{أَنْعََاماً وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً»} (79)، فقدم حياة الأرض واسقاء الأنعام على اسقاء الناس وان كانوا أشرف محلا لأن حياة الأرض هى سبب لحياة الأنعام والناس، فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة فى الذكر، ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها فى الذكر على الناس لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم سقى ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم، ومن هذا الضرب تقديم الأكثر على الأقل كقوله تعالى: {«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا، فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ»} (80) وانما قدم الظالم لنفسه للايذان بكثرته وأن معظم الخلق عليه ثم أتى بعده بالمقتصدين لأنهم قليل بالاضافة اليه، ثم أتى بالسابقين وهم أقل من القليل أعنى المقتصدين فقدم الأكبر وبعده الأوسط ثم ذكر الأقل أخيرا ومن هذا الجنس قوله تعالى: {«وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ»} (81) فانه انما قدم الماشى على بطنه لأنه أدل على القدرة من الماشى على رجلين اذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشى ثم ذكر الماشى على رجلين وقدمه على الماشى على أربع لأنه أدل على القدرة أيضا حيث كثرت آلات المشى فى الأربع» (82).
ويقف ابن الأثير أمام تحليلات الكشاف ليستخلص منها أصولا فى باب التقديم، من ذلك قوله: «واعلم أنه اذا كان مطلع الكلام فى معنى من المعانى ثم يجيء بعده ذكر شيئين أحدهما أفضل من الآخر وكان المعنى المفضول مناسبا لمطلع الكلام فأنت بالخيار فى تقديم أيهما شئت لأنك اذا قدمت الأفضل فهو فى موضعه من التقديم وان قدمت المفضول فلأن مطلع الكلام يناسبه وذكر الشيء مع ما يناسبه أيضا وارد فى
__________
(79) الفرقان: 48، 49
(80) فاطر: 32
(81) النور: 45
(82) المثل السائر ج 2ص 230، 231، 232، وينظر الكشاف ج 1ص 12، ج 3ص 225، 484، 485، 495.(1/658)
موضعه فمن ذلك قوله تعالى: {«وَإِنََّا إِذََا أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهََا، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسََانَ كَفُورٌ. لِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشََاءُ عَقِيماً، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ»} (83) فانه انما قدم الاناث على الذكور مع تقدمهم عليهن لأنه ذكر البلاء فى آخر الآية الأولى وكفران الانسان بنسيانه للرحمة السابقة عنده ثم عقب ذلك بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد فقدم الاناث لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاؤه الانسان فكان ذكر الاناث اللاتى هن من جملة ما لا يشاؤه الانسان ولا يختاره أهم والأهم واجب التقديم، وليلى الجنس الذى كانت العرب تعده بلاء ذكر البلاء، ولما أخر ذكر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك ذلك بتعريفه اياهم لأن التعريف تنويه بالذكر كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرف أن تقديم الاناث لم يكن لتقدمهن، ولكن لمقتض آخر، فقال: {«ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً»} وهذه دقائق لطيفة قل من يتنبه لها أو يعثر على رموزها. ومن هذا الباب قوله تعالى: {«وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلََّا كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ»} (84) فانه انما قدم {«الْأَرْضِ»} فى الذكر على {«السَّمََاءِ»} ومن حقها التأخير لأنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم ووصل ذلك بقوله: {«وَمََا يَعْزُبُ»} لاءم بينها ليلى المعنى المعنى» (85).
وهذه التحليلات التى نظر فيها واستخلص منها هذا الأصل الهام فى التقديم مأخوذة من الكشاف (86).
__________
(83) الشورى: 5048
(84) يونس: 61
(85) المثل السائر ج 2ص 233، 234.
(86) ينظر الكشاف ج 4ص 182، ج 2ص 287.(1/659)
الحروف الجارة:
وليس لابن الأثير فى دراسة حروف الجر جهد الا الشرح والاستنباط من كلام الزمخشرى.
يقول ابن الأثير: «وأما حروف الجر فان الصواب يشذ عن وضعها فى مواضعها، وقد علم أن «فى» للوعاء. و «على» للاستعلاء كقولهم:
زيد فى الدار وعمرو على الفرس، لكن اذا أريد استعمال ذلك فى غير هذين الموضعين مما يشكل استعماله عدل فيه عن الأولى، فمما ورد منه قوله تعالى: {«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، قُلِ اللََّهُ، وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (87) ألا ترى الى بداعة هذا المعنى المقصود لمخالفة حرفى الجر هاهنا، فانه انما خولف بينهما فى الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعمل على فرس جواد يركض به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس فى ظلام منخفض فيه لا يدرى أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلما يراعى مثله فى الكلام ومن هذا النوع قوله تعالى: {«إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ وَالْمَسََاكِينِ وَالْعََامِلِينَ عَلَيْهََا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقََابِ وَالْغََارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللََّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ»} (88) فانه انما عدل عن اللام الى «فى» فى الثلاثة الأخيرة للايذان بأنهم أرسخ فى استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره باللام لأن «فى» للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء فى الوعاء وأن يجعلوا مظنة لها وذلك لما فى فك الرقاب وفى الغرم من التخلص، وتكرير «فى» فى قوله: {«وَفِي سَبِيلِ اللََّهِ»} دليل على ترجيحه على الرقاب وعلى الغارمين وهذه لطائف ودقائق لا توجد الا فى هذا الكلام الشريف فاعرفها وقس عليها» (89)
وهذا أهم ما ذكره فى هذا النوع وهو مأخوذ من الكشاف (90).
__________
(87) سبأ: 24
(88) التوبة: 60
(89) المثل السائر ج 2ص 240، 241، 242
(90) وينظر الكشاف ج 3ص 459، ج 2ص 222(1/660)
الجملة الفعلية والجملة الاسمية:
ويشير ابن الأثير فى هذا الباب الى ما فى الجملة الاسمية من معنى التوكيد والتقرير ويقابل بينها وبين الجملة الفعلية، ويذكر فى هذا قوله تعالى: {«وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ»} (91) ويقول: «فانهم انما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة ب «ان» المشددة لأنهم فى مخاطبة اخوانهم بما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزالوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط فكان بذلك مستقبلا منهم ورائجا عند اخوانهم، وأما الذى خاطبوا به المؤمنين فانما قالوه تكلفا واظهارا للايمان خوفا ومداجاة وكانوا يعلمون أنهم لو قالوه بأوكد لفظ وأسده لما راج لهم عند المؤمنين الا رواجا ظاهرا لا باطنا، ولأنهم ليس لهم فى عقائدهم باعث قوى على النطق فى خطاب المؤمنين بمثل ما خاطبوا به اخوانهم من العبارة المؤكدة، فلذلك قالوا فى خطاب المؤمنين {«آمَنََّا»} وفى خطاب اخوانهم {«إِنََّا مَعَكُمْ»}، وهذه نكت تخفى على من ليس له قدم راسخة فى علم الفصاحة والبلاغة» (92).
وهذا مأخوذ من الكشاف (93).
ثم أخذ يذكر دواعى التوكيد وأمثلة له من القرآن والشعر، وتحليلاته للأمثلة والشواهد لا تنهض الى مستوى التحليلات التى اقتبسها من الكشاف فى هذا النوع.
* * *عكس الظاهر:
وقد استمد ابن الأثير بحثه فى هذا الموضوع من كتاب الكشاف وان كان لم ينقل منه نقلا مباشرا كما عهدناه فى الأنواع الأخرى،
__________
(91) البقرة: 14
(92) المثل السائر ج 2ص 243
(93) ينظر الكشاف ج 1ص 50(1/661)
وذلك لأنه لم يذكر له شواهد من القرآن الكريم. وقد دار بحثه فيه حول شاهدين من الشعر مذكورين فى الكشاف. وقد شار الزمخشرى الى أن سيبويه قد أشار الى هذا النوع من النفى. الا أننى أرجح أن ابن الأثير قد استمد هذا الكلام من الكشاف ولم يستمده من المصادر التى أخذ عنها الزمخشرى وذلك لأننا نجده مهتما بتحليلات الزمخشرى ومفتونا بها بدليل ذلك الأخذ الكثير البين الذى أثبتناه والذى سوف نذكر منه الكثير. ولأننا نجد ريح كلام الكشاف فيما كتبه ابن الأثير فى هذا الموضوع.
يقول ابن الأثير فى عكس الظاهر: «وهو نفى الشيء باثباته وهو من مستطرفات علم البيان وذلك أنك تذكر كلاما يدل ظاهره أنه نفى لصفة موصوف وهو نفى للموصوف أصلا، فمما جاء منه قول على بن أبى طالب رضى الله عنه فى وصف مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«لا تنثى فلتاته»، أى لا تذاع سقطاته، فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثم فلتات غير أنها لا تذاع، وليس المراد ذلك، بل أراد أنه لم يكن ثم فلتات فتثنى. وهذا من أغرب ما توسعت فيه اللغة العربية، وقد ورد فى الشعر كقول بعضهم: «ولا ترى الضبّ بها ينجحر».
فان ظاهر المعنى من هذا البيت أنه كان هناك ضب ولكنه غير منجحر وليس كذلك بل المعنى أنه لم يكن هناك ضب أصلا ولقد مكثت زمانا أطوف على أقوال الشعراء قصدا للظفر بأمثلة من الشعر جارية هذا المجرى فلم أجد الا بيتا لامرئ القيس وهو:
على لاحب لا يهتدى لمناره ... إذا سافه العود الدّيافي جرجرا
فقوله: «لا يهتدى لمناره» أى أن له منارا الا أنه لا يهتدى به، وليس المراد ذلك، بل المراد أنه لا منار له يهتدى به» (94) وظاهر أن الشريف المرتضى ذكر أبياتا كثيرة جرت على هذه الطريقة وأثبتناها،
__________
(94) المثل السائر ج 2ص 257، 258، 259(1/662)
وقد أشرت فى دراسة النفى الى أن الزمخشرى ذكر هذه الطريقة فى قوله تعالى: {«لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً»} (95). ووضحها وبين قيمتها فى قوله تعالى: {«مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ»} (96).
وقد اقتصر ابن الأثير على بيان هذه الطريقة فقط ولم يتعرض لسرها البلاغى. يقول الزمخشرى فى بيان قيمتها البلاغية: «يحتمل أن يتناول النفى الشفاعة والطاعة معا، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، كما تقول: ما عندى كتاب يباع، فهو محتمل نفى البيع وحده، وأن عندك كتابا الا أنك لا تبيعه، ونفيهما جميعا، وأنه لا كتاب عندك ولا كونه مبيعا ونحوه: «ولا نرى الضّبّ بها ينجحر»
يريد نفى الضب وانجحاره فان قلت: الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه فما الفائدة فى ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت: فى ذكرها فائدة جليلة وهى أنها ضمت اليه ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها فيكون ذلك ازالة لتوهم وجود الموصوف، بيانه أنك اذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لى فرس أركبه ولا معى سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة عن الركوب والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى منى الركوب والمحاربة ولا فرس لى ولا سلاح معى، فكذلك قوله:
{«وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ»} معناه كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع فكان ذكر الشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذى لا ينبغى أن يتوهم خلافه» (97).
* * *الاستدراج:
يقول ابن الأثير: ان باب الاستدراج اذا حقق النظر فيه علم أن مدار البلاغة كلها عليه لأنه لا انتفاع بايراد الألفاظ المليحة الرائعة
__________
(95) البقرة: 273
(96) غافر: 18
(97) الكشاف ج 4ص 122، 123(1/663)
ولا المعانى اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها.
ويدعى ابن الأثير أنه استخرج هذا النوع من كتاب الله، وليس له فيه جهد يذكر، فانه لم يزد على أن ذكر نصين من كلام الزمخشرى ثم أورد محاورة بين الحسين بن على رضى الله عنه ومعاوية ابن أبى سفيان، جرى القول فيها من معاوية على طريقة الاستدراج التى جرت عليها النصوص القرآنية المذكورة فى هذا الباب يقول ابن الأثير:
«وقد ذكرت فى هذا النوع ما يتعلم منه سلوك هذه الطريقة، فمن ذلك قوله تعالى: {«وَقََالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمََانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللََّهُ وَقَدْ جََاءَكُمْ بِالْبَيِّنََاتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كََاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صََادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ»} (98) وفى هذا الكلام من حسن الأدب والانصاف ما أذكره لك فأقول: انما قال: {«يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»}
وقد علم أنه نبى صادق وأن كل ما يعدهم به لا بد أن يصيبهم لا بعضه لأنه احتجاج فى مقاولة خصوم موسى عليه السلام أن يسلك معهم طريق الانصاف والملاطفة فى القول ويأتيهم من جهة المناصحة ليكون أدعى الى سكونهم اليه فجاء بما علم أنه أقرب الى تسليمهم لقوله وأدخل فى تصديقهم اياه فقال: {«وَإِنْ يَكُ صََادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»}
وهو كلام المنصف فى مقاله غير المشتط وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق فى جميع ما يعد به، لكنه أردف بقوله: {«يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»} ليهضمه بعض حقه فى ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا عن أن يتعصب له، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل» (99).
__________
(98) غافر: 28
(99) المثل السائر ج 2ص 260، 261، 262.(1/664)
هذا ملخص من قول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت:
لم قال: {«بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»} وهو نبى صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتجاج فى مقاولة خصوم موسى ومناكريه الى أن يلاوصهم ويداريهم ويسلك معهم طريق الانصاف فى القول ويأتيهم من وجهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب الى تسليمهم لقوله وأدخل فى تصديقهم له وقبولهم منه فقال: {«وَإِنْ يَكُ صََادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»}، وهو كلام المنصف فى مقاله غير المشتط فيه ليسمعوا منه ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق فى جميع ما يعد ولكنه أردفه: {«يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»}
ليهضمه بعض حقه فى ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا أن يتعصب له أو يرمى بالحصا من ورائه وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل» (100).
ويأخذ ابن الأثير من كلام الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ إِبْرََاهِيمَ، إِنَّهُ كََانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ يََا أَبَتِ»}
الى آخر الآيات التى حاور فيها إبراهيم أباه حين دعاه الى عبادة ربه (101).
يقول ابن الأثير: «هذا كلام يهز اعطاف السامعين، وفيه من الفوائد ما أذكره، وهو أنه لما أراد إبراهيم عليه السلام أن ينصح أباه ويعظه وينقذه مما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم الذى عصى به أمر العقلاء رتب الكلام معه فى أحسن نظام مع استعمال المجاملة واللطف والأدب الحميد والخلق الحسن مستنصحا فى ذلك بنصيحة ربه، وذلك أنه طلب منه أولا العلة فى خطئه طلب منبه على تماديه موقظ من غفلته لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب الا أنه بعض الخلق يستخف عقل من أهله للعبادة ووصفه
__________
(100) الكشاف ج 1ص 127.
(101) مريم: 4841(1/665)
بالربوبية، ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيين فكيف بمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر، يعنى به الصنم ثم ثنى ذلك بدعوته الى الحق مترفقا به، فلم يسم أباه بالجهل المطلق ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: ان معى طائفة من العلم وشيئا منه وذلك علم الدلالة على سلوك الطريق فلا تستنكف، وهب أنى واياك فى مسير وعندى معرفة بهداية الطريق دونك فاتبعنى أنجك من أن تضل.
ثم ثلث ذلك بتثبيطه عما كان عليه ونهيه فقال: ان الشيطان الذى استعصى على ربك وهو عدوك وعدو أبيك آدم هو الذى ورطك فى هذه الورطة وألقاك فى هذه الضلالة، وانما ألغى إبراهيم عليه السلام ذكر معاداة الشيطان آدم وذريته فى نصيحة أبيه لأنه لا معانه فى الاخلاص لم يذكر من جنايتى الشيطان الا التى تختص بالله وهى عصيانه واستكباره ولم يلتفت الى ذكر معاداته آدم وذريته، ثم ربع ذلك بتخويفه اياه سوء العاقبة فلم يصرح بأن العقاب لا حق به ولكنه قال: {«إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ»}، فنكر العذاب ملاطفة لأبيه، وصدر كل نصيحة من هذه النصائح بقوله: {«يََا أَبَتِ»} توسلا اليه واستعطافا وهذا بخلاف ما أجابه به أبوه فانه قال: {«أَرََاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يََا إِبْرََاهِيمُ»} فأقبل عليه بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ولم يقابل قوله {«يََا أَبَتِ»} بقوله: يا بنى، وقدم الخبر على المبتدأ فى قوله {«أَرََاغِبٌ أَنْتَ»} لأنه كان أهم عنده، وفيه ضرب من التعجب والانكار لرغبة إبراهيم عن آلهته» (102).
وهذا مأخوذ من الكشاف وقد أثبتناه فى دراسة الجمل (103).
* * *الايجاز:
ويعتمد ابن الأثير على الزمخشرى فى كثير من الأصول التى درسها فى هذا الباب ومن ذلك: حذف السؤال المقدر فى باب الاستئناف.
__________
(102) المثل السائر ج 2ص 262، 263، 264
(103) الكشاف ج 3ص 14، 15(1/666)
يقول ابن الأثير: «ويأتى الاستئناف على وجهين: الوجه الأول اعادة الأسماء والصفات، وهذا يجيء تارة باعادة اسم من تقدم الحديث عنه كقولك: أحسنت الى زيد زيد حقيق بالاحسان، وتارة يجيء باعادة صفته كقولك: أحسنت الى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك، وهو أحسن من الأول وأبلغ لانطوائه على بيان الموجب للاحسان وتخصيصه، فمما ورد من ذلك قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (104) والاستئناف واقع فى هذا الكلام على {«أُولََئِكَ»} لأنه لما قال: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ»} الى قوله {«وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ»}، اتجه لسائل أن يقول: ما بال المستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب: بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا» (105).
وهذا مأخوذ من قول الزمخشرى بعد ما ذكر وجه اعتبار {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} مبتدأ، و {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ»} جملة فى محل رفع خبر مبتدأ قال: «وان جعلته تابعا للمتقين يعنى {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} وقع الاستئناف على {«أُولََئِكَ»} كأنه قيل:
ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب: بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا. واعلم أن هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة باعادة اسم من استؤنف عنه الحديث كقولك: قد أحسنت الى زيد زيد حقيق بالاحسان، وتارة باعادة صفته كقولك: أحسنت الى زيد صديقك القديم أهل لذلك، فيكون الاستئناف باعادة الصفة أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه» (106).
__________
(104) البقرة: 51
(105) المثل السائر ج 2ص 281، 282
(106) الكشاف ج 1ص 24(1/667)
ويأخذ من الكشاف كذلك الاستئناف بغير اعادة الأسماء والصفات.
يقول فى قوله تعالى: {«وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمََنُ بِضُرٍّ لََا تُغْنِ عَنِّي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلََا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قََالَ يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمََا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ»} (107).
فمخرج هذا القول مخرج الاستئناف لأن ذلك من حكاية المسألة عن حاله عند لقاء ربه وكأن قائلا قال: كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب فى دينه والتسخى لوجهه بروحه؟ فقيل:
{«قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ»} ولم يقل: قيل له، لانصباب الغرض الى القول لا الى المقول له مع كونه معلوما، وكذلك قوله تعالى: {«يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ»} مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد» (108).
ويقول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت: كيف مخرج هذا القول فى علم البيان؟ قلت: مخرجه مخرج الاستئناف لأن هذا من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه كأن قائلا قال: كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب فى نصرة دينه والتسخى لوجهه بروحه؟ فقيل: {«قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ»} ولم يقل: قيل له، لانصباب الغرض الى القول وعظمه لا الى المقول له مع كونه معلوما، وكذلك قال: {«يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ»}
مرتب على ترتيب سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم» (109).
ويقول ابن الأثير: «ومن هذا النحو قوله عز وجل: {«وَيََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ»} (110) والفرق بين اثبات الفاء فى: {«سَوْفَ تَعْلَمُونَ»} كقوله تعالى: {«قُلْ يََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذََابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذََابٌ مُقِيمٌ»} (111) وبين حذف الفاء هاهنا فى هذه الآية أن اثباتها
__________
(107) يس: 2722
(108) المثل السائر ج 2ص 282
(109) الكشاف ج 4ص 8
(110) هود: 93
(111) الزمر: 39، 40(1/668)
وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، وحذفها وصل خفى تقديرى بالاستئناف الذى هو جواب لسؤال مقرر كأنهم قالوا: فماذا يكون اذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: {«سَوْفَ تَعْلَمُونَ»}، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف وهذا قسم من أقسام علم البيان تتكاثر محاسنه فاعرفه ان شاء الله تعالى» (112).
وهذا مأخوذ من الكشاف (113).
ويأخذ ابن الأثير من الكشاف ما يذكره فى حذف المفعول فى «شاء» و «أراد»، يقول ابن الأثير: «ولقد تكاثر هذا الحذف فى «شاء» و «أراد» حتى أنهم لا يكادون يبرزون المفعول الا فى الشيء المستغرب، كقوله تعالى: {«لَوْ أَرََادَ اللََّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى ََ مِمََّا يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ»} (114) وعلى هذا الأسلوب جاء قول الشاعر:
ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع
فلو كان على حد قوله تعالى: {«وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ»} (115) لوجب أن يقول: ولو شئت لبكيت دما، ولكنه ترك تلك الطريقة وعدل الى هذه لأنه أليق فى هذا الموضع، وسبب ذلك أنه كان بدعا عجيبا أن يشاء الانسان أن يبكى دما فلما كان مفعول المشيئة مما يستعظم ويستغرب كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر» (116).
ويقول الزمخشرى: «ولقد تكاثر هذا الحذف فى «شاء» و «أراد» لا يكادون يبرزون المفعول الا فى الشيء المستغرب كنحو قوله: «فلو شئت أن أبكى دما».
__________
(112) المثل السائر ج 2ص 282، 283
(113) ينظر الكشاف ج 2ص 231
(114) الزمر: 4
(115) الأنعام: 35
(116) المثل السائر ج 2ص 307، 308(1/669)
وقوله تعالى: {«لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا»} (117)، {«لَوْ أَرََادَ اللََّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً»} (118).
ويأخذ ابن الأثير من الكشاف ما ذكره فى حذف الشرط.
يقول ابن الأثير: «ومن حذف الشرط قوله تعالى: {«وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مََا لَبِثُوا غَيْرَ سََاعَةٍ، كَذََلِكَ كََانُوا يُؤْفَكُونَ. وَقََالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمََانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتََابِ اللََّهِ إِلى ََ يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهََذََا يَوْمُ الْبَعْثِ»} (119) اعلم أن هذه الفاء التى فى قول الشاعر:
«فقد جئنا خراسانا».
وحقيقتها أنها فى جواب شرط محذوف يدل عليه الكلام كأنه قال:
ان صح ما قلتم ان خراسان أقصى ما يراد بنا، فقد جئنا خراسانا وآن لنا أن نخلص، وكذلك هذه الآية يقول: ان كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث، أى: فقد تبين بطلان قولكم» (120).
ويقول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت: ما هذه الفاء وما حقيقتها؟ قلت: هى التى فى قوله «فقد جئنا خراسانا». وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام كأنه قال: ان صح ما قلتم من أن خرسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسانا وآن لنا أن نخلص، وكذلك ان كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث، أى: فقد تبين بطلان قولكم» (121).
وقد أشرت فى دراسة بلاغة الكشاف الى أن الزمخشرى أخذ هذا والذى قبله من دلائل الاعجاز، وأرجح هنا أن ابن الأثير قد أخذ هذا من الكشاف ولم يأخذه من دلائل الاعجاز لشدة الشبه بين كلامه وما ذكر فى الكشاف وهذا واضح من المقارنة بين النصين.
__________
(117) الأنبياء: 17
(118) الكشاف ج 1ص 66والآية من سورة الزمر: 4
(119) الروم: 55، 56
(120) المثل السائر ج 2ص 318، 319
(121) الكشاف ج 3ص 384(1/670)
ويذكر الايجاز بالتقدير ويعنى به ما ساوى لفظه معناه وهو المعروف عند جمهور البلاغيين بالمساواة ويورد من أمثلته قوله تعالى: {«قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ»} (122) ويقول فيها: «فقوله: {«قُتِلَ الْإِنْسََانُ»} دعاء عليه، وقوله: {«مََا أَكْفَرَهُ»} تعجب من افراطه فى كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوبا أغلظ من هذا الدعاء والتعجب ولا أخشن مسا ولا أدل على سخط مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة مع قصر متنه» (123)
وقد أثبتنا هذا النص فى دراسة بلاغة الكشاف (124).
* * *الاطناب:
وكما وجدنا ابن الأثير يستمد من الكشاف كثيرا من الأصول والتحليلات فى باب الايجاز نجده كذلك يأخذ كثيرا من التحليلات فى باب الاطناب.
يقول ابن الأثير فى قوله تعالى: {«فَإِنَّهََا لََا تَعْمَى الْأَبْصََارُ وَلََكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»} (125): «ففائدة ذكر «الصدور» هاهنا أنه قد تعورف وعلم أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله فى القلب تشبيه ومثل، فلما أريد اثبات ما هو خلاف المتعارف من نسبة العمى الى القلب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا الأمر الى زيادة تصوير وتعريف ليتقرر أن مكان العمى انما هو القلوب لا الأبصار وهذا موضع من علم البيان كثيرة محاسنه، وافرة لطائفه، والمجاز فيه أحسن من الحقيقة لمكان زيادة التصوير فى اثبات وصف الحقيقى للمجازى ونفيه عن الحقيقى» (126).
__________
(122) عبس: 17
(123) المثل السائر ج 2ص 333
(124) ينظر الكشاف ج 4ص 561، 562
(125) الحج: 46
(126) المثل السائر ج 2ص 364(1/671)
ويقول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت: أى فائدة فى ذكر الصدور؟ قلت: الذى قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله فى القلب استعارة ومثل، فلما أريد ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى الى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير الى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكن للسانك الذى بين فكيك. فقولك «الذى بين فكيك» تقرير لما ادعيته للسانه وتثبيت، لأن محل المضاء هو لا غير وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا منى ولكن تعمدت به اياه بعينه تعمدا» (127).
وبالمقارنة نلحظ أن ابن الأثير لم يغير الا فى كلمات ليس التغيير فيها ذا غناء، على أنه يحذف من كلام الزمخشرى أحيانا صورا وأمثالا يذكرها الزمخشرى لبيان طريقة الأسلوب كما رأيناه هنا يحذف قولهم:
«ليس المضاء للسيف» الى آخره.
ويقول ابن الأثير فى قوله تعالى: {«مََا جَعَلَ اللََّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»} (128): «والتمثيل يصح لقوله: {«مََا جَعَلَ اللََّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ»} وهو تام، لكن فى ذكر الجوف فائدة وهى ما أشرت اليها، وفيها أيضا زيادة تصوير للمعنى المقصود لأنه اذا سمعه المخاطب به صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان ذلك أسرع الى انكاره» (129).
وهذا مأخوذ من قول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت: أى فائدة فى ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة فى قوله: {«الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»} وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور والتجلى للمدلول عليه لأنه اذا سمع به صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع الى الانكار» (130).
__________
(127) الكشاف ج 3ص 128
(128) الأحزاب: 4
(129) المثل السائر ج 2ص 361
(130) الكشاف ج 3ص 412(1/672)
التكرير:
وكان الزمخشرى كما رأينا دقيقا فى بيان الفروق بين المعانى وتوضيح المكرر منها وغيره، وقد أخذ ابن الأثير عنه بعض الصور والتحليلات وان كان قد خالفه فى عد بعضها من المكرر فمن ذلك قوله تعالى: {«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللََّهُ إِحْدَى الطََّائِفَتَيْنِ أَنَّهََا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذََاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ وَيَقْطَعَ دََابِرَ الْكََافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبََاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ»} (131).
يرى الزمخشرى أن هذا ليس من التكرار لأن قوله: {«وَيُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ»} بيان للفرق بين الارادتين، وقوله: {«لِيُحِقَّ الْحَقَّ»}
بيان لغرضه فيما فعل سبحانه وهذا الاختلاف فى الغرض يخرج الأسلوب من باب التكرير.
يقول الزمخشرى: «فان قلت: أليس هذا تكرارا؟ قلت: لا، لأن المعنيين متباينان، وذلك أن الأول تمييز بين الارادتين وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك الا لهذا الغرض الذى هو سيد الأغراض» (132).
ويرى ابن الأثير أن هذا من التكرار فى اللفظ والمعنى وان اختلف الغرض، ثم يأخذ تحليل الزمخشرى ويذكر فهمه لهذا النص ويقول:
«هذا تكرير فى اللفظ والمعنى وهو قوله {«يُحِقَّ الْحَقَّ»}، و {«لِيُحِقَّ الْحَقَّ»} وانما جىء به هاهنا لاختلاف المراد وذلك أن الأول تمييز بين الارادتين، والثانى بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها، وأنه ما نصرهم وخذل أولئك الا لهذا الغرض» (133).
ومثل هذا ما يذكره ابن الأثير فى قوله تعالى: {«قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ}
__________
(131) الأنفال: 7، 8
(132) الكشاف ج 2ص 156
(133) المثل السائر ج 3ص 5(1/673)
{أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخََافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي»} (134).
«فكرر قوله تعالى: {«قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ»} وقوله: {«قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي»}، والمراد به غرضان مختلفان وذلك أن الأول اخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة له والاخلاص فى دينه، والثانى اخبار بأنه يخص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة فى الثانى وأخره فى الأول لأن الكلام أولا واقع فى الفعل نفسه وايجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل من أجله، ولذلك رتب عليه:
{«فَاعْبُدُوا مََا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ»} (135).
ويقول الزمخشرى: «فان قلت: ما معنى التكرير فى قوله: {«قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ»} وقوله: {«قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي»}؟ قلت: ليس بتكرير لأن الأول اخبار بأنه مأمور من جهة الله باحداث العبادة والاخلاص، والثانى اخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة وأخره فى الأول، فالكلام أولا واقع فى الفعل نفسه وايجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله تعالى: {«فَاعْبُدُوا مََا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ»} (136).
وهناك نوع من التكرار أشرنا فى بحث بلاغة الكشاف الى أن الزمخشرى يصفه بأنه نمط حسن من التكرار، وذلك ما تختلف فيه ضروب الصنعة فى الجملة المكررة. وابن الأثير يشير الى هذا النوع، والى أنه حسن غامض وينقل تحليل الزمخشرى فيه
ويقول ابن الأثير فى قوله تعالى: {«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعََادٌ}
__________
(134) الزمر: 1411
(135) المثل السائر ج 3ص 5، 6والآية من سورة الزمر: 15
(136) الكشاف ج 4ص 92(1/674)
{وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتََادِ. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ، أُولََئِكَ الْأَحْزََابُ. إِنْ كُلٌّ إِلََّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقََابِ»} (137):
«وانما كرر تكذيبهم هاهنا لأنه لم يأت على أسلوب واحد بل تنوع فيه بضروب من الصنعة، فذكره أولا فى الجملة الخبرية على وجه الابهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم اذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم، وفى تكرير التكذيب وايضاحه بعد ابهامه، والتنوع فى تكريره بالجملة الخبرية أولا، وبالاستثنائية ثانيا، وما فى الاستثناء من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأبلغه، وهذا باب من تكرير اللفظ والمعنى، حسن غامض وبه تعرف مواقع التكرير، والفرق بينه وبين غيره، فافهمه ان شاء الله تعالى» (138).
وهذا مأخوذ من الكشاف وليس لابن الأثير فيه تصرف يذكر (139).
ويأخذ ابن الأثير من الكشاف ما ذكره الزمخشرى فى فائدة التكرير فى سورة القمر وفى سورة الرحمن.
يقول معللا تكرير قوله تعالى: {«فَذُوقُوا عَذََابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»} (140): «وفائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا وايقاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، اذا سمعوا الحث على ذلك والبعث اليه، وأن تقرع لهم العصا مرات، لئلا يغلبهم السهو وتستولى عليهم الغفلة، وهذا حكم التكرير فى قوله تعالى فى سورة الرحمن: {«فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ»} (141) وذلك عند كل نعمة عدها على عباده» (142).
__________
(137) سورة ص: 1412
(138) المثل السائر ج 3ص 9
(139) ينظر الكشاف ج 4ص 59
(140) القمر: 39، 40
(141) الرحمن: 13وغيرها
(142) المثل السائر ج 3ص 19، 20(1/675)
واذا نقلت كلام الزمخشرى فى هذا الموضوع فسوف أعيد نص ابن الأثير مع اختلاف ليس فيه فائدة (143).
ويأخذ عنه ما ذكره من فائدة التكرير فى قوله تعالى: {«وَقََالَ الَّذِي آمَنَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ. يََا قَوْمِ إِنَّمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا مَتََاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دََارُ الْقَرََارِ»} (144).
يقول ابن الأثير: «فانه انما كرر نداء قومه هاهنا لزيادة التنبيه لهم والايقاظ من سنة الغفلة ولأنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم من الضلال وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم ويستدعى بذلك ألا يتهموه فان سرورهم سروره، وغمهم غمه، وأن ينزلوا على نصيحته لهم، وهذا من التكرير الذى هو أبلغ من الايجاز وأشد موقعا فاعرفه ان شاء الله تعالى» (145).
وهذا مأخوذ من الكشاف وليس فيه تصرف يذكر (146).
* * *الكناية والتعريض:
قلت فى بحث الكناية والتعريض: ان الزمخشرى هو أول باحث فرّق تفريقا دقيقا بين الكناية والتعريض كما نعلم، وقد كان عبد القاهر الجرجانى لا يفرق بينهما، وقد جرى ابن الأثير على طريقة الزمخشرى ففرق بين الكناية والتعريض.
وحده للكناية لا يبعد عما يستخلص من كلام الزمخشرى فيها.
يقول ابن الأثير: «فحد الكناية الجامع لها هو أنها: كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبى الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز» (147).
__________
(143) ينظر الكشاف ج 4ص 349
(144) غافر: 38، 39
(145) المثل السائر ج 3ص 19.
(146) ينظر الكشاف ج 3ص 131.
(147) المثل السائر ج 3ص 52.(1/676)
ويقول قبل ذلك «والذى عندى فى ذلك أن الكناية اذا أوردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز» (148) واذا نظرنا فى كلام الزمخشرى الذى ذكر فيه الكناية والمجاز عن الكناية لوجدنا شبها قويا بينه وبين ما ذكره ابن الأثير فى حد الكناية، لأنه شرط امكان المعنى الحقيقى فى طريقة الكناية ولم يشترط هذا الشرط أحد قبله وهذا الشرط هو مدار التعريف الذى ذكره ابن الأثير.
ويقول ابن الأثير فى التعريض: «وأما التعريض فهو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم بالوضع الحقيقى والمجازى، فانك اذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: والله انى له محتاج وليس فى يدى شىء وأنا عريان والبرد قد آذانى. فان هذا وأشباهه تعريض بالطلب، وليس هذا اللفظ موضوعا فى مقابلة الطلب لا حقيقة ولا مجازا، انما دل عليه من طريق المفهوم» (149).
وحين ننظر فى قول الزمخشرى: «والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شىء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج اليه: جئتك لأسلم عليك ولأنظر الى وجهك الكريم، ولذلك قالوا:
* وحسبك بالتّسليم منّى تقاضيا *
وكأنه امالة الكلام الى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريد» (150) نجد كذلك شبها قويا بين الكلامين لأن الدلالة من طريق المفهوم ليست بعيدة عن دلالة الشيء على شىء لم يذكر.
وقد أدرك العلامة السيد الشريف العلاقة بين الكلامين فقال:
وحاصل الفرق يعنى بين الكناية والتعريض أنه اعتبر فى الكناية استعمال اللفظ فى غير ما وضع له، وفى التعريض استعماله فى غير ما وضع له مع الاشارة الى ما لم يوضع له من السياق، وكلام ابن الأثير أعنى قوله: والتعريض هو اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع
__________
(148) المثل السائر ج 3ص 51.
(149) المثل السائر ج 3ص 72
(150) الكشاف ج 1ص 215(1/677)
الحقيقى أو المجازى بل من جهة التلويح والاشارة يدل أيضا على أن المعنى التعريضى لم يستعمل فيه اللفظ بل هو مدلول عليه إشارة وسياقا، بل تسميته تلويحا يلوح منه ذلك وكذلك تسميته تعريضا ينبئ عنه ولذلك قيل: هو امالة الكلام الى عرض، أى: جانب يدل على المقصود» (151)
ثم يأخذ ابن الاثير من الكشاف أخذا مباشرا فى باب التعريض يقول: «وأما التعريض فقد سبق الاعلام به وعرفناك الفرق بينه وبين الكناية، فمما جاء منه قوله تعالى: {«قََالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذََا بِآلِهَتِنََا يََا إِبْرََاهِيمُ. قََالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذََا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كََانُوا يَنْطِقُونَ»} (152)
وهذا من رموز الكلام، والقول فيه أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يرد به نسبة الفعل الصادر عنه الى الصنم وانما قصد تقريره لنفسه واثباته على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من الزام الحجة عليهم والاستهزاء بهم» (153) وهذا مأخوذ من قول الزمخشرى فى هذه الآية: «هذا من معاريض الكلام، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها الا أذهان الراضة من علماء المعانى. والقول فيه أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن الى أن ينسب الفعل الصادر عنه الى الصنم، وانما قصد تقريره لنفسه واثباته لها على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من الزامهم الحجة وتبكيتهم» (154).
ويقول ابن الأثير: «ومن هذا التقسيم أيضا قوله تعالى: {«فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا وَمََا نَرََاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرََاذِلُنََا بََادِيَ الرَّأْيِ وَمََا نَرى ََ لَكُمْ عَلَيْنََا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كََاذِبِينَ»} (155)، فقوله: {«مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا»} تعريض بأنهم
__________
(151) حاشية السيد الشريف ص 413، 414
(152) الأنبياء: 62، 63
(153) المثل السائر ج 3ص 72
(154) الكشاف ج 3ص 98
(155) هود: 27(1/678)
أحق منه بالنبوة وأن الله لو أراد أن يجعلها فى أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم فى المنزلة فما جعلك أحق منهم بها، ألا ترى الى قوله: {«وَمََا نَرى ََ لَكُمْ عَلَيْنََا مِنْ فَضْلٍ»} (156).
ويقول الزمخشرى: {«مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا»} تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأن الله لو أراد أن يجعلها فى أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم فى المنزلة فما جعلك أحق منهم، ألا ترى الى قولهم {«وَمََا نَرى ََ لَكُمْ عَلَيْنََا مِنْ فَضْلٍ»} (157).
واذا كان قد ظهر لنا تأثر ابن الأثير بالزمخشرى فى دراسته للكناية والتعريض، فاننا لا ندرى كيف يتجاهل هذا ويقول: «وقد تكلم علماء البيان فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريض، ولم يفرقوا بينهما، ولا حدّوا كلا منهما بحد يفصله عن صاحبه، بل أوردوا لهما أمثلة من النظم والنثر، وأدخلوها فى الآخر، فذكروا للكناية أمثلة من التعريض، وللتعرض أمثلة من الكناية» (158).
وهذا كلام صادق على كثير من البيانيين وخصوصا الذين ذكرهم فى هذا الصدد وهم الغانمي وابن سنان الخفاجى والعسكرى.
أما الزمخشرى فقد فرّق بين الكناية والتعريض، وبعيد أن يكون ابن الأثير لم يقرأ الجزء الخاص بالتفريق بينهما لأننا وجدنا مشابهة واضحة بين ما ذكره فى تعريفهما وما ذكره الزمخشرى، كما رأيناه ينقل نقلا واضحا فى أمثلة التعريض.
* * *تقابل المعانى:
ونجد أثر الزمخشرى فى دراسته لتقابل المعانى حين يسوق بعض الأمثلة من الكشاف يقول: «ومن هذا الضرب قوله تعالى: {«أَلَمْ يَرَوْا أَنََّا}
__________
(156) المثل السائر ج 3ص 72
(157) الكشاف ج 2ص 304
(158) المثل السائر ج 3ص 49(1/679)
{جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهََارَ مُبْصِراً»} (159) فانه لم يراع التقابل فى قوله: {«لِيَسْكُنُوا فِيهِ»} و {«مُبْصِراً»} لأن القياس يقتضى أن يكون:
والنهار ليبصروا فيه، وانما هو مراعى من جهة المعنى لا من جهة اللفظ. وهذا النظم المطبوع غير المتكلف لأن معنى قوله {«مُبْصِراً»}:
لتبصروا فيه طرق التقلب فى الحاجات» (160).
وهذا مأخوذ من قول الزمخشرى: «فان قلت: ما للتقابل لم يراع فى قوله: {«لِيَسْكُنُوا فِيهِ»} و {«مُبْصِراً»} حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأن معنى {«مُبْصِراً»}: ليبصروا فيه طرق التقلب فى المكسب» وأحسب أن قول ابن الأثير: «وهذا النظم المطبوع غير المتكلف» محرف، وصوابه: «وهكذا النظم المطبوع» كما فى الكشاف.
ويقول ابن الأثير: «واعلم أن فى تقابل المعانى بابا عجيب الأمر يحتاج الى فضل تأمل وزيادة نظر، وهو يختص بالفواصل من الكلام المنثور، وبالإعجاز من الأبيات الشعرية، فمما جاء من ذلك قوله تعالى فى ذم المنافقين: {«وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ»} (161)، وقوله تعالى: {«وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ قََالُوا أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ، أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهََاءُ وَلََكِنْ لََا يَعْلَمُونَ»} (162) ألا ترى كيف فصل الآية الأخرى ب {«يَعْلَمُونَ»} والآية التى قبلها ب {«يَشْعُرُونَ»}
وانما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج الى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك. وأما النفاق وما فيه من البغى المؤدى الى الفتنة والفساد فى الأرض فأمر دنيوى مبنى على العادات معلوم عند الناس خصوصا
__________
(159) النمل: 86
(160) المثل السائر ج 3ص 163
(161) البقرة: 11، 12
(162) البقرة: 13(1/680)
عند العرب وما كان فيهم من التحارب والتغاور فهو كالمحسوس عندهم فلذلك قال فيه {«يَشْعُرُونَ»}، وأيضا فانه لما ذكر السفه فى الآية الأخيرة وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقا، فقال {«يَعْلَمُونَ»} (163).
وهذا مأخوذ من قول الزمخشرى: «فان قلت: لم فصلت هذه الآية ب {«لََا يَعْلَمُونَ»} والتى قبلها ب {«يَشْعُرُونَ»}؟ قلت: لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج الى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، وأما النفاق وما فيه من البغى المؤدى الى الفتنة والفساد فى الأرض فأمر دنيوى مبنى على العادات معلوم عند الناس خصوصا عند العرب فى جاهليتهم وما كان قائما بينهم من التغاور والتناحر والتحارب والتحازب فهو كالمحسوس المشاهد ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا» (164).
كتاب الجامع الكبير:
والذى يقرأ كتاب الجامع الكبير لابن الأثير يجد فيه قدرا كبيرا من هذه التحليلات البلاغية العالية التى أخذها من كتاب الكشاف، وأكثر هذه التحليلات المذكورة فى الجامع مذكورة كذلك فى المثل السائر، من هذه التحليلات قوله فى الالتفات بعد ذكر قوله تعالى:
{«قََالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللََّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ»} (165) وهو مثال للرجوع من الفعل المستقبل الى فعل الأمر يقول ابن الأثير:
«ولم يقل «أشهدكم» ليكون موازنا له وبمعناه لأن اشهاد الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت فى معنى تثبيت التوحيد وشد معاقده، وأما اشهادهم فما هو الا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم، ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجىء به على لفظ الأمر كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: اشهد على أنى أحبك تهكما به واستهانة لحاله» (166).
__________
(163) الكشاف ج 3ص 303، 304
(164) الكشاف ج 1ص 49
(165) هود: 54
(166) الجامع الكبير لابن الأثير مخطوط بدار الكتب وغير مرقومة صفحاته.(1/681)
وقد سبق أن ذكرنا هذا النص من المثل السائر وبينا أصله فى كتاب الكشاف.
ويقول فى الالتفات أيضا فى الضرب الثالث أى الرجوع من خطاب التثنية الى خطاب الجمع ومن خطاب الجمع الى خطاب الواحد:
«ومن هذا النحو قوله تعالى حكاية عن حبيب النجار {«وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»} (167) هذا عدول عن خطاب الواحد الى خطاب الجماعة، وانما صرف الكلام عن خطاب نفسه الى خطابهم لأنه أبرز الكلام لهم فى معرض المناصحة لنفسه، وهو يريد مناصحتهم ليلطف بهم ويداريهم ولأن ذلك أدخل فى امحاض النصح حيث لا يريد لهم الا ما يريد لنفسه» (168) ثم يذكر هنا ما ذكره فى المثل السائر ويقول: «فانظر أيها المتأمل لكتابنا هذا الى هذه الدقائق التى أشرنا اليها فى غضون هذا الكتاب فان فيها ما شئت من اللطائف اللطيفة والفوائد العجيبة» (169).
ويقول فى الاخبار عن الفعل الماضى بالمضارع:
«اعلم أن الفعل المضارع اذا أتى به فى حال الاخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الاخبار بالفعل الماضى، وذلك لأن الفعل المضارع يوضح الحال التى يقع فيها وتستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها وليس كذلك الفعل الماضى، فمما جاء منه قوله تعالى: {«وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا، كَذََلِكَ النُّشُورُ»} (170)، فانه انما قيل:
{«فَتُثِيرُ سَحََاباً»} مضارعا، وما قبله وبعده ماض لذلك المعنى الذى أشرنا اليه وهو حكاية الحال الذى يقع فيها اثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الباهرة وقد ذكر
__________
(167) يس: 22
(168) المرجع السابق
(169) المرجع السابق
(170) فاطر: 9(1/682)
هنا ما ذكره الزمخشرى فى الآية وأبيات «تأبط شرا» وقد قلنا: ان ابن الأثير أضاف حكاية الزبير لما لقى عبيدة بن سعد بن العاص، والقصة غير مذكورة فى كتاب الجامع.
وقد ذكرنا أن ابن الأثير يذكر أن عطف المستقبل على الماضى يكون على ضربين:
الضرب الأول: ما يستعمل فيه المستقبل للدلالة على حدث قد مضى، والضرب الثانى: ما يستعمل فيه المستقبل للدلالة على حدث يقع، وقد ذكر آية {«فَتُثِيرُ سَحََاباً»} مثالا للضرب الأول، وذكر قوله تعالى: {«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً»} (171) مثالا للضرب الثانى.
أما فى كتاب الجامع فانه لا يفرق بين الضربين، ويذكر قوله تعالى: {«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً»}
مع آية {«فَتُثِيرُ سَحََاباً»}.
ويفيدنا هذا أن كتاب المثل السائر كان يفصل فيه ما أجمله فى كتاب الجامع الكبير.
ويذكر فى كتاب الجامع كذلك الاخبار باسم المفعول عن الفعل المضارع ويقول: «فمن ذلك قوله تعالى: {«ذََلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النََّاسُ وَذََلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ»} (172) فانه انما آثر اسم المفعول هاهنا على الفعل المضارع لما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، فانه لا بد من أن يكون ميعادا مضروبا يجمع الناس، وأنه الموصوف بهذه الصفة وان شئت فوازن بينه وبين قوله تعالى: {«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ، ذََلِكَ يَوْمُ التَّغََابُنِ»} (173) فانك تعثر على صحة ما قلت» (174).
وقد أشرنا الى أن هذا مأخوذ من الكشاف.
__________
(171) الحج: 63
(172) هود: 103
(173) التغابن: 9
(174) الجامع الكبير مخطوط غير مرقوم.(1/683)
وفى الجامع الكبير اهتمام بمسائل أغفلها ابن الأثير فى المثل السائر منها نوع سماه بالتعقيب المصدرى يقول فيه:
«وانما يعمد الى ذلك لضرب من التأكيد لما تقدمه والاشعار بتعظيم شأنه، أو بالضد من ذلك، فمثال الأول قوله تعالى: {«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلََّا مَنْ شََاءَ اللََّهُ، وَكُلٌّ أَتَوْهُ دََاخِرِينَ. وَتَرَى الْجِبََالَ تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ، صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَفْعَلُونَ. مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهََا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلََّا مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»} (175): {«صُنْعَ اللََّهِ»} من المصادر المؤكدة لما قبلها كقوله {«وَعَدَ اللََّهُ»}، و {«صِبْغَةَ اللََّهِ»} ألا ترى أنه لما جاء ذكر هذا الأمر العظيم الدال على القدرة الباهرة من النفخ فى الصور واحياء الأموات والفزع واحضار الناس للحساب ومسير الجبال كالسحاب فى سرعتها عقب ذلك أن قال: {«صُنْعَ اللََّهِ»} أى هذا الأمر البديع صنع الله والمعنى: ويوم ينفخ فى الصور وكان كيت وكيت من الأشياء الباهرة وأثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين فجعل هذا الصنع من جملة الأمور التى أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب حيث قال: {«صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»}، يعنى أن مقابلة الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب من احكامه للأشياء، واتقانه لها، وباجرائه اياها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد، وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب أفعالهم، ثم لخص ذلك بقوله تعالى: {«مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ»} الى آخر الآيتين، فانظر أيها المتأمل الى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة اضماده ورصانة تفسيره وأخذ بعضه برقاب بعض كأنما أفرغ افراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق» (176).
__________
(175) النمل: 9087
(176) الجامع الكبير مخطوط غير مرقوم.(1/684)
مناقشات:
وهذا البحث مأخوذ من كلام الزمخشرى فى هذه الآيات حيث يقول: {«صُنْعَ اللََّهِ»} من المصادر المؤكدة كقوله: {«وَعَدَ اللََّهُ»} و {«صِبْغَةَ اللََّهِ»} الا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ل {«يَوْمَ يُنْفَخُ»} والمعنى: ويوم ينفخ فى الصور وكان كيت وكيت وأثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين ثم قال: {«صُنْعَ اللََّهِ»} يريد به الاثابة والمعاقبة وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التى أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب حيث قال: {«صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»}، يعنى أن مقابلته الحسنة بالثواب، والسيئة بالعقاب، من جملة احكامه للأشياء، واتقانه لها، واجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك، ثم لخص ذلك بقوله: {«مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ»} الى آخر الآيتين. فانظر الى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة اضماده، ورصانته، وتفسيره، وأخذ بعضه بحجز بعض، كأنما أفرغ افراغا واحدا ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق، ونحو هذا الصدر اذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته، والمنادى على سداده، وأنه ما كان ينبغى أن يكون الا كما قد كان، ألا ترى الى قوله: {«صُنْعَ اللََّهِ»}
و {«صِبْغَةَ اللََّهِ»} و {«وَعَدَ اللََّهُ»} و {«فِطْرَتَ اللََّهِ»} بعد ما وسمها باضافتها اليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله: {«الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»}، {«وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً»}، {«لََا يُخْلِفُ اللََّهُ الْمِيعََادَ»}، {«لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ»} (177).
يقول العالم الفاضل الدكتور شوقى ضيف، بعد ما عرض فى دراسة مفصلة ما جاء فى كتاب المثل السائر من فكر وقضايا، وبعد ما عرض صورا بينة لما جاء فى كتاب الكشاف من فكر وتحليلات بلاغية، يقول:
«وواضح من كل ما قدمنا أن ضياء الدين لم يكن مثقفا ثقافة دقيقة بكتابات البلاغيين قبله، وفاته أن يطلع على كتابات عبد القاهر
__________
(177) الجامع الكبير مخطوط غير مرقوم والآيات من سور:
النمل: 88، البقرة: 138، الزمر: 20، الروم: 30(1/685)
والزمخشرى والفخر الرازى، على أنه يذكر الزمخشرى أحيانا ولكن ليرد عليه بعض آرائه، ومن المؤكد أنه لم يحط بما كتبه فى الكشاف وظل يضطرب اضطرابا شديدا فى تصور المسائل البيانية الخالصة، ونقصد التشبيه، والمجاز، والاستعارة، والكناية، وأيضا فانه اضطراب بازاء ما كتبه من مسائل علم المعانى كالتقديم، والتأخير، والايجاز، والاطناب، والفصل، والوصل، وكأنه لم يفد شيئا مما سجله القرن الخامس عند عبد القاهر، والسادس عند الزمخشرى والفخر الرازى فى مسائل علمى البيان والمعانى» (178).
ولا شك عندنا فى أن ابن الأثير قد قرأ كتاب الكشاف قراءة دقيقة وأعجب بكثير من التحليلات البلاغية فيه، ونقلها نقلا كاملا الى كتابه المثل السائر وأورد كثيرا منها فى كتابه الجامع الكبير، وقد بينا هذا بيانا نظنه كافيا فى توثيق صلة ابن الأثير ببلاغة الكشاف.
أما أنه لم يفد منه فى تصور الصورة البيانية فذلك ما أشرنا اليه وقلنا: لعل ذلك راجع الى أن جهد الكشاف فى دراسة صور البيان لم يكن بينا كجهده فى دراسة صور المعانى.
ولم يكن الاستاذ الدكتور شوقى وهو من هو وحده الذى غاب عنه أثر الكشاف البين فى كتاب المثل السائر، وانما كان ذلك حال غيره من الدارسين، ومنهم من عاش فى عصر ابن الأثير وكانت بينه وبين ابن الأثير منافسة ومناقشة، وكان حريا به أن يدرك هذا الأخذ، ولكنه جهل هذا، وكان يناقش ابن الأثير فيما نقله من الكشاف وهو لا يدرى أنه فى الحقيقة يناقش الزمخشرى.
فقد كتب العلامة الناقد عز الدين بن أبى الحديد كتابه الموسوم بالفلك الدائر على المثل السائر وتتبع فيه أفكار ابن الأثير يناقشها ويبطلها. وقد كان متحاملا أشد التحامل على الكتاب والكاتب، وهذه التسمية التى وسم بها كتابه خير دليل على هذه الروح المتعصبة فقد
__________
(178) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف ص 334.(1/686)
قال هو نفسه فى علة هذه التسمية: وقد سميت هذا الكتاب الفلك الدائر على المثل السائر لأنه شاع من كلامهم وكثر فى استعمالهم أن يقولوا لما باد ودثر: قد دار عليه الفلك، كأنهم يريدون أنه قد طحنه ومحا صورته، من ذلك قول أبى العتاهية:
إن كنت تنشدهم فإنّهم ... همدوا ودار عليهم الفلك (179)
وقد كان عليه أن يتتبع هذه النقول، وأن يذيعها فى الناس، وهذا لا شك له أثره الكبير فى مهمته التى قصد اليها بتأليف كتابه.
والمهم فى هذا كله كما قلت هو أن ابن أبى الحديد ناقش ابن الأثير فى تحليلات وأقوال بلاغية منقولة من الكشاف ولم يتنبه ابن أبى الحديد الى هذا وكأنه لم يقرأ كتاب الكشاف، من ذلك مناقشته لكلام ابن الأثير فى التقديم فى النفى حيث ذكر ابن الأثير قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ»} (180) وقوله تعالى: {«لََا فِيهََا غَوْلٌ»} (181) وواضح كما بينا أن كلام ابن الأثير فى هذا الموضع مأخوذ من الكشاف، قال ابن أبى الحديد بعد ما نقل كلام ابن الأثير: «أقول ان هذا الذى ذكره شىء لا يعرفه أهل العربية، ولا أهل الفقه، ولا فرق عندهم فى النفى المطلق بين قولهم: {«لََا رَيْبَ فِيهِ»}، و «لا فيه ريب»، الا من جهة أخرى وهى أنه يقبح الاختصار على قوله: لا فيه ريب، فى القواعد النحوية حتى يضم اليه شىء آخر فيقول: ولا شك مثلا نحو ذلك» (182).
واذا كان ابن الأثير قد نقل هذا من الكشاف، والزمخشرى رأس فى علوم العربية فكيف يكون هذا أمرا لا يعرفه أهل العربية؟ وقد أخذ برأى الزمخشرى فى هذه الآية أئمة مشهود لهم بالسبق فى علوم العربية، ومنهم من عاصر ابن أبى الحديد ومات قبله بنحو ثلاثين سنة كأبى يعقوب السكاكى المتوفى سنة 626هـ.
__________
(179) مقدمة الفلك الدائر ملحق بالمثل السائر ج 4ص 35
(180) البقرة: 1، 2
(181) الصافات: 47
(182) الفلك الدائر ملحق بالمثل السائر ج 4ص 260.(1/687)
ويذكر ابن أبى الحديد ما قاله ابن الأثير فى قوله تعالى:
{«ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ»} (183).
وتطول مناقشته لابن الأثير ويزعم أن أهل العربية لا يعرفون الفرق بين النور والضوء، وقد جهل أن القائل بهذا هو الزمخشرى وهو معدود من اللغويين وكتابه من أهم ما يرجع اليه فى تحديد الفروق بين دلالات الألفاظ، وقد أشرنا الى أن ابن الأثير استنبط من دراسة الزمخشرى فى هذا الموضوع بابا قيما فى كتابه سماه «استعمال العام فى النفى والخاص فى الاثبات»، وذكر ما قاله الزمخشرى فى هذه الآية وما شاكلها. ويذكر ابن أبى الحديد أن قول ابن الأثير: ان {«ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ»} معناه أنه استصحبه ومضى به كفر وتهجم، لأن ذلك مستحيل بالنسبة للمولى عز وجل».
وهذه شهادة منه على نفسه. وأنه غفل هنا فلم يدرك رموز الفصاحة وأسرار البلاغة.
وما أروع ما قاله الزمخشرى ونقله ابن الأثير فى الفرق بين:
ذهب به، وأذهبه واذا كان ابن أبى الحديد قد كتب كتابه ليمحو به المثل السائر وهو يجهل ما فيه من بلاغة الكشاف فان من المعاصرين من كتب دراسة خاصة بابن الاثير وقدمها بحثا علميا ثم ذكر صورا من تحليلات ابن الاثير المنقولة من الكشاف وأشار الى أنها من اشارات ابن الاثير الفذة ومن تحليلاته التى تستوقفنا والتى تشهد له بالقدرة على التحليل وتقصى المعانى الشاردة.
يقول الأستاذ الدكتور محمد زغلول سلام:
«وتستوقفنا بعض الالتفاتات الطريفة التى تشهد بقدرة ضياء الدين على التحليل وتقصى المعانى الشاردة، واثارة معانى مبتكرة أخرى معتمدا على دقائق ونكت أسلوبية مختلفة، يقول فى حروف الجر: «وأما حروف الجر فنحو قوله تعالى: {«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ}
__________
(183) البقرة: 17(1/688)
{السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، قُلِ اللََّهُ، وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (184) ألا ترى الى بداعة هذا المعنى المقصود بمخالفة حروف الجر هاهنا، فانه انما خولف بينهما فى الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض حيث شاء، وصاحب الضلال كأنه منغمس فى ظلامه، مرتبك فيه، لا يدرى أين يتوجه، وهذا معنى دقيق يراعى فى الكلام» (185).
وقد فات الأستاذ الفاضل أن هذا التحليل منقول من كتاب الكشاف وأنه لا يصح أن يكون دليلا على قدرة ضياء الدين على التحليل وتقصى المعانى (186).
ويقول الأستاذ الفاضل فى موضع آخر:
«ويعتمد التعبير الفنى على التخييل لرسم الصور فى الذهن، ويثير الخيال فى العبارة عناصر مختلفة تعتمد على الألفاظ وجرسها وايحائها وظلالها، وأشار ضياء الدين فى غير موضع الى دور الألفاظ فى التخييل ومثاله ما قاله فى بعض صيغ الأفعال مثل قوله فى الفعلين الماضى والمستقبل: ولكنه فى المستقبل أوكد وأشد تخييلا لأنه يستحضر صورة الفعل حتى كأن السامع ينظر الى فاعلها فى حال وجود الفعل منه، ومنه مثل قول تأبط شرا فى بيتين:
بأنّى قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصّحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران
فانه قصد أن يصور لقومه الحال التى تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يبصرهم اياها مشاهدة للتعجب من جراءته على ذلك الهول، ألا ترى أنه لما قال تأبط شرا: «فأضربها»، يخيل للسامع أنه يباشر الفعل، وأنه قائم بازاء الغول وقد رفع سيفه ليضربها» (187).
__________
(184) سبأ: 24
(185) ضياء الدين ابن الأثير وجهوده فى النقد ص 119.
(186) ينظر الكشاف ج 3ص 459.
(187) ضياء الدين ابن الأثير وجهوده فى النقد ص 182.(1/689)
وهذا التحليل منقول من الكشاف وقد بينا ذلك فلا يصح أن يكون من اشارات ابن الأثير الى دور الألفاظ فى التخييل.
وقد يكون منشأ هذه الغفلة عن تأثير الكشاف فى المثل السائر هو أن كتاب الكشاف مشهور فى كتب التفسير وأنه كتاب يتضمن أصول مذهب أهل العدل والتوحيد أكثر مما هو مشهور فى كتب البلاغة، فليس من الحتم على باحث يكتب فى البلاغة والنقد أن يستقصى مسائل الكشاف ما دام موضوع بحثه ليس محصورا فيها.
* * *
الفصل الثالث أثر الكشاف فى كتاب الطراز(1/690)
* * *
الفصل الثالث أثر الكشاف فى كتاب الطراز
أشرت الى أن كتاب المثل السائر كان ذا طابع يختلف اختلافا واضحا فى منهجه وتناوله لمسائل العلم عن اتجاه السكاكى ومن سار على نهجه.
واذا كنت بينت أثر الكشاف فى اتجاه السكاكى وفى كتاب المثل السائر فهذا يعنى بيان أثره فى اتجاهين هامين وبارزين فى الدراسة البلاغية بعد الكشاف. وأقول هنا: ان كتاب الطراز (1) كان مزيجا من الاتجاهين السابقين، فلم تغلب عليه الصبغة الأدبية كما غلبت فى المثل السائر، ولم تغلب عليه الصبغة الكلامية كما غلبت فى اتجاه المفتاح.
وواضح من عنوان الكتاب أن البحث فيه ينقسم الى قسمين: قسم يتضمن أسرار البلاغة، وقسم يتضمن علوم حقائق الاعجاز.
وهو فى دراسة القسم الأول يقرر قواعد البلاغة ويحرر مسائلها ويذكر كثيرا من المثل والشواهد، وتظهر النزعة الكلامية فى هذا القسم فى تحرير الحدود ومناقشتها على قواعد المنطق، كما تظهر فى بعض الدراسات البلاغية التى درسها على طريقة الأصوليين كدراسة الحقيقة،
__________
(1) كتبه العلامة الامام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن على بن إبراهيم ينتهى نسبه الى الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، ولد بصنعاء سنة تسع وستين وستمائة، وصنف التصانيف الحافلة فى الأصول والتوحيد والنحو والبلاغة والفقه وغير ذلك. وقد بلغت كتبه مائة مجلد كما يذكر من ترجموا له. وهو امام زيدى وتقلد امارة المؤمنين باليمن سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة.(1/691)
وأقسامها، ودراسة الوضع، وتعريف المجاز، وتظهر النزعة الأدبية فى كثرة الشواهد والنصوص وفى كثير من التحليلات المتذوقة وان كان قد أخذ أكثرها من غيره.
وهو فى دراسة القسم الثانى يتناول علوم البلاغة مرة ثانية لأنها هى علوم حقائق الاعجاز، ويختلف تناوله لها فى القسمين من جهتين، الجهة الأولى: أنه قلما يذكر فى القسم الثانى شاهدا من غير القرآن لأن هدفه أن يبين أن القرآن قد فاق فى هذه المعانى غيره، ويلاحظ أنه يذكر فى القسم الأول شواهد من القرآن الكريم ومن السنة الشريفة، ومن كلام الامام على ثم من شعر الشعراء وكلام الأدباء.
الجهة الثانية: أن دراسته لعلوم البلاغة فى القسم الثانى تسير على طريقة المفتاح ومنهجه، فيذكر فى علم المعانى أحوال الاسناد، والمسند اليه، والمسند به، والتعلقات الفعلية، والجمل الانشائية، والفصل والوصل، والقصر الى آخره.
ويذكر فى علم البيان التشبيه والمجاز والكناية، ويذكر من علم البديع على طريقة تخالف هذه الطريقة، فاذا كان التقديم فى القسم الثانى يدرس موزعا على أحوال المسند اليه والمسند به، والتعلقات الفعلية، فهو فى القسم الأول درس بابا مستقلا، ويتناول فيه تقديم المسند اليه، أو المسند، أو المفعول الى آخره.
وان كان فى القسم الأول يذكر علوم البلاغة الثلاثة، ويذكر تعريف البيان والمعانى على طريقة المتأخرين، ويتهم ابن الأثير فى كثير من المواقف بالجهل بمعرفة الحدود، ويتهم كذلك الكتاب والأدباء جميعا بهذا الجهل، لأن علم الكناية كما يقول بمعزل عن معرفة الحدود، والوفاء بشروطها.
وكان العلوى حريصا على توضيح المغزى الذى من أجله يعيد دراسة علوم البلاغة حتى لا يتهم باضطرابه فى منهجه.
يقول فى هذا: «وقد أشرت فى أول الكتاب الى حقائق هذه
الأشياء فى تقرير قواعدها، والذى نشير اليه هنا، هو أنه قد فاق فى هذه المعانى على غيره، وأن شيئا من الكلام المتقدم لا يدانيه، ولا يقاربه فيها، ليحصل الناظر من ذلك على كونه قد بلغ الغاية، بحيث لا غاية،، وأنه فائت لكلام أهل البلاغة فى جميع أحواله» (2).(1/692)
يقول فى هذا: «وقد أشرت فى أول الكتاب الى حقائق هذه
الأشياء فى تقرير قواعدها، والذى نشير اليه هنا، هو أنه قد فاق فى هذه المعانى على غيره، وأن شيئا من الكلام المتقدم لا يدانيه، ولا يقاربه فيها، ليحصل الناظر من ذلك على كونه قد بلغ الغاية، بحيث لا غاية،، وأنه فائت لكلام أهل البلاغة فى جميع أحواله» (2).
ويقول فى موطن آخر: «اعلم أن ما يتعلق بالأسرار البيانية، والعلوم البلاغية، قد ذكرناه، ورمزنا الى أسراره، ومقاصده، والذى نريد ذكره فى هذا الفن هو الكلام فيما يتعلق بأسرار القرآن، ونحن وان ذكرناه على جهة التتمة والتكملة فهو فى الحقيقة المقصود والغرض المطلوب» (3).
ويشير الى العلوم التى سوف يدرسها بين يدى بيان أسرار القرآن وأهميتها فى ذلك، يقول: «انه باحكام النظر فى هذه المرتبة يعنى المرتبة الثانية فى بيان المزايا الراجعة الى معانيه وامعان الفكر فيها تظهر عجائب التنزيل، وتبرز بدائعه، وغرائبه، وتتجلى محاسنه، وتصفوا مشاربه، لما فيها من الكشف لأسراره، والاحاطة بغوائله وأغواره، ولن يحصل ذلك كل الحصول ولا تطلع أقماره بعد الأفول الا بعد ذكر ما يتعلق بعلوم الاعجاز لأنها تكون كالآلة فى تقرير تلك المحاسن، واظهار كنوز تلك المعادن، فنذكر ما يتعلق بالعلوم المعنوية ثم نردفه بما يتعلق بالأسرار البيانية، ثم نذكر ما يتعلق بالبلاغة اللفظية، ثم بالبلاغة المعنوية، ثم نذكر على أثرهما ما يتعلق بأسرار البديع، فهذه أقسام ثلاثة باحرازها والاطلاع على رموزها يظهر الاعجاز للانسان ظهور المرئى فى العيان» (4).
وغرضنا فى هذا البحث أن نبين تأثير كتاب الكشاف فى هذا الكتاب الذى نعتبره من أهم الكتب البلاغية التى كتبت بعد الكشاف
__________
(2) الطراز ج 3ص 325، 326.
(3) الطراز ج 3ص 213.
(4) الطراز ج 3ص 250(1/693)
والذى تميز عنها جميعها كما قلت بأنه محاولة لمزج طريقتين متميزتين فى دراسة البلاغة فى عصره.
ونقول: ان أول ما يلفتنا الى أثر الكشاف فى هذا الكتاب هو أن العلوى كتبه لما شرع فى قراءة كتاب الكشاف اذ طلب منه بعضهم أن يملى فى البلاغة كتابا يشتمل على التحقيق والتهذيب.
يقول فى هذا: «ثم ان الباعث على تأليف هذا الكتاب هو أن جماعة من الاخوان شرعوا علىّ فى قراءة كتاب الكشاف، تفسير الشيخ العالم المحقق أستاذ المفسرين محمود بن عمر الزمخشرى، فانه أسسه على قواعد هذا العلم، فاتضح عند ذلك وجه الاعجاز من التنزيل، وعرف من أجله وجه التفرقة بين المستقيم والمعوج من التأويل، وتحققوا أنه لا سبيل الى الاطلاع على حقائق اعجاز القرآن، الا بادراكه والوقوف على أسراره، وأغواره، ومن أجل هذا الوجه كان متميزا عن سائر التفاسير، لأنى لم أعلم تفسيرا مؤسسا على علمى المعانى والبيان سواه، فسألنى بعضهم أن أملى فيه كتابا يشتمل على التهذيب والتحقيق» (5).
فالغرض اذن هو توضيح مسائل هذا العلم وتسهيلها وتيسيرها لأن مباحثه كما يقول فى غاية الدقة، وأسراره فى نهاية الغموض، فهو أحوج العلوم الى الايضاح والبيان (6).
وبهذا يدعى العلوى أن كتابه مقدمة لدراسة الكشاف ومدخل لفهم بلاغته، قدمه الى طلابه عونا لهم على تبصر خفاياه، والاطلاع على أسراره، والوقوف على أغواره، فهو اذن شرح، وتبسيط، وتقريب، وتسهيل، لما جاء فى الكشاف من البحث البلاغى، فهل استطاع العلوى أن ينهض بهذه المهمة؟ وهل كان كتابه حقا ضوءا كاشفا لجوانب البحث البلاغى فى هذا التفسير العظيم؟
والحق أن العلوى قد شغل جزءا كبيرا من كتابه فى مناقشة
__________
(5) الطراز ج 1ص 5
(6) الطراز ج 1ص 6(1/694)
البلاغيين فى تعاريف أبواب هذا العلم، وبيان ماهياته، وتحديد مسائله، وناقش البلاغيين وخطأهم جميعا فيما ذكروه من حدود، ولم يسلم منه واحد منهم، حتى الجرجانى الذى أسس هذا العلم، كما يقول العلوى لم يكن تعريفه مبرأ من عيب، والملاحظ أن مناقشاته لهم، وبيانه وجه الفساد فيما ذكروا كانت مبنية على معرفة دقيقة بما يجب أن يتوفر فى الحدود من الشروط والقيود، والعلوى عالم ثبت فى الفقه وأصوله، وأصول الفقه من العلوم الهامة التى تحفز العقل، وتوقظ الملكات، فيكون المشتغل به دقيق الملاحظة، نافذ النظرة فى كل ما يتصل بالأمور العقلية، وكان العلوى كذلك، وقد ناقش الأصوليين فيما ذكروا من تعريفات تتصل بعلم البيان كتعريفهم للحقيقة والمجاز وكان لا يرضى الا بما يقوله هو.
ونشعر أن هذا كله لا يعين الناظر فى الكشاف على تبصر ما فيه وتذوق تحليلاته، والزمخشرى كما نعلم لم يشغلنا بتعريف الحقيقة ولا بالكلام فى الوضع، بل لم يذكر تعريفا محددا للمجاز، وكانت عنايته منصرفة الى بيان ما تنطوى عليه الجملة القرآنية، من خصائص بلاغية، يشير الى أسرارها ويكشف رموزها.
ويتحدث العلوى فى محاسن الحروف ويذكر مخارجها ويرفض ما ذهب اليه ابن سنان وغيره من القول بأن تقارب المخارج سبب فى قبح اللفظ وأن التباعد فى المخارج سبب فى حسنه، لأنه قد يعرض لما تباعدت مخارجه استكراه فى النطق، وقد يعرض لما تقاربت مخارجه حسن الذوق فى اللسان.
ويتحدث فى محاسن المفرد ويذكر فى هذا ما ذكره المتأخرون فى فصاحة المفرد من وجوب موافقة الكلمة للقياس وخفتها على اللسان ولذاذتها فى السمع وأن تكون مألوفة غير وحشية.
وحين تكلم الزمخشرى فى المفردات القرآنية كما بينا لم يتناولها تناولا دراسيا ينظر فيه الى حروفها، ومخارجها، ولا الى غرابتها،
والفها، وانما كان ينظر الى ملاءمتها لموقعها، واصابتها فى هذا الموقع، وهذه نظرة لا تجدى فيها ولا تعين عليها الدراسة النظرية، وانما تكتسب بالنظر فى النص والتبصر فى كلماته.(1/695)
وحين تكلم الزمخشرى فى المفردات القرآنية كما بينا لم يتناولها تناولا دراسيا ينظر فيه الى حروفها، ومخارجها، ولا الى غرابتها،
والفها، وانما كان ينظر الى ملاءمتها لموقعها، واصابتها فى هذا الموقع، وهذه نظرة لا تجدى فيها ولا تعين عليها الدراسة النظرية، وانما تكتسب بالنظر فى النص والتبصر فى كلماته.
وفاء الكتاب بالغرض من تأليفه:
والمهم أن جزءا كبيرا من دراسة العلوى فى كتابه سواء فى ذلك الجزء المتضمن لأسرار البلاغة، والجزء المتضمن لعلوم حقائق الاعجاز، لا يتصل بالبحث البلاغى فى الكشاف، بمعنى أنه لا يعين الطالب على فهمه وتبصره، على أن جزءا مهما فى هذا الكتاب كان كأنه تلخيص ميسر لمسائل هذا الفن، وفيه يظهر العلوى وكأنه معلم يجمع لطلابه أقوال العلماء فى المسألة الواحدة ثم يعرضها ويناقشها. وهذه الأبواب تعين الطالب على فهم بلاغة الكشاف، بمقدار ما تعين الكتب المدرسية طلاب العلم فى عصرنا على قراءته، أما أن تدفع بهم الى اكتناه أسرار هذا الكتاب، والوقوف على أغواره، فذلك ما لا تجده.
وفى الطراز كثير من المباحث البلاغية التى ترجع الى الكشاف، وقد أخذها العلوى من ابن الأثير، وكل هذه المباحث لها أهميتها الكبيرة فى تيسير فهم بلاغة الكشاف، لأن ابن الأثير نظر فى الكشاف، واستخرج منه فنونا بلاغية، وحاول أن يشرحها، وأن يبين قيمتها البلاغية، كما فعل فى الاستدراج، والتفسير بعد الابهام، وعكس الظاهر، والالتفات، وهذه الفنون وما شاكلها فى كتاب الطراز هى أهم ما فيه بالنسبة الى الغرض الذى من أجله أملى العلوى هذا الكتاب.
واذا كان له فضل فى هذا فانه محدود باختياره لها، وتقديمها الى طلابه، أما تبويبها فذلك فضل يرجع الى ابن الأثير، وأما استنباطها من النص القرآنى فذلك فضل ينسب الى الزمخشرى.
وقبل أن أعرض الى هذه الفنون أقول: ان العلوى يحاول أن يخفى ما يأخذ فهو لا ينسبه الى صاحبه، ومثله فى هذا مثل من أخذ منه وهو ابن الأثير، فانه سكت عن صاحب الفكرة وعرضها وكأنها له، ولكنه يختلف عن ابن الأثير فى أنه يحاول دائما تغيير العبارة ويجتهد
فى ذلك، وابن الأثير قلما حاول هذا، ومثل العلوى فى ذلك أبو يعقوب السكاكى الذى يصوغ ما أخذه من غيره فى عبارته وكأن ذلك من بنات أفكاره كما قلنا.(1/696)
وقبل أن أعرض الى هذه الفنون أقول: ان العلوى يحاول أن يخفى ما يأخذ فهو لا ينسبه الى صاحبه، ومثله فى هذا مثل من أخذ منه وهو ابن الأثير، فانه سكت عن صاحب الفكرة وعرضها وكأنها له، ولكنه يختلف عن ابن الأثير فى أنه يحاول دائما تغيير العبارة ويجتهد
فى ذلك، وابن الأثير قلما حاول هذا، ومثل العلوى فى ذلك أبو يعقوب السكاكى الذى يصوغ ما أخذه من غيره فى عبارته وكأن ذلك من بنات أفكاره كما قلنا.
* * *
المباحث التى أفادها من الكشاف:
الاستدراج:
قد أشرت فى بيان أثر الكشاف فى المثل السائر الى أن ابن الأثير ادعى أنه استنبط هذا النوع من كتاب الله، وذكرت أنه ما زاد على أن نظر فى الكشاف وأخذ منه هذا التحليل ووضع له هذه الترجمة.
ونرى العلوى يأخذ هذا من المثل السائر، ولكنه كما قلت يغير العبارة. يقول فى هذا النوع:
وهذا اللقب انما يطلق على بعض أساليب الكلام، وهو ما يكون موضوعا لتقريب المخاطب، والتلطف به، والاحتيال عليه، بالاذعان الى المقصود منه، ومساعدته له بالقول الرقيق، والعبارة الرشيقة، كما يحتال على خصمه عند الجدال والمناظرة بأنواع الالزامات، والانتماء اليه بفنون الافحامات، ليكون مسرعا الى قبول المسألة والعمل عليها، وكمن يتلطف فى اقتناص الصيد، فانه يعمل فى الحبالة كل حيلة ليكون ذلك سبيلا الى ما يقصده من الاصطياد، فهكذا ما نحن فيه اذا أراد تحصيل مقصد من المقاصد، فانه يحتال بايراد ألطف القول وأحسنه، فما هذا حاله من الكلام يقال له الاستدراج، ولنضرب له أمثلة بمعونة الله» (7).
وهذا يكاد يكون شرحا لقول ابن الأثير: وهو أى الاستدراج مخادعات الأقوال التى تقوم مقام الأفعال.
ثم يسوق العلوى الأمثلة لهذا النوع فيذكر قوله تعالى: {«وَقََالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمََانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللََّهُ}
__________
(7) الطراز ج 2ص 281، 282.(1/697)
{وَقَدْ جََاءَكُمْ بِالْبَيِّنََاتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كََاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صََادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ»} (8).
ويقول فى تحليله: «وفى سياق هذا الكلام من الملاطفة، وحسن الأدب، وكمال الانصاف، ما يربى على كل غاية، وبيانه من أوجه.
أما أولا: فلأنه صدّر الكلام بكونه كاذبا على جهة التقدير ملاطفة واستنزالا للخصم على نخوة المكابرة، ودعاء له الى الاذعان، والانقياد للحق، وقدمه على كونه صادقا دلالة على ذلك، وأما ثانيا: فلأنه فرض صدقه على جهة التقدير مع كونه مقطوعا بصدقه، تقريبا للخصم وتسليما لما يدعيه من ذلك، وهضما لجانب الرسول، زيادة فى الانصاف، ومبالغة فيه، وأما ثالثا: فانه أردفه بقوله: {«يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»}، وان كان التحقيق أنه يصيبهم كل ما يعدهم به لا محالة من أجل الملاطفة أيضا، وأما رابعا: فانه أتى ب «ان» للشرط وهى موضوعة للأمور المشكوك فيها، ليدل بذلك على أنه غير مقطوع بما يقول، على جهة الفرض واذعانا للخصم على التقدير، لا إرادة هضمه لحقه، وأنه غير معط له ما يستحق من التعظيم، وأما خامسا: فقوله تعالى فى آخر الآية: {«إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ»} انما أتى به على التلطف والانصاف مخافة أن يبعدوا عن الهداية، ومحاذرة عن نفارهم عن طريق الصواب، فرضا وتقديرا، والا فلو كان مسرفا كذابا لما هداه الله الى النبوة، ولما أعطاه اياها، وفى هذا الكلام من الاستدراج للخصم وتقريبه وادنائه الى الحق ما لا يخفى على أحد من الأكياس، وقد تضمن من اللطائف ما لا سبيل الى جحده» (9).
وهذا مأخوذ من المثل السائر مع اضافات لا تزيد عن كونها شرحا له، وقد أشرت الى أنه مأخوذ من الكشاف (10).
__________
(8) المثل السائر ج 2ص 260والآية من سورة غافر: 28
(9) الطراز ج 2ص 282، 283، 284.
(10) ينظر المثل السائر ج 2ص 261، 262والكشاف ج 4 ص 126.(1/698)
والمثال الثانى الذى ذكره من القرآن فى هذا النوع قوله تعالى:
{«وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ إِبْرََاهِيمَ، إِنَّهُ كََانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ يََا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مََا لََا يَسْمَعُ وَلََا يُبْصِرُ وَلََا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً»} الآيات (11)، وقال معلقا عليها:
«فهذا كلام يهز الأعطاف، ويأخذ بمجامع القلوب فى استدراج، والاذعان، والانقياد بألطف العبارات وأرشقها، وهو مشتمل على حسن الملاطفة من أوجه، أما أولا: فلأن إبراهيم صلوات الله عليه لما أراد هداية أبيه الى الخير وانقاذه مما هو متورط فيه من الكفر والضلال الذى خالف فيه العقل، فساق معه الكلام على أحسن هيئة، ورتبه على أعجب ترتيب، من حسن الملاطفة، والاستدراج والرفق فى الخصومة والحجاج، والأدب العالى، وحسن الخلق الحميد، وذلك أنه بدأ بطلب الباعث على عبادة الأوثان والأصنام، ليتوصل بذلك الى قطعه وافحامه، ثم أنه تكايس معه، بأن عرض اليه بأن من لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى شيئا من الأشياء لا يكون حقيقا بالعبادة، وأن من كان حيا سميعا بصيرا مقتدرا على الاثابة والعقاب متمكنا من العطاء والانعام والتفضل، من الملائكة وسائر الأنبياء من جملة الخلق فانه لا يستحق العبادة، ويستسخف عقل من عبده، فكيف من هذه حاله فى عدم الحياة، والسمع، والبصر، من جملة الجمادات والأحجار التى لا حراك لها ولا حياة بها؟. وأما ثانيا: فلأنه دعاه الى التماس الهداية من جهته على جهة التنبيه، والرفق به، وسلوك جانب التواضع، فلم يخاطب أباه بالجهل عما هو يدعوه اليه، ولا وصف نفسه بالاطلاع على كنه الحقائق، والاختصاص بالعلم الفائق، ولكنه قال: معى لطائف من العلم وبعض منه وذلك هو علم الدلالة على سلوك طريق الهداية فاتبعنى أنجك مما أنت فيه، وقال له: {«أَهْدِكَ صِرََاطاً سَوِيًّا»}، ولم يقل: أنجيك من ورطة الكفر، وأنقذك من عماء الحيرة،
__________
(11) مريم: 41وما بعدها.(1/699)
تأدبا منه واعتصاء عن مبادئه بقبيح كفره، وتسامحا عن ذكر ما يغيظه. وأما ثالثا: فلأنه ثبطه عما كان عليه ونهاه عنه. فقال:
ان الشيطان الذى عصا ربك وكان عدوا لك ولأبيك آدم هو الذى أوقعك فى هذه الحبائل، وورطك فى هذه الورط، وألقاك فى بحر الضلالة، وانما خص إبراهيم ذكر معصية الشيطان لله تعالى فى مخالفته لأمره واستكباره ولم يذكر عداوته لآدم وحواء، وما ذاك الا من أجل امعانه فى نصيحته، فذكر له ما هو الأصل تحذيرا له عن ذلك وعن موافقته.
وأما رابعا: فلأنه خوّفه من سوء العاقبة بالعذاب السرمدى، ثم انه لم يصرح له بمماسة العذاب له اكبارا له واعظاما لحرمة الأبوة، ولكنه أتى بما يشعر بالشك فى ذلك أدبا له، فقال: {«إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ مِنَ الرَّحْمََنِ»} ثم انه نكر العذاب تحاشيا عن أن يكون هناك عذاب معهود ويخاف منه، كأنه قال: وما يؤمنك ان بقيت على الكفر أن تستحق عذابا عظيما عليه. وأما خامسا: فلأنه صدر كل نصيحة من هذه النصائح بذكر الأبوة توسلا اليه بحنو الأبوة، واستعطافا له برفق الرحمية ليكون ذلك أسرع الى الانقياد، وأدعى الى مفارقة ما هو عليه من الجحود والعناد، فلما سمع كلامه هذا وتفطن لما دعاه اليه، أقبل عليه بفظاظة الكفر، وجلافة الجهل، وغلظ العناد، فناداه باسمه، ولم يقل «يا بنى» كما قال إبراهيم «يا أبت»، اعراضا عن مقالته، واصرارا على ما هو فيه، ثم انه قدم خبر المبتدأ بقوله:
{«أَرََاغِبٌ أَنْتَ»} اهتماما بالانكار، وتماديا فى المبالغة فى التعجب أن يكون من إبراهيم مثل هذا» (12).
وكأن العلوى قد وضع عينه على كتاب المثل السائر فى هذا النص الكبير وأخذ يصوغ ما يرى من المعانى فى عبارات من عنده مع اضافات ليس فيها غناء، وقد قال العلوى فى آخر هذا التحليل: «وفى القرآن سعة من هذا، ومملوء من حسن الحجاج والملاطفة خاصة لمنكرى الميعاد
__________
(12) الطراز ج 2ص 284، 285، 286، 287.(1/700)
الأخروى، وعباد الأوثان والأصنام» وقد قال ابن الأثير فى آخر تحليل هذه الآية: «وفى القرآن الكريم مواضع كثيرة من هذا الجنس، لا سيما فى مخاطبات الأنبياء صلوات الله عليهم للكفار والرد عليهم» وقد أشرت الى أن ابن الأثير أخذ هذا من الكشاف ولم يغير أكثر عبارته، وان كان قد ترك شيئا مما قاله الزمخشرى، وهذا هو الذى يؤكد لنا أن العلوى أخذ هذا من المثل السائر ولم يأخذه من أصله فى الكشاف، فضلا عن الترجمة التى ذكرها العلوى والمقدمة المذكورة فى تعريف الاستدراج والمقصود منه، فهذا كله فى المثل وليس فى الكشاف (13).
* * *الالتفات:
وقد تأثر العلوى فى دراسة الالتفات بما جاء فى المثل السائر.
فذكر: «أن الالتفات من أجّل علوم البلاغة وهو أمير جنودها، وأنه سمى بذلك أخذا من التفات الانسان يمينا، وشمالا، فتارة يقبل بوجهه، وتارة كذا، وتارة كذا، وان هذا حال هذا النوع من علم المعانى، فالمتكلم فيه ينتقل من صيغة الى صيغة، ومن خطاب الى غيبة، وقد يلقب الالتفات بشجاعة العربية، والالتفات مخصوص بلغة العرب» (14).
وكل هذا مأخوذ من المثل السائر.
ولم تكن للعلوى وقفات فى أساليب الالتفات يستوضح فيها أسراره ورموزه، وانما كان يشير الى موقعه فحسب، ثم انه ذكر أقوال العلماء فى فائدة الالتفات، وناقش ابن الأثير فيما ناقش فيه
__________
(13) ينظر المثل السائر ج 2ص 262، 263، 264، والكشاف ج 3ص 14، 15
(14) ينظر الطراز ج 2ص 131، 132والمثل السائر ج 2 ص 170، 171(1/701)
الزمخشرى، ورد قول ابن الأثير، واتهمه بالعجز عن فهم بلاغة الكشاف، ونوّه بما ذكره الزمخشرى فى فائدة الالتفات يقول فى هذا:
«القول الثالث محكى عن الزمخشرى، وحاصل مقالته هو أن ورود الالتفات فى الكلام انما يكون ايقاظا للسامع عن الغفلة، وتطريبا له بنقله من خطاب الى خطاب آخر، فان السامع ربما يمل من أسلوب فينقله الى أسلوب آخر، تنشيطا له فى الاستماع، واستمالة له فى الاصغاء الى ما يقوله، وما ذكره الزمخشرى لا غبار على وجهه، وهو قول سديد يشير الى مقاصد البلاغة ويعتضد بتصرف أهل الخطاب، ومن مارس طرفا من علوم الفصاحة لاح له على القرب أن ما قاله الزمخشرى قوى من جهة النظر، يدرى كنهه النظار ويتقاعد عن فهمه الأغمار، وقد زعم ابن الأثير ردا لكلام الزمخشرى بوجهين أحدهما أنه قال: انما جاز الالتفات من أجل التنشيط للسامع، واعترضه بأن الكلام لو كان فصيحا لم يكن ملولا، وهذا خطأ وجهل بمقاصد البلاغة.
فان مثل هذا لا يزيل فصاحة الكلام، ولا ينقص من بلاغته، ولهذا فانه لو ترك فيه الالتفات فانه باق على الفصاحة، ولكن الغرض أن خروجه من أسلوب الخطاب الى الغيبة يزيد فى البلاغة ويحسنها، ويكون الخطاب على ما ذكرناه أوقع، وأكشف عن المراد وأرفع، وثانيهما قوله: ان ما قاله الزمخشرى انما يوجد فى الكلام المطول والالتفات كما يستعمل فى الطويل يستعمل فى القصير، وهذا فاسد أيضا، فان الزمخشرى لم يشترط التطويل فى حسن الالتفات فينتقض بما ذكره، وانما أراد تحصيل الايقاظ وازدياد النشاط بذكر الالتفات، وهذا حاصل فى الكلام سواء أكان طويلا أو قصيرا، فاذن لا وجه لابن الأثير على ما قصده الزمخشرى وانتحاه، ومن العجب أنه شنع فيما أورده على الزمخشرى وقال: كيف ذهب عن معرفته مع احاطته بفن البلاغة والفصاحة، وما درى أن ما قاله خير مما أتى به ابن الأثير، فان ما أراده الزمخشرى معنى يليق بالبلاغة ويزيدها قوة، وما ذكره
ابن الأثير رد الى عماية، وقول ليس له حاصل، ولا يدرك له نهاية، وما عابه الا لأنه لم يطلع على أغواره، ولا أحاط بكنهه ودقيق أسراره، ولقد صدق من قال:(1/702)
فان مثل هذا لا يزيل فصاحة الكلام، ولا ينقص من بلاغته، ولهذا فانه لو ترك فيه الالتفات فانه باق على الفصاحة، ولكن الغرض أن خروجه من أسلوب الخطاب الى الغيبة يزيد فى البلاغة ويحسنها، ويكون الخطاب على ما ذكرناه أوقع، وأكشف عن المراد وأرفع، وثانيهما قوله: ان ما قاله الزمخشرى انما يوجد فى الكلام المطول والالتفات كما يستعمل فى الطويل يستعمل فى القصير، وهذا فاسد أيضا، فان الزمخشرى لم يشترط التطويل فى حسن الالتفات فينتقض بما ذكره، وانما أراد تحصيل الايقاظ وازدياد النشاط بذكر الالتفات، وهذا حاصل فى الكلام سواء أكان طويلا أو قصيرا، فاذن لا وجه لابن الأثير على ما قصده الزمخشرى وانتحاه، ومن العجب أنه شنع فيما أورده على الزمخشرى وقال: كيف ذهب عن معرفته مع احاطته بفن البلاغة والفصاحة، وما درى أن ما قاله خير مما أتى به ابن الأثير، فان ما أراده الزمخشرى معنى يليق بالبلاغة ويزيدها قوة، وما ذكره
ابن الأثير رد الى عماية، وقول ليس له حاصل، ولا يدرك له نهاية، وما عابه الا لأنه لم يطلع على أغواره، ولا أحاط بكنهه ودقيق أسراره، ولقد صدق من قال:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السّقيم (15)
وقد ذكرت أن العلوى لم تكن له وقفات عند صور الالتفات، يستوضح فيها أسراره، وانما كان همه أن يبين موقع الالتفات فى الكلام، وذلك مثل قوله فى قوله تعالى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ»}: «فأما الرجوع من الغيبة الى الخطاب فكقوله تعالى: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ»} ثم قال بعد ذلك: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ»} لأن ما تقدم من قوله: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ»} انما هو للغائب، ولو أراد الخطاب لقال: الحمد لك لأنك أنت رب العالمين، وبهذه الطريقة يتكلم فى صور الالتفات، وأقصى ما يقوله فى فائدته أن ذلك كان للايقاظ والتنشيط كما ذكرنا.
وكانت تحليلات الزمخشرى التى نقلها ابن الأثير تروق العلوى فيذكرها فى تحليل بعض صور الالتفات، من ذلك قوله فى الالتفات من الفعل الماضى الى الفعل المضارع فى قوله تعالى: {«وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا، كَذََلِكَ النُّشُورُ»} (16) يقول العلوى: «فوسط قوله {«فَتُثِيرُ سَحََاباً»}، وجاء به على جهة المضارع، والاستقبال بين فعلين ماضيين، وهما قوله: {«أَرْسَلَ»} و {«فَسُقْنََاهُ»}، والسر فى مثل هذا هو أن الفعل المستقبل يوضح الحال ويستحضر تلك الصورة حتى كأن الانسان يشاهدها وليس كذلك الفعل الماضى اذا عطف لأنه لا يعطى هذا المعنى، ولا يدل عليه، فاذا قال: {«فَتُثِيرُ»} على جهة الاستقبال بعد ما مضى قوله {«أَرْسَلَ»}
فانما يكون دالا على حكاية الحال التى تقع فيها اثارة الريح للسحاب، واستحضار لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة، وكذلك
__________
(15) الطراز ج 2ص 133، 134، 135.
(16) فاطر: 9(1/703)
تفعل فيما هذا حاله، فانك تقرره على هذا الضابط وهكذا ورد قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ»} (17) وانما جاء به على صيغة المضارع وعدل عن عطف الماضى على الماضى تنبيها على أن كفرهم ثابت مستمر غير متجدد بخلاف الصد فانه متجدد على ممر الأوقات وتكرر الساعات، فلهذا جاء به على صيغة المضارع منبها على ذلك، ومن هذا النوع قوله تعالى: {«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً»} (18) ولم يقل «فأصبحت» عطفا على {«أَنْزَلَ»}
إشارة الى أن انزال الماء قد انقضى ومضى، واخضرار الأرض متجدد، كما تقول: أنعم علىّ فلان فأروح وأغدو شاكرا له، ولو قلت: فغدوت شاكرا له، لم يفد تلك الفائدة» (19).
وهذا مأخوذ من المثل السائر وقد أشرت الى أصله فى الكشاف (20).
* * *التكرير:
يشير العلوى الى أن الطاعنين فى بلاغة القرآن قد ذكروا التكرير مطعنا من مطاعنهم وزعموا أن هذا غير قانون البلاغة، وأشار العلوى الى أن هذا الفهم لا يكون الا ممن ضاقت حوصلته، وأن التكرير فى كتاب الله لا يكون الا لفائدة، ثم يشير العلوى الى هذه الفائدة.
يقول: «ونحن الآن نعلو ذروة لا ينال حضيضها فى بيان معانى الألفاظ المكررة فى لفظها ومعناها، فى كتاب الله تعالى، وتظهر أنها مع التكرير أن تكريرها انما كان لمعان جزلة ومقاصد سنية بمعونة الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى فى سورة الرحمن: {«فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ»} (21) فهذا تكرير من جهة اللفظ والمعنى ووجه ذلك أن الله
__________
(17) الحج: 25
(18) الحج: 63
(19) الطراز ج 2ص 137، 138، 139
(20) ينظر المثل السائر ج 2ص 186، 187، 188، 189 والكشاف ج 3ص 474، 119، 132
(21) الرحمن: 13وغيرها.(1/704)
تعالى انما أوردها فى خطاب الثقلين: الجن والانس، فكل نعمة يذكرها او ما يؤول الى النعمة فانه يردفها بقوله: {«فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ»}
تقريرا للآلاء واعظاما لحالها، ومن ذلك فى سورة القمر قوله: {«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»}، {«فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ»} (22)
أنما كرره لما يحصل فيه من ايقاظ النفوس بذكر قصص الأولين والاتعاظ بما أصابهم من المثلات وحل بهم من أنواع العقوبات، فيكون بمنزلة قرع العصا لئلا تستولى عليهم الغفلة ويغلب عليهم الذهول والنسيان، وهكذا ما ورد فى سورة المرسلات وغيرها» (23).
وهذا الدفاع عن البلاغة القرآنية رأيناه فى الكشاف وفى المثل السائر (24).
وقد قلت فى دراسة أثر الكشاف فى المثل السائر: ان ابن الأثير خالف الزمخشرى بعض المخالفة حين اعتبر صورا من التعبير اختلف فيها الغرض واتحد فيها المعنى واللفظ من التكرار، وأن الزمخشرى كان يقظا فى ادراك الفروق بين هذه الصور التى اختلفت أغراضها، وأنه لم يعتبر هذه الصور من التكرار، ونرى هنا العلوى يتابع ابن الأثير فى وجهته وان كان يضيف الى الفروق التى ذكرها ابن الأثير فى الصور اضافات ليست ذات قيمة كبيرة.
يقول فيما ورد مكررا مرتين:
«فأما ما كان تكريره مرتين فهو غير خال عن فائدة ظاهرة وهذا كقوله تعالى: {«وَيُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ»} (25) ثم قال بعد ذلك: {«لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبََاطِلَ»} فهذا وان تكرر لفظه ومعناه
__________
(22) القمر: 17، 21
(23) الطراز ج 2ص 177، 178، 179.
(24) ينظر المثل السائر ج 3ص 19، 20والكشاف ج 4 ص 349.
(25) الأنفال: 7(1/705)
فلا يخلو عن حال لأجله وقع التغاير وذلك من وجهين، أما أولا: فلأن الأول وارد على جهة الانشاء، والثانى وارد على جهة الخبر، وأما ثانيا: فلأن الأول وارد فى الارادة والثانى وارد فى الفعل نفسه، ولأن الأول الغرض به إظهار أمر الدين بنصرة الرسول بقتل من ناوأه ولهذا قال بعده: {«وَيَقْطَعَ دََابِرَ الْكََافِرِينَ»}، والغرض بالثانى التمييز بين ما يدعو الرسول اليه من التوحيد واخلاص العبادة لله وبين أمر الشرك وعبادة الأصنام، ولهذا قال بعده: {«وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ»} (26).
وأصل هذا فى المثل السائر وان كان العلوى قد أضاف اليه شيئا لحظه فى التغاير بين الصورتين الا أنه لا يدخل فى صميم المعنى لأن الفرق الذى ذكره الزمخشرى وأخذه عنه ابن الأثير هو أن الأول للتمييز بين الارادتين، والثانى بيان لغرضه فيما فعل، ولهذا كان المعنيان متغايرين عند الزمخشرى، ولم يكن من التكرير (27).
* * *الفصل والوصل:
عرض العلوى فى دراسة الفصل والوصل لعطف المفردات وذكر أن عطف بعض الصفات على بعض كأنه عطف الشيء على نفسه، وجاز مع القلة، لأن الصفة تدل على شيئين: على الذات وعلى الحدث، فالصفات متفقات بحسب الذوات مختلفات بحسب الأحداث، فاذا قلت: مررت بزيد الكريم الفاضل، فالصفتان أعنى «الكرم والفضل» متفقتان فى الدلالة على زيد، ومختلفتان فى دلالة واحدة على الكرم والأخرى على الفضل، فاذا اعتبرت ما بينهما من الاتفاق امتنع العطف، واذا اعتبرت ما بينهما من الاختلاف جاز العطف وهو قليل، وصفات المولى سبحانه منزلة منزلة الأسماء المترادفة، لذلك كان العطف فيها مخالفة لهذه القاعدة.
وبعد تقديم هذا الأصل ينظر العلوى فى آيات من القرآن الكريم جاءت شاهدا ودليلا لهذه القاعدة، وينظر فى آيات أخرى ورد فيها
__________
(26) الطراز ج 2ص 179، 180.
(27) ينظر المثل السائر ج 3ص 5والكشاف ج 2ص 156(1/706)
العطف، وحينئذ عليه أن يذكر وجه العطف وسره، وهو فى هذا يفيد من الكشاف ومن كتاب التبيان للشيخ عبد الكريم الزملكانى.
يقول: «وأما مجىء قوله: {«وَقََابِلِ التَّوْبِ»} (28) بالواو مع كونها من صفات الأفعال لأمرين، أما أولا: فلأن المرجع بالمغفرة الى السلب لأن معنى الغافر هو الذى لا يفعل العقوبة مع الاستحقاق، والمرجع بقبول التوبة الى الاثبات لأن معناه أنه يقبل العذر والندم، فلما كانا متناقضين بما ذكرناه وجب ورود الواو فصلا بينهما كما ذكرناه فى الأول والآخر، وأما ثانيا: فلأنهما وان كانا من صفات الأفعال، لكنه جمع بينهما بالواو لسر لطيف وهو افادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن تقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأنه لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول» (29).
وهذا السر اللطيف الذى ذكره والذى هو أقرب الى الروح البلاغية من حديث السلب والايجاب والتناقض المذكور فى الوجه الأول. هذا السر هو الذى أخذه من الكشاف، يقول الزمخشرى: «فان قلت: ما بال الواو فى قوله: {«وَقََابِلِ التَّوْبِ»}؟ قلت: فيها نكتة جليلة وهى افادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: أن تقبل توبته فيكتبها له طاعة، وأن يجعلها محاءة للذنوب كأنه لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول» (30).
ويقول فى عطف الثيبات على الأبكار فى قوله تعالى: {«ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً»} (31): «بخلاف ما ذكر من الصفات، وذلك لأجل تناقض البكارة والثيوبة فجىء بالعطف لرفع التناقض بخلاف الاسلام، والايمان، والقنوت، والتوبة، وغيرها من الصفات» (32).
__________
(28) غافر: 3
(29) الطراز ج 2ص 76
(30) الكشاف ج 4ص 116
(31) التحريم: 5
(32) الطراز ج 2ص 35(1/707)
وقد قال الزمخشرى: «فان قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن فى سائر الصفات فلم يكن بد من الواو» (33)
وعطف الصفات مذكور فى كتاب التبيان كما ذكره العلوى، وسر عطف البكارة على الثيوبة مذكور كذلك فى التبيان كما ذكره العلوى، وكذلك سر عطف: {«وَقََابِلِ التَّوْبِ»}، وعبارة العلوى فى بيان سر العطف فى {«وَقََابِلِ التَّوْبِ»} أقرب الى عبارة الزمخشرى مما يجعلنا نرجح أنه أخذها من الكشاف مباشرة، وابن الزملكانى قد عبّر عن هذا السر بقوله:
«ولتنزيلهما منزلة الجملتين فنبه العباد على أنه يفعل هذا ويفعل هذا ليرجوه ويأملوه» (34).
وبعد ما يذكر العلوى شرط صحة العطف أى ضرورة وجود علاقة بين المتحدث عنه فى الجملتين كقولك: زيد قائم وعمرو خارج، وأنه لا يجوز أن يكون أجنبيا عنه فلا يصح أن تقول: زيد قائم، وأحسن ما قيل من الشعر كذا، يذكر إشارة يشير فيها الى توهم خفاء الملاءمة فى قوله تعالى: {«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوََاقِيتُ لِلنََّاسِ وَالْحَجِّ، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهََا»} (35) وأنه قد يقال: وأى ارتباط بين أحكام الأهلة، وبين حكم اتيان البيوت من ظهورها؟ ويذكر لذلك أجوبة ثلاثة، أحدها: أنه لما ذكر أنها مواقيت للحج، وكان من عادتهم ذلك، كما نقل فى الحديث: أن ناسا كانوا اذا أحرموا لم يدخل أحدهم بيتا، ولا خيمة، ولا خباء، من باب، بل ان كان من أهل المدر نقب نقبا من ظاهر البيت يدخل منه، وان كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة، أو الخباء، فقيل لهم: ليس البر تحرجكم من دخول البيت، ولكن البر من اتقى محارم الله. وثانيها: أن يكون معطوفا على شىء محذوف كأنه قيل لهم عند سؤالهم: معلوم أن كل ما يفعله الله
__________
(33) الكشاف ج 4ص 454، 455
(34) التبيان، تحقيق الدكتور أحمد مطلوب، ص 130
(35) البقرة: 189(1/708)
تعالى فيه حكمة عظيمة ومصلحة ظاهرة فى الأهلة وغيرها فدعوا هذا السؤال وانظروا فى خصلة تفعلونها أنتم مما ليس من البر فى ورد ولا صدر وهو اتيان البيوت من ظهورها فليست برا، ولكن البر هو تقوى الله والتجنب لمحارمه ومناهيه. وثالثها: أن يكون واردا على جهة التمثيل لما هم عليه من تعكيس الأسئلة ولما هم بصدده من التعنت وأن مثالهم فى سؤالاتهم المتعنتة كمثل من ترك باب الدار ودخل من ظهر البيت فقيل لهم: ليس البر ما أنتم عليه، ولكن البر هو تقوى الله، ومنه قوله عليه السلام حين سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال: «هو الطهور ملؤه الحل ميتته» (36).
وقد قال الزمخشرى فى هذه الآية:
«كان ناس من الأنصار اذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا، ولا دارا، ولا فسطاطا، من باب، فاذا كان من أهل المدر نقب نقبا فى ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد فيه، وان كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من دخول الباب، ولكن البر من اتقى ما حرّم الله، فان قلت: ما وجه اتصاله بما قبله، قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة، وعن الحكمة فى نقصانها وتمامها: معلوم أن كل ما يفعله الله عز وجل لا يكون الا حكمة بالغة، ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه وانظروا فى واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر فى شىء، وأنتم تحسبونها برا، ويجوز أن يجرى ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج لأنه كان من أفعالهم فى الحج، ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم فى سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره، والمعنى: ليس البر وما ينبغى أن تكونوا عليه بأن تعكسوا فى مسائلكم، ولكن البر من اتقى ذلك، وتجنبه ولم يجسر على مثله» (37).
__________
(36) الطراز ج 2ص 48، 49، 50
(37) الكشاف ج 1ص 177وينظر التبيان ص 133(1/709)
وأرجح أن العلوى أفاد هذا من كتاب التبيان الذى أفاده من الكشاف، وذلك لأن العلوى ذكر هذه الآية منفردة وترجم لها بقوله:
«إشارة» وقد ذكر الزملكانى هذه الآية منفردة وترجم لها بقوله «وهم وتنبيه»، ولأن حديث ماء البحر مذكور فى التبيان مع هذه الآية وليس مذكورا معها فى كتاب الكشاف.
وقد ذكر باب الفصل والوصل فى العلوم المعنوية أعنى علم المعانى وذكر قوله تعالى: {«أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمََاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ»} (38) الى آخر الآيات مثالا لعطف المفرد، لأنه نظر فى هذا الى المجرور، وان كان قد اعتذر عن هذا وأشار الى أن الأليق به أن يكون فى عطف الجمل لأن المجرور متعلق بما بعده. والمهم أن الملاءمة التى ذكرها فى هذه الآيات شرح يدور حول ما ذكره الزمخشرى فيها، يقول فى هذا:
«فعطف بعض هذه المفردات على بعض ولا بد هناك من رعاية الملاءمة والمناسبة فى تقديم بعضها على بعض لئلا يخلو التنزيل عن أسرار معنوية ودقائق خفية يتفطن لها أهل البراعة ويقصر عن ادراكها من لا حظوة له فى معرفة هذه الصناعة، فلا بد من أن يكون لتقديم المعطوف عليه على المعطوف وجه يسوغه، والا كان لغوا فأما تقديم الابل فانما كان ذلك من أجل أن الخطاب للعرب من أهل البلاغة، فمن أجل ذلك كان الاستجلاء على حسب ما يألفونه، وذلك أن العرب أكثر تعويلهم فى معظم تصرفاتهم على المواشى فى المطاعم، والملابس، والمشارب، والمراكب، وأعمها نفعا هى الابل، لأن أكثر المنافع هذه لا تصلح الا فيها على العموم مع ما اختصت به من الخلق العظيم، والاحكام العجيب، فمن أجل ذلك صدّرها بالنظر فيها، ثم انه أردفها بذكر النظر فى خلق السموات، ووجه الملاءمة بينهما هو أن قوام هذه الأنعام ومادة المواشى انما هو بالرعى وأكل الخلا، وكان
__________
(38) الغاشية: 17، 18(1/710)
ذلك لا يكون الا بنزول المطر من السماء وهكذا أخذ العلوى يبين أهمية هذه الأشياء فى حياة العربى وارتباط بضعها ببعض (39).
وقد أشار الزمخشرى الى كل هذه المعانى بقوله:
«فان قلت: كيف حسن ذكر الابل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ قلت: قد انتظم هذه الأشياء نظر العرب فى أوديتهم وبواديهم فانتظمها الذكر على حسب ما ينظمها نظرهم» (40).
* * *التقديم والتأخير:
أشرت فى بيان أثر الكشاف فى المثل السائر الى أن ابن الأثير فاته أن يدرك مذهب الزمخشرى فى تقديم المفعول، حيث توهم أنه لا يكون عند الزمخشرى الا للاختصاص، وأن ابن الأثير خالفه كما خالف أكثر البيانيين حين جعل تقديم المفعول لأمرين، أحدهما: الاختصاص والثانى: مراعاة المشاكلة اللفظية.
وقد أشرت الى أن الزمخشرى لا يقول بلزوم التقديم للاختصاص دائما، وانما يرى ذلك غالبا لا لازما.
وقد تابع العلوى ابن الأثير فى هذا الفهم، فتوهم هو الآخر أن الزمخشرى قائل بلزوم التقديم للاختصاص وذكر رأى ابن الأثير ثم اختار رأيا وسطا، وهو أنه لا منافاة بين الاختصاص ومراعاة المشاكلة اللفظية، فالتقديم قد يفيد أحدهما وقد يفيدهما معا.
وهذا راجع الى أن العلوى لم يكن متمعنا فى كتاب الكشاف وانما كان يفهم آراء الزمخشرى من الكتب التى أشارت اليها، ولذلك نجد أكثر ما أخذه من الكشاف لم يكن أخذا مباشرا من هذا الكتاب، وانما كان افادة من كتب تأثرت ببحث الكشاف، والذى يهمنى ذكره هنا أن
__________
(39) الطراز ج 3ص 311، 312
(40) الكشاف ج 4ص 594(1/711)
العلوى أفاد بعض التحليلات فى باب التقديم مما ذكره ابن الأثير فى كتابه وهو مأخوذ من الكشاف، وقد أشرت الى ذلك فى موضعه، يقول العلوى: «ومن هذا يعنى تقديم الخبر على المبتدأ: {«وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللََّهِ»} (41) فانما قدم قوله: {«مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللََّهِ»} وهو خبر المبتدأ فى أحد وجهيه ليدل بذلك على فرط اعتقادهم لحصانتها، ومبالغة فى شدة وثوقهم بمنعها اياهم، وأنهم لا يبالون معها بأحد، ولا ينال فيهم نيل، وفى تقدير «هم» اسما، واسناد المنع والحصون اليهم، دلالة بالغة على تقريرهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة لا ترمى حوزتهم، ولا يغزون فى عقر دارهم» (42).
وهذا مذكور فى المثل السائر وأصله فى الكشاف (43).
وانما رجحت أن العلوى أفاد هذا من المثل السائر ولم يأخذه من الكشاف لأنه ذكر مع هذه الآية قوله تعالى: {«فَإِذََا هِيَ شََاخِصَةٌ أَبْصََارُ الَّذِينَ كَفَرُوا»} (44)، وقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن ماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»، ولم يذكر الزمخشرى شيئا فى آية {«فَإِذََا هِيَ»}، كما لم يذكر الحديث الشريف فى هذا الموضع، وكل هذا مذكور فى المثل السائر، كما هو مذكور فى الطراز.
ويقول العلوى: «اعلم أن الشيئين اذا كان كل واحد منهما مختصا بصفة تقتضى تقديمه على الآخر فأنت بالخيار فى تقديم أيهما شئت، وهذا كقوله تعالى: {«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا، فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ»} (45) فانما قدم «ال {ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ»} لأجل الايذان بكثرتهم، وأن معظم الخلق على ظلم نفسه، ثم ثنى بعدهم ب «المقتصدين»، لأنهم قليل بالاضافة الى الظالمين،
__________
(41) الحشر: 2
(42) الطراز ج 2ص 68
(43) ينظر المثل السائر ج 2ص 221، 222والكشاف ج 4 ص 398
(44) الأنبياء: 97
(45) فاطر: 32(1/712)
ثم ثلث ب «السابقين» وهم أقل من المقتصدين، فلا جرم، قدم الأكثر ثم بعده الأوسط ثم ذكر الأقل آخرا لما أشرنا اليه، ولو عكست هذه القضية فقدم السابق لشرفه على الكل، ثم ثنى ب «المقتصد» لأنه أشرف ممن يظلم نفسه، لم يكن فيه اخلال بالمعنى، فلا جرم روعى فى ذلك تقديم الأفضل فالأفضل، ومما ينسحب ذيله على ما قررناه من الضابط قوله تعالى: {«وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمََّا خَلَقْنََا أَنْعََاماً وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً»} (46) فقدّم حياة الأرض لأنها سبب فى حياة الخلق، فلأجل هذا قدمت لاختصاصها بهذه الفضيلة، ثم قدّم حياة الأنعام على حياة الناس لما فيها من المعاش للخلق والقوام لأحوالهم.
فراعى فى التقديم ما ذكرناه، ولو قدّم سقى الخلق على سقى الأنعام لاختصاصهم بالشرب، وقدّم سقى الأنعام على الأرض لكان له وجه، لأن الحيوان أشرف من غيره، فكل واحد منهما مختص بفضيلة يجوز تقديمه لأجلها فلأجل هذا ساغ فيه الأمران كما ترى، ومما نورده من ذلك قوله تعالى: {«وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ»} (47) وانما قدّم الماشى على بطنه لأنه أدل على باهر القدرة، وعجيب الصنعة من غيره، وثنى بمن يمشى منهم على رجلين لأنه أدخل فى الاقتدار ممن يمشى على أربع، لأجل كثرة آلات المشى، فيكون التقديم على هذا من باب تقديم الأعجب فى القدرة فالأعجب، ولو عكس الأمر فى هذا فقدّم الماشى على الأربع ثم ثنى بالماشى على رجلين ثم ختمه بالماشى على بطنه، لكان له وجه فى الحسن وعلى هذا يكون تقديمه من باب الأفضل فالأفضل» (48).
وهذا مأخوذ من المثل السائر وقد نظر ابن الأثير الى ما ذكره الزمخشرى فى هذه الآيات وأخذ تحليله لها وبيان سر التقديم فيها وأضاف الى كلام الزمخشرى: أنه اذا كان الشيئان كل واحد منهما مختصا بصفة
__________
(46) الفرقان: 48، 49
(47) النور: 45
(48) الطراز ج 2ص 73، 74، 75(1/713)
فأنت بالخيار فى تقديم أيهما شئت فى الذكر. وذكر هذه الآيات مثالا لهذا النوع، وهذا ما ذكره العلوى.
وأفهم من هذا الكلام أننا لو قلنا: «وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنسقيه مما خلقنا أناسى كثيرا وأنعاما ولنحيى به بلدة ميتا»، وقلنا:
«ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم سابق بالخيرات ومنهم مقتصد ومنهم ظالم لنفسه»، وقلنا: «والله خلق كل دابة من ماء فمنهم يمشى على أربع ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على بطنه» لم تنقص بلاغة الآيات، ولكان لها وجه من الحسن ما دام التقديم والتأخير سواء، ولا شك أن هذا رأى آفل ونظر قاصر، وذلك لأنه تجاهل لمقتضيات الأحوال ومتطلبات المقامات، فاذا كان الشيئان كل واحد منهما مختصا بصفة فاننا لسنا بالخيار كما قال ابن الأثير وتبعه العلوى وانما علينا أن نقدم الشيء المختص بصفة يقتضى المقام تقديمها على غيرها. فلما كان المراد والله أعلم بمراده بيان حال من أورثهم الله الكتاب وأن أكثرهم على ظلم نفسه وقليل منهم المقتصد وأقل منه من سبق بالخيرات ناسب هذا أن يقدم الأكثر لأنه الأعون على المراد ولأن فيه مبادرة بالعتاب على تفريط المؤمنين فى حق أنفسهم، فأكثرهم ظالم لنفسه، ولما كان المراد بقوله تعالى: {«وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً»} بيان دقة صنع الحكيم سبحانه واحكام ما فى هذا الكون على نظام دقيق وترتيب عجيب جاء بهذا الترتيب المؤذن بترتب الأسباب وبيان ما عليه أمر الناس ومعاشهم فى هذه الأرض الميتة التى أحياها الله بالماء فأحيا فيها أنعامها فكانت حياة الناس وكان متقلبهم، ولما كان المراد بقوله تعالى: {«وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ»} اظهار آثار قدرة الله سبحانه كان الأنسب ذكر الأعجب، فقدّم من يمشى على بطنه ثم من يمشى على رجلين الى آخره.
لهذا لم تكن مراعاة الصفات الأخرى مسايرة لقانون البلاغة، وليس فيها شىء من الحسن كما يقول العلوى وابن الأثير.(1/714)
ويفيد العلوى مما كتبه ابن الأثير متأثرا بالكشاف فى تقديم الظرف فى النفى، ويذكر ما ذكره الزمخشرى فى الآيتين المشهورتين، {«لََا فِيهََا غَوْلٌ»}، و {«لََا رَيْبَ فِيهِ»}.
يقول العلوى: «أما اذا كان واردا فى النفى فقد يرد مقدما، وقد يرد مؤخرا، فاذا ورد مؤخرا أفاد النفى مطلقا من غير تفصيل وهذا كقوله تعالى: {«لََا رَيْبَ فِيهِ»} فانه قصد أنه لا يلصق به الريب ولا يخالطه لأن النفى التصق بالريب نفسه فلا جرم كان منفيا من أصله بخلاف ما لو قدم الظرف فانه يفيد أنه مخالف لغيره من الكتب، فانه ليس فيه ريب بل فى غيره كما لو قلت: لا عيب فى هذا السيف، فانه نفى العيب عنه على جهة الاطلاق بخلاف ما لو قلت: هذا السيف لا فيه عيب، ولهذا أخره هنا وقدمه فى قوله تعالى: {«لََا فِيهََا غَوْلٌ وَلََا هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ»} (49) لأن القصد هنا تفضيلها على غيرها من خمور الدنيا، والمعنى: أنه ليس فيها ما فى غيرها من الغول، وهو الخمار الذى يصدع الرءوس، أو يريد: أنها لا تغتالهم باذهاب عقولهم كما فى خمور الدنيا» (50).
وهذا مفاد من المثل السائر وأصله فى الكشاف (51).
* * *معانى الحروف:
ويتأثر العلوى بابن الأثير فى معانى الحروف ويذكر التحليل الفذ الذى أشار اليه الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (52) وفى قوله تعالى: {«إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ»} (53)، يقول العلوى:
«فانظر الى براعة هذا المعنى المقصود، وجزالة هذا الانتظام بمخالفة موقعى هذين الحرفين فانه انما خولف بينهما فى التلبس
__________
(49) الصافات: 47
(50) الطراز ج 2ص 72
(51) المثل السائر ج 2ص 225، 226والكشاف ج 1ص 27
(52) سبأ: 24
(53) التوبة: 60(1/715)
بالحق والباطل، والدخول فيهما، وذلك من جهة أن صاحب الحق كأنه لمزيد قوة أمره وظهور حجته، وفرط استظهاره راكب لجواد يصرفه كيف شاء، ويركضه حيث أراد، فلأجل هذا جعل ما يختص به معدى بحرف «على» الدال على الاستعلاء بخلاف صاحب الباطل فانه لفشله، وضعف حاله، كأنه ينغمس فى ظلام، وموضع سافل لا يدرى أين يتوجه، ولا كيف يفعل، فلهذا كان الفعل المتعلق بصاحبه معدى بحرف الوعاء إشارة الى ما ذكرناه، ويؤيد هذا ما ذكره الله تعالى فى سورة يوسف حيث قال: {«تَاللََّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلََالِكَ الْقَدِيمِ»} (54).
ثم يقول فى الآية الثانية: «فهذه أصناف ثمانية جعل الله الصدقات مصروفة فيهم لكونهم أهلا لها، ومستحقين لصرفها، لكن الله تعالى خص المصارف الأربعة الأول باللام دلالة على الملك، والأهلية للاستحقاق، وعدل عن اللام الى حرف الوعاء فى الأصناف الأربعة الأخر وما ذاك الا للايذان بأن أقدامهم أرسخ فى الاستحقاق للصدقة، وأعظم حاجة فى الافتقار، من حيث كانت «فى» دالة على الوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، كما يوضع الشيء فى الوعاء، وأن يجعلوا مظنة لها، وذلك لما فى فك الرقاب، وفى الغرم من الخلاص عن الرق والدين اللذين يشتملان على النقص، وشغل القلب بالعبودية، والغرم، ثم تكرير الحرف فى قوله {«وَفِي سَبِيلِ اللََّهِ»}
قرينة مرجحة له على الرقاب، والغارمين، وكان سياق الكلام يقتضى أن يقال: وفى الرقاب، والغارمين، وسبيل الله، وابن السبيل، فلما جىء ب «فى» ثانية، وفصل بها سبيل الله، علم أن السبيل آكد فى الاستحقاق بالصرف فيه من أجل عمومه، وشيوعه لجميع القربات الشرعية والمصالح الدينية» (55).
__________
(54) يوسف: 95
(55) الطراز ج 2ص 52، 54، 55، وينظر المثل السائر ج 2ص 240، 241، والكشاف ج 3ص 459، ج 2ص 222(1/716)
الابهام والتفسير:
ويأخذ العلوى من المثل السائر الفصل الخاص بالابهام والتفسير وتكاد لا تجد شيئا يمكن أن ينسب الى العلوى فى هذا الفصل.
يقول العلوى: «اعلم أن المعنى المقصود اذا ورد فى الكلام مبهما فانه يفيده بلاغة، ويكسبه اعجابا وفخامة، وذلك لأنه اذا قرع السمع على جهة الابهام، فان السامع له يذهب فى ابهامه كل مذهب، ومصداق هذه المقالة، قوله تعالى: {«وَقَضَيْنََا إِلَيْهِ ذََلِكَ الْأَمْرَ»} ثم فسره بقوله: {«أَنَّ دََابِرَ هََؤُلََاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ»} (56) ففي ابهامه أول وهلة، ثم تفسيره بعد ذلك، تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه، فانه لو قال: وقضينا اليه أن دابر هؤلاء مقطوع. لم يكن فيه من الفخامة، وارتفاع مكانه فى الفصاحة، مثل ما لو أبهمه قبل ذلك، ويؤيد ما ذكرناه هو أن الابهام أولا يوقع السامع فى حيرة، وتفكر، واستعظام لما قرع سمعه، فلا تزال نفسه تنزع اليه، وتشتاق الى معرفته، والاطلاع على كنه حقيقته، ألا ترى أنك اذا قلت: هل أدلك على أكرم الناس أبا، وأفضلهم فعلا وحسبا، وأمضاهم عزيمة، وأنفذهم رأيا؟ ثم تقول: فلان، فان هذا وأمثاله يكون أدخل فى مدحته مما لو قلت: فلان الأكرم، الأفضل، الأنبل، وما ذاك الا الأجل ابهامه أولا وتفسيره ثانيا. وكل ذلك يؤكد فى نفسك عظم البلاغة فى الكلام اذا أبهم أولا ثم فسر ثانيا» (57).
ويذكر فى هذا الفصل قوله تعالى: {«إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»} (58) ويقول فيها: «يريد بذلك الطريقة، أو الحالة، أو الخصلة، الى غير ذلك من المحتملات المتعددة، وأى شىء من هذه الأمور قدرته فانك لا تجد له من البلاغة وان بالغت فى الافصاح به
__________
(56) الحجر: 66
(57) الطراز ج 2ص 78، 79
(58) الاسراء: 9(1/717)
الذى تجده من مذاق الفصاحة مع الابهام من جهة أن الوهم يذهب معه كل مذهب لما فيه من المحتملات الكثيرة» (59).
وقوله تعالى: {«وَقََالَ الَّذِي آمَنَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ. يََا قَوْمِ إِنَّمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا مَتََاعٌ»} الى قوله: {«بِغَيْرِ حِسََابٍ»} (60)، ويقول فيه: «ألا ترى أنه أبهم {«الرَّشََادِ»} كيف حاله، ثم أوضحه بعد ذلك، بأن افتتح كلامه بذم الدنيا، وتحقير شأنها، وتعظيم حال الآخرة، والاطلاع على كنه حقيقتها، ثم ذكر الأعمال حسنها وسيئها وعاقبة كل شىء منها ليرغب فى كل حسنة، ويزهد عن كل سيئة، فكأنه قال: سبيل الرشاد ما اشتمل عليه هذا الشرح العظيم» (61).
وهذا مأخوذ من المثل السائر كما قلت وأصله فى الكشاف (62).
ثم ان العلوى فى هذا الفصل قد يأخذ من الكشاف أخذا مباشرا حين يذكر تحليلات ليست فى المثل السائر وذلك كقوله:
«ومما يجرى على هذا الأسلوب قوله تعالى: {«وَأَلْقِ مََا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مََا صَنَعُوا»} (63) كأنه قال: ألق هذا الأمر الهائل الذى فى يمينك فانه يبطل ما أتوا به من سحرهم العظيم وافكهم الكبير، وكما يرد على جهة التعظيم كما أشرنا اليه فقد يكون واردا على جهة التحقير، كأنه قال: وألق العويد الصغير الذى فى يمينك فانه مبطل على حقارته وصغره ما أتوا به من الكذب المختلق، والزور المأفوك، تهكما بهم وازدراء بعقولهم وتسفيها لأحلامهم» (64).
__________
(59) الطراز ج 2ص 79
(60) غافر: 4038
(61) الطراز ج 2ص 86
(62) ينظر المثل السائر ج 2ص 202، 203، 204، 205 والكشاف ج 2ص 455، ج 4ص 131، ج 2ص 508وما بعدها.
(63) طه: 69
(64) الطراز ج 2ص 81(1/718)
وهذا مأخوذ من قول الزمخشرى فى هذه الآية:
«وقوله: {«مََا فِي يَمِينِكَ»} ولم يقل «عصاك» جائز أن يكون تصغيرا لها، أى: لا تبال بكثرة حبالهم، وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذى فى يمينك، فانه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها، وجائز أن يكون تعظيما لها، أى: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فان فى يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شأنا وأنذره عنده فألقه يتلقفها باذن الله ويمحقها» (65).
* * *توكيد الضمائر:
ويتأثر العلوى فى توكيد الضمائر بابن الأثير ويضيف اليه أن التوكيد لا يكون حتما واجبا فى الكلام، وانما هو بين الجواز والترجيح، ولعله فهم هذا من قول ابن الأثير فى جماع أمر التوكيد:
ان المعنى اذا كان ثابتا فى النفوس فأنت بالخيار فى التوكيد وعدمه، واذا كان المعنى مشكوكا فيه أو منكرا فالأولى التوكيد، ولما جعل ابن الأثير توكيد الكلام الذى من شأنه أن ينكر من باب الأولى فهم العلوى أن هذا غير الوجوب لأنه تلقى كلام ابن الأثير بعقلية الفقيه ونسى أن الاستحسان فى علم البلاغة كالوجوب فى علوم الشريعة، ثم ذكر العلوى فى توكيد المتصل بمثله قوله تعالى: {«قََالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً»} (66) من غير تأكيد، ثم قال فى آية القتل الثانية: {«قََالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً»} (67)
بالتأكيد، والتفرقة بين الأمرين هو أنه أكد الضمير فى الثانية دون الأولى، لأن المخالفة فى الثانية أعظم جرما، وأدخل فى التصنيف لأجل الاصرار على المخالفة، فلهذا ورد العتاب مؤكدا بعد الخلاف لما ذكرناه» (68).
__________
(65) الكشاف ج 3ص 58
(66) الكهف: 72
(67) الكهف: 75
(68) الطراز ج 2ص 146(1/719)
وقد أشرت فى دراسة المثل السائر الى أن هذا ليس من تأكيد المتصل بالمتصل كما ذكر ابن الأثير، وانما هو من ذكر المتعلق وحذفه، وقد تنبه الى هذا ابن أبى الحديد، وقد ذكره العلوى مثالا لتوكيد المتصل بالمتصل بعد ما مثل له بقوله: انك انك لعالم، والفرق بين الآية والمثال ظاهر، وكان عليه أن يتنبه الى هذا (69).
ثم ذكر العلوى فى توكيد المتصل بالمنفصل قوله تعالى: {«فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ََ. قُلْنََا لََا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ»} (70) وذكر فيها كلام ابن الأثير، وقد أشرنا الى أنه مأخوذ من الكشاف (71).
* * *الايجاز والاطناب:
لم يذكر العلوى الايجاز مع الاطناب كما يفعل أكثر البلاغيين ومنهم ابن الأثير، وانما درس الايجاز فى الباب الثانى الذى ذكر فيه الدلائل الافرادية وبيان حقائقها. ثم درس الاطناب فى الباب الثالث الذى ذكر فيه مراعاة أحوال التأليف وبيان ظهور المعانى المركبة، وقد أفاد فى كل فن من هذين الفنين مما ذكره صاحب المثل السائر فائدة كبيرة، ويعنينى أن أشير الى ما يرجع أصله الى كتاب الكشاف ما دمت معفيا ببيان أثره فى الدراسة البلاغية.
ففي حذف الجملة يذكر العلوى منها حذف الأسئلة المقدرة، ثم يشير الى أن هذا يلقب فى علوم البيان بالاستئناف، وأنه يأتى على وجهين: أحدهما باعادة الصفات المتقدمة، كما فى قوله تعالى:
{«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} الى قوله: {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (72) ويذكر فيها ما ذكره ابن الأثير متأثرا بما فى الكشاف.
__________
(69) ينظر المثل السائر ج 2ص 193والكشاف ج 2ص 574
(70) طه: 67، 68
(71) ينظر الطراز ج 2ص 147والمثل السائر ج 2ص 194، 195والكشاف ج 3ص 58
(72) البقرة: 52(1/720)
ثم يذكر الوجه الثانى أى الذى لا يكون الاستئناف فيه باعادة الصفات، ويمثل له بقوله تعالى: {«وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»} الى قوله: {«فَاسْمَعُونِ»} (73) ويذكر كذلك ما ذكره ابن الأثير متأثرا بالكشاف، ثم يشير الى أن حذف الأمثلة المقدرة له أمثلة كثيرة، ولكنه يكتفى بهذين (74).
والضرب الثانى من ضروب حذف الجمل، الحذف من جهة السبب سواء أكان المحذوف مسببا والمذكور سببا كقوله تعالى: {«وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنََا إِلى ََ مُوسَى الْأَمْرَ وَمََا كُنْتَ مِنَ الشََّاهِدِينَ. وَلََكِنََّا أَنْشَأْنََا قُرُوناً فَتَطََاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ»} (75) أو كان المحذوف سببا والمذكور مسببا كقوله تعالى: {«فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ»} (76)، وكقوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»} (77).
ثم يذكر فى هذه الآيات ما ذكره ابن الأثير متأثرا بالكشاف (78).
ويذكر فى حذف المفعول قوله تعالى: {«وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ»} (79) وقوله تعالى: {«وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ»} (80)، ويذكر فيهما ما ذكره ابن الأثير متأثرا بالزمخشرى وان كان الزمخشرى قد تأثر هو الآخر بما ذكره الجرجانى، وقد أشرت الى هذا (81).
__________
(73) يس: 2522
(74) ينظر الطراز ج 2ص 93، 94، 95والمثل السائر ج 2 ص 281، 282والكشاف ج 1ص 34، ج 4ص 8
(75) القصص: 44، 45
(76) النحل: 98
(77) المائدة: 6
(78) ينظر الطراز ج 2ص 95، 96والمثل السائر ج 2 ص 283، 285، 286والكشاف ج 3ص 329، ج ص 494، ج 1 ص 473
(79) القصص: 23
(80) البقرة: 20
(81) ينظر الطراز ج 2ص 104، 105والمثل السائر ج 2 ص 305، 306، 307، 308، والكشاف ج 3ص 315(1/721)
ويذكر الايجاز بالتقرير، وهو الذى تكون ألفاظه مساوية لمعانيه لا يزيد أحدهما على الآخر، بحيث لو قدر نقص من لفظه لتطرق الخرم الى معناه على قدر ذلك النقصان.
وواضح أن جمهور البلاغيين لا يجعلون هذا من الايجاز، وانما هو قسم برأسه، وهو المعروف عندهم بالمساواة.
ثم يذكر العلوى من أمثلته قوله تعالى: {«قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ»} (82) ثم يقول فى تحليله: «فقوله: {«قُتِلَ الْإِنْسََانُ»} أبلغ دعاء على الانسان لما فيه من اذهاب الروح بسرعة وفجأة، وهو أعظم فى الفجيعة، وقوله {«مََا أَكْفَرَهُ»} تعجب من شدة الافراط فى كفره لنعم الله، فلا يكاد يقرع السمع أسلوب أغلظ من هذا الدعاء، والتعجب، ولا أبلغ فى الملامة، ولا أقطع للمعذرة، ولا أعظم دلالة على السخط، مع تقارب أطرافه وقصر متنه» (83).
وهذا مأخوذ من المثل السائر، وقد أخذه ابن الأثير من الكشاف (84)، وأحسب أن فيه تصحيفا والصواب: الايجاز بالتقدير كما هو مذكور فى المثل، ورجحت التقدير على التقرير لأن كلمة «التقدير» أقرب الى مفهوم هذا النوع من الايجاز حيث يكون اللفظ مقدرا على قدر المعنى، ولأنه أشار اليها فى التعريف بقوله: «بحيث لو قدّر نقص من لفظه لتطرق الخرم الى معناه على قدر ذلك النقصان».
ويذكر الاطناب الذى يقع فى الجملة الواحدة ويبين أنه قد يكون واردا على جهة الحقيقة، وقد يكون واردا على جهة المجاز، ومثال
__________
(82) عبس: 1917
(83) الطراز ج 2ص 120
(84) ينظر المثل السائر ج 2ص 333، 334والكشاف ج 4 ص 561، 562(1/722)
الوارد على جهة الحقيقة قولنا: «رأيته بعينى»، و «قبضته بيدى»، و «وطئته بقدمى»، و «ذفته بلسانى» ومنه قوله تعالى: {«ذََلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوََاهِكُمْ»} (85) وقوله تعالى: {«إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوََاهِكُمْ»} (86) وهذه الطريقة تأتى فى كل شىء يعظم مناله ويعز الوصول اليه، وأنه يؤتى بذكر هذه الأدوات على جهة الاطناب دلالة على نيله وأن حصوله غير متعذر. وقد جاءت هذه الآيات على هذا الأسلوب لأنها رد وانكار لما كان من المنافقين فى شأن الافك، ولما كان من بعضهم فى جعل الزوجات أمهات، وفى جعل الأدعياء أبناء، وهذه أمور عظام، فأعظم الله فيها الرد، والانكار، ويذكر من ذلك قوله تعالى: {«مََا جَعَلَ اللََّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»} (87) ومعلوم أن القلب لا يكون الا فى الجوف، والغرض المبالغة فى الانكار بأن يكون للانسان قلبان، ومنه قوله تعالى: {«فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ»} (88) وهذه الآيات مذكورة بتحليلها الذى ذكره ابن الأثير فى كتاب المثل السائر، وقد أشرت الى أن ابن الأثير أفادها من الكشاف وان كان الزمخشرى يلحظ فى بعض هذه القيود ملحظا آخر دقيقا زائدا على ما ذكروه، فقد ذكر أن المراد بقوله تعالى: {«وَتَقُولُونَ بِأَفْوََاهِكُمْ»}
أن هذا القول لا يتجاوز الأفواه وليس ترجمة عما فى القلوب وشاهد هذا المعنى قوله تعالى: {«يَقُولُونَ بِأَفْوََاهِهِمْ مََا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ»} (89)، وكان بيانه لقيمة القيد فى قوله تعالى: {«فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ»}، وفى قوله تعالى: {«مََا جَعَلَ اللََّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»} أوضح وأجلى (90).
ومثال ما جاء من الاطناب فى الجملة على جهة المجاز قوله
__________
(85) الأحزاب: 4
(86) النور: 15
(87) الأحزاب: 4
(88) النحل: 26
(89) آل عمران: 167
(90) ينظر الطراز ج 2ص 235، 236، والمثل السائر ج 2 ص 359، 360، 361، والكشاف ج 3ص 412، 173(1/723)
تعالى: {«فَإِنَّهََا لََا تَعْمَى الْأَبْصََارُ وَلََكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»} (91) يقول العلوى فيها: «فالفائدة بذكر الصدور هاهنا وان كانت القلوب حاصلة فى الصدور على جهة الاطناب بذكر المجاز، وبيانه هو أنه لما علم وتحقق أن العمى على جهة الحقيقة انما يكون فى البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يذهب نورها ويزيله، واستعماله فى القلوب انما يكون على جهة التجوّز وبالتشبيه فلما أريد ما هو على خلاف المتعارف من نسبة العمى الى القلوب، ونفيه عن الأبصار، لا جرم احتاج الأمر فيه الى زيادة تصوير وتعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار» (92) وليس فى هذا تغيير كبير عما ذكره ابن الأثير وأخذه من الكشاف (93).
* * *الكناية والتعريض:
والعلوى معنى بتحرير الحدود وسلامتها، وموافقتها لقواعد المنطق، والشروط فى الماهيات، ولذلك كان كثير من جهده مبذولا فى مناقشة التعاريف، وبيان أوجه الفساد فيها كما قلنا، وهو يخالف الزمخشرى فى هذا المنزع، فقد كان الزمخشرى متسامحا فى بعض حدوده اذ أنه لم يكن معنيا بتقرير قواعد العلم كما كان معنيا بابراز بلاغة القرآن المعجزة وتوضيح ما تنطوى عليه العبارة القرآنية من أسرار وخصائص بلغت فيها حدا معجزا.
ومما يذكر فى هذا المجال أن الزمخشرى وان كان معنيا ببيان محاسن العبارة فقد كانت منه لفتات فى القواعد والأصول كانت منارا للدارسين من بعده، من ذلك التفريق كما قلت بين الكناية والتعريض، وجعل التعريض مدلولا عليه بالسياق وقرائن الأحوال، وليس داخلا
__________
(91) الحج: 46
(92) الطراز ج 2ص 237
(93) ينظر المثل السائر ج 2ص 364، والكشاف ج 3ص 128(1/724)
فى دلالة الألفاظ الحقيقية والمجازية، وشرطه فى الكناية امكان المعنى الحقيقى، وكان هذا التحديد البين طريقا واضحا سار فيه كثير من البلاغيين من بينهم ابن الأثير والعلوى وبعض من رجال مدرسة المفتاح.
وقد أشرت الى أن هناك مشابهة بين تعريف ابن الأثير للكناية والتعريض وما ذكره الزمخشرى فيهما.
واذا كان العلوى ناقش هذين التعريفين فى كتاب المثل السائر فانه لم يبعد فيما اختاره عما ذكره ابن الأثير، وكانت زيادته هى تحرير العبارة على أصول شروط الماهيات. بيان ذلك:
أن ابن الأثير عرّف الكناية بقوله: كل لفظ دل على معنى يجوز حمله على جانبى الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز، وقد نظر العلوى فى هذا التعريف فوجد فيه فسادا لأمرين:
الأول: هو ان المعنى الواحد المذكور فى التعريف لا يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، ولذلك اختار فى تعريفه أن يقول: «كل لفظ دل على معنيين مختلفين حقيقة ومجازا» وهذه ملاحظة دقيقة نسلم للعلوى بها.
والأمر الثانى: هو امكان دخول الاستعارة فى هذا التعريف لأن قولنا «أسد» يدل بحقيقته على السبع وبمجازه على الشجاعة، ولم يكن على حق فى هذا الاعتراض، لأنه لا يمكن حمل «أسد» على المعنى الحقيقى فى أسلوب الاستعارة، لأن القرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقى، فتعين المصير الى المجاز.
ولم يكن التعريف الذى اختاره بعيدا فى مضمونه عن هذا التعريف كما قلت وان كان محرر العبارة (94).
وفى التعريض يعترض على قول ابن الأثير: «أنه اللفظ الدال
__________
(94) ينظر الطراز ج 1ص 372، 373(1/725)
على الشيء من طريق المفهوم» لأن طريق المفهوم كما يقول العلوى داخل فى دلالة اللفظ، وقد وضح ذلك بذكر مفهوم الموافقة كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تضحوا بالعوراء» فانه يدخل فيها العمياء، ومفهوم المخالفة كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبيعوا الطعام بالطعام الا مثلا بمثل» فما لا يكون مطعوما لا يجرى فيه الربا كما ذهب الشافعى، ومدلول الموافقة والمخالفة مأخوذ كلاهما من جهة اللغة ومدلول عليه باللفظ، وبهذا لا تكون عبارة ابن الأثير دالة على مراده كما زعم العلوى، لأن التعريض يكون من مدلولات الألفاظ.
والذى أراه أن ابن الأثير قصد بتعريفه ما عبّر عنه العلوى فى تعريفه الذى اختاره وهو قوله: التعريض هو المعنى الحاصل عند اللفظ لا به، ولم ينظر ابن الأثير الى اصطلاح الأصوليين وتقسيمهم المفهوم الى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة واعتبارهما من مدلولات الألفاظ (95).
ثم ان ما ذكره العلوى من النصوص الواردة على هذه الطريقة وتحليلاتها مذكور فى المثل السائر وفى الكشاف. من هذا قوله تعالى فى قصة إبراهيم عليه السلام: {«أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذََا بِآلِهَتِنََا يََا إِبْرََاهِيمُ. قََالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذََا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كََانُوا يَنْطِقُونَ»} (96).
يقول العلوى: «فانما أورد إبراهيم صلوات الله عليه هذا الكلام على جهة التهكم والاستهزاء والسخرية بعقولهم، وذلك يكون من وجهين: أحدهما أنه لم يرد نسبة الفعل الى كبير الأصنام وانما قصد تقريره لنفسه واثباته لها على رمز خفى ومسلك تعريضى يبلغ به الزام الحجة لهم والتسفيه لحلومهم، كأنه قال: يا ضعفاء العقول ويا جهال البرية كيف تعبدون ما لا يجيب ان سئل، ولا ينطق ان كلم وتجعلونه شريكا لمن له الخلق والأمر، فوضع قوله: {«فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كََانُوا يَنْطِقُونَ»} موضع «هذا» (97).
__________
(95) ينظر الطراز ج 1ص 380، 381، 382، 383
(96) الأنبياء: 62، 63
(97) الطراز ج 1ص 386، 387(1/726)
ثم يقول: «ومن ذلك قوله تعالى: {«فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا وَمََا نَرََاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرََاذِلُنََا بََادِيَ الرَّأْيِ وَمََا نَرى ََ لَكُمْ عَلَيْنََا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كََاذِبِينَ»} (98) فهذه الآيات كلها موضعها فى قصدهم واعتقادهم موضع التعريض بأنهم أحق بالنبوة وأن نوحا لم يكن متميزا عليهم بحالة يجب لأجلها أن يكون نبيا من بينهم فقالوا: لو أراد الله أن يجعل النبوة فى أحد من البشر لكانوا أحق بها دونه، والتعريض فى القرآن وارد كثيرا بأحوال الكفرة فى التهكم والنقص واسقاط المنزلة وحط القدر، ومواضعها دقيقة تستخرج بالفكر الصافى والرسوخ فى قدم البلاغة» (99).
ولعل فى العبارة الأخيرة تصحيفا، والأصل: ورسوخ القدم فى البلاغة، وهذه التحليلات ترجع الى المثل السائر وقد أخذها ابن الأثير من الكشاف (100).
* * *التخييل:
وقد ذكر العلوى التخييل فى دراسة البديع وهو فى ذلك متأثر بالزملكانى صاحب التبيان. وقد أشار الى أهمية هذا الفن وضرورة دراسته لأن كثيرا من آيات القرآن واردة على طريقته، وقد جهل بعض الناس هذه الطريقة فوقعوا فى التشبيه وهاموا فى أودية الضلال.
يقول العلوى: «اعلم أن هذا النوع من البديع من مرامى سهام البلاغة المسددة، وعقد من عقود لآلئه وجمانه المبددة، كثير التداور فى كتاب الله تعالى، والسنة الشريفة، لما فيه من الدقة، والرموز،
__________
(98) هود: 27
(99) الطراز ج 1ص 387، 388
(100) ينظر المثل السائر ج 3ص 72، والكشاف ج 3ص 98، ج 2ص 304(1/727)
واستيلائه على اثارة المعادن، والكنوز، ومن أجل ذلك ضل من ضل من الجبرية بسبب آيات الهدى والضلال، وعمل من أجله على الانسلاخ عن الحكمة والانسلال، وزل من زل من المشبهة باعتقاد التشبيه، وزال عن اعتقاد التوحيد باعتقاد ظاهر الأعضاء والجوارح فى الآى، فارتطم فى بحر التمويه، فهو أحق علوم البلاغة بالاتقان، وأولاها بالفحص عن لطائفه والامعان ومن ثم قال الشيخ النحرير محمود بن عمر الزمخشرى نوّر الله حفرته: «ولا ترى بابا فى علم البيان أدق، ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع لى عونا على تعاطى المشتبهات من كلام الله تعالى وكلام الأنبياء». ولعمرى لقد قال حقا ونطق صدقا (101).
وقد ذكر فيه تقريرين، التقرير الأول فى بيان معناه، والتقرير الثانى فى بيان أمثلته، وذكر تعريف الشيخ عبد الكريم، ثم تعريف المطرزى، ثم قال: والتعريف الثالث أن يقال: هو اللفظ الدال بظاهره على معنى، والمراد غيره على جهة التصوير، ثم شرح التعريف، وذكر فى التقرير الثانى أمثلة التخييل.
والذى يعنينى هو أن أقف عند فهمه لكلام البيانيين فى أمثلة التخييل لنعرف مدى قربه أو بعده من كلام الزمخشرى، وقد أشار فى بيان قيمة التخييل الى ما ذكره الزمخشرى فيه إشارة رضا وقبول.
قال العلوى: فمن أمثلة التنزيل قوله تعالى: {«بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشََاءُ»} (102)، وقوله تعالى: {«تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا»} (103)، وقوله تعالى: {«وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلََالِ وَالْإِكْرََامِ»} (104)، وقوله تعالى: {«خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»} (105)، وقوله تعالى: {«وَلِتُصْنَعَ عَلى ََ عَيْنِي»} (106)، وقوله تعالى: {«وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»} (107)،
__________
(101) الطراز ج 3ص 2، 3
(102) المائدة: 64
(103) القمر: 14
(104) الرحمن: 27
(105) سورة ص: 75
(106) طه: 39
(107) الحجر: 29(1/728)
وقوله تعالى: {«فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ»} (108) الى غير ذلك من الآيات الموهمة بظاهرها للأعضاء والجوارح. ثم يذكر العلوى تأويل المتكلمين لهذه الآيات وتأويل البلاغيين.
أما المتكلمون فانهم يؤولون هذه الظواهر تأويلات وان بعدت حذرا من مخالفة العقل ويعضدون تأويلاتهم بأمور لغوية فيذهبون الى أن المراد باليد: النعمة، وأن المراد بالعين: العلم الى غير ذلك، والعلوى لا يرضى بهذه التأويلات ويسم المتكلمين بالجهل بعلوم البيان، فجاءت تأويلاتهم ركيكة يزدريها علماء البلاغة.
ويقول فى تأويل علماء البلاغة: «المجرى الثانى وهو الذى عوّل عليه علماء البلاغة، والمحققون من هل البيان، وهى أنها جارية على نعت التخييل فهى فى الحقيقة دالة على ما وضعت له فى الأصل، لكن معناها غير متحقق، وانما هو أمر خيالى، فاليد مثلا دالة على الجارحة، والعين كذلك، لكن تحقق اليد والعين فى حق الله تعالى غير معقول، ولكنه جار على جهة التخييل، كمن يظن شبحا من بعيد أنه رجل فاذا هو حجر، ومن يتخيل سوادا أنه حيوان فاذا هو شجر الى غير ذلك من الخيالات.
وقد وضّح هذا مرة ثانية بقوله فى التفرقة بين تأويل المتكلمين وتأويل البيانيين: فأما علماء البيان فانهم وضعوها على معانيها اللغوية فى كونها دالة على هذه الجوارح، لكنهم قالوا: ان الجارحة خيالية غير متحققة، وذلك بخلاف المتكلمين الذين حملوها على تأويلات بعيدة واغتفروا بعدها حذرا من مخالفة الأدلة العقلية.
وأفهم من هذا أن البيانيين يقولون: ان اليد دالة على يد خيالية، وان الوجه دال على وجه خيالى، وان العين دالة على عين خيالية، وان الانسان يتخيل هذه الجوارح كما يتخيل الشبح البعيد انسانا فاذا هو حجر.
__________
(108) الزمر: 56(1/729)
واذا كان البيانيون قد أطلقوا هذه الكلمات على معانيها اللغوية الا أنهم قالوا: ان الجارحة هنا خيالية غير متحققة، فكيف يكون اللفظ هنا دالا بظاهره على معنى والمراد غيره على جهة التصوير كما ذكر فى التعريف؟ وهل يكون اطلاق لفظ الرجل على رجل متخيل غير حقيقى اطلاقا له على غير معناه؟ ولو سلمنا له بهذا فهل يمكن أن يكون ذلك مراد البيانيين بالتخييل؟
وعلينا أن نذكر الآن ما قاله الزمخشرى فى التخييل فى الموضع الذى أفاد منه العلوى ما ذكره فى فائدته، وأن نتبين كيف كان علماء البيان يفهمون هذه الصور التى جاءت على طريقة التخييل.
يقول فى قوله تعالى: {«وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ»} (109):
«والغرض من هذا الكلام اذا أخذته كما هو بجملته، ومجموعه، تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين الى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى أن جبريل جاء الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا القاسم، ان الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك»، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم تعجبا مما قال، ثم قرأ تصديقا له: {«وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»} (110) وانما ضحك أفصح العرب صلّى الله عليه وسلم وتعجب، لأنه لم يفهم منه الا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور امساك ولا إصبع ولا هز ولا شىء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شىء وآخره على الزبدة والخلاصة التى هى الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التى تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانا لا يوصل السامع الى الوقوف عليه الا اجراء العبارة فى مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابا فى علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى فى القرآن، وسائر الكتب السماوية،
__________
(109) الزمر: 67
(110) الزمر: 67(1/730)
وكلام الأنبياء، فان أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما» (111).
والزمخشرى قد يكون أول من أدخل دراسة التخييل بهذا الوضوح فى البلاغة القرآنية وكان ابن المنير يثور على اطلاق عبارة التخييل على هذه الصور فى القرآن الكريم، ويرى أن ذلك لا يرضى أهل السنة والجماعة، وقد نوّه العلوى بأهمية التخييل فى دراسة القرآن، وكلامه فيه قريب من كلام الزمخشرى، فهو متأثر به فى ذلك وان كان لا يفهم مراده.
وعلماء البيان كما يقول الزمخشرى يقع فهمهم أول شىء وآخره على الزبدة والخلاصة من هذه الأساليب، من غير تصور امساك، ولا إصبع، ولا هز، أى أنهم لا يقولون ان هناك امساكا خياليا، أو إصبعا خياليا، أو هزا خياليا، ولا يذهبون بالقبضة ولا باليمين الى جهة حقيقة أو مجاز، فليست هناك قبضة حقيقية ولا قبضة خيالية وانما المراد تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله، فليس الذى ذكره العلوى فى تفسير مراد علماء البيان بالتخييل هو ما نفهمه من كلام الزمخشرى.
وقد ذكر الشهاب الخفاجى فى حاشيته كما قدمنا أن التخييل يطلق فى البلاغة على ثلاثة معان، الأول: التمثيل بالأمور المفروضة، والثانى: فرض المعانى وتخيلها، والثالث: قرينة الاستعارة المكنية، وليس شىء منها منطبقا على ما ذكره العلوى عن علماء البيان وانما هو أشبه ما يكون برأى السكاكى فى قرينة المكنية حيث يطلق لفظ الأظفار على أظفار متوهمة للمنية، ولفظ اليد على يد متوهمة للشمال، الى آخر ما هو معروف ويبعد أن يكون هذا مراد العلوى.
__________
(111) الكشاف ج 4ص 110، 111.(1/731)
الالهاب والتهييج:
ويذكر العلوى من أصناف البديع «الالهاب والتهييج»، ويذكر معناها اللغوى ثم يذكر مفهومها فى مصطلح علماء البلاغة، ويقول فيه:
«فهما مقولان على كل كلام دال على الحث على الفعل لمن لا يتصور منه تركه، وعلى ترك الفعل لمن لا يتصور منه فعله، ولكن يكون صدور الأمر والنهى ممن هذه حاله على جهة الالهاب والتهييج على الفعل أو الكف لا غير، فالأمر مثاله قوله تعالى: {«فَاعْبُدِ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ»} (112)، وقوله تعالى: {«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ»} (113)، وقوله تعالى: {«فَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ»} (114) والمعلوم من حاله عليه السلام أنه حاصل على هذه الأمور كلها من عبادة الله تعالى. واقامة وجهه للدين والاستقامة على الدعاء اليه لا يفتر عن ذلك ولا يتصور منه خلافها، لأن خلافها معصوم منه الأنبياء فلا يمكن تصوره من جهتهم، ولكن ورودها على هذه الأوامر انما كان على جهة الحث له بهذه الأوامر وأمثالها، وكذلك ورد فى المناهى كقوله تعالى: {«فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْجََاهِلِينَ»} (115)، وقوله تعالى: {«لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخََاسِرِينَ»} (116) وحاشاه أن يكون جاهلا، أو أن يفعل أفعال السفهاء، والجهال، وأنى يخطر بباله الشرك بالله وهو أول من دعا الى عبادته وحث عليها، وهكذا القول فيما كان واردا فى الأوامر والنواهى له عليه السلام، فانما كان على جهة الالهاب على فعل الأوامر والانكفاف عن المناهى والتهييج لداعيته وحثا له على ذلك، فالأمر فى حقه على تحصيل الفعل والكف عن المناهى فيما كان يعلم وجوده عليه، ويتحقق الانكفاف عنه، انما هو على جهة التأكيد والحث بالتهييج والالهاب (117).
__________
(112) الزمر: 2
(113) الروم: 43
(114) هود: 112
(115) الأنعام: 35
(116) الزمر: 65
(117) الطراز ج 3ص 165، 166.(1/732)
وقد أشرت فى دراسة الأمر والنهى فى بحث الجملة الى الالهاب والتهييج وقد أكثر الزمخشرى الحديث عن هذه المعانى وقد ذكر هذه الآيات، ولذلك نرى أن هذا النوع من البديع فى كلام العلوى مستنبط من الكشاف، وليس له فيه الا أنه جعله صنفا مستقلا، وجمع فيه هذه الشواهد، وهى منثورة فى الكشاف.
وقد خفى على بعض الدارسين تأثر العلوى بالبحث البلاغى فى الكشاف، فذكروا هذه التحليلات البلاغية المأخوذة من الكشاف شاهدا ودليلا على أن العلوى أديب، متذوق، قادر على أن يضع يدك على مواضع الحسن، وينبهك الى جهات الجمال فى التعبير.
يقول الأستاذ الدكتور بدوى طبانة بعد ما قرر اهتمام العلوى بالمسائل العقلية والفقهية وعنايته بالضبط ومعرفة الماهية يقول: وفى كثير من الأحيان تجد فى الطراز كتابة أديب متذوق يضع يدك على مواضع الحسن وينبهك الى جهات الجمال والكمال فى التعبير ومن غير حاجة الى حدود، أو مصطلحات، ومن غير لجوء الى منطق أو استدلال، وهاك نموذجا مما كتبه فى الابهام والتفسير: «اعلم أن المعنى المقصود اذا ورد فى الكلام مبهما فانه يفيده بلاغة ويكسبه اعجابا وفخامة، وذلك لأنه اذا قرع السمع على جهة الابهام فان السامع له يذهب فى ابهامه كل مذهب، ومصداق هذه المقالة قوله تعالى: {«وَقَضَيْنََا إِلَيْهِ ذََلِكَ الْأَمْرَ»} ثم فسره بقوله: {«أَنَّ دََابِرَ هََؤُلََاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ»} (118)، وهكذا فى قوله تعالى: {«إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا»} فأبهمه أولا ثم فسره بقوله: {«بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا»} (119)، ففي ابهامه فى أول وهلة ثم تفسيره بعد ذلك تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه فانه لو قال:
وقضينا اليه أن دابر هؤلاء مقطوع، وان الله لا يستحى أن يضرب مثلا بعوضة، لم يكن فيه من الفخامة وارتفاع مكانه فى الفصاحة مثل ما لو أبهمه قبل ذلك، ويؤيد ما ذكرناه هو أن الابهام أولا يوقع السامع
__________
(118) الحجر: 66
(119) البقرة: 26(1/733)
فى حيرة وتفكر واستعظام لما قرع سمعه فلا تزال نفسه تنزع اليه وتشتاق الى معرفته والاطلاع على كنه حقيقته، ألا ترى أنك اذا قلت: هل أدلك على أكرم الناس أبا، وأفضلهم فعلا، وحسبا، وأمضاهم عزيمة، وأنفذهم رأيا؟ ثم تقول: فلان، فان هذا وأمثاله يكون أدخل فى مدحته مما لو قلت: فلان الأكرم الأفضل الأنبل، وما ذاك الا لأجل ابهامه أولا وتفسيره ثانيا، وكل ذلك يؤكد فى نفسك عظم البلاغة فى الكلام» ثم يقول الأستاذ معلقا على هذا الكلام: ومثل هذا الأسلوب كما ترى هو الأسلوب الذى يشحذ الملكات وينبه الأذواق الى البحث واستجلاء بلاغة الكلام التى لا يغنى فى تذوقها منطق أو تحديد أو تقسيم (120).
وواضح أن هذا الكلام الذى يستشهد به على قدرة العلوى الأدبية ليس من مبتكراته وانما أخذه من المثل السائر، وقد أشرت الى أن أصله يرجع الى الكشاف، وأن أكثر الألفاظ والعبارات للعلامة الزمخشرى.
ولهذا لا يصح أن يكون شاهدا على أن العلوى أديب متذوق.
ثم اننى أرجو بهذا أن أكون قد وفقت فى بيان أثر البحث البلاغى فى الكشاف، فى الاتجاهات البلاغية المختلفة، التى سارت فيها الدراسات البلاغية بعد الزمخشرى.
ومن الحق أن ما أفاده ابن الأثير من الكشاف قد يكون أهم ما جاء فى كتابه وأقربه الى الروح الأدبية المتذوقة، وكذلك الحال فى كتاب الطراز فان ما يرجع الى الكشاف منه قد يكون خير ما فيه، واذا كان هذا حال هذين الكتابين مع تحليلات الزمخشرى فلا نظن الا مثل هذا وأزيد بالنسبة لما فى المفتاح ومدرسته، فاننى أرى الجذاذات المقتبسة من الكشاف كأنها قبسات مضيئة فى أمهات كتب هذه المدرسة وهى فيها أوضح وأجلى، وهذا فى تقديرى راجع الى أمر هو أن بلاغة الكشاف بلاغة مرتبطة بالنص فهى تحليل للنصوص، ونظر فى خصائصها، وليس أجدى فى البحث البلاغى من هذا الاتجاه، وقد اتجهت بعض الدراسات
__________
(120) البيان العربى، للدكتور بدوى طبانة ص 263.(1/734)
الحديثة الى ربط الدراسات الأدبية والنقدية المختلفة بالنص الأدبى ودورانها حوله وعرض القضايا والنظريات النقدية من خلال دراسة النص، فليس هناك درس نظرى فى أمر من أمور الأدب والنقد. ونأمل أن يكون لنا من تراثنا الخالد رائد صدق فى تصحيح منهج دراستنا البلاغية التى لا أرى لها صلاحا الا بالعودة الى هذه الروافد والاهتداء بآثار هذه القرائح الشامخة والربط الوثيق بين الدراسة البلاغية والنص الأدبى ربطا يقوم على النظرة الجادة، والله وحده هو المسئول أن يلهمنا رشدنا وأن يرزقنا الاخلاص الذى به وحده يهتدى المجتهد الى الحق.
* * *
أهم مصادر البحث(1/735)
* * *
أهم مصادر البحث
1 - أساس البلاغة للزمخشرى، ط دار الكتب.
2 - أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانى، طبعة صبيح.
3 - أطواق الذهب للزمخشرى، ط بيروت.
4 - أعجب العجب فى شرح لآية العرب للزمخشرى، مطبعة محمد مطر.
5 - اعجاز القرآن للباقلانى، دار المعارف.
6 - اعجاز القرآن للقاضى عبد الجبار، ط دار الكتب.
7 - الانموذج للزمخشرى، مطبعة الجوانب بالقسطنطينة.
8 - الأمالى الشجرية لابن الشجرى، مطبعة مجلس دائرة المعارف.
9 - الايضاح للخطيب القزوينى، مكتبة الآداب.
10 - البيان فى اعجاز القرآن للخطابى، دار المعارف.
11 - التقريب فى التفسير (وهو مختصر من الكشاف) تأليف الشيخ قطب الدين بن محمد، مخطوط رقم 67 (تفسير) دار الكتب.
12 - التمييز لما ودعه الزمخشرى من الاعتزال فى الكتاب العزيز تأليف عمر بن محمد بن خليل السكونى، مخطوط رقم 40، (مجاميع) دار الكتب.
13 - الجبال والأمكنة للزمخشرى، مطبعة ليدن.
14 - الخصائص لابن جنى، ط دار الكتب.
15 - الصناعتين لأبى هلال العسكرى، ط الآستانة.
16 - الطراز للعلوى، مطبعة المقتضب.
17 - العمدة لابن رشيق، مطبعة السعادة.
18 - الفائق فى غريب الحديث للزمخشرى، دار احياء الكتب العربية.
19 - الكامل للمبرد، مطبعة الاستقامة.(1/736)
20 - الكتاب لسيبويه، ط بولاق.
21 - الكشاف للزمخشرى، مطبعة الاستقامة.
22 - المثل السائر لابن الأثير، نهضة مصر.
23 - المفصل للزمخشرى، مطبعة الكوكب الشرقى، الاسكندرية.
24 - الموازنة للآمدى، مطبعة السعادة.
25 - المفرد والمؤلف للزمخشرى، مخطوط رقم 1952 (لغة) دار الكتب.
26 - المستقصى فى الأمثال للزمخشرى، ط حيدرآباد الدكن.
27 - النكت فى اعجاز القرآن للرمانى، دار المعارف.
28 - الوساطة بين المتنبى وخصومه لعلى بن عبد العزيز، ط دار احياء الكتب العربية.
29 - أمالى المرتضى للشريف المرتضى، طبعة دار احياء الكتب العربية.
30 - تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، طبعة دار احياء الكتب العربية
31 - تفسير الطبرى لابن جرير الطبرى، المطبعة الأميرية.
32 - تفسير جزء عم منسوب للرمانى، مخطوط رقم 20 (تفسير) دار الكتب.
33 - تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضى عبد الجبار، المطبعة الجمالية
34 - حاشية السيد الشريف على الكشاف للسيد الشريف الجرجانى، مطبوع على هامش الكشاف.
35 - حاشية سعد الدين على الكشاف للعلامة سعد الدين التفتازانى، مخطوط رقم 1804الأزهر.
36 - حاشية ابن المنير على الكشاف لأحمد بن المنير، مطبوع على هامش الكشاف.
37 - حاشية الشهاب الخفاجى على البيضاوى ط بولاق.
38 - حاشية السيد على المطول للسيد الشريف، مطبعة أحمد كامل.
39 - حقائق التأويل فى متشابه التنزيل للشريف الرضى، طبعة النجف بكربلاء.(1/737)
40 - دراسات تفصيلية شاملة للشيخ عبد الهادى العدل المطبعة المنيرية.
41 - ديوان الزمخشرى مخطوط رقم 4529 (أدب)، دار الكتب.
42 - دلائل الاعجاز لعبد القاهر الجرجانى، المكتبة العربية.
43 - ربيع الأبرار للزمخشرى، مخطوط بدار الكتب رقم 155 (أدب).
44 - سر الفصاحة لابن سنان الخفاجى، المطبعة الرحمانية.
45 - شرح مقامات الزمخشرى للزمخشرى الطبعة الثانية بمصر سنة 1325هـ.
46 - شرح المفصل لابن يعيش ادارة الطباعة المنيرية.
47 - مجاز القرآن لأبى عبيدة أبو عبيدة معمر بن المثنى، نشره السيد سامى الخانجى بتحقيق الأستاذ فؤاد سزجين.
48 - معجم الأدباء لياقوت، مطبعة دار المأمون.
49 - معانى القرآن للفراء، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
50 - معانى القرآن المنسوب للزجاج، مصور بالجامعة العربية.
51 - مفتاح العلوم للسكاكى، المطبعة الأدبية.
52 - مقدمة الأدب للزمخشرى، مخطوط رقم 272 (لغة) دار الكتب.
53 - نزهة الألباء لابن الانبارى، القاهرة.
54 - نقد الشعر لقدامة بن جعفر، مطبعة السعادة.
55 - نوابغ الكلم للزمخشرى، المطبعة الكلية.
56 - نهاية الايجاز لابن الخطيب الرازى، ط الآداب.
57 - وفيات الأعيان لابن خلكان، مكتبة النهضة المصرية.
* * *
أهم مراجع البحث(1/738)
* * *
أهم مراجع البحث
1 - أثر القرآن فى تطور البلاغة العربية للأستاذ كامل الخولى، دار الأنوار.
2 - أثر القرآن فى النقد الأدبى للدكتور محمد زغلول سلام، ط دار المعارف.
3 - أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم للمقدسى، ط ليون.
4 - أسس النقد الأدبى عند العرب للدكتور أحمد بدوى، نهضة مصر.
5 - أصول النقد الأدبى للأستاذ أحمد الشائب، النهضة المصرية.
6 - اعجاز القرآن للرافعى، مطبعة الأخبار بمصر.
7 - الأسلوب للأستاذ الشائب، مكتبة النهضة المصرية.
8 - الأسلوب للأستاذ كامل جمعة، مكتبة القاهرة الحديثة.
9 - الاشارة الى الايجاز فى بعض أنواع المجاز للعلامة عز الدين بن عبد السلام، مخطوط، ط الآستانة.
10 - الأطول للعلامة عصام الدين، ط الآستانة.
11 - الاعلام للأستاذ خير الدين الزركلى، المطبعة العربية المصرية.
12 - البحر المحيط لأبى حيان.
13 - البديع لابن المعتز، مصطفى الحلبى.
14 - البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف، دار المعارف.
15 - البلاغة فى طور نشأتها للدكتور سيد نوفل، مطبعة السعادة.
16 - البلاغة بين عهدين للأستاذ محمد نايل، مخطوط بمكتبة كلية اللغة العربية.
17 - البلاغة التطبيقية للأستاذ أحمد موسى، ط المعرفة.
18 - البلاغة عند السكاكى للدكتور أحمد مطلوب، ط بغداد.(1/739)
19 - البيان والتبيين للجاحظ، طبعة لجنة التأليف.
20 - البيان العربى للدكتور بدوى طبانة.
21 - التفسير البيانى للقرآن الكريم الدكتورة عائشة عبد الرحمن، دار المعارف.
22 - الزمخشرى للأستاذ الحوفى، دار الفكر العربى.
23 - الشافية لعبد القاهر الجرجانى، دار المعارف.
24 - الشعر لأرسطو، تقديم ودراسة الدكتور شكرى عياد، دار الكتاب العربى.
25 - العبر فى أخبار من غبر لمورخ الاسلام الحافظ الذهبى، الكويت.
26 - الفلسفة القرآنية للأستاذ عباس محمود العقاد، كتاب الهلال.
27 - المحتسب فى الكشف عن وجوه القراءات لابن جنى، دار الكتب
28 - الموازنة بين الشعراء للدكتور زكى مبارك، دار الكتاب العربى
29 - المطول لسعد الدين التفتازانى، مطبعة أحمد كمال.
30 - المختصر فى أخبار من غبر لأبى الفداء، ط القسطنطينية.
31 - المجازات النبوية للشريف الرضى، مصطفى الحلبى.
32 - الصبغ البديعى فى اللغة العربية، للدكتور أحمد موسى، ط دار الكتاب العربى.
33 - المقاييس الجمالية عند عبد القاهر الجرجانى بحث مخطوط فى مكتبة كلية اللغة العربية للأستاذ سيد عبد الفتاح حجاب.
34 - النثر الفنى لزكى مبارك، دار الكتاب العربى.
35 - النحو والنحاة للشيخ محمد عرفة، مطبعة السعادة.
36 - الأنساب للسمعانى، ط ليدن.
37 - النقد الأدبى لأحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة.
38 - النقد المنهجى عند العرب للدكتور محمد مندور، دار نهضة مصر.
39 - النقد الأدبى الحديث للدكتور محمد غنيمى هلال، النهضة العربية.(1/740)
40 - ابن المعتز وتراثه فى الأدب والبلاغة للدكتور عبد المنعم خفاجى، التجارية.
41 - أمالى على عبد الرزاق مطبعة مقداد، بالقاهرة.
42 - انباه الرواة للقفطى، ط دار الكتب.
43 - بحوث وآراء فى البلاغة للشيخ أحمد المراغى، مطبعة العلوم بمصر.
44 - بغية الوعاة للسيوطى، مطبعة السعادة.
45 - بلاغة المفتاح دراسة وتقويم محمد أبو موسى مخطوط، مكتبة كلية اللغة.
46 - تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، طبعة كردستان.
47 - تاج العروس للزبيدى، تحقيق الدكتور صلاح المنجد، الكويت.
48 - تاريخ البلاغة العربية والتعريف برجالها للشيخ أحمد المراغى، مطبعة الحلبى.
49 - تاريخ الأدب العربى للرافعى، مطبعة الأخبار.
50 - تاريخ آل سلجوق للعماد الأصفهانى، مطبعة الموسوعات.
51 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادى، مطبعة السعادة.
52 - تاريخ الكامل لابن الأثير، ادارة الطباعة المنيرية.
53 - تاريخ البلاغة حتى نهاية القرن الرابع للأستاذ أحمد شعراوى، مخطوط، كلية اللغة.
54 - تاريخ النقد الأدبى عند العرب، للمرحوم طه إبراهيم، لجنة التأليف والترجمة.
55 - دراسات فى نقد الأدب العربى للدكتور بدوى طبانة، طبعة القاهرة.
56 - تاريخ النقد الأدبى للدكتور محمد زغلول سلام، دار المعارف.
57 - تحت راية القرآن للرافعى، مطبعة الاستقامة.
58 - تجريد البنانى.
59 - تفسير البيضاوى طبعة بولاق.(1/741)
60 - تلخيص البيان فى مجازات القرآن للشريف الرضى، دار احياء الكتب العربية.
61 - حاشية الشيخ عليان على الكشاف مطبعة الاستقامة على هامش الكشاف.
62 - حاشية مخطوط على الكشاف بمكتبة الأزهر لم يعرف مؤلفها.
رقم 371 (أباظة) الأزهر.
63 - حاشية الطيبى على الكشاف، مخطوط، دار الكتب والأزهر.
64 - حاشية الدسوقى على مختصر السعد على هامش شروح التلخيص.
65 - حاشية عبد الحكيم السيالكوتى على المطول، ط الاستقامة.
66 - حاشية الانبابى على الرسالة البيانية للصبان، طبعة الجولان.
67 - حدائق السحر ودقائق الشعر لرشيد الدين الوطواط، ترجمة الدكتور إبراهيم الشواربى.
68 - دراسات فى علم النفس الأدبى للدكتور حامد عبد القادر، المطبعة النموذجية.
69 - دائرة المعارف الاسلامية.
70 - رسائل الجاحظ على هامش الكامل، مطبعة التقدم العلمية.
71 - رسائل البلغاء نشرها محمد كرد على، لجنة التأليف والترجمة.
72 - رسائل رشيد الدين الوطواط مطبعة المعارف.
73 - زهر الآداب للحصرى، المطبعة الرحمانية.
74 - ضياء الدين ابن الأثير وجهوده فى البلاغة والنقد للدكتور محمد زغلول سلام، دار المعارف.
75 - طبقات المفسرين للسيوطى، طبعة أوروبا.
76 - طبقات الشافعية للسبكى، المطبعة الحسينية.
77 - عيار الشعر لابن طباطبا، المكتبة التجارية.
78 - غريب القرآن لابن قتيبة، دار احياء الكتب العربية.
79 - فلسفة البلاغة لجبر ضومط، المطبعة العثمانية.
80 - فن القول للأستاذ أمين الخولى، دار الفكر العربى.
81 - فن التشبيه للأستاذ على الجندى، نهضة مصر.(1/742)
82 - فن الجناس للأستاذ على الجندى، دار الفكر العربى.
83 - فى النقد الأدبى للدكتور شوقى ضيف، دار المعارف.
84 - فى الميزان الجديد للدكتور محمد مندور، نهضة مصر.
85 - فيض الفتاح للشيخ الشربينى، مطبعة مدرسة والدة عباس الأول.
86 - كشف الظنون لحاجى خليفة، ط أوروبا.
87 - كشاف الزمخشرى (مقال للأستاذ أمين الخولى) مجلة تراث الانسانية.
88 - اللغة الشاعرة للأستاذ عباس محمود العقاد، مطبعة الاستقلال
89 - مختصر المعانى للعلامة سعد الدين التفتازانى، طبعة صبيح.
90 - مذاهب التفسير الاسلامى لجولد تسهير، ترجمة الدكتور على حسن عبد القادر مطبعة العلوم.
91 - مذكرات فى البلاغة للشيخ سليمان نوار.
92 - مذكرة فى علم البيان للشيخ سليمان نوار.
93 - مسائل فى النقد للأستاذ عز الدين الأمين، مطبعة الاستقلال.
94 - مشكلاتنا اللغوية للأستاذ أمين الخولى، مطبوعات المعهد العالى للدراسات العربية.
95 - مقالات الاسلاميين لأبى الحسن الأشعرى، ط استانبول.
96 - مقدمة نقد النثر للدكتور طه حسين، وزارة المعارف.
97 - مقدمة ابن خلدون المطبعة البهية.
98 - مناهج تجديد للأستاذ أمين الخولى، دار المعرفة.
99 - منهج الزمخشرى فى تفسير القرآن للأستاذ الصاوى الجوينى، دار المعارف.
100 - من بلاغة القرآن للدكتور أحمد بدوى، مكتبة نهضة مصر.
101 - من الوجهة النفسية فى دراسة الأدب ونقده للدكتور محمد خلف الله، لجنة التأليف والترجمة.
102 - من حديث الشعر والنثر للدكتور طه حسين، دار المعارف.(1/743)
103 - مواهب الفتاح لابن يعقوب المغربى، شروح التلخيص، عيسى الحلبى.
104 - ميزان الاعتدال لشمس الدين الذهبى، ط السعادة.
105 - نظرية العلاقات للأستاذ محمد نايل، دار الطباعة المحمدية بالأزهر.
106 - نظرية المعنى فى النقد العربى للدكتور مصطفى ناصف، دار القلم.
107 - نقد النثر المنسوب لقدامة، طبعة وزارة المعارف.
108 - يتيمة الدهر للثعالبى، مطبعة حجازى بالقاهرة
* * *
محتويات الكتاب(1/744)
* * *
محتويات الكتاب
الصفحة الاهداء 3
مقدمة الطبعة الثانية 5
مقدمة الطبعة الأولى 37
تمهيد 53
الباب الأول: البحث البلاغى فى الكشاف (594121) الفصل الأول: البحث البلاغى قبل الكشاف 123
مفهوم النظم 123
النظر فى المفردات 129
البحث فى مسائل النظم 132
التقديم 133، الاستفهام 142، الأمر 149، الحذف 151، التكرير 164، الاعتراض 169، الالتفات 171، الفصل والوصل 175
البحث فى التشبيه 185
البحث فى المجاز 199
المجاز المرسل 200، الاستعارة 203، المجاز العقلى 214(1/745)
الصفحة الكناية 220
التعريض 223
البحث فى ألوان البديع 228
الفصل الثانى: النظم فى الكشاف 235
تحديد المراد بالنظم وبيان موضوعه 235
تحديد المراد بعلم المعانى وبيان موضوعه 241
تحديد المراد بعلم البيان وبيان موضوعه 248
علاقة علم النظم بعلم الاعراب 255
الفصل الثالث: النظر فى المفردات 261
ملاءمة الكلمة لسياقها من حيث مادتها 262
ملاءمة الكلمة لسياقها من حيث هيئتها 273
الجمع والافراد 274، المعانى البلاغية لصيغ الأفعال 279، المعانى البلاغية فى أبنية المشتقات 287
أدوات الربط 290
«ثم» والفاء 290، «قد» و «رب» 294، حروف الجر 296، «ان» و «اذا» 299
التعريف 302
التعريف باللام 302، التعريف باسم الموصول 309، التعريف باسم الاشارة 312، التعريف بالاضافة 313
التنكير 315
الفصل الرابع: البحث فى نظم الجملة 324
التقديم 325، الاستفهام 349، الأمر 368، النهى 376، النداء 378، القسم 381،
الصفحة التعجب 382، الكلام المنصف 382، النفى 384، القصر 389، العطف 395، البدل 399، الوصف 400، الحذف 403، الذكر 410، التوكيد 413، عناصر التوكيد 417، النظر فى المعنى 421(1/746)
التقديم 325، الاستفهام 349، الأمر 368، النهى 376، النداء 378، القسم 381،
الصفحة التعجب 382، الكلام المنصف 382، النفى 384، القصر 389، العطف 395، البدل 399، الوصف 400، الحذف 403، الذكر 410، التوكيد 413، عناصر التوكيد 417، النظر فى المعنى 421
الفصل الخامس: البحث فى الجمل 430
الفصل والوصل 430، الجامع 438، الفواصل القرآنية 440، الالتفات 443، التكرار 448، الاعتراض 452، الاختصار 456، ترتيب الجمل والآيات 458، تفسير النص 465
الفصل السادس: البحث فى صور البيان 473
التشبيه 474
التشبيه التخييلى 474، المفرد والمركب والمتعدد 475، التمثيل والتشبيه 479، التصوير والتشكيل 481، العلاقة بين المشبه والمشبه به 482، التشبيه المقلوب 484، أداة التشبيه 485، القيمة البلاغية للقيود فى المشبه به 486، الفرق بين التشبيه والاستعارة 488
المجاز 493
الاستعارة 496، الترشيح والتجريد 502، الاستعارة اللفظية 506، العكس فى الكلام 508، التمثيل والتخييل 520، المجاز المرسل 527، المجاز الحكمى 533
الكناية 545(1/747)
الصفحة التعريض 563
الفصل السابع: ألوان البديع 570
البحث فى ألوان البديع 570
المشاكلة 577، اللف 579، الاستطراد 582، التفصيل 583، الكلام الموجه 585، التورية 586، المقابلة 587، الطباق 588، الازدواج 590، التجانس 591، تأكيد المدح 592، الادماج 594
الباب الثانى: أثر الكشاف فى الدراسات البلاغية (735595) الفصل الأول: أثره فى مدرسة المفتاح 597
فى تقسيم البلاغة 599، الالتفات 601، أحوال المسند والمسند اليه 604، «ان» و «اذا» 606، التغليب 607، الكلام المنصف 608، التعبير بالمضارع عن الماضى 609، الفصل والوصل 610، الايجاز والاطناب 610، الاستعارة فى الحرف 612
الايضاح 614
المطول 622
الفصل الثانى: أثر الكشاف فى المثل السائر 635
الالتفات 637، توكيد الضميرين 646، عطف المظهر على ضميره 648، التفسير بعد الابهام 650، استعمال العام فى النفى والخاص فى الاثبات 653، التقديم والتأخير 654، الحروف الجارة 660، الجملة الفعلية والجملة الاسمية
الصفحة 661، عكس الظاهر 661، الاستدراج 663، الايجاز 666، الاطناب 671، التكرير 673، الكناية والتعريض 676، تقابل المعانى 679، كتاب الجامع الكبير 681، مناقشات 685(1/748)
الالتفات 637، توكيد الضميرين 646، عطف المظهر على ضميره 648، التفسير بعد الابهام 650، استعمال العام فى النفى والخاص فى الاثبات 653، التقديم والتأخير 654، الحروف الجارة 660، الجملة الفعلية والجملة الاسمية
الصفحة 661، عكس الظاهر 661، الاستدراج 663، الايجاز 666، الاطناب 671، التكرير 673، الكناية والتعريض 676، تقابل المعانى 679، كتاب الجامع الكبير 681، مناقشات 685
الفصل الثالث: أثر الكشاف فى كتاب الطراز 691
العلوى يدرس مسائل البلاغة مرتين 691
وفاء الكتاب بالغرض من تأليفه 696
المباحث التى أفادها من الكشاف 697
الاستدراج 697، الالتفات 701، التكرير 704، الفصل والوصل 706، التقديم والتأخير 711، معانى الحروف 715، الابهام والتفسير 717، توكيد الضمائر 719، الايجاز والاطناب 720، الكناية والتعريض 724، التخييل 727، الالهاب والتهييج 732
أهم مصادر البحث 736
أهم مراجع البحث 739
محتويات الكتاب 745
* * *
كتب للمؤلف(1/749)
* * *
كتب للمؤلف
1 - البلاغة القرآنية فى تفسير الزمخشرى وأثرها فى الدراسات البلاغية.
2 - الاعجاز البلاغى دراسة تحليلية لتراث أهل العلم.
3 - التصوير البيانى دراسة تحليلية لمسائل البيان.
4 - خصائص التراكيب دراسة تحليلية لمسائل علم المعانى.
5 - دلالات التراكيب دراسة بلاغية.
6 - قراءة فى الأدب القديم.
7 - القوس العذراء وقراءة التراث.(1/751)