حتى تفجّر لنا) بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مع الكسرة.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {حتى تفجر} بفتح التاء وتسكين الفاء وضم الجيم مع التخفيف (1).
وجه قول من ثقل: أنهم أرادوا كثرة الانفجار من الينبوع، وهو وإن كان واحدا فلتكرر الانفجار فيه يحسن أن يثقل كما تقول: ضرب زيد إذا أكثر الضرب، فيكثر الفعل، وإن كان فاعله واحدا.
ووجه قول الكوفيين: {تفجر}، فلأن الينبوع واحد فلا يكون كقوله: (فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا) [الإسراء / 91] لأن فجّرت الأنهار، مثل: غلّقت الأبواب، فلذلك اتفق الجميع على التثقيل في (تفجر). وتفجر يصلح للقليل والكثير، وتضعيف العين إنما يكون
__________
(1) السبعة 384، 385.(5/118)
للتكثير، وممّا يقوّي {تفجر} قوله: {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا}
[البقرة / 60] وانفجر مطاوع فجرته.
الاسراء: 92
اختلفوا في فتح السين وإسكانها من قوله: {كسفا}
[الإسراء / 92].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي: (كسفا) [ساكنة] في كلّ القرآن إلا في الروم [48] فإنهم قرءوا {كسفا} متحركة.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر: {علينا كسفا} متحركة هاهنا وفي الروم {كسفا} متحركة السين أيضا وسائر القرآن (كسفا) في الشعراء [187] وفي سبأ [9] والطور [44].
وروى حفص عن عاصم أنه يقرأ {كسفا} في كل القرآن إلّا في والطور، فإنه قرأ وإن يروا كسفا. السين ساكنة هذه وحدها خفيفة.
وقرأ ابن عامر غير ذلك كلّه: قرأ في بني إسرائيل بفتح السين، وفي سائر القرآن (كسفا) ساكنة السين (1).
قال أبو زيد: قالوا كسفت الثوب أكسفه كسفا إذا قطعته قطعا، والكسف: القطع، الواحدة قطعة، وكسفه، وقال أبو عبيدة: كسفا:
قطعا. ومن جعله جمع كسفة قال: كسفا، مثل قطعة وقطع (2).
قال أبو علي: إذا كان المصدر: الكسف، فالكسف الشيء المقطوع، كالطّحن، والطّحن، والسّقي والسّقي ونحوه. ويجوز أن يكون الكسف جمع كسفة، مثل سدرة وسدر، فإذا كان كذلك جاز أن يكون قول ابن كثير ومن اتبعه: (أو تسقط السّماء كما زعمت علينا كسفا)
__________
(1) السبعة 385.
(2) انظر مجاز القرآن وطرته 1/ 390.(5/119)
أي: ذات قطع، وذلك أنّه أسقط فعل لا يتعدى إلّا إلى مفعول واحد، فإذا كان كذلك وجب أن ينتصب كسفا على الحال، والحال ذو الحال في المعنى، فإذا كان كذلك وجب أن يكون الكسف هو السماء، فيصير المعنى: أو تسقط السماء علينا مقطعة أو قطعا، وإنما قرءوا في الروم في قوله: {الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا} متحركة السين، لأن السحاب يكون قطعا، وإنّما يتضامّ عن تفرّق، فأمّا قوله: {من خلاله} [النور / 43] فالذّكر يرجع إلى السحاب، وأما قراءة نافع وعاصم في رواية أبي بكر: (علينا كسفا) هاهنا، وفي الروم فقد مضى ما جاء من ذلك في الروم، وفي بني إسرائيل كذلك، لأن المعنى: تسقط السماء علينا كسفا، أي: قطعا، وكسف في جمع كسفة مثل: سدرة وسدر، وكسف على هذا يجوز أن يكون مثل: سدرة وسدر، ودرّة ودرر. وإذا لم يكن المعنى في بني إسرائيل: تسقط السماء علينا قطعة، وإنما المعنى تسقطها قطعا، كان التقدير ذات كسف.
فأما ما في الشعراء من قوله: {فأسقط علينا كسفا} فتقديره:
قطعا، وهذا يقوي قراءة نافع وعاصم في إحدى الروايتين {كسفا} في بني إسرائيل. وفي الشعراء يتبين في اللفظ أيضا على أنه يراد به القطع وهو قوله: {من السماء} فكأنه دلّ على بعض السماء، وعلى قطع منها. وأما ما في سبأ من قوله: {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء} فكما أن المعنى في قوله: إن نشأ نخسف بهم الأرض التي يتقلبون فيها ويتصرّفون في بلادهم ومساكنهم، وكذلك نسقط عليهم من السماء ما أظلّهم منها دون سائر السماء فهو واحد. وأمّا ما في
الطور من قوله: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا فقد أبان قوله:(5/120)
قطعا، وهذا يقوي قراءة نافع وعاصم في إحدى الروايتين {كسفا} في بني إسرائيل. وفي الشعراء يتبين في اللفظ أيضا على أنه يراد به القطع وهو قوله: {من السماء} فكأنه دلّ على بعض السماء، وعلى قطع منها. وأما ما في سبأ من قوله: {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء} فكما أن المعنى في قوله: إن نشأ نخسف بهم الأرض التي يتقلبون فيها ويتصرّفون في بلادهم ومساكنهم، وكذلك نسقط عليهم من السماء ما أظلّهم منها دون سائر السماء فهو واحد. وأمّا ما في
الطور من قوله: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا فقد أبان قوله:
(ساقطا) والتذكير فيه أنه مفرد ليس بجمع، وإن كان جمعا فهو على حدّ شعيرة وشعير.
وما رواه حفص عن عاصم أنه قرأ {كسفا} في كلّ القرآن إلا في الطور، فقد ذكرنا وجه الجميع فيه، فيما مرّ وخصّ هذا الذي في الطور لوصفه بالواحد المذكر. وأما قراءة ابن عامر ما في بني إسرائيل {كسفا}
بفتح السين فإن المعنى: أو تسقط السماء قطعا، وقرأ ما عدا التي في بني إسرائيل كسفا، فوجه ذلك: أن الذي في الطور قد مضى وجهه، وفي الشعراء كأنه قال: أسقط علينا قطعة من السماء، فاقترحوا إسقاط قطعة منها، ولم يقترحوا إسقاط جميعها، وكذلك في سبأ: أو تسقط عليهم كسفا من السماء أي: قطعة منها مظلّة لأرضهم دون سائرها، وأما قوله: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا} [الروم / 48] أي:
يجعل ما يلتئم ويجتمع من السحاب قطعة قطعة، فتمطر، فكأنه اعتبر ما يؤول إليه حال السحاب من الالتئام والاجتماع، كما اعتبر من قرأه {كسفا} حاله قبل، وكلتا القراءتين مذهب.
الاسراء: 93
اختلفوا في قوله جل وعز: {قل سبحان ربي} [الإسراء / 93] في ضم القاف وإسقاط الألف.
فقرأ ابن كثير وابن عامر: (قال سبحان ربي)، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام.
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: {قل سبحان ربي} بغير ألف (1).
__________
(1) السبعة: 385.(5/121)
وجه من قرأ: (قال سبحان ربي) أنّ الرسول، عليه السلام، قال عند اقتراحهم هذه الأشياء التي ليس في طاقة البشر أن يفعله، ويأتي به {سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا}، كقوله: {إنما أنا بشر مثلكم} [الكهف / 110] وهذه الأشياء ليس في قوى البشر أن يأتوا بها، وإنما يظهرها الله، جلّ وعز، في أزمان الأنبياء علما لتصديقهم وليفصلهم بها من المتنبّئين. (وقل) على الأمر له بأن يقول ذلك.
ويقوّي ذلك قوله: {قل إنما أنا بشر مثلكم} ونحو ذلك مما يجيء على لفظ الأمر دون الخبر.
الاسراء: 122
اختلفوا في ضم التاء وفتحها من قوله عز وجل: (لقد علمت ما).
فقرأ الكسائي وحده: (لقد علمت) بضم التاء. وقرأ الباقون:
{لقد علمت} (1) [الإسراء / 102].
حجة من فتح قال: {لقد علمت} أن فرعون ومن كان تبعه قد علموا صحة أمر موسى بدلالة قوله: {لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك}
[الأعراف / 134] وقوله: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل / 13، 14] وقوله: {وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون}
[الزخرف / 49].
ومن قال: (لقد علمت) فضمّ التاء (2)؟ فإن قلت: كيف
__________
(1) في الأصل هنا بياض، بمقدار ربع سطر وسياق الكلام يدل على سقط فيه ولعل تقديره: فالضمير يرجع إلى موسى.
(2) السبعة 386.(5/122)
يصح الاحتجاج عليه بعلمه، وعلمه لا يكون حجّة على فرعون، إنّما يكون علم فرعون ما علمه من صحة أمر موسى حجة عليه، فالقول أنه لما قيل له: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}، [الشعراء / 27]، كان ذلك قدحا في علمه. لأن المجنون لا يعلم، فكأنه نفى ذلك، فقال: لقد علمت صحّة ما أتيت به علما صحيحا كعلم العقلاء، فصار الحجّة عليه من هذا الوجه، وزعموا أنّ هذه القراءة رويت عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه.(5/123)
يصح الاحتجاج عليه بعلمه، وعلمه لا يكون حجّة على فرعون، إنّما يكون علم فرعون ما علمه من صحة أمر موسى حجة عليه، فالقول أنه لما قيل له: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}، [الشعراء / 27]، كان ذلك قدحا في علمه. لأن المجنون لا يعلم، فكأنه نفى ذلك، فقال: لقد علمت صحّة ما أتيت به علما صحيحا كعلم العقلاء، فصار الحجّة عليه من هذا الوجه، وزعموا أنّ هذه القراءة رويت عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه.
ذكر اختلافهم في سورة الكهف
الكهف: 2
قرأ عاصم في رواية أبي بكر (من لدنه) [الكهف / 2] بفتح اللام وإشمام الدّال الضّمّة (1)، وكسر النون والهاء، ولم يقرأ بذلك غيره، ووصل الهاء بياء في الوصل.
وقرأ الباقون {من لدنه} بفتح اللام وضمّ الدال وتسكين النون وضمّ الهاء من غير بلوغ واو، حفص عن عاصم مثلهم (2).
في لدن ثلاث لغات (3): لدن مثل سبع، وتخفّف الدال، فإذا خفّفت كان على ضربين: أحدهما أن تحذف الضمّة من الدال، وتنقل إلى اللام فيقال: لدن، مثل: عضد، وفي كلا الوجهين يجتمع في الكلمة ساكنان: الدال المنقول عنها الحركة والمحذوفة منها.
__________
(1) في الإتحاف ص 288: إسكان الدال مع إشمامها الضم.
(2) السبعة 388.
(3) نقل في اللسان (لدن) ابن بري عن أبي علي في لدن أربع لغات: لدن، ولدن بإسكان الدال، حذف الضمة منها كحذفها في عضد، ولدن بإلقاء ضمّة الدال على اللام، ولدن بحذف الضمة من الدال، فلما التقى ساكنان فتحت الدال لالتقاء الساكنين اللسان 13/ 385.(5/124)
ويلحق الكلمة حذف النون، فإن حذفت أمكن أن يقدّر حذف النون منها، وقد أسكنت، وأن يقدّر الحذف منها غير مسكّن الأوسط، فإذا قدّر حذفها وقد أسكنت وردّ فيها النون بعد الحذف، جاز أن تحرّك بالفتح فيقال: لدن. قال سيبويه: شبّهوه بالخفيفة مع الفعل ففتحوها كفتحهم لام الفعل مع الخفيفة. وقال أبو زيد (1): جئت فلانا لدن غدوة، ففتحوا الدال، ويجوز أن تحرّك بالكسر في نحو (من لدنك)، و (لدنه) لأن من الساكنين ما إذا التقيا ما يحرّك أحدهما بالكسر كما يحرّك بالفتح، وربما تعاقب الأمران على الكلمة الواحدة، فأما حذف النون في قوله:
من لدشولا (2)
فينبغي أن يكون أجري في الحذف، ولم يلتق مع ساكن آخر مجراه في حذفهم لها لالتقاء الساكنين، وذلك أنه في قولهم: من لد الصلاة، حذفت لالتقاء الساكنين من حيث كثر، كما حذفت من الأسماء الأعلام نحو: زيد بن فلان. واستجازوا حذفها كما استجازوه في نحو:
ولك اسقني (3)
__________
(1) النوادر 472.
(2) هذه قطعة من رجز، وهو من الشواهد الخمسين التي لم يعرف لها قائل وتمامة:
من لدشولا فإلى أتلائها.
انظر الكتاب 1/ 134، وابن الشجري 1/ 222وابن يعيش 4/ 101و 8/ 35، والعين 2/ 51، والخزانة 2/ 84، وانظر شرح شواهد المغني للبغدادي 6/ 287 وتخريجه فيه. واللسان (لدن).
(3) هذه قطعة من بيت للنجاشي الحارثي وتمامه:(5/125)
وكما حذفوها من عمرو العلى ونحو ذلك، والدليل على أنه حذف كما كان حذف لالتقاء الساكنين أنه لا يخلو من أن يكون الحذف على ما كان عليه لالتقاء الساكنين، أو على حدّ الحذف في دد، وددن، فلا يجوز أن يكون على حدّ دد، وددن لأنه لو كان كذلك لوجب أن يسكن للبناء كما أنك لما حذفت النون من المعرب الذي هو لام في ددن أجريت على العين ما كان يجري على اللام من الإعراب، وكذلك لد لو كان الحذف فيه على حدّ الحذف في ددن لوجب أن تسكن الدّال من لد بعد حذف النون، ألا ترى أنهم قالوا: لهي أبوك (1)، فبنوا الاسم لما تضمّن معنى لام المعرفة، وحرك بالفتح لالتقاء الساكنين، ثم لمّا حذفوا الياء التي في موضع اللام قالوا: له أبوك، فبنوه على السكون، فكذلك الحذف في لدن لو كان على حدّ الحذف في لهي، والنون في ددن لوجب أن تسكن الدال في لد ولا تحرك، فبقاؤها على الحركة دلالة على أن حذفها ليس على حدّ الحذف في ددن، ولهي أبوك، ولكن حذفت كما كانت حذفت لالتقاء الساكنين لأن الحذف لالتقاء الساكنين كأنه في تقديره الثبات، كما أن
__________
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
انظر الكتاب 1/ 9، الخصائص 1/ 310، والمصنف 2/ 229وابن الشجري 1/ 385والإنصاف 2/ 684، وابن يعيش 9/ 142والأشموني 1/ 271والخزانة 4/ 367وانظر شرح شواهد المغني للبغدادي 5/ 194وتخريجه فيه.
(1) أصلها: لله أبوك، ثم حذفوا منها اللامين فصارت لاه أبوك، قال سيبويه: وقال بعضهم: لهي أبوك، فقلب العين وجعل اللام ساكنة، إذ صارت مكان العين كما كانت العين ساكنة، وتركوا آخر الاسم مفتوحا كما تركوا آخر أين مفتوحا. وإنما فعلوا ذلك به حيث غيّروه لكثرته في كلامهم فغيّروا إعرابه كما غيروه.
(انظر الكتاب 2/ 144).(5/126)
التحريك لهما في تقدير السكون، فالذي قال: «من لد شولا» (1)
إنما استعمل المحذوف لالتقاء الساكنين بالدلالة التي ذكرنا، وأنشد أبو زيد:
لد غدوة حتّى أغاث شريدهم ... جوّ العشارة فالعيون فزنقب (2)
فالدّال متحرّكة بالضم فمن قال: لدن غدوة، على ما حكاه أبو زيد وسيبويه شبّهها بالخفيفة مع الفعل كما شبّهها مع التنوين في قوله:
لدن غدوة، وإنّما شبّهوه بالزيادة في الموضعين جميعا أعني: لدن، لدن، لأنه لم يكن حقّها أن تحذف النون منها لمشابهتها الحروف وهذا الحذف إنما يكون في الأسماء المتمكنة فلما أشبهت الحروف لم يلزم الحذف فيها فاستنكروه وجعلوا النون بمنزلة الزائد في لدن، وفي لدن غدوة، وكذلك قد يستقيم أن تقول في الذي قال «لد شولا» أنه تركها على الضمة لأنه قدر أن تلك زائدة، وأنشد عن خالد (3) بن كلثوم:
من عن لدن قرّعت نفس الصّلاة إلى ... أن ولّت الشمس في علّي وفي نهل
وقد أضيفت فيه إلى الفعل، ويمكن أن تكون إضافتها إلى الفعل
__________
(1) سبق قريبا.
(2) البيت لزيد الفوارس الضبى وهو من جملة أبيات ذكرت في النوادر لأبي زيد / 359 والخزانة 1/ 516وزنقب: بضم أوله وسكون ثانيه وقاف وآخره باء موحدة: علم مرتجل لا أصل له في النكرات: وهو ماء لبني عبس (معجم البلدان 3/ 154).
(3) في الأصل خلد ولعل الصواب ما أثبت انظر شرح أبيات المغني 2/ 407(5/127)
كإضافة حيث إليه لأنها في الإيهام مثلها في الإبهام، وكإضافة ذي إلى تسلم. وريث إلى الفعل في مواضع، ويمكن أن يكون المعنى: لدن أن قرّعت، فحذف أن، ويقوي ذلك ثباتها في قول الأعشى:
أراني لدن أن غاب أهلي كأنما ... يراني فيكم طالب الضيم أرنبا (1)
وقد جاءت أيضا مضافة إلى الفعل في قول بعض عبد القيس:
وإنّ لكيزا لم تكن ربّ عكّة ... لدن صرّحت حجّاجهم فتفرّقوا (2)
وجاء مضافا إلى الفعل في غير هذه المواضع.
فأما ما روي عن عاصم من قراءته: (من لدنه) [الكهف / 2] فالكسرة ليست فيه بجرّ إنما هي كسرة لالتقاء الساكنين وذاك أن الدال أسكنت كما أسكنت في سبع، والنون ساكنة، فلما التقيا كسرت الثاني منهما. فإن قلت: فكيف حركت الأول من الساكنين فيمن قال:
لدن، وحرك في قراءة عاصم الثاني منهما، قيل: حرّك الأولان لدن لأنه نزّل أن النون ليست من نفس الكلمة، كما نزّل في لدن غدوة كذلك، وليس يخرج الكلمة هذا التنزيل فيها من أن تكون النون من أصلها، بدلالة ردّها في المضمر نحو: من لدنك، ومن لدنه ومن لدنّي، ولدني، حكاه أبو زيد، والساكنان، إذا التقيا في كلمة حرّك الثاني منهما، فكذلك حرك الثاني في لدنه، وليس يخرج ما عرّض من
__________
(1) انظر ديوانه / 115وروايته فيه:
أراني لدن أن غاب قومي كأنما ... يراني فيهم طالب الحقّ أرنبا
(2) سبق انظر 4/ 156وقد ورد هناك علة بدل عكة.(5/128)
شبه النّون بالزيادة عن أن يكون من نفس الكلمة، وأن يراعي فيها الأصل، ألا ترى أن نحو الترامي والتعادي روعي فيه التفاعل فصرف كما صرف، ولم يجعل بمنزلة جواري وحضاجر (1)، وكذلك قولهم:
المريض عدته، روعي فيه التعدي الذي في الفعل في الأصل، وكذلك هذه النون جعلت في التحريك لالتقاء الساكنين بمنزلة قوله:
انطلق، و:
لم يلده (2)
لمّا أسكن اللامان من الكلمتين حرّك الآخر منهما لالتقاء الساكنين، فكذلك في قوله: من لدنه، حرك الثاني من الساكنين لما أسكن الحرف الذي قبل النون.
وأما إشمام الضم الدال في قراءة عاصم في قوله: (من لدنه) فليعلم أن الأصل كان في الكلمة الضمّة، ومثل ذلك قولهم: أنت تغزين، وقولهم: قيل، أشمّت الكسرة فيها الضمّة، لتدلّ أن الأصل فيها التحريك بالضم وإن كان إشمام عاصم ليس في حركة خرجت إلى اللفظ، وإنّما هو تهيئة العضو لإخراج الضمة، ولو كانت مثل الحركة في تغزين لم يلتق ساكنان ولم تكسر النون لاجتماعهما، ولكن يجتمعان في أن أصل الحرف التحريك بالضم وإن اختلفا في أنّ الحركة في تغزين قد خرجت إلى اللفظ، ولم تخرج في قوله: (من
__________
(1) الحضجر: العظيم البطن الواسعة، وحضاجر اسم للذكر والأنثى من الضياع سميت بذلك لسعة بطنها وعظمه، انظر اللسان (حضجر).
(2) يشير إلى بيت لرجل من أزد السراة وهو:
الا ربّ مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
سبق انظر 1/ 49.(5/129)
لدنه) وأمّا وصله الهاء بياء في الوصل فحسن، ألا ترى أنك لو قلت:
بابه وبعبده، فلم توصل الهاء بياء لم يحسن، ولكان ذلك مما يجوز في الشعر كقوله:
له زجل كأنّه صوت حاد (1)
وأما قراءة الباقين {من لدنه} فعلى أصل الكلمة، والنون في موضع جرّ وضم الهاء من غير بلوغ ياء حسن، لسكون ما قبل الهاء، فلو بلغوا به الياء لم يجز لأن هذا ليس من المواضع التي تلحق هاء الضمير فيه الياء لأنه لا ياء قبلها، ولا كسرة ولكن لو بلغوا بها الواو فقال: (من لدنهو)، لم يكن يحسن الضم بلا واو، لأن الهاء خفية فإذا سكن ما قبلها وما بعدها أشبه التقاء الساكنين، ولو كان ما قبل الهاء حرف لين كان أقبح، وأما الجار في قوله: {من لدنه} فيحتمل ضربين، أحدهما: أن يكون متعلقا بشديد، والآخر: أن يكون صفة للنكرة وفيها ذكر الموصوف.
الكهف: 16
اختلفوا في [فتح الميم و] كسر الفاء وكسر الميم وفتح الفاء من قوله: (مرفقا) [الكهف / 16].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: {مرفقا}
بكسر الميم وفتح الفاء.
وقرأ نافع وابن عامر: (مرفقا) بفتح الميم وكسر الفاء.
الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: (مرفقا) بفتح الميم [وكسر الفاء مثلهما] (2).
__________
(1) سبق انظر 1/ 205وانظر الأعراف / 111.
(2) السبعة 388وما بين معقوفين منه.(5/130)
أبو عبيدة: المرفق: ما ارتفقت به، وبعضهم يقول: المرفق.
فأما فى اليدين فهو مرفق (1). وقال أبو زيد: رفق الله عليك أهون المرفق والرّفق.
قال أبو علي: المرفق فيما حكاه أبو زيد مصدر، ألا ترى أنه جعله كالرفق، وكان القياس الفتح لأنه ليس من يرفق، ولكنه كقوله:
{إلي مرجعكم} [آل عمران / 55]. {ويسألونك عن المحيض}
[البقرة / 222].
وقال أبو الحسن: مرفقا، أي: شيئا يرتفقون به مثل المقطع، ومرفقا: جعله اسما مثل المسجد، أو تكون لغة (2).
وقوله: جعله اسما، أي: جعل المرفق اسما، ولم يجعله اسم المكان ولا المصدر من رفق يرفق، كما أن المسجد ليس باسم الموضع من سجد يسجد. وقوله: أو يكون لغة، أي: لغة في اسم المصدر، كما جاء المطلع ونحوه، ولو كان على القياس لفتحت اللام.
قال أبو الحسن أيضا: مرفقا ومرفقا: لغتان لا فرق بينهما أيضا، هما اسمان مثل المسجد والمطبخ.
الكهف: 17
اختلفوا في قوله تعالى: {تزاور عن كهفهم} [الكهف / 17].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (تزاور) بتشديد الزّاي.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: (تزاور) خفيفة.
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 395.
(2) معاني القرآن 2/ 394.(5/131)
وقرأ ابن عامر: (تزور) مثل تحمرّ (1).
قال أبو عبيدة (2): (تزاور عن كهفهم) تميل عنه، وهو من الزّور والأزور منه، وأنشد ابن مقبل:
فينا كراكر أجواز مضبّرة ... فيها دروء إذا شئنا من الزّور (3)
قال أبو علي: تزاور، تزّاور، من قال: تزاور حذف التاء الثانية، وخفف الكلمة بالحذف، كما تخفف بالإدغام، وقول ابن عامر: تزور. قال أبو الحسن: لا يوضع في هذا المعنى إنما يقال: هو مزورّ عني، أي: منقبض. قال أبو علي: ويدلّ على أن ازورّ في المعنى انقبض كما قاله أبو الحسن، قوله:
وازورّ من وقع القنا بلبانه (4)
والذي حسّن القراءة به قول جرير:
__________
(1) السبعة 388.
(2) انظر نقله في مجاز القرآن 1/ 395.
(3) انظر ديوانه / 85وفيه: «إذا خفنا» بدل «شئنا».
كراكر: يقال للقوم إذا كانوا كثيرا كركرة والجمع كراكر: الأجواز: ج جوز وهو وسط الشيء وأكرمه وأشرفه. ومضبرة: أي مجتمعة قوية شديدة. شبهها بالناقة المضبرة وهي المكتنزة الموثقة الخلق، والدروء: ج درء وهو الأنف البارز من الجبل.
والزور: عوج في الزّور، يريد به الاعتراض. يقول: إذا خفنا من أحد اعتراضا فنحن نعترض كاعتراض أنوف الجبل.
(4) هذا صدر بيت لعنترة عجزه:
وشكا إلى بعبرة وتحمحم انظر ديوانه / 217وانظر تفسير القرطبي 10/ 368.(5/132)
عسفن على الأواعس من قفيل وفي الأظعان عن طلح ازورار (1)
فظاهر استعمال هذا في الأظعان مثل استعماله في الشمس، فإن قلت: كيف جاز أن يقال: تزاور، ولا يكاد يستعمل هذا البناء في هذا النحو، فإن هذا حسن لمّا كان معناه الميل عن الموضع، وقد استعملوا تمايل، فأجروا تزاور مجرى تمايل، قال:
كلون الحصان الأنبط البطن قائما ... تمايل عنه الجلّ واللون أشقر (2)
وقال:
تجانف عن خلّ اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا (3)
__________
(1) انظر ديوانه 1/ 134وفيه: «من حبيّ» بدل «من قفيل».
العسف: الأخذ على غير الطريق، والأواعس من الرمل: الموطوء الليّن. وحبيّ وطلح: موضعان، والازورار: النكوب عن الشيء.
(2) البيت الذي الرمة من قصيدة طويلة في الديوان 2/ 626بلغت 79بيتا يفتخر فيها وقبله:
وقد لاح للساري الذي كمّل السّرى ... على أخريات الليل فتق مشهّر
والفتق: يعني به الصبح. وأنبط: إذا كان أبيض البطن والصدر. شبه بياض الصبح طالعا في احمرار الأفق بفرس أشقر قد مال عنه جلّه فبان بياض إبطه [والأظهر: بطنه] (اللسان: نبط).
(3) البيت للأعشى في ديوانه / 89وقد سبق 1/ 250وانظر الكتاب 1/ 13. وخل:
رويت في الديوان جل، بالجيم، وجل الشيء: معظمه، وبلاد اليمامة: بين نجد واليمن، وهي تتصل بالبحرين شرقا وبنجد غربا. والخل بالخاء المعجمة: ماء ونخل لبني العنبر باليمامة، وموضع باليمن في وادي رمع (معجم البلدان 1/ 385) والتجانف الانحراف، وصف أنه معوّل في قصده على هذا الممدوح دون خاصة أهله، وجعل الفعل للناقة مجازا.(5/133)
والزور في بيت ابن مقبل هو الميل والعدول للكبر والصّعر، فمعنى العدول فيه حاصل للكبر كان أو لغيره، وكما أنّ تقرضهم تجاوزهم وتتركهم عن شمالها، كذلك تزاور عنهم: تميل عنهم ذات اليمين، فإذا مالت عنهم إذا طلعت، وتجاوزتهم إذا غربت، وكانوا في فجوة من الكهف، دلّ أن الشمس لا تصيبهم البتّة، أو في أكثر الأمر، فتكون صورهم محفوظة.
الكهف: 18
اختلفوا في تشديد اللام وتخفيفها من قوله تعالى: {ولملئت}
[الكهف / 18].
فقرأ ابن كثير ونافع: (ولملّئت): مشدّدة مهموزة.
وقرأ ابن عامر وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {ولملئت}
خفيفة مهموزة، وروى إسماعيل بن مسلم عن ابن كثير: {ولملئت}
خفيفة (1).
قال أبو الحسن: الخفيفة أجود في كلامهم، تقول: ملأتني رعبا، ولا يكادون يعرفون: ملأتني. قال أبو علي: مما يدلّ على ما قاله أبو الحسن من أن التخفيف أكثر في كلامهم قوله:
فيملأ بيتنا أقطا وسمنا (2)
وقول الأعشى:
وقد ملأت بكر ومن لفّ لفّها (3)
__________
(1) السبعة 389.
(2) لم نعثر على قائله.
(3) صدر بيت للأعشى وعجزه: نباكا فأحواض الرجا فالنوا عصا
انظر ديوان / 149.(5/134)
وقول الآخر:
ومن مالئ عينيه من شيء غيره (1)
وقول الآخر:
لا تملأ الدّلو وعرّق فيها (2)
وقولهم: امتلأت، يدلّ على ملأ، لأنّ مطاوع فعلت افتعلت، قال:
امتلأ الحوض، وقال قطني (3)
وقد جاء التثقيل أيضا، أنشدوا للمخبّل السعدي:
وإذ فتك النعمان بالناس محرما فملّئ من كعب بن عوف سلاسله (4)
الكهف: 19
اختلفوا في كسر الراء، وإسكانها من قوله عز وجل:
{بورقكم} [الكهف / 19].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم {بورقكم} مكسورة الراء.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم (بورقكم) ساكنة
__________
(1) لم نعثر عليه.
(2) هذا شطر بيت من الرجز وبعده:
ألا ترى حبار من يسقيها؟
حبار اسم ناقته، عرّق الدلو: جعل فيها ماء قليلا. اللسان (عرق) ولم ينسبه.
(3) انظر ما سبق 2/ 218واللسان (قطط).
(4) انظر اللسان (فتك) وتهذيب اللغة (10/ 149، وفيهما: عوف بن كعب بدل كعب بن عوف وتفسير القرطبي 10/ 374(5/135)
الراء خفيفة. وروى روح عن أحمد بن موسى عن أبي عمرو:
(بورقكم) مدغمة، قال: وكان يشمها شيئا من التثقيل (1).
ورق وورق: كنبد ونبد (2) وكتف وكتف، والتخفيف في هذا النحو سائغ مطرد. وأما إدغام القاف في الكاف فحسن، وذلك نحو قولك:
الحق كلدة (3)، فلمّا كان إدغام الكاف في القاف في قولك: انهك قطنا كذلك، ولإدغام القاف في الكاف من المزيّة في الحُسن أن القاف أدخل في الحلق، وهي أول مخارج الفم، والكاف أخرج إلى الفم، والإدغام فيما كان أقرب إلى الفم أحسن، ألا ترى أن الإدغام إنّما هو في حروف الفم، وأن حروف الطرفين ليس بأصول في الإدغام.
الكهف: 25
اختلفوا في التنوين من قوله تعالى: {ثلاث مائة سنين}
[الكهف / 25].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم {ثلاث مائة سنين}
منون.
وقرأ حمزة والكسائي (ثلاث مائة سنين) مضاف غير منون (4).
قال أبو الحسن: تكون السنون لثلاث مائة، قال: ولا يحسن إضافة المائة إلى السنين، لا تكاد العرب تقول: مائة سنين، وقال: هو جائز في هذا المعنى، وقد يقوله بعض العرب، قال: وقد قرأها الأعمش، وفي حرف عبد الله: (ثلاثمائة سنة).
__________
(1) السبعة 389.
(2) نبد: أي سكن وركد، انظر اللسان (نبد).
(3) كلدة: الأرض الصلبة، اللسان (كلدة). وانظر سيبويه 4/ 452 (ت. هارون) في باب الإدغام.
(4) السبعة 389.(5/136)
قال أبو علي: ممّا يدلّ على صحة قول من قال: ثلاثمائة سنين أن هذا الضرب من العدد الذي يضاف في اللغة المشهورة إلى الآحاد نحو: ثلاثمائة رجل وأربع مائة ثوب قد جاء مضافا إلى الجميع في قول الشاعر:
ما زوّدوني غير سحق عمامة ... وخمس مئ فيها قسيّ وزائف (1)
وذاك أن مئ (2) لا تخلو من أن تكون في الأصل مئي، كأنه فعلة، فجمع على فعل، مثل: سدرة وسدر، أو تكون: فعلة، جمع على فُعُول، مثل: بدرة وبدور، ومأنة ومئون، قال:
عظيمات الكلاكل والمئون (3)
فإن قلت: ما ننكر أن يكون مئ أصله: مئي، وإنّما حركت العين كما حرّكت نحو: ركك (4)، ومما أتبعت حركة عينه ما بعده. فالذي يضعّف ذلك أنك لا تجد فيما كان على حرفين نحو: شعيرة وشعير،
__________
(1) البيت لمزرّد بن ضرار في تهذيب اللغة 15/ 618وفيه: «وما» بغير خرم، و «منها» بدل «فيها». وانظر اللسان (قسا) و (مأي) وفيه عباءة بدل عمامة.
(2) رسمت في الأصل: «ماءي».
(3) في التهذيب 15/ 510: المأنة ما بين السّرة والعانة، ويجمع مأنات ومئون، وأنشد:
يشبهن السفين وهنّ بخت ... عراضات الأباهر والمئون
(4) كلمة من آخر بيت لزهير وتمامه:
ثم استمروا وقالوا إن موعدكم ... ماء بشرقي سلمى فيد أو ركك
انظر معجم البلدان (ركك) 3/ 64.(5/137)
وسدرة، وسدر، فإذا لم تجد لذلك نظيرا عدلت عنه، وحملته على أنه فُعُول وأنه خفف كما يخفف في القوافي كقوله:
كنهور كان من أعقاب السّمي (1)
وإذا كان كذلك فقد جاء إضافة نحو: ثلاثمائة إلى الجمع، وكسرت الفاء من مئي كما كسرت من حليّ ونحوه، فأما قوله:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا (2)
فلا يدلّ على جواز ثلاث مئين، وإضافتها إلى الجمع، لأن أبا عمر الجرمي حكى عن أبي عبيدة أن الحلوب لا يكون إلا جمعا، والحلوية تكون واحدا وتكون جمعا، فإذا كان كذلك أمكن أن يكون الشاعر جعل الحلوبة جمعا وجعل السود وصفا لها، فإذا أمكن هذا لم تكن فيه دلالة على جواز إضافة ثلاث مائة ونحوها إلى الجمع، فإن قلت يكون حلوبة في البيت واحدا ولا يكون جمعا، لأنه تفسير العدد وهذا الضرب من العدد يفسر كالآحاد دون الجموع، قيل: هذا لا يمتنع إذا كان المراد به الجمع، أن يكون تفسيرا لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد، فكذلك الحلوبة يراد به الجمع ولا يمتنع أن تكون تفسيرا، كما لا يمتنع عشرون نفرا، وثلاثون قتيلا.
ونحو ذلك من الأسماء التي يراد بها الجمع، وهي على لفظ الآحاد.
وممّا يدلّ على أنه فُعُول قوله:
__________
(1) سبق في 2/ 373.
(2) البيت لعنترة وتتمته:
كخافية الغراب الأسحم انظر ديوانه / 193.(5/138)
وحاتم الطائيّ وهّاب المئي (1)
فهذا يدلّ على التخفيف، وهو فُعُول في الأصل، وإنّما خفف للقافية، كما خفّف البيت الذي قبله وهو:
حيدة خالي ولقيط وعلي فحذف كما حذف نحو:
متى أنام لا يؤرّقني الكري ... ليلا ولا أسمع أجراس المطي (2)
فإن قيل: لم لا يكون المئي فُعُلا، ويكون جمع فعلة على فُعُل، نحو: خشبة وخشب، وبدنة وبدن؟ فإنّ ذلك لا يكون، ألا ترى أن فعلا لا يكسر فاؤها كما يكسر فاء فُعول، ولأن فعلا قد رفض في المعتلّ فلم يستعمل إلا في هذه الكلمة التي هي ثن في جمع ثنيّ فقط، فلا يحمل عليها غيرها.
__________
(1) البيت من مشطور الرجز قالته امرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن، وبعده:
ولم يكن كخالك العبد الدّعي انظر النوادر 321 (ط. الفاتح) وابن الشجري 1/ 383والمصنف 2/ 68 والخزانة 3/ 304وعنده جاء شاهدا على أن أصله عند الأخفش: المئين، فحذفت النون لضرورة الشعر قال البغدادي: وقال أبو علي فيما كتبه عليه (لعله على النوادر): خففت ياءات النسب كلها للقافية: فأما المئي والسني، فإنهما جمعا على فعول، ثم قلبت الواوات ياءات، فصار: مئي وسنيّ، ثم خفف بأن حذف إحدى الياءين، كما فعل في: علي والدعي، فبقي المئي والسني.
(2) البيت سبق في 1/ 188وانظر إضافة لما سبق الخصائص 1/ 73والإنصاف 2/ 191.
يقول: متى أنام نوما صحيحا لا يؤرقني الكرى، لأنه جعل نومه مع تأريق الكرى له غير نوم. والأجراس جمع جرس، وهو الصوت، وهو كذلك جمع جرس بالتحريك وهو الجلجل الذي يعلق في عنق الدابة. (وانظر اللسان: مطا).(5/139)
وأما قول من قال {ثلاثمائة سنين} فإن {سنين} فيه بدل من قوله:
{ثلاثمائة} وموضعه نصب، كما أن موضع البدل منه كذلك، وقد قدمنا ذكر ذلك عن أبي الحسن.
الكهف: 28
قال: وقرأ ابن عامر وحده: (بالغدوة والعشي) [الكهف / 28].
وقرأ الباقون: {بالغداة والعشي} بألف (1).
أما غدوة فهو اسم موضوع للتعريف، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يدخل عليه الألف واللام، كما لا تدخل على سائر الأعلام، وإن كانت قد كتبت في المصحف بالواو، ولم يدل على ذلك، ألا ترى أنهم قد كتبوا فيه الصلاة بالواو وهي ألف، فكذلك الغداة إن كتبت في هذا بالواو، ولا دلالة فيه على أنها واو، كما لم يكن ذلك في الصلاة ونحوها مما كتبت بالواو وهو ألف. ووجه دخول لام المعرفة عليها أنه قد يجوز وإن كان معرفة أن يتنكّر، كما حكاه أبو زيد من أنهم يقولون:
لقيته فينة، والفينة بعد الفينة، ففينة مثل الغدوة في التعريف بدلالة امتناع الانصراف، وقد دخلت عليه لام التعريف، وذلك أنه يقدّر من أمّة كلها له مثل هذا الاسم فيدخل التنكير لذلك، ويقوّي هذا تثنية الأعلام وجمعها، وقولهم:
لا هيثم الليلة للمطيّ (2)
__________
(1) السبعة 390.
(2) البيت في سيبويه 1/ 354والمقتضب 4/ 362وابن الشجري 1/ 239وشرح المفصل 2/ 102، 103و 4/ 123والخزانة 4/ 57. والمسائل الحلبيات 204، 311.
قال الأعلم: الشاهد فيه نصب هيثم، وهو اسم علم معرفة بلا، وهي لا تعمل إلا في النكرة، وجاز ذلك، لأنه أراد: لا أمثال هيثم ممن يقوم مقامه في حداء المطي،(5/140)
وقولهم: أما البصرة فلا بصرة لك، فأجري هذا مجرى ما يكون شائعا في الجنس، وكذلك الغدوة. وقول من قال: {بالغداة} أبين.
الكهف: 24
قال: وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (يهديني ربي) [الكهف / 24] بياء في الوصل.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بغير ياء (1).
إثبات الياء حسن لأنها ليست بفواصل فتكون كالقوافي.
ومن حذف فلأن الحذف في هذا النحو وإن لم يكن قافية فقد جاء وكثر.
الكهف: 26
قال: وكلهم قرأ: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف / 26] بالياء والرفع، غير ابن عامر فإنه قرأ: (ولا تشرك) جزما بالتاء (2).
{يشرك} بالياء لتقدّم أسماء الغيبة، وهو قوله: {ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك}، والهاء للغيبة، فكذلك قوله: {ولا يشرك} أي: لا يشرك الله في حكمه أحدا.
وقراءة ابن عامر: (ولا تشرك) أنت أيها الإنسان في حكمه على النهي عن الإشراك في حكمه، المعنى: أي لا تكن كمن قيل فيه:
{أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون} [الأعراف / 191]، وقوله:
__________
فصار هذا شائعا الخ. وهيثم: اسم رجل كان حسن الحداء للإبل، وقيل:
المراد هيثم بن الأشتر.
وقال سيبويه: وأما قول الشاعر: لا هيثم فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثم من الهيثمين ومثل ذلك: لا بصرة لكم الخ.
(1) السبعة 389.
(2) السبعة 390.(5/141)
{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام / 148]، والقراءة الأولى أشيع، والرجوع من الغيبة إلى الخطاب كقولك: {إياك نعبد}
بعد {الحمد لله}.
الكهف: 34
وقرأ أبو عمرو: (ثمر) [الكهف / 34] و (بثمره) [42] بضم الثاء وسكون الميم.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي: (ثمر) و (بثمره) مضمومة الثاء والميم.
علي بن نصر، وحسين الجعفي، عن أبي عمرو: (ثمر) مثل نافع.
وقرأ عاصم: {ثمر} و {بثمره}، بفتح الثاء والميم فيهما (1).
الثمرة: ما يجتنى من ذي الثمرة، وجمعه: ثمرات، ومثله:
رحبة، ورحبات ورقبة ورقبات، قال: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا} [النحل / 67]. وقال: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا} [البقرة / 25]. ويجوز في جمع ثمرة ضربان: أحدهما: أن يجمع على ثمر، كبقرة وبقر. والآخر: على التكسير: ثمار، كرقبة ورقاب، وهذا على تشبيه المخلوقات بالمصنوعات، وقد يشبّه كل واحد منهما بالآخر. ويجوز في القياس أن يكسّر ثمار، الذي هو جمع ثمرة، على ثمر، فيكون ككتاب وكتب، ويكون تكسيره على فُعُل، كتكسيره على فعائل في نحو قوله:
__________
(1) السبعة 390. وقد سبق أن تكلم المصنف عن هذا الحرف في 3/ 369وأردفه بنظيره من سورة الأنعام / 99و 141.(5/142)
وقرّ بن بالزّرق الجمائل بعد ما ... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر (1)
فقراءة ابن عامر: (وكان له ثمر) إذا خفّف يجوز أن يكون جمع:
ثمار، ككتاب وكتب، ويخفّف كما يخفّف كتب، ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة، كبدنة وبدن، وخشبة وخشب، ويجوز أن يكون ثمر واحدا كعنق وطنب، فعلى أيّ هذه الوجوه كان جاز إسكان العين منه وساغ، وكذلك قوله: (وأحيط بثمره) [الكهف / 42].
وقال بعض أهل اللغة: الثّمر: المال، والثّمر: المأكول. وجاء في التفسير قريب من هذا، قالوا: الثمر: النخل والشجر، ولم يرد به الثمرة. والثمر على ما روي عن عدة من السلف: الأصول التي تحمل الثمرة، لا نفس الثمر، بدلالة قوله: {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها}، أي: في الجنة، والنفقة: إنما تكون على ذوات الثمر في أغلب العرف. وكأن الآفة التي أرسلت عليها، اصطلمت الأصول واجتاحتها، كما جاء في صفة الجنة الأخرى: {فأصبحت كالصريم}
[ن 20] أي: كالليل في سواده لاحتراقها، أو كالنهار في بياضها، وما بطل من خضرتها بالآفة النازلة بها.
وحكي عن أبي عمرو: (الثمر)، والثمر: أنواع المال، وإذا أحيط بالثمر فاجتيح، دخلت فيه الثمرة ولا يكون أن يصاب الأصل ولا تصاب الثمرة، وإذا كان كذلك، فمن قرأ: (بثمره) و (بثمره) كان قوله أبين ممّن قرأ بالفتح. وقد تجوز القراءة بالفتح، فأخبر عن بعض ما أصيب، وأمسك عن بعض، وهو قراءة عاصم.
وفي الثمرة لغة أخرى ولم يحك عمن ذكر من القراء في هذا
__________
(1) البيت لذي الرُّمة وقد سبق في 2/ 449و 3/ 368.(5/143)
الكتاب، قال سيبويه (1): تقول: ثمرة وثمرات، وسمرة وسمرات، قال أبو علي: يجوز في جمع ثمرة ثمر كما جاز السّمر، وقالوا: ثمرة وثمر، وثمار، فثمار جمع ثمرة كما أن إضاء جمع أضا (2)، وكسّروه على فعال كما كسّروه على فعول في قولهم: صفا وصفيّ.
الكهف: 36
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر (خيرا منهما منقلبا) [الكهف / 36] بزيادة ميم بعد الهاء على التثنية، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: {خيرا منها منقلبا}
وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة (3).
قال: الإفراد أولى من حيث كان أقرب إلى الجنة المنفردة من قوله: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه} [الكهف / 35]. والتثنية لا تمتنع لتقدم ذكر الجنتين.
الكهف: 38
اختلفوا في إسقاط الألف من قوله: {لكنا هو الله ربي}
[الكهف / 38] وإثباتها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: (لكن هو الله ربي) بإسقاط الألف في الوصل، وإثباتها في الوقف.
وقرأ نافع في رواية المسيّبي: {لكنا هو الله ربي} يثبت الألف في
__________
(1) في باب ما كان واحدا يقع للجميع ويكون واحده على بنائه من لفظه إلا أنه مؤنث تلحقه هاء التأنيث. 2/ 183.
(2) الأضاة: الغدير. انظر اللسان (أضا).
(3) السبعة 390.(5/144)
الوصل والوقف، وقال ابن جمّاز وإسماعيل بن جعفر وورش عن قالون عن نافع: بغير ألف في الوصل، ويقف بالألف.
وقرأ ابن عامر: {لكنا هو الله ربي}، يثبت الألف في الوصل والوقف.
قال أبو بكر أحمد: ولم يختلف في الوقف أنه بألف، وإنما اختلف في الوصل (1).
قال: القول فيمن قرأ: (لكن هو الله ربّي) فلم يثبت الألف في الوصل أنه كان: لكن أنا، فخفّف الهمزة وألقى حركتها على النون، فصار لكننا، فاجتمع مثلان، فأدغم المثل الأول في الثاني بعد أن أسكنها، فصار في الدّرج: (لكن هو الله ربي)، فلم يثبت الألف في الوصل كما لم تثبت الهاء في الوصل في نحو: ارمه واغزه، لأنها إنما تلحق في الوقف لتبين الحرف الموقوف عليه، فإذا وقف قال: {لكنا}، فأثبت الألف في الوقف كما كان يثبت الهاء فيه. ومثل ذلك في الإدغام ما حكاه أبو زيد من قول من سمعه يقرأ: (أن تقع علرض) [الحج / 65] خفّف الهمزة، وألقى حركتها على لام المعرفة فصار على الرض. وخفّفها على قول من قال: الحمر، فأثبت همزة الوصل لأن اللام في تقدير السكون، فلمّا كان في تقدير السكون حذف الألف من على، كما يحذفها إذا كانت اللام ساكنة، فاجتمع لامان مثلان فأدغم الأولى في الثانية، ولو خفّفها على قول من قال: لحمر، لم يجز الإدغام لأن الألف في على تثبت ولا تحذف كما حذفت في القول الأول، لما كانت اللام في تقدير سكون، فلم يجز الإدغام لفصل
__________
(1) السبعة 391.(5/145)
الألف بين المثلين، فإذا وقف من أدغم {لكنا} أثبت الألف، وإذا لم يقف حذفها.
ومثل هذه الألف في أنها تثبت في الوقف وتسقط في الإدراج، الألف في حيهلا، تقول: حيّ هل بعمر، فتحذفها، فإن وقفت قلت:
حيّهلا، وقد تجيء هذه الألف مثبتة في الشعر في الإدراج، كقول الأعشى:
فكيف أنا وانتحالي القوافي (1)
وقول الآخر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميد قد تذرّيت السّناما (2)
ولا يكون هذا مختارا في القراءة، وقد جاء في غير هذا إجراء الوصل مجرى الوقف. نحو قوله:
ببازل وجناء أو عيهلي (3)
فأما من قرأ {لكنا هو الله ربي} في الوصل فإنه يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يجعل الضمير المتصل مثل المنفصل الذي هو: نحن، فيدغم النون من لكن لسكونها في النون من علامة الضمير، فيكون على هذا في الوصل والوقف، {لكنا} بإثبات الألف لا غير، ألا ترى أن أحدا لا يحذف الألف في نحو: فعلنا.
وقوله: {هو} من: {هو الله ربي} علامة الحديث والقصة، كما أنه من قوله: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء / 97]
__________
(1) صدر بيت للأعشى سبق في 2/ 365.
(2) سبق في 2/ 365.
(3) سبق في 1/ 152 (حاشية) و 2/ 362.(5/146)
وقوله: {قل هو الله أحد} [الإخلاص / 1] كذلك والتقدير: الأمر الله أحد، لأن هذا الضمير يدخل على المبتدأ والخبر، فيصير المبتدأ والخبر في موضع خبر، كما أنّه في: إنّ، وكأن، وظننت، وما يدخل على المبتدأ والخبر كذلك، وعاد الضمير على الضمير الذي دخلت عليه لكن على المعنى، ولو عاد على اللفظ لكان: لكنا هو الله ربنا، ودخلت لكن على الضمير مخففة كما دخلت في قوله: {إنا معكم}
[البقرة / 14] وهذا وجه.
ويجوز فيه وجه آخر: وهو أن سيبويه حكى أنه سمع من العرب من يقول: أعطني أبيضه (1)، فشدّد وألحق الهاء. والتشديد للوقف، وإلحاقه إياها، كإلحاقه الألف في: سبسبّا (2). والياء في: عيهلي (3).
فأجرى الهاء مجراهما في الإطلاق كما كانت مثلهما في قوله:
صفية قومي ولا تجزعي ... وبكي النساء على حمزة (4)
فهذا الذي حكاه سيبويه في الكلام، وليس في شعر، وكذلك الآية تكون الألف فيها كالهاء، ولا تكون الهاء للوقف، ألا ترى أنّ هاء الوقف لا يبين بها المعرب، ولا ما ضارع المعرب، فعلى أحد هذين الوجهين يكون قول من أثبت الألف في الوصل أو عليهما جميعا. ولو كانت فاصلة لكان مثل {فأضلونا السبيلا} [الأحزاب / 76].
__________
(1) يريد: أبيض. الكتاب 2/ 283، باب: الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل.
(2) يشير إلى بيت من الرجز لرؤبة وهو:
وهبت الريح بمور هبّا ... تترك ما أبقى الدبا سبسبا
قد سبق انظر 1/ 65، 410.
(3) سبق قريبا.
(4) لكعب بن مالك وقد سبق انظر 1/ 73، 212.(5/147)
الكهف: 39
وقرأ ابن كثير: (إن ترني أنا) [الكهف / 39] و (يؤتيني خيرا) [40] و (نبغي فارتدا) [64]، و (إن تعلمني مما) [66] و (يهديني ربّي) [24] يثبت الياء في الوصل والوقف.
وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل في هذه الحروف، وزاد (فهو المهتدي) [17] بياء في الوصل، ويحذفها في الوقف.
الكسائي يحذفها ويثبت الياء في (نبغي) وحدها في الوصل.
ابن عامر وعاصم وحمزة يحذفون الياء في الوصل والوقف في كلّ ذلك (1).
إثبات ابن كثير الياء فيما أثبت من هذه الحروف في الوصل والوقف هو الأصل والقياس، وإثبات نافع وأبي عمرو الياء في هذه الحروف التي حكيت عنهما في الوصل هو القياس والأصل، وحذفهما لها في الوقف أنه فواصل، أو قد أشبهت الفواصل، فحذفاها كما تحذف في القوافي لأنه موضع وقف، والوقف مما يعبّر فيه الكلم عن حالها في الوصل.
وأما حذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء في هذه الحروف في الوصل والوقف فإن حذفهم لها في الوقف كحذف من تقدم ذكره، لأنها كالفواصل، وأما حذفها في الوصل (2)، فلأنهم قد يحذفون مما ليس بفاصلة في الوصل نحو: {يوم يأت لا تكلم} [هود / 105].
الكهف: 43
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عز وجل: {ولم تكن له فئة}
[الكهف / 43].
__________
(1) السبعة 391، 392.
(2) كذا الأصل ولعل الصواب «الوصل» بإسقاط الألف: أو: «الفواصل» بزيادة الفاء.(5/148)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر فيما أرى: {ولم تكن} بالتاء.
وقرأ حمزة والكسائي (ولم يكن) بالياء (1).
الياء والتاء كلاهما حسن وقد مضى ذلك في غير موضع.
الكهف: 44
اختلفوا في قوله عز وجل: {هنالك الولاية لله الحق}
[الكهف / 44].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في الروايتين (2):
{الولاية} بفتح الواو {لله الحق} خفضا.
وقرأ حمزة: (هنا لك الولاية لله الحقّ) بكسر الواو والقاف.
وقرأ أبو عمرو: (هنا لك الولاية لله الحقّ) بفتح الواو وضم القاف.
وقرأ الكسائي: (هنا لك الولاية) كسرا (لله الحقّ) بضم القاف (3).
قال أبو علي: قال أبو عبيدة: الولاية: أي التوالي، قال: وهو مصدر الوليّ (4)، وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أنّ الولاية هنا لحن، والكسر يجيء في فعالة فيما كان صنعة ومعنى، متقلّدا كالكتابة والإمارة والخلافة وما أشبه ذلك، وليس هنا معنى تولّي أمر إنّما هو الولاية من الدين وكذلك التي في الأنفال: {ما لكم من ولايتهم من
__________
(1) السبعة 392.
(2) أي: رواية أبي بكر ورواية حفص.
(3) السبعة 392.
(4) مجاز القرآن 1/ 405 (الحاشية).
} {شيء} [72]، وقد كسر قوم من القراء ذلك أيضا، وحكى ابن سلام عن يونس في قوله: (هنا لك الولاية لله الحق) قال يونس: ما كان لله عزّ وجل فهو ولاية مفتوح من الولاية في الدين، وما كان من ولاية الأمور فبالكسر: ولاية. وقال بعض أهل اللغة: الولاية: النصر. يقال: هم أهل ولاية عليك، أي: متناصرون عليك، والولاية: ولاية السلطان، قال: وقد يجوز الفتح في هذه والكسر في تيك، كما قالوا: الوكالة والوكالة، والوصاية والوصاية بمعنى واحد، فعلى ما ذكر هذا الذاكر يجوز الكسر في الولاية في هذا الموضع.(5/149)
__________
(4) مجاز القرآن 1/ 405 (الحاشية).
{شيء} [72]، وقد كسر قوم من القراء ذلك أيضا، وحكى ابن سلام عن يونس في قوله: (هنا لك الولاية لله الحق) قال يونس: ما كان لله عزّ وجل فهو ولاية مفتوح من الولاية في الدين، وما كان من ولاية الأمور فبالكسر: ولاية. وقال بعض أهل اللغة: الولاية: النصر. يقال: هم أهل ولاية عليك، أي: متناصرون عليك، والولاية: ولاية السلطان، قال: وقد يجوز الفتح في هذه والكسر في تيك، كما قالوا: الوكالة والوكالة، والوصاية والوصاية بمعنى واحد، فعلى ما ذكر هذا الذاكر يجوز الكسر في الولاية في هذا الموضع.
وأما من قال: {هنالك الولاية لله الحق} فكسر القاف فإنه جعله من وصف الله سبحانه، ووصفه بالحق وهو مصدر كما وصفه بالعدل وبالسلام، والمعنى: أنه ذو الحق وذو السلام، وكذلك الإله معناه: ذو العبادة، يدلّ على ذلك قوله: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين}
[النور / 25] وقوله: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} [الأنعام / 62].
ومن رفع (الحقّ) جعله صفة للولاية، ومعنى وصف الولاية بالحق أنه لا يشوبها غيره، ولا يخاف فيها ما يخاف في سائر الولايات من غير الحق.
الكهف: 44
اختلفوا في التخفيف والتثقيل من قوله جل وعز: {عقبا}
[الكهف / 44].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: (عقبا) مضمومة القاف.
وقرأ عاصم وحمزة: {عقبا} ساكنة القاف (1).
(1) السبعة 392.(5/150)
أبو عبيدة: خير عقبا، وعاقبة، وعقبى، وعقبة، والمعنى واحد وهي الآخرة (1). قال أبو علي: ما كان على فعل جاز تخفيفه نحو العنق، والطنب وقد تقدم ذكر ذلك.
الكهف: 47
اختلفوا في قوله عز وجل: {ويوم نسير الجبال} [الكهف / 47].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ويوم تسيّر) بالتاء. (الجبال) رفعا.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: {نسير} بالنون {الجبال} نصبا (2).
حجة من بنى الفعل للمفعول به فقال: (تسير) قوله: {وسيرت الجبال}، وقوله: {وإذا الجبال سيرت} [التكوير / 3].
ومن قال: {نسير} فلأنه أشبه بما بعده من قوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} [الكهف / 47] فإن قلت: وقد جاء {وتسير الجبال سيرا} [الطور / 10] ولم يجب على هذا أن يقال: (تسيّر الجبال)، قيل: إنما قرئ على: (تسيّر الجبال) و (نسيّر الجبال) ولم يقرأ على غير هذين الوجهين، فكما أسند الفعل إلى المفعول به في قوله:
(وسيّرت الجبال) كذلك أسند إليها في قوله: (تسيّر الجبال).
الكهف: 52
اختلفوا في قوله تعالى: {ويوم يقول نادوا} [الكهف / 52] في النون والياء.
فقرأ حمزة وحده: (نقول) بالنون وقرأ الباقون بالياء (3).
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 405.
(2) السبعة 393.
(3) السبعة 393.(5/151)
قال أبو علي: قول حمزة (نقول) إن قبلها: {وما كنت متخذ المضلين عضدا} [الكهف / 51] (ويوم نقول): محمول على ما تقدم في المعنى، فكما أن {كنت} للمتكلم كذلك (نقول) والجمع والإفراد في ذلك بمعنى.
وحجة الياء أن الكلام الأول قد انقضى. وهذا استئناف، فالمعنى: {ويوم يقول}: أي يوم يقول الله سبحانه: أين شركائي الذين زعمتم وهذا يقوّي القراءة بالياء دون النون، ولو كان بالنون لكان أشبه بما بعده أن يكون جمعا مثله، فيقول: شركاءنا، فأما قوله: {الذين زعمتم}، فالراجع إلى الموصول محذوف، وخبر الزعم محذوف، والمعنى: الذين زعمتموهم إياهم، أي: زعمتموهم شركاء، فحذف الراجع من الصلة، ولا بد من تقديره، كقوله: {أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان / 41] ومثل هذا في حذف المفعولين جميعا، قول الشاعر، وهو الكميت:
بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة ... ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب (1)
فالآية أقوى من هذا، لأن الراجع إلى الموصول مقتضى، وإذا ثبت الراجع ثبت حصول المفعول الثاني، لأن الاقتصار على الأول من المفعولين لا يجوز.
الكهف: 55
اختلفوا في قوله عز وجل: (العذاب قبلا) [الكهف / 55] في كسر القاف وفتح الباء، وضم القاف والباء.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (قبلا) بكسر القاف.
__________
(1) انظر المحتسب 1/ 183، الخزانة 4/ 5، والعيني 2/ 413، الدرر 1/ 134.(5/152)
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {قبلا} رفعا (1).
أبو عبيدة: قبلا مقابلة (2)، وقال أبو زيد: لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقُبُلا وقبليّا وقبيلا كلّه واحد [وهو المواجهة] (3).
قال أبو علي: فقوله: قبلا، أي: مقابلة. وقالوا إذا سقى إبله ولم يكن أعدّ لها الماء قبل ورودها: سقاها قبلا، والقابل: الذي يسقيها وهي تقابل سقيه (4)، قال الراجز:
لن يغلب اليوم جباكم قبلي (5)
فهذا أيضا من المقابلة فمعنى: (أو يأتيهم العذاب قُبلا) أي:
مقابلة من حيث يرونه وهذا كقوله: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم}
[الأحقاف / 24].
وأما قراءة عاصم وحمزة والكسائي {قبلا} فيحتمل تأويلين:
يجوز أن يكون قُبُلا بمعنى قبلا، كما حكاه أبو زيد، فيكون معنى القراءتين على ما فسره واحدا اختلف اللفظ، واتفق المعنى، ويجوز أن يكون قُبُلا جمع قبيل، كأنّه: يأتيهم العذاب قبيلا قبيلا، أي: صنفا صنفا، فجمع قبيلا الذي هو فعيلا على فُعُل، وصنوف العذاب التي يقابلونها كما أخذ أصحاب فرعون، فيكون ضروبا مختلفة كلّ قبيل منه
__________
(1) السبعة 393.
(2) مجاز القرآن 1/ 407 (حاشية).
(3) النوادر (ط. الفاتح) ص 570وما بين معقوفين منه.
(4) السقب والصقب: عمود الخباء، والسقب بالسين لا غير: ولد الناقة، وقيل: الذكر من ولد الناقة (اللسان).
(5) الجبا: أن يتقدم الساقي للإبل قبل ورودها بيوم، فيجبي لها الماء في الحوض ثم يوردها من الغد.(5/153)
غير صاحبه، ويكون ضربا واحدا ويجيئهم منه شيء بعد شيء.
الكهف: 63
وقرأ الكسائي وحده: {وما أنسانيه} [الكهف / 63] بإمالة السين. وكلهم فتحها غيره (1).
قال أبو علي: الإمالة في السين من {أنسانيه} سائغة، لأنك تقول: أنسيته، وسواء كان من نسيت، الذي هو خلاف ذكرت، أو من نسيت الذي هو تركت، لأن كلّ واحد منهما يتعدّى إلى مفعول واحد، وإذا نقلته بالهمزة تعدّى إلى مفعولين، فالإمالة في السين شائعة من حيث قلت في كلّ واحد منهما أنسيته، وفي التنزيل: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر / 59].
حفص عن عاصم {أنسانيه إلا} بضم الهاء، وفي الفتح: بما عاهد عليه الله [الفتح / 10] بضم الهاء. أبو بكر عن عاصم:
{أنسانية} بكسر الهاء و (بما عاهد عليه الله) بكسر الهاء.
الباقون بكسر الهاء من غير بلوغ ياء، إلا ابن كثير فإنه يثبت الياء في الوصل بعد الهاء (أنسانيهي إلا) (1).
قال: وقد تقدم ذكر القول في وجوه ذلك كلها.
الكهف: 66
اختلفوا في قوله تعالى: {مما علمت رشدا} [الكهف / 66] في التثقيل والتخفيف.
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وحمزة والكسائي: {مما علمت رشدا} مضمومة الراء خفيفة الشين.
وقرأ ابن عامر: (مما علّمت رشدا)، مضمومة الراء والشين،
__________
(1) السبعة 393.(5/154)
هكذا في كتابي عن أحمد بن يوسف عن ابن ذكوان، ورأيت في كتاب موسى بن موسى عن ابن ذكوان: {رشدا}: خفيفة، وقال هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر {رشدا} خفيفة.
وقرأ أبو عمرو (رشدا)، مفتوحة الراء والشين (1).
قال: رشدا ورشدا لغتان، وكلّ واحد منهما بمعنى الآخر، وقد أجرت العرب كلّ واحد منهما مجرى الآخر، فقالوا: وثن ووثن، وأسد وأسد وخشبة وخشب، وبدنة وبدن، فجمعوا فعلا على فعل، ولما كان فُعل يجري عندهم مجرى فعل جمعوا أيضا فُعلا على فُعل، كما جمعوا فعلا عليه. وذلك قوله: {والفلك التي تجري في البحر}
[البقرة / 164]، وفي أخرى: في الفلك المشحون [الشعراء / 119] [يس / 41]، فهذا يدلّك على أنهما عندهم يجريان جميعا مجرى واحدا، وعلى هذا أيضا جمعوا فُعلا وفَعَلا، على فعلانٍ، فقالوا: قاعٌ وقيعان. وتاج وتيجان، وقالوا: حوت وحيتان، ونون ونينان، وقد قيل: إن القراءة ب رشدا أرجح، لأنهم اتفقوا في قوله: {فأولئك تحروا رشدا} [الجن / 14] على الفتح، والتي في الكهف رأس آية مثل ما وقع الاتفاق على فتحه، وتحريك عينه، فوجب أن يكون هذا أيضا مثله، من حيث اجتمعا في أن كل واحد في رأس آية. فأما انتصاب رشدا، فيجوز أن ينتصب على أنه مفعول له، ويكون متعلقا بأتّبع، وكأنّه: هل أتّبعك للرشد، أو لطلب الرّشد على أن تعلمني، فيكون على حالا من قوله: أتبعك، ويجوز أن يكون للرشد مفعولا به تقديره: هل أتبعك على أن تعلّمني رشدا مما علمته، ويكون العلم
__________
(1) السبعة 394.(5/155)
الذي يتعدّى إلى مفعول واحد يتعدّى بتضعيف العين إلى مفعولين، كقوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة / 31] تقديره: هل أتّبعك على أن تعلّمني رشدا مما علمته. فحذفت الراجع من الصلة إلى الموصول، ويكون على هذا كلّ واحد من الفعلين قد استوفى مفعوليه اللذين يقتضيهما الفعلان، ومعنى: علّمني رشدا: علّمني أمرا ذا رشد، أو علما ذا رشد.
الكهف: 59
قال: قرأ عاصم وحده، في رواية أبي بكر: (لمهلكهم) [الكهف / 59] بفتح الميم واللام الثانية. وفي النمل: (ما شهدنا مهلك أهله) [49] مثلها. وروى عنه حفص: {لمهلكهم} و {مهلك أهله}
بكسر اللام فيهما.
وقرأ الباقون: (لمهلكهم) و (مهلك أهله)، بضم الميم وفتح اللام (1).
قالوا: هلك زيد وأهلكته، وفي التنزيل: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} [القصص / 58] وفيه: {أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا} [الملك / 28] وحكوا أن تميما تقول: هلكني زيد، كأنهم جعلوه من باب رجع، ورجعته، وغاض الماء وغضته، وعلى هذا حمل بعضهم:
ومهمه هالك من تعرّجا (2)
فقالوا: هو بمنزلة: مهلك من تعرّجا. ومن لم يجعل هلك
__________
(1) السبعة 393.
(2) شطر بيت من الرجز للعجاج في ديوانه 2/ 43. والمهمه: الأرض القفر المستوية وانظر ما سبق 4/ 379(5/156)
متعدّيا ففي هالك ضمير عائد إلى النكرة، واسم الفاعل مضاف إلى المفعول به، كما أنّه لو كان مكان الهالك المهلك كان كذلك، ومن لم يجعل هالك بمعنى مهلك كان تقديره: هالك من تعرّجه، ومن تعرجه فاعل المهلك في المعنى وموضعه نصب مثل: حسن الوجه، فلمّا حذف التنوين أضافه إليه مثل حسن الوجه، فموضع «من تعرّجا»: جرّ على هذا الحدّ. فقول عاصم: (لمهلكهم): مصدر يكون على قول من عدّى هلكت مضافا إلى المفعول به، نحو {من دعاء الخير}
[فصلت / 49] وفي قول من لم يعدّ هلكت مضافا إلى الفاعل، كقولك: وجعلنا لهلاكهم. والمصدر من فعل في الأمر الشائع يبنى على مفعل.
ومن قال: (وجعلنا لمهلكهم موعدا) كان المصدر مضافا إلى المفعول بهم، كأنّه: لإهلاكهم موعدا. ورواية حفص عن عاصم:
{لمهلكهم} ومهلك الرواية الأولى، وفتح اللام التي هي عينٌ من مهلك أقيس وأشيع، وقد جاء المصدر من باب فعل يفعل بكسر العين قال: {إلي مرجعكم} [آل عمران / 55] وقال: {يسألونك عن المحيض} [البقرة / 222] وقالوا: ما في برّك مكيل، يريدون: الكيل، والأول أكثر وأوسع.
الكهف: 70
اختلفوا في قوله: (فلا تسألن عن شيء) [الكهف / 70].
فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {فلا تسألني} ساكنة اللام.
وقرأ نافع: (تسألني) مفتوحة اللام مشدّدة النون.
وقرأ ابن عامر: (فلا تسألنّ عن شيء) اللام متحركة بغير ياء
مكسورة النون. وقال هشام عنه: (تسألني) بتاء مشدّدة النون (1).(5/157)
وقرأ ابن عامر: (فلا تسألنّ عن شيء) اللام متحركة بغير ياء
مكسورة النون. وقال هشام عنه: (تسألني) بتاء مشدّدة النون (1).
قول ابن كثير ومن تبعه عدّوا فيه السؤال إلى المفعول الذي هو المتكلم مثل: لا تضربنّي، ولا تظلمنّي، ونحو ذلك.
وقول نافع: (تسألنّي) مفتوحة اللام، ففتحة اللام لأنه لما ألحق الفعل الثقيلة بنى الفعل معها على الفتح. فإن أثبت الياء، كما أثبت من تقدّم ذكره، فقد عدّاه إلى المفعول به كما عدّاه من تقدّم. فإن فتح النون عدّى الفعل في المعنى، وليس في اللفظ بمتعد.
وقول ابن عامر: (فلا تسألنّ) ألحق الثقيلة، وعدّى الفعل إلى المفعول به في اللفظ، والكسرة في النون تدلّ على إرادة المفعول به، وحذف الياء من اللفظ.
ورواية هشام (تسألنّي) بياء، مشدّدة النون، تعدّى الفعل فيه إلى المفعول به، وبيّن إثبات علامته غير محذوف منها الياء.
الكهف: 71
اختلفوا في الياء والتاء من قوله: {لتغرق أهلها} [الكهف / 71] ورفع الأهل ونصبهم.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم: {لتغرق}
بالتاء {أهلها} نصبا.
وقرأ حمزة والكسائي: (ليغرق أهلها) بفتح الياء والراء (أهلها) رفع (2). وكلهم يخفّف الراء.
قال أبو علي: {لتغرق} أولى ليكون الفعل مسندا إلى المخاطب
__________
(1) السبعة 394.
(2) السبعة 395، وسقط قوله بعد: «وكلهم يخفف الراء» منه.(5/158)
كما كان المعطوف عليه كذلك، ألا ترى أن المعطوف عليه: {أخرقتها}
وكذلك المعطوف، وهذا يجيء على معنى الياء، لأنه إذا أغرقهم غرقوا، وما بعده أيضا كذلك وهو قوله: {لقد جئت} فهو أيضا خطاب.
قال: وكلهم خفف الراء، يعني أنهم قرءوا: {لتغرق}، ولم يقل أحد منهم لتغرّق، وذلك لقوله: {فأغرقناهم أجمعين} [الأنبياء / 77]، ولقوله: {وأغرقنا آل فرعون} [البقرة / 50]، وقد يدخل فَعَّلَ في هذا النحو نحو: غرّمته وأغرمته، إلا أن الذي جاء به التنزيل أولى.
الكهف: 74
اختلفوا في التخفيف والتثقيل من قوله عز وجل: {نكرا}
[الكهف / 74].
فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو الكسائي: {نكرا} خفيفة في كلّ القرآن إلا قوله: {(إلى شيء نكر)} [القمر / 6]، وخفف ابن كثير أيضا (إلى شيء نكر).
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر في كلّ القرآن: (نكرا) و (نكر) مثقّل. حفص عن عاصم {نكرا} خفيفة.
واختلف عن نافع فروى إسماعيل بن جعفر {نكرا} خفيفا في كل القرآن، إلا قوله: (إلى شيء نكر) فإنه مثقّل. وروى ابن جمّاز وقالون والمسيبي وأبو بكر بن أبي أويس وورش عن نافع (نكرا) مثقّل في كلّ القرآن، نصر عن الأصمعي عن نافع (نكرا) مثقل (1).
قال أبو علي: نكر: فُعُل، وهو من أمثلة الصفات، قالوا: ناقة
__________
(1) السبعة 395.(5/159)
أجد، ورجل شلل، ومشية سجح وأنشد سيبويه:
وامشوا مشية سجحا (1)
فمن خفّف ذلك، فكما يخفّف العنق والعنق، والطنب والطنب، والشغل والشغل، والتخفيف في ذلك مستمر، وإذا كان الأمر كذلك فمن أخذ بالتثقيل وبالتخفيف كان مصيبا، وكذلك إن أخذ آخذ باللغتين وقرأ في موضع بالتخفيف وفي موضع بالتثقيل فجائز.
الكهف: 76
اختلفوا في قوله: {من لدني} [الكهف / 76].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: {من لدني} مثقل.
وقرأ نافع: (من لدني) بضم الدال مع تخفيف النون.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (من لدني) يشمّ الدال شيئا من الضم في رواية خلف عن أبي بكر عن عاصم. وقال غيره عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم (من لدني) يسكن الدال مع فتح اللام. وروى أبو عبيدة عن الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: (من لدني) بضم اللام وتسكين الدال وهو غلط. وفي كتاب المعاني الذي عمله إلى طه عن الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: (من لدني) مفتوحة اللام ساكنة الدال، وقال حفص عن عاصم: {لدني} مثل أبي عمرو وحمزة (2).
قال أبو علي: من قال: {من لدني}، زاد النون التي تزاد مع
__________
(1) هذه قطعة من بيت لحسان بن ثابت تمامه:
دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا ... إن الرجال ذوو عصب وتذكير
انظر ديوانه 1/ 219والكتاب 2/ 315واللسان (سجح).
(2) السبعة 396.(5/160)
علامة المضمر المجرور والمنصوب في نحو: منّي وعنّي، وقطني، وضربني، فأدغم الأولى الساكنة في التي تزاد مع الضمير، فصار {لدني}، وهذا هو القياس، والذي عليه الاستعمال.
وقرأ نافع (من لدني)، بضم الدال مع تخفيف النون. وجه ذلك: أنه على ما قدّم ذكره إلا في حذفه النون التي تلحق علامة الضمير، وإنما حذفها كما حذفت من قدني وقدي، قال:
قدني من نصر الخبيبين قدي (1).
ولا تكون النون المحذوفة الثالثة من لدن لأنها تردّ مع إضافتها إلى الضمير في نحو: {من لدنه ويبشر} [الكهف / 2]، ومن لدنّا ولدنّي، فكما لا تحذف من علامة الضمير، وإن حذفت من: «لد شول» (2) و «لد غدوة» (3) فإنها تردّ مع الضمير إلى الأصل، كما ردّوا:
فلا بك ما أسال ولا أغاما (4)
ونحو ذلك. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (من لدني) يشمّ الدال شيئا من الضم في رواية خلف، قال أبو علي: وجه ذلك أن لدن مثل سبع، وعضد، فكما تحذف الضمة من نحو سبع، كذلك حذفت من لدن، فصار لدن، فأما إشمامها الضم فليعلم أن الدال كانت تتحرك بالضم، كما أن من قال: تغزين، وقيل، فأشمّ الحرفين الضمة، أراد أن يعلم أنها في الأصل مضمومة.
__________
(1) سبق انظر 3/ 334.
(2) سبق في ص 125.
(3) سبق في ص 127.
(4) سبق انظر 1/ 106.(5/161)
قال أحمد: وقال غيره عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم:
يسكن الدال مع فتح اللام. قال أبو علي: هذا هو الوجه الذي تقدّم، إلا أنه لم يشمّ الدال الضمة، وإنما لم يشمّها، كما أن كثيرا منهم لا يشمّون الضمة نحو: قيل.
قال: وروى أبو عبيدة عن الكسائي عن أبي بكر عن عاصم:
(من لدني) بضم اللام، ويسكن الدال، قال أحمد: وهو غلط. قال أبو علي: يشبه أن يكون التغليط من أبي بكر أحمد في وجه الرواية، فأما من جهة اللغة ومقاييسها فهو صحيح، ألا ترى أنّ مثل سبع وعضد إذا خفف فتخفيفه على ضربين، أحدهما: أن تحذف الضمة وتبقى فتحة الفاء على حالها، فيقال: عضد. والآخر: أن تلقى الحركة التي هي الضمّة على الفاء، وتحذف الفتحة فيقال: عضد، فكذلك لدن، ومثل ذلك: كبد وكبد وكبد، فهذه أوجه هذه الرواية في القياس. والنون التي تتبع علامة الضمير تحذف إذا سكنت الدال، لأن الدال قد سكنت بإلقاء الحركة منها، والنون من لدن ساكنة، فتحذف النون، لأن إدغام الأولى فيها لا يصلح لسكون ما قبلها من الدال فيصير لدني أو لدني (1)، فيحذف لالتقاء الساكنين، أحدهما الدال المسكنة، والآخر نون لدن، فإن أدغمت ولم تحذف لزمك أن تحرّك الدال لئلا يلتقي ساكنان، فيصير في الامتناع للإدغام بمنزلة امتناعه في: قرم مالك، في تحريك الساكن في المنفصل، وهذا ممتنع، فلما لم يسغ ذلك حذف لالتقاء الساكنين إذ قد حذفت لالتقائهما في نحو: لد الصلاة ولد الحائط.
__________
(1) كتب في الهامش (ط) من هنا إلى آخر الفصل سقط من كتاب الشيخ.(5/162)
الكهف: 77
اختلفوا في قوله: (لتخذت) [الكهف / 77].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (لتخذت) بكسر الخاء، وكان أبو عمرو يدغم الدال، وابن كثير يظهرها.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {(لاتخذت).
وكلّهم أدغم إلا ما روى حفص عن عاصم فإنه لم يدغم مثل ابن كثير} [1].
قال أبو زيد: اتّخذنا مالا فنحن نتّخذه اتّخاذا، وتخذت أتخذ تخذا. وحكى سيبويه: استخذ فلان أرضا (2)، يتأوّله على أمرين:
أحدهما: أنه أراد اتّخذ فأبدل (3) السين من التاء الأولى، والآخر: أنه استفعل، فحذف التاء التي هي فاء، من تخذت.
قال أبو علي: قوله: (لتخذت) بكسر الخاء: فعلت، وأنشدوا:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفا كأُفحوص القطاة المطرّق (4)
وقال: وكان أبو عمرو يدغم الدال، ووجه الإدغام أن هذه الحروف متقاربة، فيدغم بعضها في بعض كما يدغم سائر المتقاربة، والطاء والدال، والتاء والذال والثاء والظاء، أدغم بعضها في بعض للمقاربة، فأما الصاد والسين والزاي فتدغم بعضها في بعض، وتدغم فيها الحروف الستة ولا يدغمن في الستة لما يختل في إدغامها في
__________
(1) السبعة 396.
(2) سيبويه 2/ 429.
(3) في الأصل: فأن بدل.
(4) سبق في 2/ 68.(5/163)
مقاربها من الصّفير، فالذال أدغمها أبو عمرو في التاء، وإن كانت مجهورة والتاء مهموسة لأن ما بينهما من الجهر والهمس لا يمنع من الإدغام لقلة ذلك.
فأما تبيين ابن كثير: (لتخذت) وتركه الإدغام، فلأن لكل حرف من الذال والتاء حيزا غير حيّز الآخر، فالذال من حيّز الظاء والثاء، فلم يدغم لاختلاف الحيّزين واختلاف الحرفين في الجهر والهمس.
وحكى سيبويه أنهم قالوا: أخذت، فبيّنوا.
الكهف: 81
اختلفوا في التخفيف والتشديد من قوله جل وعزّ: {أن يبدلهما}
[الكهف / 81].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: {أن يبدلهما}
[الكهف / 81] (وليبدلنهم) [النور / 55] و {أن يبدله أزواجا خيرا منكن} [التحريم / 5] و {أن يبدلنا خيرا منها} [ن / 32] خفافا جمع.
وقرأ نافع وأبو عمرو في الكهف والتحريم ونون والنور مشدّدا كلّه.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي في الكهف والتحريم ونون مخففا، وفي النور: {وليبدلنهم} مشدّدة. وروى حفص عن عاصم أنّه خفف في الكهف والتحريم ونون، وشدّد في النور (1).
قال: بدّل وأبدل يتقاربان في المعنى، كما أن نزّل وأنزل كذلك، إلا أن بدّل ينبغي أن يكون أرجح لما جاء في التنزيل من قوله:
{لا تبديل لكلمات الله} [يونس / 64] ولم يجيء منه الإبدال كما جاء
__________
(1) السبعة 397.(5/164)
التبديل في مواضع من القرآن، وقد جاء: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج} [النساء / 20] فهذا يكون بمعنى الإبدال كما أن قوله:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب (1)
بمعنى: فلم يجبه، فكما جاءت يستجبه بمنزلة يجبه، كذلك الاستبدال يمكن أن يكون بمعنى الإبدال، فأما من قال: إن بدّل غير أبدل، لأن قولك: تبدل، هو أن تذهب بالشيء وتجيء بغيره، كقوله:
عزل الأمير للأمير المبدل (2)
وقد يقال: يبدّل في الشيء، وقد يكون قائما وغير قائم، كقوله:
{وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} [النور / 55] فالخوف ليس بقائم في حال الأمن، ومن قال: {وإذا بدلنا آية مكان آية} [النحل / 101] فقد تكون الآية المبدلة قائمة التلاوة كقوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر} [البقرة / 234] {والذين يتوفون منهم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج}
[البقرة / 240]. وربما رفع المبدل من التلاوة. وقال: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين} [سبأ / 16] فالجنتان قائمتان، وقال: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم} [البقرة / 59] فالقولان جميعا قائمان، فليس ينفصل بدّل من أبدل في هذا النحو بشيء.
الكهف: 81
اختلفوا في التخفيف والتثقيل من قوله عز وجل: {رحما} [81].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وحمزة والكسائي: (رحما) ساكنة الحاء.
__________
(1) هذا عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي سبق في 1/ 352.
(2) هذا رجز لأبي النجم، انظر تهذيب اللغة 14/ 132، واللسان (بدل).(5/165)
وقرأ ابن عامر: رحما مثقلة الحاء، وروي عن أبي عمرو:
(رُحما ورُحُما). عباس عن أبي عمرو أنه قال: أيتهما شئت فاقرأ.
قال: وأنا أقرأ بالضم (رحما). علي بن نصر، عن أبي عمرو:
{وأقرب رحما} و (رحما) بتسكين الحاء وتحريكها (1).
أبو عبيدة (2): الرّحم والرّحم، وهو الرحمة، وأنشد العجاج:
ولم تعوّج رحم من تعوّجا (3)
وأنشد غيره لرؤبة:
يا منزل الرّحم على إدريس ... ومنزل اللعن على إبليس (4)
قال أبو عبيدة: {وأقرب رحما}: عطفا.
الكهف: 92، 89، 85
اختلفوا في تشديد التاء وتخفيفها من قوله: {فأتبع سببا}
[الكهف / 85] (ثم اتبع سببا) [الكهف / 89، 92].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (فاتبع سببا) (ثم اتّبع سببا) (ثم اتّبع سببا) مشددات التاء، وقرءوا: {فأتبعوهم مشرقين}
[الشعراء / 60] مهموزا، وكذلك: {فأتبعه الشيطان} [الأعراف / 175] وكذلك: {فأتبعه شهاب ثاقب} [الصافات / 10] {فأتبعه شهاب مبين}
[الحجر / 18]. وقرءوا {واتبع الذين ظلموا} [هود / 116] مشدّدة
__________
(1) السبعة 397.
(2) مجاز القرآن 1/ 413.
(3) ديوان العجاج 2/ 66، وفيه:
ولم تعرّج رحم من تعرّجا
(4) ديوان رؤبة / 175وانظر اللسان (رحم).(5/166)
التاء. وروى حسين عن أبي عمرو: (وأتبع الذين ظلموا) رواه هارون عن حسين عنه.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {فأتبع سببا} {ثم أتبع سببا} {ثم أتبع سببا} {فأتبعه شهاب}، {فأتبعوهم مشرقين}، {فأتبعه الشيطان} مقطوع. {واتبع الذين ظلموا} موصولة (1).
أبو زيد: رأيت القوم فأتبعتهم اتباعا: إذا سبقوا فأسرعت نحوهم، ومروا علي فاتّبعتهم اتّباعا: إذا ذهبت معهم ولم يستتبعوك وتبعتهم أتبعهم تبعا مثل ذلك.
قال أبو علي: تبع فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمزة تعدّى إلى مفعولين، يدلّ على ذلك قوله: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة} [القصص / 42] وفي أخرى: {وأتبعوا في هذه لعنة}
[هود / 60] لمّا بني الفعل للمفعول قام أحد المفعولين مقام الفاعل.
فأما اتّبعوا فافتعلوا، فتعدى إلى مفعول واحد، كما تعدى فعلوا إليه، مثل: شويته واشتويته، وحفرته واحتفرته، وجرحته واجترحته، وفي التنزيل: {اجترحوا السيئات} [الجاثية / 21] وفيه {ويعلم ما جرحتم بالنهار} [الأنعام / 60] وكذلك: فديته وافتديته، وهذا كثير. وأما قوله:
{فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء / 60] فتقديره: فأتبعوهم جنودهم، فحذف أحد المفعولين كما حذف في قوله: {لينذر بأسا شديدا من لدنه} [الكهف / 2] ومن قوله: {لا يكادون يفقهون قولا} [الكهف / 93] والمعنى: لا يفقهون أحدا قولا، ولينذر الناس بأسا شديدا، {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} [الأنعام / 51] أي: عذابه أو
__________
(1) السبعة 398.(5/167)
حسابه، وقال: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} [آل عمران / 175] أي: يخوفهم بأوليائه، يدلّك على ذلك: {فلا تخافوهم وخافون} [آل عمران / 175]. فقوله: {فأتبع سببا} إنما هو افتعل الذي هو للمطاوعة، فتعدى إلى مفعول واحد، كقوله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} [البقرة / 102] {واتبعك الأرذلون} [الشعراء / 111].
فأمّا قراءتهم: {فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء / 60] فالمعنى:
أتبعوهم جنودهم مشرقين، وقوله: {فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا}
[يونس / 90] تقديره: أتبعهم فرعون طلبه إيّاهم وتتّبعه لهم، وكذلك {فأتبعه شهاب مبين}. المعنى: أتبعه شهاب مبين الإحراق، والمنع من استراق السمع. وقوله: {واتبع الذين ظلموا} [هود / 116] فمطاوع تبع، تعدّى إلى مفعول واحد، ومثله: {واتبعك الأرذلون}
[الشعراء / 111]. وأما ما رواه حسين عن أبي عمرو: (واتّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) فإن أتبع يتعدى إلى مفعولين من حيث كان منقولا من تبعه، فأقيم أحدهما مقام الفاعل، وانتصب الآخر كما انتصب الدرهم في: أعطي زيد درهما، والمعنى: وأتبع الذين ظلموا عقاب ما أترفوا فيه، وجزاء ما أترفوا فيه.
وقرأه عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: (فأتبع سببا) تقديره:
فأتبع سببا سببا، أو أتبع أمره سببا، أو أتبع ما هو عليه سببا، وقد فسّرت الآي التي ذكرها بعد فيما تقدّم. وقال بعض المتأوّلين في قوله:
{وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف / 84] المعنى: وآتيناه من كلّ شيء بالخلق إليه حاجة سببا، أي: علما ومعونة له على ما مكّناه فيه، وأتبع سببا، يراد به: اتجه في كلّ وجه وجهناه له وأمرنا به للسبب الذي
ينال به صلاح ما مكن منه. وقال أبو عبيدة: اتّبع سببا: طريقا وأثرا (1).(5/168)
{وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف / 84] المعنى: وآتيناه من كلّ شيء بالخلق إليه حاجة سببا، أي: علما ومعونة له على ما مكّناه فيه، وأتبع سببا، يراد به: اتجه في كلّ وجه وجهناه له وأمرنا به للسبب الذي
ينال به صلاح ما مكن منه. وقال أبو عبيدة: اتّبع سببا: طريقا وأثرا (1).
الكهف: 86
اختلفوا في قوله تعالى: {في عين حمئة} [الكهف / 86].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {حمئة} [الكهف / 86] وكذلك عاصم في رواية حفص: {حمئة} (2).
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي (حامية) (3).
أبو عبيدة: في {عين حميئة}: ذات حمأة (4). قال الحسن:
رحمه الله من قرأ: {حمئة} فهي فعلة، ومن قرأ: (حامية) فهي فاعلة من حميت تحمى فهي حامية. حدّثنا الكندي قال: حدثنا المؤمّل قال: حدثنا إسماعيل عن ابن أبي رجاء عن الحسن في قوله: (في عين حامية) قال: حارّة، ويجوز فيمن قرأ: (حامية) أن يكون فاعلة من الحمأة، فخفّف الهمزة على قياس قول أبي الحسن، فقلبها ياء محضة، وإن خفّف الهمزة من فاعل على قول الخليل كانت بين بين.
قال سيبويه: وهو قول العرب والخليل. وروي عن ابن عباس قال:
كنت عند معاوية فقرأ: (في عين حامية) فقلت: ما نقرؤها إلا {حمئة}
فقال: لعبد الله بن عمرو بن العاص كيف تقرؤها؟ قال: كما قرأتها يا أمير المؤمنين، قال ابن عباس: فقلت: في بيتي نزل القرآن، فأرسل معاوية إلى كعب: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال: أما
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 413.
(2) زاد في السبعة موضحا: «مهموزة بغير ألف».
(3) السبعة 398وزاد: بألف غير مهموزة.
(4) مجاز القرآن 1/ 413.(5/169)
العربية، فأنتم أعلم بها، وأجد الشمس في التوراة تغرب في ماء وطين، وكان جمهور الناس على (حامية) (1).
الكهف: 88
اختلفوا في الإضافة والتنوين من قوله عز وجل: {جزاء الحسنى} [الكهف / 88].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وابن عامر (جزاء الحسنى) (2) رفع مضافة.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {جزاء الحسنى}
منون منصوب (3).
قال أبو علي: من قرأ: (جزاء الحسنى)، كان المعنى: له جزاء الخلال الحسنى، لأن الإيمان والعمل الصالح خلال، فالتقدير:
المؤمن له جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها.
ومن قال: {فله جزاء الحسنى} فالمعنى: له الحسنى جزاء، أي: له الخلال الحسنى جزاء، فالجزاء مصدر واقع موقع الحال، المعنى: فله الحسنى مجزيّة، قال أبو الحسن: وهذا لا تكاد العرب تكلم به مقدّما إلا في الشعر.
الكهف: 94، 93
اختلفوا في ضمّ السين وفتحها من قوله جل وعزّ: (بين السدين) [الكهف / 93].
فقرأ ابن كثير: {بين السدين} بفتح السين، {وبينهم} [4] سدا
__________
(1) انظر تفسير البحر المحيط 6/ 159والقرطبي 11/ 49.
(2) سقطت من الأصل.
(3) السبعة 398.
(4) في الأصل (بينهما) وهو خطأ.(5/170)
[الكهف / 94] بفتح السين أيضا، وقرأ في يس: (سدّا) و (سدّا) [9] (1)، وأبو عمرو مثله. حفص عن عاصم بفتح ذلك كلّه.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر بضم السين في ذلك كلّه، وكذلك ابن عامر.
وقرأ حمزة والكسائي بضم (بين السّدين) وحدها، ويفتحان:
{وبينهم سدا} و {من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا} (2).
أبو عبيدة: كلّ شيء وجدته العرب من فعل الله من الجبال والشعاب فهو سدّ، وما بناه الآدميون فهو سدّ (3)، وقال غيره: هما لغتان بمعنى واحد، كالضّعف والضّعف، والفَقر والفُقر.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون السّد المصدر من سددته سدا، والسّد: المسدود في الأشياء التي يفصل فيها بين المصادر والأسماء نحو السِّقي والسُّقي، والطِّحن والطُّحن والشِّرب والشُّرب والقبض والقبض، فإذا كان ذلك كذلك، فالأشبه (بين السّدين) لأنه المسدود.
ويجوز فيمن فتح السّدين أن يجعله اسما للمسدود، نحو: نسج اليمن، وضرب الأمير تريد بهما: منسوجه ومضروبه، فأما ما في يس من قوله: (وجعلنا من بين أيديهم سدا) [يس / 9]، فمن ضم كان المعنى جعلنا بينهم مثل السّد والحاجز المانع من الرؤية، ومن فتح جعل السّد المسدود، قال أبو الحسن المفتوحة أكثر اللغتين.
__________
(1) الآية بتمامها: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}.
(2) السبعة 399. وزاد في الأصل: (وبينهم سدّا) ولا ضرورة لإثباتها فقد سبق ذكرها.
(3) مجاز القرآن 1/ 414.(5/171)
الكهف: 93
اختلفوا في فتح الياء وضمها من قوله تعالى: {يفقهون قولا}
[الكهف / 93].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {(يفقهون قولا) بفتح الياء، وقرأ حمزة والكسائي: يفقهون قولا بضم الياء، وكسر القاف} [1].
{لا يكادون يفقهون قولا} أي: يعلمونه ولا يستنبطون من فحواه شيئا. ومن قال: (لا يكادون يفقهون) فإنّ فقهت فعل يتعدّى إلى مفعول واحد، تقول: فقهت السّنّة، فإذا نقلته بالهمزة تعدّى إلى مفعولين، فالمعنى فيمن ضم: لا يكادون يفقهون أحدا قولا، فحذف أحد المفعولين كما حذف من قوله: {لينذر بأسا شديدا} [الكهف / 2] وكما حذف من قوله: {فأتبعوهم مشرقين} (2) [الشعراء / 60]. وهذا النحو غير ضيّق.
الكهف: 94
اختلفوا في همز {يأجوج ومأجوج} [الكهف / 94].
فقرأ عاصم وحده: {يأجوج ومأجوج} مهموز هاهنا، وفي سورة الأنبياء (3) [96] أيضا. وقرأ الباقون بغير همز (4).
اعلم أنك إن جعلت (يأجوج) عربيّا فيمن همز فهو يفعول مثل يربوع، وهو من أجّ من قولك: هبّ له بأجّة (5)، وليس من يأجج الذي
__________
(1) السبعة 399.
(2) أي: فأتبعوهم جندهم مشرقين.
(3) وهي قوله سبحانه: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون).
(4) السبعة 399.
(5) وهي شدة الحر.(5/172)
حكاه سيبويه (1)، لأن الياء في يأجج فاء فالكلمة من ياء وهمزة وجيم وأظهر الجيم في يأجج لأنها للإلحاق كما أظهرت الدال في مهدد لذلك، ولو كان في العربية فعلول لأمكن أن يكون يأجوج فيمن همز فعلول من يأجوج، ومن لم يهمز فقال: يأجوج، أمكن أن يكون خفف الهمزة، فقلبها ألفا مثل رأس، فهو على قوله أيضا يفعول، فإن كانت الألف في يأجوج فيمن لم يهمز ليس على التخفيف، فإنه فاعول من ي ج ج، فإن جعلت الكلمة من هذا الأصل كانت الهمزة فيها كمن قال: سأق، ونحو ذلك مما جاء مهموزا ولم ينبغ أن يهمز، ويكون الامتناع من صرفه على هذا للتأنيث والتعريف، كأنه اسم للقبيلة كمجوس.
وأما (مأجوج) فيمن همز فمفعول من أجّ كما أن يأجوج يفعول منه، فالكلمتان على هذا من أصل واحد في الاشتقاق. ومن لم يهمز ماجوج كان ماجوج عنده فاعول من مجّ، كما كان يأجوج من يجّ، فالكلمتان على هذا من أصلين وليسا من أصل واحد، كما كانتا كذلك فيمن همزهما، ويكون ترك الصرف فيه أيضا للتأنيث والتعريف، وإن جعلتهما من العجمي فهذه التمثيلات لا تصح فيهما، وامتنعا من الصرف للعجمة والتعريف، وإنما تمثل هذه التمثيلات في العجمية ليعلم أنها لو كانت عربيّة لكانت على ما يذكرا.
الكهف: 93
اختلفوا في قوله جل وعز (2): {خرجا} [الكهف / 94] {فخراج ربك} [المؤمنون / 72].
__________
(1) حكاه في باب علل ما تجعله زائدا من حروف الزوائد، وما تجعله عن نفس الحرف. انظر الكتاب 2/ 346.
(2) جاء عن هامش الأصل: بلغ.(5/173)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم: {خرجا}، وفي المؤمنين: {خرجا} بغير ألف. {فخراج} الأخير بألف.
وقرأ ابن عامر: {خرجا} بغير ألف، وفي المؤمنين {خرجا} بغير ألف، (فخرج ربّك) بغير ألف في الثلاثة.
وقرأ حمزة والكسائي ثلاثتهن بألف (1).
قال أبو علي: هل نجعل لك خرجا: أي: هل نجعل لك عطيّة نخرجها إليك من أموالنا، وكذلك قوله: أم تسألهم خرجا، أي: مالا يخرجونه إليك، فأما المضروب على الأرض فالخراج، وقد يجوز في غير ضرائب الأرض الخراج بدلالة قول العجاج:
يوم خراج يخرج الشمرّجا (2).
فهذا ليس على الضرائب التي ألزمت الأرضين المفتتحة كأرض السواد، لأن ذلك لا يكاد يضاف إلى وقت من يوم وغيره، وإنما هو شيء مؤبد لا يتغير عما عليه من اللزوم للأرضين، ويدلّ على أن الخراج العطيّة منهم له، قوله في جوابه لهم: {ما مكني فيه ربي خير}
[الكهف / 95] كأن المعنى: ما مكنني فيه من الاتساع في الدنيا خيرٌ من خرجكم الذي بذلتموه لي، فأعينوني بقوّة دون الخراج الذي بذلتموه.
الكهف: 95، 96
قال: كلّهم قرأ: {ردما، آتوني} [الكهف / 95، 96] ممدودا غير عاصم فيما حدّثني به إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي عن أبيه عن
__________
(1) السبعة 400.
(2) انظر ديوانه 2/ 25، وفيه السّمرجا، وانظر اللسان (شمرج).(5/174)
يحيى عن أبي بكر عن عاصم: (ردما ائتوني) بكسر النوين (1).
وحدّثني موسى بن إسحاق عن أبي هشام عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم (ردما. ءاتوني) بكسر النوين على معنى جيئوني. وحدّثني.
موسى بن إسحاق عن هارون عن حسين عن أبي بكر عن عاصم:
(ردما ءاتوني) مثله، على جيئوني.
وروى حفص عن عاصم: {ردما آتوني} مثل أبي عمرو (2).
حجة من قرأ ردما ءاتوني أن (ائتوني) أشبه بقوله: {فأعينوني بقوة} [الكهف / 95] لأنه كلّفهم المعونة على عمل السد، ولم يقبل الخراج الذي بذلوه. فقوله: (ءاتوني) الذي معناه: جيئوني، إنما هو معونة على ما كلّفهم من قوله: {فأعينوني بقوة}.
وأما {آتوني} فمعناه: أعطوني، وأعطوني يجوز أن يكون على المشاركة، ويجوز أن يكون على الاتهاب.
أخبرنا أبو الحسن عبد الله بن الحسين، أن ابن سماعة روى عنه محمد في رجل كان عنده ثوب لرجل، فقال له: أعطني هذا الثوب، فقال: قد أعطيتك، قال: هو صدقة، فإن لم يكن الثوب عنده ولكن عند ربّ الثوب فقال له: أعطني هذا الثوب، فقال: قد أعطيتك قال:
هو عارية.
وقولهم: {آتوني} مثل أعطوني في المعنى، وقد احتمل أعطوني الوجهين، وكذلك يحتملها آتوني. وائتوني لا يحتمل إلا جيئوني،
__________
(1) زاد في السبعة: ووصل الألف.
(2) السبعة 400.(5/175)
فائتوني المقصورة هاهنا أحسن لاختصاصه بالمعونة فقط دون أن يكون سؤال عين، والعطيّة قد تكون هبة، قال:
ومنّا الذي أعطى الرسول عطيّة ... أسارى تميم والعيون دوامع (1)
فالعطية تجري مجرى الهبة لهم والإنعام عليهم في فك الأسير، وقد يكون بمعنى المناولة.
ووجه قول من قرأ: {آتونى} أنه لم يرد بآتوني: العطيّة والهبة، ولكن تكليف المناولة بالأنفس، كما كان قراءة من قرأ: (ائتونى) لا يصرف إلى استدعاء تمليك عين بهبة ولا بغيرها، وأمّا انتصاب (زبر الحديد) فإنك تقول: أتيتك بدرهم، وقال:
أتيت بعبد الله في القد موثقا ... فهلا سعيدا ذا الخيانة والغدر (2)
فيصل الفعل إلى المفعول الثاني بحرف الجر، ثم يجوز أن يحذف الحرف اتساعا، فيصل الفعل إلى المفعول الثاني على حدّ:
أمرتك الخير (3) ونحوه.
قال: قرأ ابن كثير وحد: (ما مكنني) [الكهف / 95] بنونين، وكذلك هي في مصاحف أهل مكّة.
__________
(1) البيت للفرزدق من قصيدة هجا بها جريرا وهي من النقائض ص 696.
انظر ديوانه 2/ 516وشرح أبيات مغني اللبيب 3/ 122.
(2) البيت لم يعرف قائله، انظر ابن الشجري 1/ 353، والأشموني 4/ 51والعيني 4/ 475. والقدّ: سير يقدّ من جلد غير مدبوغ.
(3) يشير إلى بيت عمرو بن معد يكرب، وقد سبق انظر 2/ 331.(5/176)
وقرأ الباقون {ما مكني} مدغم (1).
قال أبو زيد: رجل مكين عند السلطان من قوم مكناء، وقد مكن مكانة. قال أبو علي: مكن فعل غير متعد كشرف وعظم، فإذا ضعّفت العين عديته بذلك كقولك: شرّفته وعظمته، فقول ابن كثير: مكنني يكون منقولا من مكن، وكذلك قول الباقين، فأما إظهار المثلين في مكّنني فلأن الثاني منهما غير لازم، لأنك قد تقول: مكّنك ومكّنه فلا تلزم النون، فلما لم تلزم لم يعتد بها، كما أن التاء في اقتتلوا كذلك، ومن أدغم لم ينزله منزلة ما لا يلزم، فأدغم، كما أن من قرأ: قتّلوا في:
اقتتلوا كذلك.
الكهف: 96
اختلفوا في قوله: {بين الصدفين} [الكهف / 96].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: (الصدفين) بضم الصاد والدال.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: {الصدفين} بفتح الصاد والدال.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر (الصدفين) بضم الصاد وتسكين الدال. وروى حفص عن عاصم: {الصدفين} بفتحتين (2).
هذه لغات في الكلمة فاشية زعموا. وقال أبو عبيدة: الصدفان:
جانبا الجبل (3).
الكهف: 96
اختلفوا في قوله تعالى: {آتوني أفرغ عليه} [الكهف / 96] فقرأ
__________
(1) السبعة 400.
(2) السبعة 401.
(3) انظر مجاز القرآن 1/ 414.(5/177)
ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي قال آتوني أفرغ ممدودا، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة (قال ائتوني) قصرا.
وروى خلف عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم أنه قال:
{آتوني} ممدودة. حفص عن عاصم قال: {آتوني} ممدودة (1).
قال أبو على: أما قراءة من قرأ (ائتوني أفرغ عليه قطرا) فمعناه:
جيئوني به، واللفظ على إيصال الفعل إلى المفعول الثاني بالحرف، كما كان قوله: (ائتوني زبر الحديد) كذلك، إلا أنه أعمل الفعل الثاني، ولو أعمل الأول لكان: (ائتوني أفرغه عليه قطرا)، إلا أن تقدير الفعل أن يصل إلى المفعول الثاني، بلا حرف كما كان كذلك في قوله: (ائتوني زبر الحديد)، وجميع ما مرّ بنا في التنزيل من هذا النحو إنما هو على إعمال الثاني كما يختاره سيبويه، فمنه قوله: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء / 176] ومنه قوله: {هاؤم اقرؤوا كتابيه} [الحاقة / 19].
ووجه من قال: {آتوني أفرغ عليه قطرا} أن المعنى: ناولوني قطرا أفرغه عليه، إلا أنه أعمل الثاني من الفعلين كما أعمل الثاني في قصر ائتوني.
الكهف: 96
قال: كلّهم قرأ {فما اسطاعوا} [الكهف / 96] بتخفيف الطاء غير حمزة فإنه قرأ (فما استطاعوا) يريد: فما استطاعوا، ثم يدغم التاء في الطاء، قال: وهذا غير جائز لأنه قد جمع بين السين وهي ساكنة والتاء المدغمة وهي ساكنة (2).
__________
(1) السبعة 401.
(2) السبعة 401.(5/178)
قالوا: طاع يطوع، فلم يتعدّ الفعل منه، فإذا أريد تعديته ألحقت الهمزة فقالوا: أطعت زيدا، قال: {وأطيعوا الله ورسوله} [الأنفال / 1] وقالوا أيضا: اسطاع يسطيع في معنى أطاع يطيع، وقولهم: أسطاع أفعل، وإنما ألحقت السين البناء لنقل الحركة إلى الفاء وتهيئة الكلمة بنقل الحركة فيها للحذف، ألا ترى أنها هيأت الكلمة للحذف منها في نحو لم يسطع، ومثل السين في ذلك الهاء في قول من قال: أهراق يهريق. فالهاء في أنها عوض مثل السين في اسطاع، وليس هذا العوض بلازم، ألا ترى أنّ ما كان نحوه لم يلزم هذا العوض. وقالوا أيضا: استطاع يستطيع، وفي التنزيل: {هل يستطيع ربك}
[المائدة / 112] فهذا استفعل، وكأن استفعل في ذلك جاء في معنى أفعل، كما أنّ استجاب في معنى أجاب في نحو:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب (1)
وحذفوا من الكلمة التاء المزيدة مع السين فقالوا: اسطاع يسطيع، وفي التنزيل: فما استطاعوا أن يظهروه وهو قراءة الجمهور، لما اجتمعت المتقاربة أحبّوا التخفيف بالإدغام كما أحبّوا ذلك في الأمثال، فلمّا لم يسغ التخفيف بالإدغام لتحريك ما لم يتحرك في موضع عدل عنه إلى الحذف، كما أنه لما اجتمع المثلان في قولهم:
علماء بنو فلان، يريدون: على الماء، ولم يسغ إدغام الأولى في الثانية وإن كانت تتحرك بحركة الهمزة في نحو قولهم: الحمر، حذفوا الأول من المثلين لما كان الإدغام يؤدي إلى تحريك ما تكره الحركة فيه فأما تحريكه بحركة الهمزة فهي في هذا التحريك في نية السكون
__________
(1) هذا عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي سبق في 1/ 352.(5/179)
يدلّك على ذلك تقدير همزة الوصل مع تحرّك اللام، فقالوا: علماء بنو فلان، فحذفوا الأول من المثلين حيث لم يتجه الإدغام، وهذا أولى من قولهم، اسطاع، لأن هذه السين لم تتحرك في موضع من الحركات كما تحركت اللام، فهذا استفعل بمنزلة أفعل وأجروا المتقاربين في هذا مجرى المثلين، فقالوا: بلعنبر، لما كانت النون مقاربة اللام، وكانت تدغم فيها في نحو: من لك، أريد إدغامها في هذا الموضع أيضا، فلما لم يسغ ذلك عندهم خففوا بالحذف كما خففوا به في المثلين، ولغة أخرى خامسة في الكلمة، وهي أن بعضهم قال في:
يسطيع: يستيع، فهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أنه أبدل من الطاء التي هي فاءٌ التاء ليقربها من الحرف الذي قبلها، فأبدل التاء لتوافق السين في الهمس، كما أبدل الدال من التاء في نحو: ازدان ليوافق ما قبله في الجهر، والآخر: أن يكون حذف الطاء لما لم يستقم إدغام ما قبلها في المتقارب منها، كما حذف المثل والمتقارب من: علماء بنو فلان، وبلعنبر، ويكون هذا في أنه حذف من الكلمة الأصل للتخفيف، بمنزلة قولهم: تقيت، ألا ترى أنه في الأصل: اتّقى، فحذف الفاء التي هي في الأصل واو، فلما حذفها سقطت همزة الوصل المجتلبة لسكون الفاء فبقي تقيت على فعلت، فإن قلت: فلم لا يكون على أنه أبدل من الفاء التي هي واو التاء، كما أبدل من تيقور وتولج (1) ونحو ذلك، ولا يكون على ما ذكرت من حذفه الفاء من افتعلت، فالدليل
__________
(1) تيقور: من الوقار، وهو فيعول، أبدلت التاء من الواو، وأصله: ويقور، وتولج: وهو الكناس الذي يستظل به الوحش في شدة الحر، ووزنه: فوعل على رأي الخليل أيضا، فأبدلوا التاء مكان الواو وجعل فوعلا أولى بهما من تفعل، لأنك لا تكاد تجد في الكلام تفعلا اسما، وفوعل كثير.
انظر الكتاب 2/ 356والمنصف 3/ 38، 39.(5/180)
على أن الحذف من افتعلت وليس على حد ما ذكرت قولهم في المضارع: يتقي ولو كان على الحد الآخر لسكن ما بعد حرف المضارعة وأنشدنا:
يتقي به نفيان كلّ عشيّة (1)
ومثل تقديره الفاء التي هي طاء من يستيع، تقدير حذف التاء من قولهم: استخد فلان ما لا، يجوز أن يكون: استتخد، فحذف الفاء لاجتماع حروف متماثلة، فحذفت التاء التي هي فاء، كما حذفت الفاء في يستيع، وإنما هو يستطيع، ويجوز أن يكون: استخذ اتخذ، فأبدل السين من التاء لاجتماعهما في الهمس ومقاربة المخرج، وأبدلت السين من التاء، كما أبدلت التاء من السين في قولهم: طست. قال العجاج:
أأن رأيت هامتي كالطّست (2)
والأصل السين، يدل على ذلك أن أبا عثمان أنشد:
لو عرضت لأيبليّ قسّ أشعث في هيكله مندسّ ... حنّ إليها كحنين الطسّ (2)
فأمّا قول حمزة: {فما اسطاعوا أن يظهروه} فإنما هو على إدغام التاء في الطاء ولم يلق حركتها على السين فيحرك ما لا يتحرك، ولكن
__________
(1) صدر بيت لساعدة وعجزه:
فالماء فوق متونه يتصبّب انظر شرح ديوان الهذليين 3/ 1100واللسان (نفي) وفيه: يقرو، مكان يتقي.
(2) سبق في 3/ 120.(5/181)
أدغم مع أنّ الساكن الذي قبل المدغم ليس حرف مدّ، وقد قرأت القراء غير حرف من هذا النحو، وقد قدّمنا ذكر وجه هذا النحو، ومما يؤكّد ذلك أن سيبويه أنشد:
كأنّه بعد كلال الزاجر ... ومسحي مرّ عقاب كاسر (1)
والحذف في: ما استطاعوا، والإثبات في ما استطاعوا، كلّ واحد منهما أحسن من الإدغام على هذا الوجه.
الكهف: 98
اختلفوا في قوله عز وجل: (دكا) [الكهف / 98]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (دكّا) منون غير مهموز ولا ممدود.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: {دكاء} ممدود مهموز بلا تنوين.
وهبيرة عن حفص (دكّا) منون غير ممدود، وقال غير هبيرة عن حفص عن عاصم: ممدود (2).
قال أبو علي: من قال: (جعله دكّا) احتمل أمرين: أحدهما:
أنه لمّا قال: {جعله} وكان بمنزلة خلق وعمل، فكأنه قد قال: دكّه دكّا، فحمله على الفعل الذي دلّ عليه قوله: جعله، والوجه الآخر: أن يكون جعله ذا دك، فحذف المضاف، ويمكن أن يكون حالا في هذا الوجه.
ومن قال: {جعله دكاء} فعلى حذف المضاف، كأنه جعله مثل دكّاء، قالوا: ناقة دكّاء، أي: لا سنام لها، ولا بدّ من تقدير الحذف،
__________
(1) سبق انظر 2/ 397، وانظر الكتاب 2/ 413.
(2) السبعة 402.(5/182)
لأن الجبل مذكّر فلا يوصف بدكاء، لأنه من المؤنث وجعل مثل خلق، ويمكن أن يكون حالا.
الكهف: 109
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: {أن تنفد كلمات ربي}
[الكهف / 109].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم (1): {قبل أن تنفد كلمات} بالتاء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (ينفد) بالياء (2).
قال أبو علي: التأنيث أحسن، لأن المسند إليه الفعل مؤنث، والتذكير حسن أيضا لأن التأنيث ليس بحقيقي وقد تقدم ذكر ذلك في غير موضع.
__________
(1) زاد في السبعة «ابن عامر» فيمن قرأ هذه القراءة، وأنقصه في قراءة الياء.
(2) السبعة 402.(5/183)
ذكر اختلافهم في سورة مريم
مريم: 1، 2
اختلفوا في {كهيعص. ذكر} [1، 2].
فقرأ ابن كثير {كهيعص} بفتح الهاء والياء، وتبيين الدال التي في هجاء صاد.
وقرأ أبو عمرو {كهيعص. ذكر} بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال. نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح، ولا يدغم الدال التي في هجاء صاد في الذال من {ذكر} هذا قول محمد بن إسحاق عن أبيه. وقال ابن سعدان عن إسحاق المدني عن نافع بفتح الهاء والياء ويدغم، وقال إسماعيل بين الكسر والفتح. وقال أحمد بن صالح عن ورش، وقالون عن نافع: الهاء بين الكسر والفتح، ونون العين غير مبيّنة، ودال صاد (1) غير مبيّنة وهو معها (2) ذال. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي بكسر (3) الهاء والياء والكسائي لا يبين الدال وعاصم يبيّنها.
__________
(1) في الأصل: ودال وصاد، وفي السبعة: ودال الصاد.
(2) في السبعة: «وموضعها» بدل: «وهو معها».
(3) في السبعة: يكسران.(5/184)
وقرأ حمزة وابن عامر {كهيعص. ذكر} بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان، وكلّهم يخفي نون (عين).
وروى ابن اليتيم عن أبي حفص عن عاصم أنه كان يبين الهاء ولا يرفعها ولا يكسر الياء. أبو عمارة عن حفص عن عاصم يفخم (1).
القول في إمالة هذه الحروف أن إمالتها لا تمتنع، لأنها ليست بحروف معنى وإنما هي أسماء لهذه الأصوات، قال سيبويه: قالوا:
با، تا، لأنها أسماء ما يتهجى به (2)، فلما كانت أسماء غير حروف جازت فيها الإمالة كما جازت في الأسماء. ويدلّك على أنها أسماء أنها إذا أخبرت عنها أعربتها، وإن كنت لا تعربها قبل ذلك، كما أن أسماء العدد إذا أخبرت عنها أعربتها، فكما أن أسماء العدد قبل أن تعربها أسماء، فكذلك هذه الحروف، وإذا كانت أسماء ساغت الإمالة فيها، فأما من لم يمل فعلى قول أهل الحجاز.
قال: كلّهم يخفي نون عين. حفص عن عاصم يبيّن النون، قال أبو عثمان: بيان النون مع حروف الفم لحن، إلا أن هذه الحروف تجري على الوقف عليها والقطع لها مما بعدها، فحكمها البيان وأن لا تخفى، وقول عاصم هو القياس فيها وما لا مذهب عنه، وكذلك أسماء العدد حكمها على الوقف على أنها منفصلة مما بعدها. ومما يبيّن أنها على الوقف أنهم قالوا: ثلاثة اربعة، فألقوا حركة الهمزة على الهاء لسكونها ولم يقلبوها تاء، وإن كانت موصولة لما كانت النية بها الوقف، فكذلك النون ينبغي أن تبيّن لأنها في نيّة الوقف والانفصال
__________
(1) السبعة 406، 407.
(2) الكتاب 2/ 267. وعنده: «لأنها أسماء ما يلفظ به» بدل: «يتهجّى به».(5/185)
ممّا بعدها. ولمن لم يبيّن أن يستدلّ بتركهم قطع الهمزة من قوله:
(الميم الله) [آل عمران / 21] ألا ترى أن الهمزة لم تقطع، وإن كان ما هي منه في تقدير الانفصال ممّا قبله، فكما لم تقطع الهمزة في {الم الله} وفي قولهم: واحد اثنان، كذلك لم تبيّن النون لأنها جعلت في حكم الاتصال، كما كانت الهمزة فيما ذكرنا كذلك. قال أبو الحسن:
التبيين: يعني تبيين النون، أجود في العربية لأن حروف الهجاء والعدد منفصل بعضها من بعض، قال: وعامة القراء على خلاف التبيين.
مريم: 5
اختلفوا في قوله: {من ورائي} [مريم / 5].
فقرأ ابن كثير فيما قرأت على قنبل من ورائي مهموزة ممدودة مفتوحة الياء.
وحدثوني عن خلف عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: (من وراي) مثل: {عصاي} [طه / 18] و {هداي} [طه / 123] بغير همز ونصب الياء.
وكلّهم همز ومدّ وأسكن الياء، غير ابن كثير (1).
قال أبو عبيدة (2) وغيره: من ورائي: من قدامي، وكذلك قال:
في قوله: وكان وراءهم ملك [الكهف / 79] أي: بين أيديهم وأنشد لسوار بن المضرّب:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا (3)
__________
(1) السبعة 407.
(2) مجاز القرآن 2/ 1.
(3) البيت في الكامل 2/ 445. من قصيدة قالها لما هرب من الحجاج وانظر مجاز القرآن 1/ 337و 412و 2/ 1والجمهرة 1/ 177واللسان والتاج (ورى) والطبري 16/ 2والقرطبي 11/ 35.(5/186)
أي: أمامي، وهكذا حكى عنه التوزي، قال: وقال: وراء الرجل: خلفه ووراؤه: قدّامه: قال: وكان وراءهم ملك أي:
أمامهم. وكذلك قوله عز وجل: ومن ورائه عذاب غليظ [إبراهيم / 17]، أي: أمامه، قال التوزي: وأنشدنا أبو عبيدة:
أتوعدني وراء بني رياح ... كذبت لتقصرنّ يداك دوني (1)
وراء بني رياح، أي: قدام بني رياح. وأنشد:
أليس ورائي أن أدبّ على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي (2)
وقال غيره أيضا: وراء: يكون بمعنى خلف، وبمعنى قدّام، قال: وفي القرآن في معنى خلف وبعد قوله: ومن وراء إسحاق يعقوب [هود / 71]. وروي عن ابن عباس: وكان وراءهم ملك أي: أمامهم (3)، ونحو ذلك قال يعقوب مثل غيره.
وقد حكى متقدّمو أهل اللغة وقوع الاسم على الشيء وعلى ضدّه، وصنّفوا فيه الكتب كقطرب، والتوّزيّ ويعقوب وغيرهم، وربما أنكر ذلك منكرون بتعسف وتأويلات غير سهلة، وليس ينكر أحد أن
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 326، 337وانظر ما سبق 2/ 58.
(2) البيت لعروة بن الورد، مطلع قصيدة في ديوانه بشرح ابن السكيت 114وفي الأغاني 3/ 79 (الثقافة) والأضداد للسجستاني ص 83وفيها «فيشمت» بدل:
«فيأمن». قال ابن السكيت: قوله: أليس ورائي الخ أي: إن سلمت أن أهون وأدب على العصا.
(3) في الأضداد لأبي حاتم السجستاني فيما رواه عن أبي عامر العقدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أن ابن عباس قرأ: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) (الأضداد / 83).(5/187)
اللفظة الواحدة تقع على الشيء وعلى خلافه، وكذلك لا ينبغي أن ينكر وقوعه على الشيء وعلى ضدّه، لأن الضدّ ضرب من الخلاف، فإن زعموا أن ذلك يلبس فهو في الخلاف أيضا يلبس.
والقصر الذي روي عن ابن كثير لم أعلم أحدا من أهل اللغة حكاه ولعلّه لغة، وقد جاء في الشعر من قصر الممدود شيء كثير وقياسه قياس ردّ الشيء إلى أصله، واللام من هذه الكلمة همزة وليس من باب الوراء، ولا من قول الشاعر:
كظهر اللأى لو يبتغي ريّة بها (1)
لأنهم قالوا في تحقيرها: وريئة، مثل: وديعة، حكى ذلك أبو عثمان وغيره، ولو كان من باب الوري والتواري لكان تحقيره وريّة، ومن نادر ما جاء في هذه الكلمة دخول الهاء في تحقيرها مع أنها على أربعة أحرف، وكذلك دخلت في: قديديمة، وتحقير قدّام، قال:
قديديمة التجريب والحلم إنّني ... أرى غفلات العيش قبل التجارب (2)
وقال:
يوم قديديمة الجوزاء مسموم (3)
__________
(1) هذا صدر بيت للطرماح وعجزه: نهارا لعيّت في بطون الشّواجن
اللأى: البقرة الوحشية، والريّة: ما يورى به النار، وأصله: ورية، مثل وعدة، ثم قدموا الراء على الواو فصار ريّة. الشواجن: جمع شاجنة: ضرب من الأودية ينبت نباتا حسنا.
انظر اللسان (روي، شجن، لأي).
(2) البيت من قصيدة للقطامي، انظر المقتضب 2/ 273. 4/ 41وابن الشجري 2/ 155، واللسان (قدم) وشرح أبيات المغني 3/ 392.
(3) هذا عجز بيت لعلقمة بن عبدة وصدره:(5/188)
والقول في ذلك أنّ ما كان على أربعة أحرف لا تدخله تاء التأنيث في التحقير كما يدخل عامة ما كان على ثلاثة أحرف، وكأنّ الحرف الأصل قام مقام الزائد، كما قام مقامه في قولهم لم يغز، ولم يخش ولم يرم، ألا ترى أن هذه اللامات حذفت كما تحذف الحركات للجزم، وأما دخولها على قديديمة، ووريّئة، فمن الأشياء التي تشذّ فتردّ إلى الأصل المرفوض نحو: استحوذ والقصوى والقود ورجل لدوغ، وطعام قضض، حكاه أبو زيد.
فأما قوله: وإني خفت الموالي من ورائي فإن الخوف لا يكون من الأعيان في الحقيقة، إنما يكون من معان فيها، فإذا قال القائل:
خفت الله، وخفت الوالي، وخفت الناس، فالمعنى: خفت عقاب الله ومؤاخذته، وخفت عقوبة الوالي وملامة الناس، وكذلك {وإني خفت الموالي من ورائي} أي: خفت تضييع بني عمي، فحذف المضاف، والمعنى على تضييعهم الدين ونبذهم إياه واطّراحهم له، فسأل ربّه وليّا يرث نبوّته وعلمه لئلا يضيع الدين. ويقوّي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال: {يرثني} [مريم / 6]: يرث نبوّتي، وهذا بيّن لأنه لا يخلو من أن يكون أراد: يرث مالي أو علمي ونبوّتي. وفيما أثر
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أنه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»
(1).
دلالة على أن الذي سأل أن يرثه وليّه ليس المال، فإذا بطل هذا ثبت الوجه الآخر.
__________
وقد علوت قتود الرّحل يسفعني انظر المقتضب 2/ 273، 4/ 41، واللسان (سمم).
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد ج 3/ 1378، 1379، 1380، 1381، 1383، وأحمد في مسنده 1/ 4، 6وغيرها.(5/189)
وقريب من هذا الوجه: {رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين}
[الأنبياء / 89] على أنه لا يجوز على نبيّ الله أن يقول: أخاف أن يرثني بنو عمي وعصبتي على ما فرضته لهم، وكأن الذي حمله على مسألة ذلك ربّه ما شاهدهم عليه من تبديلهم الدين واطّراحهم له وتوثّبهم على الأنبياء وقتلهم إيّاهم. وروي عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه:
{وإني خفت الموالي من ورائي} وكأن المعنى: أنهم قلّوا وقلّ من كان منهم يقوم بالدين، فسأل وليّا يقوم به، وقد قال الشاعر:
إذا أنا لم أومن عليك فلم يكن ... كلامك إلّا من وراء وراء (1)
فيجوّز فيه أهل النظر في العربية غير وجه، منها: إلا من وراء وراء، بضمها كما ضممت قبل، وبعد، وتحت، ودون، وتجعل الثاني بدلا من الأول، قال أبو الحسن: أنشدناه يونس وبيتا آخر قبله، قال:
وزعم أنه شعر مرفوع: وإلا من وراء وراء، يريد به: ورائي، فحذف ياء الإضافة، وتدلّ الكسرة عليها. فيكون: من وراء وراء، وتكون الثانية بدلا من الأولى، أو تكريرا، ويكون: من وراء وراء، على أن تجعل وراء معرفة فلا تصرفها للتأنيث والتعريف، وتكون الثانية تكريرا، وروى ابن حبيب عن أبي توبة: إلا من وراء وراء، أضاف وراء إلى وراء فجره للإضافة، وبنى وراء المضاف إليها على الضمّ مثل: تحت ودون، ويجوز: إلا من وراء وراء، تضيف وراء الأول إلى الثاني، وقد جعلته لا ينصرف للتأنيث والتعريف وراء الأول التقدير فيه الإفراد كما يقدر في سائر ما يضاف ذلك.
__________
(1) انظر ابن يعيش 4/ 87وفيه: «لقاؤك» بدل «كلامك» والدرر 1/ 177، وانظر اللسان (وري) وأورد البيت في جملة أبيات نسبها لعتيّ بن مالك العقيلي.(5/190)
مريم: 6
اختلفوا في الرفع والجزم من قوله عز وجل: {يرثني ويرث}
[مريم / 6].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة: يرثني ويرث برفعهما.
وقرأ أبو عمرو والكسائي: (يرثني ويرث) بالجزم فيهما (1).
وجه الرفع: أنه سأل وليّا وارثا علمه ونبوّته، وليس المعنى على الجزاء. أي: إن وهبته ورث، وذلك أنه ليس كلّ ولي يرث، فإذا لم يكن كذلك لم يسهل الجزاء من حيث لم يصحّ أن تقول: إن وهبته ورث، لأنه قد يهب وليّا لا يرث، وكون وليّا فاصلة لا يدلّ على أن يرثني ليس بصفة، ألا ترى أن الفاصلة قد يكون ما بعدها متصلا بها، فلا توجب الفاصلة قطع ما بعدها عنها.
ووجه الجزم: أنه أوقع الوليّ الذي هو اسم عام موضع الخاصّ فأراد بالوليّ وليّا وارثا، كما وضع العام موضع الخاص في غير هذا كقوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران / 173] وإنما يراد بكلّ واحد من قوله الناس رجل مفرد، وقد يقول الرجل: جاءني أهل الدنيا، وإنما أتاه بعضهم إذا قصد التكثير.
وتقول: سير عليه الدهر والأبد، فوضع العامّ في كلّ ذا موضع الخاصّ، فكذلك قوله: {وليا} لفظة عامّة تقع على الوارث وغير الوارث، فأوقعه على الوارث دون غيره، فعلى هذا يصحّ معنى الجزاء.
مريم: 8
اختلفوا في قوله جل وعز: {عتيا} [مريم / 8] و (جثيا) [68] و {بكيا} [58] و (صليا) [70] في كسر أوائلها وضمها.
__________
(1) السبعة 407.(5/191)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: بضم أوائل هذه الحروف.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر أوائل هذه الحروف كلّها. حفص عن عاصم بكسر أوائل هذه الحروف كلّها إلا {بكيا} فإنه يضمّ أوله (1).
أبو عبيدة: كلّ مبالغ في شرّ أو كفر فقد عتا عتيّا (2)، ومثلها عسى.
اعلم أن ما كان على فُعُول كان على ضربين، أحدهما: أن يكون جمعا، والآخر: أن يكون مصدرا، وقد جاءت أحرف في غير المصادر وهي قليلة.
فالجمع إذا كان على فُعُول من المعتل اللام جاء على ضربين، أحدهما: أن تكون اللام واوا، والآخر: أن تكون ياء، فما كان اللام منه واوا من هذه الجموع قلب إلى الياء، وذلك نحو: حقو وحقيّ، ودلو ودليّ وعصا وعصيّ وصفا وصفيّ، فاللام إذا كانت واوا لزمها القلب على الاطراد إلى الياء، ثم قلبت واو فعول إلى الياء لإدغامها في الياء، وكسرت عين الفعل كما كسرت في مرميّ ونحوه، وقد جاءت حروف من ذلك قليلة على الأصل، فمن ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم: إنكم لتنظرون في نحوّ كثيرة (3).
__________
(1) السبعة 407.
(2) مجاز القرآن 2/ 2.
(3) عجز بيت لعبد الله بن العجلان، كما في الشعر والشعراء 716وصدره فيه:
ألا إن هندا أصبحت منك محرما(5/192)
وحكى غيره في جمع نحو الذي يعنى به السحاب: نحوّ، وفي حَمَا: حُمُوُّ، وأنشد:
وأصبحت من أدنى حُمُوّتها حما (1)
فما كان كذلك فإنّ كسر الفاء فيه مطّرد، وذلك نحو دليّ وحقيّ وعصبيّ. وجاز ذلك فيها لأنها غيّرت تغييرين، وهما: أن الواو التي هي لام قلبت، والواو التي كانت قبلها قلبت أيضا، فلما غيّرت تغييرين قويا على هذا التغيير من كسر الفاء، كما أن باب: حنيفة، وجديلة، في الإضافة لما غير تغييرين قوي على حذف الياء في قولهم: جدليّ، وحنفيّ، وفرضيّ وقد تركوا أحرفا من ذلك على الأصل فلم تغير فقالوا في السليقة، سليقي، وفي عميرة كلب: عميري. وفي الخريبة خريبيّ، والمستمر هو الأول، فأما ما كان لامه ياء من هذا النحو نحو ثديّ وحليّ ولحيّ فقد كسروا الفاء منه أيضا فقالوا: ثديّ وحليّ وإن لم يغيروا التغييرين اللذين ذكرنا في باب حقيّ وعصيّ وذلك لأنهم أجروا الياء هاهنا مجرى الواو، كما أجروها مجراها في اتّسر واتّبس، إذا أردت: افتعل من اليُسر واليُبس، فاستمر الكسر في فاء ما كان من الياء كما استمر في باب الواو الذي غير تغييرين لإجرائهم الياء مجرى الواو، لأنهم قد غيّروا أيضا في باب النصب لتغيير واحد، فقالوا:
قرشي وهذلي، فحذفوا الياء لمّا ألحقوا ياءي الإضافة.
وأما ما كان من ذلك مصدرا فما كان من الواو فالقياس فيه أن
__________
وجاء في التهذيب 5/ 272واللسان (حمى) برواية:
لقد أصبحت أسماء حجرا محرّما والمعنى: أصبحت أخا زوجها بعد ما كنت زوجها.
(1) سيبويه 2/ 381.(5/193)
يصحح نحو: العتو والقلو، لأن واوه لم يلزمها الانقلاب كما لزمها الانقلاب في الجمع، ولكن لما كانوا قد قلبوا الواو من هذا النحو وإن كان مفردا نحو: معديّ ومرميّ، وقلب ما كان قبل الآخر بحرف كما قلب الآخر نحو صيّم، وما كان على وزنه، وغيّر تغييرين كما غيروا في الجمع، قلبوا ذلك أيضا في نحو عتيّ، وزعموا أن في حرف عبد الله: (ظلما وعليا) [النمل / 14] في علوّ ولم يكن شبه هذا الضرب للجمع حيث وافقه في البناء، وغير تغييرين بدون شبه أحمد بأشرب، فأجري المصدر مجرى الجمع في كسر الفاء منه.
فأما ما كان من هذه المصادر من الياء، فليس يستمر الكسر في فائه، كما استمر في الجمع، وفي المصادر التي من الواو، ألا ترى أن المضيّ في نحو: {فما استطاعوا مضيا} [يس / 67] ليس أحد يروي فيه الكسر فيما علمناه، وحكى أبو عمر عن أبي زيد: أوى إليه إويا، ومما يؤكّد الكسر في هذا النحو أنهم قالوا: قسيّ وألزموها كسر الفاء، ولم نعلم أحدا يسكن إلى روايته حكى فيه غير الكسر، وذلك أنه قلبت الواو إلى موضع اللام، فلما وقعت موقعها قلبت كما تقلب الواو إذا كانت لاما، وكسرت الفاء وألزمت الكسر فأن لم نسمع فيها غيره دلالة على تمكّن الكسر في هذا الباب.
قال أبو الحسن: أكثر القراء يضمون أوّل هذا، يعني: (عتيّا).
قال: وكذلك: الجثّي، والبكي، والصليّ، قال: وزعم يونس أنها لغة تميم، وغيرهم يكسر. قال أبو الحسن: وسمعناه من العرب مكسورا سوى بني تميم في المصدر والجمع.
مريم: 9
اختلفوا في قوله جل وعز: {خلقتك} و (خلقناك) [مريم / 9].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {خلقتك}
بالتاء من غير ألف.(5/194)
اختلفوا في قوله جل وعز: {خلقتك} و (خلقناك) [مريم / 9].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {خلقتك}
بالتاء من غير ألف.
وقرأ حمزة والكسائي: (خلقناك) بالنون والألف (1).
حجة من قال: {وقد خلقتك من قبل} أن قبله: {قال ربك هو علي هين وقد خلقتك}. وحجة من قال: (وقد خلقناك) أنه قد جاء لفظ الجمع بعد لفظ الإفراد، قال: {سبحان الذي أسرى بعبده}
[الإسراء / 1] وجاء بعد: {وآتينا موسى الكتاب} [الإسراء / 2] وقال:
{ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون} [الحجر / 26] {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق / 16] {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} [الأعراف / 11]، ونحو ذلك.
مريم: 19
اختلفوا في قوله عز وجل: (ليهب) [مريم / 19].
فقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {لأهب}
بالهمز. وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية ورش والحلواني عن قالون:
(ليهب لك) بغير همز. وفي رواية غير ورش عن نافع: {لأهب لك}
بالهمز (2).
حجة من قال: {لأهب لك}، فأسند الفعل إلى المتكلم، والهبة لله سبحانه، ومنه أن الرسول والوكيل قد يسندون هذا النحو إلى أنفسهم، فإن كان الفعل للموكل والمرسل للعلم بأنه في المعنى للمرسل، وأن الرسول والوكيل مترجم عنه، ومن قال: (ليهب لك) فهو على تصحيح اللغة على المعنى، ففي قوله: (ليهب لك) ضمير من
__________
(1) السبعة 408.
(2) السبعة 408.(5/195)
قوله {ربك}، وهو سبحانه الواهب. وزعموا أن في حرف أبي وابن مسعود: (وليهب لك)، ولو خفّفت الهمزة من {لأهب} لكان في قول أبي الحسن: (ليهب) فتقلبها ياء محضة، وفي قول الخليل {لأهب}
تجعلها بين الياء والهمزة.
مريم: 23
اختلفوا في كسر النون وفتحها من قوله عز وجل: {نسيا منسيا}
[مريم / 23] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي:
(نسيا) بكسر النون.
وقرأ حمزة بفتح النون.
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر عنه: (نسيا) كسرا، وروى حفص عن عاصم {نسيا} فتحا مثل حمزة (1).
وقال أبو الحسن: النسي: هو الشيء الحقير ينسى نحو النعل والسوط، وقال غيره: النّسي ما أغفل من شيء حقير، وقال بعضهم:
ما إذا ذكر لم يطلب، وقالوا: الكسر أعلى اللغتين. وقال الشنفرى:
كأنّ لها في الأرض نسيا تقصّه ... على أُمّها وإن تحدّثك تبلت (2)
مريم: 24
اختلفوا في فتح الميم والتاء وكسرها من قوله جل وعز: {من تحتها} [مريم / 24].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر:
(من تحتها) بفتح الميم والتاء.
__________
(1) السبعة 408.
(2) سبق انظر 1/ 36.(5/196)
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {من تحتها}
بكسر الميم والتاء (1).
قال أبو علي: {من تحتها} لأنه إنما هو جبريل عليه السلام، أو عيسى، وقال بعض أهل التأويل: لا يكون إلا عيسى، ولا يكون جبريل لأنه لو كان جبريل لناداها من فوقها. وقد يجوز أن يكون جبريل، وليس قوله من تحتها يراد به الجهة المحاذية للتمكن من تحته، ولكن المعنى: فناداها من دونها، ويدلّ على ذلك قوله: {قد جعل ربك تحتك سريا} [مريم / 24] فلم يكن الجدول محاذيا لهذه الجهة، ولكن المعنى جعله دونك، وقد يقال: فلان تحتنا، أي: دوننا في الموضع، قال ذلك أبو الحسن، فمن تحتها، أبين لأن المنادي أحد هذين، وأن يكون المنادي عيسى أشبه وأشدّ إزالة لما خامرها من الوحشة والاغتمام، لما يوجد به طعن عليها، لأن ذلك يثقل على طباع البشر، ألا ترى قوله للنبي صلّى الله عليه وسلّم: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون}
[الأنعام / 33] وقوله: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون}
[الحجر / 97] وإذا قال: من تحتها، كان عاما، فلم يبلغ في إزالة وحشتها وهمّها ما يبلغه نداء عيسى عليه السلام.
ووجه من قرأ: (من تحتها): أنه وضع اللفظة العامة موضع اللفظ الخاص، فقال: (من تحتها) وهو يريد عيسى صلى الله عليه كما تقول: رأيت من عندك، وأنت تعني واحدا بعينه.
مريم: 25
اختلفوا في قوله تعالى: {تساقط عليك} [مريم / 25].
__________
(1) السبعة 409408.(5/197)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: (تساقط) بالتاء (1) مشددة السين.
وقرأ حمزة: (تساقط) بالتاء (1) مخففة السين.
واختلف عن عاصم فروى عنه أبو بكر: (تسّاقط) مثل أبي عمرو وروى عنه حفص {تساقط} بضم التاء، وكسر القاف مخفّفة السين (3).
قال أبو علي: هذه الوجوه كلّها متفقة في المعنى إلا ما رواه حفص عن عاصم، ألا ترى أن قول حمزة: (تسّاقط) إنما هو تتساقط، فحذف التاء التي أدغمها غيره، وكلّهم جعل فاعل الفعل الذي هو (تسّاقط) أو {تساقط} في رواية حفص: النخلة، ويجوز بأن يكون فاعل تساقط أو تساقط هو: جذع النخلة، إلا أنه لما حذف المضاف أسند الفعل إلى النخلة في اللفظ، ويجوز في قراءة عاصم: {تساقط} هزُّهُ النخلة فيحذف، أو: تساقط النخلة، فأمّا تعديتهم تساقط وهو تفاعل، فإن يتفاعل مطاوع فاعل، كما أن تفعل مطاوع فَعَّل، فكما عدّى تفعل في نحو: تجرعته وتمليته، وتمزّزته، كذلك عدي تفاعل، فمما جاء من ذلك في الشعر قول ذي الرمة:
ومن جودة غفل بساط تحاسنت ... بها الوشي قرّات الرياح وخورها (4)
ومن ذلك قول الآخر:
__________
(1) في السبعة: بفتح التاء.
(3) السبعة 409.
(4) سبق انظر 4/ 302.(5/198)
تطالعنا خيالات لسلمى ... كما يتطالع الدين الغريم (1)
وأنشد أبو عبيدة لأوفى بن مطر:
تخاطأت النبل أحشاءه ... وأخّر يومي فلم يعجل (2)
قال هو في موضع أخطأت، وأنشد للأعشى:
ربّي كريم لا يكدّر نعمة ... وإذا تنوشد بالمهارق أنشدا (3)
قال: هو في موضع نشد، أي: يسأل بالكتب، وهي المهارق، وأنشد لامرئ القيس:
ومثلك بيضاء العوارض طفلة ... لعوب تناساني إذا قمت سربالي (4)
قال: يريد تنسيني. وقد قرأ غيرهم: (يتساقط). فمن قرأ كذلك أمكن أن يكون فاعله الهزّ، لأن قوله: {هزي} قد دل على الهزّ، فإذا كان كذلك جاز أن يضمره كما أضمر الكذب في قوله: من كذب كان شرا له، ويمكن أن يكون الجذع، أي: يساقط عليك الجذع، ويجوز في الفعل إذا أسند إلى الجذع وجهان: أحدهما أن الفعل أضيف إلى الجذع كما أضيف إلى النخلة برمتها، لأن الجذع معظمها. والآخر:
__________
(1) البيت لسلمة بن الخرشب انظر المفضليات / 40والمحتسب 2/ 358ونصبه فيهما:
تأويله خيال من سليمى ... كما يعتاد ذا الدين الغريم
(2) سبق انظر 4/ 302.
(3) انظر ديوانه / 229وفيه: «يناشد» بدل: «تنوشد». واللسان (نشد) وفي البيت إشارة إلى أن الممدوح متدين بأحد الأديان السماوية.
المهارق: الصحف (أعجمية معربة).
(4) انظر ديوانه: 30وفيه: «تنسّيني» بدل «تناساني».(5/199)
أن يكون الجذع منفردا عن النخلة يسقط عليها، ويكون سقوط الرطب من الجذع آية لعيسى عليه السلام، ويصير سقوط الرطب من الجذع أسكن لنفسها وأشد إزالة لاهتمامها، وسقوط الرطب من الجذع منفردا عن النخل مثل رزقها الذي كان يأتيها في المحراب في قوله: كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا [آل عمران / 37] إلى قوله: {قالت هو من عند الله} [آل عمران / 37].
وقوله: {رطبا} في هذه الوجوه منصوب على أنه مفعول به، ويجوز في قوله: (تساقط عليك): أي تساقط عليك ثمرة النخلة رطبا، فحذف المضاف الذي هو الثمرة، ويكون انتصاب رطب على الحال، وجاز أن تُضمر الثمرة وإن لم يجر لها ذكر، لأن ذكر النخلة يدلّ عليها كما دلّ البرق على الرعد فيما ذكرناه فيما مر.
فأما الباء في قوله: {هزي إليك بجذع النخلة}، فتحتمل أمرين: أحدهما: أن تكون زائدة، كقولك: ألقى بيده، أي: ألقى يده، وقوله:
بواد يمان ينبت الشّثّ حوله ... وأسفله بالمرخ والشّبهان (1)
ونحو ذلك، ويجوز أن يكون المعنى: {وهزي إليك بجذع النخلة} أي: بهز جذع النخلة رطبا كما قال:
__________
(1) البيت في مجاز القرآن 2/ 48والاقتضاب 457والجمهرة 1/ 45والتهذيب 6/ 93 واللسان (شث، شبه). قال في (شبه): قال رجل من عبد القيس، قال ابن بري قال أبو عبيدة: للأحول اليشكري، واسمه يعلى
والشث: الكثير من كل شيء، والشث: ضرب من الشجر طيب الريح مر الطعم يدبغ به. والمرخ: من شجر النار معروف، شجر كثير الوري سريعه. والشبهان:
ضرب من العضاه.(5/200)
وصوّح البقل نئّاج تجيء به ... هيف يمانية في مرّها نكب (1)
أي: تجيء بمجيئه هيف، أي: إذا جاء النئّاج جاء الهيف، وكذلك إذا هززت الجذع هززت بهزّه رطبا، أي: فإذا هززت الرطب سقط.
مريم: 31، 30
قال: قرأ الكسائي وحده {وأوصاني} [مريم / 31] ممالة.
وآتاني [مريم / 30] ممالة، الباقون لا يميلون (2).
الإمالة في آتاني أحسن منها في أوصاني لأن في أوصاني مستعليا، وهو مع ذلك يجوز كما جازت إمالة صاد، وطغا وصغا ونحو ذلك.
مريم: 34
اختلفوا في قوله تعالى: {قول الحق} [مريم / 34].
فقرأ عاصم: {قول الحق} نصبا، وكذلك ابن عامر.
ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي: (قول الحق) رفعا (3).
الرفع: على أن قوله: {ذلك عيسى ابن مريم}: كلام، فالمبتدأ المضمر ما دلّ عليه هذا الكلام، أي: هذا الكلام قول الحق، ويجوز
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه 1/ 54.
والمعنى: صوح البقل نئّاج: أي شققه ويبسه، والنئّاج: وقت تنأج فيه الريح، أي:
تشتد وتسرع، المرّ والهيف: الريح الحارة، نكب: اعتراض وتحرّف. يقول هذه الريح تجيء بدفعة من ريح أخرى أشدّ منها، واليمانية: الجنوب.
وانظر اللسان (هيف).
(2) السبعة 409.
(3) السبعة 409.(5/201)
أن تضمر هو وتجعله كناية عن عيسى، فيكون الرافع قول الحق، أي:
هو قول الحق، لأنه قد قيل فيه: روح الله وكلمته، والكلمة قول.
وأما النصب فعلى أن قوله: {ذلك عيسى ابن مريم} يدلّ على:
أحقّ قول الحقّ. وتقول: هذا زيد الحقّ لا الباطل، لأن قولك هذا زيد عندك، بمنزلة أحقّ، فكأنك قلت: أحقّ الحقّ، وأحقّ قول الحقّ.
مريم: 51
اختلفوا في كسر اللام وفتحها من قوله عز وجل: {كان مخلصا}
[مريم / 51].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية الكسائي عن أبي بكر والمفضل عن عاصم: (مخلصا) بكسر اللام.
وقرأ عاصم في رواية يحيى عن أبي بكر وحفص عنه: {مخلصا}
بفتح اللام.
وقرأ حمزة والكسائي بفتح اللام أيضا (1).
من كسر اللام فحجّته قوله: {وأخلصوا دينهم لله}
[النساء / 146] ومن فتحها فحجته قوله: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} [ص / 46].
مريم: 36
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله: وإن الله ربي وربكم [مريم / 36].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (وأنّ الله ربي) بنصب الألف.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: وإن الله خفضا (2).
__________
(1) السبعة 410.
(2) السبعة 410.(5/202)
حجة من كسر: أنّه حمله على قوله: {إن الله ربي وربكم}
فجعله مستأنفا، كما أن المعطوف عليه مستأنف.
وحجة من فتح أنه حمله على قوله: {وأوصاني بالصلاة والزكاة}
وبأن الله ربي وربكم.
مريم: 56
عليّ بن نصر عن أبي عمرو: {هل تعلم له} [مريم / 65] يدغم اللام ويقول: إن شئت أدغمته، وما كان مثله، وإن شئت بيّنته. وقال هارون عن أبي عمرو إنه كان يدغم {هل تعلم} ثم رجع إلى البيان (1).
قال أبو علي: يرى سيبويه: أن إدغام اللام في الطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين جائز، وجواز إدغامها فيهن على أن آخر مخرج اللام قريب من مخارجهنّ، وهن حروف طرف اللسان، وليس إدغام اللام في الطاء والدال والتاء. في الحسن كإدغامها في الحروف الستة، لأن هذه أخرج من الفم من تلك. وقد جاز إدغامها أيضا في الطاء وأختها. قال: وقرأ أبو عمرو {هل ثوب الكفار} [المطففين / 36] فإذا أدغمها في التاء مع أنها أخرج من الفم، فإدغامها في التاء التي هي أدخل فيه أجدر. ومما أدغم فيه اللام في التاء: {بل تؤثرون} [2]
الحياة الدنيا [الأعلى / 16] وأنشد لمزاحم العقيلي:
فذر ذا (3) ولكن هتّعين متيّما ... على ضوء برق آخر الليل ناصب (4)
مريم: 67
اختلفوا في قوله: (أولا يذكر الإنسان) [مريم / 67].
__________
(1) السبعة 410.
(2) كتبت كلفظها مع الإدغام في الكتاب كذا: «بتؤثرون».
(3) انظر الكتاب لسيبويه 2/ 417وفيه فدع ذا، مكان: فذروا.
(4) جاء عن هامش الأصل: بلغت.(5/203)
فقرأ عاصم ونافع وابن عامر: {أولا يذكر الإنسان} ساكنة الذال خفيفة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بفتح الذال مشدّدة الكاف (يذّكّر) (1).
قال أبو علي: التذكّر يراد به التدبّر والتفكر، وليس تذكرا عن نسيان. والثقيلة كأنه في هذا المعنى أكثر، فمن ذلك قوله: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} [فاطر / 37] وقال: {إنما يتذكر أولو الألباب} [الرعد / 19] [الزمر / 9] فإضافته إلى (أولي) يدلّ على أن المراد به النظر والتفكّر. والخفيفة في هذا المعنى دون ذلك في الكثرة، وقد قال: {إن هذه تذكرة} [الإنسان / 29] {فمن شاء ذكره}
[عبس / 11].
وزعموا أن في حرف أبي: (أولا يتذكّر الإنسان). فأما قوله:
{ولم يك شيئا} [مريم / 67] فمعناه: لم يك شيئا موجودا، وليس يراد أنّه قبل الخلق لم يقع عليه اسم شيء، وهذا كما قال: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} [الإنسان / 1] وقد قال:
{إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج / 1] والمعنى: أولا يذكر الإنسان الجاحد للبعث أول خلقه، فيستدلّ بالابتداء على أن الإعادة مثل الابتداء، كما قال: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس / 79] وقال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم / 27] وقال: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه} [يس / 78].
مريم: 73
اختلفوا في قوله عز وجل: {خير مقاما} [مريم / 73] في ضم الميم وفتحها في مريم والدخان والأحزاب.
__________
(1) السبعة 410.(5/204)
فقرأ ابن كثير: (خير مقاما) بضم الميم و {في مقام أمين}
[الدخان / 51] بفتح الميم، و (لا مقام لكم) [الأحزاب / 13] بفتح الميم أيضا.
وقرأ نافع وابن عامر: (في مقام أمين) بضم الميم، و {خير مقاما} بفتح الميم و (لا مقام لكم) بفتح أيضا.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي وأبو عمرو:
خير مقاما بفتح الميم، و {في مقام أمين} بالفتح، و (لا مقام لكم) بالفتح فيهن.
وروى حفص عن عاصم في الأحزاب: {لا مقام لكم} بالضم و (خير مقاما) و {في مقام أمين} بفتح الميم فيهما (1). وروى غيره:
(لا مقام لكم) بفتح الميم.
اعلم أنهم قد قالوا: قام يقوم، وأقام يقيم، والمصدر واسم الموضع جميعا من فعل يفعل على: مفعل، وذلك نحو: قتل يقتل مقتلا، وهذا مقتلنا، وكذلك: المقام، يستقيم أن يكون اسما للمصدر ويستقيم أن يكون اسم الموضع. وأما أقام يقيم فالمصدر والموضع يجيئان منه على مقام، وكذلك ما زاد من الأفعال على ثلاثة أحرف بحرف زائد أو حرف أصل، فالمقام يصلح أن يكون الإقامة فتقول: أقمت إقامة، ومكان الإقامة مقام أيضا وعلى هذا قوله: (بسم الله مجراها ومرساها) [هود / 41] تقديره: إجراؤها وإرساؤها، وقد يكون المقام:
المكان الذي تقيم فيه، فهذا هو الأصل المقام والمقام، وقال: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم} [آل عمران / 97] فهذا على موضع قيامه،
__________
(1) السبعة 411. وسقط ما بعده.(5/205)
وليس المصدر. وزعم أبو الحسن أنهم يقولون للمقعد: المقام، وللمشهد: المقام. وتأوّل قوله: {قبل أن تقوم من مقامك}
[النمل / 39] أي: من مشهدك، وهذا مما لا يسوغ فيه أن يكون اسما للموضع، ألا ترى أن المصدر لا يكون هاهنا، وأمّا قوله: {إن المتقين في مقام أمين} [الدخان / 51] فالمعنى على الموضع، ألا ترى أن الموضع يوصف بالأمن، كما يوصف بخلافه الذي هو الخوف، كما قال:
يا ربّ ماء صرىّ وردته ... سبيله خائف جديب (1)
فأمّا من قرأه: (في مقام أمين) [الدخان / 51] فإن المقام اسم لما يقيم فيه، ويثوي. يدلّك على ذلك ما قدّمناه من وصفه بالأمن، ويدلّ عليه أيضا قول حسّان:
ما هاج حسّان رسوم المقام (2)
فالرسم إنما يضاف إلى الأمكنة، ولا يضاف إلى الأحداث، وعلى هذا قال الشاعر:
رسم دار وقفت في طلله (3)
__________
(1) الصّرى: الماء الذي طال مكثه وتغيير، وقد صري الماء بالكسر (اللسان صري) ولم نقف على قائل البيت.
(2) هذا صدر بيت لحسان عجزه: ومظعن الحيّ ومبنى الخيام
انظر ديوانه 1/ 106.
(3) هذا صدر بيت لجميل عجزه:
كدت أقضي الغداة من جلله انظر آمالي القالي 1/ 246. والخصائص 1/ 285والخزانة 4/ 199وفيه:
الحياة بدلا من الغداة. العيني 3/ 339، والأشموني 2/ 233.(5/206)
وأمّا قول الشاعر:
وفيهم مقامات حسان وجوهها ... وأندية ينتابها القول والفعل (1)
فإنّما هذا على حذف المضاف، أي: أهل مقامات ومشاهد.
وروى السكري عن الأصمعي أنه قال: المجلس: القوم، وأنشد:
واستبّ بعدك يا كليب المجلس (2)
قال أبو علي: والمجلس: موضع الجلوس، والمعنى: على أهل المجلس، كما أن المعنى على أهل المقامات. قال السكري:
المقامة المجلس والمقام: المنزل. فأما قوله: {الذي أحلنا دار المقامة من فضله} [فاطر / 35] فهو من الإقامة. وسمّي دار المقامة كما سمّي دار الخلد، وجنات عدن، وكلّ ذلك من اللّبث والمكث، وأنشد أبو زيد:
إنّ التي وضعت دارا مهاجرة ... بكوفة الخلد قد غالت بها غول (3)
قالوا: زعم الأصمعي أن هذا تصحيف، وإنّما هو بكوفة الجند، قال الجرمي: ليس بتصحيف، وإنما هو بكوفة الخلد، وإنما المعنى
__________
(1) البيت لزهير انظر ديوانه / 113. المقامات: المجالس، انظر اللسان (قوم).
(2) هذا عجز بيت لمهلهل صدره:
نبّئت أن النار بعدك أوقدت.
انظر النوادر / 204 (ط. الفاتح) وابن الشجري 1/ 52، 184، 324.
(3) البيت لعبدة بن الطبيب. انظر النوادر ص 156 (ط. الفاتح) وفيه: «بيتا» مكان «دارا».(5/207)
أن أهلها قاطنون فيها، لا ينتقلون للنجع، وطلب المراعي، وأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
وذاك فراق (1) لا فراق ظعائن ... لهنّ بذي القرحى مقام ومحتمل (2)
فإن المقام مصدر كما أن خلافه الذي هو محتمل كذلك فأما قوله (لا مقام لكم فارجعوا) [الأحزاب / 13] فالمعنى: لا مشهد لكم، لأن المقام قد أريد به المشهد، ومن قرأ لا مقام: أراد الإقامة، وكلا الأمرين سائغ، وقد يكون المقام حيث يقوم الإنسان، مما يدلّ على ذلك قول الراجز:
هذا مقام قدمي رباح ... للشمس حتى دلكت براح (3)
المعنى: هذا موضع قيامه، وأما قوله: (أي الفريقين خير مقاما) [مريم / 73] فمن ضم الميم كان اسما للمثوى ومن فتح، كان كذلك أيضا، ألا ترى أن النديّ والنادي هما المجلس، من ذلك قوله:
(وتأتون في ناديكم المنكر) [العنكبوت / 29] ومن ذلك قول كثير:
أناديك ما حجّت حجيج وكبّرت ... بفيفا غزال رفقة وأهلّت (4)
__________
(1) في هامش الأصل رواية أخرى الفراق وهي التي في النوادر.
(2) البيت للبعيث. النوادر 204 (ط. الفاتح).
(3) النوادر 315 (ط. الفاتح) وفيه «غدوة» بدل «للشمس».
اللسان (برح، دلك) وفيه: «ذبب» بدل «للشمس». ومعنى البيت: أن الشمس قد غربت وزالت فهم يضعون راحاتهم على عيونهم ينظرون هل غربت أو زالت. وهذا على رواية «براح» بكسر الباء، على أنها حرف جر والراح راحة اليد، وهي رواية الفراء. أما على ما رواه أبو زيد في النوادر فالباء مفتوحة، ومعناها الشمس.
(4) المنصف 2/ 180. والفيفاء: الأرض القفر.(5/208)
فأما المقام فيمن ضمّ، وفيمن فتح على اسم المكان، وليس اسم الحدث، ويدلّ على ذلك: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} [مريم / 74] فلا يراد بهذا الحدث، إنما يراد به حسن الشارة والمنظر، وهذا إنما يكون في الأماكن فعلى هذه المسالك تسلك وجوه هذه القراءات.
مريم: 74
اختلفوا في همز {ورئيا} وتركه (مريم / 74).
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: {ورئيا}
مهموزة بين الراء والياء في وزن رعيا.
وقرأ ابن عامر ونافع: (وريّا) بغير همز، وروى ابن جمّاز وورش وأبو بكر بن أبي أويس: ورئيا بالهمز بين الراء والياء.
أخبرني محمد بن عبد الله، قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال:
سمعت أشهب (1) يقول: سمعت نافعا يقرأ: {ورئيا} مهموزا. وروى إسماعيل بن جعفر وقالون والمسيّبي والأصمعي عن نافع: (وريّا) غير مهموز. وأخبرنا محمد بن يحيى الكسائي عن أبي الحارث عن أبي عمارة عن يوسف عن ابن جماز عن أهل المدينة: (وريّا) غير مهموز (2).
وذكر غير أحمد بن موسى أن الأعشى روى عن أبي بكر عن عاصم: (وريئا) مثل: وريعا. أبو عبيدة: رئيا ما ظهر مما رأيت (3). قال
__________
(1) هو مسكين بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم أبو عمرو المصري المعروف بأشهب صاحب الإمام مالك، روى القراءة سماعا عن نافع بن أبى نعيم. طبقات القراء 2/ 296).
(2) السبعة 411. 412.
(3) مجاز القرآن 2/ 10.(5/209)
أبو علي: رئي فعل من رأيت، وكأنه اسم لما ظهر وليس المصدر، إنما المصدر الرأي والرؤية، يدلّك على ذلك قوله: {يرونهم مثليهم رأي العين} [آل عمران / 13] والرأي الفعل، والرئي: المرئي، كالطّحن والطّحن والسّقي والسّقي، والرّعي والرّعي.
فأما ما روي عن عاصم من قوله: (وريئا)، فإنه قلب الهمزة التي هي عين إلى موضع اللام فصار تقديره، فلعا. فأما قولهم: له رواء، فيمكن أن يكون فعالا من الرؤية، فإن كان كذلك جاز أن تحقق الهمزة، فيقال: رآء، فإن خففت الهمزة أبدلت منها الواو، كما أبدلتها من جون وتودة، فقلت: رواء، ويجوز في الرواء أن يكون فعالا من الريّ فلا يجوز همزة، كما جاز في قول من أخذه من باب رأيت، فيكون في المعنى أنه له طراءة وعليه نضارة، لأن الريّ يتبعه ذلك، كما أن العطش يتبعه ذلك الذبول والجهد.
ومن خفّف الهمزة من رئيا لزم أن يبدل منها الياء لانكسار ما قبلها كما تبدل من ذيب وبير، فإذا أبدل منها الياء وقعت ساكنة قبل حرف مثله فلا بد من الإدغام، وليس يجوز الإظهار في هذا كما جاز الإظهار للواو في نحو رؤيا وروية، ونوي، إذا خففت الهمزة فيها، لأن الياء في ريّا قبل مثل، ووقعت في رؤيا قبل ما يجري مجرى المقارب، فإن خفّفت الهمزة على ما روى عن عاصم من قوله: (ريئا) حذفتها وألقيت حركتها على الياء التي قبلها فقلت: ريّا ومن قال: سوء وسيّ قلب على قياس قوله: ريّا.
مريم: 77
اختلفوا في ضم الواو وفتحها من قوله عز وجل: {وولدا}
[مريم / 77] في ستة مواضع في مريم أربعة مواضع [77، 88، 91، 92]، وفي الزخرف [81] ونوح [21].
فقرأهنّ ابن كثير وأبو عمرو: {وولدا} بالفتح إلا في سورة نوح: (ماله وولده) فإنهما قرءاه بضم الواو في هذه وحدها.(5/210)
اختلفوا في ضم الواو وفتحها من قوله عز وجل: {وولدا}
[مريم / 77] في ستة مواضع في مريم أربعة مواضع [77، 88، 91، 92]، وفي الزخرف [81] ونوح [21].
فقرأهنّ ابن كثير وأبو عمرو: {وولدا} بالفتح إلا في سورة نوح: (ماله وولده) فإنهما قرءاه بضم الواو في هذه وحدها.
وقرأهن نافع وعاصم وابن عامر بفتح الواو في كلّ القرآن.
وقرأهن حمزة والكسائي بضم الواو في كلّ القرآن (1).
قال أبو الحسن: الولد: الابن والابنة، قال: والولد: هم الأهل والولد. وقال بعضهم: بطنه الذي هو منه. قال أبو علي: الولد: هو ما ذكر في التنزيل في غير موضع مع المال، قال: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} [الكهف / 46] وقال: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}
[التغابن / 15] وقال: {إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم}
[التغابن / 14].
وروى محمد بن السّريّ، عن أحمد بن يحيى عن الفراء قال:
من أمثال بني أسد: ولدك من دمّى عقبك (2). قال الفراء: وكان معاذ يعني: الهراء (3) يقول: لا يكون الولد إلا جماعا، وهذا واحد، يعني:
الذي في المثل، أي: لا تقل لكل إنسان: ابني ابني وأنشد:
فليت فلانا كان في بطن أمّه ... وليت فلانا كان ولد حمار (4)
__________
(1) السبعة 412.
(2) انظر الأمثال للسدوسي / 51وفيه عقبيك بدل عقبك. وانظر المستقصى في أمثال العرب 1/ 30وفيه: ابنك بدل ولدك. وانظر الأمثال لابن سلام / 147والمعنى:
ابنك الذي نفست به حتى أدمى النفاس عقبيك.
(3) هو معاذ بن مسلم الهرّاء أبو مسلم من قدماء النحويين.
انظر بغية الوعاة 2/ 290.
(4) انظر المحتسب 1/ 365. وفيه: «زيادا» بدل «فلانا» في الشطرين. وانظر اللسان (ولد).(5/211)
قال أبو علي: الذي قال معاذ وجه، ويجوز أن يكون جمعا كأسد وأسد، ونمر ونمر، وثمر وثمر، والفلك، ويجوز أن يكون واحدا، فيكون ولد وولد، كبخل وبخل، وحزن وحزن، وعرب وعرب، فيكون لفظ الواحد موافقا للفظ الجمع، كما كان الفلك كذلك، فلا يكون القول فيه كما قال معاذ، لأنه لا يكون إلا جمعا، ولكن على ما ذكرناه. وأما قوله: {واتبعوا من لم يزده ماله وولده} [نوح / 21] فينبغي أن يكون جمعا، وإنما أضيف إلى ضمير المفرد لأن الضمير يعود إلى (من) وهو كثرة في المعنى، وإن كان اللفظ مفردا، وإنما المعنى:
إنهم عصوني واتبعوا الكفار الذين لم تزدهم أموالهم وأولادهم إلا خسارا، فأضيف إلى لفظ المفرد وهو جمع، وقد حكى الكسائي أو غيره من البغداديين: ليت هذا الجراد قد ذهب فأراحنا من أنفسه، فولد، في أنه جمع، مثل الأنفس. وما أنشده الفراء من قوله:
وليت فلانا كان ولد حمار (1).
يدلّ على أنه واحد ليس بجمع، وأنه مثل ما ذكرناه من قولهم:
الفلك، الذي يكون مرّة جمعا ومرّة واحدا. ولهذا يشبه أن يكون ابن كثير وأبو عمرو قرءاه بالضم. (ماله وولده) وفتحا ما سوى ذلك.
وأما قراءة نافع وعاصم وابن عامر بفتح الواو في كلّ القرآن، فإن فتحهم الواو في قوله: ماله وولده على أنه واحد يراد به الجمع، ويجوز ذلك من وجهين: أحدهما: أنه إذا أضافه إلى اسم، هو جمع في المعنى، علم أن المفرد في موضع جمع، كقوله:
قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس (2)
__________
(1) انظر الصفحة السابقة.
(2) سبق انظر 4/ 81.(5/212)
وكقوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا (1)
ويجوز أن يكون كقوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}
[النحل / 18].
وأما قراءة حمزة والكسائي: (ولدا) في جميع القرآن فإن ما كان منه مفردا قصدا به المفرد، وما كان جمعا قصدا به الجمع.
مريم: 90
اختلفوا في قوله: {تكاد السموات يتفطرن منه} [مريم / 90] في الياء والتاء، وفي (عسق) [الشورى / 5] مثله.
فقرأهنّ ابن كثير في السورتين: {تكاد السموات} بالتاء {يتفطرن} بالياء والتاء مشدّدة الطاء (2). وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو: {تكاد} بالتاء، (ينفطرن) بالياء والنون في السورتين جميعا.
ابن اليتيم عن أبي حفص عن عاصم: {تكاد} بالتاء، {يتفطرن}
مشدّدة (3). وفي (عسق) مثله.
__________
(1) هذا صدر بيت عجزه:
فإنّ زمانكم زمن خميص ولم يعرف قائله.
انظر الكتاب 1/ 108، المقتضب 2/ 172وفيه: «في نصف» بدلا من: «في بعض»، وابن الشجري 1/ 311. 2/ 25، 38، 343، والمحتسب 2/ 87، والخزانة 3/ 379، وابن يعيش 5/ 8، 6/ 21،، 22، الدرر 1/ 25والمخصص 1/ 31، 4/ 41. وقد سبق في 4/ 81.
(2) في السبعة: (تتفطرن) بالتاء مشدّدة الطاء. ولعلها تصحيف.
(3) في السبعة: بالياء مشدّدة. وهو أبين.(5/213)
هبيرة عن حفص مثل أبي بكر في السورتين جميعا. أبو عمارة عن حفص عن عاصم مثل ابن اليتيم.
وقرأ نافع والكسائي: (يكاد) بالياء، يتفطرن بالياء والتاء، مشدّدة الطاء في الموضعين:
وقرأ حمزة وابن عامر في مريم مثل أبي عمرو، وفي عسق مثل ابن كثير (1).
أما اختلافهم في: (تكاد) و (يكاد) وإلحاق علامة التأنيث، وترك الإلحاق فكلاهما حسن. وقد تقدّم ذلك، وإلحاق العلامة أحسن، لأن الجمع بالألف والتاء في الأصل للجمع القليل، والجمع القليل يشبه الآحاد، فكما أن الأحسن في الآحاد إلحاق العلامة في هذا النحو، فكذلك مع الألف والتاء. وروينا عن مجاهد في هذه السورة:
الانفطار: الانشقاق، وقال أبو عبيدة: يتفطرن يتشققن (2). وفي التنزيل: {بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن} [الأنبياء / 56] وفيه {فاطر السموات والأرض} [فاطر / 1] فمطاوع فطر: انفطر، كما أنّ مطاوع فطّر: تفطّر وفطّر للتكثير، فمطاوعه في الدلالة على الكثرة مثل ما هو مطاوع له، فكأنه أليق بهذا الموضع لما فيه من معنى المبالغة، وتكثير الفعل ولا يدلّ ما جاء في قوله: {إذا السماء انفطرت}
[الانفطار / 1] وقوله: {السماء منفطر به} [المزمل / 18] على ترجيح قراءة من قرأ: (ينفطرن) وذاك أن قوله: {إذا السماء انفطرت} كقوله:
{إذا السماء انشقت} [الانشقاق / 1] وذلك في القيامة لما يريد الله
__________
(1) السبعة 412، 413.
(2) مجاز القرآن 2/ 12.(5/214)
سبحانه من إبادتها وإفنائها وجاء ذلك على تفعّل أيضا في قوله: {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان / 25] وما في سورة مريم، إنما هو لعظم فريتهم وعتوّهم في كفرهم، فالمعنيان مختلفان. وذهب أبو الحسن في معنى قوله: {تكاد السموات} إلى أن {تكاد} معناها: تريد، وكذلك قال: في قوله: {كذلك كدنا ليوسف} [يوسف / 76] أي: أردنا له، وأنشد:
كادت وكدت، وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى (1)
وكذلك قال في قوله: {أكاد أخفيها} [طه / 15] أي: أريد أخفيها، وعلى هذا فسّر غير أبي الحسن قول الأفوه:
بلغوا الأمر الذي كادوا (2)
أي: أرادوا. قال أبو الحسن: المعنى: يدنون، لأنهن لا يكون أن ينفطرن ولا يدنون من ذلك، ولكن هي هممن به إعظاما لقول المشركين (3).
ولا يكون على من همّ بالشيء أن يدنو منه، ألا ترى أن رجلا لو أراد أن ينال السماء لم يدن من ذلك وقد كانت منه إرادة.
وقال بعض المتأوّلين في قوله: (تكاد السموات ينفطرن منه):
هذا مثل، كانت العرب إذا سمعت كذبا ومنكرا تعاظمته، عظّمته
__________
(1) البيت في اللسان (كيد) ولم ينسبه وفيه: (كان) مكن (عاد) وانظر المحتسب 2/ 31.
(2) هذه قطعة للأفوه الأودي، وتمامه:
فإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... وساكن بلغوا
انظر ديوانه في الطرائف الأدبية / 10، واللسان (كيد).
(3) كذا الأصل وفي العبارة اضطراب.(5/215)
بالمثل الذي كان عندها عظيما، تقول: كادت الأرض تنشقّ، وأظلم ما بين السماء والأرض، فلمّا افتروا على الله الكذب ضرب مثل كذبهم بأهول الأشياء وأعظمها، قال أبو علي: ومما يقرّب من هذا قول الشاعر:
ألم تر صدعا في السماء مبيّنا ... على ابن لبينى الحارث بن هشام (1)
وقريب من هذا قول الآخر:
وأصبح بطن مكة مقشعرّا ... كأنّ الأرض ليس بها هشام (2)
والآخر:
بكى حارث الجولان من موت ربّه ... وحوران منه خاشع متضائل (3)
وقال:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع (4)
__________
(1) سبق انظر ص 32.
(2) البيت للحارث بن خالد بن العاص، انظر الاشتقاق / 101، والكامل 2/ 487، والدرر 1/ 111، والتصريح 1/ 212واللسان (قثم).
(3) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يرثي بها النعمان بن الحارث، انظر ديوانه ص 120وفيه: «من هلك» مكان «من موت» واللسان (حرث) ومعنى: من موت ربه، يعني النعمان.
(4) البيت لجرير، انظر ديوانه 2/ 913، واللسان (حرث).(5/216)
ذكر اختلافهم في سورة طه
طه: 1
اختلفوا في كسر الطاء والهاء من {طه} [طه / 1] فقرأ ابن كثير وابن عامر (طه) بفتح الطاء والهاء.
وقرأ نافع: (طه) بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، كذلك قال خلف عن المسيّبيّ وقال ابن سعدان كان المسيبي إذا لفظ ب (ها)، فكأنه يشمّها الكسر، فقلت له: إنك قد كسرت، فيأبى إلا الفتح. وقال محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع: (طه) بفتح الطاء والهاء، وكذلك قال القاضي عن قالون: مفتوحتان.
وقال أحمد بن صالح عن قالون: الطاء والهاء وسط، وقال يعقوب بن جعفر عن نافع (طه) بكسر الطاء والهاء. وقال الأصمعي:
(طه) كأنك تقطعها.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: (طه) بكسر الطاء والهاء.
وقرأ أبو عمرو في غير رواية عباس (طه) بفتح الطاء وكسر الهاء. وروى عباس عن أبي عمرو: (طه) بكسر الطاء والهاء مثل حمزة. وقرأ عاصم في رواية حفص بالتفخيم (1).
__________
(1) السبعة 416.(5/217)
قال أبو علي: قد قلنا في الإمالة في نحو (طه)، والتفخيم فيما تقدم، والتفخيم لغة أهل الحجاز، ولغة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
طه: 11، 12
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله عز وجل: {يا موسى إني أنا ربك} [طه / 11، 12].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (أنّي) بفتح الألف والياء.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {إني} بكسر الألف، وفتح نافع الياء (1).
من كسر فلأن الكلام حكاية، كأنه نودي فقيل: يا موسى إنّي أنا ربك، والكسر أشبه بما بعد مما هو حكاية، وذلك قوله: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا}، وقوله: {وأنا اخترتك} [طه / 13]، فهذه كلّها حكاية، فالأشبه أن يكون قوله: {إني أنا ربك} كذلك أيضا.
ومن فتح كان المعنى: نودي بكذا، ونادى قد يوصل بحرف الجر، قال:
ناديت باسم ربيعة بن مكدم ... أنّ المنوه باسمه الموثوق (2)
وقال:
ونادى بها ماء إذا ثار ثورة (3)
المعنى: ونادى بندائها ماء، فقوله: ماء قد وقع النداء عليه، ومن الناس من يعمل هذه الأشياء التي هي في المعنى قول، كما يعمل
__________
(1) السبعة 417وزاد بعدها من نسخة: وأسكنها الباقون.
(2) البيت في الخزانة 2/ 521عرضا ولم ينسبه وانظر البحر المحيط 6/ 230.
(3) لم نعثر عليه.(5/218)
القول ولا يضمر القول معها، وينبغي أن يكون في نودي ضمير يقوم مقام الفاعل، لأنه لا يجوز أن يقوم واحد من قولك: {يا موسى} ولا {إني أنا ربك} مقام الفاعل لأنها جمل، والجمل لا تقوم مقام الفاعل، فإن جعلت الاسم الذي يقوم مقام الفاعل موسى، لأن ذكره قد جرى كان مستقيما.
طه: 13، 12
اختلفوا في إجراء طوى [طه / 12] وضمّ طائها.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (طوى وأنا) غير مجراة والطاء مضمومة وفي النّازعات [16، 17] مثله. وروى أبو زيد عن أبي عمرو: (طوى) وقال: هي أرض.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {طوى} مجراة مضمومة الطاء (1).
حدّثنا الكندي، قال: حدثنا مؤمّل قال: حدّثنا إسماعيل عن ابن أبي نجيح قلت له: {فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس}، قال:
يقول: امض بقدميك إلى بركة الوادي، أظنه يعني مجاهدا {طوى}، مصروف وغير مصروف، فمن صرف فمن وجهين أحدهما:
أن يجعله اسم الوادي فيصرف لأنه سمّى مذكرا بمذكر. والوجه الآخر: أن يجعله صفة، وذلك في قول من قال: إنه قدّس مرّتين، فيكون طوى كقولك: ثنا، ويكون صفة كقولهم: مكانا سوى، وقوم عدى. وجاء في طوى الضم والكسر، كما جاء في قوله: (مكانا سوى) [طه / 58] الكسر والضم، قال الشاعر (2):
__________
(1) السبعة 417.
(2) البيت في اللسان (ثني) ونسبه لكعب بن زهير ولم أجده في ديوانه. والثّنى، بالكسر والقصر: الأمر يعاد مرتين وأن يفعل الشيء مرتين. وانظر تهذيب اللغة 15/ 137.(5/219)
أفي جنب بكر قطّعتني ملامة ... لعمري لقد كانت ملامتها ثنا
أي: ليس هذا بأوّل ملامتها، وكذلك طوى وطوى. وقد أنشدوا:
ترى ثنانا إذا ما جاء بدأهم ... وبدؤهم إن أتانا كان ثنيانا (1)
ثنانا مكسورة الثاء، أنشدناه محمد بن السري، وزعم أبو الحسن أن الضم في هذا لغة، وبالضم أنشد قول الشاعر: ترى ثنانا
وقال: الثنى: هو الثاني.
قال أبو علي: ومعنى ثنى وثنى: الذين يثنى بهم بعد السادة، لأنهم قالوا للسيد: البدء، من حيث بدئ بهم فيما يهمّ من الأمور.
ومن لم يصرف احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون اسما لبقعة أو أرض، وهو مذكّر، فهو بمنزلة امرأة سمّيتها بحجر، ويجوز أن يكون معدولا كعمر. فإن قلت: إن عمر معدول عن عامر، وهذا الاسم لا يعرف عمّ عدل، بأنه لا يمتنع أن يقدر العدل عما لم يخرجوه إلى الاستعمال، ألا ترى أنّ جمع وكتع معدولتان عمّا لم يستعمل، وكذلك يكون طوى.
طه: 10
ابن سعدان عن إسحاق عن نافع وحمزة: (لأهله امكثوا) [طه / 10] وكذلك في القصص [29]، بضم الهاء.
__________
(1) البيت لأوس بن مغراء، انظر اللسان (ثني) وتهذيب اللغة 15/ 136.
يقول: الثاني منا في الرئاسة يكون في غيرنا سابقا في السؤدد، والكامل في السؤدد من غيرنا ثني في السؤدد عندنا، لفضلنا على غيرنا (التهذيب).(5/220)
والباقون يكسرون الهاء فيهما (1).
وقد تقدم القول في ذلك.
طه: 13
اختلفوا في التاء والنون من قوله عز وجل: {وأنا اخترتك}
[طه / 13].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والكسائي:
{وأنا} خفيف {اخترتك} بالتاء بغير ألف.
وقرأ حمزة (وأنّا) النون مشددة (اخترناك) بألف ونون (2)
قال أبو علي: الإفراد زعموا أكثر في القراءة، وهو أشبه بما قبله من قوله: {إني أنا ربك} ووجه الجمع: أن نحو ذلك قد جاء نحو قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء / 1] ثم قال: {وآتينا موسى الكتاب} [الإسراء / 2]. وزعموا أنّه قراءة الأعمش، وزعموا أنه في حرف أبيّ: (وأنّي اخترتك) فهذا يقوي الوجه الأول.
طه: 30، 31
وقرأ ابن عامر وحده: (هارون أخي أشدد به) [طه / 30، 31] مقطوعة مفتوحة، والياء ساكنة (وأشركه) الألف مضمومة على الجواب والمجازاة.
وقرأ الباقون: {أخي اشدد به أزري. وأشركه في أمري}
مفتوحة على الدعاء، إلا أبا عمرو وابن كثير فإنهما فتحا الياء من {أخي}.
وقرأ نافع في رواية المسيبي وابن كثير: (وأشركهو في أمري) بزيادة واو في اللفظ.
__________
(1) السبعة 417.
(2) السبعة 417.(5/221)
وقرأ الباقون: {وأشركه} مضمومة الهاء من غير واو (1).
قال أبو علي: الوجه: الدعاء دون الإخبار، لأن ذلك معطوف على ما تقدّمه من قول: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري}
[طه / 25، 26] فكما أن ذلك كلّه دعاء، فكذلك ما عطف عليه. وأما الإشراك فيبعد فيه الحمل على غير الدعاء، لأن الإشراك في النبوّة لا يكون إلا من الله سبحانه، اللهم إلا أن يجعل أمره شأنه الذي هو غير النبوة، وإنما ينبغي أن يكون النبوة، ألا ترى أنه قد جاء: {اذهب إلى فرعون} [النازعات / 17] فقال: {فأرسله معى ردءا يصدقني}
[القصص / 34] فأما (أشدد به أزري) فحمله على الإخبار، وغير الدعاء أسهل، لأن الشدّ يكون من هارون لموسى.
وقال أبو عبيدة: {اشدد به أزري} أي: ظهري (2) قال: يقولون آزرني أي: صار لي ظهرا، ويشبه أن يكون آزر لغة في وازر، كأكدت ووكدت، وآصدت وأوصدت وأرّخت وورّخت، ونحو ذلك، ولا يسوغ أن يحمل أشركه في أمري على غير السورة، لأنه قد جاء ما يعلم منه مسألة موسى لذلك، وذلك قوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني}، {قال سنشد عضدك بأخيك}
[القصص / 33، 34]. وقال:
بمحنية قد آزر الضّال نبتها ... مضمّ جيوش غانمين وخيّب (3)
__________
(1) السبعة 418.
(2) مجاز القرآن 2/ 18.
(3) البيت لامرئ القيس، انظر ديوانه / 45، وفيه: «مجرّ جيوش» مكان «مضمّ(5/222)
كأن المعنى أن كلأها قد طال حتى صار في قوام الضال، ويدل على أن قول الجماعة غير ابن عامر أرجح أن قوله: {كي نسبحك كثيرا} [طه / 33] كالجواب بعد هذه الأشياء التي سألها موسى ربّه، فينبغي أن يكون ذلك كلّه في جملة ما دعا به.
اختلفوا [في] (1) قوله: (مهادا) [طه / 53] في زيادة الألف ونقصانها هاهنا وفي الزخرف [10] ولم يختلفوا في غيرها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: (مهادا) بالألف في كل القرآن.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {مهدا} بغير ألف فيهما (2).
قال أبو علي: المهد: مصدر كالفرش، والمهاد مثل الفراش في قوله: {الذي جعل لكم الأرض فراشا} [البقرة / 22] {والله جعل لكم الأرض بساطا} [نوح / 19] فالمهاد مثل الفراش والبساط، وهما اسم ما يفرش ويبسط، ويجوز أن يكون المهد استعمل استعمال الأسماء، فجمع كما يجمع فعل على فعال، والأوّل أبين، ويجوز في قول من قرأ:
{مهدا} أن يكون المعنى: ذا مهد، فيكون المعنى كقول من قال مهادا.
طه: 58
اختلفوا في قوله: (مكانا سوى) [طه / 58] في ضم السين وكسرها. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: (مكانا سوى) كسرا.
__________
جيوش». والمعنى: هذه المحنية في موضع تمر الجيوش به من غانم أو خائب.
فلا ينزلها أحد ليرعاها خوفا من الجيوش، فذلك أوفر لخصبها وأتمّ لكلئها.
وانظر اللسان (خيب).
(1) سقطت من الأصل.
(2) السبعة 418.(5/223)
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: {سوى} بضم السين (1).
أبو عبيدة: {مكانا سوى} و {سوى} يضم أولها ويكسر مثل طوى وطوى. قال: وهو المكان النّصف فيما بين الفريقين (2)، وأنشد لموسى بن جابر الحنفي (3):
فإن أبانا كان حلّ ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر (4)
قال أبو علي: قوله: سوى، هو فعل من التسوية، فكأن المعنى مكانا تستوي فيه مسافته على الفريقين فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر، وهذا بناء يقل في الصفات، ومثله: قوم عدى، وأما فعل فهو في الصفات أكثر من فعل، نحو: رجل سلع، ودليل خنع، ومال لبد، ورجل حطم.
فأما انتصاب قوله: (مكانا سوى)، فلا يخلو من أن يكون مفعولا للموعد في قوله: {فاجعل بيننا وبينك موعدا} [طه / 58] أو يكون ظرفا واقعا موقع المفعول الثاني، أو يكون منتصبا بأنه المفعول الثاني، فلا يجوز أن يكون متعلّقا بالموعد لا على أنه مفعول به، ولا على أنه ظرف له، وذلك أن الموعد قد وصف بالجملة التي هي: {لا نخلفه نحن}
[طه / 58] وإذا وصف لم يجز أن يعمل عمل الفعل لاختصاصه بالصفة، ولأنه إذا وصف لم يجز أن يتعلق به بعد الوصف شيء منه، كما أنه إذا عطف عليه لم يجز أن يتعلق به بعد العطف شيء منه،
__________
(1) السبعة 418.
(2) في مجاز القرآن: القريتين.
(3) سبق انظر 1/ 248.
(4) مجاز القرآن 2/ 20.(5/224)
وكذلك إذا أخبر عنه لم يجز أن يقع بعد الخبر عنه شيء يتعلق بالمخبر عنه، ولم يجز سيبويه: هذا ضارب ظريف زيدا، ولا: هذا ضويرب زيدا، إذا حقر اسم الفاعل، لأن التحقير في تخصيصه الاسم بمنزلة إجراء الوصف عليه، وقد جاء من ذلك في الشعر شيء، سمعت أبا إسحاق ينشد:
وراكضة ما تستجنّ بجنّة ... بعير حلال غادرته مجعفل (1)
وقرأت على محمد بن السري من خط السكري لبشر بن أبي خازم:
إذا فاقد خطباء فرخين رجّعت ... ذكرت سليمى في الخليط المباين (2)
وقال ذو الرّمة:
وقائلة تخشى عليّ أظنه ... سيودي به ترحاله ومذاهبه (3)
وهذا الذي جاء منه في الشعر يحمل النحويون مثله على إضمار فعل آخر: كما ذهبوا إليه في نحو قول الشاعر:
إن العرارة والنّبوح لدارم ... والمستخفّ أخوهم الأثقالا (4)
__________
(1) البيت لطفيل الغنوي انظر ديوانه / 68وفيه: «راجعته» مكان «غادرته» والمعنى:
وراكضة: تركض بعيرا تعدّيه، ما تستجنّ: ما تستتر. الحلال: مركب من مراكب النساء المجعفل: المقلوب، جعفل المتاع: إذا قلبه ورمى بعضه على بعض. انظر اللسان (جعفل).
(2) انظر المقرب لابن عصفور / 124، واللسان (فقد) وليس في ديوانه.
(3) انظر ديوانه 2/ 858.
(4) البيت للأخطل، انظر ديوانه 1/ 116وابن الشجري 1/ 189واللسان (نبح).
والعرارة هنا: الكثرة والعزّ. والنبوح: ضجة الناس وجلبتهم، والمستخف: رويت بالنصب والرفع.(5/225)
وكذلك قوله:
لسنا كمن حلت إياد دارها ... تكريت ترقب حبّه أن يحصدا (1)
فإن قلت: فقد جاء {إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} [غافر / 10] والظرف في المعنى يتعلق بالمقت الأول لأن المعنى: لمقت الله إياكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، أكبر من مقتكم أنفسكم الآية. وقوله: {إذ تدعون} متعلّق بالمقت الأول، وقد وقع بعد خبره، قيل: إن الظروف يتجوّز فيها ما لا يتجوّز في غيرها، ألا ترى أنها تقع مواقع لا يقعها غيرها، وهو أيضا مع ذلك ينبغي أن يحمل على فعل آخر دلّ المقت عليه كأنه: مقتكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون. فعلى هذا الضرب من الأفعال يحمل هذا النحو إذا جاء، ولم نعلم في التنزيل مجيء شيء منه إلا في الظروف، فقد علمت أن {مكانا} في قوله: {مكانا سوى} ليس يتعلق بالموعد لما ذكرنا، وليس بالسهل أن تجعل انتصاب {مكانا} في قوله: (مكانا سوى) على أن يكون ظرفا، وقع موقع المفعول الثاني، كقولك: ظننت خروجك اليوم، وعلمت ركوبك غدا، لأنك إن حملته على ذلك جعلت المبتدأ الذي يلحقه، جعلت، وظننت ونحوه، موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا قصدا، فتنصب المكان كما تنصب اليوم، في قولك: القتال اليوم.
ولم يجروا قولهم: الموعد مجرى سائر هذه الأحداث، ألا ترى
__________
(1) البيت للأعشى، انظر ديوانه / 231وفيه: «جعلت» مكان «حلت» و «تنظر» مكان «ترقب». وانظر الخصائص 2/ 402، 403، 3/ 256.(5/226)
أنه قد جاء في التنزيل: {إن موعدهم الصبح} [هود / 81] برفع الصبح، وجاء: {موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى}
[طه / 59] فالقراءة بالرفع على أن الثاني هو الأول، وهذا حذف واتساع، ولا تقول على قياس موعدك الصبح: مرجعك الصبح، ولا مجيئك باب الأمير، ولا مقعدك السوق. وقد رأيت أنهم قد أخرجوا الموعد من أحكام نحوه، فلا يحسن فيه ما حسن في نحو ما يشبهه، ومما يدلّك على أنهم أخرجوا ما بعد الموعد من أن يكون ظرفا قوله:
{موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى} [طه / 59] ألا ترى أن قوله: {وأن يحشر الناس} ليس من الظروف في شيء فلولا أن اليوم في قوله: {موعدكم يوم الزينة}، قد خرج من أن يكون ظرفا لم يعطف عليه ما لا يكون ظرفا. ولو نصب ناصب (اليوم) من قوله: {موعدكم يوم الزينة} فجعل (اليوم) خبرا عن الحدث مثل: القتال اليوم، مع عطف قوله: {وأن يحشر الناس ضحى} عليه جاز على أن يتعلق {يوم الزينة} بالمحذوف، ويضمر لقوله: {وأن يحشر الناس ضحى} ما يكون مبنيا عليه، كأنه: موعدكم يوم الزينة، وموعدكم أن يحشر الناس ضحى، وهذا هو الأصل، وإذا صار الاستعمال فيه على ما وصفناه مما جاء التنزيل به كان غير ذلك كالأصول المرفوضة، ولو قال قائل: إن الموعد في الآي اسم الزمان، فيكون مجيء الموعد اسما للزمان كقولهم: كان هذا مبعث الجيوش، ومضرب الشّول (1)، ومحبل فلانة، أي وقت بعضهم، ومضرب الشّول: أي وقت ضربها، ومحبل فلانة، أي: زمان حبلها. فإذا جاز أن يكون اسما للزمان ارتفع الصبح، ويوم
__________
(1) الشّول: جمع شائلة وهي من الإبل التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فخف لبنها. انظر اللسان (شول).(5/227)
الزينة من حيث كان الثاني لأنه هو الأول، وأنشد أبو الحسن:
كلما قلت غد موعدنا ... غضبت هند وقالت بعد غد (1)
فهذا يتجه أيضا على الوجهين اللذين قدمنا: أن يكون جعل الموعد الحدث، وجعله غدا، قبل على الاتساع، أو يكون جعل الموعد اسم زمان مثل المحبل، وعلى هذا الاتساع فيه، ويجوز أن يكون الموعد اسم المكان فمما جاء فيه اسم مكان: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} [الحجر / 43] فالموعد ينبغي هاهنا أن يكون مكانا، لأن جهنم مكان، والثاني فيه هو الأول، وهذا أبين من أن تحمله على أن جهنم مكان موعدهم لأن الكلام على الظاهر ولا حذف فيه، فإذا جعلت قوله: مكانا مفعولا ثانيا لجعلت كان بمنزلة قوله:
{جعلوا القرآن عضين} [الحجر / 91] وقوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا} [الزخرف / 19] في أنه انتصب على أنه مفعول ثان لجعلت.
طه: 61
اختلفوا في ضم الياء وفتحها من قوله عز وجل {فيسحتكم}
[طه / 61].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وابن عامر: (فيسحتكم) بفتح الياء من يسحت.
وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي: {فيسحتكم}
بضم الياء من أسحت، وكسر الحاء.
__________
(1) البيت لعمر بن أبي ربيعة انظر ديوانه / 323وروايته فيه:
كلما قلت متى ميعادنا ... ضحكت هند وقالت بعد غد
السبعة 419.(5/228)
أبو عبيدة: يسحتكم: يهلككم قال: وبنو تميم يقولون:
يسحتكم، وأنشد:
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلّف (1)
وفسر لم يدع: لم يبق، وقال أبو الحسن نحو ذلك، أبو عثمان:
سحت وأسحت نحو قول أبي عبيدة.
طه: 63
اختلفوا في قوله تعالى: إن هذين [طه / 63] في تشديد النون وتخفيفها.
فقرأ ابن عامر ونافع وحمزة والكسائي: (إنّ) مشدّدة النون.
{هذان} بألف خفيفة النون من هذان.
وقرأ ابن كثير (إن هذانّ) بتشديد نون (هذانّ) وتخفيف نون (إنّ).
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر (إنّ هذان) نون إنّ مشدّدة، وروى حفص عن عاصم {إن} ساكنة النون وهي مثل قراءة ابن كثير، و {هذان} خفيفة.
وقرأ أبو عمرو وحده (إنّ) مشدّدة النون (هذين) بالياء.
__________
(1) البيت للفرزدق وقد نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 21إليه. وانظر ديوانه 2/ 556. وفيه «مجرّف» بدل «مجلّف» وأنشده اللسان وقال: ويروى: «إلا مسحت أو مجلّف». وهي كذلك في مجاز القرآن ورفع قوله: «أو مجلف» بإضمار كأنه، قال: أو هو مجلف، وهذا هو قول الكسائي. والمسحت: المستأصل. اللسان (سحت)، والمجلف: الذي أتى عليه الدهر فأذهب ماله. وجلّف النبات أكل عن آخره. اللسان (جلف).(5/229)
قال قائلون: (إنّ) في قوله: (إنّ هذان لساحران) بمعنى: أجل، وأن تكون (إنّ) للتأكيد والناصبة للاسم أشبه بما قبل الكلام وما بعده، فأما قبل فقوله: {فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى} [طه / 62] فالتنازع إنما هو في أمر موسى وهارون، هل هما ساحران على ما ظنوه من أمرهما، وقد تقدم من قولهم ما نسبوهما فيه إلى السحر، وهو قولهم: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله} [طه / 57، 58] فهذا وإن لم يتقدمه سؤال عن سحرهم كما تقدم السّؤال مثل قوله: {قالوا نعم} وهو قوله: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم} [الأعراف / 44] فقد تقدم {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله} [طه / 57، 58] فيكون نعم منصرفا إلى تصديق أنفسهم فيما ادّعوه من السحر و (إن) بمنزلة نعم.
وقال: قد قال سيبويه: نعم عدة وتصديق، وأن تصرف إلى الناصبة للاسم أولى. قال الجرميّ: هو قراءة أبي عمرو وعيسى وعمرو بن عبيد وقوله: {يريدان أن يخرجاكم} إلى آخر الكلام، أن يكون تأكيدا لأنهما ساحران أشبه بالكلام فإن حمله على التصديق ضرب من التأكيد فإن حملت (إنّ) على أنّه بمعنى نعم بقي الكلام: هذان لساحران، فتحصل لام الابتداء داخلة على خبر المبتدأ، وهذا قد قال النحويون فيه: إنّه يجوز في الشعر على الضرورة، فإن قلت: أقدر الابتداء محذوفا، فإن هذا لا يتجه (1) لأمرين: أحدهما: أن الذي حمله النحويون على الضرورة لا يمتنع من أن يستمر هذا التأويل فيه، ولم يحملوه مع ذلك عليه. والآخر: أن التأكيد باللام لا يليق به الحذف، ألا ترى أن الأوجه في الرتبة أن يتم الكلام ولا يحذف، ثم يؤكّد فأما أن
__________
(1) جاء على حاشية الأصل عبارة بلغت.(5/230)
يحذف ثم يؤكّد، فليس باللائق في التقدير، ووجه قول من قال: إن ذان، وإن هذان مخفف (إن): أنّ إنّ إذا خفّفت لم يكن النصب بها كثيرا، وكان الأوجه أن يرفع الاسم بعدها، والدليل على ذلك كثرة وقوع الفعل بعدها في نحو: {إن كاد ليضلنا} [الفرقان / 42] و {إن كانوا ليقولون} [الصافات / 167] و {إن كنا عن دراستهم لغافلين}
[الأنعام / 156]، وإذا كان الأوجه الرفع بعدها رفع هذان بعدها، وأدى مع ذلك خطّ المصحف، ومن زعم أنّ {هذان} في الآية الألف التي فيه الألف التي كانت في هذا، ليس إلا ألف التي جلبته التثنية، فإن الأمر لو كان على ما زعم لم تنقلب هذه الألف في تثنيته، كما أن الألف التي في هذا لا تنقلب على حال، وفي كون هذه الألف مرّة ياء، ومرة ألفا دلالة على أنه كسائر التثنية، ولا فصل بين هذا وبين غيره من الأسماء المعربة، وذلك أن هذه الأسماء في الانفراد إنما بنيت لمشابهتها الحروف، فإذا ثنيت زال بالثنية مشابهتها للحروف، من حيث لم تثنّ الحروف فتصير كسائر الأسماء المعربة، ويدلّ على أن هذه الألف للتثنية أن التي كانت في الواحد قد حذفت، كما حذفت الياء من التي والذي إذا قلت: اللتان واللذان، فالياء التي كانت في الاسم قد حذفت وجيء بالتي للتثنية. ومثل حذف هذه الألف حذف الألف من أولات ومن ذوات ومن هيهات، هذه كلّها حذفت فيها الألف والياء لقلة تمكّنها، فكذلك تحذف من قولهم: هذا، ألفه، وتلحق التي تكون علما للتثنية، ومن ثم انقلبت مرّة ياء ومرة ألفا، والتي تثبت في الواحد لا يتعاورها القلب، ولا تزول عن أن تكون ألفا، وقال أبو الحسن: {إن هذان لساحران} بتخفيف إن لأن الكتاب: {هذان} فيحملها على لغة من يخفّف إنّ فيرفع بها، وإن ثقلت فهي لغة لبني الحارث بن كعب
يرفعون الاثنين في كل موضع قال: فأيّ التفسيرين فسرت فهو جيد.(5/231)
يحذف ثم يؤكّد، فليس باللائق في التقدير، ووجه قول من قال: إن ذان، وإن هذان مخفف (إن): أنّ إنّ إذا خفّفت لم يكن النصب بها كثيرا، وكان الأوجه أن يرفع الاسم بعدها، والدليل على ذلك كثرة وقوع الفعل بعدها في نحو: {إن كاد ليضلنا} [الفرقان / 42] و {إن كانوا ليقولون} [الصافات / 167] و {إن كنا عن دراستهم لغافلين}
[الأنعام / 156]، وإذا كان الأوجه الرفع بعدها رفع هذان بعدها، وأدى مع ذلك خطّ المصحف، ومن زعم أنّ {هذان} في الآية الألف التي فيه الألف التي كانت في هذا، ليس إلا ألف التي جلبته التثنية، فإن الأمر لو كان على ما زعم لم تنقلب هذه الألف في تثنيته، كما أن الألف التي في هذا لا تنقلب على حال، وفي كون هذه الألف مرّة ياء، ومرة ألفا دلالة على أنه كسائر التثنية، ولا فصل بين هذا وبين غيره من الأسماء المعربة، وذلك أن هذه الأسماء في الانفراد إنما بنيت لمشابهتها الحروف، فإذا ثنيت زال بالثنية مشابهتها للحروف، من حيث لم تثنّ الحروف فتصير كسائر الأسماء المعربة، ويدلّ على أن هذه الألف للتثنية أن التي كانت في الواحد قد حذفت، كما حذفت الياء من التي والذي إذا قلت: اللتان واللذان، فالياء التي كانت في الاسم قد حذفت وجيء بالتي للتثنية. ومثل حذف هذه الألف حذف الألف من أولات ومن ذوات ومن هيهات، هذه كلّها حذفت فيها الألف والياء لقلة تمكّنها، فكذلك تحذف من قولهم: هذا، ألفه، وتلحق التي تكون علما للتثنية، ومن ثم انقلبت مرّة ياء ومرة ألفا، والتي تثبت في الواحد لا يتعاورها القلب، ولا تزول عن أن تكون ألفا، وقال أبو الحسن: {إن هذان لساحران} بتخفيف إن لأن الكتاب: {هذان} فيحملها على لغة من يخفّف إنّ فيرفع بها، وإن ثقلت فهي لغة لبني الحارث بن كعب
يرفعون الاثنين في كل موضع قال: فأيّ التفسيرين فسرت فهو جيد.
طه: 64
اختلفوا في همز الألف من قوله تعالى: {فأجمعوا كيدكم}
[طه / 64] في كسر الميم وإسقاط الألف وفتح الميم.
فقرأ أبو عمرو وحده (فاجمعوا) مفتوحة الميم من جمعت.
القطعيّ عن عبيد وهارون عن أبي عمرو: {فأجمعوا} ألف مقطوعة مثل حمزة.
وقرأ الباقون: {فأجمعوا} بقطع الألف وكسر الميم من أجمعت (1).
احتج أبو عمرو، زعموا، للقراءة بالوصل بقوله: {فجمع كيده}
[طه / 60] والفعل في الموضعين جميعا معدّى إلى الكيد. قال أبو الحسن، وإنما يقولون بالقطع إذا قالوا: أجمعنا على كذا وكذا، فأما إذا قالوا: أجمعوا أمركم، وأجمعوا كيدكم، فلا يقولون إلا بالوصل، قال: والقطع أكثر القراءة، قال: فأما أن يكون لغة في ذا المعنى لأن باب فعلت وأفعلت كثير، أو يكون {أجمعوا} أي: أجمعوا على كذا وكذا، ثم قال: {كيدكم} على أمر مستأنف، فإن قيل: فقد تقدّم ذكر قوله: {فجمع كيده} فإذا قالوا: فأجمعوا كيدكم، كان تكريرا، قيل: لا يكون كذلك، لأن ذاك في قصة وذا في أخرى، ذاك إخبار عن فرعون في جمعه كيده وسحره، وهذا فيما يتواصى به السحرة في جمع كيدهم، وما يستظهرون في المبالغة في سحرهم، ويشبه أن يكون ذلك على لغتين كما ظنه أبو الحسن كقول الشاعر:
__________
(1) السبعة: 419، 420.(5/232)
وأنتم معشر زيد على مائة ... فأجمعوا أمركم طرّا فكيدوني (1)
فقوله: فأجمعوا أمركم بمنزلة: {فأجمعوا كيدكم} لأن كيدكم من أمركم.
قال: وروى القطعي عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: {ثم ائتوا صفا} [طه / 64] بفتح الميم (2)، ثم يأتي بياء بعدها ساكنة. وروى خلف عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: (ثمّ ايتوا) بكسر الميم بغير همز، ثم يأتي بالياء التي بعدها تاء، وهذا غلط، لا تكسر الميم من ثمّ، وحظها الفتح، ولا وجه لكسرها، وإنما أراد ابن كثير أن يتّبع الكتاب فلفظ بالياء التي خلفت الهمزة بعد فتحة الميم. وروى الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد عن شبل عن ابن كثير:
ثم ايتوا صفا مفتوحة الميم وبعدها ياء. وكذلك روى محبوب عن إسماعيل المكي عن ابن كثير وهذا هو الصواب.
وروى النّبال وغيره عن ابن كثير: {ثم ائتوا صفا} مثل حمزة، وكذلك قرأ الباقون (3)
قول ابن كثير: (ثمّ ايتوا صفّا) بفتح الميم ثم يأتي بياء بعدها ساكنة، وجهه فيه أنه مثل قوله: (أيذا) كأنّه قلب الهمزة ياء بعد ما خفّفها بأن جعلها بين بين إلا أنه في هذا قلبها ياء، وإن لم يكن خففها، وهذا مثل ما حكاه سيبويه في المتصل بيس، وقد كان أبين من هذا أن يقلبها ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها، مثل: راس وفاس في
__________
(1) البيت لذي الإصبع العدواني، انظر اللسان (عشر) ابن يعيش 1/ 30.
(2) في السبعة: بفتح الميم من ثم.
(3) السبعة 420.(5/233)
المتصل، فأمّا قوله: (ثمّ ايتوا صفا) فخطأ بيّن وأصل هذا أنك تقول:
أتى يأتي، فإذا أمرت منه قلت: ايت، تجتلب همزة الوصل لسكون الهمزة التي هي فاء فلزم أن تقلب الفاء ياء لاجتماع الهمزتين، فقلت:
ايت، وإن وصلته بشيء سقطت همزة الوصل، فلا يخلو ما يتصل به من أن يكون ساكنا أو متحركا، فإن كان متحركا لم يخل من أن يكون ضمّة أو فتحة أو كسرة، فإن كانت ضمّة وخففت الهمزة قلبتها واوا، فقلت: يا زيد وت، وعلى هذا: (يا صالح وتنا) [الأعراف / 77] وعلى هذا (ومنهم من يقول اوذن لي ولا) [التوبة / 49] وإن كانت كسرة فخفّفت الهمزة قلت: يا غلام يت بكذا، فقلبتها ياء، وإن شئت حقّقت (1) الهمزة فقلت: يا غلام ئت بكذا، كما حققت بعد الضمة من قولك يا زيد ؤت، وإن كانت فتحة قلبتها ألفا إذا خففت الهمزة فقلت:
يا غلام ات، وإن شئت حقّقت الهمزة. وعلى قياس قراءة ابن كثير: يا غلام يت، فتقلبها ياء ولا تقلبها ألفا، والوجه ما عليه الجمهور والكثرة، وقد قال قوم فيما روى بعض البغداذيين في أتى يأتي: ت بكذا وكذا، وأنشد:
ت لي آل زيد (2)
وهذا على قياس من حذف الهمزة حذفا من حيث كان حرف علّة، كما حذف من: خذ، ومر، وكل، وليس ذلك بالكثير ولا المعروف، والوجه في الآية قراءة النّبال وغيره عن ابن كثير.
__________
(1) في الأصل «خففت» وهو تصحيف.
(2) هذه قطعة من بيت لم يعرف قائله وتمامه:
ت لى آل زيد واندهم لي جماعة ... وسل آل زيد أي شيء يضيرها
انظر اللسان (أتى) وابن الشجري 2/ 17وفيه (له) بدل (ت) والدرر 2/ 239.(5/234)
طه: 69
اختلفوا في تشديد القاف وتخفيفها من قوله: (تلقف) [طه / 69].
فقرأ ابن عامر وحده: (ما في يمينك تلقّف ما) برفع الفاء وتشديد القاف.
وروى حفص عن عاصم: {تلقف} خفيفة.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: (تلقّف ما) مجزومة الفاء.
وروى النّبال عن ابن كثير: {ما في يمينك تلقف} خفيفة التاء كذلك قرأت على قنبل. وكان [ابن كثير] يشدّد التاء [والقاف] في رواية البزي وابن فليح (1): (ما في يمينك تلقّف).
وجه قول ابن عامر: (تلقّف) يرتفع على أنه في موضع حال، والحال يجوز أن يكون من الفاعل الملقي ومن المفعول الملقى، فإن جعلته من الفاعل الملقي جعلته المتلقف، وإن كان التّلقّف فى الحقيقة للعصا، ووجه جعل المتلقف للفاعل على أن التلقف بإلقائه كان، فجاز أن ينسب إليه، كما قال: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال / 17] فأضاف الرمي إلى الله سبحانه، وإن كان للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان بقوّة الله وإقداره، ويجوز أن تكون الحال من المفعول، وقال فيه: (تلقّف) على حدّ قولك: هند تذهب، لأنه حمل الكلام على المعنى، والذي في يمينه عصا فأنثه، كما قال: (ومن تقنت منكن لله ورسوله) [الأحزاب / 31] وكما قال: (فله عشر أمثالها) [الأنعام / 160] فأنث الأمثال لما كانت في المعنى حسنات، ومثل هذا
__________
(1) السبعة 420، 421وما بين معقوفين منه.(5/235)
في أنّ لفظ يفعل يكون فيه مرّة للمخاطب ومرّة للمؤنث الغائب قوله:
{يومئذ تحدث أخبارها} [الزلزلة / 4] فهذا على أن تكون: تحدث أنت أيها الإنسان، وعلى أن الأرض تحدث، فأما قوله:
فإن تكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها (1)
فإن تهوى للغائبة لا غير، وجعلت (تلقف) حالا، وإن لم تتلقف بعد، كما جاء في التنزيل: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة / 95] وكما أجاز النحويون: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، وهذا النحو من الحال كثير في التنزيل وغيره.
وأما (تلقف) فعلى أن يكون جوابا كأنه: إن تلقه تلقف، وكذلك تلقف، ويجوز في (تلقّف) و {تلقف} أن يكون لك أيها المخاطب، ويجوز أن يكون للغيبة وعلى الحمل على المعنى، ومن خفّف التاء من {تلقف} ومن شدّد فقال: ما في يمينك تلقف، فإنما أراد: تتلقّف وهذا يكون على تتلقف أنت أيها المخاطب، وعلى تتلقّف في الآية أنه أدغم التاء في التاء، والإدغام في هذا ينبغي أن لا يجوز، لأن المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب له همزة الوصل كما جلبت في أمثلة الماضي، نحو: ادّرأ وازّينت واطّيّروا، وهمزة الوصل لا تدخل على المضارع، ألا ترى أن من قال في تتّرس: اتّرس، لا يقول في المضارع: اتّرسون، ولا: اتّفكّرون، يريد: تتفكرون. وهذا يلزم أن يقوله من قال:
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب وتمامه:
زجرت لها طير الشمال فإن تكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها
يريد إن صدق هذا الطير السنيح سيصيبك اجتنابها، أي تجنبها وتباعدها.
انظر شرح السكري 1/ 42.(5/236)
{ما في يمينك تلقف} وإنما لم تدخل همزة الوصل على المضارع، كما لم تدخل على اسم الفاعل، لأن كلّ واحد منهما مثل الآخر، وليس حكم الوصل أن يدخل على الأسماء المعربة إلا أن تكون المصادر الجارية على أفعالها، وإنما دخلت على هذه الأسماء القليلة التي دخلت عليها لما كانت محذوفة الأواخر، لأنه بذلك أشبه الأفعال المحذوفة منها، فأشبهت الأفعال التي للأمر عند النحويين.
وسألت أحمد بن موسى: كيف يبتدئ من أدغم؟ فقال كلاما معناه أنه يصير بالابتداء إلى قول من خفف ويدع الإدغام.
طه: 69
اختلفوا في فتح السين وكسرها، وإخراج الألف وإدخالها، وتسكين الحاء وكسرها من: {كيد ساحر} [طه / 69]. فقرأ حمزة والكسائي: (كيد سحر) بغير ألف.
وقرأ الباقون: {كيد ساحر} بألف (1).
حجة: {كيد ساحر} أن الكيد للساحر في الحقيقة، وليس للسحر إلا أن تريد: كيد ذي سحر، فيكون في المعنى حينئذ مثل:
{كيد ساحر}، ويقوّي ذلك: (تلقّف ما صنعوا إنّما صنعوا كيد ساحر)، والسحر لا يمتنع أن يضاف إليه الكيد على التوسع، وزعموا أنه قراءة الأعمش.
طه: 71
قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: {آمنتم}
[طه / 71] على لفظ الخبر.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر: {آمنتم} (2) بهمزة ممدودة.
__________
(1) السبعة 421.
(2) رسمت في السبعة هكذا: إامنتم.(5/237)
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: (أآمنتم) بهمزتين، الثانية ممدودة (1).
يعني أحمد: أن الهمزة الأولى للاستفهام، والثانية همزة القطع، وبعدها الألف المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء الفعل، وقوله عن أبي عمرو وابن عامر بهمزة ممدودة يعني: أنهما يستفهمان فيأتيان بهمزة الاستفهام، وبعدها مدّة، وتكون الأولى همزة القطع، والثانية الأصل.
قال أبو علي: الخبر هاهنا وجهه حسن، كأن يقرّعهم على تقدمهم بين يديه، وعلى استبدادهم على ما كان منهم من الإيمان عن غير أمره وإذنه، والاستفهام إلى هذا المعنى يؤول، لأنه تقريع وتوبيخ منه لهم بأيمانهم، وأمّا اللفظ، وقوله: قرأ نافع وابن عامر: {آمنتم} بهمزة ممدودة، يعني به: أنهم يستفهمون، فيأتون بهمزة الاستفهام بعد مدّة: الأولى: همزة الاستفهام، والثانية: همزة أفعل في أامن، وأبو عمرو إذا اجتمع هذا النحو من الهمزتين أدخل بينهما ألفا، وكأنه ترك هنا هذا الأصل لما كان يلزم من اجتماع همزتين وألفين، الهمزة الأولى همزة الاستفهام والألف الأولى التي بعد الهمزة الأولى هي التي يفصل بها بين الهمزتين في نحو:
آأنت أم أمّ سالم (2).
والهمزة الثانية وهي الثالثة من أول الكلمة همزة أفعل في:
__________
(1) السبعة 421.
(2) من بيت لذي الرمة تمامه:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا آأنت أم أمّ سالم
سبق انظر 4/ 286.(5/238)
أامن، والألف التي بعدها هي الألف المنقلبة عن فاء الفعل من الأمن والأمان، وأبدلت ألفا لاجتماعهما مع همزة أفعل، فكان يلزم اجتماع همزتين وألفين متواليات: أاأامنتم، فترك ذلك في هذا الموضع لكراهة اجتماع الأمثال. وقرأ حمزة والكسائي على أصلهما في هذا النحو وقد مرّ ذلك في مواضع.
طه: 77
اختلفوا في قوله: {لا تخاف دركا} [طه / 77].
وقرأ حمزة وحده: (لا تخف دركا) جزما بغير ألف.
وقرأ الباقون: {لا تخاف} رفعا بألف.
ولم يختلفوا في فتح الراء من دركا (1).
وجه قول من رفع أنه حال من الفاعل: اضرب لهم طريقا غير خائف ولا خاش، ويجوز أن تقطعه من الأول: أنت لا تخاف، ومن قال: (لا تخف) جعله جواب الشرط، إن تضرب لا تخف دركا ممن خلفك، ولا تخشى غرقا بين يديك، فأما من قال: (لا تخف دركا)، ثم قال: {لا تخشى}، فيجوز أن يقطعه من الأول، أي: إن تضرب لا تخف، وأنت لا تخشى، ولا تحمله على قول الشاعر:
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا (2)
ولا على نحو:
لا ترضّاها ولا تملّق (3)
__________
(1) السبعة 421.
(2) هذا عجز بيت لعبد يغوث بن وقاص سبق في 1/ 93، 325.
(3) عجز بيت لرؤية سبق في 1/ 93.(5/239)
لأن ذلك إنما يجيء في ضرورة الشعر كما أن نحو قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمى (1)
ونحو قوله:
لم تهجو ولم تدع (2)
كذلك، ولكنّك تقدّر أنّك حذفت الألف المنقلبة عن اللام ثم أشبعت الفتحة لأنها فاصلة، فأثبتّ الألف الثانية عن إشباع الفتحة، ومثل هذا مما ثبت في الفاصلة قوله: {فأضلونا السبيلا}
[الأحزاب / 67] وقد جاء إشباع هذه الفتحة في كلامهم قال:
فأنت من الغوائل حين تلقى ... ومن ذمّ الرّجال بمنتزاح (3)
طه: 78
قال: روى عبيد (4) (فاتبعهم) [طه / 78] وحدها موصول في هذا، وكلّ شيء في القرآن {فأتبعهم}. وقرأ: {فأتبعوهم مشرقين}
[الشعراء / 60] مقطوع الألف.
وعبيد عن هارون عن أبي عمرو (فاتّبعهم فرعون) موصولة، وكلّ شيء في القرآن {فأتبعوهم} مقطوع (5).
قال أبو علي: الباء الجارة على هذا معدية الفعل إلى المفعول لأنك تقول: تبعته واتبعته كما تقول: شويته واشتويته، وحفرته
__________
(1) صدر بيت لقيس بن زهير سبق في 1/ 93، 325و 2/ 69.
(2) قطعة من بيت سبق في 1/ 325.
(3) سبق انظر 1/ 81.
(4) جاء على هامش الأصل: عنده محمد.
(5) السبعة 422مع اختلاف في التفصيل.(5/240)
واحتفرته، وفديته وافتديته (1)، فإذا استوفيت المفعول الذي يتعدّى إليه الفعل. فعدّيته إلى آخر عدّيته بالجار. ومن قطع الهمزة هنا، فقال:
{فأتبعهم فرعون بجنوده} فالباء زائدة في قوله، لأنّ {أتبعهم} منقول من تبعهم، وتبع يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمزة تعدّى إلى آخر كقوله: {وأتبعوا في هذه لعنة} [هود / 99] فإذا كان كذلك جعلت الباء زائدة كما تزاد في كثير من المفعولات، نحو:
لا يقرأن بالسور (2)
وقد يجوز أن تكون هذه الباء في موضع حال من الفاعل، كأنه اقتصر بالفاعل على فعله ولم يعدّه إلى مفعوليه اللذين يتعدى فعله إليهما فصار مثل: تبعه زيد بسلاحه، وقد تقدم ذكر هذه الكلمة.
طه: 80، 81
اختلفوا في قوله عز وجل: {قد أنجيناكم} {وواعدناكم}
{ما رزقناكم} [طه / 80، 81].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الثلاثة الأحرف بالنون.
وقرأ أبو عمرو وحده: (ووعدناكم) بغير ألف في كلّ القرآن.
وقرأهنّ حمزة والكسائى بالتاء (3).
حجة: (وعدناكم) أنّ ذلك يكون من الله سبحانه. وقال أبو
__________
(1) في الأصل: وافديته.
(2) هذه قطعة من بيت للراعي وتمامه:
تلك الحرائر لا ربات أحمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
انظر المخصص 14/ 70وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 128.
(3) السبعة 422وزاد بعده: بغير ألف.(5/241)
الحسن: زعموا أن واعدناكم لغة في معنى وعدناكم، وإذا كان كذلك فاللفظ لا يدلّ على أن الفعل من الاثنين، كما أن استسحر واستقرّ، ونحو ذلك من بناء استفعل، لا يدلّ على استدعاء، والقراءة بوعد أحسن، لأن واعد بمعنى وعد، ويعلم من وعد أنه فعل واحد لا محالة، وليس واعد كذلك، والأخذ بالأبين أولى.
وحجة من قرأ: (أنجيناكم ووعدناكم) قوله: {ونزلنا عليكم المن} [طه / 80] واتفاقهم في ذلك على إسناد الفعل إلى اللفظ الدالّ على الكثرة، وفي أخرى: {وإذ أنجيناكم من آل فرعون}
[الأعراف / 141].
طه: 81
اختلفوا في قوله: {فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي} [طه / 81].
فقرأ الكسائي وحده: (فيحلّ عليكم) بضم الحاء، (ومن يحلل) بضم اللام.
وقرأ الباقون: {فيحل}، {ومن يحلل عليه}.
ولم يختلفوا في قوله: {أن يحل عليكم غضب من ربكم}
[طه / 86] أنها بكسر الحاء (1).
أبو زيد تقول: قد حلّ عليه أمر الله يحلّ حلولا، وحلّ الدار يحلّها حلولا: إذا نزلها، وحلّ العقدة يحلّها حلا. وحلّ له الصوم يحلّ له حلّا، وأحلّه له إحلالا، وحل حقي عليه يحل محلا وأحل من إحرامه إحلالا، وحل يحل حلا.
وجه قراءة من قرأ: (يحلّ) بكسر الحاء أنه
روى في زمزم:
__________
(1) السبعة 422.(5/242)
«أنه لشارب حلّ وبلّ»
(1) أي: مباح له غير محظور عليه، ولا ممنوع منه، والحلّ والحلال في المعنى مثل المباح، فهو خلاف الحظر والحجر والحرام، والحرم، فهذه الألفاظ معناها المنع، وهي خلاف الحلّ والحلال الذي هو الإباحة والتوسعة، والإباحة: من باح بالسر والأمر يبوح به، إذا لم يجعل دونه حظرا، والمحلّ خلاف المحرم، فمعنى يحلّ عليكم: ينزل بكم وينالكم بعد ما كان ذا حظر وحجر ومنع عنكم. ويبين ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: حلّ عليه أمر الله يحلّ، والأمر قد جاء في التنزيل يراد به العذاب، قال: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النمل / 1] فهذا يعنى به العذاب لقوله: {يستعجلونك بالعذاب} [العنكبوت / 54] وقال: {أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا} [يونس / 24] ويقوّي ذلك قوله: {ويحل عليه عذاب مقيم}
[هود / 39] أي: ينزل به بعد أن لم يكن كذلك، ولم يختلفوا في هذا الحرف فيما زعموا، وهذا بمنزلة قوله: {أن يحل عليكم غضب من ربكم} [طه / 86] في أنه يحلّ بالكسر.
ووجه من قال: (يحلّ عليكم غضبي) أنّ الغضب لما كان يتبعه العقوبة والعذاب جعله بمنزلة العذاب فقال: يحلّ أي: ينزل، فجعله بمنزلة قولهم: حلّ بالمكان يحلّ، وعلى هذا جاء: {تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} [الرعد / 31] فكما أن هذا عذاب، فأخبر عنه بأنّه يحلّ، كذلك أخبر عن الغضب بمثله، فجعله بمنزلته لأنه يتبعه ويتصل به.
__________
(1) انظر النهاية لابن الأثير 1/ 154ونصه:
«هي لشارب حل وبل»
البل: المباح. وقيل الشفاء. من قولهم: بلّ من مرضه وأبل. وبعضهم يجعله اتباعا لحلّ، ويمنع من جواز الإتباع الواو.(5/243)
طه: 87
اختلفوا في قوله تعالى: {موعدك بملكنا} [طه / 87] في ضم الميم وكسرها وفتحها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: (بملكنا) بكسر الميم.
وقرأ نافع وعاصم {بملكنا} بفتح الميم.
وقرأ حمزة والكسائي: (بملكنا) بضم الميم. القطعي عن عبيد عن هارون عن أبي عمرو {بملكنا} (1).
قال أبو علي: هذه لغات، وزعموا أن الكسر أكثر في القراءة، والفتح لغة فيه، المعنى: ما أخلفنا موعدك بملكنا الصواب، ولكن لخطئنا، فأضاف المصدر إلى الفاعل وحذف المفعول، كما أنه قد يضاف إلى المفعول ويحذف الفاعل في نحو: {من دعاء الخير}
[فصلت / 49] و (سؤال نعجتك) [ص / 24].
وأما من قال: ما أخلفنا موعدك بملكنا فإنه لا يخلو من أن يريد به مصدر الملك: أو يكون لغة في مصدر المالك، فإن أريد بالملك مصدر الملك فالمعنى لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك لمكان ملكنا، وهذا على هذا التقدير كقوله: {لا يسألون الناس إلحافا}
[البقرة / 273] أي: ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف فيها، ليس على أنه أثبت ملكا، كما أنه لم يثبت في قوله: {لا يسألون الناس إلحافا} مسألة منهم، ومثله قول ابن أحمر:
لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضّبّ بها ينجحر (2)
__________
(1) السبعة 422، 423.
(2) سبق انظر 2/ 47.(5/244)
أي: ليس لها أرنب فيفزع لهولها، ومثله:
وبلدة لا يستطيع سيدها ... حسرى الأراكيب ولا يهيدها (1)
ومثله قول ذي الرمة:
لا تشتكى سقطة منها وقد رقصت ... بها المفاوز حتّى ظهرها حدب (2)
أي: ليس منها سقطة فتشتكى، ولا يجوز أن يراد به تثبيت الملك الذي هو مصدر الملك، لأنهم لم يكن لهم ملك بل كانوا مستضعفين قال: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض}
[القصص / 5] قال: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها} [الأعراف / 137]. وأظنّ أنّ أبا الحسن حكى أنّ الملك مصدر في المالك، وحكى غير أبي الحسن: أن بعضهم قال:
ما لي ملك، يريد: شيئا أملكه، وقد يكون الملك: الشيء المملوك، والملك: المصدر، مثل الطّحن والطحن، والسّقي والسّقي. وقد يجوز في قراءة من قرأ (بملكنا) أن تقدّر حذف المفعول وتعمله إعمال المصدر، كما قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا (3)
طه: 87
اختلفوا في قوله تعالى: {ولكنا حملنا} [طه / 87] في ضم الحاء وتشديد الميم، وفتحها وتخفيف الميم.
__________
(1) لم نعثر عليه، ولا يهيدها: أي لا يزعجها ولا يكترث لها.
(2) انظر ديوانه 1/ 44والمعنى: لا يقال فيها ما يكره، والسقطة: العثرة، رقصت بها المفاوز: ليست على طمأنينة. وقد حدب ظهرها من الهزال.
(3) سبق انظر 1/ 182، 2/ 130، 333، 351.(5/245)
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم: {حملنا}
بضم الحاء مشدّدة الميم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وحمزة والكسائي:
(حملنا) خفيف. وقال أبو زيد عن أبي عمرو: (حملنا) و {حملنا} (1).
قال أبو علي: حمل الإنسان الشيء وحمّلته إياه، يتعدّى الفعل إلى مفعول واحد، فإذا ضاعفت العين عدّيته إلى المفعولين، قال:
{مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها} [الجمعة / 5] والحمل:
المصدر، والحمل: المحمول، وفي التنزيل {فأبين أن يحملنها}
{وحملها الإنسان} [الأحزاب / 72] كأنّه: أبين أن لا يؤدّين الأمانة فيما استؤمنّ فيه، وحملها الإنسان أي: لم يؤدّها، لأن حمل الحامل الشيء إمساك وخلاف لأدائه، فكأنه لم يؤدّ الأمانة، وكأن المعنى: على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال {وأشفقن منها} أي: من حمل الأمانة، فحذف المضاف. وما
روى في الحديث: (أنه إذا كان الماء قلّتين أو خمس قلال لم يحمل خبثا)
(2). معناه أنه لقلّته يضعف عن أن يحتمل النجس، فينجس لأنّه لا يحتمله كما يحتمله الكثير الذي بخلافه، وقالوا: احتمل الشيء وحمله: إذا اضطلع به وقوى عليه، أنشد الأصمعي:
واحتمل اليتم فريخ التمره ... ونشر اليسروع بردي حبره (3)
__________
(1) السبعة 423.
(2) رواه أحمد في مسنده 2/ 23، 27، 107وانظر اللسان (قلل).
(3) لم نعثر عليه واليسروع نوع من الدود يعيش على الأعشاب والأشواك جمعه أساريع.
(اللسان / سرع) والتمرة كقبّرة: طائر أصغر من العصفور (القاموس).(5/246)
المعنى: أنه استقلّ بنفسه، واحتمل طلب قوته وفارق ما كان عليه من التيم في حاجته إلى الكاسب له، فمن قرأ {حملنا} كان المعنى عنده: جعلونا نحمل أوزار القوم و (حملنا) على ذلك وأردنا له. ومن قال: (حملنا) أراد أنّهم فعلوا ذلك، وقد يجوز إذا قرأ (حملنا) أن يكونوا حملوا على ذلك وكلّفوه لأنهم إذا حمّلوه حملوه.
طه: 93
اختلفوا في إثبات الياء من قوله تعالى: (أن لا تتبعني) [طه / 93] وحذفها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ألّا تتّبعني) بياء في الوصل ساكنة.
ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو يقف بغير ياء.
واختلف عن نافع، فروى ابن جمّاز وإسماعيل بن جعفر: (ألا تتّبعني أفعصيت) بياء منصوبة، وليس في الكتاب، وفي رواية قالون والمسيبي وورش وأحمد بن صالح عن أبي بكر وإسماعيل بن أبي أويس: (تتّبعني) بياء في الوصل ساكنة، ويقف بغير ياء.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف (1).
قد ذكر هذا النحو في غير موضع.
طه: 94
اختلفوا في فتح الميم وكسرها من قوله عز وجل: {يابن أم}
[طه / 94].
فقرأ {يابن أم} بنصب الميم ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم.
__________
(1) السبعة 423.(5/247)
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي وابن عامر (يا ابن أمّ) بكسر الميم.
قال أبو علي: من قال: يا ابن أم احتمل قوله أمرين:
أحدهما: أن يكون أراد: يا ابن أمّا، فحذف الألف كما يحذف من غلامي في النداء إذا قال: يا غلام، وحذف الياء من المضاف إليه، وإن كانت لا تحذف في المضاف إليه إذا قال: يا غلام غلامي، كما تحذف من المضاف إذا قال: يا غلام، لأن هذا الاسم قد كثر استعماله، فتغيّر عن أحوال النظائر، والفتحة في ابن على هذا نصبة، كما أنها في قولك يا غلام أمي كذلك، ويجوز أن يكون جعل ابن وأمّ جميعا بمنزلة اسم واحد فبنى الآخر على الفتح وكذلك الاسم الذي هو المصدر، فالفتحة في الأول ليس بنصبة كما كانت في الوجه الأول، ولكنها بمنزلة الفتحة في خمسة من خمسة عشر، والاسم في موضع ضمّ من حيث كانا بمنزلة خمسة عشر، كما أن خمسة عشر كذلك.
ومن قال: (يا ابن أمّ) احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون أضاف ابنا إلى أمّ، وحذف الياء من الثاني، وكان الوجه إثباتها مثل يا غلام غلامي، والآخر: أن يكون جعل الاسم الأوّل مع الثاني اسما واحدا.
وأضافه إلى نفسه، كما تقول: يا خمسة عشر أقبلوا، فحذف الياء كما تحذف من أواخر المفردة نحو: يا غلام.
طه: 96
اختلفوا في قوله عز وجل: {بما لم يبصروا به} [طه / 96] في الياء والتاء.
فقرأ حمزة والكسائي: (تبصروا) بالتاء.(5/248)
اختلفوا في قوله عز وجل: {بما لم يبصروا به} [طه / 96] في الياء والتاء.
فقرأ حمزة والكسائي: (تبصروا) بالتاء.
وقرأ الباقون: {يبصروا} بالياء (1).
من قال: {يبصروا} وهو قراءة الأكثر فيما زعم بعضهم، أي: لم يبصر به بنو إسرائيل. ومن قال: (تبصروا به) صرف الخطاب إلى الجمع.
طه: 97
واختلفوا في قوله: {لن تخلفه} [طه / 97] في فتح اللام وكسرها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (لن تخلفه) بكسر اللام.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {لن تخلفه}
بفتح اللام (2).
اختلفت يتعدّى إلى مفعولين، ولن تخلفه مثل لن تعطاه، لما أسندت الفعل إلى أحد المفعولين، فأقمته مقام الفاعل بقي الفعل متعدّيا إلى مفعول واحد، وفاعل الفعل الذي هو تخلف: الله سبحانه، أو موسى، ومعناه: سنأتيك به ولن يتأخر عنك. و (لن تخلفه) أي:
ستأتيه ولا مذهب لك عنه، وهو وعيد، وهذا المعنى في القراءة الأولى أبين.
طه: 125، 124
أبو بكر عن عاصم (أعمى) و (أعمى) [طه / 124، 125] مكسورتان مثل حمزة والكسائي.
حفص عن عاصم بفتحهما.
__________
(1) السبعة 424.
(2) السبعة 424.(5/249)
نافع بين الكسر والفتح. أبو عمرو بفتحهما، وكذلك ابن كثير وابن عامر (1).
الإمالة وتركها جميعا حسنان في هذا، وقد ذكر فيما مرّ قبل.
وقال بعض المفسرين: {لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا}: أعمى عن الحجّة، وقد كنت بصيرا بها، ويجوز أن يكون أعمى عن طرق الثواب.
طه: 102
اختلفوا في قوله عز وجل: {ينفخ في الصور} [طه / 102] في الياء والنون.
فقرأ أبو عمرو وحده: (يوم ننفخ) بالنون.
وقرأ الباقون: {ينفخ} بالياء على ما لم يسمّ فاعله (2).
قال أبو علي وجه من قال: {ينفخ}: {ونفخ في الصور فصعق}
[الزمر / 68] و {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا} [النبأ / 18].
ووجه النون: {فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم / 12] ونفخ الروح في التنزيل يجيء حيث يراد الإحياء، قال: {يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة} [الأنعام / 73] ويقوّي ذلك أيضا ما عطف عليه من قوله: {ونحشر} [طه / 102]، والصّور: جمع صورة في قول الحسن، مثل: صوف وصوفة، وثوم وثومة، وفي قول مجاهد: آلة ينفخ فيها، قال: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} [الزمر / 68] كأنّهم أصابهم الصعق لما
__________
(1) السبعة 425.
(2) السبعة 424.(5/250)
عاينوا من أهوال القيامة، وقال: {ثم نفخ فيه أخرى} [الزمر / 68] لأنهم دفعوا إلى حال كالموت في الشدّة وقال: {وخر موسى صعقا فلما أفاق}
[الأعراف / 143] فقوله: {ثم نفخ فيه أخرى} [الزمر / 68] في المعنى كقوله: {فلما أفاق}.
طه: 119
اختلفوا في كسر الألف وفتحها من قوله: (وإنك لا تظمأ فيها) [طه / 119].
فقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر: (وإنك) بكسر الألف.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {وأنك} مفتوحة الألف.
طه: 112
وكلهم قرأ: {فلا يخاف ظلما} [طه / 112] بالألف على الخبر غير ابن كثير فإنه قرأ: (لا يخف) على النهي (1).
من قال: {وأنك} ففتح الألف حملها على أنّ {إن لك أن لا تجوع} وإنّ لك أنّك لا تظمأ فيها، فإن قلت: إن (إنّ) لا يجوز أن تحمل عليها (أنّ)، ألا ترى أنك لا تقول: إنّ أنّك منطلق، فهلّا لم يجز في ذلك العطف أيضا، قيل له: إنما لم يجز: إنّ أنّ، لكراهة اجتماع حرفين متقاربي المعاني، فإذا فصل بينهما لم يكره ذلك، ومثل ذلك إنّ مع اللام لا تقول: إنّ لزيدا منطلق، ولا: لأنّ زيدا منطلق، ولو فصلت بينهما لجاز نحو: {إن في ذلك لآيات وإن كنا}
[المؤمنون / 30] و {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم} [الشعراء / 67] فلذلك لم يجز: أنّ إنك، فإذا فصلت بينهما حسن، وجاز.
__________
(1) السبعة 424.(5/251)
ومن كسر فقال: (وإنّك) قطع الكلام من الأول واستأنف، وعلى هذين الوجهين حمل سيبويه الآية (1).
قال: وكلّهم قرأ: {فلا يخاف ظلما} بألف على الخبر، غير ابن كثير فإنه قرأ: (فلا يخف) على النهي. المعنى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} [طه / 112] الجملة في موضع نصب على الحال، والعامل فيها {يعمل} وذو الحال: الذكر، الذي في يعمل من (من)، وموضع الفاء وما بعدها من قوله: {يخاف} أو (يخف) جزم، لكونه في موضع جواب الشرط، والمبتدأ محذوف مراد بعد الفاء، والمعنى: فهو لا يخاف، وكذلك الفاء في قوله: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة / 95] {ومن كفر فأمتعه قليلا} [البقرة / 126] ومن يؤمن بربه فلا يخاف [الجن / 13] أي: لا يخاف أن يؤخذ بذنب غيره، والأمر في (لا يخف) جنس لأن المعنى: من يعمل من الصالحات، أي: شيئا من الصالحات، أي: من يعمل من الصالحات فليأمن، لأنه لم يفرط فيما وجب عليه، وكذلك: (فلا يخف)، واللفظ على النهي والمراد الخبر بأن المؤمن الصالح لا خوف عليه.
طه: 130
اختلفوا في ضمّ التاء وفتحها من قوله تعالى: {لعلك ترضى}
[طه / 130].
فقرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي: (لعلّك ترضى) مضمومة التاء.
وقرأ الباقون، وهبيرة عن حفص عن عاصم وعمرو بن الصباح عن حفص عن عاصم: {ترضى} بفتح التاء.
__________
(1) انظر الكتاب: 1/ 463.(5/252)
أبو عمارة عن حفص عن عاصم: (ترضى) مضمومة التاء، والمعروف عن حفص عن عاصم بالفتح (1).
حجّة من فتح التاء قوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}
[الضحى / 5]. وحجّة من قال: (ترضى) أنه قد جاء في صفة بعض الأنبياء: {وكان عند ربه مرضيا} [مريم / 55]. وكأن معنى ترضى لفعلك ما أمرت به من الأفعال التي يرضاها الله، أو ترضى بما تعطاه من الدرجة الرفيعة، وترضى: ترضى بما يعطيكه الله من الدرجة العالية والدرجة المرضية.
طه: 133
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: {أولم تأتهم بينه}
[طه / 133].
فقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: {أولم تأتهم} بالتاء.
وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالياء (2).
من قرأ: بالتاء فلتأنيث لفظة البيّنة، ومن قرأ بالياء فلأن البيّنة والبيان معناهما واحد، كما أن الوعظ والموعظة، والصوت والصيحة كذلك.
__________
(1) السبعة 425.
(2) السبعة: 425.(5/253)
اختلافهم في سورة الأنبياء
الانبياء: 4
اختلفوا في قوله تعالى: (قل ربي يعلم القول) [الأنبياء / 4].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: (قل ربّي يعلم).
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {قال ربي} بألف، وكذلك هي في مصاحف أهل الكوفة (1).
وجه من قال: (قل) أنه لما قال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه} إلى قوله: {تبصرون}، قيل: (قل ربي يعلم القول)، أي: قل: إنّ الله عز وجل عالم بما أسررتموه فيما بينكم وغيره مما لا يعلمه إلا الله عز وجل. و {قال} على إضافة القول إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والخبر عنه.
الانبياء: 25
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {من رسول إلا نوحي إليه} [7] بالنون [وكسر الحاء]
__________
(1) السبعة 428.(5/254)
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم [يوحي] بالياء (1).
حجّة النون أنه قد تقدّمه: {وما أرسلنا} والنون أشبه بما قبله، والياء في المعنى كالنون، وكما جاء: {سبحان الذي أسرى بعبده}
[الإسراء / 1] ثم قال: {وآتينا موسى} [الإسراء / 2] كذلك يجوز أن يتقدّم لفظ الجميع ويتبع لفظ الإفراد لأن المعنى واحد.
الانبياء: 45
قال: قرأ ابن عامر وحده: (ولا تسمع) [الأنبياء / 45] بالتاء مضمومة {الصم} نصبا.
وقرأ الباقون: (ولا يسمع) بالياء {الصم} رفعا (2).
قول ابن عامر أنه حمله على ما قبله، والفعل مسند إلى المخاطب، وكذلك قوله: (ولا تسمع الصمّ) مسند إليه، والمعنى:
أنهم معاندون، فإذا أسمعتهم لم يعملوا بما يسمعونه، ولم ينقادوا له كما لا يسمع الأصمّ.
ووجه قول الباقين: أنه على وجه الذمّ لهم والتقريع بتركهم سمع ما يجب عليهم استماعه والانتهاء إليه، وقد تقول لمن تقرّعه بتركه ما تدعوه إليه: ناديتك فلم تسمع، وأفهمتك فلم تفهم، ولو كان (ولا تسمع الصمّ) كما قال ابن عامر، لكان: إذا تنذرهم، فأما إذا ما ينذرون فحسن أن يتبع ولا يسمع الصمّ إذا ما أنذروا.
الانبياء: 30
قال: قرأ ابن كثير وحده: (ألم ير الذين كفروا) [الأنبياء / 30] بغير واو بين الألف واللام، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة.
__________
(1) في الأصل وقع تكرار في عزو القراءة حذفناه وأثبتنا من الكلام ما يتساوق مع السبعة مما لا تكرار فيه، وما بين معقوفين من السبعة. انظر ص 428.
(2) السبعة 429.(5/255)
وفي سائر المصاحف: {أولم ير} كذلك قرأ الباقون: {أولم ير الذين كفروا} (1)
وقد مضى ذكر هذا النحو فيما تقدّم.
الانبياء: 47
وقرأ نافع وحده (وإن كان مثقال حبة) [الأنبياء / 47]. رفعا. وقرأ الباقون {مثقال} نصبا.
وجه الرفع أنه أسند الفعل إلى المثقال، كما أسند في قوله:
{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة / 280]. أي: ذا عسرة، وكذلك قوله:
إذا كان يوم ذو كواكب أشهبا (2).
ووجه النصب: وإن كان الظلامة مثقال حبّة، وهذا حسن لتقدم قوله: {لا تظلم نفس شيئا} [الأنبياء / 47] فإذا ذكر {تظلم} فكأنّه ذكر الظلامة، كقولهم: من كذب كان شرا له.
الانبياء: 48
وقرأ ابن كثير وحده: (وضئاء) [الأنبياء / 48] بهمزتين، الأولى قبل الألف، والثانية بعد الألف، كذلك قرأت على قنبل عن القواس، وأبى ذلك ابن فليح وغيره، وهو غلط، والذي روى ابن فليح وغيره هو الصواب.
وقرأ الباقون: {ضياء} بهمزة واحدة بعد الألف (3).
__________
(1) السبعة 429.
(2) عجز بيت لمقاس العائذي، وصدره:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي انظر الكتاب لسيبويه 1/ 21، واللسان (شهب) وفيهما: إذا كان يوم ذو، ويوم أشهب: ذو ريح باردة وأزيز. وانظر ما سبق 1/ 148.
(3) السبعة 429.(5/256)
وقد تقدّم القول في ذلك.
الانبياء: 35
قرأ ابن عامر وحده: (وإلينا ترجعون) [الأنبياء / 35] بالتاء مفتوحة.
وقرأ الباقون: {ترجعون} مضمومة التاء.
عباس عن أبي عمر (والخير فتنة وإلينا يرجعون) بالياء مضمومة (1).
ووجه (ترجعون): {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة / 156] ووجه {ترجعون}: {ولئن رددت إلى ربي} [الكهف / 36] وقوله: {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة} [التوبة / 94].
وقول أبي عمرو (وإلينا يرجعون)، يكون على الانصراف من الخطاب إلى الغيبة، كقوله: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم / 39] ويجوز أن يكون على قوله: (كل نفس ذائقة الموت وإلينا يرجعون) [الأنبياء / 35].
الانبياء: 58
اختلفوا في ضم الجيم وكسرها من قوله تعالى: {فجعلهم جذاذا} [الأنبياء / 58].
فقرأ الكسائي وحده (جذاذا) بكسر الجيم.
وقرأ الباقون {جذاذا} بضم الجيم (1).
قال: جذاذا: فعال من: جذذت الشيء إذا قطعته، قال:
تجذّ السّلوقي المضاعف نسجه (3)
__________
(1) السبعة 429.
(3) هذا صدر بيت للنابغة وعجزة:
وتوقد بالصفاح نار الحباب(5/257)
ومثل الجذاذ الحطام والرفات، والضم في هذا النحو أكثر، والكسر فيما زعموا لغة وهي قراءة الأعمش.
الانبياء: 67
اختلفوا في قوله: {أف لكم} [الأنبياء / 67].
فقرأ ابن كثير وابن عامر: (أفّ لكم) بفتح الفاء.
وقرأ نافع وحفص عن عاصم {أف} خفض منوّن.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وحمزة والكسائي (أفّ لكم) بكسر الفاء غير منون (1).
وقد تقدّم القول في ذلك.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: (ليحصنكم) بالياء.
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: {لتحصنكم} بالتاء.
وروى أبو بكر عن عاصم: (لنحصنكم) بالنون (2).
وجه الياء في قوله (ليحصنكم) يجوز أن يكون الفاعل اسم الله لتقدّم {علمناه}، ويجوز أن يكون اللباس، لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضربا منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم يدل عليه {علمناه}. ومن قرأ {لتحصنكم} حمله على المعنى لأنها الدرع. ومن قرأ (لنحصنكم) فلتقدم قوله: {وعلمناه} أي علمناه لنحصنكم.
__________
انظر ديوانه / 46واللسان (سلق) وفيهما: «تقدّ» مكان «تجذّ»، وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 282وفيه: «ويوقدن» بدل «وتوقد».
(1) السبعة 429، 430.
(2) السبعة 430.(5/258)
الانبياء: 88
قال: وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (وكذلك نجي المؤمنين) [الأنبياء / 88] بنون واحدة مشدّدة الجيم على ما لم يسمّ فاعله والياء ساكنة.
وروى حفص عن عاصم: {ننجي المؤمنين} بنونين خفيفة، الثانية منهما ساكنة، مثل حمزة، وكذلك قرأ الباقون عبيد عن أبى عمرو وعبيد عن هارون عن أبي عمرو: (نجّي) مدغمة كذلك قالا، وهو وهم لا يجوز فيه الإدغام، لأن الأولى متحرّكة، والثانية ساكنة، والنون لا تدغم في الجيم، وإنما خفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم، فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ ثابتة، ومن قال: مدغم فهو غلط (1).
قال: قوله في ذلك أن عاصما ينبغي أن يكون قرأ {ننجي} بنونين وأخفى الثانية، لأن هذه النون تخفى مع حروف الفم وتبيينها لحن، فلما أخفى عاصم، ظنّ السامع أنه مدغم لأن النون تخفي مع حروف الفم، ولا تبين، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام من حيث كان كلّ واحد من الإخفاء والإدغام غير مبيّن، ويبين ذلك إسكانه الياء من (نجّي) لأن الفعل إذا كان مبنيّا للمفعول به وكان ماضيا لم يسكن آخره، وإسكان آخر الماضي إنما كان يكون في قول من قال في رض: رضا، وليس هذا منه، فإسكان الياء يدلّ على أنه قرأ {ننجي}
كما روى حفص عنه. ومما يمنع أن يظنّ ذلك له نصب قوله {المؤمنين} من {ننجي المؤمنين} ولو كان على ما لم يسمّ فاعله لوجب أن يرتفع، فأما قول من قال: إنه يسند الفعل إلى المصدر ويضمره لأن
__________
(1) السبعة 430مع اختلاف يسير في العبارة.(5/259)
الفعل دلّ عليه، فذلك مما يجوز في ضرورة الشعر، والبيت الذي أنشد:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسبّ بذلك الجرو الكلابا (1).
لا يكون حجّة في هذه القراءة، وإنما وجهها ما ذكرنا، لأن الراوي حسب الإخفاء إدغاما، ألا ترى أن الفعل مبني للمفعول فينبغي أن يسند إليه كما يسند المبنيّ للفاعل، وإنما يسند إلى هذه الأشياء من الظروف والجار والمجرور إذا لم يذكر المفعول به، فأمّا إذا ذكر المفعول به لم يسند إلى غيره، لأن الفعل له فهو أولى به. وكذلك من حكى عن أبي عمرو أنه أدغم النون الثانية من نجّي في الجيم فهو أيضا وهم، ولعلّه التبس عليه الإخفاء بالإدغام أيضا، وإنما حذفت النون من الخط كراهة لاجتماع صورتين متفقتين، وقد كرهوا ذلك في الخط في غير هذا الموضع، وذلك أنهم كتبوا نحو: الدنيا والعليا والحديا بألف، ولولا الياء التي قبل الألف لكتبوها بالياء، كما كتبوا نحو: بهمى وحبلى وأخرى ونحو ذلك بالياء، كما كرهوا الجمع بين صورتين متفقتين في هذا النحو، كذلك كرهوه في {ننجي} فحذفوا النون الساكنة، والوجه فيه: كما رواه حفص عن عاصم، وقد قال بعض من يضبط القراءة: أن الصحيح أن الجماعة وحفصا عن عاصم قرءوا: {ننجي المؤمنين}
بنونين الثانية منهما ساكنة والجيم خفيفة. وروى أبو بكر عن عاصم (نجّي المؤمنين) بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء وقد تقدم القول فيه.
__________
(1) البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق، قفيرة أم الفرزدق.(5/260)
الانبياء: 95
اختلفوا في قوله عز وجل: {وحرام على قرية أهلكناها}
[الأنبياء / 95].
فقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: (وحرم) بكسر الحاء بغير ألف.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {وحرام على قرية} بألف (1).
وحرم وحرام: لغتان، وكذلك: حلّ وحلال. فكلّ واحد من حرم إن شئت رفعته بالابتداء لاختصاصه بما طال بعده من الكلام، وإن شئت جعلته خبر مبتدأ، وكان المعنى: وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون، وجعلت (لا) زائدة، والمعنى: وحرام على قرية أهلكناها رجوعهم، كما قال: {فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون} [يس / 50] وإن شئت جعلت حراما وحرما خبر مبتدأ، وأضمرت مبتدأ، ويكون المعنى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، وجعلت (لا) غير زائدة، أي رجوعهم، المعنى: وحرام على قرية أهلكناها بالاستئصال رجوعهم، ومعنى حرام عليهم: أنهم ممنوعون من ذلك، كما يمنعون من الأشياء المحرمة في الشرع والعقل. وقيل في تفسير قوله: {ويقولون حجرا محجورا}
[الفرقان / 22] إن المعنى: حراما محرما، فهذا من معنى الامتناع، وما حتم به عليهم، كما أن حرام على قرية أهلكناها كذلك ليس كحظر الشريعة الذي إن شاء المحظور عليه ركبه. وإن شاء توقاه وتركه، وكان
__________
ولم أجده في ديوانه. انظر الخزانة 1/ 163، والخصائص 1/ 397، وابن الشجري 2/ 215، ابن يعيش 7/ 57، الدرر 1/ 144.
(1) السبعة 431.(5/261)
الأمر فيه موقوفا على اختياره وأما: {أولم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} [يس / 31] فيحتمل ضربين: أحدهما:
كم أهلكنا بأنهم إليهم لا يرجعون، أي: بالاستئصال، والآخر: أنّ قوله: كم أهلكنا، يدلّ على إهلاكنا، فيكون قوله: {أنهم إليهم لا يرجعون} فيكون هذا هو الإهلاك، ولا تكون بدلا من (كم) لأن كم يراد به أهل القرون الذين أهلكوا، وليس الإهلاك فيبدل منهم.
كلّهم قرأ: {فتحت} خفيفا غير ابن عامر فإنه قرأ (فتّحت) مشددا (1).
من خفف فلأن الفعل في الظاهر مسند إلى هذين الاسمين، فلم يحمل ذلك على الكثرة فيجعله بمنزلة: {مفتحة لهم الأبواب}
[ص / 50].
ومن شدّد ذهب إلى المعنى، وإلى أنّ ثمّ سدما وردما يفتح، وذلك كثير في المعنى، فجعله مثل: {مفتحة لهم الأبواب}.
ويجوز أن يكون المعنى: حتى إذا فتح سدّ يأجوج ومأجوج، فأريد السدّ وأضيف الفعل إليهما، والسدّ في اللفظ واحد فلم يحمل على الكثرة لانفراده في اللفظ.
الانبياء: 96
وكلهم قرأ (ياجوج وماجوج) [الأنبياء / 96] غير مهموز إلا عاصما فإنه قرأ: {يأجوج ومأجوج} بالهمز (1).
وقد تقدّم القول في ذلك.
الانبياء: 104
اختلفوا في قوله: (للكتاب) و {للكتب} [الأنبياء / 104] في
__________
(1) السبعة 431.(5/262)
الجمع والتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {للكتب}
جماعا. وقرأ الباقون (للكتاب) واحدا (1).
قيل: إن أبا الجوزاء روى عن ابن عباس: أن السّجلّ: الرجل، أراد كطيّ الرجل الصحيفة، وروى عن السدّي أن السّجلّ ملك يطوي الصحف، قال قتادة: {يوم نطوي السماء كطي السجل} كطيّ الصحيفة فيها الكتب.
{يوم نطوي السماء} يكون في انتصابه وجهان: أحدهما: أن يكون بدلا من الهاء المحذوفة من الصلة، ألا ترى أن المعنى: هذا يومكم الذي كنتم توعدونه، والآخر: أن يكون منتصبا بنعيده، المعنى: نعيد الخلق إعادة كابتدائه، أي: كابتداء الخلق، ومثل ذلك في المعنى قوله: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف / 29] ولا يكون الكلام على الظاهر لأن الظاهر تعودون كالبدء، وليس المعنى على تشبيههم بالبدء، إنما المعنى على إعادة الخلق كما ابتدأ، فتقدير:
{كما بدأكم تعودون}: كما بدأ خلقكم يعود خلقكم، أي: يعود خلقكم عودا كبدئه، فكما أنه لم يعن بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه منه، كذلك لا يعنى بالعود من غير حذف المضاف إليه منه، فحذف المضاف الذي هو الخلق، فلما حذف قام المضاف إليه مقام الفاعل، وصار الفاعلون مخاطبين، كما أنه لما حذف المضاف من قوله كما بدأ خلقكم، صار المخاطبون مفعولين في اللفظ، ومثل ذلك في المعنى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} والخلق هنا اسم الحدث لا الذي يراد به المخلوق، فأمّا قوله: كظل السجل، والمصدر فيه
__________
(1) السبعة 431.(5/263)
مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف من اللفظ كقوله: {بسؤال نعجتك إلى نعاجه} [ص / 24] والتقدير: كطيّ الطاوي الكتب، كما أن المعنى بسؤالك نعجتك، وكأن معنى قوله: {كطي السجل}: كطيّ الصحيفة مدرجا فيها الكتب، أي: كطيّ الصحيفة لدرج الكتب فيها، على تأويل قتادة، و: كطيّ الصحيفة لدرج الكتب، فحذف المضاف والمصدر مضاف إلى الفاعل على قول السدّي، والمعنى كطيّ زيد الكتب، فتكون اللام على هذا زائدة كالتي في {ردف لكم}
[النمل / 72] ألا ترى أنه لو قال: كطيّ زيد الكتب، لكان مستقيما.
فأمّا قول من أفرد الكتاب، ولم يجمع، فإنه واحد يراد به الكثرة، كما أن قول من قال: (كل آمن بالله وملائكته وكتابه) [البقرة / 285] كذلك، ومن قرأ: للكتب جمع اللفظ كما أن المراد به في المعنى الجمع.
الانبياء: 105
وقرأ حمزة وحده: (الزبور) [الأنبياء / 105] بضم الزاي، وقرأ الباقون: {الزبور} بفتح الزاي (1).
وقد مضى القول في ذلك (2).
الانبياء: 112
ابن اليتيم وغيره عن حفص عن عاصم: {قال رب احكم}
[الأنبياء / 112] بألف.
وقرأ الباقون: (قل ربّ) بغير ألف (1).
من قال: {قال رب احكم بالحق} أراد: قال الرسول: رب احكم، وحجة ذلك أن الرسل قبله عليهم السلام قد دعوا بمثل هذا
__________
(1) السبعة: 431.
(2) انظر سورة الإسراء / 55ص 108.(5/264)
في قولهم: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} [الأعراف / 89]. و (قل) على: قل أنت يا محمد.
الانبياء: 112
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: {على ما تصفون}
[الأنبياء / 112].
فقرأ ابن عامر وحده: (على ما يصفون) بالياء في رواية ابن ذكوان، وفي رواية هشام بن عمار بالتاء. وقرأ الباقون بالتاء (1).
والتاء على ما تكذّبون به من ردّكم إعادة الأموات، والياء على ما يصفون، يصف هؤلاء الكفار من كذبهم فيما يكذّبون به من إحياء الأموات والبعث والنشور والجنة والنار (2).
__________
(1) السبعة 432.
(2) هنا ينتهي في النسخة (ط) الجزء الثالث من الكتاب، وقد جاء ما نصه: آخر الجزء الثالث والحمد لله كثيرا، كتبه طاهر بن غلبون بمصر، وفرغ منه في ذي الحجة ثاني يوم النحر من سنة سبع وعشرين وأربع مائة قوبل به فصح إن شاء الله سيكون في الرابع سورة الحج. ثم تأتي صفحة السماعات وهي بخط أبي اليمن الكندي.(5/265)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد
ذكر اختلافهم في سورة الحج
الحج: 2
اختلفوا في قوله تعالى: {سكارى} [الحج / 2] في ضم السين وإثبات الألف وفتح السين وإسقاط الألف.
فقرأ حمزة والكسائي: (وترى النّاس سكرى وما هم بسكرى) بغير ألف فيهما والسين مفتوحة.
وقرأ الباقون: {سكارى وما هم بسكارى} بضم السين فيها [و] بالألف (1).
حجة من قال: (سكرى) أن سيبويه قال: قد قالوا: رجل سكران، وقوم سكرى، قال: وذلك أنهم جعلوه كالمرضى، قال:
وقالوا: رجال روبى، جعلوه بمنزلة سكرى، والرّوبى: الذين قد استثقلوا نوما فشبّهوه بالسكران. انتهى كلام سيبويه (2).
ويجوز أن يجمع سكران على سكرى من وجه آخر. وهو أن
__________
(1) السبعة 434.
(2) انظر الكتاب 2/ 314. وفي اللسان (روب): قال سيبويه: الروبى: هم الذين أثخنهم السفر والوجع فاستثقلوا نوما. واحد هم روبان.(5/266)
سيبويه حكى رجل سكر، وقد جمعوا هذا البناء على فعلى، فقالوا:
هرم وهرمى وزمن وزمنى وضمن وضمنى، لأنه من باب الأدواء والأمراض التي يصاب بها، ففعلى من هذا الجمع وإن كان كعطشى فليس يراد بها المفرد، إنما يراد بها تأنيث الجمع كما أن الباضعة، والطائعة، وإن كان على لفظ الضاربة والقائمة، فإنما هو لتأنيث الجمع دون تأنيث الواحد من المؤنث.
وحجة من قال: (سكارى) أنه لفظ يختص به الجمع وليس بمشترك للجمع والواحد كقولهم: سكرى. ونظيره قولهم: أسارى وكسالى، فجاء الأول منه مضموما وإن كان الأكثر من هذا الجمع مفتوح الأول نحو: حذارى وحباطى وجباجى، كما جاء نحو: تؤام وظؤار وثناء ورحال مضمومة الأوائل، وإن كان الأكثر من ذلك مكسورا نحو: سقام ومراض وظراف.
الحج: 23
اختلفوا في قوله عز وجل: (ولؤلؤ) [الحج / 23].
فقرأ ابن كثير (ولؤلؤ) وفي الملائكة [فاطر / 33] كذلك، وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر هاهنا وفي الملائكة {ولؤلؤا}
بالنصب. عاصم في رواية يحيى عن أبي بكر بهمزة واحدة وهي الثانية. المعلّى بن منصور عن أبي بكر عن عاصم (ولؤلؤ) يهمز الأولى ولا يهمز الثانية، ضد قول يحيى عن أبي بكر وهذا غلط.
حفص عن عاصم يهمزهما وينصب (1).
__________
(1) السبعة 435.(5/267)
وجه الجر في قوله: (ولؤلؤ) أنهم: يحلّون أساور من ذهب ومن لؤلؤ، أي: منهما، وهذا هو الوجه، لأنه إذا نصب فقال: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ} حمله على: ويحلّون لؤلؤا. وللؤلؤ إذا انفرد من الذهب والفضة لا يكون حلية. فإن قلت: فقد قال:
{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} [النحل / 14]. فهذا على أن يكون حلية إذا رصّع في الذهب أو الفضّة صار حلية، كما قال في العصر:
{إني أراني أعصر خمرا} [يوسف / 36] لأنه قد يستحيل إليها بالشدّة، كما يكون ذلك حلية على الوجه الذي يحلّى به، وكذلك القول في التي في الملائكة.
ويحتمل قوله: {ولؤلؤا} فيمن نصب وجها آخر، وهو أن تحمله على موضع الجار والمجرور لأن موضعهما نصب، ألا ترى أن معنى:
{يحلون فيها من أساور} يحلّون فيها أساور، فتحمله على الموضع.
فأما ما رواه معلّى عن أبي بكر عن عاصم (ولؤلؤ) يهمز الأولى ولا يهمز الثانية، ضدّ قول يحيى، قال أحمد: هذا غلط، فالأشبه أن يريد أنه غلط من طريق الرواية، ولا يمتنع في قياس العربية أن يهمز الأولى دون الثانية، والثانية دون الأولى وأن يهمزهما جميعا، فإن همز الأولى دون الثانية حقّق الهمزة الأولى فقال: (لؤلؤا) وإن خفّف الهمزة أبدل منها الواو فقال: (لؤلؤا) مثل: بوس وجونة، وإن خفّف الثانية، وقد نصب الاسم قال: (ولؤلؤا) فأبدل من الهمزة الواو لانفتاح الهمزة وانضمام ما قبلها فيكون كقولهم: جون في جمع جؤنة، والتودة في التؤدة، وإن خفّفهما جميعا قال: لولوا. وأمّا من جرّ فقال: (ولؤلؤ) فتخفيف الثانية عنده أن يقلبها واوا كما تقول: مررت بأكموك، فيقول:
(ولؤلؤ) وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.(5/268)
(ولؤلؤ) وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.
الحج: 29، 15
اختلفوا في كسر لام الأمر وإسكانها من قوله: {ثم ليقطع}
[الحج / 15] {ثم ليقضوا} [الحج / 29].
فقرأ ابن كثير: (ثم ليقضوا) مكسورة اللام، ولم يكسر غيرها، هذه رواية القواس عنه. وقال البزي: اللام مدرجة. قال: يعني بمدرجة: ساكنة.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر: (ثمّ ليقطع)، (ثم ليقضوا) مكسورة اللام، زاد ابن عامر: (وليوفوا) [الحج / 29]، (وليطوفوا) [الحج / 29] بكسر لام الأمر فيهما.
واختلف عن نافع، فقال إسماعيل بن جعفر وأحمد والقاضي عن قالون وإسحاق وإسماعيل بن أبي أويس: {ثم ليقطع} {ثم ليقضوا}
ساكنتي اللام، وقال ورش وأبو بكر بن أبي أويس: (ثم ليقطع)، (ثم ليقضوا) مكسورتي اللام مثل أبي عمرو.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {ثم ليقضوا} {وليفوا}، {ثم ليقطع}، {وليطوفوا} اللام للأمر ساكنة في كلّ القرآن، إذا كان ما قبلها واو أو فاء أو ثم (1).
قال أبو علي: أصل هذه اللام الكسر، يدلّ على ذلك أنك إذا ابتدأت بها فقلت: ليقم زيد، كسرتها لا غير، فإذا ألحقت الكلام الذي فيه اللام الواو أو الفاء أو ثمّ، فمن أسكن مع الفاء والواو فلأن الفاء والواو يصيران كشيء من نفس الكلمة، نحو: كتف، لأن كل واحد منهما لا ينفرد بنفسه، فصار بمنزلة كتف وفخذ، فقلت:
__________
(1) السبعة 434، 435.(5/269)
وليقضوا. فإذا كان موضع الفاء والواو (ثمّ) لم يسكنه أبو عمرو، لأن ثمّ ينفصل بنفسه ويسكت عليه دون ما بعده، فليست في هذا كالفاء والواو، ومن قال: {ثم ليقضوا} شبّه الميم من ثم، بالفاء والواو، فيجعل فليقضوا، من (ثم ليقضوا) بمنزلة الفاء والواو، وجعله كقولهم:
«أراك منتفخا» فجعل «تفخا» من منتفخا مثل كتف، فأسكن اللام وعلى هذا قول العجاج (1):
فبات منتصبا وما تكردسا ومثل ذلك قولهم: (وهي) [هود / 42] {فهي كالحجارة}
[البقرة / 74].
وأما اختلاف الرواية عن نافع فإحداهما على قول من قال:
(فهي) (وهي) والأخرى على قول من قال: (فهو) [الإسراء / 97] (وهو) [البقرة / 85] ويجوز أن يكون أخذ بالوجهين جميعا لاجتماعهما في الجواز.
الحج: 25
قال: وكلهم قرأ: (سواء العاكف فيه) [الحج / 25] رفعا غير عاصم فإنه قرأ في رواية حفص: {سواء} نصبا (2).
أبو عبيدة: العاكف: المقيم، والبادي غير العاكف وهو الذي لا يقيم (3).
وجه الرفع في (سواء) أنه خبر ابتداء مقدّم، والمعنى: العاكف
__________
(1) سبق انظر 1/ 408و 2/ 79و 277.
(2) السبعة 435.
(3) مجاز القرآن 2/ 48.(5/270)
والبادي فيه سواء، أي: ليس أحدهما بأحقّ به من صاحبه، واستواء العاكف والبادي فيه دلالة على أن أرض الحرم لا تملك، ولو ملكت لم يستويا فيه، وصار العاكف فيها أولى بها من البادي بحقّ ملكه، ولكن سبيلها سبيل المساجد التي من سبق إليها كان أولى بالمكان لسبقه إليها، فسبيله سبيل المباح الذي من سبق إليه كان أولى به.
ومن نصب فقال: (سواء العاكف) أعمل المصدر عمل اسم الفاعل، فرفع {العاكف فيه} كما يرفع بمستو، ولو قال: مستويا فيه العاكف والبادي فرفع العاكف فيه بمستو، فكذلك يرفعه بسواء، والأكثر الرفع في نحو هذا، وأن لا تجعل هذا النحو من المصدر بمنزلة اسم الفاعل في الإعمال. ووجه إعماله أن المصدر قد يقوم مقام اسم الفاعل في الصفة نحو: رجل عدل فيصير عدل كعادل، وقد كسر اسم المصدر تكسير اسم الفاعل في نحو قوله (1):
فنوّاره ميل إلى الشمس زاهره فلولا أن النون كاسم الفاعل لم يكسره تكسيره، وكذلك قول الأعشى (2):
__________
(1) عجز بيت للحطيئة من قصيدة يهجو بها الزبرقان وصدره في ديوانه 180:
بمستأسد القريان حوّ تلاعه ويروى حوّ نباته، أي: عاف نباته. يقال: استأسد النبت، إذا طال وأتم، والقريان: مجاري الماء إلى الرياض، والحو: التي اشتدت خضرتها حتى ضربت إلى السواد ومعناه: كل نور إذا طلعت عليه الشمس استقبلها ثم دار معها حيث تدور. وانظر اللسان (ميل).
(2) عجز بيت للأعشى وصدره:
وليتك حال البحر دونك كلّه والسوائل: جمع سائل وهو السيل. انظر ديوانه / 183.(5/271)
وكنت لقا تجري عليك السوائل ومن أعمل المصدر إعمال اسم الفاعل فقال: مررت برجل سواء در همه، وقال: مررت برجل سواء هو والعدم، كما تقول: مستو هو والعدم، فقال: (سواء العاكف فيه والباد) كما تقول: مستويا العاكف فيه والباد. ويجوز في نصب قوله: {سواء العاكف فيه} وجه آخر، وهو أن تنصبه على الحال، فإذا نصبته عليها وجعلت قوله:
{للناس} مستقرا، جاز أن يكون حالا يعمل فيها معنى الفعل، وذو الحال الذكر الذي في المستقر، ويجوز أيضا في الحال أن يكون من الفعل الذي هو {جعلناه}. فإن جعلتها حالا من الضمير المتصل بالفعل كان ذا الحال الضمير، والعامل فيها الفعل، وجواز للناس مستقرا، على أن يكون المعنى أنه جعل للناس ونصب لهم منسكا ومتعبّدا، كما قال: {وضع للناس} [آل عمران / 96]. ويدلّ على جواز كون قوله: للناس مستقرا، أنه قد حكي أن بعض القرّاء قرأ:
(الذي جعلناه للنّاس سواء العاكف فيه والباد) فهذا يدلّ على أنه أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم، فصار المعنى الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء. فقوله: {للناس} يكون على هذا مستقرّا في موضع المفعول الثاني لجعلناه، فكما كان في هذا مستقرا، كذلك يكون مستقرا في الوجه الذي تقدمه، ومعنى: الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء: أنهما يستويان فيه في الاختصاص بالمعنى، فأما قوله: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم [الجاثية / 21] فقال سيبويه فيه: اعلم أنّ ما كان من النكرة رفعا غير صفة، فإنه في المعرفة رفع، فذلك قوله: {أم حسب الذين اجترحوا} فتلا
الآية (1)، وهذا إنما يراد به، أنه إذا لم يرتفع الاسم مع النكرة في نحو: مررت برجل سواء أبوه وأمه، لم يرتفع به مع المعرفة في نحو:(5/272)
(الذي جعلناه للنّاس سواء العاكف فيه والباد) فهذا يدلّ على أنه أبدل العاكف والبادي من الناس من حيث كانا كالشامل لهم، فصار المعنى الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء. فقوله: {للناس} يكون على هذا مستقرّا في موضع المفعول الثاني لجعلناه، فكما كان في هذا مستقرا، كذلك يكون مستقرا في الوجه الذي تقدمه، ومعنى: الذي جعلناه للعاكف والبادي سواء: أنهما يستويان فيه في الاختصاص بالمعنى، فأما قوله: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم [الجاثية / 21] فقال سيبويه فيه: اعلم أنّ ما كان من النكرة رفعا غير صفة، فإنه في المعرفة رفع، فذلك قوله: {أم حسب الذين اجترحوا} فتلا
الآية (1)، وهذا إنما يراد به، أنه إذا لم يرتفع الاسم مع النكرة في نحو: مررت برجل سواء أبوه وأمه، لم يرتفع به مع المعرفة في نحو:
ظننت زيدا سواء أبوه وأمه، ولكن تقول: سواء أبوه وأمه، قد رفع سواء إذا جرى على معرفة بأنه خبر مبتدأ، والجملة التي سواء منها في موضع نصب بأنه مفعول ثان أو حال. والمعنى في الآية أن مجترحي السيّئات لا يستوون مع الذين آمنوا كما قال: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} [السجدة / 18]. وكما قال: {هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} [الرعد / 16] فالمراد في الآية هذا المعنى. والضمير في قوله: {محياهم ومماتهم} لا يخلو من أن يكون للذين آمنوا دون الذين اجترحوا السيئات، أو كاللذين اجترحوا من دون المؤمنين، أو لهما، فيجوز أن يكون الضمير في {محياهم ومماتهم}
للذين آمنوا دون غيرهم، ويكون المعنى: كالذين آمنوا، مستويا محياهم ومماتهم، فتكون الجملة في موضع حال من الذين آمنوا، كما تكون الحال من المجرور في نحو: مررت بزيد، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني من نجعل أي: نجعلهم مستويا محياهم ومماتهم كالذين آمنوا، لا ينبغي ذلك لهم، فيكون الضمير في محياهم ومماتهم للذين اجترحوا السيئات، في المعنى، ألا ترى أن الضمير في {نجعلهم} للذين اجترحوا السيئات، ومحياهم ومماتهم من قوله:
{سواء محياهم ومماتهم} يعود الضمير منه إلى الضمير الذي في نجعلهم، ويدلّ على ذلك أنه قد قرئ فيما زعموا (سواء محياهم ومماتهم) فنصب الممات، وقد حكى عن الأعمش، فهذا يدلّ على أنه أبدل المحيا والممات من الضمير المتصل بنجعلهم فيكون في البدل
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 233.(5/273)
كقوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} [الكهف / 63] فيكون الذكر في محياهم ومماتهم على هذا في المعنى للذين اجترحوا السيّئات.
ويجوز أن تجعل قوله: {كالذين آمنوا} [الجاثية / 21] في موضع المفعول الثاني ل (نجعل) فيكون الضمير في محياهم ومماتهم للقبيلين، ويكون العامل في الحال {أن نجعلهم} الذي هو مفعول الحسبان، ويكون المعنى: أن نجعلهم والمؤمنين متساوين في المحيا والممات. وقد روى عن مجاهد أنه قال في تفسير هذه الآية أنه قال:
يموت المؤمن على إيمانه ويبعث عليه، ويموت الكافر على كفره ويبعث عليه (1)، فهذا يكون على هذا الوجه الثالث، يجوز أن يكون حالا من {نجعلهم} والضمير للقبيلين، فإن قلت: إن من الكفّار من يلحقه مكانة في الدنيا، ويكون له نعم ومزيّة، فالذي يلحقه ذلك ليس يخلو من أن يكون من أهل الذمة أو من أهل الحرب، فإن كان من أهل الذمّة، فليس يخلو من أن يكون قد أدركه ما ضرب عليهم من الذلّة في الحكم، نحو أن يحشروا إلى مؤدّى الجزية، والصّغار الذي يلحقه في الحكم. وإن كان من أهل الحرب، فليس يخلو من إباحة نفسه وماله بكونه حربا، أو من أن يكون ذلك جاريا عليه في الفعل من المسلمين ذلك بهم أو الحكم، والمؤمن مكرّم في الدنيا لغلبته بالحجّة، وفي الآخرة في درجاته الرفيعة، ومنازله الكريمة.
الحج: 69
وقرأ ابن كثير: (هذان خصمان) [الحج / 69] مشدّدة النون، وقرأ الباقون: {هذان} خفيفة النون (2).
__________
(1) انظر تفسير مجاهد 2/ 591وتفسير القرطبي 16/ 166.
(2) السبعة 435.(5/274)
قد تقدّم القول في تثقيل هذه النون.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (البادي) [الحج / 25] بالياء في الوصل، ووقفا بغير ياء.
واختلف عن نافع، فقال ابن جماز وإسماعيل بن جعفر وورش ويعقوب عن نافع: (والبادي) بالياء في الوصل. وقال المسيبي وأبو بكر وإسماعيل ابنا أبي أويس بغير ياء في وصل ولا وقف. وقال الأصمعي: سمعت نافعا يقرأ: (والبادي) فقلت: أهكذا كتابها؟ فقال:
لا.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف (1).
قد تقدم القول في ذلك ونحوه.
الحج: 29
عاصم في رواية أبي بكر (وليوفوا نذورهم) [الحج / 29] مشدّدة الفاء ساكنة اللام. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {وليوفوا}
خفيفة ساكنة اللام غير ابن عامر فإنه كسر اللام (2).
قال أبو علي: (وليوفّوا) حجّته: {وإبراهيم الذي وفي}
[النّجم / 37] وسكون اللام قد تقدم القول فيه.
وحجة {وليوفوا} قوله: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}
[النحل / 91]. و {أوفوا بالعقود} [المائدة / 1] والأكثر في التنزيل
__________
(1) السبعة 436.
(2) السبعة 436.(5/275)
وأوفوا، ووفّي وأوفي ووفي لغات مستعملة، قال الشاعر (1):
أما ابن طوق فقد أوفي بذمّته ... كما وفي بقلاص النجم حاديها
الحج: 31
وقرأ نافع وحده: (فتخطفه) [الحج / 31] مشدّدة الطاء. وقرأ الباقون: {فتخطفه} خفيفة (2).
قالوا: خطف يخطف، وخطف يخطف، وهذه أعلى، فأما قول نافع: (فتخطّفه الطّير) فإنما هو: تتخطّف تتفعّل، من الخطف، فحذف تاء التفعل فصار: فتخطّفه، وتخطّف في كلتا القراءتين حكاية حال تكون، والمعنى في قوله: (فتخطّفه الطير أو تهوي به الرّيح في مكان سحيق) أنه قوبل به قوله: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} [البقرة / 256] فكما كان المؤمن في إيمانه متمسّكا بالعروة الوثقى، كان المشرك بعكس ذلك الوصف، فلم يتمسّك لكفره وشركه بشيء يتعلّق به، ولم يتمسّك بماله فيه أمان من الخرور ونجاة من الهوى واختطاف الطير له، كالمؤمن المتمسّك بإيمانه، فصار كمن خرّ من السماء، فهوت به الريح، فلم يكن له في شيء من ذلك متعلّق ولا معتصم فيكون له ثبات، ومثل هذا قول الشاعر (3):
__________
(1) هو الطفيل الغنوي ديوانه / 113واللسان مادة / وفي / والخصائص 1/ 370و 3/ 316.
(2) السبعة 436.
(3) البيت للشماخ وهو من قصيدة في ديوانه ص 132وفي اللسان (هوا) وتهذيب اللغة 6/ 493ورواية عجزه فيها: * تسليت حاجات الفؤاد بشمرا(5/276)
ولمّا رأيت الأمر عرش هويّة ... تسليت حاجات النفوس بصيعرا
فالعرش مكان المستقي والماتح، وليس بموضع طمأنينة ولا استقرار إلّا على الخطر وخلاف الثقة بالموقف، يقول: لما رأيت الأمر لاثبات بعدت منه، وقريب منه قول الآخر (1):
فلا يرمى بي الرّجوان إنّي ... أقلّ القوم من يغني غنائي
أي: لا أدفع إلى شيء لا يكون لي معه ثبات ولا قرار، كما أن من رمي به الرّجوان لم يقدر على استقرار ولا اطمئنان.
الحج: 67، 34
اختلفوا في فتح السين وكسرها من قوله عز وجل: (منسكا) [الحج / 6734].
فقرأ حمزة والكسائي، (منسكا) بكسر السين في الحرفين جميعا.
__________
وانظر الأمالي 1/ 161والهوية، بفتح الهاء وكسر الواو: البئر البعيدة المهواة.
(1) البيت لعبد الرحمن بن الحكم من شعر يقوله في أخيه مروان الاقتضاب / 366وشرح المفصل لابن يعيش 4/ 147واللسان (رجا). وجاء فيها برواية «مكاني» بدل «غنائي». قال ابن السيد: قوله: فلا يرمى بي الرجوان: مثل يضرب لمن يتهاون به، ولمن يعرض للمهالك، والرجوان: ناحيتا البئر. وأصل هذا أن البئر إذا كانت مطوية بالحجارة احتاج المستقي منها أن يتحفظ بالدلو لئلا يصيب أحد جانبي البئر فتخرق أو تنقطع، فيقال له عند ذلك: أبن ابن، أي: أبعد دلوك عن جانبي البئر، وإذا كان المستقي بمن يتهاون بالدلو ويريد الإضرار بصاحبها، صدم له بها أحد جانبي البئر فانخرقت وانقطعت، فضرب ذلك مثلا لمن يخاطر به ويعرض للهلاك.(5/277)
وقرأ الباقون: {منسكا} بفتح السين في الحرفين جميعا (1).
قال أبو علي: الفتح أولى لأنه لا يخلو من أن يكون مصدرا أو مكانا، وكلاهما مفتوح العين، إذا كان الفعل على: فعل يفعل، نحو:
قتل يقتل مقتلا، وهذا مقتلنا.
ووجه الكسر: أنه قد يجيء اسم المكان على المفعل من هذا النحو، نحو: المطلع، وإنما هو من طلع يطلع، والمسجد وهو من يسجد، فيمكن أن يكون هذا مما شذّ أيضا عن قياس الجمهور، فجاء اسم المكان على غير القياس، ولا يقدم على هذا إلا بالسمع، ولعلّ الكسائي سمع ذلك.
الحج: 38
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (إن الله يدفع عن الذين آمنوا) [الحج / 38] {ولو لادفع الله الناس} [الحج / 40] بغير ألف.
وقرأ نافع: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}، (ولولا دفاع الله) بألف.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {إن الله يدافع}
بألف، {ولولا دفع الله} بغير ألف (2).
قراءة ابن كثير وأبي عمرو: (إنّ الله يدفع) {ولولا دفع الله}
جعلوا الدفع مصدر دفع، وقراءة نافع: {إن الله يدافع} (ولولا دفاع الله)، فدفاع يكون مصدر دافع، كما أن القتال مصدر قاتل. فأما من فصل بين الفعل والمصدر وقرأ: {إن الله يدافع} {ولولا دفع الله} فيجوز
__________
(1) السبعة 436.
(2) السبعة 437.(5/278)
أن يكون وافق قراءة من قرأ: (إنّ الله يدفع) {ولولا دفع الله} وذلك أن فاعل في معنى فعل مثل: طارقت النّعل، ولا يصح أن يكون مثل قاتل وضارب، فهو مثل واعد التي يراد به فعل، فجاء يدفع على أن معنى الفعل فعل، وإن كان لفظه على فاعل، مثل: طارقت النّعل، وعاقبت اللص، وعافاه الله.
ولو قرأ قارئ: (ولولا دفاع الله الناس) وقرأ: (إن الله يدفع) لجاز أن يكون الدفاع من دفع، كالكتاب من كتب، لا يريد به مصدر فاعل، ولكن مصدر الثلاثة مثل: الكتاب والقيام والعتاب، وقال أبو الحسن: أكثر الكلام: (إن الله يدفع) بغير ألف. قال: وتقولون: دفع الله عنك، قال: ودافع عربية إلا أن الأول أكثر.
الحج: 40
اختلفوا في تشديد الدال وتخفيفها من قوله: {لهدمت صوامع}
[الحج / 40].
فقرأ ابن كثير ونافع: (لهدمت صوامع) خفيفة الدال وقرأ الباقون: {لهدمت} مشدّدة الدال (1).
هدمت يكون للقليل والكثير، يدلّك على ذلك أنك تقول:
ضربت زيدا ضربة، وضربته ألف ضربة، فاللفظ في القلة والكثرة على حالة واحدة، وهدّمت يختص به الكثير، كما أن الرّكبة والجلسة تختص بالحال التي هو عليها، وفي التنزيل: {وغلقت الأبواب}
[يوسف / 23]، وقال الشاعر (2):
__________
(1) السبعة 438.
(2) البيت للفرزدق يمدح أبا عمرو به العلاء. وفي ديوانه (لقيت) بدل (أتيت) انظر ديوانه 1/ 382وسيبويه، 2/ 148.(5/279)
ما زلت أفتح أبوابا (1) وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمّار
فهذا وجه من قال: (لهدمت صوامع) بالتخفيف.
الحج: 39
اختلفوا في فتح الألف وضمّها من قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون} [الحج / 39].
فقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: (أذن للذين) مفتوحة الألف مكسورة التاء.
وقرأ نافع وأبو عمارة وابن اليتيم وهبيرة عن حفص عن عاصم:
{أذن} برفع الألف {يقاتلون} مفتوحة التاء.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو أذن للذين يقاتلون مضمومة الألف مكسورة التاء. وقرأ ابن عامر (أذن للذين يقاتلون) مفتوحة الألف والتاء (2).
قال أبو علي: المأذون لهم في القتال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما ظلموا به: أنّ المشركين أخرجوهم من ديارهم وشرّدوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوّءوا المدينة بعد، فمن قرأ: (أذن) فبنى الفعل للفاعل فلما تقدّم من ذكر الله تعالى وقوله: الذين يقاتلون في موضع نصب.
ومن قرأ: {أذن} فبنى الفعل للمفعول به، فالمعنى على أن الله
__________
(1) في الأصل «بابا» وهو خطأ، والصواب في الديوان.
(2) السبعة 437.(5/280)
سبحانه أذن لهم في القتال، والجار والمجرور في موضع رفع لإسناد الفعل المبني للمفعول إليهما.
ومن قرأ: (يقاتلون) فالمعنى أنهم يقاتلون عدوهم، والظالمين لهم بإخراجهم عن ديارهم.
ومن قرأ: أذن للذين يقاتلون فالمعنى فيه: أذن الله للذين يقاتلون بالقتال، ومعاني هذه القراءات متقاربة. وزعموا أن في بعض القراءات: في سبيل الله وهذا يصلح أن يكون في قراءة من قرأ:
(يقاتلون) و {يقاتلون} لأن من يقاتل المشركين ومن يقاتل من المسلمين، فقتاله في سبيل الله، وحذف مثل هذا في الكلام للدّلالة عليه حسن كثير، والذي أظهره أخرج ما حذفه الجمهور من اللفظ إلى اللفظ.
وممّا يقوي قول من قال: {يقاتلون بأنهم ظلموا} بأن الفعل الذي بعده مسند إلى المفعول به.
الحج: 45
قرأ أبو عمرو وحده: (أهلكتها) [الحج / 45] بالتاء.
وقرأ الباقون: {أهلكناها} بالنون، وروى عبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر عن عاصم: (أهلكتها) بالتاء (1).
وجه قراءة: (أهلكتها) أن قبله: {وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير} [الحج / 44] {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها} [الحج / 48] فهو أشبه بما قبله وما بعده مع أن الأصل في هذا النحو الأفراد.
ومن قرأ: {أهلكناها} فيشبه أن يكون لما رأى من كثرة ذلك في
__________
(1) السبعة 438.(5/281)
التنزيل بلفظ الجمع نحو: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا}
[الأعراف / 4] {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم} [يونس / 13] {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} [القصص / 58].
الحج: 45
اختلفوا في همز البئر وترك همزها [من قوله تعالى: {وبئر معطلة}] [الحج / 45].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي:
{وبئر} مهموزة.
وقرأ نافع في رواية ورش، وابن جماز ويعقوب وخارجة:
(وبير) بغير همز. وقال الأصمعي: سألت نافعا عن البير والذيب فقال: إن كانت العرب تهمزها فأهمز. واختلف عن المسيّبي، فروى ابن المسيّبي عن أبيه عن نافع أنه لم يهمز، وروى أبو عمارة عن المسيبي عن نافع أنه همز. حدثني عبد الله بن الصقر عن محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع [أنه] لم يهمز (وبير).
وروى عبيد عن هارون عن أبي عمرو: {وبئر} مهموز (1).
قال أبو علي: تحقيق الهمز حسن وتخفيفه حسن، وتخفيفه أن تقلب ياء بحسب الحركة التي قبلها، وكذلك الذئب وما أشبه ذلك من همزة ساكنة قبلها كسرة.
الحج: 47
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: ومما تعدون [الحج / 47].
فقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: (ممّا يعدّون) بالياء هاهنا،
__________
(1) السبعة 438، وما بين معقوفين منه.(5/282)
وقرءوا في السجدة: {مما تعدون} [47] بالتاء. وقرأ الباقون: بالتاء جميعا (1).
حجة من قرأ بالياء أن قبله: {ويستعجلونك بالعذاب}
[الحج / 47] فيكون الكلام من وجه واحد، وزعموا أن الحسن قرأ:
(ممّا يعدّون) وقال: مما يعدّون يا محمد.
وحجّة التاء أنهم زعموا أنه أكثر في القراءة وهو مع ذلك أعمّ، ألا ترى أنه يجوز أن يعنى به من ذكر في قوله: (يعدّون) وغيرهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وغيرهم، وقد جاء في كلامهم وصف اليوم ذي الشدائد والجهد بالطول، وجاء وصف خلافه بالقصر، أنشد عن أبي زيد:
تطاولت أيّام معن بنا ... فيوم كشهرين إذ يستهل (2)
وقال الآخر:
يطول اليوم لا ألقاك فيه ... ويوم نلتقي فيه قصير (3)
وقال آخر:
ويوم كإبهام الحبارى لهوته (4)
الحج: 51
اختلفوا في إثبات الألف وإسقاطها من قوله عز وجلّ (معجزين)
__________
(1) السبعة 439.
(2) لم نعثر عليه. والبيت من البحر المتقارب. وكلمة أيام همزتها همزة وصل لضرورة الوزن.
(3) لم نعثر عليه.
(4) لم نعثر عليه.(5/283)
[الحج / 51] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو كلّ ما فيه: (آياتنا معجزين) بغير ألف [مشدّدا] وقرأ الباقون: {معاجزين} بألف (1).
قال أبو علي: معاجزين: ظانّين ومقدّرين أنهم يعجزوننا، لأنهم ظنوا أن لا بعث ولا نشور فيكون ثواب وعقاب، وهذا في المعنى كقوله: {أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا} [العنكبوت / 4] و (معجزين) ينسبون من تبع النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى العجز، وهذا كقولهم:
جهّلته: نسبته إلى الجهل، وفسّقته: نسبته إلى الفسق، وزعموا أن مجاهدا فسّر معجزين: مثّبطين أي: يثبّطون الناس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الحج: 58
وكلّهم قرأ: {ثم قتلوا أو ماتوا} [الحج / 58] خفيفة غير ابن عامر فإنه قرأ: (قتلوا) مشدّدة التاء، والقاف في قولهم جميعا مرفوعة (2).
{قتلوا}: يكون للقليل والكثير، وقتلوا: في هذا الموضع حسن، لأنهم قد أكثر فيهم القتل في وجوه توجهوا إليها.
الحج: 59
وقرأ نافع وحده: (مدخلا) [الحج / 59] بفتح الميم، وقرأ الباقون: {مدخلا} مرفوعة الميم، وروى الكسائي عن ابي بكر عن عاصم: (مدخلا) بفتح الميم (3).
قال: المدخل يجوز أن يراد به الإدخال، ويمكن أن يراد به مكانه، وإذا عنيت بالمدخل الإدخال، كان المعنى أنهم إذا أدخلوا
__________
(1) السبعة 439وما بين معقوفين منه.
(2) السبعة 439.
(3) السبعة 439، 440.(5/284)
أكرموا، فلم يكونوا كمن ذكر في قوله: {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم} [الفرقان / 34]، ويجوز أن يعنى به الموضع، ويرضونه لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، فهو خلاف المدخل الذي قيل فيه: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} [غافر / 71].
وحجّة من قال: (مدخلا) أن المدخل يجوز أن يكون الدخول، ويجوز أن يكون موضعه كالمدخل، ودلّ: {ليدخلنهم} [الحج / 59] على الدخول لأنهم إذا أدخلوا دخولا فكأنه قال: ليدخلنّهم فيدخلون مدخلا، ودلّ على هذا الفعل ما في قوله: {ليدخلنهم} من الدلالة عليه.
الحج: 62
اختلفوا في قوله عز وجلّ: (وأنّ ما تدعون من دونه هو الباطل) [الحج / 62] في الياء والتاء هاهنا وفي العنكبوت [42] ولقمان [30] والمؤمن [20].
فقرأ ابن كثير في الحج والعنكبوت ولقمان بالتاء، وفي المؤمن: {يدعون من دونه} بالياء.
وقرأهنّ نافع بالتاء، وكذلك ابن عامر.
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم كلّه بالياء، وقرأ حمزة والكسائي في العنكبوت (إنّ الله يعلم ما تدعون) بالتاء، والباقي بالياء.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر حرفين بالياء وحرفين بالتاء، في الحج ولقمان بالتاء، وفي العنكبوت والمؤمن بالياء (1).
حجّة من قرأ {يدعون} بالياء قوله: {يكادون يسطون}
[الحج / 72].
__________
(1) السبعة 440.(5/285)
وحجّة التاء قوله: {يا أيها الناس ضرب مثل} [الحج / 73] وهذا إليه أقرب من قوله: {يكادون يسطون} والأقرب أولى، والتاء على تقدير: وأن ما تدعون أيها المشركون، والياء على تقدير: قل لهم إن ما يدعون. على هذا يحمل ذلك وما أشبهه.
الحج: 71
عبيد عن هارون عن أبي عمرو: (ما لم ينزل) [الحج / 71] وقال: إذا لم يكن قبلها أنزل فهو (ينزل) خفيفة. وكذلك يقول: إذا كان قبلها (أنزل)، لا تبالي أيّهما قرأت: (ينزل)، أو ينزل (1).
قد مضى القول في هذا النحو في غير موضع.
__________
(1) السبعة 440(5/286)
ذكر اختلافهم في سورة المؤمنون (1)
المؤمنون: 8
قرأ ابن كثير وحده: (لأمانتهم) [8] واحدة، وقرأ الباقون:
{لأماناتهم} جماع.
المؤمنون: 9
وقرأ حمزة والكسائى: (على صلاتهم) [المؤمنون / 9] واحدة، والباقون: {على صلواتهم} جماعة (2).
وجه الإفراد: أنه مصدر واسم جنس، فيقع على الكثرة، وإن كان مفردا في اللفظ، ومن هذا قوله: {كذلك زينا لكل أمة عملهم}
[الأنعام / 108] فأفرد وجمع في قوله: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} [المؤمنون / 63] و {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات}
[البقرة / 167]، فإن قلت: إن الأعمال تختلف، قيل: والأمانة تختلف ولها ضروب نحو: الأمانة التي بين الله وعبده كالصيام والصلاة والاغتسال، والأمانة التي بين العبيد في حقوقهم كالودائع والبضائع ونحو ذلك مما تكون اليد فيه أمانة. وقال: {أعمالهم كسراب بقيعة}
[النور / 39].
__________
(1) في الأصل: المؤمنين.
(2) السبعة 444.(5/287)
ووجه الجمع: قوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء / 58].
ومما أفرد فيه الأمانة والمراد بها الكثرة ما روي عن أبي: «من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها». يريد به تفسير قوله: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة / 228].
وقرأ حمزة والكسائي: (على صلاتهم) والباقون: {صلواتهم}.
وجه الإفراد: أن الصلاة في الأصل مصدر كالعمل والأمانة.
ووجه الجمع: أنه قد صار بمنزلة الاسم لاختلاف أنواعها، فلذلك جمع في نحو قوله: {حافظوا على الصلوات} [البقرة / 238] وكان الجمع فيه أقوى لأنه قد صار اسما شرعيّا لانضمام ما لم يكن في أصل اللغة أن ينضمّ إليها.
المؤمنون: 14
اختلفوا في قوله عز وجل: {عظاما فكسونا العظام}
[المؤمنون / 14] في الجمع والتوحيد.
فقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر وابن عامر: (عظما فكسونا العظم لحما) واحدا ليس قبل الميم ألف.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم وبكار عن أبان عن عاصم:
{عظاما فكسونا العظام لحما} جماعا بألف (1).
والجمع أشبه بما جاء في التنزيل في غير هذا الموضع كقوله:
{أإذا كنا عظاما ورفاتا} [الإسراء / 9849] {أئذا كنا عظاما نخرة}
[النازعات / 11] من يحيى العظام وهي رميم [يس / 78].
__________
(1) السبعة 444.(5/288)
والإفراد أنه اسم جنس، وأفرد كما تفرد المصادر وغيرها من الأجناس نحو: الإنسان والدرهم والشاء والبعير، وليس ذلك على حدّ قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا (1).
ولكنه على ما أنشد أبو زيد:
لقد تعلّلت على أيانق ... صهب قليلات القراد اللّازق (2)
فالقراد يراد به الكثرة لا محالة.
المؤمنون: 20
اختلفوا في كسر السين وفتحها من قوله تعالى: {من طور سيناء}
[المؤمنون / 20].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (سيناء) بكسر السين ممدود، وقرأ الباقون: {سيناء} مفتوحة السين ممدودة أيضا (3).
قال أبو علي: من قال: {سيناء} لم ينصرف الاسم عنده في المعرفة ولا في النكرة، لأن الهمزة في هذا البناء لا تكون إلا للتأنيث ولا تكون للإلحاق، ألا ترى فعلا لا يكون إلا في المضاعف نحو:
الزّلزال والقلقال، إذا اختص البناء هذا الضرب لم يجز أن يلحق به
__________
(1) هذا صدر بيت عجزه:
فإنّ زمانكم زمن خميص انظر الكتاب لسيبويه 1/ 108والخزانة 3/ 379وذكر أنه من أبيات سيبويه التي لا يعرف قائلها.
(2) هذا من رجز أورده في النوادر / 392 (ط الفاتح) ولم ينسبه لقائل وانظر الخصائص / 232، والمخصص 1/ 31واللسان (قرد) (زهق).
(3) السبعة 444، 445.(5/289)
شيء لأنك حينئذ تعدّي بالبناء إلى غير مضاعف الأربعة، فهذا إذن كموضع أو بقعة سمّي بطرفاء وصحراء.
فأما من قرأ (سيناء) بالكسر فالهمزة فيه منقلبة عن الياء كعلباء، وحرباء، وسيناء، وهي الياء التي ظهرت في نحو: درحاية لمّا بنيت على التأنيث، فإنّما لم ينصرف على هذا القول وإن كان غير مؤنّث لأنه جعل اسم بقعة أو أرض، فصار بمنزلة امرأة سميت بجعفر، ومن هذا البناء قوله: {وطور سينين} [التين / 2] فسينين: فعليل، كرّرت اللام التي هي نون فيه كما كرّرت في: زحليل وكرديد وخنذيذ (1)، ومثله في أن العين ياء وكررت اللام فيه للإلحاق قول الشاعر:
تسمع للجنّ فيه زيزيزما (2).
الياء الأولى: عين، والثانية لفعليل، فإن قلت: فلم لا يكون سينين كغسلين ولا يكون كخنذيذ؟. فالذي يمنع من ذلك أن أبا الحسن حكى أن واحد سنين: سينينة، وما كان من نحو غسلين لم نعلم علامة التأنيث لحقه، وبهذه الدلالة يعلم أن سينين ليس كسنين ولا أرضين، لأن هذا الضرب من الجمع لا يلحقه التاء للتأنيث، وإنما لم ينصرف سينين كما لم ينصرف (سيناء) لأنه جعل اسما لبقعة أو لأرض، كما
__________
(1) الزحليل: السريع، قال في اللسان (زحل): مثل به سيبويه وفسّره السيرافي، قال ابن جني: قال أبو علي: زحليل من الزحل، كسحتيت من السحت. والكرديد:
ما يبقى في أسفل الجلة من جانبيها من التمر. والخنذيذ: الشاعر المجيد (اللسان).
(2) الرجز في اللسان (زيز) وجاءت روايته فيه: تسمع للجن به زي زي زيا وهي أقوم وزنا. وزي زي: حكاية صوت الجن.(5/290)
جعل سيناء كذلك، ولو جعل اسما للمكان أو المنزل أو نحو ذلك من الأسماء المذكّرة لانصرف، لأنك كنت سمّيت مذكرا بمذكر.
المؤمنون: 20
اختلفوا في (تنبت) [المؤمنون / 20] في فتح التاء وضمّها. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (تنبت) بضم التاء وكسر الباء، وقرأ الباقون:
{تنبت} بفتح التاء وضمّ الباء (1).
من قرأ (تنبت بالدّهن) احتمل وجهين: أحدهما: أن يجعل الجار زائدا، يريد تنبت، ولحقت الباء كما لحقت في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة / 195] أي: لا تلقوا أيديكم، يدلّك على ذلك قوله: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل / 15] وقد زيدت هذه الباء مع الفاعل كما زيدت مع المفعول وزيادتها مع المفعول به أكثر، وذلك نحو قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت (2)
وقد زيدت مع هذه الكلمة بعينها قال:
بواد يمان ينبت الشّثّ حوله ... وأسفله بالمرخ والشّبهان (3)
حمله على: وينبت أسفله المرخ.
__________
(1) السبعة 445.
(2) البيت لقيس بن زهير وتمامه: بما لاقت لبون بني زياد
سبق انظر 1/ 325.
(3) سبق في ص 200، والشّبهان والشّبهان: بضم الشين والباء وبفتحهما، كذا نصّ ابن سيده على ضبطه (اللسان شبه). وينبت الشّثّ: جاءت فيما سبق بفتح الياء وضم الباء، والشث: فاعله. وهنا بضم الياء وكسر الباء، والشث:
مفعوله.(5/291)
ويجوز أن يكون الباء متعلّقا بغير هذا الفعل الظاهر، ويقدّر مفعولا محذوفا تقديره: تنبت جناها أو ثمرتها وفيها دهن وصبغ، كما تقول: خرج بثيابه وركب بسلاحه.
ومن قرأ: {تنبت بالدهن} جاز أن يكون الجار فيه للتعدّي: أنبته ونبت به، ويجوز أن يكون الباء في موضع حال كما كان في الوجه الأول، ولا يكون للتعدي ولكن: تنبت وفيها دهن، وقد قالوا: أنبت في معنى نبت، فكأن الهمزة في أنبت مرة للتعدّي ومرّة لغيره، يكون من باب: أحال وأجرب وأقطف، أي: صار ذا حيال وجرب، والأصمعي ينكر أنبت، ويزعم أن قصيدة زهير التي فيها:
حتى إذا أنبت البقل (1)
متّهمة. وإذا جاء الشيء مجيئا كان للقياس فيه مسلك، فروته الرواة لم يكن بعد ذلك موضع مطعن.
المؤمنون: 21
اختلفوا في قوله: {نسقيكم} [المؤمنون 21].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي: {نسقيكم} برفع النون.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: (نسقيكم) بفتح النون (2).
__________
(1) من بيت لزهير تمامه:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
انظر ديوانه / 111
(2) السبعة 445.(5/292)
قال أبو علي: أما من قال: {نسقيكم} فعلى أن يكون المعنى:
جعلنا ما في ضروعها من ألبانها سقيا لكم. وقد قالوا: أسقيتهم نهرا إذا جعلته سقيا لهم، هذا كأنه أعم لأن ما هو سقيا لهم لا يمتنع أن يكون للشفة، وما للشفة فقد يمتنع أن يكون سقيا، وما أسقيناه من ألبان الأنعام أكثر مما يكون للشفة {نسقيكم} بالضم فيه أشبه. ومن قال:
(نسقيكم) جعل ذلك مختصا به الشفاء دون المزارع والمراعي فلم يكن مثل الماء في قوله: {وأسقيناكم ماء فراتا} [المرسلات / 27].
لأن ذا يصلح لأمرين فمن ثمّ جاء: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا}
[الانسان / 21]. وقد قيل: إن سقى وأسقى لغتان. قال الشاعر:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال (1)
ألا ترى أن أسقى لا يخلو من أن يكون لغة في سقى، أو يكون على حدّ: {وأسقيناكم ماء فراتا} [المرسلات / 27] وهذا الوجه فيه بعض البعد، لأنه قد دعا لقومه وخاصّته بدون ما دعا للأجنبي الغريب منه.
المؤمنون: 29
اختلفوا في ضم الميم وفتحها من قوله عز وجل منزلا [المؤمنون / 29] فقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (منزلا) بفتح الميم وكسر الزاي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {منزلا} بضم الميم وفتح الزاي (2).
المنزل فيمن ضم الميم منه يجوز أن يكون مصدرا أو يكون
__________
(1) البيت للبيد، انظر ديوانه / 110واللسان (سقي)
(2) السبعة 445.(5/293)
موضعا للإنزال، فإذا أراد المكان فكأنه قال: أنزلني دارا، وإذا أراد المصدر كان بمنزلة: أنزلني إنزالا مباركا، فعلى هذا الوجه يجوز أن يعدّى الفعل إلى مفعول آخر، وعلى الوجه الأول قد استوفى مفعوليه.
ومن قال: (منزلا) أمكن أن يكون مصدرا وأن يكون موضع نزول، ودلّ: (أنزلني) على نزلت، وانتصب (منزلا) على أنه محل، وعلى أنه مصدر، فإذا عنيت به المصدر جاز أن تعدّي الفعل إلى المكان.
المؤمنون: 27
حفص عن عاصم: {من كل زوجين اثنين} [المؤمنون / 27] منون. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بلا تنوين (1).
حجة قول عاصم: {(من كل شيء)} [الحجر / 19] فحذف كما حذف في قوله: وكل آتوه داخرين [النمل / 87] فزوجين على هذا مفعول به واثنين وصف له.
وأما من قال: (من كلّ زوجين) فإنه أضاف كلّا إلى زوجين و {اثنين} انتصب على أنه مفعول به، والمعنى في قراءة عاصم: من كلّ يؤول إلى كلّ زوجين، لأن شيئا المقدّر حذفه في كلّ إنما هو ما يحمل من الأزواج التي للنسل وغيره دون الأشياء التي لا تكون أزواجا.
فقراءة الجمهور في هذا أبين، والرواية الأخرى عن عاصم أولى من هذه، كأنه وضع العام موضع الخاص. أراد من كلّ زوج الأشبه أن يريد هذا.
المؤمنون: 44
اختلفوا في التنوين من قوله: {تترى} [المؤمنون / 44]. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو (تترى كلّما) منونة، والوقف بالألف، وقرأ
__________
(1) السبعة 445(5/294)
الباقون: تترى بلا تنوين، والوقف في قراءة نافع وعاصم وابن عامر بألف، هبيرة عن حفص عن عاصم يقف بالياء (1).
قوله: يقف بالياء، يعني بألف ممالة. ومن نون وقف بالألف، ومن لم ينون وقف بالألف والياء.
قال أبو علي: (تترى): فعلى من المواترة، والمواترة أن تتبع الخبر الخبر، والكتاب الكتاب، ولا يكون بين ذلك فصل كبير، قال الشاعر:
قرينة سبع إن تواترن مرّة ... ضربن وصفّت أرؤس وجنوب (2)
يصف قطا انفرد بعضها عن بعض في طيرانها يقول: إن انقطعن فلم يكنّ صفّا ضربن أرؤسا وجنوبا لتصطف في طيرانها، فأعمل الفعل الثاني وحذف المفعول من الأول ليتبين الفاعل له، وقال آخر:
تواترن حتّى لم تكن لي ريبة ... ولم يك عمّا خبّروا متعقّب (3)
وقال أبو عبيدة: تترى: بعضها في إثر بعض، يقال: جاءت كتبه تترى (4). قال: وينوّنها بعض الناس، ومن قال في تترى إنها تفعل لم يكن غلطه غلط أهل الصناعة، والأقيس أن لا يصرف لأن المصادر تلحق أواخرها ألف التأنيث كالدعوى والعدوى والذكرى والشورى،
__________
(1) السبعة 446مع اختلاف يسير.
(2) البيت لحميد بن ثور من قصيدة ديوانه ص 53. والسمط 535وانظر تهذيب اللغة للأزهري 14/ 312، واللسان (وتر).
(3) البيت للطفيل الغنوي انظر ديوانه / 37وفيه: «تظاهره» بدل «تواتره». واللسان (عقب) وفيه: «تتابعه» بدل «تواتره». وليس فيهما شاهد.
(4) مجاز القرآن 2/ 59.(5/295)
ولا نعلم شيئا من المصادر لحق آخره ألف الإلحاق، فمن قال: تترى، أمكن أن يريد فعلى من المواترة، فتكون الألف بدلا من التنوين. وإن كان في الخط بالياء كان للإلحاق، والإلحاق في غير المصادر ليس بالقليل نحو: أرطى ومعزى، فإن كان في الخط ياء لزم أن يحمل على فعلى دون فعلا، ومن قال: تترى، فأراد به فعلا فحكمه أن يقف بالألف مفخّمة، ولا يميلها إلا في قول من قال: رأيت عنتا، وهذا ليس بالكثير، فلا تحمل عليه القراءة. ومن جعل الألف للإلحاق أو للتأنيث أمال الألف إذا وقف عليها، وكثيرا ما تتعاقب الألف التي للإلحاق وألف التأنيث في أواخر الكلم التي لا تكون مصادر.
المؤمنون: 50
قرأ عاصم وابن عامر: {إلى ربوة} [المؤمنون / 50] بفتح الراء.
وقرأ الباقون: (إلى ربوة) بضم الراء (1).
التّوزي: الرّبوة والرّباوة بمعنى. وقال أبو عبيدة: فلان في ربوة قومه، أي: في عزّهم وعددهم (2)، وقال الحسن: الربوة: دمشق.
المؤمنون: 52
اختلفوا في قوله: {وإن هذه أمتكم} [المؤمنون / 52] في فتح الألف وكسرها.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (وأنّ هذه) بفتح الألف وتشديد النون.
وقرأ ابن عامر: (وأن) بفتح الألف أيضا وتخفيف النون.
__________
(1) السبعة 446.
(2) مجاز القرآن 2/ 59.(5/296)
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {وإن هذه} بكسر الألف وتشديد النون (2).
من قرأ: (وأنّ هذه) كان المعنى في قول الخليل وسيبويه أنه محمول على الجار، التقدير: ولأن هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاتّقون، أي اعبدوني لهذا. ومثل ذلك عندهم قوله عزّ وجلّ: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن / 18] المعنى: ولأن المساجد لله. وكذلك عندهم قوله: {لإيلاف قريش} [قريش / 1] كأنه: فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلاف قريش، أي: ليقابلوا هذه النعمة بالشكر والعبادة للمنعم عليهم بها، وعلى هذا التقدير يحمل قراءة ابن عامر، ألا ترى أن (أنّ) إذا خفّفت اقتضت ما يتعلّق به اقتضاءها وهي غير مخفّفة، والتخفيف حسن في هذا لأنه لا فعل بعدها ولا شيء ممّا لا يلي أن، فإذا كان كذلك كان تخفيفها حسنا، ولو كان بعدها فعل لم يحسن حتى تعوّض السين أو سوف أولا إذا كان في نفي، فإذا لم يكن بعدها فعل ساغ التخفيف، ومثل ذلك قوله تعالى:
{وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس / 10].
ومن كسر فقال: (وإنّ هذه أمّتكم) لم يحملها على الفعل كما يحملها من فتح، ولكن جعلها كلاما مستأنفا، ويجوز أن يكون فيه تنبيه على الاعتداد بالنعمة كقول من فتح أنّ، فكان معنى: وأن هذه أمتكم أمة واحدة أي: أنتم أهل دعوة واحدة ونصرة، ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا، وقال: {ولا تفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه}
[الشورى / 13] من الاتفاق على التوحيد وخلع ما تدعون إليه من دونه.
__________
(2) السبعة 446.(5/297)
المؤمنون: 67
وقرأ نافع وحده: (تهجرون) [المؤمنون / 67] بضم التاء وكسر الجيم. وقرأ الباقون: {تهجرون} بفتح التاء وضمّ الجيم.
من قرأ: {تهجرون} فالمعنى: أنكم كنتم تهجرون آياتي وما يتلى عليكم من كتابي فلا تنقادون له وتكذبون به، كقوله: {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين}
[المؤمنون / 6766] بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، وقال: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت / 67] و (تهجرون) تأتون بالهجر، وهو الهذيان وما لا خير فيه من الكلام،
وفي الحديث في زيارة القبور: «زورها ولا تقولوا هجرا»
(1).
المؤمنون: 72
قرأ ابن عامر (خرجا فخرج ربك) [المؤمنون / 72] بغير ألف في الحرفين.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم: {خرجا} بغير ألف {فخراج ربك} بألف.
وقرأ حمزة والكسائي {(خراجا، فخراج ربّك)} في الحرفين جميعا بألف (1).
أبو عبيدة: العبد يؤدّي إليك خرجه، أي: غلّته، والرعيّة تؤدّي إلى الأمير الخرج، قال: والخرج أيضا من السحاب، ومنه نرى اشتقّ
__________
(1) من حديث نصه
«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا».
أخرجه أحمد في مسنده 5/ 361.(5/298)
هذا أجمع، قال أبو ذؤيب (1):
إذا همّ بالإقلاع هبّت له الصّبا ... وأعقب نوء بعدها وخروج
قال: وزعم أبو عمرو الهذلي أنه سمّي خرجا وخروجا للماء الذي يخرج منه (2).
وفيما حكاه أبو عبيدة من قوله: الرعية تؤدّي إلى الأمراء الخرج، دلالة على من قرأ: (خرجا فخرج ربّك) فكأن الخرج يقع على الضريبة التي على الأرضين وعلى الجزية.
وحكى غير أبي عبيدة: أدّ خرج رأسك، والخرج: ما يخرج إلى من يخرج ذلك إليه وإن لم يكن ذلك ضريبة، ويدلّ على ذلك قراءة من قرأ: {فهل نجعل لك خرجا} [الكهف / 94]، وقد يقع على هذا الخراج بدلالة قول العجاج (3):
يوم خراج يخرج السّمرّجا فهذا ليس على الضريبة، والاسم الأخص بالضريبة المضروبة
__________
(1) شرح أشعار الهذليين للسكرى 1/ 129ورواية عجزه فيه:
فأعقب نشء بعدها وخروج وفي معجم تهذيب اللغة: 7/ 48و 11/ 419:
فأعقب غيم بعده وخروج
(2) مجاز القرآن 2/ 61.
(3) للعجاج وبعده:
في ليلة تغشي الصّوار المحرجا والسمرج: هو الخراج، يقال له بالفارسية: سمرّة، أي: ثلاث مرات يؤدّى وهو حساب يؤخذ في ثلاثة أثلاث فكان يقال له: سمرّة، فأعرب فقيل:
السّمرّج، انظر ديوانه 2/ 33.(5/299)
على الأرضين الخراج، قال:
طرمحوا الدّور بالخراج فأضحت مثل ما امتدّ من عماية نيق (1)
فمعنى هذا: بأموال الخراج، وإذا كان كذلك فقول ابن كثير ومن تبعه: {خرجا فخراج ربك خير} معناه: أنك لا تسألهم شيئا يخرجون إليك، كما قال: {قل ما أسألكم عليه من أجر}
[الفرقان / 57] {وما نسألهم عليه من أجر} [يوسف / 104] {فخراج ربك} كأنه إضافة إلى الله تعالى، لأنه أوجبه وألزمه هذه الأشياء من الحقوق في الأرضين وجزى الرءوس، فلهذا قال: {فخراج ربك خير}. وقول حمزة والكسائي: (خراجا فخراج ربك) فقولهما:
{فخراج ربك} بيّن على ما تقدم، و (خراج) الذي قرأه غيرهما:
{خرجا} قد جاء فيه الخراج أيضا، بدلالة قول العجاج، وزعموا أن أكثر القراءة: {خرجا، فخراج ربك} قال أبو الحسن: لا أدري أيهما أكثر في كلام العرب.
المؤمنون: / 89، 87، 85
اختلفوا في قوله عزّ وجلّ: {سيقولون لله}
[المؤمنون / 85، 87، 89] في الآيتين. ولم يختلفوا في الأول (2)، فقرأ أبو عمرو وحده: (سيقولون الله) بألف في الحرفين. وقرأ الباقون: (لله لله لله) هذه الثلاثة المواضع (3).
أوّلها: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله}
__________
(1) طرمح البناء: علاه ورفعه (اللسان طرح) والنيق: أرفع موضع في الجبل.
عماية: السحابة الكثيفة المطبقة وجبل من جبال هذيل (اللسان عمى) وانظر معجم البلدان (عماية) 4/ 152. والبيت لم نقف على قائله.
(2) في السبعة: في الاثنتين الأخيرتين، ولم يختلفوا في الأولى.
(3) السبعة 447مع اختلاف في العرض، سوى ما أشرت إليه.(5/300)
[المؤمنون / 8584] لا اختلاف فيها. الثاني: {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله} [المؤمنون / 8786] و (سيقولون الله). والثالث: {قل من بيده ملكوت كل شيء} [المؤمنون / 88] إلى آخرها {سيقولون لله} و (سيقولون الله) [المؤمنون / 89].
أبو عمرو وحده يقول فيهما: (الله) والباقون: (لله) ولم يختلفوا في الأول، أما الآية الأولى فجوابها على القياس، كما يقال: لمن الدار؟ فنقول: لزيد، كأنك تقول: لزيد الدار، فاستغنيت عن ذكرها لتقدمها.
قرأ أبو عمرو وحده: (سيقولون الله) في الحرفين.
وقرأ الباقون: (لله لله)، وأمّا قوله: {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} فجواب هذا: الله، على ما يوجبه اللفظ، وأما من قال: {لله} فعلى المعنى، وذلك أنه إذا قال: من مالك هذه الدار؟ فقال في جوابه: لزيد، فقد أجابه على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ، والذي يقتضيه: من مالك هذه الدار؟ أن يقال في جوابه: زيد، ونحوه، فإذا قال: لزيد، فقد حمله على المعنى، وإنما استقام هذا لأن معنى من مالك هذه الدار؟ ولمن هذه الدار؟ واحد، فلذلك حملت تارة على اللفظ وتارة على المعنى، والجواب على اللفظ هو الوجه.
المؤمنون: 301
اختلفوا في قوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة}
[المؤمنون / 92] في الخفض والرفع.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وابن عامر: {عالم الغيب} خفضا.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع وحمزة والكسائي: (عالم الغيب) رفعا (1).(5/301)
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وابن عامر: {عالم الغيب} خفضا.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع وحمزة والكسائي: (عالم الغيب) رفعا (1).
قال أبو الحسن: الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد، وأما الرفع فعلى أن يكون خبر ابتداء محذوف. قال: ويقوّي ذلك أن الكلام الأول قد انقطع.
المؤمنون: 106
اختلفوا في قوله تعالى: {شقوتنا} [المؤمنون / 106] في كسر الشين وفتحها والألف.
فقرأ حمزة والكسائي: (شقاوتنا) بفتح الشين وبالألف.
وقرأ الباقون: {شقوتنا} بكسر الشين بغير ألف. حدثني أبو علي محمد بن عيسى العباسي وأحمد بن علي الخزّاز قالا: حدثنا بشر بن هلال قال: حدّثنا بكار عن أبان قال: سألت عاصما فقال: إن شئت فاقرأ: {شقوتنا} وإن شئت فاقرأ (شقاوتنا) (2).
الشقوة: مصدر كالردّة، والفطنة، والشقاوة: كالسعادة وإذا كان كذلك فالقراءة بهما جميعا سائغ كما روى عن عاصم.
المؤمنون: 110
اختلفوا في قوله تعالى: {سخريا} في كسر السين في المؤمنين [110] وفي صاد [63]، ولم يختلفوا في الزخرف [32].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {سخريا} بكسر السين، وكذلك في صاد. هبيرة عن حفص عن عاصم (سخريا) رفعا، وهو غلط، والمعروف عن حفص {سخريا} بكسر السين.
__________
(1) السبعة 447.
(2) السبعة 448.(5/302)
وقرأ نافع وحمزة والكسائي (سخريا) رفعا في السورتين (1).
قال أبو زيد: اتخذت فلانا سخريا وسخرة: إذا هزئت منه، وقد سخرت به وبه أسخر سخريا وسخرا، أبو عبيدة: {اتخذتموهم سخريا}: تسخرون منهم، وسخريا: تسخّرونهم (2). وقال ابن سلام:
قال يونس: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} [الزخرف / 32] قال: من السّخرة، والسّخريّ من الهزء قال: وقد يقال: سخريّ، فأما تلك الأخرى، يعني: السّخري، فواحدة مضمومة لا غير، ويقال من الهزء: سخري وسخري ومن السخرة مضمومة. أبو عبد الرحمن بن اليزيدي: سخريا من السّخرية، و (سخريّا) بالضم من السّخرة.
وحكى غيره أن الحسن وقتادة قالا: ما كان من العبودية فهو سخريّ بالضم، وما كان من الهزء فبالكسر. قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر: {فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري}
[المؤمنون / 110] بكسر السين أرجح من قراءة من ضم فقال:
(سخريا) لأنه من الهزء، والأكثر من الهزء، كسر السين فيما حكوه، وترى أنه إنما كان الأكثر لأن السّخر مصدر سخرت بدلالة حكاية أبي زيد لذلك، ولقول الشاعر:
من علو لا كذب فيه ولا سخر (3)
__________
(1) السبعة 448مع اختلاف يسير في العبارة.
(2) انظر مجاز القرآن 2/ 62و 187.
(3) عجز بيت لأعشى باهلة، عامر بن الحارث وصدره:
إني أتاني شيء لا أسرّ به وجاء في النوادر / 288 (ط الفاتح). برواية: «من عل لا عجب».
وفي الأصمعيات / 88برواية:(5/303)
وقولهم في مصدر سخرت: سخريا وسخرا، إنما جاء ذلك لأن فعل وفعل قد يكونان بمعنى، نحو: المثل والمثل، والشّبه والشبه وحروف أخر على هذا، فكذلك السّخر والسّخر، إلا أن المكسورة ألزمت ياء النسب دون المفتوحة، كما اتفقوا في القسم على الفتح في: لعمر الله، ولم يخرج مع إلحاق ياء النسب عن حكم المصدر، ولم يخرج إلى الصفة بلحاق الياءين له، كما يخرج سائر ما لحقته الياء، يدلّك على ذلك قولهم: {فاتخذتموهم سخريا} فأفرد، وقد جرى على الجمع كما تفرد المصادر، فكأن ياء النسب لم يقع به اعتداد في المعنى كما لم يعتدّ به، ولم يكن للنسب في نحو أحمر وأحمري ودوّار ودوّارى، ومثل ذلك في أن ياء النسب لما كان كالتي في قمري ونحوه لم يعتد به قول الشماخ:
خضرانيات (1).
ألا ترى أنه لو أعتدّ به وأريد به معنى النسب لردّ إلى الواحد، كما يردّ سائر ما لحقه ياء النسب وأريد به النسب إلى الواحد، إذا لم يكن المنسوب مسمّى بالجمع، وأن لم يرد: خضرانيات إلى الواحد دلالة على أنه لم يعتدّ بها وكان في حكم الزيادة. ك (لا) في قوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد / 29]. وأمّا قراءة من ضم في قوله:
(فاتخذتموهم سخريّا) وفي صاد في قوله: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا) ص / 6362]
__________
قد جاء من عل أنباء أنبؤها ... إلى لا عجب منها ولا سخر
وانظر البحر المحيط 6/ 423. والخزانة 3/ 135.
(1) لم نعثر عليه في ديوانه.(5/304)
فالكسر في معنى السخرية أفشى وأكثر إذا كان السخريّ في معنى الهزء، وهذان الموضعان يراد بهما، الهزء يقوّي ذلك قوله في المؤمنين:
{وكنتم منهم تضحكون} [المؤمنون / 110] والضحك بالسّخر والهزء أشبه، وجه ذلك في صاد: (اتخذناهم سخريا). ووجه الضم أن يونس قال فيما حكى عنه ابن سلّام: أن السّخري قد يقال بالضم بمعنى الهزء، وقوله: فأما الأخرى فواحدة، يعني التي يراد بها السّخرة. وقال أبو الحسن: سخري إذا أردت من سخرت به ففيه لغتان يعني الضم والكسر، ومن ثمّ اتفق هؤلاء القرّاء على الضم في التي في الزخرف في قوله: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} فهذا من السّخرة وانقياد بعضهم لبعض في الأمور التي [إنّ] (1)
لم ينقد بعضهم لبعض فيها، لم يلتئم قوام أمر العالم. فأما سخري فإفراده يجوز أن يكون لإفراد بعضهم في اللفظ وإن كان المعنى على الكثرة، ويجوز أن يكون كسخري بكسر السين لم يخرج بلحاق الياء له من أن يكون مصدرا، ووجه الضم في سخري إذا كان من الهزء أن السّخر على فعل، وفعل وفعل يتعاقبان على الكلمة كالحزن والحزن، والبخل والبخل، كما كان فعل وفعل كذلك، إلا أن المضموم خصّ بالنسب كما خصّ المكسور به، وبقي على حكم المصدر كما بقي عليه المكسور، فأمّا ما حكاه أبو زيد من قوله: اتخذت فلانا سخريا وسخرة، فإن قوله: سخري وصف بالمصدر، وقولهم: سخرة ليس بمصدر من الهزء، فيكون النسب إليه، ولكن سخرة كقولهم: ضحكة، وهزأة بتسكين العين إذا كان يضحك منه. والفاعل في هذا بفتح
__________
(1) زيادة يتطلبها المعنى.(5/305)
العين نحو: هزأة ونكحة، وجمل خجأة.
المؤمنون: 111
اختلفوا في قوله تعالى: (إنهم هم الفائزون) [المؤمنون / 111] في كسر الألف وفتحها.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {أنهم}
فتحا.
وقرأ حمزة والكسائي: (إنّهم) كسرا. خارجة عن نافع:
(صبروا إنّهم) كسرا، مثل حمزة (1).
من فتح كان على قوله: جزيتهم لأنهم هم الفائزون، ويجوز أن يكون {أنهم} في موضع المفعول الثاني لأن جزيت يتعدّى إلى مفعولين، قال: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} [الإنسان / 12] تقديره: جزيتهم اليوم بصبرهم الفوز، وفاز الرجل إذا نال ما أراد، وقالوا: فوّز الرجل إذا مات. ويشبه أن يكون ذلك على التفاؤل له، أى: صار إلى ما أحب، والمفازة للمهلكة على وجه التفاؤل أيضا، وقيل: إنه مفعلة من فوّز إذا هلك، فكان فوز في الأصل على التفاؤل أيضا، ومن كسر استأنف وقطعه مما قبله، ومثل ذلك في الكسر والاستئناف والإتباع لما قبله: لبّيك إن الحمد والنعمة لك، وأنّ الحمد
المؤمنون: 114، 112
اختلفوا في قوله تعالى: {قال كم لبثتم} {قال إن لبثتم}
[المؤمنون / 112، 114].
فقرأ ابن كثير: (قل كم لبثتم) على الأمر {قال إن} على الخبر
__________
(1) السبعة 448.(5/306)
ولا يدغم {لبثتم} هذه رواية البزّي عن ابن كثير، وروى قنبل عن النبال عن أصحابه عن ابن كثير: (قل كم لبثتم. قل إن لبثتم) جميعا في الموضعين بغير ألف.
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: {قال كم لبثتم} و {قال إن لبثتم} بالألف فيهما على الخبر.
وقرأ حمزة والكسائي: (قل كم لبثتم) و (قل إن لبثتم) على الأمر جميعا.
وأبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون التاء، الباقون لا يدغمون (1).
من قرأ: (قل كم لبثتم) كان على: قل أيها السائل عن لبثتم.
وقال على الإخبار عنه. وزعموا أن في مصحف أهل الكوفة (قل) في الموضعين، فكأن حمزة والكسائي قرآ على مصاحف أهل الكوفة.
وأما وجه إدغام الثاء في التاء في {لبثتم} فلتقارب مخرجي الثاء والتاء واجتماعهما في الهمس، فحسن الإدغام لذلك، ووجه ترك ابن كثير للإدغام تباين الحرفين في المخرجين، ألا ترى أن التاء من حيّز الطاء والدال، والثاء من حيّز الظاء والذال، فلما تباين المخرجان وكانا بمنزلة المنفصل والمنفصل لا يلزم، فآثر البيان، ألا ترى أنهم بينوا المثلين في اقتتلوا لما لم يكن الحرف من اللازم.
المؤمنون: 115
اختلفوا في قوله عز وجل: {لا ترجعون} [المؤمنون / 115 والقصص / 39] في الياء والتاء.
__________
(1) السبعة 449.(5/307)
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم هاهنا بالتاء مضمومة {ترجعون}
وفي القصص: (لا يرجعون) بالياء مضمومة.
وقرأ نافع في المؤمنين {ترجعون} بضم التاء وفي القصص (يرجعون) بفتح الياء وكسر الجيم.
وقرأ حمزة والكسائي جميعا (ترجعون) و (يرجعون) بفتح الياء والتاء وكسر الجيم (1).
حجة من قال: {ترجعون}: {وإنا إليه راجعون} [البقرة / 156] {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} [الزخرف / 14] وقوله: {كل إلينا راجعون}
[الأنبياء / 93] وقوله: {إلي مرجعكم} [العنكبوت / 8] ألا ترى أن المصدر مضاف إلى الفاعل. فأما ما كان من الرجوع في الدنيا فإن الفعل فيه مسند إلى الفاعل نحو: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم}
[التوبة / 83] و {لئن رجعنا إلى المدينة} [المنافقون / 8] {ولا إلى أهلهم يرجعون} [يس / 50] {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} [يس / 31] وكذلك بما كان من أمور الآخرة التي لا يراد بها البعث كقوله: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود / 123] {ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى / 53] وقد تقدم ذكر هذا النحو.
__________
(1) السبعة 450، 454.(5/308)
ذكر اختلافهم في سورة النور
النور: 1
اختلفوا في التّشديد والتّخفيف من قوله عزّ وجلّ: {وفرضناها}
[1].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (وفرّضناها) مشدّدا.
وقرأها الباقون مخففة (1).
قال أبو علي: معنى فرضناها، فرضنا فرائضها فحذف المضاف وحسن إضافة الفرائض إلى السورة، وهي لله سبحانه لأنّها مذكورة فيها، ومفهومة عنها والتثقيل في (فرّضناها) لكثرة ما فيها من الفرض.
والتخفيف يصلح للقليل والكثير.
ومن حجّة التخفيف قوله: {إن الذي فرض عليك القرآن}
[القصص / 85] والمعنى: أحكام القرآن، وفرائض القرآن، كما أنّ التي في سورة النور كذلك.
النور: 2
وقرأ ابن كثير رأفة [2] هاهنا وفي سورة الحديد (رأفة) [27] ساكنة الهمزة، كذا قرأت على قنبل، وقال لي قنبل: كان ابن
__________
(1) السبعة 452.(5/309)
أبي بزّة قد أوهم (1) وقرأهما جميعا بالتحريك، فلما أخبرته أنّما هي هذه وحدها رجع.
وقرأ الباقون ساكنة الهمزة فيهما، ولم يختلفوا في الهمز غير أن أبا عمرو كان إذا أدرج القراءة وقرأ في الصلاة غيّر همزتها إلى الألف (2).
قال أبو زيد: رأفت بالرجل أرؤف به رأفة ورآفة، ورأفت به أرأف به وكلّ من كلام العرب (3).
ولعل رأفة التي قرأها ابن كثير لغة. ومعنى (لا تأخذكم بهما رأفة): كأنّه نهي عن رحمتهما، لأنّ رحمتهما قد تؤدّي إلى تضييع الحدود، وترك إقامته عليها.
النور: 6
اختلفوا في قوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله}
[النّور / 6] في ضمّ العين وفتحها.
فقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم أربع شهادات بالله بالضمّ.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: (أربع شهادات بالله) فتحا (4).
قال أبو علي: من نصب قوله: (أربع شهادات بالله) نصبه
__________
(1) أوهم، أي: أسقط أو ترك قراءة الهمزة ساكنة. انظر اللسان / وهم / وفي السبعة: وهم، وكلاهما بمعنى.
(2) السبعة ص 452.
(3) كلام أبي زيد هذا في اللسان / رأف /
(4) السبعة 453452وهنا لك تقديم وتأخير والمؤدى واحد.(5/310)
بالشهادة، وينبغي أن يكون قوله: {فشهادة أحدهم} مبنيا على ما يكون مبتدأ، تقديره: ما الحكم؟ أو: ما الغرض؟ أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فعليهم أن يشهدوا، وإن شئت حملته على المعنى، لأنّ المعنى: يشهد أحدهم، فقوله: {بالله} يجوز أن يكون من صلة الشهادة، ومن صلة شهادات إذا نصبت الأربع، وقياس من أعمل الثاني أن يكون قوله: {بالله} من صلة شهادات، وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، كما تقول: ضربت وضربني زيد. ومن رفع فقال:
{فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} فإنّ الجارّ والمجرور من صلة شهادات، ولا يجوز أن يكون من صلة شهادة، لأنّك إن وصلتها بالشهادة فقد فصلت بين الصلة والموصول، ألا ترى أن الخبر الذي هو أربع شهادات يفصل.
وقوله: إنه لمن الكاذبين [النور / 8] في قول من نصب {أربع شهادات بالله} يجوز أن يكون من صلة شهادة أحدهم، وتكون الجملة التي هي {إنه لمن الكاذبين} في موضع نصب، لأنّ الشهادة كالعلم فيتعلق بها (إن) كما يتعلق بالعلم، والجملة في موضع نصب بأنّه مفعول به، وأربع شهادات ينتصب انتصاب المصادر.
ومن رفع {أربع شهادات} لم يكن قوله: {إنه لمن الكاذبين} إلّا من صلة شهادات دون شهادة، كما كان قوله: {بالله} من صلة شهادات دون صلة شهادة، لأنّك إن جعلته من صلة شهادة فصلت بين الصلة والموصول.
النور: 7
وكلهم قرأ: {والخامسة} [النور / 7] رفعا غير حفص عن عاصم فإنه قرأ (والخامسة) نصبا (1).
__________
(1) السبعة ص 453.(5/311)
القول في ذلك أنّ من نصب (أربع شهادات بالله) وأضمر لقوله: فشهادة أحدهم أو حمله على المعنى، نصب (الخامسة) لأنّ الخامسة من الشهادات، فيكون المعنى: شهد أربع شهادات بالله، والخامسة، فيكون محمولا على ما حمل عليه الأربع في الإعراب، لأنّه بمعناه. ومن رفع أربع شهادات على أنّه خبر {فشهادة أحدهم}
لزمه أن يرفع الخامسة أيضا. فيكون المعنى: أربع شهادات، والشهادة الخامسة، وما بعده من (أنّ) في موضع نصب. والخامسة بأن غضب الله هذا هو القياس، ويجعل الخامسة يتعلق بها الباء التي تقدر في بأنّ لأنّه بمعنى الشهادة فيتعلق به الجار كما يتعلق بالشهادة كما يتعلق إلى بالرفث في قوله: {الرفث إلى نسائكم} [البقرة / 187] لمّا كان الرّفث بمعنى الإفضاء. ولا يجوز أن يكون تعلقه بالشهادة الموصوفة بالخامسة، لأنّ الموصول إذا وصفته لم يتصل به شيء بعد الوصف، فرواية غير حفص عن عاصم {والخامسة} يحملها على ما روي عنه من قوله: {أربع شهادات} المعنى: أربع شهادات والخامسة. ومن نصب الخامسة مع رفعه {أربع شهادات بالله} حمله على فعل دلّ عليه ما تقدم لازما. تقدم من قوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} يدلّ على يشهد أحدهم ويشهد الخامسة بكذا. ومن نصب (أربع شهادات بالله) جاز في قوله: {والخامسة} أن يكون معطوفا على ما في صلة المصدر، وجاز أن يكون في صلة شهادات، لأنّه لم يفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي، كما يفصل إذا رفع أربع شهادات، فإن رفع أربع شهادات لم يكن إلّا معطوفا على صلة شهادات، ولا يجوز أن يعطف على صلة المصدر الأوّل، لأنّك تفصل حينئذ بين الصلة والموصول بخبر الموصول، ويجوز أن لا تقدّر به العطف على الصلة، ولكن تضمر
فعلا يحمل عليه، وتنصبه به. وإذا رفع الخامسة، وقد رفع الأربع، حمل الخامسة على الأربع، لأنّها شهادة، كما أنّ «الأربع» شهادات، ومجموع ذلك خبر المبتدأ الذي هو {فشهادة أحدهم}. ومن نصب الخامسة وقد رفع {أربع شهادات} قطعه منه ولم يجعل الخبر المجموع، ولكن حمله على ما الكلام من معنى الفعل كأنّه ويشهد الخامسة، يضمر هذا الفعل، لأنّ في الكلام دلالة عليه.(5/312)
القول في ذلك أنّ من نصب (أربع شهادات بالله) وأضمر لقوله: فشهادة أحدهم أو حمله على المعنى، نصب (الخامسة) لأنّ الخامسة من الشهادات، فيكون المعنى: شهد أربع شهادات بالله، والخامسة، فيكون محمولا على ما حمل عليه الأربع في الإعراب، لأنّه بمعناه. ومن رفع أربع شهادات على أنّه خبر {فشهادة أحدهم}
لزمه أن يرفع الخامسة أيضا. فيكون المعنى: أربع شهادات، والشهادة الخامسة، وما بعده من (أنّ) في موضع نصب. والخامسة بأن غضب الله هذا هو القياس، ويجعل الخامسة يتعلق بها الباء التي تقدر في بأنّ لأنّه بمعنى الشهادة فيتعلق به الجار كما يتعلق بالشهادة كما يتعلق إلى بالرفث في قوله: {الرفث إلى نسائكم} [البقرة / 187] لمّا كان الرّفث بمعنى الإفضاء. ولا يجوز أن يكون تعلقه بالشهادة الموصوفة بالخامسة، لأنّ الموصول إذا وصفته لم يتصل به شيء بعد الوصف، فرواية غير حفص عن عاصم {والخامسة} يحملها على ما روي عنه من قوله: {أربع شهادات} المعنى: أربع شهادات والخامسة. ومن نصب الخامسة مع رفعه {أربع شهادات بالله} حمله على فعل دلّ عليه ما تقدم لازما. تقدم من قوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} يدلّ على يشهد أحدهم ويشهد الخامسة بكذا. ومن نصب (أربع شهادات بالله) جاز في قوله: {والخامسة} أن يكون معطوفا على ما في صلة المصدر، وجاز أن يكون في صلة شهادات، لأنّه لم يفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي، كما يفصل إذا رفع أربع شهادات، فإن رفع أربع شهادات لم يكن إلّا معطوفا على صلة شهادات، ولا يجوز أن يعطف على صلة المصدر الأوّل، لأنّك تفصل حينئذ بين الصلة والموصول بخبر الموصول، ويجوز أن لا تقدّر به العطف على الصلة، ولكن تضمر
فعلا يحمل عليه، وتنصبه به. وإذا رفع الخامسة، وقد رفع الأربع، حمل الخامسة على الأربع، لأنّها شهادة، كما أنّ «الأربع» شهادات، ومجموع ذلك خبر المبتدأ الذي هو {فشهادة أحدهم}. ومن نصب الخامسة وقد رفع {أربع شهادات} قطعه منه ولم يجعل الخبر المجموع، ولكن حمله على ما الكلام من معنى الفعل كأنّه ويشهد الخامسة، يضمر هذا الفعل، لأنّ في الكلام دلالة عليه.
قال: ولم يختلفوا في الأولى أنّها مرفوعة (1).
يعني بالأولى قوله: والخامسة بعد قوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} {والخامسة} ووجه ذلك أنّه لا يخلو أن يكون ما قبله من قوله: (أربع شهادات) مرفوعا أو منصوبا، فإن كان مرفوعا أتبع الرّفع، التّقدير: شهادة أحدهم أربع والخامسة، فيكون محمولا على ما قبلها من الرّفع، وإن كان ما قبله من قوله (أربع) منصوبا قطعه عنه، ولم يحمله على النصب. وحمل الكلام على المعنى، لأنّ معنى قوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات}: عليهم أربع شهادات، وحكمهم أربع شهادات والخامسة، فيحمله على هذا، كما أنّ قوله:
إلّا رواكد جمرهنّ هباء (2)
__________
(1) السبعة ص 453
(2) هذا عجز بيت لذي الرمة وقيل: للشماخ، صدره:
بادت وغيّر أيهنّ مع البلى وقد جاء معه آخر وهو التالي مباشرة انظر ملحقات ديوان ذي الرمة 3/ 1840وديوان الشماخ 428 (ملحقاته) وما ذكره المحقق في بيان نسبة البيتين. والكتاب لسيبويه 1/ 88(5/313)
معناه ثم رواكد فحمل قوله:
ومشجّج أمّا سواء قذاله (1)
عليه. ويجوز في القياس النصب في الخامسة الأولى، رفع أربع شهادات أو نصب، وإذا نصب فعلى قوله {فشهادة أحدهم أربع شهادات} والخامسة فيعطفه على الأربع المنصوبة. وإن رفع أربع شهادات، جاز النصب في الخامسة، لأن المعنى: يشهد أحدهم أربع شهادات، ويشهد الخامسة فينصبه لما في الكلام من الدّلالة على هذا الفعل، وأحسب أنّ غيرهم قد قرأ بذلك.
النور: 9، 7
اختلفوا في قوله: والخامسة أن لعنة الله عليه و {أن غضب الله عليها} [النور / 97] فقرأ نافع وحده: (أن لعنة الله) و (أن غضب الله) بكسر الضاد رفع (2) وقرأ الباقون: {أن لعنة الله} و {أن غضب الله} مشدّدة النون فيهما (3).
قال أبو الحسن: لا أعلم الثقيلة إلّا أجود في العربية، لأنّك إذا خفّفت فالأصل عندي التثقيل فتخفّف وتضمر، فأن تجيء بما عليه المعنى، ولا تكون أضمرت، ولا حذفت شيئا أجود، وكذلك: (إن الحمد لله) (4) [يونس / 10] وجميع ما في القرآن مما يشبه هذا.
فأمّا قراءة نافع: (والخامسة أن لعنة الله عليه)
__________
(1) هذا صدر بيت جاء معه قرين هو المذكور آنفا عجزه:
فبدا وغيّر ساره المعزاء
(2) أي رفع لفظ الجلالة (الله) كما في السبعة
(3) السبعة ص 453
(4) قراءة التشديد (إنّ الحمد لله) هي قراءة عكرمة ومجاهد وقتادة وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة وأبو مجلز وأبو حيوة وابن محيصن ويعقوب. وبالتخفيف قراءة الجمهور على أنّها المخففة من الثقيلة. انظر البحر المحيط 5/ 127(5/314)
قال سيبويه: من قال: (والخامسة أن غضب الله) فمعناه عنده: أنّه غضب الله عليها، ولا تخفّف في الكلام أبدا وبعدها الأسماء إلّا وأنت تريد الثقيلة على إضمار القصّة فيها (1)، وكذلك قوله: {أن الحمد لله رب العالمين} [يونس / 10] فيمن خفّف وعلى هذا قول الأعشى:
قد علموا أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (2)
وإنّما خفّفت الثقيلة المفتوحة على إضمار القصّة والحديث، ولم تكن كالمكسورة في ذلك، لأنّ الثقيلة المفتوحة موصولة، والموصول يتشبّث بصلته أكثر من تشبّث غير الموصول بما يتصل، فلم يخفّف إلّا على هذا الحدّ، ليدلّ على اتصالها بصلتها أشدّ.
وأمّا قراءة نافع (أن غضب الله) فإنّ (أن) فيه المخفّفة من الثقيلة، وأهل العربية يستقبحون (3) أن تلي الفعل حتى يفصل بينها وبين الفعل بشيء، ويقولون: استقبحوا أن تحذف ويحذف ما تعمل فيه، وأن تلي ما لم تكن تليه من الفعل بلا حاجز بينهما، فتجتمع هذه الاتساعات فيها، فإن فصل بينها وبين الفعل بشيء لم يستقبحوا ذلك كقوله: {علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل / 20] و: {أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا} [طه / 89] و: علمت أن قد قام. وإذا فصل بشيء من هذا النحو بينه وبين الفعل زال بذلك أن تلي ما لم يكن حكمها أن تليه. فإن قيل: فقد جاء: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}
[النجم / 39] وجاء: {نودي أن بورك من في النار ومن حولها}
__________
(1) سيبويه 1/ 480مع اختلاف طفيف في العبارة.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 128وانظر الحجة 3/ 437
(3) في الأصل فيستقبحون، وكأنه على توهم: أما أهل العربية.(5/315)
[النمل / 8] فإنّ (ليس) تجري مجرى ما ونحوها ممّا ليس بفعل. فأمّا {نودي أن بورك} فإن قوله {بورك} على معنى الدعاء، فلم يجز دخول لا، ولا قد، ولا السين، ولا شيء ممّا يصحّ دخوله في الكلام، فيصحّ به الفصل وهذا مثل ما حكاه من قولهم (1): أما أن جزاك الله خيرا. فلم يدخل شيء من هذه الفواصل من حيث لم يكن موضعا لها، وغير الدّعاء في هذا ليس كالدّعاء، ووجه قراءة نافع: أن ذلك، قد جاء في الدّعاء ولفظه لفظ الخبر. وقد يجيء في الشّعر، وإن لم يكن شيء يفصل بين أن وبين ما تدخل عليه من الفعل، فإن قلت: فلم لا تكون أن. في قوله: (أن غضب الله) أن الناصبة للفعل وصل بالماضي؟
فيكون كقول من قرأ: (وامرأة مؤمنة أن وهبت نفسها للنبي) [الأحزاب / 50] فإن ذلك لا يسهل. ألا ترى أنّها متعلقة بالشهادة، والشهادة بمنزلة العلم لا تقع بعدها الناصبة.
النور: 15
قال أحمد: وروى عبيد عن أبي عمرو أنّه قرأ: {إذ تلقونه}
[النور / 15] مشدّدة التاء، مدغمة الذال، مثل ابن كثير. القطعيّ عن عبيد، وعبيد عن هارون عن أبي عمرو مثله، [قال أبو بكر] (2)، وهو رديء إلّا أن تظهر الذّال من إذ.
قال بعض أصحاب أحمد بن موسى مثل قول ابن كثير غلط، إنّما ابن كثير يظهر الذال، ويشدّد التاء، يريد: تتلقّونه، وأبو عمرو لا يفعل ذلك، وإنّما أراد عبيد عن أبي عمرو بقوله: مشدّدة التاء، مدغمة الذّال أنّه يدغم الذّال في التّاء فيشدّدها، لذلك رجع إلى كلام أحمد.
__________
(1) هو سيبويه انظر الكتاب 3/ 167وما قبلها. (ط: هارون)
(2) زيادة من السبعة.(5/316)
أبو عمرو وحمزة والكسائي. (إذ تلقونه) مدغمة الذال في التاء، والباقون يظهرون الذال عند التاء، وكلّهم يخفّفها (1).
قال أبو علي: ابن كثير قد يدغم أحد المثلين في الآخر في الابتداء كما قال: فإذا هي تلقف [الأعراف / 117] يريد تتلقف ولا يجوز أن يدغم هاهنا: إذ تتلقونه كما أدغم في قوله: (تلقف) لأنّ الذّال من (إذ) ساكنة فإذا أدغمها التقى ساكنان على وجه لا يستحسن، ألا ترى أنّ الذال من (إذ) ليس بحرف لين كالألف في (لا تناجوا) [المجادلة / 9] فيدغم التاء من قوله: (تلقون) كما يدغم من (لا تناجوا) فإذا كان كذلك لم يجز إدغام الذال من (إذ) في التاء، وأمّا إذا حذفت التاء الثانية من (تلقونه) وأنت تريد تتلقونه فبقيت تاء واحدة لم يمتنع أن يدغم الذال من إذ في التاء من تلقونه فتصير تاء مشدّدة.
النور: 24
اختلفوا في قوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم}
[النور / 24]. فقرأ حمزة والكسائي: (يوم يشهد عليهم) بالياء. وقرأ الباقون: {تشهد عليهم} بالتاء.
الياء والتاء في هذا النحو كلاهما حسن وقد مرّ نحوه.
النور: 31
[روى] عبّاس عن أبي عمرو: {وليضربن} [النور / 31] على معنى: كي إن كان صحيحا.
وقرأ الباقون: ساكنة اللّام على الأمر (2).
قال أبو علي: تقدير اللام الجارّة في هذا الموضع فيه بعد، لأنّه ليس
__________
(1) السبعة ص 454.
(2) السبعة ص 454وما بين معقوفين زيادة منه وزاد: أنّه عباس بن الفضل(5/317)
المراد من أجل الضرب، فإذا لم يسغ هذا وجب أن تكون اللّام للأمر، كما أنّ ما بعده وما قبله كذلك، وذلك: {قل للمؤمنين يغضوا} {وقل للمؤمنات يغضضن} {وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن} [النور / 30/ 31].
فهذا كلّه على الأمر والنهي. والمراد: مرهم بهذه الأشياء، فإن كسر أبو عمرو اللّام في (وليضربن) فإنّما كسرها لأنّ أصل هذه اللام الكسر في نحو: ليذهب زيد. كما أنّ أصل الهاء من: هي وهو:
الكسر والضمّ، وإنّما تسكن مع لام الأمر وحروف العطف على التشبيه بعضد وكتف، ونحو ذلك.
النور: 31
اختلفوا في خفض الراء ونصبها من قوله عزّ وجلّ: {غير أولى الإربة} [النور / 31]. فقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر (غير أولي الإربة) نصبا. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {غير أولي}
خفضا (1).
قال أبو علي: (غير) فيمن جر صفة للتابعين، المعنى: لا يبدين زينتهن إلا للتابعين الذين لا إربة لهم في النساء، والإربة: الحاجة، لأنّهم في أنّهم لا إربة لهم كالأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، أي: لم يقووا عليها. ومنه قوله: {فأصبحوا ظاهرين}
[الصف / 14] وجاز وصف التابعين بغير لأنّهم غير مقصودين بأعيانهم، فأجرى لذلك مجرى النكرة، كما أنّ قولك: مررت برجل أبي عشرة أبوه، جاز أن تعمله عمل الفعل لمّا لم تكن العشرة عشرة بأعيانهم.
وقد قيل: إنّ التابعين جاز أن يوصفوا بغير في نحو هذا لقصر الوصف
__________
(1) السبعة ص 455(5/318)
على شيء بعينه، فإذا قصر على شيء بعينه زال الشياع عنه واختصّ.
والتابعون ضربان: ذو إربة وغير ذي إربة، وليس ثالث، وإذا كان كذلك جاز لاختصاصه أن يجري وصفا على المعرفة، وعلى هذا:
{أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} وكذلك: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} [النساء / 95] لأنّ المسلمين وغيرهم لا يخلون من أن يكونوا أصحّاء أو زمنى، فإذا وصفوا بأحد القسمين زال الشياع فساغ الوصف به لذلك.
ومن نصب (غير) احتمل ضربين:
أحدهما: أن تكون استثناء التقدير: لا يبدين زينتهنّ للتابعين إلّا ذا الإربة منهم، فإنّهنّ لا يبدين زينتهنّ لمن كان منهم ذا إربة.
والآخر: أن يكون حالا، المعنى: الذين يتبعونهنّ عاجزين عنهنّ وذو الحال: ما في التابعين من الذكر.
النور: 31
كلّهم قرأ: {أيها المؤمنون} [النور / 31] و {يا أيها الساحر}
[الزخرف / 49] و {أيها الثقلان} [الرحمن / 31] بفتح الهاء غير ابن عامر، فإنّه قرأ: (أيّة) بضم الهاء في الثلاثة الأحرف.
وكلّهم يقف (أيّة) بالهاء في الثلاثة، إلا أبا عمرو والكسائي فإنّهما وقفا: (أيّها) بالألف على الثلاثة الأحرف. قال أحمد: ولا ينبغي أن يتعمّد الوقف عليها لأنّ الألف سقطت في الوصل لسكونها وسكون اللام. أخبرني محمد بن يحيى الوراق قال: حدثني محمد بن سعدان عن الكسائي أنه كان يقف: (أيّها) بالألف (1).
__________
(1) السبعة ص 454وهنالك اختلاف يسير(5/319)
قال أبو علي: الوقف على (أيّها) من قوله: {يا أيها الساحر} ونحوه بالألف، لأنّها إنّما كانت سقطت لسكونها وسكون لام المعرفة، كما قال أحمد، فإذا وقفت عليه زال التقاء الساكنين، فظهرت الألف، كما أنّك لو وقفت على: {محلي} من قوله: {غير محلي الصيد} [المائدة / 1] لرجعت الياء المحذوفة لسكونها، وسكون اللام، وإذا كان حذف الألف من ها التي للتنبيه من {يا أيها} تحذف لهذا، فلا وجه لحذفها للوقف. ألا ترى أنّ من حذف الياء من الفواصل، والقوافي نحو: {والليل إذا يسر} [الفجر / 4] وبعض القوم يخلق ثمّ لا يفر (1)
لم يحذف الألف من قوله: {والليل إذا يغشى} [الليل / 1] ولا من نحو قوله:
داينت أروى والديون تقتضى (2)
وقد حذف الألف من بعض القوافي للضرورة والحاجة إلى إقامة القافية، فإن جعلت الحذف من (ها) من يأيّها على هذا الوجه لم يسغ، لأنّه لا حاجة هنا ولا ضرورة، ومما يضعّف ذلك أنّ الألف في حرف، والحروف لا يحذف منها إلّا أن تكون مضاعفة، فأمّا ضمّ ابن عامر الهاء من (يا أيّه الساحر) فلا يتّجه، لأنّ آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فينبغي أن يكون المضموم آخر
__________
(1) البيت لزهير وقد سبق في 1/ 405، 2/ 83.
(2) شطر بيت لرؤبة بعده:
فما طلت بعضا وأدت بعضا انظر اللسان / دين / وانظر الديوان / 79وفيه مطلت بدل فما طلت.(5/320)
الاسم، ولو جاز أن يضمّ هذا من حيث كان مقترنا بالكلمة لجاز أن يضم الميم من (اللهمّ)، لأنّه آخر الكلمة.
ووجه الإشكال في ذلك، والشبهة، أنّه وجد هذا الحرف قد صار في بعض المواضع التي يدخل فيها بمنزلة، ما هو من نفس الكلمة، نحو: مررت بهذا الرجل، وغلام هذه المرأة، وليست يا وغيرها من الحروف التي ينبّه بها كذلك، فلمّا وجدها في أوائل المبهمة كذلك وفي الفعل في قول أهل الحجاز: هلمّ، جعله في الآخر أيضا بمنزلة شيء من نفس الكلمة، كما كان في الأوّل كذلك، واستجاز حذف الألف اللاحق للحرف لمّا رآه قد حذف في قولهم هلمّ، فأجرى عليه الإعراب لمّا كان كالشيء الذي من نفس الكلمة.
فإن قلت: فإنّه قد حرك الياء التي قبلها بالضمّ في: يا أيّه الرجل، فإنّه يجوز أن يقول: إنّ ذلك في هذا الموضع كحركات الإتباع نحو امرؤ وامرئ، ونحو ذلك، فهذا لعله وجه شبهته، وينبغي أن لا يقرأ بذلك ولا يؤخذ به.
وممّا يقوّي الشّبهة أنّ (ها) هذه قد لحقت في الآخر كما لحق في الأوّل، ألا ترى أنّهم قد قالوا فيما أنشده أبو زيد: (1):
تبك الحوض علّاها ونهلى ... ودون ذيادها عطن منيم
إن ها للتنبيه، لأنّ على ونهلى: حالان، فلمّا كانت إذا لحقت أولا بمنزلة شيء من نفس الكلمة، كذلك قدّرها إذا لحقت آخرا.
__________
(1) البيت لفامان بن كعب بن عمرو بن سعد، وهو جاهلي، ثالث أبيات أربعة، ويقال له / عامان / بالعين المهملة (النوادر / 175) [ط: الفاتح](5/321)
النور: 35
قال أحمد وروى أبو عمر الدوري عن الكسائي (كمشكاة) [النور / 35] بكسر الكاف الثانية، لم يروها غيره (1).
الإمالة في قوله: (كمشكاة) غير ممتنعة، لأنّ الألف فيها لا تخلو من أن تكون منقلبة عن الياء، أو عن الواو، وعن أيّهما كان الانقلاب لم تمتنع إمالة الألف، لأنّها إذا ثنّيت انقلبت ياء، قال: (2).
كأنّما حوأبها لمن رقب ... بمذعيين نقبة من الجرب
فمذعا مثل مشكا وقوله: {فيها مصباح} [النور / 35] صفة للمشكاة، لأنّها جملة فيها ذكر يعود إلى الموصوف، والمصباح يرتفع بالظرف، وكذلك قالوا في قوله: {في بيوت أذن الله أن ترفع}
[النور / 36] إنّ قوله: {في بيوت} تقديره: كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله، ففي قوله: {في بيوت} ضمير مرفوع يعود إلى الموصوف، لأنّ الظرف في الصفة مثله في الصّلة، وقوله: {أذن الله أن ترفع} صفة للبيوت، والعائد منه إلى البيوت الذكر الذي في قوله:
{ترفع} ومعنى ترفع: تبنى كقوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} [البقرة / 127].
ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم {دري}
[النور / 35] بضم الدال وكسر الراء مشددة الياء من غير همز، أبو
__________
(1) السبعة ص 455.
(2) أنشده المازني وذكره معجم التهذيب 3/ 150برواية (أوسطها) بدل (حوأبها) والمذعيان: اسم مكان. والباء في موضع «مع». رقب: نظر، والرقيب الناظر.
يقول: هذه الأرض قد أخذ حطبها وأكل فتقوّبت، وما حولها عاف لم يؤكل، فكأنها نقبة جرب في جلد صحيح.(5/322)
عمرو والكسائي: (درّيء) مهموز بكسر الدال أبو بكر عن عاصم:
(درّيء) مهموز بضم الدال وكذلك حمزة (1).
قال أبو علي: من قرأ (درّيء) احتمل قوله أمرين أحدهما: أن يكون نسبه إلى الدّرّ، وذلك لفرط ضيائه ونوره، كما أنّ الدّرّ كذلك، ويجوز أن يكون فعيلا من الدّرء، فخفّف الهمزة، فانقلبت ياء كما تنقلب من النسيء والنبيء، ونحوه إذا خفّفت ياء.
ومن قرأ: (درّيء) كان فعيلا من الدّرء مثل السكير والفسّيق والمعنى: أنّ الخفاء يدفع عنه لتلألئه في ظهوره، فلم يخف كما خفي نحو السّها، وما لم يضيء من الكواكب.
قال أبو عثمان عن الأصمعى عن أبي عمرو قال: مذ خرجت من الخندق لم أسمع أعرابيا يقول إلّا (كأنّه كوكب دريء) بكسر الدال، قال الأصمعي: فقلت: أفيهمزون؟ قال: إذا كسروا فحسبك، قال:
أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت، وهذا فعيل منه، ومن قرأ:
(درّيء) كان فعيّلا من الدّرء الذي هو الدفع، وإن خففت الهمزة من هذا قلت: {دري} وقد حكى سيبويه عن أبي الخطاب: كوكب دريّ في الصفات، ومن الأسماء المرّيق: العصفر ومما يمكن أن يكون من هذا البناء قولهم: العلية، ألا تراه من علا، فهو فعيل منه، ومنه السرّيّة الأولى أن تكون فعيلة، وذلك أنّها لا تخلو من أن تكون من السرّ أو السّراة أو السرو أو السرور، فالأشبه أن تكون فعيلة من السرّ، ولأنّ صاحبها إذا أراد استيلادها لم يمتهنها، ولم يبتذلها لما يبتذل له من لا
__________
(1) في السبعة ص 456455اختلاف في الترتيب ولكن المؤدى واحد، أجمل العبارة وفي السبعة فصلها(5/323)
يراد للاستيلاد، ولا يكون فعيلة من السّراة، لأنّ السراة: الظّهر، وهي لا تؤتي من ذلك المأتى، ومن رأى ذلك جاز عنده أن تكون عنده فعيلة من السّراة، ولا تكون فعيلة من السّرّ، لأنّ السّرّ لا يتّجه فيها، إلّا أن يريد: أنّ المولى قد يسرّها عمن حدّثه، ويجوز إن أخذتها من السرور، لأنّ صاحبها يسرّ بها من حيث كانت نفسا عن الحرّة أمران: أحدهما أن تكون فعيلة من السّرور، والآخر أن تكون فعيلة من السّرّ، فأبدل من لام فعيلة للتضعيف حرف اللّين، وأدغم ياء فعيلة فيها فصار سرّيّة.
النور: 35
ابن كثير وأبو عمرو بالتاء مفتوحة ونصب الدال من (توقد) [النور / 35]، نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: {يوقد} مضمومة الياء مفتوحة القاف مضمومة الدال، حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم (توقد) بضم التاء والدال. وروى أبان عن عاصم {يوقد} مثل نافع. القطعي عند عبيد عن هارون عن أبي عمرو عن عاصم بن بهدلة، وأهل الكوفة (توقّد) برفع الدال، مشدّدة، مفتوحة الواو (1).
قال أبو علي: ومعنى توقد من شجرة، أي: من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلّك على ذلك: {يكاد زيتها يضيء} [النور / 35] قول ابن كثير وأبي عمرو (توقّد) على أن فاعل توقد: المصباح، وهو البيّن، لأنّ المصباح هو الذي يتوقد قال: (2).
سموت إليها والنّجوم كأنّها ... مصابيح رهبان تشبّ لقفّال
__________
(1) انظر السبعة ص 456455فإنّه جمع في كلامه عن الحرفين (كوكب دري) و (يوقد) معا.
(2) البيت لامرئ القيس. والمعنى نظرت الى هذه النار تشب لقفال ليلا والنجوم كأنها مصابيح رهبان.
ورواية الديوان نظرت إليها، انظر ديوانه / 31(5/324)
ومن قال: (يوقد) كان كمن قرأ: (توقّد) في أنّه جعل فاعل الفعل المصباح، كما جعل فاعله المصباح في (توقّد). ومن قرأ (توقد) كان فاعله الزجاجة، والمعنى على مصباح الزجاجة، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، فقال: (توقد) فحمل الكلام على لفظ الزجاجة، أو يريد بالزجاجة القنديل، فيقول: (توقد) على لفظ الزجاجة، وإن كان يريد القنديل، ومن قال: (توقّد) برفع الدّال وتشديد القاف وفتحها، فإنّه يحمل الكلام على الزجاجة، والمعنى:
تتوقد وحذف التاء الثانية.
حدثنا الكندي قال: حدّثنا المؤمل قال: حدثنا إسماعيل عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن قوله: {الله نور السموات والأرض}
[النور / 35] إلى قوله: {نور على نور} [النور / 35] قال: مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة: ككوّة فيها مصباح، {المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري}.
النور: 36
اختلفوا في فتح الباء وكسرها من قوله تعالى:
{يسبح له فيها} [النور / 36] فقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: (يسبّح) بفتح الباء، وقرأ الباقون: {يسبح} بكسر الباء، وكذلك حفص عن عاصم أيضا (1).
حدثني أحمد بن أبي خيثمة وإدريس بن عبد الكريم جميعا عن خلف عن الضحاك بن ميمون عن عاصم {يسبح} بكسر الباء، وروى بكار عن أبان عن عاصم {يسبح} بكسر الباء أيضا (2).
__________
(1) انظر السبعة ص 456.
(2) السبعة ص 456.(5/325)
قال أبو علي: من قال: (يسبّح له فيها) ففتح الباء فعلى أنّه أقام الجارّ والمجرور مقام الفاعل، ثم فسّر: من يسبح؟ فقال: (رجال) أي يسبّح له فيها رجال، فرفع رجالا بهذا المضمر الذي دلّ عليه قوله:
{يسبح}، لأنّه إذا قال (يسبّح) دلّ على فاعل التسبيح، ومثل هذا قول الشاعر (1):
لبيك يزيد ضارع لخصومة لمّا قال: لبيك يزيد، دلّ على فاعل البكاء، فكأنّه قيل: من يبكيه؟ فقيل: ضارع لخصومة، والوجه يسبّح، كما قرأه الجمهور، فيكون فاعل يسبّح رجال الموصوفون بقوله: {لا تلهيهم تجارة}
[النور / 37].
النور: 45
حمزة والكسائي: (والله خالق كل دابة) [النور / 45] بألف، وقرأ الباقون: {خلق كل دابة} بغير ألف (2).
حجّة من قال: (خالق) قوله: {الله خالق كل شيء} [الزمر / 62] وقوله: {لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه} [الأنعام / 102]، ومن قال: خلق فلأنّه فعل ذلك فيما مضى، وحجّته قوله: {ألم تر أن الله خلق السموات والأرض} [إبراهيم / 19] وقوله: {خلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان / 2].
__________
(1) صدر بيت للحارث بن نهيك وعجزه:
ومختبط ممّا تطيح الطوائح انظر الكتاب لسيبويه 1/ 145والخصائص 2/ 353والبيت من شواهد المغني انظر شرح أبياته للبغدادي 7/ 295وقد جاء تخريجه هناك مستوفى.
(2) السبعة ص 457(5/326)
قال: (وليبدلنهم) [النور / 55] كتب في سورة الكهف.
حفص عن عاصم (ولنبدّلنهم) مشددة وكذلك في {سأل سائل}
مشددة وتخفّف في التحريم ونون والكهف. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر: {وليبدلنهم} مشددة، وخفّفوا التي في الكهف والتحريم، ونون، وقد ذكر في سورة الكهف. ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر في النور مخفّفة، وليبدلنهم وكذا كلّ شيء في القرآن خفيف (1).
[قال أبو علي] (2) قد مرّ القول فيه فيما تقدّم في سورة الكهف.
النور: 52
ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع في رواية ورش وابن سعدان عن إسحاق [المسيبي] عن نافع: (ويخشى الله ويتقهي) [النور / 52] موصولة بياء. وقال قالون عن نافع: {ويتقه فأولئك} بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء. وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: (ويتّقه) جزما. حفص عن عاصم: {ويتقه فأولئك} ساكنة القاف مكسورة الهاء بغير ياء مختلسة الكسرة. [وروى] أبو عمارة عن حفص عن عاصم:
(ويتّقه فأولئك) مكسورة القاف ساكنة الهاء، وكذلك روى أبو عمارة عن حمزة (3).
قال أبو علي: قول من قال: (ويتّقهي) موصولة بياء، هو الوجه، لأنّ الهاء ما قبلها، [متحرك وحكمها إذا تحرك ما قبلها أن تتبعها الياء في الوصل] (4). وما رواه قالون عن نافع: (ويتّقه فأولئك) لا يبلغ
__________
(1) السبعة ص 458وهنا لك اختلاف يسير لا يتناول جوهر الكلام.
(2) سقطت من ط
(3) السبعة ص 458وما بين معقوفين زيادة منه.
(4) كذا في ط وسقطت من م.(5/327)
فيها الياء، وجهه: أن الحركة ليست تلزم ما قبل الهاء، ألا ترى أن الفعل إذا رفع دخلته الياء، وإذا دخلت الياء اختير حذف الياء بعد الهاء في الوصل مثل: (عليه) فلمّا كان الحرف المحذوف لا يلزم حذفه صار كأنّه في اللّفظ، كما أنّ الحرف لمّا لم يلزم حذفه في قوله (1):
وكحل العينين بالعواور صار كأنّه في اللّفظ، فلم يهمز الواو، فكذلك لم يثبت في الآية الياء بعد الهاء. وقول أبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: (ويتّقه) جزما، فإن قول من تقدم أبين من هذا. ووجهه أنّ ما يتبع هذه الهاء من الواو والياء زائدة (2) فردّ إلى الأصل، وحذف ما يلحقه من الزيادة، ويقوّي ذلك أن سيبويه يحكي أنّه سمع من يقول:
هذه أمة الله، في الوصل والوقف، وهذه الهاء التي في هذه قد أجروها مجرى هاء الضمير، فكما استجازوا الحذف في هذه فكذلك يجوز الحذف في (3) هذه الهاء التي للضمير. وزعم أبو الحسن: أن (4):
له أرقان ونحوه لغة يجرونها في الوصل مجراها في الوقف، فيحذفون منها كما حذفوا في الوقف، وحملها سيبويه على الضرورة، وعلى أنّه
__________
(1) من أرجوزة لجندل بن المثنى الطهوي سبق ذكره في 4/ 338
(2) في ط: زيادة بدل من زائدة.
(3) في ط: من.
(4) نهاية بيت ليعلى الأحول تمامه:
فظلت لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتاقان له أرقان
سبق انظر 1/ 203134و 205و 2/ 334278.(5/328)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(5/329)
__________
(3) السبعة ص 457
{يراها} [النور / 40]، فالضمير الذي أضيف إليه (يده) يعود إلى المضاف المحذوف، ومعنى ذي ظلمات، أنّه في ظلمات. ومثل حذف المضاف هنا حذفه في قوله: {أو كصيب من السماء}
[البقرة / 19] فتقديره (1) أو كذوي صيّب من السماء، أو أصحاب صيّب، فحذف المضاف، كما حذف من (2) قوله: أو كظلمات، ومعنى: {ظلمات بعضها فوق بعض}: ظلمة البحر وظلمة الموج، وظلمة الموج الذي فوق الموج، وقوله تعالى (3): {فنادى في الظلمات} [الأنبياء / 87] ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، ويجوز أن يكون الالتقام كان في ليل فهذه ظلمات. وقوله: {خلقا بعد خلق في ظلمات ثلاث} [الزمر / 6]، فإنّه يجوز أن يكون ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة. فمن قرأ: {سحاب ظلمات بعضها فوق بعض} [النور / 40] فرفع الظلمات، كان خبرا لمبتدإ محذوف تقديره:
هذه ظلمات بعضها فوق بعض، ومن قال: (سحاب ظلمات) (4) جاز أن يجعله تكريرا وبدلا من الظلمات الأولى، ومن قال: (سحاب ظلمات) بإضافة السحاب إلى الظلمات، فالظلمات: هي الظلمات التي تقدّم ذكرها، وأضاف السحاب إلى الظلمات، لاستقلال السحاب وارتفاعه في وقت كون هذه الظلمات، كما تقول: سحاب رحمة، وسحاب مطر، إذا ارتفع في الوقت الذي تكون فيه الرّحمة والمطر.
النور: 43
قال: ورش عن نافع: لا يهمز {يولف} [النور / 43]. [و] قالون
(1) كذا في ط وفي م: تقديره.
(2) في ط: في.
(3) سقطت من ط.
(4) في ط: سحاب ظلمات بعضها فوق بعض.(5/330)
يهمز، وكذلك الباقون (1).
إذا كان من: ألّفت بين الشيئين، إذا جمعت، فالأصل في الكلمة الهمز، فتقول: يؤلف، إذا حقّقت، وإذا (2)
خفّفت، أبدلت منها الواو كما أبدلتها في (3) قولهم: التّؤدة حين قلت: التّودة. وفي (3): جؤن حيث (5) قلت: جون. فالتّحقيق والتّخفيف حسنان، ولا يختلف النحويون في قلب هذه الهمزة واوا إذا خففت.
النور: 31
اختلفوا في فتح اللام وكسرها من قوله تعالى (6): كما استخلف الذين [النور / 55]. فقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (كما استخلف) بضم التاء وكسر اللام، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم:
{استخلف} بفتح التاء واللام (7).
[قال أبو علي] (8): الوجه {كما استخلف}، ألا ترى أنّ اسم الله تعالى قد تقدّم ذكره، وأنّ الضمير في {ليستخلفنهم في الأرض}
[النور / 55] يعود إلى الاسم؟ فكذلك (9) في قوله تعالى (10): {كما استخلف}، ألا ترى أنّ المعنى: ليستخلفنّهم استخلافا كاستخلافه الذين من قبله؟
__________
(1) السبعة ص 457.
(2) في ط: فإذا.
(3) في ط: من.
(5) في ط: حين.
(6) سقطت من ط.
(7) السبعة ص 458.
(8) سقطت من ط.
(9) في ط: وكذلك.
(10) سقطت من ط.(5/331)
ووجه (استخلف) أنّه يراد به ما أريد باستخلف.
قال: وقرأ حمزة وحفص وابن عامر (1): (لا يحسبن) [النور / 57] بالياء وفتح السين. وقرأ (2) الباقون لا تحسبن بالتاء، وفتح عاصم وابن عامر وحمزة السين وكسرها الباقون (3).
قال أبو علي (4): من قال: (يحسبنّ) بالياء جاز أن يكون فاعل الحسبان أحد شيئين: إمّا أن يكون قد تضمّن ضميرا للنّبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم، كأنّه (5): لا يحسبنّ النبي [صلّى الله عليه وسلّم] (6) الذين كفروا معجزين، فالذين في موضع نصب بأنّه المفعول الثاني، ويجوز أن يكون فاعل الحسبان: الذين كفروا، ويكون المفعول الأوّل محذوفا تقديره: لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا، ومن قرأ: لا تحسبن ففاعل الفعل المخاطب ومفعولاه ما بعد يحسبن، وحسب يحسب وحسب يحسب لغتان.
النور: 32
اختلفوا في ضمّ التاء وفتحها من قوله تعالى (7): {ثلاث عورات} [النّور / 58]. فقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: ثلاث عورات نصبا.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {ثلاث عورات} رفعا (8).
__________
(1) في ط: وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص وابن عامر.
(2) في ط: وقال.
(3) سقط هذا الحرف من السبعة وتناول الآية (58) مباشرة.
(4) سقطت من ط.
(5) في ط: كأنه قال.
(6) سقطت من ط.
(7) سقطت من ط.
(8) السبعة ص 459(5/332)
[قال أبو علي] (1): من رفع فقال: {ثلاث عورات} كان خبر ابتداء محذوف لما قال: {الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات} [النور / 58] وفصل الثلاث بقوله: {من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء}
[النور / 58]، فصار كأنّه قال: هذه ثلاث عورات، فأجمل بعد التفصيل. ومن قال: (ثلاث عورات) جعله بدلا من قوله (ثلاث مرات). فإن قلت: إنّ قوله: (ثلاث مرّات) زمان بدلالة أنّه فسر بزمان وقوله: {من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون} {ومن بعد صلاة العشاء} وليس العورات بزمان فكيف يصح البدل منه، وليس هي هي.
قيل: يكون ذلك على أن يضمر الأوقات، كأنّه قال (2): أوقات ثلاث عورات، فلمّا حذف المضاف إليه بإعراب المضاف فعلى هذا يوجّه.
قال: ولم يختلف في إسكان الواو من {عورات} (3).
[قال أبو علي] (4) واحد العورات: عورة، وحكم ما كان على فعلة من الأسماء أن تحرّك العين منه في فعلات نحو: صحيفة وصحفات، وجفنة، وجفنات، إلّا أنّ التحريك فيما كان العين منه ياء، أو واوا كرهه عامة العرب، لأنّ العين بالتحريك، تصير على صورة ما يلزمه الانقلاب من كونه متحركا بين متحركين، فكرهوا ذلك وعدلوا عنه إلى الإسكان، فقالوا (5): عورات، وجوزات وبيضات، ومثل هذا في اطراد التحريك
__________
(1) سقطت من ط.
(2) كذا في ط وسقطت من م.
(3) السبعة ص 459.
(4) سقطت من ط.
(5) في ط: وقالوا.(5/333)
في الصحيح وكراهيته في المعتل قولهم في حنيفة: حنفي، وفي جديلة وربيعة: جدلي وربعي، فإذا أضافوا إلى مثل طويلة وحويزة، قالوا: طويلي، وحويزي، كراهة طولي وحوزي لأنّه يصير على ما يجب فيه القلب، وكذلك قالوا في شديدة شديدي، ورفضوا شددي الذي آثروا نحوه في ربعي كراهة التقاء التضعيف.
بسم الله (1)(5/334)
في الصحيح وكراهيته في المعتل قولهم في حنيفة: حنفي، وفي جديلة وربيعة: جدلي وربعي، فإذا أضافوا إلى مثل طويلة وحويزة، قالوا: طويلي، وحويزي، كراهة طولي وحوزي لأنّه يصير على ما يجب فيه القلب، وكذلك قالوا في شديدة شديدي، ورفضوا شددي الذي آثروا نحوه في ربعي كراهة التقاء التضعيف.
بسم الله (1)
ذكر اختلافهم في سورة الفرقان
الفرقان: 8
اختلفوا في الياء والنون من قوله تعالى: {جنة يأكل منها}
[الفرقان / 8]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
{يأكل منها} بالياء.
وقرأ حمزة والكسائي: (نأكل منها) بالنون (2).
قال أبو علي: {له جنة يأكل منها} يعني (3) النبيّ صلّى الله عليه وسلم (4)، كأنّهم أنكروا أن يكون رسول الله لما رأوه بشرا مثلهم يأكل كما يأكلون فقالوا: {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا} [الفرقان / 7]، فيبين منّا باقتران الملك به، وكونه معه نذيرا من جملتنا، فكذلك اقترحوا عليه إلقاء كنز إليه، أو كون جنّة يختصّ بما يأكل منها، حتى يتبين في مأكله أيضا منهم كما يبين باقتران الملك به وإلقاء الكنز إليه، وعلى هذا قالوا: {ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون} [المؤمنون / 34]،
__________
(1) سقطت من ط.
(2) السبعة ص 462.
(3) في ط: يعني به.
(4) سقطت من ط.(5/335)
{فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه} [القمر / 24]، وقد قال في ذلك سواهم من الكفار فقالوا فيما حكى الله تعالى (1) عنهم: {أبشر يهدوننا}
[التغابن / 6] فأنكروا أن يكون لمن ساواهم في البشرية حال ليست لهم، وقد احتجّ الله سبحانه (2) عليهم في ذلك، بقوله تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام / 9]، {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء / 7]. ومن قال: نأكل فكأنّه أراد أنّه يكون له بذلك مزيّة علينا في الفضل بأكلنا من جنّته.
الفرقان: 10
اختلفوا في رفع اللام وجزمها من قوله تعالى (3): ويجعل لك قصورا [الفرقان / 10].
فقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية يحيى عن أبي بكر:
ويجعل لك برفع اللّام.
الكسائي عن أبي بكر عن عاصم ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: (ويجعل لك قصورا) بجزم اللّام (4).
قال أبو علي: من جزم (ويجعل) عطفه على موضع جعل [لأنّ موضع جعل] (5) جزم بأنّه جزاء الشرط، فإذا جزم (يجعل) حمله على ذلك، وإذا كانوا قد جزموا ما لم يله فعل لأنّه في موضع جزم، كقراءة من قرأ: (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) [الأعراف / 186]، وكقول
__________
(1) في ط عز وجل.
(2) سقطت من ط.
(3) في ط: جلّ وعزّ.
(4) السبعة ص 462
(5) كذا في ط وسقطت من م.(5/336)
الشاعر (1):
أنّى سلكت فإنّنى لك كاشح ... وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
وكلّ ذلك ليس بأفعال، وإنما هو في موضع الأفعال، فالفعل أولى أن يحمل عليه من حيث كان الفعل بالفعل أشبه منه بغير الفعل، وحكم المعطوف أن يكون مناسبا للمعطوف عليه (2)، ومشابها له. ومن رفع فقال: ويجعل لك قطعه ممّا قبله واستأنف، والجزاء في هذا النحو موضع استئناف، ألا ترى أنّ الجمل التي من الابتداء والخبر تقع فيه. كقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادى له} [الأعراف / 76].
وقوله تعالى: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}
[البقرة / 271].
الفرقان: 17
وي قوله تعالى: {ويوم يحشرهم وما يعبدون فيقول} [الفرقان / 17]، فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص:
{ويوم يحشرهم وما يعبدون فيقول} بالياء جميعا. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: (ويوم نحشرهم) بالنون، {فيقول} بالياء. قال أبو بكر: ليس عندي عن أبي بكر عن عاصم في قوله (3) {فيقول} شيء، وقال بعض أصحابه: روى الأعشى عن أبي بكر: {فيقول} بالياء وروى عباس، وعبيد بن عقيل عن هارون عن أبي عمرو [وعبيد عن أبى عمرو] (4). وأبو زيد والخفاف عن أبي
__________
(1) سبق البيت في 2/ 401
(2) سقطت من ط
(3) كذا في ط وسقطت من م.
(4) سقطت من ط.(5/337)
عمرو {ويوم يحشرهم} {فيقول} مثل ابن كثير بالياء، وقرأ ابن عامر:
(ويوم نحشرهم) {فيقول} بالنون جميعا (1).
قال أبو علي: حجّة من قرأ بالياء: قوله تعالى: {كان على ربك وعدا} [الفرقان / 16] {ويوم يحشرهم} {فيقول} [الفرقان / 17]، ويقوي ذلك قوله: {عبادي} (2). ومن قرأ: (ويوم نحشرهم) {فيقول}
فإنّه على أنّه أفرد بعد أن جمع، كما أفرد بعد الجمع في قوله تعالى (3): {وآتينا موسى الكتاب} {أن لا تتخذوا من دوني}
[الإسراء / 2] وقراءة ابن عامر: (ويوم نحشرهم فنقول) حسن لإجرائه المعطوف مجرى المعطوف عليه في لفظ الجمع، وقد قال: (ويوم نحشرهم جميعا، ثم نقول للملائكة) [سبأ / 40]، {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا} [الأنعام / 22]، {وحشرناهم فلم نغادر}
[الكهف / 47].
الفرقان: 13
عبيد عن أبي عمرو: (مكانا ضيقا) [الفرقان / 13] خفيف مثل ابن كثير، والباقون يشددون الياء من {ضيقا} غير ابن كثير (4).
[قال أبو علي] (5): {ضيقا} تقديره فيعل، وليس بمصدر، لأنّه قد جرى وصفا على المكان، ومن خفّف فكتخفيف اللّين والهين، والتخفيف في هذا النحو كثير، وما (6) كان من هذا النحو من الواو نحو: سيّد وميّت
__________
(1) السبعة ص 463وليس فيه روى الأعشى
(2) من الآية نفسها رقم (17)
(3) سقطت من ط.
(4) السبعة ص 462
(5) سقطت من ط.
(6) في (ط): ومن.(5/338)
فالحذف فيه في القياس أشيع (1)، لأنّ العين تعلّ فيه بالحذف، كما أعلّ بالقلب إلى الياء، والحذف في الياء أيضا كثير، لأنّ الياء قد (2)
تجري مجرى الواو في نحو: اتّسر، جعلوه بمنزلة اتّعد.
الفرقان: 19
قال: قرأ عاصم في رواية حفص: {فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون} [الفرقان / 19] بالتاء جميعا. [ابن سعدان عن محمد بن يحيى عن أبي بكر عن عاصم (يقولون) بالياء] (3). الباقون وأبو بكر عن عاصم: {فقد كذبوكم بما تقولون} بالتاء، (فما يستطيعون) بالياء. وقال لي قنبل عن ابن أبي بزة عن ابن كثير بالياء جميعا، (يقولون، فما يستطيعون) (4).
[قال أبو علي] (5): {فقد كذبوكم بما تقولون}
[الفرقان / 19] أي: كذبوكم بقولهم، وقولهم هو نحو ما قالوه من قولهم: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} [يونس / 28]، وقوله: {فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} [النحل / 86]، وكذلك الملائكة كذبوهم في قولهم في ما ادّعوا من عبادتهم لهم في قوله:
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن [سبأ / 40/ 41]. ففي قولهم: {أنت ولينا من دونهم} دلالة على
__________
(1) في ط: أسوغ.
(2) سقطت من ط.
(3) ما بين معقوفين ليس في السبعة.
(4) انظر السبعة ص 463.
(5) سقطت من ط.(5/339)
أنّهم لم يعبدوهم، لأنّهم لو عبدوهم ورضوا بذلك لم يكن الله وليّا لهم. وقوله: {فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا ولا ضرا}
[سبأ / 42] مثل قوله: (فما يستطيعون صرفا ولا نصرا) [الفرقان / 19] أي: لا يملكون أن يدفعوا العذاب عنهم وينصروهم من بأس الله.
فالمعنى في من قرأ بالتاء: فقد كذّبوكم بما كنتم تعبدون بقولهم: فما تستطيعون أنتم أيها المتّخذون الشّركاء من دونه صرفا ولا نصرا، أي: لا تستطيعون صرفا لعذاب الله (1) ولا نصرا منه لأنفسكم، ومن قرأ:
(يستطيعون) كان على الشّركاء، أي: فما يستطيع الشّركاء صرفا ولا نصرا لكم، وليس بالحسن أن تجعل (يستطيعون) للمتّخذين الشركاء على الانصراف من الخطاب إلى الغيبة، لأنّ قبله خطابا، وبعده خطابا، وذلك قوله تعالى (2): {ومن يظلم منكم نذقه}
[الفرقان / 19].
ومن قرأ بالتاء {تقولون}: فالمعنى: كذّبوكم في قولكم: إنّهم شركاء وإنّهم آلهة وذلك في قولهم (3)، {تبرأنا إليك، ما كانوا إيانا يعبدون} [القصص / 63].
الفرقان: 25
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: (ويوم تشقق) [الفرقان / 25] مشددة الشين، وقرأ الباقون خفيفة الشين (4).
__________
(1) كذا في ط وسقطت من م.
(2) سقطت من ط.
(3) في ط: قوله.
(4) السبعة ص 464(5/340)
قال أبو على: المعنى: تشقق السماء وعليها غمام، وقال: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق / 1]، {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان}
[الرحمن / 37]، وجاء في التفسير فيما زعموا أنه تتشقق سماء سماء، ومعنى: ونزّل الملائكة إلى الأرض كما قال: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر / 22]. ويجوز في تشقق أمران: أحدهما أن يراد به الآتى، والآخر أن يكون حكاية حال تكون، كما أنّ قوله: {ربما يود الذين كفروا} [الحجر / 2] كذلك، وكما أن قوله: {وكلبهم باسط ذراعيه} [الكهف / 18]، في أنّه حكاية حال قد مضت، فكذلك قوله تعالى (1): {هذا من شيعته وهذا من عدوه} [القصص / 15]، وتقدير تشّقّق: تتشقق، فأدغم التاء في الشين، لأنّ الصوت بالشين يلحق بمخارج هذه الحروف التي من طرف اللسان وأصول الثنايا، فأدغمن فيها كما أدغمن في الضاد لما كانت كذلك، وكما يدغم بعضهن في بعض.
ومن قال: {تشقق} بتخفيف الشين حذف التاء التي أدغمها من قال: تشّقّق. قال أبو الحسن: الخفيفة أكثر في الكلام نحو: تذكّر أمة الله، لأنّهم أرادوا الخفّة، فكان الحذف أخفّ عليهم من الإدغام.
الفرقان: 25
قال: قرأ ابن كثير وحده: (وننزل الملائكة) [الفرقان / 25] نصبا {تنزيلا} منونا منصوبا وقرأ الباقون: {ونزل الملائكة} بنون لم يسمّ فاعله {الملائكة} رفعا (2).
قال أبو علي: التنزيل: مصدر نزّل، فكما أنّ في بعض الحروف: (ونزل الملائكة تنزيلا)، لأنّ أنزل مثل نزّل، كذلك قال
__________
(1) سقطت من ط.
(2) السبعة ص 464(5/341)
ابن كثير: (وننزل الملائكة تنزيلا) وفي التنزيل: {وتبتل إليه تبتيلا}
[المزمل / 8]، فجاء المصدر على فعّل، ولو كان على تبتّل لكان تبتّلا، وقال (1):
وقد تطوّيت انطواء الحضب حيث كان تطوّيت وانطويت يتقاربان حمل مصدر ذا على مصدر ذا. فأما: (ننزل الملائكة) نصبا، فالمعنى في (ننزل الملائكة) و {نزل الملائكة} واحدة. ومن قال: {نزل الملائكة} فبنى الفعل للمفعول، فمن الدّلالة عليه قوله: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر / 4] ف (تنزّل) مطاوع (نزّل) تقول: نزّلته فتنزّل.
الفرقان: 27
قال: كلّهم قرأ: {يا ليتني اتخذت} [الفرقان / 27] ساكنة الياء غير أبي عمرو، فإنّه قرأ: (يا ليتني اتّخذت) بفتح الياء، وكذلك قال أبو خليد عن نافع.
[قال أبو علي] (2): إسكان الياء وتحريكها جميعا حسنان، فالأصل التحريك، لأنّها بإزاء الكاف التي للمخاطب، إلّا أنّ حرف اللّين تكره فيه الحركة، فلذلك أسكن من أسكن.
__________
(1) من أرجوزة لرؤبة وقبله:
عن متنه مرادة كلّ صعب وقد نسبه ابن الشجري إلى العجاج 2/ 141وهو من شواهد سيبويه 2/ 244كما ذكره المخصص 8/ 110و 10/ 182و 14/ 187وذكر في اللسان / حضب /: والحضب والحضب جميعا: صوت القوس. والحضب والحضب: الحيّات. ولهذا المعنى استشهد به في اللسان.
وانظر ديوان رؤبة / 16من مجموع أشعار العرب
(2) سقطت من ط.(5/342)
الفرقان: 28
قال: روى عبيد عن أبي عمرو: يا ويلتنا [الفرقان / 28] بفتح التاء، وكذلك روى البزّيّ عن ابن كثير مثله، وأمال حمزة والكسائي الألف التي بعد التاء من (يا ويلتي)، فمالت التاء بميل الألف.
والباقون لا يميلون (1).
وقال بعض أصحاب أبي بكر: روى أبو عبد الرحمن بن اليزيدي عن أبيه عن أبي عمرو: {يا ويلتا} و {يا أسفا} [يوسف / 84] ممالتين قال: وأبو عبد الرحمن ثبت فيما يرويه عن أبيه [قال أبو علي] (2): الإمالة وتركها حسنان، ولو قيل: إنّ ترك الإمالة أحسن لكان قولا، وذلك أن أصل هذه الألف الياء، وكان حكمها (يا ويلتي ويا حسرتي) فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء الألف، فإنّما أبدل الألف كراهة الياء، وفرارا منها، فإذا أمال كان عائدا إلى ما كان تركه وآخذا بما رفضه، ألا ترى أن الإمالة إنما هي تقريب الألف من الياء وانتحاء بها نحوها، والإمالة إنّما تكون في الألف بأن تنحو بالفتحة التي قبل الألف نحو الكسر، فتميل الألف لذلك نحو الياء، وذلك نحو عابد وعماد، فإذا كان قبل الألف هاء مفتوحة فمن العرب من يميل الحرف الذي قبل الهاء، وذلك لأنّ الهاء لمّا كانت خفية لم يعتد بها، كما لم يعتدّ بها في نحو: ردّها، ففتحها الجميع فيما يرويه من يسكن إليه، لأنّه لخفاء الهاء كأنّه قال ردّا، وذلك قولهم: «يريد أن ينزعها»، «ويريد أن يضربها» فيميل قبل الألف فتحتى الحرفين لخفاء الهاء.
المؤمنون: 30
قال: وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: إن قومي اتخذوا [الفرقان / 30] محركة الياء، ابن أبي بزة عن ابن كثير: قومي
__________
(1) السبعة ص 464.
(2) سقطت من ط.(5/343)
اتخذوا بفتح الياء، وقرأت على قنبل عن القوّاس عن أصحابه عن ابن كثير: (قومي اتّخذوا) بسكون الياء، وقال لي قنبل: كان البزّي ينصب الياء، فقال لي القوّاس: انظر في مصحف أبي الإخريط (1)
كيف هي في نقطها؟ فنظرت فإذا هو قد كان نقطها بالفتح ومحاه.
وقال عبيد عن شبل عن ابن كثير وأهل مكة: (إنّ قومي اتّخذوا) بسكون الياء. وقال محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير بالإسكان أيضا في قوله: (إن قومي اتخذوا). وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: (إن قومي اتخذوا) بإسكان الياء (2).
قال أبو علي: الإسكان والتحريك في قياس العربية والاستعمال حسنان.
الفرقان: 48
عبيد عن هارون عن أبي عمرو: (نشرا) و (نشرا) [الفرقان / 48] بالتثقيل والتخفيف عاصم: {بشرا} بالباء ساكنة الشين والباء مضمومة (3). وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير (نشرا) بضم النون والشين وقرأ حمزة والكسائي: (نشرا) بفتح النون وسكون الشين (4).
__________
(1) هو وهب به واضح أبو الإخريط، ويقال: أبو القاسم المكي، مقرئ أهل مكة، روى القراءة عنه عرضا أحمد بن محمد القوّاس، وأحمد البزي. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: انتهت اليه رئاسة الإقراء بمكة، وقال ابن مجاهد قال لي قنبل: كان البزي ينصب الياء الخ الخبر.
وقال القصاع: مات سنة تسعين ومائة قرأت ذلك بخطه.
انظر غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 361.
(2) السبعة ص 465.
(3) في م: والنون مضمومة، وهو سهو لأن الحديث عن قراءة «بشرا» بالباء لا بالنون
(4) السبعة ص 465(5/344)
(وهو الذي يرسل الرياح نشرا)، [الفرقان / 48] فنشرا جمع ريح نشور، فالتخفيف في (1) نشر، على قول من قال في كتب:
كتب، والتثقيل على قول من جاء به على الأصل، ولم يخفّف، ومعنى النشور: التي تحيا، من نشر الميّت. كأنّها تثير الغيم فيمطر فتجيء به البلاد الميتة، ويدلّ على وصفها بالحياة قول المرّار:
وهبت له ريح الجنوب وأحييت ... له ريدة يحيي المياه نسيمها (2)
وقول عاصم: {بشرا} بالباء كأنّها (3) جمع ريح (بشور) أي تبشّر بالغياث في قوله: {الرياح مبشرات} أي: مبشرات بالغيث المحيي البلاد، وبشرا قد مرّ. وقول حمزة والكسائي: (نشرا) نشرا: مصدر واقع موقع الحال، تقديره: يرسل الرّياح حياة، أي: تحيا (4) بها البلاد الميتة.
الفرقان: 50
وقرأ حمزة والكسائي (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) [الفرقان / 50] خفيفة ساكنة الذّال، وقرأ الباقون: {ليذكروا} مشدّدة الذال (5).
قال أبو علي: (ليذكروا) أي: ليتفكّروا في قدرة الله تعالى، وموضع نعمته عليهم: بما أحيا به بلادهم من الغيث. وقول حمزة:
__________
(1) البيت للمرار الفقعسي سبق في 2/ 380
(2) في م: عن بدل في
(3) في ط: كأن.
(4) في ط: يحيى.
(5) السبعة ص 465.(5/345)
يذكر في معنى يتذكر وقد جاء {إنها تذكرة، فمن شاء ذكره}، [عبس / 11/ 12] وهما بمعنى، إلّا أنّ التفعل في التذكر والنظر أكثر، ويدلّك على أنّهما بمعنى قوله تعالى (1): {خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه} [البقرة / 63] وزعموا أن في حرف عبد الله: (وتذكّروا ما فيه).
الفرقان: 60
واختلفوا (2) في الياء والتاء من قوله تعالى (3): {لما تأمرنا}
[الفرقان / 60]. فقرأ حمزة والكسائي: (لما يأمرنا) بالياء وقرأ الباقون: تأمرنا بالتاء (4).
قال أبو علي: قوله تعالى (5): {أنسجد لما تأمرنا} [الفرقان / 60] كأنّهم تلقّوا أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالرّدّ، وزادهم أمره عليه السلام إياهم بالسجود نفورا عمّا أمروا به في ذلك. ومن قرأ بالياء فالمعنى: أنسجد لما يأمرنا محمد [صلّى الله عليه وآله وسلّم] (6) بالسجود له على وجه الإنكار منهم لذلك، ولا يكون على: أنسجد لما يأمرنا الرحمن بالسجود له، لأنّهم أنكروا الرحمن تعالى (7) بقولهم: وما الرّحمن؟ فإنّما المعنى: أنسجد لما يأمرنا محمد [صلّى الله عليه وآله وسلّم] (8) بالسجود له.
الفرقان: 61
اختلفوا في كسر السين وإثبات الألف وضمها وإسقاط الألف
__________
(1) السبعة ص 466465.
(2) في ط: اختلفوا.
(3) في ط: عز وجل.
(4) السبعة ص 466
(5) سقطت من ط.
(6) سقطت من ط.
(7) سقطت من ط.
(8) سقطت من ط.(5/346)
من قوله تعالى (1): {سراجا} [الفرقان / 61] فقرأ حمزة والكسائي:
(سرجا) بضم السين وضم الراء وإسقاط الألف. وقرأ الباقون:
{سراجا} بكسر السين وإثبات الألف (2).
قال أبو علي: حجّة قوله: {سراجا} والإفراد قوله تعالى (3):
{وجعل فيها سراجا وقمرا} [الفرقان / 61] وحجّة حمزة والكسائي:
(سرجا)، قوله تعالى (4): {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح}
[الملك / 5] فشبّهت الكواكب بالمصابيح، كما شبّهت المصابيح بالكواكب في قوله تعالى (5): {الزجاجة كأنها كوكب دري} [النور / 35] وإنّما المعنى: مصباح الزجاجة كأنّه كوكب درّيّ، وكذلك قول الشاعر:
سموت إليها والنجوم كأنّها ... مصابيح رهبان تشبّ لقفّال (6)
فإن قلت: كيف يجوز أن تكون المصابيح زينة مع قوله تعالى (7): {وجعلناها رجوما للشياطين} [الملك / 5] فالقول: إنّها إذا جعلت رجوما لهم لم تزل فتزول زينتها بزوالها، ولكن يجوز أن ينفصل منها نور يكون رجما للشياطين كما ينفصل من السّرج، وسائر ذوات الأنوار ما لا يزول بانفصاله منها صورتها كما لا تزول صورة ما ذكرنا.
__________
(1) سقطت من ط.
(2) السبعة ص 466
(3) سقطت من ط.
(4) سقطت من ط.
(5) سقطت من ط.
(6) سبق في ص 324.
انظر ديوان امرئ القيس / 31.
(7) سقطت من ط.(5/347)
وقرأ حمزة وحده: (لمن أراد أن يذكر) [الفرقان / 62] خفيفة الذال مضمومة الكاف، وقرأ الباقون: يذكر مشددة الذال (1).
[قال أبو علي] (2): المعنى في قراءة حمزة: أن (يذكر): يتذكر، وقد تقدّم ذكر ذلك.
الفرقان: 67
اختلفوا في ضم الياء وكسر التاء وفتح الياء وضم التاء من قوله تعالى: (3) {ولم يقتروا} [الفرقان / 67]. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ولم يقتروا) مفتوحة الياء مكسورة التاء. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي:
{يقتروا} بفتح الياء وضم التاء، وقرأ نافع وابن عامر: (يقتروا): بضم الياء وكسر التاء، روى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم بضم الياء وكسر التاء مثله (4).
قال أبو علي: يقال (5): أقتر يقتر، خلاف أيسر، وفي التنزيل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره [البقرة / 236] وقال الشاعر (6):
لكم مسجدا الله المزوران والحصا ... لكم قبصه من بين أثرى وأقترا
__________
(1) السبعة ص 466.
(2) سقطت من ط.
(3) سقطت من ط.
(4) سقطت من ط.
(5) السبعة ص 466
(6) البيت للكميت بن زيد.
انظر الإنصاف 2/ 721، والعيني 4/ 84، والأشموني 3/ 70واللسان (قبص) والقبص والقبص: العدد الكثير.
والبيت من شواهد تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 22وقد خرج هناك بأوسع مما هنا فلينظر.(5/348)
تقديره: من بين رجل أثرى ورجل أقتر، فأقام الصفة مقام الموصوف. وفي التنزيل: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق}
[التوبة / 101] فيجوز أن يكون على قبيل مردوا على النفاق مثل قوله تعالى: {ومن آياته يريكم البرق} [الروم / 24] فأما قتر يقتر ويقتر فمثل: فسق يفسق ويفسق، وعكف يعكف ويعكف، وحشر يحشر ويحشر، فمعنى لم يسرقوا: لم يخرجوا من إنفاقهم من السّطة والاقتصاد، [ومنه:
وقد وسطت مالكا (1).
من التوسط بين الشيئين] (2) ولم يقتروا: لم يمسكوا ولم ينقصوا عن الاقتصاد كما قال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} [الإسراء / 29].
فأمّا من ضمّ فقال: (لم يقتروا) فكأنّه أراد: لم يفتقروا في إنفاقهم، لأنّ المسرف مشف على الافتقار لسرفه في إنفاقه. فأمّا من قال: (لم يقتروا) أو {لم يقتروا} فمعناه: لم يضيّقوا في الإنفاق فيقصّروا عن التوسط، فمن كان في هذا الظرف (3) فهو مذموم، كما أنّ من جاوز الاقتصاد كان كذلك، ويبين هذا قوله: {وكان بين ذلك قواما}
[الفرقان / 67] أي كان إنفاقهم بين ذلك لا إسرافا يدخل به في حدّ التبذير، ولا تضييقا يصير به في حدّ المانع لما يجب.
__________
(1) قطعة من بيت من الرجز لغيلان بن حريث تمامه: وقد وسطت مالكا وحنظلا وبعده: صيّابها والعدد المجلجلا.
انظر اللسان (وسط).
(2) ما بين المعقوفين سقطت من م.
(3) في ط: الطرف(5/349)
الفرقان: 69، 68
اختلفوا في قوله تعالى: {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد} [الفرقان / 69] فقرأ ابن كثير: (يضعّف ويخلد فيه) جزما و (يضعّف) مشددة العين بغير ألف. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر بالرفع فيهما: {يضاعف له العذاب}. {ويخلد} غير أن ابن عامر قرأ بغير ألف وشدّد العين [وقرأ] (1) حفص عن عاصم: {ويخلد}
جزما مثل أبي عمرو. وقرأ حفص عن عاصم: (فيهي مهانا) يصل الهاء بياء وكذلك ابن كثير. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي:
{يضاعف له} {ويخلد} [الفرقان / 69] جزما، والياء من يخلد مفتوحة.
وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو (ويخلد) بضم الياء وفتح اللام وهو غلط (2).
[قال أبو علي] (3): من قال: {يضاعف له} {ويخلد} جعل قوله:
{يضاعف}، بدلا من الفعل الذي هو جزاء الشرط، وهو قوله: {يلق أثاما} [الفرقان / 69] وذلك أن تضعيف العذاب لقي جزاء الآثام في المعنى، فلمّا كان إيّاه أبدله منه، كما أنّ البيعة لما كان ضربا من الأخذ أبدل الأخذ منها في قوله:
إنّ عليّ الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا (4).
__________
(1) زيادة من السبعة.
(2) السبعة ص 467
(3) سقطت من ط.
(4) البيت في الكتاب 1/ 78وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها. وانظر المقتضب 2/ 63، والخزانة 2/ 373، والعيني 4/ 199، الأشموني 3/ 131.(5/350)
ومثل ذلك في البدل من جزاء الشرط قوله:
إن يجبنوا أو يغدروا ... أو يبخلوا لا يحفلوا (1)
يغدوا عليك مرجّلي ... ن كأنّهم لم يفعلوا
فغدوهم مرجّلين في المعنى، ترك للاحتفال، فهذا مثل إبدال {يضاعف} من {يلق أثاما}. وقد أبدل من الشرط كما أبدل من جزائه وذلك قوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (2)
فأبدل تلمم من تأتنا، لأنّ الإلمام إتيان في المعنى. ومثل حذف جزاء الذي هو مضاف في المعنى في قوله: {يلق أثاما} أي جزاء أثام قوله تعالى: {ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم}
[الشورى / 22] المعنى: على جزاء ما كسبوا. وقال أبو عبيدة: يلق أثاما، أي: عقوبة، وأنشد لمسافع العبسي (3):
__________
(1) البيتان في الكتاب 1/ 446، وهما لبعض بني أسد وانظر المحتسب 2/ 75 وعزاهما لشاعر جاهلي قديم وبعدهما:
كأبي براقش كلّ لو ... ن لونه يتحوّل
وذكر هذا البيت الأخير الأعلم في شرح شواهد سيبويه المسمى: «تحصيل عين الذهب، من معدن جوهر الأدب، في علم مجازات العرب» برواية يتخيّل بدل: يتحول.
(2) البيت في الكتاب 1/ 446ولم ينسبه والإنصاف 2/ 583والخزانة 3/ 660 وعزاه إلى عبد الله بن الحر.
وانظر الأشموني 3/ 131
(3) في ط: لمسافع الليثي. وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة نسبه لبلعاء بن قيس الكناني انظر 2/ 81(5/351)
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام (1)
قال: وابن عروة: رجل من بني ليث كان دلّ عليهم ملكا من غسّان فأغار عليهم.
قال أبو علي: ويمكن أن يكون من هذا قول بشر:
فكان مقامنا ندعو عليهم ... بأبطح ذي المجاز له أثام (2)
وحكى عن أبي عمرو الشيباني: لقي أثام ذلك، أي: جزاءه.
ومن رفع فقال: (يضاعف ويخلد) لم يبدل ولكنّه قطعه ممّا قبله واستأنف. وأمّا {يضاعف} و (يضعّف) فهما في المعنى سواء كما قال سيبويه، ويقال: خلد في المكان يخلد إذا عطن (3) به أقام. وحكى أبو زيد: أخلد به، وما حكاه عن حسين الجعفي عن أبي عمرو:
(ويخلد) بضم الياء وفتح اللّام وأنّه غلط، فإنّه يشبه أن يكون غلطه (4)
من طريق الرواية، وأمّا من جهة المعنى فلا يمتنع، فيكون المعنى خلد هو، وأخلده الله، ويكون يخلد مثل يكرم ويعطى في أنّه مبني من أفعل، ويكون قد عطف فعلا مبنيا للمفعول على مثله إلّا أنّ الرّواية إذا لم تكن صحيحة لم يجز أن تنسب إلى الذي تروى عنه.
الفرقان: 74
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية حفص وابن عامر: {من أزواجنا وذرياتنا} [الفرقان / 74] جماعا وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وحمزة والكسائي (وذرّيتنا) واحدة (5).
__________
(1) البيت في اللسان (أثم) وعزاه لشافع الليثى.
(2) البيت في اللسان (أثم)
(3) في ط: قطن.
(4) كذا في ط. وفي م: غلطا.
(5) كذا في ط وسقطت من م(5/352)
قال أبو علي: الذرية تكون واحدة وتكون جمعا فالدّليل على كونها للواحد قوله تعالى: {قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} [آل عمران / 38] فهذا كقوله: {فهب لي من لدنك وليا يرثني} [مريم / 5] فأمّا جواز كونها للجمع فقوله: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا} [النساء / 9] فمن أفرد فقال: (من أزواجنا وذريتنا) [الفرقان / 74] فإنّه أراد به (1) الجمع فاستغنى عن جمعه لمّا كان جمعا، ومن جمع فكما تجمع هذه الأسماء التي تدلّ على الجمع نحو: قوم وأقوام، ونفر وأنفار، ورهط وأراهط. وقد جمعوا بالألف والتاء والواو والنون الجموع المكسرة كقولهم الجزرات والطّرقات والكلابات،
وجاء في الحديث: صواحبات يوسف
(2) وقال العجاج:
جذب الصّراريّين بالكرور (3)
وإنّما الصراري جمع صرّاء. وهو مفرد نحو: حسّان، فكسّره ككلّاب وكلاليب، لأنّ الصفة تشبّه في التكسير بالأسماء. ويدلّ على أنّ الصرّاء واحد قول الفرزدق:
أشارب قهوة وخدين زير ... وصرّاء لفسوته بخار (4)
__________
(1) السبعة ص 467.
(2) الحديث في صحيح البخاري انظر فتح الباري 6/ 417، 418 وانظر مسند أحمد 6/ 96
(3) انظر ديوانه 2/ 350واللسان (صرر) والصراري: الملاح
(4) انظر اللسان (صرر) وقال في اللسان: ولا حجة لأبي علي في هذا البيت لأن الصراري الذي هو عنده جمع.
وانظر ديوانه 1/ 388وفيه عصار بدل بخار. وقاله الفرزدق في الحكم ابن الجارود. كذا في الديوان.(5/353)
الفرقان: 75
اختلفوا في قوله سبحانه: {ويلقون فيها} [الفرقان / 75] في ضمّ الياء وفتح اللّام وتشديد القاف، وسكون اللّام، وتخفيف القاف. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: ويلقون مضمومة الياء مفتوحة اللام مشددة القاف.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (ويلقون) مفتوحة الياء ساكنة اللّام خفيفة القاف.
وروى أبو بكر عن عاصم: (ويلقون) مثل حمزة. وقال حفص عنه: يلقون مشددة مثل أبي عمرو (1).
[قال أبو علي] (2): حجّة من قال: {ويلقون}، قوله تعالى (3)
{ولقاهم نضرة وسرورا} [الإنسان / 11] فعلى «لقّاهم» «يلقّون».
وحجّة من خفّف قوله سبحانه (4): فسوف يلقون غيا [مريم / 59] ولقي: فعل متعدّ إلى مفعول واحد، فإذا نقل بتضعيف العين تعدى إلى مفعولين فقوله: (تحيّة) المفعول الثاني من قولك لقّيت زيدا تحيّة، فلمّا بنيت الفعل للمفعول قام أحد المفعولين مقام الفاعل، فبقي الفعل متعديا إلى مفعول واحد.
__________
(1) السبعة ص 468
(2) سقطت من ط.
(3) سقطت من ط.
(4) سقطت من ط.(5/354)
[بسم الله] (1)
ذكر اختلافهم في سورة الشعراء
الشعراء: 1
اختلفوا في إدغام النون من سين عند الميم وبيانها وكسر الطاء وفتحها. فقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر: {طسم}
بفتح الطاء وإدغام النون، وروى خارجة عن نافع:
(طسم) بكسر الطاء، وإدغام النون. وقال خلف عن إسحاق [المسيبي] عن نافع: الطاء غير مكسورة ولا مفتوحة هو إلى الفتح أقرب.
وقال الكسائي عن إسماعيل بن جعفر عن نافع يبين النون في (طسم) مثل حمزة. وقال محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع: الطاء مفتوحة وقال ورش وقالون عن نافع: الطاء مفتوحة وسطا من ذلك، وقال:
يعقوب عن نافع وأبو جعفر (طس م) يقطّعان كل حرف على حده، ويأتي اختلافهم في يس ونون في موضعه إن شاء الله. قال أحمد:
والذي قاله الكسائي عن إسماعيل عن نافع: يوجب (2) رواية يعقوب بن جعفر عن أبي جعفر ونافع بيان النون من (طسم). وروى حفص عن عاصم: (طسم) فتحا (3) ولم يظهر النون في (طسم) غير
__________
(1) سقطت من ط.
(2) في ط: ويوجبه.
(3) في ط: فتح.(5/355)
حمزة وما روى الكسائي عن إسماعيل. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: (طسم) بالكسر (1).
قال أبو علي: تبيين النون من (طسم) على قراءة (2) حمزة، ورواية (3) الكسائي عن نافع هو الوجه، لأنّ حروف التهجي (4) في تقدير الانفصال والانقطاع ممّا بعدها، فإذا كان كذلك وجب تبيين النون، لأنّها إنّما تخفى إذا اتصلت (5) بحروف من حروف الفم، فإذا لم يتّصل بها لم يكن شيء يوجب إخفاءها. ووجه إخفائها مع هذه الحروف أنّ همزة الوصل قد وصلت، ولم تقطع، وهمزة الوصل إنّما تذهب في الدّرج، فكما سقطت همزة الوصل، وهي لا تسقط إلّا في الدرج مع هذه الحروف في (ألف لام ميم الله) كذلك لا تبيّن النون ويقدّر فيها الاتّصال مما (6) قبلها ولا يقدر فيها الانفصال.
الشعراء: 18
وكلهم قرأ: {من عمرك} [الشعراء / 18] مثقّلة، وروى عبيد عن هارون والخفاف عن أبي عمرو، وعبيد عن أبي عمرو: (عمرك) خفيفة، قال هارون: وكان أبو عمرو لا يرى بالأخرى بأسا، يعني التثقيل. [وروى عبيد بن عقيل عنه مثقّلا] (7).
__________
(1) السبعة ص 471470، وفي الكلام تقديم وتأخير عمّا هنا ولكن المؤدى واحد.
(2) في ط: على ما قرأه.
(3) في ط: ورواه.
(4) في ط: الهجاء.
(5) في ط: اتصل
(6) في ط: بما.
(7) السبعة ص 471وما بين معقوفين زيادة منه(5/356)
قال ابن مقبل (1):
يا حرّ أمسيت شخصا قد وهى بصري ... والتاث ما دون يوم البعث من عمري
وأنشد أبو زيد:
إن يمض عنّا فقد ثوى عمرا (2)
الشعراء: 45
اختلفوا في (تلقف) [الشعراء / 45] في تشديد التاء وتخفيفها.
فقرأ عاصم في رواية حفص: {تلقف} بتاء خفيفة. وروى البزي وابن فليح عن ابن كثير (فإذا هي تلقف) بتشديد التاء، وروى قنبل عن النبال: {(فإذا هي تلقّف)} خفيفة التاء وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: (تلقّف) خفيفة التاء مشددة القاف (3).
قال أبو علي: قد ذكرنا هذا النحو فيما تقدّم، ورواية قنبل عن ابن كثير (فإذا هي تلقّف) هو الوجه. ومن شدد التاء من قوله (4)
(تلقّف) وهو يريد تتلقّف لزمه إذا ابتدأ على هذه القراءة أن يجتلب همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة كما لا تدخل على أسماء الفاعلين.
__________
(1) ديوانه ص 72، وبرواية: يوم الرعد وفي م: قصري بدل بصري
(2) لم نعثر عليه في نوادره
(3) السبعة ص 471وفي النص تقديم وتأخير.
(4) كذا في ط وسقطت من م.(5/357)
قال أحمد: قد ذكرنا اختلافهم في قوله: (أامنتم) [الشعراء / 49] في سورة الأعراف [123].
الشعراء: 62
قال: وروى حفص عن عاصم {إن معي ربي} [الشعراء / 62] بنصب الياء من معي وكل ما في القرآن من قوله: {معي} فإنّ عاصما في رواية حفص يحرك الياء فيه. (1)
وروى حفص عن عاصم وورش عن نافع {ومن معي من المؤمنين} [الشعراء / 118] بتحريك الياء ولم يحركها غيرهما (2).
[قال أبو علي] (3) [كلّ واحد من التحريك والإسكان حسن] (4).
الشعراء: 56
اختلفوا في إثبات الألف وإسقاطها من قوله [جل وعز] (5):
(حذرون) [الشعراء / 56] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (حذرون) بغير ألف. وقرأ الباقون: {حاذرون} بألف (6).
قال أبو عبيدة: رجل حذر وحاذر، قال ابن أحمر:
إني حواليّ وأنّي ... حذر هل ينسأن يومي إلى غيره (7)
__________
(1) انظر السبعة ص 290والحجة 4/ 69.
(2) السبعة ص 472
(3) سقطت من ط.
(4) وردت هذه الجملة في ط قبل سطرين. وقيل رواية حفص عن عاصم في الشعراء / 118.
(5) في ط: تعالى
(6) السبعة ص 471
(7) البيت في اللسان (حول) وفيه: أو تنسأن بدل: هل ينسأن. وإني بدل: أني.
وعزاه إلى ابن أحمر أو المرّار بن منقذ العدوي. وليس في شعر ابن أحمر المطبوع.(5/358)
قال: حواليّ ذو حيلة وأنشد العباس بن مرادس (1)
وإني حاذر أنمي سلاحي ... إلى أوصال ذيّال صنيع
قال أبو علي: يقال: حذر يحذر حذرا واسم الفاعل حذر. فأمّا حاذر فإنه يراد به أنّه يفعل الحذر فيما يستقبل كقولك: بعيرك صائد غدا، وكذلك قوله (2):
وإني حاذر أنمي سلاحي كأنّه يريد متحذّر عند اللّقاء.
الشعراء: 52
قال: قرأ ابن كثير ونافع (أن اسر) [الشعراء / 52] من سريت، وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: {أن أسر} من أسريت (3).
قال أبو علي (4): حجّة القطع قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده}
[الإسراء / 1] وحجّة الوصل قوله:
سرى بعد ما غار الثريّا وبعد ما ... كأنّ الثّريّا حلّة الغور منخل (5)
__________
(1) البيت في اللسان (ذيل) وفيه: منيع بدل: صنيع. كما في المجاز.
(2) انظر مجاز القرآن 2/ 86
(3) السبعة ص 471
(4) سقطت من ط
(5) انظر ما سبق في 4/ 368. وانظر الكتاب 1/ 201وفي (م): حلت بدل:
حلة الغور. قال الأعلم: الشاهد فيه نصب حلة الغور على الظرف ومعناها قصد الغور ومحله. والمعنى: وصف طارقا سرى في الليل بعد أن غارت الثريا أول الليل وذلك في استقبال زمن القيظ، وشبه الثريا في اجتماعها واستدارة نجومها بالمنخل(5/359)
وهو كثير في الشعر.
الشعراء: 61
قال: قرأ حمزة: (فلما تراءى الجمعان) [الشعراء / 61] بكسر الراء ويمدّ ثم يهمز، وكذلك روى هبيرة عن حفص عن عاصم.
وروى أبو بكر. عن عاصم مفتوحا ممدودا. أبو عمارة عن حفص عن عاصم (تراءى) مفتوحا مثل أبي بكر. وكان حمزة يقف (تراءى) يمدّ مدّة بعد الراء ويكسر الراء، وروى نصير عن الكسائي، (تراءى) مثل (1) تراعى إذا أراد أن يقف. الباقون (2): (تراءى) يفتحون الراء وبعدها ألف وهمزة الألف مفتوحة (3) في وزن تراعى (4).
وقال بعض أصحاب أحمد بن موسى قوله: وهمزة الألف، يعني الهمزة التي بعدها الألف من تفاعل. وهو عين الفعل.
قال أبو علي: وجه إمالة الفتحة التي على الراء أن (5) قياسه: أن يكون في الوقف تراءى مثل تراعى فأمال فتحة الراء لإمالة فتحة الهمزة التي أميلت فتحتها، لتميل الألف نحو الياء كما قالوا: راء فأمالوا فتحة الراء لإمالة فتحة الهمزة. ومن قال: راء فلم يمل الفتحة كما لم يمل لإمالة الألف في رأيت عمادا لم يمل هذه الفتحة لإمالة فتحة الهمزة فيقول: (تراءى) قال (6): ومن لم يمل البتة قال: (تراءى). قال أحمد:
وكان حمزة يقف ترآء يمد مدّة بعد الراء، ويكسر الراء فقوله: يمدّ مدّة
__________
(1) في ط: في وزن
(2) في ط، الباقون يقفون.
(3) وردت في ط زيادة وهي: والألف بعد الهمزة بوزن تراعى
(4) السبعة ص 472
(5) سقطت من م
(6) كذا في ط وسقطت من م.(5/360)
بعد الراء يدلّ على أنّه يقول: تراءى فيثبت (1) بعد الراء مدة، وهذه المدة ينبغي أن تكون ألف تفاعل، والهمزة هي عين الفعل (2)، والألف المنقلبة عن اللّام على هذا محذوفة وحذفها لا يستقيم، وليس هذا في قول الباقين إنّما قولهم على الإمالة: (تراءى)، والإمالة من أجل الإمالة: (تراءى)، أو بغير إمالة البتة: (تراءى) (3)، ومن زعم أنّ إمالة فتحة الراء التي هي فاء تفاعل من رأيت لا يجوز، فقد غلط، لأنّ إمالته جائزة من الوجه الذي تقدّم ذكره. فإن قلت: فإذا وصل فقال: (تراءى الجمعان) هلّا لم تجز إمالة الفتحة التي على الرّاء لأنّه إذا كان إمالته لإمالة فتحة الهمزة [وما يوجب إمالة الهمزة] (4) فقد سقط وهو الألف المنقلبة عن (5) الياء التي سقطت لالتقاء الساكنين، فإذا سقطت لم يجز إمالة فتحة الهمزة، وإذا لم يجز إمالة فتحة الهمزة وجب أن لا يجوز إمالة فتحة الراء. قيل: إن إمالة فتحة الراء من (6) (تراءى) جائزة في الوصل مع سقوط الألف من تفاعل لالتقاء الساكنين، وهو عندهم في حكم الثبات، يدلك على ذلك قولهم (7):
__________
(1) سقطت من ط.
(2) سقطت من ط.
(3) في (م) تكررت عبارة: «وبغير إمالة البتة تراءا»
(4) كذا في ط وسقطت من م.
(5) في ط: من.
(6) في ط: في.
(7) عجز بيت لأبي الأسود وصدره:
فألفيته غير مستعتب والبيت من شواهد المغني في شرح أبياته 7/ 182، وسبق في 2/ 454 وقد استوفينا تخريجه هناك.(5/361)
ولا ذاكر الله قليلا فنصب مع سقوط التنوين لالتقاء الساكنين [كما ينصب إذا ثبت وكذلك يميل فتحة الراء مع سقوط الألف لالتقاء الساكنين] (1)، كما كان يميلها إذا ثبتت، ولم تسقط، وقد حكى أبو الحسن ذلك، فزعم أنّه قد قرئ {في القتلى، الحر}
[البقرة / 178] فأمال فتحة اللام مع سقوط الألف كما يميلها مع ثباتها، فكذلك يميل فتحة (2) الهمزة من {تراءا} إذا أدرج فقال: (تراءى الجمعان) [الشعراء / 61]. ونظير ذلك أيضا في كلامهم (3) قولهم:
شهد. ألا ترى أنّهم إنّما كسروا الفاء لكسرة العين التي هي الهاء. ثم حذفت الكسرة التي على العين، ولم تذهب كسرة الفاء من شهد (4).
ونظيره أيضا قولهم: صعقي. فهذا أشدّ لأنّه أقرّ الكسرة في الفاء مع فتحة العين، والأوّل كانت الكسرة المحذوفة منه في اللّفظ في تقدير الإثبات، كما كانت في تقديره (5) في: رضي، وعزي، ولقضو الرّجل.
وزعم بعض البغداذيّين في احتجاج الحذف لهذه الألف في (تراء)، في وقف حمزة، أنّه يجوز على لغة حكاها الكسائي والفرّاء، وهو (6) أنّهم حكوا: أنّ بعضهم قال: اسقني ما يا هذا.
[قال أبو الحسن] (7): ولا يجوز تراء من حيث جاز: اسقني ما يا
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من م.
(2) سقطت من ط.
(3) سقطت من ط.
(4) في ط: في شهد
(5) في ط: وهي.
(6) في ط: كما كان تقديره
(7) في ط: قال أبو علي.(5/362)
هذا، وذلك أنّ الذي يقول هذا إنّما أبدل من الهمزة الألف للضرورة، كما أبدلها منها في قوله (1):
لا هناك المرتع وكما أبدل الآخر منها ألفا في الباه فيما حدثنا محمّد بن السري عن بعض اليزيديين وأنشدنا عنه (2):
على أنّ قيسا لم يطأ باه محرم فحذف الهمزة لما أسكنها، فانقلبت ألفا لالتقائها مع الألف الساكنة، وكذلك حذف الهمزة من ماء، لمّا قلبها ألفا لالتقاء الساكنين، فإذا وقف على ماء في قوله: اسقني شربة ما يا هذا، لزمه أن يقول: ما، فيبدل من التنوين الألف فيصير (ما) وكذلك لو حذف الهمزة من {تراءا} كما حذفها من شربة ما يا هذا، للزمه أن يقول:
(تراء) ولا يمدّ كما لا يمد (ما) إذا وقف عليه على هذه اللغة، وليس الرّواية عن حمزة (ترا) إنّما الرّواية عنه أنّه يمدّ مدة بعد الراء [من {تراءا}] (3)، فينبغي أن تكون المدة ألفا وهمزة، أمّا الألف فألف تفاعل، وأمّا ما (4) بعد الألف فهو الهمزة التي هي عين الفعل، إمّا بين بين، وإمّا مخفّفة، وعلى أيّ الأمرين كان وجب أن يسكن في الوقف، كما تسكن سائر الحروف الموقوف عليها، وعلى هذا جاء في
__________
(1) من بيت للفرزدق تمامه:
راحت بمسلمة البغال عشيّة ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
وسبق البيت في 1/ 398و 2/ 218
(2) سبق في 4/ 245ولم نعثر على قائله. وقد ذكر في اللسان (بوه) أن الباه لغة في الباءة، وهو الجماع.
(3) كذا في ط وسقطت من م.
(4) سقطت من م.(5/363)
الشعر (1):
يستمسكون من حذار الإلقاء ... بتلعات كرءوس الصيصاء
فهذا على أنّ الضّرب مفعولان، ومنه (2) قول الآخر:
ردي ردي ورد قطاة صماء ... كدريّة أعجبها برد الماء
وأمّا ما رواه نصير عن الكسائي في الوقف تراءى مثل تراعي، فحسن، وذلك أنّ الوقف موضع [تبين فيه الحروف الموقوف عليها] (3).
وفي الألف خفاء شديد من حيث لم تعتمد في إخراجها على موضع، فصارت لذلك بمنزلة النفس من أنّه لا يعتمد له على موضع، فبيّنها بأن نحا بها نحو الياء وقرّبها منها. ويدلّك على حسن هذا أن
__________
(1) هذه الأبيات منسوبة الى غيلان الربعي من أرجوزة طويلة عدد أبياتها واحد وخمسون بيتا من مشطور الرجز، ذكرها ابن جني في الخصائص 2/ 252 وذكر الشاهد في 1/ 280قال في اللسان / تلع / في شرح البيتين الأولين:
يعني بالتلعات هنا: سكّانات السّفن، وقوله: من حذار الإلقاء، أراد من خشية أن يقعوا في البحر فيهلكوا، وقوله: كجذوع الصيصاء أي: أن قلوع هذه السفينة طويلة حتى كأنّها جذوع الصيصاء، وهو ضرب من التمر نخله طوال.
وذكر البيت في المنصف 1/ 181برواية: كجذوع الصيصاء. ثم قال:
وأنشدناه أبو علي! كرءوس الصيصاء.
وفي اللسان / صيص / الصيصاء الحشف من التمر، وهو الذي تسميه العامة: الشّيص
(2) في ط: ومثله.
(3) في ط: يبين فيه الحرف الموقوف عليه(5/364)
قوما يبدلون منها الياء المحضة في الوقف، فيقولون أفعي، وحبلي، وآخرون يبدلون منها الهمزة، فيقولون: هذه حبلأ، ورأيت رجلأ فكذلك نحا بالألف بإمالتها نحو الياء ليكون أبين لها، ولم يمل الرّاء من {تراءا} لأنّ الإمالة إنّما هي عنده من أجل الوقف، والوقف غير لازم، فلمّا لم يلزم لم ير أن يعتدّ به (1).
الشعراء: 137
اختلفوا في فتح الخاء وضمّها من قوله [جلّ وعزّ] (2): (إلا خلق الأولين) [الشعراء / 137] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي:
(خلق الأولين)، بفتح الخاء وتسكين اللام، وقرأ الباقون: بضم الخاء واللام (3).
[قال أبو علي] (4): {خلق الأولين}: أي: عادتهم، وخلق الأولين يجوز أن يكون المراد اختلافهم وكذبهم، وفي التنزيل: (إن هذا إلا اختلاق) [ص / 7]، وفيه {وتخلقون إفكا} [العنكبوت / 17] أي تختلفونه، وقيل: إنّه يجوز أن يكون خلقنا كخلقكم (5)، نموت كما ماتوا، ولا نبعث، فخلق على هذا: مصدر، إن شئت قدّرته تقدير الفعل المبني للمفعول، أي: خلقنا كما خلقوا. ويجوز أن يكون المصدر مضافا إلى المفعول به، ولا يقدّر تقدير الفعل المبني للمفعول.
__________
(1) في ط: بها
(2) في ط: تعالى.
(3) السبعة ص 472
(4) سقطت من ط.
(5) في ط: كخلقهم(5/365)
الشعراء: 149
اختلفوا في إثبات الألف وإسقاطها من قوله [جلّ وعزّ] (1):
{فارهين} [الشعراء / 149]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو:
(فرهين) بغير ألف، وقرأ الباقون: {فارهين} بألف (2).
أبو عبيدة (فرهين) أي: مرحين، قال: ويقال في هذا المعنى:
(فارهين) وأنشد (3)، لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ... ولن تراني لخير فاره اللّبب
قال: وقوم يقولون: فارهين أي: حاذقين (4).
قال أبو عليّ: [ليس] (5) فارهين كحاذرين، في أن فارهين (6)
يكون لما يأتي في الأمر العام، وليس للحال، لأنّهم قد قالوا: فاره وفرهة، فدلّ جمعهم له مثل صاحب وصحبة أنّ فاعل يستعمل للحال، والآتي، والماضي، وليس الحاذر كذلك، لأنّ الحاذر لما يأتي
__________
(1) في ط: تعالى.
(2) السبعة ص 472
(3) نسبه في اللسان إلى ابن وادع العوفي برواية (الطلب) بدلا من (اللبب) وفي (م): «اللبث» وانظر اللسان مادة: فره ونسب أبو عبيدة البيت إلى عديّ بن وداع العقوي من العقاة بن عمرو بن مالك بن فهم من الأزد، وقال السجستاني في المعمّرين ص 48: وعاش عدي بن وداع بن العقى بن الحارث بن مالك بن قاسم بن غنم بن دوس بن عبد الله من الأزد، ثلاثمائة سنة فأدرك الإسلام وأسلم وغزا
(4) مجاز القرآن 2/ 88
(5) سقطت من م.
(6) في م حاذريه والصواب من ط.(5/366)
بدلالة (1) أنّ الفعل حذر يحذر، وقد (2) قال: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور / 63]، فإذا كان الفعل على هذا فاسم الفاعل حاذر (3)، وفاعل للمستقبل (4) كقولك: بعيرك صائد غدا.
الشعراء: 176
اختلفوا في قوله جلّ وعز (5): أصحاب الأيكة [الشعراء / 176] فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: (ليكة) هاهنا، وفي «صاد» [13]: بغير همز، والهاء مفتوحة بلا ألف.
وقرأ الباقون: أصحاب الأيكة بالهمز فيهما والألف (6).
قال أبو علي: قد قلنا في هذا الحرف فيما تقدّم من هذا الكتاب (7). ومن زعم أنّه يختار قراءة أهل المدينة، وأنّه اختار ذلك لموافقته الكتاب، وهي زعموا في هذه السورة، وسورة صاد بغير ألف فإنّ ما في المصحف من إسقاط ألف الوصل التي مع اللّام لا يدلّ على صحّة ما اختار من قولهم: (ليكة)، وذلك لأنّه يجوز أن يكون كتب في المصحف على تخفيف الهمزة، وقول من قال: لحمر، كما كتبوا {الخبء} على ذلك، فإذا جاز أن يكون إسقاط ألف الوصل لهذا، ثبت أن ما اختاره من (ليكة) لا يدلّ عليه خطّ المصحف، ولا يصحّ ذلك لأمر آخر، وهو أنّه يجوز أن تكون الكتابة في هذين الموضعين وقعت
__________
(1) في م: دلالة
(2) كذا في ط وسقطت من م
(3) في ط: على حذر
(4) في م: المستقبل.
(5) في ط: تعالى
(6) السبعة ص 473وزاد: «وكسر الهاء».
(7) انظر ص 51في سورة الحجر / 78.(5/367)
على الوصل، فكما أنّه لا ألف ثابتة في اللّفظ في قوله سبحانه (1):
أصحاب الأيكة [فكذلك لم تكتب في خط] (2). ومثله في أنّه كتب مرة على اللّفظ، وأخرى على غيره كتابتهم: {سندع الزبانية}
[العلق / 18] بغير واو، لما لم تثبت في الخط (3)، وكتب في يدعو الإنسان بالشر [الإسراء / 11] بالواو فإذا جاز هذا فيه، علمت أنّ الاختيار [مدخول ويدلّ على ضعف الاختيار] (4) أن سائر القرآن غير هذين الموضعين عليه. ويدلّ على فساد ذلك أيضا همز من همز فقال:
الأيكة، فإذا بينت (5) هذا، علمت أن (ليكة) على تخفيف الهمزة (6)، وأن فتح (ليكة) لا يصحّ في العربية، لأنّه فتح حرف الإعراب في موضع الجر مع لام المعرفة، فهو على قياس من قال:
مررت بالحمر، فاعلم.
الشعراء: 193
اختلفوا في قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين}
[الشعراء / 193]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص: {نزل به} خفيف، {الروح الأمين} رفع. وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: (نزّل به) مشدّدة الزّاي، (الرّوح الأمين) نصبا (7).
__________
(1) سقطت من ط
(2) في م: [كذلك تثبت في الخط]! وهذا خلاف المراد
(3) في ط: في اللفظ.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من م.
(5) في ط: ثبت.
(6) في ط: الهمز.
(7) السبعة ص 473(5/368)
قال أبو علي: حجّة من قال: (نزّل به الرّوح الأمين) قوله: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة / 97]، وقوله: (تنزل الملائكة بالروح) [النحل / 2]، فتنزّل مطاوع نزّل، [فهو مثل مطاوع: نزّل الملائكة بالرّوح] (1) فدخلت التاء (2) للمطاوعة (3). فصار: (تنزّل الملائكة بالرّوح) والرّوح في التنزيل قد جاء يراد به القرآن، قال تعالى (4):
{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى / 52] إلى قوله (5): {من عبادنا} وقوله: {قل نزله روح القدس من ربك ليثبت الذين آمنوا}
[النحل / 102]. ومن أسند الفعل إلى الرّوح فقال: {نزل به الروح}
فلأنّه ينزل بأمر الله جلّ وعزّ فمعناه معنى الثقيلة.
الشعراء: 197
وكلّهم قرأ: {أولم يكن لهم آية} [الشعراء / 197] نصبا، غير ابن عامر فإنه قرأ: (تكن) بالتاء (آية) بالرفع (6).
قال أبو علي: وجه قول ابن عامر: (تكن لهم آية) أنّ (تكن) ليس للآية، ولكن تضمر في (تكن) القصّة أو الحديث، لأنّ ما يقع تفسيرا للقصّة والحديث من الجمل، إذا كان فيها اسم مؤنث، جاز تأنيث الضمير (7) على شريطة التفسير، كقوله سبحانه: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء / 97]، وقوله: {فإنها لا تعمى
__________
(1) ما بين المعقوفتين في (م): «وهو الملائكة بالروح» وما في (ط) أوجه.
(2) في ط: الياء. وهو تحريف.
(3) زادت (م) هنا بعد قوله للمطاوعة: «قبل المطاوع ونزل الملائكة».
(4) سقطت من ط.
(5) في ط: قوله تعالى.
(6) في ط: رفعا. كما في السبعة ص 473
(7) في ط: المضمر.
} {الأبصار} [الحج / 46] فكذلك {أن يعلمه علماء بني إسرائيل}
[الشعراء / 197] لما كان فيه مؤنث، جاز أن يؤنّث (تكن) فآية مرتفعة بأنّها خبر الابتداء الذي هو (أن يعلمه) علماء بني إسرائيل لما كان فيه مؤنث جاز أن تؤنث (تكن) ولا يمتنع أن لا يضمر القصة ولكن يرتفع (أن يعلم) بقوله: (تكن) وإن كان في تكن (1) علامة تأنيث، لأنّ {أن يعلمه} في المعنى هو الآية، فيحمل الكلام على المعنى، كما حمل على المعنى في قوله سبحانه (2): {فله عشر أمثالها}
[الأنعام / 160]، فأنّث لمّا كان المراد بالأمثال: الحسنات، وكذلك قراءة من قرأ: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا} [الأنعام / 23].(5/369)
__________
(7) في ط: المضمر.
{الأبصار} [الحج / 46] فكذلك {أن يعلمه علماء بني إسرائيل}
[الشعراء / 197] لما كان فيه مؤنث، جاز أن يؤنّث (تكن) فآية مرتفعة بأنّها خبر الابتداء الذي هو (أن يعلمه) علماء بني إسرائيل لما كان فيه مؤنث جاز أن تؤنث (تكن) ولا يمتنع أن لا يضمر القصة ولكن يرتفع (أن يعلم) بقوله: (تكن) وإن كان في تكن (1) علامة تأنيث، لأنّ {أن يعلمه} في المعنى هو الآية، فيحمل الكلام على المعنى، كما حمل على المعنى في قوله سبحانه (2): {فله عشر أمثالها}
[الأنعام / 160]، فأنّث لمّا كان المراد بالأمثال: الحسنات، وكذلك قراءة من قرأ: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا} [الأنعام / 23].
الشعراء: 217
قرأ نافع وابن عامر: فتوكل على العزيز الرحيم [الشعراء / 217] بالفاء، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون بالواو، وكذلك هي في سائر مصاحفهم (3).
قال أبو علي: الوجهان حسنان.
الشعراء: 224
وقرأ نافع وحده: والشعراء يتبعهم [الشعراء / 224] ساكنة التاء، وقرأ الباقون: (يتّبعهم) مشدّدة التاء، مفتوحة مكسورة الباء (4).
[قال أبو علي] (5): الوجهان حسنان تبعت القوم أتبعهم
(1) في ط: في معنى.
(2) سقطت من ط.
(3) السبعة ص 473.
(4) السبعة ص 474
(5) سقطت من ط.(5/370)
[واتّبعتهم اتّبعهم] (1)، وهو مثل: حفرته واحتفرته وشويته واشتويته، وقد تقدّم ذكر ذلك.
__________
(1) كذا في ط وسقطت من م.(5/371)
[بسم الله] (1)
ذكر اختلافهم في سورة سليمان [صلى الله عليه] (2)
النمل: 2
اختلفوا في الإضافة والتنوين من قوله [جلّ وعزّ] (3): {بشهاب قبس} [النمل / 7].
فقرأ عاصم وحمزة والكسائي (بشهاب قبس) منونا غير مضاف.
وقرأ الباقون: (بشهاب قبس) مضاف (4) غير منون. (5).
أبو عبيدة: (بشهاب قبس): الشهاب: النار، والقبس ما اقتبست، وأنشد لأبي زبيد (6):
في كفّه صعدة مثقّفة ... فيها سنان كشعلة القبس (7)
__________
(1) سقطت من ط.
(2) سقطت من ط.
(3) سقطت من ط.
(4) كذا في ط وسقطت من م.
(5) السبعة 478.
(6) من قصيدة له يرثي بها ولده، ويذكر تعرضه للحرب وفي الأغاني 12/ 128 ورد كما يلي تخال في كفه مثقفة ... تلمع فيها كشعلة القبس
(7) مجاز القرآن 2/ 92(5/372)
غيره: كل أبيض ذي نور فهو شهاب، ولا أدري أقاله رواية أم (1) استدلالا ويجوز أن يكون القبس صفة، ويجوز أن يكون اسما غير صفة، فأمّا جواز كونه وصفا فلأنّهم يقولون: قبسته أقبسه قبسا، والقبس: الشيء المقبوس، وقالوا (2): حلب يحلب حلبا، فيجوز في قولهم: حلبا، أن يكون مصدرا كقولهم: بدا له يبدو بدأ، (3) ويجوز أن يكون الحلب المحلوب، وفي التنزيل: {شهاب ثاقب}
[الصافات / 10]، فيجوز أن يكون الشهاب النار، لأنّ النار قد وصفت بالثقوب قال (4):
أذاع به في النّاس حتى كأنّه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
فتقدير قوله: أوقدت بثقوب، أوقدت مثقبة، والجارّ والمجرور في موضع حال.
فأمّا قول الشاعر يروى للأفوه (5):
كشهاب القذف يرميكم به ... فارس في كفّه للحرب نار
فإنّه يجوز أن يكون جعل المزراق الذي يرميه الفارس لتلألئه،
__________
(1) في ط: أو.
(2) في ط: وقال.
(3) في ط يبدوا له
(4) غير منسوب ذكره الأزهري في معجم تهذيب اللغة 3/ 148واللسان مادة / ذيع / ومعنى أذاع به: أظهره ونادى به في الناس
(5) ديوان الأفوه الأودي / 11الحماسة البصرية 1/ 49(5/373)
وضيائه وبريقه نارا قال أوس (1):
فانقضّ كالدّريء يتبعه ... لهب يثور تخاله طنبا
فاللهب هنا (2) كالشهاب في البيت الآخر، فإذا كان قوله: قبس صفة، فالأحسن أن يجري على الشّهاب كما جرى على الموصوف في قوله (3):
كأنّه ضرم بالكفّ مقبوس فكان مقبوس صفة للضّرم، فكذلك يكون القبس في قوله: (بشهاب قبس)، [وإن كان مصدرا غير صفة حسنت فيه الإضافة بشهاب قبس] (4) ولا يحسن ذلك في الصفة، ألا ترى أن الموصوف لا يضاف إلى صفته قال الشاعر:
في حيث خالطت الخزامى عرفجا ... يأتيك قابس أهله لم يقبس (5)
__________
(1) في ديوانه (نقع) بدلا من (لهب) والدريء: الكوكب المنقض يدرأ على الشيطان. تخاله طنبا: تخاله فسطاطا مضروبا.
اللسان مادة / درأ / وديوانه / 3.
(2) في ط: هاهنا.
(3) عجز بيت للمتلمس وصدره:
وقد ألاح سهيل بعد ما هجعوا والضرم: النار والضرم أيضا: شدة العدو. اللسان مادة / ضرم /
(4) ما بين المعقوفتين مثبت في ط، ساقط من م.
(5) العرفج: نبت واحدته عرفجة (اللسان عرفج) ولم نعثر للبيت على قائل(5/374)
وقريب من هذا المعنى قول الطرمّاح (1):
كظهر اللّأى لو تبتغي رية بها ... لعيّت نهارا في بطون الشّواجن
وقال (2):
خلقت شكسا للأعادي مشكسا ... من شاء من شرّ الجحيم استقبسا
وقال أبو عثمان عن أبي زيد يقال: أقبسته العلم وقبسته النار، وقول الشاعر:
يأتيك قابس أهله يدلّ على ما حكاه أبو زيد من قبسته النار، واسم الفاعل للحال، [ولكنه نوى به] (3) الانفصال، وأحد المفعولين محذوف كأنّه أهل هذا المكان النار (4) فأمّا قوله (5):
__________
(1) الرّية: بتخفيف الياء ما تثقب به بالنار، ورواية البيت عند الأزهري (وشقت) بدل (نهارا) ومعنى البيت: هذه الصحراء كظهر بقرة وحشية ليس فيها أكمة ولا وهدة. التهذيب للأزهري 15/ 306واللسان (لأي وري). وفي (م):
«تبتغى رية» بالبناء للمفعول.
(2) ذكره اللسان في مادة / شكس / ولم ينسبه والمشكس: سيّئ الخلق
(3) في ط: والتقدير.
(4) في هامش (ط): في الأصل: كأنه أصل هذا المكان النار.
(5) صدر بيت للنابغة وعجزه: أتاني ودوني راكس فالضواجع
وراكس: واد، الضواجع: ج ضاجعة وهي منحنى الوادي ومنعطفه، يقول: أتاني وعيده على غير ذنب أذنبته، فبت كالملدوغ خوفا منه، على أني ناء عنه، وبيني وبينهم راكس والضواجع. ديوانه / 45.(5/375)
وعيد أبي قابوس في غير كنهه وقوله (1):
فملك أبي قابوس أضحى وقد نجز فليس قابوس فاعولا من القبس، كما أن جالوت وطالوت ليسا بفعلوت من الطّول والجول، ولو كان كذلك لانصرف، ألا ترى أنّ حاطوما (2) وجاروفا، ونحو ذلك ينصرف في المعرفة في امتناع ما ذكرنا من الصرف ما يعلم به أنّه أعجمي، فلمّا انضمّت العجمة إلى التعريف، لم ينصرف، وكذلك إبليس، ليس من أبلس، وإنّما هذه الأشياء اتفاق ألفاظ بين (3) اللغتين. وأما قوله (4):
فإن يقدر عليك أبو قبيس فإنّما انصرف من حيث [حقّر تحقير الترخيم] (5) ولم ينصرف في
__________
(1) عجز بيت للنابغة وصدره:
وكنت ربيعا لليتامى وعصمة ديوانه / 217
(2) في م «جالوتا» بدل «حاطوما»، وهذا لا ينسجم مع ما أراد من التمثيل على عدم الصرف
(3) في ط: في.
(4) صدر بيت للنابغة من قصيدة يهجو بها يزيد بن عمرو بن خويلد، وعجزه:
تحطّ بك المنيّة في رهان ويروى: المعيشة وأبو قبيس: النعمان اشتقه من أبي قابوس اللسان مادة / قبس / ديوانه / 149 (ت: شكري فيصل)
(5) في ط: رخم.(5/376)
الشعر للضرورة من حيث انصرف نوح ولوط مكبّرين ومصغّرين (1)، يعني أنّه تحقير قبس، وقبس شيء ينصرف. وقال أبو الحسن:
(بشهاب قبس) الإضافة أكثر وأجوز في القراءة، كما تقول: دار آجرّ، وسوار ذهب، قال: ولو قلت: سوار ذهب، ودار آجر، كان عربيّا قال:
إلّا أنّ الأكثر في كلام العرب الإضافة. قال أبو علي: فأبو الحسن جعل القبس فيه غير وصف، ألا ترى أنّه جعله بمنزلة الآجرّ والذهب، وليس واحد منهما صفة.
النمل: 10، 2
هبيرة عن حفص عن عاصم هدى وبشرى [النمل / 2] بكسر الراء، والمعروف عن حفص عن عاصم الفتح، وكسر أبو بكر راء رآها تهتز [النمل / 10] والهمزة وفتحهما حفص عن عاصم، وفتح أبو عمرو الراء وكسر الهمزة في كل القرآن، والكسائي مثل عاصم في رواية أبي بكر يكسرها (2) وحمزة مثله، ابن عامر يفتح، وكذلك ابن كثير ونافع (3).
قال أبو علي: قد تقدم ذكر (4) وجه إمالة الفتحتين منهما (5) في غير موضع.
النمل: 20
اختلفوا في فتح الياء من قوله سبحانه (6): (ما لي لا أرى الهدهد) [النمل / 20] وما لي لا أعبد [يس / 22]، وسكونهما.
__________
(1) في ط: أو مصغرين.
(2) سقطت من م وهي في ط وفي السبعة: يكسرهما.
(3) السبعة ص 478
(4) في ط: ذكر رأي.
(5) في ط: فيهما.
(6) في ط: تعالى.(5/377)
فقرأ ابن كثير وعاصم والكسائي: {ما لي لا أرى الهدهد}
{وما لى لا أعبد الذي فطرني} بفتح الياء فيهما، وقرأ نافع وأبو عمرو (ما لي لا أرى الهدهد) ساكنة الياء هاهنا، وقرأ {وما لي لا أعبد} بفتح الياء في يس (1)، وقرأ ابن عامر وحمزة الحرفين جميعا ساكنة ياؤهما (2).
قال أبو علي: كلا الوجهين من الإسكان والفتح حسن.
النمل: 18
عباس عن أبي عمرو {على واد النمل} [النمل / 18] يميل الواو، والباقون: {واد النمل} مفخما (3).
قال أبو علي: الإمالة في (واد) حسنة من أجل الكسرة، والألف اللّازمة بعدها فهما يجلبان الإمالة، إذا كان كلّ واحد منهما منفردا، فإذا اجتمعا كان أجدر لهما. ومن لم يمل، فلأنّ ترك الإمالة شائع (4)، ولغة كثير من العرب. والوادي من ودى، إذا سال، واللام منه ياء، ولا يجوز أن يكون واوا، إلّا أنّه (5) اسم كالكاهل والغارب، وليس بوصف، وقالوا: أمنى يمني، وفي التنزيل: {أفرأيتم ما تمنون} [الواقعة / 58]، وأمذى، وقالوا: كلّ فحل يمذي. وقالوا: ودى (6) الرجل، من الودي، ولم أعلم أودى في هذا المعنى، وأنشدنا محمد بن
__________
(1) كذا في ط وسقطت من م
(2) السبعة ص 479
(3) السبعة ص 478
(4) في ط: سائغ.
(5) في ط: لأنه.
(6) في (م): أودى. وليس بالوجه.(5/378)
السري (1):
كأنّ عرق أيره إذا ودى ... حبل عجوز ضفرت خمس قوى
وقالوا: في جمع واد أودية، وفي التنزيل: {فسألت أودية بقدرها} [الرعد / 17] أي بقدر مياهها، فحذف المضاف، وقالوا: سال الوادي، وجرى النهر، إذا سال مياههما، ولم أعلم فاعلا جمع على أفعلة كهذا الحرف، ويشبه أن يكون لاشتراك فعيل وفاعل في كثير من المواضع، نحو عليم وعالم، وولي ووال، فكما جمع فعيل على أفعلة، شبه هذا الحرف بفاعل.
وممّا يقرّب ذلك قولهم: شريف وأشراف، ويتيم وأيتام، وأبيل (2) وآبال، كما قالوا: صاحب وأصحاب، وطائر وأطيار، فكأنّه لما اتفقا في البناء، ووقع كلّ واحد منهما موقع الآخر، اتفقا في الجمع، كما اتّفق فاعل وفعل الذي هو المصدر في الجمع. قال (3):
فنوّاره ميل إلى الشمس زاهره
__________
(1) البيت للأغلب العجلي وقد سبق في 2/ 341
(2) الأبيل: رئيس النصارى وقيل: هو الراهب والأبيل أيضا: العصا
(3) عجز بيت للحطيئة من قصيدة يهجو بها الزبرقان وصدره:
بمستأسد القريان حوّ تلاعه ويروى: حوّ نباته: أي: عاف نباته يقال: استأسد النبت: إذا طال وأتمّ، والقريان: مجاري الماء الى الرياض، والحو: التي اشتدت خضرتها حتى طلعت، إلى السواد.
ومعناه: كلّ نور إذا طلعت عليه الشمس استقبلها ثم دار معها حيث تدور اللسان مادة / ميل / ديوانه / 181(5/379)