إهداء
إلى أمي رمز المودة والحب والنقاء
إلى والدي العزيز رحمه الله تعالى.
إلى جدتي وجدي اللذين سخّرا كل جهودهما ليسعدا بنجاحي وتعليمي
إلى زوجتي التي قاسمتني العناء بتغطية خدمات الأبناء طيلة فترة البحث.
إلى أبنائي بسمة الصبح وإشراقة الأمل: سمية، وعبد الرحيم، وحمزة.
إلى إخوتي.
إلى كل من درّس لى
إلى وطني الغالي الجزائر.
أقدم هذا البحث هدية عرفان وتقدير واعتراف بالجميل.
د. السعيد شنوقة.(1/3)
تقديم
نقدّم إلى القارئ الكريم كتاب «التأويل في التفسير بين المعتزلة وأهل السنّة كشّاف الزمخشريّ رافدا» بقلم الدكتور سعيد شنوقة. وقد رمى فيه الباحث إلى وضع أشهر كتاب في تاريخ التفسير في جوّه الثقافيّ العام وبيئته العقدية الواسعة التي أنتجته، وجعلته متميّزا ممتازا في طريقة معالجته لمشاكل شدّت إليها الفكر العربيّ الإسلاميّ منذ القرن الثاني الهجريّ، وما زالت تشغله إلى اليوم. ولتحقيق هدفه ذكّر الباحث بأهمّ مراحل التفسير قبل الزمخشريّ، وبأبرز سماتها ومرتكزاتها التاريخيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وروافدها العقديّة والحضاريّة، وأرسى دعائم عمله العلميّ على الصّراع المذهبيّ الذي واكب العهود الإسلاميّة الأولى لا سيّما الصراع الذي احتدم بين أقطاب السنّة وأهل الاعتزال وكانت ثمرته هذه الآثار الخالدة المتجذّرة في تراثنا الفكريّ.
لم يرد الدكتور سعيد شنوقة أن يبسط كلّ ما أثير من جدل بين هذين المذهبين الأساسيين بقدر ما أراد أن يأخذ بيد القارئ العاديّ، ويمكّنه من إدراك الخلفيات الداعمة لتفسير = الكشّاف = وفهمها على حقيقتها، وأن يربط بين الأسباب والمسبّبات ليكون هذا القارئ على بيّنة من أمره ويكون واسع الأفق قادرا على المقارنة بين الآراء المختلفة أو عارفا على الأقل أن هناك الرأي والرأي الآخر في العديد من المسائل العقدية بقطع النظر عمّا هو صائب أو أقرب إلى الصواب لأنّ مثل هذه المسائل خارج عن نطاق العقل البشريّ.
وقد اجتنب الدكتور سعيد شنوقة عرض آراء الزمخشري عرضا مجردا فدعّم دراسته بنماذج كثيرة من تفسير «الكشاف»، وأبرز خلفياتها ودعائمها وما يقابلها من آراء، مطبّقا بذلك قول المتنبي: «وبضدّها تتبيّن الأشياء». ونراه وضع دراسته في بيئتها العامّة الصحيحة فحقّق لها النجاح والأصالة، وقرّب إلى المدارك كتابا من أشهر كتب التفسير وأثراها.
الأستاذ الدكتور: مختار الأحمديّ(1/5)
المقدمة
اتسمت المعارف العربية في العهد الأول من الإسلام بالبساطة والنظرات المتفرقة التي يعوزها الترابط، رواها الخلف عن السلف بغير تمحيص حتى جاء العصر الأموي الذي ساد فيه العلم الديني، وصارت مسائله تتناول بنظر أدق في وقت لم تتمايز العلوم فيه بعد، وإنما كانت كتلة واحدة لأن الثقافة آنئذ كذلك، جمعت التفسير والحديث والفقه وما يلزم من لغة وشعر وكان العالم يحدّث بها في المجالس المنعقدة أو يرويها في إحدى المسائل المثارة.
وقد تمحورت أحاديث العلماء ورواياتهم حول المعرفة الدينية التي نواتها القرآن الكريم والحديث الشريف الذين كان الفقه يستنبط منهما، ويروى الشعر لأجلهما، وبسببهما كانت تبحث مسائل نحوية فغلبت المسحة الدينية على النشاط العلمى وقتها.
وتميزت المعارف بحلول العصر العباسي، وجمعت المسائل كلا على حدة، وصنفت أسس العلوم العربية تقريبا فوضع تفسير القرآن، وجمع الحديث، ووضعت علومه، ووضع علم النحو الذي توّج بكتاب سيبويه (ت 180هـ) وألفت كتب اللغة، يتصدرها معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ) وما جاء به فكره الرياضي من عروض وغيره، ودونت المعلقات والمفضليات والأصمعيات، وكتب الأدب واللغة، وعلم الكلام ككتب الجاحظ (ت 255هـ)، وابن قتيبة (ت 276هـ)، والمبرد (ت 285هـ) وغيرهم كثير. ودوّن الفقه والتاريخ، وترجمت كتب الفلسفة، ونشطت حركة التأليف، وظهرت علوم جديدة بسبب هذا التطور وبسبب الخلافات السياسية والمذهبية، واحتدم الجدل بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم ممن ينتمي إلى ثقافات الأجناس الداخلة في الإسلام والباقية على معتقداتها.
وكانت البصرة في ذلك أكثر المواقع حظا في طلب الدراسة اللغوية لذاتها واعتماد الثقافة المستقلة لأنها كانت متميزة بالتطور والاستقرار والتمرس بالعلوم
والنهل من الثقافات الأجنبية الوافدة عليها نتيجة احتكاك العرب بالفرس وبالهنود واليونان، والتقاء النصرانية واليهودية والمجوسية والإسلام.(1/7)
وكانت البصرة في ذلك أكثر المواقع حظا في طلب الدراسة اللغوية لذاتها واعتماد الثقافة المستقلة لأنها كانت متميزة بالتطور والاستقرار والتمرس بالعلوم
والنهل من الثقافات الأجنبية الوافدة عليها نتيجة احتكاك العرب بالفرس وبالهنود واليونان، والتقاء النصرانية واليهودية والمجوسية والإسلام.
ولما كانت البصرة في هذا المستوى من الإنشاء الفكري صارت بيئتها مهيأة لأن يلتمس فيها النظر العقلي، وتظهر فيها علوم تقتضي حياة متطورة، فتلاقت فيها العقليات المختلفة والمذاهب الدينية والفلسفية التي أثرت تأثيرا عميقا في دراستها وفي بحوثها وفي مناهجها. ونتيجة هذه التحولات خطا علماء التفسير من طور الاعتماد على النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ عن الصحابة أو بفهم ما تمليه اللغة ويلزم به التعبير وروح الشريعة إلى طور الاجتهاد والاعتماد على العقل وذلك ليبيّنوا ما اعتقدوه مما له صلة بالتفسير المأثور. واستنباط الأحكام وانصرافا لا مبرر له عن فهم كثير مما يتضمنه القرآن الكريم.
وهكذا رأوا الحديث الذي ينهى عن التفسير بالرأي على فرض صحته إنما يقصد الرأي الذي لا يعتمد على أصل ثابت ولا يستند إلى جوهر الشريعة.
كان ذلك سببا في اجتهاد علماء كثيرين في تفسير القرآن الكريم معتمدين على آرائهم حيث شعروا باستكمالهم العدة التي يشترط توفرها لذلك. فأخذ التفسير في هذا القرن وهو القرن الثالث على وجه الخصوص يصطبغ بالوجهة الثقافية لهؤلاء المفسرين ويتأثر باتجاهتهم فراح اللغويون يعنون بالمسائل اللغوية كأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 211هـ)، وقطرب المستنير (ت 206هـ)، وغيرهما. واهتم النحاة بتخريج مسائل النحو وإعراب القرآن بما يساعد على تفسيره كالزجاج (ت 311هـ) وغيره. أما الفقهاء فقد عنوا بآيات الأحكام، وألفوا فيها كتبا كأحكام القرآن للشافعي (ت 204هـ)، وهو أول كتاب صنف في هذا الباب. وتتابعت المؤلفات في هذا المجال عبر القرون اللاحقة. واستعمل المشتغلون بالعلوم العقلية الآراء الفلسفية والتجريد العقلي في تفسير بعض آيات القرآن الكريم. أما علماء الكلام فقد أولوا آيات كثيرة دعما لأصولهم المذهبية، فجاء اجتهادهم أو تأويلهم مستجيبا لمعتقدهم مشفوعا بالأهواء لأنهم ذهبوا بالتفسير بعيدا، واشتطوا في الإعراب ببعض المسائل وتجاوزوا أصول النحو وقواعد الإعراب فوقعوا في التعسف والتمحل.(1/8)
بيد أن هذا لا يلغي جهود الذين وقفوا للدفاع عن الدين ونصرة مبدأ التوحيد لأنهم أرادوا نهوض المسلمين بمحاربة الجمود والانسداد والجهل. ويبدو أن توجههم هذا ذو نزعة نبيلة أوّلا، لأنهم قصدوا الحفاظ على كلام الله تعالى ممن شكك فيه منتهجين أساسا مطابقا للعقل، لكنهم لم يتنصلوا من التأويل بالنقل ولم يعتمدوا وجهة نقدية حرة في فهم النص القرآني لأنهم انطلقوا من الورع والتقوى في بيان ما اعتقدوه مما لا صلة بالتفسير المأثور. لقد تركوا بذلك أثرا قويا فى آفاق التطور الفكري الإسلامي بما لا سبيل إلى نكرانه. غير أنهم انساقوا بفعل تعمقهم في الفلسفة والنظر العقلي وإباحة حرية الرأي مع الزمن إلى الغلو بعض الشيء في الرأي وفي القول دفاعا عن مذهبهم لذلك لم يكن انتصارهم لما اعتقدوه يسخّر النظر العقلي للاستدلال والاستنباط من النص القرآني فحسب بل كان مع ذلك يوظف البحث اللغوي في تأويله، ويوظف النحو (الإعراب) والبلاغة والقراءات والنص القرآني ذاته في كل ما يعارض أصول المذهب متخذا منها وسيلة أساسية يؤسس التأويل عليها فيحقق بذلك الغاية العلمية والهدف المذهبي كما هو الشأن بالنسبة للمعتزلة في تفاسيرهم التي لاقت ردود كثيرة من أهل السنة. ولنا في تفسير الكشاف للزمخشري (ت 538هـ) مثال على ما يحويه من ذاك التوظيف في قضايا مشفوعة بالاعتزال تقوم على التعليل والتأويل والتدقيق واللغة.
ولقد تكونت لنا من خلال هذا الخضم فكرة طالما راودتنا في أمر التأويل المذهبي في كشاف الزمخشري أثناء إعدادنا بحث رسالة الماجستير حيث كنا في ثنايا تناول البحث آنئذ نجد الزمخشري ميّالا إلى نصرة الاعتزال في مسائل كثيرة يؤيدها بكل ما استطاع من فكر وبيان بتأويل بعض الآيات الكريمة تأويلا يوافق الأصول الخمسة للمعتزلة، ويردّ على أبرز مخالفيهم وهم أهل السنة. ولم يكن السنّة بدورهم ليتركوا تأويلات المعتزلة دون التصدي لها بخاصة في أبرز تفاسيرهم، وهو تفسير الزمخشري، «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل»، فتبادل الفريقان ردودا مستفيضة في مواقف كثيرة من تفسير آى الذكر الحكيم، يؤسس فيها كل طرف تأويله أو رأيه واجتهاده على ما هو أقرب من معتقده، فلئن كان المعتزلة اعتدّوا بالعقل في إطار نسقهم الفكري: التوحيد العدل الوعد
والوعيد المنزلة بين المنزلتين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أهل السنّة لم يطلقوا العنان لعقلهم في تأويل الآيات الكريمة، وإنما حكموا اجتهادهم في ذلك بما يوافق القرآن الكريم ونص الحديث الشريف، ولا يتعارض معهما. ويبدو أن المعتزلة لم يفعلوا إلا ما فعل أهل السنّة غير أن كلا منهما يدّعي لنفسه صواب مذهبه، ولا يقرّ بكل ما يراه الطرف الآخر.(1/9)
ولقد تكونت لنا من خلال هذا الخضم فكرة طالما راودتنا في أمر التأويل المذهبي في كشاف الزمخشري أثناء إعدادنا بحث رسالة الماجستير حيث كنا في ثنايا تناول البحث آنئذ نجد الزمخشري ميّالا إلى نصرة الاعتزال في مسائل كثيرة يؤيدها بكل ما استطاع من فكر وبيان بتأويل بعض الآيات الكريمة تأويلا يوافق الأصول الخمسة للمعتزلة، ويردّ على أبرز مخالفيهم وهم أهل السنة. ولم يكن السنّة بدورهم ليتركوا تأويلات المعتزلة دون التصدي لها بخاصة في أبرز تفاسيرهم، وهو تفسير الزمخشري، «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل»، فتبادل الفريقان ردودا مستفيضة في مواقف كثيرة من تفسير آى الذكر الحكيم، يؤسس فيها كل طرف تأويله أو رأيه واجتهاده على ما هو أقرب من معتقده، فلئن كان المعتزلة اعتدّوا بالعقل في إطار نسقهم الفكري: التوحيد العدل الوعد
والوعيد المنزلة بين المنزلتين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أهل السنّة لم يطلقوا العنان لعقلهم في تأويل الآيات الكريمة، وإنما حكموا اجتهادهم في ذلك بما يوافق القرآن الكريم ونص الحديث الشريف، ولا يتعارض معهما. ويبدو أن المعتزلة لم يفعلوا إلا ما فعل أهل السنّة غير أن كلا منهما يدّعي لنفسه صواب مذهبه، ولا يقرّ بكل ما يراه الطرف الآخر.
وهكذا وجدنا أنفسنا أمام مسألة جديرة بالبحث هي التأويل في التفسير بين أبرز الفرق الإسلامية: المعتزلة وأهل السنة. ولم نرد قصر ذلك على كشاف الزمخشري بل طرحنا إشكالية الموضوع بين الفريقين المذكورين. لكننا جعلنا كشاف الزمخشري رافدا لنا في ذلك متتبعين تأويلهم وما انجرّ عنه من ردود بينهما. ولا بد أن نبيّن هنا أننا نقصد بالتأويل الاجتهاد وإعمال الرأي الذي يعتمد الاستدلال على المعنى أو الحكم المراد من ظاهر النص. يسعى فيها المؤوّل إلى القرينة التى ترجّح المعنى أو الحكم لأن ظاهر النص يخلو مما يجزم بذلك. وعلى هذا يلجأ إلى البحث عن أدلة وقرائن تقطع بترجيح المعنى أو الحكم. وإذا فقدت هذه الأدلة والقرائن كان التأويل رأيا بالهوى. وليس التفسير بالرأي أو التأويل موضوعيا لأن المؤوّل أو المجتهد لا ينطلق فيه من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، وإنما يبدأ من موقف في الحال، يحاول العثور له في النص القرآني على سند يعزز له في هذا الموقف فهو مستنبط يقوم تأويله على الدراية واستنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم.
يصرف فيه العلماء اللفظ إلى ما يؤول إليه، ولا يجوز لغيرهم الاجتهاد فيه. وهم أنفسهم ملزمون باعتماد الشواهد والأدلة دون أن يتفردوا برأيهم في التأويل على أن يوافق ما دلت عليه نصوص القرآن الكريم وجاءت به السنة النبوية الشريفة. وهذا هو التأويل الصحيح عندهم، أمّا ما خالفه ففاسد. وقد قال المعتزلة والجهمية أصحاب جهم بن صفوان (ت 138هـ)، وغيرهم من المتكلمين بالتأويل المراد به صرف اللفظ عن ظاهره وهو السائد في عرف المتأخرين من الأصول والفقه، فجعلهم يقولون: التأويل على خلاف الأصل، والتأويل يحتاج إلى دليل.
وقد وردت كلمة التأويل في سبع سور من القرآن الكريم، واستعملت أكثر من مرة في بعض السور: آل عمران: 77مرتان. النساء: 59. الأعراف: 5353
مرتان. يونس: 39. يوسف: 10110045443736216، الإسراء: 35. الكهف: 8278. وجاء عدد لفظها سبع عشرة مرة في خمس عشرة آية، وتناول مسائل متفرقة. والأمر الملحوظ في آى الذكر الحكيم أن (التأويل) لم يذكر إلا وهو مقترن بذكر الله عز وجل صراحة أو ضمنا لذلك نعتقد بأنه لا يكون من خلال القرآن الكريم إلا علما إلهيا استأثر الله سبحانه به واختص به بعض أنبيائه كالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والنبى يوسف، والخضر عليهما السلام.(1/10)
وقد وردت كلمة التأويل في سبع سور من القرآن الكريم، واستعملت أكثر من مرة في بعض السور: آل عمران: 77مرتان. النساء: 59. الأعراف: 5353
مرتان. يونس: 39. يوسف: 10110045443736216، الإسراء: 35. الكهف: 8278. وجاء عدد لفظها سبع عشرة مرة في خمس عشرة آية، وتناول مسائل متفرقة. والأمر الملحوظ في آى الذكر الحكيم أن (التأويل) لم يذكر إلا وهو مقترن بذكر الله عز وجل صراحة أو ضمنا لذلك نعتقد بأنه لا يكون من خلال القرآن الكريم إلا علما إلهيا استأثر الله سبحانه به واختص به بعض أنبيائه كالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والنبى يوسف، والخضر عليهما السلام.
فالموضوع إذن وثيق الصلة بالقرآن الكريم، مرتبط بالمعتزلة وما يثيره هذا الاسم من آفاق فكرية ومسحة خاصة، ومتعلق بأهل السنة وما يعكسه هذا الاسم أيضا من حرص على تحكيم نص القرآن ونص الحديث واجتهاد أو تأويل لا يتعارض معهما، وهم الذين سكتوا عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم.
والبحث مع ذلك يدور في فلك علوم هامة: التفسير والقراءات واللغة والنحو والبلاغة والفقه الذي يبحث الأحكام العلمية، والكلام الذي يبحث مسائل نظرية.
لقد دار التأويل عند المعتزلة في نسق أصولهم الخمسة: (التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وقد حرصوا بعامة على هذه الأصول، وعملوا على نصرتها في تفاسيرهم، وتحمّس الزمخشري بخاصة إلى تعزيزها والانتصار إليها في أهم تفسير لهم، ضمنوها آراء مذهبهم التي عرفت حوارا بينهم وبين أهل السنة في ردود متبادلة، احتج فيها كل جانب بما كان يراه ويعتقده في مذهبه.
وارتأينا نحن في هذا الإطار أن نحدّد موضوع بحثنا بأن نتتبع التأويل بالمفهوم الذي حددناه سابقا وهو الاجتهاد في التفسير بين المعتزلة وأهل السنة أو قل التفسير بين المعتزلة وأهل السنة متخذين من كشاف الزمخشري رافدا لنا مبيّنين كيف سخّر اللغة على مستويات المعجم والصيغ، وكيف وظّف النحو في خدمة الفكر الاعتزالي، وكيف حمل التأويل على التشبيه والمجاز، وكيف اعتمد على الاستدلال العقلي والاستدلال المبني على نص القرآن الكريم ذاته. وهل كان في ذلك كله ممن اعتدل أو تطرف؟ وكان مبعث رغبتنا كذلك إدراكنا أن هذا الموضوع
يمثل جانبا من جوانب المنهج النقدي الذي يعني بالاتجاهات المذهبية والوجدانية في تاريخ الفكر الإسلامي ويقصد تمحصها وتحليلها ونقدها. وقد حصرنا عنوان البحث في «التأويل في التفسير بين المعتزلة وأهل السنة كشاف الزمخشري رافدا».(1/11)
وارتأينا نحن في هذا الإطار أن نحدّد موضوع بحثنا بأن نتتبع التأويل بالمفهوم الذي حددناه سابقا وهو الاجتهاد في التفسير بين المعتزلة وأهل السنة أو قل التفسير بين المعتزلة وأهل السنة متخذين من كشاف الزمخشري رافدا لنا مبيّنين كيف سخّر اللغة على مستويات المعجم والصيغ، وكيف وظّف النحو في خدمة الفكر الاعتزالي، وكيف حمل التأويل على التشبيه والمجاز، وكيف اعتمد على الاستدلال العقلي والاستدلال المبني على نص القرآن الكريم ذاته. وهل كان في ذلك كله ممن اعتدل أو تطرف؟ وكان مبعث رغبتنا كذلك إدراكنا أن هذا الموضوع
يمثل جانبا من جوانب المنهج النقدي الذي يعني بالاتجاهات المذهبية والوجدانية في تاريخ الفكر الإسلامي ويقصد تمحصها وتحليلها ونقدها. وقد حصرنا عنوان البحث في «التأويل في التفسير بين المعتزلة وأهل السنة كشاف الزمخشري رافدا».
فهو ذو صلة واضحة بالتفسير الاعتزالي، لذلك ستقودنا الدراسة إلى بسط عوامل نشأة المعتزلة وتبيين تسميتهم اللصيقة في أغلبها بأصولهم الخمسة التي سنعكف علي دراسة التأويل فيها في ردود أهل السنة عليهم. وقد قدّمنا بعض النماذج للزمخشري عند بحثنا التفسير في إطار الأصول الخمسة رغم تخصيصنا الباب الثاني من هذا البحث له، وقد قصدنا هذا لأن الطرح المراد بالتفسير في إطار تلك الأصول يشمل المعتزلة كلهم، ولا ريب في أن الزمخشري أحد أعلامهم البارزين. لذا لم نستسغ استثناءه وتأجيله، فذكرنا له بعض النماذج. ولمّا كان منهجهم مبنيا على عدم الكلام رأينا من الأفيد إبراز أسس هذا العلم وتوضيح الأدلة المبنية على العقل والنقل والتأويل. وجعلنا الدراسة تتجه في إطار ذلك كله إلى التأويل بين المعتزلة وأهل السنة، ورافدنا في ذلك كشاف الزمخشري مبرزين كيف انتصر لأصوله ومذهبه من خلال توظيف اللغة والقراءات ونص القرآن الكريم، والاستدلال العقلى، والحمل على التشبيه والمجاز معتمدين على المنهج الوصفي القائم على جمع المادة، وتصنيفها ووصفها، واستقراء نصوصها، وكشف منطلقاتها وإمعان النظر في وجهاتها وأهدافها مع تحليلها ونقدها.
وقد قسمنا البحث إلى بابين: نظري، وتطبيقي.
الباب الأول: الفكر الاعتزالي: يقع في ثلاث فصول: الأول: في التفسير والفرق الإسلامية: وهو فصل تمهيدي نبحث فيه معنى التفسير ومراحله، والفرق بينه وبين التأويل محددين مرادنا من التأويل الذي نقصد به معنى الاجتهاد وإعمال الرأي. ولا ريب في أن هذا يجعلنا نعرض أنواع التفسير:
التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي الذي هو اجتهاد، وما يتفرع إليه من تفسير ممدوح وتفسير مذموم، بني الأول على شروط علم التفسير غير المتعارض مع الكتاب والسنة وأسس الثاني على أصول اعتقدها أصحابها ودأبوا إلى إخضاع النص
القرآني إليها. وستقودنا الدراسة إلى بحث ظهور الفرق الإسلامية وعواملها مرجحين الأسباب التى رأيناها فيها بأنها سياسية ذات مسحة دينية تمحورت كلها حول الخلافة.(1/12)
التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي الذي هو اجتهاد، وما يتفرع إليه من تفسير ممدوح وتفسير مذموم، بني الأول على شروط علم التفسير غير المتعارض مع الكتاب والسنة وأسس الثاني على أصول اعتقدها أصحابها ودأبوا إلى إخضاع النص
القرآني إليها. وستقودنا الدراسة إلى بحث ظهور الفرق الإسلامية وعواملها مرجحين الأسباب التى رأيناها فيها بأنها سياسية ذات مسحة دينية تمحورت كلها حول الخلافة.
الثاني: في المعتزلة وأصولهم: نتناول فيه العوامل التي أدت إلى ظهور المعتزلة ومرجح الأسامي التي تميزوا بها وهي في أغلبها راجعة إلى أصولهم مستشفة منها. ونبين أصولهم الخمسة. ونحاول في هذا الفصل إبراز الأسس العامة لعلم الكلام: العقل، والنقل، والتأسيس على الدليل. ونوضح عناصر الأدلة: العقلية والنقلية والتأويل لأن منهج تفسير المعتزلة قائم عليها.
الثالث: التفسير عند المعتزلة: ندرس فيه التأويل أو التفسير في إطار الأصول الخمسة دون إغفال ردود بعض أعلام أهل السنة وموقفهم منها. وقد ذكرنا سابقا أننا سنعرض في هذا الفصل نماذج تخص أبرز أعلام المعتزلة كالشريف المرتضى الإمامي (ت 436هـ)، والقاضي عبد الجبار (ت 475هـ)، والزمخشري (ت 538هـ) أما مبرر الاستشهاد بالزمخشري في هذا الفصل قبل الباب المخصص له فلأنه في رأينا جزء هام يحقق ذكره في هذا المقام التوضيح اللازم والفائدة المطلوبة.
الباب الثاني: المذهب الاعتزالي في كشاف الزمخشري: يقع في ثلاثة فصول. وهو تطبيقي مشفوع بردود من بعض أعلام أهل السنة.
الأول: يتضمن عنصرين:
التأويل بالدلالة اللغوية: نتناول فيه كيف استخدم اللغة وذللها للاعتزال.
وكيف عزز منهجه في ذلك بالاعتماد على الشاهد اللغوي من الاستعمال والشعر وغيره.
والتأويل بالإعراب (النحو): ندرس فيه كيف سخر النحو في خدمة الفكر الاعتزالي بما ذهب إليه من وجوه نحوية وإعرابية تناصر مذهبه وذلك في المواقف التي يجد فيها النص القرآني متعارضا مع أحد أصول المذهب فيلجأ إلى تأويله موظفا تلك الوجوه النحوية والإعرابية لما يوافق النسق الفكري للمذهب.(1/13)
الثاني: يتضمن عنصرين: التأويل بالقرآن وبالقراءات والسماع: ندرس فيه كيف سخر النص القرآني ذاته، وكيف استعان بالقراءات المناسبة، وكيف وظف مع ذلك ما رواه عن غيره ليخدم الأصول الفكرية للمعتزلة من الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين ومشايخ المعتزلة.
والتأويل بالحمل على المجاز والتشبيه وتأويل التجسيم: وذلك بتخريج اللفظ أو التركيب على المجاز والتشبيه في كل آية قرآنية يعارض ظاهرها تنزيه الله تعالى عن القبح أو يوحى بمعنى فيه مماثلة لخلقه. وقد نزّه السنيون كذلك الله تعالى عن معاني التجسيم والمماثلة فأثبتوا الصفات دون كيفية ثم لجأ متأخروهم إلى التأويل البعيد عن تفصيل المعتزلة وتوسعهم. لكن تلامذة الأشعري الذين عاشوا عصر الصحوة توسعوا في التأويل لاقتناعهم بأن الاحتجاج المبني على النقل وحده لا يعطي اليقين.
الثالث: التأويل بالاستدلال العقلي: ندرس فيه التأويل بالدليل العقلي على أساس أن العقل عند المعتزلة بعامة والزمخشري بخاصة معيار توزن به الحقيقة الدينية، ومن الأدوات الأساسية المعتمدة في محاربة التصورات المناقضة للطبيعة والفطرة الراسخة فيه لذا بذلوا جهدهم في تأويل النصوص تأويلا عقليا من منطلق أن الدراسة للعقل في القرآن قد وصلت بهم إلى قناعة هي أن الواجب اتباع الدليل العقلي في التفسير. ولعل ما سنجده في تفسير الكشاف الذي قرر فيه الزمخشري بأن النظر العقلي في ظاهر الآيات مدخل للتأويل السليم.
وسنرى في هذا الفصل كيف اتخذ المؤلف هذا المنهج لخدمة مذهبه في مواقف كثيرة لقيت ردودا من أهل السنة بنيت على العقل أيضا، ولكنها كانت مناهضة لهم لأن الفرقتين مهمتان، والجدال المحتدم بينهما طويل والأخذ والرد عندهما مؤسس على علم الكلام.
ونعقب البحث بخاتمة نحصّل فيها نتائجه الممكنة التي يسعفنا بها العقل ويساعدنا عليها الفكر والنظر.(1/14)
ولقد كنا في ثناياه ندلي ببعض الآراء في تحفظ وتثبت وحيطة في كثير من الأحيان لصعوبة الموضوع، ولدقة مسائله ولعدم سهولة مراميه، ولقداسة ما تعلق به وهو الذكر الحكيم. ولا غرو في أن الاسم المعتزلة ذو مسحة خاصة يوحي بما يوحي به من تحكمهم بالعلوم وسعة دراية واستيعاب المعارف واقتدار على الجدل والإلمام بالثقافات والدقة والمهارة والدربة في الكلام.
وأنا لا أدعي أني أثبت جميع ما ورد في فصول هذا البحث، إنما حاولت الإلمام بكثير منها. ومع هذا أقول بأنه صادفتني مسائل ليست سهلة سواء في طرحها أم في الدراية بها. وألفيت المعتزلة وأهل السنة والزمخشري في سياق ذلك مما ينبغي إطالة الاستئناس به والتمرس بمنهجه والاحتكاك بمرامي أفكاره سنين وسنين إن لم يكن العمر كله حتى يحصّل المحصل الغاية المحبّذة في أدق مدلولاتها.
وسنذكر بعد الخاتمة قائمة بأسماء المراجع التي حاولنا جهدنا استيفاءها كلها إلا أننا لم نتمكن من الحصول على بعضها لانعدامها وندرتها أو لصعوبة تحصيلها.
وننهى البحث بفهرس الموضوعات.
وقبل أن أختم هذه المقدمة أشكر أستاذي الفاضل الدكتور مختار نويوات جامعة عنابة الذي وجهني في هذا البحث، وأفادني كثيرا، ونبّهني إلى تغيير مسائل كثيرة.
وحسبي من هذا العمل أني قدمت فيه ما وسعني، وأرجو أن أكون موفقا فيه، وما توفيقي إلا بالله تعالي، وعليه توكلت وإليه أنيب.
السعيد شنوقة(1/15)
الباب الأول الفكر الاعتزالى
الفصل الأول: في التفسير والفرق الإسلامية (فصل تمهيدي) الفصل الثاني: في المعتزلة وأصولهم الفصل الثالث: التفسير الاعتزالي(1/17)
الفصل الأول: في التفسير والفرق الإسلامية (فصل تمهيدي) الفصل الثاني: في المعتزلة وأصولهم الفصل الثالث: التفسير الاعتزالي
الفصل الأول في التفسير والفرق الإسلامية
(فصل تمهيدي) أولا: التفسير والتأويل ثانيا: الفرق بين التفسير والتأويل ثالثا: المراحل الأساسية للتفسير رابعا: ظهور الفرق الإسلامية خامسا: أنواع التفسير
نزل القرآن الكريم واضحا مبينا، على أساس الفطرة والعاطفة، ولكنه كان بحاجة إلى من يرجع إليه فيه ليشرحه ويبيّن مجمله ويقيد مطلقه ويؤوّل مشكله، لأن الناس يتفاوتون في قدرات فهمهم له ولا يتساوون في الطاقة العقلية ولو كانوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأمر يتعلق بأثر إلهي خصيب المعنى عميق الدلالة، يطرح تفاوتا في الفهم والإدراك. وليس هذا من باب الطعن في القرآن الكريم (1) وإنّما المقصود أن الناس متفاوتون في الرقي العقلي تبعا للفطرة والاكتساب، والمفيد في هذا السياق هو أن توضيح كلام الله على الحقيقة والقطع مهمة تولاها الله سبحانه بنفسه (2) لأنه لا يعلم مراد الله على الحقيقة والقطع إلا الله، قال عزّ وجل على لسان عيسى: {تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ}
[المائدة: 116]، فمهمة البيان القرآني أمر تعهّد الله عز وجل به في قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا بَيََانَهُ} [القيامة: 19]، وقوله: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
[البقرة: 242] لكن لما كان الرسول مبعوثا بلسان قومه ليبيّن لهم نيطت به عن الله مهمة إبلاغ البيان الإلهي إلى الناس: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وإن المنزل إلى الناس في ذاته بيان قال تعالى: {هََذََا بَيََانٌ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]، وهذا يفسر أن من البيان ما قد يخفى على بعض الناس فيحتاجون إلى تبين البيان (3)، ويوضح أن في القرآن الكريم مستويين من التفسير: تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالسنة. والتفسيران كلاهما عن الله تعالى قرآنا وسنة لأنهما وحي منزل على رسول، قال الله عز وجل: {وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ (3) إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} [النجم: 3، 4]، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَمََا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتََابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللََّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ}(1/19)
(فصل تمهيدي) أولا: التفسير والتأويل ثانيا: الفرق بين التفسير والتأويل ثالثا: المراحل الأساسية للتفسير رابعا: ظهور الفرق الإسلامية خامسا: أنواع التفسير
نزل القرآن الكريم واضحا مبينا، على أساس الفطرة والعاطفة، ولكنه كان بحاجة إلى من يرجع إليه فيه ليشرحه ويبيّن مجمله ويقيد مطلقه ويؤوّل مشكله، لأن الناس يتفاوتون في قدرات فهمهم له ولا يتساوون في الطاقة العقلية ولو كانوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأمر يتعلق بأثر إلهي خصيب المعنى عميق الدلالة، يطرح تفاوتا في الفهم والإدراك. وليس هذا من باب الطعن في القرآن الكريم (1) وإنّما المقصود أن الناس متفاوتون في الرقي العقلي تبعا للفطرة والاكتساب، والمفيد في هذا السياق هو أن توضيح كلام الله على الحقيقة والقطع مهمة تولاها الله سبحانه بنفسه (2) لأنه لا يعلم مراد الله على الحقيقة والقطع إلا الله، قال عزّ وجل على لسان عيسى: {تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ}
[المائدة: 116]، فمهمة البيان القرآني أمر تعهّد الله عز وجل به في قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا بَيََانَهُ} [القيامة: 19]، وقوله: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
[البقرة: 242] لكن لما كان الرسول مبعوثا بلسان قومه ليبيّن لهم نيطت به عن الله مهمة إبلاغ البيان الإلهي إلى الناس: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وإن المنزل إلى الناس في ذاته بيان قال تعالى: {هََذََا بَيََانٌ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]، وهذا يفسر أن من البيان ما قد يخفى على بعض الناس فيحتاجون إلى تبين البيان (3)، ويوضح أن في القرآن الكريم مستويين من التفسير: تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالسنة. والتفسيران كلاهما عن الله تعالى قرآنا وسنة لأنهما وحي منزل على رسول، قال الله عز وجل: {وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ (3) إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} [النجم: 3، 4]، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَمََا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتََابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللََّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ}
__________
(1) انظر ذ. مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ط 3، دار المعارف، مصر، (د. ت)، ص 9.
(2) انظر د. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، مكتبة الزهراء القاهرة، ط 1، 1416هـ 1996م، ص 141فما بعدها.
(3) انظر م ن، ص 142.(1/21)
{اللََّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلََا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوََاجَهُنَّ إِذََا تَرََاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذََلِكَ يُوعَظُ بِهِ} [البقرة: 231]، ويأتي تفسير الصحابة امتداد لبيان السنة للقرآن، لأنهم في الأصل مبلّغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبخاصة فيما لا دخل للرأي فيه. يمثل انصرام عهد الصحابة المرحلة الأولى للتفسير بينما يعد عهد التابعين الذين تتلمذوا للصحابة مرحلته الثانية. أما الثالثة فمبدأها ظهور التدوين في أواخر عهد بني أمية وأول عهد العباسيين. ولقد تخللت مراحل التفسير المذكورة خطوات علمية. أما المراحل فزمنية، لذلك قد تكون خطوة علمية واحدة في مرحلتين زمنيتين كالمرحلتين اللتين شملتا عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومرحلة عصر التابعين (1). وقد مثلت الخطوة الخامسة في التفسير مستوى تجاوز فيها ما كان مقتصرا على رواية ما نقل عن السلف إلى تدوين ما امتزج فيه الفهم العقلي للقرآن بما كان يروى فيه التفسير بالنقل لا سيما بعد تدوين علوم اللغة، واتساع مذاهب الخلاف الفقهي، واعتماد الجدل، وظهور التعصّب المذهبي قيام الفرق الإسلامية: وقيام ترجمة الكتب الفلسفية، فغلب الجانب العقلي على الجانب النقلي وأدّى هذا إلى تنوع كتب التفسير، وبرزت آثار الثقافة العلمية والفلسفية بوضوح لدى المسلمين في تفسير القرآن مع آثار التصوّف والنّحل والأهواء (2). وسلك التفسير مجالاتها متخذا نهج المحاولات الشخصية المحدودة واعتماد ترجيح بعض الأقوال.
غير أنها اتسعت مع الزمن لتبلغ مبلغها في التأثّر بالعلوم والمعارف المختلفة المذكورة وبما اكتنفها من آراء وعقائد متباينة، فامتزجت بأبحاث التفسير لدرجة انقسمت فيها مصنفات بما برع فيها مصنّفوها من علوم كالنحو واللغة والفقه والتاريخ والمعتقد المذهبي والتصوّف وغيرها. وسنزيد هذا تفصيلا وتوضيحا في المراحل الأساسية للتفسير فيما يأتي إن شاء الله من هذا الفصل.
__________
(1) انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 4، 1989ج 1، ص 143.
(2) انظر تقي الدين أحمد بن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، ص 34.(1/22)
أولا: التفسير والتأويل
معنى التفسير لغة:
التفسير لغة الإظهار والكشف والإبانة والتوضيح، وهو التفصيل عند ابن عباس (ت 68هـ) قال في قوله تعالى: {وَلََا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلََّا جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33] أي تفصيلا، ومرادف للتأويل لدى كثرة من المتقدّمين كالطبري (ت. 31هـ) الذي تعوّد على استعمال عبارة = القول في تأويل قوله تعالى = وقوله: «قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه» وقوله: «كذلك كان تأويل قوله» (1)
وهو يريد بذلك التفسير. وهو ما ذهب إليه ابن الأعرابي: «التفسير والتأويل والمعنى واحد» (2)، فهما مترادفان عندهما، هذا في القرون الأولى ثم ما لبث أن اختلف (3) معناهما فيما بعد وهو ما سنتناوله لاحقا.
وقد عرّفه الطبرسي (ت 548هـ) بأنه كشف المراد عن اللفظ وبأنه البيان (4). أما ابن منظور (ت 711هـ) فقال: «الفسر كشف المغطى، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل» (5)، وقد قال أبو حيان الأندلسي (ت 754هـ): «يطلق التفسير أيضا على التعرية للانطلاق، قال ثعلب: تقول: فسرت الفرس عريته في حضره وهو راجع إلى معنى الكشف، فكأنه كشف ظهره بهذا الذي يريده منه من الجري» (6).
وقال الزركشي (ت 794هـ): «وأما التفسير في اللغة فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف، وأصله في اللغة من التفسرة» (7)، وهي تتضمن معنى مولدا لأن
__________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر بيروت، 1405هـ، ج 1، ص 62، 87.
(2) ابن منظور (ت 711هـ)، لسان العرب، دار صادر، بيروت (د. ت)، ج 5، ص 55، وكذا ج 11، ص 33.
(3) انظر ابن رشد (ت 595هـ)، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تقديم وتعليق د. أبو عمران الشيخ وجلول البدوي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982م، ص 34.
(4) الطبرسي أبو علي الفضل بن حسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار مكتبة الحياة بيروت (د. ت)، ج 1، ص 26.
(5) لسان العرب، ج 5، ص 55، (فسر).
(6) البحر المحيط في التفسير، طبعة جديدة بعناية الشيخ عرفات العشا حسونة والشيخ محمد صدقي جميل، دار الفكر، بيروت، 1992م، ج 1، ص 26.
(7) البرهان في علوم القرآن، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 3، 1980، ج 2، ص، 147وكذا(1/23)
الفسر نظر الطبيب إلى الماء، ومثلها التفسرة «وهي البول الذي يستدل به على المرض وينظر فيه الأطباء يستدلون بلونه على علة العليل» (1) كذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها وسبب نزولها. وقد رجّح الجوهري كما رأى ذلك ابن منظور بأنها مولّدة (2)، ومعنى ذلك أنها ليست أصلية قديمة. ثم ذكر الزركشي قول ابن الأنباري فيما ذكره عن قول العرب فيه: قال الأنباري: قول العرب:
«فسرت الدابة، وفسرتها إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها وهو يؤول إلى الكشف أيضا» (3) ثم أضاف: «فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه وإطلاق للمحتبس عن الفهم». ويقال: «فسرت الشيء أفسره تفسيرا، وفسرته أفسره فسرا». وقد كثر استعماله في المزيد من الفعلين المذكورين. وقد سمى ابن جني (ت 392هـ) بمصدر الفعل الثاني بعض كتبه الشارحة «الفسر» مثل «فسر شعر المتنبي» المطبوع ببغداد (19781970) (4) بينما قال آخرون: إنه مقلوب «سفر» الذي معناه الكشف، إذ يقال: سفرت المرأة سفورا إذ ألقت خمارها عن وجهها، وهي سافرة، وأسفر الصبح إذا أضاء (5).
ونحن حين نركّب ثلاثة الحروف (الفاء والسين والراء) كيفما أردنا وجدناها تعني الوضوح والبيان، فقولنا إلى جانب مادة (فسر) فرس فراسة (بكسر الفاء) عمّق في النظر والتثبت والتأمل للشيء والتبصّر به، لذا يقال: إنه لفارس بهذا الأمر (6). أما قولنا: تفرّس الشيء فمعناه توسّمه، وفراسة المؤمن: ملكة (7) باطنة
__________
الرازي محمد بن أبي بكر، مختار الصحاح ضبط وتخريج وتعليق د. مصطفى ديب البغا، دار الهدى عين مليلة، الجزائر، ط 4، 1990، ص، 198والسيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 173.
(1) ابن منظور، لسان العرب، ج 5، ص، 55والزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 146.
(2) انظر م ن، ج 5، 55.
(3) انظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 147.
(4) وله شرح ثان أخصر من الأول = «الفتح الوهبي على مشكلات شعر المتنبي» (بغداد 1973)، وثالث:
= «تفسير معاني ديوان المتنبي =» ما زال مخطوطا (انظر مجلة المورد 6/ 3، ص 400393.
(5) انظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 147.
(6) ابن منظور، لسان العرب، ج 6، ص 160: (فسر).
(7) انظر د. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، مدخل إلى علم التفسير، ص 141.(1/24)
تجعل صاحبها ينظر بنور الله، لذا يقال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (1)، وهو ما يدعوه المعاصرون بالحاسة السادسة أو الحدس الصادق به يستشعر الأمر الخفي. وإن جعلت السين قبل الفاء والراء فإنه من السفور وقد ذكرناه وهو الوضوح والكشف ومنه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس: 38] وقوله: {وَالصُّبْحِ إِذََا أَسْفَرَ} [المدثر: 34]، ومعنى السّفر (2) (بكسر السين) الكتاب الضخم الذي يتناول حقائق العلوم والبيان قال الله تعالى: {يَحْمِلُ أَسْفََاراً} [الجمعة: 5]. وقال الزمخشري: «سفر الكتاب: كتبه. والكرام السفرة:
الكتبة. وحملوا أسفار التوراة وله سفر من الكتاب وأسفار منه، وأسفر الصبح:
أضاء. وخرجوا في السفر: في بياض الفجر» (3).
وهكذا يتبيّن لنا أن التفسير يستعمل في معناه اللغوي للدلالة على الإبانة الحسية وفي الكشف عن المعاني المعقولة أيضا. والظاهر غلبة استعماله في المعنى الأول.
معنى التفسير اصطلاحا:
تعددت آراء العلماء في المعنى الاصطلاحي للتفسير، فقد رآه بعضهم علما ليس من العلوم التي يتكلف لها حد، لأنهم رأوه ليس قوانين أو ملكات ناتجة عن مزاولة القواعد مثل غيره من العلوم التي كان لها شبه بالعلوم العقلية، لهذا اكتفي في إيضاحه بأنه بيان كلام الله أو هو العلم الذي يبيّن ألفاظ القرآن الكريم ومفاهيمه، وهو لدى فريق آخر من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية أو الملكات المتكونة من مزاولة القواعد، فرأوا بأنه يتكلف له التعريف، وأنه تذكر له علوم يحتاج إليها في فهم القرآن كحاجته إلى علوم اللغة والصرف والنحو والقراءات والبلاغة والأصول والفقه وغيرها كثير (4).
وإن نحن بحثنا في حد التفسير لدى العلماء وجدنا تعاريف متعددة بيد أنها متحدة المعنى والهدف رغم اختلافها من جهة اللفظ. ويمكن عرضها كما يلي:
__________
(1) م. ن، ج 6، ص 160.
(2) السّفر: كلمة آرامية أخذها العرب قديما، ولها ثلاث دلالات: الأول: الكتاب وهو أصل المعنى.
() والثاني: الكتاب الكبير، والثالث: الجزء الكامل من التوراة.
(3) أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت، ص 212.
(4) انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 15.(1/25)
عرّفه أبو حيان الأندلسي بأنه: «علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك» (1).
وذهب الزركشي إلى أنه: «علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ» (2). وذكر معناه الاصطلاحي في موضع آخر من الكتاب نفسه فقال:
«وفي الاصطلاح هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها ثم ترتيب مكّيّها ومدنيّها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومطلقها ومقيّدها ومجملها ومفسّرها» ثم قال: «وزاد فيها قوم، فقالوا علم حلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وعبرها وأمثالها، وهذا الذي منع فيه القول بالرأي» (3).
وعرفه بعضهم بأنه «علم يبحث فيه عن القرآن من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية» (4). وفي هذا التعريف إخراج للدراسات المتعلقة بالقرآن من جهة غير جهة دلالته السابقة من نطاق التفسير، وذلك مثل علمي القراءات والرسم. وقد استدل محمد حسين الذهبي على أنهما داخلان في التفسير (5)، وهو ما نراه أيضا لأن المعنى يختلف باختلاف القراءتين أو القراءات. فأنت تجد اختلافا في قراءة: {وَإِذََا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان: 20] بضم الميم
__________
(1) أراد بالعلم سائر العلوم وبالبحث عن كيفية النطق بالألفاظ: علم المفردات، وبمدلولاتها: علم اللغة، وبأحكامها الإفرادية والتركيبية: علوم التصريف والنحو والبيان والبديع، وبمعانيها التي تحمل عليها التراكيب: المعنيان الحقيقي والمجاز. أما المراد بتتمات لذلك: فمعرفة النسخ وسبب النزول والقصص المبعدة لما أبهم في القرآن وغير ذلك: انظر البحر المحيط في التفسير، ج 1، ص 26.
(2) لبرهان في علوم القرآن، ج 1، ص 13.
(3) م. ن، ج 2، ص 148.
(4) محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق مكتبة البحوث والدراسات، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1996م، ج 2، ص، و 4وكذا محمد عدنان زرزور، علوم القرآن، مدخل إلى تفسير القرآن وبيان إعجازه، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1981هامش 2.
(5) انظر التفسير والمفسرون، ج 1، ص 17.(1/26)
وإسكان اللام إذ معناها مغاير لقراءة من قرأ: {وَمُلْكاً كَبِيراً} بفتح اللام وكسرها، وكقراءة: {حَتََّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بتسكين الطاء، فإن معناه مغاير لمعنى من قرأ بالتشديد: {حَتََّى يَطْهُرْنَ} ويختلف المعنى أيضا باختلاف الرسم القرآني في المصحف كقوله عز وجل: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] بوصل = أمّن = يغاير في المعنى {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109] بفصلها لأن المفصولة تفيد (بل) = بخلاف غيرها، مثل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى ََ وَجْهِهِ أَهْدى ََ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا}
[الملك: 22]، فهذا موصول لأنه من نوع واحد حيث يمشي على صراط مستقيم.
وكذا {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرََاراً} [النمل: 61] «لا تفاصيل تحتها في الوجود» (1).
أما القول: «بقدر الطاقة البشرية» فإنه يفيد أن عدم العلم بالمتشابه أو بفواتح السور على ما ذهب إليه بعضهم لا يقدم في التفسير (2).
معنى التأويل في اللغة:
سئل أبو العباس أحمد بن يحيي ثعلب (ت 254هـ) عن التأويل فقال: «التأويل والمعنى والتفسير واحد» (3). وقال أبو جعفر النحاس (ت 338هـ): «التأويل من قوله: آل الأمر إلى كذا صار إليه، وأولته تأويلا صيّرته إليه» (4). وللتأويل ثلاثة مستويات فمن التفسير إلى تحديد المعنى إلى تجاوز دلالة الوهلة الأولى، ومهما كان
__________
(1) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 1، ص 424: وهذه الأربعة الأحرف (من) في الآيات: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109] وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ} [التوبة: 109]، وقوله: {أَمْ مَنْ خَلَقْنََا} [الصافات: 11]. وقوله: {أَمْ مَنْ يَأْتِي} [فصلت: 40] تقسّم في الوجود بأنواع مختلفة في الأحكام.
(2) انظر د. عدنان زرزور، علوم القرآن، مدخل إلى تفسير القرآن وبين إعجازه، ص 400، وهامش رقم 2 من الصفحة ذاتها.
(3) محمد حمّاد، نظرية المعنى بين الشرح والتفسير والتأويل، ص، 142مقال منشور في المجلد الثامن، منشورات كلية الآداب، تونس، 1992 (ندورة قسم اللغة العربية: صناعة المعنى وتأويل النص).
(4) معاني القرآن، تحقيق محمد على الصابوني، جامعة القرى، مكة المكرمة، ط 1، 1409هـ، ج 1، ص، 351أبو جعفر النحاس أحمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحاس النحوي المصري. أخذ النحو عن أبي الحسن الأخفش والزجاج وابن الأنباري ونفطويه وأعيان أدباء العراق، له تصانيف في تفسير القرآن وإعرابه والناسخ والمنسوخ، وفي النحو، انظر أحمد بن محمد الأدنروي (من علماء القرن الحادي عشر) طبقات المفسرين، ط 1، 1997م، ص 72.(1/27)
مستوى ذلك فإنه يدل على أنه اجتهاد يوضّح غموض النص حينا، ويعين معانيه حينا آخر، أو يستنبط دلالة غير واضحة فيه آخر المطاف (1). وهذا يبيّن أن التفسير مقارب في دلالته للتأويل وجزء منه، غير أن الطبري لم يفرّق قبل هذا بينهما إلا أن غيرهما رأى تفرد كل من التفسير والتأويل بمعناه الذي يختلف به عن الآخر.
وقد ذهب الزمخشري (ت 538هـ) إلى أن التأويل من الإيالة التي هي السياسة، وعليه فإن المؤوّل كأنه يسوس الكلام ويضعه موضعه ويضعه فيه الوضع اللائق المؤتلف، قال: «آل الرعية يؤولها إيالة حسنة وهو حسن الإيالة وائتالها وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم أي سائس محتكم» (2) وفي لسان العرب من الأول: الرجوع.
آل الشيء يئول أولا ومآلا رجع. وأول الشيء: رجعه، وآلت عن الشيء ارتدت.
ثم قال: «وأول الكلام وتأوله دبّره وقدّره وأوله وتأوّله: فسّره» (3). وقال الشريف الجرجاني (ت 740هـ): «والتأويل في الأصل الترجيح» (4). وهو عند الزركشي (ت 794هـ) الكشف عن عاقبة الأمر وما تصير إليه العاقبة في المقصود به، فهو من المآل والعاقبة والمصير.
استوحى هذا من آي الذكر الحكيم التي استشهد بها. غير أنه ذكر مع ذلك أن بعضهم ربطه بالإيالة التي هي السياسة مثلما سبق. قال: «التأويل أصله في اللغة من الأول وقولهم: ما تأويل هذا الكلام؟ أي إلى ما تئول العاقبة في المراد به، كقوله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي تكشف عاقبته. ويقال آل الأمر إلى كذا أي صار إليه. وقال سبحانه: {ذََلِكَ تَأْوِيلُ مََا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]، وأصله من المآل وهو العاقبة والمصير. وقد أوّلته فآل أي صرفته فانصرف، فكأنّ التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني» ثم قال:
__________
(1) انظر الحبيب شبيل، من النص إلى سلطة التأويل: (مقال منشور في منشورات كلية الآداب تونس)، المجلد الثامن 1992، ص 448.
(2) أساس البلاغة، (أول) ص 12.
(3) لسان العرب، أول، ج 11، ص 33.
(4) التعريفات، ضبطه وفهرسه محمد بن عبد الكريم القاضي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط 1، 1411هـ، 1991م، ص 65.(1/28)
«وقيل: أصله من الإيالة وهي السياسة فكأنّ المؤوّل للكلام يسوّي الكلام ويضع المعنى في موضعه» (1).
وقد وردت عدة معان للتأويل في القرآن الكريم كلها راجعة إلى التفسير ومنه تفسير الأحلام (2). وسنفصل القول في هذا في أول الباب الثاني.
معنى التأويل في الاصطلاح:
للتأويل معنى التفسير، فقد ذكر الدارسون لمجاهد (3) أنه كان يعطي عقله حقا في فهم بعض آي الذكر الحكيم، وقد قيل: إنّ أحدهم قال له: «أأنت الذي تفسّر القرآن برأيك؟ فبكى، وقال: إني إذن لجريء لقد حملت التفسير عن بضعة عشر من الصحابة» (4). وذهب بعضهم إلى أنه قصد معنى الترادف في معنيي التفسير والتأويل، وهذا ما عناه مجاهد في قوله: «إن العلماء يعلمون تأويله» يعني القرآن (5).
وللتأويل معنى هو الحقيقة التي يئول إليها الخطاب كما في قوله تعالى: {ذََلِكَ تَأْوِيلُ مََا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]. وبهذا نجد للتأويل معنيين: الأول:
قصد به تفسير الكلام وبيان معناه وما يحتاج منه إلى نظر وفكر ليصحّ معنى الرجوع، وهو الذي يناسب آيات كثيرة من القرآن الكريم بمواقفها الدقيقة التي يحتاج المعنى فيها إلى مثل ذلك. أما الثاني: فالقصد به عين المراد من الخطاب، فالطلبي تأويله مثلا الفعل المطلوب، والخبري تأويله الشيء الذي يخبر عنه، فإذا
__________
(1) البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص، 148وكذا السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 48.
(2) انظر ما يتعلق بهذه الدلالات د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرين، ج 1، ص 18.
(3) أبو الحجاج مجاهد بن جبر مولى السائب بن أبي السائب المخزومي المكي. قرأ على ابن عباس وصحب ابن عمر مدة طويلة وأخذ عنه. قال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد. اختلف في وفاته، فقيل:
سنة 102هـ و 103هـ و 104هـ. انظر ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، دار مكتبة الحياة، بيروت ص 10هامش، 1وكذا أحمد بن محمد الأدنروي (من علماء القرن الحادي عشر الهجري)، طبقات المفسرين، ج 1، ص 11.
(4) د. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، ص 243وما بعدها.
(5) راجع د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرين، ج 1، ص 19.(1/29)
قلت: «قل الحق» فليس في تأويله غير قول الحق، وإن قلت: «الدّين ذلّ بالنهار وهمّ بالليل» فإن تأويله ليس سوى مذلة الدين وهمه بالنسبة للمدين نهارا وليلا.
وما أخبر به الله تعالى هو نفسه.
والتأويل في حقيقته «علم خاص» بمن اصطفاهم الله عز وجل واختصّهم به، وهم: النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف الصديق والخضر عليهما السلام. وقد أضاف بعض الدارسين ابن عباس على الرغم من عدم مجيء ذكره في القرآن الكريم لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له فيما رووا: «اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» (1) أو كما قال (2).
وعرّف الشريف الجرجاني التأويل قائلا: «التأويل صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم: 19] إنّ أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل، كان تأويلا» (3) ولما كان الرأي يطلق على الاعتقاد والاجتهاد والقياس فإن قولهم:
«أصحاب الرأي» معناه أصحاب القياس، لذا ذهب بعضهم من خلال هذا إلى أنّ الرأي المقصود هنا: الاجتهاد، وعليه فإن التفسير بالرأي إنما هو تفسير القرآن بالاجتهاد وذلك بعد أن يبلغ المفسر ما يحتاجه من عدة في هذا العلم كالدراية بكلام العرب وبأساليبهم وألفاظ لغتهم ومعانيها المختلفة، وما يرفده من شعر جاهلي، ومعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وعادات العرب، والقراءات، وأصول الدين والفقه والحديث المبيّن للمجمل، وعلم القصص، وعلم الموهبة (4).
لقد تحفّظ المسلمون بعض الوقت من تفسير القرآن بالاعتماد على الرأي واكتفوا فيه بما نقلوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبما ثبت لديهم عن الصحابة أو بما فهموه من اللغة ومقتضيات أساليبها وتعابيرها، وكان توقفهم عن تأويل الآيات لأمرين:
__________
(1) مسند أحمد، حديث رقم 2274، 2731ذكره البخاري: «اللهم فقهه في الدين» حديث رقم 140.
(2) انظر الفرق بين رواية البخاري والإمام أحمد بن حنبل.
(3) التعريفات، ص 65وما بعدها.
(4) انظر السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 181.(1/30)
الأول: المنع الوارد في القرآن الكريم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا وَمََا يَذَّكَّرُ إِلََّا أُولُوا الْأَلْبََابِ} [آل عمران: 7]، ولا شك في أن الذي يتحرّج من الزيغ ويتجنبه يمتنع عن التأويل.
الثاني: أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق والقول في صفات الباري بالظن غير جائز، فربما أوّلنا الآية على غير مراد الباري تعالى، فوقعنا في الزيغ، بل نقول كما قال الراسخون (1) في العلم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا}، ولعل هذا يجعلنا ندرك أن السلف بنوا موقفهم في هذا على أربعة أصول مسلّم بها عند كل عاقل:
أأن أعرف الخلق بصلاح العباد وحسن المعاد إنما هو النبي صلى الله عليه وسلم. فالنفع والضر بالعالم الآخر لا يتسنى للعقل إدراكه بالمشاهدة والتجربة، ومن ثم فإن العقول كلها قاصرة عن أن تدرك العالم الآخر بالصفة المذكورة، لأنها لا تهتدي إلى ما بعد الموت، وقد أيقن العقلاء كلهم بهذا وأقروا من جانب آخر أن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوة.
ب لقد بعث الرسول لتبليغ الخلق ما أوحي إليه مما يتعلق بصلاح العباد في معادهم ومعاشهم، فهو رحمة للعالمين، فقد دلّ وأمر ونهى وحذّر بما تعلق في العلم والعمل كليهما.
ج إنّ أعرف الناس بكلام رسول الله ومعانيه وأحراهم وقوفا على جوهره ومعرفة أسراره الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعاصروه وصاحبوه، وتلقوه بالقبول للعمل به والنقل لمن بعدهم، وللتقرب إلى الله بسماعه وفهمه وحفظه ونشره.
__________
(1) الشهرستاني (أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد، ت 548هـ)، الملل والنحل، تحقيق أمير علي مهنا، علي حسن فاغور، دار المعرفة، بيروت، ط 4، 1995م، ج 1، ص 120.
وليس هذا رأي الشيعة وهم مسلمون لأنهم يعدون الواو وصلا (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) وهم الأئمة المعصومون من الخطأ وجوبا. ويرى غيرهم الواو للاستئناف والوقف عندهم على (إلا الله). انظر مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ)، مشكل إعراب القرآن، ج 1، ص، 149وتفسير إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن، ج 1، ص، 241والألوسي (ت 127هـ)، روح المعاني، ج 3، ص 84.(1/31)
د لا يوجد ما يثبت أنهم دعوا الخلق إلى البحث والتعمق والتفسير والتأويل في المتشابه، وإنما الثابت أنهم زجروا من خاض فيه وسأل عنه وتكلم به (1). لقد كان مذهب السلف إذن يكتفي بما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من أدلة على وجود الله جل وعز، وصفاته، دون زيادة أو نقصان. وعدوّه كافيا أيضا في تثبيت الإيمان وإقناع الكفرة ورد اليهود والنصارى إلى الصواب.
لقد رأوا أن قواعد الإيمان وأصوله قد بينها القرآن، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً} [المائدة: 3]، فهم أسلموا أنفسهم لله، وآمنوا بالقدر، واتخذوا الأسباب بما توفر لهم من قدرات وطاقات، واحترزوا من الضلال والزيغ، ولم يتبعوا المتشابه، ولم يكن لديهم انجذاب وراء الجدل المردي (2).
وجاءت مرحلة أخرى، بلغت فيها البيئة العربية الإسلامية مستوى النضج الثقافي والفكري، ولفتها الخلافات السياسية والمذهبية وبخاصة في القرنين الثاني والثالث الهجريين وما بعدهما، فأخذ التفسير منحى آخر، ولم يجد المفسرون غير أن يجتهدوا ويتجاوزوا الاعتماد على النقل إلى مرحلة الاجتهاد وتوظيف العقل أو الاستناد إلى اعتقادهم واعتماد القياس، ففسروا بالرأي على هذا الأساس، لأنه تبين لهم أن التحفّظ (3) في التفسير بالرأي إنما هو امتناع عن التفكير، وعن النظر وعن استنباط الأحكام التي تتضمنها آيات غير قليلة من آي الذكر الحكيم، وعليه
__________
(1) انظر د. عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، ط 2 (د. ت) ص 103وما بعدها.
(2) م ن، ص 105، 106راجع جولد. زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة دكتور عبد الحليم النجار، دار اقرأ، ط 5، بيروت، 1413هـ 1992م، ص 73وما بعدها يبسط فيه المؤلف الارتياب من الاشتغال بالتفسير والتفسير المشهود بصوابه، وص 82، 109وما بعدها.
(3) ذكرت آثار عن السلف من الصحابة والتابعين تدلّ على تحرّجهم من القول بالرأي نذكر منها: عن أبي مليكة أنه قال: = سئل أبو بكر الصديق (ر. ض) في تفسير حرف من القرآن، فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى =. انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص، 250.(1/32)
فقد رأوا الحديث الشريف الذي ينهى عن التفسير بالرأي يقصد الرأي الذي لا يعتمد على أصل ثابت ولا على روح الشريعة. وقد روى الترمذي بسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الحديث عنّي إلا ما علمتم فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، و «من قال فى القرآن برأيه ليتبوأ مقعده من النار» (1). وذكر القرطبي قولا لأبي بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب الرد: قال: «فسّر حديث ابن عباس تفسيرين: الأول: من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرّض لسخط الله. والثاني: وهو أثبت القولين وأصحهما معنى: من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار» ثم قال: «ومعنى يتبوأ ينزل ويحل» (2) ثم أضاف بعد هذا في التفسير بالرأي «إنّ من قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ، وإنّ من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتّفق على معناها فهو ممدوح» (3).
ومن هنا اجتهد كثير من العلماء في تفسير القرآن بعد أن أيقن كل منهم في نفسه الثقة بأنه استكمل عدة المفسّر، فأخذ التفسير يتأثر باتجاهات المفسرين ويصطبغ بثقافاتهم، فكان أن ظهرت تفاسير غلب عليها التعرض لمسائل النحو (4) مثل «معاني القرآن» للزجاج (ت 316هـ)، و «البسيط» للواحدي علي بن أحمد بن متويه (ت 468هـ)، و «البحر المحيط في التفسير» لأبي حيان الأندلسي (ت 794هـ) أو غلب عليها اللغة مثل «معاني القرآن» لقطرب المستنير (ت 206هـ)، و «غريب القرآن» لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي (ت 210هـ)، وغيرهما ممن ألف في غريب القرآن وركّز على المسائل اللغوية وهم كثيرون. وقد سميت كتب هذا المنحى «معاني القرآن».
__________
(1) جامع الترمذي، 3030وانظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د. ت) باب ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، ج 1، ص 32انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 248.
(2) الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 32.
(3) م ن، ج 1، ص 33.
(4) انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 2، ص، 145ود. أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، ص 100.(1/33)
وظهر لون ثالث في التفسير اتسم بسمة الأحكام الفقهية (1) مثل «أحكام القرآن» للجصّاص أبو بكر أحمد بن علي الرازي (ت 37هـ) الحنفي، و «أحكام القرآن» لعماد الدين بن علي الطبري المعروف بالكياالهراسي الشافعي (ت 37هـ)، و «أحكام القرآن» لابن عربي المتصوف المالكي (543هـ) الذي يعد تفسيره في الأحكام مرجعا مهما في التفسير الفقهي عند المالكية. مثل هذه التفاسير في الأحكام «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (ت 671هـ).
وصنفت تفاسير ذات مسحة عقلية عرف فيها التأويل أدوات علم الكلام والنظر الفلسفي وتأثر بمجال المذاهب الدائرة في فلكهما، فقام المصنفون يفسرون بعض الآيات القرآنية مثلا بروح طغت عليها الفلسفة (2) مثل الفارابي (ت 339هـ) في كتابه «فصوص الحكم»، وابن سينا (ت 448هـ) الذي وفّق بين الدين والفلسفة فعدّه بعض الدارسين غير مصيب لأنه بعد في مسعاه عن حقيقة الدين وروح القرآن (3) إذ نظر إلى نصوص القرآن باعتبارها رموزا لا يعرف حقيقتها إلا الخواص أمثاله. وكان يغلب على شرحه للحقائق الدينية الآراء الفلسفية لأنه اعتقد القرآن رموزا، يقول: «يتكلم النبي برموز وإشارات لكي يفهم العامة، ويحتاج الوحي إلى تفهم وتأويل» ويقول كذلك: «إن الوحي أمثال ورموز إن أردت فهمه احتجت إلى تأويله» (4)، وبهذا ورد تفسيره محكّما ما يعتقده من نظريات فلسفية.
وعرفت تفاسير أخرى أولت بعض الآيات بما يخدم الفرقة أو المذهب، وذلك مثل «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل» للزمخشري (ت 538هـ) وهو رافدنا في هذا البحث. و «كالفتوحات المكية» لابن عربي المعروف بابن سراقة (ت 638هـ)، و «مجمع البيان في تفسير القرآن» للطبرسي (ت 548 هـ)، و = هميان الزاد إلى دار المعاد = للعالم الجزائري أطفيش (ت 1332هـ) (5)
__________
(1) انظر م ن، ج 2، ص 146، وكذا د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 2، ص 414وما بعدها.
(2) انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 2، ص 399وما بعدها.
(3) انظر م ن، ج 2، ص 407وما بعدها.
(4) انظر يوحنا قمير، ابن سينا، دار المشرق، بيروت، ج 2، 1986م، ص 2524.
(5) هو العالم الجزائري الإباضي أطفيش محمد بن يوسف بن عيسى بن صالح الملقب بقطب الأئمة(1/34)
وغيرهم كثير. وهكذا كان من نتيجة التحول الذي مسّ الحياة العربية الإسلامية نزوع إلى تجاوز النقل في التفسير إلى مرحلة التفسير بالرأي. قابله نزوع آخر متحفظ متحرّج من هذا الصنف من التفسير للأسباب التي ذكرنا، فبرز في هذا الموقف فريقان:
الأول: مانع للتفسير بالرأي ملتزم بالمنع القرآني، وبما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أو عمن أخذ عنهم من التابعين، وقد عدّ هذا الفريق التأويل قولا على الله تعالى بغير علم، ولا يخفى أن القول على الله منهيّ عنه، فهو ظني لا سبيل إلى القطع بما يقال فيه، وقد ورد في القرآن الكريم ما نهي عن القول في الله بغير دراية وعلم {قُلْ إِنَّمََا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوََاحِشَ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَمََا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللََّهِ مََا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطََاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:
33]. وعلّل منع التأويل أيضا بإضافة بيان القرآن الكريم للرسول وحده مستندا إلى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
لهذا قالوا: ليس لغير الرسول صلى الله عليه وسلم بيان معاني القرآن. واعتمدوا في منعهم كذلك على ما روي من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وبما روي عن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (1).
قال: هذا حديث غريب، وأخرجه أبو داود، وتكلّم في أحد رواته.
وقد ذكر القرطبي عن ابن الأنباري أبي بكر أن العلماء ذهبوا إلى أنّ الرأي المقصود في حديث جندب إنما هو المعنيّ به الهوى، بمعنى أن من قال في القرآن قولا يوافق هواه ولم يأخذه من أئمة السلف، فقد أخطأ، لأنه حكم على القرآن بما
__________
(ت 1132هـ) 1914م. = وهميان الزاد إلى دار المعاد = في 14مجلدا طبع بزنزبار سنة 1350هـ. وله كذلك تيسير التفسير 6مجلدات، طبع بالجزائر سنة 1326هـ، وله مؤلفات أخرى كثيرة في الحديث والفقه والعقيدة واللغة منها ما هو مطبوع ومنها ما وهو مخطوط، ترجم له ابن أخيه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش في كتابه = دعاية إلى سبيل المؤمنين = القاهرة 1342هـ 1923م، ص 100، 109، وترجم له المستشرق شاخت في مقالة = المكتبات والمخطوطات الإباضية الإفريقية الجزء 100، 1956الصحفة 373 وما بعدها. سافر إلى البقاع المقدسة مرتين، وعرف بعدائه للاستعمار وحبه للعالم الإسلامي وغيرته عليه. وقد أثر في النهضة الإصلاحية للجزائر. وعرف بالوطنية الصادقة.
(1) جامع الترمذي: 31. 3، وسننه (في أبواب التفسير) ج 2، ص، 157وكذا القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 32 (باب ما جاء في الوعيد في تفسير القرآن بالرأي).(1/35)
لا يعرف أصله، ولا يقف على مذهب أهل الأثر والنقل فيه (1)، ثم ذكر قول ابن عطية: «وقال ابن عطية: ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى من كتاب الله عزّ وجلّ فيتسوّر عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء أو اقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول» وهو الصحيح لدى القرطبي والمختار عند الكثير من العلماء، فما لم يكن مبنيا على الاستدلال من الأصول خطأ.
وأما ما بني استنباطه للمعاني على الأصول المحكمة المتفق على معناها فإنه مفضّل وممدوح، وهو يحمل القرآن على أحد وجهين (2):
الوجه الأول: أن يكون للمفسر في الشيء رأي يميل إليه بطبعه وهواه فيتناول وفق رأيه وهواه ويحتجّ على أساس إبراز تصحيح غايته وما كان ليظهر له ذلك المعنى من القرآن لولا انجذابه لرأيه وهواه، وهو نوع يكون مع علمه بأن المراد من الآية ليس ذلك. ويكون مع جهله عند ما تتسم الآية بالاحتمال في المعنى فيميل إلى الدلالة التي توافق غرضه، فيرجّح المعنى ترجيحا مؤسسا على رأيه وهواه فرأيه هو علة الترجيح. وقد ينزع إلى مقصد صحيح سليم فيبرهن على غرضه برهنة بما يرى له من أدلّة قرآنية، ولكنه يعلم أن القرآن الكريم لا يدل عليه وما أريد به ذلك: «كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله تعالى: {اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ} [طه: 24]، ويشير إلى قلبه ويومئ إلى أنه المراد بفرعون» ثم قال: وهذا يعتمده بعض الوعّاظ لتحسين الكلام وترغيب المستمعين وهو ممنوع لأنه قياس لغوي ينتقل من الحقيقة إلى المجاز بدافع الهوى أو الترغيب في المقاصد الفاسدة التي تغرّر بالعباد من أجل الدخول فيما يستترونه لهم من المذاهب (3).
والوجه الثاني: أن يفسر القرآن بظاهر اللغة بغير استظهار للسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن ففي قوله: {وَآتَيْنََا ثَمُودَ النََّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهََا} [الإسراء:
59] معناه: آية مبصرة ولا يدري بماذا ظلموا وأنهم غيرهم وأنفسهم، فهذا من
__________
(1) انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 32.
(2) انظر م ن، ج 1، ص 33.
(3) انظر م ن، ج 1، ص 33وما بعدها.(1/36)
الحذف والإضمار وهو في القرآن الكريم كثير تلزم درايته ومعرفته، ثم قال القرطبي: «وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه» (1).
وأما الفريق الثاني: فإنه أجاز التأويل ورأى النهي محمولا على من تأوّل مشكل القرآن ومتشابهه من الذي لا يعلم إلا من النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، واستدلوا على «الرأي» المقصود في الحديث بأنه الذي لا يؤسس على دليل ولا يصدر عن اقتناع بصير، وأقاموا إباحتهم للتأويل على جملة من الأسس:
أولا: النص القرآني: كقوله تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا}
[محمد: 24]، وقوله: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} [ص: 29]، وقوله سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى ََ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فوجه الدلالة في الآيات بترتيبها حث على تدبّر القرآن والاتعاظ بعظاته وسماح في الثالثة منها لأولي الألباب وبالاستنباط وبالاجتهاد وبإعمال العقل قصد معرفة الأحكام الشرعية، فالذي لم يستأثر الله تعالى بعلمه وتأويله يصعب أن نتصور منع الاجتهاد فيه عمن استكمل عدته من العلماء والمفكرين المسلمين به من تكليف وعدالة وجودة حفظ ومعرفة ما يقوم عليه الاجتهاد من العلوم (2).
ثانيا: قالوا: إن في تعطيل التفسير بالرأي منعا للاجتهاد، فلو كان هذا واقعا لكان أدى إلى تعطيل كثير من الأحكام، ولا خلاف في جواز الاجتهاد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (3)، ومن أن المجتهد في حكم الشرع مأجور وأن شرعية الاجتهاد واضحة في حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبي إلى اليمن واليا: قال له:
«كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن
__________
(1) م ن، ج 1، ص 34.
(2) انظر أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي المالكي (ت 741هـ): تقريب الوصول إلى علم الأصول، ودراسة وتحقيق محمد علي فركوس، دار التراث الإسلامي الجزائر، ط 1، 1990، ص، 153وانظر أحمد محيي الدين العجوز، مناهج الشريعة الإسلامية، مكتبة المعارف بيروت 1983، ج 3، ص 101وما بعدها. وانظر محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين ودار المعرفة، بيروت، ج 3، ط 3، (د. ت)، ص 197وما بعدها.
(3) انظر ابن جزي الكلبي الغرناطي المالكي: تقريب الوصول إلى علم الأصول، ص 153.(1/37)
في كتاب الله؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟
قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله بما يرضي رسول الله» (1).
ثالثا: وبرهن هذا الفريق على بطلان من أوقف التفسير على السماع لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وعللوا فساده لكون النهي عن تفسير القرآن إنما أن يكون مقتصرا على النقل والسماع وترك الاستنباط.
أو يكون المقصود شيئا آخر. ويمتنع أن يكون المراد هنا ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمع، وإلا كيف يمكن أن نفهم اختلاف الصحابة في تفسيرهم؟ وهل كان الذي قالوه قد سمعوه جميعا من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأي فائدة يمكن فهمها مما خصّ به الرسول عليه الصلاة السلام ابن عباس حين دعا له: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (2)، فكيف يكون التأويل مسموعا كالتنزيل بهذا التخصص؟ وما الفائدة؟ ورأى بعض العلماء الذين ذكروا نص هذا الحديث أن التأويل الذي دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس يتجاوز أو يتعدى معنى النقل والسماع إلى معنى التفسير بالرأي والاجتهاد بمعنى علّمه معاني كتابك، وعلى هذا يكون الوقف عند قوله عز وجل: {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. وقد صحح بعضهم بأنّ تسميتهم راسخين يقضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه العارفون بكلام العرب. وقد حق التساؤل هنا: فيم سيكون رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعرفه الجميع!؟ مع العلم بأن المتشابه متنوع: منه ما لا يعلم البتة كالروح والساعة وما استأثر الله
__________
(1) رواه داود والترمذي عن طريق الحارث بن عمر، انظر أحمد محيي الدين العجور. مناهج الشريعة الإسلامية، ج 3، ص 105.
(2) مسند الإمام أحمد (باب مسند عبد الله بن عباس) رقم الحديث 2391وكذا رقم، 30222873، 309وقد جاء في صحيح البخاري (باب وضع الماء عند الخلاء) 112بحديث رقم 143نصه:
«اللهم فقهه في الدين» ورواه مسلم في صحيحه (باب فضائل عبد الله بن عباس 1126الحديث رقم 6315 «اللهم فقهه» وفي سنن النسائي الكبرى (باب عبد الله بن العباس) 3293: حديث رقم 8107 من طريق أبي بكر بن أبي النضر هاشم وورقاء بن عمر اليشكري: قال سمعت عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له ماء، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من صنع ذا؟ قلت: ابن عباس. قال: «اللهم فقهه».(1/38)
بغيبه. وهذا لا يعلمه أحد لا ابن عباس ولا غيره، فمن ذهب من العلماء إلى نفيه عن الراسخين يتجه إلى ما له صلة بالغيب الذي علمه الله وحده أو من اختصهم به من الأنبياء والرسل. أما ما له صلة باللغة وأساليب العرب في كلامهم فيتأوّل ويعلم من طريق الاجتهاد في الرأي القائم على الشروط الصحيحة والمتمكن من آليات الفهم اللازمة (1).
وقد ذهب الزركشي في هذا المعنى في معرض ذكره أنواع التفسير عند النوع الرابع منه إلى أن «التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع وهذا هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (2). ويمكن أن يكون المعنى من التأويل هو هذا. بشرط صحة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أو علمه التأويل» لأنه قد يكون هذا زيادة في الحديث للتزلف لبني العباس.
وقد ردّ مجيزوا التأويل (3) على أدلة المانعين، فاستدلوا أمام القول على ما أراد الله تعالى بأنه ظني بأن الظن نوع من العلم لأنه إدراك الطرف الراجح. وإذا افترض التسليم به فإنه يمنع القول على الله تعالى بغير علم لأن الظن يكون منهيا عنه إذا أمكن التوصل إلى العلم اليقيني القطعي بنص شرعي قطعي أو بدليل عقلي موصل إلى ذلك. بيد أنه إذا لم يتوفر دليل من ذلك فإن الظن يصبح كافيا لأنه يستند إلى دليل من نص القرآن الكريم على صحة العمل به. يقول الله عز وجل:
{لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} [البقرة: 286]. وقد مرّ معنا أصول شرعية الاجتهاد في حديث معاذ بن جبل.
وقالوا في تمسّك المانعين بإضافة البيان للرسول صلى الله عليه وسلم وحده من خلال قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:
44] نعم إنّ رسول الله مأمور بالبيان ولكنه مات ولم يبيّن كل شيء، فما بيّنه كاف عن فكره من بعده، غير أن الذي لم يرد عنه فيه إمكانية أن يتناوله أهل العلم من المسلمين بقيد الشروط والحدود، فبيان أهل العلم مستشف من قوله تعالى بآخر الآية السابقة: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي، ج 1، ص، 33ج 4، ص 18.
(2) البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 162.
(3) راجع د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 247وما بعدها.(1/39)
وقد سقنا للقرطبي فيما سبق بعض الردود المذكورة في الأوجه التي حمل عليها التفسير.
ونحن نعتقد ما رآه أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) إذ بيّن بطلان القول الذي رأى أن التكلم في القرآن لا بدّ أن يكون معتمدا على ما سمعه.
وهو رأي قال به كثير من العلماء (1) والدارسين، ذكر ما قاله ابن عباس في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] «يعني الفهم في القرآن. وقال سبحانه: {فَفَهَّمْنََاهََا سُلَيْمََانَ وَكُلًّا آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء] سمّى ما أتاهما علما وحكما، وخصّ ما انفرد به سليمان بالتفطن له باسم الفهم وجعله مقدما على الحكم والعلم» ثم قال: «فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتّسعا غالبا، وأنّ المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه» (2). وقال بعد أن استدل على أن الاقتصار في تفسير القرآن بالسماع باطل: «فبطل أن يشترط السماع في التأويل، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحدّ عقله» (3)، ومع هذا لم يوافق العلماء كلهم أن يترخّص كل أحد الموقف ليخوض في التفسير برأيه دون تقيد بأصوله وشروطه وحدوده.
والمحصّل في التفسير بالرأي نوعان: مذموم ممنوع، وممدوح جائز قيّد بقيود وحدّ بحدود. واستفهمنا التأويل الجائز. فأدركنا بأنه استدلال على المعنى أو برهنة واحتجاج على الحكم المقصود بأدلة من خارج النص أو هو ترجيح أحدها بقرائن وذلك لأن ظاهر النص لا يقدم المعنى تقديما قطعيا أو الحكم المراد، بيد أنه يحتاج
__________
(1) انظر ابن تيمية (ت 622هـ)، أصول التفسير، تحقيق فريال علوان، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط 1، 1992م، ص، 74ومما قال: «فهذه الآثار وما شاكلها من أئمة السلف محمولة على تحرّجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه =. وانظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 33، قال: = وإنّ من استنبط معناه يحمله على الأصول المحكمة، المتفق على معناها فهو ممدوح =. وانظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 1، ص 16:
قال: = فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد وإنما هو عليه السلام صوّب رأي جماعة من المفسرين فصار ذلك دليلا قاطعا على جواز التفسير من غير سماع من الله ورسوله =. وانظر السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الباب السابع والسبعون.
(2) إحياء علوم الدين، ج 1، ص 384.
(3) م ن، ج 1، ص 385.(1/40)
إلى الأدلة والقرائن ليكون جازما للمعنى أو للحكم المراد أو ليرجّح المعنى أو الحكم عوض الجزم به أو القطع فيه. والأهم هاهنا أنه إذا فقدت القرائن والأدلة في التأويل فإنه حينئذ الرأي بالهوى (1).
ثانيا: الفرق بين التفسير والتأويل
إذا رجعنا إلى معنى التفسير والتأويل فيما قدمنا من تعاريف وقارنّا بينهما وجدناهما يلتقيان في معنى «التبيين والتوضيح» بيد أنّ التفسير يقصد توضيح المعنى أو الحكم المراد بظاهر النص الدال على المعنى أو الحكم، وذلك في حدود الأصول العامة للتفسير وشروطه (2) من علم لغة ونحو وصرف وعلم بيان وأصول فقه وقراءات وأصول دين المراد بها علم الكلام (3) وأصول الفقه (4) وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المبيّنة للمجمل والمبهم. وأضاف السيوطي إلى هذا «علم الموهبة» (5)، وبين أن الطريق إلى تحصيله فعل الأسباب الموجبة له وهي العمل والزهد، ثم قال: وهو علم يورّثه الله تعالى لمن عمل بما علم وأورد حديثا للرسول صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» (6). إنّ التفسير لا يستدل فيه على المعنى أو الحكم من خارج النص ولا يطلب فيه قرينة ترجّح ذلك، لأن ظاهر النص قد بينه بذاته، فلا يحتاج إذن إلى دليل أو قرينة. وإذا خالف التفسير هذه الأصول عدّ رأيا بالهوى (7).
__________
(1) انظر د. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، ص 350.
(2) انظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 1، ص، 16وكذا السيوطي الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص، 181وكذا أحمد بن جزي، تقريب الوصول إلى علم الأصول، دراسة وتحقيق محمد علي فركوس، دار التراث الإسلامي، الجزائر، ط 1، 1990م، ص 153.
(3) يستطيع المفسر بعلم الكلام الاستدلال على ما يجب في حق الله تعالى، وما يجوز وما يستحيل، وأن ينظر في الآيات المتعلقة بالنبوات والمعاد نظرة صائبة، ويقع المفسر بغيرها في الغلط.
(4) يعرف المفسر بأصول الفقه كيف يستنبط الأحكام من الآيات، ويستدل عليها، ويعرف المجمل والمبيّن والعام والخاص والمطلق والمقيد: انظر أحمد بن جزي، تقريب الوصول إلى علم الأصول، ص 43، ود.
محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 256.
(5) انظر الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 181.
(6) انظر م ن، ج 2، ص 181.
(7) انظر د. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، ص 350.(1/41)
أما «التأويل» فخاصته الاستدلال على المعنى أو الحكم المراد بأدلة من خارج النص، ويطلب المؤول القرينة التي لا ترجّح الحكم المقصود ويضطر إلى البحث عن الأدلة والقرائن القاطعة، أو المرجّحة للمعنى أو للحكم، فإن كانت هذه الأدلة والقرائن مفقودة في التأويل كان التأويل حينئذ رأيا بالهوى. ونعتقد أن المثال الموالي المذكور في أول الفصل يزيد الأمر تبيينا. قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}
[الروم: 19]: هو نص يتضمن معنى وحكما. قال الزمخشري: (الحي من الميت) الطائر من البيضة. و (الميت من الحي) البيضة من الطائر (1). قال بعض الدارسين:
الحي من الميت لا يحدث خلافا إذا انصرف الذهن إلى (الطير من البيضة) ليس فيه داع للخلاف. والحكم: إخراج هذا الحي (الطائر) من الميت (البيضة)، ولا يستدعي هذا استدلالا من خارج النص، فدليله ظاهر بالنص، فالمعنى والحكم ظاهران واضحان به، وهذا يسمى «تفسيرا».
غير أنك إذا قلت: هو إخراج المؤمن من الكافر فإنه تأويل، ليس في النص ما يقطع به، لذلك تعوزه قرائن وأدلة من خارج النص تجزم وتقطع بهذا المعنى أو الحكم أو ترجّحه، فإن انعدمت كان التأويل رأيا بالهوى (2). وهو في رأينا مسلك اجتهادي تعوزه الأدلة.
ثالثا: المراحل الأساسية للتفسير
ذكرنا هذه المراحل ذكرا مجملا جدا، وأشرنا إلى أننا سنعود إليه بشيء من التفصيل، لذا نقول:
المرحلة الأولى: عصر الصحابة:
سبق علم التفسير العلوم القرآنية في النشوء، فهو علم ظهر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما توفي قام صحابته بالتفسير، فهم شهدوا الوقائع معه في حياته
__________
(1) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، 1979، ج 3، ص 217،، 218والجرجاني، التعريفات، ص، 66ود. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، ص 350.
(2) انظر د. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، ص 350: ولهذا الدارس مثال تفصيلي حول هذا الأمر.(1/42)
وصحبوه وتأثروا به وبفعله، لذلك حرصوا على تطبيق أحكام القرآن محتكمين إلى نصه وسنة رسول الله وإلى الشورى عند عدم وجود النص. إنهم فهموا القرآن بسليقتهم في اللغة العربية الأصيلة، غير أنهم كانوا متفاوتين في فهم القرآن لتفاوت حظهم من صحبة الرسول والإلمام بعادات العرب والدراية بأوجه فنونها في القول وغيرها من العوامل والأسباب الموضوعية التي تضطرهم في بعض الأحيان حين يشكل عليهم المراد من آي الذكر الحكيم إلى أن يسألوا الرسول، فيبيّن لهم ما استفهموا عنه ويشرحه لهم لأنهم علموا كما ذكر الإمام الشافعي (ت 204هـ) أنّ كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو مما فهمه من القرآن (1).
قال الله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105]، وقال جلّ وعزّ: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
[النحل: 44] [] ثم ذكر ابن تيمية: لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه» أي السنة (2)، وذكر كذلك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه» (3)، وهو الذي يتناوله قوله تعالى السابق: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، ومنه نعلم أنهم أخذوا القرآن الكريم عن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنى ونقلوه إلى غيرهم ممن جاء بعدهم.
ومن أشهر المفسرين من الصحابة أبو بكر الصديق (ت 13هـ)، وعمر بن الخطاب (ت 23هـ)، وعثمان بن عفان (ت 33هـ)، وعلي بن أبي طالب (ت 40هـ) رضي الله عنهم جميعا. ولم يثبت للثلاثة الأول إلا قليل من التفسير لتقدم وفاتهم. بينما روي للإمام علي فيه أكثر لأنه تفرغ عن مهام الخلافة طويلا إلى غاية نهاية خلافة عثمان بن عفان. وأربعتهم من الطبقة الأولى للمفسرين. ومنهم ابن مسعود (ت 32هـ)، وابن عباس (ت 68هـ)، وأبي بن كعب (توفي تقريبا سنة 81هـ)، وزيد بن ثابت (ت 80هـ)، وأبو موسى الأشعري، وابن الزبير، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاري (4).
__________
(1) انظر ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، ص 39.
(2) م ن، ص 40.
(3) م ن، ص 9
(4) انظر السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص، 187وكذا أحمد بن محمد الأدنروي، طبقات(1/43)
غير أن الرواية في التفسير كثرت لعدد من الصحابة هم: (أبي بن كعب رجحت وفاته في خلافة عمر بن الخطاب سنة 21هـ)، وابن مسعود (ت 32هـ)، والإمام علي (ت 40هـ)، وابن عباس (ت 68هـ)، وذلك لقوتهم في اللغة العربية، وتمكنهم من أساليبها، ولميلهم إلى الاجتهاد، ولأنهم ممن خالطوا الرسول وعرفوا معه حوادث النزول القرآني باستثناء ابن عباس لأنه لم يلازم الرسول في شبابه إذ توفي الرسول الكريم وهو في سن الثالثة عشرة (1) بيد أنه من ملازمي كبار الصحابة. ويمكن القول بأن الشهرة في التفسير كانت لغيرهم من العشرة المذكورين وإنما تميّز الأربعة المذكورون بكونهم مكثرين في التفسير، فكثرت الرواية عنهم وقلت عن غيرهم، لهذا رتّبوا ابن عباس الأول لكثرة الرواية عنه ثم ابن مسعود ثم الإمام علي ثم أبي بن كعب (2).
وتتميز مرحلة التفسير في زمن الصحابة بالميزات التالية:
أولها: لم يقع تفسير القرآن كله بل فسر بعضه، وبالذات ما كان غامضا على الناس فهمه، وقد تزايد هذا الغموض بتباعد زمن الناس عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأدى هذا إلى تزايد التفسير إلى الحد الذي عمّ الآيات القرآنية كلها.
ثانيها: قلّ الاختلاف بين الصحابة في فهم معاني القرآن.
ثالثها: التزم الصحابة بالاقتصار على المعنى الإجمالي في التفسير ولم يخوضوا في المعاني التفصيلية وهذا على سبيل الكثرة، فهم اكتفوا في قوله عز وجل:
{وَفََاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] بأنه تعداد لنعم الله عز وجل على عباده.
__________
المفسرين، ص 3، 4، 5، 6، 7انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص، 64وكذا محمد الصباغ، لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، المكتب الإسلامي، بيروت (د. ت)، ص 13.
(1) اختلف الدارسون في السن التي كان عليه ابن عباس عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ الثالثة عشر، وقال بعضهم: إنه لم يتعد السابعة عشر. انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 65، 66وكذا د. مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 11.
(2) انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 65.(1/44)
رابعها: ركزوا على توضيح المعنى اللغوي المفهوم بأخص لفظ مثل قولهم في الآية: {غَيْرَ مُتَجََانِفٍ} [المائدة: 3]. قال عمر: ما تجانفنا فيه لإثم ولا تعهدنا ونحن نعلمه أي ما ملنا فيه لحرام (1).
خامسها: كانوا مقلّين في استخراجهم للأحكام الفقهية من الآيات القرآنية ولا أثر للتمذهب الديني بما ورد في كتاب الله لاتحادهم في العقيدة، ولأن الاختلاف المذهبي لم يكن ليظهر إلا بعد عهدهم.
سادسها: لم يقع تدوين أي شيء من التفسير بعصر الصحابة وذلك لأن التدوين لم يبدأ إلا في القرن الثاني الهجري رغم إحسانهم الكتابة وامتلاكهم الدواعي التي تخوّل لهم كتابة الصحف الخاصة بهم كالذي حفظوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو تعلّموه منه من المعاني. ويبدو أن الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» (2) كان لتركيز الهمم والجهود على القرآن الكريم لا غير ليحفظ ويدوّن ولئلا تختلط معانيه بغيرها من المعاني والأحكام ولأنه يومئذ أكثر إلحاحا وأهمية من السنن ذاتها. ولما زالت دواعي اللبس وتحققت أهداف المنع أباح الرسول صلى الله عليه وسلم لهم الكتابة (3).
سابعها: لقد اتخذ التفسير في هذه المرحلة شكل الحديث (4).
لأن الحديث يومئذ جزء منه وباب من أبوابه وهو الذي كان يشمل كل المعارف الدينية من تفسير وتشريع وتاريخ، فقد كان التفسير غير منظم، تساق تفسيرات الآيات فيه منثورة مثلما كانت تروى الأحاديث ذات المواضيع المتنوعة معا.
المرحلة الثانية: عصر التابعين:
لقد نهض الصحابة بمهمة التفسير في إطار المجمل لأنهم تلاميذ رسول الله.
عاشوا ظهور الإسلام في مطلع صبحه، وفي شروق شمسه، وفي شيوع ضيائه
__________
(1) انظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 4، ص، 176وكذا د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 97.
(2) صحيح مسلم، حديث رقم، 532وانظر مسند أحمد حديث رقم 10663، 10665، 10731، 10916، 11110وكذا سنن الدارمي رقم 451.
(3) انظر د. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، ص 73.
(4) انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 2، ص 137(1/45)
على الأصقاع، فعرفوا وقائعه وكثيرا من شئون الخلافة واستضاءوا بنوره وتخلّقوا بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك حرصوا بعد وفاته على تطبيق أحكام الإسلام بالاعتماد على النص القرآني والسنة النبوية والرأي أو الشورى عند فقدان النص، فكان التفسير في عهدهم عمليا.
انطلقت مرحلة ثانية في التفسير بانصرام عهد الصحابة وهي مرحلة التابعين فهم ناس خلفوا الصحابة وتلقوا معارفهم عنهم، فهم تلاميذهم، نحوا منحاهم ونهجوا منهجهم في التفسير وبيّنوا لمن كان يعاصرهم ما خفي من آي الذكر العزيز الحكيم.
لقد أخذ التابعون عن الصحابة ما أثر عنهم في التفسير وبنوا فهمهم للقرآن على ما ورد في كتاب الله نفسه، وعلى الذي رواه الصحابة عن الرسول وعلى الذي رووه عن التفسير الخاص بالصحابة أو عما أخذوه بالرواية عن أهل الكتاب أحيانا أو بما تيسّر لهم من فضل الله من نظر صائب واجتهاد سليم.
وقد ذكرت روايات في كتب المفسرين عن أقوالهم في التفسير «قالوها بطريق الرأي والاجتهاد ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة (1).
ولما كان التفسير في المرحلة الأولى مقتصرا على المجمل غير خائض في التفاصيل مفسرا للغامض فحسب، فإن الغامض هذا تزايد بعد عهد الرسول والصحابة كما أشرنا إليه لذلك انبرى المشتغلون بالتفسير من التابعين بتوسيع دائرة التفسير بموازاة ما غمض عن الأفهام، فواصلوا بذلك الزيادة في تفسير القرآن بما حذقوه من لغة وعرفوه من وقائع ذات الصلة بعهد نزول القرآن الكريم وغيرها من الآليات اللازمة في هذا العمل الشريف «تفسير القرآن الكريم».
وأبرز العلماء ممن كان صحابيا ونتج عنهم مدارس لها رجالها وأتباعها نختصر التعريف بهم كما يأتي: (2)
__________
(1) د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 101.
(2) انظر أحمد أمين، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط 10، 1965م، ص 152. وكذا د.
عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، ص، 243وكذا صبري متولي، منهج أهل السنة في تفسير القرآن الكريم، دار الثقافة، القاهرة، 1986م، ص 19.(1/46)
أمدرسة التفسير بمكة:
وهي مدرسة عبد الله بن عباس، وأشهر رجالها:
سعيد بن جبير (ت 95هـ): أخذ القراءة عن ابن عباس عرضا وسمع منه التفسير وهو ثقة عند علماء الجرح والتعديل.
مجاهد بن جبير (ت 104هـ): من أوثق أصحاب ابن عباس في التفسير:
اعتمد على تفسيره البخاري والشافعي وغيرهما. قال فيه سفيان الثوري: «إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك»، وهو يسمح لعقله بالنظر في النصوص (1).
عكرمة: مولى ابن عباس (ت 104هـ): لازم ابن عباس، وقد قال فيه البخاري: «ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة».
طاوس بن كيسان (ت 106هـ): روى عن العبادلة الأربعة، وقال في نفسه:
«إنه جالس خمسين من الصحابة».
عطاء بن رباح (ت 114هـ): غير مكثر في التفسير، ويتحرج من القول فيه بالرأي. قال: إنه أدرك مائتين من الصحابة (2).
ب مدرسة التفسير بالمدينة:
قامت على أبيّ بن كعب وأشهر رجالها:
أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي (ت 90هـ): أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بسنتين، هو من كبار التابعين، روى عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي بن كعب طبعا وقد أخرج له ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم والإمام أحمد من طريق: أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب. وهو إسناد صحيح.
__________
(1) ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، دار مكتبة الحياة، بيروت (د. ت)، ص، 10انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، المركز الشقافي العربي، ط 3، 1996م، الدار البيضاء، ص 144.
(2) انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 144.(1/47)
محمد بن كعب القرظي (ت 118هـ): روى التفسير عن الإمام علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وبالوساطة عن أبيّ بن كعب، وصف بأنه ثقة وعدل وورع ومكثر في الحديث وتأويل القرآن الكريم.
زيد بن أسلم العدوي (ت 136هـ): مولى عمر بن الخطاب، وصف بأنه ثقة عند الأئمة وهو عند أصحاب الكتب الستة، ووصف بغزارة العلم كذلك والنزوع إلى الاجتهاد أي تفسير القرآن بالرأي، روى مالك بن أنس أحد مأثوراته قوله: «إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم».
ج مدرسة التفسير في العراق:
قامت على الصحابي عبد الله بن مسعود وأبرز رجالها:
علقمة بن قيس النخعي (ت 62هـ): اشتهر بالرواية عن ابن مسعود وعرف بعلمه وهو عند أصحاب الكتب الستة.
مسروق بن الأجدع الهمداني الكوفي (ت 63هـ): روى عن الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهم. غزير العلم إمام في التفسير، خبير في المعاني.
الأسود بن قيس النخمي (1) (ت 75هـ) فقيه: قيل إنه ثقة وزاهد وكثير الصوم. روى لابن مسعود وأبي بكر وعمر وعلي وحذيفة وبلال وغيرهم.
مرة الهمداني (ت 76هـ): روى عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وغيرهم وعن الشعبي وغيره من أصحابه، وهو عند أصحاب الكتب الستة.
عامر الشعبي بن شراحيل (ت 109هـ): روى عن عمر وعلي وابن مسعود.
الحسن البصري (2) (ت 110هـ): قيل إنه فصيح بارع التأثير في سامعيه.
روى عن عليّ وابن عمر وأنس وعدد من الصحابة والتابعين، وهو من كبار علماء التابعين جمع بين العلم والعمل والعبادة. من الطبقة الثالثة للمعتزلة (3) كثير العلم
__________
(1) انظر محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 10، ص 105.
(2) انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 39.
(3) انظر أحمد بن يحيى بن المرتضى، باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، اعتنى بتصحيحه توما أرنلد، دار صادر بيروت، ص 12.(1/48)
بالقرآن ومعانيه بالغ الفصاحة، بلغ من سنّه تسعا وثمانين (1). وقد ذكر ابن تيمية أنه: «إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين» وذكر أبرزهم منهم: سعيد بن جبير (ت 95هـ)، ومجاهد (ت 103هـ)، وعكرمة (ت 105هـ)، والحسن البصري وعطاء بن رباح (ت 115هـ) (2).
قتادة بن دعامة السدوسي البصري العربي الأصل (ت 107هـ)، من كبار علماء التابعين. روى عن أنس وأبي الطفيل وابن سيرين وعكرمة وعطاء بن أبي رباح.
وللعلماء موقفان من الأخذ بأقوال التابعين في التفسير:
الأول: رافض الأخذ بها كالذي نقل عن الإمام أحمد، ذكرت له روايتان. في الأولى قبول، وفي الثانية رفض. واختار غيره عدم الأخذ بتفسيراتهم لعدم توفير السماع لهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن قولهم في التفسير لم يحمل على النبي مثلما هو عليه تفسير الصحابي، ولأنهم لم يشاهدوا القرائن وأحوال نزول القرآن، ولهذا جوّزوا خطأهم في فهم المراد من النصوص القرآنية، وقالوا عنهم بأنه من الممكن أن يظنوا دليلا ما ليس كذلك، ومن أنّ عدالة الصحابي ثابتة نصا (3). أما هي لديهم فغير منصوص عليها.
وذكر بعض الدارسين ما نقل عن أبي حنيفة أنه قال في هذا السياق: «ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيّرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال» (4).
__________
(1) انظر أحمد بن محمد الأدنروي، طبقات المفسرين، ج 1، ص 13.
(2) انظر أصول التفسير، تحقيق فريال علوان، ص، 67والسيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 189، ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 3، ص 444.
(3) نظر الإمام أحمد بن محمد الحراني الحنبليّ (ت 695هـ)، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، ط 3، 1397هـ، ص، 55قال الرسول عليه السلام:
«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ»، و «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
(4) نظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 129.(1/49)
وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخذ بأقوال التابعين في التفسير ليس حجة.
قال ابن تيمية: «وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة في التفسير يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم وهذا صحيح، أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة» (1) ثم بيّن ابن تيمية القيمة الذاتية لتفسير التابعين في موضع آخر قائلا: «من التابعين من تلقي جمع التفسير عن الصحابة كما قال ابن مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية وأسأله عنها» (2). وقد رأى ابن القيم الجوزية (ت 751هـ) ما رآه شيخه في تثمين الأخذ بأقوال التفسير عن التابعين ومن أنها لا تخلو من قيمة، غير أنه تحفّظ وقال بألا يساق قولهم في التفسير إلا للاستئناس به أو للاستيضاح لا للاحتجاج والاستدلال وذلك لكثرة انتشارهم واتساع المشاكل في عهدهم لدرجة استصعب التحكم فيها جميعا (3).
أما الموقف الثاني فوافق فيه علماء كثيرون على الأخذ بأقوال التابعين في التفسير منهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية مؤسسين على أن التابعين تلقوا تفسيرهم عن الصحابة بدليل قول ابن مجاهد السابق وما قاله الثوري فيه: «إذا جاءك التفسير عن ابن مجاهد فحسبك» (4).
وقد أوجب بعض العلماء اتّباع التابعي إذا كان ما أفتى به غير مخالف فيه للصحابي وللتابعي مضيفا أنّ الغالبية يفرّقون بين الصحابي والتابعي (5).
وإنه من المهم أن نحدد خاصيات التفسير في هذه المرحلة كما يلي:
أولا: لم يقع التحري في الإسرائيليات والنصرانيات بل تساهلوا في سماع تفاصيلها فيما أشار إليها القرآن الكريم، وذلك فيما ورد من الأحداث اليهودية
__________
(1) مقدمة في أصول التفسير، ص 45، 46.
(2) م ن، ص 10.
(3) انظر د. صبري متولى، منهج أهل السنة في تفسير القرآن الكريم، دار الثقافة القاهرة 1986م، ص 72، ص 182.
(4) ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، ص، 10وكذا القرطبي، الجامع لأحكام القرآن الكريم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 1، ص 39.
(5) انظر ابن القيم، أعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الجيل، بيروت 1973م، ج 4، ص 156.(1/50)
والنصرانية، فأوردها التابعون في تفاسيرهم بكثرة بغير فحص ونقد، نقلوها عمن أسلم من أهل الكتاب ممن كان على دراية بديانتهم السالفة وذا معرفة بعلمائهم.
ولا يخفى ما للديانتين من تلبّس بخرافات وأساطير وأباطيل بفعل ما لحقها من تحريف، لذلك فهي تسعى إلى تشويه الحقائق في بنيان الأمة الإسلامية بهدف التشكيك في الدين الإسلامي. ولم يكن الباحثون ليتركوا هذه المسألة هكذا وإنما عنوا بها فحصا وتمحيصا فقسّموا الإسرائيليات إلى ثلاثة أقسام:
منقول عن رسول الله، فهو صحيح أوله شاهد من الشرع، فهذان مقبولان ممدوحان. وما علم كذبه ومخالفته للشرع أو النقل، فهو مردود لا يروى. وما لا يعرف صدقه ولا كذبه فلا نصدّقه ولا نكذّبه وهو المسكوت عنه، ويجوز لنا أن نذكره للاستشهاد لا للاعتقاد. وفي هذا قال ابن تيمية: «ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد» (1). وقد جوّز ابن كثير رواية هذا النوع ونحا منحاه محمد حسين الذهبي ولم يوافق أحمد شاكر على ما ذهب إليه معلّلا بأن مجرد روايته مع تفسير القرآن الكريم إقرار له وتصديق له (2). ونحن نعتقد أن الغالب منه لا فائدة فيه.
ثانيا: احتفظ التابعون في تفسيرهم بطابع التلقي والرواية المتميزين بطابع التخصص حيث يعنى أهل مصر مثلا بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم، وعلى هذا المنوال روى أهل الكوفة عن ابن عباس وأهل المدينة عن أبيّ بن كعب وأهل العراق عن ابن مسعود.
ثالثا: بدأت تصطبغ تفسيرات هذه المرحلة بالصبغة المذهبية، فظهر الخلاف المذهبي في تفسيرها، لذلك اتهم قتادة بن دعامة السدوسي (ت 117هـ) بالخوض في القضاء والقدر وبأنه قدري (3). وكان الأمويون يمنعون الناس من الرواية عن
__________
(1) مقدمة في أصول التفسير، ص 42.
(2) انظر د. عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة، المدخل إلى التفسير، ص، 251وكذا موسى إبراهيم الإبراهيم، تأملات قرآنية بحث منهجي في علوم القرآن الكريم، دار عمار الشهاب، الجزائر، ص 81.
(3) انظر محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 7، ص 632.(1/51)
علي كرّم الله وجهه فكان الراوي يقول: «عن أبي زينب» كما كانوا يمنعونهم من تسمية أبنائهم بعلي والحسن والحسين وما إلى ذلك. وعرف تفسير الحسن البصري في هذه المرحلة وهو ينزع فيه إلى إثبات القدر (1)، فإنه فيما يرى ابن تيمية يدل على التنوع ولا يعكس أي تضاد أو تعارض (2).
المرحلة الثالثة: عصر تابعي التابعين:
ظهر بعد عصر التابعين أئمة من تابعي التابعين من علماء الحديث (3) جمعوا التفسير عن كل من سكن في أقطارهم من الصحابة والتابعين باعتباره بابا من أبواب الحديث الذي جمع إليه يومئذ جلّ العلوم الإسلامية بمعنى أنه لم يكن التفسير منفصلا عن الحديث، وإنما رواه الأعلام الجامعون ممتزجا بالحديث غير مرتب ترتيب المصحف الشريف ولا منظما تنظيمه على نسق السور والآيات، وإنما روي في إطار الحديث مفسرا لآية أو شارحا أحكاما فقهية أو دائرا حول غزوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو مبينا لإحدى القضايا الاجتماعية التي تخصّ عهد الرسول أو الصحابة أو التابعين.
ولما بدأ عصر التدوين في أواخر عهد بني أمية وأوائل عهد العباسيين جمعت الأحاديث المتشابهة مفصولة عن غيرها، ورتبت فيها الأبواب كالذي قام به مالك (4) في الموطأ: جمع فيه أحاديث الأحكام ورتبها، وكالذي فعله محمد بن إسحاق في جمعه أحاديث السيرة، فكان هذا إيذانا باستقلال العلوم عن الحديث، فأخذ التفسير حينئذ خطوته الثالثة في الانفصال عن الحديث وأصبح علما قائما
__________
(1) انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 131، وما بعدها.
(2) انظر مقدمة في أصول التفسير، ص، 45وكذا السيوطي، الإتقان، ج 2، ص 183وما بعدها.
(3) مثل يزيد بن هارون السلمي (ت 117هـ)، وشعبة بن الحي (ت 160هـ)، ووكيع بن الجراح (ت 197هـ)، وسفيان بن عيينة (ت 118هـ)، وروح بن عبادة البصري (ت 205هـ)، وعبد الرزاق بن همام (ت 211هـ)، وآدم بن أبي إياس (ت 220هـ). واسحاق بن راهويه (ت 238هـ) وعبد بن حميد (ت 250هـ): انظر أحمد بن محمد الأدنروي (من علماء القرن الحادي عشر، طبقات المفسرين، ص 31 وما بعدها. وكذا أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 2، ص، 139د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 143، 144.
(4) أنظر مالك بن أنس أبو عبد الله الأصبحي (ت 179هـ)، الموطأ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، مصر (د. ت)(1/52)
بذاته، له أصوله ومناهجه ومدارسه المتعددة، فكان التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي أو بالمعقول (1) والتفسير اللغوي والتفسير القصصي.
وهكذا بدأ التفسير المستقل (2) المرتب حسب ترتيب المصحف شاملا كل القرآن الكريم على أيدي علماء منهم: ابن ماجة (ت 273هـ)، وابن جرير الطبري (ت 318هـ)، وابن أبي حاتم (ت 327هـ)، وأبو الشيخ بن حبّان (ت 369هـ)، والحاكم (ت 405هـ)، وأبو بكر بن مردويه (ت 410هـ).
ويميل بعض الدارسين كأحمد أمين (3) إلى أن الفرّاء (ت 207هـ) أول من فسّر القرآن آية آية في تتابع يوافق ترتيب المصحف، سنده في هذا الميل ما قاله ابن النديم (ت حوالي 385هـ) عن عمر بن بكر الذي كتب إلى الفراء يخبره بما طلبه منه الحسن بن سهل عن الشيء بعد الشيء من القرآن، فلما تعذر له ذلك كتب إلى الفراء يستجمع لنفسه أصولا منها أو كتابا يجعله مرجعا فيها، فجمع الفراء أصحابه في المسجد وقال لمؤذن يقرأ القرآن: «اقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها، ثم توفى الكتاب كله، فقرأ الرجل وفسر الفراء. فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله ولا أجد أحدا يزيد عليه» (4)، وقد رفض هذا من بعض الدارسين على أساس أنه لا أولية للفراء في هذا، وإنما الأمر لا يعدو أن يكون خطة العصر.
والملاحظ عن هذه المراحل أن التفسير خطا فيها خطوات وتدرّج كالآتي:
أأن التفسير هو النقل عن طريق الرواية.
ب إن تدوينه باعتباره بابا من أبواب الحديث جعله من حيث النشأة فرعا من فروعه.
ج تدوين التفسير باعتباره علما منفصلا مستقلا رغم متابعة المحدّثين منهجهم في روايته ممتزجا بالحديث.
د تدوينه باعتباره تفسيرا بالمأثور رغم أنه تجاوز الرواية بالإسناد إلى اختصار الأسانيد.
__________
(1) يندرج ضمن هذا النوع من التفسير ما كان ذا مسحة كلامية: عقلية أو صوفية أو وجدانية.
(2) انظر د. مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 15.
(3) ضحى الإسلام، ج 2، ص 140، 141.
(4) الفهرست، دار المعرفة، بيروت (د. ت)، ص 99.(1/53)
هـ تدوين التفسير بما اختلط فيه الفهم العقلي بالتفسير النقلي. ورأى كثير من المفسرين فيما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» أنّ ما يلزم هو: ألا يبدو رأي في النص القرآني قبل استكمال الأدوات العلمية وأساليبها ومعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ إلخ. وقد ذكر الزركشي خلاصة شروطها التي تبيح التفسير بالرأي وهى (1):
النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم مع التحرّز عن الضعيف والموضوع.
والأخذ بقول الصحابي إذ تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام وخصهم البعض بأسباب النزول ونحوها لا مجال للرأي فيه.
والأخذ بمطلق اللغة على أن يقع الاحتراز من صرف الآيات إلى ما يدل عليه الكثير من كلام العرب.
والأخذ بما يقتضي الكلام ويدل عليه قانون الشرع وهو النوع الذي يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم: دعا به لابن عباس «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».
رابعا: ظهور الفرق الإسلامية:
لم يثبت في دواوين الحديث الشريف ردّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد من الصحابة على اختلاف طبقاتهم فيما وصف به الله تعالى نفسه الكريمة لأن الصحابة فهموا ما ذكره الرسول وما صعب فهمه لديهم سألوه عنه، فكان بيّنه لهم. فهم سكتوا عن الكلام في الصفات (2)، ولم يفرّقوا بين صفات ذاته تعالى وصفات أفعاله، إنما أثبتوا له صفات أزلية: العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة. وكان كلامهم في هذا واحدا مؤكدين على ما أطلقه الله تعالى على نفسه دون مماثلة خلقه وبغير تشبيه، فنزّهوا الله تعالى دون تعطيل. أجروه كما ورد في القرآن ولم يعمدوا إلى
__________
(1) انظر البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 156.
(2) انظر الأشعري (ت 310هـ)، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، ج 1، ص 9.(1/54)
بحث وحدانية الله، ولا إلى إثبات النبوة بالاعتماد على كلام أو نظر عقلي فلسفي، هذا في القرن الأول الهجري.
ولكنّ البحث في العقائد تنوع في العهد العباسي تنوعا نتج عنه نشوء علم الكلام الذي يمثل أحد ثلاثة أضلاع تمثل جميعها فيما يبدو الفلسفة الإسلامية، وهي (1):
أالفلسفة الإسلامية المتمثلة في الفلاسفة المسلمين أمثال الكندي (ت 252هـ) والفارابي (ت 339هـ)، وابن سينا (ت 428هـ)، وابن رشد (ت 595هـ).
ب علم الكلام، وأهم فرقه: الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة والأشاعرة.
ج التصوّف باتجاهه السنّي عند الغزالي (ت 505هـ) أو اتجاهه الصوفي عند الحلّاج (ت 309هـ) (2)، ومحيي الدين بن عربي (ت 638هـ) (3).
وقد عرّف الشريف الجرجاني (ت 740هـ) علم الكلام قائلا: «الكلام علم باحث عن أمور يعلم منها المعاد، وما يتعلق به من الجنة والنار، والصراط والميزان والثواب والعقاب». وقيل: «الكلام هو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة عن الأدلة» (4).
وعرّفه ابن خلدون (ت 808هـ) حاصرا تعريفه في نصرة اعتقاد السلف أهل السنة: «علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة» (5).
__________
(1) انظر نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام، الغائية عند الأشاعرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992، ص 5.
(2) انظر ابن النديم، الفهرست، دار المعرفة بيروت، ص 269، 270.
(3) انظر محمد فريد وجدني، دائرة معارف القرن العشرين، ج 6، ص 308وما بعدها.
(4) التعريفات، ضبطه وفهرسه محمد بن عبد الحكيم القاضي، دار اللبناني، بيروت، دار الكتاب المصري، القاهرة، ط 1، 1991م، ص 199.
(5) المقدمة، دار المعرفة، بيروت، (د. ت)، ص، 363وانظر تعريفه ووجه تسميته الكلام وكذا باسم النظر والاستدلال وعلم التوحيد والصفات والعلم المتعلق بالحكام الشرعية: صديق بن حسن القنوجي (ت 1307هـ)، أبجد العلوم، تحقيق عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية، بيروت 1978م، ج 2، ص 67، 68.(1/55)
لقد أرجع الباحثون نشأته إلى أسباب كثيرة (1): داخلية وخارجية. فالداخلية نتجت عن القرآن ذاته وطبيعة المسلمين أنفسهم. وأما الخارجية فمرجعها الثقافات الأجنبية والديانات الشرقية القديمة وإلى طبيعة العقل البشري نفسه.
أ: الدوافع الداخلية:
القرآن الكريم: يمثل المصدر الأول للدين الإسلامي عند المسلمين، أخذوا منه معارفهم وأقاموا علومهم التشريعية والأخلاقية والميتافيزيقية. دعا إلى التوحيد والتوبة وعرض للفرق والأديان المنتشرة في عهد الرسول رادّا عليها ناقضا قولها ومعرّفا لمنكري الأديان والإلهيات والنبوات بأدلة مختلفة، فذكر الشرك وردّ عليه كقوله: {فَلَمََّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى ََ كَوْكَباً قََالَ هََذََا رَبِّي فَلَمََّا أَفَلَ قََالَ لََا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}
[الأنعام: 76]. وردّ على الذين ألّهوا عيسى عليه السلام: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. وأبان الحجة في مسائل التكليف والجبر والاختيار، وذكرنا عن طائفة من المنافقين يوم (أحد) أنّهم قالوا (2): {هَلْ لَنََا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154]، وقالوا: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا [آل عمران: 145]، وردّ عليهم في قولهم وأمر الرسول أن يدعو دعوته ويجادل مخالفيه فقال تعالى: {ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجََادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وقد اقتدى العلماء بهذا المنهج في الرد على المخالفين، وتوسعوا في ردودهم مقابل اتساع المخالفين.
نضج العقلية الإسلامية وبحثها الخلافات الدينية المثارة: تجاوزت الطور الساذج في اعتناقها للعقيدة إلى طور البحث والنظر في مسائل كثيرة كالقدر خيره وشره أو الجبر والاختيار.
__________
(1) انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط 7، 1964، ج 2، ص، 1وكذا د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية. مدخل ودراسة، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 2، 1995م، ص 46.
(2) انظر الشهرستاني (ت 548هـ)، الملل والنحل، تحقيق أمير علي مهنا، علي حسن فاغور، دار المعرفة، بيروت، ط 4، ج 1، ص 29.(1/56)
القضايا السياسية: ذكر الأشعري (ت 330هـ) اختلاف المسلمين في هذا المجال:
الاختلاف في السياسة (1). وفي قتل عثمان (2) رضي الله عنه وفي بيعة الإمام علي رضي الله عنه بالخلافة (3).
وذكر البغدادي (ت 429هـ) اختلاف الصحابة في موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عمر بن الخطاب بأنه لم يمت، وبأنّ الله رفعه كما رفع عيسى عليه السلام، وزال الخلاف حين تلا عليهم أبو بكر الصديق قول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وفي موضع دفنه، وحسم الموضع بتدخل أبي بكر أيضا لما روى لهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «إنّ الأنبياء يدفنون حيث يقبضون»، فدفن في المدينة المنورة. وفي الإمامة التي أذعن فيها الأنصار لسعد بن عبادة في حين قالت قريش: إنّ الإمامة لا تكون إلا في قريش، وقد أذعنت الأنصار لها. واختلفوا في شأن = فدك =. وتوريث التركات عن الأنبياء، ولم يزل برواية أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لا يورثون» (4) لعدم قبوله من فاطمة حتى توفيت وعلي وتابعيه الهاشميين، واختلفوا في مانعي وجوب الزكاة وفي أمر عثمان وعلي (5).
وقد عدّ الشهرستاني الاختلافات: في حالة مرضه صلى الله عليه وسلم وفي مرضه، وفي موته، وفي موضع دفنه، وفي الإمامة، وفي أمر «فدك والتوارث»، وفي قتال مانعي الزكاة وفي نصّ أبي بكر على عمر بالخلافة وفي أمر عثمان وفي الإمام علي (6).
انتجت هذه الخلافات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يمكن تسميته بمصطلحات عصرنا أحزابا سياسية غير أنها لم تتخذ شكل الأحزاب المعاصرة، وإنما اصطبغت بالصبغة الدينية القوية في شكل فرق دينية أبرزها الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة. وكان
__________
(1) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ص 39.
(2) م ن، ص 49.
(3) م ن، ص 54.
(4) جاء في مسند أحمد الحديث رقم 9395: «إنّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركت بعد مئونة عاملي ونفقة نسائي صدقة» انظر سنن ابن ماجة رقم 228، والدارمي رقم 348.
(5) انظر الفرق بين الفرق، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت (د. ت) ص 14وما بعدها.
(6) انظر الملل والنحل، د 1، ص 28: (بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية).(1/57)
ذلك بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ففرقة أو حزب يرى (عليا) خليفة، وحزب يرى (معاوية) أحق بالخلافة منه، وحزب لا يراهما معا، وإنما يرى بأنه لا حاجة للخلافة، وحزب محايد لا رأي له، ولم يدخل في الخلاف.
إنّ المتمعّن في هذه الفرق وأسباب اختلافها يجدها سياسية بيد أنها تحتج في إطلاق أحكامها بالكفر والإيمان والجنة والنار، ولكن إطلاق الأحكام بالكفر أو الإيمان بين الفرق يرجع في حقيقته إلى أن الإسلام كان آنئذ في عنفوانه يضفي على النفوس المتعلقة به كل السعادة الروحية والدينية والدنيوية، لذلك غلفت الأحداث السياسية بالصبغة الدينية لأنها السمة الساطعة يومئذ في البيئة بين الناس فوظفت هذه النزعات الدينية ليفهم كل جانب الناس أنه يدافع عن الدين ليحقق هدفا سياسيا لا دينيا (1).
ولم يتوقف الخلاف هاهنا بل تطور في الإمامة هل هي بالنص أو بالتعيين؟ وهل تتم بعقد من أهل الحل والعقد؟ وهل ذلك واجب أو لا؟ وما طبيعة السلطة، أروحية هي أم زمانية؟ أم هما معا في آن واحد؟ وناصر كل فريق رأيه في هذا واعتمد التأويل فيما يتناغم مع ميله (2). وأصبح موضوع «الإيمان» محل جدل:
من هو المؤمن؟ وهل هو تصديق فقط أم أنه يتضمن العمل؟ وتفاصيل هذا الجدل بيّنة في خلفيات الفرق المذكورة وأصول مناهجها.
ونشأت مشكلة الجبر والاختيار في ظل تلك الظروف السياسية أيضا، لذلك عدّ الأمويون أن وصولهم إلى الحكم وسلطانهم على الناس وأفعالهم المخالفة في بعض الحالات للإسلام إنما هي بقدر من الله لا سبيل إلى دفعه من الناس، فنشأ عن عقيدة الجبر السائدة هذه معارضون سموا أنفسهم قدرية أولهم «معبد الجهنى (ت 80هـ)» الذي قيل: «إنه أتى الحسن البصري مع عطاء بن يسار قائلا: يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما أعمالنا على قدر الله» (3)، فهذا كله يمثل جزءا من عوامل نشأة علم الكلام.
__________
(1) انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 2، ص 5.
(2) د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة، ص 56.
(3) م ن، ص، 58.(1/58)
ب: الدوافع الخارجية:
رأينا العوامل الداخلية في ظهور الفرق وعلم الكلام. أما الدوافع الخارجية فيمكن عدّها أهم من سابقتها وبخاصة في نشوء علم الكلام وتعزيز موقف بعض الفرق التي كان من نتيجة الفتوحات الإسلامية أن وقع بينها وبين أصحاب الديانات الشرقية القديمة مناظرات أو بينها وبين المخالفين هنا وهناك في تلك البقاع الإسلامية المترامية الأطراف دون أن نغفل أصحاب الديانات التي سبقت الإسلام مثل اليهودية والنصرانية. ونلخص الأسباب الخارجية كالآتي:
1 - ما أثاره أصحاب الملل والنحل ممن دخل في الإسلام من تعاليم أديانهم تحت غطاء إسلامي.
2 - سعي بعض الفرق الدينية كالمعتزلة في تركيز غرضها وهو الرد على المخالفين للدين الإسلامي من خلال استجماع العدة اللازمة للإحاطة بمناهج الفرق الأجنبية وأقوالها المتسلحة بالفلسفة.
3 - تسلح المتكلمين بالفلسفة اليونانية للانتفاع بالمنطق واللاهوت اليونانيين في الجدل والردود. ونحن لا نعتقد الفرق بين المعارك الكلامية والمعارك الأخرى من الناحية «الاستراتيجية» لأن المتكلم بحاجة لأن يعرف خبايا الخصم، وما يتحصّن به ويدرك أدوات هجومه ودفاعه ليخوضها بما هو أقوى وأذكى.
إن هذه الأسباب مجتمعة إذا أضفنا إليها ما في الطبيعة البشرية من نزوع إلى التحول والتطور، ومن أنها لا تبقى على حال واحدة بفعل نضجها واحتكاكها بعضها ببعض وبتجارب غيرها تقف كلها وراء تكوّن هذه الفرق ونشوء علم الكلام الذي يمثل أحد أهم العلوم في علم الأصول.
خامسا: أنواع التفسير:
رغم تنوع مناهج المفسرين من لغوي إلى نقلي أو تأويلي، فإن دراساتهم ترجع إلى نوعين بارزين في تفسير القرآن الكريم هما: التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي.
والتفسير بالمأثور: أقدم النوعين، يفسر معتمده:(1/59)
أبما جاء في القرآن نفسه، يكون معنى الآية في موضع آخر أكثر تفصيلا.
ب أو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير.
ج أو بما ثبت نقله عن الصحابة والعدول من التابعين مما يتعلق بشرح الآية وبذكر سبب نزولها وفيمن نزلت دون الأخذ بالاستنباط والاستنتاج. وهو منهج أساسي أصيل إن صحّ سنده وضبطت روايته كان الرجوع إليه واجبا.
وعلى هذا فهو أربعة أقسام:
الأول: تفسير القرآن بالقرآن وهو أفضل الأنواع. قال فيه ابن تيمية: «إن قال قائل ما أحسن طريق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر» (1).
الثاني: تفسير القرآن بالسنة، وهو يلي تفسير القرآن بالقرآن، ورد منه في كتب الحديث المعروفة كصحيح البخاري وسنن الترمذي.
الثالث: تفسير الصحابة وهو كثير، استشهد به ابن جرير الطبري كثيرا في تفسيره وغيره من المفسرين، ومن أمثلته: جاء في صحيح البخاري في تفسير قوله تعالى: {وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ} [المائدة: 90]، قال ابن عباس: الأزلام:
القداح يقسمون بها في الأمور. والنصب: أنصاب يذبحون عليها (2).
الرابع: تفسير التابعين، كثر هذا النوع من التفسير لا سيما في تفسير الطبري المذكور، عدّ حجة لدى البعض لأخذهم عن الصحابة.
أما التفسير بالرأي: فهو أن يعتمد المفسر في تفسيره على رأيه واعتقاده مجتهدا مستنبطا مستندا إلى الأصول اللغوية والشرعية، والبحث عن أدلة وقرائن من خارج النص ليستدل بها عن المعنى أو الحكم أو يرجّح أحدها بالقرائن، وذلك لأنّ معنى
__________
(1) مقدمة في أصول التفسير، 39.
(2) صحيح البخاري، ج 6، ص، 44وانظر الجامع الصحيح المختصر، الجزء الخاص بالتفسير، تحقيق د.
مصطفى ديب البغا، دار بن كثير اليمامة، بيروت 1987، تجد نماذج كثيرة استشهد بها للصحابة رضي الله عنهم.(1/60)
النص بالآية مثلا لا يعطي القطع في المعنى أو الحكم المراد، لذلك يحتاج إلى أدلة وقرائن خارجة عن ظاهر النص للقطع أو للترجيح، ويكون هذا فيما كان محتملا من النص. وقد بيّنا موقف العلماء من هذا النوع من التفسير (1).
ورغم اختلاف الدارسين في التفسير بالرأي، فإنّ بعضهم يرى هذا الاختلاف كله في اللفظ بين العلماء لا غير، لهذا لا مانع من أن يكون التفسير بالرأي قسمين: أولهما: يوافق كلام العرب وأساليبهم في القول يوافق القرآن والسنة، ويراعي شروط التفسير كلها ويكون المفسّر ذا تمكن علمي جيد وصاحب قدرات وموهبة متمكنا من الاستدلال الاستنباط والترجيح عند تعارض الأدلة، ويكون صحيح العقيدة ملتزما بواجباته الدينية لصوقا بالأدبيات الإسلامية، يخشى الله ويطيعه، وحين يكون التفسير مراعيا لهذه الأصول يصبح جائزا، وهو الذي سمّاه العلماء ممدوحا، فهو تفسير جائز مقيد بقيود (2). وثانيهما: لا يوافق قوانين اللغة العربية والأدلة الشرعية ولا يتوفر على شروط التفسير، وهو الذي نهي عنه لأنه موضع ذم. ومما يزيغ بالمفسر عن الصواب:
التهجم على بيان مراد الله من كلامه العزيز دون استكمال شروط المفسر وشروط التفسير.
التطرق في التفسير إلى ما لا يعلمه إلا الله وحده.
مجاراة الهوى.
التفسير بخلفية الفرقة أو المذهب المنتمى إليه، فيصبح المذهب متبوعا والتفسير تابعا.
القطع في معنى الآية بغير دليل وحجة، قال الله عز وجل: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] ذكر السيوطي (3) هذه الأقوال الخمسة عن
__________
(1) انظر (التفسير والتأويل) من هذا البحث، وكذا د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 246وما بعدها، وكذا محمد الصباغ، لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، ص 153، وكذا موسى إبراهيم الإبراهيمي، تأملات قرآنية، ص 81.
(2) انظر، المرحلة الثالثة من التفسير من هذا البحث، ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 253، 254.
(3) انظر الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 183.(1/61)
ابن النقيب (1) ثم ذكر عن المرجع نفسه أنواع العلوم في القرآن يحسن بالمرء أن يعرفها، وبالعالم أن يلتزم حدوده فيها وهي ثلاثة أقسام (2):
الأول: علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه وهو ما استأثر به من أسرار كتابه من معرفة كنه وغيبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا لا يجوز لأحد الخوض فيه.
الثاني: علوم أطلع الله عز وجل عليها من ارتضى من الأنبياء والرسل.
الثالث: ما علّمه الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم من علوم مما ضمنه القرآن الكريم من المعاني الظاهرة والخفية، أمره الله بتعليمها وهي صنفان: ما يجوز الكلام فيه إلا بالسمع كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات وقصص الأمم الغابرة، وأخبار ما هو كائن من الحوادث وأمر الحشر والميعاد. وما يؤخذ بالنظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ وهو نوعان: نوع اختلفوا في جوازه كتأويل الآيات المتشابهات، وآخر اتفقوا عليه وهو الاستنباط من العبارات والألفاظ.
ومن المفسّرين بالرأي عند الدارسين: الزمخشري (ت 538هـ) في تفسير «الكشاف»، والفخر الرازي (ت 606هـ) في «مفاتيح الغيب»، والقرطبي (ت 671هـ) في «الجامع لأحكام القرآن الكريم»، والبيضاوي (ت 685هـ) في «أنوار التنزيل وأسرار التأويل»، والخازن عبد الله بن محمد (ت 741هـ) في «لباب التأويل في معاني التنزيل» (3)، وأبو حيان الأندلسي (ت 745هـ) في «البحر المحيط في التفسير» والسيوطي (ت 911هـ) في «الجلالين»، والألوسي (ت 1270هـ) في
__________
(1) هو محمد بن سليمان بن الحسن العلامة جمال الدين أو عبد الله البلخي الأصل المقدسي الحنفي المفسّر المعروف بابن النقيب (ت 698هـ) له تفسير مشهور في نحو مائة مجلد. انظر أحمد بن محمد الأدنروي (من علماء القرن الحادي عشر الهجري)، طبقات المفسرين ص 258.
(2) انظر السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 183.
(3) يرى الباحثون أن البيضاوي لم يزد على أن اعتمد على الزمخشري لكنه ينقد مذهبه الاعتزالي وإن كان يذهب إلى ما يذهب إليه صاحب الكشاف وأحيانا. وأنّ تفسير الخازن علاء الدين أو الحسن مليء بالأخبار التاريخية والإسرائليات التي لم يسلم كثير منها أمام ميزان العلم الصحيح والعقل السليم. انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 282، 283، 294، 295.
يقول مثل جزائري: «الداب جيفة ومصارنو حلال.» وهو مثل يضرب للضرة تنتفع بأبناء ضرتها وتضمهم. وفي العربية: يأكلون خيرنا ويعبدون غيرنا.(1/62)
«روح المعاني» وهي تفاسير غلّب فيها أصحابها ما برعوا فيه من العلوم ذات النزعة العقلية أو الكلامية أو النحوية أو الطابع القصصي أو اللغوي وغيرها.
ويمكن القول في ضوء هذا: إن التفاسير أخذت عدة اتجاهات: لغوي وموضوعي وإشاري وفقهي وفلسفي ومذهبي.
يشمل الاتجاه اللغوي مسائل اللغة والنحو والإعراب والبلاغة، وقد قسمه بعض الدارسين (1) إلى ثلاثة أقسام: الأول: يتعلق بمفردات اللغة تضمن ما تعلق بكتب (غريب القرآن) (2). ولم يعرف من الكتب المذكورة فيها سوى «غريب القرآن» لابن قتيبة و «غريب القرآن» أو «نزهة القلوب» للسجستاني (ت. 33هـ)، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني (ت 502هـ). الثاني: تعلق بالنحو ومسائل الإعراب (3) الثالث: تعلق بالأساليب البيانية وهي تفاسير قصدت إلى كشف وجوه الإعجاز القرآني والجمال. وقد تأخّر هذا التوجه وحقلاه: القرآن الكريم، وما قام به المتكلمون والبلاغيون.
وأهم ما وصل إلينا منها: «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل» للزمخشري (ت 538هـ). وقد ألفه بناء على طلب جماعة من
__________
(1) انظر محمد الصباغ، لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، المكتب الإسلامي بيروت، ص 144وما بعدها.
(2) قيل: إن ابن عباس أول من ألف في هذا النوع. وقد رجّح الدارسون بأنه لم يدوّن فيه كتابا، وإنما جمعت أقواله ممن روى عنه. وألّف في هذا النوع أبان بن ثعلب البكري (ت 141هـ)، ومحمد بن السائب الكلبي الكوفي (ت 146هـ)، وابن عمر والسدوسي (ت 174أو 190هـ)، والسكاكى (ت 182هـ) وابن المبارك اليزيدي (ت 202هـ)، والنضر بن شمل (ت 203هـ)، وقطرب المستنير (ت 206هـ)، والفراء (ت 207هـ)، وأبو عبيدة معمر بن المعنى (ت 210هـ)، والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (ت 216هـ)، وأبو عبيدة القاسم بن سلام (ت 223هـ)، وابن سلام الجمحي (ت 231هـ)، وابن قتيبة (ت 276هـ)، وثعلب أحمد بن يحيى (ت 291هـ): انظر ابن النديم، الفهرست، ص 51، 52 وكذا محمد الصباغ لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، ص 146وما بعدها.
(3) ألّف فيه على الأشهر: الفراء (ت 207هـ)، والمبرد (ت 286هـ)، وثعلب (291هـ)، ويحيي بن علي التبريزي ومحمد أو البركات الأنباري (ت 577هـ) انقسم المصنفون فيه زمرتين الأولى اعتنت بالنحو كأبي حيان في البحر المحيط في التفسير، والثانية اهتمت بالإعراب كإعراب القرآن للزجاج (ت 311هـ) وإعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم لابن خالويه (ت 370هـ)، والتبيان في إعراب القرآن للعكبري (ت 616هـ).(1/63)
المعتزلة، وهو كتاب لم يسبق إليه لأنه بيّن فيه وجوه الإعجاز في القرآن الكريم وبلاغته. إنه أوسع كتاب في استجلاء هذه النواحي الجمالية في القرآن، وإبراز ما فيه من أضرب الإعجاز، وهو يمثل أضخم تفسير وصلنا من تفاسير المعتزلة.
وتناول المفسرون في الاتجاه الموضوعي (1) موضوعا واحدا كأن يأخذ الآية المتعلقة بهذا الموضوع ويفصل القول فيها مثل كتب الأحكام (2)، ومن أبرزها «أحكام القرآن» لمحمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ)، و «مجاز القرآن» للشريف الرضى.
وألف في الإشاري المتصوفة، وفي التفسير الفقهي كثيرون كالقرطبي، وفي التفسير الفلسفي الفارابي، وإخوان الصفا، وابن سينا.
أما التفسير المذهبي فألف فيه أعلام من فرق: المعتزلة والشيعة والخوارج والمتصوفة.
وبالنظر إلى صلة المعتزلة بالبحث وما يضفيه اسمهم من معاني ودلالات وصيت وشهرة ونكهة خاصة نرى بأنهم أولى من غيرهم في أن تعرف عوامل ظهورهم وتدرك أصولهم الفكرية لكونهم ذادوا بحزم عن الإسلام، وتجندوا لرد مطاعن المشككين فيه بمنهج يمكن القول فيه بأنهم خبروه من القرآن ذاته الذي يمثل محور الثقافة الإسلامية وأساسها المتين، وبلوروا ذلك فيما عرف بعلم الكلام فجادلوا وأدلوا بدلوهم في مسائل الجدال المطروحة بجدارة واقتدار لولا أنهم انبهروا لاحقا بالفلسفة وصاروا يطلبونها لذاتها وليست كما كانت في مستهل هبّتهم أداة لإفحام الخصوم كيفما كان مشربهم وبذلك صانوا الدين وردّوا مكايد الحاقدين عليه والمستغلقة أفهامهم فيه، فساعد ذلك أيضا على نشره والتعريف به، فمن هم المعتزلة؟ وما أصولهم الفكرية؟ وما الأسس التي بنوا عليها تفكيرهم؟
ذلك ما سنجيب عليه في الفصل الثاني.
__________
(1) انظر د. صبري متولى، منهج أهل السنة في تفسير القرآن الكريم، ص 131وما بعدها.
(2) انظر ابن النديم، الفهرست، ص 57.(1/64)
الفصل الثانى في المعتزلة وأصولهم
أولا: عوامل ظهور المعتزلة.
ثانيا: تسمية المعتزلة.
ثالثا: الأصول الخمسة.
رابعا: فى الأسس العامة لعلم الكلام.
خامسا: الأدلة.(1/65)
خامسا: الأدلة.
أولا: عوامل ظهور المعتزلة
1 - فك النزاع بين المسلمين:
لا تنشأ الظواهر الفكرية في المجتمعات البشرية من فراغ، وإنما تمتد جذورها في عمق البيئة التي نشأت فيها. إنها ظواهر يمكن أن تنشأ كذلك مما تفرزه التفاعلات الثقافية والفكرية التي تعكس في الغالب مواقف فكرية تنجرّ عن التقلّبات الاجتماعية والسياسية لهذه البيئة.
وليس لنا أن نتصور الفرق الكلامية بصفتها ظواهر فكرية بارزة خارج هذا الإطار وبخاصة فرقة المعتزلة، لأن نشوءها ونموها ونضجها كانت داخل هذه البيئة العامة للبصرة التي كانت تمثل مع الكوفة (1) نموذج المدن الراقية، جمعت كنوز المدائن وحضارة بابل والحيرة، وهما المدينتان اللتان تركزت فيهما مدنية العراق في زمن الأمويين حتى صار لفظ العراق معناه البصرة والكوفة، وهكذا تهيأت هذه البيئة لأن تجمع أجناسا وثقافات مختلفة وصراعات فكرية قوية أنتجت تقلبات سياسية متواصلة شهدتها في زمن الفتوحات لكونها كانت تشكل مع الكوفة مركزا للجيوش الإسلامية، وعرفتها إثر مقتل عثمان، وفي يوم الجمل، وإثر التحكيم بين أتباع الإمام علي وأصحاب معاوية (2).
لا شك في أن هذه المعطيات تمثل خضما أنتج تحولات عميقة ما فتئت تنمو وتنضج لتنشأ عنها صحوة فكرية وتطلعات جريئة ومواقف تفصح برأيها في كثير من القضايا على أساس النظر العقلي لأنها إفرازات هذا الجوّ المشحون الذي تميّز بالجدال والمناظرة منذ أواخر القرن الأول الهجريّ وبداية القرن الثاني في كثير من الأماكن والأقاليم، وساعد على ذلك ركود الفتوحات واستقرار الأمصار المفتوحة واكتشاف ثقافتها المتنوعة وما صادف من مشكلات اجتماعية وثقافية وسياسية
__________
(1) انظر أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 180.
(2) انظر د. مهدي المخزومي، مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو، دار الرائد العربي، بيروت، ط 3، 1986م، ص 12، 13.(1/67)
واقتصادية ونزاع وشقاق كان أبرزها نظرا ومناقشة واستصدار أحكام كحكم «مرتكب الكبيرة» (1).
ولا غرو في أن هذا الموضوع ديني المظهر سياسي المنشأ يعود في أصله إلى حوادث: معركة الجمل وصفين اللتين دارتا في الأحقّ بالخلافة ونجم عن تطور هذا الأمر خلاف دار حول الطرف المذنب، فوقع التباين في إطلاق الأحكام ما بين الخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة.
إن الخوارج أول من أثار هذه المشكلة في الفكر الإسلاميّ لا سيما بعد معركة صفين بين علي ومعاوية عند التحكيم. أكفروا الإمام عليا والحكمين أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وقالوا مجمعين «إن كل كبيرة كفر» (2)، بينما أخّر المرجئة الخالصة (3) حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة. وهم يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب في ثقة واطمئنان، وأن الأعمال شيء آخر: هو فعل الجوارح، وأن التصديق لا يزيله إتيان الكبيرة، فالمصدق العاصي مؤمن عاص لا يجرّده عصيانه من إيمانه عندهم وسيتولى الله حسابه، ويعدّون الخلود في النار خاصا بالكفار. أما المؤمن فإن الله يعفو عنه أو يعاقبه ويكون مصيره في النهاية الجنة (4).
__________
(1) كانت هذه الفكرة تعني معيار الكفر والإيمان بالنسبة إلى الخلفاء ثم امتدت لتصبح معيارا للكفر والإيمان للناس جميعا، فارتسمت من هذا المنطلق المبادئ التي أجمعوا عليها في إكفار علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل والراضين بالتحكيم ووجوب الخروج على الحاكم الجائر والإكفار بارتكاب الكبائر.
انظر، الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 133.
(2) الأشعري، مقالات الإسلامين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص، 167وكذا، د.
سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 144.
(3) هم أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، والقدرية، والجبرية، والمرجئة الخالصة.
أخذ لفظ المرجئة من معنيين: الأول للتأخير بمعنى «أرجأ» أي أخّر. والثاني للإرجاء بمعنى إعطاء الرجاء.
أرجأت فلانا أي أعطيته الرجاء. ويجوز أن يؤخذ اسم (المرجئة) من المعنى الأول لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية وعقد القلب أو من الثاني لأنهم رأوا بأنه لا يضر مع الإيمان معصيته كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة ليوم القيامة لا يحكم عليه في الدنيا بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار. انظر البغدادي (ت 429هـ)، الفرق بين الفرق، ص 25، 202وكذا الشهرستاني (ت 548هـ) الملل والنحل، تحقيق أمير علي مهنا وعلي حسن فاغور، ج 1، ص 161وما بعدها.
(4) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 229، 230وكذا، د. عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، ط 2، (د. ت)، ص 142.(1/68)
وقد أجمع الزيدية (1) من الشيعة على خلود صاحب الكبيرة في النار (2).
أما المعتزلة فإنهم أخذوا موقفا مغايرا لما سبق كله، هو منزلة بين المنزلتين، فليس مرتكب الكبيرة عندهم مؤمنا ولا كافرا، وإنما يسمى «فاسقا»، وحكمه ليس حكم الكافر ولا حكم المؤمن، وإنما يفرد له حكم ثالث، وهكذا يكون في المنزلة بين المنزلتين (3). فأفضت هذه المسألة إلى مفاهيم: الإيمان والكفر والفسق.
إن فصل المرجئة بين الإيمان والعمل فإنهم خالفوا قوله عزّ وجل: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} [العصر: 31].
بينما جعل الخوارج العمل جزءا من الإيمان لأنهم رأوا أنّ من وحّد وأخلّ بالواجب أو أتى بمحرّم فقد كفر كفرا أخرجه عن الدين. وقد ذكر ابن الجوزي (ت 597هـ).
أنهم كفّروا من خالفهم في مذهبهم أو ارتكب كبيرة أو قعد عن موافقتهم في القتال (4).
أما الشيعة فلم تجعل العمل جزءا من الإيمان كالخوارج، وإنما جعلت عوضه «الإمامية» فناقضت الخوارج في أمرين: الأول: تقديسهم الإمام عليا الذي تكفره الخوارج، الثاني: القول «بالتقية» (5) الذي تعدّه الخوارج جبنا وضعفا.
__________
(1) نسبة لزيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهم ثمانية فرق فيما رواه المسعودي (ت 346هـ) للشيعة: الجارودية والمرئية والأبرقية واليعقوبية والعقبية والأبترية والجريرية واليمانية، مروج الذهب ومعادن الجوهر، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، 1989، الجزائر، ج 3، ص، 259وص، 260 والزيدية إحدى فرق الشيعة الأربعة التي ظهرت بعد زمان الإمام علي مع الإمامية التي يجمعون فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي باسمه وأظهر ذلك وأعلنه. وأن أكثر الصحابة قد ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الإمامة لا تكون إلّا بنص وتوقيف، وأنها قرابة، وجائز للإمام الأخذ «بالتقية»، وفرقة الكيسانية يجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل. وهم أصحاب كيسان مولى الإمام علي بن أبي طالب. وفرقة الغلاة التي يذهب الدارسون أنهم من الملاحدة والشيعة أنفسهم يتبرءون منهم: انظر، البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 21، والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 169وما بعدها، ود. عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفي في الإسلام، ص، 127ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 2، ص 3وما بعدها.
(2) انظر: الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 149، والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 34.
(3) انظر: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، الشركة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر 1990م، ص 337والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 62.
(4) انظر تلبيس إبليس، تحقيق د. السيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1985هـ، ص 116.
(5) التقية: المداراة والمصانعة مبدأ أساسي عندهم وجزء من الدين يكتمونه عن الناس إنه نظام سري يدعون(1/69)
لكن لأهل السنة في هذه المسألة موقف آخر: رأوا الحق مع الإمام علي في محاربة من حارب. وعدّوا أصحاب الجمل مخطئين في قتال علي ولم يروا خطأهم كفرا أو فسقا يجرّدهم من الشهادة (1).
ونخلص من هذه المفاهيم إلى أن الخوارج أثروا في المعتزلة لأنهم أيدوهم في تسمية المذنبين الخالدين في النار كفرة، فكلاهما يعدّ كافرا تارك الواجبات والمقدم على المفاسد والمقبّحات وهي حال الفاسق (2). ويتجلى هذا التأثير في موافقة واصل وعمرو ابن عبيد الخوارج في تأبيد عقاب صاحب الكبيرة في النار مع قولهما بأنه موحّد وليس بمشرك ولا كافر، ولهذا قيل للمعتزلة: إنهم مخانيث الخوارج لأن الخوارج خلّدوا أصحاب الذنوب في النار، وسموهم كفرة وحاربوهم، وخلّدهم المعتزلة كذلك (3) إلّا أنهم لم يجرءوا على تسميتهم كفرة وعلى قتال فرقة منهم فضلا عن قتال مخالفيهم (4). ولكن كيف يمكن أن نفهم موافقة المعتزلة لهم في هذا التوجه وهم الذين سموا مرتكب الذنب «لا مؤمنا ولا كافرا» وأن له حكما ثالثا؟ ألا يطرح هذا شيئا من التناقض؟ الجواب هو أن واصل ابن عطاء وضح المقصود حين قال: إن صاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا عن غير توبة يخفف عنه العذاب، وتكون دركته فوق دركة الكفار (5).
ويلتقي المعتزلة مع الخوارج أيضا في الإمامة بأنها اختيار من الأمة يفوض لها اختيار من يطبق أحكام الله سواء كان من قريش أم من المسلمين، والمهم أن يكون عدلا مؤمنا دون مراعاة نسب، وذلك ما يلزم في كل عصر، وبهذا اتفقوا كذلك مع السنة لأنهم يرون الوصول إلى سدة الحكم ناتجا عن موافقة الأمة ومبايعتها أو
__________
فيه لإمامهم المختفي خفية رغم إظهارهم الطاعة لمن بيده الحكم، فإذا ما أصبحوا في موقف قوة ثاروا بالسلاح على الدولة القائمة الظالمة في نظرهم. انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي، ص، 470، 57ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 2، ص 8، 9. وكذا، ج 3، ص 180.
(1) انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 119.
(2) انظر: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 355، 356.
(3) انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 117.
(4) انظر: م ن، ص 119.
(5) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 62، 63.(1/70)
انتخابها. يبقى الشيعة الذين قصروا الإمامة على أولاد الإمام علي من فاطمة بالنص: إذن كان جو المشاكل في عمومه ذا طابع اجتماعي وسياسي عمق الاختلاف وقوّاه، ونتج عنه متنازعون انضووا في هذه الفرق السابقة التي يأتي فيها موقف المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين ليعكس توجها يهدف في أساسه إلى وضع حل للنزاع القائم متطلعين به إلى إرضاء الأطراف كلها سواء بالنسبة إلى عثمان وقاتليه وخاذليه (1) أم بالنسبة إلى أصحاب الجمل والمتلاعنين، فقالوا في عثمان ومن قتله وخذله: لا يخلو أحد الطرفين من الفسق والخطأ دون أن يعينوا ذلك.
وهو ما قالوه في أصحاب الجمل وفي المتلاعنين. وهو المبدأ الذي قال به واصل بن عطاء واعتمده أيضا لفك النزاع الدائر حول الخلافة، ونحن بإزاء هذا أمام أمرين:
الأول: قول بعض الدارسين إن تأثير الخوارج في المعتزلة شارك في نشأة الاعتزال وظهوره (2).
الثاني: قول غيرهم إن ظهور المعتزلة تزامن مع مشاكل حيوية كأنهم قاموا لحلها بذاك المبدأ الذي توسطوا فيه تقريبا بين المتنازعين متوسمين إرضاء الأطراف كلها (3). وعلى هذا يكون ظهورهم قد ارتبط بمحاولة حسم الخلاف بين المسلمين وحلّه، لأن مواقف الخوارج وسلف الأمة من التابعين والمرجئة لم تكن تعكس حلولا مقنعة للناس لذا يبدو أنّ المعتزلة أرادوا طرح البديل في الحكم المعروف فيما حدث بين واصل وأستاذه الحسن البصري بإجماع أغلب الدارسين ليكون مبدأ ظهورهم كاتجاه فكري عقيدي (4).
ولكن ابن الراوندي اتهم المعتزلة من خلال واصل بن عطاء بالخروج عن الإجماع الذي رأى الحق فيه لا يخرج في «مرتكب الكبيرة» عن أحد ثلاثة الأقاويل: قول الخوارج في الإكفار وقول المرجئة، وقول الحسن البصري في النفاق. وقد رد عليه الخياط: «إن واصل بن عطاء رحمه الله لم يحدث قولا
__________
(1) نظر: زهدي جار الله، المعتزلة، ص 27.
(2) انظر: د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 160.
(3) انظر: زهدي جار الله، المعتزلة، ص 28.
(4) انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص، 118وكذا، الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق أمير علي مهنا وعلي حسن فاغور ج 1ص 6261.(1/71)
لم تكن الأمة تقول به فيكون قد خرج من الإجماع، ولكنه وجد الأمة مجتمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم، فأخذ بما أجمعوا عليه وأمسك عما اختلفوا فيه» (1)، ونفهم من هذا أن واصل بن عطاء أراد توحيد الفرق بهذا. وهو فيما يبدو قد تصور قبوله منهم جمعيا. ولا نرى تأثره في هذا الموقف بفكرة الوسط الأخلاقي عند أرسطو الذي يذكر له بعضهم قوله في أحد حكمه: «لا فضيلة إلا في التوسط» (2) أو «الفضيلة وسط بين طرفين» ولا بقول أفلاطون في بعض محاوراته بمنزلة بين الحسن والقبح على أساس «أن الشيء إذا كان غير حسن فليس من الضروري أن يكون قبيحا» (3)، وإنما كان تأثره بقيم القرآن الكريم والسنة النبوية التي دعت إلى الاعتدال والتوسط لأن تأثير الفلسفة اليونانية لم يكن إلا لاحقا بدءا من الكتب التي ترجمها حنين بن إسحاق (ت 260أو 262هـ) وغيره. وهي الترجمة التي أثبتها التاريخ ولم يكن للمذكور فيها قبلها هذا الثبت (4).
2 - التأثر بالقرآن الكريم:
تعد المنزلة بين المنزلتين الأساس الأول الذي قام عليه المعتزلة، فهو بمثابة المسألة الأخلاقية التي أحدثت ترابطا وانسجاما بينهم لكنهم علموا أن استمرارهم كفرقة منظمة لا بد من أن يبنى على مبادئ عقلية أخلاقية مؤسسة على العدل والحق أو على ما شاكل ذلك من القيم والمثل، وهو ما عرف عندهم «بالأصول الخمسة» التي سنخصّها بالتفصيل المناسب فيما يأتي من هذا البحث، ولكننا نقول الآن: إنه لا يستحق عندهم اسم الاعتزال إلّا لمن قال بها مجتمعة لأنها الخط العام للفكر الاعتزالي الذي اتفقوا عليه رغم اختلافهم في المسائل الفرعية. وهم عملوا على نشر الأفكار التي تتضمنها أصولهم بين المسلمين بخاصة في زمن المأمون، الذي
__________
(1) الانتصار، ص 337.
(2) انظر: ول ديورانت، قصة الفلسفة، مكتبة المعارف، بيروت، ط 14055هـ 1985م، ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، ص 898887.
(3) انظر: زهدي جار الله، المعتزلة، ص 6469.
(4) انظر: القسطنطيني مصطفى بن عبد الله، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الكتب العلمية، بيروت 1992م، ج 1، ص 681217. وكذا دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 49.(1/72)
مثّل أزهى فتراتهم إلا أنهم عمدوا بعد أسلوب الإقناع والحجة في عهده إلى إكراه الناس على اعتناق أصولهم فناقضوا بهذا أحد مبادئهم وهو «حرية الاختيار».
وإذا كانت رقعة الفتوحات قد اتسعت للمسلمين فإنهم عثروا فيها على ناس تدين بديانات شتى: يهودية ومسيحية ومجوسية (1) وصابئة (2) وسمنية (3)، فتعايشوا معهم، ويمكن أن يكونوا تأثروا ببعض آرائهم لمحافظة الداخلين في الإسلام على عقائدهم القديمة أو لأنهم دخلوا في الإسلام بغير إيمان صادق ولهدف أو بدافع الحقد لمحاربته والكيد له من الداخل، لهذا لما عمّ الجدال بين المسلمين وجد أصحاب تلك الديانات الفرصة ليثيروا معتقداتهم في الناس، وهم الذين دخل بعضهم الإسلام حقدا عليه وعلى أتباعه لأنه أزاح ملكهم وقوّض أركانه، وهو ما جعلهم يحاربونه من الداخل بترويج ما يتنافى مع العقيدة الإسلامية. ولم تكن مسائل الإلهيات على حيويتها معهودة الطرح بين المسلمين قبل، فشعروا بالارتياب أمامها، وامتنعوا عن الخوض فيها مكتفين بما في القرآن الكريم والسنة الشريفة في الأول، وأبوا البحث الديني خارجها وردّوا الجدل فيه، لأنهم كانوا متمسكين بالإيمان المؤسس على النقل.
غير أن بعضهم لم يكن ليتجنب هذه القضايا ذات الصلة بالبحث الإلهي رغبة في الاستطلاع، وحبا في المعرفة فاستقصاها ودقق فيها باحثا وممحّصا ليقارنها لاحقا بالتعاليم الإسلامية وهم الموسومون بالقدرية الأوائل والمعتزلة بعد ذلك والجهمية (4)، لأن مقارعة الخصم تلزم الدراية بأدواته وبمنهجه وبتنظيمه، لهذا توسع هؤلاء في العلوم وشغفوا بالفلسفة، وكلفوا بالآداب ليقدروا على محاجة المخالفين وإفحامهم دفاعا عن الدين الإسلامي ونصرة لمبدأ التوحيد وهي النية التي ساورت المعتزلة أصلا واعترف لهم بها. قال جولد زيهر: «كانوا يهدفون إلى
__________
(1) ذكر الشهرستاني أهم فرق المجوسية: الثنوية الزرادشتية والمانوية والديصانية والمزدكية والمرقيونية. انظر الملل والنحل، ج 1ص 274وما بعدها.
(2) الصابئة أو الصابئون جمع صابئ من مال وانتقل إلى دين آخر وانظر م ن، ج 1، ص 275.
(3) كانت قبل الإسلام وهي من القائلين بالتناسخ. انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 270وما بعدها.
(4) نظر: زهدي جار الله، المعتزلة، ص 30: غلب لقب الجهمية على المعتزلة في زمن خلافة المأمون، وسنبيّن في ألقاب المعتزلة من هذا البحث لاحقا كيف تبرم المعتزلة منه.(1/73)
مقصد نبيل أن يحفظوا كلام الله الذي يقدسونه من مطاعن المتشككين على وجه يطابق العقل» (1) ثم قال: «لم يصدروا عن حرية الرأي بل عن الورع والتقوى» (2).
ولكن نودّ الوقوف عند أثر هذه المعتقدات في المعتزلة، فقد ذكر الشهرستاني اتفاق المعتزلة مع الزرادشتية من الفرس في الجبر والاختيار في أن الله لا يفعل الشر، ولا يحق أن ينسب إليه (3)، فهل كان هذا يقطع في أخذ المعتزلة عنهم في الجبر والاختيار رغم ذهاب أحمد أمين إلى هذا أيضا حين قال: «وقول المعتزلة في الجبر والاختيار () مأخوذ من هذه الديانة»؟ (4).
أما التأثر بالفرق اليهودية فإن الدارسين ذكروا مشابهة بين المعتزلة وفرقتي «المقاربة واليوذعانية» في إثبات الفعل حقيقة للعبد (5)، فأنت تجد الدارسين يقولون بمشابهة المعتزلة لهذه الفرقة أو تلك أو اتفاقها معا، وكأنهم يقصدون تأثرهم بها.
وهو ما نجده لدى الشهرستاني الذي بين شبه مذهب أبي هاشم بن الجبائي (ت 321هـ) لمذهب نسطور الذي انتشر انتشارا واسعا. قال: «وأشبه المذاهب بمذهب نسطور في أحوال أبي هاشم (6) من المعتزلة، فإنه يثبت خواص مختلفة لشيء واحد ويعني بقوله واحد، يعني الإله. قال: هو واحد بالجوهر، أي ليس
__________
(1) مذاهب التفسير الإسلامي، ص 133.
(2) م ن، ص 134.
(3) انظر قواعد هذا المذهب: أ. للعالم قواعد قانونية يسير عليها. وظواهر طبيعية ثابتة. ب. وجود نزاع بين القوى المختلفة: الخير والشر والصلاح والفساد والطهارة والخبث وهي حاصلة من امتزاج النور والظلمة وامتزاجها علة وجود العالم، وهما يتقاومان إلى غاية غلبة النور للظلمة والخير للشر. الملل والنحل، ج 1، ص 281. وكذا أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 100. وكذا د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية ص 62وما بعدها.
(4) فجر الإسلام، ص 104.
(5) انظر الشهرستاني: الملل والنحل، ج 1، ص، 258ود. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 74 وما بعدها. و = المقاربة واليوذعانية =: نسبوا إلى يوذعان من همدان، قيل: كان اسمه يهوذا. حث على الزهد وتكثير الصلاة والنهي عن اللحوم وتعظيم أمر الداعي، وزعم أن للتوراة ظاهرا وباطنا وتنزيلا وتأويلا، وقد خالف بتأويلاته عامة اليهود وخالفهم في التشبيه وأثبت الفعل للعبد وقدر الثواب والعقاب عليه. وهم في اليهود كالباطنية في المسلمين. انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ص 258وهامش رقم 1.
(6) انظر فرقة الجبائية، البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 184183وما بعدها، والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 90إلى 96.(1/74)
هو مركب من جنسين بل هو بسيط وواحد. ويعني بالحياة والعلم أقنومين جوهرين أي أصلين مبدأين للعالم ثم فسر العلم بالنطق والكلمة ويرجع منتهى كلامه إلى إثبات كونه تعالى موجودا، حيا، ناطقا كما تقول الفلاسفة في حدّ الإنسان إلّا أن هذه المعاني تتغاير في الإنسان لكونه جوهرا مركبا وهو جوهر بسيط غير مركب» (1)
وقال نسطور (2): إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة ليست زائدة عن ذات الله ولا هي هو واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام لا على طريق الامتزاج كما قالت الملكانية (3)، ولا عن طريق الظهور كما قالت اليعقوبية (4) الذين ذهبوا إلى أنّ الكلمة انقلبت لحما ودما، فصار الإله هو المسيح وهو الظاهر بجسده بل هو هو.
وقد أخبرنا عنهم القرآن الكريم بقوله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ ثََالِثُ ثَلََاثَةٍ} [المائدة: 73].
بيد أن إقليم البصرة لم يكن موضع تأثر بفرق المسيحية الملكانية والنسطورية واليعقوبية من طريق المتاجرة والحروب، وإنما عرف كذلك حوارا بني على الحجة وأسّس على الموعظة الحسنة حين فتحه المسلمون الذين حرصوا على تنفيذ قوله تعالى: {لََا إِكْرََاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. وهكذا دأب الحوار الإسلامي مع فرق هذا الإقليم ومعتقدات المذاهب الشائعة فيه بمفهوم التفسير الأسطوري للوجود، وهو مفهوم رفضه الإسلام لأن الإسلام يرفع من قيمة
__________
(1) لملل والنحل، ج 1، ص 269.
(2) قيل: حكيم ظهر في زمن المأمون وإليه ينسب مذهب النسطورية، تصرف في الإنجيل وحكم فيه رأيه فقال: الله واحد ذو أقاليم ثلاثة: الوجود والعلم والحياة. وقيل كان بطريك بالقسطنطينية. قال ببدعته في القرن الخامس حين اعترض على تسمية مريم العذراء بوالدة الإله. انظر ابن حزم الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 1، ص، 111والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 268والقرطبي، الإعلام بما في دين النصارى، ص 243، وابن تيمية، الجواب الصحيح، ج 4، ص 25124987.
(3) قيل نسبة إلى ملك الروم وهي فرقة تقول إن الله اسم لثلاثة معان فهو واحد ثلاثة وثلاثة واحد. وقد ردّ عليهم القرآن الكريم {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ ثََالِثُ ثَلََاثَةٍ} [المائدة: 73] انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 266وما بعدها. وكذا الباقلاني، كتاب التمهيد، عن بتصحيحه ونشره الأب رنتشارد، يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت 1957 (باب الكلام عليهم في الأقانيم)، ص 79 وما بعدها. وكذا د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 82.
(4) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 266إلى ص 277.(1/75)
الإنسان، ويدعوه إلى التجديد، واعتماد العقل في النظر والتبصّر، لذلك سخر من الخرافة التي تمسكت بها معتقدات ليست قليلة قبل الإسلام، وحرص على الربط بين العقل والإيمان وواجه المجسّمين بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:
11] {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} [الأنعام: 103]، وتحدى الاثنينية (1)
والقول بالتعدد وفكرة الأقانيم. ويظهر ذلك في السور المكية.
ورد على اليهود والنصارى: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ ذََلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ يُضََاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قََاتَلَهُمُ اللََّهُ أَنََّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وغيرها من الآيات الكريمة التي ردت على هذه المعتقدات الزائغة الباطلة في حوار هادئ وجدال قائم على الإقناع والبرهان والدليل.
وهكذا زاد الإسلام البصرة تميزا في حركتها الفكرية والثقافية بما أضفاه على بيئتها من عقلية خاصة ومنهج متميز وعقيدة موحدة (2) في الوقت الذي كانت تموج في جو المجسمة والمشبهة والقائلين بالتعدد متخذا من نص القرآن الكريم والحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أساسا للحوار والحسم في الجدال.
وإن ذهب بعض الدارسين مثل سعيد مراد وزهدي (3) جار الله وغيرهما إلى القول بتأثر المعتزلة بما سبقهم من معتقدات ومذاهب، فنحن لا نجزم به، ولكن ليس معنى هذا أننا ننكر تسرب ثقافات هذه الأمم وبعض معتقداتها إلى المسلمين عمن أسلم منهم لأننا ذكرنا أنهم أصناف: داخل في الإسلام بحسن قصد وداخل لمآرب ووصولية وداخل بدافع الحقد والكيد. وإنما نرى ما رآه أحمد أمين في ردّه على المستشرق (فون كريمر) الذي ذكر أن فرقة المعتزلة نشأت من النصرانية من ذاك الجدل الذي وقع بين آباء الكنيسة في مسألة القدر وصفات الله تعالى. قال أحمد أمين: «لا أرى هذا الرأي بل أرى أن مسألة القدر صدرت عن المسلمين أنفسهم» (4)
__________
(1) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، ص 60وما بعدها.
(2) ننبه إلى أن العقيدة الإسلامية تتفق مع العقيدة التي نادى بها أنبياء بني إسرائيل بتوحيدهم وإثبات الصفات واليوم الآخر وتنزيههم الأنبياء عن كل نقص وتتباين معها لما لحقها من تحريف في التوراة. انظر: د.
علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 74وما بعدها.
(3) انظر: مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 163وما بعدها. وكذا المعتزلة، ص 29وما بعدها.
(4) ضحى الإسلام، ج 1، ص، 344وكذا زهدي جار الله، المعتزلة، ص 41.(1/76)
لتضمن القرآن الكريم آيات ظاهرها الجبر كقوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللََّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ} [النحل: 36]، وغيرها من الآيات التي ظاهرها الاختيار: {فَمَنْ شََاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وأشار إلى الأحاديث النبوية التي تعرضت إلى القدر قبل أن يفتح المسلمون الشام والعراق (1). وهذا يؤكد قدم فكرة القضاء والقدر لدى المسلمين، ولا يعدو أن تكون المسألة فكرة تحدث حول كل دين فهي تنوولت في اليهودية والنصرانية والمجوسية ناهيك أنّ أغلب أصول المعتزلة قد وضعت أول ما وضعت للرد على مخالفيهم من المسلمين كجهم ابن صفوان (ت 128هـ) (2) ثم على مخالفيهم من النصارى واليهود والفرس.
وعليه، فإن النص القرآني بما حواه من حقائق الإيمان وخصائص الشريعة الإسلامية تعدّ من العوامل الأساسية التي صقلت الذهنية الإسلامية، «وكونت عقليتها، وميزت منهجها في تحصيل المعارف»، يدل على ذلك رقي العلوم الإنسانية وانطلاقها في مدارسة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. إن هذه المعالم النقية بما تتضمنه من روح التجديد لهي الأصل الحقيقي في نظرنا لظهور المعتزلة.
3 - الدفاع عن الإسلام والرد على المخالفين:
لقد خالفت فرق ومذاهب كثيرة تعاليم الإسلام وقواعده، وهي ترجع في أصولها إلى اليهود والنصارى والفرس، فحرصت الفرق الإسلامية الأولى، وبخاصة المعتزلة، على القيام بدور الدفاع الديني والرد على المخالفين ممن أدرك الألوهية على أساس التشبيه أو الجدل في مسألة القدر (حرية الإرادة). بين الله تعالى تفاوتا في النظر بين هذه المعتقدات بالنسبة إلى الإسلام، فقال سبحانه في أهل الكتاب: {وَلََا تُجََادِلُوا أَهْلَ الْكِتََابِ إِلََّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنََّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنََا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلََهُنََا وَإِلََهُكُمْ وََاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:
__________
(1) م ن، ج 1، ص 345.
(2) أبو محرز رأس الجبرية، ظهر معتقده في ترمذ، قتل في آخر ملك بني أمية. وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم أشياء. انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 211، 212، 213، 214، 215وكذا، الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 97، 98، 99.(1/77)
46] فالأمر بحسن معاملتهم واضح، وقال في النصارى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قََالُوا إِنََّا نَصََارى ََ} [المائدة: 82]. أما اليهود المشركون فقال فيهم عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النََّاسِ عَدََاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:
82]، فهم أصحاب خبث ودسائس تدل عليه أفعالهم إلى زماننا.
وأضاف بعض الدارسين خطرا أشد على الإسلام والمسلمين وهي البدع والضلالات التي نشرها المتظاهرون بالإسلام في مجتمعه كيدا ومكرا وحقدا من هؤلاء الفارسيين (1) الذين حزّ في نفوسهم زوال مجدهم أو قل أفول دولتهم بسبب الإسلام والمسلمين لذا حاربوهما دينا ودولة بالتفريق بين المسلمين من خلال الرافضة (2) والجهمية (3) الجبرية والثنوية (4) وكل فرق المجوسية (5) ليشوهوا عقيدة الإسلام ويزعزعوا كيان دولته، فكان هذا عاملا من العوامل القوية لظهور المعتزلة كي يصدّوا حبائل هذه الفرق ويهتكوا غوامضها وأسرارها ويفضحوا ضلالها وهم سعوا لهذه الغاية بتأليف الكتب التي ترد عليهم أو باللجوء إلى مناظرة أهلها.
وكان واصل متصدرا لهذا الدور وتبعه عمرو بن عبيد وأبو هذيل العلّاف صاحب الجهود الكبرى في هذا المسعى، والنظام وغيرهم من المعتزلة الذين تجنّدوا لخدمة الدين في هذا المقصد على وجه يوافق العقل دون أن يتنصّلوا عن قصد من النقل
__________
(1) انظر: زهدي جار الله، المعتزلة، ص 44، 45، 46، 47.
(2) سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر. أو لأنهم رفضوا الدين، وقيل: إن زيدا لما ناظره الإمامية في إمامة الشيخين ورأوه يقول بإمامتهما دون تبرّؤ منهما تفرقوا عنه، فقال لهم: «رفضتموني» لهذا، سموا رافضة لقول زيد لهم: «رفضتموني». انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 137، ص 88، ص، 89وقيل: لتوليهم أهل البيت سموا رافضة، لهذا قال الشافعي:
إن كان رفضا حبّ آل محمد ... فليشهد الثّقلان أني رافضي
وانظر البغدادي: الفرق بين الفرق، ص 21. وكذا، ابن خلدون، المقدمة، ص 156. وقد سبق أن ذكرنا أهم فرقها.
(3) سبق التعريف به.
(4) هم أصحاب الاثنين الأزليين: النور والظلمة. انظر ابن النديم، الفهرست، ص، 458وكذا، الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 290.
(5) هم عبدة النيران القائلون بأن للعالم أصلين: نور وظلمة. وقيل: المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات وهم أقدم الطوائف، أصلهم من فارس، نبغوا في علم النجوم. انظر الملل والنحل، ج 1، ص 274وكذا هامش رقم 3.(1/78)
أو أن يقدموا على فهم النص القرآني باتجاه ناقد حرّ. وهو ما لا يجوز صدقه على أوائلهم في أقل تقدير (1). وبهذه التعبئة من أجل الدفاع عن الدين والرد على المخالفين غدوا ملجأ الخلفاء لمجادلة معارضي الإسلام، فاستعان المأمون بثمامة بن الأشرس وبأبي الهذيل العلاف ومعمر بن عباد السلمي الذي أرسله الرشيد إلى ملك السند لمناظرة السمني. وسعوا مع ذلك إلى الدعوة للإسلام بأنفسهم أو بمرسولين على الرغم من أنّ هذه المحمدة مفصلة في تآليفهم وملمح إليها في غيرها لا غير.
4 - التحكم في أدوات المناظرة:
تسلحت اليهودية والنصرانية والمجوسية بالفلسفة ومزجت ديانتها بها ورتبتها على أصولها فدرسها المعتزلة وتمرّسوا بها ليجابهوا هؤلاء الخصوم بأدلة عقلية غير مكتفين بالأدلة النقلية لأن المخالفين لا يؤمنون بها، فساعدهم هذا التوجه على إفحام معارضيهم وإبراز مكامن الدين الإسلامي وفضائله، وذلك ما جعلهم يحققون الدفاع عن الدين من ناحية ويقربونه من أفهام الأمم والشعوب من ناحية ثانية، وهذا يزيد من انتشاره وذيوعه. بيد أن مسعاهم في خدمة الدين انصرف لاحقا إلى المباحث الفلسفية كالتوفيق بين الدين والفلسفة والتعامل مع أقوال فلاسفة اليونان باعتبارها مكملة للدين! والميل إلى المسائل العقلية الصرفة كالجوهر والعرض والحركة والسكون. وقد تسلم لواءها بعدهم الفلاسفة مثل الكندي (ت 252هـ) والفارابي (ت 339هـ)، وابن رشد (ت 595هـ).
ثانيا: تسمية المعتزلة
رأينا العوامل العامة التي أثرت في ظهور المعتزلة ونشأتهم ولكن ما الأسباب التي أدت إلى تسميتهم بالاعتزال؟.
كشفت الظروف التي مثلت صدر الإسلام وما بعدها بقليل أن الدلالة اللغوية للفظ الاعتزال كان المعني الوارد في القرآن الكريم بمعنى التنحّي. قال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] أي لما رموا بالنجوم منعوا من
__________
(1) انظر: جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 133.(1/79)
السمع. وقال عز وجل: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان: 21] أي لم تؤمنوا بي فلا تكونوا علي ولا معي. قال الزمخشري يفسرها: «فلا موالاة بيني وبين من لم يؤمن فتنحّوا عني واقطعوا أسباب الوصلة عني» (1) غير أنّ تطور الأحداث السياسية والاجتماعية المصطبغة بالدين جعلته يدل لاحقا على ذلك الموقف السلبي غير المتوافق مع الفكر الإيجابي الذي يحترم الدين ويلتزم بقواعده وأخلاقه. وهو موقف بعض الصحابة حين اعتزلوا الفتنة لكي لا يتورّطوا فيما يبعدهم عن جوهر الدين، لكن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد منحا الاعتزال بعدا فكريا مميزا مبنيا على نظرة عقلية ليست بعيدة عن الصورة المنطقية.
فإذا كان هذا يكشف تحولا دلاليا لمفهوم الاعتزال في خضم تلك الأحداث حتى واصل بن عطاء، فمتى ظهر اسم الاعتزال والمعتزلة ظهورا تاريخيا رسميا؟
لقد اختلف المؤرخون والدارسون في أصل منشإ الاعتزال، فمنهم من رده إلى الظروف السياسية، وبعضهم ربطه بالزهد والعزوف عن منافع الدنيا وبهارجها وجعله البعض الآخر مرتبطا بموقف ديني ذي غاية سياسية، ورآهم غير هؤلاء وقفا على تلك القضية التي ذهبت جلّ الدراسات إلى ذكرها، وهي المثارة في مجلس الحسن البصري في القدر والمنزلة بين المنزلتين مع تلميذه واصل الذي انضم إليه عمرو بن عبيد (2) وغيره ممن رأى هذا الرأي.
إنّ من ردّ تسمية الاعتزال إلى الظروف السياسية (3) ربطها بما ذكره الطبري (4)
في مراسلة قيس بن سعد (ت 60هـ) للإمام علي بن أبي طالب يخبره عن رجال معتزلين طلبوا منه الكف عنهم ولأن يتركهم وحالهم إلى وضع يكون فيهم بعد ذلك رأي، فذكر له بأنه لا ينوي التعجيل في حربهم بل فضّل ملاينتهم بين ذلك لعل الله يفرّق بينهم وبين ضلالهم.
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص 503.
(2) انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 20، 118، 121.
(3) انظر أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 290، وكذا د. سعيد مراد. مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 19.
وكذا د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، ص 12وما بعدها.
(4) تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر (د. ت)، ج 4، ص 554.(1/80)
وقد عزا الطبري في موقف آخر التسمية بالاعتزال إلى تجنب الناس الحرب والقتال، قال: «أما عن الأحنف بن قيس: قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أقاتل رجلا ابن عم رسول الله، أمرتموني ببيعته. اختاروا مني واحدة من ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله عز وجل من أمره ما قضى أو اعتزل فأكون قريبا» (1).
وعلل بعضهم تلقيب المعتزلة بهذا الاسم لاعتزال أتباع علي الحسن بن علي لما بايع معاوية واعتزلوا معه معاوية والناس جميعا ولزموا منازلهم (2) واكتفوا معها بالمساجد للعلم والعبادة في موقف حيادي سلبي. وقيل: إنّ التسمية راجعة إلى اعتزال بيعة الإمام علي، وهو ما ذكره أحمد أمين: «وسموا هؤلاء المعتزلة لاعتزالهم بيعة علي» (3).
إذن فالتسمية اعتمدت في الصدر الأول للإسلام لمعنى مخصوص هو تجنب الدخول في النزاع بين المتنازعين لأحد أمرين: إما لأن الرأي لم يتبلور بعد أمام النزاع القائم أو اقتنع بعدم إصابة الطرفين كليهما، لهذا دأب المؤرخون على إطلاق هذه التسمية على الجماعة التي لم تشارك في القتال بين علي وعائشة رضي الله عنهما يوم الجمل وعلى الذين لم يدخلوا في النزاع بين علي ومعاوية (4).
ولا مراء في أن هذه الأقوال تدل على أن كلمة «الاعتزال» قد أطلقت قبل مدرسة الحسن البصري بوقت طويل بمعناها اللغوي: «التجنب والتنحّي»، وليس بالمعنى الاصطلاحي الذي يعني جماعة تتبنّى خمسة أصول من ترك أحدها لم يكن منهم.
وهذا يجعلنا نستبعد أن يرجع أصل التسمية إلى الظروف السياسية الناتجة عن اعتزال المتحاربين لتجنب الفتنة لأن القول به يدخل كثيرا من الناس لا يعتقدون ما
__________
(1) م ن، ج 4، ص 498، وكذا أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 290.
(2) انظر: د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 198.
(3) فجر الإسلام، ص 290.
(4) أنظر: م ن، ص 290. وكذا د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 21.(1/81)
يراه المعتزلة في أصولهم الخمسة. وذهب بعض الدارسين المحدثين أمثال جولد زيهر الذي علل تلقيبهم كذلك بزهد رؤسائهم الأوائل وعزوفهم عن نعومة الحياة منطلقين من ميل تعبّدي صوفي اعتزالي زاهد أوصلهم لاحقا إلى هذه الدائرة العقلية التي عكست موقفا لحركة معارضة للمعتقدات الشائعة يومئذ (1).
ونحن نرى تأسيس التسمية على هذا الأساس مردودا لأننا لا نعتقد أن يكون مشتقا من اعتزال أمور الدنيا من جهة التصوف لفقدا الدليل. ونتفق مع من ردّ على جولد زيهر ومن وافقه في تأسيسه بأن الزهد لون من السلوك دعا إليه الإسلام وحث عليه، فقد قال الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلََا تُسْرِفُوا} [الأعراف:
31] وفي الحديث الشريف: «أفضل الناس مؤمن مزهد» (2). والزهد مرحلة من مراحل التصوف الإسلامي يتفق مع الشريعة، ولا ينكر أصلا من أصولها ولا فرعا من فروعها ولا يلغيها في أي طور من أطواره (3)، بالإضافة إلى أن الفرق واضح بين التصوف والاعتزال لأن المتصوفة يثبتون الصفات، ولا يقولون بحرية الإرادة الإنسانية ويقولون بقدم القرآن ويثبتون الرؤية في الدنيا والآخرة والمعتزلة على النقيض من ذلك (4).
ونحن نعتقد أن أقرب الآراء إلى الصحة من هذه الآراء في تلقيب المعتزلة بهذا اللقب إنما هو الرأي الذي علل التسمية مرتبطة بموقف ديني ذي بعد سياسي وجعله مرتبطا بعملية الجدل التي وقع حولها شبه إجماع بين المؤرخين والدارسين في مجلس الحسن البصري وذلك لعدة أسباب: الأول: أنّه مهما اختلف في نسبة الانفصال فإن منشأه تمحور حول مجلس الحسن البصري وتلميذيه واصل وعمرو ابن عبيد، وهذه مسألة ذائعة ترجح صحته. الثاني: أنّ جوهر الجدل ديني لأن الناس اختلفوا في أصحاب الذنوب لا سيما إثر فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز
__________
(1) انظر: نللينو، بحوث في المعتزلة من التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، دار النهضة العربية القاهرة، 1965، ص 179.
(2) صحيح مسلم:، 1666وانظر جامع الترمذي، 1116.
(3) انظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي: الناشر: هامش ص 202.
(4) انظر د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص، 26.(1/82)
فحكم فيه واصل بالفسق والخوارج كالأزارقة (1) بأنه مشرك ومعهم الصفرية (2)
الذين استثنوا الأطفال، وكالنجدات (3) الذين رأوا صاحب الذنب المجمع عليه من الأمة بالتحريم كافرا، بيد أنهم عذروا من لم يعلم التحريم بجهل حتى تقوم عليه الحجة، ورآه الإباضية (4) كافرا كفر نعمة لا كفر شرك، وذهب غيرهم إلى أنه منافق، وقال علماء التابعين مع أكثر الأمة: صاحب الكبيرة مؤمن لأنه عارف بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى، غير أنه فاسق وفسقه لا ينفي عنه إيمانه وإسلامه (5). الثالث: أنّ الجدل بني في الأصل على أمر سياسي لارتباطه بالخلافة. الرابع: أنّ جذور المسألة سياسي، هذا صحيح لكنه تلوّن بلون ديني لأن الأحداث يومئذ لم تكن لتخلو من الاصطباغ به فعوض أن يحدد الحكم المفترض بالقول «هو صحيح أو خطأ» نقل إلى ماله صلة بالعقيدة والدين فتبودلت أوصاف (الإيمان والكفر والنفاق والفسق) (6) وهو الملحوظ لدى تلك الفرق الإسلامية. هذا عن منشأ التسمية ولكن من أطلق اسم المعتزلة؟ تعددت الآراء في هذا الأمر وقد رأينا حصرها كالتالي:
أولها: ما ذهب إليه المسعودي (ت 346هـ) دون أن يحدد من أطلق عليهم ذلك ذاكرا بأنهم سموا معتزلة لاعتزال صاحب الكبيرة المؤمنين والكافرين (7).
ثانيها: أطلقها عليهم أهل السنة، فقيل لواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ولأتباعهما معتزلة لأنهم اعتزلوا قول الأمة حين قالوا: إن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر (8).
ثالثها: يؤكد أن الحسن البصري هو الذي أطلق عليهم هذا الاسم إثر تجنب واصل حلقته فقال له عندئذ: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة (9).
__________
(1) نسبة إلى نافع بن الأزرق الحنفي.
(2) نسبة إلى أصحاب زياد بن الأصفر.
(3) نسبة إلى أصحاب (نجدة الحروري بن عامر): انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 167وما بعدها.
(4) نسبة إلى رئيسهم عبد الله بن إباض التميمي.
(5) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 117، 118.
(6) انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، 1964م، ج 3، ص 7، 6.
(7) انظر مروج الذهب، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية للنشر، 1989م ج 3، ص 277.
(8) انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 21.
(9) انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 62.(1/83)
رابعها: نسبت التسمية إلى قتادة بن دعامة السدوسي (1) الذي دخل مسجد البصرة فأمّ حلقة لواصل بن عطاء معتقدا أنها حلقة الحسن البصري، فلما تبين له الأمر قال: إنما هؤلاء المعتزلة (2).
ولسنا بحاجة إلى أن نعود إلى ما ذهب إليه بعض العلماء المحدثين في أمر تسمية المعتزلة أمثال جولد زيهر وأحمد أمين لأننا تعرضنا له.
خامسها: ما ذكره المعتزلة أنفسهم كالإمام ابن المرتضى الزيدي اليمني (3) من أن المعتزلة هم الذين سموا أنفسهم كذلك لا غيرهم، وقال بأنهم لم يخالفوا إجماع الأمة، وإنما عملوا بالمجمع عليه في الصدر الأول من الإسلام، ولم تكن مخالفتهم إلّا للأقوال المحدثة والمبتدعة، فاعتزلوها (4). وبهذا يبيّن سبب تسميتهم «معتزلة» وهو رأي يحسن بنا أن نتأمله.
فهل يمكن أن نعدّ ما ذهب إليه تبريرا يخفي حساسية أمام هذه التسمية؟ ولم هذه البرهنة التي ذكرت له عنهم في بيان فضل الاعتزال بالاستناد إلى القرآن الكريم والحديث الشريف؟ (5)، فقد اعتمد على قوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} [المزمل: 10] والهجر كما يفهم من الآية لا يكون إلّا باعتزالهم، وعلى ما روي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من اعتزل الشر سقط في الخير»، وقال: «ستفترق
__________
(1) من أعلام البصرة وهو تابعي من أصحاب الحسن البصري وأخذ عنه وكانت له مناظرات بالكوفة والبصرة، من الطبقة الرابعة. انظر أحمد بن يحيي بن المرتضى باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص 24.
(2) انظر طاش كبرى زاده (أحمد بن محمد بن مصطفى ت 968هـ)، مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، تحقيق كامل بكري، عبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة القاهرة، 1968م ج 2 ص، 32وكذا زهدي جار الله، المعتزلة ص، 27وكذا د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 2726وما بعدها.
(3) انظر: باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص 2. وهو أحمد ابن يحيى ابن المرتضى الزيدي (ت 840هـ) المعتزلي، وهو أحد كبار أئمة الزيود الشيعية في اليمن. قال بعضهم:
يأتي كتابه: (المنية والأمل) في الأهمية بعد (الانتصار) للخياط المعتزلي، وأرجع الأهمية لأن المؤلف معتزلي رغم كونه إماما كبيرا من أئمة الزيود الشيعية، ولأنه اعتمد في تأليف «المنية والأمل» على كثير من كتب الاعتزال القديمة الضائعة. انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 378.
(4) انظر: م ن، ص 3.
(5) انظر: م ن، ص 2.(1/84)
أمتي على بضع وسبعين فرقة أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة»، وهو مروي عن سفيان الثوري الذي قال فيه لأصحابه: «تسموا بهذا اللقب لأنكم اعتزلتم الظلمة» (1) بيد أنهم قالوا له: «سبقك به عمرو بن عبيد وأصحابه». وروى سفيان بعد ذلك تسمية أخرى: «الفئة الناجية» بدل «المعتزلة».
ويمكن القول: إن ألقاب المعتزلة تتوزع بين ما أطلقه عليهم الخصوم وبين ما رضوه هم لأنفسهم، فمنها ما يقتصر على بعض فرقهم، ومنها ما اشتق من إحدى عقائدهم الثانوية (2)، ولكن أغلب الألقاب شملتهم جميعا، ودلت على أنهم ينضوون تحتها كافة. ونقتصر عليما اشتركوا فيه لنقف عنده وقوفا قصيرا وهي:
القدرية:
يرجع هذا اللقب إلى فرقة القدرية التي سبقت المعتزلة. ذكر الدارسون أن معبد الجهني وغيلان الدمشقي كانا من رؤسائها الأوائل (3)، ويحتوي لفظ «القدرية» معنيين: الأول: يرتاح إليه المعتزلة وهو الذي ينسب فيه الفعل إلى قدرة الإنسان وإرادته واختياره. والثاني: يرفضونه لأنه ينفي حرية الإرادة والاختيار. وقد سموا قدرية لقولهم بقدرة العبد على أفعاله بمفرده وباستقلال من دون الله تعالى، وبهذا نفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه. وهو ما ذكره البغدادي (4) إلّا أنه رد على المعتزلة مفهومهم في قدرة العبد بما يراه أهل السنة «أن لا خالق إلّا الله، ولا يكون إلّا ما شاء الله، وأن الاستطاعة مع الفعل، وأكفروا الميمونية (5) الذين قالوا في
__________
(1) انظر م ن، ص 2، 3.
(2) منها: أالحرقية لقولهم الكفار لا يحرقون إلّا مرة.
ب المفنية لقولهم بفناء الجنة والنار.
ج الواقفية لقولهم بالوقف في خلق القرآن.
د اللفظية لقولهم ألفاظ القرآن مخلوقة.
هـ الملتزمة لقولهم الله تعالى في كل مكان.
والقبرية لإنكارهم عذاب القبر، انظر المقريزي، الخط والآثار، ج 4، ص، 169نقلا عن زهدي جار الله، المعتزلة، ص 10. هامش رقم 1.
(3) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 61وزهدي جار الله، المعتزلة ص 14، ص، 166وكذا، حسن السيد متولي، نشأة فرق علم الكلام، مطبعة دار الناشر مصر، 1968م، ص 35وص 41.
(4) انظر: الفرق بين الفرق، ص 94، 114، 115.
(5) نسبة إلى ميمون بن عمران الذي قال بالقدر والاستطاعة قبل الفعل، انظر الجرجاني، التعريفات، ص 248.(1/85)
باب القدر والاستطاعة بقول القدرية عن الحق»، ونصّ الشهرستاني على هذا اللقب حين قال: «ويسمون أصحاب العدل والتوحيد، ويلقبون بالقدرية» (1).
غير أن المعتزلة رفضوا هذه التسمية وذهبوا إلى أنّ خصومهم أولى بها منهم لأنهم رأوا أن من يثبت القدر لله تعالى أحق أن ينسب إليه من نافيه أي أن التسمية أولى بأن تطلق على الذين قالوا بالقدر وخيره وشره من الله تعالى. ولعل الإصرار واضح عند المعتزلة والأشاعرة كليهما على تسمية كل منهما الآخر (بالقدرية) للسبب الذي ذكرناه. بيد أن ابن قتيبة (ت 276هـ) قال: إنّ المعتزلة لما رأوا أن الذي يثبت القدر لله تعالى أحق أن ينسب إليه من نافيه، فإنهم أثبتوا القدر لأنفسهم ونفوه عن الله عز وجل. فهم أحق بأن يسموا قدرية (2).
وثمة ما يدل على تنصل المعتزلة وأهل السنة كليهما من هذه التسمية قال الباقلاني (ت 403هـ): «فإن قالوا أي المعتزلة فأنتم تكثرون ذكر القدر والقول بأن كل شيء قضاء وقدر فيجب لزوم هذا الاسم لكم. قيل لهم: نحن محقون في هذا القول ولا يلزم المحق اسم الذم وأنتم تكثرون ذكر تقديركم لأفعالكم وتفرّدكم بملكها وخلقها وتكذبون وتقرون في هذه الدعوى فوجب لزوم الاسم لكم» ثم قال: «وجملة القول أن «قدريا» نسبة إلى القول بالباطل في القدر» (3).
أهل التوحيد والعدل:
يستحسن المعتزلة هذا اللقب لدلالته على أصلين مهمين من أصول الاعتزال.
الأول: الدفاع عن مبدأ وحدانية الله سبحانه. والثاني: قولهم بعدل الله وحكمته.
قال الشهرستاني (ت 548هـ): «ويسمون أهل العدل والتوحيد» (4)، والمعتزلة وسّعوا البحث في التوحيد وتأوّلوا الآيات التي يدل ظاهرها على التجسيم أو
__________
(1) الملل والنحل، ج 1ص 56.
(2) انظر: تأويل مختلف الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت (د. ت)، ص، 78وكذا على عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 199.
(3) كتاب التمهيد، ص، 323وانظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي ص 148.
(4) الملل والنحل، ج 1، ص 56.(1/86)
الحلول في مكان وبنوا توسّعهم على معتقدات نفوا فيها عن الله الصفات القديمة المستقلّة كالعلم والقدرة والحياة وعدوّها صفات قديمة ومعاني قائمة بذات الله، لأنها لو شاركت الله في القدم الذي هو أخصّ وصف ذات الله لمشاركته في الألوهية، والله منزّه عن ذلك لأنه منزّه عن المثيل ولأنه القديم الأزلي وما سواه محدث. وعليه لا يصحّ أن تكون له صفات أزلية منفصلة عنه لأنّ القول بها تعدّد. ونفوا التشبيه عن الله تعالى من كل جهة مكانا وجهة وجسما وصورة وتحيّزا وانتقالا وتغيّرا وتأثرا وزوالا. وأنكروا رؤية الله تعالى بالأبصار في الدنيا وفي الآخرة لأن انتفاء الجسمية يقضي بانتفاء الجهة، وهذا يفضي إلى انتفاء الرؤية، لذا لجأوا إلى تأويل الآيات والأحاديث المتشابهة وسموه توحيدا فلقّبوا «أهل التوحيد» (1). وأرادوا بالعدل أنّه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخل بما هو واجب عليه، وأن أفعاله حسنة كلها وذكروا كيف خالفتهم المجبرة وأضافت إلى الله سبحانه كل قبيح (2). وفرّعوا عن التوحيد مباحث:
1 - الله تعالى عادل والظلم منفي عنه.
2 - لم يخلق الله أفعال العباد لا خيرا ولا شرا، وإنما يفعلون أفعالهم أحرارا فيثابون على الخير ويعاقبون على الشر.
3 - لا يريد الله عز وجل الشر ولا يأمر به، فهو منزه عن أن يضاف إليه شر وظلم وفعل كفر ومعصية.
4 - لا يفعل الله إلّا الصلاح والخير.
5 - قالوا بنظرية الصلاح والأصلح وهي أن الله سبحانه يقصد في أفعاله نفع العباد وصلاحهم (3).
وقد رأى بعضهم أن رعاية الله تعالى لعباده واجبة عليه، وذهبوا إلى وجوب الأصلح. قال الشهرستاني: «وسموا هذا عدلا» (4).
__________
(1) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 236235، والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 58ودي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 87، 88.
(2) انظر: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 3.
(3) نظر: د. أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، (د. ت).
(4) الملل والنحل ج 1، ص 57.(1/87)
أهل الحق:
يرى المعتزلة أنفسهم «أهل الحق» وفرقة ناجية، لهذا سموا خصومهم مجبرة وقدرية ومشبّهة وحشوية (1) ومجوّزة. ولكن قولهم «الفرقة الناجية» يمكن أن ينسحب على الفرق كلها كأن تلقب نفسها به أو تدعيه وتعد غيرها ضالا هالكا.
ولعل هذا ما يجوز قوله على وصفهم أنفسهم «أهل الحق».
الجهمية:
هو لقب فرقة منسوبة إلى جهم بن صفوان (2) (ت 128هـ) المؤسس الأول لهذه الفرقة قبل ظهور المعتزلة. قالت: بالجبر وخلق القرآن ونفي رؤية الله تعالى وبفناء الجنة والنار وما فيهما. قال الخياط: (ت 300هـ) بأن جهما كان يزعم أن الله يفني الجنة والنار وما فيهما ويبقى وحده كما كان وحده» (3) وذكر الأشعري (ت 330هـ)، هذا أيضا: «قال جهم بن صفوان: () إن الجنة والنار تفنيان ويفنى أهلهما حتى يكون الله تعالى آخرا لا شيء معه كما كان أولا لا شيء معه» (4)، ولكن المسلمين كافة يقرون بأن ليس للجنة والنار آخر (5)، وذكر البغدادي (ت 429هـ) أن أهل السنة قد أكفروه في جميع ضلالاته، وأكفرته القدرية في قوله: الله خالق أعمال العباد (6). والظاهر أن معتقده رد على الاختيار الذي دعا
__________
(1) الحشوية فرقة من المعتزلة تمسكوا بظواهر القرآن ووقعوا في التجسيم. وهم منسوبون إلى الحشو معناه أراذل الناس. وقيل: يحشون الأحاديث بالإسرائيليات، لا مذهب لهم، أجمعوا على الجبر والتشبيه والتجسيم والتصوير فقالوا بالأعضاء وأجازوا على الله عز وجل الملامسة والمصافحة وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة حدّ الإخلاص والاتحاد المحض، انظر الخياط، الانتصار، هامش ص 127رقم 1. وكذا الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 120وكذا، محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 3، ص 447. وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 168.
ودي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 86هامش 3.
(2) سبق أن عرفنا به.
(3) الانتصار، ص 46.
(4) مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد يحيى الدين عبد الحميد، ج 1، ص 244وص 337.
(5) م ن، ج 1، ص، 244وكذا، البغدادي، الفرق بين الفرق ص 211، 212وكذا، د. عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفي، ص 153، 154.
(6) الفرق بين الفرق، ص 212.(1/88)
إليه غيلان الدمشقي (1) (ت 105هـ) وردّ على مقاتل بن سليمان الذي أثبت الصفات حيث جعله هذا الإثبات في زمرة «المشبّهة» فقال جهم مقابل الاختيار والتشبيه على الترتيب بالجبر ونفي الصفات، وهذا يجعل رأيه غير عقلي لقوله بالجبر، وغير نصّي لقوله: بالتعطيل أو نفي الصفات الإلهية (2). وهو اعتقاد لقى جفاء النصيّين والعقليين على السواء من أمة الإسلام.
ولما ظهرت المعتزلة أخذت بأقوال الجهمية في الرؤية والصفات وخلق القرآن فسماهم أهل السنة «الجهمية» (3) غير أن المعتزلة أفصحوا عن تبرّئهم من هذا الاسم لجبرية جهم بن صفوان وأتباعه. وما يدل على هذا التنصّل والتنكر قول الخياط المعتزلي (ت 300هـ) في رده على ابن الراوندي: «وما إضافة صاحب الكتاب لجهم إلى المعتزلة إلا كإضافة العامة لجهم إلى المعتزلة لقوله بخلق القرآن ولجهم عند المعتزلة في سوء الحال والخروج من الإسلام كهشام بن الحكم» (4).
ونريد أن نتساءل هنا ونحن في سياق الجبر والاختيار: هل كان ما ذهب إليه جهم في «الجبر» يتناغم في المدلول مع الذي دعا إليه بنو أمية بقصد تبرير سمات حكمهم وتكريس وجود دولتهم؟ وهل يصحّ القول: إن خلفية «الجبر اضطرّته خلفية الانتقاص السائدة يومئذ عند الناس من السيطرة الإلهية المطلقة في الذي رأوه غلوّا ومبالغة لدى القائلين بالاختيار، فحملهم ذلك إلى الدعوة بالجبر والمناداة به؟
نعتقد أن الموقفين يعكسان ظاهرتين فكريتين طبيعيّين تظهران المناخ الإسلامي الأصيل.
__________
(1) هو أبو مروان غيلان بن مسلم الدمشقي، تنسب إليه فرقة «الغيلانية» أخذ القول في القدر عن معبد الجهني (ت 80هـ) وقيل بعدها. وقيل: إنه تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن العزيز ثم عاود القول به بعده، وطلبه هشام بن عبد الملك لمناظرة الأوزاعي، فأفتى الأوزاعي بقتله فصلب. انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 19هامش 1. والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 40هامش رقم 3.
(2) انظر: د. عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفي، ص 150.
(3) يطلق بعض الدارسين «الجهمية» على الذين ظهروا قبل المعتزلة لكن الباحثين التالين لهم يطلقون هذا التلقيب ويقصدون به «المعتزلة»، انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 6. ود. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة، ص 190. وكذا زهدي جار الله، المعتزلة، ص 16.
(4) الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 188.(1/89)
المعطلّة:
لقّبهم به أهل السنة لإنكارهم الصفات الإلهية ولمشاركتهم الجهمية في هذا الإنكار. لقبوهم به للذم. غير أنه أطلق على الجهمية الأوائل ولكن حين ظهر المعتزلة وذهبوا مذهب سابقيهم لزمهم كذلك. وللتعطيل معان أخرى منها: تعطيل ظواهر الكتاب والسنة على المعاني التي تدل عليها بمعنى أن المعتزلة تعطل معاني كثيرة من الآيات الكريمة التي لا توافق مبادئهم في نظر خصومهم بأن لجأوا إلى تأويلها. ويبدو أنه وراء تلقيبهم كذلك (1).
الشيعة:
ذكر أبو سعيد نشوان الحميري (ت 573هـ) أن الأمويين كانوا يسمون المعتزلة «شيعة» (2).
الخوارج:
نسبهم البغدادي (ت 429هـ) إلى الخوارج لموافقة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الخوارج في تأبيد صاحب الكبيرة في النار مع قولهما بأنه موحّد وليس مشركا ولا كافرا، فقيل للمعتزلة إنهم «مخانيث الخوارج» (3).
المجوس والثنوية:
هي ألقاب ذم، يمكن عدّ أغلب تسمياتهم منها لمعارضة معتقدهم.
ثالثا: الأصول الخمسة
تمثل الأصول الخمسة عند المعتزلة أساسا عاما لفكرهم وهي بمثابة النظرية التي بنوا عليها تفكيرهم رغم اختلافهم في كثير من الفروع (4). وقد راعوها في تفسيرهم وبنوا عليها بحرص وصرامة وهي: التوحيد والعدل والوعد والوعيد
__________
(1) انظر: زهدى حار الله، المعتزلة، ص 18.
(2) الحميري (أبو سعيد نشوان (ت 573هـ)، الحور العين، طبعة مصر الأولى، 1947م، ص 212.
(3) الفرق بين الفرق، ص، 119وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 17.
(4) انظر: هذه الاختلافات في الفروع: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 117فما بعدها. وكذا الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 559وما بعدها.(1/90)
والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الخياط: «وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة () فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمس فهو معتزلي» (1). ولكن كيف ظهر مصطلح الأصول الخمسة؟
ذكرنا من قبل أن ظهور الاعتزال كان على يد واصل بن عطاء وهو ما نميل إليه لأنها رواية تناولها أغلب المؤرخين وحظيت بعناية أكثرهم (2)، ونغلب في الآن نفس الرأي القائل: إنّ الاعتزال ذو منشأ سياسي مذهبي يعاصر نشوء فرقتي الخوارج والشيعة تقريبا.
فهل ظهر مصطلح الأصول الخمسة مع واصل بن عطاء في زمن اعتزاله الأحكام السائدة في مرتكب الكبيرة بما قرره بالمنزلة بين المنزلتين؟
لقد اختلف الدارسون في زمن ظهور هذا المصطلح، فقال بعضهم: إنّ واصل جاء به من المدينة إلى البصرة (3) وأخذه عنهم معتزلة بغداد الذين ترأسهم بشر بن المعتمر (ت 210هـ) غير أن آخرين قالوا: إن مصطلح (الأصول الخمسة) لم يتم له الوضوح التام إلا عند أبي الهذيل العلاف (4). وقال علي سامي النشار في هذا المعنى: «إننا لا نجد في تراث واصل بن عطاء ولا في تراث صديقه عمرو بن عبيد ذكرا له، حقا إنهم خاضوا في بعض هذه الأصول، ولكن لم يعرف مصطلح الأصول الخمسة لديهما» (5).
__________
(1) الانتصار والرد على ابن الروندي الملحد، ص 188، 189.
(2) انظر: المسعودي (ت 346هـ)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1989م، ج 3، ص 277. والقاضي عبد الجبار (ت 415هـ)، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة تحقيق فؤاد سمير، الدار التونسية للنشر والمؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط 2، 1986م، ص 115. وبالبغدادي (ت 429هـ) الفرق بين الفرق، ص 20، ص 21. والشهرستاني، الملل والنحل، دار المعرفة، بيروت ط 4، 1995، ج 1، ص 61، 61، 41.
(3) الملطي أو الحسن (ت 276هـ)، التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، تحقيق محمد زاهد الكوثري ص 43نقلا عن د. سعيد مراد / مدرسة البصرة الاعتزالية 248.
(4) م ن، ص 43.
(5) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 1، ص 416.(1/91)
وهذا يبيّن أن الأصول الخمسة لم تظهر مع بداية ظهور الاعتزال، والسبب أنها لم تتحدد دفعة واحدة، ولم تظهر على هذا الترتيب ذي السمة المنطقية التي اشتهر بها أبو الهذيل العلاف واضح الأصول (1) لأن أول أصل ارتبط بظهور المعتزلة كان حكم «المنزلة بين المنزلتين» على أن بيئة البصرة في هذه المرحلة لم تكن لتخلو من المسائل الدينية كالتوحيد الذي كان في جو يموج بالمجسّمة والمشبهة والروافض (2)
والقائلين بالتعدد. وكصفة العدل الإلهي التي ضمنها المعتزلة «فكرة الثواب والعقاب ومسئولية الإنسان عن فعله وقدرته عليه» (3) وهي خلفية تعطى لحكم مرتكب الكبيرة بعدا سياسيا وتخرجها من السمة الفقهية الخالصة (4).
لقد كشف حكم مرتكب الكبيرة خلافا فقهيا، ولكنه كان يهدف سياسيا إلى اتخاذ موقف من الأمويين ومجابهة ما ساد من مظالم إبان حكمهم، وفي هذا قال بعض الدارسين: «كان المقصود به تحديد الموقف من الأمويين باعتبارهم مرتكبي الكبائر هم وعمالهم وأنصارهم في حق جماهير المسلمين (5)، فالجانبان الفقهي والسياسي لهذه المسألة محصل وضع اجتماعي تميز بقضايا دينية اعتقادية وثقافية خلقت جدلا وحوارا بإقليم البصرة خصوصا. كانت الردود والمحاجة فيه مبنية أولا على نص القرآن الكريم والحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن ظهر المعتزلة الذين اعتمدوا العقل قبل النقل في ردودهم على المعتقدات المخالفة لعقيدة الإسلام.
وهكذا يتمخّض تفكير المعتزلة في بدئه عن ظروف طارئة اجتماعية سياسية مصطبغة بالدين، لكن هذا النسق الفكري الاعتزالي ما لبث أن اصطدم لاحقا بثقافات مختلفة لا تؤمن أصلا بالأدلة الثابتة في نصي القرآن والحديث على معنيي
__________
(1) انظر د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية ص 249وص 251.
(2) تركزت الاتجاهات التجسيدية والتشبيهية في فرق الشيعة الغالية المتأثرة باليهود عن طريق عبد الله بن سبأ لتأكيد إمامة علي بن أبي طالب. انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 46.
(3) د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 3، 1996، ص 40.
(4) انظر: محمود إسماعيل، الحركات السرية في الإسلام، مؤسسة روز اليوسف، القاهرة 1973، ص 133، 140.
(5) محمد عمارة، رسائل العدل والتوحيد (المقدمة) دار الهلال، القاهرة 1971، ص 67.(1/92)
التوحيد والعدل الإلهيين وغيرهما من الأصول التي قال بها المعتزلة، فعمد المعتزلة إلى تطوير أسلوب البرهنة من المنهج الديني الخالص الذي يعتمد النص القرآني والحديث إلى المنهج الجدلي الذي يؤسس إقناعه للخصم على مقدمات معروفة الشيوع لا سبيل إلى ردّها أو القدح في صحتها (1).
لقد أشرنا من قبل إلى أنّ الأحداث التي جدّت وطرأت باتساع الفتوحات الإسلامية لم يرد فيها نصوص. لذلك لم يجد المسلمون بدا من أن يبحثوا لها عن أحكام من العرف أو بما وسعهم به رأيهم أو اجتهادهم. وكان الفقهاء منهم قبل ذلك يعتمدون في استخراج الأحكام على القرآن الكريم والسنة النبوية قولها وفعلها بالنقل الصحيح وعلى الرأي بمفهومه العام الذي نشأ في التشريع مع القرآن والسنة في زمن الرسول والصحابة بمحدودية الحاجة والضرورة والاستعمال لأنّ الأحكام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت «تتلقى منه بما يوحى إليه من القرآن ويبيّن بقوله وفعله بخطاب شفوي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس» (2). ثم نزل إجماع الصحابة بعد الرسول منزلة الدليلين السابقين (3) وتلا هذه الأدلة دليل القياس حين كثرت الأحداث غير المنصوص عليها في النصوص الثابتة. قال أبو القاسم محمد بن حمد بن جزي الغرناطي المالكي (ت 741هـ) (4): يجب على العالم أن ينظر المسألة أولا في الكتاب فإن لم يجدها نظرها في السنة فإن لم يجدها نظرها فيما أجمع عليه العلماء أو اختلفوا فيه فأخذ بالإجماع ورجح بين الأقوال في الخلاف، فإن لم يجدها في أقوالهم استنبط حكمها بالقياس، وبغيره من الأدلة وعددها على الجملة عشرون ما بين متفق عليه ومختلف فيه، وهي:
«الكتاب والسنة، وشرع من قبلنا، وإجماع الأمة (5)، وإجماع أهل المدينة (6)،
__________
(1) انظر: د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 3، 1996، ص 45.
(2) ابن خلدون، المقدمة، دار العودة، بيروت (د. ت)، ص، 359ود. مهدي المخزومي، مدرسة الكوفة ومنهجها في المدارس اللغة والنحو، دار الرائد العربي، بيروت، ط 3، ص 1986، ص 27.
(3) م ن، ص 359.
(4) تقريب الوصول إلى علم الأصول، دراسة وتحقيق، محمد على فركوس، دار التراث الإسلامي، الجزائر، ط 1، 1990، ص 113.
(5) هو اتفاق العلماء على حكم شرعي وهو حجة عند جمهور الأمة خلافا للخوارج والروافض.
(6) هو حجة عند مالك وأصحابه ومقدم عندهم على الأخبار: انظر م ن، ص 132.(1/93)
وإجماع أهل الكوفة (1)، وإجماع (العشرة) من الصحابة، وإجماع الخلفاء الأربعة، وقول الصحابة (2) والقياس، والاستدلال، والاستصحاب، والبراءة الأصلية، والأخذ بالأخف، والاستقراء والاستحسان، والعوائد، والمصلحة، وسدّ الذرائع، والعصمة» وفي هذا قال ابن خلدون: «ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة، فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم وتسليم بعضهم ببعض في ذلك، فإن كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت، وألحقوها بما نصّ عليه بشروط في ذلك الإلحاق تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه وهو القياس وهو رابع الأدلة» (3).
__________
(1) قال به قوم لكثرة من دخلها من الصحابة وقال قوم بإجماع أهل العشرة من الصحابة والخلفاء الأربعة، م ن، ص 132.
(2) وعمل كقول الصحابي غير المخالف وعدوه حجة شرط انتشاره وإن لم ينتشر عدّه مالك حجة واختلف فيه قول الشافعي. تقريب الوصول: ص 133132. قال صاحب الكتاب: أما القياس «فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة ومواضع الإجماع معدودة والوقائع غير محصورة فاضطر العلماء إلى أن يثبتوا عنها بالقياس وهو حجة عند العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلا الظاهرية».
والاستدلال: محاولة الدليل المفضي إلى الحكم. والاستصحاب: بقاء الأمر والحال والاستقبال على ما كان عليه في الماضي وهو قولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يدل الدليل على خلاف ذلك والبراءة الأصلية: ضرب من الاستصحاب وهي البقاء على عدم الحكم حتى يدل الدليل عليه لأن الأصل براءة الذمة من لزوم الأحكام وهي حجة خلافا للمعتزلة وأبي الفرج والأبهري المالكيين. أما الأخذ بالأخف فنون من البراءة الأصلية أي الأخذ بأخف الأقوال حتى يدل الدليل على الانتقال إلى الأثقل وهو حجة عند الشافعية. والاستقراء تتبع الحكم في مواضعه فيوجد فيها على حاله واحدة حتى يغلب الظن أنه محل النزاع على تلك الحالة وهو حجة عند الشافعية. والاستحسان: القول بأقوى الدليلين فيكون حجة إجماعا أو الحكم بغير دليل فيكون حراما دليلا. أما العوائد: غلبة معنى من المعاني على الناس. والمصلحة ثلاثة أنواع: شهد الشرع باعتباره، وشهد بعدم اعتباره كمنع غراسة العنب لئلا يعصر منه خمرا، ونوع لم يشهد فيهما بالاعتبار أو عدمه. أما سدّ الذرائع فحسم مادة الفساد بقطع وسائله وهو ثلاثة أنواع: معتبر إجماعا. وغير معتبر إجماعا كمنع الاشتراك في سكنى دفعا للزنى. وأنواع مختلف فيه. أما العصمة: معناه أن يقول الله لبني أو لعالم «احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لأني عصمتك من الخطأ وقد مال الروافض لهذا وامتنع عن القول به المعتزلة». انظر، تقريب الوصول إلى علم الوصول، ص 134إلى ص، 150
(3) المقدمة، دار العودة، بيروت، ص 359.(1/94)
وهكذا زادت حاجة المسلمين إلى الرأي فلزم وبلزومه انقسم الفقهاء إلى: أهل الرأي والقياس (1) وهم الذين جعلوا للرأي مكانة في استصدار الأحكام مع الكتاب وكان إمامهم أبا حنيفة (ت 150هـ) من أهل العراق، وإلى أهل الحديث وهم أكثر أهل الحجاز الذين امتنعوا عن الرأي فلم يعملوا به. أما أهل العراق فإنهم على الرغم من انقسام علمائهم ما بين المتشددين والمتساهلين في العمل بالرأي فقد تحرّجوا من الأحاديث النبوية الكثيرة، وعلّلوا تحرّجهم بالبعد الزمني بين الناس وبين مصدر التشريع وعدم ثقتهم بصحة الكثير مما روي من الأحاديث (2) لكنهم أخذوا برواية الجماعة عن الجماعة أو بما ثبت تواتره، لهذا كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة يقول: «عليك من الحديث بما تعرف العامة وإياك والشاذ منه» (3).
لقد تولّد عن نزوع المتكلمين والمعتزلة بخاصة إلى المنهج الجدلي أن نفر المحدّثون والفقهاء من طريقة جدلهم وأسلوب إقرارهم العقيدة الإسلامية والدفاع عنها مثلما نفروا قبل من القول «بالقدر» (4) ونفي الصفات عن الله تعالى.
ونحن نعتقد أن هذا النزوع العقلي لدى المتكلمين عموما أثر من آثار الثقافة الإسلامية أولا لأن القرآن يعلي صراحة من شأن العقل ويجعله خصيصة إنسانية يترتب عليها تحمل المسئولية. ولم يكن اعتداد المعتزلة بالعقل قبل النقل للرد على الخصوم فحسب وإنما نزعوا هذا المنزع فيما يقول بعض الدارسين (5) ليرفعوا مستوى الصراع الذي دلّت عليه عصبية الفرس المفاخرة بقوميتها أمام القومية العربية منذ أواخر الدولة الأموية التي انتهت بقيام الدولة العباسية ثم ما لبثت أن ازدادت حدتها فصار التفاخر على العرب بحضارتهم وفلسفتهم وتراثهم الفكري، ووصلوا حدّ رمي العرب بالبداوة. بيد أن العرب قابلوا ذلك بأنهم الأشرف لنزول القرآن
__________
(1) انظر دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربية وعلق عليه د. محمد الهادي أبو ريده، دار النهضة العربية، بيروت (د. ت)، ص 61/، 62ود. مهدي المخزومي، مدرسة لكوفة، ص 128.
(2) انظر: د. مهدي المخزومي، مدرسة الكوفة، ص 29.
(3) م ن، ص 29.
(4) أي الإنسان يقدر على أفعاله وعلى الاختيار ومن أنه مسئول.
(5) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، ص، 46ليست النزعة العقلية عند المعتزلة بعيدة عن روح الإسلام لأن القرآن الكريم فسح المجال للنظر العقلي الاستدلالي في العقائد وللبحث في الكون. انظر عثمان أمين دراسات فلسفة، مجموعة مقالات منها مقال أبو الوفاء التفتازاني، القاهرة 1974م، ص 39.(1/95)
الكريم فيهم، ومنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث قاد هذا المعتزلة إلى اعتماد العقل ونقل التفاخر بالأنساب والعصبيات والأجناس إلى حيث المرتبة اللائقة التي ترجع إليها قيمة الإنسان وتكرّس ما يلزم أن يكون عليه بهذه الأداة العقلية التي يتساوى بها الناس اجتماعيا ودينيا على الرغم من التفاوت الحاصل فيما بينهم عند توظيفه.
ولا شك في أن التجديد الذي وجد فيه المعتزلة أنفسهم كان استجابة لظروف داخلية أولا ونتيجة أملتها طبيعة الجدل والحوار مع المعتقدات المخالفة لعقيدة الإسلام ثانيا. وهي تصبّ في الإطار الذي يجب أن يكون عليه الإنسان الذي أنعم الله تعالى عليه بالعقل وميّزه به عن سائر الكائنات.
وهكذا صار المعتزلة أصحاب نظر عقلي يتوفرون على نسق فكري مذهبي متكامل في علم الكلام. غير أن مذهبهم يتميّز عن مذاهب غيرهم من المتكلمين، لذا ينبغي أن نفرّق بين المنهج العام لعلم الكلام وبين مذاهب المتكلمين أو منهج تطبيق قواعده بينهم. ونود في هذا السياق عرض الأسس العامة لعلم الكلام (1)
ذاكرين ما اختلفوا فيها عند تطبيقها لأن هذا يخدم غايتنا في البحث.
رابعا: في الأسس العامة لعلم الكلام
1 - وجوب النظر (العقل والنقل):
يقوم منهج المتكلمين على أساسين: العقل والنقل. أدخلوا عنصر العقل في المعرفة الدينية التي كانت تقتصر على النقل، وعدّوا النظر أهم مصدر للمعرفة وجابهوا منكري النظر من السّمنية (2) الذين قصروا المعرفة على الحس
__________
(1) انظر الإيجي عبد الرحمن بن أحمد، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة (د. ت) (مقدمة المصنف)، ص 4: تعريف علم الكلام. وكذا ابن خلدون، المقدمة، ص، 363وكذا دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 84، 58: «أطلق أول الأمر على كل نظر في مسائل العقائد وصار يطلق بعد ذلك على المتكلمين الذين خالفوا المعتزلة واتبعوا أصحاب الحديث أي أهل السنة».
(2) قالت السمنية بقدم العالم، وأبطلوا النظر والاستدلال، ولا معلوم عندهم إلا من الحواس، وأنكروا المعاد والبعث، وقال بعضهم بتناسخ الأرواح، وهذا يناقض دعواهم في لا معلوم إلا من الحس. انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص. 27، 271.
والسمنية (وقد تفتح السين) من كلمة بوذية وتعنى في الأصل الراهب، رجل الدين، وقد حارب المسلمون عقائدها: دائرة المعارف الإسلامية 1/ 906905وفي المادة مراجع عربية كثيرة.(1/96)
والسفسطائيين (1) الذين شككوا في المعرفة الدينية، والحشوية (2) الذين يقفون عند ظواهر النصوص، وينكرون اعتماد العقل في الدين. وقرروا وجوبه وإن اختلفوا في مصدر وجوبه أهو العقل أم هو الشرع؟
قال عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (ت 756هـ) في الموقف الأول المقصد السادس (3): «النظر في معرفة الله تعالى واجب إجماعا اختلف في طريقة ثبوته، فهو عند أصحابنا: السمع، وعند المعتزلة: العقل. «لقد استدل أهل السمع بالظاهر من النص كقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مََا ذََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:
101] وقوله: {فَانْظُرْ إِلى ََ آثََارِ رَحْمَتِ اللََّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا} [الروم:
50]، فالأمر للوجوب. ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ مََاءٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَبَثَّ فِيهََا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ وَالسَّحََابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
واستدلوا بأن معرفة الله تعالى واجبة إجماعا، ولا تتم إلا بالنظر: «وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» (4). والنظر غير الجدل، وقد مدحه الله تعالى:
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنََا مََا خَلَقْتَ هََذََا بََاطِلًا} [آل عمران: 191] أما المعتزلة فيرون توصل العقل (5) إلى إدراك الواجبات، ومن هذه الواجبات
__________
(1) فرقة من الفلاسفة ينكرون المحسوسات والبديهيات، ويرون الوجود خيالا في خيال وهم ثلاثة أنواع: ناف للحقائق، وشاك فيها، ومحق لها عند من هي عنده حق ومبطل لها عند من هي عنده باطل: انظر ابن رشد فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ص 61وهامش رقم، 91وكذا محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 5، ص، 171وكذا الإيجي المواقف في علم الكلام، ص 20، 21وكذا د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، دار الفكر اللبناني، ط 1، 1992، ص 154.
(2) وهم الجبرية. قال الشهرستاني: «والأشعرية سموهم تارة حشوية وتارة جبرية»: الملل والنحل، ج 1، ص 97.
(3) المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي القاهرة، ص 28.
(4) م ن، ص 2928.
(5) يمثل موقف المعتزلة في مسألة العقل والنقل اتجاها يقدم العقل على النقل. أما الحشوية وأتباعهم ممن تزمّت فيرون سلطة الشرع وحدها ولا يقرّون للعقل بأي دخل فيما أتى به الشرع بينما يرى الأشاعرة(1/97)
النظر. بهذا يقرّون أن النظر واجب، ويترتب عليه أن المعرفة عندهم واجبة عقلا (1)
لأنها الأساس في التكليف (2). فمنها يعلم عن أفعالها ويخبر عن صفاتها ليعرف المتكلف وجوب ما يجب منه وقبح ما يقبح، بالإضافة إلى أن المعرفة أو العلم الذي يسبق الفعل يمكّن من الإحاطة به وأحكامه وإتقانه الأمر الذي يجعل المسئولية مكتملة، وعناصر التقدير وافية (3).
وإذا كان على المكلّف لدى المعتزلة وجوب المعرفة بالأفعال وصفاتها فليس معنى ذلك عندهم أنّ أصل علمه بالأشياء وبالأفعال يأتيه من خارج ويقتصر موقفه على تقبّلها وتلقّيها وقبولها وتوجيه سلوكه في ضوء المبادئ التي يتلقاها منها بل يقتصر العلم من خارج على التمكين. ولا بد أن نوضّح هاهنا أن العلم المترتب على النظر عند المعتزلة مبني على المبادئ الضرورية التي وضعها الله عز وجل فينا. ولكن حصول العلم الاستدلالي بالأشياء والتكليف والتيقّن من صحتها يرجع إلى ذات الفاعل والواقع المعاين أي أن المعتزلة يقابلون بين مطابقة العقل للواقع ومطابقة الواقع للعقل، وبمعنى آخر يطابقون في فكرهم بين المعرفة الذاتية والمعرفة الموضوعية.
__________
وأهل السنة عامة والغزالي خاصة مذهبا وسطا إذ يقدمون الشرع على العقل من ناحية، ويجعلون للعقل مدخلا في فهم الشرع من ناحية أخرى فيؤكدون بذلك افتقار كل منهما للآخر: انظر د. محمد عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية على الفلسفة الإسلامية، مكتبة الفكر الجامعي بيروت، ط 1، 1970، ص 631.
(1) انظر: الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 31. وقد اختلف المعتزلة في كيفية حصول العلم إلى قائل بأنه يحصل طبعا واضطرارا وقائل بحصوله عن طريق الوحي والإلهام والتقليد إلى قائل بتولّده عن طريق النظر. ويعدّ غالبيتهم النظر طريقا لتوليد العلم. وقد ردّ أبو عبد الله السنوسي (ت 895هـ) طريق حصول العلم إلا لناظر لأنه أول واجب على المكلف. وقد ذكر أن ابن أبي حمزة والقشيري وابن رشد والإمام الغزالي وجماعة ذهبوا إلى أن: «النظر ليس بشرط في صحة الإيمان، وليس بواجب أصلا، وإنما هو من شروط الكمال فقط». انظر شرح أم البراهين في علم الكلام، تحقيق وتعلق مصطفى محمد العماري، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1989م، ص 2625.
(2) التكليف عند غالبية المعتزلة عقلي قبل أن يكون شرعيا، فالواجبات العقلية عندهم أسبق في الفكر فالواجبات الشرعية التي تقوم أساسا على أصول العقل وعلى المبادئ التي يوجبها، لذا يرون النظر في الطريق المؤدي إلى معرفة الله هو من أول الواجبات. انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 155.
(3) م ن، ص 153.(1/98)
واختلف علماء الكلام في أول واجب على المكلف. قال الإيجي بأنه: «معرفة الله تعالى إذ هو أصل المعارف الدينية، وعليه يتفرع وجوب كل واجب. وقيل:
هو النظر فيها لأنه واجب وهو قبلها. وقيل: أول فرض من النظر. وقال القاضي واختاره ابن فورك: القصد إلى النظر» (1).
فبالنظر تحصل معرفة الله عز وجل، فالنظر واجب وهو قبل المعرفة، ويذهب إلى هذا المعتزلة. أما القول: «أول جزء من النظر» فلأنّ وجوب الكل يستلزم وجوب أجزائه، وهذا معناه أن أول جزء من النظر واجب وهو متقدم على النظر المتقدم بدوره على المعرفة. غير أن القصد يسبق أول أجزاء النظر. وبهذا فأول جزء من النظر إنما هو القصد إلى النظر (2).
وقيل: هو الشك لأن وجوب النظر والمعرفة والقصد إليها مقيدة بالشك (3)
الذي يسبق على إرادة النظر. ثم ذكر الإيجي أن النزاع حول أول الواجبات النظر أو المعرفة لفظي، لأن أول الواجبات المقصودة بالذات إنما هي المعرفة. أما إذا أريد أول الواجبات مطلقا فإنه القصد إلى النظر لأنه مقدمة للنظر الواجب مطلقا (4).
وقد دافع أبو حنيفة (ت 125هـ) قبل الإيجي على النظر ورآه ضروريا ثم ما لبث أن تراجع عن علم الكلام، وعدل عنه إلى الفقه بل ذكر بعض الدارسين بأنه لا يعارض الجدل في نطاق الحاجة وقدر الضرورة في إطاره وأما غيره فمردود منه (5)، فهو يوجب النظر (6) والاستدلال في معرفة الله سبحانه وصفاته باعتبارها
__________
(1) المواقف في علم الكلام، ص 32.
(2) م ن، ص 32.
(3) المراد بالشك القلق والحيرة وهو الشك الإرادي المنهجي الداعي إلى الشروع في البحث للتحقيق من جبلة الأمر أو طبيعة وإزالة الشك في أمور العقيدة. انظر د. حسن محمود عبد اللطيف، من قضايا المنهج في علم الكلام، بحث منشور في مجلة دراسات عربية عدد رقم 1، ص، 26والشك مدعاة لليقين عند القاضي عبد الجبار في الإنسانيات والطبيعيات والأخلاقيات لأن العقل بفطرته قادر على التمييز بين الغث والسمين. وانظر (المغني ج 12، ص 319) (وجولد زيهر: مقال: موقف أهل السنة القدماء من علم الأوائل ص 132 (عن مجلة القاهرة الأعداد (173، 174، 175)، 1997م، ص 53.
(4) المواقف في علم الكلام، ص 32.
(5) انظر د. علي الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية. مدخل ودراسة، ص 336، 337.
(6) يقصد أبو حنيفة النظر والاستدلال الواجبين على كل واحد بحسب ما يتيسّر له. فالنظر في الكون وما(1/99)
أول الواجبات على المكلف. ويتبعه بوجوب النظر والاستدلال المؤدي إلى جواز إرسال الرسل وتكليف العباد ثم الاستدلال بالمعجزات على صدق الرسل (1). فإذا كانت المعرفة عند أبي حنيفة واجبة عقلا فهل معنى هذا أنه يتفق مع المعتزلة الذين يوجبونها عقلا أيضا؟ يدل شرّاح الحنفية وهم يفسرون قول أبي حنيفة في الوجوب العقلي على الفرق بين رأييهما، ذلك أن العقل لدى أبي حنيفة أداة لمعرفة الوجوب الثابت لله تعالى ومعرفة الحسن اللازم له، وليس موجبا كما قالت المعتزلة. فالعقل بحسبه يدرك حسن بعض الأشياء وقبحها بغير سماع على الجملة لا التفصيل، بينما يدرك العقل عند المعتزلة حسن الأشياء وقبحها كلها، ويوسّعون مع هذا دائرة الوجوب العقلي لتشمل حتى أفعال الله تعالى. ولا يرى الأحناف هذا (2).
2 - التأسيس على الدليل:
ولما كان النظر واجبا لا تعارض بينه وبين النقل أقام المتكلمون أدلتهم على العقل والنقل، فأصبح قيام الدليل (3) ركنا أساسيا في منهجهم، وقد قسّم إلى أربعة أقسام (4): سمعي، وعقلي، وحسّي، ومركب من العقل والحس.
الأول العقلي: لا يتوقف على السمع ويبنى على مقدمات عقلية صرفة مثل قولك: العالم متغير وكل متغير حادث. والدليل العقلي نوعان: ضروري، ونظري. فالضروري لا يحتاج إلى نظر واستدلال وذلك مثل أن يعلم الإنسان وجوب نفسه وأن الاثنين أكثر من الواحد. والنظري يفتقر إلى النظر والاستدلال.
__________
فيه يؤدي إلى معرفة الله تعالى، فهو يبني دليله على وجود الله عن طريق حدوث العالم إذ العالم وما فيه حادث متغير وكل حادث له محدث، وهي الطريقة التي اعتمدها كل المتكلمين: انظر م ن، ص 341، 342.
(1) م ن، ص، 341
(2) م ن، ص 343
(3) الموصل إلى المعرفة سموه دليلا. وهو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر وحقيقة الدليل. والموصل إلى الظن سموه أمارة وهي التي «يلزم من العلم بها الظن بوجوب المدلول كالغيم بالنسبة إلى المطر فإنه يلزم من العلم به الظن، الظن بوجوب المطر». انظر علي بن محمد الجرجاني، التعريفات، ص 50 116. وانظر أبو القاسم أحمد بن جزي الغرناطي (ت 741هـ)، تقريب الوصول إلى علم الأصول، ص 49.
(4) انظر أحمد بن جزي الغرناطي (ت 741هـ)، تقرير الوصول إلى علم الأصول، ص، 49وكذا عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (ت 756هـ)، المواقف في علم الكلام، ص 39.(1/100)
الثاني السمعي: وهو دليل الكتاب والسنة المتواترة والإجماع لا غير. أما غيرها كالقياس وشبهه فيفيد الظن ولا يثبت إلا بالنقل كقولنا: إنّ تارك المأمور به عاص لقول الله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]، وكل عاص يستحق العقاب لقوله عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نََارَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً}
[الجن: 23].
والثالث الجسمي: وهو ما يدرك بالحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللّمس، ويندرج ضمنها الوجدانيات مثل علم الإنسان بلذته وألمه.
والرابع مركب من العقلي والنقلي: تؤخذ مقدماته من العقل أو يؤخذ بعضها من النقل كأن تقول: هذا تارك المأمور به، وكل تارك للمأمور به عاص (1).
وقد قسمه الإيجي إلى ثلاثة أقسام (2):
الأول العقلي: صرف لا يتوقف على السمع وله مقدمات عقلية محضة كدلالة تغير العالم على أنه محدث وأن كل متغير حادث.
الثاني دليل نقلي: محض لا يثبت إلا بالعقل وله مقدمات نقلية كقولنا: ترك المأمور به عاص لقوله تعالى السابق: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] وكل عاص يستحق العقاب لقوله عز وجل أيضا: {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نََارَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً} [الجن: 23].
والثالث دليل مركب من العقلي والنقلي: وقد تكون مقدماته عقلية محضة أو نقلية محضة. وقد يكون بعضها مأخوذا من العقل وبعضها من النقل. كالقول:
هذا تارك المأمور به وكل تارك للمأمور به عاص.
وأضاف إلى هذه الأقسام ما لا يمكن إثباته إلا بالنقل لغيابه عن العقل والحس معا مثل تفاصيل أحوال الجنة والنار والثواب والعقاب، وهي تعلم بأخبار الأنبياء.
__________
(1) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، ص 9وما بعدها.
(2) المواقف في علم الكلام، ص، 39وقد حصر الأقسام الثلاثة في قسمين أدلة عقلية محضة. وأدلة مركبة من العقلية والنقلية.(1/101)
ومنه ما لا يثبت إلا بالعقل كوجود الله تعالى ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه ما يعرف بكل واحدة من الطريقتين.
ونقدم فيما يلي الأدلة العقلية والنقلية والتأويل باعتباره تفسيرا عقليا للآيات القرآنية واستدلالا بها.
خامسا: الأدلة
أ. الأدلة العقلية:
أقيسة عقلية لا تستند على السمع، تقوم على مقدمات تلزم عنها نتائج (1).
اعتمد فيها المتكلمون على القياس الجدلي الذي تتكون مقدماته من المسلمات (2)
والمشهورات (3) وهو قياس يأتي دون القياس البرهاني (4). بيد أن أهميته تكمن في حمله كل إنسان على ما يليق به من الرأي بمقدمات مشهورة لازمة في غريزة العقل كالقول: الكذب قبيح، والعدل واجب، والظلم شر. وهي متكررة على الأسماع ومتفق عليها وتسارع الناس إلى تقبلها.
وتتفاوت هذه المشهورات قوة وضعفا بحسب اختلاف الشهرة والعادات والأخلاق والصنائع.
__________
(1) مادة القياس مقدمات، إن كانت صادقة يقينية كانت النتائج كذلك، وإن كانت كاذبة لم ينتج الصادقة.
وإن كانت ظنية لم ينتج القياس الظنية، وكل مقدمة ينتظم منها قياس ولم تثبت تلك المقدمة بحجة ولكنها أخذت على أنها مقبولة مسلمة فإنها لا تتعدى ثلاثة عشر قسما: «الأوليات والمحسوسات والتجريبيات والمتواترات والقضايا التي يخلو الذهن عن حدودها الوسطى وقياساتها والوهميات المشهورات والمقبولات والمسلمات والمشهورات في الظاهر والمظنونات والمخيلات». انظر محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 10، ص 297.
(2) = المسلمات قضايا تسلم من الخصم، ويبني عليها الكلام لدفعه سواء كانت مسلمة بين الخصمين أم بين أهل العلم كتسليم الفقهاء مسائل أصول الفقه كما يستدل الفقيه وجوب الزكاة في حلي البالغة بقوله صلى الله عليه وسلم: «في الحلي زكاة» فلو قال الخصم: هذا خبر واحد ولا نسلم أنه حجة فنقول له: قد بيّن هذا في علم أصول الفقه ولا بد أن نأخذه هاهنا» الجرجاني، التعريفات، ص، 226وكذا محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 10، ص 300.
(3) هي القضايا التي يوجب التصديق بها اتفاق الكافة لا يعول فيها إلا على مجرّد الشهرة ونظر العوام: انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص، 38ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 10، ص 299.
(4) هو قياس عقلي، نوع من النظر دعا إليه الشرع وحث عليه وهو أتم أنواع القياس: انظر ابن رشد فصل المقال، ص 25.(1/102)
ومن نماذج الأقيسة عند المتكلمين:
قياس الغائب على الشاهد: وهو أن بوجه حكم جزئي معين واحد فينتقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه، فقد يدل الشاهد على مثله في الغائب، من ذلك:
«إذا وجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلة ما، فيلزم القضاء على الموصوف بتلك الصفة من الغائب أنه مستحق لها لتلك العلة حكم مستحقها في الشاهد، فإذا كان العالم إنما كان عالما لوجود علمه، فإنه يجب الحكم بإثبات علم كل من وصف بأنه عالم لأن العلم المستحق لعلة يستحيل وجوده مع عدم ما يوجبه» (1). ويبني المعتزلة منهج أبحاثهم كلها على أساس الانطلاق من قياس الغائب على الشاهد أو من الأثر إلى المؤثر، يدل هذا عندهم على بعد إنساني منحوه اهتمامهم الكامل لأنه عندهم انعكاس لما تقتضيه فكرة الإله العادل الحكيم فعملوا على إقرار فاعلية الكون الإنساني وركيزته الاختيار الحر، والتي تنشد توثيق مفهوم العدل الإلهي.
لقد بنوا هذا الاختيار على أساس إنسانية ميتافيزيقية تنطلق من إدراكهم لعلاقة الخالق بالمخلوق ولمعنى قدرة الإنسان على الأفعال، إذ الاقتدار موجب عندهم بعدل الله. وهو إسهام في فعل الخلق الإلهي من وجه ما، إسهام مكمل لمعنى الحكمة من الخلق ومخرج للعدل الإلهي مما أوقعه فيه الجبريون. ومما قاله القاضي عبد الجبار في هذا الضرب من القياس: «أما الذي يدل على أنه تعالى عالم باستغنائه عن القبيح () على أن من كان هذا حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه. ولما كانت طرق الأدلة لا تختلف شاهدا وغائبا لزم عن ذلك أن الله لا يفعل القبيح، ولا يسأل الإنسان إلا عما وقع منه بالاختيار» (2).
إن المعتزلة لم يبحثوا حرية الاختيار والمسئولية خارج أصل العدل وخارج مجال البحث في صفات المكلف لذلك تحدد نظرتهم إلى المسئولية بوصفها صفة للإنسان
__________
(1) عاب بعض الدارسين على المعتزلة قياس الله تعالى على الإنسان ومن أنه قياس غير لازم في أن الله يسير الخلق إلى غاية ويوجه أفعاله لأننا لا نعلم عن الله ما يمكننا الحكم بهذا التفسير الإنساني. انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 1، ص 524744. وانظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 89.
(2) شرح الأصول الخمسة، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر 1990م، ج 2، ص 54.(1/103)
المسئول المكلف من عدّهم التكليف فرعا عن العدل الإلهي، ويمكن أن نفهم هذه الخلفية من تفسير الزمخشري لقوله تعالى: {فَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] وهم عاد وثمود: «فما تدميره إياهم ظلما لهم لأن حاله منافية للظلم، ولكنّهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم» (1)، وإذا كان التكليف عندهم عقليا قبل أن يكون شرعيا (2) فإنه «إعلام الغير في أنّ له أن يفعل أو لا يفعل نفعا أو دفع ضرر مع مشقّة تلحقه في ذلك على حدّ لا يبلغ به حد الإلجاء، ولا بد من هذه الشرائط حتى لو انخرم شرط منها فسد الحد» (3)
يقيمونه على ما يصح السؤال عنه أو على إمكانية الفعل أو عدمه، وعلى أن المشقة في الأمر لا ينبغي أن تصل إلى حدّ الإلجاء إذ لا يجوز أن تلغي إمكانية الاختيار وفعل الضدّين. ولا يصح أن يكون الفعل المكلف أداؤه أحادي الاتجاه أو واقعا على وجه واحد لا غير. ويعكس هذا الربط الواضح بين كون الإنسان مكلفا وكونه مسئولا، فلكي تصبح المسئولية لا بدّ من إمكانية الاختيار وخلو فعل التكليف من أحادية الاتجاه.
لقد دلّ فهمهم المسئولية والتكليف في إطار العدل الإلهي على تحديد نظرتهم لحقيقة الوجود الإنساني وعلاقته بالخالق، وعلى قولهم بالتلازم بين التكليف المسئولية واستحقاق الحكم مقابل إمكانية فعل الواجب أو عدم فعله. ويمثل هذا جوهر المعنى الأخلاقي الذي لا يكون الفاعل فيه مسئولا إلا عما تقرر فيه اختياره الحر حتى يستوجب ما يستحقه من ثواب أو عقاب (4).
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص 216.
(2) ذكر الشهرستاني للمردار أبي موسى عيسى بن صبيح (توفي في حدود 226هـ) قوله: «إن العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع»: الملل والنحل، ج 1، ص 9184، وقال الزمخشري في الآية 52من سورة الشورى: «والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الإيمان بالله وتوحيده ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر ومن الصغائر التي فيها تنفير قبل المبعث وبعده، فكيف لا يعصمون من الكفر؟ قلت: الإيمان اسم يتناول أشياء بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي» الكشاف.
(3) القاضي عبد الجبار، المجموع في المحيط بالتكليف، تحقيق الأب يوسف هوين، بيروت، المطبعة الكائولوكية، 1965م، ج 1، ص 1.
(4) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتلة، ص 305، 306.(1/104)
وهكذا تجد الاختيار أساس التكليف (1) عند المعتزلة يرتبط كما ذكرنا قبل بالعدل الإلهي الذي «قد يذكر ويراد به الفعل، وقد يذكر ويراد به الفاعل» (2). والعدل الإلهي عند استعماله في الفعل أو إذا وصف به الفعل إنما «هو توفير حق الغير واستيفاء الحق منه» (3) ويذكر بعض الدارسين أن ارتباط ذلك بالمسألة الخلقية وجهه أن نوفر حق الإنسان بقدرته على الاختيار ليصح سؤاله لم فعل هذا ولم يفعل ذاك؟ فالفاعل يسأل عن قدر الفعل الواقع منه على وجه هو اختيار من بين أوجه عدّة يمكن أن يقع عليها. أما معنى استيفاء الحق منه فيكون بإثابته على ما حسن اختياره أو بعقابه على ما أساءه (4).
أما حد العدل الإلهي في الفاعل في اصطلاح المعتزلة فيذكره القاضي عبد الجبار «فأما إذا وصف به الفاعل فعلى طريق المبالغة كقولهم للصائم صوم () ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنه عدل حكيم: فالمراد به أنه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخل بما هو واجب عليه، وأن أفعاله كلها حسنة» (5). ولما كان السؤال لا يصح بإلغاء الاختيار وبإلجاء المسئول لأن في هذا قبحا، والله جل وعز لا يفعل القبيح فإنه ترتب عليه أن لا سؤال ما لم تكن حرية المسئول. يدلنا على هذا من المشاهدة أن الواحد منا إذا علم القبيح ووجه قبحه واستغناءه عنه لا يختاره ولا يفعله. وبما أن طرق الأدلة لا تختلف شاهدا وغائبا (6) اقتضى ذلك أن لا يفعل الله القبيح ولا يسأل الإنسان إلا عما اختاره لأن تعذر هذا يمكن أن يحمل إلى أن يسأله الله تعالى عن أشياء لم يفعلها، ولصحّ تكليفه ما لا يطيق عليه، وكل هذا قبيح بحقه جل وعز. وقد نص الزمخشري على أن الاختيار أساس التكليف وذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النََّاسَ أُمَّةً وََاحِدَةً} [هود: 118] قال: «يعنى لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمة واحدة أي ملة واحدة وهي ملة الإسلام
__________
(1) التكليف: إلزام ما فيه كلفة: زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري أبو يحيى، (ت 826هـ)، الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، تحقيق د. مازن المبارك، ط 1، در الفكر المعاصر، بيروت 1411هـ، ص 68.
(2) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة (م. و. ف. م) الجزائر، ج 2، ص 3.
(3) م ن، ج 2، ص 3.
(4) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 306.
(5) شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 3.
(6) م ن، ج 2، ص 5.(1/105)
كقوله: {إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} [الأنبياء: 92]، وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل» (1).
وقد اختلف المتكلمون في طرق استخدام قياس الغائب على الشاهد وذلك لتوزّعهم في فرق مختلفة. ويهمنا منها طريقة المعتزلة، فقد ذكر القاضي عبد الجبار رأي أبي هاشم في أنه إنما يكون الاستدلال بالشاهد على الغائب من وجهين:
الأول: الاشتراك في الدلالة على صفاته تعالى لأن ما يوجب كونه قادرا هو ثبوت صحة الفعل منه. قال عبد الجبار: «اعلم أن أوّل ما يعرف استدلالا من صفات القديم جل وعز إنما هو كونه قادرا وما عداه من الصفات يترتب عليه لأن الدلالة التي دلت على أنه تعالى هو المحدث للعالم، دلت على هذه الصفة التي هي كونه تعالى قادرا من غير واسطة. وليست كذلك باقي الصفات لأنا نحتاج فيها إلى واسطة أو واسطتين أو وسائط» (2) إنه بنى قدرة الله تعالى على صحة الفعل الدالة على كونه قادرا والدليل على أنه سبحانه صحّ منه الفعل أنه قد وقع منه الفعل المتمثلة في أجسام العالم وكثير من الأعراض، فلو لم يصح الفعل لم يقع لأن الوقوع أمر زائد على الصحة (3). وألزم المكلف العلم بقدرة الله عز وجل فيما كان وما لم يزل وما لا يزال (4) بغير انحصار في الجنس والعدد.
الثاني: الاشتراك في العلة. بنيت عليها مسائل كثيرة في العدل مثل القول: لا يجوز أن يفعل الله سبحانه القبيح لأن الأدلة تنزّهه عن أن يفعل جل وعز القبائح، وهو ما نجده في أحد أوجه الشريف المرتضى (5) (346هـ) حين فسّر قوله
__________
(1) الكشاف، ج 2، 298.
(2) شرح الأصول الخمسة، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية للنشر، الجزائر، 1980م، ج 1، ص 93.
(3) م ن، ج 1، ص 93.
(4) فالله تعالى (كان قادرا فيما لم يزل ويكون قادرا فيما لا يزال ولا يجوز خروجه عنها لضعف أو عجز وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات ومن كل جنس على ما لا يتناهى، وأنه لا ينحصر مقدوره لا في الجنس ولا في العدد. انظر شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 96.
(5) علي بن الحسن الموسوي العلوي (ت 436هـ)، تلقى العلم في بغداد من أبرز شيوخه محمد بن محمد ابن النعمان الشيعي المعروف بالمفيد. وكذا المرزباني المعتزلي. برع في فنون العلوم والآداب، له مؤلفات(1/106)
عز وجل: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنََاهََا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16] بأن الإهلاك قد يكون حسنا، وقد يكون قبيحا فإن كان مستحقا أو على سبيل الامتحان كان حسنا غير أنه يكون قبيحا إذا كان ظلما، فتعلق الإرادة به لا يتطلب تعلقها به على جهة القبح، ولا يقتضي ظاهر الآية أيضا ذلك = وإذا علمنا بالأدلة تنزه القديم تعالى عن القبائح علمنا أن الإرادة لم تتعلق إلا بالإهلاك الحسن، وقوله تعالى: {أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} المأمور به محذوف وليس يجب أن يكون المأمور به هو الفسق، وإن وقع بعده الفسق ويجري هذا مجرى قول القائل: «أمرته فعصى ودعوته فأبى، والمراد أنني أمرته بالطاعة ودعوته إلى الإجابة والقبول» (1). فالله تعالى «عالم بقبح القبيح ومستغن عنه وعالم باستغنائه عنه ومن كان هذا حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه» (2) وبرد هذا إلى الشاهد نجد «أن أحدنا لو خيّر بين الصدق والكذب، وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهما وإن صدقت أعطيناك درهما وهو عالم بقبح الكذب مستغن عنه، عالم باستغنائه عنه، فإنه قط لا يختار الكذب على الصدق لا لذلك إلا لعلمه بقبحه وبغناه عنه. وهذه العلة بعينها قائمة في حق القديم تعالى فيجب ألا يختاره البتة لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهدا وغائبا» (3).
والفرق بين وجهي القياس هو أن الدلالة في الوجه الأول واحدة في الشاهد والغائب لأن الاستدلال قائم فيهما على أنه قادر بصحة الفعل أي أن الحكم فيهما
__________
كثيرة من أبرزها في التفسير: غرر الفوائد ودرر القلائد المشهور ب «أمالي المرتضى» التي مثلت مجالس متعاقبة ومواضيع متنوعة الأغراض اختار فيه بعض آي الذكر الحكيم التي استدعت السؤال وأثارت الإشكال فعالجها مؤولا على طريقة أصحاب «من المعتزلة»: انظر أمالي المرتضى، (مقدمة المحقق)، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1967م، ج 1، ص 3وما بعدها.
(1) م ن، ج 1، ص، 1وانظر أبو الحسن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي (ت 377هـ) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، تحقيق محمد زاهد بن الحسن الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراز القاهرة، ط 2، 1977م، ص 165 (باب ذكر القدرية ونعتهم ومذاهبهم واعتقادهم (. والإيجي، المواقف، ص 323وما بعدها.
(2) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 3، 4. انظر نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام الغائية عند الأشاعرة ص 175: تقيد الأشاعرة لرأي المعتزلة حول نفي إرادة الله تعالى للمعاصي الإنسانية.
(3) م ن، ج 2، ص 54.(1/107)
يكون معروفا بدلالة. أما الثاني فإنّ الحكم في الشاهد يعرف بضرورة ويبنى على دلالة قائمة على التعليل ثم يرد الغائب إليه للاشتراك في العلة. فالحكم في الغائب يعرف فيه بالتعليل وبطريقة الرد (1).
وأضاف القاضي عبد الجبار لما رآه أبو هاشم الجبائي وجهين (2):
ما يجري مجرى العلة: وهو أن تعرف كون أحدنا مريدا حكيما، وقد عرفت نفس الصفة ضرورة فينا، فحين تعرف حكمها وتعرف ثبوته في الغائب أثبت هذه الصفة في الغائب، فأنت ترى بأننا لم نسلك في إثبات الصفة في الغائب طريق التعليل ثم إن الصفة عرفت في الشاهد ضرورة بينما عرفت في الغائب بدلالة.
والوجه الثاني، ما لا يجري مجراها: فلا توجد علة في هذا الوجه تجمع بين الشاهد والغائب وهو ما يتعلق بالشاهد (2) ثم نجد في الغائب ما هو أبلغ منه «لا يقبل بأن يقال: قد ثبت في الشاهد أن العلم والظن يستويان في كل ما طريق حسنه المنافع ودفع المضار بل إذا حسن مع الظن والعلم أقوى منه فيجب أن يحسن مع العلم» (4). فالقاضي عبد الجبار يشترط لدلالة الشاهد على الغائب المساواة بينهما بخاصة في شرط الاشتراك في العلة، فإن اتحدت شروط العلة في الشاهد والغائب أمكن الحكم بينهما بالمساواة، على أن شرط العلة أساسي للمساواة بين الشاهد والغائب، وليس مجرد الاشتراك في الصفة، لذا أضاف بأنه ليس كل صفة يستحقها الواحد منا لمعنى أو لوجه آخر يستحقها القديم على ذلك الحد، وإنما يجب بالاشتراك في الصفة الاشتراك فيما أثر في تلك الصفة عند أمور ثلاثة (5):
الأول: أن يكون حقيقة الصفة هي العلة.
الثاني: أن تكون مجرد الصفة تقتضي العلة.
__________
(1) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 22.
(2) انظر المجموع في المحيط بالتكليف، تحقيق الأب يوسف جوين، المطبعة الكاثولوكية، بيروت، ج 1، ص 167، 169.
(4) م ن، ج 1، ص 166.
(5) م ن، ج 1، ص 187.(1/108)
والثالث: أن ما دل على الصفة دلّ على العلة. وهذا معناه مغايرة صفات الله تعالى لصفات المخلوقين. فالله تعالى قادر ليس كالقادرين لأن صفة القدرة عنده سبحانه ليست من جنس صفة القدرة عند العبد (1).
غير أن العلة في كون أحدنا قادرا هي العلة نفسها في كونه تعالى قادرا (2).
وإذا كان الواحد منا عالما قادرا وجب أن يكون جسما لعلة هي مفقودة في حق الله عز وجل لأن أحدنا عالم بعلم وقادر بقدرة، وكلاهما يحتاج في الوجود إلى محل مبني بنية مخصوصة لا بدّ أن يكون على هذا الوجه جسما، ويمتنع أن يكون الله تعالى كذلك لأنه عالم لذاته وقادر لذاته، فلا يلزم أن يكون على ذلك جسما لتنزّهه عن الجسمية (3).
لهذا قالوا: الله تعالى قادر بنفسه والعبد قادر بالقدرة والقادر بالنفس يخالف القادر بالقدرة، وعلى هذا يقدر على أجناس لا يقدر عليها العباد بالقدرة (4). ولقد أنكر المعتزلة أن يكون الله تعالى عالما بعلم محدث لأن العلم المحدث لا يخلو أن يكون إما في نفسه أو في غيره أو في لا شيء، فإن كان في نفسه صارت نفسه
__________
(1) ميز المعتزلة بين قدرة العبد وقدرة الله، وهو تمييز في موضوع القدرة وفي طريق الفعل. فالقادر لذاته في موضوع القدرة يستطيع أن يفعل الأجسام والأعراض معا بينما لا يقدر العبد إلا على أنواع من الأغراض، ومقدرات القادر لذاته لا تتناهى وهي تصح منه لما هو عليه في ذاته.
فلا قادر يشار إليه إلا، ويصح كونه قادرا على أكثر منه فيجب كون القادر لنفسه قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا له، وأن لا تختص مقدوراته بقدر. أما في طريقة تحقيق الفعل فإن القادر لذاته إنما يفعل على وجه الاختراع أو بواسطة الأسباب وبدونها ولا يحتاج في ذلك لآلات وجواهر وليس هذا حالنا وإنما هو حال الله تعالى. وقد وصف المعتزلة الإنسان بالاختراع لكنه الاختراع الإنساني بمعنى التقدير ويختص بمقدرات الإنسان فقط، فلا يترتب عن اختراع الإنسان لشيء أنه قادر على كل شيء. انظر القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج 4، ص 277، وج 11، ص 323، ج 12، ص 322، ج 8، ص، 298وكذا شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 152، 153.
(2). إن حكم القدرة ثابت في الله عز وجل فلا بد أن يكون قادرا لأن طرق الأدلة مختلفة في الشاهد والغائب، وإن قياس الشاهد على الغائب في مجال الإلهيات والغيبيات أمر لا يتسق مع الاعتقاد السوي.
انظر د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص، 284
(3) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 155، 156.
(4) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، علق عليه وخرج آياته وأحاديثه الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية بيروت ط 1، 1995م، ص 96.(1/109)
محلا للحوادث وترتب عليه أنه محدث لم يكن ثم كان، وإن أحدثه في غيره صار ذلك الغير عالما بما حلّه منه دونه. أما إذا أحدثه قائما بنفسه لا في شيء يحلّ فيه فغير جائز. ولا يجوز أن يحدث حركة قائمة بنفسها لا في متحرك وأنكروا علم الله بعلم قديم لفساد قدم الاثنين (1). فالله قديم والقدم من أخص وصف ذاته (2)
فلو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألوهية، فلما امتنع ذلك وفسد صحّ وثبت أن الله جل وعز لم يزل عالما بالأمور كلها على ما هي عليه من حقائقها لنفسه لا بعلم سواه، والصحيح من القول هو أن الله تعالى كان ولا شيء معه وأنه لم يزل يعلم أنه سيخلق الأجسام، وأنها ستتحرك بعد خلقها وتسكن، فهو سبحانه لم يزل يعلم أنها متحركة إذا حلّتها الحركة وساكنة إذا حلّها السكون، وهو لم يزل يعلم لنفسه أن الجسم قبل حلول الحركة فيه سيتحرك، وبأنه سيتحرك عند حلول الحركة فيه.
وقد ذكر الأشعري لأبي الهذيل العلّاف في هذا قوله: «إنّ علم الله هو الله وإن قدرته هي هو لأنه إذا كان علمه هو هو وقدرته هي هو فواجب أن يكون علمه هو قدرته، وإلا لزم التناقض كما لزم أصحاب الاثنين» (3). ثم قال: «وكان
__________
(1) انظر الخياط، الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 170، 171، 173.
(2) الصفات عد المعتزلة مقسّمة إلى: أصفات ذات، ب. صفات معنى، ج. صفات لا للذات ولا للمعنى أو بطريقة أخرى: أ. ما له تعلق، ب. وما لا متعلق له. وهي ليست بمعنى أكثر من الوصف الذي هو قول القائل وإخبار المخبر عمن أخبر عنه بأنه عالم قادر وقالوا بأن الله تعالى كان في أزله بلا صفة ولا اسم من أسمائه وصفاته العليا لأنه لا يجوز أن يكون في القدم واصفا لنفسه لاعتقادهم خلق كلامه، فلا يحوز أن يكون معه في القدم واصف له مخبر عما هو عليه لذا قالوا بوجوب أن لا صفة لله تعالى قبل أن يخلق خلقه، وبأن الخلق هم الذين يجعلون لله الأسماء والصفات لأنهم الخالقون بحسب زعمهم أقولهم التي هي صفا الله وأسماؤه، ولقولهم بأن الاسم هو التسمية وهو قول المسمى لله عز وجل، وبأنه تعالى كان قبل كل من كلمه وأمره ونهاه بلا اسم ولا صفة، فلما أوجد العباد خلقوا له الأسماء والصفات. وقال بعضهم: الصفات نوعان: صفات ذات هي لوازم لمعنى العلة الأولى مقتضاة لها وضرورة مثل البساطة المطلقة واللانهاية والثبات أو عدم التدرج والتغير والوحدانية والسرمدية أي البقاء أزلا أبدا، والعظم أو الوجود في كل مكان وفوق ذلك صفات الوجود بما هو موجود أي الحق بالذات والخير بالذات والجمال بالذات. وصفات أفعال تشمل آثار العلية الإلهية التي تعنى بتدبير العالم والعناية بالإنسان. كتاب التمهيد، ص 217. ويوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة، ص 154. وزهدى جار الله، المعتزلة، ص 69، 70، 71. ود. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 283.
(3) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ج 2، ص 178.(1/110)
أبو الهذيل إذا قيل له: أتقول إن الله علم؟ قال: أقول: إن له علما هو هو وإنه عالم بعلم هو هو وكذلك قوله في سائر صفات الذات» (1).
واختلف المعتزلة في الصفات فكانت لهم فيها آراء منها قول أبي علي الجبائي أنه تعالى يستحق هذه الصفات الأربع التي هي كونه قادرا، عالما، حيا، موجودا لذاته.
وعند أبي هاشم يستحقها لما هو عليه في ذاته، فلله في كل معلوم حال مخصوص، وليست هذه الأحوال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا أشياء.
أما النظّام فكان يقول: إذا ثبت البارئ عالما قادرا، حيا، سميعا، بصيرا، قديما، أثبت ذاته وأنفى عنه الجهل والعجز والموت والصمم والعمى، وكذلك قوله في سائر الصفات. وهذا يكشف خلافا واضحا بينه وبين رأي أبي الهذيل العلاف السابق: الله عالم بعلم وعلمه نفسه أو هو هو، فقد نفى العلم من حيث أوهم أنه أثبته وذلك أنه لم يثبت إلا البارئ فقط فلم يثبت لله تعالى صفات لا هي هو، ولم يثبت إلا البارئ فقط (2). وردّ الخياط على ما ألزم به العلاف بأن الله علم وقدرة وأنه أخذ عن أرسطوطاليس ما جاء في كتبه: البارئ علم كله، قدرة كله، حياة كله، سمع كله، بصر كله فحسن اللفظ عند نفسه وقال: علمه وهو، وقدرته هي هو. وبيّن فساد القول الذي يذهب إلى أن الله عالم بعلم قديم أو عالم بعلم حديث، وبأن الصحيح هو أن الله عالم في الحقيقة أي عالم بنفسه، وبأنه من غير الصواب أن رأي أبي الهذيل العلاف هو أن الله علم وقدرة لأن فساده ذكره أهل التوحيد كلهم عند قولهم: إنّ وجه الله هو الله لأن الله عز وجل ذكر الوجه في كتابه العزيز، قال عز وجل: {إِنَّمََا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللََّهِ} [الإنسان: 9]، «وقد فسد
__________
(1) م ن، ج 1، ص 245، 264، ج 2، ص 178.
(2) انظر، م ن، ج 2، ص 177، 178. والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة ج 1، ص 119، 120، وكذا الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 92قال الجبائي: البارئ تعالى لذاته قادر حي لذاته ومعنى قوله لذاته «أي لا يقتضي كونه عالما صفة هي علم أو حال توجب كونه عالما»، وقال أبو هاشم في السياق نفسه: «عالم لذاته ومعني ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا، وإنما تعلم الصفة على الذات لا بإفرادها، فأثبت أحوالا هي صفات لا موجودة ولا معدومة ولا مجهولة أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات». انظر كذلك. د. عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 212، 213، 214، وكذا د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 284.(1/111)
أن يكون لله وجه هو بعضه أو وجه صفة له قديم معه جل الله وتعالى عن ذلك فلم يبق إلا أن يكون وجهه هو كما يقال: «هذا وجه الأمر» و «هذا وجه الرأي»: «هذا الأمر نفسه، وهذا هو الرأي نفسه» (1) ومثله القول: إن علم الله هو الله تماما كالقول الثابت عن أهل التوحيد: وجه الله هو الله (2)، وذكروا أن الوجه يعبر به عن الذات كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] «أي كل شيء هالك إلا هو» (3)، وكذلك قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ (26) وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلََالِ وَالْإِكْرََامِ} [الرحمن: 26، 27] لما كان المراد الوجه نفسه لم يقل: «ذي الجلال» كما قال: {تَبََارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلََالِ وَالْإِكْرََامِ}
[الرحمن: 78]: حين كان اسمه غيره (4).
وفسّر الزمخشري قوله تعالى: {إِلََّا وَجْهَهُ} الآية: بما تأوّله الشريف المرتضى:
«إلا إياه والوجه يعبّر به عن الذات» (5)، وكذلك قوله: {وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلََالِ وَالْإِكْرََامِ} الآية: {وَجْهُ رَبِّكَ} «ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة والذات» (6). وقال الشريف المرتضى الشيعي المعتزلي في قوله تعالى: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} البقرة: 115]: «يحتمل أن يراد به: فثمّ الله، لا على معنى الحلول، ولكن على معنى التدبير والعلم، ويحتمل أن يراد به: فثم رضا الله وثوابه والقربة إليه» (7). ولم يخرج تأويل الزمخشري عن هذا. قال: «فثم وجه الله أي جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى: أنكم إذا منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام وفي بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلّوا في أيّ بقعة شئتم من بقاعها» (8). وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغََاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقََامُوا}
__________
(1) الخياط المعتزلي، الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص، 128وكذا الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ج 2، ص 178.
(2) م ن، ص 128.
(3) الشريف المرتضى، أما لي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد)، ج 1، ص 592.
(4) أما لي المرتضى، ج 1، ص 592.
(5) الكشاف، ج 3، ص 194.
(6) م ن، ج 4، ص 46.
(7) أما لي المرتضى، ج 1، ص 593.
(8) الكشاف، ج 1، ص 307.(1/112)
{الصَّلََاةَ وَأَنْفَقُوا مِمََّا رَزَقْنََاهُمْ سِرًّا وَعَلََانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولََئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدََّارِ} [الرعد: 22] يقول الزمخشري: «وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان حسنا عند الله، وإلا لم يستحق به ثوابا، وكان فعلا كلا فعل» (1).
وهكذا أكد المعتزلة أن قصد أبي الهذيل العلاف إنما هو أن الله تعالى يستحق الصفات لذاته (2). وهم لا يرون في علاقة الصفات بالذات وجودا حقيقيا للصفات عن الذات. فالصفات عين الذات وليست شيئا آخر غير الذات.
أما أخذ العلاف عن أرسطو فيبطل من خلال الفرق بين مفهومي المحرّك الأول عند أرسطو ومفهوم الله تعالى عند المعتزلة وجميع المسلمين، فليس الله تعالى في مذهب أرسطو هو خالق الكون بل هو حركته لأنه يرى أن كل خالق حالم، والحالم غير راض بالواقع تتوق روحه إلى ما لم يكن، يبحث عن السعادة فهو مخلوق ناقص يسعى إلى الكمال. أما الله فكامل وكماله ينزّهه عن السخط والتعاسة فهو إذن محرك الكون لا خالقه، محرك لا يتحرك، فسبب كل حركة نتيجة لحركة أخرى فسيّد كل عبد، عبد لسيد آخر، والطاغية نفسه عبد لطموحه.
غير أن الله تعالى لا يمكن أن يكون نتيجة لأي عمل ولا عبدا لأيّ سيّد بل هو مصدر كل عمل. هو سيّد السادة جميعا، ومبعث الفكر جميعه. إنه محرك العالم الذي لا يتحرك أو إنه السبب غير المخلوق لكل حركة (3). أما فاعلية الله سبحانه في الكون وخلقه له وعنايته به فواضحة لدى المسلمين.
__________
(1) م ن، ج 2، ص 357.
(2) فقد ذكر له القاضي عبد الجبار: = قال أبو الهذيل العلاف: إنه تعالى عالم بعلم هو هو وأراد به ما ذكره أو علي إلا أنه لم تتلخص له العبارة. ألا ترى أن من يقول: إن الله تعالى عالم بعلم، لا يقول: إن ذلك العلم هو ذاته تعالى = ثم قال: فالصفات: القدرة والعلم والحياة والوجود ليست مغايرة للذات لا أنّ ذاته علما =. شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 119، 120وكذا د. عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 213، 214
(3) انظر دانالي توماس، أعلام الفكر الأوروبي من سقراط إلى سارتر، ترجمة عثمان نويه، كتاب الهلال، العدد 313، جانفي 1977م، ج 1، دار الهلال، ص 35، 36وكذا يوسف كرم، الطبية وما بعد الطبيعة، دار المعارف، مصر، 1966م، ص 6، 157وانظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص، 213(1/113)
لقد اتفق الفلاسفة وعلماء الكلام من معتزلة وأشاعرة وغيرهم أن الله هو خالق العالم وقادر على إفنائه أو إبقائه، بيد أنهم اختلفوا في تعليل خلقه تعالى للعالم وتعليل أفعاله والغاية منها، فذهب الفلاسفة إلى صدور العالم عن الله صدورا «طبيعيا» لا لغرض ولا لعلة إذ الغرضية والعلية تحتمل النقص والحاجة، ولا يحقّ إطلاق هذا على الله عز وجل. أما القول بالعلّية في أفعال الله فيمثل عند الأشاعرة تقييدا لسلطة الله المطلقة، لذا فالقول بأن الله علة للعالم يجعل من الله تعالى حسبهم فاعلا بالطبع، ما يصدر منه يلزم عنه على سبيل الضرورة، فأكدوا أن هذه الحجة لا تلزمهم ورأوا على ضوء مبدئهم لا علية ولا شرطية في خلق الله للعالم بل خلق بإرادة مختارة وإيجاد على محض المشيئة. فما دام الله تعالى عالما بعلم قديم ومريدا بإرادة قديمة، فلا يحتاج لاشتراط العلية في أفعاله. فالإنسان من حيث هو قادر بقدرة وعالم بعلم يمكن القول أنه يفعل لغرض أو لعلّة لأنه لا يبلغ حدّ الكمال المطلق. ولما كان متعذرا قياس الغائب (1) على الشاهد، فإنه لا يصحّ تطبيق ذلك على الله تعالى. غير أن المعتزلة خالفوهم فذكروا أن الله حكيم لا يصحّ أن يفعل عبثا ولا أن يخلق العالم بلا غرض ولا حكمة، وذهبوا إلى أنّ القول بهذا نوع من العبث لا يجوز عليه سبحانه. إنهم يرون أن الله خلق العالم لأجل تكليف الإنسان، وهذا يقتضي إثبات العلية والغرضية في أفعال الله تعالى.
فالتكليف عند المعتزلة علة خلق العالم، ووجه العلة عندهم في الخلق إن هو إلا مفهوم العدل الإلهي الذي يتطلب وجه الحكمة في خلقه منفعة البشر (2).
__________
(1) إن معرفة الغائب تحصل بالحكم لا بالتصور الساذج لأن التصور يكتسب في الحقيقة بالمشاهدة، فإذا حكمنا بأن الله عليم مريد كان الحكم صادقا لأنه بني على شواهد قاطعة لكن لا يجوز تصور الإرادة الإلهية والعلم الإلهي في ذاتهما أي النحو الذي توجد عليه الصفة في الله، فهو ممتنع تصوره لغياب الماهية الإلهية عن عقولنا والحكم على أفعال الله بحسب المقاييس الإنسانية غير جائز لأنه محدود الحكم على الحكمة الإلهية التي هي أعلى من الحكمة الإنسانية. وقد عدّ الأشاعرة من حكم على فعل الله بذلك مشبها بين الإنسان وبين الله في الأفعال. انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 310، 311، 331وكذا يوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة، ص، 154ودي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 233، 234ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 89
(2) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 317، 318وكذا يوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة، ص، 168وكذا نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام، الغائية عند الأشاعرة الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر 1992م، ص 52، 53، 286وما بعدها. وكذا د. سميح دغيم، فلسفة القدر(1/114)
ولما كان الخلق يتناول العالم ومن ضمنه الإنسان، وبأن خلق الخلق لمنفعة البشر فإنّ التكليف لدى المعتزلة أحد وجوه المنفعة التي يتعرض لها الإنسان. فالله عز وجل لا يفعل الأفعال لإرادة حدوثها فقط، وإنما يريد إحداثها على وجوه يحسن لأجلها هي: منفعة تفضل (1) ومنفعة عوض ومنفعة ثواب. فالأولى: يريد أن ينفعه تفضلا لا على سبيل الاستحقاق وهي واقعة ابتداء من غير سبب لفاعلها أن يفعلها ولا يفعلها. والثانية: يريد تعريضه لمنفعة مستحقة على وجه التعظيم بالتكليف. والثالثة: يريد تعريضه لمنفعة بالثواب أو على طريقة الأعواض (2). لقد صدر التكليف من الله عز وجل وثبت عدله وحكمته، وأنه لا يختار القبيح ولا يفعله، فلا بد أن يكون حسنا إذ لو كان قبيحا لم يفعله الله سبحانه. أما طريقة التفضيل فهو أن تقول: قد ثبت حسن تكليف المؤمن ولا وجه لحسنه إلا أنه تعالى أقدره على ما كلّفه وقوّى دواعيه إليه وأزاح علله فيه، وهذا ثابت في حق الكافر مثل ثباته في حق المؤمن ويكمن الفرق بينهما في أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه واستعمل عقله فآمن بينما لم يحسن الكافر الاختيار لنفسه لشقاوته فلم يؤمن. ولا يخرج هذا الله سبحانه من أن يكون متفضلا عليهما معا (3). فتكليفهما جميعا حسن، والخلاف في وجه حسن تكليف الله تعالى من المعلوم أنه يكفر، فعند بعضهم حسن تكليفه لأن الله عرّضه لدرجة لا تنال إلا بالتكليف وهي درجة الثواب، وعند آخرين حسن تكليفه لأنه أصلح، والأصلح أريد به الأنفع، وهكذا يظهر حرص المعتزلة على إقرار العدل الإلهي وتنزيهه من الظلم ونفي القبح والشرّ عنه وإثباتها أفعالا للعباد. ناهيك أن من وجوه المنفعة
__________
في فكر المعتزلة، ص 88، 89، 90، 323وكذا محمد الأنور السهوتي، دراسات في علم الكلام، دار الثقافة العربية، القاهرة 1986، 1987م، ص 48، 49، 50.
(1) الفضل: ابتداء إحسان بلا علّة: الجرجاني، التعريفات، ص، 182وانظر محمد عبد الرءوف المناوي (ت 1031هـ)، التوقيف على مهمات التعارف، تحقيق د. محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1410هـ، ص، 559
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 150، 160، 165وما بعدها. وكذا أمالي المرتضى، ج 1، ص، 47
(3) انظر م ن، ج 2، ص 180، 181وكذا د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 93،، 323(1/115)
عندهم التكليف، فلا يحدث الله تعالى فعلا لكونه يريد حدوثه لا غير، وإنما سبحانه أحدث الفعل على وجوه يحسن لأجلها، وثلاثة الوجوه الدالة على المنفعة هي كما ذكرنا قبل: منفعة تفضل ومنفعة عوض ومنفعة ثواب. ولا ريب في أنها وجوه يحسن بها الخلق عند المعتزلة. وهي التي تسمى بالغرضية في أفعال الله عز وجل. وتكليف الإنسان مدرج فيها أي يراد بتكليفه تعريضه للثواب أو نفعه تفضلا ليس من طريق الاستحقاق أو أن ينفعه عز وجل نفعا مستحقا بالعوض. ويقودنا هذا السياق إلى مقوّمات التكليف عندهم وهي:
أن يكون الإنسان قادرا (1) على فعل ما كلّف به مشترطين وجود الإرادة والكراهية (2). إذ لا يصح أن يكلف الإنسان الفعل إلا ويكون قادرا عليه ويصح منه إيجاده، وبذلك فالقدرة شرط في وجود الفعل وفي كون الفاعل قادرا (3).
تمكين المكلف من الأدوات أو اللوازم التي تمكنه من الفعل قبل حال الفعل بجعل الفاعل مريدا لأن الفعل لا يتم إلا بقدرة وبإرادة، فإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقدرة التامة لزم عنها وجود الفعل. وقد جعل الأشاعرة القدرة مقارنة للفعل بينما أجمع المعتزلة على تقديمها قبله «وهي قدرة عليه وعلى ضده وهي غير موجبة للفعل، وأنكروا بأجمعهم أن يكلف الله عبدا ما لا يقدر عليه» (4)، ولا اختلاف بينهما في أن الفاعل ليكون كذلك لا بد من أن يكون قادرا (5).
__________
(1) الفرق بين قدرة الله تعالى وقدرة العبد هو أن قدرة الله سبحانه تتعلق بأصل الفعل بينما تتعلق قدرة العبد بصفات هذا الفعل. فإذا لطم طفل فإن ذات اللطم واقعة فيه بقدرة الله عز وجل، وتأثيره وكونه طاعة على الأول. وكونه معصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره. قاله القاضي. انظر الإيجي، الموافق في على الكلام، ج 3، ص، 215
(2) انظر القاضي عبد الجبار شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 11د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 95
(3) انظر م ن، ج 2، ص 91، 92، 93، 94
(4) الأشعري، مقالات الإسلامين، ج 1، ص، 300
(5) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 81، 91وابن تيمية (ت 728هـ) منهاج السنة النبوية، ج 3، ص 50، 51وكذا الإيجي (ت 756هـ)، المواقف في علم الكلام، ص، 151 ومرعى بن يوسف الحنبلي القدسي (ت 1033هـ)، دفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، ص، 48(1/116)
تمكين المكلف بالعلم الناتج عن النظر ليكون قادرا على الاختيار في أن يفعل وأن لا يفعل لأن «التكليف بما لا يعلم كالتكليف بما لا يطاق في باب القبح» (1).
وإذا كان المعتزلة قد شرطوا في قدرة المكلف على الفعل وجود الإرادة والكراهة فإن الأشاعرة رأوا أن الله تعالى يأمر الإنسان بما يكرهه كالقتال وينهاه عما يحبّه كهوى النفس. ولم يشترطوا في المأمور به أن يكون العبد مريدا له ولا من شرط المنهى عنه أن يكون العبد كارها له لأن الفعل موقوف على القدرة والإرادة، وليس على كونه مريدا له، ولكنهم ذهبوا إلى أن فعله لا يوجد إلا إذا أراده أي أن الإرادة شرط في وجود الفعل، وليس في وجوبه علما بأن من المعتزلة من جوّز مقارنة الإرادة للفعل من غير أن تكون موجبة له (2). وجعل بعض منهم الإرادة موجبة للفعل وذلك لعدم تمييزهم بين مرحلتي الفعل:
الأولى: التي يريد فيه الإنسان ولا يفعل. والثانية: يريد فيها ويفعل إذ جعلوهما معا عزما من الإنسان يوجب التنفيذ (3). وبهذا لم يكلف الله تعالى العباد ما لا يطيقونه، وإنما كلفهم ما في وسعهم ومقدورهم فعله، فللعبد إذن قدرة وإرادة وفعل حقيقة يستطيع به أن يفعل ما يكلف به أو يتركه، ولكن الله عز وجل هو الخالق ذلك كله عند الأشاعرة (4).
ولم يرد الأشاعرة الحكم على أفعال الله تعالى بالمقاييس الإنسانية لما فيها من محدودية الحكم على الحكمة الإلهية التي تسمو، وتعلو على الحكمة الإنسانية وعدوا القضاء على الغائب بحكم الشاهد من غير جمع بينهما في العلة والشرط والدليل والحد تشبيها بين الإنسان وبين الله تعالى في الأفعال، لذا بنوا منهجهم في إثبات العلم بالصفات الأزلية ورد الغائب إلى الشاهد (5) على اعتبار جوامع
__________
(1) م ن، ج 1، ص، 11
(2) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 203وانظر نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام، ص، 155
(3) م ن، ص، 204
(4) انظر، مرعى بن يوسف الحنبلي المقدسي، دفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدرة، ص، 51
(5) هو من طريق القياس الأصولي، يطلق عليه المتكلمون: قياس الغائب على الشاهد، فالمقيس عليه عند(1/117)
أربعة: العلة والشرط والدليل والحد مستدلين بأن الصفات زائدة على الذات (1)
بقياس الغائب على الشاهد، فإذا كانت علة كون الشيء في الشاهد عالما هي العلم بدليل قائم، فإن الأمر في الغائب كذلك (2)، وفي هذا جمع بين العلة والمعلول، فلا يجوز تقدير واحد منها دون الآخر، وعلى هذا لا يصح تقدير العالم عالما دون العلم لأن الوصف يقتضي الصفة مثلما تقتضي الصفة الوصف. وهذا يؤكد التلازم العقلي بين العلة ومعلولها عندهم (3) إلا أنهم نفوا أن يكون تلازم بين العلة والمعلول في العلل الطبيعية، لذا لا يلزم عندهم اقتضاء النار الإحراق، وإنما أجروه مجرى العادة ولا توجد ضرورة تحكم العلاقات بين متغيرات العالم إذ من الممكن أن تلاقي النار القطن ولا يحترق، وعلى هذا يجوز أن تختلف كل الآثار المشاهدة للأجسام. ومرادهم هنا هو أن الطبيعة لا تكون فاعلا بل الفاعل الله بالاختيار (4).
ومثّلوا للجمع بالشرط بأن العلم مشروط بالحياة (5) في الشاهد وفي الغائب، ومنه وجب طرد الشرط شاهدا وغائبا «نحو حكمنا بأن كون العالم عالما مشروط بكونه حيا، فلما تقرر ذلك شاهدا اطرد غائبا» (6).
__________
المتكلمين هو الأصل عند الأصوليين، والمقيس هو الفرع. والجامع بين الأصل والفرع أو بين الشاهد والغائب هو العلة عند الأصوليين. «وزاد المتكلمون إلى الجمع بالعلة كما هو أعلاه، الجمع بالشرط والدليل والحد والحقيقة». انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 38د. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، ص 132، 133وكذا علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 24، 25
(1) الله تعالى قادر بقدرة عند الأشاعرة دون مماثلة بين قدرة الله وقدرة المخلوقين للمغايرة بين صفاته وذاته عز وجل عما هي عليه لدى المخلوقين، ويرى المعتزلة الصفات مجرد قول يطلق على الدلالة على الموصوف ليس لها معنى ثابت حقيقي ولا وجود فعلي عن الذات، فهي عين الذات لا شيء آخر. انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 57وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 72، 73ود. عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 212، 213، 286ود. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص، 148
(2) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 38، ود. سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص، 133
(3) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص، 24
(4) انظر نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام، ص، 95
(5) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، ص 197 (باب الكلام في الصفات).
(6) إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 38وانظر د. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص، 133(1/118)
أما الجمع بالحد بين الغائب والشاهد، فمفاده أنه «مهما تقررت حقيقة شاهدا اطردت في مثله غائبا نحو حكمنا بأن حقيقة العالم من قام به العلم» (1). فكذلك يكون حده في الغائب. ومثلوا للجمع بالدليل «بأن الحدوث والتخصيص والأحكام يذل على القدرة والإرادة والعلم شاهدا فيجب طرد ذلك غائبا. وتفسير هذا أنه يجب طرد الدليل شاهدا وغائبا، فإنّ التخصيص والأحكام دليلا على القدرة في الشاهد وجب طرده في الغائب» (2).
وقد اعترض على هذه الأقيسة بخاصة القياس التمثيلي في العلم الإلهي بعدم جواز استواء الأصل والفرع، وذلك أنّ الله تعالى لا يماثله شيء ويصعب جدا أن يساوي المرء بإطلاق بين الشاهد والغائب (3) بخاصة إذا علمنا من بعض العلماء من يبني نقده واعتراضه فيما سبق على التفريق بين حقيقتي الغائب والشاهد إذ الخلاف في حقيقتهما يوصل إلى الاختلاف في حكم العلة فيهما (4).
قياس الأولى:
وهو يبنى على أن كل كمال يثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه وهو الذي كان كمالا للموجود غير مستلزم العدم، فالواجب القديم أولى وكل كمال للمخلوق استفاده من خالقه وخالقه أحق به منه. وكل عيب ونقص في نفسه إذا استلزم نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات كان نفيه عن الله عز وجل واجبا من طريق الأولى. وقد استخدم المتكلمون هذا القياس في إثبات صفات الله تعالى كإثبات صفة الكلام لله عز وجل أن الكلام في الشاهد صفة كمال، وأن عدم الكمال يكون عن آفة، فعلى هذا فالله منزّه عن الآفات
__________
(1) م ن، ص، 38
(2) د. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص، 123
(3) ولهم مع قياس الغائب على الشاهد طرق أخرى، وذلك بأن يستخلصوا من المقدمة النتيجة: إنتاج المقدمات النتائج. والاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه وبالسبر والتقسيم وبالإلزامات، وهو تحقيق الملزوم على تحقق الإلزام أو العكس. وبطلان الدليل مبطل للمدلول فما لا دليل عليه يجب نفيه. انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، طبعة مكتبة المتنبي، ص 37، 38ود. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 132وما بعدها.
(4) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 37، 279، 280(1/119)
وأحق وأولى بصفة الكلام التي هي صفة كمال للمخلوق، وإن الخالق بذلك أولى وكذلك القول في نفي الآفة عنه سبحانه لأنها صفة قبح (1).
قياس الإحراج:
يقوم على اختيار يتحتّم بين بديلين مكروهين. استعمله المتكلمون ليفحموا الخصوم، ويبطلوا حججهم في مناظرة الفرق غير الإسلامية وفيما بينهم. ويلائم هذا القياس طبيعة المنهج الجدلي عند المتكلمين الذي يهدف إلى إفحام الخصم وإبطال حجته (2).
قياس التلازم:
وهو أحد صور القياس وضّحه القاضي الجرجاني (ت 740هـ) بقوله: «الطرد ما يوجب الحكم لوجود العلة وهو التلازم في الثبوت» (3). والعكس عدم العلة لعدم الحكم» (4)، ومعناه عند الإيجي (ت 756هـ): «أن تثبت ملازمة بين شيئين فيلزم من وجود الملزوم وجود اللازم ومن عدم اللازم عدم الملزوم وإلا فلا لزوم من غير عكس لجواز أن يكون اللازم أعم» (5). أما نفي الملزوم ووجود اللازم فلا نتيجة لهما. وميزان التلازم مأخوذ به في البراهين النظرية (6). إذا كانت صفة العالم وتركيب العبد محكما عجيبا فصانعه أولى. وهذا العالم عجيب مرتب وهو مشاهد بالعيان ومدرك يلزم منه أن خالقه عالم وإن كان عالما فهو حي، وإن كان عالما حيا فهو قائم بنفسه وليس بعرض (7). والتلازم عند بعضهم «يلزم من وجود الشيء
__________
(1) انظر الماتريدي (أبو منصور (ت 332هـ)، التوحيد، ص 57، 58ود. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 276، 279، 280د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص، 27
(2) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص، 27
(3) التعريفات، تحقيق إبراهيم الأبياري، ط 1، 1405هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 183، وكذا ط 1، دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب المصري، ط 1، 1991م، ص، 154
(4) م ن، ص، 198
(5) المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة (د. ت)، ص، 36
(6) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص، 28
(7) انظر م ن، ص 28، قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] تساق مساق مسألة العلو، لا يفهم منها من صفات المخلوقين بل يوصف الله عز وجل بها كما يليق بجلاله وعظمته وينزل كما يليق(1/120)
وجود شيء آخر، وهو من صور قياس الغائب على الشاهد وهو انتقال من الشاهد المحسوس إلى الغائب وهو معرفة الله وصفاته، وهو منهج قرآني في الاستدلال على وجود الله وصفاته» اعتمده المتكلمون في إثبات وجود الله ووحدانيته حين استدلوا بحدوث العالم على وجود محدث له (1) وبإثبات صفاته تعالى قياسا على الشاهد مع اعتبار التفرقة بين صفات الله تعالى والمخلوقين. وفي هذا نبّه يوسف كرم إلى أن معرفة الغائب تحصل بالحكم لا بالتصور الساذج لأن التصور يكتسب في الحقيقة بالمشاهدة. فإذا حكمنا بأن الله عليم مريد كان هذا الحكم صادقا لأنه بني على شواهد قاطعة، ولكن لا ينبغي محاولة تصور العلم الإلهي أو الإرادة الإلهية في ذاتهما أي النحو الذي توجد عليه الصفة في الله تعالى، فمثل هذا التصور ممتنع علينا لأن الماهية الإلهية غائبة عن عقلنا، ولوجود فرق لا متناه بين عقلنا وبينها. على أن هذا القصور في تصورنا لا ينبغي أن يدفعنا إلى أن نتّهم علمنا كما فعل اللاأدريون الذين يدّعون بأننا لا نعرف عن الله شيئا (2). وإذا كان ما نحكم به في حق الله تعالى تبعا لماهية المخلوقات فلا نتصور الله جل وعز على مثالنا، ولما كان الله غير معلوم لنا علما مباشرا تظل الصفة المحكومة بها خافية دون أن ينال ذلك من قوة الحكم. وهذا يفرض الاحتياط ويلزم برسم الحدود لإضافة الصفة لله. فقولنا: الله عليم مريد امتنعنا عن تصور العلم والإرادة في الله قوتين متمايزتين من الذات مدرّجتين في الفعل متناولتين موضوعات جزئية عديدة كما هو الحال في الإنسان (3).
الإلزام:
«وهو إلزام الناس لوازم أقوالهم وإضافتها إليهم إضافة أقوالهم لأنفسهم» (4)
على أن الذي يضاف إلى المرء ما قاله. أما تقويله ما لم يقله وإلزامه إياه وأخذ
__________
بجلاله وعظمته، فقول الله تعالى هذا دال على نفي الشبه له في الصفة والذات، وبأن الخلق لا يأتون مجتمعين بمثل كلامه. انظر الماتريدي، التوحيد، ص، 58وابن جماعة (ت 727هـ)، إيضاح الدليل على قطع حجج أهل التعطيل ص 40، 41وابن تيمية (ت 728هـ)، الجواب الصحيح لمن يدل على دين المسيح، ج 2، ص 164، ج 4، ص، 406والواسطي (ت 711هـ)، النصيحة، ص 25، 26
(1) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، ص 22، 23
(2) انظر يوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة، دار المعارف بمصر، 1966، ص 153، ص، 154
(3) م ن، ص، 154
(4) د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل دراسة، ص، 28(1/121)
نتائج منه، فلا أثر له في منقول ولا يؤيده معقول (1). وقد ساعد المنهج الجدلي القائم على إفحام الخصم بكل الطرق على انتشار الإلزام بين الفرق، تلزم بعضها نتائج أقوال لم تقل. ولعل أبرز مثال على هذا إلزام الماتريدية والأشاعرة للمعتزلة بالقول بقدم العالم لقولهم بشيئية المعدوم (2). وهم يقصدون المعدوم الممكن الذي قرروا ثبوته تمييزا له عن المستحيل الممتنع، ولكن آراءهم في المعدوم متعدّدة، فبعضهم قال: لا يصح أن يكون المعدوم معلوما ومذكورا ولا يصح كونه شيئا ولا ذاتا ولا جوهرا ولا عرضا. وهو اختيار الصالحي الذي يوافق أهل السنة في الامتناع من تسمية المعدوم شيئا. وذهب الكعبي ومعتزلة بغداد إلى أن المعدوم شيء، ومعلوم، ومذكور، وليس بجوهر، ولا عرض. أما الجبائي وابنه أبو هاشم فذهبا إلى أن كل وصف يستحقه الحادث لنفسه أو لجنسه، فإن الوصف ثابت له في حال عدمه، وقالا أن الجوهر كان في حال عدمه جوهرا، والعرض كان في حال عدمه عرضا، والسواد سوادا، والبياض بياضا في حال عدمهما. بيد أنهم امتنعوا جميعا عن تسمية المعدوم جسما لأن الجسم عندهم مركب وفيه تأليف وطول وعرض وعمق ولا يصح وصف المعدوم بما يوجب قيام معنى به (3). وقد ذهب الخياط إلى رأي لم يقل به غيره من المعتزلة وسائر الفرق بزعمه أن الجسم في حال عدمه يكون جسما. فالجسم في حال عدمه جسم غير أنه لم يجز أن يكون المعدوم متحركا لأن الجسم في حال الحدوث لا يصح تحركه عنده، بينما كل وصف يجوز ثبوته في حال الحدوث ثابت له في حال عدمه (4).
لقد ذهب المعتزلة إلى القول بشيئية المعدوم الممكن لأنهم يقرون الماهيات قبل دخولها إلى الوجود، ويرون إمكانية تصور الماهيات دون أن يكون لها وجود في الخارج. وهم يبنون إقرارهم السابق على فكرتهم التي ترى الوجود زائدا على
__________
(1) انظر م ن، ص، 29
(2) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 179، ص، 180ود. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة ص، 29
(3) م ن، ص، 179وكذا نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام الغائية عند الأشاعرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992، ص، 23
(4) م ن، ص 179، 180(1/122)
الماهية وهذا يرفضه الأشاعرة لأنه يمثل خطرا على القول بالخلق المحدث وعدّوه إرهاصا لقول المعتزلة بقدم العالم (1). لهذا لا يتقرر إثبات حدوث العالم عند الأشاعرة إلا بالقول أن الحوادث قبل الإيجاد لم تكن أشياء ولا ذواتا ولا أعيانا ولا جواهر ولا أعراضا. فالمعدوم منتف عند الأشاعرة ليس بشيء (2)، والشيء عندهم مقابل للمعدوم، ولا يفرّقون بين الوجود والثبوت والشيئية والذات والعين. فالشيء هو الموجود والموجود هو الشيء (3).
إن فكرة الخلق لدى المعتزلة يفسرها يحيى هويدي على أنه عملية تمرير للمعدوم من حال العدم إلى حال الوجود فالقول: «الله خلق الأشياء من العدم» يفسر حرفيا وبالنص بمعنى أن العدم بمثابة مادة أولى فأثر الفاعل بذلك ليس سوى المرور بالمعدوم الممكن من إمكان الوجود إلى الوجود. وإذا كان مفهوم الخلق عند الأشاعرة هو الخلق من العدم فإن معنى الخلق عند المعتزلة يعني الخلق من المعدوم.
وبهذا فإن الخلق من العدم يعني أن ما لم يكن أصبح كائنا وموجودا، بينما يدل الخلق من المعدوم أن الذي كان على نحو ما أصبح كائنا على نحو آخر بمعنى الانتقال من الثبوت الأزلي إلى الوجود العيني (4)، ناهيك أن المعتزلة يتصورون خلق الله تعالى على مرحلتين:
خلق قديم لعالم المعدومات على طريق علمه وقدرته.
وخلق لعالم الأعيان على طريق الإحداث التي تنتقل به الأشياء من حالتها الثبوتية الشيئية إلى حالتها الجسمية العينية (5).
وحرص المعتزلة على التفرقة بين ماهية الله وماهية العالم يهدف إلى تدعيم أصل التوحيد وإلى توحيد الذات والصفات، ولينفوا التعدد والتغيّر عن الذات الإلهية، فمسألة الانتقال من الواحد إلى العالم المتكثّر حملتهم على تجنب إثبات
__________
(1) انظر، نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام الغائية عند الأشاعرة، ص، 24
(2) انظر، الباقلاني، كتاب التمهيد، ص، 15
(3) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 17، ونوران الجزيري، قراءة في علم الكلام الغائية عند الأشاعرة، ص 24، 25
(4) دراسات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية، دار الثقافة، القاهرة، ط 2، 1979، ص 154، 156
(5) م ن، ص، 160(1/123)
الانتقال المفاجئ من الله الواحد إلى العالم المتكثّر، وذلك لمنع أن يكون الله تعالى محلا للحوادث فقادهم هذا إلى إثبات مرحلة وسط هي مرحلة المعدوم الممكن المتشيئ الثابت على أنها مرحلة تفتقر إلى التحقيق في الخارج العيني. ويكون الله تعالى في هذه المرحلة عالما بالأشياء وقادرا عليها، تتلوها مرحلة الإرادة أو حدوث التحقق الخارجي العيني للمعدومات الممكنة الثابتة، ولهذا اعتقد المعتزلة أن القول بهذه المرحلة المتوسطة التي يكون فيها المعدوم شيئا يعمل على حل إشكال صدور الكثرة عن الواحد (1). ويستند المعتزلة والأشاعرة كلاهما في أن الشيء هو المعلوم وأن الشيء هو الموجود على ما جاء في القرآن الكريم فقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
يعضد آراء المعتزلة للإشارة إلى يوم القيامة بلفظ شيء على الرغم من كونه معدوما في هذا الوقت، وتنزيه الله تعالى في الآية الثانية عن أن يكون شبيها بأي شيء وهو معنى يجمع بين الموجودات والمعدومات.
أما الأشاعرة فيذكرون قوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] لهذا رأى الباحثون أن الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة لا يندرج تحت مبحث الوجود بل تحت مبحث المعرفة وينتج عن هذا أن إلزام المعتزلة بالقول أن العالم قديم مستبعد وما يزكي هذا ويقويه معارضته لأهم أصل من أصولهم وهو التوحيد (2)
ولعل طبيعة الجدل الكلامي التي اتسم بها مفكرو المعتزلة في مسألة المعدوم قد أوصلهم إلى أن المعدوم شيء باعتباره موضوعا للفكر فلزم أن يكون له كالموجود ضرب من الوجود كما ذكر (دي بور) الذي أضاف أن أقل ما فيه من الثبوت تعلق الفكر به، والإنسان يفكر في المعدوم عوض من أن لا يفكر أصلا (3).
__________
(1) م ن، ص 157، 159
(2) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 2، ص، 178ود. أحمد محمود صبحي، في علم الكلام (دراسة فلسفية لآراء الفرق الإسلامية في أصول الدين) مؤسسة الثقافة الجامعية الإسكندرية، ط 4، 1982، ج 1، ص، 291وكذا نورن الجزيري قراءة في علم الكلام الغائية عند الأشاعرة ص 33،، 34وكذا د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 29، وص 212، 213، 214
(3) تاريخ الفلسفة في الإسلام، تحقيق د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية ص، 100(1/124)
الاستدلال بالقرآن الكريم:
عد المتكلمون الآيات القرآنية أصدق أنواع الاستدلال لأن الدليل عندهم يستلزم المدلول. ولما كان استدلال الآية استدلالا جزئيا معينا بجزئي آخر معين لا يشمل معه آخرين، فإنه صورة من صور التلازم في الوقوع بين الدليل والمدلول كأن يكون العلم بمعجزات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم آية على نبوته أو أن يكون العلم بثبوت نبوّته عليه الصلاة والسلام أمرا كليا بينه وبين غيره لاختصاص هذه المعجزات به وحده، وقد يكون الاستدلال كليا بكلي فيستدل بجنس النهار على جنس الطلوع إذ طلوع الشمس آية على وجود النهار (1). قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنََا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنََا آيَةَ النَّهََارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12].
الاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه:
كقياس الألوان على الأكوان في استحالة تعري الجواهر عنها وليست في آخر تحليلها سوى قياس الغائب على الشاهد، وهو عند إمام الحرمين إلحاق المختلف فيه بالمجتمع المتفق عليه (2).
نفي ما لا دليل عليه:
نجد فيه بطلان الدليل دالا على بطلان المدلول وطريقه على وجهين:
الأول: يثبت بنقل أدلة المثبتين للشيء ثم يبيّن ضعفها.
الثاني: تحصر فيه أوجه الأدلة ثم تنفى بالاستقرار.
وهذا معناه العودة إلى الأول (3) لأن نفي الدليل معناه إلغاء جهة الاستدلال به.
وقد اعترض الإيجي على أنّ بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول «لجواز أن تكون جبال بحضرتنا لا نراها لعدم الدال على وجودها، والنظريات لجواز معارض
__________
(1) انظر د. على سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص، 276
(2) م ن، ص، 137
(3) انظر، الايجي، المواقف في علم الكلام، ص، 37ود. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة ص، 30ود. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص، 139(1/125)
لدليل لا نعلمه أو غلط لا دليل عليه، وأيضا فإنّ ما لا دليل عليه غير متناه وإثباته محال» (1) ثم قال: «والجواب: عدم الدليل في نفس الأمر ممنوع () وإلّا لزم على العوام والكفار. وأن يكون الأجهل بالدلائل أكثر علما» (1).
وذهب المتأخرون إلى إبطال هذا القول واللجوء إلى اعتماد الأدلة السمعية في إثبات رؤية الله تعالى ولم يكن اعتمادهم الأدلة العقلية سوى لدفع حجج الخصوم. مثلما فعل الماتريدية لقولهم العلة المطلقة لرؤية الله تعالى كونه قائما بالذات. فما كان قائما بالذات يجوز رؤيته وما لم يكن كذلك استحالت رؤيته وهو في الواقع رد على المعتزلة الذين يعلقون الرؤية بالجسم لذلك لا يتصورون أحدا يعتقد أن الله يرى إلا، ويعتقد مثلهم أنه جسم بخلاف الماتريدية الذين استدلوا بأن الله يرى لأنه قائم بالذات لا لأنه جسم (3).
توظيف صيغ جدلية:
يعتمد المتكلم في جدله صيغا تمكنه عند المناظرة والمجادلة من استقصاء ما يلزم من الفروض الخاصة بالقضية المتناولة ليرد عليها دون أن يترك لخصمه دليلا يستند إليه.
وقد أورد المتكلمون من هذه الصيغ الجدلية ما يلي: «فإن قال قائل قيل له»، «فإن قالوا قيل لهم» (4) ومنها قول الزمخشري: «وإن هم قالوا قيل لهم» وكذلك «فإن قلت قلت» (5). ومنها عند الإيجي (6): قالوا: «والجواب»، وكذلك: «فإن قلت قلنا»، و «فإذا قيل قيل»، وقوله: «فإن قيل قلنا».
__________
(1) م ن، ص، 37
(3) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة، ص، 387
(4) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، ص 9وما بعدها، والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة (م، و، ف، م) الجزائر 1990، ج 1، ص 1، وما بعدها.
(5) انظر الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج 1، ص 35، 37، 39، 44، 45، وما بعدها.
(6) المواقف في علم الكلام، ص 36، ص 37، ص 38، ص، 43(1/126)
وضع المصطلحات العلمية:
لا تخلو العلوم من مصطلحات خاصة تداول فيها، تعدّ مفاتيح لازمة للدارسين كي يفهموها ويتمكنوا من درايتها، لهذا صنّف علماء الكلام كتبا تتضمن التعريف بمصطلحاته وشرحها منها: كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي (ت 322هـ)، وكتاب الحدود لابن فورك (ت 406هـ)، وكتاب الحدود والحقائق للشريف المرتضى (ت 436هـ)، والمقدمة للألفاظ المتداولة بين المتكلمين للطوسي (ت 460هـ)، والمبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين الآمدي (ت 631هـ) (1).
ب الأدلة النقلية
الأدلة النقلية «السمعية» عند المتكلمين: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
سمّاها الباقلاني: أدلة التوقيف والسمع (2)، فكتاب الله تعالى أصل الأدلة وأقواها. نقل إلينا متواترا بالقراءة المشهورة. والسنة في معناها الاصطلاحي قول النبي وفعله وإقراره. والإجماع (3): اتفاق المجتهدين من أمة الرسول صلى الله عليه وسلم في عصر على أمر ديني. أما القياس فقول «مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر (4) كقولك: العالم متغير وكل متغير حادث، فهو مركب من قضيتين يلزم عنهما لذاتهما إذا سلمتا أن العالم حادث. هذا لدى أهل المنطق. أما عند أهل الأصول (5)، فحمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما لمساواته علة حكمه أو
__________
(1) د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة ص، 32وانظر د. عبد الأمير الأعم، الفيلسوف الآمدي، دراسة وتحقيق، دار المنهل بيروت، ط 1، 1987
(2) كتاب التمهيد، ص، 13انظر أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (ت 741هـ)، تقريب الوصول إلى علم الأصول، دراسة وتحقيق محمد علي فركوس، دار التراث الإسلامي، الجزائر، ط 1، 1990م، ص، 113
(3) وهو حجة عند جمهور الأمة بخلاف الخوارج والروافض، راجع أبو القاسم محمد بن أحمد، تقريب الأصول إلى علم الأصول، ص 129، ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين ج 1، ص 392وكذا أحمد محي الدين العجوز، مناهج الشريعة الإسلامية، مكتبة المعارف، بيروت ط 3، 1985، ج 3، ص، 127
(4) انظر محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، دار المعرفة، بيروت ط 3، (د. ت)، ج 1، ص 392ص، 393
(5) قال الجرجاني: المراد من الأصول الجامع الصغير والجامع الكبير والمبسوط والزيادات. والمراد: أصول الفقه التي تمثل القواعد التي يتوصل بها إلى الفقه. التعريفات، ص، 43وانظر محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 1، ص، 386(1/127)
نفيه عنهما بأمر جامع بينهما (1). وقد دأب العلماء على إثبات أكثر الأحكام به لانحصار نصوص الكتاب والسنة، ولأن مجالات الإجماع معدودة والوقائع غير محصورة. قيل: «حجة عند العلماء ممن الصحابة فمن بعدهم إلا الظاهرية» (2)
وقيل: حجة في الأمور الدنيوية، وأما في الشريعة فممنوع عقلا أو شرعا. وقيل:
يمتنع في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات لكونها مما لا يدرك المعنى فيها.
وقيل: لا يمنع، وممنوع ما لم يضطر إليه فيما لا نص له. وممنوع في أصول العبادات. بيد أن بعضهم أسس صحة القياس حجة على قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يََا أُولِي الْأَبْصََارِ}. من ناحية أن الاعتبار قياس الشيء بالشيء (3).
إن علماء الكلام يتفقون في الأخذ بالدليل النقلي وجعله حجة، فيما ساقوه من آراء لكنهم اختلفوا في ناحية مستوى التوغل العقلي الذي تفاوتت فيه فرقهم، وهو ما يظهر في موضوع التأويل الذي بينا المراد به فيما مضى من هذا البحث.
ج دليل التأويل:
وهو من الأدلة التي اعتمدها علماء الكلام يتعلق بالآيات المحكمة والمتشابهة (4)
في القرآن الكريم.
__________
(1) انظر أبو القاسم محمد بن أحمد، تقريب الوصول إلى الأصول، ص 134، وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 36، ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 1، ص 392، وكذا أحمد محي الدين العجوز، مناهج الشريعة الإسلامية، مكتبة المعارف، بيروت، 1985، ط 3، ج 3، ص، 130
(2) أبو القاسم محمد بن أحمد، تقريب الوصول إلى علم الأصول، ص، 134
(3) انظر محمد فريد وحدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 1، ص، 392انظر الأدلة النقلية، أبو القاسم محمد بن أحمد الجوزي، تقريب الوصول إلى علم الأصول، ص 114، ص 115، ص 129، ص، 134
(4) قال عبد الجبار السمعاني منصور بن محمد (ت 489هـ): يعرف معنى المحكم والمتشابه من المجمل والمفسر، فالله تعالى وصف جميع القرآن بأنه محكم وبعضه بأنه متشابه. الأول: قوله تعالى: {كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} [هود: 1]، ومعناه أن منزله أحكمه على وجه لا يقع فيه تفاوت. والثاني: قوله عز وجل: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً} [الزمر: 23] أي متماثل في الدلالة والإعجاز والعلو. أما الثالث:
فقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} [آل عمران: 7]، وقد اختلف العلماء في المحكم والمتشابه على أقاويل: انظر قواطع الأدلة في الأصول، ص، 265 وقال الغزالي أو حامد (ت 505هـ): «اختلف الناس في بيان المحكم والمتشابه على ستة مذاهب: فالمحكم عند واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الوعد والوعيد الوارد على الجرائم والكبائر. والمتشابه الوارد منه(1/128)
وقد ذكرنا نص الزمخشري عند تفسيره سورة آل عمران (1) الذي ضمن ما قيل في فائدة المجيء بالمتشابه في القرآن الكريم، والتي تتحدد في الدعوة إلى النظر والتأمل والتمعّن والتفكر والامتحان والابتلاء. والإنسان في كنف هذا يذعن ويسلم بما يحتاج إلى الإذعان والتسليم غير أنه يبحث، ويجتهد في الذي يحتاج إلى الطلب والبحث. ولعل هذا هو الذي جعل التأويل يأخذ أهمية بارزة لدى المسلمين كلهم الأمر الذي أدّى إلى اختلاف مواقفهم فيه بين رافض له، ومتساهل في اعتماده أو معتدل جمع بينه وبين المنقول أو أخذ بالمنقول أصلا دون أن يتعمق في المعقول.
بنى المعتزلة فهمهم لنصوص القرآن الكريم على أصولهم الخمسة محتكمين إلى العقل الذي اعتمدوه أساسا لفهم الشريعة، وعلى أن الشريعة مؤكّدة لما في العقول ومتفقة معه، وغير دالة وحدها على وحدانية الله وعدله وسائر الأحكام العقلية (2). تحرّزوا في الأخذ بالنقل، وتأوّلوا ما رأوا ظاهره مخالفا للعقل، ومنحوا العقل دورا أوليا سابقا على الشرع فصار الدليل السمعي تابعا للدليل العقلي وهو ما ظهر في قول القاضي عبد الجبار حين تعرّض للأدلة: «اعلم أن الدلالة أربعة: حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع» ثم قال: «ومعرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل () وما عداها فرع على معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله» (3). وقد قدّمه الزمخشري أيضا على الأدلة كلها، ويبدو ذلك عند تفسيره قوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]. قال: بأن العقل يحتاج إليه
__________
على الصغائر. وقال الأصم: المحكم نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والمتشابه نعته في القرآن. وقال بعض السلف الحروف المقطعة في ابتداء السور وما عداها محكمة. وقيل: المتشابه ما ورد عليه النسخ والباقي محكم. وقيل: المتشابه ما عسر إجراؤه على ظاهره كآية الاستواء. وقال الزجاج: الكل محكم إلا آيات القيامة. المنخول، ص، 170وانظر تفسير القرطبي (ت 671هـ)، ج 2، ص 9وما بعدها.
وكذا أبو حيان الأندلسي (ت 754هـ)، البحر المحيط في التفسير، ج 3، ص 22، 23وقال الشوكاني (ت 1250هـ): المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها والمتشابه ما احتمل أوجها. وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد والمتشابه القصص والأمثال. إرشاد الفصول ص، 65
(1) آل عمران: 7.
(2) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، ص، 60
(3) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 40(1/129)
الدين لأنه القانون الذي تستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل (1).
فالعقل أصل الشرع تتوقف صحته عليه، ولا يستدل على توحيد الله سبحانه، وعدله عندهم بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، وإنما يستدلون عليهما بالعقل إذ لا يعرف الله تعالى إلا بالعقل، ولا يستدل عندهم بالقرآن الكريم على ما يدل عليه من معان إلا بعد معرفة أن قائله صادق في أخباره، لا يكذب ولا يجوز عليه الكذب ويتوقف هذا على كونه عدلا حكيما لا يفعل القبيح وهذا بدوره مبني على معرفة كونه عالما بقبح القبيح مستغن عنه، فلا يجوز الاستدلال على هذه الأصول الاعتقادية به، لأنه فرع على معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله. ولا يستدل بالسنة النبوية عند المعتزلة أيضا إلا بعد ثبوتها سنة رسول عدل حكيم، ولا بالإجماع لأنه إما أن يستند إلى القرآن الكريم باعتباره حجة أو إلى السنة. وهما فرعان عن معرفة الله عز وجل (2). ولكن ثمة أمور سمعية لا يتوقف الدليل فيها على العقل بل على السمع مثل كيفية العبادات والثواب والعقاب (3). ولا بد أن توضّح أن أسبقية الدليل العقلي على الدليل الشرعي (السمعي) عند المعتزلة باعتبار الأول أصلا، والثاني فرعا لا يوحي بالتعارض لأنهم عدّوا الشريعة توكيدا لما في العقول وقالوا ليست وحدها الدليل على وحدانية الله وعدله وسائر الأحكام العقلية. قال القاضي عبد الجبار: «إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد والعدل ورد مؤكدا لما في العقول. فأما أن يكون دليلا بنفسه يمكن الاستدلال به ابتداء فمحال» (4).
ولا تفيد الدلائل النقلية (السمعية) عند المعتزلة اليقين لأنّ إفادتها تتوقف على العلم بالوضع أي بوضع الألفاظ التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء معان مخصوصة، وكذلك على الإرادة (5) أي العلم بأن المعاني مرادة له، إذ العلم بوضع الألفاظ
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص، 450
(2) م ن، ج 1، ص، 41
(3) انظر القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، حقق بإشراف طه حسين وإبراهيم مذكور، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر 1960، 1965، ج 15، ص، 27.
(4) م ن، ج 4، ص 174، 175وكذا ج 16، ص 354، وانظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص، 59
(5) فعل الإرادة اعتقاد النفع أو ظنه وميل يتبع ذلك بعد اعتقادنا أنّ الفعل الفلاني فيه جلب نفع أو ضر ميلا إليه. وهو مغاير للعلم. انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص، 148ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 196(1/130)
المنقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام مبنية على نقل اللغة والنحو والصرف، وأصولها تثبت برواية الآحاد، وفروعها بالأقيسة، وكلاهما ظنيان. ويتوقف الثاني على عدم النقل والاشتراك وعدم المجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي. فقد تحقق أن دلالتها تتوقف على أمور ظنية، فهي ظنية لأن النقل باعتباره فرعا لا يزيد على العقل باعتباره أصلا في القوة (1).
غير أن الدارس نفسه ذهب إلى أنها «قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات» ثم بيّن أننا «نعلم استعمال لفظ الأرض والسماء ونحوها في زمن الرسول في معانيها التي تراد منها الآن والتشكيك فيها سفسطة» ثم قال: «نعم: في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟» ثم أجاب:
«وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه» (2).
ولعل في هذا ما يكشف عند الدارسين الغاية المشتركة التي انتهى إليها المعتزلة ومتأخر والأشاعرة (3) في جعل العقل أصلا للشرع، وأن صحة الاستدلال على الأصول الاعتقادية كمعرفة الله تعالى وصفاته تكون به لا بالسمع، ومن أن صحة السمع متوقفة عليه، ومن أنه الأصل والسمع الفرع، ولا سبيل للاستدلال بالفرع على الأصل للدور الواضح فيه (4). بينما وقف الماتريدي موقفا قام على التوازن (5)
بين العقل والسمع. وهو يرى يقينية الأدلة العقلية، لكنه عد بعض الأدلة النقلية أو السمعية يقينية وبعضها الآخر ظنية يدل على هذا ما فسّره بعض الدارسين للماتريدية (6) الذين رأوا الأحكام العملية الشرعية تفيد اليقين لأن الشرع مبني
__________
(1) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص، 40
(2) م ن، ص 40، وص، 38
(3) نسبة للأشعري أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري (ت 332هـ).
(4) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص، 43
(5) انظر م ن، ص 43، وص، 327
(6) نسبة لأبي منصور الماتريدي (ت 333هـ). تعود المدرسة الماتريدية للإمام أبي حنيفة (ت 150هـ)، لذا واكب انتشار الماتريدية انتشار المذهب الحنفي.(1/131)
عليها وحصر ذلك في الآيات المحكمة. أما فائدة الظن ففي الآيات المتشابهة لأنها لا تفيد اليقين إذ ورد فيها إضافة صفات الله تعالى مثل اليد والرجل والمجيء ونحوها من الأوصاف الحسية، فإذا قلنا: إن هذا يفيد اليقين فإنه يحقق التجسيم والتشبيه لله تعالى وهو ما لا يجوز في حقه سبحانه، لذا وجب القول بالظن فيها حتى يمكن تأويلها وعدم إضافة هذه الأوصاف الحسية وتحقيق التنزيه لله عز وجل.
إن الوسطية في هذا الموقف واضحة وهي أكثر مرونة من موقف المعتزلة والأشاعرة في القول بظنية الدلالة السمعية لأنه يقع في الوسط ويقرر ما هو يقيني غير قابل للظن، وما هو ظني ولا يمكن فيه اليقين تمهيدا لتأويله، فوصلوا بهذا إلى صعوبة اليقين المطلق أو الظن المطلق لما في الأول من تشبيه وتجسيم، ولما في الثاني من تشكيك وهدم للشريعة (1).
وهكذا بنى المعتزلة تفسيرهم لأي الذكر الحكيم على أسس من علم الكلام تعكس سمات مذهبهم وتوجب النظر وتؤسس على الأدلة العقلية والنقلية والتأويل. وإن منهجهم في التفسير في إطار أصولهم يكشف هذا ويثبته.
__________
(1) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 40، ود. عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 43، وما بعدها.(1/132)
الفصل الثالث التفسير عند المعتزلة
أولا: التفسير في إطار الأصول الخمسة.
1 - أصل التوحيد:
نفي الرؤية.
نفي التشبيه.
الصفات.
2 - العدل.
3 - الوعد والوعيد.
4 - المنزلة بين المنزلتين.
5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانيا: التفسير بالرأي قبل الزمخشري(1/133)
ثانيا: التفسير بالرأي قبل الزمخشري
أولا: التفسير في إطار الأصول الخمسة:
لقد أقام المعتزلة نسقهم الفكري على أصول خمسة ذكرها الخياط المعتزلي، فقال: «وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة:
التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمس فهو معتزلي» (1).
1 - التوحيد:
هو أهم أصل اجتمع المعتزلة عليه من بصريين وبغداديين وغيرهم رغم اختلافهم فيما عداه من الفروع. تمسّكوا بهذا الأصل وأقرّوه مواجهين به منكريه من أصحاب الديانات المخالفة للإسلام، ولتنزيه الله تعالى عن كل مظاهر التجسيم وصور المماثلة. إنهم قاوموا كل النزعات التي تسللت إلى البيئة الإسلامية من طريق غلاة الفرق التي انتسبت إلى الإسلام، فوقفوا لها بالمرصاد، وجادلوا غيرها من الفرق الإسلامية، ونفوا تعدد الألوهية وحاربوا ثنوية الفرس القائمة على مبدأي النور والظلمة، وأنكروا الصفات التي تزيد عن ذات الله تعالى لأن في إثباتها مشاركة لله عز وجل الواحد الأحد في القدم، فالله تعالى تام الأحدية هو وصفاته شيء واحد (2)، لذا فالله قادر لذاته، وهذا ما ذهب إليه الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]، قال:
«فإن قلت: القوة هي الشدة والصلابة التي في البنية وهي نقيضة الضعف، وأما القدرة فما لأجله يصحّ الفعل من الفاعل من تميّز بذات أو بصحة بنية، وهي نقيضة العجز. والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوة إلا على معنى القدرة، فكيف صحّ قوله: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}، وإنما يصح إذا أريد بالقوة في الموضعين
__________
(1) الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 188، 189
(2) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 236، والمسعودي (ت 346هـ)، مروج الذهب، ج 3، ص، 276والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 74وكذا أحمد بن يحيي المرتضى (ت 840هـ) المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، باب ذكر المعتزلة، ص، 6وكذا دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص، 87وكذا مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن الكريم، ص 109، وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 44وما بعدها، وص، 59(1/135)
شيء واحد؟ قلت: القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوة والشدة وصلابة في البنية وحقيقتها زيادة القدرة» ثم قال: «فكما صح أن يقال الله أقدر منهم جاز أن يقال أقوى منهم على معنى أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم» (1).
وعلى الرغم من أن المسلمين كلهم موحّدون، فإن المعتزلة حرصوا على فلسفة فهمهم للتوحيد، فاختصوا بما لم يعتقد عند غيرهم من الفرق، ذلك أنهم رأوا نتيجة لازمة للتوحيد هي أن يكون الله تعالى (أزليا) بذاته. أما صفاته فليست كذلك، لهذا فالقول إن الله (عالم) هو أن العلم بتلك الذات الإلهية نفسها، وليس بأن تكون صفة العلم قائمة وحدها وأزلية مثل الذات، لأن الصفة إذا شاركت الذات الإلهية في القدم أدى إلى مشاركتها في الألوهية، لذلك قالوا: «إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسمة ولا صفة له وواحد في أفعاله ومحال وجود قديمين قادرين، وذلك هو التوحيد» (2) على أن بحث الصفات بدأ عندهم غير ناضج لدى واصل بن عطاء الذي لم يزد القول فيها عن استحالة وجود إلهين قديمين أزليين، وأن الذي أثبت معنى صفة قديمة أثبت إلهين (3) ثم نضج بحثهم وتوسع على يد أبي الهذيل العلّاف ومن تلاه في إطار البحث الكلامي والنظر الفلسفي المتناميين.
وقد ذكر الخياط (4) (ت 300هـ) رد ابن الراوندي (5) على أبي هذيل
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص 449448.
(2) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 55
(3) انظر م ن، ج 1، ص، 60
(4) الخياط شيخ المعتزلة البغداديين له الذكاء المفرط والتصانيف المهذبة، وهو أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن عثمان. كان متبحرا في العلم وهو من نظراء الجبائي صنف كتاب الاستدلال ونقض كتاب ابن الراوندي في فضائح المعتزلة، وكتاب الرد على من قال بالأسباب وغير ذلك. وهو من الطبقة الثامنة تنسب إليه فرقة الخياطية، وشاركوا القدرية في جميع أصولهم، وانفردوا عنهم في إثبات المعدوم شيئا فقال الخياط: إن جسم في حال عدمه يقال له جسما لأنه يجوز أن يكون في حال حدوثه جسما إلخ.
انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 179، والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 89، 90وابن المرتضى، باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص، 49ومحمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 14، ص، 220ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 3، ص 803 (خيط).
(5) هو أحمد بن يحيى بن اسحاق أبو اسحاق من أهل مرو. كان من متكلمي المعتزلة، سكن بغداد ثم(1/136)
العلّاف (1)، فقال: «وكان يزعم أن علم الله هو الله وأن قدرته هي هو»، ثم قال:
«فكأن الله على قياس مذهبه علم وقدرة إذ كان هو العلم والقدرة»، ثم قال: «وما علمت أبدا من أهل الأرض من اجترأ على هذا قبله» (2) لكن الخياط وضّح المراد من قول أبي الهذيل ردا على ابن الراوندي بأنه لما رأى فساد القول بأن الله عالم بعلم قديم وفساد القول بأنه عالم بعلم محدث، وبأنه قد صحّ لديه أن الله عالم في الحقيقة، قال: إنّ الله عالم بنفسه، فليس من الصواب في هذا القول أن رأيه هو أن الله علم وقدرة وحجة ذلك أن أهل التوحيد كافتهم يقولون: «إن وجه الله هو الله لأن الله عز وجل قد ذكر الوجه في كتابه العزيز: {إِنَّمََا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللََّهِ} [الإنسان: 9]، وقد فسد أن يكون له وجه هو بعضه أو وجه صفة له قديم معه، فلم يبق إلا أن يكون وجهه هو». وعلى هذا يقال أيضا: إن علم الله هو الله كما يقال: هذا وجه الأمر وهذا وجه الرأي أي هذا الأمر نفسه، وهذا هو الرأي نفسه (3). ومن هنا يؤكد المعتزلة أنّ قول أبي الهذيل العلاف: بأن الله تعالى يستحق الصفات لذاته فهو عالم بذاته وهذا هو المراد، فالصفات لا تغاير الذات عنده كما أن ذاته ليست علما.
وإذا كان الأشعري قد أرجع رأي العلاف في العلم والقدرة والحياة إلى نقلها عن أرسطو الذي قال: «إن البارئ علم كله، قدرة كله، حياة كله، سمع كله،
__________
فارقها، وكان حاذقا بالكلام. وقيل: كان أبوه يهوديا فأسلم. قال بعض اليهود لبعض المسلمين: «ليفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا»، كتب في الإلحاد والزندقة، ولأبي علي الجبائي ردود كثيرة عليه، وكذا الخياط في الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد.
انظر ابن قايماز الذهبي، ج 14، ص 60، 91، ومحمد بن محمد بن حسن بن علي بن سليمان (ت 879هـ). كتاب التقرير والتحبير، ج 3، ص 61، ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 4، ص 156155.
(1) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله البصري صاحب المباحث العالية هي مذهب المعتزلة، وله مع خصومهم مجالس ومناظرات. كان حسن الجدل وقوي الحجة وكثير الاستعمال للأدلة والإلزامات. اختلف في وفاته فقيل: سنة 226هـ. وقيل: 227هـ. وقيل: 235هـ. وقد كف بصره وخرف في آخر عمره دون أن يذهب عليه شيء من الأصول لكنه ضعف عن محاجة المخالفين. انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 122121، والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 64ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 6، ص، 539
(2) الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 128
(3) انظر م ن، ص 171167128.(1/137)
بصر كله، فحسن اللفظ عند نفسه، وقال: علمه هو هو، وقدرته هي هو» (1) فإن تحديد مقصد العلّاف الآنف الذكر يهدم تهمته، أضف إليه المخالفة الواضحة بين معنى المحرك الأول عند أرسطو «المحرك الأول هو الخير بالذات فهو مبدأ الحركة، هو المبدأ المتعلقة به السماء والطبيعة» (2)، وبين معنى الله عز وجل عند المعتزلة الذي يتأسس على فاعلية الله تعالى في الكون، وخلقه له، وعنايته به، وتصرّفه فيه، وعلمه بجزئياته وكلياته (3). بينما نفى أرسطو هذا وذهب إلى تنزيه الله عن العلم بالموجودات معتقدا أن هذا العلم يضيف إلى الله كثرة من المعلومات. ولما كانت الماهية تأبى كل كثرة فإن الإبقاء على البساطة بدقيق معناها وصون علوه عز وجل واستقلاله بني عند أرسطو على عدم قبول معلومات من خارج لأن الماهيات الخارجية أدنى من ماهيته. ولكنه قال: إن كان ليس يعقل بالفعل فما الشيء الكريم الذي له وهو الكون الناقص كماله؟ فيكون حاله كحال النائم بمعنى أن نفي العلم عن الله يجعله كالنائم وأقل الموجودات حكمة وكرامة. وإن كان يعقل الأشياء من الأشياء فإنها تكون متقدّمة عليه بتقدم ما تقبله ذاته، وإن كان يعقل الأشياء من ذاته فهو المطلب (4)، ويؤكد أن الله يعلم ذاته بذاته لا يجوز عليه كثرة ولا ازدواج وبأنها ذات مجرّدة عن المادة العائقة للعلم (5) لعدم تجرّدها، وبسبب تجرّد الذات الإلهية هي معلومة أولا ودائما فيلتقي العالم والمعلوم، وهذا هو معنى قوله المشهور: «إن الله عقل العقل» أو «عقل لذاته، وعاقل، ومعقول لذاته» (6).
__________
(1) مقالات الإسلاميين، ج 2، ص، 178.
(2) انظر يوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة، دار المعارف بمصر، 1966م، ص، 6وكذا د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية ص 213.
(3) انظر ابن رشد، فصل المقال، ص 424140: ذكر ابن رشد رأي الفلاسفة المشائين في علم الله تعالى بالكليات والجزئيات، وقد أقرّ رأيهم في أنه سبحانه لا يعلمها بعلم محدث لتنزه الذات الإلهية عن ذلك. راجع كذلك دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص، 320
(4) انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 2، ص 447.
(5) انظر، م ن، ج 2، 446.
(6) انظر م ن، ج 2، ص، 446ويوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة، ص، 161ود. عبد الحليم محمود، التفكير الفلسفي في الإسلام، ص 234233: «إن إثبات واجب الوجود يقتضي القول: أنه بذاته عقل وعاقل ومعقول، أما معقول الماهية فإن طبيعة الوجود بما هي طبيعة أقسام الوجود بما هي كذلك غير ممتنع عليها أن تعقل ولكن يعرض لها أن لا تعقل إذا كانت في المادة أو تكتنفها(1/138)
ويحق لنا أن نتساءل هل كان نفي العلم عن الله تعالى مبنيا على الاعتقاد بأن هذا العلم بالنسبة إلى الله تعالى يشبه العلم بالنسبة إلينا؟ لقد ردّ بعض الدارسين بأن الله تعالى لا يعلم بقوة زائدة على ذاته تخرج إلى الفعل ونعد أفعالها، وإنما هو سبحانه يعلم بذاته ويعلم في ذاته بكل ما سواه بحسب ما سواه فيها أي في وحدة وبساطة. يضاف إلى ما تقدم أن علم الله بالأشياء علم العلة لمعلولاتها لا معرفة الأشياء مغايرة للعارف وجودا وماهية (1). وبهذا يتبيّن أن الله تعالى يعلم الأشياء باعتبارها علّة وجودها بماهيتها وأعراضها في حين أن علمنا نحن إنما هو علم بموضوعات تختلف عنا أو مغايرة لنا تعرض علينا من خارج (2).
لقد رأى المعتزلة الذات الإلهية واحدة وحدانية مطلقة غير منقسمة تعلم «كلها» وتقدر «كلها» مؤسسين رأيهم على التفكير المجرّد الذي خالف المعيّن المعهود (3)
وذلك ليصلوا إلى بناء التوحيد على معتقدات نذكرها كما يلي:
نفي الرؤية:
نفى المعتزلة رؤية الله تعالى بالأبصار في الدنيا والآخرة لنفيهم الجسمية، ولمّا كان نفي التجسيم يدل على نفي الجهة فإن في هذا دلالة على انتفاء الرؤية. وإن
__________
عوارضها فإنها على هذا محسوسة أو متخيلة، وإذا خلا الوجود من هذا العائق كان وجودا وماهية معقولة وكل ما هو مجرد بذاته عن المادة والعوارض فهو بذاته معقول، والأول الواجب الوجود مجرد عن المادة وعوارضها، فهو بما هو هوية مجرّدة عقل، وبما يعتبر له أن هوية المجردة لذاته فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له أن ذاته لها هوية مجرّدة هو عاقل ذاته. وإن العاقل يقتضي شيئا معقولا، وهذا الاقتضاء لا يتضمن أن ذلك الشيء آخر أو هو هو». انظر الملل والنحل، ج 2، ص 446هامش رقم 1.
(1) «الماهية تطلق غالبا على الأمر المتعقّل مثل المتعلق من الإنسان وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي. والأمر المتعقل من حيث أنه مقول في جواب ما هو يسمى ماهية. ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار هوية، ومن حيث حمل اللوازم له ذاتا، ومن حيث يستنبط من اللفظ مدلولا، ومن حيث أنه محل الحوادث جوهرا، وعلى هذا الماهية الاعتبارية هي التي لا وجود لها إلا في عقل المعتبر ما دام معتبرا، وهي ما به يجاب عن السؤال بما هو كما أن الكمية ما به يجاب عن السؤال بكم». الجرجاني، التعريفات، ص 209، وص 250، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1405هـ.
(2) انظر يوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة، ص 162.
(3) انظر د. زكي نجيب محفوظ، المعقول واللامعقول، ص 273، 274وكذا زهدي جار الله، المعتزلة، ص 7271.(1/139)
أكثر المعتزلة يذهبون إلى أنهم يرون الله بقلوبهم بمعنى يعلمونه (1)، وأنكر ذلك هشام بن عمرو الفوطي (2) وعباد بن سليمان (3)، ووضعوا شروطا للرؤية هي شروط الرؤية الحسية. قال القاضي عبد الجبار: «يستحيل أن يرى الله في ذاته، ولا يصح أن يرى بالأبصار لأن البصر لا يرى به إلا ما كان مقابلا له، أو ما كان في حكم المقابل له». وإن أصول دلالة المقابلة عندهم مبنية على أن الواحد منا راء بالحاسة وعلى «أنّ الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل» (4)، وعلى أنّ القديم تعالى «لا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل» (5)، فالمقابلة أو ما في حكمها شرط للرؤية. ولما كانت المقابلة والحلول «تصحّ على الأجسام والأعراض، والله تعالى ليس بجسم ولا عرض، فلا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل، ولا في حكم المقابل» (5)، فلو كان الله تعالى مرئيا لنا لكنا رأيناه بالحاسة، وكان يجب أن نراه على الشروط التي يرى بها غيره من المرئيات، وهذا محال في جانبه عز وجل (7). ولما كانت الرؤية إدراكا وراء العلم لا تتعلق إلا بالوجود (8) نفوها نفي استحالة مدللين على صحة قولهم بما جاء في قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103]. فالآية تنفي الإدراك بالأبصار وواضح هاهنا أن الإدراك المقترن بالبصر يفيد ما تفيده رؤية البصر، ولأن القول: «أدرك الإنسان شيئا» معناه رآه ببصره، ولأن الإدراك كما ذكر القاضي عبد الجبار: «إذا قرن بالبصر فلا يحتمل إلا الرؤية، وثبت أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك
__________
(1) مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 289.
(2) هو هشام بن عمرو الفوطي (ت 226هـ) من أهل البصرة، كان عالي المكانة عند العامة والخاصة. وهو آخر من ذكره ابن المرتضى من أهل الطبقة السادسة. انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 85 وابن المرتضى، المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص 35. وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 143.
(3) عباد بن سليمان من أصحاب هشام الفوطي. وهو من الطبقة السابعة. انظر ابن المرتضى، المنية والأمل، ص 44.
(4) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 175.
(5)، م ن، ج 1، ص 175.
(7) انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص 6.
(8) انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 89.(1/140)
البصر ونجد في ذلك تمدّحا راجعا إلى ذاته، وما كان من نفيه تمدّحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال» (1).
إن هذا يمثل ردهم على القائلين بإثبات رؤية الله كأهل السنة الذين أجمعوا على أن الله تعالى يكون مرئيا للمؤمنين في الآخرة، وجوّزوا رؤيته في كل حال ولكل حي من طريق العقل، وأوجبوا رؤيته للمؤمنين في الآخرة بخاصة من طريق الخبر أو دليل السماع (2)، غير أن قولهم بجواز رؤية الله عز وجل لم يكن ليبنوه على القوة الموضوعة في العين، وإنما بنوه على قوة موهوبة من الله. وقال الشهرستاني (3): ومن مذهب الأشعري أن كل موجود يصح أن يرى وهو دليل عقلي، وبنى على السماع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة بدليل قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وغيرها من الآيات والأخبار، ولم يجوّز أن تتعلق به الرؤية على جهة ومكان وصورة مقابلة واتصال شعاع أو على سبيل، فإن كل ذلك مستحيل. وما ينبغي الانتباه إليه هاهنا أن الأشاعرة قد اقتربوا بموقفهم هذا الذي نفى الجسمية من خلال الرؤية بلا كيف مع أغلبية المعتزلة القائلين بأن الرؤية هي العلم (4). أثبتها كذلك أبو الهذيل العلّاف في جوابه عن تحليلات الخصوم لقوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] المقرّة لجواز رؤية البارئ جل وعز. قال: الرؤية هاهنا بمعنى العلم. ولا اعتماد عليه، لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجرّدت، فأما إذا قارنها النظر فلا تكون بمعنى العلم» (5). وردّ المعتزلة بأن النظر في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] لا يحتمل الرؤية لأنهم تأوّلوا النظر على أنه الانتظار أي انتظار النعيم إلى جانب المعاني الأخرى التي لا تجعل معناه مقتصرا على الرؤية كالنظر الذي هو تقليب الحدقة الصحيحة حيال المرئي لرؤيته، وكالنظر الذي هو التعطف والرحمة والنظر الذي هو الفكر والتأمل. ولما امتنعت الرؤية في هذه المعاني تأوله بعضهم على معنى الانتظار للثواب.
__________
(1) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 162.
(2) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 335، 336.
(3) انظر الملل والنحل، ج 1، ص 113112.
(4) نظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 289.
(5) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 187.(1/141)
وقد ورد النظر بمعنى الانتظار في قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} [البقرة:
280] أي فانتظار. وقال سبحانه فيما حكى عن بلقيس: {فَنََاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] أي منتظرة (1). وقد أضاف الشريف المرتضى حمل قوله تعالى: {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} الآية، على أنه أراد به نعمة ربها معللا ذلك بأن الآلاء النعم، وفي واحدها أربع لغات: ألا مثل قفا، وألي مثل رمي، وإلى مثل معى، وإلي مثل حسي، وأراد ب {إِلى ََ رَبِّهََا} نعمة ربها، وأسقط التنوين للإضافة (2).
أما الزمخشري فقال: «ناظرة» بمعنى التوقع والرجاء (3). وحمل معنى (النظر) في قوله تعالى: {وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]. على أنه مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم. تقول: فلان لا ينظر إلى فلان تريد لا يعتدّ به (4). وقال الأشاعرة: «إن (النظرة) إمّا للاعتبار، وقرروا أنّ الآخرة ليست للاعتبار ودارا للتفكر، وإما للانتظار كما ذكر المعتزلة، وردّوا بأنه لا يجوز عليه أنه قصد الانتظار لانتفاء الانتظار في الجنة ولا أن (ناظرة) بمعنى متعطفة راحمة كقوله {وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]. أي لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم، لأن الله عز وجل لا يجوز إليه العطف، ولما كان (النظر) لا يخلو من هذه المعاني يزاد لها معنى نظر رؤية العين فإنه بفساد ثلاثة المعاني السابقة قد صحّ الوجه الرابع وهو نظر رؤية العين التي هي الوجه (5)، ورأوا إمكان رؤية الله تعالى عقلا، وأجمعوا على وقوعها في الآخرة لهذا يراه المؤمنون دون الكافرين (6) لقوله سبحانه: {كَلََّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
واحتجّ المعتزلة بأن الآية: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103] وردت مورد التمدّح بنفي إدراك البصر عن نفسه على وجه يرجع إلى ذاته، ورتبوا على هذا أن
__________
(1) انظر م ن، ج 1، ص، 172وكذا الشريف المرتضى، الأمالي، ج 1، ص 36.
(2) أمالي المرتضى، ج 1، ص 37.
(3) انظر الكشاف، ج 1، ص 192.
(4) م ن، ج 1، ص، 439.
(5) انظر الأشعري، كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ص 6463.
(6) راجع الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 113، هامش، 2وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 306305، 307وكذا جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص، 103(1/142)
في ثبوت الرؤية له في أي وقت من الأوقات نقصا وذما. فهم قالوا بأن سياق الآية اقتضى ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها لأن جميعه في مدائح الله تعالى (1).
وهكذا فالله جل جلاله لما وضع تميّزه عما عداه من الأجناس بنفي الصاحبة والولد بيّن أنه يتميز عن غيره من الذوات بأن لا يرى ويرى. وذكروا أنّ الأمة أجمعت على ورود الآية مورد التمدّح بأن الله تعالى لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومنهم القائل إن التمدح هو بأن لا يرى بهذه الحواس، ويجوز أن يرى بحاسة أخرى. وجعلوا التمدح يقع والله يرى ولا يرى ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه. وهكذا فلا مدح في نفي الصاحبة والولد مجردا ثم إذا انضم إليه كونه حيا لا آفة به صار مدحا، فلا مدح في أن لا أول له لأنّ المعدومات تشاركه في ذلك ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه وهو كونه قادرا، عالما، حيا، سميعا، بصيرا، موجودا.
ومحصّل ما سبق أن فكرة المدح ترتبط بتباين ذات الله تعالى عن ذوات البشر، ولا تعدو أن تكون سوى تنزيه الله سبحانه عن صفات النقص البشرية وتأكيد صفات الكمال، فعلى الرغم من اتصافنا بالحياة والعلم والإرادة والسمع والبصر فإننا نتفاوت فيها. أما هي عند الله تعالى فبلغت أوج كمالها. وأما صفات الضعف والنقص لدى البشر فمنفية عنه عز وجل نفيا مطلقا. وهذا يفسّر أن البينونة بين الذات الإلهية وغيرها من الذوات أساس المدح، لذلك أضاف القاضي عبد الجبار: «أن المدح إنما يقع لما تقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات.
والبينونة لا تقع إلا بما نقوله لأن الذوات على أقسام: منها ما يرى ويرى كالواحد منا، ومنها ما لا يرى ولا يرى كالمعدومات، ومنها ما يرى ولا يرى كالجماد، ومنها ما لا يرى ويرى كالقديم سبحانه وتعالى» (2).
ولقد تمسك المعتزلة في قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ}
[الأنعام: 103] بالمعنى اللفظي للنفي العام الذي أخذوه دليلا على ما ذهبوا إليه
__________
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 164وكذا أمالي المرتضى، ج 1، ص 22.
(2) م ن، ج 1، ص، 165وأمالي المرتضى، ج 1، ص 22، قال المرتضى: «تمدّح الله تعالى بنفي الرؤية عنه وبإثباتها له ولا يشاركه في هاتين الصفتين مشارك». وانظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 192، 193ود. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 298(1/143)
من أن الله لا يصحّ أن يرى (1). وقال الزمخشري في هذا: «بأن الأبصار لا تتعلق به، ولا تدركه لأنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والهيئات {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ}، وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك» (2).
إنهم منعوا رؤية الله تعالى وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي محدثا وحالا في مكان، وعلى ذلك أولوا (ناظرة) بمنتظرة، وعدّوا النفي العام في الآية السالفة دليلا على ما ذهبوا إليه، وغايتهم في ذلك تنزيه الله سبحانه عن المشابهة والتجسيم.
وقد ردّ تأسيسهم في الرؤية لقيام الأدلة على أن الله تعالى موجود، والرؤية في تعلقها بالمرئي بمنزلة العلم في تعلقه بالمعلوم، فإذا كان تعلق العلم بالمعلوم لا يوجب حدوثه فكذلك المرئي (3). وقد فرّق أهل السنة بين الإدراك والرؤية، لذا أولوا الإدراك بالإحاطة بالمحدود، وذهبوا إلى أن الله سبحانه تعالى عن أن يوصف بالحد الذي يتضمن معنى النهاية. أما الرؤية فلا تعني الإحاطة بالمحدود، لهذا جوّزوا أن يرى الله، ونفوا جواز أن يدرك لأنه يتعالى عن الحد (4). ولما كان الإدراك غير الرؤية وأن الله عز وجل قد نفى أن يدرك بالبصر أو أن يحاط به فإنه حسب تأويلهم لم ينف أن يرى، وفي هذا قال ابن المنير (5): «الإدراك عبارة عن
__________
(1) انظر أمالي المرتضى، ج 1، ص 22.
(2) الكشاف، ج 2، ص 41.
(3) انظر محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب، عون المعبود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1415هـ، ج 13، ص 37.
(4) نظر الجويني أبو المعالي، الإرشاد، تحقيق محمد يوسف وعلي عبد المنعم، مكتبة الخانجي، 1950م، ص، 182إلا أنهم جوّزوا حصول الإدراك بغير رؤية عقلا، وعلى ذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافا للمعتزلة. انظر أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني (ت 852هـ)، فتح الباري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. محب الدين الخطيب، دار المعرفة بيروت، 1379هـ، ج 1، ص، 514
(5) أحمد بن محمد بن منصور، قاضي الإسكندرية وعالمها. هو إمام بارع في الفقه والأصلين والعربية، له باع طويل في علم التفسير والقراءات والنظر والبلاغة والإنشاء، وكان خطيبا مصقعا، من كتبه: = البحر الكبير في نخب التفسير = و = الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال = (ت 683هـ).
انظر عادل نويهض، معجم المفسرين، قدم له الشيخ حسن خالد، مؤسسة نويهض الثقافية للتأليف والترجمة والنشر، ط 2، 1986م، ج 1، ص 66.(1/144)
الإحاطة ومنه: {حَتََّى إِذََا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: 90] أي أحاط به و: {إِنََّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] أي محاط بنا، فالنفي إذا عن الأبصار إحاطتها به عز وعلا لا مجرد الرؤية () يدلنا أن تخصيص الإحاطة بالنفي بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك وأقلّه مجرد الرؤية. كما أنا نقول: «لا تحيط به الأفهام وإن كانت المعرفة بمجرّدها حاصلة لكل مؤمن، فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للحس وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للحس ثابت غير منفي» (1)، وقد ردّ المعتزلة نافين أن يكون الإدراك بمعنى الإحاطة معللين ردّهم بأن معنى الإحاطة ليس بمعنى الإدراك لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها لأنهم يقولون: السور أحاط بالمدينة، ولا يقولون: أدركها أو أدرك بها وذهبوا إلى أنه كما لا تحيط به الأبصار فكذلك لا يحيط هو بالأبصار لأن المانع في الموضعين واحد، فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة (2).
لكن المعتزلة فرّقوا بين الإدراك المطلق والمقيد بالنظر الذي أوّلوا عليه قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103] «ووجه الدلالة في الآية هو ما قد ثبت من أنّ الإدراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية» أما «إذا أطلق يحتمل معاني كثيرة فقد يذكر ويراد به البلوغ، يقال: أدرك الغلام أي بلغ الحلم ()
ويراد به النضج والإيناع، يقال: أدرك الثمر إذا أينع» (3). وإذا قيل عند الإطلاق:
«أدركت ببصري حرارة الميل»، فكيف يصح قولكم: «إنّ الإدراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية»؟ أجاب القاضي عبد الجبار: «ليس هذا من اللغة في شيء وإنما اخترعه ابن أبي بشر الأشعر ليصحّح به مذهبه إذ لم يرد في كلامهم لا المنظور (4) ولا المنثور يبين ما ذكرناه، ويوضحه أن هذه الباء إذا دخلت على
__________
(1) الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 2، ص، 42وانظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 307، 309وكذا د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 194 195.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 168.
(3) م ن، ج 1، ص، 162وانظر ابن منظور، لسان العرب، ج 2، ص 138، ج 3، ص 235، ج 5، ص 54.
(4) لصحيح أن يقال: = المنظوم = ولا ندري أيعود منشأ الخطأ إلى الأصل أم إلى نسخة هذا الطبع، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر.(1/145)
الأسامي أفادت أنها آلة فيما دخلت فيه كقولهم: مشيت برجلي، وكتبت بقلمي، والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة إذ الخيشوم يشاركه في ذلك، فلو كان آلة فيه لم يجز فيه ذلك، ألا ترى أن البصر لما كان آلة في الرؤية لم يشاركه فيه آلة السمع وغيره من الحواس» (1)، وعلى هذا فالإدراك على معنى الإطلاق يصح إذا لم يكن مقرونا بالبصر، وأما إذا قرن به زال الاحتمال عنه واختص بالرؤية بالبصر، فإن صح هذا فإنّ قوله سبحانه: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103] معناه لا تراه.
يظهر مما أشار إليه أيضا بعض الدارسين (2) أن فكرة القاضي عبد الجبار تطرح تمييزا بين «أدرك» عند الإطلاق وبينها عند تقييدها بالنظر، وهذا يكشف عن أن اللفظ يصبح ذا معنى محدد من خلال التركيب والسياق.
غير أن الآية قد تطرح قضية أخرى هي كيف يدرك هو الأبصار؟ قال القاضي عبد الجبار: «فإن المراد بالأبصار المبصرون إلا أنه تعالى علق الإدراك بما هو آلة فيه وعنى به الجملة. ألا ترى أنهم يقولون: مشت رجلي، وكتبت يدي، وسمعت أذني ويريدون الجملة، وعلى هذا المثل السائر «يداك أوكتا وفوك نفخ» (3) ثم أضاف: «وبعد فإن المراد بقوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103] المبصرون بالأبصار، فكذلك في قوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} [الأنعام: 103]، فيجب أن يكون هذا هو المراد بكون النفي مطابقا للإثبات، والله تعالى ليس من المبصرين بالأبصار» (4)، وقد فسر الزمخشري «الأبصار» بالمدركين. قال: «ولا يدركه مدرك» (5). وهكذا يكون معنى الآية الكريمة أن المبصرين لا يدركون الله غير أن الله تعالى يدركهم، وينتج عن تأويل الأبصار بالمبصرين اقتضاء هو أن يرى الله نفسه لأنه من المبصرين. بيد أن المعتزلة يردون عقليا هاهنا أيضا «وثبت أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، ونجد في ذلك تمدحا راجعا إلى ذاته، وما كان من نفيه تمدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال» (6) سواء في الدنيا أم في الآخرة.
__________
(1) م ن، ج 1، ص 164163.
(2) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 195.
(3) م ن، ج 1، ص 168.
(4) م ن، ج 1، ص، 169.
(5) الكشاف، ج 2، ص 41.
(6) م ن، ج 1، ص، 162وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص، 308لكن الصحابة فسروا قوله(1/146)
وقد تأوّل الزمخشري الأبصار على أنها المبصرون في هذا المقام كما فعل القاضي عبد الجبار فيما ذكره آنفا. قال الزمخشري: «هو الجوهر اللطيف الذي ركّبه الله في حاسة النظر وبه تدرك المبصرات، فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والهيئات: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} [الأنعام: 103]، وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك: {وَهُوَ اللَّطِيفُ} يلطف عن أن تدركه الأبصار {الْخَبِيرُ} بكل لطيف يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللف» (1). وقد ساعده ربط آخر الآية بأولها من تجنب ما يثيره تأويل «الأبصار» بالمبصرين فنفي إدراك الأبصار لله عز وجل يؤكد لطفه، وبأن إثبات إدراكه للأبصار يؤكده كونه خبيرا. وهو حين عدّ الأبصار جواهر لطيفة يدركها الله تعالى إنما يعكس أساسا كلاميا عند المعتزلة، وعليه يرى الله سبحانه ما تجوز عليه رؤيته. وبهذا تجنب الزمخشري الاعتراض الذي كان من الممكن أن يواجهه به الخصوم (2).
ورد المعتزلة على الخصوم حين قالوا: إنه إذا كان يستحيل أن يرى الله تعالى في الدنيا {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103]، فلم لا يجوز رؤيته في الآخرة:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، إذ الوقت الذي قال إنه لا تدركه الأبصار فيه غير الوقت الذي أخبرنا أنها تنظر إليه فيه (3)، وكان ردّهم مبنيا على تعليلين:
__________
لكن الصحابة فسروا قوله تعالى {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} الآية تفسيرين: الأول لا يرى في الدنيا وهو مروي عن أم المؤمنين عائشة نافية أن يكون الرسول عليه السلام رأى ربه ليلة المعراج. الثاني: تفسير ابن عباس الآية السابقة: لا تحيط به الأبصار، فالنفي للإحاطة لا للرؤية، وهذا عام في الدنيا وفي الآخرة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة من طريق صحيح ولا ضعيف أنه أراد نفي الرؤية في الآخرة.
وليس نفي الرؤية [في الأعراف: 143] {لَنْ تَرََانِي} للتأبيد. أما الحديث: «لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة» فموضوع مكذوب باتفاق أئمة الحديث والسنة. كما أن (لن) ليست للتأبيد الذي ذكره الزمخشري.
انظر حافظ بن أحمد حكمي، معارج القبول، ج 1، ص 362361.
(1) الكشاف، ج 1، ص 4241.
(2) انظر د. نصر حامد أو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 106.
(3) انظر الأشعري، كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ص 65.(1/147)
الأول: قالوا فيه: إنّ الآية: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103] وردت مورد التمدح، نفى فيها الله عز وجل أن تدركه الأبصار، وهو نفى تمدّح راجع إلى ذاته لذا يعدّ إثباته نقصا لا يجوز على الله سبحانه.
الثاني: أن الله تعالى نفى أن تدركه الأبصار على الإطلاق بغير تحديد للوقت، فوجب القطع بأن المراد كل حال في الدنيا وفي الآخرة لأنّ إثبات صفات النقص لا يجوز على الله تعالى في الدارين، فوجب ألّا يرى فيهما أو في وقت دون وقت، كما لا يجوز القول بأن المقصود بقوله تعالى: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ}
[البقرة: 255] أنه نفي في وقت دون وقت (1)، وقال الزمخشري: «أي لا يأخذه نعاس ولا نوم وهو تأكيد للقيّوم لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوما» (2).
واعتمدوا في قوله تعالى لموسى عليه السلام حين طلب رؤية الله تعالى:
{لَنْ تَرََانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي} [الأعراف: 143] على معنيين: الأول: أن (لن) للتأبيد، فقد نفى أن يكون مرئيا البتة، وفي هذا دليل على استحالة الرؤية عليه (3). أما الزمخشري فجعلها لتأكيد النفي الذي تعطيه لا، ف (لا) تنفي المستقبل.
ولتأكيد نفيه تقول: «لن أفعل غدا، والمعنى: أن فعله ينافي حالي أي منافاة الرؤية لحال البارئ، كقوله: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، فقوله: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103] نفى الرؤية فيما يستقبل. ولن تراني: تأكيد وبيان، لأن النفي مناف لصفاته» (4). الثاني: أن الرؤية مستحيلة استحالة مطلقة على الله تعالى لأنه سبحانه علّق الرؤية باستقرار الجبل في هذه الآية، وعليه تكون الرؤية إمّا معلّقة باستقرار الجبل بعد تحركه وتدكدكه، وإما
__________
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 162، 164وكذا أمالي المرتضى، ج 1، ص 22.
(2) الكشاف، ج 1، ص 384.
(3) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 188.
(4) الكشاف، ج 2، ص، 113وكذا ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 114.(1/148)
معلّقة به زمن تحركه. ولما كان من غير الجائز أن تعلق الرؤية باستقرار الجبل لأن الجبل قد استقر ولم ير موسى عليه الصلاة والسلام ربّه، فإنه يلزم أن يكون علّق الرؤية بالجبل وقت تحركه ليبين عز وجل بهذا أن الرؤية مستحيلة عليه مثلما هو مستحيل أن يستقر الجبل وقت تحركه (1). وقدم المعتزلة دليلا آخر على نفي الرؤية.
قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {فَقََالُوا أَرِنَا اللََّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]، «بظلمهم: بسبب سؤالهم الرؤية ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى، فلم يسمّه ظالما ولا رماه بالصاعقة» (2).
ولعل المحصل من هذا هو أنّ الخلاف بين المعتزلة، وأهل السنة هاهنا لا يمكن فيمن أحسن تأويل الآيات السابقة أو أخطأ، وإنما المسألة الجوهرية بينهما تتعلق بحقيقة الرؤية التي يبنيها المعتزلة على تأسيس علمي أصح، فهي عندهم تستدعي المقابلة، والمقابلة تستدعي الجهة، والجهة توجب كونه جوهرا (3) أو عرضا، وليس الله تعالى مقابلا أو حالا في المقابل ولا في حكمه لأن في المقابلة والحلول والجهة مناسبة للأجسام والأعراض، والله سبحانه منزه عن أن يكون كذلك. غير أنه من حقنا أن نتساءل حين ندرك أن الرؤية عند الأشاعرة لا تقتضي اتصال شعاع بين الرائي والمرئي، هل هذا يرقى إلى نفي حجة المعتزلة القائمة على أن الشيء إذا كان مرئيا كان محدودا؟
__________
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 189وكذا الزمخشري، الكشاف، ج 2، ص، 114وكذا أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص، 27وكذا د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 199198.
(2) الكشاف، ج 1، ص، 577غير أن ابن المنير ردّ على الزمخشري قائلا: = أن ظلمهم مسبب عن اقتراحهم لا عن كون المقترح ممتنعا عقلا =، وبهذا ينتصر هو الآخر لأهل السنة الذين يجوّزون الرؤية: الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 1، ص 577.
انظر الترمذي (ت 279هـ)، الجامع الصحيح سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 1، ص 692.
(3) الجوهر على أصول المتكلمين: المتحيّز، والجوهر: بسيط ومركب، البسيط لا يقبل التجزؤ. والمركب مؤلف من جوهرين فردين فأكثر. والعرض: الموجود في موضوع. وقيل: الجوهر: ما يقبل التحيّز.
والعرض: ما لا يقوم بذاته بل بغيره. انظر د. عبد الأمير الأعم، الفيلسوف الآمدي، دراسة وتحقيق، دار المناهل، بيروت، ط 1، 1987، ص 111110، وكذا زكريا بن محمد زكريا الأنصاري أبو يحيى، (ت 826هـ)، الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، ص 71.(1/149)
وردّ المعتزلة على الأشاعرة وأهل السنة فيما احتجوا به على جواز الرؤية بإجماع الصحابة فقالوا: «لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على ذلك»، فقد روي (1) عن عائشة أنها قالت: «لما سمعت قائلا يقول: إن محمدا رأى ربه، فقالت: لقد قفّ شعري مما قلت. ثلاثا. من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ثم تلت قوله تعالى: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ} [الشورى: 51] رغم أن بعض الدارسين رووا في سياق ما قالته عائشة رضي الله عنها أنه قيل للإمام أحمد: «إنهم يقولون: إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية» (2)، فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي». قول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها» (3). وليس في الآية السابقة عند الشريف المرتضى أكثر من ذكر الحجاب، وليس فيها أنها حجاب له تعالى أو لمحلّ كلامه أو لمن يكلّمه، وإذا لم يكن في الظاهر شيء من ذلك جاز صرف الحجاب إلى غيره عز وجل، مما يجوز أن يكون محجوبا» (4) ثم جوّز أنه سبحانه قد يريد بقوله: {أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ} الآية: أنه يفعل كلاما في جسم محتجب على المكلّم ليس معلوما له على التفصيل، فيسمع المخاطب الكلام دون أن يعرف محله على سبيل التفصيل، فيقال على هذا: هو مكلم من وراء حجاب. وأضاف قائلا: «روي عن مجاهد في قوله عز وجل:
{وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً}، قال: هو داود أوحي في صدره فزبر الزّبور {أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ}، وهو موسى {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}، وهو جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وآله =، ثم بين المرتضى رأي الجبائي في معنى الآية بأنه جار مجرى الإيماء والتنبيه على شيء من غير الإفصاح به، وأنه تعالى يحجب ذلك الكلام عن
__________
(1) ذكر جولد زيهر الرواية في هذه المسألة بشيء من الاختلاف. قال: «قيل لعائشة: إن كعب الأحبار يقول:
إن الله قسّم رؤيته وكلامه بين نبيين موسى الذي (كلمه الله) ومحمد الذي (أذن له برؤية الله) قالت:
معاذ الله لقد قفّ شعري مما قلت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله». مذاهب التفسير الإسلامي، ص 128.
(2) انظر الزمخشري، الكشاف، ج 3، ص، 476الفرية: جمع فرى، الكذب واختلاقه.
(3) انظر محمد صديق حسن خان القنوجي، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 115وهامش رقم 252.
(4) أمالي المرتضى، ج 2، ص 205(1/150)
جميع خلقه إلا من يريد أن يكلّمه به ككلامه لموسى عليه السلام وحده أولا بينما أسمعه ثانيا والسبعين الذين كانوا معه، وحجبه عن جميع الخلق سواهم، فالكلام هو الذي كان محجوبا عن الناس. وجعل هو الحجاب كناية عن الخفاء والبعد ونفى الظهور (1).
ويفسّر الزمخشري الآية بأنه ما صح لأحد من البشر أن يكلّمه الله تعالى إلا على ثلاثة أوجه: إما عن طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب. أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده أو كما أوحى تعالى الزبور إلى داود في صدره. وإما أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام دون أن ينظر السامع من يكلّمه لأنه في ذاته غير مرئي (2). أما قوله تعالى:
{أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ} فكما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب فيسمع صوته ولا يرى شخصه وذلك كما كلّم موسى ويكلم الملائكة.
وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحي الملك إليه كما كلم الأنبياء غير موسى. وقيل: وحيا كما أوحى إلى رسل بوساطة الملائكة. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} أي نبيا أي كما كلّم أمم الأنبياء على ألسنتهم ووحيا وأن يرسل: مصدران واقعان موقع الحال لأنّ أن يرسل في معنى إرسالا. ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى: {وَعَلى ََ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191:] والتقدير: وما صحّ أن يكلّم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا» (3).
وذكر المعتزلة نفي الصحابة للرؤية مشيرين إلى خطب عمر بن الخطاب، وجاوبوا عن الأخبار المرويّة عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي يتضمن أكثرها الخبر والتشبيه بطرق (4):
بطرق (4):
أولها: نفوا أن يكون الرسول قالها وإن ثبت قوله لها، فلا تعدو أن تكون سوى حكاية عن قوم.
__________
(1) م ن، ج 2، ص 206205.
(2) الكشاف، ج 3، ص 475.
(3) م ن، ج 3، ص 475.
(4) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 192191.(1/151)
ثانيها: الطعن في روايتها كطعنهم فيما روي عن قيس بن أبي حازم عن جرير ابن عبد الله البجلي، لأن قيس هذا مطعون فيه لأنه كان يرى رأي الخوارج في الإمام علي رضي الله عنه بدخول البغض قلبه منذ أن سمع الإمام علي في الكوفة يقول: انفروا إلى بقية الأحزاب، ولأنه قيل: أصابه مسّ في آخر عمره.
ثالثها: إن سلم خبر قيس وصحّ فإنّ خبره من الآحاد الذي لا يقتضي العلم.
وهم لم يكتفوا بهذه الوسائل بل عمدوا إلى معارضة الأحاديث الشريفة بأخرى تؤكد وجهة نظرهم في نفي رؤية الله عز وجل مثلما رأينا ذلك فيما ذكر لعائشة أم المؤمنين من قبل، وما ذكر لجابر بن عبد الله عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة» (1). وزادوا إلى هذه الوسائل سلاح التأويل موظفين اللغة في تأويل الأحاديث إذ روي عن أبي ذر أنه قال: قلت للنبي: هل رأيت ربك؟ فقال: «نور هو أنّى أراه أي أنور هو؟ كيف أراه؟» (2) قال بعض الدارسين (3):
يعني لا أراه وبهذا أوّلت (أنى) بمعنى (لا) استنادا إلى قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنََّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] لكن أهل السنة ردّوا الحديث على أساس أن (أنى) ظرف لا نفي وبهذا الرد لم تسلم القراءة السابقة التي أوردها المعتزلة في إطار التأويل الذي يتفق مع أصولهم.
وأوّل المعتزلة الأحاديث التي ظاهرها الرؤية بمعنى العلم لا رؤية العين، فقالوا فيما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر» (4)
إن المراد ب: (سترون) ستعلمون لأن الرؤية قد تأتي بمعنى العلم في اللغة (5)، وقد
__________
(1) جاء في معارج القبول أن هذا الحديث موضوع مكذوب باتفاق أئمة الحديث والسنة. راجع حافظ ابن أحمد حكمي، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، ج 1، ص 362.
(2) انظر م ن، ج 1، ص 193.
(3) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 203202.
(4) صحيح البخاري رقم 6884، وسنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د. ت)، ج 4، ص 688، والشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، ج 1، ص، 63وحافظ بن أحمد بن حكمي، معارج القبول، ج 1، ص 329312، 330وابن تيمية على الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، ج 5، ص، 234
(5) بصر به أي علم. انظر الجوهري (ت 400هـ)، مختار الصحاح (رأى). وجاء في «الفائق: باب الخاء(1/152)
نطق بذلك القرآن الكريم وثبت استعماله في الشعر. قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلََا يُؤْمِنُونَ}
[الأنبياء: 30] أما في الشعر:
رأيت الله إذ سمى نزارا ... وأسكنهم بمكة قاطنينا
أي علمت الله تعالى (1).
وإذا كانت الرؤية عند تعدّيها إلى مفعولين تفيد معنى العلم (2) عند اللغويين نحو رأيت فلانا فاضلا وإذا اقتصرت على المفعول الواحد دلت على معنى المشاهد (3)، فإنه لا يمتنع أن يكون مراد الرسول صلى الله عليه وسلم (سترون ربكم): تعلمون ربكم. وبذلك يكون أصحّ من أن يقصد به الإدراك كما يدرك القمر ليلة البدر لأن الإدراك يوجب أن يدرك في جهة مخصوصة (4). وهنا ينزع القاضي عبد الجبار منزع التأويل القائم على أساس عقلي في حمل (ترون) على الإدراك، ولكنه ردّ على الخصوم حين قالوا: الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين مثل رأيت فلانا فاضلا، ولا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليه إلا إذا كان بمعنى المشاهدة، فقال: لا يمتنع أن يكون الأصل هذا ثم يقتصر على أحد مفعوليه للتوسع والمجاز، وذلك كدخول همزة التعدية في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين فتعدّيه إلى ثلاثة مفاعيل لكنها قد تدخل على الفعل الذي هذا حاله، ويقتصر على مفعولين، وعلى هذا قال الله عز وجل: {وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا} [البقرة: 128]، فدخلت الهمزة على الرؤية، واقتصر الفعل على مفعولين. وحال الرؤية إذا كانت
__________
مع الشين أن الرؤية بمعنى العلم بدليل تعديه إلى ضمير. وعند الزمخشري أبصر الشيء وبصر به وقد بصر بعمله إذا صار عالما به: أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة بيروت (د. ت) (بصر).
وفي لسان العرب: البصير بالأشياء العالم بها، والبصر العلم (بصر).
(1) لبيت استشهد به القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 193: لم أعثر على قائله.
(2) الرؤية بالعين تتعدى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين: مختار الصحاح (رأي).
(3) انظر شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 193ود. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 204.
(4) انظر م ن، ج 1، ص، 194وكذا د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 204.(1/153)
بمعنى العلم مقتصرا على أحد مفعولين فيقولون: أعلم ما في نفسك، ولهذا قال تعالى: {تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. وإذا قال الخصوم: إن العلم هاهنا بمعنى المعرفة ولذلك جاز الاقتصار على أحد مفعولين.
اكتفى بهذا الجواب ولم يزد عليه (1).
وقد أشار بعض الدارسين (2) أن هذا الرد يتضمن ثلاث وسائل لغوية:
الأولى: الرؤية بمعنى العلم على مفعول واحد توسّع ومجاز، وحجة ذلك أن الهمزة إذا دخلت على الفعل المتعدي إلى مفعولين تعدّيه إلى ثلاثة مفاعيل، ولكنها قد تدخل عليه ويعدّى إلى مفعولين فقط بدليل قوله تعالى السابق: {وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا} الآية.
الثانية: الرؤية كالعلم لذا فإنه قد يعدّى الفعل (علم) إلى مفعول واحد، فعلى هذا جاز أن يعدّى الفعل (رأى) بمعنى (علم) إلى مفعول واحد. ولما قال الخصوم للمعتزلة: إن العلم في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ}
الآية. بمعنى المعرفة، ولهذا عدّي إلى مفعول واحد ردّوا باللجوء إلى وسيلة ثالثة.
الثالثة: قالوا: إن الرؤية في الحديث الشريف بمعنى المعرفة أي (سترون ربكم) بمعنى تعرفون ربكم كما تعرفون القمر ليلة البدر، فلا يجب أن يتعدى إلى مفعولين. وقد استغل الزمخشري هذا المعنى فوظف الرؤية بمعنى العلم والمعرفة حين فسر قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] مستشهدا بالحديث الشريف، فقال: (انظر إليك): «أعرفك معرفة اضطرار كأني أنظر إليك كما جاء في الحديث: «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» (3) بمعنى ستعرفونه معرفة جليلة هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى» (4).
__________
(1) انظر شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 194.
(2) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 204، 205.
(3) روي الحديث في جامع الترمذي رقم 2612: «عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تضامون في رؤية القمر ليلة البدر؟ وتضامون في رؤية الشمس؟ قالوا: لا. قال:
«فإنكم سترون ربكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته». قال أبو عيسى:
هذا حديث حسن صحيح غريب.
(4) الكشاف، ج 2، ص 116.(1/154)
نفي التشبيه عن الله تعالى:
حرص المعتزلة على نفي التشبيه والتجسيم عن الله سبحانه، ولم يسلكوا مسلك كثير من المسلمين في الإمساك عن الكلام في الآيات التي دل ظاهرها على التجسيم أو التي فهم من ظاهرها الجهة أو المكان، وإنما سعوا إلى نفيها عن الله تعالى، ونحن نجد هذا في ردود بعضهم التي يدافعون فيها عن أصولهم، ويؤكدون فيها بأن الأمة كلها تصدق المعتزلة في أصولها التي تعتقدها وتدين بها وهي: «أن الله واحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ف {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ}
[الأنعام: 103]، وأنه لا تحيط به الأقطار ولا يحول ولا يزول ولا يتغير ولا ينتقل، وأنه تعالى: {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} [الحديد: 3] وأنه {فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ} [الزخرف: 84] وأنه أقرب من الوريد وأنه القائل: {مََا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ََ ثَلََاثَةٍ إِلََّا هُوَ رََابِعُهُمْ وَلََا خَمْسَةٍ إِلََّا هُوَ سََادِسُهُمْ وَلََا أَدْنى ََ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْثَرَ إِلََّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مََا كََانُوا} [المجادلة: 7]، وأنه القديم وما سواه محدث» (1)، وقد نفى القاضي عبد الجبار هذا التجسيم والمماثلة، فقال: «ولو كان جسما لكان محدثا وقد ثبت قدمه لأن الأجسام كلها يستحيل انفكاكها من الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون، وما لم ينفك من المحدث يجب حدوثه» (2) ثم قال: «لو كان الله تعالى جسما ومعلوم أن الأجسام كلها متماثلة لوجب أن يكون الله تعالى محدثا مثل هذه الأجسام. الأجسام قديمة مثل الله تعالى لأن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث وقد عرف خلافه» (3)، وأشار الشهرستاني إلى نفيهم التشبيه من كل وجه: «مكانا وجهة وجسما وصورة وانتقالا وتحيزا وزوالا وتغيّرا وتأثرا» وقال بأنهم «أوجبوا تأويل الآيات المتشابهة. وسموا هذا النّمط توحيدا» (4)، وبنوا فهمهم لحقيقة الجسم على معنى أنه الطويل العريض العميق الذي لا يتحقق له ذلك إلا بالتأليف وبالتركيب.
__________
(1) الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 3635.
(2) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 150.
(3) م ن، ج 1، ص، 150
(4) الملل والنحل، ج 1، ص 57.(1/155)
وإذا كان الجسم طويلا، عريضا، عميقا فلا يوصف به القديم تعالى. إن القول بأنه تعالى جسم معناه أنه محدث، وقد ثبت أنه قديم ولا تخلو الأجسام من الحوادث، وما لم يخرج عن خاصية الحوادث يلزم حدوثه. وينتج عن تماثل الأجسام استواؤها في استحقاق صفات الذات القدم والحدوث، وعليه لو كان الله تعالى جسما لكان ما عداه من الأجسام قديما مثله (1).
ويؤكد المعتزلة إقرارهم في نفي المشابهة أو التجسيم عن الله تعالى بتأويل الآيات والأحاديث التي يوحي ظاهرها بالتجسيم والتشبيه أو يخالف أصل التوحيد الذي أقروه وشرحوه باعتماد طريق التفسير المجازي لما ورد في النصوص من صفات التجسيم الإلهية كالمحل والسمع والبصر والغضب والرضا والنزول والصعود والجهة والأعضاء وما رافقها من التصورات العقدية مثل القضاء والقدر والجزاء (2). وكان مقصدهم على وجه يطابق العقل بريئا هدف إلى الحفاظ على كلام الله وإضعاف رأي المشككين الطاعنين فيه، ولم يقصدوا بهذا التوجه في التفسير أن يتنصّلوا من النقل أو ينزعوا منزع النقد الحر في فهم النص لأن هذا كما ذكر جولد زيهر لا يصدق في أقل تقدير على مدرستهم القديمة (3).
ومن الأمثلة التي نعرضها لهم في تأويل الآيات ردا على القائلين بالتشبيه والتجسيم من بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام التي فسّرت (الاستواء) في قوله عز وجل: {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ} [طه: 5] بأنه القيام والانتصاب وهما من صفات الأجسام فيجب على هذا حسب رأيهم أن يكون الله تعالى جسما. غير أن المعتزلة يجيبون على ذلك مؤوّلين الاستواء بمعنى الاستيلاء والغلبة استنادا إلى المشهور من استعمالات لفظ الاستواء في اللغة وبذلك يربطون تأويل النص بالبحث اللغوي مستشهدين بقول الشاعر (4):
__________
(1) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 150149وص 152.
(2) انظر م ن، ج 1، ص 156وما بعدها. جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي ص، 133ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 360، 361وزهدي جار الله، المعتزلة ص 89وما بعدها. وأحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص 26.
(3) انظر مذاهب التفسير الإسلامي، ص 134133.
(4) ذكره الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 297: (قد استوى عمرو على العراق) وفسّر الأكثرون من أصحابه الاستواء على الاستيلاء العائد إلى القدرة. وانظر محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل(1/156)
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
فالحمد للمهيمن الخلّاق
وقد فسّر الزمخشري ذلك بأنه: = لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يرادف الملك جعلوه كناية عن الملك يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة» (1). ولما قال المجسمة في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلى ََ عَيْنِي} [طه: 39]
أنه عز وجل أثبت لنفسه العين وذو العين لا يكون إلا جسما. ردّ القاضي عبد الجبار بأن المراد بالعين العلم أي لتقع الصنعة على علمي (2). بينما فسّرها الزمخشري بأنها المراعاة والمراقبة (3)، وتعلقوا بقوله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فقالوا: أثبت لنفسه الوجه. وذو الوجه لا يكون إلا جسما. وتريد المعتزلة أن المقصود بالوجه الذات والنفس مستندين إليهما اشتهر منه في اللغة لأنه يقال: وجه هذا الثواب جيد أي ذاته جيدة. قال الزمخشري في قوله تعالى: {إِلََّا وَجْهَهُ} الآية «والوجه يعبر به عن الذات» (4) لهذا أورد أن من المجاز القول: هذا وجه الثوب ووجه القوم» (5)، وتعلق المشبه بقوله عز وجل:
{قََالَ يََا إِبْلِيسُ مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فقالوا: فيه إثبات لليد وهذا يثبت كونه جسما. وجواب المعتزلة عن ذلك أن اليد بمعنى القوة إذ يقال منه في اللغة: ما لي على هذا الأمر يد، لذا أنكروا أن يكون لله يد لهذا تأولوها
__________
العرفان في علوم القرآن، تحقيق مكتب البحوث الدراسات دار الفكر، بيروت، 1966م، ط 1، ج 2، ص، 209قال ابن القيّم: ليس هذا البيت من شعر العرب وبأنه محرّف وإنما هو: = بشر قد استولى على العراق = وبشر أخو عبد الملك بن مروان كان أميرا على العراق استوى على سرير الملك بمعنى يوافق لفظ الآية: استقر وثبت وتمكّن. انظر مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 306، 312وقيل: الاستواء: العلو والارتفاع على العرش بلا حد ولا كيف ولا تشبيه: انظر محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، اجتماع الجيوش الإسلامية على المعطلة والجهمية، ط 1/ 1984، دار الكتب العلمية بيروت، ص 194.
(1) الكشاف، ج 2، ص، 530
(2) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 157.
(3) الكشاف، ج 2، ص، 536
(4) الكشاف، ج 3، ص، 194
(5) أساس البلاغة، ص 493 (كتاب الواو).(1/157)
بالنعمة أو القوة والقدرة (1). وردوا على خصومهم أن المراد باليدين في الآية هو القوة، وأن المقصود بلفظ (يداه) في قوله عز وجل: {بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ}
[المائدة: 64] إنما هو النعمة. وذهب ابن جني (ت 392هـ) إلى هذا التأويل. قال:
«وقوله تعالى: {مِمََّا عَمِلَتْ أَيْدِينََا} [يس: 71]: إن شئت قلت: الأيدي هنا جمع اليد التي هي القوة، فكأنه قال: مما عملته قوانا أي القوى التي أعطيناها الأشياء لا أنّ له سبحانه جسما تحلّه القوة أو الضعف» (2). وقد استشهدوا في ذلك باللغة، فقالوا اليد بمعنى القدرة والنعمة، فمن دلالتها على القوة ما ذكرناه آنفا:
ما لي على هذا الأمر يد أي قوة، وهذا ملك يده ويمينه أو هذا الشيء في يد فلان، وتحت يده أي: تحت قدرته وفي ملكه، ومنه قوله تعالى الذي اتفق في تأويله معهم ابن جني (3) بأنه أراد عملنا بقدرتنا. ويقال في الدلالة على النعمة في اللغة:
لفلان عندي يد أو لي عند فلان يد بيضاء (4). وهو من المجاز عند الزمخشري الذي قال في تفسيره للآية: «قلت قد سبق لنا أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما حتى قيل في عمل القلب هو ما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يد له: يداك أوكتا وفوك نفخ،
__________
(1) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 248، 271والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 58وأمالي المرتضى، ج 1، ص، 565والزمخشري، الكشاف، ج 1، ص 628، ج 3، ص 330، 382
(2) الخصائص، ج 3، ص 248.
(3) يؤنس باعتزال ابن جني لقوله في (باب الحكم يقف بين الحكمين) تكرير عبارة: «المنزلة بين المنزلتين» في ثبات الهاء في «يا مرحباه» ليس حد الوقف ولا حد الوصل () إلى أن قال: فثباتها في الوصل متحركة «منزلة بين المنزلتين» الخصائص، ج 2، ص 359358، ولقوله في خطبة الكتاب نفسه:
الحمد لله العدل القديم على نهج المعتزلة القائلين بالعدل والتوحيد. راجع م ن، ج 1، ص 4342، ولقوله: «أفعال القديم سبحانه نحو خلق الله السماء والأرض وما كان مثله () ولم يكن منه، بذلك خلق أفعالنا ولو كانت حقيقة لا مجازا لكان خالق الكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا». وهو ينسب خلق الأفعال للعبد كالمعتزلة. انظر م ن، ج 2، ص 449، وذكر السيوطي اعتزاله في المزهر، ج 2، ص، 10وكذا د. نصر حامد أبو زيد الاتجاه العقلي في التفسير، ص 71.
(4) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 158والباقلاني، كتاب التمهيد، ص، 258 وأمالي المرتضى، ج 1، ص 565، 566والزمخشري، أساس البلاغة، ص، 512والكشاف، ج 3، ص 382.(1/158)
وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته وهذا مما عملته يداك» (1). أما تنصيصه على مجازه فقوله: ومن المجاز: لفلان عندي يد، وأيديت، عنده ويديت: أنعمت (2). قال:
يديت على ابن حسحاس بن وهب ... بأسفل ذي الجذاة (3) يد الكريم
وهكذا رد المعتزلة على خصومهم بتأويل يتفق مع نفي التشبيه والتجسيم عن الله عز وجل إذ هو تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] (وأسسوا ردودهم على المبدأ اللغوي ليقضوا على المعنى الذي يفيده ظاهر اللفظ بما لا يليق لديهم بالله تعالى أو يحتوي تشبيها يخالف أحد أصولهم. وهم يوظفون في ذلك الفكر الاعتزالي، ويقرّرون معنى اللفظ لغويا ليمنعوا المعنى المشتبه فيه، ويقرّوا ما يخدم مبدأهم مستشهدين بأدلة من اللغة والشعر العربي القديم. وهم اعتمدوا المعنى المجازي الذي قادهم إليه افتراضهم أن القرآن الكريم يشتمل على كل وسائل الحلية اللازمة للجمال البلاغي الكامل الذي لا يدرك كالمجاز والتمثيل، وعلى هذا الأساس من النظر تفسير العبارات الدالة على التشبيه (4). قال الزمخشري (5) في قوله تعالى: {يَخََافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] (من فوقهم): «إن علّقته ب (يخافون)» فمعناه: يخافون أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن علّقته بربهم «حالا منه فمعناه يخافون ربهم عاليا لهم قاهرا كقوله: {وَهُوَ الْقََاهِرُ فَوْقَ عِبََادِهِ}
[الأنعام: 18]، {وَإِنََّا فَوْقَهُمْ قََاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
وقد أضافوا مبدأ العقل باعتباره مصدر المعارف الدينية عندهم ومعيارها الذي توزن به حقيقتها يدل عليه قول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]»، وما صحّ مناصحة تدعو إليها الحكمة أن
__________
(1) انظر أساس البلاغة، ص 512.
(2) م ن، ص، 512وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، ص، 298وكذا زهدي جار الله، المعتزلة، ص 3736.
(3) ذو الجذاة موضع في بلاد غطفان، وفي اللسان مادة (يدي)، ج 15، ص 421، قال بعض بني أسد:
بأسفل ذي الجذاة. وانظر مادة (جذا): ج 14، ص 133.
(4) انظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي ص 153152138وما بعدها. وكذا د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 360355.
(5) الكشاف، ج 2، ص 413412.(1/159)
نعذب قوما إلا بعد أن (نبعث) إليهم (رسولا) فنلزمهم الحجة، فإن قلت: الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله ()
قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا كنا غافلين» (1).
الصفات:
رأى المعتزلة أن الصفات ليست شيئا غير الذات رغم عدم إجماعهم على هذا (2)
ويسمون من أثبتها مشبّها (3)، وقالوا: إنها قديمة ومعان قائمة به (4) غير منفصلة عن ذاته تعالى، فهم لم ينكروا على ضوء هذا الصفات القديمة إذا قصد بها عين الذات، بيد أنهم ردّوا أن تكون الصفات ذوات قديمة قائمة وراء الذات لما فيه من معنى تعدد القدماء الذي يعارض أصل التوحيد عندهم.
لقد اعتقدوا وحدانية الله أنه قديم وما دونه محدث، وأن القدم أخص وصف لذاته الكريمة، وحاربوا في ضوء ذلك المذاهب والأقوال المخالفة لمعتقدهم بمنظور جدلي أقاموه.
على خلفية عقلية أهمها: القول بخبر الله عز وجل وبالأصلح (5)، ونفي فصل الصفات عن ذات الله تعالى وبالمجاز والتأويل وحرية الإرادة، وذلك في إطار
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 441: ورغم ذهاب ابن المنير إلى أن العقل عمدة في حصول المعرفة وليس في وجوبها فإنه باعتباره سنيا يرى العقل شرطا في وجوب عموم الأحكام ولا تكليف عنده قبل ورود الشرع وبعث الأنبياء.
(2) انظر الأشعري، ج 1، ص 264263.
(3) انظر المقدسي مرعى بن يوسف الكرمي (ت 1033هـ)، أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات، ص 115.
(4) ساعدهم هذا على نقد قول السلف والأشاعرة في الصفات بأنها قديمة زائدة على الذات قائمة بها. فبرغم قول أهل السنة بقدم الصفات، وبأنها قائمة بالذات إلا أنهم أخطئوا القول أنها ليست الذات بل زائدة عليها لأنه يفهم من قولهم استقلالها عن الذات، وهذا يقوي اعتراض المعتزلة في أن القول بالصفات زائدة عن الذات يؤدي إلى تعدد القدماء. انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص، 35وكذا د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 286285214213212.
(5) خلاصتها أن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا صلاحهم فكل فعل من أفعاله عز وجل لا يخلو من الصلاح والخير وليس هذا فحسب، وإنما لا يقدر عز وجل حسبهم أن يمنح عباده أصلح مما أعطاهم، أو قالوا: إن الله تعالى يهيّئ لكل ما في الوجود ما هو أصلح له. انظر الخياط، الانتصار ص 64، 65وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 11035.(1/160)
أصولهم الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لهذا فنّدوا ما رأوه معارضا لمبدأ الوحدانية ونفوا صفات المحدثات كلها عن الله سبحانه (1).
وأيّا ما كان الأمر فإن نفي فصل الصفات عن ذاته عز وجل كان قد ظهر بعد الصحابة من جهم (2) بن صفوان (ت 128هـ) ثم قال بذلك واصل بن عطاء وعمرو ابن عبيد وغيرهم من المعتزلة بعدهما. وفكرة بحث الصفات لم تكن ناضجة على عهد واصل بن عطاء (ت 131هـ) لكنها تنامت واتسعت على يد أبي الهذيل العلاف (توفي تقريبا 226هـ). وقد أشار الشهرستاني إلى هذا في القاعدة الأولى من القواعد الأساسية للواصلية بأنها لم تكن في بدئها ناضجة (3). لكنّ المتأمل في خطبة واصل بن عطاء كما نبّه إليه بعضهم يجده قد أثبت الصفات بما يكشف عن وضوح موضوع الصفة عنده وفهمه لها إثباتا لا نفيا (4). وقد تحددت مسألة الصفات على شكلها النهائي على يد أبى الهذيل العلاف (5) وتطورت إلى غاية وصول أبي هاشم (6) الجبائي (ت 321هـ) لقوله بالأحوال إذ زعم «أن العالم
__________
(1) انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 57وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 69.
(2) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 211، 212وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 2، ص 294، 295والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 97وما بعدها.
(3) انظر الملل والنحل، ج 1، ص 60.
(4) انظر د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص، 276والملحق رقم 1من المرجع نفسه.
(5) أبو الهذيل العلاف البصري المتكلم المعتزلي من الطبقة السادسة، اسمه محمد بن الهذيل، أنكر الصفات المقدسة، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل صاحب واصل بن عطاء. وقد طال عمره ونيف على التسعين. وقد لقب بالعلاف لأن داره بالبصرة كانت في العلافين له كتب كثيرة في الرد على المخالفين في دقيق الكلام. واختلف في وفائه، فقيل: سنة 226هـ، وقيل: في سنة 235هـ. وقيل: في سنة 237. البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 122121. انظر أمالي المرتضى، ج 1، ص 178والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 64، ط، 4وكذا الإيجي (ت 756هـ) كتاب المواقف، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت 1997، ط 1ج 3، ص 660. وابن المرتضى، المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص 25.
(6) أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي: قدمه ابن المرتضى على جميع رجال الطبقة التاسعة من طبقات المعتزلة لتقدمه عنهم في العلم وهو متأخر عنهم في السن. البغدادي، الفرق بين الفرق ص 184وما بعدها. والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 90وما بعدها. وابن قايماز الذهبي (ت 748هـ)، سير أعلام النبلاء، ج 15، ص، 63والمنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص 54 55. الإيجي، الموافق، ص 76وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 164163162161.
له في كل معلوم حال لا يقال فيها أنها حاله مع المعلوم الآخر» (1).(1/161)
له في كل معلوم حال لا يقال فيها أنها حاله مع المعلوم الآخر» (1).
وحين نبحث في طرق العلم بالصفات نجدهم قد وجهوا إليها، وذلك بأن نتأمل المحدثات وغيرها من الأجسام وما يلحقها من تغيير في الكيف والكم فنعلم حدوثها، ومن معرفتها لحدوثها يحصل لنا العلم بأن لكل حادث محدثا وهو أول علم يحصل بالله تعالى. ومن فكرة حدوث العالم ينظر في أن المحدث لا يجوز أن يكون هو ولا مثله فيحصل للناظر العلم بأن له محدثا يخالفنا وهو الله عز وجل، وهو أول علم يحصل بالنظر والاستدلال عند أبي علي الجبائي. ويحصل بالنظر في صحة الفعل العلم بأن الله تعالى قادر، وإن عرف صحة الفعل من الله على وجه الأحكام حصل له العلم بكونه عالما، وإن عرف الله تعالى بالقدرة والعلم حصل له العلم بأنه عز وجل حيّ، ومن كونه حيا لا آفة به يحصل له العلم بأنه سميع بصير مدرك للمدركات. ومن النظر في كونه تعالى عالما قادرا يحصل له العلم بأنه موجود. وينظر في أنّ الحوادث تنتهي إليه وهو لا ينتهي إلى حد فيحصل له العلم بأن الله عز وجل قديم (2) ويعرف من النظر في كونه قديما أنه عز وجل ليس بجسم ولا عرض ولا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام والأعراض من المجاورة والحلول والصعود والهبوط والارتفاع والانحدار والانتقال من مكان إلى آخر، ولا يجوز عليه الزيادة ولا النقصان. وينتج عن هذه المعرفة العلم بأنه سبحانه غني لا تجوز عليه الحاجة (3).
وقدموا للحصول على كمال التوحيد دليلا آخر هو دليل التمانع (4)، وهو إقامة الدليل على توحيد الله تعالى لأن العلماء فرضوا في هذه المسألة على من يقول إن للعالم إلهين بأن قالوا: لو كان للعالم إلهان لكان أحدهما إذا أراد حياة جسم وأراد
__________
(1) البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 156
(2). القديم «قد يطلق على ما لا علة لوجوده كالله تعالى على ما لا أول لوجوده، وإن كان مفتقرا إلى علة كالعالم على أصل الحكم» عبد الأمير الأعسم، الفيلسوف الآمدي دراسة وتحقيق، ص 126125.
(3) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 21، 22وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 28وما بعدها. وكذا د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 187، وهامش رقم 164من المرجع نفسه.
(4) لغة: تقول: عرض لي كذا إذا استقبلك ما يمنعك مما قصدته، ومنه سمي السحاب عارضا لأنه يمنع شعاع الشمس وحرارتها من الاتصال. وفي الاصطلاح: اقتضاء كل من دليلين عدم مقتضى الآخر. انظر محمد بن محمد بن حسين بن علي بن سليمان، كتاب التقرير والتحبير، ج 3، ص 3.(1/162)
الآخر إماتته، فإن تمّ مراد أحدهما دون الآخر فهو الإله حقا لنفوذ إرادته ومشيئته والآخر ليس بإله لقصور مشيئته وعجزه. ويستحيل الجمع بين مرادهما معا لامتناع الجمع بين الضدين فلا يكون الجسم حيّا ميّتا في آن واحد، لذا لا بدّ أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، فالذي تمّ مراده وغلبت مشيئته هو الإله الحق. وبهذا يتم النظر في أنه لو كان مع الله عز وجل ثان لتمانعا وهذا يؤدي إلى الضعف الذي لا يجوز إلا على الأجسام، فيحصل من هذا العلم بأن الله تعالى واحد لا شريك له في القدم والإلهية، وبهذا يحصل للناظر العلم بكمال التوحيد. ومن النظر في أن الله تعالى عالم بقبح القبيح ومستغن عنه يحصل العلم بأنه عز وجل عادل حكيم لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ولا يأمر بالشر ولا ينهى عن الحسن وبأن أفعاله كلها حسنة (1). وأضافوا في الطرق التي قدموها لحصول العلم بالصفات أنه إذا حصل العلم بالصفات وجب أن يعرف ما يستحق الله تعالى منها ثم يعلم كيفية استحقاقه لها ويعلم ما يجب له (2)، وما يستحيل عليه في كل وقت، وما يستحقه في وقت دون وقت ثم يعلم أنّ من كان هذا حاله لا بد أن يكون واحدا لا شريك له فيما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا على حدّ استحقاقه. أما ما يستحقه الله عز وجل من الصفات «فهو الصفة التي بها يخالف مخالفة ويوافق موافقة لو كان له موافق تعالى عن ذلك، وكونه قادرا، عالما، حيا، سميعا، بصيرا، مدركا للمدركات، موجودا، مريدا، كارها. هذا عند أبي هاشم. وأما أبو علي فإنه لا يثبت تلك الصفة الذاتية» (3).
__________
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 22، 23وكذا إمام الحرمين، كتاب الإرشاد إلى القواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ص، 30وانظر شيث بن إبراهيم بن حيدرة أبو الحسن (ت 598هـ)، حز الغلاصم في إفحام المخاصم عند جريان النظر في أحكام القدر، تحقيق عبد الله عمر البارودي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1405هـ، ص، 31وابن تيمية (ت 728هـ)، منهاج السنة النبوية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، ط 1، 1406هـ، ج 3، ص، 304وكذا د.
سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 278وما بعدها.
(2) ما يجب له في كل حال الصفة الذاتية والصفات الأربع: قادر، عالم، حي، موجود. أما ما يستحيل عليه في كل وقت فهو ما يضاد هذه الصفات كالجهل والعجز، وكونه معدوما. وأما ما يستحق في وقت دون وقت فكونه مدركا وذا مشروط بوجود المدرك وكونه مريدا وكارها. وهذا يستند إلى الإرادة والكراهة الحادثتين الموجودين لا في محل: شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 75.
(3) م ن، ج 1، ص 74.(1/163)
لقد عدّوا صفة العلم من الصفات التي يمكن للغير أن يشارك فيها الله تعالى.
ولكنها ليست مشاركة تقتضي المماثلة بين علمنا وعلم الله تعالى، وإنما هي مشاركة لفظية شكلية لا تتجاوز التسمية مع اختلاف صحة النسبة، وبهذا يفارق الله عز وجل الإنسان في كيفية استحقاقه صفة العلم، ويخالفه أيضا في طبيعة العلم الذي يقدر عليه. وقد أجمل بعضهم معالم هذه المفارقة في أمور:
ليست صفة العلم في الله تعالى مغايرة له أو زائدة على ذاته. بيد أنها حادثة في الإنسان ومتولدة عن قدرته على النظر والاستدلال.
ليس علم الله تعالى محدثا فهو عز وجل لم يحصل عالما بعد أن لم يكن لكن علم الإنسان حدث عن فعل آخر حادث هو النظر.
علم الله ليس في محل بينما يتولد علم الإنسان في موضع القدرة.
أفعال الله تعالى على جهة الاختراع. أما الإنسان فيفعل العلم على جهة الإحداث توليدا عن فعل محدث.
علم الله سبحانه ليس انفعاليا في حين يتعلق علم الإنسان بالمعلوم ويتبعه.
يعلم الله تعالى بالعلم الواحد جميع المعلومات.
لا يتغير علمه سبحانه بتغير المعلومات.
ليس علمه مستفادا من الحواس ولا من الفكر، وهو علم ضروري الثبوت غير زائل لقوله سبحانه: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} [البقر: 255]، وقوله: {وَمََا كََانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] بينما علم الإنسان جائز الزوال.
لا يشغله عز وجل علم عن علم.
معلومات الله سبحانه غير متناهية (1).
__________
(1) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 187، 188وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 140، 141وكذا د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 287، 288وكذا د. محمد شحرور، الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، ط 2، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1990، 385وما بعدها.(1/164)
إن الله تعالى عند أبي هاشم الجبائي عالم لذاته أي ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا إذ تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها (1)، فأثبت بهذا أحوالا هي صفات غير موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة لا تعرف على حيالها كذلك بل مع الذات (2).
ويعد أبو هاشم أول من قال بفكرة الحال (3) التي نفاها أبوه أبو علي الجبائي إذ المراد في القول عنده: الله عالم لذاته قادر حي لذاته هو أنه لا يقتضي كونه عالما صفة هي علم أو حال توجب كونه عالما (4)، واشترط أبو هاشم ومن تبعه من المعتزلة الحياة. فإيجاب الأحوال المعللة ليس إلّا للصفات التي من شرطها الحياة مثل القدرة والعلم ونحوه. أما ما لا تشترط فيه الحياة من الصفات فلا، وذلك كالسواد والبياض ونحوه. ويعود الاختلاف في اشتراط الحياة وعدمه بالنظر إلى الحقيقة والثبوت فمن وقّف تعلق العلم لها على الذوات نظر إلى جهة الثبوت، والآخر إلى جهة الحقيقة إذ هي غير إضافية، وكلا الفريقين بهذا مصيب. ولكن إذا كان توارد النفي والإثبات على جهة واحدة من الجهتين المذكورتين فإن المثبت لهذا الاشتراط يكون مصيبا بالنظر إلى الثبوت مخطئا بالنظر إلى الحقيقة والطرف الآخر بعكسه (5).
__________
(1) لم يمنع بعض أهل السنة من تعلق العلم بها على انفرادها، انظر الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص 30.
(2) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 195.
(3) هو الواسطة بين الموجود والمعدوم، وهي عبارة عن صفة إثباتية لموجود غير متصفة بالوجود ولا بالعدم وإن ما تخيل كونه صفة زائدة على المرسوم ليس أمرا سلبيا ومعنى عدميا، وهو سلب الوجود والعدم. انظر الإمام أبو المعالي كتاب الإرشاد، ص، 37والآمدي علي بن أبي علي بن محمد بن سالم (ت 631هـ)، غاية المراد في علم الكلام، ص، 28وكذا د. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 145، 146وقد ذهب الناظرون في هذا المبحث إلى أن المعلوم إن لم يكن له ثبوت أصلا في الخارج فهو معدوم، وإن كان له ثبوت في الخارج فهو إما باستقلاله كالأسود والسواد وهو الموجود، وإما باعتبار التبعية لغيره وهو الحال كالقادرية والعالمية، وعلى هذا فهو عبارة عن صفة للموجود لا تكون موجودة ولا معدومة. وقولهم: لا موجودة احتراز عن الصفات الوجودية ومعدومة احتراز عن الصفات السلبية. والحال أقسام: ما يعلل وما لا يعلل. ما علل أحكام لمعان قائمة بذوات مثل كون العالم عالما والقادر قادرا. وما لا يعلل فهو صفات ليست أحكاما للمعاني كالوجود واللونية وكتحيز الجوهر.
(4) انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 92
(5) انظر الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص 30.(1/165)
وقسّم المعتزلة صفات الله تعالى إلى ذاتية وفعلية. قال عنهم الأشعري في الذاتية: «وزعموا أن ما يوصف به الباري لنفسه كالقول قادر حي، وما أشبه ذلك لم يجز أن يوصف بضده ولا بالقدرة على ضده لأنه لما وصف بأنه عالم لم يجز أن يوصف بأنه جاهل» (1). وقد عرّفها الجرجاني قائلا: «الصفة الذاتية ما يوصف الله به ولا يوصف بضدها على معنى الثبوت نحو كريم حسن» (2). وهي الصفات التي لا تنفك عن الذات، ولا تتصور الذات بدونها، ولا تقبل الخلاف، ويمتنع وصف الله عز وجل بضدها وهي: العلم والقدرة والحياة. ولم يكن بينهم إجماع في هذا لأنهم اختلفوا إلى أربع فرق في هل يقال: لله علم وقدرة؟ نكتفي بالإحالة إليها (3).
وعلى الرغم من اتفاق المعتزلة على أن الله تعالى لا يسمع ولا يرى بسمع وبصر قديمين أو محدثين ولا يسمع بأذن ولا يرى بعين لأن هذا يوقع في التجسيم والتشبيه، فإن شيوخهم البصريين والبغداديين اختلفوا في الصفتين المذكورتين، فعند شيوخ البصرة أن الله تعالى سميع بصير مدرك للمدركات، وأن كونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا. أمّا مشايخ بغداد فعندهم أن الله سبحانه مدرك للمدركات على معنى أنه عالم بها، وليس له بكونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا، وعلى هذا فللمدرك بكونه مدركا صفة. «وبأن هذه الصفة إنما يستحقها الواحد منا لكونه حيا بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع» (4).
وذكر البغدادي في هذا المعنى أن البصريين أقرّوا رؤية الله تعالى لخلقه من الأجسام والألوان، وأنكروا أن يرى نفسه أو أن يراه غيره، وأخبر أن النظام (5)
__________
(1) مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 263، ج 2، ص 210.
(2) التعريفات، ص 145. وكذا، محمد عبد الرءوف المناوي (ت 1031هـ)، التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق د. محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر، دار الفكر، بيروت، دمشق، ط 1، 1410هـ، ص، 458.
(3) انظر، الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 265264.
(4) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1ص 107: وقد بين في هذا السياق المراد بالسمع والبصر والفرق بينهما فالسميع البصير المختص بحال لكونه عليها يصح أن يسمع المسموع ويبصر المبصر إذا وجدا. والسامع المبصر هو أن يسمع المسموع ويبصر المبصر في الحال وكذلك المدرك.
(5) أبو إسحاق إبراهيم بن سيار المعروف بالنظام، أخذ الاعتزال عن خاله أبي الهذيل العلاف. وهو شيخ الجاحظ. ومعدود من أذكياء المعتزلة. قال البغدادي: المعتزلة يوهمون أنه كان نظاما للكلام المنثور(1/166)
والكعبي (1) وأتباعهما من البغداديين ذهبوا إلى أن الله تعالى لا يسمع ولا يبصر شيئا على الحقيقة لذا تأوّلوا وصفه بالسمع والبصر على معنى العلم علمه بنفسه وبغيره من المسموعات والمرئيات (2).
ونفهم من هذا الطرح أنّ المعتزلة لا يرون وجودا حقيقيا خارجا عن الذات، فهي عندهم عين الذات. بيد أنهم اختلفوا فيها فرقا (3).
أما صفات الأفعال فهي ما يجوز أن يوصف الله تعالى بضدها كالرضا والرحمة والإرادة والسخط والغضب والكراهية ونحوها (4)، ولم يكن لهم إجماع في هذا المحل أيضا (5).
وقد اقتضى نفي المعتزلة فصل الصفات عن الذات أن قالوا: محال أن تنفرد صفة «الكلام» بوجود مستقل عن ذات الله تعالى، فاعتقدوا في هذا المعنى أن القرآن الكريم كلام الله خلقه بعد أن لم يكن حتى لا يشاركه شيء في القدم.
وهم قالوا في حدّ الكلام: «أنه الحروف المنظومة والأصوات المقطعة» (6) ثم
__________
والشعر والموزون، وفيما كان ينظم الخرز في سوق البصرة، ولأجل ذلك قيل له النظام. توفي ما بين 221هـ 223هـ. وهو من معتزلة الطبقة السادسة. قيل له: ما عيب الزجاج؟ فقال على البديهة: «يسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبر». له فرقة النظامية، ومن مذهبهم أن العبد قادر على أشياء لا يقدر الله تعالى على خلقها، وبأن الإجماع وخبر الواحد والقياس ليس بحجة عندهم، ولا يذكرون الصحابة ولا الإمام علي بسوء: انظر البغدادي الفرق بين الفرق، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ص، 131 وكذا، ط 2، دار الآفاق الجديدة بيروت، 1977م، ص 113. وكذا أمالي المرتضى، ج 1، ص 187.
وكذا، أحمد بن يحيى بن المرتضى المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص 2928.
(1) أبو القاسم عبد الله البلخي الكعبي (ت 319هـ)، تلميذ الخياط وهو من معتزلة بغداد. انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ص 181. وكذا، الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 9089. والإيجي، كتاب المواقف في علم الكلام، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1997م، ج 3، ص، 657وزهدي جار الله، المعتزلة ص 161.
(2) الفرق بين الفرق ص، 181والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1ص 90. وزهدي جار الله المعتزلة، ص 81
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 265264.
(4) انظر م ن، ج 1، ص 263ج 2، ص 211، والجرجاني، التعريفات، ص 145. وكذا محمد عبد الرءوف المناوي (ت 1031هـ)، التوقيف على مهمات التعاريف، ص 458.
(5) راجع، م ن، ج 1، ص 264263.
(6) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 196. وانظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 45. وكذا، الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق أمير علي مهنا وعلي حسن فاغور، ج 1، ص 57.
وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي القاهرة، ص 293. وكذا أبو عبد الله السنوسي، شرح أم البراهين في علم الكلام، ص، 37(1/167)
شرحوا: وليست الأصوات المقطعة أمرا زائدا على الحروف المنظومة وليس معنى القول «الحروف» يقتضي أن لا يكون الحرفان كلاما، لأنه من الكلام أن نقول: قل ومرّ وكل. وذكروا أن الأولى في حدّ الكلام القول: «هو ما انتظم من حرفين فصاعدا أو ما له نظام من الحروف مخصوص» (1). وبينوا أن القول: ق، ع:
كلام، لأنهما يشكلان مع هاء السكت حرفين: قه، عه. وقد نص العرب في لغتهم على لزوم البدء بالمتحرك ولزوم الوقف على الساكن عند النطق.
ولا بد من أن نقول إن علماء الكلام لم يختلفوا في أن الله تعالى متكلم وله كلام، وأن القرآن وسائر الكتب المنزلة كلامه بل الخلاف بينهم في طبيعة الكلام الإلهي هل هو قديم أو محدث؟ وهل القرآن مخلوق أو لا؟ وأبرز مواقف المختلفين في هذا الموضوع موقفا الأشاعرة والمعتزلة.
قال الأشاعرة: كلام الله معنى قائم بذاته أو بنفسه، ولما رأوا القول بأن المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحف هو حكاية لكلام الله عز وجل يقتضي أن يكون كلامه أيضا محدثا وأصواتا وحروفا باعتبار أن الحكاية من جنس المحكي، لهذا قالوا: كلام الله تدل عليه العبارات، وما يصطلح عليه من الإرشادات. قال الباقلاني (ت 403هـ) في قوله عز وجل: {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] معناه: «إنا جعلنا العبارة عنه بلسان العرب، وأفهمنا أحكامه، والمراد به باللسان العربي» (2)، ثم نفي في موضع آخر أن يكون الكلام حروفا وأصواتا، وإنما هو معنى قائم بالنفس يعبر عنه بهذه الأصوات المسموعة تارة وبغيرها أخرى (3) محتجا لهذا الرأي بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلََا يُعَذِّبُنَا اللََّهُ بِمََا نَقُولُ} [المجادلة:
8] قوله تعالى: {سَوََاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10]، ويقول العرب: في نفسي كلام أريد أن أبديه لك. ويقول الأخطل (4): (طويل)
__________
(1) م ن، ج 2، ص 196.
(2) كتاب التمهيد، الباب العشرون المسألة 421.
(3) انظر، م ن، مسألة، 423والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 200. ود. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 79وما بعدها.
(4) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 48وفي الديوان «لفي الفؤاد وإنما» دار المشرق، ط 2، لبنان، ص 508(1/168)
إنّ الكلام من الفؤاد وإنّما ... جعل اللّسان على الفؤاد دليلا.
وهكذا، فإن حد الكلام عند الأشاعرة القول القائم بالنفس الذي تدل عليه العبارات وما يصطلح عليه من الإشارات، وقد نبه بعض العلماء بأن المراد بذكر الكلام النفسي في الشاهد إنما هو النقض على المعتزلة الذين حصروا الكلام في الحروف والأصوات، فقالوا لهم: ينتقض حصركم بكلامنا النفسي الذي هو كلام حقيقة وليس بحرف ولا صوت، فلما صح هذا فكلام الله سبحانه كذلك كلام وليس بحرف ولا صوت، فلم يقع الاشتراك بينهما إلّا في هذه الصفة السلبية (1).
وهي أن كلام الله ليس بحرف ولا صوت كما أن كلامنا النفسي ليس كذلك، والحقيقتان مختلفتان كل الاختلاف، فلا ينبغي أن يفهم منه تشبيه كلام الله بكلامنا النفسي في الكنه لما في كلامنا النفسي من الأعراض الحادثة التي يوجد فيها التقديم والتأخير ووقوع بعضها بعد عدم البعض الذي يتقدمه مثلا (2). لقد ذهبوا إلى أن اللفظ مخلوق والمعنى قديم (3). رأوا كلام الله صفة قائمة بالذات الأزلية (4).
ولا غرو في أن هذا الخلاف في الكلام الإلهي يعكس التباين حول موضوع قدم الصفات وحدوثها بينهم وبين المعتزلة الذين ذهبوا إلى أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه، وهو مخلوق ومحدث أنزله الله على نبيه ليكون علما، وليكون دالا على نبوته، وعلى الأحكام لنرجع إليها في الحلال وفي الحرام (5).
__________
(1) السلوب: ما يدل على الذات مع سلب مثل القدوس والسلام والغنى ونظائره، فالقدوس هو المسلوب عنه كل ما خطر في البال ويدل في الوهم، والسلام ومسلوب عنه العيوب، والغني مسلوب عنه الحاجة.
والأحد المسلوب عنه النظير والقسمة: أبو حامد الغزالي (ت 505)، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، ج 1، ص 157.
(2) انظر أبو عبد الله السنوسي، شرح أم البراهين في علم الكلام ص 37.
(3) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام مكتبة المتنبي، ص 294. وانظر د. عمار طالبي، آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، ص، 257وكذا د. علي عبد الفتاح المغربي الفرق الكلامية الإسلامية، ص 291.
(4) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، مسألة 400وما بعدها، والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 195، والشهرستاني، الملل والنمل، ج 1، ص 108104. والبغدادي الفرق بين الفرق ص 337. وأبو عبد الله السنوسي، شرح أم البراهين في علم الكلام، ص، 37ود. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص، 305ومحمد أبو زهرة، تاريخ الجدل، دار الفكر العربي إبداع، 1980م، ص 257.
(5) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 196195.(1/169)
واختلفوا في كلام الله (1) هل هو جسم أو لا؟ وفي خلقه على ستة فرق:
الأولى قالت: كلام الله جسم ومخلوق وبأنه لا شيء إلا جسم. الثانية رأت كلام الخلق عرضا، وهو حركة لأنه لا عرض عندهم إلا الحركة، وبأن كلام الله عز وجل جسم، وذلك الجسم صوت منقطع مؤلف مسموع وهو فعل الله وخلقه. ذهب إلى هذا أبو الهذيل العلاف وأتباعه. غير أن النظام منع أن يكون كلام الله في أماكن كثيرة أو في مكانين في الوقت نفسه، وإنما هو في المكان الذي خلق فيه. والثالثة رأت القرآن الكريم مخلوقا لله، عرضا، وبأنه يوجد في أماكن كثيرة في الوقت الواحد إذا تلي يوجد مع التلاوة، وإن كتبه كاتب وجد مع كتابته وكذا إن حفظه، فهو يوجد في الأماكن بالتلاوة والحفظ والكتابة، ولا يصح عليه الانتقال والزوال. والرابعة قالت: كلام الله عرض، مخلوق ومنعوا وجوده في مكانين في الوقت الواحد ورأت استحالة أن ينتقل كلام الله تعالى من المكان الذي خلقه الله تعالى فيه أو يزول منه ويوجد في غيره. الخامسة زعمت أن القرآن عرض ولما كان عرضا فإنه من المحال أن يكون الله تعالى فعله في الحقيقة لمنعهم أن تكون الأعراض فعلا لله سبحانه، وذهبوا إلى أن القرآن فعل للمكان الذي يسمع منه وحيثما سمع فهو فعل للمحل
__________
(1) اختلف الناس في كلام الله على تسعة أقوال: الأول: أن كلام الله ما يفيض على النفوس من معان إما من العقل الفعال أو من غيره. وهو قول الصابئة والفلاسفة. الثاني: أنه مخلوق، خلقه الله تعالى منفصلا عنه. وهو قول المعتزلة. الثالث: أنه معنى قائم بالذات الإلهية، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار. إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية كان التوراة. وهو قول ابن كلاب، ومن وافقه كالأشعري. الرابع: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل. قال بهذا بعض علماء الكلام والمحدّثة. الخامس: حروف وأصوات لكن الله عز وجل تكلم بها بعد أن لم يكن متكلما. وهذا قول الكرّامية وغيرهم. السادس: أن كلامه تعالى ما يرجع إلى ما يحدثه من علم وإرادة، القائم بذاته.
ويميل إلى هذا الرازي. السابع: أن كلامه عز وجل يتضمن معنا قائما بالذات هو ما خلقه فيغيره. وهذا قول أبي منصور الماتريدي. الثامن: أن كلام الله مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات الإلهية وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات. وهو قول أبي المعالي إمام الحرمين. التاسع: أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما. وهذا رأي أئمة الحديث وأهل السنة. انظر ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، ج 4، ص 339، وكذا شرح العقيدة الطحاوية، ج 1، ص 180179.(1/170)
الذي حل فيه. أما السادسة فرأت كلام الله تعالى عرضا مخلوقا، وبأنه يوجد في أماكن كثيرة في الزمن الواحد (1).
وإذا كان الأشاعرة يرون الكلام صفة من صفات الذات الأزلية ومعنى قائما في الذات (2). فإن المعتزلة لا يرون الكلام معنى ولا صفة ذات لأنهم ينفون عن الله تعالى أي صفة ذاتية غير العلم والقدرة والحياة والقدم، وما سواها عندهم فعل من أفعال الله أي صفة من صفات الأفعال، والكلام منها. فحد المتكلم عند الأشاعرة هو من قام به الكلام، معناه أن الكلام صفة للمتكلم بينما يرى المعتزلة أن حقيقة المتكلم هو من فعل الكلام (3) لا من قام به الكلام، لذا قالوا: الكلام من صفات الأفعال ليس قديما، والقرآن الكريم وفق هذا مخلوق، وهو فعل أحدثه الله تعالى ورأوا أنه تعالى لم يحدثه في ذاته لأنه إذا تكلم خلق في ذاته الصوت الذي هو جسم أو عرض أصبحت ذاته محلا للحوادث. وتبعا لهذا لا يجوز أن يحدثه لا في محل لأن الكلام أجسام وأعراض تتطلب محلا تقوم به، فلزم إحداثه في محل، فالله تعالى وفق هذا متكلم بكلام محدث لا قديم، يحدثه عند الحاجة وليس معنى هذا أن الكلام قائم بذاته بل خارج عنها يحدثه في محل جامد يسمع عن الله تعالى منه إذ يعتقدون كما مر أن حقيقة المتكلم من فعل الكلام وليس من قام به (4).
__________
(1) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص، 267وما بعدها، والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 195، وكذا شرح العقيدة الطماوية، ط 4المكتب الإسلامي، بيروت (د. ت)، ج 1، ص 178، 179مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، الأردن، عمان 1999م.
(2) انظر الأشعري، كتاب اللمع، ص 33وما بعدها، والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2 ص 220.
(3) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 221202، وكذا عمار طالبي، آراء أبي بكر بن عبد العربي الكلامية، ج 1، ص 259.
(4) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين، ج 1، ص 267وما بعدها، وانظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 221213207205195، وكذا إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 48، وكذا أبو الفضل العسقلاني أحمد بن علي بن حجر (ت 852هـ)، فتح الباري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي محب الدين الخطيب، دار المعرفة بيروت، 1379هـ، ج 13، ص، 345وكذا أحمد بن دغيم بن سالم النفراوي المالكي (ت 1125)، الفواكه الدواني، دار(1/171)
وقدم المعتزلة أدلة عقلية وأخرى نقلية ليثبتوا حدوث الكلام الإلهي، فمن أدلتهم العقلية:
أن الكلام على مذهبهم حروف منظومة وأصوات مقطوعة متبعّض متغاير، يخلقها الله سبحانه في غيره. ومعنى متكلم عندهم موجد أو خالق تلك الحروف والأصوات في الجسم كاللّوح المحفوظ أو كجبريل عليه السلام أو النبي صلى الله عليه وسلم أو غيرها كشجرة موسى عليه السلام لقد منعوا أن يكون ذاك المؤلف من الحروف والأصوات صفة قديمة لله عز وجل. ولما كان الكلام على هذا الحال فإنهم رأوه لا يكون إلا محدثا (1).
ردوا على الأشاعرة قولهم: كلام الله معنى قائم بذاته بأنه لا يعقل ويوجب تجويز المحالات كأن يكون في المحل معان ولا طريق إليها. وأن يكون في بدن الميت حياة وقدرة وشهوة. وإن قال الأشاعرة بأن أحدنا إذا أراد أن يتكلم وجد في نفسه قبل التكلم شيئا هو الذي أثبتناه كلاما. ردوا عليهم قائلين: بأن ذلك شيء آخر هو القصد إلى الكلام أو الإرادة له أو العزم عليه أو العلم به أو التفكير في كيفية ترتيبه فلا ينصرف هذا إلى ما ذكرتموه (2).
إذا ثبت أن كلام الله تعالى من جنس كلامنا وجب القضاء بحدوثه كوجوب القضاء بحدوث إحسانه وإنعامه لأنه إذا استحال قدم أحد المثلين يلزم استحالة الآخر. لكن الأشاعرة يرفضون أن يكون الكلام الإلهي من جنس كلامنا لأنهم يثبتون نوعا من الكلام هو الكلام النفسي (3) القائم في ذات الله عز وجل.
__________
الفكر بيروت 1415هـ، ج 1، ص 5655، وكذا أحمد بن إبراهيم بن عيسى (ت 1329هـ)، توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام بن القيم، ط 3، ج 1، ص 280.
(1) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 294293، وكذا أحمد بن إبراهيم ابن عيسى، توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام بن القيم، ج 3، ص 280
(2) أنظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 201200199.
(3) انظر إمام الحرمين، كتب الإرشاد، ص 4847: قال: «من أصحابنا من قال: الكلام الحقيقي هو القائم بالنفس، والعبارات يسمى كلاما تجوزا كما تسمى علوما تجوزا» وقال: ذهب. أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو الفكر الذي يدور في الخلد وتدل عليه العبارات وما يصطلح عليه من الإشارات. وانظر الإيجي، الموافق في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص، 294وأحمد بن إبراهيم بن عيسى، توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة بن القسيم، ج 1، ص 270267. وقد(1/172)
والقرآن الكريم بسوره وآياته ليس هو الكلام النفسي القديم بل حكاية وتعبير عنه، وعلى هذا فإن الكلام النفسي قديم أما القرآن الكريم كلام الله الذي نتلوه بألسنتنا على الحقيقة، المكتوب في مصاحفنا، المحفوظ في صدورنا، المسموع بأسماعنا عبارات وألفاظ منزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي، وهذه الدلالات محدثة مخلوقة لكن المدلول قديم أزلي، لهذا يفرقون بين الذكر والمذكور لأن الذكر محدث والمذكور قديم. وقد قال الباقلاني في قوله عز وجل: {مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] معناه: ما يأتيهم من وعظ النبي صلى الله عليه وسلم ووعيده وتحذيره ذكر. قال الله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنَّمََا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}
[الغاشية: 21] ويقال: فلان في مجلس الذكر (1) وهذا مردود عند المعتزلة لأن الذكر عندهم القرآن بدليل قوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ}
[الحجر: 9] وصفه الله تعالى بأنه محدث وبأنه منزل ولا يكون المنزل إلا محدثا وثمة دلالة من وجه آخر لقوله: {وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} لو كان قديما لما احتاج إلى حافظ يحفظه (2).
رأى المعتزلة أن الكلام لما اختص بالمحل، وهذا يمنع أن يكون قديما لأن المحال محدثة، فهو لهذا أحرى بالحدوث. غير أن الأشاعرة يرونه صفة أزلية قائمة بذات الله واستدلوا على أن حدوث الكلام لا يخلوا من أن يقوم بذات الله تعالى أو بغيره أو لا يقوم بمحل، فإذا قام الكلام بذات الله تعالى كان محلا للحوادث وهذا ممتنع، ويمتنع أن يحدثه في غيره لاستحالة أن يحدث كلاما في غيره فيكون به
__________
قارب ابن العربي في تعريفه الكلام الأشاعرة لأنه عرف الكلام قائلا: «هو ما يجري في النفس والحروف والأصوات عبارة عنه». فليس كلام الله حروفا وأصواتا ولا كيفية له ولا مشابهة فيه لكلام المخلوقين، وهذا معناه ليس لفظا، وإنما اللفظ مخلوق عبر به عن المعنى القديم، بينما كلام الله تعالى غير مخلوق من ناحية المعنى، وهو الصفة القديمة. انظر عمار طالبي، آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، ج 1، ص 258257.
(1) انظر كتاب التمهيد، الباب العشرون، المسألتان 404، 419وانظر الشهرستاني الملل والنحل، ج 1، ص، 108وعمار طالبي، آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، ج 1، ص 257.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 199198.(1/173)
متكلما لأنه إن جاز ذلك جاز كونه متحركا بحركة قائمة بغيره وساكنا بسكون قائم في غيره وهو محال. أما وجود الكلام في لا محل فمحال بالاتفاق (1).
رأى المعتزلة أن تحدي الله تعالى العرب بالقرآن يدل على حدوثه لأن التحدي بالقديم مستحيل.
«يكون المتكلم متكلما لأنه فعل الكلام أو لأن الكلام أوجب له حالة أو صفة أو لأن الكلام جلّه أو بعضه أو لأنه أثّر في آلته على معنى أنه نفى الخرس والسكون عنه أو لأنه موجود به، فالأقسام كلها باطلة، فلم يبق إلا أن يكون المتكلم إنما كان متكلما لأنه فاعل الكلام» (2).
جمع المعتزلة بين خلق القرآن واللغة من حيث هي توقيف وضعها الله تعالى أو وضعها عقلاء من الناس بالاتفاق والاصطلاح، ولما كانوا ينزعون منزع اللغة باعتبارها اتفاقا قضوا بحدوث كلام الله تعالى.
إن فكرة الاصطلاح عندهم ضرورية في اللغة لأنه يحقق مرادهم في التوحيد وهو نفي مشابهة الله عز وجل للبشر، فاللغة تواضع وفي التواضع حدوث لا ينفك من الإشارة المادية التي لا تجوز على الله سبحانه لكونها جسما، وليس الله تعالى كذلك. قال ابن جني في هذا: لا يجوز أن يوصف الله بأنه يواضع أحدا من العباد على شيء لأن المواضعة تقتضي الإيماء والإشارة بالجارحة مثل المومأ إليه والمشار نحوه. وليس للقديم عز وجل جارحة يومأ ويشار بها منه، فبطل بهذا عندهم أن تصح المواضعة على اللغة منه (3)، وعليه نفوا أن يكون الكلام صفة قديمة من صفات الذات الإلهية الأزلية التي يقصرونها على: العلم والقدرة والحياة والقدم صفات غير منفصلة عن ذات الله، ولا عجب في موقفي المعتزلة والأشاعرة في الكلام بقول الفرقة الأولى بالحدوث وقول الثانية بالقدم لأن موقف المعتزلة ينسجم مع نظرتهم لكلام الله على أنه صفة من صفات الأفعال بينما يستجيب رأي
__________
(1) انظر الأشعري، كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ص 44.
(2) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص، 202وانظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 48.
(3) الخصائص، ج 1، ص 45: ويلاحظ اضطراب ابن جني ما بين القول بالتوفيق أو الاصطلاح.(1/174)
الأشاعرة في الأخذ بالتوقيف إلى رأيهم في الكلام الإلهي صفة ذاتية قديمة كلام نفسي قائم بذات الله. وإذا كان المعتزلة يقولون: إن المخلوق كلام الله فإن الأشاعرة لا يقولون إنه كلام الله لكنهم يسمونه مجازا كلام الله وهو قول جمهور متقدميهم، أما بعض متأخريهم فيطلقونه على الكلام المنزل الذي نقرؤه ونكتبه في المصاحف وعلى الكلام النفسي بالاشتراك اللفظي (1).
ومن أدلتهم النقلية على حدوث القرآن الكريم:
قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} [النساء: 164] كلّم: دل على حدوث كلامه لأنه يقتضي حدوث كلام ما كلم به غيره، ولما كانت المصادر لا تكون إلا حادثة لزم أن ما كلم به غيره حادث، وهذا ما اقتضاه «تكليما» هذا بالنسبة إلى الكلام الإلهي لكن المعتزلة ينفون صفة الكلام بمعناه الحسي الحرفي عن الله عز وجل لقولهم الكلام من صفات الأفعال، فكلامه تعالى لموسى عليه السلام وفق معتقدهم: خلق كلاما كما شاء فسمعه موسى وفهمه. غير أن ابن قتيبة ذكر في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى أكد معنى الكلام بالمصدر ونفي عنه المجاز، فدل هذا على وقوع الفعل حقيقة وبأنه كلام الله نفسه. وتبيين هذا أن المصدر في قول الله عز وجل بيّن معنى التأكيد الدال على بطلان من يقول خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، وإنما هو الكلام الحقيقي الذي يكون به
__________
(1) انظر الآمدي علي بن أبي علي محمد بن سالم، غاية المرام في علم الكلام، ج 1، ص 88. وكذا، أحمد بن إبراهيم بن عيسى، توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام بن القيم، ج 1، ص 267. لم يختلف أهل الإسلام في أن الله تعالى متكلم موصوف بهذه الصفة، وإنما اختلفوا في هل كلامه نفسي أو لفظي وفي حدوثه أو قدمه، ولما رأوا قياسين متعارضي النتيجة هما كلام الله تعالى صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلام الله عز وجل قديم وكلام الله مؤلف من حروف وأصوات مترتبة متعاقبة في الوجود وما حاله هكذا فهو محدث فكلام الله تعالى محدث، فاضطروا إلى إبطال أحد المقاييس لامتناع حقيقة النقيضين، فذهب الحنابلة إلى أن كلامه حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا حدوث كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات، وقيل: منعوا إطلاق لفظ الحادث على الكلام اللفظي كي لا يتوهم حدوث الكلام النفسي كما قال بعض الأشاعرة: كلامه ليس قائما بلسان أو قلب ولا في مصحف أو لوح، ومنعوا حدوث الكلام وإن كان المراد اللفظي كي لا يتوهم حدوث الكلام الأزلي.
وقال المعتزلة بأنه حادث مؤلف من أصوات وحروف قائم بغيره مخلوق، انظر شرح قصيدة بن القيم، ج 1، ص 280.(1/175)
المتكلم متكلما. وقد قال النحاس: وأجمع النحاة بأنه إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا (1).
دل قوله تعالى: {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] على كون الكلام مركبا من الحروف، والتركيب دال على حدوثه، ووصف بكتاب أي مجتمع من كتب، ويقال في اللغة للمكتبة كتيبة لاجتماعها، ولا يجوز على المجتمع أن يكون قديما، ناهيك أن وصفه بالإحكام من صفات الأفعال، ومن قوله: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} دل على عدم جواز أن يكون المفصّل قديما (2).
وظفوا النحو لما يتفق مع معتقدهم، فقالوا: إن «إذ» في قوله عز وجل: {وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ} [الحجر: 28] ظرف زمان يختص بزمن معين محدث. قال الزمخشري تفسير الآية: «واذكر وقت» (3).
تأويلهم (الجعل) بمعنى (الخلق) وذلك في قوله تعالى: {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]، وقد رد الباقلاني من الأشاعرة تأويلهم مبينا أن معناه جعلنا العبارة عنه بلسان العرب وأفهمنا أحكامه، والمراد به باللسان العربي، وسميناه عربيا لأن الجعل قد يكون بمعنى التسمية والحكم لقوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] أي سموه كذبا وحكموا عليه بذل ولم يقصد أو يرد أنهم خلقوه (4).
وقالوا في قوله تعالى: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ} [الزمر:
23]: وصفه أولا بأنه منزل ثم وصفه بالحسن والحسن من صفات الأفعال ووصفه بأنه حديث وهو، والمحدث شيء واحد وفي تسميته كتابا دليل على حدوثه. أما وصفه بالمتشابه فمعناه يشبه بعضه بعضا في الإعجاز، وفي الدلالة على ما ظهر عليه، والذي حاله كذلك لا يكون إلا محدثا (5).
__________
(1) انظر تأويل مشكل القرآن، ص 111، وكذا تفسير الطبري، ج 6، ص 18، والزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص، 393ود. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 222.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 199.
(3) الكشاف، ج 2، ص 390.
(4) كتاب التمهيد، الباب العشرون، مسألة: 421.
(5) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 199.(1/176)
2 - أصل العدل:
إذا كان المعتزلة اجتهدوا في أصل التوحيد لينزهوا الله تعالى عن المماثلة والمشابهة وإثبات الوحدانية، فإنهم فرّعوا البحث في أصل العدل وضمّنوه مباحث ركزوها على معنى العدل الإلهي الذي لا يفهم على وجهته الصحيحية عندهم إلا إذا كان الإنسان قادرا على اختيار أفعاله ليكون مسئولا عن الأفعال وليترتب عليها الحساب (العادل) بالثواب أو بالعقاب، لقد وصفوا الله تعالى وهم يريدون بالوصف أنه عادل في قضائه رحيم بالخلق، لا يحب الفساد ولا يريد ظلما، وأن خير الخلق أطوعهم له، وأنه الصادق في أخباره ووعده ووعيده، وبأن الجنة دار المتقين، والنار دار الفاسقين (1)، وبنوا على العدل مباحث:
أالله تعالى لا يفعل القبيح ولا يختاره.
ب الظلم منفي عن الله لقوله: {وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 4]، وقوله: {فَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9].
ج الله تعالى لم يخلق أفعال العباد، وإنما هم المحدثون لها أحرارا فيثابون على الخير ويعاقبون على الشر.
د لا يريد الله عز وجل الشر ولا يأمر به لأن مريد الخير خيّر ومريد الشر شرير، فلو كانت إرادة الله تعالى متعلقة بكل ما في الكون من خير وشر لكان الخير والشر مرادين له، ولكان المريد موصوفا بالخيرية والشرية، وهذا محال على الله تعالى، لذا قال المعتزلة: إن الله أراد ما كان من الأفعال خيرا أن يكون وما كان شرا ألا يكون، وما ليس كذلك فالله لا يريده ولا يكرهه، لكن معارضيهم اعتقدوا إرادة الله لجميع ما كان وغير مريد لما لم يكن. ويظهر من قول المعتزلة أن كفر الكافر، وعصيان العصاة لم يرده الله.
هـ وقال المعتزلة بنظرية الصلاح والأصلح التي تعنى أن كل فعل من أفعال الله سبحانه لا يخلو من الصلاح والخير.
__________
(1) انظر الخياط، الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 36، وكذا د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 228.(1/177)
ووعدوا الحسن والقبح ذاتيين في الأعمال، ولم يجيزوا بهذا على الله تعالى الكذب، وقالوا بضرورة صدقه عز وجل لأن الصدق حسن في ذاته (1).
وذهبوا وفق هذا إلى نفي القدر ردا على الجبرية فإذا كان القائلون بالقدر آنذاك أرادوا نفي مماثلة الله تعالى للبشر على أساس أن النموذج البشري الذي كان مستقرا على أعلى قمة الهرم الاجتماعي ومركز الخليفة الأموي، فإن القول (بالعدل الإلهي) يؤدي إلى الفصل بين صفاته وبين صفات البشر، وهي قضية ملحة في تلك الظروف التي عرفت خلافات سياسية وارتبطت بأهداف اجتماعية وعملية كشفت حقيقة قرآنية هي نفي إلهين قديمين، ومثّلت ردا على غالية الشيعة في تأليه الإمام علي رضي الله عنه ورجعته، ودلت على خلفية سياسية تريد أن تقف أمام مبدأ (الجبر) الذي اتسم به نظام الأمويين الذي ذهب بعض المتكلمين بأنه كرّس أن الأوضاع اللاحقة بالعباد إنما هي قدر عليهم من الله تعالى فما لهم إلا قبولها بما فيها. ونحن لا نعتقد أبدا أن يقول الأمويون هذا، وإنما هو قول غيرهم فيهم (2). ويظهر نفيهم للقدر الذي أثبته الجبرية مما ذكره لهم المسعودي (ت 346هـ) (3)، وفيما أوضحه غيره من أنه قد علم من العقل والسمع فساد ما
__________
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 2821153وما بعدها، وابن حزم، الفصل من الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 82وما بعدها. ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 94وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 105وما بعدها، ود. أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، ص 137وما بعدها. ويؤخذ على المعتزلة جعلهم الفعل ثابتا من جهة الحسن والقبح وفاتهم أن الفاعل غير ثابت، فإذا كان الصدق حسنا فليس قائله مصيبا دائما والكذب في ذاته قبيح ولكن قائله غير مخطئ دائما، ومنه وأد البنت فعل قبيح، وقد ننسب لفاعله الشهامة والإباء في الجاهلية، انظر زهدي، جار الله، المعتزلة، ص 117.
(2) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 40وما بعدها.
(3) الله لا يحب الفساد ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أمروا به، وبأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره وأنه ولي كل حسنة أمر بها بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقونه ولم يرد منهم ما لا يقدرون عليه، وأن كل مقدوراتهم بقدرة الله التي أعطاهم إياها، وهو تعالى المالك لها، ينفيها إذا شاء ويبقيها إذا أراد، ولو شاء لجبر الخلق على طاعته ومنعهم اضطراريا عن معصيته غير أنه لا يفعل إذا كان في ذلك رفع للمحنة وإزالة للبلوى. انظر مروج الذهب، ج 3، ص 277276وقال أبو الحسن شيث بن إبراهيم بن حيدرة (ت 598هـ): ذهب الجبرية إلى أن الخلق مجبورون في طاعتهم كلها معتمدين على قوله تعالى: {وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [الإنسان: 30]، بينما ذهب القدرية إلى أن(1/178)
قالته المجبرة في نسبة أفعال العباد إلى الله تعالى لأن كل تصرفاتنا محتاجة إلينا ومتعلقة بنا لحدوثها (1)، فالإنسان حسب جهم بن صفوان القائل بالجبر غير قادر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، مجبور في أفعاله ولا إرادة له ولا اختيار، وإنما يخلق الله عز وجل الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب الأفعال إليه مجازا مثل نسبتها إلى الجمادات، وذلك كقولنا: أثمرت الشجرة وتحرك الحجر واهتزت الأرض. ولما كانت الأفعال كلها جبرا فإن الثواب والعقاب جبر، وإذ ثبت الجبر فالتكليف جبر (2).
لقد هدف نفي القدر عند المعتزلة إلى تثبيت أن الله تعالى عدل حليم ولهذا قال القاضي عبد الجبار: «المراد به أنه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه وأن أفعاله كلها حسنة» (3) بمعنى أن كل أفعال الله عز وجل حسنة ولا يكون منها إلا الصواب والحكمة ناهيك أنها منزهة عن كل قبيح لأنه عالم بقبح القبيح ومستغن عنه وعالم باستغنائه عنه، لهذا لا يختار القبح بأي وجه من الوجوه (4).
فالعدل ما يقتضيه العقل من الحكمة بإصدار الفعل على وجه من الصواب والمصلحة، لقد أراد المعتزلة نفي الظلم وأفعال الشر عن الله تعالى وإثباتها فعلا للإنسان، وهذا يمثل الوجه الغيبي للعدل الإلهي، غير أنه يمثل وجها آخر إنسانيا
__________
الخلق خالقون لأفعالهم معتمدين على قوله عز وجل: {لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، وأما أهل الحق فتوسطوا قائلين: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه. وهو طريق بين طريقي الإفراط والتفريط، ويسمى بعض العلماء هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا أخذا عن قوله سبحانه: {لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. لهذا فاكتسابات العباد خلق الله تعالى دون العباد وكسب للعباد دون الله عز وجل لأنه لا يتصور الكسب في الله تعالى لتعلقه بالقدرة الحادثة، ولا يتصور الخلق في العباد لعدم علمهم بتفاصيل ما يصدر عنهم، ولقيام الدليل على أن لا خالق إلا الله تعالى: حز الغلاصم، ج 3، ص 88.
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص، 54والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 212211، وكذا محمد عبد الرءوف المناوي (ت 1031هـ)، التوقيف على مهمات التعاريف، ص، 261وكذا شرح قصيدة الإمام بن القيم، ج 1، ص 112.
(2) انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 98وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 100.
(3) شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 3.
(4) انظر م ن، ج 2، ص 43.(1/179)
هو موضوع هذا العدل وكيف يخضع الإنسان له وهو يقدر على أفعاله، وذلك من أجل أن يضعوا التكليف والغرض منه في سياقه الصحيح.
لقد ركزوا مباحثهم في إبراز الأفعال واقعة تحت الأوامر والنواهي أي في إطار التكليف الذي يمثل العلة في خلق العالم بما فيه من كائنات، وجاء تميّز الإنسان فيه عن غيره من الكائنات لكونه فاعلا في الحقيقة بقصد تكليفه، وما الإنسان في العالم الذي يبهر العقول بسعته ملايير من السنوات الشمسية وملايير من الأكوان إن لم يكن الغرض منه تكليفه؟ ولكن ألم يتفق علماء الأمة أنّ اللّام في قوله تعالى:
{وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: 56] هي لام الصيرورة لا لام التعليل؟ ومن ثم ألم يقل الزمخشري في الآية: «إلا لأجل العبادة ولم أرد من جميعهم إلا إياها () مختارين للعبادة لا مضطرين إليها لأنه خلقهم ممكنين» (1).
وذهب بعضهم إلى أن اللام هي لام كي ولام التعليل التي إذا حذفت انتصب المصدر بها على المفعول له، وتسمى العلة الغائبة وهي متقدمة في العلم والإرادة متأخرة في الوجود والحصول، وهذه العلة هي المطلوب المقصود من الفعل، على أن يدرك أن الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان: كونية يقال فيها «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن»، ودينية هي شرعية وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم (2)، ويقتضي ذلك إثبات العلة والغرضية في أفعال الله تعالى أو بمعنى آخر إقرار أن العلة من الخلق إن هو إلا العدل الإلهي الذي يتطلب أن تكون كل أفعاله حسنة لأنه سبحانه لا يختار القبيح ولا يأتي عملا عبثيا، فهو إذا خلقنا وأحيانا وأقدرنا وأكمل عقولنا وخلق فينا شهوة القبيح والنفرة من الحسن، فلا بد من أن يكون له فيه غرض، وغرضه إما أن يكون إغراء له بالقبيح ولا يجوز أن يكون غرض التكليف الإغراء بالقبيح لقبحه. وقد ثبت نفي القبح عن الله سبحانه، فلم يبق إلا أن يكون غرضه التكليف ويعرضنا لدرجة لا تنال إلا به وهي الثواب (3).
__________
(1) الكشاف، ج 4، ص 21، وقيل: للأمر بالعبادة، وقيل: إلا ليعبدون أي ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها، والكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة، وقال مجاهد: إلا ليعرفوني. وقال الكلبي: إلا ليوحدوني، انظر تفسير القرطبي، ج 17، ص 55وما بعدها.
(2) انظر ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم الحراني أبو العباس (ت 728هـ)، دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية، ج 2، ص 528.
(3) انظر الخياط، الانتصار، ص، 85والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 183179،(1/180)
ومن هذا يمكن القول: إن الحكمة من الخلق تحقيق منفعة البشر لأنه عز وجل لا يخلق شيئا إلا للنفع أو الاعتبار به، ولا يعطي لعباده في الدنيا إلا ما هو أصلح لهم، وزاد المعتزلة على هذا بأنه تعالى لا يقدر أن يعمي بصيرا أو يمرض صحيحا أو يفقر غنيا إذا علم أن الصحة والبصر والغنى أصلح لهم. وأنه غير قادر على إغناء الفقير أو إبراء المريض إذا علم أن ذلك أصلح لهم (1). وهذا معناه أن ما يعرض للعباد في هذه الدنيا من مرض وصحة وفقر وغنى وحياة وموت وسراء وضراء هو صلاح لهم. ولعل هذا هو الذي يفهم من قول المعتزلة على لسان القاضي عبد الجبار: بأن الأفعال التي يفعلها الله عز وجل من الآلام لا تخلو إما أن توصل إلى المكلف أو إلى غيره، فإن أوصلت إلى غير المكلف لا بد أن تقابل من الأعواض، وما يوفي عليه وأن يكون فيه اعتبار للمكلفين حتى لا يكون بالنسبة للأول ظلما وللثاني عبثا. أما إن أوصله إلى المكلف فيلزم فيه الأمران كلاهما (2)، وأبرزوا الغرضية في صور الحيات والعقارب والسباع الضارية الخبيثة والحيوانات المؤذية القتالة فصورها، وإن كانت قبيحة في المنظر فإن فيها أغراضا حكيمة لا يعلمها إلا من أنصف نفسه وأدى الفكر حقه. وأغراضها: نفعها أولا ثم نفع العباد. وهي تتعلق بها منافع دينية ودنيوية (3).
ويظهر أن هذا ينسجم مع ما ذهب إليه ابن حزم الذي صرح باتفاق المعتزلة معه في معنى خلق الله تعالى للخمر والخنازير والحجارة المعبودة بأنها مخلوقات حسنة منه تعالى، سميت قبائح وأرجاسا حراما. وهكذا يقال في خلقه للأعراض في
__________
ود. سميح دغيم فلسفة القدر في المعتزلة، ص 9288، 133ود. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 379.
(1) انظر م ن، ص 6463والأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص، 317والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص، 134وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 111وقد كفر بشر بن المعتمر من قال بالأصلح ووضع عوضها عقيدة اللطف المتمثلة في أن لله ألطافا كثيرة لا نهاية لها لو فعلها بمن يعلم أنه لا يؤمن لآمن، وعليه أن يفعل لهم ما هو أصلح لهم في دينهم ويزيح عللهم فيما يعوزهم لأداء ما كلفوا به. انظر الخياط، الانتصار، ص، 115وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص، 201وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 114، ود. سميع دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 133132.
(2) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 317 318، 319والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 175.
(3) انظر م ن، ج 1، ص 312298، والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 176175.(1/181)
عباده. لقد أوضح اتفاق أكثر المعتزلة معه في أن الله عز وجل خلق المرض والعمى والصم والجنون المتولد عن فساد الدماغ والحدبة، وهي جميعها مخلوقات حسنة لله تعالى، غير أنها تنعت فيما بيننا بالنعت القبيح الرديء (1). لكنه احتج بأنه لا فرق بين إلزام المعتزلة لنا أن الله تعالى أحسن الكفر والظلم والشر والمعاصي لأنهم ينزهون الله عن أن تضاف إليه وبينما أقروه في خلق الله الخمر والخنازير والدم والميتة وإبليس ومن قال: أنا إله من دون الله تعالى والأوثان المعبودة من دونه عز وجل والمصائب والعاهات كلها خلق له، لأن كل ذلك قد حسّن الله خلقه إذ خلقه حركة أو سكونا أو تمييزا في النفس وسمي ظهوره من العبد قبيحا (2).
نفهم من هذا أن المعتزلة يفرّقون بين الشرور الطبيعية والشرور الأخلاقية.
الأولى: من فعل الله في الطبيعة كالآلام والأمراض والكوارث. والثانية: من فعل الإنسان كالظلم والكفر والفسق وغيرها، وليست هذه النوازل الطبيعية فسادا أو شرورا ولا قبائح لأن القبيح ما كان ضررا خالصا أو عبثا محضا، وهو محال على الله عز وجل، لهذا قالوا: يحسن من الله فعل الإماتة والإيلام، تقع منه عز وجل على وجه لا تقبح عليه لعلة والعلة مفقودة في حقنا وهي تتضمن الاعتبار واللطف، ويضمن الله في مقابلها الأعواض والعوض وجه حسن تلك الإماتة والإيلام، فالله يعوض العبد مما لحقه من الآلام منه تعالى أو مما وقع بسبب أمره أو إباحته (3).
__________
(1) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 98.
(2) انظر م ن، ج 3، ص 99.
(3) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 1641312، 165اللطف: ما يختار المرء عند الواجب ويتجنب القبيح أو ما قرب من اختار الواجب أو ترك القبيح، وقيل هو العناية الإلهية أو وجه التيسير إلى فعل الخير والطاعة وترك الشر والمعصية وهو ليس قسرا خارجيا مفروضا على الإنسان الفاعل بقدر ما هو تذكير بطاعة يعلم الله أن العبد يفعلها لا تخرج عنه متناول قدرته، يكون نوعا من التوفيق والعصمة، وهو هداية يغمر بها الله عباده معناه دلهم وبين لهم طريق الصواب. انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 326313، 327والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 187وما بعدها، ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 183ومن مظاهر اللطف: أمنح العقل للعباد باعتباره مناط التكليف إذ يتمكن الإنسان به من أول واجباته وهو النظر ومعرفة الله، ومعرفة الحسن والقبح، وشكر نعمة الله عز وجل، وكل ما يلزم العبد من المعارف لدينه ودنياه. ب التكليف وهو إخبار الغير بأن له أن يفعل أو لا يفعل تحقيقا للنفع أو دفعا(1/182)
إن القدر مسألة انجذب إليها فكر الإنسان وعقله في كل الأزمان. وقد انشغل المسلمون به في ظهور الإسلام وبحثوه بخاصة إثر تجاوزهم الفطرة في تعاملهم مع النص القرآني إلى طور النضج حيث التفتوا إلى ما بدا لهم من ظاهر آي الذكر الحكيم أنه متعارض دل على الجبر في آي وعلى حرية الاختيار في آيات كريمة أخر، نقتصر على ذكر بعضها. قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنََا إِلََّا مََا كَتَبَ اللََّهُ لَنََا} (1)
[التوبة: 51]، وقوله تعالى: {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [المدثر:
31]، وقوله فيما دل ظاهره على الاختيار: {كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:
38]، وقوله: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا} [الجاثية: 15]، ومن اجتماع التسيير والتخيير في الآية الواحدة قوله تعالى: {كَلََّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمََا يَذْكُرُونَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [المدثر: 5654]، وقوله: {إِنَّ اللََّهَ}
__________
للضرر. وهو عند المعتزلة عام للكل والتقوية عليه للكل ولا شأن للعلم الأزلي بالإيجاد، فالكفر من فعل الكافر ولا دخل للعلم الإلهي في إيجاده، وأقروا بأن الله تعالى كلف عباده ما يطيقونه فقط وأقدرهم عليه وعلمهم ودلهم وبين لهم لتكون نتائج التكليف عن بينة. ج إرسال الرسل للإعلام بالتكليف لأن الله عدل حكيم لا يخل بما هو واجب عليه. د وفي معنى التكليف الهداية وقال أكثر المعتزلة: الله هدى الكافرين فلم يهتدوا ونفعهم بتقويتهم على الطاعة فلم ينتفعوا وأصلحهم فلم يصلحوا. وقال بعضهم: إن هدي الله لمن قبل. وقال غيرهم: إن الله لو هدى الكافرين لاهتدوا. وأما ما تعلق بالمؤمنين فقال قائلون: الله هدى المؤمنين وقالوا: ما يزيده الله من الفوائد والألطاف هو هدى كقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً} [محمد: 17]. وقال آخرون: تشمل الهداية الخلق كلهم بأن دلهم وبين لهم، يزيد المؤمنين بالذي يزيده من ألطافه ثوابا يفعله بهم في الدنيا وأنه يهديهم في الآخرة إلى الجنة ثواب من الله لهم! وهو قول الجبائي. هـ التوفيق والتسديد: قال قائلون: حكم من الله بأن الإنسان موفق وكذا التسديد، وعند جعفر بن حرب: التوفيق والتسديد من ألطاف الله لا يوجبان الطاعة في العبد، ولا يضطرانه إليها، ولكنه إذا أطاع وفق وسدد. وقال الجبائي: التوفيق والعصمة: لطف من الله يفعله بالعبد فيكون معتصما أو هي الدعاء والزجر والوعد والوعيد. لها وجهان: الأول فعله الله بالكافرين ولا يطلق أنه معصوم. ويقال إن الله عصمه فلم يعتصم. الثاني: ما يزيده الله المؤمنين بإيمانهم من الألطاف والتأييد والأحكام. والنصرة والخذلان بالحجة كقوله تعالى: {إِنََّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنََا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} [غافر: 51]. وبما يفعله الله ويقذفه في قلوب المؤمنين من الجرأة على الكافرين وقد تسمى القوة على الإيمان نصرا. انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 324، 326. ود. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 232وما بعدها.
(1) فسر الزمخشري (كتب) بأثبت وأوجب، انظر الكشاف، ج 2، ص 195.(1/183)
{لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذََا أَرََادَ اللََّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلََا مَرَدَّ لَهُ وَمََا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وََالٍ} [الرعد: 11].
لقد أفرز تناول المسلمين لهذه المسألة آنذاك أوجه نظر لا نريد أن نقول إن أبرزها ذلك الذي خاضته الفرق الهامة، ولكن نود هنا الإشارة إلى وجهتي نظر هامين:
الأولى: أن عامة المسلمين يميلون إلى إثبات سلطة الله المطلقة على جميع أفعال العباد وأن أفعال الإنسان خلقها الله في فاعليها. استدلوا لها بنص القرآن الكريم والحديث الشريف، وقد ذكرنا قبل نماذج من الآيات في هذا. أما في الحديث فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره» (1). وروى أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبق العلم وجف القلم وقضي القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل بالسعادة لمن آمن واتقى، والشقاء لمن كذب وكفر» (2). وهم عدّوا من قال: العباد خالقون لأكسابهم قدريا، ومن زعم أن لا استطاعة للعبد على الكسب وليس هو بفاعل له ولا مكتسب جبريا، لهذا رأوا العدل خارجا عن القدر والجبر، وأن القائل: العبد مكتسب لأفعاله والله سبحانه هو خالق كسبه إنما هو السني العدلي المنزه عن الجبر والقدر (3). ولم ينف أهل السنة المسئولية عن الإنسان لأنه ما أمر الله تعالى ونهى إلا لمستطيع الفعل والترك ولم يجبر أحدا على معصية ولا اضطره على ترك الطاعة لقوله عز وجل: {لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} [البقرة:
286] وقوله: {فَاتَّقُوا اللََّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزى ََ كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ لََا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]. وفي هذا دليل عندهم على أن للعبد كسبا يجزى على حسنته بالثواب وعلى سيئته بالعقاب لكنه واقع بقضاء الله وقدره (4).
__________
(1) صحيح مسلم: 6928باب وجوب محبة رسول الله. وانظر جامع الترمذي باب 1431باب ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره وشره. حديث رقم، 2169قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه». والأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، ج 1، ص 25.
(2) ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 31.
(3) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 339338.
(4) انظر محمد صديق حسن خان القنوجي، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 8584.(1/184)
الثانية: الجماعة التي تنفي القدر من القدرية وارتضوا لأنفسهم كذلك التسمية بأهل العدل، وهم سلف المعتزلة مثل معبد الجهني وعطاء بن سيار وغيلان الدمشقي (1). وحين وقع هذان الفريقان المهمان في العناد والتعنت ارتميا في أحضان التطرف والغلو في جدلهما للجبر والاختيار، فنزع تفكيرهم إلى مباحث مزجوا فيها الفلسفة بالكلام ونقلوا الكلام لاحقا إلى أطر السياسة وبلاط الحكم، فنجم عن ذلك ضر واعتساف ما كان ليقع لو نزعوا منزع الاعتدال. وحتى لا نقع في متاهات الاختلاف والتفريع نعود إلى ما ذكرنا من أهم الفرق لنقول في حصر وإيجاز: إن الخلاف الجوهري بين أهل السنة السلف منهم والأشاعرة وبين المعتزلة يتمحور حول القدر هذا واضح غير أن المشكلة تكمن في أن أهل السنة فهموا من قول المعتزلة العباد خالقون لأفعالهم بأن الله يعصى كرها، يظهر هذا في أحد ردود الأشعري على المعتزلة في كلامه على الإرادة أن العباد لو فعلوا «ما لا يريد الله وما يكرهه لكانوا أكرهوه، وهذه صفة القهر تعالى عن ذلك علوا كبيرا» (2)
ويبدو أن ما أراده المعتزلة هو أن الله تعالى أقدر عباده على الفعل فوهبهم العقل ليميزوا به الحسن من القبيح وليفرقوا الصواب عن الخطأ، وأقدرهم على أفعالهم وشملهم بعنايته، بأن أرسل إليهم الرسل ليهديهم السبيل ثم خلّى بينهم وبين أفعالهم، فمن أحسن فعلا من عباده فلنفسه ومن اقترف السوء والقبح فعليها، وذلك كله في نطاق المسئولية والحرية التي أنعم بها الله تعالى، فقد أذن الله سبحانه أن نفعل ما نريد وهذا ليصح الثواب والعقاب، لذا قال الله تعالى: {مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:
11]. قال الزمخشري لشرح: (يهد قلبه) يلطف به ويشرحه ليزداد طاعة وخيرا أو الاسترجاع عند المصيبة، ثم أضاف منتصرا لخليفة المعتزلة: «وقرئ (يهد قلبه) على البناء للمفعول والقلب مرفوع أو منصوب ووجه النصب أن يكون مثل (سفه نفسه) أي يهد في قلبه»، ثم أضاف: «ويجوز أن يكون المعنى: أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى: {لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]
__________
(1) انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 99.
(2) الإنابة عن أصول الديانة، تحقيق د. فوقية حسين محمود، دار الأنصار القاهرة، 1397هـ، ط 1، ج 1، ص، 167وكذا زهدي جار الله، المعتزلة، ص 119.(1/185)
(وقرئ (نهد قلبه) بالنون ويهدّ قلبه بمعنى يهتد ويهدأ قلبه يطمئن ويهد ويهدا على التخفيف =. وفسر قبل ذلك (إذن الله) بالتقدير والمشيئة كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه (1).
ونحن ندرك أن تعميق هذه المباحث ذو غاية أساسية هي نفي الظلم والقبح والشرور عن أفعال الله لهدف أعم هو إقرار وحدانية الله وإبعاد القول بالثنوية وبمن نسب الظلم لله، تعالى عنه ونزه.
لقد أخذ المعتزلة يؤوّلون الآيات الكريمة التي فهم منها الجبر كقوله تعالى:
{خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ} [البقرة: 7]. قال الخياط: «ليس معنى ذلك أن الله منعهم مما أمرهم به تعالى عن ذلك ولكن على الاسم والحكم والشهادة وإنما ختم على قلوبهم مما فيها من الكفر» (2).
وجعلها الزمخشري من باب المجاز والاستعارة والتمثيل: «فإن قلت: ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت: لا ختم ولا تغشية ثمّ على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل، أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده وأسماعهم لأنها تمجّه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم وأبصارهم لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطى عليها وحجبت وحيل بينها وبين الإدراك. وأما التمثيل فإن تمثيل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية» ثم أضاف متسائلا:
كيف أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح والله يتعالى عن فعل القبيح لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه.
وقد نص على تنزيه ذاته: {وَمََا أَنَا بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} [50: 29] {وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ وَلََكِنْ}
__________
(1) الكشاف: ج 4، ص 115.
(2) الانتصار، ص 182.(1/186)
{كََانُوا هُمُ الظََّالِمِينَ} [الزخرف: 76] {إِنَّ اللََّهَ لََا يَأْمُرُ بِالْفَحْشََاءِ} [الأعراف: 28] وغيرها من الآيات الكريمة. أجاب قائلا: القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل فلينبه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم فلان مجبول على كذا ومفطور عليه يريدون أنه يبلغ في الثبات عليه، وكيف تتخيل ما خيل إليك، وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم. وله في إسناد الختم تأويلات (1):
الأول: كونه كنى به عن الوصف الذي صار كالخلقي، وكأنهم جبلوا عليه وأصبح كأن الله عز وجل هو الذي فعل بهم ذلك.
الثاني: أنه من باب التمثيل كقولهم: طارت العنقاء إذا طالت به الغيبة، وسال به الوادي إذا هلك. وليس للعنقاء ولا للوادي عمل في هلاكه، وإنما هو تمثيل كأنهم مثلت حال قلوبهم بما فيها من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها وليس لله تعالى فعل في تجافيها عن الحق ونبوها عن قبوله لأنه متعال عن ذلك.
الثالث: تأول الإسناد بأنه نسبه إلى السبب لما كان الله هو الذي أقدر الشيطان ومكّنه، أسند إليه الختم.
الرابع: في أنهم لما كانوا مقطوعا بهم أنهم لا يؤمنون بإرادتهم، وبأنه لم يبق إلا لجاؤهم إلى ذلك وقسرهم وترك الإلجاء والقسر، وعبّر عنه بالختم.
الخامس: هو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم:
{قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ}
[فصلت: 5].
السادس: أن الختم منه على قلوبهم شهادة منه بأنهم لا يؤمنون.
__________
(1) انظر الكشاف، ج 1، ص 155وما بعدها، وأبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 1، ص 80، والإيجي، المواقف في علم الكلام، ص، 319وم ن، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت 1997م، ط 1، ج 3، ص 242.(1/187)
السابع: أنه في قوم معينين، فعل الله تعالى بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا، عقوبة عاجلة كما عاقب (1) بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم.
الثامن: أن يكون فعل الله تعالى ذلك بهم دون أن يمنع بينهم وبين الإيمان لضيق صدورهم عقوبة غير مانعة من الإيمان.
التاسع: أن يفعل الله سبحانه بهم ذلك في الآخرة لقوله عز وجل:
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} [الإسراء: 97].
العاشر: أن الختم سمة يجعلها الله سبحانه في قلب الكافر وسمعه حجة لدى الملائكة على أنهم لا يؤمنون. وهي تأويلات مبنية على معتقدهم في أن الله سبحانه لا يخلق الكفر، ولا يمنع من قبول الحق والتوصل إليه لأن هذا قبيح والله عز وجل متعال عن فعل القبيح لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه.
وفسر الزمخشري (يضله) من قوله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] ب «يخذله ويخليه وشأنه» (2) فهو بهذا يقرر الحرية، حرية الإنسان وينفي عنه الجبر، وفسر قوله تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ب «يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه، وينبو عن قبول الحق، وينسد فلا يدخله الإيمان» (3).
وأما قوله تعالى: {إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [القصص:
56] فذكروا أن من معناه: «إنك لا تحكم بالهداية لمن تحب لأنك لا تعلم باطن
__________
(1) عاقب الله تعالى الكفار بعدة أمور بمنعهم عن الإيمان هي: الختم والطبع والأكنة، والغطاء والغلاف والحجاب والوقرة والغشاوة، والغل والسد والقفل، والصمم والبكم والعمى، والصد والصرف والشد على القلب، والضلال والإغفال والمرض، وتقليب الأفئدة، والحول بين المرء وقلبه، وإزاغة القلوب، والخذلان والأركاس، والتثبيط والتزيين، وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها، فتبقى على الموت الأصلي وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية وجعل القلب قاسيا وجعل الصدر ضيقا حرجا لا يقبل الإيمان. انظر ابن قيم الجوزية (محمد بن أبي بكر بن عبد الله ت 751هـ)، شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل، ص 92.
(2) الكشاف، ج 2، ص 49.
(3) م ن، ج 2، ص 49.(1/188)
الخلق، ولكن الله يحكم لمن يشاء» (1). وقال الزمخشري في تفسير الآية الكريمة:
لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك ومن غيرهم لأنك لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره، وهو الذي علم الله أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف تنفع فيه فتقرب به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول (2).
وفسر قوله عز وجل: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيََاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}
[الأنعام: 112] الدالة على أن لكل نبي عدوا من الشياطين والجن أو من المجرمين من الناس قائلا: «وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر» (3)، وقوله تعالى: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى ََ بِرَبِّكَ هََادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31] فسره قائلا: كان كل نبي قبلك مبتلى بعداوة قومه وكفاك بي هاديا إلى طريق قهرهم والانتصار منهم وناصرا لك عليهم (4)، ولا يتفق مذهب المعتزلة مع هذا التقدير الإلهي في أصل الرحمة والعدل الذي يقتضي بأنه تعالى لا يمكن أن يضع أمام أنبيائه ورسله عوامل تخفقهم في أداء رسالاتهم تصحبهم عند أدائها لهذا قالوا: إن (جعل) لا يدل على معنى (صنع) فحسب، وإنما يدل كذلك على معنى (وضح، وبيّن) مع معنى (عرّف) فيصبح معنى الآية بهذا: أن الله أحاط كل نبي خبرا بمن يكون عدوا له ليتمكن من العمل ضده. وهو ما ذكره أحد الدارسين مضيفا أن الجبائي غيّر لفظ «عدوا» الثابت في القراءة المشهورة إلى «عدوّه». وبهذا أضافوا إلى نهجهم في التأويل أداة التغيير الدلالي التي لا توافق أحد أصولهم إلى جلب أدوات أخرى أشرنا إلى بعضها قبل هذا كالمجاز، وما يندرج ضمنه كالتمثيل والتخييل (5).
ومن تأويلاتهم لهذا الأصل ما ذهب إليه الزمخشري في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللََّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ}
__________
(1) الخياط، الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 182.
(2) الكشاف، ج 3، ص، 185وكذا أبو الحيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 8، ص 315.
(3) م ن، ج 2، ص 45.
(4) م ن، ج 3، ص 90.
(5) أنظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 154153.(1/189)
{أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 22، 23]: إنّ شرّ من دبّ على الأرض أو إن شر البهائم صم بكم على الحق لا يعقلونه فلو علم الله عز وجل أن ألطافه تنفعهم للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين فلا ينفع فيهم اللطف لذا منعهم سبحانه إلطافه أو لو لطف بهم وصدقوا لارتدّوا بعد ذلك، وكذبوا ولم يستقيموا (1).
ولما كانوا يرون الهداية واجبة على الله عز وجل قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى اللََّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهََا جََائِرٌ وَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:
9]: «أي أن هداية الطريق الموصلة إلى الحق واجبة عليه كقوله: {إِنَّ عَلَيْنََا لَلْهُدى ََ} [الليل: 12]. فإن قلت: لم غير أسلوب الكلام في قوله: (ومنها جائر) قلت: ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل: «وعلى الله قصد السبيل»: وعليها جائرها أو «وعليها الجائر».
وقرأ عبد الله «ومنكم جائر» بمعنى ومنكم جائر عن القصد بسوء اختياره، والله بريء منه» (2)، ولم يفوت أحمد بن المنير لومه على الزمخشري الذي لم يأخذ بتتمة الآية وبيّن في تعقيبه اعتبارين لكل فعل يصدر عن العبد:
الأول: من حيث وجوده هو مخلوق لله تعالى ومضاف إليه بهذا الاعتبار.
الثاني: من حيث اقترانه باختيار العبد له وبتأتيه له وتيسره عليه يضاف إلى العبد. وأضاف أن تعدد الاعتبارين ثابت في كل فعل فيترتب على هذا أن إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها تناسب إقامة الحجة على العباد. ويكون إضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له (3).
ولا غرو في أن هذا يبين الخلاف في «الكسب» (4) بين أهل السنة والمعتزلة، فهو عند المعتزلة الفعل الواقع على وجه يستجلب به العبد نفعا أو يدفع به ضررا.
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 151.
(2) الكشاف، ج 2، ص 403.
(3) الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 2، ص 403.
(4) الكسب «الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر، ولا يوصف فعل الله بأنه كسب لأنه منزه عن جلب نفع أو دفع ضر». الجرجاني، التعريفات، ص 128، أول من نطق به ضرار بن عمرو ولم(1/190)
أما عند أهل السنة فمعناه أن للأفعال تعلقا بنا من جهة الكسب غير أنها من جهة الخلق والإيجاد من الله تعالى، أما بوصفها طاعة أو معاصي فمن العبد فهم يفرقون بين فعل الخلق الذي هو لله تعالى مثلما ذكر هذا ابن المنير وذلك ليحققوا القدرة الإلهية المطلقة وبين الكسب الذي للعبد ليثبتوا مسئولية الإنسان عن عمله.
ويبدو أن هذا يدل على توسطهم بين القائلين بالجبر المطلق وبين ما ذهب إليه المعتزلة القائلين بالقدرة الإنسانية المستقلة عن الله سبحانه.
بيد أن الخلق أخذ وجوها متعددة لدى المعتزلة من إيجاد وتكوين وإرادة وفكر وتقدير (1). ولعل التدقيق معهم في هذا يدفع بالدارس إلى التمييز بين صيغتين في الخلق عندهم:
الأولى: تقدم الخلق بوصفه إيجادا وتكوينا وابتداء وفعلا ليس بآلة ولا بتوسط من قوة. ولا يمكن إطلاق هذا على الإنسان لتعذر قدرته على أفعاله ابتداء لا في محل ولأنه يقدر عليها على جهة المباشرة والتوليد وبتوسط الآلات والقوى.
الثانية: طرح فيها الخلق وعدّ تقديرا يمكن إطلاقها على الإنسان أيضا طالما أن أفعاله تقع منه مقدرة بقدرة على حسب الغرض والداعي المطلوب (2). بيد أن
__________
يتبلور هذا المذهب إلا مع الأشعري ومن تابعه. وقد جاء في القرآن الكريم على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى عقد القلب وعزمه. الثاني: كسب المال من التجارة. الثالث: السعي والعمل. والكسب قالت به الفرق كلها لكنهم اختلفوا في حقيقته. قالت المعتزلة: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته واستقلاله وليس لله صنع فيه، ولا هو خالق لفعله ولا مكونه ولا مريده. وقالت الجبرية: الكسب اقتران الفعل بالقدرة الحادثة من غير أن يكون لها فيه أمر. أما أهل السنة فالكسب عندهم هو المتعلق بالقادر على غير جهة الحدوث أو هو المقدور بقدرة محدثة وليس معنى قدرة أنها قدرة على وجوده إذ القادر على وجوده هو الله وحده فتعلق الكسب بالقدرة الحادثة إنما هو تعلق ليس من باب الحدوث والوجود عندهم. وهم قالوا: الكسب وقوع الفعل بقدرة محدثة والواقع منه بقدرة قديمة هو الفاعل الخالق والواقع منه بقدرة محدثة مكتسب. انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، ج 1، ص 539وما بعدها.
وقال الماتريدي (ت 333هـ): الكسب حقيقة الفعل هو للعباد من طريق الكسب ولله تعالى من طريق الخلق: التوحيد، ص 91، 228وانظر الآمدي سيف الدين (ت 631هـ)، غاية المرام في علم الكلام، ص 223، وابن القيم الجوزية (ت 751هـ)، شفاء العليل، ص 130121120، والجرجانى (ت 816هـ) التعريفات، ص، 118ومحمد عبد الرءوف المناوي (1031هـ)، التوقيف على مهمات التعاريف، ص 603.
(1) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر عند المعتزلة، ص 223222221.
(2) الخالق عند المعتزلة معناه حر المشيئة فاعل بحريته وقدرته على الكسب والاكتساب أي مسئول عما(1/191)
المعتزلة كشفوا عن اختلافهم في إطلاق لفظ (الخالق) على الإنسان وفضّل المتأخرون منهم القول: موجد، محدث (1). لقد بينوا أن خلق العبد لا يشبه خلق الله تعالى لأن خلقه سبحانه يشتمل على الأجسام والأعراض، وهذا متعذر في خلق العباد لأنهم لا يقدرون إلا على هذه التصرفات المتمثلة في القيام والقعود وما جرى مجراها (2).
وإذا كان رأي المعتزلة في قدرة الإنسان على خلق أفعاله مردودا عند الأشاعرة لأنه يؤدي إلى استقلالية تامة عن الله تعالى في معنى القدرة فإن ما أراده المعتزلة بالتحديد هو أن القدرة على خلق الأفعال لدى الإنسان تؤدي في الواقع إلى استقلالية كاملة عن الله في مجال إخراج الأفعال إلى حيز الواقع، وهذا إقرار واضح بالتنزيه بين الله ومخلوقاته، وتجعل الإنسان ذا الصورة المتميزة بالفعالية يؤكد اقتداره في الواقع ويؤكد حضوره فيه بإقدار من الله عز وجل الذي حفظ له ضمن مجال التكليف استقلالية علمه وإرادته وقدرته نفعا لخلقه والمصلحة المقتضاة، لكن ذلك في إطار حدود لا تتجاوز طبيعة القدرة الإنسانية فلا تتصور الاستقلالية المنزهة التي تؤكد حضور الإنسان باعتباره مكلفا إلا في معنى ديمومة الهيمنة الإلهية على الإنسان والمخلوقات كافة (3).
وقد ردّ المعتزلة على التفرقة التي ذهب إليها أهل السنة بين الخلق والإيجاد لله تعالى وبين الكسب الذي للعبد أي أن الله تعالى يفعل لا بآلة والعبد يفعل بآلة.
إن الأشاعرة لا ينكرون تعلق الأفعال بالعباد واحتياجها إليهم بيد أنهم ينكرون أن
__________
يفعل، فلا خلاف عند المعتزلة في أن الله خالق والإنسان (خالق) لكنهم يميزون بين الخلق الذي هو اختراع وابتداء من لا شيء وبين القول بالخلق الذي هو تقدير الأفعال على الأغراض المطابقة لها الموصلة إلى الاستقلالية الإنسانية في القدرة التي رفضها لهم أهل السنة. فالإنسان عند المعتزلة مخلى بينه وبين الفعل يقدر على إحداثه لذا يكون مخلوقا منه أي هو مقدّره يحدثه بحسب قصوده ودواعيه. وهكذا فالخلق جائز عندهم في إطار الإيجاد ضمن القصد والدواعي لا على جهة تقدير المصلحة في معناها المطلق:
انظر م ن، ص 223222.
(1) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص، 298ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 224.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 69.
(3) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 225242.(1/192)
تكون القدرة الإنسانية هي المؤثرة في الأفعال، وإنما القدرة مجرد صفة متعلقة بالفعل لا على معنى أنها مؤثرة. وتبيين هذا أن الأشاعرة يثبتون القدرة للإنسان ولا يجعلون لها أي أثر لأنهم يرون العبد محلا لقدرة الله تعالى ليس غير. ويبدو أن هذا يقربهم من جبرية جهم بن صفوان الذي يعد الإنسان مسلوب القدرة، وبأن العباد كالظروف لأفعال الله سبحانه (1) لكن الملاحظ على الأشاعرة أنهم حاولوا جعل الكسب بديلا من الاقتدار الكلي للإنسان على أفعاله وبهذا يكونون أقرب إلى مبدإ الاختيار وأبعد عن الجبرية الخالصة. من هذا الموقف رد المعتزلة برأيهم المحدد على أهل السنة (2) جاعلين الإنسان أصلا لأفعاله وخالقا مبدعا لها لأنهم يرون في هذا تحقيقا للعدل الإلهي ولمسئولية الإنسان في إطار التكليف مجمعين القول بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس ولأعمال الحيوانات وإنما هم الذين خلقوها واخترعوها، وبأن ليس لله تعالى فيها صنع ولا تقدير (3)، ورغم موافقة معمر والجاحظ للمعتزلة في خلق العباد لأفعالهم واختراعها فإنهما نفيا أن يكون للعباد فعل في أفعالهم، وإنما نسبت إليهم مجازا لظهورها منهم وإنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة فقط التي يفعلها الإنسان لا غير فليس ما بعد الإرادة للإنسان حسبهما إلا بطبعه وبأنه ليس باختياره لهذا لا يقع منه فعل باختياره إلا الإرادة (4).
إن المعتزلة لم يختلفوا في إسناد الأفعال المباشرة إلى الإنسان، وقد ردوا على خصومهم وأدلوا بدلوهم فيه (5). وقد قصدنا بالأفعال المباشرة تلك التي لا تتعدى الإنسان الفاعل إلى غيره فهي التي تقع في محل قدرة الإنسان من غير وساطة وسبق من فعل آخر كالإرادة التي هي فعل مباشر لأن الإنسان يبتدئها في حيز قدرته، والواقع أن للمعتزلة اتجاهين في مفهوم أن الإنسان مريد.
__________
(1) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق ص 211، 338، 339والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 98.
(2) وكذلك على المريسي وبرغوث والبخارية والجهمية وطوائف من الخوارج والمرجئة والشيعة. انظر ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 81.
(3) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 114، 115وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 100.
(4) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 2، ص، 91والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 175173وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص، 82والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 84 88.
(5) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 6460595857(1/193)
الأول: يعتبر المعنى الحاصل في الإنسان هو الذي يؤثر في كونه مريدا فيقع المراد منه على وجه دون وجه.
الثاني: لا يرى الإنسان مريدا إلا في إطار مفهوم الفعلية من خلال حدوث المراد منه، وبهذا يصبح المراد هو المؤثر في اختصاص العبد بكونه مريدا (1)، وقد أمكن البعض القول بأن الأفعال المباشرة يقصد بها أفعال القلوب كافة الأفعال التي تتبلور بها إنيّة الإنسان باعتبارها فعلا إراديا باطنيا يتحول إلى أحوال الإنسان وما هو عليه في كونه الإنساني ليشكل دعامة أساسية لصحة الموضوع الأخلاقي والعدل الإلهي الذي لا يتحقق إلا من خلال هذه الفعلية (2). غير أنه ثمة أفعال في الطبيعة ليست مرتبطة ظاهرا بالإنسان وتبدو من غير دائرة خلقه ومجال أفعاله أطلقوا عليها: الأفعال المتولدة لأنها تقع من العبد وقوعا غير مباشر، وتتعدى إلى غير الفاعل (3). جعلها النظام (ت 231هـ) ناتجة عن الله تعالى بطريقة غير مباشرة وهو يكاد يتفق فيها مع خاله أبي الهذيل العلاف القائل بأن الله تعالى هو الذي يبدع الإدراك والعلم الحادثين في غيره عند إسماعه وتعليمه، وبأنهما ليسا من أفعال العباد. وقد عقّب أهل السنة على هذا، وأجمعوا على إبطال قول المعتزلة في التولد في أن الإنسان قد يفعل في نفسه شيئا يتولد منه فعل في غيره وقول من ذهب إلى أن المتولدات أفعال لا فاعل لها وقول أكثرهم بأن الإنسان قد يفعل في غيره أفعالا تتولد عن أسباب يفعلها في نفسه، ولما كان أهل السنة لا يقولون باختيار الإنسان لأفعاله أجمعوا بصحة اكتساب الإنسان للحركة والسكون والإرادة
__________
(1) نظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 194.
(2) انظر م ن، ص 315314.
(3) ذهب العلاف إلى أن كل ما تولد عن فعله مما تعلم كيفيته فهو فعله كالألم الحادث عن الضرب وذهاب الحجر عند دفعه له أما اللذة والألوان والطعوم والأراييح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والجبن والشجاعة والجوع والشبع والإدراك والعلم الحادث في غيره عند فعله فذلك أجمع عنده فعل الله تعالى.
فالإنسان يبقى سبب الأفعال يفعل الأفعال في غيره بأسباب يحدثها في نفسه لأنه إذا رمى الإنسان غيره بسهم ثم مات الرامي قبل وصول السهم إلى هدفه ثم وصل إليه وألمه وقتله، فإن الألم والقتل الحادث حال موته بالسبب الذي أحدثه وهو حي كذلك لو عدم لكان يفعل في غيره وهو معدوم لسبب كان منه وهو حي. الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 2، ص 8887، والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 66والتولد عند علماء الكلام ما تولد عن فعل فاعل لم يقصد هو فعله: ابن حزم (ت 456هـ) الإحكام في أصول الأحكام، دار الحديث القاهرة، 1404هـ، ط 1، ج 5، ص 143والإيجي (ت 756هـ) المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 316.(1/194)
والقول والعلم والفكر، وما جرى مجراها من الأعراض مستثنين الطعوم والروائح والألوان والإدراكات التي رأى بشر بن المعتمر (ت 226هـ)، وأتباعه بأن الإنسان قد يفعلها على معنى التولد إذا كانت أسبابها من فعل العبد (1)، وقد عنوا بالتولد الفعل الثالث الذي يلي المراد كالألم عقيب الضربة والذهاب الذي يتبع الدفعة أو الفعل الواقع على سبيل الخطأ دون القصد إليه وإرادته، يحصل بتوسط فعل آخر كأن ترمي حجرا على صخرة فتصيب مارا في عينه خطأ. وقد أسس أغلب القائلين بإثبات التولد إقرارهم له على معنى «أن الأسباب موجبة لمسبباتها في مسئولية فاعليها» (2).
ولا ريب في أن بحث مسئولية الإنسان بهذه الأفعال يعكس حرصهم وقولهم بمسئوليته عن أفعاله. ولعل هذا الموضوع الإصابة الخاطئة ما زال موضع انشغال جاد في الأحكام القانونية المعاصرة أيضا، ولعل هذا يمكّن المعتزلة من افتكاك العذر ونيل الاعتبار فيما بحثوه من بعض المسائل في هذا الجانب.
إنهم حين عمقوا البحث في خلق الإنسان لأفعاله هدفوا إلى إبراز أبعاد مختلفة ترتبط بهذه المسألة، وتتصل بمعنى التكليف الذي لا يأخذ معناه الصحيح إلا باشتماله على أفعال الإنسان كلها المباشرة وغير المباشرة، وبمفهوم السّببية التي هي فكرة ترتبط فيها الأسباب بالمسببات في عملية توليد الأفعال بعضها عن بعض لتؤدي إلى اعتبار الإنسان سبب أفعاله.
فالسبب الحادث يوجب حدوث المسبب بصرف النظر عن المقصود والدواعي التي لا تؤثر في حال وقوع السبب من توليد المسبب عنه، وهكذا تبدو إرادة السبب إرادة للمسبب لذا فالفعل المتولد رغم عدم وقوعه من حسب الدواعي فإنه وقع حسب قصد الفاعل بعد فعله المباشر، ويكفي هذا ليوضح أن الأفعال المولدة لا تقع بحسب الدواعي وإنما تحدث بحسب السبب (3).
__________
(1) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 2، ص، 88وانظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 157، وكذا الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 78وكذا د. سعيد مراد مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 374، 375.
(2) م ن، ج 2، ص 87، 97والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 173157.
(3) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 339، ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 143142.(1/195)
وقادهم هذا التعميق إلى إثارة علاقة الإرادة بالفعل: هل إذا وجدت الإرادة يعقبها الفعل بصورة حتمية؟ وهنا قال أغلب المعتزلة بتقدم الإرادة على الفعل المراد إلا الجبائي الذي ذهب إلى أن الإنسان يقصد الفعل في حال كونه، والقصد لكون الفعل لا يتقدم الفعل ولا يوصف الإنسان في الحقيقة بأنه مريد لأن يفعل (1).
وامتدّ إيغالهم إلى النظر في مدى أثر القول بخلق الإنسان لأفعاله المباشرة والمتولدة في نفسية الإنسان من جانب كونه: هل يشارك الله تعالى في الخلق والإبداع؟ ولعل الجواب في إطار هذه الخلفية يوحي بأن الإنسان يقدر على خلق فعله لأن فعله يقع منه مقدرا بالغرض والدواعي أي بحسب قدرته الذاتية وبحسب دوافعه الداخلية وفق مصلحة محددة تمكّنه من تحقيق ذاتيته. غير أن الله تعالى هو الذي خلق كل ذلك فيه، وجعله مكلفا، وهيّأ له أسباب الحياة وظروفها ليحقّق ما كلف به في اختيار الفعل أو تركه.
ويترتب على ذلك مدحه أو ذمه وأن من حدث منه الفعل مقدرا بحسب الغرض والأسباب هو خالق قديم أو محدث (2).
بيد أن المعتزلة لم يقصدوا عند عدّهم الإنسان خالقا لأفعاله أنه ينازع الله تعالى في سلطانه لأنهم حرصوا على تنزيه الله عز وجل عن كل مشابهة أو مماثلة على الرغم من أنهم بالغوا في التنزيه، وحاولوا عبر أصولهم الخمسة وما تعلق بها من القضايا الجانبية أن يفسّروا الألوهية على مفهومي التوحيد والعدل لأجل الإنسان للدفاع عن حقوقه في العقل والحرية، فلم يقصدوا أبدا منازعة الله عز وجل في السلطان، وإنما أرادوا أنه تعالى خلق في الإنسان قدرة يحدث بها الأفعال ابتداء وتولدا أي أن الإنسان لا يخلق تلك الأفعال من العدم فقدرة الإنسان التي توهم بالمشاركة هنا لا تتجاوز حدود القادر بقدرة محدثة (3)، يدل على ذلك العقل
__________
(1) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 2، ص 102، 103وكذا القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 92وما بعدها.
(2) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 144.
(3) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 9594939291، وكذا دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص، 88ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 145144.(1/196)
والقرآن الكريم في قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا}
[فصلت: 46] فالعمل الصالح والسيئ كلاهما ينبع من النفس ويعود بالنتيجة إليها. إن فعل الفاعل طاعة فإنه يثاب، وإن اقترف معصية يعاقب. لهذا ما دام الإنسان في واقع التكليف فإنه يخلق أفعاله باختياره. وإن مسألة الخلق عند المعتزلة قد وقع التجوز بها في مجال الطبيعة الإنسانية.
واختلف المعتزلة مع الأشاعرة في نسبة الفعل الإنساني إلى فاعله، ويمكن القول هنا بأن هذا الاختلاف بالنسبة إلى الأشاعرة يتعلق برأيهم في الغائية، ويمس أحد أصولهم وهو تفرد الله سبحانه بالخلق، فهم لما رأوا انفراد الله تعالى بالفاعلية في العالم ترتب على ذلك عندهم أن جميع أفعال الإنسان خيرها وشرها هي من خلق الله وإيجاده. غير أنهم جعلوا لكل فعل اعتبارين:
الأول: خلق الفعل وإيجاده من الله تعالى.
الثاني: العبد يكتسب ولا يفعل. وهم يؤكدون مع هذا أن الله تعالى هو القدرة الوحيدة المؤثرة في العالم والتي تقصد كل ما فيه من أفعال لذا قال الأشعري:
«ويقال لأهل القدر: أليس قوله تعالى: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12] يدل على أنه لا معلوم إلا والله به عالم. فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: ما أنكرتم أن يدل قوله تعالى: {عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] على أنه لا مقدور إلا، والله عليه قادر، وأن يدل قوله تعالى: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] على أنه لا محدث مفعول إلا والله محدث له فاعل خالق» (1)، ويبلور هذا نظرتهم الغائية التي تنبني على استحضار السيادة المطلقة المهيمنة لله تعالى على العالم (2). ولئن كنا عرضنا رأي المعتزلة فيه فقد ردّ دارسون معاصرون على هذا أيضا، وبين بعضهم أن التجربة لا تظهرنا كذلك متحدين بالوجود الكلي، وإنما تؤكد استقلالنا عن كل وجود وتكرس الفصل بين الموجودات ويرى في ارجاع الأفعال جميعها إلى الله تعالى تجاهلا للشخصية الإنسانية التي كرمها الله وميزها، وهيأ لها أسباب
__________
(1) كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ص 88.
(2) انظر نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992، ص، 141ودي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 89.(1/197)
التكليف لتتحمل المسئولية، فكيف يقع تجاهل هذه الشخصية وفاعليتها وكثرة الوجدانات معها بحجة أن الوجود واحد والفاعل واحد؟ ألا يسهم هذا في إلغاء الحرية وما يتبعها من معاني خلقية كالواجب والحق والعدالة والظلم والفضيلة والرذيلة؟ ألا يعني ذلك إسناد المناكير والفساد والمعاصي لله تعالى باعتبارها لازمة في نظام الكون لأنه كل وأحداثه لازمة عن ذات الله ضرورة؟ ومن ثم ألا يقود هذا إلى إعفاء الله سبحانه من العصمة والقداسة ويعفي الإنسان من المسئولية والسعي إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة؟ (1).
3 - الوعد والوعيد:
أصل ينبثق من أصل العدل لأنه يقوم على مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد أراد المعتزلة به أن الله صادق لا يخلف وعده أو وعيده، فالفائز بفعله استحق الثواب والخاسر به استوجب العقاب. فالثواب والعقاب كلاهما قانون حتمي التزم به الله سبحانه. وهذا أمر يقضي به العدل عندهم، وسنبين فيما يلي رأيهم في الأصل وكذا ما يتعلق به من المسائل.
قال القاضي عبد الجبار: «الوعد كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل» (2)، ولا فرق بين أن يكون مستحقا أو تفضلا من الله عز وجل لأن الثواب الذي يناله العبد من فعله للطاعات هو ما يستحقه على فعله لتلك الطاعات، ولم يكن ذلك تفضلا منه عز وجل إذ التفضل ما يجوز أن يفعله فاعله أو لا يفعله. أما الواجب فلا يصح له أن لا يفعله (3). وقد جعلوا الثواب حتما على الله سبحانه بينما عدوا العقاب واجبا على مقترف الكبيرة إذا لم يتب عنها، وهو لا يستحق إلا على المعصية، ولم يوجبه الأكثرون منهم وجوب الثواب «لأن الثواب لا يجوز حبطه والعقاب يجوز اسقاطه عند البصريين وطوائف من البغداديين» (4).
__________
(1) انظر يوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة، دار المعارف بمصر، 1966م، ص 173.
(2) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 78وكذا ج 2، ص 265.
(3) م ن، ج 1، ص 78.
(4) إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 152.(1/198)
وعرف الوعيد قائلا: «هو كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسنا مستحقا، وبين أن لا يكون كذلك» (1). واشترط المعتزلة شروطا تستحق بها أفعال العباد المدح أو الذم والثواب أو العقاب، وأرجعوا أحد هذه الشروط إلى الفعل، إذا كان قبيحا استحق الذم، وإذا كان حسنا استحق المدح. وأرجعوا الآخر إلى الفاعل من ناحية علمه بقبح الفعل أو علمه بحسنه. ولا فرق بين شروط استحقاق الثواب والعقاب وشروط استحقاق المدح والذم، لكنهم اشترطوا هنا أن يكون الفاعل ممن يصح أن يثاب أو يعاقب (2). ووضحوا أن فعل الواجب وتجنب القبيح هو المؤثر في استحقاق المدح والثواب لذا فإن تكليفنا أفعالا شاقة يلزم لها الثواب المقابل لأنه يقضي به العدل الإلهي (3). ومن هنا كان الثواب الذي يناله الإنسان عما قام به من طاعات هو ما تطلبه على أدائه، لها وليس من قبيل التفضل الإلهي، لأنه يوجد فرق بين وجوب الثواب وبين التفضل الذي أوضحنا قبل، وهو الذي يجوز لفاعله أن يأتيه أو لا يأتيه بينما الواجب غير ذلك لأنه ليس له إلا أن يقوم به. ولسنا ندري إلى أي مدى تصح هذه الصرامة العقلية عند المعتزلة حين يصدرون الحكم بالوجوب على الله تعالى وهو المالك كل شيء، يفعل به ما شاء سواء أكان بريئا أم لم يكن كذلك؟
وبين المعتزلة بدلالة العقل والسمع أن العقاب استحقاق إذ دلالة العقل الأولى أن الله سبحانه أوجب علينا الواجبات، وأوجب علينا تجنب المقبحات وعرفنا وجوب ما يجب وقبح ما يقبح، فإن أخللنا بما عرفنا به وبما أوجب علينا وأقدمنا على خلافه استحققنا الذم من الله تعالى ومن العقلاء. أما دلالة العقل الثانية فتتمثل في أن الله عز وجل خلق في العباد الشهوة إلى القبح والنفور من الحسن فلزم أن يكون
__________
(1) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 79.
(2) انظر م ن، ج 2، ص 267.
(3) أوجب معتزلة البصرة الثواب لأنهم رأوا التكاليف الشاقة ليست إلا لنفعنا بالثواب عليها، فهو حتم عندهم. ولم يره أهل السنة حقا محتوما لأنه عندهم فضل من الله. انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 152وكذا الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص، 306وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 378376.(1/199)
مقابله من العقوبة ما يردعنا عن إتيان المفاسد وما يرغّب فينا فعل الواجبات، وإلا صار المكلف مغرى بالقبح. ولا يجوز على الله تعالى أن يغري عباده للقبيح (1).
وهم استدلوا على استحقاق الثواب والعقاب بالأدلة السمعية وهي أن الله عز وجل وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب فلو لم يجب لكان لا يحسن الوعد والوعيد بهما (2)، وحين يثيرون إسقاط الثواب يذهبون إلى أنه يرجع إلى العبد لا إلى الله عز وجل لأنه نتيجة لفعل العبد. فالثواب يسقط بندم العبد على ما قام به من الطاعات أو بما يفعله من معصية هي أعظم منه، أما العقاب فيسقط أيضا بالندم على ما فعله من المعصية أو بما يفعله من طاعة هي أعظم منه. لهذا هم يرون أن زيادة الحسنات والندم على المعاصي هي التي تسقط عن الإنسان العقاب وليس بعفو الله تعالى، وقد نص على هذا القاضي عبد الجبار المعتزلي:
«لا يسقط الثواب بإسقاط الله تعالى البتة» (3)، وذهبوا إلى أن الطاعة تسقط العقوبة المستحقة في الصغائر أما الكبائر، فإن عقابها لا يزول بكثرة الطاعات المفعولة. وإذا كان معتزلة بغداد يرون إسقاط العقاب لا يحسن من الله عز وجل بل يجب عليه معاقبة المستحق للعقوبة (4)، فإن معتزلة البصرة جعلوا العقاب حقا لله سبحانه على الخصوص، ونفوا أن يكون في إزالته إسقاط حق، وفي هذا قال الباقلاني (ت 403هـ) من الأشاعرة: «وكيف لا يحسن من الله العفو عن الذنب، وقد أمرنا به وحضّنا عليه» (5).
ويمكن القول بعد هذا: إنّ الوعد والوعيد عند المعتزلة يمثّل أساس معنى العدل الإلهي، ويدل على مفهوم الحرية الإنسانية فهل يعقل أن يحاسب الله سبحانه العباد على أفعال من صنعه؟ وكيف يتساوى المحسن والمسيء؟ لقد اعتقدوا في هذا المجال أن الله لا يخلق وعده ولا وعيده، وأنه لا يجوز العفو على مرتكب الكبيرة
__________
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 273272.
(2) انظر م ن، ج 2، ص 279.
(3) انظر م ن، ج 2، ص 292.
(4) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 157156154.
(5) كتاب التمهيد (الباب الثامن والعشرون باب القول في الوعد والوعيد) ص 352(1/200)
الذي عدوه مخلدا في النار (1)، ولو صدّق بوحدانية الله وآمن بالرسل لقوله عز وجل: {بَلى ََ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} [البقرة: 81] غير أن أهل السنة متفقون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا يخرجه عن الملة لأن ذلك يجعله مرتدا يترتب عليه قتله (2)، وأجمعوا على حسن العفو عن عقوبة الذنب فقد خاطب الله تعالى العرب بما يفهمون، وبما تعودوا عليه في حياتهم. ومن مبادئ أخلاقهم أن الإنسان إذا وعد وجب أن يفي بوعده وإن أوعد فالأحسن أن يعفو، ومن هذا قال الباقلاني: «لأنا علمنا جميعا حسن ترك عقوبة الذنب ممن استحق بجناية عليه. وقد اتفق المسلمون وغيرهم أيضا على حسن العفو والصفح عن عقوبة الذنب، وعلى مدح من لا يتم ما يتوعد به وتعظيمه ومدحه بالعفو عن فعله» (3)، واستشهد له بقول كعب بن زهير:
(بسيط)
نبئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
الذي أنشده للرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينكره، ولم ينكره أحد من المسلمين (4)، ومنه قول عامر بن الطفيل (5): (طويل)
وإني إذا أوعدته ووعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فهذا ما رد به أهل السنة على المعتزلة. وقد ذكر الدارسون أن عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو بن العلاء (6): «قد ورد من الله تعالى الوعد والوعيد، والله صادق في وعده ووعيده، وهو يقصد نصرة رأي المعتزلة في أن العصاة من المؤمنين خالدون مخلدون فقال له عمر بن العلاء: فأين أنت من قول العرب أن الكريم إذا أوعد عفا وإذا وعد وفى، وافتخار قائلهم (7) عند الوعيد حيث قال:
__________
(1) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 377376.
(2) انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص 360.
(3) كتاب التمهيد، (الباب الثامن والعشرون، باب الوعد والوعيد)، ص 351.
(4) م ن، ص 352.
(5) في اللسان مادة (ختأ)، ج 1، ص 63: ذكر الأخفش أن البيت للشاعر عامر بن الطفيل.
(6) الأسفراييني (ت 471هـ)، التبصير في الدين والتمييز بين الفرق الناجية والفرق الهالكين، ص 187.
(7) جاء في لسان العرب مادة (ختأ) قول الشاعر:(1/201)
وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف ميعادي ومنجز موعدي
فالعفو بعد الوعيد من الكرم وليس خلقا مذموما، ولعل هذا هو الذي جعل الأشاعرة فيما ذكرنا آنفا يقولون: «كيف لا يحسن من الله العفو عن الذنب وقد أمرنا وحضنا عليه ومدح من هو من شأنه؟ وقد أجمع الكل على أن ما أمر وحض عليه ومدح فاعله فليس بقبيح قال تعالى: {وَالْكََاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعََافِينَ عَنِ النََّاسِ}
[آل عمران: 134]، وقوله: {وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} [البقرة: 247]، فدل جميع ما وصفناه على صحة عفو الله تعالى عن سائر المذنبين وجواز ذلك منه لو لم يرد الخبر بأنه لا بد أن يعاقب بعضهم» (1).
ولا يجوز على الله سبحانه الخلف في الوعيد عند المعتزلة لأنه يؤدي إلى جواز الخلف في الوعد. وهم تشددوا في المعصية أمام الطاعة إذ يرى أغلبهم الكبيرة الواحدة تزيل جميع الطاعات، ولكن بعضهم رأى أن من زادت معاصيه على طاعته أحبطتها ومن كثرت طاعته على زلاته أحبطت عقابها (2). لقد رأوا الوعد والوعيد أصلا ثابتا بنص القرآن الكريم، وكان من جملة دليلهم قوله تعالى:
{خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً} [المائدة: 119]، وقوله تعالى: {وَمََا هُمْ بِخََارِجِينَ مِنْهََا}
[المائدة: 37] وهو يرتبط ارتباطا شديدا بأصل المنزلة بين المنزلتين.
4 - المنزلة بين المنزلتين:
سماه المعتزلة: كلام في الأسماء والأحكام أي أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين فلا يسمى كافرا ولا مؤمنا وإنما يسمى فاسقا، ولا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، وإنما يفرد له حكم ثالث هو الفسق،
__________
ولا يرهب ابن العم مني صولة ... ولا أختتي من صولة المتهدّد
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... ليأمن ميعادي ومنجز موعدي
ويروى (لمخلف ميعادي). وروى الشطر المذكور في مادة (ختأ): (لمخلف إيعادي)، ج 14، ص 223.
(1) كتاب التمهيد، ص 352.
(2) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 379. وكذا أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص 63 64(1/202)
وهو سبب التلقيب بالمنزلة بين المنزلتين (1). وقد باينوا به وبتخليده النار كل الفرق.
ولما كان أصل الوعد والوعيد لصيقا بأصل المنزلة بين المنزلتين، فإنهما يقومان عندهم على تصور للإيمان والعدل الإلهي وعلى سيرورة العالم إلى غرض. فليس الإيمان عند المعتزلة التصديق والاعتقاد لا غير بل هما يرتبطان بتأدية الأعمال الواجبة (2)، ورتب المعتزلة على ضوء هذا المعاصي من قوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيََانَ} [الحجرات: 7] فبدءوا بالكفر وهو أعظمها وثنوا بالفسق وختموا بالعصيان الذي قسموه إلى صغائر وكبائر غير أنهم لم يتفقوا في تعريف الصغيرة والكبيرة، إلا أنهم قالوا: الكبيرة ما أتى فيها الوعيد، والصغيرة ما لم يأت فيها ذلك، وجوزوا كل ما لم يأت فيه الوعيد أن يكون كله من الصغائر، وبأنه يمكن أن يكون بعضه صغيرا وبعضه كبيرا، ومنعوا أن يكون غير ذلك (3).
وقد أوصلوا بعض الكبائر إلى حد الكفر مثل كبيرة الشرك لقوله عز وجل:
{إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ} [النساء: 48]، ولقوله:
{وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نََاراً خََالِداً فِيهََا} [النساء: 14]، وجاء في الحديث الشريف: «من مات يشرك بالله شيئا دخل النار» (4)، ومنها تشبيه الله تعالى أو وصفه بالظلم أو تكذيبه في خبره وقالوا بكبائر ما دون الشرك (5) سموا
__________
(1) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، ج 1، ص، 270وكذا الأسفراييني (471هـ)، التبصير في الدين، تحقيق كمال يوسف الحوت، عالم الكتب بيروت ط 1/ 1983، ص، 21 وكذا أبو حامد الغزالي (ت 505هـ)، عالم الكتب، بيروت 1985م، ط 1، ص، 245وكذا الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 8462، 92وابن تيمية (ت 728هـ) منهاج السنة النبوية، ج 3، ص، 421 والنبوات، المطبعة السلفية القاهرة، 1386هـ، ص، 144وكتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة، تحقيق عبد الرحمن محمد قاسم النجدي، مكتبة ابن تيمية، ص، 37ومحمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة (ت 727هـ)، إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل، ص 37.
(2) قال ابن حزم: عد الفقهاء والمحدثون والمعتزلة والسنة والخوارج أن الإيمان هو المعرفة بالقلب للدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح وكل طاعة وعمل خير فرضا كان أو نافلة وهي إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيرا زاد إيمانه، وكلما نقص نقص إيمانه. الفصل في الملل الأهواء والنمل، ج 3، ص 227.
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص، 332وكذا أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص 62.
(4) صحيح مسلم رقم، 228ومسند أحمد رقم 40273617.
(5) وهي تسع: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا، وعقوق الوالدين، شهادة الزور، والسحر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والتولي عند الزحف، وقذف المحصنات: انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 23(1/203)
مرتكبها فاسقا، له منزلة بين الكفر والإيمان، ولم يقبلوا رأي الخوارج الحاكم بالكفر لمرتكب الكبيرة سوى «النجدات» (1) ولا برأي المرجئة الذي حكم بالإيمان ولا بحكم أهل السنة الذين ربطوه بالإيمان الذي اعتقدوه قولا واعتقادا وعملا بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فمن أتى كبيرة عند السنيين سموه مؤمنا فاسقا بكبيرته وفي الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء سبحانه غفر له وأدخله الجنة لأول مرة، وإن شاء عذبه بحسب ذنوبه ومآله بعدها الجنة (2) وهو كما ترى مخالف لرأي المعتزلة الذين رأوا الإيمان قولا وعملا واعتقادا، ولكن لا يزيد ولا ينقص، ويسمى مرتكب الكبيرة كما بيّنا من قبل فاسقا مخلدا في النار، ولا ينال الشفاعة ولا غيرها. بيد أن هذا مشروط عندهم بعدم التوبة.
ولم يجد المعتزلة في سياق هذا الخلاف إلا أن يقرّوا ما ذهبوا إليه، عند أهم مفسريهم الزمخشري الذي أول قوله عز وجل: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ} {لِمَنْ يَشََاءُ} [النساء: 48] قائلا: «قد ثبت أن الله عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة فما وجه قوله تعالى السابق؟ قال: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله تعالى: {لِمَنْ يَشََاءُ} كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء دون الشرك على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب» (3) فقد علق الزمخشري في هذا التأويل بين الجار والمجرور في قوله تعالى: {لِمَنْ يَشََاءُ}، وبين الفعلين السابقين المنفي والمثبت لينزّل الآية على معتقدهم فمن أشرك ولم يتب لم يغفر له الله تعالى أما ما دون ذلك من الكبائر فمن اقترفها وتاب فإن الله يغفر له.
لهذا جاء قوله: «إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون ذلك» أي
__________
(1) أصحاب نجدة بن عامر الحروري نسبة إلى حاروراء. انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 174. وكذا ج 2، ص 167، 168والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 8773وما بعدها.
(2) انظر المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص 277، والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 8180. وكذا ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 273، ومحمد صديق حسن خان، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 62، هامش رقم، 100وكذا
زهدي جار الله، المعتزلة، ص 10، ود. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 135وما بعدها.
(3) الكشاف، ج 1، ص 532.(1/204)
ما دون الشرك، وهو نوع ثان من الكبائر. ويبدو أن المعتزلة لم يجمعوا على القول في مغفرة الله تعالى لمرتكب الكبيرة من غير توبة فبعضهم أجازوا مغفرة ذنوبهم من الله عز وجل من غير توبة (1) ويفهم من تفسيره أن ضمير الفاعل في الفعل يشاء يعود على (من)، وليس على الله عز وجل لأن المعنى عنده أن الله تعالى لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له باعتباره مات مشركا غير تائب منه ويغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن أراد أن يغفر له بكونه تاب منها. لكن أهل السنة ذهبوا إلى أن ظاهر الكلام دال على أن لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة رغم توقف وجود الكائنات كلها عندهم على مشيئة الله تعالى، وبأن الفاعل في (يشاء) عائد على الله سبحانه لا على (من) فيصبح المعنى: يغفر الله تعالى ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له (2)، فكل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عفا عنه ذنبه وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله، ويظهر أن هذه الآية الكريمة قد حكمت بالنص في موضع الاختلاف المتمثل في تعارض عمومات آيات الوعد وآيات الوعيد (3) لدى الفرق لذا عدها أبو حيان السني مزيلة للشك، وردا على الخوارج والمرجئة والمعتزلة فقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} معناه: أن من مات مشركا لا يغفر له وهو أصل مجمع عليه من الفرق الأربع.
وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ} رد على الخوارج والمعتزلة لأن ما دون ذلك عام تدخل فيه الكبائر والصغائر. أما قوله: {لِمَنْ يَشََاءُ}، فرد على المرجئة إذ معناه أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما يشاء الله سبحانه وليس كما ذهب إليه المرجئة أن كل مؤمن مغفور له (4).
__________
(1) مثل محمد بن شبيب البصري، والصالحي والخالدي من شيوخ المعتزلة: انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 116.
(2) انظر تفسير القرطبي، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، دار الشعب القاهرة، ط 2، 1372هـ، ج 5، ص، 245وكذا أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 3، ص 671.
(3) آيات الوعيد عند الخوارج عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب أبدا أو أذنب وتاب، وآيات الوعيد مخصوصة لدى المرجئة بالكفار، وأما الوعد فمخصوصة في المؤمن تقيّهم وعاصيهم. وقد خصص أهل السنة آيات الوعيد بالكفرة وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة. وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن غير المذنب وبالتائب، وبمن سبق في علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة. وخصص المعتزلة آيات الوعد بالمؤمن غير المذنب والوعيد بالكافر وصاحب الكبيرة غير التائب: انظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 3، ص 670.
(4) انظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 5، ص 670.(1/205)
إن المعتزلة حكموا بعدم العفو عن صاحب الكبيرة لأن في العفو عنه إغراء له على فعل الفساد (1). وإذا كان خصومهم يتمسكون بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كإحدى جهات العفو عن صاحب الكبيرة إلى جانب قولهم بأن الله يعفو عن الكبائر (2)
فإن المعتزلة ذهبت إلى أن العفو عن الصغائر قبل التوبة أما العفو عن الكبائر فبعدها، ولا نريد تفصيل اختلافهم في هذه المسألة. وهم إن كانوا يقرون بشفاعة الرسول في الآخرة إلا أنهم ينكرون أن تشمل الشفاعة أصحاب الكبائر، ورأوا الشفاعة للمؤمنين ليزدادوا في منازلهم ودرجاتهم في الجنة، ورغم هذا فقد أبطلها بعضهم وخص بها البعض الآخر المؤمنين تفضلا (3)، وأن ما روي من أحاديث مثل: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (4) إنما هي لزيادة الثواب لا لدرء العقاب لقوله عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا تَنْفَعُهََا شَفََاعَةٌ} [البقرة: 128]، وهو عام في شفاعة النبي وغيره.
وشككوا في صحة الأخبار بالأحاديث التي لا توافق أصولهم الفكرية أو عدوه عند صحته بأنه منقول بطريق الآحاد الذي لا يوجب القطع عندهم، فيخالف طريقتهم التي هي العلم فلا يحتجون به في أصول الدين (5)، وذلك فيما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فخرج من النار قوم بعدها امتحشوا وصاروا فحما وحمما» (6)
وأوردوا مقابل هذا النوع من الأحاديث أخبارا تروى للرسول صلى الله عليه وسلم أقوالا توافق أصلهم الفكري في الكبيرة وتدفع رأي خصومهم من أهل السنة، من جملتها: «لا
__________
(1) نظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 325273.
(2) انظر الحارث بن الأسد بن عبد الله المحاسبي (ت 243هـ)، فهم القرآن ومعانيه، ص 255254 والباقلاني، كتاب التمهيد، الباب الأربعون ص، 365وكذا السيوطي (ت 911هـ)، الدر المنثور، دار الفكر، بيروت 1993، ج 2، ص، 557ومحمد علي الشوكاني، فتح القدير، ج 1، ص، 475وانظر تفسير القرطبي، ج 1، ص 379250، وكذا ج 3، ص 274273. وتفسير ابن كثير (ت 774هـ)، ج 1، ص 506.
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 2، ص 166، وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 380، وجولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 183.
(4) مسند الإمام أحمد رقم 12863، وسنن أبي داود رقم 4612.
(5) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 202.
(6) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 316.(1/206)
يدخل الجنة مدمن خمر ولا نمام ولا عاق» وأيضا: «من قتل نفسا بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالدا أبدا» (1) لكن المعتزلة لم يقفوا عند ذكر الخصوم الحديث السابق بأنه لم تثبت صحته أو أنه منقول عن طريق الآحاد بل لجأوا إلى تأويله لادعاء التواتر في خبره مبينين أن معنى يخرج من النار قصد به يخرج من عمل أهل النار قوم فالنار مضاف إليه محذوف المضاف.
وقد ناب عنه في إعرابه المضاف إليه. وقد جوز بعض النحاة حذف ما علم من مضاف ومضاف إليه فإن كان المحذوف المضاف، فالغالب أن يحذف في إعرابه المضاف إليه نحو قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية (2).
وهكذا حاولوا التدليل على صدق دعواهم بالعقل أو بالتوفيق بينه وبين النقل بكيفية تنسجم مع تفكيرهم واعتقادهم.
5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هو أصل عملي لا قولي نزع المعتزلة فيه منزعا تفعيليا لرد المقبل عن فعل المنكر ولحمل الناس على إتيان ما تعارفوا على صوابه.
يتضمن هذا الأصل الجهاد ضد الكافر بالله سبحانه والمقترف للكبائر. وقد أجمع المعتزلة إلا أبو بكر الأصم على وجوبه مع الإمكان والقدرة: باللسان واليد والسيف كيف قدروا عليه على سائر المؤمنين، ورأوا الخروج بالسيف واجبا إذا كان ممكّنا من إزالة أهل البغي وإقامة الحق (3) محتجين بقول الله عز وجل: {وَتَعََاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ََ} [المائدة: 2]، وبقوله: {فَقََاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتََّى تَفِيءَ إِلى ََ أَمْرِ اللََّهِ} [الحجرات: 9]، وقوله عز وجل: {لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وهو ما ذهب إليه الزيدية والخوارج وكثير من المرجئة. وهم لم يفرقوا بين مجاهدة
__________
(1) أنظر الباقلاني، كتاب التمهيد، الباب الأربعون، مسألة 616، ص، 392وكذا شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 316.
(2) انظر ابن هشام الأنصاري، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1، 1985م، ص 245.
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 337، وكذا شرح العقيدة الطحاوية، ص 590، وشرح قصيدة ابن القيم ج 1، ص 438.(1/207)
الكافر في هذا الأصل وبين مجاهدة الفاسق. وقد بنوا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أدلة من السمع والكتاب والسنة والإجماع.
أما في كتاب الله العزيز، فمن قوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنََّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، ودليل ذلك من السنة الشريفة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل». أما الإجماع فاتفاقهم عليه. وذهبوا إلى أن الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل، وبأن النهي قول القائل لمن دونه لا تفعل. أما المعروف فكل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه، والمنكر عرف فاعله قبحه أو دل عليه (1). غير أن بعضهم قسم المعروف إلى واجب وغير واجب، فالأمر بالواجب واجب والأمر بالنافلة نافلة. أما المنكر فمن باب واحد ويجب النهي عن جميعه وهو قسمان: عقلي وشرعي.
العقلي: ما اندرج في العقليات كالظلم والكذب وما شابهها، والنهي عنها جميعا واجب.
والشرعي نوعان: الأول: كالسرقة والزنا وشرب الخمر، لا تحتاج إلى اجتهاد ويجب النهي عنها في مختلف الأحوال وفي كل مقام. الثاني: يجتهد فيه، وهو منكر لدى بعضهم وغير منكر عند الآخرين لذا ينظر في حال من يقدم عليه فإن كان يعد من الحلال الجائز عنده لم يجب النهي عنه. وإن كان مما لا يحل عنده ولا يجوز وجب النهي عنه، وذلك كأن يجوز الحنيفة شرب المثلث أي الشراب المطبوخ الذي ذهب ثلثاه، بيد أن هذا النوع من الشراب منكر عند الشافعية، فليس للشافعي إذا رأى حنفيا يشربه أن ينكره وينهاه، ولكن إذا رأى الحنفي شافعيا يشربه فإنه ملزم بنهيه وبالإنكار عليه (2).
وبين المعتزلة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يهدف إلى حفظ المعروف وإبعاد المنكر، وذلك بالعمل على عدم وقوعه مبرزين تحقق هذه الغاية من طريقين: الأول بالأمر السهل متى كان تحقيقه يتم كذلك، لا يجوز العدول عنه إلى الأمر بالصعب وهو المقرر عندهم في العقول، وأشار إليه قول الله عز وجل:
__________
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 84.
(2) انظر م ن، ج 1، ص 8988، وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 414.(1/208)
{وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدََاهُمََا عَلَى الْأُخْرى ََ فَقََاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتََّى تَفِيءَ إِلى ََ أَمْرِ اللََّهِ} [الحجرات: 9] الثاني: الطريق بالأمر الصعب إن لم يفد الأمر السهل وبعد استنفاذ سعي الصلح فيكون بالمقاتلة لأن الغرض لا ينتفع إلا بها (1)، والذي ذهب إلى وجوب المقاتلة إذا لم يكن دفع المنكر إلا به فرق من أهل السنة وجميع المعتزلة والخوارج والزيدية (2).
وقد جعلوا القتال فرضا عند التمكن منه وعدم اليأس من الظفر، وعملوا بترك التغيير باليد إذا كانوا في عدد لا يرجون الفوز والظفر لقلّتهم وضعفهم، وهو قول الإمام علي رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة (3).
لقد قصدنا في بسطنا لهذه الأصول أن نوضح المنهج الفكري العام للمعتزلة ونكشف نسقهم الفكري من خلال أصولهم الخمسة لنعرف لاحقا كيف، فسّروا القرآن الكريم وفق هذه الأصول الفكرية بما وظفوه من أدوات خدموا بها مذهبهم، فدلت على أنهم نظروا إلى القرآن الكريم من خلال عقيدتهم التي قصدوا بها توحيد الله وعدله وتنزيهه عن كل شبه على أساس الاعتداد بالعقل قبل النقل فكثر مخالفوهم ومعادوهم واتسعت دائرتهما. وكان للمعتزلة في هذا الفضاء الصولة والجولة تدافع عن وجهة نظرها، وترد آراء غيرها وفق منهج صارم يبدو أنه غالى بخاصة في جانب التأويل الذي سعوا فيه إلى إخضاع ألفاظ القرآن الكريم لآرائهم، ففسروها بما ينسجم مع أفكارهم رغم ذهاب بعض الدارسين إلى أن أوائلهم هدفوا بالتأويل ذي السند العقلي أن يحفظوا القرآن من التشكيك، ولم يكن على أقل تقدير من باب التنصل من النقل أو نزوع نقدي حر وإنما كان عن ورع وتقوى (4). ونحن رأينا مغالاتهم في التأويل لأنهم أجهدوا عقولهم خارج
__________
(1) انظر م ن، ج 2، ص 373.
(2) نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي طمع في استرداد الخلافة بخروجه عن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك إلا أن اتباعه خذلوه فقتل. وهذه الفرقة أقرب الشيعة إلى الجماعة الإسلامية: انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 22، والايجي، المواقف في علم الكلام، ص 423418، ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 2، ص 5.
(3) نظر ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 5، ص 20.
(4) انظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 134133.(1/209)
الطبيعيات والإنسانيات، فبحثوا ما تعلق بالإلهيات بحثا أسقطوا فيه التصورات البشرية المحدودة على ما ليس في قدرة العقل أن يقطع به فيها. وهم ليسوا لوحدهم في هذا الخوض لأن السنيين كذلك خاضوا في هذه المسائل التي أعجزت البشرية إلى الآن لأنها فوق العقل.
ولعله من الممكن أن نقول: إن منهجهم في تأويل القرآن قد بني على:
التفرقة بين المحكم والمتشابه فما وافق آراءهم من آي الذكر الحكيم هو محكم دال بظاهره، وما خالفها مما يدعم رأي الخصوم عدوه متشابها لا بدّ من تأويله وكذلك فعل أهل السنة.
التأويل الذي اعتمدوه أداة ليزيلوا التناقض الذي قد يوجد بين أفكارهم العقلية عن الله تعالى، وبين ما استدل به خصومهم من ظاهر بعض الآيات لذلك عد المعتزلة هذه الآيات من المتشابه الذي يلزم تأويله.
القول بعدم قدرة الخصوم على معرفة السمعيات وفهمها لأن صحة المعرفة قائمة على العدل والتوحيد وهي قضايا عقلية تعد مسألة جوهرية عندهم يزيدها توضيحا وكشفا ترتيبهم لأدلتهم الأربعة: حجة العقل أولا، والكتاب ثانيا، والسنة ثالثا، فالإجماع، ومعرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل (1). وهم في الواقع لم يروا تنافيا بين العقل والقرآن، ولم يجرءوا على هذا بل رأوا أن القرآن لا ينافي العقل إذا أمعن فيه الإنسان النظر إنما بذلوا جهدهم ليخلّصوا الدين من المتناقضات أو قل ليخلصوه مما قد يظهر للبعض أنه كذلك، وهم حين ردوا على حجج خصومهم المبنية على الأدلة السمعية أسسوا وجهة نظرهم على أن الخصوم أفسدوا على أنفسهم طريق العلم بأنه تعالى لا يفعل القبيح، وذلك حين أضافوا القبائح كلها إليه عز وجل فالتوحيد والعدل مسألة عقلية إذن حجتها العقل. ولئن عدوا النصوص القرآنية التي وافق ظاهرها آراءهم محكمة، فإنهم بنوا صحة النص على أدلة العقل لكنهم أوجبوا تأويل ما خالف أفكارهم، وحين عارضهم الخصوم بآراء مستندة إلى السمع دأبوا على توظيف المبدأ اللغوي لينتصروا إلى معتقدهم ويردوا
__________
(1) انظر شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 40.(1/210)
حجج خصومهم من أهل السنة ففي قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} [الأنعام: 103]، يتمسك المعتزلة بالمعنى اللفظي لهذا النفي العام: لا تدركه الأبصار في هذه الدنيا وكذا في الحياة الأخرى (1). بينما فرّق أهل السنة بين لفظ (أدرك) ولفظ (رأى) (2) في معنى أن الإدراك غير الرؤية فيترتب عليه أن الله سبحانه حين نفى أن يدرك بالبصر، فإنه لم ينف أن يرى وذلك لتخريجهم (الإدراك) على معنى الإحاطة، وهنا دخل المعتزلة معهم في جدال لغوي ليبينوا الفرق بين اللفظين السابقين، ونفوا رأي أهل السنة قائلين: ليست الإحاطة بمعنى الإدراك في اللغة، وفي مجازها لقول العرب: السور أحاط بالمدينة، فلا يقولون أدركها ولا أدرك بها، وكما لا يحيط به الأبصار، فكذلك لا يحيط هو بالأبصار لأن المانع واحد في الموضعين لذا لا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة (3). ومن ثم إذا قرن الإدراك بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية، وقد ثبت نفي الله تعالى إدراك البصر عن نفسه وفي هذا تمدح راجع إلى ذاته وما كان من نفسه تمدحا عائدا إلى ذاته تعالى كان إثباته نقصا والنقائص غير جائزة عليه سبحانه لذا فإن الإدراك إذا أطلق يحتمل معاني كثيرة فقد يراد بها البلوغ أو النضج والإيناع كقوله أدرك الثمر إذا أينع، غير أنه إن قيد بالبصر فلا يحتمل إلا الرؤية. وبهذا يحقق المعتزلة ما أرادوه في نفي الرؤية في الدارين.
ويبدو أنهم حرصوا على اتباع مسلك أبي علي الجبائي الذي انتهج الطريقة اللغوية في التفسير بصرفهم العبارات القرآنية الدالة على التجسيم إلى تأويلات تليق بمقام الله عز وجل بالاعتماد على الأدلة اللغوية محتجين بالشعر القديم فهم لا يرتاحون لظاهر قوله عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللََّهُ إِبْرََاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] لذا قال ابن قتيبة: فسره أهل الرأي بمعنى فقيرا إلى رحمته، وجعلوه من (الخلة)
__________
(1) انظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 126.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 40وكذا إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 77، وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 87، وابن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج 2، ص 319318317.
(3) انظر م ن، ج 1، ص 168.(1/211)
بفتح الخاء استيحاشا من أن يكون الله تعالى خليلا لأحد من خلقه محتجين بقول زهير: (بسيط).
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
بمعنى إن أتاه فقير (1)، وقال الزمخشري: «هو مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله ()، والخليل هو الذي يوافقك في خلالك ويسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل» (2). ونحن سنجد الزمخشري قد اعتمد الدليل اللغوي لتحقيق الغاية الاعتزالية، فتبين أنه من خاصيات منهجه في التأويل اللغوي، قال في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]: {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} تنظر إلى ربها خاصة، لا تنظر إلى غيره واختصاصهم بالنظر إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص والذي يصح أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي والقصد التوقع والرجاء، ومنه قول القائل (3) (كامل).
وإذا نظرت إليك من ملك ... والبحر دونك زدتني نعما
() والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه» (4). وقد ذهب المعتزلة قبله إلى أن (ناظرة) بمعنى منتظرة واحتجوا بقول الشاعر (5) (وافر).
فإن يك صدر هذا اليوم ولّى ... فإنّ غدا لناظره قريب
أي المنتظر مستندين إلى قول الخليل بن أحمد (ت 170هـ) أن قولهم: أنظر إلى الله تعالى وإلى فلان من بين الخلائق، معناه: أنتظر. وهم أوّلوا (إلى) لغويا بمعنى
__________
(1) تأويل مختلف الحديث، ص، 67وجولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 139138، والبيت في الديوان ص 153.
(2) الكشاف، ج 1، ص 566.
(3) لم أعثر على قائله.
(4) الكشاف، ج 4، ص، 192عد الزمخشري (إلى): مفعولا به مقدما بمعنى (نعمة) التي تجمع على الآلاء، وهي النعم.
(5) لم أعثر على قائله. استشهد به الباقلاني كتاب التمهيد، الباب الثالث والعشرون، ص، 275والآمدي غاية المرام في علم الكلام، ص، 175وكذا الايجي، كتاب المواقف، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1997م، ط 1، ج 3، ص 191.(1/212)
(نعمة) التي تجمع على الآلاء وهي النعم لذا قالوا إن معنى الآية السابقة: منتظرة نعم ربها ومترقبة ثوابه (1). ولكن خصومهم من الأشاعرة فسروا النظر بمعنى الرؤية وليس منتظرة لأن اقتران النظر بالوجوه لا يدل عندهم على معنى نظر القلب الذي هو الانتظار كما إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلا نظر الوجه، والنظر بالوجه هو نظر الرؤية بالعين التي في الوجه، فدل هذا حسبهم على صحة أن معنى قوله عز وجل: {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ}: رائية (2).
أما إثبات الرؤية عند الماتريدية (3) فطريقها السمع بيد أنهم اعتمدوا على الأدلة العقلية لرد حجج الخصوم من المعتزلة منها أنهم أي الماتريدية علقوا الرؤية باستقرار الجبل واستقراره من الجائزات، ولم يعاتب الله تعالى موسى عليه السلام عن سؤاله الرؤية، وما أيأسه، وأن ظهور ربه إلى الجبل لا يفهم من ظهوره ما يفهم من ظهور غيره. ناهيك أن الماتريدية تقول بالعلة المطلقة للرؤية وهي أن الله تعالى قائم بالذات وما كان قائما بالذات يجوز رؤيته بينما يستحيل رؤية ما لا يكون قائما بها. وأنت ترى حسب هذه العلة أن الله سبحانه قائم بالذات وبناء على هذا جائز رؤيته. وهذا رد على المعتزلة الذين علقوا الرؤية بالجسم لامتناع تصورهم أحدهم أن الله تعالى يرى إلا ويعتقد أنه جسم. وما ينبغي أن نفهمه هاهنا هو أن الماتريدية استدلوا بالعقل للرد على خصومهم من المعتزلة غير أنهم أثبتوا الرؤية بالاعتماد على السمع (4).
واعتمد المعتزلة في تفسيرهم على الاستدلال العقلي الذي وظفوا فيه مهارتهم العقلية ساعدهم عليها حذق اللغة والنحو والتمرس البارع بالجدل والمناظرة وإتقان أدوات خصومهم (5) في الفلسفة والمنطق. ونحن نلحظ هذا في ردودهم على أهل
__________
(1) انظر ابن قتيبة، الاختلاف في اللفظ، ص 30، 31والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 172، 173وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 8، 9ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 381.
(2) كتاب اللمع، ص 64.
(3) أتباع أبي منصور الماتريدي (ت 332هـ) سبق التعريف به.
(4) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 388387.
(5) انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 54وما بعدها، ود. مصطفى الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 69وما بعدها.(1/213)
السنة في بحث الإرادة عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}
[الأعراف: 179] إذ ذهب السنيون أن اللام في (لجهنم) لام الغرض لذا اقتضى ظاهر الآية أن الله سبحانه خلق خلقا كثيرا من الإنس والجن ليعاقبهم في نار جهنم. بيد أن المعتزلة ردوا على هذا بأن لا يستدل في هذا بالسمع لأن صحة السمع تنبئ على كونه تعالى عدلا حكيما وهو ما لا يقول به أهل السنة! أما تخريج رأيهم من ناحية النحو فإن المعتزلة لا يرون اللام للغرض معللين رفضهم بأن لام الغرض لا تدخل على الأسماء الجامدة، وإنما تدخل على المصادر والأفعال المضارعة، وساقوا أمثلة لرأيهم منها قولهم: لا يقال: دخلت بغداد للسماء والأرض مثلما يقال: دخلت بغداد للعلم أو لطلب العلم، وجهنم اسم جامد فكيف تدخله لام الغرض؟ لذا إن قال أهل السنة: غرضه المعاقبة بجهنم كان عدولا عن ظاهر الآية وهو نزوع للتأويل. قال المعتزلة: نحن أولى به نتأوله على وجه يوافق دلالة العقل والسمع لذا فاللام لام المعاقبة لتوافق دلالة العقل (1).
وقال الزمخشري: «هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر كأنهم عدموا فهم القلوب وإبصار العيون واستماع الآذان، وجعلهم لإغرائهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار» (2).
إن العقل آلة بحث الزمخشري وأداته في الفهم والاقتناع لذا وقف عند نصوص كثيرة من آي الذكر الحكيم وقفة عقلية يناقش المعاني، ويستنبطها على سبيل الاستدلال العقلي فقال عند قوله تعالى: {أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ}
[البقرة: 16]: «إن قلت: كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟
قلت: جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوه واستبدلوها به، ولأن الدين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها
__________
(1) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 139138.
(2) الكشاف، ج 2، ص 131.(1/214)
فكل من ضل هو مستبدل خلاف الفطرة» (1). وهم اعتمدوا على العقل في استخراج الدليل من القرآن الكريم على غرار منهج الفقهاء في استنباط الأحكام كالدليل الجغرافي في قوله سبحانه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ فِيهِ ظُلُمََاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقر: 19]: فالسحاب ينحدر من السماء التي يأخذ منها ماءه، وليس كما زعم الزاعمون أنه يأخذها من البحر (2)، ويؤيد هذا قوله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ جِبََالٍ فِيهََا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] كالدليل الديني في الخروج على أمراء الظلم والجور من قوله تعالى: {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فسر الزمخشري قائلا: إن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين فارجعوا فيه إلى كتاب الله العزيز وسنة رسوله، وبأنه لا تلزم طاعة أمراء الجور الذين أمرهم الله سبحانه أولا بأداء الأمانات، وبالعدل في الحكم وأمرهم آخرا بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل (3).
وقد حملهم غلوّهم لمحاولة استخراج أدلة على الغيبيات من القرآن الكريم، وهي التي ليس في إمكان العقل إدراك أمورها منها قول الزمخشري عند قوله فوق النار» (4). إلا أن هذه الأمثلة تدل على نزوع عقلي خالص لا تتعلق بأصولهم الاعتزالية دون أن ننسى أنهم يعتدون بالعقل ويعطونه أهميته ويعتمدون عليه اعتمادا. ومن استدلالهم العقلي المتجاوب مع مذهبهم أنهم قالوا في هذا السياق: إن الأنبياء بعثوا رسلا لينبّهوا من الغفلة ويبعثوا على النظر قال الزمخشري عند قوله تعالى: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50] «فإن قلت: كيف جعل القول آية من ربه؟ قلت: لأن الله تعالى جعله له علامة يعرف بها أنه رسول كسائر الرسل حيث هداه النظر في أدلة العقل والاستدلال» (5) وأضاف عند تفسيره قوله سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلََّا}
__________
(1) م ن، ج 1، ص 190.
(2) انظر الكشاف، ج 1، ص 215214.
(3) انظر الكشاف، ج 1، ص، 536وكذا د. مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 106.
(4) الكشاف، ج 2، ص 82.
(5) م ن، ج 1، ص 432.(1/215)
{يَكُونَ لِلنََّاسِ عَلَى اللََّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] أن الرسل منبهين عن الغفلة، وباعثين عن النظر كما هو لدى علماء العدل والتوحيد المراد بهم المعتزلة.
وبيّن بعد هذا أن إرسال الرسل للتنبيه عن الغفلة والحثّ على النظر كما يرى علماء أهل العدل والتوحيد وتبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وإبراز أحوال التكليف وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للسبب غايته إلزام الحجة (1). هذا معناه كما ذهب إليه بعض الدارسين أن الرسل يتممون عمل العقل الذي يجب أن يؤديه أيضا قبل ظهورهم (2). غير أن موضع الزمخشري من الاستدلال العقلي يأخذ التوسط والمساواة بين العقل والنقل كأداتين للمعرفة الدينية، وهو يؤكد هذا عند تفسيره قوله عز وجل: {لَوْ كُنََّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مََا كُنََّا فِي أَصْحََابِ السَّعِيرِ} [الملك:
10]: «قيل: إنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل» (3). ولما كانت المحكمات تمثل عندهم أصل الكتاب تردّ إليها المتشابهات (4)
لم يقر الزمخشري ظاهر قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:
15]، فقابله بقوله سبحانه: {إِخْوََانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} [الأعراف: 202]، وهي آية محكمة وذلك ليعزز رأي المعتزلة القائل بحرية الإرادة الإنسانية فقال إثر تساؤله: كيف جاز أن يوليهم الله مددا في الطغيان، وهو فعل قبيح يسند إلى الشيطان وإما أن يحمل على أنهم لما أصروا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم من ألطافه فتزايد الدنس في قلوبهم، فسمى ذلك التزايد مددا في الطغيان ومنح ألطافه المؤمنين فتزايد الانشراح والنور في قلوبهم. وقد أسند المدد إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله ولكن فاعله في الحقيقة الكفرة. أو يراد بالمد منع القسر والإلجاء، وإما أن يسند فعل الشيطان إلى الله عز وجل لأنه بتمكينه، وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده (5).
وإذا كان المعتزلة قد تأولوا الآيات القرآنية التي يخالف ظاهرها قواعدهم المذهبية ليخضعوها لآرائهم، فإنهم أنكروا كل الأحاديث التي خالفت أسس عقيدتهم
__________
(1) م ن، ج 1، ص 583.
(2) انظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 159.
(3) الكشاف، ج 4، ص 137136.
(4) انظر م ن، ج 1، ص 413412.
(5) انظر الكشاف، ج 1، ص 188، 189.(1/216)
فقالوا بوجوب القطع على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقله أو ذهبوا إلى رده بالتماس ما يطعن في راويه، وإذا صح خبر الحديث الشريف وسلم من ذلك جنحوا إلى القول بأنه خبر آحاد لا يقتضي العلم. وهذا يخالف طريقتهم التي تبني في ذلك على القطع والثبات لأنهم لا يقولون بأحاديث الآحاد في أصول العلم. بيد أنهم يعملون بأخبار أحاديث الآحاد في الفروع (1). ويبدو أن مصطلح الحديث كله مبني على هذا المبدأ عند السنيين وعند المعتزلة.
فالمعتزلة اعتمدوا في تفسيرهم للقرآن الكريم التأويل اللغوي والاستدلال العقلي وتوظيف الإعراب في النحو لنصرة آرائهم والحديث الشريف والاستعانة بعلمي المعاني والبيان، وعمدوا في كل فعل أسند إلى الله تعالى، وكان ظاهره لا يوافق رأيهم في حرية الإرادة إلى عد نظم الآية الكريمة من باب المجاز مثل قوله عز وجل: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] وقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ النََّاسَ شَيْئاً وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] وقوله: {وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبََادِ} [غافر: 31] فالله منزه عن القبيح والشر ولا يأمر به. وعلى هذا إذا ما كان ظاهر الآية يناقض هذا المدلول عدوها من المجاز وعكفوا على بيانه. فقوله عز وجل: {وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} [آل عمران:
77] مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم. وهم مع هذا فسروا بالتوفيق بين القرآن الكريم والحديث الشريف منطلقين من أن ظاهر القرآن الكريم الموافق لمعتقدهم هو محكم، وما لم يكن موافقا هو متشابه أولوه، وأخضعوه لآرائهم الاعتزالية. وسيزداد هذا الأمر تحديدا في الباب الثاني من هذا البحث.
ثانيا: التفسير بالرأى قبل الزمخشرى
ارتبط التأويل منذ البدء (2) بالخلاف حول المحكم والمتشابه من ناحية وبالخلافات السياسية والعقدية من ناحية أخرى فالقرآن الكريم كمصدر تاريخي لعصر النبوة
__________
(1) انظر ابن تيمية، بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، ج 1، ص 361، وأحمد بن إبراهيم بن عيسى (ت 1329هـ) شرح قصيدة بن القيم، ج 1، ص، 217وانظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص، 202ود. محمد الأنور السهوتي، دراسات في علم الكلام، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1987م، ص 124123.
(2) تورع بعض علماء مدارس التفسير بمكة والمدينة والعراق من القول في التفسير بالرأي ومنح بعضهم(1/217)
بجانبيه المكي والمدني سجل لنا هذه المحاولات التأويلية في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا} [آل عمران: 7]، وهي الآية التي قال فيها الطبري (ت 310هـ): إنما سمى الله من آي الكتاب المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن مثل «{الم}» و «{المر}» و «{المص}» لتشابهها في الألفاظ وموافقتها حساب الجمّل (1) الذي طمع بعض اليهود أن يعرفوا من خلالها مدة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أجل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأمته (2). ثم ذكر اختلاف أهل التأويل فيما عني بهذه الآية فروى عن الربيع الذي قال: أن وفدا من النصارى قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاجوه في المسيح، وخاصموه بأن قالوا له:
ألست تزعم أنه كلمه الله وبأنه روح منه؟ قال: بلى. قالوا: فحسبنا فأنزل الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ} الآية. ثم أنزل الله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59]، وعدت عند بعض الدارسين أقرب الروايات إلى معنى الآية وإلى سياقها لأن وصف القرآن
__________
لعقله الحرية في فهم النص القرآني، فلجأ إلى التفسير بالرأي أو التأويل الذي مثل في البدء نظرات اجتهادية عقلية فردية اعتمدت على العقل دون أن تخرج عن قانون اللغة وقواعد الشريعة، وكان ظهور هذه المدارس في عصر التابعين الذي عرف التمذهب الديني. أما الصحابة قبلهم فلم يشمل تفسيرهم القرآن كله، وإنما اقتصر على ما غمض فهمه وهم أكثروا في طلب المعاني الإجمالية دون التزام بالتفاصيل مقتصرين على توضيح المعنى اللغوي، وبنوا تفسيرهم على أربعة مصادر: القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم، والاجتهاد وقوة الاستنباط وأهل الكتاب. ولخصت أدوات تفسيرهم: المعرفة بأوضاع اللغة وأسرارها، ومعرفة عادات العرب، وأحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب عند نزول القرآن، وقوة الفهم وسعة الإدراك: انظر أحمد أمين، فجر الإسلام، ص، 206ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 2، ص 40وما بعدها.
(1) حساب الجمّل: مقابلة حروف (أبجد هوز حطي) بأرقام يسمى حساب الحروف أو الجمّل نحو:
أب ج د هـ وز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق 100908070605040302010987654321 ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ: انظر محمود محمد ربيع، 1000900800700600500400300200 أسرار التأويل، ص 52، هامش 1.
(2) انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت، 1405هـ، ج 3، ص 175174.(1/218)
الكريم لعيسى عليه السلام بأنه {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45] عده النصارى دليلا يحاجون به النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية تقرعهم على تمسكهم بما يحتمل التأويل (1)
ثم نزلت الآية: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] لتفسر لهم ما تشابه عليهم بلفظ واضح لا لبس فيه، ولا يحتمل التأويل، ولترجعهم إلى الصواب والجادة (2)، وهذا يبين أن الآيات الثلاث كلها من سورة آل عمران مدنية باتفاق. وهي تظهر اتفاق سبب النزول مع السياق ومع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وتبرز بداية الحوار والجدل مع أهل الكتاب نصارى ويهود (3).
ولما كان المحكم والمتشابه مرتبطا بالتأويل، فإنها جميعا ارتبطت بالخلافات السياسية لذا يحسن تبيين خلاف المفسرين حول مسألتين متصلتين بهذا الأمر:
الأولى: اختلافهم في تعريف المحكم والمتشابه.
الثانية: اختلافهم في إمكان معرفة معنى المتشابه من خلال ما ينتج من إعراب قوله تعالى: {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ} [آل عمران: 7] هل تعطف على ما قبلها أو تقطع وتعد مستأنفة؟
قال الطبري: «المحكمات اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب وأمر وزجر وخبر، ومثل وعظة وعبر، وما أشبه ذلك». وقيل: «المحكمات من آي القرآن المعمول بهن وهن الناسخات أو المثبتات الأحكام، والمتشابهات من آية المتروك العمل بهن المنسوخات» ثم روى عن الربيع أن «المحكمات الناسخ الذي يعمل به، والمتشابهات المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به» (4).
__________
(1) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 142.
(2) انظر تفسير الطبري، ج 3، ص 178177.
(3) انظر م ن، ج 3، ص 180179178177، 181وكذا د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 143.
(4) م ن، ج 2، ص 173172170. وروى القرطبي للنحاس قوله: أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] {وَإِنِّي لَغَفََّارٌ لِمَنْ تََابَ} [طه: 82]. والمتشابهات نحو: {إِنَّ اللََّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ}(1/219)
فالمحكم من الآيات حسب ابن عباس التي يؤمن بها ويعمل بها، وهي التي تحدد الحلال والحرام أو بمعنى آخر هي آيات التشريع العملي. أما المتشابهات فهي الآيات التي يؤمن بها ولا يعمل بها، فهي لا صلة لها بالتشريع سواء نسخت عن حكمها، وبقيت في المصحف للتلاوة أم كانت من غير آيات الإحكام أصلا. ونحن نفهم من قول ابن العباس في المتشابه «والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به» (1) أنه أدخل الأساليب كالتقديم والتأخير والأمثال والقسم، وهي ظواهر أسلوبية عند أبي عبيدة (ت 224هـ) والفراء (ت 207هـ)، والجاحظ (255هـ)، وابن قتيبة (ت 276هـ) مدرجة ضمن المجاز الذي هو وسيلة التأويل بعد ذلك عند القاضي عبد الجبار (ت 415هـ).
ويوافق مجاهد بن جبر (ت 104هـ) أستاذه ابن عباس في معنى المحكم الذي فيه الحلال والحرام، وأما غير ذلك فمتشابه لكنه يخالفه في تعريف المتشابه الذي
__________
{جَمِيعاً} [الزمر: 53] إلى قوله جل وعلا {إِنِّي لَغَفََّارٌ لِمَنْ تََابَ} الآية. وإلى قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} واختار بعض العلماء أن المحكم اسم مفعول من أحكم والإحكام الإتقان، ولا شك في ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد لوضوح مفرداته وإتقان تركيبه، ومتى اختل أحد الآمرين جاء التشابه. انظر تفسير القرطبي، ج 4، ص 11. وكذا ابن منظور (ت 711هـ)، لسان العرب، ج 13، ص 504، والسيوطي، الدار المنثور، دار الفكر، بيروت، 1993م، ج 2، ص 144وما بعدها. وقد حكى بن حبيب النيسابوري أن في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} [آل عمران: 7]. ثلاثة أقوال: الأول: أن القرآن كله محكم لقوله عز وجل:
{كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} [هود: 1]. الثاني: كله متشابه لقوله تعالى: {كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ}
[الزمر: 23]. الثالث: هو الصحيح انقسامه إلي محكم ومتشابه للآية المصدر بها. والجواب عن الآيتين أن المراد بإحكامه إتقانه وعدم تطرق النقص، والاختلاف إليه، وبتشابهه كونه يشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز. وقال بعضهم: إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من طرقه وقد قال الله سبحانه: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. والمحكم لا تتوقف معرفته على البيان كما لا يرجى المتشابه بيانه. واختلف في تعيين المحكم والمتشابه فقيل في المحكم: ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل. والمتشابه: ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل المحكم: ما وضح معناه والمتشابه نقيضه. وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل أوجها: محمد بن محمد بن محمد الغزي (ت 1061هـ)، إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن، تحقيق خليل محمد العربي، الفاروق الحديثة، القاهرة، 1415هـ، ط 1، ج 2، ص 65.
(1) السيوطي، الدر المنثور، ج 2، ص 144.(1/220)
يرى بأنه يصدق بعضه بعضا مثل قول الله عز وجل: {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ}
[البقرة: 26] (وقوله: {كَذََلِكَ يَجْعَلُ اللََّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:
125]، وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً} [محمد: 17]. وهي من المتشابه عند المعتزلة لأن ظاهرها يوهم أن الله عز وجل هو الذي يضل الفاسقين، ويجعل الرجس، ويهدي المهتدي.
ألا ترى أن مجاهد بن جبر قد أدخلنا بهذا الاستشهاد على المتشابه في سياق التأويل الاعتزالي للمتشابهات؟ فقد كان الحسن البصري (ت 110هـ) يستشهد بقوله تعالى: {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} [البقرة: 26] على خلق الإنسان لفعله وقدرته عليه ومسئولية عنه. وينسحب هذا على الآية الثانية لأنه وإن لم ينصّ عليه، فإنه في تأويله لها دلّ على أنها وظفت من القائلين بالجبر ضد المعتزلة (1). ونستخلص من هذا أن مجاهد قد نزّل بعض النصوص من آي الذكر الحكيم منزلة التشبيه والتمثيل، وهذا منهج قرره المعتزلة فيما سنذكره لاحقا في تفسيرهم للنصوص التي فسروا على منوالها قوله عزّ وجلّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ}
[القيامة: 22، 23] بأن (ناظرة) معناه منتظرة ثواب ربها. وقد ذكرنا تفصيله قبل (2).
ولعل هذا التوسع في حرية الرأي عند مجاهد أنتج تحفظ المتحرّجين من القول بالتفسير بالرأي، ومن أن يتجنبوا تفسيره. غير أن تساهله مع نفسه في هذا الاجتهاد لم يكن لينال من قيمته (3) لذا قرب بهذه السمة في تفسيره من الخلاف والجدل حول القدر والجبر والحرية. ويمكن القول بأن حرصه أيضا على تتبع
__________
(1) انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 145.
(2) انظر ابن قتيبة، الاختلاف في اللفظ، ص، 30اختلف المفسرون في تأويل (ناظرة) قال بعضهم: تنظر إلى ربها. أو ينظرون إلى الله عز وجل لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره محيط بهم وهو معنى قوله: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} الآية، وقال بعضهم: تنتظر الثواب من ربها: تفسير الطبري، ج 29، ص، 192وقال القرطبي (ت 671هـ): ذهب جمهور العلماء إلى أن (ناظرة): تنظر إلى ربها، وقيل: النظر هنا ما لهم عند الله من الثواب: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد عبد الحليم البردوني، ج 19، ص 108107.
(3) انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 109108.(1/221)
الخرافات والأساطير في الأوساط الشعبية لكشف فسادها جعل بعض الدارسين مثل جولد زيهر يعدّه سابقا على المعتزلة في تأويلاته العقلية لمسائل كثيرة، فقال: «وقد ذهب مجاهد أبعد ما اجترأ عليه من بعد علماء المعتزلة» (1) ونفهم من هذا أنه يريد أن يقرّ بأن المعتزلة سبقوا إلى التأويل لأن هذه السمة التفسيرية التي كان عليها مجاهد تجعلنا نتفهّم ما يريد هذا الباحث إقراره بأن المعتزلة لم يكونوا هم الذين شقّوا الطريق إلى التفسير المجازي للعبارات التي تدل على التشبيه، وإنما ينحصر فضلهم في جعلهم هذه الطريقة تستوعب جميع دائرة العبارات القرآنية التي يفهم منها التجسيم والتشبيه (2). ويمكننا الاستئناس بهذا الطرح بخاصة حين ندرك أن مجاهد المتوفى سنة 104هـ كان يعاصر الحسن البصري الذي توفي بدوره سنة 110هـ. وأنت ترى بأنه كان غير بعيد بنزوعه العقلي في التفسير عن المعتزلة.
لكن التفسير في هذا الحد من الاجتهاد والنزوع العقلي مثلت حالات مفردة ارتبط فيها التأويل بالمحكم والمتشابه والنزاع السياسي كما ذكرنا قبل. بيد أن هذا النزاع سيزداد تحديدا مع الحسن البصري الذي تميّز جوّ عصره بالجدال والمناظرة بأواخر القرن الهجري الأول وبداية الثاني (3)، فهذا الرجل فرّق في التفسير بين ما هو دليل بظاهره من القرآن الكريم وبين ما يحتاج إلى التأويل دون أن يستعمل ألفاظ المحكم والمتشابه والتأويل والمجاز لأنها لم تتوقع بعد. لكن رسالته «في القدر» كما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد مثّلت أقدم وثيقة تكشف الخلاف العقدي المرتبط بالتأويل لهدف محدد هو إثبات مسئولية الإنسان عن فعله (4) رغم أن الشهرستاني شك في نسبة هذه الرسالة إليه (5). ونحن نرى أنه لا تتعدى صحة هذه الإشارة إلا والحسن قال بما ذهب إليه السلف مهادنة وتقية، وأنه كان يضمر معتقد القدرية. وإذا كان التفسير قد تدرج من النقل عن طريق التلقي والرواية إلى خطوة تدوينه بابا من
__________
(1) مذاهب التفسير الإسلامي، ص 130.
(2) انظر م ن، ص، 133وكذا د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 146145.
(3) انظر محمد أبو زهرة، تاريخ الجدل، دار الفكر العربي، ط 1، 1934م، ص 305وما بعدها.
(4) انظر الاتجاه العقلي في التفسير، ص 148147.
(5) هي رسالة ذكر أنه كتبها إلى عبد المالك بن مروان كان سأله عن القدر والجبر فردّ عليه الحسن البصري بما يوافق القدرية مستندا إلى القرآن الكريم والأدلة العقلية. قال الشهرستاني: = ولعلها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممن يخالف السلف في القدر خيره وشره من الله تعالى = الملل والنحل، ج 1، ص 61.(1/222)
أبواب الحديث الشريف شهد فيها محاولات فردية اجتهادية، فإنه انفصل لاحقا عن الحديث ليصبح علما بأصول ومناهج ومدارس على أيدي علماء (1) أجلّاء، وصار يعرف التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي وتأثر باتجاهات المفسرين، واصطبغ بثقافاتهم، وانطبعت التفاسير بما برع فيه العلماء المفسرون من معارف وفنون، يظهر ذلك في تتبع المسائل النحوية وتخريجها وإعراب القرآن خدمة للتفسير لدى الزجاج (ت 311هـ) (2)، والنحاس (ت 338هـ)، والواحدي (3)
(ت 468هـ)، وكاللغويين الذين فسروا غريب القرآن كأبي عبيدة (ت 224هـ)، وقطرب (ت 206هـ)، وكالفقهاء الذين تتّبعوا آيات الأحكام فألّفوا كتب أحكام القرآن كالإمام الشافعي (ت 204هـ) له «أحكام القرآن» (4)، ومن برع في العلوم العقلية انطبع تفسيره بها كالفخر الرازي (5) (ت 606هـ)، وكالمتصوفة فسّروا بآرائهم منهم أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) في كتابه: «العواصم من القواصم» (6).
أما علماء الكلام فأوّلوا بعض آيات القرآن الكريم بما يتفق مع ما اعتقدوه من مذاهب، يهمنا منهم فرقة المعتزلة وأعلامهم الذين بذلوا جهودهم الفكرية منذ القدرية الأوائل إلى القدرية المعتزلة مدافعين عن عقيدة التوحيد منزّهين الله تعالى وناصرين الإسلام. تلك نية أوائلهم لكنهم عمّقوا البحث في مسائل الإلهيات ولم يكونوا وحدهم في هذا التعمق، وإنما قام أهل السنة بذلك أيضا، وعلى أي حال ليس بوسع العقل أن بقطع في تلك الغيبيات، ولا أن يدركها إلّا من خلال ما أخبر به الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز الحكيم.
__________
(1) نهم ابن ماجة (ت 273هـ) وابن جرير الطبري (ت 310هـ). وأبو بكر النيسابوري (ت 318هـ) وابن أبي حاتم (ت 327هـ) وأبو الشيخ بن حبان (ت 369هـ) والحاكم (ت 405هـ) وأبو بكر بن مردويه (ت 410هـ): انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 144.
(2) من كتبه «معاني القرآن»، انظر عادل نويهض، معجم المفسرين، ج 1ص 13.
(3) هو علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متويه أبو الحسن الواحدي له = البسيط = تفسير كبير يغلب عليه الإعراب والشواهد واللغة. وله «الوسيط» وهو مختار من البسيط. وله = الوجيز =: انظر م ن، ج 1، ص 352.
(4) م ن، ج 2، ص 488.
(5) انظر، تفسيره مفاتيح الغيب.
(6) راجع عمار طالبي، آراء أبي بكر بن العربي الكلامية ج 2، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر. وكذا أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 2، ص 146145وكذا د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون ج 1، ص 149، 150ود. أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، ص 100.(1/223)
ولما كان يهمنا التأويل ورافدنا فيه كشاف الزمخشري، فإنه من المفيد أن نذكر جهود المعتزلة الذين فسروا القرآن الكريم بالرأي على أساس أصولهم الخمسة قبل الزمخشري لأنها جهود قدموا بها خدمة للقرآن الكريم ميّزوها بثروة فكرية هائلة ونشاط عقلي علمي ملحوظ إن لم نجدها في تفاسير كثير منهم لضياعها، فإنها ساطعة في تفسير الزمخشري رغم تحفظ بعض العلماء من خلفياته الاعتزالية (1).
ولئن ذكرنا صلة رسالة الحسن البصري بالتأويل وإثبات مسئولية العبد على أفعاله ونفيها عن الله تعالى، وبأنها مثلت أرضية لنهج الفكر الاعتزالي لاحقا حين صاروا فرقة منظمة، فإن لواصل بن عطاء الغزال (ت 131هـ) من الكتب = معاني القرآن، وهو مؤسس مذهب المعتزلة في العدل والتوحيد، وهو متكلم بليغ لقّب بالغزّال لملازمته الغزّالين (2).
وألف قطرب محمد بن المستنير «معاني القرآن» وقيل: لم يسبق إلى مثله، وله «إعراب القرآن» و «الرد على الملحدين في متشابه القرآن»، أخذ النحو عن سيبويه (ت 180هـ)، وأخذ عن النظّام رأي المعتزلة (3)، وله كتاب فيما سأل عنه الملحدون في أي القرآن الكريم. ولبشر بن المعتمر (توفي تقريبا 210هـ) كتابه في متشابه القرآن (4). وتتابع مفسر والمعتزلة كالأخفش سعيد بن مسعدة (ت 215هـ)، نحوي، لغوي، وكان معتزليا، له كتاب في المعاني، قرأ النحو على سيبويه، من كتبه في التفسير «تفسير معاني القرآن» مخطوط. وهو من نحاة الطبقة السادسة البصريين، يعرف بالأخفش الصغير، ذكر الزبيدي الأندلسي أن أبا حاتم قال فيه:
«وكان الأخفش ينسب إلى القدر، وقال كتابه في المعاني: صويلح إلا أن فيه مذاهب سوء في القدر» (5).
__________
(1) انظر ابن خلدون، المقدمة، ص 349.
(2) انظر الجاحظ، البيان والتبيين، تقديم د. علي أبو ملجم، دار مكتبة الهلال، بيروت، ط 1، 1988م، ج 1، ص، 36والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 117، وابن النديم، تكملة الفهرست، ص 1، وعادل نويهض معجم المفسرين ج 2، ص، 718ود. أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، ص 103.
(3) انظر الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، ص 10099، وابن النديم، الفهرست، ص 5752، 78ومعجم المفسرين، ج 2، ص، 636ود. مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه، ص 72.
(4) ابن النديم، الفهرست، ص 57وهو من الطبقة السادسة للمعتزلة.
(5) طبقات النحويين واللغويين، ص، 72وابن النديم، الفهرست، ص 51، 52وعادل نويهض، معجم المفسرين، ج 1، ص 210.(1/224)
وألف أبو الهذيل العلّاف (ت 235هـ) من الطبقة السادسة وجعفر بن حرب (ت 236هـ) من الطبقة السابعة في متشابه القرآن (1)، وللجاحظ (ت 255هـ) من الطبقة السابعة كتاب نظم القرآن والمسائل في القرآن (2)، وكتاب التفسير لأبي بكر بن الأصم (ت 240هـ) من الطبقة السادسة (3). وألف محمد بن عبد الوهاب بن سلام (أبو علي الجبائي ت 303هـ)، في التفسير، وله مقالات مشهورة وتصانيف وتفسير، وقد أخبر ابن النديم بكتابين له: تفسير القرآن، ومتشابه القرآن. وهو من الطبقة الثامنة (4).
وللواسطي المعتزلي محمد بن زيد (ت 307هـ) «إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه» (5)، ولكنه مفقود، وهو من الطبقة العاشرة.
وألف الزجاج إبراهيم بن السرّي بن سهل (ت 311هـ) «معاني القرآن» وهو نحوي لغوي ومفسر من أصحاب أبي العباس المبرد (ت 286هـ)، ومن طبقة النحويين البصريين التاسعة (6). وهو الذي استفاد منه الزمخشري لاحقا في الاعتماد على اللغة في تفسير القرآن الكريم ومجمل التفسير النقلي الذي صنفه الزجاج وهو الذي يعرف بالبيان (7).
ومن مفسّري المعتزلة البلخي أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود المعروف بالكعبي (ت 319هـ) وهو من بلخ بخراسان من أئمة المعتزلة، تنسب له الطائفة «الكعبية» من معتزلة فرع بغداد، خالف البصريين من المعتزلة في مسائل كثيرة.
فقد أقرّ البصريون في الرؤية أن الله تعالى يرى خلقه من الأجسام والألوان ويرى ذاته وأن إدراكه لذلك زائد على كونه عالما. ولكن الكعبي أنكر ذلك، وقال: معنى يرى ذاته ويرى المرئيات هو علمه بنفسه وبغيره أي هو عالم بها فقط. والله تعالى
__________
(1) ابن النديم، الفهرست، ص 55، وتكملة الفهرست، ص 1.
(2) م ن، ص 57.
(3) م ن، ص، 51وانظر، جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي ص 135134.
(4) انظر تكملة الفهرست ص 6، والفهرست، ص 51، 55والسيوطي، طبقات المفسرين، ص 88.
(5) انظر م ن، ص، 57وعادل نويهض، معجم المفسرين، ج 2، 530وانظر د. عبد العزيز عبد المعطي عرفة، قضية الإعجاز القرآني، ص 575.
(6) انظر، الزبيدي، طبقات النحويين اللغويين، ص 112111، وابن النديم، الفهرست ص 9152.
(7) انظر د. مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه، ص 80.(1/225)
عند أصحابه من البصريين سامع للكلام والأصوات على الحقيقة، ويرى هو أن الله تعالى سميع بمعنى عالم بالمسموعات وبصير بمعنى أنه عالم بالمبصرات. وإذا كان البصريون رأوا أن الله عز وجل مريد على الحقيقة وأن معتزليهم رأوا أنه يريد بإرادة حادثة لا في محل فإن الكعبي ومعه النظّام ومن تبعهما ذهبوا إلى أنه ليست لله تعالى إرادة على الحقيقة وأنه إذا أطلق أنه تعالى مريد فمعناه عالم قادر. فالقول:
إن الله تعالى أراد فعله معناه أنه فعله أي خلقه على وفق علمه. والقول: مريد لأفعال عباده معناه آمر بها راض عنها. والقول: سميع بصير كلاهما راجع للعلم، فالوصف بالإرادة في الوجهين مجاز (1). وقد أكفر البصريون والبغداديون بعضهم بعضا. من كتبه «تفسير القرآن» (2) في اثني عشر مجلدا. وقد أشار الدارسون إلى عدم وجود هذا التفسير.
وأبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني (ت 322هـ) له تصنيف «جامع التأويل لمحكم التنزيل» يقع في أربعة عشر مجلدا، جمعت بعض نصوصه من سعيد الأنصاري في تفسيره «مفاتيح الغيب» للفخر الرازي، سماها: «ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل». وقد ذكر بعض الدارسين أن ما نقله الفخر الرازي (ت 606هـ) في تفسيره منسوبا لأبي مسلم. قد جمعه بعض المؤلفين في كتاب مستقل سمي: تفسير أبي مسلم الأصفهاني، ولهذا أشار بعضهم كمحمد حسين الذهبي إلى أنه اطلع على جزء صغير الحجم منه بمكتبة جامعة القاهرة (3).
ولأبي بكر الشاشي المشهور بالقفّال الكبير (ت 365هـ) تفسير في الاعتزال:
«تفسير القرآن الكريم» على مذهب المعتزلة (4).
__________
(1) انظر، البغدادي، الفرق بين الفرق، ص، 181والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 89.
(2) ابن النديم، الفهرست، ص، 51وكذا عادل نويهض، معجم المفسرين، ج 1، ص، 303ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 366.
(3) انظر م ن، ص، 196ومعجم المفسرين، ج 2، ص 498. ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص، 36وجولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 135.
(4) راجع السيوطي، طبقات المفسرين، ص 94، 95وكذ، عادل نويهض، معجم المفسرين، ج 2، ص 577.(1/226)
ولابن صبر محمد بن عبد الله بن جعفر بن محمد المعروف ابن صبر (ت 380هـ) كتاب في التفسير «عمدة الأدلة» وكتاب «التفسير»، لكنه لم يكمله.
وهو معتزلي من رءوس علم الكلام (1). وللرمّاني المعتزلي المتشيّع علي بن عيسى أبو الحسين النحوي (ت 384هـ) تأليف في التفسير. أخبر السيوطي (ت 911هـ) قائلا: «صنّف تفسيرا رأيته» (2). وقال بعضهم اسمه: «التفسير الكبير للرمّاني» وبأن الزمخشري أفاد منه كثيرا.
ومن تصانيف عبيد الله بن محمد بن جرو الأسدي النحوي العروضي المعتزلي (ت 387هـ) «تفسير القرآن» قيل أنه مفقود (3).
وللقاضي عبد الجبار الهمذاني (ت 415هـ) شيخ المعتزلة. ذكر السيوطي من تصانيفه = التفسير = وبأنه لطيف الحجم (4). وله كتاب «تنزيه القرآن عن المطاعن» وهو مطبوع، غير أنه لا يشمل آيات القرآن الكريم كلها (5). وغايته من هذا الكتاب التمييز بين المحكم والمتشابه وبيان معاني الآيات المتشابهات وإبراز خطإ من قصدهم في قوله وهم جماعة أهل السنة لأنهم يعارضون المعتزلة فيما ذهبوا إليه. ومما ذكره من المسائل في هذا الكتاب (6):
«مسألة» قالوا: «فقد قال تعالى: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ} [البقر: 7] وهذا يدل على أنه قد منعهم من الإيمان ومذهبكم بخلافه وكيف تأويل الآية؟ وجوابنا: أن للعلماء في ذلك جوابين، أحدهما: أنه شبه حالهم بحال الممنوع الذي على بصره غشاوة من حيث أزاح كل
__________
(1) م ن، ص، 88وعادل نويهض، معجم المفسرين، ج 2، ص 557546.
(2) م ن، ص 68، 69وانظر د. مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 85 وما بعدها. ود. عبد العزيز عبد المعطي عرفة، قضية الإعجاز القرآني وأثرها في تدوين البلاغة، ص 325.
(3) انظر م ن، ص، 6وجولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص، 135ود. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 367.
(4) انظر م ن، ص 4948.
(5) انظر، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 367، وعادل نويهض، معجم المفسرين ج 1، ص، 255ود. أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، ص، 104ود. مصطفى الضاوي الجويني، منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه، ص 7574.
(6) انظر، م ن، ج 1، ص 372.(1/227)
عللهم فلم يقبلوا، كما قد تعيّن للواحد الحق فتوضحه، فإذا لم يقبل صحّ أن نقول: إنه حمار قد طبع الله على قلبه، وربما نقول: إنه ميت، وقد قال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ} [النمل: 80] وكانوا أحياء فلما لم يقبلوا شبههم بالموتى، وهو كقول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ويبيّن ذلك أنه تعالى ذمهم، ولو كان هو المانع لهم لما ذمّهم، وأنه ذكر في جملة ذلك الغشاوة على سمعهم وبصرهم وذلك لو كان ثابتا لم يؤثر في كونهم عقلاء مكلفين.
والجواب الثاني: أن الختم علامة يفعلها تعالى في قلوبهم لتعرف الملائكة كفرهم وأنهم لا يؤمنون فتجتمع على ذمّهم، ويكون ذلك لطفا لهم ولطفا لمن يعرف ذلك من الكفار أو يظنه، فيكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر وهذا جواب الحسن رحمه الله».
ويلقانا في سياق هذا التفسير المذهبي الاعتزالي لذلك العصر الشريف المرتضى (1) (ت 436هـ) ليسهم في تعزيز عمل مدرسة الاعتزال في التفسير آنذاك بتصانيف منها «تفسير الفاتحة» و «تفسير سورة البقرة» وبما قام به من بحوث في بعض آيات القرآن الكريم التي تخالفها أصول المعتزلة. ذكر بعض الدارسين أن تلك البحوث أدرجها ضمن ما دوّنه في أماليه التي أطلق عليها اسم «أمالي الشريف المرتضى» أو «غرر الفوائد ودرر القلائد» الذي يضم مجموع ما أملاه من محاضرات في ثمانين مجلسا توزّعت ما بين بحوث في التفسير والحديث والأدب دون أن تكون منفصلة عن الجانب العقدي واللغوي والتاريخي. ولا شك أنه يقدم صورة واضحة عن طريقة تفسير المعتزلة للقرآن الكريم في تلك الفترة وعن تأويله له وللحديث النبوي الشريف انتصارا لآراء المعتزلة أو وصولا إليها (2) فوظف لذلك
__________
(1) سبق التعريف به. وهو من الطبقة الثانية عشرة للمعتزلة. وهو إمامي يميل إلى الإرجاء: انظر أحمد بن يحيى المرتضى، المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص 69.
(2) جاء في مقدمة المحقق محمد أبو الفضل إبراهيم قوله: = عالج تأويلها وتوجيهها على طريقة أصحابه من المعتزلة أو أصحاب العدل كما كان يسميهم = ثم قال: = وترجع قيمة ما عرض له الشريف في هذه(1/228)
براعته في اللغة واستعمل أساليبها ونبوغه في الأدب وهي إحدى خاصيات التفسير الاعتزالي التي اعتمدها سابقوه كالقاضي عبد الجبار الذي استعان باللغة مثلا في تأويل قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ} [طه: 5] قال في نفي التجسيم أن الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء والغلبة وهو مشهور في اللغة. قال الشاعر (طويل):
فلمّا علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر.
ثم أضاف: «فإن قالوا: إنه تعالى مستول على العالم جملة فما وجه تخصص العرش؟ قلنا: لأنه أعظم ما خلق الله تعالى، فلهذا اختصه بالذكر» (1). وقد استعان أبو علي الجبائي قبلهما باللغة في صرف معنى «جعل» إلى معنى «بيّن» وبأنها ليست بمعنى «خلق» ليجعل قوله تعالى: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31] أن الله تعالى بين لكل نبي عدوه ليحذره منه وللاستدلال على معنى (جعل) أنه (بيّن) استشهد بقول الشاعر (2):
جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا ... على ثبت من أمرهم حين يمّموا
وكالفراء الذي لما رأى كلمة (ميراث) توحي بالحصول على شيء من قوله تعالى: {وَلِلََّهِ مِيرََاثُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 10] لجأ إلى الشرح اللغوي ليظهر المعنى: «يميت الله أهل السماوات وأهل الأرض ويبقى وحده فذلك ميراثه تبارك وتعالى أنه يبقى ويفنى كل شيء» (3).
وهذه الطريقة أفاد منها الزمخشري واعتمدها في تفسيره ووظف فيها تبحّره اللغوي والنحوي والبلاغي إلى جانب نظره العقلي وسنبين هذا في مقامه.
__________
المجالس من تأويل الآيات إلى أنها تعدّ صورة لتفسير القرآن الكريم عند علماء المعتزلة مما لم يصل إلينا من كتبهم إلّا القليل النادر = أمالي المرتضى = غرر الفوائد ودرر القلائد =، ج 1، ص 1918 (مقدمة المحقق).
(1) انظر شرح الأصول الخمسة ج 1، ص 194193174173172159158157.
(2) انظر الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 6، ص 471.
(3) معاني القرآن، تحقيق أحمد يوسف النجاتي، محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، 1955، ج 1، ص 249.(1/229)
ومن هذا العصر ذكر السيوطي محمد بن علي بن الحسين بن مهرإيزد أبو مسلم الأصبهاني (ت 459هـ) وهو أديب مفسر نحوي معتزلي عارف بالتفسير على مذهب الاعتزال له تصنيف «التفسير» في عشرين مجلدا (1).
وللقزويني عبد السلام بن محمد بن يوسف (ت 488هـ)، شيخ المعتزلة ومن معمريهم تصنيف «التفسير الكبير». أخبر السيوطي عن السمعاني قال: «لم ير في التفاسير أكبر منه ولا أجمع للفوائد لولا أنه مزجه بكلام المعتزلة وبث فيه معتقده وهو في ثلاثمائة مجلد منها سبع مجلدات في الفاتحة» (2) وهذا الاستحسان المستدرك يذكّرنا بثناء ابن خلدون (ت 808هـ) على تفسير الكشاف للزمخشري.
بيد أنه استدرك ممتعظا من احتجاجه فيه على أصولهم الخمسة فقال: «ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفسير كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلّا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة» (3) دون أن يغيب عنا أن ابن خلدون ممن ينتصر لأهل السنة.
وهكذا نصل إلى أبرز تفسير من ذلك العصر هو تفسير «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل» للزمخشري (467هـ 538هـ) الذي يعدّ خاتمة شيوخ المعتزلة، فتفسيره متميز عن تفسير سابقيه ولاحقيه لأنه تأسس على ما لم يسبق إليه وهو علم المعاني والبيان الذي لا سبيل لإدراك حقائق إعجاز القرآن الكريم إلّا بالدربة عليه والتمرس فيه وإتقان عجائب طرقه وأسراره (4) التي طوّعها هذا العالم بنضجه العلمي وفكره الثاقب وذوقه الرفيع من خلال تطبيقه على ما أورده عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) في كتابه دلائل الإعجاز. لقد أسهم الزمخشري بهذا التفسير في إعادة بعث تفاسير أهل الاعتزال لأن مصنفه الوحيد المتكامل الباقي من تراثهم الذي عكس ما تمثله من معارف وثقافات وهو التفسير الذي حظي بشهرة فائقة وتثمين علمي معتبر من الداني والقاصي والصديق والعدو رغم حرص صاحبه على الانتصار لآراء المعتزلة فتتبعه علماء كثيرون بالنقد وآخرون بالبحث والفكر. ولعل أبرز معقّب عليه من أهل السنة أحمد بن المنير
__________
(1) طبقات المفسرين، ص 85.
(2) م ن، ص 56.
(3) المقدمة، دار العودة، بيروت (د. ت)، ص 349.
(4) انظر مقدمة الكشاف، ج 1، ص 15، 16ود. شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، ط 6، 1965م، ص 222.(1/230)
(ت 683هـ) صاحب «الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال وهو مطبوع على هامش الكشاف (1). ومع هذا لم يغض من التصنيف وإنما استحسنه في أكثر من موقف، فقال مثلا عند التعقيب على قول الزمخشري في الآية الكريمة: {وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]: «هذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد واستعاده الخاطر كأني بطيء الفهم حين يفيد» (2).
بيد أن بعض العلماء كان أكثر تشددا وامتعاضا مثل ابن تيمية (ت 728هـ) السني أيضا قال في تفسير المعتزلة: «ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه» (3). بينما اقترب تاج الدين السبكي الأشعري (ت 771هـ) من إنصاف أحمد بن المنير، ونقصد هنا عدم تضييع الجانب المضيء في تفسير الزمخشري لكنه لم يتردد في تقتيم فضاءاته الاعتزالية وجراءته في النبوة وتهكمه بأهل السنة والجماعة. ومن الكتب التي تتبع مصنفوها كشاف الزمخشري تأليف العراقي شرف الدين الطيبي (ت 743هـ) «فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب» أشار إليه ابن خلدون (ت 808هـ) بقوله: «ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف بعض العراقيين وهو شرف الدين الطيبي () شرح فيه كتاب الزمخشري () وتتبّع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيّفها وتبيّن أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة فأحسن في ذلك ما يشاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة» لم يفت ابن خلدون التعرض لفضل الكشاف عن غيره من التفاسير لتأسسه على علم البيان الذي غفل عنه المتقدمون، وذكر انفراد جار الله الزمخشري به لولا أنه يؤيد عقائد المعتزلة (4).
وستزداد مسألة التأويل في التفسير أكثر وضوحا بخاصة حين نركز البحث فيها بين المعتزلة وأهل السنة متخذين من «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل» رافدا وسندا.
__________
(1) طبع دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1977م.
(2) الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 3، ص، 289وكقوله في موضع آخر:
= هذا الفصل بجملته حسن جدا =: الإنصاف هامش الكشاف، ج 1، ص، 498وانظر كذلك م ن، ج 2، ص 6، 7ويمكن الوقوف على استحسانات أخرى.
(3) أصول التفسير، تحقيق فريال علوان، ص 54.
(4) م ن، ص 459.(1/231)
الباب الثانى المذهب الاعتزالي في كشاف الزمخشري
الفصل الأول:
أولا: التأويل بالدلالة اللغوية.
ثانيا: التأويل بالإعراب (النحو).
الفصل الثاني:
أولا: التأويل بنص القرآن وبالقراءات والسماع.
ثانيا: التأويل بالحمل على المجاز والتشبيه. وتأويل التجسيم.
الفصل الثالث:
التأويل بالاستدلال العقلي.(1/233)
الفصل الأول
أولا: التأويل بالدلالة اللغوية
ثانيا التأويل بالإعراب (النحو)(1/235)
أولا: التأويل بالدلالة اللغوية:
نقصد بالتأويل بالدلالة اللغوية توظيف الزمخشرى المعنى اللغوي واعتماده طريقة في التفسير لخدمة الفكر الاعتزالي فقد لجأ كسابقيه من مشايخ الاعتزال إلى تهيئة الألفاظ والعبارات لما يرومه على أصول المذهب فيفسر ما لا ينسجم ظاهره مع مقام الألوهية أو ما يكون دالا على التجسيم والتشبيه أو يعارض بعض أصول فكرهم فيثبت له المعنى المناسب الذي يبعد الاشتباه ويعزز مسعاه. وقد وجدناه يستشهد أحيانا على تلك المعاني التي حمل عليها الألفاظ والعبارات بأدلة من اللغة والشعر العربي.
لم يتوقف المعتزلة عند ظاهر التفسير اللغوي الذي حاوله المحدثون وأهل السنة وإنما تجاوزوه إلى توضيح المقاصد المعنوية وراء الألفاظ وإلى إظهار مدلولها في الصفات الإلهية لذا حرصوا على الطريقة اللغوية باعتبارها أعلى مبادئ التفسير (1)
القرآني لديهم في تأويل العبارات القرآنية التي يفهم منها التجسيم أو هي غير مناسبة لمقام الله تعالى أو تتعارض مع أحد أصولهم، وزاوجوا في ذلك بين المنهج اللغوي والتدبّر العقلي (2) للآيات فما وجدوه مشتبها في لفظ القرآن الكريم أثبتوا له معنى لغويا يبعد اشتباهه ليصبح منسجما مع مذهبهم، وهم يعزّزون إقرار ذلك بلجوئهم إلى الاستشهاد بأدلة من اللغة والشعر العربي تأكيدا لما ذهبوا إليه من تلك المعاني التي وجّهوا إليها ألفاظ القرآن.
وعلى هذا سعى الزمخشري بتراكيب القرآن الكريم وبتأويلات المعتزلة في إطار المعاني على تخيّر الدلالات التي تتوافق مع العدل وتنسجم مع التنزيه المنصوص عليه في أصولهم فقد زاوج بين المنهج اللغوي والتدبر العقلي عند تفسيره قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]
__________
(1) انظر د. محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص، 355وكذا جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 138137.
(2) انظر د. محمود كامل أحمد، مفهوم العدل في تفسير المعتزلة للقرآن الكريم، دار النهضة العربية، بيروت، 1983م، ص 89وما بعدها.(1/237)
حين انطلق من اللغة في أن «الإيمان إفعال من الأمن، يقال أمنته وآمننيه غيري ثم يقال آمنه: إذا صدّقه، وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة» (1) ثم تساءل عن الإيمان الصحيح في ضوء ذلك فقيّد الإيمان بالصحيح ليحترز عن إيمان الفاسق ثم يجيب بأن الإيمان «أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعلمه» (2) وأضاف أن «من أخلّ بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ومن أخلّ بالشهادة فهو كافر ومن أخلّ بالعمل فهو فاسق» (3).
إن صاحب الكبيرة إذا غادر الدنيا بلا توبة فهو كافر عند الخوارج ولكنّ المرجئة عدّوه مؤمنا بينما منحه واصل بن عطاء منزلة بين الإيمان والكفر. وقد نص الزمخشري عليه بقوله: «ومن أخلّ بالعمل فهو فاسق». أما أهل السنة والجماعة فقالوا بصحة إسلام الفريقين المتحاربين باعتبار الأصل السياسي للتسمية. ولا ريب في أنّ هذه الأحكام السالفة تمثّل في الواقع حلولا لمسألة عقلية أثارتها واقعتا الجمل وصفين إن لم تكن أثيرت قبل ذلك في ذاك الجدل حول صاحب المعصية (4)، ثم ما لبثت هذه الحلول تمثل مذاهب فكرية للخوارج والمعتزلة وأهل السنة فيما بعد (5). ويهمنا هاهنا في «الفاسق» موقف المعتزلة والزمخشري بالذات فهو غير مؤمن لأنه لم يتوفر على شروط الإيمان التي هي اعتقاد بالقلب وشهادة وإقرار باللسان وعمل الأركان.
والمعتزلة يتأولون الآيات الدالة على التشبيه أو تلك التي لا تليق بمقام الألوهية ويحملونها على ما هو أبعد عن التجسيم وعلى ما هو أليق بمقام الله عز وجل، وهم في هذا ساروا على الطريقة التي أسسها أبو علي الجبائي (6)، يسيرون فيها على اللغة مع الاستشهاد بالشعر لعربي القديم لذا قال الزمخشري في قوله سبحانه:
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 126.
(2) م ن، ج 1، ص 129128.
(3) م ن، ج 1، ص 129.
(4) انظر د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط 1، ص 63.
(5) دلّ الأول على تطرف إلى اليسار زعم فيه أن مقاتلي علي بمن في ذلك عائشة وطلحة والزبير كل منهم كافر وهم الخوارج. ومثّل الثاني موقفا معتدلا وهو ذلك الذي اتخذه واصل بن عطاء. والثالث: أهل السنة والجماعة الذين قالوا بإسلام الفريقين المتحاربين في معركتي الجمل وصفين. انظر م ن، ص 6968
(6) انظر د. محمود كامل أحمد، مفهوم العدل في تفسير المعتزلة للقرآن الكريم، ص 8281.(1/238)
{إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا} [البقرة: 26] (1): والحياء تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم، واشتقاقه من الحياة.
يقال حي الرجل كما يقال نسى وحشى وشظى الفرس: إذا اعتلّت هذه الأعضاء، جعل الحي لما يعتريه من الانكسار والتغيّر منتكس القوة منتقص الحياة كما قالوا: هلك فلان حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء، وذاب حياء وجمد في مكانه خجلا = ولا يرضى الزمخشري أن يوصف القديم الله سبحانه به لذا تساءل قائلا: «فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه به ولا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم وذلك في حديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردّهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» قلت: هو جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه» ثم قال: «وكذلك معنى قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي} أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها» ثم جوّز وقوع هذه العبارة في كلام الكفرة القائلين: أما يستحيي ربّ محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة ومطابقة الجواب للسؤال وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه (2):
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبت في إناء من الورد (3)
وقد فسّر الواحدي (ت 468هـ) قبله لا يستحيي: لا يترك ولا يخشى أن يضرب مثلا يبيّن شبها ما بعوضة. وذكر أن (ما) زائدة مؤكدة والبعوض صغار البق، الواحدة بعوضة فما فوقها فما هو أكبر منها والمعنى: أن الله تعالى لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها إذا علم أن فيه عبرة لمن اعتبر وحجة على من جحد
__________
(1) قرأ ابن محيصن (يستحي) بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة. روي ابن كثير هذا وهي لغة تميم وبكر بن وائل نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء. انظر الكشاف، ج 1، ص، 264وكذا تفسير القرطبي، ج 1، ص 242.
(2) لكشاف، ج 1، ص 264263.
(3) البيت للمتنبي (الديوان، ج 1، ص 165) بشرح البرقوقي. وروي البيت كذلك (إذا ما استجبن) من الاستجابة.(1/239)
واستكبر (1). وقد علّق ابن المنير (ت 683هـ) على تأويل الزمخشري بخاصة حين فسّر الحياء الذي خشي أن ينسب ظاهره إلى الله تعالى مع أن الحياء مسلوب في الآية وذلك مثل قولنا: الله ليس بجسم ولا بجوهر في معرض التنزيه والتقديس.
غير أن ابن المنير يوافق الزمخشري في تأويل الحديث لثبوت الحياء فيه لله عز وجل (2).
ويعتمد الزمخشري على اللغة لخدمة مذهبه عند تفسيره قول الله عز وجل:
{وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} [البقرة: 26] مفسرا الفسق بالخروج عن القصد معتمدا على قول رؤبة (فواسقا عن قصدها جوائرا) (3) والفاسق في الشريعة: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين منزلة الكافر والمؤمن. وبيّن أن واصل بن عطاء أول من حدّ له هذا الحدّ وبأن حكمه حكم المؤمن يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين غير أنه كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وبأنه لا تقبل شهادته (4).
وقال في قوله تعالى: {يُخََادِعُونَ اللََّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة 9]: «كيف ذلك ومخادعة الله والمؤمنين لا تصحّ لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا ألا ترى إلى قوله (5): * واستمطروا من قريش كل
__________
(1) الواحدي (علي بن أحمد أبو الحسن)، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق صفوان عدنان داودي، دار العلم الدار الشامية، دمشق، بيروت، 1415هـ، ط 1، ج 1، ص، 97وكذا القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 242241.
(2) انظر الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 1، ص 263، قال الفخر الرازي قبله أن الحياء عرض نفسي له أول هو انكسار يحصل في النفس وله غرض يتمثل في ترك الله تعالى الفعل، ولما كانت أوائل الأعراض النفسية كالرحمة والفرح والسرور والغضب والتي هي غليان القلب لا تحمل في حق الله عز وجل، كذلك الحياء لا يحمل لفظ الحياء على انكسار النفس وإنّما على الغرض منه وهو ترك الفعل. انظر مفاتيح الغيب، ج 2، ص 132، 133وكذا محمد بن محمد الغزي (ت 1061هـ)، إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن، ج 2، ص 20.
(3) ذكر الزمخشري البيت الذي قبله في كتابه أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت (د. ت)، ص 341.
(4) الكشاف، ج 1، ص 267.
(5) الكشاف، ج 1، ص 171170.(1/240)
منخدع * (1). وقول ذي الرمة: * إن الحليم وذا الإسلام يختلب * (2). أي أن الحليم والمسلم يخدع. قال الشريف الجرجاني: يقصد أن صيغة المخادعة تقتضي صدور الفعل من كل واحد من الجانبين متعلقا بالآخر وخدع المنافقين الله تعالى هو أن يوقعوا في علمه خلاف ما يريدون به من المكروه ويصيبوه به ممّا لا خفاء في استحالته. أما خداع الله تعالى إياهم فبأن يوقع في أوهامهم خلاف ما يريد بهم من المكاره ليغترّوا ثم يصيبهم به إلا أن هذا قبيح على مذهب الزمخشري لامتناع صدوره عن الله عز وجل، وأيضا من المعلوم أن حاله تعالى مع المنافقين لم يكن حقيقة هذا المعنى المذكور، وأن المؤمنين وإن جاز أن ينخدعوا بما رأوا منهم من غير أن يرجع إليهم في ذلك نقصان، لم يجز أن يقصدوا خدعهم لأنه غير مستحسن بل هو مستهجن يذمّ به (3). وهو عند أهل السنة وإن جاز أن يوقع الله تعالى في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغترّوا ثم يصيبهم به إلا أنه يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم (4). وليس في هذا أي خلاف بينهم وبين المعتزلة فيما نرى لأن الله عز وجل لا يخدع ولا يخدع.
والتقدير عند المعتزلة بمعنى العلم لا الإرادة، بيّنه الزمخشري واستدل عليه في الآية {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََا إِنَّهََا لَمِنَ الْغََابِرِينَ} [الحجر: 60] حين قال: «فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله: {قَدَّرْنََا إِنَّهََا لَمِنَ الْغََابِرِينَ} والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمّن فعل التقدير معنى العلم ولذاك فسّر العلماء تقدير
__________
(1) لبيت الكامل ذكره الشريف الجرجاني في حاشيته الكشاف، ج 1، ص 171.
لا خير في الحب لا ترجى نوافله ... فاستمطروا من قريش كل منخدع
تخال فيه إذا خاتلته بلها ... عن ماله وهو وافي العقل والورع
(2) والبيت بأكمله هو:
تلك الفتاة التي علقتها عرضا ... إن الحليم وذا الإسلام يختلب.
انظر حاشية الشريف الجرجاني، هامش الكشاف، ج 1، ص 171.
(3) انظر م ن، هامش الكشاف، ج 1، ص 170، 171وانظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 3ص 74، ج 4، ص 69.
(4) الألوسي، روح المعاني، ج 1، ص 145.(1/241)
أعمال العباد بالعلم» (1) وهذا يندرج في فكر المعتزلة لأنهم لا يؤمنون بالقضاء والقدر إذ هم لا يعتقدون إرادة الله عز وجل لأكثر أفعال العباد وبأنه لا مقدر لها عليهم. نفهم من هذا عندهم أن الله سبحانه مريد غير أنه عالم بما سيفعلونه بخلاف مشيئته (2).
ورغم إحالة المعتزلة المتشابه من القرآن الكريم على المحكم منه إلا أنهم لم يكونوا يبعدون عن معاني القرآن ومفاهيمه بل هم أنكروا على كل من تنصّل من التفسير المأثور وإنما كان غرضهم الكشف عن بلاغة القرآن في تخيّر ألفاظه وحسن إفهامه وتزيين معانيه في قلوب مريديه ترغيبا في سرعة استجابتهم وطلب ثواب الله تعالى لذا كان على المعتزلة أن يختاروا بين منهجين في التفسير: الأول يمثل اتجاه المحدّثين المحافظين نهوا فيه عن الخوض في المتشابهات. والثاني: اتجاه الخوارج الذي بنوا فيه تفسيرهم على التكامل بين المحكم والمتشابه في الدلالة على إحكام القرآن، أجمعوا فيه بين الآيات المحكمة والمتشابهة في الموضوع الواحد بتأمل عقلي آخذين بالمعنى العام لألفاظ الآيات مستشهدين عليها باللغة والشعر العربي القديم. إنهم اختاروا منهج الخوارج لأنه يمكّنهم من تأمين المتشابهات ضد المخالفين ممن زعموا القرآن الكريم متناقضا في ظاهره بخاصة اليهود الذين أثاروا هذه المسألة منذ أيام عمر بن الخطاب (3). وهكذا دأب المعتزلة يحللون الآيات المحكمة والمتشابهة تحليلا لغويا وعقليا لإظهار ما فيها من وحدة معنوية دالة على أصول العقيدة.
والزمخشري يجد الأساس المنهجي لتفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} [آل عمران: 7] مبيّنا أنّ معنى محكمات (4) هو الآيات التي «أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص، 294وكذا تفسير البيضاوي (ت 791هـ)، ج 3، ص، 376ج 4، ص، 272وانظر تفسير أبي السعود (ت 951هـ)، ج 5، ص، 83وكذا الألوسي، روح المعاني، ج 4، ص 30، ج 14، ص 67.
(2) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 294.
(3) نظر د. محمود كامل أحمد، مفهوم العدل في تفسير المعتزلة للقرآن الكريم، ص 138.
(4) الكشاف، ج 1، ص 412.(1/242)
والاشتباه» (1) وهي الآيات التي تقبل تفسيرا آخر غير المعنى اللفظي البسيط. أما [أمّ الكتاب] فأصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها (2). وقد جعله المعتزلة في القرن الرابع الهجري أصلا من أصول الدين في التفسير وهو ما أكّده الرضى في تفسير قوله سبحانه: {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا} [آل عمران: 8] الذي أقوله أنا أن من أصلنا رد المتشابه من الآي إلى المحكم» (3).
ويستخدم اللغة لنفي الرؤية عند قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قََالَ لَنْ تَرََانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي} [الأعراف: 143]: «أي أرني نفسك أنظر إليك فإن قلت: الرؤية عين النظر فكيف قيل: أرني أنظر إليك؟
قلت: معنى أرني نفسك: اجعلني متمكنا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك» ثم أضاف معتمدا على اللغة دائما: «فإن قلت: فكيف قال: (لن تراني) ولم يقل: لن تنظر إلى قوله أنظر إليك؟ قلت: لما قال: (أرني) بمعنى اجعلني متمكنا من الرؤية التي هي الإدراك علم أن الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه فقيل لن تراني ولم يقل لن تنظر إلي». ثم ذكر تفسيرا آخر قائلا:
«يريد بقوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}: عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا كأنها إراءة في جلائها بآية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك، أنظر إليك:
«أعرفك معرفة اضطرار كأني أنظر إليك» موظفا الحديث الشريف قائلا: «كما جاء في الحديث: «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» (4) ولم يكتف بنص الحديث
__________
(1) المحكم والمتشابه في القرآن معناه أن من القرآن ما اتضحت دلالته على مراد الله عز وجل منه، ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم فالأول هو المحكم. والثاني هو المتشابه. وقد اختلف العلماء في ذلك بيد أن الذي اتفقوا عليه ولا يمكن أن يختلفوا فيه هو أنه لا تعارض بين كون القرآن كله محكما أي متقنا وبين كونه كله متشابها أي يشبه بعضه بعضا في الإتقان والإحكام والانقسام إلى ما اتضحت دلالته على مراد الله وما خفيت دلالته. وقد أطلق المحكم مقابل المنسوخ تارة وعلى ما يقابل المتشابه تارة أخرى أريد به على الاصطلاح الأول الحكم الشرعي الذي لم ينسخ، وأريد به على الاصطلاح الثاني ما جاء من نصوص الكتاب والسنة دالا على معناه بوضوح لا خفاء فيه. انظر محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج 2، ص 195، 196والكشاف، ج 1، ص 412.
(2) الكشاف، ج 2، ص 412.
(3) حقائق التأويل، النجف، 1936، ج 5، ص 23.
(4) صحيح البخاري 7168، 7170وكذا جامع الترمذي: 2612.(1/243)
وإنما فسره قائلا: «بمعنى ستعرفوه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصارهم القمر إذا امتلأ واستوى» ثم قال: (قال لن تراني): أي لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة.
ولن تحتمل قوتك تلك الآية المضطرة ولكن انظر إلى الجبل فإن أورد عليه وأظهر له آية من تلك الآيات فإن ثبت لتجليها واستقرّ مكانه ولم يتضعضع فسوف تثبت لها وتطيقها {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته {جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى ََ صَعِقاً} [الأعراف: 143] لعظم ما رأى فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك مما اقترحت وتجاسرت {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}
[الأعراف: 143] بعظمتك وجلالك وإن شيئا لا يقوم لبطشك وبأسك» (1). ولا يخفى ما في هذا من نفي رؤية الله عند المعتزلة. وقد جوّز السنّيون رؤية الله تعالى بالأبصار وحجتهم أن الرؤية أمر وجودي يتعلق بموجود إذ الشيء إنما يصح أن يرى من حيث كان موجودا وما كان أكمل وجودا كان أحق أن يرى، فالله تعالى عندهم أحق أن يرى من كل ما سواه لكمال وجوده عما سواه (2).
ولما كان المعتزلة يقولون بالأجلين، أوّل الزمخشري الآية: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 10] إلى وقت سماه الله وبيّن مقداره يبلغكموه إن آمنتم وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت (3).
ويعتمد المصنف اللغة تمهيدا لإقرار أحد أصول مذهبه في أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا في نطاق ما يستطيعون. قال عند الآية {لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} [البقرة: 286]: «الوسع ما يسعه الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه. أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر له دون مدى الطاقة» (4).
وهو في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} [النحل: 90] يعتمد على الطريقة اللغوية ليصل إلى مبتغاه الاعتزالي في أن ما أوجبه الله على العباد
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 112، 116ج 4، ص 61.
(2) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، الباب الثالث والعشرون، ص 266وما بعدها. وكذا ابن القيم، الجوزية، مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ص 172171
(3) الكشاف، ج 2، ص 369.
(4) م ن، ج 1، ص، 408وانظر ابن المرتضى اليماني (ت 840هـ)، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، ص 325.(1/244)
في إطار التكليف هم متمكنون منه ويستطيعون أداءه وفق طاقتهم. يظهر هذا في قوله: «العدل هو الواجب لأن الله تعالى عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم واقعا تحت طاقتهم» (1) وذلك لأنهم يرون بأنه يستحيل على الله عز وجل تكليف ما لا يطاق لأنه عندهم ظلم وجور وهو على الله محال، غير أن أهل السنة يعتقدون أن قضاء الله كله عدل سواء كان ما يطاق أم غيره (2).
ويصرف المصنف الفعل (أغفل) إلى (جعل) في الآية: {وَلََا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنََا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ وَكََانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28] مستشهدا على ذلك من اللغة ليقر غفلة القلوب عن ذكر الله إنما كانت بالخذلان (3) الذي يفعله بهم عقوبة على ما اقترفوه قائلا: «من أغفلنا قلبه»: من جعلنا قلبه غافلا عن الذكر بالخذلان أو وجدناه غافلا عنه كقولك: أجبنته وأفحمته وأبخلته: إذا وجدته كذلك أو من أغفل إبله: إذا تركه بغير سمة. أي إن لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان، وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله: {وَاتَّبَعَ هَوََاهُ}
الآية» (4). وقد أشار أبو حيان إلى رأي الرماني المعتزلي قبله. قال: «لم نسمه بما نسم به قلوب المؤمنين بما يبين به فلاحهم. كما قال: كتب في قلوبهم الإيمان من قولهم بغير غفل لم يكن عليه سمة وكتاب غفل لم يكن عليه إعجام» (5).
ويبدو من تفسيري الرجلين: الزمخشري والرماني نزوع إلى أن العباد هم الخالقون أفعالهم عكس ما يراه أهل السنة في الآية نفسها دليلا على أنه عز وجل خالق أفعال العباد (6).
ويبين عند الآية: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون 1] معنى الإيمان متسائلا ليصل في جوابه بعد بيان مدلوله اللغوي إلى كشف معناه المذهبي قائلا: «فإن
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 424.
(2) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 425.
(3) نظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 328.
(4) الكشاف، ج 2، ص 482.
(5) أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 7، ص 167.
(6) أنظر تفسير النسفي، ج 3، ص 12.(1/245)
قلت: ما المؤمن؟ هو في اللغة المصدق، وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما أن كل من تعلق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فهو مؤمن، والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقيّ دون الفاسق الشقيّ» (1). وهو هنا بيّن المراد بالإيمان عند الأشعرية أولا ثم عند المعتزلة ثانيا مع أن الموحد في فرقته له منزلة بين الإيمان والكفر وسموه فاسقا وخلّدوه في النار. ولكن أهل السنة سموه ناقص الإيمان لا غير وبأنه مؤمن عاص أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته (2). والفرق بينهم وبين المعتزلة أن أهل السنة جعلوا الأعمال كلها شرطا لصحة الإيمان بل جعلوا كثيرا منها شرطا في كماله كما ذكره عمر بن عبد العزيز: فيها من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل إيمانه، بينما جعل المعتزلة الأعمال كلها شرطا في الصحة (3).
وذكر في تفسير قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكََاةِ فََاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]:
«الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير، والمعنى فعل المزكي الذي هو التزكية وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له، ولا يسوغ فيها غيره لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل.
تقول للضارب فاعل الضرب وللقاتل فاعل القتل وللمزكي فاعل التزكية، وعلى هذا الكلام والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث: من فاعل هذا؟
فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق» (4)، فلم يكن ليطمئن أهل السنة لقوله:
«فاعله الله أو بعض خلقه» لأن فاعل الحوادث كلها عندهم إنما هو الله تعالى وحده إذ علقوا الأفعال جميعها بالله عز وجل وجعلوا الإنسان كاسبا لها فقط
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص 25.
(2) انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص، 356وانظر سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1233هـ)، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض (د. ت)، ص، 76وكذا عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي، اعتقاد الإمام ابن حنبل (د. ت)، ص 301
(3) حافظ بن أحمد حكمي (ت 1377هـ)، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، ج 2، ص 602.
(4) الكشاف، ج 3، ص 26.(1/246)
ومحلا لقدرة الله سبحانه ليس إلا مبرزين أن الكسب هو أن يكون الفعل بقدرة محدثة فكل من وقع منه الفعل بقدرة فهو فاعل خالق ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب ذلك أن فعل الله في التحقيق هو خلقه. أما ما أضيف إلى عبده ففعله وكسبه في معنى فعل العبد لفعله حقيقة باختيار وقدرة لها تأثير في مقدورها (1). وفي قوله عز وجل: {قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدََائِنِ حََاشِرِينَ}
[الشعراء: 36] يذكر وهو يفسر الآية الكريمة خلاف المعتزلة مع المرجئة في عدم قطعهم بوعيد الفساق مرجئين الحكم لله تعالى. أما هم فجعلوا له حكما بين حكم كل من المؤمن والكافر (2) وقد انطلق المصنف من اللغة ليثير المسألة إثر ذلك قائلا: «يقال أرجأته وأرجيته إذ أخرته ومنه المرجئة وهم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون هم مرجئون لأمر الله» (3). أما في الآية: {وَجَعَلْنََاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النََّارِ وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ لََا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41] فخرّج تفسيره بالتأسيس على القياس اللغوي مفسرا (جعل) بمعنى (دعا) لا (صيّر) الذي يفهم منه أنه خلق ذلك لهم مما لا يقولون به (4) لذا قال: «قلت معناه ودعوناهم أئمة دعاة إلى النار وقلنا إنهم أئمة دعاة إلى النار، كما يدعى خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة. وهو من
__________
(1) الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 539، 566والماتريدي (ت 331هـ)، كتاب التوحيد، ج 1 ص 228، وابن تيمية (ت 728هـ)، منهاج السنة النبوية، ج 1، ص 459، ج 1، ص، 109كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة، ج 8، ص، 404والإيجي (ت 756هـ)، المواقف في علم الكلام، ج 2، ص، 119ومرعى بن يوسف بن أبي بكر (ت 1033هـ)، رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، تحقيق أسعد محمد المغربي، دار حراء، مكة المكرمة، ط 1، 1410هـ، ص، 39وكذا د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 246وما بعدها. وكذا نوران الجزيري قراءة في علم الكلام الغائبة عند الأشاعرة، ص 159فما بعدها.
(2) هو صاحب المنزلة بين المنزلتين كما مر في غير هذا الموضع: كفّره الخوارج وهو مؤمن عند المرجئة أخّروا حكمه لله تعالى. ومنافق عند الحسن البصري وعمرو بن عبيد. وهو فاسق عند واصل بن عطاء الذي تبعه فيه عمرو بن عبيد. وتبعا لهذه التسمية أخروا حكمه. وقد خلده المعتزلة في النار. انظر العقيدة الواسطية، ص 39، 40والعقيدة الأصفهانية، ص 85.
(3) الكشاف، ج 3، ص 112111.
(4) قال فخر الدين الرازي في الآية: 73من سورة الأنبياء والآية: 41من سورة القصص في اللفظ (جعل) على الأساس اللغوي: = وجعل الشيء شيئا أخر، عبارة، عن تحصيل تلك الصفة فيه. يقال: فلان جعل هذا الثوب أسود أو أبيض أي حصّل فيه صفة السواد وصفة البياض فكذا هاهنا: المراد من جعلهم أئمة الهدى وأئمة النار خلق صفة الهدى وصفة الضلال فيهم = القضاء والقدر، ص 147.(1/247)
قولك جعله بخيلا وفاسقا إذا دعاه وقال: إنه بخيل وفاسق، ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلا وفاسقا، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلََائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبََادُ الرَّحْمََنِ إِنََاثاً} [الزخرف: 19] معنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي» (1).
واللطف هداية عند المعتزلة يقصدون به وجه التيسير إلى فعل الخير والطاعة واجتناب الشر والمعصية، وهو ليس قسرا خارجيا على الإنسان الفاعل بقدر ما هو تذكير بطاعة يعلم الله أن العبد يفعلها دون أن يخرج عن متناول قدرته أنه ضرب من التوفيق والعصمة لا يقع من الله على سبيل الإيجاب بل لإتمام معنى التكليف الذي غرضه منفعة العباد ومصلحتهم (2) ولا يمنحه عز وجل الضالين، ترك هدايتهم وتسديدهم لعلمه بأنهم لا يهتدون لذا ذهب المصنف في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مََا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ كََاذِبٌ كَفََّارٌ} [الزمر: 3] إلى أن «المراد بمنع الهداية منع اللطف تسجيلا عليهم «بأن لا لطف لهم وأنهم في علم الله من الهالكين» (3). وهكذا فسر الهداية باللطف على غير ما ذهب إليه غيره من أهل السنة الذين أخذوا اللفظ بظاهره لاعتقادهم أن المؤمن من خلق الله تعالى الهدى فيه وبأن الكافر من خلق فيه الكفر مع جواز أن يخلق فيه لطفا يؤمن عنده (4).
ويفسّر الأمر في قوله عز وجل: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحََابِ النََّارِ}
[الزمر: 8] بأنه ترك لأجل المبالغة في الخذلان الذي اختلفوا في مدلوله فرآه بعضهم ترك الله إحداث الألطاف ورآه آخرون منهم ترك التسمية بأنهم مخذولون أو هو عقوبة عند آخرين (5). قال في الآية المذكورة بأنه: «من باب الخذلان
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص 180.
(2) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 313، 325وإمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 105ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 133.
(3) الكشاف، ج 3، ص 386.
(4) الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ج 1، ص، 328وابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 3، ص 387386.
(5) م ن، ج 1، ص 328.(1/248)
والتخلية إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك وتؤمر بتركه مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمر به» (1).
وينزع منزع التفسير البياني تنزيها لله تعالى عن التجسيم في الآية: {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 7] «ثم نبّههم على عظمته وجلال شأنه على طريقة التخييل فقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ}
والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز» (2).
والله عز وجل عند المعتزلة قادر لذاته بلا قدرة. أما الإنسان عندهم فقادر بقدرة لذا قال المصنف إقرارا لذاك عند الآية: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكََانُوا بِآيََاتِنََا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15] مازجا بين التوجيه اللغوي والعقلي: «فإن قلت: القوة هي الشدة والصلابة في البنية وهي نقيضة الضعف، وأما القدرة فما لأجله يصح الفعل من الفاعل من تميز بذات أو بصحة بنية وهي نقيضة العجز. والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوة إلا على معنى القدرة فكيف صح قوله: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وإنما يصح إذا أريد بالقوة في الموضعين شيء واحد؟ قلت: القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوة والشدة والصلابة في البنية وحقيقتها زيادة القدرة، فكما صحّ أن يقال الله أقدر، منهم جاز أن يقال: أقوى منهم على معنى أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم» (3).
ويوظف الكناية من المحسنات البيانية نفيا للتجسيم والمماثلة في الآية: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً وَمِنَ الْأَنْعََامِ أَزْوََاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ}
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص 390389.
(2) الكشاف، ج 3، ص 408.
(3) الكشاف، ج 3، ص 449448.(1/249)
{الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] قال في {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تقول العرب: «مثلك لا يبخل فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه، ونظيره قوله للعربي: العرب لا تخفر الذمم كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر، ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه يريدون إيفاعه وبلوغه () فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قول ليس كالله شيء وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الآية) إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها. وكأنهما عبارتان متعقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته» (1). فلا شيء يماثله من خلقه ولا يقاس بشيء من بريته، ولا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس، كان قبل الأمكنة ويكون بعدها، خالق كل شيء، ولا شريك له عز وجل، ولا تدل مشاركة العباد له في التسمية على مماثلته سبحانه لأن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
قطع للتشبيه (2) فلا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
ويوظف الطريقة اللغوية في التفسير تأكيدا لمراده في معنى الإحباط في الآية {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمََالُكُمْ} [الحجرات: 2]: «حبجت الإبل إذا أكلت العرفجة فأصابها ذلك. وأحبض عمله مثل أحبطه، وحبط الجرح وحبر إذا غفر وهو نكسه وتراميه إلى الفساد، جعل العمل السيئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض لمن يصاب به» ثم قال: «أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال. وقد دلت الآية على أمرين هائلين: أحدهما أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله.
والثاني أن في آثامه ما لا يدري أنه محبط.
ولعله عند الله كذلك فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقّى ويتحفّظ» (3).
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص 463462.
(2) انظر الغزالي أبو حامد، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، ص 48، 52وكذا ابن قيم الجوزية، شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص 130، وكتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص، 90وكذا سليمان بن عبد الله بن محمد، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص 677.
(3) الكشاف، ج 3، ص 557.(1/250)
وينطلق من اللغة ليصل على أن الاسم هو التسمية وليس المسمى كما هو عند أهل السنة (1) وذلك في لفظ (الفسق) في الآية {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمََانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} [الحجرات: 11] قائلا: «الاسم هاهنا بمعنى الذكر من قولهم طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم كما يقال: طار ثناؤه وصيته. وحقيقته ما سما من ذكره وارتفع بين الناس ألا ترى إلى قولهم أشاد بذكره» ثم قال:
«كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق» (2).
لقد وجّه الذم إلى ارتفاع التسمية بالفسق من المؤمن مبرزا بأنه كان من شتائمهم لمن أسلم من اليهود لينهي الأوجه التي ذكرها في ذلك مقرا بأن الفاسق ليس بمؤمن. ولا يخفى ما في هذا من فكره الاعتزالي المعروف في المنزلة بين المنزلتين (3).
وقوله في الآية: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 5] (وحقت): «من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به: يعنى وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع» ثم قال: «ومعناه الإيذان بأن القادر يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك» (4). قال القاضي عبد الجبار: «والأصل في ذلك أن تعلم أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل ويكون قادرا فيما لا يزال ولا يجوز خروجه عنها لضعف أو عجز وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات، ومن كل جنس على ما لا يجوز خروجه عنها لضعف أو عجز وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات ومن كل جنس على ما لا يتناهى وأنه لا ينحصر مقدور لا في الجنس ولا في العدد» (5).
__________
(1) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، الباب التاسع عشر، فصل 383، ص 227.
(2) الكشاف، ج 3، ص 567.
(3) م ن، ج 3، ص، 567انظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 9، ص 518، والألوسي، روح المعاني، ج 26، ص 155.
(4) الكشاف، ج 4، ص 234.
(5) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 96.(1/251)
والفاسق أعلى درجة في خلوده مع الكافر في النار صرح به قائلا على سبيل اللغة عند الآية {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى: 11] (الأشقى): الكافر لأنه أشقى من الفاسق أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1).
ويجعل المعتزلة الفعل (أحسن) من قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}
[السجدة: 7] مشتقا من (الحسن) وليس من (الإحسان) لأن في أفعال الله تعالى ما لا يكون إحسانا كالعقاب (2)، ويقرّ الزمخشري ذلك في تفسيره قائلا: «أحسن كل شيء: حسنه لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وقيل: علم كيف يخلقه من قوله: قيمة المرء ما يحسن وحقيقته بحسن معرفته: أي يعرفه معرفة حسنة بتحسين وإتقان» (3) وهذا ينسجم كذلك مع ما يذهبون إليه في نفيهم أن يكون في فعله عز وجل تفاوت في الحكمة من قبح وحسن وإنما يؤكدون أن أفعاله كلها حسنة. وعلى هذا الأساس يصلون إلى منع أن تكون أفعال العبد فعلا له لأنها تشتمل على الحسن والقبيح. ولكن الذي نفهمه من تفسير الزمخشري أيضا هو أن المعتزلة لا ينكرون التفاوت في مخلوقات الله من طول وقصر وكبر وصغر. وهم يختلفون مع الأشاعرة الذين وجهوا الآية الكريمة إلى معنى الخبر بأن الله عز وجل أخبر بأنه يعلم كيف يخلق الأشياء دون معنى المدح الذي يؤكده السياق: {ذََلِكَ عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 6] الذي ذهب إليه المعتزلة لذا قال الأشعري في الآية: «معنى ذلك أنه يحسن أن يخلق كما يقال فلان يحسن الصياغة أي يعلم كيف يصوغ فأخبر الله تعالى أنه يعلم كيف يخلق الأشياء» (4).
__________
(1) الكشاف، ج 4، ص، 244وابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 4، ص 263.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 49.
(3) الكشاف، ج 3، ص 241.
(4) اللمع، ص، 85وكذا القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص، 49وكذا د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، ص، 236.(1/252)
ويحمل الزمخشري الغي على التكليف في قوله عز وجل: {قََالَ فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرََاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] لأنه يعتقد على مذهبه في إطار قاعدة التحسين والتقبيح والصلاح والأصلح أن التكليف كان سببا في خلق الغي النفسي لأقعدن، وبهذا جعل إبليس هو الفاعل على الحقيقة. أما إسناده إلى الله تعالى فمجاز. وهو حين يجعل التكليف من جملة الأفعال فإنما هو لإقرار خلفية اعتزالية أخرى تخص كلام الله الذي يراه محدثا من جملة أفعال الله عز وجل لا صفة من صفاته، وقد رأينا في غير هذا المقام مسألة خلق القرآن عندهم. وعلى هذا فالتكليف من الكلام. أما صلة هذا بمبدإ توجيهه اللغوي في التفسير خدمة لأصول مذهبه فيدل عليه أنه لما كان الغي فسادا فإنّ الله سبحانه لا يفعله لذا قال: «وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل إذا بشم والبشم فساد في المعدة» (1).
وأنت تجده في قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَهَدَى النََّاسَ جَمِيعاً} الرعد: 31] يجعل المعنى اللغوي للفعل (ييأس) هو معنى العلم لأن المعنى الظاهر للفظ يعارض مراده في التنزيه فيقول مؤسسا تفسيره على الاستشهاد باللهجات والشعر العربي وكذلك القراءات: «ومعنى أفلم ييأس: أفلم يعلم. قيل هي لغة قوم من النخع، وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه لأن اليائس عن الشيء ما علم بأنه لا يكون كما استعمل الرجاء في معنى الخوف والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك. قال سحيم وثيل الرياحي:
وأقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني ... ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم؟
يدل عليه أن عليا وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا: أفلم يتبيّن. وهو تفسير. «أفلم ييأس» (2).
ويقول في لفظ (الكرسي) من قوله عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] «الكرسي ما يجلس عليه ولا
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 70.
(2) الكشاف، ج 2، ص 360.(1/253)
يفضل عن مقعد القاعد وفي قوله: (وسع كرسيه) أربعة أوجه: أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد كقوله: {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] من غير تصور قبضة وطي ويمين وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي ألا ترى إلى قوله:
{وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، والثاني: وسع علمه، وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم. والثالث: وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك. الرابع: ما روي أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السماوات والأرض وهو إلى العرش كأصغر شيء» واستند في هذا إلى النقل مضيفا: «وعن الحسن الكرسي هو العرش» (1) لذا فالزمخشري يذهب إلى أن الذين يتصورون الله سبحانه مثل تلك التصورات المجسمة لا يقدرون الله حق قدره.
والآية: {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا وَهَبْ لَنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهََّابُ} [آل عمران: 8] يؤخذ من ظاهرها أن الله عز وجل يقود قلوب العباد إلى الشر وبأن إرادة الخير نتيجة لهدايته وهذا يخالف معتقد الزمخشري في أن الله منزه عن فعل الشر وبأن العبد هو الذي يخلقه لذا استعان بإضافة توضح المراد في إطار مذهبه قائلا: «لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا» ثم أضاف «أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا» (2) وهو يقوم بمثل هذا التوضيح في كل آية يفترض فيها أن الله سبب مباشر لفعل الشر مانعا ذلك بما ينسجم مع أصول المعتزلة ومنه ما ذهب إليه في قوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً} [المائدة:
41] فحتى يظهر أن الفتنة ليست صادرة عن الله سبحانه باعتبارها حسب معتقده فعلا قبيحا لا يصح أن يفعله الله وجّه المعنى على أنه «تركه مفتونا وخذلانه» (3)
بإضافة أبعدت الاشتباه وقربت الدلالة مما يعتقده.
__________
(1) م ن، ج 1، ص 386385.
(2) الكشاف، ج 1، ص 414413.
(3) م ن، ج 1، ص 614613.(1/254)
ثانيا: التأويل بالإعراب (النحو)
ركز المعتزلة في الدفاع عن الإسلام على أساسين مهمين: الفلسفة واللغة. لم يقصدوا بحث الفلسفة لذاتها في أول الأمر وإنما طلبوها لأنهم لاحظوا تمكّن خصومهم ومعارضيهم من العلوم العقلية وإتقانهم للجدل والمناظرة فأدركوا بأنه لكي يغلبوهم في الاحتجاج والبرهنة في المسائل المثارة والقضايا المطروحة للنقاش، لا بدّ أن يحذقوا درس الفلسفة ويتمكنوا من استيعاب مسائلها وإتقان مناهج التفكير فيها وأدوات جدلها وتعزيز آرائهم بها لأن الاعتماد على النقل وحده غير كاف في إقناع الخصوم، وغير كاف في إلزامهم الحجة ما لم يؤسسوه على نظر عقلي قائم على أدلة تعضدها، وتبرز صحتها. وهكذا طلبوها فكانوا أبرز المتكلمين في الإسلام. خلّد التاريخ مسعاهم لأنهم أنجزوا ما كان الدين آنذاك في أمسّ الحاجة إليه في الاستعانة بمنهج علم الكلام الذي استمدوه من الثقافة الإسلامية ودائرتها أولا وكذلك في الاعتماد على منهج الفلسفة وأدواتها التي خبروها لاحقا من الأمم التي سبقت إليها. وكان ذلك بهدف توضيح قضايا الدين وفضائله وتقريبه من العقول لتفهمه وتعتنقه الشعوب تباعا، فحققوا بذلك نهضته وانتشاره. ولما كان موقفهم في ذلك الخضم خطابيا ودعوة للدين حرصوا أيضا على حذق أداة الخطاب والتمرس باللغة وأساليبها وعلومها فحفظوا روائع الكلم قرآنا وشعرا فأضحوا بذلك وبما أتقنوه في الكلام والفلسفة يشكلون مدرسة تضم طبقة مثقفة واعية تقوم على علماء متبحّرين في علم الكلام وفي الأدب والتفسير وعلومه التي منها علم النحو. ولم ينكر أحد جلائل أعمالهم في إطار التفسير خدمة للقرآن وللدين في إطار أصولهم الخمسة التي التزموا بها التزاما تنزيها لله عز وجل وإقرارا لتوحيده وعدله. وكان من الطبيعي وهم الذين حذقوا النحو مع غيره من العلوم أن يوظفوه في تفسيرهم لأغراض أصولهم لذا تأوّلوا الإعراب واعتمدوا على تخريج التركيب لخدمة أفكارهم وتأييد أصولهم. ولنا في تفسير الزمخشري نماذج في هذه النزعة والتأويل.
يرى الزمخشري التسمية باسم الله في مستهل الفعل يعتدّ بها في شرعية الفعل لا في وجوده لأن وجود الفعل بحسب معتقده الاعتزالي راجع لقدرة العبد وهو
الذي بني عليه كلامه. قال: «فإن قلت: معنى تعلق اسم الله بالقراءة؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتابة في قولك: كتبت بالقلم. على معنى أن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يجيء معتدا به في الشرع واقعا على السنة حتى يصدّر بذكر اسم الله لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» (1).(1/255)
يرى الزمخشري التسمية باسم الله في مستهل الفعل يعتدّ بها في شرعية الفعل لا في وجوده لأن وجود الفعل بحسب معتقده الاعتزالي راجع لقدرة العبد وهو
الذي بني عليه كلامه. قال: «فإن قلت: معنى تعلق اسم الله بالقراءة؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتابة في قولك: كتبت بالقلم. على معنى أن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يجيء معتدا به في الشرع واقعا على السنة حتى يصدّر بذكر اسم الله لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» (1).
وعلى هذا خالف معتقد أهل السنة من جانبين الأول: أن الاسم عندهم هو المسمى. قال الباقلاني: «والذي يذهب إليه أهل الحق أن الاسم هو المسمى نفسه أو صفة متعلقة به» (2). والثاني: أن فعل العبد موجود بقدرة الله لا غير، بدليل العقل المبين أن الله عز وجل قادر على جميع الأجناس التي يكتسبها العباد وإذ ثبتت قدرته تعالى على فعل ما يكتسبه عباده على الوجه الذي يوجد عليه كسبهم وجب أنه قادر على نفس كسبهم فثبت بذلك أن أفعال الخلق مقدورة له فإذا وجدت كانت أفعالا له (3). وبدليل النقل في قوله عز وجل: {وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] لذا تكون استعانة العبد باسم الله اعترافا منه في أول فعله بأنه جار على يديه وهو محل له لا غير، وأن وجود الفعل فيه إنما هو بقدرة الله في أول كل ما يفعله (4).
ولا شك في أن الزمخشري نص على أن عدم التصدير بذكر (اسم الله) في مستهل الفعل يجعله مبتورا منقوصا للحديث المذكور لذا لزم ذكر اسمه تعالى في مبدإ الفعل لأجل التبرك والاستعانة التي تمثّل عنده طلب المعونة (5) سواء بذكر اسم خاص من أسمائه عز وجل مثل «الله» أم بذكر لفظ دال على اسمه كما هو في «باسم الله» فلفظ «اسم» هنا مضاف إلى «الله» أريد به اسمه تعالى ولم يذكر هنا أحد أسمائه الخاصة بل ذكر لفظ دال عليه مطلقا.
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 31.
(2) كتاب التمهيد، ص 227.
(3) انظر م ن، ص 303 (الباب السابع والعشرون). والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 338، 339وفخر الدين الرازي، القضاء والقدر، ص 57وما بعدها. ومحمد صديق حسن خان القنوجي، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 85، 86وكذا أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص 45.
(4) انظر ابن المنير، الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 1، ص 31.
(5) انظر الكشاف، ج 1، ص 62(1/256)
وحين شرح معنى تعلق اسم الله بالقراءة من قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
[العلق: 1] أسس فيما نرى لأفكار المعتزلة من طريق النحو من خلال علاقة أجزاء الكلم بعضها ببعض في ضوء الشاهد الذي اعتمده في أن تعلّق اسم الله بالقراءة كتعلق القلم بالكتابة في جملة (كتبت بالقلم) ويمكن أن نفهم ميله الاعتزالي من خلال أن الباء هاهنا حرف جرّ دال على معنى الاستعانة متعلق مع مجروره بما سبقه (كتبت) فالقلم حسب المعنى أداة استعين بها لكن فاعل الكتابة هو ضمير الرفع المتحرك العائد على المتكلم صحيح أنه لم يقل في الباء غير ما ذهب إليه كل النحاة واللغويين ولكننا نعتقد من هذا فيما يظهر أنه تمثيل يصب في أحد أصول الاعتزال وهو ما يؤكده قوله اللاحق: «أن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يجيء معتدّا به في الشرع واقعا على السنة حتى يصدّر بذكر الله» فهو قياس يتضمن خلفية مذهبه الذي يقرّ فيه قدرة العبد على إيجاد الفعل ومن أنه ليس لذكر اسم الله تعالى في مستهل الفعل إلا الاعتبار في شرعية الفعل لا في وجوده.
وقد ذكر القرطبي (ت 671هـ) ما ذهب إليه العلماء في أن (باسم الله) فيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول: إن أفعالهم مقدورة لهم وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله تعالى أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك فمعنى (باسم الله) أي (بالله) ومعنى (بالله) أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. ورأى بعضهم أن معنى قوله (باسم الله) معناه بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته وهو تعليم الله تعالى عباده ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها ليكون الافتتاح ببركته (1).
وبعد أن ذكر معنى الحمد في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلََّهِ} [الفاتحة] وإعرابه وما يتعلق بهما، شرع في تحديد معنى اللام الداخلة عليه فبيّنه بطريق السؤال والجواب منجذبا إلى اختيار دلالته على الجنس لا على الاستغراق وهو اختيار مبني على خلق الأفعال على طريقة المعتزلة قائلا: «فإن قلت: ما معنى التعريف فيه. قلت:
هو نحو التعريف في أرسلها العراك. هو تعريف الجنس، ومعناه الإشارة إلى ما
__________
(1) انظر ابن خالويه (أبو عبد الله الحسين بن أحمد، ت 370هـ)، إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم، ص، 25وكذا تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1965م، ج 1، ص 98.(1/257)
يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال، والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم» (1).
قال ما معنى التعريف ولم يقل ما معنى اللام لينبّه على أنّ اللام للتعريف بالاتفاق رغم وقوع الاشتباه في معنى التعريف فنصّ على أنه مثل التعريف الملحوظ في قول الشاعر لبيد:
فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال
وهو مثال مشهور يبعد عن توهم أن تكون اللام للاستغراق فقد أشار إلى هذا إلى أن القدر المشترك بين التعريف في (الحمد) وفي (العراك) مسمى بتعريف الجنس وبيّن أن تعريف الجنس إنما هو الإشارة إلى حضور الماهية في الذهن وتميّزها فيه عن سائر الماهيات ومن أن النكرة وإن دلت على ماهية معقولة متميزة في الذهن وحاضرة عنده إلا أنها لا تتوفر على إشارة فيه إلى تعيّنها وحضورها، ولكن إذا عرفت بلام الجنس فقد أشير فيه إلى التعيّن والتمييز والحضور. يذكر أن كثيرا من الناس يتوهمون أن تعريف الجنس هو الاستغراق (2) وبطلان ذلك واضح لأن معنى التعريف الإشارة إلى المعرفة والحضور ولا يعدّ هذا من الإحاطة والاستغراق في شيء (3).
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 49.
(2) أل الجنسية إما لاستغراق الأفراد وهي التي تخلفها «كل» حقيقة قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسََانُ ضَعِيفاً}
[النساء: 28]. وإما لاستغراق خصائص الأفراد فتخلّفها «كل» مجازا كقولك: زيد الرجل علما أي الكامل في هذه الصفة، ومنه قوله عز وجل: {ذََلِكَ الْكِتََابُ} [البقرة: 1]. وإما التعريف الماهية وهي التي تخلفها «كل» لا حقيقة ولا مجازا نحو قوله تعالى: {وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].
وقولك: والله لا أتزوج النساء أو لا ألبس الثياب، ولهذا يقع الحنث بالواحد منهما. ويقول البعض في هذه: إنها لتعريف العهد لأن الأجناس أمور معهودة في الأذهان متميز بعضها عن بعض، ويقسم المعهود إلى شخص وجنس. والفرق بين المعرف بأل هذه وبين اسم الجنس النكرة هو الفرق بين المطلق والمقيد لأن الألف واللام هذه دال على الحقيقة بقيد حضورها في الذهن أما اسم الجنس النكرة فيدل على مطلق الحقيقة لا باعتبار قيد.
نظر ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج 1، ص 93، 94وكذا شرح قطر الندى وبل الصدى، ص 125124.
(3) انظر حاشية الشريف على بن محمد بن علي السيد زين الدين أبي الحسن الجرجاني، هامش الكشاف، ج 1، ص 50.(1/258)
ويشهد على ذلك تحقق الاستغراق بالنفي في قولك: لا رجل، والإثبات في قولك: تمرة خير من جرادة. ليس معه تعريف أصلا.
إن تحقيق الكلام في معنى التعريف مطلقا هاهنا هو الإشارة إلى أن مدلول اللفظ معهود أي معلوم متعيّن حاضر في ذهن السامع يدل على هذا ما فسّر به الزمخشري تعريف الجنس فيما سبق.
والذي ينقل عنه أن (ال) لا تفيد سوى التعريف والإشارة والاسم لا يدل إلا على مسماه، وفهم المعاني من الألفاظ يكون بمؤازرة الوضع والعلم به فإذا دل الاسم على معنى فلا يخلو من إحدى اثنتين: إما أن يكون دالا على معنى معين وإما أن يكون دالا على غير معين.
فالأول يسمى معرفة والثاني نكرة ثم الإشارة إلى تعيين المعنى وحضوره فإن كانت بجوهر اللفظ سميت علما يكون جنسيا إن كان المعهود الحاضر جنسا وماهية مثل أسامة. وإما شخصيا إن كان فردا منها مثل: زيد، أو أكثر مثل: أبانين، وإلا فلا بد من شيء خارج عنه يشار به إلى ذلك مثل الإشارة في أسماء الإشارة، وكقرينة التكلم والخطاب والغيبة في الضمائر وكالنسبة في الموصولات والمضاف على المعارف وكحرف اللام والنداء في المعرفات بهما.
فإذا دخلت اللام على اسم فإما أن يشار بها إلى حصة معينة من مسماه فردا كان أم أفرادا مذكورة تحقيقا أو تقديرا، وتسمى لام العهد ونظيره العلم الشخصي.
وإما أن يشار بها إلى مسماه ويسمى لام الجنس وحينئذ إما أن يقصد المسمى من حيث هو كما في التعريفات نحو: الرجل خير من المرأة.
وتسمى أيضا اللام التي لبيان الحقيقة والطبيعة أو التي لبيان الماهية. وتسمّى لام الاستغراق ونظيره كلمة كل مضاف على النكرة. وتسمى لام العهد الذهني (1).
لقد نص الزمخشري أن (ال) لا تفيد إلا التعريف والإشارة ومن أن الاسم لا يدل إلا على مسماه وعليه ليس ثمة استغراق. أراد أن ليس هاهنا استغراق هو
__________
(1) انظر ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج 1، ص 93، 94وكذا شرح قطر الندى وبل الصدى، ص 125124(1/259)
مدلول الاسم أو (ال)، ولم يقصد أنه لا استفادة له من الأمور الخارجية وما اقتضاه المقام.
وجعل (الحمد) محمولا على الجنس دون الاستغراق لأنه اقتصر هنا على ذكر جنس الحمد وامتيازه من بين أجناس الأفعال. وهو لم يتعرض لشموله وإحاطته لأفراده، وبذلك استأنس باختياره الجنس على الاستغراق وهو اختيار مبني على خلق الأفعال على طريقة المعتزلة لأن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم كانت المحامد التي عليها راجعة إليهم فلا يصح أن تجعل المحامد كلها مختصة بالله تعالى لأن اختصاص الجنس به عز وجل يستلزم عندهم اختصاص أفراده أيضا.
لقد خصص جنس الحمد لله عز وجل بناء على أن الأفعال الحسنة، التي يستحقون بها الحمد إنما هي عند المعتزلة بتمكين الله تعالى (1) وإقداره عليها إذ يمكن من هذه الناحية جعل الحمد راجعا إلى الله تعالى أيضا وقد ذكر هذا في قوله عز وجل:
{يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1] قال:
قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد وذلك لأن الملك على الحقيقة له لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه وكذلك الحمد لأن أصول النعم وفروعه منه» (2).
بيد أنه تساءل أمام الداعي إلى خلق العباد الذين يفعلون الكفر والقبيح وقد سبق في علمه عز وجل منذ الأزل بأنه إذا خلقهم لم يفعلوا غير ذلك؟ وهل ثمة فرق بين خلق القبيح وخلق فاعله؟ أليسا شيئا واحدا؟ يجيب بأن الله حكيم عالم يقبح القبيح وعالم بغناه عنه وبأن أفعاله عز وجل كلها حسنة وبأن خلق فاعل القبيح فعله فلزم أن يكون فعله سبحانه حسنا وذا وجه حسن، وإن خفاء وجهه الحسن علينا لا يطعن في حسنه، ولا يقدح في حسن في أكثر مخلوقاته أيضا جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها (3).
فالإقدار على الأفعال الحسنة منه تعالى حسن والإقدار على الأفعال القبيحة ليس بقبيح بحسب علم الكلام. ويمكن جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى
__________
(1) انظر الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ص 152.
(2) الكشاف، ج 4، ص، 112وفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 227.
(3) انظر م ن، ج 4، ص 113.(1/260)
الكامل بمثابة كل الحقيقة من باب {ذََلِكَ الْكِتََابُ} [البقرة: 2] أي الكامل (1).
ويتبين هنا أن الحمل على الجنس دون الاستغراق إنما هو للمحافظة على المذهب وتكريس خلفيته غير أنه يحتمل النظر لأنه من الممكن حمله على الاستغراق دون الجنس أيضا وذلك بتنزيله تعالى محامد غيره منزلة العدم بالقياس إلى محامده.
ومن هنا قيل: إنه لا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في أنهما ينافيان في الظاهر طريقة المعتزلة، ومنافاتهما مدفوعة بأحد الوجهين المذكورين (2).
وأجرى المعتزلة الإيمان المعدى بالباء على طريقة أهل اللغة بمعنى التصديق ففي قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ}
[البقرة: 3] ذهب الزمخشري إلى أن تعدية الإيمان بالباء يتضمّن معنى الإقرار والاعتراف، وذكر في معناه اللغوي أنه يقول آمنه إذا صدقه (3).
لقد اتفق المعتزلة على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق ولذلك يقال:
فلان آمن بالله وبرسوله. أما الإيمان بمعنى أداء الواجبات فلا يمكن فيه هذه التعدية إذ لا يقال: آمن فلان بكذا إذا صلى وصام، وإنما يقال: آمن فلان بالله كما يقال:
صلى وصام لله. واتفقوا في ذكر الإيمان مطلقا غير معدّ على أنه منقول من معناه اللغوي الذي هو التصديق والإقرار إلى معان اختلفوا فيها:
أولها: أن الإيمان فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أم مندوبة أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات وهو ما قال به واصل بن عطاء وأبو الهذيل العلّاف والقاضي عبد الجبار.
الثاني: أنه فعل الواجبات دون النوافل وهو قول أبي علي الجبائي وابنه أبي هشام.
الثالث: أنه عبارة عن تجنب ما جاء فيه الوعيد وهو قول النظام (4).
__________
(1) انظر ابن هشام، مغني اللبيب، ج 1، ص 93.
(2) انظر حاشية الشريف الجرجاني، الكشاف، ج 1، ص 52.
(3) الكشاف، ج 1، ص 127126.
(4) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 329وما بعدها. وكذا فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 24.(1/261)
ويقف الزمخشري عند قوله تعالى: {وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] فيقول:
«وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الذي يستأهل أن يضاف إلى الله ويسمى رزقا منه» (1) تأول إسناد الرزق إلى الله عز وجل بمعنى لا يرزق الله تعالى إلا الحلال لأن المعتزلة يرون أنه لا يجوز على الله سبحانه أن يمكّن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ومن ثمة ذهبوا إلى أن «الحرام لا يكون رزقا» (2) لذا أسند الرزق هاهنا إلى نفسه ليؤذن بأنهم ينفقون الحلال المطلق فإن اتفاق الحرام لا يوجب المدح. وذم المشركين على تحريم بعضهم ما رزقهم الله تعالى بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرََاماً وَحَلََالًا قُلْ آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللََّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. ومن هذا قوله تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ} [طه: 131] «لا ينسب الله إلى نفسه إلا ما حلّ وطاب دون ما حرّم والحرام لا يسمى رزقا أصلا» (3).
أما الرزق عند أهل السنة فما صح الانتفاع به حلالا كان أم حراما إذ لما كان الله تعالى منفردا بالخلق والإماتة والإحياء كان منفردا بتولي الأرزاق بدليل قوله سبحانه: {اللََّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم: 40].
ومعنى يرزق الحرام عندهم يتأولونه بأنه تعالى يجعله غذاء للأبدان وقواما للأجسام
__________
ويتناول الإيمان عند الخوارج المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلا عقليا أو نقليا من الكتاب والسنة.
ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك صغيرا أو كبيرا فمجموعها عندهم الإيمان وترك كل خصلة منها كفر.
وذكر المحدثون في الإيمان وجهين: الأول: المعرفة إيمان كامل وهي الأصل، وكل طاعة بعد ذلك إيمان على حده ولا يكون شيء من هذه الطاعات إيمانا إلا إذا رتبت على الأصل الذي هو المعرفة ومن ثم قالوا: إن الجحود وإنكار القلب كفر ثم كل معصية بعده كفر على حدة. ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا بغير معرفة وإقرار، ولا شيئا من المعاصي كفرا دون جحود وإنكار. الثاني: الإيمان اسم لكل الطاعات وهو إيمان واحد، وعدّوا الفرائض والنوافل كلها من الإيمان وأن الذي ترك شيئا من الفرائض قد انتقص إيمانه ولكن تارك النوافل لا ينتقص إيمانه. ومنهم القائل: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل. وانظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص، 149وكذا الرازي فخر الدين، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 24.
(1) الكشاف، ج 1، ص 132.
(2) الرازي، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 30.
(3) الكشاف، ج 2، ص 560.(1/262)
لا على معنى التمليك وإباحة تناوله التي أجمع المسلمون على خلافه. وقد بنى المعتزلة نفيهم أن يكون الحرام رزقا لأن الله لا يرزقه الناس بل هم كاسبوه بأنفسهم وإنما يرزق الحلال لذا لا يكون الرزق عندهم إلا بمعنى الحلال والرزق لا يكون عندهم إلا بمعنى الملك (1) لكن أهل السنة أنكروا ذلك وتمسكوا بالتعليل الذي يظهر فيه إجماع الأمة على أن الطفل مرزوق بسبب ما يرتضعه من ثدي أمه وعلى أن البهائم من ولد النعم مرزوقة لما تتغذى به من لبنها وهي أيضا مرزوقة كلها لما ترتعيه من حشائش الأرض ونباتها وأن البهيمة والطفل لا يملكان ذلك مع كونه رزقا لهما لأنهم مجمعون على أن الرزق هو الغذاء وعلى أن العبيد والإماء مرزوقون وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين. وهم اتفقوا على أن لبن سائر النعم ملك لربها دون سخالها وبأن الرزق لو كان هو التمليك على ما قاله المعتزلة الذين يرون الملك عندهم بمعنى القدرة لكان الله تعالى مملكا الحرام من حيث كان مقدرا على تناوله وعلى أن يكون رازقا له بهذا المعنى (2).
وعلى هذا نصوا على أن الله الرازق حقيقة وأن رزق ابن آدم ليس إلا تجوّزا لأنه يملك ملكا منتزعا فلا خالق عند أهل السنة ولا رازق إلا الله (3) تصديقا منهم لقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3] وقوله: {إِنَّ اللََّهَ هُوَ الرَّزََّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وقوله: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا} [هود: 6].
اعتقد المعتزلة في العدل أن الله تعالى لا يريد الشر، ولا يأمر به، ولا يفعل القبيح، وأن أفعاله كلها حسنة ولا يخل بما هو واجب عليه (4) «ولا يكلف العباد ما لا يطيقون ولا يعلمون بل يقدرهم على ما كلفهم ويعلمهم صفة ما كلفهم
__________
(1) انظر الشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 322.
(2) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد (الباب الثلاثون)، ص، 328وكذا تفسير القرطبي، ج 1، ص 177، 178 وتفسير البيضاوي، ج 1، ص، 58وجاء في لسان العرب مادة (رزق): الأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأحداث وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم، ج 10، ص 115.
(3) انظر أحمد بن المنير، الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 1، ص 132، 133وكذا القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 178.
(4) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 77، ج 2، ص 3.(1/263)
ويدلهم على ذلك ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيي عن بيّنة» (1). أجمعوا على حرية العباد في خلق أفعالهم واختراعها ولكن الخلق هاهنا ليس لله عز وجل وإنما يقال فيه للعبد الموجد والمحدث ولا يسمى بالخالق لأن الخلق عار عن وجوه الخلل وهو في حق العبد محال (2). ولم ينفوا مع علم الله الأزلي إذ يرون الله عز وجل لم يزل عالما بكل ما يكون من أفعال خلقه كلها بمن يؤمن أو يكفر أو يعصي. قال الخياط (3): «إن الله جلّ ذكره لم يزل عالما بكل ما يكون من أفعاله وأفعال خلقه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء () فقد صح من علم منه أنه يكفر ويعصي في الحكمة كخلق من علم منه أنه يؤمن ويطيع إذا كان الأمر الذي حسن له خلق من علم منه أنه يؤمن ويطيع هو تعريضه لما يوصله إلى الخلود في جنات النعيم. وكفر الكافر ومعصيته وإساءته إلى نفسه لا تغيّر إحسان الله بل ترجع باللوم على الإساءة إلى من فعلها وهو الكافر العاصي، وترجع بالوصف بالإحسان والإنعام إلى فاعله وهو الله جل ثناؤه».
وذهب الزمخشري في حرية اختيار العبد لأفعاله متأولا الحرف «لعل» على معنى الإرادة عند تفسيره قوله عز وجل: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]: «خلقكم لعلكم تتقون لا يجوز أن يحمل على رجاء الله تقواهم لأن الرجاء لا يجوز على عالم الغيب والشهادة وحمله على أن يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد أيضا ولكنّ لعلّ واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف وركّب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير والتقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجّح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل» (4).
__________
(1) م ن، ج 1، ص 77.
(2) أنظر فخر الدين الرازي، القضاء والقدر ضبط نصه وصححه وعلق عليه محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1994م، ص 132131.
(3) الانتصار والرد على بن الراوندي، ص 178.
(4) الكشاف، ج 1، ص 231230.(1/264)
ولكنه يبني كلامه السابق على مذهب الاعتزال في موقفين: الأول مع معنى الحرف (لعل). والثاني: في معنى اختيار العبد لأفعاله.
لقد شاع في مباحث الإعراب في القرآن الكريم مبحث خاص للحرف (لعل) أنه حرف يفيد التوقع للترجي في المحبوب والإشفاق في المكروه. قال سيبويه: «إذا قلت: لعل زيدا ذاهب فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب» (1) وقال في أصلها: «لعل حكاية لأن اللام هاهنا زائدة بمنزلتها في لأفعلنّ ألا ترى أنك تقول:
علّك» (2) وبيّن أن «لعل وعسى: طمع وإشفاق» (3) فمن دلالتها على الترجي في المحبوب: لعل الله يغفر لنا، ودلالتها على الإشفاق في المكروه: لعل الله يغفر للمذنب ثم جاءت في كلام من يستحيل عليه الوصفان لأن الترجي للجهل بالعاقبة وهو محال على الله عز وجل وكذلك الخوف والإشفاق (4).
قال الزمخشري: «لعل للترجي أو الإشفاق تقول: لعل زيدا يكرمني ولعله يهينني، وقال الله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ} [طه: 44] و {لَعَلَّ السََّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17] ألا ترى إلى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهََا}
[الشورى: 17]. وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن ولكنه إطماع من كريم رحيم إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة لجري إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به () فمن ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم ورسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا (عسى ولعل) ونحوهما من الكلمات () فإذا عثر على شيء من ذلك منهم لم يبق للطالب ما عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب فعلى مثله ورد كلام ملك الملوك ذي العز والكبرياء» (5).
وإذا كان الزمخشري يريد أن علم الله محيط بكل شيء ومن كان كذلك فلا يجوز أن يقال فيه: «يرجو ويتوقع» فإنه فيما يبدو أنه يعد (لعل) هناك للتحقيق لا
__________
(1) الكتاب، ج 2، ص 148.
(2) م ن، ج 3، ص 332.
(3) م ن، ج 4، ص 232.
(4) انظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 4، ص 229.
(5) الكشاف، ج 2، ص 229.(1/265)
للإطماع انتصارا لمذهب المعتزلة في نفي الشر أو القبح عن الله تعالى الذي ينفيه السنيون أيضا لذا لم يجوّز أن «تحمل على رجاء الله تقواهم» (1) لأن الرجاء والإشفاق كليهما بمعنى التوقع أي التوقع الذي يتضمن الجهل وعليه فالحرف (لعل) من الله واجب التحقيق لأنه تعالى لا يجوز عليه الجهل الذي يتضمنه لفظ الرجاء فلا يتصور الرجاء هاهنا من المتكلم لأنه يستلزم عدم العلم بعواقب الأمور، والله تعالى منزّه من ذلك. ولما كان المعتزلة قد نفوا وفق مذهبهم الشر والقبح عن الله عز وجل فإن أي احتمال آخر غير تحقيق التقوى من قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) أو غير تحقيق الفلاح من قوله جل وعز:
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) أو {تَشْكُرُونَ} (3) هو شر وقبح وبسبب هذا فسروها بالإرادة أي لا بدّ من التقوى ولا بد من الفلاح دون أي احتمال آخر «لأن عندهم أنه تعالى لا يريد إلا الخير ووقوع الشر على خلاف إرادته» (5). ولم يذكر الزمخشري غير تعلق (لعل) ب (خلقكم) قال: «لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل» (6). بنى تفسيره هنا على خلفية الاعتزال التي تبدو واضحة في أن العبد مختار (7) وأن الله تعالى لا يريد منه إلا فعل الخير ولكن أهل السنة لم
__________
(1) م ن، ج 1، ص 230.
(2) انظر الآيات الكريمة في ذلك محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص 748747.
(3) م ن، ص 748747.
(5) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 89.
(6) الكشاف، ج 1، ص 231.
(7) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص، 35والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 115114، 339والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص، 57وابن المرتضى، باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، اعتنى بتصحيحه توما أرلناد، دار صادر، بيروت، ص، 6ودي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص، 87وزهدي جار الله، المعتزلة، ص، 100ود.
أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، ص 148.(1/266)
ينكروا هذا (1) فالوقاية على ضوء قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] محققة لأنها مبنية على العبادة التي إذا فعلها المرء يحصّل التقوى (2) فيحترز عن المضار. وليست العبادة هي الاحتراز عن المضار بل هي توجب الاحتراز وعبادة الله عز وجل فعل للاتقاء به عن عقابه، وإذا قيل: إن فعل العبادة نفسه اتقاء فذاك مجاز لأن الاتقاء مخالف للفعل الذي سبّبه بيد أن ارتباط أحدهما بالآخر مكّن من إجراء اسمه عليه (3).
ثم إن خلق المكلّفين إنما هو للتقوى وللطاعة لقوله سبحانه: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقد قيل: إن معنى الآية أن الله غني عن خلقه وهم مفتقرون إليه لقوله عز وجل: {مََا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمََا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] فكأن معنى الآية: وما خلقت الجن والإنس لينفعوني وإنما خلقتهم لأمرهم بعبادتي (4). قال الفخر الرازي في المعنى نفسه: كأن الله عز وجل أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض ونصّ على أنه تأويل مناسب لأصول الاعتزال (5).
وعلى هذا فاستعمال (لعل) هنا استعمال فاء السببية من ناحية أن تحقق السبب مرتبط بوجود سببه. ورأى المعتزلة في إطار ذلك أن الله تعالى لا يفعل بالعباد إلا ما هو أصلح لهم (6). أما أهل السنة ففسروا (لعل) بالطلب لما في الترجي من
__________
(1) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 301.
(2) يراد بالتقوى في الطاعة الإخلاص، ويراد في المعصية الترك والحذر. والعبادة فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه. انظر الجرجاني، التعريفات، ص 1607978.
(3) انظر فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، ج 2، ص 101.
(4) انظر إمام الحرمين عبد الملك ابن عبد الله الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، علق عليه وخرج آياته وأحاديثه الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1995م، ص 104.
(5) انظر مفاتيح الغيب، ج 2، ص، 101وكذا أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 1، ص 157156.
(6) انظر الخياط، الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 64، 65والأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص، 313والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص، 3وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص، 201وإمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 118والشهرستاني، الملل(1/267)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/268)
ورأى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضََّالِّينَ} من قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضََّالِّينَ} [الفاتحة:
6، 7] بدلا من (الذين أنعمت عليهم) «على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله» (1). يفهم من هذا أنه جمع بين الإيمان كاعتقاد وبين الإسلام كعمل زيادة إلى قوله: «على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإسلام» الدال على أن الإيمان متحد بالإسلام، ومشتمل على الأعمال فالنعمة المطلقة كما صرّح بها هي نعمة الإيمان اللصيقة بالإسلام المشتمل على الأعمال فهو يريد القول: إن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل فقوله:
«وهي نعمة الإيمان» مع قوله السابق له في تفسيره نفسه «أنعم الله عليه بنعمة الإسلام»، يدل على اتحاد الإيمان بالإسلام، وهذا يمثل أحد قواعد الاعتزال التي تربط ربطا صارما بين الإيمان والعمل إذ العمل عندهم جزء من الإيمان فجاء جمعه بينهما في تخريجه النحوي على البدل المطابق محققا الربط بين نعمة الإيمان كاعتقاد إسلامي ونعمة الإسلام كأفعال إسلامية، إذا ما اعتمدت في الحياة تقي من الغضب ومن الضلال، فصاروا متصفين بالجمع بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين نعمة الإسلام وما يختص به من تكاليف، والإيمان متحد بالإسلام مشتمل على الأعمال كما يعتقد المعتزلة (2).
والفرق بينهم وبين أهل السنة في هذه المسألة هو أن أهل السنة يرون أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن أتى كبيرة سمي مؤمنا فاسقا بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن أراد عز وجل عذبه بقدر ذنوبه، ومآله إلى الجنة، خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يرون أن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد، ولكن لا يزيد ولا ينقص فمن ارتكب كبيرة كفر عند الخوارج، وصار فاسقا عند المعتزلة لا
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 96.
(2) انظر حاشية الشريف الجرجاني، الكشاف، ج 1، ص 69.(1/269)
مؤمنا ولا كافرا بل هو في منزلة بينهما وهو في الآخرة خالد في النار، ولا ينال شفاعة. أما المرجئة فرأوا الإيمان إقرارا باللسان وتصديقا بالجنان لم يدخلوا العمل في أركانه لذا قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، وأن إيمان أفسق الناس كإيمان أتقاهم وأكملهم (1).
ولم يفت الزمخشري عند تفسير قوله تعالى: {وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[البقرة: 5] من أن يوظف تحليله للآية الكريمة ويستغل التركيب النحوي بما ينسجم مع معتقده المعتزلي الذي لا يفوز فيه أصحاب الكبائر بالشفاعة والنجاة من العقوبة ودخول الجنة، وبأنهم مخلدون في النار. قال: «فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوصيل الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم، ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا» ثم أشار بقوله:
«ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تستبق به كلمته» (2) إلى خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب.
وإذا كان كل شيء يجتلب بالأفعال ويطلب بها من نفع أو ضرر إلا ويقال له عندهم كسب، ويقال لمن وصل به إليه اكتساب قال في قوله تعالى: {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]. يدل اسم الإشارة (أولئك) بأن الوارد بعده هم المذكورون قبله أهل لاكتسابه وذلك للخصال المعدودة لهم (3). وقول الزمخشري: «أهل لاكتسابه» هو لأن الهدى والفلاح نتيجة الكسب (4).
__________
(1) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 385وما بعدها. وكذا محمد صديق حسن خان القنوجي، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 62، هامش 100، ص 80، 81وزهدي جار الله، المعتزلة، ص، 62وأحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص 62وما بعدها. والسيد سابق، العقائد الإسلامية، الفتح للإعلام العربي، القاهرة، 1992م، ص 69وما بعدها.
(2) الكشاف، ج 1، ص 148.
(3) م ن، ج 1، ص 141.
(4) انظر حاشية الشريف الجرجاني، هامش الكشاف، ج 1، ص 141.(1/270)
والمعتزلة ربطوا بين الكسب والفعل والإحداث والخلق، وبحثوا مسألة (1)
خلق الأفعال في أصل العدل، وهي ذات أهمية خاصة في فكرهم لكنها تتميز بالتعقيد، خاض فيها علماء الكلام خوضا بني على ثلاثة اتجاهات: مثّل الاتجاه الأول الجهمية أتباع جهم بن صفوان (ت 128هـ) بأن الأفعال لا تتعلق بنا، وإنما نحن كالأوعية لها (2). وهو الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وردّ الاستطاعات كلها (3). وقد ردّ أن يوصف الله سبحانه بوصف يمكن أن يوصف به خلقه كشيء وموجود وحي وعالم ومريد لأنه يقتضي التشبيه غير أنه أثبت كون الله عز وجل قادرا وموجدا وفاعلا وخالقا ومحييا ومميتا لاختصاص هذه الأوصاف بالله وحده (4). ومثّل الاتجاه الثاني المعتزلة الذين قالوا: «إن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها» (5). أما الاتجاه الثالث فقال بالكسب وهو أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، ومنسوبة من حيث الكسب للعبد.
وأصحاب هذا الاتجاه متمسكون بما في القرآن الكريم والسنة النبوية من نصوص هي أدلة نقلية على أن الله تعالى خالق كل شيء (6)، وإلى جوارها أدلة عقلية
__________
(1) بحث المعتزلة ضمن العدل مسائل أهمها: أأن الله يفعل لغاية هي إرادة الخير لخلقه. ب لا يفعل الله القبيح ولا يأمر به. ج إنّ الله لا يخلق أفعال العباد وأن الإنسان مختار في أفعاله، خالق لها لذا كان مثابا على الحسن معاقبا على القبح. انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 317، والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 2221171643. وفخر الرازي، القضاء والقدر، ص 41وما بعدها. والإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 312311وما بعدها. والمرتضى اليماني، إيثار الحق على الخلق، ص 311وما بعدها. ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 94.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص، 54والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص 338، 339وإمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 9089.
(3) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 212211.
(4) انظر م ن، ص، 212وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 3433، 35 والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 97، 98والمرتضى اليماني، إيثار الحق على الخلق ص، 313 ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 252ود. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 363وما بعدها.
(5) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 21وما بعدها.
(6) منها قوله عز وجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101]. {قُلِ اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ}
[الرعد: 16]. {هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3]. وقوله: {اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]. وقوله: {وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].(1/271)
تبرز وحدانية الله في كل شيء، وتكشف بأنه من غير المعقول أن يكون العبد خالقا لما اختاره من أفعاله لأن ذلك يجعله عالما بتفاصيلها، ولكنه يشعر من ذاته صدور أفعال اختيارية كثيرة منه كالمشي والمضغ إلخ من غير أن يعرف تفاصيلها ولكن وجدت نصوص أخرى في القرآن والسنة تنسب أعمال العباد إليهم، وفيها يعلن الله تعالى حبه ورضوانه للمحسنين، ويعلن غضبه للمسيئين منهم (1) فإن نظر الناظر لها يفهم بأنها ترد أعمال العباد إليهم تسندها كذلك أدلة عقلية شاهدة بعدل الله وحكمته فلو لم يكن العبد موجدا لما اختاره من أفعال لما كان ثمة وجه لاستحقاق المثوبة أو العقوبة لأنه كيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه (2). إذن مثلما تمسك أهل السنة بالنصوص الأولى تشبث المعتزلة بالنصوص الثانية وبما يعضدها من أدلة العقل للاحتجاج على ما أرادوه في خلق أفعال العباد.
أما أهل السنة فحملوا النصوص الأولى على الخلق وحملوا الثانية على الكسب جمعا بين الأدلة واختيار العبد للكسب، وهو مخاطب بالأمر والنهي مجازى على أفعاله بالثواب والعقاب لما في فعله واختياره من الكسب الاختياري لا لما لله فيهما من الخلق والتقدير السابق من غير تمييز للقدر المكسوب من القدر المخلوق والله لم يفعله على الوجه الذي فعله العبد لأنه محال في حقه، وإنما يسمى بأفعاله خالقا ومحسنا ومبتليا وحكيما (3).
__________
وغيرها. ومن السنة النبوية: «إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قدّر الله وما شاء فعل»: انظر الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن. ج 2، ص 313029.
(1) منها قوله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا} [فصلت: 46]. وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهََا} [الإسراء: 7]. وقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7].
وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] وغيرها. ومن السنة النبوية: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»: صحيح البخاري رقم، 4757ورقم 6679.
(2) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 339338. والزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص 3130.
(3) انظر تفسير الطبري، ج 1، ص، 380وتفسير البيضاوي، ج 3، ص، 345والزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص، 59وابن الوزير المرتضى اليماني، إيثار الحق على الخلق، ص 290، 291وانظر الألوسي، روح المعاني، ج 4، ص 10: ذكر الألوسي: من شرط التكليف القوة التي تؤثر عند انضمام الإرادة إليها، وذلك قبل الفعل والقدرة التي هي مع الفعل قدرة تستجمع شروط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها. وأشار بأنه بهذا جمع الإمام الرازي في الموقفين مذهب الأشعري الذي يرى بأن القدرة مع الفعل والمعتزلة الذين يذهبون إلى أنها قبله قائلا: لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة(1/272)
وقد ذهب الدارسون إلى أن القول بأن الإنسان فاعل على الحقيقة إبطال لنظرية الكسب التي تضيف الفعل إلى الله خلقا، وإلى العبد كسبا، وبعبارة أخرى أن «أهل السنة كلهم وافقوا على أن أفعالنا لا تسمى مخلوقة من حيث نسبت إلينا، وإنما تسمى بذلك من حيث نسبت إلى الله تعالى» (1) فخصوم المعتزلة يرون: أن العبد يكتسب ولا يفعل ويذهبون إلى أن الفعل من ناحية الخلق والإيجاد من الله تعالى ولكنه من ناحية كونه طاعة أو معصية فمن العبد (2)، ويفرقون بين فعل الخلق الذي هو لله سبحانه وبين الكسب الذي هو للعبد. وظاهر الخلاف في هذا بين المعتزلة وغيرهم لأن أهل السنة يجمعون أن الله تعالى خالق الأجسام والأعراض خيرها وشرها، وخالق أكساب العباد، ولا خالق غيره (3) بينما يرى المعتزلة أن الله تعالى لم يخلق شيئا من أكساب العباد لأن مجرد القول عندهم بالكسب يعدّ محاولة للهروب من القول بالجبر المطلق. فإذا كان جهم بن صفوان يعدّ الإنسان مسلوب القدرة لقوله: إن أفعال العباد غير متعلقة بهم، وإنما هم كالظروف لها غير مكتسبين ولا قادرين على أكسابهم، فإنّ الأشعري لا يختلف كثيرا عنه في الكسب لأنه رغم إثباته القدرة للإنسان فإنه لم يجعل لها أي أثر وهو جعل العبد محلا لقدرة الله لا غير. وبهذا جعل الأشاعرة تعلق الفعل بالعبد والحاجة إليه ليس الحدوث إنما الكسب فهم لا ينكرون تعلق الأفعال بالعباد واحتياجها إليهم بيد أنهم ينكرون أن تكون القدرة الإنسانية هي المؤثرة في الأفعال وفي هذا قال الأشعري: «وإنما معنى اكتسب الكفر: أنه كفر بقوة محدثة، وكذلك قولنا: اكتسب الإيمان: معناه أنه آمن بقوة محدثة من غير أن يكون اكتسب الشيء
__________
مع الفعل والمعتزلة الذين يذهبون إلى أنها قبله قائلا: لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشروط التأثير لذلك حكم بأنها مع الفعل، وأنها لا تعلق بالضدّين. بينما أراد المعتزلة بالقدرة مجرد القوة العضلية لذلك قالوا: بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة. قال الألوسي: وهو جمع صحيح.
(1) ابن الوزير المرتضى اليماني، إيثار الحق على الخلق، ص، 312ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 251.
(2) انظر م ن، ص 291.
(3) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 338.(1/273)
على حقيقته بل الذي فعله على حقيقته هو رب العالمين» (1) فعلى هذا رأى القاضي عبد الجبار أن الكسب أكثر ما فيه أنه لا يوجد إلا في محل قدرة العبد (2)
فتصبح القدرة بذلك عبارة عن صفة متعلقة بالفعل لا على معنى أنها مؤثرة، وفي ذلك نفي للتقدير المتحقق النابع من القدرة، ومنه ينتفي كون صحة الفعل دلالة على أننا فاعلون قادرون (3).
ومن أمعن النظر في معنى الكسب عند الأشاعرة أدرك توسطهم بين التقرب من مبدأ اختيار العبد للأفعال وبين ابتعادهم عما قال به الجبريون وهو مسعى توفيقي تلفيقي كما ذهب إليه بعضهم (4). وذلك لأنهم حاولوا جعل معنى «الكسب» بديلا للاقتدار الكلي من الإنسان على أفعاله لكن المعتزلة حسموا موقفهم من هذه النظرية بجعلهم الإنسان أصلا لأفعاله، وبأنه خالقها ومبدعها، وحددوا معنى الكسب في اللغة بأنه «كل فعل يستجلب به نفع أو يستدفع به ضرر» (5) لذا يسمي العرب ما يستجلب في الأفعال من منافع أو يستدفع بها من ضرر كسبا، وأن تلك الحرف مكاسب، وأن المتحرّف كاسب (6). ومن هنا ذهب بعضهم أن ما يجتلب به العباد ثواب الجنة أو عقاب النار كسب لهم (7).
ولعله من المهم أن نشير إلى أن الأشاعرة لم يقصدوا بالكسب (8) هذا المعنى اللغوي مثل ما ذكره القاضي عبد الجبار بل أرادوا به معنى اصطلاحيا سبق ذكره لهم.
وإذا كان من أهم حجج الأشاعرة للمعتزلة أن العبد لو كان فاعلا ومحدثا على الحقيقة لوجب أن يكون خالقا، وهذا حسب رأي الأشاعرة يهدم معنى الألوهية
__________
(1) كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ص، 74والبغدادي، الفرق بين الفرق، ص، 339وابن الوزير المرتضى اليماني، إيثار الحق على الخلق، ص، 312ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 252251.
(2) شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 65.
(3) أنظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 252251.
(4) انظر م ن، ص 254.
(5) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 54.
(6) م ن، ج 2، ص 54.
(7) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 252.
(8) «الكسب أن يخلق الله للقدرة الحادثة، وأنها لا تتعلق بفعل خارج عن المحل فلا يقدر زيد على فعل عمرو ولا يتصور اثنان هما محل لفعل واحد»: الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 151.(1/274)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/275)
فيه تفسير لعل بالإرادة وهو يتفق مع الفكر الاعتزالي الذي فسرت به هذه الآية والذي يرى أن الله تعالى بيّن أنّه إنما عفا عنهم ولم يؤاخذهم لكي يشكروا، وذلك يدل على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر. وقد خطأه بعض أهل السنة لتفسيره (لعل) بالإرادة لأنهم يرون مراد الله عز وجل كائنا لا محالة لذا لو أراد منهم الشكر لشكروا ولا بد (1)، وبأن التفسير الصحيح في (لعل) ما ذكره سيبويه قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ} [طه: 44] قال: الرجاء منصرف إلى المخاطب كأنه قال: كونا على رجائكما في تذكره وخشيته (2). وجملة لعل حالية أي حال كونكم مترجين. ولعلنا نفهم هذا فيما ذهب إليه الزمخشري في تفسير الآية السابقة: «والترجي لهما أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد ويحتشد بأقصى وسعه» (3). ورأى غيره أن المعنى هو «لتكونوا على رجاء الشكر لله عز وجل ونعمه، فينصرف الرجاء إليهم وينزّه الله تعالى» (4).
ويبدو أن الحرف (لعل) عند الزمخشري مستعمل استعمال فاء السببية من ناحية أن تحقق السبب إنما هو عند وجود سببه. ولم يحمل المعتزلة (لعل) في الآيات:
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أو {تَتَّقُونَ} أو {تَشْكُرُونَ}، وما ماثلها على عدم إرادة الفلاح أو عدم إرادة التقوى أو عدم الشكر لأن أي احتمال غير إرادة الفلاح أو إرادة التقوى والشكر هو شر وقبح والله تعالى لا يريد عندهم إلا ما هو أصلح للعباد ومن أن وقوع الشر على خلاف إرادته. لكن أهل السنة يذهبون إلى أن قدرة الله تتناول كل شيء ويفسرون ما جاء من الآيات السابقة بالطلب بما في الترجي من معنى الطلب والطلب غير الإرادة فكأنه قال: كونوا متقين أو مفلحين أو شاكرين لأنه يستحيل أن يقع شيء في الوجود على خلاف إرادته (5).
__________
(1) انظر فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، ج 3، ص 77.
(2) انظر الكتاب، ج 1، ص، 331وابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 281280.
(3) الكشاف، ج 2، ص 538.
(4) ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 281.
(5) انظر الزركشي، البرهان في علم القرآن، ج 2، ص، 89وكذا د. أحمد سليمان ياقوت، ظاهرة الإعراب في النحو العربي، وتطبيقها في القرآن الكريم، ص 197.(1/276)
وإذا كان سيبويه قد وضع (لعل) في بابها من الترجّي المصروف للمخاطبين وليس على الله سبحانه حين قال: «فالعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا أنتما في رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما» (1). فإن ابن الأنباري وجماعة من الأدباء قد جعلوا (لعل) بمعنى (كي) حتى حملوها على التعليل في كل موضع امتنع فيه الترجّي سواء كان من قبيل الإطماع كقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أو لا نحو: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، و {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وقد أشار الزمخشري إلى توجيه ما قالوه بأنهم لم يريدوا به أنها بمعنى كي حقيقة لأن أئمة اللغة لم يذكروا في بيان معناها الحقيقي إلا الترجي والإشفاق إذ تعذر دلالتها على التعليل لعدم وقوع كي بديلها وتعذّره وعلى هذا فقد أرادوا أن ما بعدها إذا صدرت على سبيل الإطماع من الكريم متحقق عقيب ما قبلها كتحقق الغاية عقيب ما هي سبب له فكأنها بمعنى كي. ويجري هذا التوجيه في لعل الإطماعية دون غيرها (2). وقد أورد أبو حيان (ت 754هـ) في قوله تعالى:
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]: «المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم لأن التقوى مصدر اتقى، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة» (3) فعلى هذا ليست العبادة نفس التقوى كما ذكر الزمخشري الذي بنى القول في هذا على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى، ولم يذكر غير تعلّق (لعل) بخلقكم حين قال: «لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبّدهم بالتكليف، وركّب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى فهو في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل» (4).
__________
(1) الكتاب، ج 1، ص، 331عند تفسيره قوله تعالى: {اذْهَبََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ (43) فَقُولََا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ} [طه: 4443].
(2) انظر الشريف الجرجاني، حاشية، هامش الكشاف، ج 1، ص 230.
(3) البحر المحيط في التفسير، ج 1، ص، 156وكذا تفسير الثعالبي (ت 875هـ)، ج 1، ص 37.
(4) الكشاف، ج 1، ص 231.(1/277)
وهذا التأويل الذي ذهب إليه الزمخشري يعزز خلفية اعتزالية هي أن العبد مختار، وأن الله تعالى لا يريد منه إلا الخير. وأضاف أبو حيان أن قوله تعالى:
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] متعلق بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، وأن الذي نودوا لأجله إنما هو الأمر بالعبادة لذا ناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلّقت به العبارة فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة. وأما صلته فلم يؤت بها لإسناد مقصود لذاته، وإنما جيء بها لتتميم ما قبلها (1). والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق لعل محبوبا كانت للترجي، وإن كان محذورا كانت للتوقع نحو قولك: لعلّ العدوّ يقدم.
والشكر والهداية من المحبوبات، فيلزم أن لا يعبر عن معنى لعل في قوله تعالى:
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52] و {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 53] إلا بالترجي من العبد لا من الخالق سبحانه (2).
وقد ذكر ابن هشام الأنصاري (ت 761هـ) أن جماعة منهم الأخفش والكسائي قد أثبتت المعنى التعليلي للحرف لعل، وحملوا عليه قوله تعالى: {فَقُولََا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ} [طه: 44]، ومن لم يثبت ذلك حمله على الرجاء وصرفه للمخاطبين أي اذهبا على رجائكما (3) وهو كما ذكرنا من قبل ترجّ للمحبوب وإشفاق من المكروه نحو: «لعل الحبيب قادم وهي تختص بالممكن، وقول فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبََابَ (36) أَسْبََابَ السَّمََاوََاتِ} [غافر:
36، 37]: قاله جهلا أو مخرقة وإفكا» (4)، ولها الدلالة على معنى الاستفهام الذي أثبته الكوفيون لذا علق به الفعل في قوله عز وجل: {لََا تَدْرِي لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]، وقوله: {وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكََّى} [عبس:
3] وقد أشربها الزمخشري (5) معنى (ليت) من قرأ: {فَاطَّلَعَ} [الصافات: 55].
__________
(1) انظر البحر المحيط في التفسير، ج 1، ص، 156وتفسير الثعالبي، ج 1، ص 38.
(2) م ن، ج 1، ص 327.
(3) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج 1، ص، 471وشهاب الدين أحمد بن محمد الهائم المصري (ت 815هـ)، التبيان في تفسير غريب القرآن، ج 1، ص، 65والرازي، مختار الصحاح (علل).
(4) م ن، ج 1، ص 471.
(5) انظر الكشاف، ج 1، ص 230، ج 3، ص، 341وكذا ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب،(1/278)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/279)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/280)
الشجرة وأراده وعكس ذلك أمر إبليس بالسجود ولم يرده فامتنع منه، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ولم يرده منه، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي مع أمته خمسين صلاة ولم يرد منه إلا خمس صلوات (1).
ولكن الزمخشري حين قال في تفسيره للآية السابقة: «فإذا قال اعبدوا ربكم الذي خلقكم للاستيلاء على أقصى غايات العبادة» (2) يدل كما ذهب إليه الشريف الجرجاني على أنه «جعل لعل للتعليل بمعنى كي» (3). وما يؤكد هذا ويوضحه هو ما أضافه بعد ذلك «أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه، فلا تشبهوه بخلقه» (4).
وهكذا ينفي ما كان أثبته قبل.
ويبدو من هذه الاستعمالات للحرف (لعل) في أواخر الآيات الكريمة أنه من أساليب القرآن الكريم الذي يقصد به كما ذهب إليه بعضهم (5) الحث والتحضيض على الشكر والاهتداء والتقوى والتذكر والرجوع إلى الله تعالى بأسلوب مرن ودود محبب للنفس يدعو إلى الطاعة ويغري بالاستجابة لهذه الدعوة. ونحن نعتقد أن هذا ينسجم مع ما يستعمله العربي في الواقع اللغوي خلافا لكثير من التأويلات التي ذهب إليها النحاة أو ما كانت تقول به بعض الفرق كالمعتزلة وأهل السنة.
وذهب إلى أن (هم) في قوله عز وجل: {وَمََا هُمْ بِخََارِجِينَ مِنَ النََّارِ} [البقرة:
167] بمنزلتها في قول (هم يفرشون اللبد كل طمرة) في الدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص (6) وهو بهذا ينتصر لفكر المعتزلة لأنه إذا لم يدل على الاختصاص لا يكون فيه رفض لنزعة مذهبه في أن الفاسق يخلد في
__________
(1) تفسير القرطبي، تحقيق أحمد بن عبد العليم البردوني، دار الشعب، القاهرة، ط 1، 1372هـ، ج 4، ص 219ج 7، ص، 223وتفسير البيضاوي، ج 1، ص 342، 390وابن الوزير المرتضى اليماني، إيثار الحق على الخلق، ص 250.
(2) الكشاف، ج 1، ص 232.
(3) الحاشية، الكشاف، ج 1، ص 232.
(4) الكشاف، ج 1، ص 236.
(5) انظر د. أحمد سليمان ياقوت، ظاهرة الإعراب في النحو العربي وتطبيقها في القرآن الكريم، ص 189.
(6) الكشاف، ج 1، ص 327.(1/281)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/282)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/283)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/284)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/285)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/286)
أن الآية الكريمة تقتضي امتناع أن يشاء الله إيمان الخلق بصيغة الكلية لكنه شاء ممن آمن لا ممن كفر لأن مقتضى لو الامتناع عمد إلى تقدير مفعول فقال: (ولو شاء ربك) «مشيئة القسر والإلجاء» (1) وبهذا أحال أن يكون الله عز وجل قد أراد إيمان العباد كلهم على سبيل القسر، وبأن المشيئة المرادة في الآية لم تقع (2).
وهو في قوله عز وجل: {بَقِيَّتُ اللََّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمََا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] يجعل البقية إلى الله من حيث إنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه بينما يمنع أن يضاف الحرام إلى الله سبحانه أو أن يسميه رزقا لذا قال: «ويجوز أن يراد: ما يبقى لك من عند الله من الطاعات خير لكم كقوله: {وَالْبََاقِيََاتُ الصََّالِحََاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} [الكهف: 46]، وإضافة البقية إلى الله من حيث إنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إلى الله. وأما الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقا (3). ومن هذا ما ذكره عند تفسير الآية: {وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]: «وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الذي يستأهل أن يضاف إلى الله ويسمى رزقا منه» (4).
ومعتقد أهل السنة هو أن لا خالق ولا رازق إلا الله لقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ يَرْزُقُكُمْ} [فاطر: 2]، وقوله: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا}
[هود: 6] فسّر إمام الحرمين معنى الرزق بأنّ كل ما انتفع به منتفع هو رزق له، ولم يفرّق بين كونه متعديا بالانتفاع أو غير متعد به فلزم عنده على هذا الأصل أن يكون الغصب رزقا للغاصب إذا انتفع به ولئن كان المعتزلة قد استنكروه فإنه نصّ مذهبه على أساس أن كل منتفع بشيء مرزوق به (5). وذهب ابن المنير في السياق نفسه إلى أنه إذا كان الرزق كل ما يقيم به العباد بنيتهم وجب دخول الحرام في هذا الإطلاق (6).
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 254.
(2) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 254.
(3) الكشاف، ج 2، ص 357286.
(4) م ن، ج 1، ص 132.
(5) انظر كتاب الإرشاد، ص، 146وكذا محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج 2، ص 51.
(6) انظر الإنصاف فيما يتضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 2، ص 286، ص 357.(1/287)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/288)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/289)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/290)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/291)
للزجاج تفسيره: أي ابتدعوها رهبانية كما تقول: رأيت زيدا، وعمرا كلمت.
وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة. والمعني على هذا: أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها، وفيها قراءتان: فتح الراء وهي الخوف من الرهب.
والثانية: ضم الراء منسوبة إلى الرهبان الذين حمّلوا أنفسهم المشقات ممتنعين عن المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع (1). ورأى بعضهم أن عطف (رهبانية) على ما قبلها وبأن (ابتدعوها) نعت لها بمعنى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتعدة من عندهم، أي: ووفّقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها (2).
ولا يقتصر المصنف على اعتماد الإعراب في إقرار الاعتزال، وإنما سعى إلى الاستعانة بالأساليب في تعزيز مراده المذهبي من ذلك ما ذهب إليه في توجيهه لأسلوب النفي عند الآية: {لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ (2) وَلََا أَنْتُمْ عََابِدُونَ مََا أَعْبُدُ (3) وَلََا أَنََا عََابِدٌ مََا عَبَدْتُّمْ} [الكافرون: 42]. قال: {وَلََا أَنََا عََابِدٌ مََا عَبَدْتُّمْ}: أي وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه: يعني: لم تعهد منّي عبادة صنم في الجاهلية فكيف ترجى مني في الإسلام؟ (3)، فقد حافظ على عدم اتّباع النبيّ لنبيّ سابق ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد تعبّد الله في غار حراء قبل البعث والوحي وعليه ألا يكون الزمخشري قد أخلّ باعتقاد المعتزلة الذي يذهبون فيه إلى أنّ الناس كلهم متعبدون بمقتضى العقل بموجب النظر في آيات الله وأدلة توحيده ومعرفته؟
وهل يمكن القول أن ذلك يحملهم إلى الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (4).
__________
(1) تفسير القرطبي، ج 17، ص 263.
(2) انظر تفسير أبي السعود، ج 8، ص 213.
(3) الكشاف، ج 4، ص 293292.
(4) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 4، ص 293292.(1/292)
الفصل الثانى
أولا التأويل بنص القرآن وبالقراءات والسماع.
ثانيا التأويل بالحمل على المجاز والتشبيه وتأويل التجسيم.(1/293)
ثانيا التأويل بالحمل على المجاز والتشبيه وتأويل التجسيم.
أولا: التأويل بنص القرآن وبالقراءات والسماع
اعتمد الزمخشري على القراءات لخدمة أصول المعتزلة. يظهر ذلك في قوله:
«وقرأ قتادة {وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ} [البقرة: 48] على بناء الفعل للفاعل وهو الله عز وجل ونصب الشفاعة» (1) ثم أضاف: «فإن قلت: هل فيه دليل على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة؟ قلت: نعم لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنها لا تقبل للعصاة» (2). وهذا الجزء الأخير من قوله أن يبيّن أنه يستند كذلك إلى نص القرآن الكريم في إقرار مذهب المعتزلة من خلال الآية: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48].
وهذا يوضح أن المعتزلة ذهبوا إلى أن الشفاعة لمن استحق الثواب (3) زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه لكنّ أهل السنة يخالفونهم لأنهم يرون تأثير الشفاعة في إسقاط العذاب عمن استحقوا العقاب إما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار، وإن دخلوها فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة، واتفقوا على أن الشفاعة ليست للكفار (4).
والمتمعّن في موقف المعتزلة من أهل الكبائر يجدهم قد خلّدوهم في النار «ولأجل ذلك نفوا الشفاعة فيهم ورموا رواة حديثها بطعان» (5)، وقد جاء إنكارهم مسندا إلى الآية السابقة في دلالتها على نفي الشفاعة. ولم يجد الزمخشري إلا أن
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 279.
(2) م ن، ج 1، ص 279.
(3) انظر م ن، ج 4، ص 187.
(4) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط 3، (د. ت)، ج 1، ص، 474وكذا م ن، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص، 347وكذا سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1233هـ)، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض (د. ت)، ج 1، ص 239238وما بعدها.
(5) أحمد بن إبراهيم بن عيسى (ت 1329هـ) توضيح المقاصد، وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم، تحقيق زهير شاويش، المكتب الإسلامي، بيروت (1406هـ)، ط 3، ج 1، ص 439438437.(1/295)
يعززه في تأويله. وأسسوا إنكارهم أيضا على قوله تعالى: {وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ}
[البقرة: 48]. وقد ذكر لهم الرازي أوجها استدلوا فيها على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر أحدها الآية السابقة. قالوا: إنها تدل على نفي الشفاعة من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله تعالى: {لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} الآية فلو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد أجزت نفس عن نفس شيئا.
الثاني: قوله عز وجل: {وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ}، وهذه نكرة في سياق النفي فتعم جميع أنواع الشفاعة.
الثالث: قوله سبحانه: {وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم شفيعا لأحد من العصاة لكان ناصرا له، وذلك على خلاف الآية (1).
وقد ذكر في هذا أن الأمة أجمعت «على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم شفاعة في الآخرة وحمل على ذلك قوله: {عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79] وقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ََ} [الضحى: 5] ثم اختلفوا (2) بعد هذا في أن شفاعته عليه السلام لمن تكون؟ أتكون للمؤمنين المستحقين الثواب كما ذهب إلى ذلك المعتزلة؟ أم تكون لأهل الكبائر كما ذهب إليه أهل السنة؟ وقد قال القرطبي: «مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق، وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب. والأخبار متظاهرة أن العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصّالحين» (3). وأضاف قائلا: «وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين:
1 - الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى.
2 - أجمع أهل السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول، ولم ينكرها أحد منهم في أي عصر فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها يدل دلالة
__________
(1) انظر مفاتيح الغيب، ج 3، ص 56.
(2) انظر م ن، ج 3، ص 5655.
(3) الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 378.(1/296)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/297)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/298)
ويفسر الزمخشري قوله عز وجل: {وَمَنْ كَفَرَ} من الآية: {وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعََالَمِينَ} [آل عمران: 97] وبأنه من ترك الحج وعبر عنه بالكفر تغليظا عليه. قال: «(ومن كفر) مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج» (1)، ويستدل على ما ذهب إليه بنص الحديث الشريف بقوله: «ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» ونحوه من التغليظ: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر»، ومنها ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان (2). فأنت ترى بأنه جعل تارك الحج لمجرّد الترك كافرا فأخرجه بذلك من ربقة الإيمان ومن اسمه ومن حكمه لأنه عدّه غير مؤمن ومخلّدا في النار. ولكن ابن المنير يرد عليه بأن تارك الحج لمجرد الترك قولا واحدا لا يكفر. غير أنه تعين حمل الآية على من ترك الحج وهو جاحد لوجوبه، وحينئذ يكون الكفر راجعا إلى الاعتقاد لا إلى مجرد الترك (3).
وقال الزمخشري في قوله سبحانه: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ} [آل عمران: 129] «بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين» (4)، وردّ أهل السنة بأن هذه الآية واردة في الكفار، ولمّا كانوا يعتقدون أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان، فلا خلاف بينه وبين صاحب الكشاف، ولا بين المعتزلة وأهل السنة هاهنا (5).
وهو يستعين بالقراءات في إقرار بعض أصول مذهبه لذا قال في تفسير قوله سبحانه: {وَلَهُمْ عَذََابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] «وقرأ يحيي بن وثاب بكسر الأولى وفتح الثانية (يقصد إنّما) في قوله تعالى: {إِنَّمََا ذََلِكُمُ الشَّيْطََانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيََاءَهُ} [آل عمران: 175]. وفي قوله: {وَلََا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمََا نُمْلِي}
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 449.
(2) م ن، ج 1، ص 449.
(3) انظر الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 448.
(4) الكشاف، ج 1، ص 463.
(5) انظر الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 463.(1/299)
{لَهُمْ} [آل عمران: 178]. قال: «فإن قلت: فما معنى قوله: {وَلَهُمْ عَذََابٌ مُهِينٌ} على هذه القراءة؟ قلت: معناه، ولا تحسبوا أن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب، والواو للحال. كأنه قيل: ليزدادوا إثما معدّا لهم عذاب مهين» (1)، وقد ردّ عليه أبو حيان في هذا المقام قائلا: «والذين نقلوا قراءة يحيى لم يذكروا أنّ أحدا قرأ الثانية بالفتح إلا هو، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر. لكن الزمخشري من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه، ولما قرر في هذه القراءة أن المعنى على نهي الكافر أن يحسب إنما يملي الله لزيادة الإثم، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله: {وَلَهُمْ عَذََابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] يدفع هذا التفسير فخرّج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بيّن هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية» (2).
ويسعى الزمخشري ليعزّز باستمرار أيّ أصل من أصول مذهبه، وله في ذلك عدة طرق: فهو يستعين بنص القرآن الكريم ونص الحديث الشريف ليقرّ ما يعتقده من إنكار رؤية الله تعالى، ففي قوله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النََّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فََازَ} [آل عمران: 185] ما نصه قد حصل له الفوز المطلق المتناول كل ما يفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدي ونيل رضوان الله والنعيم المخلّد» ثم قال: «اللهم وفقنا لما ندرك به الفوز في المآب» مستعينا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي للناس ما يجب أن يؤتى إليه»، وهذا يشمل المحافظة على حقوق الله وحقوق العباد. واستعان بقول سعيد بن جبير: «إنما هذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب الآخرة فإنها متاع بلاغ» (3).
ولا ريب في أنك ترى في قوله: «ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدي» تعريضا بإنكار رؤية الله إذ يصرّح بأن النجاة والرضوان والنعيم لا غاية للفوز وراءها مع أنه لم يذكر الرؤية، وقد صرح بإنكارها في سورة
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 483.
(2) البحر المحيط، ج 3، ص 447446.
(3) الكشاف، ج 1، ص 486485.(1/300)
الأنعام (1). فهي تستحيل عقلا عندهم في الدنيا وفي الآخرة لأن القول بذلك عند المعتزلة تشبيه لذا حين جوّزها أهل السنة للمؤمنين في الآخرة سموهم مشبهة (2). واستدل على نفي الرؤية بقوله تعالى: {قََالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قََالَ لَنْ تَرََانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى ََ صَعِقاً فَلَمََّا أَفََاقَ قََالَ سُبْحََانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}
[الأعراف: 143] قال: {وَخَرَّ مُوسى ََ صَعِقاً}: روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجله ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة {فَلَمََّا أَفََاقَ} من صعقته {قََالَ سُبْحََانَكَ} أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها {تُبْتُ إِلَيْكَ} من طلب الرؤية {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}
بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس. فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب؟ قلت: من إجرائه تلك المقابلة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية، وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكا، وكيف أصقعهم ولم يخلّ كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر، وكيف سبّح ربه ملتجئا إليه وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه. وقال: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (3)» ثم أضاف وهو يسبّ أهل السنة والجماعة قائلا: «ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرّنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قال بعض العدلية فيهم (الكامل):
لجماعة سمّوا هواهم سنّة ... وجماعة هم لعمري موكفه
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا ... شنع الورى فتستّروا بالبلكفة (4)
__________
(1) الآية: 103 {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ}: انظر محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق مكتبة البحوث والدراسات، دار الفكر، بيروت، 1996م، ط 1، ج 2، ص 53
(2) انظر الكشاف، ج 1، ص 577.
(3) الكشاف، ج 2، ص 115.
(4) م ن، ج 2، ص، 116احتجّ نفاة رؤية الله تعالى بخمس آيات: الأولى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ}(1/301)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/302)
الملائكة إلى غير الأنبياء وأن الله لا يصح أن يرى، وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون.
وإما أن يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنّت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت، وقامت بها الحجة عليهم كما فعل قوم موسى حين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55].
وهو يعتمد في نفي أن يشاء الله القبائح على ما أنزله عز وجل في كتبه وعلى ما أخبر به الرسل عليهم صلاة الله تعالى وسلامه. قال في تأويل قوله عز وجل:
{كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148]: «أي جاءوا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وجل ركب في العقول، وأنزل في الكتاب ما دلّ على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها» ثم أضاف معتمدا على السماع: «والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته، فقد كذب التكذيب كله، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره» (1). ولا شك في أن قوله هذا يبرز ما عرف بين المعتزلة فيما أسموه نظرية الدليل التي يمثل العقل (2) فيها أحد المصادر التي يعرف منها الحق إلى جانب الكتاب والسنة إذ بنوا معرفتهم للحق على العقل قبل القرآن الكريم والسنة الشريفة. وما لبثوا أن ارتفعوا به إلى مستوى البرهان في مسائل العقيدة والإيمان، وأسسوا من هذا نظرية الدليل وقواعد علم الكلام الإسلامي لذلك كانوا قد فرقوا بين نوعين من الدليل: دليل العقل، ودليل السمع. لكنهم جمعوا بينها ليوضحوا مقاصد الآيات القرآنية. وقد قال القاضي عبد الجبار (ت 415هـ) في أول ما ينبغي على العبد معرفته: «إذا لم يكن بد من النظر، فينبغي أن ينظر في هذه الحوادث من الأجسام وغيرها ويرى جواز التغيّر عليها فيعرف أنها محدثة ثم ينظر في
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 59.
(2) ذكر الأشعري تعريف أبي الهذيل للعقل بأنه «علم الاضطرار الذي يفرّق الإنسان به بين نفسه وبين الحمار وبين السماء وبين الأرض، وما أشبه ذلك، ومنه القوة على اكتساب العلم» وأضاف الأشعري قائلا:
وزعم بعضهم أن هذه العلوم كثيرة منها الاضطراري الذي يمكن أن يدركه الإنسان قبل تكامل عقله من اختيار الأشياء والنظر فيها وفي بعض الذي هو داخل في جملة العقل كأن يعلم الإنسان استحالة دخول الفيل في خرق إبرة بعد أن شاهد ذلك بحضرته فنظر وفكر وعلم النتيجة.
انظر مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، ج 1، ص 400، 401وكذا د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 175.(1/303)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/304)
التأويلين انتصار لمعتقده الاعتزالي. لكن أهل السنة يتمسكون بالآية ذاتها على أنه تعالى قد يشاء الكفر واستدلوا على هذا من وجهين (1):
الأول: قوله تعالى: {إِنْ عُدْنََا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجََّانَا اللََّهُ مِنْهََا} [الأعراف: 89] بخلق العبد لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله عز وجل خلافا لما يقتضيه قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجََّانَا اللََّهُ}.
الثاني: أن معنى الآية ليس لنا أن نعود إلى ملّتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة، ولما كانت كفرا كان هذا تجويزا من شعيب بأنه سبحانه قد شاء ردّ المسلم إلى الكفر وهو غير مذهبنا.
فالآية عند السنيين دليل على أن الكفر بمشيئة الله، ورأوا مع هذا بأن الله تعالى أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما يكون، وفي الآية ردّ إلى الله المسبب. ومعنى الآية حسب الزركشي: «لا يكون أبدا من حيث علّقه بمشيئة الله لما كان معلوما أنه يشاؤه إذ يستحيل ذلك على الأنبياء، وكل أمر علّق بما لا يكون فقد نفى كونه على أبعد الوجوه» (2). ورأى قطرب أن في الكلام تقديما وتأخيرا والاستثناء من الكفار لا من شعيب فيصبح المعنى: «لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا إلا أن يشاء الله أن تعودوا في ملتهم. ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمََا يَكُونُ لَنََا أَنْ نَعُودَ فِيهََا} (الآية) على كل حال. وقيل:
الهاء عائدة إلى القرية لا إلى الله» (3).
واستعان الزمخشري بنص القرآن الكريم لينتصر إلى معتقده في أمر السحر ويمكن أن نجد في كلامه ما يرمز إلى إنكاره، وهو ما يظهر عند تفسيره الآية الكريمة: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النََّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجََاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] قال: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النََّاسِ}: أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة
__________
(1) الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 14، ص 178. وكذا ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 96، انظر تفسير ابن كثير (ت 774هـ)، ج 2، ص 232، وتفسير البيضاوي (ت 791هـ)، ج 3، ص 41.
(2) البرهان في علوم القرآن، ج 3، ص 410.
(3) م ن، ج 3، ص 410.(1/305)
بخلافه كقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهََا تَسْعى ََ} [طه: 60] روي أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا، فإذا هي أمثال الحيات قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضا (1). والواقع أن المعتزلة عامّتهم قد رفضوا التصورات المتعلقة بالسحر والجن والشياطين وشككوا فيها، ولكن رفضهم وتشكيكهم لم يرق إلى حدّ المسائل المذهبية الحاسمة كما ذكر جولد زيهر (2).
وبالنسبة إلى السحر (3) ذهب بعض المعتزلة والزمخشري منهم أنه تخييل لا حقيقة له رغم كثرة الأحاديث النبوية الشريفة ذات السند القوي (4) التي تذكر تأثير السحر على النبي نفسه صلى الله عليه وسلم ناهيك أن الآيات الكريمة الدالة بالقوة على ذلك ساطعة مشرقة مثل سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ النَّفََّاثََاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، وقول المعتزلة أن السحر تخييل لا حقيقة له بصورة عامة غير مصيب بل منه ما هو تخييل ومنه ما له حقيقة. وقد استدلوا على أنه تخييل بالاعتماد على نص القرآن الكريم: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهََا تَسْعى ََ} [طه: 60] لم يقل على الحقيقة، وإنما قال يخيل إليه، ومعهم (5) في نفي حقيقتهم أبو إسحاق الأسترآباذي من أصحاب الشافعي. بينما ذهب السنيون إلى أنه ثابت، وله حقيقة لكنهم لا ينكرون أن التخييل من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوّزها العقل، وورد بها السمع منها: أن القرآن الكريم ذكر السحر وذكر تعليمه، فلو لم يكن حقيقة لم
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 103.
(2) انظر مذاهب التفسير الإسلامي، ص 166.
(3) لغة: ما خفي ولطف سببه. جاء في الحديث: «إن من البيان لسحرا». وسمي السحور سحورا لأنه يقع خفيا آخر الليل. ومنه قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النََّاسِ} (الآية) أي أخفوا عنهم علمهم. ولما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يأتي السحر بدونه لذا جاء في الحديث: = ومن سحر فقد أشرك = وهو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام. قال الله تعالى: {وَلََا يُفْلِحُ السََّاحِرُ حَيْثُ أَتى ََ} [طه: 69].
انظر سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، شرح كتاب التوحيد، ص 334333.
(4) انظر صحيح البخاري الحديث رقم 4222: طرف الحديث (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها) والحديث رقم، 4426وسنن النسائي رقم 4012: طرف الحديث: (إن رجلا من اليهود سحرك عقد لك عقدا في بئر كذا وكذا). وسنن ابن ماجة الحديث رقم، 190ومسند أحمد، الحديث رقم، 18467والحديث رقم 23104: طرف الحديث (سحر النبي فيخيل إليه أنه قد صنع شيئا ولم يصنعه).
(5) نظر تفسير القرطبي، ج 2، ص 46. والسيوطي، الدر المنثور، ج 1، ص 234233.(1/306)
يمكن تعليمه، ولا أخبر الله عز وجل على أنهم يعلمونه (1) الناس. والأمر واضح بالنسبة لأهل السنة في إقرار وجود السحر والشياطين والجن (2) على ما هي عليه لأن العقل لا يمنع وجود ذلك، وقد ورد السمع بوقوعه في النصوص السابقة لذا أقرّوا بوجود هذه الظواهر، ورأوا أنه «لا يمتنع أن يفعل الله عند إرشاد الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه وذلك واقع بقدرة الله جل وعز عند إرشاد الساحر ()، فلا يمتنع أن يوقع تعالى بقدرته عند إرشاد الساحر أعاجيب يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء» (3) قاله ابن المنير ردا على كلام الزمخشري.
والآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ وَلََا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلََا ذِلَّةٌ أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} [يونس: 26] ذكر فيها عدة معان للفظ (زيادة) قال: الحسنى المثوبة الحسنى. (وزيادة): «ما يزيد على المثوبة وهي التفضل (4) يدل
__________
(1) ما يكون كفرا من فاعله كتغيير صور الناس وإخراجهم في شكل بهيمة وقطع مسافة شهر في ليلة والطيران في الهواء ففاعل هذا إيهاما للناس بأنه محق ذا كفر منه قاله القشيري.
انظر تفسير القرطبي، ج 2، ص، 45وانظر شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي (ت 852هـ)، العجائب في بيان الأسباب، ص 309وما بعدها.
وقال البيضاوي: من تعلم منا وعمل به كفر. ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به، وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور، وإنما المنع من اتباعه والعمل به. تفسير البيضاوي، ج 1، ص، 373وقد ذكر السيوطي ما كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في الفرائض والسنن والديات بعثه مع عمرو بن حزم قال: «إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلّم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم». انظر الدر المنثور، ج 2، ص، 501وكذا زهدي جار الله، ص 23.
(2) انظر المارودي (ت 429هـ) أعلام النبوة، ص، 217حديثه عن الجن بأنه «من العالم المميز يأكلون ويتناكحون ويتناسلون ويموتون وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار وإن تميّزوا بأفعال وآثار إلا أن يخصّ الله برؤيتهم من يشاء». وانظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 132.
(3) الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 103.
(4) ذكر القاضي عبد الجبار أن المنافع التي خلقها الله تعالى للحي ثلاثة:
أالتفضل: وهو النفع الذي يوصله فاعله لغيره أو لا يوصله.
ب العوض: النفع المستحق لا على سبيل التعظيم.
ج الثواب: النفع المستحق على سبيل الإجلال والتعظيم.
انظر شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص، 38قال الثعالبي في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}
[النساء: 28]. أي لمّا علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء قاله مجاهد وغيره وهو ظاهر مقصود الآية ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية مخرج التفضل لأنها تتناول كل ما خففه الله عن عباده وجعله الدين يسرا. تفسير الثعالبي، ج 1، ص 365.(1/307)
عليه قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173]. واستعان بما روي للإمام علي رضي الله عنه قوله: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. ويقول ابن عباس رضي الله عنه: الحسنى حسنة، والزيادة عشر أمثالها. وبما قاله الحسن رضي الله عنه: عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد رضي الله عنه:
الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطرتم (1). ويدل تعدد معنى هذا اللفظ عندهم على اختلافهم في تفسيرها. ويبدو حسب أبي حيان الأندلسي أن الزمخشري قد نقل عرضه فيها عن الجبائي (2).
وإذا لم تتفق أحد أصولهم مع أي حديث شريف يتأوله أو يجعله من الأحاديث الموضوعة لذا قال بعد عرض معنى الزيادة: «وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة في النظر إلى وجه الله تعالى وجاءت بحديث موضوع: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا هو أحب إليهم منه» (3).
ونريد أن نقول بأن اختلافهم في تفسير (الزيادة) راجع لإبهام الكلمة عند بعضهم غير أنه يرجع في محصّلته إلى معنيين: الأول: معناه رؤية الله عز وجل، يدل عليه النقل. أي أنّ الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى الله تعالى.
ويدل عليه العقل وهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها التعريف فانصرف إلى معهود سابق هو دار السلام الذي تقرر عند المسلمين أنها لفظة دالة على الجنة وما
__________
(1) لكشاف، ج 2، ص 234233.
(2) انظر البحر المحيط في التفسير، ج 6، ص 44.
(3) الكشاف، ج 2، ص، 234جاء ذكر الحديث في صحيح مسلم رقم 266رواه صهيب بن سنان: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم. فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟
ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل» وفي سنن الترمذي: عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «للذين أحسنوا الحسنى وزيادة» قال: إذا دخل أهل الجنة نادى منادي إنّ لكم عند الله موعدا. قالوا: ألم تبيّض وجوهنا وينجّنا من النار ويدخلنا الجنة؟
قالوا: بلى. قال: فينكشف الحجاب. قال: فو الله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه. وانظر سنن الترمذي الحديث رقم، 3030وكذا مسند أحمد الحديث رقم 22799وهو حديث مرفوع للرسول صلى الله عليه وسلم.(1/308)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/309)
الحقيقة، ومثله قوله عز وجل السابق، هذا أولا. أما ثانيا فقراءة الجمهور رفع لفظ، الجلالة (الله) على أن الله تعالى هو الذي كلم موسى على غير قراءة النخعي وابن وثاب، وتكليما: مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز كما قال الفراء:
إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل، ولكن لا تحققه بالمصدر فإذا حقق وأكّد بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام (1). وبالتالي يدل على بطلان قول القائلين من المعتزلة: خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى عليه الصلاة والسلام فكلام الله تعالى حسبهم منزّل على رسول الله ليس بمخلوق أو محدث (2).
والمعتزلة لم ينفوا الصفات القديمة إذا كان القصد بها عين الذات، وإنما أنكروا أن تكون الصفات أشياء أو ذوات قديمة قائمة وراء الذات لما فيه من تعدد القدماء مستدلّين بأن الصفات لو كانت زائدة على الذات فإمّا أن تكون محدثة فيلزم قيام الحوادث بذاته عز وجل. وإما أن تكون قديمة فيلزم أن تشارك الذات في القدم والوجوب بالذات. وهذا يؤدي إلى تعدد القدماء. وقد كفر النصارى لقولهم بقدماء ثلاثة (3) فكيف بمن أثبت أكثر من ذلك؟ ثم قالوا: إن من أثبت الكلام قائما بذات الله عز وجل إما أن يثبته حالا في الله تعالى، والله سبحانه يستحيل
__________
(1) انظر ابن الجوزي (ت 597هـ)، زاد المسير في علم التفسير، ج 2، ص، 256تفسير البغوي (ت 616هـ)، معالم التنزيل، ج 1، ص 500، والعكبري (ت 616هـ)، التبيان في إعراب القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، إحياء الكتب العربية (د. ت)، ج 1، ص، 203وكذا المقدسي (ت 620هـ)، حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة، ج 1، ص، 40وتفسير القرطبي (ت 671هـ): الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، ط 2، ج 1، ص، 250وكذا تفسير أبي السعود (ت 951هـ). إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، ج 2، ص، 256والشوكاني (ت 1250هـ)، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج 1، ص 538.
(2) انظر تفسير القرطبي، ج 6، ص، 18وكذا ابن قايماز الذهبي (ت 748هـ) معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، تحقيق عواد معروف وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ، ط 1، ج 1، ص 49.
(3) قال النصارى: الله ثالث ثلاثة كان عليه جمهورهم قبل انقسامهم إلى اليعقوبية والملكانية والنسطورية.
وهم قالوا الإله القديم جوهر واحد يعمّ ثلاثة أقانيم أبا والدا غير مولود وابنا مولود غير والد وزوجا متتبعة بينهما. وقد كذبهم الله تعالى بقوله: {وَمََا مِنْ إِلََهٍ إِلََّا إِلََهٌ وََاحِدٌ} [المائدة: 73]. وقوله: {إِنَّمَا اللََّهُ إِلََهٌ وََاحِدٌ سُبْحََانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]. وغيرهما من الآيات. انظر تفسير الطبري، ج 6، ص، 313قال القرطبي: هم مجمعون على التثليث، وبأن الله جوهر واحد له ثلاثة أقانيم، وجعلوا كل أقنوم إليها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وقد يعبرون عنها بالأب والابن وروح القدس(1/310)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/311)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/312)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/313)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/314)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/315)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/316)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/317)
من هذه البلايا وطرف منه» ثم أضاف «وعن النبي صلى الله عليه وسلم من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه»، وروي أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «{إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ}، فقيل: أمصيبة هي؟ قال: نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة»، وإنما قلل (بشيء) ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جلّ ففوقه ما يقلل إليه، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم، وإنما وعدهم بذلك قبل كونه ليوطّنوا عليه نفوسهم، ونقص:
عطف على شيء أو على الخوف بمعنى، وشىء من نقص الأموال: «والخطاب في (وبشّر) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من يأتي منه البشارة». ثم أضاف «وعن الشافعي رحمه الله الخوف خوف الله والجوع صيام رمضان والنقص من الأموال والزكوات، والصدقات، ومن الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد» وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذ مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون:
حمدك واسترجع (1)، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد» (2)، فالمحن ليست عقوبة لأن الله سبحانه وعد بها المؤمنين، وإنما هي مصلحة ونعمة، لذا أمر عز وجل بالصبر عليها لأن هذا الصبر يؤدي إلى الدرجة العظيمة، يفهم ذلك من التبشير بها، ومنه يعدّ الصبر واجبا على كل ما هو عدل ومصلحة.
ويفسر قوله تعالى: {وَلََا تُبْطِلُوا أَعْمََالَكُمْ} [محمد: 33] بناء على قاعدة جمهور (3) المعتزلة في أن الكبيرة الواحدة تحبط جميع الطاعات: «أي لا تحبطوا الطاعات بالكبائر كقوله تعالى: {لََا تَرْفَعُوا أَصْوََاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}
[الحجرات: 2] إلى أن قال: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمََالُكُمْ} [الحجرات: 2] ثم استعان في هذا السياق بالنقل: «وعن أبي العالية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضرّ مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت {وَلََا تُبْطِلُوا}
__________
(1) استرجع: قال: ({إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ}).
(2) الكشاف، ج 1، ص 324323.
(3) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 379.(1/318)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/319)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/320)
واعتمد على نص القرآن الكريم تعريضا وإنكار شفاعة مرتكبي الكبائر في قوله عز وجل: {إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ وَقََالَ صَوََاباً} [النبأ: 38] «وهما شريطتان أن يكون المتكلم منهم مأذونا له في الكلام» ثم أضاف: «وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى (1). لقوله تعالى: {وَلََا يَشْفَعُونَ إِلََّا لِمَنِ ارْتَضى ََ} [الأنبياء:
28]».
ويستند إلى نص القرآن الكريم كدليل على أن الجن لا يرون ولا يظهرون للعباد في قوله سبحانه: {إِنَّهُ يَرََاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لََا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] قائلا:
«وفيه دليل بيّن أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم ما يدعى رؤيتهم زور ومخرقة» (2)، ولكنه تأويل يعارضه السنيون بما يوردونه من الحديث الشريف الذي ذكر فيه اعتراض إبليس للرسول صلى الله عليه وسلم فدعنه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به الصبيان حتى ذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه» (3). وهذا إن صح هذا الحديث طبعا.
ويستعين بالمأثور في التسوية بين الكافر والعاصي فيما يستدركانه بظهور الآيات وفي تخليدهما في النار عند قوله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ لََا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمََانُهََا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمََانِهََا خَيْراً} [الأنعام: 158] بعد أن استند إلى ما رواه البراء بن عازب أنه قال: «كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تتذاكرون؟ فقلنا: نتذاكر الساعة. قال: إنها لا تقوم حتى تروا فيها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفا بالمغرب، وخسفا بالمشرق، وخسفا بجزيرة العرب، والدجّال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونارا تخرج من عدن» (4) ثم قال مفسرا للآية: «والمعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي ملجئة مضطرة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة
__________
(1) م ن، ج 4، ص 211.
(2) م ن، ج 2، ص 7574.
(3) انظر الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص، 75وكذا جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 167166.
(4) الكشاف، ج 2، ص، 63ذكر منه في سند الترمذي حسنا صحيحا (الجزء الخاص في التفسير)، ج 1، ص 64.(1/321)
إيمانها من قبل ظهور الآيات أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيرا فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيرا» (1). فهو يسوّي إذن بين الكافر والعاصي في الخلود، وفي عدم الانتفاع بما يستدركانه وقت ظهور الآيات. ويبدو أن هذا غير مخالف لأهل السنة لأنهم يعتقدون بدورهم أن اكتساب الخير لا يفيد بعد ظهور أمارات الساعة لكنهم يرون أن الإيمان السابق المتقدم ينفع ويفيد في السلامة من الخلود في النار (2).
ثانيا: التأويل بالحمل على المجاز والتشبيه وتأويل التجسيم
اعتمد المعتزلة على ثلاث وسائل لتأكيد آرائهم المبنية على العقل:
الأولى: فرّقوا فيها بين المحكم والمتشابه فعدّوا ما يعزز وجهة نظرهم من نصوص القرآن الكريم محكما دالا بظاهره، واعتبروا في الآن نفسه ما يدعم وجهة نظر خصومهم متشابها يعوزه التأويل.
الثانية: هدفوا بها إلى إزالة التناقض الذي يمكن أن يكون موجودا في آرائهم المعتمدة على العقل وبين ظاهر بعض آي الذكر الحكيم التي يستشهد بها خصومهم والتي يعدّونها هم متشابها.
أما الثالثة: فقد أنكروا فيها قدرة معارضيهم على معرفة السمعيات وفهمها وذلك لأن صحة السمع قائمة على العدل والتوحيد والتي هي قضايا عقلية (3).
لقد تناولوا أدلة الخصوم وكل ما يوهم بالتجسيم والمشابهة ولا يناسب مقام الألوهية. فاجتهدوا في فهم حقيقة معانيها الكامنة في ألفاظها بمنظور يستند إلى
__________
(1) م ن، ج 2، ص 64.
(2) انظر تفسير الطبري، ج 8، ص 979695وما بعدها. وانظر تفسير القرطبي، ج 13، ص 235، وابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص، 63وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 196195.
(3) رأى المعتزلة أن الاستدلال بالقرآن الكريم لا يصح إلا بعد معرفة المتكلم بكل صفاته عز وجل من التوحيد والعدل، وبأنه تعالى حكيم لا يختار القبيح ولا يأمر به ولا يكذب في أخباره، وهذه كلها مسائل عقلية وليست من الاستدلال السمعي، لذا فالقرآن الكريم نفسه عندهم لا بدّ أن يخضع في الاستدلال به للنظر العقلي وهم حين ركزوا على العقل لم يكونوا ليتصوروا بأنه يدل على خلاف ما يدل عليه القرآن. إذن قدموا المعرفة العقلية بتوحيد الله وعدله وسائر صفاته، وبأن دلالة القرآن الكريم لا تعرف إلا بتقدم تلك المعرفة العقلية، وبهذا أصبحت الحاجة للقرآن وللسمع عندهم في عمومه تابعة للعقل. انظر د. نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، ص 182181.(1/322)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/323)
صفحه مورد نظر در کتاب خالي است لطفا به صفحات ديگر مراجعه کنيد(1/324)
ورأى ابن المنير صفة الرحمة من صفات الأفعال، وبأنه يمكن تفسيرها بإرادة الخير فيرجع إلى صفات الذات (1). وقد قالت الأشعرية بالأمرين كليهما، وقالت بما ماثلها من الصفات التي لا يصح إطلاقها بحقيقة معناها اللغوي على الله سبحانه، فمنهم أي من الأشعرية من صرفه إلى صفة الذات، ومنهم من صرفه إلى صفة الفعل. وقد ردّ الزمخشري صفة الرحمة إلى الإرادة لأنه فهم أن الرحمة التي معناها العطف والحنو ورقّة القلب لا تصلح نسبتها إلى الله تعالى لكونها تتضمن مفهوم الكيفية والوصف التابعة للمزاج تعالى الله عنها (2). وقد ذكر المرتضى اليمانيّ أن المسلمين أجمعوا «على أن حسن إطلاق الرحمة على الله من غير قرينة تشعر بالتأويل، ولا توقف على عبارة التنزيل، ولو كان ظاهرها القبح والذم والانتقاص لله عز وجل لم يحسن ذلك من العباد وإن ورد في كلام الله أقرّ في موضعه على قواعد علماء الكلام» ثم قال: «وثبت أن الرحمن مختص بالله تعالى وحده ويحرم إطلاقه على غيره ولو كانت الرحمة له مجازا ولغيره حقيقة كان العكس أوجب وأولى» ثم هو يستقبح تأويل هذا الاسم الشريف قائلا:
«ويدلّك على قبح تأويل هذه الأسماء الشريفة في الفطر كلها أنك تجد المعتزلي يستقبح تأويل الأشعرية للحكيم غاية الاستقباح، والأشعري يستقبح تأويل المعتزلة للسميع البصير المريد غاية الاستقباح، والسنّي يستقبح تأويل المعتزلة والأشعرية للرحمن الرحيم الحكيم غاية الاستقباح، والكل يستقبحون تأويل القرامطة لجميع الأسماء الحسنى غاية الاستقباح» (3).
__________
فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية أن الله تعالى واحد في ذاته لا قسم له وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له وواحد في أفعاله لا شريك له»: الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 55.
ولما كان المعتزلة لا يقولون بالصفات خارج الذات والسلف يثبتونها سمي السلف صفاتية والمعتزلة معطلة. والصفاتية فرقتان: الأشعرية أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت 330هـ) والمشبهة، ومنها أهل الحديث الذين احترزوا من التشبيه لتنافيه مع الألوهية. ومن المشبهة غالية الشيعة والحشوية: انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 118105104وما بعدها.
(1) انظر الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 1، ص 44.
(2) انظر الكشاف، ج 1، ص 4544.
(3) إيثار الحق على الخلق، ص 127، 128وانظر شهاب الدين أحمد بن محمد الهائم المصري (ت 815هـ)، التبيان في تفسير غريب القرآن، تحقيق د. فتحي أنور الدابولي، دار الصحابة للتراث بطنطا، القاهرة، ط 1، 1992م، ص 50.(1/325)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/326)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/327)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/328)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/329)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/330)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/331)
الفاعل في ملابسة الفعل مثلما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له اسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال (1).
وليس ثمة قبيح على قاعدة أهل السنة بالنسبة على الله عز وجل بل الأفعال كلها بالنسبة إليه على سواء، ولا يتصور ظلم في أفعاله لأن الكل منه وبه وإليه = كل حادث مراده ولا يختص تعلق مشيئته سبحانه بنوع من الأفعال دون نوع بل هو مريد لوقوعها جميعا خيرها وشرها نفعها وضرها (2) فله تعالى أن يتصرف في الأشياء جميعها كما يشاء، وإنما يوصف بالقبح والظلم ونظائرهما أفعال العباد باعتبار كسبهم لها وقيامها بهم، وليس باعتبار إيجاد الله تعالى إياها فيهم (3) قال عز وجل: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].
وينفي الزمخشري القبح عن الله تعالى ليقرّ بأنه عز وجل لا يفعل إلا الأصلح وهو أحد أصولهم الاعتزالية فأنت تجده في قوله سبحانه: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] يقول: «فكيف جاز أن يوليهم الله مددا في الطغيان وهو فعل الشيطان ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَإِخْوََانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} [الأعراف:
202]، ويجيب عن سؤاله قائلا: «إما أن يحمل على أنهم لما منعهم الله ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بتزايد الرين (4) والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مددا وأسند إلى الله سبحانه لأنه مسبّب عن فعله بهم بسبب كفرهم. وإما على منع القسر والإلجاء. وإما أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده» (5).
__________
(1) انظر تفسير النسفي (ت 710هـ): (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، ج 1، ص، 15وكذا الألوسي، روح المعاني، ج 1، ص 133132.
(2) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 98.
فسر بعض أهل السنة ما ورد في ردودهم أو كلامهم بأن الخير والشر من الله عنوا به الصحة والمرض والغنى والفقر. انظر ابن الوزير ابن المرتضى اليماني، إيثار الحق على الخلق، ص 298وما بعدها.
(3) انظر حاشية السيد الشريف الجرجاني، هامش الكشاف، ج 1، ص 158157.
(4) الرّين: الطبع والدّنس. والرّين: الصّدأ الذي يعلو السيف والمرآة. وران الثوب رينا: تطبع. والرين كالصدإ يغشى القلب. وهو ما غطى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب. انظر الزمخشري، أساس البلاغة، (رين)، ص، 187وابن منظور، لسان العرب (رين)، ج 13، ص 192.
(5) الكشاف، ج 1، ص 188، 189وتفسير البيضاوي، ج 1، ص 180.(1/332)
ولا ريب في أن الطغيان الذي هو الكفر والضلال من الأفعال القبيحة التي تسند إلى الشياطين لذا لا يجوز إسنادها إلى الله تعالى. ومن هنا أسس الزمخشري جوابه على ما يلي:
الأول: لما أصرّ الكافرون على كفرهم خذلهم الله عز وجل، ومنعهم من ألطافه فتزايد الدنس في قلوبهم فسمى تزايد الدنس مددا في الطغيان، وأسند إيلاؤه إلى الله عز وجل، وظهر هنا مجاز لغوي (1) في المسند ومجاز عقلي في الإسناد لأنه إسناد الفعل إلى المسبب له وفاعله في الحقيقة هم الكافرون.
الثاني: أريد بالمد في الطغيان ترك الإلجاء إلى الإيمان كما قيل: إن السفيه إذا لم ينه مأمور، وهو فعل الله فإسناده إليه حقيقة وإن كان المسند مجازا.
الثالث: بأن المراد منه معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان غير أنه أسند إليه عز وجل على سبيل المجاز لا الحقيقة على مذهبه الاعتزالي، وجاء إسناده إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره أولئك إشارة إلى المذكورين بما اتصفوا من الصفات الشنيعة المميزة لهم (2).
وقد نصّ الرازي في هذا المعنى (3) على رأي المعتزلة الذين رأوا عدم إمكان إجراء هذه الآية على ظاهرها لوجوه:
__________
(1) المجاز نوعان: مفرد ومركب (المركب كالاستعارة التمثيلية). والمفرد كلمة تستعمل لغير ما وضعت له في الحقيقة لقرينة تجمع بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي. فإذا كانت العلاقة هي التشبيه فالمجاز استعارة وإن كانت غير ذلك فالمجاز مرسل. والمجاز المفرد بذلك: لغوي (نقل الكلمة من معناها اللغوي الحقيقي إلى آخر نحو الرجل الأسد) وشرعي: (نقل الكلمة من معناها الشرعي إلى معنى آخر مثل لفظ الصلاة المعروف في الدين تنقله إلى معنى الدعاء. والعرفي: (أن تنقل فيه الكلمة من مدلولها المتعارف عليه إلى غيره، لذا تجد الفرق واضحا بين معنى فعل العام في النحو وبين ما تدل عليه من معنى خاص (الدال على حدث): معجم الشامل في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها دار العودة، بيروت، ط 2، 1985م، ص، 808والمجاز في التركيب يسمى مجاز الإسناد. والمجاز العقلي وعلاقته الملابسة كأنه يسند الفعل أو شبهه إلى ما هو له أصالة لملابسته له كقوله تعالى: {وَإِذََا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيََاتُهُ زََادَتْهُمْ إِيمََاناً} [الأنفال: 2]:
نسبت الزيادة وهي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا لها. انظر الغزي محمد بن محمد بن محمد، إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن، ج 2، ص 9897، 99وانظر محمد عبد الرءوف المناوي (ت 1031هـ)، التوقيف على مهمات التعاريف، ص 637.
(2) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 188، 189وتفسير أبي السعود (ت 951هـ)، ج 1، ص 48.
(3) التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، ج 2، ص 71.(1/333)
أحدها: قول الله تعالى: {وَإِخْوََانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} [الأعراف: 202] أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم فكيف يكون مضافا إلى الله تعالى؟
ثانيها: أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلا لله فكيف يذمهم عليه؟
ثالثها: لو كان فعلا لله لبطلت النبوة وبطل القرآن، وصار الاشتغال بتفسيره عبثا.
رابعها: أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله: {فِي طُغْيََانِهِمْ} [البقرة: 15] فلو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم ليعرف أنه سبحانه غير خالق لذلك.
ومصداق ذلك أنه عند إسناد المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله: {وَإِخْوََانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} [الأعراف: 202]. وذهب المعتزلة إذا ما ثبت هذا، إلى وجوه من التأويل. الأول: قال به الكعبي وأبو مسلم ويحيى الأصفهاني بأن الله لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وتركهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم تزداد ظلمة بينما تزايد النور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك مددا وأسنده إلى الله تعالى لأنه كما رأينا آنفا مسبب عن فعله بهم.
الثاني: أن يحمل على منع الجبر. الثالث: أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره. الرابع: قول الجبائي في {وَيَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15] أي يمد عمرهم وهم مع ذلك في غلو كفرهم وتجاوزهم الحد فيه حيارى يترددون. إلا أن الرازي ضعّف هذا من وجهين قائلا (1):
الوجه الأول: لا يجوز في اللغة أن يفسّر {وَيَمُدُّهُمْ} بالمدّ في العمر.
الثاني: هب ذلك صحيحا فإنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وفي هذا إشكال. وقد أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المقصود يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان بل المقصود أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا. وإذا كان الزمخشري قد أوّل ظاهر الآية فيما قاله آنفا، فإن أهل السنة أقرّوا ظاهر النص لما فيه من الدلالة على التوحيد والحق
__________
(1) انظر م ن، ج 2، ص 71.(1/334)
الصرف لأن نسبة المد إلى الله عز وجل بأي معنى كان عندهم حقيقة إذ هو سبحانه الموجد للأشياء، المنفرد باختراعها بحسب مقتضيات حكمته. ورأوا الآية الكريمة حجة على المعتزلة في رعاية الأصلح (1).
ولم يأل الزمخشري جهدا في الانتصار لأصول المعتزلة التي منها: «أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها» مستدلين بأنه «ثبت من أن العاقل في الشاهد لا يشوّه نفسه وهو لا يفعل ذلك ولا يختاره لعلمه بقبحه ولغناه عنه فإذا كان على الواحد منا ذلك فلأن يجب في حق القديم أولى وأحرى () وما يدل كذلك أن الله تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد هو أن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور، فلو كان الله تعالى خالقا لها لوجب أن يكون ظالما جائرا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (2) لذا قال في قوله عز وجل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26] أنّ نسبة الإضلال إلى الله تعالى من إسناد الفعل إلى السبب (3). وقد شنع أهل السنة هذا ورأوا الآية سندا لمذهبهم في أن الضلالة والهداية بخلقه عز وجل وبيده يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد (4).
وكان لبعض الألفاظ القرآنية كالضلال والهدى والعبادة والإرادة والإذن والكفر والشرك والزكاة خلاف دلالي بين المعتزلة وخصومهم، ولعل ما ذهب إليه ابن قتيبة (ت 276هـ) يعكس هذا حين ذكر الخلاف بين صيغتي أفعل وفعّل (بتضعيف العين) قال: «وذهب أهل القدر في قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [النحل: 93] إلى أنه على جهة التسمية والحكم عليهم بالضلالة، ولهم بالهداية» (5) ثم أضاف: «وقال فريق منهم: يضلّهم: ينسبهم إلى الضلالة.
__________
(1) انظر ابن المنير، الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 1، ص، 188وتفسير النسفي (ت 710هـ)، ج 1، ص، 20وتفسير ابن كثير (ت 774هـ)، ج 1، ص، 53والألوسي (ت 1270هـ)، روح المعاني، ج 1، ص 160.
(2) القاضى عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 3832، 39وانظر استدلالهم على إيجاد العبد لأفعاله: فخر الدين الرازي، القضاء والقدر، ص 226وما بعدها.
(3) انظر الكشاف، ج 1، ص 267.
(4) انظر الألوسي، روح المعاني، ج 13، ص 187.
(5) تأويل مشكل القرآن، ص 123.(1/335)
ويهديهم: يبين لهم يرشدهم» (1). ونفى أن يكون في اللغة أفعلت الرجل: نسبته إلى. وإنما يقال إذا ما أريد هذا المعنى: فعلت للشيء ترمي به الرجل كقولك:
شجّعته وجبّنته وسرّقته وخطّأته وضلّلته وفسّقته وفجّرته وزنّيته وكفّرته إذا رميته بذلك (2). وقرئ: {ابْنَكَ سَرَقَ} [يوسف: 81] (سرّق): أي نسب إلى السرقة (3). قال الزمخشري في قوله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لََا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] {(لََا يُكَذِّبُونَكَ} قرئ بالتشديد والخفيف من كذّبه إذا جعله كاذبا في زعمه وكذّبه وكذّب به جعله كاذبا بأن وصفه بالكذب، وأكذبته إذا وجدته كاذبا وواعدني فأكذبته: وجدته كاذبا (4).
ويتأول التشبيه بصرف ما دلّ عليه إلى غير إبعادا للتجسيم كما في قوله تعالى: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} [البقرة: 115]. قال: (فثم وجه الله) أي جهته التي أمر بها ورضيها (5). وقد اختلفوا في (وجه الله) الله وجه أم لا ثلاث فرق:
الأولى: قالت لله وجه هو هو. قال به أبو الهذيل العلّاف.
الثانية: قالت له وجه توسعا وتثبت لله وجها هو هو لأن العرب تقيم الوجه مقام الشيء لقولهم (فعلت هذا على وجهك) أي لولا أنت لم أفعل. وقد قال به النظام.
الثالثة: تنكر ذكر الوجه. قالت به العبادية أصحاب العباد (6).
وقد فسر النسفي (وجه الله) أيضا بالجهة التي أمر بها الله عز وجل ورضيها.
قال: «فأينما شرط. تولوا: مجزوم به أي في أي مكان فعلتم التولية يعني تولية
__________
(1) م ن، ص 124.
(2) انظر م ن، ص 124وما بعدها. وكذا أدب الكاتب، ص 463462461.
(3) انظر م ن، ص، 124والزمخشري، الكشاف، ج 2، ص، 337وتفسير النسفي، ج 2، ص، 201 وتفسير الثعالبي (ت 875هـ)، ج 2، ص، 257والشوكاني محمد بن علي بن محمد (ت 1250هـ)، فتح القدير، ج 3، ص، 46والألوسي (ت 1270هـ)، روح المعاني، ج 13، ص 37.
(4) انظر الكشاف، ج 2، ص، 14وكذا أساس البلاغة (كذب)، ص 389.
(5) انظر الكشاف، ج 1، ص، 307وانظر الآية 27من سورة الرحمن، ج 4، ص 46.
(6) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 266265.(1/336)
وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] والجواب: فثم وجه الله أي جهته التي أمر بها ورضيها. المعنى إنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أي في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلّوا في أي بقعة من بقاعها وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان» (1).
وذكر الزركشي أن الواحدي حكى عن أكثر المفسرين في قوله تعالى: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} [البقرة: 115] أن الوجه صلة والمعنى: فثم الله يعلم ويرى.
قال: والوجه قد ورد صلة مع اسم الله كثيرا كقوله: {وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ}
[الرحمن: 27] قوله: {إِنَّمََا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللََّهِ} [الإنسان: 9] وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قلت (2): والأشبه حمله على أن المراد به الذات كما في قوله تعالى: {بَلى ََ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلََّهِ} [البقرة: 112].
ويفسّر الزمخشري قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا} [البقر: 212] قائلا (3): «المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسّنها في أعينهم بوساوسه وحبّبها إليهم فلا يريدون غيرها. ويجوز أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها أو جعل إهمال المزين له تزيينا، ويدل عليه قراءة من قرأ {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا} على البناء للفاعل» (4). قال ابن الجوزي (ت 597هـ): «وإلى من يضاف هذا التزيين؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يضاف إلى الله. وقرأ أبيّ بن كعب والحسن ومجاهد وابن أبي عبلة (زيّن) بفتح الزاي والياء على معنى زينها لله لهم.
والثاني: أنه يضاف إلى الشيطان. روى عن الحسن قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: والتزيين من الله تعالى هو التركيب الطبيعي، فإنه وضع في الطبائع محبة
__________
(1) تفسير النسفي، ج 1، ص 66.
(2) البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 278.
(3) الكشاف، ج 1، ص 354.
(4) الكشاف، ج 1، ص 357.(1/337)
المحبوب لصورة تزينت للنفس وذلك من صنعه. وتزيين الشيطان بإذكاء ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو لي نفسه لزينته فالله تعالى يزين بالوضع والشيطان يزين بالأذكار» (1).
وذكر القرطبي (ت 671هـ) أن مجاهدا ومحمد بن قيس قرأ على بناء الفاعل لكن النحاس قال: هي قراءة شاذة لأنه لم يتقدم للفاعل ذكر. ثم أضاف أن (المزين) هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، وأن الشيطان يزينها أيضا بوسوسته وإغوائه، وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، ولإقبالهم على الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة بسببها. وقد جعل الله ما على الأرض زينة ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا (2). ونصّ أحمد بن المنير (ت 683هـ) في هذا السياق على أنّ التزيين ورد مضافا إلى الله تعالى، وجاء مضافا إلى غيره في مواضع أخرى من آي الذكر الحكيم بيد أنه في الآية يحتمل الوجهين لكن الإضافة إلى قدرة الله تعالى حقيقة، وأما إضافته إلى غيره فمجاز. وهو ما يقول به أهل السنة، وبيّن أن الزمخشري يعمل على عكس هذا أي إن أضاف الله فعلا من أفعاله إلى قدرته جعله مجازا. وإن أضافه إلى بعض مخلوقاته جعله حقيقة (3). ولا يخفى أن هذا التعارض بين الفرقتين في مثل هذه المسائل ملحوظة في غير موضع، ولا ريب في أنه يعكس الخلاف بينهما كمثل خلافهم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وقوله عز وجل: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ}
[الأنعام: 103] فبينما تمسّك المعتزلة بالمعنى اللفظي للنفي العام في هذه الآية الأخيرة تجد أهل السنة يتأولونه. ولا لعجب إذا وجدت النقيض من هذا في الآية
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1404، ج 1، ص، 228مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي 1999، الأردن.
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 28.
(3) انظر الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف، ج 1، ص، 354وانظر النسفي (ت 710هـ)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، ج 1، ص، 101وكذا تفسير البيضاوي (791هـ)، تحقيق عبد القادر عرفات العشا حسونة، دار الفكر بيروت 1996، ج 1، ص 495، وكذا أبو السعود (ت 951هـ)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (د. ت)، ج 1، ص 213.(1/338)
(23) من سورة القيامة التي لم يقل المعتزلة بمعناها اللفظي، ومن أنها تعبير مجازي (1).
وقال في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} [آل عمران: 7]: «أم الكتاب أي أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها ومثال ذلك: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ}
[الأنعام: 103] و {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} [القيامة: 23] {لََا يَأْمُرُ بِالْفَحْشََاءِ}
[الأعراف: 28] {أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} [الإسراء: 26]، وهو بهذا ينزّل الآي على وفق ما يعتقده المعتزلة فقد بنى على الدليل السمعي {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} نفى رؤية الله تعالى لأن الرؤية بناء على ما يعتقده تستلزم الجسمية والجهة قال: «البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر به ندرك المبصرات، فالمعنى: أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال عن أن يكون مبصرا في ذاته لأن الأبصار دائما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والهيئات» (2) فالآية من المحكمات تحمل المتشابهات عليها وترد إليها، وذلك مثل الآيات التي ذكرها (القيامة: 22) تحتاج إلى أن يوفق بينها وبين الآية المحكمة (103) من سورة الأنعام. وكذلك الآية (28من سورة الأعراف) أصل في التفسير ينبغي أن تتخذ أساسا لتفسير قوله عز وجل: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنََاهََا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16]: «لأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا» (3).
وقال في هذا السياق: «فإن قلت: فهلا كان القرآن كله محكما؟ قلت: لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا
__________
(1) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، ص 224، 225وكذا ابن حزم، الفصل فى الملل والأهواء والنحل، ج 3 ص 7وما بعدها. وكذا الزمخشري، الكشاف، ج 4، ص، 192والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 113، 114وكذا جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 127126.
(2) الكشاف، ج 2، ص 41.
(3) م ن، ج 2، ص 442.(1/339)
يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء واتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله. ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله، ولا اختلاف فيه إذ رأى فيه ما يتناقض في ظاهره وأهمّه طلب ما يوفّق بينه ويجريه على سنن واحد ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه، وتبيّن مطابقة المتشابه المحكم ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوة في إيقافه» (1)، وبهذا تكون الإشكالات في المتشابهات أرادها الله تعالى في سابق علمه وسيلة إلى تقوية الإيمان والمعرفة وطلب الحق. بيد أن تفسيرها يعد من المهام الأساسية عند المعتزلة (2).
وإذا كان أهل السنة قد ردّوا على الزمخشري بأن «الإدراك المنفي عبارة عن الإحاطة، ومنه قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: 90] أي أحاط به.
وقوله سبحانه حكاية عن قوم موسى: {إِنََّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] أي محاط بنا فالمنفي عن الأبصار إذن إحاطتها به عز وجل لا مجرد الرؤية. ومن المعلوم أنه تعالى لا تحيط به الأفهام، وهذا لا يمنع أن تعرفه فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للبصر، وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للبصر ثابت غير منفي» (3)، فإننا حين نرجع إلى بعض أعلام المعتزلة ممن سبق عهد الزمخشري نجدهم يردون على أهل السنة فقد قال القاضي عبد الجبار: «فإن قيل: وما أنكرتم في أنّ المراد بقوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} أي لا تحيط به الأبصار؟ ونحن هكذا نقول. قلنا: الإحاطة ليس هو الإدراك لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها، ألا ترى أنهم يقولون: السور أحاط بالمدينة، ولا يقولون: أدركها أو أدرك بها.
وكذلك يقولون: عين الميت أحاطت بالكافور ولا يقولون أدركته. وبعد فإن هذا تأويل بخلاف تأويل المفسرين فلا يقبل. على أنه كما لا تحيط به الأبصار فكذلك لا يحيط هو بالأبصار لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحد فلا يجوز حمل
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 413412.
(2) انظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 152151. وكذا 124.
(3) محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر بيروت، ط 1، 1996، ج 2، ص 5352.(1/340)
الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه» (1). وقال في موضع آخر:
«وليس في الآية ما يقتضي أنه تعالى يرى في كل حال من الحالات لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية» (2). ومما ذكره بعضهم لهم في هذا السياق قولهم أيضا: «لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن لا يوصف الواحد منا بأنه يدرك ببصره هذه الأجسام الحاضرة لنا لأنه لا يراها في وقت واحد من جميع الوجوه، ولوجب أن لا يوصف في الحقيقة بأنه قد أدرك اللون ببصره، لأنه لا جهات له يرى عليها فبطل بذلك ما يتعلقون به» (3).
ولا نريد أن نسترسل في الجدل الواقع بينهما في هذه المسألة لطول الأخذ والرد فيه على أساس علم الكلام ولكن من أراد التوسع فليرجع إليها في مواضعها.
وقوله سبحانه: {وَمََا أَصََابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعََانِ فَبِإِذْنِ اللََّهِ} [آل عمران: 166] فسره الزمخشري قائلا: «(ما أصابكم) يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين فهو كائن (بإذن الله) أي بتخليته، استعار الإذن لتخليته الكفار وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم لأن الآذن مخلّ بين المأذون له ومراده» (4) وهو يضمنه خلقية الاعتزال وهي أن «قتل الكفار للمؤمنين قبيح عنده فلا إذن فيه (5) لذا هو ينفي الأفعال القبيحة عن الله بتأويله الإذن بالمجاز كونه مستعارا لتخليته الكفار لأن قتل الكفار للمؤمنين من أفعال الشر لا يجوز عنده أن يأذن فيها الله تعالى وهم أي المعتزلة يصفون الله بالعدل الذي يعدّ أحد أصولهم المهمة التي تعمقوا فيها وفرّعوا منه مباحث منها (6):
1 - الله عادل والظلم منفي عنه لقوله عز وجل: {وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ}
[فصلت: 46].
__________
(1) شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 168167.
(2) م ن، ج 1، ص 170.
(3) د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 225.
(4) الكشاف، ج 1، ص 477.
(5) أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 3، ص 422.
(6) انظر د. أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، ص 138.(1/341)
2 - أن الله يريد لعباده خير ما يكون.
3 - ولا يريد الشر ولا يأمر به. وهو الاعتقاد الذي ذهب إليه في تأويله السابق.
ومما فسره بالحمل على المجاز قوله عز وجل: {إِنََّا جَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً} [الكهف: 57] قال (1): «ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله (وجعلنا) للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: {وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ} [فصلت: 5]». بيد أن نسبة الجعل إلى الله تعالى حقيقة لا مجاز عند أهل السنة. وقد سلك الزمخشري مسلك الجبائي في الفرار من نسبة الجعل إلى الله عز وجل حقيقة. قال أبو حيان الأندلسي: تعزى هذه الأقوال البعيدة إلى الجبائي: الاستماع للقراءة من أجل معرفة مكان الرسول صلى الله عليه وسلم بالليل لإيذائه، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد بالأكنة لتثقل عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله تعالى: {وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ}. وقيل: من علم الله تعالى أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون، فلا يبعد عن ثبوت هذا تسمية تلك العلامة بالكنان. وقيل: لما أصرّوا على الكفر صار عدولهم عن الإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر الله تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى. وقيل: يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا: قلوبنا في أكنة. وصاحب الكشاف تابع الجبائي في هذا القول الأخير (2).
وأنت تجد الزمخشري في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنََاكُمْ خَلََائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] قد صرف النظر إلى المجاز بمعنى العلم لأنه ينكر في المذهب الرؤية. ويبدو هنا أنه ينكر أن يرى الله تعالى، وكذلك أن يرى.
قال: «فإن قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟ قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجودا، شبه بنظر الناظر وعيان
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 1211.
(2) انظر الكشاف، ج 2، ص 11، 12وأبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 4، ص 469.(1/342)
المعاين في تحققه» (1). وهذا الرأي قابله ابن المنير أحد خصومه من أهل السنة قائلا في تعجب: «كنت أحسب أن الزمخشري يقتصر على إنكار رؤية العبد لله تعالى فضم إلى ذلك إنكار رؤية الله والجمع بين هذين النزعتين عقيدة طائفة من القدرية يقولون: إن الله لا يرى ولا يرى» (2).
والله سبحانه هدى الناس جميعا بما منحهم من العقل الذي يمكنهم من النظر ثم أرسل إليهم الرسل والكتب للهداية أيضا، فمن اهتدى بهذه الأدلة زاده هدى ووفّقه وسدّده (3)، ومن لم يهتد يكن مسئولا عن اختياره، وما قد أقدم عليه وأتى من قبل نفسه، لا من الله تعالى. وعلى هذا ما ورد في كلام الله من أن الله أضل ليس المقصود به أن الله منعه من الاهتداء الذي هو حر في أن يختاره أو أن يتركه، وإنما المقصود به هو أن الله سجّاه (4) بالضلال فيكون الإضلال بهذا: الخذلان الذي اختلف فيه المعتزلة على ثلاثة أقاويل:
الأول: معناه الترك، وهو ترك الله عز وجل أن يحدث من الألطاف والزيادات ما يفعله بالمؤمنين كقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً} [محمد: 17]، فترك الله سبحانه أن يفعل هو الخذلان من الله للكافرين.
الثاني: تسميته تعالى إياهم والحكم بأنهم مخذولون.
الثالث: الخذلان عقوبة من الله تعالى وهو ما يفعله بهم من العقوبات (5).
ولم يخرج تفسير الزمخشري عن هذا الإطار لأنه حين أوّل قوله عز وجل:
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ} [الرعد: 33] قال: (ومن يضلل الله): «ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدي» (6). وهو ما ذهب إليه أيضا في قوله تعالى: {وَمَنْ}
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 228.
(2) الإنصاف فيما تضمنه الكشاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 228.
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 325324.
(4) انظر ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص، 123والأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص، 325وانظر ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 72.
(5) انظر م ن، ج 1، ص 328.
(6) الكشاف، ج 2، ص 362.(1/343)
{يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125]: «أي يخذله ويخلّيه وشأنه وهو الذي لا لطف له» (1). وفي قوله عز وجل: {مَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ} [الأعراف: 178] «هم مطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم» (2)، ولا يخفى ما في هذا التأويل من صرف اللفظ إلى معان يسيّجها الفكر الاعتزالي.
وفسّر (أردنا) من قوله تعالى: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنََاهََا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16] بمعنى (دنا) وهو يريد دنو «وقت إهلاك قوم لم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم (ففسقوا) أي أمرناهم بالفسق ففعلوا = ثم حمل لفظ الأمر على المجاز وذلك لامتناع أن يأمر الله عز وجل بالفساد قائلا: «والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه» (3)، وإن كان قد اتفق مع أهل السنة في هذا القول بدليل استحسان ابن المنير لذلك (4) فإنه خالفهم حين قال: «وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحّاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر» (5) لما فيه من تضمين القول بوجوب إرادة الله سبحانه للطاعة التي خوّلوها لكنهم فسقوا وخرجوا على أمر الله. لكن الأمر ليس هو الإرادة عند أهل السنة لقوله تعالى: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً}
[الشورى: 8] عدوّها دليلا ظاهرا على أن الأمر غير الإرادة (6) محتجين بأن الله
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 49.
(2) الكشاف، ج 2، ص 131.
(3) الكشاف، ج 2، ص 442.
(4) انظر م ن، ج 2، هامش الكشاف، ص 442.
(5) م ن، ج 2، ص، 442وكذا ج 3، ص 461.
(6) انظر تفسير القرطبي، ج 4، ص، 219وتفسير البيضاوي، ج 3، ص، 299وكذا الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص، 89والإرادة كونية وشرعية. الأولى: ما شاء فيها الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والثانية دينية شرعية كمحبة المراد ورضاه وأهله ومجازا لهم بالحسنى لا يتعلق المراد فيها إلا بالنوع(1/344)
نهى عن قتل المؤمنين حمزة وأصحابه بيد أنه أراد قتلهم ونهى آدم عن الأكل من الشجرة وأراده فوقع.
ورأى بعضهم أن ما أمروا به غير الفسق لأن الفسق إنما هو ما قاموا ضد المأمور به فكون الفعل فسقا ينافي المأمور به وينسحب هذا على المعصية لأنها ليست من المأمور بها لذا يتبيّن أن دلالة الأمر يتجه إلى أن الذي أمروا به ليس بفسق (1) أو بأن المعنى كما ذهب إليه الزركشي من طريق التقدير: «أي أمرنا مترفيها فخالفوا الأمر ففسقوا، وبهذا التقدير يزول الإشكال في الآية، وأنه ليس الفسق مأمور به» (2) رغم أنه ذكر في موضع آخر توجيه غرضه بالحذف إلى كونه مجازا عن تمكينهم وإقدارهم وذلك بتقدير الآية: أي أمرناهم بالفسق (3).
ويحمل الزمخشري ظاهر الآية: {يََا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبََاتِ وَاعْمَلُوا صََالِحاً إِنِّي بِمََا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] على المجاز، فقال: «هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما وكيف والرسل، وإنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، وإنما المعنى: الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي لذلك ووصي به ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ووصّوا به حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه» (4). ولعل في قوله: (الإعلام بأن) نزوعا إلى فكر المعتزلة في أن الله متكلم وكلامه عز وجل أصوات وحروف يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي، وهو حادث، مخلوق (5). غير أن الكلام من صفات الكمال لدى أهل السنة داخل في
__________
الأول وإرادة دينية فقط. وإرادة كونية فقط، وهو ما قدّره وشاءه ولم يأمر بها. والإرادة الرابعة: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه وهذا ما لم يكن من المباحات والمعاصي. إذن توجد إرادة كونية، وإرادة دينية شرعية لا تستلزم وقوع المراد إلا بتعلقها بالنوع الأول. وإرادة شرعية دينية فقط مثلما أمر به الله من الأعمال الصالحة الله يحبها فعلت أم لم تفعل. وإرادة كونية فقط ما شاء الله فيما كان وما لم يشأ لم يكن. وإرادة لم تتعلق بها أي إرادة: دقائق التفسير، ج 2، ص 529.
(1) انظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 7، ص 26.
(2) البرهان في علوم القرآن، ج 3، ص 157.
(3) م ن، ج 3، ص 178.
(4) الكشاف، ج 3، ص 34.
(5) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 45والايجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 294293.(1/345)
مسمى اسمه أي أن الله اسم للذات الموصوفة بصفة الكمال، ومن تلك الصفات صفة الكلام.
ومن تأويله بالمجاز إبعادا للتجسيم في حق الله عز وجل ما ذكره عند الآية:
{قََالَ كَلََّا فَاذْهَبََا بِآيََاتِنََا إِنََّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15]: «من مجاز الكلام يريد: أنّا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر، وأستمع ما يجري بينكما وبينه فأظهركما، وأغلّبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكّسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأنّ أو يكون مستمعون مستقرا، ومعكم لغوا. فإن قلت: لم جعلت مستمعون قرينة معكم في كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية ومنه قوله تعالى:
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقََالُوا إِنََّا سَمِعْنََا قُرْآناً عَجَباً} [الجن: 1]؟
ويقال استمع إلى حديثه وسمع حديثه أي أصغى إليه، وأدركه بحاسة السمع» (1).
ويوجب على الله سبحانه رعاية الأصلح وبأن الله تعالى لا يخلق للعباد إلا ما هو مصلحة ومنفعة، وهو يعتمد في إبراز ذلك أو إقراره من طريق تخريج الإسناد في الآية على المجاز {إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمََالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}
[النمل: 4]. قال: «فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته وقد أسنده إلى الشيطان في قوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ} [العنكبوت: 38]؟ قلت: بين الإسنادين فرق وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله عز وجل مجاز» (2). ويرى أهل السنة في عكس الجواب هو الصواب (3)، وأن معنى الآية زين لهم أعمالهم القبيحة بأن جعلها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس أو الأعمال الحسنة التي وجب عليهم عملها والتي تترتب عليها المثوبات لكن أصابهم العمه فلا يدركون ما يترتب عنها من نفع أو ضر (4).
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص 107.
(2) الكشاف، ج 3، ص 136.
(3) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 3، ص 136.
(4) نظر النحاس، معاني القرآن، تحقيق محمد علي الصابوني، جامعة أم القرى، مكة، ط 1، 1409هـ،(1/346)
ويعود المصنف إلى خلفية اللطف والخذلان والترك التي يبني فيها المعنى أن الله تعالى عالم أن المنحرفين الضالين لا يجدي عليه فهو في الآية: {وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ} [الجاثية: 23] يفسر «(أضله) ب (تركه) عن الهداية واللطف وخذله على علم عالما بأن ذلك لا يجدي عليه، وأنه ممن لا لطف له أو مع علمه بوجود الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة» (1).
ويوظف التفسير البلاغي إبعادا لأي تجسيم يتعارض مع معنى الألوهية في تفسير الآية: {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]: «يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله تعالى منزّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام» (2)
ومنه ما قاله عند الآية: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]: «والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز» (3). ومن تأويلاته البلاغية الهادفة إلى نفي كل مظاهر التجسيم ما ذهب إليه في تفسير قوله عز وجل: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمََا قََالُوا بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشََاءُ}
[المائدة: 64] متأولا غلّ اليد وبسطها بالعطاء والمنع قياسا على قوله سبحانه:
{وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ وَلََا تَبْسُطْهََا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]: «غل اليد وبسطها مجاز على البخل والجود ()، ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط ()، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد نحو بيت الأشتر:
بقيت وفرى وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
__________
ج 5، ص 113. وتفسير البيضاوي، ج 4، ص، 258وتفسير أبي السعود، ج 6، ص، 272والألوسي، روح المعاني، ج 19، ص 158157.
(1) الكشاف، ج 3، ص 512.
(2) م ن، ج 3، ص 543.
(3) م ن، ج 3، ص 408.(1/347)
الفصل الثالث التأويل بالاستدلال العقلي(1/349)
جعل المعتزلة العقل أساسا أول لفهم الشريعة، وعدوا الدليل السمعي تابعا للدليل العقلي، وبهذا رأوا الدليل العقلي أصلا والشرعي فرعا، وقالوا: إن الشريعة تؤكد ما في العقول، ولا تختلف معها، وبأنها ليست بمفردها الدالة على وحدانية الله تعالى وعدله وسائر الأحكام العقلية. لقد حاولوا في إطار هذا المفهوم الاحتكام إلى العقل وأدلته والتمييز بينها وبين أدلة الشرع، وحرصوا على توظيف ذلك في علاج قضايا التوحيد ومسائل النبوات والسمعيات. ولم يكن الزمخشري ليخرج عن هذه السمة في التوجه الفكري المعتدّ للعقل لأنه حلقة من حلقاتها فاتبع سابقيه في تفسير أي الذكر الحكيم متخذا من العقل وأدلته أداته في النظر والمقارنة والبرهنة والتحديد والبيان لفهم القرآن الكريم والرد على المطاعن.
اتسم بالعقل باعتباره إحدى سمات الإنسان مهما كان جنسه وقومه، ولإبعاد التفاخر الذي لا يعزز التطلع الإنساني الصحيح الذي اعتمده بعض الملل آنذاك، فكان سعيه حثيثا جادا لإقرار ما اعتقده في الأصول الخمسة لتنزيه الله تعالى وإثبات توحيده وإقرار عدله. ولم يكن له من خيار في ذلك غير العقل لأن بعض الخصوم لا يقولون بأدلة الشرع. كان رفدهم وسندهم قائما على فلسفات ذات نظر عميق شامل، فليس له كما كان ذلك لمشايخ مذهبه إلا مواجهتها بما يناسب أدواتهم ومنهجهم.
وقد جنح في هذا الإطار إلى بث إحدى المسائل البارزة في تاريخ المعتزلة، وهي مسألة = خلق القرآن = التي بسطت في إطار نظري عقلي، وكان بثّه لها في قوله:
«وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل» (1) يوحي لفظ الخلاقة بكونه مخلوقا للقبول (2).
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 97.
(2) قال الشريف الجرجاني في هذا: «واستعمل لفظ القوة ثم لفظ الخلافة المنبئة عن كونه مخلوقا للقبول»:
حاشية الشريف الجرجاني، هامش الكشاف، ج 1ص 97.
لقد تناول المعتزلة مسألة «خلق القرآن» في إطار أصولهم الخمسة في الأصل الأول: «التوحيد» الذي يقول به كل مسلم، ولكن المعتزلة قصدوا في القول به تخصيصا لا يقول به غيرهم، هو أن يكون الله قديما (أزليا) بذاته بينما صفاته ليست كذلك، وعدّتهم في هذا النظر والاستدلال إذ يرون أن الله إذا كان «عالما» فإنه عالم بالذات الإلهية نفسها «فهو عالم بذاته قادر بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة. وهي صفات قديمة ومعان قائمة به».(1/351)
وحين نحصر محور الجدل في صفة الكلام نجد المعتزلة يرون استحالة انفراد هذه الصفة بوجود مستقل عن ذات الله ليكتب (الكلام) في (كتاب) ثم نقول: إن هذا الكلام المكتوب المقيّد على صفحات الورق هو عينه أو نفسه الذي كان قائما مع الله منذ الأزل. هذا محال عندهم لذا قالوا على ضوء هذه الاستحالة: إنه لا بد أن يكون هذا الكلام المرئي المسموع المطبوع في المصاحف القرآنية، الذي نسمعه عند تلاوتنا لآيات القرآن لا بد أن يكون حادثا أول ما حدث عند نزوله على لسان جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم (1). أما أهل السنة الصفاتية والمشبهة (2) ومن وافقهم في التشبيه فلا حرج لديهم من أخذ الأمور على طبيعتها التي هي عليها لذلك لا يقرون بأنّ كلام الله صفة قائمة بالذات الإلهية لا
__________
الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 57. وليست صفات العلم والقدرة والحياة قائمة وحدها، لها من الأزلية ما لذات الله تعالى بحيث يترتب على ذلك أنه لو كانت الصفات مشاركة لذات الله في القدم لكانت مشاركة له في الألوهية، وهذا يدل على الكثرة والتعدد المخالف لمعنى التوحيد. لقد تصوروا في التوحيد مفهوما خالصا تتصف به الذات الإلهية بوحدانية مطلقة غير منقسمة، تعلم كلها وتقدر كلها.
قال الخياط في هذا: «الله يعلم الأمور على حقائقها لنفسه فلما كان حقيقة العلم بالجسم، قبل أن يتحرك أنه ليس بمتحرك وأنه سيتحرك، كان عالما به على ما هو عليه من ذلك. ولما كان حقيقته في حال حدوث الحركة فيه أنه متحرك، كان عالما به في حال حدوث الحركة فيه أنه متحرك لأن حقيقته أنه كذلك، وإنما اختلفت العبارة عن العلم لاتصالها بالعبارة عن اختلاف أحوال الجسم فلما كانت أحوال الجسم مختلفة اختلفت العبارة عنها ثم اتصلت العبارة عنها بالعبارة عن العلم بها فاختلفت العبارة عن العلم بها لاختلاف ما اتصلت به من العبارة عنها»: الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، تقديم ومراجعة محمد حجازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص 172. وسعى المعتزلة من ذلك إلى نفي رؤية الله بالبصر في الدنيا وفي الآخرة، ونفوا التشبيه عن الله من كل وجه وتأولوا ما بدا لهم مذكورا في الآيات الكريمة، وفي هذا تجريد للأفكار وبعيد عن كل معين ومألوف الأمر. لذا حدا بأهل السنة إلى القول بصفات الله عز وجل كما وردت في القرآن الكريم، فكان ذلك سببا في تسميتهم الصفاتية، انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1ص 55هامش، 1لقد أخذ أهل السنة هذه الصور المجسدة كما هي دون تأويل، وافقهم في هذا التجسيد غلاة الشيعة، أنظر م ن، ج 1، ص 220118.
(1) انظر د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، دار الشروق، ط 4، 1987م، ص 275.
(2) شبهوا الله بالمخلوقات منهم مشبهة غلاة الشيعة ومشبهة الحشوية كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي.
قالوا: هو جسم من لحم، ودم، وله الأعضاء. ومنهم مشبهة الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام. وقد تعددت أقوالهم، وذهب زعيمهم إلى أن الله على العرش من جهة العلو، ويجوز عليه الحركة والنزول. انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 120وما بعدها، ص 124وما بعدها. وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 429.(1/352)
نبصرها ولا نكتبها ولا نقرأها ولا نسمعها وإلا فما عسى أن يكون الذي نراه مكتوبا في مصاحف القرآن ونسمعه مقروءا إذا لم يكن هو كلام الله؟
آمنوا أن الذي في الكتاب العزيز هو كلام الله نزل بصورته المسموعة على طريق جبريل وثبت بهذه الصورة أيضا في اللوح المحفوظ، ويسمعه المؤمنون في الجنة من الله تعالى بهذه الصورة دون وساطة ولا حجاب. فالقرآن كلام الله ووحيه وتنزيله مسموع من الله وإلا كيف نفهم قوله تعالى: {حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ} [التوبة: 6] وسمعه بلا شك من القارئ، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلََامَ اللََّهِ} [الفتح: 15] ثم إن الله تعالى قال: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194192].
والقرآن المحفوظ في صدور ذاكريه، رووا أن ابن مسعود قال: «قال رسول الله: «استذكروا القرآن فهو أشد تفصيّا (1) من صدور الرجال (من النّعم) من عقله» (2).
وكلام الله مكتوب في المصاحف مشاهد بالأعين، قال تعالى: {وَكِتََابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 2، 3].
ولا تنفك بعض الألفاظ التي يوظفها الزمخشري في تفسيره من الإشارة إلى أن كلام الله حادث مخلوق يدل عليه قوله: «هذا المتلو عليهم، وقد عجزوا عنه من آخرهم» (3) وسيظهر لنا ذلك بعد التنبيه إلى النزاع في عهد المأمون والمعتصم والواثق، كان محصورا في خلق القرآن بين فرقة تقف عند القول: القرآن كلام الله كما قاله تعالى في كتابه، يقفون عند النص، ولا يتأوّلونه. وفرقة ترى العقل البشري ذا سلطة ومجال واسع يمكنه من البرهنة حتى على ما يتعلق بالله تعالى، فلم يكن للعقل بحسب هذه الفرقة حدود غير براهينه ولا خطأ له طالما كان
__________
(1) أشد تفصيا: أشد خروجا. انظر محمد صديق حسن خان القنوجي، قطف الثمر في بيان عقيد أهل الأثر، تحقيق د. عاصم بن عبد الله الفريوني، دار الإمام مالك، الجزائر، ط 2، 1414هـ، ص 69.
(2) انظر م ن، ص 70، هامش 146147.
(3) الكشاف، ج 1، ص 96.(1/353)
البرهان صحيحا، فكلما اعتقدوا حلّ المسائل الصعبة التي اعترضتهم تأوّلوا الآيات بما يطابق هذا الاعتقاد.
لكن النزاع في مسألة «خلق القرآن» في صورة تطابقها مع الألفاظ التي وظفها الزمخشري مثلما ذكرنا قبل قليل اتضحت بعد مجيء الأشعري (ت 330هـ) حين انتقل النزاع إلى فكرة أخرى (1) هي أن كلام الله يطلق على معنيين مثلما هو الشأن في الإنسان: يسمى متكلما باعتبارين: بالصوت وبالنفس فالذي يمثل المعنى القائم في النفس لا أثر فيه للصوتية وللحرفية غير أنه معنى نفسي يعبّر عنه بالألفاظ.
فإن تنوول ذلك على مستوى الله سبحانه رأينا كلامه معنى نفسيا وهو القائم بذاته وهو الكلام الأزلي القديم الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل، وإن تبدلت الألفاظ وتغيرت المعاني وهو الذي يقصد ويراد إذا وصف كلام الله بالقدم ويطلق عليه في الحقيقة كلام الله. أما القرآن بمعناه المقروء المتلو المكتوب فإنه المقصود عند المعتزلة بالكلام الحادث المخلوق لذا فإن تلفّظ الزمخشري بذلك يشير إلى هذه الخلفية. ويمكن الخلاف بينهم وبين الأشعرية في أن المعتزلة لا يثبتون كلاما لله تعالى سوى هذا، بينما أثبتت الأشعرية الكلام النفسي القائم بذات الله، ولا يسمون ما ذهب إليه المعتزلة كلام الله إلا على سبيل المجاز (2).
ومعنى اللطف عند المعتزلة وجه التيسير إلى فعل الخير والطاعة وترك الشر والمعصية. واختلفوا في الهدى الذي يفعله الله عز وجل في المؤمنين ما هو؟
فاختلف القائلون: «إن الله هدى الكافرين بأن بيّن لهم ودلّهم»، و «أن هذا هو الهدى العام» في الهدى الذي يفعله بالمؤمنين دون الكافرين على مقالتين:
فقال بعضهم: «إن الله هدى المؤمنين بأن سماهم مهتدين وحكم لهم بذلك، وأن ما يزيد الله المؤمنين بإيمانهم من الفوائد والألطاف هو هدى لقوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً} [محمد: 17]، وقال آخرون: إن الله هدى بأن
__________
(1) انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3ص 320.
(2) انظر أحمد أمين بن إبراهيم بن عيسى، توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت، 1406هـ ط 3، ج 1، ص 267.(1/354)
سمى وحكم، ولكن نقول: هدى الخلق أجمعين بأن دلّهم وبيّن لهم وأنه هدى المؤمنين بما يزيدهم من ألطافه وذلك ثواب يفعله بهم في الدنيا (1). فاللطف هداية يزيد الله عز وجل المؤمنين بإيمانهم فوائد وألطاف أي غمرهم سبحانه بعنايته فدلهم إلى الصواب لأن تكليف العباد يقتضي منه إزاحة العلل (2)، وتيسير الأسباب التي تجعل المكلف أقرب إلى فعل ما كلف به. فالمعتزلة يرون أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعلة لا ترجع إليه سبحانه لغناه عن ذلك وعدم حاجته إليه، وإنما ترجع العلة إلى الخلق لتتحقق منفعتهم (3). ولكي يتم تحقيقها لا بدّ من أن يقدرهم الله عز وجل على فعل ما هو واجب. قال جمهور المعتزلة: إنه لا يفعل بالعباد كلهم إلا ما هو أصلح لهم في دنياهم وأدعى لهم إلى العمل بما أمرهم به، وإنه لا يدّخر عنهم شيئا يعلم أنهم يحتاجون إليه في أداء ما كلفهم أداءه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة التي يستحقون عليها ثوابه الذي وعدهم (4)، وعلى هذا ذهب الزمخشري في قوله تعالى: {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] إلى أن ما اختص به المؤمنون من صفة التقوى «استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم» (5). فالحالة التي عليها المؤمنون استوجبت لطف الله تعالى الذي إذا فعله سبحانه وفّق العبد لمزيد من الإيمان إذ لا تخلو أفعال الله عند المعتزلة من ألطاف تقوي الدواعي وتزيد الصوارف، وبهذا يتمكن الإنسان من اختيار الواجب وتجنب القبيح. أو كما قال القاضي عبد الجبار قبله حين عرّف اللطف: «هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح أو ما يكون عنده أقرب إلى اختيار أو إلى ترك القبيح» (6). وقد أكد القاضي عبد الجبار على ضرورة اللطف التي استوجبها الزمخشري بعده فقال: «إنه تعالى إذا كلف المكلف وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار
__________
(1) الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 325324.
(2) م ن، ج 1، ص 313.
(3) م ن، ج 1، ص 318.
(4) م ن، ج 1، ص 313.
(5) الكشاف، ج 1، ص 138، 139.
(6) شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 187.(1/355)
عنده الواجب واجتنب القبيح، فلا بد أن يفعل به ذلك الفعل وإلا عاد بالنقص على غرضه» (1).
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]:
«فإن قلت فلم قدمت العبادة على الاستعانة؟ قلت: لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها» (2) فوجه تقديم العبادة على الاستعانة يرجعه إلى أنه لما كانت العبادة تقربا بالأفعال إلى الله تعالى فإن تقديم الاستعانة عليها أولى.
ثم تساءل قائلا: فلم كان تقديم العبادة؟ فأجاب بأن الاستعانة طلب الحاجة بينما العبادة وسيلة لتحقيقها. ويرى أن تقديم العبادة باعتبارها وسيلة إنما هو ليستحقوا الإجابة وليكونوا جديرين بذلك. وأضاف أن الأحسن أن تطلب الاستعانة بالله وبتوفيقه لتأدية العبادة، فتصبح العبادة بهذا التفصيل الأخير مقصودة لذاتها والإعانة وسيلة إليها على عكس ما ذكره في جوابه السابق. وإذا كانت السعادة الأبدية هي المطلب الحقيقي في كل ذلك فإن العبادة التي تعد وسيلتها لا تكفي، وإنما تعوزها الاستعانة بالله عز وجل وبتوفيقه للفوز بها (3).
أما قول الزمخشري: «ليستوجبوا الإجابة إليها» فإن قصده فيما يبدو هو أن يستحقوا وأن يكونوا جديرين به ولا يقصد أن ذلك واجب على الله لأنه سبحانه: {فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} [هود: 107] (4) أما توجيه المعنى إلى الوجوب على الله فمردود في الدليلين: الشرعي والعقلي. جاء منه في معتقد أهل السنة أن العبد لا يوجب على ربه جزاء أو وجوب الخير، تعالى الله عن هذا، لأن الثواب فضل من الله يحصّله العباد من الإعانة على العبادة في الدنيا، ويظفرون به بتوفيقه، ويتأتى من صنوف النعم في الآخرة فليس ذلك واجبا على الله تعالى بل هو
__________
(1) م ن، ج 2، ص، 189مظاهر اللطف الإلهي متعددة: أولها منح العباد العقل، الثاني: التكليف الذي هو إعلام الغير أن له أن يفعل أو أن لا يفعل نفعا أو دفعا لضرر. الثالث: إرسال الله تعالى الرسل للعباد إذ يكون إعلامهم بالتكليف عن طريق الرسل. الرابع: الهداية والتوفيق: انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة ص 232233234235. والكشاف، ج 1، ص 6665.
(2) الكشاف، ج 1، ص 65، 66.
(3) انظر م ن، ج 1، ص 66.
(4) وانظر: البروج: 16 {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ}.(1/356)
فضل وإحسان منه. وإذا كان الدليلان الشرعي والعقلي لا يوجبان على الله سبحانه وتعالى شيئا فإنه قد قام في العقل والشرع بأن خبر الله صدق وبأن وعده حق واجب الحدوث عقلا لذلك فسروا قصد الزمخشري «ليستوجبوا» بأنه يحتمل أمرين (1): إما تسامح الزمخشري في ذكر الاستجابة فيكون قصده وجوب صدق خبر الله تعالى، فلا إشكال. وإنما أنه يريد تبني إحدى قواعد الاعتزال التي توجب على الله الخبر وإن لم يكن وعد (2).
ويمكن أن نفهم منهم هذا فيما فرّعوه من مباحث تتعلق بالتوحيد حيث تعمقوا فيما يتصل بالعدل وفرّعوا فيه مباحث يهمنا منها ما يرتبط بسياقنا ممثّلا في نظرية «الأصلح» الاعتزالية التي تعني أن الله سبحانه يسمع الدعوة التي هي لمصلحة الداعين، وبأن كل فعل من أفعاله لا يخلو من الصلاح والخير (3). وهي مسألة بحثها المعتزلة في إطار «اللطف» الإلهي وأوضحوا فيها العلاقة بين خلق الإنسان لفعله وقدرته عليه بين العناية الإلهية التي درجوا على تسميتها اللطف الإلهي الذي معناه التيسير إلى فعل الخير والطاعة، وتجنب الشر والمعصية (4) أي أن الله عز وجل
__________
(1) انظر ابن المنير، الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال هامش الكشاف ج 1، ص 65.
(2) أوجب المعتزلة على أصلهم أمورا: 1اللطف الذي يقرب العبد للطاعة ويبعده عن المعصية مثل بعثة الأنبياء. 2الثواب على الطاعة المستحقة. 3العقاب على المعصية 4الأصلح للعبد في الدنيا. 5
العوض عن الآلام، لم يوجبوا تعويض الألم الواقع جزاء من سيئة. انظر الإيجي المواقف في علم الكلام، ص 328، وانظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 323، 324ود. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 380379، وقد رأى الرازي (ت 606هـ) في قوله تعالى:
{إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} أن معرفة العبودية مبنية على مبدأ ولها كمال يتمثل مبدؤها أو أولها في الانشغال بالعبودية وهو المراد بقوله تعالى: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} أما كمالها فإدراك العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعته إلا بتوفيقه، فعند ذلك يستعين العبد في تحصيل كل الحاجات والمهامات وهو المراد بقوله {وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} مفاتيح الغيب، ج 1، ص 252.
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 313. وكذا جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 146، هامش رقم، 1وكذا زهدي جار الله المعتزلة، ص 110ود. سميح دغيم فلسفة القدر في فكر المعتزلة، 325324323.
(4) أوجب المعتزلة على الله تعالى اللطف وفسروه بأنه الذي يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية كبعثة الأنبياء، وقد ذكرنا هذا سابقا. انظر الإيجي، كتاب المواقف، تحقيق د. عبد الحي عميرة، دار الجيل، بيروت 1977م، ج 3، ص، 283ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 132133.
وصرفت المعتزلة التوفيق إلى خلق لطف يعلم الله تعالى أن العبد يؤمن عنده، وحملوا الخذلان على(1/357)
يقصد من أعماله نفع عباده وصلاحهم. وعند بعضهم أن رعاية الله سبحانه لمصالح عباده واجبة عليه. بل لم يقفوا عند هذا الحد وإنما قالوا: بأنّ الواجب عليه رعاية الأصلح (1) تعالى الله عز وجل عن ذلك. ولقد وافق بعض المعتزلة على جوهر هذه الفكرة بيد أنهم أنكروا على المصرّحين بها صيغة الوجوب وفضّلوا عوضها قولهم بأن هذا هو النظام أو القانون الذي يقصد إليه الله في أعماله (2)، وقد عورض هذا بدوره، وأسست المعارضة فيه على أن أعمال الله عز وجل ليست معللة بغرض وليس الباعث عليها غاية، لأن العالم يتضمن شرورا كثيرة ومفارقات مختلفة لا نقدر على تفسير ما فيها من المصلحة (3). وفكرة الوجوب على الله عند الزمخشري تبدو واضحة في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى اللََّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهََا جََائِرٌ وَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] فقد قال: «ومعنى قوله: {وَعَلَى اللََّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه كقوله: {إِنَّ عَلَيْنََا لَلْهُدى ََ} [الليل: 12] (فإن قلت: لم غيّر أسلوب الكلام في قوله: {وَمِنْهََا جََائِرٌ}؟ قلت: ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل: وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر»
__________
امتناع اللطف، ولا يقع في علوم الله عندهم اللطف في حق كل أحد بل منهم علم تعالى أنه يؤمن إذا لطف به ومنهم من علم أنه لا تزيده إلا تماديا في الطغيان وإصرارا على العدوان. انظر اليافعي (عبد الله ابن أسعد بن علي) كتاب مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة، ص، 165وانظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر، ص 132وما بعدها.
(1) اختلف المعتزلة في أقوال اللطف، ولكن معظم أقوالهم تقرّر أن الله تعالى فعل الأصلح لعباده فيما كلفهم به ولم يدخر شيئا عنهم مما قد يحتاجون إليه في فعل ما كلفوا به، ونصوا أن هذا واجب عليه تعالى، أما ما عدا ذلك فليس سوى نوع من التفضل ليس واجبا عليه. انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص، 313والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 2120.
(2) انظر د. أحمد محمد الحوفي، الزمخشري، ص 140.
(3) انظر م ن، ص 140
لقد كان النظام أكثر المعتزلة تأكيدا لنظرية الصلاح والأصلح موجبا على الله تعالى بأن يفعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده، وبذلك كان أقرب من معتزلة بغداد الموجبين على الله فعل الأصلح لعباده في دينهم ودنياهم إلا أن البصريين خالفوهم، أنكروا ما ذهبوا إليه في الوجوب لأنهم رأوا بأن الله لم يدخر عن عباده شيئا مما يعلم أنه لو فعله بهم لانتفعوا وحققوا مصلحتهم. انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 334.(1/358)
ثم أضاف: «وقرأ عبد الله منكم جائر يعنى ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره والله بريء منه» (1).
ويبني المعتزلة توحيدهم لله تعالى على أنه واحد تام الأحدية منزه عن الأجزاء المقدارية التي عليها الأجسام، ويخلو من الأجزاء المعنوية المعقولة لذوات البشر المركبة من الماهية والتشخّص (2)، فأدى بهم هذا إلى إثارة مسألة «صفات الله» هل هي عين ذاته عز وجل أو غير ذاته لارتباط هذا بمعنى التوحيد الذي اعتقدوه.
ورأوا ذات الله تعالى وصفاته شيئا واحدا. وهو ما ذهب إليه الزمخشري في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مََا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللََّهُ وَيَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29]. فبين أن معنى قوله عز وجل:
{وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قادر على عقوبتكم، وبأنه بيان لقوله تعالى:
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللََّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] معللا ذلك بقوله: «لأن نفسه وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي لا تختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدورات كلها فكان حقها أن تحذر وتتّقى» إلى أن قال: «فما بال من علم أن العالم الذات الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن» (3). وتساءل في قوله تعالى: {فَأَمََّا عََادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقََالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنََّا قُوَّةً}
[فصلت: 15] كيف يصح وصف الله تعالى بالقوة وهو الموصوف بالقدرة؟
وأجاب بأن قدرة الإنسان هي صحة بنيته واعتدال، وبأن القوة والشدة والصلابة في البنية وحقيقتها زيادة في القدرة، ثم ذكر رأيه المذهبي: «كما صح أن يقال الله أقدر منهم جاز أن يقال: أقوى منهم على معنى أنه يقدر لذاته على ما لا
__________
(1) الكشاف، ج 2ص 403.
(2) انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص، 28وكامل محمد محمد عويضة، الزمخشري المفسر البليغ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1994م، ص 178.
ذكر أحمد أمين أن المعتزلة أول من أثار موضوع = صفات الله = ولم يعهد ذكر كلمة = صفات الله = في القرآن الكريم أو الحديث الصحيح، إنما جاء ذكر قوله عز وجل: {سُبْحََانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمََّا يَصِفُونَ}
[الصافات: 180]، ونحوه لكن المعتزلة هم الذين أعطوا هذه المسألة هذه الدرجة من الجدل الواسع في علم الكلام. انظر ضحى الإسلام، ج 3ص 2928.
(3) الكشاف، ج 1، ص 423.(1/359)
يقدرون عليه بازدياد قدرهم» (1) وقال في الآية الكريمة: {قََالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4] بأنه تعالى قصد وصف ذاته «بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية» (2). ويبدو بأنه ينزه الله تعالى وذلك بإقراره اتصافه بصفتي العلم والسمع كاعتبار عقلي لذات واحدة ويتضمن القول إنكاره كسابقيه اعتبار الصفات وراء الذات الإلهية. ورأى في قوله عز وجل:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذََلِكَ فِي كِتََابٍ إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ}
[الحج: 70] أن العلماء يدركون بأن الله عز وجل يعلم ما يحدث في السماء والأرض وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل حدوثه لأنه سبحانه العالم بذاته لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم (3) ولأن إحاطته بذلك وإثباته وحفظه أمر عليه يسير.
ويشير الزمخشري في تفسيره للآية الكريمة: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ}
[النمل: 93] إلى أنه سبحانه وتعالى يعلم كل ما يقومون به وهو غير غافل ولا ساه عما يفعلونه لأن الغفلة والسهو غير جائزين على عالم الذات (4) ويستدل في قوله عز وجل: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا فَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمََّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] بأنه دال على أحدية الله التامة في تدبير السماوات والأرض فهو وحده الذي فطرهما دون مشاركة من غيره في التدبير لأنه لو كان ذلك لفسدتا قائلا: «والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا. وفيه دلالة على أمرين: أحدهما وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا والثاني: أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده لقوله: «إلا الله» ثم تساءل عن وجوب هذين الأمرين ليجيب معللا منطلقا من الواقع بأنه راجع إلى معرفتنا أن الناس تفسد بتسيير الملكين لما يحدث بينها من التصارع والتنافر والاختلاف. ولأنه مردود في طريقة التمانع المبسوطة لدى المتكلمين ولأن هذه الأفعال تعوزها تلك الذات المتميزة بتلك الصفات لتثبت وتستقر. ولئن كان
__________
(1) م ن، ج 3، ص 449448.
(2) م ن، ج 2، ص 562.
(3) م ن، ج 3، ص 22.
(4) م ن، ج 3، ص 164.(1/360)
الملوك لا يسألون عما يوردونه في مملكتهم هيبة وإجلالا رغم جواز زللهم وفسادهم فإن الله تعالى ملك الملوك وربّ الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع أن العقل دال على أن كل ما يفعله إنما هو مفعول بدواعي الحكمة ولا يجوز عليه الخطأ أو فعل القبائح (1).
ولا ينفي المعتزلة صفات الكمال عن الله عز وجل كما يرى هذا أهل السنة، وإنما يقولون بأن الصفات خارجة عن الذات الإلهية فتوهم بالتعدد الذي يتنافى مع التوحيد لذا قال الزمخشري في الآية: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ََ}
[طه: 81].
والذي جرّ الزمخشري، حسب أهل السنة إلى القول بأن في الكائنات ما ليس مخلوقا من الله تعالى لقبحه شبيه بمفهومه للخداع في الآية: {يُخََادِعُونَ اللََّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمََا يَخْدَعُونَ إِلََّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9]، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية فلا يتصور أنه يخدع. وهو سبحانه حكيم لا يفعل القبيح. أما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا (2). فالزمخشري يمنع أن يكون الله مخدوعا لكونه عالما بذاته، تعم عالميته كل كائن فلا يخدع إذ نسبة الذات إلى الكائنات واحدة، ولا يتم استحالة كون الله تعالى خادعا إلا باستحالة صدور بعض الكائنات عنه لأنه قبيح.
وقال عند تفسيره قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] فإن قلت: «كيف قيل: {عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل وفعل قادر آخر؟ قلت: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا، فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها فكأنه قيل: على كل شيء مستقيم قدير. ونظيره فلان أمير على الناس: أي على من وراءه منهم، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس» (3). يفهم منه أن الشيء، يتناول عند المعتزلة الموجود والمعدوم الذي يصح وجوده (4) ولا يتناول
__________
(1) م ن، ج 2، ص 568.
(2) م ن، ج 1، ص 170.
(3) م ن، ج 1، ص 222.
(4) انظر نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام، الغائية عند الأشاعرة، ص 23.(1/361)
المستحيل. ويبدو أن توغل المعتزلة في الجدل الكلامي حول مسألة المعدوم هو الذي أدى إلى قولهم بأن المعدوم شيء لأنه موضوع للفكر، فمثله مثل الموجود لا بدّ أن يكون له نوع من الوجود، وأقل ما فيه من الثبوت أن التفكير يتعلق به وعلى هذا وقع التساؤل: لم لا يفكر الإنسان في المعدوم بدلا من أن لا يفكر أصلا؟ (1)
وقولهم بشيئية المعدوم متأتّ من إقرارهم الماهيات (2) قبل دخولها إلى الوجود وبذلك يمكن تصور الماهيات دون أن يكون لها وجود في الخارج لأنهم يعتقدون أن الوجود زائد عليها وهي معروضة له وقد تخلو عنه، وبمعنى آخر: إنّ من أثبت المعدوم شيئا لا بد أن يقرّ زيادة الوجود عليها كالقائل باتحادهما لا يقر بماهيات سابقة على الوجود المتحقق (3).
والمعدوم عند الأشاعرة منتف، ليس بشيء. قسّمه الباقلاني (ت 403هـ) إلى (4):
معلوم معدوم لم يوجد ولن يوجد وهو المحال الممتنع الذي ليس بشيء، وهو الذي يحمل القول المتناقض كاجتماع الضدين ووجود الجسم في مكانيين.
ومعدوم لم يوجد قط، ولن يوجد لأن الله عز وجل قدّر ألّا يوجد وأخبر بذلك، وهو مما يصح، ويمكن أن يوجد كرد أهل المعاد إلى الدنيا، وخلق مثل العالم، وأمثاله مما علم وأخبر أنه لا يفعله، وإن كان مما يصح أن يفعله الله تعالى.
ومعلوم معدوم في الآن أو في وقتنا هذا، ولكنه سيوجد فيما بعد كالحشر والنشر والجزاء والثواب والعقاب وقيام الساعة.
ومعلوم آخر هو معدوم في هذا الوقت بيد أنه كان موجودا من قبل نحو الذي مضى من أحوالنا وتصرفنا.
__________
(1) انظر دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 100.
(2) تطلق الماهية على الأمر المتعلق كالمتعلق من الإنسان وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود، والأمر المتعلق من حيث أنه معقول في جوابه هو سمي ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج سمي حقيقة.
ومن حيث امتيازه عن غيره هوية، ومن حيث جمل اللّوازم له ذاتا». الجرجاني، التعريفات، ص 209.
(3) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 53.
(4) كتاب التمهيد، ص 15، 16.(1/362)
ومعلوم معدوم تتساوى فيه احتمالات أن لا يكون أو لا يكون ولا يدرى أيكون أم لا يكون نحو ما يقدر الله تعالى عليه مما لا نعلم أيفعله سبحانه أم لا يفعله من تحريك الساكن من الأجسام وتسكين متحركها.
ويبسط الزمخشري في تفسيره السابق مذهبه في أنّ ما تعلّقت به قدرة الإنسان يمتنع أن تتعلق به قدرة الله تعالى لأن قدرة العبد عند المعتزلة خاصة يستغني الفعل بها عن قدرة خالق آخر وهو ما لم يوافق عليه أهل السنة لأن القادر الخالق عندهم واحد هو الله وحده، تتعلق قدرته بالفعل فيخلقه وتتعلق به قدرة العبد تعلق اقتران لا تعلق تأثير لانتفاء أن يخلق مقدورا بين قادرين. قال الرازي: «إنه تعالى أجرى عادته بأن الإنسان الذي تكون أعضاؤه سليمة ومزاج بدنه يكون خاليا من الأسقام والأمراض إذا خلق فيه إرادة حصول شيء، فإنه يخلق ذلك المراد على وفق تلك الإرادة. والحاصل: أن مقارنة الفعل مع حصول القدرة والإرادة معلومة فأما كون الفعل به فذاك البتة غير معلوم. ومن قال خلاف ذلك كان مكابرا معاندا» (1).
وقد اعترض البيضاوي (2) (ت 791هـ) على الكشاف. قال في قوله تعالى:
{إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية. ما يريد الله وجوده وجد على الجملة، وهو خالق كل شيء فالأمران على عمومهما بغير استثناء لا يصح فيهما الوجوب ولا الامتناع. والمعتزلة لما قالوا: «الشيء ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل والقدرة وهو التمكن من إيجاد الشيء، وقيل: صفة تقتضي التمكن، وقيل: قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من العقل. وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عنه، والقادر هو الذي إن شاء الله فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
__________
(1) القضاء والقدر، ص 224. وانظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 223222.
(2) هو عبد الله بن عمر محمد الشيرازي البيضاوي نسبة لقرية البيضاء من أعمال شيراز، وهو قاض ومفسر وعالم بالفقه والأصلين والعربية والمنطق والحديث من أعيان الشافعية، لخص في تفسيره المعروف بتفسير البيضاوي من الكشاف ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان: انظر عادل نويهض، التفسير والمفسرون، ج 1، ص 318.(1/363)
والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير البارئ» (1).
والزمخشري يقصد في الكشاف: أن الشيء بمعنى ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيشمل الواجب والمستحيل فيحتاج إلى استثنائهما عقلا لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين، لا يكفي التخصيص بالممكن في تصحيح قوله تعالى: {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] على مذهبهم من وجهين:
أنه ما ثبت أن كل ممكن فهو مخلوق الله تعالى إذ يجوز أن يكون ممكن لا يوجد أصلا ولم تتعلق الإرادة بوجوده.
وأنهم ذهبوا إلى أن العبد خالق لأفعاله بل نقول: إذا لم يمكن يكون مقدور بين قادرين كما هو مذهب جمهور المعتزلة (2) لا بدّ أن يستثني على مذهبهم أفعال العباد عن قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]، ولا يرد هذا على مذهب أهل السنة = فإن الشيء إذا كان بمعنى المشيء فكل شيء مقدور ومخلوق على حسب المشيئة = قاله عن الكازروني (3). إن حقيقة الشيء عند المعتزلة المعلوم، وبمقتضى هذا رأوا أن كل معدوم شيئا. أما مفهومه عند الأشاعرة فالثابت أو الموجود أي أنهم يرون المعدوم ليس شيئا. وإذا كان المعتزلة قد ذهبوا إلى أن الله تعالى قادر لذاته (4) لصحة الاختراع منه ولعدم تناهي مقدوره في الجنس والعدد
__________
(1) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 102.
(2) قال الشحام من المعتزلة: «إن الله يقدر على ما أقدر عليه عباده وإن حركة واحدة مقدورة تكون مقدورة لقادرين لله وللإنسان فإن فعلها القديم كانت اضطرارا، وإن فعلها المحدث كانت اكتسابا وإن كل واحد منهما يوصف بالقدرة على أن يفعل وحده لا على أن القديم يوصف بالقدرة على أن تكون الحركة فعلا له وللإنسان، ولا يوصف الإنسان بالقدرة على أن تكون الحركة فعلا له وللقديم، ولكن يوصف الباري بأنه قادر أن يخلقها ويوصف الإنسان بأنه قادر أن يكتسبها»: الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1 ص 274، ج 2، ص 228. وقال غيره «إبراهيم» و «أبو الهذيل» وسائر المعتزلة والقدرية: «لا يوصف الباري بالقدرة على شيء يقدر عليه عباده ومحال أن يكون مقدور واحد لقادرين» م ن، ج 2، ص، 28 ومن براهين فخر الرازي: «أن مقدور العبد شيء وكل شيء مقدور لله لقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]. ينتج أن مقدور العبد مقدور لله تعالى»: القضاء والقدر، ص 78.
(3) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 102.
(4) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 334، والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 57وكذا د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 328.(1/364)
ولاستحالة امتناع ذلك عليه، فإن الأشاعرة خالفوهم لأنهم ذهبوا إلى أن الله تعالى قادر بقدرة وقدرته تشمل كل الممكنات فهو تعالى قادر على إيجاد كل ممكن ومستقل بإيجاده لأنه سبحانه وتعالى المؤثر التام الذي يجب وقوع أثره ويستغني عن غيره. ولا توجد مماثلة بين قدرته عز وجل وقدرة المخلوقين لأن صفاته تعالى وذاته تغاير صفات المخلوقين وذواتهم (1). أما الزمخشري فرأى بأن المراد بلفظ الشيء وما قام مقامه هو أعم العام كما أن لفظ الله أخص الخاص لا يقبل الشركة بأي وجه ولا يصح إطلاقه على غيره عز وجل. وقد استشهد في تعريف ذلك بقول سيبويه: «ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو (أو) (2) أنثى (3)؟ ثم قال هو: «والشيء مذكر وهو أعم العام، كما أن الله أخص الخاص يجري على الجسم والعرض والقديم، تقول: شيء لا كالأشياء أي معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال» (4) وقال في موضع آخر: «المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء» (5).
وإذا كان الأشاعرة قد فهموا من قول المعتزلة بشيئية المعدوم أنهم يقولون بقدم العالم، فإن بعض الدارسين مثل (علي النشار) قد علّق على رأي الأشاعرة، ونفى أن يكون المعتزلة قصدوا ذلك، وإنما قسموا الأشياء إلى موجودة ومعدومة، ومن أن الأشياء كانت جميعها معدومة قبل الوجود ثم استمدت وجودها من الله تعالى
__________
(1) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 215، 286.
(2) ورد النص في كتاب سيبويه (أذكر هو أو أنثى) وفي كشاف الزمخشري «أم أنثى».
(3) الكتاب، ج 1، ص 22 (هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية).
(4) الكشاف، ج 1، ص 222.
(5) م ن، ج 1، ص، 305قال الخوارزمي (محمد بن أحمد بن يوسف ت 387هـ): «الشيء هو ما يجوز أن يخبر عنه وتصح الدلالة عليه. والمعدوم ما يصح أن يقال فيه: هل يوجد، والموجود هو ما يصح عنه سؤال السائل: هل يعدم إلى أن يجاب عنه بلا أو نعم، وقيل: الموجود هو الكائن الثابت، والمعدوم هو المنتفي الذي ليس بكائن ولا ثابت () والقديم هو الموجود ولم يزل () والجسم عند المعتزلة:
المجتمع من الجواهر طولا وعرضا وعمقا = وعرّف الجوهر: «بأنه المحتمل للأحوال والكيفيات المتضادات على مقدارها والمحال كجمع المتناقضين في شيء واحد في زمان واحد في جزء واحد وإضافة واحدة» مفاتيح العلوم، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1989، ص 43، 161، وعرفه الآمدي (ت 631هـ): «الجوهر عبارة عن المتحيز وهو ينقسم إلى بسيط ومركب ويعبر عنه بالجوهر الفرد، وإلى مركب وهو الجسم» د. عبد الأمير أعسم، الفيلسوف الآمدي دراسة وتحقيق، دار المناهل، بيروت، ص، 110أما العرض = فعبارة عن الموجود في موضوع» م ن، ص 111.(1/365)
فمن مادة العدم وجد العالم. والله عز وجل هو مانح الوجود، لذا قصدوا بتقسيمهم الأشياء إلى هذين القسمين تنزيه ماهية الله المطلقة عن أن تشابه ماهية العالم ومن أن فعله فقط منح الوجود للمعدوم (1). ويتفق موقفنا في هذا مع ما ذهب إليه بعض الدارسين (2) وهو كيف يكون المعدوم شيئا قبل أن يوجد لأن لفظ الشيء يطلق على ما هو موجود؟، وقد رأى الخياط ذلك قائلا: «إن الأشياء لا تكون أشياء قبل كونها» (3). ويبدو من قول علي النشار: أن فعل الله هو الذي منح الوجود للمعدوم معناه أن فعل الله عز وجل هو منح الأشياء للأشياء على ما قاله. وظاهر أن التناقض بيّن هاهنا.
وقد أوجب المعتزلة في التفسير اتباع الدليل العقلي وردّ ما خالفه، ودعوا إلى حمله على ما يقبله العقل. أشار إلى هذا ابن المرتضى فيما ورد من النصوص التي ينافي ظاهرها عصمة الأنبياء مثلا ويقتضي وقوع الخطإ منهم مبينا أن في الكلام ما هو حقيقي وما هو مجازي، وقد يعدل المتكلم به عن ظاهره، وأدلة العقول لا يصح فيها ذلك.
وجاء من هذا الكثير في كلام الله العزيز ما يوحي بالانتقال والحركة والتجسيم (4)، والله منزّه عن ذلك فلا بد من العدول عما يقتضيه ظاهر الألفاظ فيه وتأوّله (5).
ويظهر تمسك الزمخشري بالدليل العقلي هذا في تفسيره قوله: {قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} [البقرة: 111] فقد رأى أن الآية أهدم شيء لمذهب المقلدين وبأن خلوّ أي قول من دليل عليه يجعله باطلا غير ثابت (6)، وقوله في
__________
(1) انظر نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف القاهرة، ط 7، 1973، ج 1، ص 426.
(2) انظر د. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 529.
(3) الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص، 108ود. سعيد مراد، مدرسة البصرة الاعتزالية، ص 328.
(4) قوله تعالى: {جََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]. وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ وَالْمَلََائِكَةُ} [البقرة: 210].
(5) انظر أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد) ج 2، ص 399.
(6) انظر الكشاف، ج 1، ص 305.(1/366)
الآية الكريمة: {هََؤُلََاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلََا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطََانٍ بَيِّنٍ}
[الكهف: 15] بأنه «تبكيت لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد وأنه لا بد في الدين من الحجة حتى يصح ويثبت» (1). وفسّر قوله عز وجل بما يعزز رأيه في ضوء منهج القول بالدليل العقلي: ف {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكََائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللََّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لََا يَهِدِّي إِلََّا أَنْ يُهْدى ََ فَمََا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35] معناه أن الله وحده الذي يهدي للحق بما خلق في العباد المكلفين من العقول، وبما منحهم من التمكين لينظروا في الأدلة بهذا الكون وبما منحهم من ألطافه ووفقهم وألهمهم به، وبما أرسله تعالى إليهم من الشرائع (2) فليس ثمة هداية غير هداية الله تعالى تهدي إلى الحق وتوصل إليه.
ومن تفسيره بالدليل العقلي قوله في الآية: {فَلََا يَصُدَّنَّكَ عَنْهََا مَنْ لََا يُؤْمِنُ بِهََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ فَتَرْدى ََ} [طه: 16] بأن المعنى: اعلم أنهم وإن كثروا بعددهم فإنهم اتبعوا الهوى وجعلوه قدوتهم، فهم لم يتخذوا البرهان في إيمانهم، ولم يعتمدوه ويتدبروه، ولا ريب في أن هذا حث على الدليل ودعوة إلى العمل به (3).
إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى عند المعتزلة لأنه قبيح تعالى الله عنه، فقد قالوا في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:
125]: إن الله تعالى يريد أن يضل الكافر، وإضلاله إياه تسميته إياه ضالا، وحكمه عليه بما كان منه من الضلال، فالله تعالى لا يضل أحدا. والإضلال عدم منح العبد الإلطاف وتركه مفتونا وتخليته بحاله لأنه ليس أهلا للإلطاف بصفاته وأفعاله، فيختار الضلالة (4) وقد اختلفوا في معناه فبعضهم أو أكثرهم على أنه التسمية لهم والحكم بأنهم ضالون كما سبق أو أنه ترك إحداث اللطف والتسديد الذي يفعله الله بالمؤمنين، وهذا الترك يحتمل أن يكون هو المراد به الإضلال.
__________
(1) م ن، ج 2، ص 474.
(2) م ن، ج 2، ص 237.
(3) م ن، ج 2، ص 533.
(4) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ج 1، ص 325.(1/367)
وذهب بعضهم إلى أن المراد به إهلاك الله تعالى إياهم أي عقوبة منه لهم.
والإضلال عن الدين عند أهل الإثبات قوة عن الكفر. وقال بعضهم: الإضلال عن الدين هو الترك وهو قول «الكوماني». وذهب بعضهم إلى أنّ أضلّهم معناه خلق ضلالهم. والمعتزلة امتنعوا عن أن يقولوا: إن الله عز وجل أضلّ عن الدين أحدا من خلقه (1).
ولم يخرج الزمخشري عما سبق حين فسر قوله عز وجل: {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} [البقرة: 26] رأى أن إسناد الإضلال إلى الله عز وجل ليس على حقيقته، وإنما هو على سبيل المجاز لأن المعتزلة يحملون ظاهر النص المخالف لأصولهم على التأويل، فرأوا في ضوء هذا أن الله سبحانه لم يخلق الإضلال ولم يفعله لذا أسند إلى الله إسناد الفعل إلى السبب فكما أن السلة التي حوت دجاجا وأخبصة كانت سببا لقيود أحد المحبوسين: سئل مالك بن دينار عن قيده فرفع رأسه وإذا سلة معلقة فسأل عما تحتويه فأنزلت إليه وعرف ما فيها من دجاج وأخبصة فأجاب سائله: «هذه وضعت القيود على رجلك» فكذلك جاء إسناد الإضلال إلى الله تعالى على غير حقيقته ثم ذكر من الأسرار البلاغية على ذلك:
تسمية العهد بالحبل في قوله تعالى: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ} [البقرة: 27] على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الارتباط بين المتعاهدين. وما ذكره ابن التيهان للرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة: «يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها فنخشى إن الله عز وجل أعزك وأظهرك أن ترجع إلى قومك»، ومنه القول: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس فنبّهت على الشجاع بأنه أسد، وعلى العالم بأنه بحر، وعلى العهد قبل ذلك بأنه الموثق. وكان العرب يسكتون عن ذكر الشيء المستعار ويرمزون إليه ببعض ما يدل عليه. ثم بيّن المراد من الآية: هم الذين نقضوا عهد الله من أحبار اليهود المتعنتين أو منافقوهم أو الكفار كافة موضحا أن عهد الله ليس سوى ما ركّزه في عقولهم من الحجة على التوحيد أمرا وصّاهم به ووثقه عليهم (2). فهو يرى على قاعدة الاعتزال أن
__________
(1) انظر م ن، ج 1، ص 325، 326والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص، 244وتفسير البيضاوي ج 2، ص، 187ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة 132133.
(2) الكشاف، ج 1، ص 268267.(1/368)
الإضلال (1) باعتباره تسمية بالضلال لم يخلقه الله تعالى لأنه لا يفعل القبيح، وبأن كل أفعاله حسنة (2) ونحن نجد تفسيره على هذا الأساس الاعتزالي في كثير من الآيات منها ما قاله في الآية: {قُلْ مَنْ كََانَ فِي الضَّلََالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمََنُ مَدًّا حَتََّى إِذََا رَأَوْا مََا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذََابَ وَإِمَّا السََّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكََاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} [مريم: 75] من أن «المراد بالضلالة ما دعاهم من جهلهم وغلوّهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه ولا ينفكّون عن ضلالتهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدماتها» (3) أو ما فسّر به قوله عز وجل: {مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] «أي يخذله ويخلّه وضلاله لم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف» (4). ولا شك في أن تفسيره ينسجم مع معتقد المعتزلة المبني على أن الله تعالى لا يخلق الهدى ولا الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد وهو ما ردّه أهل السنة. ولم يخرج عن هذا المعنى في تفسير الآية: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلََا تَزِدِ الظََّالِمِينَ إِلََّا ضَلََالًا} [نوح: 24].
حين قال: «فإن قلت كيف جاز أن يريد ولم يخرج عن هذا المعنى في تفسير الآية لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت: المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به بل لا يحسن الدعاء بخلافه» (5).
__________
(1) قال ابن المرتضى اليماني: «الإضلال من جنس العقاب، وقد دل السمع على أن الله خلق الخلق في الابتداء على الفطرة نعمة ورحمة لأوليائه ونقمة وحجة على أعدائه. ودل القرآن على أن الله تعالى يبدأ باللطف ثم يعاقب من يشاء ممن لم يقبل اللطف، قال تعالى: {إِنََّا هَدَيْنََاهُ السَّبِيلَ إِمََّا شََاكِراً وَإِمََّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]. وقال: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] وغيرها. ودل السمع على أنه تعالى يبتدئ بالإحسان من غير استحقاق، ولا يبتدئ بالعقوبة من غير استحقاق بل يمهل بعد الاستحقاق ويحكم، ويكرر الحجة ويعذر، ويعفو عن كثير ثم ينتقم ممن يشاء بالحكمة البالغة، ويعفو عمن يشاء بالرحمة الواسعة ()، وما كان على جهة العقوبة لم يفعله الله بالعبد ابتداء قبل الاستحقاق، وما كان على جهة الابتداء الذي لا يصح التكليف إلا به فعله، وما زاد على ذلك مما يقع عنده المعاصي فهو مسألة الخلاف»: إيثار الحق على الخلق دار الكتب العلمية، بيروت، ص 273274.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 3.
(3) الكشاف: ج 2، ص 522
(4) م ن، ج 2، ص 17.
(5) م ن، ج 4، ص 164.(1/369)
وقد استدل المصنف من خلال الآية: {فَرِيقاً هَدى ََ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ}
[الأعراف: 30] أنه لا أثر لله تعالى في ضلال الضالين لقوله: {إِنَّهُمْ} إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيََاطِينَ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله (1).
وذهب في تأويل قوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى ََ هُدََاهُمْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمََا لَهُمْ مِنْ نََاصِرِينَ} [النحل: 37] يعد بيان المراد بالإضلال بأنه الخذلان المناقض للنصرة أنه تعالى: «ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة وأنه لا يهدي [من يضل] أي لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث والله تعالى متعال عن العبث لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه (2). ويواصل إقرار هذه الخلفية الاعتزالية في الآية: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[إبراهيم: 4] {فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ}: كقوله: {فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}
[التغابن: 2] لأن الله لا يضل إلا من يعلم أنه لا يؤمن، ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن، ثم يكرر معنى الإضلال بأنه التخلية ومنع الألطاف، وأن المراد بالهداية التوفيق واللطف. ثم بيّن بأنه كناية عن الكفر والإيمان، والله عز وجل لا يخذل إلا المتخاذلين ولا يلطف إلا بأهل اللطف (3). فالإضلال والهداية لمن شاء من عباده اقتضتها حكمته عز وجل ببناء الأمر في ذلك على الاختيار. وهو ما ذهب إليه كذلك في الآية: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَلََكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمََّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93] قائلا: «الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه. ويهدي من يشاء
__________
(1) م ن، ج 2، ص 76.
(2) م ن، ج 2، ص 409.
(3) م ن، ج 2، ص 367.(1/370)
وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان» ثم قال: «يعنى أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب» (1).
فما الذي يفهم مما أثبت الله عز وجل بأنه سيسألهم عما فعلوه؟ ألا يدل ذلك على أنه لم يضطرهم إلى الضلال؟ أما يفهم من هذا أن العباد هم المختارون لأفعالهم والقادرون عليها، وبأن معنى كسب الإنسان فعله ليس سوى أن الفاعل فعل بآلة وبجارحة وقوة مخترعة (2)، وأهل السنة يردون هذه الخلفية الاعتزالية لأنهم يرون وقوع الشيء بقدرة محدثة ومن ثمة يكون كسبا لمن وقع بقدرته (3)، ولا يخفى ما في هذا الرأي السني من إنكار أن يكون العبد هو الموجد لأفعاله، ولكنهم يقرّون مع هذا بأن لقدرة العبد أثرا لأن ذات الفعل وإن وقعت بقدرة الله سبحانه، فإنّ كونه طاعة ومعصية وصفات تحصل لها هي واقعة بقدرة العبد (4)، ذلك أن الأشاعرة يفرقون بين الفعل وصفته فالطاعة والمعصية صفة لا فعل تكتسب نتيجة للفعل من حيث كونه طاعة أو معصية. بينما يعنى بالفعل الخلق والإيجاد، في حين يقصد بصفته الاكتساب. ومن هنا يكون فعل الله سبحانه للطاعة عندهم معناه خلقه لها، فلا يعنى ذلك وصفه بها إلا أن الإنسان يوصف بأنه طائع عاص، وليس في وصفه بهذا ما يعني خلقه للطاعة والمعصية (5). وعلى هذا فالهداية دعاء للحق أو خلقه في القلوب كما أن الإضلال خلقه في قلوب أهل الضلال، وأن من أضله فبعدله ومن هداه فبفضله. ورأى كثير من أهل السنة أن القرآن الكريم اشتمل على آيات كريمة دلت على تفرد الله سبحانه بهداية الخلق وإضلالهم والطبع على قلوب الكفرة منهم. ولا ريب في أنها سندهم القوي السمعي أمام مخالفيهم (6)
__________
(1) م ن، ج 2، ص 426427.
(2) مقالات الإسلاميين، ج 2، ص 221.
(3) م ن، ج 2، ص، 221والباقلاني (ت 409هـ)، كتاب التمهيد، ص 307: قال: «معنى الكسب أنه تصرف في الفعل بقدرة تقارنه في محله فتجعله بخلاف صفة الضرورة من حركة الفالج».
(4) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة ص 307.
(5) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق ص، 125وكذا د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق العربية الإسلامية، ص 305، 306.
(6) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ص، 88كذا ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 397267، ج 3، ص، 450وجولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 172.(1/371)
لذا جعلوا آيات كثيرة ينصرف فيها معنى الهدى والإضلال إلى معنى الخلق والإيجاد مثل: {وَاللََّهُ يَدْعُوا إِلى ََ دََارِ السَّلََامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
[يونس: 25]. وقوله: د {إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ}
[القصص: 56] وقوله: د {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ} [الأعراف: 178] ولا يمنع هذا وجود معان أخرى للهداية مثل الإرشاد المتعلق بالمؤمنين {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمََالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بََالَهُمْ} [محمد: 4، 5] أو الدعوة كقوله عز وجل: {وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ} [فصلت: 17].
إن فعل الإنسان عند المعتزلة هو بحد ذاته قدر لأنه تحقيق عملي لأثر معين، وهذا التحقيق العملي إحداث لا ينفصل عندهم عن عملية الخلق والتقدير وذلك لاستناده إلى إرادة الفاعل واختياره وقدرته (1) رغم إجماع غيرهم من أهل السنة على أن الله تعالى مالك كل مخلوق ورب كل محدث (2)، فلا تتعلق صحة الفعل بالفاعل عند المعتزلة إلا لأن هذا الفاعل قادر على إخراجه من العدم إلى الكون بسبب منه (3). ولما كان الإنسان الفاعل عاقلا مفكرا فإنه يمتنع في الحقيقة أن يوجد أي فكر نظري لا يستتبع عملا معينا إن لم يكن هو نفسه هذا العمل، فحين تزول الموانع وتكتمل الدواعي يحدث الفعل بالقدرة، وحين تكتمل المعرفة العقلية والبلوغ تكتمل معها القدرة على خلق الأفعال عندهم وعلى صفاتها الذاتية.
لقد علق المعتزلة السببية في الأفعال الإنسانية بذات الإنسان أي أنهم عدّوا الإنسان ذاتا فاعلة معتبرين إياها سببا يوجب وقوع المسببات عنه على سبيل
__________
(1) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 79.
(2) م ن، ص 82.
(3) قال عبد الجبار المعتزلي: = الذي يدل على أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصدنا ودواعينا ()
كونه موقوفا على دواعينا ويقع بحسبها، وكما أنها تقع بحسب دواعينا وتقف عليها فقد تقف على قصودنا أيضا وعلى آلاتنا وعلى الأسباب الموجودة من قبلنا =: شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 33، وانظر ج 1، ص 11.(1/372)
الاختيار. أما الاعتبارات الأخرى مثل الحتميات الطبيعية التي تخضع فيها أحكامها لقوانين خارجة عن إطار القدرة الإنسانية أو اعتبار اللطف الإلهي الذي هو تيسير إلى فعل الخير والطاعة وترك الشر والمعصية. لا يرى المعتزلة هذه الاعتبارات تؤثر سلبا في الذات الإنسانية الفاعلة ولا تؤثر في وجوب أفعالها عنها (1)، وهو ما نجده في تفسير الزمخشري للآية: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمََا يَذَّكَّرُ إِلََّا أُولُوا الْأَلْبََابِ} [البقرة: 269] فسّر {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ}: بأنه عز وجل يوفق للعمل والعمل به والحكيم عنده تعالى العالم العامل (2)، والمقصود كما ذكر جولد زيهر هو أن الحكمة والعلم من الأمور المكتسبة، وأن الإنسان ذاته هو المؤثر في اكتسابها على أنه السبب الفاعل لا أنها تمنح له بمجرد إرادة الله سبحانه، وإنما الذي يمنحه عز وجل اللطف الإلهي ليستقل الإنسان بالفعل. وعلى هذا فالمريد والفاعل هو الإنسان وهو السبب المستقل. وتبعا لهذا يصبح هو المسئول الحقيقي عن أفعاله الصادرة عنه سواء كانت عقلية أم خلقية. ويمكن أن نفهم ذاك من تفسير الزمخشري للآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدََاهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ}
[البقرة: 272]: يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فيتجنب ما نهى عنه (3).
إذن، فالعمل من العبد والله، عز وجل يجعل العبد المكلف بالعمل أقرب إلى فعل ما كلّف به بأن يوفقه إليه ويمنح من استحق ذلك لا غير ليفعل الخير أو يتجنب الشر ويتركه (4) دون أن تسقط المسئولية عن الفاعل أو يخرج الفعل عن كونه مقدورا لهذا الفاعل أي أن قدر الفعل واقع من الفاعل على جهة الإحداث والتقدير ولا دخل للطف الإلهي في هذا عندهم (5)، وإذا كان المعتزلة قد عظموا العقل واعتدوا به وآمنوا بقوته ومقدرته على إدراك الأشياء والتمييز بينها، فإن هذا المبدأ حملهم على وضع قاعدة في المعارف، قالوا: «الفكر قبل ورود السمع» و «أوجبوا
__________
(1) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 135.
(2) الكشاف، ج 1، ص 396.
(3) م ن، ج 1، ص 397.
(4) انظر جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 174175. ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 133134.
(5) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر عند المعتزلة، ص 134.(1/373)
فيها على المكلف قبل مجيء الشرع أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر وإن قصّر في المعرفة استوجب العقوبة أبدا» (1)، واجتمعت كلمتهم في أن الإنسان العاقل قادر بعقله على أن يميز بين الأشياء الحسنة والقبيحة، وأن يفرق بين الخير والشر قبل ورود الشرع لذا أوجبوا عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل وتجنب القبيح كالكذب والظلم (2). وفي جانب من هذه الخلفية فسر الزمخشري قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]، وبناه على استدلال اعتزالي قال: «وقد استدل بقوله خلق لكم على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقا، لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها» (3) قال القرطبي (ت 671هـ): استدل المعتزلة بأن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13] إلى أن يقوم الدليل على الحظر. وتوقف آخرون وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه ولا معيّن قبل ورود الشرع، فتعيّن الوقف إلى ورود الشرع وهذه الأقوال الثلاثة للمعتزلة. وأضاف أن (الشيخ أبا الحسن) وأصحابه وأكثر المالكية و (الصّيرفي) (4) أطلقوا القول بالوقف ومعناه عندهم «أن لا حكم فيها في تلك الحال وأن الشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا بغيره، وإنما حظه أن يتعرف الأمور على ما هي عليه» (5). ولئن استدل
__________
(1) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 66، 72.
(2) انظر م ن، ج 1، ص 5856، 66وكذا زهدي جار الله، المعتزلة، ص 115.
وقد اختلفوا في مواهب العقل، إذ تتم معرفة الله تعالى والدليل الداعي إلى معرفته عند أبي الهذيل العلاف بضرورة العقل من غير خاطر أي دون روية. بينما يتوصل الإنسان العاقل عند النظّام إلى معرفة الخالق قبل ورود الشرع بالعقل أي بعد تفكر وتأمل. وذهب ثمامة ابن أشرس إلى أن المعارف كلها ضرورية، ومن لم يضطر إلى معرفة الله تعالى فليس مأمورا بها، وإنما خلق للعبرة والسخرة كسائر الحيوان: انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 129173وكذا الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 8566، 72وكذا زهدي جار الله، المعتزلة، ص 115116.
(3) الكشاف، ج 1، ص 270.
(4) محمد بن عبد الله (الشافعي الفقيه الأصولي، م 330).
(5) الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 252251.(1/374)
الزمخشري بأن العقل كاف في إباحة هذه الأشياء فإن السنيين يقولون بإباحتها لأن الآية دالة على ذلك وعليه فإباحتها شرعية سمعية لو لم تدل عليه الآية لم يكن للاستدلال بها أي مطمع (1). وإذا كانت الأشياء قبل ورود الشرع مباحة بناء على قوله عز وجل: {خَلَقَ لَكُمْ} [البقرة: 29] لكلّ أن ينتفع بها، فإن بعضهم رأى بأنه «إذا احتمل أن يكون اللام في (لكم) لغير الملك والإباحة لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه (2)، وذلك على أساس ما أورده في أنّ (لكم) متعلق ب (خلق) وجعلت اللام فيه للسبب بمعنى لأجلكم ولانتفاعكم أو لاعتباركم. ورأى بعضهم بأن اللام للتمليك والإباحة فالتمليك خاص بما ينتفع به الخلق وتفرضه الضرورة، أو للاختصاص الذي هو أعم من التمليك. وقد حسّن بعضهم حملها على السبب مفعولا لأجله لأن بما في الأرض يحصل النفع الديني والدنيوي (3).
ويذهب الزمخشري إلى أحد أصول الاعتزال وهو نفي القبح عن الله تعالى وأنه لا يفعل إلا الأصلح وذلك في تفسير الآية: {أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا وَيَسْفِكُ الدِّمََاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. {أَتَجْعَلُ فِيهََا}:
«تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير ولا يريد إلا الخير» (4).
إنه يستعظم نسبة الفواحش والقبائح إلى الله تعالى (5)، ولا ريب في أن هذا الاستعظام حق إلا أنه موضع خلاف بين المعتزلة وغيرهم من السنيين بخاصة، ويكمن الخلاف هنا في أن القبح صفة ذاتية للقبيح يلزم عنه أن كل فعل مستقبح من العبد هو فعل مستقبح من الله تعالى. هذا ما يراه المعتزلة أما أهل السنة، فيرون أن الله ينهى العبد عن أن يفعل الفعل لأنه قبيح وإن كان بالنسبة إلى الله تعالى حسن فهو {لََا يُسْئَلُ عَمََّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23].
__________
(1) ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 270.
(2) أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 1، ص 215.
(3) م ن، ج 1، ص 215.
(4) الكشاف، ج 1، ص 271.
(5) م ن، ج 2، ص 568469.(1/375)
وفي قوله عز وجل: {فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] أورد سؤاله على أساس أن الهدى على الله واجب قائلا: «فلم جيء بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه» (1) و (إمّا) أداة شرط تدخل على ما يتردد في وقوعه والذي انبهم زمان وقوعه. لذلك أجاب عن تساؤله أمام هذا الشك والتردّد في الحال الذي علم إتيان الهدى كائنا لا محالة لوجوبه، وعلّل بأنه للإيذان بأن الإيمان بالله تعالى وتوحيده لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب بل لو لم يبعث رسلا ولم ينزل كتبا لكان الإيمان به وبتوحيده واجبا لما ركّب فيهم من العقل ونصب لهم الأدلة ومكّنهم من النظر (2). بيد أنه إذا طلبنا رأي أهل السنة الخصم البارز للمعتزلة وجدناهم يؤسسون وجوب النظر في أدلة التوحيد على السمع لا على العقل. وإن كانت معرفة الله عز وجل ومعرفة توحيده ليست موقوفة على مجيء الشرع بل محض العقل كاف فيه باتفاق لأن «العقل عند أهل السنة لا يحسن ولا يقبح، ولا يقتضي ولا يوجب، والسمع لا يعرّف أي لا يوجد المعرفة بل يوجب» (3).
والآية: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلََامُهُمْ بِهََذََا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طََاغُونَ} [الطور: 32]. دليل على أن الله تعالى أنعم بالعقل ليحكم بالحق ويرشد إليه: «أحلامهم عقولهم وألبابهم، ومنه قولهم: أحلام عاد: والمعنى: أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في القول وهو قولهم: كاهن وشاعر مع قولهم: مجنون. وكان قريش يدعون أهل الأحلام والنهى» (4).
ونجد صدى التفسير بالدليل العقلي عند الزمخشري فيما أقرّه من أنّ النظر العقلي في آي الذكر الحكيم مدخل للتأويل الصحيح وهو ما يظهر في تفسيره الآية: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} [ص: 29]:
__________
(1) م ن، ج 1، ص 275.
(2) انظر م ن، ج 1، ص، 275وأبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 1، ص، 272ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 292.
(3) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 55، 56وكذا ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 275.
(4) الكشاف، ج 4، ص 25.(1/376)
«وتدبر الآيات: التفكير فيها والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ لم يحل منه بكثير طائل وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ومهرة نثور لا يستولدها» (1).
ويجد في قوله عز وجل: {فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] هو للإيذان بأنه لا يشترط في الإيمان بالله وتوحيده بعثة الرسل وإنزال الكتب وبأن الإيمان بالله وتوحيده واجب بدون ذلك لما ركب فيهم من العقول ونصب لهم الأدلة ومكّنهم من النظر والاستدلال (2).
والآية: {وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] تقضي عند المعتزلة استحالة رؤية الله تعالى بالأبصار، وهو ما رآه الزمخشري في تأويله: بأن في الكلام دليلا على أن موسى عليه الصلاة والسلام رادّ قول قومه في ذلك، وعرّفهم بأن رؤية الله عز وجل غير جائزة لأنه محال أن يكون في جهة، ومن جوّز ذلك فقد جعله من جملة الأجسام والأعراض. بيد أنهم رادّوه بعد بيان الحجة وإقامة البرهان عليهم فازدادوا كفرا، وكانوا في كفرهم كعبدة العجل، فسلّط الله تعالى عليهم الصّاعقة كما سلّط على أولئك القتل تسوية بين الكفرين (3).
ولا شك في أن مسألة رؤية الله سبحانه من أصعب مسائل أصول الدين. وقد اختلف في جواز رؤيته تعالى فبينما أنكرها القدرية والمعتزلة (4) والنجارية (5)
والجهمية ومن شاركهم من الخوارج (6) وبعض المرجئة (7)، رأى أهل السنة جوازها
__________
(1) م ن، ج 3، ص 372373.
(2) م ن، ج 1، ص 275.
(3) م ن، ج 1، ص 282.
(4) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص، 289وجولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص، 124وكامل محمد محمد عويضة، الزمخشري، المفسر البليغ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1994، ص 176.
(5) أتباع الحسين بن محمد النجار. والجهمية أتباع جهم بن صفوان: انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 207، 211وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 72وما بعدها. والإمام الجويني، كتاب الإرشاد، ص 7778، 75والشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 57100120.
(6) انظر عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 327.
(7) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 233.(1/377)
في الدنيا والآخرة ووقوعها في الآخرة. أشار البغدادي إلى إجماع أهل السنة من الخبر: في أن الله عز وجل يرى في الآخرة من المؤمنين خاصة، وهذا خلاف قول من منع ذلك من القدرية والجهمية، ومن زعم أنه يرى في الآخرة بحاسة سادسة مثل ضرار عمرو وخلاف قول من زعم أن الكفرة يرونه أيضا كما قال له ابن سالم البصري (1).
وإذا كان المعتزلة قد أجمعوا على إنكار رؤية الله بالأبصار في دار القرار فإنهم اختلفوا في الرؤية بالقلوب رأى أغلبهم أن الله يرى بقلوبنا بمعنى أننا نعلمه بها (2)
وهم في ذلك متفقون مع الخوارج وفرق من المرجئة والزيدية في أنه عز وجل لا يرى بالأبصار في الدنيا والآخرة ولا يجوز عليه ذلك.
ولا يرى الزمخشري أن تكون قلوب بني إسرائيل مخلوقة على الكفر لأنه يرى أن الكفر والامتناع من قبول الحق هم الذين خلقوه لأنفسهم، وهو ما يبدو عند تأويله الآية الكريمة: {وَقََالُوا قُلُوبُنََا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللََّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مََا يُؤْمِنُونَ}
[البقرة: 88]: رد الله تعالى أن تكون قلوبهم مخلوقة على هذا النحو لأنه سبحانه وتعالى خلقها على الفطرة والتمكن من قبول الحق، وإنما لعنهم الله وخذلهم ولم يوفقهم لكفرهم فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا فيها من الكفر الزائغ على الفطرة فكانوا بذلك سببا في أن يمنعهم ألطافه التي هي للمتوقع إيمانهم وللمؤمنين (3). ويرى أهل السنة أن الله عز وجل أقام الحق عليهم بأن خلقهم متمكنين من الإيمان غير ملجئين على الكفر، وبهذا لا نرى تعارضا هنا بين الفريقين وبخاصة حين نعلم اعتقاد السنين أن الله تعالى خالق ذلك في قلوبهم بحسب اختيارهم (4)، ولكن بعضهم لم يتردد في اتهام رأي الزمخشري بأنه
__________
(1) الفرق بين الفرق، ص 335، 336وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص، 7 والقرطبي الجامع بأحكام القرآن، ج 1، ص 403، ج 7، ص 27874. وأبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 1، ص 341، ج 4، ص، 121ود. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 298297296. وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 87وما بعدها.
(2) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 289.
(3) انظر الكشاف، ج 1، ص 295.
(4) انظر ابن منير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 296295.(1/378)
يتضمن اعتقاد آلهة غير الله تخلق لنفسها ما أرادت من الكفر والإيمان وذلك لقوله في تفسيره السابق: «فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر»
ولكن إلى أي حدّ يمكن اعتماد هذا الرأي أو الاعتداد به؟ يبدو أن المعتزلة قد بينت العلاقة بين خلق الإنسان لفعله وقدرته عليه وبين العناية الإلهية التي دأبوا على تسميتها باللطف الإلهي الذي هو «خلق قدرة الطاعة» (1) وقالت المعتزلة أيضا:
«التوفيق خلق لطف يعلم الله أن العبد يؤمن عنده والخذلان امتناع ذلك، واللطف خلق فعل يعلم الله تعالى أن العبد يطيع عنده» (2) ويتضح من نص الزمخشري أن خذلان الله تعالى لبني إسرائيل معلل بكفرهم، وللمعتزلة في الخذلان أوجه. من يترك الله سبحانه أن يحدث من الألطاف والزيادات ما يفعله بالمؤمنين كنحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ} [محمد: 17]، فترك الله تعالى الفعل هو الخذلان منه عز وجل للكافرين وهو تعبير لا يجوز في حقه سبحانه.
وقال بعضهم: «الخذلان من الله سبحانه هو تسميته إياهم والحكم بأنهم مخذولون. وقال بعضهم: الخذلان عقوبة من الله وهو ما يفعله بهم من العقوبات.
وقال أهل الإثبات قولين: الخذلان قوة الكفر. وقال بعضهم: خذلهم أي خلق كفرهم» (3).
والذي يهمنا هنا هو أن الزمخشري جعل كفرهم مخلوقا لأنفسهم، ولكن لا يعقل أن يكون العبد خالقا لما اختاره من أفعاله لأنه لو كان خالقا لها لكان عالما بتفاصيلها وينبغي القول بأنه يشعر من نفسه أن أشياء كثيرة تصدر عنه من فعله الاختياري من غير أن يعرف تفاصيل ذلك فليس هو الخالق لها. ومع هذا توجد نصوص من القرآن الكريم ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنسب أعمال العباد إليهم، منها قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا} [الجاثية: 15] وقوله:
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهََا} [الإسراء: 7] وقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا}
__________
(1) أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد (ت 478هـ)، الغنية في أصول الدين، ج 1، ص 135.
(2) م ن، ج 1، ص 135.
(3) الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، ج 1، ص 265.(1/379)
{فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلََا يَرْضى ََ لِعِبََادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] وغيرها. وجاء في السنة النبوية (1): «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له»، وقوله: «يا عباس بن عبد المطلب اعمل لا أغني عنك من الله شيئا» وغيرها. فهذه نصوص إذا نظر إليها العبد لا يسعه إلا أن يردّ أعمال العباد الاختيارية إليهم معتقدا أنهم يستحقون الثواب إن أحسنوا والعقاب إن أسائوا. وظاهر هذه الأدلة عقلية أيضا تشهد بعدالة الله وبحكمته لأن العبد لو لم يكن موجدا لما اختار من أعماله لما كان ثمة وجه لأن يستحق المثوبة أو العقوبة، وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر عنه؟ (2).
ولم يجد أهل السنة مع تلك النصوص والأدلة العقلية إلا ترجيح قولهم: إن العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وإنما هي خلق الله وحده لكن إذا سئلوا:
كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا مع عدل الله تعالى وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا: إن العباد وإن كانوا غير خالقين لأعمالهم فإنهم كاسبون لها وهذا الكسب (3) هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب
__________
(1) صحيح البخاري، 4757وكذا صحيح مسلم باب كيفية الخلق 6679، وكذا جامع الترمذي باب ما جاء في الشقاء:، 6679وانظر تفسير القرطبي، ج 9، ص 98، وكذا محمد بن العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر، بيروت 1996، ط 1، ج 2، ص 30. وابن القيم الجوزية، التبيان في أقسام القرآن، دار الفكر، ص 4140.
(2) محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان، ج 2ص 31.
(3) ذكر الأشعري اختلاف الناس في «خالق» فقال قائلون منهم: معنى أن الخالق خالق، هو أن الفعل وقع منه بقدرة قديمة فإنه لا يفعل بقدرة قديمة إلا خالق ومعنى «الكسب» أن يكون الفعل بقدرة محدثة، فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب وهذا قول أهل الحق واختلفوا في مسألة هل الإنسان فاعل على الحقيقة، فقد رأى المعتزلة إلا (الناشئ بأن) (4) الإنسان فاعل على الحقيقة لا المجاز. بينما رأى أهل السنة الإنسان فاعلا على الحقيقة بمعنى مكتسب ومنعوا أنه محدث: مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، ج 1، ص 540539.
ورأى التفتازاني: أن «الخالق هو الله تعالى وبالضرورة أن لقدرة العبد وإرادته مدخلا في بعض الأفعال كحركة البطش دون البعض وحركة الارتعاش، احتجنا في التقصي عن هذا إلى القول بأن الله تعالى خالق كل شيء والعبد كاسب وتحقيقه أن صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب، وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الإيجاد ومقدور العبد بجهة الكسب «شرح العقيدة النسفية، تحقيق مصطفى مرزوقي، دار الهدى، الجزائر (د. ت)، ص 7069.
(4) هكذا بالأصل، وهو خطأ. اهـ. مصححه.(1/380)
ويتحقق به عدل الله وحكمته فيما شرّعه للمكلفين. وبهذا حملوا النصوص الأولى على الخلق، وحملوا الثانية على الكسب جمعا بين الأدلة، وإن سئلوا عن الكسب اختلفوا وتعددت وجهة نظرهم فيه، أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمم؟
لقد بهرت النصوص الأولى أهل السنة فحملوها على الخلق. قالوا إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. ويهمنا كثيرا ما ذهب إليه صاحب الكشاف في هذا المقام فإن قيل لهؤلاء وللزمخشري: أليس الله خالق كل شيء ومنها أفعال العباد؟ قالوا: بلى إنه خالق كل شيء حتى أعمال عباده الاختيارية. غير أن خلق بعض الأشياء بلا وساطة وخلق بعضها الآخر بوساطة. وأعمال المكلفين من النوع الثاني، خلقها عز وجل بوساطة خلق آلاتها فيه وهي: القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكل من الطرفين فلا حول ولا قوة للعباد سوى أنهم استعملوها على أحد وجهيها: إما بحسن الاختيار وإما بسوئه. ومن هنا يبدو رأي المعتزلة بأنه تعالى خالق أفعال عباده ولكن على سبيل المجاز باعتبار أنه سبحانه خالق أسبابها ووسائلها (1).
ولكن ألا يستدعي رأي المعتزلة هذا أن يكون العباد المخلوقون مشاركين لله تعالى في فعله في فعل الشر، وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية؟
والحقيقة أنهم أرادوا تأكيد حرية الإنسان ومسئوليته. لقد رأوا في جواب هذا التساؤل أن الوحدانية لا تنفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره، وإنما الوحدانية معناها نفي أن يكون له عز وجل شبه في ذاته أو صفاته أو أفعاله. ولا يمنع المعتزلة وجود ذوات لا تشبه ذاته ولا يمنعون وجود صفات مخالفة لصفاته، وهذا ما جعلهم يسألون السنيين: لم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعال الله وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم التي لا تشبه أفعال الله بحال؟
وأمام رأي الفريقين وتأويلاتها لا نملك إلا أن نقول بأن لكليهما وجهة نظر قوية توظفه بإحكام بما ينأى بها ويبعد عن الوقوع في المحظور (2).
__________
(1) انظر محمد بن عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص 31.
(2) انظر م ن، ج 2، ص 3231.(1/381)
ولعل هذا يجعل من ينزع إلى تجريح إحدى الفرقتين ناقدا يعوزه إنعام النظر والموضوعية لأنه رغم اختلافهما يلتقيان في آخر المطاف عند نقطة الاعتقاد السديد بوحدانية الله وحكمته. غير أن هذا يقع على الوجه الذي اتضح لكل فرقة وشاع عندها وراج. ولا يحقّ أن يفهم من هذا أنه تكريس فوضى لكل متأوّل في القرآن متلاعب بالنصوص عابث بتعاليم الدين، وإنما ينبغي التفريق بين متأوّل ومتأوّل هل تساعد عليه قوانين اللغة العربية ومقررات الإسلام المقطوع بها المعلومة من الدين بالضرورة وبراهين العقل والمنطق أو لا؟ فنقبل السائغ وإن خالف، ونرد غير السائغ ردا، ونحاربه بلا هوادة لأن التاريخ الإسلامي كشف لنا أن أخطر أعدائه هم الذين حاولوا التلاعب بنصوصه والعبث بمقرراته.
ويطلق هذا الشيء أيضا عند المعتزلة على المعدوم الذي يصح وجوده وعلى الموجود إلا أن المحال لا يطلق عليه، وهو ما تجده في تفسير المصنف عند الآية: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصََارى ََ عَلى ََ شَيْءٍ} [البقرة: 113]: «أي على شيء يصح ويعتدّ به، وهذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده وهذا كقولهم أقل من لا شيء» (1). إلا أنه قاصر على الموجود لدى أهل السنة الذين يطلقونه على الموجود، والثبوت، والتحقق، والوجود، والكون. وهي كلها ألفاظ مترادفة عندهم (2). بينما يراه المعتزلة ما له تحقق في الذهن أو خارجه علما بأن اللغويين يطلقونه على ما يعلم ويخبر عنه (3).
__________
(1) الكشاف: ج 1، ص 305.
(2) انظر نوران الجزيري، قراءة في علم الكلام الغائية عند الأشاعرة، ص 23وما بعدها.
(3) انظر تفسير الطبري، دار الفكر بيروت، 1405هـ، ج 6، ص 9، ج 7، ص 303، ج 3، ص 100، والدارقطني (علي بن عمر بن الحمد، ت 385هـ)، رؤية الله، ص 22وما بعدها. وتفسير القرطبي (ت 671 هـ)، تحقيق عبد العليم البردوني، دار الشعب القاهرة، 1372هـ، ج 1، ص، 404وتفسير النسفي (أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود، ت 710هـ)، ج 1، ص 44، 259338339، ج 2، ص 35، 36وتفسير ابن كثير، ج 4، ص 487. وزكريا محمد بن أحمد الأنصاري (ت 926هـ)، الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، ج 1، ص، 66والغزي محمد بن محمد بن محمد (ت 1061هـ)، إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن، ج 2، ص، 78والشوكاني (محمد بن علي بن محمد، ت 1250هـ)، فتح القدير بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ص 87.(1/382)
وما عدا الأصوات لا يحق أن يسمع عقلا عند الزمخشري، وهي فكرة اعتزالية صرّح بها قائلا: «فإن قلت: ما تقول في قوله: {فَإِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:
227] وعزمهم الطلاق مما يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار لا يخلو من مقاولة ودمدمة، ولا بدّ من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك وذلك حديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان» (1). فالعازم على الطلاق وترك الفيئة والضرار لا بدّ أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك، ومثل هذا الحديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان فهو عز وجل به سميع عليم. وقد أثبت العلم الحديث هذا فبيّن استحالة التفكير بغير اللغة غير أن ما يتعلق بالله الخالق يصعب التفكير فيه والبت في شأنه لقوله سبحانه: {وَمََا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلََّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. وهاتان صفتان وردتا باعتبار الشرط وجوابه وقد جاءت صفة السمع هنا لأن المعنى: إن عزموا الطلاق أوقعوه، ولا يكون الإيقاع باللفظ فهو من باب المسموعات والصفة متعلقة بالجواب لا بالشرط لذا قال أبو حيان الأندلسي: لا تحتاج إلى تأويل (2) إن ذلك العزم مما يعلم عند الزمخشري ولا يسمع، ويرى أهل السنة في هذا المعنى أن كل موجود يجوز أن يسمع ويصح أن يرى كالأصوات والروائح والملموسات والطعوم والمعاني بجملتها.
وعلى هذا فلا يترتب على السمع عند المعتزلة أن يكون المسموع صوتا ولا نطقا مثلما اعتقدوا أن موسى عليه السلام سمع الكلام القديم وليس بحرف ولا صوت فليس ثمة ما يدعو إلى الخلاف مع أهل السنة إذا ما أجرى الزمخشري الموجودات على نوعيها المسموع والمرئي التي تعلم بالحس وتعلم بغيره (3). أما إذا وجه الكلام بأن ما عدا الأصوات لا يجوز أن يسمع عقلا فيخصه ويلزم مذهبه الذي لا ينكرون فيه الكلام النفسي باعتباره خواطر طارئة على النفس، وإنما يعدونه تقديرات تابعة للعبارات اللفظية إذ الكلام حسبهم في الواقع ما كان حروفا يعبر عنها اللسان (4).
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 365364.
(2) انظر البحر المحيط في التفسير، ج 2، ص 450.
(3) انظر الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي القاهرة، ص، 302ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 365، 364وأحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص 4241.
(4) لقد طبق المعتزلة هذا الرأي على كلام الله فحين أنكروا الكلام النفسي أثبتوا أن كلام الله ليس إلا ما(1/383)
أما أهل السنة فقد عبّر الإيجي عن موقفهم في هذه المسألة بقوله: «فاعلم أن ما يقوله المعتزلة وهو خلق الأصوات والحروف وكونها حادثة قائمة فنحن نقول به، ولا نزاع بينا وبينهم في ذلك، وما نقوله في كلام النفس فهم ينكرون ثبوته ولو سلموه لم ينفوا قدمه فصار محل النزاع نفي المعني وإثباته» (1). ولم يخرج النزاع في الأصل عن مسألتين بينتين: الأولى كلام الله صفة له، ولما كان كل ما هو صفة لله تعالى هو قديم عند أهل السنة ترتب عليه أن كلام الله قديم. الثانية: القرآن كلام الله وهو مؤلف من حروف مرتبة متتالية في الوجود وكل ما كان كذلك فهو حادث لذا قال المعتزلة إن القرآن حادث مخلوق. فما كان النزاع ليحتدم بين الناس يومئذ لو حددت مواضعه بالكيفية السابقة كما قال أحمد أمين (2).
وقد أنكر المعتزلة الشفاعة لأنهم يوجبون مجازاة الله تعالى للمطيع على طاعته وللعاصي على معصيته إيجابا عقليا، قال الزمخشري في قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خُلَّةٌ وَلََا شَفََاعَةٌ وَالْكََافِرُونَ هُمُ الظََّالِمُونَ} [البقرة: 254]: إن أردتم أن يسقط ما عليكم من الواجب لم تجدوا شفيعا يشفع لكم في إزالتها عن ذمتكم لأن الشفاعة زيادة الفضل لا غير في دار القرار (3). غير أن أهل السنة ذكروا أدلة كثيرة تثبت الشفاعة للعصاة من المؤمنين، منها ما ذكره الطبري (ت 310هـ) بأن قوله تعالى: {وَلََا خُلَّةٌ وَلََا شَفََاعَةٌ}
الآية: «مخرجها في الشفاعة عام والمراد خاص». وإنما معناه {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خُلَّةٌ وَلََا شَفََاعَةٌ} لأهل الكفر بالله لأن أهل ولاية الله والإيمان به يشفع بعضه لبعض () وقوله: {وَالْكََافِرُونَ هُمُ الظََّالِمُونَ} دلالة واضحة على صحة ما قلنا. وأن قوله: {وَلََا خُلَّةٌ وَلََا شَفََاعَةٌ} إنما مراد به أهل الكفر (4). وقد ذهب الواحدي (ت 468هـ) إلى أن نفي الشفاعة عام لأنه عنى الكافرين بأن هذه
__________
نقرؤه ونسمعه من القرآن الكريم والكتب الدينية وهو مخلوق. انظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص 42.
(1) المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 294.
(2) انظر ضحى الإسلام، ج 3، ص 4443.
(3) انظر الكشاف، ج 1، ص 384.
(4) تفسير الطبري، ج 3، ص 43.(1/384)
الأشياء البيع والخلة والشفاعة تنفعهم» (1). وقد ذكر الرازي للقفّال أن الله عز وجل «لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين لأنه لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل «المعصية» (2).
أما القرطبي (ت 671هـ) فرأى الشفاعة حقا في مذهب «أهل الحق» ذاكرا أنّ المعتزلة أنكروها وخلّدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب.
والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين دليل ذلك في الرد على المعتزلة شيئان: الأول: الأخبار الكثيرة المتواترة في هذا المعنى، الثاني: إجماع السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول من غير أن تلقى إنكارا في كل العصور فدل قبولها على صحة أهل السنة وفساد ما رآه المعتزلة (3).
واستعرض في هذا السياق النصوص التي تمسّك بها المعتزلة والتي تردّ هذه الأخبار كقوله تعالى: {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ} [غافر: 18] قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون. وقوله عز وجل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وقوله: {وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ} [البقرة: 48]، وأجاب عن هذا قوله: «قلنا ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم، والعموم لا صفة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس وإنما المراد به الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك وأيضا فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين: {فَمََا تَنْفَعُهُمْ شَفََاعَةُ الشََّافِعِينَ} [المدثر: 48]. وقال: {وَلََا يَشْفَعُونَ إِلََّا لِمَنِ ارْتَضى ََ} [الأنبياء: 28] وقوله: {وَلََا تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ عِنْدَهُ إِلََّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وبهذا فالشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين.
ولا يرى الزمخشري غفران الذنوب إلا بالتوبة فهو يفسر قوله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشََارِكْهُمْ فِي الْأَمْوََالِ وَالْأَوْلََادِ وَعِدْهُمْ وَمََا يَعِدُهُمُ الشَّيْطََانُ إِلََّا غُرُوراً} [الإسراء:
__________
(1) انظر تفسير الواحدي، ج 1، ص 182.
(2) مفاتيح الغيب، ج 7، ص 10.
(3) تفسير القرطبي، ج 1، ص 379378.(1/385)
64]: [وعدهم] «المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حممها وإيثار العاجل على الآجل» (1). وفي هذا تأسيس بيّن على أن مغفرة الذنوب لا تقع إلا بالتوبة، وهو يطابق في مقام آخر بين اعتقاد الشفاعة واعتقاد حمل الكفار خطايا أتباعهم إنكارا للشفاعة عند الآية: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنََا وَلْنَحْمِلْ خَطََايََاكُمْ وَمََا هُمْ بِحََامِلِينَ مِنْ خَطََايََاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ} [العنكبوت: 12]: «وبعض المتسمّين بالإسلام إذا أراد أن يشجع صاحبه على ذنب قال له: افعل وإثمه في عنقي، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعّفه العامة وجهلتهم. ومنه ما يحكى أن أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه فلما قضاه قال:
يا أمير المؤمنين بقيت الحاجة العظمى، قال: وما هي؟ قال: شفاعتك يوم القيامة.
فقال له عمرو بن عبيد رحمه الله: إياك وهؤلاء فإنهم قطاع الطريق في المأمن» (2). وإذا كانت الشفاعة ثلاثة: الأولى والثانية: يوم القضاء (يوم القيامة) واستفتاح باب الجنة وهو المسمى: المقام المحمود، خص بهما الله جل وعز الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونظر في قوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرََاءَ يُغْنِهِمُ اللََّهُ} [النور: 34]، فخرّجه على مذهب المعتزلة في وجوب رعاية الله تعالى لمصالح العباد: «ينبغي أن تكون شريطة الله غير منسية في هذا الموعد ونظائره وهي مشيئة ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة» (3) وينزه الله سبحانه عن القبح في الآية: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لََا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] قائلا: «نزهوا الله من نسبة القبائح إليه وأثنوا عليه حامدين» (4). وقال في هذا المعنى عند الآية: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7]: تنبيه على أن كل شيء أنبته ذو نفع
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 457.
(2) الكشاف: ج 3، ص 199.
(3) الكشاف، ج 3، ص 41694.
(4) م ن، ج 3، ص 243.(1/386)
وفائدة لأن الله الحكيم لا يفعل إلا لغرض صحيح وحكمة بالغة وإن غفل عن ذلك الغافلون ولم يدركه العاقلون (1). وقوله في الآية: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرََاراً وَجَعَلَ خِلََالَهََا أَنْهََاراً وَجَعَلَ لَهََا رَوََاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حََاجِزاً أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61]: «فإن قلت: قد عمّ المضطرين بقوله: {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذََا دَعََاهُ} [النمل: 62]، وكم من مضطر يدعوه فلا يجاب؟ قلت: «الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة» (1)، فهو يوجب على الله عز وجل رعاية مصالح العباد إذ لا يحسن دعاء العبد عندهم إلا وهو شارط المصلحة من الله. ولا يرى أهل السنة هذا الشرط لما فيه من تعارض مع ما يرونه في المشيئة التي هي الشرط عندهم في الإجابة عن الدعاء (2) لذا لا يوجبون وجوب مراعاة المصلحة، ويقولون بجواز غفران الكبائر دون توبة إلا الشرك، وذهبوا إلى القول بجواز التعذيب على الصغائر رغم اجتناب الكبائر وبأن توبته تكون بفضل منه سبحانه لا بالوجوب عليه وهي تنال أهل الكبائر من الموحدين.
وفسر في معنى رعاية مصلحة العباد قوله عز وجل: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
[الشورى: 12]: «إذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه وإلا أفقره» (3)، ومنه قوله عند الآية: {وَمََا أَنَا بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]: «فإن قلت كيف قال بظلام على لفظ المبالغة؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يكون من قولك هو ظالم لعبده وظلام لعبيده. والثاني: أن يراد لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاما مفرط الظلم فنفى ذلك» (4) على معنى مذهبه في أن الله سبحانه لا يأمر إلا بما أراده، وما أراده من عباده لأن التكليف خلاف ذلك هو ما لا يطيقه الناس. وفسر في سياق وجوب مراعاة الصلاح والحكمة قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ََ}
[النجم: 47] قال: «لأنها واجبة عليه في الحكمة ليجازى على الإحسان
__________
(1) م ن، ج 3، ص 155.
(2) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 3، ص 155.
(3) الكشاف، ج 3، ص 463.
(4) م ن، ج 4، ص 9.(1/387)
والإساءة» (1). غير أن أهل السنة رأوا بأن معنى النشأة الأخرى أصله قدرته وإرادته (2). فقد روى الحاكم وغيره أنّ أبي بن خلف جاء بعظم ففتّه فقال: أيحيي الله هذا بعد ما بلي ورمّ؟ فأنزل الله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:
79]، فاستدل الله عز وجل بردّ النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما بعلة الحدوث، أو هي بما لبعثة على سبيل الاستدلال بقدرته سبحانه على إذهابهم والإتيان بأمثالهم وإحيائهم بعد موتهم وفاء بوعده (3).
ويواصل الزمخشري تأويله لآي الذكر الحكيم من خلال اعتماد الاستدلال العقلي في مواضع كثيرة ينتصر فيها لأصل من أصول المعتزلة وهو اتفاقهم على أن الله عز وجل لا يفعل إلا الصلاح والخير، ولكنهم اختلفوا في وجوب الأصلح واللطف (4)، فقد أورد بناء سؤاله على هذه الخلفية. قال: «فإن قلت: كيف جاز أن يؤتي الله الملك الكافر؟ قلت: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع. وأما التغليب والتسليط فلا. وقيل ملكه امتحانا لعباده» (5). فقول الزمخشري: «وأما التغليب والتسليط فلا» ينزع فيه منزع المعتزلة لأنه عندهم هو الذي تغلّب وتسلّط، وعلى هذه الخلفية الاعتزالية يكون التغليب والتسليط فعله لا فعل الله. وهو مع هذا يتضمن أساس قاعدتهم التي يرون فيها وجوب مراعاة الله سبحانه الصلاح للعباد أو ما هو أصلح لهم (6). ولأن المعتزلة لا يرون خلق الله تعالى لأفعال العباد، وإنما هم خالقوها لأنفسهم أوّل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ}
__________
(1) م ن، ج 4، ص 34.
(2) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 4، ص 34.
(3) انظر ابن منظور، لسان العرب مادة (نشأ) ج 1، ص، 170وابن قيم الجوزية، التبيان في أقسام القرآن، ج 1، ص، 123وتفسير البيضاوي، ج 5، ص 260.
(4) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، (د. ت) ص، 576وكذا البغدادي، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، دار الآفاق الجديدة، بيروت ط 2، ص 167، (مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي 1999الأردن). وكذا الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1404هـ، ج 1، ص، 45 وانظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، دار الفكر اللبناني بيروت، ط 1، 1992، ص 324323.
(5) الكشاف: ج 1، ص 388.
(6) انظر الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، 388. وكذا أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 2، ص 627.(1/388)
{هُدََاهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [البقرة: 272] على هذا الأساس بأنه: «لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المنّ والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب» (1)، وظاهر الهدى في الآيتين أنه مراد به هدى الإيمان أي ليس عليك أن تخلق الهدى في قلوبهم، ولكن الله تعالى هو الذي يخلق هدى الإيمان لمن يشاء من عباده أن يهديه. وهذا عند أهل السنة هو اللطف لا كما ذهب إليه الزمخشري مفسرا هدى الله تعالى باللطف (2) لأنه يعتقد أن الهدى لا يخلقه الله تعالى، وإنما العبد هو الذي يخلقه لنفسه. وإن أضاف الله الهدى إليه كما هو في الآية السابقة أوّله باللطف الإلهي الذي هو توفيق وتسديد إذا فعله الله وفّق العبد للإيمان فيكون ذلك توفيقا لأن يؤمن، فالله لا يفعل عبثا بل لحكمة وغرض، ويستوجب هذا عند المعتزلة كمال الفعل والإقدار عليه، لذا كان غرض تكليفه للعباد منفعتهم وعلى هذا أوجبوا ألا تخلو أفعال الله سبحانه من ألطاف تقوّي الدواعي وتزيد الصوارف التي بها تمكين المرء من أن يختار الواجب، ويتجنب القبيح أو ما يكون أقرب إلى اختيار الخير أو ترك الشر (3).
ويرجع الزمخشري مرة أخرى إلى أحد أصول الاعتزال وهو عدم تصديقهم بما يلحق من أذى الشياطين. قال في قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبََا لََا يَقُومُونَ إِلََّا كَمََا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطََانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] قائلا: «وتخبط الشيطان من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع () والمس الجنون
__________
(1) الكشاف: ج 1، ص 397.
(2) انظر الكشاف، ج 1، ص 397.
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 313، 326، والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 187، 188والرازي فخر الدين، مفاتيح الغيب، ج 7، ص، 77وابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص، 397وأبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 2، ص 694، 693والإيجي، المواقف في علم الكلام، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، ط 1، ج 3، ص 283، 670واليافعي عبد الله بن أسعد بن علي (ت 768هـ)، كتاب مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة، ج 1، ص، 165وكذا جولدزيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 173172. ود. سميح دغيم فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 133وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 114110.(1/389)
ورجل ممسوس وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجني يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن، ورؤيتهم لهم في الجن قصص، وأخبار، وعجائب» (1).
وهو لا يصدق ما تذهب إليه العرب في أن الجن تستهوي الإنسان عند قوله سبحانه وتعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيََاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرََانَ} [الأنعام: 71].
وقوله عز وجل: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ} [البقرة: 244] تقضي عند الزمخشري:
«لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمر {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ} [البقرة:
244] ممن استوجب العقوبة بالإصرار» (2)، ويمتنع على قاعدته الاعتزالية عقلا أن يؤخذ المكلف بالخطإ والنسيان لأنه من تكليف ما لا يطاق. أما مخالفو مذهبه من السنيين فيرون ارتفاع ذلك بالسمع لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (3) وذلك في تفسيره الآية: {رَبَّنََا لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا}
[البقرة: 286].
ولا يرى الزمخشري الزيغ مخلوقا لله تعالى خلافا لأهل السنة الذين يعتقدون أن كل حادث من هدى وزيغ مخلوق لله، وإنما يرى أن العبد هو الذي يخلقه لنفسه لذا لم يدع الله تعالى بهذه الدعوة إلا محرفة إلى غير المراد كما فعل عند تفسيره قوله سبحانه: {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا} [آل عمران: 8]: «لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا» (4).
ولا ريب في أن أصول الاعتزال «متمحورة» حول أهم أصل عندهم وهو التوحيد الذي ترجع إليه كل أصولهم مع عدله لذا كان سعيه واضحا في هذا الاتجاه مثل سابقيه إقرارا له وإبطالا لكل مظاهر التشبيه والتجسيم. بل عمد في بعض المواقف إلى التعريض بأهل السنة كما ذكر في الآية السابقة أيضا قائلا:
«وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدي إليه كإجازة الرؤية أو ذهب إلى الجبر
__________
(1) الكشاف: ج 1، ص 399398.
(2) الكشاف: ج 1، ص 406.
(3) انظر الشافعي (محمد ابن إدريس، ت 204هـ)، أحكام القرآن، تحقيق عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ، ج 1، ص 6، والسيوطي، الدر المنثور، ج 2، ص 135134.
(4) الكشاف: ج 1، ص 413.(1/390)
الذي هو محض الجور لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام» (1). ولكن معتقد خصومهم من أهل السنة ثابت لأنهم يرون أنفسهم صدّقوا وعد الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يرون ربهم كالقمر ليلة البدر (2) لا يضامون في رؤيته وقد وحّدوه ورأوا كل شيء مخلوقا له سبحانه ولم ينسبوا لأنفسهم إلا قدرة تقارن فعلهم لا خلق لها، ولا تأثير سوى التمييز بين أفعالهم الاختيارية والاضطرارية وسموا ذلك كسبا لقوله تعالى: {فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] (3).
وما عسانا أن نقول إذا كان مراد المعتزلة وأهل السنة كليهما إثبات الكمال لخالق الكون وما فيه وتنزيهه من كل نقص؟
ولا يفتأ الزمخشري يعمل على تعزيز أصول المعتزلة كجعله العفو والغفران عن الذنب لمن تاب فقط، وأن المذنب إذا لم يتب منه لا يكون معه العفو لذا علل عفو الله تعالى لهؤلاء الذين تولّوا يوم أحد بالتوبة وبالاعتذار {وَلَقَدْ عَفَا اللََّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] «لتوبتهم واعتذارهم» (4)، وكتضمينه اعتقاد المعتزلة بالأجلين لأنهم يعتقدون وقوع الموت بحلول الأجل أو أنه يكون قبله في تفسيره الآية: {قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} [آل عمران: 168] يقول: «فإن قلت: فقد كانوا صادقين في أنهم رفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود فما معنى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ}؟ قلت: معناه أن النجاة من القتل يجوز أن
__________
(1) م ن، ج 1، ص 418.
(2) عن أبي سعيد الخدري أن أناسا في زمن البني قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال النبي:
نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة ضوءا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا. قال: وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ضوء ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا. قال النبي: ما تضارون في رؤية يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما»: صحيح البخاري (الجزء الخاص في التفسير)، ج 4، ص، 1622 وروى جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوها، ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب» متفق عليه وأخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. تفسير القرطبي، ج 19، ص 108 وأخرج الدارقطني عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ترون الله عز وجل يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر أو كما ترون الشمس ليس دونها سحاب». السيوطي، الدر المنثور، ج 8، ص 353.
(3) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 418.
(4) الكشاف: ج 1، ص، 473د. أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 3، ص 91.(1/391)
يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره لأن أسباب النجاة كثيرة. وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقاتلتكم؟ وما أنكرتم أن يكون السبب غيره»؟ (1)، فالمقتول عندهم لولا القتل لاستوفى أجله المكتوب له الذي هو زائد على ذلك لأنهم يعتقدون أن الإنسان يمكن أن يدفع عن نفسه العارض بحيث يتجنب أسباب الهلاك قبل حلول أجله غير أن أساس تساؤله يتجه عند السنيين إلى ما نهى الله عنه المؤمنين في قوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقََالُوا لِإِخْوََانِهِمْ إِذََا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كََانُوا غُزًّى لَوْ كََانُوا عِنْدَنََا مََا مََاتُوا وَمََا قُتِلُوا} [آل عمران:
156]، فهو قول باطل واعتقاد فاسد نهى الله تعالى عنه أتباعه أن يكونوا مثلهم في هذا الاعتقاد السّيّئ وهو أنّ من سافر في تجارة ونحوها فمات أو قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش، ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال فقد رد الله تعالى قول هؤلاء بأنه المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والقعود والسفر (2). وعلى هذا فلكل ميت عند أهل السنة أجل يموت به (3) فلم يكن إذن من موت الخارجين إلى التجارة أو إلى القتال في ذلك الوقت لأنه أجلهم وهو في علم الله تعالى لقوله: {فَإِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ لََا يَسْتَأْخِرُونَ سََاعَةً وَلََا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
والله تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه فهو منزّه عن أن يضاف إليه شر أو ظلم وفعل كفر ومعصية، فليس الشر عنده مفعولا لله عز وجل ولا مرادا لذا تجده في الآية: {يُرِيدُ اللََّهُ أَلََّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:
176]. قد تأول تعلّق إرادة الله بانتفاء حظهم من الآخرة بأنها متعلقة بانتفاء رحمته عز وجل لهم وذلك لفرط كفرهم. وهو ما يمكن فهمه من قوله: «فإن قلت: هلّا قيل: لا يجعل الله لهم حظا في الآخرة وأي فائدة في ذكر الإرادة؟
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 478، 479.
(2) تفسير الطبري (ت 310هـ)، ج 4، ص، 146وأبو حيان الأندلسي (ت 754هـ)، ج 3، ص 399 400. وتفسير ابن كثير (ت 774هـ) ج 1، ص، 420وتفسير البيضاوي (ت 791هـ)، ج 2، ص 107.
(3) انظر عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 341.(1/392)
قلت: فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصا لم يبق معه صارف قط حين سارعوا في الكفر تنبيها على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه حتى أنّ أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم» (1) ولم يخرج تفسيره للآية: {وَلََا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدََادُوا إِثْماً} [آل عمران: 178] عن كون الإثم الواقع منهم ليس مرادا لله سبحانه بل هو على خلاف إرادة الله إلا أنه حين أدرك أن ازدياد الإثم مراد الله بتنصيص الآية وبما لا يقبل التأويل (2) جعل ازدياد الإثم سببا وليس غرضا قائلا: «فإن قلت كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم لله تعالى في إملائه لهم؟ قلت: هو علة الإملاء وما كلّ علة بغرض، ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز وللفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر وليس شيء منها بغرض لك، وإنما هي علل وأسباب فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسببا فيه» (3)، ومعنى الآية عند بعضهم: إملاء من الله واستدراج (4) أو تخليتهم وشأنهم.
ويتأول الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتََامى ََ فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ مِنَ النِّسََاءِ مَثْنى ََ وَثُلََاثَ وَرُبََاعَ} [النساء: 3] بما يذهب إليه المعتزلة في أن الكبيرة توجب خلود العبد في النار ولو كان موحدا ما لم يتب عنها فيقول: «ولما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء فقلّلوا عدد المنكوحات لأن من تحرّج من ذنب أو تاب
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 482.
(2) انظر ابن منير الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص، 482وأبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 3، ص 446.
(3) الكشاف، ج 1، ص 482.
(4) انظر الزجاج (ت 311هـ)، تفسير أسماء الله الحسنى، تحقيق أحمد يوسف الدقاق، دار الثقافة العربية، دمشق 1974م، ص، 41وانظر تفسير البيضاوي ج 2، ص 119.(1/393)
عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب لأنه إنما وجب أن يتحرّج من الذنب ويثاب منه لقبحه والقبح قائم في كل ذنب» (1).
أما أهل السنة فيرون في إفادة التوبة زوال المتوب عنه بإذن الله عز وجل ووعده، وهو في العهدة فيما لم يتب عنه، والمعنى كما ذكر ابن جرير: «إن خفتم ألا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها، فكذلك خافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم فلا تتزوّجوا منهن إلا ما أمنتم منه الجور مثنى وثلاث ورباع وإن خفتم أيضا في ذلك فواحدة وإن خفتم في الواحدة فما تركت أيمانكم» (2).
وقد تقدم في غير هذا الموضع أن المعتزلة يوجبون على الله تعالى المجازاة على الأعمال إيجابا عقليا، ففسّر قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللََّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهََالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] «يعنى إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء» (3) ثم أضاف: «قلت: قوله إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه كما يجب على العبد بعض الطاعات» (4). وموقف أهل السنة واضح في هذا لأن الأفعال كلها خلق الله لا كما يزعم المعتزلة من أن العبد خلق التوبة لنفسه بقدرته ليستوجب على الله المغفرة إذ من مقتضى حكمته أنه يجب عليه المجازاة على الأفعال إيجابا عقليا (5). ولعل الرد المذكور على ما يوجبه عامة المعتزلة والزمخشري بخاصة يدل على درجة الخلاف بين الفرقتين في هذه المسألة. قال ابن المنير: «وما أبشع ما أكد الزمخشري هذا المعتقد الفاسد بقوله: يجب على الله قبول التوبة كما يجب على العبد بعض الطاعات فنظر المعبود بالعبد وقاس الخالق على الخلق، وإنه لإطلاق يتقيّد عنه لسان العاقل، ويقشعر جلده استبشاعا لسماعه ويتعثر القلم عند تسطيره» (6).
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 496.
(2) تفسير الطبري، ج 4، ص 231وما بعدها، وتفسير البغوي (ت 516هـ)، تحقيق خالد العك مروان سوار، دار المعرفة، بيروت، 1987م، ط 2، ج 1، ص، 391وابن المنير، الإنصاف، فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، ج 1، ص 497.
(3) الكشاف: ج 1، ص 512، 566.
(4) م ن، ج 1، ص 513.
(5) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 512.
(6) م ن، هامش الكشاف، ج 1، ص 512.(1/394)
وفي الآية: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ حَتََّى إِذََا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قََالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفََّارٌ} [النساء: 18] يسلك الزمخشري طريق الاعتزال، فهو يرى في قوله تعالى تسوية في عدم قبول توبة من سوّف على حضرة الموت وبين من مات على الكفر لأن حضرة الموت إلى أحوال الآخرة، فالميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، وكذلك المسوّف إلى حضرة الموت أو قربها فقد جاوز كل واحد منهما أوان التكليف والاختيار (1) في العلم بالله الذي يرى المعتزلة أنه يجوز أن يكون في دار التكليف نظريا بيد أنهم يزعمونه في الآخرة ضروريا، وإن صار العلم بالله ضروريا سقط التكليف. وعندهم أن أهل الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة فلا تكليف إذن. ومثل ذلك إذا حصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار (2). غير أن بعض المفسرين رأى القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة «لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم الله ثم أحياهم وكلّفهم، فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف فكذلك تلك. ولأنه عند القرب يصير مضطرا فيكون ذلك سببا للقبول ولكنه تعالى يفعل ما يشاء، وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت أخر وله أن يجعل المقبول مردودا والمردود مقبولا» (3). وقوله عز وجل: {لََا يُسْئَلُ عَمََّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] ردّ على المعتزلة حين ادعوا سقوط التكليف إذا صار العلم بالله ضرورة وفي دعواهم أيضا أن مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار (4).
ويسوي بين الشرك وما دونه من الكبائر في أنها لا تغفر إلا بالتوبة وأن الله لا يشاء أن يغفرها إلا للتائبين وذلك حين فسر قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ}
__________
(1) انظر الكشاف، ج 1، ص 513.
(2) انظر، أبو حيان، البحر المحيط، ج 3، ص 564.
(3) م ن، ج 3، ص 564.
(4) م ن، ج 3، ص 564.(1/395)
{يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ} [النساء: 48] قائلا: «فإن قلت: قد ثبت أن الله عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة، فما وجه قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ} [النساء: 48] قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجّهين إلى قوله تعالى: [لمن يشاء] كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب» (1) ومنه ما ذكره في تفسير الآية: {فَذُوقُوا بِمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا} [السجدة: 14] ذوقوا العذاب الدائم في جهنم بسبب فعلكم المعاصي والكبائر (2). ولئن حكّم المعتزلة العقل هنا فإن الأمر سمعي عند أهل السنة يعوّلون في أدلة المعصية على القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويعدّونها قطعية، ويعتقدون أن المؤمن العاصي يدخل الجنة لوعد الله تعالى، ووعده صادق، وبنوا ذلك أيضا على أن أصل الاعتقاد راسخ والعوارض تزول ويعفى عنها وتغفر. ومن الأحاديث الشريفة التي يذكرونها في هذا المقام ما روي عن أنس قال: قال رسول الله: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (3). وعلى آية حال فإن المسلمين مجمعون على تخليد الكافر في النار وعلى تخليد من مات مؤمنا بغير ذنب في الجنة. أما من تاب على توبته فرآه جمهورهم لاحقا بالمؤمن الذي لم يقترف ذنبا. وجعله بعض المتكلمين في مشيئة الله تعالى. وقد جعل الخوارج من مات مذنبا بصغيرة أو كبيرة مخلدا في النار غير أنه في الجنة بإيمانه عند المرجئة لا تضرّه سيئاته. وخلّده المعتزلة في النار إن كان صاحب كبيرة إلا أنه في المشيئة لدى أهل السنة إذا أراد الله غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه، وأخرجه من النار بعد ما كان مخلدا فيها، وأدخله الجنة (4).
__________
(1) الكشاف: ج 1، ص 554532.
(2) م ن، ج 3، ص 243.
(3) سنن الترمذي، ج 4، ص 625رقم، 2435وانظر شرح العقيدة الطحاوية، ج 1، ص 260وما بعدها.
والغزالي أبو حامد (ت 505هـ)، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 2، ص، 153والقنوجي صديق بن حسن بن علي، يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار، ص 117، 184، 187. وابن القيم أحمد بن إبراهيم بن عيسى (ت 1329هـ)، شرح قصيدة ابن القيم، ج 1، ص 259. وسليمان بن عبد الله بن محمد (ت 1233هـ) شرح كتاب التوحيد، ج 1، ص 52.
(4) انظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 3، ص 670.(1/396)
وتفسيره الآية: {وَلََكِنْ لَعَنَهُمُ اللََّهُ بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 46]: «أي خذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم عن ألطافه» (1) ينزع فيه منزع ما تعتقده فرقته: أي أبعدهم عن توفيقه وتسديده ولم يحدث فيهم من الألطاف والزيادات ما يفعله بالمؤمنين كنحو قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً} [محمد: 17] «فتركه سبحانه أن يفعل هو الخذلان من الله للكافرين» (2).
وحين يفسر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدََادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللََّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلََا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 4137] يوظف ألفاظا يضمنها أفكار المعتزلة «كاللطف» و «ما يستحقون به المغفرة» و «يستوجبون اللطف» و «الفاسق» قال: «والمعنى أنّ الذين تكرّر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة، ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على الردة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرّة بعد أخرى، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الرّدة ونصحت توبتهم لم يقبل منهم، ولم يغفر لهم لأن ذلك مقبول حيث هو بذل للطاقة واستفراغ للوسع ولكنه استبعاد له واستغراب، وأنه أمر لا يكاد يكون.
وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات» (3) فليس في الآية الكريمة ما يخالف القاعدة الثانية في أن التوبة مقبولة على الإطلاق، وإنما المراد أنه لا تكون منهم توبة ليكون قبول فالوارد خبر لا حكم فالمخبر عنهم من سبق في علمه عز وجل أنه لا يتوب (4).
__________
(1) الكشاف: ج 1، ص 531.
(2) الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص، 328والمعتزلة مختلفون في الخذلان. يراه بعضهم: تسميته إياهم والحكم عليهم بأنهم مخذلون وآخرون: الخذلان عقوبة من الله تعالى وهو ما يفعله بهم من العقوبات. وغيرهم من أهل الإثبات فرّعوه إلى الخذلان قوة الكفر، وإلى معنى آخر: خذلهم: أي خلق كفرهم.
(3) الكشاف: ج 1، ص 572.
(4) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 571.(1/397)
ولما كان صاحب الكشاف ينكر رؤية الله عز وجل على أصل مذهبه ذهب في تفسير قوله سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153] إلى تعزيز مذهبه الاعتزالي في استحالة الرؤية مؤوّلا: [بظلمهم] «بسبب سؤالهم الرؤية» ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين، ولما أخذتهم الصاعقة. كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمّه ظالما ولا رماه بالصاعقة» (1). ولئن كان سؤالهم ليس محالا عقلا كما ذهب إلى ذلك أهل السنة إلا أنه ممتنع في الشرع لأن الله تعالى أخبر عن طريق أنبيائه أنه لا يرى في الحياة الدنيا. أما هي في الآخرة فثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر وجائزة مع ذلك عقلا، وهي عند المعتزلة محال عقلا في الدنيا والآخرة (2).
واتفق المعتزلة على أن المعارف كلها معقولة وواجبة بنظر العقل، ومن أن النظر العقلي الذي يؤدي إلى معرفة الله تعالى وشكره ومعرفة الحسن والقبح تجب معرفتهما بالعقل، وأن اتباع الحسن واجتناب القبيح كلها تجب على المفكر حتى قبل مجيء الوحي، وإن قصّر في شيء من هذا استوجب العقوبة، فقد اتفق أبو علي الجبائي (ت 303هـ) وابنه أبو هاشم (ت 321هـ) على «أن المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية، وأثبتا شريعة عقلية، وردّا الشريعة النبوية إلى مقدورات الأحكام، ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل، ولا يهتدي إليها فكر» (3) فهم أثبتوا للعقل وظيفة أساسية في وضع مقاييس الأحكام على الحسن والقبح، وليس لمجرد الكشف عليها، وإنما أوجبوا أن تكون أحكامها لا تتبيّن إلا به، إذ ينبئ العقل عندهم عن صفات الأفعال وعن استحقاقها للأحكام الآجلة أي الثواب والعقاب الإلهين. فهذه الأحكام التي يطلقها العقل واجبة قبل مجيء الشرع، وليست الأوامر سوى مجرد توكيد وإثبات لأحكام الشريعة العقلية.
__________
(1) الكشاف، ج 1، ص 577.
(2) انظر أحمد بن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص، 577وكذا أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 4، ص، 121وكذا د. محمود كامل أحمد، مفهوم العدل في تفسير المعتزلة للقرآن الكريم، ص 8483.
(3) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 92، 91وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص 323وما بعدها. وزهدي جار الله، المعتزلة، ص، 115ودي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 92.(1/398)
ويبدو أن المعتزلة حين جعلوا التحسين والتقبيح عقليين إنما يرجعان إلى تعزيز فكرة العدل الإلهي وتتميم فكرة التكليف. وعلى هذا إذا أمر الله بالحسن فلأنه حسن في حدّ ذاته وإذا نهى عن القبيح، فلأنه قبيح في حدّ ذاته، وإن تمييز الإنسان بالعقل بين الحسن والقبح هو الذي يكمل معنى التكليف في اقتدار العبد على أفعاله، وفي اختياره الوجه الذي تقع عليه لتصح المثوبة والعقوبة (1).
وبناء على هذه القاعدة الاعتزالية تساءل عند قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلََّا يَكُونَ لِلنََّاسِ عَلَى اللََّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]: «فإن قلت كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة. والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ولا عرفوا أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت:
الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبّهنا لما وجب الانتباه له» (2).
فهو يثبت على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين أحكام الله تعالى بالعقل قبل أن يأتي الشرع وإن لم يبعث رسولا. ويوجب النظر في أدلة المعرفة دون أن يتوقفوا على ورود الشرع، وألزموا من ترك النظر في الأدلة قبل مجيء الشرع بأنه يستحق العذاب لأنه ترك واجبا هو قائم عليه بالبرهان وإن لم يكن شرع. ولكن الحجة في هذا المقام قائمة عند أهل السنة على الخلق بالأحكام الشرعية المؤدية إلى الجزاء بإرسال الرسل، وليس بمجرد العقل كما هو ظاهر في الآية الكريمة التي عدّ فيها المعتزلة والزمخشري الرسل متمّمين حجة الله ومنبّهين على ما وجب قبل بعثتهم بالنقل. ومع هذا فإن السنيين يعدّون العقل شرطا في عموم الأحكام، ولا يرون تكليفا قبل ورود الشرع وبعثة الأنبياء حيث يثبت الحكم حسبهم حينئذ،
__________
(1) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 271270.
(2) الكشاف: ج 1، ص 583.(1/399)
وتقوم الحجة (1) استنادا إلى قوله عز وجل: {وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
[الإسراء: 15] لذا فهم يعدّون العقل «آلة يستعان بها على الفهم عن الله تعالى ورسوله مناط التكليف من الله تعالى وسبب المسئولية عنده، وليس من حق العقل التشريع أو الرفض والإبطال لما صحّ بالدليل الشرعي المقبول» (2).
ومنه ما ذكره عند الآية: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مََا أَتََاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
[السجدة: 3]: «فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة؟ قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدركها علمها إلا بالرسل فلا وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان» (3).
وذكر في الآية: {وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} [ص: 26] [عن سبيل الله] معناه: «دلائله التي نصبها في العقول وشرائعه التي شرعها وأوحى بها» (4).
ويمكن الوقوف على إقراره ذلك أيضا عند قوله عز وجل: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَمََّا جََاءَنِي الْبَيِّنََاتُ مِنْ رَبِّي} [غافر: 66]. تساءل قائلا: «فإن قلت: النبي عليه الصلاة والسلام قد اتضحت له أدلة العقل على التوحيد قبل مجيء الوحي فعلام الآية؟ وأجاب بأن الأمر كذلك، ولكن البينات مقوّية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومتضمّنة ذكرها» (5).
ومما رامه في التأويل على أساس قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل وأنه كاف، وإن لم يرد شرع في التحريم وغيره من الأحكام إذا كانت واضحة لعقل مثل
__________
(1) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص 583، ج 2، ص، 441وابن قيم الجوزية، الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة، ج 3، ص 850، 870ود. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 298.
(2) محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة (ت 727هـ)، إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل، تحقيق وهبي سليمان غاوجي الألباني، دار السلام، ط 1، 1990، ص، 39واليافعي (عبد الله بن أسعد ابن علي (ت 768هـ)، مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة، تحقيق محمد محمد محمود حسن نصار، دار الجيل، بيروت، 1992م، ط 1، ج 1، ص 55وما بعدها.
(3) الكشاف، ج 3، ص 240.
(4) م ن، ج 3، ص 372.
(5) م ن، ج 3، ص 435.(1/400)
مجالسة المستهزئين فإنّ قبحها بيّن بالعقل، لذا فهو يستقل بتحريمها. أما ما ورد في الشرع من ذلك فكاشف لحكمها ومبنية عليه وغير منشئ فيها حكما (1) لذا قال في الآية: {وَإِمََّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطََانُ فَلََا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى ََ مَعَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} [الأنعام:
68]: و «يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم» (2). وقد عقّب بعضهم على هذا التفسير بأنه يعارض معنى الآية مبينا بأن النسيان هنا ليس نسيان الحكم الذي دل عليه العقل قبل، ورود هذا النهي لأنه لو كان كذلك لما عبر بالمستقبل في قوله عز وجل: {وَإِمََّا يُنْسِيَنَّكَ} الآية. فلما ورد بصيغة المستقبل فلا وجه في حمله على الماضي (3).
ومن هذا قوله في الآية: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مََا شَهِدْنََا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ} [النمل: 49]: «وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا إلى قتل نبيّ الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سوّوا للصدق في خبرهم حيلة يتقصون بها عن الكذب؟» (4). ولم يخرج عن هذا السياق في تفسير قوله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمََا سَوََّاهََا (7) فَأَلْهَمَهََا فُجُورَهََا وَتَقْوََاهََا} [الشمس: 7، 8] مبينا «معنى إلهام الفجور والتقوى: إفهامهما وإغفالهما» مدرجا رأي المعتزلة قائلا:
«وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما يشاء منهما بدليل (5) قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكََّاهََا (9) وَقَدْ خََابَ مَنْ دَسََّاهََا} [الشمس: 9، 10].
ويرى المعتزلة «أن الله سبحانه لم يرد المعاصي إلا المردار (6) فإنه حكي عنه أنه
__________
(1) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 2627.
(2) الكشاف، ج 2، ص 27، 26وكذا أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 4، ص 546.
(3) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 27.
(4) الكشاف: ج 3، ص 152153.
(5) م ن، ج 4، ص 258259.
(6) هو أبو موسى عيسى بن صبيح لقبه المردار (ت 226هـ) وهو من علماء المعتزلة وكان يقال له: راهب المعتزلة. انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص، 429وكذا الأسفراييني (ت 471هـ) التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، ج 1، ص، 77والشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، ج 1، ص، 31والإيجي، المواقف في علم الكلام، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، ط 1ج 3، ص 664.(1/401)
قال: إن الله أراداها بأن خلّى بين العباد وبينها» (1). وذهبوا إلى أن الله سبحانه لم يرد الفتنة من أحد، وإنما أراد من كل العباد الإيمان وطهارة القلب، وبأن ما يحدث من فتن إنما هو على خلاف إرادته. ورأوا كذلك بأنه من عدل الله ألا يمنح ألطافه إلا لمؤمن أما الضال المصرّ على الكفر فإن الله يتركه مفتونا وخذلانه، وحين تعارض هذا المفهوم مع ظاهر قوله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً أُولََئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] جعلها الزمخشري متشابهة وردّ معناها إلى آيتين محكمتين يوافق ظاهرهما ما ذهب إليه. قال: «أولئك الذين لم يرد الله» أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع (2) {إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ لََا يَهْدِيهِمُ اللََّهُ} [النحل: 104] {كَيْفَ يَهْدِي اللََّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمََانِهِمْ} [آل عمران: 86] فرغم تقرير الآية في صراحة أن الله تعالى يريد فتنة العصاة ولا يريد أن يطهّر قلوبهم ومن أنهم عصاة بإرادته وتقديره، فإن الزمخشري عدّ هذا الحسم النصّيّ ظاهريا لا ينبغي أن يتأثر به، لذا رد معنى الآية باعتبارها متشابهة إلى آيتين محكمتين ومن ثم فإن في قوله: «تركه مفتونا وخذلانه» ما يفهم منه أن = الفتنة نفسها غير صادرة عن الله = (3) تعالى. ولا ريب في أن صراحة هذا النص يريح مفسري أهل السنة الذين رد بعضهم على الزمخشري بأن الله سبحانه أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يظهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر (4).
ويفسر الزمخشري على قاعدة التحسين والتقبيح قوله تعالى: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدََاهُمْ حَتََّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مََا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] قال: «يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه. وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالا، ولا يخذلهم إلا إذا
__________
(1) الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، ط 3، ص، 228وكذا م ن، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 266267.
(2) الكشاف، ج 1، ص 615.
(3) جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 176.
(4) انظر الإنصاف، هامش الكشاف، ج 1، ص، 614.(1/402)
أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم وعلمهم بأنه واجب الاتقاء والاجتناب. أما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع صاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها وهي أن المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال. والمراد بما يتقون ما يجب اتقاؤه بالنهي» ثم أضاف «فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر وردّ الوديعة فغير موقوف على التوقيف» (1)، ولا ريب في أن هذا الاستدلال يقرّ بتحسين العقل وتقبيحه وبأنه حاكم والشرع كاشف لما غمض عليه، وتابع لما يقتضيه العقل. وتحديد معنى الحسن والقبح إنما يتم بالعقل الذي يحتاج إليه وذلك أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران فيه قبل ورود الشرع عندهم لأنهم «متفقون على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجبة قبل ورود الشرع، ومن أن الحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل» (2) غير أن الواجبات سمعية كلها عند الأشعري، ولا يوجب العقل في مذهبه شيئا، ولا يقتضي تحسينا، ولا تقبيحا، وهو يرى (3) أن معرفة الله تعالى بالعقل تحصل، وبالسمع تجب لقوله تعالى:
{وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وأنه قد يراد بهما ملائمة الطبع ومنافرته وكون الشيء كمال ونقصان فبهذا المعنيين هما عقليان كاللذّة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما. ومن هذه السبيل محكوم عليه بمقتضى بديهة العقل. والألم والغم وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما محكوم عليه بالقبح أو أنه يراد بهما ما هو موجب للثواب والعقاب والمدح والذم، وهو معنى شرعي إذ التحسين والتقبيح في هذه الأفعال بحسب الشرع فالحسن ما أمر الله به والقبح ما نهى الله عنه (4). ولا يرى الأشاعرة الأفعال ذاتية الحسن والقبح، وإنما هما أمران
__________
(1) الكشاف: ج 2، ص 285218: الإيفاء حسن في العقول.
(2) انظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 5866798591. وزهدي جار الله، المعتزلة، ص 115.
(3) انظر م ن، ج 1، ص، 115وكذا: ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص، 217.
(4) انظر فخر الدين الرازي، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، ط 1، المطبعة الحسينية المصرية، ص، 147وكذا د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 315314.(1/403)
إضافيان بحسب الأشخاص، وليس ثمة ضرورة ليدركا بالعقل أو النظر والاستدلال (1).
ويبدو اختلافهم مع المعتزلة واضحا في ما ذكره الدارسون لأن جهود المعتزلة قد انتهت في قاعدة التحسين والتقبيح إلى ركائز من الأدلة العقلية حصروها في ثلاثة:
الأول: أن المكلفين قد احتكموا إلى العقل قبل ورود الشرع، وأنه لو لم يكن في الأشياء حسن وقبح ذاتيان لأفحم الرسل لأن الاقتصار على الشرع في إدراك الحسن في رسالات الرسل يؤدي بالمكلف إلى القول: لا يجب علينا النظر في معجزاتكم ونبوتكم إلا بالشرع، والشرع لا يستقر إلا بنظرنا فيه.
الثاني: لو توقف الحسن والقبح على مجيء الشرع لامتنع تعليل الأحكام الشرعية بها ولعطل ذاك الاجتهاد فيما لا نصّ فيه. ولا يخفى ما في هذا من سدّ باب القياس وتعطيل كثير من الوقائع والأحكام التي ذكرها القرآن.
الثالث: أن الله تعالى قرر في العقول العلم بوجه وجوب الأفعال على الجملة ثم يتعاون السمع والعقل على تفضيل تلك الوجوه، يدل على ذلك قول الزمخشري حين فسّر قوله عز وجل: {قََالُوا تَقََاسَمُوا بِاللََّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مََا شَهِدْنََا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ} [النمل: 49] قال: «كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم، ألا ترى أنهم قصدوا إلى قتل نبيّ الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سوّوا للصدق في خبرهم حيلة يقتصون بها عن الكذب» (2)
وما فات المعتزلة في ثبات الفعل أو القبح أو ما يعرف بالذاتية في الحسن والقبح أن
__________
(1) انظر د. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، ص 314.
(2) الكشاف، ج 3، ص 152، 153، وانظر د. محمود كامل أحمد، مفهوم العدل في تفسير المعتزلة للقرآن الكريم، ص 164165.(1/404)
الفاعل غير ثابت فإذا كان الصدق في حد ذاته حسنا فإن قائله لا يصيب دائما كما أن قائل الكذب لا يكون مخطئا دائم (1).
وفسر قوله سبحانه: {مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
[الأنعام: 39] فرأى أن الإضلال هو الخذلان وتخلية العبد وضلاله ومنعه ألطافه لأنه ليس من أهلها وليس ممن يعلم الله تعالى بأنه يهتدي (2). ولعله يشير هنا إلى أحد أصول المعتزلة التي تنفي عن الله سبحانه خلق الهدى والضلال، وتراها من جملة مخلوقات العباد، وبأن العبد هو الموجد لأفعال نفسه (3).
وحين فسر قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]: بأن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا بموجب الحكمة، وأن الكفار جديرون بعذاب الأبد (4) إنما ينتصر لمذهب المعتزلة في هذه المسألة من خلال نظرية التحسين والتقبيح، رأوا فيها أن كل ما جاء في القرآن الكريم من تكاليف وشرع تعريف بما ركّزه الله سبحانه في عقول البشر من جبلّة الخلق تحسينا وتقبيحا وتعريضا للثواب على جهة الاستحقاق فقالوا: إن العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع، وعليه يعلم أنه إن قصّر ولم يعرفه ولم يشكره عاقبه عقوبة دائمة. ومن هنا أثبتوا التخليد واجبا بالعقل (5). ولا شك في أن ما اتفق عليه
__________
(1) انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 117.
(2) انظر الكشاف، ج 2، ص 17.
(3) قال الحسن البصري: يدعى العلم الضروري بأن العبد موجود لأفعال نفسه وحجته في ذلك أوجه:
الأول: أن كل عاقل يعلم من نفسه أن وقوع تصرفاته موقوف على دواعيه، فلولا هذه الدواعي لما وقع شيء منها. فإذا جاع وكان تناول الطعام ممكنا صدر منه فعل التناول، ومتى اعتقد سمّا في الطعام عزف عنه. ويعلم من العقلاء. سليمي الأحوال أنه يجب وقوع أفعالهم بحسب دواعيهم. الثاني: يعلم العقلاء حسن ذمّ من أساء إليهم ومدح من أحسن ويعلمون بالضرورة قبح المدح والذم على كونه طويلا أو قصيرا ولولا علمهم يكون العبد محدثا لأفعاله لما علموا بالضرورة حسن مدحه وذمه على أفعاله
الثالث: يحب كل منا من غيره ومن نفسه إذا طلب فعلا من غيره أنه يطلبه منه طلب عالم بأنه هو الذي يحدث ذاك الفعل لذا تجده يتلطف في استدعائه لذلك الفعل منه بكل لطف وينهاه فيه عما يكرهه ويعجب منه أو يغضب من فعله. وهذا كله يعلل بأنه فعله. وقد أبطل الرازي هذه الوجوه فرد عليها بأوجه أيضا: انظر الرازي، القضاء والقدر، ص 223224.
(4) انظر الكشاف، ج 2، ص 50.
(5) انظر الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق أمير علي مهنا وعلي حسن فاغور، ج 1، ص 84.(1/405)
الجبائيان: أبو علي (ت 303هـ) وابنه أبو هاشم (ت 301هـ)، وهما معتزليان، يكشف لنا بوضوح كيف استغل الزمخشري الموقف ليقول بما رآه في خدمة أفكار فرقته فقد ذهبا في هذا السياق إلى أن: «معرفة القبح والحسن واجبات عقلية وأثبتا شريعة عقلية وردّا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر، وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي إلا أن التأقيت والتخليد فيه تعرف بالسمع» (1)، فالزمخشري إذن يريد القول: بأن تخليد الكفار واجب على الله سبحانه بمقتضى الحكمة وليس في العقل ما يجوز أن يشاء الله خلافه. وفي هذا تبيين لفكرة العدل الإلهي التي تقضي عندهم باستحقاق الثواب والعقاب ولم يثبتوها بأدلة العقل وحدها وإنما قالوا معها بالدلالة السمعية التي وعد فيها الله سبحانه المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب فلو لم يكن ذلك واجبا لكان لا يحسن الوعد والوعيد بهما. وعلى هذا فالله تعالى لا يخلف وعده ولا وعيده وبأنه لا يجوز العفو عن مرتكب الكبيرة بل يعذب في النار ويخلد فيها (2)، ولكن الثواب عند أهل السنة غير محتوم ومثله الجزاء، وإنما هو فضل (3) من الله تعالى.
ولا يجب العقاب عندهم أيضا وبأن ما وقع منه إنما هو عدل من الله، وأن ما وعد من الثواب أو توعّد به من العقاب حق وأن وعده صدق (4).
ونحن نجد هذا الإيجاب الذي ذهب إليه المعتزلة في الثواب والعقاب في تفسير الزمخشري لقوله تعالى أيضا: {ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ} [الأنعام:
146] معناه أن الله تعالى جزاهم ببغيهم بسبب ظلمهم وأنه تعالى صادق فيما أوعد به العصاة لا يخلفه كما لا يخلف ما وعد به الطاعين (5). ويرى السنيون بأن
__________
(1) م ن، ج 1، ص 9291.
(2) انظر شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 271، 272وكذا إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 157 ود. علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، ص 255254.
(3) الفضل زيادة في الثواب وهو بغير حساب. انظر كامل محمد محمد عويضة، الزمخشري المفسر البليغ، ص 201.
(4) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 152157.
(5) انظر الكشاف، ج 2، ص 58، ج 3، ص 230231.(1/406)
الآية وردت في الكافرين وهم متفقون على وقوع وعيده فيهم لكنهم يجوّزون على العاصي الموحد العفو، ولا يرون الوعيد حتما لأنه سبحانه حيث توعّد المؤمنين العصاة علّق حلول الوعيد بهم بالمشيئة، وقد مرّ ذلك (1).
ولما كان المعتزلة دأبوا على تنزيه الله عز وجل من كل قبح لعلمه به ولاستغنائه عنه، ولعلمه باستغنائه عنه فلا يختار لذلك القبيح بوجه من الوجوه (2) عملوا على إثبات ذلك في تفاسيرهم. قال الزمخشري عند قوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا وَلََا حَرَّمْنََا مِنْ شَيْءٍ كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام 148] مفصحا على تلك الخلفية بقوله في تفسيره {كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} «أي جاءوا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتاب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها. والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره» (3).
ويجعل الزمخشري من مقول القول: {لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكْنََا} أنهم أرادوا بكفرهم وتمرّدهم أن شركهم شرك آبائهم وتحريمهم ما أحلّ الله، وهو بمشيئة الله وإرادته وبأنه لولا مشيئة الله لم يكن شيء من ذلك، وأوضح أن هذا يشبه مذهب المجبرة وهو يقصد بالمجبرة أهل السنة (4). الذين لا يرون ما يراه من خلق العبد لفعله إلا أن ثمة فرق بين رأي المجبرة هاهنا وبين أهل السنة لأن المجبرة الحقيقيين يعتقدون بأن العبد لا اختيار له ولا قدرة، وإنما هو مجبور على أفعاله. أما السنيون فيثبتون للعبد اختيارا وقدرة لكنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية وهذه القدرة تميّز بين ما يختاره وبين أفعاله القسرية، ولعل هذه الجهة هي التي جعلته يطابق بينهم وبين المجبرة ويلقبهم كذلك. وفي تتمة الآية:
__________
(1) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص 157.
(2) انظر القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 2، ص 3، 4.
(3) الكشاف، ج 2، ص 59.
(4) م ن، ج 2، ص 59.(1/407)
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلََّهِ الْحُجَّةُ الْبََالِغَةُ} (الآية) ردّ صراح على المعتزلة القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم كافة فلم تقع من أكثرهم، ووجه الرد أنّ «لو» إذا دخلت على فعل مثبت نفته (1)، فيقتضي هذا أن الله عز وجل لما قال: {فَلَوْ شََاءَ}. لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم ولو شاءها لوقعت وفي هذا تصريح ببطلان ما ذهبوا إليه. والواقع أن من السنيين من يجعل الآية الكريمة ردا ليس على المعتزلة فحسب وإنما على أهل الجبر كذلك ويرى فيها معتقد السنيين من ناحية أنّ أولها يثبت اختيار العبد وقدرته على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، ويثبت أخرها وقوع مشيئته في العبد وأن جميع أفعاله لا تقع إلا في إطار المشيئة الإلهية (2).
وهو يمنع أن يكون الله عز وجل خلق الغي أو فعله في تأويل الآية: {قََالَ فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرََاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] لأن الإغواء قبيح:
«والمعنى فبسبب وقوعي في الغي لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما قد فسدت بسببهم» (3) فلما كانت أفعال الله تعالى كلها حسنة حسب قاعدته الاعتزالية وبأنه سبحانه عالم بالقبح وعالم أنه مستغن عنه، وعلى ذلك لا يصح أن يفعله فجعل الإغواء لصيقا بالتكليف ليبيّن أن الله لم يخلقه له وإن فعل ألغي مسند حقيقته للفاعل وهو مسند إلى الله إسناد المسبب له لا أنه فاعله، وذلك على سبيل مجاز السببية، وهذا ما يسمى بمجاز الإسناد. وقد رأينا في غير هذا المقام كيف أول إسناد الختم إلى الله تعالى: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] بأنه استعارة أو مجاز على معنى أن الشيطان هو الخاتم أو الكافر وأسند إلى الله تعالى
__________
(1) في هذا اختلاف كثير وتفصيل. انظر ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق حنا الفاخوري، دار الجيل بيروت، ط 1، 1999، ج 1، ص 448، 442ولا يقبل المؤلف قول من جعل «لو» حرف امتناع لامتناع: إنما يفضّل قول سيبويه: «حرف لما سيقع لوقوع غيره»، وقول ابن مالك:
«حرف يدل على انتفاء تال، ويلزم لثبوته ثبوت تاليه». ص 427، وهذا إن لم تكن شرطا.
(2) انظر تفسير الواحدي (ت 468هـ)، ج 1، ص، 606وتفسير البغوي (ت 516هـ)، ج 2، ص 140، 139 وابن المنير (ت 683هـ) الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص، 60وتفسير أبي السعود (ت 951 هـ)، ج 3، ص 196.
(3) الكشاف، ج 2، ص 69.(1/408)
لأنه هو الذي أقدره ومكّنه، أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب (1). وقد نفى الأصم والزمخشري كلاهما نسبة الإغواء حقيقة إلى الله لدلالة الإغواء على الإضلال (2)، وذلك انتصارا منهما لمذهبهما (3). ومذهب أهل السنة أنّ الله تعالى هو الذي أضله وخلق فيه الكفر ولذلك نسب الإغواء إليه سبحانه على حقيقته لأنه عندهم لا شيء في هذا الكون إلا ومخلوق له صادر عن إرادته لا كما يرى المعتزلة في أن كل من كفر أو آمن راجع إلى أن الله فوّض أسباب ذلك إليه، وبأن السبب الموصل إلى الإيمان هو السبب الذي يصل به الكافر إلى الكفر، ولو كان الأمر كما رأوه لقال إبليس بقوله تعالى: {فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي} فبما أصلحتني على أساس أن سبب الإغواء هو سبب الإصلاح، ولكان في إخباره عن الإغواء إخبار عن الإصلاح غير أنه لما كان سببهما مختلفين وكان السبب الذي به غوى وهلك أو أضلّ من عند الله أضاف ذلك إليه (4) فقال: {فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي} الآية.
وينتصر الزمخشري لمعتقد المعتزلة الذي يثبت للعقل وظيفة أساسية في وضع مقاييس الأحكام على الحسن والقبح ولم يقصروا وظيفته في هذه الأمور على كشفها، وإنما جعلوا أحكامها فيها واجبة بالعقل وفي هذا ذكر الشهرستاني أنّ النظّام «قال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعال» (5) لذا قال في قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطََانُ لِيُبْدِيَ لَهُمََا مََا وُورِيَ عَنْهُمََا مِنْ سَوْآتِهِمََا وَقََالَ مََا نَهََاكُمََا رَبُّكُمََا عَنْ هََذِهِ الشَّجَرَةِ إِلََّا أَنْ تَكُونََا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونََا مِنَ الْخََالِدِينَ}
[الأعراف: 20]: «وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور وأنه لم يزل مستهجنا في الطباع ومستقبحا في العقول» (6). ولئن جاز ذهاب السني إلى أن
__________
(1) انظر الكشاف، ج 1، ص 162.
(2) انظر ابن منظور، لسان العرب مادة (غوى)، ج 15، ص، 141وذكر قبله بمعنى الإهلاك ومنه قوله عز وجل: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. أي هلاكا، ذكره ابن الأنباري. انظر ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي (ت 597هـ) زاد المسير في علم التفسير، ج 3، ص 175.
(3) انظر الكشاف، ج 2، ص 69.
(4) انظر تفسير الطبري، ج 8، ص 134، وتفسير القرطبي، ج 7، ص، 175والزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 4، ص 403.
(5) الملل والنحل، ج 1، ص 72.
(6) الكشاف، ج 2، ص 72.(1/409)
العقل يدرك المعنى الذي حسن الشرع لأجله الستر وقبح الكشف، فإنهم ما أرادوا به ظاهره (1).
وجعلوا المعاصي والذنوب محمولة على المكلفين واستعظموا نسبة القبائح إلى الله ففي الآية: {وَلَوْلََا أَنْ ثَبَّتْنََاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ ثُمَّ لََا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنََا نَصِيراً} [الإسراء: 74، 75] ذهب الزمخشري إلى أن «في ذكر الكيدودة وتقليلها مع اتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدّارين دليل بيّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا» (2).
ويبيّن صاحب الكشاف أن المراد من قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}
[السجدة: 7] هو نفي ما يقبح في العقل من فعله دون ما يستقبح في الصورة:
[أحسن كلّ شيء]: «حسنه لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة، وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] «وقيل علم كيف يخلقه» (3).
وهو يرى أنّ اجتناب الكبائر يكفّر عن الصغائر (4) لذا عمل على دسّ هذه الخلفية حين فسّر قوله عز وجل: {قََالََا رَبَّنََا ظَلَمْنََا أَنْفُسَنََا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنََا وَتَرْحَمْنََا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخََاسِرِينَ} [الأعراف: 23] قائلا: «وسميا ذنبهما وإن كان صغيرا مغفورا» (5)، وذلك لقوله: «وإن كان صغيرا مغفورا» على سبيل التضمين والإخفاء
__________
(1) ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص، 72وكذا أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 5، ص 25.
(2) الكشاف: ج 2، ص 461.
(3) الكشاف، ج 3، ص 241.
(4) اختلاف المعتزلة في غفران الصغائر: قال بعضهم بغفرانها عند اجتناب الكبائر تفضلا، وقال آخرون:
يغفرها الله عند اجتنابها باستحقاق. وذهب غير هؤلاء إلى أن الصغائر لا تغفر إلا بالتوبة. انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 332333.
(5) الكشاف، ج 2، ص 73.(1/410)
لأنه كلام يستقيم في استعمال أهل السنة (1)، ولكن فيها دليل على أنها معاقب عليها إن لم تغفر (2)، ومن ثم فإنك تجده على أسلوب الاستخفاء هذا يهيئ لقاعدة التحسين والتقبيح، ومن أن الله يراعي صلاح العباد وما هو أصلح لهم إذ قال في تفسيره قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ اللََّهَ لََا يَأْمُرُ بِالْفَحْشََاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] «أي إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم وبأن الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها وكلاهما باطل من العذر لأن أحدهما تقليد والتقليد ليس بطريق العلم. والثاني: افتراء على الله وإلحاد في صفاته، كانوا يقولون: لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه» (3).
وما من شك في أن المعتزلة قد بيّنوا العلاقة بين خلق الله الإنسان لفعله وقدرته عليه وبين عناية الله تعالى التي سمّوها «اللطف الإلهي» الذي عنوا به التيسير إلى فعل الخير والطاعة وترك الشر والقبائح، وهو عند جمهورهم أن الله لا يفعل بكل العباد «إلا ما هو أصلح لهم في دينهم وأدعى لهم في العمل بما أمرهم به، وهو لا يدخر عنهم شيئا ويعلم أنهم يحتاجون إليه في أداء ما كلفهم أداءه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة التي يستحقون عليها ثوابه الذي وعدهم» (4)، وهو عند بعضهم أن اللطف ليس بأكثر من أن يكون المرء عنده أقرب إلى أداء الواجبات وترك المقبحات على وجه لولاه لما كان بهذه المثابة ومعرفة الله تعالى بهذه الصفة» (5). وعلى هذا فكل مهتد خلق لنفسه الهدى فالله سبحانه لم يخلق لأحد من المهتدين الهدى وقد أجرى الزمخشري تفسيره للآية: {وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي هَدََانََا لِهََذََا وَمََا كُنََّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلََا أَنْ هَدََانَا اللََّهُ} [الأعراف: 43] على تأويل الهدى من الله تعالى إلى اللطف الذي يوجب المعتزلة أن لا تخلو أفعال الله منه تقوية للدواعي وزيادة للصوارف فبقوة الدواعي وزيادة للصوارف يستطيع العبد اختيار الواجب وتجنب القبيح (6)، وهو ما نجده في تفسيره لقوله تعالى: {وَمََا كُنََّا لِنَهْتَدِيَ} «اللام لتوكيد
__________
(1) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 7374.
(2) انظر تفسير البيضاوي، ج 3، ص 13.
(3) الكشاف، ج 2، ص 75.
(4) الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 313.
(5) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 20.
(6) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 133.(1/411)
النفي: يعنون وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله وتوفيقه» (1) فاللطف الإلهي باعتباره هدى وتوفيقا (2) هو السبب الذي يمكن العبد من أن يخلف اهتداءه (3) ولا يسقط اللطف الإلهي عن العبد مسئوليته في أداء الفعل، ولا يخرجه عن أن يكون مقدورا له يدل عليه أنه واقع منه في معنى أنه محدثه وقادر عليه، والإحداث والتقدير بهذا المعنى الاعتزالي خارجان كذلك عن اللطف الإلهي (4).
وقد رأينا من قبل بأنهم نفوا وجود الصفات القديمة لاعتقادهم أن إثبات صفات قديمة لله تعالى معناه إثبات لوجود قدماء مع الله، وهذا عندهم مناف للتوحيد الذي هو أحد أهم أصولهم الخمسة، ومؤدّ إلى القول بتعدد القدماء وإلى التشبيه والتجسيم. وهكذا كان طرحهم هذا مبررا لأن يلحّوا على نفي وجود صفات قديمة. ولكن لم ركّز المعتزلة تركيزا على قضية الكلام الإلهي وخلق القرآن رغم أن مسألة الكلام الإلهي رأيناها عندهم مدرجة ضمن الصفات التي نفوا قدمها؟
لقد اتفقوا على أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه وأنه محدث مخلوق وهو مخلوق عندهم لخوفهم من أن القول بقدم كلام الله. والقرآن كلام الله فهو قديم.
إذن خافوا أن يؤدي هذا إلى ما يشبه مزعم النصارى، لأنه ليس أشنع من القول بأن لله شركاء كما جاء في قوله عز وجل: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ} [النساء: 48] والشرك بالله إثم عظيم. وفي العقيدة الإسلامية كما ينص القرآن الكريم عليها في الآيات: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ (1) اللََّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 41] إنكار ساطع لمفهوم الله التثليثي عند النصارى: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس (5) فالله واحد عندهم ولكنه مؤلف في وحدته من ثلاثة الأقانيم السابقة. ومن ثم رأوا
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 79.
(2) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 324326.
(3) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 79.
(4) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 133134.
(5) انظر الباقلاني، كتاب التمهيد، ص 79وما بعدها. وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 1، ص، 112ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج 10، ص، 197وانظر روم لاندو، الإسلام والعرب، نقله عن الإنكليزية منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت ط 1، 1962، ص 5043، 51د. محمود كامل أحمد، مفهوم العدل في تفسير المعتزلة للقرآن الكريم، ص 249.(1/412)
القول بقدم القرآن، وبأنه غير مخلوق يؤدي إلى المساواة بين الله وبين ما أنزل من الكلام، ولا يخفى ما في هذا من الشرك والتجسيم.
ولكنهم لم ينكروا الصفات الإلهية القديمة لأنهم قصدوا بها عين الذات، وإنما أنكروا أن تكون الصفات أشياء أو ذوات قديمة قائمة وراء الذات لدلالة ذلك على التعدد (1).
ويعكس تعمّقهم في بحث خلق القرآن الكريم حرصهم الكامل على تنزيه الله عز وجل. ولعل هذا ما يفهم في تصريح الزمخشري حين فسّر قوله عز وجل: {وَلَمََّا جََاءَ مُوسى ََ لِمِيقََاتِنََا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}:
«أي من غير واسطة كما يكلم الملك» ثم أضاف: «وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح» (2). ويرى السنيون خلاف هذا. يرون أنّ موسى عليه السلام سمع الكلام القديم القائم بذات الله عز وجل بلا وساطة دليل عليه من حروف أو غيرها وذلك بناء على قاعدتهم التي بنو فيها هم كذلك بأنه لما كان جائزا عقلا رؤية ذات الله سبحانه، وإن لم يكن جسما جاز كذلك سماع كلامه من غير أن يكون حرفا أو صوتا (3).
والعفو عن الذنوب مشروط بوجوب التوبة عنده أيضا وهو ما ذكره في تفسير الآية: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئََاتِ ثُمَّ تََابُوا مِنْ بَعْدِهََا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهََا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 153] «ولكن لا من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة والإنابة وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة لا يلتف إليها حازم» (4).
ولا يترك الفرصة تمر في مواقف كثيرة للتركيز على أحد أصول الاعتزال مثل نفي القبح عن الله وأنه لا يفعل إلا الخير ونفي كل ما يدعو إلى التشبيه والتجسيم كالرؤية ومشابهة الخلق، وأنت تجد هذا في تفسيره قوله سبحانه: {وَلِلََّهِ الْأَسْمََاءُ}
__________
(1) انظر زهدي جار الله، المعتزلة، ص 84.
(2) الكشاف، ج 2، ص 112111.
(3) انظر ابن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 112111.
(4) الكشاف، ج 2، ص 120.(1/413)
{الْحُسْنى ََ فَادْعُوهُ بِهََا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمََائِهِ سَيُجْزَوْنَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ}
[الأعراف: 180] «ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق فصفوه بها وذروا الذين يلحدون في أوصافه فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها» (1).
ويسلك في الآية: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] مسلكا تأويليا مفاده: «أن الله عز وجل لو علم في هؤلاء الصمّ البكم (خيرا) أي انتفاعا باللطف للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين بالقرآن والنبوة {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} أي لو لطف بهم لما نفع بهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه أو لو لطف بهم فصدقوا لارتدّوا بعد ذلك وكذّبوا ولم يستقيموا» (2). وليس اللطف كما بيّنا من قبل سوى تذكير أو تيسير إلى فعل الطاعة وتجنب المعصية من غير قسر خارجي مفروض على العبد، وهو لا يخرج عن متناول قدرته باعتباره تسديدا وتوفيقا وعصمة تمنعه من أن يرتكب الشرور ويترك الخير (3). فباللطف الإلهي يقرب العبد من اختيار فعل الخير والابتعاد عن الشر، وهذا حسب المعتزلة «لا يجعل الفعل خارجا عن كونه واقعا من الإنسان بحسب القدر الموجودة فيه وعلى ضوء من إرادته واختياره» (4). أما اللطف عند أهل السنة فعلى وجهين:
الأول: إبانة الحق والدعوة إليه ونصب الأدلة عليه.
الثاني: هداية عباده وذلك بأن يخلق في قلوبهم الاهتداء وقبول الحق. وجعلوا الهداية تشمل كل المكلفين وخصّوا بالثانية المهتدين (5).
__________
(1) م ن، ج 2، ص 193132.
(2) م ن، ج 2، ص 151.
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 313، 326 والقاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 2120.
(4) انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 256133.
(5) انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 340.(1/414)
والكبيرة عند المعتزلة تهدم الأعمال الصحيحة الثابتة حين تعقبها. قال الزمخشري في هذا المعنى عند الآية: {مََا كََانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسََاجِدَ اللََّهِ شََاهِدِينَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ وَفِي النََّارِ هُمْ خََالِدُونَ} [التوبة:
17] «وإذ هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها» (1).
ولما كان الخذلان عند المعتزلة هو أن يترك الله تعالى أن يحدث من الألطاف والزيادات ما يفعله بالمؤمنين، فترك الله سبحانه أن يفعل هو الخذلان من الله للكافرين (2). تأوّل الزمخشري ظاهر نص الآية الكريمة: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ هَلْ يَرََاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 117] على أساس قاعدة المعتزلة في رعاية الله عز وجل للأصلح التي هي نتيجة لمفهوم العدل عندهم، ولمعنى الحكمة الإلهية التي لا تخرج أفعاله عز وجل فيها عن الإحكام والإتقان، وإنما تنحو غرضا وتتوخى صلاحا (3)
وتريد خيرا. قال: {صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ}: دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح» (4)، وهو بهذا حين احتملت الآية الدعاء والخبر جعلها دعاء، وتجنّب جعلها خبرا لأن صرف القلوب عن الحق لا يجوز عندهم على أساس نظريتهم السابقة (5).
وربط الإيمان بالعمل الصالح ليستحق به العبد يوم القيامة الهداية والنور والتوفيق وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ}
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 179.
(2) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 328.
(3) الأصلح هو الأقرب إلى الخير المطلق. ولما كانت الأشياء كلها في العالم تسير نحو الصلاح العام كان هذا الصلاح هو الغاية من خلق العالم: انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص، 324وكذا زهدي جار الله، المعتزلة، ص 111110.
(4) الكشاف، ج 2، ص 223.
(5) انظر أحمد بن المنير، الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 223.(1/415)
{بِإِيمََانِهِمْ} [يونس: 9]، ويقرر (1) بذلك كما يعلّق عليه ابن المنير (2) أن شرط دخول الجنة العمل لصالح وأن من لم يعمل مخلد في النار كالكافر وليس كما زعم لأنه تعالى جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان فقال: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمََانِهِمْ}
السنة قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية ومن أتى كبيرة يسمى مؤمنا فاسقا بكبيرته وفي الآخرة تحت مشيئة الله عز وجل، إن شاء غفر له وأدخله جنته لأول مرة وإن شاء عذّبه بقدر ذنوبه، ومآله الجنة.
ويرى الخوارج والمعتزلة أن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد، ولكن لا يزيد ولا ينقص فصاحب الكبيرة كافر عند الخوارج وفاسق عند المعتزلة بين منزلتي الإيمان والكفر وخالد مخلّد في النار، لا يخرج منها بشفاعة وبغيرها عندهما معا، ولا يضرّ مع الإيمان معصية عند المرجئة (3).
والمعتزلة يفضلون الملائكة على الرسل من البشر لذا قال الزمخشري عند الآية الكريمة: {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ فَإِنَّ اللََّهَ عَدُوٌّ لِلْكََافِرِينَ}
[البقرة: 98]: {عَدُوٌّ لِلْكََافِرِينَ} أراد: «عدوّ لهم فجاء بالظاهر ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر» ثم قال: «وإذا كانت عداوة الأنبياء كفر فما بال الملائكة وهم أشرف؟ والمعنى: من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب» (4) وذكر هذا أيضا عند قوله تعالى: {قََالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا} [إبراهيم: 10]، فسرها قائلا: «ما أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم ولا فضل لكم علينا فلم تخصّون بالنبوة دوننا؟» وأضاف: «لو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» (5). ولكن الإيجي
__________
(1) انظر الكشاف، ج 2، ص 226.
(2) الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 226.
(3) انظر محمد صديق خان القنوجي، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 62، هامش رقم 100، وص 8180.
(4) الكشاف، ج 1، ص، 300وانظر ج 2، 394: «لما لهم من القرب والاختصاص»، ص 569: «مكرمون مفضلون على سائر عباده».
(5) م ن، ج 2، ص 369، 370وكذا أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 6، ص، 415 والزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج 2، ص 494.(1/416)
(ت 756هـ) نفى أن يكون نزاع بين العلماء في تفضيل الأنبياء على الملائكة السفلية وإنما الخلاف في الملائكة العلوية، وبيّن أن أهل السنة من أصحابه ذهب أكثرهم إلى أن الأنبياء أفضل وهو ما يقول به الشيعة (1). أما المعتزلة والحليمي من أصحابه السنيين فذهبوا إلى أن الملائكة أفضل وهو ما ذهب إليه الفلاسفة (2). وينسب إلى أهل السنة أن التفضيل يختص بصالحي البشر والأنبياء لا غير الملائكة. ولأتباع الأشعري (ت 310هـ) قولان: منهم من يفضّل الأنبياء والأولياء ومنهم من يقف ولا يقطع في هذا الأمر مع أن بعضهم الآخر يميل إلى تفضيل الملائكة. وعلى أية حال، فإن مذهب أهل السنة تفضيل البشر (3) وبأنه لم يكن تقديم الملك إلا لسبقه في الوجود وذلك استنادا إلى قوله عز وجل: {اللََّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلََائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النََّاسِ} [الحج: 85]. سكت جمهور المتصوفة عن مسألة تفضيل الرسل على الملائكة أو تفضيل الملائكة على الرسل (4)، ويبدو أنها مسألة لا تحتمل التفصيل والتوسّع لقربها مما لا يعنينا.
ويبحث القدرة الإلهية في تفسير قوله عز وجل: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]: «أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم إعلاما منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم يقدر على الشيء وجنس ضده» ثم قال في الآية: {وَمََا ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20]: «لأنه قادر بالذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور فإذا خلص له الداعي إلى شيء، وانتفى الصارف تكون من غير توقف كتحريك إصبعك. وإذا دعا إليه داع ولم يعترض من دونه صارف» ففي هذا
__________
(1) ولكن في شرح العقيدة الطحاوية، ج 1، ص 338: أن الشيعة قالت: إن جميع الأئمة أفضل من الملائكة.
(2) انظر المواقف في علم الكلام، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، دار الجبل، بيروت، ط 1، 1997م، ج 3، ص 453وما بعدها. وم ن، طبعة مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 367وما بعدها.
(3) شرح العقيدة الطحاوية، ج 1، ص 338.
(4) انظر محمد الكلاباذي أبو بكر (ت 380هـ)، التعرف لمذهب أهل التصوف، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ، ص 68: لا يدل الخبر ولا العقل أن أحد الأمرين عندهم أوجب من الآخر فالفضل لمن فضله الله.(1/417)
التفسير يبدو نزوعه إلى الفكر الاعتزالي، وذلك لقوله فيه: القادر إذ يثبت المعتزلة القادرية لله تعالى وينفون القدرة ولأنه شبّه فعل الله عز وجل بفعل العبد. وأهل السنة يرون تحريك الإصبع ليس إلا بقدرة الله سبحانه وأن ما ينسب للعبد من قدرة لا تأثير له في خلق أي شيء (1).
ومن تفسيره الذي يثبت فيه دور العقل قوله في الآية: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوََالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسََابُ} [إبراهيم: 41] «فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: هو من مجوّزات العقل لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف» (2). ورأى أبو حيان أنه يوافق بهذا أهل السنة ويخالف مذهبه (3). وقوله في الآية: {فَلََا تَحْسَبَنَّ اللََّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47]: «يعني قوله:
{إِنََّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنََا} [غافر: 51] {كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] فإن قلت: هلا قيل مخلف رسله وعده ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟ قلت:
قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُخْلِفُ الْمِيعََادَ} [آل عمران: 9] ثم قال (رسله)، ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟» (4) ونفهم من هذا الجواب بأنه على طريق المعتزلة في أن وعده لا محالة واقع فهم يرون أن من وعده الله سبحانه بالنار من العصاة فلا يحق أن يغفر له إذا لم يتب. وأهل السنة يخالفونهم لأنهم يرون الثواب فضلا وعد به، والله تعالى يفي به من غير وجوب لأن الخلف نقص، تعالى الله عنه. أما العقاب فعدل، له أن يتصرف فيه، وهو مشروط إنفاذه بالمشيئة فما وعد من العذاب للعصاة المؤمنين يمكن أن يعفو عنه لأنه فضل، ولأن الخلف في الوعيد لا يعد نقصا عند العقلاء فالثواب فضل من الله وليس حقا محتوما وكذا العقاب لا يجب أيضا (5).
__________
(1) انظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 6، ص 424.
(2) الكشاف، ج 2، ص 382.
(3) انظر البحر المحيط في التفسير، ج 6، ص 450.
(4) الكشاف، ج 2، ص 409384.
(5) انظر إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، ص، 152وكذا أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 6، ص، 456وكذا الإيجي، المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص 378.(1/418)
وللعقل دور كبير في تفسير المصنف فهو من أدوات خدمة أصول مذهبه، ويظهر ذلك في تفسير الآية: {وَلَقَدْ بَعَثْنََا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَاجْتَنِبُوا الطََّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللََّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ} [النحل: 36] «قال:
ولقد أمد إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا، وقد بعث فيهم رسولا يأمر بالخير الذي هو الإيمان، وعبادة الله، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت، فمنهم من هدى الله أي لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ} أي ثبت عليه الخذلان والشرك من اللطف لأنه عرفه مصمما على الكفر، لا يأتي منه خير {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا} ما فعلت بالمكذّبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أنّي لا أقدر الشر ولا أشاؤه حيث أفعل ما أفعل بالأشرار» (1).
ومما أثبت فيه دور العقل لينتصر فيه للاعتزال مبينا بأنه يستحيل أن يكلف الله تعالى الإنسان ما لا يطيق لأنه ظلم وجور قوله عند الآية: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} [النحل: 90]: «العدل هو الواجب لأن الله تعالى عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم تحت طاقتهم» (2)، ومما استدل به وفق هذا المنهج إقرارا لعدل الله، وبأنه لا يكلف العبد إلا في نطاق وسعه وما يتيسر له ما قاله عند الآية: {لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} [البقرة: 286]: «أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر له دون مدى الطاقة والمجهود، وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللََّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة» (3). وجاء من هذا المعنى عند الآية: {وَلََا تَقْرَبُوا مََالَ الْيَتِيمِ إِلََّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتََّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزََانَ بِالْقِسْطِ لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا}
[الأنعام: 152] «إلا ما يسعها ولا تعجز عنه، وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك لأن مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 409.
(2) م ن، ج 2، ص 424.
(3) الكشاف، ج 1، ص 408.(1/419)
الحرج فأمر ببلوغ الوسع، وأن ما وراءه معفوّ عنه» (1) وفي باب الطهارة في قوله عز وجل: {مََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] قال: «حتى لا يرخص لكم في التيمم ولكن يريد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهّر بالماء» (2)
والنفقة عند الآية: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمََّا آتََاهُ اللََّهُ لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا مََا آتََاهََا} [الطلاق: 4] بأن ينفق «كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه» (3).
ويمكن أن نشير إلى ما لخّصه ابن المرتضى (ت 840هـ) في الاحتجاج بهذه الآيات ونحوها أنها شاهدة على اعتبار ما يسمى حجة في عرف العقلاء وامتناع نقيضها على الله تعالى، وأنه معروف بالضرورة من الكتب السماوية، ورسالات الرسل التي نص فيها الدين على ما يتطلبه ذلك مما لا يحصى كثرة من سعة رحمة الله وعدله وفضله العظيم وحكمته وشمول نعمته، إذ سمح الله عز وجل من الوسع الممكّن ما لا يحصى (4).
والمفهوم من هذا كله أن معنى التكليف مرتبط بمقدرات الإنسان إذ لا يكلف إلا بما هو قادر عليه ومتمكن منه من إيمان وكفر وطاعة وعصيان. ونفهم من عمق تعلق التكليف بالقدرة الإنسانية أن المعتزلة أرادوا أن نسبة الخلق والصنع في الفعل الإنساني إلى فاعله إنما يكون بحسب قدرته واستطاعته (5)، وإلا فإن التكليف يصبح غير مطاق وبالتالي يتعارض مع العدل الإلهي. وقد رأى إمام الحرمين من أهل السنة كثرة صور ما لا يطاق وذلك مثل جمع الضدين كأن يجوز تكليف العبد القيام مع كونه قاعدا وقت أمره، ورغم أن القاعد عندهم غير قادر على القيام بالدليل إلا أنه إذا جاز أن يكون القيام مأمورا به قبل أن يقدر عليه رغم أن ذلك
__________
(1) م ن، ج 2، ص 61.
(2) م ن، ج 1، ص 598.
(3) م ن، ج 4، ص 123122.
(4) انظر إيثار الحق على الخلق في ردّ الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، ص 325.
(5) أجمع المعتزلة بأن الاستطاعة قدرة على الفعل وعلى ضده وهذه القدرة تكون قبل الفعل، ولا تكون موجبة له. وهم أجمعوا أيضا أن الله لا يكلف الإنسان ما لا يطيق: انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 300.(1/420)
غير ممكن فإنه لا يبقى لاستحالة تكليف المستحيل وجه، وهو جائز عقلا وكذا شرعا، يدل عليه أن الله عز وجل أمر (أبا لهب) بأن يصدّق النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به في كل ما أخبر به، ومما أخبر به كذلك أنه لا يؤمن به. أليس هذا جمعا بين نقيضين؟ ومن ثم ألم يرد في القرآن الكريم الاستعاذة من تكليف ما لا طاقة لنا به {رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ} [البقرة: 286]، فلو لم يكن هذا ممكنا لما ساغت الاستعاذة منه (1).
ويعتمد الزمخشري على العقل على أساس قاعدة مذهبه في التحسين والتقبيح عند الآية: {وَيَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90] مبينا أن «الفواحش ما جاوز حدود الله والمنكر ما تنكر العقول» (2) إلا أن المنكر عند أهل السنة ما أنكره الشرع إذا الشرع عندهم هو الذي يحسن ويقبح (3).
أما المعتزلة فلا يخلو فعل الله تعالى عندهم من غرض وصلاح للخلق لأنه تعالى خلق العالم لعلة وغاية هي النفع والإحسان، فهو تعالى عالم حكيم والحكيم لا بفعل فعلا إلا لعلة وغرض، وهو يتعالى ويتقدس عن الأغراض وعن الضرر والانتفاع لذا فرعاية الصلاح في فعله تعالى عندهم واجبة وذلك لنفي العبث في الحكم عن حكمته ولإبطال السفه عنه في خلقه وصنعته. ويبدو أن هذا هو الذي يضمنه الزمخشري قوله عند الآية: {خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44] بالحق: «أي بالغرض الصحيح الذي هو حق لا باطل، وهو أن تكون مساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم ودلائل على عظم قدرته» (4).
ولما كان المعتزلة يبنون على استحقاق العقاب ومنافاته للثواب إحباط الطاعات بالمعاصي لذا رأى جمهورهم ومعهم الخوارج (5) أن كبيرة واحدة تحبط جميع
__________
(1) انظر كتاب الإرشاد، ص 94.
(2) الكشاف، ج 2، ص 425.
(3) انظر تفسير القرطبي، ج 2، ص 210.
(4) الكشاف، ج 3، ص 207.
(5) انظر النيسابوري (أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد (ت 478هـ)، الغنية في أصول الدين، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الخدمات والأبحاث الثقافية، بيروت، 1987م، ط 1، ص 170، 171 والإيجي، المواقف في علم الكلام، ج 3، ص 503502501.(1/421)
الطاعات. وقد أشار الزمخشري إلى هذا المعنى في الآية: {أُولََئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللََّهُ أَعْمََالَهُمْ وَكََانَ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيراً} [الأحزاب: 19] «معناه أن أعمالهم حقيقة بالإحباط تدعو إليه الدواعي ولا يصرف عنه صارف» (1).
وهو يعرّض بأهل السنة عند تفسيره قوله عز وجل: {وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللََّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] في سياق إقراره بعض أفكار مذهبه في نفي القبح عن الله أو خلقه لا لغاية أو يؤلم بغير عوض، وبأنه يكلف ما لا يطيقه العباد: «ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح، وتجويز أن يخلق لا لغرض، ويؤلم لا لغرض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق ويجسمونه بكونه مرئيا معاينا مدركا بالحاسة، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا متسترين بالبلكفة ويجعلون له أندادا بإثبات معه قدماء» (2).
ويقر كلام الله مخلوقا عند تفسيره الآية: {وَقََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا}
[فصلت: 21] «فإن قلت: كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟ قلت: الله عز وجل ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما» (3).
ولما كان معتقده في كلام الله تعالى أنه مخلوق حادث، وليس بقديم فسّر قوله سبحانه: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمََاتِ رَبِّهََا وَكُتُبِهِ وَكََانَتْ مِنَ الْقََانِتِينَ} [التحريم: 12] مشعرا بخلفية مذهبه قائلا: «فإن قلت: ما كلمات الله وكتبه؟ قلت: يجوز أن يراد بكلماته صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره سمّاها كلمات لقصرها، وبكتبه:
الكتب الأربعة، وأن يراد جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم وجميع ما كتبه في اللوح وغيره» (4).
ويعود إلى خلفية مذهبه في الإحباط في الآية: {الَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلََاتِهِمْ دََائِمُونَ} [المعارج: 23] «ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها
__________
(1) الكشاف، ج 3، ص، 255وانظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 8، ص 465.
(2) الكشاف، ج 3، ص 406405.
(3) م ن، ج 3، ص، 450وانظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج 8، ص 299.
(4) م ن، ج 4، ص 132.(1/422)
ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها» ثم أضاف «ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم» (1) وإلى تعليل أفعال الله عز وجل على قاعدة مذهبه فقد بنى الزمخشري أن الألم لا يجوز من الله سبحانه إلا باستحقاق سابق أو لعوض أو لمصلحة من المصالح كما رأينا هذا لهم في مسألة الصلاح والأصلح، والذي يبين نزوعه إلى هذا هو تفسير للآية: {مِمََّا خَطِيئََاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نََاراً} [نوح:
25]: بيان بأن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم النار لم يكن إلا من أجل خطيئاتهم (2).
وهم يعتقدون أن الله تعالى لا يريد من الأفعال إلا ما أمرهم به. أن المعاصي التي تصدر منهم فهم الذين أرادوها لأن الله لا يريد ما يصدر عن الإنسان من أفعال نهى عنها كالسرقة والكذب والزنا وغيرها من الفواحش كالكفر، وما شابهها من المعاصي. ويعرف هذا بالتبعيض عندهم في المشيئة. ويمكن اكتشاف هذه الخلفية في تفسيره قوله عز وجل: {وَمََا جَعَلْنََا أَصْحََابَ النََّارِ إِلََّا مَلََائِكَةً وَمََا جَعَلْنََا عِدَّتَهُمْ إِلََّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 31] فهو يعتقد أن الله تعالى ما فتنهم بل هم الذين فتنوا أنفسهم، ولا يخفى ما في هذا من تعزيز مذهبه. قال: = فإن قلت: قد جعل افتتان الكافرين بعدة الزبانية سببا لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين فما وجه صحة ذلك؟ قلت: ما جعل افتتانهم بالعدة سببا لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا وذلك أن المراد بقوله: {وَمََا جَعَلْنََا عِدَّتَهُمْ إِلََّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (الآية) وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر فوضع فتنة للذين كفروا موضع تسعة عشر لأن حال هذه العدة الناقصة واحد من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ ولا يذعن إذعان المؤمن وإن خفي عليه وجه الحكمة» (3).
ويثبت من طريق العقل أيضا بأن الله تعالى قادر على أن يجمع الناس على الإسلام بالقهر والإلجاء غير أن حكمته سبحانه اقتضت أن يخلقهم ليعذب من أراد
__________
(1) م ن، ج 4، ص 159.
(2) الكشاف، ج 4، ص 164.
(3) م ن، ج 4، ص 226184.(1/423)
على عصيانه لعلمه تعالى بأن العاصي يختار الكفر ويصمم عليه بينما يلطف بمن يشاء ويثيبه على طاعته لعلمه بأنه يختار الإيمان (1) وذلك في قوله عز وجل: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَلََكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [النحل: 93] فبيّن المعنى: «أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق اللطف والخذلان والثواب والعقاب» (2). غير أن أهل السنة عدّوا المشيئة مشيئة اختيار، يختار فيها الإنسان مما ابتلاه الله عز وجل من الأوامر والنواهي ما يسّر له مع أن الله سبحانه لو أراد لجعلهم على اختيار واحد. بيد أنه فرّقهم سعداء وأشقياء، وخلق الهدى والضلال، وتوعّد بالسؤال عن الأعمال (3).
والأشاعرة يرون بأن الله تعالى خلق العالم بجواهره وأعراضه وخيره وشره لا لعلة وغرض وبأنه لم يبعثه باعث على الفعل والخلق لأنه لا علة لفعل الله تعالى عندهم سواء كانت العلة مقدرة بنفع الخلق أو غير نافعة مستدلين بأن: «الدواعي المزعجات والخواطر والأغراض إنما تجوز على ذي الحاجة الذي يصح منه اجتلاب المنافع ودفع المضار، وذلك أمر لا يجوز إلا على من جازت عليه الآلام، واللذات وميل الطبع والنفور، وكل ذي دليل على حدث من يوصف به وحاجته إليه، وهو منتف على القديم تعالى» (4). فهو جل شأنه يفعل ما يفعله بلا سبب ولا غاية، ومصدر مفعولاته محض مشيئته، وغايتها مطابقتها لعلمه وإرادته (5). والغالب على أصحاب المذاهب الأربعة عند الكلام في الفقه وغيره التعليل غير أن بعضهم صرح به، أما بعضهم الآخر فمنعه لكن جمهور أهل السنة أثبت الحكمة والتعليل في الأفعال والأحكام (6). أما الذين يلحدون في أوصافه فيجحدونها ثم يزعمون أنه لا يشمل قدرته المخلوقات بل هي مقسومة بينه وبين عباده، «ويوجبون عليه
__________
(1) الكشاف، ج 2، ص 426.
(2) م ن، ج 2، ص، 426وج 1، ص 132.
(3) انظر أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج 6، ص 599.
(4) الباقلاني، كتاب التمهيد، ص 30.
(5) انظر الآمدي (ت 631هـ)، غاية المرام في علم الكلام، ص، 224وابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص، 215والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ج 4، ص 1547.
(6) انظر ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج 1، ص 455.(1/424)
رعاية ما يتوهمونه مصلحة بعقولهم ويحجرون واسعا من مغفرته وعفوه وكرمه على الخطائين من موحّديه إلى غير ذلك من الإلحاد المعروف للطائفة المتلقّبين عدلية المزكين لأنفسهم. وهو أعلم بمن اتقى» (1).
ويسلك الزمخشري في الآية: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. مسلكا تأويليا مفاده: «أن الله عز وجل لو علم في هؤلاء الصم البكم (خيرا) أي انتفاعا باللطف للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين بالقرآن والنبوة، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا}: أي لو لطف بهم لما نفع بهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدّوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا» (2) ولئن كان قصد المعتزلة والزمخشري أحدهم أن اللطف تذكير أو وجه التيسير إلى فعل الطاعة وترك المعصية على سبيل التذكير دون أن يكون قسرا خارجيا مفروضا على الإنسان الفاعل، ولا يخرج عن متناول قدرته باعتباره نوعا من التوفيق والتسديد والعصمة التي تمنع العبد من أن يرتكب الشرور ويترك الخير (3).
فباللطف الإلهي يكون العبد أقرب إلى اختيار فعل الخير أو تجنب الشر.
وهذا حسب المعتزلة لا يجعل الفعل خارجا عن كونه واقعا من الإنسان بقدرته وبحسب إرادته واختياره لأنهم يرون فعل الإنسان في حد ذاته قدرا وتحقيقا عمليا لأثر ما في معنى أن التحقيق العملي للفعل إحداث غير منفصل عن الخلق والتقدير لاستناده إلى إرادة الفاعل واختياره وقدرته، إذ الإنسان ذات فاعلة أي سبب يوجب وقوع المسببات عنه على جهة الاختيار. ورأوا الاعتبارات الأخرى كالحتميات الطبيعية (4) والتمكينات والألطاف الإلهية لا تؤثر سلبا في الذات
__________
(1) الإنصاف، هامش الكشاف، ج 2، ص 132.
(2) الكشاف، ج 2، ص 151.
(3) انظر الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 1، ص 326313، 327وكذا القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ج 1، ص 20، 21وكذا د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 256133.
(4) تخضع الأحكام الطبيعية إلى قوانين خارجة عن نطاق القدرة الإنسانية لذا فهي ليست أحكاما تقديرية وإنما هي أحكام تقريرية تمس لا ما هو واجب أو خير ولكن ما هو كائن. وقد فصل (دور كايم) بينها(1/425)
الإنسانية الفاعلة وفي وجوب أفعالها عنها (1). وقد نبّه البطليوسي (ت 521هـ) إلى دقة حقيقة هذه المسألة وخفائها، وبأن الخطأ فيها أكثر من الإصابة، وطلب ممن يخوض في هذا الأمر ولم يقنع بما رآه العلماء وأمروا به من تركه وعدم الخوض فيه أن يراعي أصلين:
الأول: أن لا فاعل على الحقيقة إلا الله تعالى، وبأن كل فاعل غيره إنما يفعل بمعونة الله، ولو وكّله إلى نفسه لما كان له الفعل البتة.
الثاني: أفعال الله تعالى «كلها حكمة محضة لا عبث فيها، وعدل محض لا جور فيها، وحسن محض لا قبح فيها، وخير محض لا شر فيها» تعرض هذه الأشياء في أفعالنا إمّا لأننا أمرنا بها أو نهينا عنها وإما لما ركز فينا من القوة العقلية التي تجعلنا ندرك بعض الأمور حسنا وبعضها قبيحا.
والصفتان كلتاهما لا يوصف بهما الله سبحانه لأنه لا آمر فوقه ولا ناهي، وهو خالق العقل وموجده (2).
__________
وبين الأحكام التقديرية فسماها أحكاما شيئية وسماها (جويليو) أحكاما وجودية. أما المعتزلة فيعنون بها الخاصيات الموجودة في الأجسام والتي تخضع لحتميات ثابتة ومعينة: انظر د. سميح دغيم، فلسفة القدر في فكر المعتزلة، ص 135.
(1) م ن، ص 135.
(2) الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجب الاختلاف بين المسلمين في آرائهم، تحقيق د. محمد رضوان الداية، دار الفكر دمشق، ط 3، 1987م، ص 140139.(1/426)
خاتمة
تعددت تعاريف العلماء للتفسير، ولكنها اتحدت في المعنى والهدف. وقد مرّ بمراحل: مرحلة التحفظ من الاعتماد على الرأي والاكتفاء بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية. ومرحلة الاجتهاد المتجاوز النقل إلى العقل، واعتماد القياس وبناء ذلك على الأصول. والمحصل فيه نوعان: ممدوح جائز مقيد بشروط وحدود يستدل فيه المفسر على المعنى أو الحكم المراد بأدلة من خارج النص وقرائن تجزم بالمعنى أو الحكم أو ترجح ذلك عوض الجزم به، وحين تفقد القرينة والدليل في التأويل يصبح التفسير مذموما.
وقد عرف التفسير خطوات أساسية: عصر الصحابة: تميز فيها التفسير بقلة الاختلاف والاقتصار على المعنى الإجمالي وعدم الخوض في التفاصيل. ركز فيه الصحابة على بيان المعنى اللغوي المفهوم بأخص لفظ مثل قول عمر بن الخطاب في قوله عز وجل {غَيْرَ مُتَجََانِفٍ} [المائدة: 3] ما تجانفنا فيه لإثم ولا تعهّدنا، ونحن نعلمه أي: ما ملنا فيه لحرام. وقللوا من استخراج الأحكام الفقهية من الآيات ولم يدونوا شيئا من تفسيرهم لأن التدوين بدأ في القرن الثاني الهجري. واتخذ التفسير في هذه المرحلة شكل الحديث الذي كان جزءا منه وبابا من أبوابه. أما عصر التابعين فتسامح المفسرون في سماع تفاصيل الإسرائيليات والنصرانيات مما أشار إليها القرآن الكريم في الأحداث اليهودية والنصرانية التي ذكرها التابعون بكثرة في تفاسيرهم من غير فحص ونقد. نقلوها عمن أسلم من أهل الكتاب العارفين بدياناتهم وعلمائهم، واحتفظوا بطابع التلقي والرواية في التفسير والاصطباغ بالخلفية المذهبية. ولم يكن التفسير في عصر تابعي التابعين منفصلا عن الحديث إلى أن جاء عصر التدوين في أواخر عهد بني أمية حيث استقلت العلوم عن الحديث، وأخذ التفسير خطوته الثالثة، فصار علما قائما بذاته له أصوله ومناهجه ومدارسه، فكان التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، وتأثر باتجاهات المفسرين واصطبغ بثقافاتهم.
اتفق التفسير والتأويل في معنيين «التبيين والتوضيح»، ورغم هذا الاتفاق دلّ كل منهما على زاوية نظر من ناحية المفسر بالنص فالتفسير يقصد توضيح المعنى
أو الحكم المراد بظاهر النص في حدود أصول التفسير وشروطه العامة، وذلك بجمع الأدلة التاريخية واللغوية التي تساعد على فهم النص كما فهمه معاصر ونزوله في إطار المعطيات اللغوية التي يتضمنها وتفهمها الجماعة. أما التأويل فيعتمد الاستدلال على هذا المعنى أو الحكم المراد من خارج النص، يسعى فيه المؤوّل إلى القرينة التي ترجّح المعنى أو الحكم لأن ظاهر النص يخلو مما يجزم بذلك، وعلى هذا يلجأ إلى البحث عن أدلة وقرائن تقطع بترجيح المعنى أو الحكم المراد. ويؤدي فقدان القرائن والأدلة ومخالفة التفسير الأصول إلى جعل التفسير غير مقبول.(1/427)
اتفق التفسير والتأويل في معنيين «التبيين والتوضيح»، ورغم هذا الاتفاق دلّ كل منهما على زاوية نظر من ناحية المفسر بالنص فالتفسير يقصد توضيح المعنى
أو الحكم المراد بظاهر النص في حدود أصول التفسير وشروطه العامة، وذلك بجمع الأدلة التاريخية واللغوية التي تساعد على فهم النص كما فهمه معاصر ونزوله في إطار المعطيات اللغوية التي يتضمنها وتفهمها الجماعة. أما التأويل فيعتمد الاستدلال على هذا المعنى أو الحكم المراد من خارج النص، يسعى فيه المؤوّل إلى القرينة التي ترجّح المعنى أو الحكم لأن ظاهر النص يخلو مما يجزم بذلك، وعلى هذا يلجأ إلى البحث عن أدلة وقرائن تقطع بترجيح المعنى أو الحكم المراد. ويؤدي فقدان القرائن والأدلة ومخالفة التفسير الأصول إلى جعل التفسير غير مقبول.
لا يقصد التفسير بالرأي أو التأويل فهم النص فهما موضوعيا وذلك لعدم انطلاق المؤوّل من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، وإنما يبدأ من موقفه في الحال ثم يحاول العثور له في النص القرآني على سند يعزز هذا الموقف.
تجاذب اتجاها التفسير بالمأثور وبالرأي كل منهما الآخر، فلم يخل الأول من الاجتهادات التأويلية كما هو الحال عند ابن عباس وتلميذه مجاهد، وكما هو لدى ابن جرير الطبري. ولم تخل مصنفات التفسير بالرأي كذلك من خاصيات التفسير بالنقل إذ لم تتجاهل أحيانا الحقائق التاريخية واللغوية المرتبطة بالنص ومعرفة أسباب النزول.
قصد العلماء القدامى بالتأويل معنيين: الأول: تفسير الكلام وبيان معناه، فالتفسير والتأويل فيه مترادفان. الثاني: هو نفس المراد من الكلام، فإذا كان الكلام طلبا كان تأويل الفعل المطلوب نفسه. وإن كان خبرا كأن تأويله هو المخبر به ذاته.
إن التأويل أو التفسير بالرأي لا يعدو أن يكون إلا اجتهادا، اجتهاد الفقهاء والعلماء إن راعى الشروط وأدوات التفسير كان مقبولا محمودا، وإن جانبها رفض وكان مذموما. وليس المراد بالتأويل حينئذ التأويل الغيبي الوارد في القرآن الكريم.
إن التأويل الوارد في كتاب الله العزيز «علم إلهي» وهو علم غير مشاع مثل علم التفسير. وقد جاء التأويل مقترنا بالله تعالى واختص سبحانه به واستأثر بعلم الغيب كله: غيب الدنيا وغيب الآخرة وهو في القرآن الكريم إخبار بغيب سواء أكان في الدنيا أم في الآخرة، وتشهد به آيات كثيرة على أنه لله وحده.
ليس التأويل الذي دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس المقصود به التأويل الغيبي وإنما التأويل اللغوي الذي هو فرع من علم التفسير لشيء بسيط هو أن الله تعالى اختص نفسه بعلم الغيب وبعض من اصطفاهم من الأنبياء والرسل لا غير.(1/428)
ساعدت بعض العوامل على ظهور التأويل (التفسير بالرأي) منها:
1 - دخول أوائل المتكلمين في جدل معمق مع أصحاب الملل الأخرى من يهود ونصارى ووثنيين ممن لم تكفهم أدلة النص القرآني أو الأحاديث النبوية، وإنما لزمتهم أدلة في مستوى ما كانوا يعتمدونه من أدلة عقلية على وجود الله سبحانه وإثبات النبوة.
2 - ظهور محافظين ومتحررين في التفسير. تمسك الأوائل بالنص، وعمد الآخرون إلى التحرر فأعملوا عقولهم فيه، ورفضوا الاكتفاء بالنص، واحتكموا لرأيهم وأوّلوا كل ما خالفه.
أقام المعتزلة منهجهم في التأويل بإبراز معالمه في ضوء العقل والشرع واللغة وطبقوا ذلك على المتشابه بما يحقق التكامل بينه وبين المحكم ليبينوا إعجاز القرآن الكريم وتناسق معانيه، وليدفعوا تحامل الطاعنين والخصوم وخطأ التفسير والترجمة.
لقد جعلوا المتشابه محورا للتفسير في إطار المحكم المفصل، وألزموا المفسر المؤهلات العلمية والكلامية كالدراية باللغة والنحو والرواية والفقه وأصوله وما له صلة بعلم الكلام لأنه يساعد على كشف التعاضد بين المحكم والمتشابه في أداء مقاصد الدين. ويشاركهم السنيون فيما اشترطوه للمفسر. ولا يتحقق التأويل عند الزمخشري في هذا الإطار إلّا للعلامة الفطن الذي يتوصل بعلمه وفطنته إلى إدراك التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة.
اعتمد المعتزلة في التأويل على أدوات يمكن إجمالها في ما يلي: الاعتماد على اللغة وعلى العقل والمزاوجة بين اللغة والعقل في إثبات أصولهم، وعلى توظيف الإعراب أو النحو انتصارا لأحد أصولهم. واستعانوا في ذلك أيضا بالأساليب والتوجيه إلى المجاز، وعدّوا قصد المتكلم وإرادته معيارا نهائيا في تجاوز الصيغ اللغوية، وأولوا كل ما كان ظاهره التجسيم من أي الذكر الحكيم أو خالف بعض أصولهم الفكرية. وكانت غايتهم في ذلك كله توحيد الله تعالى وتنزيهه والذود عن الإسلام، ورد مطاعن الخصوم والجهلة والوثنيين معتمدين على العقل أكثر من النقل وعلى التنزيه المطلق لله عز وجل، وعلى حرية الإرادة وإقرار عدله تعالى وفعله الأصلح.(1/429)
أنواع الأدلة عندهم أربعة: العقل والكتاب والسنة والإجماع.
يتكون الدليل عند بعضهم من العقل والمشاهدات الكونية التي حث القرآن الكريم على تدبرها وتأملها، وذلك ليؤمن المكلف بالغيب وأخبار القرآن والسنة النبوية.
لم يكونوا أول من وجه الألفاظ الدالة على التشبيه إلى المجاز بل سبقهم إلى ذلك علماء الحديث، وقاموا هم بتطوير دائرة هذه الطريقة فجعلوها تشمل كل الألفاظ الدالة على التشبيه والتجسيم. فالمجاز يمثل أهم وسائلهم في التأويل في صرف النص عن ظاهره.
عند ما يعجز المعتزلة عن تأويل تركيب النص اللغوي يلجئون إلى الدليل العقلي.
حكموا العقل فيما كان ظاهره يعارض النقل من أي الذكر الحكيم ليكون فاصلا بين المتشابهات والأخبار وأنكروا الأحاديث التي تناقض أسسهم.
أكدوا أن أصولهم خلاصة ما يدعو إليه القرآن الكريم، لذا كان تفسيرهم مبنيا على نسق هذه الأصول التي اتفقوا على ترتيبها كما يلي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأصول الثلاثة الأخيرة داخلة في العدل.
بنوا أفكارهم العقلية على ثلاث وسائل:
التفرقة بين المحكم والمتشابه، فعدوا ما وافق نظرهم محكما دالا بظاهره، وعدوا ما خالف ذلك مما يدعم وجهة نظر خصومهم متشابها فأوجبوا رده إلى المحكم وتأويله.
اعتمدوا التأويل الذي هو (تفسير بالرأي أو اجتهاد) لإبعاد ما قد يحدث من تناقض بين أفكارهم العقلية عن الله تعالى وبين ظاهر بعض الآيات الكريمة التي اعتمدها خصومهم في الاستشهاد والاحتجاج والتي يعدونها هم من المتشابه.
رأوا عدم قدرة خصومهم على معرفة السمعيات وفهمها لأن صحة تلك المسائل عندهم موقوفة على عدل الله تعالى وتوحيده المدرجة عندهم في المسائل العقلية.(1/430)
للعقل وظيفة أساسية عندهم هي النظر والاستدلال باعتباره قوة يتوصل بها إلى اكتساب العلوم، وإلى العلم الذي يبعد القبح أو الشر، ويدعو إلى الحسن أو الخير. والعلم فعل يتولّد عن النظر، والإنسان سبب العلم بأفعاله وبأصل التيقن منها. وتفسح قدرة الإنسان على العلم المجال أمام نزعته الإنسانية وتجعل الله تعالى مجرد خالق للاقتدار على ذلك ونصب الأدلة للعباد ليقوم المكلف بما كلف به.
صحيح أن المعتزلة عدوا العقل مصدرا للمعارف الدينية ومعيارا توزن به الحقيقة الدينية، ولكن معتدليهم وازنوا بين العقل والنقل والسمع، وهم حين أوجبوا مطابقة العقل في بحث المسائل إنما كانوا يهدفون إلى إبعاد كل الخرافات والأساطير من دائرة الحقيقة الدينية التي ربطوها بالتوحيد أو بوحدانية الله تعالى المجردة عن كل نقص وشائبة.
إن الإنسان في التصور الإسلامي كائن مكلف استخلفه الله تعالى ليعمّر الأرض، لذا زوّده سبحانه بالأدوات والوسائل المساعدة على أداء هذه المهمة. وكان أولها العقل ليقدر على تنفيذ أوامر الله واجتناب نواهيه، فلا فاعلية للعقل بغير قدرة واستطاعة، ومن ثمة كان الفعل محتاجا إلى القدرة عليه للتوصل إلى المعرفة. وتتمثل قدرة العقل في الاستدلال، وفي الانتقال من مستوى المعرفة البديهية إلى درجاتها الأكثر عمقا. ويحقق العقل هذا المستوى المعرفي الرفيع من طريق القياس والنظر في الأدلة، وما يفعله من هذه الطرق إنما هو فعل ذهني لا يتحقق إلّا بالقدرة والاستطاعة.
ويمكن القول: أنّ الفعل عندهم لا يصح إلا وهو محكم بالعلم ومخصص بالإرادة ومقدر بالقدرة. وحين تكتمل هذه المعايير يصح تعلق الفعل بفاعله فيستحق عليه المثوبة أو العقوبة.
يتوصل الإنسان بالعقل إلى معرفة الكون من حوله من خلال تأمل ما فيه من ظواهر وجزئيات، فيتوصل إلى معرفة بناء الكون ويدرك ما في خلفيته من حكمة، فيعرف أن الله عز وجل مخالف لكل صفات هذا العالم، منزه عنها. هكذا تصور المعتزلة والفلاسفة حركة المعرفة العقلية وتصاعدها من جزئيات العالم المدرك بالحس إلى الكليات العقلية والمفاهيم المجردة. ورأوا المعرفة لا تكتمل إلّا بالعمل الذي يقتضي قدرة واستطاعة، فينتهي ذلك بالإنسان إلى النجاة من العقاب ليفوز حسب
المعتزلة بالسعادة الدائمة. ولكن الأشاعرة خالفوا المعتزلة والفلاسفة في هذا الترتيب المعرفي الآنف لأنهم يقدمون النقل على العقل والتكليف الشرعي على التكليف العقلي.(1/431)
يتوصل الإنسان بالعقل إلى معرفة الكون من حوله من خلال تأمل ما فيه من ظواهر وجزئيات، فيتوصل إلى معرفة بناء الكون ويدرك ما في خلفيته من حكمة، فيعرف أن الله عز وجل مخالف لكل صفات هذا العالم، منزه عنها. هكذا تصور المعتزلة والفلاسفة حركة المعرفة العقلية وتصاعدها من جزئيات العالم المدرك بالحس إلى الكليات العقلية والمفاهيم المجردة. ورأوا المعرفة لا تكتمل إلّا بالعمل الذي يقتضي قدرة واستطاعة، فينتهي ذلك بالإنسان إلى النجاة من العقاب ليفوز حسب
المعتزلة بالسعادة الدائمة. ولكن الأشاعرة خالفوا المعتزلة والفلاسفة في هذا الترتيب المعرفي الآنف لأنهم يقدمون النقل على العقل والتكليف الشرعي على التكليف العقلي.
أقام المعتزلة العبادة على ثلاثة أقسام:
معرفة الله تعالى. ومعرفة ما يرضيه وما يغضبه. واتباع ما يرضيه وتجنب ما يغضبه. وحجج هذه الأقسام: العقل والكتاب والسنة. فالعقل يمكّن من معرفة الله تعالى بعدله وتوحيده وكل صفاته وما يجوز ولا يجوز، بينما نعلم من طريق الكتاب أوامره ونواهيه وما يرضيه ويغضبه. أما السنة النبوية فنعرف منها كيف نتبع أوامره تعالى وكيف نحجم عن نواهيه. وقسم المعتزلة الحجج إلى أصول وفروع، فالعقلى فيه الضروري والاكتسابي والضروري أصل للاكتسابي. وقسموا حجج الكتاب إلى أصول وفروع أيضا، فأصل الكتاب هو المحكم وفرعه المتشابه يرد إلى أصله المحكم الذي لا اختلاف فيه بين أهل التأويل.
إن جوهر الخلاف بين المعتزلة والسلف سلطة العقل ومداها وحدودها. فقد رأى المعتزلة أن العقل منح الإنسان سلطة تمكّنه من إقامة البرهان حتى على ما يتعلق بالله تعالى، فلا حدود للعقل إلا براهينه ولا خطأ عند صحة البرهان.
فلا بد من استعمال العقل في أدقّ المسائل وأصعبها لاستطاعة وصول العقل إلى الحق فيها، وهم إذا وصلوا إلى حلّ في ذلك تأولوا الآيات على مقتضاها. أما أهل السنة فرأوا العقل محدود الاستطاعة لم يمنح القدرة على إدراك كنه الله تعالى وصفاته وإنما يجب الإيمان بها كما وردت. ورأوا العقل منح القدرة على إدراك البرهان على وجود الله والنبوة العامة ونبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بخاصة.
أدى منهج المعتزلة في التأويل إلى ظهور مصطلحات فنية مثل: العقل في مقابل النقل، والفكر في مقابل السمع، والتأويل في مقابل التقليد، والتوفيق في مقابل التوقيف، والدراية في مقابلة الرواية. واتسم الصراع الذي وقف المعتزلة في قمته بالنزعة السياسية حينا والتنافس العلمي أحيانا، أكدوا فيه على الفكر قبل السمع، وعلى العقل قبل النقل، وأوجبوا على الإنسان التمحيص بالعقل لمعرفة الله تعالى، وللتمييز بين الخير والشر والحسن والقبح قبل مجيء الشرع وإن قصر في شيء من ذلك استوجب العقوبة والعذاب.(1/432)
إن أساس التكليف عندهم مبني على أن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد خيرها وشرها بل مكّن الناس من أن يختاروا ويقدروا على فعلها، لأن مسئولية العبد تقتضي أن يكون مختارا حرا.
وإذا كان الله تعالى هو الخالق لأفعالهم فيهم فكيف يصح أن نفهم أنهم يعاقبون عليها؟ ولكن قولهم أن الإنسان خالق لأفعاله ليس تشبيها للذات الإنسانية بالذات الإلهية، وإنما قصدوا أن الله تعالى خلق في الإنسان قدرة يحدث بها أفعاله ابتداء وتولدا وليس إيجادا من العدم. ومن هنا رأوا أن مشاركة العبد لله تعالى في إيجاد ما في هذا العالم لا تتعدى حدود القادر بقدرة محدثه، وبنوا رأيهم في هذا على شهادة العقل، وعلى ما صرّح به القرآن الكريم مثل قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا} [فصلت: 46].
لقد أقاموا فكرهم على حرية الإنسان، على أساس مبدأ حكمة التكليف مبينين أن عدم الإقرار به ينفي القول بأي حكمة أو معقولية للتكليف الإلهي الموجه للعبد بالأمر والنهي، وذهبوا إلى أن العبد لو كان غير قادر على أفعاله لكان التوجه إليه بالأمر والنهي غير معقول، ولكان طلبا بالمحال ونفيا لمعنى التكليف والوعد والوعيد وما يتبعه من ثواب وعقاب. وفي نفي الحرية الإنسانية نفي لحكمة الأمر والنهي، فلو كانت إرادة الله عز وجل ملزمة للعبد في توجيه أفعاله لصار الأمر والنهي غير معقولين لأنه ما دام الله سبحانه مريدا لكل أفعال العباد فكيف نفهم أنه بأمرهم في الوقت نفسه بالطاعة والإيمان وينهاهم عن الفكر والمعاصي؟
فكأنه أراد منهم ما نهاهم عنه كما أراد ما أمرهم به. وهذا يتنافى مع الحكمة.
وينتج عنه تساوي الطاعة والمعصية من حيث كونهما مرادين لله تعالى. وقد رأى الأشاعرة أن الأمر ليس الإرادة فالله مريد لما سبق في علمه أن يكون كما علمه عز وجل. وعلى أساس التفرقة بين الفعل المأمور به والمراد لله من أفعال عباده، وبينوا أن طاعة العبد ليست سوى موافقة فعله لأمر الله وليس للإرادة الإلهية، فكون الفعل صلاة وطاعة أو معصية هو كسب للإنسان، وهو الذي يخاطب به العبد المكلّف: افعل ولا تفعل، وهو الذي يثاب عليه أو يعاقب.
تتصف الأفعال عند المعتزلة بالحسن والقبح العقليين، وهذه الصفات حقائق ذاتية موضوعية للأفعال. يتصف الفعل بخاصية معينة كونه خيرا أو شرا. ومن هنا
يقدر عقل الإنسان على الحكم بحسن الأفعال أو قبحها. وقد رفض الأشاعرة أي حقيقة موضوعية خلف اتصاف الأفعال بالحسن أو القبح، لذا رأوا استحالة أن يدركها العقل بل الشرع هو الذي يثبت الفعل حسنا أو قبيحا متخذين من الشرع المعيار الوحيد لحسن الفعل أو قبحه رابطين ذلك بنفع الإنسان، وبما يلائم أغراضه أو ما يخالفها، فصعب عندهم ثبات مفهوم يضفي على الفعل صفة الحسن أو القبح لنسبية هذه الأحكام ولاختلافها من إنسان إلى آخر كذلك.(1/433)
تتصف الأفعال عند المعتزلة بالحسن والقبح العقليين، وهذه الصفات حقائق ذاتية موضوعية للأفعال. يتصف الفعل بخاصية معينة كونه خيرا أو شرا. ومن هنا
يقدر عقل الإنسان على الحكم بحسن الأفعال أو قبحها. وقد رفض الأشاعرة أي حقيقة موضوعية خلف اتصاف الأفعال بالحسن أو القبح، لذا رأوا استحالة أن يدركها العقل بل الشرع هو الذي يثبت الفعل حسنا أو قبيحا متخذين من الشرع المعيار الوحيد لحسن الفعل أو قبحه رابطين ذلك بنفع الإنسان، وبما يلائم أغراضه أو ما يخالفها، فصعب عندهم ثبات مفهوم يضفي على الفعل صفة الحسن أو القبح لنسبية هذه الأحكام ولاختلافها من إنسان إلى آخر كذلك.
لا شيء يجب على الله بالمعنى الذي نفهمه من الوجوب الحتمي، إنما المعتزلة يريدون أن العدل يقتضي أن يثاب المحسن ويعاقب المسيء، وخلاف ذلك مستحيل لأنه يشعر بأن الله غير عدل، وهذا يستلزم نقصه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
استمد الأشاعرة منهج العقل من المعتزلة ليس لنصرة الدين فحسب كما فعل المعتزلة وإنما لمقاومة أصولهم. ولم يكونوا مجددين كالمعتزلة، ولعل هذا راجع إلى مجاراتهم للعامة من الناس ليظفروا بتأييدهم وسندهم. ولكن متأخريهم اقتربوا من منهج المعتزلة كالجويني والرازي فتأولوا النصوص المتعلقة بالصفات على وجه يليق في نظرهم بمقام الألوهية، وبما يرقى إلى تنزيهه عن المماثلة والتجسيم.
إن النزوع العقلي لدى المتكلمين أثر من آثار الثقافة الإسلامية لأن القرآن الكريم يعلي من شأن العقل ويجعله خصيصة إنسانية يترتب عليها تحمل المسئولية.
وإذا كان بعض الدارسين قد ذهب إلى تأثر المعتزلة بالمعتقدات والمذاهب التي سبقتهم فنحن لا نؤيد هذا، ولا نجزم به دون أن ننكر تسرب ثقافات الأمم ومعتقداتها إلى المسلمين عمن دخل منهم في الإسلام. وإنما نرى أن النص القرآني بما حواه من حقائق إيمانية وخصائص الشريعة الإسلامية هي من العوامل الأساسية التي أثرت في العقلية الإسلامية تجديدا ومنهجا وتكوينا. وهي في نظرنا عامل مهم في ظهور فرقة المعتزلة التي ترجع في شأنها إلى مسائل كالجبر والاختيار ومرتكبي الكبيرة.
نشأت مباحث علم الكلام في إطار الخلافات السياسية مما نتج عن ذلك البحث في الإمامة وهي قضية سياسية وأدى ذلك إلى دراسة الإيمان وحقيقته وعلاقة العمل به، وظهر في ظل هذا المناخ مبدأ القول بالجبر الذي قال به جهم بن صفوان
ومبدأ الاختيار الذي قال به القدريون الأوائل، وعلى رأسهم معبد الجهني وغيلان الدمشقي.(1/434)
نشأت مباحث علم الكلام في إطار الخلافات السياسية مما نتج عن ذلك البحث في الإمامة وهي قضية سياسية وأدى ذلك إلى دراسة الإيمان وحقيقته وعلاقة العمل به، وظهر في ظل هذا المناخ مبدأ القول بالجبر الذي قال به جهم بن صفوان
ومبدأ الاختيار الذي قال به القدريون الأوائل، وعلى رأسهم معبد الجهني وغيلان الدمشقي.
اهتم علم الكلام بإثبات وجود الله تعالى وتوحيده وتنزيهه عن مماثلة الأجسام وبإثبات النبوة، وقام على التوفيق بين العقل والنقل. وهو علم يلزم المتكلم بمعرفة العلوم العقلية من منطق وفلسفة ومعرفة. وقد قام ليبين صدق المعرفة الخبرية وبخاصة التي تأتي من طريق الرسل ردا على السمنية الذين ينكرونها وعلى المشككين والسفسطائيين. وقام ليثبت حدوث العالم لأن حدوثه أساس لإثبات محدثه وهو الله تعالى ردا على الدهريين الذين ينفون وجود الله بنسبة مظاهر الخلق والإبداع إلى قوى الطبيعة وظواهرها، فلا خالق موجد ولا مخلوق موجود، وإنما الطبيعة تتخلق وتتشكل!
لم تكن نشأة علم الكلام للدفاع عن الدين فحسب، وإنما أسهمت نشأته إلى جانب ذلك في التعريف بالإسلام وتوضيح أصول عقيدته وفي نشره.
اختلف أهل السنة في تفسير الكشاف للزمخشري، فمنهم من عده من نوع التفاسير المذمومة لما تضمنه من آراء اعتزالية، ومنهم من ثمّنه وأقرّ ما فيه من فوائد مهمة، والتمس له العذر مغلّبا جانب الفوائد على ما تخلّله من نزوع مذهبي.
الزمخشري مستخف في اعتزاله ومقتصد ومكثر من التساؤل بقوله: «فإن قلت قلت»، ويستقصي المسائل استقصاء ويتعمق فيها ويتصورها ويرد عليها بمهارة. ولا نبالغ إن قلنا: كان أبرع المعتزلة في تأويل آيات القرآن الكريم لتوافق أصولهم، وغاية ذلك تنزيه الله عز وجل عن مشابهة مخلوقاته أو مماثلتهم وعن كل تجسيم أو تحيز. شغل المفكرين الذين عاصروه والذين أتوا بعده من الموافقين والمعارضين، وعدت بعض آثاره من المصادر الأساسية للفكر العربي الإسلامي.
ركز في تفسيره على إقرار أصول المعتزلة، فوظّف في ذلك اللغة ونص القرآن الكريم والحديث الشريف والإعراب والأساليب والقراءات والنقل والاستدلال العقلي.
أساء الظن ببعض القراء الأئمة فنقده بعض العلماء كأبي حيان الأندلسي نقدا لاذعا يتسم بالغلو راميا الزمخشري بالشعوبية قائلا: كيف يجرؤ أعجمي على الظن بقراءة بعض أئمة القراءة.(1/435)
تبع سابقيه في التفسير كالجاحظ وبخاصة عبد القاهر الجرجاني فيما قرره من مسائل بحثها في إطار علمي المعاني والبيان، وقرر أنهما علمان يختصان بالكشف عن حقائق الآيات وبيان أسرار معانيها، فكان بحثه لهذين العلمين واضحا بارزا يعكس تأمله لبلاغة التراكيب القرآنية، وما ابتكره هو من معان، وما أضافه من جديد لتبيين ما بين الأصول الخمسة وآي الذكر الحكيم من معاني التنزيه والعدل والتوحيد.
يوافق الزمخشري أهل السنة في بعض المسائل ويخالف فرقته كذلك، وربما هذا هو الذي جعل بعض الدارسين يعده معتزليا معتدلا.
الخطاب الإلهي عنده أنواع:
دال بنفسه ببنيته لا يحتاج إلى قرائن لفظية وعقلية كالمتعلق بالأحكام الشرعية من صلاة وعددها وشروطها، وهي لا تعلم إلا بخطاب الله سبحانه ولا يتوصل إليها بالعقل وحده.
ودال باللفظ وبأدلة العقل معا، يمكن للفظ أن يدل وحده، ويمكن للعقل أن يدل وحده أيضا كآيات نفي رؤية الله عز وجل ومسائل الوعيد.
وخطاب لا يدل بصيغته على المقصود بل العقل وحده هو الذي يدل عليه بمفرده كآيات العدل والتوحيد.
يمكن القول بأن الزمخشري قد قيد المفسرين بتوجيههم إلى قضايا إعجاز القرآن الكريم الذي صار تحقيقا واستقلالا بعد أن كان تسليما وتقليدا بما عمّقه من بحث أساليب البيان الذي لم يقاربه فيه من جاء بعده ممن سلكوا مسلك التعليل.
ويعدّ أول من سلك في التفسير هذه المسالك، فذلل صعبه واستقاد أبيّه وحقق به كثيرا من مسائل أصول النحو والاشتقاق اللغوي.
لقد جعل القرآن الكريم مادة لمسائل التوحيد والفقه والتهذيب والسلوك بما قرّر من أن القرآن الكريم محك العلوم ومعترك المفاهيم، ومظهر الثقافة العميقة في اللغة والدين.
يتميز الكشاف بخلوه من الحشو ومن الإطالة ولا أثر فيه للقصص والإسرائيليات.(1/436)
إن الزمخشري والمعتزلة على العموم رجال فكر حرّ ورجال العلم في الإسلام. وقفوا للدفاع عن الدين والذبّ عن العقيدة الإسلامية ونصرة مبدأ التوحيد وجنّدوا كلّ قدراتهم وأدواتهم لمحاربة الجمود الفكري والجهل. وأدرك علماء كثيرون من معتدلي أهل السنة وغيرهم مقامهم وقيمتهم، وقيمة اجتهادهم، ومع هذا فقد تحامل عليهم البعض مثلما فعل بعض المعتزلة أيضا.
حبل النقاش بين المعتزلة وأهل السنة طويل، وكان علم الكلام هو ميدان الأخذ والرد بينهما. وفي كل الأحوال قبل أهل السنة جل ما ورد في تفسير الزمخشري واعتمدوه أساسا لتفاسيرهم.
وإذا كان تفسير الطبري هو العمدة في التفسير بالمأثور فإن تفسير الزمخشري هو العمدة في باب التفسير بالرأي ومفتاح لما بعده من التفاسير.
وصفوة القول أننا إن قمنا بمقارنة عصرنا وذاك العهد الذي ظهر فيه المعتزلة والمتميز بالصراع الفكري والعقدي، لا نكاد نجد فرقا كبيرا فيما نشهده اليوم من صراع عنيف بين نماذج الفكر الغربي وآليات معارفه المهاجمة للإسلام وعقيدته، المحاصرة لقيمه وأخلاقياته بأساليب متنوعة، تدفعنا إلى التساؤل: ألسنا في وضع جدير بقيام جماعة من العلماء المسلمين الذين يسعون بفعالية وحنكة وعلم ومنهج في إطار حاجات العصر للتوفيق بين ما خبرناه من تجارب تفكيرنا الإسلامي، وما أنجزته التجربة الغربية لبناء مشروعنا في كنف التخطيط والاتزان والهدوء والإقناع والعقلانية التي تلغي في توجّهها كل غلوّ أو تطرّف خدمة للإسلام والمسلمين والبناء الحضاري الإنساني؟(1/437)
المراجع
أحمد بن محمد الأدنروي:
1 - طبقات المفسرين، تحقيق سليمان صالح الخزي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 1997م.
أحمد أمين:
2 - ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط 7، 1964م.
3 - فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط 10، 1965م.
أحمد بن محمد الحراني الحنبلي (ت 695هـ):
4 - صفة الفتوى والمفتي والمستفتى، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1397هـ.
أحمد محيي الدين العجوز:
5 - مناهج الشريعة الإسلامية، مكتبة المعارف، بيروت، 1983م.
أحمد محمود صبحي:
6 - في علم الكلام (دراسة فلسفية لآراء الفرق الإسلامية في أصول الدين) مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، ط 4، 1982م.
أحمد بن المنير (ناصر الدين أحمد بن محمد ت 683هـ):
7 - الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، هامش الكشاف.
أحمد بن إبراهيم بن عيسى (ت 1329هـ):
8 - توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام بن القيم، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت 1406هـ، ط 3، مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
أحمد بن غنيم بن سالم (ت 1125هـ):
9 - الفواكه الدواني دار الفكر، بيروت، 1415هـ.(1/439)
أحمد سليمان ياقوت:
10 - ظاهرة الإعراب في النحو العربي وتطبيقها في القرآن الكريم، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1983م.
أحمد بن حنبل (ت 240هـ):
11 - المسند، مكتبة الحديث الشريف، شركة العريس للكمبيوتر وأنظمة الحواسيب 19951990م.
أطفيش (أبو إسحاق إبراهيم):
12 - دعاية إلى سبيل المؤمنين، القاهرة، 1342هـ 1923م.
الإيجي (عبد الرحمن بن أحمد ت 756هـ):
13 - المواقف في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة (د. ت).
14 - كتاب المواقف، تحقيق د. عبد الحي عميرة، دار الجيل، بيروت، 1977م، مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
الآمدي (علي بن أبي علي بن محمد بن سالم ت 631هـ):
15 - غاية المرام في علم الكلام، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للعلوم الإسلامية، القاهرة، 1391هـ، مكتبة العقائد والملل، مركز الأبحاث للحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
الأندلسي (أبو حيان محمد بن يوسف ت 754هـ):
16 - البحر المحيط في التفسير، طبعة جديدة الجزء الأول بعناية الشيخ عرفات العشا حسونة والشيخ محمد صدقي جميل زهير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1992م.
الجزء الثاني بعناية الشيخين: عرفات الحشا حسونة، وزهير جعيد، دار الفكر بيروت، 1992م.
الأجزاء: الثالث والرابع والخامس والسادس بعناية الشيخين: عرفات الحشا حسونة، وزهير جعيد، دار الفكر بيروت، 1992م.(1/440)
الأجزاء: الثامن والتاسع والعاشر بعناية الشيخ عرفات الحشا حسونة ومراجعة صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت 1992م.
الألوسي (محمود أبو الفضل ت 1270هـ):
17 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع الثماني، دار إصدار التراث العربي، بيروت (د. ت)، مكتبة التفسير وعلوم القرآن مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
الأنصاري (أبو علي زكريا بن محمد بن زكريا ت 926هـ):
18 - الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، تحقيق د. مازن المبارك، ط 1، دار الفكر المعاصر، بيروت 1411هـ.
الأسفراييني (طاهر بن محمد ت 411هـ):
19 - التبصير في الدين، وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، تحقيق كمال يوسف الحوت، عالم الكتب، بيروت، 1983م، ط 1مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
الأشعري (أبو الحسن علي بن إسماعيل ت 330هـ):
20 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (د. ت) طبعة خاصة بورثة المحقق.
21 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق هلموث ريتر، دار إحياء التراث العربي، ط 3، بيروت.
22 - اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، صححه وقدم له وعلق عليه د. حمودة عزابة، المكتبة الأزهرية للتراث (د. ت).
23 - الإبانة في أصول الديانة، تحقيق د. فوقية حسين محمود، دار الأنصار، القاهرة، 1397هـ، ط 1، مكتبة العقائد والملل مركز التراث للحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999.
الباقلاني (أبو بكر محمد بن الطيب ت 403هـ):
24 - كتاب التمهيد، عنى بتصحيحه ونشره الأب وتشارد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت 1957م.(1/441)
البطليوسي (أبو محمد عبد الله بن محمد بن البطليوسي ت 521هـ):
25 - الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجب الاختلاف بين المسلمين في آرائهم، تحقيق د. محمد رضوان الداية، دار الفكر، دمشق، ط 3، 1987.
البخاري (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ت 256هـ):
26 - الجامع الصحيح، مكتبة الحديث الشريف، شركة العريس للكمبيوتر وأنظمة الحواسيب، حقوق النشر 19951990م.
27 - صحيح البخاري (الجزء الخاص بالتفسير)، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، 1407هـ 1987م، ط 3.
البيضاوي (عبد الله بن عمر بن محمد بن علي ت 685هـ):
28 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المشهور بتفسير البيضاوي، تحقيق عبد القادر عرفات العشا حسونة، دار الفكر، بيروت، 1996مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
البغدادي (عبد القاهر بن طاهر بن محمد ت 429هـ):
29 - الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1977م، ط 2.
30 - الفرق بين الفرق، حقق أصوله وفصّله وضبط مشكله وعلق على حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت (د. ت)
البغوي (الحسين بن مسعود الفرّاء ت 516هـ):
31 - معالم التنزيل المعروف بتفسير البغوي، تحقيق خالد العك مروان سوار، دار المعرفة بيروت 1987م، ط 2، مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز الأبحاث للحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب ت 255هـ):
32 - البيان والتبيين، قدم لها وبوبها وشرحها د. علي أبو ملجم، دار مكتبة الهلال، بيروت، ط 1، 1988م.(1/442)
ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي بن محمد ت 597هـ):
33 - تلبيس إبليس، تحقيق د. السيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت (د. ت).
34 - زاد المسير في علم التفسير، المكتب الإسلامي، بيروت 1404هـ، ط، 3 مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
ابن جني (أبو الفتح عثمان الموصلي ت 392هـ):
35 - الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية (د. ت).
الجويني (عبد الملك بن عبد الله إمام الحرمين ت 478هـ):
36 - كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، علق عليه وخرج آياته وأحاديثه الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1995م.
37 - البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم محمود الذيب، الوفاء، المنصورة، مصر، ط 4، 1418هـ.
38 - الإرشاد، تحقيق محمد يوسف وعلي عبد المنعم، مكتبة الخانجي، 1950م.
الجويني (مصطفى الضاوي):
39 - منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ط 3، دار المعارف مصر (د. ت).
الجوهري (محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي ت 721هـ):
40 - مختار الصحاح، تحقيق محمود خاطر، مكتبة لبنان، ناشرون، 1995م، طبعة جديدة.
الجزيري نوران:
41 - قراءة في علم الكلام الغائية عند الأشاعرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992م.(1/443)
الجرجاني (الشريف علي بن محمد ت 740هـ):
42 - التعريفات، ضبطه وفهرسه محمد بن عبد الكريم القاضي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط 1، 1991م.
43 - التعريفات، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1405هـ.
44 - حاشية الشريف الجرجاني (هامش الكشاف للزمخشري)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1977م.
جولد زيهر:
45 - مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة د. عبد الحليم النجار، دار اقرأ، ط 5، بيروت 1992م.
الدارقطني (علي بن عمر بن أحمد ت 385هـ):
46 - رؤية الله، تحقيق مبروك إسماعيل مبروك، مكتبة القرآن القاهرة، (د. ت).
مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان، الأردن 1999م.
الدارمي (عبد الله بن عبد الرحمن ت 255هـ):
47 - السنن، مكتبة الحديث الشريف، شركة العريس للكمبيوتر وأنظمة الحواسيب، حقوق النشر 19951990م.
أبو داود (سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير ت 275هـ):
48 - السنن، مكتبة الحديث الشريف، شركة العريس للكمبيوتر وأنظمة الحواسيب، حقوق النشر 1990م 1995م.
دانالي توماس:
49 - أعلام الفكر الأوربي من سقراط إلى سارتر، ترجمة عثمان نويه، كتاب الهلال عدد 313، جانفي 1977، ج 1، دار الهلال.(1/444)
دي بور:
50 - تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربية، وعلّق عليه محمد عبد الهادي أبو ريده، دار النهضة العربية، بيروت، (د. ت).
ابن هشام (أبو محمد عبد الله جمال الدين الأنصاري ت 761هـ):
51 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق حنا الفاخوري، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1991م.
52 - شرح شذور الذهب، تحقيق عبد الغني الدقر، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق، 1984م، ط 1.
53 - أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 2، 1985م.
54 - شرح قطر الندى وبل الصدى ومعه كتاب سبيل الهدى بتحقيق شرح قطر الندى تأليف محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية بيروت 1988م.
ابن الوزير (أحمد بن يحيي بن المرتضى اليماني ت 840هـ):
55 - باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، اعتنى بتصحيحه توما أرلناد، دار صادر، بيروت.
56 - إيثار الحق على الخلق في ردّ الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، كتب هوامشه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1983م.
الواسطي (أحمد إبراهيم ت 711هـ):
57 - النصيحة في صفات الرب جلّ وعلا، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1394هـ.
ول ديوارنت:
58 - قصة الفلسفة، ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، ط 5، 1405هـ 1985م.(1/445)
الزجاج (إبراهيم بن السري بن سهل ت 311هـ):
59 - تفسير أسماء الله الحسنى، تحقيق أحمد يوسف الدقاق، دار الثقافة العربية، دمشق 1971م.
زكي نجيب محفوظ:
60 - المعقول واللامعقول، دار الشروق القاهرة، ط 4، 1987م.
الزمخشري (أبو القاسم جار الله محمود بن عمر ت 538هـ):
61 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1977م.
62 - أساس البلاغة، تحقيق د. عبد الرحيم محمود، دار المعرفة بيروت (د. ت).
الزركشي (بدر الدين محمد بن عبد الله ت 794هـ):
63 - البرهان في علوم القرآن، دار الفكر للنشر والطباعة والتوزيع، ط 3، 1980م.
الزبيدي (أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي ت 379هـ):
64 - طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، ط 2، (د. ت).
زهدي جار الله:
65 - المعتزلة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط 6، 1990م.
الزرقاني (محمد بن عبد العظيم):
66 - مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق مكتبة البحوث والدراسات دار الفكر، بيروت، ط 1، 1996م.
ابن زنجلة (عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة):
67 - حجة القراءات، تحقيق سعيد الأفغاني، مؤسسة الرسالة بيروت، 1982م، ط 2، مكتبة التفسير وعلوم القرآن مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.(1/446)
حافظ بن أحمد حكمي (ت 1377هـ):
68 - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، تحقيق عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم، الدمام، ط 1، 1990م.
الحميري (أبو سعيد نشوان ت 573هـ):
69 - الحور العين، ط 1، مصر، 1947م.
الحوفي أحمد محمد:
70 - الزمخشري، الهيئة المصرية العامة للكتاب (د. ت).
ابن حزم (أبو محمد علي بن أحمد ت 456هـ):
71 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق د. محمد إبراهيم نصر د.
عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط 2، 1996م.
72 - الإحكام في أصول الأحكام، دار الحديث القاهرة، ط 1، 1304هـ.
حسن سيد متولي:
73 - نشأة فرق علم الكلام، مطبعة دار الناشئ، مصر، ط 1، 1968م.
الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد ت 310هـ):
74 - جامع البيان عن تأويل أي القرآن، دار الفكر، بيروت، 1405هـ، مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان، الأردن 1999م.
75 - تاريخ الرسل والملوك، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر (د. ت).
الطبرسي (أبو علي الفضل بن حسن ت 548هـ):
76 - مجمع البيان في تفسير القرآن، دار مكتبة الحياة، بيروت (د. ت).
طاش كبرى زاده (أحمد بن محمد بن مصطفى ت 968هـ):
77 - مفتاح السعادة والسيادة في موضوعات العلوم، تحقيق كامل بكري عبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1968م.(1/447)
اليافعي (عبد الله بن أسعد بن علي ت 768هـ):
78 - كتاب مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة، تحقيق محمود محمد محمود حسن نصار، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1992م.
يوحنا قمير:
79 - ابن سينا، دار المشرق، بيروت، 1986م.
يوسف كرم:
80 - الطبيعة وما بعد الطبيعة، دار المعارف، مصر، 1966م.
يحي هويدي:
81 - دراسات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية، دار الثقافة القاهرة، ط 2، 1979م.
كامل محمد محمد عويضة:
82 - الزمخشري المفسر البليغ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1994م.
ابن كثير (إسماعيل بن عمر أبو الفداء الدمشقي ت 774هـ):
83 - تفسير القرآن العظيم، دار الفكر، بيروت، 1401هـ. مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن 1999م.
الكلاباذي (محمد أبو بكر ت 380هـ):
84 - التعريف لمذهب أهل التصوف، دار المكتب العلمية، بيروت 1400هـ، مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 199م.
الماوردى (ت 429هـ):
85 - أعلام النبوة، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1987م.
المتنبي (أحمد بن الحسين ت 354هـ):
86 - الديوان، شرح البرقوقي.(1/448)
الماتريدي (أبو منصور ت 333هـ):
87 - التوحيد، تحقيق د. فتح الله خليف، دار المشرف، بيروت (د. ت).
المحاسبي (الحارث بن أسد بن عبد الله ت 243هـ):
88 - العقل وفهم القرآن، تحقيق حسن القوتلي، دار الكندي، دار الفكر، بيروت (د. ت).
محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة (ت 727هـ):
89 - إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل، تحقيق وهبي سليمان غاوجي الألباني، دار السلام، ط 1، 1996. مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
محمد أبو زهرة:
90 - تاريخ الجدل، دار الفكر العربي، ط 1، 1934م.
محمد فؤاد عبد الباقي:
91 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1417هـ 1996م.
محمد سعيد اسبر بلال جنيدي:
92 - الشامل في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها، دار العودة، بيروت، ط 2، 1985م.
محمد عبد الرحمن مرحبا:
93 - من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، مكتبة الفكر الجامعي، بيروت، ط 1، 1970م.
محمود محمد ربيع:
94 - أسرار التأويل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م.
محمد بن محمد بن محمد بن حسن بن علي بن سليمان بن عمر (ت 879هـ):
95 - كتاب التقرير والتحبير، تحقيق مكتب البحوث والدراسات دار الفكر، بيروت، ط 1، 1996م (مكتبة الفقه وأصوله للحاسب الآلي، عمان الأردن 1999هـ).(1/449)
محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز (ت 748هـ):
96 - سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناءوط محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 9، 1413هـ.
97 - معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، تحقيق عواد معروف شعيب الأرناءوط صالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ.
مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن، 1999م.
محمد شمس الدين الحق العظيم آبادي أبو الطيب:
98 - عون المعبود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1415هـ.
محمد شحرور:
99 - الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط 2، 1990م.
محمد عدنان زرزور:
100 - علوم القرآن مدخل إلى تفسير القرآن وبيان إعجازه، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1981م.
محمد الصباغ:
101 - لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير وبيان إعجازه، المكتب الإسلامي، بيروت (د. ت).
محمد فريد وجدي:
102 - دائرة معارف القرن العشرين، دار المعرفة، بيروت، ط 3، 1971م.
محمد عمارة:
103 - رسائل العدل والتوحيد، دار الهلال، القاهرة (د. ت).
محمود إسماعيل:
104 - الحركات السرية في الإسلام، مؤسسة روز اليوسف، القاهرة، 1973م.(1/450)
محمود كامل أحمد:
105 - مفهوم العدل في تفسير المعتزلة للقرآن الكريم، دار النهضة العربية، بيروت 1983م.
الملطي (أبو الحسن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن ت 377م):
106 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، تحقيق محمد زاهد بن الحسن الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، ط 2، 1977م.
المناوي (محمد عبد الرءوف ت 1031هـ):
107 - التوفيق على مهمات التعاريف، تحقيق د. محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر بيروت، دمشق، ط 1، 1410هـ).
ابن منظور (محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ت 711هـ):
108 - لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط 1، (د. ت)
موسى إبراهيم الإبراهيم:
109 - تأملات قرآنية بحث منهجى في علوم القرآن الكريم دار عمار، الشهاب، الجزائر (د. ت).
مالك بن أنس (أبو عبد الله ت 179هـ):
110 - الموطأ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، مصر (د. ت).
المسعودي (أبو الحسين علي بن الحسين ت 346هـ):
111 - مروج الذهب ومعادن الجوهر، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1983م.
مسلم:
112 - الصحيح، مكتبة الحديث الشريف، شركة العريس للكمبيوتر وأنظمة الحواسيب، حقوق النشر 19951990.(1/451)
المقدسي (عبد الله بن أحمد ت 620هـ):
113 - روضة الناظر، تحقيق د. عبد العزيز عبد الرحمن السعيد، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، 1939م، ط 2، مكتبة الفقه وأصوله، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان، الأردن 1999م.
114 - حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة تحقيق عبد الله يوسف الجديع، مكتبة الرشد، الرياض، 1409هـ، ط 1، مكتبة التفسير وعلوم القرآن للحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
المقدسي (مرعى بن يوسف الكرمي ت 1033هـ):
115 - أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات، تحقيق شعيب الأرناءوط مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
116 - رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، تحقيق أسعد محمد المغربي، دار حراء، مكة المكرمة، ط 1، 1410هـ، مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
المرتضى (الشريف علي بن الحسين الموسوي العلوي ت 436هـ):
117 - الأمالي (غرر الفوائد ودرر القلائد)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1967م.
ابن النديم (ت 385هـ):
118 - الفهرست، دار المعرفة، بيروت (د. ت).
النحاس (أبو جعفر أحمد بن محمد إسماعيل بن يونس المرادي ت 338هـ):
119 - معاني القرآن، تحقيق محمد علي الصابوني، جامعة القرى، مكة المكرمة، ط 1، 1409هـ).
النيسابوري (أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد ت 478هـ):
120 - الغنية في أصول الدين، تحقيق عماد أحمد حيدر، مؤسسة الخدمات والأبحاث الثقافية، بيروت، ط 1، 1987.(1/452)
النسفي (عبد الله بن أحمد بن محمود ت 710هـ):
121 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل (د. ت)، مكتبة التفسير وعلوم القرآن مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
نصر حامد أبو زيد:
122 - الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 3، 1996م، الدار البيضاء.
123 - إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 2، 1992.
نللينو:
124 - بحوث في المعتزلة من التراث اليوناني إلى الحضارة الإسلامية، دراسات لكبار المستشرقين، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1965م.
السهوتي (محمد الأنور):
125 - دراسات في علم الكلام، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1986م 1987م.
سميح دغيم:
126 - فلسفة القدم في فكر المعتزلة، دار الفكر اللبناني، ط 1، 1992م.
السمعاني (المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار ت 489هـ):
127 - قواطع الأدلة عن الأصول، تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت 1997م، ط 1.
سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1233هـ):
128 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض (د. ت).(1/453)
السنوسي (أبو عبد الله (ت 895هـ):
129 - شرح أم البراهين في علم الكلام، تحقيق وتعليق مصطفى محمد الغماري، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989م.
سعيد مراد:
130 - مدرسة البصرة الاعتزالية، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1992م.
سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ت 180هـ):
131 - الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط 1، (د. ت).
السيد سابق:
132 - العقائد الإسلامية، الفتح للإعلام العربي، القاهرة، 1992م.
السيوطي (عبد الرحمن جلال الدين ت 911هـ):
133 - الإتقان في علوم القرآن، عالم الكتب، بيروت (د. ت).
134 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرح وتعليق محمد خان المولى بك، محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، المكتبة العصرية بيروت، 1997م.
135 - الدرّ المنثور، دار الفكر، بيروت 1993م، مكتبة التفسير وعلوم القرآن مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن، 1999م.
136 - طبقات المفسرين، راجع النسخة وضبط أعلامها لجنة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت (د. ت).
عادل نويهض:
137 - معجم المفسرين، قدم له مفتي الجمهورية اللبنانية حسن خالد مؤسسة نويهض الثقافية، ط 2، 1986م.
عبد الحميد بن محمد ندا جعرابة:
138 - مدخل إلى علم التفسير، مكتبة الزهراء، القاهرة، ط 1، 1416هـ 1996م.(1/454)
عبد الحليم محمود:
139 - التفكير الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، ط 2، (د. ت).
عبد الأمير الأعسم:
140 - الفيلسوف الآمدي، دراسة وتحقيق، دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1987م.
عبد العزيز عبد المعطي عرفة:
141 - قضية الإعجاز القرآني وأثرها في تدوين البلاغة العربية، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1985م.
عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي:
142 - اعتقاد الإمام بن حنبل (د. ت).
علي سامي النشار:
143 - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، ط 7، القاهرة، 1973م.
144 - مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت 1984م.
علي عبد الفتاح المغربي:
145 - الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة، مكتبة وهبة القاهرة، ط 2، 1995م.
العكبري (أبو الفداء محيي الدين عبد الله بن أبي عبد الله الحسيني ت 616هـ):
146 - التبيان في إعراب القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، إحياء الكتب العربية (د. ت)، مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
العمادي (أبو السعود محمد بن محمد ت 951هـ):
147 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (د. ت)، مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.(1/455)
عمار طالبي:
148 - آراء أبي بكر بن العربي الكلامية ونقده للفلسفة اليونانية، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر (د. ت).
العسقلاني (أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر ت 852هـ):
149 - فتح الباري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، محيي الدين الخطيب، بيروت 1379هـ، مكتبة الفقه وأصوله، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
الفراء (أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور الديلمي ت 207هـ):
150 - معاني القرآن، تحقيق أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، 1955م.
صبري متولي:
151 - منهج أهل السنة في تفسير القرآن، دار الثقافة، القاهرة 1936م.
الصبان (محمد بن علي ت 1207هـ):
152 - حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية بن مالك، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة (د. ت).
أبو القاسم محمد بن حمد ت 741هـ):
153 - تقريب الوصول إلى علم الأصول، تحقيق محمد علي فركوس دار التراث الإسلامي، الجزائر، ط 1، 1990م.
القاضي عبد الجبار (ت 415هـ):
154 - شرح الأصول الخمسة، الشركة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1990م.
155 - فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد سمير، الدار التونسية لنشر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط 2، 1986م.
156 - المجموع في المحيط بالتكليف، تحقيق الأب يوسف جوين، المطبعة الكاثولوكية، بيروت.(1/456)
157 - المغني في أبواب التوحيد والعدل، حقق بإشراف طه حسين، إبراهيم مذكور، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر، 19651960.
ابن قتيبة (أبو محمد عبد بن مسلم ت 276هـ):
158 - تأويل مشكل القرآن، تحقيق السيد أحمد صفر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط 2، 1973م.
159 - الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، دار الكتب العربية، بيروت، ط 1، 1985م.
160 - تأويل مختلف الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت (د. ت).
القنوجي (صديق بن حسن بن علي ت 1307هـ):
161 - أبجد العلوم، تحقيق عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية بيروت 1978 مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
162 - يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار، تحقيق د.
أحمد الحجازي السقا، مكتبة عاطف دار الأنصار، ط 1، القاهرة 1987م.
163 - قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه وقدم له عاصم بن عبد الله القريوتي، دار الإمام مالك، البليدة الجزائر، ط 2، 1414هـ.
ابن قيم الجوزية (محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي الدمشقي ت 751هـ):
164 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، اختصره الشيخ محمد بن الموصلي، دار الكتب العلمية، بيروت (د. ت).
165 - التبيان في أقسام القرآن، دار الفكر (د. ت) مكتبة التفسير وعلوم القرآن، قرص مضغوط، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن.
1999.
166 - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، دار الكتب العلمية، ط 1، 1984م.(1/457)
167 - هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، (د. ت)، مكتبة العقائد والملل، قرص مضغوط، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
168 - شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل، تحقيق محمد بدر الدين، أبو فراس النعساني الحلبي، دار الفكر، بيروت 1398هـ.
169 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، ط 3، 1998م.
170 - أعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الجيل، بيروت، 1973م.
ابن قيم (أحمد بن إبراهيم بن عيسى ت 1329هـ):
171 - شرح قصيدة ابن القيم، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1406هـ.
القسطنطيني (مصطفى بن عبد الله ت 1067هـ):
172 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992م.
القيسي (مكي بن أبي طالب ت 437هـ):
173 - مشكل إعراب القرآن، تحقيق د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 4، 1405هـ.
القرطبي (محمد بن أحمد بن أبي بكر ت 671هـ):
174 - الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، دار الشعب القاهرة، ط 2، 1372هـ، مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، قرص مضغوط، عمان، الأردن 1999م.
175 - الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د. ت).
176 - الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام، تحقيق د. أحمد حجازي السقا، دار إحياء التراث العربي، القاهرة
1398 - هـ، مكتبة العقائد والملل، قرص مضغوط مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.(1/458)
176 - الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام، تحقيق د. أحمد حجازي السقا، دار إحياء التراث العربي، القاهرة
1398 - هـ، مكتبة العقائد والملل، قرص مضغوط مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن 1999م.
الرازي (محمد بن عمر بن الحسين أبو عبد الله ت 606هـ):
177 - التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د. ت).
178 - اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، تحقيق د. علي سامي النشار، دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ، مكتبة العقائد والملل، قرص مضغوط، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
179 - القضاء والقدر، ضبط نصّه وصححه وعلّق عليه محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1994م.
180 - محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، مراجعة طه عبد الرءوف سعد، دار الكتاب العربي بيروت، ط 1، 1984م.
الرازي (أبو الفضل أحمد بن محمد بن المظفر المختار ت 631هـ):
181 - حجج القرآن لجميع الملل والأديان، تحقيق أحمد عمر المحمصاني، دار الرائد العربي، بيروت، ط 2، 1982م.
الرازي (محمد بن أبي بكر):
182 - مختار الصحاح، ضبط وتخريج وتعليق د. مصطفى ديب البغا، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، 1990م.
روم لاندو:
183 - الإسلام والعرب، نقله عن الإنجليزية منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1962م.
رابح بونار:
184 - المغرب العربي، تاريخه وثقافته، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1968م.(1/459)
ابن رشد (محمد بن أحمد بن محمد بن رشد أبو الوليد ت 595هـ):
185 - فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تقديم وتعليق د. أبو عمران الشيخ والأستاذ جلول البدوي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982م.
الشافعي (محمد بن إدريس ت 204):
186 - أحكام القرآن، تحقيق عبد الغنى عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت 1400هـ.
الشهرستاني (أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر ت 548هـ):
187 - الملل والنحل، تحقيق أمير علي مها، علي حسن فاغور، دار المعرفة، بيروت، ط 4، 1995م.
188 - الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1404هـ.
شهاب الدين المصري (أحمد بن محمد الهائم ت 815هـ):
189 - التبيان في تفسير غريب القرآن، تحقيق د. فتحي أنور الدابولي، دار الصحابة للتراث، طنطا، القاهرة، ط 1، 1992م.
شهاب الدين (أبو الفضل أحمد بن علي ت 852هـ):
190 - العجاب في بيان الأسباب، تحقيق عبد الحليم محمد الأمين، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1997م.
الشوكاني (محمد بن علي بن محمد ت 1250هـ):
191 - إرشاد الفحول، تحقيق محمد سعيد البدري أبو مصعب، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1992م. مكتبة الفقه وأصوله قرص مضغوط، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
192 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، دار الفكر، بيروت (د. ت). مكتبة التفسير وعلوم القرآن، قرص مضغوط، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
شوقي ضيف:
193 - البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، مصر، ط 6، 1965م.(1/460)
الشيرازي (أبو إسحاق إبراهيم بن علي ت 436هـ):
194 - اللمع في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1985م.
شيث بن إبراهيم بن حيدرة ت 598هـ:
195 - حز الغلاصم في إفحام المخاصم عند جريان النظر في أحكام القدر، تحقيق عبد الله عمر البارودي، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، ط 1، 1405هـ. مكتبة العقائد والملل، قرص مضغوط مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
الشريف الرضى:
196 - حقائق التأويل، النّجف، 1936م.
ابن تيمية (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ت 728هـ):
197 - مقدمة في أصول التفسير، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت (د. ت).
198 - أصول التفسير، تحقيق فريال علوان، دار الفكر اللبناني، بيروت ط 1، 1992م.
199 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، تحقيق د. علي حسن ناصر، د.
عبد العزيز بن إبراهيم العسكر، ود. حمدان محمد، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1414هـ، مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان الأردن، 1999م.
200 - النبوات، المطبعة السلفية، القاهرة، 1386هـ.
201 - كتب ورسائل ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن محمد قاسم النجدي، مكتبة ابن تيمية، مكتبة العقائد والملل، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
202 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، تحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، ط 1، 1392هـ.
203 - دقائق التفسير، الجامع لتفسير ابن تيمية، تحقيق د. محمد السيد الجليند مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط 2، 1404هـ مكتبة التفسير وعلوم القرآن مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.(1/461)
204 - العقيدة الواسطية، تحقيق محمد بن عبد العزيز بن مانع، الرئاسة العامة لإدارات البحوث والإفتاء، الرياض، ط 3، 1412هـ.
205 - العقيدة الأصفهانية، تحقيق إبراهيم سعيداني، مكتبة الرشد الرياض، ط 1، 1415هـ.
التفتازانى (سعد الدين ت 792هـ):
206 - شرح العقيدة النسفية، تحقيق مصطفى مرزوقي، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر (د. ت).
الترمذي (محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي ت 279هـ):
207 - الجامع الصحيح سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون دار إحياء التراث العربي، بيروت (د. ت).
الثعالبي (عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف ت 875هـ):
208 - الجواهر الحسان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلى للمطبوعات بيروت (د. ت). مكتبة التفسير وعلوم القرآن، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن، 1999م.
ابن خالويه (الحسين بن أحمد بن خالويه ت 370هـ):
209 - الحجة في القراءات السبع، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق، بيروت، ط 4، 1401هـ.
210 - إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم، تحقيق محمد إبراهيم سليم، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر.
ابن خلدون (ت 808هـ):
211 - المقدمة، دار العودة، بيروت (د. ت).
الخوارزمي (محمد بن أحمد بن يوسف ت 387هـ):
212 - مفاتيح العلوم، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1989.
الخياط (أبو الحسين عبد الرحمن بن محمد بن عثمان ت 300هـ):(1/462)
213 - الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، تقديم ومراجعة محمد حجازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (د. ت).
الذهبي (محمد حسين):
214 - التفسير والمفسرون، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 4، 1998م.
الغزالي (أبو حامد ت 505هـ):
215 - إحياء علوم الدين، دار الثقافة، الجزائر، ط 1، 1991م.
216 - المنخول في الأصول، تحقيق د. محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط 2، 1400هـ.
217 - المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي، الجفان والجابي، قبرص، ط 1، 1987م.
218 - قواعد العقائد، تحقيق موسى بن نصير، عالم الكتب، بيروت ط 2، 1985م. مكتبة العقائد والملل، قرص مضغوط، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن، 1999م.
219 - معارج القدس في معرفة النفس، دار الآفاق الجديدة، بيروت ط 2، (د. ت)، مكتبة العقائد والملل، قرص مضغوط، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.
220 - جواهر القرآن، تحقيق محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1، 1985م.
الغزي (محمد بن محمد بن محمد ت 1061م):
221 - إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن، تحقيق خليل محمد العربي، الفاروق الحديثة، القاهرة، ط 1، 1415هـ: مكتبة التفسير وعلوم القرآن، قرص مضغوط مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، عمان، الأردن 1999م.(1/463)
المجلات
1 - حسن محمود عبد اللطيف:
من قضايا المنهج في علم الكلام: بحث منشور في مجلة دراسات عربية عدد رقم 1.
2 - عبد الرحمن الحاج صالح:
النحو العربي ومنطق أرسطو، بحث في مجلة الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الجزائر 1972م.
3 - شاخت (مستشرق):
المكتبات والمخطوطات الإباضية، المجلة الإفريقية، ج 100، 1956م.
4 - دائرة المعارف الإسلامية: الطبعة الجديدة، المجلد الأول، مادة (سمن).
5 - محمود إسماعيل:
علم الكلام بين الدين والفلسفة (مقال) مجلة القاهرة، الأعداد (173 175174)، أبريل، مايو، يونيه، 1997م.
6 - محمد حماد:
نظرية المعنى بين الشرح والتفسير والتأويل. مقال في منشورات كلية الآداب، تونس، المجلد الثامن: ندوة قسم اللغة العربية بعنوان: صناعة المعنى وتأويل النص.
7 - الحبيب شبيل:
من النص إلى سلطة التأويل. مقال منشور في منشورات كلية الآداب تونس 1992. المجلد الثامن 1992.(1/464)
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
الإهداء 3
المقدمة 7
الباب الأول: الفكر الاعتزالي الفصل الأول: في التفسير والفرق الإسلامية 19
* أولا التفسير والتأويل 23
معنى التفسير لغة 23
معنى التفسير اصطلاحا 25
معنى التأويل في اللغة 27
معنى التأويل في الاصطلاح 29
* ثانيا الفرق بين التفسير والتأويل 41
* ثالثا المراحل الأساسية للتفسير 42
المرحلة الأولى: عصر الصحابة 42
المرحلة الثانية: عصر التابعين 45
المرحلة الثالثة: عصر تابعي التابعين 52
* رابعا ظهور الفرق الإسلامية 54
الدوافع الداخلية 56
الدوافع الخارجية 59
* خامسا أنواع التفسير 59
الفصل الثاني: في المعتزلة وأصولهم 65
* أولا عوامل ظهور المعتزلة 67
1 - فك النزاع بين المسلمين 67(1/465)
2 - التأثر بالقرآن الكريم 72
3 - الدفاع عن الإسلام والرد على المخالفين 77
4 - التحكم في أدوات المناظرة 79
* ثانيا تسمية المعتزلة 79
* ثالثا الأصول الخمسة 90
* رابعا في الأسس العامة لعلم الكلام 96
1 - وجوب النظر (العقل، والنقل) 96
2 - التأسيس على الدليل 100
* خامسا الأدلة 102
أالأدلة العقلية 102
ب الأدلة النقلية 127
ج دليل التأويل 128
الفصل الثالث: التفسير عند المعتزلة 133
* أولا التفسير في إطار الأصول الخمسة 135
1 - أصل التوحيد 135
نفي الرؤية 139
نفي التشبيه 155
2 - أصل العدل 177
3 - الوعد والوعيد 198
4 - المنزلة بين المنزلتين 202
5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 207
* ثانيا التفسير بالرأي قبل الزمخشري 217
الباب الثاني: المذهب الاعتزالي في كشاف الزمخشري الفصل الأول 235(1/466)
* أولا التأويل بالدلالة اللغوية 237
* ثانيا التأويل بالإعراب (النحو) 255
الفصل الثاني: 293
* أولا التأويل بالدلالة اللغوية 295
* ثانيا التأويل بالحمل على المجاز والتشبيه وتأويل التجسيم 322
الفصل الثالث: التأويل بالاستدلال العقلي 349
الخاتمة 427
المراجع 439
فهرس الموضوعات 465(1/467)