الجزء الثانى
تتمة سورة البقرة
بسم الله الرّحمن الرّحيم (1)
استعنت بالله
البقرة: 33
فإن قلت: فإنّ الهمزة قد تفتح (2) لها ما قبلها وإن كانت مضمومة نحو: يقرأ في موضع الرفع، فهلّا فتح الياء في {عَذََابِي أُصِيبُ} [الأعراف / 156] كما فتح قبل المفتوحة والمكسورة في نحو: {سَبِيلِي أَدْعُوا} [يوسف / 108] و {إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي} [يوسف / 100] فأقول (3): إنّ هذه الضمة إن كانت للإعراب، لم تكن في حكم الضمة عندهم، ألا ترى أنّهم قد قالوا نمرّ، وكتف ونحو ذلك في الرفع ورفضوا الضمة بعد الكسرة في كلامهم، فلم يجيء فيه فعل، فإذا كان كذلك، لم يلزمه أن يفتح الياء قبل الهمزة المضمومة لما ذكرت، لأنّها عندهم لمّا لم تثبت، لم تكن في حكم الضم (4)، وأما ما رواه (5) من ذلك غير مستخفّ، فأسكن الياء فيه، فهو حسن، وذلك أنّ هذه الياء، إذا لم تحرك، إذا كانت مع ما يستخفّ فلأن يكره (6) حركتها مع ما لا يستخف أجدر وقد كرهوا الحركة
__________
(1) بداية الجزء الثاني في (م): بسم الله الرحمن الرحيم استعنت بالله، أما في (ط) فالكلام موصول مع الجزء الأول.
(2) في (ط): يفتح.
(3) في (ط): فالقول.
(4) في (ط): الضمة.
(5) في (ط): ما رآه.
(6) في (ط): فأن تكره.(2/5)
فيما تتوالى فيه الحركات وإن كانت للإعراب، فزعم أبو الحسن: (1) أنّ بعضهم قال: {رُسُلُهُمْ} [إبراهيم / 10].
ونحو هذا ما أنشده سيبويه من قوله (2):
إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ونحوه قول جرير:
سيروا بني العمّ فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى ولا تعرفكم العرب (3)
فأمّا حدّ المستخفّ، والمستثقل، فإن جعل ما زاد على الثلاثة غير مستخفّ، كان مذهبا وإن جعل المستثقل ما توالى فيه أربع حركات كان مذهبا، لأنّك قد علمت استثقالهم له برفضهم إيّاه في الشّعر، إلّا في موضع الزّحاف، وإذا لم يستخفّ (4) الأربعة فالخمسة أجدر بأن لا تستخفّ.
بسم الله (5): كلّهم قرأ: {أَنْبِئْهُمْ} [البقرة / 33] بالهمز وكذلك) (6) روى بعض رواة المكيين عن ابن كثير {أَنْبِئْهُمْ}
__________
(1) المراد به الكسائي وقد مرت ترجمته في الجزء الأول ص 7.
(2) الكتاب 2/ 297ولم يعزه، وبعده: بالدوّ أمثال السّفين العوّم.
الشاهد فيه تسكين الباء وهو يريد يا صاحب أو يا صاحبي.
(3) ديوان جرير بشرح ابن حبيب 1/ 441، مع بيتين آخرين قالهما في هجاء بني العم، وروايته في الديوان (فلم تعرفكم) ولا شاهد فيها. نهر تيرى:
بلد من نواحي الأهواز، حفره أردشير الأصغر بن بابك. (معجم البلدان 5/ 319، وأورد بيت جرير المذكور).
(4) في (ط): تستخف.
(5) سقطت من (ط) عبارة «بسم الله».
(6) في (ط) قال وكذلك.(2/6)
بكسر الهاء والهمز، قال أحمد: وهذا خطأ لا يجوز.
قال أبو علي: النبأ: الخبر، {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ / 2] أي: الخبر، وقالوا منه: نبأته وأنبأته (1). {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ} [الحجر / 51] أي: أخبرهم عن ضيفه. وضمّ الهاء، إلا ما رواه (2) عن ابن عامر {أَنْبِئْهُمْ} (3) بكسر الهاء مع الهمز، و {يُنَبَّؤُا الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ بِمََا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة / 13] أي يخبر به، فهذا كقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} [النور / 24] وقال (4): {وَقََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا، قََالُوا أَنْطَقَنَا اللََّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت / 21] و {هََذََا كِتََابُنََا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}
[الجاثية / 29] ومن ثم قرأ من قرأ: {هُنََالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مََا أَسْلَفَتْ} [يونس / 30] بالتاء، فهذه (5) الآي في معنى إخبار الإنسان بأعماله، وتوقيفه عليها. و {أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ}
[البقرة / 31]. أخبروني بها، و {يََا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ}
[البقرة / 33] أخبرهم، فلما كان النبأ مثل الخبر، كان أنبأته عن كذا، بمنزلة: أخبرته عنه. ونبأته عنه، مثل: خبّرته (6).
ونبّأته به، مثل: خبّرته به. وهذا مما يصحح ما ذهب إليه سيبويه، من أن معنى نبّئت زيدا: نبّئت عن زيد، فحذف حرف الجر، لأن نبّأت قد ثبت أن أصله خبّرت بالآي التي تلوناها (7)، فلما حذف حرف الجرّ (8)، وصل الفعل إلى المفعول الثاني،
__________
(1) في (ط) أنبأته ونبأته.
(2) في (ط): إلا ما روي.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): وقال الله تعالى.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): خبرته عنه.
(7) في (ط): تلوتها.
(8) في (ط): حذف الحرف.(2/7)
فنبّأت يتعدّى إلى مفعولين، أحدهما يصل إليه بحرف جر، كما أن أخبرته عن زيد كذلك.
فأمّا المتعدي إلى ثلاثة مفعولين، نحو: نبّأت زيدا عمرا أبا فلان، فهو هذا في الأصل، إلّا أنّه حمل على المعنى، فعدّي إلى ثلاثة مفعولين وذلك أنّ الإنباء الذي هو إخبار: إعلام، فلما كان إياه في المعنى، عدّي إلى ثلاثة مفعولين، كما عدّي الإعلام إليهم (1)، ودخول هذا المعنى فيه، وحصول مشابهته للإعلام، لم (2)
يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار، وعن أن يتعدى إلى مفعولين، أحدهما يتعدى (3) إليه بالباء، أو بعن، نحو:
{نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ} [الحجر / 51] ونحو قوله: {فَلَمََّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم / 3] كما أن دخول معنى أخبرني في «أرأيت» لم يخرجه عن أن يتعدى إلى مفعولين، كما كان يتعدّى إليهما، إذا لم يدخله معنى أخبرني به، إلّا أنّه امتنع من أجل ذلك أن يرفع المفعول به بعده على الحمل على المعنى، من أجل دخوله في حيّز الاستفهام، فلم يجز: «أرأيتك زيد أبو من هو؟» كما جاز: «علمت زيد أبو من هو؟». و «رأيت زيد أبو من هو؟» حيث كان المعنى: علمت أبو من زيد فكذلك دخول معنى الإعلام في الإنباء، والتنبيء لم يخرجهما عن أصلهما وتعدّيهما إلى مفعولين، أحدهما: يصل إليه الفعل بحرف الجر، ثم يتّسع فيحذف الحرف (4)، ويصل الفعل إلى الثاني.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): لمن.
(3) في (ط): تعدى.
(4) سقطت من (ط).(2/8)
فأمّا من قال: إنّ الأصل في نبّئت على خلاف ما ذكرنا، فإنّه لم يأت على ما ادعاه بحجة ولا شبهة. فأمّا قوله: {نَبِّئْ عِبََادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر / 49] فيحتمل ضربين أحدهما: أن يكون (نبّئ) بمنزلة أعلم، ويكون (1) {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} قد سدّ مسدّ المفعولين، كما أنّه في قولك:
علمت أنّ زيدا منطلق، قد سدّ مسدّهما، فتكون (نبّئ) هذه المتعدية إلى ثلاثة مفعولين. ويجوز أن يكون (نبّئ) بمنزلة:
(خبّر) عبادي بأنّي، فحذف الحرف، ف (أنّ) في قول الخليل على هذا: في موضع جر، وعلى قول غيره: في موضع نصب.
فأمّا قوله: {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذََلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنََّاتٌ} [آل عمران / 15] فإن جعلت اللّام (2) متعلقة (بأؤنبّئكم)، جاز الجرّ في جنات على البدل من خير، وإن جعلته صفة لخير، لأنه نكرة جاز الجرّ في جنات أيضا.
وإن جعلتها متعلقة بمحذوف، لم يجز الجرّ في جنات، وصار مرتفعا بالابتداء أو بالظرف. ولم يجز غير ذلك، لأن اللام حينئذ لا بد لها من شيء يكون خبرا عنه. فأما قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللََّهُ مِنْ أَخْبََارِكُمْ} [التوبة / 94] فلا يجوز أن تكون (من) فيه زيادة على ما يتأوّله أبو الحسن من زيادة (من) في الواجب، لأنه يحتاج إلى مفعول ثالث، ألا ترى أنه لا خلاف في أنه إذا تعدى إلى الثاني، وجب تعديه إلى المفعول الثالث، وإن قدرت تعديته (3) إلى مفعول محذوف، كما تؤوّل قوله:
__________
(1) في (ط): ويكون قوله.
(2) اللام في قوله (للذين).
(3) في (ط): تعديه.(2/9)
{يُخْرِجْ لَنََا مِمََّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهََا} [البقرة / 61] أي شيئا لزم تعديته إلى آخر. فإن جعلت (من) زيادة (1)، أمكن أن تضمر مفعولا ثالثا، كأنّه: نبأنا الله أخباركم مشروحة. ويجوز أن تجعل (من) ظرفا غير مستقر، وتضمر المفعول الثاني، والثالث كأنه: نبأنا الله من أخباركم ما كنتم تسرونه تنبيئا، كما أضمرت في قوله (2): {أَيْنَ شُرَكََائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص / 62] أما قوله (3): {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس / 53] فيكون يستنبئونك: يستخبرونك، فيقولون: أحقّ هو؟ ويكون:
يستنبئونك: يستعلمونك، والاستفهام قد سدّ مسدّ المفعولين.
ومما يتّجه على معنى الإخبار دون الإعلام، قوله (4):
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى ََ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذََا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ / 7] فالمعنى: يخبركم، فيقول لكم: إذا مزّقتم، وليس على الإعلام، ألا ترى أنهم قالوا: {أَفْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ / 8] قال أبو علي (5): فأما قوله (6): (أنبئهم) فحجة من قرأ بضم الهاء ظاهرة، وذلك أن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول: ضربهم وأنبأهم، وهذا لهم. وإنما تكسر الهاء إذا وليتها كسرة أو ياء، نحو: بهم وعليهم. وهذا أيضا يضمه قوم، فلا يجانسون بكسرتها الكسرة التي قبلها، ولا الياء، ولكن يضمّونها على الأصل، نحو: بهم، وبهو، وبدارهو، وعليهم، وقد تقدم ذكر
__________
(1) في (ط): زائدة.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) في (ط): قوله عز وجل.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(6) في (ط): وأما قوله عز وجل.(2/10)
ذلك في أول الكتاب (1).
فأما وجه قراءة من قرأ: «أنبئهم» فكسر (2) الهاء، والذي قبلها همزة مخففة، فإنّ لكسره الهاء (3) وجهين من القياس على ما سمع منهم. أحدهما: أنه أتبع كسر (4) الهاء الكسرة التي قبلها، والحركة للإتباع قد جاء مع حجز السكون وفصله بين المتحركين، ألا ترى أنّ أبا عثمان قد حكى عن عيسى عن ابن أبي إسحاق: هذا المرء، ورأيت المرء، ومررت (5) بالمرء. فأتبعوا مع هذا الفصل، كما أتبعوا في اللغة الأخرى: هذا امرؤ، ورأيت امرأ، وبامرئ. وكذلك: أخوك، وأخاك، وأخيك. فكذلك يكون قوله: (أنبئهم) أتبعت كسرة الهاء الكسرة التي على الباء.
ومما يثبت ذلك، أن أبا زيد قال: قال رجل من بكر بن وائل: أخذت هذا منه يا فتى، ومنهما، ومنهمي. بكسر (6)
الاسم المضمر في الإدراج والوقف. قال: وقال عنه (7)، وقال:
لم أعرفه، ولم أضربه. بكسر كل هذا. قال أبو زيد: وقال: لم أضربهما بكسر (8) الهاء مع الباء. ففي ما حكاه أبو زيد: ما يعلم منه أنّ الإتباع مع حجز الساكن بين الحركتين، مثله إذا توالت الحركتان، فلم يحجز بينهما شيء. ألا ترى أنه قال: منه ومنهما ومنهمي، فأتبع الكسر الكسر مع حجز السكون (9)
بينهما، كما أتبع في: لم أضربه، ولم أضربهما، ولم أعرفه،
__________
(1) انظر ص 61.
(2) في (ط): بكسر.
(3) في (ط): لكسر الهاء.
(4) في (ط): كسرة.
(5) سقطت مررت من (م).
(6) في (ط): ومنهم فكسر.
(7) في (ط): وحكى عنه.
(8) في (ط): فكسر.
(9) في (ط): الساكن.(2/11)
وإن لم يحجز بينهما شيء؟ فكذلك قوله (1): (أنبئهم) أتبع الكسرة في الهاء الكسرة التي قبلها.
والوجه الآخر (2): أنه لم يتعدّ بالحاجز الذي بين الكسرة والهاء لسكونها، فكأن الكسرة وليت الهاء، والكسرة إذا وليت الهاء (3) كسرت نحو: به. ويكون تركهم الاعتداد في «أنبئهم» بالسكون كتركهم الاعتداد به في قولهم: هو ابن عمّي دنيا، وقنية (4)، ألا ترى أنه من الدنوّ، وقالوا: قنوة. فكما قلبت الواو ياء في عارية ومحنية، لانكسار ما قبلهما، كذلك قلبوها مع حجز الساكن في دنيا. فإذا رأيتهم لم يعتدّوا بالحاجز إذا كان ساكنا، كذلك يجوز أن لا يعتدّ به حاجزا في قراءة ابن عامر، وما روي عن ابن كثير.
ولو ترك تارك الهمز في: (أنبئهم) فقال: (أنبيهم) لكان لكسر الهاء وجهان.
أحدهما: أنه لما خفف الهمزة لسكونها وانكسار ما قبلها (5) فقلبها ياء كذيب وميرة (6) أشبهت الياء التي هي غير منقلبة عن الهمزة، فكسر الهاء بعدها، كما تكسر «هم» بعد:
(ترميهم) و (يهديهم). ويقوي ذلك أن منهم من أدغم الواو الساكنة
__________
(1) في (ط): قوله تعالى.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وليتها الهاء.
(4) يقال دنيا ودنية. ودنيا غير منون، وكأن أصل ذلك كله دنيا، أي: رحما أدنى إليّ من غيرها. اللسان: (دنا)، والقنية: ما اكتسب.
(5) في (م): وانكسارها، وما في (ط): هو الصواب.
(6) المئرة: العداوة، وجمعها مئر. اللسان (مار). وانظر سيبويه: باب الهمز 2/ 163.(2/12)
المنقلبة عن الهمزة في الياء، كما تدغم الواو التي ليست منقلبة، وذلك في قولهم: ريّا، وريّة (1).
ويقوّي ذلك إيقاعهم الألف المنقلبة عن الهمزة ردفا (2)، كإيقاعهم المنقلبة عن الياء أو الواو (3)، وذلك قوله (4):
على رال (5)
كما تقول: على بال. والوجه أن لا تكسر الهاء على هذا المذهب، كما أن الوجه أن لا تدغم.
والوجه الآخر: أن تقلب الهمزة إلى الياء قلبا. وهذا وإن كان سيبويه لا يجيزه إلا في الشعر، فإن أبا زيد يرويه عن قوم من العرب. وإذا اتّجهت له هذه الوجوه لم ينبغ أن يخطّأ، وإن أمكن أن يقال إن غيره أبين وجها منه وأظهر.
فأما آدم: فقال بعض أهل اللغة: إن الآدم (6) من الإبل
__________
(1) أصلها: رؤيا ورؤية. انقلبت الهمزة فيهما واوا وأدغمت في الياء بعد قلبها ياء. وهو من إجراء غير اللازم مجرى اللازم. انظر الخصائص 1/ 305.
(2) الردف في الشعر: حرف ساكن من حروف المد واللين يقع قبل حرف الروي ليس بينهما شيء (اللسان).
(3) في (ط): والواو.
(4) في (ط): نحو قوله.
(5) قافية بيت من الشعر لامرئ القيس وهو قوله في ديوانه 38:
وصمّ صلاب ما يقين من الوجى ... كأن مكان الردف منه على رال
يصف حوافر فرسه، وارتفاع مؤخرته ويشبهها بمؤخرة الرأل. وهو ولد النعام. وخفف الهمزة فيه قال في اللسان (رأل) بعد إيراده عجز البيت: أراد على رأل، فإما أن يكون خفف تخفيفا قياسيا، وإما أن يكون أبدل إبدالا صحيحا على قول أبي الحسن، لأن ذلك أمكن للقافية إذ المخفف تخفيفا قياسيا في حكم المحقق.
(6) في (ط): الأدم.(2/13)
والظباء: الأبيض (1)، وما سوى ذلك، فالآدم الذي ليس بأبيض على ما يتكلم به الناس فيقولون: رجل آدم للذي ليس بأبيض، ورجل أسمر، وهو أصفى من الآدم. قال: ولا تقول العرب للرجل: أبيض، من اللون، إنما يقولون: أحمر،
قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (2): «بعثت إلى الأسود والأحمر» (3)
وإنما الأبيض: البعيد من الدّنس النقي، قال: ويقال: ظبي آدم وظبية أدماء وبعير آدم وناقة أدماء للأبيضين.
قال أبو الحسن: (أنبئهم بأسمائهم) الهاء مضمومة إذا همزت، وبها نقرأ، لأن الهاء لا يكسرها إلا ياء، أو كسرة، ومن العرب من يهمز ويكسر، وهي قراءة، وهي رديئة في القياس فإذا خفّفت الهمزة فكسر الهاء أمثل شيئا لشبهها بالياء.
البقرة: 36
اختلفوا في قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ عَنْهََا}
[البقرة / 36].
فقرأ حمزة وحده: فأزالهما بألف خفيفة، وقرأ الباقون: {فَأَزَلَّهُمَا} مشدّدا بغير ألف.
قال أبو بكر أحمد: وروى أبو عبيد: أنّ حمزة قرأ:
فأزالهما بالإمالة، وهذا غلط (4).
بسم الله (5): حجة حمزة في قراءته (فأزالهما الشيطان
__________
(1) الأدمة في الإبل: البياض مع سواد المقلتين، وهي في الناس: السمرة الشديدة (اللسان: أدم).
(2) سقطت من (ط).
(3) رواه مسلم 1/ 370كتاب المساجد، وأحمد في مسنده 1/ 301.
(4) كتاب السبعة 153.
(5) سقطت من (ط).(2/14)
عنها) أن قوله: {يََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلََا مِنْهََا}
[البقرة / 35] تأويله: أثبتا فثبتا، فأزالهما الشيطان، فقابل الثبات بالزوال، الذي هو خلافه. ومثل ذلك قوله تعالى (1):
{فَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}
[الشعراء / 63] تأويله: فضرب فانفلق، ومثله: {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة / 196] أي:
فحلق، فعليه فدية. ونسب الفعل إلى الشيطان، لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه ووسوسته، وتسويله، فلما كان ذلك منه سبب زوالهما عنها أسند الفعل إليه. ومثل هذا قوله تعالى (2):
{وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} [الأنفال / 17] فالرمي
كان للنبي صلّى الله عليه وسلم حيث رمى فقال: «شاهت الوجوه» (3)
إلا أنه لما كان بقوة الله وإرادته نسب إليه. ومما يقوي قراءته قوله تعالى (4):
{فَأَخْرَجَهُمََا مِمََّا كََانََا فِيهِ} [البقرة / 36] فقوله: فأخرجهما في المعنى قريب من أزالهما، ألا ترى أن إخراجه إياهما منها، إزالة منه لهما عما كانا فيه. فإن قال قائل: ما ننكر أن يكون فاعل أخرجهما، لا يكون ضمير الشيطان ولكن المصدر الذي ذكر فعله كقولهم: من كذب كان شرّا له، فالدّلالة على أن فاعله (5) ضمير الشيطان، قوله في الأخرى: {يََا بَنِي آدَمَ لََا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطََانُ كَمََا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}
[الأعراف / 27].
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) رواه مسلم 3/ 1402كتاب الجهاد والسير برقم (1777) شاهت:
قبحت.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): فاعل أخرجهما.(2/15)
ففاعل أخرجهما: الشيطان، كما بيّن ذلك في هذه (1).
ويقوي قراءته أيضا تأويل من تأوّل أن: {فَأَزَلَّهُمَا} من زلّ، الذي هو عثر، ألا ترى أن ذلك قريب من الإزالة في المعنى.
فإن قال قائل: فإنه إذا قرأ: فأزالهما كان قوله بعد:
{فَأَخْرَجَهُمََا} تكريرا، فالقراءة الأخرى أرجح، لأنها لا تكون على التكرير، قيل: إن قوله (2): أخرجهما، ليس بتكرير لا فائدة فيه، ألا ترى أنه قد يجوز أن يزيلهما عن مواضعهما، ولا يخرجهما مما كانا فيه من الدعة والرفاهية، وإذا كان كذلك لم يكن تكريرا غير مفيد. وعلى أن التكرير في مثل هذا الموضع لتفخيم القصّة وتعظيمها بألفاظ مختلفة ليس بمكروه ولا مجتنب، بل هو مستحبّ مستعمل، كقول القائل: أزلت نعمته، وأخرجته من ملكه، وغلّظت عقوبته. وقالوا: زال عن موضعه وأزلته، وفي التنزيل: {إِنَّ اللََّهَ يُمْسِكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولََا} [فاطر / 41]. {وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ}
[إبراهيم / 46] وقال الهذليّ (3):
فأزال خالصها بأبيض ناصح ... من ماء ألهاب بهنّ التّألب
__________
(1) في (ط): هذه الآية.
(2) في (ط): قوله عزّ وجلّ.
(3) هو ساعدة بن جؤيّة. من قصيدة له في ديوان الهذليين القسم الأول / 182وشرح أشعارهم 3/ 1112، 1143برواية: «ناصحها» بدل «خالصها» وهو بمعنى كما قال السكري، وألهاب: جمع لهب، وهو شق في الجبل، والتالب: شجر، يقول: قطع خالصها بأبيض، أي: مزجه حتى تقطّع العسل، من ماء غدير، مفرط: مملوء.(2/16)
فهذا على ضربين أحدهما: أن يريد: أزال خلوص خالصها بماء أبيض شاب هذه العسل به، فحذف المضاف. أو يكون وضع خالصها موضع خلوصها، كقولهم: العاقبة والعافية، وقوله (1):
ولا خارجا من فيّ زور كلام في قول من جعل «لا أشتم» جوابا للقسم. والخالص من الماء: الأبيض الصافي، فاستعاره للعسل، لأنهم يصفونها بالبياض في نحو:
وما ضرب بيضاء يأوي مليكها (2)
وأنشد السّكّريّ للعجاج (3):
من خالص الماء وما قد طحلبا حجة من قرأ {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ} [البقرة / 36] أن أزلّهما يحتمل تأويلين، أحدهما: كسبهما الزّلّة. والآخر: أن يكون أزلّ من زلّ الذي يراد به: عثر. فالدّلالة (4) على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من تزيينه لهما تناول ما حظر عليهما جنسه،
__________
(1) عجز بيت للفرزدق وصدره:
على قسم لا أشتم الدهر مسلما ديوانه / 769سيبويه 1/ 173الخزانة 1/ 108.
(2) صدر بيت لأبي ذؤيب في شرح السكري 1/ 142عجزه:
إلى طنف أعيا براق ونازل مليكها: يعسوب النحل ومليكها، والطنف: حيد من الجبل ورأس من رءوسه.
(3) في اللسان (خلص) وملحقات ديوانه 2/ 268عن اللسان.
(4) في (ط): الدلالة.(2/17)
بقوله: {مََا نَهََاكُمََا رَبُّكُمََا عَنْ هََذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف / 20] إلى قوله: {لَمِنَ النََّاصِحِينَ} وقوله (1): {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطََانُ لِيُبْدِيَ لَهُمََا مََا وُورِيَ عَنْهُمََا مِنْ سَوْآتِهِمََا} [الأعراف / 20].
وقد نسب كسب الإنسان الزلّة إلى الشيطان في قوله تعالى (2):
{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطََانُ بِبَعْضِ مََا كَسَبُوا} [آل عمران / 55] واستزلّ وأزلّ كقولهم: استجاب وأجاب، واستخلف لأهله وأخلف، فكما أنّ استزلّهم من الزّلّة، والمعنى فيه كسبهم الشيطان الزّلّة، كذلك قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ}
والوجه الآخر أن يكون {فَأَزَلَّهُمَا} من: زل عن المكان، إذا عثر فلم يثبت عليه، ويدل على هذا قوله تعالى:
{فَأَخْرَجَهُمََا مِمََّا كََانََا فِيهِ} [البقرة / 36] فكما (3) أن خروجه عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه (4) إلى غيره، كذلك عثاره فيه وزليله (5).
فأما قوله تعالى (6): {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِمََا جََاءَتْكُمُ الْبَيِّنََاتُ فَاعْلَمُوا} [البقرة / 209] فيحتمل وجهين، أحدهما: زللتم من الزّلة، كأن المعنى: فإن صرتم ذوي زلّة، ويجوز أن يراد به العثار، فشبّه المعنى بالعين، فاستعمل الذي هو العثار، والمراد به: الخطأ، وخلاف الصواب.
ومن هذا الباب قول ابن مقبل (7):
__________
(1) في (ط): عزّ وجلّ.
(2) في (ط): عزّ وجلّ.
(3) في (ط): كما.
(4) في (ط): عنه.
(5) في (ط): وزلته. وفي اللسان: زل السهم عن الدرع، والإنسان عن الصخرة يزل ويزلّ زلا وزليلا ومزلة
(6) سقطت من (ط).
(7) ديوانه / 101.(2/18)
يكاد ينشقّ عنه سلخ كاهله ... زلّ العثار وثبت الوعث والغدر
السّلخ: مصدر سلخته سلخا (1)، إلا أنه أريد به في هذا المكان المسلوخ، ألا ترى أن المنشقّ إنما يكون الإهاب دون الحدث. وقوله: زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، يريد أنه لفطنته يزل عن الموضع الذي يعثر فيه فلا يعثر، ويكون المصدر في هذا الموضع يراد به المفعول كأنه: المكان المعثور فيه، ومثل ذلك قوله (2):
على حتّ البراية
أي: عند البراية.
وقول النابغة (3):
رابي المجسّة
أي: عند المجسّة.
__________
(1) والسلخ بالكسر: الجلد، وبها جاءت رواية الديوان، ولا شاهد فيها لما أراده المؤلف.
(2) جزء من بيت للأعلم الهذلي في ديوان الهذليين بشرح السكري 1/ 320 وتمامه:
على حتّ البراية زمخريّ السواعد، ظلّ في شري طوال والبراية: البقية، والزمخري: الغليظ الطويل. والسواعد: العروق التي يجري فيها اللبن. والشري: الحنظل. قال: البراية: البقية من سيرها.
وفي اللسان وردت كلمة زمخري: زمخري وهو تصحيف.
(3) جزء من بيت في ديوانه / 40من قصيدته في المتجردة وتمامه:
وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسة بالعبير مقرمد(2/19)
ومثله (1): بضّة المتجرّد أي: عند المتجرّد، أي: التجريد.
ومثله للبيد (2):
صائب الجذمة أي: صائب عند الجذمة، يقول: هو قاصد عند القطع، ومثله قول أوس (3):
كشف اللّقاء أي: عنده (4).
فأما قوله: زلّ، فإنه صفة، ككهل، وغيل (5)، وفسل (6)، مما يدلّك على ذلك مقابلته بثبت الذي هو خلافه.
والغدر فيما فسّر عن أبي عمرو في أكثر ظني: مكان متعاد.
والوعث: السهل الذي تسوخ فيه أخفاف الإبل، والمعنى في:
ثبت الوعث، أي: ثبت عند الوعث كما كان في المعنى في:
زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، وإذا كان الغدر هذا الذي فسر،
__________
(1) جزء من بيت للنابغة في ديوانه / 39وتمامه:
محطوطة المتنين غير مفاضة ... ريّا الروادف بضّة المتجرد
(2) جزء من بيت في ديوانه / 144تمامه:
يغرق الثّعلب في شرّته ... صائب الجذمة في غير فشل
(3) لم نعثر عليه في الديوان.
(4) يدل على ذلك قول كعب في (ديوانه 23):
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
(5) الغيل: اللبن الذي ترضعه المرأة ولدها وهي حبلى.
(6) الفسل: الرذل النذل الذي لا مروءة له. وجمعه أفسل وفسول وفسال وفسل.(2/20)
فما أنشده أبو زيد (1):
يخبطن بالأيدي مكانا ذا غدر تقديره: مكانا غدرا. وتأويل إدخال قوله: «ذا» فيه أنه يوصف بهذا، كأنه قال: مكانا صاحب هذا الوصف. ومن هذا الباب قولهم: «من أزلّت إليه نعمة فليشكرها» (2) كأنه زلّت النعمة إليه، أي: تعدّت. وأزللتها أنا إليه، عدّيتها، كما أنّ قوله (3):
قام إلى منزعة زلخ فزل معناه: تعدّى من مكانه إلى مكان آخر. وكذلك قوله:
وإنّي وإن صدّت لمثن وقائل ... عليها بما كانت إلينا أزلّت (4)
تقديره: أزلّته، ليعود الضمير إلى الموصول.
__________
(1) النوادر 242 (ط الفاتح) وبعده: «خبط المغيبات فلاطيس الكمر» قال في اللسان (غدر). قال أبو زيد: الغدر والجرل والنّقل كل هذه الحجارة مع الشجر. وكل موضع صعب لا تكاد الدابة تنفذ فيه غدر. وفي مادة (فلطس) أنه لراجز يصف إبلا.
(2) النهاية لابن الأثير 2/ 310. واللسان (زلل).
(3) الرجز بغير نسبة في اللسان (نزع) و (زلخ) وقبله:
يا عين بكيّ عامرا يوم النهل ... عند العشاء والرشاء والعمل
والمنزعة: رأس البئر الذي ينزع عليه. وقال ابن الأعرابي: هي صخرة تكون على رأس البئر يقوم عليها الساقي. وزلخ: بسكون اللام وكسرها مثل زلج بالجيم: أي: دحض مزلة.
(4) اللسان مادة (زلّ). والبيت لكثير. والرواية في اللسان: (وصادق) بدلا من (وقائل).(2/21)
وأما الشيطان فهو فيعال من شطن مثل البيطار، والغيداق (1).
وليس بفعلان من قوله (2):
وقد يشيط على أرماحنا البطل ألا ترى أن سيبويه حكى: شيطنته فتشيطن، فلو كان من يشيط لكان شيطنته فعلنته، وفي أنّا لا نعلم هذا الوزن جاء (3)
في كلامهم ما يدلك أنه: فيعلته، مثل بيطرته، ومثل هينم (4)، وفي قول أمية أيضا دلالة عليه، وهو قوله (5):
أيّما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السّجن والأكبال
فكما أنّ شاطن فاعل، والنون لام، كذلك شيطان فيعال.
ولا يكون فعلان من يشيط. فإن قلت: فقد أنشد الكسائيّ أو غيره (6):
__________
(1) الغيداق: الغزير والجواد الكريم الواسع الخلق. اللسان (غدق).
(2) عجز بيت للأعشى، الديوان / 63وصدره:
قد نخضب العير في مكنون فائله والفائل: عرق يجري من الجوف إلى الفخذ، ومكنون الفائل هو الدم.
ويشيط: يهلك (اللسان / شاط).
(3) سقطت من (ط).
(4) الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم. اللسان (هنم).
(5) البيت لأمية بن أبي الصلت، ديوانه / 445اللسان (شطن) وفي جمهرة اللغة، والصحاح، يروى: «ثم يلقى في السجن والأغلال».
(6) البيت للطفيل الغنوي قاله في يوم محجر في غارة طيء.
والخذواء فرسه. وشيطان: هو شيطان بن الحكم بن جاهمة بن حراق.
انظر التاج واللسان مادة / خذا وديوان الطفيل / 49.(2/22)
وقد منّت الخذواء منّا عليهم ... وشيطان إذ يدعوهم ويثوّب
ففي ترك صرف شيطان دلالة على أنه مثل: سعدان وحمدان. قيل: لا دلالة في ترك صرف شيطان على ما ذكرت، ألا ترى أنه يجوز أن يكون قبيلة، ويجوز أن يكون اسم مؤنّث؟
فلا يلزم صرفها لذلك، لا لأنّ النون زائدة (1).
البقرة: 37
اختلفوا في قوله تعالى (2): {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ}
[البقرة / 37].
في رفع الاسم ونصب الكلمات، ونصب الاسم ورفع الكلمات. فقرأ ابن كثير وحده: {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ}
بنصب الاسم ورفع الكلمات. وقرأ الباقون: {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ} برفع الاسم ونصب الكلمات (3).
قال أبو علي: قالوا: لقي زيد خيرا، فتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وفي التنزيل: {فَإِذََا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
[الأنفال / 15] وفيه {إِذََا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللََّهَ}
[الأنفال / 45] و {لَقَدْ لَقِينََا مِنْ سَفَرِنََا هََذََا نَصَباً}
[الكهف / 62] فإذا ضعّفت العين منه، تعدى إلى مفعولين،
__________
(1) غير أن سيبويه في الكتاب 2/ 11في باب ما لا ينصرف في المعرفة لا يمنع أن يكون شيطان من شيط يقول: شيطان إن أخذته من التشيطن فالنون عندنا في مثل هذا من نفس الحرف إذا كان له فعل تثبت فيه النون، وإن جعلت دهقان من الدهق، وشيطان من شيّط لم تصرفه.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) السبعة 153.(2/23)
فقلت: لقّيت زيدا خيرا، فيصير الاسم الذي كان الفاعل المفعول الأول، قال (1): {وَلَقََّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الدهر / 11] وليس تضعيف العين هنا (2)، على حدّ فرّح (3) وأفرحته، وخرّج (4) وخرّجته وأخرجته، ألا ترى أنك إذا قلت: ألقيت كذا (5)، فليس بمنقول من لقيته، كأشربته من شربته يدل على أنه ليس بمنقول منه، أنه لو كان كذلك لتعدى إلى مفعولين، كما تعدى لقّيت، فلما لم يتعدّ إلى الثاني إلا بحرف الجر نحو ألقيت بعض متاعك بعضه (6) على بعض، علمت أنه استئناف بناء على حدة، وليست الهمزة همزة نقل كالتي في قولك:
ضربت زيدا، أو: أضربته إياه، وشربت الماء وأشربته الماء، فجعلوا ألقيته بمنزلة طرحته، في تعدّيه إلى مفعول واحد. فأما مصدر لقيت، فقال أبو زيد: لقيته لقية واحدة في (7) التلاقي والقتال، ولقيته لقاء ولقيانا ولقاة.
فأمّا قوله (8): {إِنَّ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا وَرَضُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا} [يونس / 7] أي: بدلا من الآخرة كما قال: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة / 38] ومعنى من الآخرة أي:
بدلا منها، كما قال: {وَلَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََا مِنْكُمْ مَلََائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف / 60] أي: بدلا منكم، ومثل هذا قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النََّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ}
__________
(1) في (ط): وقال.
(2) في (ط): هاهنا.
(3) في (ط): فرّحته.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): ألقيت زيدا.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): من.
(8) في (ط): عز وجل.(2/24)
[النساء / 133] وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مََا يَشََاءُ كَمََا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام / 134].
وقال الراعي (1):
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ... ظلما ويكتب للأمير أفيلا
وقال آخر (2):
كسوناها من الرّيط اليماني ... ملاء في بنائقها فضول
أي: بدلا من الريط.
ويكون قوله: {لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا} [يونس / 7]. أي: لا يخافون ذلك، لأنهم لا يؤمنون بها، فلا (3) يوجلون منها كما يوجل المؤمنون المصدقون بها، المعنيون بقوله: {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشََاهََا} [النازعات / 45] وقال: {وَهُمْ مِنَ السََّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء / 49] فيكون الرجاء هنا الخوف كما قال:
{لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً} [نوح / 13] وكما قال (4):
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها
__________
(1) هو الشاهد (529) من شرح أبيات المغني 1/ 324. وانظر تخريجه هناك. وفيه: الغلبة: مصدر غلب، والأفيل: الفصيل.
(2) أمالي ابن الشجري 1/ 38. وهو في وصف الإبل.
أراد: كسوناها بدلا من الريط مسوحا، والريط: ج ريطة وهي الملاءة، والبنائق: ج بنيقة وهي كل رقعة ترقع في القميص. وأراد بالمسوح عرقها، شبهه لسواده بالمسوح.
(3) في (ط): ولا.
(4) صدر بيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح السكري 1/ 144وعجزه:(2/25)
وقد يكون لا يرجون الرجاء الذي خلافه اليأس، كما قال: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ مِنْ أَصْحََابِ الْقُبُورِ}
[الممتحنة / 13] أي: من الآخرة، فحذف من الآخرة لتقدم ذكرها كما قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ}
[إبراهيم / 48] فحذف المتأخّر لدلالة ما تقدم عليه، ويجوز أن تكون: كما يئس الكفار من حشر أصحاب القبور.
ومن ذلك قوله: {وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلََائِكَةُ أَوْ نَرى ََ رَبَّنََا} [الفرقان / 21] وقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقََاءِ اللََّهِ} [الأنعام / 31] فالمعنى والله أعلم:
بالبعث، كما قال: {بَلْ كََانُوا لََا يَرْجُونَ نُشُوراً} [الفرقان / 40] ويقوي ذلك (1) {حَتََّى إِذََا جََاءَتْهُمُ السََّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام / 31] وعلى هذا قوله: {بَلْ هُمْ بِلِقََاءِ رَبِّهِمْ كََافِرُونَ} [السجدة / 10].
فأما قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ} [الأحزاب / 44] فالمعنى: يوم يلقون ثوابه، فهم (2) خلاف من وصف بقوله:
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم / 59] وقوله: {وَاتَّقُوا اللََّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلََاقُوهُ} [البقرة / 223] أي: ملاقون جزاءه، إن ثوابا وإن عقابا. وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة / 46] أي ملاقو ثواب ربّهم، خلاف من وصف بقوله: {لََا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِمََّا كَسَبُوا} [البقرة / 264] وقوله: {حَتََّى إِذََا جََاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور / 39]
__________
وخالفها في بيت نوب عوامل.
ونوب: تنتاب المرعى، وعوامل: تعمل العسل والشمع.
(1) في (ط): قوله جل وعز.
(2) في (ط): وهم.(2/26)
ونحو ذلك مما يدل على إحباط الثّواب وأنهم إليه راجعون، أي: يصدّقون بالبعث ولا يكذبون به، كما حكي عن المنكرين له في نحو: {أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ} (1) [الواقعة / 47] ونحو قولهم فيه: {إِنْ هََذََا إِلََّا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام / 25].
والظنّ هاهنا العلم، وكذلك قول المؤمن: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلََاقٍ حِسََابِيَهْ} [الحاقة / 20] فأما الآية الأولى التي هي قوله:
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة / 46] أي: ثوابه، فقد يجوز أن لا يكون منهم القطع على ذلك والحتم به، بدلالة قول إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
[الشعراء / 82] فأما قوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلََاقٍ حِسََابِيَهْ}
[الحاقة / 20] فلا يكون إلا على العلم والتيقّن، لأن صحة الإيمان إنما يكون بالقطع على ذلك والتّيقّن به (2) والشاكّ فيه لا إيمان له.
ويقال: لقيته ولاقيته، فمن لاقيت قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلََاقُوهُ} [البقرة / 223] و {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ}
[البقرة / 46] وقال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ}
[الأحزاب / 44] ولو كان يلاقونه كقوله: {أَنَّكُمْ مُلََاقُوهُ}
[البقرة / 223] كان حسنا، وقال: {وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا}
__________
(1) ورد في الأصل كلمة: (وآباؤنا) بدل (وعظاما) وهو إدراج من آية ثانية من سورة النمل: {أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا أَإِنََّا لَمُخْرَجُونَ} (67).
(2) في (ط): التيقن والشاك.(2/27)
[البقرة / 14] وقال (1):
يا نفس صبرا كلّ حيّ لاق كأنه: لاق منيّته وأجله.
وقال آخر (2):
فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى ... من القوم مسقيّ السّمام حدائده
وقال (3):
وكان وإيّاها كحرّان لم يفق ... عن الماء إذ لاقاه حتّى تقدّدا
وأما قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ} [السجدة / 23] فيكون على إضافة المصدر إلى المفعول، مثل: {بِسُؤََالِ نَعْجَتِكَ} [ص / 24] {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ}
__________
(1) بيت لراجز مجهول وبعده:
وكل اثنين إلى افتراق وهما في الخصائص: 2/ 475المحتسب 1/ 248الهمع 2/ 157والدرر 2/ 216.
(2) سيبويه 1/ 239. ونسبه الأعلم: للأشعث بن معروف الأسدي، وفي شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي 1/ 452لمضرس بن ربعي الأسدي.
وصف لصا لقي لصا مثله يبتغي مثل ما يبتغيه. والسمام: جمع سم. وأراد بالحدائد نصال سهامه.
(3) في (ط): وقال آخر:
والبيت لكعب بن جعيل. انظر الكتاب 1/ 150قال الأعلم: الشاهد فيه قوله: وإياها. والمعنى: فكان معها. يقول: كان غرضا إليها، فلما لقيها قتله الحب سرورا بها فكان كالحران وهو الشديد العطش أمكنه الماء وهو بآخر رمق، فلم يفق عنه حتى انقد بطنه، أي: انشق.(2/28)
[الروم / 3] لأن الضمير للرّوم وهم المغلوبون كأنه: لمّا قيل:
{فَخُذْهََا بِقُوَّةٍ} [الأعراف / 145] أي بجد واجتهاد، أعلمنا أنه أخذ بما أمر به، وتلقاه بالقبول، فالمعنى: من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل كقوله: {اتَّبِعْ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام / 106] و {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة / 18] ويجوز أن يكون الضمير لموسى، والمفعول به محذوف، كقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لََا يَسْمَعُوا دُعََاءَكُمْ} [فاطر / 14] فالدعاء مضاف إلى الفاعل، والمفعولون محذوفون. ومثل ذلك في إضافة المصدر إلى الفاعل، وحذف المفعول به قوله: {لَمَقْتُ اللََّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}
[المؤمن / 10] وهذا على قياس من قرأ: {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ} لأن موسى هو اللاقي، كما أن آدم هو المتلقّي.
ويجوز أن يكون الضمير لموسى في قوله: {مِنْ لِقََائِهِ} ويكون الفاعل محذوفا، والمعنى من لقائك موسى، ويكون ذلك في الحشر والاجتماع للبعث، أو في الجنة، فيكون كقوله: {فَلََا يَصُدَّنَّكَ عَنْهََا مَنْ لََا يُؤْمِنُ بِهََا} [طه / 16] فأما قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلََاقِ} [المؤمن / 15] فإنه يكون يوم تلاقي الظالم والمظلوم، والجائر والعادل، وتلاقي الأمم مع شهدائها كقوله: {وَنَزَعْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [القصص / 75] ومثل يوم التلاقي قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن / 9] وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ لََا رَيْبَ فِيهِ} [النساء / 87]. ونحو ذلك من الآي.
وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم / 14]، فإن
هذا التفرق بعد الاجتماع والتلاقي الذي أضيف اليوم إليهما، وذلك بعد الأخذ للمظلوم من الظالم، وقد بيّن هذا بقوله:(2/29)
وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم / 14]، فإن
هذا التفرق بعد الاجتماع والتلاقي الذي أضيف اليوم إليهما، وذلك بعد الأخذ للمظلوم من الظالم، وقد بيّن هذا بقوله:
{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى / 7] فأما قوله:
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس / 34، 35] وقد قال: {يَوْمَ الْجَمْعِ} و {يَوْمَ التَّلََاقِ}، فليس يراد بالفرار المضاف إليه اليوم الشّراد ولا النّفار، وأنت قد تقول لمن تكلّم: فررت مما لزمك، لا تريد بذلك بعادا في المحل.
وتقدير {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}: يوم يفر المرء من موالاة أخيه، أو من (1) نصرته. كما كانوا، أو من مساءلة أخيه لاهتمامه بشأنه، فالفرار من موالاته يدل عليه قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة / 166] وأما الفرار من نصرته على حد ما كانوا يتناصرون في الدنيا، فيدل عليه قوله:
{يَوْمَ لََا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلََّا مَنْ رَحِمَ اللََّهُ} [الدخان / 41، 42] والمسألة يدل عليها قوله: {وَلََا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج / 10].
وقد روي أنّ بعضهم قرأ: {يَوْمَ التَّنََادِ} (2) [المؤمن / 32] وكأنه اعتبر يوم يفرّ المرء من أخيه، فجعل التنادّ تفاعلا من ندّ البعير: إذا شرد ونفر، وليس ذلك بالوجه، ألا ترى أنه ليس يسهل (3) أن تقول: نددت من ما لزمك، ولا ناددت منه، كما تقول: فررت منه؟ ونرى سيبويه يستعمل في هذا المعنى فرّ كثيرا، ولا يستعمل ندّ، فليس هذا الاعتبار إذا بالوجه. وأما
__________
(1) في (ط): ومن.
(2) وهي قراءة ابن عباس والضحاك وأبي صالح والكلبي (المحتسب 2/ 243).
(3) في (ط): أنه لا يسهل.(2/30)
التنادي الذي عليه الكثرة والجمهور، فإنه يدل عليه قوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ إِلى ََ شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر / 6] وقوله (1): {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنََاسٍ بِإِمََامِهِمْ} [الإسراء / 71] و {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الاسراء / 52]. فالتنادي أشبه بهذه الآي. ألا ترى أن الدعاء والنداء يتقاربان به (2)، {إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ نِدََاءً خَفِيًّا}
[مريم / 3] {فَنََادَتْهُ الْمَلََائِكَةُ} [آل عمران / 39] وقال: {فَدَعََا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ} [القمر / 10] فقد استعمل كلّ واحد من النداء والدعاء في موضع الآخر، وليس التنادّ والفرار كذلك.
وأما قوله: (كلمات) فالكلمات: جمع كلمة، والكلمة:
اسم الجنس، لوقوعها (3) على الكثير من ذلك والقليل، قالوا:
قال امرؤ القيس في كلمته، يعنون قصيدته، وقال قسّ في كلمته، يعنون خطبته. وقال ابن الأعرابي: يقال: لفلان كلمة شاعرة، أي: قصيدة. وقد قيل لكل واحد من الكلم الثلاث:
كلمة، فالكلمة كأنها اسم الجنس، لتناولها الكثير والقليل (4).
كما أن الليل لما كان كذلك وقع على الكثير منه أو القليل (5)، فالكثير نحو قوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبََاساً} [النبأ / 10] {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص / 73] ومن ثمّ جعله سيبويه في جواب كم، إذا قيل: سير عليه الليل والنهار.
وأما (6) وقوعه على القليل وما هو دون ليلة فنحو قوله:
__________
(1) كذا في (ط)، وسقطت من (م).
(2) في (ط): وفي التنزيل.
(3) في (ط): لوقوعه.
(4) في (ط): القليل والكثير.
(5) في (ط) القليل منه والكثير.
(6) في (ط): فأما.(2/31)
{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} [الصافات / 138137].
فكذلك الكلمة قد وقعت على القليل والكثير. فأما وقوعها على الكثير (1) فنحو ما قدمناه، وأما وقوعها على القليل، فإنّ سيبويه قد أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد. فأما الكلام: فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلّفا من هذه الكلم، فقال: لو قلت: إن يضرب يأتينا، لم يكن كلاما، وقال أيضا: إنما يحكى: فقلت ونحوه، ما كان كلاما، لا قولا. فأوقع الكلام على المتألّف، وعلى هذا الذي استعمله جاء التنزيل، قال تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى ََ مَغََانِمَ لِتَأْخُذُوهََا ذَرُونََا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلََامَ اللََّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونََا} [الفتح / 15] فالكلام المذكور هنا (2)
والله أعلم يعنى به قوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللََّهُ إِلى ََ طََائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقََاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة / 83] ألا ترى قوله: {كَذََلِكُمْ قََالَ اللََّهُ مِنْ قَبْلُ}
[الفتح / 15]. والكلمات المذكورة في قوله (3): {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ} [البقرة / 37] فيما فسّر هي قولهما: {رَبَّنََا ظَلَمْنََا أَنْفُسَنََا} الآية [الأعراف / 22]. وسئل بعض سلف المسلمين عما يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبوه (4):
{ظَلَمْنََا أَنْفُسَنََا} (5) وما قاله موسى: {قََالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}
[القصص / 16] وما قاله يونس: {لََا إِلََهَ إِلََّا أَنْتَ سُبْحََانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظََّالِمِينَ} [الأنبياء / 87]
__________
(1) سقطت «على الكثير» من (ط).
(2) في (ط): هاهنا.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) في (ط): ما قاله أبوه آدم: {رَبَّنََا ظَلَمْنََا}.
(5) في (ط): الآية.(2/32)
وما قالته (1) الملكة: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمََانَ} [النمل / 44] وأما الكلمات في قوله تعالى (2): {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة / 124] فالمراد بها انقياده لأشياء امتحن بها وأخذت عليه، منها: الكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، في قوله: {إِنِّي مُهََاجِرٌ إِلى ََ رَبِّي} [العنكبوت / 26] والختان، وعزمه على ذبح ابنه، فالمعنى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بإقامة كلمات [أو بتوفية كلمات، والتقدير ذوي كلمات] (3) أي: يعبّر بها عن هذه الأشياء المسمّيات وعلى هذا وصف في قوله:
{وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى} [النجم / 37].
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون الكلم المتكلّم به، كما أنّ الصيد هو المصيد، والضرب (4) المضروب، والنسخ المنسوخ؟ فالقول: إنّ هذا إنما جاء (5) في المصادر، وليس قولهم الكلم بمصدر. فإن قلت: فقد أجرى قوم من العلماء ما كان من بناء المصدر مجرى المصدر، واستشهدوا على ذلك بأشياء، منها قولهم (6):
وبعد عطائك المائة الرّتاعا (7)
__________
(1) في (ط): قالت.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) ما بين المعقوفتين ساقطة من (ط).
(4) في (ط): والضرب هو.
(5) في (ط): جاز.
(6) في (ط): قوله.
(7) سبق في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 182.(2/33)
فالقول: إنا لم نعلم (1) لهم نصّا على ذلك. ومما ينبغي أن يحمل فيه الكلمات على الشرع كقوله: {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ} قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمََاتِ رَبِّهََا وَكُتُبِهِ}
[التحريم / 12] فالكلمات والله أعلم تكون: الشرائع التي شرعت لها دون القول، لأن ذلك قد استغرقه قوله تعالى: {وَكُتُبِهِ}
فكأن المعنى صدّقت بالشرائع فأخذت بها وصدّقت بالكتب فلم تكذّب بها. ومما يحمل من الكلم على أنّه قول، قوله تعالى (2): {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللََّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقََاهََا إِلى ََ مَرْيَمَ} [النساء / 171] فهذا والله أعلم يعني به.
قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران / 59] أي: قال من أجل خلقه: كن، فيكون، فسمّي كلمة لحدوثه عند قول ذلك.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ بِمََا صَبَرُوا} [الأعراف / 137] هي والله أعلم قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} الآية [القصص / 5] وقوله (3): {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لََا مُبَدِّلَ لِكَلِمََاتِهِ} [الأنعام / 115] وهو كقوله: {مََا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق / 29] أي: لا خلف (4) فيه ولا تبديل له، والكلمات (5) تقديرها: ذوي الكلمات أي ما عبر عنه بها من وعد ووعيد، وثواب وعقاب. وقوله (6): {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ََ}
__________
(1) في (ط): لا نعلم.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) هكذا في (ط): وسقطت من (م).
(4) في (ط): لا خلاف.
(5) في (ط): فالكلمات.
(6) في (ط): عز وجل.(2/34)
[الفتح / 26] [حدثنا يوسف بن يعقوب الأزرق (1) بإسناده] (2)
عن مجاهد، قال: لا إله إلا الله (3). وقد يجوز أن تكون كلمة التقوى: شرائعه، التي أمروا بالأخذ لها والتمسك بها. وأما قوله (4): {وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدََائِكُمْ وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَلِيًّا وَكَفى ََ بِاللََّهِ نَصِيراً مِنَ الَّذِينَ هََادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ}
[النساء / 4645].
فسألني أحد شيوخنا عنه، فأجبت بأنّ التقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، فقوله: {مِنَ الَّذِينَ هََادُوا} متعلق بالنّصرة، كقوله (5): {فَمَنْ يَنْصُرُنََا مِنْ بَأْسِ اللََّهِ إِنْ جََاءَنََا}
[المؤمن / 29] أي: من يمنعنا؟ فيكون: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}
على هذا حالا من الذين هادوا، تقديره: وكفى (6) بالله مانعا لهم منكم محرّفين الكلم. وأكثر الناس فيما علمت يذهبون إلى أن المعنى: من الذين هادوا يحرّفون الكلم، أي: فريق يحرفون الكلم، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله: {وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم / 24] أي: أنه يريكم فيها البرق، أو يريكموها البرق، وهذا أشبه لقوله (7):
__________
(1) يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول بن حسان بن سنان أبو بكر الأزرق التنوخي الكاتب (329238هـ) كتب لغة ونحوا وأخبارا عن أبي عكرمة الضبي صاحب المفضل، وحمل عن عمر بن شبة من هذه العلوم فأكثر وعن الزبير بن بكار وغيرهم. وكان ثقة، متعففا، عريض النعمة متخشا في دينه كثير الصدقة (تاريخ بغداد 14/ 321).
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).
(3) تفسير مجاهد 2/ 603.
(4) في (ط): عز وجل.
(5) في (ط): كما قال.
(6) في (ط): كفى.
(7) في (ط): بقوله.(2/35)
{وَمِنَ الَّذِينَ هََادُوا سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمََّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} [المائدة / 41] فكما أن يحرفون في هذه الآية صفة لقوله: {سَمََّاعُونَ} كأنه قال: ومن الذين هادوا فريق سمّاعون للكذب، أي: يسمعون ليكذبوا فيما يسمعونه منه، ويحرّفونه عنه، سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم.
فكما أن يحرفون هنا، صفة لقوله: {سَمََّاعُونَ}، كذلك يكون في الآية الأخرى. فإن قلت: فلم لا يكون حالا من الضمير الذي في قوله: {لَمْ يَأْتُوكَ}؟ فإن ذلك ليس بالسهل في المعنى، ألا ترى أن المعنى: ومن الذين هادوا فريق يسمعون من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليكذبوا فيما يسمعونه، ويحرفون بكذبهم فيه، فإذا كان كذلك لم يكن حالا من الضمير الذي في (1): {لَمْ يَأْتُوكَ}، لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا فيحرفوا، فإذا كان كذلك، كان وصفا ولم يكن حالا، وتكون (2)، يحرفون: على قياس ما قلناه، في قوله: {وَكَفى ََ بِاللََّهِ نَصِيراً، مِنَ الَّذِينَ هََادُوا يُحَرِّفُونَ} [النساء / 4645] حالا من الضمير الذي في اسم الفاعل، كأنه: سمّاعون محرفين للكلم، أي: مقدرين تحريفه، كقوله: معه صقر صائدا به غدا. و {هَدْياً بََالِغَ الْكَعْبَةِ}
[المائدة / 95] وقد يجوز أن يكون التحريف المعنيّ بقوله:
{مِنَ الَّذِينَ هََادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ} [النساء / 46] ما كانوا يقصدونه في قولهم: {رََاعِنََا} [البقرة / 104] من السّب، وخلاف ما يقصده المسلمون، إذا خاطبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من المراعاة. قال (3) أبو زيد: «قال الصّقيل: ما كلّمت فلانا إلا
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): ويكون.
(3) في (ط): وقال.(2/36)
مشاورة، تقول: أشرت إليه وأشار إليّ» (1) فهذا على أمرين:
أحدهما: أن يكون استثناء منقطعا، والآخر على: كلامك المشاورة، كقولك: عتابك السيف. فأما النطق والمنطق فكان القياس في المنطق فتح العين، لأنه من نطق، لكنه قد جاء على الكسر كما قال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [آل عمران / 55، لقمان / 15] وقال: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة / 222] وقد استعمل رؤبة الكلام في موضع النطق فقال (2):
لو أنني أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النمل
فهذا إنما أراد به قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمََانُ دََاوُدَ وَقََالَ يََا أَيُّهَا النََّاسُ عُلِّمْنََا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل / 16] فعبّر بالكلام بما عبّر عنه بالمنطق. وقول أوس (3):
ففاءوا ولو أسطو على أمّ بعضهم ... أصاخ فلم ينطق ولم يتكلّم
على هذا تكرير (4) وقال: {لَقَدْ عَلِمْتَ مََا هََؤُلََاءِ يَنْطِقُونَ}
[الأنبياء / 65] لأنها جماد لا كلام لها. وقال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ}
__________
(1) نوادر أبي زيد ص 259و 260.
(2) من قصيدة لرؤبة في أراجيز العرب / 130. وعلم الحكل، يريد: علم العجماوات. وفي (ط) ورد الشطر الأول: فقلت لو أعطيت.
(3) ديوان أوس بن حجر / 123، على أمّ بعضهم: على بعضهم. أصاخ:
سكت مفحما.
(4) في (ط): وقول أوس على هذا تكرير.(2/37)
[النور / 24] والشهادة (1): كلام وقول. وقال: {وَقََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا؟ قََالُوا: أَنْطَقَنَا اللََّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت / 21].
ومن ذلك قوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوََّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلََا يَكْتُمُونَ اللََّهَ حَدِيثاً} [النساء / 42] لأن ما ذكر من جوارحهم تشهد عليهم، فقيل: لا يكتمون، لمّا كان إظهار ذلك وإبداؤه بجوارحهم.
والقول، والكلام، والمنطق، يستعمل كل واحد من ذلك في موضع الآخر ويعبر بكل واحد منها كما عبر بالآخر، قال:
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مََا لََا يَفْعَلُونَ} [الشعراء / 226] وقال: {عُلِّمْنََا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل / 16] وقال عن الهدهد: {فَقََالَ أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل / 22] فأما قوله: {هََذََا كِتََابُنََا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية / 28] فهو في المعنى: كقوله: {مََا لِهََذَا الْكِتََابِ لََا يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً إِلََّا أَحْصََاهََا} [الكهف / 49] وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنََاهُ كِتََاباً} [النبأ / 29] أي: كل شيء من أعمالهم، كما قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر / 5352] وقال: {أَحْصََاهُ اللََّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة / 6] وقال: {وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ كِتََاباً يَلْقََاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء / 13] وقال: {هُنََالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مََا أَسْلَفَتْ} [يونس / 30].
وأنشد أبو الحسن (2):
__________
(1) في (ط): فالشهادة.
(2) لم نعثر على قائله. وقد وردت قافية البيت في (ط): «الأسحار» بدل «فاجتنبتنا».(2/38)
صدّها منطق الدّجاج عن القص * د وصوت الناقوس فاجتنبتنا وأنشد (1):
فصبّحت والطير لم تكلّم خابية طمّت بسيل مفعم وقال: (2)
فلم ينطق الديك حتى ملأ ... ت كوب الرّباب له فاستدارا
فوضع كلّ واحد من الكلام والنطق موضع الصوت في قوله (3):
لمّا تذكّرت بالدّيرين أرّقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
وإنما يعني: انتظاره صوت الديكة. ولم نر النطق مسندا إلى القديم. كما أضيف إليه الكلام في قوله: {حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ} [التوبة / 6] وقد جاءت هذه الكلمة في اللغة فيما يطيف بالشيء ويحيط به كقوله: النّطاق والمنطقة. وقال (4):
__________
(1) اللسان مادة (طمّ). أنشده ابن بري ولم يسم الراجز.
(2) البيت للأعشى يمدح فيه قيس بن معد يكرب. ومعناه: أملأ لصاحبي كوب الساقية، فلا يصيح ديك الصباح حتى يكون قد انتشى وغشيه الدوار. انظر الديوان / 47.
(3) البيت لجرير في ديوانه 1/ 126، وانظر شرح أبيات المغني 1/ 324.
(4) البيت للأسود بن يعفر وهو من مفضلية برقم 44ص 218وانظر تخريجها فيه. دراهم الأسجاد: دراهم ضربها الأكاسرة. ووردت في (ط): لدراهم(2/39)
من خمر ذي نطف أغنّ منطّق ... وافى بها لدراهم الأسجاد
فإذا كان كذلك لم يكن قول أوس: «لم ينطق ولم يتكلّم» تكريرا، وكان كلّ واحد منهما لمعنى غير الآخر.
وأنشد بعض البغداذيين (1):
فإن تنطق الهجراء أو تشر في الخنا ... فإنّ البغاث الأطحل اللّون ينطق
فأسند إلى البغاث النطق.
الإعراب
الأفعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة أضرب:
منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به. ومنها: ما يجوز أن يكون المفعول به فاعلا له، نحو: أكرم بشر بكرا، وشتم زيد عمرا (2) وضرب عبد الله زيدا.
ومنها: ما لا يكون فيه المفعول به فاعلا له نحو: دققت
__________
وهو تحريف، وفي اللسان (سجد) كدراهم بدل لدراهم.
والنطف: جمع نطفة وهي القرط. والأغن: الذي يخرج صوته من خياشيمه. منطق: غلام عليه نطاق.
(1) لم نعثر على قائله. تشرى: تلج. أطحل: من الطحلة: لون بين الغبرة والبياض لسواد قليل، وبغاث الطير وبغاثها: ألائمها وشرارها وما لا يصيد منها، واحدتها: بغاثة، بالفتح، الذكر والأنثى في ذلك سواء (اللسان بغث).
(2) في (ط): أكرم بشر عمرا، وشتم زيد بكرا.(2/40)
الثوب، وأكلت الخبز، وسرقت درهما وأعطيت دينارا، وأمكنني الغوص.
ومنها: ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى، كإسناده إلى المفعول به، وذلك نحو: أصبت، ونلت، وتلقّيت (1)، تقول (2): نالني خير، ونلت خيرا، وأصابني خير، وأصبت خيرا، ولقيني زيد، ولقيت زيدا، وتلقاني (3)، وتلقيته، قال (4):
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال (5): {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران / 40] {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم / 8]. وكذلك: أفضيت إليه، وأفضى إليّ، وقال (6): {وَقَدْ أَفْضى ََ بَعْضُكُمْ إِلى ََ بَعْضٍ}
[النساء / 21]. وإذا كانت معاني هذه الأفعال على ما ذكرنا، فنصب ابن كثير لآدم ورفعه الكلمات (7) في المعنى، كقول من رفع آدم ونصب الكلمات.
ومن حجّة من رفع: أنّ عليه الأكثر، ومما يشهد للرفع قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور / 15] فأسند الفعل إلى المخاطبين والمفعول به كلام يتلقّى، كما أنّ الذي تلقّاه آدم (8)
كلام متلقّى. فكما أسند الفعل إلى المخاطبين، فجعل التلقّي
__________
(1) في (ط): وتلقيت ولقيت.
(2) في (ط): وتقول.
(3) في (ط): وتلقاني زيد.
(4) ورد عند زهير في ديوانه ص 300وعند كعب بن زهير انظر ديوانه / 257 وفيهما: لم تقصر.
(5) في (ط): قال.
(6) في (ط): وقال سبحانه.
(7) في (ط): للكلمات.
(8) في (ط): تلقى آدم من ربه.(2/41)
لهم، كذلك يلزم أن يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التّلقّي له دون الكلمات. ومن ذلك قول القائل: في آيات تلقّيتها عن عمّي، تلقّاها عن أبي هريرة. فجعل الكلام مفعولا به، وأسند الفعل إلى الآخذ له دون الكلام، فكذلك ينبغي أن يكون في الآية.
ومما يقوّي الرفع في آدم أنّ أبا عبيدة قال في تأويل قوله: {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ} [البقرة / 37] أي: قبلها (1).
فإذا كان آدم القابل، فالكلمات مقبولة. ومثل هذه الآية في إسناد الفعل فيها مرّة إلى الكلمات ومرة إلى آدم قوله (2): {لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ} [البقرة / 124] وفي حرف عبد الله فيما قيل:
(لا ينال عهدي الظالمون) فلمن رفع أن يقول: {وَلََا يَنََالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} [التوبة / 120] فأسند الفعل إليهم، ولم يقل: ولا ينالهم من عدو نيل، والنّيل: يكون مصدرا كالبيع. ويكون الشيء الذي ينال، مثل الخلق، والصّيد، وضرب الأمير. وقوله:
تفرجة القلب قليل النيل (3).
يجوز أن يكون المعنى: قليل ما ينال، كما يقال: قليل الكسب، ويكون قليل النيل: قليل ما ينيل، وكلاهما ذمّ.
وقال (4): {لَنْ تَنََالُوا الْبِرَّ حَتََّى تُنْفِقُوا مِمََّا تُحِبُّونَ}
[آل عمران / 92].
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 38.
(2) في (ط): قوله تعالى.
(3) بيت من الرجز في اللسان (فرج) و (ندل) أنشده ثعلب وبعده:
يلقى عليه نيدلان الليل وتفرجة: جبان ضعيف النيدلان: الكابوس، وقيل: هو مثل الكابوس.
(4) في (ط): وقال تعالى.(2/42)
وحجّة من قرأ بالنصب قوله: {لََا يَنََالُهُمُ اللََّهُ بِرَحْمَةٍ}
[الأعراف / 49] ولم يقل لا ينالون الله برحمة كما قال (1): {وَلََكِنْ يَنََالُهُ التَّقْوى ََ مِنْكُمْ} [الحج / 37] فكما أسند الفعل إلى التقوى دون اسم الله سبحانه، كذلك كان يمكن لا ينالون الله برحمة أي: مرحوما به، يرحمون عباده به، وكأنّ المعنى في: {لَنْ يَنََالَ اللََّهَ لُحُومُهََا} [الحج / 37] لن ينال قربة الله أو ثواب الله قربة لحومها ودمائها، أو ثوابهما، لأن ذلك ليس بقربة على حدّ ما يتقرّبون به، ويتنسّكون فلا يقبله، ولا يثيب عليه، من حيث كان معصية، ولكن يقبل من ذلك ما كان عن تقوى الله وطاعته دون ما كان من المعاصي التي قد كرهها ونهى عنها. وكأنّ المراد بينال: معنى القبول. كما قال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبََادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقََاتِ} [التوبة / 104] فمعنى قبوله التوبة أن يبطل به ما كان يستحقّ من العقوبات التي تكفّرها التوبة، وأخذ الصّدقات هو الجزاء عليها والإثابة من أجلها.
البقرة: 48
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: ولا تقبل منها شفاعة [البقرة / 48].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تقبل بالتّاء. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائيّ: {وَلََا يُقْبَلُ} بالياء. وروى يحيى بن آدم وابن أبي أميّة والكسائي وغيرهم عن أبي بكر وحفص عن عاصم بالياء. وروى الحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم بالتاء (2).
__________
(1) في (ط): وقال تعالى.
(2) كتاب السبعة ص 154.(2/43)
قال أبو عليّ (1): المعنى في قوله: {لََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ}. لا يقبل فيه منها شفاعة، فمن ذهب إلى أن (فيه) محذوفة من قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ}
[البقرة / 48] جعل (فيه) محذوفة بعد قوله: يقبل. ومن ذهب إلى أنه حذف الجارّ وأوصل الفعل إلى المفعول، ثم حذف الرّاجع من الصّفة. كما يحذف من الصّلة، كان مذهبه في قوله: {لََا يُقْبَلُ} أيضا مثله.
وحذف الهاء من الصفة يحسن، كما يحسن حذفها من الصلة، ألا ترى أن الفعل لا يتسلّط بحذف المفعول منه على الموصوف كما لا يتسلّط بذلك على الموصول؟
فممّا حذف منه الراجع من الصّفة قوله (2):
وما شيء حميت بمستباح وقول الأسود بن يعفر:
وفاقر مولاه أعارت رماحنا ... سنانا كقلب الصّقر في الرّمح منجلا (3)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) عجز بيت لجرير يمدح عبد الملك وصدره:
أبحت حمى تهامة بعد نجد يريد عبد الله بن الزبير وقتله إياه، وغلبته على ما كان في يديه.
انظر شرح أبيات المغني الشاهد 741وديوان جرير 1/ 89.
(3) الفقر: حزّ أنف البعير الصعب بحديدة حتى يخلص إلى العظم، أو قريب منه، ثم يلوى عليه جرير لتذليله وترويضه (التاج فقر).(2/44)
فالهاء العائدة إلى المنكور الموصوف محذوفة، وهي المفعول الأوّل لأعارت. وموضع الجملة جرّ، كما أن موضع الجملة التي هي تقبل نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها (1). ومن الحذف قوله (2):
تروّحي أجدر أن تقيلي ... غدا بجنبي بارد ظليل
المعنى: تأتي مكانا أجدر أن تقيلي فيه. فحذف الجارّ، فوصل الفعل ثم حذف الضمير. وممّا لم يحذف فيه الرّاجع من الصفة قوله (3):
في ساعة يحبّها الطّعام وهذا في المعنى قريب من قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنََاجِرِ كََاظِمِينَ مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ} [المؤمن / 18].
فالمعنى: ما للظالمين فيه من حميم ولا شفيع يطاع، وليست الجملة التي هي: {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} صفة كما
__________
(1) في (ط): لما قبلها.
(2) الرجز لاحيحة بن الجلاح يخاطب فسيلا. تروح النبت إذا طال. تقيلي:
من القيلولة، كنى به عن النمو والزهو. المحتسب 1/ 212أمالي ابن الشجري 1/ 343العيني 4/ 36، التصريح 2/ 103الأشموني 3/ 46.
(3) ورد في المخصص 12/ 243و 14/ 875والكامل / 34.
ولم يذكر قائله. وقوله: يحبّها، أي: يحب فيها. وقبله في الكامل:
قد صبّحت صبّحها السلام ... بكبد خالطها سنام(2/45)
كانت في الآية الأخرى صفة. ومثل ذلك قوله: {يَوْمَ لََا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلََّا مَنْ رَحِمَ اللََّهُ}
[الدخان / 4241]. وقبول الشيء: هو تلقّيه والأخذ به وخلاف الإعراض عنه، ومن ثم قيل لتجاه الشيء: قبالته، وقالوا: أقبلت المكواة الداء، أي: جعلتها قبالته. قال (1):
وأقبلت أفواه العروق المكاويا ويجوز أن يكون المخاطبون بذلك اليهود، لأنهم زعموا أن آباءها الأنبياء تشفع لها، فأويسوا من ذلك.
وقريب من هذا قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}
[المائدة / 18]. فأما الشفاعة فنراها من الشّفع الذي هو خلاف الوتر، قال (2):
وأخو الأباءة إذ رأى خلّانه ... تلّى شفاعا حوله كالإذخر
فكأنه سؤال من الشفيع، يشفع سؤال المشفوع له.
وليس معنى لا تقبل منها شفاعة أنّ هناك شفاعة لا تقبل، ألا
__________
(1) عجز بيت لابن احمر وصدره في (شعره / 171):
شربت الشّكاعى والتددت ألدّة والألدة ج لدود وهو ما يصب بالمسعط من الدواء في أحد شقي الفم، وقد لدّ الرجل، والتدّ هو. والشكاعى: نبت يتداوى به (اللسان: لدد وشكع).
(2) البيت لأبي كبير الهذلي. والإذخر: حشيش طيب الريح. والأباءة:
الأجمة. وتلّى: صرعى، شفاعا: اثنين اثنين، يريد: قتلى كثيرة. انظر ديوان الهذليين من 2/ 103شرح السكري 3/ 1083اللسان: مادة (ذخر).(2/46)
ترى أن في قوله: {وَلََا يَشْفَعُونَ إِلََّا لِمَنِ، ارْتَضى ََ}
[الأنبياء / 28] انتفاء الشفاعة عمن سوى المرتضين، فإذا كان كذلك، كان المعنى لا تكون شفاعة فيكون لها قبول، كما أن قوله: {لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً} [البقرة / 273] معناه: لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف، كقوله:
على لا حب لا يهتدى لمناره ... إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا (1)
وقوله (2):
لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضبّ بها ينجحر (3)
__________
(1) البيت لامرئ القيس ديوانه / 89، دياف: موضع في البحر، وهي أيضا قرية بالشام. اللاحب: الطريق الواضح. منار: ج منارة. وأصلها منورة، وسمي بذلك لأنها في الأصل كل مرتفع عليه نار. سافه: شمّه. والعود:
البعير الهرم والجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته. وقوله: لا يهتدي لمناره، لم يرد أن فيه منارا لا يهتدى به، ولكنه نفى أن يكون به منار، والمعنى: لا منارة به فيهتدى به.
اللسان / ديف / الخزانة 4/ 273.
(2) البيت لعمرو بن أحمر في وصف فلاة الخزانة 4/ 273وشعره ص 67.
المعنى: نفى أن يكون في الفلاة حيوان.
(3) ورد في هامش (ط) ما يلي: «ومثل ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:
متفلق أنساؤها عن قانئ ... كالقرط صاو غبره لا يرضع
أي ليس ثم غبر فيكون رضاع».
والبيت في شرح السكري 1/ 35والقانئ: الضرع كان أسود فاحمر فإذا ذهب لبنه اسود، صاو: يابس، كالقرط: أي الضرع كأنه قرط في صغره، والغبر: بقية اللبن. لا يرضع أي أنها لم تحمل قط أي ليس فيه لبن يشرب.(2/47)
فأما قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمََاوََاتِ لََا تُغْنِي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلََّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللََّهُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَرْضى ََ}
[النجم / 26] فالمعنى: لا تغني شفاعتهم أن لو شفعوا، ليس أنّ هناك شفاعة مثبتة، ومثله: {وَلََا تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ عِنْدَهُ إِلََّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ / 23] ومثله: {يَوْمَئِذٍ لََا تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه / 109] فأطلق على المعنى الاسم، وإن لم يحدث كما قال (1):
لما تذكّرت بالدّيرين أرّقني ... صوت الدّجاج وقرع بالنّواقيس
والمعنى: انتظار أصواتها، فأوقع عليه الاسم، ولمّا يكن. فإضافة الشفاعة إليهم كإضافة الصوت إليها. ويدلك على أن المعنى في قوله: {لََا تُغْنِي شَفََاعَتُهُمْ} ما ذكرنا، الآية التي تقدم ذكرها. وقوله (2): {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلََائِكَةُ صَفًّا لََا يَتَكَلَّمُونَ إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ} [النبأ / 38] والشفاعة: كلام.
فأما قوله: {إِلََّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللََّهُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَرْضى ََ}
[النجم / 26] فالمعنى: لمن يشاء شفاعته على إضافة المصدر إلى المفعول به، الذي هو مشفوع له، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فصار اللفظ: لمن يشاؤه. أي يشاء شفاعته، ثم حذف الهاء من الصلة. فأما قوله: ويرضى.
فتقديره: يرضاه (3)، كما أنّ قوله: {وَلََا يَشْفَعُونَ إِلََّا لِمَنِ ارْتَضى ََ} [الأنبياء / 28] العائد منه إلى الموصول محذوف،
__________
(1) انظر ص / 39من هذا الجزء.
(2) في (ط): قوله تعالى.
(3) في (ط): ويرضاه.(2/48)
فكذلك العائد من يرضى. وأما قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَضُرُّهُمْ وَلََا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هََؤُلََاءِ شُفَعََاؤُنََا عِنْدَ اللََّهِ}
[يونس / 18] فإنما يعنون بقولهم: عند الله، في البعث. لأن منهم من قد كان معترفا (1) بالبعث والنشور كالأعشى (2) في قوله:
بأعظم منك تقى للحساب ... إذا النّسمات نفضن الغبارا
وقول زهير (3):
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر ... ليوم الحساب أو يعجّل فينقم (4)
وقد كذّبهم الله في قولهم ذلك بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللََّهَ بِمََا لََا يَعْلَمُ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ} [يونس / 18] وقوله: {وَإِذََا حُشِرَ النََّاسُ كََانُوا لَهُمْ أَعْدََاءً وَكََانُوا بِعِبََادَتِهِمْ كََافِرِينَ} [الأحقاف / 60]. فالمصدر مضاف إلى الفاعلين، والمعنى: كانوا (5) بعبادتهم إياها كافرين. ومثل هذا قوله:
{وَقََالَ شُرَكََاؤُهُمْ مََا كُنْتُمْ إِيََّانََا تَعْبُدُونَ} [يونس / 28] فالشركاء في هذه الآية هم الآلهة التي كانوا يعبدونها. وكذلك في قوله:
__________
(1) في (ط): يعترف.
(2) ديوانه / 53وفيه: (تقى في الحساب) النسيم: نفس الريح إذا كان ضعيفا (اللسان).
(3) في (ط): وقوله.
(4) انظر معلقة زهير بن أبي سلمى: ديوانه ص 18وجمهرة أشعار العرب / 107.
(5) في (ط): وكانوا.(2/49)
{وَإِذََا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكََاءَهُمْ، قََالُوا رَبَّنََا هََؤُلََاءِ شُرَكََاؤُنَا الَّذِينَ كُنََّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ} [النحل / 86] فإنما أضيف الشركاء إلى الذين أثبتوهم شركاء لادّعائهم شركتهم للقديم سبحانه وتعالى عن ذلك. وقد جاء إضافة هؤلاء الشركاء أيضا إلى الله تعالى (1) في قوله: {وَيَوْمَ يُنََادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكََائِي} [فصلت / 47] فهذا لم يثبت به شركاء الله تعالى (2)، وإنما أضافهم إليه على حسب ما كانوا يضيفونهم إليه، فحكى ذلك.
وعلى هذا قوله: {وَقََالُوا يََا أَيُّهَا السََّاحِرُ ادْعُ لَنََا رَبَّكَ}
[الزخرف / 49] وهذا مما يعلم به أنّ المضاف إذا كان له ضرب من الملابسة بالمضاف إليه، جازت إضافته إليه، وعلى هذا قوله:
لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا (3)
فأضاف الإناء إلى الشارب لشربه منه وإن كان ملكا للمشروب لبنه، أو في يده على غير وجه الملك.
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) عجز بيت لحريث بن عنّاب وصدره:
إذا قال قطني قلت بالله حلفة انظر خزانة الأدب 4/ 580شرح شواهد المغني 4/ 276ابن يعيش 3/ 8 مجالس ثعلب 606. قال السيد في شرح المفتاح: فيه استشهادان، أحدهما:
أن الإناء للمضيف، وقد أضافه إلى الضيف لملابسته إياه في شربه منه، وفي جعل هذه الملابسة بمنزلة الاختصاص الملكي مبالغة في إكرام الضيف واللطف. والثاني: أن ذا بمعنى صاحب، وأريد به اللبن، وأضيف إلى الإناء لملابسته إياه لكونه فيه، فهذه أيضا إضافة لأدنى ملابسة (الخزانة 4/ 583 شرح أبيات المغني 4/ 279).(2/50)
ومن ذلك قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ شُفَعََاءَ، قُلْ أَوَلَوْ كََانُوا لََا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلََا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلََّهِ الشَّفََاعَةُ جَمِيعاً}
[الزمر / 4443] فهذا مثل قوله: {وَيَقُولُونَ هََؤُلََاءِ شُفَعََاؤُنََا عِنْدَ اللََّهِ} [يونس / 18]. وقوله: (1) {قُلْ لِلََّهِ الشَّفََاعَةُ جَمِيعاً}
معناه: (2) في الآخرة. وإنما نسبت الشفاعة إليه سبحانه إبطالا لشفاعة من ادّعيت شفاعتهم لهم من الآلهة، ونفيا لها، وإعلاما أن الملائكة في الآخرة لا يشفعون إلا لمن أذن لهم في الشفاعة له، فنسبت الشفاعة إلى الله لمّا لم تكن إلا بأمره وإذنه فيها، وإن كانت الملائكة فاعليها في الحقيقة، فأما في الدنيا فقد تكون الشفاعة لغير الله. والضمير في (منها) من قوله: ولا تقبل منها عائد إلى نفس على اللفظ، وفي (3) قوله: {وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} على المعنى، لأنه ليس المراد المفرد فلذلك جمع.
فأما حجة من قال: ولا تقبل فألحق علامة التأنيث، فهي أنّ الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنّث، فيلزم أن يلحق المسند أيضا علامة التأنيث، ليؤذن لحاق العلامة بتأنيث الاسم، كما ألحق الفصل حيث ألحق، ليؤذن بأنّ الخبر معرفة أو قريب من المعرفة (4).
ومما يقوي ذلك أن كثيرا من العرب إذا أسندوا الفعل إلى المثنى أو المجموع، ألحقوه علامة التثنية أو الجمع كقوله (5):
__________
(1) في (ط): وقوله تعالى.
(2) في (ط): فهذا معناه الشفاعة في الآخرة.
(3) في (ط): في.
(4) في (ط): قريب منها.
(5) قطعة من بيت لعمرو بن ملقط وتمامه:
ألفيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه
وهو الإنشاد 599من قصيدة أوردها البغدادي في شرح أبيات المغني 2/ 361.(2/51)
ألفيتا عيناك
وقوله: يعصرن السّليط أقاربه (1)
فكما ألحقوا هاتين العلامتين لتؤذنا بالتثنية والجمع، كذلك ألحقت علامة التأنيث الفعل ليؤذن بما في الاسم منه، وكانت هذه العلامة أولى من لحاق علامتي التثنية والجمع، للزوم علامة التأنيث الاسم، وانتفاء لزوم هاتين العلامتين الاسم، وبحسب لزوم المعنى تلزم علامته، ألا ترى أن ما لا يلزم في كلامهم قد لا يعتدّ به اعتداد اللازم، كالواو الثانية في قوله: (ووري) فبحسب لزوم علامة (2) التأنيث الاسم (3) يحسن إلحاقه الفعل، وقد قال: (4) {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}
[الحجر / 73]. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} [المؤمنون / 41].
فكما تثبت العلامة في هذا النحو، كذلك ينبغي أن تثبت في نحو قوله: {تَقَبَّلْ}.
ومن حجة من لم (5) يلحق: أن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي، وإذا كان كذلك حمل على المعنى فذكّر، ألا ترى أن الشفاعة والتشفّع بمنزلة، كما أن الوعظ والموعظة، والصيحة والصوت كذلك، وقد قال (6): {فَمَنْ جََاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ}
[البقرة / 275] {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود / 67].
فكما لم تلحق العلامة هنا (7)، كذلك يحسن أن لا تلحق في
__________
(1) قطعة من بيت للفرزدق سبق في الجزء الأول ص 99.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): في الاسم.
(4) في (ط): قال تعالى.
(5) في (ط): لا.
(6) في (ط): قال تعالى.
(7) في (ط): هاهنا.(2/52)
قوله: ولا تقبل لاتفاق الجميع في أن ذلك تأنيث غير حقيقي. وكلا الأمرين قد جاء به التنزيل كما رأيت.
ومما يقوّي التّذكير أنه قد فصل بين الفعل والفاعل بقوله: {مِنْهََا}. والتذكير يحسن مع الفصل، كما حكي من قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة. فإذا جاء التذكير في الحقيقي مع الفصل فغيره أجدر بذلك. فأما ما قاله أحمد بن يحيى: من أن التذكير أجود لقول ابن مسعود: «ذكّروا القرآن» فإنّ قول ابن مسعود لا يخلو من أن يريد به التذكير الذي هو خلاف التأنيث، أو يريد به معنى غير ذلك (1). فإن أراد به خلاف التأنيث، فليس يخلو من أن يريد (2): ذكّروا فيه التأنيث الذي هو غير حقيقي، أو التأنيث الذي هو حقيقي، فلا يجوز أن يريد التأنيث الذي هو غير حقيقيّ لأن ذلك قد جاء منه في القرآن ما يكاد لا يحصى (3) كثرة، كقوله: {وَلَلدََّارُ الْآخِرَةُ}
[الأنعام / 32] وكقوله: {النََّارُ وَعَدَهَا اللََّهُ} [الحج / 72] وقوله (4): {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ} [القيامة / 29] و: {قََالَتْ رُسُلُهُمْ} [إبراهيم / 10] و: {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ}
[الحاقة / 7] {وَالنَّخْلَ بََاسِقََاتٍ} [ق / 10] {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنََاءَ} [المؤمنون / 20] {يُنْشِئُ السَّحََابَ الثِّقََالَ} [الرعد / 12].
فإذا ثبت هذا النحو في القرآن على الكثرة التي تراها، لم يجز أن يريد هذا. وإذا لم يجز أن يريد ذلك، كان إرادته به
__________
(1) قال في اللسان (ذكر) وفي الحديث: القرآن ذكر فذكروه، أي أنه جليل خطر فأجلّوه.
(2) في (ط): يريد به.
(3) في (ط): ما لا يكاد يحصى.
(4) في (ط): وقوله تعالى.(2/53)
التأنيث الحقيقيّ أبعد، كقوله: {إِذْ قََالَتِ امْرَأَتُ عِمْرََانَ} [آل عمران / 35] وقوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرََانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ}
[التحريم / 12] و {كََانَتََا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ فَخََانَتََاهُمََا} [التحريم / 10] {وَقََالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص / 11].
فإن قلت: إنّما يريد: إذا احتمل الشيء التأنيث والتذكير، فاستعملوا التذكير وغلّبوه. قيل: هذا أيضا لا يستقيم، ألا ترى أن فيما تلونا: {وَالنَّخْلَ بََاسِقََاتٍ} و {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ} فأنّث مع جواز التذكير فيه، يدلك على ذلك قوله في الأخرى: {أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر / 20] وقوله: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نََاراً} [يس / 80] ولم يقل: الخضر ولا الخضراء، وقوله: {السَّحََابَ الثِّقََالَ} ولم يقل: الثقيل، كما قال: {مُنْقَعِرٍ}. فهذه المواضع يعلم منها أنّ (1) ما ذكرت ليس بمراد ولا بمذهب. فإذا لا يصحّ (2) أن يريد بقوله: «ذكّروا القرآن». التذكير الذي هو خلاف التأنيث، وإذا لم يرد ذلك، كان معنى غيره. فممّا يجوز أن يصرف إليه قول ابن مسعود، أنه يريد به الموعظة والدعاء إليه، كما قال: فذكر بالقرآن من يخاف وعيدى (3) [ق / 45] إلا أنّه حذف الجار، وإن كان قد ثبت في الآية، وفي قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيََّامِ اللََّهِ} [إبراهيم / 5] على القياس الذي ينبغي أن يكون عليه، ألا ترى أنك تقول:
ذكر زيد العذاب والنار. فإذا ضعّفت العين، قلت: ذكّرت زيدا
__________
(1) في (ط): أن منها أنّ.
(2) في (ط): فإذا لم يصح لم يصح.
(3) وعيدي: قراءة ورش، بإثبات الياء في الوصل (الكشف 2/ 286والنشر 2/ 376).(2/54)
العذاب، وذكّرته النار. فإذا ألحقت الجارّ كان كقوله: {وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة / 195] وإذا حذف كان كقوله: {وَأَلْقى ََ فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ} [النحل / 15] فمما جاء بغير الجار قولها (1):
يذكّرني طلوع الشّمس صخرا ... وأذكره لكلّ غروب شمس
ومما يدل على صحة ما ذكرنا من أن الأصل أن لا يلحق الجار، أن النسيان الذي هو خلاف الذكر، لمّا نقل بالهمزة التي هي في حكم تضعيف العين، لم تلحق الباء المفعول الثاني، وذلك قوله (2): {وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلَّا الشَّيْطََانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}
[الكهف / 62] ويمكن أن يكون معنى قوله: «ذكّروا القرآن» أي (3): لا تجحدوه ولا تنكروه، كما أنكره من قال فيه:
{أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل / 24] لإطلاقهم عليه لفظ التأنيث، فهؤلاء لم يذكّروه، لكنّهم أنّثوه بإطلاقهم التأنيث على ما كان مؤنث اللفظ، كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلََّا إِنََاثاً}
[النساء / 117] فإناث جمع أنثى، وإنما يعني به (4) ما اتخذوه آلهة، كقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى. وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ}
[النجم / 19، 20]. وقال العجّاج (5) في صفة المنجنيق:
أورد حذّا تسبق الأبصارا وكلّ أنثى حملت أحجارا
__________
(1) البيت للخنساء ديوانها / 89.
(2) في (ط): قوله تعالى.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) ديوانه 2/ 116، 117. وقوله حذّا: يعني سهاما يسبقن الموت والحذّ:
البتر: يعني السهام البتر. الأنثى: يعني المنجنيق.(2/55)
فسمّاها أنثى، لتأنيثهم للفظها، وكذلك قول الفرزدق (1):
وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه ... ضربناه تحت الأنثيين على الكرد
والأنثيان يريد بهما: الأذنين، وهذا النحو كثير في كلامهم.
البقرة: 51
اختلفوا في إلحاق الألف وإخراجها من قوله تعالى: وإذ وعدنا [البقرة / 51] ووعدناكم [طه / 80] فقرأ أبو عمرو وحده ذلك كلّه بغير ألف، وقرأ الباقون ذلك كلّه بالألف (2).
قال أبو علي: قالوا: وعدته، أعده، وعدا، وعدة، وموعدا وموعدة. قال (3): {إِلََّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ}
[التوبة / 114] وجاء وعد في الخير والشر. قال: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} [المائدة / 9] وقال (4): {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه / 86] فتقول على هذا: وعدته خيرا.
وقال (5): {النََّارُ وَعَدَهَا اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج / 72] فتقول على هذا: وعدته شرّا. وقال (6): {وَجَعَلْنََا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} (7) [الكهف / 59]
__________
(1) رواية الديوان / 210:
وكنا إذا القيسي هب عتوده ... ضربناه فوق الأنثيين على الكرد
وفي اللسان (نبب): نب عتوده، يقال: نب عتود فلان إذا تكبر. والعتود:
الجدي الذي بلغ السفاد. والكرد: العنق أو أصل العنق.
(2) كتاب السبعة 154.
(3) في (ط): قال الله تعالى.
(4) في (ط): وقال عز وجل.
(5) في (ط): وقال عز وجل.
(6) في (ط): وقال تعالى.
(7) في البحر المحيط 6/ 140قرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام واحتمل أن يكون مصدرا مضافا إلى المفعول وأن يكون زمانا.(2/56)
فالموعد: مصدر وعد، وهو في الإهلاك.
فأما الإيعاد فإنه يكون في التهديد، قال (2):
أوعدني بالسّجن والأداهم وقال (3):
وموعدنا بالقتل يحسب أنّه ... سيخرج منّا القتل ما القتل مانع
والوعيد: نحو من الإيعاد في أنه تهديد بشرّ، قال (4):
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدي [إبراهيم / 14] وقال فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي [ق / 45] وقال أحمد بن يحيى: أوعدته، وتسكت. أو تجيء بالباء: أوعدته بشرّ، ولا تقول: أوعدته الشرّ.
قال أبو علي: ولا يمتنع في نحو هذا في القياس أن يحذف الحرف فيصل الفعل، ويدلّ على ذلك ما قدمناه (5). من قوله: أوعدني بالسجن، فأما الميعاد في قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُخْلِفُ الْمِيعََادَ} [آل عمران / 9] فإن هذا البناء قد جاء في
__________
(2) البيت للعديل بن الفرخ الخزانة 2/ 366التصريح 2/ 160ابن يعيش 3/ 70، وبعده:
رجلي ورجلي شثنة المناسم
(3) البيت لابن كراع ومعناه: يحسب أننا سنذل إذا قتل منا، والقتل يمنع أن نذل، لا نزداد على القتل إلا عزة.
انظر المعاني الكبير 2/ 903.
(4) في (ط): قال تعالى.
(5) في (ط): ما قدمنا.(2/57)
الأسماء والصفات، فالاسم نحو: المصباح والمفتاح. والصفة نحو: المطعان، والمطعام. والميعاد (1): اسم، كما أن الميقات كذلك، وليس يخلو من أن يكون من أوعد، أو وعد. فإن كان من أوعد، فإن أوعد تختصّ (2) بالتهديد. وإن كان من وعد في التهديد وخلافه كما تقدم ذكره، فلا إخلاف (3) للميعاد، وقد أوقع على الإخلاف الكذب. أنشد أبو عبيدة (4):
أتوعدني وراء بني رياح ... كذبت لتقصرنّ يداك دوني
فإن قلت: إن التكذيب واقع في الاستفهام، والاستفهام لا يحتمل الصدق ولا الكذب. فإن هذا الاستفهام تقرير والتّقرير عندهم مثل الخبر، ألا ترى أنهم لم يجيبوه بالفاء كما لم يجيبوا الخبر، وقد قال: {لََا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. مََا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمََا أَنَا بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ}
[ق / 28، 29] وأما الموعود فصفة قال (5):
لعلّك والموعود حق لقاؤه ... بدا لك في تلك القلوص بداء
التقدير: الأمر الموعود حق لقاؤه.
__________
(1) في (ط): فالميعاد.
(2) في (ط): يختص.
(3) في (ط): بلا إخلاف.
(4) البيت لجرير يهجو فضالة حين توعده بالقتل. انظر ديوانه / 577.
(5) البيت لمحمد بن بشير الخارجي وكان رجل قد وعده قلوصا فمطله، فقال ذلك يذمه. الأغاني 4/ 157الأمالي 2/ 71الخصائص 1/ 340.(2/58)
ومن جوّز مجيء المصدر على مفعول، جاز عنده أن يكون الموعود مثل الوعد. وقولهم (1): وعدت (2): فعل يتعدى إلى مفعولين يجوز فيه الاقتصار على أحدهما كأعطيت، وليس كظننت، قال: {وَوََاعَدْنََاكُمْ جََانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه / 80] فجانب مفعول ثان، ولا يكون ظرفا لاختصاصه، والتقدير:
وعدناكم (3) إتيانه، أو مكثا فيه، وكذلك قول الشاعر (4):
فواعديه سرحتي مالك إنما هو: واعديه (5) إتيانهما أو مكثا عندهما، أو نحو ذلك من الأحداث التي يقع الوعد عليها دون الأعيان، فأما قوله (6):
{وَعَدَكُمُ اللََّهُ مَغََانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهََا} [الفتح / 20] فإن المغنم يكون الغنم كما أنّ المغرم يكون الغرم في قوله (7): {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [ن / 46] فإن قلت فقد قال: {تَأْخُذُونَهََا} والغنم الذي هو حدث لا يؤخذ، إنما يقع الأخذ على الأعيان دون المعاني. فالقول: إنه قد يجوز أن يكون المغنوم الذي هو العين، سمي باسم المصدر مثل الخلق والمخلوق، ونحو ذلك. وأنشد أحمد بن يحيى (8):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): وو عدت.
(3) في (ط): ووعدناكم.
(4) صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 349مع اختلاف في الرواية وعجزه: أو الرّبى بينهما أسهلا وهو من شواهد سيبويه 1/ 143والخزانة 1/ 280واللسان (وعد).
والسرحة: الشجرة.
(5) في (ط): عديه.
(6) في (ط): قوله عز وجل.
(7) في (ط): قوله عز وجل.
(8) البيت في اللسان (ضمن) أنشده ابن الأعرابي وفسره ثعلب فقال: معناه:(2/59)
ضوامن ما جار الدّليل ضحى غد ... من البعد ما يضمن فهو أداء
أي: مؤدّى أو ذو أداء. وجمعك للمغانم، وهو مصدر، إنما هو كالمذاهب والمجاري، ونحو ذلك من المصادر المجموعة، فإذا كان كذلك وجب أن تقدّر مضافا محذوفا، كأنه: وعدكم الله تمليك مغانم أو إيراثها، وكذلك لو جعلت المغنم اسما للأعيان المغنومة كالأموال والأرضين. فأما قوله: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [المائدة / 9] وقوله (1): {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}
ثم قال: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} [النور / 55] فإن الفعل لم يعدّ فيه إلى مفعول ثان وقوله (2): {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}
و {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تفسير للوعد وتبيين له، كما أنّ قوله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء / 11] تفسير للوصية في قوله (3):
{يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ} [النساء / 11].
وأما قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه / 86] وقوله: {إِنَّ اللََّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم / 22] فإنّ هذا ونحوه يحتمل أمرين: يجوز أن يكون انتصاب الوعد بالمصدر.
ويجوز أن يكون انتصابه بأنّه المفعول الثاني. وسمّي الموعود به الوعد، كما سمّي المخلوق بالخلق، فإذا حملته على هذا فينبغي أن تقدر حذف المضاف، ويؤكّد الوجه الأول قوله:
__________
إن جار الدليل فأخطأ الطريق، ضمنت أن تلحق ذلك في غدها وتبلغه.
ثم قال: ما يضمن فهو أداء، أي: ما ضمنه من ذلك لركبها وفين به وأدينه.
(1) في (ط): وقوله عز وجل.
(2) في (ط): ولكن قوله عز وجل.
(3) في (ط): قوله عز وجل.(2/60)
{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه / 86].
وأما قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللََّهُ إِحْدَى الطََّائِفَتَيْنِ أَنَّهََا لَكُمْ}
[الأنفال / 7] فإن إحدى الطائفتين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني، وأنها لكم: بدل منه، والتقدير: وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطّائفتين أو ملك إحدى الطائفتين. ونحو هذا مما يدل عليه (لكم) ألا ترى أنّ (أنّ) وما بعدها في تأويل المصدر، والطائفتان: العير والنفير.
وأما قوله (1): {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذََا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرََاباً}
الآية (2) [المؤمنون 35] فمن قدر في أن الثانية البدل. فإنه ينبغي أن يقدر محذوفا ليتم بذلك الكلام، فيصح البدل، فيكون التقدير عنده: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم، ليكون اسم الزمان خبرا عن الحدث المراد، إذ لا يصح أن يكون خبرا عن المخاطبين من حيث كانوا أعيانا، فيكون {أَنَّكُمْ} الثانية بدلا من الأولى.
ومن قدّر في الثانية التكرير لم يحتج إلى تقدير محذوف، ومن رفع {أَنَّكُمْ} الثانية بالظّرف كأنه قال: أيعدكم أنكم يوم الجمعة إخراجكم لم يحتج إلى ذلك أيضا وقد قلنا فيها في مواضع من مسائلنا.
وأما قوله: {وَمََا كََانَ اسْتِغْفََارُ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلََّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ} [التوبة / 114] فالجملة في موضع جرّ لأنها صفة للنكرة وقد عاد الذكر منها إلى الموصوف، والفعل متعدّ إلى مفعول واحد ألا ترى أن الذكر يعود إلى المصدر، وقد (3) قال
__________
(1) في (ط): قوله عز وجلّ.
(2) وتمامها: (وعظاما أنكم مخرجون).
(3) في (ط): فقد.(2/61)
إبراهيم لأبيه: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} (1) [مريم / 47]، وقال {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كََانَ مِنَ الضََّالِّينَ} [الشعراء / 86] وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوََالِدَيَّ} [إبراهيم / 41] وقال: {قَدْ كََانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرََاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قََالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنََّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمََّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} إلى قوله {إِلََّا قَوْلَ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة / 4].
والمعنى: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة في تبرّئهم من كفار قومهم، وإن كانوا ذوي أنساب منهم وأرحام، فتأسّوا بهم في ذلك، ألا تراه قال (2): {لََا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوََادُّونَ مَنْ حَادَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كََانُوا آبََاءَهُمْ أَوْ أَبْنََاءَهُمْ}
[المجادلة / 22] وقال: {لََا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكََافِرِينَ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران / 28] وقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة / 51] فالمعنى: تأسّوا بإبراهيم وبقومه في معاداتهم لأنسبائهم وذوي قرابتهم، وترك موالاتهم لهم لمخالفتهم إياهم في دينهم وكفرهم.
فأما استغفار إبراهيم لأبيه مع أنه كان مخالفا له في التوحيد، فلا ينبغي لكم أن تستغفروا لمن كفر من آبائكم كما استغفر، لأن الاستغفار كان منه (3) بشرط وعلى تقييد، فلا تطلقوا أنتم ذلك لمن خالفكم في توحيد الله (4)، فإنّ استغفاره لأبيه كان مقيّدا، وإن كان قد جاء مطلقا في بعض المواضع،
__________
(1) في (ط): وردت الآية: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة / 4].
(2) في (ط): قال تعالى.
(3) في (ط): منه كان.
(4) في (ط): الله عز وجل.(2/62)
فإنه إنما كان من إبراهيم على التقييد الذي جاء في مواضعه.
وقال: {وَكَذََلِكَ أَعْثَرْنََا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السََّاعَةَ لََا رَيْبَ فِيهََا} [الكهف / 21] فالمعنى فيه، وفي قوله:
{وَإِذََا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَالسََّاعَةُ لََا رَيْبَ فِيهََا}
[الجاثية / 32]: أنّ وعد الله بالبعث حق في نحو قوله: {قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن / 7] فإذا عاينوا ذلك وشاهدوه وجب أن يعلموا: أن الذي وعدوا به من البعث والنشور بعد الموت، مثل الذي عاينوه، فيلزمهم الاعتراف به لمشاهدتهم له وعلمهم إياه من الوجه الذي لا يدخله ارتياب ولا تشكّك، والساعة لا ريب فيها، لأنها إنما هي يوم البعث، وقد علموا البعث والإحياء بعد الموت على ما ذكرناه (1). ومثل هذه قوله (2):
{فَقُلْنََا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهََا كَذََلِكَ يُحْيِ اللََّهُ الْمَوْتى ََ} [البقرة / 73] المعنى: فقلنا: اضربوا المقتول ببعض البقرة، فضربوه به فحيي، كذلك يحيي الله الموتى، أي: يحييهم للبعث مثل هذا الإحياء الذي عوين وشوهد، ومثل ذلك، إلّا أنه في النبات قوله: {فَأَخْرَجْنََا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ كَذََلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى ََ}
[الأعراف / 57] وقوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً}
[الكهف / 48] أي: موعدا للبعث، فجحدتم ذلك فقال (3):
{إِنَّ مََا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام / 134] وقال (4): {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف / 58] وقال: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج / 2] وقال: {كَمََا بَدَأْنََا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنََا} [الأنبياء / 104]
__________
(1) في (ط): ذكرنا.
(2) في (ط): قوله عز وجل.
(3) في (ط): فقال تعالى.
(4) في (ط): وقال تعالى.(2/63)
دل قوله (1): {نُعِيدُهُ} (2) على وعد فانتصب الوعد لدلالة الإعادة عليه في قياس قول سيبويه.
فأما قوله (3): {وَلََكِنْ لََا تُوََاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة / 235] فالمعنى: لا تصرّحوا للمعتدة بلفظ النكاح والتزويج، ولكن عرّضوا به، ولا تصرحوا، وذلك نحو ما حدّثنا أحمد بن محمد البصري: قال: حدثنا المؤمّل بن هشام، قال: حدثنا إسماعيل بن عليّة عن ليث عن مجاهد في قوله: {وَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسََاءِ} [البقرة / 235] قال:
يقول: إنك لجميلة، وإنّك لنافقة، وإنك إلى خير (4). وقوله: {إِلََّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً} [البقرة / 235] أي: معروفا منه الفحوى، والمعنى دون التصريح ويكون: {إِلََّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً} فتعرّضوا بذلك، لأن التصريح به مزجور عنه، فهو منكر غير معروف.
فأما قوله (5): وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة [البقرة / 51] فليس يخلو تعلّق الأربعين بالوعد من أن يكون على أنه ظرف أو مفعول ثان، فلا يجوز أن يكون ظرفا، لأن الوعد ليس فيها كلها، فيكون جواب كم، ولا في بعضها، فيكون كما يكون جوابا لمتى، وإنما الموعد تقضّي الأربعين، فإذا لم يكن ظرفا، كان انتصابه بوقوعه موقع المفعول الثاني.
والتقدير: وعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أو: تتمة
__________
(1) في (ط): أن قوله.
(2) في (ط): نعيده وعدا.
(3) في (ط): قوله تعالى.
(4) انظر تفسير مجاهد 1/ 110.
(5) في (ط): قوله عزّ وجلّ.(2/64)
أربعين ليلة، فحذفت المضاف، كما تقول: اليوم خمسة عشر من الشهر، أي: تمامه، وفسّر أن الأربعين: ذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة.
ومثل ذلك في المعنى قوله: {وَوََاعَدْنََا} [1] مُوسى ََ ثَلََاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف / 142] أي: انقضاء ثلاثين (2) {وَأَتْمَمْنََاهََا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقََاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف / 142] فالميقات هو الأربعون، وإنما هو ميقات وموعد، لما روي من أن القديم سبحانه وعده أن يكلّمه على الطور. فأما انتصاب الأربعين في قوله: {فَتَمَّ مِيقََاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف / 142] فكقولك: تم القوم عشرين رجلا، والمعنى: تم القوم معدودين هذا العدد، وتم الميقات معدودا هذا العدد وقد جاء الميقات في موضع الميعاد، كما جاء الوقت في موضع الوعد في قوله: {إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}
[الحجر / 38] ومما يبين تقاربهما قوله: {فَتَمَّ مِيقََاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف / 142] {وَلَمََّا جََاءَ مُوسى ََ لِمِيقََاتِنََا}
[الأعراف / 143] وفي الأخرى وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة [البقرة / 51] وقال: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج / 2] وقال:
{إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر / 38] وقال: {إِلى ََ مِيقََاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة / 50].
فإن قلت: لم لا يكون الوقت في قوله: {إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ}
الوقت الذي يراد به الزمان، كقولك: هذا وقت قدوم الحاج، تريد به: الأوان الذي يقدمون فيه؟
__________
(1) في (ط): وواعدنا.
(2) في (ط): ثلاثين ليلة.(2/65)
فإنّ ذلك يبعد. ألا ترى أن اليوم لا يخلو من أن تريد به وضح النهار، أو البرهة من الزمان، ولو قلت: برهة الزمان أو يوم الزمان، لم يكن ذلك بالسهل. وليس هذا كقوله (1):
ولولا يوم يوم
ولا كقوله (2):
حين لا حين محنّ وأنت تريد به حين حين، لأن إضافة الاسمين هنا (3)
كإضافة البعض إلى الكل.
الحجة (4) لمن قرأ: {وََاعَدْنََا} [البقرة / 51] (5) أن يقول:
قد ثبت أن الله تعالى (6) قد كان منه وعد لموسى (7)، ولا (8)
يخلو موسى من أن يكون قد كان منه وعد، أو لم يكن. فإن كان منه وعد، فلا إشكال في وجوب القراءة بواعدنا. وإن لم يكن منه وعد، فإنّ ما كان منه من قبول الوعد والتّحرّي لإنجازه، والوفاء به، يقوم مقام الوعد، ويجري مجراه، فإذا كان كذلك كان بمنزلة الوعد، وإذا كان مثله، وفي حكمه، حسن القراءة بواعدنا، لثبات التواعد من الفاعلين، كما قال:
{وَلََكِنْ لََا تُوََاعِدُوهُنَّ} [البقرة / 235] لمّا كان الوعد من
__________
(1) قطعة من بيت سبق ذكره في الجزء الأول ص 166.
(2) جزء من بيت سبق في الجزء الأول ص 166.
(3) في (ط): هاهنا.
(4) في (ط): والحجة.
(5) وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي (انظر البحر المحيط 1/ 199).
(6) في (ط): عزّ وجلّ.
(7) في (ط): عليه السلام.
(8) في (ط): فلا.(2/66)
الخاطب والمخطوبة. ومما يؤكد حسن القراءة بواعدنا، أنّ «فاعل» قد يجيء من (1) فعل الواحد نحو: عافاه الله، وطارقت النعل، وعاقبت اللصّ. فإن كان الوعد من الله سبحانه، ولم يكن من موسى (2) كان من هذا الباب. وإن كان من موسى موعد، كان الفعل من فاعلين، فإذا كان منهما لم يكن نظر في حسن واعدنا.
وحجة من قرأ وعدنا (3) بلا ألف قوله: (4) {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [المائدة / 9] {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}
[النور / 55] وقال: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه / 86] {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللََّهُ إِحْدَى الطََّائِفَتَيْنِ} [الأنفال / 7] {إِنَّ اللََّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم / 22] {وَعَدَكُمُ اللََّهُ مَغََانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهََا}
[الفتح / 20].
فكلّ هذا وعد من الله (5) عباده، وهو على «فعل» دون «فاعل». فكذلك الموضع المختلف فيه، ينبغي أن يحمل على المتفق عليه، وعلى ما كثر في التنزيل من لفظ وعد دون واعد في هذا الموضع.
واختلفوا في قوله تعالى (6): {اتَّخَذْتُمُ} [البقرة / 51] و {أَخَذْتُمْ} [آل عمران / 81] و {لَاتَّخَذْتَ} [الكهف / 77].
__________
(1) في (ط): على.
(2) في (ط): عليه السلام.
(3) وهي قراءة أبي عمرو وحده كما تقدم ص 56.
(4) في (ط): قوله تعالى.
(5) في (ط): عزّ وجلّ.
(6) في (ط): اختلفوا في قوله سبحانه.(2/67)
فأظهر الذّال في ذلك كلّه ابن كثير وعاصم في رواية حفص، وأدغمها الباقون وأبو بكر بن عياش عن عاصم أيضا معهم (1).
قال أبو زيد (2): تقول: اتخذنا مالا، فنحن نتّخذه اتّخاذا، وتخذت اتخذ تخذا.
قال أبو علي: اتّخذ: افتعل، وفعلت منه: تخذت، قال:
{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف / 77] وقال (3):
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق
ولم أعلم تخذت تعدّى إلا إلى مفعول واحد، فأما اتّخذت فإنه في التعدي على ضربين: أحدهما: أن يتعدى إلى مفعول واحد. والآخر: أن يتعدى إلى مفعولين.
فأمّا تعدّيه إلى مفعول واحد فنحو قوله: {يََا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان / 27] و {أَمِ اتَّخَذَ مِمََّا يَخْلُقُ بَنََاتٍ} [الزخرف / 16] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً} [طه / 82] {لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا} [الأنبياء / 17].
__________
(1) السبعة 154.
(2) في (ط): قال أبو علي قال أبو زيد.
(3) البيت للممزّق العبدي واسمه شأس بن نهار. انظر اللسان (طرق) و (نسف). وانظر الحيوان 2/ 298، والخصائص 2/ 287.
والنسيف: أثر ركض الرجل بجنبي البعير إذا انحص عنه الوبر، والغرز للناقة مثل الحزام للفرس. والأفحوص: المبيض، والمطرق: يقال طرقت القطاة: إذا حان خروج بيضها. وقد أورد ابن جني البيت شاهدا على أن تاء اتخذت ليست بدلا من شيء بل هي فاء أصلية بمنزلة اتبعت من تبع.(2/68)
وأمّا ما تعدّى إلى مفعولين، فإن الثاني منهما الأول في المعنى قال (1): {اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة / 16].
وقال: {لََا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيََاءَ} [الممتحنة / 1] {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون / 110].
فأمّا قوله (2): {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى}
[البقرة / 125] فإن من أجاز زيادة (من) في الإيجاب، جاز على قوله أن يكون قد تعدى إلى مفعولين، ومن لم يجز ذلك، كان عنده متعديا إلى مفعول واحد.
ونظير اتّخذ فيما ذكرناه من تعديه إلى مفعول واحد مرة، وأخرى إلى مفعولين الثاني منهما الأول في المعنى: «جعلت» قال: {وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام / 1] أي: خلقهما.
فإذا تعدى إلى مفعولين كان الثاني الأول في المعنى، كقوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس / 87] {وَجَعَلْنََاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النََّارِ} [القصص / 41] {وَجَعَلْنََا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا}
[السجدة / 24].
فعلى الخلاف الذي تقدم ذكره: {وَجَعَلُوا الْمَلََائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبََادُ الرَّحْمََنِ إِنََاثاً} [الزخرف / 19].
فأمّا قوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة / 51].
وقوله: {بِاتِّخََاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة / 54]، {اتَّخَذُوهُ وَكََانُوا ظََالِمِينَ} [الأعراف / 148] {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى ََ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا} [الأعراف / 148]. فالتقدير في ذلك كله:
__________
(1) في (ط): فقال.
(2) في (ط): عزّ وجلّ.(2/69)
اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني، الدليل على ذلك: أن الكلام لا يخلو من أن يكون على ظاهره كقوله: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} [العنكبوت / 41] وقوله (1):
متّخذا من عضوات تولجا (2)
أو يكون على إرادة المفعول، فلا يجوز أن يكون على ظاهره دون إرادة المفعول الثاني لقوله (3): {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنََالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا}
[الأعراف / 152]، ومن صاغ عجلا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال، لم يستحقّ الغضب من الله (4)، والوعيد عند المسلمين. فإذا كان كذلك علم أنه على ما وصفنا من إرادة المفعول الثاني المحذوف في هذه الآي.
فإن قال قائل:
فقد جاء في الحديث (5): «يعذّب المصوّرون يوم القيامة»
وفي بعض الحديث: «فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم».
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) البيت من رجز لجرير يهجو البعيث المجاشعي، وعضوات: جمع عضة وعضة جمع قلة والكثرة: عضاه، وهي كل شجر له شوك. وقد ورد في شرح ديوانه 1/ 187برواية «ضعوات» بدل «عضوات».
والضعوات: ج ضعة، وهو شجر في البادية، قيل: هو الثمام والتولج:
كناس الظبي. أو الوحش الذي يلج فيه، اللسان مادة (ولج) و (ضعا).
(3) في (ط): عزّ وجلّ.
(4) في (ط): الله عزّ وجلّ.
(5) نص
الحديث: «الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم:
أحيوا ما خلقتم» صحيح مسلم 3/ 1670والبخاري في التوحيد 13/ 528. واللباس 5951.
قيل: «يعذّب المصورون» يكون على من صوّر الله تصوير الأجسام (1). وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد التي لا توجب العلم، فلا يقدح لذلك في الإجماع على ما ذكرنا.(2/70)
قيل: «يعذّب المصورون» يكون على من صوّر الله تصوير الأجسام (1). وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد التي لا توجب العلم، فلا يقدح لذلك في الإجماع على ما ذكرنا.
ومن زعم أنّ «تخذت» أصله من: أخذت، لم يكن هذا القول بمستقيم ولا قريب منه، ولو قلب ذلك عليه لم يجد فصلا، ألا ترى أنّ الهمزة لم تبدل من التاء، ولا التاء أبدلت منها.
فإن قلت: فلم لا يكون اتّخذت: افتعلت، من اخذت، كأنّ الهمزة لمّا أبدلت منها التاء لالتقائها مع همزة الوصل، أدغمت في التاء الزائدة كما أبدلوا في قولهم اتّسروا الجزور وإنما هو من اليسر (2)؟
فالقول: إنّ ما ذكرته من الإبدال لا يجوز في قياس قول أصحابنا، والذين أجازوا من ذلك شيئا لا ينبغي أن يجوز ذلك على قولهم، لاختلاف معنى الحرفين وقد قدمنا ذكر ذلك في ذكر قوله (3): {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة / 3] (4).
__________
(1) هذا التوجيه للحديث، وتخصيصه بمن صور الله سبحانه تصوير الأجسام، لا تعينه الأحاديث الواردة في الباب ولا يعضده شيء منها، بل هي صريحة في تصوير كل ذي روح من المخلوقات.
قال ابن حجر في الفتح 10/ 384: واستدلّ به أي بالحديث أبو علي الفارسي في التذكرة على تكفير المشبهة فحمل الحديث عليهم، وأنهم المراد بقوله المصورون، أي الّذين يعتقدون أن لله صورة وتعقّب بالحديث الذي بعده في الباب: إن الّذين يصنعون هذه الصور يعذبون.
(2) يسر القوم الجزور أي: اجتزروها واقتسموا أعضاءها. اللسان (يسر).
(3) في (ط): قوله عز وجل.
(4) انظر 1/ 214وما بعدها.(2/71)
فأما «أخذتم» فإن الأخذ قد استعمل منه فعل وفاعل وفعّل واستفعل:
فأما فعل منه فيتصرّف على ضروب:
منها: أنه يوجب الضّمان على المعترف به، كما يوجبه غصبت، يدلّ على ذلك ما أنشده أبو زيد (1):
أخذن اغتصابا خطبة عجرفيّة ... وأمهرن أرماحا من الخطّ ذبّلا
فالقول في أخذن اغتصابا على ضربين: أحدهما: أن أخذن بمنزلة غصبن، فانتصب اغتصابا بعده، كما ينتصب باغتصبن، والآخر: أنه ينتصب بما يدل عليه أخذن من الاغتصاب، وما يدل على الغصب بمنزلته، وفي حكمه.
ومنها: أن يدل على العقاب، كقوله (2): {وَكَذََلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذََا أَخَذَ الْقُرى ََ وَهِيَ ظََالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
[هود / 103] {فَأَخَذْنََاهُمْ بِالْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ} [الأنعام / 42] {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (3) [هود / 67] {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذََابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف / 165] {فَأَخَذْنََاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر / 42].
__________
(1) النوادر / 208ونسبه للرياحي. وفي اللسان بغير نسبة (مهر) والعجرفية:
الجفوة في الكلام.
(2) في (ط): كقوله عزّ وجلّ.
(3) في (ط): وردت الآية (وأخذت الّذين ظلموا الصيحة) [هود / 94].(2/72)
ومنها: أن يستعمل للمقاربة، قالوا: أخذ يقول (1)، كما قالوا: جعل يقول، وكرب يقول، [وطفق يفعل] (2).
ومنها: أن يتلقّى بما يتلقّى به القسم، نحو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ}
[آل عمران / 187]، {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ لََا تَسْفِكُونَ دِمََاءَكُمْ}
[البقرة / 84].
ومن ذلك قوله: {خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة / 93] فليس معنى هذا: تناولوه، كما تقول: خذ هذا الثوب، ولكن معناه:
اعملوا بما أمرتم فيه، وانتهوا عمّا نهيتم عنه فيه بجدّ واجتهاد.
ومثل أخذ في ما ذكرنا من معنى العقاب: «آخذ». قال:
{لَوْ يُؤََاخِذُهُمْ بِمََا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذََابَ}، [الكهف / 58] {وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِمََا كَسَبُوا مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا مِنْ دَابَّةٍ}
[فاطر / 45] {لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا} [البقرة / 286] {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ} [البقرة / 225].
وقال أبو زيد: إنّ الحمّى لتخاوذ فلانا. إذا كانت تأخذه في الأيام، وفلان يخاوذ فلانا بالزيارة (3): إذا كان يتعهّده (4)
بالزيارة في الأيام. والقول في ذلك: إنه ليس من الأخذ على القلب، ولو كان منه لكان يخائذ إذا حقّقت، فإذا خفّفت قلت يخايذ، فتجعلها بين بين، فإذا كانت من الواو، لم يكن منه.
إلا أن أخذ قد جاء فيه لغتان في الفاء: الواو والهمزة (5)، كما
__________
(1) في (ط): يقول كذا.
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من (م).
(3) في (ط): يخاوذنا بالزيارة.
(4) في (ط): يتعهدنا.
(5) لم نجد في المعاجم وخذ بمعنى أخذ، ونصّ في التاج / أخذ / على أن الهمزة تبدل واوا في لغة اليمن في قوله: آخذه، فيقال: واخذه مؤاخذة.(2/73)
جاء أكدت ووكّدت، وأوصدت وآصدت (1). وحكى أبو زيد في هذا الكتاب أيضا: وهو نابه ونبيه، أوسد فلان كلبه على الصيد يوسده إيسادا، وقد آسده إذا أغراه. فكذلك يكون (2) يخاوذ، كأنه قلبه عن وخذ، فثبتت الواو التي هي فاء في القلب، فصار يخاوذ: يعافل في القلب.
وقال أبو زيد: في المصادر ائتخذنا في القتال، نأتخذ ائتخاذا.
قال أبو علي: فهذا افتعل من الأخذ، ولا يجوز الإدغام في هذا، كما جاز في قولنا: اتخذنا مالا.
وأما فعّل فقالوا: رجل مؤخّذ عن امرأته (3).
وقال أبو حنيفة في الرجل المؤخّذ عن امرأته: يؤجّل كما يؤجّل العنّين (4). وللنساء كلام فيما زعموا يسمّينه الأخذ (5).
وأما استفعل، فقال الأصمعي فيما روى عنه الزّياديّ الاستئخاذ: أشد الرّمد.
وقال الهذليّ (6):
__________
(1) في (ط): آصدت وأوصدت.
(2) سقطت من (ط).
(3) المؤخذ: المحبوس. اللسان مادة (أخذ).
(4) انظر فتح القدير، باب العنين وغيره 3/ 262.
(5) الأخذ: جمع أخذة، من التأخيذ، وهو أن تحتال المرأة بحيل في منع زوجها من جماع غيرها، وذلك نوع من السحر. يقال: لفلانة أخذة تؤخّذ بها الرجال عن النساء.
(6) أبو ذؤيب الهذلي السكري 1/ 58اللسان (أخذ).
المغضي: الذي كف من بصره ويقال للرجل إذا اشتد رمده: قد استأخذ، وكسف: نكّس رأسه لما أخذ الرمد فيه من الحزن.(2/74)
يرمي الغيوب بعينيه ومطرفه ... مغض كما كسف المستأخذ الرّمد
كما كسف المستأخذ، أي: عين المستأخذ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والرمد: الفاعل.
ويجوز: كما كسف المستأخذ الرّمد، أي: كسف عينه، فحذف المفعول كما يحذف (1) في غير هذا.
وأما حجّة من لم يدغم أخذتم، واتخذتم (2)، فلأن الذّال ليس من مخرج التاء والطاء، والذّال إنما هي من مخرج الظاء والثاء، فتفاوت ما بينهما، إذ كان لكل واحد من هذين القبيلين حيز ومخرج غير مخرج الآخر. وأيضا فإن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، والمجهور يقرّب منه المهموس بأن يبدل مجهورا، ألا ترى أنّهم قالوا: في افتعل من الزين والذّكر:
ازدان وادّكر، ومزدان ومدّكر. فلمّا قرّبوا المهموس من المجهور بأن قلبوه إليه، لم يدغم المجهور في المهموس، لأنه تقريب منه، وهذا عكس ما فعل في مزدان، لأنهم في مزدان، إنّما قرّبوا المهموس من المجهور، وأنت إذا أدغمت الذّال في التاء، قرّبت المجهور من المهموس، قال سيبويه: حدثنا من لا نتّهم أنه سمع من يقول: أخذت، فيبيّن (3).
وحجّة (4) من أدغم: أنّ هذه الحروف لمّا تقاربت، فاجتمعت في أنها من طرف اللسان وأصول الثنايا، قرب كلّ
__________
(1) في (ط): حذف.
(2) في (ط): اتخذتم وأخذتم.
(3) انظر الكتاب لسيبويه 2/ 423.
(4) في (ط): ووجه.(2/75)
حيّز منها من الحيّز الآخر. ألا ترى أنهم أدغموا الظاء والثاء والذال في الطاء والتاء والدال، وكذلك أدغموهنّ في الظاء، وأختيها (1) في الانفصال، نحو: ابعث داود وأنفذ ثابتا، فإذا أدغمت في الانفصال، كان إدغامها فيما يجري مجرى المتّصل أولى.
البقرة: 54
واختلفوا (2) في {بََارِئِكُمْ} [البقرة / 54] في كسر الهمز واختلاس (3) حركتها.
فكان عبد الله بن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ يكسرون العين من غير اختلاس ولا تخفيف.
واختلف عن أبي عمرو، فقال العباس بن الفضل الأنصاريّ (4): سألت أبا عمرو كيف (5) تقرأ: {إِلى ََ بََارِئِكُمْ}
مهموزة مثقّلة، أو {إِلى ََ بََارِئِكُمْ} مخففة؟ فقال: قراءتي مهموزة غير مثقّلة {بََارِئِكُمْ}.
وروى اليزيديّ وعبد الوارث عنه: {إِلى ََ بََارِئِكُمْ} ولا يجزم الهمزة.
__________
(1) في (ط): وفي أختيها.
(2) في (ط): اختلفوا.
(3) الاختلاس: ترك إكمال الحركة بأن يأتي القارئ بثلثيها فقط. شرح ابن القاصح على الشاطبية ص 192 (ط مصطفى محمد) وسيورد المصنف زيادة بيان للمعنى.
(4) العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد بن الفضل بن حنظلة أبو الفضل الواقفي الأنصاري البصري (186105هـ) قاضي الموصل أستاذ حاذق ثقة، من أكابر أصحاب أبي عمرو في القراءة، روى القراءة عرضا وسماعا عن أبي عمرو بن العلاء وضبط عنه الإدغام، ناظر الكسائي في الإمالة.
قال الذهبي: لم يشتهر لأنه لم يجلس للإقراء. (انظر غاية النهاية 1/ 353). وسبقت ترجمته 1/ 376.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).(2/76)
قال أحمد: وقال سيبويه: كان أبو عمرو يختلس الحركة من (1): {بََارِئِكُمْ} و {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة / 67] وما أشبه ذلك، مما تتوالى فيه الحركات، فيري من يسمعه أنه قد أسكن ولم يكن يسكن، وهذا مثل رواية عباس (2) بن الفضل عنه التي ذكرتها أنه لا يثقّلها. وهذا القول أشبه بمذهب أبي عمرو، لأنه كان يستعمل التخفيف في قراءته كثيرا. من ذلك ما حدثني (3)
عبيد الله بن عليّ الهاشميّ عن نصر بن علي عن أبيه (4) عنه أنه كان يقرأ {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ} [البقرة / 129] {وَيَلْعَنُهُمُ}
[البقرة / 159] يشمّ الميم والنون التي قبل الهاء الضمّ من غير إشباع. وكذلك: {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} [النساء / 102] يشمّ التاء فيها شيئا من الخفض. أخبرني (5) بذلك أبو طالب عبد الله بن أحمد بن سوادة قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد الزّهراني، قال: حدثنا عبيد بن عقيل عن أبي عمرو بذلك.
قال: وكذلك: {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ} [البقرة / 151] يشمّها شيئا من الضم، وكذلك: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} [التغابن / 9] يشمّ العين شيئا من الضم، وكذلك قوله: {وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا} [البقرة / 128] لا يسكن الراء ولا يكسرها.
روى ذلك عنه علي بن نصر وعبد الوارث واليزيديّ وعباس بن الفضل وغيرهم، أعني: {وَأَرِنََا} وكذلك قراءته
__________
(1) في (ط): في.
(2) في (ط): العباس.
(3) في (ط): ما حدثني به.
(4) علي بن نصر بن علي بن صهبان أبو الحسن الجهضمي البصري مات سنة 189هـ. (انظر ترجمته في غاية النهاية 1/ 582).
(5) في (ط): قال أخبرني.(2/77)
في: {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة / 67] و {يَأْمُرُهُمْ} [الأعراف / 157] و {يَنْصُرْكُمُ} [آل عمران / 160] وما أشبه ذلك من الحركات المتواليات.
وروى عبد الوهاب بن عطاء (1) وهارون الأعور (2) عن أبي عمرو: {وَأَرِنََا} ساكنة الراء. وقال اليزيدي في ذلك كله:
إنه كان يسكّن اللام من الفعل في جميعه. والقول: ما خبرتك من إيثاره التخفيف في قراءته كلها، والدليل على إيثاره التخفيف أنه كان يدغم من الحروف ما لا يكاد يدغمه غيره، ويليّن الساكن من الهمز، ولا يهمز همزتين وغير ذلك.
وقال عليّ بن نصر: عن أبي عمرو: {وَلََا يَأْمُرَكُمْ} [آل عمران / 80] برفع الراء مشبعة (3).
قال أبو علي: حروف المعجم على ضربين: ساكن ومتحرك. والساكن على ضربين:
أحدهما: ما أصله في الاستعمال السّكون مثل راء برد، وكاف بكر.
والآخر: ما أصله الحركة في الاستعمال فيسكن عنها.
وما كان أصله الحركة يسكن على ضربين، أحدهما: أن تكون حركته (4) حركة بناء، والآخر: أن تكون حركة الإعراب.
__________
(1) عبد الوهاب بن عطاء بن مسلم أبو نصر الخفاف العجلي البصري ثم البغدادي (206هـ؟) ثقة مشهور، روى القراءة عن أبي عمرو وإسماعيل بن كثير وأبان بن يزيد عن عاصم. روى الحروف عنه أحمد بن جبير وخلف بن هشام وغيرهم، وحدث عنه بالحروف محمد بن عمر الواقدي (طبقات القراء 1/ 479).
(2) سبقت ترجمته 1/ 6.
(3) السبعة ص 156155.
(4) سقطت من (ط).(2/78)
وحركة البناء التي تسكن على ضربين:
أحدهما: أن يكون الحرف المسكن من كلمة مفردة، نحو: فخذ وسبع وإبل، وضرب وعلم. يقول من يخفف:
سبع، وفخذ، وعلم وضرب.
والآخر: أن يكون هذا المثال من كلمتين، فيسكن على تشبيه المنفصل بالمتصل، كما جاء ذلك في مواضع من كلامهم نحو الإمالة والإدغام، وذلك قولهم: «أراك منتفخا» (1) {وَيَخْشَ اللََّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور / 52] ومن ذلك قول العجاج (2):
فبات منتصبا وما تكردسا ألا ترى أنّ نفخا من منتفخ، مثل كتف، وكذلك تقه من يتّقه، وكذلك ما أنشده أبو زيد من قوله (3):
قالت سليمى اشتر لنا سويقا فنزّل مثل كتف. فأما حركة البناء فلا خلاف في تجويز إسكانها في نحو ما ذكرنا من قول العرب والنحويين. وأما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها، فمن الناس من ينكره فيقول إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب.
وسيبويه يجوّز ذلك، ولا يفصل بين القبيلين في الشعر، وقد روى ذلك عن العرب، وإذا جاءت الرواية لم تردّ بالقياس، فمن ما أنشده في ذلك قوله (4):
__________
(1) انظر 1/ 66و 408من هذا الكتاب.
(2) سبق الكلام عنه. انظر 1/ 408.
(3) سبق في الجزء الأول ص 410.
(4) سقطت من (ط).(2/79)
وقد بدا هنك من المئزر (1)
وقوله (2):
فاليوم أشرب غير مستحقب وقال (3): إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ومما جاء في هذا النحو قول جرير (4):
سيروا بني العمّ فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرا ولا تعرفكم العرب
ومن ذلك قول وضاح اليمن (5):
__________
(1) عجز بيت صدره: رحت وفي رجليك ما فيهما وهو في سيبويه 2/ 297بغير نسبة والخصائص 2/ 317وفي الخزانة 2/ 279ونسبه للأقيشر الأسدي وخطأ ابن الشجري في نسبته الأبيات التي فيها الشاهد إلى الفرزدق. انظر أماليه 2/ 37.
(2) سبق في 1/ 117و 410.
(3) رجز لأبي نخيلة وبعده: بالدوّ أمثال السفين العوّم انظر سيبويه 2/ 297والخصائص 1/ 75و 317اللسان (عوم).
(4) ديوانه / 48وفيه: فلم تعرفكم العرب.
نهر تيرى: نهر قديم نواحي الأهواز حفره أردشير ملك الفرس.
(5) هو وضاح بن إسماعيل بن عبد كلال أحد أبناء الفرس الّذين قدموا مع وهرز الفارسي فقتلوا الحبشة وأقاموا بصنعاء، وكان شاعرا ظريفا غزلا جميلا، فعشقته أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد بن عبد الملك، فقتله الوليد (انظر نوادر المخطوطات: أسماء المغتالين 2/ 273).(2/80)
إنما شعري شهد ... قد خلط بالجلجلان
فأسكن الفتحة في مثال الماضي، وهذه الفتحة تشبه النصبة. كما أن الضمة في: صاحب قوّم، تشبه الرفعة. وجاز إسكان حركة الإعراب، كما جاز تحريك إسكان البناء، فشبّه ما يدخل على المعرب من المتحركات من الحركة بما يدخل على المبني، كما شبهوا حركات البناء بحركات الإعراب، فمن ثمّ أدغم نحو: ردّ، وفرّ، وعضّ ونحو ذلك، كما أدغموا نحو:
يردّ، ويشدّ. وذلك أن حركة غير الإعراب لما كانت تعاقب على المبني، كما تعاقب حركة الإعراب على المعرب أدغموه، كما أدغموا المعرب، والحركات المتعاقبة على ذلك، نحو:
حركة الهمزة إذا سكن ما قبلها، نحو: اضرب أخاك، ونحو:
حركة التقاء الساكنين، وحركة النونين الخفيفة والشديدة فكما شبهوا تعاقب هذه الحركات التي للبناء على أواخر الكلم بتعاقب حركات الإعراب، حتى أدغم من أدغم نحو: ردّ، واستعدّ، كما يدغم نحو: يردّ، ويستعدّ، كذلك شبهوا حركة الإعراب بالبناء في نحو ما ذكرنا فأسكنوا.
فأما من زعم أن حذف هذه الحركة لا يجوز من حيث كانت علما للإعراب، فليس قوله بمستقيم، وذلك أن حركات
__________
والبيت في الضرائر لابن عصفور ص / 87وعبث الوليد ص / 315وفي اللسان (جلل) مع اختلاف في الرواية. وانظر شرح أبيات المغني 8/ 37.
والجلجلان: حب السمسم. قال أبو العلاء: وبعضهم يرويه: قد حشي.(2/81)
الإعراب قد تحذف لأشياء، ألا ترى أنها تحذف في الوقف، وتحذف من الأسماء والأفعال المعتلّة. فلو كانت حركة الإعراب لا يجوز حذفها من حيث كانت دلالة الإعراب، لم يجز حذفها في هذه المواضع، فإذا جاز حذفها في هذه المواضع لعوارض تعرض، جاز حذفها أيضا في ما ذهب إليه سيبويه وهو التشبيه بحركة البناء، والجامع بينهما: أنهما جميعا زائدان. وأنها قد تسقط في الوقف والاعتلال، كما تسقط التي للبناء للتخفيف.
فإن قلت: إن سقوطها في الوقف إنما جاز لأنه إذا وصلت الكلمة ظهرت الحركة ويستدل عليه بالموضع.
قيل: وكذلك إذا أسكن نحو: هنك (1)، استدلّ عليه بالموضع، وإذا فارقت هذه الصّيغة التي شبّهت (2) لها بسبع، ظهرت كما تظهر التي للإعراب في الوصل.
ومما يدل على أن هذه الحركة إذا أسكنت كانت مرادة، كما أن حركة الإعراب مرادة، قولهم: رضي، ولقضو الرجل، فأسكنوا، ولم يرجعوا الياء والواو إلى الأصل، حيث كانت مرادة. كذلك تكون حركة الإعراب لمّا كانت مرادة، وإن حذفت لم يمتنع حذفها، وكان حذفها بمنزلة إثباتها في الجواز كما كانت الحركة فيما ذكرنا كذلك.
فإن قلت: إنّ حركات الإعراب تدل على المعنى، فإذا
__________
(1) في الشاهد السابق: وقد بدا هنك من المئزر. (ص 80).
(2) في (ط): هذه الصنعة التي أشبهت.(2/82)
حذفت اختلّت الدّلالة عليه، قيل: وحركات البناء أيضا قد تدل على المعنى وقد حذفت، ألا ترى أن (1) تحريك العين بالكسر في نحو: ضرب يدل على معنى، وقد جاز إسكانها، فكذلك يجوز إسكان حركة الإعراب. وكذلك الكسر في مثل (2) حذر، والضمة (3) في نحو: حذر (4).
واعلم أن الحركات التي تكون للبناء والإعراب يستعملون في الضمة والكسرة منهما ضربين، أحدهما: الإشباع والتمطيط، والآخر: الاختلاس والتخفيف، وهذا الاختلاس والتخفيف إنما يكون في الضمة والكسرة، فأما الفتحة فليس فيها إلا الإشباع ولم تخفّف الفتحة بالاختلاس، كما لم تخفّف بالحذف، في نحو: جمل، وجبل، كما خفّف (5) نحو: سبع وكتف، وكما لم يحذفوا الألف في الفواصل والقوافي من حيث حذفت الياء والواو فيهما، نحو: {وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} [الفجر / 4] وقوله:
ثم لا يفر (6)
وكما لم يبدل الأكثر من التنوين الياء ولا الواو في الجر والرفع كما أبدلوا الألف في النصب، وهذا الاختلاس، وإن كان الصوت فيه أضعف من التمطيط، وأخفى، فإن الحرف المختلس حركته بزنة المتحرك، وعلى هذا المذهب حمل
__________
(1) سقطت أن من (ط).
(2) في (ط): نحو.
(3) في (ط): والضم.
(4) في اللسان: رجل حذر وحذر: متيقظ.
(5) في (ط): حذف وهو تصحيف.
(6) سبق في 1/ 405.(2/83)
سيبويه قول أبي عمرو: {إِلى ََ بََارِئِكُمْ} [البقرة / 54] (1) فذهب إلى أنه اختلس الحركة ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك.
فمن روى عن أبي عمرو الإسكان في هذا النحو، فلعلّه سمعه يختلس فحسبه لضعف الصوت به والخفاء إسكانا، وعلى هذا يكون قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ} [البقرة / 129] و {يَلْعَنُهُمُ اللََّهُ} [البقرة / 159] وكذلك {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ}
[النساء / 102] وكذلك {يُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ} [البقرة / 151] و {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} [التغابن / 9] {وَلََا يَأْمُرَكُمْ} [آل عمران / 80] هذا كله على الاختلاس مستقيم حسن (2)، ومن روى عنه الإسكان فيها، وقد جاء ذلك في الشعر، فلعله ظن الاختلاس إسكانا.
فأمّا قوله (3): {وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا} [البقرة / 128] فالإسكان فيه حسن على تشبيه المنفصل بالمتصل، والاختلاس حسن، وليس إسكان هذا مثل إسكان: {يَأْمُرَكُمْ}، و {أَسْلِحَتِكُمْ} لأن الكسرة في: {أَرِنََا} ليست بدلالة إعراب، ومثل ذلك قول من قال: {وَيَتَّقْهِ} ومن روى الإسكان في حروف الإعراب فقال:
تسكن لام الفعل، فعلى تجويز ما جاء في الشعر وفي (4)
الكلام، وقد تقدم ذكر ذلك.
فإن قال قائل: فهلا لم تسكن {أَرِنََا} لأنّ الراء (5) متحركة بحركة الهمزة (6) فإذا حذفها لم تدلّ على الهمزة كما تدلّ إذا
__________
(1) انظر سيبويه 2/ 297باب الإشباع في الجر والرفع وغير الإشباع والحركة كما هي.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): قوله تعالى.
(4) في (ط): في.
(5) في (ط): لأن النون، وهو خطأ.
(6) في هامش (ط): معنى الهمزة التي في أصل الكلمة، لأن أصلها، أرئنا زيادة.(2/84)
أثبتها عليها، قيل: ليس هذا بشيء، ألا ترى أن الناس أدغموا: {لََكِنَّا هُوَ اللََّهُ رَبِّي} [الكهف / 28] فذهاب الحركة في {أَرِنََا} في التخفيف ليس بدون ذهابها في الإدغام.
البقرة: 58
اختلفوا في {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ} [البقرة / 58] في النون والتاء والياء.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي:
{نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون. وقرأ نافع: يغفر لكم بالياء مضمومة على ما (1) لم يسمّ فاعله. وقرأ ابن عامر تغفر لكم مضمومة التاء.
ولم يختلفوا في: {خَطََايََاكُمْ} في هذه السورة، غير أن الكسائي كان يميلها وحده، والباقون لا يميلون (2).
قال أبو علي: حجة من قال: {نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون أنه أشكل بما قبله. ألا ترى أنّ قبله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هََذِهِ}
[البقرة / 58] فكأنه قال: قلنا ادخلوا، نغفر.
وحجة من قال: يغفر أنه يؤول إلى هذا المعنى، فيعلم من الفحوى أن ذنوب المكلفين وخطاياهم لا يغفرها إلا الله، وكذلك القول في من قرأ: تغفر. إلا أنّ من قال: يغفر لم يثبت علامة التأنيث في الفعل لتقدّمه، كما لم يثبت لذلك في نحو قوله: {وَقََالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف / 30].
ومن قال: تغفر فلأن علامة التأنيث قد ثبتت في هذا النحو نحو قوله: {قََالَتِ الْأَعْرََابُ} [الحجرات / 14] وكلا
__________
(1) كذا في (ط)، وسقطت من (م).
(2) السبعة ص 156.(2/85)
الأمرين قد جاء به التنزيل قال: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}
[هود / 67] وفي موضع (1) {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر / 83] والأمران جميعا كثيران.
فأما إمالة الكسائي الألف في: {خَطََايََاكُمْ} فجوازها حسن (2)، وحسنها: أن الألف إذا كانت رابعة فصاعدا اطّردت فيها الإمالة، والألف في خطايا خامسة، ومما يبين جواز الإمالة في ذلك، أنك لو سمّيت بخطايا ثم ثنّيته، لأبدلت الياء من الألف، كما تبدل من ألف قرقرى وجحجبى (3)، وألف مرامى، ونحو ذلك. ويقوي ذلك أن غزا ونحوها قد جازت إمالة ألفها، وإن كانت الواو تثبت فيها وهي على هذه العدّة، فإذا جاز في باب غزا مع ما ذكرناه (4)، فجوازها في خطايا أولى، لأنها بمنزلة ما أصله الياء، ألا ترى أن الهمزة لا تستعمل هنا (5) في قول الجمهور والأمر الكثير (6) الشائع.
ومما يبين ذلك أن الألف قد أبدلت من الهمزة في العدّة التي يجوز معها تحقيق الهمزة. وذلك إذا كانت ردفا في نحو:
ولم (7) أورا بها (8)
__________
(1) في ط: موضع آخر.
(2) سقطت «حسن» من (م).
(3) قرقرى: اسم موضع، وجحجبى: حي من الأنصار (اللسان) ورسمت الألف الأخيرة في (م) ممدودة.
(4) في (ط): ما ذكرنا.
(5) في (ط): هاهنا.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): لم.
(8) جزء من رجز أنشده سيبويه 2/ 165ولم ينسبه، وتمامه:
عجبت من ليلاك وانتيابها من حيث زارتني ولم أورا بها قال الأعلم: الشاهد في تخفيف الهمزة الساكنة من قوله: أورا، لما احتاج إليه من ردف القافية (وهو حرف المد الذي قبل الروي) ولو حققها على(2/86)
ونحو:
على رال (1)
فلو لم تنزّل منزلة الألف التي لا تناسب الهمزة، لم يجز وقوعها في هذا الموضع، فإذا جاز ذلك فيها، مع أن الهمزة قد يجوز أن تخفف في نحو: أورا، إذا لم يكن ردفا، فأن تجوز الإمالة في خطايا أولى.
البقرة: 61
واختلفوا في قوله (2): {النَّبِيِّينَ} [البقرة / 61] و {النَّبِيُّونَ}
[البقرة / 136] و {النُّبُوَّةَ} [آل عمران / 79] و {الْأَنْبِيََاءَ} [آل عمران / 112] و {النَّبِيُّ} [آل عمران / 68] (3) في الهمز، وتركه.
فكان نافع يهمز ذلك كلّه في كلّ القرآن إلا في موضعين في سورة الأحزاب: قوله (4): {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرََادَ} [الآية / 50] بلا مدّ ولا همز. وقوله (5):
__________
ما يجب لأنها طرف لم يجز له من أجل الردف المضمن في القافية.
ومعنى: لم أورأ بها، لم أعلم بها، وحقيقته: لم أشعر بها من ورائي، لأن لام وراء همزة أصلية في قول من صغرها وريئة، فحمل الفعل على هذا التقدير. ومن جعل همزة وراء منقلبة قال في تصغيرها: ورية.
ويقال: معنى: لم أورأ بها: لم أغر، وأصله: لم أوأر، ثم قلب إلى أورأ.
يقال: أورأته بكذا: إذا أغريته به. والانتياب: القصد والإلمام. وخاطب نفسه في البيت الأول، ثم أخبر عن نفسه في البيت الآخر لأن من كلامهم أن يتركوا الخطاب للإخبار، والإخبار للخطاب اتساعا بعلم السامع.
(طرة الكتاب 2/ 165).
(1) سبق انظر ص 13.
(2) في (ط) قوله عز وجل.
(3) وردت هذه الكلمات ما بين القوسين في (ط) مهموزة.
(4) في (ط): قوله عز وجل.
(5) في (ط): قوله تعالى.(2/87)
{لََا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلََّا} [الآية / 53] وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد (1)، هذا قول المسيبي (2) وقالون، وقال ورش عن نافع: إنه كان يهمزها جميعا، إلا أنه كان يروي عن نافع: أنه كان يترك الهمزة الثانية في المتّفقتين والمختلفتين، وتخلف الأولى الثانية (3)، فيقول فيه للنبيء ان اراد، مثل: النّبيعن راد (4) و: بيوت النبيء يلا (5)، وكان الباقون لا يهمزون من ذلك شيئا (6).
قال أبو زيد: نبأت من أرض إلى أخرى، فأنا أنبأ نبأ ونبوءا: إذا خرجت منها إلى أخرى، وليس اشتقاق النبيء من هذا وإن كان من لفظه، ولكن من النبأ الذي هو الخبر، كأنه المخبر عن الله سبحانه. فإن قلت: لم لا يكون من النباوة، ومما أنشده أبو عثمان قال: أنشدني كيسان (7):
محض الضّريبة في البيت الذي وضعت ... فيه النّباوة حلوا غير ممذوق
أو يجوّز فيه الأمرين، فتقول: إنه يجوز أن يكون من النباوة، ومن النبأ، كما أجزت في عضة أن تكون من الواو، لقوله:
__________
(1) أولاهما همزة النبيء، والثانية همزة إن وإلا في الآيتين.
(2) سبقت ترجمته في 1/ 375.
(3) عبارة كتاب السبعة هنا: وكان ورش يروي عن نافع أنه كان يهمز من المتفقتين والمختلفين الأولى، ويخلف الثانية.
(4) في (م): فيقول: النبيء إن أراد مثل: النبيعين أراد.
(5) في (ط): إلا.
(6) السبعة ص 157156.
(7) لم نعثر على قائله.(2/88)
وعضوات تقطع اللهازما (1)
ومن الهاء لقوله:
لها بعضاه الأرض تهزيز (2)
فالقول: إن ذلك ليس كالعضة، لأن سيبويه (3) زعم: أنهم يقولون في تحقير النّبوّة: كان مسيلمة نبوّته (4) نبيّئة سوء، وكلّهم يقول: تنبّأ مسيلمة، فلو كان يحتمل الأمرين جميعا ما أجمعوا على تنبّأ، ولا على النّبيّئة، بل جاء فيه الأمران: الهمز وحرف اللين، فأن اتفقوا على تنبّأ والنّبيّئة دلالة على أن اللام همزة.
__________
(1) عجز بيت للشاعر أبي مهديّة وصدره:
هذا طريق يأزم المآزما قال الأعلم: يقول من سار في هذا الطريق بين ما حف به من العضاه تأذى بسيره فيه. ويأزم: يعض، واللهازم جمع لهزمة وهي مضغة في أصل الحنك.
سيبويه 2/ 81اللسان مادة (أزم) الخصائص 1/ 172المنصف 1/ 59 3/ 38ابن يعيش 5/ 38.
(2) قطعة بيت للمتنخل الهذلي وتمامه:
قد حال دون دريسيه مؤوّبة ... نسع لها بعضاه الأرض تهزيز
الدريس: الثوب الخلق، والمؤوّبة ريح تأتي ليلا، ونسع ومسع: اسم من أسماء الشمال. والعضاه: كل شجر له شوك.
اللسان مادة (هزز). ديوان الهذليين القسم الثاني ص 16والمنصف 1/ 60.
(3) انظر 2/ 126.
(4) في (م) نبوءته، وأثبتنا ما في (ط) لموافقتها لسيبويه. قال ابن بري (اللسان نبأ) بعد أن نقل عبارة سيبويه: فذكر الأول غير مصغر ولا مهموز أي: قوله نبوة ليبين أنهم قد همزوه في التصغير وإن لم يكن مهموزا في التكبير.(2/89)
ومما يقوّي أنه من النبأ الذي هو الخبر أن النباوة الرفعة، فكأنه قال: في البيت الذي وضعت فيه الرّفعة. وليس كلّ رفعة نبوءة، وقد تكون في البيت رفعة ليست بنبوءة. والمخبر عن الله (1) بوحي إليه المبلّغ عنه نبيء ورسول، فهذا الاسم أخصّ به (2) وأشدّ مطابقة للمعنى المقصود إذا أخذ من النّبأ (3). فإن قلت: فلم لا تستدلّ بقولهم: أنبياء، على جواز الأمرين في اللام من النبي، لأنهم قالوا: أنبياء ونباء، قال (4):
يا خاتم النّباء إنّك مرسل بالحقّ
قيل: ما ذكرته لا يدلّ على تجويز الأمرين فيه، لأن أنبياء إنما جاء لأن البدل لما لزم في نبيّ صار في لزوم البدل له، كقولهم: عيد وأعياد، فكما أن أعيادا لا تدل على أن عيدا من الياء، لكونه من عود الشيء، كذلك لا يدل أنبياء على أنه من النباوة، ولكن لمّا لزم البدل جعل بمنزلة تقيّ وأتقياء، وصفيّ وأصفياء ونحو ذلك، فلما لزم صار كالبريّة والخابية، ونحو ذلك مما لزم الهمز (5) فيه حرف اللين بدلا من الهمزة. فما دل على أنه من الهمز قائم لم يعترض فيه شيء، فصار قول من حقّق الهمزة في النبيّ (6)، كردّ الشيء إلى الأصل المرفوض استعماله
__________
(1) في (ط): الله عز وجل.
(2) في (م): منه.
(3) رسمت همزة النبأ في الأصل هنا وفي السابق هكذا: (النباء) على السطر، وقد آثرنا الرسم الإملائي لها لصحة لفظه.
(4) قطعة من بيت قاله العباس بن مرداس وتمامه:
بالحقّ كلّ هدى السبيل هداك سيبويه 2/ 126اللسان (نبا).
(5) في (ط): الهمزة.
(6) في (ط): النبيء.(2/90)
نحو: وذر، وودع، فمن ثمّ كان الأكثر فيه التخفيف. فإن قلت فقد قال سيبويه: بلغنا أن قوما من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحققون: نبيئا وبريئة. قال: وذلك رديء (1)، وإنما استردأه لأن الغالب في استعماله التخفيف على وجه البدل من الهمز، وذلك الأصل كالمرفوض، فردؤ عنده ذلك (2)
لاستعمالهم فيه الأصل الذي قد تركه سائرهم، لا لأن النبيء الهمز فيه غير الأصل، ولا لأنه يحتمل وجهين كما احتمل عضة وسنة.
ومن زعم أن البريّة من البرا الذي هو التراب كان غالطا، ألا ترى أنه لو كان كذلك لم يحقّق همزه من حقق من أهل الحجاز، فتحقيقهم لها يدل على أنها (3) من برأ الله الخلق، كما أن تحقيق النبيء يدل على أنه من النبأ، وكما كان اتفاقهم على تنبأ يدل على أن اللام في الأصل همزة.
فالحجة لمن همز النبيء [حيث همز] (4) أن يقول: هو أصل الكلمة، وليس مثل عيد، الذي قد ألزم البدل، ألا ترى أن ناسا من أهل الحجاز قد حققوا الهمزة في الكلام (5)، ولم يبدلوها (6). كما فعل أكثرهم، فإذا كان الهمز أصل الكلمة وأتى به قوم في كلامهم على أصله لم يكن كماضي يدع، ونحوه مما رفض استعماله واطّرح.
فأما ما
روي في الحديث: «من أن بعضهم. قال: يا
__________
(1) الكتاب 2/ 170.
(2) في (ط): وردؤ ذلك عنده.
(3) في (ط): أنه.
(4) ما بين معقوفتين سقطت من (ط).
(5) في (ط): في كلامهم.
(6) في (ط): يبدلوه.(2/91)
نبيء الله! فقال (1): «لست بنبيء الله، ولكني نبيّ الله» (2)
فأظنّ أن من أهل النقل من ضعّف إسناد الحديث. ومما يقوي تضعيفه أنّ من مدح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا خاتم النبآء (3)
لم يؤثر فيه إنكار عليه فيما علمنا، ولو كان في واحده نكير لكان الجمع كالواحد، وأيضا فلم نعلم أنه عليه السّلام أنكر على الناس أن يتكلموا بلغاتهم.
ولمن أبدل ولم يحقّق أن يقول: مجيء الجمع في التنزيل على أنبياء يدل على أن الواحد قد ألزم فيه البدل، وإذا ألزم فيه البدل ضعف التحقيق. وقال الفرّاء في قراءة عبد الله النبية إلى (4) (ال ن ب ي ي). قال الفراء: لا يخلو من أن يكون النبيّة مصدرا للنبإ، أو يكون النبيّة مصدرا نسبه إلى النبي عليه السلام (5).
[قال أبو علي] (6): والقول في ذلك أنه لا يخلو من أن يكون من النباوة التي في قول ابن همام، أو يكون من النّبأ وقلبت (7) الهمزة. أو يكون نسبا، فلا يكون من النباوة، فيكون
__________
(1) في (ط): فقال عليه السلام.
(2) نقل هذا الحديث صاحب إتحاف فضلاء البشر وقال: أخرجه الحاكم عن أبي ذر وصححه، وفيه أن الرجل أعرابي وأن أبا عبيد علّل إنكار النبي بعدول الأعرابي عن الفصحى وأن مقتضى ذلك جواز الوجهين لغة. انظر ص 58منه.
(3) سبق قريبا في ص 90.
(4) سقطت إلى من (م).
(5) في (ط): صلى الله عليه.
(6) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).
(7) في (ط): وقلب.(2/92)
مثل مطيّة، لأنّ فيما حكاه سيبويه من أنهم كلّهم يقولون: تنبّأ مسيلمة، دلالة على أنه من الهمزة (1) [فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه من الهمز] (2) وجاز أن يكون ياء ألزمت البدل من الهمزة، وعلى ذلك قالوا: أنبياء، وجاز أن يكون من قول من حقّق، إلا أنه خفف فوافق لفظ التخفيف عن التحقيق لفظ من يرى القلب. وقد حكى سيبويه كما رأيت أن بعضهم يحقق النبيء، فإذا كان نسبا أمكن أن يكون إلى قول من حقق، وإلى قول من خفّف، وأمكن أن يكون إلى قول من أبدل. فلا يجوز أن يكون على قول (3) من حقّق ثم خفّف لأنه لو كان كذلك لكان:
النبئيّة (4)، لأنه نسب إلى فعيلة، فرددت الهمزة لمّا حذفت الياء التي كنت قلبت الهمزة في التخفيف من أجلها، فلما لم يردّ، وقال النبيّة، علمت أن النسب إليه على قول من قلب الهمزة ياء، وهم الذين قالوا: أنبياء، فحذفت الياءين لياءي النسب، فبقيت الكلمة على فعيّة. هذا على قياس قولهم: عبد بيّن العبديّة، وقد حكاه الفرّاء.
وأما تخفيف نافع: النبيّ في الموضعين اللذين خفف فيهما في رواية المسيّبي وقالون، فالقول في ذلك أنه لا يخلو من أن يكون ممن يحقّق الهمزتين أو يخفّف إحداهما، فإن حقّق الهمزتين جاز أن يجعل الثانية بين بين، لأن الهمزة إذا
__________
(1) في (ط): الهمز.
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط) وهي زيادة يستقيم الكلام بدونها.
(3) سقطت «قول» من (م).
(4) في حاشية (ط): مثل التبعيّة.(2/93)
كانت بين بين كانت في حكم التحقيق، فتقول: (للنّبيء إن) (1)، وإن لم يحقّق الهمزتين قلب الثانية منهما ياء قلبا فقال: (للنّبيء ين) (2) كما قلبوا في: (أيمّة)، وكما قلبوا في: جاء وشاء ويجعل المنفصل بمنزلة المتصل في أيمّة وجاء.
ووجه رواية قالون، والمسيّبيّ: أنه إذا خفّف الهمزة من النبيء (3) لم يجتمع همزتان، فإن شاء حقق الهمزة المكسورة من (إلّا) ومن (إن) وإن آثر التخفيف جعلهما بين الياء والهمزة.
البقرة: 62
اختلفوا في {الصََّابِئِينَ} [البقرة / 62]، و {الصََّابِئُونَ}
[المائدة / 69]. في الهمز وتركه فقرأ نافع: الصابين والصابون في كلّ القرآن بغير همز، ولا خلف للهمز، وهمز ذلك كلّه الباقون (4).
[قال أبو علي] (5): قال أبو زيد: صبأ الرجل في دينه، يصبأ صبوءا: إذا كان صابئا. وصبأ ناب الصبي يصبأ صبأ: إذا طلع.
وقال أبو زيد: صبأت عليهم، تصبأ، صبأ، وصبوءا: إذا طلعت عليهم، وطرأت على القوم أطرأ طرءا وطروءا مثله.
فكأنّ معنى الصابئ: التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه، ومنتقل إلى سواها والدّين الذي فارقوه، هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها، ومن ثمّ خوطب المسلمون بقوله (6): ولا تكونوا من المشركين من الذين فارقوا (7) دينهم وكانوا شيعا
__________
(1) في (ط): النبيء إن.
(2) في (م): النبيّ ين.
(3) في (م): النبيّ.
(4) السبعة: 157.
(5) ما بين المعقوفتين سقطت من (م).
(6) في (ط): تعالى.
(7) فارقوا: قراءة علي وحمزة والكسائي (انظر تفسير القرطبي 14/ 32).(2/94)
[الروم / 3231] فالدّين الذي فارقه المشركون هو: التوحيد الذي نصب لهم عليه أدلّته، لأنّ المشركين لم يكونوا أهل كتاب، ولا متمسكين بشريعة، فهم في تركهم ما نصب لهم الدليل عليه، كالصابئين في صبوئهم إلى ما صبئوا إليه. ومثل قوله (1): فارقوا دينهم قوله (2) {كَذََلِكَ زَيَّنََّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}
[الأنعام / 108] أي: عملهم الذي فرض عليهم ودعوا إليه، وكذلك قوله: {وَكَذََلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام / 137] أي:
دينهم الذي دعوا إليه، وشرع لهم، ألا ترى أنهم لا يلبسون عليهم التّديّن بالإشراك، وإنما سمّي شريعة الإسلام دينهم، وإن لم يجيبوا إليه ولم يأخذوا به، لأنهم قد شرع لهم ذلك ودعوا إليه، فلهذا الالتباس الذي لهم به جاز أن يضاف إليهم، كما أضاف الشاعر الإناء إلى الشارب لشربه منه وإن لم يكن ملكا له في قوله (3):
إذا قال قدني قلت بالله حلفة ... لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا
وهذا النحو من الإضافة كثير، فالمعنى: على أن لام الكلمة همزة، فالقراءة بالهمز هو الوجه الذي عليه المعنى.
فأما من قال: الصابون فلم يهمز، فلا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يجعله من صبا، يصبو، وقول الشاعر (4):
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (ط): تعالى.
(3) البيت لحريث بن عناب. وقد سبق ذكره انظر 2/ 50.
(4) عجز بيت لأبي ذؤيب، صدره:(2/95)
صبوت أبا ذيب وأنت كبير أو تجعله على قلب الهمزة فلا يسهل أن تأخذ، من صبا إلى كذا، لأنه قد يصبو الإنسان إلى الدين فلا يكون منه تديّن به مع صبوّه إليه، فإذا بعد هذا، وكان الصابئون منتقلين من دينهم الذي أخذ عليهم إلى سواه، ومتدينين به، لم يستقم أن يكون إلّا من صبأ (1) الذي معناه: انتقال من دينهم الذي شرع لهم إلى آخر لم يشرع لهم، فيكون الصابون إذا: على قلب الهمزة، وقلب الهمز على هذا الحدّ لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر، ويجيزه غيره، فهو على قول من أجاز ذلك، وممن أجازه أبو زيد، وحكي عن أبي زيد قال: قلت لسيبويه:
سمعت: قريت، وأخطيت قال: فكيف تقول في المضارع؟
قلت (2): أقرأ، قال: فقال: حسبك. أو نحو هذا، يريد سيبويه: أنّ قريت مع أقرأ، لا ينبغي، لأن أقرأ على الهمز وقريت على القلب. فلا يجوز (3) أن يغيّر بعض الأمثلة دون بعض، فدلّ (4) ذلك على أن القائل لذلك غير فصيح، وأنه مخلّط في لغته.
الإعراب:
من حقق الهمزة فقال: الصابئون، مثل: الصابعون، ومن خفّفها جعلها في قول سيبويه، والخليل: بين بين، وزعم
__________
ديار التي قالت غداة لقيتها وقوله: صبوت، أي: أتيت أمر الصّبا. (ديوان الهذليين 1/ 137).
(1) في (ط): صبأت.
(2) في (ط): فقلت.
(3) في (م): يكون.
(4) في (ط): يدل.(2/96)
سيبويه أنه قول العرب، والخليل. وفي قول أبي الحسن:
يقلبها ياء قلبا، وقد تقدم ذكر ذلك في هذا الكتاب. ومن قلب الهمزة التي هي لام ياء، فقال: الصابون. نقل الضمة التي كانت تلزم أن تكون على اللام إلى العين فسكنت الياء فحذفها لالتقاء الساكنين هي وواو الجمع، وحذف كسرة عين فاعل، فحرّكها بالضمة المنقولة إليها، كما أن من قال: خفت، وحبّ بها، وحسن ذا أدبا، فنقل الحركة من العين إلى الفاء حذف الحركة التي كانت للفاء في الأصل، وحرّكها بالحركة المنقولة (1) كما حرّك العين من فاعل بالحركة المنقولة، وقياس نقل الحركة التي هي ضمة (2) إلى العين أن تحذف كسرة عين فاعل، وتنقل إليها الكسرة التي كانت تكون للّام، ألا ترى أن الضمة منقولة إليها بلا إشكال، وإن شئت قلت لا أنقل حركة اللام التي هي الكسرة كما نقلت حركتها التي هي الضمة، لأني لو لم أنقل الحركة التي هي الضمة، وقررت الكسرة، لم يصحّ واو الجميع، فليس الكسرة مع الياء كالكسرة مع الواو، فإذا كان كذلك أبقيت الحركة التي كانت تستحقّها اللام فلم أنقلها، كما أبقيت حركة المدغم، ولم (3) أنقلها في قول من قال: {يَهْدِي} فحرّك الهاء بالكسر لالتقاء الساكنين، ولم ينقلها كما نقل من قال: {يَهْدِي} (4)، [يونس / 35].
ومثل ذلك في أنّك تنقل الحركة مرة ولا تنقل أخرى قوله:
__________
(1) في (ط): المنقولة إليها.
(2) في (ط): الضمة.
(3) في (ط): فلم.
(4) يهدّي: بفتح الياء والهاء، قراءة ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن.
انظر البحر المحيط 5/ 156.(2/97)
وحبّ بها مقتولة (1)
وحبّ بها مقتولة! وحسن ذا أدبا، وحسن ذا أدبا، ونحو ذلك.
فإن قلت: فلم لا (2) تنقل الحركة التي تستحقّها اللام إذا انقلبت ألفا نحو: المصطفى والمعلّى إلى ما قبلها، كما نقلت حركة الياء في نحو قولك: {فَأُولََئِكَ هُمُ العََادُونَ}
[المعارج / 31] فجاء: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران / 139] وهم المصطفون، مفتوحا ما قبل الواو منه، وهلّا نقلت الحركة كما نقلت في نحو: {هُمُ العََادُونَ} [المعارج / 31]، فالقول في ذلك أنّ المحذوف لالتقاء الساكنين في حكم الثابت في اللفظ، كما كان المحرّك لالتقائهما (3) في حكم السكون، يدلك على ذلك نحو: رمت المرأة، واردد ابنك، فإذا كان كذلك، كان الألف في الأعلون، في حكم الثبات، وإذا كان في حكمه لم يصحّ تقدير نقل الحركة منها، لأنّ ثبات الألف
__________
(1) جزء من بيت للأخطل في وصف الخمر وتمامه:
فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها ... وحبّ بها مقتولة حين تقتل
وهو في ديوانه 1/ 19وروايته عنده: وأطيب بها مقتولة. وفي شرح شواهد الشافية ص 14والخزانة 4/ 122والعيني 4/ 26وابن يعيش 7/ 129.
والقتل: مزج الخمر بالماء حتى تذهب حدّتها فكأنها قتلت بالماء.
(2) في (ط): لم.
(3) في (ط): التحرك لالتقاء الساكنين.(2/98)
ألفا في تقدير الحركة فيها. وإذا (1) كان في تقديرها، لم يجز نقلها، لأنه يلزم منه تقدير ثبات حركة واحدة في موضعين، وليس كذلك الياء لأنها قد تنفصل عن الحركة، وتحرّك بالضمة والكسرة في نحو (2):
ألم يأتيك والأنباء
و: غير ماضي (3)
فإن قال: فهلّا إذا كان الأمر على ما وصفت لم يجز أن يجمع ما كان آخره ألف التأنيث، نحو: حبلى، إذا سمّيت به رجلا أن تقول في جمعه: حبلون، لأنه يلزم من (4) ذلك اجتماع علامة التذكير والتأنيث (5) في اسم، فيلزم أن يمتنع كما امتنع أن يجمع طلحة بالواو والنون اسم رجل في قول العرب والنحويين، إذا أثبتّ التاء فيه لاجتماع علامة تأنيث وتذكير في اسم واحد.
فالقول في ذلك أن الألف في حبلى اسم رجل، إذا قلت: حبلون، إنما جاز لأنك إذا سميت به (6) لا تريد به معنى التأنيث، كما أردت به ذلك قبل التسمية، فجاز لأنك تخلع منها علامة التأنيث، فتجعل الألف لغيره، ألا ترى أن في كلامهم ألفا ليست للتأنيث، ولا للإلحاق ولا هي منقلبة نحو: قبعثرى،
__________
(1) في (ط): فإذا.
(2) قطعة من بيت لقيس بن زهير سبق ذكره. في 1/ 93، 325.
(3) جزء من بيت سبق ذكره 1/ 325.
(4) في (ط): في.
(5) في (ط): التأنيث والتذكير.
(6) في (ط): بها.(2/99)
ونحو: ما حكاه سيبويه: من أن بعضهم يقول: بهماه، فإذا قدّرت خلع علامة التأنيث منها جاء جمع الكلمة بالواو والنون، كما أنك لما قلبتها ياء جاز جمعها بالألف والتاء نحو: حبليات وحباريات، فخلع علامة التأنيث منها (1) في التسمية بما هي فيه كقلبها إلى ما قلبت إليه في حبليات، وصحراوات، وخضراوات.
البقرة: 67
اختلفوا في قوله: أتتخذنا هزؤا [البقرة / 67] في الهمز وتركه، والتخفيف والتثقيل، وكذلك جزا (2)
و {كُفُواً} [الإخلاص / 4].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائيّ: {هُزُواً}، و {كُفُواً} بضمّ الفاء والزّاي والهمز، وجزا بإسكان الزاي والهمز.
وروى القصبيّ (3) عن عبد الوارث عن أبي عمرو، واليزيديّ أيضا عن أبي عمرو: أنه خفّف «جزا» وثقل «{هُزُواً}، و {كُفُواً}».
وروى عليّ بن نصر وعباس بن الفضل عنه أنه خفّف «جزءا وكف ءا».
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) من قوله سبحانه: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) البقرة / 260.
ومن قوله سبحانه (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين) [الزخرف / 15].
(3) هو محمد بن عمر بن حفص أبو بكر القصبي البصري مقرئ صدوق مشهور. (انظر ترجمته في طبقات القرّاء 2/ 216). وقد تصحف في السبعة إلى القتبي.(2/100)
وروى محبوب عنه (1) «كف ءا» خفيفا.
وروى أبو زيد وعبد الوارث في رواية أبي معمر أنه خيّر بين التّثقيل والتّخفيف.
وروى الأصمعيّ أنّه خفّف «هزءا وجزءا» (2). وقرأهنّ حمزة ثلاثهنّ بالهمز أيضا. غير أنه كان يسكّن الزّاي من قوله «هزءا»، والفاء من قوله: «كف ءا» والزّاي من «جزء»، وإذا وقف قال: «هزوا» بلا همز، ويسكّن الزاي والفاء، ويثبت الواو بعد الزّاي وبعد الفاء، ولا يهمز (3)، ووقف على قوله: «جزّا» بفتح الزّاي من غير همز (4)، حكى ذلك أبو هشام عن سليم عن حمزة يرجع في الوقف إلى الكتاب.
واختلف عن عاصم، فروى يحيى عن أبي بكر عنه:
«جزؤا وهزؤا وكفؤا» (5) مثقّلات مهموزات. وروى حفص (6):
أنه لم يهمز «هزوا ولا كفوا» ويثقّلهما، وأثبت الواو وهمز «جزءا» وخفّفها.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): جزءا وهزءا.
(3) في (ط): ولم يهمز.
(4) في البحر المحيط 2/ 300: «قرأ أبو جعفر: جزّا بحذف الهمزة وتشديد الزاي. ووجهه أنه حين حذف ضعف الزاي كما يفعل في الوقف، كقولك: هذا فرج، ثم أجري مجرى الوقف».
(5) في (ط): جزؤا وكفؤا وهزؤا.
(6) في (ط): وروى عنه حفص.(2/101)
[حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال] (1): حدثني وهيب بن عبد الله، عن الحسن بن المبارك، عن عمرو بن الصّباح، عن حفص، عن عاصم: «هزوا (2) وكفوا» يثقّل ولا يهمز. ويقرأ «جزءا» مقطوعا بلا واو، يهمز ويخفّف. وكذلك قال هبيرة (3)
عن حفص عن عاصم «جزءا» خفيف مهموز. وحدّثني وهيب بن عبد الله المروذيّ قال: حدّثنا الحسن بن المبارك قال: قال أبو حفص: وحدّثني سهل أبو عمرو عن أبي عمر عن عاصم أنه كان يقرأ: «هزؤا وكفوا» يثقّل، فربما همز، وربّما لم يهمز. قال: وكان أكثر قراءته ترك الهمز.
حدّثني محمد بن سعد العوفيّ (4) عن أبيه، عن حفص عن عاصم أنه لا ينقص، نحو «هزؤا وكفؤا» ويقول: أكره أن تذهب عني عشر حسنات بحرف أدعه إذا همزته. وذكر عاصم أن أبا عبد الرحمن السلميّ كان يقول ذلك، وروى حسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم «هزوا وكفوا» بواو ولم يذكر الهمز.
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من (ط).
(2) في (م): هزؤا.
(3) هو هبيرة بن محمد التمار أبو عمرو الأبرش البغدادي أخذ القراءة عرضا عن حفص بن سليمان عن عاصم (طبقات القرّاء 2/ 353).
(4) في الأصل (الصوفي) وهو تحريف من الناسخ، والعوفي هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعيد بن جنادة أبو جعفر العوفي البغدادي، شيخ معروف، روى الحروف عن أبيه سعد عن حفص عن عاصم. روى عنه الحروف ابن مجاهد وسمع منه محمد بن مخلد العطار (طبقات القراء 2/ 142).(2/102)
وروى المفضّل عن عاصم «هزءا» مهموزا ساكنة الزاي في كل القرآن.
واختلفوا (1) عن نافع في ذلك، فروى ابن جمّاز وورش وخلف بن هشام عن المسيّبي وأحمد بن صالح المصري (2) عن قالون: أنه ثقّل «هزؤا وكفؤا» وهمزهما [وخفف جزءا وهمزها] (3) وكذلك قال يعقوب بن حفص عنه.
وقال إسماعيل بن جعفر عن نافع وأبو بكر بن أبي أويس عن نافع «هزءا وجزءا وكف ءا» مخففات مهموزات.
وأخبرني محمد بن الفرج، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن نافع، وحدثنا القاضي (4) عن قالون، عن نافع: أنه ثقّل (هزؤا) وهمزها، وخفّف (جزءا وكفؤا) وهمزهما.
وقال الحلوانيّ عن قالون: أنّه ثقّل (كفؤا) أيضا.
حدثني أبو سعيد البصريّ الحارثيّ (5) عن الأصمعيّ عن
__________
(1) في (ط): واختلف.
(2) وقع في الأصل: «المقري» والتصويب من غاية النهاية 1/ 62.
(3) ما بين المعقوفتين سقطت من (م).
(4) هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد القاضي أبو إسحاق الأزدي البغدادي، ثقة مشهور كبير ولد سنة تسع وتسعين ومائة. روى القراءة عن قالون وله عنه نسخة وعن أحمد بن سهل عن أبي عبيد. صنف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما، روى القراءة عنه ابن مجاهد وابن الأنباري ومحمد بن أحمد الإسكافي وغيرهم. (طبقات القراء 1/ 162).
(5) هو عبد الرحمن بن محمد بن منصور أبو سعيد الحارثي البصري المعروف(2/103)
نافع أنه قرأ: «هزؤا» مثقّلة مهموزة.
وروى أبو قرّة عن نافع: هزءا خفيفة مهموزة. ولم يذكر غير هذا الحرف (1).
قال أبو زيد: هزئت (2) هزءا ومهزأة. وقال: [أبو علي:
قوله تعالى] (3) {أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً} فلا يخلو (4) من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون المضاف محذوفا، لأن (الهزء) حدث، والمفعول الثاني في هذا الفعل (5) يكون الأول (6)، قال (7): {لََا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيََاءَ} [الممتحنة / 1] أو يكون: جعل الهزء المهزوء به مثل: الخلق (8)، والصيد في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة / 96] ونحوه.
فأما قوله: {لََا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً}
[المائدة / 57]. فلا تحتاج فيه إلى تقدير محذوف مضاف كما احتجت في الآية الأخرى، لأن الدّين ليس بعين.
وقول موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بِاللََّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ} [البقرة / 67]
__________
بكربزان. روى عن الحسن بن يزيد عن الأصمعي عن نافع، وعنه ابن مجاهد (طبقات القراء 1/ 379).
(1) السبعة: 160157.
(2) في (ط): هزئت به.
(3) ما بين معقوفتين سقط من (م).
(4) في (ط): لا يخلو.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): هو الاول.
(7) في (ط): قال تعالى.
(8) وذلك في قوله سبحانه: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) الكهف / 51.(2/104)
في جواب: أتتخذنا هزؤا يدلّ على أن الهازئ جاهل.
قال أبو الحسن: زعم عيسى أنّ كلّ اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فمن العرب من يثقّله ومنهم من يخفّفه، نحو: العسر واليسر والحكم (1) والرّحم، فممّا يقوي هذه الحكاية أن ما كان على فعل من الجموع، مثل: كتاب، وكتب، ورسول ورسل، قد استمرّ فيه الوجهان، فقالوا: رسل، ورسل، حتى جاء ذلك في العين إذا كانت واوا نحو:
سوك الإسحل (2)
ونحو قوله:
وفي الأكفّ اللامعات سور (3)
__________
(1) في (ط): الحلم.
(2) جزء من بيت لعبد الرحمن بن حسان ونصه في شرح شواهد الشافية (122):
أغرّ الثنايا أحمّ اللّثا ... ت تمنحه سوك الإسحل
اللسان / سوك / المنصف 1/ 338، ابن يعيش 10/ 84 (يحسّنه سوك) وسوك: جمع سواك: والإسحل: شجر يستاك به، والأحم: الأسود.
واللثاث: جمع لثة وهي ما حول الأسنان.
(3) عجز بيت لعدي بن زيد العبادي من أبيات، وهو بتمامه مع روايته:
الصحيحة:
عن مبرقات بالبرين وتب * دو بالأكف اللامعات سور انظر سيبويه 2/ 369ابن يعيش 10/ 84المنصف 1/ 338اللسان / لمع / (تبدو وبالأكف). شرح شواهد الشافية: 121. السور: جمع سوار، وأراد بالأكف المعاصم. والمبرقة: المرأة المتزينة. والبرين: الخلاخل جمع برة، على خلاف القياس.(2/105)
وحكى أبو زيد: قوم قول. فأما فعل في جمع أفعل نحو: أحمر وحمر: فكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين. وقد جاء فيه التحريك في الشعر، وإذا كان الأمر على هذا يجب (1) أن يكون ذلك مستمرا في نحو: الجزء، والكفء، والهزء. إلّا أنّ من ثقّل فقال: رأيت جزؤا، وكفؤا، فجاء به مثقّل العين محقّق الهمزة، فله أن يخفّف الهمزة، فإذا خفّفها وقد ضمّ العين لزم أن يقلبها واوا فيقول: رأيت جزوا، و {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص / 4]. فإن خفّف كما يخفف الرحم فأسكن العين، قال: {هُزُواً} وجزوا فأبقى الواو التي انقلبت عن الهمزة لانضمام ما قبلها، وإن لم تكن ضمة العين في اللفظ لأنها مرادة في المعنى، كما قالوا: لقضو الرجل، فأبقوا الواو ولم يردّوا اللام التي هي ياء من (2) قضيت، لأن الضمة وإن كانت محذوفة من اللفظ مرادة في المعنى.
وكذلك قالوا: رضي زيد، فيمن قال: علم ذاك، فلم يردّوا الواو التي هي لام لزوال الكسرة، لأنها مقدّرة مرادة، وإن كانت محذوفة من اللفظ. ومما يقوي أنّ هذه الحركة، وإن كانت محذوفة في اللفظ، مرادة في التقدير رفضهم جمع كساء، وغطاء، ونحوه من المعتل اللام على فعل. ألا ترى أنّهم رفضوا جمعه على فعل لمّا كان في تقدير فعل، واقتصروا على أدنى العدد، نحو: أغطية وأكسية، وخباء وأخبية، فكذلك تقول: رأيت كفوا، فتثبت الواو وإن كنت قد حذفت الضمة الموجبة لاجتلابها.
__________
(1) في (ط): وجب.
(2) في (ط): في.(2/106)
فأما من أسكن فقال: (الجزء والكفء)، كما تقول:
اليسر، فتكلّم به مسكّن العين، وخفّف الهمزة على هذا، فإنّ تخفيف الهمزة في قوله: أن يحذفها ويلقي حركتها على الساكن الذي قبلها. فيقول: رأيت جزا، كما يقول: يخرج الخب (1)
في السماوات [النمل / 25] فإذا وقف على هذا في القول الشائع، أبدل من التنوين الألف كما تقول: رأيت زيدا، فإذا وقف في الرفع والجرّ، حذف الألف كما يحذف من يد، وغد، فيهما. وعلى ما وصفنا تقول: لبؤة، فإذا خففت الهمزة قلت: لبوة، فإن أسكنت العين في من قال: عضد، وسبع، قلت: لبوة فلم تردّ الهمزة لتقدير الحركة، وزعموا أنّ بعضهم قال: لباة، فهذا كأنّه (2) كان: لبأة، ساكن العين ولم يقدّر فيها الحركة التي في لبؤة فخفّفها على قول من قال: «المراة والكماة» وليس هذا مما يقدح فيما حكاه عيسى. ألا ترى أنّهم قد قالوا: رضيوا، فجعلوا السكون الذي في تقدير الحركة بمنزلة السكون الذي لا تقدّر فيه الحركة، ولولا ذلك للزم حذف الياء التي هي لام كما لزم حذفها في قول من حرّك العين ولم يسكن.
فإذا كان الأمر في هذه الحروف على ما ذكرنا، فقراءة من قرأ بالضم وتحقيق الهمز (3) في الجواز والحسن، كقراءة من
__________
(1) قال أبو حيان في البحر المحيط 7/ 69: قرأ أبي وعيسى بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة. والخبء: مصدر أطلق على المخبوء وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه الله تعالى من غيوبه. وانظر سيبويه 2/ 165وفهارسه للأستاذ النفاخ ص 36.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): الهمزة.(2/107)
قرأ بالإسكان وقلب الهمزة واوا، لأنه تخفيف قياسيّ. ويجوز أن يأخذ الآخذ باللغتين جميعا كما روى أبو زيد عن أبي عمرو، أنه خيّر بين التخفيف والتثقيل. فأمّا قراءة حمزة للحروف الثلاثة بالإسكان والهمز فعلى قول من قال: اليسر والرّحم.
فأما اختياره في الوقف: {هُزُواً} بإسكان الزاي، وإثبات الواو بعدها، وبعد الفاء من كفو ورفضه الهمز في الوقف، فإنه ترك الهمز في الوقف هنا (1) كما تركه في غير هذا الموضع ووجه تركه الهمز في الوقف أن الهمزة حرف قد غيّر في الوقف كثيرا. ألا ترى أنها لا تخلو من أن تكون ساكنة أو متحركة، فإذا كانت ساكنة، لزمها بدل الألف إذا انفتح ما قبلها. وبدل الياء إذا انكسر ما قبلها، وبدل الواو إذا انضمّ ما قبلها في لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: لم أقرأ، تبدلها ألفا، ولم أهني تبدلها ياء، وهذه أكمو، تبدلها واوا.
فإذا كانت متحركة لزمها القلب في نحو: هذا الكلو، وبالكلي، ورأيت الكلا. فلما رأى هذه التغييرات تعتقب عليها في الوقف، غيّرها فيه. ألا ترى أن الهمزة الموقوف عليها لا تخلو من أن تكون في الوصل ساكنة أو متحركة، وقد تعاورها ما ذكرنا من التغيير في حال حركتها وسكونها، ألزمها التغيير في الوقف ولم يحقّقها فيه، لأن الوقف موضع يغيّر فيه الحروف التي لم تتغيّر تغيّر الهمزة فألزمها في الوقف التغيير، ولم يستعمل فيه التحقيق، لما رأى من حال الهمز في الوقف.
__________
(1) في (ط): هاهنا.(2/108)
فإن قلت: فإنه قد غيّر ذلك في الوقف وإن لم يكن الهمز آخر الحرف الموقوف عليه: نحو {يَسْتَهْزِؤُنَ}
[النحل / 34].
قيل: إن الوقف قد يغيّر فيه الحرف الذي قبل الحرف الموقوف عليه نحو: النقر والرّحل، فصار لذلك بمنزلة الموقوف عليه في التغيير.
فإن قلت: إن الهمزة في {يَسْتَهْزِؤُنَ} ليس على حدّ النّقر.
قيل: يجوز أن تكون النون لما كانت تسقط للجزم والنصب عنده لم يعتدّ بها كما لا يعتدّ بأشياء كثيرة لا تلزم.
ويؤكد ذلك، أن النون إعراب وأنها بمنزلة الحركة من حيث كان (1) إعرابا مثلها، فلم يعتدّ بها كما لا (2) يعتدّ بالحركة.
فاختياره في الدّرج التحقيق، وفي الوقف التخفيف، مذهب حسن متجه في القياس. فأمّا وقفه على قوله: جزا بفتح الزاي من غير همز، فعلى قياس قوله: كفوا وهزوا (3).
ألا ترى أن (الجزء)، من أسكن العين منه فقياسه في الوقف في النصب جزا إذا وقف على قوله: وجعلوا له من عباده جزا [الزخرف / 15] (4) فإن وقف في الجرّ والرّفع، أسكن الزّاي في اللغة الشائعة فقال: هذا جز، ومررت بجز، وإن كان ممّن يقول: هذا فرجّ، فثقّل، لزمه أن يثقّل الحرف
__________
(1) في (ط): كانت.
(2) في (ط): لم.
(3) في (م): كفؤا وهزءا.
(4) في هامش (ط): وقف حمزة على الجزء والخبء ونحو ذلك.(2/109)
الذي ألقى عليه حركة الهمزة. فإذا عضد هذا القياس أن يكون الكتاب عليه، جمع إليه موافقة الكتاب، وإنما جاء الكتاب فيما نرى على هذا القياس. وكذلك قراءة عاصم، وما روي عنه في ذلك، ليس يخرج من حكم التحقيق والتخفيف، والتخيير فيهما. وكذلك قول نافع ليس يخرج عما ذكرنا من حكم التحقيق والتخفيف.
البقرة: 74
اختلفوا في التاء والياء في قوله (1): {وَمَا اللََّهُ} [2] بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ [البقرة / 74]. فقرأ ابن كثير كلّ ما (3) في القرآن من قوله (4): {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ} بالتاء، إلا ثلاثة أحرف: قوله (5): لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما يعملون [البقرة / 74] بالياء (6) وقوله (7): يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما يعملون [البقرة / 85] بالياء.
وقوله (8): {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} [البقرة / 144]، بالياء. وقرأ ما كان من قوله: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} بالياء [الأنعام / 132والنمل / 93].
وقرأ نافع من هذه الثلاثة الأحرف حرفين بالياء: قوله:
إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون بالياء، وكذلك:
{لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ}
بالياء، وسائر القرآن بالتاء.
__________
(1) في (ط): قوله تعالى.
(2) في (م): وما ربك، وهي من سورة الأنعام / 132.
(3) في (ط): كل ما كان.
(4) في (ط): قوله عز وجلّ.
(5) في (ط): قوله تعالى.
(6) سقطت من (م).
(7) في (ط): وقوله تعالى.
(8) في (ط): وقوله تعالى.(2/110)
وكذلك قرأ ما كان من قوله: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ}. بالتاء، وهما حرفان في آخر سورة هود، [الآية / 123]، وآخر سورة النّمل [الآية / 93] فهما عنده بالتاء.
وقرأ في سورة الأنعام: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ}
بالياء [الآية / 132].
وقرأ ابن عامر كلّ ما جاء في القرآن من قوله: وما الله بغافل عما تعملون بالتاء. وقرأ في سورة الأنعام وآخر سورة هود {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ} بالتاء، وقرأ في آخر سورة النّمل، {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} بالياء فهذه حروف كذلك في كتابي عن أحمد بن يوسف عن ابن ذكوان. ورأيت في كتاب (1) موسى بن موسى الختّلي (2) عن ابن ذكوان: بالتاء.
وفي آخر النمل: بالتاء أيضا.
وقال الحلوانيّ عن هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر ذلك كلّه بالتاء {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ}، {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ}.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} بالياء في موضعين، قوله: {يُرَدُّونَ إِلى ََ أَشَدِّ الْعَذََابِ،}
{وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} بالياء. وقوله: {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} بالياء، وسائر القرآن بالتاء.
__________
(1) سقطت من (م).
(2) هو موسى بن موسى بن غالب أبو عيسى الختلي البغدادي روى القراءة عن عبد الله بن ذكوان وهارون بن حاتم روى القراءة عنه أبو بكر بن مجاهد.
انظر طبقات القرّاء 2/ 323برقم 3700.(2/111)
وكلّ (1) ما في القرآن من قوله: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} فهو بالياء، وهذا (2) قول أبي بكر بن عيّاش عن عاصم. وقال حفص عن عاصم في رأس الأربع والأربعين والمائة: {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} [البقرة] بالياء، هذه وحدها، وسائر القرآن بالتاء.
وقال حفص: قرأ عاصم في سورة الأنعام: {وَلِكُلٍّ دَرَجََاتٌ مِمََّا عَمِلُوا وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ}
[الآية / 132] بالياء، وقرأ في آخر هود وآخر النّمل: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ} بالتاء مثل قراءة نافع.
وقرأ أبو عمرو رأس الأربع والأربعين والمائة، والتسع والأربعين والمائة (3): {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} بالياء، وسائر القرآن من قوله: {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ} بالتاء.
وما كان من قوله: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} فهو بالياء.
وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ما كان من قوله: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} بالياء، {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ} بالتاء (4).
وكلّ ما في القرآن من قوله (5): {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ} فهو ستّة مواضع. خمسة منها في سورة البقرة (6)، وحرف في آل عمران عند المائة. {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ} ثلاثة مواضع (7): في الأنعام وآخر هود وآخر النّمل.
__________
(1) في (ط): وكل ما كان.
(2) في (ط): هذا.
(3) أي في سورة البقرة كلتاهما.
(4) السبعة 162160.
(5) في (ط): قوله عز وجل.
(6) وأرقامها: 1491441408574.
(7) سقطت من (ط).(2/112)
قال أبو عليّ: القول في جملة ذلك أنّ ما كان قبله خطاب جعل بالتاء، ليكون الخطاب معطوفا على خطاب مثله كقوله (1): {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ}
[البقرة / 74] {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ}، فالتاء هنا (2)
حسن، لأنّ المتقدّم خطاب. ولو كان: {وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا يَعْمَلُونَ} على لفظ الغيبة. أي: وما الله بغافل عما يفعل هؤلاء الذين اقتصصنا عليكم قصصهم أيها المسلمون، لكان حسنا.
وإن كان الذي قبله غيبة (3)، حسن أن يجعل على لفظ الغيبة، ليعطف ما للغيبة على مثله، كما عطفت ما للخطاب على مثله.
ويجوز فيما كان قبله لفظ غيبة الخطاب. ووجه ذلك أن تجمع بين الغيبة والخطاب، فتغلّب الخطاب على الغيبة، لأنّ الغيبة يغلب عليها الخطاب فيصير كتغليب المذكّر على المؤنّث، ألا ترى أنّهم قد بدءوا بالخطاب (4) على الغيبة في باب الضمير، وهو موضع يردّ فيه كثير من الأشياء إلى أصولها؟
نحو: لك، ونحو قوله:
فلا بك ما أسال ولا أغاما (5)
فلمّا قدّموا المخاطب على الغائب فقالوا: أعطاكه ولم
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (ط): هاهنا
(3) في (م): «قبل غيب».
(4) في (ط): قدموا الخطاب.
(5) عجز بيت صدره:
رأى برقا فأوضع فوق بكر وقد سبق في 1/ 106.(2/113)
يقولوا: أعطاهوك. علمت أنه أقدم في الرّتبة. كما أن المذكّر مع المؤنث كذلك. فإذا كان الأمر على هذا، أمكن في الخطاب في هذا النحو أن يعنى به الغيب والمخاطبون، فيغلّب الخطاب على الغيبة ويكون المعنى: ما الله بغافل عمّا تعملون.
أي فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.
ويجوز في الخطاب بعد الغيبة وجه آخر، وهو أن يراد به: قل لهم أيها النبيّ: ما الله بغافل عمّا تعملون، فعلى هذا النحو تحمل هذه الفصول.
البقرة: 81
اختلفوا في قوله تعالى: {وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}
[البقرة / 81]، فقرأ نافع وحده: خطيئاته، وقرأ الباقون:
{خَطِيئَتُهُ} واحدة (1).
قال أبو علي: قوله: {وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون المعنى أحاطت بحسنته خطيئته أي:
أحيطتها من حيث كان المحيط أكبر (2) من المحاط به فيكون بمنزلة قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكََافِرِينَ}
[العنكبوت / 54]، وقوله {أَحََاطَ بِهِمْ سُرََادِقُهََا}
[الكهف / 29]، أو يكون المعنى في: {أَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}:
أهلكته، من قوله (3): {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلََّا أَنْ يُحََاطَ بِكُمْ}
[يوسف / 66] وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس / 22] {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف / 42] فهذا كلّه في معنى البوار والهلكة.
ويكون للإحاطة معنى ثالث وهو: العلم. كقوله (4):
__________
(1) السبعة ص 162.
(2) في (ط): أكثر.
(3) من قوله سقطت من (ط).
(4) في (ط): تعالى.(2/114)
{كَذََلِكَ وَقَدْ أَحَطْنََا بِمََا لَدَيْهِ خُبْراً} [الكهف / 91] و: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسََالََاتِ رَبِّهِمْ وَأَحََاطَ بِمََا لَدَيْهِمْ} [الجن / 28].
وقال: {وَاللََّهُ بِمََا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1) [الأنفال / 47] أي: عالم.
وأما (2) الخطيئة: فقال أبو زيد: خطئت، من الخطيئة.
أخطأ خطئا (3) والاسم الخطء، وأخطأت إخطاء، والاسم الخطاء (4).
وقال أبو الحسن: الخطء: الإثم، وهو ما أصابه متعمّدا والخطأ: غير التعمّد. ويقال من هذا: أخطأ يخطئ وقال:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنََاحٌ فِيمََا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلََكِنْ مََا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}
[الأحزاب / 5] واسم الفاعل من هذا مخطئ.
فأمّا خطئت: فاسم الفاعل فيه (5): خاطئ، وهو المأخوذ به فاعله، وفي التنزيل: {لََا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخََاطِؤُنَ}
[الحاقة / 37] وقد قالوا: خطئ في معنى أخطأ، قال:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا (6)
المعنى: أخطأتهم، ويدلّك على هذا قول الأعشى:
__________
(1) في (ط): {وَاللََّهُ مِنْ وَرََائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج / 20].
(2) في (ط): فأما.
(3) في (ط): خطأ.
(4) الخطء والخطأ والخطاء: ضد الصواب (القاموس).
(5) في (ط): منه.
(6) من أرجوزة لامرئ القيس في ديوانه ص / 134يقولها عند ما بلغه أن بني أسد قتلت أباه، وفي اللسان. والتاج / خطأ / برواية: يا لهف هند بدل:
يا لهف نفسي. ويريد بقوله: إذ خطئن: الخيل. وكاهل: هي من بني أسد. اللهف واللهف: الأسى والحزن والغيظ، وقيل: الأسى على شيء يفوتك بعد ما تشرف عليه. وانظر شرح أبيات المغني 3/ 105.(2/115)
فأصبن ذا كرم ومن أخطأنه ... جزأ المقيظة خشية أمثالها (1)
يصف أيضا خيلا.
ومما جاء فيه: خطئ في معنى أخطأ قول الشاعر (2):
والناس يلحون الأمير إذا هم ... خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد
فأما الخطيئة فتقع على الصغير وعلى الكبير، فمن وقوعها (3) على الصغير قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء / 82] ومن وقوعها (3) على الكبير قوله: {وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة / 81].
فأمّا قولهم: خطيئة يوم لا أصيد فيه (5)، فالمعنى فيه:
قلّ يوم لا أصيد فيه.
وأما قوله: {رَبَّنََا لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا}
[البقرة / 286] فالمعنى أن يكون أخطأنا في معنى: خطئنا،
__________
(1) انظر الديوان / 33والمقيظة: نبات يبقى أخضر إلى القيظ يكون علفة للإبل إذا يبس ما سواه. انظر اللسان (قيظ) وجزأ بالشيء: اكتفى.
(2) هو عبيد بن الأبرص، اللسان / أمر / المحتسب 2/ 20وقد ورد البيت في ديوان عبيد ص / 42/ برواية أخرى: لا شاهد فيها:
والناس يلحون الأمير إذا غوى ... خطب الصواب ولا يلام المرشد
يلحون: يلومون، غوى: ضل. الخطب: الأمر والشأن. ويريد بخطب الصواب: الصواب نفسه.
(3) في (ط): وقوعه.
(5) ويقال: خطيئة يوم يمر بي أن لا أرى فيه فلانا. انظر اللسان (خطأ).(2/116)
ونسينا في معنى تركنا. لأن الخطأ والنسيان موضوعان عن الإنسان وغير مؤاخذ بهما. فيكون {أَخْطَأْنََا}
بمنزلة خطئنا كما جاء خطئنا في معنى أخطأنا.
ويجوز أن تكون {أَخْطَأْنََا} في قوله: {أَوْ أَخْطَأْنََا} على غير التعمّد. والنّسيان: خلاف الذّكر، وليس التّرك، ولكن تعبّدنا بأن ندعو لذلك، كما جاء في الدعاء: {قََالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}
[الأنبياء / 112] والله سبحانه لا يحكم إلا بالحقّ.
وكما قال: {رَبَّنََا وَآتِنََا مََا وَعَدْتَنََا عَلى ََ رُسُلِكَ} [آل عمران / 194] وما وعدوا به على ألسنة الرّسل يؤتونه. وكذلك قول الملائكة في دعائهم للمسلمين: {رَبَّنََا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تََابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وَقِهِمْ عَذََابَ الْجَحِيمِ} [غافر / 7] وكذلك قوله: {رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ} [البقرة / 286] يكون على ما يكرثهم (1) ويثقل على طباعهم، وتكون الطاقة: الاستطاعة.
وقد يكون: أخطأنا: أتينا بخطإ. كقولك: أبدعت: أتيت ببدعة. ونحو هذا مما يراد به هذا النّحو.
وتقول: خطّأته فأخطأ. فيكون هذا كقولهم: فطّرته فأفطر.
فأمّا ما روي عن ابن عباس من قوله: خطّ الله نوءها (2).
__________
(1) يكرثهم من كرثه الأمر يكرثه ويكرثه كرثا، وأكرثه: ساءه واشتد عليه، وبلغ منه المشقة ويقال: ما أكترث له أي ما أبالي به. اللسان / كرث /.
(2) يشير إلى جواب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند ما سئل عن رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت: أنت طالق ثلاثا، فقال: خطّأ الله نوءها ألّا طلقت نفسها. يقال لمن طلب حاجة فلم ينجح: أخطأ نوؤك، أراد جعل(2/117)
فقال أبو عبد الله اليزيديّ وغيره. ليس ذلك من الخطأ، وإنّما هو خطّ (1) مثل ردّ، من الخطيطة قال: وهي أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين.
السيئة في قوله (2): {بَلى ََ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة / 81] يجوز أن يكون. الكفر. ويجوز أن يكون: كبيرا يوتغ (3)
ويهلك، ويجوز أن يكون: من للجزاء الجازم، ويجوز أن يكون (4) للجزاء غير الجازم، فتكون: السيّئة. وإن كانت مفردة، تراد بها الكثرة فكذلك تكون خطيئة (5) مفردة وإنما حسن أن تفرد لأنه مضاف إلى ضمير مفرد، وإن كان يراد به الكثرة كما قال (6): {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلََّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة / 112] فأفرد الوجه والأجر، وإن كان في المعنى جمعا في الموضعين. فكذلك المضاف إليه: الخطيئة، لما لم يكن جمعا لم تجمع كما جمعت في قوله: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ} [البقرة / 58]
__________
الله نوءها مخطئا لها لا يصيبها مطره. ويروى: خطى الله نوءها، بلا همز.
ويكون من خطط، وسيجيء في موضعه. ويجوز أن يكون من خطى الله عنك السوء، أي: جعله يتخطاك، يريد يتعداها فلا يمطرها، ويكون من باب المعتل اللام. قاله في النهاية 2/ 45 (خطأ).
وقال في خطط، ص 48: وفي حديث ابن عباس: «خط الله نوءها» هكذا جاء في رواية، وفسر أنه من الخطيطة، وهي الأرض التي لا تمطر بين أرضين ممطورتين، وانظر اللسان / خطأ، خطط /.
(1) في (ط): من خط.
(2) في (ط): تعالى.
(3) وتغ يوتغ وتغا: فسد وهلك وأثم، والموتغة: المهلكة. والوتغ: الوجع والوتغ: الإثم وفساد الدين، وقيل: الوتغ: قلة العقل في الكلام، اللسان / وتغ /.
(4) في (ط): أن تكون من.
(5) في (ط): خطيئته.
(6) في (ط): تعالى.(2/118)
لأنه مضاف إلى جماعة لكل واحد منهم خطيئة. وكذلك قوله: {إِنََّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنََا رَبُّنََا خَطََايََانََا}
[الشعراء / 51] وقوله (1): {إِنََّا آمَنََّا بِرَبِّنََا لِيَغْفِرَ لَنََا خَطََايََانََا وَمََا أَكْرَهْتَنََا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه / 73] وكذلك قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ} [البقرة / 58] لأن كل لفظة من ذلك مضافة إلى جمع. فجمعت كجمع ما أضيف إليه.
فأمّا قوله: {وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}. فمضاف إلى مفرد.
فكما أفردت السيئة ولم تجمع، وإن كانت في المعنى جمعا، فكذلك ينبغي أن تفرد الخطيئة، وأنت إذا أفردته لم يمتنع وقوعه على الكثرة وإن كان مضافا. ألا ترى أنّ في التنزيل:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} [إبراهيم / 34] فالإحصاء إنما يقع على الجموع والكثرة، وكذلك ما أثر في الحديث من قوله: «منعت العراق درهمها وقفيزها. ومصر إردبّها» (2) فهذه أسماء مفردة مضافة، والمراد بها الكثرة فكذلك الخطيئة. ومما يرجّح به قول من أفرد ولم يجمع لأنه مضاف إلى مفرد، فأفرد لذلك وكان الوجه: قوله: {بَلى ََ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلََّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة / 112]
__________
(1) في (ط): تعالى.
(2) رواه مسلم في كتاب الفتن برقم 2896من حديث أبي هريرة، وأبو داود في الإمارة رقم 3035وأحمد 2/ 262الدرهم والدرهم لغتان فارسي معرب ملحق ببناء كلامهم وجمعه دراهم وجاء في تكسيره دراهيم. قاله ابن سيده. القفيز: مكيال يتواضع الناس عليه، وهو عند أهل العراق ثمانية مكاكيك معروف عندهم. انظر النهاية لابن الأثير 4/ 90واللسان / درهم /. قفز / الإردب: مكيال لهم يسع أربعة وعشرين صاعا. والهمزة فيه زائدة. انظر النهاية لابن الأثير 1/ 37.(2/119)
فأفرد الأجر لما كان مضافا إلى مفرد، ولم يجمع كما جمع قوله: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء / 25] فكما لم يجمع الأجر في الإضافة إلى الضمير المفرد، كما جمع لمّا أضيف إلى الضمير المجموع، كذلك ينبغي أن تكون الخطيئة مفردة إذا أضيفت إلى الضمير المفرد، وإن كان المراد به الجميع (1). ومن قال «خطيئاته» فجمع، حمله على المعنى، والمعنى: الجمع والكثرة. فكما جمع ما كان مضافا إلى جمع كذلك جمع ما كان مضافا إلى مفرد، يراد به الجمع من حيث اجتمعا في أنهما كثرة، ويدلّك على أنّ المراد به الكثرة. فيجوز من أجل ذلك أن تجمع خطيئة على المعنى لأن الضمير المضاف إليه جمع في المعنى.
قوله: {فَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ} [البقرة / 81] فأولئك خبر المبتدأ الذي هو: {مَنْ} في قول من جعله جزاء غير مجزوم كقوله: {وَمََا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللََّهِ} [النحل / 53] أو مبتدأ في قول من جعله جزاء مجزوما. وفي كلا الوجهين يراد به: {مَنْ}
في قوله: {بَلى ََ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة / 81].
ومما يدلّ على أن {مَنْ} يراد به الكثرة فيجوز لذلك أن تجمع خطيئة لأنها مضافة إلى جمع في المعنى. قوله بعد هذه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} [البقرة / 82]، ألا ترى أن {الَّذِينَ} جمع، وهو معادل به من. فكذلك المعادل به يكون جمعا مثل ما عودل به.
__________
(1) في (ط): الجمع.(2/120)
البقرة: 83
اختلفوا في التاء والياء من قوله تعالى (1): {لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ} [البقرة / 83] فقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ: لا يعبدون بالياء.
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم (2) وابن عامر {لََا تَعْبُدُونَ}
بالتاء (3).
قال أبو علي: الألفاظ التي جرت في كلامهم مجرى القسم، حتى أجيبت بجوابه. تستعمل على ضربين: أحدهما:
أن يكون كسائر الأخبار التي ليست بقسم، فلا يجاب كما لا يجاب (4).
والآخر: أن يجري مجرى القسم فيجاب كما يجاب القسم. فممّا لم يجب بأجوبة القسم قوله: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) [الحديد / 8].
ومنه قوله: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة / 63] وقال (6): {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمََا يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَيَحْسَبُونَ}.
فما جاء بعد من ذلك فيه ذكر الأوّل (7) ممّا يجوز أن يكون حالا احتمل ضربين: أحدهما: أن يكون حالا، والآخر:
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (ط): وقرأ نافع وعاصم وأبو عمر.
(3) السبعة ص 172.
(4) في (ط): فلا تجاب كما لا تجاب.
(5) هذه قراءة أبي عمرو (أخذ ميثاقكم) بضم الهمزة وكسر الخاء من أخذ ورفع ميثاقكم. وقرأ الباقون بفتح الهمزة والخاء (أخذ) ونصب (ميثاقكم).
(6) في (ط): وقال تعالى. وتمام الآية: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى ََ شَيْءٍ أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْكََاذِبُونَ} [المجادلة / 18].
(7) في (ط): للأول.(2/121)
أن يكون قسما، وإنما جاز أن تحمله على الحال دون جواب القسم، لأنه قد جاز أن يكون معرّى من الجواب، وإذا جعلت ما يجوز أن يكون حالا، فقد عرّيتها من الجواب. فمما يجوز أن يكون حالا قوله تعالى (1): {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا} [البقرة / 63] فقوله: {وَرَفَعْنََا} يجوز أن يكون حالا وتريد فيه قد. وإن شئت لم تقدّر فيه الحال.
ومما يجوز أن يكون ما بعده فيه حالا غير جواب، قوله:
{وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَ بَنِي إِسْرََائِيلَ لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ} [البقرة / 83] فهذا يكون حالا كأنه أخذ ميثاقهم موحّدين، وكذلك (2): {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ لََا تَسْفِكُونَ دِمََاءَكُمْ} [البقرة / 84] أي: غير سافكين، فيكون حالا من المخاطبين المضاف إليهم. وإنما جاز كونهما لما ذكرنا من أجل أن هذا النحو قد تعرّى من أن يجاب بجواب القسم. ألا ترى أن قوله (خذوا) في الآية ليس بجواب قسم، ولا يجوز أن يكون جوابا له وكذلك من قرأ:
«لا تعبدوا» فجعل لا للنهي كما كان: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} [آل عمران / 187] قسما وكذلك:
{وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لََا يَبْعَثُ اللََّهُ} [النحل / 38] فكما أن {لَتُبَيِّنُنَّهُ} لا يكون إلا جوابا، كذلك يكون قوله: {لََا تَعْبُدُونَ}
و {لََا تَسْفِكُونَ}. يجوز أن يكون جوابا للقسم. ويجوز أن يكون «{لََا تَسْفِكُونَ}» ونحوه في تقدير: أن لا تسفكوا كأنّ تقديره: أخذنا ميثاقهم بأن لا يسفكوا. ولا يكون ذلك جواب
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): وكذلك قوله.(2/122)
قسم كما كان فيمن قدّره حالا غير جواب قسم. إلا أنه لما حذف (أن) ارتفع الفعل.
واعلم أن ما يتصل بهذه الأشياء الجارية مجرى القسم في أنّها أجيبت بما يجاب به القسم. لا يخلو من أن يكون لمخاطب أو لمتكلم، أو لغائب جاز أن يكون على لفظ الغيبة من حيث كان اللفظ لها. وجاز أن يكون على لفظ المخاطب.
وإنما جاز كونه على لفظه (1)، لأنّك تحكي حال الخطاب، وقت ما يخاطب به، ألا ترى أنهم قد قرءوا: (2) قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون إلى جهنم [آل عمران / 12] على لفظ الغيبة، وبالتاء على لفظ الخطاب على حكاية حال الخطاب في وقت الخطاب، فإذا كان هذا النحو جائزا، جاز أن تجيء القراءة بالوجهين جميعا، وجاز أن تجيء بأحدهما، كما جاء قوله: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَ بَنِي إِسْرََائِيلَ لََا تَعْبُدُونَ}
[البقرة / 83] بالوجهين كما جاء سيغلبون، ويحشرون بالوجهين (3)، ويجوز في قياس العربية في قوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مََا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال / 38] على الوجهين اللذين قرئ بهما في «سيغلبون، وستغلبون» (4).
وإن كان الكلام على الخطاب لم يجز فيما يكون في تقدير ما يتلقّى به القسم إلا الخطاب، كقوله:
__________
(1) في (ط): لفظ الخطاب.
(2) قراءة حمزة والكسائي وخلف بالغيب فيهما، وقرأ الباقون بالخطاب [النشر / 238].
(3) في (ط): بالوجهين جميعا.
(4) في (ط): وستغلبون ويحشرون.(2/123)
{وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ لََا تَسْفِكُونَ دِمََاءَكُمْ} [البقرة / 84] فهذا لا يجوز أن يكون إلا على الخطاب، لأن المأخوذ ميثاقهم مخاطبون ولأنّك إن حكيت الحال التي يكون الخطاب فيها فيما يأتي لم يجز أن تجعل المخاطبين كالغيب، كما جاز في الغيب الخطاب من حيث قدّرت الحال التي يكون فيها الخطاب فيما تستقبل، ألا ترى أنّه لا يجوز أن تجعل المخاطبين غيبا، فتقول: = أخذنا ميثاقكم لا يسفكون = لأنك إذا قدّرت الحكاية، كان التقدير:
أخذنا ميثاقكم فقلنا لكم: لا تسفكون، كان بالتاء ولم يجز الياء، كما لا يجوز أن تقول للمخاطبين: هم يفعلون، وأنت تخاطبهم. وإن لم تقدّر الحكاية فهو بالتاء، فلا مذهب إذن في ذلك غير الخطاب.
فقوله (1): {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَ بَنِي إِسْرََائِيلَ لََا تَعْبُدُونَ}
[البقرة / 83] لا يخلو قوله: {تَعْبُدُونَ} من أن يكون حالا، أو يكون تلقّي قسم، أو يكون على لفظ الخبر. والمعنى معنى الأمر، أو تقدّر الجارّ في (أن) فتحذفه ثم تحذف أن فإن جعلته حالا جعلته على قول من قرأ بالياء فقال: لا يعبدون ليكون في الحال ذكر من ذي الحال.
فإن قلت: وإذا قرئ بالياء فالمراد به هو بنو إسرائيل، والحال مثل الصفة، وقد حملت الصفة في هذا النحو على المعنى. فإن هذا قول، والأول البيّن.
وإن جعلته تلقّي قسم، فإنّ هذا اللفظ الذي هو: {أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ}
__________
(1) في (ط): فقوله تعالى.(2/124)
مجاز ما يقع بعده على ثلاثة أضرب: أحدها: أن لا يتبع شيئا مما يجري مجرى الجواب كقوله: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد / 8] والآخر: أن يتلقّى بما يتلقّى به القسم. نحو: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ} [آل عمران / 187] والثالث: أن يكون أمرا نحو: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، خُذُوا}. ولم يجيء شيء من هذا النحو فيما علمنا (1) تلقّي بجواب قسم، ووقع بعده أمر فإن جعلت: {لََا تَعْبُدُونَ} جواب قسم وعطفت عليه الأمر جمعت بين أمرين لم يجمع بينهما.
فإن قلت: لا أحمل الأمر على القسم، ولكن أضمر القول كأنّه: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا يعبدون إلّا الله وقلنا لهم: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
فالقول: إن إضمار القول في هذا النحو لا يضيق، وقلنا على هذا معطوف على: أخذنا، وأخذ الميثاق قول، وكأنّه: قلنا لهم كذا، وقلنا لهم كذا.
فإن جعلته على أنّ اللفظ في: {لََا تَعْبُدُونَ} لفظ خبر.
والمعنى معنى الأمر، فإن ذلك يقويه ما زعموا من أنّ في إحدى القراءتين: ولا تعبدوا (2) ومثل ذلك قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ}
[الصف / 11] يدلّك على ذلك قوله {يَغْفِرْ لَكُمْ}
[الصف / 12] وزعموا أن في بعض المصاحف آمنوا، ويؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر، وهو قوله: {وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً،} [البقرة / 83]
__________
(1) في (ط): علمناه.
(2) في (ط): لا تعبدوا.(2/125)
{وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ} [البقرة / 43] وإن حملته على أن المعنى:
أخذنا ميثاقهم بأن لا تعبدوا، فإن هذا قول، إن حملته عليه كان فيه حذف بعد حذف. وزعم سيبويه أن حذف (أن) من هذا النحو قليل.
وحجة من قرأ: «{لََا تَعْبُدُونَ}» بالخطاب، قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ النَّبِيِّينَ لَمََا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتََابٍ وَحِكْمَةٍ. ثُمَّ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمََا مَعَكُمْ} [آل عمران / 81].
فجاء على الخطاب وقولوا. قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ وَلََا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران / 187].
ومما يقوّيه قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلََّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة / 83] فإذا كان خطابا لا يحتمل غيره، وهو عطف على ما تقدّم، وجب أن يكون المعطوف عليه في حكمه.
ومن قرأ: لا يعبدون بالياء فإنه يدل عليه قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مََا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال / 38] فحمله على لفظ الغيبة فكلّ واحد من المذهبين قد جاء التنزيل به.
البقرة: 83
اختلفوا في ضم الحاء والتخفيف وفتحها والتثقيل من قوله (1): {وَقُولُوا لِلنََّاسِ حُسْناً} [البقرة / 83] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر، {حُسْناً} بضم الحاء والتخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ (2) {حُسْناً} بفتح الحاء والتثقيل.
__________
(1) في (ط): قوله عزّ وجلّ.
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).(2/126)
وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائيّ في سورة الأحقاف {إِحْسََاناً} [الآية / 15] بألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {حُسْناً} خفيفة بغير ألف (1).
قال أبو علي: من قرأ {حُسْناً} احتمل قوله وجهين: يجوز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبخل والبخل والرّشد والرّشد، والثّكل والثّكل، وجاء (2) ذلك في الصفة، كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العرب والعرب، وهو صفة يدلّك على ذلك: مررت بقوم عرب أجمعون. فيكون الحسن على هذا صفة، كالحسن ويكون: كالحلو والمرّ، ويجوز أن يكون الحسن مصدرا كالكفر والشّكر والشّغل، وحذف المضاف معه كأنّه: قولا ذا حسن.
ويجوز أن تجعل القول نفسه الحسن في الاتّساع، وعلى هذا (3): زورة وعدلة، فأنّثوا كما يؤنّثون الصفة التي تكون إياها، نحو: ظريفة وشريفة وحسنة، والدّليل على أن زورا مصدر، وليس كراكب وركب ما أنشده أحمد بن يحيى (5):
ومشيهنّ بالخبيب (4) مور ... كأنهنّ الفتيات الزور
__________
(1) السبعة: ص 162.
(2) في (م): وجاز.
(3) في (ط): وعلى هذا قالوا.
(4) في (ط): بالخبيت. والخبت ما اتسع من بطون الأرض.
(5) ورد في اللسان / مور / زور / وروايته في (زور).
ومشيهن بالكثيب مور ... كما تهادى الفتيات الزور
والخبيب: السرعة، والمور: السرعة، الزور: الذي يزورك. الغور:
المطمئن من الأرض. الجور: نقيض العدل، والميل عن القصد، وترك القصد في السير، اللسان / جور /.(2/127)
يسألن عن غور وأين الغور والغور منهنّ بعيد جور ومن قال: حسنا جعله صفة، وكان التقدير عنده: وقولوا للنّاس قولا حسنا. فحذف الموصوف وحسن ذلك في حسن لأنها ضارعت الصفات التي تقوم مقام الأسماء.
نحو الأبرق، والأبطح، وعبد، ألا تراهم يقولون: هذا حسن، ومررت بحسن، ولا يكادون يذكرون معه الموصوف.
ومثل ذلك في حذف الموصوف قوله: {قََالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} [البقرة / 126] أي متاعا قليلا. يدلك على ذلك قوله:
{قُلْ مَتََاعُ الدُّنْيََا قَلِيلٌ} [النساء / 77] وقوله: {لََا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلََادِ. مَتََاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران / 197] فحسن هذا وإن كان (1) قد جرى على الموصوف في قوله: {إِنَّ هََؤُلََاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء / 54] فكذلك يحسن في قوله:
{وَقُولُوا لِلنََّاسِ حُسْناً}. فأمّا قوله: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ}
[النمل / 11] فينبغي أن يكون اسما، لأنه قد عودل به ما لا يكون إلا اسما وهو «السّوء».
وأمّا قوله: {وَإِمََّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف / 86] فيمكن أن يكون أمرا ذا حسن، ويمكن أن يكون الحسن مثل الحلو.
وأما قراءة الكوفيين (2) في الأحقاف {إِحْسََاناً} وهو قوله (3): {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ إِحْسََاناً} [الآية / 15] فيدل عليه قوله: {وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً} [البقرة / 83] والتقدير:
__________
(1) في (ط): كان هذا.
(2) انظر النشر 2/ 373.
(3) في (ط): قوله عزّ وجلّ.(2/128)
وأحسنوا بالوالدين إحسانا. كأنّه لما قال: {أَخَذْنََا مِيثََاقَهُمْ} قال:
وقلنا لهم أحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قال: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ}
[البقرة / 63] فالجارّ متعلق (1) بالفعل المضمر، ولا يجوز أن يتعلّق بالمصدر، لأن ما يتعلّق بالمصدر لا يتقدّم عليه، وأحسن: يصل بالباء كما يصل بإلى، يدلّك (2) على ذلك قوله:
{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف / 100] كما تعدّى بإلى في قوله: {وَأَحْسِنْ كَمََا أَحْسَنَ اللََّهُ إِلَيْكَ}
[القصص / 77] والتقدير أنه لمّا قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ}، فكان هذا الكلام قولا صار كأنّه قال: وقلنا أحسن أيّها الإنسان بالوالدين إحسانا. وممّا يؤكّد ذلك ويحسّنه قوله في الأخرى:
{وَاعْبُدُوا اللََّهَ وَلََا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً}
[النساء / 36].
ووجه من قرأ في الأحقاف: {بِوََالِدَيْهِ حُسْناً} [الآية / 15] أن يكون أراد بالحسن الإحسان، فحذف المصدر وردّه إلى الأصل كما قال الشاعر (3):
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يهلك فذلك كان قدري
أي: تقديري.
__________
(1) في (ط): يتعلق
(2) في (ط): ويدلك.
(3) هو: يزيد بن سنان. أمالي ابن الشجري 1/ 350المخصص 9/ 92، والنفث: أقل من التّفل، لأن التفل لا يكون إلا معه شيء من الريق، والنفث شبيه بالنفخ، وقيل: هو التفل بعينه. اللسان / نفث /.(2/129)
ويجوز أن يكون وضع الاسم موضع المصدر كما قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا (1)
والباء في هذين الوجهين متعلق (2) بالفعل المضمر كما تعلّقت به في قول الكوفيين في قراءتهم إحسانا، ويدلّك على ذلك قولهم: عمرك الله. فنصب المصدر محذوفا كما ينصبه غير محذوف.
ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب {وَصَّيْنَا} ويكون {حُسْناً}
محمولا على فعل كأنه «وصيناه» فقلنا: اتّخذ فيهم حسنا، واصطنع حسنا. كما قال: {وَإِمََّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}
[الكهف / 86] وحكى أبو الحسن: حسنى ولا أدري أهي قراءة أم لغة غير قراءة. إلا أنّه يحتمل ضربين: أحدهما: أن تكون فعلى الأفعل، إلا أنّه استعمل استعمال الأسماء، فأخرج منها لام المعرفة حيث صارت بمنزلة الأسماء نحو قوله:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت (3)
والآخر: أن يكون بمنزلة: الرّجعى والشّورى والبشرى.
البقرة: 85
اختلفوا في تشديد الظّاء وتخفيفها من قوله تعالى:
{تَظََاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} [البقرة / 85]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {تَظََاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} مشددة الظاء بألف،
__________
(1) سبق ذكره في 1/ 182وص 33من هذا الجزء.
(2) في (ط): هذين الموضعين تتعلق.
(3) بيت من الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 410، وبعده:
من نزل إذا الأمور غبّت(2/130)
وكذلك في سورة الأحزاب والتحريم.
وروى عليّ بن نصر عن أبي عمرو {تَظََاهَرُونَ} بفتح التاء والظاء خفيفة.
[وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {تَظََاهَرُونَ} خفيفا] (1).
وفي التحريم {تَظََاهَرََا عَلَيْهِ} [الآية / 4] خفيفة أيضا. وفارقهما عاصم في التي في سورة الأحزاب فقرأ: {تُظََاهِرُونَ مِنْهُنَّ}
[الآية / 4] بضم التاء مع التخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ {تَظََاهَرُونَ} بفتح التاء مع التخفيف مثل سورة البقرة (2).
قال أبو علي: تظّاهرون: تعاونون. وإن تظّاهرا عليه:
إن (3) تتعاونا عليه.
وقال الأصمعي: اتخذ معك بعيرا، أو بعيرين ظهريّين.
يقول: عدّة (4) وقال: {وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم / 4] أي معين، فالتقدير فيه الجمع، واللفظ على الإفراد من التنزيل: {وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً} [النساء / 69].
وقال رؤبة:
دعها فما النّحويّ من صديقها (5)
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).
(2) السبعة 163162.
(3) في (ط): أي.
(4) البعير الظّهري بالكسر هو العدّة للحاجة إن احتيج إليه، نسب إلى الظهر نسبا على غير قياس، يقال: اتخذ معك بعيرا أو بعيرين ظهريين أي:
عدة، والجمع ظهاري، اللسان / ظهر /.
(5) سبق ذكره في 1/ 226.(2/131)
أي: من أصدقائها. وقال: قالوا ساحران تظاهرا [القصص / 48] أي: تعاونا على سحرهما، و {سِحْرََانِ تَظََاهَرََا} (1) [القصص / 48] أي: تعاون أصحابهما، لأنه إنما يتعاون السّاحران لا السّحران.
وأما قوله: {وَكََانَ الْكََافِرُ عَلى ََ رَبِّهِ ظَهِيراً}
[الفرقان / 55]. فإنه يحتمل تأويلين:
أحدهما: وكان الكافر على أولياء ربه معينا. أي يعادونهم ولا يوالونهم. كما قال (2): {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكََادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيََاتِنََا}
[الحج / 72] وقال: {وَإِنْ يَكََادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصََارِهِمْ لَمََّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم / 51].
والآخر: أن يكون هينا (3) عليه لا وزن له ولا منزلة.
وكأنه من قولهم: ظهرت بحاجتي: إذا لم تعن بها قال الشاعر:
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي ... بظهر ولا يعيا عليّ جوابها (4)
المعنى: لا يعيا عليّ جواب ردّها، فحذف المضاف.
__________
(1) قرأ الكوفيون (سحران) من غير ألف، وقرأ الباقون (ساحران) انظر النشر في القراءات العشر 2/ 341.
(2) زاد في (ط): تعالى.
(3) في (ط): أن يكون المعنى كان هيّنا.
(4) البيت للفرزدق في ديوانه 1/ 95وروايته:
تميم بن زيد لا تهونن حاجتي ... لديك ولا يعيا علي جوابها
واللسان / ظهر / برواية: تميم بن قيس. وتفسير البحر المحيط 1/ 325. وفي (ط): فلا بدل ولا.(2/132)
ويمكن أن يكون من هذا قوله (1):
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي: تلك شكاة هي عنك بظهر فلا يعبأ بها.
والكافر في قوله: {وَكََانَ الْكََافِرُ عَلى ََ رَبِّهِ ظَهِيراً}
[الفرقان / 55] كقولهم: كثر الشاه والبعير، في أنه يراد به الكثرة، وقد جاء ذلك في اسم الفاعل، كما جاء في سائر أسماء الأجناس. أنشد أبو زيد:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي ... أو تصبحي في الظاعن المولّي (2)
وقال (3): {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى ََ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظََاهِرِينَ} [الصف / 14] أي غالبين لهم. قاهرين. ومنه ظهر المسلمون على دور الحرب.
فأما قول الشاعر:
مظاهرة نيّا عتيقا وعوططا ... فقد أحكما خلقا لها متباينا (4)
__________
(1) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي وصدره:
وعيّرها الواشون أني أحبها انظر شرح أشعار الهذليين 1/ 70وتفسير أسماء الله الحسنى ص 60واللسان (ظهر).
(2) سبق انظر 1/ 151.
(3) في (ط): وقال تعالى.
(4) البيت ورد في اللسان / عوط / وفي الكتاب لسيبويه 2/ 377ولم ينسب لأحد، والشاهد في البيت عند سيبويه قلب الياء واوا في العوطط، وعوطط فعلل من عاطت الناقة تعيط عياطا وعوططا إذا لم تحمل، والبيت في وصف ناقة مطارقة الشحم، وافرة القوة والجسم لاعتياط رحمها وعقرها،(2/133)
فمن قولهم: ظاهر بين درعين. إذا لبس إحداهما فوق الأخرى. وكذلك مظاهرة نيّا. أي: كأنّها قد لبست الجديد على العتيق، وقال (1):
هل هاجك الليل كليل على ... أسماء من ذي صبر مخيل
ظاهر نجدا فترامى به ... منه توالي ليلة مطفل
ظاهر نجدا، أي: علا نجدا، وتوالي السحاب: أواخره، ومطفل، أي: مطر لنتاج ليلته، أي: نشأ الغيم فيها ومطر.
فقراءة الفريقين من ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، ومن عاصم وحمزة والكسائي، في البقرة وفي التحريم في المعنى سواء. ألا ترى أن الكلمة: تتفاعلون في المعنى، فأما في اللفظ، فمن قال: {تَظََاهَرُونَ} أدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها، ومن قال: {تَظََاهَرُونَ} حذف التاء التي أدغمها الآخرون من اللفظ فكلّ واحد من الفريقين كره اجتماع الأمثال والمقاربة. فمن قال: {تَظََاهَرُونَ} خفّف بالإدغام. ومن قال:
__________
وأصل المظاهرة: لبس ثوب على آخر فالظاهر منهما ظهارة والباطن بطانة، والني: الشحم. وقد نوت الناقة تنوي إذا سمنت. والعتيق:
الحولي القديم، والمتباين هو المتفاوت المتباعد. يعني أنها كاملة الخلق متباعدة ما بين الأعضاء وقد أحكم خلقها مع تفاوته السمن والحيال وسدده. (طرة سيبويه).
(1) وهو المتنخّل الهذلي والبيتان من قصيدة في ديوان الهذليين ق 2/ 6و 9 وبينهما 5أبيات.
صبر: جمع صبير وهو الغيم الأبيض ومخيل: أي سحاب ذو مخيلة للمطر.(2/134)
{تَظََاهَرُونَ} خفّف بالحذف. فالتاء التي أدغمها ابن كثير، ومن قرأ كقراءته، حذفها عاصم وصاحباه، والدليل على أنها هي المحذوفة: أنها كما اعتلّت بالإدغام اعتلّت بالحذف. قال سيبويه (1): الثانية أولى بالحذف لأنها هي التي تسكن وتدغم في نحو: {فَادََّارَأْتُمْ} [البقرة / 72]، {وَازَّيَّنَتْ} [يونس / 24] وممّا يقوّي ذلك أن الأولى لمعنى، فإذا حذفت لم يبق شيء يدلّ على المعنى. والثانية من جملة كلمة إذا حذفت دلّ ما بقي من الكلمة عليها.
وتفاعل مطاوع فاعل، كما أنّ تفعّل مطاوع فعّل. فتفاعل نحو: تضارب، وتمادى. وفعّل نحو: قطّعته فتقطّع، وملّأته فتملّأ.
وقد جاء (ظاهر) متعديا. قال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظََاهَرُوهُمْ}
[الأحزاب / 26] والتي في البقرة والتحريم في المعنى واحد، وإنّما هما من المعاونة. فأما التي في الأحزاب فليس من المعاونة لكنّها (2) من الظّهار.
قال أبو الحسن: قالوا: ظاهر من امرأته. ومعنى الظّهار أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي. أو يشبهها (3) بعضو منها غير الظّهر مما يحرم على الرجل من أمّه.
وخالف عاصم الفريقين في ما معناه الظّهار. فقرأ الذي معناه: الظّهار على فاعل. وزعموا أنه قراءة الحسن، وكذلك قرأ هذا المعنى في المجادلة على فاعل فقال:
__________
(1) الكتاب 2/ 425، 426.
(2) في (ط): لكنه.
(3) في (ط): ويشبهها.(2/135)
{الَّذِينَ يُظََاهِرُونَ} بضم الياء وبالألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو في المجادلة: الذين يظهرون [الآية / 2] بغير ألف.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يظاهرون بفتح الياء بألف (1) مشدّدة الظّاء.
فمن قرأ يظهرون جعله مطاوع ظهّر.
ومن قال {يُظََاهِرُونَ} جعله مطاوع ظاهر.
فإن قلت: فإن (ظهّر) لم يتعدّ، فكيف يكون له مطاوع؟. فإنّه قد يجيء على لفظ المطاوع ما لا يكون منه فعل متعد نحو: انطلق وفعّل وفاعل قد يستعملان بمعنى كقولهم:
ضاعف وضعّف. فكذلك ظاهر وظهّر.
فأمّا من ذهب من المتأخّرين إلى أنّ الظهار لا يقع في أول مرّة حتى يعيد لفظ الظّهار مرة أخرى، فيقول: «أنت عليّ كظهر أمّي»، لأن ذلك عنده هو الظاهر لقوله: {وَالَّذِينَ يُظََاهِرُونَ مِنْ نِسََائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[المجادلة / 3] فليس في ذلك ظاهر كما ادّعاه، وذلك أنّ قوله: يعودون (2) العود على ضربين: أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل فتركه ثم صار إليه، والآخر: أن يصير إلى شيء وإن لم يكن على ذلك قبل. وكأن هذا الوجه غمض على هذا القائل. وهذا عند من خوطب بالقرآن مثل الوجه
__________
(1) في (ط): وبالألف.
(2) كذا في (ط)، وفي (م) قولهم يعود وهو خطأ.(2/136)
الأول في الظّهور، وفي أنّهم يعرفونه كما يعرفون ذاك (1). فمن ذلك ما أنشده أبو عثمان أو الرّياشيّ (2):
إذا التّسعون أقصدني سراها ... وسارت في المفاصل والعظام
وصرت كأنني أقتاد عيرا ... وعاد الرأس مني كالثّغام
ومنه قول الهذلي (3):
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحقّ شيئا واستراح العواذل
المعنى: وصار لون الرأس كلون الثّغام، ولم يكن ثمّ لون ثغام عاد إليه. وإنما المعنى صار لون الرأس كلون الثّغام. فكذلك قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا} [المجادلة / 3] أي: يصيرون إليه، ومن ذلك قول العجّاج:
__________
(1) في (ط): ذلك.
(2) في (ط) والرياشي. ولم نعثر على قائلهما.
أثغم رأس الرجل، إذا ابيض، كأن رأسه ثغامة، والثغامة: شجرة بيضاء الزهر والثمر كأنها هامة شيخ. انظر أساس البلاغة / ثغم /.
(3) الشاعر هو أبو فراس الهذلي والبيت من قصيدة له في قتل زهير بن العجوة أخي بني عمرو بن الحارث والمعنى: رجع الفتى عما كان عليه من فتوته وصار كأنه كهل، واستراح العواذل، لأنهن لا يجدن ما يعذلن فيه سوى الحق أو العدل. ورواية البيت في الديوان: سوى العدل، والمثبت رواية الأصل والأغاني. انظر ديوان الهذليين ق 2/ 150. والأغاني 21/ 237.(2/137)
وقصب حنّي حتى كادا يعود بعد أعظم أعوادا (1)
وسمّيت الآخرة المعاد، ولم يكن فيها ثمّ صار إليها.
فالمعاد كقوله: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة / 285] في المعنى.
وقال ساعدة أو غيره:
فقام ترعد كفّاه بمحجنه ... قد عاد رهبا رذيّا طائش العدم (2)
وقال امرؤ القيس:
وماء كلون البول قد عاد آجنا ... قليل بها الأصوات ذي كلأ مخلي (3)
وقال آخر:
فإن تكن الأيام أحسنّ مرّة ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب (4)
وهذا إذا تتبّع وجد كثيرا. وفي بعض ما ذكر منه كفاية تدلّ على غلط من ذهب إلى: أنّ العود لا يكون إلا أن يفارق
__________
(1) ديوان العجاج 2/ 283واللسان عود. والقصب: كل عظم فيه مخ.
(2) البيت لساعدة بن جؤية في شرح أشعار الهذليين 3/ 1124، يقول: قام بمحجنه الذي يتوكأ عليه وكفاه ترعدان. والرهب: الرقيق الضعيف.
والرذي: المعيي المطروح.
(3) البيت في ديوان امرئ القيس / 363/ وآخره: في كلأ محل.
(4) البيت للشاعر: غريقة بن مسافع العبسي في الأصمعيات / 99/ وعزاه في البحر المحيط للطفيل الغنوي 2/ 283ولم نجده في ديوانه.(2/138)
شيئا كان عليه ثم يصير إليه بعد.
وقد قيل في الآية قولان: يجوز أن يكون في كلّ واحد منهما على غير ما قاله هذا القائل.
قال أبو الحسن: تقديرها: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم. وقال عبيد الله بن الحسين. تأويلها: {الَّذِينَ يُظََاهِرُونَ مِنْ نِسََائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا} المعنى: ثم يعودون إلى المقول فيه. والمقول فيه هو النساء. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي: فتحرير رقبة لكفّارة التحريم الواقع من الزوج.
فتقدير قول أبي الحسن الأخفش: والذين يظّاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما قالوا أي: لما نطقوا به من لفظ التحريم الموجب الامتناع من الوطء إلّا بعد التكفير، فيكون قوله: {لِمََا قََالُوا} الجارّ فيه متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ والجارّ قد يتعلق بالمعنى. وإن تقدم عليه لكونه بذلك مثل الظرف (1) في نحو: أكلّ يوم لك ثوب. ومعنى: يعودون إلى نسائهم، أي: إلى وطئهنّ الذي كانوا حرّموه على أنفسهم بالظّهار منهنّ.
فأمّا التقديم والتأخير الذي قدّره في الآية فهو كثير جدا.
فمثل الآية قوله: {اذْهَبْ بِكِتََابِي هََذََا، فَأَلْقِهْ} [2] إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مََا ذََا يَرْجِعُونَ [النمل / 28]
__________
(1) في (ط): الظروف.
(2) فألقه إليهم: قرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة بإسكان الهاء. وقرأ قالون بكسر الهاء من غير بلوغ ياء. وقرأه الباقون بصلتها بياء في الوصل. انظر الكشف لمكي 2/ 159.(2/139)
فالمعنى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم فكما قدم قوله: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} والتقدير به التأخير، كذلك في آية الظّهار، التقدير بثمّ وما تعلّق به التأخير.
وقال أبو الحسن عبيد الله بن الحسين: التأويل: والذين يظّاهرون ثمّ يعودون [{لِمََا قََالُوا}] (1) أي: يعودون إلى المقول فيه، والمقول فيه: هو القول. فما قالوا والمقالة والقول بمعنى، والمراد بقوله: {لِمََا قََالُوا} هو المقول فيه. كما أنّ قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير، يراد به مضروبه. وهذا الثوب نسج اليمن. يراد به منسوج (2) اليمن. وهذا النحو كثير في كلامهم، كأنّهم وصفوا المفعول في هذا النحو بالمصدر كما وصفوا الفاعل به في قولهم: «رجل عدل» يراد به عادل. وماء غور أي غائر، فسوّوا بين الفاعل والمفعول في هذا كما سوّوا بينهما في إضافة المصدر إليهما. وفي بناء الفعل لكل واحد منهما.
ومما جاء فيه المقالة يراد به القول قول (3) كثير:
وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة ... ولو سرت فيها كنت ممّن ينيلها
فالمقالة هنا يراد بها: المقول فيه. ألا ترى أنّ المعنى ولو سرت في طلبها، كنت ممن ينيله إيّاها. فإنما يسأل ويطلب
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقطة من (ط).
(2) في (ط): منسوجه.
(3) سقطت من (ط) كلمة قول.(2/140)
ما تعد به الملوك من صلاتها وجوائزها لا ما تلفظ به. وكان أبو الحسن يقول: إنّ ذلك بمنزلة قوله: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» (1) أي: العائد في موهوبه. قال: ألا ترى أن العود لا يكون إلى الهبة التي هي نطق بلفظ يوجب التمليك مع القبض. فإذا لم يجز ذلك، كان المراد الموهوب.
قال: ومن ثمّ لم يوجب أبو حنيفة الكفّارة على من حلف بعلم الله ثم حنث، لأن العلم صار في تعارف الناس:
المعلوم (2)، ألا تراهم يقولون: غفر الله لك علمه فيك، وإنما يراد معلومه. فكذلك قوله: لما قالوا يراد به المقول فيه. ومن ذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم / 27] والخلق هنا المخلوق، فهذا في المعنى كقوله: {كَمََا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف / 29] ألا ترى أن الذي يعاد هو الأجسام المنشرة.
فاللّام في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا} [المجادلة / 3] على قول أبي الحسن عبيد الله بن الحسين بمعنى إلى. وإلى واللام يتعاقبان في هذا النحو. ويقع كلّ واحد منها موقع الآخر. قال: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي هَدََانََا لِهََذََا} [الأعراف / 43] وقال {فَاهْدُوهُمْ إِلى ََ صِرََاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات / 23] وقال:
{قُلِ اللََّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ، أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ}
__________
(1) الحديث: في صحيح البخاري 3/ 215كتاب الهبة وفضلها باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، وفي مسلم في كتاب الهبات 3/ 1241 وانظر جامع الأصول 11/ 615.
(2) انظر كتاب الهداية للمرغيناني في الفقه الحنفي 2/ 73وفتح القدير 4/ 9.(2/141)
[يونس / 35] فوصل الفعل مرة باللام ومرة بإلى كما قال:
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى ََ لَهََا} [الزلزلة / 5] وقال: {وَأُوحِيَ إِلى ََ نُوحٍ}
[هود / 26].
فأمّا قوله: {يَعُودُونَ} في الآية، فهو في القولين يجوز على كلّ واحد من المذهبين اللّذين ذكرناهما في العود، من (1)
أنّه يكون للحال التي يكون عليها الشيء، ثم ينتقل عنها (2)، ثم يصير إليها (3).
ويكون للمصير إلى الشيء، وإن لم يكن فيه قبا.
فقول أبي الحسن الأخفش (4) تقديره: فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوه من لفظ الظهار الموجب للتحريم، ثم يعودون إلى نسائهم على ما كانوا عليه من قبل من وطئهنّ، ويجوز أن يكون: فتحرير رقبة لما قالوا، ثمّ يصيرون إلى استباحة وطئهنّ الذي كان قد حرم عليهم. وكذلك قول أبي الحسن: أي يصيرون إلى الحالة التي كانوا عليها من فعل الوطء. كما كانوا من قبل أن يحدثوا التحريم بالظّهار.
ويجوز أن يكون المعنى: ثمّ يصيرون (5) إلى استباحة الوطء برفع الكفّارة التحريم الحادث ويخرجون عنه.
فإذا أمكن في الآية كلّ واحد من التأويلين اللذين تحتملهما الكلمة، لم يجز أن يدّعى: أنّ أحدهما هو الظاهر دون الآخر.
__________
(1) في (ط): في.
(2) في (ط): عنه.
(3) في (ط): إليه.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): يعودون.(2/142)
البقرة: 85
اختلفوا في: أسارى تفدوهم [البقرة / 85] في إثبات الألف في الحرفين وإسقاطها وفي فتح الراء وإمالتها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: أسارى تفدوهم.
وقرأ نافع وعاصم والكسائيّ: {أُسََارى ََ تُفََادُوهُمْ} بألف فيهما.
وقرأ حمزة: أسرى تفدوهم بغير ألف فيهما. وكان أبو عمرو وحمزة والكسائيّ يكسرون الراء، وكان ابن كثير وعاصم يفتحان الراء. وكان نافع يقرأ بين الفتح والكسر.
قال أبو علي (1): أسير، فعيل، بمعنى مفعول. ألا ترى أنّك تقول: أسرته، كما تقول: قتلته، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول، لم يجمع بالواو والنون كما لم يجمع فعول بهما، ولكن يكسّر على فعلى، نحو لديغ ولدغى. وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وعقير وعقرى. فإذا كان كذلك، فالأقيس:
الأسرى وهو أقيس من أسارى، كما كان أقيس من قولهم:
أسراء، ألا ترى أنّهم قد قالوا: أسراء، فشبّهوه بظرفاء، كما قالوا في جمع قتيل: قتلاء، فكما أن أسراء وقتلا في جمع قتيل، وأسير، ليس بالقياس، كذلك أسارى ليس بالقياس.
ووجه قول من قال: {أُسََارى ََ} أنّه شبّهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرّفه للأسر، كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته السيّئة شبّه به، فقيل في جمعه:
أسارى كما قيل: كسالى، وأجري عليه هذا الجمع للحمل (2)
__________
(1) سقطت من (ط) جملة: قال أبو علي.
(2) سقطت من (ط).(2/143)
على المعنى، كما قيل: مرضى وموتى (1) وهلكى ووجيا. لما كانوا مبتلين بهذه الأشياء ومدخلين فيها مكرهين عليها مصابين بها، فأشبه في المعنى فعيلا الذي بمعنى مفعول. فلما أشبهه في المعنى أجري عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول، كما قالوا: امرأة حميدة فألحقوها الهاء، وإن كان بمعنى مفعول لمّا كان (2) بمعنى رشيدة ورشيد فهذه الأشياء مما تحمل على المعنى. وإن لم يكن حملها على المعنى الأصل. عند سيبويه، قال: ولو كان أصلا قبح: هالكون وزمنون، وكذلك أسارى ليس بالأصل (3) في هذا الباب، ولكنه قد استعمل كثيرا في هذا النحو، وإن لم يكن مستمرا كاستمرار فعلى في جمع فعيل الذي بمعنى مفعول. قال سيبويه: وقالوا كسلى، فشبّهوه بأسرى، كما قالوا: أسارى، فشبّهوه بكسالى.
فهذا يعلم منه أنّ الأصل في فعيل الذي يراد به مفعول أن يجمع على فعلى، وأنّ فعلان نحو: سكران، وكسلان (4)، يجمع على فعالى أو فعالى. وقالوا: كسالى. وكسالى، فكأنّهم جمعوه على فعالى، وإن كانت من أبنية الآحاد نحو: حبارى ورخامى، لما كان فعال قد جاء في بعض أبنية الجموع نحو:
رخال وظؤار (5) وثناء، وقد لحقته تاء التأنيث فقالوا في جمع نقوة نقاوة، كما قالوا: الحجارة والذّكارة (6)، فكما لحق التاء في هذا النحو الّذي يراد به الجمع، كذلك لحق علامة التأنيث في
__________
(1) في (ط): موتى ومرضى.
(2) في (ط): كانت.
(3) في (ط): بأصل.
(4) في (ط): كسلان وسكران.
(5) رخال بكسر الراء وضمها: ج رخل، الأنثى من ولد الضأن. والظؤار:
ج ظئر وهي العاطفة على غير ولدها المرضعة له (اللسان رخل وظأر).
(6) الذكارة، بالكسر: ما يصلح للرجال كالمسك والعنبر والعود. (اللسان ذكر).(2/144)
سكارى وكسالى. فجعلت الألف بمنزلة التاء. كما جعلت بمنزلتها في نحو قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء ودوامّ (1) فصار بمنزلة: حاوية وحوايا، وجابية وجوابي، كما صارت، الدّني والقصا بمنزلة الظّلم والثّقب، وقلّ مغالى في الجمع كما قلّ فعالة فيه.
الرّبيع عن أبي العالية في قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة / 85] قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم وقد أخذ عليهم الميثاق. أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض: آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم. ومرّ عبد الله بن سلّام على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها (2) العرب فقال ابن سلام:
أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلّهنّ (3).
قتادة: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتََابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}
[البقرة / 85] كان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا (3).
غيره (5): {ثُمَّ أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيََارِهِمْ} الآية [البقرة / 85] كانت قريظة والنضير
__________
(1) القاصعاء والداماء: من أسماء جحرة اليربوع السبعة، (اللسان دمم).
(2) في (ط): عليه.
(3) نقله الطبري عن الربيع في تفسيره: 1/ 399وعن قتادة كذلك.
(5) نقله الطبري 1/ 398إلى قوله: من ديارهم.(2/145)
أخوين، وكانوا من اليهود (1)، وكان الكتاب بأيديهم، وكان الأوس والخزرج أخوين، فافترقا وافترقت قريظة والنّضير، فكانت النّضير مع الخزرج، وكانت قريظة. مع الأوس فاقتتلوا، وكان بعضهم يقتل بعضا. قال الله (2): {ثُمَّ أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيََارِهِمْ} [البقرة / 85] قال أبو علي: {ثُمَّ أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}: أي:
يقتل بعضكم بعضا. كقوله: {فَإِذََا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ} [النور / 61] أي ليسلّم [بعضكم على بعض] (3).
فديت: فعل يتعدّى إلى مفعولين، ويتعدّى إلى الثاني بالجارّ كقوله: {وَفَدَيْنََاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات / 107] وكقوله:
يودّون لو يفدونني بنفوسهم ... ومثنى الأواقي والقيان النواهد (4)
فإذا ثقّلت العين زدت على المفعولين ثالثا، كقوله:
لو يستطعن إذا نابتك مجحفة ... فدّينك الموت بالأبناء والولد
وقالوا: فادى الأسير: إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا.
قال الأعشى (5):
عند ذي تاج إذا قيل له ... فاد بالمال تراخى ومزح
__________
(1) في (ط): يهودا.
(2) في (ط): الله عز وجل.
(3) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).
(4) سقط من (م) عجز البيت. وهو لأبي ذؤيب في شرح أشعار الهذليين 192ومثنى الأواقي يعني الذهب، ومثنى: أي مرة بعد مرة، والقيان: الخدم.
(5) من قصيدة يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي: وروايته في ديوانه / 237:
«عند ذي ملك».(2/146)
المفعول الأول محذوف. التقدير: فاد الأسرى بالمال.
ومما يؤكّد فاعل في هذا الباب ويثبته أنّه، قد جاء تفادى، وتفاعل (1) إنما هو مطاوع فاعل، كما أن تفعّل مطاوع فعّل. قال:
تفادى إذا استذكى عليها وتتّقي ... كما يتّقي الفحل المخاض الجوامز (2)
فأمّا الفداء: فيجوز أن يكون مثل الكتاب، ويجوز أن يكون مصدر فاعل، وقد قالوا: فديته، وافتديته، وأنشد أبو زيد:
ولو أنّ ميتا يفتدى لفديته ... بما اقتال من حكم عليّ طبيب (3)
فافتدى يجوز أن يكون بمعنى تفاعل، مثل: ازدوجوا وتزاوجوا، واعتونوا وتعاونوا، ودلّ على ذلك تصحيح العين في افتعلوا، ويجوز أن يكون: فدى وافتدى، مثل: حفر واحتفر، وقلع واقتلع، والأخلق في البيت أن يكون بمنزلة فعلت، على تقدير: ولو أنّ ميتا يفدى لفديته. فمن قرأ: {تُفََادُوهُمْ} فلأنّ من كلّ واحد من الفريقين فعلا، فمن الآسر دفع الأسير، ومن
__________
(1) كذا في (ط) وفي (م) تتفاعل.
(2) البيت للشماخ بن ضرار الذبياني ديوانه / 180، تفادى: تتفادى: أي يلوذ بعضها ببعض، استذكى عليها: اشتد عليها وتوقد، بمعنى: غضب الفحل، والجوامز: السريعات في السير، والمخاض الحوامل من الإبل. وانظر جمهرة أشعار العرب / 296/ وفيه تعادي مكان تفادى.
(3) سبق انظر الحجة 1/ 342.(2/147)
المأسور منهم دفع لفدائه (1)، فإذا كان كذلك فوجه. {تُفََادُوهُمْ}
ظاهر.
والمفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف، كما كان المفعول الأوّل الذي يصل إليه الفعل بلا حرف محذوفا في قوله: فاد بالمال.
ومن قرأ تفدوهم فالمعنى فيه مثل معنى من قرأ:
{تُفََادُوهُمْ} إلا أنّه جاء بالفعل على يفعل، ألا ترى أنّ في هذا الوجه أيضا دفعا من كلّ واحد من الآسرين والمأسور منهم على وجه الفدية للأسير، والاستنقاذ له من الأسر.
فأمّا الإمالة في الرّاء من {أُسََارى ََ}، والتفخيم، فكلاهما حسن، فالإمالة لأن هذه الألف إذا كانت الكلمة على هذه العدّة، لم تكن الألف إلا مثل الألف المنقلبة عن الياء.
البقرة: 87
اختلفوا في تحريك الدّال وتسكينها من قوله (2): {بِرُوحِ الْقُدُسِ}.
فقرأ ابن كثير وحده: {وَأَيَّدْنََاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}
[البقرة / 87، 253] مسكّنة الدّال وكذلك في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: {الْقُدُسِ} مضمومة القاف والدّال (3).
[قال أبو عليّ] (4): قوله (5): {وَأَيَّدْنََاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}
أيّدناه: فعّلناه، من الأيد والآد، وهو القوة، ومثل الأيد والآد في
__________
(1) في (ط): دفع فدائه.
(2) في (ط): قوله عز وجل.
(3) السبعة ص 163.
(4) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).
(5) في (ط): قوله تعالى.(2/148)
بنائهما على فعل وفعل: العيب والعاب، والذّيم والذام، وجاء في أكثر الاستعمال على فعّلناه لتصحّ العين الثانية لسكون الأولى (1)، وعلى هذا قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}
[المائدة / 110] ومن قال آيدناه (2) صحّح العين، لأنه إذا صحّت في مثل: أجود، وأطيب، لزم تصحيحها في آيدناه (2)
لما كان يلزم من توالي الإعلالين. فمن التصحيح قوله:
ناو كرأس الفدن المؤيد (4)
ونظير هذا في كراهتهم توالي الإعلالين، ورفضهم ما يؤدي إليه قولهم: {يَوَدُّ} و {تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذََاتِ الشَّوْكَةِ}
[الأنفال / 7] فبنوا الماضي على فعل، ليلزمه في المضارعة يفعل. ولو كان الماضي فعل لكان المضارع مثل: يعد. فيلزم اجتماع إعلالين.
فأمّا روح القدس، فقال قتادة والسّدّيّ، والرّبيع والضّحّاك في روح القدس أنّه جبريل وقال بعض المفسرين:
روح القدس: الإنجيل، أيّد الله عيسى به روحا، كما جعل القرآن روحا في قوله: {وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا}
__________
(1) انظر المحتسب 1/ 95، 96.
(2) في (ط): أيدناه. ورسم المد في (م) بألفين: أيدناه.
(4) هذا عجز بيت صدره:
ينبي تجاليدي وأقتادها وعزاه البكري في السمط 1/ 113واللسان / فدن / إلى المثقّب العبديّ.
الفدن: القصر المشيد ج: أفدان، شبه به السنام لعظمه، وناو: سمين من الني وهو الشحم. وينبي من نبا جنبه عن الفراش: إذا لم يستقر عليه.
وتجاليدي: جسمي. وانظر المحتسب 1/ 95والمنصف 1/ 269.(2/149)
[الشورى / 52] والقدس والقدس التخفيف والتّثقيل فيه حسنان وكذلك ما كان مثله نحو: العنق والعنق والطنب والطنب. والحلم والحلم.
وحكى أبو الحسن عن عيسى اطّراد الأمرين فيهما. ومما يدلّ على حسن التثقيل جمعهم ما كان على فعلة على فعلات.
نحو غرفة وغرفات وركبة وركبات وهذا الأكثر في الاستعمال.
ومنهم من كره الضمّتين فأسكن العين أو أبدل منها الفتحة نحو: ركبات. وكذلك من أسكن العين منه، والضمّ أكثر كما كان ظلمات أكثر. وأسكن أبو عمرو {خُطُوََاتِ} وحرّك {الْقُدُسِ} لأن الحركات في الجمع أكثر منها في الفعل، فأسكن لتوالي الحركات واجتماع الأمثال، ولا يلزمه على هذا الإسكان في الظلمات (1).
وأما القدس في اللغة فإن أبا عبيدة وغيره قالوا في قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة / 30] التّقديس: التطهير (2). وقال غيره: إن ابن عباس كان يقول: المقدس: الطاهر، وقال الرّاجز:
الحمد لله العليّ القادس (3)
قال: وقالوا: قدّس عليه الأنبياء، أي: برّكوا.
وقال رؤبة:
دعوت ربّ القوّة القدّوسا (4)
__________
(1) في (ط): ظلمات.
(2) مجاز القرآن 1/ 36.
(3) لم نعثر على قائله.
(4) البيت لرؤبة بن العجاج وبعده:
دعاء من لا يقرع الناقوسا انظر ديوانه / 68.(2/150)
قال: والمقدّس: المعظّم. وقال: قدّس عليه، أي:
برّك.
قال أبو عليّ: فكأنّ معنى نقدّس لك. ننزّهك عن السوء. فلا ننسبه إليك. ولا ما لا يليق بالعدل. وهذا الوصف في المعنى كقول أمية:
سلامك ربّنا في كلّ فجر ... بريئا ما تغنّثك الذّموم (1)
قال أبو عمر: سألت أبا مالك (2) عن قوله: ما تغنّثك.
قال (3) لا تعلّق بك. فاللام فيها على حدها في قوله (4):
{رَدِفَ لَكُمْ} [النمل / 72] ألا ترى أن المعنى تعظيمه وتنزيهه.
وليس المعنى أنه ينزّه شيء من أجله. ومثل ذلك في المعنى قولهم: سبحان الله، إنما هو براءة الله من السوء وتطهيره منه، ثم صار علما لهذا المعنى، فلم يصرف في قوله:
سبحان من علقمة الفاخر (5)
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت ديوانه / 480وروايته:
بريئا ما تليق بك الذّموم وفي اللسان والتاج / غنث /: «بريئا ما تغنثك الذموم» الذموم: العيوب.
وقال ابن دريد: ما تغنثك: أي ما تلصق بك. انظر جمهرة اللغة 2/ 46.
(2) في (ط) أبا ملك.
(3) في (ط): فقال.
(4) في (ط): قوله سبحانه.
(5) هذا عجز بيت للأعشى، وصدره:
أقول لمّا جاءني فخره والعرب تقول: سبحان من كذا إذا تعجب منه، ديوانه / 143اللسان / سبح / سيبويه 1/ 163والمقتضب 3/ 18الخزانة 2/ 41و 3/ 251.(2/151)
وروح القدس: جبريل (1) كأنّه منسوب (2) إلى الطّهارة، وذلك أنّه ممّن لا يقترف ذنبا، ولا يأتي مأثما، كما قد يكون ذلك من غيره.
وقولنا في صفة الله تعالى (3): القدّوس: أي: الطاهر المنزّه عن أن يكون له ولد، أو يكون في حكمه وفعله ما ليس بعدل.
فأمّا قولهم: بيت المقدس وقول (4) الراجز:
الحمد لله العليّ القادس فيدلّ (5) على أنّ الفعل قد استعمل من التقديس بحذف الزيادة، أو قدّر ذلك التقدير. فإذا كان كذلك لم يخل المقدس من أن يكون مصدرا أو مكانا. فإن كان مصدرا كان كقوله:
{إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [لقمان / 15] ونحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال. وإن كان مكانا فالمعنى فيه (6): بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة (7)، وأضيف إلى الطهارة لأنه منسك كما جاء: {أَنْ طَهِّرََا بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ} [البقرة / 125] وتطهيره على إخلائه من الأصنام وإبعاده منها، وكما جاء: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثََانِ} [الحج / 30] كذلك وصف بخلاف الرّجس إذا أخلي منها، ومما لا يليق بمواضع النّسك، وإن قدّرت «المقدس» المكان لا المصدر كان المعنى: بيت مكان الطّهارة.
__________
(1) في (ط): جبريل عليه السّلام.
(2) في (ط): نسب.
(3) في (ط): سبحانه.
(4) كذا في (ط) وفي (م) فقول.
(5) في (م): يدل.
(6) سقطت من (ط).
(7) انظر شأن الدعاء ص 40.(2/152)
فأمّا ما حكاه قطرب: من أنّهم يقولون قدّس عليه الأنبياء. أي: برّكوا عليه (1) فليس يخلو هذا المقدّس عليه من أن يكون موضع منسك، أو يكون إنسانا. فإن كان موضع نسك، فهو كدعاء إبراهيم عليه السلام للحرم {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} [إبراهيم / 35]، فكذلك يجوز أن يكون تبريك الأنبياء دعاء منهم له بالتّطهير. وإن كان إنسيّا فهو كقوله:
{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم / 6] وكما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من دعائه للحسن والحسين (2)، وهذا يؤول إلى ذلك المعنى، وكذلك من قال: المقدّس: المعظّم، إنما هو تفسير على المعنى، وكثيرا ما يفعل المفسّرون من غير أهل اللغة، ذلك لمّا رأوا ذلك لا يفعلون إلا بشيء يراد تعظيمه وتبرئته من غير الطّهارة. فسّروه بالمعظّم على هذا المعنى. والأصل: كأنّه التطهير الذي فسّره أبو عبيدة.
قال أحمد (3): وكلّهم قرأ (غلف) مخففة [البقرة / 88].
وروى أحمد بن موسى اللؤلؤيّ (4)، عن أبي عمرو أنه
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2)
ورد في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم للحسن والحسين في حديث أم سلمة الذي أخرجه أحمد في المسند 6/ 292قوله صلّى الله عليه وسلّم عند ما أنزل الله عزّ وجلّ: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} الآية: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا». وانظر تهذيب الكمال 1/ 269.
(3) في (ط): أحمد بن موسى.
(4) أحمد بن موسى بن أبي مريم أبو عبد الله، وقيل: أبو بكر، ويقال: أبو(2/153)
قرأ: {غُلْفٌ} بضم اللام (1) والمعروف عنه التخفيف (2).
قال أبو علي: ما يدرك به المعلومات من الحواسّ وغيرها من الأعضاء إذا ذكر بأنّه لا يعلم به، وصف بأنّ عليه مانعا من ذلك، ودونه حائلا. فمن ذلك قوله: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} [محمد / 24] كأنّ القفل لما كان حاجزا من المقفل عليه، وحائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا، جعل مثلا للقلوب في أنّها لا تعي ولا تفقه. وكذلك قوله: {لَقََالُوا إِنَّمََا سُكِّرَتْ أَبْصََارُنََا} [الحجر / 15] أي: قد حارت وحسرت، فلا تدرك ما تدركه على حقيقة. فكأنّ شدة عنادهم يحملهم على الشكّ في المشاهدات. وكذلك قوله:
{الَّذِينَ كََانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطََاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف / 101] فهذا كقوله: {بَلْ هُمْ مِنْهََا عَمُونَ} [النمل / 66] وكقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة / 18] لأن العين إذا كانت (3) في غطاء لم ينفذ شعاعها، فلم يقع بها إدراك، كما أن الثّقل إذا كان في الأذن لم يسمع بها. فقوله (4): {وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ} [فصلت / 5] المعنى فيه: أنها لا تسمع للوقر فيها، كما لا تبصر العين في الغطاء.
__________
جعفر اللؤلؤي الخزاعي البصري صدوق، روى القراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي، وإسماعيل القسط.
روى القراءة عنه روح بن عبد المؤمن، ومحمد بن عبد الرومي، ونصر بن علي وعبد الكريم بن هاشم وخليفة بن خياط. (طبقات القراء 1/ 143).
(1) قال القرطبي 2/ 20: قرأ ابن عباس والأعرج وابن محيصن: «{غُلْفٌ}» بضم اللام.
(2) السبعة 164.
(3) في (م) كان.
(4) في (ط): وقوله تعالى.(2/154)
البقرة: 88
فقوله: {وَقََالُوا قُلُوبُنََا غُلْفٌ} [البقرة / 88] فيمن أسكن اللام التي هي عين جمع أغلف، كما أن حمرا جمع أحمر.
فإذا كان جمع أفعل لم يجز تثقيله إلا في الشّعر.
قال أبو عبيدة: كلّ شيء في غلاف فهو أغلف. قالوا:
سيف أغلف وقوس غلفاء ورجل أغلف: لم يختن (1).
فقوله: (أغلف): إذا كان في غلاف في المعنى، كقوله:
{وَقََالُوا قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت / 5] كأنها إذا كانت في أكنّة لم ينتفع بها فيما [ينتفع فيه] (2) بالقلب. كما أن العين إذا كانت عليها غشاوة أو كانت في غطاء، لم تبصر. فإذا كان كذلك، كان الوجه الإسكان في اللام التي هي عين، كما اتفقوا عليه، إلا ما رواه اللّؤلؤيّ عن أبي عمرو من تحريك العين.
ومجازه على وجهين: أحدهما أن يكون قوله: {قُلُوبُنََا غُلْفٌ} أي ذوات غلف فيكون في (3) المعنى كقوله: {غُلْفٌ}، وأنت تريد به جمع أغلف. لأنها إذا كانت ذوات {غُلْفٌ} فهي في المعنى {غُلْفٌ} فتكون كلتا القراءتين تؤول إلى معنى واحد، إلا أن الإسكان أولى، لأن الكلام يحمل (4) على ظاهره من غير حذف مضاف إليه فيه.
والوجه الآخر ما روي عن ابن عباس: من أنّهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم ما أتيت به ممّا تدعونا إليه» أو نحو ذلك فغلف في المعنى مثل الأوعية،
__________
(1) في مجاز القرآن 1/ 46وفيه: «لم يختتن» بدل «لم يختن».
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): يحمل فيه.(2/155)
ألا ترى أنّ وعاء الشيء غلاف له (1).
البقرة: 90
اختلفوا في تشديد الزاي من {يُنَزِّلَ} [البقرة / 90] وتخفيفها.
فقرأ نافع {يُنَزِّلَ} مشدّدة الزاي إذا كان فعلا في أوله ياء أو تاء أو نون. فإذا كان في أول الفعل ميم لم يستمرّ فيه على وجه واحد، فكان يشدّد حرفا واحدا في «المائدة»: {إِنِّي مُنَزِّلُهََا عَلَيْكُمْ} [الآية / 115] ويخفّف ما سواه، فإذا كان ماضيا ليس في أوّله ألف، وكان فعل ذكر خفّف الزاي مثل قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء / 193] ومثل قوله: {وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد / 16] ويشدّد سائر القرآن.
وكان ابن كثير يخفّف الفعل الذي في أوله ياء أو تاء أو نون في كلّ القرآن، إلا في ثلاثة مواضع: في الحجر: {وَمََا نُنَزِّلُهُ إِلََّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الآية / 21] وفي بني إسرائيل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ} [الآية / 82] وفيها أيضا: {حَتََّى تُنَزِّلَ عَلَيْنََا كِتََاباً نَقْرَؤُهُ} [الآية / 93] ولا يخفف: {وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد / 16] ويخفّف {مُنَزِّلُهََا} [المائدة / 115] {وَيُنَزِّلُ} [البقرة / 90] و {مُنْزِلُونَ} [العنكبوت / 34] و {مُنْزَلِينَ} (2) [آل عمران / 124]. ويخفّف: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء / 193].
__________
(1) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 177ط الشعب): وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار، فيما حكاه ابن جرير: {وَقََالُوا قُلُوبُنََا غُلْفٌ} بضم اللام، أي: جمع غلاف، أي: أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر.
(2) سقطت من (ط).(2/156)
وقرأ أبو عمرو: {يُنَزِّلَ} (1) [البقرة / 90] وما أشبهه بالتخفيف في جميع القرآن إلا حرفين: أحدهما في سورة الأنعام: {قُلْ إِنَّ اللََّهَ قََادِرٌ عَلى ََ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} [الآية / 37] وفي الحجر: {وَمََا نُنَزِّلُهُ إِلََّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الآية / 21]. ويخفف {مُنَزَّلٌ}، و {مُنَزِّلُهََا}، و {مُنْزِلُونَ}، ويشدّد: {نَزَّلَ}، في كل القرآن إلّا في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}، فإنه يخفّفه.
وكان عاصم في رواية أبي بكر يشدّد: {يُنَزِّلَ} و {نُنَزِّلُ}
و {مُنَزِّلُهََا} في المائدة. و {نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد / 16] و {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء / 193] في كلّ القرآن.
وقال حفص عن عاصم: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}
خفيفة (2)، وكذلك: {وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أيضا خفيفة (3).
وقال أبو بكر بن عياش: هما مشدّدان. وروى حفص عن عاصم أنه (4) يشدّد {أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} في سورة الأنعام [الآية / 114] ولا يشدّد {مُنَزِّلُهََا}.
وقرأ ابن عامر بتشديد ذلك كلّه في جميع القرآن من منزّل وينزّل وينزّلون ومنزّلين. وفي الأنعام (5): {أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}. وفي سورة الشّعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (6)
__________
(1) في (ط): ينزل وتنزل (الاسراء / 93).
(2) في (ط): مخفف.
(3) في (ط): خفيفة أيضا.
(4) في (ط): أنه كان.
(5) في (ط): وفي سورة الأنعام.
(6) هذه قراءة يعقوب وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وأبو بكر بتشديد الزاي ونصب (الروح) و (الأمين)، وقرأ الباقون بالتخفيف ورفعهما انظر النشر في القراءات العشر 2/ 336.(2/157)
[الآية / 193] و {مََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} في سورة الحديد [الآية / 16] يشدّد ذلك كلّه.
وقرأ حمزة والكسائيّ: {وَنُنَزِّلُ} و {يُنَزِّلَ} (1)، و {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} مشدّدا في كل القرآن، إلا حرفين في سورة لقمان: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان / 34] وفي سورة (عسق): {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى / 28] ويخفّفان {مُنَزَّلٌ} و {مُنْزِلُونَ} و {مُنْزَلِينَ} حيث وقع (2).
قال أبو علي (3): نزل فعل غير متعدّ إلى مفعول به. فإذا أردت تعديته إليه عدّيته بالأضرب الثلاثة التي يتعدّى بها الفعل وهي النّقل بالهمزة، وبحرف الجرّ، وبتضعيف العين. يدلّك على أنّه غير متعدّ قولهم في مصدره: النزول. فالنّزول كالصّعود والخروج والقفول (4)، ونحو ذلك من المصادر التي لا تتعدى أفعالها في أكثر الأمر. فممّا نقل بالهمزة قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظََاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ}. [الأحزاب / 26] وممّا عدّي بالجارّ قولهم: نزلت به، ويكون منه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}
[الشعراء / 193] فيمن رفع الروح. وقال: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ} [الكهف / 1] وقال {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل / 44] وقال (5): {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً} {وَأَنْزَلَ التَّوْرََاةَ} {وَأَنْزَلَ الْفُرْقََانَ} (5) {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء / 106]
__________
(1) في (ط): ينزل وننزل.
(2) السبعة 165164.
(3) في (ط): قولهم نزل.
(4) في (ط): والقعود.
(5) تمام الآية [2، 3من آل عمران] {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنََّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقََانَ}.(2/158)
فقد رأيت مرّة يجيء التنزيل على أنزل ومرّة على نزّل.
ومما يبيّن ذلك أنه قد جاء في بعض القراءة (1): وأنزل الملائكة تنزيلا [الفرقان / 25] كأنّه لما كان نزّل وأنزل بمعنى، حمل مصدر أحدهما على الآخر، وقد كثر مجيء التنزيل في القرآن، فهذا يقوي (نزّل) ولم نعلم فيه الإنزال.
وقد جاء فيه أنزل كثيرا.
فأمّا قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً} [آل عمران / 3] فالكتاب مفعول به.
وقوله: {بِالْحَقِّ} في موضع نصب بالحال وهو متعلّق بمحذوف، و {مُصَدِّقاً} حال من الضمير الذي في قولك:
{بِالْحَقِّ} والعامل فيه المعنى، ولا يجوز أن تجعله بدلا لأنّ الاسم إنّما يبدل (2) من الاسم. وقال: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء / 105] فقوله: {بِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ} حال من الضمير. فأمّا قوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}. فيحتمل الجارّ فيه ضربين: أحدهما: أن يكون التقدير نزل بالحقّ، كما تقول:
نزلت بزيد، ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في نزل، يدلّك على جواز ذلك قوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}، وقوله:
__________
(1) هي قراءة الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية {وَأَنْزَلَ} ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول مضارعه ينزل، انظر البحر المحيط 6/ 494.
(2) في (ط): يبدل به.(2/159)
أنزل عليك الكتاب بالحق [آل عمران / 3] وهذا اتفاق في (1) مذهب الفريقين، ومثل ذلك في احتماله الوجهين قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء / 193] في من رفع الرّوح. يكون الجارّ مثل الذي في مررت بزيد، ويكون حالا، كما تقول: نزل زيد بعدّته، وخرج بسلاحه وفي التنزيل: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة / 61].
ومما لا يكون إلا حالا قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام / 114] ألا ترى: أنّ أنزلت يتعدّى إلى مفعول واحد؟ فإذا بنيته للمفعول لم يبق له متعدّى إلى مفعول به، وقوله: {مِنْ رَبِّكَ} على حدّ {وَلَمََّا جََاءَهُمْ كِتََابٌ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} و {بِالْحَقِّ} حال من {الذَّكَرُ} الذي في {مُنَزَّلٌ}، والعامل فيه منزل (2).
ومما جاء الجارّ فيه حالا، كما جاء في الآي الأخر:
{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء / 166] المعنى: أنزله وفيه علمه، كما أنّ: خرج بعدّته، تقديره: خرج (3) وعليه عدّته. والعلم:
المعلوم، أي: أنزله وفيه معلومه. ومثل ذلك الصيد يراد به:
المصطاد. يدلّك على إرادتهم به المصطاد قوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللََّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنََالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمََاحُكُمْ} [المائدة / 94] فالأيدي (4) والرّماح إنما تلحق الأعيان ولا تلحق الأحداث.
وأما قوله: {وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد / 16] فمن
__________
(1) في (ط): من.
(2) في (ط): نزل.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): والأيدي.(2/160)
خفّف نزل كان (ما) بمنزلة الذي، وفيه ذكر مرفوع يعود إلى ما، ولا يجوز فيمن خفّف أن يجعل (ما) بمنزلة المصدر مع الفعل كأن، لأنّ الفعل يبقى بلا فاعل ولا يجوز فيمن جوّز زيادة (من) في الإيجاب أن يكون: الحقّ مع الجارّ في موضع الفاعل.
وقد جعلت (ما) بمنزلة الذي، لأنه لا يعود إلى الموصول شيء. ومن شدّد كان الضمير الذي في {نَزَلَ} لاسم الله (1)، والعائد محذوف من الصّلة.
فأمّا دخول الجارّ فلأن (ما) لما كان على لفظ الجزاء حسن دخول (من) معه، كما دخلت في نحو فما يك من خير أتوه (2)
فإذا كان كلّ واحد من {نَزَلَ} و {أُنْزِلَ} يستعمل كما يستعمل الآخر، ويعنى به ما يعنى بالآخر، لم ينكر أن يوقع كل واحد منهما موضع (3) الآخر، وكذلك ما تصرّف من ذلك. كأسماء الفاعلين، فتقرأ: ({مُنْزِلُونَ} و {مُنْزِلُونَ}) لأن كل واحد منهما بمنزلة الآخر، كما أنّ الفعل الذي جريا عليه كذلك. وهذا مما يعلم منه أنّ (فعّل) بمنزلة (أفعل)، وأن تضعيف العين للتعدّي وليس يراد به الكثرة كما أريد في نحو: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوََابَ}
__________
(1) في (ط): الله عز وجل.
(2) هذا جزء بيت لزهير بن أبي سلمى وتمامه في ديوانه / 115/:
فما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
ورواية الأعلم: «فما يك».
(3) في (ط): موقع.(2/161)
[يوسف / 23] ولكن فعّل بمنزلة أفعل.
وقد قال سيبويه: قد يجيء فعّلت، وأفعلت (1) بمعنى واحد مشتركين وذلك نحو: وعزت إليه، وأوعزت، وخبّرت وأخبرت، وسمّيت وأسميت.
فأمّا تخفيف حمزة والكسائي في لقمان: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}
[الآية / 34] وفي (عسق) {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ}
[الشورى / 28] فلو شدّدا ذلك كما شدّدا غيره كان حسنا، ولو خفّفا بعض ما شدّدا كان كذلك. ويشبه أن يكونا (2) اعتبرا في تخفيف ذلك كثرة ما جاء في التنزيل في ذكر الغيث فحملا اسم الفاعل على ذلك. فمن ذلك قوله: {وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنََّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون / 18] (3)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج / 63] {أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسَلَكَهُ يَنََابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر / 21] يشبه أن يكونا لمّا رأياه بهذه الكثرة، حملا اسم الفاعل عليه.
فأمّا قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعََامِ ثَمََانِيَةَ أَزْوََاجٍ}
[الزمر / 6] وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}
[الحديد / 25] فكأنّ المعنى فيه: خلق، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى ثمانية أزواج وذلك محمول على أنشأ، كأنه: وأنشأ ثمانية أزواج.
__________
(1) في (ط): أفعلت وفعلت.
(2) في (م): يكون.
(3) زادت (ط) في الاستشهاد آيتين: من سورة إبراهيم / 32ومن سورة الرعد / 17.(2/162)
البقرة: 98
اختلفوا في قوله: {جِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} (1) [البقرة / 98] في كسر الجيم وفتحها، والهمز وتركه. والهمز في ميكائيل، والياء بعد الهمز من (جبرئيل وميكائيل).
فقرأ ابن كثير ({جِبْرِيلَ}) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، و (ميكائيل) مهموز في وزن ميكاعيل بعد الألف همزة، وياء بعد الهمزة. وروى محمد بن صالح البزّي عن شبل بن عباد عن عبد الله بن كثير: ({جِبْرِيلَ}) بلا همز و (ميكائل) مهموز مقصور (2). وكذلك روى محمد بن سعدان عن عبيد بن عقيل عن شبل بن عبّاد عن عبد الله بن كثير (ميكائل) مهموز مقصور بزنة ميكاعل مثل نافع.
وحدّثني (3) الحسين بن بشر الصوفيّ عن روح بن عبد المؤمن عن محمّد بن صالح عن شبل عن ابن كثير قال:
رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (4) في المنام وهو يقرأ: {جِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} فلا أقرأهما أبدا إلا هكذا.
وقرأ نافع: ({جِبْرِيلَ}) بكسر الجيم والراء من غير همز (وميكائل) بهمزة بعد ألف (5) وقبل اللام، ليس بعدها ياء، في وزن ميكاعل.
وقرأ أبو عمرو: ({جِبْرِيلَ وَمِيكََالَ}) بغير همز. وكذلك روى حفص عن عاصم. وقرأ ابن عامر: ({جِبْرِيلَ}) مثل أبي عمرو (وميكائيل) بهمز بين الألف والياء ممدودة.
__________
(1) في (ط): ميكايل.
(2) في (ط): مقصور ومهموز.
(3) في (ط): حدثني.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): الألف.(2/163)
وقرأ عاصم في رواية يحيى عن أبي بكر وحماد بن سلمة عن عاصم (جبرئل) بفتح الجيم والراء، وهمزة بين اللام والراء غير ممدودة في وزن: جبرعل، خفيفة اللام و (ميكائيل) في رواية يحيى بهمزة بعدها ياء.
وقال الكسائيّ وحسين الجعفيّ عن أبي بكر عنه. وأبان عن عاصم: (جبرئيل وميكائيل) مثل حمزة، وكذلك روى أبان بن يزيد العطار عن عاصم، وحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم.
وروى (ميكائل) مهموزة مقصورة في وزن ميكاعل مثل نافع.
وروى محمّد بن سعدان عن محمّد بن المنذر عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عنه مثل حمزة.
وقرأ حمزة والكسائيّ (جبرئيل) و (ميكائيل) ممدودتين مهموزتين (1).
قال أبو علي: روينا عن أبي الحسن من طريق أبي عبد الله اليزيدي عن عمّه عنه أنه قال: في ({جِبْرِيلَ}) ستّ لغات: (جبرائيل، وجبرئيل، وجبرال، و {جِبْرِيلَ}، وجبرال، وجبريل) وهذه أسماء معرّبة، فإذا أتي بها على ما في أبنية العرب مثله، كان أذهب في باب التعريب.
يقوّي ذلك تغييرهم للحروف المفردة التي ليست من
__________
(1) السبعة 167166.(2/164)
حروفهم، كتغييرهم الحرف الذي بين الفاء والباء في قلبهم إياه إلى الباء المحضة، أو الفاء المحضة، كقولهم: البرند والفرند، وكذلك تغييرهم الحركة التي ليست في (1) كلامهم كالحركة التي في قول العجم: «زور وآشوب» (2) يخلّصونها ضمّة، فكما غيّروا الحروف والحركات إلى ما في كلامهم، فكذلك القياس في أبنية هذه الكلم، إلا أنّهم قد تركوا أشياء من العجمية على أبنية العجم التي ليست من أبنية العرب.
كالآجرّ، والإبريسم، والفرند، وليس في كلام العرب على هذه الأبنية، فكذلك (3) قول من قال: ({جِبْرِيلَ}) إذا كسر الجيم كان على لفظ (قنديل، وبرطيل) وإذا فتحها فليس لهذا البناء مثل في كلام العرب، فيكون هذا من باب الآجرّ، والفرند، ونحو ذلك من المعرّب الذي لم يجيء له مثل في كلامهم. فكلا المذهبين حسن لاستعمال العرب لهما جميعا، وإن كان الموافق لأبنيتهم أذهب في باب التعريب. وكذلك القول في ({مِيكََالَ} وميكائيل) وميكال: بزنة قنطار وسرداح (4) و (ميكائيل) خارج عن أبنية كلام العرب.
فأمّا القول في زنة ({مِيكََالَ}) فلا يخلو من أن يكون فيعالا أو مفعالا أو فعلالا. فلا يجوز أن يكون (5) فيعالا، لأن هذا بناء يختصّ به المصدر كالقيتال، والحيقال (6)، وليس هذا
__________
(1) في (ط): من.
(2) في المعجم في اللغة الفارسية: زور: قوة، غلبة. وآشوب: من آشوفتين: الاضطراب.
(3) في (ط) وكذلك.
(4) في (ط): سرداح وقنطار.
(5) سقطت يكون من (م).
(6) في الصحاح: حوقل الشيخ حوقلة وحيقالا: إذا كبر وفتر عن الجماع.(2/165)
الاسم بمصدر، ولا يجوز أن يكون مفعالا، فيكون من أكل أو وكل، لأنّ الهمزة المحذوفة من ميكائيل محتسب بها في البناء، فإذا ثبت ذلك صارت الكلمة من الأربعة، وبنات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أوائلها، إلا الأسماء الجارية على أفعالها، وليس هذا على ذلك الحدّ. فإذا لم يكن كذلك، ثبت أن الميم أصل كما كانت الهمزة في إبراهيم ونحوه أصلا ليست بزيادة.
ولا يجوز أيضا أن يكون فعلالا، لأنّ الهمزة المحذوفة من البناء مقدرة فيه. ونظير ذلك في حذف الهمزة منه والاعتداد بها، مع الحذف [في البناء] (1) قولهم: سواية، إنما هي سوائية: كالكراهية، وكذلك الهمزة المحذوفة من أشياء على قول أبي الحسن مقدّرة في البناء فكذلك الهمزة في ميكائيل.
فإن قلت: فلم لا تجعلها بمنزلة التي في حطائط وجرائض (2)؟
فإن ذلك لا يجوز، لأن الدّلالة لم تقم على زيادتها كما قامت في قولهم: جرواض (3). فهو إذن بمنزلة (4) التي في برائل (5)، وكذلك ({جِبْرِيلَ}) الهمزة التي تحذف منها ينبغي أن
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).
(2) الحطاطة والحطائط والحطيط: الصغير، (اللسان: حطط)، والجمل الجرائض: الأكول الشديد القصل بأنيابه الشجر. (اللسان: جرض).
(3) الجرواض: الضخم العظيم البطن (اللسان).
(4) في (ط): بمنزلة الياء.
(5) البرائل: الذي ارتفع من ريش الطائر فيستدير في عنقه.(2/166)
يقدّر حذفها للتخفيف وحذفها للتخفيف لا يوجب إسقاطها من أصل البناء، كما لم يجز إسقاطها في سواية من أصل البناء، وإذا كان كذلك كانت الكلمة من بنات الخمسة.
وهذا التقدير يقوّي قول من قرأ: (جبريل وميكائيل) بالهمز لأنّه يقول: إن الذي قرأ: ({جِبْرِيلَ}) وإن كان في اللفظ مثل: برطيل، فتلك الهمزة عنده مقدرة. وإذا كانت مقدرة في المعنى، فهي مثل ما ثبت في اللفظ.
فأمّا (1) (إسرافيل) فالهمزة فيه أصل، لأن الكلمة من بنات الأربعة، كما كانت الميم من ميكائيل كذلك.
فإسرافيل من الخمسة كما كان جبرئيل كذلك. والقول في همزة إسرافيل وإسماعيل وإبراهيم مثل القول في همزة إسرافيل في أنها من نفس الكلمة، والكلمة بها من بنات الخمسة. وقد جاء في أشعارهم الأمران: ما هو على لفظ التعريب، وما هو خارج عن ذلك قال (2):
عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد ... وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا
وقال: (3)
__________
(1) في (ط) وأما.
(2) البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الأخطل. ديوانه / 450، تفسير القرطبي 2/ 38وتفسير البحر المحيط 1/ 318.
(3) البيت لحسان بن ثابت. ديوانه 1/ 18تفسير البحر المحيط 1/ 318وفيه:
فينا مكان: منا.(2/167)
وجبريل رسول الله منّا ... وروح القدس ليس له كفاء
وقال (1):
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة ... يد الدّهر إلا جبرئيل أمامها
وقال كعب بن مالك (2):
ويوم بدر لقيناهم لنا مدد ... فيه لدى النّصر ميكال وجبريل
وأما ما روي عن أبي عمرو من أنّه كان يخفف ({جِبْرِيلَ}) أو ({مِيكََالَ}) ويهمز (إسرائيل)، فما أراه إلا لقلّة مجيء (إسرال) بلا همز وكثرة مجيء ({جِبْرِيلَ وَمِيكََالَ}) في كلامهم والقياس فيهما واحد، وقد جاء في شعر أميّة (إسرال) قال:
لا أرى من يعيشني في حياتي ... غير نفسي إلا بني إسرال (3)
__________
(1) البيت لحسان وروايته: «نصرنا» بدل «شهدنا» ديوانه 1/ 522. القرطبي 2/ 37تفسير البحر المحيط 1/ 318. ونسب البيت في الخزانة لكعب بن مالك 1/ 199، 374، والتاج واللسان / جبر /. وفي اللسان: قال ابن بري: ورفع «أمامها» على الإتباع بنقله من الظروف إلى الأسماء.
(2) البيت من قصيدة وردت في السيرة 1/ 147، وفي القرطبي 2/ 38والبحر المحيط 1/ 318، وفي اللسان (مكا) ونسبه لحسان بن ثابت.
(3) ديوان أمية: 445: وروايته يعينني بدل يعيشني. وقد عد المرزباني في الموشح 365البيت من عيوب الشعر، وجعل قوله: إسرال من التثليم،(2/168)
وليس قول من قال: إنّ (إيل، وإل) اسم الله (1)، وأضيف ما قبلهما إليهما، كما يقال: عبد الله بمستقيم من وجهين: أحدهما: أنّ (إيل، وإل) لا يعرفان في أسماء الله سبحانه في اللغة العربية، والآخر أنّه لو كان كذلك لم يتصرّف آخر الاسم في وجوه العربيّة، ولكان الآخر مجرورا، كما أنّ آخر عبد الله كذلك، ولو كان مضافا لوقع التعريب عليه على حدّ ما وقع في (2) غيره من الأسماء المضاف إليها.
البقرة: 102
اختلفوا في كسر النّون مع التخفيف والتشديد من قوله (3): {وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة / 102]، {وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال / 17]، {وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} [الأنفال / 17]، {وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس / 44].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم: {وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ كَفَرُوا}، {وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ}، {وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}، {وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} مشدّدات في ذلك كلّه (4).
وقرأ نافع وابن عامر {وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ}
[البقرة / 177] {وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ََ} [البقرة / 189] خفيفتي النون، ويرفعان (5) (البرّ). وشدّد النون في هذين الموضعين
__________
وهو أن يأتي الشاعر بأسماء يقصر عنها العروض فيضطر إلى ثلمها والنقص منها. والبيت في البحر المحيط 1/ 172وفيه: بني إسرالا.
(1) في (ط): الله عز وجل.
(2) في (ط): على.
(3) في (ط): قوله عز وجل.
(4) وفي (ط): مشددات كلهن.
(5) في (ط): ورفع.(2/169)
ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ. وقرأ حمزة والكسائيّ: {وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ كَفَرُوا}، {وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ}، {وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}، {وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} خفيفات كلهنّ. وقرأ ابن عامر وحده: {وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ} بالتخفيف.
وشدّد النون من: {وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ}، {وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}، {وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، ولم يختلفوا إلّا في هذه الستة الأحرف (1).
قال أبو علي: اعلم أن {لََكِنْ} حرف لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء والأفعال، فلو كانت اسما لم يخل من أن يكون فاعلا أو فعلا، ولا نعلم أحدا ممن يؤخذ بقوله يذهب إلى أنّ الألفاظ في الحروف زائدة، فكذلك ينبغي أن تكون الألف في هذا الحرف، وهو مثل إنّ في أنّها مثقّلة ثم يخفّف إلا أنّ «إنّ وأنّ» إذا خفّفتا فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقّلتين وإن كان غير الإعمال أكثر. ولم نعلم أحدا حكى النصب في «لكن» إذا خففت فيشبه أن النصب لم يجيء في هذا الحرف مخففا، ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خفّفت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف، وأنّ من خفّف ذلك، فالوجه أن لا يعمله.
ومثل ذلك في أنّه لم يجيء فيه الجزاء وإن كان القياس لا
__________
(1) السبعة 168167.
وورد في حاشية (م) ما يلي: (وروى هبيرة عن حفص عن عاصم: لمن اشتراه ماله. والمعروف عن حفص عن عاصم التفخيم). ولا صلة لهذا الكلام بالمتن.(2/170)
يمنع منه: «كيف» ألا ترى أنّ الخليل وأصحابه لم يحكوا فيه الجزاء؟ وإن كان المعنى لا يمنع ذاك، ليعلم أنّ الجزاء ليس حكمه أن يكون بالأسماء، فكذلك لم يجيء النصب مع التخفيف في هذا الحرف كما جاء في «إنّ، وأنّ، ولعلّ، وليت» (1) وقد لحقتها «ما» كافة كما لحقت «إنّ وأنّ ولعلّ وليت» وذلك في نحو قوله: {قُلْ إِنَّمََا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}
[الأنبياء / 45]، و {كَأَنَّمََا يُسََاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [الأنفال / 6] وقول الشاعر (2):
لعلما ... أضاءت لك النار الحمار المقيّدا
فممّا جاءت فيه (ما) كافة قول الشاعر (3):
ولكنّما أهلي بواد أنيسه ... ذئاب تبغّى الناس مثنى وموحد
ومما جاءت فيه لكن مخفّفة غير معملة ما أنشده أبو زيد (4):
__________
(1) سقطت ليت من (م).
(2) هو الفرزدق، وتمام البيت:
أعد نظرا يا عبد قيس لعلّما ... أضاءت لك النار الحمار المقيّدا
وهو من شواهد المغني. انظر شرح أبياته 5/ 169. وانظر ديوانه 2/ 213 وفيه فربما بدل لعلما.
(3) هو ساعدة بن جؤية، انظر شرح أشعار الهذليين 3/ 1166. وأنشده سيبويه 2/ 15شاهدا على تركه صرف مثنى وموحد لأنهما صفتان للذئاب معدولتان عن اثنين اثنين وواحد واحد. ومعنى تبغّى الناس، أي:
تطلبهم.
(4) أنشده في النوادر: 80ونسبه لزيد الخيل.(2/171)
وما دهري بشتمك فاعلمنه ... ولكن أنت مخذول كبير
ومثله قول زهير (1).
لقد باليت مظعن أمّ أوفى ... ولكن أمّ أوفى لا تبالي
وقول الآخر (2):
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
ولا يدلّ نحو ما أنشده أبو زيد (3) من قول عمران:
ولكنّا الغداة بنو سبيل ... على شرف نيسّر لانحدار
وكذلك الحذف في إنّ في نحو قوله: {قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ}
[البقرة / 14] وقوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه / 12] لولا أنّ الحرف المحذوف مراد لم يوصل بضمير المنصوب، ألا ترى أنّ (إنّ) إذا خفّفت، دخلت (4) الأفعال، وفي دخولها على
__________
(1) شرح ديوانه: 342.
(2) البيت للحصين بن الحمام أمالي ابن الشجري 2/ 34، 187، خزانة الأدب 3/ 352، أبو حيان في البحر المحيط 1/ 281.
(3) النوادر: 310 (ملحق) وص 172ط جامعة الفاتح. وعمران هو ابن حطان السدوسي الخارجي. وانظر الخزانة 2/ 440.
(4) في (ط): على الأفعال.(2/172)
الأفعال، دلالة على إخراجها من الإعمال، وعلى ذلك جاء التنزيل في نحو: {إِنْ كََادَ لَيُضِلُّنََا} [الفرقان / 42] و {إِنْ كُنََّا عَنْ عِبََادَتِكُمْ لَغََافِلِينَ} [يونس / 29] ونحو هذا مما كثر مجيئه في التنزيل. فأمّا إنشاد من أنشد: (1)
فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق
فهو قليل، وقياسه قياس من أعملها (2) مخففة في المظهر، وإن كان ذلك في المضمر أقبح لأنّ المضمر كثيرا ما يردّ معه الشيء إلى أصله نحو قوله: أنشده أبو زيد:
فلا بك ما أسال ولا أغاما (3)
والأصل في هذه الحروف إذا خفّفت أن لا تعمل لزوال المعنى الذي به كان يعمل، ولذلك لم تعمل (لكن) مخففة.
فإن قلت: إنّ لكنّ لا تشبه الأفعال، ألا ترى أنه ليس شيء على مثاله في الأسماء ولا في غيره؟.
فإنّ فيه ما يشبه الفعل إذا نزّلته منفصلا كقولهم: «أراك منتفخا» (4).
وقد جاء حذف ضمير القصة (5) والحديث معها في نحو
__________
(1) البيت ليزيد بن مفرغ. وهو من شواهد الخزانة 2/ 465وشرح أبيات المغني 1/ 147والأشموني 1/ 290.
(2) في (ط): وهي مخففة.
(3) سبق انظر 1/ 106و 2/ 112.
(4) انظر ما سبق 1/ 309و 2/ 79.
(5) سقطت القصة من (ط).(2/173)
قول أميّة (1):
ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه ... بعدّته ينزل به وهو أعزل
كما جاء في قوله:
فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة (2)
فلولا أنّ الضمير معه مراد لما دخل على الجزاء، كما أنّه لو لم يكن مرادا مع ليت، لم تدخل على الفعل، في نحو ما أنشده أبو زيد (3):
فليت دفعت الهمّ عني ساعة ... فبتنا على ما خيّلت ناعمي بال
__________
(1) البيت في ديوان أمية بن أبي الصلت / 433/، ينوبه: يصيبه وينزل به، والعدة: ما تعده من سلاح ومال، وقد استشهد به سيبويه على إضمار منصوب (لكنّ) وبقاء (من) للشرط لأن الشرط لا يعمل فيه ما قبله، وجزم (ينزل) في الجواب. انظر الكتاب 1/ 439.
(2) هذا صدر بيت للراعي في ديوانه 167وعجزه:
وإن كان سرح قد مضى فتسرّعا والمعنى: ليتهم أقاموا وإن كانوا قد رحلوا وتقدم سرحهم، ومعنى حق:
حقق، أي: ليت إقامتكم حققت لنا، ومعنى لو هنا: التمني، ولا جواب لها، كما تقول: لو أنك أقمت عندنا أي: ليت أقمت. والسرح: المال الراعي انظر طرة الكتاب 1/ 439.
(3) النوادر: 25والبيت لعدي بن زيد وهو من شواهد المغني، انظر شرح أبياته للبغدادي 5/ 184، والإنصاف 1/ 183.(2/174)
فأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر (1):
ندمت على لسان كان منّي ... فليت بأنّه في جوف عكم
فيحتمل أمرين: أحدهما أن تكون الباء زائدة، ويكون (أنّ) مع الجارّ في موضع نصب، ويكون ما جرى من صلة (أنّ) قد سدّ مسدّ خبر ليت. كما أنّها في ظننت أنّ زيدا منطلق، كذلك.
ويحتمل أن تكون الهاء مرادة ودخلت الباء على المبتدأ، كما دخلت في قولهم: بحسبك أن تفعل ذلك، ولا يمتنع هذا من حيث امتنع الابتداء بأنّ لمكان الباء، ألا ترى أنّ (أنّ) قد وقعت بعد لولا في نحو (2): لولا أنّك منطلق، ولم يجر، ذلك [في الامتناع] (3). مجرى: أنّك منطلق بلغني.
لأن المعنى الذي له لم يبتدأ بالمفتوحة مع لولا معدوم (4).
فأمّا ما أنشده من قول الشاعر (5):
__________
(1) النوادر: 33والبيت للحطيئة، في ديوانه: 347برواية: فات بدل: كان و: بيانه، بدل: بأنه، وفي خزانة الأدب 2/ 138واللسان: / عكم / لسن / وورد فيه الروايتان: كان مني، فات مني، وددت بدل: فليت. واللسان هنا:
الكلام. والعكم بكسر العين: العدل، مثل الجوالق. وفسره في اللسان بأنه داخل الجنب على المثل بالعكم: النّمط.
(2) في (ط): نحو قولك.
(3) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).
(4) عبارة (ط): لم يبتدأ مع لا معدوم.
(5) البيت لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات / 96وكذلك في النوادر لأبي زيد / 37، والاقتضاب لابن السيّد / 459برواية: الصوت رفعة مكان(2/175)
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة ... لعلّ أبي المغوار منك قريب
ولعلّ أبي المغوار منك قريب. فينبغي أن يكون على إضمار القصة والحديث كأنه خفّف لعلّ. وأعملها كما يخفف أنّ ويعمل، فمن فتح اللّام وجرّ الاسم فقال: لعلّ أبي المغوار، فاللّام لام الجرّ إلّا أنّه فتحها مع المظهر كما يفتح مع المضمر.
وزعم أبو الحسن أنه سمع فتح اللام مع المظهر من يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر.
وزعم أنه سمع ذلك أيضا (1) من العرب، فيكون الجرّ في أبي المغوار على هذه اللغة. ومن قال:
لعلّ أبي المغوار منك قريب حذف لام لعلّ وأضمر القصة أو الحديث. وكسر اللام مع المظهر على اللغة التي هي أشيع، والتقدير: لعلّ لأبي المغوار منك جواب قريب، أي لعلّ نصره لا يبعد عليك، ولا يتأخّر عنك.
فإن قلت: إنه حذف اللام لاجتماع اللامين، كما حذف من ({إِنََّا مَعَكُمْ}) ونحو ذلك، كان قولا.
__________
الصوت دعوة والخزانة 4/ 370وفيها جهرة بدل: دعوة. وانظر شرح شواهد المغني للبغدادي 5/ 166.
(1) في (ط): وزعم أنه سمع هو أيضا ذلك.(2/176)
وحكى أبو عمر أنّ يونس لم يكن يرى (1) (لكن) الخفيفة من حروف العطف. ويقوّي هذا القول أنّ أخوات لكن ممّا حذف منهنّ لم يخرج بالتخفيف عن ما كان عليه قبل التخفيف. ألا ترى أنّ: (إنّ) و (أنّ) و (كأنّ) كذلك ومثلها (لعلّ).
فالقياس في (لكن) أن يكون في التخفيف على ما عليه أخواتها، ولا تخرج بالتخفيف عما كانت (2) عليه، كما لم تخرج أخواتها عنه.
ويقوي ذلك أن معناها مخففة كمعناها مشدّدة، فإذا وافق حال التخفيف حال التشديد في اللفظ والمعنى، وجب أن تكون في التخفيف مثلها في التشديد.
فإن قلت: لم لا تكون مثل حتّى التي تكون لمعان مختلفة مع أنّ اللفظ واحد (3).
قيل: إنّ (حتّى) وإن كانت على لفظة واحدة، فإن المعاني التي تدلّ عليها مختلفة. ألا ترى أن العطف فيها غير الجرّ ووقوع الابتداء (4) كما يقع الابتداء بعد إذا نحو: خرجت فإذا زيد، غير الجرّ والعطف. وكذلك الواو إذا كانت عاطفة معناها غير الجارّة. وكذلك إذا كانت في نحو: جاء البرد والطيالسة.
__________
(1) في (ط): يرى أن.
(2) في (ط): كنّ.
(3) في (ط): اللفظة واحدة.
(4) في (ط): ووقوع الابتداء كما أن وقوعه في الابتداء كما يقع الابتداء.(2/177)
وكذلك (ما) إذا كانت زائدة أو نافية أو كافّة، أو عوضا من الفعل في نحو: إمّا لا. وكذلك اللّام في: (لتفعلنّ)، وفي (لعمرو منطلق) وليس كذلك (لكن) لأنها إذا كانت مشددة كان معناها كمعناها إذا كانت مخففة فإذا كان كذلك وجب (1) أن لا تخرج بعد التخفيف عما كانت (2) عليه قبل. كما أنّ سائر أخواتها (3) كذلك.
فإن قلت: أليس قوم قد ذهبوا إلى أنّ (ليس) من حروف العطف، ويحملون قوله:
إنّما يجزي الفتى ليس الجمل (4)
فيمن أنشده بليس، فمعناها عاطفة كمعناها غير عاطفة في النفي.
قيل: إنها في هذا البيت يستقيم أن تكون نافية ويكون خبرها مضمرا. فكأنّ التقدير: إنّما يجزي الفتى ليس الجمل الذي يجزي. فحذف الخبر.
فليس لا تثبت حرف عطف من هذا البيت الذي استدلّوا
__________
(1) في (م) زيادة على الحاشية: (أن يكون) بعد قوله: وجب. وليس لها ضرورة.
(2) في (م): كان.
(3) في (م): أخواته.
(4) هذا عجز بيت للشاعر لبيد بن ربيعة صدره:
فإذا جوزيت قرضا فاجزه ديوانه / 141من قصيدة له يتحدث فيها عن مآثره ومواقفه ويأسى لفقد أخيه أربد. وهو من شواهد سيبويه 1/ 370والمقتضب 4/ 410، وبرواية غير بدل ليس. وفي الخزانة 4/ 68كما هنا.(2/178)
به على ذلك، وكذلك يجوز أن يقول يونس في نحو: ما مررت برجل صالح لكن طالح. إنّه يجرّه بباء يضمرها دلّت المتقدّمة لها عليها. كما حكى سيبويه عنه نحو هذا (1). ويضمر القصة في (لكن) وإن كانت مخففة. كما أضمروا (2) في أن وإن في نحو: أما إن يغفر الله لك، وإذا قال: ما مررت برجل صالح لكن طالح، كان على قوله: ولكن هو طالح، فإنّه يقول:
لمّا خفّفته صارت (3) من حروف الابتداء، كما صارت (إنّ) كذلك، ولذلك وقع بعدها الفعل، فكذلك صار (لكن) من حروف الابتداء، كما كان قوله:
ولكن على أقدامنا تقطر الدما (4)
وقوله:
ولكن أمّ أوفى لا تبالي (5)
على ذلك.
فأمّا تشديد لكنّ إذا دخلت عليها الواو وتخفيفها معها، فالقياس لا يوجب دخول التثقيل فيها كما أنّ انتفاء دخولها لا يوجب التخفيف. ومن شدّد مع دخول الواو كان كمن خفّف مع دخولها. ألا ترى أنّ الواو لا توجب تغييرا فيما بعدها في المعنى، وإذا كان كلّ واحد منهما لا ينافي الآخر في المساغ
__________
(1) انظر سيبويه 1/ 216.
(2) في (ط): أضمروها.
(3) في (ط) صار.
(4) البيت للحصين بن الحمام وقد سبق انظر ص / 172/ من هذا الجزء.
(5) البيت لزهير بن أبي سلمى وقد سبق انظر ص / 172/ من هذا الجزء.(2/179)
والجواز كانوا كلّهم قد أحسن فيما أخذ به لتساوي الأمرين في ذلك كله في القياس. ولم يكن في دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد. كما لم يكن في انتفاء دخولها عليها معنى يوجب التخفيف.
البقرة: 106
اختلفوا في فتح النون (1) وضمّها وفتح السين وكسرها من قوله جلّ وعزّ: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة / 106].
فقرأ ابن عامر وحده: (ما ننسخ) بضم النون الأولى وكسر السين.
وقرأ الباقون: (ما (ننسخ) بفتح النون الأولى والسين مفتوحة (2).
قال أبو علي: النسخ في التنزيل (3): رفع الآية وتبديلها.
ورفعها على ضروب: منها أن ترفع (4) تلاوتها. وحكمها، كنحو ما روي عن أبي بكر الصديق أنّه قال: كنا نقرأ: «لا ترغبوا عن آبائكم إنّه كفر» ومنها أن تثبت الآية في الخطّ ويرتفع حكمها كقوله (5): {وَإِنْ فََاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ إِلَى الْكُفََّارِ فَعََاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوََاجُهُمْ مِثْلَ مََا أَنْفَقُوا}
[الممتحنة / 11]. فهذه ثابتة اللفظ في الخطّ مرتفعة الحكم.
ونسخ حكمها يكون على ضربين: بسنّة أو بقرآن، مثل الآية المنسوخة. فممّا نسخ بالسنّة الآية التي تلوناها ومنه قوله:
__________
(1) في (ط): النون الأولى.
(2) السبعة 168.
(3) في (م): زيادة (على) بعد التنزيل.
(4) في (م): يروّح.
(5) في (ط): كقوله عز وجل.(2/180)
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا جََاءَكُمُ الْمُؤْمِنََاتُ مُهََاجِرََاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللََّهُ أَعْلَمُ بِإِيمََانِهِنَّ} [الممتحنة / 10].
وأمّا المنسوخ بقرآن مثله فقوله في الأنفال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صََابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} [الأنفال / 65]. فنسخ بقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللََّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صََابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال / 66] وقوله:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوََاجِهِمْ مَتََاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرََاجٍ} [البقرة / 240] فهذا نسخ (1) بقوله:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة / 234]. ومنها ما يرتفع اللفظ من التنزيل ويثبت الحكم، كالحكم برجم الثيّبين، وما روي عن عمر من أنّه قال: لا تهلكوا عن آية الرّجم، فإنّا كنا نقرأ:
(الشيخ والشيخة فارجموهما) (2).
ومما جاء في التنزيل من ذكر النّسخ قوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ} [الحج / 52].
__________
(1) في (ط): فهذه نسخت.
(2) ورد ما يقرب من هذا اللفظ في موطأ مالك: وذلك من خطبة له في المدينة يقول فيها: «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى، لكتبتها (الشيخ والشيخة فارجموهما البتة) فإنا قد قرأناها». انظر موطأ مالك 2/ 824، ومسند أحمد 1/ 36، 5/ 183، والقرطبي 14/ 113.(2/181)
روي (1) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم. قرأ سورة النجم فأتى على قوله:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى، وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ} [الآية / 19] وصل به: (تلك الغرانقة الأولى (2). وإن شفاعتهن لترتجى) فسّر المشركون بذلك وقالوا: قد أثنى على آلهتنا (3). فهذا حديث مرويّ من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم. وذهب عامة أهل النظر فيما علمت إلى إبطاله وردّه، وأنّ ذلك لا يجوز على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (4) على وجه ما رووا، ولو صحّ الحديث وثبت لم يكن في هذا الكلام ثناء على آلهة المشركين، ولا مدح لها. ولكن يكون التقدير فيه: تلك الغرانقة الأولى. وإنّ شفاعتهنّ لترتجى عندكم، لا أنها في الحقيقة كذلك كما قال (5): {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
[الدخان / 49] أي: العزيز الكريم عند نفسك. وكما حكي عن من آمن من السحرة سحرة فرعون: {وَقََالُوا يََا أَيُّهَا السََّاحِرُ ادْعُ لَنََا رَبَّكَ} [الزخرف / 49]، ومن آمن من السحرة وصدّق موسى. لا يعتقدون فيه أنه ساحر وإنما التقدير: قالوا (6) يا أيها
__________
(1) في (ط): وروي.
(2) وردت روايتها في كتب التفسير والحديث: العلى.
(3) أورد ابن كثير في تفسيره (5/ 438ط الشعب) ما ورد في قصة الغرانيق عند المفسرين وغيرهم من أحاديث، وقال: ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم. وانظر مجمع الزوائد 7/ 115.
(4) في (ط): كما.
(5) في (ط): قال عز وجل.
(6) في (ط): وقالوا.(2/182)
الساحر فيما يذهب إليه فرعون وقومه أو فيما يظهرون من ذلك، وكما (1) قال: {وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنََالُوا خَيْراً}
[الأحزاب / 25] فسمّي ما كان يناله المشركون من المسلمين لو نالوا خيرا على ما كان عندهم، وكما قال {وَقََالُوا يََا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر / 6] فهذا على: يا أيّها الذي نزّل عليه الذّكر عنده وعند من تبعه، ولو اعترفوا بتنزيل الذّكر عليه لم يقولوا ما قالوه (2)، وقال زهرة اليمن (3):
أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها ... أنّي الأغرّ وأنّي زهرة اليمن
فأجابه جرير:
ألم تكن في وسوم قد وسمت بها ... من حان موعظة يا زهرة اليمن (4)
وهذا النحو في (5) الكلام الذي يطلق، والمراد به التقييد على صفة واسع غير ضيّق. فعلى هذا كان يكون تأويل هذا الكلام لو صحّ [أو سلم] (6) لراويه، وإن لم يصحّ فالمعنى في قوله: ({فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ}) أي: يرفعه ويبيّن إبطاله
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): ما قالوا.
(3) البيت في الخصائص 2/ 461عن أبي علي يهجو جريرا. وقد أورد ابن جني هنا شواهد من نحو ما أورده أبو علي، وجعلها مثالا لما كان مخرجه منه تعالى على الحكاية.
(4) البيت في ديوان جرير / 746/ وفيه: يا حارث اليمن، مكان: يا زهرة اليمن. والوسوم: جمع وسم، وهو أثر الكيّ يريد أذى هجائه. وحان:
هلك.
(5) في (ط): من.
(6) سقطت من (ط).(2/183)
بالحجج الظاهرة. وقد يجوز أن يكون: {أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي: في حال تلاوته، ولا دلالة على أنّ إلقاء ذلك في حال التلاوة، إنما هو من التالي. لكن ممّن يريد التلبيس من شياطين الإنس، فيبيّن الله ذلك، ويظهره عند من نظر واعتبر، ثم يحكم الله آياته عن أن يجوز فيها ما لا يجوز في دينه من تمويه المموّهين، وتلبيس الملبسين، ومن ذلك قوله: {هََذََا كِتََابُنََا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنََّا كُنََّا نَسْتَنْسِخُ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
[الجاثية / 29] فقوله: (نستنسخ) يجوز أن يكون ننسخ كقوله:
{وَإِذََا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات / 14] أي يسخرون، ويجوز أن يكون يستدعي ذلك، واستدعاء ذلك إنّما هو بأمر الملائكة بكتابته وحفظه ليحتجّ عليهم بأعمالهم كقوله: {بَلى ََ وَرُسُلُنََا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف / 80] وقوله: {مََا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلََّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق / 18] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحََافِظِينَ، كِرََاماً كََاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مََا تَفْعَلُونَ} [الانفطار / 10] وقوله: {هُنََالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مََا أَسْلَفَتْ} [يونس / 30] وكقوله: {اقْرَأْ كِتََابَكَ كَفى ََ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء / 14] وكقوله تعالى (1): {فَأُولََئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتََابَهُمْ} [الإسراء / 71] ونحو ذلك من الآي التي تدلّ على أنّ أعمال العباد مكتوبة محصاة.
فأمّا قراءة ابن عامر {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} بضمّ النون، فالقول فيها: أنها لا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون أفعل لغة في هذا الحرف كقولهم: حلّ من إحرامه، وأحلّ.
وقولهم: بدأ الخلق وأبدأهم. أو تكون الهمزة للنقل كقولك: قام
__________
(1) سقطت من (ط).(2/184)
وأقمته، وضرب وأضربته، ونسخ الكتاب وأنسخته الكتاب. أو يكون المعنى في أنسخت الآية: وجدتها منسوخة، كقولهم:
أحمدت زيدا وأجبنته وأبخلته، أي: أصبته على بعض هذه الأحوال. فلا يجوز أن يكون لغة على حدّ حلّ وأحلّ، وبدأ وأبدأ لأنّا لم نعلم (1) أحدا حكى ذلك، ولا رواه عن أحد، ولا تكون الهمزة لمعنى النقل، لأنّك لو جعلته كذلك، وقدّرت المفعول محذوفا من اللّفظ مرادا في المعنى كقولك: «ما أعطيت من درهم فلن يضيع عندك» لكان المعنى: ما ننزّل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها. وذلك أن إنساخه إياها إنما هو إنزال في المعنى، ويكون (2) معنى الإنساخ: أنه منسوخ من اللوح المحفوظ أو من الذّكر، وهو الكتاب الذي نسخت الكتب المنزلة منه. وإذا كان كذلك فالمعنى: ما ننزل من آية، أو: ما ننسخك من آية، أو ننسها، لأنّ ابن عامر يقرأ:
{أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا} [البقرة / 106] وليس هذا المراد ولا المعنى، ألا ترى أنه ليس كلّ آية أنزلت أتي بآية أذهب منها في المصلحة. وإنما قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا} تقديره نأت بخير من المنسوخ، أي أصلح لكم أيها المتعبّدون. وأقلّ الآي هي المنسوخة وأكثرها غير منسوخ، فإذا كان تأويلها هذا التأويل يؤدي إلى الفساد في المعنى، والخروج عن الغرض الذي قصد به الخطاب علمت أنّ توجيه التأويل إليه لا يصحّ، وإذا لم يصحّ ذلك، ولا الوجه الذي ذكرناه قبله، ثبت أن وجه قراءته إنما هو على القسم الثالث وهو: أنّ قوله
__________
(1) في (ط): لا نعلم.
(2) في (ط): فيكون.(2/185)
ننسخ (1): نجده منسوخا، وإنما نجده كذلك لنسخه إياه، فإذا كان كذلك كان قوله: {نَنْسَخْ} بضم النون، كقراءة من قرأ {نَنْسَخْ} بفتح النون، يتفقان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ.
وقول من فتح النون فقرأ: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} أبين وأوضح.
البقرة: 106
اختلفوا في ضمّ النون الأولى وترك الهمزة (2) وفتح النون مع الهمز في (3) قوله: ننسأها [البقرة / 106].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننسأها: بفتح النون الأولى مع الهمز، وقرأ الباقون: {نُنْسِهََا} بضم النون الأولى (4) وترك الهمز.
قال أبو علي: أما قراءة ابن كثير وأبي عمرو: ننسأها بفتح النون وهمز لام الفعل. ففسّر على التأخير، أي:
نؤخرها.
وقال: بعض من لا [ينبغي أن] (5) يعبأ بقوله: إن التأخير هنا لا معنى له. وقد قرأ بذلك من السّلف فيما ذكر (6)، عمر وابن عباس، ومن التابعين إبراهيم وعطاء، وقرأ (7) به عبيد بن عمير.
وروى ابن جريج عن مجاهد {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قال:
__________
(1) في (ط): قوله عز وجل ما ننسخ.
(2) في (ط): الهمز.
(3) في (ط): من.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقط ما بين المعقوفتين من (ط).
(6) في (ط): ذكروا.
(7) في (ط): وقد قرأ.(2/186)
«نمحاها (1) أو ننسأها» قال: نثبت خطّها ونبدل حكمها.
وقال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض، فأنا انسؤها نس ءا: إذا أخّرتها عنه. ونسأت الإبل، فأنا أنسؤها نس ءا. إذا زدتها في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك (2)، وتقول:
انتسأت عنك انتساء. إذا تباعدت عنه، وأنسأته الدّين إنساء:
إذا أخّرته عنه واسم ذلك النّسيئة.
فأما معنى التأخير في قوله: ننسأها فقال ناس من أهل النظر فيه (3): إنّ التأخير في الآية يتوجّه على ثلاثة أنحاء منها: أن يؤخّر التنزيل فلا ينزل البتّة، ولا يعلم ولا يعمل به، ولا يتلى. فالمعنى على هذا: ما ننسخ من آية أو ننسأها أي: نؤخّر إنزالها، فلا ننزلها.
والوجه الثاني: أن ينزل القرآن فيعمل به ويتلى ثم يؤخّر بعد ذلك بأن ينسخ فترفع (4) تلاوته البتة، ويمحى (4) فلا يتلى (4) ولا يعمل بتأويله وذلك مثل ما روى يونس عن الحسن أنّ أبا بكر الصديق قال: كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم إنه كفر (7). ومثل ما روي عن زرّ بن حبيش أنّ أبيّا قال له: كم تقرءون الأحزاب؟ قلت: بضعا وسبعين آية. قال: قد قرأتها ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (8) أطول من سورة البقرة (9).
__________
(1) في اللسان: محا الشيء يمحوه ويمحاه محوا ومحيا: اذهب أثره.
(2) انظر البحر المحيط 1/ 344.
(3) في (ط): من أهل الكوفة. بدل: من أهل النظر فيه.
(4) في (ط): وترفع وتمحى فلا تتلى.
(7) انظر القرطبي 2/ 66.
(8) سقطت من (ط).
(9) انظر القرطبي 2/ 63، 14/ 113.(2/187)
والوجه الثالث: أن يؤخّر العمل بالتأويل لأنه نسخ (1)
ويترك خطّه مثبتا وتلاوته قرآن يتلى، وهو ما حكي عن مجاهد أنّه قال: يثبت خطّها ويبدل حكمها. وهذا نحو قوله: {وَإِنْ فََاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ إِلَى الْكُفََّارِ فَعََاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوََاجُهُمْ مِثْلَ مََا أَنْفَقُوا} [الممتحنة / 11] فهذا مثبت اللفظ مرفوع الحكم.
وأما من قرأ {نُنْسِهََا} من النسيان فإنّ لفظ (نسي) المنقول منه أنسي على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى الترك، والآخر: النسيان الذي هو مقابل الذكر، فمن الترك قوله:
{نَسُوا اللََّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة / 67] أي: تركوا طاعة الله فترك رحمتهم، أو ترك تخليصهم. وإضافة الترك إلى القديم سبحانه في نحو هذا اتساع. كقوله (2): {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ}
[البقرة / 17] {وَتَرَكْنََا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}
[الكهف / 99] أي: خلّيناهم وذاك.
وقال جويبر عن الضحّاك في قوله: {الْيَوْمَ نَنْسََاكُمْ كَمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا} [الجاثية / 34] قال: اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري.
فأمّا قوله (3): {رَبَّنََا لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا}
[البقرة / 286] فقوله {نَسِينََا} يحتمل الوجهين: يجوز أن يكون من النسيان الذي هو خلاف الذكر، والخطأ: من الإخطاء الذي
__________
(1) في (ط): ينسخ.
(2) في (ط): كقوله عز وجل.
(3) في (ط): قوله عز وجل.(2/188)
ليس التعمّد، ومجاز ذلك على أنهم تعبّدوا بأن يدعوا على أن لا يؤاخذوا بذلك، وإن كانوا قد علموا أن القديم سبحانه لا يؤاخذ بهما.
وقد جاء في (1) الحديث المأثور: «رفع عن أمتي الخطأ والنّسيان وما أكرهوا عليه» (2)
كما جاء في الدعاء {قََالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} (3) [الأنبياء / 112] وهو سبحانه لا يحكم إلا بالحقّ، وكما قال: {رَبَّنََا وَآتِنََا مََا وَعَدْتَنََا عَلى ََ رُسُلِكَ} [آل عمران / 194] وما وعدهم الله به على ألسنة الرّسل يؤتيهم الله إياه، وكذلك تعبّد الله الملائكة بالدّعاء بما يفعله الله لا محالة فقال: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنََا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تََابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذََابَ الْجَحِيمِ} إلى قوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئََاتِ} [غافر / 9]. وعلى هذا يمكن أن يكون قوله: {رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ} [البقرة / 286] الاستطاعة ويكون على قوله لا تحمّلنا ما يثقل علينا ويشقّ وإن كنّا مستطيعين له.
ويجوز أن يكون {إِنْ نَسِينََا} على: إن تركنا شيئا من اللازم لنا.
ومن التّرك قوله (4): {وَلَقَدْ عَهِدْنََا إِلى ََ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}
[طه / 115] أي ترك ما عهدنا إليه. ومنه قوله:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) رواه ابن ماجة في كتاب الطلاق 1/ 659.
(3) (قل) قراءة غير حفص أما قراءة حفص فرويت بالألف (قال). انظر النشر في القراءات العشر 2/ 325.
(4) في (ط): قوله عز وجل.(2/189)
{وَلََا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللََّهَ فَأَنْسََاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر / 19] أي: كالذين تركوا طاعة الله وأمره، فأنساهم أنفسهم، أي: لم يلطف لهم كما يلطف للمؤمنين في تخليصهم أنفسهم من عقاب الله، والتقدير: ولا تكونوا كالذين نسوا أمر الله أو طاعته، فأنساهم تخليص (1) أنفسهم من عذاب الله (2) وجاز أن ينسب الإنساء إليه. وإن كانوا هم الفاعلون له والمذمومون عليه، كما قال:
{وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} [الأنفال / 17]، فأضاف (3) الرمي إلى الله سبحانه لما كان بقوته، وإقداره، فكذلك نسب الإنساء إليه، لمّا لم يلطف لهذا المنسى (4) كما لطف للمؤمن الذي قد هدي، وكذلك قوله: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسََاكُمْ كَمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا} [الجاثية / 34] أي:
نسيناكم كما نسيتم الاستعداد للقاء يومكم هذا، والعمل في التخلص من عقابه. وأما قوله (5): {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذََا نَسِيتَ}
[الكهف / 24] فعلى معنى التّرك، لأنه إذا كان المقابل للذكر لم يكن مؤاخذا. ومما هو خلاف الذكر، قوله: {فِي كِتََابٍ لََا يَضِلُّ رَبِّي وَلََا يَنْسى ََ} [طه / 52] فقوله: {لََا يَضِلُّ رَبِّي} هو في تقدير حذف الضمير العائد إلى الموصوف. وقال (6): {فَقََالُوا هََذََا إِلََهُكُمْ وَإِلََهُ مُوسى ََ فَنَسِيَ} [طه / 88] ففي قوله: نسي، ضمير السامري، أي: ترك التوحيد باتخاذه العجل.
__________
(1) في (ط): تخليصهم.
(2) في (ط): الله عز وجل.
(3) في (ط): فأضيف.
(4) رسمت المنسى في الأصل بالألف الممدودة.
(5) في (ط): قوله عز وجل.
(6) في (ط): وقال عز وجل.(2/190)
وقال بعض المفسرين (1): نسي موسى ربّه عندنا، وذهب يطلبه في مكان آخر. وأما قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسََاهُ الشَّيْطََانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف / 42] فإن إنساء الشيطان هو أن يسوّل له، ويزيّن الأسباب التي ينسى معها. وكذلك قوله:
{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلَّا الشَّيْطََانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}
[الكهف / 63] يجوز أن يكون الضمير في أنساه ليوسف أي أنسى يوسف ذكر ربه كما قال: {وَإِمََّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطََانُ فَلََا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى ََ} [الأنعام / 68].
ويجوز أن يكون الضمير في أنساه للذي ظنّ أنه ناج (2)، ويكون ربّه ملكه. وفي الوجه الأول يكون ربّه الله سبحانه (3)، كأنه أنساه الشيطان أن يلجأ إلى الله (4) في شدته. وأما قوله:
{فَيَكْشِفُ مََا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شََاءَ وَتَنْسَوْنَ مََا تُشْرِكُونَ}
[الأنعام / 41] فالتقدير: تنسون دعاء ما تشركون فحذف المضاف، أي: تتركون دعاءه، والفزع إليه، إنما تفزعون إلى الله سبحانه (5)، ويكون من النسيان الذي هو خلاف الذكر كقوله: {وَإِذََا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلََّا إِيََّاهُ} [الإسراء / 67] أي تذهلون عنه فلا تذكرونه.
وقال: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتََّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي}
[المؤمنون / 110]. فهذا يجوز أن يكون منقولا من الذي بمعنى الترك، ويمكن أن يكون من الذي هو خلاف الذكر،
__________
(1) في (ط): زيادة المعنى.
(2) في (ط): ناج منهما.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) في (ط): الله عز وجل.
(5) في (ط): عز وجل.(2/191)
واللفظ على أنهم فعلوا بكم النسيان، والمعنى: أنكم أنتم أيها المتخذون عبادي سخريّا نسيتم ذكري باشتغالكم باتخاذكم إياهم سخريا وبالضحك منهم، أي: تركتموه من أجل ذلك، وإن كانوا ذاكرين وغير ناسين، فنسب الإنساء إلى عباده الصالحين وإن كانوا (1) لم يفعلوه لمّا كانوا كالسبب لإنسائهم، فهذا كقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ}
[إبراهيم / 36] وعلى هذا قوله: {فَأَنْسََاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}
[الحشر / 19] فأسند النسيان إليه، والمعنى على أنهم نسوا ذلك.
فأمّا قوله: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا} [البقرة / 106] فمنقول من نسيت الشيء: إذا لم تذكره، قال الفراء: والنسيان هنا على وجهين:
أحدهما: على الترك، نتركها ولا ننسخها.
والوجه الآخر: من النسيان كما قال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذََا نَسِيتَ} [الكهف / 24].
قال أبو علي: قول الفراء نتركها ولا ننسخها، لا يستقيم هنا، وإنما هو من النسيان الذي ينافي الذكر، ألا ترى أنه قد قال:
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا} [البقرة / 106] وليس كل ما أخّرت (2) من الآي فلم تنسخ (3) ولم يبدل حكمها (4) يؤتى بخير من المنسوخة بآية أو المنسأة، وليس المعنى: ما ننسخ من آية أو نقرّها فلا ننسخها نأت بخير منها، إنما المعنى: أنّا إذا
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): ما أخر.
(3) في (ط): فلم ينسخ.
(4) في (ط): حكمه.(2/192)
رفعناها من جهة النسخ بآية، أو الإنساء (1) أتينا بخير من التي ترفع وتبدل على أحد هذين الوجهين، ومعنى نأت بخير منها:
أنه أصلح لمن تعبّد بها، وليس المعنى في قوله: نأت بخير منها، أن الناسخة خير من المنسوخة أو المنساة، أي: أفضل منها، ولكن أصلح لمن تعبّد بها وأدعى لهم.
وقال أبو إسحاق: قال أهل اللغة في معنى: {أَوْ نُنْسِهََا}
قولين: قال بعضهم: {أَوْ نُنْسِهََا} من النسيان، قال: وقالوا:
ودليلنا على ذلك قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ، إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ}
[الأعلى / 6] فقد أعلم أنّه شاء أن ينسى، قال: وهذا القول عندي ليس بجائز، لأن الله قد أنبأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (2) في قوله: {وَلَئِنْ شِئْنََا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ} [الإسراء / 86] أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (3).
قال أبو علي: هذا الذي احتجّ به على من ذهب إلى أنّ ننسها من النسيان، لا يدل على فساد ما ذهبوا إليه من أن ذلك من النسيان، وذلك أن قوله: {وَلَئِنْ شِئْنََا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ} [الإسراء / 86] إنما هو على ما لا يجوز عليه النسخ والتبديل من الأخبار وأقاصيص الأمم، ونحو ذلك مما لا يجوز عليه التبديل. والذي ينساه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (4) هو ما يجوز أن ينسخ من الأوامر والنواهي الموقوفة على المصلحة في الأوقات التي يكون ذلك فيها أصلح.
__________
(1) في (ط): والإنساء.
(2) سقطت صلّى الله عليه وسلّم، من (م).
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).(2/193)
ويدلك على أن ننسها من النسيان الذي هو خلاف الذكر من قولك: نسيت الشيء وأنسانيه غيري، قراءة من قرأ: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا} (1). وقراءة من قرأ: أو ننسكها.
فأمّا قوله: تنسها فقراءة سعد بن أبي وقاص. روى هشيم (2) قال: أخبرني يعلى بن عطاء (3) عن القاسم بن ربيعة بن قائف الثقفي قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرؤها: ما ننسخ من آية أو تنسها. قال: فقلت له: إنّ سعيد بن المسيب يقرأ: أو تنسها أو: ننساها (4) قال (5): إنّ القرآن لم ينزل على آل (6) المسيّب، قال الله لنبيه: {سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ} [الأعلى / 6] {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذََا نَسِيتَ}
[الكهف / 24]. وقرأ أيضاً تنسها أوّلها تاء مفتوحة من النسيان: سعد بن مالك، حكاها أبو حاتم (7).
__________
(1) في (ط): ننسها، كما أثبتنا وفي (م): تنسها.
(2) هو هشيم بن بشير أبو معاوية السّلمي، الواسطي الحافظ انظر التاريخ الصغير للبخاري 2/ 233231230.
(3) هو يعلى بن عطاء العامري الطائفي أتى واسط وأقام بها في آخر سلطنة بني أمية وسمع منه شعبة وهشيم وأبو عوانة وأصحابهم. الطبقات الكبرى 5/ 520.
(4) في (ط): أفننساها. وكتب في هامشها: «في أخرى: أو فننسأها موضع أفننساها».
(5) في (ط): فقال.
(6) سقطت من (ط).
(7) قال ابن جني في المحتسب قرأ سعد بن أبي وقاص والحسن ويحيى بن يعمر: «أو تنسها» بتاء مفتوحة، وقراءة سعيد بن المسيب والضحاك: «تنسها» مضمومة التاء مفتوحة السين (انظر المحتسب 1/ 103).(2/194)
وأما ننسكها فإنّ الكسائيّ قال: رأيت في مصاحف على قراءة سالم مولى أبي حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها النون الأولى مضمومة والثانية ساكنة.
قال أبو علي: فالمفعول المراد المحذوف في قراءة من قرأ {أَوْ نُنْسِهََا} مظهر في قراءة من قرأ: ننسكها ويؤكد ذلك ويبيّنه قراءة من قرأ: أو تنسها.
قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن الحسن عن قرة بن خالد، عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها: تنسها. ألا ترى أن الفعل يتعدّى إلى مفعولين، فلما بني الفعل للمفعول قام أحدهما مقام الفاعل، فبقي الفعل متعديا إلى مفعول واحد. ويؤكد ذلك أيضا، ما روي من قراءة ابن مسعود: ما ننسك من آية أو ننسخها. وبقراءة ابن مسعود، قرأ الأعمش، وروى عبد الله بن كثير عن مجاهد، قال: قراءة (1) أبيّ: ما ننسخ من آية أو ننسك.
فهذا كله يثبت قول من جعل {نُنْسِهََا} على أنه من النسيان، وليس ذلك مما أريد بقوله: {وَلَئِنْ شِئْنََا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ} [الإسراء / 86] لأن ذلك إنما هو فيما لا يجوز عليه النسخ. فأما ما يجوز عليه النسخ والرفع فقد يجوز أن يرفع بالنسيان كما يرفع بالنسخ، وذلك أنه يرفع من التلاوة والخط فينسى، وليس ذلك على وجه سلب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (2)، شيئاً
__________
(1) في (ط): قرأ.
(2) سقطت من (ط).(2/195)
أوتيه من الحكمة، كما أنّ نسخ ما نسخ (1) بآية أو بسنّة لا يكون سلبا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (2) شيئاً أوتيه من الحكمة.
ومما يؤكد ذلك أن سعيداً روى (3) عن قتادة أنه قال:
كانت الآية تنسخ بالآية وينسي الله نبيّه من ذلك ما يشاء. وقد قدمنا أن ننسها لا يجوز أن يكون منقولًا من نسي الذي معناه ترك.
وقول أبي إسحاق وفي قوله: {فَلََا تَنْسى ََ إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ}
[الأعلى / 6، 7] قولان يبطلان هذا القول الذي حكيناه عن بعض أهل اللغة، أحدهما: فلا تنسى، أي: فلست تترك، إلا ما شاء الله أن تترك. ويجوز أن يكون {إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ} أن يلحق بالبشريّة ثم يذكر بعد.
قال أبو علي: فالقول فيه أن قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ}
إن حمل فيه لا تنسى على النسيان الذي يقابل الذكر أشبه من أن يحمل على ما يراد به الترك، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (4) كان إذا نزل عليه القرآن أسرع القراءة وأكثرها، مخافة النسيان فقال (5):
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، لرفعه ذلك بالنسيان، كرفعه إياه بالنسخ بآية أو سنّة. ويؤكد ذلك قوله:
{لََا تُحَرِّكْ بِهِ لِسََانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة / 1716] وقوله: {وَلََا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى ََ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه / 114] فحمل قوله: فلا
__________
(1) في (ط): ما ينسخ الله.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (م): رواه.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): فقال تعالى.(2/196)
تنسى على الترك، إذا كان يسلك به هذا المسلك ليس بالوجه. فإن قال: أحمله على الترك دون النسيان. قيل: فإن للذي أنكرت قوله في أنه من النسيان، وقلت إن قوله: لا يجوز، لقوله: {وَلَئِنْ شِئْنََا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ}
[الإسراء / 86] وأنه لا يجوز أن يذهب بما أوحي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقول: ولا يجوز له أن يترك شيئا مما أوحى إليه، كما قلت أنت: لا يجوز أن ينسى شيئاً مما يوحى إليه.
فإن جاز أن يترك منه شيئاً جاز أن ينسى منه شيئاً. ولا يكون نسيانه له على وجه الرّفع منكراً، كما لم يكن تركه إذا شاء الله تركه منكراً. فإذا كان الأمر على هذا، فقد صار هو أيضاً إلى مثل ما أنكره من قول من أنكر قوله.
فأمّا قوله: ويجوز أن يكون ما شاء الله مما يلحق بالبشريّة ثم يذكر بعد، فإنّ هذا الضرب من النسيان، وإن كان جائزاً على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما
روي من أنه قام في الثانية، فسبّح به فلم يرجع، وسجد للسهو (1).
ونحو ما روي من حديث ذي اليدين (2) ونحو ما
روي من أنه صلى فنسي آية، فلما فرغ من صلاته، قال: «أفي القوم أبيّ؟ قيل (3): نعم يا رسول الله، أنسخت آية كذا أم نسيتها؟ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال:
__________
(1) انظر البخاري في السهو 3/ 93باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، ومسلم باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 398رقم 570.
(2) انظر حديث ذي اليدين في فتح الباري 3/ 96وصحيح مسلم 1/ 400 كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
(3) في (ط): فقيل.(2/197)
نسيتها».
من حديث عبد الرحمن بن أبزى (1).
فليس (2) المراد في هذا الموضع، لأنه في حكم الذكر من حيث كان المأثم فيه موضوعا، وإنما المراد به النسيان الذي هو رفع من التلاوة والخط، وعلى هذا استدلّ به سعد بن أبي وقاص، وعليه حمل ناس من أهل النظر فهذا أولى، وإن كان ما ذهب إليه أبو إسحاق غير ممتنع في غير هذا الموضع.
قال أبو إسحاق: وقالوا في: {نُنْسِهََا} قولًا آخر، وهو خطأ. قالوا: أو نتركها، وهذا إنما يقال فيه: نسيت إذا تركت، ولا يقال (3): أنسيت تركت، وإنما معنى {أَوْ نُنْسِهََا} أي (4):
أو نتركها. أي: نأمركم بتركها.
والقول (5) في ذلك: أنّ من فسر أنسيت بتركت، لا يكون مخطئاً، وذلك أنك إذا قلت: أنساني الشيطان ذكر كذا، فإنه إذا أنساك نسيت، وإذا قال: أضربت زيداً عمراً، فكأن المعنى: جعلت زيداً يضرب عمراً، فزيد يضرب إذا أضربته، كما ينسى إذا أنسيته، فإذا عبّر عن ذلك بما يوجبه فعله لم يكن خطأ، وإن كان إذا عبر عن تنسي بيترك، كان أشدّ موافقة له في اللفظ، ومطابقة فيما تريد من المعنى. ويدلّك على أن ذلك ليس بخطإ، أن المفعول الأول من الفعل المتعدي إلى
__________
(1) عنه في مسند الإمام أحمد 3/ 407وفي سنن أبي داود 1/ 558رقم 907 باب الفتح على الإمام في الصلاة وجامع الأصول 5/ 648رقم 3924.
من حديث عبد الله بن عمر وغيره.
(2) قوله: فليس: جواب وإن كان السابقة.
(3) في (ط): لا يقال فيه.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): قال أبو علي: والقول.(2/198)
مفعول واحد، إذا نقل بالهمزة فاعل المفعول الثاني، فإذا عبّرت عنه بنسيت، فقد جئت بشيء دلّ كلامك عليه (1)، كما أنك إذا عبّرت عنه على التحقيق فقد أتيت بما دلّ كلامك عليه.
فإذا اتفقا في دلالة الكلام على كل واحد منهما لم يكن خطأ. وهذا النحو يستعمله المتقدمون من السلف المفسرون وغيرهم كثيراً على أنّ أتركت وإن كان يوجبه القياس فإنّا لم نعلم الاستعمال جاء به، وإذا لم يأت به الاستعمال لم يمتنع أن يكون مثل أشياء من هذا الباب يوجبه القياس، ولم يأت به الاستعمال، فرفض لذلك. ألا ترى أنهم قالوا: دفعت زيداً بعمرو ولم يقولوا: أدفعت.
وذهب سيبويه إلى أن ذلك مرفوض وكذلك صككته بكذا، ورفضوا (2) استعمال الهمزة، وكذلك لقيت زيداً، لم يستعملوا نقله بالهمزة، وليس ألقيت منقولًا من لقيت، ألا ترى أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وكذلك ميّزت ليس بمنقول من مزت، فإذا رفض النقل بالهمزة في هذه الأشياء ونحوها، أمكن أن يكون تركت أيضاً مثلها فلم تنقل بالهمزة، ويقوي ذلك أنّا لم نعلمه ثبت في سمع كما لم تثبت هذه الأشياء.
فإذا لم يرد به سمع دل ذلك على الرفض له. ففسر الذي فسر ذلك على ما جاء السمع به دون ما أوجبه القياس الذي لعله رآه المفسّر مرفوضاً غير مأخوذ به.
وقوله: وإنما معنى {أَوْ نُنْسِهََا} أو: نتركها، أي: نأمركم
__________
(1) في (ط): دل عليه كلامك.
(2) في (ط): فرفضوا.(2/199)
بتركها فالقول في ذلك: لا يخلو من (1) أن يكون المراد بنتركها الذي يراد به تقرير الشيء، كما تقول: اترك هذا في موضعه، أي: قرره فيه ولا ترفعه منه، أو يكون المراد بنتركها أي: نرفعها ونبدلها. فإن كان المراد الوجه الأول الذي هو التقرير في موضعه، وأن لا يرفع فهذا لا يقع الأمر به، لأنه ليس إلى النبي (2) ولا إلى المسلمين تقرير الآي في مواضعها، إنّما ذلك إلى الله (3) إذا أنزل آية كانت مقرّرة حتى يرفعها بنسخ أو إنساء، فالأمر لنا بتقرير ذلك لا يصحّ إلا أن يراد الاعتقاد، لأن ذلك ثابت غير منسوخ، وهذا الأمر ليس بالكثير الفائدة، لأن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم (4)، والمسلمين إذا أنزل الله تعالى آية قرروها في موضعها، واعتقدوا أنه قرآن منزل وكلام لرب العالمين قد ثبت، حتى يرفع بنسخ أو نسيان إن كان ذلك يجوز فيها. وإن كان المراد بقوله: نأمركم بتركها، نأمركم بأن ترفعوا ذلك وتتركوه فذلك ليس إلى النبي (5) ولا إلى المسلمين، وإنما تبديلها ونسخها إلى الله (6)، يدل على ذلك قوله: {قُلْ مََا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقََاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلََّا مََا يُوحى ََ إِلَيَّ}
[يونس / 15] فإن قال قائل: ما معنى تركها غير النسخ، وما الفصل بين الترك والنسخ؟ فالجواب في ذلك: أن النسخ أن يأتي في الكتاب نسخ آية بآية فتبطل الثانية العمل بالأولى، ومعنى الترك: أن تأتي الآية بضرب من العمل فيؤمر المسلمون بترك ذلك بغير آية تنزل ناسخة التي قبلها، نحو قوله:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): صلى الله عليه.
(3) في (ط): الله عز وجل.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): صلى الله عليه.
(6) في (ط): الله تعالى.(2/200)
{إِذََا جََاءَكُمُ الْمُؤْمِنََاتُ مُهََاجِرََاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة / 10] ثم أمر المسلمون بعد بترك المحنة، فهذا يدل على معنى الترك ومعنى النسخ، وقد بيناه فهذا هو الحق.
قال أبو علي (1): القول في ذلك أن ما ذكره من أن النسخ: أن يأتي في الكتاب نسخ الآية بالآية فتبطل الثانية العمل بالأولى ليس بحقيقة النسخ، لكن هذا ضرب من النسخ. وقد يكون النسخ للآية والتبديل لها على ضروب أخر، وما أعلم فيه رواية ولا قياسا يدلّ على ما ذكره. وقد ينسخ القرآن عند عامّة الفقهاء بسنّة غير آية، ولا يمتنعون من أن يسموا ذلك نسخا، ولا يمتنع أن يسمى الضرب الذي سماه أبو إسحاق تركا نسخا.
ومما يدل على ذلك أن الزهري روى عن عروة عن عائشة قالت: نزل في أصحاب بئر معونة قرآن منه: «بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنا وأرضانا» ثمّ نسخ (2)، فسمّت عائشة ذلك نسخا، ولم تسمّه تركا، وسمته نسخا وإن لم ينسخ بآية فهذا يفسد القسمين اللذين قسمهما. ألا ترى أنها سمت ذلك نسخا، وإن لم ينسخ ذلك (3) بآية ولم تسمه تركا. كما زعم أنه يسمّى نحو قوله: {إِذََا جََاءَكُمُ الْمُؤْمِنََاتُ مُهََاجِرََاتٍ}
[الممتحنة / 10] تركا من حيث أمر المسلمون بترك الامتحان لهنّ من غير آية نزلت. ويفسد ذلك أيضا ما روي عن
__________
(1) سقطت «قال أبو علي» من (م).
(2) رواه البخاري في الجهاد برقم 2811من حديث أنس بن مالك.
(3) سقطت من (ط).(2/201)
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (1) من
حديث حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (1) يوما قاعد في أصحابه إذ ذكر حديثا، فقال: ذاك وأن (3) ينسخ القرآن، فقال رجل كالأعرابي:
يا رسول الله ما ينسخ القرآن؟ وكيف ينسخ؟ قال: «يذهب أهله الذين هم أهله، ويبقى رجال كأنهم النعام. يعني في خفة الطير».
فقد سمّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (1) هذا نسخا، وإن لم ينسخ بآية فإذا لم يثبت بتسميته النسخ سماع ولا قياس، وجاءت اللغة بخلاف ما ذكره، علمت أنه قول لا وجه له (5).
البقرة: 116
قرأ ابن عامر وحده {قََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً سُبْحََانَهُ}
[البقرة / 116] بغير واوٍ. وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، وقرأ الباقون بواو (6).
قال أبو علي: حذف الواو في ذلك يجوز من وجهين:
أحدهما أن الجملة التي هي {قََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً} ملابسة بما قبلها، من قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسََاجِدَ اللََّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى ََ فِي خَرََابِهََا} [البقرة / 114] ومن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه: جميع المتظاهرين على الإسلام من صنوف الكفار، لأنهم بقتالهم المسلمين وإرادتهم غلبتهم والظهور عليهم مانعون لهم من مواضع متعبداتهم، والمساجد
__________
(1) سقطت من (ط).
(3) في (ط): أو أن.
(5) في هامش (م) ما يلي:
«ومما تبين أنه لا رواية نعلمه [كذا] في ذلك عن العرب، وإن المفسرين له إنما قالوه على طريق التقريب. إن الفراء قال: إن النسخ: بأن يعمل بالآية ثم تنزل أخرى فيعمل بها وتترك الأولى، وقال محمد بن يزيد فيما حكى عنه محمد بن السري: إن النسخ التبديل».
(6) السبعة / 168.(2/202)
هي جميع المواضع التي يتعبد فيها.
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (1): «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (2).
وإذا كان التأويل على هذا، فالذين قالوا: اتخذ الله، من جملة هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، فيستغنى عن الواو لالتباس الجملة بما قبلها كما استغني عنها في نحو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ}
[البقرة / 39] ولو كان وهم فيها خالدون، كان حسنا إلا أن التباس إحداهما بالأخرى وارتباطها بها أغنى عن الواو. ومثل ذلك قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف / 22] ولم يقل: ورابعهم، كما جاء: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}
[الكهف / 22] ولو حذفت الواو منها كما حذفت من التي قبلها واستغني عن الواو بالملابسة التي بينها كان حسنا.
والوجه الآخر أن تستأنف الجملة فلا تعطفها على ما تقدم.
البقرة: 117
واختلفوا في قوله عز وجل: {كُنْ فَيَكُونُ}
[البقرة / 117] في فتح النون وضمّها، فقرأ ابن عامر وحده: {كُنْ فَيَكُونُ} بنصب النون.
وقرأ الباقون: {فَيَكُونُ} رفعا (3).
قال أبو علي: لا يخلو قوله: {يَقُولُ} (4) [البقرة / 117] من أن يكون المراد به القول الذي هو كلام ونطق، أو يكون (5)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) أخرجه البخاري في التيمم برقم 335ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم 521وأبو داود برقم 492والترمذي برقم 317.
(3) السبعة: 168.
(4) سقطت من (ط). وهي من قوله سبحانه: وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
(5) في (ط): يكون القول.(2/203)
الذي يتّسع فيه فلا يراد به النطق ولا الكلام، ولا الظنّ ولا الرأي ولا الاعتقاد، ولكن نحو قول الشاعر (1):
قد قالت الانساع للبطن الحق ونحو قول العجاج في صفة ثور (2):
فكّر ثمّ قال في التفكير إنّ الحياة اليوم في الكرور وقول الآخر (3):
امتلأ الحوض وقال قطني فلا يكون على القول الذي هو خطاب ونطق، لأن المنتفي الذي ليس بكائن لا يخاطب كما لا يؤمر، فإذا لم يجز ذلك حملته على نحو ما جاء في الأبيات التي قدمت ونحوها (4).
__________
(1) سبق انظر 1/ 331.
(2) ورد الرجز في (ط) كما يلي:
وفيه كالإعراض للعكور ... ميلين ثم قال في التفكير
إن الحياة اليوم في الكرور وقد سبق انظر 1/ 331و 342.
(3) في (ط): وقال الآخر، والبيت مجهول القائل وبعده:
مهلا رويدا قد ملأت بطني الخصائص لابن جني 1/ 23شرح الأشموني لألفية ابن مالك 1/ 125 أمالي ابن الشجري 1/ 313. تفسير الطبري 1/ 510.
(4) ورد في طرة (ط) تعليقة في ثلاثة أسطر وهي: «لا غرو أن هذا على مذهبه في جعله ({أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}) مجازا ليس حقيقة، لأنه وأصحابه لا يثبتون لله عزّ وجلّ كلاما صفة ذات لقولهم بخلق القرآن(2/204)
وأما قوله: {كُنْ} فإنه وإن كان على لفظ الأمر فليس بأمر، ولكن المراد به الخبر، كأن التقدير يكوّن فيكون وقد قالوا: أكرم بزيد، فاللفظ لفظ الأمر، والمعنى والمراد: الخبر، ألا ترى أنه بمنزلة: ما أكرم زيدا، فالجار والمجرور في موضع رفع بالفعل. وفي التنزيل: {قُلْ مَنْ كََانَ فِي الضَّلََالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمََنُ مَدًّا} [مريم / 75] فالتقدير: مدّه الرحمن. وإذا لم يكن قوله: {كُنْ} أمرا في المعنى، وإن كان على لفظه لم يجز أن تنصب الفعل بعد الفاء بأنه جوابه، كما لم يجز النصب في الفعل الذي تدخله الفاء بعد الإيجاب نحو: آتيك فأحدّثك، إلّا أن يكون في شعر نحو قوله (1):
ويأوي إليه المستجير فيعصما ومما يدل على امتناع النصب في قوله: {فَيَكُونُ} أن الجواب بالفاء مضارع للجزاء. يدلّ على ذلك أنه يؤول في المعنى إليه. ألا ترى أن: اذهب فأعطيك معناه: إن تذهب أعطيتك [والأجود إن ذهبت أعطيتك] (2) فلا يجوز: اذهب فتذهب. لأن المعنى يصير: إن ذهبت ذهبت، وهذا كلام لا يفيد، كما يفيد إذا اختلف الفاعلان والفعلان، نحو: قم فأعطيك، لأن المعنى: إن قمت
__________
فجعلوا ما جاء في الآية مجازا لا حقيقة، فاعرف ذلك إنّه خلاف مذهبه». اهـ كذا وردت العبارة، وفيها إشكال في قوله: خلاف مذهبه.
(1) عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره:
لنا هضبة لا ينزل الذلّ وسطها وورد البيت في (ط) كاملا. انظر الديوان / 194.
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من (م).(2/205)
أعطيتك، ولو جعلت الفاعل في الفعل الثاني فاعل الفعل الأول، فقلت: قم فتقوم، أو: أعطني فتعطيني، على قياس قراءة ابن عامر لكان المعنى: إن قمت تقم، وإن تعطني تعطني، وهذا كلام في قلة الفائدة على ما تراه، وإذا كان الأمر على هذا لم يكن ما روي عنه من نصبه {فَيَكُونُ} متجها.
وقد يمكن أن تقول في قول ابن عامر: إنّ اللفظ لما كان على لفظ الأمر وإن لم يكن المعنى عليه حملته على صورة اللفظ، فقد حمل أبو الحسن نحو قوله: {قُلْ لِعِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلََاةَ} [إبراهيم / 31] ونحو ذلك من الآي، على أنه أجري مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جوابا له في الحقيقة. فكذلك على قول ابن عامر: يكون قوله: {فَيَكُونُ}
بمنزلة جواب الأمر نحو: ايتني فأحدّثك، لما كان على لفظه، وقد يكون اللفظ على شيء والمعنى على غيره، ألا ترى أنهم قد قالوا: ما أنت وزيدا؟ والمعنى: لم تؤذيه؟ وليس ذلك في اللفظ.
ومثل قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} في أن المعطوف ليس محمولا على لفظ الأمر وإن كان قد وليه، قوله: {فَلََا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ}
[البقرة / 102] ليس قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} بجواب لقوله: {فَلََا تَكْفُرْ} ولكنه محمول على قوله: يعلمون فيتعلمون، أو يعلّمان فيتعلمون منهما، إلا أن قوله: {فَلََا تَكْفُرْ} في هذه الآية نهي عن الكفر، وليس قوله: {كُنْ} من قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} أمرا.
ومن ثمّ أجمع الناس على رفع يكون (1)، ورفضوا فيه النصب،
__________
(1) في (ط): فيكون.(2/206)
إلا ما روي عن ابن عامر وهو من الضعف بحيث رأيت، فالوجه في يكون الرفع. فإن قلت: فهلا قلت: إن العطف في قوله:
{فَيَكُونُ} على {يَقُولُ} دون ما قلت من أنه معطوف على كن، ألا ترى أنه عطف على الفعل الذي قبل كن في قوله: {إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل / 40] حمل النصب في {فَيَكُونُ} على الفعل المنتصب ب (أن). فكما جاز عطفه على الفعل المنتصب بأن الذي قبل قوله: {كُنْ}
فكذلك (1) يجوز أن يحمل المرتفع عليه، كأنه قال: فإنما يقول فيكون.
قيل: ما ذكرناه أسوغ مما قلت، وأشدّ اطّرادا، ألا ترى أن قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران / 60] لا يستقيم هذا المذهب فيه، لأن {قََالَ} ماض، و {فَيَكُونُ} مضارع فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما. فإن قلت: فلم لا يجوز عطف المضارع على الماضي، كما جاز عطف الماضي على المضارع في قوله:
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني
فمضيت (2)
__________
(1) في (ط): كذلك.
(2) تتمة البيت:
فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني روى هذا البيت الأصمعي في الأصمعيات ثالث خمسة أبيات، ونسبها لشمر بن عمرو الحنفي (الأصمعيات / 126الأصمعية رقم 38.
وهو برواية (مررت) بدل أمر، ولا شاهد فيها. وهو من شواهد سيبويه 1/ 416والخزانة 1/ 173، وشرح أبيات المغني 2/ 287ونسب(2/207)
ألا ترى أنه مضارع ومضيت ماض، فكما جاز عطف الماضي على المضارع كذلك يجوز عطف {فَيَكُونُ} على {خَلَقَهُ}. قيل: لا يكون هذا بمنزلة البيت، لأن المضارع فيه في معنى المضي، والمراد به: ولقد مررت فمضيت، فجاز عطف الماضي على المضارع، من حيث أريد بالمضارع المضيّ وليس المراد بقوله: {فَيَكُونُ} في الآية المضيّ، فيعطف فيها (1) على الماضي. فإذا كان كذلك تبينت بامتناع العطف في قوله: {ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. على أن العطف في قوله:
{فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إنما هو على {كُنْ}، الذي يراد به يكوّن، فيكون خبر مبتدأ محذوف كأنه: فهو يكون.
فإن قلت فهلا قلت: إن العطف على كن إذا كان المراد به يكوّنه غير سهل، لأنّ قوله فيكون حينئذ قليل الفائدة، ألا ترى أن يكوّنه يدل على أنه يكون. قيل له: ليس بقليل الفائدة، لأن المعنى: فيكون بتكوينه، أي بإحداثه، لا يكون حدوثه ووجوده على خلاف هذا الوجه، فإذا كان كذلك كان مفيدا، كما أن قولهم: لأضربنّه كائن ما كان، بالرفع في كائن كلام قد استعملوه وحسن عندهم، وإن كان قد علم أنّ ما يكون فهو كائن، ولكن لما دخله من المعنى أي لا أبالي بذلك، حسن، فاستعمل، ولم يكن عندهم بمنزلة ما لا يفيد
__________
عندهما لرجل من بني سلول. والظاهر أن البغدادي لم يقف على الأبيات في الأصمعيات، لأنه نقل عن الأصمعي بيتين آخرين في معنى البيت الشاهد، ولم يتعرض لذكر الأصمعيات.
(1) في (ط): فيه.(2/208)
فيطرح فكذلك لمّا كان المعنى في الآية يكون بإحداثه جاز وحسن، ولم يكن بمنزلة ما لا يفيد.
* * * (1)
البقرة: 119
اختلفوا في ضم التاء ورفع اللام، وفتحها وجزم اللام من قوله جل وعز (2): {وَلََا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحََابِ الْجَحِيمِ}
[البقرة / 119] فقرأ نافع وحده: {وَلََا تُسْئَلُ} مفتوحة التاء مجزومة اللام.
وقرأ الباقون {وَلََا تُسْئَلُ} مضمومة التاء، مرفوعة اللام (3).
قال أبو علي: القول في سألت إنه فعل يتعدى إلى مفعولين مثل أعطيت قال (4):
سالتاني الطّلاق أن رأتاني ... قلّ مالي قد جئتماني بنكر
وقال (5):
سألناها الشفاء فما شفتنا ... ومنّتنا المواعد والخلابا
__________
(1) في (ط): بداية الجزء الثاني: بسم الله الرحمن الرحيم عونك يا رب.
أما في (م) فالكلام متصل.
(2) سقطت جل وعز من (ط).
(3) السبعة 169.
(4) قائل هذا البيت زيد بن عمرو بن نفيل.
انظر كتاب سيبويه 2/ 170مجالس ثعلب / 389خزانة الأدب 3/ 96.
وشرح أبيات المغني 6/ 146.
(5) البيت لجرير يهجو الراعي النميري.
والخلاب: المخادعة والكذب. (انظر ديوان جرير / 65).(2/209)
وأنشد أحمد بن يحيى (1):
سألت عمرا بعد بكر خفّا والدلو قد تسمع كي تخفّا ويجوز أن يقتصر فيه على مفعول واحد، فإذا اقتصرته (2)
في التعدي على مفعول واحد كان على ضربين:
أحدهما: أن يتعدى بغير حرف، والآخر: أن يتعدى بحرفٍ.
فأما تعديه بغير حرف فقوله: {وَسْئَلُوا مََا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مََا أَنْفَقُوا} [الممتحنة / 10]. وقال: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}
[النحل / 43].
وأما تعديه بحرف فالحرف الذي يتعدي به حرفان:
أحدهما الباء كقوله: {سَأَلَ سََائِلٌ بِعَذََابٍ} [المعارج / 1].
وقال (3):
وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد أودت بثعلبة العلوق
__________
(1) الرجز في اللسان مادة خفف ولم ينسبه لقائل.
(2) في (ط): اقتصر به.
(3) البيت للمفضل النكري، وهو البيت الرابع والثلاثون من قصيدته المنصفة يذكر أن ثعلبة بن سيار كان في أسره وهو الذي ذكره في البيت «ثعلبة بن سير» ضرورة لإقامة الوزن والعلوق: المنية الأصمعيات ص 203 والمنصفات ص 25. الخصائص لابن جني 2/ 437وفيه وفي اللسان (سير، علق): علقت مكان أودت. وهذه الرواية كتبت فوق كلمة أودت في (م).(2/210)
والآخر: {عَنْ} كقولك: سل عن زيد.
فإذا تعدى إلى مفعولين كان على ثلاثة أضرب: أحدها:
أن يكون بمنزلة أعطيت، وذلك كقوله:
سألت زيداً بعد بكر خفّا (1)
فمعنى هذا: استعطيته، أي: سألته أن يفعل ذلك.
والآخر: أن يكون بمنزلة: اخترت الرجال زيداً، وذلك قوله:
{وَلََا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} (2) [المعارج / 10] فالمعنى هنا: ولا يسأل حميم عن حميمه، لذهوله عنه واشتغاله بنفسه، كما قال:
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس / 37]. فهذا على هذه القراءة كقوله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كََانَتْ حََاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف / 162].
والثالث: أن يتعدّى إلى مفعولين، فيقع موقع المفعول الثاني منهما استفهام، وذلك كقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرََائِيلَ كَمْ آتَيْنََاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة / 211] وقوله: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنََا أَجَعَلْنََا مِنْ دُونِ الرَّحْمََنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}
[الزخرف / 45].
فأما قول الأخطل (3):
__________
(1) سبق قريباً برواية «عمراً» بدل زيداً.
(2) «يسأل» بالبناء للمفعول وسيأتي الكلام عنها في موضعه في الجزء الرابع.
(3) عجز بيت وصدره:
دع المغمّر لا تسأل بمصرعه أراد بالمغمّر: القعقاع بن شور الذّهلي والمغمّر: المجهّل، أخذ من الغمر وانظر ديوانه، 1/ 157.(2/211)
واسأل بمصقلة البكريّ ما فعلا فما: استفهام، وموضعه نصب بفعل، ولا يكون جراً على البدل من مصقلة على تقدير: سل بفعل مصقلة، ولكن تجعله مثل الآيتين اللتين تلوناهما، وإن شئت جعلته بدلًا، فكان بمنزلة قوله: {فَسْئَلُوا} [1] أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل / 43] ولو جعلت المفعول مراداً محذوفاً من قوله: واسأل بمصقلة، فأردت:
واسأل الناس بمصقلة ما فعل؟ لم يسهل أن يكون ما استفهاماً، لأنه لا يتصل بالفعل، ألا ترى أنه قد استوفى مفعوليه فلا تقع الجملة التي هي استفهام موقع أحدهما كما تقع موقعه في قوله: {سَلْ بَنِي إِسْرََائِيلَ كَمْ آتَيْنََاهُمْ} [البقرة / 211]. فإن جعلت {مََا} موصولة، وقدرت فيها البدل من مصقلة لم يمتنع.
وإن قلت: أجعل قوله: ما فعل، استفهاماً وأضمر يقول (2)، لأني إذا قلت: اسأل الناس بمصقلة، فإنه يدل على قل، لأن السؤال قول، فأحمله على هذا (3) الفعل، لا على أنه في موضع المفعول، لاستغناء الفعل بمفعولين فهو قول.
يدل على ذلك قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السََّاعَةِ أَيََّانَ مُرْسََاهََا}
[النازعات / 42] ألا ترى أنه قد استوفى مفعوليه أحدهما:
الكاف، والآخر: قد تعدى إليه الفعل بعن فلا يتعلق به {أَيََّانَ}
إلا على الحدّ الذي ذكرنا.
ومن ذلك قول سيبويه: «اذهب فاسأل: زيد أبو من
__________
(1) في (ط) فاسألوا.
(2) في (ط): القول.
(3) سقطت من (ط).(2/212)
هو؟» (1) فزيد داخل في حيز الاستفهام، وليس المعنى: سل زيداً، ولكن التقدير: سل الناس: أأبو بشر زيد أم أبو عمرو؟
ولو قلت: سل زيداً على هذا الحد، لم يجز لأن زيداً ليس بمسئول، إنما هو مسئول عنه، وإنما يأمر المخاطب أن يسأل غيره عنه، فلهذا قال: لو (2) قلت: سل زيداً على هذا الحد لم يجز، وذلك لما ذكرناه من انقلاب المعنى. وهذا مما يقوي قول يونس: قد علمت زيداً أبو من هو. ألا ترى أن هذا من المواضع التي ليس يجوز فيها أن يعمل الفعل في الاسم الداخل في حيز الاستفهام، فإذا أتت مواضع ليس يجوز فيها ذلك، جاز أن لا يعمل الفعل في المفعول الذي يجوز أن يعمل فيه نحو: علمت زيداً أبو من هو.
فالمفعول في هذا الموضع محذوف، لأن المعنى: اسأل إنساناً زيد أبو من هو؟ وكذلك قوله: {سَأَلَ سََائِلٌ بِعَذََابٍ}
[المعارج / 1] كأن المعنى: سأل سائل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (3) أو المسلمين بعذاب واقع، فلم يذكر المفعول الأول. وسؤالهم عن العذاب، إنما هو استعجالهم له لاستبعادهم لوقوعه، ولردهم ما يوعدون به منه، وعلى هذا قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذََابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللََّهُ وَعْدَهُ} [الحج / 47] {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذََابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكََافِرِينَ} [العنكبوت / 54] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلََاتُ} [الرعد / 6]
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 121باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره.
(2) في (ط): ولو.
(3) سقطت من (ط).(2/213)
ويدلك على ذلك قوله: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَرََاهُ قَرِيباً} [المعارج / 5] وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُهُ بَيََاتاً أَوْ نَهََاراً مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}
[يونس / 50]. وقال: {أَتى ََ أَمْرُ اللََّهِ فَلََا تَسْتَعْجِلُوهُ}
[النحل / 1].
فأما قوله: {وَسْئَلُوا اللََّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء / 32] فيجوز أن يكون {مِنْ} فيه في موضع المفعول الثاني على قياس قول أبي الحسن، ويكون المفعول محذوفاً في قياس قول سيبويه، والصفة قائمة مقامه.
وأما قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهََا} [الأعراف / 187] فإنه يحتمل أمرين، أحدهما: أن تجعل {عَنْهََا} متعلقاً بالسؤال، كأنه: يسألونك عنها، كأنك حفي بها، فحذف الجارّ والمجرور. وحسن ذلك لطول الكلام بعنها التي من صلة السؤال. ويجوز أن يكون عنها بمنزلة بها وتصل الحفاوة مرّة بالباء ومرة بعن. كما أن السؤال يعمل مرة بالباء ومرة بعن فيما ذكرنا. ويدلك على أنه يصل بالباء قوله: {إِنَّهُ كََانَ بِي حَفِيًّا}
[مريم / 47]. وقال: {ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمََنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان / 59] فقوله: {فَسْئَلْ بِهِ} مثل: اسأل عنه خبيراً.
فأما {خَبِيراً} فلا يخلو انتصابه من أن يكون على أنه حال، أو مفعول به، فإن كان حالًا لم يخل أن يكون حالًا من
الفاعل أو من المفعول، فلو جعلته حالا من الفاعل السائل لم يسهل لأن الخبير لا يكاد يسأل إنما يسأل، ولا يسهل الحال من المفعول أيضاً لأن المسئول عنه خبير أبداً فليس للحال كبير فائدة. فإن قلت: يكون حالًا مؤكدة فغير هذا الوجه إذا احتمل أولى، فيكون خبيراً إذا مفعولًا به كأنه: قال (1) فاسأل عنه خبيراً أي مسئولًا خبيراً. وكأن معنى سل: تبيّن بسؤالك وبحثك من تستخبره ليتقرر عندك ما اقتصّ عليك من خلقه ما خلق وقدرته على ذلك، وتعلمه بالفحص عنه والتبيّن له. ومما يقوي أن السؤال إنما أريد به ما وصفنا قول أمية (2):(2/214)
فأما {خَبِيراً} فلا يخلو انتصابه من أن يكون على أنه حال، أو مفعول به، فإن كان حالًا لم يخل أن يكون حالًا من
الفاعل أو من المفعول، فلو جعلته حالا من الفاعل السائل لم يسهل لأن الخبير لا يكاد يسأل إنما يسأل، ولا يسهل الحال من المفعول أيضاً لأن المسئول عنه خبير أبداً فليس للحال كبير فائدة. فإن قلت: يكون حالًا مؤكدة فغير هذا الوجه إذا احتمل أولى، فيكون خبيراً إذا مفعولًا به كأنه: قال (1) فاسأل عنه خبيراً أي مسئولًا خبيراً. وكأن معنى سل: تبيّن بسؤالك وبحثك من تستخبره ليتقرر عندك ما اقتصّ عليك من خلقه ما خلق وقدرته على ذلك، وتعلمه بالفحص عنه والتبيّن له. ومما يقوي أن السؤال إنما أريد به ما وصفنا قول أمية (2):
واسأل ولا بأس إن كنت امرأ عمها ... إنّ السؤال شفا من كان حيرانا
فيشبه أن يكون أراد باسأل: اسأل حتى تتبيّن بسؤالك، ألا ترى أنه قال:
إن السؤال شفا من كان حيرانا والسؤال إذا خلا من العلم لم يكن شفاء لمن كان حيران، إنما يكون شفاء إذا اقترن به العلم والتبيّن، فكذلك (3)
المراد في قوله: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان / 59]: اسأل سؤالًا تبحث به لتتبين.
__________
(1) سقطت من (م).
(2) ليس في ديوانه المجموع، وهو فيما يبدو من قصيدته التي ورد بعضها في الخزانة 1/ 228وعنها في ديوانه 516وأولها:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا
(3) في (ط): وكذلك.(2/215)
فالحجة (1) لمن قرأ: {وَلََا تُسْئَلُ} بالرفع أن الرفع يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون حالًا فيكون مثل ما عطف عليه من قوله: {بَشِيراً وَنَذِيراً} [البقرة / 119] وغير مسئول (2). ويكون ذكر {تُسْئَلُ} وهو فعل بعد المفرد الذي هو قوله: {بَشِيراً} كذكر الفعل في قوله: {وَيُكَلِّمُ النََّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران / 46] بعد ما تقدم من المفرد. وكذلك قوله: {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران / 45] وهو قد يجري مجرى الجمل (3).
والآخر: أن يكون منقطعاً من الأول مستأنفاً به، ويقوي هذا الوجه ما روي من أن عبد الله أو أبيّا قرأ أحدهما: وما تسأل، والآخر: ولن تسأل (4)، فكل واحدة من هاتين القراءتين يؤكد حمله على الاستئناف. ويؤكّد وجهي الرفع قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدََاهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ}
[البقرة / 171] وقوله: {مََا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلََاغُ}
[المائدة / 99].
ومما يجعل للفظ الخبر مزية على النهي أن الكلام الذي قبله وبعده خبر فإذا كان أشكل بما قبله وما بعده كان أولى.
ووجه قراءة نافع بالجزم للنهي: ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
__________
(1) في (ط): والحجة.
(2) انظر تفسير الطبري 1/ 517.
(3) في (ط): الجملة.
(4) قال ابن كثير في تفسيره 1/ 233 (ط الشعب): وفي قراءة أبي بن كعب:
وما تسأل وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل نقلها ابن جرير. انظر تفسيره 1/ 516.(2/216)
سأل: أيّ أبويه كان أحدث موتاً، وأراد أن يستغفر له، فأنزل الله: {وَلََا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحََابِ الْجَحِيمِ} (1) [البقرة / 119] وهذا إذا ثبت معنى صحيح. ويذكر أن في إسناد الحديث شيئاً.
فأما قوله من قال: إنه لو كان نهياً لكانت الفاء في قوله:
فلا تسأل أسهل من الواو. فالقول فيه: إن هذا النحو إنما يكون بالفاء، إذا كانت الرسالة بالبشارة والنّذارة علّة لأن لا يسأل عن أصحاب الجحيم، كما يقول الرجل: قد حملتك على فرس فلا تسألني غيره. فيكون حمله على الفرس علة لأن لا يسأل غيره. وليس البشارة والنذارة علة لأن لا يسأل.
وقد جوز أبو الحسن في قراءة من جزم أن يكون على تعظيم الأمر كما تقول: لا تسلني (2) عن كذا، إذا أردت تعظيم الأمر فيه. فالمعنى أنهم في أمر عظيم، وإن كان اللفظ لفظ الأمر.
البقرة: 108
قال أحمد بن موسى: كما {سُئِلَ} [البقرة / 108] مضمومة السين، مكسورة الهمزة في قراءتهم جميعاً.
قال: وروى هشام بن عمّار بإسناده عن ابن عامر:
{سُئِلَ} مهموزة بغير (3) إشباع (4).
__________
(1)
ذكر الواحدي في أسباب النزول ص 26عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ذات يوم: ليت شعري ما فعل أبواي فنزلت هذه الآية.
وانظر الطبري 1/ 516وابن كثير 1/ 234. ولم نقف على تخريج لحديث المصنف هذا. وقد جاء الكلام على الآية رقم 108متأخراً عن الآية رقم 119في الأصل نفسه.
(2) في (ط): لا تسأل.
(3) في (ط): من غير.
(4) السبعة 169.(2/217)
قال أبو علي: القول في سئل: أنّ في سألت لغتين:
سألت أسأل، العين همزة، وهي الفاشية الكثيرة وسلت أسال لغة، وعليها جاء قول الشاعر (1):
سألت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلّت هذيل بما قالت ولم تصب
فحمل سيبويه سالت على قلب الهمزة ألفا للضرورة.
كما قال الآخر (2):
راحت بمسلمة البغال عشيّة ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
قال سيبويه: لأن الذي قال: سالت هذيل، ليست لغته سلت أسال. وحكى أبو عثمان عن أبي زيد: هما يتساولان، في هذه اللغة، فدل أن العين منها واو، وليست المهموزة. ومن قرأ: {قََالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} [3] يََا مُوسى ََ [طه / 36] لا ينبغي أن يحمله على هذه اللغة لقلّتها، ولكن على تخفيف الهمز، والتحقيق سؤلك.
والقول في قراءتهم: كما سئل مثل سعل، أنه على تحقيق الهمزة، وقياس من خفف الهمزة أن يجعل هذه بين
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت الأنصاري يهجو هذيلًا. انظر السيرة لابن هشام 2/ 180.
وانظر ديوانه 1/ 443، وسيبويه 2/ 130المقتضب للمبرد 1/ 167.
ومن هذه اللغة قول زيد بن عمرو بن نفيل السابق (انظر ص 208).
(2) وهو الفرزدق وقد سبق انظر الجزء الأول ص 398.
(3) في (م): (سؤلك) بالهمز وهو سهو من الناسخ.(2/218)
بين، فيقول، سئيل، ومعنى بين بين، أن يجعلها بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.
فإن قلت: فهلّا كان تخفيف الهمزة في سئل أن يقلبها واواً إذا انضم ما قبلها وانكسرت، كما أنها إذا كانت على عكس هذا قلبتها واواً في قولك: جون والتودة، وفي المنفصل: هذا غلام وبيك.
فالقول: إن الهمزة في سئل لم يلزم قلبها واواً، كما لزم في جون ونحوه، لأن جون إنما لزم قلبها واواً، لأنك في التخفيف لا تخلو من أن تقلبها واواً، أو تجعلها بين بين، فلم يصحّ أن تجعلها في جون بين بين، لأنك لو جعلتها كذلك نحوت بها نحو الألف، فلا (1) يكون ما قبل الألف ضمة، كما لم يكن قبلها كسرة فلما (2) لم تكن قبلها ضمة، كذلك لم يكن قبل ما قرّبته منها. فلما لم يكن ذلك، أخلصتها واواً إذا انضم ما قبلها، كما أخلصتها ياء إذا انكسر ما قبلها في نحو: مير وذيبة وذيب، وفي المنفصل: من غلام يبيك، ولم يلزم ذلك في سئل، ولم يمتنع أن يجعلها بين بين، لأنّ في الكلام ياء مكسورة قبلها ضمّة نحو: صيد في هذا المكان، وعيي بالأمر، وحيي في هذا المكان. كما لم يلزم أن تبدل منها (3) الياء في عكس ذئب، ومئر، وهو نحو: سئم، وجئز، ومن المنفصل نحو (4): {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ} [البقرة / 126] لأن في الكلام
__________
(1) في (ط): ولا.
(2) في (ط): فكما.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).(2/219)
مثل: صيد، وعيي. فلذلك (1) جعلت التي في سئل بين بين ولم تقلبها.
البقرة: 125
اختلفوا في فتح الخاء وكسرها من قوله عز وجل:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة / 125].
فقرأ نافع وابن عامر: {وَاتَّخِذُوا} مفتوحة الخاء على الخبر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
{وَاتَّخِذُوا} مكسورة الخاء (2).
قال أبو علي (3): وجه قراءة من قرأ: {وَاتَّخِذُوا} أنه معطوف على ما أضيف إليه، إذ كأنه: «وإذ اتّخذوا»، ومما يؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله: {وَعَهِدْنََا إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ} [البقرة / 125].
ومن قرأ: {وَاتَّخِذُوا} بالكسر، فلأنهم ذهبوا إلى أثر جاء فيه،
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (3) أخذ بيد عمر، [رحمه الله] (3)، فلما أتى على المقام قال عمر: أهذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم.
قال عمر: أفلا نتّخذه مصلّى؟ فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} (6).
فهذا تقديره: افعلوا. والأمر إذا ثبت هذا الخبر آكد، لأنه يتحقق به اللزوم، وإذا أخبر ولم يقع الأمر به (7) فقد يجوز أن لا يلزم المخاطبين بذلك الفرض، لأنه
__________
(1) في (ط): فكذلك.
(2) في (ط) بكسر الخاء. السبعة 169.
(3) سقطت من (ط).
(6) انظر تفسير ابن كثير 1/ 244. فقد روى الحديث من طرق عن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن مردويه والنسائي.
(7) سقطت «به» من (م).(2/220)
قد يجوز أن يكون ناس اتخذوه فلا يلزم غيرهم.
البقرة: 126
اختلفوا في تسكين الميم وكسر التاء وتحريك الميم وتشديد التاء في قوله تعالى (1): {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} [البقرة / 126].
فقرأ ابن عامر وحده: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} خفيفة من أمتعت.
وقرأ الباقون {فَأُمَتِّعُهُ} مشددة التاء من متّعت (2).
قال أبو علي: التشديد أولى لأن التنزيل عليه، قال تعالى (3): {فَقََالَ تَمَتَّعُوا فِي دََارِكُمْ} [هود / 65] فتمتّع مطاوع متّع، وعامّة ما في التنزيل على التثقيل.
قال جلّ اسمه: {يُمَتِّعْكُمْ مَتََاعاً حَسَناً} [هود / 3].
{كَمَنْ مَتَّعْنََاهُ مَتََاعَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} [القصص / 61]. {وَمَتَّعْنََاهُمْ إِلى ََ حِينٍ} [يونس / 98].
فكما أن هذه الألفاظ على متّع دون أمتع، فكذلك الأولى بالمختلف فيه أن يكون على متّع دون أمتع.
ووجه قراءة ابن عامر: أنّ أمتع لغة، وأن فعّل قد يجري في هذا النحو مجرى أفعل، نحو: فرّحته وأفرحته، ونزّلته وأنزلته. وزعموا أنّ في حرف عبد الله: {وَنُزِّلَ الْمَلََائِكَةُ تَنْزِيلًا}
[الفرقان / 25] وأنشدوا للراعي (4):
خليلين من شعبين شتّى تجاورا ... قديماً وكانا بالتفرّق أمتعا (5)
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) السبعة 170.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) ديوانه 166واللسان والصحاح والتاج مادة (متع).(2/221)
قال الأصمعي: ليس من أحد يفارق صاحبه إلا أمتعه بشيء يذكره به. قال (1): فكان ما أمتع كل واحد من هذين صاحبه أن فارقه.
وقال أبو زيد: أمتعا أراد تمتّعاً. ويقال: متع النهار إذا ارتفع.
فأمّا {قَلِيلًا} من قوله سبحانه (2): {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا}
[البقرة / 126] فيحتمل ضربين: يجوز أن يكون {قَلِيلًا} صفة للمصدر، ويجوز أن يكون صفة للزمان.
فالدّلالة على جواز كونه صفة للمصدر قوله تعالى (3):
{يُمَتِّعْكُمْ مَتََاعاً حَسَناً} [هود / 3] فوصف المصدر به. قال سيبويه: ترى الرجل يعالج شيئاً فتقول: رويداً، أي: علاجاً رويداً (4). فإن قلت: فكيف يحسن أن يكون صفة للمصدر، وفعّل يدل على التكثير، فكيف يستقيم وصف الكثير بالقليل في قوله: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا}، وهلّا كان قول ابن عامر أرجح، لأن هذا السؤال لا يعترض عليه (5) فيه. فالقول: إن ما ذكرت لا يدل على ترجيح قراءته، وإنما وصفه الله تعالى (6) بالقليل من حيث كان إلى نفاد ونقص وتناه، ألا ترى قوله جل وعز (7): {قُلْ مَتََاعُ الدُّنْيََا قَلِيلٌ} [النساء / 76] فعلى هذا النحو وصف المتاع في قوله: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا}.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) انظر الكتاب 1/ 124.
(5) سقطت من (م).
(6) في (ط): عز وجل.
(7) سقطت من (ط).(2/222)
وأمّا جواز كون قليل صفة للزمان فيدل عليه قوله تعالى (1): {قََالَ عَمََّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نََادِمِينَ}
[المؤمنون / 40] فتقدير هذا: ليصبحنّ نادمين بعد زمان قليل، كما قال (2): عرق عن الحمّى، وأطعمه عن الجوع، أي: بعد جوع، وبعد الحمّى.
البقرة: 128
اختلفوا في كسر الراء وإسكانها واشمامها الكسر في قوله تعالى: {وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا} [البقرة / 128].
فقرأ ابن كثير: {وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا}، و {رَبِّ أَرِنِي}
[الأعراف / 142]، و {أَرِنَا الَّذَيْنِ} [حم السجدة / 29] ساكنة الراء.
وقال خلف عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: {وَأَرِنََا} بين الكسر والإسكان.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: {أَرِنََا} بكسر الراء في كل ذلك.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر بكسر الراء:
{أَرِنََا مَنََاسِكَنََا}، و {رَبِّ أَرِنِي}، و {أَرِنَا اللََّهَ جَهْرَةً}
[النساء / 152] [بكسر الراء] (3)، وأسكنا الراء في قوله:
أرنا اللذين في (4) هذه وحدها. وروى حفص عنه: {أَرِنََا}
مكسورة الراء.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): يقال.
(3) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).
(4) سقطت من (م).(2/223)
واختلف عن أبي عمرو في ذلك، فقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو، فقرأ [وأرنا] مدغمة، كذا قال.
وسألته عن: {وَأَرِنََا} مثقّلة، فقال: لا. فقلت {أَرِنِي} فقال: لا.
كل شيء في القرآن بينهما ليست {أَرِنََا} ولا {أَرِنََا}.
وقال عبد الوارث اليزيديّ وهارون الأعور، وعبيد بن عقيل وعلي بن نصر: {أَرِنِي} و {أَرِنََا} بين الكسر والإسكان.
وقال أبو زيد والخفّاف عن أبي عمرو {وَأَرِنََا} بإسكان الراء (1).
قال أبو علي (2): قوله عز وجل (2): {أَرِنََا مَنََاسِكَنََا} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون منقولًا من رأيت الذي يراد به إدراك البصر، نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين، والتقدير حذف المضاف، كأنه: أرنا مواضع مناسكنا.
والمناسك: جمع منسك، وهو مصدر جمع لاختلاف ضروبه، والمعنى: عرّفنا هذه المواضع التي يتعلق النسك بها (4)
لنفعله، ونقضي نسكنا فيها على حدّ ما يقتضيه توقيفنا عليها (5)، وذلك نحو: المواقيت التي يحرم منها، ونحو الموضع الذي يوقف به (6) من عرفات، وموضع الطواف، وموضع رمي الجمار، فهذا من: رأيت الموضع، وأريته زيداً.
والآخر: أن يكون {أَرِنََا} منقولًا من رأيت التي لا يراد بها رؤية العين، ولكن التوقيف على الأمر، وضرب من العلم.
__________
(1) السبعة 170وما بين معقوفين {وَأَرِنََا} زيادة منه.
(2) سقطت من (ط).
(4) في (ط): المنسك.
(5) في (ط): عليه.
(6) في (ط): فيه.(2/224)
وأنت تقول فلان يرى رأي الخوارج، فتقصر على مفعول واحد، وليس هناك شيء يبصر. وإلى هذا ذهب أبو عبيدة في تأويل الآية فقال: {وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا} أي: علّمنا. وأنشد لحطائط بن يعفر (1):
أريني جواداً مات هزلا لأنني (2) * أرى ما ترين أو بخيلًا مخلّداً قال: أراد: دلّيني، ولم يرد رؤية العين. وأما (3) قوله تعالى (4): {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف / 142] فهو من رأيت الذي يتعدى إلى مفعول واحد، يراد به إدراك البصر، والمفعول الثاني حذف من اللفظ، لأن ما يتعلق بالفعل الثاني يدل عليه، ومعنى الكلام يقتضيه.
وقوله تعالى (5): {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلََّانََا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}
[السجدة / 29] فهو من رأيت المتعدية إلى مفعول واحد، فلما نقل بالهمزة تعدى إلى اثنين.
وجاء في الحديث: {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلََّانََا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} قال: هما (6) ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس (7).
__________
(1) البيت متنازع في نسبته لحطائط ولحاتم الطائي. وقد بسط هذا الخلاف الأستاذ أحمد شاكر في تحقيقه للشعر والشعراء عند الكلام على هذا البيت 1/ 248. وممن نسب البيت إلى حطائط البغدادي في الخزانة 1/ 195وشرح أبيات المغني 1/ 219.
(2) في (ط) تحت كلمة لأنني: معناه لعلني. وهي الرواية التي جاء البيت عليها في المصادر التي ورد فيها.
(3) في (ط): فأما.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(7) انظر الدر المنثور 5/ 363.(2/225)
وقد ذكرنا وجه الإسكان فيما تقدم. فأما من اعتلّ بأن الوجه الإشباع أو الإخفاء دون الإسكان لأن الحرف قد حذف منه فليس اعتلاله بذاك، لأن الحذف إذا وجب بقياس، وعلى باب مطّرد، كان هو والإثبات سواء في المساغ. ألا ترى أنهم قالوا:
ر رأيك، وش ثوبك، وف بوعدك. فبقي في ذلك كلّه الكلمة على حرف واحد. فكذلك إذا أوجب ضرب من القياس فيه الإسكان فهو بمنزلة ما يوجب حذف الهمزة من التخفيف، وأوجب حذف اللام للأمر، ويقوي ذلك اتفاقهم، أو اتفاق أكثرهم، في قوله (1): {لََكِنَّا هُوَ اللََّهُ رَبِّي} [الكهف / 38] فلزم فيه حذف بعد حذف.
البقرة: 124
اختلفوا في قوله عز وجل (2): {إِبْرََاهِيمَ} [124] في الألف والياء.
فقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة بغير ياء وطلب (3)
الألف إبراهام.
وقراءة (4) القرّاء في كل مصر غير ابن عامر إبراهيم بالياء (5).
وقراءة ابن عامر: إبراهام بألف بعد الهاء وقال الأخفش الدمشقي عن ابن ذكوان عن ابن عامر: إبراهام بألف بعد الهاء (6).
قال أبو عليّ: مما يثبت قراءة ابن عامر قول أمية:
مع إبراهم التّقيّ وموسى ... وابن يعقوب عصمة في الهزال (7)
__________
(1) كذا في (ط) وفي (م): قولهم.
(2) سقطت من (ط).
(3) كذا في (ط) وفي (م) طلب الألف بدون واو.
(4) في (ط): وقرأ.
(5) سقطت من (م).
(6) السبعة 169.
(7) لم يرد في ديوانه. وهو فيما يبدو من قصيدته المذكورة برقم 62ص 439.(2/226)
فهذا كأنه إبراهام، إلّا أنه حذف الألف، كما يقصر الممدود في الشعر. وأنشدوا (1):
عذت بما عاذ به إبراهم وقيل (2): إنهم كتبوا ما في البقرة بغير ياء، فهذا يدل على (3) أنه إبراهام، وحذفت الألف من الخطّ، كما حذفت من دراهم، ونحو ذلك، فيشبه أنّه قرأ إبراهام وما ثبت فيه مما يدلك (4) على ذلك. وقد روي أنّه سمع ابن الزبير يقرأ:
صحف إبراهام [الأعلى / 19] بألف.
البقرة: 132
واختلفوا (5) في زيادة الألف ونقصانها من قوله تعالى (6):
{وَوَصََّى بِهََا} [البقرة / 132].
فقرأ نافع وابن عامر وأوصى بها على أفعل.
وقرأ الباقون: {وَوَصََّى} بغير ألف على فعّل (7).
قال أبو عليّ: حجة من قرأ: وصّى بغير ألف قوله عز وجل: {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس / 50] فتوصية مصدر وصّى، مثل: قطّع تقطعة، ولا يكون فيه تفعيل نحو: التقطيع، لأنك لو جئت (8) به على تفعيل للزم في حيّيت، ونحوه، إذا
__________
(1) قاله زيد بن عمرو بن نفيل وتتمته:
مستقبل القبلة وهو قائم ... أنفي لك اللهم عان راغم
مهما تجشمني فإني جاشم انظر السيرة النبوية 1/ 230. ونسبه في اللسان (برهم) لعبد المطلب.
(2) في (ط): وقد قيل.
(3) سقطت على من (م).
(4) في (ط): يدل.
(5) في (ط): اختلفوا بدون واو.
(6) في (ط): عز وجل.
(7) السبعة 171.
(8) في (ط): أتيت.(2/227)
أتيت به على فعّل، أن يكون المصدر على تفعيل أيضاً، فتجتمع (1) ثلاث ياءات، وإذا كانوا قد رفضوا في نحو: عطاء، التحقير على الإتمام، لأنه كان يجتمع ثلاث ياءات، الوسطى منهنّ متحركة بالكسر، فكذلك رفض هذا في تفعيل، لأنه على (2) تلك العدّة وفيهن الكسرة، وإن كانت الكسرة في تفعيل أوّلا، وفي عطاء إذا حقّرت ثانية.
وحجة من قرأ: وأوصى قوله تعالى (3): {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ} [النساء / 11] و {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهََا}
[النساء / 11]. وقد قالوا: وصى النّبت: إذا اتصل بعضه ببعض. فالوصيّة كأنّ الموصي بالوصيّة وصل جلّ أمره إلى الموصى إليه.
البقرة: 140
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ}
[البقرة / 140].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو بالياء: يقولون.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم:
{تَقُولُونَ} بالتاء (4).
قال أبو علي: حجة (5) قراءة من قرأ بالتاء: أن ما قبلها وبعدها على المخاطبة، فالمخاطبة المتقدمة قوله عز وجل (6):
__________
(1) في (ط) فيجتمع.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): عز وجل.
(4) السبعة 171.
(5) في (ط): وجه.
(6) سقطت من (ط).(2/228)
{أَتُحَاجُّونَنََا فِي اللََّهِ} [البقرة / 139] والمتأخرة قوله تعالى (1):
{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللََّهُ} [البقرة / 140].
ومن قرأ بالياء فلأن المعنى لليهود والنصارى، وهم غيب (2).
البقرة: 143
واختلفوا في قوله عز وجل (3): {لَرَؤُفٌ}
[البقرة / 143].
فقرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم: {لَرَؤُفٌ} على وزن: «لرعوف» في كل القرآن، وكذلك ابن عامر.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو وحمزة والكسائي: لرؤف على وزن «لرعف» (4).
قال أبو زيد: رأفت بالرجل أرأف به رأفة ورآفة، ورؤفت به أرؤف به، كلّ (5) من كلام العرب.
قال أبو علي: وجه قراءة من قرأ: رؤف أن فعولًا بناء أكثر في كلامهم (6) من فعل، ألا ترى أن باب ضروب وشكور أكثر من باب حذر، وحدث، ويقظ، وإذا كان أكثر على ألسنتهم كان أولى مما هو بغير هذه الصفة. ويؤكد ذلك أن هذا البناء قد جاء عليه من صفات، غير هذا الحرف نحو: غفور وشكور، ولا نعلم فعلا فيها. وقال (7):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) قال في اللسان / غيب / قوم غيّب وغيّاب وغيب: غائبون.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): رعف. السبعة 171.
(5) في (ط): كلّ ذلك.
(6) في (ط): كلام العرب.
(7) البيت لكعب بن مالك الأنصاري وقد ورد في اللسان: نطيع نبينا. انظر اللسان (رأف).(2/229)
نطيع إلهنا ونطيع ربّا ... هو الرّحمن كان بنا رءوفا
ومن قرأ: رؤف فقد زعموا أن ذلك الغالب على أهل الحجاز، قالوا: ومنه قول الوليد بن عقبة (1) [بن أبي معيط لمعاوية بن أبي سفيان] (2):
وشرّ الطالبين فلا تكنه ... يقاتل عمّه الرّؤف الرحيما (3)
وقد اتّسع ذلك حتى قاله غيرهم. وقال جرير (4):
ترى للمسلمين عليك حقّا ... كفعل الوالد الرّؤف الرحيم
البقرة: 148
اختلفوا في فتح اللام وكسرها من قوله جل وعز (5): {هُوَ مُوَلِّيهََا} [البقرة / 148].
فقرأ ابن عامر وحده: هو مولاها بفتح اللام.
وقرأ الباقون بكسر اللام.
قال أبو علي: قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا}
[البقرة / 144] يقال (6): ولّيتك القبلة إذا صيّرتك تستقبلها
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 1/ 158.
(2) ما بين المعقوفتين ساقطة من (ط).
(3) رواية العجز في (م): «بقاتل عمّه الرؤف الرحيم» وآثرنا إثبات ما في (ط).
(4) قاله جرير في مدح هشام بن عبد الملك انظر ديوانه / 507. (ت. الصاوي).
(5) في (ط): تعالى.
(6) في (ط): تقول.(2/230)
بوجهك. وليس هذا المعنى في فعلت منه، ألا ترى أنك إذا قلت: وليت الحائط، ووليت الدار، لم يكن في فعلت منه دلالة على أنك واجهته. كما أن في (1) قولك: ولّيتك القبلة، وولّيتك المسجد الحرام دلالة على أن المراد واجهته، ففعّلت في هذه الكلمة ليس بمنقول من فعلت الذي هو وليت، فيكون على حدّ قولك: فرح وفرّحته، ولكنّ هذا المعنى الذي هو المواجهة عارض في فعّلت، ولم يكن في فعلت. وإذا كان كذلك كان فيه دلالة على أن النقل لم يكن من فعلت، كما كان قولهم: ألقيت متاعك بعضه على (2) بعض، لم يكن النقل فيه من لقي متاعك بعضه بعضاً، ولكنّ ألقيت كقولك:
أسقطت، ولو كان منه زاد مفعول آخر في الكلام، ولم يحتج في تعديته إلى المفعول (3) إلى حرف الجر وإلحاقه المفعول الثاني في قولك: ألقيت بعض متاعك على بعض، كما لم يحتج إليه في:
ضرب زيد عمراً، وأضربته إياه، ونحو ذلك، فكذلك: ولّيتك قبلة، من قولك: وليت كألقيت، من قولك: لقيت وقال تعالى (3): {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} [البقرة / 144] (5).
فهذا على المواجهة له، ولا يجوز على غير المواجهة مع العلم أو غلبة الظن التي تنزّل منزلة العلم في تحري القبلة، وقد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة وذلك في نحو قوله جل وعز (6): {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلََّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة / 83]
__________
(1) في (ط): وفي قولك. وبإسقاط: كما أن.
(2) في (ط): فوق.
(3) سقطت من (ط).
(5) انظر ما سبق ص 24.
(6) سقطت من (ط).(2/231)
، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ فَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [البقرة / 64]. {عَبَسَ وَتَوَلََّى أَنْ جََاءَهُ الْأَعْمى ََ} [عبس / 1] أي: أعرض عنه، وقال تعالى:
{وَتَوَلََّى عَنْهُمْ وَقََالَ: يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ} [يوسف / 84] {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلََّى عَنْ ذِكْرِنََا} [النجم / 29] فهذا مع دخول الزيادة الفعل وفي غير الزيادة قوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}
[التوبة / 25] والحال مؤكّدة لأن في وليتم دلالة على أنهم مدبرون، فهذا على نحوين: أما ما لحق التاء أوله، فإنه يجوز أن يكون من باب: تحوّب وتأثّم إذا ترك الحوب والإثم، وكذلك إذا ترك الجهة التي هي المقابلة، ويجوز أن تكون الكلمة استعملت على الشيء وعلى خلافه، كالحروف المروية في الأضداد. فأما قوله تعالى (2): {وَإِنْ يُقََاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبََارَ} [آل عمران / 111] وقوله: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبََارَ ثُمَّ لََا يُنْصَرُونَ} [الحشر / 12] وقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
[القمر / 45] فهذا منقول من فعل، تقول: داري تلي داره، ووليت داري داره، وإذا نقلته (3) إلى فعّل قلت: وليت مآخيره، وولّاني مآخيره، ووليت ميامنه. وولّاني ميامنه، فهو مثل: فرح وفرّحته، وليس مثل: لقي وألقيته، وقوله تعالى (4): {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبََارَ} [الحشر / 12] {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر / 45] المفعول الثاني الزائد في نقل «فعل» إلى «فعّل» محذوف فيه (5)، ولو لم يحذف كان (6) كقوله: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبََارَ} [آل عمران / 111]
__________
(2) سقطت من (ط).
(3) في (م): إذا نقله.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): منه.
(6) في (ط): لكان.(2/232)
وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنََاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ}
[التوبة / 71] المعنى فيه: أن بعضهم يوالي بعضاً، ولا يبرأ بعضهم من بعض، كما يبرءون ممن خالفهم وشاقّهم، ولكنهم يد واحدة في النصرة والموالاة، فهم أهل كلمة واحدة لا يفترقون فرقة مباينة ومشاقّة، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية:
العداوة، ألا ترى أنّ العداوة من عدا الشيء: إذا جاوزه (1) فمن ثمّ كانت خلاف الولاية.
فأمّا قوله عزّ وجلّ {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء / 135] فيمن قرأ {تَلْوُوا} (2) فمعناه والله أعلم: الإقبال عليهنّ والمقاربة لهنّ في العدل في قسمهنّ، ألا ترى أنه قد عودل بالإعراض في قوله تعالى: {أَوْ تُعْرِضُوا} فكأنّ قوله تعالى (3): (إن تلوا) كقوله: إن أقبلتم عليهنّ، ولم تعرضوا عنهنّ.
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون في {تَلْوُوا} دلالة على المواجهة فتجعل قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} منقولًا من هذا، فمن ثمّ اقتضى المواجهة، وتستدلّ على ذلك بمعادلته لخلافه الذي هو الإعراض؟
فالقول: إن ذلك في هذه الكلمة ليس بالظاهر، ولا في الكلمة دلالة على هذه المخصوصة التي جاءت في قوله:
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا} [البقرة / 144] وإذا لم تكن عليها دلالة، لم تصرفها عن الموضع الذي جاءت فيه، فلم تنفذها إلى سواها.
__________
(1) في (ط): جازه.
(2) وهي قراءة حمزة وابن عامر، وستأتي في الجزء الثالث.
(3) سقطت من (ط).(2/233)
فأما قوله عز وجل: {أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ} [القيامة / 34] فقد كتبناه في «كتاب الشعر» وقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَلََا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال / 20] فالضمير في عنه إذا جعلته للرسول، احتمل أمرين: {لََا تَوَلَّوْا عَنْهُ}:
لا تنفضّوا عنه كما قال تعالى: {انْفَضُّوا إِلَيْهََا وَتَرَكُوكَ قََائِماً}
[الجمعة / 11] وقال سبحانه (1): {وَإِذََا كََانُوا مَعَهُ عَلى ََ أَمْرٍ جََامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتََّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور / 62] وقال عز اسمه (2): {قَدْ يَعْلَمُ اللََّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوََاذاً}
[النور / 63] وعلى هذا المعنى قوله تعالى: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء / 57] أي: بعد أن تتفرقوا عنها. ويكون (3):
{لََا تَوَلَّوْا عَنْهُ} لا تعرضوا عن أمره: وتلقّوه بالطاعة والقبول، كما قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخََالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور / 63] وزعموا أن بعضهم قرأ: {وَلََا تَوَلَّوْا عَنْهُ} واللفظتان تكونان بمعنى واحد، قال تعالى (4): {وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ}
[القصص / 31] وقال: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة / 25] وقال: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلََّى عَنْ ذِكْرِنََا} [النجم / 29] وقال {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات / 90]. وقوله: {وَاللََّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}
[آل عمران / 68] أي ناصرهم، ومثله في أنّ المعنى فيه النّصرة قوله: {فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ مَوْلََاهُ} [التحريم / 4] أي ناصره. وكذلك قوله: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكََافِرِينَ لََا مَوْلى ََ لَهُمْ} [محمد / 11]
__________
(1) في (ط): تعالى.
(2) سقطت من (ط).
(3) كذا في (ط)، وفي (م): ولا يكون وهو خطأ.
(4) سقطت من (ط).(2/234)
أي: لا ناصر لهم ومعنى المولى من النّصرة من ولي عليه: إذا اتصل به ولم ينفصل عنه. وعلى هذا قوله تعالى (1): {إِنَّ اللََّهَ مَعَنََا} [التوبة / 40] أي: ناصرنا، وكذلك قوله: {فَاذْهَبََا بِآيََاتِنََا إِنََّا مَعَكُمْ} [الشعراء / 15] في موضع آخر {إِنَّنِي مَعَكُمََا} [طه / 46] وعلى هذا المعنى قولهم:
صحبك الله.
وروينا عن ابن سلّام عن يونس قال: المولى: له (2) في كلام العرب مواضع منها: المولى من (3) الدّين، وهو الوليّ (4)، وذلك قوله: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكََافِرِينَ لََا مَوْلى ََ لَهُمْ} [محمد / 11] أي: لا وليّ. ومنه قوله: {فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ مَوْلََاهُ} [التحريم / 4]، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (5): «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (6)
أي: وليّه.
وقوله: «مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله»
(7) قال العجّاج (8):
الحمد لله الذي أعطى الظّفر موالي الحقّ إن المولى شكر أي: أولياء الحقّ.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): في.
(4) انظر لسان العرب / ولي /.
(5) سقطت من (ط).
(6) الحديث رواه ابن ماجة في المقدمة 1/ 45وأحمد في المسند 1/ 84و 5/ 350.
(7) الحديث رواه البخاري في المناقب، ونصه: «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع مواليّ ليس لهم مولى دون الله ورسوله» انظر فتح الباري 6/ 533رقم 3504.
(8) انظر ديوانه 1/ 4وفيه (الحبر) مكان (الظّفر).(2/235)
ومنها العصبة، وبنو العمّ هم الموالي، قال (1) تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوََالِيَ مِنْ وَرََائِي} [مريم / 5] أي العصبة. وقال الزّبرقان:
ومن الموالي موليان فمنهما ... معطي الجزيل وباذل النّصر
ومن الموالي ضبّ جندلة ... لحز المروءة (2) ظاهر الغمر الغمر: العداوة.
وقال آخر:
ومولى كداء البطن لو كان قادراً ... على الدّهر أفنى الدّهر أهلي وماليا
وقال آخر:
ومولى قد رعيت الغيب منه ... ولو كنت المغيّب ما رعاني
وقال اللهبيّ الفضل بن عباس لبني أمية (3):
مهلا بني عمّنا مهلًا موالينا ... امشوا رويدا كما كنتم تكونونا
الله يعلم أنا لا نحبّكم ... ولا نلومكم أن لا تحبّونا (4)
__________
(1) في (ط): وقال.
(2) اللحز: البخيل الضيق الخلق.
(3) ترجمته في الأغاني 16/ 119والمؤتلف 35.
(4) البيتان في الحماسة بشرح المرزوقي 1/ 224مع اختلاف في الرواية.(2/236)
وكان الزّبرقان بن بدر تكثّر في مواليه وبني عمّه فقال رجل من بني تميم (1):
ومولى كمولى الزبرقان ادّملته ... كما ادّمل العظم المهيض من الكسر
ومن انضمّ إليك فعزّ بعزّك، وامتنع بمنعتك أو بعتق، وبهذا سمّي المعتقون: موالي. قال الراعي (2):
جزى الله مولانا غنياً ملامة ... شرار موالي عامر في العزائم
نبيع غنيّاً رغبة عن دمائها ... بأموالها بيع البكار المقاحم
البكار: الصغيرة، والمقاحم: التي لم تقو على العمل.
وغنيّ: حلفاء بني عامر، قال الأخطل لجرير (3):
أتشتم قوماً أثّلوك بنهشل ... ولولاهم كنتم كعكل مواليا
وعكل من الرّباب حلفاء بني سعد.
وقال الفرزدق لعبد الله بن أبي إسحاق النحوي، وكان
__________
(1) البيت لابن طيفان الدارمي أنشده ابن بري والطيفان أمه (انظر اللسان / مادة: دمل / ويقال: ادمل القوم، أي: اطوهم على ما فيهم.
(2) الأول في ديوانه 255ولم يقف جامعه على الثاني.
(3) انظر ديوانه 1/ 352.(2/237)
مولى لحضرمي، وبنو الحضرميّ حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكنّ عبد الله مولى مواليا (1)
الإعراب:
قوله عزّ وجلّ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا} [البقرة / 148] موضع الجملة رفع (2) لكونها وصفاً للوجهة، فمن قرأ: {هُوَ مُوَلِّيهََا} فالضمير الذي هو {هُوَ} لاسم الله تعالى، تقديره: ولكلّ وجهة، الله مولّيها. ومعنى توليته لهم إياها: إنما هو أمرهم بالتوجّه نحوها في صلاتهم إليها، يدلّك على ذلك قوله تعالى (3): {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا} [البقرة / 144]، فكما أنّ فاعل، نولّينّك الله عزّ وجلّ، فكذلك الابتداء في قوله: {هُوَ مُوَلِّيهََا} ضمير اسم الله تعالى، والتقدير: الله مولّيها إياه، ف «إياه» المراد المحذوف ضمير المولّى، وحذف المفعول الثاني لجري ذكره المظهر وهو {كُلِّ} في قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ}
فإذا قرئ: ولكل وجهة هو مولاها فالضمير {لِكُلٍّ} وقد جرى ذكره في قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ}، وفي القراءة الأخرى لم يجر الذّكر، ولكن عليه دلالة، وقد استوفى الاسم الجاري على الفعل المبني للمفعول مفعوليه اللذين يقتضيهما، أحدهما:
__________
(1) انظر سيبويه 2/ 58الخزانة 1/ 114. وليس في ديوانه.
(2) كذا في (ط). ووردت في (م): جر وهو خطأ من الناسخ.
(3) سقطت من (ط).(2/238)
الضمير المرفوع في مولّى، والآخر: ضمير المؤنّث، وهو الذي هو ضمير كلّ ابتداء وخبره مولّاها. ولو قرأ قارئ: ولكل وجهة هو مولاها فجعل {هُوَ} ضمير ناس، أو قبيل، أو فريق، أو نحو ذلك فأضمر العلم به، كما أضمر اسم الله سبحانه، فيمن قرأ:
{هُوَ مُوَلِّيهََا} لكان ذلك على ضربين: إن جعل الهاء {لِكُلٍّ}
فأنّث كلا على المعنى، لأنّه في المعنى للوجهة كما قال:
{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دََاخِرِينَ} (1) [النمل / 87] فجمع على المعنى فإنّ ذلك لا يجوز، لأن اسم المفعول قد استوفى مفعوليه اللذين يقتضيهما. فلا يكون حينئذ {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ} متعلّق، فبقيت (2) اللام لا عامل فيها، وإن جعل الهاء في مولاها كناية عن المصدر الذي هو التولية جاز، لأن الجارّ حينئذ يتعلق باسم المفعول الذي هو (مولي) كأنه قال: الفريق أو القبيل مولّى لكلّ وجهة تولية، واللام على هذا زيادة (3) كزيادتها في:
{رَدِفَ لَكُمْ} [النمل / 72] ونحوه.
وقد قلنا في هذه المسألة بعبارة أخرى في وقت آخر:
قوله جلّ وعزّ (4): {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا} {هُوَ}: ضمير اسم الله سبحانه (5)، فإذا كان كذلك فقد حذف من الكلام أحد مفعولي الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين في قوله عزّ وجلّ (6):
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا}. التقدير: الله مولّيها إياه، وإيّاه ضمير {كُلِّ} الموجّه المولّى، وتولية الله إيّاه، إنّما هو بأمره له بالتوجّه إليها.
__________
(1) أتوه: قراءة حمزة وخلف وحفص. وقرأ الباقون آتوه. انظر النشر 2/ 339. وستأتي في موضعها.
(2) في (ط): فتبقى.
(3) في (ط): زائدة.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).(2/239)
وقراءة ابن عامر مولاها تدلّك على ما ذكرنا من إرادة مفعول محذوف من الكلام، ألا ترى أنّه لما بنى الفعل للمفعول به، فحذف الفاعل أسند الفعل إلى أحد المفعولين، وأضاف اسم الفاعل إلى المفعول الآخر وهو ضمير المؤنث العائد إلى الوجهة، فقوله: {هُوَ} على قراءته ضمير {كُلِّ}، أي كل ولّي جهة، وهذه التولية بأمر الله سبحانه إياهم بتوجّههم إليها، وقراءته في المعنى تؤول إلى قراءة من قرأ: {هُوَ مُوَلِّيهََا}.
ألا ترى أنّ في مولّيها ضمير اسم الله عزّ وجلّ، فإذا أسند الفعل إلى المفعول به، وبناه له، ففاعل التولية هو الله تعالى كما كانت في القراءة الأخرى كذلك.
وقد قرئ فيما ذكر أبو الحسن: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا}. فضمير المؤنث في قوله: {مُوَلِّيهََا} يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون ضمير المصدر الذي هو التولية، وجاز إضمارها لدلالة الفعل عليها، كما جاز إضمار البخل في قوله تعالى (1): {وَلََا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ} [آل عمران / 180] أي: البخل. ويكون هو ضمير اسم الله تعالى (2). فيكون المعنى: الله مولّ لكلّ وجهة تولية، فأوصل الفعل باللام كما تقول: لزيد ضربت و {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيََا تَعْبُرُونَ} [يوسف / 43].
والآخر: أن لا تجعل الهاء ضميراً للتولية، ولكن ضميراً لوجهة، فإذا جعلته كذلك لم يستقم، لأنّك إذا أوصلت الفعل
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).(2/240)
إلى المفعول الذي يقتضيه الفعل مرة لم توصله مرة أخرى إلى مفعول آخر ألا ترى أنّك لو قلت: لزيد ضربته لم يجز أن تجعل الهاء ضمير زيد، لأنّك قد عدّيت إليه الفعل مرّة باللّام، فلا تعدّيه إليه مرة أخرى، كما لا يتعدّى الفعل إلى حالين، ولا اسمين للزمان، ولا نحو ذلك مما يقتضيه الفعل.
فأما قوله (1):
هذا سراقة للقرآن يدرسه فالهاء للمصدر (2) ولا تكون للقرآن الذي تعدى إليه الفعل باللام، وقد تصحّ هذه القراءة على تقدير حذف المضاف، وهو أن تقدّر: ولكلّ ذوي (3) وجهة هو مولّيها فيكون المعنى: الله مولّ لكلّ ذوي (3): وجهة وجهتهم فيكون في المعنى كقراءة من قرأ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا}، إذا قدّرت حذف المفعول الثاني الذى هو إياه، إلا أنّ المفعول الثاني المحذوف في قول من قرأ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا} مظهر في هذه القراءة، وهو قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} إذا قدّرته: ولكلّ ذوي (3) وجهة، فيصير التقدير: الله مولّ كلّ ذوي (3) وجهة وجهتهم. فكلّ هم المولّون، والهاء ضمير الجهة التي أخذوا بالتوجه إليها.
__________
(1) صدر بيت عجزه:
والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب وهو مجهول القائل انظر سيبويه 1/ 437الخزانة 1/ 2227/ 383 3/ 4649572/ 170وشرح أبيات المغني 6/ 291واللسان مادة / سرق /.
قال الأعلم: هجا رجلا من القراء، فنسب إليه الرياء وقبول الرشا والحرص عليها.
(2) والتقدير: هذا سراقة يدرس القرآن درساً.
(3) في (ط): ذي في أربعة المواطن.(2/241)
وما ذكرته من أنّ {هُوَ} ضمير اسم الله تعالى (1)، وإن لم يجر له ذكر، قول أبي الحسن. وقد روي عن مجاهد أنه قال:
أراد: ولكلّ صاحب ملّة (2) وجهة، أي: قبلة هو مستقبلها، فالضمير عنده على هذا لكلّ.
وقد حكى أبو الحسن (3) القولين جميعاً: أن يكون {هُوَ}
ضمير اسم الله تعالى (4)، وأن يكون لكلّ. وجاء قوله: {هُوَ مُوَلِّيهََا} فيمن ذهب إلى هذا القول على لفظ كل، ولو قيل:
هم مولّوها على المعنى، كما قال تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ}
[النمل / 87] كان حسناً. وقال بعضهم: اخترت مولّيها على مولّاها لأنه قراءة الأكثر، ولأنه إذا قرئ مولّاها ظنّ أن جميع ذلك شرعه الله لهم.
وقوله: مولاها اسم جار على فعل مبني للمفعول، ولم يسند إلى فاعل بعينه فيجوز أن يكون فاعل التولية الله عزّ وجلّ، ويجوز أن يكون بدعة، حملهم عليها بعض رؤسائهم ومفتيهم، فليس إذا صرفه إلى أحد الوجهين، بأولى من صرفه إلى الآخر.
فأمّا قوله: {وِجْهَةٌ} فقد اختلف أهل العربية فيها، فمنهم من يذهب إلى أنّه مصدر شذّ عن القياس فجاء مصححاً، ومنهم من يقول: إنه اسم ليس بمصدر جاء على أصله، وأنه لو كان مصدراً جاء مصحّحاً، للزم أن يجيء فعله أيضاً
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (م): قبلة، وما أثبتناه من (ط) نقله الطبري في تفسيره عن مجاهد في 2/ 28وفسّر عنه: الوجهة بالقبلة.
(3) في (ط): أبو إسحاق.
(4) سقطت من (ط).(2/242)
مصحّحا، ألا ترى أن هذا المصدر إنما اعتلّ على الفعل حيث كان عاملًا عمله وكان على حركاته وسكونه؟ فلو صحّ لصحّ الفعل، لأن هذه الأفعال المعتلات، إذا صحت في موضع تبعها باقي ذلك، وفي أن لم يجيء شيء من هذه الأفعال مصحّحا دلالة على أن {وِجْهَةٌ} إنما صحّ من حيث كان اسماً للمتوجّه، لا كما رآه أبو عثمان من أنّه مصدر جاء على الأصل، وما شبّهه (1) به من «ضيون وحيوة وبنات ألببه» (2)
لا يشبه هذا، لأن ذلك ليس شيء منه جارياً على فعل كالمصدر.
فإن قيل: فيما استدللنا به من أنّ الفعل إذا اعتلّ وجب اعتلال مصدره، أليس قد جاء القول والبيع صحيحين وأفعالهما معتلّة فما ننكر أن يصحّ: {وِجْهَةٌ}، وإن كان فعله معتلًا؟.
قيل: إن القول والبيع لا يدخل على هذا، ألا ترى أنّ {وِجْهَةٌ} على وزن الفعل، وليس القول والبيع كذلك؟ والموافقة في الوزن توجب الإعلال، ألا ترى (3) «بابا وعاباً». لمّا وافقا بناء الفعل أعلّا، ولم يعلّ نحو عيبة وعوض وحول؟ فالقول والبيع ليسا على وزن شيء من الأفعال فيلحقهما اعتلالها.
على أن للقائل أن يقول: إن القول والبيع ونحوهما، لما سكنا أشبها بالإسكان المعتلّ، إذ الاعتلال قد يكون بالسكون يدلك على ذلك أنهم أعلّوا نحو: سياط وحياض، وإن صحت الآحاد
__________
(1) في (ط): أشبهه.
(2) ويقال: بنات ألبب: عروق في القلب يكون منها الرقة. انظر اللسان (لبب) وهو أحد ما شذ من المضاعف فجاء على الأصل كما قال سيبويه (انظر الكتاب 2/ 61).
(3) في (ط): ألا ترى أن.(2/243)
منها بحيث كانا في السكون في الواحد بمنزلة المعتل نحو:
«ديمة وديم» فكما جرى ما ذكرنا مجرى المعتلّ للسكون، كذلك يجري: قول وبيع مجرى ذلك، وقد قالوا: وجّه الحجر جهة ماله» فجاء المصدر بحذف الزيادة، وكأنّ «ما» زائدة، والظّرف وصف للنكرة، ولزمت الزيادة كما لزمت في: آثرا ما (1)، ونحوه.
البقرة: 150
اختلفوا في همز {لِئَلََّا} [البقرة / 150].
فروي عن نافع أنه لم يهمزها، والباقون يهمزون (2).
قال أبو علي: تخفيف الهمزة في {لِئَلََّا} أن تخلص ياء، ولا يجوز أن تجعل بين بين، ألا ترى أنه بمنزلة «مئر» جمع:
مئرة. من قولك مأرت بين القوم: إذا أفسدت.
وقد تقدّم ذكر طرف من ذلك في قوله عز وجلّ: {كَمََا سُئِلَ مُوسى ََ مِنْ قَبْلُ} (3) [البقرة / 108].
البقرة: 184
اختلفوا في التاء ونصب العين، والياء والجزم، من قوله عزّ وجلّ (4): {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} [البقرة / 184].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} بالتاء ونصب العين في الحرفين جميعاً (5).
__________
(1) في اللسان (أثر) عن الفراء: ابدأ بهذا آثراً ما، وآثر ذي أثير، أي: ابدأ به أول كل شيء. وقيل: افعله مؤثراً له على غيره، وما زائدة وهي لازمة لا يجوز حذفها، لأن معناه افعله آثراً مختاراً له معنياً به من قولك: آثرت أن أفعل كذا وكذا.
(2) السبعة 171.
(3) انظر ص 217.
(4) سقطت من (ط).
(5) يريد في آية البقرة هذه رقم 184والتي سبقتها برقم 158وهي بالواو.(2/244)
وقرأ حمزة والكسائيّ: يطوع خيرا بالياء، وجزم العين. وكذلك التي بعدها.
قال أبو علي: من قرأ: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} احتمل قوله:
{تَطَوَّعَ} أمرين:
أحدهما: أن يكون موضعه جزماً، والآخر: أن لا يكون له موضع. فأما الوجه الذي يجعل {تَطَوَّعَ} فيه في موضع جزم، فأن تجعل {مِنْ} للجزاء كالتي في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً} [الفرقان / 68] فإذا جعلته كذلك كان في موضع جزم، وكانت الفاء مع ما بعدها أيضاً في موضع جزم لوقوعها موقع الفعل المجزوم الذي هو جزاء، والفعل الذي هو «تطوّع» على لفظ المثال الماضي والتقدير به المستقبل، كما أن قولك: إن أتيتني أتيتك. كذلك.
والآخر: أن لا تجعله جزاء، ولكن يكون بمنزلة «الذي» ولا موضع حينئذ للفعل الذي هو {تَطَوَّعَ}، ولو كان له موضع لم تكسر {إِنَّ} في قوله تعالى: {وَآتَيْنََاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ} [القصص / 76] والفاء على هذا في قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} مع ما بعدها في موضع رفع من حيث كان خبر المبتدأ الموصول والمعنى معنى الجزاء، وإن لم يكن به جزم (1)، لأن هذه الفاء، إذا دخلت في خبر الموصول، آذنت أن الثاني وجب لوجوب الأول (2)، والنكرة الموصوفة في ذلك، كالأسماء
__________
(1) في (ط): وإن لم يكن مجزوماً به.
(2) قال سيبويه: وسألته عن قوله: الذي يأتيني فله درهمان، لم جاز دخول الفاء هاهنا، والذي يأتيني بمنزلة عبد الله، وأنت لا يجوز لك أن تقول:(2/245)
الموصولة، وعلى هذا قوله عزّ وجلّ: {وَمََا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللََّهِ} [النحل / 53] تقديره: ما ثبت بكم من نعمة، أو: ما دام بكم من نعمة، فمن ابتداء الله إياكم بها. فسبب ثبات النعمة ابتداؤه بذلك. كما أن استحقاق الأجر إنما هو من أجل الإنفاق في قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ} {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} (1)
[البقرة / 274].
فأما ما كان من النّعمة كالصّحة وتسوية البنية، والامتحان بالمرض والعلّة، فمن الله سبحانه (2).
وأما ما كان من جائزة ملك وعطاء أب وهبة صديق أو ذي رحم، فإنه يجوز أن ينسب إلى الله تعالى. من حيث كان بتمكينه وإقداره كما قال: {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}
[الأنفال / 17]، وإنما الرّامي للتراب، والحصباء بالبطحاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ولو أدخلت {إِنَّ} على هذه الأسماء الموصولة، جاز دخول الفاء معها كما جاز دخولها على غير هذا النحو من الابتداء. وعلى هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذََابُ جَهَنَّمَ} [البروج / 10].
__________
عبد الله فله درهمان؟ فقال: إنما يحسن في «الذي» لأنه جعل الآخر جواباً للأول، وجعل الأول به يجب له الدرهمان فدخلت الفاء هاهنا كما دخلت في الجزاء إذا قال: إن يأتني فله درهمان إلخ. (الكتاب 1/ 453).
(1) الآية بتمامها: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ سِرًّا وَعَلََانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة / 274].
(2) في (ط): سبحانه وتعالى.(2/246)
وقوله عزّ وجلّ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (1) [التين / 6] على قوله: «إلا حل ذاك أن أفعله» ولو ألحقت المبتدأ ليت أو لعلّ (2) لم يجز دخول الفاء على الخبر، لأن الجزاء الجازم وغير الجازم خبر فإذا دخلت ليت ولعلّ، خرج بدخولهما الكلام عن أن يكون خبراً، وإذا خرج عن ذلك، لم يجز لحاق الفاء التي تدخل مع الخبر. ومثل ذلك قوله تعالى (3): {وَمَنْ عََادَ فَيَنْتَقِمُ اللََّهُ مِنْهُ} [المائدة / 95] {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} [البقرة / 26] و {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا، وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلََا يُجْزى ََ إِلََّا مِثْلَهََا}
[الأنعام / 160] و {فَمَنْ شََاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ}
[الكهف / 29] إلا أنّ قوله: {فَمَنْ شََاءَ فَلْيُؤْمِنْ} إذا جعلته موصولًا ولم تجعل شاء في موضع جزم، احتمل {مَنْ شََاءَ}
ضربين من الإعراب: أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء و {فَلْيُؤْمِنْ} في موضع خبر. والآخر: أن يكون مرتفعا بالابتداء يفسّره: (فليؤمن) مثل: زيد ليضرب. والفاء الداخلة في الخبر تحتمل أمرين: أحدهما: أن تكون زيادة مثل قولهم: أخوك فوجد، والآخر: أن يكون دخولها من أجل الصلة. ومثله:
{وَمَنْ تََابَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللََّهِ مَتََاباً} [الفرقان / 71].
فإن قلت: وما معنى {وَمَنْ تََابَ} {فَإِنَّهُ يَتُوبُ}؟.
فالقول في ذلك، أن اللفظ على شيء والمعنى على غيره، وذلك غير ضيّق في كلامهم، ألا ترى أنّهم قد قالوا: ما
__________
(1) وهو مما دخلت فيه الفاء على غير النحو الذي مثل به من الابتداء وحمله على قول العرب: «إلّا حلّ ذاك أن أفعله» انظر سيبويه باب ما يكون مبتدأ بعد إلا 1/ 374.
(2) في (م): ولعل بإسقاط الألف.
(3) سقطت (قوله تعالى) من (ط).(2/247)
أنت وزيد؟. والمعنى: لم تؤذيه؟ واللفظ إنّما هو على المسألة من المخاطب، وزيد معطوف عليه. وكذلك قالوا: أمكنك الصّيد، والمعنى: ارمه، وكذلك: هذا الهلال. أي: انظر إليه فكذلك قوله: {وَمَنْ تََابَ} كأنه من عزم على التوبة، فينبغي أن يبادر إليها، ويتوجه بها إلى الله سبحانه. وقال تعالى: {فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ} [النحل / 98]. أي: إذا عزمت على ذلك فاستعذ، ومثل قوله: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ} [الفرقان / 71] والمعنى على: ينبغي أن يتوب. قوله عزّ وجلّ: {وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ}
[البقرة / 228] أي: ينبغي أن يتربّصن. ومن هذا الباب قوله:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة / 185] قياسه على ما تقدم.
وأمّا من قرأ: ومن يطوع [البقرة / 158] فتقديره:
يتطوّع، إلا أنه أدغم التاء في الطاء لتقاربهما، وجزم العين التي هي لام بمعنى «إن» التي للجزاء. وهذا حسن لأن المعنى على الاستقبال، وإن كان يجوز: من أتاني أعطيته، فتوقع الماضي موضع المستقبل في الجزاء، إلّا أن اللفظ إذا كان وفق المعنى كان أحسن.
البقرة: 164
واختلفوا في قوله عز وجل (1): {الرِّيََاحِ} في الجمع والتوحيد.
فقرأ ابن كثير: {الرِّيََاحِ} على الجمع في خمسة مواضع:
في البقرة هاهنا [الآية / 164] (2) وفي الحجر:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) وهي بتمامها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ مََاءٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَبَثَّ فِيهََا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ وَالسَّحََابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.(2/248)
{أَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ} [الآية / 22] وفي الكهف: {تَذْرُوهُ الرِّيََاحُ} [الآية / 45] وفي سورة الروم الحرف الأول: {الرِّيََاحَ مُبَشِّرََاتٍ}
[الآية / 46]، وفي الجاثية: {وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ} [الآية / 5]، والباقي: {الرِّيحُ}.
وقرأ نافع: {الرِّيََاحِ} في اثني عشر موضعاً: هاهنا وفي الأعراف: {يُرْسِلُ الرِّيََاحَ} [الآية / 57]، وفي سورة إبراهيم:
كرماد اشتدت به الرياح [الآية / 18] وفي الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ} [الآية / 22] وفي الكهف: {تَذْرُوهُ الرِّيََاحُ}
[الآية / 45] وفي الفرقان: {أَرْسَلَ الرِّيََاحَ} [الآية / 48] [وفي النمل {يُرْسِلُ الرِّيََاحَ}] (1) [63]، وفي الروم موضعين {الرِّيََاحَ}
[46، 48] وفي فاطر {الرِّيََاحَ} [الآية / 9]، وفي عسق يسكن الرياح [الآية / 33] وفي الجاثية: {الرِّيََاحِ} [الآية / 5].
وقرأ أبو عمرو من هذه الاثني عشر حرفا حرفين:
{الرِّيحُ} في إبراهيم [الآية / 18]، وفي عسق {الرِّيحَ} [33] والباقي الرياح على الجمع مثل نافع.
وقرأ عاصم وابن عامر مثل قراءة أبي عمرو.
وقرأ حمزة {الرِّيََاحَ} على الجمع في موضعين: في الفرقان: {أَرْسَلَ الرِّيََاحَ} [الفرقان / 48] وفي سورة الروم، الحرف الأول: {الرِّيََاحَ مُبَشِّرََاتٍ} [الروم / 46] وسائرهنّ على التوحيد.
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (م).(2/249)
وقرأ الكسائيّ: كقراءة حمزة وزاد عليه في الحجر:
{الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ} [الحجر / 22].
ولم يختلفوا في توحيد ما ليست فيه ألف ولام (1).
قال أبو علي: قال أبو زيد: قال القيسيّون الرّياح أربع:
الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور. فأما الشّمال فمن عن يمين القبلة، والجنوب من عن شمالها. والصّبا والدّبور متقابلتان، فالصّبا من قبل المشرق، والدّبور من قبل المغرب. وأنشد أبو زيد (2):
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصّبا من حيث يطّلع الفجر
وإذا جاءت الريح بين الصّبا والشّمال فهي النّكباء التي لا يختلف فيها. والتي بين الجنوب والصّبا يقال لها:
الجربياء.
وقال السّكّريّ فيما روى عنه بعض شيوخنا قال: أخبرني أبو الحسن عليّ بن عبد الله الطوسيّ قال: أخبرنا ابن الأعرابي وأصحابنا عن الأصمعيّ وغيره قالوا: الرياح أربع: الجنوب والشّمال والصّبا والدّبور.
قال ابن الأعرابيّ: كلّ ريح بين ريحين فهي نكباء، وقال الأصمعيّ: إذا انحرفت واحدة منهنّ فهي نكباء، والجميع:
نكب.
__________
(1) السبعة 173172.
(2) البيت لأبي صخر الهذلي. انظر شرح السكري / 957.(2/250)
فأمّا مهبّهنّ فإن ابن الأعرابيّ قال: مهبّ الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثّريّا، والصّبا من مطلع الثريّا إلى بنات نعش، والشمال من بنات نعش إلى مسقط النّسر الطائر [وقال: والدبور من مسقط النسر الطائر] (1) إلى مطلع سهيل، قال: والجنوب والدّبور لهما هيف. والهيف: الريح الحارّة.
قال: والشّمال والصّبا (2) لا هيف لهما.
وقال الأصمعيّ ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر جنوب، وما بإزائها مما يستقبلها من الغرب شمال، وما جاء من وراء البيت الحرام فهو دبور، وما جاء قبالة (3) ذلك فهو صبا، والصّبا: القبول. قال: وإنما سمّيت قبولًا. لأنها استقبلت الدّبور، قال الهذليّ، وأنشد البيت الذي أنشده أبو زيد (4).
قال الطوسيّ: وقال غير الأصمعي وابن الأعرابي:
الجنوب التي تجيء من قبل اليمن والشمال التي تهبّ من قبل الشام، والدّبور التي تجيء من عن يمين القبلة شيئاً والصّبا بإزائها، والجنوب تسمى الأزيب وتسمى النّعامى: قال أبو ذؤيب (5):
مرته النّعامى فلم يعترف ... خلاف النّعامى من الشّؤم ريحا
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (م).
(2) في (ط): والصبا والشمال.
(3) في (ط): من قبالة.
(4) انظر صفحة / 250/ من هذا الجزء.
(5) مرته: استدرته ومسحته والنعامى: الجنوب يقول: إنما مطرت بجنوب ولم تهب شمال فتكشفه، فلم تعترف الجهام ريحاً من الشام انظر شرح السكري 1/ 199.(2/251)
اقل: وتسمى الشّمال: محوة، ولا تجرى (1). وتسمى الجربياء.
قال ابن أحمر (2):
بواد من قسا ذفر الخزامى ... تحنّ الجربياء به الحنينا
سمّيت محوة لأنها تمحو السحاب وتذهب به.
وتسمى مسعاً ونسعاً، قال (3):
قد حال دون دريسيه مؤوّبة ... مسع لها بعضاه الأرض تهزيز
وأنشد عن (4) الطوسيّ للطّرمّاح:
قلق لأفنان الريا ... ح للاقح منها وحائل
فاللاقح: الجنوب، والحائل: الشّمال. وتسمى الشّمال عقيماً، كما سمّاها الطّرمّاح حائلًا، وقد وصفت الصّبا بالعقم.
قال جرير (5):
__________
(1) هي ممنوعة من الصرف لأنها علم على الريح هذه.
(2) ورد في اللسان (قسا) برواية:
بجو من قسى ذفر الخزامى ... تهادى الجربياء به الجنينا
يصف طيب هذا الموضع ورقة هوائه وانظر الخصائص 1/ 254.
(3) سبق انظر ص 89من هذا الجزء.
(4) في (ط): غير.
(5) ديوان جرير / 496 (ط الصاوي) العرواء: البرد الشديد والعقيم:
التي لا مطر معها.(2/252)
مطاعيم الشّمال إذا استحنّت ... وفي عرواء كلّ صباً عقيم
وفي التنزيل: {وَفِي عََادٍ إِذْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}
[الذاريات / 41].
قال الطوسيّ: العقيم: التي لا تلقح السحاب. قال:
والرياح اللواقح: تثير السحاب بإذن الله، وتلقح الشجر.
والذاريات: التي تذر التراب ذروا، فأما قول الطّرمّاح:
للاقح منها وحائل. فاللاقح على معنى النسب، وليس الجاري على الفعل، وكذلك حائل، تقديره: ذات حيال. يريد بالحيال أنّها لا تلقح كما تلقح الجنوب.
قال أبو دؤاد يصف سحاباً (1):
لقحن ضحيّاً للقح الجنوب ... فأصبحن ينتجن ماء الحيا
قوله: «للقح الجنوب» تقديره: لإلقاح الجنوب. فحذف الزيادة من المصدر وأضافه إلى الفاعل كما قال (2):
وإن يهلك فذلك كان قدري أي: تقديري. وكما حذف الزيادة من المصدر كذلك حذفت من الجمع في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ}
[الحجر / 22] والمعنى فيه: ملاقح، لأنها إذا ألقحت كانت
__________
(1) ليس هذا البيت في شعره لغرانباوم.
(2) عجز بيت ليزيد بن سنان: وقد سبق بتمامه في هذا الجزء 128.(2/253)
ملقحة. وجمع الملقح: ملاقح ولواقح على حذف الزيادة، لأنّ المعنى عليه. ومثل ذلك قوله:
يكشف عن جمّاته دلو الدّال (1)
إنما هو المدلي، فحذف الزيادة (2) أو يكون أراد: دلو ذي الدّلو. كما قال: للاقح منها. وفي التنزيل: {فَأَدْلى ََ دَلْوَهُ}
[يوسف / 19]. وقال الشاعر (3):
فسائل سبرة الشّجعيّ عنّا ... غداة تخالنا نجوا جنيبا
أي: تحسبنا لكثرتنا واحتفالنا كسحاب ألقحته الجنوب فغزّرت ماءه.
وروينا عن أحمد بن يحيى لزهير (4):
جرت سنحا فقلت لها مروعا ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء
__________
(1) من رجز ينسب للعجاج وبعده:
عباءة غبراء من أجن طال ديوانه 2/ 321 (الملحقات) واللسان / دلا /.
(2) سقطت من (م).
(3) البيت لأبي خراش الهذلي.
تخالنا: تحسبنا والنجو: السحاب، والجنيب: الذي أصابته الجنوب، وهو أدر له. يقول: وقعنا بهم مثل وقع سحابة. انظر شرح ديوان الهذليين 3/ 1206.
(4) شرح ديوانه ص / 59برواية «أجيزي» بدل «مروعا» السنح: جمع سنيح وقد تشاءم به زهير، وكانوا يتشاءمون بالبارح، وهو ما جاء عن شمالك، ويتيمنون بالسانح وهو ما جاءك عن يمينك من طائر أو غيره.(2/254)
قال (1): قال الأصمعي: نوى مشمولة: أي: مكروهة وقال الأصمعيّ: وأصل ذلك من الشّمال، لأنهم يكرهون الشّمال لبردها وذهابها بالغيم، وفيه الحيا والخصب، فصار كلّ مكروه عندهم مشمولا، قال: وهم يحبّون الجنوب لدفئها، ولأنها تجيء بالسحاب والمطر، وفيها الحيا والخصب.
وأنشد لحميد بن ثور في مدحهم الجنوب (2):
فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب
ليالي أبصار الغواني وسمعها ... إليّ وإذ ريحي لهنّ جنوب
أي: محبوبة كما تحبّ الجنوب.
وذكر بعض شيوخنا أن أبا عمرو الشيبانيّ روى قول الأعشى:
وما عنده مجد تليد ولا له ... من الرّيح فضل لا الجنوب ولا الصّبا (3)
تقدير هذا: وما له من فضل الريح فضل لا فضل الجنوب ولا فضل الصّبا، فحذف المضاف، والمعنى: أنه لم ينل أحداً، فيكون كريح الجنوب في مجيئه (4) بالغيث. ولم ينفّس عن أحد كربة فيكون كالصّبا في التنفيس.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) ديوانه / 52.
(3) سبق الكلام عنه في 1/ 205.
(4) في (ط): مجيئها.(2/255)
وروى غيره فيما ذكر محمد بن السّريّ (1):
وما عنده رزقي علمت ولا له ... عليّ من الرّيح الجنوب ولا الصّبا
وتقدير هذا أيضاً: ولا له عليّ من فضل الريح فضل الجنوب ولا فضل الصّبا.
الأبين في قوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ} [البقرة / 164] الجمع، وذلك أن كلّ واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية وتسخيرها لينتفع الناس بها بتصريفها، وإذا كان كذلك فالوجه أن يجمع لمساواة كلّ واحدة منها الأخرى فيما ذكرنا، وقد (2) يجوز في قول من وحّد أن يريد به الجنس كما قالوا: أهلك الناس الدينار والدّرهم.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل التوحيد للريح، لأن كلّ واحدة مثل الأخرى في وضع الاعتبار لها والاستدلال بها.
فأما قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ عََاصِفَةً}
[الأنبياء / 81] فإن كانت الرياح كلّها سخّرت له، فالمراد بها الكثرة، وإن سخّرت له ريح بعينها، كان كقولك: الرجل، وأنت تريد به العهد.
وأما قوله تعالى: {وَفِي عََادٍ إِذْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات / 41] فهي واحدة يدلّك (3) على ذلك قوله
__________
(1) سبقت ترجمته في 1/ 6.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): يدل.(2/256)
تعالى: {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [فصلت / 16].
وفي الحديث «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» (1)
فهذا يدلّ أنها واحدة وكذلك الرّيح التي أرسلت على الأحزاب يوم الخندق، قال (2) تعالى: {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهََا}
[الأحزاب / 9].
وأما ما
روي في الحديث من أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (3)، كان إذا هبّت ريح قال: «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (4).
فممّا يدلّ على أنّ مواضع الرحمة بالجمع أولى، ومواضع العذاب بالإفراد، ويقوي ذلك قوله تعالى (5): {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيََاحَ مُبَشِّرََاتٍ} [الروم / 46] فإنما (6) تبشر بالرحمة، ويشبه أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (7) قصد هذا الموضع من التنزيل، وجعل الريح إذا كانت مفردة في قوله تعالى (7): {وَفِي عََادٍ إِذْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات / 41].
وقد تختص اللفظة في التنزيل بشيء فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامّة ما جاء في التنزيل من قوله: {وَمََا يُدْرِيكَ}
مبهم غير مبيّن. وما كان من لفظ {مََا أَدْرََاكَ} مفسّر، كقوله
__________
(1) الحديث رواه البخاري بشرح الفتح في كتاب بدء الخلق 6/ 300 والاستسقاء 2/ 520ومسلم باب في ريح الصبا والدبور 2/ 617.
(2) في (ط): قال الله تعالى.
(3) سقطت من (ط).
(4) قطعة من حديث رواه الطبراني في مجمع الزوائد 10/ 135عن ابن عباس وقال: فيه حسين بن قيس الملقب بحنش وهو متروك وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه الشافعي في مسنده 47بإسناد ضعيف جداً (انظر مشكاة المصابيح حديث 1519).
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): وإنما.
(7) سقطت من (ط).(2/257)
تعالى (1): {وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة / 3] وكذلك {وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْقََارِعَةُ} [القارعة / 2] {وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السََّاعَةَ قَرِيبٌ}
[الشورى / 17].
والخبر الذي
روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (2)
قال: «إن الريح تخرج من روح الله. تجيء بالرحمة والعذاب» (3)
، فيجوز أن تكون الريح يراد بها الجنس، فإذا كانت للجنس كان على القبيلين العذاب والرحمة، فإذا جاز أن يكون للجنس، جاز أن يقع على الجمع مستغرقاً له، وجاز أن يقع اسم الجنس على البعض كما قال: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ} [الصافات / 138137].
البقرة: 165
اختلفوا في الياء والتاء من قوله جل وعزّ: ولو ترى الذين ظلموا [البقرة / 165].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
{وَلَوْ يَرَى، الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالياء.
وقرأ نافع وابن عامر: ولو ترى بالتاء. وكلّهم قرأ: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ} بفتح الياء إلّا ابن عامر فإنه قرأ: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ} بالضم (4).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) قطعة من حديث رواه البخاري في الأدب المفرد باب لا تسبوا الريح 2/ 353 والشافعي في مسنده وأبو داود برقم 5098وابن ماجة في الأدب 3727 والحاكم في المستدرك في كتاب الأدب 4/ 285وصححه ووافقه الذهبي.
قال العجلوني: وإسناده حسن. انظر الكشف 1/ 435والمشكاة 1/ 482.
(4) السبعة 173.(2/258)
قال أبو علي: {يَرَى} من رؤية العين، يدلك على ذلك تعدّيه إلى مفعول واحد تقديره: ولو يرون أن القوة لله جميعاً.
أي: لو يرى الكفار ذلك. فإن قلت: فلم لا تكون المتعدية إلى مفعولين، وقد سدّت أنّ مسدّهما؟.
قيل: يدل على أنها المتعدية إلى مفعول واحد قول من قرأ بالتاء فقال: ولو ترى الذين ظلموا [البقرة / 165] ألا ترى أن هذا متعدّ إلى مفعول واحد لا يسدّ مسدّ مفعولين، ويدلّك على أنه متعدّ إلى مفعول واحد قوله تعالى (1): {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ}
[البقرة / 165] وقوله: {وَإِذََا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذََابَ فَلََا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} [النحل / 85] فتعدّى إلى مفعول واحد وكذلك قوله عزّ وجلّ (2): {وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللََّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر / 60] الأظهر أنّه متعدّ إلى مفعول واحد، أي: يعاينونهم كذلك. والجملة في موضع الحال، لا في موضع المفعول الثاني.
وقد روي في التفسير في قوله تعالى (3): {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمََاهُمْ} [الرحمن / 41] قال: سواد الوجوه وزرقة الأعين، فسواد الوجوه دلت عليه هذه الآية، وزرقة الأعين:
قوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه / 102] فكما أن الرؤية في هذه المواضع رؤية البصر. كذلك في قوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ} [البقرة / 165] وقوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً} [البقرة / 165] في تعذيبهم، فهو قريب من قوله: {وَإِذََا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذََابَ فَلََا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} [النحل / 85].
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): تعالى.
(3) سقطت من (ط).(2/259)
فإن قلت: فكيف جاء {إِذْ} في قوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ} [البقرة / 165] وهذا أمر مستقبل و {إِذْ} لما مضى؟.
فالقول فيه: إنه إنما جاء على لفظ المضي لإرادة التقريب في ذلك، كما جاء {وَمََا أَمْرُ السََّاعَةِ إِلََّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل / 77] {وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السََّاعَةَ قَرِيبٌ} (1)
[الشورى / 42] فلما أريد فيها من التحقيق والتقريب، جاء على لفظ المضيّ وعلى هذا جاء في ذلك (2) المعنى أمثلة الماضي كقوله: {وَنََادى ََ أَصْحََابُ النََّارِ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ}
[الأعراف / 50] ومما جاء على لفظ المضيّ للتقريب من الحال قول المقيم المفرد: قد قامت الصلاة. يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم بالصلاة لقرب ذلك من قوله. وعلى هذا قول رؤبة (3):
أوديت إن لم تحب حبو المعتنك فإنما أراد بذلك تقريب معاينة الهلاك وإشفاءه عليه. فأتى بمثال الماضي لما أراد به من مشارفته، وجعله سادّاً مسدّ الجواب من حيث كان معناه الاستقبال في الحقيقة، وأن الهلاك لم يقع بعد، ولولا ذلك لم يجز، ألا ترى أنّه لا يكون: قمت إن قمت، إنما تقول: أقوم إن قمت، وقوله تعالى (4):
__________
(1) في الأصل: (وإن الساعة لقريب) وليس في القرآن آية بهذا النص.
(2) في (ط) هذا بدل ذلك.
(3) الديوان ص 118من أرجوزة يمدح فيها الحكم بن عبد الملك والمعتنك: البعير يصعد في العانك من الرمل وهو المتعقد منه. وانظر الخصائص 2/ 389.
(4) سقطت من (ط).(2/260)
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب / 50] فيمن كسر {إِنْ}
ينبغي أن يحمله على فعل آت يضمره، ولا يحمله على الماضي المتقدّم الذي هو {أَحْلَلْنََا}، وعلى ما ذكرنا جاء كثير مما في التنزيل، من هذا الضرب كقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ} [الأنعام / 30] {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النََّارِ}
[الأنعام / 27] {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
[سبأ / 31] {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} [سبأ / 51] {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلََائِكَةُ} [الأنفال / 50]. فكما جاءت هذه الآي التي يراد بها الاستقبال بإذ، كذلك جاء {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ} [البقرة / 165]، فأما حذف جواب {لَوْ} في هذه الآي، فلأن حذفه أفخم لذهاب المخاطب المتوعّد إلى كل ضرب من الوعيد، وتوقّعه له (1)، واستشعاره إياه، ولو ذكر له ضرب منه لم يكن مثل أن يبهم عليه، لما يمكّن من توطينه نفسه على ذلك المذكور، وتخفيفه عليه، ومن وطّن نفسه على شيء لم يصعب عليه صعوبته على من لم يوطّن عليه نفسه.
وحجّة من قرأ: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالياء أن المتوعّدين لم يعلموا قدر ما يشاهدون ويعاينون من العذاب كما علمه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (2) والمسلمون. فالفعل ينبغي أن يكون مسنداً إليهم في قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}.
ومن حجّتهم أن المتقدم لقوله: {وَلَوْ يَرَى} غيبة، فينبغي أن يكون المعطوف عليه مثله، وهو قوله جلّ وعزّ (3):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).(2/261)
[البقرة / 165] فيمن قرأ بالتاء والياء، فمن قرأ بالياء فإنّ {أَنَّ}
معموله {يَرَى}، تقديره: ولو يرون أنّ القوّة لله جميعاً. وأما من قرأ بالتاء فقال: ولو ترى الذين ظلموا [البقرة / 165] فلا يخلو من أن يجعل ترى من رؤية العين (1) أو المتعدية إلى مفعولين. فإن جعلتها من رؤية البصر لم يجز أن يتعدّى (2) إلى أنّ، لأنها قد استوفت مفعولها الذي تقتضيه، وهو {الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولا يجوز أن يكون بدلًا من المفعول، لأنها ليست {الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولا بعضهم ولا مشتملًا عليهم، ولا يجوز أن تكون المتعدية إلى مفعولين، لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول في المعنى.
وقوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً} لا يكون {الَّذِينَ ظَلَمُوا} وإذا لم يكن إياهم، لم يجز أن يكون مفعولًا ثانياً، فإذا لم يجز أن ينتصب {أَنَّ} ب ترى فيمن قرأ بالتاء، جعلها المتعدية إلى مفعول أو مفعولين، ثبت أنه منتصب بفعل آخر غير ترى الظاهرة، وذلك الفعل هو الذي يقدّر جواباً للو، كأنّه: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب، لرأوا أن العزّة (3) لله جميعاً. والمعنى أنهم شاهدوا من قدرته سبحانه ما تيقّنوا معه أنه قوي عزيز، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم، لذلك، أو شكّهم فيه.
ومذهب من قرأ بالياء أبين، لأنهم ينصبون أنّ بالفعل الظاهر دون المضمر، وهذه الجوابات في هذا النحو من الآي
__________
(1) في (ط): البصر.
(2) في (ط): تتعدى.
(3) في (ط): القوة.(2/263)
تجيء محذوفة. فإذا أعمل الجواب في شيء صار بمنزلة الأشياء المذكورة في اللفظ. فحمل المفعول عليه، فخالف ما عليه سائر هذا النحو من الآي التي حذفت الأجوبة معها ليكون أبلغ في باب التوعّد.
فأمّا قوله عزّ وجلّ (1): {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ} [البقرة / 165] وهي قراءتهم إلا ابن عامر، فحجتهم في ذلك قوله: {وَإِذََا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذََابَ فَلََا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} [النحل / 85] وقال تعالى (2): {وَرَأَوُا الْعَذََابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبََابُ}
[البقرة / 166] فكما بني الفعل للفاعل الرائي دون المفعول به في هذا الباب (3)، كذلك ينبغي أن يكون في قوله: {يَرَوْنَ الْعَذََابَ} ولا يكون (4): يرون. كما لم يكن: وأروا العذاب.
وحجة ابن عامر أنه قد جاء: {كَذََلِكَ يُرِيهِمُ اللََّهُ أَعْمََالَهُمْ حَسَرََاتٍ} [البقرة / 167] فإذا كانوا مفعولًا بهم في الفعل المنقول بالهمزة المتعدي إلى مفعولين، كذلك يحسن أن يبنى الفعل لهم، إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد، فتقول: {يَرَوْنَ}
كما جاء ضميرهم مفعولًا في قوله: {يُرِيهِمُ} ألا ترى أنّك إذا قلت: {يُرِيهِمُ} فبنيت الفعل للمفعول به، قلت: يرون أعمالهم حسرات؟ وقوله: {يُرِيهِمُ اللََّهُ أَعْمََالَهُمْ حَسَرََاتٍ} منقول من رأى عمله حسرة، فإذا نقلته بالهمزة تعدى إلى مفعول آخر، وصار الفاعل قبل النقل المفعول الأول.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): ولا يكونوا.(2/264)
البقرة: 168
اختلفوا في ضمّ الطاء وإسكانها من قوله تعالى (1):
{خُطُوََاتِ} [البقرة / 168].
فقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائيّ وحفص عن عاصم {خُطُوََاتِ} مثقّلة.
وروى ابن فليح بإسناده عن أصحابه عن ابن كثير:
{خُطُوََاتِ} ساكنة الطاء خفيفة.
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة {خُطُوََاتِ} ساكنة الطاء (2) خفيفة (3).
قال أبو علي: أما الخطوة، فإنهم قد قالوا: خطوت خطوة، كما قالوا: حسوت حسوة، والحسوة اسم ما يحتسى.
وكذلك: غرفت غرفة، والغرفة اسم ما اغترف، فعلى هذا القياس يجوز أن تكون الخطوة والخطوة، فإذا كان كذلك، فالخطوة: المكان المتخطّى، كما أنّ الغرفة: العين المغترفة بالكفّ، فيكون المعنى: لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه، لأن الخطوة اسم مكان. وإن جعلت الخطوة كالخطوة في المعنى.
كما جعلوا الدّهن كالدّهن، فالتقدير: لا تأتمّوا به. ولا تقفوا أثره، فالمعنيان يتقاربان وإن اختلف التقديران. وقول رؤبة (4):
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 174173.
(4) البيت من أرجوزة للعجاج، وقبله وهو مطلع الأرجوزة:
وبلدة بعيدة النياط انظر ديوان العجاج 1/ 380واللسان / غول /.
والنياط: الأرض المعلقة من أرض إلى أرض أخرى والمجهولة التي ليس بها علامات يهتدى بها.(2/265)
مجهولة تغتال خطو الخاطي معناه: أن هذه المفازة لطولها وبعد أقطارها كأنّ الخطى تهلك فيها فلا تؤثّر في قطعها، كما قال ذو الرّمّة في وصف عين بالسّعة:
تغول سيول المكفهرّات غولها (1)
أي لسعتها، وأنها لا تمتلئ مما يمتدّ إليها من الأمطار كأنّها تهلكها وتذهب بها.
وحجة من حرّك العين من خطوات: أن الواحدة (خطوة) فإذا جمعت حركت العين للجمع، كما فعلت بالأسماء التي على هذا الوزن نحو: غرفة وغرفات قال تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفََاتِ آمِنُونَ} [سبأ / 37]. ولم يلزم أن تبدل من الضمة كسرة، ومن الواو ياء كما يفعل ذلك في: أدل، وأجر (2)، ونحوه، لأنه بمنزلة ما يبنى على التأنيث ألا ترى أن الضمة إنما اعترضت مع الجمع بالألف والتاء، ولم تثبت الضمة والواو آخرة، ثم لحقتها التاء للجمع، كما أن الياء والواو في: النهاية والشقاوة
__________
(1) عجز بيت وصدره:
فأوردها مسجورة ذات عرمض أي: أورد الحمار الأتن عيناً، ومسجورة: مملوءة ذات عرمض:
الخضرة على رأس الماء المكفهرات: السحائب المتراكبة. أراد: أن العين تغول سيول المكفهرات من سعتها. أي: تذهب بمائها. (انظر الديوان 2/ 935).
(2) جمع دلو وجرو، جمع قلة على وزن أفعل، قلبت الواو ياء لوقوعها طرفاً بعد ضمة (اللسان دلا).(2/266)
لم تثبتا في الكلام، ثم يلحقهما التأنيث. وإنما بنيت الكلمة على حرف التأنيث كما يبنى (1) «مذروان» (2) على التثنية، وهذا في {خُطُوََاتِ} ونحوها أظهر. لأن الضمة إنما تلحق مع الألف والتاء كما أنها في الغرفات والرّكبات كذلك.
وشيء آخر لمن ثقّل العين، وهو أنّه يجوز أن يكون لمّا حذف التاء التي للتأنيث، فبقي الاسم على فعل، حرّك العين مثل: عنق وعنق، وطنب وطنب فلمّا ثقّل العين بني الاسم على تاء التأنيث وألفه، كما بنى الاسم على التاء المفردة في: غيابة وشقاوة، وعلى التثنية في مذروان وثنايان (3)، والدليل على ذلك قول لبيد (4):
فتدلّيت عليه قافلًا ... وعلى الأرض غيايات الطّفل
ألا ترى أنه لو لم يكن الاسم مبنياً عليهما لهمزت الياء لوقوعها طرفا بعد ألف (5) زائدة، فكما أن ثنايان مبني على التثنية، كذلك هذا بني على الجمع بالألف والتاء.
__________
(1) في (ط): بني.
(2) المذروان: أطراف الأليتين وناحيتا الرأس مثل الفودين (اللسان ذرا).
(3) الثناء: عقال البعير ونحو ذلك من حبل مثني، وكل واحد من ثنييه فهو ثناء لو أفرد، وإنما لم يفرد له واحد لأنه حبل واحد تشد بأحد طرفيه اليد، وبالطرف الآخر الأخرى فهما كالواحد، وإنما لم يهمز لأنه لفظ جاء مثنى لا يفرد واحده فيقال: ثناء، فتركت الهمزة على الأصل (اللسان ثني).
(4) الغياية بالياء: ظل الشمس بالغداة والعشي الطفل: حين تهم الشمس بالغروب. ديوان لبيد / 145.
(5) في (ط): الألف.(2/267)
قال أبو الحسن: التحريك: قول أهل الحجاز.
وحجة من أسكن فقال: {خُطُوََاتِ}: أنهم نووا الضمة وأسكنوا الكلمة عنها ألا ترى أنّ القول في ذلك لا يخلو من أن تكون جمع فعلة، فتركوها في الجمع على ما كانت عليه في الواحد، أو يكونوا أرادوا الضمة فخفّفوها وهم يريدونها، كما أنّ من قال: لقضو الرجل ورضي، أراد الضمة والكسرة، فحذفوها من اللفظ وهم يقدرون ثباتها، بدلالة تركهم ردّ الياء والواو، فلا يجوز الوجه الأول لأن ذلك إنما يجيء في ضرورة الشعر دون حال السّعة والاختيار، كما قال ذو الرّمّة (1).
ورفضات الهوى في المفاصل فإذا لم يجز حمله على هذا الوجه، علمت أنه على الوجه الآخر، وأنهم أسكنوها تخفيفاً، وهم يريدون الضمة، كما تراد الضمة في: لقضو الرجل ونحوه، ولهذا لم يجمع ما كان على فعال، ونحوه من المعتل على: فعل، ولا فعل لأنك لو جمعته على فعل، لكانت الضمة في تقدير الثبات، ويدلّك على أنها عندهم في تقدير الثبات: أن التحريك فصل بين الاسم والصفة، فإذا كان كذلك علمت أن التحريك الذي يختصّ بالأسماء دون الصفات منويّ، فأما قولهم: ثني (2) وثن فهو مما رفضوه في سائر كلامهم.
__________
(1) جزء من بيت وتمامه:
أبت ذكر عوّدن أحشاء قلبه ... خفوقاً ورفضات الهوى في المفاصل
رفضاته: تفرقه وتفتحه في المفاصل. انظر الديوان 2/ 1337.
(2) قال سيبويه: فأما الثّني ونحوه فالتخفيف، لم يستعملوا في كلامهم الياء والواو لامات في باب فعل. (انظر الكتاب 2/ 399).(2/268)
ولمن أسكن. العين من {خُطُوََاتِ} وجه آخر من الحجاج، وهو أن يكون أجرى الواو في إسكانه إياها مجرى الياء ألا ترى أن ما كان من هذا النحو من الياء نحو، مدية، وكلية، وزبية، لم يجمع إلا بالإسكان للعين، وذلك أنك لو حركتها للزم انقلاب الياء واواً لانضمام ما قبلها، كما لزمها انقلابها في: لقضو الرجل، فلما كان التحريك يؤدي إلى القلب، قرروه على الإسكان فقالوا: مديات وكليات. فلما لزم الإسكان في الياء جعل من أسكن {خُطُوََاتِ} الواو بمنزلة الياء، كما جعلوها بمنزلتها في (اتسروا)، ألا ترى أن التاء لا تكاد تبدل من الياء، وإنما يكثر إبدالها من الواو، وإنما أبدلوها في (اتسر) (1)، لإجراء الياء مجرى الواو، وكذلك أجرى الواو مجرى الياء في أن أسكنها في {خُطُوََاتِ} ولا يلزمه على هذا أن يقول في:
غرفات: غرفات، لأنه لم يجتمع مع كثرة الحركات الأمثال كما اجتمعت في {خُطُوََاتِ}.
البقرة: 177
اختلفوا في رفع الراء ونصبها من قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة / 177].
فقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة: {لَيْسَ الْبِرَّ} بنصب الراء.
وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يقرأ بالنصب والرفع. وقرأ الباقون {الْبِرَّ} رفع (2).
__________
(1) في (ط): اتسرو.
(2) السبعة 174وقد تجاوز المصنف قبل هذا الحرف اختلافهم في ضم النون من قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} وأخواتها.(2/269)
قال أبو علي: كلا المذهبين حسن، لأنّ كلّ واحد من الاسمين: اسم ليس وخبرها (1)، معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف تكافئا في كون أحدهما اسماً والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان (2).
ومن حجة من رفع {الْبِرَّ}: أنه أن يكون {الْبِرَّ} الفاعل أولى، لأن {لَيْسَ} تشبه الفعل وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده، ألا ترى أنّك تقول: قام زيد فيلي الاسم الفعل، وتقول: «ضرب غلامه زيد»، فيكون التقدير بالغلام التأخير، ولولا أن الفاعل أخصّ بهذا الموضع لم يجز هذا، كما لم يجز في الفاعل: «ضرب غلامه زيداً» حيث لم يجز في الفاعل تقدير التأخير كما جاز في المفعول به، لوقوع الفاعل في الموضع الذي هو أخصّ به.
ومن حجة من نصب {الْبِرَّ}: أنه قد حكي لي عن بعض شيوخنا، أنه قال في هذا النحو: أن يكون الاسم: «أن
__________
(1) في (ط): وخبرهما.
(2) في هامش (ط): «وذهب ابن درستويه إلى منع جواز توسط خبر ليس، حكى لي ذلك عنه شيخنا الحافظ أبو حيان الأندلسي، قال: وهو محجوج بما جاء في القرآن من قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} بالنصب، وبقول الشاعر:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول»
انتهى. نقول: والبيت المذكور في هامش (ط) هو للسموأل بن عاديا الغساني اليهودي وقيل قاله اللجلاج الحارثي. والأول أشهر. والشاهد فيه: عالم: اسم ليس وسواء مقدماً خبره، وهو جائز خلافاً لابن درستويه والبيت حجة عليه. انظر حاشية الصبان على الأشموني 1/ 232والعيني 2/ 76. والحماسة للمرزوقي 1/ 117وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 202.(2/270)
وصلتها» أولى وأحسن، لشبهها بالمضمر، في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر، فكأنّه اجتمع مضمر ومظهر، والأولى إذا اجتمع مضمر ومظهر أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر، فكذلك (1) إذا اجتمع أن مع مظهر غيره، كان أن يكون أن والمظهر الخبر أولى.
البقرة: 182
اختلفوا في فتح الواو وتشديد الصاد وتخفيفها من قوله عزّ وجلّ: {فَمَنْ خََافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً} [البقرة / 182].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {مُوصٍ}
ساكنة الواو، وحفص عن عاصم مثله.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي {مُوصٍ}
مفتوحة الواو مشددة الصاد (2).
قال أبو علي: حجة من قال (3): {مُوصٍ}: قوله تعالى (4): {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس / 50] وحجة من قال (5): {مُوصٍ}: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ} [النساء / 11] و {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهََا أَوْ دَيْنٍ}
[النساء / 12]. وفي المثل:
إنّ الموصّين بنو سهوان (6)
__________
(1) في (ط): وكذلك.
(2) السبعة 176175.
(3) في (ط): قرأ.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): قرأ.
(6) المثل ذكره الميداني 1/ 9وذكر الاضطراب في فهمه ثم أورد صواب تفسيره بعد إيراد الرجز الوارد فيه فقال: يضرب لمن يسهو عن طلب شيء أمر به. والسّهوان: السهو، ويجوز أن يكون صفة، أي: بنو رجل سهوان، وهو آدم عليه السلام حين عهد إليه فسها ونسي، يقال: رجل(2/271)
وقال النّمر بن تولب:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... أوصّ بدعد من يهيم بها بعدي (1)
وقال آخر (2):
أوصيك إيصاء امرئ لك ناصح ... طبّ بصرف الدّهر غير مغفّل
فأمّا قوله تعالى: {وَوَصََّى بِهََا إِبْرََاهِيمُ بَنِيهِ}
[البقرة / 132] فلا أرى من شدّد ذهب فيه إلى التكثير وإنما وصّى مثل: أوصى، ألا ترى أنه قد جاء: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهََا أَوْ دَيْنٍ} [النساء / 12] ولم يشدّد، فإن كان للكثرة فليس هو من باب {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوََابَ} [يوسف / 23].
البقرة: 184
واختلفوا في الإضافة والتنوين، والجمع والتوحيد، من قوله تعالى: {فِدْيَةٌ طَعََامُ مِسْكِينٍ} (3) [البقرة / 184].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
__________
سهوان وساه، أي: إن الذين يوصّون لا بدع أن يسهوا، لأنهم بنو آدم عليه السلام. 1هـ. ونسب صاحب اللسان (سها) الرجز الذي منه المثل إلى زرّ بن أوفى الفقيمي.
(1) البيت مختلف في نسبته للنمر أو لنصيب، ومختلف في روايته أيضاً وخاصة في عجزه، انظر الشعر والشعراء 1/ 310و 412والأغاني 22/ 294، والموشح 299وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 9.
(2) هو عبد قيس بن خفاف والبيت من مفضلية برقم 116، وانظر شرح أبيات المغني 2/ 223.
(3) في (ط): اختلفوا في الإضافة والتنوين من قوله تعالى: {فِدْيَةٌ طَعََامُ}.
وفي الجمع والتوحيد من قوله: {مِسْكِينٍ}.(2/272)
{فِدْيَةٌ} منون {طَعََامُ مِسْكِينٍ} موحّد.
وقرأ نافع وابن عامر فدية طعام مساكين [{فِدْيَةٌ}] مضاف ومساكين جمع (1).
قال أبو علي: {طَعََامُ مِسْكِينٍ} على قول ابن كثير، ومن قرأ كما قرأ: عطف، بيّن الفدية. فإن قلت: كيف أفردوا المسكين والمعنى على الكثرة؟ ألا ترى أن {الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}
جمع، وكلّ واحد منهم يلزمه طعام مسكين، فإذا كان كذلك وجب أن يكون مجموعاً كما جمعه الآخرون.
فالقول: إن الإفراد جاز وحسن لأن المعنى: على (2) كل واحد طعام مسكين، فلهذا أفرد، ومثل هذا في المعنى قوله تعالى (3): {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدََاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً} [النور / 4] وليس جميع القاذفين يفرّق فيهم جلد ثمانين، إنّما على كلّ واحد منهم جلد ثمانين، وكذلك على كلّ واحد منهم طعام مسكين. فأفرد هذا كما جمع قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً}.
وقال أبو زيد: أتينا الأمير، فكسانا كلّنا حلّة، وأعطانا كلّنا مائة. قال أبو زيد: معناه: كسا كلّ واحد منا حلّة، وأعطى كلّ واحد منا مائةً.
وأما من أضاف الفدية إلى الطعام، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له، وذلك أنه سمّى الطعام الذي يفدى به فدية،
__________
(1) السبعة 176وما بين معقوفين منه.
(2) في (ط): وعلى.
(3) سقطت من (ط).(2/273)
ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعمّ الفدية وغيرها، وهو على هذا من باب: خاتم حديد.
البقرة: 185
اختلفوا في تشديد الميم وتخفيفها (1) من قوله جلّ وعزّ (2): {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة / 185].
فقرأ عاصم في رواية أبي بكر {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}
مشدّدة (3).
وروى حفص عن عاصم {وَلِتُكْمِلُوا} خفيفة. وروى علي بن نصر وهارون الأعور وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} مشدّدة.
وقال أبو زيد عن أبي عمرو كلاهما: مشددة ومخففة.
وقال اليزيدي وعبد الوارث عنه: إنه كان يثقّلها، ثم رجع إلى التخفيف. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي:
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} بإسكان الكاف خفيفة.
قال أبو علي: حجة من قرأ: {وَلِتُكْمِلُوا}: قوله (4):
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة / 3] وقد قال أوس (5):
عن امرئ سوقة ممّن سمعت به ... أندى وأكمل منه أيّ إكمال
ومن قال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فلأن فعّل وأفعل كثيراً ما
__________
(1) في (ط): في تخفيف الميم وتشديدها.
(2) سقطت (جل وعز) من (ط).
(3) في (ط): مشددة الميم.
(4) في (م): قوله تعالى.
(5) ديوانه / 102. وكل من كان دون الملك عند العرب فهو من السوقة.(2/274)
يستعمل أحدهما موضع الآخر، فمن ذلك ما تقدم ذكره من:
{وَصََّى} وأوصى. وقال النابغة (1):
فكمّلت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
قال أحمد: اتفقوا على تسكين لام الأمر إذا كان قبلها واو أو فاء في جميع القرآن.
واختلفوا إذا كان قبلها ثمّ.
فقرأ أبو عمرو: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج / 29] {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج / 15] بكسر اللام مع ثم وحدها. {وَلْيُوفُوا}
[الحج / 29] ساكنة اللام، {فَلْيَنْظُرْ} [الحج / 15] بالإسكان.
واختلف عن نافع فروى أبو بكر بن أبي أويس وورش عنه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا} {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} بكسر اللامين مثل أبي عمرو.
وروى المسيبي وإسماعيل بن جعفر وقالون وابن جماز وإسماعيل بن أبي أويس مثل حمزة بإسكان اللامين.
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بإسكان اللامين في الحرفين جميعاً وقال القوّاس (2) عن أصحابه عن ابن كثير:
{ثُمَّ لْيَقْضُوا} كسراً، وقال البزي: اللام مدرجة.
__________
(1) ديوانه / 16.
(2) أحمد بن محمد بن علقمة بن نافع بن عمر بن صبح بن عون أبو الحسن النبال المكي المعروف بالقواس، إمام مكة في القراءة. قرأ على وهب بن واضح، قرأ عليه قنبل وعبد الله بن جبير الهاشمي وأحمد بن يزيد الحلواني والبزي. (انظر طبقات القراء 1/ 123).(2/275)
وقرأ ابن عامر بتسكين لام الأمر فيما كان قبله واو أو فاء أو ثم في كل القرآن، إلا في خمسة مواضع كلها في الحج:
{ثُمَّ لْيَقْضُوا} [الآية / 29] ثم {لْيَقْطَعْ} [الآية / 15] {فَلْيَنْظُرْ}
[الآية / 15] {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الآية / 29] {وَلْيَطَّوَّفُوا}
[الآية / 29] بكسر اللام وسائر ذلك بالإسكان (1).
قال أبو علي: حجة من أسكن لام الأمر، إذا كان قبلها واو أو فاء: أنّ الواو والفاء، لمّا كان كلّ واحد منهما حرفاً مفرداً، ولم يجز أن تفصل (2) من الكلمة التي دخلت عليها، فتفصل (2) منها بالوقف عليها (4) أشبهت (5) الكلمة التي أحدهما فيه المتصل نحو: كتف وشكس. فكما أن هذا النحو من الأسماء والأفعال يخفّف في كلامهم بالتسكين، كذلك أسكنت اللام بعد هذين الحرفين.
وما يدل على (6) أن الحرف إذا لم ينفصل ممّا دخل عليه تنزّل منزلة جزء من الكلمة قولهم: هؤلاء الضاربوه والضاربوك، فحذفوا النون التي تلحق للجميع (7)، لما كانت النون حرفاً لا ينفصل من الكلمة، وعلامة الضمير كذلك، فلم يجتمعا.
وكذلك حرف اللين الذي للنّدبة، عاقب التنوين من حيث كان حرفاً لا ينفصل، كما كانت (8) النون كذلك. وكما تنزّلت هذه الحروف منزلة ما هو من الكلمة من حيث لم تنفصل منها
__________
(1) السبعة 177.
(2) في (ط): يفصل بالياء.
(4) في (ط) عليه.
(5) في (م) أشبه.
(6) زادت (م): «ذلك» بعد على، ولا ضرورة لها.
(7) في (ط): للجمع.
(8) في (م) كان.(2/276)
تنزلت الواو والهاء، منزلتهما، فحسن تخفيف الحرف بعدها، كما خفّف نحو: كتف وسبع. وليس كذلك ثمّ، لأنها على أكثر من حرف فتفصل من الكلمة ويوقف عليها فلم تجعلها بمنزلة الواو والفاء (1) لمفارقتهما لهما فيما ذكرنا.
وأما وجه قول من أسكن اللام بعدها كما أسكن بعد الفاء والواو، فهو أنّه جعل الميم من {ثُمَّ} بمنزلة الواو والفاء من قوله: فليقضوا [الحج / 29] فجعل فليقضوا من {ثُمَّ لْيَقْضُوا} بمنزلة (وليقضوا) وهذا مستقيم، وإن كان دون الأول في الحسن. ومما يدلّك على جوازه قول الراجز (2):
فبات منتصبا وما تكردسا وقالوا: أراك منتفخاً (3) فجعل تفخاً من (منتفخا) بمنزلة كتف فأسكنه كما أسكن الكتف، ومثل دخول الواو والفاء على هذه اللام دخولهما على هو وهي: في نحو: {وَهُوَ اللََّهُ} [القصص / 70] و {لَهِيَ الْحَيَوََانُ} [العنكبوت / 64] (4) إلا أن الفصل بين اللام في نحو: فليقضوا، وبين: {وَهُوَ} أن اللام من {لْيَقْضُوا} ليس من الكلمة، ولكنّها جرت مجرى ما هو من الكلمة لمّا لم تنفصل منها، كما لم تنفصل الواو والفاء والهاء (5)، من هو، وهي من نفس الكلمة، إلا أنّ اللام لما لم تنفصل من الكلمة تنزّلت
__________
(1) في (ط): الفاء والواو.
(2) انظر ص 79من هذا الجزء.
(3) انظر ما سبق 1/ 408و 2/ 79.
(4) في (ط): زيادة و {لَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ} [الحج / 58].
(5) سقطت من (م).(2/277)
منزلة الهاء التي من الكلمة. ومن هذا الباب قول الشاعر (1):
عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
ومن ذلك ما أنشده أبو زيد (2):
قالت سليمى اشتر لنا سويقا فما بعد التاء من قوله: «اشتر لنا سويقا» بمنزلة كتف فهذا حجة لمن قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا} فأسكن.
قال أحمد: اتفقوا في فتح الحاء من قوله عزّ وجل:
{الْحَجِّ} في سورة البقرة واختلفوا في آل عمران، وأنا أذكره إذا مررت به (3).
قال أبو علي: يريد في قوله تعالى (4): {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومََاتٌ} [الآية / 197]. والحجّ مصدر لقولهم: حجّ البيت أي: قصده، ومثل الحجّ قولهم: شدّ شداً، وردّ ردّاً، وعدّ عدّاً.
قال (5) سيبويه: قالوا: حجّ حجّا كقولهم: ذكر ذكراً.
قال: وقالوا: حجّة يريدون: عمل سنة، كما قالوا:
غزاة: يريدون عمل وجه واحد (6). فلو قرئ: {الْحَجِّ} على ما حكاه سيبويه لم يمتنع في القياس.
__________
(1) سبق انظر ج 1/ 66و 409.
(2) سبق انظر 1/ 410.
(3) السبعة 178.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): وقال.
(6) انظر سيبويه 2/ 230.(2/278)
وقولهم: حجّ وهم يريدون جمع الحاجّ، يمكن أن يكونوا سمّوا بالمصدر الذي هو كالذّكر تقديره: ذوو حجّ وأنشد أبو زيد:
أصوات حجّ من عمان غادي (1)
وقال:
وكأنّ عافية النّسور عليهم ... حجّ بأسفل ذي المجاز نزول (2)
ومعنى قوله تعالى (3): {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومََاتٌ} تقديره:
أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف أو يكون:
الحجّ حجّ أشهر معلومات، فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر، وعلى هذا:
يا سارق الليلة أهل الدار (4)
أو يكون جعل الأشهر الحجّ، لمّا كان الحجّ فيها، كقولهم: ليل نائم فجعل الليل النائم لمّا كان النوم فيه.
__________
(1) هذا شطر بيت من الرجز وقبله:
كأنما أصواتها بالوادي اللسان / حج / وروايته «عادي» بالعين، وانظر النوادر في اللغة لأبي زيد / 164.
(2) البيت لجرير من قصيدة يمدح فيها عبد الملك ويهجو الأخطل، العافية:
الغاشية التي تغشى لحومهم، وذو المجاز بالطائف وكان موسماً من مواسم العرب وسوقاً عظيمة كعكاظ ومجنة. ديوان جرير بشرح ابن حبيب 1/ 104. وانظر اللسان (حج) وفيه: حج بضم الحاء، مثل بزل، جمع حاج.
(3) سقطت من (ط).
(4) رجز سبق ذكره انظر الجزء الأول ص 20.(2/279)
وأشهر الحج: شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة، فسمّى الشهرين وبعض الثالث أشهراً، لأن الاثنين قد يوقع عليه لفظ الجمع، كما يوقع عليه لفظ الجمع في نحو قولهم:
ظهراهما مثل ظهور التّرسين (1)
ولا يجوز على هذا القياس أن يوقع على الاثنين.
وبعض الثالث {قُرُوءٍ} في قوله: {ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة / 228] لأنّ هذا محصور بالعدد، فلا يكون الاثنان وبعض الثالث ثلاثة.
واختلفوا في: البيوت والعيون والشّيوخ والغيوب والجيوب (2): في ضمّ الحرف الأول من هذه كلّها وكسره.
فقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائيّ {الْغُيُوبِ} بضم الغين وكسر الباء من {الْبُيُوتَ} والعين من {الْعُيُونِ}.
__________
(1) البيت من قصيدة لخطام المجاشعي كما في شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 140. وقال في شرح شواهد الشافية 60ونسبه الصقلي والجوهري إلى هميان بن أبي قحافة. وانظر الخزانة 3/ 374. وفي الكتاب لسيبويه 1/ 241عزاه لخطام المجاشعي وعزاه في 2/ 202لهميان بن قحافة.
وانظر البيان والتبيين 1/ 156، شرح المفصل لابن يعيش 4/ 155، 156 العيني 4/ 89.
(2) البيوت في آيات كثيرة، والعيون في قوله سبحانه من سورة القمر آية 12:
{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} والشيوخ في سورة غافر آية 67: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} والغيوب في آيتين من سورة المائدة 109 و 116والتوبة 78وسبأ 48والجيوب في سورة النور 31: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى ََ جُيُوبِهِنَّ}.(2/280)
وقرأ أبو عمرو بضم ذلك كلّه: الباء والعين والغين والجيم والشين.
واختلف عن نافع فروى المسيّبيّ وقالون: {الْبُيُوتَ}
بكسر الباء، وهذه وحدها، وضمّ الغين والعين والجيم والشين.
وقال ورش عن نافع: أنه ضمّ ذلك كلّه، والباء من {الْبُيُوتَ}، وكذلك قال إسماعيل بن جعفر وابن جمّاز عنه: أنه ضمّها كلّها.
قال أبو بكر بن أبي أويس (1): {الْبُيُوتَ}، و {الْغُيُوبِ}، و {الْعُيُونِ}، والجيوب، و {جُيُوبِهِنَّ}، والشيوخ بكسر أول، ذلك كلّه.
قال الواقديّ عن نافع: {الْبُيُوتَ} بضم الباء.
واختلف عن عاصم أيضاً، فروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عنه: أنه كسر الباء من {الْبُيُوتَ}، والعين من {الْعُيُونِ}، والغين من {الْغُيُوبِ}، والشين من {شُيُوخاً}، وضمّ الجيم من (الجيوب) وحدها.
قال: يبدأ بالكسر ثم يشمّها الضمّ.
وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يكسر الشين من {شُيُوخاً} وحدها، ويضمّ الباقي وهذا غلط. وقال عمرو بن
__________
(1) هو عبد الحميد بن أبي أويس، ابن أخت الإمام مالك بن أنس يعرف بالأعشى ثقة. أخذ القراءة عرضاً وسماعاً عن نافع بن أبي نعيم، مات سنة 230هـ انظر طبقات القراء 1/ 360.(2/281)
الصبّاح عن أبي عمر عن عاصم {شُيُوخاً} بضم الشين، وضم سائر الحروف.
وكان حمزة يكسر الأول من هذه الحروف كلّها. وقال خلف وأبو هشام عن سليم عن حمزة: أنه كان يشمّ الجيم الضمّ، ثم يشير إلى الكسر، ويرفع الياء من قوله {جُيُوبِهِنَّ}
وهذا شيء لا يضبط.
وقال غير سليم بكسر الجيم (1).
قال أبو علي: أما من ضمّ الفاء من شيوخ، وعيون (2)، وجيوب (3) فبيّن لا نظر فيه بمنزلة فعول إذا كان جمعاً، ولم تكن عينه ياء، وأما من قال: (شيوخ وجيوب) فكسر الفاء، فإنما فعل ذلك من أجل الياء، أبدل من الضمّة الكسرة لأن الكسرة للياء أشدّ موافقة من الضمة لها.
فإن قلت: هلّا استقبح ذلك، لأنه أتى بضمّة بعد كسرة، وذلك مما قدمت أنهم قد رفضوه في كلامهم، فهلّا رفض أيضاً القارئ للجيوب ذلك؟
قيل (4): إن الحركة إذا كانت للتقريب من الحرف لم تكره، ولم تكن بمنزلة ما لا تقريب فيه ألا ترى أنه لم يجيء في الكلام عند سيبويه على فعل إلا إبل. وقد أكثروا من هذا البناء، واستعملوه على اطّراد، إذا كان القصد فيه تقريب الحركة من الحرف، وذلك قولهم: ماضغ لهم، ورجل محك
__________
(1) السبعة 179178.
(2) في (ط): غيوب.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): قيل له.(2/282)
وجئز (1). وقالوا في الفعل: شهد ولعب.
واستعملوا في إرادة التقريب ما ليس في كلامهم على بنائه البتّة (2)، وذلك نحو: شعير ورغيف وشهيد، وليس في الكلام شيء على فعيل على غير هذا الوجه، فكذلك نحو: شيوخ وجيوب. يستجاز فيه ما ذكرنا للتقريب والتوفيق بين الجمعين (3). ومما يدل على جواز ذلك أنك تقول في تحقير فلس: فليس، ولا يكسر أحد الفاء في هذا النحو، فإذا كانت العين ياء، كسروا الفاء (4) [فقالوا: عيينة وبييت، فكسروا الفاء هاهنا] لتقريبه من الياء، ككسر الفاء من فعول وذلك مما قد حكاه سيبويه، فكما كسرت الفاء من عيينة ونحوه، وإن لم يكن في أبنية التحقير، على هذا الوزن لتقريب الحركة ممّا بعدها، كذلك كسروا الفاء من (جيوب) ونحوها.
ومما يقوي هذا الكسر في الفاء إذا كان العين ياء للإتباع، أنّه قد جاء في الجموع ما لزمته الكسرة في الفاء، ولم نعلم أحداً ممّن يسكن إلى روايته (5) حكى فيه غير ذلك، وذلك قولهم في جمع قوس: قسيّ فلولا أن الكسر (6) في هذا الباب قد تمكّن ما كان الحرف (7) ليجيء على الكسر خاصة، ولا يستعمل فيه غيره، فإذا نسبت إلى قسي اسم رجل قلت: قسويّ، فرددت الضمّة التي هي الأصل، وقياس من
__________
(1) قال سيبويه 2/ 255: يقال: جئز الرجل: غصّ. وذكر سيبويه أن كسر فاء فعل، وفعيل لغة تميم.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): الحرفين.
(4) في (ط): الفاء هاهنا. وسقط ما بين المعقوفين بعدها.
(5) في (ط): ثقته.
(6) في (ط): الكسرة.
(7) في (ط): الحرف منه.(2/283)
قال: صعقيّ أن يقول: قسويّ (1)، فيقرّ الكسرة، وإن كانت الكسرة في العين التي لها كسرت الفاء قد زالت كما زالت من صعقيّ. ويدلك على ذلك أيضاً ما أنشده أبو زيد (2):
يأكل أزمان الهزال والسني وقول أبي النجم:
جاءت تناجيني ابنة العجليّ في ساعة مكروهة النّجيّ يكفيك ما موّت في السّنيّ فالأول فعول أيضاً، وإنما حذفت للقافية، ويدلك على أنه فعول التشديد الذي في بيت أبي النجم، ولم نعلم الضمّ سمع في ذلك أيضاً.
البقرة: 191
واختلفوا في إثبات الألف وطرحها من قوله عزّ وجلّ:
{وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ حَتََّى يُقََاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قََاتَلُوكُمْ} [البقرة / 191].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: {وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ حَتََّى يُقََاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قََاتَلُوكُمْ} كلّها بالألف.
__________
(1) ضبطت العين والسين في (م) بالكسر. في قوله: صعقي وقسوي. وانظر سيبويه 2/ 73.
(2) النوادر 322 (ط جامعة الفاتح) من أبيات من مشطور الرجز منسوبة لامرأة من عقيل وهي في الخزانة 3/ 304وقبل البيت:
وحاتم الطائي وهاب المئي قال البغدادي: خففت ياءات النسب للقافية.(2/284)
وقرأ حمزة والكسائيّ: ولا تقتلوهم بغير ألف، فيهنّ كلّهنّ، ولم يختلفوا في قوله: {فَاقْتُلُوهُمْ} أنها بغير ألف (1).
قال أبو علي: حجة من قرأ: {وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ} في هذه المواضع اتفاقهم في قوله تعالى: {وَقََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ}
[البقرة / 193] والفتنة يراد بها الكفر، أي: قاتلوهم حتى لا يكون كفر لمكان قتالكم إياهم.
وحجة من قرأ: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فيه أنهم لم يختلفوا في قوله (2): {فَاقْتُلُوهُمْ} فكل واحد من الفريقين يستدل على ما اختار بالموضع المتفق عليه.
ويقوي قول من قال: {فَاقْتُلُوهُمْ} (3)، قوله تعالى (4):
{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة / 191] والقتل: مصدر قتلته، دون قاتلته أي: الكفر أشدّ من القتل، فاقتلوهم، فأمر بالقتل ليزاح به الكفر.
ويمكن أن يرجّح [قراءة من قرأ: {وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ} من أنه على قراءة من قرأ: {فَاقْتُلُوهُمْ} (5) بأنّ قوله {فَاقْتُلُوهُمْ}
و {قََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ} نص على الأمر بالقتال.
وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في فحواه دلالة على الفعل، فيقول: الأخذ بما علم بالنص أولى ممّا علم من
__________
(1) السبعة في القراءات ص 180179.
(2) في (ط): قوله عز وجل.
(3) في (ط): ولا تقتلوهم.
(4) سقطت من (ط).
(5) ما بين المعقوفتين وردت في (ط) كما يلي: [من قرأ {وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ}
قراءته على قراءة من قرأ فاقتلوهم].(2/285)
الفحوى، إذا كانا في أمر واحد. وقوله {حَتََّى يُقََاتِلُوكُمْ فِيهِ}
[البقرة / 191]. أي: حتى يقتلوا بعضكم فإن قتلوكم فاقتلوهم، أي: إن قتلوا بعضكم في الحرم فاقتلوا في الحرم القاتل في الحرم.
ومثل ذلك قوله تعالى: {فَمََا وَهَنُوا لِمََا أَصََابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} [آل عمران / 176] أي: ما وهن الباقون منهم لما أصابهم في سبيل الله.
البقرة: 197
واختلفوا (1) في ضم الثّاء والقاف والتنوين ونصبهما بغير تنوين في قوله تعالى (2): {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ}
[البقرة / 197].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ} بالضم فيهما والتنوين.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ} فيهما بغير تنوين، ولم يختلفوا في نصب اللام من {جِدََالَ} (3).
قال أبو علي: روي عن طاوس (4) قال: سألت ابن عباس عن قوله: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ} قال: الرفث المذكور ليس الرفث المذكور في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ} [البقرة / 187]، ومن الرفث التعريض بذكر
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) سقطت من (ط).
(3) في قوله سبحانه، {وَلََا جِدََالَ فِي الْحَجِّ} في الآية نفسها. السبعة في القراءات 180.
(4) في الطبري 2/ 263: ابن طاوس.(2/286)
{وَلََا جِدََالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة / 197] أي: لا شكّ فيه أنه لازم في ذي الحجّة، وقالوا: من المجادلة.
وقال أبو عبيدة: الرّفث إلى نسائكم: الإفضاء إلى نسائكم.
قال أبو علي: قد وافق قول أبي عبيدة ما روي عن ابن عباس، لأن ابن عباس جعل الرّفث المذكور، فيما روى عطاء عنه في قوله: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ} [البقرة / 197] أنه غير الرّفث المذكور في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ} فقال في قوله: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ} من الرّفث:
التعريض بذكر الجماع.
وينبغي أن يكون مراده بذكر الجماع مع النساء، ويؤكد ذلك قوله: التعريض بذكر النساء، والتعريض يقتضي معرّضاً له. وإنما تأوّلناه على مراجعة النساء الحديث بذكر الجماع، دون اللفظ به من غير مراجعتهنّ، لأنه قد روي عن ابن عباس أنه كان يطوف بالبيت وينشد:
وهنّ يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا (1)
فقيل له: أترفث؟ فقال: ليس هذا برفث، إنما الرفث مراجعة النساء الحديث بذكر الجماع. قال يعقوب فيما أخبرنا
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/ 343تفسير القرطبي 2/ 407و 11/ 247وأوله في اللسان (همس). هميساً: صوت نقل أخفاف الإبل، والهمس: الكلام الخفي لا يكاد يفهم.(2/288)
به محمد بن السري قال يزيد بن هارون: لميساً يعني: فرجاً، وليس بامرأة بعينها. وقد وافق قول أبي عبيدة قول ابن عباس، لأنه فسّر الرفث في قوله تعالى: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ}: ما لا ينبغي أن يتكلم به، وفسر الرفث في قوله جل وعز (1): {الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ} [البقرة / 187]: الإفضاء إلى نسائكم. قال أبو الحسن: وألحق إلى في قوله عز وجل: {الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ}
لما كان الرفث بمعنى الإفضاء.
وأما قوله: {وَلََا جِدََالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة / 197] فيحتمل ضربين قد أشار إليهما أبو عبيدة، أحدهما: أنه لا شك في أن فرض الحج قد تقرر في ذي الحجة، وبطل ما كان يفعله النّسأة من تأخير الشهور، وفيهم نزل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيََادَةٌ فِي الْكُفْرِ}
[التوبة / 37] والآخر: لا جدال: لا تجادل صاحبك ولا تماره.
فأما قوله جلّ اسمه (2): {فِي الْحَجِّ} فلا يخلو (لا) من أن تقدّره (3) بمعنى ليس، كما قال:
لا مستصرخ و: لا براح (4)
أو تقدرها غير معملة عمل ليس، وإنما يرتفع الاسم بعدها بالابتداء، فمن قدر ارتفاع الاسم بعدها بالابتداء جاز في قول سيبويه: أن يكون في الحج خبراً عن الأسماء الثلاثة، لاتفاق الأسماء في ارتفاعها بالابتداء.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): تكون بدلًا من: تقدره.
(4) سبق الكلام عليه انظر ج 1ص 194.(2/289)
وأما قوله: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ} فبيّن.
وأما قوله: {وَلََا جِدََالَ} [البقرة / 197] فإن {لََا} مع جدال في موضع رفع، فقد اتفقت الأسماء في ارتفاعها بالابتداء، فلا يمنع (1) من أن يكون قوله: {فِي الْحَجِّ} خبرا عنها، ولا يجوز ذلك في قول أبي الحسن، لأنه يرى ارتفاع الخبر بعد لا، بلا النافية دون خبر الابتداء. ولو قدر مقدر في قوله: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ}، الاسم مرتفعاً بلا، كما يرتفع بليس لم يجز في واحد من القولين أن يكون {فِي الْحَجِّ} في موضع الخبر، لأن الخبر ينتصب بلا كما ينتصب بليس، وخبر {لََا جِدََالَ} في موضع رفع بأنه خبر الابتداء، وفي قول أبي الحسن في موضع نصب بلا، فلا يجوز أن يكون خبراً عن الأسماء الثلاثة لوجود عمل عاملين مختلفين في مفعول واحد.
ولو رفع رافع: ولا جدال، ونوّن لجاز أن يكون قوله: {فِي الْحَجِّ} خبراً عن الأسماء الثلاثة. فإن رفع: فلا رفث ولا فسوق، بلا التي في معنى ليس، أضمر لها خبراً، ولم يجز أن يكون قوله: {فِي الْحَجِّ} خبراً عنها، ولكنه يجوز أن يكون خبراً عن:
{لََا جِدََالَ} ويجوز أن يكون صفة للجدال، فإذا جعلته صفة أضمرت لقولك: {لََا جِدََالَ فِي الْحَجِّ} خبراً، ولا يجوز أن يكون {فِي الْحَجِّ} متعلقاً بالجدال على قول الخليل، وسيبويه.
ويجوز في قول البغداديين أن يكون متعلقاً بالجدال، وإن كانت لا النافية قد علمت فيه. ولو رفع الجدال ونوّن لجاز أن يكون {فِي الْحَجِّ} متعلقاً بالجدال، لأن الجدال يبدل بهذا الحرف
__________
(1) في (ط) فلا يمتنع.(2/290)
الجار، قال تعالى: {أَتُجََادِلُونَنِي فِي أَسْمََاءٍ سَمَّيْتُمُوهََا}
[الأعراف / 71].
وحجة من فتح فقال: {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ وَلََا جِدََالَ} أن يقول: إنه أشد مطابقة للمعنى المقصود، ألا ترى أنه إذا فتح فقد نفى جميع الرفث والفسوق، كما أنه إذا قال: {لََا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة / 2] فقد نفى جميع هذا الجنس، فإذا رفع ونوّن فكأن النفي لواحد منه، ألا ترى أن سيبويه يرى: أنه إذا قال:
لا غلام عندك ولا جارية، فهو جواب من سأل فقال: أغلام عندك أم جارية؟ والفتح أولى، لأن النفي قد عم، والمعنى عليه، ألا ترى أنه لم يرخّص في ضرب من الرفث والفسوق كما لم يرخّص في ضرب من الجدال، وقد اتفق الجميع على فتح اللام من الجدال، ليتناول النفي جميع جنسه، فيجب أن يكون ما قبله من الاسمين على لفظه إذ كان في حكمه.
وحجة من رفع: أنه يعلم من الفحوى أنه ليس المنفيّ رفثا واحداً، ولكنه جميع ضروبه، وقد يكون اللفظ واحداً، والمعنى المراد به جميع، قال:
فقتلًا بتقتيل وضرباً بضربكم ... جزاء العطاس لا ينام من اتّأر (1)
__________
(1) هذا البيت للمهلهل وقد ورد في معجم تهذيب اللغة (11/ 145) (جزى) برواية:
فقتلى بقتلانا وجزّ بجزّنا ... جزاء العطاس لا يموت من اثأر
أي: لا يموت ذكره. وقوله: جزاء العطاس: أي عجلنا إدراك الثأر كقدر ما بين التشميت والعطاس.(2/291)
ومن حجته: أن هذا الكلام نفي، والنفي قد يقع فيه الواحد موقع الجميع، وإن لم يبن فيه الاسم مع لا النافية نحو: ما رجل في الدار.
البقرة: 208
واختلفوا (1) في فتح السين وكسرها من قوله جل وعز (2): {السِّلْمِ}.
فقرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة / 208] {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال / 61] {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد / 35] بفتح السين منهن (3).
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، بكسر السين فيهن (4).
وقرأ حمزة: بكسر السين في سورة البقرة وحدها، وفي سورة محمد عليه السلام وفتح السين في سورة (5) الأنفال.
وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: بكسر السين في سورة البقرة، وفتحا السين في سورة الأنفال، وفي سورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (6).
وروى حفص عن عاصم في الثلاثة مثل أبي عمرو (7).
قال أبو علي: قول ابن كثير ونافع والكسائي:
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): فيهن. وكذلك وردت في السبعة.
(4) في (ط): فيهن كلهن. وفي السبعة: ثلاثتهن.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): عليه السلام.
(7) في السبعة زاد: من كسر التي في البقرة، وفتح التي في الأنفال وسورة القتال. (السبعة في القراءات ص 181).(2/292)
{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} [البقرة / 208] يحتمل أمرين: يجوز أن يكون لغة في السّلم الذي يعنى به الإسلام.
قال أبو عبيدة وأبو الحسن: السّلم: الإسلام، وإنما يكون السلم مصدراً في معنى الإسلام إذا كسرت الحرف الأول منه، فهو كالعطاء من أعطيت، والنبات من أنبت. ويجوز أن يريدوا بفتحهم الأول من قوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}: الصلح، وهو يريد الإسلام، لأن الإسلام صلح، ألا ترى أن القتال والحرب بين أهله موضوع، وأنهم أهل اعتقاد واحد، ويد واحدة في نصرة بعضهم لبعض، فإذا كان ذلك موضوعاً بينهم، وفي دينهم، وغلّظ على المسلمين في المسايفة بينهم كان صلحاً في المعنى، فكأنه قيل: ادخلوا في الصلح، والمراد به الإسلام، فسماه صلحاً لما ذكرناه (1)، فهذا المسلك فيه أوجه من أن يكون الفتح في السّلم لغة في السّلم الذي يراد به الإسلام، لأن أبا عبيدة وأبا الحسن لم يحكيا هذه اللغة، ولم أعلمها أيضاً عن غيرهما، فإن ثبتت به رواية عن ثقة فذاك.
وأما قراءة عاصم في رواية أبي بكر بكسر السين فيهن كلّهنّ، فالقول في ذلك أن المراد بكسر السين في قوله:
{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}: الإسلام. كما فسره أبو عبيدة وأبو الحسن، والمعنى عليه، ألا ترى أن المراد إنما هو تحضيضهم على الإسلام، والدعاء إليه، والدخول فيه، وليس المراد: ادخلوا في الصلح، وليس ثمّ صلح يدعون إلى الدخول فيه، إلّا أن يتأوّل (2) أنّ الإسلام صلح على نحو ما تقدم ذكره، وأما كسره
__________
(1) في (ط): ذكرنا.
(2) في (ط): يتأولوا.(2/293)
السين في قوله تعالى (1): {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال / 61] فلأن السّلم: الصلح. وفيه ثلاث لغات فيما رواه التّوزيّ عن أبي عبيدة في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} فقال: السّلم والسّلم والسّلم واحد، وأنشد:
أنائل إنني سلم ... لأهلك فاقبلي سلمي (2)
والسّلم الذي هو الصلح يذكّر ويؤنّث.
وقوله: {فَاجْنَحْ لَهََا} وقد حكي عن أبي زيد أنه سمع من العرب من يقول (3): فاجنح له، فذكّره. قال أبو الحسن: وهو مما لا يجيء منه فعل، فقال: ولكنك تقول: سالم مسالمة.
وعلى ما ذكره أبو الحسن جاء قول الشاعر (4):
تبين صلاة الحرب منّا ومنهم ... إذا ما التقينا والمسالم بادن
لأنه عادل المسالم بصالي الحرب، وأخذ عاصم بلغة من يكسر الأولى (5) من السّلم في الصلح. وأما كسر عاصم السين في قوله: {فَلََا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد / 35] فإن
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) البيت لمسعدة بن البختري يقوله في نائلة بنت عمر بن يزيد الأسيدي وكان يهواها. انظر الأغاني 13/ 271وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج / 43واللسان / سلم / وضبطت سلم فيه بكسر السين وتسكين اللام.
(3) في (ط): سمع من يقول من العرب.
(4) البيت للمعطّل الهذلي في ديوان الهذليين 3/ 47. تبين: أي تستبين من كان يصلى الحرب منا، ومن كان لا يصلاها وجدته بادناً لا يهزله شيء.
(5) في (ط): الأول.(2/294)
المراد هنا بالسّلم: الصّلح. فكسر الأول منه، كما كسر في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} والصلح الذي أمر به، ولم ينه عنه في قوله جل وعز: {فَلََا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}
[محمد / 35] أي: لا تدعوا إلى الصّلح، مع علوّ أيديكم وظهور كلمتكم إلى الصلح والموادعة. وهذا إنما هو على حسب المصلحة في الأوقات.
وأما قراءة حمزة بكسر السين في سورة البقرة [وفي سورة [محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (1)] فإن السّلم في سورة البقرة يراد به الإسلام، كما تقدم وفي سورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} فإن السلم: الصلح. وكذلك في الأنفال المراد به الصلح في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}. وفي السّلم إذا أريد به الصلح لغتان: الفتح والكسر، فأخذ حمزة باللغتين جميعاً، فكسر في موضع وفتح في آخر.
وأما قراءة أبي عمرو وابن عامر السّلم بكسر السين في سورة البقرة، فالسلم يعنى به: الإسلام. وأما فتحهما السين في سورة الأنفال وسورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (2)، فإن السّلم فيهما يراد به الصلح. وفيه الكسر والفتح، فأخذا بالفتح في الموضعين جميعاً، ولم يفصلا كما فصل حمزة، وأخذ باللغتين. وكذلك القول في رواية حفص عن عاصم، وكل حسن.
__________
(1) سقط ما بين المعقوفتين من (ط).
(2) في (م): عليه السلام.(2/295)
وأما قوله: / ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم [النساء / 94] وقوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللََّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ}
[النحل / 87] {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مََا كُنََّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}
[النحل / 28] فليس الإلقاء هاهنا كالإلقاء في قوله تعالى (1):
{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلََامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران / 44] وقوله سبحانه (2): {وَأَلْقى ََ فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}
[النحل / 15] ألا ترى أن الإلقاء هنا رمي وقذف؟ وهذا إنما يكون في الأعيان، وليس في قوله: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم [النساء / 94] والآي الأخر عين تلقى، ولكن تلك الآي: بمنزلة قوله عز وجل: {وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
[البقرة / 195].
والمعنى: لا تقولوا لمن استسلم إليكم، وانقاد وكفّ عن قتالكم: لست مؤمناً. وكذلك المعنى في قوله تعالى (2): {وَأَلْقَوْا إِلَى اللََّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل / 87] كأنهم استسلموا لأمره ولما يريده منهم من عذابه وعقابه، لا مانع لهم منه ولا ناصر.
وكذلك قوله تعالى (2): {وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ}
[الزمر / 29] أي: يستسلم له ويستخذي، فينقاد لما يريده منه ولا يمتنع عليه، وقد قرئ سالما لرجل وسالم: فاعل. وهو في هذا الموضع حسن لقوله: {فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ}
[الزمر / 29] أي: في أصحابه وخلطائه شركاء متشاكسون، يخالف بعضهم بعضاً، فلا ينقاد أحد منهم لصاحبه، فمسالم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط)(2/296)
خلاف متشاكسون (1).
ومن قرأ {سَلَماً لِرَجُلٍ} احتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون فعل بمنزلة فاعل مثل: بطل وحسن، ونظير ذلك: يابس ويبس، وواسط ووسط.
ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر، لأن السّلم مصدر، ألا ترى أن أبا عبيدة قال: السّلم والسّلم والسّلم واحد، فيكون ذلك كقولهم: الخلق، إذا أردت به المخلوق، والصيد، إذا أردت به المصيد، ومعنى: {هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلًا} [الزمر / 29] أي (2): ذوي مثل.
وأما قوله تعالى (3): {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقََالُوا سَلََاماً قََالَ سَلََامٌ} [الذاريات / 25] فقال أبو الحسن: هذا فيما يزعم المفسرون: قالوا: خيراً، قال: فكأنه سمع منهم التوحيد. وإذا سمع منهم التوحيد فقد قالوا خيراً، فلما عرف أنهم موحّدون، قال: سلام عليكم، فسلّم عليهم، فسلام على هذا: رفع بالابتداء، وخبره مضمر.
وأما قوله تعالى (4): {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلََامٌ}
[الزخرف / 89] فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، كقوله: {قََالَ: سَلََامٌ}، وهو يريد: قال: سلام عليكم.
والآخر: أن يكون خبر مبتدأ، كأنه أراد: أمري سلام، أي:
أمري براءة، وأضمر المبتدأ في هذا الوجه، كما أضمر الخبر
__________
(1) في (ط): متشاكسين.
(2) سقطت «أي» من (م).
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).(2/297)
في الوجه الأول: ويكون المعنى: أمري سلام أي: أمري براءة، قال: لأن السلام يكون في الكلام البراءة، قال: تقول:
إنما فلان سلام، أي: لا يخالط أحداً، وأنشد لأمية (1):
سلامك ربّنا في كلّ فجر ... بريئاً ما تغنّثك الذّموم
قال: يقول: براءتك. وأخبرنا أبو إسحاق قال: سمعت محمد بن يزيد يقول: السلام في اللغة أربعة أشياء: السلام مصدر سلّمت والسلام جمع سلامة، والسّلام: اسم من أسماء الله (2) عز وجل (3)، والسلام: شجر، ومنه قول الأخطل:
إلّا سلام وحرمل (4)
ويكون منه ضرب خامس، وهو ما ذكره أبو الحسن من أن السلام يكون في الكلام البراءة، واستشهاده على ذلك ببيت أمية، وقولهم: إنما فلان سلام. وأما قولهم: في أسماء (5) الله جل (6) وعز (السلام) فهو مصدر وصف به، كما أن العدل والحق في نحو قوله: {أَنَّ اللََّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور / 25].
والمعنى على ضربين: أحدهما: أنه يسلم من عذابه من
__________
(1) سبق انظر صفحة / 150/ من هذا الجزء.
(2) انظر تفسير اسماء الله الحسنى ص 30وشأن الدعاء ص 41.
(3) في (ط): تعالى.
(4) من بيت في ديوانه 1/ 14وتمامه:
فرابية السكران قفر فما بها ... لهم شبح إلّا سلام وحرمل
الحرمل: ضرب من النبات.
(5) في (ط): اسم.
(6) سقطت من (ط).(2/298)
لا يستحقه. والآخر: أن يكون الذي معناه التنزيه، كأنه المتنزّه من الظلم والاعتداء.
فأما قوله سبحانه: {لَهُمْ دََارُ السَّلََامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
[الأنعام / 127] فيحتمل ضربين: يكون السلام [اسم الله تعالى] (1)، والإضافة المراد بها: الرفع من المضاف، كقولهم لمكة: بيت الله، والخليفة: عبد الله. ويجوز أن يكون السلام في قوله: {دََارُ السَّلََامِ} جمع سلامة، أي: الدار التي من حلّها لم يقاس عذاباً لعقاب (2)، كما جاء في خلافها: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة / 43] ونحو قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكََانٍ وَمََا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم / 17].
البقرة: 207
اختلفوا في إمالة الألف وتفخيمها من قوله تعالى (3):
{مَرْضََاتِ اللََّهِ} (4) [البقرة / 207].
فقرأ الكسائي وحده: {ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ اللََّهِ} ممالة.
وقرأ الباقون: {مَرْضََاتِ اللََّهِ} بغير إمالة.
وكان حمزة يقف في (5) {مَرْضََاتِ} بالتاء، والباقون يقفون بالهاء.
قال أبو علي: حجة الكسائي في إمالته الألف من مرضاة الله، أن الواو إذا وقعت رابعة كانت كالياء في انقلابها
__________
(1) في (ط): اسماً من أسماء الله عز وجل.
(2) في (ط): بعقاب.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) كتاب السبعة، ص 180وقد تقدم عنده على اختلافهم في {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} وهو ما يقتضيه ترتيب الآيات.
(5) سقطت من (ط).(2/299)
ياء، تقول: مغزيان، كما تقول: مرميان، فأمال ليدلّ على أن الياء تنقلب عن الألف في التثنية، ولم يمنعها المستعلي من الإمالة، كما لم يمنع المستعلي من إمالة نحو (1): صار وخاف وطاب.
وحكي عن ابن أبي إسحاق أنه سمع كثير عزّة يقول:
صار مكان كذا (2)، فلم يمنعه المستعلي من الإمالة لطلب الكسرة في صرت من أن يميل صار، فكذلك الألف في مرضاة الله.
وغير الإمالة أحسن كما قرأ الأكثر.
فأما وقف حمزة على التاء من {مَرْضََاتِ} فإنه يحتمل أمرين:
أحدهما: على قول من قال: طلحت، حكاه سيبويه (3)
عن أبي الخطاب (4). وأنشد أبو الحسن (5):
ما بال عين عن كراها قد جفت مسبلة تستنّ لمّا عرفت داراً لسلمى بعد حول قد عفت بل جوز تيهاء كظهر الجحفت
__________
(1) في (ط): في نحو.
(2) أوردها سيبويه 2/ 261.
(3) الكتاب 2/ 281في باب الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل.
(4) سبقت ترجمته في: 1/ 86.
(5) هذه الأبيات من رجز منسوب لسؤر الذئب. أورده البغدادي في شرح شواهد الشافية 4/ 200مع اختلاف في الرواية. وانظر الخصائص 1/ 304والمحتسب 2/ 92. وقوله: تستن: أي: تجري بدمعها، من سننت الماء: إذا أرسلته بغير تفريق. وبل وضعت موضع رب. وجوز:
وسط، والتيهاء: المفازة التي يتيه فيها سالكها. والجحفة: الترس، شبه التيهاء بظهر الترس في الملاسة.(2/300)
ويجوز أن يكون لمّا كان المضاف إليه في التقدير، أثبت التاء كما يثبته في الوصل، ليعلم أن المضاف إليه مرادٌ، كما أشمّ من أشمّ الحرف المضموم، ليعلم أنه في الوصل مضمومٌ، وكما شدّد من شدّد فرجّ، ليعلم أنه في الوصل متحرك، وكما حرّك من قال:
إذ جد النّقر (1)
بالضم (2) ليعلم أنه في الوصل مضموم، وكما كسر من كسر قوله:
واصطفافاً بالرجل (3)
ليعلم أنّه في الوصل مجرور. ويدلّ على قوله شيء آخر، وهو قول الراجز:
إنّ عديّا ركبت إلى عدي وجعلت أموالها في الحطمي ارهن بنيك عنهم أرهن بني (4)
__________
(1) هذا جزء من بيت سبق بتمامه في 1/ 98.
(2) «بالضم» زيادة في (ط).
(3) هذا جزء من بيت في الرجز وتمامه في النوادر (205ط جامعة الفاتح) والخصائص 2/ 335:
علّمنا أصحابنا بنو عجل ... الشّغزبيّ واعتقالًا بالرّجل
وهو برواية:
علّمنا إخواننا بنو عجل ... شرب النبيذ واصطفاقاً بالرّجل
في المخصص 11/ 200والانصاف ص 734واللسان (عجل) والعيني 4/ 567وقال فيه: إن أبا عمر سمع أبا مرار الغنوي ينشد هذا البيت.
والشغزبي: ضرب من المصارعة. والاعتقال: أن يدخل رجله بين رجلي صاحبه حتى يصرعه.
(4) في اللسان (رهن): وزعم ابن جني أن هذا الشعر جاهلي، رهنه عنه:
جعله رهنا بدلًا منه، وانظر المحتسب 1/ 108والخصائص 3/ 327.(2/301)
فقوله: (بني) أراد: بنيّ، فحذف ياء الإضافة للوقف، كما يحذف المثقّل من نحو سرّ وضرّ. فلولا أن المضاف إليه المحذوف في نيّة المثبت، لردّ النون في بنين. فكما لم يردّ النون في بنين، كذلك لم يقف بالهاء في {مَرْضََاتِ} لأن المضاف في تقدير الثبات في اللفظ، ولولا أنه كذلك عندهم، لم يجز دخول بني في هذه القافية، ألا ترى أن النون لو ثبتت في الاسم المجموع، لحذف المضاف إليه من اللفظ لخرج من هذه القافية، ولم يجز ضمّ البيت إليها؟ فكذلك حكم التاء من {مَرْضََاتِ} في الوقف عليها.
فإن قال قائل في وقفه على التاء من {مَرْضََاتِ}: ما تنكر أن يكون هذا خلاف قول سيبويه، لأنه قد قال: لو سمّيت بخمسة عشر فرخّمته، لقلت: يا خمسه، فوقفت بالهاء (1).
ولو كان على قياس وقف حمزة في مرضات (2)، لقلت: يا خمست ألا ترى أن الاسم الثاني المحذوف للترخيم مرادٌ كما كان المضاف إليه مراداً؟
قيل له: لا يدلّ ما قاله سيبويه في خمسة في الترخيم، على أن وقف حمزة في المضاف بالتاء خلاف ما ذهب إليه سيبويه، لأن الترخيم بناءٌ آخر، وصيغة أخرى. وليس حذف المضاف إليه من المضاف كذلك. ألا ترى أنه يراد ضمّه إلى المضاف إذا ذكر أو حذف، والترخيم ليس كذلك، لأنه على ضربين: أحدهما: أنه يقدر فيه المحذوف. والآخر: أنه يكون ارتجال اسم على حدةٍ. فالمقدّر فيه إثبات ما حذف منه يجري
__________
(1) سيبويه 1/ 342باب الترخيم في الأسماء
(2) في (ط): مرضاة.(2/302)
وكما أجري هذا مجرى: «يا حار» (1) كذلك في الوقف عليه.
البقرة: 210
اختلفوا في فتح التاء وضمها من قوله جل وعز (2):
{تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة / 210] و {يُرْجَعُ الْأَمْرُ} [هود / 123].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرٍو ونافعٌ وعاصمٌ: {وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} بضم التاء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} بفتح التاء.
وكلّهم قرأ: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} بفتح الياء، غير نافعٍ وحفص عن عاصم فإنّهما قرآ: {يُرْجَعُ الْأَمْرُ} برفع الياء.
وروى خارجة عن نافع أنّه قرأ: وإلى الله يرجع الأمور بالياء مضمومة في سورة البقرة. ولم يروه غيره (3).
قال أبو علي: حجة من بنى الفعل للمفعول به قوله تعالى (4): {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللََّهِ مَوْلََاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام / 62].
وقال: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى ََ رَبِّي} [الكهف / 36] والمعنى في بناء
__________
ضرورة كما كان في النداء جار عليهما انظر الأعلم: طرة سيبويه 1/ 343).
(1) لعلها كلمة من بيت لمهلهل بن ربيعة تمامه:
يا حار لا تجهل على أشياخنا ... إنّا ذوو الثورات والأحلام
الشاهد فيه ترخيم حارث. وهو الحارث بن عباد القائم بحرب بكر بعد قتل ابنه بجير (الأعلم: طرة سيبويه 1/ 335).
(2) في (ط): تعالى.
(3) كتاب السبعة: ص 181.
(4) سقطت من (ط).(2/304)
الفعل للمفعول كالمعنى في بناء الفعل للفاعل.
وحجة من بنى الفعل للفاعل قوله عز وجل (1): {أَلََا إِلَى اللََّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى / 53] وقوله جلّ وعز: {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ} [الغاشية / 25] وقوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} (2). ألا ترى أنّ المصدر مضافٌ إلى الفاعل، والمعنى: إلينا رجوع أمرهم في الجزاء على الخير والشر (3)، وقوله: {وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ}
[البقرة / 156]، وقوله: {كَمََا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف / 29] وقال: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} [النور / 64] {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}
[هود / 123].
وأما {يُرْجَعُ} و {تُرْجَعُ} بالياء والتاء فجميعاً حسنان، فالياء لأن الفعل متقدم، فذكّر كما قال: {وَقََالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ}
[يوسف / 30]، فالتأنيث تأنيث من أجل الجمع، وتأنيث الجمع ليس بتأنيث حقيقي، ألا ترى أن الجمع (4) بمنزلة الجماعة. والتاء في ترجع لأن الكلمة تؤنث في نحو: هي الأمور، و: {قََالَتِ الْأَعْرََابُ} [الحجرات / 14].
البقرة: 214
اختلفوا في نصب اللام ورفعها من قوله جلّ وعز (5):
{حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة / 214].
فقرأ نافع وحده: {حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ} برفع اللام.
وقرأ الباقون: {حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ} نصباً. وقد كان
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في آل عمران / 55، والعنكبوت / 8ولقمان / 15.
(3) وانظر النشر 2/ 209208.
(4) في (ط): الجميع.
(5) في (ط): عز وجل.(2/305)
الكسائي يقرؤها دهراً رفعاً، ثم رجع إلى النصب.
وروى ذلك عنه الفرّاء (1)، قال: حدثني به وعنه محمد بن الجهم عن الكسائي (2).
قال أبو علي: قوله عز وجلّ: {وَزُلْزِلُوا حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ} من نصب فالمعنى: وزلزلوا إلى أن قال الرسول.
وما ينتصب بعد حتى من الأفعال المضارعة على ضربين (3): أحدهما: أن يكون بمعنى إلى، وهو الّذي تحمل عليه الآية. والآخر: أن يكون بمعنى كي، وذلك قولك:
أسلمت حتى أدخل الجنة، فهذا تقديره: أسلمت كي أدخل الجنة. فالإسلام قد كان، والدخول لم يكن، والوجه الأول من النصب قد يكون الفعل الذي قبل حتى مع ما (4) حدث عنه قد مضيا جميعاً. ألا ترى أن الأمرين في الآية كذلك.
وأما قراءة من قرأ: {حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ} بالرفع، فالفعل الواقع بعد حتى إذا كان مضارعاً لا يكون إلّا فعل حالٍ، ويجيء أيضاً على ضربين:
أحدهما: أن يكون السبب الذي أدّى الفعل الذي بعد حتى قد مضى، والفعل المسبّب لم يمض، مثال ذلك قولهم:
«مرض حتى لا يرجونه» و: «شربت الإبل حتى يجيء البعير يجرّ بطنه». وتتّجه على هذا الوجه الآية، كأن المعنى: وزلزلوا
__________
(1) معاني القرآن 1/ 133.
(2) كتاب السبعة 182181.
(3) انظر مغني اللبيب (حتى) 170169 (ط. د. الفكر).
(4) رسمت مع ما في الأصل موصولة هكذا: معما.(2/306)
فيما مضى، حتى أن الرسول يقول الآن: متى نصر الله، وحكيت الحال التي كانوا عليها، كما حكيت الحال في قوله:
{هََذََا مِنْ شِيعَتِهِ وَهََذََا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص / 15] وفي قوله:
{وَكَلْبُهُمْ بََاسِطٌ ذِرََاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف / 18].
والوجه الآخر من وجهي الرفع: أن يكون الفعلان جميعاً قد مضيا، نحو: سرت حتى أدخلها، فالدخول متصلٌ بالسّير بلا فصل بينهما، كما كان في الوجه الأول بينهما فصلٌ. والحال في هذا الوجه أيضاً محكيّة، كما كانت محكية في الوجه الآخر، ألا ترى أنّ ما مضى لا يكون حالًا؟. وحتى إذا رفع الفعل بعدها، حرفٌ يصرف الكلام بعدها إلى الابتداء، وليست العاطفة ولا الجارّة، وهي إذا انتصب الفعل بعدها الجارّة للاسم، وينتصب الفعل بعدها بإضمار أن، كما ينتصب بعد اللام بإضمارها.
البقرة: 219
اختلفوا في الباء والثاء من قوله تعالى: {إِثْمٌ كَبِيرٌ}
[البقرة / 219] فقرأ الكسائيّ وحمزة: إثم كثير بالثاء. وقرأ الباقون: {كَبِيرٌ} بالباء (1).
قال أبو علي: حرّمت الخمر بقوله: قل فيهما إثم كثير سعيد عن قتادة: {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ذمّها ولم يحرّمها، وهي يومئذٍ حلالٌ، فأنزل الله تعالى (2): {لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ}
[النساء / 43] وأنزل الآي في المائدة، فحرم قليلها وكثيرها.
__________
(1) كتاب السبعة ص 182.
(2) في (ط): عز وجل.(2/307)
ومن أهل النظر من يذهب إلى أن قوله جل وعز (1): {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة / 219] دلالة على تحريمها لقوله: {قُلْ إِنَّمََا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوََاحِشَ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَمََا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ}
[الأعراف / 33] فقد حرّم الإثم، وقال: {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ}
فوجب أن يكون محرماً.
وقال: {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ}، والمعنى: في استحلالهما.
ألا ترى أنّ المحرم إنّما هو بعض المعاني التي فيهما، وكذلك (2)
في سائر الأعيان المحرّمة. وقال أبو حنيفة فيما أخبرنا أبو الحسن: أنه إذا نظر إليها على وجه التلذّذ بها فقد أتى محظوراً، وكذلك قوله تعالى (3): {وَإِثْمُهُمََا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمََا}
إنما هو إثمُ معاصٍ تفعل فيها، وأسبابٍ لها.
وقال بعض نقلة الآثار: تواتر الخبر أن الآية التي في البقرة نزلت، ولم يحرّم بها، وقد اختلف في الآية التي حرّمت [بها الخمر، فقال قوم: حرمت بهذه الآية، وقال قوم:
حرمت] (4) بالآي التي في المائدة.
فيعلم من ذلك أنّ الاثم يجوز أن يقع على الكبير وعلى الصغير، لأن شربها قبل التحريم لم يكن كبيراً، وقد قال:
فيهما إثمٌ كبير. وقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} [النساء / 112] فالخطيئة تقع على الصغير والكبير، فمن الصغير قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من (م).(2/308)
[الشعراء / 82] ومن الكبير: {وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}
[البقرة / 81] فهذا كبيرٌ.
فإن قلت: فكيف تقدير قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} [النساء / 112] والخطيئة قد وقعت على الصغيرة والكبيرة، والإثم كذلك، فكأنه بمنزلة من يكسب صغيراً أو صغيراً، أو من يكسب كبيراً أو كبيراً؟.
قيل له: ليس المعنى كذلك، ولكنّ الإثم قد وقع في التنزيل على ما يقتطعه الإنسان من مال من لا يجوز له أن يقتطع من ماله. فإذا كان كذلك، جاز أن يكون التقدير: من يكسب ذنباً بينه وبين الله، أو ذنباً هو من مظالم العباد، فهما جنسان، فجاز دخول «أو» في الكلام، على أن المعنى: من يكسب أحد هذين الذنبين.
والموضع الذي وقع فيه الإثم على المظلمة قوله تعالى:
{فَإِنْ عُثِرَ عَلى ََ أَنَّهُمَا اسْتَحَقََّا إِثْماً} [المائدة / 107] أي: إن اطلعتم على أن الشاهدين اقتطعا بشهادتهما، أو يمينهما على الشهادة إثماً فالأولى بالميت وبولاية أمره، آخران يقومان مقامهما.
وإنّما جاز وقوع الإثم عليه على أحد أمرين: إما أن يكون أريد بالإثم: ذا إثم، أي: ما اقتطعه الإنسان مما اؤتمن فيه من مال صاحبه إثمٌ فيه، أو يكون سمّى المقتطع إثماً لمّا كان يؤدّي آخذه إلى الإثم، كما سمّي مظلمةً لأنه يؤدي إلى الظلم.
قال سيبويه: المظلمة: اسم ما أخذ منك (1). فكأنّ تقدير: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً}: من أذنب ذنباً بينه وبين الله، أو اقتطع حقاً للعباد، وهذان جنسان.(2/309)
وإنّما جاز وقوع الإثم عليه على أحد أمرين: إما أن يكون أريد بالإثم: ذا إثم، أي: ما اقتطعه الإنسان مما اؤتمن فيه من مال صاحبه إثمٌ فيه، أو يكون سمّى المقتطع إثماً لمّا كان يؤدّي آخذه إلى الإثم، كما سمّي مظلمةً لأنه يؤدي إلى الظلم.
قال سيبويه: المظلمة: اسم ما أخذ منك (1). فكأنّ تقدير: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً}: من أذنب ذنباً بينه وبين الله، أو اقتطع حقاً للعباد، وهذان جنسان.
ومما يقوي ذلك: أن قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً}
إنما نزل في رجل سرق شيئا من آخر، فكأنّ ذلك المسروق أوقع عليه اسم الإثم كما أوقع عليه في الآية الأخرى. فأما الذّكر الذي في {رَبِّهِ} على الإفراد فلأن المعنى: ثم يرم به بأحد هذين، بريئا. أو يكون عاد الذكر إلى الإثم، كما عاد إلى التجارة في قوله عز وجل (2): {وَإِذََا رَأَوْا تِجََارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهََا} [الجمعة / 11] وقد يكون الذكر في {إِلَيْهََا} عائداً على المعنى، لأن المعنى: إذا رأوا إحدى هاتين الخصلتين.
وقال تعالى (3): {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة / 203] والإثم إنما يظنّ أن يكون على المتعجّل، فأمّا المتأخر فليس بآثم لإتمامه نسكه، فقيل:
من تأخّر فلا إثم عليه، فذكر المتأخر بوضع الإثم عنه، كما ذكر المتعجل، فقال بعض المتأولين: ذكر أن وضع (4) الإثم عنهما، وإن كان الذي يلحقه الإثم أحدهما.
قال: وقد يكون المعنى: لا يؤثّمنّ أحدهما الآخر، فلا يقول المتأخر للمتعجل: أنت مقصر (5). ومثل الوجه الأول عنده قوله في (6) المختلفين: {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
__________
(1) الكتاب 2/ 248.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): بوضع، مكان: أن وضع.
(5) انظر معاني القرآن 1/ 148.
(6) في (م): قول المختلفين.(2/310)
[البقرة / 229]، والجناح على الزوج، لأنه أخذ ما أعطى، وقد جاء: {وَلََا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمََّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}
[البقرة / 229] وقال: {فَلََا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتََاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء / 20] فقد وقع الإثم هنا أيضاً على المأخوذ منه.
وقد يجوز أن يكون (1): لا جناح على كل واحد منهما إذا كان ذلك عن تراض منهما. وشبّه المتأول ما ذكرنا بقوله تعالى (2): {نَسِيََا حُوتَهُمََا} [الكهف / 61] وبقوله: {يَخْرُجُ} [3]
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجََانُ [الرحمن / 22] فنسب النسيان إليهما، والناسي فتى موسى ََ، لا موسى. والمخرج منه اللؤلؤ أحدهما.
وهذا يجوز أن يكون على حذف المضاف، كأنه: يخرج من أحدهما، ونسي أحدُهما، فحذف المضاف كما حذف في قوله: {عَلى ََ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف / 31] فالتقدير: على رجل من رجلي القريتين عظيم. وحذفُ المضاف كثيرٌ جداً.
وقال (4): {وَلََا نَكْتُمُ شَهََادَةَ اللََّهِ إِنََّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ}
[المائدة / 106]. وقال: {وَلََا تَكْتُمُوا الشَّهََادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهََا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة / 283] فوقع الإثم في الموضعين على من لم يؤدِّ الأمانة في إقامة الشهادة. وأما قوله تعالى (5)
__________
(1) {أَنْ يَكُونَ} زيادة من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) {يَخْرُجُ} بضمِّ الياء وفتح الراء قراءة المدنيين والبصريين، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الراء. انظر النشر 2/ 380. والكشف لمكي 2/ 301.
(4) في (ط): وقال تعالى.
(5) سقطت من (ط).(2/311)
{وَإِذََا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللََّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة / 206] فإن الجار يجوز تعلقه بشيئين، بالأخذ وبالعزة، فإن علقته بالأخذ، كان المعنى (1): (أخذته بما يؤثم)، أي: أخذته بما يكسبه ذلك، والمعنى: للعزّة، أنه يرتكب ما لا ينبغي له أن يرتكبه، فكأن العزة حملته على ذلك وقلة الخشوع. وقد يكون المعنى:
الاعتزاز بالإثم، أي: يعتزّ بما يؤثمه فيبعده مما يرضاه الله.
وقالوا: تأثّم الرجل: إذا ترك الإثم واجتنبه، وتحوّب: إذا ترك الحوب. وكان القياس أن يكون تأثّم: إذا ركب الإثم، وفعله، مثل: تفوّق، وتجرّع. ومثل تحوّب أنهم قد قالوا:
هجد الرجل: إذا نام، وهجّدته: نوّمته، قال لبيد (2):
قال هجّدنا فقد طال السّرى (3)
أي: نوّمنا. وقالوا تهجّد إذا سهر، فهذا مثل تأثّم إذا اجتنب الإثم وتحوّب. وفي التنزيل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نََافِلَةً لَكَ} [الإسراء / 79].
قال أبو علي: حجة من قرأ بالباء: {إِثْمٌ كَبِيرٌ} أن يقول:
الباء أولى، لأن الكبر مثل العظم، ومقابل الكبر الصغر، قال تعالى (4): {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر / 53]. وقد استعملوا في الذنب إذا كان موبقا الكبير، يدلُّ على ذلك قوله:
__________
(1) في (ط): المعنى فيه.
(2) في (ط): وقال.
(3) صدر بيت عجزه في ديوانه 2/ 142:
وقدرنا إن خنى دهرٍ غفل ويروى (خنى الدهر). هجّدنا: دعنا ننام، قدرنا: أي عنى ورود الماء خنى الدهر: أحداثه.
(4) سقطت من (ط).(2/312)
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبََائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوََاحِشَ} [النجم / 53] وقال تعالى (1): {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء / 31].
فكما جاء: {كَبََائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوََاحِشَ} و {كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} بالباء، كذلك ينبغي أن يكون قوله: {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ}
بالباء، ألا ترى أن شرب الخمر والميسر من الكبير، وكما وصف الموبق بالعظم في قوله عز وجل (1): {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
[لقمان / 13] كذلك ينبغي أن يوصف بالكبر في قوله: {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقالوا في غير الموبق: صغيرٌ وصغيرةٌ، ولم يقولوا: قليل. فلو كان كثيرٌ متجهاً في هذا الباب، لوجب أن يقال في غير الموبق: قليل، ألا ترى أن القلة مقابل الكثرة، كما أن الصغر مقابل الكبر؟
ومما يدل على حسن: {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قوله تعالى ََ (3): {وَإِثْمُهُمََا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمََا} واتفاقهم على أكبر ورفضهم لأكثر.
ومما يقوي ذلك أنه قد وصف بالعظم في قوله سبحانه (3): {فَقَدِ افْتَرى ََ إِثْماً عَظِيماً} [النساء / 48] فكما وصف بالعظم، كذلك ينبغي أن يوصف بالكبر.
ووجه قراءة من قرأ بالثاء أنه قد جاء فيهما: {إِنَّمََا يُرِيدُ الشَّيْطََانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدََاوَةَ وَالْبَغْضََاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللََّهِ وَعَنِ الصَّلََاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
[المائدة / 91] وجاء في الحديث فيما حدثنا (5) ابن قرين
__________
(1) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(5) في (ط): حدثنا به.(2/313)
ببغداد في درب الحسن بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق بمصر في سنة ثمانٍ وستين ومائتين
قال: حدثنا أبو عاصم عن شبيب (1) عن أنس بن مالك قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (2)، في الخمر عشرةً: مشتريها، وبائعها، والمشتراة له، وعاصرها والمعصورة له، وساقيها، والمسقاها، وحاملها، والمحمولة إليه. وآكل ثمنها» (3)
فهذا يقوي قراءة من قرأ (كثيرٌ).
فإن قال قائل: إن الكثرة إنما ذكرت ليس في نفس الخمر، ولا في نفس الميسر، إنما هي في أشياء تحدث عنها أو تؤدّي إليها، قيل (4): إن ذلك، وإن كان كما ذكرت، فقد وقع الذمّ في التنزيل عليها، ألا ترى أنه قال عز وجل (5): {إِنَّمََا يُرِيدُ الشَّيْطََانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدََاوَةَ وَالْبَغْضََاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} والميسر: قمارٌ، وأكل المال بالباطل، وقد قال: {لََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ} [النساء / 29].
ومما يقوي قراءة من قرأ كثير قوله تعالى ََ (6): {وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ} [البقرة / 219] فكأن الإثم عودل به المنافع، فلما عودل به المنافع حسن أن يوصف بالكثرة، لأنه كأنه قال: فيه مضارٌّ كثيرة، ومنافع. فلما صار الإثم كالمعادل للمنافع، والمنافع يحسن أن توصف بالكثرة، كما جاء: {لَكُمْ فِيهََا مَنََافِعُ كَثِيرَةٌ}: [المؤمنون / 21]
__________
(1) في (ط): حميد بدل شبيب.
(2) سقطت من (ط).
(3) رواه أحمد في 1/ 316عن ابن عباس وفي 2/ 71عن ابن عمر، وفي 97عن ابن عمر عن أبيه. ورواه أبو داود 4/ 81وابن ماجة برقم 3380عن ابن عمر باب لعنت الخمر على عشرة أوجه.
(4) في (ط): قيل له.
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).(2/314)
كذلك حسن أن يوصف الذي عودل به بالكثرة (1). وليس الخمر بالنبيذ في اللغة. والأسماء الأول لا توضع بالمقاييس، يدلُّ (2) على ذلك قول أبي الأسود (3):
دع الخمر تشربها الغواة فإنّني ... رأيت أخاها مجزئاً بمكانها (4)
فإلّا يكنها أو تكنه، فإنّه ... أخوها غذته أمّه بلبانها
ألا ترى أن الشيء لا يكون أخا نفسه، وأن ما أدى إلى ذلك كان فاسداً.
البقرة: 219
اختلفوا في فتح الواو وضمها من قوله جل وعز: {قُلِ الْعَفْوَ}
[البقرة / 219].
فقرأ أبو عمرٍو وحده: {قُلِ الْعَفْوَ} رفعاً.
وقرأ الباقون: {الْعَفْوَ} نصباً.
وروي (5) عن ابن عامرٍ نصب الواو أيضاً.
__________
(1) في (ط): الكثرة.
(2) في (ط): يدلك.
(3) البيتان في المقتضب 3/ 98، الخزانة 2/ 426، العيني 1/ 312311 والثاني في الكتاب 1/ 21واللسان / لبن /.
والبيتان لأبي الأسود الدؤلي يخاطب مولىً له كان يحمل تجارة إلى الأهواز، وكان إذا مضى إليها تناول شيئاً من الشراب، فاضطرب أمر البضاعة، فنهاه أبو الأسود عن ذلك. ويقول له: إن نبيذ الزبيب يقوم مقامها، فإن لم تكن الخمر نفسها من نبيذ الزبيب فهي أخته اغتذتا من شجرة واحدة (اه العيني).
(4) بين الأسطر في (م): وروي: مغنياً لمكانها.
(5) في (ط): وأرى ابن.(2/315)
حدثني (1) عبد الله بن عمرٍو بن أبي سعدٍ الوراق قال:
حدثنا أبو زيد عمرُ بن شبّة (2)، عن محبوب بن الحسن، (3) عن إسماعيل المكي (4) عن عبد الله بن كثير أنه قرأ: {قُلِ الْعَفْوَ}
رفعاً. والذي عليه أهل مكة الآن النصبُ.
قال أبو علي: قال ابن عباس: العفوُ: ما فضل عن أهلك.
عطاءٌ وقتادة والسدّي: العفوُ: الفضلُ. قال الحسن: {قُلِ الْعَفْوَ}: ما لا يجهدكم صفوه من أموالكم، ليس بالأصول. أبو عبيدة: العفوُ: الطاقة التي تطيقها، والقصد، يقال: ما عفا لك أي ما صفا لك. غيره: غير (5) الجهد من أموالكم.
قال أبو علي: اعلم أن قولهم: (ماذا) تستعمل على وجهين: أحدهما: أن يكون ما مع ذا اسماً واحداً، والآخر: أن يكون ذا بمنزلة الذي. والدليل على جعلهما جميعاً بمنزلة اسم واحد قول العرب: عمّا ذا تسأل؟ فأثبتوا الألف في (ما). فلولا أن «ما» مع «ذا» بمنزلة اسم واحد لقالوا: عمَّ ذا تسأل؟ فحذفوا الألف من آخر ما، كما حذف من قوله (6): {عَمَّ يَتَسََاءَلُونَ}
__________
(1) في كتاب السبعة: وحدثني.
(2) هو عمر بن شبة بن عبيدة بن زيد أبو زيد النميري البصري روى القراءة عن جبلة ابن أبي مالك، وأبي زيد الأنصاري انظر طبقات القراء 1/ 592.
(3) هو محبوب بن الحسن روى عن إسماعيل بن خالد انظر طبقات القراء 1/ 164.
(4) هو إسماعيل بن خالد روى عن ابن كثير وعنه محبوب بن الحسن ونصر ابن علي الجهضمي انظر طبقات القراء 1/ 164.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (م): من قولهم.(2/316)
[النبأ / 1] و {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرََاهََا} [النازعات / 43] فلما لم يحذفوا الألف من آخر «ما» علمت أنه مع «ذا» بمنزلة اسم واحد، فلم تحذف الألف منه لمّا لم يكن آخر الاسم، والحذف إنما يقع إذا كانت الألف آخراً إلا أن يكون في شعرٍ، كقول الشاعر (1):
على ما قام يشتمني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرّغ في دمان
ويدل على ذلك قول الشاعر (2):
دعي ماذا علمت سأتّقيه ... ولكن بالمغيّب نبّئيني
كأنه قال:
دعي شيئاً علمت، ومما يحمل على أن «ماذا» فيه شيءٌ واحد قول الشاعر (3):
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم ... لا يستفقن إلى الدّيرين تحنانا
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت، قاله في هجو بني عابد بموحدة بعدها دال مهملة والدمان كالرماد وزناً ومعنى انظر شرح أبيات المغني 5/ 220، الخزانة 2/ 537، أمالي ابن الشجري 2/ 233، الشافية 4/ 224، ابن يعيش 4/ 9، العيني 4/ 554، الهمع 2/ 217والدرر 2/ 238.
(2) البيت من شواهد النحو مجهول القائل انظر سيبويه 1/ 405الخزانة 2/ 554شرح أبيات المغني 5/ 230.
(3) البيت لجرير يهجو فيه الأخطل. انظر ديوانه / 598.(2/317)
وأما وجه قول من رفع فقال: {قُلِ الْعَفْوَ} فإن ذا تجعل بمنزلة الذي بعد ما. ولا تجعل معها بمنزلة اسم واحد، فإذا قال: {مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل / 24] فكأنه قال: ما الذي أنزله ربّكم؟ فجواب هذا: قرآنٌ وموعظةٌ حسنةٌ، فتضمر المبتدأ الذي كان خبراً في سؤال السائل، كما تقول في جواب: ما الذي أنفقته؟ مال زيد، أي: الذي أنفقته مال زيد. فمما جاء
على هذا في التنزيل قوله تعالى (1): {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ: مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل / 24] فأساطير الأولين في قول سيبويه (2): يرتفع على ما ذكرته لك. وقد روي عن أبي زيدٍ وغيره من النحويين أنهم قالوا: لم يقرّوا، يريدون: أنهم لم يُقِرُّوا بإنزال الله جلّ وعزّ لذلك، فكأنهم لم يجعلوا: {أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} خبر الذي أنزل.
ووجه قول سيبويه: أن أساطير الأولين خبر «ذا» الذي بمعنى الذي في قوله: {مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} على أن يكون المعنى: الذي أنزل ربّكم عندكم أساطير الأولين.
كما جاءت: {وَقََالُوا: يََا أَيُّهَا السََّاحِرُ ادْعُ لَنََا رَبَّكَ}
[الزخرف / 49] وكما قال: {وَقََالُوا يََا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء / 27] أي الذي نزّل عليه الذكر عنده وعند من تبعه. ومما جاء على هذا قول لبيد (3):
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحبٌ فيقضى ََ أم ضلالٌ وباطلٌ
كأنه لما قال: ما الذي يحاوله؟ أبدل بعد، فقال: أنحب؟
أي: الذي يحاوله نحبٌ فيقضى ََ أم ضلال وباطل.
فقوله: فيقضى ََ في موضع نصبٍ على أنه جوابُ
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) الكتاب 1/ 405.
(3) مطلع قصيدة في ديوانه 131في رثاء النعمان بن المنذر. وانظر سيبويه 1/ 405معاني القرآن 1/ 139المخصص 14/ 103أمالي ابن الشجري 2/ 305171، شرح أبيات المغني 5/ 226.(2/319)
الاستفهام، وليس بمعطوف على ما في الصلة، ولو كان كذلك لكان رفعاً.
فقول من رفع فقال: {الْعَفْوَ} على هذا، كأنه لما قال:
{مََا ذََا يُنْفِقُونَ} فكان (1) المعنى: ما الّذي ينفقون؟ قال (2):
العفوُ، أي الذي (3) ينفقون: العفوُ. فهذا وجه الرفع، ونظيره في التنزيل، في قول سيبويه الآية التي مرّت.
واعلم أنّ سيبويه لا يجيز أن يكون ذا بمنزلة الذي، إلا في هذا الموضع لما قام على ذلك من الدّلالة التي تقدمت.
والبغداديون يجيزون أن يكون ذا بمنزلة الذي في غير هذا الموضع. ويحتجون في ذلك بقول الشاعر (4):
عدس ما لعبّاد عليك إمارةٌ ... نجوت وهذا تحملين طليق
فيذهبون إلى أن المعنى: والذي تحملين طليق.
ويحتجون أيضاً بقوله تعالى ََ (5): {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ} [طه / 17] فيتأولونه على أن المعنى ََ: ما التي بيمينك؟.
ولا دلالة على ما ذهبوا إليه من حمل (6) الحكم على ذا،
__________
(1) في (ط): وكان.
(2) في (ط): قل.
(3) في (ط): الذين.
(4) البيت ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميري. عدس: كلمة زجر للبغل.
وعبادٌ هذا هو عباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان معاوية قد ولاه سجستان واستصحب يزيد بن مفرغٍ معه. وانظر شرح أبيات المغني 7/ 20 والخزانة 2/ 514.
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).(2/320)
بأنه بمنزلة الذي، وذلك أن قوله: {بِيَمِينِكَ} يجوز أن يكون ظرفاً في موضع الحال فلا يكون صلةً، وكذلك: «تحملين» في البيت يجوز أن يكون في موضع حال، والعامل في الحال في الموضعين ما في الاسمين المبهمين من معنى الفعل. وإذا أمكن أن يكون على غير ما قالوا لم يكن على قولهم دلالة.
وقد تأوّل أحد شيوخنا (1): {ذََلِكَ هُوَ الضَّلََالُ الْبَعِيدُ يَدْعُوا}
[الحج / 12، 13] على مذهبهم هذا فقال: {ذََلِكَ} بمنزلة الذي، وما بعده صلةٌ، والاسم المبهم مع صلته في موضع نصب بيدعو. وهذا الذي تأوّله عليه تأويلٌ مستقيمٌ إذا صحّ الأصل بدلالةٍ تقام عليه.
البقرة: 222
اختلفوا في تخفيف الطاء وضمّ الهاء. وتشديد الطاء وفتح الهاء من قوله جل وعز (2): {حَتََّى يَطْهُرْنَ}
[البقرة / 222].
فقرأ ابن كثيرٍ ونافعٌ وأبو عمرٍو وابن عامرٍ: {يَطْهُرْنَ} خفيفةً.
وقرأ عاصمٌ، في رواية أبي بكر والمفضل، وحمزة والكسائيُّ: {يَطْهُرْنَ} مشدّدة.
حفصٌ (3) عن عاصمٍ {يَطْهُرْنَ} خفيفةً (4).
قال أبو علي (5): قال أبو الحسن: طهرت المرأة. قال:
وقال بعضهم: طَهُرَت. قال: وقالوا: طَهَرَت طهراً وطهارةً.
__________
(1) في (ط): شيوخنا قوله.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) كذا الأصل ويريد: وقرأ.
(4) السبعة ص 182.
(5) سقطت من (ط) عبارة: قال أبو علي.(2/321)
والقول في ذلك: أنّ طهرت بفتح العين أقيس، لأنها خلاف طمثت، فينبغي أن يكون على بناء ما خالفه، مثل: عطش وروي ونحو ذلك.
ويقوي طهرت أيضاً قولهم: طاهرٌ، فهذا يدل على أنه مثل: قعد يقعد فهو قاعدٌ. ويحتمل أن يكون طهرت ويطهرن:
انقطع الدم الذي كان به طمثت. كما روي عن الحسن في تفسير قوله تعالى (1): {حَتََّى يَطْهُرْنَ}: حتى ينقطع الدم. ويحتمل أن يكون {حَتََّى يَطْهُرْنَ}: حتى يفعلن الطهارة التي هي الغسل، لأنّها ما لم تفعل ذلك كانت في حكم الحيض، لكونها ممنوعةً من الصلاة والتلاوة، وأن لزوجها أن يراجعها إذا كانت مطلّقةً، فانقطع الدم ولم تغتسل، كما كان له أن يراجعها قبل انقطاع الدم، وهذا قول عمر وعبد الله وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء. وروي لنا عن الشعبي أنه روى عن ثلاثة عشر من الصحابة، منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس ذلك.
فإذا (2) كان حكم انقطاع الدم قبل الاغتسال حكم اتصاله، وجب أن لا تقرب حتى تغتسل. وإذا كان كذلك، كان قراءة من قرأ: {حَتََّى يَطْهُرْنَ} أرجح، لأنها ما لم تتطهر (3) في حكم الحُيَّض، فيجب أن لا تقرب، كما لا تقرب إذا كانت حائضاً. ويؤكد ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}
[المائدة / 6] فكما أن الجنب يتطهَّر بالماء إذا وجده، كذلك الحائض، لاجتماعهما في وجوب الغسل عليهما، وأن لفظ المتطهّر يختص بالتَّطهّر بالماء أو ما قام مقامه.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): وإذا.
(3) في (ط): تطهر.(2/322)
وأما كونه صفةً فهو قوله تعالى (1): {وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً طَهُوراً} [الفرقان / 48] فهذا كالرسول، والعجوز، ونحو ذلك من الصفات التي جاءت على فعولٍ ولا دلالة فيه على التكرير، كما لم يكن متعدّياً نحو: ضروبٍ، ألا ترى أن فعله غير متعدٍ تعدِّي ضربت. ومن الصفة قوله جل وعز (2):
{وَسَقََاهُمْ رَبُّهُمْ شَرََاباً طَهُوراً} [الإنسان / 21] فوصف بالطّهور لمّا كان خلافا لما ذكر في قوله: {وَيُسْقى ََ مِنْ مََاءٍ صَدِيدٍ}
[إبراهيم / 16]. ومن ذلك
قوله: «هو الطهور ماؤه» (3).
فالطّهور هنا صفة، ألا ترى أنه قد ارتفع به الماء كما ارتفع الاسم بالصفات المتقدمة؟ وقال تعالى (4): {خُذْ مِنْ أَمْوََالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة / 103] فمن جعل في تطهرهم ضمير الصدقة، ولم يجعله ضمير فعل المخاطب، فلما جاء من
«أن الصدقة أوساخ الناس» (5)
فإذا أخذت منهم كان كالرفع لذلك، ورفعه تطهيرٌ [وقال تعالى ََ (6)]: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ}
[الحج / 26] فجاء فيه طهّر لما جاء في المطهّر منه الرجس في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثََانِ} [الحج / 30]. وقال سبحانه (7): {وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة / 25] فوصفهنّ
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): تعالى.
(3) هذا جزء من حديث رواه أحمد في مسنده 2/ 237ونصه
عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في ماء البحر: «هو الطهور ماؤه الحلال ميتته».
(4) سقطت من (ط).
(5) وذلك
في الحديث الذي رواه مسلم برقم 1072وأبو داود برقم 2985:
«إن هذه الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس».
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): قال.(2/324)
بالطهارة يحتمل أمرين: يجوز أن يكنّ تطهّرن مما يكون فيهن من الحيض، ونحوه من الأقذار. ويجوز أن يكنّ مطهَّراتٍ من الأخلاق السيئة لما فيهن من حسن التبعّل. ودلّ على ذلك قوله: {فَجَعَلْنََاهُنَّ أَبْكََاراً عُرُباً أَتْرََاباً} [الواقعة / 37] وأنشد يعقوب وثعلب (1):
وبالبشر قتلى لم تطهّر ثيابها وفسّراه بأنه لم يطلب بثأرهم ووجه ذلك: أنهم إذا قتلوا قتيلًا قالوا: دمه في ثوب فلانٍ، يعنون القاتل. وعلى هذا قول أوسٍ (2).
نبّئت أنّ دماً حراماً نلته ... وهريق في بردٍ عليك محبّر
وقال (3):
نبّئت أن بني جذيمة (4) أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر
وقال [أبو ذؤيب] (5):
__________
(1) عجز بيت لجرير وصدره في (ديوانه / 52):
أبا مالك مالت برأسك نشوة
(2) (ديوانه / 47) هراق الماء يهريقه هراقة: بمعنى أراق المحبر: الجديد المزخرف من الثياب.
(3) البيت لأوس بن حجر أيضاً في الديوان / 47وفي القصيدة التي منها البيت السابق.
(4) في (م) تحت كلمة جذيمة: الصواب: بني سحيم. وكذلك الرواية في الديوان. والتامور: الدم، قال السكري في (شرح أشعار الهذليين 1/ 77): لم يرد أنهم أدخلوه أبياتهم، ولكنهم صاروا المطلوبين بدمه.
(5) سقطت من (م). ووردت في (ط) على طرة الصفحة. والبيت من قصيدة له يرثي بها نشيبة بن محرّث. شرح أشعار الهذليين 1/ 77اللسان (مادة أزر).(2/325)
تبرّأ من دم القتيل وثوبه ... وقد علقت دم القتيل إزارها
علامة التأنيث في علقت للإزار. وأنّثها كما أنّثه ابن أحمر في قوله:
طرحنا إزاراً فوقها أيزنيّةٌ ... على منهلٍ من قدقداء (1) ومورد وأنشد الأعشى (2) بإلحاق علامته في قوله (3):
ترفل في البقيرة والإزاره (4)
__________
(1) في (ط): فدفداء. وقد اضطربت المصادر في هذه الكلمة ضبطاً وإعجاما، فقد ورد في معجم ما استعجم 3/ 1015 (الفاء والدال):
«فدفداء: بفتح أوله وإسكان ثانيه بعدهما مثلهما. ويعقوب يقول:
فدفداء، بضم الفاءين: ماء معروف، قال ابن أحمر:
طرحنا فوقها أبينيّةً ... على مصدر من فدفداء ومورد
قوله: أبينية، يعني: ثياباً من أبين» ا. هـ. وأبين: قرية على جانب البحر ناحية اليمن (اللسان). وبهذه الرواية عن المعجم في شعره ص 50.
وفي اللسان (قدد) ما نصه: وقدقداء: موضع. عن الفارسي قال: وأورد عجز البيت. وفي معجم البلدان: قدقداء: موضع في اليمن. ولم يرد عنده فدفداء بفاءين اسم لأي موضع.
والأيزنيّ: رمح منسوب إلى يزن ملك من ملوك حمير تنسب إليه الرماح، ووزنه: عيفلي (اللسان: يزن).
(2) في (ط): وأنشده للأعشى.
(3) قطعة بيت من قصيدة يهجو فيها الأعشى شيبان بن شهاب الجحدري.
وتمامه في الديوان / ص 153واللسان (أزر):
كتمايل النشوان ير فل في البقيرة والإزاره والبقيرة: ثوب يشق فيلبس بلا أكمام.
(4) في (ط): ترفل في البقير وفي الإزاره.(2/326)
وإذا علقت إزاره دمها (1)، صار دمه (2) في ثوبها. فأما قوله عز وجل: {وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر / 4] فإنه أمر بالتزكّي واجتناب المأثم. قال قتادة: كانوا يقولون للرجل إذا نكث، ولم يوف بالعهد دنس الثياب، فإذا أوفى وأصلح قالوا: طاهر الثياب. فمما سلكوا فيه هذا المسلك قوله (3):
وقد لبست بعد الزبير مجاشعٌ ... ثياب التي حاضت ولم تغسل الدّما
وكذلك قوله (4):
ثياب بني عوفٍ طهارى نقيّةٌ ... وأوجههم بيض المسافر غرّان
يريد: أنهم لا يأتون ما يقال لهم فيه دنسو الثياب، وكذلك قوله: وأوجههم بيض المسافر، يريد: أنهم لا يرتكبون ما يدنّس الثياب ويسوّد الوجوه، قال تعالى (5): {وَإِذََا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ََ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل / 58] فليس المعنى السواد الذي هو خلاف البياض، ولكن على ما يلحق من غضاضةٍ عن مذمّةٍ. ونزّلوا ولادة الأنثى وإن لم يكن
__________
(1) في (ط): إزارها دمه.
(2) سقطت من (ط).
(3) البيت لجرير من قصيدة يهجو فيها البعيث الديوان 2/ 983.
(4) البيت لامرئ القيس من قصيدة يمدح فيها بني عوف، وقافيتها مكسورة ففيه إقواء. (ديوانه ص 213ط السندوبي) وفي اللسان (سفر): مسافر الوجه: ما يظهر منه. قال امرؤ القيس: وأوجههم البيت. وفي تفسير القرطبي 19/ 63نسبه لأبي كبشة.
(5) سقطت من (ط).(2/327)
فعلهم (1) منزلة ما يكون من فعلهم، مما يلحق من أجله العار. وعلى هذا ما يمتدح به (2) من الوصف بالبياض، ليس يراد به بياض اللون، كقول الأعشى (3):
وأبيض مختلطٍ بالكرام ... يجود ويغزو إذا ما عدم
وقول الآخر (4):
أمّك بيضاء من قضاعة قد ... نمت لك الأمهات والنّضد
البقرة: 229
اختلفوا في ضم الياء وفتحها من قوله جلّ وعزّ (5): {إِلََّا أَنْ يَخََافََا} [البقرة / 229].
فقرأ حمزة وحده: {يَخََافََا} بضم الياء. وقرأ الباقون:
{يَخََافََا} بفتح الياء (6).
[قال أبو علي] (7) قال أبو عبيدة: {إِلََّا أَنْ يَخََافََا} معناها:
يوقنا، {فَإِنْ خِفْتُمْ} هاهنا: فإن أيقنتم. و: {إِنْ} [8] ظَنََّا أَنْ يُقِيمََا حُدُودَ اللََّهِ [البقرة / 230] معناه: أيقنا (9).
وقال بعض البغداذيين: {إِلََّا أَنْ يَخََافََا} مثل: يظنا، قال:
__________
(1) في (ط): من فعلهم.
(2) سقطت من (م).
(3) ورد في الديوان (ص 35) برواية:
وأبيض كالسيف يعطي الجزيل ... يجود ويغزو إذا ما عدم
(4) جاء في اللسان (مادة: بيض) برواية:
أمّك بيضاء من قضاعة في ال ... بيت الذي تستظل في طنبه
(5) في (ط): عزّ وجلّ.
(6) السبعة ص 183.
(7) سقطت من (ط).
(8) في (ط): إن.
(9) مجاز القرآن ص 74.(2/328)
والظن والخوف واحد (1).
قال أبو علي: خاف: فعلٌ يتعدى إلى مفعولٍ واحد.
وذلك المفعول يكون أن وصلتها ويكون غيرها، فأما تعديه إلى غير أن فنحو قوله عزّ وجلّ (2): {تَخََافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}
[الروم / 28] وتعديته (3) إلى «أن» كقوله تعالى: {تَخََافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النََّاسُ} [الأنفال / 26] وقوله: {أَمْ يَخََافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ} [النور / 50]. فإن عدّيته إلى مفعولٍ ثانٍ، ضعّفت العين، أو اجتلبت حرف الجر، كقولك: خوّفت الناس ضعيفهم قويّهم، وحرف الجر كقوله:
لو خافك الله عليه حرّمه (4)
ومن ذلك قوله عزّ اسمه: {إِنَّمََا ذََلِكُمُ الشَّيْطََانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيََاءَهُ} [آل عمران / 175] ف {يُخَوِّفُ} قد حذف معه مفعولٌ يقتضيه تقديره: يخوّف المؤمنين بأوليائه، فحذف المفعول والجارّ، فوصل الفعل إلى المفعول الثاني، ألا ترى أنه لا
__________
(1) قال في معاني القرآن 1/ 145عند قوله سبحانه: {إِلََّا أَنْ يَخََافََا أَلََّا يُقِيمََا حُدُودَ اللََّهِ}: وفي قراءة عبد الله إلا أن تخافوا فقرأها حمزة على هذا المعنى {إِلََّا أَنْ يَخََافََا} ولا يعجبني ذلك. وقرأها بعض أهل المدينة كما قرأها حمزة. وهي في قراءة أبيّ: إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله الخوف والظن متقاربان في كلام العرب.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وتعديه.
(4) من رجز نسبه في اللسان (روح) لسالم بن دارة، وقبله:
يا أسديّ لم أكلته لمه وهو في الإنصاف / 299، والعيني 4/ 555والأشموني 4/ 217.(2/329)
يخوّف أولياءه، على حدّ قولك: خوّفت اللصّ، إنما يخوّف غيرهم ممن لا استنصار له بهم، ومثل هذه في حذف المفعول منه قوله تعالى (1): {فَإِذََا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}
[القصص / 7] المعنى: إذا (2) خفت عليه فرعون، أو الهلاك.
فالجارّ المظهر في قوله: {فَإِذََا خِفْتِ عَلَيْهِ} بمنزلة المحذوف من قوله: {أَوْلِيََاءَهُ}.
وإذا كان تعدي هذا الفعل على ما وصفنا، فقول حمزة:
{إِلََّا أَنْ يَخََافََا} مستقيمٌ، لأنه لما بنى الفعل للمفعول به، أسند الفعل إليه، فلم يبق شيءٌ يتعدى إليه.
فأما (أن) في قوله تعالى (3): أن لا يقيما فإن الفعل يتعدى إليه بالجار، كما تعدّى بالجار في قوله (4):
لو خافك الله عليه حرّمه وموضع {أَنْ} في قوله: {إِلََّا أَنْ يَخََافََا} (5): جرّ بالجار
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): فإذا.
(3) سقطت من (ط).
(4) سبق قريباً.
(5) ورد في طرة (ط) هذه التعليقة:
صوابه في قوله: {أَنْ يُقِيمََا}. لأن أن وما بعدها في قوله: {إِلََّا أَنْ يَخََافََا}
موضعها نصب: إما على الحال، وإما على المفعول من أجله، على الخلاف في ذلك، ولعل هذا وقع وهماً من الناسخ لا من أبي علي.
ويؤيد ذلك قوله بعد: لأنه لما حذف الجار، وصل الفعل إلى المفعول الثاني
قال شيخنا: ليس ذلك بصحيح، ولم يذكر النحويون خاف في الأفعال التي تتعدى إلى اثنين، وأصل أحدهما أن يكون بحذف الحرف، وعدوا تلك الأفعال وخاف لا يتعدى إلا إلى واحد. وإذا جاء: خفت زيداً ضربه(2/330)
المقدّر على قول الخليل والكسائي، ونصب على قول غيرهما، لأنه لما حذف الجارّ وصل الفعل إلى المفعول الثاني، مثل:
أستغفر الله ذنباً (1)
و: أمرتك الخير (2)
فقوله مستقيم على ما رأيت.
فإن قال قائل: لو كان {يَخََافََا} كما قرأ، لكان ينبغي أن يكون: فإن خيفا، قيل: لا يلزمه هذا السؤال لمن خالفه في قراءته، لأنهم قد قرءوا: {إِلََّا أَنْ يَخََافََا} ولم يقولوا: فإن خافا فهذا لا يلزمه لهؤلاء.
وليس يلزم الجميع هذا السؤال لأمرين: أحدهما أن يكون انصرف من الغيبة إلى الخطاب كما قال: {الْحَمْدُ لِلََّهِ} ثم قال: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} وقال: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم / 39] وهذا النحو كثيرٌ في التنزيل وغيره.
والآخر: أن يكون الخطاب في قوله تعالى (3): {فَإِنْ خِفْتُمْ}
__________
عمرا، كان بدلا. أو: من ضربه عمرا، كان مفعولا من أجله، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان.
(1) هذا أول بيت تتمته:
لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
الكتاب 1/ 17ولم يعزه لقائل. وعنه في الخصائص 3/ 247.
(2) جزء بيت لعمرو بن معد يكرب وتتمته:
فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
انظر الكتاب 1/ 17والخزانة 1/ 164. وشعره ص 47.
(3) سقطت من (ط).(2/331)
مصروفاً إلى الولاة والفقهاء، الذين يقومون بأمور الكافة، وجاز أن يكون الخطاب للكثرة، فيمن جعله انصرافاً من الغيبة إلى الخطاب، لأن ضمير الاثنين في {يَخََافََا} ليس يراد به اثنان مخصوصان، إنما يراد به أن كلّ من كان هذا شأنه فهذا حكمه.
فأمّا من قرأ: {يَخََافََا} بفتح الياء، فالمعنى أنه إذا خاف كلّ واحدٍ من الزّوج والمرأة ألا يقيما حدود الله تعالى (1)، حلّ الافتداء، ولا يحتاج في قولهم إلى تقدير الجار، وذلك أن الفعل يقتضي مفعولًا يتعدى إليه كما يقتضيه في نحو قوله تعالى (1): فلا تخافوهم وخافوني [آل عمران / 175]، ولا بد من تقدير الجارّ (3) في قراءة من ضمّ الياء، لأن الفعل قد أسند إلى المفعول، فلا يتعدى إلى المفعول الآخر إلا بالجار.
فأمّا ما قاله الفرّاء (4) في قراءة حمزة: إلا بأن يخافا
__________
(1) سقطت من (ط).
(3) في حاشية (ط) تعليقة نصها: (في قوله: ولا بد من تقدير الجار إلخ نظر، لأنه إنما يلزم ذلك على ما قدره هو، وإنما على ما ذكره غيره من أنّ {أَنْ يُقِيمََا} في موضع يقع بدل اشتمال من ضمير الاثنين في يخافا، فلا يلزم ذلك، ويكون خاف معدى إلى مفعول واحد وهو القائم مقام الفاعل بعد هذين و {أَنْ يُقِيمََا} بدل اشتمال على حد قولك: أعجبني الزيدان علمهما. هـ. وهنالك كلمة بلغ سماعاً.
(4) معاني القرآن 1/ 146ونص كلامه: (وأما ما قال حمزة، فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم يصبه، والله أعلم، لأن الخوف إنما وقع على «أن» وحدها إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن، ألا ترى أن اسمهما في الخوف مرفوع بما لم يسم فاعله، فلو أراد: ألا يخافا على هذا، أو يخافا بذا، أو من ذا، فيكون(2/332)
من أنّه اعتبر قراءة عبد الله: إلا أن تخافوا فلم يصبه، لأن الخوف في قراءة عبد الله واقع على أن، وفي قول حمزة:
على الرجل والمرأة. فإن بلغه ذلك في رواية عنه فذاك، وإلا، فإذا اتجه قراءته على وجه صحيح، لم يجز أن ينسب إليه الخطأ، وقد قال عمر [رحمه الله] (1): لا تحمل فعل أخيك على القبيح ما وجدت له في الحسن مذهباً.
البقرة: 233
واختلفوا (2) في نصب الراء ورفعها من قوله جلّ وعزّ:
{لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ} [البقرة / 233].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبان عن عاصم: {لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ} رفعاً.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: {لََا تُضَارَّ} نصباً.
وليس عندي عن ابن عامر في هذا شيء من رواية ابن ذكوان، ولكنّ المعروف عن أهل الشام النصب.
قال أبو علي (3): وجه قول من رفع أنّ قبله مرفوعا، وهو قوله {لََا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلََّا وُسْعَهََا} [البقرة / 233] فإذا أتبعته ما قبله كان أحسن لتشابه اللفظ.
فإن قلت: إنّ ذلك خبر، وهذا أمر قيل: فالأمر قد يجيء على لفظ الخبر في التنزيل، ألا ترى أنّ قوله {وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة / 228] وقوله:
__________
على غير اعتبار قول عبد الله جائزا، كما تقول للرجل: تخاف لأنك خبيث، وبأنك وعلى أنك
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت الواو من (ط).
(3) سقطت (قال أبو علي) من (ط)(2/333)
{تُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} [الصف / 11]، وهذا النحو، مثل ذلك، ويؤكد ذلك أن ما بعده على لفظ الخبر، وهو قوله:
{وَعَلَى الْوََارِثِ مِثْلُ ذََلِكَ} [البقرة / 233]، والمعنى: ينبغي ذلك، فلما وقع موقعه صار في لفظه.
ومن فتح جعله أمراً، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف، وعلى هذا قول سيبويه (1): لو سمّيت رجلا بإسحارّ (2)، فرخّمته على قول من قال: يا حار، لقلت: يا إسحارّ، ففتحت من أجل الألف التي قبلها، وعلى هذا حرّك بالفتح قول الشاعر (3):
وذي ولد لم يلده أبوان حرّك بالفتح لالتقاء الساكنين، لأن أقرب الحركات إليه الفتحة.
فأما قوله {وَلََا يُضَارَّ كََاتِبٌ وَلََا شَهِيدٌ} [البقرة / 282] فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الفعل مسنداً إلى الفاعل، كأنه: لا يضارر كاتب ولا شهيد بتقاعده عن الكتاب والشهادة.
والآخر: لا يضارر (4) أي: لا يشغل عن ضيعته ومعاشه باستدعاء شهادته وكتابته، وهو مفتوح لأن قبله أمراً، وليس الذي قبله خبراً، كما أنّ قبل الآية الأخرى خبراً، فالفتح للجزم بالنهي أحسن.
__________
(1) سيبويه 1/ 340.
(2) الإسحارّ: بكسر الهمزة وفتحها بقل يسمن عليه الإبل واحدته إسحارة (اللسان: سحر).
(3) سبق النظر 1/ 66.
(4) في معاني القرآن 1/ 150أن عمر بن الخطاب قرأ: ولا يضارر كاتب ولا شهيد.(2/334)
واختلفوا في (1) المدّ والقصر من قوله جلّ وعزّ (2): {إِذََا سَلَّمْتُمْ مََا آتَيْتُمْ} [البقرة / 233]، فقرأ ابن كثير وحده: إذا سلمتم ما أتيتم قصراً، كذا قرأته على قنبل.
وقرأ الباقون: {مََا آتَيْتُمْ} بالمدّ، أنّ المعنى على الإعطاء (3).
قال أبو علي: قد (4) جاء: {آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
[النساء / 25] وقال تعالى (5): {وَآتَيْتُمْ إِحْدََاهُنَّ قِنْطََاراً}
[النساء / 20]، والمراد هنا: إعطاء المهر، وقال تعالى (6):
{وَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذََا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
[الممتحنة / 10] فكما (7) جاء في هذه المواضع في المهر آتى فكذلك ينبغي أن تكون في الموضع الذي اختلف فيه.
ووجه قول ابن كثير أن يقدّر: إذا سلّمتم ما أتيتم نقده، أو أتيتم سوقه فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وحذف الهاء من الصّلة، وكأنه قال: أتيت نقد ألف، أي:
بذلته، كما تقول: أتيت جميلًا، أي: فعلته.
ومما يقوي قوله قول زهير (8):
فما يك من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل
__________
(1) سقطت الواو من (ط).
(2) في (ط): عزّ وجلّ.
(3) كتاب السبعة 183مع اختلاف في الترتيب.
(4) في (ط): وقد.
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): فلما.
(8) انظر ص 160من هذا الجزء.(2/335)
فكما تقول: أتيت خيراً، وأتيت جميلًا، فكذلك تقول:
أتيت نقد ألف.
وقد وقع {أَتَيْتَ} موقع {آتَيْتَ}. ويجوز أن يكون ما في الآية مصدراً، فيكون التقدير: إذا سلّمتم الإتيان، والإتيان:
المأتيّ، مما (1) يبدّل بسوق أو نقد، كقولك: ضرب الأمير، تريد: مضروبه.
فأما قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} يجوز أن يتعلق ب {سَلَّمْتُمْ} كأنه:
إذا سلمتم بالمعروف ما آتيتم. ويجوز أن يتعلق ب {آتَيْتُمْ} على حدّ قولك: آتيته بزيد.
البقرة: 236
اختلفوا في ضمّ التاء، ودخول الألف وفتحها، وسقوط الألف من (2) قوله [جلّ وعزّ] (3) {تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة / 236].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
{تَمَسُّوهُنَّ} بغير ألف، حيث كان، وفتح التاء.
وقرأ حمزة والكسائيّ: تماسوهن بألف وضم التاء (4).
قال أبو علي: حجة من قال {تَمَسُّوهُنَّ} قوله [جلّ وعزّ:] (5) {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران / 47] ألا ترى أنه جاء على: فعل دون فاعل، وكذلك قوله [عز اسمه] (5): {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلََا جَانٌّ} [الرحمن / 74]، وقوله تعالى (5): {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء / 25] فهذا كلّه على فعل.
__________
(1) في (ط): ومما.
(2) في (ط): في.
(3) سقطت من (ط).
(4) كتاب السبعة 184183.
(5) سقطت من (ط).(2/336)
والنكاح عبارة عن الوطء، وإن كان قد وقع على العقد:
قال الأعشى: (1)
ومنكوحة غير ممهورة ... وأخرى يقال له فادها
وقال آخر: (2)
وبرحرحان غداة كبّل معبد ... نكحت نساؤكم بغير مهور
وعلى الوطء يحمله سيبويه ويرويه.
قال سيبويه: قالوا (3): ضربها الفحل ضراباً كالنكاح، والقياس ضربا، ولا يقولونه، كما لا يقولون: نكحا، وهو القياس. وقالوا: ذقطها ذقطا، كالقرع، وهو النكاح ونحوه من باب المباضعة (4). وقال في موضع آخر: نكحها نكاحاً وسفدها سفاداً، وقالوا: قرعها قرعاً (5).
فكما أن هذه الأفعال على فعل دون فاعل، فكذلك ينبغي أن يكون في الموضع المختلف فيه.
فأمّا ما جاء في الظهار من قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا} [المجادلة / 4]. فلا دليل فيه على ما في هذه الآية، لأن المماسّة في الظهار محرّم، وقد أخذ على كلّ واحد منهما
__________
(1) ديوانه 75. غير ممهورة: لأنها سبية أخذت قهراً في الحرب.
(2) البيت لجرير وقد ورد برواية: نكحوا بناتكم بغير مهور. (ديوانه / 196 ط الصاوي).
(3) في (ط): يقال.
(4) الكتاب 2/ 216.
(5) الكتاب 2/ 215.(2/337)
أن لا يمسّ، فمن ثمّ جاء: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا}.
وحجة من قرأ: ولا تماسوهن أن فاعل وفعل قد يراد بكلّ واحد منهما ما يراد بالآخر، وذلك (1) نحو: طارقت النّعل، وعاقبت اللّصّ، كما أن فعل واستفعل، يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر، نحو: قرّ واستقرّ، وعلا قرنه واستعلاه، وفي التنزيل {وَإِذََا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات / 14] وكذلك عجب واستعجب.
البقرة: 236
واختلفوا (2) في تحريك الدّال وتسكينها من قوله عزّ وجلّ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}.
[البقرة / 236].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: {قَدَرُهُ} و {قَدَرُهُ} بإسكان الدال.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم:
{قَدَرُهُ} و {قَدَرُهُ} متحركتين (3).
قال أبو علي: قال أبو زيد: تقول قدر القوم أمرهم يقدرونه قدراً، وهذا قدر هذا: إذا كان مثله بجزم الدال، واحمل على رأسك قدر ما تطيق، وقدر الله الرزق يقدره.
وروى السّكّريّ: يقدره قدراً، وقدرت الشيء بالشيء. أقدره قدراً، وقدرت على الأمر أقدر قدرة وقدوراً وقدارة، ونسأل الله خير القدر.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت الواو من (ط).
(3) السبعة 184.(2/338)
وقال أبو الصقر: هذا قدر هذا، واحمل قدر ما تطيق.
وقال أبو الحسن: يقال: القدر والقدر، وهم يختصمون في القدر والقدر قال الشاعر (1):
ألا يا لقوم للنّوائب والقدر ... وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
وتقول: قدرت عليه الثوب فأنا أقدره قدراً، لم أسمع منه بغير ذلك، وخذ منه بقدر كذا وقدر كذا لغتان، وفي كتاب الله [جلّ وعزّ] (2) {فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا} [الرعد / 17] و {بِقَدَرِهََا} (3) و {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}
و {قَدَرُهُ} (4) وقال تعالى (5): {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
[الأنعام / 91]. لو حرّكت كان جائزاً، وكذلك: {إِنََّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنََاهُ بِقَدَرٍ} [القمر / 49] لو خفّفت جاز، إلا أنّ رءوس الآي كلها متحرّكة، فيلزم الفتح لأن ما قبلها مفتوح.
[قال أبو علي] (6): قد ذكر أبو الحسن فيما حكينا عنه في غير موضع أن القدر والقدر بمعنى، وكذلك فيما حكاه أبو زيد، ألا ترى أنه قال: احمل على دابّتك (7) قدر ما تطيق.
وهذا قدر هذا: إذا كان مثله.
قال: وقال أبو الصقر. هذا قدر هذا، واحمل على رأسك قدر ما تطيق، فحكى الإسكان والفتح بمعنى.
__________
(1) هو هدبة بن خشرم من أبيات وردت في شرح أبيات المغني 5/ 235 وانظر اللسان (قدر).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) ساقطة من (م).
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): رأسك.(2/339)
وقوله تعالى (1): {فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا} [الرعد / 17] اتساع، والمراد في سال الوادي، وجرى النهر: جرى مياهها (2) فحذف المضاف، وكذلك قوله تعالى (3): {بِقَدَرِهََا} أي: بقدر مياهها.
ألا ترى أنّ المعنى ليس على أنها سالت بقدر أنفسها؟ لأن أنفسها على حال واحدة، وإنما تكون كثرة المياه وقلّتها وشدة جريها ولينه على قدر قلّة المياه المنزّلة وكثرتها.
والأودية: واحدها واد، وهو جمع نادر في فاعل، ولا نعلم فاعلًا جاء على أفعلة، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد، كعليم وعالم، وشهيد وشاهد، ووليّ ووال، ألا ترى أنهم جمعوا فاعلًا أيضاً على فعلاء في نحو: شاعر وشعراء، وفقيه وفقهاء؟ وجعلوا فاعلًا كفعيل في التكسير؟.
وقالوا: يتيم وأيتام، وأبيل وآبال (4)، وشريف وأشراف، كما قالوا: صاحب وأصحاب وطائر وأطيار فكذلك جمع واد على أودية، واللام من قولهم: واد ياء، ولا يجوز أن يكون غير ياء.
وقالوا: أودى الرجل إذا هلك فهذا كقولهم: سالت نفسه، وفاضت نفسه، في قول من قاله بالضاد، وقالوا: أودى الرجل. وغيره قال:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): مياههما.
(3) سقطت من (ط).
(4) الأبيل: الراهب. أو صاحب الناقوس، وكان النصارى يسمون عيسى عليه السلام. بالأبيل. اللسان (أبل).(2/340)
كأنّ عرق أيره إذا ودى ... حبل عجوز ضفرت خمس قوى (1)
فأما قوله:
مودون تحمون (2) السبيل السابلا (3)
فهو مفعلون: من الأداة الذي (4) يراد به السلاح، وليس من باب واد.
البقرة: 240
واختلفوا (5) في قوله عز وجلّ {وَصِيَّةً لِأَزْوََاجِهِمْ}
[البقرة / 240] في رفع الهاء ونصبها.
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي:
{وَصِيَّةً لِأَزْوََاجِهِمْ} برفع الهاء.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر وحفص عن عاصم {وَصِيَّةً} نصباً.
قال أبو علي: حجة من قال: {وَصِيَّةً لِأَزْوََاجِهِمْ} فرفع، أنه يجوز أن يرتفع من وجهين. أحدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ والظرف خبره، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنه موضع تحضيض، كما حسن أن يرتفع: سلام عليك، وخير بين
__________
(1) أنشده ابن الأعرابي للأغلب العجلي وودى الشيء وديا: سال (اللسان مادة / ودى) وفيه: سبع مكان خمس.
(2) في (ط): تحملون، وهو تحريف.
(3) هذا رجز لرؤبة انظر الديوان / 122واللسان (ودي) وفيهما: مودين بدل مودون.
(4) في (ط): التي.
(5) في (ط): سقطت الواو.(2/341)
يديك، و «أمت في حجر لا فيك» (1) وقوله (2):
لملتمس المعروف أهل ومرحب لأنها مواضع دعاء فجاز فيها الابتداء بالنكرة لما كان معناها كمعنى المنصوب، والآخر: أن تضمر له خبراً فيكون قوله (3): {لِأَزْوََاجِهِمْ} صفة وتقدير الخبر المضمر: فعليهم وصية لأزواجهم. ولو حمل حامل قوله تعالى (4): {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}
[يوسف / 18، 83] على هذا لأنه موضع يحضّ نفسه فيه على الصبر، كان وجهاً. ويؤكد قول من رفع أن نحوه قد جاء في التنزيل مرفوعاً، نحو قوله: {فَصِيََامُ ثَلََاثَةِ أَيََّامٍ فِي الْحَجِّ}
[البقرة / 196]، فقوله: {فِي الْحَجِّ} متعلق بالمصدر، وليس في موضع خبر، وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيََامُ ثَلََاثَةِ أَيََّامٍ، ذََلِكَ كَفََّارَةُ أَيْمََانِكُمْ} [المائدة / 89] وقوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[النساء / 92] فهذا النحو قد جاء مرفوعاً على تقدير إضمار خبر، فكذلك الآية.
__________
(1) مثل. قال الزمخشري في المستقصى 1/ 360: «أمت في حجر لا فيك» أي جعل الله اعوجاجاً في حجر لا فيك. يضرب في دعاء الخير.
وأورده سيبويه في 1/ 165وعنه في اللسان (أمت). قال: الأمت:
العوج، قال سيبويه: وقالوا: أمت في الحجر لا فيك أي: ليكن الأمت في الحجارة لا فيك، ومعناه: أبقاك الله بعد فناء الحجارة وهي مما يوصف بالخلود والبقاء.
(2) عجز بيت للطفيل الغنوي وصدره:
وبالسّهب ميمون النقيبة قوله انظر سيبويه 1/ 149الديوان / 9.
(3) في (ط): قوله عز وجل.
(4) سقطت من (ط).(2/342)
ومن قرأ: {وَصِيَّةً} حمله على الفعل ليوصوا وصية، ويكون قوله: {لِأَزْوََاجِهِمْ} وصفاً كما كان في قول من أضمر الخبر كذلك.
ومن حجتهم: أن الظرف إذا تأخّر عن النكرة كان استعماله صفة أكثر، وإذا كان خبراً تقدّم على المنكّر (1) إذا لم يكن في معنى المنصوب كقوله: {وَلَهُمْ أَعْمََالٌ مِنْ دُونِ ذََلِكَ}
[المؤمنون / 63] {وَلَدَيْنََا مَزِيدٌ} [ق / 35] فإذا تأخرت فالأكثر فيها أن تكون صفات.
والمعنى في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوََاجِهِمْ}: والذين يقاربون الوفاة، فينبغي (2) أن يفعلوا هذا، ألا ترى أن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى؟!. ومثل ذلك في المعتدّة: {فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ فََارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق / 2] المعنى في ذلك: إذا قاربن انقضاء أجلهنّ من العدّة، لأن العدّة إذا انقضت، وقعت الفرقة، ولا خيار بعد وقوع الفرقة.
البقرة: 245
اختلفوا في تشديد العين وتخفيفها ورفع الفاء ونصبها وإسقاط الألف وإثباتها من قوله جلّ وعزّ (3): {فَيُضََاعِفَهُ}
[البقرة / 245] (4).
فقرأ ابن كثير فيضعفه برفع الفاء من غير ألف (5) في جميع القرآن، وفي الحديد مثله رفعاً، وكذلك: {يُضََاعِفُ}
__________
(1) في (ط): النكرة.
(2) في (ط): ينبغي.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) والآية بتمامها: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون.
(5) زاد في السبعة: مشددة العين.(2/343)
[البقرة / 261]، ويضعفه [التغابن / 17]، ومضعفة [آل عمران / 130]، ويضعف لها [الأحزاب / 30] ويضعف لمن يشاء [البقرة / 261] وما أشبه ذلك، كلّه بغير ألف.
وقرأ ابن عامر: فيضعفه بغير ألف مشدّداً (1) في جميع القرآن، ووافقه عاصم على النصب في الفاء في: {فَيُضََاعِفَهُ}
إلا أنه أثبت الألف في كل القرآن. وكان أبو عمرو لا يسقط الألف من ذلك كلّه في جميع القرآن إلا في سورة الأحزاب، قوله: يضعف لها العذاب فإنه بغير ألف.
وقرأ [نافع وحمزة والكسائيّ] (2) ذلك كلّه بالألف، ورفع الفاء (3).
قال أبو علي: للرفع في قوله: {فَيُضََاعِفَهُ} وجهان:
أحدهما: أن تعطفه على ما في الصلة، والآخر: أن تستأنفه.
فأمّا النصب في: {فَيُضََاعِفَهُ} فإن الرفع أحسن منه (4)، ألا ترى أن الاستفهام إنما هو عن فاعل الإقراض، ليس عن الإقراض فإذا كان كذلك لم يكن مثل قولك: أتقرضني فأشكرك، لأن الاستفهام هنا عن الإقراض، ولهذا أجاز سيبويه الرفع في الفعل بعد حتى في قولهم: أيّهم سار حتى يدخلها، لأن المسير (5) متيقّن غير مستفهم عنه (6)، وإنما الاستفهام هنا
__________
(1) زاد في كتاب السبعة: ونصب الفاء.
(2) في (ط): حمزة والكسائي ونافع.
(3) في كتاب السبعة ص 185: «ورفعوا الفاء من {فَيُضََاعِفَهُ} وفي الحديد مثله».
(4) في (ط): فيه.
(5) في (ط): الاستفهام. وهو سبق قلم من الناسخ.
(6) سقطت من (ط).(2/344)
عن الفاعل، ولم يجعله بمنزلة قولك: أسرت حتى تدخلها؟ في أن الرفع لا يجوز في الفعل بعد حتى، لأنك لم تثبت سيراً في قولك: أسرت حتى تدخلها. فصار بمنزلة قولك: ما سرت حتى ادخلها، وقد أثبتّ السير في قولك: أيّهم سار حتى يدخلها.
ووجه قول ابن عامر وعاصم في النصب من فاء {فَيُضََاعِفَهُ} أنه حمل الكلام على المعنى، كأنه لما كان المعنى:
أيكون قرض؟ حمل قوله: {فَيُضََاعِفَهُ} على ذلك (1). كما أنّ من قرأ قوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلََا هََادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ}
[الأعراف / 186] جزم قوله {وَيَذَرُهُمْ} (2) لما كان معنى قوله:
{فَلََا هََادِيَ لَهُ}: لا يهده، ونحو ذلك مما يحمل فيه الكلام على المعنى دون اللفظ، ألا ترى أنّ {يُقْرِضُ} ليس بمستفهم عنه؟ وإذا لم يكن مستفهما عنه بالدّلالة التي ذكرنا لم يجز أن ينزّل الفعل إذا ذكرته منزلة ذكر المصدر، كما لا يجوز ذلك في الإيجاب في حال السّعة. وإذا لم يجز ذلك في الإيجاب في حال السعة كما جاز في غير الإيجاب، لم يكن للنصب مساغ، وإذا كان كذلك، حملت النصب في قوله تعالى: {فَيُضََاعِفَهُ}
في قول من نصب على المعنى كما تقدم ذكره.
فأمّا القول في (فيضاعف ويضعف) فكل واحد منهما في معنى الآخر، كما قال سيبويه. ومثل ذلك في أن الفعلين
__________
(1) وانظر مشكل إعراب القرآن 1/ 103102.
(2) ذكر أبو حيان أنها قراءة ابن مصرف والأعمش والأخوين وأبي عمرو، فيما ذكر أبو حاتم (البحر المحيط 4/ 433).(2/345)
بمعنى، وإن اختلف بناؤهما: قرّ واستقرّ، ومثل هذا النحو كثير.
البقرة: 245
البقرة: 247
اختلفوا في السين والصاد من ويبسط [البقرة / 245] و {بَسْطَةً}
[البقرة / 247] و {الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور / 37] و {بِمُصَيْطِرٍ}
[الغاشية / 22].
فقرأ ابن كثير يقبض ويبسط، و {بَسْطَةً} وفي الأعراف:
بسطة [الآية / 69]، والمسيطرون كل ذلك بالسين.
و {بِمُصَيْطِرٍ} بالصاد، وكذلك أخبرني قنبل.
وقرأ نافع: {يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ} وبصطة في سورة الأعراف و {الْمُصَيْطِرُونَ}، و {بِمُصَيْطِرٍ} أربعة أحرف بالصاد، وسائر القرآن بالسين.
وقال الحلواني عن قالون عن نافع: لا تبالي كيف قرأت: بصطة ويبسط بالصاد أو بالسين. [أبو قرة عن نافع: و {يَبْسُطُ} بالسين] (1).
وقال حفص عن عاصم في الأعراف: بسطة ويبسط في البقرة بالسين.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ: يقبض ويبسط و {بَسْطَةً} وفي الأعراف بسطة بالسين.
وقرءوا (2): {الْمُصَيْطِرُونَ} و {بِمُصَيْطِرٍ} بالصاد. وأشمّ حمزة الصاد الزاي فيهما.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقطة من (م).
(2) في (م): وقرأ. وفي السبعة: وقرأ أبو عمرو.(2/346)
ومثل ذلك قولهم: هذا مارق وحاذق، فلم يميلوا، لأنهم كرهوا أن يتسفّلوا بالإمالة، ثم يتصعّدوا بالحرف المستعلي، كما كرهوا أن يتسفلوا بالسين ثم يتصعّدوا إلى الطاء، ولو قالوا: مررت بطارد {وَمََا أَنَا بِطََارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}
[الشعراء / 114] وهذا صاحب قادر لم يكرهوا الإمالة، لأنه يتسفّل بعد تصعّد، والتسفّل بعد التصعّد أسهل من التصعّد بعد التسفّل، كذلك القول في {بَسْطَةً} و {طسم}
[الشعراء / 1].
فأمّا إشمام حمزة الصاد الزاي: فلأنه آثر أن يوفّق بين الحرفين من وجه آخر غير ما ذكرنا (1)، وهو أن السين مهموسة، والطاء مجهورة، فضارع بالسين حرفاً مجهوراً في موضع السين، وهو الزاي، ليوافق الطاء أيضاً في الجهر كما وافقه (2)
الصاد في الإطباق، فوفّق بين الحرفين من موضعين، كما فعل ذلك في قوله: {الصِّرََاطَ} وقد تقدّم ذكر ذلك حيث ذكرنا {الصِّرََاطَ}.
فأمّا من لم يبدل السين في بسطة، وترك السين، فلأنه أصل الكلمتين، ولأنّ ما بين الحرفين من الخلاف يسير.
فاحتمل الخلاف لقلّته، ولأن هذا النحو من الخلاف لقلّته غير معتدّ به، ألا ترى أنّ الحرفين المتقاربين، قد يقعان في رويّ، فيستجيزون ذلك كما يستجيزونه في المثلين، كقوله:
__________
(1) في (ط): ما ذكرناه.
(2) في (م): وافقها.(2/348)
إذا ركبت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العنّدا (1)
فكما جعل الدّال مثل الطاء في جمعهما في حرف الرويّ، ولم يحفل بما بينهما (2) من الخلاف في الإطباق، كذلك لم يحفل بما بين السين والطاء، فلم يقرّبها منها كما فعل الآخرون.
البقرة: 246
واختلفوا (3) في كسر السين وفتحها من {عَسَيْتُمْ}
[البقرة / 246].
فقرأ نافع: {هَلْ عَسَيْتُمْ} بكسر السين في الموضعين، وفتح الباقون السين من {عَسَيْتُمْ} (4)
__________
(1) الرجز من شواهد المغني للبغدادي 8/ 69قال فيه: العند: جمع عاند وهو المائل المنحرف أو جمع عاند وعنود وهي الناقة إذا تنكبت الطريق من قوتها ونشاطها.
وجاء في حاشية (ط) تعليقة نصها: هكذا رواه أبو بكر بن دريد: «العنّدا» بضم العين وتشديد النون، جعله جمع عاند، وهو المائل المنحرف، وزاد بعده: ولا أطيق البكرات الشرّدا ورواه غيره: العندا، بفتح العين وتخفيف النون. فإن قيل: ما الذي يمنعكم أن تجعلوا الألف حرف الروي في هذين البيتين؟ فقد وجدناهم استعملوا الألف رويا؟ فالجواب: إن الذي منعهم من ذلك أن الألف التي في قوله: وسطا، هي التي بدل من التنوين في الوقف. والألف التي في قوله: العندا هي التي تزاد للإطلاق في القوافي المنصوبة، وهاتان الألفان لا يجوز أن تكونا روياً، كما بين في علم القوافي فلذلك عدلنا عنه. والله أعلم. وهناك كلمة {بَلَغْنََا} في الحاشية أيضاً.
(2) في (م): يليهما.
(3) في (ط): «اختلفوا» بدون واو.
(4) السبعة 186.(2/349)
[قال أبو عليّ] (1): (عسيت): الأكثر فيه فتح السين وهي المشهورة.
ووجه قول نافع: أنهم قد قالوا: هو عس بذاك، وما أعساه، وأعس به، حكاه ابن الأعرابي، فقولهم: عس. يقوي قراءته: {هَلْ عَسَيْتُمْ}، ألا ترى أن عس مثل حر وشج؟
وحر وحريّ (2) مثل: مذل ومذيل (3)، وطبّ وطبيب. وقد جاء فعل وفعل في نحو: نقمت ونقمت، وقالوا: وري الزّند، وقالوا:
وريت بك زنادي فاستعملوا فعل في هذا الحرف، فيما قاله أبو عثمان، فكذلك عسيت وعسيت.
فإن أسند الفعل إلى ظاهر، فقياس عسيتم أن تقول:
عسي زيد، مثل رضي، فإن قاله فهو قياس قوله، وإن لم يقله فسائغ له أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع، والأخرى في موضع آخر، كما فعل ذلك غيره.
البقرة: 249
واختلفوا (4) في ضمّ الغين وفتحها من قوله تعالى (5):
{غُرْفَةً} [البقرة / 249].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {غُرْفَةً} بفتح الغين.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في اللسان: هو عسيّ أن يفعل كذا وعس، أي: خليق، ثم نقل كلام الفارسي في توجيه قراءة نافع (مادة عسا) وحر بمعنى: خليق وجدير بكذا والشجي: المشغول الخليّ الفارع. والحزين هو شجيّ.
(3) مذل على فراشه مذلًا فهو مذل، ومذل مذالة فهو مذيل، كلاهما: لم يستقر عليه من ضعف وغرض (اللسان مذل).
(4) سقطت الواو من (ط).
(5) في (ط): عز وجل.(2/350)
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: {غُرْفَةً} بضم الغين (1).
قال أبو علي: من فتح الفاء التي هي غين من {غُرْفَةً}
عدّى الفعل إلى المصدر، والمفعول في قوله محذوف، إلّا من اغترف ماء غرفة (2).
ومن قال: {غُرْفَةً} عدّى الفعل إلى المفعول به، ولم يعدّه إلى المصدر كما عدّاه الآخرون إليه، ولم يعدّوه إلى المفعول به، وإنّما جعلت هذا مفعولًا به، لأن الغرفة العين المغترفة، فهو بمنزلة: إلّا من اغترف ماء.
والبغداديون يجعلون هذه الأسماء المشتقة من المصادر بمنزلة المصادر، ويعملونها كما يعملون المصادر فيقولون:
عجبت من دهنك لحيتك، وقد جاء عن العرب ما يدل على صحة ما ذهبوا إليه قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا (3)
وأشياء غير هذا، فعلى هذا يجوز أن تنصب الغرفة نصب الغرفة.
وقد قال سيبويه في نحو: الجلسة، والرّكبة: إنه قد يستغنى بها عن المصادر، أو قال: تقع مواقعها فهذا كالمقارب لقولهم، ولو قيل: إن الضمّ هنا أوجه لقوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ} [البقرة / 249]
__________
(1) السبعة 187.
(2) في حجة القراءات لابن زنجلة ص 140: عن أبي عمرو: ما كان باليد فهو غرفة بالفتح وما كان بإناء فهو غرفة بالضم وقال الزجاج:
غرفة، أي: مرة واحدة باليد، ومن قرأ «غرفة» كان معناه: مقدار ملء اليد.
(3) سبق انظر الجزء الأول ص 182.(2/351)
والمشروب: الغرفة، لكان قولًا.
فأما الباء في قوله: {بِيَدِهِ} فمن فتح فاء غرفة: جاز أن يتعلق بالمصدر عنده، وجاز أن يعلقه بالفعل، ومن أعمل الغرفة إعمال المصدر جاز أن يعلّق الباء بها في قوله، وكلا الأمرين مذهب.
البقرة: 251
واختلفوا (1) في كسر الدال وفتحها، وإدخال الألف وإسقاطها من قوله عزّ وجلّ: {وَلَوْلََا دَفْعُ} [2] اللََّهِ النََّاسَ
[البقرة / 251].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ} بغير ألف هاهنا، وفي الحج: إن الله يدفع [الآية / 38]. (3)
وقرأ نافع: ولولا دفاع الله {إِنَّ اللََّهَ يُدََافِعُ} بألف فيهما جميعاً.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ} بغير ألف، و {إِنَّ اللََّهَ يُدََافِعُ} بألف. وروى عبد الوهاب عن أبان عن عاصم: ولولا دفاع الله بألف (4).
قال أبو علي (دفاع) يحتمل أمرين: يجوز أن يكون مصدراً لفعل، كالكتاب واللّقاء، ونحو (5) ذلك من المصادر
__________
(1) سقطت الواو من (ط).
(2) في (ط): دفاع.
(3) في السبعة: وفي سورة الحج و: إن الله يدفع. يريد في مكانين من الحج: في الآية 40وهي قوله سبحانه: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوََامِعُ} الآية والآية الثانية 38المذكورة هنا.
(4) كتاب السبعة 187.
(5) في (ط): وغير.(2/352)
التي تجيء على فعال. كما يجيء على فعال نحو: الجمال والذّهاب. ويجوز أن يكون مصدراً لفاعل، يدلّ على ذلك قراءة من قرأ: {إِنَّ اللََّهَ يُدََافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}، فالدفاع يجوز أن يكون مصدراً لهذا، كالقتال، ونظيره الكتاب في أنه جاء مصدراً لفاعل وفعل، فقوله تعالى (1): {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتََابَ مِمََّا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ فَكََاتِبُوهُمْ} [النور / 33] الكتاب فيه مصدر كاتب، كما أن المكاتبة كذلك، وقال تعالى: {كِتََابَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء / 24] فالكتاب مصدر لكتب الذي دلّ عليه قوله تعالى (2): {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ} [النساء / 23] لأن المعنى: كتب هذا التحريم عليكم كتاباً، وكذلك قوله: {كِتََاباً مُؤَجَّلًا} [آل عمران / 145] كأنّ معنى دفع ودافع سواء، ألا ترى أن قوله (3):
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... فإذا المنيّة أقبلت لا تدفع
فوضع أدافع موضع أدفع (4)، كأنّ المعنى: حرصت بأن أدفع عنهم المنيّة، فإذا المنيّة لا تدفع.
وقال أمية (5):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) وهو أبو ذؤيب الهذلي، والبيت من قصيدته المشهورة في رثاء بنيه الخمسة الذين ماتوا في يوم واحد. انظر ديوان الهذليين / 2.
(4) عبارة (م): فوضع تدافع موضع تدفع وفيها قلب من الناسخ.
(5) اللسان (ضلل) وعنه في ديوانه 361وروايته: لولا وثاق الله. ولا شاهد فيه. والوثاق: ما يوثق به من حبل أو سواه ونتلّ: نصرع ونوأد: ندفن أحياء.(2/353)
لولا دفاع الله ضلّ ضلالنا ... ولسرّنا أنّا نتلّ ونوأد
وإذا كان كذا فقوله: إن الله يدفع، ويدافع يتقاربان، وليس يدافع كيضارب. ومما يقوي ذلك قوله: {قََاتَلَهُمُ اللََّهُ أَنََّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة / 30]. وليس للمفاعلة التي تكون من اثنين هنا وجه.
البقرة: 254
واختلفوا (1) في الرّفع والنصب من قوله تعالى: {لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خُلَّةٌ وَلََا شَفََاعَةٌ} [البقرة / 254].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خُلَّةٌ وَلََا شَفََاعَةٌ} بالنصب في كل ذلك بلا تنوين، وفي سورة إبراهيم:
{لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خِلََالٌ} [الآية / 31] مثله أيضاً، وفي الطور:
{لََا لَغْوٌ فِيهََا وَلََا تَأْثِيمٌ} [الآية / 23] مثله.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: كلّ ذلك بالرّفع والتنوين (2).
قال أبو علي: خصّ البيع في قوله: {لََا بَيْعٌ فِيهِ} لما في المبايعة من المعاوضة، فيظنّ أن ذلك كالفداء في النجاة ممّا أوعدوا به، فصار ذلك في المعنى كقوله تعالى (3): {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لََا يُؤْخَذْ مِنْهََا} [الأنعام / 70]، وكقوله: {فَالْيَوْمَ لََا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد / 15]، وقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذََابِ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مََا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائدة / 36]، ونحو ذلك من الآي التي تعلم أنّه لا فداء لعذاب ذلك اليوم، ولا مانع منه، وكذلك قوله: {لََا خُلَّةٌ}
__________
(1) سقطت الواو من (ط).
(2) السبعة 187.
(3) سقطت من (ط).(2/354)
لأن الخليل قد ينتفع بخلّة خليله، كما أنّ المشفوع له قد ينتفع عند شفاعة الشافع له، فأعلم سبحانه أن ذلك كلّه لا ينفع في ذلك اليوم، قال تعالى: {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ} [غافر / 18].
فأما قوله: {لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خِلََالٌ} [إبراهيم / 31] فإنّ قوله: {خِلََالٌ} يحتمل أمرين: يجوز أن يكون جعل الخلّة كالأسماء، كما جعل غيرها من المصادر كذلك، فكسّر تكسيرها، وجعل كقولهم: برمة وبرام، وجفرة وجفار، وعلبة وعلاب (1)، ويجوز أن يكون مصدر: خاللته مخالّة وخلالًا.
أنشد أبو عبيدة (2):
ويخبرهم مكان النّون منّي ... وما أعطيته عرق الخلال
وأما قوله تعالى: {لََا لَغْوٌ فِيهََا وَلََا تَأْثِيمٌ} [الطور / 23] فإن
__________
(1) البرمة: قدر من الحجارة والجمع برام والجفرة: وسط الشيء ومعظمه والجمع جفر وجفار. والعلبة: قدح ضخم من جلود الإبل، وقيل: العلبة من خشب كالقدح الضخم يحلب فيها والجمع علب وعلاب وقيل:
العلاب: جفان تحلب فيها الناقة.
(2) مجاز القرآن 1/ 341وهو للحارث بن زهير العبسي يصف سيفاً، وقبله:
سيخبر قومه حنش بن عمرو ... إذا لاقاهم وابنا بلال
والعرق بمعنى الجزاء. وعرق الخلال: ما يرشح لك الرجل به، أي:
يعطيك للمودة، والنون: اسم سيف مالك بن زهير، وكان حمل بن بدر أخذه من مالك يوم قتله، وأخذه الحارث من حمل بن بدر يوم قتله.
يقول: لم يعرق لي بهذا السيف عن مودة، إنما أخذته منه غصباً.
انظر الجمهرة 1/ 70والنقائض 1/ 96والسمط 583واللسان (عرق).(2/355)
أبا عبيدة قال: اللّغا: التكلّم بما لا ينبغي، وأنشد للعجّاج (1):
عن اللّغا ورفث التكلّم قال: وتقول: لغيت تلغى، مثل: لقيت تلقى، قال: ولغا الطّير: أصواتها. وأنشد غيره (2):
باكرته قبل أن تلغى عصافره ... مستخفياً صاحبي وغيره الخافي
قال أبو علي: فكأنّ اللّغو واللّغا مثل الدّلو والدلا، والعيب والعاب، ونحو ذلك مما يجيء على فعل وفعل، واللغو: التكلم بما لا ينبغي، والخوض فيما نهي عنه. قال تعالى (3): {وَإِذََا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقََالُوا لَنََا أَعْمََالُنََا وَلَكُمْ أَعْمََالُكُمْ. سَلََامٌ عَلَيْكُمْ لََا نَبْتَغِي الْجََاهِلِينَ}
[القصص / 55]، أي (4): لا نبتغي مجاراتهم (5) ولا الخوض معهم فيما يخوضون فيه، فالمضاف محذوف، وقال تعالى (6):
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون / 3]، فأما قوله سبحانه (7): {وَإِذََا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرََاماً} [الفرقان / 72] فيجوز أن يكون المعنى: إذا مرّوا بأهل اللغو، أو: ذوي اللغو، مرّوا
__________
(1) سبق الرجز في هذا الجزء ص 284.
(2) هو عبد المسيح بن عسلة وهو عبد المسيح بن حكيم وجده الأعلى مرة بن همام وعسلة أمه نسب إليها، والبيت من مفضلية برقم 73وفي اللسان (لغا).
تلغى: تصيح وصاحبه: فرسه يريد: أن النبت غمره وأخفاه غيره الخافي: أي: مثله لا يخفى لطوله وإشرافه.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) سقطت من (م).
(5) في (ط): ممارتهم.
(6) سقطت من (ط).
(7) سقطت من (ط).(2/356)
كراماً، فلم يجاورهم فيه، واجتنبوهم، فلم يخوضوا معهم.
ويجوز أن يكون مثل قولك: مرّت بي آية كذا، ومررت بسورة كذا، أي: تلوتها وقرأتها. أي: إذا أتوا على ذكر ما يستفحش ذكره كنّوا عنه ولم يصرّحوا. وأحسب بعض المفسّرين إلى هذا التأويل ذهب فيه.
وليس هذا في كلّ حال، ولكن في بعض دون بعض، فإذا كان الحال حالًا يقتضي التبيين، فالتصريح أولى، كما روي من التصريح في قصة ماعز (1)، وكما
روي: «من تعزّى بعزاء الجاهلية، فأعضّوه بهن أبيه ولا تكنوا» (2)
وكما روي عن أبي بكر رضي الله عنه، أو غيره من الصحابة، أنه قال لبعض المشركين: اعضض ببظر اللات (3).
وقد يستعمل اللغو في موضع آخر، وهو أن لا يعتدّ بالشيء، فمما يكون على هذا قوله تعالى: {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ} [المائدة / 89] فهذا يحمل على ما وضعت فيه الكفّارة، نحو: لا والله، وبلى والله.
ومن ذلك قول الشاعر (4):
__________
(1) وهي في صحيح مسلم كتاب الحدود 3/ 1320.
(2) رواه أحمد في مسنده 5/ 136.
(3) رواه البخاري بشرح الفتح 5/ 248باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط رقم الحديث 27322731. وأحمد 4/ 224و 229والرواية عندهما: امصص.
(4) البيت لذي الرمة وقد روي في الديوان 2/ 1379: ويهلك بينها المرئي والمرئي: نسبة إلى امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. وانظر شرح الأشموني على ألفية ابن مالك 4/ 192.(2/357)
ويلغى دونها المرئيّ لغوا ... كما ألغيت في الدّية الحوارا
ألا ترى أن الدّية لا يؤخذ فيها الحوار، فصار لا اعتداد به فيها فأما التأثيم فقالوا: أثم يأثم. إذا ركب مأثما (1)، فإذا حملته على ذلك قلت: أثّمته تأثيما، وفي التنزيل: {إِنََّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة / 106] وفيه: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ}
[الجاثية / 7] وقال تعالى (2): {مَنََّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}
[القلم / 12] فيجوز أن يكون: آثم وأثيم، مثل: عالم وعليم وشاهد وشهيد، ويجوز أن يكون: أثيم من آثم، مثل:
قريح وطبيب، ومذيل وسميح، فمعنى لا تأثيم: ليس فيها ما يحمل على الإثم فأما من فتح بلا تنوين، فإنه جعله جواب هل فيها من لغو أو تأثيم؟ [ومن رفع جعله جواب: أفيها لغو أو تأثيم؟] (3).
وقد ذكرنا صدراً من القول على النفي فيما تقدم.
والمعنيان يتقاربان في أن النفي يراد به العموم والكثرة في القراءتين يدلّ على ذلك قول أمية (4):
فلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به لهم مقيم
__________
(1) في (ط) إثما.
(2) سقطت في (ط).
(3) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).
(4) هذا البيت ملفق من بيتين كما ورد في الديوان (475477) ولا لغو ولا تأثيم فيها ... ولا غول ولا فيها مليم
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم(2/358)
ألا ترى أنه يريد من نفي اللغو وإن كان قد رفعه ما يريد بنفي التأثيم الذي فتحه ولم ينوّنه.
فإن جعلت قوله: (فيها) خبراً أضمرت للأول خبراً وإن جعلته صفة. أضمرت لكلّ واحد من الاسمين خبراً.
قال أحمد بن موسى: كلّهم قرأ: {أَنَا أُحْيِي}
[البقرة / 258] يطرحون الألف التي بعد النون، من {أَنَا} إذا وصلوا في كل القرآن، غير نافع، فإنّ ورشا وأبا بكر بن أبي أويس وقالون رووا: إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن مثل: {أَنَا أُحْيِي} و {أَنَا أَخُوكَ}، [يوسف / 69] إلّا في قوله: {إِنْ أَنَا إِلََّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء / 15] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القرّاء، وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة، ولم يختلفوا في حذفها، إذا لم تلقها (1) همزة إلا في قوله: {لََكِنَّا هُوَ اللََّهُ رَبِّي} [الكهف / 38] ويأتي في موضعه إن شاء الله (2).
[قال أبو علي] (3): القول في {أَنَا} أنّه ضمير المتكلم، والاسم: الهمزة والنون، فأما الألف فإنّما تلحقها في الوقف،
__________
والغول: الصداع وقيل: السّكر والمليم: اللائم أو المذنب، ومقيم:
ثابت والساهرة: الأرض.
(1) في (ط) يلقها.
(2) السبعة 188. وهنا ينتهي الجزء الثاني في نسخة (م) في حين يستمر الكلام في (ط).
(3) سقطت من (ط).(2/359)
كما تلحق الهاء له في نحو: مسلمونه، فكما أنّ الهاء التي (1) تلحق للوقف، إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت، كذلك هذه الألف تسقط في الوصل، والألف في قولهم: أنا، مثل التي في: حيّهلا، في أنها للوقف (2). فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء، سقطت، لأن ما يتصل به يقوم مقامه. مثل همزة الوصل في الابتداء، في نحو (3): ابن واسم وانطلاق، واستخراج. فكما أنّ هذه الهمزة إذا اتّصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت، ولم تثبت، لأن ما يتّصل به يتوصّل به إلى النطق بما بعد الهمزة، فلا تثبت الهمزة لذلك كذلك الألف في {أَنَا} والهاء إذا اتصلت الكلم (4) التي هما فيها بشيء، سقطتا ولم يجز إثباتهما، كما لم تثبت به (5) همزة الوصل، لأن الهمزة في هذا الطّرف، مثل الألف والهاء في هذا الطرف.
وقد يجرون الوقف مجرى الوصل في ضرورة الشعر، فيثبتون فيه (6) ما حكمه أن يثبت في الوقف. وليس ذلك مما ينبغي أن يؤخذ به في التنزيل، لأنهم إنما يفعلون ذلك
__________
(1) سقطت من (م).
(2) فإذا وصلوا قالوا: حيّهل بعمر، وإن شئت قلت: حيّهل. انظر سيبويه 2/ 279.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): الكلمة.
(5) سقطت «به» من (ط).
(6) سقطت من (ط).(2/360)
لتصحيح وزن، أو إقامة قافية، وذانك لا يكونان في التنزيل، فمن ذلك قوله:
ضخم يحبّ الخلق الأضخمّا (1)
لما كان يقف على الأضخمّ بالتشديد، ليعلم أن الحرف في الوصل يتحرك (2)، أطلق الحرف، وأثبت التشديد الذي كان حكمه أن يحذف. ولهذا وجه في القياس وهو: أن الحرف الذي للإطلاق لمّا لم يلزم، لأنّ في الناس من يجري القوافي في الإنشاد مجرى الكلام (3)، فيقول:
أقلّي اللّوم عاذل والعتاب (4)
__________
(1) من رجز لرؤبة في ديوانه ص 183وقبله:
وصلت من حنظلة الأسطما والعدد الغطامط الغطمّا ثمّت جئت حيّة أصمّا ضخماً البيت كذا رواية الديوان بالنصب وتبعها ابن جني في المنصف 1/ 10وسرّ صناعة الإعراب 1/ 179، وصاحب تاج العروس أما سيبويه فرواه في 1/ 11برواية المصنف وفي 2/ 283برواية: بدء بدل ضخم، والبدء:
السيد. وتبع سيبويه على رواية الرفع صاحب اللسان والجوهري. وفي حاشية سر صناعة الإعراب قال ابن بري: صوابه: ضخماً بالنصب لأنه نعت لحية قبله.
(2) في (ط): محرك.
(3) انظر سيبويه 2/ 299.
(4) صدر بيت لجرير سبق في 1/ 73.(2/361)
واسأل بمصقلة البكري ما فعل (1)
فكذلك يلزم أن يقول: الأضخمّ على هذا فلا يطلق فإذا كان ذلك وجهاً في الإنشاد علمت أن الحرف الذي للإطلاق غير لازم، فإذا لم يلزم لم يعتدّ به، وإذا لم يعتدّ به، كان الحرف (2) المشدّد كأنّه موقوف عليه في الحكم، ومثل ذلك:
لقد خشيت أن أرى جدبّا (3)
ومثله (4):
ببازل وجناء أو عيهلّ ومثله (5):
تعرّض المهرة في الطّولّ
__________
(1) عجز بيت للأخطل سبق في ص 211ومصقلة: هو ابن هبيرة الشيباني.
(2) سقطت من (ط).
(3) سبق في 1/ 65 (حاشية).
(4) لمنظور بن مرثد وقد سبق في 1/ 151 (حاشية) وانظر الضرائر لابن عصفور ص 51.
(5) من رجز تابع للبيت السابق، وقبله:
تعرّضت لي بمكان حلّ كما في العسكريات ص 219والمحتسب 1/ 137وشرح شواهد الشافية للبغدادي 4/ 249، والبيت من أرجوزة طويلة ذكرها ثعلب في مجالسه من ص 536533وذكر منها أبياتا أبو زيد في نوادره ص 53 منها الشاهد السابق.(2/362)
ومثله (1):
مثل الحريق وافق القصبّا (2)
فهذا النحو قد يجيء في الشعر على هذا. وليس هذا كوقف حمزة في {مَرْضََاتِ} من {مَرْضََاتِ اللََّهِ} [البقرة / 207] لأنّ الوقف على التاء لغة حكاها عن أبي الخطّاب (3)، فقد (4) استعمل في الكلام والشعر، وهذا الذي أثبت حرف الإطلاق مع التشديد إنما هو في الشعر دون الكلام، فليس قول القائل:
بل جوز تيهاء كظهر الجحفت (5)
مثل: عيهلّ، والقصبّا، ويمكن أن يكون قوله:
هم القائلون الخير والآمرونه (6)
وقوله:
ولم يرتفق والناس محتضرونه (7)
__________
(1) سقطت من (م).
(2) من رجز لرؤبة في ملحقات ديوانه ص 169سبق ذكره في 1/ 65وانظر الضرائر لابن عصفور ص 50وشرح الشافية 4/ 250والمسائل العسكرية ص 224والعيني 4/ 549وابن يعيش 3/ 94.
(3) أبو الخطاب هو الأخفش الأكبر عبد الحميد بن عبد المجيد مولى قيس بن ثعلبة (177هـ) أخذ عنه سيبويه اللغات، وكان إماماً في العربية قديماً. لقي الأعراب وأخذ عنهم وعن أبي عمرو بن العلاء وطبقتهم
وكان ديّناً ورعاً ثقة، وهو أول من فسر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله وإنّما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسّروها. انظر الفهرست ص 76والبغية 2/ 74والأعلام 4/ 59.
(4) في (ط): «وقد».
(5) سبق في ص: 300.
(6) وعجزه: إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما.
(7) وعجزه: جميعاً وأيدي المعتفين رواهقه(2/363)
الهاء فيه هاء الوقف التي تلحق في «مسلمونه» و «صالحونه» فألحق الهاء حرف اللين، كما ألحقوا الحرف المشدّد حرف الإطلاق، وأجروا غير القافية مجرى القافية، كما أجروا قوله:
لمّا رأت ماء السّلا مشروبا (1)
وإن لم يكن مصرّعاً مجرى المصرّع. ولا يجوز شيء من ذلك في غير الشعر.
وأمّا ما روي عن نافع من إثباته الألف في {أَنَا} إذا كانت بعد الألف همزة، فإنّي لا أعلم (2) بين الهمزة وغيرها من الحروف فصلًا، ولا شيئاً يجب من أجله إثبات الألف التي حكمها أن تثبت في الوقف، بل لا ينبغي أن تثبت الألف التي حكمها أن
__________
وهذا البيت مع سابقه أنشدهما سيبويه 1/ 96شاهدين على الجمع بين النون والضمير في الآمرونه ومحتضرونه. وقال في عزوهما: وقد جاء في الشعر فزعموا أنه مصنوع. وأوردهما المبرد عن سيبويه فقال: وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة، وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضرورة (الكامل 1/ 316) وذكرهما ابن عصفور في الضرائر (2827) وقال: كان الوجه أن يقال: محتضروه، والآمروه، لولا الضرورة. وقوله: يرتفق، أي يتكئ على مرفق يده، والمعتفون: طلاب المعروف، ورواهقه، أي: دانية منه. وانظر شرح الكافية للرضي 2/ 232 (ت يوسف حسن عمر) والخزانة 2/ 188187.
(1) هذا صدر بيت عجزه: والغرث يعصر في الإناء أرنّت وقد اختلف في نسبته إلى شبيب بن جعيل أو حجل بن نضلة. انظر شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 248247.
والسّلا: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه.
(2) في (ط): «لا أعرف».(2/364)
تلحق في الوقف، وتسقط في الوصل قبل الهمزة، كما لا تثبت قبل غيرها من الحروف في شيء من المواضع. وقد جاءت ألف (1) {إِنََّا} مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك:
قول الأعشى (2):
فكيف أنا وانتحالي القواف ... ي بعد المشيب كفى ذاك عارا
وقول الآخر (3):
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميد قد تذرّيت السّناما
ومن زعم أن الهمزة في {إِنََّا} أصلها ألف ساكنة، ألحقت أولًا، فلما ابتدئ بها قلبت همزة، فالهمزة على هذا مبدلة من
__________
(1) في (ط) «الألف في».
(2) ديوانه 53. وروايته فيه:
فما أنا أم ما انتحالي القوا ... ف بعد المشيب كفى ذاك عاراً
وذكره أبو حيان في البحر 2/ 288، وأورده المبرد شاهداً على إثبات ألف أنا في الوصل ضرورة ثم قال: والرواية الجيدة: فكيف يكون انتحال القوافي بعد (الكامل 1/ 384).
والمعنى: ينفي عن نفسه ما اتهم به عند الممدوح من أنه يسطو على شعر غيره وينتحله لنفسه.
(3) هو حميد بن بحدل الكلبي، انظر المنصف 1/ 10وفيه: «سيف العشيرة حميداً» وابن يعيش 3/ 93والخزانة 2/ 390وشرح شواهد الشافية 4/ 223، والصحاح أنن. وفي الأساس (ذرى) ونسبه لحميد، وعنه أثبته العلامة الميمني في ديوان حميد بن ثور ص 133مع التحفظ فقال: الأساس (ذرى) لحميد، كذا بلا نسبة والصواب ما تقدم، وجعله ابن عصفور من الضرائر فقال: ومنها إثبات ألف أنا في الوصل إجراء لها مجرى الوقف، وأنشد بيت الأعشى السابق، وبيت حميد هذا (انظر الضرائر ص 5049).(2/365)
ألف فإنّ قائل هذا القول جاهل بمقاييس النحويين، وبمذاهب العرب في نحوه.
أما جهله بمقاييس النحويين فإنهم لا يجيزون الابتداء بالساكن، فلذلك قال الخليل: لو لفظت بدال «قد» لجلبت همزة الوصل فقلت: إد، وقال أبو عثمان: لو لم تحذف الواو من عدة ونحوها، للزمك أن تجتلب الهمزة للوصل، فقلت:
إيعدة.
وأما موضع الجهل بمذاهب العرب التي عليها قاس النحويون: فهو أنهم لم يبتدءوا بساكن في شيء من كلامهم، فإذا أدى إلى ذلك قياس اجتلبوا همزة الوصل. ويبيّن ذلك أنهم لم يخففوا الهمزة مبتدأة، لأن في تخفيفها تقريباً من الساكن، فكما لم يبتدءوا بالساكن، كذلك لم يبتدءوا بما كان مقرّباً منه. ومما يبيّن ذلك أنّهم إذا توالى حرفان متحرّكان [في أول بيت] (1)، حذفوا للجزم المتحرك الأول حتى يصير فعولن:
عولن، وقد توالى في «متفا» من «متفاعلن» ثلاث متحركات فلم يخرموه، لما كان الثاني من «متفا» قد يسكن للزّحاف، فإذا سكن للزحاف لزمه أن يبتدئ بساكن، فإذا (2) كانوا قد رفضوا ما يؤدي إلى الابتداء بالساكن، فأن يرفضوا الابتداء بالساكن نفسه أولى، وإذا (3) كان الأمر على ما وصفنا، تبيّنت أنّ الذي قال ذلك جهل ما ذكرنا من مقاييس النحويين، ومذاهب العرب فيها أو تجاهل، وتبينت أيضاً أنه ليس في الحروف التي يبتدأ بها
__________
(1) سقطت من (م) ما بين المعقوفين.
(2) في (ط): فلما.
(3) في (ط): «فإذا».(2/366)
حرف مبدل للابتداء به، وأن الحروف التي يبتدأ بها على ضربين: متحرك وساكن، فإن كان متحركاً ابتدئ به ولم يغيّر من أجل الابتداء به، وإن كان ساكناً، اجتلبت (1) له همزة الوصل في اسم كان، أو فعل، أو حرف، وقد كان من حكم مثل هذا الرأي أن لا يتشاغل به لسقوطه وخروجه من قول الناس.
البقرة: 259
اختلفوا في إدغام الثّاء في التاء من (2) قوله تعالى: {كَمْ لَبِثْتَ} [البقرة / 259] و {لَبِثْتُمْ} (3).
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في كلّ القرآن ذلك بإظهار الثاء.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائيّ بالإدغام.
قال أبو علي: من بيّن لبثت ولم يدغم، فلتباين المخرجين، وذلك (4) أنّ الظاء والذال والثاء من حيّز، والطاء والتاء والدال من حيّز، فلمّا تباين المخرجان، واختلف الحيّزان لم يدغم.
ومن أدغم أجراهما مجرى المثلين، من حيث اتفق الحرفان في أنّهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتّفقا في الهمس، ورأى الذي بينهما من الاختلاف في المخرج خلافاً يسيراً فأدغم، وأجراهما مجرى المثلين. ويقوّي ذلك وقوع نحو هذا حرفي رويّ في قصيدة واحدة، فجرى عندهم في ذلك
__________
(1) في (ط): اجتلب.
(2) في (ط): في.
(3) الكهف / 19والمؤمنون 112.
(4) في (ط): وذاك.(2/367)
مجرى المثلين. ويقوّي ذلك اتفاقهم في ستّ في الإدغام. ألا ترى أن الدّال ألزمت الإدغام في مقاربها (1)، وإن اختلفا في الجهر والهمس، ولما ألزمت الدال الإدغام في مقاربها (1)، فصارت الكلمة بذلك على صورة لا يكون في كلامهم مثلها، إلّا أن يكون صوتا، أبدلت من السين التاء، وأدغمت الدال في التاء فصار ستّا (3)، فبحسب إلزامهم الإدغام في هذه الكلمة مع اختلاف الحرفين في الجهر والهمس يحسن الإدغام في:
{لَبِثْتَ} و {لَبِثْتُمْ}. ويقوّي الإدغام فيه أيضاً أنّ التاء ضمير فاعل، وضمير الفاعل يجري مجرى الحرف من الكلمة، يدلّ (4)
على ذلك وقوع الإعراب بعد ضمير الفاعل في: يقومان، ونحوها، وسكون اللّام في نحو: فعلت، فضارع بذلك الحرفين المتصلين، وإذا (5) صار بمنزلة المتصلين من حيث ذكرنا، لزم الإدغام كما لزم في ستّ، وكما أدغم من أسكن العين في وتد فقال: ودّ.
البقرة: 259
اختلفوا في إثبات الهاء في الوصل من قوله عزّ وجلّ (6):
{لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة / 259] و {اقْتَدِهْ} [الأنعام / 90] و {مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ} [الحاقة / 28]
__________
(1) في (ط): مقاربه.
(3) عبارة اللسان (سدس): ستة وست: أصلهما: سدسة وسدس، قلبوا السين الأخيرة تاء لتقرب من الدال التي قبلها، وهي مع ذلك حرف مهموس، كما أن السين مهموسة فصار التقدير: سدت، فلما اجتمعت الدال والتاء وتقاربتا في المخرج، أبدلوا الدال تاء لتوافقها في الهمس، ثم أدغمت التاء في التاء، فصارت ست كما ترى، فالتغيير الأول للتقريب من غير إدغام، والثاني للإدغام.
(4) في (ط): «يدلك».
(5) في (ط): «فإذا».
(6) سقطت «وجل» من (ط).(2/368)
و {سُلْطََانِيَهْ} [الحاقة / 29] و {مََا أَدْرََاكَ مََا هِيَهْ} [القارعة / 10]، وإسقاطها في الوصل ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلّها بإثبات الهاء في الوصل. وكان حمزة يحذفهنّ في الوصل. وكان الكسائيّ يحذف الهاء في الوصل من قوله:
{يَتَسَنَّهْ} و {اقْتَدِهْ} ويثبتها في الوصل في الباقي.
وكلّهم يقف على الهاء، ولم يختلفوا في {كِتََابِيَهْ}
[الحاقة / 2519] و {حِسََابِيَهْ} [الحاقة / 2620] أنّها بالهاء في الوقف (1).
قال أبو عليّ: السنة تستعمل على ضربين: أحدهما:
يراد به الحول والعام (2) والآخر: يراد به الجدب، خلاف (3)
الخصب.
فمما أريد به الجدب قوله تعالى (4): {وَلَقَدْ أَخَذْنََا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرََاتِ} [الأعراف / 130] ومنه ما يروى من
قوله: «اللهمّ سنين كسنيّ يوسف» (5)
وقول عمر: إنّا
__________
(1) السبعة 189188.
(2) سقطت من (م).
(3) في (م): وخلاف.
(4) سقطت من (ط).
(5) طرف من حديث أخرجه البخاري في الفتح برقم 1006استسقاء وبرقم 4821تفسير سورة الدخان، وبرقم 6393دعوات ومسلم برقم 675 مسافرين وبرقم 2799صفات المنافقين وأبو داود برقم 1442وتر والترمذي برقم 3251تفسير والنسائي 2/ 201افتتاح. وانظر شأن الدعاء للخطابي ص 192191. وقد وردت كلمة «سني» في (ط) بتسكين الياء، وأصلها سنين حذفت نونها للإضافة، وفي (م) ومسلم ضبطت(2/369)
لا نقطع في عرق (1) ولا في عام السّنة» فلا يخلو عام السنة من أن يريد (2) به الحول أو الجدب، فلا يكون الأول لأنّه يلزم أن يكون التقدير: عام العام، ولا يكون عام العام، كما لا يكون حول الحول، فإذا لم يستقم هذا، ثبت الوجه الآخر. ومن ذلك قول أوس:
على دبر الشّهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلمّع (3)
فقوله: تلمّع، معناه: لا خصب فيها ولا نبات، كقولهم:
السنة الشهباء، كأنها وصفت بالشّهب الذي هو البياض، كما وصف خلافها لريّ النبات فيها بالسّواد، وعلى ذلك جاء في وصف الجنتين: {مُدْهََامَّتََانِ} [الرحمن / 64] وقال ذو الرّمة في وصف روضة (4):
__________
بالتشديد مع الكسر، وهي جمع تكسير فعلة على فعول، كما سيذكره المؤلف قريباً في رجز لأبي النجم، ففي التخفيف أعربت بالحرف وفي التشديد بالحركة.
(1) كذا رواية الأصل: «عرق» بالراء. والعرق كما في النهاية (عرق):
العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم. ولعل رواية الراء تحريف صوابه: عذق كما في النهاية (عذق): ومنه حديث عمر: «لا قطع في عذق معلّق».
والحديث كما في تلخيص الحبير 4/ 78: من حديث ابن حدير عن عمر قال: «لا تقطع اليد في عذق، ولا عام سنة»، قال: فسألت أحمد عنه فقال:
العذق: النخلة، وعام سنة: المجاعة. اهـ. وقد وقع لفظ: «عذق» في التلخيص، مصحفاً في المكانين إلى: «غدق» بالغين والدال. والغدق:
الماء الكثير. ولا ينسجم ذلك مع معنى الحديث.
(2) في (ط): «يراد».
(3) البيت ليس في ديوان أوس وهو أشبه بقصيدته فيه ص / 57وهو في ابن يعيش 2/ 45بغير نسبة.
(4) في (م): «الروضة».(2/370)
حوّاء قرحاء أشراطيّة وكفت ... فيها الذّهاب وحفّتها البراعيم (1)
فأمّا قوله تعالى (2): {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ََ فَجَعَلَهُ غُثََاءً أَحْوى ََ} [الأعلى / 54] فإنّ قوله: {أَحْوى ََ} يحتمل ضربين:
يجوز أن يكون أحوى وصفاً للمرعى كأنّه: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: كالأسود من الرّي لشدة الخضرة فجعله غثاء بعد. ويجوز أن يكون أحوى صفة للغثاء، وذلك أنّ الرّطب إذا جفّ ويبس اسودّ بعد، كما قال:
إذا الصّبا أجلت يبيس الغرقد ... وطال حبس بالدّرين الأسود (3)
ومما يراد به الجدب قول حاتم:
وإنّا نهين المال من غير ضنّة ... ولا يشتكينا في السنين ضريرها (4)
أي: لا يشتكينا الفقير في المحل، لأنّا نسعفه ونكفيه.
وإذا (5) ثبت أنّ السنة والسنين الجدوب فيجوز أن يكون
__________
(1) ديوان ذي الرمة 1/ 399من قصيدته المشهورة التي يشبب فيها بخرقاء.
قوله: حواء: من الحوة: خضرة شديدة تضرب إلى السواد. قرحاء: فيها زهر أبيض كقرحة الفرس، والقرحة: بياض في وجه الفرس. أشراطية:
مطرت بنوء الشرطين: نجمان من الحمل. وكفت: قطرت. الذهاب:
الأمطار فيها ضعف. البراعيم: أوعية الزهر قبل أن يتفتق واحدها برعوم.
(2) سقطت من (ط).
(3) لم نعثر على قائله. والدرين: النبت الذي أتى عليه سنة ثم جف.
والغرقد: شجر عظام من العضاه واحدتها غرقدة (اللسان).
(4) ديوان حاتم الطائي / 63وفيه: «في غير ظنة» بدل «من غير ضنة»، و «ما» بدل «لا».
(5) في (ط): «فإذا».(2/371)
{لَمْ يَتَسَنَّهْ}: لم تذهب طراءته، فيكون قد غيّره الجدب، فشعّثه وأذهب غضارته. ولمّا كانت السنة يعنى بها الجدب، اشتقوا منها كما يشتقّ من الجدب، فقيل: أسنتوا: إذا أصابتهم السّنة فأجدبوا قال الشاعر:
بريحانة من بطن حلية نوّرت ... لها أرج ما حولها غير مسنت (1)
وقد اشتق من السّنة للجدب من كلتا اللغتين اللتين فيها:
فأسنتوا من الواو، وقوله:
ليست بسنهاء (2)
من الهاء. فأمّا قوله:
تأكل (3) أزمان الهزال والسّني (4)
__________
(1) وهو للشّنفرى الأزدي من مفضلية برقم 20وقبله:
فبتنا كأن البيت حجّر فوقنا ... بريحانة ريحت عشاء وطلّت
حلية: واد بتهامة أعلاه لهذيل وأسفله لكنانة، الأرج: توهج الريح وتفرقها في كل جانب. المسنت: المجدب.
(2) هذه قطعة من بيت لسويد بن الصامت الأنصاري في اللسان (رجب سنه) وتتمته:
فليست بسنهاء ولا رجبيّة ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
قال في اللسان (رجب): يصف نخلة بالجودة، وقوله: سنهاء: حملت سنة ولم تحمل أخرى، أو التي أصابتها السنة المجدبة، ورجّب النخلة: دعمها إذا كثر حملها لئلا تتكسر أغصانها، ورجبيّة ورجّبيّة: بني تحتها رجبة:
دعامة، ويكون ترجيبها: أن يجعل حول النخلة شوك لئلا يرقى فيها راق فيجني ثمرها. والعرايا: جمع عرية، وهي التي يوهب ثمرها. الجوائح:
السنون الشداد التي تجيح المال.
وانظر معجم تهذيب اللغة للأزهري 6/ 129
(3) في (ط): «يأكل».
(4) سبق انظر ص 284.(2/372)
فلا يصلح أن يقدر فيه أنّه ترخيم، لأنّ الترخيم إنّما يستقيم أن يجوز في غير النداء منه ما كان يجوز منه في النداء، فأمّا إذا لم يجز أن تكون الكلمة مرخمة في نفس النداء فأن لا يجوز ترخيمها في غير النداء أجدر. وإنما أراد بالسني: جمع فعلة على فعول، مثل: مأنة ومئون (1). وكسر الفاء كما كسر في عصيّ، وخفف للقافية كما خفّف الآخر:
كنهور كان من اعقاب السّمي (2)
وإنّما السّميّ كعنوق، كما أنّ سماء كعناق.
ويدلّ على صحة هذا قول أبي النجم:
قامت تناجيني ابنة العجليّ ... في ساعة مكروهة النّجيّ
يكفيك ما موّت في السّنيّ (3)
فالتخفيف والحذف الذي جاء في السنيّ للقافية، تمّم في بيت أبي النجم. والسنيّ في قول أبي النجم معناه: الجدب، كأنّه: ما موّت في الجدوب. وقالوا: سنون، وسنين، [وجاء سنين] (4) كثيراً في الشعر.
__________
(1) المأنة: قال سيبويه (2/ 183): تحت الكركرة وفي اللسان (مأن): شحمة قص الصدر، وقيل: هي باطن الكركرة.
(2) بيت من الرجز نسبه صاحب اللسان (كنهر) لأبي نخيلة وقال: الكنهور.
من السحاب: المتراكب الثخين، قال الأصمعي وغيره: هو قطع من السحاب أمثال الجبال والسّميّ: جمع سماء، وهو السحاب والمطر.
(3) سبق انظر 284.
(4) سقطت من (ط).(2/373)
وقد أنشدنا في كتابنا في «شرح الأبيات المشكلة الإعراب من الشعر» في (1) ذلك صدرا فمن ذلك: قول الشاعر:
دعاني من نجد فإنّ سنينه ... لعبن بنا شيباً وشيّبننا مردا (2)
فأمّا قوله تعالى (3): {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة / 259] فيحتمل ضربين: أحدهما: أن تكون الهاء لاماً فيمن قال: سنهاء، فأسكنت للجزم، والآخر: أن يكون من السنة فيمن قال:
أسنتوا، وسنوات، أو يكون من المسنون الذي (4) يراد به التّغيّر كأنّه كان لم يتسنّن، ثم قلب على حد القلب في لم يتظنّن.
ويحكى أنّ أبا عمرو الشيباني إلى هذا كان يذهب في هذا الحرف.
فالهاء (5) في {يَتَسَنَّهْ} على هذين القولين تكون للوقف، فينبغي أن تلحق في الوقف، وتسقط في الدّرج.
فأمّا قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلّها بإثبات الهاء في الوصل فإنّ ذلك مستقيم
__________
(1) في (ط): من.
(2) البيت للصمة بن عبد الله القشيري وهو في معاني القرآن 2/ 92مع آخر بعده. وأمالي ابن الشجري 2/ 53ومجالس ثعلب 177و 320 والاقتضاب / 193، والعيني 1/ 170، والخزانة 3/ 411وضرائر الشعر 220والصحاح (نجد) واللسان عن الفارسي (نجد) و (سنه) وروي:
ذراني بدل دعاني.
(3) زيادة من (م).
(4) في (ط): التي.
(5) في (ط): فأما الهاء.(2/374)
في قياس العربية في {يَتَسَنَّهْ}، وذلك أنّهم يجعلون اللام في السنة الهاء، فإذا وقفوا وقفوا على اللام، وإذا وصلوا كان بمنزلة: لم ينقه زيد، ولم يجبه عمرو (1).
فأما قوله تعالى: {اقْتَدِهْ} [الأنعام / 90] فإنه أيضاً يستقيم، وذلك أنّه يجوز أن تكون الهاء كناية عن المصدر، ولا تكون التي تلحق للوقف. ولكن لما ذكر الفعل دلّ على مصدره، فأضمره كما أضمر (2) في قوله: {وَلََا يَحْسَبَنَّ} [3] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ [آل عمران / 180].
وقال الشاعر (4):
فجال على وحشيّه وتخاله ... على ظهره سبّاً جديداً يمانيا
وقال آخر (5):
هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرّشى إن يلقها ذيب
فالهاء في يدرسه للمصدر، ألا ترى أنّها لا تخلو من أن تكون للمصدر أو للمفعول به، فلا يجوز أن تكون للمفعول به (6)، لأنّه قد تعدّى إليه الفعل باللّام، فلا يكون أن يتعدى إليه مرة ثانية، فإذا لم يجز ذلك علمت أنّه للمصدر، وكذلك قراءة من
__________
(1) ينقه: يفهم ويفقه. ونقه من المرض: صح (اللسان) ويجبه: من جبهه إذا رده عن حاجته.
(2) في (م): «أضمر».
(3) كذا ضبطها المؤلف {وَلََا يَحْسَبَنَّ} وهي قراءة، وستأتي في موضعها.
(4) البيت للشاعر العبدي، انظر ابن يعيش 1/ 124ومعنى السّبّ: الثوب الرقيق. اللسان (سبب).
(5) سبق انظر ص 241.
(6) في (م) للمفعول بدون «به».(2/375)
قرأ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا} (1) [البقرة / 148] إذا تعدى الفعل باللّام إلى المفعول. لم يتعدّ إليه مرة أخرى، فكذلك قوله: {فَبِهُدََاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام / 90] يكون: اقتد الاقتداء، فيضمر لدلالة الفعل عليه. وأمّا إجماعهم في: {مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ} [الحاقة / 28] و {سُلْطََانِيَهْ} [الحاقة / 29] {وَمََا أَدْرََاكَ مََا هِيَهْ} [القارعة / 10] فالإسقاط للهاء في الدرج أوجه في قياس العربية.
ووجه الإثبات أنّ ما كان من ذلك فاصلة أو مشبها للفاصلة في أنّه كلام تام يشبّه بالقافية، فيجعل في الوصل مثله في الوقف، كما يفعل ذلك في القافية، فيجعل في الوصل مثله في الوقف.
وقول حمزة في ذلك أسدّ، وذلك أنه يحذف ذلك كلّه في الوصل، وحجته: أن من الناس من يجري القوافي في الإنشاد مجرى الكلام فيقول:
واسأل بمصقلة البكريّ ما فعل (2)
و:
أقلي اللوم عاذل والعتاب (3)
فإذا كانوا قد أجروا القوافي مجرى الكلام فالكلام (4) الذي ليس بموزون، أن لا يشبّه بالقوافي أولى.
__________
(1) قراءة حفص عن عاصم (ولكل وجهة).
(2) عجز بيت للأخطل وقد سبق. انظر 211و 362.
(3) سبق انظر 1/ 73، 2/ 361.
(4) سقطت من: (م).(2/376)
والكسائي قد وافق حمزة في حذف الهاء من قوله:
{يَتَسَنَّهْ} و {اقْتَدِهْ}، وأثبت الهاء في الوصل في الباقي، وحجته في إثباته الهاء فيما أثبت مما حذف فيه حمزة الهاء، أنه أخذ بالأمرين، فشبّه البعض بالقوافي، فأثبت الهاء فيه في الوصل كما تثبت في القوافي، ولم يشبّه البعض، وكلا الأمرين سائغ.
قال أحمد بن موسى: ولم يختلفوا في {كِتََابِيَهْ}
و {حِسََابِيَهْ} أنّها بالهاء في الوصل، فاتفاقهم في هذا دلالة (1)
على تشبيههم ذلك بالقوافي، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون لهذا التشبيه، أو لأنّهم راعوا إثباتها في المصحف، فلا يجوز أن يكون لهذا الوجه، ألا ترى أنّ تاءات التأنيث أو عامّتها قد أثبتت في المصحف هاءات، لأنّ الكتابة على أنّ كلّ حرف منفصل من الآخر وموقوف عليه.
فلو كان ذلك للخط، لوجب أن تجعل تاءات التأنيث في الدّرج هاءات لكتابتهم إياها هاءات، ولوجب في نحو قوله:
{إِخْوََاناً عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ} [الحجر / 47] أن يكون في الدرج بالألف، لأنّ الكتابة بالألف، فإذا لم يجز هذا، علمت أنّ الكتابة ليست معتبرة في الوقف (2) على هذه (3) الهاءات.
وإذا لم تكن معتبرة، علمت أنّه للتشبيه بالقوافي. ولإثبات هذه الهاءات في الوصل وجيه (4) في القياس، وذلك أنّ سيبويه حكى في العدد أنّهم يقولون: ثلاثة أربعة (5)، فقد أجروا
__________
(1) في (ط): دليل.
(2) في (ط): الوقوف.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): وجه.
(5) سيبويه، 2/ 34ونص كلامه فيه: وزعم من يوثق به أنه سمع من العرب من(2/377)
الوصل في هذا مجرى الوقف، ألا ترى أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف في إلقائه حركة الهمزة على التاء التي للتأنيث، وإبقائها هاء كما تكون في الوقف. ولم يقلبها تاء كما يقول (1) في الوصل: هذه ثلاثتك، فيجيء بالتاء؟ فكذلك قوله: {كِتََابِيَهْ}
وعلى هذا المسلك يحمل تبيين أبي عمرو النون في: ياسين والقرآن [يس / 21] لما كانت هذه الحروف التي للتهجي موضوعة على الوقف، كما أنّ أسماء العدد كذلك، وصلها وهو ينوي الوقف عليها، ولولا أنّ نيّته الوقف لم يجز تبيين النون.
ألّا ترى أنّ أبا عثمان يقول: إن تبيين النون عند حروف الفم لحن؟ فعلى هذا إثبات الهاء، وهذا أيضاً ينبغي أن يكون محمولًا على ما رواه سيبويه من قولهم (2): ثلاثة أربعة، وترك القياس على هذا أولى من القياس عليه، لقلة ذلك، وخروجه مع قلته على (3) القياس. وإذا جاء الشيء خارجاً عن قياس الجمهور والكثرة في جنس، لم ينبغ أن يجاوز به ذلك الجنس. وحروف التهجي، وأسماء العدد كالقبيل الواحد، لمجيئهما جميعاً مبنيّين، على الوقف وليس غيرهما كذلك.
وسيبويه لا يعتدّ بهذه الشواذ ولا يقيس عليها. ومن رأى مخالفته جاوز بذلك باب العدد والتهجي (4).
__________
يقول: ثلاثة اربعة: طرح همزة أربعة على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنّه جعلها ساكنة، والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيداً.
(1) في (ط): جاء الفعلان بالتاء المضارعة.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): عن.
(4) في (ط): «باب التهجي والعدد».(2/378)
البقرة: 259
اختلفوا في: الراء والزاي من قوله تعالى (1): {كَيْفَ نُنْشِزُهََا} [البقرة / 259] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو:
ننشرها بضم النون الأولى وبالراء. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {نُنْشِزُهََا} بالزاي. وروى أبان عن عاصم كيف ننشرها: بفتح النون الأولى وضم الشين (2). حدثني (3)
عبيد الله بن علي عن نصر بن علي عن أبيه عن أبان عن عاصم مثله. وروى عبد الوهاب عن أبان عن عاصم كيف ننشرها بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء مثل قراءة الحسن (4).
قال أبو علي: من قال: كيف ننشرها (5)، فالمعنى فيه: كيف نحييها، وقالوا: أنشر (6) الله الميّت فنشر، وفي التنزيل: {ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس / 22] وقال الأعشى:
يا عجبا للميّت الناشر (7)
وقد وصفت العظام بالإحياء قال تعالى (8): {مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس / 7978]
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (ط): بضم الشين وفتح النون الأولى. وفي السبعة زيادة: «والراء».
(3) في (ط): جدتنا.
(4) السبعة 189، والحسن هو البصري.
(5) سقطت كلمة «كيف» من (م).
(6) في (ط): وقالوا نشر.
(7) عجز بيت للأعشى صدره في ديوانه / 141.
حتى يقول الناس مما رأوا وانظر البحر المحيط 2/ 286، وشرح أبيات المغني 5/ 41. ومعاني القرآن للفراء 1/ 173.
(8) سقطت من (ط).(2/379)
وكذلك في قوله تعالى (1): كيف ننشرها وقد استعمل النشر في الإحياء في قوله تعالى (2): {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك / 15] وقال تعالى (3): وهو الذي يرسل الرياح نشرا (4) بين يدي رحمته [الأعراف / 57] فنشر: مصدر في موضع الحال من الريح، تقديره: ناشرة، من نشر الميت فهو ناشر.
قال أبو زيد: أنشر الله الريح إنشاراً: إذا بعثها، وقد أرسلها نشراً بعد الموت. فتفسير أبي زيد له بقوله: بعثها، إنّما هو لأنّ البعث قد استعمل في الإحياء من نحو قوله: {ثُمَّ بَعَثْنََاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة / 56] وقال تعالى (5) {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفََّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مََا جَرَحْتُمْ بِالنَّهََارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}
[الأنعام / 60] وقال: {اللََّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهََا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنََامِهََا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى ََ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى ََ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر / 42] فجاء في هذا المعنى الإرسال، كما جاء البعث في قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ}
فالمعنى واحد. ومما جاء فيه وصف الريح بالحياة، قول الشاعر:
وهبّت له ريح الجنوب وأحييت ... له ريدة يحيي المياه نسيمها (6)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): عز وجل.
(3) سقطت من (ط).
(4) بفتح النون، وهي قراءة حمزة والكسائي، وستأتي في موضعها. وانظر النشر 2/ 269، 270.
(5) سقطت من (ط).
(6) البيت في اللسان (ريد) بغير نسبة وفيه: «وأنشرت» بدل «وأحييت» و «الممات» بدل «المياه». والريدة: الريح اللينة.(2/380)
وقالوا: ريح ريدة، ورادة، وريدانة، وكما وصفت بالحياة كذلك وصفت بالموت في قول الآخر:
إنّي لأرجو أن تموت الرّيح ... فأقعد اليوم وأستريح (1)
فكما وصفت بالنشر كذلك وصفت بالإحياء، فالنشر (2)
والحياة والبعث والإرسال تقارب في هذا المعنى.
فأما ما روي عن عاصم من قوله: كيف ننشرها بفتح النون الأولى، وضم الشين، وبالراء مثل قراءة الحسن، فإنّه يكون من: نشر الميّت، ونشرته أنا، مثل: حسرت الدابّة (3)، وحسرتها أنا، وغاض الماء، وغضته، قال:
كم قد حسرنا من علاة عنس (4)
أو يكون جعل الموت فيها طيّا لها، والإحياء نشراً. فهو على هذا مثل: نشرت الثوب.
وأمّا من قرأ: {نُنْشِزُهََا} بالزاي فالنشز: الارتفاع، وقالوا لما ارتفع من الأرض: نشز قال:
ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه ... إذا ما علا نشزاً حصان مجلّل (5)
__________
(1) البيت في اللسان (موت) بغير نسبة وفيه: «فأسكن» بدل «فأقعد» وانظر شأن الدعاء ص 116.
(2) في (ط): والنشر.
(3) حسرت الدابة: أعيت وكلت. يتعدى ولا يتعدى (اللسان).
(4) رجز أورده في اللسان (عنس) ولم ينسبه والعنس: الصخرة، والناقة القوية شبهت بالصخرة لصلابتها. والعلاة في (اللسان): السندان، ويقال للناقة علاة تشبّه بها في صلابتها.
(5) البيت للأخطل في ديوانه 1/ 23، من قصيدة في مدح خالد بن(2/381)
يريد: شرفا من الأرض، ومكاناً مرتفعاً. فتقدير {نُنْشِزُهََا}
نرفع بعضها إلى بعض للإحياء، ومن هذا: النشوز من المرأة، إنّما هو أن تنبو عن الزوج في العشرة فلا تلائمه. وفي التنزيل:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خََافَتْ مِنْ بَعْلِهََا نُشُوزاً أَوْ إِعْرََاضاً}
[النساء / 128].
وقال الأعشى:
فأصبحت ... قضاعيّة تأتي الكواهن ناشصا (1)
وقال أبو الحسن: نشز وأنشزته، ويدلّك على ما قال (2)، قوله عزّ وجلّ (3): {وَإِذََا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا}
[المجادلة / 11].
البقرة: 259
اختلفوا في قطع الألف ووصلها، وضمّ الميم وإسكانها من قوله عزّ وجلّ: {قََالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[البقرة / 259].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
{قََالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ} مقطوعة الألف مضمومة الميم.
__________
عبد الله بن أسيد، كان أحد أجواد العرب في الإسلام وكان جواد أهل الشام. والحولي: ما أتى عليه حول، والمجلل: الذي عليه الجلال.
(1) البيت في ديوانه / 149واللسان (قمر) من قصيدة في هجاء علقمة بن علاثة وتمام صدره: تقمّرها شيخ عشاء فأصبحت البيت. قال في اللسان: قال ابن الأعرابي في بيت الأعشى: تقمرها: تزوجها وذهب بها وكان قلبها مع الأعشى، فأصبحت وهي قضاعية. نشصت المرأة على زوجها فهي ناشص: كرهته وملت صحبته.
(2) في (ط): «ويدل على ما قاله».
(3) زيادة من (م).(2/382)
وقرأ حمزة والكسائي: {قََالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ} موصولة الألف ساكنة الميم (1).
قال أبو علي: أما من قرأه على لفظ الخبر، فإنّه (2) لمّا شاهد ما شاهد من إحياء الله وبعثه إياه بعد وفاته، أخبر عما تبيّنه وتيقّنه مما لم يكن تبيّنه هذا التبيين (3) الّذي لا يجوز أن يعترض عليه فيه إشكال، ولا يخطر (4) على باله شبهة ولا ارتياب، فقال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته قبل.
ومن قال: {أَعْلَمُ} على لفظ الأمر، فالمعنى: يؤول إلى الخبر، وذاك أنّه لما تبيّن له ما تبيّن من الوجه الذي ليس لشبهة عليه منه طريق، نزّل نفسه منزلة غيره، فخاطبها كما يخاطب سواها فقال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا مما تفعله العرب، ينزّل أحدهم نفسه منزلة الأجنبيّ فيخاطبها كما تخاطبه قال:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل (5)
__________
(1) السبعة 189.
(2) في (ط): «فلأنه».
(3) في (ط): «التبيّن».
(4) في (م): «تخطر».
(5) البيت للكميت بن زيد أنشده صاحب التاج في (أبل) ونسبه للكميت، وكذلك اللسان (أبل) بلفظة (شربه) بضم الشين وذكره الطبري في تفسيره 2/ 398. وفي القرطبي 3/ 297عند تفسير قوله تعالى: {أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن عطية: وتأنس أبو عليّ في هذا المعنى بقول الشاعر: وأورد البيت يؤامر نفسه: يشاورها. والهجمة: عدد من الإبل قريب من المائة. والإبل بكسر الباء: اسم فاعل من أبل كفرح: إذا أحسن رعية الإبل، والقيام عليها.(2/383)
فجعل عزمه على وروده الشرب له (1) لجهد العطش، وعلى تركه الورود مرة لخوف الرامي وترصّد القانص نفسين له.
ومن ذلك قول الأعشى:
أرمي بها البيد إذا هجّرت ... وأنت بين القرو والعاصر (2)
فقال: أنت، وهو يريد نفسه، فنزّل نفسه منزلة سواه في مخاطبته لها مخاطبة الأجنبيّ.
ومثل ذلك قوله:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيّها الرّجل (3)
فقال: ودّع، فخاطب نفسه كما يخاطب غيره، ولم يقل:
لأودّع، وعلى هذا قال: أيّها الرجل، وهو يعني نفسه. وقال:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمداً (4)
فكذلك قوله لنفسه {أَعْلَمُ} [5] أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) البيت في اللسان (قرا) للأعشى وفيه: «إذ أعرضت» بدل «إذا هجّرت».
وليس في ديوان الأعشى. وهو أشبه بقصيدته التي يهجو فيها علقمة بن علاثة ويذكر في آخرها ناقته. انظر ديوانه ص 147والقرو: مسيل المعصرة ومثعبها.
(3) سبق انظر 1/ 318.
(4) صدر بيت للأعشى عجزه:
وعادك ما عاد السليم المسهّدا والسليم يطلق على اللديغ تفاؤلًا، وهو مطلع قصيدة للأعشى يمدح بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. انظر ديوانه / 135. واستشهد به القرطبي مع سابقه في تفسيره 3/ 297عن أبي علي للمعنى الذي ذكره أبو علي هنا.
(5) ضبطها في (م): «أعلم» بالمضارع، وما أثبتناه من (ط) وهو الذي ينسجم مع ما ذهب إليه المصنف.(2/384)
[البقرة / 259] نزّله منزلة الأجنبيّ المنفصل منه، لتنبهه على ما تبيّن له ممّا كان أشكل عليه.
قال أبو الحسن (1): وهو أجود في المعنى.
البقرة: 265
اختلفوا في ضم الراء وفتحها من قوله تعالى (2):
{بِرَبْوَةٍ} [البقرة / 265] فقرأ عاصم وابن عامر: {بِرَبْوَةٍ}
بفتح الراء. وفي المؤمنين مثله.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي:
{بِرَبْوَةٍ} بضم الراء وفي المؤمنين مثله (3).
قال أبو عليّ: قال أبو عبيدة (4): الرّبوة: الارتفاع عن المسيل، وقال أبو الحسن: ربوة. وقال بعضهم: بربوة، وربوة، ورباوة، ورباوة، كلّ من لغات العرب، وهو كلّه في الرابية، وفعله: ربا يربو.
قال أبو الحسن: والذي نختار: ربوة، بضم الراء وحذف الألف.
قال أبو عليّ: يقوّي هذا الاختيار أنّ جمعه ربى (5)، ولا
__________
(1) هو علي بن سليمان الأخفش الأصغر، أبو الحسن، شيخ أبي علي الفارسي، ذكره ابن العديم ممن أخذ عنهم الفارسي. توفي في بغداد (315هـ) انظر بغية الوعاة 2/ 167، ومجلة المجمع 4/ 743سنة 1983م.
(2) في (ط): عز وجل.
(3) السبعة ص 190.
(4) في مجاز القرآن 1/ 82وفيه: «من المسيل» بدل «عن المسيل»
(5) في (ط): على ربى.(2/385)
يكاد يسمع غيره، وإذا كان فعله: ربا يربو إذا ارتفع فالرابية والرّبوة، إنّما هو لارتفاع أجزائها عن صفحة (1) المكان التي هي بها (2).
ومنه الرّبا، وهو على ضربين:
أحدهما متوعّد عليه محرّم بقوله [عز اسمه] (3): {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا}
[البقرة / 278] وذلك أن يأخذ المكيل أو الموزون اللّذين هما من (4) جنس واحد بأكثر من مثله في بيع أو غيره.
والآخر: مكروه غير محرم، فالمكروه أن تهدي شيئاً أو تهبه، فتستثيب (5) أكثر منه، فمن ذلك قوله تعالى (6): {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوََالِ النََّاسِ فَلََا يَرْبُوا عِنْدَ اللََّهِ}
[الروم / 39] كأنّ المعنى: لا يربو لكم عند الله، أي: لا يكون في باب إيجابه للثواب لكم ما يكون من إيجابه إذا أخلصتم لله، وأردتم التقرّب إليه، ألّا تراه قال: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللََّهِ، فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}
[الروم / 39].
فأمّا {مََا} في قوله: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً}، فيحتمل تقديرين: يجوز أن يكون للجزاء، ويجوز أن يكون صلة، فإن قدّرتها جزاء، كانت في موضع نصب بآتيتم، وقوله: {فَلََا يَرْبُوا عِنْدَ اللََّهِ}
__________
(1) في (ط): صحيفة.
(2) في (ط): «به».
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت «من» من (ط).
(5) في (ط): «يهدي شيئا أو يهبه فيستثيب» بالياء في المواضع الثلاثة.
(6) سقطت من (ط).(2/386)
في موضع جزم بأنّه جواب للجزاء. ويقوي هذا الوجه قوله: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللََّهِ}. ألّا ترى أنّه لو كان مبتدأ لعاد عليه ذكره؟ ولو جعلتها موصولة لم يكن لآتيتم موضع من الإعراب، وكان موضع {مََا} رفعاً بالابتداء، وآتيتم صلة، والعائد إلى الموصول: الذكر المحذوف من آتيتم.
وقوله: {فَلََا يَرْبُوا} في موضع رفع بأنّه خبر الابتداء، والفاء دخلت في الخبر على حدّ ما دخلت في قوله تعالى (1):
{وَمََا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللََّهِ} [النحل / 53] وكذلك قوله:
{وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ} [الروم / 39] تكون الهاء العائدة المحذوفة راجعة إلى الموصول، وموضع فأولئك: رفع بأنّه خبر المبتدأ، وقال: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ} ثمّ قال: {فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}، فانتقل الخطاب بعد المخاطبة إلى الغيبة، كما جاء: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (2) [يونس / 22] والفاء دخلت على خبر المبتدأ لذكر الفعل في الصلة، والجملة في موضع خبر المبتدأ الذي هو: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ} وتقدّر راجعاً محذوفاً، والتقدير (3): فأنتم المضعفون به، التقدير:
فأنتم (4) ذوو الضعف بما آتيتم من زكاة، فحذفت العائد على حدّ ما حذفته من قولك: السمن منوان بدرهم، وقال تعالى (5):
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): ذكر تتمة الآية: «بريح طيبة».
(3) في (م): التقدير. بدون واو.
(4) في (ط): «أنتم» بدون الفاء.
(5) سقطت من (ط).(2/387)
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذََلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
[الشوري / 43] ومثل هذه الآية في المعنى قوله جلّ وعزّ (1):
{وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر / 6] حدثنا الكندي قال: حدّثنا المؤمّل: قال حدّثنا إسماعيل بن عليّة عن أبي رجاء قال:
سمعت عكرمة (2) يقول: «{وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}» قال: لا تعط شيئاً لتعطى أكثر منه» (3). فأمّا رفع تستكثر فعلى ضربين: أحدهما:
أن تحكي به حالًا آتية، كما كان قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [النحل / 124]
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) عكرمة هو مولى عبد الله بن عباس، أحد أوعية العلم انظر ميزان الاعتدال 3/ 93. وأبو رجاء العطاردي: عمران بن تيم ويقال ابن ملحان البصري التابعي الكبير ولد قبل الهجرة بإحدى عشرة سنة وكان مخضرماً، أسلم في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يره، وعرض القرآن على ابن عباس وتلقنه من أبي موسى، ولقي أبا بكر الصديق، وحدث عن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم قال ابن معين: مات سنة خمس ومائة، وله مائة وسبع وعشرون سنة وقيل مائة وثلاثون. انظر طبقات القراء 1/ 604، وذكره ابن حجر في التقريب 2/ 85وقال عنه: مخضرم ثقة معمّر مات سنة خمس ومائة وله مائة وعشرون سنة روى عنه الجماعة.
وإسماعيل بن علية: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي أسد خزيمة مولاهم أبو بشر البصري المعروف بابن علية روى له الجماعة انظر تهذيب الكمال للحافظ المزي طبعة دار المأمون للتراث ص 95.
أما مؤمّل: بوزن محمد، فهو مؤمل بن هشام اليشكري أبو هشام البصري ختن إسماعيل بن علية روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي.
وأما الكندي الذي يروي عن مؤمّل فهو أحد اثنين أخوين: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الكندي الصيرفي، وأخوه أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الكندي انظر تهذيب الكمال للحافظ المزي ص 1396.
(3) أخرجه الطبري في التفسير 29/ 148من طريق عكرمة وغيره.(2/388)
كذلك، والآخر: أن تقدّر ما يقوله النحويون في قوله: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، أي مقدّراً الصيد، فكذلك يكون هنا مقدراً الاستكثار. وليس للجزم اتجاه في تستكثر، ألّا ترى أنّ المعنى: ليس على أن لا تمنن تستكثر، إنّما المعنى على ما تقدّم.
البقرة: 260
اختلفوا في ضمّ الصاد وكسرها من قوله جلّ وعزّ:
{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة / 260] فقرأ حمزة وحده:
{فَصُرْهُنَّ} بكسر الصاد.
وقرأ الباقون: {فَصُرْهُنَّ} (1) بضم الصاد.
قال أبو عليّ: «صرت» يقع على إمالة الشيء، يقال صرته، أصوره: إذا أملته إليك، وعلى قطعه، يقال: صرته أي:
قطعته فمن الإمالة قول الشاعر (2):
على أنّني في كلّ سير أسيره ... وفي نظري من نحو أرضك أصور
فقالوا: الأصور: المائل العنق. ومن الإمالة قوله:
يصور عنوقها أحوى زنيم ... له ظاب كما صخب الغريم (3)
__________
(1) في (ط): زيادة: «إليك».
(2) لم نعثر على قائله.
(3) البيت في أمالي القالي 2/ 52وكتاب الفرق ص 199وفي المصادر الآتية برواية: يصوع بدل يصور، قال البكري في السمط 2/ 685:
أنشده أبو عبيد في الغريب، وإنما صحّة اتصاله كما أنا مورده:
وجاءت خلعة دبس صفايا ... يصور عنوقها أحوى زنيم
يفرّق بينها صدع رباع ... له ظأب كما صخب الغريم
وقال في التنبيه ص 93: هذا ما اتبع فيه أبو علي (القالي) رحمه الله(2/389)
فهذا لا يكون إلّا من الإمالة وكذلك قول الآخر:
__________
غلط من تقدّمه، فأتى ببيت من أعجاز بيتين أسقط صدورهما، والشعر للمعلى العبدي وأنشد البيتين.
والبيتان بهذه الرواية ما عدا (دبس) فإنّها وردت في المصادر (دهس) أوردهما صاحب اللسان في مادة (زنم) ونسبهما للمعلى بن حمّال العبدي، ويتراءى لنا من هذه الرواية أن بيت المصنف ملفق من البيتين، ولكن الغريب في الأمر أن المصادر تناولت البيت بروايته المذكورة عند الفارسي ونسبته لأوس بن حجر!.
ففي اللسان (ظأب) أنشده الأصمعي لأوس بن حجر وقال: وليس أوس بن حجر هذا هو التيمي لأنّ هذا لم يجيء في شعره. قال ابن بري: هذا البيت للمعلى بن جمال العبدي. اهـ منه ثم ذكره في مادة (ظرب، صدع، عنق) لأوس وفي التاج لأوس أيضاً. وكذلك نسبه الأزهري في التهذيب 1/ 254لأوس.
والظاهر عندنا من رواية الفارسي للبيت الآتي، وقوله: وكذلك قول الآخر:
وجاءت خلعة دهس صفايا ... يصور عنوقها أحوى زنيم
أن هنالك تداخلًا بين الروايتين، وربّما كان الشعر لشاعرين مختلفين، وتوافق عجزا البيتين عندهما إمّا من وقع الحافر على الحافر كما يقولون، وإمّا أن أحدهما أخذ من الآخر، وهذا في نظرنا ما يفسر الاختلاف في نسبة الشعر مرة لأوس وأخرى للمعلى ثم إن البيت الثاني: في كتاب الأضداد للأصمعي ص 33برواية وكانت خلعة دهساً صفايا وفي الأضداد لابن السكيت ص 187برواية المصنف، وفي المكانين نسب البيت للعبدي وكذلك في مجاز القرآن 1/ 81ونظام الغريب للربعي ص / 179، هنالك اختلاف بين (جمّال وحمّال) بين المصادر، وفي تفسير الطبري 3/ 54 بدون نسبة. فبعيد أن يتناقل هؤلاء الثقات بيتاً ملفقاً من البيتين، كما قال البكري، دون أن يتنبهوا له. وانظر ديوان أوس في الملحقات ص 140 فإنهما برواية اللسان (زنم).
وقوله: يصوع: يسوق ويجمع، وعنوق ج عناق: للأنثى من ولد المعر، والأحوى: أراد به تيساً أسود. والحوّة: سواد يضرب إلى حمرة. والزنيم:(2/390)
وجاءت خلعة دهس صفايا ... يصور عنوقها أحوى زنيم (1)
ومن القطع قول ذي الرّمّة:
صرنا به الحكم وعيّا الحكما (2)
قال أبو عبيدة: فصلنا به الحكم. ومنه قول الخنساء:
لظلّت الشّمّ منها وهي تنصار أي: تصدّع وتفلّق (3). قال أبو عبيدة، ويقال: انصارّوا:
فذهبوا.
قال: وصرهن من الصّور وهو القطع.
قال أبو الحسن (4): وقالوا في هذا المعنى، يعني القطع:
صار يصير، وقد حكاه غيره،
__________
الذي له زنمتان في حلقه. وظاب التيس وظأبه (مهموز وبدون همز):
صياحه عند الهياج.
وفي مجاز القرآن: ولون الدّهاس: لون الرمل، كأنه تراب رمل أدهس.
خلعة: خيار شائه. صفايا: غزار.
(1) انظر التعليق السابق.
(2) البيت في اللسان (صور) وفيه: وأعيا بدل عيّا، ونسبه إلى العجاج، مع بيتين آخرين، وذكر الأبيات الثلاثة الدكتور عبد الحفيظ السطلي في ملحقات ديوان العجاج 2/ 335عن اللسان. ولم نجد البيت في ديوان ذي الرمة.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 81ومصراع الخنساء ليس في ديوانها، وهو في الأضداد للأصمعي وابن السكيت ص 18733وللأنباري 23وتفسير الطبري 3/ 54والغريبين واللسان / صور / وصدر البيت «كما في البحر المحيط 2/ 300: فلو يلاقي الذي لاقيته حضن
(4) هو الأخفش الأصغر سبقت ترجمته.(2/391)
قال الشاعر:
وفرع يصير الجيد وحف كأنّه ... على اللّيث قنوان الكروم الدّوالح (1)
فمعنى هذا يميل الجيد من كثرته. ومثل هذا قول الآخر:
وقامت ترائيك مغدودنا ... إذا ما ما تنوء به آدها (2)
فقد ثبت أنّ الميل والقطع، يقال في كلّ واحد منهما.
صار يصير.
فقول حمزة: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}، يكون من القطع، ويكون من الميل، كما أنّ قول من ضمّ يحتمل الأمرين، فمن قال:
فصرهنّ إليك فأراد بقوله صرهنّ: أملهنّ، حذف من الكلام، المعنى: أملهنّ فقطعهنّ، {ثُمَّ اجْعَلْ عَلى ََ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} [البقرة / 260]، فحذف الجملة لدلالة الكلام عليها، كما حذف من قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء / 63] المعنى: فضرب فانفلق، وكقوله: {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيََامٍ} [البقرة / 196] أي: فحلق، ففدية، وكذلك قوله عز وجل (3): {اذْهَبْ بِكِتََابِي هََذََا فَأَلْقِهْ} [1] إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ [النمل / 28]
__________
(1) أنشده الفراء في تفسيره 1/ 174عن الكسائي عن بعض بني سليم والطبري في تفسيره 3/ 53واللسان / صير /.
(2) البيت رابع أبيات من قصيدة أبياتها 20/ عشرون بيتا لحسان في ديوانه 1/ 113، وذكره صاحب اللسان / غدن / والبيت في المحتسب 1/ 319 والمنصف 3/ 13، 30عن أبي علي.
(3) سقطت من (ط).(2/392)
، فالقه (1) اليهم ثم تول عنهم) [النمل / 28] {قََالَتْ يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [النمل / 29] فحذف: فذهب فألقى (2) الكتاب، لدلالة الكلام عليه.
ومن قدّر: {فَصُرْهُنَّ} أو {فَصُرْهُنَّ}، أنّه بمعنى: قطّعهنّ، لم يحتج إلى إضمار، كما أنّه لو قال: خذ أربعة من الطير، فقطعهنّ، ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا لم يحتج إلى إضمار، كما احتاج في الوجه الأول.
وأما (3) قوله: {إِلَيْكَ} فإنّه على ما أذكره لك.
فمن (4) جعل {فَصُرْهُنَّ} أو {فَصُرْهُنَّ} بمعنى: قطّعهن، كان {إِلَيْكَ} متعلقاً ب {فَخُذْ}، كأنّه قال: خذ إليك أربعة من الطير فقطعهنّ ثم اجعل على [على كلّ جبل منهنّ جزءاً] (5).
ومن جعل {فَصُرْهُنَّ} أو {فَصُرْهُنَّ} بمعنى: أملهنّ، احتمل {إِلَيْكَ} ضربين: أحدهما: أن يكون متعلقاً بخذ، وأن يكون بصرهن، أو بصرهن، وقياس قول سيبويه: أن يكون متعلقاً بقطعهنّ، لأنّه إليه أقرب، واستغنيت بذكر {إِلَيْكَ} عن تعدية الفعل الأول، كما تقول: ضربت وقتلت زيداً وإن علقته بالأول وحذفت المفعول من الفعل الثاني، فهو كقول جرير:
__________
كذا الأصل بكسر الهاء وهي رواية قالون وسيأتي الحديث عنها في سورة النمل مفصلًا إن شاء الله.
(1) ورواية حفص عن عاصم، وحمزة ساكنة الهاء.
(2) في (م): «وألقى».
(3) في (ط): «فأمّا».
(4) في (م): «من» بدون الفاء.
(5) زيادة من (ط).(2/393)
كنقا الكثيب تهيّلت أعطافه ... والريح تجبر متنه وتهيل (1)
اختلفوا في ضمّ الكاف وإسكانها من الأكل:
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع {أُكُلَهََا}
[البقرة / 265] خفيفة ساكنة الكاف وكذلك كلّ مضاف إلى مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل {أُكُلُهُ} (2)
أو غير مضاف إلى مكني مثل {أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ / 16] و {الْأُكُلِ} [الرعد / 4] فثقّله أبو عمرو وخفّفاه (3).
وقرأها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: أكلها، و {الْأُكُلِ}، و {أُكُلُهُ} مثقّلا كلّه.
قال أبو علي: الأكل مصدر أكلت أكلا، وأكلة، فأمّا الأكل: فهو المأكول، يدل على ذلك قوله تعالى (4): {تُؤْتِي أُكُلَهََا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهََا} [إبراهيم / 25]، إنّما هو ما يؤكل منها، ومن ذلك قول الأعشى (5):
__________
(1) البيت في ديوانه 1/ 91من قصيدة يمدح فيها عبد الملك ويهجو الأخطل وروى صاحب الأغاني في 8/ 76البيت ضمن ثلاثة أبيات في وصف جارية بين يدي الحجاج، ودفعها له بمتاعها وبغلها ورحالها، لأنّه أحسن وصفها، مكافأة له. وقبله:
ودّع أمامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل
مثل الكثيب البيت.
ووقعت الرواية في الديوان: تميل بدل ونهيل، والبيت فيه سادس أبيات من قصيدة طويلة بلغت عدتها سبعين بيتاً.
(2) من قوله تعالى من سورة الأنعام / 141: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ}.
(3) انظر السبعة ص 190.
(4) سقطت من (ط).
(5) البيت في ديوانه / 11وفيه: التالد العتيق بدل الطارف التليد. وانظر اللسان أكل. وروايته في (ط): «التالد الطريف».(2/394)
جندك الطارف التليد من السّا ... دات أهل القباب والآكال
فالآكال: جمع أكل (1)، مثل عنق وأعناق [قال أبو علي] (2) الأكل (3) في المعنى مثل الطّعمة، تقول: جعلته أكلا له، كما تقول: جعلته طعمة له، والطّعمة ما يطعم.
وقوله: {فَآتَتْ أُكُلَهََا ضِعْفَيْنِ} [البقرة / 265] فيه دلالة على أنّ الأكل: المأكول.
وقال أبو الحسن: الأكل ما يؤكل، والأكل: الفعل الذي يكون منك، [تقول: أكلته (4)] أكلا، وأكلت أكلة واحدة، قال الشاعر (5):
ما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن جعتها بغرام
ففتح الألف من الفعل، ويدلّك على ذلك، ولا جوعة، وإن شئت ضممت الأكلة، وعنيت الطّعام. انتهى كلام أبي الحسن.
وقال أبو زيد: يقال إنّه لذو أكل، إذا كان له حظّ ورزق من الدنيا.
البقرة: 271
اختلفوا في فتح النّون وكسرها من قوله [جلّ وعزّ] (6):
__________
(1) في (ط): الأكل.
(2) كذا في (ط) وهي ساقطة من (م).
(3) في (م): زيادة: «كأنّ».
(4) في (ط): يقال أكلت.
(5) البيت في تفسير الطبري 3/ 72وانظر تفسير الطبري 5/ 538ط المعارف فإن محققه نسبه لأبي مضرس النهدي.
(6) زيادة من (م).(2/395)
{فَنِعِمََّا هِيَ} [البقرة / 271] وإسكان العين وكسرها.
فقرأ نافع في غير رواية ورش وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضّل {فَنِعِمََّا} بكسر النون، والعين ساكنة.
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص، ونافع في رواية ورش {فَنِعِمََّا هِيَ} بكسر النون والعين.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {فَنِعِمََّا هِيَ} بفتح النون وكسر العين، وكلّهم شدّد الميم (1).
قال أبو عليّ: من قرأ {فَنِعِمََّا}، بسكون العين من {فَنِعِمََّا} لم يكن قوله مستقيما عند النحويين، لأنّه جمع بين ساكنين، الأول منهما ليس بحرف مدّ ولين، والتقاء الساكنين عندهم إنّما يجوز إذا كان الحرف الأول منهما حرف لين، نحو: دابّة وشابّة، وتمودّ الثوب، وأصيم (2) لأنّه ما في الحروف من المدّ يصير عوضاً من الحركة، ألا ترى أنّه إذا صار عوضاً من الحرف المتحرك المحذوف من تمام بناء الشعر عندهم، فأن يكون عوضاً من الحركة أسهل.
وقد أنشد سيبويه شعراً قد اجتمع فيه الساكنان (3) على
__________
(1) انظر السبعة ص 190.
(2) قوله: تمود لم ترد في المعاجم وأوردها سيبويه 2/ 407والرضي في شرح الشافية 2/ 212وأصيم: تصغير أصمّ.
(3) وقد ردّ ابن جني في سر صناعة الإعراب والمحتسب على من ظن أن سيبويه جمع بين الساكنين فقال: «قال سيبويه كلاماً يظن به في ظاهره أنه أدغم الحاء في الهاء، بعد أن قلب الهاء الحاء، فصار في ظاهر قوله:
«مسحّ». واستدرك أبو الحسن ذلك عليه وقال: إن هذا لا يجوز إدغامه لأنّ السين ساكنة، ولا يجمع بين ساكنين. فهذا لعمري تعلق بظاهر لفظه، فأمّا حقيقة معناه فلم يرد محض الإدغام وإنّما أراد الإخفاء(2/396)
حدّ ما اجتمعا في {فَنِعِمََّا} في قراءة من أسكن العين وهو:
كأنّه بعد كلال الزاجر ... ومسحي مرّ عقاب كاسر (1)
وأنكره أصحابه (2). ولعل أبا عمرو أخفى ذلك كأخذه بالإخفاء في نحو (3) {بََارِئِكُمْ} (4) [البقرة / 54]، {وَيَأْمُرُكُمْ} (4)
[البقرة / 67] فظنّ. السامع الإخفاء إسكاناً للطف ذلك في السّمع وخفائه.
وأمّا من قرأ: {فَنِعِمََّا}، فحجّته أنّه أصل الكلمة نعم، ثم كسر الفاء من أجل حرف الحلق. ولا يجوز أن يكون ممن قال: نعم، فلمّا أدغم حرّك، كما يقول: {يَهْدِي}
__________
فتجوّز بذكر الإدغام، وليس ينبغي لمن قد نظر في هذا العلم أدنى نظر أن يظن سيبويه ممن يتوجه عليه هذا الغلط الفاحش حتى يخرج فيه من خطأ الإعراب إلى خطأ الوزن. لأنّ هذا الشعر من مشطور الرجز، وتقطيع الجزء الذي فيه السين والحاء: «ومس حهي» مفاعلن، فالحاء: بإزاء عين مفاعلن، فهل يليق بسيبويه أن يكسر شعراً، وهو من ينبوع العروض، وبحبوحة وزن التفعيل؟!» ا. هـ. (من سرّ الصناعة 1/ 66).
(1) البيت من شواهد سيبويه 2/ 413على إدغام الهاء في الحاء في كلمة «مسحي» كما جاء رسمها في الكتاب، وأصله: «مسحه» وفي سرّ صناعة الإعراب ص 65والمحتسب 1/ 62. قال الأعلم: يريد سيبويه أنّه أخفى الهاء عند الحاء في قوله: «مسحه» وسماه إدغاما لأنّ الإخفاء عنده ضرب من الإدغام، ولا يجوز الإدغام في البيت لانكسار الشعر. وكذلك بيّنه ابن جني. وجاء رسم «مسحي» في (ط). وفي (م): «مسحه» وكتب فوقها كلمة: «مدغم».
(2) من أمثال أبي الحسن الأخفش الذي ذكره ابن جني.
(3) زيادة من (ط).
(4) كتب فوقهما في (م): «مخفي».(2/397)
[يونس / 35] ألّا ترى أنّ من قال: هذا قدّم مالك، فأدغم، لم يدغم نحو قوله (1): هذا قدم مالك، وجسم ماجد (2)، لأنّ المنفصل لا يجوز فيه ذلك كما جاز في المتصل قال سيبويه: أمّا قول بعضهم في القراءة: {فَنِعِمََّا}، فحرك العين، فليس على لغة من قال: نعم ما، فأسكن العين، ولكن على لغة من قال: نعم فحرك العين. وحدّثنا أبو الخطاب (3): أنّها لغة هذيل، وكسر، كما قال: لعب. ولو كان الذي يقول (4):
نعمّا ممن يقول في الانفصال: نعم لم يجز الإدغام على قوله، لما يلزم من تحريك الساكن في المنفصل. وأمّا من قال:
{فَنِعِمََّا} فإنّما جاء بالكلمة على أصلها، وهو نعم كما قال:
ما أقلّت قدماي إنّهم ... نعم الساعون في الأمر المبرّ (5)
__________
(1) كذا في (ط) وهي ساقطة من (م).
(2) في (ط): زيادة: «بالإدغام».
(3) هو الأخفش الأكبر.
(4) في (ط): قال.
(5) البيت من شواهد التبريزي في شرح الحماسة 2/ 85لطرفة برواية المصنف، وعجزه في شرح الكافية 4/ 239، وفي سيبويه 2/ 408 برواية:
ما أقلّت قدم ناعلها ... نعم الساعون في الحي الشّطر
ونقله ابن جني عن شيخه أبي علي في المحتسب 1/ 342، 357 والخصائص 2/ 228برواية:
ما أقلت قدمي إنّهم ... نعم الساعون في الأمر المبرّ
ورواية البيت في ديوان طرفة ص 72 حالتي والنفس قدما إنّهم ... نعم الساعون في القوم الشطر
وقد استوفى الكلام على الشاهد البغدادي في خزانة الأدب 4/ 101. وفي اللسان (برر). المبرّ: الغالب، من أبرّه يبرّه: إذا قهره بفعال أو غيره.(2/398)
ولا يجوز أن يكون ممن يقول: قبل الإدغام نعم، كما أن من قال: نعمّا لا يكون ممن قال قبل الإدغام: نعم، ولكن ممن يقول نعم، فجاء بالكلمة على أصلها وكل حسن.
والمعنى في قوله تعالى (1): {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقََاتِ فَنِعِمََّا هِيَ} [البقرة / 271] أن في نعم ضمير الفاعل و (ما) في موضع نصب وهي تفسير الفاعل (2) المضمر قبل الذكر فالتقدير نعم شيئاً إبداؤها، فالإبداء هو: المخصوص بالمدح إلّا أنّ المضاف حذف، وأقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات مقامه، فالمخصوص بالمدح هو الإبداء بالصدقات لا الصدقات يدلّك على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهََا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرََاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة / 271] أي: الإخفاء خير لكم، فكما أن هو ضمير الإخفاء، وليس بالصّدقات، كذلك ينبغي أن يكون ضمير الإبداء مراداً، وإنّما كان الإخفاء والله أعلم خيراً لأنّه أبعد من أن تشوب الصدقة مراءاة للنّاس وتصنع لهم، فتخلص لله سبحانه (3). ولم يكن المسلمون إذ ذاك ممن (4) تسبق إليهم ظنة في منع واجب.
البقرة: 271
واختلفوا (5) في الياء والنون والرفع والجزم من قوله:
ونكفر عنكم من سيئاتكم [البقرة / 271].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر:
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) أي أن (ما) تمييز للفاعل المضمر في «نعم».
(3) سقطت «سبحانه» من (ط).
(4) سقطت كلمة: «ممن» من (م).
(5) سقطت الواو من (ط).(2/399)
ونكفر بالنون والرفع.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي ونكفر بالنون وجزم الراء.
وروى أبو جعفر عن نافع ونكفر بالنون والرفع.
وروى الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم ونكفر جزم بالنون.
وقرأ ابن عامر {وَيُكَفِّرُ} بالياء والرفع وكذلك حفص عن عاصم (1).
قال أبو عليّ: من قرأ ونكفر عنكم من سيئاتكم فرفع، كان رفعه من (2) وجهين:
أحدهما: أن يجعله خبر مبتدأ (3) محذوف تقديره: ونحن نكفّر عنكم سيئاتكم (4). والآخر: أن يستأنف الكلام ويقطعه مما قبله، فلا يجعل الحرف العاطف للاشتراك ولكن لعطف جملة على جملة.
وأمّا من جزم فقال: ونكفر عنكم فإنّه حمل الكلام على موضع قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأنّ قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في موضع جزم، ألّا ترى أنّه لو قال: وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، لجزم.
فقد علمت أنّ قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في موضع جزم فحمل قوله: ويكفر (5) على الموضع. ومثل هذا في الحمل على الموضع أن سيبويه زعم أن بعض القراء قرأ:
__________
(1) انظر السبعة ص 191.
(2) في (ط): «علي».
(3) في (ط): ابتداء.
(4) سقطت من (ط). «سيئاتكم».
(5) في (ط): ويكفر عنكم.(2/400)
{مَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلََا هََادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} (1) [الأعراف / 186] لأنّ قوله: {فَلََا هََادِيَ لَهُ}: في أنّه في موضع جزم مثل قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
ومثله في الحمل على الموضع، قوله تعالى (2): {لَوْلََا أَخَّرْتَنِي إِلى ََ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} [المنافقون / 10] حمل قوله {وَأَكُنْ} على موضع قوله: {فَأَصَّدَّقَ} لأنّ هذا موضع فعل مجزوم، لو قال: أخّرني إلى أجل قريب أصّدق، لجزم، فإذا ثبت أنّ قوله: فأصّدق في موضع فعل مجزوم حمل قوله:
{أَكُنْ} (3) عليه، ومثل ذلك قوله الشاعر (4):
أنّى سلكت فإنّني لك كاشح ... وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
فحمل قوله وأزدد على موضع قوله: فإنني لك كاشح.
ومثله قول الآخر، وأظنّه أبا دؤاد (5):
فأبلوني بليّتكم لعلّي ... أصالحكم وأستدرج نويّا
فأمّا النون والياء في قوله: نكفّر، ويكفّر، فمن قال:
ويكفّر فلأن ما بعده على لفظ الإفراد، فيكفّر أشبه بما بعده من الإفراد منه بالجمع.
__________
(1) انظر سيبويه 1/ 448.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): «وأكن».
(4) البيت في شرح أبيات المغني 6/ 296نقلا عن الحجة وفي تهذيب اللغة للأزهري 15/ 653وفيه: «أيّا فعلت» مكان «أنّى سلكت».
(5) البيت في ديوانه جمع كرنباوم ص 350ومعاني القرآن للفراء 1/ 88 والخصائص 1/ 176، 2/ 341، 424وابن الشجري 1/ 280والنقائض 1/ 408، وتأويل مشكل القرآن ص 40، وهو من شواهد شرح أبيات المغني 6/ 292، واللسان (علل).(2/401)
وأمّا من قال: نكفّر على لفظ الجمع، فإنّه أتى بلفظ الجمع، ثم أفرد بعد (1) كما أتى بلفظ الإفراد ثمّ جمع في قوله تعالى (2): {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ بِعَبْدِهِ} [الإسراء / 1] ثمّ قال: {وَآتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ} [الإسراء / 2].
البقرة: 273
اختلفوا في كسر السين وفتحها من قوله جلّ وعزّ (3):
{يَحْسَبُهُمُ} [البقرة / 273] و {تَحْسَبَنَّ}
[آل عمران / 278].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: {يَحْسَبُهُمُ}
و {تَحْسَبَنَّ} بكسر السين في كلّ القرآن.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: {يَحْسَبُهُمُ}، و {تَحْسَبَنَّ}. بفتح السين في كلّ القرآن.
وقال هبيرة (4) عن حفص أنّه كان يفتح ثم رجع إلى الكسر (5).
قال أبو عليّ: قال أبو زيد: يقال (6): حسبت الشّيء أحسبه وأحسبه حسبانا. وحكى سيبويه أيضا: حسب يحسب ويحسب. وقال (7) أبو زيد: حسبت ذلك الحقّ حسابا وحسابة من الحساب، فأنا أحسبه. قال أبو زيد: وقال رجل من بني نمير: حسبانك على الله أي: حسابك على الله، وقال الشاعر:
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) في (ط) عزّ وجلّ.
(3) سقطت من (ط).
(4) هو هبيرة بن محمد التمار أبو عمر الأبرش انظر الطبقات 2/ 353.
(5) انظر السبعة ص 192191.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): قال.(2/402)
على الله حسباني إذا النّفس أشرفت ... على طمع أو خاف شيئا ضميرها (1)
وأحسبت الرجل إحسابا إذا أطعمته وسقيته حتى يشبع ويروى، وتعطيه حتى يرضى.
قال أبو علي: القراءة بتحسب بفتح السّين أقيس، لأنّ الماضي إذا كان على فعل نحو حسب، كان المضارع على يفعل مثل: فرق يفرق، وشرب يشرب، وشذّ يحسب فجاء على يفعل في حروف أخر. والكسر حسن لمجيء السمع به، وإن كان شاذا عن القياس.
البقرة: 279
اختلفوا في قوله تعالى (2): {فَأْذَنُوا} [البقرة / 279] في مدّ الألف وقصرها وكسر الذّال وفتحها.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي {فَأْذَنُوا} مقصورة مفتوحة الذال.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة فآذنوا ممدودة مكسورة الذّال. وروى حفص عن عاصم والمفضّل {فَأْذَنُوا}
مقصورة.
حدثني وهيب بن عبد الله [المروزي] (3) عن الحسن بن المبارك عن [أبي حفص] (3) عن عمرو بن الصبّاح عن أبي
__________
(1) البيت في تهذيب اللغة 4/ 331مع نقله عن أبي زيد بتصرف، ولم ينسبه، وذكره صاحب اللسان. (حسب)، ولم نجد كلام أبي زيد في النوادر.
(2) سقطت من (ط).
(3) ما بين معقوفين زيادة من السبعة ص 192وجاء اسمه في طبقات القراء 2/ 361: «وهب».(2/403)
يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنّه قال (1): {فَأْذَنُوا} وفآذنوا ممدودا ومقصورا.
قال أبو علي: قال سيبويه: آذنت: أعلمت، وأعلمت:
آذنت، وأذّنت: النداء، والتصويت بالإعلام. قال: وبعض العرب يجري آذنت مجرى أذّنت (2)، فمن أذّن الّذي معناه: التصويت والنداء قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسََارِقُونَ}
[يوسف / 70] فالأشبه في هذا الإعلام بالتصويت لقوله:
{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسََارِقُونَ} فالتقدير: يقال: إنّكم لسارقون.
فأمّا قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ} [الأعراف / 44]. فإنّ قوله: {بَيْنَهُمْ} يحتمل أمرين:
الأحسن فيه: أن يكون {بَيْنَهُمْ} ظرفا لمؤذن، كما تقول:
أعلم وسطهم ولا تجعله صفة للنكرة لأنّك توصله بالباء إلى أن، واسم الفاعل إذا أعمل عمل الفعل، لم يوصف، كما لا يصغّر، لأنّ الصفة تخصيص والفعل وما أجري (3) مجراه لا يلحقه تخصيص، والتصغير كالوصف بالصغر فمن ثمّ لم يستحسن: هذا ضويرب زيدا، كما لا يستحسن: هذا ضارب ظريف زيدا، ولأنّك في هذا أيضا تفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي.
__________
(1) كذا الأصل وفي السبعة ص 192: «أنّه كان يقرؤها» بدل «أنّه قال».
(2) انظر سيبويه 2/ 236ففي عبارته اختلاف يسير عمّا هنا.
(3) في (ط): جرى.(2/404)
وإن شئت جعلت «بينهم» صفة، وقلت: إنّ معنى الفعل قد يعمل في الجارّ ويصل إليه، ألا ترى أنّك تقول: هذا مارّ أمس بزيد، فيصل اسم الفاعل إذا كان لما مضى؟ والمعنى:
بأن لعنة الله، فإن (1) شئت جعلت الباء متعلقة بمؤذّن (2) مع أنّه قد (3) وصف (4)، وإن شئت جعلت «بين» ظرفا للمؤذن لا صفة، وإن شئت جعلته متعلقا بأذّن، كلّ هذا لا يمتنع.
فأما قوله: {وَأَذََانٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النََّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة / 3] فإن قوله: {مِنَ اللََّهِ} صفة فيها ذكر من الموصوف، وكذلك {إِلَى النََّاسِ} ولا يكون من صلة أذان لأنّه اسم، وليس بمصدر (5)، ومن أجرى هذا الضرب من الأسماء مجرى المصادر، فينبغي أن لا يعلّق به هذا الجارّ، ألا ترى أنّ المصدر الّذي هذا منه، لا يصل بهذا الحرف كما يصل قوله: {بَرََاءَةٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة / 1] به؟ (6) كقوله:
برئت إلى عرينة من عرين (7)
و {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة / 166]
__________
(1) في (ط) وإن.
(2) في (ط) متعلقة بقوله مؤذن.
(3) زيادة من (ط).
(4) في (م) زيادة: (بها) والوجه حذفها.
(5) في (م) للمصدر.
(6) زيادة من (ط).
(7) عجز بيت لجرير صدره: عرين من عرينة ليس منّا.
وانظر ديوانه 1/ 429.(2/405)
فأمّا قوله: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة / 3] فيجوز أن يتعلق بالصفة ويجوز أن يتعلق بالخبر الذي هو ب {أَنَّ اللََّهَ}.
ولا يجوز أن يتعلق ب {أَذََانٌ} لأنك قد وصفته، والموصوف (1) إذا وصفته لم يتعلق بشيء ولا بدّ من تقدير الجارّ في قوله:
(بأن الله) لأنّ: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لا يكون الإعلام، كما يكون الثاني الأول في قولك (2): خبرك أنّك خارج.
فأمّا قوله تعالى (3): فقل آذنتكم على سواء [الأنبياء / 109]، فقوله: على سواء يحتمل ضربين: أحدهما أن يكون صفة لمصدر محذوف، والآخر: أن يكون حالا، فإذا جعلته وصفا للمصدر كان التقدير: آذنتكم إيذانا على سواء.
ومثل وصف المصدر هاهنا، قوله تعالى (4): {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ كَمََا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة / 183] التقدير: كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب على الذين، فحذف المصدر، فكذلك يحذف في (5) قوله: آذنتكم على سواء [الأنبياء / 109] وفيه ذكر من المحذوف، ومعنى إيذانا على سواء: أعلمتكم إعلاما نستوي في علمه لا أستبدّ أنا به دونكم لتتأهبوا لما يراد منكم. وقال أبو عبيدة: إذا أنذرته وأعلمته فأنت وهو على سواء (6).
__________
(1) في (ط): «الموصول» بدل «الموصوف».
(2) في (م) نحو.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): وكذلك يحذف من.
(6) مجاز القرآن 2/ 43مختصرا.(2/406)
وأمّا إذا جعلته حالا، فإنّه يمكن فيه ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون حالا من الفاعل.
والآخر: أن يكون من المفعول به.
والثالث: أن يكون منهما جميعا على قياس ما جاء من قول عنترة (1):
متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا
وما أنشده أبو زيد (2):
إن تلقني برزين لا تغتبط به وكذلك قوله تعالى (3): {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى ََ سَوََاءٍ}
__________
(1) البيت في ديوانه ص 234من قصيدة يهجو بها عمارة بن زياد وفيه:
«نلتقي» بدل «تلقني» والعيني 3/ 174، وابن يعيش 2/ 55و 4/ 116 و 6/ 87وشواهد الشافية / 505/ وأمالي ابن الشجري 1/ 19والخزانة 3/ 359و 477والسمط 1/ 482وأساس البلاغة (رنف) قال ابن الشجري في الأمالي: الرانفة: طرف الألية الذي يلي الأرض إذا كان الإنسان قائما. وأما الألية فقال أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي رحمه الله: قد جاء من المؤنث بالياء حرفان لم يلحق في تثنيتهما التاء وذلك قولهم: خصيان وأليان، فإذا أفردوا قالوا: خصية وألية قال ابن الشجري: وقد جاءت في قوله: روانف أليتيك تاء التأنيث كما ترى، فالعرب إذن مختلفة في ذلك ا. هـ. منه 1/ 20. وفي (ط) برواية ترعد، بدل ترجف.
(2) هذا صدر بيت عجزه:
وإن تدع لا تنصر عليّ وأخذل وأنشده في النوادر مع بيت بعده:
فإن غزالك الذي كنت تدّري ... إذا شئت ليث خادر بين أشبل
للمطير بن الأشيم الأسدي وهو جاهلي. قوله: برزين، أي فردين. وهذه رواية (ط).
(3) سقطت من (ط).(2/407)
[الأنفال / 58]، قياسه قياس قوله: آذنتكم على سواء، قال أبو عبيدة (1) معناه الخلاف والغدر في هذا الموضع {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى ََ سَوََاءٍ}: فأظهر لهم أنّك عدو وأنّك مناصب لهم. فأمّا قوله:
آذناك ما منا من شهيد [فصلت / 47] فإن شئت جعلته مثل:
علمت أزيد منطلق؟ وإن شئت جعلته على معنى القسم، كما قال:
ولقد علمت لتأتينّ منيّتي (2)
فإن قلت: إنّ عامّة ما جاء مجيء القسم لم يتعدّ إلى مفعول به كقولهم: علم الله لأفعلنّ.
قيل: قد جاء: {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ}
[فاطر / 42]، [النور / 53] متعديا بالحرف.
وقد قرأ حمزة: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1/ 249.
(2) هذا صدر بيت عجزه كما في سيبويه 1/ 456، ونسبه للبيد:
إن المنايا لا تطيش سهامها والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 6/ 232والخزانة 4/ 13 و 332وشذور الذهب ص 356والعيني 2/ 405، وأوضح المسالك / 316والهمع 1/ 154والدرر 1/ 37وحاشية الصبان 2/ 30.
قال البغدادي في شرح أبيات المغني: البيت نسبه سيبويه للبيد والموجود في معلقته إنما هو: المصراع الثاني وصدره:
صادفن منها غرة فأصبنه
ولم يوجد للبيد في ديوان شعره على هذا الوزن والروي غير المعلقة، والله تعالى أعلم والذي ذكره البغدادي موافق لما في معلقته.
ا. هـ. منه ديوانه ص / 171والمعلقات السبع الطوال ص / 557.(2/408)
وحكمة [آل عمران / 81] وقد أجيب بما يجاب به القسم، فكذلك قوله: آذناك يكون على القسم، وإن كان قد تعدّى إلى مفعول به.
وبعد فإذا جاء نفس القسم متعديا إلى المفعول به نحو: بالله، ونحو: الله لأفعلنّ، فما يقوم مقامه، ينبغي أن يكون في حكمه.
وأمّا قوله (1): {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ} [الانشقاق / 2، 5] فقد فسّر أذنت أنها استمعت،
وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ» (2).
وقال عديّ:
في سماع يأذن الشّيخ له ... وحديث مثل ماذيّ مشار (3)
وأنشد أبو عبيدة (4):
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
__________
(1) سقط «قوله» من (ط).
(2) الحديث متفق عليه واللفظ بمسلم وتمامه «يتغنى بالقرآن يجهر به».
انظر البخاري بشرح الفتح 13/ 385، 433ومسلم 1/ 546برقم 234 وقوله: كإذنه، هو بفتح الهمزة والذال، مصدر أذن يأذن أذنا، كفرح يفرح فرحا.
(3) البيت في شرح الحماسة للتبريزي 4/ 12وشرح أبيات المغنى 8/ 102هـ اللسان (شور) وصدره عند المرزوقي 3/ 1451ومعنى يأذن: يستمع.
(4) البيت في مجاز القرآن 2/ 291ونسبه لرؤبة وهذا غريب منه لأنه ذكر البيت ملفقا من بيتين في 1/ 177لقعنب بن أم صاحب برواية(2/409)
وأما قول عدي:
أيها القلب تعلّل بددن ... إنّ همّي في سماع وأذن (1)
فالسماع مصدر يراد به المسموع نحو: الخلق والمخلوق، والصيد والمصيد، يدلّك على ذلك أنّه لا يخلو من أن يكون على ما ذكرنا، أو على أنّه السماع الذي هو الاستماع، فلا يستقيم هذا لأنّ المعنى يكون: إنّ همي في سماع وسماع، وليس هكذا، ولكن إنّ همي في مسموع، أي في غناء واستماع له.
وأمّا قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} [الأعراف / 167] فقد قدّمنا ذكر ما قاله سيبويه (2): من أنّ من العرب من يجعل أذّن وآذن
__________
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... وإن ذكرت البيت
والمصادر تروي البيت الشاهد ضمن ثلاثة أبيات لقعنب بن ضمرة بن أم صاحب وهي:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... عني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
جهلا عليّ وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
وأضاف ابن السيد في الاقتضاب ص 292بيتين آخرين مع البيت الشاهد وهما:
ولن يراجع قلبي ودهم أبدا ... زكنت منهم على مثل الذي زكنوا
كل يداجي على البغضاء صاحبه ... ولن أعالنهم إلّا كما علنوا
وانظر أمالي القالي 1/ 121والسمط ص 362والحماسة بشرح المرزوقي 3/ 1450والتبريزي 4/ 12وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 102.
(1) البيت في اللسان (أذن) وشرح أبيات المغني 8/ 103.
(2) سبق هذا قريبا.(2/410)
بمعنى، كأنّه جعله بمنزلة سمّى وأسمى، وخبّر وأخبر، فإذا كان أذّن: أعلم في لغة بعضهم، فتأذّن: تفعّل من هذا، وليس تفعّل هاهنا بمنزلة: تقيّس (1) وتشجّع، ولكنّه بمنزلة فعّل، كما أنّ تكبّر في قوله سبحانه (2): {الْجَبََّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر / 23] ليس على حدّ: تكبّر زيد، إذا تعاطى الكبر، ولكنّ المتكبر بمنزلة الكبير، كما أنّ قوله عزّ وجلّ (3): {وَتَعََالى ََ عَمََّا يَقُولُونَ} (4) [الإسراء / 43] تقديره: وعلا، وليس على حدّ تعاقل وتغاشى إذا أظهر شيئا من ذلك ليس فيه.
فبناء الفعلين يتفق والمعنى يختلف، وكذلك تأذّن بمنزلة علم ومثل تفعّل، في أنّه يراد به فعل قول زهير (5):
تعلّم أنّ شرّ النّاس قوم ... ينادى في شعارهم يسار
وكذلك قوله (6):
تعلّماها لعمر الله ذا قسما ... فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك
__________
(1) قال في اللسان / قيس / وحكى سيبويه تقيّس الرجل: انتسب إلى قبيلة قيس. وانظر سيبويه 2/ 240.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) هذه الآية أوردها الفارسي سهوا كما يلي: وتعالى عما يقول الظالمون، والصواب ما أثبتناه.
(5) البيت في ديوانه 300وفيه حيّ بدل (قوم).
(6) البيت لزهير في ديوانه / 182وفي الكتاب لسيبويه 2/ 145، 150 «تعلّمن» بدل «تعلماها» ومعنى اقصد بذرعك: أي اقصد في أمرك ولا تتعد طورك، ومعنى بنسلك: تدخل. وانظر المقتضب 2/ 323والخزانة 2/ 475، 4/ 208، 478.(2/411)
ليس يريد (1): تعلّم هذا عن جهل به، إنّما يريد به (2):
اعلم، كأنّه ينبهه ليقبل على خطابه. ومثله (3):
تعلّمن أنّ الدّواة والقلم ... تبقى ويفني حادث الدّهر الغنم
وهذا كثير يريدون به: اعلم، وليس يريدون تعلّم (4) كما يريدون بقولهم: تعلّم الفقه، إنّما يريدون: اعلم.
فكذلك تأذّن معناه: علم. ومما يدل على أنّ معناه العلم، وقوع لام اليمين بعدها كما تقع بعد العلم في نحو:
علم الله لأفعلنّ، فكأنّ المعنى في تأذّن: علم ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة، وليس هو من الاستماع نحو: {أَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ} [الانشقاق / 2] ونحو: «ما أذن الله لشيء» (5) ألا ترى أنّك لو قلت سمع ليفعلنّ، أو تسمّع ليفعلن، لم يسهل ذلك كما يكون في علم من حيث استعمل استعمال القسم، فتعلق الجواب به كما يتعلق بالقسم؟ وأمّا قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}
[التوبة / 61] فإنّه يذكر في موضعه إن شاء الله، وأمّا قوله سبحانه (6): {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللََّهِ}
[البقرة / 279] المعنى: فإن لم تضعوا الرّبا عن النّاس الّذي قد أمركم الله بوضعه عنهم، فأذنوا بحرب من الله (7).
__________
(1) هكذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) لم نعثر على قائله.
(4) في (م): يتعلم: وما أثبتناه من (ط).
(5) قطعة من حديث صحيح سبق في ص 409.
(6) سقطت من (ط).
(7) سقطت من (م): من الله.(2/412)
قال أبو عبيدة (1): آذنتك بحرب فأذنت به. فمن قال:
{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللََّهِ} فقصر، فمعناه: اعلموا بحرب من الله، والمعنى: أنّكم في امتناعكم من وضع ذلك حرب لله ورسوله.
ومن قال: فآذنوا بحرب فتقديره: فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول هنا (2) محذوف على قوله: وقد أثبت هذا المفعول المحذوف هنا، في قوله {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى ََ سَوََاءٍ}
وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم أيضا لا محالة، ففي أمرهم بالإعلام ما يعلمون هم أيضا أنهم حرب إن لم يمتنعوا عمّا نهوا عنه من وضع الرّبا عمن كان عليه. وليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم، فهذا في الإبلاغ آكد.
قال أحمد بن موسى: قرءوا كلّهم: {لََا تَظْلِمُونَ وَلََا تُظْلَمُونَ} [البقرة / 279] بفتح التاء الأولى وضم الثانية (3).
وروى المفضّل عن عاصم {لََا تَظْلِمُونَ وَلََا تُظْلَمُونَ}
بضم التاء الأولى وفتح الثانية (4).
قال أبو علي: موضع «لا تظلمون» نصب على الحال من لكم، التقدير: فلكم رءوس أموالكم غير ظالمين ولا مظلومين.
والمعنى: إن تبتم فوضعتم الرّبا الذي أمر الله بوضعه عن النّاس فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون بأن تطالبوا المستدين بالرّبا
__________
(1) في مجاز القرآن 1/ 83.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وروى المفضل عن عاصم (لا تظلمون) بضم التاء الأولى ولا، (ولا تظلمون بفتح التاء الثانية وتكرار (ولا، ولا) وهو سهو من الناسخ.
(4) السبعة ص 192.(2/413)
الموضوع عنه، ولا تظلمون بأن تبخسوا رءوس أموالكم. أو تمطلوا بها.
وقد جاء: «ليّ الواجد ظلم» (1).
والمعنى والتقدير في التقديم والتأخير الذي روي عن عاصم سواء.
ويرجح تقديم: {لََا تَظْلِمُونَ} بأنّه أشكل بما قبله، لأنّ الفعل الذي قبله مسند إلى فاعل، وهو قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ}، فتظلمون أشكل بما قبله لإسناد الفعل فيه إلى الفاعل من تظلمون المسند فيه الفعل إلى المفعول به (2).
البقرة: 280
واختلفوا (3) في ضمّ السّين وفتحها من قوله تعالى:
{فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} [البقرة / 280] فقرأ نافع وحده: {إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} بضمّ السّين.
وقرأ الباقون: {مَيْسَرَةٍ} بفتح السّين، وكلّهم قلب الهاء تاء ونوّنها (4).
قال أبو عليّ: حجّة من قرأ {إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} أنّ مفعلة قد جاء
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقا في كتاب الاستقراض 5/ 62بشرح الفتح. وأبو داود برقم 3628، والنسائي 7/ 316، وابن ماجة برقم 2427،
والإمام أحمد 4/ 222، 388، 389، متصلا من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه بلفظ: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته»
قال ابن حجر في الفتح: وإسناده حسن. ثم قال: وقع
في الرافعي في المتن المرفوع: «لي الواجد ظلم»
وهذه الرواية تنسجم مع رواية الفارسي هنا، ومع ما رواه الخطابي في شأن الدعاء ص 81. ومثل هذا الحديث في المعنى ما أخرجه البخاري في الفتح برقم 2287و 2288و 2400و
مسلم برقم 1564من حديث أبي هريرة: «مطل الغني ظلم».
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت الواو من (ط).
(4) السبعة ص 192.(2/414)
في كلامهم كثيرا. وأمّا من قرأ {إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} بضمّ السّين فلأنّ مفعلة قد جاء أيضا في كلامهم.
قالوا: المسربة (1)، وقالوا: المشرقة (2) وليس بكثرة مفعلة. فالقراءة الأولى أولى لأنّ الكلمة بفتح العين منها أكثر من الضمّ، ومفعلة بناء مبني على التأنيث، ألا ترى أن مفعلا بغير هاء بناء لم يجيء في الآحاد؟.
قال سيبويه: وأمّا ما كان يفعل منه مضموما، فهو بمنزلة ما كان يفعل منه مفتوحا، ولم يبنوه على مثال يفعل، لأنّه ليس في الكلام مفعل، فلمّا لم يكن إلى ذلك سبيل، وكان مصيره إلى إحدى الحركتين ألزموه أخفّهما (3).
قال أبو علي: كلامه هذا في الآحاد، ألا ترى أنّه يقصد مكان الفعل، وهو معلوم أنّه لا يكون إلّا مفردا.
وما جاء في الشّعر من معون ومكرم جمع معونة ومكرمة لا يدخل على هذا لأنه جمع ومراد سيبويه فيما ذكر المفرد دون الجمع (4).
__________
(1) في (ط): المشربة. وفي اللسان (شرب) المشربة والمشربة، بالفتح والضم، الغرفة. أمّا المسربة فهي صحيحة أيضا ففي اللسان (سرب): والمسربة، بالضم، الشعر المستدق النابت وسط الصدر إلى البطن،
وفي حديث صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: كان دقيق المسربة، وفي رواية كان ذا مسربة.
(2) في اللسان (شرق) عن ابن سيده: المشرقة والمشرقة والمشرقة: الموضع الذي تشرق عليه الشمس، وخصّ بعضهم به الشتاء.
(3) الكتاب 2/ 247.
(4) في (م): الجميع.(2/415)
قال أحمد بن موسى: وكلّهم قلب الهاء تاء ونوّنها، يعني: في الوصل، يريد أنّه: لم يقرأ أحد منهم إلى ميسرة لأنّ مفعل لا يجيء في الآحاد إلّا بالتاء، وقد جاء في الجمع، [قال جميل] (1):
بثين الزمي (لا) إنّ (لا) إن لزمته ... على كثرة الواشين أيّ معون (2)
وروي:
أبلغ النعمان عني مألكا ... إنّه قد طال حبسي وانتظاري (3)
فالأول جمع معونة، ومألكا جمع مألكة وهي: الرسالة، ومثل هذا الذي يقلّ قد لا يعتدّ به سيبويه، فربّما أطلق القول،
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في ديوانه ص 212، والمحتسب 1/ 144، والخصائص 3/ 212، وشرح شواهد الشافية 4/ 67والبحر المحيط 2/ 340عن أبي علي في معنى (معون) وأنشده ابن عصفور في الضرائر ص 137.
(3) البيت لعدي بن زيد العبادي ص 124مطلع قصيدته الرائية المكسورة يستعطف بها النعمان، وبعده:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري
والبيت الشاهد في الشعر والشعراء ص 229وفي الأغاني 2/ 94، قال أبو الفرج: وهي قصيدة طويلة. والعقد الفريد 6/ 95، والعيني 4/ 455 والخزانة 3/ 597وشرح أبيات المغني 5/ 83، واللسان (ألك)، ونقله في البحر 2/ 340عن أبي علي في معنى «مألكا».
وضبط البيت في الأصل بسكون الراء من قوله: «انتظار» وكذلك جاء في المحتسب 1/ 144، والمنصف لابن جني 2/ 104، واللسان (ألك)، ولكن البيت كما روته المصادر المتقدمة من قصيدة مكسورة الراء، كما أثبتّه. ولا يتعلق بالتسكين غرض، فيحتاج إليه.(2/416)
فقال: ليس في الكلام كذا، وإن كان قد جاء عليه حرف أو حرفان، كأنّه لا يعتدّ بالقليل، ولا يجعل له حكما.
البقرة: 281
واختلفوا (1) في قوله عزّ وجلّ (2): {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ} [البقرة / 281] في فتح التاء (3) من ترجعون وضمها.
فقرأ أبو عمرو وحده {تُرْجَعُونَ} بفتح التاء وكسر الجيم.
واختلف عنه في آخر سورة النور، فروى علي بن نصر، وهارون الأعور وعبيد بن عقيل، وعباس بن الفضل، وخارجة بن مصعب {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} [النور / 64] بضم الياء.
وقرأ الباقون: {يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ} و {يَوْمَ يُرْجَعُونَ} بضم التاء والياء فيهما، وكذلك في النّور (4).
قال أبو علي: حجة من قرأ: يرجعون: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللََّهِ} [الأنعام / 62] {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى ََ رَبِّي}
[الكهف / 36].
__________
(1) سقطت الواو من (ط).
(2) في (ط): تعالى.
(3) في (ط): في.
(4) انظر السبعة ص 193، فإنّ أبا علي رحمه الله كثّف العبارة هنا، وأسقط:
رواية عبد الوارث واليزيدي عن أبي عمرو في قوله تعالى من سورة النور:
{يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ} مضمومة التاء.(2/417)
وحجة أبي عمرو: {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ} [الغاشية / 25] فأضيف المصدر إلى الفاعل فهذا بمنزلة: (يرجعون) وآبوا: مثل رجعوا.
ومن حجته: {وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} [البقرة / 156] وقال:
{فَإِلَيْنََا مَرْجِعُهُمْ} [يونس / 46] فأضاف المصدر إلى الفاعل، كما أضيف في الآية الأخرى. وقال تعالى: {كَمََا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف / 29].
فأمّا انتصاب (يوم) من قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً} [البقرة / 48] فانتصاب المفعول به لا انتصاب الظرف، وليس المعنى: اتّقوا في هذا اليوم، ولكن (1) تأهبوا للّقاء به، بما تقدمون من العمل الصالح. ومثل ذلك: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً}
[المزمل / 17]؟ أي: كيف تتّقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله، أي: لا يكون الكافر مستعدّا للّقاء به لكفره، ومثل ذلك قوله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} [العنكبوت / 36] أي:
خافوه.
البقرة: 282
واختلفوا في كسر الألف وفتحها من قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} [البقرة / 282] ورفع الراء ونصبها من {فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} [البقرة / 282].
فقرأ حمزة وحده: {أَنْ تَضِلَّ} بكسر الألف {فَتُذَكِّرَ}
بالتشديد والرفع وكسر إن.
__________
(1) سقطت من (ط).(2/418)
وقرأها الباقون: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا فَتُذَكِّرَ} نصبا، غير أنّ ابن كثير وأبا عمرو خفّفا الكاف وشدّدها الباقون (1).
قال أبو علي: قوله تعالى (2): {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} لا يكون متعلقا بقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجََالِكُمْ} [البقرة / 282] ألا ترى أنّك لو قلت: استشهدوا شهيدين من رجالكم أن تضلّ إحداهما لم يسغ، ولكن تتعلق أن بفعل مضمر دلّ عليه هذا الكلام، وذلك أنّ قوله: فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان يدلّ على قولك: فاستشهدوا رجلا وامرأتين فتعلّق {أَنْ} إنّما هو بهذا الفعل المدلول عليه من حيث ذكرنا.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى (2): {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتََانِ}
[البقرة / 282] التقدير: فليكن رجل وامرأتان، وهذا قول حسن، وذاك أنّه لما كان قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} لا بدّ من أن يتعلق بفعل، وليس في قوله: فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، شيء يتعلق به أن جعل المضمر فعلا ترتفع النكرة به، ويتعلق به المصدر، وكان هذا أولى من تقدير إضمار المبتدأ الذي هو: ممن (4) يشهد رجل وامرأتان. لأنّ المصدر الذي هو {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} لا يجوز أن يتعلق به لفصل الخبر بين الفعل والمصدر. فإن قلت: من أيّ الضربين تكون كان المضمرة في قوله، هل تحتمل أن تكون الناصبة للخبر أو تكون التامّة؟. فالقول في ذلك: أن كلّ واحد منهما يجوز أن يقدّر
__________
(1) انظر السبعة ص 194.
(2) سقطت من (ط).
(4) في (ط): فمن.(2/419)
إضماره. فإذا أضمرت التي تقتضي الخبر، كان تقدير إضمار الخبر: فليكن ممّن تشهدون رجل وامرأتان، وإنّما جاز إضمار هذه، وإن كان قد قال: لا يجوز: عبد الله المقتول، وأنت تريد:
«كن عبد الله المقتول» (1)،
لأنّ ذكرها قد تقدّم، فتكون هذه إذا أضمرتها لتقدّم الذكر بمنزلة المظهرة، ألا ترى أنّه لا يجوز العطف على عاملين، ولمّا تقدّم ذكر كلّ في قوله (2):
أكلّ امرئ تحسبين امرأ كان كلّ بمنزلة ما قد ذكر في قوله:
ونار توقّد بالليل نارا (3)
وكذلك جاز (4) إضمار «كان» المقتضية للخبر بعد إن في
__________
(1) من
حديث أخرجه أحمد في المسند 5/ 110من حديث عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي قال: «فإن أدركت ذاك فكن عبد الله المقتول» قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال: «ولا تكن عبد الله القاتل».
وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 517من حديث خالد بن عرفطة قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يا خالد! إنه سيكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل»
وللحديث طرق بعضها يقوي بعضا، وقد بين ذلك العجلوني في كشف الخفاء 2/ 176175 «طبعة القلاس».
(2) صدر بيت لأبي دواد عجزه: ونار توقد الآتي انظر الكتاب لسيبويه 1/ 33 والكامل 1/ 247، 825وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 190برقم 487. وابن الشجري 1/ 296.
(3) سقطت كلمة: «نارا» من (م) واستدركت من (ط).
(4) في (ط): أجاز.(2/420)
قوله: إن خنجرا فخنجر (1)، لما كان الحرف يقتضيها، ويجوز أن تضمر التامة التي بمعنى الحدوث والوقوع، لأنّك إذا أضمرتها أضمرت شيئا واحدا، وإذا أضمرت الأخرى احتجت أن تضمر شيئين، وكلّما قلّ الإضمار كان أسهل. وأيّهما أضمرت فلا بدّ من تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
المعنى: فلتحدث شهادة رجل وامرأتين، أو تقع، أو نحو ذلك، ألا ترى أنّه ليس المعنى: فليحدث رجل وامرأتان، ولكن لتحدث شهادتهما، أو تقع، أو تكن (2) شهادة رجل وامرأتين مما (3) تشهدون، ويجوز أن تتعلق «أن» في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} [البقرة / 282] بشيء ثالث وهو أن تضمر خبر المبتدأ الذي هو: فرجل وامرأتان يشهدون، فيكون (4)
يشهدون خبر المبتدأ. ويكون العامل في {أَنْ} وموضع إضماره فيمن فتح الهمزة من {أَنْ تَضِلَّ}: ما (5) قبل {أَنْ}.
وفيمن كسر إن بعد انقضاء الشرط بجزائه (6). فقد جاز في: {أَنْ تَضِلَّ} أن يتعلق بأحد ثلاثة أشياء:
__________
(1) هذا من أمثلة سيبويه في الكتاب وتتمته: «وذلك قولك الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، والمرء مقتول بما قتل به إن خنجرا فخنجر وإن سيفا فسيف» انظر الكتاب 1/ 130واللسان (خنجر).
(2) في (م): «تكون» وآثرنا العطف بالجزم للسياق.
(3) في (ط): «فيما».
(4) في (م): «فتكون».
(5) سقطت «ما» من (م).
(6) في (ط): «بجوابه».(2/421)
أحدها: المضمر الذي يدلّ عليه قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ}.
والثاني: الفعل الذي هو: (فليشهد رجل وامرأتان).
والثالث: الفعل الذي هو خبر المبتدأ.
وأمّا إحدى: فمؤنث الواحد، والواحد الذي مؤنّثه إحدى، إنّما هو اسم وليس بوصف ولذلك جاء إحدى على بناء لا يكون للصّفات أبدا، كما كان الذي هو مذكّرة كذلك.
وقال أحمد بن يحيى: قالوا: هو إحدى الإِحَد، وأحد (1)
الأحدين، وواحد الآحاد، وأنشد (2):
عدّوني الثّعلب فيما عدّدوا ... حتى استثاروا بي إحدى الإِحَد
ليثا هزبرا ذا سلاح معتدي قال أحمد (3): إحدى الإِحَد: كما تقول: واحد لا مثل له، وقالوا: الإِحَد، كما تقول (4): الكسر، جعلوا الألف بمنزلة التاء، كما جعلوها مثلها، في الكبرى، والكبر، والعليا، والعلى، فكما جعلوا هذه: كظلمة وظلم، جعلوا الأول بمنزلة كسر وسدر، وكما جعلوا المقصورة بمنزلة التاء، كذلك جعلوا
__________
(1) في (ط): وواحد الأحدين.
(2) رجز للمرار الفقعسي وبعده:
يرمي بطرف كالحريق الموقد في الأغاني 10/ 324والخزانة 3/ 293ورواية البيت الأول:
عدّوني الثّعلب عند العدد وهي الرواية المنسجمة مع الأبيات والشطران الثاني والثالث في اللسان (وحد) عن ابن سيده.
(3) في (ط): أحمد بن يحيى.
(4) في (م): قالوا.(2/422)
الممدودة بمنزلتها في قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء ودوامّ.
وحكى أحمد بن يحيى: أن الواحد والوحد والأحد، بمعنى وقد شرحنا ذلك في المسائل.
فأمّا بدل الهمزة من الواو إذا كانت مكسورة، فإنّ أبا عمر (1) يزعم أنّ ذلك لا يجاوز به المسموع، وغيره يذهب إلى أن بدل الهمزة منها، مطرد كاطراد البدل من المضمومة.
والقول في أنّه ينبغي أن يكون مطّردا أنّ الكسرة بمنزلة الياء، ولا تخلو الحركة في الحرف المتحرك من أن تكون مقدرة قبله أو بعده، فإن كانت قبله، فالواو إذا وقعت قبلها الياء أعلّت، وكذلك إذا وقعت بعدها، فإذا كان كذلك اعتلّت الواو مع الكسرة كما اعتلت مع الياء، ألا ترى أنّها إذا تحركت بالفتح لم تعتل، كما لا تعتلّ الواو إذا كانت قبلها ألف نحو: عوان وطوال؟. فإن قلت:
[فإذا وجب القلب من حيث ذكرت] (2) فهلّا (3) أبدلت غير أوّل مكسورة كما اعتلت الواو بالياء إذا كانت قبلها أو بعدها!.
قيل: هذا لا يلزم وذلك (4) أن القلب في المكسورة كالقلب في المضمومة، ألا ترى أنّ الضمّة مع الواو كالواوين.
كما أنّ الكسرة مع الواو كالياء والواو؟ فكما تعلّ الواو مع الياء،
__________
(1) في (ط): أبا عمرو. وأبو عمر هذا هو الزاهد المعروف بغلام ثعلب.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط).
(3) في (ط): هلّا.
(4) في (ط): ذلك بدون واو.(2/423)
كذلك أعلّت مع الكسرة، كما أنّ الواو لمّا اعتلّت (1) مع الواو كذلك أعلّت مع الضمة، ولم يجب من هذا أن تعلّ الواوان (2)
غير أول في نحو: أحوويّ، ولوويّ، فكذلك لم يلزم أن تعلّ الواو مع الكسرة غير أوّل، ألا ترى أنّ مواقع الإبدال ينبغي أن تعتبر كما أن مواقع الزيادة ينبغي أن تعتبر؟ فكما أن الحرف إذا كثرت زيادته في موضع، واستمر، لم يلزم أن تجعل في غير ذلك الموضع، كذلك لا يلزم إذا استمرّ إبداله (3) في موضع أن يبدل في غير ذلك الموضع. ومن ثمّ جعل أبو عثمان (4) دلامصا من غير دليص (5)، لأن الميم لم تزد هنا، وإن كانت زيادتها قد استمرت أولا.
وأمّا قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} [البقرة / 282] فقال أبو عبيدة: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} أي (6) تنسى (7)، قال تعالى: {قََالَ فَعَلْتُهََا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضََّالِّينَ} [الشعراء / 20] أي نسيت، أي:
ضللت وجه الأمر. وقال أبو زيد: ضللت الطريق والدار أضلّه ضلالا، وأضللت الفرس والناقة والشيء إضلالا، وكلّ ما ضلّ عنك فذهب.
__________
(1) في (ط): أعلّت.
(2) في (ط): الواو.
(3) في (ط): إبدالها.
(4) هو المازني.
(5) في المنصف، شرح كتاب التصريف لأبي عثمان المازني، 3/ 25: دلامص: هو البرّاق. يقال: دلامص ودلاص ودلّاص، ودليص بمعنى، قال الأعشى:
إذا جرّدت يوما حسبت خميصة ... عليها وجريال النضار الدّلامصا
(6) في (ط): أن.
(7) مجاز القرآن 1/ 83.(2/424)
قال: وإذا كان الحيوان مقيما فهو بمنزلة ما لا يبرح نحو:
الدار، والطريق، فهو كقولك: ضللته ضلالة. وقال أبو الحسن: تقول: ضللت دار فلان، وقال الفرزدق:
ولقد ضللت أباك تدعو دارما ... كضلال ملتمس طريق وبار (1)
وفي كتاب الله تعالى: {فِي كِتََابٍ لََا يَضِلُّ رَبِّي وَلََا يَنْسى ََ} [طه / 52] أي: لا يضلّ الكتاب عن ربّي. وأمّا موضع أن فنصب وتعلّقه إنّما هو بأحد الأشياء التي تقدّم ذكرها.
والمعنى: استشهدوا رجلين أو رجلا وامرأتين لأن تضلّ إحداهما فتذكّر. فإن قيل: فإنّ الشهادة لم توقع للضلال الذي هو النسيان إنّما وقعت للذكر والحفظ. فالقول في ذلك أنّ سيبويه قد قال: أمر بالإشهاد لأن تذكّر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكّر إحداهما الأخرى. قال: فإن قال إنسان: كيف جاز أن يقول: «أن تضلّ إحداهما» ولم يعدّ هذا للضلال والالتباس (2)؟ فإنّما ذكر «أن تضلّ» لأنّه سبب للإذكار كما
__________
(1) البيت في ديوان الفرزدق 2/ 450وفيه تطلب بدل تدعو، قال ياقوت في معجم البلدان 5/ 357 (وبار): قرية كانت لبني «وبار» وهم من الأمم الأولى، منقطعة بين رمال بني سعد وبين الشّحر ومهرة، ويزعم من أتاها أنهم يهجمون على أرض ذات قصور مشيدة ونخل ومياه مطر، وليس بها أحد، يقال: إن سكانها الجن، لا يدخلها إنسي إلّا ضلّ قال الفرزدق:
وأنشد البيت مع آخر:
لا تهتدي أبدا ولو بعثت به ... بسبيل واردة ولا آثار
اهـ منه. وذكر ياقوت أساطير عجيبة عن وبار
(2) في سيبويه: «للالتباس».(2/425)
تقول: أعددته أن يميل الحائط، فأدعمه، وهو لا يطلب بذلك ميلان الحائط، ولكنّه أخبر بعلة الدعم وسببه. انتهى كلام سيبويه (1).
[قال أبو علي] (2) وقوله: فتذكّر: معطوف على الفعل المنصوب بأن، فأمّا قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدََاءِ} فالظرف وصف للأسماء المنكورة (3)، وفيه ذكرها.
وأمّا وجه قراءة حمزة: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} بكسر الألف، فإنّه جعل إن للجزاء، والفاء في قوله: {فَتُذَكِّرَ}: جواب الجزاء، ومواضع الشرط وجزائه (4) رفع بكونهما وصفا للمنكورين (5) وهما المرأتان في قوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتََانِ} وقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتََانِ}:
خبر مبتدأ محذوف تقديره: فمن يشهد رجل وامرأتان. ويجوز أن يكون «رجل» مرتفعا بالابتداء، والمرأتان معطوفتان عليه وخبر الابتداء (6) محذوف تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون.
وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدََاءِ} فيه ذكر يعود إلى الموصوفين الذين هم: «فرجل وامرأتان»، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المتقدم ذكرهما، لاختلاف إعراب الموصوفين، ألا ترى أنّ شهيدين منصوبان، ورجل وامرأتان إعرابهما (7) الرفع،
__________
(1) انظر سيبويه 1/ 430ففيه اختلاف يسير عمّا هنا.
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من (م).
(3) في (ط): المذكورة.
(4) في (ط): وجوابه.
(5) في (ط): للمذكورين.
(6) في (ط): المبتدأ.
(7) في (ط): إعرابهم.(2/426)
فإذا كان كذلك علمت أنّ الوصف الّذي هو ظرف إنّما هو وصف لقوله: «فرجل وامرأتان» دون من تقدّم ذكرهما من الشهيدين.
والشرط وجزاؤه وصف للمرأتين لأنّ الشرط وجزاءه (1)
جملة يوصف بها كما يوصل بها في نحو قوله تعالى (2): {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقََامُوا الصَّلََاةَ} [الحج / 41] واللّام التي هي لام في قوله: {أَنْ تَضِلَّ} فيمن جعل إن جزاء في موضع جزم، وإنّما حرّكت بالفتح لالتقاء الساكنين، ولو كسرت للكسرة التي (3) قبلها لكان جائزا في القياس.
وأمّا قوله تعالى (4): {فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} فقياس قول سيبويه في قوله: {وَمَنْ عََادَ فَيَنْتَقِمُ اللََّهُ مِنْهُ} [المائدة / 95] والآي التي تلاها معها (5) أن يكون بعد الفاء في: {فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا} (6) مبتدأ محذوف ولو أظهرته لكان فيما تذكّر إحداهما الأخرى، فالذكر العائد إلى المبتدأ المحذوف الضمير في قوله:
«إحداهما».
وأمّا قوله: فتذكر، فإنّ الذّكر على ضربين:
ذكر هو خلاف النسيان.
وذكر، هو قول.
__________
(1) في (ط) والجزاء.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت «التي» من (م).
(4) سقطت من (ط).
(5) هي قوله تعالى من سورة المائدة / 95: «ومن كفر فأمتّعه قليلا» انظر سيبويه 1/ 438.
(6) سقطت من (ط).(2/427)
فممّا هو خلاف النسيان قوله: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلَّا الشَّيْطََانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف / 63].
وقال: {نَسِيََا حُوتَهُمََا} [الكهف / 61] فأسند النسيان إليهما، والناسي فتى موسى، فيجوز أن يكون المعنى نسي أحدهما، فحذف المضاف، وقد تقدم ذكر شيء من هذا النحو.
والذكر الذي هو قول يستعمل على ضربين: قول لا ثلب فيه للمذكور، والآخر يراد به ثلب المذكور. فمن الأول قوله:
{فَاذْكُرُوا اللََّهَ كَذِكْرِكُمْ آبََاءَكُمْ} [البقرة / 200]، وقوله:
{فَاذْكُرُوا اللََّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرََامِ وَاذْكُرُوهُ كَمََا هَدََاكُمْ}
[البقرة / 198] {وَاذْكُرُوا اللََّهَ فِي أَيََّامٍ مَعْدُودََاتٍ}
[البقرة / 203] {وَلََا تَأْكُلُوا مِمََّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ}
[الأنعام / 121].
ومن الذّكر الّذي يراد به الثلب، قوله: {قََالُوا سَمِعْنََا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقََالُ لَهُ إِبْرََاهِيمُ} [الأنبياء / 60]، فهذا الذكر يشبه أن يكون من جنس ما واجههم به في قوله تعالى (1): {قََالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلََا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} [الأنبياء / 67]. ومن ذلك قول الشاعر:
بذكركم منّا عديّ بن حاتم ... لعمري لقد جئتم حبولا ومأثما (2)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) الحبل والحبل: الداهية، وجمعها حبول انظر اللسان (حبل) واستشهد ابن(2/428)
وقالوا في مصدر ذكرته، ذكرى قال (1):
هبّت شمالا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة الّتي شرقيّ حورانا
وقال (2):
صحا قلبه عن سكره وتأمّلا ... وكان بذكرى أمّ عمرو موكّلا
فمن قدّر في «ذكرى» التنوين، نصب الاسم بعده، ومن لم يقدر فيه التنوين جر الاسم، وأضاف المصدر إلى المفعول به.
قال سيبويه: قالوا ذكرته ذكرا كحفظته حفظا، وقالوا: ذكرا كما قالوا: شربا (3).
فأمّا قوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللََّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا} [الطلاق / 10] فإنّ قوله: ذكرا، يحتمل أمرين: أحدهما: أن تقدّر حذف المضاف إلى الذكر، والآخر أن لا تقدر ذلك، فإن قدرت حذف المضاف، كان إظهاره: قد أنزل الله إليكم ذا ذكر، والذكر يحتمل تأويلين: أحدهما: ذا شرف وصيت كما قال:
__________
قتيبة في المعاني الكبير 2/ 865بصدر البيت على معنى الحبول: الدواهي.
وجاء برواية قلتم بدل جئتم. ولم يعزه لأحد.
(1) البيت لجرير من قصيدة طويلة يهجو بها الأخطل. انظر ديوانه 1/ 165 والكامل للمبرد 3/ 65وفيه إلى بدل التي، والكتاب لسيبويه 1/ 113وفيه جنوبا بدل شمالا، وفي (ط): «أهل» بدل «عند» ورواية (م) المثبتة هي رواية الديوان.
(2) البيت لأوس بن حجر وفيه «فتأملا» بدل «وتأملا». انظر ديوانه / 82.
وشرح أبيات المغني للسيوطي 1/ 399والبغدادي 3/ 178. وفي حاشية شرح ديوان زهير ص 30وفي ط: «صحا قلبه من بعد ما كان أقصرا». وهذا خلاف ما في المصادر السابقة.
(3) انظر الكتاب 2/ 215.(2/429)
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف / 44] فسّر أنّه شرف لهم، والآخر ذا قرآن، وقد سمّي القرآن ذكرا (1) في قوله تعالى:
{وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل / 44] فإذا قدرت حذف المضاف كان المعنى في أنزل: الإحداث والإنشاء، كما قال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعََامِ ثَمََانِيَةَ أَزْوََاجٍ}
[الزمر / 6] {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد / 25] يبيّن أنّه الإنشاء والإحداث. قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنََّاتٍ مَعْرُوشََاتٍ} (2) [الأنعام / 141] ثم قال بعد: {ثَمََانِيَةَ أَزْوََاجٍ}
[الأنعام / 143] فحمل الأزواج على الإنشاء كما حمله على الإنزال في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعََامِ ثَمََانِيَةَ أَزْوََاجٍ}، [الزمر / 6] وقال: {قَدْ أَنْزَلَ اللََّهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق / 10] فوصل الفعل مرّة باللّام ومرّة بإلى كما قال: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}
[النحل / 68] وفي أخرى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى ََ لَهََا} [الزلزلة / 5] وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرََاطِ اللََّهِ}
[الشورى / 52] و (الحمد لله الّذي هدانا لهذا) [الأعراف / 43] فإنّ لم تقدّر حذف المضاف، كان المعنى:
قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا فيكون: رسولا معمول المصدر، والتقدير: أن ذكر رسولا أي: ذكر رسولا لأن يتبعوه، فيهتدوا (3) بالاقتداء به، والانتهاء إلى أمره، وذلك نحو قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف / 157] إلى قوله {أُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف / 157] ومثل ذلك
__________
(1) في (م) وقد سمي ذكرا.
(2) سقطت: «معروشات» من (ط).
(3) في (ط): فتهدوا.(2/430)
في إعمال المصدر قوله تعالى (1): {مََا لََا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً} [النحل / 73] فشيئاً (2) مفعول المصدر، والذكر: كتاب الله الذي ذكره في قوله سبحانه (3):
{وَلَقَدْ كَتَبْنََا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ}
[الأنبياء / 105] وفي قوله: {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ} [الرعد / 39] فأمّا قول الشاعر:
يذكّر نيك حنين العجول ... ونوح الحمامة تدعو هديلًا (4)
__________
(1) سقطت من (م) قوله تعالى.
(2) في (ط): الشيء.
(3) سقطت من (ط).
(4) البيت مع آخر قبله:
على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولًا كميلًا
في الكتاب 1/ 292، ومجالس ثعلب ص 424والخزانة 1/ 573/ 575 وشرح أبيات المغني 7/ 203، والبيت للعباس بن مرداس كما نسبه السيوطي في شواهد المغني 2/ 908قال البغدادي في الخزانة وشرح أبيات المغني: البيتان من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلوها ونقل العيني عن الموعب كتاب في اللغة لثمام بن غالب الأندلسي أنهما للعباس بن مرداس الصحابي، والله أعلم. ثم أضاف في الخزانة:
وكذا رأيته أنا في شرح ابن يسعون على شواهد الإيضاح لأبي علي الفارسي منسوباً إلى العباس بن مرداس. ا. هـ. منه. وانظر ترجمة العباس بن مرداس الصحابي في الإصابة 2/ 262.
قوله: حنين العجول: الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها. والعجول من الإبل: الواله التي فقدت ولدها بذبح أو موت أو هبة. ونوح الحمامة:
صوت تستقبل به صاحبها. والهديل: قال ابن قتيبة في أدب الكاتب ص 211210: العرب تجعله مرة فرخاً تزعم الأعراب أنه كان على عهد(2/431)
فإنّ ذكرت فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا ضعّفت منه العين أو نقلته بالهمزة تعدّى إلى مفعول آخر، وذلك نحو فرّحته وأفرحته، وغرّمته وأغرمته.
فمن قال: {فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} كان ممن جعل التعدية بالتضعيف، ومن قال: {فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا} كان ممن نقل بالهمزة وكلاهما سائغ.
ومن حجة من قال: {فَتُذَكِّرَ} قوله تعالى (1): {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى ََ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات / 55] فهذا مضارعه ينبغي أن يكون يذكّر.
وقول ابن كثير (2) وأبي عمرو مثل أغرمته وأفرحته، وقول الباقين على غرّمته وفرّحته. والمفعول الثاني من قوله سبحانه (3):
{فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} محذوف. المعنى: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي احتملتاها.
وروي عن سفيان بن عيينة في قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ}، أي: تجعلها ذكراً (4)، وأحسب أنّ أحداً من أهل
__________
نوح عليه السلام، فصاده جارح من جوارح الطير، قالوا فليس من حمامة إلّا وهي تبكي عليه، ومرة يجعلونه الطائر نفسه، ومرة يجعلونه الصوت.
انتهى من الخزانة وشرح أبيات المغني.
(1) سقطت من (ط).
(2) انظر ترجمته في 1/ 8.
(3) سقطت من (ط).
(4) نقله الطبري في تفسيره 3/ 125قال: حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم(2/432)
التأويل، لم يذهب إلى ذلك غيره، وليس هو في المعنى بالقوي، ألا ترى أنّهنّ لو بلغن ما بلغن ولم يكن معهنّ رجل لم تجز شهادتهنّ حتى يكون معهنّ رجل (1). فإذا كان الأمر على هذا لم يذكّرها (2). والحاجة في إنفاذ (3) الشهادة إلى الرجل قائمة.
ومما يبعّد قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا}، والضلال قد فسّره أبو عبيدة: بالنسيان (4)، فالذي ينبغي أن يعادله ما هو مقابل للنسيان من التذكير.
فأمّا من ذهب في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} وقوله: إنّ الجزاء فيه مقدّم، أصله التأخير، فلمّا تقدّم اتّصل بأوّل الكلام، ففتحت أن فإنّ هذه دعوى لا دلالة عليها، والقياس على ما عليه كلامهم يفسدها، ألا ترى أنّا نجد الحرف العامل
__________
ابن سلّام أنّه قال: حدثنا عن سفيان بن عيينة أنّه قال: ليس تأويل قوله:
«فتذكر إحداهما» من الذّكر بعد النسيان، إنّما هو من الذّكر، بمعنى أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر.
(1) هذا ما ذهب إليه الأحناف وغيرهم «انظر فتح القدير لابن الهمام 6/ 91 في كتاب الرجوع عن الشهادة» وهذا ما عدا الحدود فإن شهادة المرأة في الحدود لا تثبت، وقال الشافعي رحمه الله: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها: انظر شرح فتح القدير 6/ 6و 62وتقبل شهادتها فيما يتعلق بأمور النساء مما لا يطلع عليه الرجال، ولو كانت واحدة والثنتان أحوط وبه قال الإمام أحمد، وشرط الشافعي أربعا ومالك ثنتين. انظر شرح فتح القدير 6/ 8، 9.
(2) في (ط): تذكّرها وكلاهما بمعنى.
(3) في (م): نفاذ.
(4) في مجاز القرآن 1/ 83سبق في ص 424.(2/433)
إذا تغيرت حركته لم يوجب ذلك تغييراً في عمله ولا معناه؟.
وذلك فيمن فتح اللّام الجارة مع المظهر فقال: لزيد ضربت، وضربت لزيد، روى أبو الحسن فتح هذه اللّام عن يونس، وعن أبي عبيدة وعن خلف الأحمر، وزعم أنّه سمع هو ذلك من العرب، قال: وعلى ذلك أنشدوا:
تواعدني ربيعة كلّ يوم ... لأهلكها (1) وأقتني الدّجاجا (2)
فكما أنّ هذه اللّام لما فتحت لم يتغيّر من عملها ومعناها شيء عمّا كان عليه في الكسر، كذلك {أَنْ} الجزاء لو فتحت لم يجب على قياس اللّام أن يتغيّر له (3) معنى ولا عمل. ومما يبعّد ذلك: أنّ الحروف العاملة إذا تقدمت كانت مثلها إذا تأخّرت، لا تتغيّر (4) بالتقدّم عمّا كانت عليه في التأخّر. ألا ترى أنّ من قال: بزيد مررت، وإلى عمرو ذهبت. فقدّم الحرف كان تقديمه مثل تأخيره، لا يغيّر التّقديم شيئاً كان عليه في التأخير؟ وممّا يبعّد ذلك قولهم: ربّ غارة، وربّت غارة، وربّتما غارة، وربّ هيضل (5)، فكما لم يختلف في التخفيف عن
__________
(1) رواية (ط): لأهلكها، بضم الكاف.
(2) لم نعثر على قائله.
(3) في (ط): لها.
(4) في (ط): لا تغير لها.
(5) ورد هذا اللفظ في شعر لأبي كبير الهذلي:
أزهير إن يشب القذال فإنّني
رب هيضل مرس لففت بهيضل
والهيضل جماعة. فإذا جعل اسماً قيل هيضلة. انظر اللسان / هضل / وقال السكري في شرح ديوان الهذليين ص 1070: «الهيضل والهيضلة واحد، وهم الجماعة من الناس يغزى بهم».(2/434)
حال التثقيل، ولحاق حرف التأنيث به، وكذلك ثمّ وثمّت، كذلك ينبغي أن لا يتغير (1) {أَنْ}، بل {أَنْ} أجدر أن لا تتغيّر لأنّ التغيير بالحركة أيسر من التغيير بحذف حرف وزيادة آخر، وكذلك الحذف من «إنّ، وكأنّ» لم يغيرهما عن عملهما، ولا يلزم من حيث تغيّرت، إنّ المكسورة بالحذف فدخلت على الفعل {أَنْ} تتغير (2) بإبدال حركة وتغييرها لأنّ الحذف والتغيير في إنّ أكثر.
وممّا يبعّد ذلك أنّ الحرف قد أبدل (3) منه غيره، وهو مع الإبدال، يعمل عمله غير مبدل، وذلك نحو بدل الواو من الباء في: «والله» وبدل التاء من الواو في {تَاللََّهِ}، فإذا كانت هذه الحروف مع التغيير الحادث فيها من الحذف منها، والتغيير باختلاف حركاتها ليست تزول عمّا كانت عليه من العمل والمعنى فأن لا تتغير أن بكسر الهمزة منها أجدر.
ومما يفسد ذلك إبدالهم الألف من نون إذن ألا ترى أنّها إذا أبدلت كان عملها ومعناها على ما كان قبل الإبدال؟، وإبدال الحرف أكثر من تغيير الحركة، فلو كان لما ذكره مجاز أو (4) مساغ، لكان ذلك في هذه الحروف المغيرة أيضاً، فإن لم يكن ذلك فيها مع ما ذكرنا من ضروب التغيير اللّاحق لها ما يبيّن أنّ ما ذهب إليه يفسده ما عليه مقاييس كلامهم، وما كان من هذا الضرب من الدعاوى التي يفسدها ردّها إلى ما ذكرناه ساقط.
__________
(1) في (ط): «تتغير».
(2) في (م): «بأنّ يتغير».
(3) في (ط): يبدل.
(4) في (م): «ومساغ».(2/435)
البقرة: 282
واختلفوا (1) في قوله تعالى (2): {تِجََارَةً حََاضِرَةً} [البقرة / 282] في رفعها ونصبها (3).
فقرأ عاصم وحده {تِجََارَةً} نصباً. وقرأ الباقون: بالرفع.
[قال أبو بكر]: وأشكّ في ابن عامر (4).
قال أبو علي: {كََانَ} كلمة استعملت على أنحاء:
أحدها: أن تكون بمنزلة حدث، ووقع، وذلك قولك: قد كان الأمر، أي وقع وحدث، والآخر: أن تخلع منه معنى الحدوث فتبقى الكلمة مجردة للزّمان، فتلزمها (5) الخبر المنصوب.
ونظير خلعهم معنى الحدث من كان وأخواتها، خلعهم معنى الاسم من التاء والكاف اللتين للخطاب في قولهم: أنت وذلك، والنّجاءك (6)، وذلك قولك: كان زيد ذاهباً. والثالث:
أن تكون بمعنى صار.
أنشد أحمد بن يحيى (7):
بتيهاء قفر والمطيّ كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (8)
__________
(1) سقطت الواو من (ط).
(2) في (ط): عز وجل.
(3) في (ط): في رفعهما ونصبهما.
(4) السبعة ص 194وما بين معقوفين زيادة منه.
(5) في (ط) فيلزمها.
(6) النجاءك: قال في تاج العروس (نجو) يمدّ ويقصر أي (أسرع) أصله:
النجاء. أدخلوا الكاف للتخصيص بالخطاب ولا موضع لها من الإعراب. قال ابن الأثير: هو مصدر منصوب بفعل مضمر، أي: أنجو النجاء (النهاية 5/ 25).
(7) هو أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة ولد سنة مائتين. وتوفي سنة 291هـ. انظر بغية الوعاة 1/ 396.
(8) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في ديوانه ص 119ضمن أبيات خمسة هو(2/436)
أي: صارت، فيجوز أن يكون من هذا قوله تعالى (1):
{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم / 29]، أي صار في المهد.
والرابع: أن تكون زيادة، وذلك: قولهم: ما كان أحسن زيداً، المعنى فيه: ما أحسن زيداً، وأنشد لبعض البغداديين:
سراة بني أبي بكر تساموا ... على كان المسوّمة الجياد (2)
__________
رابعها. وهو من شواهد شرح الكافية للرضي 4/ 189والأشموني 1/ 230، والمعاني الكبير 1/ 213بدون عزو وعزاه في الحيوان 5/ 575 وتاج العروس / بيض / والخزانة 4/ 33لابن أحمر، ونسبه ابن يعيش في شرح المفصل 7/ 102لابن كنزة، وفي اللسان (طبعة صادر) (بيض) عجزه، ووقع محرفاً، وبرواية:
«على قفرة طارت فراخاً بيوضها».
فحرّف: «كانت» بكلمة «طارت» ولم أر من ذكره بهذه الرواية. وفي الخزانة والتاج برواية: أريهم سهيلًا والمطي كأنها قطا الحزن البيت.
وذكر البغدادي أنها الرواية التي في عامة نسخ شعره.
(1) سقطت من (ط).
(2) البيت في سر صناعة الإعراب 1/ 298ومن شواهد الرضي في شرح الكافية 4/ 190وابن هشام في أوضح المسالك 1/ 181وشرح المفصل لابن يعيش 7/ 98، 100والأشموني 1/ 241والخزانة 4/ 33والعيني 2/ 41 والتصريح 1/ 192ويس 1/ 191وهمع الهوامع 1/ 120والدرر 1/ 89 وذكره ابن عصفور في الضرائر ص 78والبيت مروي عن الفراء ولم ينسبه أحد إلى قائل. وهو فيما تقدم من المصادر برواية «العراب» بدل «الجياد» وهي التي أشار إليها في نسخة (م) بقوله: «في أخرى: العراب» وهذه العبارة زيادة ليست في (ط) ولعلها زيادة على الأصل الذي بين أيدينا.(2/437)
في أخرى: العراب (1).
فأمّا موضع أن في (2) قوله: {إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً حََاضِرَةً تُدِيرُونَهََا بَيْنَكُمْ} [البقرة / 282] فنصب، المعنى: ولا تسأموا كتابته إلّا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم.
أي: يداً بيد لا أجل فيه، فلا يحتاج في تبايع ذلك إلى التّوثّق باكتتاب الكتاب، ولا (3) ارتهان الرهن، لوقوع التقابض في المجلس، ومثل موضع «أن» هذه في النصب موضع التي في قوله: {إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً عَنْ تَرََاضٍ مِنْكُمْ}
[البقرة / 282] فالعامل في قوله: «أن» تكون من قوله: إلّا أن تكون تجارة عن تراض منكم، قوله عزّ وجلّ (4): {لََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ} [النساء / 29] بتوسّط إلّا، وكلا الاستثناءين منقطع.
وزعم سيبويه: أنّه قد نصب في القراءة {تِجََارَةً عَنْ تَرََاضٍ مِنْكُمْ} (5).
__________
والبيت مع آخر قبله في عبث الوليد ص 73برواية: «المطهمة الصّلاب».
وللبيت روايات: تسامى وتساقوا، وسراة وجياد، ومسومة ومطهمة والصلاب والعراب
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): من.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) انظر سيبويه 1/ 377، وفي البحر 2/ 353: قرأ عاصم: «تجارة حاضرة» بنصبهما. على أن كان ناقصة وقرأ الباقون برفعهما على أن يكون «تكون» تامة وتجارة فاعل.(2/438)
فأمّا حجة من رفع: فإنّه جعل كان بمعنى وقع وحدث كأنّه: إلّا أن تقع تجارة حاضرة، ومثل ذلك في الرفع قوله:
{وَإِنْ كََانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} [البقرة / 280] المعنى فيه على الرفع وذلك أنه لو نصب، فقيل: وإن كان ذا عسرة لكان المعنى: وإن كان المستربي ذا عسرة فنظرة، فتكون النظرة مقصورة عليه وليس الأمر كذلك لأنّ المستربي، وغيره، إذا كان ذا عسرة فله النظرة. ألا ترى أنّ المستربي والمشتري وسائر من لزمه حقّ إذا كان معسراً فله النظرة إلى الميسرة؟ فكذلك المعنى في قوله: {إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً حََاضِرَةً}، إلّا أن تقع تجارة حاضرة في هذه الأشياء التي اقتصّت، وأمر فيها بالتوثقة (1) بالشهادة والارتهان، فلا جناح، في ترك ذلك فيه لأن ما يخاف في بيع النّساء، والتأجيل يؤمن في البيع يداً بيد.
ومما جاء فيه كان بمعنى وقع قول أوس (2):
هجاؤك إلّا أنّ ما كان قد مضى (3) * عليّ كأثواب الحرام المهينم ومن ذلك قول الشاعر (4):
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
__________
(1) في (ط): بالوثيقة.
(2) البيت في ديوانه ص 121من قصيدة طويلة. هو الرابع والعشرون منها وذكره ابن قتيبة في المعاني الكبير بدون نسبه ص 484، 1177.
وابن دريد في الجمهرة 3/ 356، ولم ينسبه ولكنه ذكره بعد أن قال: قال الراجز ا. هـ. وهذا غريب! لأن البيت ليس من الرجز، بل من الطويل، وأوس من الشعراء وليس من الرجاز.
(3) جاء في (م) كلمة «بيننا» فوق كلمة «قد مضى».
(4) البيت بهذه الرواية ملفق من بيتين أنشدهما سيبويه متتابعين وهما:(2/439)
فهذا أيضاً من باب وقع ولا يكون (أشنع) خبراً لأنّك لو جعلته خبراً لم تستفد به إلّا ما استفدت (1) بما تقدّم، فلم يجيء الخبر هكذا كما جاء الحال في نحو قوله (2).
كفى بالنأي من أسماء كافي وأمّا وجه قول من نصب فقال: {إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً حََاضِرَةً}، فالذي في الكلام الذي تقدّمه مما يظن أنّه يكون اسم كان ما دلّ عليه: {تَدََايَنْتُمْ}، من قوله {إِذََا تَدََايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}، و {الْحَقُّ} من قوله: {فَإِنْ كََانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} فلا يجوز أن يكون التداين اسم كان، لأنّ حكم، الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتداين حقّ في ذمّة المستدين، للمدين المطالبة (3) به، فإذا كان ذلك لم يكن اسم
__________
(1) قول مقاس العائذي:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
2 - وقول عمرو بن شأس:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
انظر الكتاب 1/ 21، 22وبيت مقاس في المقتضب 4/ 96وابن يعيش 7/ 98. وبيت عمرو بن شأس برواية المصنف استشهد به التبريزي في شرح الحماسة 1/ 201في خبر أبيات حصين بن حمام المري.
(1) في (ط): تستفيد.
(2) صدر بيت لبشر بن أبي خازم الأسدي وعجزه: وليس لحبها إذ طال شافي.
انظر ديوانه / 142والمقتضب 4/ 22والكامل ص 729والخصائص 2/ 268والمنصف 2/ 115وابن الشجري 1/ 183، 283، 296، 298، والمفصل بشرح ابن يعيش 6/ 51، 10/ 103. والخزانة 2/ 261. ورغبة الآمل 6/ 128.
(3) في (ط): «المطالبة» بدل «المطالبة به».(2/440)
كان، لأنّ التداين معنى، والمنتصب يراد به العين، ومن حيث لم يجز أن يكون التداين اسم كان، لم يجز أن يكون الحقّ اسمها، لأنّ الحقّ يراد به الدين في قوله: {فَإِنْ كََانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} فكما لم يجز أن يكون التداين اسمها، كذلك لا يجوز [أن يكون] (1) هذا في {الْحَقُّ}، فإذا لم يجز ذلك لم يخل اسم كان من أحد شيئين:
أحدهما أنّ هذه الأشياء التي اقتصّت من الإشهاد والارتهان قد علم في (2) فحواها التبايع فأضمر التبايع لدلالة الحال عليه، كما أضمر لدلالة الحال فيما حكاه من قوله: إذا كان غدا فأتني، أو يكون أضمر التجارة، كأنّه: إلّا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. ومثل ذلك قول الشاعر (3):
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
أي: إذا كان اليوم يوماً، فأمّا التجارة فهي (4) تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء بذلك، وهو اسم حدث واشتقّ التاجر منه إلّا أنّ المراد به في الآية العين، ولا يخلو وقوع اسم الحدث (5) على هذا المعنى الذي وصفناه من أحد ثلاثة أشياء:
إمّا أن يكون المراد: إلّا أن يقع ذو تجارة أي: متاع ذو تجارة.
والآخر: أن يراد بالتجارة: المتّجر فيه الذي هو: عين،
__________
(1) هكذا في ط وسقطت من م.
(2) في (ط): من.
(3) سبق في الصفحة 439.
(4) في (م): «فهو».
(5) في (ط) وقوع الحدث.(2/441)
فيكون كقوله: هذا الدرهم ضرب الأمير، وهذا الثوب نسج اليمن، أي مضروبه ومنسوجه، وكذلك {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللََّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة / 94] أي المصيد.
ألا ترى أن الأيدي والرماح إنّما تنالان الأعيان.
والثالث: أن يوصف بالمصدر فيراد به العين كما يقال:
عدل، ورضى، يراد به عادل ومرضيّ، وعلى هذا قالوا: عدلة، لما جعلوه الشيء بعينه. وليس هذا كالوجه الذي قبله لأنّ ذاك مصدر يراد به المفعول، وليس هذا مقصوراً على المفعول، فالمراد بالمصدر الذي هو تجارة: العروض وغيرها مما يتقابض، يبيّن ذلك وصفها بالحضور وبالإدارة بيننا، وهذا من أوصاف الأعيان، والاسم المشتق من هذا الحدث يجري مجرى الصفات الغالبة ولذلك كسّر تكسيرها في قولهم: تاجر وتجار، كما قالوا: صاحب وصحاب، وراع ورعاء، قال الشاعر (1):
كأنّ على فيها عقاراً مدامة ... سلافة راح عتّقتها تجارها
البقرة: 283
اختلفوا في ضمّ الرّاء وكسرها وإدخال الألف وإخراجها، وضمّ الهاء وتخفيفها من قوله تعالى (2): فرهن مقبوضة [البقرة / 283].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فرهن، واختلف عنهما
__________
(1) البيت من قصيدة طويلة لأبي ذؤيب الهذلي يرثي نشيبة بن محرّث في شرح أشعار الهذليين 1/ 73الثاني عشر منها. والخمر العقار: التي تعاقر الدّنّ أو العقل، أي: تلزمه. والسلاف: أول ما يخرج من المبزل. عتّقتها: تركتها حتى قدمت.
(2) في (ط): عز وجل.(2/442)
فروى عبد الوارث (1) وعبيد بن عقيل (2) عن أبي عمرو:
فرهن ساكنة الهاء.
وروى اليزيديّ عنه فرهن بضم الهاء. وروى عبيد بن عقيل عن شبل (3) ومطرّف الشّقريّ (4) عن ابن كثير فرهن ساكنة الهاء.
وروى قنبل (5) عن النبال (6) والبزّيّ (7) عن أصحابهما، ومحمد بن صالح المرّيّ (8) عن شبل عن ابن كثير: فرهن
__________
(1) سبقت ترجمته 1/ 376.
(2) سبقت ترجمته 1/ 341.
(3) سبقت ترجمته 1/ 341.
(4) الشقري أبو بكر مطرّف بن معقل الشقريّ التميمي السعدي قاله أبو عبيد القاسم بن سلام. انظر الأنساب للسمعاني 7/ 363والذي في طبقات القراء 2/ 300: مطرف بن معقل أبو بكر النهدي، ويقال: الباهلي البصري ثقة معروف
(5) قنبل أبو عمر محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد بن جرجة المخزومي (مقرئ مكة) مولاهم المكي ولد سنة 195وتوفي 291انظر معرفة القراء 1/ 186وجعله من الطبقة السابعة.
(6) أبو الحسن أحمد بن محمد بن علقمة المعروف بالقواس إمام مكة في القراءة، قرأ على وهب، وقرأ عليه قنبل وغيره توفي 240أو 245انظر طبقات القراء 1/ 123.
(7) البزي: أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة الإمام أبو الحسن البزي المكي مقرئ مكة ومؤذن المسجد الحرام ولد سنة 170وتوفي 250محقق ضابط متقن قرأ على أبيه عبد الله بن زياد وعكرمة بن سليمان ووهب بن واضح قرأ عليه إسحاق بن محمد الخزاعي والحسن بن الحباب وأحمد بن فرح وغيرهم وروى عنه القراءة قنبل، وروى حديث التكبير من آخر الضحى وقد أخرجه له الحاكم في المستدرك انظر طبقات القراء 1/ 119.
(8) المري: محمد بن صالح أبو إسحاق المري البصري الخياط. روى الحروف(2/443)
مضمومة الهاء.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {فَرِهََانٌ}
بألف مكسورة الراء (1).
قال أبو علي: قال أبو زيد: رهنت عند الرجل رهنا ورهنته رهنا، فأنا أرهنه: إذا وضعته عنده. وارتهن فلان من رجل رهنا ارتهانا: إذا أخذه منه، وقد أرهنت في السلعة من مالي حتى أدركتها إرهانا، وذلك إذا غاليت بها في الثمن، فالارتهان في المغالاة وفي القرض والبيع: الرّهن، قال الشاعر (2):
يطوي ابن سلمى بها عن راكب بعداً ... عيديّة أرهنت فيها الدّنانير
__________
سماعا عن شبل بن عباد، روى القراءة عنه عرضاً محمد بن عبد الله القاسم بن أبي بزة وروى عنه الداني أنّه قال: سألت شبل بن عباد عن قراءة أهل مكة فيما اختلفوا فيه، وفيما اتفقوا عليه فقال: إذا لم أذكر ابن محيصن فهو المجتمع عليه، وإذا ذكرت ابن محيصن فقد اختلف هو وعبد الله بن كثير وذكر القراءة. طبقات القراء 2/ 155.
(1) السبعة 195194.
(2) البيت الأول في تهذيب اللغة 6/ 274ولم يعزه لأحد. قال الأزهري: بها:
بإبل. عيدية: نجب منسوبة إلى بنات العيد، وهو فحل معروف كان منجباً اهـ.
وقال ابن سيده في المخصص السفر 7/ 135: العيدية: نوق تنسب إلى حيّ يقال له بنو العيد، وقيل نسبت إلى عاد بن عاد، وقيل: إلى عادي بن عاد فهو إذا على ذلك من شاذ النسب، وقيل نسبت إلى فحل يقال له: عيد، وهو نجيب كريم وأولاده نجب. اهـ. وقريب مما ذكره ابن سيدة في المخصص هو في اللسان (عود) وأنشد البيت لرذاذ الكلبي برواية:
ظلّت تجوب بها البلدان ناجية عيدية البيت.
وذكره في مادة (رهن) برواية المصنف وأشار إلى الرواية الثانية. وفي الصحاح (عود) عجزه، وأنشده بالرواية الثانية لرذاذ الكلبي أيضاً صاحب(2/444)
كأنّها بحسير الرّيح صادية ... وقد تحرّز ملحرّ (1) اليعافير وأرهنّا بيننا خطراً إرهانا، وهو أن يبذلوا من الخطر ما يرضى به القوم بالغا ما بلغ، فيكون لهم سبقا، وأخطرت لهم خطراً إخطاراً وهو مثل الإرهان. وأنشد غير أبي زيد للعجاج (2):
وعاصما سلّمه من الغدر ... من بعد إرهان بصمّاء الغبر
فقال بعض أصحاب الأصمعي: إرهان: إثبات وإدامة.
ويقال: أرهن لهم الشرّ أي أدامه، وقال أبو موسى: رهن لهم، أي: دام، وأنشد (3):
__________
التاج في (عود) ولم تذكر المصادر السابقة البيت الثاني. وجاء البيت في البحر المحيط 2/ 342بدون نسبة، وصحفت فيه كلمة «بعدا» إلى «بعراً» بالراء.
وقوله: بعداً، جاء في اللسان (بعد): البعد، بالضم، وبعد، بالكسر، بعدا وبعدا، فهو بعيد وبعاد، عن سيبويه، أي: تباعد وجمعها: بعداء. ثم نقل عن الصحاح: البعد، بالتحريك، جمع باعد، مثل: خادم وخدم.
وقوله: ملحرّ أي: من الحرّ، واليعافير ج اليعفور: الظبي الذي لونه كلون العفر وهو التراب وقيل: هو الخشف اهـ اللسان (عفر) والحسير:
الكليل، وحسير الريح: الريح المقطوعة الضعيفة. قال في اللسان (حسر) العرب تقول: حسرت الدابة إذا سيّرتها حتى ينقطع سيرها. اهـ
(1) رسمها في (م): «مالحرّ» ووضع فوقها كلمة: «صل» إشارة إلى وصلها.
وأثبتنا ما في (ط) لعدم التكلف.
(2) البيت في ديوان العجاج 1/ 93، وعاصم: لص كان حبسه مروان بن الحكم ثم أرسله، والصماء: الداهية التي لا تجيب، والغبر: البقاء، وإرهان: إثبات.
(3) هذا صدر بيت عجزه: وقهوة راووقها ساكب. في اللسان (رهن) دون نسبة وفي شرح ديوان العجاج 1/ 93. ورواية (ط): واللحم والخبز.(2/445)
والخبز واللحم لهم راهن فقد فسروا الرهن بالإثبات والإدامة، فمن ثم يبطل الرهن إذا خرج من يد المرتهن بحق لزوال إدامة الإمساك، والرّهن الذي يمسكه المرتهن توثقة لاستيفاء ماله من الراهن: اسم مصدر كما كان الكتاب كذلك في قوله تعالى (1): وكتابه [التحريم / 12] وهذه المصادر إذا نقلت فسمّي بها يزول عنها عمل الفعل، وذلك فيها إذا صارت على ما ذكرنا بيّن، إذ لم يعملوا من المصادر ما كثر استعمالهم له، كما ذهب إليه في قولهم: لله درّك، وتمثيله إياه بقولهم: لله بلادك، فإذا قال:
رهنت زيداً رهناً وارتهنت رهنا، فليس انتصابه انتصاب المصدر، ولكن انتصاب المفعول به كما تقول: رهنت زيداً ثوباً، ورهنته ضيعة.
وقد قالوا في هذا المعنى: أرهنته، وفعلت فيه أكثر.
قال الأعشى (2):
حتى يفيدك من بنيه رهينة ... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا
وقال آخر:
فلمّا خشيت أظافيره ... نجوت وأرهنتهم مالكا (3)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) البيت في ديوانه 231والبحر المحيط 2/ 343وفيه: يقيد له بالقاف وهو تصحيف مع بيت آخر قبله سيذكره المصنف بعد قليل.
(3) البيت في البحر المحيط 2/ 342واللسان (رهن) لهمام بن مرة، وجعله اللسان مطلع أبيات أربعة.
وفي تهذيب الأزهري 6/ 274، والصحاح رهن لعبد الله بن همام السلوليّ ورواية البيت في المصادر السابقة ما عدا الأزهري.(2/446)
وقال آخر:
يراهنني فيرهنني بنيه ... وأرهنه بنيّ بما أقول (1)
فرهنت في كل هذه الأبيات قد تعدى إلى مفعولين، فكذلك إذا قال: رهنت زيداً رهناً، فالرهن مصدر، ولمّا نقل فسمّي به ما ذكرت كسّر كما تكسّر الأسماء، كما كسّر غيره من المصادر المسمى بها.
وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء (2)
لكان قياسه أفعل، مثل كلب وأكلب، وفلس وأفلس، وكأنّه استغني ببناء الكثير عن القليل كما استغني (3) ببناء الكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع (4)، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في نحو: رسن وأرسان، فرهن جمع على بناءين من أبنية الجموع، وهو فعل وفعال وكلاهما من أبنية الكثير فممّا جاء على فعل. قول الأعشى (5):
آليت لا أعطيه من أبنائنا ... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
فرهن: جمع رهن، ثم يخفّف (6) العين كما خفّف في
__________
«أظافيرهم» بدل «أظافيره».
(1) البيت في اللسان (رهن) ونسبه إلى أحيحة بن الجلاح.
(2) في (ط): ولو كان جاء.
(3) في (ط): كما استغنوا.
(4) في اللسان (شسع): شسع النعل: قبالها الذي يشدّ زمامها، والجمع:
شسوع لا يكسر إلّا على هذا البناء.
(5) البيت في ديوانه 229وفيه: لا نعطيه بدل لا أعطيه. واللسان رهن وسبقت الإشارة إليه قريباً.
(6) في (ط): خفّف.(2/447)
رسل وكتب ونحو ذلك فقيل: رسل وكتب. ومثل رهن ورهن، سقف وسقف، وفي التنزيل: {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ}
[الزخرف / 33] ومثل تخفيفهم الرّهن وقولهم: رهن أنّهم جمعوا أسداً على أسد، ثم خفّفوا فقالوا: أسد قال:
كأنّ محرّبا من أسد ترج ... ينازلهم لنابيه قبيب (1)
ومثل رهن ورهن فيما حكاه أبو الحسن: لحد القبر، ولحد، وقلب وقلب، لقلب النخلة، وقالوا: ثطّ (2)، وثطّ، وورد وورد (3)، وسهم حشر، وسهام حشر (4).
فإن قلت: أيجوز أن يكون رهان جمع رهن، ولا يكون جمع رهن. فالقول: إنّ سيبويه (5) لا يرى جمع الجمع مطّرداً، فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يعلم، فإذا كان رهن قد صار مثل كعب، وكلب، قلنا (6): إنّ «رهان» مثل كعب وكعاب، ولم يجعله جمع الجمع إلّا بثبت. فإن قلت: إنّهم
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1/ 110وديوانهم 1/ 97 والمحرّب: الأسد المغيظ المغضب. ترج: واد. قبيب: صوت يقبقب، وهي: القبقبة، وانظر اللسان (قبب).
(2) رجل ثطّ: ثقيل البطن بطيء. انظر اللسان / ثطط /.
(3) قال في التاج (ورد): فرس ورد وجمعه ورد، بضم فسكون مثل: جون وجون.
(4) في اللسان (حشر): سهم محشور وحشر: مستوي قذذ الريش، قال سيبويه: سهم حشر وسهام حشر. اه. منه.
(5) قال سيبويه في 2/ 200: «اعلم أنه ليس كل جمع يجمع، كما أنّه ليس كل مصدر يجمع كالأشغال والعقول والحلوم والألباب».
(6) في (ط): قلت.(2/448)
قد جمعوا فعلا في قولهم: طرقات وجزرات، وحكى أبو عثمان أنّ الرّياشي حكى أنّه سمع من يقول: عندنا معنات (1)، فإذا جمعوه هذا الجمع جاز أن يكسّر أيضاً لاجتماع البابين (2) في التكسير والتصحيح في أنّ كلّ واحد منهما جمع فهذا قياس، التوقف عنه نراه أولى، وقد ذهب إليه ناس. وكذلك لو قال:
إنّ فعل مثل فعال، في أنّ كلّ واحد منهما بناء للعدد الكثير، وقد كسّروا «فعالًا» (3) في نحو قول ذي الرّمة (4).
وقرّبن بالزّرق الجمائل بعد ما ... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر
فيكون رهان جمع رهن لا جمع رهن، وجمعوا فعلًا، على فعال، كما جمعوا فعالًا على فعائل في قولهم: جمائل، لم نر هذا القياس لأنّه إذا جمع شيء من هذا لم يجز قياس الآخر عليه عنده، حتى يسمع، وليست الجموع عنده في هذا كالآحاد.
__________
(1) المعن: الماء الظاهر أو السائل، والجمع معن ومعنات. انظر اللسان (معن).
(2) في (ط): البناءين.
(3) في (م): فعال.
(4) البيت في ديوانه 1/ 566. والمسلسل في غريب اللغة ص 79والحيوان 3/ 430والصحاح (خطر) وشروح سقط الزند بشرح الأصمعي 4/ 1536 و 1537. واللسان (جمل، غرب، خطر، زرق) والتاج (غرب) وهنالك اختلاف يسير في رواية البيت في المصادر. وفي شرح الديوان: الزرق: أكثبة الدهناء تقوب: تقشّر، غربان أوراكها: طرف رءوس الأوراك الذي يلي الذنب. والخطر: أن يخطر بذنبه فيصير على عجزه لبد من أبواله ومعنى البيت: تقوّب غراباه لأنّه يأكل الرطب فيسلح به على ذنبه ثم يخطر فيضرب به بين وركيه، فإذا أصابه الصيف وضربه الحر انسلخ الشّعر عن موضع خطره بذنبه، فهو حيث يتقوب.(2/449)
قال أحمد بن موسى: قرأ حمزة وعاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم وحفص عن عاصم {الَّذِي اؤْتُمِنَ} [البقرة / 283] بهمزة وبرفع الألف، ويشير بالضم إلى الهمز (1).
قال أحمد: وهذه الترجمة غلط.
وقرأ الباقون: الذي ائتمن (2) الذال مكسورة، وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام الضمّ، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره.
وروى خلف وغيره عن سليم عن حمزة: {الَّذِي اؤْتُمِنَ}، يشمّ الهمزة الضمّ، وهذا خطأ أيضاً، لا يجوز إلّا بتسكين الهمزة (3).
قال أبو علي: لا تخلو الحركة التي أشمّوها الهمزة من أن تكون لنفس الحرف، أو تكون حركة حرف قبل الهمزة أو بعدها: فلا يجوز أن تكون الحركة لنفس الحرف الذي هو الهمزة، لأنّ الحرف ساكن لا حظّ له في الحركة، وذلك (4) أن {اؤْتُمِنَ} افتعل من الأمان، والفاء من افتعل ساكنة في جميع الكلام صحيحه ومعتلّه، تقول: اقتتل اقترع، ايتكل، ايتجر، اختار، انقاد، اتّعد، ارتدّ (5)، اتّزن، فتكون فاء افتعل في
__________
(1) في (ط): «الهمزة».
(2) رسمها في (م): «اؤتمن» وكتب فوق الكلمة: «صل» والذي أثبتنا من (ط) ينسجم مع المراد، والنطق.
(3) السبعة ص 194.
(4) في (ط): وذاك.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).(2/450)
جميع هذه الأبنية ساكنة، ولا يجوز أن تكون حركة حرف قبلها (1) لأنّ حركة ما قبل لم تلق على ما بعد في شيء علمناه، كما تلقى حركة الحرف على ما قبله في نحو: استعدّ، واستمرّ، وقيل، واختير، وردّ، والخب (2) ونحوه.
فإذا لم يكن لشيء من هذه الأقسام مساغ ثبت أن الحركة لا تجوز فيها على الإشمام، كما لا تجوز فيها (3) على الإشباع، فإن قيل: إن هذا الإشمام إنّما هو ليعلم أنّ قبلها همزة وصل مضمومة، وذلك أنّك إذا ابتدأت قلت: اؤتمن.
قيل: فهذا يلزم قائله أن يقول في نحو: {إِلَى الْهُدَى ائْتِنََا}
[الأنعام / 71] أن يشير إلى الهمز بالكسر، وكذلك يلزمه أن يشير إلى الكسر في قوله: {فَأْتِنََا بِمََا تَعِدُنََا} [الأعراف / 70] وفي قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة / 49] ونحو ذلك أن يشير إلى الكسر في الهمز لأنّ قبل الهمزة في كل ذلك في الابتداء همزة مكسورة كما كانت في قوله {اؤْتُمِنَ}
في الاستئناف همزة مضمومة. فإن مرّ على قياس هذا الذي لزم كان مارّاً على خطأ وآخذاً به من غير وجه. ومن ذلك أنّ الحرف الذي بعد الحرف لا يحرّك بحركة ما قبله، كما يحرّك الحرف الذي قبل الحرف لحركة الحرف الذي بعده نحو:
__________
(1) في (ط): قبله.
(2) أصلها «الخبء» من قوله تعالى من سورة النمل / 25: «ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض» قال في البحر المحيط 7/ 69: قرأ الجمهور (الخبء) بسكون الباء والهمزة، وقرأ أبيّ وعيسى بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة.
(3) في (م): كما تجوز على الإشباع. والصواب ما أثبتناه من (ط).(2/451)
يستعدّ، و {يَهْدِي} (1) [يونس / 35] و {الْخَبْءَ} [النمل / 25] ونحو ذلك. ولو جاز (2) ذلك في كلامهم، لم يلزم في هذا الموضع في الإدراج وذلك أنّ همزة الوصل تسقط في الإدراج، فإذا سقطت سقطت حركتها، ولم تبق الحركة بعد سقوط الحرف، فإذا كان كذلك لم يجز أن تقدّر إلقاء حركة ما قبلها عليها لأنّها (3) ليس قبلها شيء وإذا لم يجز ذلك، تبيّن أن الهمزة لا وجه لها إلّا السكون، كما ذهب الآخرون إليه غير عاصم وحمزة من إسكانها. إلّا أنه يجوز في الهمزة (4)
التخفيف والتحقيق فمن خفف: {الَّذِي اؤْتُمِنَ} قال:
الذيتمن (5)، فحذف الياء من الذي لالتقائها ساكنة مع فاء افتعل، لأنّ همزة الوصل قد سقطت للإدراج، فيصير: ذيتمن بمنزلة: بير، وذيب، وإن حقّق كان بمنزلة من حقّق الذئب والبئر.
__________
(1) «يهدّي»: كذا جاء رسمها في الأصل وفي المصحف برواية حفص: «يهدّي» قال أبو حيان في البحر 5/ 156: قرأ أهل المدينة إلّا ورشاً: «أمّن لا يهدّي» بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدّال. فجمعوا بين ساكنين. قال النحاس: لا يقدر أحد أن ينطق به. وقال المبرد من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة. وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية كذلك، إلّا أنه اختلس الحركة. وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء، وأصله: يهتدي، فقلب حركة التاء إلى الهاء وأدغمت التاء في الدال، وقرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر كذلك، إلّا أنهم كسروا الهاء، لما اضطر إلى الحركة حرّك بالكسر، قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر. وقرأ أبو بكر في رواية يحيى بن آدم كذلك إلّا أنه كسر الياء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى ابن وثاب والأعمش: يهدي، مضارع هدى. وستأتي في موضعها من الكتاب.
(2) في (ط): ولو جاء ذلك وجاز.
(3) في (ط): لأنه.
(4) في (ط): الهمز.
(5) رسمت في (ط): الذي ايتمن.(2/452)
وليس إشمام الحركة الهمزة في قوله {الَّذِي اؤْتُمِنَ} كإشمام أبي عمرو فيما حكى سيبويه (1) من قراءاته قوله: يا صالح يتنا (2)
[الأعراف / 77] لأنّه أشمّ الحركة التي على الحاء، ولها حركة هي الضمة، ولا حركة للهمزة في: {الَّذِي اؤْتُمِنَ}.
ولم يقلب أبو عمرو الياء التي أبدلت من الهمزة التي هي فاء واواً لتشبيهه المنفصل بالمتصل نحو: قيل. ولا يلزمه على هذا أن يقول ومنهم من يقول: {ائْذَنْ لِي} لأنّه إنّما فعل ذلك في حركة بناء وحركة البناء في النداء المفرد كحركة البناء في قيل. فإذا فعل ذلك في حركة البناء، لم يلزمه أن يجري حركة الإعراب كحركة البناء، ومن شبّه حركة الإعراب بحركة البناء، وهو قياس قول سيبويه لزمه أن يشمّ الضمة في يقول الكسرة كما جاء ذلك في قيل. ولعل أبا عمرو يفصل بينهما كما فصل غيره من النحويين. وليس ذلك أيضاً كما حكاه أبو الحسن من أن بعضهم قال في القراءة: {فِي الْقَتْلى ََ الْحُرُّ} [البقرة / 178] فأشمّ الفتحة التي على اللام التي هي لام الفعل من القتلى الكسرة، كما كان يميله، والألف التي في القتلى ثابتة، لأنّ الألف التي في القتلى حذفت لالتقاء الساكنين. وقد وجدت الحذف لالتقاء الساكنين في حكم الثبات، ألا ترى أنّهم أنشدوا (3):
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 358.
(2) رسمها في (ط): «يا صالح ايتنا» بإثبات ألف الوصل. ورسمها في سيبويه: «يا صالحيتنا».
(3) لأبي الأسود الدؤلي في الكتاب 1/ 85والمقتضب 2/ 313، ومجالس ثعلب ص 123، والمنصف 2/ 231وأمالي ابن الشجري 1/ 383والانصاف لابن الأنباري ص 659والهمع 2/ 169، والدرر 2/ 230، والخزانة 4/ 554وشرح أبيات المغني 7/ 182. واللسان (عتب).(2/453)
فألفيته غير مستعتب ولا ... ذاكر (1) الله إلّا قليلًا فنصبوا الاسم مع حذف التنوين كما كانوا ينصبون مع إثباته لما كان المحذوف في حكم الإثبات.
فكذلك الألف في «القتلى» في حكم الإثبات، وإذا كان في حكمه جازت إمالة الفتحة مع حذف الألف كما جازت إمالتها مع ثباتها. ونظير ذلك من كلامهم قولهم: صعقيّ (2)، ألا ترى أنّه إنّما كسرت الصّاد لمكان كسرة العين، ثم انفتح ما كانت الفاء كسرت لكسرته فبقيت الفاء على كسرتها، فكذلك الفتحة في «القتلى» أميلت لمكان الألف، ثم ارتفع ما كان أميلت له الفتحة، وذهب، فبقيت اللّام على إمالة فتحتها كما بقيت الفاء في صعقي على كسرتها.
__________
وللبيت قصة رواها صاحب الأغاني بسنده عن أبي عوانة ملخصها: أنه تزوج امرأة فوجدها بخلاف ما قالت له قبل الخطبة فجمع أهلها الذين حضروا تزويجه إياها وطلقها انظر الأغاني 12/ 314، 315.
(1) في الأصل ضبطه بالكسر: «ذاكر الله». وبعض المصادر ترويه بالفتح كما في المقتضب، وشرح أبيات المغني قال البغدادي: قوله: ولا ذاكر الله، روي بنصب ذاكر وجره، فالنصب للعطف على غير، والجر للعطف على مستعتب، ولا: لتأكيد النفي المستفاد من غير.
(2) صعقي: نسبة إلى الصعق، وهو خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب، كان سيداً، يطعم بعكاظ، وأحرقته صاعقة، فلذلك سمي الصعق. ومن ولده الشاعر يزيد بن عمرو بن الصعق. انظر جمهرة الأنساب ص 286لابن حزم وفي القاموس (صاعقة): والنسبة: صعقي، محركة، وصعقي كعنبي، على غير قياس.(2/454)
البقرة: 285
اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله جلّ وعزّ (1): {وَكُتُبِهِ}
[البقرة / 285] هاهنا، وفي سورة التحريم [الآية: 12].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: {وَكُتُبِهِ} هاهنا جمع، وفي التحريم: وكتابه، على التوحيد.
وقرأ أبو عمرو: هاهنا وفي التحريم: {وَكُتُبِهِ} على الجمع.
وقرأ حمزة والكسائي: وكتابه على التوحيد فيهما.
وروى حفص عن عاصم هاهنا، وفي التحريم: {وَكُتُبِهِ}
مثل أبي عمرو. وخارجة عن نافع في التحريم مثل أبي عمرو (2).
قال أبو علي: قال أبو زيد: كتبت الصكّ، أكتبه كتاباً، وكتبت السقاء، أكتبه كتباً: إذا خرزته.
قال ذو الرّمّة:
وفراء غرفيّة أثأى خوارزها ... مشلشل ضيّعته بينها الكتب (3)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) انظر السبعة ص 196195وهنالك اختلاف يسير عمّا هنا.
(3) البيت في شرح ديوانه للأصمعي 1/ 11وفراء: واسعة، وغرفيّة: دبغت بالغرف وهو شجر يدبغ بورقه. أثأى خوارزها: قال الأصمعي: الثأي: أن تلتقي الخرزتان فتصيرا واحدة، المشلشل: الذي يكاد يتصل قطره (المطر).
الكتب: الخرز، الواحدة كتبة وكلّما جمعت شيئاً إلى شيء فقد كتبته وسميت الكتيبة بذلك لأنّها تكتبت واجتمعت، ومنه كتبت الكتاب: إذا جمعت حروفاً إلى حروف. وقوله: ضيّعته: يريد الكتب أي: الخرز ضيعت الماء فيما بينها فهو يشلّ.(2/455)
وكتبت البغلة (1) أكتبها كتباً (2)، إذا حزمت حياءها بحلقة حديد أو صفر، وكتبت عليها كتباً، وكتّبت الناقة تكتيباً: إذا صررتها.
فالكتاب مصدر كتب (3). وقد جاء كتب في التنزيل على غير وجه فمن ذلك أن يراد به: فرض، قال تعالى (4): {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ كَمََا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة / 183]، وقال تعالى (5): {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصََاصُ فِي الْقَتْلى ََ} [البقرة / 178] وقال: {وَكَتَبْنََا عَلَيْهِمْ فِيهََا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة / 45] وقال: {وَأُولُوا الْأَرْحََامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى ََ بِبَعْضٍ فِي كِتََابِ اللََّهِ} [الأنفال / 75] أي فيما فرض الله لهم في (6) السّهام في المواريث، أو الحيازة للتركة، ويجوز أن يعنى به التنزيل، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم، وأن يحمل على الكتاب المكتتب أولى، وذلك لقوله سبحانه (7) في أخرى: {وَأُولُوا الْأَرْحََامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى ََ بِبَعْضٍ فِي كِتََابِ اللََّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهََاجِرِينَ إِلََّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى ََ أَوْلِيََائِكُمْ مَعْرُوفاً، كََانَ ذََلِكَ فِي الْكِتََابِ مَسْطُوراً} [الأحزاب / 6] والمسطور إنّما يسطر في صحف أو ألواح، فردّ المطلق منهما إلى هذا المقيّد أولى، لأنّه أمر واحد.
وقد جاء كتب يراد به الحكم. قال تعالى (8):
__________
(1) في (ط): الدابة.
(2) «كتبا» زيادة من (ط).
(3) في (ط): كتبت.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): من.
(7) سقطت من (ط).
(8) سقطت من (ط).(2/456)
{كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة / 21] كأنه حكم، قال (1):
{وَلَوْلََا أَنْ كَتَبَ اللََّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيََا}
[الحشر / 3] أي حكم بإخراجهم من دورهم. وقال: {وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ كِتََاباً مُؤَجَّلًا} [آل عمران / 145] فانتصب كتاباً بالفعل الذي دلّ عليه هذا الكلام، وذلك (2) أنّ قوله: {وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} يدلّ على كتب، وكذلك قوله: {كِتََابَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء / 24] لأنّ في قوله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ} [النساء / 23] دلالة على كتب هذا التحريم عليكم (3) أي: فرضه، فصار كتاب الله، كقوله: {صُنْعَ اللََّهِ} [النمل / 88]، و {وَعْدَ اللََّهِ لََا يُخْلِفُ اللََّهُ وَعْدَهُ} [الروم / 6].
فأمّا قوله: {أُولََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ}
[المجادلة / 22] فإنّ معناه جمع، وقد قالوا: الكتيبة للجمع من الجيش، وقالوا للخرز التي ينضم بعضها إلى بعض: كتب، كأنّ التقدير: أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان أي:
استوعبوه واستكملوه، فلم يكونوا ممن يقول: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء / 150] وهم الذين جمعوا ذلك في الحقيقة، وأضيف ذلك (4) إلى الله تعالى (5)، لأنّه كان بتقويته ولطفه كما قال: {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}
[الأنفال / 17].
فأمّا قوله تعالى (6): {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللََّهِ اثْنََا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتََابِ اللََّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ}
__________
(1) في (ط): وقال.
(2) في (ط): وذاك.
(3) سقطت من (م).
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).(2/457)
[التوبة / 36] فلا يجوز تعلقه بالعدّة لأنّ فيه فصلًا بين الصلة والموصول بالخبر، ولكنّه يتعلق بمحذوف على أن يكون صفة للخبر الذي هو قوله: {اثْنََا عَشَرَ شَهْراً}، والكتاب لا يكون إلّا مصدراً، ولا يجوز أن يكون (1) يعنى به الذكر، ولا غيره من الكتب، وذلك لتعلّق اليوم به، واليوم وسائر الظروف لا تتعلق بأسماء الأعيان لأنّها لا معاني فيها للفعل، فبهذا يعلم أنّه مصدر.
فأمّا قوله تعالى: {وَمَلََائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} [البقرة / 285] فإنّ الكتب جمع كتاب وهو مصدر كتب فنقل، وسمّي به، فصار يجري مجرى الأعيان وما لا معنى فعل فيه، وعلى ذلك كسر، فقيل: كتب كما قالوا: إزار وأزر، ولجام ولجم. ولولا أنّه صار منقولًا، لكان خليقاً أن لا يكسّر، كما أنّ عامة المصادر لا تجمع، فأمّا الجمع فيه فللكثرة، وأمّا الإفراد في قول من قرأ:
وكتابه فليس كما تفرد المصادر، وإن أريد بها الكثير كقوله تعالى (2): {وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان / 14] ونحو ذلك، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة نحو قولهم: كثر الدينار والدرهم، ونحو ذلك مما يفرد لهذا المعنى، وهي تكسر، وكذلك: أهلك الناس الشاة والبعير، فإن قلت: إنّ هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة تكون مفردة، وهذه مضافة قيل: قد جاء المضاف من الأسماء، يعنى به الكثرة، وفي التنزيل:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).(2/458)
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} [النحل / 18، إبراهيم / 34] وفي الحديث: «منعت العراق درهمها وقفيزها» (1).
فهذا يراد به الكثرة، كما يراد فيما فيه لام التعريف، وممّا يجوز أن يكون على هذا قول عدي (2) بن الرقاع:
يدع الحيّ بالعشيّ رغاها ... وهم عن رغيفهم أغنياء (3)
وقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ}
[البقرة / 187] وهذا الإحلال شائع في جميع ليالي (4) الصّيام، والتكسير أوجه لأنّ الموضع يراد به الكثرة، وليس مجيء الأسماء المضافة التي يراد بها الجنس، والشّياع، بكثرة ما جاء منها (5)، وفيه لام المعرفة، والاسمان اللذان أحدهما قبله، والآخر بعده مجموعان، فهذا يقوّي الجمع ليكون مشاكلا لما قبله وما بعده، ويجوز فيمن أفرد فقال: وكتابه أن يعني به الشّياع، ويكون الاسم مصدرا غير منقول، فيسمّى الذي يكتب كتابا،
__________
(1) سبق تخريجه انظر ص 119من هذا الجزء.
(2) كذا في (ط)، وسقطت من (م). وعدي بن الرقاع من الشعراء المقدمين، قال جرير سمعته ينشد:
تزجي أغنّ كأن إبرة روقه.
فرحمته من هذا التشبيه فقلت: بأي شيء يشبهه ترى! فلما قال:
قلم أصاب من الدواة مدادها رحمت نفسي منه. انظر الأغاني 9/ 308حيث أخبار عدي.
(3) لم أظفر بالقصيدة التي منها هذا البيت، وفي الشعر والشعراء ص 620بيتان من نفس الروي والوزن وهما:
لو ثوى لا يريمها ألف حول ... لم يطل عندها عليه الثواء
أهواها يشفّه أم أعيرت ... منظراً فوق ما أعير النساء
(4) في (م): أيام.
(5) في (م): فيها.(2/459)
كما قيل: نسج اليمن، أو على تقدير ذي، أي: ذي الذي يكتب.
البقرة: 285
اختلفوا في ضمّ السّين وإسكانها من قوله تعالى (1):
{وَرُسُلِهِ} [البقرة / 285] و {رُسُلِنََا} [الإسراء / 77] (2).
فقرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنيّ (3) على حرفين مثل:
{رُسُلِنََا}، و {رُسُلُكُمْ} [غافر / 50] بإسكان السين، وثقّل ما عدا ذلك.
وروى عليّ بن نصر عن هارون عن أبي عمرو أنّه خفّف {عَلى ََ رُسُلِكَ} [آل عمران / 194] أيضاً. وقال عليّ بن نصر:
سمعت أبا عمرو يقرأ {عَلى ََ رُسُلِكَ} مثقّلة، وقرأ الباقون كلّ ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل (4).
قال أبو عليّ: وجه قراءة من ثقّل {عَلى ََ رُسُلِكَ} أنّ أصل الكلمة على فعل بضمّ العين، ومن أسكن خفّف ذلك (5) كما يخفّف ذلك في الآحاد في نحو العنق، والطّنب، وإذا خفّفت الآحاد، فالجموع أولى من حيث كانت أثقل من الآحاد، والدليل على أنّه على فعل مضموم العين، رفضهم هذا الجمع، فيما كان (6) لامه حرف علّة نحو: كساء، ورداء
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) هذه الآية وردت كثيراً ولكنها لم تأت مكسورة اللام إلّا في موضعين، الأول في الإسراء والثاني في الحديد / 27. انظر المعجم المفهرس للآيات.
(3) مكني: ضمير.
(4) انظر السبعة ص 185فهناك اختلاف يسير.
(5) سقطت ذلك من (ط).
(6) في (ط): كانت.(2/460)
ورشاء، ألا تراهم لم يجمعوا شيئاً من هذا النحو على فعل، كما جمعوا قذالًا، وكتاباً، وحماراً ورغيفاً على فعل، ولم يجمعوه أيضاً على التخفيف لأنّه إذا خفّف، والأصل التثقيل، كانت الحركة في حكم الثبات ومنزلته. ألا ترى أنّ من قال:
رضي، ولقضو الرجل، لمّا كانت الحركة في حكم الثبات عنده لم يردّ الواو ولا الياء؟ وكذلك نحو رشاء، وقباء، لم يجمع على فعل ولم يجيء من هذا الباب شيء على فعل إلّا ثنيّ (1)
وثن، وقالوا: ثنيان في جمعه أيضاً، وما عداه مرفوض غير مستعمل، ومما يدلّ على أن الأصل فيه الحركة، أنّه لو كان الأصل السكون لم يرفض فيه جمع ما كانت اللّام فيه ياءً، أو واواً، كما لم يرفض ذلك في جمع ما أصله فعل، وذلك نحو:
عمي، و {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} [يونس / 43] وكذلك قنواء (2)
وقنو، وعشواء (3)، وعشو، وأبواء (4)، وأبو، ألا ترى أنّهم لم يرفضوا جمع هذا لمّا كان ما قبله ساكناً فصار بمنزلة الآحاد نحو: حلو وعري، وما أشبه ذلك؟ فقد دلّك (5) رفضهم لجمع هذا الضرب أنّه على فعل وأنهم رفضوه لما يلزم فيه من القلب
__________
(1) في القاموس (ثنى): الناقة الطاعنة في السادسة والبعير: ثنيّ، والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة.
(2) قنواء: مؤنث أقنى. كما في القاموس (القنوة).
(3) مقصورة سوء البصر بالليل والنهار كالغشاوة: أو العمى. القاموس (العشا).
(4) في القاموس: (أبى): أبوته إباوة بالكسر صرت له أبا، والاسم الأبواء، وقال ياقوت في معجم البلدان (الأبواء) 1/ 79: الأبواء: فعلاء من الأبوّة.
(5) في (ط): فقد صار ذلك.(2/461)
والإعلال. ومما يدلّ على أنّ أصله فعل، بضم العين، أنّهم خفّفوا من ذلك نحو: عوان وعون (1) ونوار، ونور (2)، وخوان، وخون، كراهة الضمة في الواو فإذا اضطرّ الشاعر ردّه إلى أصله كما جاء:
تمنحه سوك الإسحل (3)
وقوله:
وفي الأكفّ اللامعات سور (4)
على أن أبا زيد حكى: قوم قول، بضم الواو.
وأمّا وجه تخفيف أبي عمرو ما اتّصل من ذلك بحرفين
__________
(1) في القاموس (عون):
العوان: كسحاب من الحروب التي قوتل فيها مرّة، ومن البقر والخيل التي نتجت بعد بطنها البكر، ومن النساء التي كان لها زوج جمعها عون بالضم ا. هـ منه. وكلمة عوان من قوله تعالى في سورة البقرة / 68: «قال إنه يقول إنّها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك».
(2) في القاموس (نور): النوار كسحاب جمع نور، بالضم، والأصل نور، بضمتين فكرهوا الضمة على الواو. ونارت نورا ونوارا بالكسر والفتح نفرت، وبقرة نوار تنفر من الفحل. وجاءت في (ط): «وبوار وبور» بدل «نوار ونور».
(3) عجز بيت لعبد الرحمن بن حسان وصدره: أغرّ الثنايا أحمّ اللّثات، انظر المنصف 1/ 338، وابن يعيش 10/ 84وفيه يحسنه بدل تمنحه. وشرح شواهد الألفية للعيني 4/ 530وفيه تحسنها بدل تمنحه. والأشموني 4/ 130. والمقتضب 1/ 113. وفي (ط) فوق البيت: كذا عنده، والمعروف: تمنح فاها سوك الإسحل.
(4) عجز بيت لعدي بن زيد العبادي وصدره: عن مبرقات بالبرين تبدو انظر اللسان (لمع) والمنصف 1/ 338وسيبويه 2/ 369والمقتضب 1/ 113.
وشرح الشافية 2/ 127وشواهدها 121.(2/462)
من حروف الضمير، أو بحرف نحو: {رُسُلِكَ} [آل عمران / 194]، فلأنّ هذا قد يخفّف إذا لم يتّصل بمتحرك، فإذا اتّصل بمتحرك حسن التخفيف لئلا تتوالى أربعة أحرف متحركة لأنّهم كرهوا تواليها على هذه العدة بهذه الصورة، ومن ثم لم تتوال أربع متحركات في بناء الشعر، والكلم (1)، إلّا أن يكون مزاحفاً، أو يخفّف (2) لهذا الذي ذكرناه من كراهتهم توالي أربع متحركات. ومن لم يخفّف فلأنّ هذا الاتصال بالحرفين ليس بلازم للحرف، وما لم يكن لازماً في هذه الكلم (3) فلا حكم له، ألا ترى أنّ الإدغام في نحو: جعل لك، لم يلزم وإن كان قد توالى خمس متحركات، وهذا لا يكون في بناء الشعر، لا في مزاحفه ولا في سالمه ولا في الكلم المفردة. وقد جاز في نحو هذا أن لا يدغم لمّا لم يكن لازماً، ومن ثمّ روي عن أبي عمرو {عَلى ََ رُسُلِكَ} و {عَلى ََ رُسُلِكَ} كأنّه أخذ بالوجهين وذهب إلى المذهبين.
البقرة: 284
واختلفوا (4) في الجزم والرفع من قوله تعالى (5): {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ} [البقرة / 284].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ} جزماً.
وقرأ ابن عامر وعاصم: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ} رفعاً (6).
__________
(1) في (ط): والكلام.
(2) في (ط): فيخفف.
(3) في (م) (الكلمة).
(4) سقطت الواو من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) السبعة ص 195.(2/463)
قال أبو علي: وجه قول من جزم أنّه أتبعه ما قبله، ولم يقطعه منه وهذا أشبه بما عليه كلامهم، ألا ترى أنّهم يطلبون المشاكلة، ويلزمونها؟ فمن ذلك أنّ ما كان معطوفاً على جملة، من فعل وفاعل، واشتغل عن الاسم الذي من الجملة التي يعطف عليها الفعل، يختار فيه النصب ولو لم (1) يكن قبله الفعل والفاعل لاختاروا (2) الرفع، وعلى هذا ما (3) جاء من هذا النحو في التنزيل نحو قوله تعالى (4): {وَكُلًّا ضَرَبْنََا لَهُ الْأَمْثََالَ}
[الفرقان / 39]، وقوله تعالى (4): {فَرِيقاً هَدى ََ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ} [الأعراف / 30] وقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشََاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظََّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} [الإنسان / 31] فكذلك ينبغي أن يكون الجزم أحسن ليكون مشاكلًا لما قبله في اللفظ [ولم يخلّ من المعنى بشيء] (6). وكذلك إذا عطفوا فعلًا على اسم أضمروا قبل الفعل «أن»، ليقع بذلك عطف اسم على اسم، لأنّ الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم، كما أن جملة من فعل وفاعل أشبه بجملة من فعل وفاعل. من جملة من مبتدأ وخبر بجملة من فعل وفاعل فلهذا ما جاء ما كان من نحو: {وَكُلًّا ضَرَبْنََا لَهُ الْأَمْثََالَ} [الفرقان / 39] في التنزيل بالنصب. وهذا النحو من طلبهم المشاكلة كثير. ومن لم يجزم
__________
(1) في (ط): وإن لم.
(2) في (ط): اختاروا.
(3) سقطت من (م).
(4) سقطت من (ط).
(6) في (ط): وليس يختل من المعنى شيء.(2/464)
قطعه من الأول، وقطعه منه على أحد (1) وجهين إما أن يجعل الفعل خبراً لمبتدإ محذوف فيرتفع (2) الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإمّا أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها.
[تمّ الكلام في سورة البقرة والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى] (3).
يليه في الجزء الثالث (حسب تقسيمنا) الكلام في سورة آل عمران
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (م): «يرتفع» وما أثبتناه من (ط) بالعطف على الفعل «أن يجعل» أوجه.
(3) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).(2/465)
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
ذكر اختلافهم في سورة آل عمران (2)
آل عمران: 1
قرءوا كلّهم: الم الله [آل عمران / 1] مفتوحة الميم والألف ساقطة إلّا ما حدثني به القاضي موسى بن إسحاق الأنصاري (3) قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي (4) قال: حدثنا
__________
(1) في (م): «بسم الله».
(2) في (ط): «عونك يا رب، سورة آل عمران».
(3) موسى بن إسحاق أبو بكر الأنصاري الخطمي البغدادي القاضي، ثقة روى القراءة عن قالون وعن أبي بكر هشام الرفاعي، وهارون بن حاتم ومحمد بن إسحاق المسيبي. روى عنه القراءة أبو بكر بن مجاهد مات سنة سبع وتسعين ومائتين. طبقات القراء 2/ 317.
(4) هو محمد بن يزيد بن رفاعة بن سماعة. الكوفي القاضي، إمام مشهور، أخذ القراءة عرضا عن سليم، وروى الحروف سماعا عن الأعشى وحسين بن علي الجعفي، ويحيى بن آدم له كتاب في القراءات. ومما انفرد به عن الكسائي: إشمام «الصراط» و «ملك يوم الدين» بغير ألف لم يروه عنه غيره. روى القراءة عنه موسى بن إسحاق القاضي وغيره قال أبو العباس السراج:
مات آخر يوم من شعبان ببغداد، وكان قاضيا عليها سنة ثمان وأربعين ومائتين، وقال البخاري يوم الأربعاء منسلخ شعبان انظر طبقات القراء 2/ 281280.(3/5)
يحيى بن آدم (1) عن أبي بكر (2) عن عاصم أنّه قرأ (الم) ثم قطع وابتدأ (الله) ثم سكّن فيها. قال يحيى بن آدم وآخر ما حفظت عنه (الم الله) مثل حمزة.
[حدثنا ابن مجاهد قال] (3): حدثنا موسى بن إسحاق قال:
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: سمعت أبا يوسف الأعشى (4)
قرأها على أبي بكر (الم) ثم قطع فقال: (الله) بالهمز.
__________
(1) يحيى بن آدم بن سليمان بن خالد بن أسيد أبو زكريا الصلحي، سبقت ترجمته في 1/ 377.
(2) وأبو بكر هذا الذي يروي عنه يحيى: هو ابن عياش بن سالم الحناط الأسدي النهشلي الكوفي راوي عاصم. واختلف في اسمه على ثلاثة عشر قولا أصحها «شعبة» ولد سنة خمس وتسعين وعرض القرآن على عاصم ثلاث مرات وعلى عطاء بن السائب، وأسلم المنقري وعمّر دهرا، إلّا أنّه قطع الإقراء قبل موته بسبع سنين وقيل بأكثر. وكان إماما كبيرا عالما عاملا وكان يقول أنا نصف الإسلام. وكان من أئمة السنة. قال أبو داود حدثنا حمزة بن سعيد المروزي، وكان ثقة، قال: سألت أبا بكر بن عياش:
وقد بلغك ما كان من أمر ابن عليّة في القرآن؟ قال: ويلك! من يزعم أنّ القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق، عدوّ لله، لا نجالسه ولا نكلمه، وروى يحيى بن أيّوب عن أبي عبد الله النخعي، قال: لم يفرش لأبي بكر بن عياش فراش خمسين سنة وكذا قال يحيى بن معين ولما حضرته الوفاة بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك!؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختمت فيها ثمان عشرة ألف ختمة. توفي في جمادي الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة وقيل سنة أربع وتسعين انظر طبقات القراء 1/ 327325.
(3) ما بين معقوفين سقط من (ط).
(4) هو يعقوب بن محمد بن خليفة بن سعيد بن هلال أبو يوسف الأعشى التميمي الكوفي، أخذ القراءة عرضا عن أبي بكر شعبة وهو أجلّ أصحابه
روى عنه محمد بن يزيد الرفاعي [أبو هشام] توفي في حدود المائتين. انظر طبقات القراء 2/ 390.(3/6)
حدثنا ابن مجاهد قال: حدثني محمد بن الجهم (1) عن ابن أبي أمية (2) عن أبي بكر عن عاصم {الم} (3) جزم، ثم ابتدأ {ألله}.
[حدثنا ابن مجاهد قال] (4): حدثني أحمد بن محمد ابن صدقة (5) قال: حدثنا أبو الأسباط (6) عن عبد الرحمن بن أبي حماد (7) عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ: (الم الله) بتسكين
__________
(1) محمد بن الجهم بن هارون، أبو عبد الله السمّري، بكسر السين المهملة وفتح الميم المشدّدة البغدادي الكاتب، شيخ كبير، إمام شهير، أخذ القراءة عرضا عن عائذ بن أبي عائذ صاحب حمزة، وروى الحروف سماعا عن خلف البزار وغيره وسمع كتاب المعاني من الفراء. روى القراءة عنه الحسن بن العباس الرازي وابن مجاهد. مات ببغداد سنة ثمان ومائتين. انظر طبقات القراء 2/ 113.
(2) هو عبد الله بن عمرو بن أبي أمية، أبو عمرو البصري، نزيل الكوفة، روى القراءة عن أبي بكر [بن عياش] عن عاصم، وروى عنه القراءة روح بن عبد المؤمن ومحمد بن الجهم، شيخ ابن مجاهد. انظر طبقات القراء 1/ 438. تنبيه: وقع في ترجمته ما يلي: روى القراءة عن أبي بكر بن عاصم، كذا: ابن عاصم والصواب عن عاصم. ولعلّه خطأ من الطبع.
(3) رسمها في (ط) هكذا: آلميم.
(4) ما بين المعقوفتين ساقطة من (ط).
(5) هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة، أبو بكر البغدادي، مشهور ثقة، قرأ على إبراهيم بن محمد بن إسحاق صاحب قالون روى القراءة عنه محمد بن يونس وابن مجاهد انظر الطبقات 1/ 119.
(6) ذكره في طبقات القراء 1/ 173برقم 812، ولم يزد على قوله: «أبو الأسباط المعلم» وذكره في ترجمة ابن أبي حماد كذلك. انظر الترجمة الآتية.
(7) عبد الرحمن بن أبي حماد هو: عبد الرحمن بن سكين، أبو محمد بن أبي حماد الكوفي، صالح مشهور، روى القراءة عرضا عن حمزة وعن أبي بكر بن عياش وأخذ القرآن عنه تلاوة روى القراءة عنه الحسن بن جامع(3/7)
الميم وقطع الألف. [حدثنا ابن مجاهد قال] (1): حدثني محمد بن الجهم عن الفرّاء قال: قرأ عاصم: {الم} جزم [و] (2) الله مقطوع. والمعروف عن عاصم {الم الله}
موصولة. و (3) حفص عن عاصم الم (صل) الله مفتوحة الميم غير مهموزة الألف (4).
قال أبو علي: اتفاق الجميع على إسقاط الألف الموصولة في اسم الله وذاك (5) أن الميم ساكنة كما أن سائر حروف التهجي مبنية على الوقف فلمّا التقت الميم الساكنة، ولام التعريف حرّكت الميم بالفتح للساكن الثالث الذي هو لام المعرفة (6). والدّليل على أنّ التحريك للساكن الثالث وهو مذهب سيبويه أن حروف التهجي يجتمع فيها الساكنان (7) نحو {كهيعص} (8) [مريم / 1] و {حم عسق} (9) وذلك أنّها مبنيّة على الوقف، كما أنّ أسماء العدد كذلك فحرّكت الميم للساكن
__________
وأبو الأسباط المعلم، وعلي بن حمزة الكسائي انظر طبقات القراء 1/ 370369.
(1) سقط ما بين المعقوفتين من (ط).
(2) زيادة من السبعة.
(3) في (م): حفص، بإسقاط الواو.
(4) السبعة ص 200.
(5) في (ط): ذاك على.
(6) في (ط): التعريف.
(7) انظر الكتاب 2/ 275.
(8) كذا في (ط) وفي (م): «كهيعين صاد» وما أثبتناه من (ط) ينسجم مع رسم المصحف.
(9) كذا في (ط) وفي (م) «حميم».(3/8)
الثالث بالفتح كما حرّكت النون في قوله: {من الله}
[آل عمران / 15] و {من المسلمين} [يونس / 72] و {من البقر اثنين} [الأنعام / 144] بالفتح لالتقاء الساكنين.
فأمّا ما روي عن عاصم من قطعه الألف، فكأنّه قدّر الوقوف على الميم، واستأنف (الله)، فقطع الهمزة للابتداء بها. والوجه ما عليه الجماعة، وما وافقهم هو أيضا عليه، من أنّ الهمزة تسقط في الوصل، فإذا سقطت لم يجز أن تلقى لها حركة على ما قبلها.
والّذي حكاه سيبويه من قولهم: ثلاثة اربعة (1)، لم تحمل عليه هذه الآية، ألا ترى أنّه ذهب إلى أنّ الحركة فيها لالتقاء الساكنين، وأنّه في الفتح لالتقاء الساكنين بمنزلة قوله:
{من الله}.
وأمّا ما حكاه بعض البغداديين من قوله: {مريب الذي جعل} [ق / 25/ 26]. فإنّه حرّك النّون بالفتح كما حرّك في قولهم: {من الله} به.
ولا يجوز أن تكون الفتحة لهمزة الوصل ألقيت على النون، لأنّ الهمزة إذا أوجب الإدراج إسقاطها (2) لم تبق لها حركة تلقى على شيء، ولم يأت في نحو هذا عنهم شيء فيما علمناه، كما جاء (ثلاثة اربعة).
__________
(1) ضبطها في (م) بالسكون وفوقها فتحة كما أثبتناه ثم كتب فوق الكلمة «صل» ولم يشر في (ط) إلى شيء من ذلك بل اكتفى بتحريك الهاء بالفتح، وضبط كلمة «أربعة» بسكون الباء.
(2) في (ط): بإسقاطها.(3/9)
آل عمران:، 3
اختلفوا في إمالة الرّاء وفتحها من {التوراة} (1) [آل عمران / 3].
فقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر: (التوراة) مفخّما (2).
وكان نافع وحمزة يلفظان: بالراء بين الفتح والكسر، وكذلك كانا يفعلان بقوله تعالى (3): {مع الأبرار} (4) [آل عمران / 193] و {من الأشرار} [ص / 62] و {من قرار} [إبراهيم / 26] و {ذات قرار} [المؤمنون / 50] إذا كان الحرف مخفوضا.
وقال ابن سعدان عن المسيّبي عن نافع: الراء مفتوحة، وكذلك قال ابن المسيبي عن نافع. وقال ورش عن نافع:
(التّورية)، بكسر الراء وكان أبو عمرو والكسائي يقرءان:
(التورية) مكسورة الراء ويميلان هذه الحروف أشد من إمالة حمزة ونافع أعني: (الأبرار) و {(من قرار)} وما أشبه ذلك. ابن عامر يشم الراء الأولى من {(الأبرار)} الكسر (5).
قال أبو علي: قالوا ورى الزند، يري، إذا قدح ولم يكب (6)، وقالوا ورى وأوريته، وفي التنزيل: {فالموريات قدحا}
[العاديات / 2] وفيه: {أفرأيتم النار التي تورون} [الواقعة / 71]. فأمّا قولهم: وريت بك زنادي على مثال شريت، فزعم
__________
(1) رسمها في (ط): «التورية».
(2) في (م): «مفخّم» وما أثبتناه من (ط) ومن السبعة.
(3) سقطت من (ط).
(4) هذه الآية الكريمة وردت في (م) و (ط) سهوا: «من الأبرار» بدل «مع الأبرار» وقد أثبتنا نص الآية الكريمة كما هي في سورة آل عمران {وتوفنا مع الأبرار}.
(5) السبعة ص 201.
(6) في (م): ينب. وفي اللسان: كبا الزّند: لم يور. ولم يورد (اللسان) هذا المعنى في (نبا) وفيه: نبا السيف: كلّ.(3/10)
أبو عثمان: أنّه استعمل في هذا الكلام فقط لم يجاوز به غيره. وقال أبو زيد: ورى النّقي، يري، وريا: إذا كثر ودكه، قال: والواري: الكثير الودك. والوراء في اسم الجهة التي هي خلاف الأمام ليس من هذا، لأنّ تحقيره: وريئة، مثل وريعة.
وألحقت الهاء في تحقيرها، وإن كانت على أربعة أحرف كما ألحقت في قديديمة.
فأمّا الوراء: لولد الولد فيمكن أن يكون من هذا وقيل له:
وراء، كما قيل له: نجل.
وأنشد أبو زيد (1):
يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم (2) * أمّ الهنيبر من زند لها واري
__________
(1) في النوادر، وقبله آخر للقتال الكلابي، وهو ملفق من بيتين انظرهما عند العسكري قال:
أمّا الإماء فلا يدعونني ولدا ... إذا ترامى بنو الإموان بالعار
والبيت من قصيدة في النوادر ص 190 (طبعة الفاتح)، والتصحيف للعسكري ص 130129والتنبيه على حدوث التصحيف ص 87، وروي البيت عن الفراء: «أم الهنيبن» مكان «أم الهنيبر» قال في التنبيه: فقال [التّوزيّ] له:
إنّما ينشد أصحابنا «أم الهنيبر» وهي الضبع فقال: هكذا أنشدنيه الكسائي، فأحال تصحيفه على الكسائي، وعند العسكري جاء خبر التصحيف هذا عن التوزي، أيضا وعن محمد بن يحيى ولكنه أشرح وأكثر فائدة والبيت في الأغاني 23/ 332مطلع قصيدة طويلة وذكره المرصفي في رغبة الآمل 1/ 183ضمن القصيدة. واللسان (هنبر) والإنصاف 1/ 119.
والبيت الشاهد يروى: يا قاتل الله، ويا قبّح الله
والقتال الكلابي اسمه عبيد بن المضرّجيّ
(2) في (ط): «بها».(3/11)
قال السكري: ضرب الزّند مثلا للرحم، والزّند: تستخرج به النار (1)، وقال أمية:
الحامل النار في الرّطبين يحملها ... حتّى تجيء من اليبسين تضطرم
يأتي بها حيّة تهديك رؤيتها ... من صلب أعمى أصمّ الصلب منقصم (2)
روى محمد بن السري أن (3) الرّطبين: هما العودان الرطبان، يعني: الشجر الذي فيه النار، واليبسين: هما العودان اليابسان، يعني: الزندين، يقول: تكون النار في عودين رطبين، فإذا جفا قدحا، فجاءت النار منهما، والأعمى الأصمّ: يعني الزّند، والزّند: الأعلى، والزندة: السفلى، وأصمّ الصّلب يعني:
العود، وأعمى: لا جوف له، يريد: يأتي بها حية للناس أي:
حياة لهم. فأمّا قولهم (4): التّريّة: لما تراه المرأة من الطهر [بعد الحيض] (5) فيجوز أن تكون فعيلة من الوراء، لأنّها ترى بعد الصفرة والكدرة اللتين تريان في الحيض، وتكون فعيلة من: ورى الزند، يري، كأنّها من خروجها من الطهر بعد الحيض، فكأنّ الطهر أخرجه، والتاء في الوجهين بدل من الواو التي هي فاء، كما أنّها في «تيقور»، و «تولج» كذلك (6).
__________
(1) في النوادر نقل هذا التفسير عن أبي حاتم وليس عن السكري.
(2) البيتان لم نعثر عليهما في ديوانه.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): قوله.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(6) إشارة إلى ما نقله سيبويه عن الخليل في الكتاب 2/ 356: من أن «تيقور» من الوقار و «تولج» على وزن فوعل، فأبدلوا التاء مكان الواو.(3/12)
فأمّا القول في التوراة، فلا تخلو من أن تكون فوعلة، على قول (1) الخليل: في تولج (2)، أو تفعلة مثل تتفلة، أو تفعلة بالكسر وفتح العين كما فتح في: ناصاة (3)، فممّا يدلّ على أنّها فوعلة، ليست تفعلة، مثل تتفلة، وتألب، أنّ هذا البناء يقلّ، وأنّ فوعلة في الكثرة بحيث لا يتناسبان، ولا إشكال في أن الحمل على الأكثر الأشيع أولى من الحمل على خلافه.
ويدلّك على ذلك أن التاء لم تكثر زائدة أوّلا كما لم تكثر النون أوّلا، فكما أنّ النون إذا جاءت أولا في نحو نهشل ونعثل (4)، لا يحكم بزيادتها، لقلتها زائدة. أوّلا، كذلك لا يحكم بزيادة التاء.
فإن قلت: إنك إذا جعلته فوعلة، حكمت بإبدال الفاء التي هي واو: تاء، وإذا حكمت بزيادة التاء لم تجعلها (5)
بدلا، ولكنك جعلتها التاء التي زيدت في الكلمة (6)، قيل:
ليس هذا باعتراض لأنّ الواو إذا كانت أوّلا فقد استمرّ البدل (7)
__________
(1) في (ط): على قياس قول.
(2) انظر التعليق رقم (6) في الصفحة السابقة وسيبويه 2/ 356.
(3) الناصاة والناصية بمعنى وهي لغة طيئية، قصاص الشعر في مقدم الرأس.
انظر اللسان / نصا /.
(4) النهشل: المسن المضطرب من الكبر. والنعثل: ضرب من المشي وهو من التبختر. انظر اللسان نهشل / نعثل.
وفي (ط): نهصل بدل نعثل.
(5) في (ط): لم تجعله.
(6) في (ط): في أوّل الكلمة.
(7) في (ط): زيادة البدل.(3/13)
فيها نحو وجوه، وأجوه، ووقّتت، وأقّتت، ووشاح، وإشاح ووفادة، وإفادة، ووجم، وأجم، ووناة وأناة، فإذا اجتمعا (1) لزم الأول منهما البدل إمّا همزة وإمّا تاء، فالهمزة نحو الأولى في فعلى من الأول، وأواق في جمع واقية. وقد أبدلت التاء من الواو إذا كانت مفردة أوّلا نحو تيقور من الوقار، فهذا فيعول، وليس بتفعول كتعضوض (2)، ألا ترى كثرة فيعول نحو سيهوج (3)، وسيهوب (4)، وديقوع (5). وقد أبدلت تاء أولى مفردة في نحو: تجاه، وتراث، وتخمة، وتكلان (6)، وزعم أبو عثمان أنّ إبدال نحو تخمة، مضطرد، وقال أبو الحسن:
ليس بمطرد.
فإذا كثر إبدال التاء من الواو أوّلا، هذه الكثرة، كان حملها على هذا الكثير أولى من حملها (7) على ما لم يكثر، ولم يتسع هذا الاتساع. ولا يقرب حملها أيضا على تفعلة لأنّه لا يخلو من أن تجعلها اسما نحو: تودية، أو مصدرا نحو:
توصية، فأمّا باب تودية فقليل، كما أنّ تفعلة كذلك، وباب توصية فيه اتساع وحمل على لغة لم نعلم منها شيئا في
__________
(1) في (ط): وإذا اجتمعت.
(2) التعضوض: تمر أسود حلو، واحدته بهاء انظر القاموس «عضضته».
(3) في اللسان (سهج) ريح شديدة.
(4) سيهوب: لم أجده في المعاجم التي بين يدي.
(5) في القاموس (دقع): جوع أدقع وديقوع: شديد.
(6) في (ط): وتكأة.
(7) في (ط): حمله.(3/14)
التنزيل، فإذا لم يكن هذان الوجهان بالسهلين حملته على فوعلة دونهما للكثرة، ألا ترى أن نحو صومعة، وحوجلة ودوسرة، وعومرة (1)، قد كثر؟.
ومن لم يمل التوراة. فلأنّ الراء حرف يمنع الإمالة، لما فيه من التكرير، كما يمنعها (2) المستعلي، فكما أنّ الراء لو كان مكانها مستعل مفتوح لم تحسن الإمالة، كذلك إذا كانت الراء مفتوحة. وأيضا فإنّ ما بعد الواو من توراة لو كان منفصلا لم تكن فيه الإمالة كذلك إذا كان متصلا.
وقول من أمال: إنّ الألف لما كانت رابعة لم تخل من أن تشبه ألف التأنيث أو الألف المنقلبة عن الياء أو عن الواو.
وألف التأنيث تمال وإن كان قبلها مستعل كقولهم: فوضى وجوخى.
فكما أمالوا المستعلية معها كذلك يميلون الراء، وإذا أمالوا نحو صغا (3)، وضغا (4)، وشقا (5) مع أنّ الواو تصحّ في هذا البناء الذي على ثلاثة أحرف فأن يميلوا فيما لا تصحّ الواو معه أجدر.
__________
(1) في (ط) وعومرة وجوهرة.
(2) في (ط): يمنعه.
(3) في القاموس (صغا) يصغو ويصغى صغوا، وصغي يصغى صغا وصغيّا:
مال. وصغوه وصغوه معك: أي: ميله.
(4) في القاموس (ضغا) استخذى، ضغوا وضغاء.
(5) في (م): سقا.(3/15)
وممّا يقوّي ذلك أنّهم قد أمالوا اسم المفعول (1) إذا كان فيه مستعل، نحو معطا، وإذا أمالوا مع المستعلي كانت الإمالة مع الراء أجود، لأنّ الإمالة على الراء أغلب منها على المستعلي، ألا ترى أنّه قد حكى (2) الإمالة في نحو عمران ونحو فراش، وجراب، ولو كان مكان الراء المستعلي لم تكن فيها (3) إمالة؟. وممّا يقوّي الإمالة في الراء من توراة أنّهم قد قالوا: رأيت علقا، وعرقا، وضيقا، فأمالوه للتشبيه بألف حبلى إلّا أنّ الأول من هذه الحروف مكسور وليس من التوراة كذلك والإمالة في فتحة الراء نحو الكسرة في نحو: {مع الأبرار} (4)
[آل عمران / 193] و {من قرار} (5) [إبراهيم / 26] أقوى منها في التوراة، وذلك أنّ الراء المكسورة قد غلبت المستعلي في نحو قارب وغارم وطارد، فلما غلبت المستعلي مع قوته على الإمالة كان أن تغلب الراء المفتوحة فتميل فتحها (6) إلى الكسرة
__________
(1) في الأصل: (م) و (ط) «اسم فاعل» وجاء في (م) على الهامش «اسم مفعول» وكأنّه تصويب للفظ. وهو الصواب الذي يتفق مع ضبط الكلمة في الأصل:
«معطا».
(2) حكاه سيبويه في الكتاب 2/ 270.
(3) في (ط) فيه.
(4) من آية كريمة في سورة آل عمران وردت في النص سهوا بلفظ (من الأبرار) وقد أثبتنا نص الآية كما هي {وتوفنا مع الأبرار}. وفي (ط): من الأشرار بدل مع الأبرار.
(5) هذه الآية من سورة إبراهيم وردت في (ط) و (م) سهوا بلفظ (بالقرار) وقد أثبتنا نص الآية كما هي في السورة الكريمة {ما لها من قرار}.
(6) في (ط): فتحتها.(3/16)
أولى، لأنّ الراء، وإن كان فيها (1) تكرير، صارت به كأنّها حرفان مفتوحان فهي (2) بزنة حرف واحد، فلمّا قويت على المستعلي (3) كانت على الراء المفتوحة أقوى.
آل عمران: 13، 12
اختلفوا في الياء والتاء من قوله عزّ وجلّ (4):
سيغلبون، ويحشرون [آل عمران / 12] و {يرونهم مثليهم} [آل عمران / 13].
فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: {ستغلبون وتحشرون} بالتاء، و {يرونهم} بالياء.
وحكى أبان عن عاصم: ترونهم بالتاء، وفي رواية أبي بكر بالياء.
وقرأ نافع: {ستغلبون، وتحشرون}، وترونهم بالتاء ثلاثتهن.
وقرأ حمزة والكسائيّ بالياء ثلاثتهن (5).
قال أبو علي: قوله: {قل للذين كفروا}
[آل عمران / 12] يجوز أن يعنى به اليهود والمشركون جميعا، يدلّ على ذلك قوله تعالى (6): {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} [البقرة / 105] ففسر الذين كفروا
__________
(1) في (ط): وإن كانت فيه.
(2) في (ط): فهو.
(3) في (ط): الحرف المستعلي.
(4) سقطت من (ط).
(5) انظر السبعة ص 202201.
(6) سقطت من (ط).(3/17)
بالقبيلين، وكذلك قوله جلّ وعزّ (1): {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} [البينة / 1] فالتقدير على هذا: قل للقبيلين: ستغلبون.
ويدلّ على حسن التاء هنا والمخاطبة قوله تعالى (2): {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة}
[آل عمران / 81] والآية كلّها على الخطاب. وكذلك قول من قرأ: {ستغلبون} بالتاء.
وللتاء على الياء مزية ما في الحسن، وهو أنّه إذا قيل:
سيغلبون فقد يمكن أن يكون المغلوبون والمحشورون من غير المخاطبين، وأنّهم قوم آخرون، فإذا كان بالخطاب، لم يجز أن يظنّ هذا.
وحجة من قرأ بالياء قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال / 38] وقوله تعالى (3): {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون} [الجاثية / 14] والدّليل على حسن مجازهما (4) جميعا أنّهم زعموا أنّ في حرف عبد الله: قل للذين كفروا إن تنتهوا نغفر لكم (5). فأمّا قوله: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [النور / 30] فظاهره يقوّي قول من قرأ بالياء. ألا ترى
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): حسنهما.
(5) في (ط) يغفر لهم. والصواب ما في (م). وقراءة عبد الله ذكرها في البحر 4/ 494.(3/18)
أنّه قال: {يغضوا}، ولم يقل: غضوا، فيكون للخطاب كقراءة من قرأ ستغلبون وكذلك: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} [النور / 31].
إلّا أنّ من الناس من يحمل هذا (1) على إضمار لام الأمر، وإضمار الجازم لم نعلمه جاء في حال السعة، وقد قيل: إنّ الذين كفروا: اليهود. والضمير في سيغلبون للمشركين، فعلى هذا القول لا يكون سيغلبون إلّا بالياء، لأنّ المشركين غيب.
والخطاب لهم، وما تقدّم ذكره أوجه لما ذكرناه من جواز وقوع الذين كفروا على الفريقين، ولأنّهما جميعا مغلوبان، فاليهود وأهل الكتاب غلبوا بوضع الجزى عليهم، وحشرهم لأدائها، والمشركون غلبوا بالسيف، فالقول الأول أبين. ومن قرأ: (يرونهم) بالياء، فلأنّ بعد الخطاب غيبة، وهو قوله: {فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم} [آل عمران / 13] أي: ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثليهم.
ومما يؤكد الياء قوله: مثليهم، ولو كان على التاء لكان:
مثليكم، وإن كان قد جاء: {وما آتيتم من زكاة} [الروم / 39] ثمّ قال: {فأولئك هم المضعفون} [الروم / 39] ورأيت هنا المتعدية إلى مفعول واحد يدلّك على ذلك تقييده برأي العين، وإذا كان كذلك، كان انتصاب {مثليهم} على الحال لا على أنّه مفعول ثان.
وأمّا مثل فقد يفرد في موضع التثنية والجمع.
__________
(1) في (ط): هذا النحو.(3/19)
فمن الإفراد في التثنية قوله:
وساقيين مثل زيد وجعل ... سقبان ممشوقان مكنوزا العضل (1)
ومن إفراده في الجمع قوله تعالى (2): {إنكم إذا مثلهم} [النساء / 140]. ومن جمعه قوله: {ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد / 38]. وأمّا قوله: ترونهم مثليهم [آل عمران / 13] و {يرونهم} فمن قرأ بالتاء فللخطاب الذي قبله، وهو قوله: قد كان لكم آية في فئتين ترونهم مثليهم فالضمير المرفوع في ترونهم للمسلمين، والضمير المنصوب للمشركين. المعنى: ترون أيّها المسلمون المشركين مثلي المسلمين، وكان المشركون تسع مائة وخمسين رجلا، فرآهم المسلمون ستمائة وكسرا، وأرى الله المشركين أن المسلمين أقلّ من ثلاثمائة، وذلك أن المسلمين قد قيل لهم (3):
فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين [الأنفال / 66] فأراهم
__________
(1) الرجز بغير نسبة في سيبويه 1/ 226والفرق بين الحروف الخمسة ص 370 (نشر دار المأمون للتراث). وروايته عندهما: «صقبان» بالصاد. قال ابن السيد: الصقب بالصاد: عمود في آخر البيت، وهما صقبان. ورجل صقب: ممتلئ الجسم ناعمه، قال الراجز: وساقيين البيت. وقد أخذ الأعلم في تفسيره للبيت بالمعنى الأول. وجاءت روايته في اللسان (سقب) و (كنز): «سقبان» بالسين كما هو عندنا. قال: والسقب الذكر من ولد الناقة بالسين لا غير، وقوله: سقبان، إنما أراد مثل سقبين في قوة الغناء. وممشوق: خفيف اللحم. وفي (م): وساقيان مثل.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (م وط) سقطت الفاء من أوّل الآية. أمّا قراءة التاء من قوله تعالى: «فإن(3/20)
الله عددهم (1) حسب ما حدّ (2) لهم من العدد الذي يلزمهم أن يقدموا عليه، ولا يحجموا عنهم.
ومثل هذا في المعنى، قوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، ويقللكم في أعينهم} [الأنفال / 44] وقال قتادة: كان المشركون تسع مائة وخمسين رجلا، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.
آل عمران: 15
اختلفوا في كسر الراء وضمّها (3) من قوله تعالى (4):
ورضوان [آل عمران / 15].
فقرأ عاصم في رواية أبي بكر: (ورضوان) بضم الراء في كلّ القرآن إلّا قوله (5) في المائدة [16]: {من اتبع رضوانه} فإنّه كسر الراء فيه. وقال شيبان (6) عن عاصم، وابن أبي حمّاد (7) عن أبي بكر عن عاصم، والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، بضم الراء، في كل ذلك. وقال محمد بن المنذر (8) عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم أنّه ضمّه كلّه.
__________
تكن» فهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر، انظر السبعة ص 308.
وستأتي في الأنفال آية / 66.
(1) في (ط): عدوّهم.
(2) في (ط): حدّد.
(3) في (ط): «في قوله».
(4) سقطت من (ط).
(5) في (م): «في قوله» بزيادة (في) والمثبت من (ط) والسبعة.
(6) شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية التميمي الكوفي روى القراءة عن عاصم، روى القراءة عنه حسين بن علي الجعفي. طبقات القراء 1/ 329.
(7) سبقت ترجمته في ص 7.
(8) محمد بن المنذر الكوفي، مقرئ معروف، روى الحروف سماعا عن يحيى بن آدم وله عنه نسخة وعن سليم عن حمزة عن الأعمش وعن ابن أبي(3/21)
[حدثنا ابن مجاهد قال] (1): حدثني محمد بن الجهم (2)
عن ابن أبي أميّة (3) عن أبي بكر عن عاصم: (رضوان) و (رضوانا) [المائدة / 2] بضمّ الراء في كلّ القرآن، وكذلك حدّثني ابن صدقة عن أبي الأسباط عن ابن أبي حماد عن أبي بكر عن عاصم. وقال حفص عن عاصم: مكسور كلّه، وقرأ الباقون: (رضوان) كسرا (4).
قال أبو علي: رضوان مصدر، فمن كسر (5) جعله كالرّئمان والحرمان، ومن ضمّ فقد قال سيبويه: رجح رجحانا، كما قالوا: الشكران والرّضوان (6).
آل عمران: 19
قال أحمد: كلّهم قرأ: {إن الدين عند الله الإسلام}
[آل عمران / 19] بكسر الألف إلّا الكسائي فإنّه فتح الألف من أن الدين عند الله الإسلام (7).
قال أبو علي: الوجه: الكسر في (إنّ)، لأنّ الكلام الذي قبله قد تمّ، وهذا النحو من الكلام الذي يراد به التنزيه، والتقرب، أن يكون بجمل متباينة أحسن من حيث كان أبلغ في
__________
ليلى، روى عنه الحروف ابنه المنذر ومحمد بن سعدان النحوي.
الطبقات 2/ 266.
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط).
(2) سبق في ص (7) من هذا الجزء.
(3) سبق في ص (7) من هذا الجزء.
(4) انظر السبعة ص 202201.
(5) في (ط): كسره.
(6) الكتاب 2/ 217.
(7) السبعة ص 203202.(3/22)
الثناء، وأذهب في باب المدح، ومن ثمّ جاء {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء}
[البقرة / 177].
ومن فتح (أنّ) جعله بدلا، والبدل، وإن كان في تقدير جملتين، فإنّ العامل لمّا لم يظهر، أشبه الصفة. فإذا جعلته بدلا جاز أن تبدله من شيئين: أحدهما: من قوله: {أنه لا إله إلا هو} [آل عمران / 18] فكأنّ التقدير: شهد الله أنّ الدين عنده (1) الإسلام، فيكون البدل من الضرب الذي الشيء فيه هو هو. ألا ترى أنّ الدّين الذي (2) هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى؟. وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأنّ الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل، وإن شئت جعلته من القسط لأنّ الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل، فيكون من البدل الذي الشيء فيه هو هو.
آل عمران: 21
[قال] (3) أحمد: كلهم قرأ: {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} [آل عمران / 21] بغير ألف إلّا حمزة فإنّه قرأ (ويقاتلون) بألف (4).
قال أبو علي: حجة من قرأ: {ويقتلون الذين يأمرون} أنّه معطوف على قوله، {ويقتلون النبيين} [آل عمران / 21] وقد
__________
(1) في (ط): عند الله.
(2) سقطت من (ط).
(3) زيادة من (ط).
(4) السبعة ص 203.(3/23)
جاء في أخرى (1) {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} [البقرة / 91] فجاء الفعل على يفعل دون يفاعل، فكذلك: {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} [آل عمران / 21] لأنّ الآمرين بالقسط من الناس قد وافقوا الأنبياء في الأمر بالقسط، وكبر عليهم مقامهم وموضعهم فقتلوهم، كما قتلوا الأنبياء.
وحجة من قرأ: ويقاتلون الذين يأمرون أنّ في حرف عبد الله فيما زعموا: وقاتلوا الذين يأمرون بالقسط فاعتبرها، وكأن معنى يقاتلونهم، أنّهم لا يوالونهم ليقلّ (2) نهيهم إياهم (3) عن العدوان عليهم، فيكونون مباينين لهم، مشاقّين لهم (4) لأمرهم بالقسط، وإن لم يقتلوهم كما قتلوا الأنبياء، ولكن قاتلوهم قتال المباين المشاقّ لهم.
فإن قال قائل: إنّه في قراءته (ويقاتلون) لم يقرأ بحرف عبد الله، وترك قراءة الناس. قيل: ليس بتارك حرف عبد الله الذي هو (قاتلوا) في قراءته (يقاتلون) لأنّ قوله: (يقاتلون) يجوز أن يريد به (قاتلوا)، ألا ترى أنّه قد جاء {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} [الحج / 25].
وقال في أخرى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله}
[النحل / 88، محمد / 1] فإذا جاء المعنى لم يكن تاركا لقراءة
__________
(1) في (ط): الأخرى.
(2) في (ط): لثقل نهيهم.
(3) في (ط): إيّاه.
(4) سقطت من (ط).(3/24)
عبد الله، وذلك أنّ قوله: {يصدون} يجوز أن يكون في المعنى (صدّوا)، إلّا أنّه جاء على لفظ المضارع حكاية للحال، وكذلك حمزة في قراءته (يقاتلون) يجوز أن يكون مراده به (1) (قاتلوا) إلّا أنّه (2) جاء على لفظ المضارع حكاية للحال.
آل عمران: 27
اختلفوا في قوله جلّ اسمه (3): {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} [آل عمران / 27]، في التّشديد والتّخفيف: فقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن كثير، وأبو عمرو وابن عامر: وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي [آل عمران / 27] ولبلد ميت [الأعراف / 57] أو من كان ميتا [الأنعام / 122] والأرض الميتة [يس / 33] وإن يكن ميتة [الأنعام / 139] كل ذلك بالتخفيف.
وروى حفص عن عاصم: (من الميّت) مشدّدة (4) مثل حمزة، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: الحي من الميت والميت من الحي [آل عمران / 27] و {لبلد ميت} [الأعراف / 57] و {إلى بلد ميت} [فاطر / 9] مشدّدا.
وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف. وقرأ نافع:
أو من كان ميتا [الأنعام / 122] والأرض الميتة
__________
(1) في (ط): فيه قد.
(2) في (ط): أنه قد.
(3) في (ط): تعالى.
(4) في (ط): فشدد.(3/25)
[يس / 33] ولحم أخيه ميتا [الحجرات / 12] وخفّف في سائر القرآن ما لم يمت (1).
قال أبو علي: قال أبو زيد: وقع في المال: الموتان، والموات، والموات في قول بعض بني أسد: إذا وقع فيه الموت. قال أبو علي: يقال (2): مات يموت مثل: قال يقول، وقالوا:
متّ تموت، ودمت تدوم. ومتّ ودمت: شاذان. ونظيرهما من (3)
الصحيح: فضل يفضل.
فأمّا الميّت فهو الأصل، والواو التي هي عين (4) انقلبت ياء لإدغام الياء فيها، والأصل التثقيل. وميّت محذوف منه، والمحذوف العين أعلّت عينه بالحذف كما أعلّت بالقلب، فالحذف حسن والإتمام حسن. وما كان من هذا النحو، العين فيه واو، فالحذف فيه أحسن، لاعتلال العين بالقلب، ألا ترى أنّهم قالوا: هائر (5) وهار، وسائر، وسار، فأعلّوا العين بالحذف.
كما أعلّوها بالقلب؟ فكذلك نحو: ميّت وسيّد. وما مات، وما لم يمت، في هذا الباب يستويان في الاستعمال (6)، ألا ترى أنّه قد جاء:
ومنهل فيه الغراب الميت
__________
(1) السبعة في القراءات ص 203مع اختلاف يسير في العبارة، والمؤدى واحد.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): في.
(4) في (ط): عين فيه.
(5) هائر: وصف من هار البناء يهور هورا: انهدم.
(6) يريد ما كان من فعل مات مستعملا في الموت الحقيقي، وما كان مستعملا في الموت المجازي، يستويان في التخفيف والتشديد.(3/26)
[كأنّه من الأجون زيت] (1)
سقيت منه القوم واستقيت (2)
فهذا قد مات. وقال الآخر:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء (3)
فقد خفّف [ما مات] (4) في الرّجز والبيت الآخر، وقال:
ميّت الأحياء فشدّد، ولم يمت، وقال تعالى (5): {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر / 30].
آل عمران: 28
اختلفوا في إمالة القاف من قوله جلّ وعزّ (6): {تقاة}
[آل عمران / 28].
فأمال الكسائيّ القاف في الموضعين جميعا، وأمال حمزة منهم تقاة [آل عمران / 28] إشماما من غير مبالغة، ولم يمل حمزة {حق تقاته} [آل عمران / 102] وفتح الباقون القاف في الموضعين غير أن نافعا كانت قراءته بين الفتح والكسر (7).
__________
(1) ما بين المعقوفين زيادة من (ط).
(2) هذا رجز لأبي محمد الفقعسي. في اللسان / أجن / ورواية (م): «ميت» بدل: «الميت».
(3) البيت لعدي بن الرعلاء الغساني في شرح أبيات المغني 3/ 197و 7/ 16 مع أبيات، وفي اللسان (موت) وسيأتي منسوبا في الأنعام / 22.
(4) ما بين المعقوفين زيادة من (ط).
(5) في (ط): عزّ وجلّ.
(6) في (ط): عزّ وجلّ.
(7) السبعة ص 204203.(3/27)
قال أبو علي: قال أبو زيد: وقيت الرجل أقيه وقاء و (1)
وقاية، وأنشد (2):
لولا الذي أوليت كنت وقاية ... لأحمر لم تقبل عميرا قوابله
وأنشد أبو زيد:
زيادتنا نعمان لا تحرمنّنا ... تق الله فينا والكتاب الذي تتلو (3)
وأنشد أيضا:
تقوه أيّها الفتيان إني ... رأيت الله قد غلب الجدودا (4)
وأنشد أيضا:
تقاك بكعب واحد وتلذّه ... يداك إذا ما هزّ بالكفّ يعسل (5)
__________
(1) سقطت الواو من (م).
(2) لم نعثر على قائله.
(3) البيت في النوادر ص 200146 (ط الفاتح) لعبد الله بن همّام السلولي، الخصائص 2/ 3286/ 89المحتسب 2/ 372ابن الشجري 1/ 205، شرح شواهد الشافية 4/ 496واللسان (وقي). ويروى: «لا تمحونّها ولا تنسينها» بدل «لا تحرمننا».
(4) البيت في النوادر 200146مع بيتين آخرين قبله لخداش بن زهير.
وعنه في المنصف 1/ 290. وفي العيني 2/ 371ضمن قصيدة.
(5) البيت لأوس بن حجر انظر ديوانه / 96والنوادر / 200والخصائص 2/ 286 واللسان (وقي).(3/28)
قال أبو عمرو (1): يصف رمحا، يريد: اتقاك.
وقال السكريّ: تقاك: وليك منه كعب.
قال: ويقال: إبلك اتقت كبارها بصغارها، أي جعلت الصغار ممّا يليك، وكذلك: اتقاني فلان بحقي، أي: أعطانيه وجعله بيني وبينه.
فأمّا قولهم: تقاك، فتقديره (2): تعلك، والأصل: اتّقاك فحذف فاء الفعل المدغمة، فسقطت همزة الوصل المجتلبة لسكونها، وأعللتها بالحذف كما أعللتها بالقلب، وليس ذلك بالمطّرد، وقولهم في المضارع: يتقي، تقديره: يتعل وقال:
يتقي به نفيان كلّ عشيّة (3)
وأمّا التّقوى فهو فعلى. من وقيت، وأبدلت من اللّام التي هي ياء من وقيت الواو، كما تبدل في هذا النحو من الأسماء، وقد أنشد أبو زيد:
قصرت له القبيلة إذ تجهنا ... وما ضاقت بشدّته ذراعي (4)
فهذا فعلنا من الوجه، يقال: تجه يتجه تجها، مثل: فزع يفزع فزعا، إذا واجهه.
__________
(1) في (ط): أبو عمر الجرمي.
(2) في (ط) فتقدير مثال الفعل: فعلك.
(3) هذا صدر بيت لساعدة بن جؤية عجزه: فالماء فوق متونه يتصبّب. انظر شرح أشعار الهذليين 3/ 1100، والنوادر 148وفيها: سراته بدل متونه.
(4) البيت لمرداس بن حصين من جملة أبيات انظر النوادر 150والمنصف 1/ 290والمحتسب 1/ 263، واللسان (وجه) قال فيه: والأصمعي يرويه:(3/29)
وأنشد الأصمعي:
تجهنا (1)
فهذا ينبغي أن يحمل على فعل، ولا تجعله مثل: تقى يتقي، لقلة ذلك وشذوذه، وتقيته واتّقيته مثل شويته واشتويته. وتقول في المضارع: أنت تتقي وتتّقي. والواقية يشبه أن تكون مصدرا كالعاقبة والعافية، وقالوا في جمعه: أواق، فأبدلوا لاجتماع الواوين قال:
... يا عديا لقد وقتك الأواقي (2)
فأمّا من لم يمل الألف من تقاة، فحجّته: أنّ قاة من تقاة بمنزلة قادم، فكما لم يمل هذا كذلك ينبغي أن [لا يمال قاف تقاة] (3) لاستعلاء القاف، كما لم يمل ما ذكرنا.
وحجّة من أمال أنّ سيبويه زعم: أنّ قوما قد أمالوا من هذا (4) مع المستعلي ما لا ينبغي أن يمال في القياس. قال:
وهو قليل، وذلك قول بعضهم: رأيت عرقا وضيقا (5).
__________
تجهنا بفتح الجيم والذي أراده: اتجهنا، فحذف ألف الوصل وإحدى التاءين. وسيأتي قول الأصمعي.
(1) نفس المصدر السابق.
(2) هذا عجز بيت لمهلهل، وصدره:
ضربت صدرها إلي وقالت انظر اللسان (وقي)، والمقتضب 4/ 214وفيه: رفعت رأسها، بدل ضربت صدرها، المنصف 1/ 218، وابن الشجري 2/ 9، وابن يعيش 10/ 10، والخزانة 4/ 211، وشرح أبيات المغني 5/ 75.
(3) ما بين المعقوفتين في (ط): لا يمال فتحة قاف تقى.
(4) في (ط) هذا يعني.
(5) الكتاب 2/ 267.(3/30)
قال أبو علي: ولو قلت إنّ الإمالة فيما ذكره أمثل منها في (تقاة) لأنّ قبلها كسرة، والكسرة تجلبها، والإمالة في {حق تقاته}
[آل عمران / 102] تحسن (1) لمكان الكسرة وهو في الأولى نحو:
عرقا، للزوم الكسرة أقوى، وكسرة التاء في تقاته كسرة إعراب لا تلزم، على أن الأحسن الأكثر أن لا تميل لأنّ: قاته من تقاته بمنزلة قادم وقافل، فكما لا يمال هذا كذلك ينبغي أن لا تميل الألف من تقاته.
ومن وجه إمالة القاف في (تقاته، وتقاة) أنّهم قد أمالوا سقى، وصغا وضغا، ومعطى (2)، طلبا للياء التي الألف في موضعها، فكما (3) أميلت هذه الألف مع المستعلي كذلك أميلت التي في تقاة وتقاته.
فإن قلت: إنّ هذه الإمالة إنّما جاءت في الفعل، والفعل أكثر احتمالا للتغيير، واسم الفاعل بمنزلة الفعل، وليس التقاة، بواحدة (4) منهما. قيل: يمكن أن يقال: إنّه شبّه المصدر باسم الفاعل لمشابهته له في الإعمال، وقيامه مقام الصفة في عدل، وزور، كما شبّه (5) اسم المفعول في معطى بالفعل لعمله عمله.
آل عمران: 36
واختلفوا في ضمّ التاء وتسكين العين، وفتح العين وتسكين
__________
(1) في (ط): أحسن.
(2) سبق هذا التنظير وهو في سيبويه 2/ 266، 267. وقد رسمت (سقى ومعطى) في الأصلين بالألف اليابسة.
(3) في (ط): فلما. وسقطت «هذه» من بعدها.
(4) في (ط): التقى بواحد.
(5) في (ط): يشبه.(3/31)
التاء في قوله تعالى (1): {بما وضعت} [آل عمران / 36].
فقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر بما وضعت بضم التاء وإسكان العين.
وروى حفص عن عاصم والمفضّل عن عاصم (2): (بما وضعت) بالإسكان.
وقرأ الباقون: (وضعت) بالإسكان مثل حفص (3).
قال أبو علي: من قرأ: والله أعلم بما وضعت [آل عمران / 36] جعله من كلام أمّ مريم. وإسكان التاء أجود في قوله: {والله أعلم بما وضعت} لأنّها قد قالت: {رب إني وضعتها أنثى} [آل عمران / 36] فليست تحتاج بعد هذا أن تقول: والله أعلم بما وضعت.
ووجهه: أنّه كقول القائل في الشيء: ربّ قد كان كذا وكذا. وأنت أعلم، ليس يريد إعلام الله سبحانه ذلك، ولكنّه كالتسبيح والخضوع والاستسلام له (4)، وليس يريد بذلك إخبارا.
ومن قرأ: {والله أعلم بما وضعت} جعل ذلك من قول الله تعالى، والمعنى: أنّ الله سبحانه قد علم ما قالته، قالته هي أو لم تقله. وممّا يقوّي قول من أسكن التاء، قوله: {والله أعلم بما وضعت}
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): عنه.
(3) في السبعة ص 203، 204اختلاف يسير عما هنا فأبو علي قدم وأخر واختصر، ولكن المؤدى واحد.
(4) سقطت من (ط).(3/32)
ولو كان من قول أمّ مريم لكان: وأنت أعلم بما وضعت، لأنّها تخاطب الله سبحانه.
وقال بعض المتأوّلين: كانوا لا يحررون الإناث والله أعلم بما وضعت على جهة النّدم، وأنّها فعلت ما لا يجوز، فلذلك قالت (1):
{وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران / 36] لأنّ الذكر يتصرف في الخدمة والأنثى خلافه، وكانت الأحبار يكفلون المحررين، فاقترعوا على مريم بأقلامهم، فغلب عليها زكريا.
آل عمران: 37
اختلفوا في تشديد الفاء وتخفيفها من قوله عزّ وجلّ (2):
{وكفلها زكريا} (3) [آل عمران / 37] ومدّ (زكرياء) وقصره ورفعه ونصبه.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (وكفلها) مفتوحة الفاء خفيفة، و (زكرياء) رفع ممدود.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر (وكفّلها) مشدّدة (4)
و (زكرياء) نصب وكان يمدّ (زكرياء) في كلّ القرآن، وكذلك كلّ من تقدّم ذكره، هذه رواية أبي بكر.
وروى حفص عن عاصم: {(وكفّلها)} مشددا و (5) زكريّا قصرا في كل القرآن.
__________
(1) في (م): قال.
(2) سقطت من (ط). وهي ليست في السبعة.
(3) «زكريا» زيادة من (ط) والسبعة.
(4) الواو زيادة من (ط) والسبعة وفي (م): «مشدّدة» بدل «مشدّدا».
(5) سقطت الواو من (م).(3/33)
وكان حمزة والكسائي يشددان (كفّلها)، ويقصران (زكريّا) في كل القرآن (1).
قال أبو علي: حجة من خفّف (كفّلها) قوله تعالى (2): {أيهم يكفل مريم} [آل عمران / 44] و (زكرياء) مرتفع لأنّ الكفالة مسندة إليه، فأمّا من قال: وكفلها زكرياء فشدّد الفاء، فإنّ كفلت يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا ضاعفت العين تعدى إلى مفعولين نحو:
غرم زيد مالا، وغرّمت زيدا مالا، وفاعل كفّلها فيمن شدّد الضمير العائد إلى ربّها من قوله: {فتقبلها ربها بقبول حسن}
[آل عمران / 37] وزكرياء الذي كان فاعلا قبل تضعيف العين صار مفعولا ثانيا بعد تضعيف العين.
وأمّا زكرياء: فالقول في همزته أنّها لا تخلو من أن تكون للتأنيث أو للإلحاق أو منقلبة، فلا يجوز أن تكون للإلحاق لأنّه ليس شيء في الأصول على وزنه فيكون هذا ملحقا به. ولا يجوز أن تكون منقلبة لأنّ الانقلاب لا يخلو من أن يكون من نفس الحرف أو من حرف للإلحاق، فلا يجوز أن يكون من نفس الحرف لأنّ الياء والواو لا يكونان أصلا فيما كان على أربعة أحرف، ولا يجوز أن يكون منقلبا من حرف الإلحاق لأنّه ليس في الأصول شيء يكون هذا ملحقا به! فإذا بطل هذان، ثبت أنّه للتأنيث، وكذلك القول فيمن قصر. فقال: زكريا. ونظير القصر والمدّ في هذا الاسم قولهم: الهيجا والهيجاء، قال:
__________
(1) انظر السبعة ص 205203، وفيه اختلاف يسير عمّا هنا.
(2) سقطت من (ط).(3/34)
وأربد فارس الهيجا إذا ما ... تقعّرت المشاجر بالفئام (1)
وقال:
إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا ... فحسبك والضّحّاك عضب مهنّد (2)
لمّا أعربت الكلمة وافقت العربية. وقد حذفوا ألف التأنيث من الكلمة فقالوا: هو يمشي الجيضّ والجيضّى (3)، فعلى هذا قالوا: زكرياء وزكريّ، فمن قال: زكريّ صرف، والقول فيه أنّه حذف الياءين اللتين كانتا في (زكرياء) و (زكريا) وألحق الكلمة ياءي النسب (4)، يدلك على ذلك صرف الاسم، ولو كانت الياءان في زكري الياءين اللتين كانتا في (زكرياء) و (زكريّا)، لوجب أن لا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف كما أنّ إبراهيم ونحوه من
__________
(1) البيت للبيد وهو في ديوانه / 200وفيه بالخيام بدل بالفئام وأورده اللسان (هيج / شجر) وفيه: وأرثد بدل وأربد، وبالقيام بدل بالفئام.
(2) البيت في ابن يعيش 2/ 48، 51ومعاني القرآن 1/ 417، وهو من شواهد شرح أبيات المغني. 7/ 191، واللسان (عصا / هيج) ويروى: «سيف» بدل «عضب» والبيت شاهد على أنّه روي «الضحاك» بالحركات الثلاثة. قال البغدادي: البيت قائله مجهول اهـ. ونسبه في ذيل الأمالي ص 140إلى جرير، وليس في ديوانه. ولم يتكلّم عليه البكري في السمط ص 899 بشيء.
(3) ضبطه في القاموس / جاض / بوزن زمكّى وفي التكملة: بكسر الجيم وفتح الياء، ونص على ذلك بالحروف، ووافقه اللسان. والجيضّ والجيضّى: مشية فيها تبختر واختيال.
(4) في (ط): ياءين للنسب.(3/35)
الأعجمية لا ينصرف، فانصراف الاسم يدلّ على أنّ الياءين للنسب، فانصرف (1) الاسم وإن كان لو لم تلحق الياءان لم ينصرف بالعجمة (2) والتعريف، يدلّك على ذلك أنّ ما كان على وزن مفاعل لا ينصرف فإذا ألحقته (3) ياءي النسب انصرف كقوله:
مدائنيّ ومعافريّ.
وقد جرت تاء التأنيث هذا المجرى، فقالوا: صياقل، فلم يصرفوا، وألحقوا التاء فقالوا: صياقلة، فاتفق تاء التأنيث، وياء النسب في هذا كما اتفقا في روميّ، وروم، وشعيرة، وشعير، ولحقت الاسم الياءان وإن لم يكن فيه معنى نسب إلى شيء كما لم يكن في كرسيّ وقمريّ وثمان معنى نسب إلى شيء، وهذا نظير لحاق تاء التأنيث ما لم يكن فيه معنى تأنيث: كغرفة وظلمة ونحو ذلك، ويدل (4) على أنّ الياءين في زكريّ ليستا اللتين كانتا في (زكرياء) أنّ ياءي النسب لا تلحقان قبل ألف التأنيث وإن كانتا قد لحقتا قبل التاء من (5) بصرية لأنّ التاء بمنزلة اسم مضموم إلى اسم، والألف ليست كذلك. ألا ترى أنّك تكسر عليها الاسم والتاء ليست (6) كذلك؟.
__________
(1) في (ط): فانصراف.
(2) في (ط): للعجمة.
(3) في (ط): ألحقتها.
(4) في (ط): ويدلك.
(5) في (ط): في.
(6) في (ط): ليس.(3/36)
آل عمران: 39
واختلفوا في الألف (1) والتاء من قوله تعالى (2): {فنادته الملائكة} [آل عمران / 39].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر (فنادته) بالتاء.
وقرأ حمزة والكسائي (فناداه) بإمالة الدال (3).
قال أبو علي: من قرأ {(فنادته)} بالتاء فلموضع الجماعة، والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير يجري مجرى ما لا يعقل، ألا ترى أنّك تقول: هي الرجال، كما تقول هي الجذوع، وهي الجمال؟ فعلى هذا أنّث كما جاء: {قالت الأعراب}
[الحجرات / 14] ومن زعم أنّ التأنيث يكره هاهنا لأنّ فيه كالتحقيق لما كانوا يدّعونه في الملائكة لم يكن هذا بحجة على من قرأ بالتاء. ألا ترى أنّه قد جاء: {إذ قالت الملائكة}
[آل عمران / 45]؟ فلو كان في تأنيث هذا حجة لما كانوا يدّعونه في الملائكة لكان في تذكير [نحو قوله] (4) والملائكة باسطو أيديهم [الأنعام / 93]، {والملائكة يدخلون عليهم}
[الرعد / 23] حجة عليهم، ولكان في نحو قوله: {إذ قالت الملائكة} حجة لهم، فليس هذا بشيء. ومن قرأ (5): فناداه
__________
(1) في السبعة: «الياء» بدل الألف.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة ص 204.
(4) زيادة من (ط).
(5) في (ط): قال.(3/37)
الملائكة، فهو كقوله: {وقال نسوة في المدينة} [يوسف / 30] وأمّا إمالة الألف في ناداه فحسنة لأنّها تصير إلى الياء، من الواو كانت أو من الياء، فتحسن الإمالة للانتحاء نحو ما الألف منقلبة عنه وهو الياء. وحجة التفخيم في ناداه أنّه في قلبه الياء إلى الألف فرّ من الياء، فإذا أمال بعد فقد قرّب الحرف مما كان كرهه وفرّ منه.
قال سيبويه: ولا تقول (1) ذلك في حبلى، لأنّه لم يفرّ فيها (2) من ياء (3). يريد أنّ ألف حبلى لم تكن ياء قلبت ألفا، إنّما هي في أصلها ألف مزيدة للتأنيث.
آل عمران: 39
واختلفوا (4) في كسر الألف في (5) (إنّ) وفتحها من قوله تعالى (6): {[في المحراب] أن الله} [آل عمران / 39].
فقرأ ابن عامر وحمزة: إنّ الله بالكسر.
وقرأ الباقون: {أن الله} بالفتح (7).
قال أبو علي (8): من فتح «أنّ» المعنى: فنادته بأنّ الله، فلمّا حذف الجارّ منها وصل الفعل إليها فنصبها، فأنّ في موضع نصب،
__________
(1) في سيبويه: يقول.
(2) في (ط): منها.
(3) انظر سيبويه 2/ 263.
(4) سقطت الواو من (ط).
(5) في (ط): من.
(6) سقطت من (ط).
(7) السبعة ص 205.
(8) في (ط): فقول.(3/38)
وعلى قياس قول الخليل في موضع جرّ. ومن كسر أضمر القول، كأنّه: نادته فقالت: إنّ الله فحذف القول كما حذف في قول من كسر، فقال: {فدعا ربه إني مغلوب} [القمر / 10] وإضمار القول كثير في هذا النحو، كما قال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} [الرعد / 23] {والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا} [الأنعام / 93]. {فاما الذين اسودت وجوههم أكفرتم}
[آل عمران / 106]. فأضمر القول في ذلك كلّه. وزعموا أنّ في حرف عبد الله فنادته الملائكة يا زكرياء إن الله فقوله: يا زكرياء في موضع نصب بوقوع النداء عليه، وكذلك إن أضمرت يا زكرياء ولم تذكره كان جائزا وحذف كما حذف المفعول من الكلام، ولا يجوز الفتح في (إنّ) على هذا، لأنّ ناديت قد استوفى (1) مفعوليها، أحدهما: علامة الضمير، والآخر: المنادى، فإن فتحت (أنّ) لم يكن لها شيء يتعلق به.
قال (2): وكلهم [فتح الراء من: {المحراب}] (3)
[آل عمران / 37و 39]: إلا ابن عامر فإنه أمالها.
قال أبو علي: قد أطلق أبو بكر القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب. ولم يخصّ به الجرّ من غيره. وقال غيره:
إنّما يميله في الجر. وحجة من لم يمل أنّ «راب» من محراب
__________
(1) في (ط): استوفت.
(2) سقطت قال من (م).
(3) ما بين معقوفين أثبتناه من السبعة بدلا من عبارة الأصل عندنا وهي:
«وكلهم قرأ (من المحراب) بفتح الراء» لموافقته لما جاء في آل عمران، وما جاء في أصلنا هو من [سورة مريم / 11].(3/39)
بمنزلة راء وراءة (1) ونحو ذلك. فكما لا تمال الراء من هذا النحو كذلك ينبغي أن لا تمال من المحراب (2) في الجرّ ولا في الرفع.
ألا ترى أنّه لا تمال رادة من قولهم: ريح رادة وراشد؟. والراء من «راب» بمنزلة الراء من راشد. فإن قلت: فهلّا جازت إمالتها للكسرة التي في الميم كما جازت الإمالة في مقلات (3) للكسرة.
قيل إنّ من أمال مقلاتا، إنّما أماله لأنّه قدّر الكسرة كأنّها على القاف، لأنّها تليها، والقاف إذا تحركت بالكسر حسنت إمالة الألف بعدها. نحو: ققاف وغلاب. ولو قدّرت الكسرة على الحاء من محراب كما قدّرتها على القاف من مقلات لم تحسن (4) الإمالة، ألا ترى أنّ «حراب» بمنزلة فراش، وفراس؟.
وقد قال (5): إنّهم لا يميلون فراشا (6)، فكذلك المحراب، يريد سيبويه، بقوله: لا يميلون، لا يميله الأكثر. وحجة من أمال الألف من «محراب» أنّ سيبويه قد زعم أنّهم قالوا: عمران، ولم يميلوا برقان يعني: أنّهم لم يجعلوا الراء كالمستعلي في منع الإمالة، فعلى هذا يجوز أن تمال الألف في (7) «محراب» في
__________
(1) الراءة: الرؤية.
(2) في (ط): محراب.
(3) قال في اللسان (قلت): أقلتت المرأة إقلاتا، فهي مقلت ومقلات إذا لم يبق لها ولد، وقيل: هي التي تلد واحدا ثمّ لا تلد بعد ذلك. قال كثير أو غيره:
بغاث الطّير أكثرها فراخا ... وأمّ الصقر مقلات نزور
ونسب البيت في (بغث) للعباس بن مرداس، وفي المخصص المجلد الثاني السفر الثامن ص 144: نسبه للنجاشي.
(4) في (ط) لم تجز.
(5) في (ط) قد قالوا.
(6) الكتاب 2/ 267: (هذا باب الراء).
(7) في (ط): من.(3/40)
الرفع، وزعم أيضا أنّهم قالوا: ذا (1) فراش، هذا جراب، لما كانت الكسرة أولا والألف زائدة. قال: والنصب فيه كلّه حسن (2).
آل عمران: 39
اختلفوا في ضمّ الياء (3) وفتحها أو فتح الباء وسكونها والتثقيل (4) من قوله جلّ وعزّ (5): {يبشرك} [آل عمران / 39].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {يبشرك} بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن، إلّا في {عسق} فإنّهما قرأ ذلك الذي يبشر الله عباده [الشورى / 23] مفتوح الياء مضموم الشين مخففا.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم {يبشرك} مشدّدا في كلّ القرآن.
وقرأ حمزة يبشر خفيفا (6)، مما لم يقع في كلّ القرآن، إلّا قوله تعالى (7): {فبم تبشرون} [الحجر / 54].
وقرأ الكسائي يبشر مخففة في خمسة مواضع: في آل عمران في قصة زكريا، وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل، وفي
__________
(1) في (ط): هذا.
(2) في (ط): أحسن.
(3) كذا في (ط) وفي (م) الراء. والصواب ما أثبتناه. من (ط) والسبعة.
(4) في السبعة: وتثقيل الشين.
(5) سقطت من (ط).
(6) في السبعة أخر قوله: خفيفا، إلى ما بعد قوله: مما لم يقع، ويريد بقوله: مما لم يقع خفيفا في كل القرآن، أي ما وقع مشددا بجميع صوره واشتقاقاته في القرآن كله قرأه حمزة خفيفا إلّا ما استثناه من ذلك.
(7) سقطت من (ط).(3/41)
الكهف: ويبشر المؤمنين [الإسراء / 9] وفي عسق: يبشر الله عباده (1) [الشورى / 23].
[قال أبو علي] (2): قال أبو عبيدة: يبشّرك، ويبشرك ويبشرك وبشرناه (3) واحد (4).
قال أبو الحسن في يبشّر: ثلاث لغات: بشّر وبشر وأبشر يبشر بكسر الشين إبشارا، وبشر يبشر بشرا وبشورا يقال: أتاك أمر بشرت به، وأبشرت به في معنى بشّرت به ومنه {وأبشروا بالجنة}
[فصلت / 30]. وأنشد:
وإذا رأيت الباهشين إلى العلى ... غبرا أكفّهم بقاع ممحل
فأعنهم وابشر بما بشروا به ... وإذا هم نزلوا بضنك فانزل (5)
وقال أبو زيد: بشّرت القوم بالخير تبشيرا، والاسم:
البشرى. وأبشر (6) بالخير إبشارا، وبشّرت الناقة باللّقاح حين يعلم ذاك منها أول ما تلقح.
__________
(1) انظر السبعة ص 206205.
(2) سقطت من (ط).
(3) كذا في (ط)، وسقطت من (م).
(4) في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 91: يبشّرك ويبشرك فقط.
(5) البيتان آخر مفضلية برقم 116ص 385لعبد القيس بن خفاف البرجمي وهي الأصمعية رقم 87وأوردها البغدادي في شرح أبيات المغني 2/ 223، 224 وأوردهما اللسان (بشر) وعزاهما إلى عطية بن زيد أو لعبد القيس بن خفاف البرجميّ.
(6) في (ط): وأبشر يا فلان.(3/42)
قال أبو علي: إذا كانت هذه اللغات في الكلمة شائعة فأخذ القارئ بإحداها وجمعه بينها مستقيم سائغ.
آل عمران: 48
اختلفوا في النون والياء من قوله تعالى (1): {ويعلمه الكتاب} [آل عمران / 48].
فقرأ نافع وعاصم: {ويعلمه الكتاب} بالياء، وقرأ الباقون:
ونعلمه بالنون (2).
فحجّة من قرأ: {يعلمه} أنّه عطفه على قوله: {إن الله يبشرك}، {ويعلمه} على العطف على {يبشرك}. ومن قال: نعلمه:
فهو على هذا المعنى، إلّا أنّه جعله على نحو (3) {نحن قدرنا بينكم الموت} [الواقعة / 60].
قال: كلّهم قرأ: {أني أخلق لكم} [آل عمران / 49].
وقرأ نافع: (إني) (4).
قال أبو عليّ: قول من فتح (أنّ) أنّه جعلها بدلا من (آية):
كأنّه قال: وجئتكم بأنّي أخلق لكم. ومن كسر إنّ احتمل وجهين:
أحدهما: أنّه استأنف، وقطع الكلام مما قبله.
والآخر: أنّه فسّر الآية بقوله: إنّي أخلق لكم من الطين، كما فسّر الوعد في قوله: {وعد الله الذين آمنوا} بقوله: {لهم مغفرة}
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة ص 206.
(3) سقطت من (ط).
(4) انظر السبعة ص 206.(3/43)
[المائدة / 9] وكما فسّر المثل في قوله: {كمثل آدم}
[آل عمران / 59] بقوله: {خلقه من تراب} [آل عمران / 59] وهذا الوجه (1) أحسن ليكون في المعنى كمن فتح وأبدل من (آية).
قال: وكلّهم قرأ: {فيكون طيرا} [آل عمران / 49] بغير ألف غير نافع فإنّه قرأ: طائرا بألف هاهنا، وفي المائدة (2).
قال أبو علي: حجّة من قرأ: {فيكون طيرا} قوله تعالى (3):
{إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} [آل عمران / 49] ولم يقل كهيئة الطائر، فكذلك يكون {كهيئة الطير} (4) وكذلك التي في المائدة، إلّا أنّ هاهنا {فأنفخ فيه} وثمّ {فتنفخ فيها}
[المائدة / 110] فيجوز أن يكون على الهيئة مرة وعلى الطير أخرى، ويجوز أن يكون ذكّر الطير على معنى الجمع، وأنّث على معنى الجماعة. وقالوا: طائر، وأطيار، فهذا يكون كصاحب وأصحاب.
وقال أبو الحسن: وقول العرب: طيور جمعوا الجمع، ووجه قراءة من قرأ، فيكون طائرا أنّه أراد: يكون ما أنفخ فيه، أو ما أخلقه طائرا، فأفرد لذلك، أو يكون أراد: يكون كلّ واحد من ذلك طائرا كما قال: فاجلدوهم ثمانين جلدة، أي اجلدوا كلّ واحد منهم.
آل عمران: 57
قال [أحمد] (5): ولم يختلفوا في النون من قوله تعالى (6):
__________
(1) سقطت من (م).
(2) ابن مجاهد في السبعة ص 206.
(3) سقطت من (ط).
(4) في ط: طيرا.
(5) زيادة من (ط).
(6) سقطت من (ط).(3/44)
فنوفيهم أجورهم [آل عمران / 57، النساء / 173] إلّا ما رواه حفص عن عاصم فإنّه (1) روى عنه بالياء (2).
قال أبو علي (3): وجه من قرأ بالنون قوله: {فأما الذين كفروا فأعذبهم} [آل عمران / 56] فقوله: فنوفيهم بالنون (4) في المعنى مثل {فأعذبهم}. ومما يحسّن ذلك قوله: {ذلك نتلوه عليك}
[آل عمران / 58]، ومن قرأ بالياء فلأنّ ذكر الله سبحانه قد تقدّم في قوله: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك [ورافعك إلي]} (5) [آل عمران / 55] فيحمل على لفظ الغيبة لتقدّم هذا الذكر، إذ صار في لفظ الخطاب في قوله: {فأعذبهم} وقوله:
{فيوفيهم} إلى الغيبة كقوله: {فأولئك هم المضعفون}
[الروم / 39] بعد قوله: {وما آتيتم من زكاة} [الروم / 39].
آل عمران: 59
قال: وقرأ ابن عامر وحده: فيكون [آل عمران / 59] بالنصب وهو وهم.
وقال هشام بن عمار: كان أيوب بن تميم يقرأ: فيكون نصبا ثم رجع فقرأ: {فيكون} رفعا (6).
[قال أبو علي] (7) قد تقدّم ذكر ذلك في سورة البقرة (8).
آل عمران: 66
اختلفوا في المدّ في {ها أنتم} [آل عمران / 66] والهمز وتركه.
__________
(1) في (ط): روي. وفي السبعة: رواه.
(2) السبعة ص 206.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (م).
(5) زيادة من (ط).
(6) ابن مجاهد في السبعة ص 206، 207.
(7) سقطت من (ط).
(8) انظر 2/ 203.(3/45)
فقرأ ابن كثير: هأنتم لا يمدّها، ويهمز أنتم. وقرأت أنا على قنبل عن ابن كثير: هأنتم في وزن «هعنتم».
وقرأ نافع وأبو عمرو هآنتم: ممدودا استفهام (1) بلا همز.
وقال علي بن نصر عن أبي عمرو أنه كان يخفف ولا يهمز استفهاما بلا همز.
وقال أحمد بن صالح عن ورش وقالون عن نافع ممدود غير مهموز (2).
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {ها أنتم} ممدود مهموز. ولم يختلفوا في مدّ (هؤلاء)، و (ألاء) (3).
[قال أبو علي] (4): أمّا قول ابن كثير (هأنتم هؤلاء) فوجهه: أنّه أبدل من همزة الاستفهام الهاء، أراد: أأنتم فأبدل من الهمزة الهاء. فإن قلت: هلّا لم يجز البدل من الهمزة لأنّه (5) على حرف واحد؟ وإذا كان على حرف واحد وأبدلت منه لم يبق شيء من الحرف يدلّ عليه، فيكون الإبدال منه كالحذف له، فكما لا يجوز حذفه، كذلك لا يجوز البدل منه. قيل: لا يمتنع البدل منه، وإن كان على حرف، وما ذكرته ضرب من القياس الذي جاء
__________
(1) في (ط): استفهاما.
(2) في حاشية (ط): بلغت.
(3) السبعة ص 207وفيه اختلاف يسير في الألفاظ عمّا هنا، ولكن المؤدى واحد.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): لأنّها.(3/46)
استعمالهم بخلافه. ألا ترى أنّهم قد أبدلوا من الباء الواو في قولهم: والله، وأبدلوا من الواو التاء في تالله؟ فهذه حروف مفردة وقد وقع الإبدال منها كما ترى، فكذلك تكون الهاء بدلا من الهمزة. فإن قلت: فهل يجوز أن تكون الهاء التي (1) في «ها» التي للتنبيه، كأنّه أراد: ها أنتم، فحذف الألف من الحرف، كما حذف (2) من «ها» (3) في قولهم: هلمّ؟.
قيل: لا يسهل ذلك، لأنّ الحروف لا يحذف منها، إلّا إذا كان فيها تضعيف، وليس ذلك في «ها» وإنّما حذف من هلمّ لأنّ اللّام التي هي فاء في تقدير السكون، لأنّها متحركة بحركة منقولة [إليها، والحركة المنقولة قد يكون] (4) الحرف المتحرك بها في نيّة السكون. كقولهم: الحمر، فاللّام في تقدير سكون بدلالة تقدير الهمزة التي للوصل معها، فكذلك اللّام في هلمّ. فإذا كان في نيّة سكون استقام حذف الألف من «ها» كما تحذف لالتقاء الساكنين، وليس ذلك في (هأنتم) فإذا كان كذلك لم يستقم الحذف فيه كما جاء في هلمّ. ومعنى الاستفهام في أأنتم تقرير.
فأمّا قراءة نافع وأبي عمرو (هانتم) فتحتمل ضربين:
أحدهما (5): يجوز أن تكون (ها) التي للتنبيه دخلت على أنتم
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): تحذف.
(3) في (م) رسمها متصلة هكذا «منها».
(4) جاءت العبارة المحصورة بين معقوفين في (م) كذا: «وفيها الحركة المنقولة بدلا من» وما أثبتناه من (ط) أبين.
(5) سقطت من (ط).(3/47)
ويكون التنبيه داخلا على الجملة كما دخل في قوله (1): هلمّ، وكما دخلت (يا) التي للتنبيه في نحو ألا يا اسجدوا [النمل / 25] وكما دخلت فيما أنشده أبو زيد [من قوله] (2):
يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم ... أمّ الهنيبر من زند لها واري (3)
[وكما أنشد غيره:
يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا] (4)
فإن شئت قلت: إنّ «يا» دخلت يراد بها منادى محذوف كقوله:
أيا شاعرا لا شاعر اليوم مثله (5) *
__________
(1) في (ط): قولهم.
(2) سقطت من (ط).
(3) سبق في ص 11.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من (م) وهذا صدر بيت عجزه:
من هؤليائكنّ الضّال والسّمر وهو من شواهد شرح أبيات المغني 8/ 71ذكره مع جملة أبيات انظر تخريجه هناك. والبيت مختلف في نسبته، فهو للعرجي كما نسبه العيني ولكامل الثقفي كما في الدمية ولحسين بن عبد الرحمن العريني عند الصاغاني ولعلي بن محمد العريني، وهو متأخر، عند السخاوي شارح المفصل. قاله البغدادي في شرح أبيات المغني 8/ 73.
(5) هذا صدر بيت للصلتان العبدي وعجزه:
جرير ولكن في كليب تواضع.
انظر الكتاب 1/ 328والخزانة 1/ 304والمحتسب 1/ 311والبيت من قصيدة طويلة يحكم فيها بين جرير والفرزدق فيحكم لجرير بالشعر وللفرزدق بالمجد انظرها في الأمالي 2/ 141، 142.(3/48)
وكقوله:
يا لعنة الله والأقوام كلّهم (1) *
وإن شئت جعلته لاحقا للجماعة بدلالة قولهم: هلم، ألا ترى أنّه لاحق للجملة التي هي (لمّ) بدلالة أن الفريقين جميعا من يثنّي الفاعل فيه ويجمع، ومن لا يفعل ذلك قد اتفقوا على فتح الآخر منه؟ وإنّما فتح الآخر منه لبنائها مع الكلمة، ولا يجوز مع هذا البناء وكون الكلمتين بمنزلة شيء واحد أن تقدر منبّها، فكما أنّ هذا لاحق للجملة كذلك يجوز في: «يا قاتل الله» (2) وقوله: ألا يا اسجدوا [النمل / 25] لاحقا لها.
فأمّا الهمزة من (أنتم) فيجوز أن تخفّف ولا تحقّق لوقوعها بعد الألف، كما تقول في هباءة: هباة، وفي المسائل: المسايل ويجوز أن تكون الهاء في (3) ها أنتم بدلا من همزة الاستفهام، كما كانت بدلا منها في قول ابن كثير، وتكون الألف التي تدخل بين الهمزتين لتفصل بينهما، كما تدخل بين النونين لتفصل بينهما في اخشينانّ.
فإن قلت: إنّ الألف إنّما تلحق لتفصل بين المثلين في:
__________
(1) هذا صدر بيت عجزه:
والصالحين على سمعان من جار انظر الكامل 3/ 1016الكتاب 1/ 320والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 6/ 171، ولم ينسب لقائل.
(2) هذا أوّل بيت، سبق قريبا.
(3) في (ط): من.(3/49)
اخشينانّ، وأاأنتم، واجتماع المثلين قد زال بإبدال الهاء من الهمزة فلا يحتاج إلى الألف، وإذا لم يحتج (1) إليها كان قوله: ها أنتم (ها) فيه للتنبيه (2)، ولا تكون الهاء فيه بدلا من الهمزة، ألا ترى أنّ من قال: هراق قال: أهريق، ولم يحذف الهاء (3) مع الهمزة كما يحذف إذا قال: أريق لزوال اجتماع المثلين؟. قيل: إنّ البدل قد يكون في حكم المبدل منه، ألا ترى أنّك لو سميت رجلا بهرق لقلت: هريق فلم تصرف كما لا تصرف مع الهمزة، وأنّ حكم الهاء حكم الهمزة؟ وكذلك الهمزة في حمراء، حكمها حكم الألف التي انقلبت عنه في امتناع الصّرف، وكذلك الهمزة في علياء، حكمها حكم الياء التي انقلبت عنها في مثل درحاية (4)، وكذلك قال أبو الحسن: إنّك لو سمّيت بأصيلال لم تصرفه، فجعل (5)
اللام في حكم النون، وذلك لما قامت الدلالة عليه من أن النون في عطشان لما كانت بدلا من الهمزة في حمراء جرى عليها ما جرى على الهمزة، فكذلك تكون الهاء إذا كانت بدلا من الهمزة تجتلب الألف معها كما كانت تجتلب مع الهمزة، وتخفّف الهمزة من أنتم بعد الألف الفاصلة كما تخفّف بعد الألف من (6) (ها) فإن كان ما حكوه في الترجمة حكوه عن أبي عمرو، فإنّه يدل على أنّه كان
__________
(1) في (م): فلا تحتاج لم نحتج وما أثبتناه من (ط).
(2) كذا في (ط)، وفي (م): للتثنية وهو خطأ.
(3) كذا في (ط)، وفي (م): الياء. وهو سبق قلم من الناسخ.
(4) في القاموس (درح): رجل درحاية: بالكسر، قصير سمين بطين.
(5) في (ط): فجعلت.
(6) في (ط): في.(3/50)
يذهب (1) إلى أنّه استفهام، وكذلك، ما حكي عن نافع ممدود غير مهموز. يريد: أنّه ممدود غير محقّق الهمزة.
وأما قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (ها أنتم) ممدود مهموز، فإنّ (ها) فيه تحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما في قراءة نافع وأبي عمرو إلّا أنّهم حقّقوا الهمزة التي هي بعد الألف ولم يخفّفوها كما خفّفها أبو عمرو ونافع، وإن لم يروا إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين، كما يراه أبو عمرو في نحو أاأنتم. فينبغي أن تكون (ها) في قولهم حرف التنبيه، ولا تكون الهاء (2) بدلا من همزة الاستفهام، كما يجوز أن تكون بدلا منها على قول من أدخل الألف بين الهمزتين. قال: ولم يختلفوا في مدّ هؤلاء، وألاء.
قال أبو علي: في هؤلاء لغتان: المدّ والقصر كالتي في قول الأعشى (3):
هاؤلى ثمّ هاؤلى (4) كلّا اعطي ... ت نعالا محذوّة بمثال
__________
(1) في (ط): يذهب فيه.
(2) في (م): «الياء» بدل «الهاء» والصواب ما أثبتناه.
(3) البيت في ديوانه / 11، والمقتضب 4/ 278، وفي ابن الشجري 1/ 30 وابن يعيش 3/ 137، وشرح أبيات المغني 2/ 195: «بنعال» بدل «بمثال» وكذلك جاء في (ط). وهو من قصيدة طويلة يمدح فيها الأسود اللخمي. ويشير بذلك إلى إيقاعه ببني محارب حين أحمى لهم الأحجار، وسيّرهم عليها، فتساقط لحم أقدامهم. وحذا النعل: قطعها وقدرها على مثال (انظر حاشية الديوان).
(4) رسمها في (ط) في الموطنين «هاؤلا» بإبقاء ألف هؤلاء على رسمها بعد قصرها بحذف الهمزة بعدها.(3/51)
آل عمران: 73
وكلّهم (1) قرأ: {أن يؤتى أحد} غير ممدود، إلّا ابن كثير فإنّه قرأ: {أن يؤتى أحد}، ممدودا [آل عمران / 73] (2).
قال أبو علي: فقول الباقين أن المعنى على قراءة الجماعة (3): لا تصدقوا إلّا لمن تبع دينكم، أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وقوله: {قل إن الهدى هدى الله} [آل عمران / 73] اعتراض بين المفعول وفعله، والتقدير: لا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا لمن تبع دينكم.
فأمّا قوله: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم [آل عمران / 73] فإن (4) أول الآية: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار} [آل عمران / 72] فقوله (5): {ولا تؤمنوا} {أن يؤتى أحد} يكون تؤمنوا فيه متعدّيا بالجارّ، كما كان في أول الآية متعديا به. وإذا حذفت (6) الجارّ من «أن» كان موضع «أن» على الخلاف، يكون (7) في قول الخليل جرّا، وفي قول سيبويه نصبا. وأمّا اللّام في (8) قوله: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} [آل عمران / 73]
__________
(1) في (ط): كلهم.
(2) السبعة 207.
(3) جاءت العبارة في (م) كما يلي. ابن كثير (آن يؤتى أحد) والباقون: [(أن يؤتى أحد)] وأثبتنا ما بين معقوفين من: (ط) لوضوحه.
(4) في (ط): فإن في.
(5) في (م): «وقوله».
(6) في (ط): حذف.
(7) سقطت من (ط).
(8) في (ط): من.(3/52)
فلا يسهل أن يعلّقه ب {تؤمنوا} وأنت قد أوصلته بحرف آخر جارّ فتعلّق بالفعل جارّين، كما لا يستقيم أن تعدّيه إلى مفعولين إذا كان يتعدى إلى مفعول واحد، ألا ترى أنّ تعدّي الفعل بالجارّ كتعديه بالهمزة، وتضعيف العين؟ فكما لا يتكرر هذان، كذلك لا يتكرر الجارّ. فإن قلت: فقد جاء:
فلأبغينّكم قنا وعوارضا ... ولأقبلنّ الخليل لابة ضرغد (1)
والتقدير: لأقبلنّ بالخيل (2) إلى هذا الموضع. فإنّ هذا إنّما جار لأنّ الثاني من المفعولين مكان، فيجوز أن يكون شبه المختص بالمبهم كقولهم: ذهبت الشام، فيمن لم يجعل الشام اسم الجهة. فإذا لم يسهل تعليق المفعولين به حملته على المعنى، والمعنى:
لا تقرّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا لمن تبع دينكم، كما تقول:
أقررت لزيد بألف، فيكون اللام متعلقا بالمعنى، ولا تكون زائدة على حدّ {إن كنتم للرءيا تعبرون} [يوسف / 43] ولكن متعلق بالإقرار.
فإن قلت: فهذا فعل قد تعلّق بجارّين. فإن الجارّين [لم
__________
(1) البيت لعامر بن الطفيل من أصمعية برقم 78ص 216قالها في يوم الرقم كما في معجم البلدان 3/ 456 (ضرغد) وهي المفضلية رقم 107ص 363وفي الكتاب 1/ 82، 109، وابن الشجري 2/ 248والخزانة 1/ 470وشرح أبيات المغني 8/ 4. قال ابن الأنباري في شرح المفضليات ص 712. قال الأثرم: الملا: من أرض كلب، وعوارض: جبل في بلاد بني أسد، واللابة:
الحرة. وضرغد: من أرض العالية. ولابة ضرغد: حرة لبني تميم اهـ ورواية المصنف رواية الأصمعيات ويروى البيت فلأنعينّكم، بالعين المهملة قبلها نون ولأهبطنّ، بدل: لأقبلنّ. كما في المفضليات.
(2) في (م): «الخيل» بدون حرف جار، والتقدير جرى عليه.(3/53)
يتعلقا به] (1) على حدّ أنّه (2) مفعول بهما، ولكن أحدهما على غير أنّه (3) مفعول به، والمفعول به إذا تعدى الفعل إليه بالجارّ أشبه الظرف، ولذلك جاز: «سير بزيد فرسخ» فأقمت الظرف مقام الفاعل، مع أنّ في الكلام مفعولا به على المعنى، لما كان المفعول به الذي هو الجار والمجرور يشبه الظرف، ولولا ذلك لم يجز: «سير بزيد فرسخ». فالمعنى: لا تقرّوا أن يؤتى أحد إلّا لمن تبع دينكم، فاللام غير زائدة. وإن شئت حملت الكلام على معنى الجحود، لأنّ معنى لا تؤمنوا: اجحدوا، فكأنّه قيل: اجحدوا أن يؤتى أحد، أو اجحدوا بأن يؤتى أحد إلّا من تبع دينكم، كأنه قيل:
اجحدوا الناس إلّا من (4) تبع دينكم، فتكون اللّام على هذا زائدة.
وقد تعدى (آمن) باللّام في غير هذا، قال تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية} [يونس / 83] وقال: {آمنتم له قبل أن آذن لكم}
[الشعراء / 49، وطه / 71] و {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين}
[التوبة / 61] فتعدى مرّة بالباء، ومرّة باللّام. فأمّا قوله: {أن يؤتى أحد} [فإنّ قوله: أحد] (5) إنّما دخل للنفي الواقع في أوّل الكلام، وهو قوله: {ولا تؤمنوا} كما دخلت من في قوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة / 105] فكما دخلت من في صلة «أن ينزّل» لأنّه مفعول النفي اللّاحق لأول الكلام، كذلك دخل أحد في
__________
(1) في (ط): لم يتعلّق بهما.
(2) في (ط): أنهما.
(3) زيادة من (ط).
(4) في (ط): لمن.
(5) في (م): «فإنّ أحدا».(3/54)
صلة «أن» من قوله: {أن يؤتى أحد} لدخول النفي في أول الكلام.
ووجه قول ابن كثير أنّ: (أن) في موضع رفع بالابتداء. ألا ترى أنّه لا يجوز أن يحمل على ما قبله من الفعل لقطع الاستفهام بينهما، كما كان يحمل عليه قبل؟ فارتفع بالابتداء. وخبره:
تصدّقون به، وتعترفون (1) به، أو تذكرونه لغيركم، ونحو هذا مما دلّ عليه قوله: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}، وهذا في (2) قول من قال: أزيد ضربته، ومن قال: أزيدا ضربته، كان (أن) عنده (3) في موضع نصب، ومثل حذف خبر المبتدأ هنا، لدلالة ما قبل الاستفهام عليه، حذف الفعل في قوله [جلّ وعزّ] (4) {آلآن وقد عصيت قبل} [يونس / 91] التقدير: الآن أسلمت حين لا ينفعك الإيمان، للإلجاء من أجل المعاينة إلى الإيمان، كما قال: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل}
[الأنعام / 158] فحذف الفعل لدلالة ما قبل الاستفهام عليه، فكذلك حذف خبر المبتدأ من قوله: {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم}
[آل عمران / 73] ويجوز أن يكون موضع (أن) نصبا فيكون المعنى (5): أتشيعون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو أتذكرون أن يؤتى أحد. ويدلّ على جواز ذلك قوله تعالى (6): {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} [البقرة / 76]
__________
(1) في (ط): أو تعترفون.
(2) في (ط): «من».
(3) سقطت «أن» من (م).
(4) زيادة من (ط).
(5) في (ط): التقدير.
(6) سقطت من (ط).(3/55)
فحديثهم بذلك إشاعة منهم له ذكر وإفشاء. ومثل هذا في المعنى في قراءة ابن كثير قوله: {وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون} [البقرة / 76] فوبخ بعضهم بعضا. بالحديث بما علموه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم (1) وعرفوه من وصفه (2)، فهذه الآية في معنى قراءة ابن كثير، ولعله اعتبرها في قراءته هذه (3). فإن قلت: فكيف وجه دخول أحد في قراءة ابن كثير، وقد انقطع من النفي بلحاق الاستفهام، والاستفهام ما بعده منقطع مما قبله، والاستفهام على قوله تقرير وتوبيخ كما أنه في (4)
قوله: {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} تقرير، وإذا كان تقريرا كان بمعنى الإيجاب، وإذا كان بمعنى الإيجاب، لم يجز دخول أحد في الكلام كما لم يجز دخوله في الإيجاب، ألا ترى أن التقرير لا يجاب بالفاء كما لا يجاب الإيجاب بها؟ وأحد على قول ابن كثير أيضا يدلّ (5) على الكثرة، كما أنّه في قول سائرهم ممن لا يستفهم كذلك، ألا ترى أن بعده: {أو يحاجوكم} والضمير ضمير جماعة؟ فالقول في ذلك أنّه يجوز أن يكون أحد في هذا الموضع أحدا الذي في نحو: أحد وعشرون (6) وهذه تقع في الإيجاب، ألا ترى أنّه بمعنى واحد؟.
__________
(1) سقطت (وسلم) من (ط).
(2) في (ط): صفته.
(3) زيادة من (ط).
(4) في (ط): على.
(5) في (ط): يدل أيضا.
(6) في (ط): أحد وعشرين.(3/56)
وقد قال أحمد بن يحيى: إن أحدا، ووحدا، وواحدا بمعنى، وجمع ضمير أحد، لأنّ المراد به الكثرة، فحمل على المعنى في قوله: {أو يحاجوكم}، وجاز ذلك لأنّ الأسماء المفردة قد تقع للشياع، وفي (1) المواضع التي يراد بها الكثرة، فهذا موضع ينبغي أن ترجّح له قراءة غير ابن كثير على قراءته، لأنّ الأسماء التي هي مفردة تدلّ على الكثرة ليس بالمستمر في كلّ موضع. وفي قراءة غيره ليس يعترض هذا ويقوي قوله:
{يخرجكم طفلا} [غافر / 67] {واجعلنا للمتقين إماما}
[الفرقان / 74] فيمن جعل الإمام مثل كتاب ولم يجعله كصحاف (2).
آل عمران: 80
اختلفوا في ضمّ الرّاء وفتحها من قوله تعالى (3): ولا يأمركم [آل عمران / 80].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي، ولا يأمركم رفعا، وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفا.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة: {ولا يأمركم} نصبا.
ولم يختلفوا في رفع الراء من قوله: {أيأمركم بالكفر}
[آل عمران / 80] إلّا اختلاس أبي عمرو (4).
__________
(1) في (ط): في المواضع.
(2) في (ط): مثل صحاف.
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة ص 213.(3/57)
قال أبو علي: قال سيبويه: قال (1) تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس}
[آل عمران / 79] ثم قال: ولا يأمركم فجاءت منقطعة من الأول، لأنّه أراد: ولا يأمركم الله. قال: وقد نصبها بعضهم على قوله: ما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا (2).
ومما يقوي الرفع أنّه في حرف ابن مسعود زعموا: ولن يأمركم فهذا يدل على الانقطاع من الأول. وممّا يقوّي النصب أنّه قد جاء في السّير فيما ذكر عن (3) بعض شيوخنا أنّ اليهود قالوا:
للنّبيّ صلى الله عليه وسلم (4): أتريد يا محمد أن نتخذك ربّا؟ فقال الله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله} {ولا يأمركم} (5).
آل عمران: 79
اختلفوا في فتح التاء واللام والتخفيف وضمّها والتشديد في (6) قوله [جلّ وعزّ] (7): {تعلمون الكتاب}
[آل عمران / 79].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: تعلمون بإسكان العين ونصب اللام.
__________
(1) في (ط): قوله.
(2) انظر الكتاب 1/ 430.
(3) «عن» زيادة من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) روى هذا الخبر الطبري في تفسيره 3/ 325وابن كثير 1/ 377كلاهما من حديث أبي رافع القرظي. وانظر القرطبي 4/ 123.
(6) في (م): (من) والمتبت من (ط) والسبعة.
(7) سقطت من (ط).(3/58)
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {تعلمون} مثقّلا.
قال أبو علي: قال سيبويه: علّمت: أدّبت، وأعلمت:
آذنت (1)، والباء في قوله: {بما كنتم}. متعلقة بقوله: {كونوا} من قوله: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم} [آل عمران / 79] ومثل ذلك قول طفيل (2):
نزائع مقذوفا على سرواتها ... بما لم تخالسها الغزاة وتركب
وقول الأعشى:
... قالت بما قد أراه بصيرا (3)
فأمّا (ما) في كلتا (4) القراءتين فهي التي مع الفعل بتأويل المصدر مثل أن الناصبة للفعل في أنّها مع الفعل كذلك، والتقدير:
بكونكم تعلمون، ولا عائد من الصلة إلى الموصول، يدلك على ذلك (5) أنه لا يخلو الذكر إن عاد من أن يكون من (6) قوله:
__________
(1) الكتاب 2/ 236.
(2) في (م) «الشاعر» بدل «طفيل» والبيت سبق في 1/ 302وفي المعاني الكبير 1/ 99، وفي ديوانه ص / 23برواية يسهب، قال ابن قتيبة: المسهب:
المهمل المتروك، ويقال: مقذوفا على سرواتها الشحم، بما لم تخالسها الغزاة. أي: حين ترك ركوبها والمخالسة لها سمنت، ولو كان يفعل ذلك بها لضمرت ومن ذهب إلى هذا رواه: «يخالسها الغزاة ويركب».
(3) جزء من بيت للأعشى وتمامه: على أنّها إذ رأتني أقا د قالت
انظر ديوانه / 95.
(4) جاء رسمها في الأصل «كلتى» بالألف المقصورة.
(5) في (م) «يدل على أنه».
(6) في (م): (في).(3/59)
{كنتم} أو من {تعلمون} فلا يجوز أن يعود من قوله: كنتم، لأنّ قوله تعلمون في موضع نصب.
ألا ترى أنّ التقدير: بكونكم عالمين للكتاب؟ وإذا كان في موضع نصب لم يجز أن يقدر في الكلام راجع إلى الموصول لاستيفائه المفعول الذي يقتضيه ظاهرا، ولا يجوز أن يعود من تعلمون، لأنّ قوله تعلمون قد استوفى أيضا المفعول الذي يقتضيه وهو قوله: الكتاب فإذا كان كذلك علمت أنّه لا راجع في الصلة إلى الموصول، ومثل ذلك قوله: {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة / 10] ومثله قوله: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون} [الأعراف / 51] التقدير:
كنسيانهم (1) لقاء يومهم هذا، وككونهم (1) بآياتنا جاحدين.
فأمّا قوله: تعلمون: فهو من العلم الذي يراد به المعرفة فيتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} [البقرة / 65] {والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة / 220]. فإذا ضعّفت العين تعدى إلى مفعولين، كما أنّك لو نقلت بالهمزة كان كذلك، فالمفعول الثاني من قوله: في قراءة من قرأ: {تعلمون الكتاب} محذوف. التقدير:
بما كنتم تعلّمون الناس الكتاب، أو: غيركم الكتاب، ونحو هذا، وحذف [هنا] (3) لأنّ المفعول به قد يحذف من الكلام كثيرا،
__________
(1) في (م): «بنسيانهم وبكونهم» وما أثبتناه من (ط) جار مع قوله تعالى: كما نسوا وما كانوا» أي: وكما كانوا
(3) زيادة من (ط).(3/60)
ومثل ذلك قوله تعالى (1): {وعلم آدم الأسماء كلها}
[البقرة / 31] فهذا منقول من: علم آدم الأسماء، وعلّمه الله الأسماء. وحجّة من قال: (بما كنتم تعلمون)، أبا عمرو قال فيما زعموا: يصدّقها (2): {تدرسون} (3)، ولم يقل: تدرّسون، ومن حجّتها أنّ العالم الدارس قد يدرك بعلمه ودرسه مما (4) يكون داعيا إلى التمسك بعلمه، والعمل به ما يدركه العالم المعلّم في تعليمه، ألا ترى أنّه يتكرر عليه في درسه ما يتكرر في تعليمه مما ينبّه ويبصّر من اللطائف التي يثيرها النظر في حال الدرس؟. [قال أبو زيد كلاما معناه: لا يكون الدرس درسا حتى تقرأه على غيرك] (5).
وحجة من قال: تعلّمون، أن التعليم أبلغ في هذا الموضع، لأنّه إذا علّم الناس فلم يعمل بعلمه، ولم يتمسك بدينه كان مع استحقاق الذّم بترك عمله بعلمه داخلا في جملة من وبّخ بقوله:
{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة / 44]، ومن حجّتهم: أن الذي يعلّم لا يكون إلّا عالما بما يعلّم. فإذا علّم كان عالما، فيعلّم في هذا الموضع، أبلغ لأنّ المعلّم عالم، والعالم لا يدلّ على علّم.
__________
(1) «تعالى» زيادة من (ط).
(2) في (ط) «تصديقها».
(3) جاء في هامش (ط) في نهاية الورقة (114): قال أبو زيد: لا يكون درسا حتى تقرأه على غيرك هـ.
(4) في (ط): (ما).
(5) ما بين المعقوفين ذكر في (ط) وسقط من (م). وتكرر في (ط) على الحاشية كما سبقت الإشارة إلى ذلك في التعليق؟.(3/61)
آل عمران: 81
واختلفوا (1) في فتح اللام وكسرها من قوله: {لما آتيتكم}
[آل عمران / 81].
فقرأ حمزة وحده: (لما) مكسورة اللّام.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: {لما} مفتوحة اللام.
وروى هبيرة عن حفص عن عاصم (لما) بكسر اللام، وذلك غير محفوظ عن حفص عن عاصم، والمعروف عن عاصم في رواية حفص وغيره فتح اللام (2).
قال أبو علي: وجه قراءة حمزة (لما آتيتكم) بكسر اللّام أنّه يتعلق بالأخذ كأنّ المعنى: أخذ ميثاقهم لهذا، لأنّ من يؤتى الكتاب والحكمة يؤخذ عليهم الميثاق لما أوتوه من الحكمة، وأنّهم الأفاضل وأماثل الناس. فإن قلت: أرأيت الجملة التي هي قسم هل يفصل بينها وبين المقسم عليه بالجارّ؟. قيل: قد قالوا: «بالله» والجارّ والمجرور متعلقان بالفعل والفاعل المضمرين وكذلك قوله:
ألم ترني عاهدت ربي
على حلفة لا أشتم الدهر (3)
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) السبعة ص 213.
(3) هاتان قطعتان من بيتين للفرزدق، وهما:
ألم ترني عاهدت ربي وإنّني ... لبين رتاج قائما ومقام
على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما ... ولا خارجا من فيّ زور كلام
انظر ديوانه 2/ 769وفيه على قسم بدل على حلفة وسيبويه 1/ 173 والكامل للمبرد 1/ 105والمحتسب 1/ 57وشرح أبيات المغني 5/ 254 وشرح شواهد الشافية 4/ 72.(3/62)
فيمن جعل لا أشتم يتلقى قسما. وهو قول الأكثر، علّق قوله: على حلفة بعاهدت، فكذلك قوله: (لما آتيتكم) في قراءة حمزة. فإن قال (1) إنّ (ما) في قوله: (لما) (2) موصولة، فلا يجوز أن تكون غير موصولة، كما جاز ذلك في قول من فتح اللام، فإذا كان كذلك، لزم (3) أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلّا لم يجز. ألا ترى أنّك لو قلت: الذي قام أبوه ثم انطلق زيد، ذاهب، لم يجز، إذا لم يكن راجع مذكور، وليس يقدّر (4) محذوف؟.
قيل: يجوز أن يكون المظهر بمنزلة المضمر، ألا ترى أنّ قوله: ما معكم هو في المعنى: ما أوتوه من الكتاب والحكمة، فهذا يكون على قياس قول أبي الحسن مثل قوله (5): {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [يوسف / 90] والمعنى كأنّه قال: لا يضيع أجرهم لأنّ المحسنين هو من يتقي (6) ويصبر، وكذلك قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف / 30] المعنى عنده (7) إنّا لا نضيع
__________
(1) في (ط): قيل.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وجب.
(4) في (ط): أو مقدر.
(5) في (ط): قوله تعالى.
(6) في (ط): «يتق» جاءت على أصل القراءة التي أثبتها في الأصلين. وجاءت في (م) «يتقي» بإثبات الياء. على اعتبار أن (من) اسم موصول وليست اسم شرط. وإثبات الياء قراءة قنبل عن ابن كثير وحده في الوصل والوقف. كما في السبعة ص 351.
(7) في (ط): «عندهم».(3/63)
أجرهم لأنّ من أحسن عملا هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فكذلك قوله: {لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} تقديره: مصدّق له: أي: مصدق لما آتيتكم من كتاب وحكمة. ألا ترى أنّ ما معهم هو ما أوتوه من كتاب وحكمة؟
فهذا وجه. ويجوز فيه شيء آخر، وهو: أن يكون: (لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول [مصدق لما معكم لتؤمنن] به) أي: بتصديقه، أي: بتصديق ما آتيتكموه، فحذف من الصلة، وحسن الحذف للطّول، كما حسن الحذف للطول فيما حكاه (1) الخليل من قولهم: «ما أنا بالذي قائل لك شيئا» (2).
فأمّا من فتح اللام فقال: {لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم} فإنّ {ما} فيه تحتمل (3) تأويلين: أحدهما: أن تكون موصولة، والآخر: أن تكون للجزاء. فمن قدّرها موصولة، كان القول فيما يقتضيه قوله: {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم}
[آل عمران / 81] من الراجع إلى الموصول، ما تقدّم ذكره في وجه قراءة حمزة. فأمّا الراجع إلى الموصول من الجملة الأولى فالضمير المحذوف من الصلة تقديره: لما آتيتكموه، فحذف الراجع كما حذف من قوله: {أهذا الذي بعث الله رسولا}
[الفرقان / 41] ونحو ذلك. واللّام في لما فيمن قدّر {ما} موصولة لام الابتداء وهي المتلقية (4) لما أجري مجرى القسم من قوله:
__________
(1) في (ط): ذكره.
(2) في سيبويه 1/ 399: زعم الخليل أنّه سمع عربيّا يقول «ما أنا».
(3) في (ط): «يحتمل».
(4) في (ط): المنقلبة.(3/64)
{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} [آل عمران / 81] وموضع {ما} رفع بالابتداء، والخبر: {لتؤمنن به} [آل عمران / 81] ولتؤمننّ: متعلق بقسم محذوف، المعنى: والله لتؤمننّ به. فإذا قدرت (ما) للجزاء كانت (ما) في موضع نصب بآتيتكم و {جاءكم} في موضع جزم بالعطف على {آتيتكم}، واللّام الداخلة على (ما) لا تكون المتلقية للقسم، ولكن تكون بمنزلة اللّام في قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض} [الأحزاب / 60]. والمتلقية للقسم قوله:
{لتؤمنن به} كما أنّها في قوله: {لئن لم ينته المنافقون} قوله {لنغرينك بهم} [الأحزاب / 60]. وهذه اللّام الداخلة على إن في لئن لا يعتمد القسم عليها، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة كما قال: {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا}
[المائدة / 73] فتلحق هذه اللّام مرة (إن) ولا تلحق أخرى، كما أنّ (1) (أن) كذلك في قوله: والله أن لو فعلت لفعلت، وو الله لو فعلت لفعلت.
فهذه اللام بمنزلة (أن) الواقعة بعد لو. قال سيبويه: سألته يعني الخليل عن قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} [آل عمران / 81] فقال: (ما) هاهنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على (إن) حين قلت: لئن فعلت لأفعلنّ، فاللّام التي في (ما) مثل هذه التي في (إن) واللّام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هاهنا (2).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) انظر الكتاب 1/ 455.(3/65)
قال أبو عثمان: فيما حكى عنه أبو يعلى [ابن أبي زرعة] (1): زعم سيبويه أنّ (ما) هاهنا بمنزلة الذي، ثمّ فسّر تفسير الجزاء.
والقول فيما قاله من أنّ {لما} بمنزلة الذي، أنّه أراد أنّه اسم كما أنّ الذي اسم، وليس بحرف كما كان حرفا في قوله: {وإن كلا لما ليوفينهم} [هود / 111] {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا}
[الزخرف / 35] فهذا المعنى أراد بقوله: أنّه بمنزلة الذي ولم يرد أنّها موصولة كالذي. وإنّما لم يحمله سيبويه على أنّ (ما) موصولة بمنزلة الذي لأنّه لو حمله على ذلك للزم أن يكون في الجملة المعطوفة على الصّلة، ذكر يعود إلى (2) الموصول فلمّا لم ير ذلك مظهرا، ولم ير أن يضع المظهر موضع المضمر كما يراه أبو الحسن، عدل عن القول بأنّ (ما) موصولة إلى أنّها للجزاء، ولا يجيز سيبويه:
لعمرك ما معن بتارك حقّه ولا منسئ أبو زيد (3)
__________
(1) ما بين المعقوفين زيادة من (ط).
(2) في (ط): على.
(3) هكذا وقعت الرواية بالأصل: أبو زيد وبنى عليها الفارسي كما ترى تعليله.
وهذا بيت للفرزدق في ديوانه 1/ 384ونصه:
لعمرك ما معن بتارك حقه ... ولا منسئ معن ولا متيسّر
وهو في الكتاب 1/ 31والخزانة 1/ 181وفي ذيل أمالي القالي ص 73: قال أبو محلم: ومعن: رجل كان كلّاء بالبادية يبيع بالكالئ أي: بالنسيئة، وكان يضرب به المثل في شدّة التقاضي وفيه يقول القائل: قال أبو الحسين أنشدناه المبرد للفرزدق: لعمرك ما معن البيت. اهـ وقال البغدادي في(3/66)
إذا كان أبو زيد كنيته لأنّه ليس باسمه الظاهر ولا المضمر، وأبو الحسن يجيز ذلك فلم يحمل الآية على ما لا يراه، ولم يحملها على الحذف من المعطوف على الصلة أيضا، لأنّه ليس بالكثير، ولا بموضع يليق به الحذف، ألا ترى أنّها إنّما تذكر للإيضاح. فإن قلت فمن جعل (ما) موصولة في قوله: {لما آتيتكم من كتاب وحكمة} [آل عمران / 81] وجب أن تكون على قوله ابتداء، وإذا كانت (1) ابتداء اقتضت (2) خبرا، فما خبر هذا المبتدأ؟.
قيل: خبره قوله: {لتؤمنن به}، والذكر الذي في {به} يعود على الذي آتيتكموه، والذكر الذي في {لتنصرنه} يعود على رسول المتقدم ذكره، ولا يجوز أن يعود الذكر الأول أيضا على رسول (3)
لبقاء الموصول حينئذ غير عائد إليه من خبره ذكر. فأمّا من جعله جزاء فإنّه لا يمتنع على رأيه أن يكون الذكر في لتؤمننّ به عائدا أيضا على رسول المتقدّم ذكره، لأنّ (ما) إذا كانت للجزاء لا تحتاج إلى عائد ذكر، كما تحتاج إليه (ما) التي بمنزلة الذي في أنّها موصولة لأنّ (ما) إذا كانت جزاء مفعول بها، والمفعول لا يحتاج إلى عائد ذكر. فإن قلت: فما وجه قوله: {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم}
__________
الخزانة في شرح البيت: قال شراح أبيات الكتاب: عنى بالبيت معن بن زائدة الشيباني وهو أحد أجواد العرب وهذا غير صحيح، فإن معن بن زائدة متأخر عن الفرزدق، فإنه قد توفي الفرزدق في سنة عشر ومائة وتوفي معن بن زائدة في سنة ثمان وخمسين ومائة.
(1) في (ط): كان.
(2) في (ط): اقتضى.
(3) في (ط): رسول الله.(3/67)
، والنبيّون لم يأتهم الرسول؟ ألا ترى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم (1) لم يكن في وقته رسول ولا نبي، وإنّما الذين [كانوا في زمانه أهل الكتاب] (2). قيل: يجوز أن يعنى بذلك أهل الكتاب في المعنى، لأنّ الميثاق إذا أخذ على النبيّين، فقد أخذ على الذين أوتوا كتبهم من أممهم، وعامّة ما شرع للأنبياء قد شرع لأممهم وأتباعهم، من ذلك (3) أن الفروض التي تلزمنا تلزم نبينا صلى الله عليه وسلم (4)، وإذا كان كذلك، فأخذ الميثاق على النبيّين كأخذ ميثاق الذين أوتوا كتبهم من أممهم. ومن ثم جاء نحو: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق / 1] فجمع النبي صلى الله عليه وسلم (5) ومن تبعه (6) في الخطاب الواحد. فهذا من جهة المعنى. ويجوز من جهة اللفظ أن يكون المراد: وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيّين أو أتباع النبيّين. وأهل الكتاب إنّما يأخذ عليهم الميثاق الأنبياء الذين أتوهم بالكتب، كما أخذه نبيّنا، عليه السلام، على أمّته فيما جاء من قوله (7): {وما لكم لا تؤمنون. بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم} [8] إن كنتم مؤمنين [الحديد / 8].
آل عمران: 81
اختلفوا في التاء والنون من قوله تعالى (9): {آتيتكم}
[آل عمران / 81].
__________
(1) سقطت (وسلم) من (ط).
(2) في (ط): كانوا أهل الكتاب في زمانه.
(3) في (ط): يبين ذلك.
(4) سقطت (وسلم) في (ط).
(5) سقطت (وسلم) من (ط).
(6) في (م): «معه».
(7) في (ط): قوله تعالى.
(8) هذه قراءة أبي عمرو وحده كما سيأتي، وفي (ط) ضبطها (أخذ) على قراءة الجمهور.
(9) سقطت من (ط).(3/68)
فقرأ نافع وحده: (آتيناكم) بالنون. وقرأ الباقون: {آتيتكم}
بالتاء (1).
[قال أبو علي] (2): الحجة لنافع في قراءته: (لما آتيناكم)، قوله تعالى: {وآتينا داود زبورا} [الإسراء / 55] {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم / 12] {وآتيناهما الكتاب المستبين} [الصافات / 17] ونحو ذلك.
وحجة من قال: آتيتكم، قوله: {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات} [الحديد / 9] و {نزل عليك الكتاب بالحق}
[آل عمران / 3] و {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب}
[الكهف / 1].
آل عمران: 83
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى (3): {يبغون}، و (ترجعون) [آل عمران / 83].
فقرأ أبو عمرو وحده: {يبغون}، بالياء مفتوحة (وإليه ترجعون) بالتاء مضمومة. وقرأهما الباقون: (تبغون وإليه ترجعون) بالتاء جميعا.
وروى حفص عن عاصم: {يبغون}، و {يرجعون} بالياء جميعا (4).
قال أبو علي: هذا مخاطبة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم (5)، بدلالة قوله: {قل آمنا بالله} [آل عمران / 84] فإذا كان كذلك كان هذا حجة لمن قرأ
__________
(1) السبعة ص 214.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة ص 214.
(5) سقطت (وسلم) من (ط).(3/69)
بالتاء على تقدير: قل لهم: (أفغير دين الله تبغون وإليه ترجعون) [آل عمران / 83] ليكون مثل (تبغون) في أنّه خطاب. ويؤكّد التاء في (ترجعون) أنّهم كانوا منكرين للبعث، ويدل على ترجعون {إلي مرجعكم} [آل عمران / 55].
وحجة من قرأ بالياء: {يبغون} أنّه على تقدير: قل: كأنّه قل لهم: أفغير دين الله يبغون، وإليه يرجعون؟! فهذا: لأنّهم غيب فجاء على لفظ الغيبة وكذلك: {وإليه يرجعون}. وقد تقدّم القول في ترجعون ويرجعون. والمعنى على الوعيد، أي: أيبغون غير دين الله، ويزيغون عن دينه مع أنّ مرجعهم إليه فيجازيهم على رفضهم له.
وأخذهم ما سواه (1)؟.
[قوله: {إصري} آل عمران / 81] (2).
قال: كلهم قرأ {إصري} بكسر الألف إلّا ما حدّثني به محمد بن أحمد بن واصل قال: حدثنا محمد بن سعدان عن معلّى [ابن منصور] (3) عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ:
أصري بضم الألف (4).
قال أبو علي: يشبه أن يكون الضمّ في «الأصر» لغة في «الإصر».
آل عمران: 97
اختلفوا في نصب الحاء وكسرها من قوله جلّ وعزّ (5): حج البيت [آل عمران / 97].
__________
(1) في (م): «سواه».
(2) ما بين معقوفين ساقط من الأصل، واستدركناه من السبعة.
(3) زيادة في السبعة ص 214.
(4) المصدر السابق.
(5) في (ط): تعالى.(3/70)
فقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: حج البيت بكسر الحاء.
وقرأ الباقون: (حج البيت) بفتح الحاء (1)
قال أبو علي: قال سيبويه: حجّ حجّا، مثل: ذكر ذكرا (2)، فحجّ على هذا مصدر، فهذا حجة لمن كسر الحاء. وقال أبو زيد:
قال المفضّل: أنشدني أبو الغول هذا البيت لبعض أهل اليمن:
لا همّ إن كنت قبلت حجّتج
فلا يزال شاحج يأتيك بج (3)
قال أبو علي فقوله: حجّتي مصدر حججت، حجّة.
قال أبو زيد: الحجج: السنون، واحدتها (4) حجّة.
قال أبو علي: يدلّ على ذلك قوله عزّ وجلّ (5): {على أن تأجرني ثماني حجج} [القصص / 27].
__________
(1) انظر السبعة 214.
(2) الكتاب 2/ 216.
(3) هذان بيتان من مشطور الرجز في النوادر ص 456 (ط الفاتح) ومعهما ثالث هو: أقمر نهات ينزي وفرتج وفيها: «يا رب» مكان «لا هم».
والأبيات في سر صناعة الإعراب 1/ 193، وشرح شواهد الشافية 4/ 215، 216وفي المحتسب 1/ 75ومجالس ثعلب 1/ 171البيتان فقط.
تنويه: توهم البغدادي رحمه الله في شرح شواهد الشافية أن أبا علي الفارسي وابن جني لم يخطر على بالهما رواية هذه الأبيات عن أبي زيد في نوادره، ولهذا نسباها إلى الفراء إلخ ما قال، فهذا إن صح عن ابن جني كما في سر الصناعة، لأنه رواه عن الفراء لا يصح عن الفارسي الذي رواه كما نرى عن أبي زيد عن المفضل عن أبي الغول، وهو السند نفسه في النوادر.
(4) في (م): «واحدها».
(5) في (ط): تعالى.(3/71)
وقال أبو زيد: والحجّة، من حجّ البيت: الواحدة (1).
وقال سيبويه: قالوا: غزاة، فأرادوا عمل وجه واحد، كما قالوا: حجّة يريد (2): عمل سنة (3)، ولم يجيئوا بها على الأصل، ولكنّه اسم له (4):
فقوله: لم يجيئوا به (5) على الأصل، أي: على الفتح الذي هو للدّفعة من الفعل، ولكن كسروه فجعلوه اسما لذا المعنى كما أنّ غزاة كذلك، ولم تجىء فيه الغزوة وكان القياس [أن تجيء] (6).
قال أبو زيد: ويقال: حجّ، وأنشد:
أصوات حج من عمان غادي (7)
قال: يريد أصوات حجّاج، وأنشد أبو زيد:
وإن رأيت الحجج الرّواددا ... قواصرا للعمر أو مواددا (8)
__________
(1) النوادر ص 457.
(2) في (ط): يريد فيه.
(3) في (ط): سنة واحدة.
(4) الكتاب 2/ 230مع اختلاف يسير في العبارة.
(5) في (ط): بها.
(6) زيادة من (ط).
(7) سبق البيت في 2/ 306.
(8) البيت في النوادر / 457وفيه: مراددا» بدل «مواددا» وفي (م) «مواردا» وهو في الخصائص لابن جني 1/ 161، 3/ 87، برواية ما أثبتناه من (ط) وموادد:
على وزن فواعل من صيغ منتهى الجموع وهي قياسية من مادّه في المدة، أي أطالها. وفي الحديث: «إن شاءوا ماددناهم» انظر اللسان والتاج (مدد) والروادد: على وزن فواعل من الفعل (ردّ)، وفي التكملة للصاغاني يشتقها من (رود)، ويجعل واحد الروادد الرودد، وفسره بالعاطف.(3/72)
فالحجج اسم السنين كما قدّمه. وقولهم: حجّ في الحجّاج يجوز أن يكون تسمية بالمصدر على قول من كسر فيكون كزور وعدل، ويجوز أن يكون اسما صيغ للجمع كقوم ورهط.
آل عمران: / 115
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعزّ] (1): وما تفعلوا من خير فلن تكفروه (2) [آل عمران / 115].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر بالتاء، وكان أبو عمرو لا يبالي كيف قرأهما بالياء، أو بالتاء.
وقال علي بن نصر عن هارون عن أبي عمرو بالياء، ولم يذكر التاء. وكان حمزة والكسائي وحفص عن عاصم يقرءونها بالياء (3).
[قال أبو علي] (4): حجة من قرأ بالتاء: قوله (5) {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء / 7] وقوله: {وما تنفقوا من خير، يوف إليكم} [البقرة / 272] وقوله (5): {وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا}
[البقرة / 197] قوله: {يعلمه الله} أي: يجازي (7) عليه.
وحجّة من قرأ بالياء أنّه قد تقدّم {أمة قائمة يتلون آيات الله}
[آل عمران / 113] {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه}
[آل عمران / 115].
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): بالياء في قوله: «يفعلوا يكفروه».
(3) انظر السبعة ص 215.
(4) سقطت من (ط).
(5) زيادة من (ط).
(7) في (م): يجاز.(3/73)
آل عمران: 120
اختلفوا في ضمّ الضّاد وتشديد الرّاء، وكسر الضاد، وتخفيف الراء من قوله تعالى (1) لا يضركم [آل عمران / 120].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (لا يضركم) (2) بكسر الضاد وتخفيف الراء.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: {يضركم}: بضم الضاد وتشديد الراء. [حدثنا ابن مجاهد قال]: أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله المقرئ (3) عن عبد الرزّاق بن الحسن قال حدثنا: أحمد بن جبير قال: حدثنا حجّاج الأعور عن حمزة أنّه
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) ما بين المعقوفين سقطت من (ط).
(3) كذا جاء في الأصل عندنا، وفي السبعة: أخبرني بذلك أبو عبد الله محمد بن عبد الله الرملي، عن عبد الرزاق بن الحسن قال الجزري: هو محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن سليمان أبو بكر الضرير الرملي، من رملة لدّ، يعرف بالداجوني الكبير، إمام كامل ناقل رحّال مشهور ثقة حدّث عنه ابن مجاهد، وحدّث هو عن ابن مجاهد، وصنف كتابا في القراءات، قال الداني: إمام مشهور ثقة مأمون، حافظ، ضابط، رحل إلى العراق وإلى الريّ بعد سنة ثلاثمائة، قلت: وقد دلّس ابن مجاهد اسمه في كتابه فقال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الرملي المقرئ. قال حدثنا عبد الرزاق، فمحمد بن عبد الله هذا هو الداجوني وقال في مكان آخر حدثنا محمد بن أحمد المقرئ قال حدثنا عبد الرزاق بن الحسن، والمقرئ هذا هو الداجوني، مات في رجب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة عن إحدى وخمسين سنة اهـ منه. الطبقات 2/ 77. والمكان الآخر الذي ذكره فيه ابن مجاهد هو في سورة الأنعام، قال:
«أخبرني بذلك محمد بن أحمد المقرئ قال حدثنا عبد الرزاق بن الحسن» انظر السبعة ص 268.(3/74)
قرأ: (لا يضركم) مثل قراءة أبي عمرو (1).
قال أبو علي: من قال: (لا يضركم) جعله من ضار يضير مثل باع يبيع وحجّته قوله: {قالوا: لا ضير} [الشعراء / 50] فضير مصدر كالبيع.
وقال الهذليّ:
فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها
مطبّعة من يأتها لا يضيرها (2)
وحجّة من قال: {لا يضركم} قوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس / 18] فكلتا القراءتين حسنة لمجيئهما جميعا في التنزيل.
آل عمران: 124
قال: وكلّهم قرأ {منزلين}، [آل عمران / 124] خفيف (3)
الزاي غير ابن عامر فإنّه قرأ منزلين مشدد الزاي (4).
قال أبو علي: حجّة ابن عامر: {تنزل الملائكة والروح فيها}
[القدر / 4] ألا ترى أنّ [مطاوع نزّل ينزّل نزّلته فتنزّل] (5)، وقوله
__________
(1) السبعة ص 215.
(2) البيت لأبي ذؤيب في شرح أشعار الهذليين 1/ 208، والكتاب لسيبويه 1/ 438والمقتضب 2/ 72، وابن يعيش 8/ 158، والخزانة، 3/ 647 وشرح شواهد الألفية للعيني 4/ 431، والأشموني 1/ 18، وشرح أبيات المغني 1/ 372و 5/ 52قال الأعلم في شرح البيت: وصف قرية كثيرة الطعام، من امتار منها، وحمل فوق طاقته، لم ينقصها.
(3) في (ط): خفيفة.
(4) السبعة ص 215.
(5) جاء ما بين المعقوفين في (ط): «أنّ تنزّل مطاوع نزّل ينزّل، تقول: نزّلته فتنزّل».(3/75)
[جلّ اسمه] (1): {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} [الأنعام / 111] وحجّة من خفّف قوله: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام / 8] {ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر} [الأنعام / 8]. ومن حجّة (2) من قرأ:
{منزلين} أنّ الإنزال يعمّ التنزيل وغيره، قال تعالى (3): {وأنزلنا إليك الذكر} [النحل / 44]. و {إنا أنزلناه في ليلة القدر}
[القدر / 1] {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} [الحديد / 25] {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر / 6].
آل عمران: 125
واختلفوا في فتح الواو وكسرها من قوله [جلّ وعز] (4):
مسومين [آل عمران / 125].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {مسومين} بكسر الواو.
وقرأ الباقون: مسومين بفتح الواو (5).
قال أبو علي (6): جاء في التفسير في قوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} [الرحمن / 41] أنّه سواد الوجوه وزرقة الأعين. قال أبو زيد: السّومة: العلامة تكون على الشاة ويجعل عليها لون يخالف لونها لتعرّف به (7). قال أبو علي: فقوله: {مسومين}
من هذا، وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها. قال:
__________
(1) في (ط): تعالى.
(2) في (ط): وحجة.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): تعالى.
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): بها.(3/76)
فتعرّفوني إنّني أنا ذاكم
شاك سلاحي في الحوادث معلم (1)
وقال أبو زيد: سوّم الرجل تسويما فهو مسوّم إذا أغار على القوم إغارة فعاث فيهم. وقال: وسوّمت الخيل تسويما إذا أرسلتها وخلّيتها تخلية. وأمّا من قرأ: {مسومين} فقال أبو الحسن: لأنّهم هم سوّموا الخيل. قال: ومن قرأ: مسومين فلأنّهم هم سوّموا.
قال: ومسوّمين. يكون معلمين، ويكون مرسلين من قولك:
سوّم فيها الخيل، أي: أرسلها، ومنه السائمة. وذكر بعض شيوخنا أنّ الاختيار عنده الكسر، لما جاء في الخبر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال يوم بدر: «سوّموا فإنّ الملائكة قد سوّمت» (2) فنسب الفعل إلى الملائكة.
آل عمران: 133
أحمد: وكلّهم (3) قرأ: {وسارعوا} [آل عمران / 133] بواو
__________
(1) البيت ثاني أبيات من أصمعية برقم 39لطريف بن تميم العنبري برواية:
فتوسموني، بدل: تعرفوني، وقبله:
أو كلّما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
وانظر الكتاب لسيبويه 2/ 129، 378، والمنصف 2/ 53، 3/ 66، والمحتسب 2/ 253وأسماء المغتالين ص 219من نوادر المخطوطات وشرح الشافية 4/ 370ومعاهد التنصيص 1/ 204.
(2) رواه الطبري في تفسيره 4/ 82وأخرجه السيوطي في الدر المنثور 2/ 70 فقال: أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عمير بن إسحاق قال: إن أول ما كان الصوف ليوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسوّموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت» فهو أول وضع الصوف. قال في النهاية 2/ 425 (سوم) فيه: «أنّه قال يوم بدر:
سوّموا فإنّ الملائكة قد سوّمت»، أي: اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا، والسومة والسّمة: العلامة.
(3) السبعة ص 216.(3/77)
غير نافع وابن عامر فإنّهما قرأ: سارعوا بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام. وروى أبو عمر الدوري عن الكسائي: {وسارعوا} و {أولئك يسارعون في الخيرات}
[المؤمنون / 61] و {نسارع لهم في الخيرات}
[المؤمنون / 56] بالإمالة في كلّ ذلك (1).
قال أبو علي: [كلا الأمرين سائغ] (2) مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنّه عطف الجملة على الجملة، والمعطوف عليها قوله: {وأطيعوا الله والرسول} [آل عمران / 132] {وسارعوا}. ومن ترك الواو فلأنّ الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بالتباسها بها (3) عن عطفها بالواو.
وقد جاء الأمران في التنزيل في قوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} [الكهف / 22] وقال: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} [الكهف / 22] وقال (4): {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة / 39] فهذا على قياس قراءة نافع وابن عامر. وما روي عن الكسائي من إمالة الألف في {وسارعوا} و {أولئك يسارعون} و {نسارع لهم في الخيرات} فالإمالة هنا في الألف حسنة، لوقوع الراء المكسورة بعدها، وكما تمنع المفتوحة الإمالة، فكذلك المكسورة تجلبها.
آل عمران: 140
اختلفوا في فتح القاف وضمّها من قوله تعالى (5): {قرح}
[آل عمران / 140].
__________
(1) انظر السبعة ص 216.
(2) في (ط): كل الأمر شائع.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): وقال تعالى.
(5) سقطت من (ط).(3/78)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: {قرح} بفتح القاف في كلّهنّ.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: قرح * بضم القاف في جميعهنّ. وروى حفص عن عاصم: {قرح} بالفتح مثل أبي عمرو. وكلّهم أسكن الراء في {قرح} (1).
قال أبو علي: قرح وقرح مثل: الضّعف والضّعف، والكره والكره، والفقر والفقر، والدّف والدّف. والشّهد والشّهد. وكأن الفتح أولى لقراءة ابن كثير، ولأنّ لغة أهل الحجاز الأخذ بها أوجب، لأنّ القرآن عليها نزل.
وقال أبو الحسن: قرح، يقرح قرحا، وقرحا، فهذا يدلّ على أنّهما مصدران، وأنّ كلّ واحد منهما بمعنى الآخر.
ومن قال: إنّ القرح الجراحات بأعيانها، والقرح ألم الجراحات (2) قبل ذلك منه إذا أتى فيه برواية، لأنّ ذلك ممّا لا يعلم بالقياس.
آل عمران: 146
اختلفوا في الهمز من قوله تعالى (3) {كأين} [آل عمران / 146].
__________
(1) السبعة ص 216.
(2) قال في المحكم 2/ 402: «وقيل: القرح: الآثار. والقرح: الألم. وقال يعقوب: كأنّ القرح: الجراحات بأعيانها، وكأنّ القرح: ألمها وقيل يميت الجراحات قرحا بالمصدر، والصحيح أنّ القرحة: الجراحة، والجمع قرح وقروح».
(3) سقطت من (ط).(3/79)
فقرأ ابن كثير وحده: وكائن * الهمزة بين الألف والنون في وزن كاعن.
وقرأ الباقون: وكأي الهمزة بين الكاف والياء، والياء مشدّدة في وزن كعيّ (1).
قال أبو علي: كنّا رأينا قديما في قولهم: وكائن وأكثر ما يجيء في الشعر كقول الشاعر: [كما أنشده سيبويه] (2):
وكائن رددنا عنكم من مدجّج
يجيء أمام القوم يردي مقنّعا (3)
وكقوله (4):
وكائن إليكم قاد من رأس فتنة
جنودا وأمثال الجبال كتائبه
وقول جرير: (5).
وكائن بالأباطح من صديق
يراني لو أصبت المصابا
__________
(1) السبعة ص (216).
(2) ما بين المعقوفتين ساقط في (ط).
(3) في (ط): برواية:
وكائن رددنا عنكم من كتيبة ... يجيء أمام الألف يردي مقنّعا
وكتب في الهامش: في أخرى: مدجج. أي بدل «كتيبة». وفي (م) رسم فوق كلمة: «القوم»: «الألف» مشيرا إلى الرواية الثانية.
والبيت لعمرو بن شأس في الكتاب 1/ 297، وفي الهمع 1/ 256صدره، والدرر 1/ 213واستشهد به القرطبي في تفسيره للآية 4/ 228.
(4) لم نعثر عليه.
(5) ديوانه ص 17 (ط: الصاوي) وابن الشجري 1/ 106، وابن يعيش 3/ 110،(3/80)
وكائن على وزن كاعن، كان الأصل فيه كأيّ دخلت الكاف على أيّ كما دخلت على (ذا) من (كذا) و (أنّ) من (كأنّ)، وكثر استعمال الكلمة فصارت ككلمة واحدة، فقلب قلب الكلمة الواحدة، كما فعل ذلك في قولهم: لعمري ورعملي، حكي (1) لنا عن أحمد بن يحيى، فصار كيّإن [مثل كيّع] (2) فحذفت الياء الثانية كما حذفت في كينونة فصار كيء بعد الحذف، ثمّ أبدلت من الياء الألف كما أبدل من طائيّ، وكما أبدلت من «آية» عند سيبويه، وكانت «أيّة». وقد حذفت الياء (3) من أيّ في قول الفرزدق:
تنظّرت نصرا والسّماكين أيهما
عليّ من الغيث استهلّت مواطره (4)
ومن قول الآخر: «بيّض» (5).
فحذف الياء الثانية من أيّ أيضا. فأمّا النون في أيّ، فهي التنوين الداخل على الكلمة مع الجرّ، فإذا كان كذلك، فالقياس إذا وقفت عليه (كاء) فتسكن الهمزة المجرورة للوقف، وقياس من
__________
4/ 135، والهمع 1/ 256، والدرر 1/ 213، والخزانة 2/ 454، والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 7/ 75وهو من قصيدة في مدح الحجاج بن يوسف الثقفي. واستشهد به القرطبي في تفسيره 4/ 228.
(1) في (ط): وحكي.
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(3) سقطت من (ط).
(4) سبق البيت في 1/ 67وهو في المحتسب 1/ 41، 108و 2/ 152، والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 2/ 146، 149. ونصر: هو نصر بن سيار أمير خراسان.
(5) سقط من (م) قوله: «ومن قول الآخر بيّض» وهي قطعة من شاهد لم نقف على تمامه.(3/81)
قال: مررت بزيدي أن يقول: كائي، فيبدل منه (1) الياء. ولو قال قائل: إنّه بالقلب الذي حدث في الكلمة، صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة، فصار بمنزلة لام فاعل فأقرّه نونا في الوقف، وأجعله بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، كما جعلت التي في «لدن» بمنزلة التنوين الزائد في قول من قال (2): لدن غدوة لكان قولا.
ويقوّي ذلك أنّهم لمّا حذفوا الكلام في قولهم: إما لا جعلوها بالحذف ككلمة واحدة حتى أجازوا الإمالة في ألف لا * كما أجازوها في التي تكون من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال.
وسمعت أبا إسحاق يقول: إنّها تقال ممالة فجعل القلب في كائن بمنزلة الحذف في إما لاجتماعهما في التغيير، لكان قولا، فيقف على كائن بالنون، ولا يقف على النون إذا لم تقلب، كما لا تميل الألف في لا * إذا (3) لم تحذف معها.
آل عمران: 146
اختلفوا في ضمّ القاف وفتحها وإدخال الألف وإسقاطها من قوله تعالى: قتل معه [آل عمران / 146].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع قتل معه [آل عمران / 146] بضم القاف بغير ألف.
وقرأ الباقون: {قاتل} بفتح القاف وبألف (4).
__________
(1) في (ط): «منها».
(2) هذا من قول العرب: قال المبرد وثعلب: العرب تقول: لدن غدوة ولدن غدوة ولدن غدوة، فمن رفع أراد لدن كانت غدوة، ومن نصب أراد: لدن كان الوقت غدوة، ومن خفض أراد من عند غدوة.
انظر تهذيب اللغة للأزهري 8/ 171.
(3) في (ط): «إذ» بدل «إذا».
(4) السبعة ص 217.(3/82)
[قال أبو علي] (1): أمّا قتل فيجوز أن يكون مسندا إلى ضمير أحد اسمين إلى ضمير «نبي»، والدّليل على جواز إسناده إلى هذا الضمير أنّ هذه الآية في معنى قوله: أفإن مات أو قتل انقلبتم [آل عمران / 144] وروي عن الحسن أنّه قال: «ما قتل نبي في حرب قطّ» (2) وقال ابن عباس في قوله (3): {وما كان لنبي أن يغل} (4) [آل عمران / 161]: «قد كان النبيّ يقتل فكيف لا يخوّن» (5)! والذي في الآية من قوله: قتل لم يذكر أنّه في حرب.
فإذا أسند قتل إلى هذا الضمير احتمل قوله: {معه ربيون} أمرين:
أحدهما: أن يكون صفة لنبي (6)، فإذا قدّرته هذا التقدير كان قوله: ربّيون: مرتفعا بالظرف بلا خلاف (7). والآخر: أن لا تجعله صفة ولكن حالا من الضمير الذي في قتل، فإن جعلته صفة كان الضمير الذي في (8) معه * المجرور، لنبيّ، وإن جعلته حالا كان الضمير الذي في معه * يعود إلى الذكر المرفوع الذي في قتل، والاسم الآخر الذي يجوز أن يسند إليه قتل ربّيّون فيكون قوله:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) ذكره القرطبي في التفسير 4/ 229.
(3) في (ط): قوله تعالى.
(4) وهي قراءة ستأتي في موضعها. وانظر البحر المحيط 3/ 101.
(5) قال السيوطي في الدر المنثور 2/ 91: «أخرج الطبراني والخطيب في تاريخه عن مجاهد قال: كان ابن عباس ينكر على من يقرأ: {وما كان لنبي أن يغل}
ويقول: كيف لا يكون له أن يغلّ وقد كان له أن يقتل؟! قال الله: {ويقتلون الأنبياء بغير حق} ولكن المنافقين اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الغنيمة فأنزل الله: {وما كان لنبي}» اهـ منه.
(6) في (ط): للنبي.
(7) في (م): لا خلاف.
(8) سقطت من (ط).(3/83)
معه * على هذا التقدير معلّقا (1) بقتل، وعلى القولين الآخرين اللذين هما: الصفة والحال متعلّقا في الأصل بمحذوف، وكذلك من قرأ:
{قاتل} فهو يجوز فيه ما جاز في قراءة من قرأ قتل *:
والرّبيون: الذين يعبدون الرّبّ، واحدهم ربّي. هكذا فسره أبو الحسن، وقيل فيه: إنه منسوب إلى علم الربّ وكذا (2) الربّانيّون.
وحجّة من قرأ: قتل * أنّ هذا الكلام اقتصاص ما جرى عليه سير أمم الأنبياء قبلهم ليتأسوا بهم، وقد قال: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران / 144] وحجّة من قرأ: {قاتل}
أن المقاتل قد مدح كما مدح المقتول فقال: (3) {وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم} [آل عمران / 195]. فمن أسند الضمير الذي في قتل إلى {نبي} كان قوله: {فما وهنوا} [آل عمران / 146] أي: ما وهن الرّبيون، ومن أسند الفعل إلى الربّيين دون ضمير نبي كان معنى: {فما وهنوا} ما وهن باقيهم بعد من قتل منهم في سبيل الله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومن جعل قوله: {معه ربيون} صفة أضمر للمبتدإ الذي هو كأيّ خبرا، وموضع الكاف الجارّة في كأيّ مع المجرور: رفع، كما أنّ موضع الكاف في قوله (4): له كذا وكذا: رفع، ولا معنى للتشبيه فيها، كما أنّه لا معنى للتشبيه في كذا وكذا.
آل عمران: 151
اختلفوا في تخفيف قوله: [جلّ وعز] (5): {الرعب}
__________
(1) في (ط): متعلّقا.
(2) في (ط): وكذلك.
(3) في (ط): فقال تعالى.
(4) في (ط): قولك.
(5) سقطت من (ط).(3/84)
وتثقيله [آل عمران / 151] فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة: الرعب ساكنة العين خفيفة. وقرأ ابن عامر والكسائي: الرعب * مضمومة العين مثقلة حيث وقعت (1).
قال أبو علي: الإلقاء في قوله تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [آل عمران / 151] أصله في الأعيان، واستعمل في غيرها على طريق الاتّساع. يدل (2) على ذلك قوله (3): {وألقى الألواح} [الأعراف / 150] و {فألقوا حبالهم وعصيهم} [الشعراء / 44] و {إذ يلقون أقلامهم} [آل عمران / 44].
وقال سيبويه: «ألقيت متاعك بعضه على بعض» (4)، وليس الرعب بعين، وكذلك قوله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني}
[طه / 39] ومثل الإلقاء في ذلك الرمي، قال: رمى فأخطأ أي:
السهم. وقال (5):
كشهاب القذف يرميكم به
__________
(1) السبعة ص 217.
(2) في (ط): يدلك.
(3) في (ط): قوله تعالى.
(4) انظر الكتاب 1/ 78فقد أطنب سيبويه في تقليب وجه إعرابه. وفسر سيبويه هنا ألقى بمعنى أسقط وطرح
(5) صدر بيت للأفوه الأودي في ديوانه ص 12من الطرائف الأدبية وعجزه:
الحماسة البصرية 1/ 49والحيوان 6/ 275، ورسالة الغفران ص 79وذكر الجاحظ في الحيوان 6/ 280، أنّ البيت من قصيدة مصنوعة.
فارس في كفّه للحرب نار.(3/85)
فأضاف الشهاب إلى القذف لمّا كان من رمي الرامي به، كما قال (1):
يسدد أبينوها الأصاغر خلّتي وإذا مات لم تكن له خلّة، ولكن أضافها إلى نفسه، لما كان منه من سدّه لها، وهذا النحو من الإضافة على هذا الوجه كثير.
وقال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور / 6] أي: بالزنا، فهذا اتساع لأنّ هذا ليس بعين، وكذلك قوله (2).
__________
(1) هذا عجز بيت، صدره:
زعمت تماضر أنّني إمّا أمت وهو من قصيدة أوردها أبو زيد في النوادر ص 375، وفي الأصمعيات ص 161برقم (156) نسبها لعلباء وفي أمالي القالي 1/ 81عن الأصمعي لسلّميّ بن ربيعة، وفي الحماسة شرح المرزوقي 2/ 552546والتبريزي 2/ 55لسلمى بن ربيعة. وتماضر: امرأته. وهو من شواهد الرضي في شرح الكافية 3/ 379، وابن الشجري 1/ 43و 2/ 69وابن يعيش 9/ 5، 41والخزانة 3/ 400، والهمم 2/ 63، والدرر 2/ 79. قال في النوادر:
«قال أبو الحسن: هكذا وقع في كتابي: سلمى، وحفظي: سلميّ».
قال التبريزي: فقوله: أبينوها على هذا: تصغير أبناء مقصورا عند البصريين وهو اسم صيغ للجمع كأروى وأضحى، فهو على أفعل بفتح العين، وعند الكوفيين تصغير ابن مثل دلو وأدل على أفعل بضم العين.
(2) البيت أول بيتين لعمرو بن أحمر، انظرهما في شعره ص 187، وتتمته:
ومن أجل الطّويّ رماني وهو من أبيات سيبويه 1/ 38. واستشهد به البغدادي في شرح أبيات المغني 6/ 9على أن التمثيل من محاسن الكلام. وهو أن يروم الشاعر ذكر معنى فيعدل على الإفصاح به إلى ما يجري مجرى المثل فيكون مبنيا على(3/86)
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا
وقال (3):
قذفوا سيّدهم في ورطة ... قذفك المقلة وسط المعترك (4)
فالأوّل: على الاتساع، والثاني: على الأصل، ألا ترى أن المقلة تلقى للتصافن، كما يلقى غيرها؟ فهذا بمنزلة: ألقيت الحجر ونحوه. ومما جاء قريبا من الرمي والقذف والإلقاء، الرجم، ورجم ماعز (5)، ومن الاتساع فيه قوله:
__________
مراده فيه كقوله الشاعر وأنشد البيت. وأراد أنه رجع إليه ما رمى به، من قولهم: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها» اهـ منه. وقد فاتنا تخريجه في شرح أبيات المغني.
(3) سقطت من (ط).
(4) البيت ليزيد بن طعمة الخطميّ. انظر المعاني الكبير 1/ 309وفيه: جارهم في هوة بدل: سيدهم في ورطة واللسان (مقل) وشروح سقط الزند / 1433/. والمقلة: حصاة القسم، توضع في الإناء ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم، وذلك عند قلة الماء في المفاوز (اللسان).
(5) ماعز هو ماعز بن مالك الأسلمي قال ابن حبان له صحبة وهو الذي رجم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم انظر الإصابة 3/ 317وقصة ماعز بن مالك وإقراره على نفسه بالزنى في مسلم برقم / 1692/ من حديث جابر بن سمرة وبرقم / 1694/ من حديث أبي سعيد (حدود) وعند البخاري بشرح الفتح برقم / 6814/ من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن رجلا من أسلم إلخ الحديث وقد استوفى ابن حجر طرق الحديث، وشرح قصته شرحا وافيا. انظره في 12/ 127120.(3/87)
هما نفثا في فيّ من فمويهما
على النابح العاوي أشدّ رجام (1)
فالرجام المراجمة بالسّباب، فهذا نحو: رماه بالزّنا، وقذفه به، وألقى عليه مسألة، ونفثا السّباب: اتساع أيضا، لأنّه ليس بعين. فأمّا مثل (2) الرّعب والرعب، والطنب والطنب، والعنق والعنق، فقد تقدّم ذكره.
آل عمران: 154
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى (3): {يغشى طائفة منكم} [آل عمران / 154] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {يغشى طائفة منكم} بالياء. وقرأ حمزة والكسائي تغشى بالتاء (4).
[قال أبو علي] (5): حجّة من قرأ بالياء: قوله تعالى (6): إذ يغشاكم النعاس [الأنفال / 11] فالنّعاس هو الغاشي، وكذلك قراءة من قرأ: {إذ يغشيكم النعاس} لأنّه إنّما جعل الفاعل بتضعيف العين مفعولا. ومن حجّتهم: أنّ {يغشى} أقرب إلى النعاس،
__________
(1) البيت للفرزدق، في ديوانه ص 771برواية: تفلا بدل نفثا ولجامي بدل:
رجام. وفي الكتاب 2/ 83، 202، والمقتضب 3/ 158والخصائص 1/ 170، 3/ 147، والمحتسب 2/ 238، والإنصاف 1/ 345والخزانة 2/ 269، 3/ 346وشرح شواهد الشافية 4/ 115واللسان (فوه).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة ص 217.
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).(3/88)
فإسناد الفعل إليه أولى. ومنها (1) أنّه يقال: غشيني النعاس، وغلب عليّ النعاس، ولا يسهل: غشيني الأمنة، ومن قرأ بالتاء حمله (2)
على الأمنة.
فأمّا قوله: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي}
[الدخان / 45] فحمل الكلام على الشجرة لقوله تعالى (3):
{فإنهم لآكلون منها فمالؤن منها البطون} [الصافات / 66] وقال:
{لآكلون من شجر من زقوم} [الواقعة / 52] فنسب الأكل إلى الشجر.
ومن حجّة من قرأ بالتاء: أنّ النعاس، وإن كان بدلا من الأمنة، فليس المبدل منه في طريق ما يسقط من الكلام، يدلّك على ذلك قولهم: الذي مررت به زيد أبو عبد الله.
وقال:
وكأنّه لهق السّراة كأنّه
ما حاجبيه معيّن بسواد (4)
فجعل الخبر عن (5) الذي أبدل منه.
__________
(1) في (ط): «منه».
(2) في (ط): «جعله».
(3) سقطت من (ط).
(4) البيت للأعشى في الكتاب 1/ 80وابن يعيش 3/ 67، والخزانة 2/ 370، والبيت ليس في ديوانه قال الأعلم: وصف ثورا وحشيا شبه به بعيره في حذقه ونشاطه، فيقول: كأنّه ثور لهق السراة، أي: أبيض أعلى الظهر، وسراة الظهر أعلاه أسفع الخدين كأنما عين بسواد. اهـ.
(5) في (م): على.(3/89)
آل عمران: 154
واختلفوا في رفع اللام ونصبها من قوله: [جلّ وعز] (1):
{قل إن الأمر كله لله} [آل عمران / 154].
فقرأ أبو عمرو وحده: قل إن الأمر كله لله رفعا. وقرأ الباقون {كله} نصبا (2).
قال أبو علي: حجّة من نصب: أنّ {كله} بمنزلة أجمعين وجمع في أنّه للإحاطة والعموم، فكما أنّه لو قال:
[إنّ الأمر] (3) أجمع، لم يكن إلّا نصبا (4)، كذلك إذا قال:
{كله} لأنّه بمنزلة أجمعين، وليس الوجه أن يلي العوامل، كما لا يليها أجمعون. وحجّة أبي عمرو في رفعه كله * وابتدائه به أنّه وإن كان في أكثر الأمر بمنزلة أجمعين لعمومها، فإنّه قد [ابتدئ بها كما] (5) ابتدئ (6) بسائر الأسماء في نحو (7) قوله: {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} [مريم / 95] فابتدأ به في الآية.
ولم يجره على ما قبله، لأنّ قبله كلاما قد بني عليه فأشبه [بذلك ما يكون] (8) جاريا على ما قبله، وإن خالفه في الإعراب، ألا ترى أنّ اسم الفاعل يعمل عمل الفعل إذا جرى صفة لموصوف أو حالا لذي حال أو خبرا لمبتدإ، ولا يحسن إعماله عمل الفعل، إلّا في هذه المواضع؟ وقد قالوا: أقائم أخواك وأ ذاهب إخوتك،
__________
(1) في (ط): تعالى.
(2) السبعة ص 217.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): إلّا النصب.
(5) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).
(6) في (ط): ابتدأ.
(7) سقطت من (ط).
(8) في (ط): به اسما يكون.(3/90)
وما ذاهب إخوتك، فأعملوا اسم الفاعل لمّا تقدّمه كلام أسند إليه، وإن لم يكن أحد تلك الأشياء التي تقدّم ذكرها، فكذلك حسن ابتداء كلّهم في الآية لمّا كان قبله كلام، فأشبه بذلك [اتباعه، ما كان] (1) جاريا عليه كما أشبه اسم الفاعل في إجرائه على ما ذكرنا، ما يجري صفة على موصوف أو حالا أو خبر مبتدأ، نحو:
مررت برجل قائم أبواه، وهذا زيد قائما غلامه وزيد منطلق أبواه، فكذلك. حسن الابتداء بكلّهم، وقطعه مما قبله لما ذكرت من المشابهة.
ومن ثمّ أجاز سيبويه: أين تظن زيد ذاهب (2)، فألغى الظنّ، وإن كان أين غير مستقرّ، كما جاز إلغاؤه إذا كان أين مستقرّا لأنّ قبله كلاما، فجعله، وإن لم يكن مستقرا، بمنزلة المستقر كما جعلوا همزة الاستفهام، وحرف النفي في: أقائم أخواك، بمنزلة الموصوف نحو: مررت برجل قائم أخواه.
آل عمران: 156
واختلفوا (3) في التاء والياء من قوله: [جلّ اسمه] (4) {يحيى ويميت والله بما تعملون بصير} [آل عمران / 156] فقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعملون بالياء.
وقرأ الباقون بالتاء. وروى هارون الأعور وعلي بن نصر عن أبي عمرو بالياء (5).
__________
(1) في (ط): اتباعهم ما يكون.
(2) انظر سيبويه 1/ 63حيث قال: «كما ضعف أظنّ زيد ذاهب، وهو في متى وأين أحسن».
(3) سقطت الواو من (ط).
(4) في (ط): تعالى.
(5) في السبعة ص 217: روى علي بن نصر عن هارون الأعور عن أبي عمرو.(3/91)
[قال أبو علي] (1): حجّة من قرأ بالتاء قوله تعالى (1): {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} [آل عمران / 156] وحجّة الياء: أنّ قبلها أيضا غيبة وهو قوله: {وقالوا لإخوانهم} [آل عمران / 147] وما بعده، فحمل الكلام على الغيبة.
آل عمران: 157
واختلفوا (3) في ضمّ الميم وكسرها [من قوله جلّ وعزّ] (4): {مت} و {متنا} و {متم}، في كلّ القرآن. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: {مت}، و {متم}
و {متنا} برفع الميم في كلّ (5) القرآن. وروى حفص عن عاصم {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم} [آل عمران / 157] {ولئن متم أو قتلتم} [آل عمران / 158] برفع الميم في هذين الحرفين، ولم يكن يرفع الميم في غير هذين الحرفين في جميع القرآن.
[حدّثنا ابن مجاهد قال] (6): حدثنا وهيب المروذيّ قال:
حدّثنا الحسن بن المبارك، قال: حدّثنا أبو حفص قال: حدّثنا سهل أبو عمرو قال: قال عاصم: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم} [آل عمران / 157] بضمّ الميم من الموت، وباقي القرآن متّم (7) بكسر الميم، أي: بليتم. ومتنا ومتّ.
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة في (م).
(3) سقطت الواو من (ط).
(4) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(5) في (ط): جميع.
(6) ما بين المعقوفين ساقط من (ط).
(7) سقطت من (ط).(3/92)
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: متم *، و {مت} *، و {متنا} * في كلّ القرآن بالكسر (1).
قال أبو علي: الأشهر (2) الأقيس: متّ تموت، مثل: قلت تقول وطفت تطوف، وكذلك هذا يستمرّ على ضمّ الفاء منه، والكسر شاذ في القياس، وإن لم يكن في الاستعمال كشذوذ (3).
اليجدّع (4)
ونحوه مما شذّ عن الاستعمال والقياس، ونظيره: فضل يفضل في الصحيح، وأنشدوا:
ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر
وما مرّ من عمري ذكرت وما فضل (5)
وقد أنشد بعضهم:
عيشي ولا يومي بأن تماتي (6)
ولا أظنّه ثبتا، وكذلك شعر آخر فيه «تدام» (7) وهو عندي مثل
__________
(1) السبعة ص 218وسقط من السبعة من قوله: وقرأ نافع إلى بالكسر.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (م) بشذوذ.
(4) هذا آخر بيت سبق في 1/ 101.
(5) البيت أوّل أبيات ثلاثة لأبي الأسود الدؤلي في الأغاني في 12/ 322وهو في المنصف 1/ 256، وفيه وفي الأغاني: عيشي بدل عمري. وابن يعيش 7/ 154وفيه: يومي بدل عمري.
(6) شطر بيت من الرجز: في اللسان (موت) ولم يعزه. ونصه:
بنيّ يا سيدة البنات ... عيشي ولا يؤمن أن تماتي
(7) قال في اللسان / دوم /: دام الشيء يدوم ويدام، قال:
يا ميّ لا غرو ولا ملاما ... في الحبّ إنّ الحبّ لن يداما.
قال أبو الحسن: في هذه الكلمة نظر، ذهب أهل اللغة في قولهم، دمت(3/93)
الأول، ولا أعلم فصلا بين الموت إذا تبعه البلى، وبينه إذا لم يتبعه البلى.
قال: وكلّهم قرأ: خير مما تجمعون بالتاء [آل عمران / 157] إلّا عاصما في رواية حفص، فإنّه قرأ بالياء، ولم يروها عن عاصم غيره بالياء (1).
[قال أبو علي] (2): والمعنى: خير مما تجمعون. أيها المقتولون في سبيل الله، أو المائتون مما تجمعون من أعراض الدنيا التي تتركون القتال في سبيله للاشتغال بها وبجمعها عنه.
ومعنى الياء أنه: لمغفرة من الله خير مما يجمعه غيركم، مما تركوا القتال لجمعه. والأول أظهر وأشكل بالكلام.
آل عمران: 161
اختلفوا في فتح الياء وضمّ الغين، وضمّ الياء وفتح الغين من قوله: [جلّ وعز] (3): {يغل} [آل عمران / 161].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بغل بفتح الياء وضمّ الغين.
وقرأ الباقون: يغل بضم الياء، وفتح الغين (4).
__________
تدوم إلى أنّها نادرة كمتّ تموت. وفضل يفضل وذهب أبو بكر إلى أنها متركبة فقال: دمت تدوم كقلت تقول. ودمت تدام، كخفت تخاف، ثمّ تركبت اللغتان فظن قوم أن تدوم على دمت، وتدام على دمت ذهابا إلى الشذوذ وإيثارا له، والوجه ما تقدّم من أنّ: تدام على دمت. اهـ منه.
(1) السبعة ص 218.
(2) ما بين معقوفين سقط من (ط) والواو بعدها زيادة منها.
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة ص 218.(3/94)
[قال أبو علي] (1): قالوا في الخيانة: أغلّ يغلّ إغلالا: إذا خان ولم يؤدّ الأمانة، قال النمر بن تولب (2):
جزى الله عنّا جمرة ابنة نوفل
جزاء مغلّ بالأمانة كاذب
وقال آخر:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن
للغدر خائنة مغلّ الإصبع (3)
أي: لكراهة الغدر.
فأمّا (4) «خائنة» فيحتمل أن تكون مصدرا كالعافية، والعاقبة، فإن حملته في البيت على هذا قدرت حذف المضاف، وإن شئت جعلته مثل راوية.
__________
(1) سقط من (ط).
(2) البيت أول أبيات أربعة له في الأغاني 22/ 291والبيت في اللسان والصحاح / غلل / وكلهم برواية «حمزة» بدل «جمرة» وجاء في هامش الأغاني: في مخطوطة: «عمرة» وفي المشوف المعلم 2/ 549برواية المصنف.
(3) البيت مع آخر بعده في المشوف المعلم 2/ 550عن أحد بني كلاب، وهو:
أقرين إنّك لو رأيت فوارسي ... بعمايتين إلى جوانب ضلفع
قال العكبري في معناه: حدثت نفسك، أي: لو رأيت جمعنا بهذه المواضع لحدثت نفسك بأن تفي ولم تغدر، وكان قد استجار به رجل فقتله. وخائنة: الهاء للمبالغة. والإصبع هنا: الأثر الحسن. وقدم ابن السيرافي البيت الثاني على الأول وهو الأوجه من حيث المعنى. (انظر حاشية المشوف) وانظر اللسان (غلل صبع، ضلفع).
(4) في (م): فأما ما جاء.(3/95)
ونسب الإغلال إلى الإصبع كما نسب الآخر الخيانة إلى اليد في قوله:
فولّيت العراق ورافديه
فزاريا أحذّ يد القميص (1)
[الرواية: أأطعمت العراق] (2).
وقالوا: من الغلّ الذي هو الشحناء والضّغن، غلّ يغلّ، بكسر الغين. وقالوا في الغلول من الغنيمة: غلّ يغلّ بضمّ الغين.
والحجّة (3) لمن قرأ: يغل أنّ ما جاء في التنزيل من هذا النحو أسند الفعل فيه إلى الفاعل نحو {ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء} [يوسف / 38] و {ما كان ليأخذ أخاه} [يوسف / 76] {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله} [آل عمران / 145] {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم} [التوبة / 115] {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} [آل عمران / 179] ولا يكاد يجيء منه (4): ما كان زيد ليضرب، فيسند الفعل فيه (5) إلى المفعول به.
فكذلك {ما كان لنبي أن يغل} [آل عمران / 161] يسند الفعل فيه إلى الفاعل. وروي عن ابن عباس أنّه قرأ: {يغل} وقيل له: إنّ
__________
(1) البيت للفرزدق، ثاني أبيات خمسة في هجاء عمر بن هبيرة. وروايته في ديوانه 2/ 487: أأطعمت بدل فولّيت، وأراد: أنّه قصير اليدين عن نيل المعالي كالبعير الأخذ، وهو الذي لا شعر لذنبه، وانظر الحيوان 5/ 197وفيه: بعثت بدل: فوليت. وانظر الشعر والشعراء / 88وفيه أوليت بدل فوليت. والكامل 3/ 808والأغاني 21/ 336والسمط 862.
(2) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(3) في (ط): الحجة.
(4) في (ط): فيه.
(5) في (ط) «منه» بدل: «فيه».(3/96)
عبد الله قرأ: يغل فقال ابن عباس: بلى والله ويقتل (1)، وروي أيضا (2) عن ابن عباس: «قد كان النبي يقتل فكيف لا يخوّن» (3)؟.
ومن قال: يغلّ احتمل أمرين: أحدهما أن ينسب إلى ذلك، أي:
لا يقال له غللت، كقولك: أسقيته. أي (4): قلت له: سقاك الله. وقال:
وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه
تكلّمني أحجاره وملاعبه (5)
وكقولهم: [أكفرتني أي: نسبتني] (6) إلى الكفر قال:
فطائفة قد أكفرتني بحبّكم (7)
أي: نسبتني إلى الكفر. ويجوز أن يكون يغل. أي: ليس لأحد أن يغلّه، فيأخذ من الغنيمة التي حازها، وإن كان لا يجوز أن يغلّ غير النبي صلى الله عليه وسلم (8) من إمام للمسلمين (9) وأمير لهم، لأنّ ذلك يجوز أن يعظم بحضرته، ويكبر كبرا لا يكبر عند غيره [عليه
__________
(1) أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2/ 91من طريق ابن جرير [الطبري] عن الأعمش. وهو كذلك في تفسيره 4/ 155بدون جملة القسم: «والله».
(2) سقطت من (ط).
(3) وسبق نقله هذا عن ابن عباس في ص 79.
(4) سقطت من (م).
(5) البيت لذي الرّمة في ديوانه 2/ 821، وشرح شواهد الشافية 4/ 41والعيني 2/ 176والأشموني 1/ 263.
(6) في (ط): أكفرته أي نسبته.
(7) هذا صدر بيت للكميت بن زيد عجزه:
وطائفة قالوا مسيء ومذنب وهو من قصيدة من قصائده الهاشميات أوردها البغدادي في الخزانة 2/ 207، 208وفيها: بحبّهم، بدل: بحبّكم.
(8) سقطت (وسلم) من (ط).
(9) في (م): المسلمين.(3/97)
السلام] (1)، لأنّ المعاصي تعظم بحضرته، كما قال: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}. [الحجرات / 2] فالغلول (2) وإن كان كبيرا، فهو بحضرته عليه السلام أعظم.
قال: وكلهم قرأ: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله [آل عمران / 169] مخففة التاء إلا ابن عامر فإنّه قرأ: قتلوا * مشدّدة التاء (3).
[قال أبو علي] (4): وجه من قرأ {قتلوا} بالتخفيف أنّ التخفيف يصلح للكثير والقليل، تقول: قتلت القوم فيصلح، التخفيف للكثرة، وضربت زيدا ضربة، فيصلح للقلّة. ووجه التّثقيل أنّ المقتولين كثرة (5) فحسن التثقيل، كما قال: {مفتحة لهم الأبواب}
[ص / 50] وفعّل يختص به الكثير دون القليل.
آل عمران: 171
اختلفوا في قوله [جلّ وعز] (6) {وأن الله لا يضيع} [آل عمران / 171] في كسر الألف وفتحها، فقرأ الكسائي وحده:
وإن الله لا يضيع بكسر الألف وقرأ الباقون: {وأن الله} بفتح الألف (7).
[قال أبو علي] (8): وجه الفتح أنّ المعنى يستبشرون بنعمة من الله، وبأنّ الله لا يضيع، فأنّ معطوفة على الباء، المعنى:
يستبشرون، بتوفر ذلك عليهم، ووصوله إليهم، لأنّه إذا لم يضعه،
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) في (ط): فكذلك الغلول.
(3) السبعة ص 219.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): «كثير».
(7) السبعة ص 219.
(8) سقطت من (ط).(3/98)
وصل إليهم، فلم يبخسوه، ولم ينقصوه، فهذا مما يستبشر به (1)، كما أنّ النعمة والفضل كذلك. ومن كسر فإلى ذا (2) المعنى يؤول، لأنّه إذا لم يضعه وصل إليهم، فلم ينقصوه، فالأول أشدّ إبانة لهذا المعنى.
آل عمران: 176
اختلفوا في فتح الياء وضمّ الزاي، وضمّ الياء وكسر الزاي من قوله تعالى (3): {ولا يحزنك} [آل عمران / 176].
فقرأ نافع وحده يحزنك * وليحزن [المجادلة / 10] وإني ليحزنني [يوسف / 13] بضم الياء، وكسر الزاي في كلّ القرآن إلّا في سورة الأنبياء: لا يحزنهم الفزع [الآية / 103] فإنّه فتحها، يعني الياء، وضمّ الزاي.
وقرأ الباقون في جميع ذلك يحزن * بفتح الياء وضمّ الزاي في كلّ القرآن (4).
[قال أبو علي] (5): قال سيبويه تقول (6): فتن (7) الرجل وفتنته، وحزن وحزنته. قال: وزعم الخليل أنّك حيث قلت: فتنته
__________
(1) في (ط): له.
(2) في (ط): هذا.
(3) سقطت من (ط).
(4) انظر السبعة ص 219.
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).
(7) كذا الأصل ضبط: فتن بكسر التاء في المكانين وهو صحيح. والذي في سيبويه 2/ 234بفتحها، وفي تهذيب الأزهري 14/ 300: أبو زيد: فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وقال ابن شميل: يقال: افتتن الرجل وافتتن لغتان. وهذا صحيح، [وأمّا فتنته ففتن، فهي لغة ضعيفة].
وهذا الأخير في التكملة 6/ 285وفي كتاب الأفعال للسرقسطي 4/ 51وزن فعل، قال في: / فتن /: وفتن فتونا تحول من حسن إلى قبيح، وفتن إلى النساء أراد الفجور بهنّ، وفتن أيضا فيهما. اهـ. وهذا الضبط لم يذكره القاموس والتاج والصحاح واللسان. والجمهرة. والتكملة. بل جميعهم ضبطه، ضبط شكل، بالفتح.(3/99)
وحزنته لم ترد أن تقول: جعلته حزينا وجعلته فاتنا، كما أنّك حين قلت: أدخلته، أردت: جعلته داخلا، ولكنك أردت أن تقول: جعلت فيه حزنا وفتنة، فقلت: فتنته، كما قلت: كحلته، أي: جعلت فيه كحلا، ودهنته جعلت فيه دهنا، فجئت بفعلته على حدّه (1). ولم ترد بفعلته هاهنا تغيير قوله: حزن وفتن، ولو أردت ذلك لقلت أحزنته، وأفتنته، وفتن من فتنته، كحزن من حزنته. قال: وقال بعض العرب: أفتنت الرجل، وأحزنته: أراد (2) جعلته حزينا وفاتنا، فغيروا فعل (3).
قال أبو علي: فهذا الذي حكاه عن بعض العرب حجة نافع في قراءته (4) ليحزنني وأمّا قراءته: {لا يحزنهم الفزع الأكبر}
[الأنبياء / 103] فعلى أنّه يشبه أن يكون تبع فيه أثرا أو أحبّ الأخذ بالوجهين إذ كان كل واحد منهما جائزا.
آل عمران: 188، 180، 178
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعز] (5):
ولا يحسبن الذين كفروا [آل عمران / 178] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا يحسبن الذين كفروا بالياء (6)، ولا يحسبن الذين يبخلون [آل عمران / 180] ولا يحسبن الذين يفرحون [آل عمران / 188] فلا يحسبنهم [آل عمران / 188] بضمّ (7)
__________
(1) ضبط في سيبويه: حدة.
(2) في (ط): إذا.
(3) سيبويه 2/ 234مع اختصار يسير.
(4) في (ط): قوله.
(5) سقطت من (ط).
(6) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(7) في (م): «ضمّ».(3/100)
الباء في يحسبنهم وكلّهنّ بالياء وكسر السين في كل (1) القرآن.
وقرأ نافع وابن عامر {ولا يحسبن الذين كفروا}
[آل عمران / 178] {ولا يحسبن الذين يبخلون} (2) [آل عمران / 180] لا يحسبن الذين يفرحون [آل عمران / 188] كل ذلك بالياء (3)
فلا تحسبنهم [آل عمران / 188] بالتاء وفتح الباء غير أنّ نافعا كسر السين وفتحها ابن عامر. وقرأ حمزة: ولا تحسبن الذين كفروا [آل عمران / 178] ولا تحسبن الذين يفرحون {فلا تحسبنهم} [آل عمران / 188] بفتح الباء والسين وكل ذلك بالتاء. وقرأ عاصم والكسائي كلّ ما في هذه السورة بالتاء إلّا حرفين: قوله (4): ولا يحسبن الذين يبخلون [آل عمران / 180] ولا يحسبن الذين كفروا [آل عمران / 178] فإنّهما بالياء غير أنّ عاصما فتح السين وكسرها الكسائي. ولم يختلفوا في قوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا} [آل عمران / 169] أنها بالتاء (5).
قال أبو علي: قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ولا يحسبن الذين كفروا * [آل عمران / 178] ولا يحسبن الذين يبخلون [آل عمران / 180] ولا يحسبن الذين يفرحون
__________
(1) في (ط): جميع.
(2) سقط ما بين القوسين من (م) واستدرك من (ط) والسبعة.
(3) وقع في (م) بالتاء بدل بالياء. والصواب ما أثبتناه من (ط) ومن السبعة. والبحر المحيط 3/ 138حيث قال: وقرأ نافع وابن عامر (لا يحسبن) بياء الغيبة.
(4) سقطت من (ط).
(5) انظر السبعة ص 220219.(3/101)
[آل عمران / 188] فلا يحسبنهم بضم الباء في يحسبنهم وكلّهنّ بالياء وكسر السين في كلّ القرآن.
[قال أبو علي] (1): {الذين} في هذه الآي في قراءتهما:
رفع بأنّه فاعل يحسب، وإذا كان الذي في الآي فاعلا اقتضى حسب (2) مفعولين، لأنّها تتعدى إلى مفعولين، أو إلى مفعول يسد مسدّ المفعولين، وذلك إذا جرى في صلة ما يتعدى إليه ذكر الحديث والمحدّث عنه نحو: حسبت أنّ زيدا منطلق، وحسبت أن تقوم (3)، فقوله: {أنما نملي لهم خير لأنفسهم}
[آل عمران / 178] قد سدّ مسدّ المفعولين اللذين يقتضيهما يحسبنّ. وكسر إنّ في قول من قرأ: يحسبن بالياء لا ينبغي، وقد قرئ فيما حكاه غير أحمد بن موسى. ووجه ذلك أنّ «إنّ» يتلقّى بها القسم كما يتلقّى بلام الابتداء، ويدخل كلّ واحد منهما على الابتداء والخبر فكسر إنّ بعد يحسبنّ، وعلّق عليها الحسبان كما يعلّق باللّام. فقال: لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي [آل عمران / 178] كما قال: لا يحسبن الذين كفروا للآخرة خير لهم. و {ما} تحتمل ضربين أحدهما: أن تكون بمعنى الذي فيكون التقدير: لا يحسبنّ الذين كفروا أنّ الذي نمليه خير لأنفسهم، والآخر: أن يكون {ما نملي} بمنزلة الإملاء فيكون مصدرا، وإذا كان مصدرا، لم يقتض راجعا إليه (4). وقال أبو الحسن: المعنى: ولا يحسبنّ الذين كفروا أنّ ما نملي لهم ليزدادوا إثما، إنّما نملي لهم خير لأنفسهم. وأمّا قوله: ولا يحسبن الذين
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (م): حسبت.
(3) في (ط): أن يقوم عمرو.
(4) في (ط): إليها.(3/102)
يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم [آل عمران / 180] فالذين يبخلون فاعل يحسبنّ والمفعول الأول محذوف من (1) اللفظ لدلالة اللفظ عليه، وهو بمنزلة قولك: من كذب كان شرا له، أي:
الكذب، فكذلك: لا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله البخل (2) هو خيرا لهم، فدخلت (3) {هو} فصلا، لأنّ تقدّم يبخلون بمنزلة تقدّم البخل، فكأنّك قلت: لا يحسبنّ الذين يبخلون البخل هو خيرا لهم. فأمّا قوله: ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا [آل عمران / 188] فلا تحسبنهم فالذين في موضع رفع بأنّه فاعل يحسب، ولم توقع يحسبنّ على شيء. قال أبو الحسن لا يعجبني (4) قراءة من قرأ الأولى بالياء، لأنّه لم يوقعه على شيء، ونرى أنّه لم يستحسن أن لا يعدّى حسبت، لأنّه قد جرى مجرى اليمين في نحو: علم الله لأفعلنّ.
ولقد علمت لتأتينّ منيتي (5)
وظننت ليسبقنّني، {وظنوا ما لهم من محيص}
[فصلت / 48] فكما أنّ القسم لا يتكلّم به حتى يعلّق بالمقسم عليه، كذلك ظننت وعلمت، في هذا الباب.
وأيضا فإنّه قد جرى في كلامهم لغوا، وما جرى [في
__________
(1) في (ط): في.
(2) كذا في (م) وفي (ط): «هو البخل».
(3) في (ط): «فدخل».
(4) في (ط): لا تعجبني.
(5) صدر بيت للبيد عجزه: إنّ المنايا لا تطيش سهامها.
انظر الكتاب 1/ 456والخزانة 4/ 13وهو من شواهد شرح أبيات المغني 6/ 232وأمّا رواية البيت في ديوانه ص 171والقصائد السبع الطوال ص 557.
صادفن منها غرّة فأصبنها ... إنّ المنايا لا تطيش سهامها.(3/103)
كلامهم] (1) لغوا لا يكون في حكم الجمل المفيدة، ومن ثمّ جاء نحو:
وما خلت أبقى بيننا من مودّة
عراض المذاكي المسنفات القلائصا (2)
إنّما هو وما أبقى بيننا، وكذلك (3) قال الخليل: تقول: ما رأيته يقول ذاك إلّا زيد، وما أظنّه يقول ذاك إلّا عمرو، فهذا يدلّك (4)
أنّك انتحيت على القول، ولم ترد أن تجعل زيدا موضع فعلك كضربت وقتلت. ولذلك لم يجر الشرط مجرى الجمل في نحو:
إن تفعل، لأنّ الشرط بمنزلة القسم، والجزاء بمنزلة المقسم عليه، ولذلك فصل بالشرط بين أمّا وجوابها في نحو (5) {وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلام لك} [الواقعة / 91] ولو كان بمنزلة الجمل لم يجز به الفصل. ووجه قول ابن كثير وأبي عمرو في أن لم يعدّيا حسبت إلى مفعوليه اللذين يقتضيهما أنّ يحسب في قوله: فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب [آل عمران / 188] لمّا جعل بدلا من الأول،
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) البيت للأعشى في ديوانه / 151والبحر المحيط 3/ 137مصحفا، واللسان (سنف). قال شارح ديوانه:
المذاكي من الخيل: التي قد بلغت أسنانها، المسنفات: المتقدمات، القلائص:
الإبل، وكانوا في غاراتهم يركبون الإبل ويسوقون أمامها الخيل فلا يركبونها إلّا إذا قاربوا موضع الغارة حتى لا يتعبوها، لينزلوا بها إلى القتال موفورة النشاط.
وجاء في طرة (ط) تعليق على كلمة المسنفات فيما يظهر نصه: «بالكسر المتقدمات وبالفتح: المشدودات بالسّناف» اهـ. والسّناف (في اللسان):
خيط يشد من حقب البعير إلى تصديره، ثم يشد إلى عنقه إذا ضمر.
(3) في (م): ولذلك.
(4) في (ط): يدلك على.
(5) في (ط): نحو قوله تعالى.(3/104)
وعدّي إلى مفعوليه استغنى بهما عن تعدية الأول (1) إليهما، كما استغنى في قوله:
بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة
ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب (2)
بتعدية أحد الفعلين إلى المفعولين عن تعدية الآخر إليهما (3)
فإن قلت: كيف يستقيم، تقدير البدل في قوله: لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا تحسبنهم بمفازة [آل عمران / 188].
وقد دخلت الفاء بينهما (4) ولا يدخل بين البدل والمبدل منه الفاء؟ فالقول أنّ الفاء زائدة، يدلّك على أنّها لا يجوز أن تكون التي تدخل على الخبر، أنّ ما قبل الفاء ليس بمبتدإ، فتكون الفاء خبره، ولا تكون العاطفة لأنّ المعنى: لا يحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا أنفسهم بمفازة من العذاب. فإذا كان كذلك لم يجز تقدير العطف لأنّ الكلام لم يستقل بعد، فيستقيم فيه تقدير العطف.
فأمّا قوله: فلا يحسبنهم فإنّ فعل الفاعل الذي هو يحسبنّ (5) تعدّى إلى ضميره، وحذفت واو الضمير لدخول النون
__________
(1) في (م): الأولى.
(2) البيت للكميت بن زيد من قصائده الهاشميات. انظر الخزانة 2/ 208، 4/ 5 والعيني 2/ 413والمحتسب 1/ 183والهمع 1/ 152والدرر 1/ 134 والبحر المحيط 3/ 137.
(3) في (م): إليها.
(4) في (م): «فيها» وما أثبتناه من (ط) أوجه.
(5) في (ط): «يحسبون» جاء بها على أصل الفعل قبل توكيده بالنون التي توجب في مثل هذه الحالة حذف واو الجماعة، والمؤدى واحد.(3/105)
الثقيلة. فإن قلت: هلّا لم يحذف الواو من يحسبون، وأثبتها كما ثبتت في: تمودّ الثوب، و {أتحاجوني} [الأنعام / 80] ونحو ذلك، مما يثبت (1) فيه التقاء الساكنين لما في الساكن الأوّل من زيادة المدّ التي تقوم مقام الحركة، فالقول فيه أنّه حذفت كما حذفت مع الخفيفة، ألا ترى أنّك لو قلت: لا يحسبن (2) زيدا ذاهبا، لزمك الحذف، فأجرى الثقيلة مجرى الخفيفة لهذا (3). وقوله: {بمفازة من العذاب} في موضع المفعول الثاني وفيه (4) ذكر للمفعول الأوّل. وفعل الفاعل في هذا الباب يتعدّى إلى ضمير نفسه، نحو:
ظننتني أخاه، لأنّ هذه الأفعال لمّا كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت إنّ وأخواتها في دخولهنّ على الابتداء والخبر [كدخول هذه الأفعال عليهما وذلك قولك] (5): ظننتني ذاهبا، كما تقول:
إنّي ذاهب. ومما يدلّك على ذلك قبح دخول اليقين (6) عليها، لو قلت: أظنّ نفسي تفعل كذا لم يحسن كما يحسن أظنّني فاعلا.
قال: وقرأ نافع وابن عامر: {ولا يحسبن الذين كفروا}
{ولا يحسبن الذين يبخلون} [آل عمران / 180] ويفرحون [آل عمران / 188] كلّ ذلك بالياء. {فلا تحسبنهم} بالتاء وفتح الباء.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) شدد النون في (ط) وهو سهو من الناسخ لأنّ أبا علي يمثل للنون الخفيفة.
(3) في (ط): في هذا.
(4) في (م): «ففيه» وما أثبتناه من (ط).
(5) (م): «كدخولها على الأفعال عليهما وذلك قول» وما أثبتناه من (ط) أجدر بالصواب.
(6) في (ط): «النفس» بدل «اليقين».(3/106)
قراءتهما في ذلك مثل قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وقد مرّ (1)
القول فيها إلّا في قوله: {فلا تحسبنهم} بالتاء وفتح الباء.
والمفعولان اللذان يقتضيهما الحسبان في قوله: ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا محذوفان، لدلالة ما ذكر من بعد عليهما، ولا يجوز البدل، كما جاز البدل في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
قال: وقرأ حمزة ولا تحسبن الذين كفروا ولا تحسبن الذين يفرحون {فلا تحسبنهم} بفتح الباء والسين وكل ذلك بالتاء (2).
قوله: {الذين كفروا} في موضع نصب بأنّه المفعول الأول. والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول في المعنى، فلا يجوز إذا فتح إنّ في (3) قوله: ولا تحسبن الذين كفروا إن ما نملي لهم، لأنّ إملاءهم لا يكون إياهم. فإن قلت: فلم لا يجوز الفتح في أنّ، وتجعله بدلا من {الذين كفروا} كقوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} [الكهف / 63] وكما كان أنّ من (4) قوله: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} [الأنفال / 7]. [بدلا من {إحدى الطائفتين}] (5) قيل: لا يجوز ذلك لأنّك إذا أبدلت أنّ من الذين كفروا، كما أبدلت أنّ من إحدى الطائفتين لزمك أن تنصب خيرا على تقدير: لا تحسبنّ إملاء الذين كفروا خيرا لأنفسهم من حيث
__________
(1) في (ط): وقد قدّم.
(2) السبعة ص 220.
(3) في (ط): من.
(4) في (ط): في.
(5) ما بين معقوفين سقط من (م).(3/107)
كان المفعول الثاني: لتحسبنّ وقيل: إنّه لم ينصبه أحد. فإذا لم ينصب علمت (1) أنّ البدل فيه لا يصح، فإذا لم يصح البدل [لم يجز فيه إلّا كسر إنّ] (2) ولا تحسبن الذين كفروا إن ما نملي لهم خير لأنفسهم على أن تكون إنّ وخبرها في موضع المفعول الثاني من تحسبنّ. فأمّا قوله: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا}
[آل عمران / 188] فحذف المفعول الذي يقتضيه تحسبنّ، لأنّ ما يجيء من بعد من (3) قوله: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} يدلّ عليه، ويجوز أن تجعل {تحسبنهم} بدلا من {تحسبن}، كما جاز أن تجعل يحسبنهم بدلا من يحسبن الذين يفرحون في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاتفاق فعلي الفاعلين (4). وقد قدّمنا أنّ الفاء زائدة، والقول فيها أنّها لا تخلو من (5) أن تكون للعطف، أو للجزاء، أو زائدة، فإن كانت للعطف فلا يخلو من أن تعطف جملة على جملة، أو مفردا على مفرد، وليس هذا موضع العطف، لأنّ الكلام لم يتمّ، ألا ترى أنّ المفعول الثاني لم يذكر بعد؟ ولا يجوز أيضا أن تكون للجزاء كالتي في قوله: {وما بكم من نعمة فمن الله}
[النحل / 53] ونحوها، لأنّ تلك تدخل على ما كان خبرا من الجمل، لأنّ أصلها أن تدخل في الجزاء، وهي جملة خبر، وليس ما دخلت عليه الفاء في الآية بجملة، إنّما هو فضلة، ألا ترى أنّ مفعولي حسبت فضلة؟ فإن قلت: إنّ أصلهما أن يكونا خبرا، فإنّ
__________
(1) في (ط): علم.
(2) في (ط): «لم يجز إلّا الكسر، كسر إن».
(3) في (ط): في.
(4) في (ط): فعل الفاعلين.
(5) سقطت من (ط).(3/108)
ذلك الأصل قد زال بكونهما فضلة، كما زال في قولك: ليت الذي في الدار منطلق، عن أن يكون خبرا بدخول ليت، وكذلك قد زال بدخول حسبت عليهما أن يكون جملة، ويدلّك على ذلك أنّك تقول: حسبت زيدا اليوم منطلقا. فتفصل بينهما باليوم الذي هو ظرف حسبت، ولو كان الكلام باقيا على ما كان عليه قبل دخول الظنّ، لم يجز أن تفصل بينهما بأجنبي منهما، فإذا لم يجز أن تكون للعطف ولا للجزاء، ثبت أنّها زائدة قال:
وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (1)
قال: وقرأ عاصم والكسائي: كلّ ما في هذه السورة بالتاء إلّا حرفين: قوله: {ولا يحسبن الذين يبخلون}، {ولا يحسبن الذين كفروا} فإنّهما بالياء، غير أنّ عاصما فتح السين وكسرها الكسائي.
قد تقدّم القول في {ولا يحسبن الذين يبخلون} فأمّا قوله:
{ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم} [آل عمران / 178] فالوجه فتح أنّ لأنّها تسدّ مسدّ المفعولين، كما سدّ الفعل والفاعل مسدّهما لمّا جرى ذكرهما في الصلة في نحو قوله: {أحسب الناس أن يتركوا} [العنكبوت / 29].
__________
(1) عجز بيت للنمر بن تولب صدره:
لا تجزعي إن منفسا أهلكته سبق في 1/ 44.
وجاء هنا على حاشية (م): «ولم يذكر حجة حمزة في: «لا تحسبنّ الذين يبخلون» بالياء، ولا كيف يكون تقديرها؟.
قلت: الملاحظ أن قراءة حمزة التي أشار إليها بالحاشية هي بالتاء لا بالياء، ومع ذلك فإن أبا علي احتجّ للقراءتين بما فيه المأرب. انظر ما تقدم ص 9998.(3/109)
قال: ولم (1) يختلفوا في قوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا}
[آل عمران / 169] أنّها بالتاء قوله (2): {تحسبن} مسند إلى الفاعل المخاطب، والذين قتلوا المفعول الأول، والمفعول الثاني قوله: أمواتا. فقد استوفى الحسبان فاعله ومفعوليه.
آل عمران: 179
اختلفوا في فتح الياء والتخفيف وضمّها والتّشديد من قوله عز وجل (2): {حتى يميز} [آل عمران / 179] و {ليميز الله الخبيث} [الأنفال / 37].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: {حتى يميز} و {ليميز الله الخبيث} بفتح الياء والتخفيف. وقرأ حمزة والكسائي حتى يميز وليميز الله بضمّ الياء والتشديد (4).
[قال أبو علي] (5): قال يعقوب: مزته، فلم ينمز، وزلته فلم ينزل، وأنشد أبو زيد (6):
__________
(1) في (م): «لم».
(2) في (ط): تعالى.
(4) انظر السبعة ص 220.
(5) سقطت من (ط).
(6) البيت لمالك بن الرّيب أوّل أبيات أربعة له في النوادر ص 285 (ط: الفاتح) وفي الأغاني 22/ 311من قصيدة طويلة يقع البيت الشاهد السابع منها.
ويروى في النوادر: «شرّ عدوته ولا بعلا» وفي الأغاني: «شر عدوته رقدت لا مثبتا ذعرا ولا بعلا» قال في النوادر. مسئيا: «أراد مسيئا فقدم الهمزة وهي لغة كما يقال: رآني وراءني قال أبو الحسن: أمّا روايتهم (لا مسئيا) وتفسيرهم لها على تقديم الهمزة فقد صدقوا في ترتيب اللفظ وسهوا عن المعنى، لأنّ مسيئا لو ردّ إلى أصله فقيل، وإن لم يكن شعرا: لا مسئيا ذعرا، لم يكن له معنى وإن كان قد يجوز على وجه بعيد: لا مسيئا للذعر وذلك أنّه(3/110)
لمّا ثنى الله عنّي شرّ عزمته
وانمزت لا مسئيا (1) ذعرا ولا وجلا [مسئيا من قول ذي الرّمّة (2):
بعيد السأو مهيوم والسأو: هو الهمّة.
تقول: لا أذعر ولا أهم بالذعر. فمزت وميّزت لغتان] (3)، وليس ميّزت بمنقول من مزت كما أنّ غرّمته منقول من غرم، يدلّك على ذلك أنّه لا يخلو تضعيف العين في ميّز من أن يكون لغة في ماز، أو يكون تضعيف العين لنقل الفعل، كما أنّ الهمزة في أقمته له، فالذي يدلّ على أنّه ليس للنقل، كما أن غرّمته للنّقل، أنّه لو كان للنّقل للزم أن يتعدّى ميّزت إلى مفعولين، كما أنّ غرّمت يتعدى إلى مفعولين، تقول: غرّمت زيدا مالا. وفي أنّ ميّزت لا يتعدّى إلى مفعولين إلّا بحرف جر نحو قولهم (4): ميّزت
__________
إذا فزع فقد أساء عند نفسه والذي قرأناه في شعر مالك بن الريب:
«وانحزت لا مونسا ذعرا» وهذا لا طعن عليه ولا مئونة فيه». والبعل: المتحير.
(1) في (ط): مسيئا وهو تحريف من الناسخ.
(2) في ديوانه بشرح الأصمعي 1/ 382من قصيدة طويلة يقع البيت الحادي عشر منها وتتمته:
كأنني من هوى خرقاء مطّرف ... دامي الأظل
قال في شرحه: بعير مطرف: اشتري طريفا، لا من بلاد القوم فهو يحن إلى ألأفه ويشتاق. مهيوم، أي: به هيام، وهو داء يأخذ الإبل شبيه بالحمى.
(3) ما بين المعقوفين سقط من (م) واستدرك من (ط).
(4) ما بين المعقوفين جاء في (ط) قبل قوله: أنشد أبو زيد السابق.(3/111)
متاعك بعضه من بعض، دلالة بيّنة على أنّ تضعيف العين ليس للنّقل. ومثل ميّزت في أنّ التضعيف فيه ليس للتعدية إنّما هو لغير هذا المعنى، الهمزة في قولهم: ألقيت ألا ترى أنّ الهمزة فيه ليست لنقل الفعل من فعل إلى أفعل ليزيد في الكلام مفعول؟ إنّما ألقيت بمنزلة أسقطت، ولو كان منقولا من لقي لتعدّى إلى مفعولين، لأنّ لقي يتعدّى إلى مفعول في قولك: لقيت زيدا، ولو كانت الهمزة في ألقيت للنقل لتعدّى إلى مفعولين. وفي قولهم:
ألقيت متاعك بعضه على بعض وتعدّيه إلى المفعول الثاني بالجارّ دلالة على أنّ ألقيت ليس للنقل (1) من لقي، وأنّ ألقيت بمنزلة أسقطت في تعدي ألقيت إلى مفعول واحد كما أنّ أسقطت يتعدّى إلى مفعول واحد، ولا يتعدّى إلى مفعول ثان، إلّا بحرف الجرّ، كما أنّ أسقطت لا يتعدّى إلى مفعول ثان إلّا بحرف الجرّ، كقولك: أسقطت متاعك بعضه على بعض. ومثل ميّز في أنّ التضعيف فيه ليس للتعدي قولهم: عوّض، فالتضعيف فيه ليس للنقل، ولو كان للنقل من عاض، لتعدّى إلى ثلاثة مفعولين لأنّ عاض يتعدّى إلى مفعولين يدلّك على ذلك ما أنشده الأصمعي:
عاضها الله غلاما بعد ما
شابت الأصداغ والضرس نقد (2)
__________
(1) في (ط): بنقل والمؤدى واحد.
(2) البيت من شواهد شرح أبيات المغني 7/ 65وهو في إصلاح المنطق ص 49 والمشوف المعلم 2/ 786والخصائص 2/ 71، والصحاح واللسان والتاج (نقد) اهـ.
قال البغدادي وهذا البيت لم أقف على قائله ولا على تتمته، والله أعلم.(3/112)
وتقول: عوّضت زيدا مالا، فعوّض وعاض لغتان كما أنّ ميّز وماز لغتان، كلّ واحد منهما في معنى الآخر، ليس عوّض منقولا من عاض، كما أنّ ميّز ليس بمنقول من ماز. وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، فكلتا القراءتين حسنة، لأنّ ماز فعل متعد إلى مفعول واحد، كما أنّ ميّز كذلك. ولقولهم: ماز من المزية أنّ أكثر القراء عليها، وكثرة القراءة بها يدلّ على أنّها أكثر في استعمالهم.
آل عمران: 180
قال: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: والله بما يعملون خبير [آل عمران / 180] بالياء وقرأ الباقون بالتاء (1).
[قال أبو علي] (2): القول في ذلك أنّ من قرأ بالياء أتبعه ما قبله، وهو على الغيبة، وذلك قوله: {سيطوقون} [آل عمران / 180] والله بما يعملون خبير [آل عمران / 180] من منعهم الحقوق من أموالهم فيجازيهم عليه، ومن قرأ بالتاء فلأنّ قبله خطابا، وهو قوله: {وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم} [آل عمران / 179] والله بعملكم المرضيّ خبير (3) فيجازيكم عليه، فالغيبة أقرب إليه من الخطاب.
قال: قرأ ابن عامر وحده: بالبينات وبالزبر [آل عمران / 184] بالباء وكذلك في مصاحف أهل الشام، وقرأ الباقون: {بالبينات والزبر} بغير باء [في الزبر] (4) وكذلك هي (5)
في مصاحفهم (6).
__________
(1) السبعة ص 220.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) زيادة من (ط).
(5) سقطت: «هي» من (ط).
(6) السبعة ص 221.(3/113)
قال أبو علي: وجه قراءة من قرأ: {بالبينات والزبر} أنّ الواو قد أغنت عن تكرير العامل، ألا ترى أنّك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو، أشركت الواو عمرا في الباء، فأنت عن تكريرك الباء مستغن، وكذلك إذا قلت: جاءني زيد وعمرو: فالواو: قد.
أشركت عمرا في المجيء، وكذلك جميع حروف العطف. ووجه قول ابن عامر أنّ إعادة الباء، وإن كان (1) مستغنى عنها فإنّه لضرب من التأكيد، ولو لم يكرر لاستغنى بإشراك حرف العطف فممّا جاء على قياس قراءة ابن عامر قول رؤبة:
يا دار عفراء ودار البخدن (2).
فكرر الدار ولو قلت: دار زيد وعمرو، لأشركت الحرف (3)
في الاسم الجار كما تشرك بالباء، فكما كرر الدار كذلك كرر الباء، والدار في شعر رؤبة [دار (4)] واحدة لهما. ويدلك على ذلك قوله:
أما جزاء العارف المستيقن
عندك إلّا حاجة التفكّن (2)
وكلا الوجهين حسن عربي.
__________
(1) في (ط): كانت.
(2) سبقت الأشطار الثلاثة وهي من قصيدة واحدة في 1/ 257والشطر الأول في سيبويه 1/ 305.
(3) في (ط): «الواو» وكلاهما بمعنى، لأنه سبق ذكره عند قوله: «بإشراك حرف العطف».
(4) زيادة من (ط).(3/114)
آل عمران: 181
اختلفوا (1) في قوله تعالى (2): {سنكتب ما قالوا، وقتلهم الأنبياء بغير حق} {وتقول} [آل عمران / 181] في الياء والنون والرفع والنصب.
فقرأ حمزة وحده: سيكتب ما قالوا بالياء، وقتلهم * رفعا ويقول * بالياء. وقرأ الباقون: {سنكتب ما قالوا} بالنون {وقتلهم}
نصبا، {ونقول} بالنون (3).
قال أبو علي: وجه قراءة من قرأ {سنكتب} أنّ قبله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير} [آل عمران / 181] فالنون هاهنا بعد الاسم الموضوع للغيبة، كقوله: {بل الله مولاكم} [آل عمران / 150] ثمّ قال: {سنلقي} [آل عمران / 151] ولو قرئ:
سيكتب ما قالوا بالياء لكان في الإفراد كقوله: {وقذف في قلوبهم الرعب} [الأحزاب / 26] وقوله: {كتب الله لأغلبن أنا}
[المجادلة / 21] وقوله: {ونقول} [آل عمران / 181] معطوف على سنكتب. ووجه قول حمزة: ويقول * أنّ معنى سيكتب، سيكتب (4)، كما أنّ معنى: {كتب عليه أنه من تولاه} [الحج / 4] كتب، ويقوّي سنكتب قوله: {وكتبنا عليهم فيها} [المائدة / 45].
وأمّا رفع حمزة وقتلهم * [آل عمران / 181] فلأنّه عطفه على {ما قالوا} وهو في موضع رفع بإسناده إلى الفعل المبني للمفعول به.
__________
(1) في (ط): واختلفوا.
(2) زيادة من (ط).
(3) السبعة ص 221220.
(4) في (ط): ستكتب.(3/115)
ومن قال: {وقتلهم} فنصب حمله على {سنكتب ما قالوا} وهو في موضع نصب بأنّه مفعول به.
آل عمران: 187
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعز]: (1) {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران / 187].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر بالياء فيهما.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بالتاء فيهما (2).
قال أبو علي: حجّة من قرأ بالتاء قوله (3): {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم} [آل عمران / 81] والاتفاق عليه، وكذلك: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله}
[البقرة / 83] وقد تقدّم القول في ذلك.
وحجّة من قرأ بالياء أنّ الكلام حمل على الغيبة لأنّهم غيب.
[وقد تقدم القول في ذلك] (4).
آل عمران: 195
واختلفوا في قوله: {وقاتلوا} [آل عمران / 195] {وقتلوا}
[آل عمران / 195] في تقديم الفعل المبني للفاعل، وتأخيره والتشديد والتخفيف.
فقرأ ابن كثير وابن عامر: وقاتلوا وقتلوا مشدّدة التاء.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة ص 221.
(3) سقطت من (ط).
(4) زيادة من (ط).(3/116)
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو: {وقاتلوا وقتلوا} خفيفة.
وقرأ حمزة والكسائي: وقتلوا، وقاتلوا. يبدءان بالفعل المبني للمفعول به قبل الفعل المبني للفاعل، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة، غير أنّ ابن كثير وابن عامر شدّدا في التوبة (1).
قال أبو علي: تقديم {قاتلوا} على: {قتلوا} حسن، لأنّ القتال قبل القتل، والتشديد حسن لتكرّر القتل، فهو مثل {مفتحة لهم الأبواب} [ص / 50]. ومن خفّف فقال: {وقتلوا} فإنّ فعلوا يقع على الكثير والقليل، والتثقيل تختص به الكثرة. ومن قرأ: قتلوا وقاتلوا كان حسنا، لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى، وإن كان مؤخرا في اللفظ، وليس العطف بها كالعطف بالفاء، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة. ووجه قول من قرأ قتلوا وقاتلوا أن يكون لمّا قتل منهم قاتلوا ولم يهنوا ولم يضعفوا للقتل الذي أوقع بهم، كما قال: {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله}
[آل عمران / 146].
قال [أحمد] (2): وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: {مع الأبرار} [آل عمران / 193] و {من الأشرار}
[ص / 62] و {ذات قرار} [المؤمنون / 50] وما كان مثله بين الفتح والكسر.
وقرأ ابن كثير وعاصم بالفتح. وروى خلف بن هشام وأبو هشام الرفاعي عن سليم بن عيسى الحنفي عن حمزة أنّه كان يشمّ
__________
(1) السبعة ص 222221.
(2) سقطت من (ط).(3/117)
الراء الأولى من قوله: ذات قرار، والأشرار، وما كان مثل ذلك الكسر من غير إشباع (1).
قال أبو علي: الإمالة في فتحة الراء حسنة، لأنّ الراء المكسورة تغلب المفتوحة، كما غلبت المستعلي في قولهم: قارب وطارد، وقادر، فإذا غلبت المستعلي فأن تغلب الراء المفتوحة أجدر لأنّه لا استعلاء في الراء، إنّما هو حرف من مخرج اللام فيه تكرير. ومن لم يمل فلأنّ كثيرا من الناس لا يميل (2) شيئا من ذلك.
[آخر الكلام في سورة آل عمران] (3)
[سورة النساء]
(4)
بسم الله الرحمن الرحيم (5)
ذكر اختلافهم في سورة النساء
النساء: 1
اختلفوا في تشديد السين وتخفيفها من قوله تعالى (6):
{تسائلون به} [النساء / 1].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: تساءلون * مشدّدة.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ: {تساءلون} مخفّفة.
__________
(1) انظر السبعة ص 222.
(2) في (ط): لا يميلون.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من (ط).
(4) كذا في (ط)، وسقطت من (ط).
(5) في (م): بسم الله.
(6) سقطت من (ط).(3/118)
واختلف عن أبي عمرو، فروى علي بن نصر وهارون بن موسى، وعبيد بن عقيل وعبد الوهاب بن عطاء عنه، والواقدي (1)
عن عدي بن الفضل (2)، وخارجة بن مصعب (3)، عنه: {تساءلون}
مخففة. وروى اليزيديّ وعبد الوارث عنه: تساءلون * مشدّدة وروى أبو زيد عنه التخفيف والتشديد. وقال عباس عنه: إن شئت خفّفت، وإن شئت شدّدت قال: وقراءته التخفيف (4).
قال أبو علي: من ثقّل تساءلون * أراد: تتساءلون فأدغم التاء في السين، وإدغامها في السين حسن لاجتماعهما في أنّهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا، واجتماعهما في الهمس. ومن خفّف فقال: {تساءلون}، حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة، فأعلّها بالحذف، كما أعلّ (5) بالإدغام في قول من قال:
تسّاءلون، وإذا اجتمعت المتقاربة خفّفت بالحذف والإدغام
__________
(1) محمد بن عمرو بن واقد أبو عبد الله الواقدي المدني ثم البغدادي. روى القراءة عن نافع بن أبي نعيم وعيسى بن وردان وغيرهما، وروى الحروف عن عدي بن الفضل عن أبي عمرو مات سنة 209هـ. (طبقات القراء 2/ 219).
(2) عدي بن الفضل أبو حاتم البصري. روى الحروف عن أبي عمرو، وحدث عن مالك بن أنس روى عنه الحروف محمد بن عمر الواقدي. كذا ذكر الحافظ أبو عمرو الداني (طبقات القراء 1/ 511).
(3) خارجة بن مصعب أبو الحجاج الضبعي السرخسي، أخذ القراءة عن نافع وأبي عمرو وله شذوذ كثير عنهما لم يتابع عليه. توفي سنة ثمان وستين ومائة (طبقات القراء 1/ 268).
(4) السبعة 226وفيه وقرأته بالتخفيف.
(5) في (ط): أعلها.(3/119)
والإبدال (1). فالإبدال كقولهم: طست، أبدلت من السين الثانية التاء (2) لتقاربهما واجتماعهما في الهمس، قال العجاج:
أأن رأيت هامتي كالطّست (3)
وأنشد أبو عثمان:
لو عرضت لأيبليّ قسّ
أشعث في هيكله مندسّ
حنّ إليها كحنين الطّسّ (4)
__________
(1) في (ط): وبالإدغام وبالإبدال.
(2) في (ط): تاء.
(3) الرجز لرؤبة لا للعجاج وهو في ديوانه في مجموع أشعار العرب ص 23من أرجوزة قالها في نفسه أولها:
يا بنت عمرو لا تسبي بنتي ... حسبك إحسانك إن أحسنت
وفي اللسان (طس).
(4) نسبها للعجاج في البحر المحيط 3/ 156وهي في ملحق ديوانه 2/ 295 نقلا عن البحر المحيط. وبدون نسبة في الفاضل للمبرد 19وسر صناعة الإعراب 1/ 172وشروح سقط الزند 3/ 1373. والفرق بين الحروف الخمسة 581 (من منشورات دار المأمون للتراث) واللسان طسس، قسس وفي سفر السعادة 1/ 349مع بيت سابق لها وهو:
جارية من آل عبد شمس.
والقسّ: هو رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وقيل هو الكيس العالم، والقسيس كالقسّ، والجمع قساقسة على غير قياس وقسّيسون. وفي التنزيل: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا) [المائدة / 82] والأيبليّ والأيبل:
صاحب الناقوس الذي ينقّس النصارى بناقوسه يدعوهم به إلى الصلاة.
اللسان (أبل).
والهيكل: معبد النصارى فيه صورة مريم، ومندس: مدفون. وطسّ: قال في(3/120)
النساء: 1
واختلفوا (1) في نصب الميم وكسرها من قوله [جلّ وعزّ] (2): {والأرحام} [النساء / 1].
فقرأ حمزة وحدة: والأرحام بالخفض.
وقرأ الباقون: {والأرحام} نصبا (3).
قال أبو علي: من نصب الأرحام احتمل انتصابه وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفا على موضع الجار والمجرور، والآخر:
أن يكون معطوفا على قوله: {واتقوا}، التقدير: اتقوا الله الذي تساءلون به. واتقوا الأرحام أي اتقوا حقّ الأرحام فصلوها ولا تقطعوها.
وأمّا من جرّ الأرحام فإنّه عطفه على الضمير المجرور بالباء.
وهذا ضعيف في القياس، وقليل في الاستعمال. وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن. فأما ضعفه في القياس: فإن الضمير قد صار
__________
سفر السعادة: طسّ: هو فارسي الأصل. قال أبو عبيدة: ومما دخل في كلام العرب: الطست. قال الفراء: وطيء تقول: الطّست، وغيرها يقول:
الطسّ، قال: وهم الذين يقولون: لصت يعني طيئا وغيرهم يقول: لصّ، والجمع عندهم: لصوت وطسوت وأنشد الرجز. ومثل ذلك ورد في اللسان عن الأزهري (طسس) والحنين: الشديد من البكاء والطرب، وقيل: هو صوت الطرب كان ذلك عن حزن أو فرح. وقالوا: لا أفعل ذلك حتى يحن الضب في إثر الإبل الصادرة، وليس للضب حنين إنّما هو مثل، وذلك لأنّ الضب لا يرد أبدا، والطست تحن إذا نقرت على التشبيه (اللسان: حنن).
(1) في (ط): اختلفوا. بغير واو.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 226.(3/121)
عوضا مما كان متصلا باسم نحو غلامه وغلامك، وغلامي، من التنوين فقبح أن يعطف عليه كما لا تعطف الظاهر على التنوين.
ويدلك على أنّه قد جرى عندهم مجرى التنوين حذفهم الياء من (1)
المنادى المضاف إليه (2) كحذفهم التنوين، وذلك قولهم: يا غلام، وهو الأكثر من غيره في الاستعمال وجهة (3) الشبه بينهما أنّه على حرف، كما أنّ التنوين كذلك، واجتماعهما في السكون، وأنه لا يوقف على اسم (4) منفصلا منه، كما أنّ التنوين كذلك، فلما اجتمعا في هذه المعاني جعل بمنزلته في الحذف.
فإن قال قائل: فهلا قبح أيضا عطف الظاهر المجرور على الظاهر المجرور (5)، لأنّه أيضا عوض من التنوين وفي محله؟
فالقول في ذلك: أن المضمر أذهب في مشابهة التنوين من المظهر، ألا ترى أنه لا ينفصل من الاسم، كما أنّ التنوين لا ينفصل ولا يوقف عليه، كما لا يوقف على بعض أجزاء الكلم دون تمامها، وليس الظاهر كذلك، ألا ترى أنّه قد يفصل بين المضاف والمضاف إليه إذا كان المضاف إليه ظاهرا بالظروف وبغيرها (6)
نحو:
__________
(1) في (ط): في.
(2) في (ط): إليها.
(3) في (ط): ووجه.
(4) في (ط): الاسم.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): بالظرف وبغيره.(3/122)
كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا * أواخر الميس إنقاض (1) الفراريج (2)
ونحو:
من قرع القسيّ الكنائن (3)
__________
(1) في (ط): «أصوات».
(2) يريد كأن أصوات أواخر الميس إنقاض أي: أصوات الفراريج من إيغالهنّ بنا والإيغال: المضي والإبعاد، يقال: أوغل في الأرض: إذا أبعد، والميس:
الرحل، والميس: شجر تعمل منه الرحال. والأواخر جمع آخرة، وهي آخرة الرحل، وهو العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب، ويقال فيه:
مؤخر الرحل. والفراريج جمع فروجة وهي صغار الدجاج، يريد: أنّ رحالهم جدد، وقد طال سيرهم، فبعض الرحل يحك بعضا، فتصوت مثل أصوات الفراريج من شدّة السير واضطراب الرحل، ومن إيغالهنّ: من للتعليل والبيت من قصيدة لذي الرمة في ديوانه 2/ 996والخزانة 2/ 199وروايته، إنقاض كما في (م) وعند سيبويه 1/ 92، 347والمقتضب 4/ 376والإنصاف 2/ 433وابن يعيش 1/ 103و 2/ 108و 3/ 77وشروح سقط الزند 4/ 1533والموشح 292برواية «أصوات» بدل «إنقاض» كما في (ط)، وهما بمعنى.
(3) قطعة من بيت للطرماح وتمامه:
يطفن بحوزيّ المراتع لم يرع ... بواديه من قرع القسيّ الكنائن
الأصل: قرع الكنائن القسي، ففصل بين المصدر المضاف وفاعله المضاف إليه بالمفعول وهو القسي. والبيت من قصيدة يصف فيها بقر الوحش (ديوانه 169).
قوله: يطفن، بضم الياء من أطاف به إذا ألم به وقاربه، ويجوز أن يكون بفتح الياء من الطواف. والحوزي: المتوحد، وهو الفحل منها، وهو من حزت الشيء إذا جمعته أو نحيته (الأزهري: حاز) قال العيني: الحوزي هاهنا: الثور الذي يجعله بقر الوحش رأسا لهن يتبعنه في المرعى ومورد الماء، وهو الذي يحوشهنّ ويحميهنّ عمن يقصدهنّ من بني آدم وغيرهم. والمراتع: مواضع الرتع، وأراد بالبوادي: البوادر(3/123)
فليس المضمر في هذا كالظاهر، فلما صار كذلك لم يستجيزوا عطف الظاهر عليه، لأن المعطوف ينبغي أن يكون مشاكلا للمعطوف عليه، ألا تراهم قالوا:
ولولا رجال من رزام أعزّة
وآل سبيع أو أسوءك علقما (1)
لمّا كان أسوأ فعلا، وما قبله اسم، أضمر أن ليعطف شكلا
__________
(3/ 464) وهي جمع بادرة وهي ما يظهر عند الغضب. وقد تكون «بواديه» بكسر الباء، أي بالوادي الذي هو فيه. وقوله: من قرع القسي الكنائن، أي: من تعرض الصيّاد له.
وقبل البيت:
يخافتن بعض المضغ من خشية الرّدى ... وينصتن للسمع انتصات القناقن
والقناقن: البصير باستنباط المياه، وجمعه قناقن بفتح القاف (الأزهري 8/ 293وأنشد البيت).
وانظر الخصائص 2/ 406، والإنصاف 2/ 429، والخزانة 2/ 252عرضا والعيني 3/ 462، والتهذيب 5/ 178 (حاز) واللسان (حوز).
(1) البيت للحصين بن الحمام، شاعر إسلامي من الصحابة، كان سيدا شاعرا وفيا. وكان يقال له: مانع الضيم. وهو من مفضلية برقم 12ويقع الثامن عشر فيها، وروايته: «من رزام بن مازن» بدل «أعزّة». ورزام: هو ابن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وسبيع هو ابن عمرو بن فتية. وعلقم: ترخيم علقمة بن عبيد بن عبد بن فتية. وجواب لولا في البيت بعده، وهو:
لأقسمت لا تنفكّ مني محارب ... على آلة حدباء حتّى تندّما
والبيت من شواهد سيبويه 1/ 429قال الأعلم: الشاهد فيه نصب أسوءك بإضمار أن ليعطف على ما قبله من الأسماء، والمعنى: لولا هؤلاء وأن أسوءك لفعلت كذا، أي: لولا كون هؤلاء الموصوفين أو أن أسوءك لفعلت كذا، أي ومساءتك.
وانظر المحتسب 1/ 326، والعيني 4/ 411والأشموني 3/ 296.(3/124)
على شكله. وكذلك قوله تعالى: {وكلا ضربنا له الأمثال}
[الفرقان / 39] و {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما} [الإنسان / 31] فكما روعي التشاكل في هذه المواضع في المعطوف، وفي غيرها، كذلك روعي في المضمر المجرور فلم يعطف عليه المظهر المجرور، لخروج المعطوف عليه من شبه الاسم إلى شبه الحرف.
ومما يبين ذلك أنهم لم يستحسنوا عطف الظاهر المرفوع على المضمر المرفوع (1) حتى يؤكّد، فيقع العطف في اللفظ على المضمر المنفصل الذي يجري مجرى الأجنبي، وذلك نحو: أذهب وزيد وذهبت وزيد، ولا يستحسنون ذلك حتى يؤكّدوه فيقولوا: اذهب أنت وزيد، وذهبت أنا وزيد، لأنه لما اختلط الاسم بالفعل حتى صار كبعض أجزائه لوقوع إعرابه بعده في نحو: تفعلين، وتفعلان، وتفعلون. ولإسكانهم الآخر منه، إذا اتصل بالضمير مع تحريكهم نحو: علبط (2) لم يستجيزوا العطف عليه في حال السّعة إلّا بالتأكيد، ليقع العطف عليه في اللفظ، فلا يكون كأنه عطف اسما على فعل كما يصير في المجرور كأنه عطف اسما على تنوين. وإذا اتصل علامة الضمير المجرور بالحرف كان كاتصاله بالاسم، ألا ترى أنه لا ينفصل من الحرف كما لا ينفصل من الاسم، ولا يفصل بينهما كما لا يفصل بينهما إذا اتصل بالاسم، فلا فصل بين اتصاله بالحرف
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) رجل علبط وعلابط: ضخم عظيم. وقيل: كل غليظ علبط، وكل ذلك محذوف من فعالل، وليس بأصل لأنّه لا تتوالى أربع حركات في كلمة واحدة (اللسان).(3/125)
واتصاله بالاسم من حيث ذكرنا. فإن قال قائل: هلّا (1) جاز أن يعطف الظاهر المجرور على المضمر المجرور، كما جاز أن يؤكد بالنفس وغيره من التأكيد. قيل: لم يجز العطف من حيث جاز التأكيد، لأن العطف تقدير حرفه أن يقوم مقام الذي يعطف عليه، فإن كان المعطوف فعلا كان في تقدير الفعل، وإن كان اسما كان في تقدير الاسم، وكذلك إن كان حرفا، وإذا كان كذلك وكان المضمر المجرور قد خرج عن شبه الاسم وصار بمنزلة الحرف بدلالة أنه لا ينفصل مما اتصل به، كما أن التنوين لا ينفصل، ويحذف في النداء في الاختيار، كما يحذف، وامتنع أن يفصل بينه وبينه في الشعر كما يفصل ذلك في المظهر، لم يجز العطف فيه، لأن حرف العطف لمّا خرج الاسم الذي يعطف عليه في حكم اللفظ عن حكم الأسماء، لم يصح العطف عليه، لأنّك إنما تعطف عليه لإقامتك إياه مقام الاسم، فإذا خرج عن شبه الاسم لم يقم حرف العطف مقام الاسم لخروج المعطوف عليه عن ذلك، وليس التأكيد كذلك، لأنك لو حملت التأكيد على نفس العامل في المجرور لم يمتنع، فليس ضعف المؤكّد بحرف التأكيد بأبعد من أن لا يكون في الكلام، فلذلك جاز التأكيد بالنفس وسائر حروف التأكيد، ولم يجز العطف.
ومما يتعلق بهذا الباب قوله تعالى (2): {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به} [البقرة / 217] لا يخلو ارتفاع قوله: {وصد عن سبيل الله} من أن يكون بالعطف على الخبر الذي هو {كبير} كأنه:
__________
(1) في (ط): فهلا.
(2) سقطت من (ط).(3/126)
قتال فيه كبير، وصد وكفر، أي: القتال قد جمع أنه كبير وأنه صد وكفر. أو يكون مرتفعا بالابتداء وخبره (1) محذوف، لدلالة كبير المتقدم عليه، كأنه قال: والصدّ كبير، كقولك: زيد منطلق وعمرو أو يكون مرتفعا بالابتداء والخبر المظهر، فيكون الصدّ ابتداء، وما بعده من قوله: {وكفر به} {وإخراج أهله} يرتفع بالعطف على الابتداء، والخبر قوله: {أكبر عند الله}، فلا يجوز الوجهان الأولان، وهما جميعا قد أجازهما الفراء.
أما الوجه الأول فلأنّ المعنى يصير: قل: قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير، والقتال، وإن كان كبيرا ويمكن أن يكون صدا لأنه ينفّر الناس (2) عنه، فلا يجوز أن يكون كفرا. ألا ترى أن أحدا من المسلمين لم يقل ذلك، ولم يذهب إليه؟ فلا يجوز أن يكون خبر المبتدأ شيئا لا يكون المبتدأ. ويمنع من ذلك أيضا قوله بعد: {وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة / 217] ومحال أن يكون إخراج أهله منه أكبر من الكفر، لأنه لا شيء أعظم منه.
ويمتنع الوجه الثاني أيضا، لأن التقدير فيه يكون: قتال فيه كبير وكبير الصد عن سبيل الله والكفر به. وكذلك مثّله الفراء (3) وقدّره، وإذا صار كذلك، صار المعنى: وإخراج أهل المسجد الحرام أكبر عند الله من الكفر، فيكون بعض خلال الكفر أعظم منه كله، وإذا كان كذلك امتنع كما امتنع الأول، وإذا امتنع هذان ثبت الوجه الثالث: وهو: أن يكون قوله: وصدّ عن سبيل الله ابتداء، وكفر به،
__________
(1) في (ط): والخبر.
(2) في (ط) ينفر الناس.
(3) معاني القرآن 1/ 141.(3/127)
وإخراج أهله منه (1)، معطوفان عليه، وأكبر: خبر. فيكون المعنى:
صدّ عن سبيل الله أي: منعهم لكم أيها المسلمون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم ولاته، والذين هم أحقّ به منهم، وكفر بالله أكبر من قتال في الشهر الحرام. وهذا القتال في الشهر الحرام هو ما عابه المشركون على المسلمين من قتل عبد الله بن جحش وأصحابه من المهاجرين (2) عمرو بن الحضرمي [وصاحبه لما] (3)، فصلا من الطائف في عير في آخر جمادى وأول رجب وأخذهم العير، وهو أوّل من قتل من المشركين فيما روي، وأوّل فيء أصابه المسلمون (4) فهذا هو التأويل لا الوجهان الأوّلان.
وأما قوله: {والمسجد الحرام}، فزعم الفراء أنّه محمول على قوله: يسألونك عن القتال وعن المسجد الحرام (5)، هذا لفظه (6).
وهذا أيضا ممتنع، لأنه لم يكن السؤال عن المسجد الحرام، وإنّما السؤال عن قتال ابن جحش ابن الحضرمي وأصحابه الذين عابهم به المشركون وعيّروهم فقالوا: إنّكم استحللتم الشهر الحرام، وهو رجب، فقتلتم فيه. فعن هذا كان السؤال، لا عن المسجد (7)
الحرام. فإذا لم يجز هذا الوجه، لم يجز حمله أيضا فيمن جوز عطف
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): من المسلمين المهاجرين.
(3) سقطت من (م).
(4) انظر تفصيل القصّة في تفسير الطبري 2/ 349347.
(5) في (م): يسألونك عن القتال وعن الشهر الحرام وعن المسجد، ولفظ الفراء كما في (ط).
(6) معاني القرآن 1/ 141.
(7) في (م): الشهر.(3/128)
الظاهر على المضمر المجرور، فيكون محمولا على الضمير في به * لأن المعنى ليس على كفر بالله أو بالنبي. والمسجد ثبت أنه معطوف على عن * من قوله: {وصد عن سبيل الله} وعن المسجد الحرام، لأن المشركين صدّوا المسلمين عنه كما قال الله عزّ وجلّ (1): {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام} [الحج / 25] فكما أن المسجد الحرام في هذه الآية محمول على عن * المتصلة بالصدّ بلا إشكال، كذلك في مسألتنا في هذه الآية.
النساء: 5
اختلفوا في إدخال الألف وإخراجها من قوله تعالى (2):
{قياما} وقيما * [النساء / 5].
فقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وأبو عمرو: {قياما}
بألف (3).
وقرأ نافع وابن عامر قيما * بغير ألف (4).
قال أبو علي: قال أبو عبيدة: {التي جعل الله لكم قياما}
مصدر يقيمكم. ويجيء في معناها قوام، وإنّما هو الذي يقيمك، فإنّما أذهبوا الواو لكسرة القاف، كما قالوا: ضياء وتركها بعضهم (5). قال لبيد:
أفتلك أم وحشيّة مسبوعة خذلت وهادية الصّوار قوامها (6)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): بالألف.
(4) السبعة 226.
(5) مجاز القرآن 1/ 117مع اختلاف يسير في النقل.
(6) البيت من معلقته في ديوانه 171قال ابن الأنباري: معناه: أفتلك الأتان التي(3/129)
وقال أبو الحسن: جعل الله لكم قياما، وفي الكلام قواما، وقيما، وهو القوام الذي يقيم شأنهم.
وقال أبو الحسن: في قيام ثلاث لغات: قيما، وقياما، وقوما.
قال: وبنو ضبّة يقولون: طويل وطيال، والعامّة على طوال.
قال أبو علي: ليس قول من قال: إن القيم جمع قيمة بشيء، إنما القيم بمعنى القيام، ليس أن القيم جمع. والذي يدلّ على أنّ قيام الشيء إنّما يعنى به دوامه وثباته، ما أنشده أبو زيد:
إنّي إذا لم يند حلقا ريقه
وركد السّبّ فقامت سوقه (1)
والراكد: الدائم الثابت، ومن ثم قيل: ماء راكد، لخلاف الجاري، وماء دائم. وفي التنزيل: {فيظللن رواكد على ظهره}
[الشورى / 33] وقال:
يدوم الفرات فوقه ويموج (2)
__________
تشبه ناقتي أم بقرة وحشية مسبوعة: أكل السبع ولدها فهي مذعورة.
وقوله: خذلت، تأخرت عن القطيع. يريد: خذلت أصحابها من الوحش وأقامت على ولدها ترعى قربه وتلفّت إلى البقر، فإذا رأتها طابت نفسها وعلمت أنّ الصوار لم يفتها. والهادية: التي تهدي الصوار، أي تكون في أوله. والصوار: القطيع من البقر. يقال: صوار وصوار وصيار، والجمع أصورة وصيران. وقوامها: معناه تهتدي بأول الصوار (اهـ. شرح القصائد السبع الطوال 553) وانظر شرح المعلقات السبع 103للزوزني.
(1) النوادر 169 (ط الفاتح) مع أربعة أخرى بعده وعنه في اللسان (سوق)، والثاني في المخصص 17/ 21والسب بالكسر: الحبل والخمار والعمامة والوتد وشقة رقيقة كالسبيبة (القاموس).
(2) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، صدره:(3/130)
فالدوام: كالسكون والثبات على حال خلاف التموّج، وهذا يدل على أن تفسير قوله: {يقيمون الصلاة} يديمونها، ويحافظون عليها. وهذا التفسير أشبه من أن يفسر بيتمّونها.
والدليل على أن قيما مصدر في معنى القيام قوله: {دينا قيما ملة إبراهيم} [الأنعام / 161] فالقيمة التي هي معادلة الشيء ومقاومته لا مذهب له هنا (1). إنما المعنى والله أعلم: دينا ثابتا دائما لازما لا ينسخ (2) كما تنسخ الشرائع التي قبله، وكذلك قوله: {إلا ما دمت عليه قائما} [آل عمران / 75] أي: اقتضائك له ومطالبتك إياه.
فقوله: {دينا قيما} ينبغي أن يكون مصدرا وصف به الدّين ولا وجه للجمع هنا، ولا للصفة، لقلّة مجيء هذا البناء في الصفة، ألا ترى أنه إنما جاء في قولهم: قوم عدى، ومكان سوى، وفعل في
__________
فجاء بها ما شئت من لطميّة انظر ديوان الهذليين 1/ 57وجاءت روايته في شرح أشعارهم للسكري 1/ 134واللسان. (دوم):
تدوم البحار فوقها وتموج وهي أجود لما سيأتي قال السكري في شرحه: بها، أي: بالدرة، أي: جلبت في اللطائم، واللطيمة: عير تحمل التجارة والعطر، فإن لم يكن فيها عطر فليست بلطيمة، فجعل هذه الدرة تحملها عير اللطيمة. تدوم البحار، أي تسكن فوقها. قال الأصمعي: «يدوم الفرات فوقها» والفرات: العذب، ولا يجيء منه الدر، إلّا أنّه غلط، وظنّ أنّ الدرة إذا كانت في الماء العذب فليس لها شبه، ولم يعلم أنها لا تكون في العذب. (اهـ). وانظر ما قيل في تفسير اللطيمة من معان في التاج (لطم).
(1) في (ط) هاهنا.
(2) في (ط): دينا دائما ثابتا ولا ينسخ.(3/131)
المصادر كالشّبع والرّضا، وحروف أخر أوسع من الوصف، فإذا كان كذلك حمل على الأكثر.
فإن قلت: فكيف اعتلّ، وهو على وزن ينبغي أن يصح معه ولا يعتلّ، كما لم (1) يعتلّ العوض والحول ونحو ذلك؟ فإنه يمكن أن يكون هذا الوزن إنما (2) جاء في الجمع متّبعا واحده في الإعلال، نحو: ديمة وديم، وحيلة، وحيل، مع أن حكم الجمع أن لا يتبع الواحد في نحو: معيشة ومعايش، فإذا كانوا قد أتبعوه في الواحد الجمع، جاز أن يتبعوه أيضا في هذا الفعل فيعلّ، كما يعلّ الفعل، لأن المصادر أشدّ اتباعا لأفعالها في الاعتلال من الجمع للواحد. فإن قلت: فقد قالوا: وعدا ووزنا، فصحّحوا المصدر مع إعلالهم الفعل نحو يعد. قيل: لا يشبه هذا ما ذكرنا من بناء «فعل»، لأنّ «فعلا» على بناء لا طريق للإعلال عليه، وليس «فعل» كذلك، لأنّ الكسرة توجب الإعلال في الواو إذا كانت عينا، لا سيّما إذا انضم إليها هاهنا الاعتلال في الفعل. ويدلّك على أنه مصدر، وأنه مثل عوض حكاية أبي الحسن قوما، وقيما، وكان (3) القياس تصحيح الواو كما حكاه أبو الحسن، وإنما انقلبت ياء على وجه الشذوذ عن الاستعمال كما انقلبت ثيرة، وكما قالوا: طويل وطيال في لغة بني ضبّة فيما حكاه أبو الحسن، وكما قالوا: جميعا جواد، وجياد وكان حكم جواد أن تصحّ عينه في الجمع (4)، قال الأعشى:
__________
(1) في (ط): لا.
(2) في (ط): لما.
(3) في (ط): فكان.
(4) سقطت: «في الجمع» من (ط).(3/132)
جيادك في الصّيف (1) في نعمة
تصان الجلال وتعطى الشّعيرا (2)
فكما شذّت هذه الأشياء عما عليه الاستعمال كذلك شذّ قولهم: قيما، وهو فعل كالشبع، ولا وجه للصفة هنا لقلة الصفة، ولا لأن يكون جمع قيمة، لأنّ ذلك لا مذهب له، ألا ترى أنه لا يجوز أن يوصف الدّين بذلك، وقوله: قيما، وقياما بمعنى، وإنّما أعلّ القيام لأنه مصدر قد اعتلّ فعله، فأتبع الفعل في الاعتلال، فأمّا القوام الذي حكاه أبو عبيدة، فإنه ينبغي أن يكون اسما غير مصدر، كالقوام فيمن فتح. ويجوز أن يكون مصدر قاوم، كما أنّ الغوار مصدر غاور، فأما القيام والصّيام، والعياذ، والعيادة، والحياكة ونحو ذلك مما قلبت الواو فيه ياء، فمصادر جارية على الفعل، ومما يدل على أن قيما ليس بجمع قيمة، وإنما هو مصدر قوله: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة / 97] وقيما للناس، وإنّما المعنى جعل الله حجّ البيت الحرام قواما لمعايش الناس.
قال: وقرأ حمزة وحده: {ضعافا} [النساء / 9] (3) بإمالة العين، وكذلك: {خافوا} بإمالة الخاء. واختلف عنه في الإمالة فروى عبيد الله (4) بن موسى: {ضعافا} بالفتح. وروى خلف بن
__________
(1) في (ط): بالصيف.
(2) ديوانه / 99من قصيدة يمدح فيها هوذة بن علي الحنفي.
(3) تمام الآية: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا}.
(4) في (ط): عبد الله. وهو عبيد الله بن موسى بن باذام. أخذ القراءة عرضا عن عيسى بن عمر وشيبان بن عبد الرحمن الهمذاني وروى الحروف سماعا من(3/133)
هشام عن سليم بن عيسى (1) عنه بالكسر (2).
قال أبو علي: وجه الإمالة في {ضعافا} أنّ ما كان على فعال وكان أوّله حرفا مستعليا مكسورا نحو: ضعاف وقباب، وخباث، وغلاب، يحسن فيه الإمالة وذلك أنه قد تصعّد بالحرف المستعلى، ثم انحدر بالكسر فيستحبّ أن لا يتصعّد بالتفخيم بعد التصويب بالكسر (3)، فيجعل الصوت على طريقة واحدة، فلا يتصعّد بالتفخيم بعد التصوّب بالكسر (4)، وذلك نحو ما قدمنا من نحو:
ضعاف وقباب. ومما يدل على أنّ الإصعاد بعد الانحدار يثقل عليهم أنهم يقولون: صبقت، وصقت، فيبدلون من السين الصاد، ولا تقرّر السين لئلا يتصعّد منها إلى المستعلي فإذا كان بعكس ذلك لم يبدل، وذلك نحو: قست، وقسوت، لأنه إذا تصعّد بالقاف تحدّر بالسين، فيكون الانحدار بعد الإصعاد خفيفا. ومما يدلّك على حسن الإمالة في ضعاف أن الحرف المكسور إذا كان بينه وبين الألف حرفان، وكان الأول منهما مستعليا ساكنا، حسنت فيه الإمالة وذلك نحو: مقلات، ومظعان، ومطعام، لأن المستعلي لمّا كان ساكنا وقبله كسرة صار المستعلي كأنه تحرّك (5) بالكسر لما كانت الكسرة قبله كما أن من قال:
__________
غير عرض عن حمزة، وسمع حروفا من الكسائي وفاته سنة 213هـ. (انظر طبقات القراء 1/ 494).
(1) سليم بن عيسى بن سليم بن عامر الكوفي المقرئ ضابط محرر حاذق عرض القرآن على حمزة وهو من أخص أصحابه (الطبقات 1/ 318).
(2) السبعة 227.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): بالكسرة.
(5) في (ط): يتحرك.(3/134)
أحبّ المؤقدين إليّ مؤسى (1)
لما كانت الضمة قبل الواو قدرها كأنها عليها، فأبدل منها الهمزة كما يبدلها (2) منها إذا كانت مضمومة، فكذلك إذا قال:
مقلات، صار كأنه قال: قلات، فحسنت الإمالة (3).
وأما الإمالة في {خافوا} فإنها حسنة، وإن كان الخاء مستعليا، لأنه يطلب الكسرة التي في: خفت، فينحو نحوها بالإمالة (4). قال سيبويه: بلغنا عن أبي إسحاق أنه سمع كثير عزة يقول: صار مكان كذا كذا (5).
قال: وكلهم قرأ (6): وإن كانت واحدة [النساء / 11] نصبا إلّا نافعا فإنه قرأ: وإن كانت واحدة رفعا (7).
قال أبو علي: الاختيار ما عليه الجماعة، لأن التي قبلها لها خبر منصوب وذلك قوله: (فإن كنّ نساء فوق اثنتين وإن كانت
__________
(1) صدر بيت لجرير، سبق في 1/ 239.
(2) في (م): يبدل.
(3) في (ط): الإمالة فيه.
(4) قال السيرافي (طرة سيبويه 2/ 261): أما إمالة خاف فلأنه على فعل، وأصله خوف كفرح فللكسرة المقدّرة في الألف جازت إمالته، ويكسر أيضا إذا جعلت الفعل لنفسك، فقلت: خفت، وكل ما كان في فعل المتكلم مكسورا جازت إمالته من ذوات الواو أو من ذوات الياء.
(5) سقطت من (ط) كذا. وانظر سيبويه 2/ 261وقد سبق في 2/ 300.
(6) في (ط): قرءوا.
(7) السبعة 227والملاحظ أنّ المؤلف قدم الكلام في الآية 11على الآية 10من النساء.(3/135)
واحدة) أي: وإن كانت المتروكة واحدة. كما أن الضمير في الأول تقديره: وإن كنّ المتروكات أو الوارثات نساء.
ووجه قول نافع: إن وقعت واحدة أو وجدت واحدة، أي:
إن حدث حكم واحدة، أو إرث واحدة، ألا ترى أنّ المراد حكمها والقضاء في إرثها لا ذاتها.
النساء: 10
واختلفوا في فتح الياء وضمها (1) من قوله [جلّ وعزّ] (2):
{وسيصلون سعيرا} [النساء / 10].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي {وسيصلون}: بفتح الياء.
وقرأ ابن عامر: وسيصلون سعيرا بضم الياء. واختلف عن عاصم فروى أبو بكر بن عيّاش وأبان، والمفضّل عنه:
وسيصلون مثل ابن عامر بضم الياء وتصلى نارا حامية [الغاشية / 4] بالضم أيضا. وروى عنه حفص: {وسيصلون}
و {تصلى نارا حامية}، {ويصلى سعيرا} [الانشقاق / 12] مفتوحا كلّه (3).
[وقال أبو علي] (4): قال أبو زيد: صلي الرجل النار يصلاها صلا وصلاء، وهما واحد، وأصلاه الله حرّ النار إصلاء، وهو صالي النار في قوم صالين وصليّ.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 227.
(4) سقطت من (ط).(3/136)
حجة من قال: {سيصلون} بالفتح قوله تعالى: {اصلوها اليوم} [يس / 64] و {إلا من هو صال الجحيم}
[الصافات / 163] و {جهنم يصلونها} [إبراهيم / 29].
وحجة من قال: سيصلون أنه من: أصلاه الله، وسيصلون مثل: سيعطون، من أصلاه الله، مثل: أدخله الله النار، وحجته:
{سوف نصليهم نارا} [النساء / 56].
النساء: 11
اختلفوا في ضمّ الألف من أم * وكسرها إذا وليتها كسرة أو ياء ساكنة.
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: {فلأمه}
[النساء / 11] و {في بطون أمهاتكم} [الزمر / 6] و {في أمها}
[القصص / 59] و {في أم الكتاب} [الزخرف / 4] بالرفع.
وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ذلك بالكسر إذا وصلا (1).
قال أبو علي: حجة من ضمّ: أن الهمزة ليست كالهاء ولا في خفائها، وإنّما أتّبع الهاء الياء والكسرة من أتبع في بهم، وبهي، وعليهم، ولديهم، لخفائها، وليست الهمزة كذلك، وإن كانت تقارب الهاء في المخرج. ويقوّي ذلك أنهم لم يغيّروا غير همزة أم * هذا التغيير، ألا ترى أنّ الهمزة في أدّ (2) وأفّ، مضمومة على جميع أحوالها وكذلك همزة (3) أناس. ووجه قول حمزة والكسائي أن الهمزة
__________
(1) السبعة 228.
(2) قال ابن دريد: هو اسم رجل، أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وأحسب أنّ الهمزة في «أدّ» واو، لأنه من الود، أي: الحب، فقلبوا الواو همزة. (الجمهرة 1/ 15).
(3) في (م) همز.(3/137)
حرف مستثقل بدلالة تخفيفهم لها، فأتبعوها ما قبلها من الياء والكسرة، ليكون العمل فيها من وجه واحد. ويقوي ذلك أنها تقارب الهاء وقد فعل ذلك بالهاء ويقوي ذلك أيضا أنهم قد أتبعوا غيرها من الحروف نحو: هو منحدر من الجبل، فغيّروا البناء للاتباع. ويقوي ذلك أنهم قد أتبعوا ما قبل الهمزة الهمزة في قولهم: أجوؤك وأنبؤك، كما أتبعوا الهمزة ما قبلها في قوله في: إمّها، ولأمّه. فالهمزة لما يتعاورها من القلب والتخفيف، تشبه الياء والواو والهاء، فتغيّر كما تغيّر. فإن قلت: فهلّا فعلوا ذلك بغير هذا الحرف مما فيه الهمزة.
قيل: إنّ هذا الحرف قد كثر في كلامهم، والتغيير إلى ما كثر استعماله أسرع. وقد يختص الشيء في الموضع بما لا يكون في أمثاله، كقولهم: أسطاع، وأهراق (1)، ولم يفعل ذلك بما أشبهه، فكذلك هذا التغيير في الهمزة مع الكسرة والياء اختص به هذا الحرف ولم يكن فيما أشبهه.
النساء: 23
واختلفوا في الميم من {إمهاتكم} [النساء / 23] فكسرها حمزة وفتحها الكسائي (2).
[قال أبو علي] (3) أمّا فتح الكسائي الميم في (4) {إمهاتكم}
فهكذا ينبغي، لأنّ التغيير والإتباع إنّما جاء في الهمزة، ولم يأت في الميم، فغيّر الهمزة وترك غيرها على الأصل، ألا ترى أنّ الميم لم تغيّر، وإنّما غيّرت الهمزة إذا وليتها الكسرة أو الياء، فلما كان
__________
(1) سيأتي تعليل ذلك قريبا ص (143).
(2) السبعة 228وهي تابعة لسابقتها عنده.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): «من قوله».(3/138)
كذلك أتبع الهمزة ما كان (1) قبلها من الكسرة (1) والياء، وترك الميم على أصلها كما تركها من ضم الهمزة فقال: أمّهات. وأمّا كسر الميم في إمّهات، فقول الكسائي أشبه منه. ووجهه أنّه أتبع الميم الهمزة، كما قالوا: منحدر من الجبل، فأتبعوا حركة الدال ما بعدها، ونحو هذا الإتباع لا يجسر عليه إلّا بالسمع ويقوي ذلك قول من قال: عليهمي ولا [الفاتحة / 7] ألا ترى أنّه أتبع الهاء الياء ثم أتبع الميم الهاء، وإن لم تكن في خفاء الهاء؟ فكذلك أتبع الميم الهمزة في قوله: إمهات، وكما أن قول من قال:
عليهمي، فاعلم يقوّي ما أخذ به حمزة، فكذلك قول من قال:
عليهمو ولا، يقوّي قول الكسائي، ألا ترى أنّه أتبع الياء ما أشبهها في الخفاء، وترك غير الهاء على أصلها (3). فكذلك أتبع الكسائي الكسرة أو الياء الهمزة وترك الميم التي بعد الهمزة في قوله: لإمها على أصله فلم يغيره.
النساء: 11
واختلفوا في كسر الصاد وفتحها من قوله [جلّ وعز] (4)
{يوصي بها} [النساء / 11].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: يوصى بها * بفتح الصاد في الحرفين.
وقرأ حفص عن عاصم: الأولى بالكسر يوصي *، والثانية بالفتح يوصى *.
__________
(1) في (ط): الكسر.
(3) في (ط): أصله.
(4) في (ط): تعالى.(3/139)
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {يوصي} فيهما بالكسر (1).
[قال أبو علي] (2): حجة من قال (3): يوصي * أنّه قد تقدّم ذكر الميت، وذكر المفروض فيما ترك، يبين ذلك قوله: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي} [النساء / 11] وحجة من قال: يوصى * أنه في المعنى يؤول إلى يوصي، ألا ترى أن الموصي هو الميت، وكأن الذي حسّن ذلك أنّه ليس لميت معين إنّما هو شائع في الجميع، فلذلك حسن يوصى *.
النساء: 13
اختلفوا في الياء والنون من قوله [جلّ وعز]: (4)
{يدخله}.
فقرأ ابن عامر ونافع: ندخله جنات [النساء / 13] بالنون في الحرفين جميعا، وقرأ الباقون بالياء فيهما (5).
قال أبو علي: كلاهما حسن، فمن قرأ {يدخله} فلأنّ ذكر اسم الله عزّ وجل (6) قد تقدّم فحمل الكلام على الغيبة، ومن قرأ
__________
(1) السبعة 228.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): قرأ.
(4) سقطت من (ط).
(5) نقل الفارسي كلام ابن مجاهد في هذا الحرف باختصار، ونصه في السبعة ص 228: «واختلفوا في الياء والنون من قوله: {يدخله جنات} و {يدخله نارا} [النساء / 14] فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: (يدخله) بالياء في الحرفين. وقرأ نافع وابن عامر:
(ندخله) بالنون في الحرفين جميعا».
(6) سقطت من (ط).(3/140)
ندخله فالمعنى فيه (1) كالمعنى في الياء، ويقوّي ذلك قوله تعالى (2): {بل الله مولاكم} [آل عمران / 150] ثمّ قال:
{سنلقي} [آل عمران / 151].
النساء: 16
واختلفوا في تشديد النون وتخفيفها من قوله عز وجل (3)
{والذان} [النساء / 16] و {هذان} [طه / 63والحج / 19] و {فذانك} [القصص / 32] و {هاتين} [القصص / 27].
فقرأ ابن كثير: هذان *، واللذان، وفذانك.
وهاتين مشدّدة النون.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف ذلك كلّه، وشدّد أبو عمرو فذانك وحدها، ولم يشدّد غيرها.
قال أبو علي: من قرأ: اللذان وهذان * وهاتين فالقول في تشديد نون التثنية: أنّه عوض من الحذف الذي يلحق (4) الكلمة، ألا ترى أنّ قولهم «ذا» قد حذف لامها، وقد حذفت الياء من «اللذان» في التثنية. فإن قلت: فإن الحذف في تثنية اللذان إنّما هو لالتقاء الساكنين، وما حذف لالتقاء الساكنين فهو في تقدير الثبات بدلالة قوله:
ولا ذاكر الله إلّا قليلا (5).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): لحق.
(5) سبق في 2/ 454.(3/141)
ألا ترى أنّه (1) نصب مع الحذف كما ينصب مع الإثبات؟
قيل: إنّ اللام في اللتان واللذان وإن كانت حذفت لالتقاء الساكنين، فإنّهما لما لم تظهر في التثنية التي كان يلزم أن يثبت فيها وتتحرك، أشبه ما حذف حذفا، لغير التقاء الساكنين، فاقتضى العوض منه كما اقتضته المبهمة نحو: هذان، واتّفقت هذه الأسماء من اللذان وهذان في هذا التعويض، كما اتفقا في التحقير في فتح الأوائل منهما، مع ضمها من غيرهما، وفي إلحاق الألف أواخرهما، وذلك نحو اللتيّا، واللذيّا، وهاتيّا.
فأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة في نحو قوله: {فذانك} وتركه التعويض في اللذان، فيشبه أن يكون ذلك لما رآه من أنّ الحذف للمبهمة ألزم، فبحسب لزومها الحذف ألزمها العوض ولم يعوض في اللّذين، ألا ترى أنّ اللذين إذا قلت:
اللّذيّا فحقّرت أظهرت اللام المحذوفة في التثنية في التحقير، وإذا حقرت المبهم فقلت: هاذيّا، فالحذف في الاسم قائم، لأنّه كان ينبغي هاذييّا، الياء الأولى عين الفعل، والثانية للتحقير، والثالثة لام الفعل، فحذفت التي هي عين الفعل، ولم يجز أن تحذف التي هي لام لأنّك لو حذفتها لتحركت ياء التحقير لمجاورتها الألف، وهذه الياء لا تحرك أبدا، ألا ترى أنّه (2) لم يلق عليها حركة الهمزة في نحو: أقيّس، فلما لم يتمّ في التحقير، وأتمّ الموصول خصّ المبهم بالعوض دون الموصول لذلك. فإن قال قائل: هلّا (3) وجب
__________
(1) في (ط): أنه قد.
(2) في (ط): أنها.
(3) في (ط): فهلّا.(3/142)
عوض المنقوص في التثنية نحو: يد، ودم، وغد؟ فإن ذلك ليس بسؤال، ألا ترى أنّهم عوّضوا في: أسطاع، وأهراق (1) ولم يعوضوا في: أجاد وأقام ونحو ذلك.
وأيضا: فإنّ الحذف لمّا لم يلزم هذه المتمكنة، كان الحذف في حكم لا حذف، ألا ترى أن منه ما يتمّ في الواحد نحو: غد وغدو؟ ومنه ما يتمّ في التثنية نحو:
يديان بيضاوان (2)
ونحو:
جرى الدّميان (3)
__________
(1) قال سيبويه 1/ 8: «وقولهم: أسطاع يسطيع، وإنّما هي أطاع يطيع، زادوا السين عوضا من ذهاب حركة العين من أفعل».
وفي اللسان: وأما أسطاع مقطوعة فعلى أنّهم أنابوا السين مناب حركة العين في أطاع التي أصلها: أطوع، ثمّ قال: ويؤكد ما قال سيبويه من أنّ السين عوض من ذهاب حركة العين، أنّهم قد عوضوا من ذهاب حركة هذه العين حرفا آخر غير السين وهو الهاء من قول من قال: أهرقت، فسكن الهاء، وجمع بينها وبين الهمزة، فالهاء هنا عوض من ذهاب فتحة العين، لأنّ الأصل أروقت أو أريقت ثمّ إنّهم جعلوا الهاء عوضا من نقل فتحة العين عنها إلى الفاء، كما فعلوا ذلك في أسطاع. (اللسان: طوع) وانظره في مادة (هرق) أيضا.
(2) قطعة من بيت مجهول القائل تمامه:
يديان بيضاوان عند محلّم ... قد تمنعانك أن تضام وتضهدا
انظر المنصف 1/ 64و 2/ 148وابن يعيش 4/ 151و 5/ 83و 6/ 5 و 10/ 56والخزانة 3/ 347.
(3) قطعة من بيت لعلي بن بدال تمامه:
ولو أنّا على حجر ذبحنا ... جرى الدّميان بالخبر اليقين(3/143)
وفي الجمع نحو: أيد ودماء، وفي التحقير نحو: دميّ ويديّة، وليست المبهمة كذلك، ويمكن أن يكون أبو عمرو قدّر ذانك تثنية ذلك، فعوّض الحرف في التثنية من الحرف الزائد الذي كان في الإفراد قبل التثنية، والأول أشبه.
النساء: 19
اختلفوا في فتح الكاف وضمها من قوله [جلّ وعز] (1) {كرها}
[النساء / 19] وذلك في أربعة مواضع في النساء [19]، والتوبة [53]، والأحقاف في موضعين [15].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {كرها} بفتح الكاف فيهنّ كلّهنّ.
وقرأ عاصم وابن عامر: {كرها} بالفتح في النساء والتوبة.
وقرأ في الأحقاف: كرها * مضمومتين. وقرأ حمزة والكسائي: كرها * بالضم فيهنّ كلّهنّ. وقال ابن ذكوان في حفظي: {كرها}: بفتح الكاف في سورة الأحقاف في الموضعين (2).
قال أبو علي: الكره والكره: لغتان، كقولهم: الفقر والفقر، والضّعف، والضّعف، والدّفّ والدّفّ، والشّهد والشّهد. فمن قرأ الجميع بالضم فقد أصاب. وكذلك لو قرأ قارئ جميع ذلك
__________
انظر المقتضب 1/ 2231/ 238و 3/ 153والخزانة 3/ 349وابن الشجري 2/ 34والمنصف 2/ 148وابن يعيش 4/ 151، 152و 5/ 84و 6/ 5 و 9/ 24.
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 229.(3/144)
بالفتح، وكذلك إن قرأ بعض ذلك بالفتح وبعضه بالضم، كل ذلك مستقيم.
النساء: 19
اختلفوا في كسر الياء وفتحها من قوله [جلّ وعز] (1):
بفاحشة مبينة [النساء / 19] وآيات مبينات [النور / 34/ 46].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: بفاحشة مبينة *، وآيات مبينات * بفتح الياء فيهما جميعا.
وقرأ نافع وأبو عمرو {بفاحشة مبينة} كسرا، و {آيات مبينات} فتحا.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص، والمفضّل عن عاصم {بفاحشة مبينة} كسرا و {آيات مبينات} كسرا أيضا (2).
قال أبو علي: قال سيبويه: قالوا: أبان الأمر وأبنته واستبان، واستبنته، والمعنى واحد، وذا هنا بمنزلة حزن، وحزنته، في فعلت. وكذلك: بيّن وبيّنته (3). وقال أبو عبيدة: الفاحشة: الشّنار والفحش والقبح.
قال أبو علي: الفاحشة: مصدر كالعاقبة والعافية يدل على ذلك قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف / 28] فالفحشاء:
كالنعماء والبأساء والضراء.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 230.
(3) سيبويه 2/ 237في آخر باب افتراق فعلت وأفعلت في الفعل للمعنى.(3/145)
وقيل في قوله (1): {ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}
[الطلاق / 1] قولان: أحدهما: إلّا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ، وقيل: إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة في خروجهنّ من بيوتهنّ.
فمن فتح العين في مبيّنة كان المعنى: يبيّن فحشها، فهي مبيّنة، ومبيّنة: فاحشة: بيّنت فحشها فهي مبيّنة. وقيل: إنّه جاء في التفسير: فاحشة: ظاهرة. فظاهرة حجّة لمبيّنة.
وأمّا الفتح في قوله: مبينات * فحجّته (2): {قد بينا لكم الآيات}
[آل عمران / 118الحديد / 17] ومن قرأ: {مبينات} فحجّته قوله: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله}
[المائدة / 15] فالمبين والمبيّن واحد، وكذلك قوله: {هذا بيان للناس} [آل عمران / 138] فما هدى الله به فهو مبيّن للمهديّ، كما أنّ البيان للناس مبيّن لهم.
النساء: 24
اختلفوا في فتح الصاد وكسرها من قوله جلّ وعزّ (3):
{والمحصنات} [النساء / 24].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة:
{والمحصنات} بفتح الصاد في كلّ القرآن.
وقرأ الكسائي: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء / 24] بفتح الصاد في هذه وحدها، وسائر القرآن: والمحصنات * (4) ومحصنات * [النساء / 25] بكسر الصاد. ولم يختلف أحد من القراء في هذه وحدها أنها بفتح الصاد
__________
(1) في (ط): قوله تعالى.
(2) في (ط): فحجته قوله.
(3) سقطت من (ط).
(4) وهي في: النساء / 25والمائدة / 5والنور 4/ 23.(3/146)
أعني: {والمحصنات من النساء} [النساء / 24] حدّثنا أحمد قال (1): حدثنا أبو حمزة الأنصاري: قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن مجاهد وعبد الله بن كثير مثل قراءة الكسائي: {والمحصنات من النساء} مفتوحة الصاد وسائر القرآن: والمحصنات * (2).
[قال أبو علي] (3): قال سيبويه: قالوا: للمرأة حصنت حصنا، وهي حصان، كجبنت جبنا وهي جبان. قال: وقالوا:
حصنا كما قالوا: علما (4).
وقد جاء الإحصان في التنزيل واقعا على غير شيء. من ذلك وقوعها (5) على الحرائر، يدل على ذلك غير موضع في التنزيل، أحدها: قوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} [النور / 4] ألا ترى أنه إذا قذف غير حرة لم يجلد ثمانين. ومن ذلك: قوله (6): {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء / 25]. ومن ذلك قوله (7): {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء / 25] والمحصنات:
المتزوجات بدلالة قوله: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء / 24]
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة: 230.
(3) سقطت من (ط).
(4) سيبويه 2/ 226باب في الخصال التي تكون في الأشياء.
(5) في (ط): وقوعه.
(6) في (ط): قوله تعالى.
(7) في (ط): قوله تعالى.(3/147)
فذوات الأزواج محرّمات على كل أحد، إلّا على أزواجهنّ، وفسّروا قوله: {إلا ما ملكت أيمانكم} إلّا ما ملكتموهنّ بالسبي من دار الحرب، ألا ترى أنّ ذوات الزوج في دارنا محرّمة على كل أحد سوى الزوج. فأمّا إذا كانت متزوجة في دار الحرب، فسبيت منها، فإنّها تحلّ لمالكها، ولا عدّة عليها إذا دخلت دار الإسلام. ويدل على أنّ المتزوجة يقال لها محصنة قوله: {وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات}
[النساء / 25]. ويدلّ عليه أيضا قوله: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} [النساء / 24] وقد فسّر قوله: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات} [النساء / 25] بالعفائف. ويدلّ على وقوع الإحصان على العفّة قوله: ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها [التحريم / 12] وروي عن إبراهيم (1) ومجاهد أن أحدهما قرأ: {أحصن} وفسّره بتزوّجن، وقرأ الآخر: أحصن (2) وفسره: بأسلمن. فقد ثبت بما (3) ذكرنا أنّ الإحصان يقع على الحريّة، وعلى التزويج، وعلى العفّة، وعلى الإسلام. وليس تبعد هذه الأسماء عمّا عليه موضوع اللغة.
قال أبو عبيدة: في قوله: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} المحصنات: ذوات الأزواج (4).
وأنشد الأصمعي:
__________
(1) هو النخعي: ابن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران الكوفي الإمام المشهور قرأ على الأسود بن يزيد وقرأ عليه الأعمش انظر طبقات القراء 1/ 29.
(2) وسيأتي الكلام عن هاتين القراءتين قريبا.
(3) في (ط): مما.
(4) مجاز القرآن 1/ 122.(3/148)
إذا المعسيات كذبن الصّبو ... ح خبّ جريّك بالمحصن (1)
وفسّر المحصن المدّخر من الطعام، والمدّخر للاحراز لا تمتد إليه اليد امتدادها إلى غير المحرز للادّخار. والحريّة تبعد وتمنع من (2) امتهان الرقّ، والإسلام يحظر الدم والمال اللذين كانا على الإباحة قبل، والتزويج في المرأة كذلك في حظر خطبتها التي كانت مباحة قبل ويمنع تصدّيها للتزويج، والعفّة: حظر النفس عما يحظره الشرع. فهذه الأسماء قريبة مما عليه أصل اللغة.
وأنشد أبو عبيدة (3):
وحاصن من حاصنات ملس ... من الأذى ومن قراف الوقس
قال: الحاصن: العفيفة، قال: والوقس: مثل توقّس الجرب، قال: والمحصنة أحصنها زوجها. قال أبو علي: الحاصن
__________
(1) البيت في التهذيب للأزهري (عسا) 3/ 86واللسان (عسا) و (جرا) بغير نسبة. قال ابن الأعرابي: المعسية: الناقة التي يشك فيها أبها لبن أم لا؟ وقد جاءت في (م) واللسان (جرا): المعشيات، وهي تصحيف.
والجريّ: الخادم والوكيل والرسول.
(2) في (ط): عن.
(3) مجاز القرآن 1/ 122، ونسبه للعجاج وهو في ديوانه 2/ 42، 43، وتفسير الطبري 5/ 7والجمهرة لابن دريد 2/ 165. واللسان (حصن، وقس) ملس، يقول: هي ملساء من الأذى، أي: ليس فيها أثر فيه. القراف: المداناة، ويقال: القرف من التلف، أي: مداناة الأرض الوبئة، والوقس: الجرب، فأراد أن يقول: من قراف المكروه كله، (ا. هـ عن شرح الديوان 2/ 42، 43) وقال في اللسان: الوقس الفاحشة وذكرها، ضرب الجرب مثلا للفاحشة.(3/149)
يحتمل ضربين: إما أن يكون على معنى النسب أو يكون مثل:
دلو الدال (1)
وإنّما وقع الاتفاق على فتح العين من قوله: والمحصنات لما فسروا الحرف عليه من أنّه يعنى به الحربية المتزوجة في دار الحرب.
النساء: 24
واختلفوا في فتح الألف وضمها من قوله تعالى: وأحل لكم [النساء / 24].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأحل لكم بفتح الألف والحاء.
وقرأ حمزة والكسائي: وأحل لكم بضم الألف (2).
قال أبو علي: وأحل لكم ما وراء ذلكم بناء الفعل للفاعل أشبه بما قبله، ألا ترى أن معنى: كتاب الله عليكم: كتب الله عليكم كتابا، وأحلّ لكم؟ ومن بنى الفعل للمفعول به فقال:
{وأحل لكم} فهو في المعنى يؤول إلى الأول، وفي ذاك مراعاة مشاكلة ما بعد بما (3) قبل.
النساء: 25
واختلفوا في فتح الألف وضمها (4) من قوله تعالى (5):
{أحصن} [النساء / 25].
__________
(1) جزء بيت من الرجز للعجاج سبق. في 2/ 277.
(2) السبعة 230.
(3) في (ط): لما.
(4) ورد في هامش (م) تعليقة نصها:
قوله: فتح الألف وضمها تعبير ناقص، لأنّ الألف لا تقبل الحركة، والعبارة الصحيحة أن يقال: ضم الهمزة وفتحها، وإن كان أراد ذلك في تعبيره بالألف، والله أعلم. هـ.
(5) سقطت من (ط).(3/150)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (أحصنّ) مضمومة الألف، وقرأ حمزة والكسائي أحصن مفتوحة الألف.
واختلف عن عاصم فروى عنه أبو بكر والمفضل: وأحل لكم [النساء / 24] وأحصن بالفتح جميعا. وروى عنه حفص:
{وأحل لكم} و {أحصن} بالضم جميعا. حدّثنا (1) محمد بن الحسين بن شهريار قال: حدّثنا الحسين بن الأسود قال (2): حدّثنا عبد الله بن موسى عن سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النّجود، أنّه قرأ: وأحل * بفتح الألف. [حدّثنا أحمد: قال] (3): أخبرني علي بن العباس، قال: حدثنا: محمد بن عمر بن الوليد الكندي عن ابن أبي حمّاد عن شيبان عن عاصم: وأحل * فتحا، {فإذا أحصن} بضم الألف.
قال أبو علي: أحصنّ: أحصنّ بالأزواج، وقد رويت عن ابن عباس. وفسر بعض السلف أحصنّ: تزوّجن (4). ومن قرأ:
{أحصن}: فمعناه أسلمن، وكذا فسره إبراهيم أو مجاهد.
النساء: 29
اختلفوا في الرفع والنصب في (5) قوله (جلّ وعز) (6): {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء / 29].
__________
(1) في (ط): حدثني أبو بكر. وهو أبو بكر القطان البلخي محمد بن الحسين بن شهريار محدث ثقة روى الحروف سماعا عن الحسين بن علي بن الأسود صاحب يحيى بن آدم وروى عنه القراءة أبو بكر بن مجاهد والنقاش وأبو بكر بن الأنباري وغيرهم. (طبقات القراء 2/ 131130).
(2) سقطت من (ط). وفي (ط): الحسين بن علي الأسود.
(3) سقطت من (ط).
(4) انظر تفسير الطبري 5/ 22، 23.
(5) في (ط): من.
(6) في (ط): تعالى.(3/151)
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر تجارة * رفعا.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم {تجارة} نصبا (1).
قال أبو علي: من رفع فالاستثناء منقطع، لأنّ التجارة عن تراض ليس من أكل المال بالباطل. ومن نصب {إلا أن تكون تجارة} احتمل ضربين: أحدهما: إلّا أن تكون التجارة تجارة، ومثل ذلك قوله:
إذا كان يوما ذا كواكب (2)
أي إذا كان اليوم يوما (3). والآخر: إلّا أن تكون الأموال ذوات (4) تجارة، فتحذف المضاف، وتقيم المضاف إليه مقامه، والاستثناء على هذا الوجه أيضا منقطع.
النساء: 31
اختلفوا (5) في الياء والنون من قوله [جل وعز] (6): {نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم} [النساء / 31].
فروى أبو زيد سعيد بن أوس عن المفضّل عن عاصم يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم بالياء جميعا.
وقرأ الباقون: بالنون (7).
__________
(1) السبعة 231.
(2) عجز بيت لعمرو بن شأس سبق في الجزء الأول ص 148.
(3) في (ط) يوما ذا كواكب.
(4) في (ط): أموال.
(5) في (ط): واختلفوا.
(6) سقطت من (ط).
(7) السبعة 232.(3/152)
[قال أبو علي] (1): من قرأ يكفر بالياء، فلأنّ ذكر اسم الله تعالى (2)
قد تقدّم في قوله: {إن الله كان بكم رحيما} [النساء / 29]. ومن قال: {نكفر}: فالمعنى: معنى الياء، ومثل ذلك {بل الله مولاكم}
[آل عمران / 150] ثمّ قال: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [آل عمران / 151]. وأبو الحسن يستحسن النون في هذا النحو.
النساء: 31
اختلفوا في ضمّ الميم (3) وفتحها من قوله [جل وعز] (4):
{مدخلا} [النساء / 31].
فقرأ نافع وحده: مدخلا كريما مفتوحة الميم، وفي الحج: مثله.
وقرأ الباقون: مدخلا مضمومة الميم هاهنا، وفي الحج. ولم يختلفوا في بني إسرائيل في: {مدخل صدق} و {مخرج صدق}
[الإسراء / 80] أنّهما بضمّ الميم.
وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: مدخلا * بفتح الميم هاهنا وفي الحج (5).
قال أبو علي: قوله تعالى: مدخلا * بعد (6) يدخلكم * يحتمل وجهين: يحتمل أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون مكانا. فإن
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (م).
(3) في (م) النون وهو خطأ.
(4) زيادة في (م).
(5) السبعة 232.
(6) في (ط): بعد قوله:
و(3/153)
حملته على المصدر أضمرت له فعلا دلّ عليه الفعل المذكور.
ويكون قوله مدخلا * فيمن قدره مصدرا انتصابه بذلك الفعل، التقدير: ويدخلكم فتدخلون مدخلا.
ويجوز أن يكون مكانا، كأنه قال: يدخلكم مكانا، ويكون على هذا التقدير منتصبا بهذا الفعل المذكور، كما أنّك إذا قلت:
أدخلتك مكانا، انتصب بهذا الفعل، والمكان أشبه هاهنا، لأنا رأينا المكان وصف بالكريم، وهو قوله: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم} [الدخان / 2625] فوصف المكان بالكريم (1)، فكذلك يكون قوله: مدخلا * يراد به المكان، مثل المقام (2)، ويجوز أن يكون المراد به: الدخول، أو الإدخال، وإن كان قد وصف بالكرم، ويكون المعنى دخولا تكرمون فيه، خلاف من قيل فيه (3): {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم}
[الفرقان / 34] فليس هذا كقولك: حشرتهم على الوجه، وحشرتهم على وجوههم، أي: لم أدع منهم أحدا غير محشور، ولكن مثل قوله: {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي} (4) [الملك / 22] وكقوله: {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة} [الزمر / 24].
قال (5): ولم يختلفوا في بني إسرائيل في: {مدخل صدق}، و {مخرج صدق} أنّهما بضم الميم [قال أبو علي] (6) لا يمتنع في
__________
(1) في (ط): فوصف المكان بالكرم.
(2) في (ط): المقام والمكان.
(3) في (ط): فيهم.
(4) ما بين معقوفين زيادة من (ط).
(5) يعني ابن مجاهد.
(6) سقطت من (م).(3/154)
القياس أن تفتح الميم من مدخل على نحو ما قدمنا ذكره من أنّه يكون على فعل مضمر يدل عليه الكلام. ويجوز في المدخل إذا ضمّ أن يكون مكانا وأن يكون مصدرا، فإذا جعلته مصدرا جاز أن تريد مفعولا محذوفا من الكلام، كأنه قال (1): أدخلني الجنّة مدخلا، أي: إدخال صدق، والأشبه أن يكون مكانا، لإضافته إلى صدق، فهو في هذا كقوله: {في مقعد صدق} [القمر / 55] فكما أنّ هذا المضاف إلى {صدق} مكان، كذلك، يكون المدخل مكانا، ولا يمتنع الآخر لأنّ غير العين قد أضيف إلى صدق في نحو: {أن لهم قدم صدق عند ربهم} [يونس / 2] ألا ترى أنّه قد فسّر بالعمل الصالح.
النساء: 32
اختلفوا في الهمز وتركه من قوله تعالى (2): {وسئلوا الله من فضله} [النساء / 32].
فقرأ ابن كثير والكسائي: وسلوا الله من فضله وفسل (3)
الذين [يونس / 94] وفسل (4) بني إسرائيل [الإسراء / 101] وسل من أرسلنا [الزخرف / 45] وما كان مثله من الأمر المواجه به، وقبله واو أو فاء، فهو غير مهموز في قولهما. وروى الكسائي عن إسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة أنّهما لم يهمزا:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في الأصل (سل) بإسقاط الفاء.
(4) في (م): و (سل). وهي من البقرة 211ولا شاهد فيها. وفي (ط): (فسل) بإسقاط واو العطف قبل الآية.(3/155)
وسل، ولا فسل مثل قراءة الكسائي. وقرأ الباقون بالهمز في ذلك كله (1) ولم يختلفوا في قوله: {وليسئلوا ما أنفقوا}
[الممتحنة / 10] أنّه مهموز (2).
قال أبو علي: الهمز وترك الهمز حسنان، ولو خففت الهمزة في قوله: {وليسئلوا ما أنفقوا} كان أيضا حسنا، وقد قدّمنا ذكر وجوه {سل} (3).
النساء: 33
واختلفوا في إدخال الألف وإخراجها من قوله [جلّ وعز] (4): عاقدت [النساء / 33].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: عاقدت بالألف.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {عقدت} بغير ألف: (5).
قال أبو علي: الذكر الذي يعود من الصّلة إلى الموصول ينبغي أن يكون ضميرا منصوبا، فالتقدير: والذين عاقدتهم أيمانكم فجعل الأيمان في اللفظ هي المعاقدة، والمعنى على الحالفين الذين هم أصحاب الأيمان، والمعنى: والذين عاقدت حلفهم أيمانكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فعاقدت أشبه بهذا المعنى، لأنّ لكل نفر من المعاقدين يمينا على
__________
(1) في السبعة: وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة بالهمز في ذلك كله.
(2) السبعة 233.
(3) انظر 2/ 216، البقرة / 119.
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة 233.(3/156)
المحالفة. ومن قال: عقدت أيمانكم، كان المعنى: عقدت حلفهم أيمانكم، فحذف الحلف وأقام المضاف إليه مقامه.
والأوّلون كأنّهم حملوا الكلام على المعنى فقالوا: عاقدت، حيث كان من كل واحد من الفريقين يمين، والذين قالوا: عقدت، حملوا الكلام على اللفظ لفظ الأيمان، لأنّ الفعل لم يسند إلى أصحاب الأيمان في اللفظ إنّما أسند إلى الأيمان.
النساء: 36
قال أحمد: روى أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري عن المفضّل عن عاصم: والجار الجنب [النساء / 36] بفتح الجيم، وإسكان النون، ولم يأت به غيره.
وقرأ الباقون: {الجنب} بضمتين (1).
[قال أبو علي] (2): قال أبو عبيدة: والجار ذي القربى:
القريب، والجار الجنب: الغريب. يقال: ما تأتينا إلّا عن جنابة، أي: عن بعد، قال علقمة بن عبدة (3):
فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة
فإني امرؤ وسط القباب غريب (4)
__________
(1) السبعة 233.
(2) سقطت من (ط).
(3) ديوانه ص 48وهو من مفضلية برقم 119قالها يمدح الحارث بن جبلة، وكان أسر أخاه شأسا، فرحل إليه يطلب فكّه. انظر شرح المفضليات ص 779وابن الشجري 1/ 149والكامل 2/ 723واللسان والتاج (جنب) والأعلم على طرة الكتاب 2/ 423.
(4) مجاز القرآن 1/ 126.(3/157)
قال أبو الحسن: قال: والجار الجنب، وقال بعضهم:
الجنب.
قال الراجز (1):
الناس جنب والأمير جنب يريد: بجنب: الناحية، وهذا هو المتنحّي عن القرابة.
قال أبو علي: قوله تعالى: والجار الجنب، يحتمل معنيين: أحدهما: أن يريد الناحية، فإذا أراد هذا فالمعنى: ذي الجنب، فحذف المضاف، لأنّ المعنى مفهوم، ألا ترى أنّ الناحية لا يكون الجار إياها، والمعنى: ذي ناحية ليس هو الآن بها، أي:
هو غريب عنها. والآخر: أن يكون وصفا مثل: ضرب، وفسل، وندب، فهذا وصف يجري على الموصوف، كما أن الجنب كذلك، وهو في معناه ومعنى اللفظتين على هذا واحد، وهو أنّه مجانب لأقاربه متباعد عنهم. فأما الجنب في قوله: {والجار الجنب}. فصفة على فعل، مثل أحد في ناقة أحد وسجح في قوله:
وامشوا مشية سجحا (2)
فالجنب المتباعد عن أهله، يدلّك على ذلك مقابلته
__________
(1) الرجز في الصحاح واللسان والتاج (جنب) بغير نسبة عن الأخفش أيضا.
(2) قطعة من بيت لحسان بن ثابت وتمامه دعوا التّخاجؤ وامشوا مشية سجحا ... إنّ الرجال ذوو عصب وتذكير
انظر الكتاب 2/ 315، والخصائص 2/ 116وديوانه 1/ 219واللسان (خجأ) وأساس البلاغة (سجح).(3/158)
بالقريب، في قوله تعالى (1) {والجار ذي القربى} من القرب، كالبشرى من بشّر. ويدل على أنّه البعد، والغربة قول الأعشى: (2)
أتيت حريثا زائرا عن جنابة
فكان حريث عن عطائي جامدا
وقال آخر (3):
كرام إذا ما جئتهم عن جنابة
أعفّاء عن بيت (4) الخليط المجاور
فأمّا قوله [جلّ وعز] (5): {وإن كنتم جنبا فاطهروا}
[المائدة / 6] فمن الجنابة التي تقتضي التطهّر (6)، وهو أيضا صفة إلّا أنّه يقع على الواحد والجميع (7) كما أن بشرا كذلك، وكما أنّ الحلوب يقع على الجميع، فأمّا الحلوبة والرّكوبة فيقع على الواحد والجميع فيما رواه أبو عمر الجرمي (8) عن أبي عبيدة. وقال أبو عبيدة: {والصاحب بالجنب}: الذي يصاحبك في سفرك، فيلزمك فينزل إلى جنبك (9).
النساء: 37
اختلفوا في ضمّ الباء في البخل * [النساء / 37] والتخفيف وفتحها والتثقيل.
__________
(1) «تعالى» زيادة في (ط).
(2) ديوانه / 65.
(3) لم نعثر على قائله.
(4) في (ط): جار.
(5) في (ط): تعالى.
(6) في (ط): التطهير.
(7) في (ط): وعلى الجميع.
(8) كذا في (ط): وسقطت من (م).
(9) مجاز القرآن 1/ 126.(3/159)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
{بالبخل} خفيفا وقرأ حمزة والكسائي: بالبخل * مثقلة وكذلك في سورة الحديد [الآية / 24] مثله.
قال أبو علي: قال سيبويه: «قالوا: بخل يبخل بخلا، فالبخل كاللّؤم، والفعل: كشقي وسعد، وقالوا: بخيل، وبعضهم يقول: البخل: كالفقر» والبخل كالفقر، وبعضهم يقول: البخل كالكرم (1) وقد حكى فيه ثلاث لغات وقرئ باثنتين منها: البخل، والبخل.
النساء: 40
اختلفوا في الرفع والنصب من قوله [جلّ وعزّ (2)]: {وإن تك حسنة} [النساء / 40].
فقرأ ابن كثير ونافع: وإن تك حسنة رفعا.
وقرأ الباقون: نصبا (3).
قال أبو علي: النصب حسن لتقدم ذكر: {مثقال ذرة}
[النساء / 40]، فالتقدير وإن تكن الحسنة مثقال ذرة يضاعفها، كما قال: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام / 160] والرفع على: وإن تحدث حسنة، أو إن تقع حسنة يضاعفها.
واختلفوا (4) في إثبات الألف وإسقاطها والتخفيف والتشديد
__________
(1) سيبويه 2/ 225.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 233.
(4) في (ط): اختلفوا. بإسقاط الواو.(3/160)
من قوله [جلّ وعز] (1): {يضاعفها} [النساء / 40].
فقرأ ابن كثير وابن عامر: يضعفها مشدّدة العين بغير ألف.
وقرأ الباقون: {يضاعفها} خفيفة بألف (2).
قال أبو علي: المعنى فيهما واحد وهما لغتان. قال (3)
سيبويه: تجيء فاعلت لا تريد به عمل اثنين، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعل، وذلك قولهم: ناولته، وعاقبته، وعافاه الله، وسافرت قال: ونحو ذلك: ضاعفت، وضعّفت، وناعمت ونعّمت (4) فدلّ هذا على أنّه لغتان فبأيّهما قرأت كان حسنا.
النساء: 42
اختلفوا في فتح التاء في (5) قوله تعالى (6): {تسوى}.
[النساء / 42] والتشديد وضمها والتخفيف.
فقرأ ابن كثير وعاصم، وأبو عمرو (7): {لو تسوى} مضمومة التاء خفيفة السين.
وقرأ نافع وابن عامر: تسوى مفتوحة التاء مشدّدة السين.
وقرأ حمزة والكسائي: لو تسوى مفتوحة التاء خفيفة
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 233.
(3) في (ط): وقال.
(4) سيبويه 2/ 239باب دخول الزيادة في فعلت للمعاني.
(5) في (ط): من.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): وأبو عمرو وعاصم.(3/161)
السين، والواو ممالة مشدّدة في كلّ القرآن (1).
[قال أبو علي] (2): من قال (3): {تسوى} فهو تفعّل من التسوية، والمعنى: لو تجعلون والأرض سواء، كما قال تعالى (4):
{ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} [عمّ / 40] ومن هذا قوله: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة / 4] أي: نجعلها صفحة واحدة لا تفصل بعضها عن بعض، فتكون كالكف، فيعجز لذلك عمّا يستعان عليه من الأعمال بالبنان كالكتابة والخياطة ونحو ذلك، مما لو فقدت البنان معها لم يتمكن منها. ومن أيمانهم: لا والذي شقّهنّ خمسا من واحدة.
وقراءة نافع وابن عامر: لو تسوّى المعنى: لو تتسوّى فأدغم التاء في السين لقربها منها، وهذا مطاوع لو تسوّى، لأنّك تقول سوّيته فتسوّى، ولا ينبغي أن يكره هذا لاجتماع تشديدتين، ألا ترى أن في التنزيل: {اطيرنا} [النمل / 47] {وازينت}، [يونس / 24] و {لعلكم تذكرون} [الأنعام / 152] ونحو ذلك، وفي هذا الوجه اتساع لأنّ الفعل مسند إلى الأرض وليس المراد:
ودّوا لو تصير الأرض مثلهم، إنّما المعنى: ودّوا لو يصيرون يتسوّون (5) بها، لا تتسوّى هي بهم، وجاز ذلك لأنّه لا يلبس، وقالوا: أدخل فوه الحجر لمّا لم يلتبس.
__________
(1) السبعة 234. وفي (ط): في كل ذلك.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): قرأ.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): متسوين.(3/162)
وقول حمزة والكسائي: لو تسوّى هو: لو تتسوّى فحذفا التاء التي أدغمها من قال: لو تسوّى لأنها كما اعتلت بالإدغام اعتلت بالحذف.
وأمّا إمالة الفتحة نحو الكسرة والألف نحو الياء في تسوّى فحسنة، لأنّ الفعل إذا صار على هذه العدّة استمرّت فيه الإمالة لانقلاب ألفه إلى الياء في نحو يتسويان.
النساء: 43
اختلفوا في إدخال الألف وإخراجها من قوله [جلّ وعز] (1)
{أو لامستم النساء} [النساء / 43].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
{أو لامستم} بألف هاهنا، وفي المائدة [الآية / 6] مثله.
وقرأ حمزة والكسائي: لمستم بغير ألف، وفي المائدة مثله (2).
قال أبو علي: اللمس يكون باليد، وقد اتّسع فيه فأوقع على غيره فمما جاء يراد به مسّ (3) باليد قوله:
ولا تلمس الأفعى يداك تنوشها
ودعها إذا ما غيّبتها سفاتها (4)
ومما جاء يراد به غير اللمس بالجارحة قوله تعالى (5): {وأنا لمسنا السماء فوجدناها} [الجن / 8]
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 234.
(3) في (ط): اللمس.
(4) البيت في اللسان (سفا) وفيه تريدها بدل تنوشها ولم ينسبه. والسفى: التراب.
(5) سقطت من (ط).(3/163)
تأويله: عالجنا غيب السماء ورمناه لنسترقه فنلقيه إلى الكهنة ونخبرهم به. ولما كان اللمس قد يكون غير المباشرة بالجارحة قال (1): {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم} [الأنعام / 7] فخصص باليد لئلا يلتبس بالوجه الآخر، كما جاء {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}
[النساء / 23] لما كان الابن (2) قد يكون متبنّى به من غير الصّلب، وقد كان ينسب المتبنى به إلى المتبنّي فقال: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} [الأحزاب / 5].
وقد (3) قالوا: التمس وهو افتعل من اللمس، فأوقع على ما لا يقع عليه اللمس والمباشرة قال:
الحرّ والهجين والفلنقس ثلاثة فأيّهم تلمّس (4)
ليس يريد أيّهم تباشر بيدك، ولكن أيّهم تطلب.
قال:
وبالسّهب ميمون النّقيبة قوله * لملتمس المعروف أهل ومرحب (5)
__________
(1) في (ط): قال تعالى.
(2) في (ط): الابن غير.
(3) سقطت من (ط).
(4) الرجز في اللسان (فلقس) ولم ينسبه الفلقس والفلنقس: البخيل اللئيم، والفلنقس: الهجين من قبل أبويه، الذي أبوه مولى وأمه مولاة، والهجين:
الذي أبوه عتيق وأمه مولاة.
(5) البيت للطفيل وهو في ديوانه / 38من قصيدة يرثي فيها فرسان قومه: ويذكر وقعتهم بطيء. والسهب: موضع هلك فيه رجل منهم حسن الخلق كريم(3/164)
فملتمس المعروف طالبه ليس مماسّه (1) ولا مباشره.
وقوله تعالى (2): {أو لامستم النساء} قد عنى به ما لا يكون مسّا بيد، وذاك (3) أنّ الخلوة قد تكون في حكم المسّ في قول عمر وعلي [رضي الله عنهما] (4) والخلوة ليست بلمس ولا مس بجارحة.
واختلف الصحابة في قوله: {أو لامستم} [5] النساء على قولين:
فحمله حاملون على المسّ باليد، وآخرون على الجماع، ولم يحمله أحد منهم على الأمرين جميعا، فحمله عليهما خروج من إجماعهم، وأخذ بقول قد أجمعوا على رفضه.
وقد أجري المسّ هذا المجرى لا يراد به المباشرة وتلزيق الجارحة بالمطلوب، وذلك قوله:
مسنا السّماء فنلناها وطالهم * حتى رأوا أحدا يهوي وثهلانا (6)
فليس يريد باشرناها، ولكن يريد به (7) رفعتهم وأنّ غيرهم لا
__________
الطبيعة. وهو من شواهد الكتاب 1/ 149، والمقتضب 3/ 219، وابن يعيش 2/ 29.
(1) في (م): ماسّه.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وذلك.
(4) سقطت من (ط). ولم نظفر بقول عمر وعلي.
(5) في (ط): لمستم.
(6) البيت لابن مغراء في التهذيب 12/ 325وفيه: مسنا بفتح الميم «ويمشي» بدل «يهوي» واللسان (مسس).
(7) سقطت من (ط).(3/165)
يدرك شأوهم ولا ينال ما نالوه من رفعة المنزلة وهذا كقوله (1):
وقد فاتت يد المتناول ومن المباشرة قوله تعالى (2): {ذوقوا مس سقر}
[القمر / 48] و {إن يمسسكم قرح} [آل عمران / 140] و {لن تمسنا النار إلا أياما} [آل عمران / 24] فأما قوله تعالى (3): {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} [البقرة / 236] فقد يكون من (4) مثل قوله: {ذوقوا مس سقر} وقد لا يكون مسّا، ولكن ما يكون في حكم المسّ، وهو الخلوة بها في قول عمر وعلي رضي الله عنهما.
وحجة من قرأ (5): لمستم أن هذا المعنى جاء في التنزيل في غير موضع على فعلتم، وذلك قوله: {ولم يمسسني بشر}
[مريم / 20] و {لم يطمثهن إنس} [الرحمن / 56]. وحجّة من قرأ: {لامستم} أنّ فاعل قد جاء في معنى فعل، نحو عاقبته، وطارقت النعل. وقال أبو عبيدة اللماس (6) النكاح (7).
النساء: 58
اختلفوا في [قوله تعالى] (8) {نعما} [النساء / 58] وقد ذكرته في سورة (9) البقرة. [الآية / 271].
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (م).
(5) في (ط): قال.
(6) في (م): اللمس.
(7) مجاز القرآن 1/ 128.
(8) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(9) سقطت من (ط).(3/166)
النساء: 66
اختلفوا في كسر النون وضمها من قوله [جلّ وعز] (1):
{أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا} [النساء / 66] وكسر الواو وضمها.
فروى نصر بن علي الجهضميّ عن أبيه عن أبي عمرو: {أن اقتلوا} بالكسر {أو اخرجوا} [مضمومة الواو] (2) مثل قول اليزيدي.
وقرأ ابن عامر وابن كثير ونافع والكسائي: أن اقتلوا أو اخرجوا بالضم فيهما. وقرأ عاصم وحمزة: أن اقتلوا أو اخرجوا كلاهما كسرا (3).
قال أبو علي: أما فصل أبي عمرو بين الواو والنون، وكسره النون في {أن اقتلوا} وضمّه الواو في أو اخرجوا: فلأنّ الضم في الواو أحسن لأنّها تشبه واو الضمير، والجمهور في واو الضمير على الضم، نحو: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة / 237] والنون إنّما ضمّت (4) لأنّها مكان الهمزة التي ضمت لضم الحرف الثالث، فجعلت بمنزلتها، وإن كانت منفصلة، وفي الواو هذا المعنى، والمعنى الآخر الذي ذكرنا من (5) مشابهة واو الضمير. والضمّ في سائر هذه أحسن، لأنّها في موضع الهمزة. قال أبو الحسن:
وهي لغة حسنة، وهي أكثر في الكلام وأقيس. ووجه قول من كسر
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): بالضم.
(3) السبعة 224.
(4) في (ط): تضم.
(5) في (ط): في.(3/167)
أنّ هذه الحروف منفصلة في (1) الفعل المضموم الثالث، والهمزة متّصلة (2) بها، فلم يجروا المنفصل مجرى المتصل. وما أجروه من المنفصل في (3) كلامهم مجرى المتصل أكثر من أن يقتصّ.
قال: وكلهم قرأ: {ما فعلوه إلا قليل منهم} [النساء / 66] رفعا، إلّا ابن عامر فإنّه قرأ: إلا قليلا منهم * نصبا، وكذلك هي في مصاحفهم (4).
قال أبو علي: الوجه في (5) قولهم: ما أتاني أحد إلّا زيد، الرفع، وهو الأكثر الأشيع في الاستعمال، والأقيس، فقوّته من جهة القياس أنّ معنى: ما أتاني أحد إلّا زيد، وما: أتاني إلّا زيد واحد فكما اتفقوا على: ما أتاني إلّا زيد، على الرفع، وكان: ما أتاني أحد إلّا زيد، بمنزلته ومعناه (6)، اختاروا الرفع مع ذكر أحد، وأجروا ذلك على «يذر» و «يدع» في أنّ «يذر» لما كان في معنى «يدع» فتح، وإن لم يكن فيه حرف حلق. ومما يقوي ذلك أنّهم في الكلام وأكثر (7) الاستعمال يقولون: ما جاءني إلّا امرأة، فيذكّرون حملا على المعنى، ولا يؤنّثون ذلك فيما زعم أبو الحسن (8)
إلّا في الشعر قال:
__________
(1) في (ط): من.
(2) في (م): فمتّصلة: وهي تحريف.
(3) في (ط): من.
(4) السبعة: 235.
(5) في (ط): من.
(6) في (ط): وبمعناه.
(7) في (ط): زيادة «في» بعد «أكثر».
(8) في (ط): «الخليل» مكان أبو الحسن.(3/168)
برى النّخر والأجرال ما في غروضها فما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع (1)
فكما أجروه على المعنى في قوله، فلم يلحقوا الفعل علامة التأنيث، كذلك أجروه عليه في نحو: ما جاءني أحد إلّا زيد، فرفعوا الاسم الواقع بعد حرف الاستثناء.
وأمّا من نصب فقال: ما جاءني أحد إلّا زيدا، فإنّه جعل النفي بمنزلة الإيجاب، وذلك: أن قوله: ما جاءني أحد، كلام تام. كما أنّ: جاءني القوم، كذلك، فنصب مع النفي، كما نصب مع الإيجاب من حيث اجتمعا في أن كلّ واحد منهما كلام تام. فأمّا قوله [جلّ وعزّ] (2): ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك [هود / 81] فإذا جعلت قوله تعالى: امرأتك مستثنى من: {لا يلتفت منكم أحد} كان فيه الوجهان: الرفع والنصب، والوجه الرفع. ومن قال: {ما فعلوه إلا قليل} فقياس قوله في هذه الرفع.
وإن جعلت الاستثناء من قوله: {فأسر بأهلك} لم يكن إلّا النصب.
قال سيبويه: ومن قال: أقول: ما أتاني القوم إلّا أباك، لأنّه بمنزلة
__________
(1) البيت الذي الرمة من قصيدة في ديوانه 3/ 1296والمحتسب 2/ 207وابن يعيش 2/ 87والعيني 2/ 477وجاء في الديوان برواية:
طوى النحز والأجراز ما في غروضها ... فما بقيت إلّا الصدور الجراشع
والنحز (بالنون والزاي): ضرب الأعقاب والاستحثاث في السير: وهو أن يحرك عقبيه، ويضرب بهما موضع عقبي الراكب. والأجرال: جمع جرل، وهو المكان الصلب الغليظ. والأجراز: الأمحال والواحد: جرز ومحل.
والغروض: الواحد غرض، وهو حزام الرحل. والجرشع واحد الجراشع:
وهو المنتفخ الجنبين.
(2) سقطت من (ط).(3/169)
قولي: أتاني القوم إلّا أباك، فإنّه ينبغي له أن يقول: {ما فعلوه إلا قليل منهم}. وحدّثني يونس أنّ أبا عمرو كان يقول: الوجه: ما أتاني القوم إلّا عبد الله. ولو كان هذا بمنزلة قوله: أتاني القوم لما جاز أن يقول: ما أتاني أحد، كما أنّه لا يجوز أن يقول: أتاني أحد، ولكن المستثنى في هذا الموضع بدل من الاسم الأوّل، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم}
[النور / 6] (1).
قال أبو عمر (2): قوله: ولو كان هذا من قبل الجماعة لما قلت: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} يعني: أن قوما يقولون:
إذا أخرجت واحدا من جماعة، أو قليلا من كثير فهو نصب، إن كان ما قبله نفيا أو إيجابا، وهذا خطأ.
قال أبو عمر: وإذا قلت: ما أتاني أحد إلّا زيد، فهي نفي الناس كلّهم لأنّ أحدا جماعة، فكان ينبغي في قياس قولهم أن يقولوا: ما أتاني أحد إلّا زيدا فينصبوا (3).
النساء: 73
واختلفوا (4) في الياء والتاء من قوله [جلّ وعزّ] (5) {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} [النساء / 73].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص والمفضّل: {كأن لم تكن} بالتاء.
__________
(1) انتهى نقله عن الكتاب 1/ 360: باب ما يكون استثناء بإلا.
(2) سقطت من (ط).
(3) في هامش (م) عبارة: بلغت والحمد لله وحده.
(4) في (ط): اختلفوا.
(5) سقطت من (ط).(3/170)
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: يكن * بالياء (1).
قال أبو علي: من قرأ بالتاء، فلأنّ الفاعل المسند إليه الفعل مؤنّث في اللفظ ومن قرأ بالياء، فلأنّ التأنيث ليس بحقيقي، وحسّن التذكير الفصل الواقع بين الفعل والفاعل. ومثل التذكير قوله: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [هود / 67] وقوله: {فمن جاءه موعظة من ربه} [البقرة / 275] وفي أخرى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} [يونس / 57] فكلا الأمرين قد جاء التنزيل به. وقوله جلّ وعزّ: كأن لم يكن بينكم وبينه مودة (2)
اعتراض بين المفعول وفعله، فكما أنّ قوله: {قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا} [النساء / 72] في موضع نصب، كذلك قوله: {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} في موضع نصب بقوله: {ليقولن} واتصاله إنّما هو بقوله: {قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا} {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} (3) أي: لا يعاضدكم على قتال عدوّكم، ولا يرعى الذمام الذي بينكم.
النساء: 77
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعز] (4): ولا يظلمون * [النساء / 77].
__________
(1) السبعة: 235.
(2) سقطت من (ط).
(3) تمام الآية 73مع ما قبلها: {وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}.
(4) سقطت من (ط).(3/171)
فقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي: ولا يظلمون * بالياء (1).
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم: تظلمون بالتاء.
النساء: 49
قال: ولم يختلفوا في قوله: {يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا} [النساء / 49] [أنّه بالياء] (2).
قال أبو علي: من قرأ: ولا يظلمون فتيلا * بالياء، فلما تقدّم من ذكر الغيبة، وهو قوله: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} {ولا تظلمون}.
ومن قرأ بالتاء فكأنّه ضمّ إليهم في الخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم (3)
والمسلمين (4)، فغلّب الخطاب على الغيبة، والمعنى: أنّكم أيها المسلمون ما تفعلون (5) من خير يوفّ إليكم، ويجازى (6) من أمر بالقتال فتثبط (7) عنه، بعد أن كان (8) كتب عليه. ويؤكّد التاء قوله (9): {قل متاع الدنيا قليل} [النساء / 77] وما في {قل} من الخطاب. وأمّا قوله: {بل الله يزكي من يشاء} [النساء / 49] ففي {يزكي} ضمير الغيبة {ولا يظلمون} بالياء لأنّه إذا كان لمن يشاء فهو للغيبة.
النساء: 81
واختلفوا في إدغام التاء وإظهارها من قوله [جلّ وعز] (10):
{بيت طائفة} [النساء / 81].
__________
(1) أسقط «السبعة» ابن عامر في قراءة الياء، وأثبته في قراءة التاء.
(2) تتمة من السبعة ص 235.
(3) سقطت «وسلم» من (ط).
(4) في (م): والمسلمون.
(5) في (م): ما تفعلونه. وهو خطأ.
(6) في (ط): يجازي.
(7) في (م): فثبط.
(8) سقطت من (ط).
(9) سقطت من (ط).
(10) سقطت من (ط).(3/172)
فقرأ أبو عمرو وحمزة: بيت طائفة مدغما. وقرأ الباقون (1): {بيت طائفة} بنصب التاء (2).
[قال أبو علي] (3): وجه الإدغام: أن الطاء والتاء والدال من حيّز واحد، فالتقارب الذي بينهما يجريهما مجرى المثلين في الإدغام. ومما يحسّن الإدغام أنّ الطاء تزيد على التاء بالإطباق، فحسن إدغام الأنقص صوتا من الحروف في الأزيد، بحسب قبح إدغام الأزيد في الأنقص، ألا ترى أنّ الضاد لا تدغم في مقاربها، ويدغم مقاربها فيها وكذلك الصاد والسين والزاي لا تدغم في مقاربها، ويدغم مقاربها فيها، ويدغم بعضها في بعض.
ومن بيّن فقال: {بيت طائفة} فلانفصال الحرفين واختلاف المخرجين.
النساء: 94
اختلفوا (4) في الثاء والنون (5) من قوله [جلّ وعز] (6).
: فتثبتوا [النساء / 94].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
{فتبينوا} بالنون (7)، وكذلك في الحجرات [الآية / 6].
وقرأ حمزة والكسائي: فتثبتوا بالتاء (8) وكذلك في الحجرات (9).
__________
(1) فصلهم في السبعة وهم: ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر والكسائي.
(2) السبعة 235.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): واختلفوا.
(5) في السبعة: واختلفوا في التاء والثاء والياء والنون.
(6) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(7) في السبعة: بالياء والنون.
(8) في السبعة: بالثاء والتاء.
(9) السبعة ص 236.(3/173)
[قال أبو علي]: (1) حجة من قال (2): تثبتوا: أن التثبّت هو خلاف الإقدام، والمراد التأنّي، وخلاف التقدّم، والتثبّت أشد اختصاصا بهذا الموضع. ومما يبين ذلك قوله: {وأشد تثبيتا}
[النساء / 66] أي: أشدّ وقفا لهم عما وعظوا بأن لا يقدموا عليه.
ومما يقوّي ذلك قولهم: تثبّت في أمرك. ولا يكاد يقال في هذا المعنى: تبيّن.
ومن قرأ: {فتبينوا} فحجته أنّ التبيّن ليس وراءه شيء، وقد يكون تبينت أشدّ من تثبّت، وقد جاء
أنّ التبيّن من الله، والعجلة من الشيطان
(3)» فمقابلة (4) التبيّن بالعجلة دلالة (5) على تقارب التثبت والتبيّن وقد (6) قال الأعشى:
كما راشد تجدنّ امرأ * تبيّن ثمّ ارعوى أو قدم (7)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): قرأ.
(3) الحديث رواه الترمذي في البرّ برقم 2013وبلفظ: «الأناة» بدل «التبين» وقال: هذا حديث غريب، وقد تكلّم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عباس بن سهل (وهو أحد رواة الحديث) وضعفه من قبل حفظه ورواه السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي في شعب الإيمان وأشار إلى ضعفه 3/ 277ورواه بلفظ «التأني» ورواه الطبري في تفسيره 26/ 124عن قتادة بلفظ المؤلف. وفسّر ابن الأنباري التبيّن في الحديث بالتثبّت. النهاية لابن الأثير (1/ 175).
(4) في (ط): فتقابل.
(5) في (ط): دالة.
(6) سقطت من (ط).
(7) ديوانه ص 35من قصيدة في مدح قيس بن معدي كرب. وفيه: ثم انتهى، بدل: ثم ارعوى.(3/174)
فاستعمل التبين في الموضع الذي يقف فيه ناظرا في الشيء حتى يقدم عليه أو يرتدع عنه. فالتبين على هذا أولى من التثبت، وقال في موضع الزجر والنهي والتوقف:
أزيد مناة توعد يا بن تيم
تبيّن أين تاه بك الوعيد (1)
النساء: 94
اختلفوا (2) في إدخال الألف وإخراجها من قوله [جلّ وعز] (3): {ألقى إليكم السلام} [النساء / 94].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر، وحفص عن عاصم والكسائي: {السلام} بألف (4).
وروى قنبل والبزّيّ ومطرّف بن معقل الشّقريّ عن ابن كثير، وحكيم عن شبل (5) عن ابن كثير (السلام) بألف.
وروى محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير السلم * بغير ألف. وروى عبيد بن عقيل عن شبل عن ابن كثير: ألقى إليكم السلم بغير ألف.
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) في (ط): واختلفوا.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط) بالألف، كما في السبعة.
(5) شبل بن عباد أبو داود المكي مقرئ مكة، ثقة ضابط هو أجل أصحاب ابن كثير مولده سنة سبعين، وعرض على ابن محيصن وعبد الله بن كثير وهو الذي خلفه في القراءة. روى عنه القراءة. عبيد بن عقيل وعلي بن نصر ومحمد بن صالح المري (طبقات القراء 1/ 323).(3/175)
قال عبيد: وهم يقرءون كلّ شيء في القرآن من الاستسلام بغير ألف.
وروى علي بن نصر (1) عن أبان (2) عن عاصم إليكم السلام بألف.
[حدّثنا أحمد قال] (3) حدّثني الحسين بن علي بن مالك قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا حرميّ (4) عن أبان عن عاصم، وحدثني موسى بن هارون عن شيبان عن أبان عن عاصم ألقى إليكم السلم بالكسر وتسكين اللام. المفضّل عن عاصم:
السلم * مثل حمزة.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة: السلم * بغير ألف (5).
قال أبو علي: من قرأ: {السلام} احتمل ضربين:
أحدهما: أن يكون السلام الذي هو تحيّة المسلمين، أي:
لا تقولوا لمن حيّاكم هذه (6) التحيّة: إنّما قالها تعوّذا (7)، فتقدموا
__________
(1) في (ط) نصير. وهو علي بن نصر الجهضمي، سبقت ترجمته.
(2) أبان بن يزيد بن أحمد أبو يزيد البصري العطار النحوي، ثقة صالح، قرأ على عاصم، وروى الحروف عن قتادة بن دعامة، روى القراءة عنه بكّار بن عبد الله العودي وحرمي بن عمارة، وعلي بن نصر وغيرهم (طبقات القراء 1/ 4).
(3) سقطت من (ط).
(4) حرميّ بن عمارة بن أبي حفصة أبو روح البصري الأزدي، روى القراءة عن أبان العطار، وروى عنه الحروف أحمد بن صالح (طبقات القراء 1/ 203).
(5) السبعة 236مع اختلاف يسير في التقديم والتأخير.
(6) في (ط): بهذه.
(7) في (ط): متعوّذا.(3/176)
عليه بالسيف، ولكن كفّوا عنه، واقبلوا منه ما أظهره من ذلك وارفعوا عنه السيف.
والآخر: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم، وكفّوا أيديهم عنكم، ولم (1) يقاتلوكم: لست مؤمنا.
قال أبو الحسن: يقولون: إنّما فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا، فكأنّ المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم، ولم يخالطكم في القتال: لست مؤمنا. ومن قال: السلم * أراد الانقياد والاستسلام إلى المسلمين، ومنه قوله تعالى (2): {وألقوا إلى الله يومئذ السلم}
[النحل / 87] أي: استسلموا لأمره، ولما يراد منهم، ولم يكن لهم من ذلك محيص ومنه قوله: {ورجلا سلما لرجل}
[الزمر / 29] أي: منقاد له غير مخالف عليه ولا متشاكس. ومن قال: السلم * بكسر السين وسكون اللام، فمعناه: الإسلام.
والإسلام: مصدر أسلم، أي: صار سلما، وخرج عن أن (3)
يكون حربا.
قال الشاعر (4):
فإن السّلم زائدة نوالا
وإنّ نوى المحارب لا تئوب
وقال آخر (5):
تبين صلاة الحرب منّا ومنهم
إذا ما التقينا والمسالم بادن
__________
(1) في (ط): فلم.
(2) سقطت من (ط).
(3) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(4) لم نعثر على قائله.
(5) البيت للمعطل الهذلي وقد سبق في 2/ 322عند آية البقرة / 208.(3/177)
فالمسالم: خلاف المحارب. وقال تعالى (1): {ادخلوا في السلم كافة} [البقرة / 208] والسّلم: الصلح، وقد يفتح فيقال:
السّلم، ومنه قوله سبحانه (2): {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم} [محمد / 35]. أي: لا تدعو إلى الصلح والمكافّة، ولكن قاوموهم وقاتلوهم، تعلوا عليهم وتعل كلمتكم.
ولا يجوز أن يكون المراد فيمن قرأ هذه الآية السلم *:
الصلح، ولكن الإسلام كقوله: {ادخلوا في السلم}
[البقرة / 208] ألا ترى أنّ الحربي إذا حاول من المسلم الصلح كان له الخيار في (3) قتاله ومصالحته، وإذا أظهر له الإسلام لم يجز قتاله.
والمعنى في الآية: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام لست مسلما. والسّلم الذي (4) هو: الصلح، تفتح فاؤه وتكسر، ويؤنّث ويذكّر، قال تعالى (5): {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}
[الأنفال / 61].
النساء: 95
اختلفوا في رفع الراء ونصبها من قوله [جلّ وعز] (6):
{غير أولي الضرر} [النساء / 95].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة {غير أولي الضرر}
برفع الراء.
__________
(1) سقطت من (ط) وقد سبق الكلام على الآية في 2/ 292.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (م): وضعت كلمة «بين قتاله» على الهامش.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (م).
(6) سقطت من (ط).(3/178)
[حدّثنا أحمد قال] (1): حدّثني الصّوفي الحسين بن بشر (2)
قال: حدثنا روح بن عبد المؤمن (3) قال: حدثنا محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير أنّه قرأ: غير أولي الضرر بنصب الراء.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي: غير أولي * بنصب الراء (4).
قال أبو علي: من رفع الراء جعل {غير} صفة للقاعدين عند سيبويه، وكذلك من قال: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب} [الفاتحة / 7] فجرّ (5) غير * كان عنده أيضا صفة، ومثل ذلك قول لبيد:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه
إنّما يجزي الفتى غير الجمل (6)
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من (ط).
(2) الحسين بن بشر بن معروف أبو الحسين الطبري الريشي، يعرف بالصوفي، روى القراءة عن روح بن عبد المؤمن، روى عنه أبو بكر بن مجاهد (طبقات القراء 1/ 279).
(3) روح بن عبد المؤمن أبو الحسن الهذلي البصري النحوي: مقرئ جليل ثقة ضابط مشهور، عرض على يعقوب الحضرمي، وهو من جلة أصحابه وروى الحروف عن أحمد بن موسى، ومعاذ بن معاذ، ومحبوب ومحمد بن صالح المري وغيرهم، روى عنه البخاري في صحيحه. مات سنة أربع أو خمس وثلاثين ومائتين (طبقات القراء 1/ 285).
(4) في (ط): «نصبا». السبعة: 237.
(5) في (ط) بجرّ.
(6) سبق البيت في 2/ 186قال الأعلم (طرة سيبويه 1/ 370): الشاهد فيه:
نعت الفتى، وهو معرفة، بغير وإن كان نكرة، والذي سوغ هذا أنّ التعريف بالألف واللام يكون للجنس فلا يخص واحدا بعينه فهو مقارب للنكرة، وإن غيرا مضافة إلى معرفة فقاربت المعارف لذلك، وإن كانت نكرة فجرت على(3/179)
فغير صفة للفتى. ومثله في «إلّا» في (1) قول الشاعر:
لو كان غيري سليمى اليوم غيّره
وقع الحوادث إلّا الصارم الذّكر (2)
كأنه قال: لو كان غيري غير الصارم الذّكر، غيّره (3) وقع الحوادث، قال: والمعنى: أنّ الصارم الذكر لا يغيره شيء (4).
ومن نصب غيرا جعله استثناء من القاعدين. قال أبو الحسن: وبها نقرأ. قال: وبلغنا أنّها نزلت من بعد قوله: {لا يستوي القاعدون}، ولم تنزل معها استثني بها قوم لم يقدروا على الخروج. و {القاعدون} مرتفع بقوله: {يستوي} ويستوي هذا يقتضي فاعلين فصاعدا.
وقوله: {والمجاهدون} معطوف عليه التقدير: لا يستوي القاعدون إلّا أولي الضرر والمجاهدون.
النساء: 114
واختلفوا (5) في الياء والنون من قوله تعالى (6): {فسوف نؤتيه} [النساء / 114].
__________
الأول لذلك. يقول: ينبغي لمن أقرض قرضا وأحسن إليه أن يجزي عليه ولا يكفر النعمة، فيكون كالبهيمة لا تعرف الإحسان ولا تجازي به. اهـ.
(1) سقطت من (ط).
(2) البيت للبيد بن ربيعة وهو في ديوانه / 57، والأشموني 2/ 156، قال الأعلم:
الشاهد فيه جري إلّا وما بعدها على غير نعتا لها. والمعنى: إن وقع الدهر لا يغيره كما لا يغير الصارم الذكر. وهو الماضي من السيوف، والذكر والمذكر:
الحديد الذي ليس بأنيث. (طرة الكتاب 1/ 370).
(3) في سيبويه: لغيره.
(4) انتهى نقله عن الكتاب 1/ 370باب ما يكون فيه إلّا وما بعده وصفا بمنزلة مثل وغير.
(5) في (ط): اختلفوا.
(6) سقطت من (ط).(3/180)
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر (1) والكسائيّ {فسوف نؤتيه} بالنون.
وقرأ أبو عمرو وحمزة: يؤتيه * بالياء (2).
قال أبو علي: من قرأ بالياء فلقوله: ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف يؤتيه ومن قرأ: {نؤتيه} فهو مثل يؤتيه * في المعنى.
النساء: 124
اختلفوا في ضمّ الياء وفتحها من قوله [جلّ وعز]: (3):
{يدخلون الجنة} [النساء / 124] فقرأ ابن كثير: يدخلون الجنة *، في ثلاثة مواضع: في النساء، وفي مريم [60]، وفي المؤمن (4) [40]، ورابعا فيه سين، وهو (5) قوله تعالى (6):
سيدخلون جهنم [غافر / 60].
وروى مطرّف الشّقري عن معروف بن مشكان (7) عن ابن كثير أنّه ضمّ الحرف الذي في سورة الملائكة (8): جنات عدن
__________
(1) سقطت ابن عامر من (م). وهي في السبعة و (ط).
(2) السبعة 237.
(3) سقطت من (ط).
(4) وتسمى سورة غافر.
(5) في (ط): فهو.
(6) سقطت من (ط).
(7) معروف به مشكان أبو الوليد المكي مقرئ مكة مع شبل ولد سنة مائة، وهو من أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى في السفن لطرد الحبشة من اليمن، أخذ القراءة عرضا عن ابن كثير وهو أحد الذين خلفوه في القيام بها بمكة روى عنه القراءة عرضا إسماعيل القسط، وسمع منه الحروف مطرف النهدي وحماد بن زيد. مات سنة خمس وستين ومائة (طبقات القراء 2/ 303، 304).
(8) وهي سورة فاطر أيضا.(3/181)
يدخلونها [33] ولم يأت بها (1) مضموما عن ابن كثير غيره.
وقرأ عاصم في رواية أبي هشام عن يحيى وابن عطارد عن أبي بكر مثل ابن كثير في الملائكة. وأما خلف ومحمد بن المنذر وأحمد بن عمر الوكيعي فرووا عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم: بفتح الياء في {يدخلون الجنة} في المؤمن. وقال خلف عن يحيى سمعت أبا بكر وقد سئل عنها، فقال: {سيدخلون} بفتح الياء.
وقرأ أبو عمرو في النساء، وفي مريم، وفي الملائكة، وفي المؤمن: يدخلون الجنة بضم الياء، وفتح الياء من {سيدخلون جهنم داخرين}.
وروى حفص عن عاصم أنّه كان يفتحهن كلّهنّ. وروى الكسائي عن أبي بكر وخلاد عن حسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم أنّه فتحهنّ كلّهنّ مثل حفص.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء فيهنّ كلّهنّ (2)
[قال أبو علي] (3): حجّة من قال: {يدخلون} قوله:
{ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} [الزخرف / 70] {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر / 46] {قيل ادخل الجنة} [يس / 26].
ومن قال: {يدخلون} فلأنّهم لا يدخلونها حتى يدخلوها.
__________
(1) في (ط): به.
(2) السبعة 238237.
(3) سقطت من (ط).(3/182)
النساء: 128
اختلفوا (1) في ضمّ الياء والتخفيف، وفتحها والتشديد من قوله (2): أن يصالحا [النساء / 128].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: يصالحا بفتح الياء والتشديد.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {أن يصلحا} بضم الياء والتخفيف (3).
قال أبو علي: من قال: فلا جناح عليهما أن يصالحا فوجهه أنّ الأعرف في استعمال (4) هذا النحو: تصالحا. ويبين ذلك أنّ سيبويه زعم أنّ هارون حدّثهم أنّ بعضهم قرأ: فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا (5)، فيصّلحا: يفتعلا، وافتعل وتفاعل بمعنى، ولذلك صحّت الواو في: اجتوروا، واعتونوا، واعتوروا، لمّا كان بمعنى: تجاوروا، وتعاونوا، وتعاوروا، فهذه حجة لمن قرأ أن يصالحا، وكذلك زعموا (6) في حرف عبد الله:
فلا جناح عليهما إن اصّالحا.
ومن قرأ: {يصلحا}، فإنّ الإصلاح عند التنازع والتشاجر أيضا قد استعمل كما استعمل تصالح، قال: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم} [البقرة / 182] وقال: {إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء / 114]
__________
(1) في (ط): واختلفوا.
(2) في (م): زيادة: جلّ وعز إلّا. وكلمة إلّا ليست في آية النساء المذكورة.
(3) السبعة 238.
(4) في (ط): الاستعمال.
(5) سيبويه 2/ 421.
(6) زادت (م) «أن» بعد زعموا.(3/183)
وليس الصلح على واحد من الفعلين، فيجوز أن يكون اسما مثل:
العطاء والعطية من أعطى، والكرامة من أكرم، فمن قرأ: {يصلحا}
كان تعدّي الفعل إليه كتعدّيه إلى الأسماء، كقولك: أصلحت ثوبا. فإن قلت: فمن قرأ: تفاعل، فما وجهه، وتفاعل لا يتعدّى كما تعدّى أفعل؟ قيل: إن تفاعل قد جاء متعديا في نحو قول ذي الرّمّة:
ومن جردة غفل بساط تحاسنت
به الوشي قرّات الرّياح وخورها (1)
ويجوز فيه أن يكون مصدرا حذفت زوائده، كما قال:.
وإن يهلك فذلك كان قدري (2)
أي: تقديري: ويجوز أيضا أن يكون وضع المصدر موضع الاسم كما وضع الاسم في (3) موضع المصدر في نحو قوله (3):
باكرت حاجتها الدّجاج (5)
وقوله:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا (6)
__________
(1) البيت من قصيدة في ديوانه 1/ 232والمعاني الكبير 1192، وفيه: «بها» بدل «به» قال شارح الديوان: الجردة من الرمل: بمعنى الجرداء، وغفل: ليس بها علم، بساط: واسعة مستوية، قرّات الرّياح: بواردها، وخورها: أراد خور الرياح وهو: ما لان منها، ولم يكن فيه برده. قال ابن قتيبة: شبه آثار الرياح بالوشي.
(2) هذا عجز بيت ليزيد بن سنان وقد سبق انظر 2/ 132، 277.
(3) سقطت من (ط).
(5) قطعة من بيت للبيد سبق في 1/ 182.
(6) هذا عجز بيت للقطامي سبق انظر 1/ 182، 2/ 288.(3/184)
النساء: 135
واختلفوا في إسقاط الواو وإثباتها، وضمّ اللام، وإسكانها من قوله [جلّ وعز] (1): {وإن تلووا} [النساء / 135].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم والكسائي: {تلووا}
بواوين الأولى مضمومة، واللام ساكنة.
وقرأ حمزة وابن عامر: تلوا بواو واحدة، واللام مضمومة (2).
[قال أبو علي] (1): حجة من قال: {تلووا} أنّه (4) قيل: إنّ ابن عباس فسّره بأنّه: القاضي يكون ليّه وإعراضه لأحد الخصمين على الآخر.
وحجة من قال: تلوا بواو واحدة أن يقول: إن تلوا في هذا الموضع حسن، لأنّ ولاية الشيء. إقبال عليه، وخلاف الإعراض عنه، فالمعنى: إن تقبلوا أو تعرضوا، فلا تلوا، فإن الله كان بما تعملون خبيرا، فيجازي المحسن المقبل بإحسانه، والمسيء المعرض بإعراضه وتركه الإقبال على ما يلزمه أن يقبل عليه، ويقول: لو قرأت: {وإن تلووا أو تعرضوا} لكان كالتكرير، لأنّ اللّيّ مثل الإعراض، ألا ترى أنّ قوله: {لووا رؤسهم ورأيتهم يصدون} [المنافقون / 5] إنّما هو إعراض منهم وترك انقياد (5)
للحق، وكذلك {ليا بألسنتهم} [النساء / 46] إنّما هو انحراف وأخذ فيما لا ينبغي أن يأخذوا فيه، فإذا كان كذلك كان كالتكرير، وإذا قلنا: تلوا فقد ذكرنا الإعراض وخلافه.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 239.
(4) في (ط): فقد بدل أنه.
(5) في (ط): إعراض عنهم وترك الانقياد.(3/185)
ومن حجة من قال (1): {تلووا} بواوين من لوى أن يقول: ما ذكرتم أنّ الدلالة وقعت عليه في قراءتكم تلوا بواو واحدة وقد فهم بما تقدم من قوله: {فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} فيستغنى به، ولا ينكر أن يتكرر اللفظان لمعنى واحد نحو قوله: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [الحجر / 30] ونحو قوله:
وهند أتى من دونها النّأي والبعد (2)
وقوله:
وألفى قولها كذبا ومينا (3)
وقد قيل: إن تلوا يجوز أن يكون تلووا، وأن الواو التي هي عين همزت لانضمامها كما همزت في أدؤر، وألقيت حركة الهمزة على اللام التي هي فاء.
النساء: 136
اختلفوا في فتح النون والألف من قوله تعالى (4): والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل [النساء / 136] وضمّها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر: الذي نزل على
__________
(1) في (ط): قرأ.
(2) عجز بيت للحطيئة وصدره:
ألا حبذا هند وأرض بها هند انظر ديوانه / 140، وابن الشجري 2/ 36، وابن يعيش 1/ 10، 70.
(3) هذا عجز بيت من قصيدة لعدي بن زيد وصدره:
وقدمت الأديم لراهشيه وهو من شواهد مغني اللبيب انظر شرح أبياته 6/ 97والدرر 2/ 167 واللسان (مين).
(4) سقطت من (ط).(3/186)
رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل مضمومتين.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: {الذي نزل}
{والكتاب الذي أنزل} مفتوحتين. وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم مثل قراءة أبي عمرو بالضم (1).
[قال أبو علي] (2): حجّة من قال: الذي نزل: قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}، [النحل / 44] وقوله: {تنزيل الكتاب من الله} [الزمر / 1] فأضيف المصدر إلى المفعول به، والكتاب على هذا منزّل.
وحجّتهم في قوله: والكتاب الذي أنزل قوله: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق}
[الأنعام / 114].
وحجة من قرأ: {نزل} قوله (3): {إنا نحن نزلنا الذكر}
[الحجر / 9] وحجّتهم في قوله: {والكتاب الذي أنزل من قبل}
[النساء / 136] قوله (4): {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس}
[النحل / 44].
النساء: 140
قال: وكلهم قرأ: وقد نزل عليكم في الكتاب [النساء / 140] غير عاصم فإنه قرأ: {وقد نزل} (5).
__________
(1) زادت (ط): وبفتح النون. وليست ضرورية وزاد في السبعة ص 239قبل كلمة بالضم: في (نزّل).
(2) سقطت من (ط).
(3) زادت (ط): تعالى.
(4) سقطت من (م).
(5) السبعة 239.(3/187)
قال أبو علي: المنزّل في الكتاب قوله تعالى (1): {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} إلى قوله [جلّ وعز] (2): {الظالمين} [الأنعام / 68].
النساء: 145
اختلفوا في فتح الرّاء وإسكانها من قوله تعالى (3): الدرك (4)
[النساء / 145].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: في الدرك مفتوحة الراء.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {في الدرك} ساكنة الراء.
وروى الكسائي وحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم:
{في الدرك} مثل أبي عمرو (5).
قال أبو عليّ: الدّرك، والدّرك لغتان في الكلمة مثل:
الشّمع والشّمع، والقصص والقصّ (6). ومثله في المعتلّ العيب والعاب، والذّيم والذّام، ولو كان الشمع مسكّنا عن الشمع ولم يكن لغة فيه، لم يجز أن يسكّن، ألا ترى أنّ مثل جمل وقدم، لا يسكّن كما يسكّن المضموم والمكسور، كما لم يحذف الألف في الفواصل والقوافي، كما حذفت الياء والواو.
حفص عن عاصم {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم}
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في حاشية (ط) هنا ما نصه: ابتداء المقابلة من قوله: الدرك.
(5) السبعة: 239.
(6) في (ط): والقص والقصص.(3/188)
النساء: 152
[النساء / 152] بالياء ولم يكن يقرأ بالياء في هذه السورة غير هذا الحرف.
أبو بكر عن عاصم بالنون.
وقرأ حمزة: أولئك سوف نؤتيهم أجورهم بالنون.
وكذلك قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي بالنون.
وقرأ حمزة وحده: أولئك سيؤتيهم أجرا عظيما [النساء / 162] بالياء.
وقرأ الباقون هذا الحرف بالنون (1).
حفص عن عاصم {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} بالياء (2)
حجته في ذلك {وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما}
[النساء / 146].
حمزة: سوف نؤتيهم أجورهم [النساء / 152] بالنون.
حجته قوله تعالى (3): {وآتيناه أجره} [العنكبوت / 27] {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} [الحديد / 27].
حمزة وحده: أولئك سيؤتيهم [النساء / 152] حجته وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما [النساء / 146] {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم} [النساء / 173].
__________
(1) السبعة 240.
(2) سقطت من (م).
(3) سقطت من (ط).(3/189)
النساء: 154
اختلفوا في قوله [جلّ وعز] (1) {لا تعدوا في السبت}.
[النساء / 154].
فقرأ نافع: تعدوا بتسكين العين وتشديد الدال.
وروى عنه ورش: تعدوا بفتح العين وتشديد الدال.
وكلهم ضمّ الدال، وقرأ الباقون: لا تعدو خفيفة (2).
قال أبو زيد: عدا عليّ اللص أشدّ العدوّ، والعدو والعداء والعدوان، أي: سرقك وظلمك، وعدا الرجل يعدو عدوا في الحضر، وقد عدت عينه عن ذاك أشدّ العدوّ فهي تعدو.
قال أبو علي [ومن قرأ] (3): لا تعدوا حجته قوله تعالى:
{ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} [البقرة / 65] فجاء في هذه القصّة بعينها: افتعلوا، وقال: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة / 190].
وأمّا من قال: {لا تعدوا} على: لا تفعلوا، فحجّتهم قوله تعالى: {إذ يعدون في السبت} [الأعراف / 163] في هذه القصة، وقال: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون / 7] وقال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} [البقرة / 173] [النمل / 115] [الأنعام / 145] فقوله: {ولا عاد} يحتمل أمرين: أحدهما أنّه فاعل من عدا يعدو: إذا جاوز، وقد تقول (4): ما عدوت أن زرتك، أي: ما جاوزت ذلك. وروي عن الحسن: {ولا عاد} أي: ولا عائد فقلب من عاد إلى الشيء. ويقوي تفسير الحسن ما أثر من
قوله [عليه السلام] (5): «يجزئ في الضارورة
__________
(1) في (ط): تعالى.
(2) السبعة 240.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): ويقولون.
(5) زيادة في (ط).(3/190)
صبوح أو غبوق»
(1) أي: لا يعود إليه لأنّه إذا أكله مرة واحدة (2) لا يخشى معها على نفسه. ومن حجتهم قوله: {فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة / 193] وقوله: {فلا عدوان علي}
[القصص / 28] فهذا مصدر كالشكران والغفران ومصدر افتعل:
الاعتداء.
فأما قراءة نافع: لا تعدوا فإنه يريد: لا تفتعلوا، فأدغم التاء في الدال لتقاربهما، ولأنّ الدال تزيد على التاء بالجهر. وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني منهما مدغما، ولم يكن الأول حرف لين، نحو: دابّة، وشابّة، وثمودّ الثوب، وقيلّ لهم، ويقولون: إنّ المدّ يصير عوضا من الحركة. وقد قالوا: ثوب بكر، وجيب بكر فأدغموا، والمدّ الذي فيهما أقلّ من المد (3) الذي يكون فيهما إذا كان حركة ما قبلهما منهما. وساغ فيه وفي نحو: أصيمّ ومديقّ ودويبّة، فإذا جاز ما ذكرنا مع نقصان المدّ الذي فيه، لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين (4) في نحو {تعدوا}، و {تخطف}، وقد جاء في القراءة، وجاز ذلك لأنّ الساكن الثاني لما كان يرتفع اللسان عنه وعن المدغم فيه ارتفاعة واحدة صار بمنزلة حرف متحرك، يقوي ذلك: أن من العلماء بالعربية من جعل المدغم مع المدغم فيه بمنزلة حرف واحد، وذلك قول يونس في النسب إلى مثنّى:
__________
(1) أورده صاحب النهاية في غريب الحديث مادة (ضرر) 3/ 83عن سمرة.
وقال: والضارورة: لغة في الضرورة: أي إنّما يحل للمضطر من الميتة أن يأكل منها ما يسد الرّمق غداء أو عشاء وليس له أن يجمع بينهما. وانظر اللسان (ضرر).
(2) سقطت من (ط).
(3) زيادة في (ط).
(4) في (ط): ساكنين.(3/191)
مثنويّ، جعله بمنزلة ملهويّ، ويقوي ذلك جواز نحو أصيمّ وأنّه قول العرب جميعا مع نقصان المدّ فيه. ويقوّي ذلك أنّهم قد وضعوا موضع حرف لين (1) غيره. وذلك نحو قوله: (2)
تعفّف ولا تبتئس فما يقض يأتيكا فحرف المدّ الذي قبل (3) حركة ما قبله منه. وقال (4):
خليليّ عوجا على رسم دار
خلت من سليمى ومن ميّه
فحركة ما قبل حرف اللين ليس منه. وقال:
صفيّة قومي ولا تعجزي
وبكّي النساء على حمزة (5)
فجعل مكان حرف اللين غيره. وقال:
لقد ساءني سعد وصاحب سعد
وما طلباني دونها بغرامه (6)
[وما كل موت نصحه بلبيب (7)
__________
(1) في (ط): اللين.
(2) لم نعثر على قائله ولا تتمته.
(3) في (ط): فحرف المد والذي قبل كل حركة. وشطب على عبارة: الذي قبل كل.
(4) لم نعثر على قائله.
(5) البيت لكعب بن مالك، وقد سبق في 1/ 73، 212.
(6) البيت في مجالس العلماء للزجاجي 151، أنشده الأصمعي ولم ينسبه.
(7) عجز بيت صدره:
وما كلّ ذي لب بموتيك نصحه وهو في الكتاب 2/ 409قال الأعلم: الشاهد فيه وقوع الياء ساكنة، وقبلها كسرة لما فيها من المد موقع الحرف المتحرك في إقامة الوزن، ولذلك لزمت هذه الياء حرف الروي وكانت ردفا له لا يجوز في موضعها إلا(3/192)
مخالف للبيت الأول، لأنّ حرف اللين فيه أطول من البيت الأول] (1).
فإذا كانوا قد جعلوا مواضع حرف اللين غيره في هذه الأشياء التي ذكرنا جاز أن يجعل موضع حرف اللين غيره في هذه المواضع التي قرأت بها القراء، ولم يكن ذلك لحنا وإن كان الوجه الآخر أكثر في الاستعمال، ويقوي ذلك أنّ ما بين حرف اللين وغيره يسير، فلا يتفاوت ذلك من حيث كان الجميع في الوزن واحدا، ألا ترى أنّ الضاد وإن شغلت في خروجها مواضع لتفشّيها واستطالتها بمنزلة النون التي تخرج من الخياشيم في الوزن، فكذلك ما بين حرف اللين الذي ليس ما قبله من جنسه، وبين سائر الحروف التي ليست بليّنة، يسير يحتمل ذلك ولا يتفاوت. ويقوي ذلك ما أنشده سيبويه:
كأنّه بعد كلال الزّاجر
ومسّح مرّ عقاب كاسر (2).
النساء: 163
قال: قرأ حمزة وحده: وآتينا داود زبورا [النساء / 163] بضمّ الزاي حيث وقعت (3).
قال أبو علي: القول فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون
__________
الواو، إذ كانت في المد بمنزلتها. والمعنى: إن الإنسان قد ينصح من يستغشه، فينبغي للعاقل اللبيب أن يرتاد موضعا مستحقا للنصيحة.
(1) ما بين معقوفتين سقط من (م).
(2) سبق انظر 2/ 397.
ووضع في طرة (ط): يريد: ومسحه فأدغم.
وقد رسمت في (م) ومسحه، على الأصل.
(3) السبعة 240وزاد بعده: ومثله {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} [الأنبياء 105] وقرأ الباقون: {زبورا} و {في الزبور} مفتوحتين.(3/193)
جمع زبر فأوقع على المزبور اسم الزبر كقولهم: ضرب الأمير.
ونسج اليمن، كما سمّي المكتوب الكتاب ثمّ جمع الزبر على زبور (1)، وجمعه لوقوعه موقع (2) الأسماء التي ليست بمصادر، كما جمع الكتاب على كتب لمّا استعمل استعمال الأسماء، فقالوا:
زبور. والآخر: أن يكون جمع زبورا بحذف الزيادة على زبور كما قالوا: ظريف وظروف، وكروان وكروان، وورشان وورشان ونحو ذلك مما جمع بحذف الزيادة. ويدل (3) على قوّة هذا الوجه في القياس أن التكسير مثل التصغير، وقد اطّرد هذا الحذف في ترخيم التصغير نحو: أزهر وزهير وحارث، وحريث، وثابت، وثبيت فالجمع مثله في القياس، وإن كان أقلّ منه في الاستعمال.
[آخر الكلام في سورة النساء] (4)
__________
(1) في (ط): الزبور.
(2) في (ط): مع.
(3) في (ط): ويدلك.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط). وفي (ط): سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم.(3/194)
سورة المائدة
[ذكر اختلافهم في سورة المائدة]
المائدة: 2
اختلفوا في فتح النون وإسكانها من {شنآن}
[المائدة / 2].
فقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن كثير: {شنآن} متحركة النون.
وقرأ ابن عامر: شنان ساكنة النون.
واختلف عن عاصم، فروى عنه أبو بكر شنان ساكنة النون، وروى عنه حفص {شنآن} متحركة النون.
واختلف عن نافع أيضا فروى عنه إسماعيل بن جعفر، والمسيّبي والواقديّ: شنان ساكنة النون (1). وروى عنه ابن جمّاز والأصمعيّ وورش وقالون: {شنآن} متحركة النون (2).
قال أبو علي: تأويل {لا يجرمنكم}: لا يكسبنكم أن تعتدوا.
__________
(1) في (ط) زيادة مقحمة بين إشارتين تعادل سطرا.
(2) السبعة 242مع اختلاف يسير في العبارة.(3/195)
فيجرمنّكم: فعل متعد إلى مفعولين، كما أنّ يكسبنكم كذلك.
ويدلّ (1) على ذلك قول الشّاعر في صفة عقاب:
جريمة ناهض في رأس نيق
ترى لعظام ما جمعت صليبا (2)
وقوله: «جريمة ناهض» يحتمل تقديرين (3): أحدهما:
جريمة قوت ناهض أي: كاسب (4) قوته، وقد قالوا: ضارب قداح، وضريب قداح، وعارف وعريف. والآخر: أن لا يقدّر حذف المضاف، وتضيف جريمة إلى ناهض، والمعنى كاسب ناهض، كما تقول: بديع (5) كاسب مولاه، تريد: أنّه يسعى (6) له ويردّ عليه. فجرم يستعمل في الكسب وما يردّ سعي الإنسان عليه. وأما أجرم ففي اكتساب الإثم، قال [جلّ وعزّ] (7): {إنا من المجرمين منتقمون} [السجدة / 22].
__________
(1) في (ط) ويدلك.
(2) البيت لأبي خراش الهذلي، وقبله:
كأني إذ عدوا ضمنت بزي ... من العقبان خائنة طلوبا
وهو يذكر عقابا شبه فرسه بها، والمعنى: كأني إذ غدوا للحرب ضمنت بزي، أي سلاحي عقابا، خائنة أي: منقضة، وجريمة: بمعنى كاسبة، والناهض:
فرخها، والنيق: أرفع موضع في الجبل، والصليب: ودك العظام. انظر اللسان (صلب) وانظر ديوان الهذليين 3/ 1205.
(3) في (ط): أمرين.
(4) في (ط): كاسبة.
(5) في (م): بزيع.
(6) في (ط): أي يسعى.
(7) سقطت من (ط).(3/196)
وقال تعالى (1): {فعلي إجرامي}
[هود / 35] والتقدير: فعلي عقوبة إجرامي، أو إثم إجرامي، ومعنى: {لا يجرمنكم شنآن قوم}: لا تكتسبوا (2) لبغض قوم عدوانا ولا تقترفوه. ومن فتح أن وقع النهي في اللفظ على الشنآن، والمعنيّ بالنهي: المخاطبون، كما قالوا: لا أرينّك هاهنا، {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران / 102]. وكذلك قوله: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم} [هود / 89] ف {أن يصيبكم}
المفعول الثاني، وأسماء المخاطبين المفعول الأول، كما أنّ المفعول الأول في الآية الأخرى المخاطبون، والثاني قوله: {أن تعتدوا} ولفظ النهي واقع على الشقاق والمعنيّ بالنهي المخاطبون بها (3).
وقال (4) أبو زيد: شنئت الرجل أشنؤه شنأ، وشنآنا، وشنأ، ومشنأة: إذا أبغضته. ويذهب (5) سيبويه إلى أن ما كان من المصادر على فعلان لم يتعدّ فعله قال (6): إلّا أن يشذّ شيء نحو: شنأته شنآنا (7). ولا يجوز أن يكون شنأته (8) يراد به حرف الجر والحذف، كما قال سيبويه في فرقته، وحذرته إنّ أصله حذرت منه (9). وذلك
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): لا تكسبوا.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): قال.
(5) في (ط): وذهب.
(6) سقطت من (ط).
(7) الكتاب 2/ 218.
(8) سقطت من (م).
(9) انظر الكتاب 2/ 219.(3/197)
أن اسم الفاعل منه جاء على فاعل نحو شانئ و {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر / 3] وقال:
لشانئك الضّراعة والكلول (1)
فهذا يقوي أنه مثل: علم يعلم فهو عالم، وشرب يشرب فهو شارب، ونحو ذلك من المتعدي.
ومما يقوي ذلك: أن شنأته في المعنى مثل أبغضت (2)، فلما كان بمعناه عدّي كما عدّي أبغضت، كما أنّ الرفث لما كان بمعنى الإفضاء عدّي بالجار كما عدي الإفضاء به.
ومما يدل على تعدّيه ما حكاه أبو زيد في مصدره في (3)
الشّنء والشنء، فالشنء مثل: الشّتم، والشنء مثل الشغل.
وقال سيبويه: وقالوا (4): لويته (5) حقّه ليّانا، على فعلان (6).
فيجوز على هذا: أن يكون شنآن فيمن أسكن النون مصدرا كاللّيّان، فيكون المعنى: لا يجرمنكم بغض قوم، كما كان التقدير
__________
(1) عجز بيت لساعدة بن جؤية يصف ضبعا وصدره:
ألا قالت أمامة إذ رأتني قال شارحه أبو سعيد: كأنّها قد رأته قد ضرع وكلّ من المرض، فكرهت أن تقول له شيئا، فقالت: «لشانئك الضراعة والكلول» كما تقول: لعدوك البلاء.
والكلول: أن يكل بصره. (شرح أشعار الهذليين 3/ 1142. واللسان:
كلل).
(2) في (ط): أبغضته.
(3) في (ط): من.
(4) في (م): «قالوا».
(5) في (ط) ألويته.
(6) الكتاب 2/ 216.(3/198)
فيمن فتح كذلك، وقال أبو زيد: رجل شنان وامرأة شنآنة، مصروفان. قال (1): وقد يقال: رجل شنآن بغير صرف، ولأنك (2)
تقول: امرأة شنأى. أبو عبيدة: شنان قوم: بغضاء قوم، وهي متحركة الحروف: مصدر شنئت، وبعضهم يسكن النون الأولى، وأنشد للأحوص:
وما العيش إلّا ما تلذّ وتشتهي
وإن لام (3) فيه ذو الشّنان وفنّدا (4)
قال أبو عبيدة: وشنئت في موضع آخر معناه: أقررت وبؤت به، وأخرجته وأنشد للعجاج:
زلّ بنو العوّام عن آل الحكم وشنئوا الملك لملك ذي قدم (5)
وقال الفرزدق:
ولو كان هذا الأمر في جاهليّة
شنئت به أو غصّ بالماء شاربه (6)
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): لأنك.
(3) في (م): عاب.
(4) البيت في ديوان الأحوص ص 58، وطبقات فحول الشعراء 664والشعر والشعراء 519وتفسير الطبري 9/ 487والبحر المحيط 3/ 422والصحاح واللسان والتاج (شنأ) مع اختلاف في الرواية. والشنان: الشنان، سهل همزته، وسيشير إلى ذلك المصنف موضحا.
(5) ديوانه 1/ 173، واللسان والتاج (شنأ).
(6) ديوانه 1/ 49واللسان (شنأ) مع اختلاف في الرواية فيهما وفي مجاز القرآن.(3/199)
انتهى كلام أبي عبيدة (1). [قال أبو علي] (2) وفي قوله (3):
بعضهم يسكن النون الأولى يدلّ على أنّ الشنان بإسكان النون مصدر كما أن الشنان كذلك.
فأما الشنان على فعلان، فإن فعلان قد جاء مصدرا وجاء وصفا، وهما جميعا قليلان. فممّا جاء فيه فعلان مصدرا ما حكاه سيبويه (4) من قولهم: لويته حقه ليّانا، فيجوز على قياس هذا، وإن لم يكثر أن يكون شنان مثله، في أنّه مصدر على أنّ في قول أبي عبيدة دلالة على أن شنان المسكن العين مصدر. ويجوز أن يكون وصفا على فعلان، وفعلان أيضا في الوصف ليس بالكثير إذا لم يكن له فعلى، فمما جاء من فعلان صفة لا فعلى له ما حكاه سيبويه من قولهم: خمصان، وحكى غيره ندمان قال (5):
وندمان يزيد الكأس طيبا (6)
وأنشد أبو زيد ما ظاهره أن يكون فعلان فيه صفة، وهو:
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 148147مع اختصار يسير.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): قوله وبعضهم.
(4) سقطت من (ط).
(5) سبق قريبا.
(6) صدر بيت من قصيدة للبرج بن مسهر وعجزه:
سقيت إذا تغوّرت النجوم انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 3/ 1272، والمؤتلف والمختلف للآمدي / 80وانظر اللسان (ندم) وهو من أبيات المغني انظر شرحها للبغدادي 2/ 234.(3/200)
لما استمرّ بها شيحان مبتجح
بالبين عنك بها يرآك شنانا (1)
ويقرب أن يكون مثل شنان في أنّه فعلان، وإن كان شنآن له مؤنث هو شنأى. فيما حكاه أبو زيد، وليس لشيحان.
فإن قلت: فلم لا يكون شاح يشيح مما (2) يجوز أن يكون منه فعلان له مؤنث على فعلى، كما أنّ عام يعيم، وعيمان كذلك.
فإنّه لا يكون مثله، ألا ترى أن يقول: إنّ قولهم (3) في مصدره:
عيمة، ولحاق علامة التأنيث به صار بدلا من تحريك العين، فجاء فيه فعلان وفعلى، كما جاء فيما كان مصدره على فعل، نحو:
العطش، فمن ثمّ جاء: غرت تغار غيره وغيران وغيرى، وحرت تحار حيرة وحيران وحيرى، وليس شيحان كذلك، ألا ترى أنّه قد جاء:
وشايحت قبل اليوم إنك شيح (4)
__________
(1) البيت بغير نسبة في النوادر ص 494 (ط. الفاتح) والمحتسب 1/ 129مع آخرين قبله وفي سر صناعة الإعراب 1/ 87واللسان (بجح، شيح، رأى) مع اختلاف في الرواية. المبتجح: المفتخر، وشيحان: اختلف في ضبط فائه بالفتح والكسر، وهو الغيور.
(2) في (ط): ومما.
(3) في (ط): في قولهم.
(4) عجز بيت لأبي ذؤيب في ديوان الهذليين ق 1/ 116من قصيدة يرثي بها نشيبة، صدره:
بدرت إلى أولاهم فسبقتهم والعجز في الكامل 1/ 81واللسان (شيح).(3/201)
وفاعل في أكثر الأمر يجيء فيما كان على فعل نحو: ضارب وضرب،
وجاء في الحديث: «أعرض وأشاح»
(1). فأما ترك صرف شيحان في البيت مع أنه لا فعلى له، فإنّه يجوز أن يكون اسما علما، ويجوز أن يكون على قول من يجيز (2) ترك صرف ما ينصرف في الشعر.
فأمّا الشنان فإن فعلانا يجيء على ضربين: أحدهما: اسم، والآخر: وصف. والاسم (3) على ضربين أحدهما أن يكون مصدرا، كالنّقزان، والنّغران، والغليان، والنّفيان، والطّوفان، والنّعبان (4)
والغثيان، وعامّة ذلك يكون معناه: التحرّك، والتقلّب، فالشنان على ما جاءت (5) عليه هذه المصادر. والاسم الذي ليس بمصدر نحو: الورشان والعلجان. وأما (6) مجيء فعلان وصفا فنحو: الزّفيان والقطوان، والصميان (7)، ومن ذلك ما حكاه أبو زيد [من
__________
(1) قطعة من
حديث رواه مسلم في كتاب الزكاة عن عدي بن حاتم 68 (1016) قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم النار فأعرض وأشاح ثمّ قال: «اتقوا النار» ثمّ أعرض وأشاح، حتى ظننا أنّه كأنّما ينظر إليها، ثمّ قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
(2) في (ط): يجوز.
(3) في (ط): فالاسم.
(4) سقطت من (م). والنعبان: صوت الغراب.
(5) في (ط): ما جاء.
(6) في (ط): فأما.
(7) النقز والنقزان: كالوثبان صعدا في مكان واحد، وقد غلب على الطائر المعتاد الوثب كالغراب والعصفور. اللسان / نقز /.
نغز ينغز نغزانا: غلى وغضب وقيل: هو الذي يغلي جوفه من الغيظ اللسان / نغر /.(3/202)
قولهم] (1): إن عدوك لرضمان، أي: ثقيل إذا ثقل عدوه مثل عدو الشيخ الكبير.
وقال أبو زيد أيضا: يقال: كبش آل، مثل: عال، وأليان، وكباش ألي، مثل: عمي، ونعجة أليانة. وأليانتان، وأليانات، وكبش أليان، وكباش أليانات، مثل: أتان قطوانة، وحمار قطوان: إذا لم يكن سهل السير، وقطوانتان وقطوانات قال: وهو من قولك قطا يقطو قطوا وقطوّا، إذا قارب بين خطوه، فإن قلت: كيف لا يكون نحو (2)
رضمان وصميان، مصادر وليست بصفات، وإن كان قد جرى (3) على الموصوف كما أنّ عدلا ورضى كذلك؟ فالذي يدل على أنّ هذه الأسماء (4) صفات وليست بمصادر مجيئها في نحو (5): كبش أليان، فلا يخلو هذا من أن يكون وصفا أو مصدرا، فلا يجوز أن يكون مصدرا لأنّ مصادر نحو: نعجة ألياء، لا يخلو من أن يكون من (6) نحو:
الحمرة والصفرة، أو الصلع (7) والفطس، ولم يجيء منه شيء على فعلان فيما علمنا. ويقوي ذلك ما حكاه أبو زيد في أليان من التأنيث والتثنية والجمع، وهذا إنّما يكون في الصفات، ولا يكاد
__________
النفيان: نفيان السيل ما فاض من مجتمعه. اللسان / نفي /.
الغثيان: خبث النفس وهو تحلب الفم فربما كان منه القيء. اللسان / غثا / الزفيان: شدّة هبوب الريح. اللسان / زفا /.
الصميان: الشجاع الصادق الحملة. والجريء على المعاصي. والتلفت.
والوثب، اللسان / صما /.
(1) زيادة في (ط).
(2) في (ط): مثل.
(3) في (ط): كانت. قد جرت.
(4) في (ط): أسماء.
(5) في (ط): مثل.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): والصلع.(3/203)
يجيء ذلك في المصادر. وما حكي من تأنيث زور وعدل ليس بالشائع، فأما ما أنشده أبو عبيدة من قول الأحوص:
وإن عاب فيه ذو الشّنان وفنّدا (1)
فيحتمل أمرين: أحدهما أن يكون على التخفيف القياسي كقولك في تخفيف: ملآن وظمئان: ظمان وملآن، تحذفها وتلقي حركتها على ما قبلها، والآخر أن يكون على حذف الهمزة التي هي لام، كما حذفت من السّواية التي أصلها سوائية، مثل الكراهية، وكما يذهب إليه أبو الحسن في أشياء: أنّه جمع شيء، على أفعلاء، كما قيل: سمح وسمحاء، فحذفت الهمزة التي هي لام فأما الأظهر في قوله: ذو الشنان، فأن يكون مصدرا كاللّيان، ألا ترى أنه قد أضيف إليه ذو، فلا يكون من أجل ذلك وصفا. فإن قلت: قد (2) جاء (ذو) في مواضع غير معتدّ بها كقول الشماخ:
وأدمج دمج ذي شطن بديع (3)
فإنّ حمله على الوجه الأوّل أقرب عندنا. وأمّا ما حكاه أبو زيد من قولهم: كبش آل، على مثال (4): فاعل، فشاذ، وكان القياس أن يكون أليى (5) على أفعل، مثل: أعمى. فأما ما حكاه من
__________
(1) سبق انظر الصفحة 193من هذا الجزء.
(2) في (ط): فقد.
(3) عجز بيت صدره في ديوانه 233: «أطار عقيقة عنه نسالا»، العقيقة والعقيق والعقة: الشعر الذي يكون على المولود حين يولد من الناس والبهائم، والنسال: اسم ما سقط من الشعر والصوف والريش. أدمج: أي أحكمت أعضاؤه. الشطن: الحبل الشديد. بديع: جديد. وانظر اللسان (بدع).
(4) في (ط): مثل.
(5) سقطت من (م).(3/204)
قولهم: كباش ألي فيجوز (1) أن يكون الجمع وقع على القياس الذي كان يجب في الكلمة كأحمر (2) وحمر، ويجوز أن يكون كبزل وعيط (3). ومن قال: شنآن وشنأى [وقد حكاهما أبو زيد] (4) مثل عطشان وعطشى، وحرّان وحرّى، فشنئت على هذا (5) غير متعدّ، كما أن عطش كذلك، لأنّ هذا المصدر في أكثر الأمر ينبغي أن يكون الشنء أو الشنء مثل الشّنع (6)، وقد حكاه (7) أبو زيد. ومصدر هذا (8) الذي لا يتعدّى ينبغي أن يكون الشنان، مثل الغليان والطّوفان [لأن هذا هو المصدر في أكثر الأمر] (9)، ويجوز أن يكون الشنان بتسكين العين مثل اللّيّان، ومن زعم أنّ فعلان إذا أسكنت (10) عينه لم يك مصدرا، فقد أخطأ، لأنّ أبا زيد قد حكى في عيمان أيمان أنّ بني تميم تنصب اللام فتقول: لويته حقه ليّانا بنصب اللام. ومن قال:
__________
(1) في (م): «فيكون» بدل: «فيجوز».
(2) في (ط): مثل أحمر.
(3) جمع بازل وهو البعير إذا فطر نابه، وعيط: جمع أعيط وهو البعير الطويل العنق، والناقة عيطاء (اللسان عيط).
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط).
(5) في (ط): هذا القول.
(6) في (ط): الشّنع. والشّنع: من شنع بالأمر: رآه شنيعا.
(7) في (ط): حكاهما.
(8) في (ط): «ومصدرهما» بدل «ومصدر هذا».
(9) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط) وقد وضع الناسخ إشارة عنده لاستدراك النقص غير أنّه سها عنه فيما يبدو.
(10) في (ط): سكنت.(3/205)
شنئت العقر عقر بني شليل (1) * و: لشانئك الضّراعة والكلول (2)
و {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر / 3] كان شنئت على قوله متعديا، وليس كالوجه الأوّل، ولكن تجعله في التقدير مثل شربت ولقمت، ومثل هذا أنّه جاء الفعل منه على ضربين من التعدّي.
وغير التعدي قولهم: جزل السّنام يجزل، وقالوا: جزلته. قال:
منع الأخيطل أن يسامي قومنا
شرف أجبّ وغارب مجزول (3)
فهذا يدلّ على جزلته. ومن ذلك: القصم والقصم، فالقصم مصدر قصم (4). وفي التنزيل: {وكم قصمنا من قرية}
[الأنبياء / 11] وقال الأعشى (5):
ومبسمها عن شتيت النبا
ت غير أكسّ ولا منقصم (6)
__________
(1) هذا صدر بيت عجزه:
إذا هبت لقاربها الرياح العقر: موضع، وقاريها: متتبعها، انظر المحتسب 2/ 282واللسان (عقر) وفيه: «كرهت العقر» بدل «شنئت».
(2) سبق انظر الصفحة / 192من هذا الجزء.
(3) البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الأخطل انظر ديوانه 1/ 95، واللسان (جزل) والجزل: أن يصيب الغارب وهو ما بين السنام والعنق دبرة فيخرج منه عظم، ويشد فيطمئن موضعه، يقال: جزل غارب البعير، فهو مجزول، مثل جزل. ورواية الديوان: قرمنا: بدل قومنا.
(4) في (ط): قصمت.
(5) في (ط): الشاعر.
(6) البيت في ديوانه / 35وفيه منقضم بالضاد.(3/206)
وقال آخر:
عجبت هنيدة أن رأت ذا رثّة
وفما به قصم وجلدا أسودا (1)
فهذا مصدر قصم الذي لا يتعدّى، ومن ذلك قولهم: عجي وهو عج.
وأنشدنا (2) علي بن سليمان:
عداني أن أزورك أنّ بهمي
عجايا كلّها إلّا قليلا (3)
فعجايا كأنه جمع عجيّ مثل: طبّ وطبيب، ومذل (4)
ومذيل وقال:
فما تع ... جوه إلّا عفافة أو فواق (5)
__________
(1) البيت في أساس البلاغة (قضم) بغير نسبة وروايته:
قالت بثينة إذ رأت ذا رتّة ... وفما به قضم وجلد أسود
والرتة: عجلة في الكلام وقلة أناة، وقيل: هو أن يقلب اللام ياء، والقضم:
من قضمت أسنانه إذا تكسرت أطرافها. وقريب منه القصم بالصاد، في اللسان: رجل أقصم الثنية إذا كان منكسرها من النصف بين القصم.
(2) في (ط): وأنشد.
(3) البيت في تهذيب الأزهري (عدا) واللسان (بهم عجا عدا) بغير نسبة.
وعداني: شغلني، والبهم: صغار المعز. والعجيّ: الفصيل تموت أمه فيرضعه صاحبه بلبن غيرها ويقوم عليه وجمعه عجايا، بضم العين وفتحها.
(4) المذل: الضجر والقلق مذل مذلا فهو مذل والأنثى مذلة اللسان / مذل /.
(5) البيت للأعشى من قصيدة قالها بنجران يتشوق إلى قومه مفتخرا بهم وتمامه في ديوانه ص 211:
ما تعادى عنه النهار ولا تع ... جوه إلّا عفافة أو فواق.(3/207)
ومن ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: غضف الكلب أذنه أشدّ الغضفان (1)، وقال الشاعر:
غضفا طواها أمس كلّابيّ (2)
فهذا يدل على غضف يغضف. ومن ذلك قولهم: طوي يطوى فهو طيّان. وقالوا: طويته أطويه طيّا. وقال (3):
فقام إلى حرف طواها بطيّه
بها كلّ لمّاع بعيد المساوف (4)
وقال:
طواها أمس كلّابيّ
__________
وهو في اللسان [عدا عفف] مع اختلاف في الرواية ينبني عليها اختلاف في تفسير البيت. تعادى: تباعد. والعفافة: بقية اللبن في الضرع بعد أن يحلب أكثر ما فيه. والفواق: اجتماع الدرّة. يصف ظبية وغزالها فيقول: لا تبعد عنه طول النهار، ولا تؤخر رضاعته إلّا ريثما يجتمع في ضرعها بعض اللبن.
(1) النوادر 544 (ط: الفاتح).
(2) هذا الشطر من أرجوزة طويلة للعجاج، وهو في وصف ثور وحشي رأى كلاب صيد ضمرها صاحبها. غضفا: أي كلابا مسترخية الآذان وهو وصف غالب لكلاب الصيد وانظر ديوانه 1/ 518والخصائص 3/ 104، 205.
(3) سقطت من (ط) وقال.
(4) البيت الذي الرّمة انظر ديوانه بشرح الأصمعي 3/ 1636قال في شرحه:
فقام هذا الرجل إلى «حرف»: ناقة ضامر، طواها، أي: أضمرها بطيه كل لماع «بها» أي بالناقة. والمساوف: الواحدة مسافة ما بين الأرضين. ولماع:
بلد يلمع بالسراب. وانظر أساس البلاغة / سوف /.(3/208)
وقال: (1)
بات الحويرث والكلاب تشمّه
وغدا بأحدب كالهلال من الطّوى
ومن قال: شنان وشنأى، فشنئت على هذا ينبغي أن لا يتعدى، فأما من قال: شنان وامرأة شنانة، فالفعل المتعدي إنّما هو من هذا دون الأول، وكلاهما قد حكاه أبو زيد. ونظير هذا في أنّه اشتق منه فعل متعد وآخر غير متعد: ما حكاه أبو إسحاق من أنّهم يقولون (2): جزل السنام يجزل جزلا: إذا فسد وجزلته أجزله: إذا قطعته، فاشتق منه المتعدي وغير المتعدي، وأنشد أبو زيد فيما جاء فيه فعلان وصفا:
وقبلك ما هاب الرّجال ظلامتي
وفقّأت عين الأشوس الأبيان (3)
وأنشد غيره: (4)
هل أغدون يوما وأمري مجمع وتحت رحلي زفيان ميلع (5)
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) في (ط): ما حكاه أبو إسحاق تقول:
(3) البيت لأبي المجشّر الضبي جاهليّ وهو من مقطعة، انظر النوادر (426.
ط الفاتح) والأشوس: الرافع رأسه تكبرا. اللسان (شوس).
(4) في (ط): وقال الآخر.
(5) هذا رجز لم يعرف قائله، وقبله:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع الزّفيان: السريعة، الميلع: الجواد الخفيفة. انظر النوادر / 133، والخصائص 2/ 136وشرح أبيات المغني 6/ 196والدرر 1/ 204.(3/209)
فحجّة من قرأ (شنآن) أنّه مصدر، والمصدر يكثر على فعلان نحو: النزوان والغثيان والنّفيان (1) والشنآن يقارب الغليان (2)، فجاء على وزنه لمقاربته (3) له في المعنى (4). ومن حجّة ابن عامر في إسكان النون أنه مصدر وقد جاء المصدر على فعلان في غير هذا [وذلك قولك] (5): لويته دينه ليّانا وقال (6):
وما العيش إلّا ما تلذّ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا (7)
فهذا مخفف [من الهمزة] (8) على قياس الجمهور، والأكثر (9) الشنان، ألا ترى أنّه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن الذي (10) قبلها والمعنى فيه البغضاء. فإذا كان كذلك فالمعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان والمعنى. ومن زعم أنّ إسكان النون لحن لم يكن قوله مستقيما، لأنّه يجوز أن يكون مصدرا كاللّيان، وأن يكون وصفا كالنفيان، حكى ذلك أبو زيد. [ولا ينبغي أن يحمل البيت على حذف الهمزة على غير قياس كقوله:
__________
(1) سقطت من (م): الغثيان والنفيان.
(2) في (ط): يقارب في المعنى كالغليان.
(3) في (ط): لموافقته.
(4) في (ط): وهي.
(5) في (ط): نحو.
(6) في (ط): وقال الشاعر.
(7) قريبا ص 189، وقد أسقطت (م) صدره:
(8) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(9) زادت (م) «من» بعد الأكثر.
(10) زيادة في (ط).(3/210)
يابا المغيرة ربّ أمر معضل ... فرّجته بالنّكر مني والدّها (1)
وقال آخر:
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا (2)
لأنّك تجد له مذهبا في الشائع المستقيم] (3) والمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم. أي: بغضكم قوما لصدّهم إياكم، ومن أجل صدّهم إياكم أن تعتدوا، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف الفاعل، كقوله تعالى (4): {من دعاء الخير} [فصلت / 49] و {بسؤال نعجتك} [ص / 24] ونحو ذلك مما أضيف المصدر فيه إلى المفعول به، وحذف الفاعل في المعنى من اللفظ، وفي التفسير فيما زعموا: لا يحملنكم بغض قوم، فعلى هذا يحمل الشنان (5) فيمن حرّك أو أسكن. أما من أسكن فلأن هذا البناء قد (6) جاء في الصفات (7)، نحو غضبان وسكران، وحكى أبو زيد:
__________
(1) البيت في أمالي ابن الشجري 2/ 16ونسبه لأبي الأسود الدؤلي. وفي الخزانة 4/ 335 (عرضا). والبحر المحيط 5/ 52.
(2) رجز أورد معه الفارسي في الجزء الأخير من هذا الكتاب بيتا آخر هو:
وفتحات في اليدين أربعا.
ولم ينسبه. ونقله ابن جني عنه في الخصائص 3/ 151. وانظر المحتسب 1/ 120والبحر المحيط 5/ 52.
(3) ما بين معقوفين ساقط من (م).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): الشنان والشنآن.
(6) في (م): وإن، وليست بشيء.
(7) في (ط): في الصفة.(3/211)
رجل (1) شنان وامرأة شنأى فإن حملته على هذا دون المصدر فقد أقمت الصفة مقام الموصوف وإنّما المعنى على المصدر، لأنّ المعنى: لا يحملنكم بغض قوم على أن تعتدوا فإن حملته على الصفة كان التقدير لا يحملنّكم بغيض قوم، والمعنى على الأوّل.
وأمّا من حرّك فقال: الشّنان فإنّ هذا البناء في المصادر التي معناها التقلّب والتزعزع كثير، والصفة دونه في الكثرة، فإذا كثر في الاستعمال واستقام في المعنى، وعضده التفسير، لم يكن عنه مذهب إلى ما لم تجتمع فيه هذه الخلال.
المائدة: 2
واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من قوله تعالى: {أن صدوكم} [المائدة / 2].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: إن صدوكم بالكسر.
وقرأ الباقون (2): {أن صدوكم} (3) بالفتح.
قال أبو علي: حجّة ابن كثير وأبي عمرو في كسرهما الهمزة أنّهما جعلا (إن) للجزاء، فإن قلت: كيف صح الجزاء هنا والصدّ ماض، لأنّه إنّما هو ما (4) كان من المشركين من صدّهم المسلمين عن البيت في الحديبيّة، والجزاء إنّما يكون بما لم يأت، فأما ما
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) فصلهم في السبعة 242بقوله: وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.
(3) سقطت من (ط) الآية.
(4) سقطت من (ط): هو ما.(3/212)
كان ماضيا فلا يكون فيه الجزاء. فالقول فيه: أن الماضي قد يقع في الجزاء وليس على أنّ المراد بالماضي الجزاء، ولكنّ المراد أن (1) ما كان مثل هذا الفعل فيكون اللفظ على ما مضى، والمعنى على مثله، كأنّه (2) يقول: إن وقع مثل هذا الفعل يقع منكم كذا (3)، وعلى هذا حمل الخليل وسيبويه قول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا
جهارا، ولم تغضب لقتل ابن حازم (4)
وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
ولم تجدي من أن تقرّي به بدّا (5)
فانتفاء الولادة أمر ماض، وقد جعله جزاء، والجزاء إنّما يكون بالمستقبل، فكأنّ المعنى: إن تنسب لا تجدني مولود لئيمة (6)، وجواب {إن} قد أغنى عنه ما تقدّم من قوله: {ولا يجرمنكم}، المعنى: إن صدّكم قوم عن المسجد الحرام فلا تكسبوا عدوانا.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): كذا وكذا.
(4) ديوانه 2/ 855وفيه: «ليوم» بدل: «لقتل» وانظر شرح أبيات المغني 1/ 117.
(5) البيت لزائدة بن صعصعة يعرض فيه بزوجته وكانت أمها سريّة انظر شرح أبيات المغني 1/ 125.
(6) في (م): لئيم.(3/213)
وأمّا قول من فتح فبيّن لا مئونة فيه، وهو أنّه مفعول له التقدير: ولا يجرمنكم شنان قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. فأن الثانية في موضع نصب لأنّه (1) المفعول الثاني والأول منصوب لأنه مفعول له.
المائدة: 9
واختلفوا في نصب اللام وخفضها من قوله تعالى (2):
{وأرجلكم} [المائدة / 9].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة: وأرجلكم * خفضا.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي (3): {وأرجلكم} نصبا.
وروى أبو بكر عن عاصم: وأرجلكم * خفضا، وحفض عن عاصم {وأرجلكم} نصبا (4).
[قال أبو علي] (5): الحجة لمن جرّ فقال: وأرجلكم أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارة. ووجه العاملين إذا اجتمعا في التنزيل أن تحمل على الأقرب منهما دون الأبعد، وذلك نحو قوله: {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} [الجن / 7] ونحو قوله: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء / 176] ونحو قوله: {هاؤم اقرؤوا كتابيه} [المعارج / 19] وقوله: {قال: آتوني أفرغ عليه قطرا} [الكهف / 96] فلما رأى العاملين إذا اجتمعا (6) حمل الكلام على أقربهما إلى المعمول، حمل (7) في هذه الآية أيضا
__________
(1) في (م): بأنه.
(2) سقطت من (ط).
(3) زادت (ط): حفصا بعد الكسائي.
(4) السبعة 243242.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط) اجتمعتا.
(7) سقطت من (م).(3/214)
على أقربهما، وهو الباء دون قوله: {فاغسلوا} وكان ذلك (1)
الموضع واجبا، لما قام من الدلالة على أنّ المراد بالمسح الغسل.
وقيام الدلالة من وجهين:
أما أحدهما فإن من لا نتهمه روى لنا عن أبي زيد أنه قال:
المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسّحت للصلاة، فحمل المسح على أنه غسل. ويقوي ذلك أن أبا عبيدة ذهب في قوله تعالى:
{فطفق مسحا بالسوق والأعناق} [ص / 33] إلى أنّه الضرب.
وحكى التّوّزي عنه أنّه قال: قالوا مسح علاوته بالسيف (2) إذا ضربه (3)، فكأنّ المسح في الآية غسل خفيف، كما أنّ الضرب كذلك، ليس في واحد منهما متابعة ولا موالاة. فإن قلت: فإنّ المستحبّ أن يغسل ثلاثا قيل: ذلك السنّة والاستحباب، وإنّما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون، فهذا وجه.
والوجه الآخر: أنّ التحديد والتوقيت إنّما جاء في المغسول ولم يجيء في الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح، علم أنّه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد. فإن قلت: فقد (4)
يجوز أن يكون على المسح، ألا ترى أنّك تقول: مررت بزيد وعمرا فتحمله على موضع الجار والمجرور، فحمله على المسح
__________
(1) في (ط): في هذا الموضع.
(2) سقطت من (ط) ومن مجاز القرآن.
(3) انظر مجاز القرآن 2/ 183.
(4) في (ط): فإنه.(3/215)
قد ثبت وجاز، جررت اللام أو نصبته؟ قيل: ليس الحمل على الموضع في هذا النحو في الكسرة كالحمل على اللفظ.
ووجه من نصب فقال: {وأرجلكم} أنه حمل ذلك على الغسل دون المسح، لأنّ العمل (1) من فقهاء الأمصار فيما علمت على الغسل دون المسح.
وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم (2) رأى قوما وقد توضّئوا وأعقابهم تلوح، فقال [عليه السلام]: (3) «ويل للعراقيب من النار» (4)
وهذا أجدر أن يكون في المسح منه في الغسل، لأن إفاضة الماء لا يكاد يكون غير عام للعضو.
المائدة: 13
اختلفوا في إثبات الألف وإسقاطها من قوله تعالى (5):
{قاسية} [المائدة / 13].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر {قاسية}
بألف.
وقرأ حمزة والكسائي قسية بغير ألف.
[قال أبو علي] (6): حجة من قرأ: قاسية على فاعلة قوله تعالى (7): {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك} [البقرة / 74] وقوله
__________
(1) في (ط): الجمهور.
(2) سقطت «وسلم» من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) رواه مسلم في الطهارة برقم 240وأحمد 2/ 201و 407. وابن ماجة 1/ 155برقم (454).
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).
(7) سقطت من (ط).(3/216)
تعالى (1): {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} [الحديد / 16] وقال: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} [الزمر / 22].
ومن قرأ: قسية على فعيلة: أنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل: شاهد وشهيد، وعالم وعليم، وعارف وعريف. والقسوة كأنّه (2) خلاف اللين والرقّة. وقد وصف الله عزّ وجل (3) قلوب المؤمنين باللين فقال (4): {ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}
[الزمر / 23] فالقسوة كأنّها خلاف ذلك، وقال تعالى (5): {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد / 16] أي: كثير ممن قست (6) قلوبهم فاسقون. فهذا يوجب أن ممن قسا قلبه من ليس بفاسق.
فأما قول الشاعر:
ما زوّدوني غير سحق عمامة * وخمس مئي منها قسي وزائف (7)
فإنّ القسيّ أحسبه معرّبا، وإذا كان معرّبا لم يكن من القسيّ العربي، ألا ترى أنّ قابوس وإبليس وجالوت وطالوت، ونحو ذلك من الأسماء الأعجمية التي من ألفاظها عربي لا تكون مشتقة من
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): كأنها.
(3) في (ط): تعالى.
(4) في (م): قال تعالى.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): قد قست.
(7) البيت في اللسان (زيف، قسا) وفيه «وما» بدل: «ما» بدون خرم ونسبه إلى مزرّد، له ترجمة موجزة في معجم الشعراء للمرزباني / 483. وقسي: رديئة.(3/217)
باب القبس والإبلاس، يدل على ذلك منعهم الصرف، فأما قوله:
فإن يقدر عليك أبو قبيس (1)
فليس صرفه للضرورة، ولكن رخّمه ترخيم التحقير، فردّه إلى الأصل، فصار مثل نوح ولوط، وهذا النحو مصروف في كل قول، فكذلك أبو قبيس. وأنشد أبو عبيدة:
وقد قسوت وقسا لداتي (2)
فكأنّ معنى هذا: فارقني لين الشباب ولدونته.
المائدة: 44
واختلفوا في قوله تعالى: {واخشون ولا تشتروا}
[المائدة / 44].
فقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة وابن عامر والكسائي، بغير ياء في وصل ولا وقف.
وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل.
واختلف عن نافع فروى ابن جمّاز وإسماعيل بن جعفر بالياء في الوصل وروى المسيبي وقالون وورش بغير ياء في وصل ولا وقف (3).
__________
(1) هذا صدر بيت للنابغة الذبياني، عجزه برواية ابن السكيت 149.
تحطّ بك المنيّة في رهان وأبو قبيس هو النعمان بن المنذر، وهو مصغر من قابوس. ولهذا الشطر روايات أخرى انظرها في ديوانه، وانظر اللسان (قبس) وفيه: يحط بك المعيشة.
(2) مجاز القرآن 1/ 158وروايته: «لدّتي» بدل «لداتي». قال فيه: ولدّتي ولداتي واحد. ولم ينسبه.
(3) السبعة 244.(3/218)
قال أبو علي: القول في ذلك: أن الإثبات حسن والحذف حسن، وذلك أن الفواصل في أنّها أواخر الآي مثل القوافي في أنّها أواخر البيوت، فكما أنّ من القوافي ما لا يكون إلّا محذوفا منه، ومخالفا لغيره، كذلك الفواصل. وكما أنّ من القوافي ما يكون فيه الحذف والإتمام جميعا، كذلك تكون الفواصل. فمما لا يكون من القوافي إلّا ما قد حذف منه هذه الياء وحذف منها غير هذه الياء قول الأعشى:
فهل ينفعنّي ارتيادي البلا
د من حذر الموت أن يأتين
ومن شانئ كاسف وجهه
إذا ما انتسبت له أنكرن (1)
فهذا لا يكون إلّا محذوفا منه، ألا ترى أنّ هذا الضرب لا يخلو من أن يكون: فعولن، أو فعول، أو فعل، ولا يجوز تحريك الياء في شيء من ذلك، فعلى هذا يكون من (2) الفواصل ما يكون ملزما الحذف، وأما ما يجوز فيه الحذف والإتمام فقوله:
وهم وردوا الجفار على تميم
وهم أصحاب يوم عكاظ إنّ (3)
__________
(1) البيتان من قصيدة طويلة في مدح قيس بن معديكرب في ديوانه / 2515 ورواية الأول: «فهل يمنعني» بدل «ينفعني» وانظر الكتاب 2/ 151و 290، والمحتسب 1/ 349، وابن يعيش 9/ 40، 86والعيني 4/ 324، وابن الشجري 2/ 73 (الثاني من البيتين).
(2) في (ط): في.
(3) البيت للنابغة الذبياني برواية ابن السكيت / 199وفيه: «إنّي» بدل «إنّ».
عكاظ: سوق بين مكّة والطائف، والجفار: ماء معروف لبني أسد وكانت عليه(3/219)
فهذا فعولن قد حذفه، ويجوز أن يتمم فيقول: إني. وقد أجرى قوم القوافي مجرى غيرها (1) من الكلام فقالوا:
أقلّي اللّوم عادل والعتاب (2).
واسأل بمصقلة البكريّ ما فعل (3).
فعلى هذا القياس يجوز أن تجرى الفواصل مثل غير الفواصل ولا تغيّر بحذف ولا غيره كما فعل ذلك بالقوافي.
وإنّما فعلوا ذلك بالقوافي لأن اقتضاء الوزن للمحذوف وتمامه به يجعلانه في حكم المثبت في اللفظ، فصار هذا يسوّغ الحذف فيه إذ قد حذف مما لا يقتضيه الوزن، فصار المحذوف منه في حكم المثبت، مع أنّ الوزن لا يقتضيه، وذلك نحو قوله:
ارهن بنيك عنهم أرهن بني (4)
فياء المتكلم التي (5) تزاد في بني في حكم المثبت، يدلّ على ذلك حذف النون من (6) الجميع، كما تحذف مع إثبات الياء
__________
وقعة وانظر الكتاب 2/ 290، والنوادر / 535 (ط. الفاتح) قال: وزعم الأصمعي أنّه منحول، وابن الشجري 2/ 165.
(1) في (م): غيره.
(2) هذا صدر بيت لجرير سبق في 1/ 73، و 2/ 361، 3/ 18.
(3) هذا عجز بيت للأخطل سبق انظر 2/ 211، 212، و 362.
(4) شطر من الرجز في اللسان (رهن) وقال فيه: وزعم ابن جني أنّ هذا الشعر جاهلي.
(5) في (م) الذي.
(6) في (ط): في.(3/220)
في بنيّ، وإن كان الوزن لا يقتضيه، ألا ترى: أنّ: أرهن بني:
مستفعلن، وإنّما خصّ القوافي والفواصل بالحذف في أكثر الأمر، لأنّها مما يوقف عليها، والوقف موضع تغيير فجعل التغيير فيه الحذف، كما جعل التغيير فيه الإبدال وتخفيف التضعيف، ونحو ذلك مما يلحق الوقف من التغيير. وقال بعض من يضبط القراءة:
لم يذكر أحمد بن موسى كيف يقف أبو عمرو قال: وهو يقف.
{واخشون} بغير ياء ويصل بياء.
اختلفوا في ضمّ الحاء وإسكانها من قوله تعالى (1):
{السحت} [المائدة / 62/ 63].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: السحت * مضمومة الحاء مثقّلة.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: السحت ساكنة الحاء خفيفة.
وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع:
أكالون للسحت [المائدة / 42] بفتح السين [وجزم الحاء] (2).
قال (3) أبو عبيدة (4): السّحت: أكل ما لا يحلّ. يقال:
سحته وأسحته: إذا استأصله، وفي التنزيل: {فيسحتكم بعذاب}
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط). السبعة 243.
(3) سقطت من (ط).
(4) انظر مجاز القرآن 1/ 166عند تفسير سورة المائدة / 42و 2/ 20عند تفسير سورة طه / 61.(3/221)
[طه / 61] أي: نستأصلكم (1) به، ومن أسحت قول الفرزدق:
إلّا مسحتا أو مجلّف (2)
والسّحت والسّحت لغتان، ويستمر التخفيف والتثقيل في هذا النحو، وهما اسم الشيء المسحوت، وليسا بالمصدر. فأما من قرأ أكالون للسحت [المائدة / 42] فالسّحت مصدر سحت، وأوقع اسم المصدر على المسحوت كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير. والصيد على المصيد في قوله: {لا تقتلوا الصيد} [المائدة / 95] والسّحت أعم من الربا، وهؤلاء قد وصفوا بأكل الربا. في قوله: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} (3) [النساء / 161] إلّا أنّ السّحت أعمّ من الربا نحو ما أخذوا فيه من كتمانهم (4) ما أنزل عليه (5) وتحريفهم إياه ونحو ذلك لأنّه يشمل الربا وغيره.
المائدة: 45
واختلفوا (6) في الرفع والنصب من قوله تعالى (7):
__________
(1) في (ط): يستأصلكم.
(2) هذه قطعة من بيت وتمامه:
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف
انظر ديوانه / 556، والخزانة 2/ 347والجمهرة 2/ 107واللسان والتاج (سحت) المسحت: المهلك، والمجلّف: الذي بقيت منه بقية، أو الرجل الذي جلفته السنون، أي: أذهبت أمواله. اللسان (جلف).
(3) وردت هذه الآية في الأصل: وأكلهم الربا وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(4) في (ط): ما أخذوه في كتمانهم.
(5) في (ط): عليهم.
(6) في (ط): اختلفوا.
(7) سقطت من (ط).(3/222)
{أن النفس بالنفس} إلى قوله: {والجروح قصاص} [المائدة / 45].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {أن النفس بالنفس والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن والسن بالسن}
[المائدة / 45] ينصبون ذلك كله، ويرفعون: والجروح قصاص [المائدة / 45].
كان نافع وعاصم وحمزة ينصبون ذلك كله. وروي عن (1)
الواقدي عن نافع: والجروح رفعا.
وقرأ الكسائي: {أن النفس بالنفس} نصبا، ورفع ما بعد ذلك كله (2).
[قال أبو علي]: (3) حجّة من نصب {العين بالعين} وما بعده: أنّه عطف ذلك على أنّ، فجعل الواو للاشراك في نصب أنّ، ولم يقطع الكلام مما قبله، كما فعل ذلك من رفع.
فأما من رفع بعد النصب فقال: أن النفس بالنفس والعين بالعين فحجته أنه يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون الواو عاطفة جملة على جملة وليست للاشتراك في العامل كما كان كذلك (4) في قول من نصب، ولكنها عطفت جملة على جملة، كما تعطف المفرد على المفرد.
__________
(1) زيادة في (م).
(2) السبعة 244.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): ذلك.(3/223)
والوجه الثاني أنّه حمل الكلام على المعنى، لأنّه إذا قال:
{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة / 45] فمعنى الحديث: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل العين بالعين على هذا كما أنه لما كان المعنى في قوله: {يطاف عليهم بكأس من معين} [الصافات / 45] يمنحون كأسا من معين، حمل حورا عينا على ذلك، كأنّه: يمنحون كأسا، ويمنحون حورا عينا، وكما أنّ معنى الحديث في قوله:
فلم يجدا إلّا مناخ مطيّة (1)
أنّ هناك مناخ مطية، حمل قوله:
وسمر ظماء
__________
(1) هذا صدر بيت لكعب بن زهير من قصيدة في ديوانه ص 52، استشهد سيبويه 1/ 88بثلاثة أبيات منها، وهو أولها وعجزه:
تجافى بها زور نبيل وكلكل وما بعده من قوله: «وسمر ظماء» قطعة من البيت الثالث منها:
والبيتان بعد الأول هما:
ومفحصها عند الحصى بجرانها ... ومثنى نواج لم يخنهنّ مفصل
وسمر ظماء واترتهنّ بعد ما ... مضت هجعة من آخر الليل ذبّل
قال الأعلم: وصف منزلا رحل عنه فطرقه ذئبان يعتسفانه، فلم يجدا به إلّا موضع إناخة مطيته، وموضع فحصها الحصى عند البروك بجرانها، وهو باطن عنقها، ومواضع قوائمها وهي المثنى لأنّها تقع بالأرض مثنية. والنواجي:
السريعة يعني قوائمها، ووصفها بتجافي الزور لنتوئه وضمرها، فإذا بركت تجافى بطنها عن الأرض والزور: ما بين ذراعيها من صدرها. والنبيل:
المشرف الواسع. والكلكل: الصدر. وأراد بالسمر الظماء: بعرها، ووصفها بهذا لعدمها المرعى الرطب وقلّة ورودها للماء لأنّها في فلاة، ومعنى واترتهنّ: تابعت بينهنّ عند انبعاثها، والهجعة: النومة في الليل خاصة، والذبل: من وصف السمر الظماء.(3/224)
على معنى الحديث، كأنّه قال: ثمّ مناخ (1) مطية وسمر ظماء وكذلك قوله:
ومشجّج أمّا سواء قذاله
فبدا وغيّر ساره المعزاء (2)
لما كان المعنى في:
بادت وغيّر آيهنّ مع البلى (3) * إلّا رواكد (4)
بها رواكد، حمل مشججا عليه، فكأنّه قال: هناك رواكد ومشجّج فعلى هذا يكون وجه الآية. ومثل هذا من (4) الحمل على المعنى كثير في التنزيل وغيره.
والوجه الثالث: أن يكون عطف قوله والعين (6) على. الذكر
__________
(1) في (ط): مناخ مطية.
(2) وهو مع ما بعده في الكتاب 1/ 88وهو متقدم عليه فيه واللسان (شجج) ومشجج: هو الوتد. وانظر أساس البلاغة (شجج).
(3) البيت بتمامه:
بادت وغيّر آيهنّ مع البلى ... إلّا رواكد جمرهنّ هباء
قال الأعلم: أراد بالرواكد الأثافي، وركودها ثبوتها وسكونها، ووصف الجمر بالهباء لقدمه وانسحاقه، والهباء: الغبار وما يبدو عن شعاع الشمس إذا دخلت من كوة. وأراد بالمشجج وتدا من أوتاد الخباء وتشجيجه: ضرب رأسه ليثبت، ومنه الشجة في الرأس. وسواء قذاله: وسطه، وأراد بالقذال أعلاه، وهو من الدابة: معقد العذار بين الأذنين. وقوله: وغير ساره، أراد: سائره، فحذف عين الفعل لاعتلاله، ونظيره: هار، بمعنى هائر، وشاك بمعنى شائك. والمعزاء: أرض صلبة ذات حصى، وكانوا يتحرون النزول في الصلابة ليكونوا بمعزل عن السبيل، ولتثبت أوتادها الأبنية، ومعنى بادت:
تغيّرت وبليت والآي: جمع آية وهي علامات الديار، والبلى: تقادم العهد.
(4) في (ط): في.
(6) في (ط): والعين بالعين.(3/225)
المرفوع في الظرف الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكّد في نحو {إنه يراكم هو وقبيله}
[الأعراف / 27] ألا ترى أنه قد جاء: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} [الأنعام / 148] فلم يؤكد بالمنفصل، كما أكّد في الآي الأخر. فإن قلت: فإن لا * في قوله: {ولا آباؤنا} عوضا من التأكيد، لأنّ الكلام قد طال بها (1)، كما طال في نحو: حضر القاضي اليوم امرأة قيل: هذا إنّما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف ليكون عوضا من الضمير المنفصل الذي كان يقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف لم يسدّ ذلك المسدّ. ألا ترى أنّك لو قلت: حضر امرأة اليوم (2) القاضي، لم يغن طول الكلام في غير هذا (3) الموضع الذي كان ينبغي أن يقع فيه التعويض.
فأمّا قوله تعالى (4): والجروح قصاص فمن رفعه بقطعه (5)
عما قبله فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قول من رفع: والعين بالعين.
ويجوز أن يستأنف: والجروح قصاص ليس على أنّه مما كتب عليهم في التوراة، ولكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة في ذلك، ويقوّي أنه من المكتوب عليهم في التوراة نصب من نصبه، فقال: {والجروح قصاص}.
__________
(1) في (ط): به.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (م).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): فقطعه.(3/226)
قال: وكلّهم ثقّل {الأذن} إلّا نافعا فإنّه خففها في كل القرآن (1).
القول في ذلك أنّهما لغتان، كما أنّ السّحت والسّحت لغتان، وقد تقدّم القول في ذلك. قال أبو زيد: يقال (2): رجل أذن ويقن، وهما واحد، وهو الذي لا يسمع بشيء إلّا أيقن به، وقد ذكرنا ذلك (3) في سورة التوبة أيضا (4).
المائدة: 47
واختلفوا في إسكان اللام والميم، وكسر اللام وفتح الميم [في قوله تعالى] (5): {وليحكم أهل الإنجيل} [المائدة / 47].
فقرأ حمزة وحده: وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللام وفتح الميم.
وقرأ الباقون بإسكان اللام وجزم الميم (6).
[قال أبو علي] (7): حجة حمزة في قراءته: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه [المائدة / 47] أنه جعل اللام متعلقة بقوله: {وآتيناه الإنجيل} [المائدة / 46] لأنّ إيتاءه (8) الإنجيل
__________
(1) السبعة 244.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وقد ذكرناه.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): من قوله.
(6) السبعة 244.
(7) سقطت من (م).
(8) في (ط): إتيانه.(3/227)
إنزال ذلك عليه، فصار (1) بمنزلة قوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء / 105] فكأنّ المعنى: آتيناه الإنجيل ليحكم، كما قال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم} فالحكمان جميعا حكمان لله (2) تعالى (3)، وإن كان أحدهما حكما بما أنزله الله، والآخر حكما بما أراه الله، فكلاهما حكم الله.
وأمّا حجة من قرأ: {وليحكم أهل الإنجيل} فهي نحو قوله:
{وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فكما أمر عليه السلام بالحكم بما أنزل الله كذلك أمروا هم بالحكم بما أنزل الله في الإنجيل.
المائدة: 50
قال: وكلّهم قرأ {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة / 50] بالياء إلّا ابن عامر فإنّه قرأ: تبغون بالتاء (4).
[قال أبو علي]: (5) من قرأ بالياء فلأنّ قبله غيبة لقوله:
{وإن كثيرا من الناس لفاسقون} [المائدة / 49].
والتاء على قوله (6): قل لهم: أفحكم الجاهلية تبغون والياء أكثر في القراءة، زعموا، وهي أوجه لمجرى (7) الكلام على ظاهره،
__________
(1) في (ط): فصار ذلك.
(2) كذا في (ط) وفي (م): حكما الله.
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة 244.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): لجري.(3/228)
واستقامته عليه من غير تقدير إضمار، ونحو هذا الإضمار لا ينكر لكثرته وإن كان الأوّل أظهر.
المائدة: 53
واختلفوا في إدخال الواو وإخراجها والرفع والنصب في قوله [جل وعز] (1): ويقول الذين آمنوا [المائدة / 53].
فقرأ أبو عمرو وحده: ويقول الذين آمنوا * نصبا. وروى علي بن نصر عن أبي عمرو أنّه قرأ بالنصب والرفع: ويقول الذين آمنوا * نصبا {ويقول الذين آمنوا} رفعا.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {ويقول الذين آمنوا} رفعا.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: يقول الذين آمنوا * بغير واو في أولها ورفع اللام، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة ومكة واللام من يقول مضمومة (2).
[قال أبو علي] (3): إن قلت: كيف قرأ أبو عمرو: ويقول الذين آمنوا * ولا يجوز عسى الله أن يقول الذين آمنوا. فالقول في ذلك أنّه يحتمل أمرين غير ما ذكرت، أحدهما: أن يحمله على المعنى لأنّه إذا قال: {فعسى الله أن يأتي بالفتح} [المائدة / 52] فكأنّه قد (4)
قال: عسى أن يأتي الله بالفتح، ويقول الذين آمنوا. كما أنّه إذا قال: {فأصدق وأكن} [المنافقون / 10] فكأنّه قد (4) قال: أصّدق
__________
(1) في (ط): تعالى.
(2) السبعة 245.
(3) سقطت من (م) ما بين المعقوفين، وفيها: فإن قلت.
(4) سقطت من (م).(3/229)
وأكن، ألا ترى أنّه يستقيم أن يقع في موضع قوله: {لولا} [1] أخرتني إلى أجل قريب فأصدق: هلّا أخّرتني إلى أجل قريب أصّدّق، لأنّ هلّا للتحضيض، فكأنّه قال: أخّرتني إلى أجل قريب أصّدّق (2)، كما تقول: أعطني أكرمك، فلما وقع قوله: {فأصدق} موضع قوله:
أصّدّق حمل {أكن} على الجزم الذي كان يجوز في الفعل لو وقع موقع الفاء والفعل الذي بعده، كما أنّ قوله:
أنّى سلكت فإنّني لك كاشح
وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد (3)
حمل أزدد فيه على الجزم الذي كان يكون في موضع الفعل الذي هو جزاء، فكذلك حمل: {ويقول الذين آمنوا} على ما كان يجوز وقوعه بعد عسى من أن، ألا ترى أنّ جواز كلّ واحد منهما ومساغه كجواز الآخر وقد جاء التنزيل بهما [قال عزّ وجل] (4):
{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} [البقرة / 216] و {عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا}
[النساء / 84] فلمّا كان مجازهما واحدا، صرت إذا ذكرت أحدهما فكأنّك ذكرت الآخر، فجاز الحمل عليه.
ووجه آخر وهو أنّه إذا قال: {فعسى الله أن يأتي بالفتح}
[المائدة / 52] جاز أن يبدل {أن يأتي} من اسم الله كما أبدلت
__________
(1) في الأصل: (هلا) وصوبت على الهامش.
(2) في (ط): قال: أخرتني إلى أجل قريب أصدّق. وما في (م) أصوب.
(3) ورد البيت في معجم تهذيب اللغة للأزهري (أي) 15/ 653، وعنه في اللسان (أيا) برواية «أيا فعلت» مكان «أنى سلكت». ولم يعز لقائل.
(4) سقطت من (ط).(3/230)
أن من الضمير في قوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}
[الكهف / 63] وإذا أبدلت (1) منه حملت النصب في: ويقول * على ذلك، كأنّك قلت: عسى أن يأتي الله بالفتح، ويقول الذين آمنوا.
فأمّا من رفع، فحجّته أن يجعل الواو لعطف جملة على جملة، ولا يجعلها عاطفة على مفرد، ويدلّ على قوة الرفع قول من حذف الواو فقال: يقول الذين آمنوا *.
وأما إسقاط الواو وإثباتها من قوله: {ويقول الذين آمنوا}
فالقول فيه (2) إنّ حذفها في المساغ والحسن كإثباتها. فأمّا الحذف فلأنّ في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها، وذلك أن من وصف بقوله: {يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة} إلى قوله: {نادمين} [المائدة / 52] هم الذين قال فيهم الذين آمنوا:
{أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم} [المائدة / 53] فلمّا صار في كلّ واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حسن عطفها بالواو وبغير الواو، كما أن قوله:
{سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم}
[الكهف / 22] لمّا كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدّم، اكتفي بذلك عن الواو، لأنّها بالذكر وملابسة بعضها ببعض به ترتبط إحداهما بالأخرى كما ترتبط بحرف العطف، وعلى هذا قوله: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة / 39]
__________
(1) في (ط) أبدلته.
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).(3/231)
ولو أدخلت (1) الواو فقيل: وهم فيها خالدون، كان حسنا، ويدلّك على حسن دخول الواو قوله:
{ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} فحذف الواو من قوله: {ويقول الذين آمنوا} كحذفها في هذه الآي، وإلحاقها كإلحاقها في قوله:
{ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} [الكهف / 22] فقد تبين لك بمجيء التنزيل بالأمرين أنّ هذا الموضع أيضا مثل ما جاء التنزيل به في غير هذا الموضع.
المائدة: 54
واختلفوا (2) في إظهار الدال وإدغامها من قوله جلّ وعز:
{من يرتد منكم عن دينه} [المائدة / 54].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بإدغام الدال الأولى في الآخرة.
وقرأ نافع وابن عامر: من يرتدد منكم عن دينه بإظهار الدالين وجزم الآخرة (3).
حجة من أظهرهما ولم يدغم: أن الحرف المدغم لا يكون إلّا ساكنا، ولا يمكن الإدغام في الحرف الذي يدغم حتى يسكن، لأنّ اللسان يرتفع عن المدغم فيه ارتفاعة واحدة، فإذا لم يسكن لم يرتفع اللسان ارتفاعة واحدة، فإذا لم يرتفع كذلك لم يمكن الإدغام فإذا كان كذلك لم يسغ الإدغام في الساكن (4)، لأنّ
__________
(1) في (ط): دخلت.
(2) في (ط): اختلفوا.
(3) السبعة 245.
(4) في (ط): (إذا كان كذلك). زيادة بعد الساكن.(3/232)
المدغم إذا كان ساكنا، والمدغم فيه كذلك، التقى ساكنان، والتقاء الساكنين في الوصل في هذا النحو ليس من كلامهم، فأظهر الحرف الأوّل وحرّكه، وأسكن الحرف الثاني من المثلين، وهذه لغة أهل الحجاز فلم يلتق الساكنان.
وحجة من أدغم أنّه لما أسكن الحرف الأول من المثلين ليدغمه في الثاني (1) وكان الثاني ساكنا، وقد أسكن الأوّل للإدغام حرّك المدغم فيه لالتقاء الساكنين على اختلاف في التحريك، وهذه لغة بني تميم. وإنّما حرّك بنو تميم ذلك لتشبيههم إياه بالمعرب، وذلك أنّ المعرب قد اتفقوا على إدغامه، فلما وجدوا ما ليس بمعرب مشابها للمعرب في تعاور الحركات عليه كتعاورها على المعرب، جعلوه بمنزلة المعرب فأدغموا كما أدغموا المعرب، وهذا من فعلهم يدل على صحّة ما ذهب إليه سيبويه من تشبيه حركة الإعراب بحركة البناء في التخفيف نحو:
أشرب غير مستحقب (2)
ألا ترى أنّهم (3) شبهوا حركة البناء بحركة الإعراب في إدغامهم في الساكن المحرّك (4) بغير حركة الإعراب، فكما شبهوا حركة البناء بحركة الإعراب، كذلك شبهوا حركة الإعراب بحركة البناء في نحو:
أشرب غير مستحقب
__________
(1) عبارة (ط): ولم يدغم في الثاني
(2) سبق انظر 1/ 117و 410.
(3) في (ط): قد.
(4) في (ط): المتحرك.(3/233)
وليس ذلك بأبعد من تشبيههم أفكل بأذهب، وقد جاء التنزيل بالأمرين جميعا (1) قال [جلّ وعزّ] (2): {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} [النساء / 115] وقال: {ومن يشاقق الله ورسوله} [الأنفال / 13].
المائدة: 57
واختلفوا (3) في نصب الراء وخفضها من قوله تعالى (4):
{والكفار أولياء} [المائدة / 57].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة: {والكفار}
نصبا (5).
وقرأ أبو عمرو والكسائي: والكفار * خفضا، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو {والكفار} بالنصب (6).
حجة من قرأ بالجر فقال: والكفار * أنه حمل الكلام على أقرب العاملين وقد تقدّم أن لغة التنزيل الحمل على أقرب العاملين، فحمل (7) على عامل الجرّ من حيث كان أقرب إلى المجرور من عامل النصب، وحسن الحمل على الجر، لأنّ فرق الكفار الثلاث: المشرك، والمنافق، والكتابي الذي لم يسلم، قد كان منهم الهزء فساغ لذلك أن يكون الكفار ... مجرورا وتفسيرا
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): اختلفوا.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): بالنصب.
(6) السبعة 245.
(7) في (ط): فحمله.(3/234)
للموصول، وموضحا له، فالدليل على استهزاء المشركين قوله: {إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر}
[الحجر / 9695] والدليل على استهزاء المنافقين قوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن}
[البقرة / 14]. وأمّا (1) الكتابي الذي لم يسلم فيدا، على وقوع ذلك منه قوله: {لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا} [2] من الذين أوتوا الكتاب [المائدة / 57] وكلّ من ذكرنا من المشركين والمنافقين ومن لم يسلم من أهل الكتاب يقع عليه اسم كافر ويدل على ذلك قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين}
[البيّنة / 1] وقال: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر / 11] وقال: {إن الذين آمنوا ثم كفروا} [النساء / 137]، فإذا وقع على المستهزئين اسم كافر حسن أن يكون قوله: والكفار * تفسيرا للاسم الموصول، كما كان قوله: {من الذين أوتوا الكتاب} تفسيرا له، ولو فسّر الموصول بالكفار لعمّ الجميع. ولكنّ الكفار كأنه أغلب على المشركين وأهل الكتاب، على من إذا عاهد دخل (3) في ذمّة المسلمين وقبلت (4)
منه الجزية، على دينه أغلب فلذلك فصّل ذكرهما، ويدل على تقدم قوله: والكفار * قوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة / 105] فكما
__________
(1) سقطت «أما» من (ط).
(2) في (م) لعبا ولهوا. وهو خطأ.
(3) في (م): «ودخل».
(4) في (م): قبلت.(3/235)
أنّ الاتفاق فيما علمنا على الجرّ في قوله: {ولا المشركين} ولم يحمل على العامل الرافع، كذلك ينبغي أن يتقدم الجرّ في قوله:
والكفار أولياء.
وحجّة من نصب فقال: {والكفار أولياء} أنه عطف على العامل الناصب، فكأنّه قال: لا تتخذوا الكفار أولياء، وحجتهم في ذلك قوله: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}
[آل عمران / 28] فكما وقع النهي عن اتّخاذ الكفار أولياء في هذه الآية، كذلك يكون في الأخرى معطوفا على الاتخاذ.
المائدة: 60
واختلفوا (1) في ضم الباء وفتحها من قوله تعالى (2): {وعبد الطاغوت} [المائدة / 60].
فقرأ حمزة وحده: وعبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت.
وقرأ الباقون: {وعبد الطاغوت} منصوبا كلّه (3).
حجّة حمزة في قراءته عبد الطاغوت: أنه يحمله على ما عمل فيه جعل * فكأنه قال: (4) وجعل منهم عبد الطاغوت. ومعنى جعل *: خلق كما قال: {وجعل منها زوجها} [الأعراف / 189] وكما قال: {وجعل الظلمات والنور} [الأنعام / 1] وليس عبد *
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 246.
(4) سقطت من (م).(3/236)
لفظ جمع، ألا ترى أنّه ليس في أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المنفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع؟ وفي التنزيل: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل / 18] [يريد:
نعم الله] (1) فكذلك قوله: وعبد الطاغوت وجاء على فعل لأنّ هذا البناء تراد به الكثرة والمبالغة، وذلك نحو يقظ، وندس (2)، وفي التنزيل: {وتحسبهم أيقاظا} [الكهف / 18] فكأنّ (3) تقديره أنّه قد ذهب في عبادة الطاغوت، والتذلّل له كلّ مذهب وتحقّق به، وجاء على هذا لأنّ عبدا في الأصل صفة، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، واستعمالهم إياه استعمالها لا يزيل عنه كونه صفة، ألا ترى أنّ الأبرق والأبطح، وإن كانا استعملا استعمال الأسماء حتى كسّر هذا النحو تكسيرها عندهم في نحو قوله:
بالعذب في رصف القلات مقيله
قضّ الأباطح لا يزال ظليلا (4)
لم يزل عنهما (5) حكم الصفة يدلك على ذلك تركهم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) ندس: فهم سريع السمع فطن (اللسان).
(3) في (م): فهذا كأن.
(4) البيت لجرير يهجو الفرزدق.
والقلات جمع قلت: هي البئر تكون في الصخرة من ماء السماء، ولا مادة لها من ماء الأرض. والقض: الموضع الخصب.
انظر ديوانه / 453 (الصاوي).
(5) في (ط): عنه.(3/237)
صرفها (1) كتركهم صرف آخر (2)، ولم يجعلوا ذلك كأفكل، وأيدع (3)، فكذلك عبد، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، لم يخرجه ذلك عن أن يكون صفة وإذا لم يخرج عن أن يكون صفة، لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على فعل نحو يقظ (4).
فأما من فتح فقال (5): {وعبد الطاغوت} فإنّه عطفه على مثال الماضي الذي في الصلة وهو قوله: {لعنه الله}
[النساء / 118] وأفرد الضمير الذي (6) في {عبد}، وإن كان المعنى فيه الكثرة (7) لأنّ الكلام محمول على لفظ من دون معناه، وفاعله ضمير من كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير من، فأفرد لحمل ذلك جميعا على اللفظ ولو حمل الكلّ على المعنى أو البعض على اللفظ والبعض على المعنى كان مستقيما.
المائدة: 67
واختلفوا (8) في التوحيد والجمع في قوله تعالى (9): فما بلغت رسالاته (10) [المائدة / 67].
__________
(1) في (ط): لصرفه.
(2) في (ط): أحمر.
(3) الأفكل على أفعل: الرّعدة تعلو الإنسان ولا فعل له اللسان (فكل) الأيدع:
صبغ أحمر وقيل هو خشب البقم أو دم الأخوين أو الزعفران. اللسان (يدع).
(4) ضبطها في (ط) على: فعل نحو يقظ.
(5) سقطت من (ط).
(6) زيادة في (ط).
(7) في (ط): كثرة.
(8) في (ط): اختلفوا.
(9) سقطت من (ط).
(10) في (ط): {فما بلغت رسالته}.(3/238)
فقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: {فما بلغت رسالته}
واحدة، وفي الأنعام: حيث يجعل رسالاته [الآية / 124] جماعة، وفي الأعراف: {برسالاتي} [144] على الجمع أيضا.
وقرأ ابن كثير: {رسالته} على التوحيد، وفي الأنعام: {حيث يجعل رسالته} وفي الأعراف: برسالتي على التوحيد ثلاثهنّ.
وقرأ نافع: فما بلغت رسالاته جماعا، وقرأ في الأنعام:
حيث يجعل رسالاته جماعة (1)، وقرأ: على الناس برسالتي واحدة.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: فما بلغت رسالاته وحيث يجعل رسالاته و {على الناس برسالاتي} جماعا ثلاثهنّ. وروى حفص عن عاصم: {فما بلغت رسالته} واحدة {حيث يجعل رسالته} واحدة أيضا و {على الناس برسالاتي}
جماعا (2).
قال أبو علي: أرسل فعل يتعدّى إلى مفعولين: ويتعدّى إلى الثاني منهما بحرف الجر (3) كقوله: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه}
[نوح / 1] {وأرسلناه إلى مائة ألف} [الصافات / 147] ويجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، من نحو: أعطيت، وكسوت،
__________
(1) في (ط) جماعا أيضا.
(2) السبعة 246.
(3) في (ط): بالجار.(3/239)
وليس من باب حسبت كقوله: {ثم أرسلنا رسلنا تترا}
[المؤمنون / 44] وقوله: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا}
[الأحزاب / 45] وقال: {فأرسل إلى هارون} [الشعراء / 13] فعدّى إلى الثاني، والأول مقدّر في المعنى، التقدير: أرسل رسولا إلى هارون، فأمّا قوله: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات}
[الحديد / 25] فالجار في موضع نصب على الحال، كما تقول:
أرسلت زيدا بعدّته، وكذلك قوله: أرسله معنا غدا نرتع [يوسف / 12] إن رفعت المضارع كان حالا، وإن جزمته كان جزاء.
وقد يستعمل الإرسال على معنى التخلية بين المرسل وما يريد (1) وليس يراد به البعث قال الراجز:
أرسل فيها مقرما غير قفر
طبّا بإرسال المرابيع السؤر (2)
وقال آخر:
أرسل فيها بازلا يقرّمه
وهو بها ينحو طريقا يعلمه (3)
__________
(1) في (ط): وبين ما يريد.
(2) لم نعثر على قائله. المقرم: البعير المكرم الذي لا يحمل عليه ولا يذلل، ولكن يكون للفحلة والضراب، القفر: المنسوب إلى القفر، أو القليل اللحم.
المرابيع: جمع مرباع، وهي التي تنتج في الربيع. والسؤر جمع سؤرة وهي جيد المال.
(3) هذا رجز أورده أبو زيد في نوادره ص 461ونسبه لرجل زعموا أنّه من كلب. وقال البغدادي في شرح الشافية 4/ 177: وقال خضر الموصلي شارح شواهد التفسيرين: البيت من رجز لرؤبة أوله:
قلت لزير لم تصله مريمه(3/240)
فهذا إنّما يريد خلّى بين الفحل وبين طروقته، ولم يمنعه منها وقال:
فأرسلها العراك ولم يذدها
ولم يشفق على نغض الدّخال (1)
المعنى: خلى بين هذه الإبل وبين شربها ولم يمنعها من ذلك، فمن هذا الباب قوله تعالى (2): {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين} [مريم / 83] فأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر (3):
لعمري لقد جاءت رسالة مالك
إلى جسد بين العوائد مختبل
وأرسل فيها مالك يستحثّنا
وأشفق من ريب المنون فما وأل
__________
أقول: قد فتشت هذه الأرجوزة مرارا، فلم أجد فيها البيت الشاهد. اهـ.
منه. وبعده:
وانظر الأزهري 13/ 117واللسان (سما) وأساس البلاغة (قرم)، المصنف 1/ 60.
(1) البيت للبيد يصف إبلا أوردها الماء مزدحمة. والعراك الازدحام ولم يشفق على ما تنغص شربه منها، والدخال: أن يدخل القوي بين ضعيفين أو الضعيف بين قويين. فيتنغص عليه شربه. انظر ديوانه / 108وسيبويه 1/ 187، والمقتضب 3/ 237وابن الشجري 2/ 284وروي على نغض بالضاد، وانظر ابن يعيش 2/ 62، 4/ 55، والخزانة 1/ 524، والعيني 3/ 219، والمخصص 14/ 227واللسان (عرك نغص دخل).
(2) في (ط): عز وجل.
(3) النوادر (ط. الفاتح) 203والبيتان من مقطعة في ستة أبيات للبعيث واسمه خداش بن بشر بن خالد.(3/241)
فالرسالة هاهنا بمنزلة الإرسال، والمصدر في تقدير الإضافة إلى الفاعل والمفعول الأول، في التقدير (1) محذوف كما كان محذوفا في قوله: {فأرسل إلى هارون} [الشعراء / 13] والتقدير: رسالة مالك إلى جسد، والجار والمجرور في موضع نصب لكونه مفعولا ثانيا، والمعنى: إلى ذي جسد، لأنّ الرسالة لم تأت الجسد دون سائر المرسل إليه. ومثل ذلك قوله:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا (2)
في وضعه العطاء في موضع الإعطاء.
وقوله:
وأرسل فيها مالك يستحثّنا (3)
يجوز أن يكون المعنى: أرسل الرسالة يستحثنا، ودخول الجار كدخوله في قوله: {لهم} [4] فيها [يس / 57]، ويستحثّنا حال من مالك. وإن شئت قلت: تستحثّنا، فجعلته حالا من الرسالة. وإن شئت ذكّرت، لأنّ الرسالة والإرسال بمعنى.
والرسول جاء على ضربين أحدهما أن يراد به المرسل.
والآخر [أن يراد به] (5) الرسالة، فالأوّل كقولك: هذا رسول زيد،
__________
(1) سقطت من (ط) في التقدير.
(2) هذا عجز بيت للقطامي صدره:
أكفرا بعد رد الموت عني.
وقد سبق في 1/ 182.
(3) سبق قريبا.
(4) في (م): كدخوله لهم.
(5) زيادة من (م).(3/242)
تريد (1) مرسله وقال [جلّ وعز] (2): {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران / 144] فهذا كأنه يراد به المرسل، يقوي ذلك قوله: {إنك لمن المرسلين} [يس / 3].
ومثل هذا في أنّه فعول: يراد به المفعول قوله (3):
وما زلت خيرا منك مذ عضّ كارها
بلحييك عاديّ الطريق ركوب
المعنى أنّه طريق مركوب مسلوك، وقال (4):
تضمّنها وهم ركوب كأنّه
إذا ضمّ جنبيه المخارم رزدق
وقالوا: الحلوبة والحلوب، والركوبة والركوب لما يحلب ويركب. فأمّا استعمالهم الرسول بمعنى الرسالة فكقول الشاعر:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
بسرّ ولا أرسلتهم برسول (5)
أي: برسالة، فيجوز على هذا في قوله: {إنا رسول ربك}
[طه / 47] أن يكون التقدير: إنّا ذوو رسالة ربك. فلم يثنّ رسول كما لا يثنّى المصدر. ويجوز أن يكون وضع الواحد موضع التثنية كما وضع موضع الجمع (6) في قوله: {وهم لكم عدو}
__________
(1) زادت (ط): «أي» بعد تريد.
(2) سقطت من (ط).
(3) لم نعثر على قائله.
(4) لم نعثر على قائله.
(5) البيت لكثير عزة. انظر تهذيب اللغة للأزهري 12/ 391.
(6) في (ط): الجميع.(3/243)
[الكهف / 50] {فإن كان من قوم عدو} [النساء / 92] ونحو ذلك.
وجمع رسالة: رسالات، وعلى (1) التكسير رسائل ومثله: عمامة وعمامات وعمائم. فأما قوله تعالى (2): أعلم حيث يجعل رسالاته [الأنعام / 124] فلا يخلو {حيث} فيه من أن يكون انتصابه انتصاب الظروف، أو انتصاب المفعولين (3) ولا يجوز أن يكون انتصابه انتصاب الظروف، لأن علم القديم سبحانه في جميع الأماكن على صفة واحدة، فإذا لم يستقم أن يحمل أفعل على زيادة علم في مكان، علمت أن انتصابه انتصاب المفعول به، والفعل، الناصب مضمر دلّ عليه قوله: {أعلم} كما أن القوانس في قوله:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا (4)
ينتصب على مضمر دلّ عليه أضرب، فكذلك حيث إذا انتصب انتصاب المفعول به، ألا ترى أنّ المفعول به لا ينتصب بالمعاني ومثل ذلك في انتصاب حيث على أنّه مفعول به قول الشماخ:
وحلّأها عن ذي الأراكة عامر
أخو الخضر يرمي حيث تكوى النّواحز (5)
__________
(1) في (ط): حكى.
(2) في (ط): عزّ وجلّ: (الله أعلم).
(3) في (ط): المفعول به.
(4) هذا عجز بيت للعباس بن مرداس، وقد سبق انظر 1/ 27.
(5) انظر ديوانه / 182. حلأها: منعها من الماء والضمير للحمر، عامر أخو(3/244)
فحيث مفعول به، ألا ترى أنه ليس يريد أنه يرمي شيئا حيث تكوى النواحز، إنّما يرمي حيث تكوى النواحز، فحيث تكوى مفعول به وليس بمفعول فيه.
فحجة من جمع فقال: برسالاتي أن الرسل يرسلون بضروب من الرسائل كالتوحيد والعدل، وما يشرعون من الشرائع، وما ينسخ منها على ألسنتهم، فلمّا اختلفت الرسائل حسن أن يجمع، كما حسن أن تجمع أسماء الأجناس إذا اختلفت، ألا ترى أنّك تقول: رأيت تمورا كثيرة، ونظرت في علوم كثيرة (1)
فجمعت هذه الأسماء (2) إذا اختلفت ضروبها كما تجمع غيرها من الأسماء.
وحجة من أفرد هذه الأسماء ولم يجمعها أنّها تدل على الكثرة، وإن لم تجمع كما تدل عليها الألفاظ المصوغة (3) للجمع، وتدل على الكثير (4) كما تدل ألفاظ الجمع عليه. مما يدل على ذلك
__________
الخضر قانص مشهور، وقيل له الرامي، وفيه يقول الشماخ البيت. والخضر:
هم ولد مالك بن طريف بن خلف بن محارب بن خصفه بن قيس عيلان وسموا بذلك لشدّة سمرتهم، والخضرة في ألوان الناس: السمرة. ذو الأراكة: نخل بموضع من اليمامة لبني عجل، انظر معجم البلدان (أراك) النواحز: التي بها نحاز: وهو داء يأخذ الدواب والإبل في رئاتها فتسعل سعالا شديدا. فتكوى في جنوبها وأصول أعناقها فتشفى انظر المعاني الكبير 2/ 782والبحر المحيط 4/ 216.
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): فجميع هذه الأسماء جمعت.
(3) في (ط): الموضوعة.
(4) في (ط): التكثير.(3/245)
قوله تعالى (1): {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا}
[الفرقان / 14] فوقع الاسم الشائع على الجميع، كما يقع على الواحد، فكذلك الرسالة ولو وضع موضع القراءة بالإفراد الجمع، أو موضع الجمع الإفراد، لكان سائغا في العربية، إلّا أنّ لفظ الجمع في الموضع الّذي يراد به الجمع (2) أبين.
والقرّاء قد يتبعون مع ما يجوز في العربية الآثار، فيأخذون بها ويؤثرونها. إذا وجدوا مجاز ذلك في العربية مجازا واحدا.
المائدة: 71
واختلفوا في رفع النون ونصبها من قوله [جلّ وعز]: (3)
{وحسبوا ألا تكون فتنة} [المائدة / 71].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر أن لا تكون فتنة نصبا.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: أن لا تكون فتنة رفعا.
ولم يختلفوا في رفع فتنة (4). قيل: إنّ المراد بقوله:
{وحسبوا ألا تكون فتنة}: حسبوا أن لا تكون فتنة بقولهم (5):
{نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة / 18].
قال أبو علي: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدلّ على ثبات الشيء واستقراره، وذلك نحو العلم والتيقّن والتبيّن،
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): الجميع.
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة 247.
(5) في (ط): لقولهم.(3/246)
والتثبّت، وفعل يدلّ على خلاف الاستقرار والثبات. وفعل يجذب مرّة إلى هذا القبيل، وأخرى (1) إلى هذا القبيل، فما كان معناه العلم وقعت (2) بعده أنّ الثقيلة، ولم تقع بعده الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك أنّ أنّ الثقيلة معناها ثبات الشيء واستقراره، والعلم وبابه كذلك أيضا، فإذا أوقع عليه واستعمل معه كان وفقه وملائما له. ولو استعملت الناصبة للفعل بعد ما معناه العلم واستقرار الشيء لم تكن وفقه فتباينا وتدافعا، ألا ترى أنّ «أن» الناصبة لا تقع على ما كان ثابتا مستقرا. فمن استعمال الثقيلة بعد العلم ووقوعه (3)
عليها قوله: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} [النور / 25] و {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق / 14] لأنّ الباء زائدة وكذلك التّبيّن والتيقّن، وما كان معناه العلم كقوله تعالى (4): {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} [يوسف / 35] فبدا * ضرب من العلم، ألا ترى أنّه تبيّن لأمر لم يكن قد تبيّن، فلذلك كان قسما، كما كان علمت قسما في نحو قوله:
ولقد علمت لتأتينّ منيّتي (5)
__________
(1) في (ط): ومرة.
(2) في (ط): وقع.
(3) في (ط): وإيقاعه.
(4) سقطت من (ط).
(5) هذا صدر بيت عجزه:
إنّ المنايا لا تطيش سهامها.
انظر الكتاب 1/ 456، والخزانة 4/ 13، 332وشرح أبيات المغني 6/ 232والعيني 2/ 405، والأشموني 2/ 30قال البغدادي: ونسبه سيبويه في كتابه للبيد والموجود في معلقته إنّما هو المصراع الثاني وصدره: صادفن منها غرّة فأصبنه.
ولم يوجد للبيد في ديوانه شعر على هذا الروي غير المعلقة والله أعلم (انظر ديوانه ص 171).(3/247)
قال: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه}
[يوسف / 35] فهذا بمنزلة: علموا ليسجننّه (1)، وعلى هذا قول الشاعر:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى (2)
فأوقع بعدها الشديدة كما يوقعها بعد علمت.
وأمّا ما كان معناه ما لم يثبت ولم يستقر، فنحو: أطمع وأخاف وأخشى وأشفق وأرجو، فهذه ونحوها تستعمل بعد (3)
الخفيفة الناصبة للفعل، قال: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي}
[الشعراء / 82] و {تخافون أن يتخطفكم الناس} [الأنفال / 26] و {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما}
[البقرة / 229] {فخشينا أن يرهقهما} [الكهف / 80] {أأشفقتم أن تقدموا} [المجادلة / 13] وكذلك أرجو وعسى ولعلّ.
وأمّا ما يجذب مرة إلى هذا الباب ومرّة إلى الباب الأول (4)
فنحو: حسبت، وظننت وزعمت، فهذا النحو يجعل مرّة بمنزلة أرجو وأطمع من حيث كان أمرا غير مستقر، ومرة يجعل بمنزلة
__________
(1) في (ط) زيادة: حتى حين.
(2) هذا صدر بيت لزهير عجزه:
ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا.
انظر الكتاب 1/ 83وغيرها، الخصائص 2/ 353، 424، ابن يعيش 2/ 53، الخزانة 3/ 665والعيني 2/ 267، 3/ 351، وديوانه / 287وفيه:
ولا سابقي شيء.
(3) في (ط): فهذا ونحوه يستعمل بعده.
(4) في (ط): هذا الباب بدل: «الباب الأوّل».(3/248)
العلم من حيث استعمل استعماله ومن حيث كان خلافه، والشيء قد يجري خلافه (1) في كلامهم نحو: عطشان وريّان. فأما استعمالهم إياه استعمال العلم فهو أنهم قد أجابوه بجواب القسم، حكى سيبويه: ظننت ليسبقنّني (2). وقيل في قوله: {وظنوا ما لهم من محيص} [فصلت / 48] أنّ النفي جواب للظن، كما كان جوابا لعلمت في قوله: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات} [الإسراء / 102]. فكلتا القراءتين في قوله: {وحسبوا ألا تكون فتنة}، وكلا الأمرين قد جاء به التنزيل، فمثل قول من نصب فقال: {ألا تكون} قوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} [العنكبوت / 4] {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم} [الجاثية / 21] {أحسب الناس أن يتركوا}
[العنكبوت / 2]. ومثل قراءة من رفع: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم} [الزخرف / 37] {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين}
[المؤمنون / 55] {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه}
[القيامة / 3] فهذه مخففة من الشديدة. ومثل ذلك في الظن قوله:
{تظن أن يفعل بها فاقرة} [القيامة / 25]. وقوله: {إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة / 230]. وفي (3) الرفع قوله: {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا} [الجن / 5] وقوله: {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} [الجن / 7] ف «أن» هاهنا المخففة من الشديدة، لأنّ الناصبة للفعل لا يقع بعدها «لن» لاجتماع
__________
(1) في (ط): الخلاف.
(2) الكتاب 1/ 456وفيه: «أظن» بدل: «ظننت».
(3) في (ط): ومن.(3/249)
الحرفين في الدلالة على الاستقبال، كما لم تجتمع الناصبة مع السين، ولم يجتمعا كما لا يجتمع الحرفان لمعنى واحد، فمن ثمّ كانت أن في قوله تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى}
[المزمل / 20] المخففة من الشديدة، ومن ذلك قوله: {وظنوا أنهم أحيط بهم} [يونس / 22].
فأما قوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة / 46] فالظن هاهنا علم، وكذلك قوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه}
[الحاقة / 20] وقال سيبويه: لو قلت على جهة المشورة: «ما أعلم إلّا أن تدعه» لنصبت، وهذا (1) لأنّ المشورة أمر غير مستقرّ. ولا متيقّن من المشير، فصار بمنزلة الأفعال الدالّة على خلاف الثبات والاستقرار. وحسن وقوع المخفّفة من الشديدة في قول من رفع، وإن كان بعدها (2) فعل لدخول لا، وكونها عوضا من حذف الضمير معه، وإيلائه ما لم يكن يليه. ولو قلت: علمت أن تقول لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضا نحو: قد، ولا، والسين، وسوف، كما قال: {علم أن سيكون منكم مرضى} [المزمل / 20] فإن قلت: فقد جاء: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم / 39] فلم يدخل بين أن وليس شيء. فإنّما جاء هذا لأنّ {ليس} ليس بفعل على الحقيقة.
قال أحمد: وكلهم قرأ: {ألا تكون فتنة} بالرفع [في فتنة] (3) فهذا لأنّهم جعلوا كان بمنزلة وقع، ولو نصب فقيل: أن لا
__________
(1) في (ط): فهذا.
(2) في (ط) بعده.
(3) سقطت من (ط).(3/250)
يكون فتنة أي: أن لا يكون قولهم فتنة: لكان جائزا في العربية، وإنّما رفعوه فيما نرى لاتباع الأثر، لا لأنّه لا يجوز في العربية غيره (1).
المائدة: 89
اختلفوا في تشديد القاف وتخفيفها وإدخال الألف وإخراجها من قوله [عزّ وجل] (2) {عقدتم الأيمان}
[المائدة / 89].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: بما عقدتم بغير ألف مشدّدة القاف.
وكذلك روى حفص عن عاصم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: بما عقدتم بغير ألف خفيفة. وكذلك قرأ حمزة والكسائي. وقرأ ابن عامر عاقدتم بألف (3).
قالوا: أعقدت العسل، فهو معقد وعقيد. وأخبرنا أبو إسحاق أنّ بعضهم قال: عقدت العسل، قال: والكلام أعقدت.
من قال: عقدتم فشدد القاف احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون لتكثير الفعل لقوله: {ولكن يؤاخذكم} فخاطب الكثرة فهذا مثل: {غلقت الأبواب} [يوسف / 23] والآخر: أن يكون عقّد مثل ضعّف، لا يراد به التكثير، كما أن ضاعف لا يراد به فعل من اثنين.
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 247.(3/251)
ومن قال: عقدتم فخفف جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل، إلّا أن فعّل يختص بالكثير، كما أن الرّكبة تختصّ بالحال التي يكون عليها الركوب. وقالوا: عقدت الحبل والعهد، واليمين: عهد، ألا ترى أن عاهدت يتلقّى بما يتلقّى به القسم قال:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم (1)
وأما قراءة ابن عامر بما عاقدتم الأيمان فيحتمل ضربين:
أحدهما: أن يكون عاقدتم يراد به عقدتم، كما أن عافاه الله وعاقبت اللصّ، وطارقت النعل بمنزلة فعلت، فتكون قراءته في المعنى (2) على هذا كقراءة من خفف. ويحتمل أن يراد بعاقدتم:
فاعلت. الذي (3) يقتضي فاعلين فصاعدا، كأنه يؤاخذكم بما عاقدتم عليه اليمين. ولما كان عاقد في المعنى قريبا من عاهد عدّي (4) بعلى كما يعدّى عاهد بها، قال: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله} [الفتح / 10] ونظير ذلك في تعديته بالجار لما كان
__________
(1) هذا صدر بيت للحطيئة من قصيدة يمدح فيها بغيضا وعجزه:
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا انظر ديوانه / 128. قال شارحه: العناج: حبل يشدّ أسفل الدلو إذا كانت ثقيلة، والكرب: عقد الرشاء الذي يشد على العراقي. والعراقي: العودان:
المصلبان اللذان تشد إليهما الأوذام، فأراد أنهم إذا عقدوا لجارهم عقدا أحكموه.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): التي.
(4) في (ط): عداه.(3/252)
بمعنى ما يتعدّى به قولهم: ناديت، قالوا: ناديت زيدا، {وناديناه من جانب الطور} [مريم / 52]، وقال: {وإذا ناديتم إلى الصلاة}
[المائدة / 58] فعدّي بالجار لما كان بمعنى ما يتعدّى بالجار، وهو دعوت تقول: دعوته إلى كذا، وقال: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله} [فصلت / 33] فكما عدّي نادى لمّا كان في معنى دعا بالجار، كذلك عدّي عاقد لمّا كان بمعنى عاهد به واتسع فيه، وحذف الجار فوصل الفعل إلى المفعول، ثمّ حذف من الصلة الضمير الذي (1) كان يعود إلى الموصول، كما حذف (2) من قوله:
{فاصدع بما تؤمر} [الحجر / 94] ومثل حذف الجار هنا حذفه من قول الشاعر:
كأنّه واضح الأقراب في لقح
أسمى بهنّ وعزّته الأناصيل (3)
إنّما هو عزت عليه، فاتّسع فيه (4)، فالتقدير: يؤاخذكم بالذي عاقدتم عليه، ثمّ عاقدتموه الأيمان فحذف الراجع. ويجوز أن يجعل ما التي مع الفعل بمنزلة المصدر فيمن قرأ عقدتم و {عقدتم}، ولا يقتضي (5) راجعا، كما لا تقتضيه في نحو قوله تعالى (6): {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة / 10]
__________
(1) في (ط): لما.
(2) في (ط): حذفه.
(3) البيت في اللسان والتاج (نصل) ولم يعز لقائل. والأنصولة بالضم:
نور نصل البهمى، وقيل: هو ما يوبسه الحر من البهمى فيشتد على الأكلة.
اللّقح: جمع لقحة، وهي الناقة اللبون. الأقراب: جمع قرب وهو الخاصرة.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط) فلا تقتضي.
(6) سقطت من (ط).(3/253)
وقوله: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون} [الأعراف / 51] والكفارة في الأيمان إنّما أوجبت بالتنزيل فيما عقد عليه دون اليمين التي لم يعقد عليها. يدل على ذلك قوله: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته}
[المائدة / 89] أي: كفارة ما عقدتم عليه، والمعقود عليه ما كان موقوفا على الحنث، والبرّ، دون ما لم يكن كذلك.
المائدة: 95
واختلفوا (1) في الإضافة والتنوين في (2) قوله تعالى (3):
فجزاء مثل ما قتل (4) [المائدة / 95].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: فجزاء مثل ما مضافة بخفض (5) مثل.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: فجزاء مثل جزاء منون، ومثل مرفوع.
حجّة من رفع المثل أنه صفة للجزاء، والمعنى: فعليه جزاء من النّعم مماثل المقتول، والتقدير: فعليه جزاء وفاء للّازم له، أو:
فالواجب عليه جزاء من النعم مماثل ما قتل من الصيد، ف {من النعم} على هذه القراءة صفة للنّكرة، والتي (6) هي جزاء وفيه
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) في (ط): من.
(3) سقطت من (ط).
(4) زادت (ط) بعدها: مضافة وبخفض مثل.
(5) في (ط): وبخفض.
(6) في (ط): «التي» بإسقاط الواو.(3/254)
ذكره، ويكون {مثل} صفة للجزاء، لأنّ المعنى عليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد من النعم. والمماثلة في القيمة أو الخلقة (1)
على حسب اختلاف الفقهاء في ذلك، ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل، ألا ترى أنّه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة. إنّما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، ولا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله، فإذا كان ذلك (2) كذلك، علمت أنّ الجزاء لا ينبغي أن يضاف إلى المثل (3)، لأنّه يوجب جزاء المثل، والموجب جزاء المقتول من الصيد، لا جزاء مثله الذي ليس بمقتول. ولا يجوز أن يكون قوله: {من النعم} على هذه القراءة متعلّقا بالمصدر كما جاز أن يكون الجار متعلقا به في (4) قوله: {جزاء سيئة بمثلها} [يونس / 27]، لأنك قد وصفت الموصول، فإذا وصفته لم يجز أن تعلّق به بعد الوصف شيئا، كما أنّك إذا عطفت عليه أو أكّدته لم يجز أن تعلّق به شيئا بعد العطف عليه، والتأكيد له.
وأما (5) قراءة من أضاف الجزاء إلى المثل، فإنّ قوله: {من النعم} يكون صفة للجزاء، كما كان في قول من نوّن ولم يضف صفة له. ويجوز فيه وجه آخر لا يجوز في قول من نوّن ووصف، وهو أن يقدره متعلّقا بالمصدر، ولا يجوز على هذا القول أن يكون
__________
(1) في (ط): والخلقة.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): مثل.
(4) في (ط): به من.
(5) في (ط): وأما في.(3/255)
فيه ذكر كما تضمّن الذكر لمّا كان صفة، وإنّما جاز تعلّقه بالمصدر على قول من أضاف لأنّك لم تصف الموصول كما وصفته في قول من نوّن، فيمتنع تعلّقه به، والدليل على أن المثل منفصل مما أضيف إليه، وأن المضاف إليه لا يقع عليه المثل في المعنى قول دريد بن الصمّة:
وقاك الله يا ابنة آل عمرو
من الأزواج أمثالي ونفسي
وقالت إنّه شيخ كبير
وهل نبّأتها أنّي ابن أمس (1)
ألا ترى أنّ نفسه لو دخلت في جملة قوله: أمثالي، لم يحتج أن يقول: نفسي.
وأما من أضاف الجزاء إلى مثل، فقال: فجزاء مثل ما قتل من النعم [المائدة / 95] فإنّه وإن كان عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، فإنّهم قد (2) يقولون: أنا أكرم مثلك، يريدون: أنا أكرمك، فكذلك إذا قال: فجزاء مثل ما قتل، فالمراد: جزاء ما قتل، كما أن المراد في: أنا أكرم مثلك: أنا أكرمك. فإذا كان كذلك كانت الإضافة في المعنى كغير الإضافة، لأنّ المعنى: فعليه جزاء ما قتل، ومما يؤكد أنّ المثل، وإن كان قد أضيف إليه الجزاء، فالمعنى: فعليه جزاء المقتول لا جزاء مثله الذي لم
__________
(1) البيتان من قصيدة لدريد بن الصمة يهجو بها الخنساء لأنّها رفضت أن تتزوج منه.
الأغاني 10/ 23وفيهما اختلاف يسير في الرواية.
(2) سقطت من (م).(3/256)
يقتل: قوله تعالى (1): {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} [الأنعام / 122] والتقدير:
أفمن جعلنا له نورا يمشي به كمن هو في الظلمات، والمثل والمثل، والشّبه والشّبه واحد، فإذا كان مثله في الظلمات فكأنّه هو أيضا فيها. وقوله: {وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} كقوله:
{يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به}
[الحديد / 28] وقال: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} [الحديد / 13] وقال: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} [التحريم / 8] ولو قدّرت الجزاء تقدير المصدر، فأضفته إلى المثل، كما تضيف المصدر إلى المفعول به، لكان في قول من جرّ مثلا على الاتساع الذي وصفنا، ألا ترى أن المعنى: فجزاء مثل ما قتل (2) أي يجازى مثل ما قتل، والواجب عليه في الحقيقة جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول.
المائدة: 95
واختلفوا (3) في الإضافة والتنوين من قوله [جلّ وعز] (4):
{أو كفارة طعام مساكين} [المائدة / 95].
فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {أو كفارة} منونا {طعام} رفعا {مساكين} جماعة.
وقرأ نافع وابن عامر: أو كفارة رفعا غير منون، طعام
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (م): معنى فجزاء مثل.
(3) في (ط): اختلفوا.
(4) سقطت من (ط).(3/257)
مساكين على الإضافة، ولم يختلفوا في {مساكين} أنه جمع (1).
وجه قول من رفع {طعام مساكين} أنّه جعله عطفا على الكفارة عطف بيان لأنّ الطعام هو الكفّارة، ولم يضف الكفّارة إلى الطعام لأنّ الكفّارة ليست للطعام، إنّما الكفّارة لقتل الصّيد، فلذلك لم يضيفوا الكفّارة إلى الطعام.
ومن أضاف الكفّارة إلى الطعام، فلأنّه لما خيّر المكفّر بين ثلاثة أشياء: الهدي، والطعام، والصيام، استجاز الإضافة لذلك، فكأنّه قال: كفّارة طعام لا كفّارة هدي، ولا كفّارة صيام، فاستقامت الإضافة عنده لكون الكفّارة من هذه الأشياء.
المائدة: 97
واختلفوا (2) في إدخال الألف وإخراجها من قوله تعالى:
{قياما للناس} [المائدة / 97].
فقرأ ابن عامر وحده: قيما * بغير ألف.
وقرأ الباقون {قياما} بألف (3).
قوله عز وجل: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس}
[المائدة / 97] التقدير فيه: جعل الله حج الكعبة [البيت الحرام قياما] (4) أو نصب الكعبة قياما لمعايش الناس ومكاسبهم (5)، لأنه مصدر قاموا، كأنّ المعنى: قاموا بنصبه ذلك لهم فاستتبّت
__________
(1) السبعة 249.
(2) في (ط): اختلفوا.
(3) السبعة: 248.
(4) ما بين المعقوفتين زيادة في (م).
(5) في (ط): أو مكاسب الناس.(3/258)
معايشهم به (1) واستقامت أحوالهم له. ويؤكّد إثبات الألف في القيام قوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما}
[النساء / 5] فالقيام: كالعياذ، والصيام والقياد (2) وعلى هذا ما لحقته تاء التأنيث من هذه المصادر فجاءت على فعالة كالزيارة والعياسة (3) والسياسة والحياكة. فكما جاءت هذه المصادر على فعالة (4)، كذلك حكم القيام أن يكون على فعال.
ووجه قول ابن عامر قيما * على أحد أمرين: إما أن يكون جعله مصدرا كالشّبع (5)، أو حذف الألف وهو يريدها كما يقصر الممدود. وحكم هذا الوجه أنّه يجوز في الشعر دون الكلام وحال السعة. فإن قلت: فإذا جعله مصدرا كالشّبع (5) فهلّا صحّحه كما صحح الحول والعوض مما (7) ليس على بناء من أبنية الفعل؟
فالقول فيه أنه لما اعتلّ فعله اعتلّ المصدر على اعتلال فعله، ألا ترى أنّهم قالوا: ديمة وديم، وحيلة وحيل، فأعلّوا الجموع لاعتلال آحادها (8)، فإذا أعلّوا الجموع لاعتلال الآحاد، فأن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها أولى، ألا ترى أنّهم قد أعلّوا بعض الآحاد، وصححوا الجموع نحو معيشة ومعايش، ومقام ومقاوم، ولم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(3) سقطت من (م). والعياسة: من عاس ما له: أحسن القيام عليه.
(4) في (ط): على فعال أو فعالة.
(5) في (م): «كالشيع» وهو تصحيف.
(7) في (ط): وما.
(8) في (ط): الآحاد.(3/259)
يصحّحوا مصدرا أعلّوا فعله، لكي يجزي المصدر على فعله، إن صحّ حرف العلّة في الفعل صحّ في مصدره، نحو اللّواز والغوار، وإن اعتلّ في الفعل اعتلّ في مصدره. وتقدير الآية: جعل الله حج الكعبة [البيت الحرام] (1) أو نصب الكعبة قياما لمعايش الناس ومصالحهم. وقوله تعالى: {والشهر الحرام} [المائدة / 97] معطوف على المفعول الأول: لجعل. ونحو ذلك: ظننت زيدا منطلقا وعمرا، أي: فعل ذلك ليعلموا أنّ الله يعلم مصالح ما في السموات والأرض، وما يجري عليه شأنهم في معايشهم، وغير ذلك مما يصلحهم، وأن الله بكلّ شيء يقيمهم ويصلحهم عليم.
وقيل في قوله: {قياما للناس}: أمنا لهم. وقيل: {قياما للناس}
أي: مما ينبغي أن يقوموا به، والقول الأوّل عندنا أبين.
المائدة: 107
واختلفوا (2) في التثنية والجمع في قوله: {استحق عليهم الأوليان} [المائدة / 107].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: من الذين استحق عليهم مضمومة التاء، {الأوليان} على التثنية.
وروى نصر بن عليّ عن أبيه عن قرّة قال: سألت ابن كثير فقرأ: {استحق} بفتح التاء {الأوليان} على التثنية.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة استحق بضم التاء الأولين * جماع (3).
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): اختلفوا.
(3) في (ط): جماعا.(3/260)
وروى حفص عن عاصم {استحق} بفتح التاء. {الأوليان}
على التثنية (1).
قال الواقديّ: حدثنا أسامة بن زيد عن أبيه قال: كان تميم الداريّ وأخوه عديّ نصرانيّين، وكان متّجرهما إلى مكّة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج هو وتميم الداري وأخوه عديّ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية، فكتب وصية بيده ودسّها في متاعه، وأوصى إليهما، فلما مات فتحوا (2) متاعه، فوجدوا وصيّته وقد كتب ما خرج به، ففقدوا شيئا فسألوهما فقالا: لا ندري، هذا الذي قبضنا له، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) فنزلت الآية (4): {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم}
[المائدة / 106] فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) أن يستحلفوهما بالله ما قبضا له غير هذا ولا كتماه. قال الواقدي: فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)
بعد العصر، فمكثا ما شاء الله، ثمّ ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب (7) معهما، فقالوا: هذا من متاعه، فقالا: اشتريناه منه، وارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما} [المائدة / 107] قال: فأمر
__________
(1) السبعة 249248.
(2) في (ط): فتحا.
(3) في (ط): صلى الله عليه.
(4) في (ط): فأنزل الله الآية.
(7) في (ط): مذهب.(3/261)
رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) رجلين من أهل الميت أن يحلفا (2) على ما كتما وغيّبا. قال الواقدي: فحلف عبد الله بن عمرو والمطّلب بن أبي وداعة، فاستحقّا، ثمّ إنّ تميما أسلم، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، وكان يقول: صدق الله وبلّغ رسوله، أنا أخذت الإناء (4).
قال: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان} فشهادة مرتفع بالابتداء، واتّسع في بين، وأضيف إليه المصدر، وهذا يدل على قول من قال: إن الظروف التي تستعمل أسماء يجوز أن تستعمل أسماء في غير الشعر، ألا ترى أنّه قد جاء ذلك (5) في التنزيل وكذلك (5):
لقد تقطع بينكم [الأنعام / 94] في قول من رفع، فجاء في غير الشعر، كما جاء في الشعر نحو قوله:
فصادف بين عينيه الجبوبا (7)
__________
(1) في (ط): صلى الله.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): صلى الله.
(4) أخرج حديث سبب النزول على نحو آخر البخاري في كتاب الوصايا 5/ 409 برقم 2780عن ابن عباس. والترمذي في التفسير 8/ 224عن ابن عباس عن تميم الداري وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وفيه اختلاف في الرواية عمّا هنا. وانظر تفسير ابن كثير 3/ 214 (ط الشعب).
(5) سقطت من (ط).
(7) عجز بيت لأبي خراش الهذلي ونصّه في ديوان الهذلين 3/ 1205.
فلاقته ببلقعة براز * فصادم بين عينيها الجبوبا وانظر اللسان (جبب) وفيه: براح مكان براز وتصادم مكان فصادم.
هذا وقد جاء ضبطها في الهذليين بالفتح ولم يشر السكري إلى ضبطها وما يجب أن يكون عليه. وكذلك ورد ضبطها في اللسان خطأ بالفتح مخالفا ما نصّص عليه.(3/262)
فأمّا قوله: {إذا حضر أحدكم الموت} [المائدة / 106] فيجوز أن يتعلّق بالشهادة فيكون معمولها، ولا يجوز أن يتعلّق بالوصية لأمرين: أحدهما أنّ المضاف إليه لا يعمل في ما قبل المضاف، لأنّه لو عمل فيما قبله للزم أن يقدّر وقوعه في موضعه، فإذا قدر ذلك لزم تقديم المضاف إليه على المضاف، ومن ثمّ لم يجز:
القتال زيدا حين نأتي. والآخر: أنّ الوصية مصدر فلا يتعلّق به ما يتقدم عليه، فأما قوله: {حين الوصية} فلا يجوز أن تحمله على الشهادة، لأنّه إذا عمل في ظرف من الزمان لم يعمل في ظرف آخر منه (1)، ولكن تحمله على ثلاثة أوجه (2)، أحدها: أن تعلّقه بالموت، كأنه الموت من (3) ذلك الحين، وهذا إنّما يكون على ما قرب منه (4). يدلّك على ذلك قوله عزّ وجل (5): {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء / 18]، وكذلك قوله: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} [الأنعام / 61]، وقوله: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون} [المؤمنون / 99] فلو كان هذا على وقوعه، ولم يكن على مقاربته، لم يجز أن يسند إليه القول بعد الموت. والثاني (6): أن تحمله على حضر، أي: إذا حضر في هذا الحين. والثالث: أن تحمله على البدل من إذا، لأنّ ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان، فتبدله منه كما تبدل الشيء
__________
(1) في (ط): فيه.
(2) في (ط): أحد ثلاثة أشياء.
(3) في (ط): في.
(4) سقطت من (م).
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): والآخر.(3/263)
من الشيء إذا كان إياه. وقوله تعالى: {اثنان ذوا عدل منكم}
[المائدة / 106]، هو خبر المبتدأ الذي هو شهادة بينكم، والتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين، فأقام (1) المضاف إليه مقام المضاف، ألا ترى أنّ الشهادة لا تكون إلّا باثنين. وقوله: منكم، صفة لقوله:
اثنان، كما أنّ {ذوا عدل} صفة لهما وفي الظرف ضميرهما.
وقوله: {أو آخران من غيركم} تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم، و {من غيركم} صفة للآخرين (2) كما كان {منكم} صفة الاثنين (3)، وأما {من غيركم} فقيل في تفسيره: إنّه من غير أهل ملّتكم.
حدّثنا الكندي قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا إسماعيل عن هشام بن حسان عن محمد قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:
{اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} قال: اثنان ذوا عدل من أهل الملّة، أو آخران من غيركم من غير أهل الملة، وهو فيما زعموا قول ابن عباس وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، وقيل فيهما: من غير أهل قبيلتكم.
وقوله: {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} [المائدة / 106] اعتراض بين الصفة والموصوف، وعلم به أن شهادة الآخرين اللّذين هما من غير أهل ملّتنا إنّما تجوز في السفر. واستغني عن جواب إن * بما تقدم من قوله: {أو آخران من غيركم}
__________
(1) في (ط): فأقيم.
(2) في (ط): لآخرين.
(3) في (ط): لاثنين.(3/264)
لأنّه وإن كان على لفظ الخبر فالمعنى على الأمر، كأن المعنى: ينبغي أن تشهدوا إذا ضربتم في الأرض آخرين من غير أهل ملتكم. ويجوز أيضا أن يستغنى عن جواب إذا في قوله: {إذا حضر أحدكم الموت} بما تقدمها من قوله: {شهادة بينكم} فإن جعلت إذا بمنزلة حين، ولم تجعل له جوابا، كان بمنزلة الحين، وينتصب الموضع بالمصدر الذي هو {شهادة بينكم} كما تقدم.
وإن قدّرت له جوابا فإن قوله: {شهادة بينكم} يدل عليه ويكون موضع {إذا} في قوله: {إذا حضر أحدكم الموت} نصبا بالجواب المقدّر المستغني عنه بقوله: {شهادة بينكم} لأنّ المعنى ينبغي أن تشهدوا إذا حضر أحدكم الموت، وقوله: {تحبسونهما من بعد الصلاة} صفة ثانية لقوله: {أو آخران من غيركم}. وقوله: {من بعد الصلاة} معلّق، وإن شئت لم تقدر الفاء في قوله: {فيقسمان بالله}
لعطف جملة على جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرّمّة:
وإنسان عيني يحسر الماء مرّة
فيبدو وتارات يجمّ فيغرق (1)
تقديره عندهم: إذا حسر بدا، فكذلك إذا حبستموهما أقسما. وقال: من بعد الصلاة، لأنّ الناس فيما ذكروا كانوا يحلّفون بالحجاز بعد صلاة العصر، لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت.
__________
(1) ديوانه 1/ 460وفيه: «تارة» بدل «مرة».
وانظر المحتسب 1/ 150، وشرح أبيات المغني 7/ 79برقم (741)، والعيني 1/ 4578/ 178، 449، والهمع 1/ 89، والدرر 1/ 74، والأشموني 1/ 3196/ 96.(3/265)
وقوله: {فيقسمان بالله إن ارتبتم} أي: ارتبتم في قول الآخرين اللّذين ليسا من أهل ملّتنا، أو غير قبيلة الميت، فغلب في ظنكم خيانتهما.
وقوله: {لا نشتري به ثمنا}: لا نشتري جواب ما يقتضيه قوله: {فيقسمان بالله} لأنّ أقسم ونحوه، يتلقّى بما يتلقّى به الأيمان. وقوله: {لا نشتري به ثمنا}: لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنا، فحذف المضاف وذكّر الشهادة، لأنّ الشهادة قول، كما جاء:
{وإذا حضر القسمة} ثمّ قال: {فارزقوهم منه} [النساء / 8] لما كان القسمة يراد به المقسوم، ألا ترى أنّ القسمة التي هي إفراز الأنصباء لا يرزق منه، إنما يرزق من التركة المقسومة؟ وتقدير {لا نشتري به ثمنا}: لا نشتري به ذا ثمن، ألا ترى أنّ الثمن لا يشتري، وإنّما الذي يشتري المبيع دون ثمنه؟ وكذلك قوله:
{اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا} أي: ذا ثمن، والمعنى: أنّهم آثروا الشيء القليل على الحق، فأعرضوا عنه وتركوه له. ولا يكون {اشتروا} في الآية بمعنى باعوا، وإن كان ذلك يجوز في اللغة، لأنّ بيع الشيء إخراج وإبعاد له من البائع، وليس المعنى هنا على الإبعاد، إنّما هو على التمسك به والإيثار له على الحق. {ولو كان ذا قربى} التقدير: ولو كان المشهود له ذا قربى. وخصّ ذو القربى بالذكر لميل الناس إلى قراباتهم ومن يناسبونه. {ولا نكتم شهادة الله} إنّا إن كتمناها لمن الآثمين. وقال: {شهادة الله}، فأضيفت الشهادة إليه سبحانه لأمره بإقامتها والنهي عن كتمانها في قوله:
{ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة / 283]. وقوله {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق / 2] {فإن عثر على أنهما استحقا إثما}
[المائدة / 107] أي غير أهل الميت أو من يلي أمره، على أنّ الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا استحقّا إثما بقصدهما في شهادتهما إلى غير الاستقامة، ولم يتحرّيا الحق فيها، فآخران يقومان مقامهما، أي: مقام الشاهدين اللذين هما من غيرنا {من الذين استحق عليهم الأوليان} فقوله: {من الذين} (1) صفة للآخرين.(3/266)
{ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة / 283]. وقوله {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق / 2] {فإن عثر على أنهما استحقا إثما}
[المائدة / 107] أي غير أهل الميت أو من يلي أمره، على أنّ الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا استحقّا إثما بقصدهما في شهادتهما إلى غير الاستقامة، ولم يتحرّيا الحق فيها، فآخران يقومان مقامهما، أي: مقام الشاهدين اللذين هما من غيرنا {من الذين استحق عليهم الأوليان} فقوله: {من الذين} (1) صفة للآخرين.
فأما {الأوليان} فلا يخلو ارتفاعه من أن يكون على الابتداء وقد أخر، كأنّه في التقدير: فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله، أو من أهل دينه يقومان مقام الخائنين اللذين عثر على خيانتهما كقولهم:
تميمي أنا. أو يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه: فآخران يقومان:
مقامهما، هما الأوليان. أو يكون بدلا من الضمير الذي في {يقومان} فيصير التقدير: فيقوم الأوليان. أو يكون مسندا إليه استحق.
وقد أجاز أبو الحسن (2) شيئا آخر وهو أن يكون الأوليان صفة لقوله: {فآخران} لأنّه لما وصف اختصّ فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له بما يوصف به المعارف.
ومعنى {الأوليان}: الأوليان بالشهادة على وصية الميت، وإنّما (3) كانا أولى به ممن اتّهم بالخيانة من غيرنا، لأنّهما (4) أعرف بأحوال الميت وأموره، ولأنّهما من المسلمين، ألا ترى أن وصفهم
__________
(1) في (ط): اللذين.
(2) في (ط): زيادة فيه.
(3) في (م): وأنهما، وأثبت إنما على الهامش.
(4) في (ط): لأنّهم.(3/267)
بأنّه (1) استحقّ عليهم يدل على أنّهم مسلمون، لأنّ الخطاب من أوّل الآية مصروف إليهم. فأما ما يسند إليه استحقّ فلا يخلو من أن يكون الأنصباء (2) أو الوصية أو الإثم أو الجارّ والمجرور، وإنّما جاز: استحقّ الإثم لأن آخذه بأخذه آثم، فسمّي إثما كما سمي ما يؤخذ منا بغير حق مظلمة. قال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك (3)، فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
وأمّا قوله {عليهم} فيحتمل ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون على فيه بمنزلة قولك: استحقّ على زيد مال بالشهادة، أي: لزمه ووجب عليه الخروج منه، لأنّ الشاهدين لما عثر على خيانتهما استحقّ عليهما ما ولياه من أمر الشهادة والقيام بها ووجب عليهما الخروج منها وترك الولاية لها، فصار إخراجهما منها مستحقّا عليهما كما يستحقّ على المحكوم عليه الخروج مما وجب عليه.
والآخر: أن يكون على * فيه بمنزلة «من»، كأنّه: من الذين استحق منهم الإثم، ومثل هذا قوله: {إذا اكتالوا على الناس}
[المطففين / 2] أي: من الناس.
والثالث: أن يكون «على» بمنزلة «في» كأنّه استحق فيهم، وقام «على» مقام «في» كما قام «في» مقام «على» في قوله تعالى:
__________
(1) في (ط): بأنهم.
(2) في (ط): الإيصاء.
(3) سيبويه 2/ 248.(3/268)
{لأصلبنكم في جذوع النخل} [طه / 71] والمعنى: من الذين استحق عليهم بشهادة الآخرين اللذين هما من غيرنا.
فإن قلت: فهل يجوز أن يسند {استحق} (1) إلى الأوليان؟
فالقول: إن ذلك لا يجوز (2) لأنّ المستحقّ إنّما يكون الوصية أو شيئا منها (3) والأوليان بالميت لا يجوز أن يستحقّا فيسند استحقّ إليهما.
وأمّا (4) من قرأ: من الذين استحق عليهم الأولين (5)
فتقديره: من الأوّلين الذين استحقّ عليهم الأنصباء أو الإثم، وإنّما قيل لهم الأوّلين من حيث كانوا الأولين في الذكر، ألا ترى أنّه قد تقدّم: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} وكذلك {اثنان ذوا عدل منكم} ذكرا في اللفظ، قبل قوله: {أو آخران من غيركم}.
واحتجّ من قرأ الأولين * على من قرأ: {الأوليان} بأن قال:
أرأيت إن كان الأوليان صغيرين؟ أراد أنّهما إذا كانا صغيرين لم يقوما مقام الكبيرين في الشهادة ولم يكونا لصغرهما أولى بالميت، وإن كانا لو كانا كبيرين كانا أولى به {فيقسمان بالله}، أي: يقسم
__________
(1) في (ط): استحق فيه.
(2) في (ط): زيادة: [ولا يجوز أن يستحق الأوليان وهما الأوليان بالميت].
(3) سقطت من (ط) الأولين.
(4) في (ط): فأما.
(5) في طرة (ط) هنا تعليقة نصها: قد أجاز ذلك أبو القاسم الجرمي على حذف مضاف وتقديره: من الذي استحق عليهما ابتداء الأولين، وقام الأوليان المضاف إليه بمقام المضاف، وذلك سائغ.(3/269)
الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا.
وقوله: {لشهادتنا أحق من شهادتهما} متلقّى به {فيقسمان بالله} {وما اعتدينا} فيما قلناه من أن شهادتنا أحق من شهادتهما.
وأمّا من قرأ: {من الذين استحق عليهم الأوليان} فتقديره: من الذين استحقّ عليهم الأوليان بالميّت وصيّته التي أوصى بها إلى غير أهل دينه، والمفعول محذوف، وحذف المفعول من هذا النحو كثير.
المائدة: 110
واختلفوا (1) في قوله تعالى (2): {إن هذا إلا سحر مبين}
[المائدة / 110] في اسم الفاعل والمصدر.
فقرأ ابن كثير وعاصم هاهنا وفي هود [7] والصف {إلا سحر مبين} [الآية / 6] بغير ألف (3).
وقرأ في يونس: {لساحر مبين} [2] بألف.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر في كلّ ذلك: {سحر مبين}
بغير ألف.
وقرأ حمزة والكسائيّ في المواضع الأربعة: ساحر بألف (4).
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت: «بغير ألف» من (م).
(4) السبعة 249.(3/270)
قال [أبو علي: قال تعالى] (1): {وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} فمن قرأ: {إلا سحر مبين} جعله إشارة إلى ما جاء به، كأنه قال: ما هذا الذي جئت به إلّا سحر، ومن قال: إلا ساحر، أشار إلى الشخص لا إلى الحدث الذي أتى به، وكلاهما حسن لاستواء كلّ واحد منهما في أنّ ذكره قد تقدم، وكذلك ما (2) في سورة الصف في قصة عيسى أيضا (3) وهو قوله: {فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [6] وكذلك ما في هود في (4) قوله: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} [7] فمن قال: {سحر} جعل الإشارة إلى الحدث ومن قال: ساحر فإلى الشخص.
فأما اختيار من اختار ساحر * في هذه المواضع لما ذهب إليه من أنّ الساحر يقع على العين (5) والحدث، فإنّ وقوع اسم فاعل على الحدث، ليس بالكثير، إنّما جاء في حروف قليلة. ولكن لمن اختار سحرا (6) أن يقول: إنّه يجوز أن يراد به الحدث والعين جميعا، ألا ترى أنّه يستقيم أن يقول: {إن هذا إلا سحر} وأنت تريد به (7):
__________
(1) ما بين معقوفين ساقط من (م).
(2) في (م): فيما.
(3) أيضا: زيادة في (ط).
(4) في (ط): من.
(5) في (ط): المعنى، وهو سبق قلم من الناسخ.
(6) في (ط): سحر.
(7) سقطت من (م).(3/271)
ذو سحر، كما جاء {ولكن البر من آمن بالله} [البقرة / 177] و {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام} [التوبة / 19] أي: أهلها، ألا ترى قوله: {كمن آمن بالله}. وقالوا: إنّما أنت سير، وما أنت إلّا سير.
وإنّما هي إقبال وإدبار (1)
فيجوز أن يريد بسحر، ذا سحر.
وساحر لا يجوز أن يراد به سحر، وقد جاء فاعل يراد به المصدر في حروف ليست بالكثيرة نحو: عائذا بالله من شرها، أي: عياذا، ونحو: العاقبة. ولم تصر هذه الحروف من الكثرة بحيث يسوغ القياس عليها. وحكي أنّ أبا عمرو كان يقول: إذا كان بعده: مبين * فهو سحر *، وإذا كان بعده عليم * فهو ساحر *، ولا إشكال في الوصف بعليم أنّه لا ينصرف إلى الحدث، ولكن مبين * يقع على الحدث كما يقع على العين، فإذا كان كذلك لم يمتنع: ساحر مبين، كما لم يمتنع: سحر مبين.
المائدة: 112
واختلفوا (2) في الياء والتاء من قوله جل وعز: {هل يستطيع ربك} [المائدة / 112].
__________
(1) هذا عجز بيت للخنساء صدره:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنما
ديوانها / 50وهو من شواهد سيبويه 1/ 169والمقتضب 3/ 230، 4/ 305 والمحتسب 2/ 43والمنصف 1/ 197وابن الشجري 1/ 71والخزانة 1/ 207.
(2) في (ط): اختلفوا.(3/272)
فقرأ الكسائي وحده: هل تستطيع ربك بالتاء، ونصب الباء واللام مدغّمة في التاء.
وقرأ الباقون: {هل يستطيع ربك} بالياء ورفع الباء (1).
[قال أبو علي] (2) وجه قراءة الكسائي: تستطيع * بالتاء أن المراد: هل تستطيع سؤال ربك، وذكروا الاستطاعة في سؤالهم له لا لأنّهم شكّوا في استطاعته، ولكن كأنّهم ذكروه على وجه الاحتجاج عليه منهم، كأنّهم قالوا: إنّك مستطيع فما يمنعك؟! ومثل ذلك قولك لصاحبك: أتستطيع أن تذهب عني فإنّي مشغول؟ أي:
اذهب لأنّك غير عاجز عن ذلك. وأما أن * في قوله: هل تستطيع ربك أن ينزل فهو من صلة المصدر المحذوف، ولا يستقيم الكلام إلّا على تقدير ذلك، ألا ترى أنّه لا يصح: هل تستطيع أن يفعل غيرك؟ وأنّ الاستفهام لا يصح (3) عنه، كما لا يصح في الإخبار: أنت تستطيع أن يفعل زيد، فأن في قوله: {أن ينزل علينا}
متعلّق بالمصدر المحذوف على أنّه مفعول به. فإن قلت: هل يصح هذا على قول سيبويه، وقد قال: إن بعض الاسم لا يضمر في قوله:
إلّا الفرقدان (4)
فإن ذلك لا يمتنع، لأنّه في تقدير المذكور في اللفظ وإن
__________
(1) السبعة 249.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): لا يقع.
(4) وهو قطعة من بيت سبق بتمامه في 1/ 22.(3/273)
كان محذوفا منه، إذ كان الكلام لا يصحّ إلّا به، كما ذهب إليه في قوله:
ونار توقّد بالليل نارا (1)
إلى أنّ كلّا في تقدير الملفوظ به من حيث لو لم تقدره كذلك لم يستقم عنده، فكذلك قياس الآية على قوله.
وأمّا قراءة من قرأ: {هل يستطيع ربك} فليس على أنّهم شكّوا في قدرة القديم سبحانه على ذلك، لأنّهم كانوا مؤمنين عارفين، ولكن كأنّهم قالوا: نحن نعلم قدرته على ذلك فليفعله بمسألتك إياه، ليكون علما (2) لك ودلالة على صدقك، وكأنّهم سألوه ذلك ليعرفوا صدقه وصحّة أمره من حيث لا يعترض عليهم منه إشكال ولا تنازعهم فيه شبهة، لأنّ علم الضرورة لا تعرض فيه الشبه التي تعرض في علوم الاستدلال، فأرادوا علم أمره من هذا الوجه فمن ثم قالوا: {وتطمئن قلوبنا} [المائدة / 113] كما قال إبراهيم عليه السلام: {بلى ولكن ليطمئن قلبى} [البقرة / 260] بأن أعلم ذلك، من حيث لا يكون لشبهة ولا إشكال عليّ طريق.
وليس قول عيسى عليه السلام لهم: {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين}
__________
(1) عجز بيت لأبي دواد الإيادي وصدره:
أكلّ امرئ تحسبين امرأ انظر الكتاب 1/ 33، والكامل 1/ 247، 3/ 825، ابن الشجري 1/ 296 والإنصاف 2/ 473، وابن يعيش 3/ 26، 27، 29، 79، 5/ 142، 8/ 52.
9/ 105وشرح أبيات المغني 5/ 190والدرر 2/ 65والأشموني 2/ 273.
(2) ضبطت (م) الكلمة بكسر العين وتسكين اللام وليس ذلك بالوجه.(3/274)
[المائدة / 112] إنكارا لسؤالهم، ولكن قال لهم هذا، كما جاء:
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران / 102] {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة / 35] {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس} [الحشر / 18] ونحو هذا من الآي.
وأمّا إدغام الكسائي اللام في التاء فحسن، ألا ترى أنّ أبا عمرو قد أدغمها في التاء، فيما حكى عنه سيبويه (1) من قوله:
هثوب الكفار [المطففين / 36] والتاء أقرب إليها من الثاء والإدغام في المتقاربين (2)، إنّما يحسن بحسب قرب الحرف من الحرف، وإذا جاز إدغامها في الشين مع أنها أبعد منها من حروف طرف اللسان والثنايا لأنّها تتصل بمخارج هذه الحروف فأن يجوز في الثاء ونحوها من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا أجدر، وأنشد سيبويه:
تقول إذا استهلكت مالا للذّة
فكيهة هشّيء بكفّيك لائق (3)
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 417.
(2) في (م): المقاربين.
(3) الكتاب 2/ 417وانظر ابن يعيش 10/ 141، واللسان (ليق) والبيت لطريف بن تميم العنبري كما نسبه سيبويه قال الأعلم: الشاهد فيه: إدغام لام هل في الشين لاتساع مخرج الشين وتفشيها، وإجرائها وإن كانت من وسط اللسان إلى طرفه، واختلاطها بطرفه، واللام من حروف طرف اللسان فأدغمت فيها لذلك، وإظهارها جائز لأنّهما من كلمتين مع انفصالهما في المخرج، واللائق: المستقر المحتبس.(3/275)
قال سيبويه: وقد قرئ: بتؤثرون الحياة الدنيا [الأعلى / 16]) وأنشد:
فذر ذا ولكن هتّعين متيّما
على ضوء برق آخر الليل ناصب (1)
قال أحمد بن موسى: قرأ نافع وحده: طائرا بألف مع الهمز.
وقرأ الباقون {طيرا} بغير ألف (2). [المائدة / 110].
حكى أبو الحسن الأخفش: (3) طائرة، وطوائر، ونظير (4) ما حكاه من ذلك قولهم: ضائنة، وضوائن (5). فأما الطير فواحده طائر. مثل ضائن وضان، وراكب وركب، والطائر كالصفة الغالبة، وقد قالوا: أطيار، فهذا مثل صاحب وأصحاب، وشاهد وأشهاد، وشبّهوا فيعلا بفاعل، فقالوا: ميّت وأموات، ويمكن أن يكون أطيار جمع طير، جعله مثل بيت وأبيات، وجمعوه على العدد القليل كما قالوا: جمالان ولقاحان، وإذا (6) جاز أن يثنّى، جاز العدد القليل أيضا فيه، وكما جمع على أفعال كذلك جمع على
__________
(1) نسبه سيبويه لمزاحم العقيلي. انظر الكتاب 2/ 417وفيه: فدع، بدل: فذر.
وانظر ابن يعيش 10/ 141.
(2) السبعة 249.
(3) سقطت كلمة (الأخفش) من (م).
(4) سقطت من (م).
(5) في اللسان: الضوائن جمع ضائنة وهي الشاة من الغنم خلاف المعز.
(6) في (ط): فإذا.(3/276)
العدد الكثير، فقالوا: طيور فيما حكاه أبو الحسن.
ولو قال قائل: إنّ الطائر قد يكون جمعا مثل الجامل، والباقر. والسامر، فيكون على هذا معنى القراءتين واحدا، لكان قياسا. ويقوي ذلك ما حكاه أبو الحسن من قولهم: طائرة، فيكون [على هذا] (1) من باب شعيرة وشعير.
فأما قوله: {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير}
[آل عمران / 49] وفي هذه: {فتنفخ فيها} [المائدة / 110] وفي آل عمران: {فأنفخ فيه} فالقول في ذلك أنّ الضمير الذي في قوله {فيها} لا يخلو من أن يعود إلى ما تقدم له ذكر في الكلام، أو إلى ما وقعت عليه دلالة من اللفظ، فمما تقدم ذكره: الطين، والهيئة، والطير، فلا يجوز أن يعود إلى الطين لتأنيث الضمير [الراجع إليه] (2) وتذكير ما يعود الضمير إليه، ولو كان الذكر مذكرا لم يسهل أن يعود إليه، ألا ترى أنّ النفخ إنّما يكون في طين مخصوص، وهو ما كان منه مهيّأ للنفخ (3)، والطين المتقدم ذكره عامّ، فلا يكون العائد على حسب ما يعود إليه. فإن قلت: يعود الذكر من فيها * إلى الهيئة. فإنّ النفخ لا يكون في الهيئة إنّما يكون في المهيّأ، ذي (4) الهيئة، إلّا أن تجعل الهيئة التي هي
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): وذي.(3/277)
المصدر في (1) موضع المهيّأ، كما يقع الخلق موضع المخلوق.
وإذا ذكّر فقال: {أنفخ فيه} جاز أن يكون الضمير عائدا على ذي الهيئة، كما قال: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى} {فارزقوهم منه} (2) إذ (3) جعلت القسمة المقسوم. ويجوز أن يعود إلى الطير لأنّها مؤنّثة (4)، قال: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات} [الملك / 19].
ويجوز أن يعود الذكر إذا ذكّر على ما وقعت عليه الدّلالة (5) في اللفظ، وهو أنّ يخلق يدلّ على الخلق، كما أنّ يبخلون يدل على البخل، فيجوز في قوله: {فأنفخ} [6] فيه أي: في الخلق، ويكون الخلق بمنزلة المخلوق. ويجوز أن يعود الذكر حيث ذكر إلى ما دلّ عليه الكاف من معنى المثل، أو إلى الكاف نفسه فيمن يجوّز أن يكون اسما في غير الشعر، وتكون الكاف في موضع نصب على أنّه صفة للمصدر المراد، تقديره: وإذ تخلق خلقا من طين (7) كهيئة الطير، فتنفخ في الخلق الذي يراد به المخلوق.
ويجوز في قراءة نافع: فيكون طائرا، أن يكون الذكر المؤنث يرجع إلى الطائر على قوله: {أعجاز نخل خاوية}
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) وتمام الآية: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا} [النساء / 8].
(3) في (ط): إذا جعلت.
(4) في (ط): مؤنث.
(5) في (ط): على ما وقعت الدلالة عليه.
(6) في (ط): فتنفخ.
(7) في (ط): الطين.(3/278)
[الحاقة / 7] والموضع الذي ذكّر فيه يكون على قوله: {أعجاز نخل منقعر} [القمر / 20] و {الشجر الأخضر} [يس / 80] ويكون أيضا على من جعله (1) جمعا: كالسامر، والجامل، والباقر، فأما قول الشاعر:
هم أنشبوا زرق القنا في نحورهم
وبيضا تقيض البيض من حيث طائره (2)
فإن الدماغ يسمى الفرخ، فيما روى لنا محمد بن السريّ، وتقيض: تكسر. وقد قال غيره: الدماغ يقال له الفرخ، فوضع الطائر موضع الفرخ، لأنّه في المعنى طائر وحرّف الاسم عمّا كان عليه لما احتاج إليه من إقامة القافية، كما حرّف لإقامة الوزن في نحو ما أنشدناه علي بن سليمان:
بني ربّ الجواد فلا تفيلوا
فما أنتم فنعذركم لفيل (3)
أراد ربيعة الفرس، فوضع الجواد موضعه، وأنشدنا علي بن سليمان:
__________
(1) في (ط): يجعله.
(2) البيت في المعاني الكبير 2/ 987وعزاه إلى عبد الله بن الحويرث الحنفي.
ونقله عن الفارسي صاحب اللسان (نشب طير) وقال: عنى بالطائر الدماغ، وذلك من حيث قيل له: فرخ.
(3) البيت للكميت بن زيد في ديوانه 2/ 51وانظر معجم تهذيب اللغة 15/ 376 والصحاح واللسان (فيل) وإصلاح المنطق 89والمشوف المعلم 587 ومقاييس اللغة 4/ 467والضرائر 243. ورجل فيل الرأي، أي ضعيف الرأي والجمع أفيال.(3/279)
كأنّ نزو فراخ الهام بينهم
نزو القلات زهاها قال قالينا (1)
فأراد بفراخ الهام الدماغ. فقوله: فراخ الهام ليس (2)
يضيف الشيء إلى نفسه، ولكن الهام جمع هامة، فتشمل (3)
الدماغ وغيره، فصار بمنزلة نصل السيف، لأنّ السيف يقع على النصل وغيره [وعلى نفسه] (4) فأضاف الطائر إلى البيض في قوله: «من حيث طائره» لالتباسه به كما قال: {وليلبسوا عليهم دينهم} [الأنعام / 137] يريد الدين الذي شرع لهم، فأضافه إليهم لالتباسهم به من حيث شرع لهم ودعوا إليه، وإن لم يتدينوا به.
وقوله:
هم أنشبوا زرق القنا (5)
على حذف المضاف التقدير: هم أنشبوا زرق أسنة القنا، لأنّ الذي يوصف بالزرقة السنان دون الرماح، ألا ترى أنّ الرماح
__________
(1) البيت لابن مقبل وهو في ملحقات ديوانه / 407وفي اللسان (قول، طير، قلا) ونسبه إلى ابن مقبل. وهو في المعاني الكبير 2/ 987من غير عزو. فراخ الهام: يريد بها الرءوس، ونزو فراخ الهام: تطاير الرءوس في الحرب من ضرب السيوف، والقلات: جمع قلّة، وهي الدوامة التي يلعبون بها، والقال:
الخشبة التي تضرب بها الدوامة، والقالون: الذين يلعبون بالقلة ويضربون بها من قلا يقلو، زهاها: رفعها وأطارها.
(2) في (ط): لم يضف.
(3) في (ط): فهو يشمل.
(4) سقطت من (ط).
(5) سبق قريبا.(3/280)
توصف بالسّمرة في نحو (1) قوله:
وأسمر خطيّا كأنّ كعوبه (2)
ووصفت الأسنة بالزرقة في نحو قوله:
وزرق كستهنّ الأسنّة هبوة
أرقّ من الماء الزّلال كليلها (3)
الأسنّة: واحدها سنان، وهي المسانّ، فإذا كان الكليل أرقّ من الماء الزّلال، فكيف الحادّ، وما لم يكلّ، وإن شئت جعلت الزرق الأسنّة على إقامة الصفة مقام الموصوف، كأنّه: هم أنشبوا أسنّة القنا. فأمّا قول الكميت:
وليس التفحّش من شأنهم
ولا طيرة الغضب المغضب
فقوله: طيرة الغضب، يحتمل ضربين: أحدهما مصدر طار الغضب يطير طيرة، وقد قالوا: طار طير فلان إذا غضب وخفّ، وأنشد بعض أصحاب الأصمعي:
فلمّا أتاني ما يقول تطايرت
عصافير رأسي وانتشيت من الخمر
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) لم نعثر على قائله وتتمته.
(3) البيت لزيد الخيل في المعاني الكبير 2/ 1042وفي أساس البلاغة (سنن) بغير عزو. قال ابن قتيبة: زرق: نصال بيض، والأسنة: المسان التي يحدد بها، واحدها سنان، وهبوة: يعني من صفائها. كأن عليها غبرة.(3/281)
ويجوز في قوله: طيرة الغضب أن يكون سمّى الطائر الذي استعمل في الغضب باسم المصدر.
قال [أحمد بن موسى] (1): قرأ نافع وعاصم وابن عامر {منزلها} [المائدة / 115] مشدّدة.
وقرأ الباقون: خفيفة (2).
وجه التخفيف أنّه قال: {أنزل علينا مائدة} فقال: إني منزلها فيكون الجواب كالسؤال. ومن قال: {منزلها} فلأنّ نزّل وأنزل، قد استعمل كلّ واحد منهما موضع الآخر، قال: {نزل عليك الكتاب بالحق} [آل عمران / 3] وقال: {وأنزل الفرقان}
[آل عمران / 4] وقال تعالى (3): {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان / 1] وقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} [الكهف / 1] فقد صار كل واحد من هاتين اللفظتين يستعمل موضع الأخرى.
المائدة: 119
اختلفوا في نصب الميم ورفعها من قوله تعالى (4): {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة / 119].
فقرأ نافع وحده: هذا يوم ينفع بنصب الميم.
وقرأ الباقون {هذا يوم} برفع الميم (5).
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 250.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة 250.(3/282)
من رفع يوما جعله خبر المبتدأ الذي هو هذا * وأضاف يوما إلى ينفع، والجملة التي من المبتدأ وخبره في موضع نصب بأنّه مفعول القول، كما تقول: قال زيد: عمرو أخوك.
ومن قرأ (1): هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم احتمل أمرين: أحدهما أن يكون مفعول قال *، تقديره: قال الله هذا القصص، أو هذا الكلام: يوم ينفع الصادقين صدقهم، فيوم ظرف للقول، وهذا إشارة إلى ما تقدم ذكره من قوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم} [المائدة / 116]، وجاء على لفظ المضي وإن كان المراد به الآتي: كما قال: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} [الأعراف / 50] ونحو ذلك، وليس ما بعد قال * حكاية في هذا الوجه، كما كان إياها في الوجه الآخر. ويجوز أن يكون المعنى على الحكاية تقديره: قال الله هذا يوم ينفع. أي: هذا الذي اقتصصنا يقع، أو يحدث يوم ينفع الصادقين، فيوم خبر المبتدأ الذي هو هذا لأنّه إشارة إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث، والجملة في موضع نصب بأنّها في موضع مفعول. قال: ولا يجوز أن تكون في موضع رفع وقد فتح لإضافته إلى الفعل، لأنّ المضاف إليه معرب، وإنّما يكتسي البناء من المضاف إليه، إذا كان المضاف إليه مبنيا، والمضاف مبهما، كما يكون ذلك في هذا الضرب من الأسماء إذا أضيف إلى ما كان مبنيا، نحو: {ومن خزي يومئذ} [هود / 66] و {من عذاب يومئذ}
[المعارج / 11]. وصار في المضاف البناء للإضافة إلى المبني كما صار فيه الاستفهام للإضافة إلى المستفهم به نحو: غلام من
__________
(1) في (ط): قال.(3/283)
أنت؟ وكما صار فيه الجزاء في نحو: غلام من تضرب أضرب وليس المضارع في هذا كالماضي في نحو قوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا (1)
لأنّ الماضي مبني والمضارع معرب، فإذا كان معربا، لم يكن شيء يحدث من أجله في المضاف البناء، ولا يلزم أن تقدّر في الفعل هنا عائدا إلى شيء، لأنّ الفعل قد أضيف إليه وليس بصفة، ولا يلزم أن يكون في المضاف ذكر من المضاف إليه (2)، فليس قوله: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} فيمن رفع أو نصب كقوله: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} [البقرة / 48] لأنّ الفعل هنا (3) صفة للنكرة، فلا بدّ من ذكر عائد منه إلى الموصوف، ولو نوّن اليوم هنا لكان {ينفع} صفة له، ولما لم ينوّن كان مضافا إليه، والإضافة إلى الفعل نفسه في الحقيقة لا إلى مصدره، ولو كانت الإضافة إلى المصدر لم يبن المضاف لبناء المضاف إليه في نحو:
على حين عاتبت المشيب على الصبا (4)
[تمّت سورة المائدة والحمد لله وحده] (5)
__________
(1) هذا صدر بيت للنابغة الذبياني عجزه:
فقلت: ألما تصح والشيب وازع انظر ديوانه / 44، والكامل 1/ 158وشرح أبيات مغني اللبيب 7/ 123. مع بقية تخريجه.
(2) عبارة (م) هنا: ولا يلزم أن يكون في المضاف إليه عائد إلى الأول.
(3) في (ط): هاهنا.
(4) سبق قريبا.
(5) سقط ما بين المعقوفين من (ط).(3/284)
{بسم الله} (1)
سورة الأنعام
الانعام: 16
اختلفوا في ضمّ الياء وفتحها من قوله تعالى (2): {من يصرف عنه يومئذ} [الأنعام / 16].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر يصرف عنه مضمومة الياء مفتوحة الراء.
وقرأ حمزة والكسائي: يصرف عنه مفتوحة الياء مكسورة الراء (3).
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر عنه من يصرف مثل حمزة وروى حفص: {يصرف عنه} مثل أبي عمرو. فاعل يصرف الضمير العائد إلى ربي * من قوله: {إني أخاف إن عصيت ربي}
[الأنعام / 15]، وينبغي أن يكون حذف الضمير العائد إلى
__________
(1) زيادة من (م).
(2) زيادة من (م).
(3) السبعة ص 254.(3/285)
العذاب، والمعنى: من يصرفه عنه، وكذلك هو في قراءة أبيّ فيما زعموا، وليس حذف هذا الضمير بالسهل، وليس بمنزلة الضمير الذي يحذف من الصلة، لأنّ من * جزاء، ولا يكون صلة على أنّ الضمير إنّما يحذف من الصلة إذا عاد إلى الموصول نحو: {أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان / 41]. {وسلام على عباده الذين اصطفى} [النمل / 59] أي: بعثه واصطفاهم. ولا يعود الضمير المحذوف هنا (1) إلى موصول ولا إلى من * التي للجزاء إنّما يرجع إلى العذاب في قوله: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [الأنعام / 15] وليس هذا بمنزلة قوله: {والحافظين فروجهم والحافظات} [الأحزاب / 35]، لأنّ هذا فعل واحد قد تكرّر، وعدّي الأول منهما إلى المفعول، فعلم بتعدية الأول، أنّ الثاني بمنزلته.
وأمّا قراءة من قرأ {يصرف} فالمسند إليه: الفعل المبني للمفعول، ضمير العذاب المتقدّم ذكره، وليس هذا كقول من قال: يصرف بفتح الياء، لأنّ ضمير المنصوب هنا محذوف، وفي قول من قرأ: {يصرف} مضمر ليس بمحذوف، والذكر العائد إلى المبتدأ الذي هو من في القراءتين جميعا الضمير الذي في عنه. ومما يقوي ذلك قوله: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم}
[هود / 8]. ألا ترى أنّ الفعل مبني للمفعول به وفيه ضمير العذاب؟ وممّا يحسّن قراءة من قرأ: يصرف، بفتح الياء، أنّ ما
__________
(1) في (ط): هاهنا.(3/286)
بعده من قوله: {فقد رحمه} فعل مسند إلى ضمير اسم الله تعالى (1)، فقد اتّفق الفعلان في الإسناد إلى هذا الضمير فيمن قرأ يصرف (2) بفتح الياء.
ومما يقوي قراءة من قرأ: من يصرف (3) بفتح الياء، أنّ الهاء المحذوفة من يصرفه لما كانت في حيز الجزاء، وكان ما في حيز الجزاء في أنّه لا يتسلّط على ما تقدّمه، بمنزلة ما في الصلة، في أنّه لا يجوز تسلّطه على الموصول، حسن حذف الهاء منه، كما حسن حذفها من الصلة.
الانعام: 23
واختلفوا (4) في الياء والتاء والرفع والنصب من قوله [جلّ وعزّ]: (5) ثم لم تكن فتنتهم [الأنعام / 23].
فقرأ ابن كثير في رواية قنبل عن القواس، وعبيد بن عقيل عن شبل عن ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم {ثم لم تكن} بالتاء {فتنتهم} رفعا.
وروى خلف وغيره عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: {ثم لم تكن} بالتاء فتنتهم نصبا.
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (ط): (من يصرف).
(3) في (ط): (يصرف).
(4) في (ط): اختلفوا.
(5) سقطت من (ط).(3/287)
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر {تكن} بالتاء فتنتهم نصبا (1).
وقرأ حمزة والكسائي ثم لم يكن بالياء فتنتهم نصبا (2).
[قال أبو علي] (3) من قرأ: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا [الأنعام / 23] تكن بالتاء ورفع الفتنة، كان ذلك حسنا لإثباته علامة التأنيث في الفعل المسند إليه الفتنة، والفتنة مؤنثة بلحاقها علامة التأنيث (4) و {أن قالوا} على هذه القراءة: في موضع نصب، والتقدير: لم تكن فتنتهم إلّا قولهم. فأمّا ما روي عن ابن كثير من (5) قراءته: {ثم لم تكن} بالتاء فتنتهم نصبا، فقد أنّث، {أن قالوا} لمّا كان الفتنة في المعنى، وفي التنزيل: {فله عشر أمثالها}
[الأنعام / 160] فأنّث الأمثال، وواحدها مثل، حيث كانت الأمثال في المعنى الحسنات، وقد كثر مجيء هذا في الشعر والرواية الأولى أوجه من حيث كان الكلام محمولا فيها على اللفظ. ومثل هذا قراءة نافع، وأبي عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر. ومما جاء على هذا في الشعر قوله:
__________
(1) جاء في (م) بعد كلمة نصبا العبارة التالية، وهي مستدركة على هامشها: «لم يذكر في هذه الآية قراءة حمزة والكسائي». اهـ ويلاحظ أن قراءة حمزة والكسائي مذكورة بعدها مباشرة.
وهي زيادة ليست في (ط) ولا في السبعة.
(2) انظر السبعة ص 255فهناك اختلاف يسير في التقديم والتأخير والمؤدى واحد.
(3) زيادة من (ط).
(4) في (م): «بلحاق علامة التأنيث إياها».
(5) في (ط): في.(3/288)
وكانت عادة
منه إذا هي عرّدت إقدامها (1)
فأنّث الإقدام لما كان العادة في المعنى، وهذا البيت، وهذه الآية إذا قرئت على القياس (2) أقرب من قول الشاعر:
هم أهل بطحاوي قريش كليهما
هم صلبها ليس الوشائظ كالصلب (3)
لأنّ بطحاوي مكة مؤنث، والمذكر: الأبطح، فهو لفظ غير لفظ المؤنّث، والفتنة هي: القول.
وقد جاء في الكلام: ما جاءت حاجتك، فأنّث ضمير (ما) حيث كان الحاجة في المعنى: وألزم التأنيث ونصبت (4) الحاجة. ومثل
__________
(1) من بيت للبيد في معلقته وتمامه:
فمضى وقدّمها وكانت
انظر ديوانه / 170وفي السبع الطوال ص 550. ومضى: أي الحمار، وقدم الأتان لكيلا تعند عليه. عرّدت: تركت الطريق وعدلت عنه وأصل التعريد:
الفرار. وانظر اللسان (عرد).
(2) في (ط): قياسه.
(3) البيت في اللسان (وشظ) وقال فيه: ويقال: بنو فلان وشيظة في قومهم، أي:
حشو فيهم، وأنشد البيت ولم يعزه وفي شعر الأخطل 1/ 47بيت شطره الثاني كأنه له برواية:
على ابن أبي العاصي قريش تعطفت
له صلبها ليس الوشائظ كالصلب
(4) في (ط): ونصب.(3/289)
ذلك قولهم: من كانت أمّك، فأنّث ضمير من حيث كان الأمّ (1)
ومثله: ومن تقنت منكن [الأحزاب / 31]. وممّا يقوّي [نصب فتنتهم] (2) أنّ قوله: {أن قالوا}: أن يكون الاسم دون الخبر أولى، لأنّ أن * إذا وصلت لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر (3). فكما أنّ المضمر إذا كان مع المظهر كان أن يكون الاسم أحسن، كذلك أن * إذا كانت مع اسم غيرها، كانت أن تكون الاسم أولى.
الانعام: 22
قال: وقرأ عاصم في رواية حفص {ويوم نحشرهم}
[الأنعام / 22] بالنون حرفين هاهنا، وفي يونس قبل الثلاثين (4) أيضا:
{ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا} [يونس / 28] وباقي القرآن بالياء.
وروى أبو بكر عن عاصم ذلك كلّه بالنون.
وقرأ الباقون بالنون إلّا أنّهم اختلفوا في سورة الفرقان، ويأتي في موضعه [إن شاء الله] (5).
حجّة من قرأ بالنون قوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا}
[الكهف / 47] وقوله: {ويوم نحشرهم} [الأنعام / 22]، والياء في المعنى كالنون.
__________
(1) ذكر ذلك سيبويه في 1/ 24.
(2) في (ط): قراءة من قرأ فتنتهم بالنصب.
(3) في (ط): الضمير.
(4) المراد في الآية 28وهي قبل الثلاثين. كما قال.
(5) سقطت من (م)، وهي في السبعة ص 254.(3/290)
الانعام: 23
اختلفوا في الخفض والنصب من قوله تعالى (1): {والله ربنا} [الأنعام / 23].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر بالكسر فيهما.
وقرأ حمزة والكسائي: والله ربنا بالنصب (2).
من قرأ {والله ربنا}: جعل الاسم المضاف وصفا للمفرد، ومثل ذلك: رأيت زيدا صاحبنا، وبكرا جاركم. وقوله: {ما كنا مشركين} [الأنعام / 23] جواب القسم.
ومن قال: والله ربنا، فصل بالاسم المنادى بين القسم والمقسم عليه بالنداء، والفصل به لا يمتنع، وقد فصل بالمنادى بين الفعل ومفعوله [كما فعل ذلك] (3) في نحو قوله: {إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك}
[يونس / 88] والمعنى آتيتهم زينة (4) وأموالا ليضلوا فلا يؤمنوا (5)، وفصل به في أشدّ من ذلك، وهو الفصل بين الصلة والموصول قال:
__________
(1) في (ط): عزّ وجل.
(2) انظر السبعة ص 254.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): فلا يؤمنوا به.(3/291)
فلأحشأنّك مشقصا * أوسا أويس من الهبالة (1)
وهذا لكثرة النداء في الكلام ومثل ذلك في الفصل قوله:
ذاك الّذي وأبيك تعرف مالك
والحقّ يدفع ترّهات الباطل (2)
الانعام: 27
اختلفوا في الرفع والنصب من قوله [جلّ وعزّ]: (3) ولا نكذب بآيات ربنا ونكون [الأنعام / 27].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: ولا نكذب ونكون * جميعا بالرفع.
وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص: {ولا نكذب} {ونكون} بنصبهما هذه رواية ابن ذكوان عن أصحابه عن (4) أيوب بن تميم عن ابن عامر. وقال هشام ابن عمار عن أصحابه عن ابن عامر: ولا نكذب مرفوعة، {ونكون} نصبا (5).
__________
(1) البيت مع آخر قبله في الخصائص 2/ 72برواية المصنف، ومع اختلاف في الرواية يسير في السمط 1/ 437. وهو ثالث أبيات ثلاثة في تهذيب الألفاظ ص 579ولم أجدها منسوبة فيما تقدم وتنسب للفرزدق وهي في ديوانه.
2/ 607وهي في اللسان (حشأ أوس هبل) لأسماء بن خارجة وتنسب للكميت كما في الأزمنة 1/ 259وسبق ذكر البيت في 1/ 108.
(2) البيت لجرير.
في ديوانه 2/ 580وروايته يدمغ بدل: يدفع، والخصائص 1/ 336وهو من شواهد شرح أبيات المغني 6/ 212، وانظر ص 192، 214، 238منه.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت: «عن» من (ط).
(5) السبعة ص 255.(3/292)
[قال أبو علي] (1): [فأمّا] (2) من قرأ بالرفع جاز في قراءته وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفا على {نرد} فيكون قوله: ولا نكذب ونكون * (2) داخلا في التمني دخول {نرد} فيه، فعلى هذا: قد تمنّى الردّ، وأن لا نكذّب، والكون من المؤمنين.
ويحتمل الرفع وجها آخر: وهو أن تقطعه من الأول، فيكون التقدير على هذا: يا ليتنا (4) نردّ ونحن لا نكذب بآيات ربّنا، ونكون.
قال سيبويه: وهو على قولك: فإنّا لا نكذب، كما تقول: دعني ولا أعود، أي: فإنّي ممن لا يعود، فإنّما يسألك الترك، وقد أوجب على نفسه أن لا يعود ترك أو لم يترك، ولم يرد أن يسأل: أن يجمع له الترك وأن لا يعود (5).
وهذا الوجه الثاني ينبغي أن يكون أبو عمرو ذهب إليه في قراءته جميع ذلك بالرفع، فالأوّل الذي هو [عطف على] (6) الردّ داخل في التمني، وقوله: ولا نكذب بآيات ربنا ونكون * على نحو: دعني ولا أعود، يخبرون على البتات أن لا يكذّبوا ويكونوا من المؤمنين، لأنّ أبا عمرو روي عنه أنّه استدلّ على خروجه من التمني بقوله: {وإنهم لكاذبون} [الأنعام / 28] فقال: قوله:
{وإنهم لكاذبون} يدلّ على أنّهم أخبروا بذلك عن أنفسهم، ولم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (م).
(4) في (م): «أننا».
(5) انظر الكتاب 1/ 426.
(6) سقطت من (ط).(3/293)
يتمنوه، لأنّ التمني لا يقع فيه الكذب، إنّما يكون الكذب في الخبر دون التمني. وأهل النظر يذهبون إلى أنّ الكذب لا يجوز وقوعه في الآخرة، فإذا لم يجز ذلك فيها كان تأويل قوله: {وإنهم لكاذبون}. على تقدير: إنّهم لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث، ويكون قوله: {وإنهم لكاذبون} حكاية للحال التي كانوا عليها في الدنيا، كما أنّ قوله: {وكلبهم باسط ذراعيه} [الكهف / 18] حكاية للحال الماضية، وكما أنّ قوله:
{وإن ربك ليحكم بينهم} [النحل / 124] حكاية للحال الآتية.
ولو جاز الكذب في الآخرة لكان ذلك حجة للرفع على الوجه الذي ذكرنا.
وحجّة من نصب فقال: {يا ليتنا نرد ولا نكذب} {ونكون}
[الأنعام / 37] أنّه أدخل ذلك في التمني، لأنّ التمني غير موجب، فهو كالاستفهام والأمر والنهي والعرض في انتصاب ما بعد ذلك كلّه من الأفعال إذا دخلت عليها الفاء على تقدير ذكر مصدر الفعل الأول، كأنّه في التمثيل: يا ليتنا يكون لنا ردّ وانتفاء للتكذيب (1)، وكون من المؤمنين. ومن رفع {نرد} ولا نكذب ونصب {ونكون} [فإنّ الفعل الثاني من الفعلين المرفوعين] (2)
يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون داخلا في التمني فيكون في
__________
(1) في (م): «وانتفاء التكذيب».
(2) في (م): «فإن الموضوع» وما أثبتناه من (ط) أوضح، لأنّ ما في (م) قد ينصبّ على الفعلين المرفوعين وليس هو المراد. بل المراد الفعل الثاني «ولا نكذب».(3/294)
المعنى كالنصب. والوجه الآخر أنّه يخبر على البتات أن لا يكذّب ردّ أو لم يردّ. ومن نصب {ولا نكذب} {ونكون} جعلهما جميعا داخلين في المعنى في التمني كما أنّ من رفع ذلك، وعطفه على التمني كان كذلك.
الانعام: 32
اختلفوا في الياء والتاء من قوله (1): تتقون أفلا تعقلون [الأنعام / 32] في خمسة مواضع في الأنعام والأعراف [169] ويوسف [109]، ويس (2) [68]، والقصص [60].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالياء في أربعة مواضع وفي القصص بالتاء.
وقرأ نافع ذلك كلّه بالتاء.
وقرأ عاصم في رواية حفص ذلك بالتاء إلّا قوله في يس:
{في الخلق أفلا يعقلون} [الآية / 68] بالياء.
وروى أبو بكر بن عياش: ذلك كلّه بالياء إلّا قوله في يوسف أفلا تعقلون فإنّه قرأه بالتاء وفي القصص أيضا: بالتاء.
وقرأ ابن عامر واحدا بالياء، وسائر ذلك بالتاء، وهو قوله في يس: {ننكسه في الخلق أفلا يعقلون} وكلّهم قرأ في القصص بالتاء إلّا أبا عمرو فإنّه يقرأ بالتاء والياء (3).
__________
(1) في (ط): قوله عزّ وجل.
(2) في (ط) رسمها هكذا: ياسين في المواطن الآتية كلها.
(3) السبعة ص 256.(3/295)
[قال أبو علي] (1) العقل والحجا والنّهى كلم مختلفة الألفاظ متقاربة المعاني، قال الأصمعي: بالدّهناء خبراء، فالدهناء يقال لها: معقلة، قال: [أبو علي] (2) ونراها سمّيت معقلة لأنّها تمسك الماء، كما يمسك الدواء البطن، فالعقل: الإمساك، عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن. والحج أيضا:
احتباس وتمكّث، قال:
فهنّ يعكفن به إذا حجا (3)
روى محمد بن السري، وأنشد الأصمعي:
حيث تحجّى مطرق بالفالق (4)
تحجّى: أقام، فكأنّ الحجا مصدر كالشبع. ومن هذا الباب، الحجيّا: للّغز، لتمكّث الّذي يلقى عليه حتى يستخرجها.
قال أبو زيد: حج حجيّاك (5) فالحجيّا جاءت (6) مصغّرة كالثّريّا، والحديّا، ويشبه أن يكون ما حكاه أبو زيد من قولهم: حج
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) زيادة من (ط).
(3) هذا من رجز للعجاج في ديوانه 2/ 24وقبله:
يتبعن ذيّالا موشّى هبرجا ويعكفن به: يطفن به ويقمن عليه، حجا: وقف، يقول: هذه البقر يقبلن على الثور إذا وقف، لا يصرفن وجوههنّ عنه. هبرج: يتبختر وانظر المعاني الكبير 2/ 767. واللسان (عكف).
(4) الفالق اسم موضع انظر اللسان (فلق، حجا) وقال في (حجا): وأنشد الفارسي لعمارة بن أيمن الرياني، ثمّ أنشد البيت.
(5) سقطت من (م).
(6) في النوادر ص 310 (ط الفاتح).(3/296)
حجيّاك، على القلب، تقديره: فع، وحذف اللام المقلوبة إلى موضع العين. وهذا يدلّ على أنّ الكلمة لامها واو. وكذلك النهى لا يخلو من أن يكون مصدرا كالهدى، أو جمعا كالظلم، وقوله تعالى (1): {لأولي النهى} [طه / 128] يقوّي أنّه جمع لإضافة الجمع إليه، وإن كان المصدر يجوز أن يكون مفردا في موضع الجمع (2) وهو في المعنى ثبات وحبس. ومنه النهي والنهي والتنهية: للمكان (3) الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع فيه لتسفّله، ويمنعه ارتفاع ما حوله من أن يسيح ويذهب على وجه الأرض.
ووجه (4) القراءة بالياء في قوله: وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون أنه قد تقدّم ذكر الغيبة وهو قوله: {للذين يتقون} والمعنى: أفلا يعقل الذين يتّقون أنّ الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار [فيعملوا لما ينالون] (5) به الدرجة الرفيعة [والنعم الدائمة] (6) فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك.
وفي الأعراف: وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون [الآية / 169] [أفلا
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): الجميع.
(3) في (م): «المكان».
(4) في (م): «وجه».
(5) في (م): «فعملوا لما ينالوا، وما أثبتناه من (ط) أصوب».
(6) في (ط): والنعيم الدائم.(3/297)
يعقل] (1) هؤلاء الذين ارتكبوا المحارم في أخذ عرض هذا الأدنى، وأخذ مثله مع أنّهم (2) أخذ الميثاق عليهم في كتابهم، ومعرفتهم له بدرسهم ما في كتابهم أن لا يقولوا على الله إلّا الحقّ، فلا (3) يستحلوا ما حرّم عليهم من تناول أموال غيرهم المحظورة عليهم، وفي يوسف: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون}
[الآية / 109]، محمول على الغيبة التي (4) قبله في قوله: {أفلم يسيروا في الأرض} أي (5): أفلا يعقلون أنّ من تقدّمك من الرسل كانوا رجالا، ولم يكونوا ملائكة، فلا يقترحوا إنزال الملائكة في قولهم: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام / 8] وقولهم (6): {لولا أنزل علينا الملائكة} [الفرقان / 21] وليعتبروا (7)
بما فيه عاقبة من كان قبلهم فيما نزل من ضروب العذاب (8).
ووجه القراءة في القصص بالتاء، أن قبله خطابا، وهو قوله تعالى (9): {وما} [10] أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون [القصص / 60] [أي أفلا
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): «ولا».
(4) في (ط): الذي.
(5) سقطت من (م).
(6) في (ط): وقوله.
(7) في (ط): ويعتبروا.
(8) في (م) ينتهي هنا الجزء الثالث بينما يستمر الكلام في (ط). ويبدأ الثالث في (م) بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم: استعنت بالله.
(9) سقطت من (ط).
(10) في الأصل فما أوتيتم وهذه بداية آية الشورى / 36أما آية القصص(3/298)
تعقلون] (1) فتعملوا بما تستحقون به المنزلة في التي هي خير وأبقى، ولا تركنوا إلى العاجلة التي تفنى (2) ولا تبقى.
وقراءة نافع ذلك كلّه بالتاء، أنّه (3) يصلح أن يوجّه الخطاب في ذلك كلّه (4) إلى الذين خوطبوا بذلك، ويجوز أن يراد الغيب والمخاطبون، فيغلّب الخطاب، وهكذا وجه (5) رواية حفص عن عاصم في قراءته ذلك كلّه بالتاء، وقراءته في يس * (6) بالياء {أفلا يعقلون} [الآية / 68]. وجهه أن يحمله على أنّ فاعل يعقلون من تقدّم ذكره من الغيب في قوله: {ومن نعمره ننكسه في الخلق}
[يس / 68] أفلا يعقل من نعمره أنّه يصير إلى حالة لا يقدر فيها.
أن يعمل ما يعمله قبل الضعف للسن، فيقدّم قبل ذلك من القرب والأعمال الصالحة ما يرفع له، ويدّخر، ويجازى (7) عليه الجزاء الأوفى.؟.
ورواية أبي بكر بن عياش ذلك كلّه بالياء، إلّا قوله في يوسف {أفلا تعقلون} [الآية / 109] أي: أفلا تعقلون أيها
__________
فهي ما أثبتناه واقتصر في (ط) على بداية الآية ونهايتها وأسقط ما بين المعقوفين، كما أسقط في (م): «وزينتها». وآية الشورى لا تنتهي بقوله: {أفلا تعقلون}.
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): «يفنى» وهو حسن.
(3) سقطت من (م).
(4) سقطت من (م).
(5) سقطت من (ط).
(6) رسمها في (ط): «ياسين».
(7) في (ط): «فيجازى».(3/299)
المخاطبون أن ذلك خير؟ أو على: قل لهم: أفلا تعقلون؟ وفي القصص أيضا بالتاء، فهذا لأنّ قبله خطابا، وقد تقدّم ذكر ذلك.
وقراءة ابن عامر من ذلك واحدا بالياء، وسائر ذلك بالتاء، فوجه التاء قد ذكر.
وأما وجه الياء في قوله: أفلا يعقلون فللغيبة التي قبل، وهو (1) قوله: ومن نعمره ننكسه في الخلق [يس / 68]، وجاء يعقلون على معنى من، لأنّ معناها الكثرة، وجاء في قوله:
{نعمره} وننكسه على لفظ من *، ولو جاء على معناها لكان حسنا أيضا، ومثل ذلك في المعنى قوله (2): {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} [النحل / 70]، وقوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين} [التين / 5].
وقراءة أبي عمرو في القصص بالياء والتاء وتخييره في ذلك، فوجه التاء أبين للخطاب الذي قبله، وهو قوله: {وما أوتيتم}
{أفلا تعقلون} والياء على قوله: أفلا يعقل المميّزون ذلك؟ أراد:
أفلا يعقل المخاطبون بذلك أنّ هذا هكذا.
قال: وكلهم قرأ {وللدار الآخرة} [الأنعام / 32] بلامين ورفع الآخرة غير ابن عامر فإنّه قرأ: ولدار الآخرة بلام واحدة وخفض الآخرة (3).
الحجة لقراءتهم قوله: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان}
__________
(1) في (ط): وهي.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة ص 256.(3/300)
[العنكبوت / 64]، وقوله: {تلك الدار الآخرة}
[القصص / 83]، فالآخرة صفة للدار، وإذا كانت صفة لها (1)
وجب أن يجرى عليها في الإعراب، ولا يضاف إليها.
والدّليل على كونها صفة للدّار قوله: {وللآخرة خير لك من الأولى} [الضحى / 4] فقد علمت بإقامتها مقامها أنّها هي، وليس غيرها، فيستقيم أن يضاف إليها. ووجه قول ابن عامر أنّه لم يجعل الآخرة صفة للدار، ولكنّه أضاف الآخرة إلى الدار، فلا تكون الآخرة على هذا صفة للدار، لأنّ الشيء لا يضاف إلى نفسه، ولكنّه جعلها صفة للساعة، فكأنّه قال: ولدار الساعة الآخرة، وجاز وصف الساعة بالآخرة، كما وصف اليوم بالآخر في قوله: {وارجوا اليوم الآخر} [العنكبوت / 36] وحسن إضافة الدار إلى الآخرة ولم يقبح من حيث استقبحت (2) إقامة الصفة مقام الموصوف لأنّ الآخرة صارت كالأبطح (3) والأبرق (4)، ألا ترى أنّه قد جاء: {وللآخرة خير لك من الأولى}؟ فاستعملت استعمال الأسماء، ولم تكن مثل الصفات التي لم تستعمل استعمال الأسماء (5)، ومثل الآخرة في أنّها استعملت استعمال الأسماء قولهم:
الدنيا لمّا استعملت استعمال الأسماء حسن أن لا تلحق لام
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): استقبح.
(3) الأبطح: المسيل الواسع فيه دقاق الحصى.
(4) الأبرق: كثير التهديد والتوعد.
(5) في (ط): الآخرة. بدل الأسماء.(3/301)
التعريف في نحو قوله (1):
في سعي دنيا طال ما قد مدّت (2)
الانعام: 33
اختلفوا في التخفيف والتشديد من قوله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك} [الأنعام / 33].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم وابن عامر: {فإنهم لا يكذبونك} مشدّدة.
وقرأ نافع والكسائيّ يكذبونك خفيفة (3).
يجوز أن يكون المعنى في من ثقّل فقال: {يكذبونك}: قلت له: كذبت، مثل: زنّيته وفسّقته، نسبته إلى الزّنا والفسق (4)، وفعّلت في هذا المعنى قد جاء في غير شيء نحو: خطّأته أي (5)، نسبته إلى الخطأ، وسقّيته، ورعّيته، قلت له: سقاك الله، ورعاك الله، وقد جاء في هذا المعنى «أفعلته» قالوا: أسقيته، قلت له: سقاك الله، قال (6):
وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه
تكلّمني أحجاره وملاعبه
فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحدا، وإن
__________
(1) عجز بيت للعجاج. سبق في ج 2/ 133وانظر ابن يعيش 6/ 100والخزانة 3/ 508وشرح أبيات المغنى 6/ 175.
(2) كذا في الأصل ضبط «مدّت» بالبناء للفاعل وضبطه في الديوان وفي الخزانة وأبيات المغني بالبناء للمفعول.
(3) السبعة ص 257، وفي (ط): «مخففة» بدل خفيفة.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت أي من (م).
(6) البيت لذي الرمة. ديوانه 2/ 821. الكتاب 2/ 235، شرح شواهد(3/302)
اختلف اللفظان، إلّا أنّ: فعّلت إذا أراد أن ينسبه إلى أمر أكثر من أفعلت. ويؤكّد أن القراءتين بمعنى، أنّهم قالوا: قلّلت وكثّرت، وأقللت وأكثرت بمعنى، حكاه سيبويه (1).
ومعنى {لا يكذبونك}: لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرت به ممّا جاء في كتبهم.
ويجوز لا يكذبونك لا يصادفونك كاذبا، كما تقول:
أحمدته، إذا أصبته محمودا، لأنّهم يعرفونك بالصّدق والأمانة، ولذلك سمي الأمين قال أبو طالب (2):
إنّ ابن آمنة الأمين محمّدا {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام / 33] أي يجحدون بألسنتهم ما يعلمونه يقينا لعنادهم، وما يؤثرونه من ترك الانقياد للحقّ، وقد قال في صفة قوم {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل / 14]، ويدلّ على أنّ يكذبونك في قول من خفّف [ينسبونك إلى الكذب] (3) قول الشاعر (4).
فطائفة قد أكفرتني بحبّكم
وطائفة قالوا مسيء ومذنب
__________
الشافية 41، العيني 2/ 176، الأشموني 1/ 263، التصريح 1/ 204.
(1) في الكتاب 2/ 237.
(2) سبق في 1/ 339.
(3) سقطت من (م).
(4) البيت للكميت من قصيدة يمدح بها أهل البيت. انظر شرح شواهد المغني للسيوطي 1/ 35وشرح الهاشميات للرافعي / 36.(3/303)
أي: قد نسبتني إلى الكفر.
قال أحمد بن يحيى: كان الكسائيّ يحكي عن العرب:
أكذبت الرجل، إذا أخبرت أنّه (1) جاء بكذب، وكذّبته: إذا أخبرت أنّه كذّاب، فقوله: أكذبته: إذا أخبرت أنّه جاء بكذب كقولهم:
أكفرته، إذا نسبوه إلى الكفر، وكذّبته: أخبرت أنّه كذاب، مثل:
فسّقته، إذا أخبرت أنّه فاسق.
قرأ نافع وحده: قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون [الأنعام / 33] بضم الياء وكسر الزاي.
وقرأ الباقون {ليحزنك} بفتح الياء وضمّ الزاي (2).
يقال: حزن يحزن حزنا وحزنا، قال: {ولا تحزن عليهم}
[النمل / 70]، {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
[البقرة / 62].
قال سيبويه: قالوا: حزن الرجل وحزنته، قال: وزعم الخليل أنّك حيث قلت حزنته لم ترد أن تقول: جعلته حزينا، كما أنّك حيث قلت: أدخلته، أردت جعلته داخلا، ولكنّك أردت أن تقول: جعلت فيه حزنا، كما قلت: كحلته (3)، جعلت فيه كحلا.
ودهنته، جعلت فيه دهنا، ولم ترد بفعلته هاهنا. تغيير قوله:
حزن، ولو أردت ذلك لقلت: أحزنته.
ومثل ذلك شتر الرجل وشترت عينه، فإذا أردت تغيير شتر
__________
(1) في (ط): قد.
(2) انظر السبعة ص 257.
(3) في (ط): أي.(3/304)
الرجل، قلت: أشترت، كما تقول: فزع وأفزعته. انتهى كلام سيبويه (1).
فعل وفعلته جاء في حروف، واستعمال (2) حزنته أكثر من أحزنته، فإلى كثرة الاستعمال ذهب عامة القراء.
وقال: {إني ليحزنني أن تذهبوا به} [يوسف / 13] وحجّة نافع: أنّه أراد تغيير حزن فنقله بالهمز.
وقال الخليل: إذا أردت تغيير حزن قلت: أحزنته، فدلّ هذا من قوله على أنّ أحزنته مستعمل. وإن كان حزنته أكثر في الاستعمال.
ويقوّي قوله: أنّ أبا زيد حكى في كتاب «خبأة»: أحزنني الأمر إحزانا وهو يحزنني، ضمّوا الياء.
وقال سيبويه (3): قال بعض العرب: أفتنت الرجل، وأحزنته، وأرجعته، وأعورت عينه، أرادوا: جعلته حزينا وفاتنا، فغيّروا ذلك (4) كما فعلوا ذلك بالباب الأوّل.
الانعام: 40، 46
واختلفوا (5) في الهمز وتركه، وإثبات الألف من غير همز من قوله تعالى: {أرأيتم} [الأنعام / 46] و {أرأيتكم}
[الأنعام / 40]، و {أرأيت} [الكهف / 63].
فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة:
__________
(1) الكتاب 2/ 234مختصرا.
(2) في (ط): والاستعمال في.
(3) انظر الكتاب 2/ 234.
(4) في سيبويه مكان ذلك فعل.
(5) في (ط): اختلفوا.(3/305)
أرأيتم وأرأيتكم وأرأيت بألف (1) في كلّ القرآن بالهمز.
وقرأ نافع: أرايتم، وأ رايتكم، وأ رايت بألف في كل القرآن من غير همز على مقدار ذوق الهمز.
وقرأ الكسائيّ: أريتم، وأريتكم، وأريت، وأريتك (1)
بغير همز ولا ألف (3).
[قال أبو علي] (3) من قال: أرأيتم (5) وأرأيتكم فهمز، وحقّق الهمز (6) فوجه قوله بيّن، لأنّه فعلت من الرؤية، فالهمزة عين الفعل.
وقوله: قرأ نافع بألف في كل القرآن من غير همز على مقدار ذوق الهمز، يريد: أن نافعا كان يجعل الهمزة بين بين، وقياسها إذا خفّفت أن تجعل بين بين، أي (7) بين الهمزة والألف، فهذا التخفيف على قياس التحقيق.
وأمّا قول الكسائي أريتم، وأريت فإنّه حذف الهمزة حذفا على غير التخفيف، ألا ترى أنّ التخفيف القياسيّ فيها أن تجعل بين بين، كما قرأ نافع؟ وهذا حذف للتخفيف، كما قالوا: ويلمّه، وكما أنشده أحمد بن يحيى (8):
__________
(1) سقطت من (م).
(3) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(5) في (ط): أرأيت.
(6) في (ط): الهمزة.
(7) سقطت من (ط).
(8) سبق في الكلام عن أول المائدة ص (210) من هذا الجزء.(3/306)
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا وكقول (1) أبي الأسود (2):
يا با المغيرة ربّ أمر معضل ولو كان ذلك كلّه على التخفيف القياسي، لكانت بين بين، ولم تحذف، وقد زعموا أنّ عيسى كذلك كان يقرؤها على الحذف.
وممّا يقوّي ذلك من استعمالهم قول الشاعر:
فمن (3) را مثل معدان بن ليلى
إذا ما النسع طال على المطيّة (4)
فهذا على أنّه قلب الهمزة ألفا كما قلبها في قوله (5):
لا هناك المرتع فاجتمعت مع المنقلبة عن اللّام، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فهذا يقوّي قول عيسى والكسائي.
وممّا جاء على ذلك قول الراجز (6):
__________
(1) في (ط): وقول.
(2) سبق البيت في 205.
(3) رواية (ط) بالجزم أي «من» بدل «فمن» وهي كذلك في اللسان.
(4) ورد هذا البيت في اللسان (رأي) برواية:
فمن را مثل معدان بن يحيى.
ولم ينسبه.
(5) سبق في 1/ 2398/ 218.
(6) شطران من الرجز مع ثالث لهما وهو:(3/307)
أريت إن جئت به أملودا
مرجّلا ويلبس البرودا
فأمّا القول في: أرأيتك زيدا ما فعل، وفتح التاء في جميع الأحوال، فالقول في ذلك أنّ الكاف في أرأيتك لا يخلو من أن يكون للخطاب مجردا، ومعنى الاسم مخلوع منه (1)، [أو يكون دالا عليه مع دلالته] (2) على الخطاب فالدّليل على أنّه للخطاب مجردا من علامة الاسم أنّه لو (3) كان اسما لوجب (4) أن يكون
__________
أقائلن أحضري الشهودا في المحتسب 1/ 193والخصائص 1/ 136، وهي من شواهد شرح الكافية 4/ 488 (ط: الفاتح) واللسان (رأى) عن ابن جني والخزانة 4/ 574، وشرح أبيات المغني 6/ 32.
والرجز مختلف في قائله، وأورده السكري في شرح أشعار الهذليين 2/ 651 لرجل من هذيل لم يسمّ، مع أشطار ثلاثة أخرى، ونسبه العيني في المقاصد 1/ 118و 4/ 334لرؤبة وهو في ملحقات ديوانه ص 173، واستبعد البغدادي هذه النسبة في شرح أبيات المغني والخزانة، كما استبعد رواية:
أحضروا، بواو الجمع، لأنّ المخاطب به امرأة ومن قصتها فيما نقله البغدادي في شرح أبيات المغني. قال: أخبرنا أبو عثمان التّوّزي عن أبي عبيدة قال:
أتى رجل من العرب له أمة، فلما حبلت جحدها فأنشأت تقول: الأبيات
ويروى: «جاءت» بدل «جئت». وقوله: أملود، قال الجوهري: غصن أملود، أي: ناعم والمرجل: اسم مفعول من رجل شعره ترجيلا، أي: سرحه.
ورواية (ط): «أريت إن جئت» بكسر التاء في الموطنين. والمثبت من (م) وكلاهما وجه.
(1) في (ط): منها.
(2) في (ط): أو تكون دالة على الاسم مع دلالتها.
(3) في (ط): إن.
(4) في (ط): وجب.(3/308)
الاسم الذي (1) بعده في نحو قوله: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي}
[الإسراء / 62] وقولهم: أرأيتك زيدا ما صنع؟ لو كان الكاف اسما ولم يكن حرفا للخطاب لوجب أن يكون الاسم الذي بعده الكاف الكاف (2) في المعنى، ألا ترى أنّ أرأيت (3): يتعدّى إلى مفعولين يكون الأوّل منهما هو الثاني في المعنى وفي كون المفعول الذي بعده ليس الكاف، وإنّما هو غيره دلالة على أنّه ليس باسم، وإذا لم يكن اسما كان حرفا للخطاب مجردا من معنى الاسمية، كما أنّ الكاف في «ذلك وهنالك وأبصرك زيدا» للخطاب، وكما أنّ التاء في أنت، كذلك، فإذا ثبت أنّه للخطاب معرّى من معنى الاسميّة (4) ثبت أنّ التاء لا يجوز أن يكون فيه معنى (5) الخطاب، ألا ترى أنّه لا ينبغي أن تلحق الكلمة علامتان للخطاب، كما لا تلحقها علامتان للتأنيث، ولا علامتان للاستفهام فلما لم يجز (6) ذلك، أفردت التاء في جميع الأحوال، لمّا كان الفعل لا بدّ له من فاعل، وجعل في جميع الأحوال على لفظ واحد، لأنّ ما يلحق الكاف من (7) معنى الخطاب يبيّن الفاعلين، فيخصّص التأنيث من التذكير، والتثنية من الجمع، ولو لحقت
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت كلمة «الكاف» من (ط).
(3) في (ط): «رأيت».
(4) في (ط): الأسماء.
(5) في (ط): بمعنى.
(6) في (ط): «ولم يجز» بدل «فلما لم يجز».
(7) في (ط): في.(3/309)
علامة التأنيث والجمع التاء، لاجتمعت (1) علامتان للخطاب مما (2) يلحق التاء وما يلحق الكاف، فلمّا كان ذلك يؤدّي إلى ما لا نظير له، رفض، وأجري على ما عليه سائر كلامهم من هذا النحو.
وكلّهم قرأ: {به، انظر} [الأنعام / 46] (3) بكسر الهاء إلّا أنّ ابن المسيبي روى عن أبيه عن نافع به انظر برفع (4) الهاء، وكذلك أبو قرّة عن نافع أيضا، ولم يروه عن نافع غيرهما (5).
من قال: {به انظر} حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو:
بهي عيب، لالتقاء الساكنين: وهما (6) الياء والفاء من {انظر}.
ومن قال: به انظر فهو على قول من قال: فخسفنا بهو وبدار هو [القصص / 81] فحذف الواو لالتقاء الساكنين، كما حذف الياء من (7) بهي لذلك فصار به انظر، وممّا يحسّن هذا الوجه أنّ الضّمّة فيه مثل الضمة في أن اقتلوا [النساء / 66] أو انقص [المزمل / 3] ونحو ذلك.
فأمّا قوله: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم، وختم على قلوبكم} [الأنعام / 46] ثمّ قال: {يأتيكم به} [الأنعام / 46] فقال أبو الحسن: هو على السمع أو على ما أخذ منكم.
__________
(1) في (ط): «لحق لاجتمع».
(2) في (ط): ما.
(3) ورد في السبعة قبل هذه الآية الكلام عن الآية 44 {فتحنا عليهم} وقد أخّرها المصنف في الذكر إلى آخر السورة، وكأنه استدركها هناك.
(4) في (ط): فرفع.
(5) السبعة ص 258257.
(6) كذا في (ط): وسقطت من (م).
(7) في (ط): في.(3/310)
الانعام: 54
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله [جلّ وعزّ]: (1)
{إنه من عمل} فإنه غفور رحيم [الأنعام / 54].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ: إنه من عمل فإنه غفور رحيم مكسورة (2) الألف فيهما.
وقرأ عاصم وابن عامر أنه من عمل فإنه بفتح الألف فيهما.
وقرأ نافع {الرحمة أنه} [الأنعام / 54] بفتح الألف فإنه غفور رحيم كسرا (3).
من كسر فقال: الرحمة إنه من عمل منكم جعله تفسيرا للرّحمة، كما أنّ قوله: {لهم مغفرة وأجر عظيم} [المائدة / 9] تفسير للوعد.
فأمّا كسر إنّ من (4) قوله: فإنه غفور رحيم فلأنّ ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن ثمّ حمل (5) قوله: {ومن عاد فينتقم الله منه}
[المائدة / 95] على إرادة المبتدأ بعد الفاء، وحذفه.
وأمّا من فتح أنّ في قوله: {أنه} فإنّه جعل أن * الأولى بدلا من الرّحمة، كأنّه: كتب ربّكم على نفسه أنّه من عمل منكم.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): بكسر.
(3) في (ط): مكسورا. وانظر السبعة ص 258.
(4) في (ط): في.
(5) كذا ضبطه في (ط) بالبناء للمفعول وفي (م) ضبطه بالبناء للفاعل.(3/311)
وأمّا فتحها بعد الفاء من قوله: (1) {فأنه غفور رحيم}
[الأنعام / 54]، فعلى أنّه أضمر له خبرا تقديره: فله أنّه غفور رحيم، أي: فله غفرانه، أو أضمر مبتدأ يكون أنّ خبره، كأنّه، فأمره أنّه غفور رحيم. وعلى هذا التقدير يكون الفتح في قول من فتح: {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم}
[التوبة / 63] تقديره: فله أنّ له نار جهنّم، إلّا أنّ إضماره هنا (2)
أحسن لأنّ ذكره قد جرى في صلة أن ... ، وإن شئت قدّرت، فأمره
أنّ له نار جهنّم، فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر.
ومثل البدل في هذا قوله: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} [الأنفال / 7] المعنى: وإذ يعدكم الله كون إحدى الطائفتين، مثل قوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}
[الكهف / 63].
ومن ذهب في هذه الآية إلى أنّ أنّ (3) التي بعد الفاء تكرير من الأولى لم يستقم قوله وذلك أنّ من ... لا تخلو من أن تكون للجزاء
الجازم الذي اللفظ عليه، أو تكون موصولة، ولا (4) يجوز أن يقدّر التكرير مع الموصولة، ولو كانت موصولة لبقي المبتدأ بلا خبر. ولا يجوز ذلك في الجزاء الجازم، لأنّ الشرط يبقى بلا جزاء، فإذا لم يجز ذلك، ثبت أنّه على ما ذكرنا، على أنّ ثبات الفاء في قوله:
{فأن له}، يمنع من أن يكون بدلا، ألا ترى أنّه لا يكون بين البدل
__________
(1) سقط من (ط): من قوله.
(2) في (ط) هاهنا.
(3) سقطت: (أنّ) من (م).
(4) في (ط): «فلا».(3/312)
والمبدل منه الفاء العاطفة، ولا التي للجزاء؟ فإن قلت: إنّها زائدة، بقي الشرط بلا جزاء، فلا يجوز إذا تقدير زيادتها هنا (1)، وإن جاءت زائدة في غير هذا الموضع.
وأمّا قراءة نافع كتب أنه فإنه! فالقول فيها أنّه أبدل من الرحمة واستأنف ما بعد الفاء.
قال سيبويه (2): بلغنا أنّ الأعرج قرأ: أنه من عمل منكم سوءا بجهالة فإنه غفور رحيم [الأنعام / 54] قال: ونظيره البيت الذي أنشدتك (3) يعني بالبيت الذي أنشده (4): قول ابن مقبل (5).
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل
قلائص تخدى في طريق طلائح
وأنّي إذا ملّت ركابي مناخها
فإنّي على حظّي من الأمر جامح
يريد أنّ قوله: وأني إذا ملّت ركابي محمول على ما قبله،
__________
(1) في (ط): هاهنا.
(2) في الكتاب 1/ 467.
(3) في (ط): أنشد.
(4) في (ط): أنشد.
(5) وهذه رواية سيبويه وفي ص 4945من الديوان كما يلي:
وعاودت أسدام المياه ولم تزل ... قلائص تحتي في طريق طلائح
وإني إذا ملّت ركابي مناخها ... ركبت ولم تعجز عليّ المنادح
ورواية (ط) هي رواية سيبويه ما عدا: «تخدى» فإنّه ضبطها بالبناء للفاعل. ورواية (م) محرفة إلى: «تحدا طلانح جانح».(3/313)
كما أنّ قوله: {من عمل} محمول على ما قبله، وما بعده (1) من قوله: «فإنّي على حظّي من الأمر» مستأنف، كما أنّ قوله: فإنه غفور رحيم مستأنف به (2) منقطع مما قبله.
الانعام: 55
اختلفوا في الياء والتاء والرّفع والنصب من قوله [جلّ وعزّ]: {ولتستبين سبيل المجرمين} [الأنعام / 55].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {ولتستبين} بالتاء، {سبيل} رفعا.
وقرأ نافع: {ولتستبين} بالتاء أيضا (3)، سبيل المجرمين نصبا.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائيّ وليستبين بالياء {سبيل} رفعا حفص عن عاصم مثل أبي عمرو (4).
وجه قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر {ولتستبين}
بالتاء (5) {سبيل} رفعا، أنهم جعلوا السبيل فاعل الاستبانة (6)، وأنّث السبيل كما قال: {قل هذه سبيلي أدعوا} [يوسف / 108] وقد ذكّر السبيل أيضا في قوله: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا} [الأعراف / 146].
فالسّبيل على هذا فاعل الاستبانة. قال سيبويه: استبان
__________
(1) في (م) بعد.
(2) سقطت به من (ط).
(3) سقطت أيضا من (ط).
(4) السبعة ص 258.
(5) زيادة من (ط).
(6) ما بين المعقوفين في (ط). فالسبيل على هذا فاعل الاستبانة.(3/314)
الشيء واستبنته (1). وقراءة نافع: ولتستبين سبيل التاء فيها ليس على ما تقدّم ولكنّها لك أيّها المخاطب ففي الفعل ضمير المخاطب. والفعل في القراءة الأولى (2) فارغ لا ضمير فيه، والتاء تؤذن بأنّ الفاعل المسند إلى الفعل مؤنث.
ومثل هذا في أنّ {تفعل} يحتمل الأمرين، الخطاب والتأنيث، قوله: {يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها}
[الزلزلة / 4]، أي: يومئذ تحدّث الأرض، يريد: أهل الأرض، ويكون تحدّث أنت أيّها الإنسان، فأمّا قول الهذليّ (3):
زجرت لها طير الشمال فإن تكن
هواك (4) الذي يهوى يصبك اجتنابها
فالفعل للغائبة على حد قولك: هند تهوى كذا.
وقول الأعشى (5):
فآليت لا أرثي لها من كلالة
ولا من حفى حتى تلاقي محمّدا
يكون تلاقي فيه: مرة للخطاب وأخرى (6) للغيبة،
__________
(1) الكتاب 2/ 237وعبارة سيبويه كاملة: ويقال: أبان الشيء نفسه وأبنته، واستبان واستبنته، والمعنى واحد.
(2) في (ط): الأخرى.
(3) هو أبو ذؤيب ويريد: إن صدق هذا الطير السنيح سيصيبك اجتنابها أي:
تجنبها وتبعدها. انظر شرح السكري 1/ 42.
(4) ضبطه في (ط) بالكسر وفي (م) بالفتح وفي السكري كما في (م) إلا أنه ضبط: «زجرت» بفتح التاء.
(5) سبق في 1/ 94.
(6) في (ط): ومرة.(3/315)
فالخطاب: على أن تكون الياء في تلاقي ضمير المؤنّث على الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، كقوله تعالى: {الحمد لله} ثمّ قال: {إياك نعبد} [الفاتحة / 5].
وأمّا الغيبة فإنّه على حدّ قولك: هند تفعل، إلّا أنّه أسكن الياء للضرورة كما قال:
سوّى مساحيهنّ تقطيط الحقق (1)
فالتاء في قراءة نافع للخطاب دون التأنيث على قولك:
استبنت الشيء.
وقراءة (2) حمزة والكسائي: وليستبين بالياء {سبيل} رفعا.
فالفعل على هذا مسند إلى السبيل إلّا أنّه ذكّر السبيل على قوله: {يتخذوه سبيلا} [الأعراف / 146].
والمعنى: وليستبين سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين، فحذف لأنّ ذكر أحد السبيلين (3) يدل على الآخر، ومثله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل / 81] ولم يذكر البرد لدلالة الفحوى عليه.
قرأ عاصم في رواية أبي بكرخفية * بكسر الخاء هاهنا
__________
(1) لرؤبة وبعده:
تفليل ما قارعن من سمرة الطّرق وصف حوافر حمر الوحش أي أنّ الحجارة سوت حوافرها كأنّما قططت تقطيط الحقق. والتقطيط: قطع الشيء. ديوانه / 106وسيبويه 2/ 55 واللسان (حقق وقطط).
(2) في (ط): وقرأ.
(3) في (ط): القبيلين.(3/316)
[الأنعام / 63] وفي الأعراف عند قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [الآية / 55].
وقرأ الباقون {خفية} بضم الخاء هاهنا، وفي الأعراف.
وروى حفص عن عاصم {خفية} بضم الخاء أيضا في الموضعين.
قال (1) أبو عبيدة: خفية: تخفون في أنفسكم (2).
وحكى غيره: خفية، وخفية وهما لغتان.
وروي عن الحسن: التضرّع: العلانية، والخفية بالنية.
وأمّا (3) قوله تعالى: {تضرعا وخيفة} فخيفة (4) فعلة من الخوف، وانقلبت الواو للكسرة والمعنى: ادعوا خائفين وجلين، قال (5):
فلا تقعدنّ على زخّة
وتضمر في القلب وجدا وخيفا
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) في مجاز القرآن 1/ 194.
(3) في (ط): «فأمّا».
(4) سقطت كلمة «فخيفة» من (ط). وبعدها: ففعلة، بدل: فعلة.
(5) البيت لصخر الغي من قصيدة أبياتها (27) بيتا في شرح أشعار الهذليين 1/ 299ويقع البيت الشاهد السابع عشر منها. قال السكري: زخة: غيظ، ولم أسمعه في شيء من كلام العرب ولا في أشعارها إلّا في هذا البيت.
والخيف: جمع الخيفة. ويروى: غيظا وخيفا، أي مخافة. ويروى على زكّة، والزكّة: الغمّ والبيت في اللسان (زخخ).(3/317)
الانعام: 57
اختلفوا في الضاد والصاد من قوله [جلّ وعزّ]: يقضي (1)
الحق [الأنعام / 57].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم: {يقص الحق} بالصاد.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر والكسائيّ: يقضي (1)
الحق بالضّاد (3).
حجّة من قرأ يقضي * أنّهم زعموا أنّ في حرف ابن مسعود يقضي بالحق، بالضاد (4) وذكر عن أبي عمرو أنّه استدلّ على يقضي بقوله: {وهو خير الفاصلين} [الأنعام / 57] قال (5): والفصل في القضاء ليس في القصص.
ومن حجّتهم قوله تعالى: والله يقضي بالحق وهو يهدي السبيل [الأحزاب / 4].
وحجّة من قال {يقص الحق} قوله: {نحن نقص عليك أحسن القصص} [يوسف / 3] و {إن هذا لهو القصص الحق}
[آل عمران / 62].
وأمّا ما احتجّ به من قرأ: يقضي * من قوله: {وهو خير الفاصلين} [الأنعام / 57] في أنّ الفصل في الحكم لا في القول، فإنّهم قالوا: قد جاء الفصل في القول أيضا في نحو قوله: {إنه لقول فصل} [الطارق / 13] وقال: {أحكمت آياته ثم فصلت}
__________
(1) في (ط) رسمها «يقض» في الموطنين.
(3) السبعة ص 259.
(4) سقطت من (م).
(5) في (ط): قالوا.(3/318)
[هود / 1]، وقال: {نفصل الآيات} [الأنعام / 55]، فقد حمل الفصل على القول، واستعمل معه كما جاء مع القضاء، وقال:
{لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء} [يوسف / 111]، فقد ذكر في القصص أنّه تفصيل. فأمّا الحقّ في قوله: يقضي الحق [الأنعام / 57] فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، يقضي القضاء الحقّ، أو يقصّ القصص الحقّ. ويجوز أن تكون مفعولا به مثل يفعل الحق كقوله:
قضاهما داود (1)
كلّهم قرأ {بالغداة والعشي} [الأنعام / 52] بألف، غير ابن عامر، فإنّه قرأ: بالغدوة والعشي في كل القرآن بواو (2).
الوجه: الغداة، لأنّها تستعمل نكرة وتتعرف بالألف واللام (3).
وأمّا غدوة فمعرفة، وهو علم صيغ له.
قال سيبويه: غدوة وبكرة، جعل كلّ واحد منهما اسما للحين، كما جعلوا أمّ حبين اسما لدابة معروفة (4).
__________
(1) هذه قطعة من بيت لأبي ذؤيب الهذلي ونصه:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع
انظر شرح السكري 1/ 39وفيه: وعليهما ماذيتان، والمسرودتان: درعان تعاورهما بالطعن، والسرد: الخرز في الأديم. وقضاهما: فرغ من عملهما.
والصّنع: الحاذق بالعمل. والصنع هاهنا تبّع.
(2) السبعة 258.
(3) في (م) باللام.
(4) أم حبين: دويبّة على خلقة الحرباء عريضة الصدر عظيمة البطن وقيل: هي أنثى الحرباء انظر اللسان (حبن).(3/319)
قال: وزعم يونس عن أبي عمرو، وهو قوله: وهو القياس أنّك إذا قلت: لقيته يوما من الأيام: غدوة أو بكرة، وأنت تريد المعرفة لم تنوّن (1)، فهذا يقوي قراءة من قرأ: بالغداة والعشي *.
ووجه ذلك قراءة ابن عامر أن سيبويه قال: زعم الخليل أنّه يجوز أن تقول: أتيتك اليوم غدوة وبكرة، فجعلهما بمنزلة ضحوة (2).
ومن حجّته أن بعض أسماء الزمان جاء معرفة بغير ألف ولام نحو ما حكاه أبو زيد من قولهم: لقيته فينة، غير مصروف، والفينة بعد الفينة، فألحق لام المعرفة ما استعمل معرفة.
ووجه ذلك أنه يقدّر فيه التنكير والشّياع، كما يقدّر فيه ذلك إذا ثني، وذلك مستمرّ في جميع هذا الضرب من المعارف. ومثل ذلك ما حكاه سيبويه (3) من قول العرب: هذا يوم اثنين مباركا فيه (4) وأتيتك يوم اثنين مباركا فيه. فجاء معرفة بلا ألف ولام كما جاء بالألف واللّام، ومن ثمّ انتصب الحال، ومثل ذلك قولهم: هذا ابن عرس (5) مقبل.
إمّا أن يكون جعل عرسا نكرة، وإن كان علما، وإنّما أن يكون أخبر عنه بخبرين.
__________
(1) انظر سيبويه 2/ 48.
(2) المصدر السابق.
(3) في المصدر السابق.
(4) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(5) ابن عرس: دويبة معروفة دون السنور أشتر أصلم أصك له ناب والجمع بنات عرس ويجوز أن تقول: هذا ابن عرس مقبلا.(3/320)
كلّهم قرأ: {توفته رسلنا} [الأنعام / 61] بالتاء غير حمزة فإنّه قرأ: توفاه (1)
حجّة من قال (2): {توفته} بالتاء قوله: {كذبت رسل من قبلك} [الأنعام / 34]، وقوله: {إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم} [فصلت / 14].
{جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم
وقالت رسلهم:} {أفي الله شك} [إبراهيم / 9].
وحجّة حمزة أنّه فعل متقدّم مسند إلى مؤنّث غير حقيقي، وإنّما التأنيث للجمع، فهو مثل قوله: {وقال نسوة في المدينة}
[يوسف / 30]، وما أشبه ذلك ممّا تأنيثه تأنيث الجمع.
وإن كان الكتاب في المصحف بسينة (3)، فليس ذلك بخلاف له، لأنّ الألف الممالة قد كتبت ياء.
الانعام: 64، 63
واختلفوا (4) في التخفيف والتّشديد من قوله [جلّ وعزّ]:
{قل من ينجيكم} {قل الله ينجيكم} [الأنعام / 63، 64].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {قل من ينجيكم}
مشدّدة قل الله ينجيكم مخففة (5).
__________
(1) السبعة ص 259وأضاف ابن مجاهد: «ممالة الألف».
(2) في (ط): قرأ.
(3) أي بياء غير منقوطة، والسينة: شعبة من شعب حرف السين الثلاثة، انظر الصحاح واللسان (سين).
(4) في (ط): اختلفوا.
(5) في (ط): خفيفة.(3/321)
وروى عليّ بن نصر عن أبي عمرو قل من ينجيكم خفيفة (1)، قل الله ينجيكم مثله مخفّفة (1).
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {قل من ينجيكم} {قل الله ينجيكم} مشدّدتين.
وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائيّ: {لئن أنجانا}
بألف.
وقرأ الحجازيون وأهل الشام: ابن كثير ونافع وابن عامر:
لئن أنجيتنا [يونس / 22] وأبو عمرو مثلهم لئن أنجيتنا.
وكان حمزة والكسائيّ يميلان الجيم وغيرهما لا يميل (3).
وجه التشديد والتخفيف في ينجيكم وينجيكم أنّهم قالوا:
نجا زيد، قال (4):
نجا سالم والنّفس منه بشدقه فإذا نقل الفعل فحسن نقله بالهمزة في أفعل كحسن نقله بتضعيف العين، ومثل ذلك: أفرحته وفرّحته، وأغرمته وغرّمته، وما أشبه ذلك. وفي التنزيل: {فأنجاه الله من النار}
[العنكبوت / 24]، {فأنجيناه والذين معه} [الأعراف / 64]
__________
(1) في (ط): خفيفا.
(3) انظر السبعة ص 260259.
(4) صدر بيت من قصيدة لحذيفة بن أنس الهذلي وعجزه:
ولم ينج إلّا جفن سيف ومئزرا «النفس بشدقه» أي: كادت تخرج فبلغت شدقه، أي: إنما نجا بجفن سيف.
انظر السكري 2/ 558اللسان مادة (نجا) وفيه عامر بدل سالم.(3/322)
وفيه (1) {ونجينا الذين آمنوا} [فصلت / 18] و {لئن أنجيتنا من هذه} [يونس / 22]، {فلما أنجاهم} [يونس / 23]، فإذا جاء التنزيل باللغتين جميعا تبينت من ذلك استواء القراءتين في الحسن.
فأمّا حجّة من قرأ {لئن أنجانا} [الأنعام / 63] فهي أنّه حمله على الغيبة، وذلك قوله: {تدعونه} {لئن أنجانا}، وكذلك ما بعده قل الله ينجيكم {قل هو القادر} [الأنعام / 65]، فهذه كلّها (2)
أسماء غيبة، فأنجانا أولى من أنجيتنا، لكونه على ما قبله وما بعده من لفظ الغيبة، وإذا كان مشاكلا لما قبله وما بعده كان أولى وموضع {تدعونه} نصب على الحال، تقديره: قل من ينجّيكم داعين وقائلين: لئن أنجانا. وكذلك من قرأ: لئن أنجيتنا تقديره داعين وقائلين (3): لئن أنجيتنا، فواجهوا بالخطاب، ولم يراعوا ما راعاه الكوفيون من المشاكلة.
ويقوّي قول من خالف الكوفيين قوله في أخرى {لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} [يونس / 22]. قل الله ينجيكم، فجاء أنجيتنا على الخطاب وبعده اسم غيبة.
فأمّا إمالة حمزة والكسائي في أنجانا فمذهب حسن، لأنّ هذا النحو من الفعل إذا كان على أربعة أحرف. استمرت فيه
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): فهذا كلّه.
(3) في (ط) قائلين. بحذف الواو.(3/323)
الإمالة لانقلاب الألف إلى الياء في المضارع، وإذا كانت الإمالة قد حسنت في «غزا» مع أنّه (1) على ثلاثة أحرف لأنّ الياء تثبت فيه إذا بني الفعل للمفعول، مع أنّ الواو تصحّ فيه في فعلت، فلا إشكال في حسنها في أنجا وأغزا ونحو ذلك.
كلّهم قرأ {وإما ينسينك الشيطان} [الأنعام / 68] بتسكين النون الأولى، وتشديد الثانية غير ابن عامر فإنّه قرأ ينسينك بفتح النون وتشديد السين مع النون الثانية (2).
الحجّة لهم في قراءتهم {وإما ينسينك} قوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} [الكهف / 63] فجاء في التنزيل: على أفعل.
ووجه قول ابن عامر أنّك تقول: نسيت الشيء، فإذا أردت أن غيرك أنساكه جاز أن تنقل الفعل بتضعيف العين كما تنقله بالهمزة، وعلى هذا قالوا: غرّمته وأغرمته، ففعّل وأفعل يجري كل واحد منهما مجرى الآخر، وفي التنزيل: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} [الطارق / 17].
كلّهم قرأ: {استهوته الشياطين} [الأنعام / 71] بالتاء غير حمزة فإنّه قرأ: استهواه بألف [و] (3) يميلها.
__________
(1) في (ط): أنها.
(2) السبعة ص 260.
(3) سقطت الواو من (م) وهي في (ط) والسبعة ص 260.(3/324)
قال (1) أبو عبيدة: {كالذي استهوته الشياطين} أي:
استمالته، أي: ذهبت به (2).
وقرأ حمزة استهواه الشياطين. على قياس قراءته توفاه رسلنا [الأنعام / 61] وكلا المذهبين حسن.
قال الشاعر: (3)
وكنّا ورثناه على عهد تبّع
طويلا سواريه شديدا دعائمه
وأرى قولهم: استهواه كذا، إنّما هو من قولهم: هوى من حالق: إذا تردّى منه، ويشبّه به الذي يزلّ عن الطريق المستقيم، كما أنّ زلّ إنّما هو من العثار في المكان كقوله (4).
قام إلى منزعة زلخ فزلّ ثمّ يشبّه به المخطئ في طريقته. وتقول: أزلّه غيره، كما قال: {فأزلهما الشيطان عنها} [البقرة / 63]، فكذلك: هوى (5)
هو، وأهواه غيره، قال: {والمؤتفكة أهوى} [النجم / 53]، فتقول: أهويته واستهويته، كما قال: {فأزلهما الشيطان} وإنّما استزلّهم الشيطان، فكما أنّ استزلّه بمنزلة أزلّه. كذلك استهواه
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) لم نجده بنصه في مجاز القرآن 1/ 196عند تفسيره للآية.
(3) البيت للفرزدق وقد ورد في ديوانه كما يلي:
قديما ورثناه على عهد تبع ... طوالا سواريه شدادا دعائمه
انظر ديوانه 2/ 765وسيبويه 1/ 238.
(4) سبق في 2/ 17وأنشده ثعلب في مجالسه ص 581وقبله:
يا عين بكّي عامرا يوم النهل ... ربّ العشاء والرشاء والعمل.
(5) سقطت كلمة: «هوى» من (ط).(3/325)
بمنزلة أهواه، كما أنّ استجابه بمنزلة أجابه في قوله (1):
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
الانعام: 76
واختلفوا (2) في فتح الراء والهمزة وكسرهما من قوله تعالى: {رأى كوكبا} [الأنعام / 76].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص، {رأى} بفتح الراء والهمزة.
وقرأ نافع: بين الفتح والكسرة (3).
وقرأ أبو عمرو: رأى كوكبا بفتح الراء وكسر الهمزة.
وروى القطعيّ (4) عن عبيد بن عقيل عن أبي عمرو: بكسر الراء والهمزة جميعا.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائيّ
__________
(1) عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي من الأصمعية رقم 25ص 96. وصدره:
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى وانظر شرح أبيات المغني 5/ 167وأمالي ابن الشجري 1/ 62وسبق البيت 1/ 352و 2/ 152.
(2) في (ط): اختلفوا.
(3) في (ط): الكسر.
(4) القطعي: محمد بن يحيى بن مهران، أبو عبد الله القطعي البصري، إمام مقرئ مؤلف متصدر، أخذ القراءة عرضا عن أيوب بن المتوكل، وهو أكبر أصحابه وروى الحروف سماعا عن أبي زيد الأنصاري وعبيد بن عقيل
روى القراءة عنه أحمد بن علي الخزاز والفضل بن شاذان ذكره أبو أحمد الحاكم وقال: هو من زبيد من اليمن، وروى عنه أبو داود، ووهم فيه أبو العزّ فسمّاه علي بن محمد. انظر طبقات القراء 2/ 278للجزري.(3/326)
رأى * بكسر الراء والهمزة (1).
وجه قول ابن كثير وعاصم في إحدى الروايتين عنه أنّهما لم يميلا، كما أنّ من قال: رعى ورمى لمّا لم يمل الألف لم يمل الفتحة التي قبلها، كما يميلها من يرى الإمالة ليميل الألف نحو الياء.
قال: وقرأ نافع بين الفتح والكسر [قوله: بين الفتح والكسر] (2) لا يخلو من أن يريد الفتحتين اللتين على الراء والهمزة، أو الفتحة التي على الهمزة وحدها، فإن كان يريد فتحة الهمزة فإنّما أمالها نحو الكسرة لتميل الألف التي في رأى نحو الياء، كما أمال الفتحة التي على الدّال من هدى * والميم من رمى *.
وإن كان يريد أنّه أمال الفتحتين جميعا، الّتي على الراء، والتي على الهمزة، فإمالة فتحة الهمزة على ما تقدّم ذكره.
وأمّا إمالة الفتحة التي على الراء، فإنّما أمالها لاتباعه إياها إمالة فتحة الهمزة، كأنّه أمال الفتحة لإمالة الفتحة، كما أمال الألف لإمالة الألف في قولهم: رأيت عمادا، فأمال ألف النصب لإمالة الألف في عماد (3)، والتقديم والتأخير في ذلك سواء، والفتحة الممالة منزلة منزلة الكسرة، فكما أملت الفتحة في قولك (4) من عمرو، لكسرة الراء، كذلك أملت فتحة الراء من رأى * لإمالة الفتحة التي على الهمزة.
__________
(1) انظر السبعة ص 260.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من (ط).
(3) في (ط): لإمالة ألف عماد.
(4) سقطت من (م).(3/327)
قال: وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائيّ رأي * بكسر الراء والهمزة.
قال (1): وجه قراءتهم أنّهم كسروا الراء من رأى، لأنّ المضارع منه على يفعل، وإذا كان المضارع على «يفعل» فكأنّ الماضي على «فعل»، ألّا ترى أنّ المضارع في الأمر العام إذا كان على يفعل كان الماضي على (2) فعل؟ وعلى هذا قالوا: أنت تينا، فكسروا حرف المضارعة كما كسروه في نحو: تعلم وتفهم، وكسروا الياء أيضا في هذا الحرف فقالوا: ييبا، ولم يكسروه في يعلم، وإذا كان الماضي كأنّه على فعل فيما ينزّل، كسرت (3) الراء التي هي فاء لأنّ العين همزة، وحروف الحلق إذا جاءت في كلمة على زنة فعل * كسرت فيها الفاء لكسرة العين في الاسم والفعل، وذلك قولهم: عير نعر (4)، ورجل جئز، ومحك (5)، وماضغ لهم.
وكذلك الفعل نحو: شهد ولعب ونعم، وكسرة الراء على هذا كسرة مخلّصة محضة، وليست بفتحة ممالة.
وأمّا كسر (6) الهمزة فإنّه يراد به إمالة فتحها إلى الكسر، لتميل الألف نحو الياء وذلك قولك: رأي كوكبا.
__________
(1) سقطت من (م). والقائل هنا أبو علي.
(2) سقطت من (ط).
(3) كذا في (ط) وفي (م): كسر.
(4) قال سيبويه في الكتاب 2/ 184: النعر: داء يأخذ الإبل في رءوسها.
(5) في اللسان: جئز بالماء: إذا غص به فهو جئز. ورجل محك إذا كان لجوجا في الخصومة.
(6) في (ط): كسرة.(3/328)
فإن قلت: إنّ الفاء إنّما تكسر لتتبع الكسرة في العين في نحو شهد * والهمزة في رأى * مفتوحة، فكيف أجيزت كسرة الراء.
مع أنّ بعدها حرفا مفتوحا؟. فالقول في ذلك أنّه فيما نزّلناه بمنزلة الفتح، فأتبع الفتحة الكسرة (1) المقدّرة، لمّا نزّلناه بمنزلة الكسرة تبعته فتحة الراء، كما أنّ ضمّة ياء يعفر لما كان في تقدير الفتحة ترك صرف الاسم معها، كما ترك مع فتحة الياء في يعفر، وترك صرفه مع ضمّة الياء حكاه أبو الحسن، وكما أنّ الفتحة في يطأ، ويسع لما كانت في تقدير الكسرة حذفت معها الفاء، كما حذفت في: يزن ويعد.
ومثل تنزيلهم الفتحة في رأى ... منزلة الكسرة، تنزيلهم لها
أيضا منزلة الكسرة في قولهم: هما يشأيان في يفعلان، من الشأو، لمّا قالوا: يشأى، نزّلوا (2) الماضي على فعل، فقالوا في المضارع:
يشأيان، كما قالوا: يشقيان.
الانعام: 77
واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائيّ وابن عامر: {رأى القمر} [الأنعام / 77] و {رأى الشمس} [الأنعام / 78] و {رأى المجرمون} [الكهف / 53] و {رأى الذين أشركوا}
[النحل / 86]، وما كان مثله بفتح الراء والهمزة.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة: رأى القمر ورأى الشمس بكسر الراء وفتح الهمزة في كل القرآن.
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): أنزلوا.(3/329)
وذكر خلف عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم:
رأى القمر ورأى الشمس بكسر الراء والهمزة معا (1).
قال بعض أصحاب أحمد: قوله: بكسر الراء والهمزة، خطأ (2)، وإنّما هو بكسر الراء وإمالة الهمزة.
قال أبو علي: تحقيق هذا: وإمالة فتحة الهمزة.
وروى حفص عن عاصم: بفتح الراء والهمزة في رأى * في كل القرآن (3).
وجه إزالتهم الإمالة عن فتحة الهمزة في رأى *: أنّهم إنّما كانوا أمالوا الفتحة لتميل الألف نحو الياء، فلمّا سقطت الألف بطلت إمالتها لسقوطها، ولمّا بطلت إمالتها لسقوطها بطلت إمالة الفتحة نحو الكسرة لسقوط الألف التي كانت الفتحة الممالة يميلها نحو الياء.
وأمّا موافقة ابن عامر والكسائيّ وعاصم في رواية أبي بكر (4) وابن كثير نافعا (5) وأبا عمرو، في {رأى المجرمون}، وفتحهم الراء، وقد كانوا كسروها في {رأى كوكبا} فلأنّهم آثروا الأخذ باللغتين، كسر الراء وفتحها، فكسرها لما ذكر، وفتحها لأنّهم جعلوها بمنزلة الراء في رمى ورعى (6) ولأنّهم أعلّوا الرّاء
__________
(1) انظر السبعة ص 261.
(2) في (ط): غلط.
(3) السبعة ص 261.
(4) في هامش (ط): الصواب في رواية حفص.
(5) في (ط) «ونافعا» وليس بسديد.
(6) رسمهما في (م) بالألف اليابسة (رما رعا).(3/330)
وقدّروا فيه ما قدّروا لإعلال الهمزة بإمالة فتحتها [فلمّا غيّروها] (1)، غيّروا الراء أيضا ألا ترى أنّهم (2) لما أعلّوا اللّام بالقلب في عصي، وعتي (3) ونحوهما (4) أعلّوا الفاء أيضا بالكسر في عصيّ؟ ولمّا أعلّوا الاسم بحذف التاء منه في النسب إلى:
ربيعة، وحنيفة: ألزموه في الأمر العام الإعلال والتغيير، بحذف الياء منه أيضا، فقالوا: ربعيّ، وحنفيّ.
ووجه قراءة عاصم في رواية أبي بكر وحمزة رأى القمر ورأى الشمس بكسر الراء وفتح الهمزة في كل القرآن: فلأنّ كسر الرّاء إنّما هو للتنزيل الذي ذكرنا، وهو معنى منفصل من إمالة فتحة الهمزة، ألا ترى أنّه يجوز أن يعمل هذا المعنى من لا يرى الإمالة، كما يجوز أن يعمله من يراها؟ فإذا كان كذلك، كان انفصال أحدهما من الآخر سائغا غير ممتنع.
وأمّا رواية خلف عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم: رأي القمر ورأي الشمس بكسر الرّاء والهمزة معا، يريد بكسر الهمزة إمالة فتحتها، فوجه كسر الرّاء قد ذكر، وأمّا إمالة فتحتها مع زوال ما كان يوجب إمالتها من حذف الألف، فلأنّ الألف محذوفة لالتقاء الساكنين، وما يحذف لالتقاء الساكنين، فقد ينزّل تنزيل المثبت، ألا ترى أنّهم قد أنشدوا (5):
__________
(1) في (ط): فلما غيروا الفتحة بالإمالة.
(2) في (ط): بأنهم.
(3) ضبطهما في (م) بضم فاء الكلمة وفي (ط) بكسرهما، وكلاهما صحيح.
(4) في (ط): ونحوه.
(5) عجز بيت لأبي الأسود الدؤلي سبق في 3/ 141وصدره:
فألفيته غير مستعتب(3/331)
ولا ذاكر الله إلّا قليلا فنصب الاسم بعد ذاكر، وإن كان النون قد حذفت (1) لمّا كان الحذف لالتقاء الساكنين، والحذف لهما في تقدير الإثبات من حيث كان التقاؤهما غير لازم ومن ثمّ لم تردّ الألف في نحو: رمت المرأة.
وممّا يشهد لذلك أنّهم قالوا: شهد * فكسروا الفاء لكسرة العين، ثمّ أسكنوا فقالوا: شهد *، فبقّوا الكسرة في الفاء مع زوال ما كان اجتلبها، وعلى هذا ينشد قول الأخطل: (2)
إذا غاب عنّا غاب عنّا فراتنا
وإن شهد أجدى فضله ونوافله
ويشهد لذلك أيضا أنّهم قالوا: صعق، ثم نسبوا إليه، فقالوا صعقي فأقرّوا كسرة الفاء مع زوال كسرة العين التي لها كسرت الفاء، فكذلك تبقية إمالة فتحة الهمزة في قراءة حمزة رأى القمر.
وزعم أبو الحسن أنّ ذلك لغة مع ما ذكرنا من وجوه المقاييس فيه، وأنّها قراءة: {في القتلى الحر}.
الانعام: 80
واختلفوا (3) في تشديد النون وتخفيفها من قوله تعالى:
{أتحاجوني في الله} [الأنعام / 80] و {تأمروني} [الزمر / 64].
__________
(1) في (ط): وإن كان النون قد حذف.
(2) سبق في 1/ 386.
(3) في (ط): اختلفوا.(3/332)
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
{أتحاجوني}، و {تأمروني} مشدّدتين. وقرأ نافع وابن عامر مخفّفتين (1).
لا نظر في قول من شدّد.
فأمّا وجه التخفيف: فإنّهما حذفا النون الثانية لالتقاء النونين، والتضعيف يكره، فيتوصّل إلى إزالته تارة بالحذف نحو:
«علماء بنو فلان» وتارة بالإبدال نحو (2):
لا أملاه حتّى يفارقا ونحو: «ديوان وقيراط» فحذفا (3) الثانية من المثلين كراهة التضعيف، ولا يجوز أن يكون المحذوف: النون (4) الأولى لأنّ الاستثقال يقع بالتكرير في الأمر الأعمّ، والأولى (5) أيضا فيها أنّها دلالة الإعراب، وإنّما حذفت الثانية كما حذفتها من ليتي في قوله (6):
إذ قال ليتي
أصادفه وأفقد بعض مالي
__________
(1) السبعة ص 261.
(2) بعض بيت تمامه:
فآليت لا أشريه حتى يملني ... بشيء ولا أملاه حتى يفارقا
سبق في 1/ 208.
(3) في (ط): فحذفوا.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): وفي الأولى.
(6) قائل البيت زيد الخيل الذي سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم، زيد الخير وتمام البيت.
كمنية جابر إذ قال ليتي ... أصادفه وأفقد بعض مالي
انظر سيبويه 1/ 386حاشية الصبان 1/ 123. الخزانة 2/ 446.(3/333)
وكقوله (1):
تراه كالثّغام يعلّ مسكا
يسوء الفاليات إذا فليني
فالمحذوفة المصاحبة للياء ليسلم سكون لام الفعل وما يجري مجراها أو حركتها، ولا يجوز أن تكون المحذوفة الأولى، فيبقى الفعل بلا فاعل (2)، كما لا تحذف الأولى في {أتحاجوني}، لأنّها (3) الإعراب، ويدلّك على أنّ المحذوف الثانية أنّها قد حذفت مع الجارّ أيضا في نحو قوله (4).
قدني من نصر الخبيبي قدي وقد جاء حذف هذه النون في كلامهم قال (5):
أبالموت الّذي لا بدّ أنّي
ملاق لا أباك تخوّفيني
__________
(1) البيت لعمرو بن معد يكرب.
في شرح أبيات المغني 7/ 297فانظر تخريجه هناك.
(2) عبارة (ط) هنا: ولا يجوز أن يكون الأولى، لأن الفعل يبقى بلا فاعل.
(3) في (ط) لأنه.
(4) شطر من الرجز لحميد بن مالك الأرقط وبعده:
ليس الإمام بالشحيح الملحد وهو من شواهد سيبويه 1/ 387والخزانة 2/ 449، وشرح أبيات المغني 4/ 83وقد استوفينا فيه تخريجه.
ومعنى قدني: حسبي وأراد بالخبيبين: خبيب بن عبد الله بن الزبير وأباه عبد الله.
(5) البيت لأبي حية النميري. في الكامل 953487والمقتضب 4/ 375 وأمالي ابن الشجري 1/ 362وابن يعيش 2/ 105والخصائص 1/ 345(3/334)
وزعموا أنّ المفضّل أنشد (1):
تذكرونا إذ نقاتلكم
إذ لا يضرّ معدما (2) عدمه وزعم بعض البصريين في حذف هذه النون أنّها لغة لغطفان. وحكى سيبويه هذه القراءة، فزعم أنّ بعض القراء، قرأ أتحاجوني واستشهد بها في حذف النونات لكراهة التضعيف (3).
قرأ الكسائيّ وحده (4) هداني * [الأنعام / 80] بإمالة الدّال.
وقرأ الباقون بالفتح (5).
الإمالة في هداني * حسنة لأنّه من هدى يهدي، فهو من الياء، وإذا كانوا قد أمالوا نحو: غزا، ودعا، لأنّه قد يصير إلى الياء في: غزي، ودعي (6) فلا إشكال في حسنها، فيما كان الأصل فيه الياء.
الانعام: 83
اختلفوا في الإضافة والتنوين من قوله تعالى (7): {نرفع درجات من نشاء} [الأنعام / 83].
__________
والخزانة 2/ 118والتصريح 2/ 26واللسان مادة (أبى) والهمع 1/ 145والدرر 1/ 125والبيت ينسب للأعشى وليس في ديوانه.
(1) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 76وفيه: «تذكرون» بدل «تذكرونا».
وقوله: تذكرون أراد: أتذكرون، وقوله: لا يضر معدما عدمه، أي: يقاتلكم الغني منا ليدفع عن ماله، ويقاتلكم الفقير المعدم منا ليغنم.
(2) في (ط): «عادما».
(3) انظر الكتاب 2/ 154باب أحوال الحروف التي قبل النون الخفيفة والثقيلة.
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة ص 261.
(6) زادت (ط) هنا: في هذا المكان.
(7) في (ط): عز وجل.(3/335)
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر نرفع درجات من نشاء بالنون (1) مضافا، وكذلك في سورة يوسف الآية / 76].
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ: {درجات من نشاء} منونا، وكذلك في يوسف (2).
قوله: {ورفع بعضهم درجات} [البقرة / 253] يدلّ على قراءة من نوّن، ألا ترى أنّه في ذكر الرّسل قال: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات} [البقرة / 253].
فأمّا قوله تعالى: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} [الزخرف / 32] فإنّه في الرّتب وارتفاع الأحوال في الدنيا واتضاعها. يدلّك على ذلك قوله: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} [الزخرف / 32].
ويقوّي قراءة من أضاف، قوله: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}، فمن فضّل على غيره فقد رفعت درجته عليه، فقوله: {فضلنا} بمنزلة قولك (3) رفعنا درجته.
__________
(1) في (ط) تقديم للنون على درجات.
(2) السبعة ص 262261.
(3) كذا في (ط) وسقطت من (م).(3/336)
الانعام: 86
اختلفوا في زيادة اللّام ونقصانها في قوله تعالى (1):
{واليسع} [الأنعام / 86].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر بلام واحدة.
وقرأ حمزة والكسائيّ: والليسع بلامين وفي «صاد» مثله (2).
[قال أبو علي]: (3) اعلم أن لام المعرفة تدخل الأسماء على ضربين: أحدهما للتعريف، والآخر زيادة زيدت، كما تزاد الحروف، فلا تدلّ على المعاني التي تدلّ عليها إذا لم تكن زائدة.
والتعريف الذي يحدث بها على ضروب: منها: أن يكون إشارة إلى معهود بينك وبين المخاطب نحو: الرجل والغلام، إذا أردت بها رجلا وغلاما عرفتماه بعهد كان بينكما.
والآخر أن يكون إشارة إلى ما في نفوس الناس من علمهم للجنس، فهذا الضرب، وإن كان معرفة، كالأول، فهو مخالف له من حيث كان الأول قد علمه حسا، وهذا لم يعلمه كذلك، إنّما يعلمه معقولا.
فأمّا نحو: مررت بهذا الرجل، فإنّما أشير به إلى الشاهد الحاضر لا إلى غائب معلوم (4) بعهد، ألا ترى أنّك تقول ذلك فيما
__________
(1) في (ط): عزّ وجل.
(2) السبعة 262.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): الغائب المعلوم.(3/337)
لا عهد (1) فيه بينك وبين مخاطبك. وممّا يدلّ على ذلك قولك (2)
في النداء، يا أيّها الرجل، فتشير به إلى المخاطب الحاضر، وهما يجريان مجرى الاسم الواحد، كما أنّ ماذا من قوله تعالى: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} [النحل / 30]، يجريان مجرى الاسم الواحد، فلا يجوز أن يكون الاسم معرّفا بتعريفين مختلفين أحدهما حاضر والآخر غائب.
ويدلّك على أنّهما يجريان مجرى الاسم الواحد أنّه لا يوصف بالمضاف نحو: مررت بهذا ذي المال، ولا يوصف بالأسماء المفردة، إذا ثنّيت، فلا يجوز مررت بهذين، الطويل والقصير، كما تقول: مررت بالرجلين القائم والقاعد، وذلك أنّه قد صار مع الأول كالشيء الواحد، ويبيّن ذلك من جهة المعنى، وهو (3) أنّك تستفيد بهما ما تستفيد (4) من الاسم المفرد من معنى الجنس.
فأمّا الأسماء الأعلام، فلا تدخل عليها الألف واللام، وذلك (5) أنّ تعليقها على من تعلّق عليه، وتخصيصه بها يغني عن الألف واللام، وذلك نحو التسمية: بجدار، وحمار، وثور، وأسد، وكلب، وزيد، وزياد، وبشر، وحمد.
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): تستفيده.
(5) في (ط): وذاك.(3/338)
فأمّا نحو العبّاس، والحارث، والقاسم، والحسن، فإنّما دخلت الألف واللام فيها على تنزيل أنّها صفات جارية على موصوفين، وهذا يعني الخليل بقوله: جعلوه الشيء بعينه، فإن لم ينزّل هذا التنزيل، لم يلحقوها (1) الألف واللام، فقالوا: حارث وعباس وقاسم وعلى كلا المذهبين جاء ذلك في كلامهم، قال الفرزدق (2):
تقعّدهم أعراق حذلم بعد ما
رجا الهتم إدراك العلى والمكارم
وقال (3):
ثلاث مئين للملوك وفى بها
ردائي وجلّت عن وجوه الأهاتم
__________
(1) في (ط): يلحقوه.
(2) لم نعثر على البيت في ديوانه.
(3) البيت للفرزدق في النقائض 1/ 371وديوانه 2/ 853من قصيدة طويلة يمدح بها سليمان بن عبد الملك ويهجو قيسا وجريرا، وروايته فيه:
فدى لسيوف من تميم وفى بها ... ردائي وجلّت عن وجوه الأهاتم
وجاء البيت برواية المصنف في المقتضب 2/ 170، وأمالي ابن الشجري 2/ 24، 64، وابن يعيش 6/ 21، 23وشرح الرضي على الكافية 3/ 302 (ط الفاتح) والخزانة 3/ 302والعيني 4/ 480. اهـ. والظاهر أن هذه رواية النحاة الذين استشهدوا بالرواية المذكورة على استعمال «ثلاث مئين» أما رواية الديوان والنقائض فلا شاهد فيها ولكنّ الفارسي هنا استشهد ببيتي الفرزدق على استعمال: «الهتم، والأهاتم» قال ابن حبيب شارح المناقضات: قوله:
الأهاتم: يعني الأهتم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم» النقائض 1/ 371قال البغدادي فعرف أنّ الأهتم ليس لقبا لسنان بن خالد ولا سنان هو ابن سمي كما تقدّم، ومشى عليه العيني. انظر الخزانة 3/ 303.(3/339)
فجعله مرة بمنزلة: أضحاة، وأضاح، ومرّة بمنزلة أحمر وحمر.
وجمع الأعشى بين الأمرين في بيت وذلك قوله (1):
أتاني وعيد الحوص من آل جعفر
فيا عبد عمرو لو نهيت الأحاوصا
وأنشد الأصمعيّ (2):
أحوى من العوج وقاح الحافر والعوج نسب إلى أعوج كما أنّ الحوص نسب إلى أحوص، فإذا حذفت ياءي النسب، جعلتها (3) بعد التسمية به بمنزلته، وهو صفة لم يسمّ بها، فكسّر الصفة، وهذا يدلّ على صحّة قول من لم يصرف أحمر، إذا نكّره بعد أن سمّى به.
فإذا كسّره تكسير الاسم نحو: الأفاكل، والأرامل، قال:
الأحاوص، وعلى هذا القياس تقول: الأعاوج، كما تقول:
الأهاتم، ومثل هذا قولهم: الفرس في جمع فارسي، [حذفت منه ياءً النسب كما حذفتا] (4) من الأعوجي، وكسّر فاعل (5)، على فعل. كبازل وبزل، وعائط وعيط، وحائل وحول، وهذا مما
__________
(1) انظر ديوان الأعشى / 149الأحاوصا: هم بنو الأحوص.
(2) ذكره اللسان في مادة (عوج) ولم ينسبه، أحوى: أسود، حافر وقاح:
صلب.
(3) في (ط): ياء النسب، جعلته
(4) في (ط): «حذف ياءي النسب كما حذفهما».
(5) في (ط): «وكسّر فاعلا».(3/340)
يقوّي العوج، ألا ترى أنّه جمعه جمع الصفات وإن كانت ياءً النسب فيه محذوفتين (1)؟. قال ابن مقبل (2).
طافت به الفرس حتّى بذّ ناهضها فأما قوله (3):
والتّيم ألأم من يمشي وألأمهم
ذهل بن تيم بنو السود المدانيس
فإنّه يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمنزلة العباس، وذلك أن التيم مصدر، والمصادر قد أجريت مجرى أسماء الفاعلين، ألا ترى أنّه قد وصف بها كما وصف بأسماء الفاعلين. وجمع جمعها في نحو: نور ونوّار، وسيل، وسوائل؟ فلمّا كانت مثلها أجراها مجراها، وعلى هذا قالوا: الفضل، في اسم رجل، كأنّهم جعلوه الشيء الذي هو خلاف النقص.
والآخر أن يكون تيميّ وتيم، كزنجيّ وزنج، ويهودي،
__________
(1) في (ط): «منه محذوفة. و».
(2) صدر بيت له في ديوانه ص 92برواية «بها» بدل به. وعجزه:
عمّ لقحن لقاحا غير مبتسر.
وطافت بها: أي تولتها بالرعاية وبذّ: غلب وناهضها، الناهض: هو الرجل الذي يصعد النخلة ليلقحها ونخل عمّ: أي طويل، والمبتسر: من لقح النخلة قبل أوان التلقيح. انظر اللسان (بسر فرس) والجمهرة 1/ 255.
(3) البيت لجرير من قصيدة له في ديوانه 2/ 131يهجو فيها التيم وروايته في الديوان: «أولاد ذهل» بدل «ذهل بن تيم».(3/341)
ويهود، وفي التنزيل {وقالت اليهود} [البقرة / 113]، واليهود إنّما هو جمع يهوديّ، ولو لم يكن جمعا لم تدخل اللام، لأنّ يهود جرت عندهم اسما للقبيلة، فصارت بمنزلة مجوس عندهم. أنشدنا علي بن سليمان (1):
فرّت يهود وأسلمت جيرانها
صمّي لما فعلت يهود صمام
وفي حديث القسامة: «تقسم يهود» (2).
ومن الصفات الغالبة التي تجري مجرى، الحارث والقاسم قولهم: النابغة، فالنابغة له اسم يجري مجرى الأعلام، وغلب عليه هذا الوصف، كما أنّ الحارث ونحوه قد نزل تنزيل من له اسم
__________
(1) البيت للأسود بن يعفر (اللسان: صمم). وصمّي صمام: يضرب للرجل يأتي الداهية أي: احترسي يا صمام.
(2) حديث القسامة هذا أخرجه مسلم برقم (1669) والإمام أحمد 4/ 2من حديث سهل بن أبي حثمة، ومن حديثه في مسلم وحديث رافع بن خديج وبشير بن يسار. والحديث عند أبي داود 4/ 655برقم (45214520) وسبب هذا الحديث أنّ عبد الله بن سهل بن زيد وجد مقتولا في خيبر، فاتهموا اليهود في قتله، فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمّه حويّصة ومحيّصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته»؟ قالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف؟ قال: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم»؟ قالوا يا رسول الله! قوم كفار! قال: «فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله» اهـ ملخصا من مسلم.
ويلاحظ أن الحديث جاء على لفظ «فتحلف لكم يهود» و «فتبرئكم يهود» ولا ضير في ذلك فإن الحلف والقسم شيء واحد، ويبقى موطن الاستشهاد بكلمة «يهود» هو المراد.(3/342)
علم فغلب عليه هذا الوصف، فجرى هذا الوصف الغالب مجرى العلم، وسدّ مسدّه، حتى صار يعرف به كما يعرف بالعلم، فلمّا سدّ مسدّه وكفى منه أجراه مجرى العلم نحو: جعفر وثور فقال (1):
ونابغة الجعديّ بالرّمل بيته
ومن ذلك قولهم في اسم اليوم: الاثنان، لما جرى مجرى العلم، استجيز حذف اللام فيه (2) كما استجازوا حذف اللّام من النابغة، وذلك فيما حكاه سيبويه (3) من قولهم: هذا يوم اثنين مباركا فيه.
فأمّا قولهم الغدوة والفينة، فدخول لام التعريف فيهما (4) على وجه آخر وهو: أن غدوة، وفينة كانا معرفتين، كما تكون الأسماء التي للألقاب معارف، فأزيل هذا التعريف عنهما كما أزيل التعريف عن الاسم الموضوع وضع الأعلام، وذلك في أحد تأويلي سيبويه في قولهم: هذا ابن عرس مقبل، فلما أزيل هذا
__________
(1) صدر بيت للشاعر مسكين الدارمي وعجزه:
عليه تراب من صفيح موضّع وجاءت روايته في الخزانة: «عليه صفيح من رخام موضع» وأراد بالرمل: رمل بني جعدة وهي رمال ذراء من طريق البصرة إلى مكة. انظر الخزانة 2/ 117سيبويه 2/ 24. اللسان: مادة «نبغ».
(2) في (ط): منه.
(3) في الكتاب 2/ 48.
(4) في (ط): فيه.(3/343)
التعريف عنهما عرّفا (1) بالألف واللام، فقرأ من قرأ بالغدوة [على هذا] (2).
وحكى أبو زيد: لقيته فينة، والفينة بعد الفينة.
ومثل إزالة هذا الضرب من التعريف عن هذه الأسماء إزالتهم إياه في قولهم: أمّا البصرة فلا بصرة لك، وأمّا خراسان فلا خراسان لك: وعلى هذا قوله:
ولا أميّة بالبلاد (3)
و «قضيّة ولا أبا حسن» (4).
ومثل هذا زوال تعريف العلم عن (5) الأعلام المثنّاة
__________
(1) في (ط): عنه، عرف.
(2) سقطت من (ط).
(3) جزء من بيت لابن الزّبير الأسدي، وتمامه:
أرى الحاجات عند أبي خبيب ... نكدن
في سيبويه 1/ 355والمقتضب 4/ 362وأمالي ابن الشجري 1/ 239وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 102والخزانة 2/ 100ونقل صاحب الخزانة في 2/ 451عن ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل نسبة البيت لفضالة بن شريك والد عبد الله.
وفي الأغاني 10/ 66نسبه إلى عبد الله بن فضالة بن شريك في قصة وفوده على عبد الله بن الزبير. ثمّ نقل عن ابن حبيب في ص 7069أن الشعر وقصته كانت مع فضالة وابن الزبير لا مع ابنه، وقد ذكر ذلك البغدادي في الخزانة أيضا 2/ 102100. قال ابن يعيش في شرح المفصل 2/ 103.
وابن الزبير هو عبد الله بن زبير بن فضالة بن شريك الوالي، من أسد خزيمة.
اهـ والزبير: بوزان أمير، هو المذكور، وعبد الله بن الزبير بن العوام: بضم الزاي. انظر القاموس المحيط (زبر).
(4) يراد بأبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سيبويه 1/ 355 والمعنى: لا أمثال عليّ لهذه القضية.
(5) في (ط): من.(3/344)
والمجموعة نحو: الجعفران والعمران، فزال تعريف العلم عن الجعفرين، كما زال تعريف العدل عن العمرين، والقثمين، ولو لم يزل لم يجز دخول لام المعرفة عليه، كما لم يجز دخولها قبل التثنية، ولا تدخل لام المعرفة على المعدول.
واستدلّ أبو عثمان على أنّ الثلاثاء والأربعاء غير معدولين بدخول لام المعرفة عليهما، وقال: المعدول لا تدخل عليه الألف واللام، فأمّا أبانان، وعرفات فلم تدخلهما اللّام لأنّ التسمية وقعت بالجمع والتثنية، كما وقعت بالمفرد، فلم تدخل اللّام، كما لم تدخل على المفرد.
فأمّا الألف واللّام في {اليسع}، فلا يخلو من أن تكون على حدّ الرجل إذا أردت المعهود أو الجنس نحو: {إن الإنسان لفي خسر} [العصر / 2]، أو على حدّ دخولها في العباس، فلا يجوز أن يكون على واحد من ذلك، ولا يجوز أن يكون على حدّ العبّاس، لأنّه لو كان كذلك كان صفة، كما أنّ العباس كذلك، ولو كان كذلك لوجب أن يكون فعلا، ولو كان فعلا: لوجب أن يلزمه الفاعل، ولو لزمه الفاعل لوجب أن يحكى من حيث كان جملة، ولو كان كذلك لم يجز لحاق اللّام له، ألا ترى أنّ اللّام لا تدخل على الفعل؟ وليس بإشارة كقولك: هذا الرجل، فإذا لم يجز فيه شيء من ذلك ثبت أنّه زيادة، ومثل ذلك فيما جاءت اللّام فيه زائدة قول الشاعر: (1)
__________
(1) البيتان مع ثالث لهما في الإنصاف ص 318، وأنشدها في اللسان (أبل) ونسبها لابن عبد الجن، وهو تحريف «عبد الحق» لأنّه نسب البيت الأوّل في مادة (مور) لعبد الحق، والبيت الثالث وهو قوله:(3/345)
أما ودماء لا تزال كأنّها
على قنّة العزّى وبالنسر عند ما
وما سبّح الرهبان في كل بيعة
أبيل الأبيلين المسيح بن مريما
فتعلم زيادة اللّام فيه بما في التنزيل من قوله: {ولا يغوث ويعوق ونسرا} [نوح / 23] فأمّا انتصاب عندم في البيت فيأخذ شيئين: أحدهما بما (1) في كأنّ من معنى الفعل والآخر أن تجعل «على قنّة العزّى» مستقرا، فيكون الحال عنه، فإن نصبت بالأول:
فذو الحال الضمير الذي في كأنها ... ، وإن نصبته عن المستقرّ،
فذو الحال الذكر الّذي في المستقرّ، والمعنى على حذف المضاف، كأنّه مثل. عندم، فحذف (2). ومثل ذاك ما أنشده محمد بن السّريّ للمرّار الفقعسي (3):
إذا نهلت بسفرتها وعلّت
ذنوبا مثل لون الزّعفران
المعنى: ماء ذنوب مثل لون الزعفران، ولو جعلت العندم هو الدم لموافقته إياه في اللون لكان مذهبا، ولو رفعت مثل لون
__________
لقد ذاق منّا عامر يوم لعلع ... حساما إذا ما هزّ بالكف صمّما
نسبه لحميد بن ثور في مادة (لعع) وليس في ديوانه، وذكره الميمني في زيادة ديوانه ص 31عن اللسان وفي أمالي ابن الشجري 1/ 154الشطر الثاني من البيت الأول.
والعندم: قيل دم الأخوين وقيل غير ذلك.
(1) في (ط): «ما».
(2) في (ط): فحذفت.
(3) هو المرار بن سعيد بن حبيب بن خالد بن فقعس شاعر إسلامي كثير الشعر انظر معجم الشعراء للمرزباني / 337.(3/346)
الزعفران جاز، ويكون (1) التقدير: ذنوبا لونه مثل لون الزعفران، فحذفت المبتدأ، والجملة في موضع نصب، ومثل ذلك قوله (2):
وهي تنوش الحوض نوشا من علا المعنى على ماء الحوض، ألا ترى أنّها تتناول ماءه لا نفس الحوض؟
ومثل ذلك قول الآخر (3):
لا عيش إلّا كلّ حمراء غفل
تناول الحوض إذا الحوض شغل
ومما جاءت اللام فيه زيادة ما أنشده أبو عثمان (4):
باعد أمّ العمر من أسيرها وأنشد أحمد بن يحيى:
__________
(1) في (ط): جاز على أن يكون.
(2) بيت من مشطور الرجز نسبه فى اللسان إلى غيلان بن حريث وبعده:
نوشا به تقطع أجواز الفلا وقد ذكره سيبويه ولم ينسبه وتنوش الحوض: تتناول ملأه يريد أن الإبل عالية الأجسام طوال الأعناق وذلك النوش الذي تناله هو الذي يعينها على قطع الفلوات.
انظر اللسان مادة / نوش / سيبويه 2/ 123الخزانة 4/ 261125.
(3) ذكره اللسان في مادة / غفل / ولم ينسبه.
(4) شطر بيت لأبي النجم العجلي وبعده:
حراس أبواب على قصورها انظر المقتضب 4/ 49وشرح شواهد المغني للبغدادي 1/ 302وانظر تخريجه هناك. 60.(3/347)
يا ليت أمّ العمر كانت صاحبي
مكان من أنشا على الرّكائب (1)
فأما قوله: (2)
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا
ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
فإنّه يحتمل أمرين: يجوز أن يكون قد اعتقب عليه تعريفان، كما اعتقب على غدوة، والغدوة، واثنين والاثنين، من قولهم: اليوم يوم الاثنين، فيكون التعريف الذي وضع له في أول أمره في تقدير الزوال عنه، كما قدّر سيبويه ذلك في أحد تأويلية في قولك (3): هذا ابن عرس مقبل (4).
وممّا جاء فيه الألف (5) واللام زائدة قولهم: الخمسة العشر درهما، حكاه أبو الحسن الأخفش. ألا ترى أنّهما اسم واحد، ولا يجوز أن يعرّف (6) اسم واحد بتعريفين، كما لا يجوز أن يتعرّف بعض الاسم دون بعض، فإذا كان كذلك، علمت
__________
(1) رجز غير منسوب وقد ذكر في شرح المفصل 1/ 44والإنصاف 11/ 316 برواية «أشتى» بدل «أنشا» وفي المخصص 1/ 168والمنصف 3/ 134 كلاهما عن أبي علي.
(2) البيت غير منسوب وهو من شواهد المغني انظر شرح أبياته للبغدادي 1/ 310وابن عقيل 1/ 156والعيني 1/ 498ومجالس ثعلب 556الإنصاف 1/ 319الصبان 1/ 182واللسان مادة (وبر).
(3) في (ط): قولهم.
(4) انظر سيبويه 1/ 265.
(5) سقطت (الألف) من (ط).
(6) في (ط): يتعرف.(3/348)
زيادة اللام في الخمسة العشر درهما، ويذهب أبو الحسن في اللات في قوله: {أفرأيتم اللات والعزى} [النجم / 19]، إلى أنّ اللام في اللات زائدة، وذلك صحيح لأنّ اللات معرفة. أما (1) العزى فبمنزلة العبّاس، فإذا كانت اللات معرفة ولم تكن بمنزلة العباس، ثبت أن اللام فيها زائدة، وقياس قول أبي الحسن هذا أن تكون اللام في اليسع * أيضا زائدة، لأنه علم مثل اللات وليس بصفة كما أن اللات ليست بصفة.
فإن قلت: فلم لا تكون اللات صفة، ويكون مأخوذا من: لوى (2) على الشيء: إذا عطف عليه، ومن قول الشاعر (3):
فإنّني
ألوي عليك لو انّ لبّك يهتدي
ويؤكد هذا قوله (4): {واصبروا على آلهتكم} [ص / 6]
__________
(1) في (ط): فأما.
(2) في (ط): لوى به.
(3) جزء من بيت لابن أحمر، وتمامه:
عمّرتك الله الجليل فإنني
ألوي عليك لو انّ لبّك يهتدي
قوله: عمرتك الله: ذكرتك به، وجوابه في بيت بعده.
انظر سيبويه 1/ 163. المقتضب 2/ 329المنصف 3/ 132أمالي ابن الشجري 1/ 349.
(4) في (ط): قولهم.(3/349)
فهذا من العطف عليها والتمسّك بعبادتها، فإن ذلك لا تقوله، ألا ترى أنه يلزم أن يكون قد وصفت باسم على حرفين ثالثه تاء (1) التأنيث، وهذا مما لم نعلمه جاء في الصفات، فإذا كان كذلك وجب أن يكون مطّرحا.
ومما جاءت اللام فيه زائدة ما أنشده بعض البغداديّين:
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا
شديدا بأحناء الخلافة كاهله (2)
فأمّا قول من قال: الليسع، فإنه تكون اللام فيه على حدّ ما (3) في الحارث ألا ترى أنه على وزن الصفات؟ فهو كالحارث، إلّا أنه، وإن كان كذلك، فليس له مزيّة على القول الآخر، ألا ترى أنّه لم يجيء في الأسماء الأعجميّة المنقولة في حال التعريف، نحو: إسماعيل وإبراهيم شيء على هذا النحو، كما لم يجيء فيها شيء فيه لام التعريف؟ فإذا كان كذلك، كان الليسع بمنزلة: {اليسع} في أنّه خارج عما كان (4) عليه الأسماء الأعجمية المختصة المعربة.
الانعام: 90
اختلفوا في إثبات الهاء في [قوله تعالى]: (5)
{اقتده} [الأنعام / 90] في الوصل، فقرأ ابن كثير
__________
(1) في (م): ياء، وهو تصحيف.
(2) البيت لابن ميادة انظر شرح أبيات المغني 1/ 304الخزانة 1/ 323.
الإنصاف / 317وفيها وفي (ط) بأعباء الخلافة.
(3) في (ط): حدّها.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (ط).(3/350)
وأهل مكّة ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة وعاصم: {فبهداهم اقتده قل}، يثبتون الهاء في الوصل ساكنة.
وقرأ حمزة والكسائيّ: فبهداهم اقتد قل بغير هاء في الوصل، ويقفان بالهاء.
وقرأ عبد الله بن عامر: {فبهداهم اقتده، قل} يكسر الدال، ويشمّ الهاء الكسر من غير بلوغ ياء. وهذا غلط، لأن هذه (1) الهاء هاء وقف لا تعرب في حال من الأحوال، وإنّما تدخل لتبيّن (2) بها حركة ما قبلها (3).
قال أبو علي: الوجه: الوقف (4) على الهاء لاجتماع الكثرة، والجمهور على إثباته، ولا ينبغي أن يوصل، والهاء ثابتة، لأن هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء، في أنّ الهاء للوقف، كما أنّ همزة الوصل للابتداء بالساكن، وكما لا تثبت الهمزة في الوصل (5)، كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء.
قال أبو الحسن: وكذلك قوله: {قل هو الله أحد}
[الإخلاص / 1]، و {لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق / 19]، و {كلا لينبذن في الحطمة} [الهمزة / 4]. يسكتون عنده
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): ليبيّن.
(3) السبعة 262.
(4) في (ط): فالوجه الوقوف.
(5) في (ط): الصلة.(3/351)
أجمع، وقوله: {الذي جمع مالا وعدده} [الهمزة / 2]. هكذا تكلّم به العرب على الوقف.
قال: وكان أبو عمرو يقرأ: {قل هو الله أحد} [1] الله
[الإخلاص / 1] على السكون (2). وقول حمزة والكسائيّ القياس (3)، وفي ترك قول الأكثر ضرب من الاستيحاش، وإن كان الصواب والقياس ما قرآ به (4).
وقراءة (5) ابن عامر بكسر الدال وإشمام الهاء الكسرة (6)
من غير بلوغ ياء ليس بغلط، ووجهها: أن تجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق للوقف، وحسن إضماره لذكر الفعل الدّالّ عليه (7). ومثل ذلك قول الشاعر: (8)
فجال على وحشيّه وتخاله
على ظهره سبّا جديدا يمانيا
كأنه قال: تخاله خيلانا على ظهره سبّا جديدا يمانيا.
__________
(1) وقفت (م) عند أحد.
(2) في (م): السكوت.
(3) سقطت كلمة (القياس) من (م).
(4) سقطت «به» من (م).
(5) في (م): وقرأه.
(6) في (ط): الكسر.
(7) سقطت عليه من (م).
(8) وهو العبدي، والسّب: الثوب الرقيق انظر شرح المفصل لابن يعيش 1/ 124.(3/352)
فعلى متعلّق بمحذوف، وعلى هذا قول الشاعر (1):
هذا سراقة للقرآن يدرسه
والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب
فالهاء كناية عن المصدر، ودلّ يدرسه على الدرس، ولا يجوز أن يكون ضمير (2) القرآن لأنّ الفعل قد تعدّى إليه باللام، فلا يجوز أن يتعدى إليه وإلى ضميره، كما أنّك إذا قلت:
أزيدا ضربته، لم تنصب زيدا بضربت لتعديه إلى ضميره (3).
ومثل ذلك ما حكاه أبو الحسن من قراءة بعضهم: {ولكل وجهة هو موليها} [البقرة / 148]، فاللام متعلّقة (4) بمولّ على هذه القراءة (5).
والهاء كناية عن التولية، ودلّ عليه (6) قوله: مول فعلى هذا أيضا قراءة ابن عامر: {فبهداهم اقتده قل}: وقياسه: إذا وقف عليه أن يقول: {اقتده} فيسكن هاء الضمير، كما تقول:
اشتره، في الوقف. وفي الوصل: اشترهي يا هذا، واشترهو (7)
قبل.
__________
(1) سبق في 2/ 241.
(2) ضبطها في (م) بالضم، أي: ضمير.
(3) في (ط): الضمير.
(4) سبقت القراءة في 2/ 240.
(5) في (ط): متعلق.
(6) في (ط): عليها.
(7) في (ط): أو اشترهو.
الحجة ج 3م / 32(3/353)
الانعام: 91
اختلفوا في التّوحيد والجمع من قوله جلّ وعزّ:
{وأزواجهم وذرياتهم} [غافر / 8] في غير هذا الموضع. ولم يختلفوا في هذا الموضع [أنه بالجمع] (1).
قد قلنا فيما تقدم في الذرية، وأنه يكون واحدا وجمعا، فيغني ذلك عن الإعادة هنا. فأما قوله (2): أزواجهم * فواحدها زوج، وهو الأكثر (3)، ولغة التنزيل قال: {اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة / 35]، و {إن هذا عدو لك ولزوجك}
[طه / 117] وقد قالوا: زوجة، قال (4):
فبكى بناتي شجوهنّ وزوجتي
الانعام: 91
واختلفوا في التاء والياء من قوله جلّ وعزّ: {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا} [الأنعام / 91].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: يجعلونه قراطيس يبدونها، ويخفون كثيرا بالياء جميعا.
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة من السبعة ص 262والملاحظ أن المصنف استشهد هنا بآية غافر، بدلا من آية الأنعام رقم 87: {ومن آبائهم وذرياتهم} التي يأتي ترتيبها في هذا المكان.
(2) في (ط): قولهم.
(3) في (ط): أكثر.
(4) صدر بيت لعبدة بن الطبيب وعجزه:
والطامعون إليّ ثم تصدّعوا انظر النوادر لأبي زيد / 23الخصائص 3/ 295والمفضليات / 148.(3/354)
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ كلّ ذلك بالتاء (1).
من قرأ بالياء فلأنّهم غيب، يدلّك على ذلك قوله: {وما قدروا الله حق قدره، إذ قالوا}، وقوله (2): من أنزل الكتاب يجعلونه [الأنعام / 91] فيحمله على الغيبة، لأنّ ما قبله كذلك أيضا.
ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب، قل لهم: {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا}.
ومعنى: {تجعلونه قراطيس}: تجعلونه ذوات (3) قراطيس أي: تودعونه إياها، {وتخفون} أي: تكتمونه كما قال: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} [البقرة / 159].
وقوله {تبدونها وتخفون كثيرا} يحتمل موضعه ضربين:
أحدهما: أن يكون صفة للقراطيس، لأن النكرة توصف بالجمل.
والآخر: أن تجعله حالا من ضمير الكتاب في قوله:
يجعلونه على أن تجعل الكتاب القراطيس في المعنى، لأنه مكتتب فيها.
ويؤكد قراءة من قرأ بالتاء قوله: {وعلمتم ما لم تعلموا أنتم} [الأنعام / 91]،
__________
(1) السبعة: 263.
(2) في (ط): «قل» بدل: «وقوله» وهي موهمة أنها من الآية نفسها وليست كذلك، بل المراد بها التفسير والتقدير.
(3) في (ط): ذا قراطيس.(3/355)
فجاء على الخطاب، وكذلك (1) يكون ما قبله من قوله: {تجعلونه قراطيس تبدونها}.
الانعام: 92
واختلفوا في الياء والتاء في قوله: {ولتنذر أم القرى}
[الأنعام / 92].
فقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر: ولينذر أم القرى بالياء.
وقرأ الباقون: {ولتنذر أم القرى} بالتاء، وكذلك روى حفص عن عاصم بالتاء أيضا (2).
وجه من قرأ (3) بالتاء قوله: {إنما أنت منذر}
[الرعد / 7]، و {إنما أنت منذر من يخشاها}
[النازعات / 45]، و {وأنذر به الذين يخافون} [الأنعام / 51].
ومن قرأ بالياء جعل الكتاب هو المنذر، لأن فيه إنذارا، ألا ترى أنه قد خوّف به في نحو (4) قوله: {هذا بلاغ للناس ولينذروا به} [إبراهيم / 52]. و {وأنذر به الذين يخافون}
[الأنعام / 51]. و: {قل إنما أنذركم بالوحي} [الأنبياء / 45]، فلا يمتنع أن يسند الإنذار إليه على الاتساع.
الانعام: 94
اختلفوا في رفع النّون ونصبها من قوله: عزّ وجل (5):
__________
(1) في (ط): فكذلك.
(2) السبعة 262.
(3) في ط: وجه قراءة من قرأ.
(4) سقطت من (ط).
(5) زيادة من (ط).(3/356)
{لقد تقطع بينكم} [الأنعام / 94].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم. في رواية أبي بكر، وابن عامر وحمزة: لقد تقطع بينكم رفعا.
وقرأ نافع والكسائيّ {بينكم} نصبا. وكذلك روى حفص عن عاصم بالنّصب أيضا (1).
[قال أبو علي] (2): البين مصدر بان يبين إذا فارق، قال (3):
بان الخليط برامتين فودّعوا
أو كلّما ظعنوا لبين تجزع
وقال (4) أبو زيد: بان الحيّ بينونة وبينا: إذا ظعنوا، وتباينوا تباينا: إذا كانوا جمعا (5)، فتفرقوا. قال: والبين: ما ينتهي إليه بصرك من حائط وغيره (6).
واستعمل هذا الاسم على ضربين: أحدهما أن يكون اسما متصرفا كالافتراق. والآخر: أن يكون ظرفا. فالمرفوع (7) في
__________
(1) السبعة 263.
(2) سقطت من (م).
(3) البيت لجرير من قصيدة يهجو فيها الفرزدق. وقد ورد في الديوان برواية:
«رفعوا» بدلا من «ظعنوا» انظر الديوان / 340.
(4) في (ط): قال.
(5) في (ط): جميعا.
(6) في (ط): أو غيره.
(7) في (ط): والمرفوع.(3/357)
قراءة من قرأ لقد تقطع بينكم هو (1) الذي كان ظرفا ثم استعمل اسما.
والدليل على جواز كونه اسما قوله: {ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت / 5]، و: {هذا فراق بيني وبينك}
[الكهف / 78]، فلما استعمل اسما في هذه المواضع. جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو تقطع * في قول من رفع. ويدلّ على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنّه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه، أو يكون الذي هو مصدر، فلا يجوز أن يكون هذا القسم، لأن التقدير يصير: لقد تقطّع افتراقكم. وهذا، مع بعده عن القصد، خلاف المعنى المراد، ألا ترى أنّ المراد: لقد تقطّع وصلكم وما كنتم تتألفون عليه.
فإن قلت: كيف جاز أن يكون بمعنى (2) الوصل، وأصله الافتراق والتباين، وعلى هذا قالوا:
بان الخليط (3)
إذا فارق،
وفي الحديث (4) «ما بان من الحيّ فهو ميتة».
قيل: إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (م): المعنى.
(3) انظر الصفحة السابقة.
(4) رواية الحديث، في صحيح البخاري كتاب الذبائح / 4: (إذا ضرب صيدا فبان منه يد أو رجل لا تأكل الذي بان، وتأكل سائره).
ورواه ابن ماجة في كتاب الصيد برقم / 3216. وأحمد في المسند 5/ 218برواية «ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة».(3/358)
بيني وبينه شركة، وبيني وبينه رحم وصداقة، صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمنزلة الوصلة على (1) خلاف الفرقة، فلهذا جاء: لقد تقطع بينكم بمعنى: لقد تقطّع وصلكم.
ومثل بين في أنه يجري في الكلام ظرفا، ثم يستعمل اسما: «وسط» الساكن العين، ألا ترى أنّك تقول: جلست وسط القوم، فتجعله ظرفا، لا يكون إلّا كذلك، ثم استعملوه اسما في نحو قول القتّال (2):
من (3) وسط جمع بني قريط بعد ما
هتفت ربيعة يا بني جوّاب
وقال آخر (4):
أتته بمجلوم كأنّ جبينه
صلاءة ورس وسطها قد تفلّقا
فجعله مبتدأ وأخبر عنه، كما جرّه الآخر (5) بالحرف الجارّ.
وحكى سيبويه: هو أحمر بين العينين.
فأمّا من قال: {لقد تقطع بينكم} بالنصب ففيه مذهبان:
__________
(1) في (ط): وعلى.
(2) هو القتال الكلابي وقريط: بطن من كلاب. والبيت في ديوانه ص 36 والخصائص 2/ 369وقد سبق في 1/ 251.
(3) في (ط): في.
(4) البيت للفرزدق وقد سبق انظر 1/ 39و 252.
(5) في (ط): والآخر.(3/359)
أحدهما: أنه أضمر الفاعل (1) في الفعل ودلّ عليه مما (2)
تقدّم في (3) قوله: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} [الأنعام / 94]، ألا ترى أن هذا الكلام فيه دلالة على التقاطع والتهاجر؟ وذلك أن (4) المضمر هو الوصل كأنّه قال: لقد تقطّع وصلكم بينكم.
وقد حكى سيبويه: أنّهم قالوا: إذا كان غدا فائتني، فأضمر ما كانوا (5) فيه من بلاء أو رخاء، لدلالة الحال عليه، فصار (6) دلالة الحال عليه بمنزلة جري الذكر وتقدّمه.
والمذهب الآخر: انتصاب البين في (7) قوله: {لقد تقطع بينكم} على شيء يقوله (8) أبو الحسن، وهو أنه يذهب إلى أن قوله: {لقد تقطع بينكم} إذا نصب يكون معناه معنى المرفوع، فلمّا جرى في كلامهم منصوبا ظرفا، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام وكذلك يقول في قوله: {يوم القيامة يفصل بينكم} [الممتحنة / 3]، وكذلك يقول في قوله: {وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} [الجن / 11]، فدون في موضع
__________
(1) في (ط): أضمر الاسم الفاعل.
(2) في (ط): ما تقدم.
(3) في (ط): من.
(4) سقطت من (ط) (أن).
(5) في (ط): ما كان كانوا. «وكأنه ضرب على كان».
(6) في (ط): وصار.
(7) في (ط): من.
(8) في (ط): يراه.(3/360)
رفع عنده، وإن كان منصوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصّالح ومنّا الطّالح فترفع.
الانعام: 96
اختلفوا في إدخال الألف وإخراجها من قوله [عز وجل] (1): وجاعل الليل سكنا [الأنعام / 96].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: وجاعل الليل سكنا بألف.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ: {وجعل الليل سكنا} بغير ألف (2).
وجه قول من قال: جاعل * أن قبله اسم فاعل: {إن الله فالق الحب والنوى} فالق الإصباح وجاعل، ليكون فاعل المعطوف مثل، فاعل المعطوف عليه، ألا ترى أنّ حكم الاسم أن يعطف على اسم مثله، لأن الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم.
وقد رأيتهم راعوا هذه المشاكلة في كلامهم، وذلك نحو ما جاء في قوله: {يدخل من يشاء في رحمته، والظالمين أعد لهم عذابا أليما} [الإنسان / 31]، وقوله: {وكلا ضربنا له الأمثال} [الفرقان / 39]، و {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} [الأعراف / 30]، نصبوا كلّ هذه الأسماء التي اشتغل عنها الفعل، ليكون القارئ بنصبها كالعاطف جملة من فعل
__________
(1) سقطت من (م).
(2) السبعة: ص 263.(3/361)
وفاعل على جملة من فعل وفاعل، وكما أن الفعل بالفعل أشبه من المبتدأ بالفعل، كذلك الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم، وإذا كان كذلك كان جاعل الليل أولى من جعل، ويقوي ذلك قولهم (1):
للبس عباءة وتقرّ عيني (2)
وقوله (3):
ولولا رجال من رزام أعزّة
وآل سبيع أو أسوءك علقما
ومن قرأ: {وجعل} فلأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضيّ، فلما كان (فاعل) بمنزلة (فعل) في المعنى عطف عليه فعل لموافقته إياه (4) في المعنى، ويدلّك على أنه بمنزلة (فعل)
__________
(1) صدر بيت منسوب لميسون بنت بحدل زوج معاوية عجزه:
أحبّ إلي من لبس الشفوف انظر سيبويه 1/ 426المقتضب 2/ 27المحتسب 1/ 326أمالي ابن الشجري 1/ 280الخزانة 3/ 621562وشرح أبيات المغني.
الشاهد رقم / 422/.
(2) «تقر عيني» سقطت من (م).
(3) البيت للحصين بن الحمام، والشاهد فيه نصب أسوءك بإضمار أن ليعطف اسم على اسم وهو رجال. وبعد البيت في المفضليات:
لأقسمت لا تنفكّ مني محارب
على آلة حدباء حتى تندّما
انظر سيبويه 2/ 181المحتسب 1/ 326المفضليات 66رقم المفضلية 12العيني 4/ 411.
(4) في (ط): له.(3/362)
أنه نزل منزلته فيما عطف عليه، وهو قوله: {والشمس والقمر حسبانا} [الأنعام / 96] ألا ترى أنه لما كان المعنى فعل، حمل المعطوف على ذلك، فنصب {الشمس والقمر} على فعل كما (1) كان فاعل كفعل. ويقوي ذلك قولهم: هذا معطي زيد درهما أمس. فالدرهم محمول على أعطى، لأن اسم الفاعل، إذا كان لما مضى، لم يعمل عمل الفعل، فإنما جعل معط بمنزلة أعطى فكذلك جعل: {فالق الإصباح} [الأنعام / 96] بمنزلة فلق، لأنّ اسم الفاعل لما مضى، فعطف عليه فعل، لمّا كان بمنزلته فأما (2) قول الشاعر (3):
قعودا لدى الأبواب طلّاب حاجة
عوان من الحاجات أو حاجة بكرا
فليس يوافق (4) الآية لأنّ طلاب جمع اسم فاعل، الذي يراد به الحال، وإنّما حذف التنوين مستخفّا، وحمل حاجة على اسم الفاعل الذي للحال، واسم الفاعل في الآية لما مضى.
__________
(1) في (ط): لما.
(2) في (ط): وأما.
(3) البيت للفرزدق من قصيدة قالها لما أراد زياد أن يخدعه ليقع في يده انظر ديوانه 1/ 227، والمقتضب 4/ 152وفيه قعود، وطلاب بالرفع. والشاهد في البيت عطف «حاجة بكرا» على محل «حاجة عوان».
في الأضداد لابن الأنباري ص 330: حاجة عوان: طلبت مرة بعد مرة، وأنشد البيت.
(4) في (ط): بوفق.(3/363)
الانعام: 98
اختلفوا في كسر القاف وفتحها من قوله تعالى (1):
فمستقر [الأنعام / 98].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فمستقر بكسر القاف.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائيّ:
{فمستقر} بفتح القاف (2).
قال سيبويه: قالوا: قرّ في مكانه واستقرّ، كما قالوا:
جلب الجرح وأجلب، يريد بهما (3) شيئا واحدا. فكما بني هذا على فعلت، بني هذا على استفعلت (4)، فمن كسر القاف كان المستقرّ بمعنى القارّ.
وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر منكم، أي: منكم مستقرّ، كقولك: بعضكم مستقرّ، أي: مستقرّ في الأرحام، وقال: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق} [الزمر / 6]، كما قال: {وقد خلقكم أطوارا}
[نوح / 14].
ومن فتح مستقر * (5) فليس (6) على أنه مفعول به. ألا ترى أنّ استقرّ لا يتعدى؟، وإذا لم يتعدّ لم يكن (7) منه اسم
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) السبعة 263.
(3) في (ط): بهما جميعا شيئا.
(4) سيبويه 2/ 240باب استفعلت.
(5) سقطت من (ط) مستقر.
(6) سقطت من (م) فليس.
(7) في (ط): يبن.(3/364)
مفعول به، وإذا لم يكن مفعولا به كان اسم مكان، فالمستقرّ بمنزلة المقرّ كما أن (1) المستقرّ بمنزلة القارّ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر منكم، كما جاز ذلك في قول من كسر القاف، فإذا لم يجز ذلك جعلت الخبر المضمر لكم، فيكون التقدير: لكم مقرّ.
وأما (2) المستودع فإن استودع فعل يتعدى إلى مفعولين، تقول: استودعت زيدا (3)، وأودعت زيدا ألفا، فاستودع مثل أودع كما أن استجاب بمنزلة (4) أجاب والمستودع (5) يجوز أن يكون الإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه، فمن قرأ: {فمستقر} بفتح القاف، جعل المستودع مكانا ليكون مثل المعطوف عليه، أي: فلكم مكان استقرار ومكان استيداع.
ومن قرأ: فمستقر فالمعنى: منكم مستقرّ في الأرحام، ومنكم مستودع في الأصلاب، فالمستودع اسم المفعول به فيكون مثل (6) المستقرّ في أنه اسم لغير المكان فعلى هذا يوجّه.
__________
(1) في (ط): كان.
(2) في (ط): فأما.
(3) في (ط): زيدا ألفا.
(4) في (ط): مثل.
(5) في (ط): فالمستودع.
(6) في (م): «ليكون مثل» بالوقع.(3/365)
الانعام: 141، 99
واختلفوا في الثاء، والميم من قوله (1): {انظروا إلى ثمره} [الأنعام / 99]، و {من ثمره} [الأنعام / 141]، و (2) {ليأكلوا من ثمره} [يس / 35]، في الفتح فيها والضم.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بالفتح في ذلك (3) كلّه.
وقرأ حمزة والكسائيّ بالضم في ذلك (4).
وجه قول من فتح فقال: {من ثمره}:
أن سيبويه (5) يرى: أن الثّمر جمع ثمرة، ونظيره (6) فيما قال: بقرة وبقر وشجرة وشجر، وجزرة وجزر، ويدل على أن واحد الثمر ثمرة قوله: {ومن ثمرات النخيل والأعناب}
[النحل / 67]، وقد كسّروه على فعال فقالوا ثمار، كما قالوا:
أكمة وإكام، وجذبة وجذاب (7)، ورقبة ورقاب.
وأما قول حمزة والكسائيّ: من ثمره *، فإنه يحتمل وجهين: الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثمر، كما جمعوا (8)
__________
(1) في (ط): قوله عز وجل.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): كلّ القرآن. وانتهى نقله عن السبعة ص 264263باختصار يسير.
(5) انظر الكتاب 2/ 183.
(6) في (ط): فنظيره.
(7) الجذبة: جمارة النخل.
(8) في (ط): جمع.(3/366)
خشبة على خشب في قوله (1): {كأنهم خشب مسندة}
[المنافقون / 4] وكذلك أكمه وأكم، في نحو قوله (2):
نحن الفوارس يوم ديسقة ال
مغشو الكماة غوارب الأكم
ونظيره من المعتل: ساحة وسوح، وقارة وقور، ولابة (3)
ولوب، وناقة ونوق. قال أبو عمر (4): أنشدنا الأصمعيّ لرجل من هذيل (5).
وكان سيّان أن لا يسرحوا نعما
أو يسرحوه بها واغبرّت السوح
والآخر أن يكون جمع ثمارا على ثمر فيكون: ثمر جمع الجمع، وجمعوه على فعل، كما جمعوه على فعائل في
__________
(1) في (ط): قولهم.
(2) وهو النابغة الجعدي. قوله: ديسقة: اسم موضع، وغارب كل شيء:
أعلاه.
انظر اللسان (دسق) وشعره / 235/.
(3) اللابة: الحرّة أو الأرض التي كسيت بحجارة سود.
(4) في (ط): أبو عمرو.
(5) هذا بيت ملفق من بيتين لأبي ذؤيب الهذلي وهما:
وقال ماشيهم: سيان سيركم
أو أن تقيموا به واغبرّت السّوح
وكان مثلين ألا يسرحوا نعما
حيث استرادت مواشيهم وتسريح
انظر شرح السكري 1/ 122وقد سبق في 1/ 266.(3/367)
قولهم: جمال (1) وجمائل قال (2):
وقرّبن بالزّرق الجمائل بعد ما
تقوّب عن غربان أوراكها الخطر
ولم أعلم سيبويه ذكر تكسيره على فعل، وإن كان قد حكى تكسيره على فعائل، ولا يمتنع في القياس، ألا ترى أن فعلا (3) جمع للكثير كما أن فعائل جمع له، وجمعوه بالألف والتّاء أيضا في قول من قرأ: كأنه جمالات صفر [المرسلات / 33].
وأنشد بعض البغداديين (4):
أحبّ كلب في كلابات الناس
إليّ نبحا كلب أمّ العبّاس
فأما قول الشاعر (5):
كنّا بها إذ الحياة حيّ فليس حيّ بجمع حياة: كبدنة وبدن، وقارة وقور، إنما الحيّ مصدر كالعيّ، ولو كان جمعا على فعل لجاز في فائه
__________
(1) في (ط): تكررت كلمة جمال.
(2) البيت لذي الرمّة وقد سبق.
(3) في (م) فعل.
(4) ورد هذا البيت في اللسان في مادة (كلب) دون أن ينسبه.
(5) شطر بيت من الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 486وروايته فيه:
وقد نرى إذ الحياة حيّ.
وبعده:
وإذ زمان الناس دغفليّ.
وانظر اللسان مادة / حيا /.(3/368)
الضمّ والكسر، كما قالوا: قرن ألوى، وقرون ليّ وليّ.
قال: اختلفوا (1) في سورة الكهف، فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائيّ، وكان له ثمر [الكهف / 34]، وأحيط بثمره [الكهف / 42] بضمتين.
وقرأ أبو عمرو: بثمره بضمّة واحدة وأسكن الميم.
وقرأ عاصم: {وكان له ثمر}، {وأحيط بثمره}، بفتح الثاء والميم فيهما (2).
أمّا حمزة والكسائيّ فقراءتهما في ذلك كقراءتهما فيما تقدّم، وابن كثير ونافع وابن عامر أخذوا بذلك في هذا الموضع لأن اللفظتين جميعا للجمع، ألا ترى أن الثمر جمع كما كان (3) الثمر كذلك.
ووافقهم أبو عمرو في الأخذ بالجمع الذي هو: فعل، إلّا أنه خفّف العين، كما خفف في بدنه وبدن، قال: {والبدن جعلناها لكم} [الحج / 36] وكما قالوا: الأكم، في جمع أكمة في قوله (4):
ترى الأكم منه سجّدا للحوافر وعلى هذا قالوا: أسد وأسد. وقد فسّر الثّمر في سورة الكهف أنّه من تثمير المال.
__________
(1) في (ط): واختلفوا.
(2) السبعة 264.
(3) في (ط): كما أن.
(4) عجز بيت ورد في اللسان مادة (سجد) ولم ينسبه.(3/369)
وروي عن مجاهد: وكان له ثمر قال: ذهب وورق.
قال أبو علي: وكأنّ (1) الذهب والورق، قيل له ثمر على التفاؤل، لأن الثمر نماء في ذي الثمر، ولا يمتنع أن يكون الثّمر جمع ثمرة، كما قدّمنا، ويدلّ على ذلك أن عاصما قرأ:
{وكان له ثمر} في الموضعين في الكهف. وكأنّ الثمر الذي هو الجنا أشبه في التفسير من الذهب والورق (2) لأنّه أشدّ مشاكلة بالمذكور معه. ألا ترى أنه قال: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب، وحففناهما بنخل}
{وفجرنا خلالهما نهرا، وكان له ثمر، فقال لصاحبه} [الكهف / 32، 34] فالثمر الذي (3) هو الجنا أشبه بالنخيل والأعناب، من الذهب والورق منهما (4) وأشدّ مشاكلة، ويقوّي ذلك قوله في الأخرى في وصف جنّة: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} {له فيها من كل الثمرات} [البقرة / 266].
فكما أنّ الثمرات في هذه لا تكون إلّا الجنا، كذلك في الأخرى يكون إياه. ويقوي أن الثمر ليس بالذهب والورق هنا قوله: وأحيط بثمره، والإحاطة به إهلاك له، واستئصال بالآفة التي حلت بها كما حلّت بالأخرى في قوله: {فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت} [البقرة / 266]، وكما قال: {فأصبحت كالصريم} [القلم / 20]
__________
(1) في (م): وكان.
(2) في (ط): والفضة.
(3) الذي سقطت من (م).
(4) في (ط): بهما.(3/370)
أي: سوداء كسواد الليل بالاحتراق، ويقوي (1) ذلك قوله {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها}
[الكهف / 42]، والإنفاق في الأمر العام إنّما يكون من الورق لا من الشجر.
قال: وقرأ عاصم: {وكان له ثمر} {وأحيط بثمره} بفتح الثاء والميم فيهما لأنّ (2) ثمر * (3) جمع، كما أنّ ثمر كذلك.
ويدلّك على أن الثّمر ونحوه جمع قوله: {وينشئ السحاب الثقال} [الرعد / 12]، وقوله: {كأنهم أعجاز نخل خاوية}
[الحاقة / 7]. وإنما (4) جاء التأنيث لمعنى الجمع، كما جاء التذكير في نحو (5): {من الشجر الأخضر} [يس / 80]، و {أعجاز نخل منقعر} [القمر / 20]، على تذكير اللفظ، وإن كان المعنى الجمع.
وقد يجوز أن يكون ثمر * (6) جمع ثمر، لأن سيبويه قد حكى: ثمر، وجاز أن يكون ثمر جمع على ثمر كما جمع فعل على فعل وذلك قولهم: نمر ونمر قال (7):
__________
(1) في (م): يقوي.
(2) في (ط): فهذا لأن.
(3) في (ط): ثمرا.
(4) في (ط): فإنما.
(5) سقطت «نحو» من (م).
(6) ضبطت في (ط) بفتحتين.
(7) هذا البيت لحكيم بن معية الربعي يصف قناة نبتت في موضع محفوف بالجبال والشجر وقبله:(3/371)
فيه (1) عياييل أسود ونمر والأول الوجه لأنه الأكثر كما رأيت.
الانعام: 100
اختلفوا في تشديد الراء وتخفيفها في (2) قوله تعالى (3):
{وخرقوا له} [الأنعام / 100].
[فقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ: {وخرقوا له بنين وبنات}، خفيفة] (4).
وقرأ (5) نافع وحده وخرقوا له مشددة الراء.
[قال أبو علي: قال] (6) أبو عبيدة: وخرقوا له بنين وبنات أي: جعلوا له وأشركوه.
__________
حفّت بأطواد جبال وسمر
في أشب الغيطان ملتفّ الخطر
وعياييل جمع عيّل وهو الذي يلتمس الشيء.
انظر سيبويه 2/ 179والمقتضب 2/ 203، وشرح المفصل: 10/ 92 وشرح شواهد الشافية 376والعيني 4/ 586. واللسان مادة نمر وعيل *.
(1) في (ط): فيها.
(2) في (ط): من.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) ما بين معقوفين لم يرد في (ط) بهذا التفصيل بل استبدله بقوله في آخر الكلام عن الحرف: «وقرأ الباقون: (و {خرقوا} خفيفة الراء». والمؤدّى واحد، وهو الموافق لما في السبعة 264.
(5) في (ط): فقرأ.
(6) سقطت العبارة من (ط).(3/372)
اخترق واختلق، وابتشك سواء. وقال أحمد بن يحيى:
خرّق واخترق. وقال أبو الحسن: الخفيفة أعجب إليّ، لأنها أكثر وبها أقرأ.
وقيل: إن المعنى أن المشركين ادّعوا الملائكة: بنات الله (1)، والنّصارى: المسيح، واليهود: عزيرا.
ومن شدّد، فكأنه ذهب إلى التكثير.
الانعام: 105
اختلفوا في إدخال الألف وإخراجها من قوله عزّ وجلّ (2):
دارست [الأنعام / 105].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: دارست بألف.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائيّ {درست} ساكنة السين بغير ألف.
وقرأ ابن عامر درست مفتوحة السين ساكنة التاء بغير ألف (3).
قال أبو زيد: درست، أدرس، دراسة، وهي القراءة قال:
وإنما يقال ذلك إذا قرأت على غيرك، قال (4) الأصمعي:
أنشدني ابن ميادة (5):
__________
(1) سقطت من (م).
(2) زيادة من (ط).
(3) السبعة 264.
(4) في (ط): وقال.
(5) شطران من الرجز في شعره ص 179ضمن أبيات وهما في السمط ص 656.(3/373)
يكفيك من بعض ازديار الآفاق
سمراء ممّا درس ابن مخراق
قال: درس يدرس، مثل داس يدوس، وقال بعضهم:
سمراء: ناقته، ودرسها: رياضتها (1)، قال: ودرس السورة من هذا. أي يدرسها لتخفّ على لسانه.
وجه من قرأ: دارست. أي (2): دارست أهل الكتاب وذاكرتهم، ويقوي ذلك (3): {إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} [الفرقان / 4].
فإن قيل: ليس في المصحف ألف، فإن الألف قد تحذف في المصحف في نحو هذا، ويقوي ذلك قوله: {وقالوا أساطير} [4]
الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [الفرقان / 5].
ووجه {درست} في (5) حجّة هذه القراءة: أن أبيّا، وابن مسعود فيما زعموا قرآ درس (6) وأسندا (7) الفعل فيه إلى الغيبة، كما أسندا (8) إلى الخطاب وهو فعل، من: درست، كما أنّ دارست فاعلت منه.
__________
(1) وقيل: السمراء: الحنطة، ودرس على هذا: داس وازديار من الزيارة.
انظر اللسان: مادة (سمر).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): ذلك قولهم.
(4) رسمها في الأصل: «أساطير» والاستشهاد فيها على ما أثبتناه من المصحف.
(5) في (م): فمن.
(6) في (ط): وليقولوا درس.
(7) في (ط): فأسندا.
(8) في (ط): أسند.(3/374)
وقراءة ابن عامر درست مفتوحة السين ساكنة التاء فهو من الدّروس الذي هو: تعفّي الأثر، وامّحاء الرّسم (1).
قال أبو عبيدة: درست: امّحت (2)، فأما اللام في قوله:
{وليقولوا درست} فعلى ضربين: من قال: درست فالمعنى في: {ليقولوا} لكراهة أن يقولوا، ولأن لا يقولوا: درست. أي:
فصّلت الآيات وأحكمت لئلا يقولوا إنّها أخبار وقد (3) تقدّمت وطال العهد بها، وباد من كان يعرفها، كما قالوا: {أساطير الأولين} [الفرقان / 5].
لأنّ تلك الأخبار، لا تخلو من خلل، فإذا (4) سلم الكتاب منه لم يكن لطاعن موضع طعن. وأما من قرأ:
دارست، ودرست فاللام على قولهم كالتي في قوله (5):
{ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص / 8]، ولم يلتقطوه لذلك، كما لم تفصّل الآيات ليقولوا: درست، ودارست ولكن لمّا قالوا ذلك أطلق هذا عليه (6) في الاتساع.
الانعام: 109
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله [جلّ وعزّ] (7): وما يشعركم إنها [الأنعام / 109].
فقرأ ابن كثير: وما يشعركم إنها مكسورة الألف، قرأ
__________
(1) في (ط): الرسوم.
(2) مجاز القرآن 1/ 203وفيه: امتحنت. وهو تحريف.
(3) في (ط): أخبار قد تقدمت.
(4) في (ط): وإذا.
(5) في (ط): قولهم.
(6) سقطت من (ط).
(7) سقطت من (ط).(3/375)
أبو عمرو بالكسر أيضا، غير أنّ أبا عمرو كان يختلس حركة الراء من {يشعركم}.
وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائيّ وأحسب ابن عامر أنها * بالفتح.
وأما أبو بكر بن عياش: فقال يحيى عنه: لم نحفظ عن عاصم كيف قرأ: أفتحا أم كسرا (1)؟.
وقال حسين الجعفي عن أبي بكر عن عاصم إنها * مكسورة، أخبرني به موسى بن إسحاق (2) عن هارون بن حاتم عن حسين الجعفي بذلك. وحدثني موسى بن إسحاق عن أبي هشام (3) محمد بن يزيد قال: سمعت أبا يوسف الأعشى: قرأها على أبي بكر: إنها * كسرا، [{لا يؤمنون} بالياء] (4). وكذلك روى داود الأودي أنه سمع عاصما يقرؤها إنها * كسرا (5).
قال سيبويه: سألته: يعني الخليل (6) عن قوله عز وجل (7): وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك
__________
(1) في (ط): فتحا أو كسرا.
(2) في (ط): أيضا عن هارون.
(3) في (م) هاشم والصواب ما في (ط) وقد سبقت ترجمته في أول هذا الجزء ص 5.
(4) ما بين المعقوفتين سقط من (ط) ومن السبعة.
(5) السبعة 265.
(6) في (ط): سألت الخليل.
(7) زيادة من (ط).(3/376)