الإهداء الى أطياف النور
هذا جهد متواضع في ميدان البحث العلمى لم أتريث فى اهدائه الى ثلاثة رجال خالطوا قلبى، وكان لهم من النفس موقع جليل.
الى روح الامام الجليل أبى بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى، ذلك الذى شرع لبحث البلاغة منهجا قيما، يعرف فضله كل باحث يحترم العقل والحق.
والى روح الامام الثبت أبى القاسم محمود بن عمر الزمخشرى، الذى منح العروبة ولسانها عقله وقلبه ووجدانه، فأودع تراثها ذخرا من الدراسة اللغوية والأدبية لا يزيده مر الزمن الا قوة وأصالة ومكانة.
والى روح والدى رحمه الله الذى كانت آخر أنفاسه فى هذه الدنيا همهمات ضارعات الى الله أن يوفق ولده فى طلب الخير، وأن يجعله من حملة هذا العلم الذى يحمله من كل خلف عدوله.
أهديه الى هذه الأطياف التى طالما أبصرتها حائمة فى آفاقى ترسل النور وتبعث الأمل.
محمد محمد أبو موسى
* * *
بسم الله الرّحمن الرّحيم(1/3)
* * *
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة الطبعة الثانية
اللهم انى أستعينك على أن أذكرك ما ذكرك الذاكرون، وأن استغفرك ما استغفرك الأوابون، وأسألك توبة محاءة، ورحمة واسعة، وسترا لا ينكشف.
اللهم انى أسألك أن تجعل كلمتك التى أنت قائلها ارثا قائما فى عقبى الى يوم أن نلقاك {«وَوَصََّى بِهََا إِبْرََاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يََا بَنِيَّ إِنَّ اللََّهَ اصْطَفى ََ لَكُمُ الدِّينَ فَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»} (1).
وبعد
فان دراسة الكلام المختار وتحليله واستجلاء معانيه هى الغاية التى وراء كل فروع الدراسات اللغوية بمختلف مذاهبها.
ولم يقف علماؤنا عند كلام يحللونه ويستخرجون منه كما وقفوا عند كلام الله سبحانه، وقد استخرجوا من أنفسهم أدق الوسائل وأعمقها، وأحكمها فى هذا الباب، لأنهم يحرصون على أمرين. الأول:
ألا يفوتهم معنى من معانى كلام الله فلا يستخرجونه، والثانى:
ألا يستخرجوا من كلام الله غير مراده سبحانه لأن فى فوات الأولى نقص يلحق الشريعة، وفى فوات الثانية دخول ما ليس من شرع الله فيه، وهذان محظوران كل حظر.
ولهذا أحكموا وسائلهم اللغوية والبلاغية وراجعوا ودققوا حتى استيقنوا. وقد كان الفقهاء من أكثر علمائنا احتياطا فى هذا الباب، وكانت لهم ملاحظات واعتبارات غاية فى الدقة، اقرأ كتاب «الرسالة»
__________
(1) البقرة: 132(1/5)
للشافعى، وتأمل كيف كانت تنفذ فطنته فى اختصار شديد الى المسافات الممتدة وراء المعانى الظاهرة، وكيف كان يلتقط رقائق تذهلك حين يكشف وجهها، ويضع اليد على العلاقة المتينة بين اللفظ وما استخرجه منه، وكيف كان يعتبر وسائل متعددة، منها ما يتصل بالسياق الخاص والسياق العام، ومنها ما يقوم على ثقافات ومعارف خارج التركيب اللغوى، وكلام الشافعى كله شاهد على منهج دقيق فى تحليل النصوص وطريقة حوار الكلام ومجاذبته، تأمل تفسيره لكلمة الحكمة فى قوله تعالى: {«وَاذْكُرْنَ مََا يُتْلى ََ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيََاتِ اللََّهِ وَالْحِكْمَةِ»} (2).
يقول الشافعى: «سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول:
الحكمة سنة رسول الله».
ثم رجح الشافعى ذلك بمرجحات منها أن الحكمة حين تأتى فى الكتاب العزيز تكون مقترنة بالكتاب لا تقدم عليه، وانما يكون التركيب «الكتاب والحكمة» وهذا يعنى أنها تتلو الكتاب دائما وهذا يجعلها أشبه بالسنة، ثم ان هذا التركيب «الكتاب والحكمة» يأتى فى القرآن مفعولا به للفعل «يعلّم»: {«وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ»} (3).
والرسول صلّى الله عليه وسلم انما علم الناس الكتاب والسنة، ثم ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتى فى ذكر الايمان مقترنا باسم الله سبحانه، وهذا يرجح أن تكون الحكمة المقترنة بالكتاب هى السنة.
وهكذا ترى هذه تأملات لغوية، وملاحظة قرائن أسلوبية تقوم على مراجعة مواقع الكلمة فى السياق القرآنى، واستقصاء ذلك واصطناعه فى استخراج المعنى. وكان المفسرون والفقهاء شيوخ لغة وشعر ورواية، وكان العلم باللغة والشعر أصل العلم كله فى التفسير والفقه وأصول الدين، وقد قال الأصمعى: قرأت شعر الشنفرى على محمد بن ادريس، وقال: قرأت ديوان هذيل على شاب من شباب
__________
(2) الأحزاب: 34
(3) الجمعة: 2(1/6)
قريش يقال له محمد بن ادريس الشافعى، وكان مالك بن أنس يقول:
«لا أوتى برجل يفسر كتاب الله غير عالم بلغة العرب الا جعلته نكالا» ويقول مجاهد: «لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم فى كتاب الله اذا لم يكن عالما بلغات العرب» وهذا كلام يدخل المسألة باب الحل والحرمة. ويحرّم على من لم يفهم اللغة والنحو أن يفسر القرآن.
ويقول ابن عباس: «الشعر ديوان العرب فاذا خفى عليهم الحرف من القرآن الذى أنزله الله بلغتهم رجعوا الى ديوانهم فالتمسوا معرفة ذلك».
ويقوم بعض كتابنا بتفسير القرآن تفسيرا بعيدا عن الاعراب واللغة ومعتمدا على ايحاء الألفاظ وظلالها وهذا ليس هو الطريق الذى سلكه أهل العلم. وان كان قد خدع به من لم يؤسسوا علمهم على الوجه الصحيح. كما أن بعض المشتغلين بالعلم يدعون الى الرجوع الى القرآن وحده فى دراسة أصول العربية من نحو وصرف وبلاغة، وهذا خطأ بيّن لأن القرآن انما يفهم فى ضوء اللسان الذى أنزله الله به، وهذه قاعدة العلماء، ولهذا حفظوا اللسان، وحفظوا شعره ونثره، وما تراجز به الأعراب على أفواه القلب كما كانوا يقولون، لأن هذا الذى يتناثر من أفواههم هو السبيل الى فهم القرآن.
«روى عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أدرى ما قوله: {«رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنََا وَبَيْنَ قَوْمِنََا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفََاتِحِينَ»} (4). حتى سمعت ابنة ذى يزن الحميرى وهى تقول: أفاتحك يعنى أقاضيك» وجاءه رجل من هذيل فقال له ابن عباس: «ما فعل فلان؟ قال: مات وترك أربعة من الولد، وثلاثة من الوراء فقال ابن عباس: فبشرناه باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب قال: ولد الولد» (5).
وحقل التفسير وعلوم القرآن غنى بحقائق ذات صلة قوية بالدراسة
__________
(4) الأعراف: 89
(5) البرهان ج 1ص 293وما بعدها.(1/7)
الأدبية، ولكنها غير منتفع بها لأننا لم ننقلها الى هناك، والغريب أن كثيرا منا يدرسها فى علوم القرآن ثم اذا بدأ يكتب ويفكر فى الدراسة الأدبية تركها ولم يستصحبها معه، مع أننا على يقين من أن نقل المعلومات من حقل من حقول المعرفة الى حقل آخر له أثر كبير فى هذه المعلومات وهذه المعارف، وخصوصا اذا كانت مما تتلاءم مع الحقل الجديد، وقد قدم لنا عبد القاهر نموذجا ناجحا لهذا الضرب من تحريك الأفكار وادخالها فى حقول علمية جديدة، وذلك حين كان ينقل كثيرا من أفكار سيبويه الى البيئة البلاغية وقد رأينا هذه الأفكار تتسع وتصير خصبة وذات مذاق مختلف وآثار مختلفة.
وحاول أن تستخرج مقولات سيبويه من كتاب «دلائل الاعجاز» وادرس كيف تأسس على اختصارها النحوى بسطا بلاغيا جيدا، وكيف صارت فروعا ممتدة ومتنوعة. وكان أكثر علم المعانى راجع الى هذه الجذور النحوية التى اهتزت وربت لما نقلت الى تربة جديدة.
وأرى أن كثيرا من مفاهيم علوم القرآن صالح لأن يكون فكرا أدبيا جديدا حين ينقل الى حقل الشعر وسوف أعرض بعض المفاهيم التى تبدو بعيدة عن حقل الشعر وأنها من خصوصيات القرآن مثل موضوع «النسخ» وقد تخيرته لشدة بعده، ومثل قولهم: القرآن يفسر بعضه بعضا، وغير ذلك مما نشير اليه اشارات سريعة.
وقبل الخوض فى هذا أشير الى أمر مهم وهو أننا نتفق غالبا فى فهم المسألة ونختلف فيما تبعثه المسألة فى نفوسنا من أفكار، وصور وخواطر، وهذا الاختلاف راجع الى أحوال نفوسنا، فهناك من تجد عندهم ميلا الى المغامرات الذهنية، وهناك من تجدهم يتحرجون فى هذا، أو يتحركون بخطوات وئيدة لا تحلق خيالاتهم (فى باب العلم) الا بجناح مقصوص، والمغامرات الذهنية فى باب العلوم لا تختلف عن الآفاق الخيالية الرحبة فى باب الفنون من حيث هو مجال للوثب الذهنى، والحركة العقلية الطموحة.
ومن أهم ما يؤدى الى اختلافنا وتنوعنا فى تحريك الأفكار
واستنطاقها والفتق عن مكنوناتها، موقفنا فى القراءة والتحصيل، فهناك من يدرس ليحصّل ويجتهد فى أن يستوعب أفكار الآخرين، ويملأ منها عيبته، ثم يكتفى بأن تكون دراساته ومصنفاته مزيجا من ذلك كله، فيوهم بسعة الثقافة ومواكبة العصر، والتوشح بالأصالة وبالمعاصرة معا، وهكذا ترى فى كتبه كتب الناس، وفى رأسه عقولهم، وفى فمه السنتهم، وهذا هو حال أكثر كتابنا وعلمائنا، وهم مختلفون بمقدار اصابتهم فى باب التحصيل هذا.(1/8)
ومن أهم ما يؤدى الى اختلافنا وتنوعنا فى تحريك الأفكار
واستنطاقها والفتق عن مكنوناتها، موقفنا فى القراءة والتحصيل، فهناك من يدرس ليحصّل ويجتهد فى أن يستوعب أفكار الآخرين، ويملأ منها عيبته، ثم يكتفى بأن تكون دراساته ومصنفاته مزيجا من ذلك كله، فيوهم بسعة الثقافة ومواكبة العصر، والتوشح بالأصالة وبالمعاصرة معا، وهكذا ترى فى كتبه كتب الناس، وفى رأسه عقولهم، وفى فمه السنتهم، وهذا هو حال أكثر كتابنا وعلمائنا، وهم مختلفون بمقدار اصابتهم فى باب التحصيل هذا.
وهناك من يقرأ ليفكر، ويحصّل ليتدبر، ويستوعب ليتشرب، يستوى عنده كل ما تقع عليه عينه غير ناظر الى أنه يوافق أصحاب هذا الفكر أو يخالفهم، المهم عنده أن يستنهض فى نفسه عقلا يستنزل صوبه من غمامه، ويستنبط فكرته من معدنه، ويخفق بجناحه هو، ويقول بلسانه هو، ويكتب بمداده هو، وهكذا كل ذى أنفة، ولا تجد باحثا مقتدرا الا وفيه بأو = ينأى به عن أن يختلس لسانه ما فى أفواه الآخرين، وأن يعيش بين الناس وهو يمضغه فى غير حياء، هذا أصل يجب أن نقدمه بين يدى الفكرة التى نريد تأكيدها وهى ضرورة انتفاع الدراسة الأدبية بما فى علوم القرآن، لأنها فى جملتها قائمة على اللغة والشعر.
ولو تصورت أننى نقلت موضوع النسخ من حقل الدراسة القرآنية الى حقل الدراسة الأدبية فكيف أراه؟
لو قلت: اننى فى ضوء هذا أنظر لأتعرف هل نسخ الشاعر بعض معانيه، يعنى نفى ما أثبت، أو أثبت ما نفى، أو رضى ما كره، أو كره ما رضى، لكان هذا تفكيرا قريبا ونقلا حرفيا للفكرة مع أنه لا يخلو من فائدة.
وانما لا بد من تحريك الفكرة، واستنطاقها بغير ما كانت تنطق به هناك، وحسبها هنا أن ترشدنا الى دراسة الديوان دراسة تاريخية مرتبة ترتيبا زمنيا مضبوطا، وهذه مسألة لا تكلف شيئا فى الشعر الحديث لأن الشعراء يؤرخون قصائدهم، أما فى الشعر القديم فانها
مكلفة مشقة ولا تتم الا بفهم واستيعاب، وهذا أول ما ترشدنا اليه فكرة النسخ حين ننقلها الى الشعر.(1/9)
وانما لا بد من تحريك الفكرة، واستنطاقها بغير ما كانت تنطق به هناك، وحسبها هنا أن ترشدنا الى دراسة الديوان دراسة تاريخية مرتبة ترتيبا زمنيا مضبوطا، وهذه مسألة لا تكلف شيئا فى الشعر الحديث لأن الشعراء يؤرخون قصائدهم، أما فى الشعر القديم فانها
مكلفة مشقة ولا تتم الا بفهم واستيعاب، وهذا أول ما ترشدنا اليه فكرة النسخ حين ننقلها الى الشعر.
ثم ندرس شعر الشاعر فى ضوء هذا الترتيب الزمنى المتقن، والدراسة فى هذا سوف تتوفر على دراسة وسائل الشاعر، وأدواته اللغوية، وطريقة تصريفه لها، فى بناء شعره، وهذا يشمل صياغته وكلماته، وصوره ورموزه، ومنازعه العامة فى بناء قصيدته، مداخله ومخارجه هل كان يمضى ذلك وغيره مما يدخل فى بنية شعره فى خط متصاعد صارت به أواخر شعره مغايرة لأوائله من حيث الرقى الملحوظ فى هذه الأدوات وهذه الوسائل؟
أم أن هذه الوسائل اللغوية عنده قد انتهت عند النقطة التى بدأت بها فتشبيهات الشاعر مثلا فى أواخر قصائده كتشبيهاته فى أوائلها، وكذلك مجازاته وكناياته، ورموزه وصوره.
وهذا البحث لو أتقناه لكان بحثا ممتعا، لأنه يحكى لنا قصة الشاعر مع الشعر، يعنى قصة ابداعه وخواطره وصوره وما داخل شعره فى هذه المرحلة الزمنية التى شغل فيها بالشعر.
وكل ذى صنعة ولوع بها، صابر عليها، منقطع لها، لا بد أنك تراه وهو فى قمة نضجه ينكر كثيرا مما كان عليه فى بواكير صنعته، والتبريزى يقول: ان أبا العلاء «كان يغير الكلمة اذا قرأت عليه من شعره فى صباه الملقب بسقط الزند (بكسر السين وفتح الزاى المشددة) وكان يحث التبريزى على الاشتغال بغيره من كتبه ك «لزوم ما لا يلزم» (6) وأنا لا أعرف دراسة واحدة فى أدب العربية تناولت تطور الوسائل اللغوية فى ديوان شاعر، والمراد بالوسائل اللغوية كل ما يدخل فى نسيج الشعر لأنه كله أمر متعلق باللغة، أو قل بعبارة أكثر تحديدا: تطور الخصائص البلاغية فى شعره ورصد هذا وقياسه وضبطه.
وأقول: ان هذا الضرب من الدراسة تهدينا اليه فكرة «النسخ» وهى قضية قرآنية لحما وشحما.
__________
(6) مقدمة شروح سقط الزند ج 1ص (د).(1/10)
وتأمل قول المفسرين: ان القرآن يفسر بعضه بعضا، وانزع هذه الكلمة من حقل التفسير، واغرسها فى دراسة الشعر، وهى ليست غريبة كغربة فكرة النسخ لأننا نقول: لكل شاعر معجمه، ونعنى بذلك أن دلالة الألفاظ فى شعر امرئ القيس تختلف عنها فى شعر زهير، بل ان اللفظة فى ديوان الشاعر تختلف دلالتها من موقع الى موقع، لأن السياق وجو المعنى مختلف لا محالة، وهو الذى يحرك الكلمات ويفرغ فيها مذاقه، وهذه مسألة ظاهرة، وتأمل قول البلاغيين فى اختلاف دلالة لفظ «حاجب» فى قول الشاعر:
له حاجب = فى كل أمر يشينه
وليس له عن طالب العرف حاجب
وقل أكثر من ذلك فى الصور والمجازات والتشبيهات، وكل ما هو داخل فى صنعة الشعر، والصنعة الدقيقة فى هذه الفنون تقتنص من الشاعر بعض سماته، وتسكنها فيها، وتجعلها دالة عليه، ولكنها لا تكشف هذا المكنون الا بالدراسة التى تقوم على الروية والفكر لأنها رقائق أسدلت دونها حجب، ولها أقوام قد هدوا اليها ودلوا عليها وهذا كلامهم، والمهم أن الشاعر يجرى فى هذه الصنعة شبها واحدا هو شبهه وسمتا واحدا هو سمته، وأن العين الواعية لا تخطئ هذه الوشيجة كما أن عين صاحب الفراسة لا تخطئ فى تفرسها.
وهذا كلام مجمل، وتفصيله فى خطوته الأولى هو أن أحدد مفردات الشاعر وأضعها فى نظام معجمى، تظهر فيه الكلمات التى تكررت، والكلمات التى لم تتكرر، ثم أنظر فى الكلمات التى تكررت وأحدد المعانى الجانبية التى انفرد بها موقع دون موقع، وهذا مهم لأن المعانى المضافة هى من السياق، وتنوعها وغزارتها انما يكون بحسب قدرة الشاعر على خلق السياق الذى يفعمها بما يثيره من أجواء، وبهذا تقاس قدرة الشاعر ويقاس أثره فى مفردات اللغة، تأمل مثلا كلمة «السنا» أو «البرق» فى ديوان امرئ القيس وكيف كان كأنه يخلقها فى كل موضع خلقا جديدا. وكيف كان ينفحها من شاعريته
ما يجعلها تتجدد وهكذا، وبهذا دون غيره يصح أن تكون كلماته يفسر بعضها بعضا.(1/11)
وهذا كلام مجمل، وتفصيله فى خطوته الأولى هو أن أحدد مفردات الشاعر وأضعها فى نظام معجمى، تظهر فيه الكلمات التى تكررت، والكلمات التى لم تتكرر، ثم أنظر فى الكلمات التى تكررت وأحدد المعانى الجانبية التى انفرد بها موقع دون موقع، وهذا مهم لأن المعانى المضافة هى من السياق، وتنوعها وغزارتها انما يكون بحسب قدرة الشاعر على خلق السياق الذى يفعمها بما يثيره من أجواء، وبهذا تقاس قدرة الشاعر ويقاس أثره فى مفردات اللغة، تأمل مثلا كلمة «السنا» أو «البرق» فى ديوان امرئ القيس وكيف كان كأنه يخلقها فى كل موضع خلقا جديدا. وكيف كان ينفحها من شاعريته
ما يجعلها تتجدد وهكذا، وبهذا دون غيره يصح أن تكون كلماته يفسر بعضها بعضا.
والخطوة الثانية هى استقصاء صوره من تشبيهات ومجازات وكنايات.
أبين كيف كانت تشبيهاته للمرأة؟ وكيف كانت تشبيهاته للأطلال؟ وكيف كانت تشبيهاته للناقة؟ وكيف كانت تشبيهاته لأدوات الحرب؟ وكيف كانت تشبيهاته للطبيعة؟ والمطر؟ والنجوم؟ والقفار؟
الى آخر ما جرى فيه هذا اللون، ثم ما هى طريقته فى تكوين هذه التشبيهات؟ وما أدواته فيها؟ الى آخر ما يحدد لى مسلكا خاصا بالشاعر فى هذا الباب يصح أن يكون اطارا أفسر فى ضوئه بعض تشبيهاته فى ضوء بعض.
والأمر فى المجازات أيسر. لأنى أحصر كل كلمة استعملها فى غير ما وضعت له حتى أرى مجازه محصورا مضبوطا معدودا عدا.
ثم أبين الكلمات التى تكررت فى المجاز وأقول: ان هذه اللفظة تجرى عنده مجازا فى كذا وكذا، الى آخره، وهذا كشف ساطع لحركة اللغة فى ديوان الشاعر وقياس قدرته فى ذلك، ونحن موقنون أن هذا القياس يحدد لنا مكانة الشاعر فى لغة أمته، وقدرته على عطائها، لأن اللغات لا تتسع وحدها ولا من حيث هى ألفاظ وتراكيب تتعاورها ألسنة العامة، أو المواهب المحدودة، وانما تتسع وتتعمق وتغرز وسائلها بقدرات الطاقات المتفردة من شعرائها وأدبائها فهم الذين يفرغون فى كلمات اللغة أضواء جديدة، ويستخرجون من صيغها صورا جديدة، ويرققون من حواشيها، ويبعثون الرهافة واللطافة ودقة الحس فى امكاناتها، ورحم الله أبا الفتح فقد أشار الى هذا والى ما هو أجل منه.
لن أستطيع أن أجعل شعر الشاعر دالا بعضه على بعض الا اذا امتلكت فى يدى مفرداته وصيغه، وصوره، وخواطره، وخيالاته، ونوازعه، وكل ما يدخل فى بنية شعره، واذا كنا نتحدث أكثر عن المفردات والصيغ والصور فلأنها هى سبيلنا الى معرفة كل ما يتحرك فى الديوان من عوالم وهواجس وأرواح ونوازع.(1/12)
وانقلك الى موضوع المناسبة بين الآيات أو علم المناسبة، وقد قالوا: ان أول من أظهر علم المناسبة الشيخ أبو بكر النيسابورى وكان واسع العلم فى الشريعة والأدب.
تأمل سعة العلم فى الشريعة والأدب معا
وأذكر مرة ثانية بأنه لا بد أن نقوم ببسط الفكرة من بعض جوانبها أو تحويرها أو مجرد الاستضاءة بها، وليس المطلوب تطبيقها ونحن هنا نحاول أن نفتح الجداول التى تجرى فيها فنون المعرفة وتتحرك فى البنية التركيبية لمجموعة العلوم العربية والاسلامية لأنه قد حبس بعضها عن بعض، بل قد أهمل بعضها وأميت فى مدارسنا وجامعاتنا. وأقول: ان اعادة التداخل والانتقال وتنشيط حركة الانتقال بين المعارف محتاج الى ذكاء ولقانة فى حوار الأفكار وتحريكها حتى نتبين الجهة التى تبعث ضوءا مناسبا للسياق الجديد، ثم انه لا يستطيع كاتب فى وقت محدود أن يخرج من الفكرة فكرة صالحة لسياق جديد لأن هذا باب من العلم المتسع لا يفتح الا بمكابدة وطول طرق، ونحن لم نتعود على ذلك وانما تعودنا على تحصيل ما كابد الآخرون فى استخراجه، وانما اختلفنا فقط من حيث كنا فريقين: فريق يكابد فى تحصيل مقالة علمائنا، وفريق يكابد فى تحصيل مقالة العلماء المنتسبين الى الحضارات القاهرة لنا، وبهذا فقد الفريقان أجل ما فى العلم وأنبله، وهو المكابدة الجليلة النبيلة فى استخراج دفائنه.
أقول هذا ثم أذكر ما يقع فى نفسى من حديث المناسبة لو أننا انتفعنا به فى الدراسة الأدبية، وأول ما يتبادر الى النفس منه هو البحث الذى يكشف المناسبة بين العناصر المكونة للقصيدة من صور ورموز وصيغ وخواطر وأحوال، وقد ذكروا أن عمود البحث فى المناسبة «أو الأمر الكلى المفيد لعرفان مناسبات الآيات فى جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذى سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج اليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر الى مراتب تلك المقدمات فى القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام فى المقدمات الى
ما يستتبعه من استشراف نفس السامع الى الأحكام واللوازم التابعة التى تقتضى البلاغة شفاء الغليل، بدفع عناء الاستشراف الى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلى المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فاذا عقلته تبين لك وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة».(1/13)
أقول هذا ثم أذكر ما يقع فى نفسى من حديث المناسبة لو أننا انتفعنا به فى الدراسة الأدبية، وأول ما يتبادر الى النفس منه هو البحث الذى يكشف المناسبة بين العناصر المكونة للقصيدة من صور ورموز وصيغ وخواطر وأحوال، وقد ذكروا أن عمود البحث فى المناسبة «أو الأمر الكلى المفيد لعرفان مناسبات الآيات فى جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذى سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج اليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر الى مراتب تلك المقدمات فى القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام فى المقدمات الى
ما يستتبعه من استشراف نفس السامع الى الأحكام واللوازم التابعة التى تقتضى البلاغة شفاء الغليل، بدفع عناء الاستشراف الى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلى المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فاذا عقلته تبين لك وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة».
والنظر هنا ينغل في جهات أربع:
الأولى: نظر في الغرض واستكشافه وتحديده، وليس هذا بالأمر الهين لأنه لا يظهر الا بفحص الكلام كلمة كلمة، وتركيبا تركيبا، وصورة صورة. وأن يكون نظره في ذلك نظر اليقظ الدراك الذى تهديه موهبته الى اصابة المغزى وادراك المقصود.
والجهة الثانية: النظر في المقدمات. يعنى معرفة منازل المعانى ومراتبها في ضوء المعرفة الواضحة للغرض الذى انعقد عليه الكلام.
وبهذا نوضح المعنى الذى هو بمثابة الأصل، والمعنى الذى هو مهاد ووطاء، وهذا باب من النظر يحتاج الى مراجعة وأناة، وأذكر لك قياسه فى المعانى الجزئية، تقول: أقبل زيد ضاحكا. اذا كان رأس المعنى هو الاخبار باقباله، وكان الضحك تابعا لهذا الأصل، فاذا كان رأس المعنى هو الاخبار بضحكه قلت: ضحك زيد مقبلا، وهكذا ترى فى الجملتين خبرين لا خبرا واحدا ولكن أحدهما رأس المعنى والثانى فرع له وتابع.
وتأمل كلام عبد القاهر في قول البحترى:
ولم أمدح لأرضيه بشعرى ... لئيما أن يكون أصاب مالا
ولماذا أعمل الفعل الأول «أمدح» فى الاسم الظاهر، وأعمل الفعل الثانى «أرضى» فى ضميره، وعبد القاهر يقول: لأن الفعل الأول هو الذى انعقد عليه المعنى اذ المقصود نفى أن يمدح اللئيم وقوله «لأرضيه» جاء تابعا للفعل الأول وملحقا به، وهكذا يقدم لنا البلاغيون نموذجا دقيقا للبحث في المعانى التى قصد قصدها والمعانى التى جاءت تابعة للمعنى الأول أو مقدمة له، وعلى هذا يقاس النظر الى المقاصد الكلية ومقدماتها.(1/14)
والجهة الثالثة: أن تنظر الى مراتب تلك المقدمات في القرب.
والبعد من المقصود، يعنى العلاقة بين المقدمة والمطلوب. ولا بد أن تكون المقدمات موشاة بتوشية تشير الى المطلوب، وهذا في الشعر يفيد أن الحديث عن الطلل والرحلة والصاحبة في قصيدة المديح غير الحديث عن الطلل والرحلة في قصيدة الهجاء، ثم ان مدائح الملوك غير مدائح قواد الجيوش، ومدائح الكتاب والعلماء غير مدائح غيرهم، وهكذا وهذا يعنى أن الغرض في تحديده الدقيق لا يكفى أن يقال فيه هو مديح أو هجاء، وانما يتحدد المديح بصورة أدق، لأن لكل باب من أبواب المديح مداخله التى هى أشبه به، ولهذا تجد ذكر الصاحبة والرحلة والناقة في قصائد الأعشى التى يمدح بها قيس بن معد يكرب غير الصاحبة والرحلة والناقة في قصائده التى يمدح بها هوذة بن على، وهكذا.
والجهة الرابعة: هى النظر في حركة الكلام وكيف تثير فى مسيرتها هواجس وأحوالا، وأشجانا، ترى الكلام يقف عندها ويتغلغل حتى يشبع أحوال الاستشراف هذه، وذلك وفاء لحق البلاغة كما قالوا، وهو جيد لأنه استكشاف حالة المجاذبة بين اللغة والنفس، وهى انما تكون في البنية الداخلية للغة حيث نرى البيان هناك يناغى النفس مناغاة الأم وليدها حين تستثير أشواق الطفل نحو شىء ثم تشبعها، ثم تستثيرها ثم تشبعها، وهكذا يتولد الحب وتكون الألفة بين السامع واللغة التى أثارت أشواقا وأشبعت رغائب، كل هذا وهى في طريقها نحو المقصود ثم هو مشروط بألا يخرج الكلام عن المقصود.
هذا نص من نصوص كثيرة جاءت في علم المناسبة، وفيه ما ترى.
وقد قلنا: اننا لا نطبق كل ما يقال في علوم القرآن تطبيقا حرفيا في دراسة الشعر، وانما نستلهم ونستضىء ونستخرج.
وهذا النص الذى شرحته فيه إشارة جيدة هى دراسة العلاقة بين مداخل المقاصد، والمقاصد نفسها، يعنى مقدمات القصائد وموضوعات
القصائد، وهذا باب من غوامض الشعر، وقد تجد عنصرا لغويا غريبا في بناء القصيدة، ويظل هذا العنصر ناتئا عندك لا تستسيغه ولا تستوعبه فيما استسغت واستوعبت من عناصر القصيدة حتى تقع على مناسبته الخفية لعناصر أخرى دخلت في بناء القصيدة.(1/15)
وهذا النص الذى شرحته فيه إشارة جيدة هى دراسة العلاقة بين مداخل المقاصد، والمقاصد نفسها، يعنى مقدمات القصائد وموضوعات
القصائد، وهذا باب من غوامض الشعر، وقد تجد عنصرا لغويا غريبا في بناء القصيدة، ويظل هذا العنصر ناتئا عندك لا تستسيغه ولا تستوعبه فيما استسغت واستوعبت من عناصر القصيدة حتى تقع على مناسبته الخفية لعناصر أخرى دخلت في بناء القصيدة.
اقرأ قول الأعشى:
ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل
غرّاء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشى الهوينا كما يمشى الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مرّ السّحابة لا ريث ولا عجل
وتأمل صورة مشى الوجى الوحل، بين هذه الصور تجدها صورة غريبة نافرة لا تلتئم مع ما حولها.
وتعجب كيف يرمى الأعشى بهذه الصورة الغريبة النافرة، وهو يصف محاسن هريرة ويتأنق فيها ويبالغ. انظر الى أول البيت «غراء فرعاء مصقول عوارضها» وكيف تواترت الكلمات تصف النعمة، والصون، والنقاء، والصفاء، ثم كيف يرمى بها الكلام فجأة فى الوحل، وهى موجوعة الأقدام، والوجى معناه رقة القدم أو الحافر من الحفى، وذلك يكون من طول السير على أرض غليظة خشنة ظالمة تأمل
وأصحابنا من حذاق البلاغة الحديثة والصورة الجديدة يذكرون أن مثل هذا من التشبيهات الحسية الجامدة التى تجاوزتها الصورة الحديثة، وأنها تخلو من المناسبة النفسية، وأن طرفيها يثيران فى الحس شعورا متباينا، الى آخر هذه «التعويذة» الجديدة التى ينزلون برقاها آبدات المعانى من سماوات الالهام.
والأعشى له من البصر بالشعر ما يعصمه من مثل هذا الاختلال، وخاصة في مطلع قصيدة هى من أجود شعره، وفيها من دقائق الصنعة ما يعدل معلقته «ما بكاء الكبير بالأطلال» حتى انها تذكر دونها.(1/16)
ولهذا لا نرمى الرجل بما يرميه به هذا الفقه الجديد في بلاغة الكلام.
ونقول هذا ونعلم علما أن هذه البلاغة الحديثة مستبدة طاغية مثل كبرائنا، وأن الذى يتشبث بما هو مقتنع به من علم العلماء، ولم يطأطىء رأسه اجلالا لها لا بد أن يضرب منها أو من صبيانها بسياط التخلف والجمود والجهل الى آخره، حتى لتكاد تدفنه حيا ملفوفا فى كتبه وملازمه الصفراء كما يفعل كبراؤنا مع رجالنا الذين يقولون لهم «لا» أو يتأخرون قليلا في القول «نعم»، وهنا أيضا مناسبة لطيفة لأن الثقافة الغالبة فى عهد الطواغيت لا بد أن تكون فيها نفثة من نفثات الطاغوت. ودع هذا وعد الى أبى بصير، ولأزيدك احساسا بغرابته وغموضه تأمل البيت الذى يليه:
كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مرّ السّحابة، لا ريث ولا عجل
المراد أيضا وصف لين مشيتها وبطئها، ثم انظر كيف ارتقى بها الى السماء وجعلها سحابة تمر مرا لا ريث فيه ولا عجل، وأى شىء أشبه بالمرأة من السحابة التى فيها الوفر، والسخاوة، والرى والانبات، والخصب، مع أن أول البيت أنها خرجت من بيت جارتها، وهذا بخلاف أول البيت الذى قبله «غراء فرعاء مصقول عوارضها» وكل هذا يلح على أن «الوجى الوحل» فيه رمز الى شىء مهم، لأنه ترك هريرة ونافرها منافرة ظاهرة والكلام قبله متآلف معها تآلفا ظاهرا والكلام بعده كذلك.
وهذا العنصر اللغوى الشارد متناسب تناسبا ظاهرا مع صورة ذكرت بعد ثلاثة وأربعين بيتا كانت مزيجا غنائيا رائعا، ترى فيه الصبوة المتوهجة تطل منها أحيانا الصورة العارية ذات الشهوة، والتى تصف ذروة الاقتدار والتمكن، وكأنها رمز الى قمة التحدى والمواجهة وفرس عنق الخصم، ولهذا نرى صور العراء المفحش في قصائد الهجاء وكأنها مظهر التوقح والطعن والقهر والسحق، ومقدمة رامزة الى فحش القول.(1/17)
كما ترى في هذه الأبيات نشوة عارمة بجمال الأشياء، واستخفافا ساخرا بعواطف الناس والعلاقات الانسانية وأنها زيف. كلها خادع ومخدوع، اقرأ وتأمل:
علّقتها عرضا، وعلقت رجلا ... غيرى وعلّق أخرى غيرها الرّجل
وعلّقته فتاة ما يحاولها ... من أهل ميت يهذى بها وهل
وعلّقتنى أخيرى ما تلائمنى ... فاجتمع الحبّ حبّا كلّه تبل
فكلنا مغرم يهذى بصاحبه ... ناء، ودان، ومحبول، ومحتبل
تأمل جملة العواطف والعلاقات في هذه الأبيات تجدها خدعة مباحة، وكان الكل متعلق بقفا صاحبه، فالذى علق فتاة لا تنظر اليه، والتى علقت فتى لا ينظر اليها، والكل ناظر الى الذى لا ينظر اليه، وهذه صورة غريبة وفذة وسخية، بل ومفعمة بالتعجب والتعجيب من شأن هذه النفوس.
ولم أقرأ لشاعر (والشعر كله حب وصبوة) فلسفة تسخر من علاقات الناس كهذه الفلسفة وهذا جيد بالغ في مدخل هذه القصيدة التى نخطو نحو غرضها، وقد ربط الأعشى هذه الصورة بغرضه الذى عقد عليه شعره، وذلك في كلمتين حيث ذكر «المحبول» أى الذى وقع فى الحبالة بكسر الحاء، «والمحتبل» أى الذى أوقع غيره في الحبالة، وهكذا نرى الكل صائدا ومصيدا، ونرى الذى يرمى حبالة ليوقع غيره فيها قد وقع هو فيها، وهذا ما صرح به ليزيد بنى شيبان الذى نقل الكلام اليه نقلا مباشرا على طريقة القطع وليس على طريقة حسن التخلص حين قال في البيت الخامس والأربعين من نسخة الديوان:
أبلغ يزيد بنى شيبان مألكة ... أبا ثبيت أما تنفكّ ناتكل
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطّت الابل
تغرى بنا رهط مسعود وإخوته ... عند اللقاء فتردى ثم تعتزل
ثم يقول:(1/18)
أبلغ يزيد بنى شيبان مألكة ... أبا ثبيت أما تنفكّ ناتكل
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطّت الابل
تغرى بنا رهط مسعود وإخوته ... عند اللقاء فتردى ثم تعتزل
ثم يقول:
لا تقعدنّ وقد أكّلتها حطبا ... تعوذ من شرّها يوما وتبتهل
ويزيد بنى شيبان سيد من سادات بكر، وكان قد أغرى رهط مسعود واخوته برجل من بنى سعد بن مالك ليأخذوه فى دم لم يصبه فيهم وانما أصابه رجل من بنى كعب بن سعد وكلهم من بيوت قيس قوم الأعشى. وذلك لأن الرجل الذى أصاب الدم لم يكن محاذيا للمقتول فى التقدم والسيادة، فغضب الأعشى من ذلك وهجا يزيد بنى شيبان وهدده وذكر أنه يضع فى الفتنة، حتى اذا أهاج الشر اعتزله. وبلغ الدقة فى وصف مسعاة يزيد بالوقيعة بين الأقوام، وهذا ما نراه أصلا لقوله هناك «كما يمشى الوجى الوحل» لأن دبيب يزيد فى هذا الشأن دبيب على أرض غليظة وعرة ثم انه يورثه الحفا والوجع ثم انه خوض فى الطين والوحل، ثم تأمل الأبيات والأبيات قبلها، وذكر العلاقات الانسانية والسخرية منها والمحبول والمحتبل، يشف لك التأمل عن مناسبة واضحة واتساق بين العناصر وتلاقى النغم الخفى بين الصور وهذا من لطائف صنعة الشعر.
والمألكة: الرسالة. والائتكال: افتعال من أكل وفيه مزيد معاناة ومبالغة فى بيان السعى والوقيعة وأكل لحوم الأقوام. ونحت الأثلة: مجاز عن تنقصهم ورميهم والنيل منهم، والأثلة: واحدة الأثل وهو شجر عظيم قوى، والنحت: الحت وهو مستعار للتنقص والاساءة والطعن، وهذا يعنى أن يزيد كان قائما فى هذا الباب يروح ويجيء ويسعى ويشق على نفسه وقد قال الأعشى:
لا تقعدنّ وقد أكّلتها حطبا ... تعوذ من شرّها يوما وتبتهل
وقوله «تقعدن» يعنى أنه قائم فى هذا الأمر جاد لا ينى، وتأمل المناسبة بين «أكلتها» و «تأتكل» فى البيت قبله، وتأمل المناسبة بين «تعوذ من شرها يوما وتبتهل» وصلته بقوله «محبول ومحتبل» لأن عوذه من شرها يعنى أنه يسقط فيها وهذا هو المحبول أى الذى يسقط فى
حبالة والحبالة هنا من صنع يديه، وقد هجا يزيد بنى شيبان بقصيدة ثانية لم يذكر فيها سعيه بالبغضاء وانما كانت المجاهرة بالحرب وقد بدأها بذكر «هريرة» وقال «هريرة ودّعها وان لام لائم» وكأن الأعشى كان يصطنع خصائص أسلوبية خاصة فى سياقات خاصة، وهذا أيضا من باب المناسبة.(1/19)
لا تقعدنّ وقد أكّلتها حطبا ... تعوذ من شرّها يوما وتبتهل
وقوله «تقعدن» يعنى أنه قائم فى هذا الأمر جاد لا ينى، وتأمل المناسبة بين «أكلتها» و «تأتكل» فى البيت قبله، وتأمل المناسبة بين «تعوذ من شرها يوما وتبتهل» وصلته بقوله «محبول ومحتبل» لأن عوذه من شرها يعنى أنه يسقط فيها وهذا هو المحبول أى الذى يسقط فى
حبالة والحبالة هنا من صنع يديه، وقد هجا يزيد بنى شيبان بقصيدة ثانية لم يذكر فيها سعيه بالبغضاء وانما كانت المجاهرة بالحرب وقد بدأها بذكر «هريرة» وقال «هريرة ودّعها وان لام لائم» وكأن الأعشى كان يصطنع خصائص أسلوبية خاصة فى سياقات خاصة، وهذا أيضا من باب المناسبة.
وبحث مناسبات الصور اللغوية داخل القصيدة بحث جيد، واقترابك منه يعنى اقترابك الحقيقى من الشعر، واغفالك له يعنى اغفالك لحقيقة من حقائق الشعر لا تغنيك غناءها كل منجزات (كلود ليفى شتراوس، وفلاديمير بروب، ورومان باكويش، وغيرهم). ممن قامت على «نفحاتهم» دراسات فى الشعر الجاهلى، هى من الهزل الذى صار مذكورا فى حياتنا الأدبية، وبقاء هؤلاء فى ميادين الفكر والأدب مرتبط ببقاء مبررات أمثال هذه النوعية من كتابنا السياسيين، الذين يصفون كبراءنا بالذكاء الخارق والالهام العبقرى، ويصيرون هزائمهم نصرا، ولصوصيتهم كفاحا، وطغيانهم عدلا، وتخريبهم البلاد عمرانا، وتخريبهم الانسان بناء جديدا له، كما يقول هؤلاء: ان تخريب علم القدماء بناء لعلم جديد، اللغة واحدة، و «الحكاية» واحدة، هناك مجلات أدبية ودور نشر متخصصة فى ترويج الفكر الفاسد، كما أن هناك صحفا سياسية متخصصة فى «ترويج» الزعامات الفاسدة، واحذر أن تفصل بين الأمرين، وانظر نظر المتثبت الى من فى أيديهم توجيه الحركة السياسية، ومن فى أيديهم توجيه الحركة الفكرية، وأنت واجد لا محالة شبها لا تخطئه عين ترى وأذن تسمع، وعقل يحلل ويستنبط، واعلم علما لا يخالجه ريب أن الأبراج العالية لو شابها شوب من الصدق وان قل لانعكس ذلك لا محالة على الآفاق الأخرى ولكسح كثيرا من هذا الهزل الذى صار سيد الساحة، ولكنها عن هذا الشوب من الصدق بعيدة بعيدة ودع ذا واقرأ قصيدة علقمة بن عبدة الفحل:
طحا بك قلب فى الحسان طروب
بعيد الشباب عصر حان مشيب
يكلّفنى ليلى وقد شطّ وليها
وعادت عواد بيننا وخطوب
وهذه القصيدة لم يقل علقمة أفضل منها، وانما تشاركها فى قدرها قصيدته:(1/20)
طحا بك قلب فى الحسان طروب
بعيد الشباب عصر حان مشيب
يكلّفنى ليلى وقد شطّ وليها
وعادت عواد بيننا وخطوب
وهذه القصيدة لم يقل علقمة أفضل منها، وانما تشاركها فى قدرها قصيدته:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
أم حبلها اذ نأتك اليوم مصروم
تأمل بيته الثانى «يكلفنى ليلى وقد شط وليها» أى بعد عهده بها، والولى: ما وليه من قربها وجوارها كما يقول الأعلم واذكر أن الشاعر يمدح ملكا من ملوك الغساسنة وهو شاعر تميمى بعيد الدار وقد ذكر بعد المسافة بينه وبين ممدوحه كما ذكر فى هذا المطلع بعد المسافة بينه وبين ليلى، يقول فى ذكر الممدوح مشيرا الى الناقة:
لتبلغنى دار امرئ كان نائيا
فقد قرّبتنى من نداك قروب
والقروب بفتح القاف أراد به الناقة.
وتأمل قوله وهو يذكر ليلى:
منعّمة لا يستطاع كلامها
على بابها من أن تزار رقيب
وفى هذا البيت صورة من صور الملك، وان كان يذكر امرأة منعمة.
واشارات الشعر ورموزه أغمض من هذا، ولا تغفل عن مقصودنا وهو باختصار اشارات المطالع الى المقاصد.
واقرأ قصيدة امرئ القيس التى توجه فيها الى قيصر، فقد ذكر سلمى ورحلتها وذكر أنها جاوزت «غسان» وأن ركبها قطع «الأفلاج من جنب تيمرا» وهى المواضع التى كان يقطعها هو فى رحلته الى قيصر، وعد الى قول علقمة يخاطب ليلى فى مقدمة القصيدة:(1/21)
فلا تعدلى بينى وبين مغمّر
سقتك زوايا المزن حين تصوب
وضع معه قوله للممدوح:
فلا تحرمنّى نائلا عن جنابه
فانى امرؤ وسط القباب غريب
وانظر فيهما فانك تراه فى البيت الأول يقول: انه لا يجوز أن تعطيه صاحبته حظ الفتى الغر، ويتشفع فى البيت الثانى لممدوحه بالغربة وهو فى البيتين يؤكد على ملاحظة حاله واعطائه ما هو أهل له وهذه مناسبة
ثم تأمل قوله:
سقاك يمان ذو حبىّ وعارض
تروح به جنح العشىّ جنوب
والسقيا اليمانية وسخاؤها ووفرها كل ذلك متناسب مع مدح ملك غسانى من أصول يمانية.
وتأمل قوله:
هدانى اليك الفر ولا حب
له فوق أصواء المتان علوب
قال الأعلم: اللاحب الطريق الواضح، والمتان جمع متن وهو المكان الصلب المستوى، والأصواء جمع صوى، والصوى جمع صوة، وهى المكان المرتفع، والعلوب جمع علب وهو الأثر.
وذكر الفرقدين هنا إشارة الى الملك والنباهة، وكان خبر الممدوح عندهما، وكان جذيمة أول ملك عربى أوقد له وقد نادم الفرقدين، ولا أعرف أنهم قالوا فى مدح من هم دون الملوك «هدانى اليك الفرقدان».
وتأمل قوله يصف الطريق:
بها جيف الحسرى فأما عظامها
فبيض، وأما جلدها فصليب
والحسرى النوق التى أصابها الاعياء والهزال فتركها أصحابها فماتت، وبيض العظام كناية عن القدم، والصليب القوى اليابس.(1/22)
بها جيف الحسرى فأما عظامها
فبيض، وأما جلدها فصليب
والحسرى النوق التى أصابها الاعياء والهزال فتركها أصحابها فماتت، وبيض العظام كناية عن القدم، والصليب القوى اليابس.
وضع بجانب هذا قوله يصف أعداء الحارث:
رغا فوقهم سقب السماء فداحض ... بشكته لم يستلب وسليب
وتأمل هناك نوق سقطت وهنا رجال سقطوا. وهنا أيضا «سقب السماء يرغو فوقهم» والمراد بعير السماء وهو إشارة الى ناقة صالح التى هلك القوم بقتلها.
ثم تأمل الخصوصية الأسلوبية في البيتين «أما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب» و «فداحض بشكته لم يستلب وسليب» وهذا تشابه وتلامح في المعانى والمبانى وهو مرادنا.
وتأمل المناسبة الظاهرة بين «سقب السماء» الذى رغا فوق أعدائه فهلكوا به، وبين قوله يريد الحارث الممدوح:
فلست لإنسيّ ولكن لملأك ... تنزّل من جوّ السماء يصوب
تجد الحارث هنا أيضا يتنزل من جو السماء يريد: أنك لست من الناس وانما أنت لكمال خلقك من الملائكة.
وهكذا نجد المناسبات الظاهرة.
ثم تأمل قصيدته:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
أم حبلها اذ نأتك اليوم مصروم
تجد في البيت الخامس ذكر الطير الذى يتبع الركب لاعتقاده أن الثياب التى تجلل بها الهوادج لحم لحمرتها.
عقلا ورقما تظلّ الطّير تتبعه
كأنه من دم الأجواف مدموم
والعقل والرقم: ضربان من البرود، والمدموم: المطلى بالدم.
ثم ترى أن صورة الطير ترددت في القصيدة، يذكر الظليم ويذكر قوائمه ويشبه ناقته به، ويذكر الصعل وجناحيه وجؤجؤه.(1/23)
كما يذكر الغراب في البيت الخامس والثلاثين:
ومن تعرّض للغربان يزجرها ... على ملامته لا بد مشئوم
وهذا تطير شديد لأن الشاعر يقول: ان الغربان التى يتشاءم بها لا بد أن ينال شؤمها من يزجرها، ولو كان سليما، وهذا البيت من مقاصد القصيدة وقد كثرت فيها الحكمة وفيها نفس من زهير.
واذا تأملت عناصر الشعر عنصرا عنصرا ظهر لك التناسب بصورة أوضح.
وفي هذا المحيط ترى ضربا من الوحدة ليست هى الوحدة العضوية التى أهلكت كثيرا من وقتنا، كما استفسدت كثيرا من الشعر الجيد العالى، ولكنها الآن كما قال الفحل علقمة: «رد الاماء جمال الحى فاحتملت». أعنى أنها رحلت وطويت صفحتها كما أسدل الستار على سدنتها، وبقى الشعر الجاهلى مطويا على أسرار صنعته، وتحاول الآن البنوية أن تستخرج منه أضغانه، ولكنه يشيح عنها اشاحة الكاره المزدرى لمن يصطنعونها لأنهم يجهلون قراءته، وانما يزيفون حقائقهم حتى يتوهمهم الأغرار علماء كما يلبس الحمقى ثياب الزور والوطنية والشرف والطهارة ويسرقون أمر الناس وهم أغدر بشعوبهم من الذئاب الجائعة وأبعد دنسا في بواطنهم من الكلاب الضالة.
أقول: ان الشعر الجاهلى ينصرف عن هؤلاء الحزاقيل الصغار الضعاف انصراف المزدرى العزيز فلا يرون منه الا وجها متجهما فيتحدثون عن «ثورة اليسار الماركسى» عند شعراء الجاهلية الذين ثاروا على «الطبقة البرجوازية» هكذا فاذا كان الشاعر ملكا أو شريفا ولا يعقل أن يتحدثوا عنه ويصفونه بأنه صعلوك يسارى رأوا منه شيئا آخر فذكروا «الشبقية» وجعلوها قطبا تدور عليه الدراسة.
هذا شىء مما يمكن أن يقتبس من علم المناسبة، والعلم بعد زاخر بالعطاء لمن يحسن التدبر والانتفاع باشارات العلماء.
وقبل أن أدع هذا الموضوع أنبه الى مسألة تبدو بعيدة عن حقل الشعر مثل مسألة النسخ، وهى قولهم في تسمية السور بما هو خاص
بها مما لم يذكر في غيرها على الصفة التى ذكر عليها في السورة، فمثلا سورة النساء ذكر فيها من خواص النساء ما لم يذكر في غيرها مع أن النساء ذكرن فى سور كثيرة، قالوا وهو المهم ان السور المسماة بحرف المعجم مثل: ق، ن، انما سميت بذلك لأن هذا الحرف هو أكثر الحروف دورانا فيها، وهذا ملحظ لغوى لا شىء فيه لغير اللغة، وعليه وضعت التسمية.(1/24)
وقبل أن أدع هذا الموضوع أنبه الى مسألة تبدو بعيدة عن حقل الشعر مثل مسألة النسخ، وهى قولهم في تسمية السور بما هو خاص
بها مما لم يذكر في غيرها على الصفة التى ذكر عليها في السورة، فمثلا سورة النساء ذكر فيها من خواص النساء ما لم يذكر في غيرها مع أن النساء ذكرن فى سور كثيرة، قالوا وهو المهم ان السور المسماة بحرف المعجم مثل: ق، ن، انما سميت بذلك لأن هذا الحرف هو أكثر الحروف دورانا فيها، وهذا ملحظ لغوى لا شىء فيه لغير اللغة، وعليه وضعت التسمية.
هب أننا درسنا الشعر هذه الدراسة، وليس المراد أن نعد حروف القصيدة حرفا حرفا، ونقول: هذه قصيدة القاف وهذه قصيدة العين، وانما يكون المراد فلى الشعر مقطعا مقطعا، وحرفا حرفا، والنظر في ذلك، وبحثه وتقصيه، ومعرفة الخصوصيات اللغوية لكل قصيدة ندرسها، فكل قصيدة بناء لغوى له شكله ووسمه، وهذا يحتاج الى جهد جهيد، ولكنه باب من العلم المتسع. ودراسة الخصوصيات الأسلوبية لأدب الأديب لا تتم الا بشيء كهذا يعنى احصاء الأفعال والأسماء، والجمل الفعلية والجمل الاسمية، والجمل المؤكدة، والجمل المرسلة، والجمل الخبرية والانشائية. وأى هذه الجمل أغلب على لغته ثم الخصوصيات المتعلقة بأحوال المفرد مثل التعريف والتنكير، والحذف والذكر، وأدوات الربط، مثل الواو والفاء و «ثم»، وأدوات الشرط، والجمل التى يدخل بعضها في بعض، والجمل التى يعطف بعضها على بعض، وهكذا صنوف تشبيهاته ومجازاته، وكل هذا يعد عدا ويحصر حصرا ويدرس دراسة تتبين الفروق الدقيقة، وبهذا الاستقراء الواعى للخصوصيات البلاغية في أدب الأديب تتبين لنا سماته، ويكون كلامنا فى الشعر والأدب كلاما مؤسسا على معرفة علمية دقيقة، ونحن بهذا ننتفع «بلمحة» واحدة من تراث علمائنا حول القرآن لأنهم وصلوا كما سبق في هذا المنهج الاحصائى الى عد الحروف حرفا حرفا وتحديد مرات تكراره وهذا غاية التدقيق، ثم قرءوا الكلام البليغ قراءة لو أننا قرأناها لكان لنا منها علم غزير، فقد هدتهم قراءتهم المتأملة الى أن يدركوا مثلا أن توالى الحروف المتحركة من غير أن يفصل بينها ساكن لا يطول في الكلام، وانما قصاراه في القرآن أن تتوالى ثمانية حروف متحركات،
وآن هذا جاء فقط فى ثلاثة مواضع فى قوله تعالى: {«إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً»} (7)، فبين واو {«كَوْكَباً»} وياء {«رَأَيْتُ»} ثمانية أحرف كلها متحركات وأن يدركوا مثلا أنه لم يجتمع فى القرآن حاءان متتاليتان الا فى آيتين: الأولى قوله تعالى فى سورة البقرة:(1/25)
هب أننا درسنا الشعر هذه الدراسة، وليس المراد أن نعد حروف القصيدة حرفا حرفا، ونقول: هذه قصيدة القاف وهذه قصيدة العين، وانما يكون المراد فلى الشعر مقطعا مقطعا، وحرفا حرفا، والنظر في ذلك، وبحثه وتقصيه، ومعرفة الخصوصيات اللغوية لكل قصيدة ندرسها، فكل قصيدة بناء لغوى له شكله ووسمه، وهذا يحتاج الى جهد جهيد، ولكنه باب من العلم المتسع. ودراسة الخصوصيات الأسلوبية لأدب الأديب لا تتم الا بشيء كهذا يعنى احصاء الأفعال والأسماء، والجمل الفعلية والجمل الاسمية، والجمل المؤكدة، والجمل المرسلة، والجمل الخبرية والانشائية. وأى هذه الجمل أغلب على لغته ثم الخصوصيات المتعلقة بأحوال المفرد مثل التعريف والتنكير، والحذف والذكر، وأدوات الربط، مثل الواو والفاء و «ثم»، وأدوات الشرط، والجمل التى يدخل بعضها في بعض، والجمل التى يعطف بعضها على بعض، وهكذا صنوف تشبيهاته ومجازاته، وكل هذا يعد عدا ويحصر حصرا ويدرس دراسة تتبين الفروق الدقيقة، وبهذا الاستقراء الواعى للخصوصيات البلاغية في أدب الأديب تتبين لنا سماته، ويكون كلامنا فى الشعر والأدب كلاما مؤسسا على معرفة علمية دقيقة، ونحن بهذا ننتفع «بلمحة» واحدة من تراث علمائنا حول القرآن لأنهم وصلوا كما سبق في هذا المنهج الاحصائى الى عد الحروف حرفا حرفا وتحديد مرات تكراره وهذا غاية التدقيق، ثم قرءوا الكلام البليغ قراءة لو أننا قرأناها لكان لنا منها علم غزير، فقد هدتهم قراءتهم المتأملة الى أن يدركوا مثلا أن توالى الحروف المتحركة من غير أن يفصل بينها ساكن لا يطول في الكلام، وانما قصاراه في القرآن أن تتوالى ثمانية حروف متحركات،
وآن هذا جاء فقط فى ثلاثة مواضع فى قوله تعالى: {«إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً»} (7)، فبين واو {«كَوْكَباً»} وياء {«رَأَيْتُ»} ثمانية أحرف كلها متحركات وأن يدركوا مثلا أنه لم يجتمع فى القرآن حاءان متتاليتان الا فى آيتين: الأولى قوله تعالى فى سورة البقرة:
{«عُقْدَةَ النِّكََاحِ حَتََّى»} (8) والثانية فى سورة الكهف: {«لََا أَبْرَحُ حَتََّى»} (9)
وليس فى القرآن كافان فى كلمة واحدة لا حرف بينهما الا فى موضعين:
فى البقرة: {«مَنََاسِكَكُمْ»} وفى المدثر: {«مََا سَلَكَكُمْ»}.
ومما يذهب بجلال العلم فى النفوس أن نقرأ مثل هذا من غير أن نفكر فى الجهد المبذول فيه، والذى انتهى الى هذه النتائج، ولم يكن هذا التدقيق البالغ فى الشكل اللغوى الا وسيلة من وسائل التدقيق الأكثر فى النظر الى المعانى.
وهب أننا قرأنا «قفا نبك» قراءة تستوعب خصوصياتها وصورها وخواطرها وعلاقاتها حتى تصل الى عد حروف المعجم فيها وما تجاور منها مما كثر تجاوره وما قل منها تجاوره، وهكذا تستوعب أصوات حروفها مقطعا مقطعا، وحركة حركة، وتختبر وتبلو وتتذوق كل نغمة، وكل نبرة، وكل خاطرة، وكل فكرة، هل ترى كلامنا فيها بعد هذا يكون من نوع ما نصفه بها الآن فى كتبنا من تلك الأوصاف العامة التى تنطبق على غيرها كما تنطبق عليها؟ أم ترى أن هذا الدرس المستقصى والمستوعب والمستقرى الذى يعد الأحوال واحدة واحدة ويضع اليد عليها ويقول هذا هذا، سوف ينتهى بنا لا محالة الى طريقة أخرى نتناول بها هذا الشعر؟
ثم ان طريقة التقصى والاستقراء وتفلية الكلام كلمة كلمة وحرفا حرفا وحركة حركة، لم تكن طريقة علمائنا وهم يدرسون القرآن فحسب وانما قامت علوم العربية كلها عليه سواء فى ذلك النحو والتصريف والبلاغة.
__________
(7) يوسف: 4
(8) البقرة: 235
(9) الكهف: 60(1/26)
انظر الى ما شئت من مقررات النحاة والصرفيين والبلاغيين، تراها تقوم على تقصى الخصوصية اللغوية وحصرها وعدها، فى الأدب كله، والشعر كله، والكلام كله، ولم تصبح قاعدة يسلكها العلماء فى علومهم الا بهذا الاستقصاء.
انظر الى قولهم: ان «كان» ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، تجد وراء ذلك استقصاء هذا الفعل فى الكلام كله، ثم دراسة نظام الجمل التى وقع فيها هذا الفعل بمتصرفاته فى هذه المادة اللغوية المتسعة ثم استخراج القاعدة من هذه الاستعمالات.
وهكذا تأمل الأحوال التركيبية التى فيها تفصيل مثل قولهم: ان «لا» النافية للجنس تعمل عمل «ان» بشروط هى كذا وكذا، وأن اسمها اذا كان مضافا أو شبيها بالمضاف أعرب، وأنه اذا كان مفردا بنى على الفتح، وأنها اذا تكررت كان من شأنها كذا، تأمل فى كل هذا تجده انما تأسس على استقصاء كامل لهذه الأداة، ثم دراسة العناصر اللغوية الداخلة فى تكوين جملتها، وتحليلها عنصرا عنصرا وتصنيفها ورصد أحوالها ثم رصد حركة اللغة التى تختلف توقيعاتها تبعا لاختلاف الأحوال وتنوعها، ثم ان اختلاف التوقيعات اللغوية كثيرا ما تلحظ فروقا دقيقة وأحوالا عجيبة الى آخر ما يدهشك فى هذا، وتستقل معه ما تقوله من دراسة «قفا نبك» دراسة تعد فيها الخصائص واحدة واحدة. ونحن فى هذا انما نريد أن تعود الدراسة الأدبية الى مناهج الجد التى نهجها علماؤنا.
* * * هذا ذرو من علوم القرآن أشرنا اليه، وهناك حول القرآن مناهج للدراسة الأدبية كثيرة ومتنوعة، ولكنها مكفوفة هناك، وحسبك طريقة المفسرين الذين يقفون عند كل لفظة، وكل تركيب يتأملون ويستخرجون، ويعتصرون الكلمات اعتصارا.
وحسبك أيضا ما أثاره علماء الاعجاز، وما نهجوه من طرق لدرس الشعر حتى انهم قالوا: انه لا سبيل الى معرفة الاعجاز الا التوسع
فى معرفة الشعر وأسراره، وأنه لا يدرك أن كلام الله فوق كل كلام الا من اكتمل فى معرفة نقد الشعر وميزه، وعرف أن الكلام يعلو مرقبا فوق مرقب وأنه طبقات تتنزل فى منازل، وأن بعضه فوق بعض.(1/27)
وحسبك أيضا ما أثاره علماء الاعجاز، وما نهجوه من طرق لدرس الشعر حتى انهم قالوا: انه لا سبيل الى معرفة الاعجاز الا التوسع
فى معرفة الشعر وأسراره، وأنه لا يدرك أن كلام الله فوق كل كلام الا من اكتمل فى معرفة نقد الشعر وميزه، وعرف أن الكلام يعلو مرقبا فوق مرقب وأنه طبقات تتنزل فى منازل، وأن بعضه فوق بعض.
ثم ان الفكرة التى غلبت على نفسى فى هذه السنوات الأخيرة، وكتبتها فى مقدمات بعض كتبى وهى ضرورة سعى الدرس البلاغى نحو تحديد الخصوصيات الدقيقة التى تحدد أدب كل أديب وشعر كل شاعر انما هى مما أكده فى نفسى أبو بكر بن الطيب وهو يدرس الاعجاز لأنى رأيته يبحث فى كلام الله عن الله، من حيث جعل سبحانه كلامه دليلا عليه، وبرهانا لنبيه وحجة بالغة على خلقه، {«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ يُتْلى ََ عَلَيْهِمْ»} (10).
وكان قبل أن يدلك على البحث فى كتاب الله عن الله يدلك على البحث فى كلام كل ذى كلام عن صاحبه، يعنى أن تبحث فى كلام زهير عن زهير وفى كلام النابغة عن النابغة وفى كلام أبى العلاء عن أبى العلاء وهكذا، لأن الكلام الصادر عن متكلم مبين ببيان بليغ يحمل لا محالة أدق ملامحه، يعنى ترى فيه من الأحوال النفسية واللغوية وطرائق التأتى وغير ذلك مما يدخل فى بنية الكلام ويشكل هذه البنية، وكل هذا ينتهى بك الى تحديد المتكلم ووسمه وطبعه، وهذه الدلالة لا يخطئها العلماء.
فاذا أحسنت فهم هذا وبلغت فيه مبلغ العلماء ثم نظرت فى كلام الله فلن تجد وراءه شيئا من هذا، لن تجد وراءه حالا من أحوال النفس البشرية التى تجدها سافرة وراء كلام زهير والأعشى ووراء كل كلام صدر عن نفس بشرية يحمل لا محالة خصائصها، وطباعها، وقوتها، وضعفها، وأملها، ويأسها، ورضاها، وغضبها، وسعادتها، وشقاوتها الى آخر ما أنت واجده فى كل ما تقرأ، وانما تجد وراء هذا الكلام قوة فوق كل القوى، وقدرة فوق كل القدر، وعلما
__________
(10) العنكبوت: 51(1/28)
فوق كل علم، واتقانا فوق كل اتقان، وبيانا فوق كل بيان، يعنى تجد فى الكلام كمالا مطلقا ولا يمكن أن تجد توقيعة واحدة من توقيعات هذا الكمال المطلق فى كلام واحد من الناس.
وحسبك هذا فى تفتيش الكلام وتحليله، وتذوقه وتبينه، والوعى به، والفطنة لكل همسة وإشارة ولمحة، والتنبه لكل ذلك تنبها تقع به على ملامح صاحب الكلام وكأنك ترى صورته «الفوتوغرافية» تتحرك فى سطوره.
والباقلانى بعد ما يحدثك عن هذا وعن الذى هو أجل منه ألف مرة يقول لك: «هيهات. هيهات!! هذا أمر وان دق فله قوم يقتلونه علما وأهل يحيطون به فهما، ويعرفونه اليك ان شئت، ويصورونه لديك ان أردت، ويجلونه عن خواطرك ان أحببت، ويعرفونه لفطنتك ان حاولت، وقد قال القائل:
للحرب والضّرب أقوام لها خلقوا ... وللدّواوين كتّاب وحسّاب
ولكل عمل رجال، ولكل صنعة ناس، وفى كل فرقة الجاهل، والعالم، والمتوسط، ولكن قد قل من يميز فى هذا الفن خاصة، وذهب من يحصل فى هذا الشأن الا قليلا» انتهى كلامه رحمه الله (11).
* * * الاعتقاد بأن القرآن الكريم أعجز الجيل الذى نزل فيه، والأجيال اللاحقة، وأنه سيظل كذلك معجزا لأجيال الناس حتى ينتهى التكليف بقيام الساعة، هذا الاعتقاد واحد من عقائد المسلمين كالاعتقاد بالبعث، والحساب، والجنة، والنار لا خلاف فيه، ومنكره راد لخبر الكتاب العزيز لأن صريح القرآن جاء به {«وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ»} (12).
__________
(11) اعجاز القرآن ص 125
(12) البقرة: 23، 24(1/29)
وهذا قاطع فى أن الناس لن يفعلوا أى لن يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثله، ولو وضعت ألسنة الخلق جميعا فى فم رجل واحد كما كان يقول الرافعى رحمه الله.
وقد اجتهد علماؤنا فى بيان الشيء الذى به صار هذا الكلام العربى مغايرا لكلام البشر ومعجزا للبشر، مع أن ألفاظه من ألفاظهم، وتراكيبه من تراكيبهم، وذهبوا فى ذلك مذاهب لا تخفى على أهل العلم، وانما أردت فى هذه المقدمة أن أدل على واحد منها لم تتعاوره أقلام الباحثين كما تعاورت غيره، مع أنه من أدق ما قيل فى هذا الباب وألطفه وأفضله، وأحكمه، ولعل دقته ولطافة مسلكه وصعوبة تحليله من أهم أسباب خفائه.
والمدقق فى تحليل كلام علمائنا فى هذا الباب يجد كلامهم قد بدأ من القرن الثالث وهو فى قضية الاعجاز يتجه وجهتين: وجهة نبحث عناصر البلاغة المشتركة بين القرآن وكلام الناس من شعر وخطب ووصايا وغير ذلك، ثم تدل على أن هذه العناصر فى القرآن بلغت من الدقة والسمو والغزارة والاصابة مبلغا يفوت الكلام كله، ويقطع أطماع أصحابه، ويقهر قواهم، ويقضى عليهم بالعجز الشامل المطبق الذى تستوى فيه الأقدام، فاذا كانت البلاغة فى الشعر والأدب تدور حول التشبيهات والمجازات والأمثال، والكنايات وفنون النظم، فان هذه الفنون نفسها هى التى بنى عليها القرآن لأنها أصول بلاغة اللسان، ولكنها فى القرآن شىء، وفى الشعر والأدب شىء آخر.
فاذا جمعت ما دبجته ألسنة الشعراء من فائق التشبيهات وراقك ذلك وحسن عندك وكثر بين يديك، ثم وضعت بازائه واحدا من تشبيهات القرآن رأيت البلاغة العالية فى الأدب والشعر منطفئا ضياؤها وكأن شرط بهائها ألا توضع بازاء القرآن.
وهذا هو الوجه الشائع والمشهور فى كتب البلاغة والتفسير، وهو الذى كان يمضى عليه أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى رحمه الله
وأثابه. تراه يقول مثلا: «ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن» (13).(1/30)
وهذا هو الوجه الشائع والمشهور فى كتب البلاغة والتفسير، وهو الذى كان يمضى عليه أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى رحمه الله
وأثابه. تراه يقول مثلا: «ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن» (13).
ويقول: «وأسرار التنزيل ورموزه فى كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق على تفطن العلماء ويزل عن تبصرهم» (14).
ويقول: «ولله در التنزيل واحاطته بفنون البلاغة وشعبها، لا تكاد تستغرب منها فنا الا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسد مدارجه» (15).
والوجهة الثانية تبحث وجوه البلاغة التى توجد فى القرآن ولا توجد فى كلام الناس، وهى البلاغة التى يصح أن نسميها البلاغة القرآنية وتكون التسمية تسمية حقيقية لا تجوز فيها، وهذه البلاغة قليلة نادرة لا تستطيع أن تجد فى تراث علمائنا منها صفحة واحدة صريحة.
وانما هو فى كلام كالرمز والايماء والاشارة فى خفاء كما يقول عبد القاهر.
وكان طريقهم فى استخراج «نتف» البلاغة الخاصة بالقرآن والتى توجد فيه ولا يوجد منها شىء فى كلام البشر البتة هو تحليل الكلام الصادر عن الانسان واستخراج الأصل العام الذى هو وصف لازم له لا ينفك عنه أبدا حتى كأنه جزء من ماهية هذا الكلام.
وقد وقعوا على هذا الأصل وحدوده، وهو باختصار شديد كينونة النفس الانسانية فى كل ما يصدر عنها من بيان سواء أكان شعرا أو نثرا أو كلاما مبينا يتناقله الناس فى شئون حياتهم، ترى الانسان وراء كل ما يدور به لسانه، تراه فى كل ديوان، وفى كل قصيدة، وفى كل بيت من الشعر وكل سطر من النثر، ولما استحكم عندهم هذا
__________
(13) الكشاف ج 3ص 46
(14) الكشاف ج 4ص 458
(15) الكشاف ج 1ص 85(1/31)
واستيقنوه عادوا الى القرآن ينظرون فيه فلم يجدوا فيه أثرا لهذا الأصل، الذى هو كالجزء من ماهية بلاغة الانسان. وجدوا كلاما يخلو خلوا قاطعا من هذا النفس الانسانى فكان هذا وجها ظاهرا.
وانما يتميز أدب الأديب وشعر الشاعر بمقدار ما يستطيع تحديده من هذه الخصائص الانسانية العامة، وتضييق هذه الدائرة حتى يكون أدبه دالا عليه هو، وأحواله هو، وطبعه هو، وانما تكون منزلته بمقدار ما يصيب فى هذا الباب، فهناك من تراه غائما فى أدبه، تائها فيه، تلوح لك، منه شيات مبهمة، وصفات غامضة، هو انسان يصدق عليه أن يكون زيدا وعمرا وبكرا وخالدا، لأنه لم يستطع بعد أن يتخذ له سمتا خاصا به، ونهجا دالا عليه، وانما لا يزال ينهض بجناح غيره، ويستقى من سحائب غيره، وهناك من استقام له نهجه الخاص به، ومذهبه الذى يسلكه، وهو الذى تراه فى كل بيت يقوله.
وقد أشار الفرزدق الى هذا حين ذكر شعر الفحل علقمة بن عبدة فى قوله:
والفحل علقمة الذى كانت له ... حلل الملوك كلامه لا ينحل
والمقصود قوله: «كلامه لا ينحل» لأن هذا معناه أن شعر علقمة فيه من خصوصيات علقمة ومن وسمه ومن طبعه ومن سيماه ما لا يصح معه أن ينسب الى غيره، وكأن شعر علقمة هو نفس علقمة. وكما لا يصح أن يلتبس شخص علقمة بشخص غيره، وكذلك لا يصح أن يلتبس شعر علقمة بشعر غيره.
ثم تأمل كيف كان يمدح الشاعر بأن له «حلل الملوك»، وراجع ما يقوله أصحابنا فى التكسب بالشعر، والفرزدق شاعر فحل متميز معارض لكبار الرءوس من حوله وقد ذكر «حلل الملوك» للشعراء وهو يريد أقدار الرجال وأقدار أشعارهم.
والمهم أنك تقرأ شعر الأعشى وكأنك ترى الأعشى فيه يتسكع فى أوديته، واذا قرأت شعر زهير وجدت زهيرا فى شعره متدثرا بحكمته،
واذا قرأت شعر النابغة وجدت النابغة فيه وعلى عواتقه هموم بنى ذبيان، وكل له مذهبه وله خواطره، وله صوره، وله جمله، وله رصفه وسبكه.(1/32)
والمهم أنك تقرأ شعر الأعشى وكأنك ترى الأعشى فيه يتسكع فى أوديته، واذا قرأت شعر زهير وجدت زهيرا فى شعره متدثرا بحكمته،
واذا قرأت شعر النابغة وجدت النابغة فيه وعلى عواتقه هموم بنى ذبيان، وكل له مذهبه وله خواطره، وله صوره، وله جمله، وله رصفه وسبكه.
فاذا ما تركنا ذلك وقرأنا البقرة وآل عمران فاننا لن نجد فى أى آية ولا فى أى سطر هذا الانسان على الحد الذى رأيناه فى الشعر، لن نجد له أثرا البتة شعر زهير لما كان مخرجه هو زهير كان يحمل وسم زهير، وشعر النابغة لما كان مخرجه هو النابغة بخواطره ووساوسه وجيله خرج يحمل وسم النابغة. وقد أكد الباقلانى هذا وشرحه شرحا وافيا، وأكد أن وسم أبى نواس فى شعر أبى نواس، ووسم مسلم ابن الوليد فى شعر مسلم بن الوليد، والشعر العميق يصف لك الملامح العميقة التى تحت السطح، والتى يحاول صاحبها أن يخفيها وراء أستار يتقنها من صنعة الشعر فقد يضحك وهو يخفى شجن الأسى وراء رنات الضحك، وقد يبكى وهو يخفى رنة الطرب وراء عويل الدموع، ولكن اللغة تقتنص منه هذه الأحوال التى يحاول أن يخفيها وتدل القارئ الفطن عليها لأن الوظيفة الأساسية للغة هى الابانة عن هذا الانسان، فلا بد أن يكون الانسان قابعا وراء كل كلمة من كلماتها، ولا بد أن يكون مصورا فى حروفها، وأصواتها، وتراكيبها، وصورها، ورموزها وشأنها كله.
اقرأ أى قصيدة شئت أو أى خطبة فسوف تجد وراء كل سطر نفسا انسانية تشتاق، أو تطرب، أو تحزن، أو تحب، أو تكره، أو تعد، أو ما شئت مما يجرى فى خواطر الناس، واقرأ ما شئت من المصحف فلن تجد هذه النفس البتة، على حد وجودها هناك، وأحسب أن هذا هو الذى أدركه الجيل الأول، لما كان يسمع آيات القرآن فيبسط يده الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مبايعا، وكان قبل ذلك بقليل يكاد يتميز غيظا على هذا الأمر، وانما حدث فى هذه الدقائق القصيرة شىء اقتلع كل ما فى النفس، حتى كأنه كفأها كما يكفأ الاناء، وأفرغ كل ما فيها، ولا بد أن يكون ذلك ثمرة احساس فاجأ النفس،
وهيمن عليها، وقهرها، وليس إلا أنه اعتاد أن يرى الانسان فى كل ما تسمعه أذنه من لغة الانسان، فلما سمع القرآن لم يجد فيه ما اعتاده وانما وجد الله فاستيقن.(1/33)
اقرأ أى قصيدة شئت أو أى خطبة فسوف تجد وراء كل سطر نفسا انسانية تشتاق، أو تطرب، أو تحزن، أو تحب، أو تكره، أو تعد، أو ما شئت مما يجرى فى خواطر الناس، واقرأ ما شئت من المصحف فلن تجد هذه النفس البتة، على حد وجودها هناك، وأحسب أن هذا هو الذى أدركه الجيل الأول، لما كان يسمع آيات القرآن فيبسط يده الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مبايعا، وكان قبل ذلك بقليل يكاد يتميز غيظا على هذا الأمر، وانما حدث فى هذه الدقائق القصيرة شىء اقتلع كل ما فى النفس، حتى كأنه كفأها كما يكفأ الاناء، وأفرغ كل ما فيها، ولا بد أن يكون ذلك ثمرة احساس فاجأ النفس،
وهيمن عليها، وقهرها، وليس إلا أنه اعتاد أن يرى الانسان فى كل ما تسمعه أذنه من لغة الانسان، فلما سمع القرآن لم يجد فيه ما اعتاده وانما وجد الله فاستيقن.
اقرأ أول سورة طه التى هدمت جاهلية عمر فسوف تجد: الذى {«خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمََاوََاتِ الْعُلى ََ»} (13)، والذى {«لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا وَمََا تَحْتَ الثَّرى ََ»} (14)، و {«الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ»} (15). واقرأ شعر زهير الذى كان يحبه عمر رضى الله عنه فسوف تجد نفسا حائمة حائرة حول دمنة أم أوفى تحدق فى العين والآرام وهى تمشى خلفة أو تنهض من كل مجثم، كما تجد النابغة يحدق فى الأثافى أو يقف حائرا ليقول:
ألمحة من سنا برق قد رأى بصرى؟
أم وجه نعم بدا لى؟ أم سنا نار؟
بل وجه نعم بدا، والليل معتكر
فلاح لى من بين أثواب وأستار
تأمل اشتياقه الملتاع الى نعم، وكيف تلبس وجهها بسنا البرق وسنا النار والليل معتكر، هذه بلاغة عالية، ولكن تربتها ومنبتها ومغرسها هو هذه النفس التى تراها وقد علتها صبوتها وصارت حائرة ترى وجه نعم فى وهم صار حقيقة وسنا.
وهذا الاتجاه الذى يبحث عن بلاغة خاصة بالقرآن وهى غير بلاغة الشعر والأدب.
وكل ما يصدر عن الانسان انما كان لمحة كلمح البرق ما لبثت أن تاهت فى الأفق، ولم يكن مدلولا عليها باللفظ الصريح، كما قلت، وانما كان ظاهرا تحت السطح، ولم يلفتني اليه الا وقفة حائرة مع نص كريم لأبى سليمان حمد بن إبراهيم الخطابى وقد ذكرت ذلك فى كتاب الاعجاز.
__________
(13) طه: 4
(14) طه: 6
(15) طه: 5(1/34)
وانما أردت أن أنبه الى هذه البلاغة التائهة والتى لم توسع بابها ولم تغزر مع أن فيها من العوائد على دراسة الشعر والأدب فضلا عن دراسة الاعجاز ما لا يقادر قدره ولا تحصر فوائده.
وأحسبها وجها ثانيا وضروريا للبلاغة التى ندرسها فى علوم المعانى والبيان والبديع، وأن أساسها هو دراسة خصوصيات أدب كل أديب، هذه الخصوصيات التى نرى فيها وسمه ورسمه، ثم بيان خلو القرآن من هذا، وأنه اذا بحثنا فى شعر زهير وجدنا زهيرا ولن نجد غير زهير، واذا فتشنا فى شعر النابغة فاننا نرى النابغة ولن نجد غير النابغة، كذلك اذا فتشنا فى كلام الله فلن نجد هناك الا الله.
وهذا حسبنا وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة الا بالله.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله.
المعادى الجديدة
الليلة الأولى من رمضان المعظم سنة 1408هـ
محمد محمد أبو موسى
* * *
بسم الله الرّحمن الرّحيم(1/35)
* * *
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبى الأمى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد
فمن الواضح أن بلاغة الكشاف كانت نهاية مرحلة متميزة فى الدراسة البلاغية. اذ هى الامتداد الحق لدراسة عبد القاهر الجرجانى، هذه الدراسة التى يشعرنا فيها صاحبها أنه ينشئ القول انشاء، أو يبسط فكرة غائمة فى دراسة من سبقه، وهو يحاول أن يمكن ما يقول فى نفوس معاصريه، وأن ينقشه فى صدورهم، ويبثه فى سويداء قلوبهم، ولكنهم فى كثير من الأحيان تسدر عيونهم، وتضل عنهم أفهامهم، ولا ينفكون من اعتراض خواطر تعود بهم الى رأس أمرهم فينكرون ما يقول.
وهذا يعنى أن هذا الاتجاه كان فى حاجة الى كثير من الحواريين ينهضون لتثبيته وتمكينه واتمامه حتى يكتمل بناء متناسقا يمهد سابقه للاحقه. ولكن القدر لم يهيئ لهذا العالم السنى الا فتى من فتيان المعتزلة، أنبتته أرضه فهضم تراثه، وارتضى منهجه، ونسج على منواله، وأضاف لبنات فى هذا البناء لا تختلف فى نسقها ونوعها عما بدأه الأستاذ. ولو قدر لهذا الاتجاه أن تتواصل حلقاته لكان بين أيدينا منه الخير الكثير.
واذا كان الزمخشرى قد طبق كثيرا مما قرره عبد القاهر الجرجانى فقد أضاف أصولا بلاغية هامة لم يعرض لها عبد القاهر ونمى كثيرا من الأصول السابقة، وحرر كثيرا من المسائل.(1/36)
وعلينا أن نذكر أن التطبيقات فى الدرس البلاغى ليست أمرا هينا، لأنها هى حياته ونماؤه، وتتركز فيها قدرة البليغ ومهارته، فقواعد البلاغة وأصولها يمكن أن تجمع فى صفحات، والمهم هو التطبيق والنظر المتثبت فى النص المدروس وتحليل تركيبه، وابراز محاسن صياغته، ودلالات خصوصياته. والذى يعين على ذلك الحس المرهف، والذوق المتمرس البصير، وهذا التحليل المبنى على التذوق هو أصح المناهج وأقومها فى دراسة البلاغة، فاذا تخلف الذوق كانت أصولا علمية شاحبة كما هى فى كتاب المفتاح، واذا تخلفت القدرة على التحليل والتفسير كانت ضربا من التحكمات الشخصية. تدفع بها الى متاهات غير منضبطة، وليس التطبيق فى مسائل البلاغة كالتطبيق فى مسائل النحو والعروض، وذلك لأنه يسهل على النحوى أن يطبق فكرا وأصولا نحوية على نص يدرسه، ويصعب على البلاغى أن يطبق أصولا بلاغية على نص يدرسه، وتحديد المراد من الخصائص البلاغية لا يتأتى الا بالحس الأدبى، ولهذا كان تذوق النص الأدبى جزءا من منهج الدراسة البلاغية، ولهذا أشار عبد القاهر والزمخشرى حين ذكرا الطبع المتهيئ، والقريحة الوقادة.
ولذلك نقول ان استعمال كلمة التطبيق فى الدراسة البلاغية، تستحق من الأهمية أكثر مما تستحق اذا استعملت فى الدراسة النحوية، لأنها تعنى هنا التفسير والتحليل والشرح. وهذا شىء له خطورته فى دراسة الشعر والأدب.
ولهذا أقول ان تطبيقات الزمخشرى فى كشافه لبعض الأصول البلاغية المقررة فى زمانه يمكن أن تعتبر من اضافاته ما دام يضفى عليها من حسه وذوقه. وشىء آخر فى هذه التطبيقات يعطيها أهمية وأصالة، ذلك أن هذه الأصول البلاغية التى قررها عبد القاهر كانت كأنها منكورة أو قلقة بين معاصريه، ولذلك كان يشكو كثيرا من جهل الناس بما يقول، وعجزهم عن استيعابه وتمثله، فأتاحت تطبيقات الزمخشرى لها قوة ومكانة، وثبتتها فى البيئة العلمية، وأظهرت قدرتها على تحديد المزايا البلاغية لأسلوب القرآن فى صورة دقيقة
وشاملة، وارتضتها فرقة المعتزلة التى تناوئ شيعة عبد القاهر وتصاولها، فكان ذلك تأصيلا لهذه الأصول أى تأصيل.(1/37)
ولهذا أقول ان تطبيقات الزمخشرى فى كشافه لبعض الأصول البلاغية المقررة فى زمانه يمكن أن تعتبر من اضافاته ما دام يضفى عليها من حسه وذوقه. وشىء آخر فى هذه التطبيقات يعطيها أهمية وأصالة، ذلك أن هذه الأصول البلاغية التى قررها عبد القاهر كانت كأنها منكورة أو قلقة بين معاصريه، ولذلك كان يشكو كثيرا من جهل الناس بما يقول، وعجزهم عن استيعابه وتمثله، فأتاحت تطبيقات الزمخشرى لها قوة ومكانة، وثبتتها فى البيئة العلمية، وأظهرت قدرتها على تحديد المزايا البلاغية لأسلوب القرآن فى صورة دقيقة
وشاملة، وارتضتها فرقة المعتزلة التى تناوئ شيعة عبد القاهر وتصاولها، فكان ذلك تأصيلا لهذه الأصول أى تأصيل.
وبعد كتاب الكشاف انقطع فى درس البلاغة هذا الاتجاه تماما، ولا يصلح المثل السائر أن يكون امتدادا له، ولا يصلح الطراز كذلك أن يكون امتدادا له. وسوف يظهر لنا أن ما أفاده ابن الأثير من الكشاف وما أفاده العلوى كذلك من الكشاف هو خير ما فى هذين الكتابين.
ثم شغلت الدراسة البلاغية بهذا المنهج الملفق الذى حدده أبو يعقوب فى كتاب المفتاح، واستمد أصوله الأساسية الهامة فى منهجه من كتاب نهاية الايجاز. وقد أشرت فى بحث كتبته فى بلاغة المفتاح الى تلك الأواصر القوية بين الكتابين، ووضعت اليد على ما أفاده أبو يعقوب من الرازى، وبينت أن ذلك كان فى أصول العلم. كتحديد علم البيان الذى أفاده أبو يعقوب مما كتبه الرازى فى الدلالة المعنوية، وكمبحث الدلالة الذى قدم بها لدراسة علم البيان. وكالاصطلاحات التى تتداول فى البلاغة الى اليوم، كاصطلاح الاستعارة التصريحية والمكنية والتبعية والأصلية والتخييلية، وكالقول بوجوب فاعل حقيقى فى الاسناد المجازى. كل هذا وغيره كثير ذكره ابن الخطيب الرازى وحسبه الناس لأبى يعقوب.
وقد استمد السكاكى مادته العلمية من كلام عبد القاهر والزمخشرى، ولكنه عجز عن المحافظة على الروح الأدبية، لأنه حاول أن يلخص، والمشتغلون بالبلاغة يفهمون أن تلخيص التحليلات البلاغية يفسدها. وكذلك فعل أبو يعقوب حين استخلص مادته العلمية مما ذكره الشيخان.
ومن الغريب أن تتحدد بلاغتنا وتنتهى عند هذه الصورة فى هذا المنهج الذى لم يضع أصوله فقهاء هذا الفن، لأننا نعرف أن ابن الخطيب وان كان من أعظم رجال الفكر الاسلامى فليس من أعظم رجال البلاغة، ونحن نعرف أن السكاكى عاش عيشة العوام حتى ناهز
الثلاثين، ثم انصرف الى العلم طلبا للحظوة ونيل ما عند السلاطين.(1/38)
ومن الغريب أن تتحدد بلاغتنا وتنتهى عند هذه الصورة فى هذا المنهج الذى لم يضع أصوله فقهاء هذا الفن، لأننا نعرف أن ابن الخطيب وان كان من أعظم رجال الفكر الاسلامى فليس من أعظم رجال البلاغة، ونحن نعرف أن السكاكى عاش عيشة العوام حتى ناهز
الثلاثين، ثم انصرف الى العلم طلبا للحظوة ونيل ما عند السلاطين.
وله حكاية مشهورة فى هذا، ودراستنا لثقافته تفيدنا أنه لم يتوفر على درس اللغة والأدب، ولم تتح له ظروف حياته الادمان، والممارسة، والمعايشة، حتى يتهيأ له اكتساب ذوق هذه اللغة، وان أتاحت له أن يحفظ قدرا من قواعدها، لأننا نعتقد أن اكتساب الذوق يأتى متأخرا بالنسبة للاحاطة بالأصول والقواعد، فهو محتاج الى جهد أكثر، ومثابرة أطول. وبجانب هذا كان السكاكى يحفظ أخلاطا من المعارف الغامضة والشاذة، فقد كان أعلم الناس بالسحر فى زمانه، وكان يستنزل الكواكب من أفلاكها كما يقول المؤرخون.
ولا شك أن من أهم ما أغرى الدارسين بكتاب السكاكى هو سهولته، لأن المسائل البلاغية التى لا تعتمد الا على العقل يسهل تحصيلها والاحاطة بها، وصعوبة هذا الكتاب تتركز فى عبارته وأسلوبه المعقد الغامض، أما مادته العلمية فما أسهلها ولذلك حفظها الصبيان لما شذبها الخطيب فى كتاب التلخيص، وان كانت لا تغنى فتيلا فى ادراك العلم وفقه أسراره.
وكان غبنا للبلاغة والبلاغيين أن يستمر الدرس البلاغى على هذا المنهج حتى هذا الوقت الذى نعيش فيه. وقد اعتمده الأستاذ المرحوم أمين الخولى حين قارن بين دراستنا لبلاغتنا ودراسة أمم الغرب لبلاغتهم فى المنهج والموضوع، ورأى لبلاغتنا وجها شاحبا معروقا، وهو على حق ما دام ينظر اليها من هذا الوجه.
ولما كان درس البلاغة العربية لم يستقم على منهج صحيح وطريقة أقرب الى الكمال، الا فى دراسة الشيخين. وكانت بلاغة الزمخشرى كأنها تائهة فى تفسيره لا تظهر ملامحها محددة واضحة فى كل مسألة من المسائل البلاغية عمدت فى هذا البحث الى بيانها وتوضيحها، حتى يرى الدارسون كل ما قاله الزمخشرى فى كل مسألة من المسائل البلاغية. وفى ضوء هذا يتحدد ما أضافه من أصول فى هذه الدراسة، وما أفاده من غيره ثم ما أفاده غيره منه.(1/39)
وكان يلزم لهذا أن أتتبع الفكرة البلاغية فى كتاب الكشاف، فقرأت تفسيره مرات واستخرجت منه كل ما يتصل بمسائل البلاغة وجمعت النظير مع نظيره.
ولحظت أنه يذكر النظم، وعلم محاسن النظم، وتجاوب النظم، كما يذكر علم المعانى وعلماء المعانى، وكذلك يذكر علم البيان، فجمعت كل ما يتصل بهذا وعقدت له فصلا خاصا ببحث النظم وتحديد مفهومه كما يتصوره الزمخشرى، ثم لحظت أنه يقف عند مفردات النص، ويشير الى تمكن الكلمة فى سياقها، وملاءمتها لصاحبتها من حيث مادتها وهيئتها جمعا أو افرادا، وصيغتها فعلا أو اسما، كما ينظر فى معانى أدوات الربط ك (الفاء وثم وان واذا)، وحروف الجر ويفسر مواقعها تفسيرا أدبيا ممتازا، فعقدت لذلك فصلا، درست فيه ما يتصل بالكلمة وبينت ما أفاده من غيره، وما أضافه من حسه وذوقه، ثم رأيته يقف عند أحوال صياغة الجملة ويفسر خصائصها تفسيرا بلاغيا، ويدرس التقديم، وصور الأمر والنهى. والنفى، والاستفهام، وغير ذلك مما يتصل بالجملة، فعقدت لذلك فصلا درست فيه كل ما يتصل بصياغة الجملة. ثم لحظته يدرس العبارة والفقرة، فينظر فى الفواصل القرآنية وملاءمتها لمضامين الآيات، كما يدرس الفصل والوصل، والالتفات، وأسلوب التكرير، والاختصار، وترتيب الجمل وبناء ثان منها على أول، فعقدت لكل ذلك فصلا يشمل دراسة الجمل من جميع هذه الوجوه، ثم رأيته يقف عند صور البيان مفسرا، ودارسا ومحددا، فيذكر التشبيه التمثيلى، والمجاز، والاستعارة، والكناية، والتعريض، فعقدت لذلك فصلا، درست فيه كل ما يتصل بالصور البيانية. ثم لحظته يذكر ألوانا من البديع ويشير الى قيمتها البلاغية والى أنها من صميم البلاغة القرآنية، ثم يذكر فنا كالجناس ويشير الى أن بلاغته كغير الملتفت اليها، فعقدت لذلك فصلا درست فيه مذهبه فى البديع، وصلته بالاعجاز البلاغى، وبينت فيه ما ذكره من ألوانه.
ثم رأيت أثره فى الدراسات البلاغية واضحا فى كل ما كتب فى البلاغة بعد الكشاف، ورأيت أن أهم ما شغل الدراسة البلاغية بعد
الزمخشرى هو كتاب المفتاح وما دار حوله من دراسات، وكتاب المثل السائر، وكتاب الطراز، فرأيت أن أحدد أثره فى هذه الكتب الثلاثة.(1/40)
ثم رأيت أثره فى الدراسات البلاغية واضحا فى كل ما كتب فى البلاغة بعد الكشاف، ورأيت أن أهم ما شغل الدراسة البلاغية بعد
الزمخشرى هو كتاب المفتاح وما دار حوله من دراسات، وكتاب المثل السائر، وكتاب الطراز، فرأيت أن أحدد أثره فى هذه الكتب الثلاثة.
فعقدت لكل كتاب منها فصلا. ورأيت أن هناك كتبا كثيرة دارت حول المفتاح تلخيصا وتوضيحا، وشرحا وتقريرا، فاخترت منها كتاب الايضاح وكتاب المطول. وهما فى نظرى خير الكتب التى دارت فى فلك المفتاح.
وكانت دراسة البلاغة فى الكشاف تقتضى النظر المجمل الى البحث البلاغى قبل الكشاف، وخاصة الأصول البلاغية التى كان بحث الكشاف امتدادا لها، فكتبت فى هذا فصلا كالمقدمة لهذه الدراسة، حددت فيه تحديدا سريعا وواعيا المدى الذى وصل اليه الدرس فى كل فن منها.
ثم رأيت أن أمهد لهذا البحث بدراسة موجزة عن صاحب الكشاف، أذكر فيها طرفا من أخباره، وأشير الى ألوان ثقافته الغالبة التى تطبع ذوقه، وتغلب على حسه، لأن الدراسة البلاغية من أشد العلوم تأثرا بثقافة الدارس، وحاولت أن تكون هذه الدراسة موجزة كما حاولت أن يكون الفصل الخاص بالبلاغة قبل الكشاف موجزا أيضا، لأننى لم أرد أن أزحم هذا البحث بغير الدراسة البلاغية، ثم ختمت هذا البحث بخاتمة عرضت فيها أصول الأفكار والقضايا الهامة التى يصح أن تكون نتائج البحث.
ثم رأيت أن أجعل الدراسة الخاصة بالبحث البلاغى فى الكشاف بابا خاصا، كما جعلت الدراسة الخاصة ببيان أثره فى البحث البلاغى بابا آخر، وجعلت الفصل الخاص بالبحث البلاغى قبل الكشاف كالجزء من الباب الأول فاعتبرته فى فصوله، فصار البحث فى بابين قبلهما تمهيد، يحتوى الباب الأول على فصول سبعة، والباب الثانى على فصول ثلاثة.
وقد طرق موضوع البلاغة فى الكشاف بعض الدارسين من المعاصرين، وكان أولهم الأستاذ الفاضل مصطفى الجوينى، فقد كتب
بحثا قيما فى منهج الزمخشرى فى تفسير القرآن وبيان اعجازه، وواضح أن البحث البلاغى يدخل ضمن منهجه فى بيان اعجازه، فهو جزء أصيل فى بحثه وقد أفدت منه كثيرا، وقد كتب الأستاذ الدكتور الحوفى كتابا عن الزمخشرى درس فيه تراثه اللغوى والأدبى، وطرفا من أخباره، وعقد للبلاغة فى هذا الكتاب فصلا، وكان يعتمد كثيرا على ما كتبه الأستاذ الجوينى. ثم كتب الأستاذ الدكتور شوقى ضيف فصلا ضافيا فى بلاغة الزمخشرى فى كتاب كتبه فى تطور البلاغة العربية، عنى فيه ببيان ما أفاده من الجرجانى، وما أضافه لدراسة البلاغة، وقد أفدت منه كثيرا.(1/41)
وقد طرق موضوع البلاغة فى الكشاف بعض الدارسين من المعاصرين، وكان أولهم الأستاذ الفاضل مصطفى الجوينى، فقد كتب
بحثا قيما فى منهج الزمخشرى فى تفسير القرآن وبيان اعجازه، وواضح أن البحث البلاغى يدخل ضمن منهجه فى بيان اعجازه، فهو جزء أصيل فى بحثه وقد أفدت منه كثيرا، وقد كتب الأستاذ الدكتور الحوفى كتابا عن الزمخشرى درس فيه تراثه اللغوى والأدبى، وطرفا من أخباره، وعقد للبلاغة فى هذا الكتاب فصلا، وكان يعتمد كثيرا على ما كتبه الأستاذ الجوينى. ثم كتب الأستاذ الدكتور شوقى ضيف فصلا ضافيا فى بلاغة الزمخشرى فى كتاب كتبه فى تطور البلاغة العربية، عنى فيه ببيان ما أفاده من الجرجانى، وما أضافه لدراسة البلاغة، وقد أفدت منه كثيرا.
ولكنى أعتقد أن ما كتبته فى بلاغة الكشاف لم أسبق اليه، وذلك لأنه لم يدرسها أحد قبلى دراسة مستوعبة شاملة، يتحدد فيها رأى الزمخشرى فى كل مسألة من مسائل العلم تحديدا يقوم على الاستقراء الكامل، والتتبع اليقظ، الذى لم يترك شيئا يتصل بالبحث البلاغى فى الكشاف الا أشار اليه، ووضعه فى مكانه.
ولم يتيسر لباحث أن يقف على كل ما قاله الزمخشرى فى كل مسألة من مسائل البلاغة وقوفا تطمئن اليه نفسه الا فى هذا البحث.
ولم يقف جهدى عند الجمع والتصنيف، وانما ناقشت، ودرست، وقبلت، ورفضت، وكان هذا البحث خلاصة جهد دائم دائب طوال خمس سنوات لم يكن فيها شاغل من شواغل الدنيا سواه، فانصرفت اليه انصرافا كاملا.
وكانت محاولة تصوير هذه الدراسة البلاغة المتناثرة فى صورة كاملة ملتئمة من أصعب ما واجهنى فى هذا البحث، فكنت أقف طويلا عند الفكرة لأتخير لها مكانا، ولأصل بينها وبين صاحبتها. كما كنت أتردد كثيرا فى الاكتفاء ببعض نصوصه فى بيان الفكرة الواحدة، لأن تحليل الصور البلاغية يختلف من صورة الى صورة وان اتحدت خصائص الصياغة، وذلك تبعا لاختلاف سياق الجمل، وقرائن الأحوال، وهذا شىء يعرفه المتمرسون فى هذا الفن.(1/42)
وهذه الدراسة ليست من البحوث التى نجهد أنفسنا فيها لنضعها فى مكانها من تاريخ العلوم وانما لنضعها فى مكانها من دراستنا الأدبية المعاصرة فهى منهج دقيق فى دراسة النصوص الأدبية وتحليلها والبحث عن مكامن القوة والتأثير فيها ولا أجد بحثا يقاربه فى تاريخ البلاغة والنقد العربى، وهذه حقيقة أدرك أبعادها وأطمئن الى شمولها وصدقها، فبلاغة عبد القاهر التى راقت كثيرا من الباحثين المحدثين أضعها بعد دراسة الزمخشرى، وذلك لأن التحليل والتفسير الذى هو صميم البحث وخلاصته فى دراسة الزمخشرى أشمل وأدق.
وجهد الزمخشرى البلاغى كما قلت تائه فى تفسيره، لذلك لم يلتفت اليه كثير من الباحثين المهتمين بالبحث عن أصول قضايا النقد المعاصر فى التراث العربى، ولذلك أزعم أن اخراج هذا البحث قد يثير بعض البحوث والدراسات حول هذا الجهد الشامخ، وألفت هنا الى بعض الأصول التى لم تكن واضحة فى دراستنا البلاغية والنقدية وان كانت كل صفحة كتبها الزمخشرى فى بلاغة القرآن تصلح أن تكون صفحة مشرقة فى دراستنا اليوم وغدا، فكل دراسته لهذا الجانب البلاغى تتميز بالخصوبة والحيوية والقدرة على العطاء، وليس من حقنا أن نطالب القوم بكل ما تحتاجه حياتنا الأدبية، ففي ذلك الغاء لوجودنا، ويكفى أن نجد عندهم قبسات تنير لنا الطريق فنمضى على هديهم، ولو استطاع باحث معاصر أن يبدأ من حيث انتهى الزمخشرى وأن يضيف قدر ما أضاف كما فعل الزمخشرى نفسه مع أستاذه عبد القاهر لكان رائدا من روادنا، فالزمخشرى قبل أن يتصدى الى الدرس الأدبى فى القرآن أعد نفسه لهذا الجهد العظيم بدراسة واسعة هضم فيها الثقافة الفارسية واستوعبها، ودرس الثقافة اليونانية دراسة تمثل، وكان مؤسسو هذا التراث أنشط منا فى متابعة الفكر الانسانى فى كل مظانه، وأقدر على فقه الثقافات الأجنبية وتمثلها، وأصبر على البحث والدرس، وكانوا يفرزون هذه العصارات المختلفة عربية الشكل والجوهر حتى يخيل اليك أنهم لم يقرءوا غير التراث العربى، وهذه وظيفة الرواد القوامين على
ثقافات الأمم وحضارتها والحراس المحافظين على ملامحها وأصالتها.(1/43)
وجهد الزمخشرى البلاغى كما قلت تائه فى تفسيره، لذلك لم يلتفت اليه كثير من الباحثين المهتمين بالبحث عن أصول قضايا النقد المعاصر فى التراث العربى، ولذلك أزعم أن اخراج هذا البحث قد يثير بعض البحوث والدراسات حول هذا الجهد الشامخ، وألفت هنا الى بعض الأصول التى لم تكن واضحة فى دراستنا البلاغية والنقدية وان كانت كل صفحة كتبها الزمخشرى فى بلاغة القرآن تصلح أن تكون صفحة مشرقة فى دراستنا اليوم وغدا، فكل دراسته لهذا الجانب البلاغى تتميز بالخصوبة والحيوية والقدرة على العطاء، وليس من حقنا أن نطالب القوم بكل ما تحتاجه حياتنا الأدبية، ففي ذلك الغاء لوجودنا، ويكفى أن نجد عندهم قبسات تنير لنا الطريق فنمضى على هديهم، ولو استطاع باحث معاصر أن يبدأ من حيث انتهى الزمخشرى وأن يضيف قدر ما أضاف كما فعل الزمخشرى نفسه مع أستاذه عبد القاهر لكان رائدا من روادنا، فالزمخشرى قبل أن يتصدى الى الدرس الأدبى فى القرآن أعد نفسه لهذا الجهد العظيم بدراسة واسعة هضم فيها الثقافة الفارسية واستوعبها، ودرس الثقافة اليونانية دراسة تمثل، وكان مؤسسو هذا التراث أنشط منا فى متابعة الفكر الانسانى فى كل مظانه، وأقدر على فقه الثقافات الأجنبية وتمثلها، وأصبر على البحث والدرس، وكانوا يفرزون هذه العصارات المختلفة عربية الشكل والجوهر حتى يخيل اليك أنهم لم يقرءوا غير التراث العربى، وهذه وظيفة الرواد القوامين على
ثقافات الأمم وحضارتها والحراس المحافظين على ملامحها وأصالتها.
ومن هذه الأصول التى أذكرها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - دراسة المعانى والقول فى صحتها وتناقضها وأنواعها وأجناسها وتآخيها وتناسبها ومحاولة الكشف عن الأسس التى سار عليها نسق الجمل والآيات وكيف تترابط وتتوحد حتى كأن بعضها يأخذ بحجز بعض، وهذا بحث هام فى قضايا النقد، ولكنه ظل بعيدا عن الدرس الأدبى يمثل علم المناسبة فى علوم القرآن، وقد قال المختصون: انه أى علم المناسبة علم شريف لم يحاوله الا قلة من العلماء لدقته وصعوبة مسلكه. والذين حاولوه كانوا جميعا من الأدباء المشهود لهم بصفاء النفس وسلامة الحس، وقد قال أبو بكر النيسابورى: ان اعجاز القرآن البلاغى لم يرجع الا الى هذه المناسبات الخفية والقوية بين آياته وسوره حتى كأن القرآن كله كالكلمة الواحدة ترتيبا وتماسكا (1).
ولم يفد نقاد الأدب من هذه الدراسة القرآنية، لذلك جاء كلامهم فى تناسب أجزاء النص كلاما ضعيفا باهتا يعنى فقط ببيان حسن التخلص والانتقال، فظلت القصيدة العربية فى منظور النقد تنطوى على ألوان عديدة من الأغراض والمقاصد فى غير رباط شعرى واضح.
2 - كانت دراسة تناسب المعانى ثمرة النظر الشامل فى النص والخروج عن دائرة الجملة، فقد كان الزمخشرى بعد الدراسة التحليلية للجمل وبيان ترتيب معانيها وتناسقها ينظر نظرة أوسع يصف النص ويشير الى بعض الظواهر البلاغية فى الأسلوب، وكثير مما أثبتناه فى دراسة النظم وفى البحث فى الجمل يشير الى هذه النظر العامة، ومن ذلك قوله معلقا على قوله تعالى: {«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلََّا مَنْ شََاءَ اللََّهُ، وَكُلٌّ أَتَوْهُ دََاخِرِينَ. وَتَرَى الْجِبََالَ تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ، صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ}
__________
(1) هناك محاولات قديمة للامام الرازى فى تفسيره، والشيخ الامام البقاعى وله فى ذلك كتاب قيم ومخطوط فى دار الكتاب، وحاول هذا البحث من المعاصرين مولانا الشريف التهانوى الهندى فى كتاب(1/44)
{شَيْءٍ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَفْعَلُونَ. مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهََا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ»} (2).
يقول الزمخشرى بعد ما درس الآيات وبين تناسبها: فانظر الى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة اضماده ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ افراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق، ونحو هذا المصدر اذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته والمنادى على سداده وأنه ما كان ينبغى أن يكون الا كما قد كان، ألا ترى الى قوله تعالى: {«صُنْعَ اللََّهِ}، و {«صِبْغَةَ اللََّهِ»}، و {«وَعَدَ اللََّهُ»}، و {«فِطْرَتَ اللََّهِ»}، بعد ما وسمها باضافتها اليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله: {«الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»} (3)، {«وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً»} (4)، و {«لََا يُخْلِفُ اللََّهُ وَعْدَهُ»} (5)، و {«لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ»} (6).
ولا شك أن هذا رفض صريح للقول بأن بلاغتنا انحصرت فى دائرة الجملة ولم تخرج عنها الا فى بحث الفصل والوصل، كما أنه رفض صريح للقول بأن بلاغتنا بلاغة لفظية لم تعن بالمعانى ولم تلفت اليها فى دراستها، وعذر أصحاب هذه الدعاوى من المعاصرين أنهم نظروا الى البلاغة التقليدية أو الرسمية التى حددتها مدرسة السكاكى وحسبوها خطأ خلاصة واعية للتراث الأدبى فى هذا المجال.
3 - ويدرك الزمخشرى ببصيرته الأدبية ما يسميه غيرنا «تطور الشكل الأدبى» أو «مبدأ النمو الموحد» الذى هو أصل هام فى
__________
مطبوع طبع حجر سماه «سبق الغايات فى معرفة المناسبات» وحاوله كذلك الأديب السورى ابن شهيد ميسلون وكتب بحثا سماه «نظرة العجلان فى مناسبات القرآن» قدم له الشيخ مصطفى الزرقا وطبع فى دمشق، وقد أشرت الى هذا فى كتاب الاعجاز البلاغى، وبحث: الصورة فى التراث البلاغى، بمجلة كلية اللغة العربية العدد الرابع.
(2) النمل: 9087
(3) النمل: 88
(4) البقرة: 138
(5) الروم: 6
(6) الروم: 30(1/45)
مفهوم النص، فيحدثنا عن نمو الفكرة وتصاعدها، والمعانى التى يتولد بعضها من بعض، ويهئ بعضها لبعض حتى كأن السابق منها بساط للاحقه ووطاء لذكره (7)، واسمعه يقول فى الالتفات:
«وهو فن من الكلام جزل فيه هز وتحريك من السامع، كما أنك اذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: ان فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه ثم عدلت بخطابك الى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة فى مجارى أمورك وتستوى على جادة السداد فى مصادرك ومواردك، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه واستدعيت اصغاءه ارشادك زيادة استدعاء وأوجدته بالانتقال من الغيبة الى المواجهة هازا من طبعه ما لا يجده اذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان فى الحديث والخروج منه من صنف الى صنف يستفتح الآذان للاستماع ويستهش الأنفس للقبول». هذا وأمثاله كثير وهى كما قلت قبسات تضيء لنا الطريق، وعلينا أن نمضى.
4 - ولقد هدى الزمخشرى الى طريقة التشخيص والتجسيم، كما درس طريقة التخييل الحسى فى أسلوب القرآن وتنبه الى أن القرآن يعتمد فى بنائه على هذه الوسائل التعبيرية، وأن هذه الوسائل هى الطريقة المفضلة فى أسلوبه، ويقول: ان أكثر كلام الله سبحانه وكلام أنبيائه وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام لجهلها بأدق علوم البيان، وكان أول من أدخل دراسة التخييل فى محيط الدرس القرآنى واستجاب فى ذلك لحسه الرهيف وان أغضب علماء عصره، وقد حاول بعض المعاصرين (8) دراسة هذا الجانب فى أسلوب القرآن وذكروا أنه جانب لم يدرس، والحق أننى قرأت هذه المحاولات بامعان ولمحت فيها بصرا نفاذا وأستطيع أن أرجع بأصولها وبجزئياتها الى دراسة
__________
(7) ينظر فصل النظم فقد أشار الى نمو الأفكار فى كثير من مباحثه، وينظر بحث الفصل والوصل، كما ينظر حديثه فى ترتيب الصفات والترقى من الأدنى الى الأعلى.
(8) ينظر كتاب التصوير الفنى لسيد قطب.(1/46)
الزمخشرى، ومما يذكر للزمخشرى فى هذا الموضوع أنه كان يدعو فى فهم الصورة البيانية الى انصراف النفس والحس الى أخذ الزبدة، والخلاصة منها وملء النفس والقلب بما توحى به غير ملتفت الى ما عليه حال الكلمات من حقيقة أو مجاز، وهذا تفكير جيد فى فهم الصورة البيانية يلقى عنها هذه الأثقال التقريرية التى أطفأها بها البلاغيون المتأخرون (9).
5 - والزمخشرى يحدثنا فى أوائل القرن السادس فى أثر التمثيل بالحركات والأفعال فى حياتنا الأدبية والنفسية، فالتمثيل الحى المتحرك قادر على الايحاء والتهذيب، ولفت النفس الى عيوبها ونقائصها عن طريق الوحى والرمز ألطف وأنفع، ويشير الى أنه من الواجب أن يكون فى المشهد التمثيلى رمز يشير الى الغرض الذى يدور حوله هذا المشهد، ويتحدث عن الحكاية التى تصور الأشخاص وتبرز ملامحها النفسية واضحة وقوية، ويرى أنها أقدر الوسائل والأشكال على توجيه النشء نحو الخير والجمال (10).
6 - وكانت للزمخشرى اشارات حسنة فى كشف النسق النفسى لأسلوب القرآن الكريم ولم نجد من المفسرين والدارسين لبلاغة القرآن من اهتم بهذا الجانب الذى كان أساسا فى بناء أسلوب القرآن اللهم الا اشارات فى بعض تفاسير الشيعة كالطبرسى أو الصوفية مثل لفتات الشيخ محيى الدين بن عربى. وقد كثرت اشارات الزمخشرى الى هذه الزاوية المهمة وربط كثيرا من الفنون والخصائص البلاغية بأحوال النفس وشئونها وفسرها تفسيرا نفسيا يكشف عن سر قوتها وتأثيرها.
انظر الى حديثه فى الالتفات فقد فسره تفسيرا نفسيا معجبا، وانظر الى حديثه فى بعض صور النهى والتوكيد ومواقع الشرط والتعريف بالاضافة وتفسير قيود الجملة وما ذكرناه فى ترتيب الجمل والآيات والتكرار وغير ذلك كثير وكثير، ولا أجدنى مبالغا ان قلت ان اعتماد الزمخشرى
__________
(9) ينظر فصل البيان.
(10) ينظر ما فى التمثيل فى فصل البيان.(1/47)
الأكبر فى بحث البلاغة القرآنية كان يرتكز على خبرة بأحوال النفس وشئونها.
ولا أزعم أن هذه الاشارات تفى الغرض فى هذا الباب لأنه باب مهم وخصيب، كما لا أزعم أن اشاراته الأخرى فى الموضوعات المختلفة تكشف كل زوايا الموضوعات التى أشرت اليها، وانما أؤكد أن هذه الاشارات تصلح أن تكون أسسا قوية غير مفتعلة لكل دراسة جادة تعنى بهذا الموضوع أو ذاك، خذ مثلا لذلك حديثه عن الترتيب النفسى للآيات فى قوله تعالى: {«أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السََّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذََابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي فَكَذَّبْتَ بِهََا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكََافِرِينَ»} (11).
يقول الزمخشرى: «فان قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله: {«لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي»} ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لا يخلو اما أن يقدم على أخرى القرائن فيفرق بينهن، واما أن تؤخر القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثانى فلما فيه من النقض بين الترتيب وهو التحسر على التفريط فى الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب عن بعضها على ما اقتضى الجواب» واقرأ قوله فى تفسير قيد الجملة فى قوله تعالى فى عدة المطلقة: {«وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ»} (12) يقول كاشفا ما تنطوى عليه نفوس النساء من الرغبة الجموح فى الرجل والجنس ومفسرا هذا القيد فى ظل هذا الفهم: «فى ذكر الأنفس تهيج لهن على التربص وزيادة بعث لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح الى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص».
__________
(11) الزمر: 5956
(12) البقرة: 228(1/48)
7 - والفصل الذى عقدته فى دراسة ملاءمة الكلمة القرآنية لسياقها أراه من أجل فصول هذا البحث، وذلك لأنه من السهل على الباحث أن يقول هذه الكلمة المشهورة: لكل كلمة مع صاحبتها مقام. ومن الصعب العسير عليه أن يبحث ملاءمة الكلمة لمقامها وما يؤديه وجودها فى هذه الصورة وعلى هذه الهيئة من المعانى والايحاءات، وهذا من أدق بحوث النقد الأدبى، لأن الكلمة فى النص هى التى تهدينا الى كل آفاقه ومنها نبدأ، فاذا لم نحسن درسها وفهمها عجزنا عن دخول عوالمه وكان عملنا ضلالا وضياعا، وهذه حقيقة لا ينكرها منصف.
والمهم أن للزمخشرى فى ذلك درسا قيما أراه أجل البحوث فى النقد، وأرى كل ما فيه صالحا لأن يكون عطاء أى عطاء لدراستنا المعاصرة. اقرأ ما أثبتناه فى فروق صيغ الأفعال والفرق بين جمع القلة وجمع الكثرة ومعانى حروف الجر وأدوات الشرط والعطف والتعريف والاضافة ولا يهولنك أن هذه بحوث نحوية فسوف ترى الزمخشرى يستشرف بها أفقا فنيا عاليا ويلمح منها معانى أدبية رفيعة يحرص عليها كل ناقد بصير، خذ لذلك مثلا قوله فى الفرق بين حرفى الجر «فى» و «على» فى قوله تعالى: {«وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (13):
«فان قلت: كيف خولف بين حرفى الجر الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء والضال كأنه منغمس فى ظلام مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه».
واقرأ قوله مفسرا صيغة المضارع فى قوله تعالى: {«إِنََّا سَخَّرْنَا الْجِبََالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرََاقِ»} (14) يقول بعد ما بين أن كلمة «يسبحن» حال وأنها فى معنى مسبحات: «فان قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسبحات؟ قلت: نعم، وما اختير «يسبحن» على «مسبحات» الا لذلك، وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا
__________
(13) سبأ: 24.
(14) سورة ص: 18.(1/49)
بعد شىء وحالا بعد حال وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها».
فبناء كلمة «يسبحن» هنا يحول السامعين نظارة يحضرون ويشهدون، وتسبيح الجبال يملأ أسماعهم بأنغامه فى محضر داود صاحب المزامير.
ولا شك أن هذا مشهد معجز وأن احضاره بالكلمة فى منزلة اعجازه بخرق العادة أعنى تسبيح الجبال.
ويقول فى قوله تعالى: {«وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ»} (15): «فان قلت: فلم جاء «فتثير» على المضارع دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكى الحال التى تقع فيها اثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك كما قال تأبط شرا:
بأنّى قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصّحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التى تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول كأنه يبصرهم اياها ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب من جرأته على كل هول وثباته عند كل شدة» ولهذا الذى ذكره فى صيغة المضارع يعدل اليها القرآن فى بيان تفظيع مواقف اليهود من أنبيائهم حيث يقول: {«فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ»} (16) فعدل الى المضارع «لأن القتل فظيع فأريد استحضاره فى النفوس وتصويره فى القلوب». وقد نقل ضياء الدين بعض هذه النصوص وسكت عن نسبتها الى صاحبها وعلق عليها باحث معاصر وذكر أنها مما يدلنا دلالة قوية على قدرة ابن الأثير ونفاذ حسه (17)، ولو رحت أذكر ما يروق
__________
(15) فاطر: 9
(16) البقرة: 87
(17) ينظر كتاب: ضياء الدين بن الأثير وجهوده فى البلاغة والنقد للدكتور محمد زغلول سلام طبعة دار المعارف.(1/50)
الأذواق العالية من هذه الدراسة القيمة لذكرت فى المقدمة كل فصول الدراسة وحسبى أن أقدم هذه الصفحة المشرقة من تراثنا.
وأرجو بذلك أن أكون قد شاركت بشيء فى محاولة تجديد المنهج فى الدراسة البلاغية الذى لا سبيل الى اصلاحه الا بالاستمداد من هذه الروافد التى تعتمد على التحليل والتفسير ومصاحبة النصوص وادمان دراستها والنظر فيها، وبهذا وحده يكتسب الذوق، بل ولا سبيل الى اكتساب ذوق هذه اللغة سواه.
وبعد فان تكن هذه المحاولة موفقة فذلك من محض فضله سبحانه، وان تكن الأخرى فان من رحمة الله بالباحثين عن الحق أنه لم يجعل له وجها واحدا بل جعل له وجوها متعددة يرى كل فريق منه وجها، ولهذا اختلف الناس، واختلف المتدينون فى أمور الدين، واختلف صحابه رسول الله فى بيان وجه الحق وتصاولوا، وكل يعتقد أنه يدفع عن الحق الذى أراه الله اياه. ومن رحمته سبحانه بهذه الفئة الباحثة عن الحقيقة أنه يثيب المخطئ اذا اجتهد فى اصابة الحق ففاته ادراكه، وحسبى أنه يعلم أنى ما قصرت فى طلب الصواب بقدر ما رزقنى من قدرة على النظر والتفكير، والله هو الهادى الى الحق والى الصراط المستقيم.
وما توفيقى الا بالله، عليه توكلت واليه أنيب.
محمد محمد أبو موسى
* * *
تمهيد(1/51)
* * *
تمهيد
أردت فى هذا التمهيد أن أعرض تعريفا موجزا بالعلامة محمود بن عمر صاحب كتاب الكشاف الذى هو موضوع بحثنا.
وتفيدنا كتب التراجم أنه ولد فى شهر رجب سنة سبع وستين وأربعمائة، وأكثرهم على أنه ولد فى ليلة الأربعاء السابع والعشرين من هذا الشهر، ويروى القفطى عن أبى اليمن الكندى أنه ولد فى أواخر رجب سنة ثمان وستين، ويقول أيضا: ونقلت من كتاب محمد بن محمد بن حامد قال: كان مولده فى سابع عشر من شهر رجب سنة سبع وستين وأربعمائة (1) ولعله تصحيف، والصواب السابع والعشرين كما هو رأى الأكثر.
وأكثرهم على أنه عاش احدى وسبعين سنة، وذكر ابن الأثير أنه عاش ستا وسبعين سنة، واذا كان الرواة متفقين على أنه مات سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة فان ميلاده يكون عند ابن الأثير سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وهذا لم يقل به غيره.
والزمخشرى منسوب الى زمخشر، وهى قرية من قرى خوارزم، يقول الوزير ابن القفطى: وسمعت بعض التجار يقول انها قد دخلت فى جملة المدينة وأن العمارة لما كثرت وصلت اليها وشملتها فصارت من جملة محالها (2).
وخوارزم وجرجانية التى هى متقلبه ومثواه لها خصائص مادية وخصائص معنوية، أما خصائصها المادية فتتلخص فى أنها من الأقاليم الموفورة الخيرات، الكثيرة الخصب والثمار، المتصلة البساتين والمزارع والأشجار.
__________
(1) ينظر أنباه الرواة ج 3ص 271.
(2) أنباه الرواة ج 3ص 26.(1/52)
وهى تقع على حدود الدولة الاسلامية، فهى من الثغور المهمة والتى تتعرض كثيرا لغزو أعداء المسلمين، وكانت لهذه الخصائص المادية آثار واضحة فى سكانها فهم مسلمون متحمسون لدينهم يدافعون عنه بالسنان كما يدافعون عنه باللسان، فكانوا صياقلة بيان ورجال صيال.
وأما خصائصها المعنوية فأوضحها أنه قد أتيح لهذا الاقليم وخصوصا فى عصر الزمخشرى رؤساء عنوا أشد العناية بالعلوم والآداب فقربوا العلماء من مجالسهم وقلدوهم المناصب المهمة، فنبغ فى هذا العصر كثير من العلماء فى فروع علوم الدين واللغة. وكان الشعور الدينى حيا فى تلك المنطقة لمشارفتها بلاد الكفر، ولكثرة حروبها فى سبيل الدفاع عن الاسلام، والوقوف فى وجه أعدائه.
ويبدو أن الزمخشرى رحمه الله كان ماجدا بنفسه، فلم نعرف أحدا من أجداده، بل لم نعرف أكثر من أنه محمود بن عمر بن محمد ابن عمر كما يذكر ابن خلكان (3) أو محمود بن عمر بن محمد بن أحمد كما يذكره صاحب تاج العروس (4) أو محمود بن عمر الخوارزمى النحوى كما يذكره صاحب العبر مؤرخ الاسلام الذهبى (5) ومما لا شك فيه أنه كان أعجميا يتعصب للعروبة ولدينها وللغتها، وأرجح أنه كان فارسيا لأن بيئته فارسية ولأنه كتب باللغتين العربية والفارسية، وكان معنيا بتعليم الفرس اللسان العربى.
وكان رحمه الله ممتعا باحدى رجليه، ولما دخل بغداد سأله الدامغانى الفقيه الحنفى عن سبب قطعها، فقال: دعاء الوالدة، وذلك أننى فى صباى أمسكت عصفورا وربطته بخيط فى رجله وانفلت من يدى فأدركته وقد دخل فى خرق فجذبته فانقطعت رجله فى الخيط،
__________
(3) وفيات الأعيان ج 4ص 254.
(4) تاج العروس ج 3ص 343، تحقيق الدكتور صلاح الدين أبو المجد الكويت.
(5) العبر فى أخبار من غبر ج 4(1/53)
فتألمت أمى لذلك وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطع رجله، فلما وصلت الى سن الطلب رحلت الى بخارى لطلب العلم فسقطت عن الدابة فانكسرت الرجل، وعملت عملا أوجب قطعها (6).
ويقول ابن خلكان: وسمعت من بعض المشايخ أن احدى رجليه كانت ساقطة، وأنه كان يمشى فى جاون خشب، وكان سبب سقوطها أنه كان فى بعض أسفاره ببلاد خوارزم فأصابه ثلج كثير وبرد شديد فى الطريق فسقطت منه رجله (7) ثم قال: والبرد والثلج كثيرا ما يؤثر فى الأطراف فى تلك البلاد فتسقط خصوصا خوارزم فانها فى غاية البرد، ولقد شاهدت خلقا كثيرا ممن سقطت أطرافهم بهذا السبب فلا يستبعده من لا يعرفه.
وابن خلكان قريب من زمان الزمخشرى وبينهما سبب فى الاجازة فقد أجاز الزمخشرى زينب بنت الشعرى التى أجازت ابن خلكان.
ويقول السيوطى فى سبب قطعها: وأصابه خراج فى رجله فقطعها (8). وليس هناك تعارض بين هذه الأسباب فقد يكون سقوطه عن الدابة سببا لقروحه، ثم ساعد البرد على سقوطها.
وكان الزمخشرى اذا مشى ألقى عليها ثيابه الطوال فيظن من يراه أنه أعرج.
وكان والده الذى لم يحدثنا عنه التاريخ تقيا برا صالحا صواما قواما كما يقول الزمخشرى، وكان رجلا فقيرا معولا. ويظهر أن الزمخشرى قد تمتع به زمانا.
فقد ذكر فى شعره أن مؤيد الملك نكل بوالده فى سجنه وأثقل عليه القيود والسلاسل، وقد استعطفه الزمخشرى وذكر فضل والده وتقاه وحاجته. وكان مؤيد الملك سيّئ السيرة، مسلطا على الأخيار.
__________
(6) أنباه الرواة ج 3ص 268.
(7) وفيات الأعيان ج 4ص 244.
(8) بغية الوعاة ج 2ص 279.(1/54)
وقد يكون الزمخشرى أكبر أبناء أبيه لأنه يذكر شبابه وضعف أطفاله، والزمخشرى فتى يكتب للأمراء فى شأن أبيه فليس طفلا كاخوته (9) وقد ذكر أن والده مات وهو شاب، وأن مما قراه حسرة وأسى أنه لم يكن فى صحبة والده فى تلك اللحظات التى فارق فيها الدنيا، والتى كان ظمأ فيها للقاء والده، ولعل الزمخشرى كان مشغولا فى طلب العلم، فقد كان كثير الفراق لوالده، وكان يشكو هذا الفراق المتقطع فما باله بهذا الفراق الدائم.
وقد كنت أشكو فراقّا قبل منقطعا ... وكيف لى بعده بالعيش منتفع
ونستطيع أن نتصور من شعر الزمخشرى أن والده كان رجلا صافى النفس، نفى السريرة، مهذب اللفظ، مفطورا على الخير، منصرفا الى ما فيه رضا الله، راغبا عن الدنيا، بكاء، كثير التذكر، كريما، فاضلا ماجدا.
يقول الزمخشرى فى رثائه:
فقدته فاضلا فاضت مآثره ... العلم والأدب المأثور والورع
أخا طباع مصفّاة مناسبة ... ماء السّحابة ما فى بعضها طبع
وذا حقائق لا فى لحظة طلب ... لغير رشد ولا فى لفظه قذع
لم يأل ما عاش جدّا فى تقاه يرى ... إنّ الحريص على دنياه منخدع (10)
وكانت أمه صالحة تقية، وما يحكيه فى سبب سقوط رجله يشعرنا بأنها كانت رقيقة القلب مهذبة الطبع، وقد بكاها فى شعره، وتسلى بأنها فى رضوان الله ورحمته، فهى تناديه من عالمها وتقول:
أبنيّ إنّى فى الجنان مقيمة ... أختال بين ظليلة الأفياء
حرّ الجحيم رضا الرّحيم أعاذنى ... منه وأنزلنى مع الصّلحاء
__________
(9) ديوان الزمخشرى ورقة 97.
(10) ديوان الزمخشرى ورقة 72.(1/55)
فى جنّة الفردوس فوق أريكة ... فى قبّة من وردة زهراء
حفّت خيام الحور حولى قبتى ... وبرزن عرصتها صباح مساء
أعزز علىّ أن أرانى هكذا ... وأراك رهن الوجد والبرحاء
أعزز علىّ بأن تطول مسرّتى ... وتطيل أنت تنفّس الصّعداء
فى الضيّق والظّلماء تحسبنى ولى ... متبوّء فى نسمة وضياء
من كان فى دار السلام حلوله ... أنّى يرى فى الضّيق والظّلماء
واعلم بأنّى قد دعوت الله أن ... تعطى رضاه فاستجاب دعائى (11)
وكان لهذه الأم الصالحة ولهذا الأب التقى أثر بين فى حياة الزمخشرى، فشب مستقيم الطريقة، حريصا على الخير، داعيا اليه، وكأنه بهذا السلوك يصل سيرته بسيرة آبائه وأجداده الذين يدعى أنهم كانوا كذلك، وأن الناس يشهدون لهم بهذا، بل يتفقون على القول بسلامة دينهم وحسن سيرتهم. يقول فى الخمر:
هات التى شبّهت ظلما بشمس ضحى ... لو عارضتها لغطّتها بإشراق
أستغفر الله أنّى قد نسبت بها ... ولم أكن لحميّاها بذوّاق
ولم يذقها أبى كلّا ولا أحد
من أسرتى واتّفاق الناس مصداق (12)
وكان الزمخشرى رحمه الله منصرفا عن النساء، غروفا عنهن عفيفا، لم يشغل بصاحبة ولا ولد، ويذكر أن نفسه التى ظلتها الكآبة منذ طفولتها لا تساعده حتى على القول فى النساء والتصابى بهن:
تقول سليمى ما لشعرك طيّب ... وهل طاب شعر ليس فيه نسيب
ربيع نفيت الورد عنه فقل لنا ... ربيع بدون الورد كيف يطيب
فقلت لها قول امرئ لعبت به ... صروف زمان جمّة وخطوب
__________
(11) ديوان الزمخشرى ورقة 4.
(12) الديوان ورقة 85(1/56)
شكايات أيام ملكن قصائدى ... فلم يبق فيها للنسيب نصيب
إذا قلت فى شكوى الزمان قصيدة ... وجدت القوافى ترعوى وتجيب
وإن قلت مدحا أو نسيبا وجدتها ... وعصيانها لى عند ذاك عجيب (13)
ويفلسف عزوفه عن النساء ورغبته عن النسل بأنه يخشى أن يلد ولدا غير كيس فيكون سبة وعارا وفضيحة وشنارا، وكم من والد يربى ولده ويشقى ثم يشقيه ولده حين يراه ولدا تافها لا يعبأ به ولا يلتفت اليه:
تصفحت أولاد الرّجال فلم أكد ... أصادف من لا يفضح الأمّ والأبا
رأيت أبّا يشقى لتربية ابنه ... ويسعى لكى يدعى مكيسا ومنجبا (14)
أراد به النشأ الأغرّ فما درى ... أيوليه حجرا أم يعلّيه مركبا
أخو شقوة ما زال مركب طفله ... فأصبح ذاك الطفل للناس مركبا
لذاك تركت النّسل واخترت سيرة ... مسيحية أحسن بذلك مذهبا
وقد لامه أهله لاعراضه على النسل ونصحوه بطلبه، فلا مهم لأنهم يلحونه على النسك ووصفهم باللؤم فى النصيحة، وأشار الى فساد الأولاد وقبائحهم وأنه ينبغى أن يترفع مثله عن أن يولد له ولد قبيح:
يموّه قومى بالتّنصح لؤمهم ... وإن عناء لومهم والتّنصّح
يلوموننى أنّى نأيت بجانبى ... عن النّسل ألوى عنه رأسى وأجمح
أتلحون لواما على النّسك أهله ... إذا لم يفدك القول فالصّمت أصلح
__________
(13) الديوان ورقة 6.
(14) المكيس من أكيس اذا ولد ولدا كيسا والعرب تقول: ان المكيسة تكيس أى المرأة الكيسة تلد أولادا أكياسا قال:
فلو كنتم لمكيسة لكانت ... وكيس الأم يظهر فى البنينا(1/57)
كأنكم لم تسمعوا أنّ من له ... عيال شقىّ دهره ليس يفلح
قبيح بمثلى والبنون كما أرى ... جنود فساد ليس فى الألف مصلح
تصدّ لنسل مثلهم ... يولد فعال القبائح أقبح
إذا ارتكب الابن الخليع فضيحة ... فذاك لعمر الله للأب أفضح
وكلّ صنيع ليس للنّفس جالبا ... وجرّ وجوه الضرّ فالترك أروح (15)
وليس الزمخشرى بدعا فى هذا، فان كثيرا من الأفذاذ اختاروا هذه الطريقة ومنهم الكسائى والطبرى وأبو حيان التوحيدى. ولعل أهم سبب يكمن وراء هذا السلوك هو انصراف همتهم الى طلب العلم، أو اغناء نفوسهم به، ووجدان لذتهم فى البحث والتحصيل، وقد أشار الزمخشرى الى هذا فى قوله:
سهرى لتنقيح العلوم ألذّ لى ... من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلى طربا لحلّ عويصة ... أشهى وأحلى من مدامة ساق
وليس غريبا أن ينصرف عن شواغل الصاحبة والولد من أخلص فى الطلب وذاق حلاوة التحصيل.
ولم يكن الزمخشرى صاحب مال يشغله وربما لا يكون صاحب مال يكفى حاجته فى معيشته، وكم نظر فى كفه فما وجد غير الأنامل:
غنىّ من الآداب لكنّني إذا ... نظرت فما فى الكف غير الأنامل
فانصرف الزمخشرى الى العلم وهو رجل خفيف الحاز لا مال ولا ولد، فانهمك فى التحصيل، وأخلص فى الطلب، وشغل بالعلم فى ليله ونهاره، وفى يقظته ومنامه. فقد روى أنه سئل فى المنام عن اشتقاق المعاداة فقال: «لأن هذا فى عدوة ذلك فى عدوة كما قيل:
المخاصمة والمشاقة، لأن هذا فى خصم أى فى جانب، وذلك فى خصم، وهذا فى شق وذلك فى شق» (16).
__________
(15) ديوان الزمخشرى ورقة 26.
(16) ينظر الكشاف ج 2ص 160.(1/58)
ولقى الزمخشرى أفاضل عصره، وأخذ عنهم. وقد ذكر الرواة أنه أخذ الأدب عن أبى الحسن على بن المظفر النيسابورى، وأبى مضر الأصبهانى، وسمع من أبى سعيد الشقانى، وشيخ الاسلام أبى منصور الحارثى.
وقد ذكر شيخه أبا مضر، ونوه به، وأشار الى علمه وفضله، وكان يحبه ويخلص له فى حبه. وتفجع فى رثائه:
وما زال موت المرء يخرب داره ... وموت فريد العصر قد خرّب العصرا
وصكّ بمثل الصّخر سمعى نعيّه ... فشبّهت بالخنساء إذ فقدت صخرا
ويقول مشيرا الى افادته منه وأخذه عنه:
فقلت لطبعى هات كلّ ذخيرة ... فمن أجله ما زلت أدّخر الذّخرا
وأبرز كريمات القوافى وغرّها ... فمنه استفدنا العلم والنّظم والنّثرا
وكان أبو مضر كما يقول الرواة يلقب بفريد العصر، وكان وحيد دهره وأوانه فى علم اللغة والنحو والطب. يضرب به المثل فى أنواع الفضائل، أقام بخوارزم مدة وانتفع الناس بعلومه، ومكارم أخلاقه، وأخذوا عنه علما كثيرا، وتخرج عليه جماعة من الأكابر فى اللغة، منهم الزمخشرى، وهو الذى أدخل على خوارزم مذهب المعتزلة ونشره بها فاجتمع عليه الخلق لجلالته وتمذهبوا بمذهبه منهم أبو القاسم الزمخشرى (17).
ولعل ما وصف به الضبى من كرم النفس وفضيلة الأخلاق هو الذى مكن له فى نفس تلميذه، وقد أشار الزمخشرى فى بعض أشعاره الى أن شيخه هذا كان يدفع حاجته ويكفيه ما أهمه:
ولو لم يل الضّبىّ عنى عراكها ... لغالت يد البلوى أديمى بعركها
وقد ذكر مؤرخ الاسلام الحافظ الذهبى أن الزمخشرى سمع من ابن البطر فى بغداد (18).
__________
(17) معجم الأدباء ج 19ص 123.
(18) العبر فى أخبار من غبر ج 4.(1/59)
ويذكر القفطى أنه لقى فى بغداد الدامغانى الفقيه الحنفى (19)
ولقى فيها أيضا الشيخ أبا منصور الجواليقى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وقرأ عليه بعض كتب اللغة من فواتحها، واستجاز أبا منصور. ولقى فيها العلامة الشريف ابن الشجرى، يقول ابن الانبارى: وقدم الى بغداد للحج فجاءه شيخنا الشريف ابن الشجرى مهنئا بقدومه، فلما جالسه أنشده الشريف:
كانت مساءلة الرّكبان تخبرنى ... عن أحمد بن دؤاد أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذنى بأحسن مما قد رأى بصرى
وأنشده أيضا:
واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغّر الخبر الخبر
وأثنى عليه ولم ينطق الزمخشرى حتى فرغ الشريف من كلامه، فلما فرغ شكر الشريف وعظمه وتصاغر له وقال: ان زيد الخيل دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحين بصر بالنبى صلّى الله عليه وسلم رفع صوته بالشهادتين، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: «يا زيد الخيل، كل رجل وصف لى وجدته دون الصفة الا أنت فانك فوق ما وصفت»، وكذلك الشريف، ودعا له وأثنى عليه، فتعجب الحاضرون من كليهما لأن الخبر كان أليق بالشريف والشعر أليق بالزمخشرى (20) وابن الشجرى كما يقول ابن خلكان كان اماما فى النحو، واللغة، وأشعار العرب، وأيامها، وأحوالها، كامل الفضائل، متضلعا من الأدب وكان حسن الكلام حلو الألفاظ، فصيحا، جيد البيان والتفهم (21).
ويشير الزمخشرى فى كتابه «أعجب العجب» الى شيخه محب الدين فى بعض مسائل الاعراب ويدعو له، يقول: وقال شيخنا محب الدين قدس
__________
(19) أنباه الرواة ج 4ص 268.
(20) نزهة الألباء ص 469.
(21) وفيات الأعيان ج 5ص 96.(1/60)
الله روحه (22). ويقول: قال شيخنا محب الدين أثابه الله الجنة (23).
وتفسيره مشحون بأسماء أعلام للعلماء وأسماء شيوخه من المعتزلة، وكان ينوه بهم وبما صنفوه، يقول: وقد صنف شيخنا أبو على الجبائى قدس الله روحه غير كتاب فى تحليل النبيذ، فلما شيخ وأخذت منه السن العالية قيل له: لو شربت منه ما تتقوى به فأبى، فقيل له:
فقد صنفت فى تحليله. فقال: تناولته الدعارة فسمج فى المروءة (24).
ويقول: سمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرة من مشايخنا يقول: لا تطمح عينى وتنازع نفسى الى شىء مما وعد الله فى دار الكرامة كما تطمح وتنازع الى رضاه عنى، والى أن أحشر فى زمرة المهديين المرضى عنهم (25).
ويذكر من أعيان النحاة والبلاغيين:
ابن جنى ج 2ص 143، ج 3ص 7، وكتابه المحتسب ج 3ص 31، وكتابه التمام ج 3ص 7، وأبا عبيدة ج 3ص 355، 455، وأبا عبيدة ج 3ص 417، ج 4ص 55، وأبا الفتح الهمدانى ج 3ص 425، ج 4ص 71، وثعلب ج 3ص 454، والزجاج ج 3ص 332، 460، ج 4ص 147، 255، ج 1ص 398، 496، ج 2ص 73، 489، 550ج 3ص 133، 334، وتفسير الزجاج ج 3ص 147.
والأزهرى ج 2ص 7، وسيبويه كثيرا جدا ج 2ص 115، وينوه بجملة كتاب سيبويه ج 4ص 466، وأبا حاتم السجستانى ج 2ص 25، وأبا على صاحب الحلبيات ج 1ص 179، والفراء ج 1ص 180، والواقدى ج 1ص 182، ج 3ص 224، والمبرد ج 3ص 7، وعبد الله ابن المعتز ج 3ص 69، وأبا جعفر المدنى ج 3ص 194، 213،
__________
(22) أعجب العجب ص 53.
(23) المرجع السابق ص 58.
(24) الكشاف ج 2ص 480، 481.
(25) الكشاف ج 2ص 227.(1/61)
وأحمد بن يحيى ج 3ص 224، ويعقوب بن السكيت وكتابه اصلاح المنطق ج 3ص 278، وابن المقفع ج 3ص 286، وكتاب الحيوان ج 3ص 284، وعبد القاهر الجرجانى ج 4ص 311، وابن قتيبة ج 4ص 549، وعمرو بن عبيد ج 4ص 597، وغير ذلك كثير مما يفيدنا أن الزمخشرى أفاد من القراءة أكثر مما أفاد من السماع والتلقى.
وكتابه «ربيع الأبرار» شاهد صدق على درايته بمأثور الأدب والأخبار، وقد أشار القفطى الى هذا حين قال: ولم يكن له على ما عنده من العلم لقاء ولا رواية (26).
وكان الزمخشرى حنفى المذهب، وكان متسامحا مع مخالفيه فى المذهب الفقهى، أحب الامام الشافعى ونوه بمكانته، ويذكر أنه من أعلام العلم، وأئمة الشرع، ورءوس المجتهدين، وقد كتب كتابا ترجم له ب «شافى العى من كلام الشافعى» والكتاب غير معروف وأظنه يتصل ببلاغة الامام ورسوخ قدمه فى علم العربية وتمكنه منها، يقول فى قوله تعالى: {«ذََلِكَ أَدْنى ََ أَلََّا تَعُولُوا»} (27) بعد ما فسر العول بالميل والجور: «والذى يحكى عن الشافعى رحمه الله أنه فسر {«أَلََّا تَعُولُوا»}: ألا تكثر عيالكم، فوجهه أن يجعل من ذلك عال الرجل عياله يعولهم، كقوله: مانهم يمونهم اذا أنفق عليهم، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم. وفى ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب، وحدود الورع، وكسب الرزق الطيب، وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورءوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد.
وألا يظن به تحريف «تعيلوا» الى: تعولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من فم أخيك سوءا وأنت تجد لها فى الخير محملا، وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافى العى من كلام الشافعى» شاهدا بأنه كان أعلى كعبا، وأطول باعا فى علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقا، وأساليب، فسلك فى تفسير هذه الكلمة طريق الكناية» (28).
__________
(26) انباه الرواة ج 3ص 270.
(27) النساء: 3
(28) الكشاف ج 1ص 361.(1/62)
وكان يمدح قضاتهم فى خوارزم، ويشير الى أنه ليس شافعى المذهب:
إنّى بدين ولائهم متشيّع ... لهم ولست بشافعىّ المذهب (29)
وكان معتزليا متشددا فى مذهبه متعصبا لشيعته معتزا بنسبته اليهم، يروى ابن خلكان: أنه كان اذا قصد صاحبا له واستأذن عليه فى الدخول يقول لمن يأخذ له الاذن: قل له: أبو القاسم المعتزلى بالباب (30).
وقد ذكرنا أن أبا مضر أقام بخوارزم زمانا وأدخل عليها مذهب المعتزلة ونشره بها، وقد تمكن هذا المذهب فى خوارزم وغلب على أهلها حتى كانت كلمة خوارزمى ترادف كلمة معتزلى.
وكان الزمخشرى يتطاول على أهل السنة ويحتد فى النيل منهم، يقول فى آية الرؤية: ثم تعجب من المنتسبين للاسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا، ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة (31) فانه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قاله بعض العدلية فيهم:
لجماعة سمّوا هواهم سنّة ... وجماعة حمر لعمرى موكفة (32)
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا ... شنع الورى فتستّروا بالبلكفة
ويقول فى تفضيل الملائكة على الناس ومخالفة أهل السنة فى هذا:
«الا ما عليه الفئة الخاسئة المجبرة من تفضيل الانسان على الملك
__________
(29) ديوان الزمخشرى ورقة 8.
(30) وفيات الأعيان ج 4ص 255.
(31) البلكفة معناها: بلا كيف أى أن الله يرى بلا كيفية كما يقول أهل السنة.
(32) الكشاف ج 3ص 123.(1/63)
وما هو الا من تعكيسهم للحقائق وجحودهم للعلوم الضرورية ومكابرتهم فى كل باب» (33).
وكان ينضح هذا التعصب عند ذكر الأعلام كقوله: وزعم ابن قتيبة (34)، كما كان ينوه بالمعتزلة كقوله فى عمرو بن عبيد:
فلله دره، أى أسد فراس كل بين ثوبيه، يدق الظلمة بانكاره ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه (35).
وكان يحترم عقله ولا يقبل التقليد فى أصول الدين، ويرى أن الصّيّال بجنانه كالأسد فى عرينه، وأن التقليد رأس الضلال، وكأنه يلوح بأهل السنة يقول: «امش فى دينك تحت راية السلطان يعنى العقل ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان فما الأسد المحتجب فى عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه، وما العنز الجرباء تحت الشّمال البليل أذل من المقلد عند صاحب الدليل وجامع الروايات الكثيرة ولا حجة عنده مقوية أوقر ظهره بالحطب وأغفل زنده. ان كان للضلال أم فالتقليد أمه، قلد الله حبلا من مسد من يقصده ويؤمه» (36).
وكان يخالف شيعته اذا بدا له تقديرا منه لعقله وربئا بنفسه عن التقليد، يقول العلامة الخفاجى: والزمخشرى ليس بمقلد للمعتزلة فى كل ما يقولونه خصوصا فيما يتعلق بالعربية (37).
وتعريض الزمخشرى بأهل السنة واتهامه اياهم بالتقليد وسماع الرواية دون تثبت اتهام قديم عرف به المعتزلة، وكانوا يسمون أهل السنة «العوام الذين لا ناصر لهم»، فقد ذكروا أن عضد الدولة وكان أميرا عظيم الهيئة كثير الفضل واسع الثقافة لاحظ خلو مجلسه من أهل
__________
(33) الكشاف ج 4ص 363، 364.
(34) الكشاف ج 4ص 549.
(35) الكشاف ج 4ص 597.
(36) مقامات الزمخشرى ص 38.
(37) حاشية الشهاب ج 1ص 226.(1/64)
السنة، فقال: هذا مجلس عامر بالعلماء الا أننى لا أرى فيه واحدا من أهل الاثبات والحديث، أما لهؤلاء المثبتة من ناصر؟ فقال القاضى ابن بشر بن الحسين وكان من شياطين المعتزلة: ليس لهم ناصر وانما هم عامة، أصحاب تقليد ورواية يروون الخبر وضده، ويعتقدونهما جميعا لا يعرفون النظر، والمعتزلة فرسان الجدل والمناظرة (38).
والحق أن هذه تهمة تفلتت عبر الزمان حتى عصرنا هذا، فقد مرن كثير من الدارسين على القول بأن حرية الارادة الانسانية والاعتقاد بتأثير الانسان وفاعليته فى المذهب الاعتزالى أتاح للمعتزلة النظر الحر الطليق. واستخدام العقل الذى يستحسن ويستقبح. فأخصبوا تراثنا بهذه الآراء القوية الجريئة، وأن هذه النزعة العقلية قد انعكست على آثارهم فى اللغة والأدب فكانوا أصحاب منهج فيما يكتبون، والذى أعتقده أن كثيرا من زعماء الأشاعرة وأهل السنة والجماعة رضوان الله عليهم أشد محالا وأقوى جدالا وأقدر على المقارعة من جلة المعتزلة، ولهم منهج دقيق فى البحث والمناظرة، وليس الفكر الاسلامى فى شتى ميادينه نتاج الفكر الاعتزالى الحر، وانما هو نتاج كل هذه الفرق، وليس جهد المعتزلة فيه أخصب ولا أعمق من جهد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم الذين يزعم المعتزلة أنهم عامة وأهل تقليد.
يجب أن نذكر أبا الحسن الأشعرى الذى حجر المعتزلة فى أقماع السمسم، وأبا الحسن البصرى، وصاحبه أبا الحسن الباهلى، وابن قتيبة، وابن فورك، وأبا اسحاق الأسفراييني، والقاضى أبا بكر ابن الطيب، والامام عبد القاهر الجرجانى وغيرهم أكثر من أن يحصى وكلهم صاحب منهج، وصاحب نظر، وليسوا أذل من العنزة الجرباء تحت الشمأل البليل كما يشنشن صاحبنا وشيعته (39).
__________
(38) مقدمة اعجاز القرآن ص 20طبعة دار المعارف.
(39) لمعرفة جهود أهل السنة فى الفكر الاسلامى ينظر: الفرق للبغدادى، ومقالات الاسلاميين للأشعرى، والملل والنحل للشهرستانى، ونشأة الفكر الاسلامى للدكتور النشار.(1/65)
ولما اشتد عود الزمخشرى وتكاملت أداته، تطلعت نفسه الى نيل ما يناله العلماء فى زمانه فمدح الأمراء وطلب جوائزهم. وقد تلحظ فى مطالعة ديوانه نفسا تتصاغر فى طلب العطايا، وتلح فى الشكوى، وتبالغ فى المديح والثناء.
من ذلك قوله يمدح الوزير نظام الملك:
ثنائى لصدر الملك ما عشت دائم ... وإنّ دعائى مثله فى دوامه
جعلتهما وردى نهارى وليلتى ... كفعل الفتى فى صومه وقيامه
وكان فريد العصر عبدا مقرّبا ... وما أنا إلا هضبة من شمامه (40)
ومن ذلك قوله:
إليك نظام الملك شكواى فاستمع ... إلى بثّ مجذوذ المعايش ضنكها
طريح خطوب كلّ يوم تنوبه ... ببائقة تنعى عليه ببركها (41)
كما تلحظ نفسا تسمو وتقف من الممدوح موقف الند تفخر بعلمها وبفضلها، وأنها حقيقة بالتقدم والعطاء، من ذلك قوله يمدح فخر المعالى أو شرف الملك عبد الله الوزير:
وقائلة لما أتتها قصائدى ... وفى طيّها شكرى لنعماك والحمد
لئن كان محمود فريدا بفضله ... فممدوحه أيضا بأفضاله فرد
وهو فى هذا البيت الثانى قد فضل نفسه على الممدوح: لأن الفريد بفضله أفضل من الفريد بأفضاله أى منحه وعطاياه.
وقوله فى مدح مجير الدولة:
فليت رحالى ألقيت بفنائه ... فأرتع فى نعمائه غير نازح
ويقدح زندا واريا من مناقبى ... إذا صلدت كلّ الزناد لقادح
__________
(40) ديوان الزمخشرى ورقة 104.
(41) ديوان الزمخشرى ورقة 91.(1/66)
وفى شرح أبيات الكتاب لبعض ما
يرى فى صفاتى مجملا أىّ شارح
وأنموذجا أنفذت منه بضمّه ... رجائى أرى فيه وجوه المناجح
أراقب من عين الوزير اطلاعه ... عليه وحسبى منه لمحة لامح (42)
ومهما كان مدحه تصاغرا أو تساميا فان آماله لم تتحقق. ولم ينل شيئا مما كان يتمناه ويصبو اليه. ولكنه يلح فى الطلب ويزيد فى الالحاح:
ولا بأس من إحياء موتى مطالبى ... فإن ندى كفّ الوزير فسيح
يقول الذى يلقى غرائب جوده ... لقد نفحت فى البرمكيّة ريح
فداء عبيد الله فى الجود والندى ... بطيء القرى جعد البنان شحيح
ويظهر أن عبد الله هذا كان ينفحه بعطاياه ولكنها دون ما يأمل:
إليك عبيد الله ألقيت ربقتى ... فخذها وكن دون الأنام موشّح
وزحزحت عنّى ريب دهر شكوته ... إليك ولولا أنت لم يتزحزح
وتتمزق نفسه بين جموح الطموح وخيبة الأمل:
فؤادى بهجران الحبيب قريح ... وشلو بأنياب الزمان جريح
ونفس على مرّ الزمان أبيّة ... وطرف إلى نيل العلاء طموح
وفضل مناط النجم أدنى محلّه ... ولكنّه تحت التراب طريح (43)
وبدأ الزمخشرى يشعر بالهوان فى خوارزم. وأن عليه أن يرحل عنها. وألا يعود اليها وان كانت أحب بلاد الله الى قلبه:
أحبّ بلاد الله شرقا ومغربا ... إلىّ التى فيها غذيت وليدا
__________
(42) ديوان الزمخشرى ورقة 23.
(43) ديوان الزمخشرى ورقة 24.(1/67)
ولكن تواسى بالكرامة غيرها ... وهذى أرى فيها الهوان عتيدا
سأرحل عنها ثم لست براجع ... وأضرب مرمى فى البلاد بعيدا
فلا كنت إن خيّمت فيها ابن حرّة ... ولا عشت بين الصالحين حميدا
ويبدو أن الوزير نظام الملك كان يغمض عنه عينه، فقد صور الزمخشرى ضياعه فى خوارزم وتجاهل الوزير لمكانته وفضله وانتقاصه لحقه، فى قصيدة هامة تكشف العلاقة بين العلامة الزمخشرى الذى كان فخر خوارزم، ووزيرها العظيم، الذى طار صيته وعرف بعنايته بالعلم والعلماء، والذى كان مجلسه عامرا بالقراء والفقهاء وأئمة المسلمين. وفى هذه القصيدة نشعر بضيق الزمخشرى، وأنه كأنه مقصى عن هذا المجلس العامر، وأن المحيطين بهذا الوزير هم الأراذل، وليس فى مجلسه من يساوى الزمخشرى علما وفضلا فهو فخر خوارزم وصدر أفاضلها، وقد سارت قصائده مسير النيرات، وقد أصاب بذهنه محز المفاصل فيما كتب من علوم اللغة والنحو، والناس قبل هذا الوزير كانوا يحفظون حق فضله وعلمه، ولم تكن بينهم وبين الزمخشرى هذه الصلة التى بينه وبين نظام الملك، يعنى صلة العلم، ويتهدده بالرحيل من خوارزم، ثم يطلب منه أن يجعله كبعض الأراذل الذين رأوا ما تمنوا.
يقول:
خليلىّ هل تجدى علىّ فضائلى ... إذا أنا لم أرفع على كلّ جاهل
ومن لى بحقى بعد ما وفرت على ... أراذلها الدنيا حقوق الأماثل
كذا الدهر كم شوهاء فى الحلى جيدها ... وكم جيد حسناء المقلّد عاطل
ومما شجانى أن غرّ مناقبى ... تغنّى بها الركبان بين القوافل
وطارت إلى أقصى البلاد قصائدى ... وسارت مسير النيّرات رسائلى
وكم من آمال لى وكم من مصنّف ... أصاب بها ذهنى محزّ المفاصل
ولى فى دقيق النحو والنقد منطق ... إذا قلته لم يبق قولا لقائل
غنىّ من الآداب لكنّنى إذا ... نظرت فما فى الكفّ غير الأنامل
ويقول:(1/68)
خليلىّ هل تجدى علىّ فضائلى ... إذا أنا لم أرفع على كلّ جاهل
ومن لى بحقى بعد ما وفرت على ... أراذلها الدنيا حقوق الأماثل
كذا الدهر كم شوهاء فى الحلى جيدها ... وكم جيد حسناء المقلّد عاطل
ومما شجانى أن غرّ مناقبى ... تغنّى بها الركبان بين القوافل
وطارت إلى أقصى البلاد قصائدى ... وسارت مسير النيّرات رسائلى
وكم من آمال لى وكم من مصنّف ... أصاب بها ذهنى محزّ المفاصل
ولى فى دقيق النحو والنقد منطق ... إذا قلته لم يبق قولا لقائل
غنىّ من الآداب لكنّنى إذا ... نظرت فما فى الكفّ غير الأنامل
ويقول:
وما حق مثلى أن يكون مضيّعا ... وقد عظمت عند الوزير وسائلى
وأعظمها إنّى نسيب نصابه ... إذا عرضت أنساب هذى القبائل
وقد كان يرعى الناس حقّى قبله ... على عدم القربى وبعد الوصائل
أحظّي منقوص ولست بناقص ... وكم كامل حظّا وليس بكامل
فلا ترض يا صدر الكفاة بأن ترى ... أعالى قوم ألحقوا بأسافل
ولا تجعلونى مثل همزة واصل ... فيسقطنى حذف ولا راء واصل
فكل امرئ آماله عدد الحصى ... وهات نظيرى فى جميع المحافل
لئن كان أمرى فى خوارزم ما أرى
فإن رحالى فى ظهور الرواحل
وكم قلت ألقى فى وزارتك المنى
وأدرك وحدى ما ارتجى كلّ أمالي
ولم أدر أنّ الأرذلين يرون ما ... ما تمنّوا وأنّى لست أحظى بطائل
فوقّع إلى هذا الزمان فإنّه ... غلامك يجعلنى كبعض الأراذل (44)
ويظهر الزمخشرى راض نفسه كثيرا على قبول القرار فى خوارزم مع انتقاص حقه وتجاهل فضله ولكنه لم يفلح، ويرشدنا الى ذلك تثاقله فى الهجرة، وكأنه ينتزع نفسه من خوارزم انتزاعا، فقد كرر
__________
(44) الديوان ورقة 94، وقد آثرت ذكر هذه القصيدة وغيرها ولم أكتف بالاشارة الى مواضعها من الديوان لأن الديوان لا زال حتى يوم اخراج هذا الكتاب مخطوطا، ونرى فى ذلك تعريف الناس بشعر الزمخشرى.(1/69)
العزم على الرحيل وأشار الى أنه لا بد من عزيمة ماضية كالسيف:
قرّب قلوصى للترحّل يا فتى ... هذا القرار على الهوان إلى متى
لا بدّ من إصلات سيف العزم لا ... يفرى الطّلا الصّمصام إلا مصلتا
إن سرت عن عرصات قومى لم أكن
لأعيرهم من أخدعيّ تلفّتا (45)
ولا يبعد أن نتصور أن الزمخشرى كان محسودا من العلماء، فقد كان أعلم فضلاء العجم بالعربية فى زمانه وأكثرهم اطلاعا على كتبها وبه ختم فضلاؤهم وكان يشعر بهذا وينوه به:
ألم تر أنّى حيثما كنت كعبة ... يحفّون بى كالطائفين طوايفا
فشرقيّهم يهوى إلى النور قابسا ... وغربيّهم يسعى إلى البحر غارفا (46)
ولا يبعد أنهم كادوا له عند نظام الملك وغيره من الأمراء، فحالوا بينه وبين نيل ما يراه أهلا له، وقد هاجم العلماء فى مقالته الثالثة والأربعين، وذكر نفاقهم أمراء السوء، وتسخيرهم علم الشريعة لخدمة هؤلاء الأمراء، وشبههم بالأراقم اللاسعة، وهذا التشبيه يوحى بصدق هذا الظن.
وقد ذكر الزمخشرى أنه مرض مرضا شديدا سماه الناهكة، وأنه عاهد نفسه فيه ان شفى ألا يطأ عتبة سلطان، وكأنه كان يشعر أن مدائحه للوزراء والأمراء وطلبه العطايا والمنائح ذنب يستغفر منه، ومعصية تطلب منها التوبة. فبدأ حياة فيها قدر من القناعة والرضا، ولعل ذلك راجع الى تمكين اليأس منه، والى أنه شارف الخمسين من عمره، فانكسرت حدة طموح الشباب، ولكنه لم يهدأ هدوءا كاملا، بل كانت تعاوده ثورة نفسه، وسخطه على مجتمعه حتى رأى الهجرة
__________
(45) الديوان ورقة 13.
(46) الديوان ورقة 79.(1/70)
الى مكة واجبة حفاظا على الدين، ورغبة فى المغفرة فصح عزمه على الرحيل، وقد صور ما يجده وما يدفعه الى الهجرة فى قصيدة نظن أنه قالها فى هجرته الأولى:
قامت لتمنعنى المسير تماضر ... أنّى لها وغرار عزمى باتر
أرخى قناعك يا تماضر وامسحى ... عينيك صابرة فإنى صابر
لو أشبهت عبرات عينك لجّة ... وتعرّضت دونى فإنى عابر
إنى لذو جدّ كما جرّبتنى ... صلب وبعض الناس رخو فاتر
سيرى تماضر حيث شئت وحدّثى ... إنى إلى بطحاء مكة سائر
حتى أنيخ وبين أطمارى فنى ... للكعبة البيت الحرام مجاور
متعوّذ بالرّكن يدعو ربّه ... يشكو جرائر بعدهنّ جرائر
يشكو جرائر لا يكاثرها الحصى ... لكنها مثل الجبال كبائر
والله أكبر رحمة والله أك ... ثر نعمة وهو الكريم القادر
وأحقّ ما يشكو ابن آدم ذنبه ... وأحقّ من يشكو إليه الغافر
فعسى المليك بفضله وبطوله ... يكسو لباس البر من هو فاجر
يا من يسافر فى البلاد منقّبا ... إنى إلى البلد الحرام مسافر
إن هاجر الإنسان عن أوطانه ... فالله أولى من إليه يهاجر
وتجارة الأبرار تلك ومن يبع ... بالدين دنياه فنعم التاجر
تالله ما البيع الربيح سوى الذى ... عقد التّقى وكلّ بيع خاسر
خرّبت هذا العمر غير بقية ... فلعلّنى لك يا بقيّة عامر
وعهدتنى فى كلّ شرّ أوّلا ... فلعلّنى فى بعض خير آخر
فى طاعة الجبّار أبذل طاقتى ... فلعلّنى فيها لكسرى جابر
سأروح بين وفود مكة وافدا ... حتّى إذا صدروا فما أنا صادر
بفناء بيت الله أضرب قبّتى ... حتّى يحلّ بى الضريح القابر
ألقى العصا بين الحطيم وزمزم ... لا يطبينى إخوة وعشائر
ضيف لمولى لا يخلّ بضيفه ... ويبذل أقصى ما تمنّى الزائر
حسبى جوار الله حسبى وحده ... عن كلّ مفخرة يعد الفاخر
سأقيم ثمّ وثمّ تدفن أعظمى ... ولسوف يبعثنى هناك الحاشر
يا ليت شعرى والحوادث جمّة ... والغيب فيه للحكيم سرائر
والعبد يحرص أن ينفّذ عزمه ... ووراء عزم العبد حكم قاهر (47)
وتخلص فى هذه القصيدة دوافع الهجرة لله، والرغبة فى رضاه، والتخلص من الأخطاء، وهو هنا واعظ يعظ نفسه، ويحثها على طلب الدين والتقى، ويأسف على عمره الذى مضى والذى خربه بقلق وطموحه، وليس فى هذه القصيدة سخط ولا لوم لمن ينتقص حقه ويتجاهل فضله.(1/71)
قامت لتمنعنى المسير تماضر ... أنّى لها وغرار عزمى باتر
أرخى قناعك يا تماضر وامسحى ... عينيك صابرة فإنى صابر
لو أشبهت عبرات عينك لجّة ... وتعرّضت دونى فإنى عابر
إنى لذو جدّ كما جرّبتنى ... صلب وبعض الناس رخو فاتر
سيرى تماضر حيث شئت وحدّثى ... إنى إلى بطحاء مكة سائر
حتى أنيخ وبين أطمارى فنى ... للكعبة البيت الحرام مجاور
متعوّذ بالرّكن يدعو ربّه ... يشكو جرائر بعدهنّ جرائر
يشكو جرائر لا يكاثرها الحصى ... لكنها مثل الجبال كبائر
والله أكبر رحمة والله أك ... ثر نعمة وهو الكريم القادر
وأحقّ ما يشكو ابن آدم ذنبه ... وأحقّ من يشكو إليه الغافر
فعسى المليك بفضله وبطوله ... يكسو لباس البر من هو فاجر
يا من يسافر فى البلاد منقّبا ... إنى إلى البلد الحرام مسافر
إن هاجر الإنسان عن أوطانه ... فالله أولى من إليه يهاجر
وتجارة الأبرار تلك ومن يبع ... بالدين دنياه فنعم التاجر
تالله ما البيع الربيح سوى الذى ... عقد التّقى وكلّ بيع خاسر
خرّبت هذا العمر غير بقية ... فلعلّنى لك يا بقيّة عامر
وعهدتنى فى كلّ شرّ أوّلا ... فلعلّنى فى بعض خير آخر
فى طاعة الجبّار أبذل طاقتى ... فلعلّنى فيها لكسرى جابر
سأروح بين وفود مكة وافدا ... حتّى إذا صدروا فما أنا صادر
بفناء بيت الله أضرب قبّتى ... حتّى يحلّ بى الضريح القابر
ألقى العصا بين الحطيم وزمزم ... لا يطبينى إخوة وعشائر
ضيف لمولى لا يخلّ بضيفه ... ويبذل أقصى ما تمنّى الزائر
حسبى جوار الله حسبى وحده ... عن كلّ مفخرة يعد الفاخر
سأقيم ثمّ وثمّ تدفن أعظمى ... ولسوف يبعثنى هناك الحاشر
يا ليت شعرى والحوادث جمّة ... والغيب فيه للحكيم سرائر
والعبد يحرص أن ينفّذ عزمه ... ووراء عزم العبد حكم قاهر (47)
وتخلص فى هذه القصيدة دوافع الهجرة لله، والرغبة فى رضاه، والتخلص من الأخطاء، وهو هنا واعظ يعظ نفسه، ويحثها على طلب الدين والتقى، ويأسف على عمره الذى مضى والذى خربه بقلق وطموحه، وليس فى هذه القصيدة سخط ولا لوم لمن ينتقص حقه ويتجاهل فضله.
ويذكر أنه فى مكة كان أسلم قلبا وأصح دينا، وأكثر عبادة، وأحسن خشوعا، واعتبر هجرته اليها فرارا بدينه، يقول فى تفسير قوله تعالى: {«يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وََاسِعَةٌ فَإِيََّايَ فَاعْبُدُونِ»} (48):
«معنى الآية أن المؤمن اذ لم يسهل له العبادة فى بلد هو فيه، ولم يتمش له أمر دينه كما يجب فليهاجر عنه الى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلبا، وأصح دينا، وأكثر عبادة، وأحسن خشوعا. ولعمرى ان البقاع تتفاوت فى ذلك التفاوت الكثير، ولقد جربنا وجرب أولونا، فلم نجد فيما درنا وداروا أعون على قهر النفس، وعصيان الشهوة، وأجمع للقلب المتلفت، وأضم للهم المنتشر وأحث على
__________
(47) ديوان الزمخشرى ورقة 43.
(48) العنكبوت: 56(1/72)
القناعة، وأطرد للشيطان، وأبعد من كثير من الفتن، وأضبط للأمر الدينى فى الجملة من سكنى حرم الله وجوار بيت الله، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب ورزق من الصبر وأوزع من الشكر» (49).
وقد قرت بلابله فى مكة بلقاء الشريف الفاضل الكامل أبا الحسن على بن عيسى بن حمزة الحسنى، فعرف قدره، ورفع أمره، وأكثر الاستفادة منه، وأخذ عن الزمخشرى وأخذ الزمخشرى عنه، ونشطه لتصنيف ما صنف وتأليف ما ألف (50).
وكان على بن عيسى كما يقول ياقوت: شريفا جليلا هماما. من أهل مكة وشرفائها وأمرائها، وكان ذا فضل عزير (51) وقد أحبه الزمخشرى ومدحه ومدح آباءه:
معاليك والسبع الطباق سواء ... معالى الورى أرض وهنّ سماء
لآبائك الشّمّ الغطارف نطّقت ... خواصرها للخدمة الجوزاء
كواكب فى الدهر البهيم طوالع ... إذا ما ادلهمّ الخطب فيه أضاءوا
وأنت لهم نعم النجيب ولم يزل ... لمثلهم تستنجب النجباء (52)
ويقول فى كرمه ورعايته له:
وكان ابن وهّاس لجنبى فارشا ... كما تفعل الأمّ الحفيّة لا حقا
ويقول فى صنائعه:
ولولا ابن وهّاس وسابغ فضله
رعيت هشيما واستقيت مصرّدا
__________
(49) الكشاف ج 3ص 362، 363.
(50) أنباه الرواة ج 3ص 268.
(51) معجم الأدباء ج 14ص 86.
(52) الديوان: المقدمة.(1/73)
وقد مدحه ابن وهاس ونوه بعلمه وفضله وذكر أنه أبعد صيت خوارزم:
جميع قرى الدنيا سوى القرية التى
تبوأها دارا فداء زمخشرى
وأحرى بأن تزهى زمخشر بامرئ
إن عدّ فى أسد الشّرى زمخ الشّرى
فلولاه ما طنّ البلاد بذكرها ... ولا طار فيها منجدا ومغوّرا
فليس ثناها بالعراق وأهله ... بأعرف منه بالحجاز وأشهرا
وقد غلبته الفطرة فتشوق الى أرض بلاده وقال شعرا صادق الحنين، ذكر فيه مشاهده فى خوارزم مسقط رأسه، وقد تكون هذه القصيدة من أجود شعره:
مطوّقتى نعمان هيّجتما قلبى ... إلى أرض ميلادى وصوتيكما يصبى
على فنني عود الأراكة نختما ... فما شئتما من سكب دمع على دمع
تحدّر ماء لو أصاب خميلة ... لزلّت به عن روضها حضرة العشب
وما بى جيحون إذا ما تلاطمت
أو اذيّه ذات اللّجاجة والشّعب (53)
وما زال هذا الحنين يعاوده حتى رجع الى خوارزم، وأقام فيها زمانا، ويبدو أنه كان ذا صلة ما بملوك خوارزم وسلاطينها فى هذه الفترة فقد مدح محمد خوارزم شاه الذى كان واليا على خوارزم من قبل السلطان سنجر ثم مدح من بعده ابنه أتسز الذى أمر بأن تحرر له نسخة من كتاب مقدمة الأدب وكان يقرب العلماء ويعرف أقدارهم، ولكن صاحبنا لم يكن طيب المقام فيها ولم تسلم نفسه من دائها القديم،
__________
(53) الديوان ورقة 5.(1/74)
فقد كتب فى هذه المرحلة قصيدة وصف بها أهل خوارزم وصفا ما نظن أن أرذل طوائف الدنيا توصف بأبلغ منه، ونذكر هنا هذه القصيدة لتقارن بين ما يقوله الزمخشرى فيها وما يقوله المؤرخون كالمقدسى الذى يقول فيهم: وهم أهل فقه وعلم وقرائح، وقل امام فى الفقه والأدب والقرآن لقيته الا وله تلميذ خوارزمى تقدم وزجا. ويذكر ياقوت أنه لم يكن فى الدنيا لمدينة خوارزم نظير فى ملازمة أسباب الشرائع والدين.
يقول الزمخشرى:
فما بك غير عصرك من معاب ... وذلك لا يرد به المتاع
رزقت بنى زمان لم يمصّوا ... ثديّا للكرام بها ارتضاع
نفاثات الأذى من كلّ طاغ ... سموم بات ينفثها الشّجاع
سقطت على نويس صغّرتهم ... طباع أراذل بئس الطّباع
فلا بسطوا إلى المعروف كفّا ... ولا طالت لهم فى الخير باع
ترى ملكا أشمّ ولا اقتعاد ... لاهل الفضل منه ولا اصطناع
ترى الصّناج تنفعه يداه ... وليس لعالم بهما انتفاع
هم شرّ السّباع فلا ذئاب ... مكلّحة الوجوه ولا ضياع
هم ضرر أناخ بغير نفع ... عليك وربما نفع السّباع
وما فوق الثّرى سجن عظيم ... كجوّ حوله قوم رعاع
وكم كرّرت للعرجيّ قولا ... أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا
أيا طير الأباطح خبّرينى ... أما ترتدنّى تلك البقاع
مع الزّهر الكرام بنى لؤىّ ... هم للأرض مجدهم طلاع
صلاب النّبع ما تصبو لمكر ... حبائلهم ولا فيهم خداع
أبو الحسن بن ذى المجدين عيسى ... علىّ ذلك البطل الشّجاع
قناة الدين ركّب منه فيها ... سنان يستحر به القراع
وهذه نفثة مصدور ومقالة موتور لأن الحق أن أهل خوارزم ليسوا ذئابا مكلحة، وليسوا أراقم، وليست فيهم تلك الخلاعة التى تجعل الصناج ينتفع بينهم بيديه، وانما هم قوم محاربون جادون صقلتهم بوارق سيوف الجهاد وصهرتهم حرارة الحروب الضارية بينهم وبين أهل الشرك، وأخلصوا فى ذلك نياتهم وقد تكفل الله بنصرهم فى عامة الأوقات، وقد نبغ فيهم العلماء وأهل الفقه والصلاح.(1/75)
فما بك غير عصرك من معاب ... وذلك لا يرد به المتاع
رزقت بنى زمان لم يمصّوا ... ثديّا للكرام بها ارتضاع
نفاثات الأذى من كلّ طاغ ... سموم بات ينفثها الشّجاع
سقطت على نويس صغّرتهم ... طباع أراذل بئس الطّباع
فلا بسطوا إلى المعروف كفّا ... ولا طالت لهم فى الخير باع
ترى ملكا أشمّ ولا اقتعاد ... لاهل الفضل منه ولا اصطناع
ترى الصّناج تنفعه يداه ... وليس لعالم بهما انتفاع
هم شرّ السّباع فلا ذئاب ... مكلّحة الوجوه ولا ضياع
هم ضرر أناخ بغير نفع ... عليك وربما نفع السّباع
وما فوق الثّرى سجن عظيم ... كجوّ حوله قوم رعاع
وكم كرّرت للعرجيّ قولا ... أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا
أيا طير الأباطح خبّرينى ... أما ترتدنّى تلك البقاع
مع الزّهر الكرام بنى لؤىّ ... هم للأرض مجدهم طلاع
صلاب النّبع ما تصبو لمكر ... حبائلهم ولا فيهم خداع
أبو الحسن بن ذى المجدين عيسى ... علىّ ذلك البطل الشّجاع
قناة الدين ركّب منه فيها ... سنان يستحر به القراع
وهذه نفثة مصدور ومقالة موتور لأن الحق أن أهل خوارزم ليسوا ذئابا مكلحة، وليسوا أراقم، وليست فيهم تلك الخلاعة التى تجعل الصناج ينتفع بينهم بيديه، وانما هم قوم محاربون جادون صقلتهم بوارق سيوف الجهاد وصهرتهم حرارة الحروب الضارية بينهم وبين أهل الشرك، وأخلصوا فى ذلك نياتهم وقد تكفل الله بنصرهم فى عامة الأوقات، وقد نبغ فيهم العلماء وأهل الفقه والصلاح.
ثم عاوده حنينه الى مكة ولام نفسه أشد اللوم لأنها ابتاعت بالفوز الشقاوة، واستبدلت الدنيا بالآخرة:
بكاء على أيام مكة إن بى ... إليها حنين النّيب فاقدة البكر
تذكرت أيامى بها فكأنّنى ... قد اختلفت زرق الأسنّة فى صدرى
أببت على الصخر المبارك باكيا
كما كانت الخنساء تبكى على صخر (54)
ويقول فى أخرى:
أأبتاع بالفوز الشقاوة خاسرا ... وأستبدل الدنيا الدنيّة بالأخرى
إذا خطرت بالبال ذكرى إناختى ... على حرم لله استفزّتني الذكرى
أكابد ليلا كالليالى وحسرة ... ودمعا غزير المستقى غائر المجرى
وأدعو إلى السّلوان قلبا جوابه ... لداعيه مهراق من المقلة العبرى
وما عذر مطروح بمكّة رحله ... على غير بؤس لا يجوع ولا يعرى
فما فرّ عنها يبتغى بدلا لها ... وربّك لا عذرا وربك لا عذرا (55)
ولما رجع الى مكة فى هجرته الثانية واستقر به المقام فيها كتب
__________
(54) الديوان ورقة 68، 69.
(55) الديوان ورقة 41.(1/76)
كتاب الكشاف وكان راضيا عن نفسه شاغلا قلبه بعبادة ربه متقلبا بين ربوع مكة عابدا متبتلا:
أنا الجار جار الله مكة مركزى ... ومضرب أوتادى ومعقد أطنابى
وما كان إلا زورة نهضت إلى ... بلاد بها أوطان رهطى وأحباب
فلما قضت نفسى ولله درّها ... لبانة دار زندها غير خيّاب
كررت إلى بطحاء مكّة راجعا ... كأنى أبو شبلين كرّ إلى الغاب
فمن يلق فى بعض القريات رحله ... فأم القرى ملقى رحالى ومنتابى
ومن كان فى بعض المحارب راكعا ... فللكعبة البيت المحرم محراب
إذا التصقت فى آخر البيت لبتى ... بملتزم الأبرار من أيمن الباب
أو التصقت بالمستجار أو التقت ... على الرّكن أجفانى بسحّ وتسكاب
فقل لملوك الأرض يلهو ويلعبوا ... فذلك لهوى ما حييت وتلعابى (56)
وقد كاتبه فى هجرته هذه رجال من كبار دولة السلطان سنجر، منهم منتخب الملك أبو جعفر محمد أحد كبار دولة السلطان سنجر، فقد كتب له رسالة وقصيدة كما يقول القفطى وسيرها الى مكة، وقد ذكر فى رسالته الشريف ابن وهاس ونوه به وبعلمه ومدح آباءه، وذكر فى القصيدة شوقه الى الزمخشرى وأشار الى فضله وعلمه وتمنى عودته الى خوارزم ليقرأ للناس تفسيره. وكان يشارك الزمخشرى فى ثورته على أهل خوارزم وفى شعوره بتنقص حقه وتجاهل قدره فقد قال فى قصيدته:
أعيذك من أناس نحن فيهم ... وحقّ الأفضلين بهم مضاع
ترى قوما كأنّك ما تراهم ... وحسبك من لقائهم السّماع
__________
(56) الديوان ورقة 5.(1/77)
كأنهم وما عرفوا بخير ... بهائم فى مجاهلها رتاع (57)
وقد أخذ عن الزمخشرى كثرة من طلاب العلم، ذكر منهم صاحب الأنساب أبو المحاسن اسماعيل بن عبد الله الطويلى بطبرستان، وأبو المحاسن عبد الرحيم بن عبد الله البراز بأبيورد، وأبو عمر عامر ابن الحسن السمسار بزمخشر وقد ذكر القفطى أنه ابن أخت الزمخشرى وأبو سعد أحمد بن محمود الشاتى بسمرقند وأبو طاهر سامان بن عبد الملك الفقيه بخوارزم (58).
وذكر ياقوت جماعة أخذوا عن الزمخشرى منهم:
محمد بن أبى القاسم بايجوك أبو الفضل البقالى الخوارزمى الآدمى الملقب زين المشايخ النحوى الأديب، كان اماما فى الأدب وحجة فى لسان العرب (59)، ويعقوب بن على بن محمد بن جعفر أبو يوسف البلخى، أحد الأئمة فى النحو والأدب (60)، وعلى بن محمد بن على ابن أحمد بن مروان العمراني الخوارزمى، يلقب حجة الأفاضل وفخر المشايخ (61).
وذكر السيوطى الموفق بن أحمد بن أبى سعيد اسحاق أبو المؤيد، المعروف بأخطب خوارزم، وكان متمكنا فى العربية، غزير العلم، فقيها، فاضلا، أديبا، شاعرا (62).
ولا شك أن من لم يذكره المؤرخون من تلاميذه وممن أفادوا منه أضعاف ما ذكروا فقد كان كعبة طلاب العلم فى زمانه، وكانت تشد اليه الرحال فى فنونه. يقول القفطى: «وما دخل بلدا الا واجتمعوا عليه، وتلمذوا له، واستفادوا منه، وكان علامة الأدب، ونسابة
__________
(57) أنباه الرواة ج 3ص 272.
(58) الأنساب ص 288.
(59) معجم الأدباء ج 19ص 5.
(60) معجم الأدباء ج 20ص 55.
(61) معجم الأدباء ج 15ص 61وما بعدها.
(62) بغية الوعاة ص 401.(1/78)
العرب، أقام بخوارزم تضرب اليه أكباد الابل، وتحط بفنائه رحال الرجال، وتحدى باسمه مطايا الآمال (63).
وقد أجاز جماعة من العلماء منهم زينب بنت الشعرى التى يقول فيها ابن خلكان: أم المؤيد زينب وتدعى حرة بنت أبى القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجانى الأصل، النيسابورى الدار، المعروف بالشعرى، كانت عالمة وأدركت جماعة من أعيان العلماء وأخذت عنهم رواية واجازة
وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغفار بن اسماعيل بن عبد الغفار القارى والعلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى (64).
وقد استجازه العلامة رشيد الدين الوطواط وكان من نوادر الزمان وعجائبه وأفراد الدهر وغرائبه وأعلم الناس بدقائق كلام العرب، وأسرار النحو والأدب (65).
وقد ذكر ابن خلكان أن الحافظ السلفى كتب الى الزمخشرى يستجيزه فى مسموعاته ومصنفاته، فرد جوابه بما لا يشفى الغليل، فلما كان فى العام الثانى كتب اليه مع الحجاج استجازة أخرى، اقترح فيها مقصوده ثم قال فى آخرها: ولا يحوج أدام الله توفيقه الى المراجعة فالمسافة بعيدة وقد كاتبته فى السنة الماضية فلم يجب بما يشفى العليل، وله فى ذلك الأجر الجزيل، ثم أن الزمخشرى كتب اليه يتواضع ويتصاغر ولم يصرح له بالاجازة، ولذلك يقول ابن خلكان:
وما أعلم هل أجازه بعد ذلك أم لا؟ (66).
والحافظ السلفى الذى رفض الزمخشرى اجازته كان كما يقول ابن خلكان: أحد الحفاظ المكثرين، رحل فى طلب الحديث، ولقى أعيان المشايخ، وكان شافعى المذهب روى عن أبى محمد جعفر
__________
(63) انباه الرواة ج 3ص 65، 66.
(64) وفيات الأعيان ج 2ص 52.
(65) معجم الأدباء ج 19ص 29.
(66) وفيات الأعيان ج 4ص 256، 257.(1/79)
ابن السراج وغيره من الأئمة الأماثل، وجاب البلاد وطاف الآفاق
وقصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه وانتفعوا به ولم يكن فى آخر عمره فى عصره مثله (67).
* * * وقد ترك الزمخشرى تراثا ضخما فى علوم مختلفة ذكر له ياقوت سبعة وأربعين كتابا موزعة بين علوم اللغة والنحو والأدب والتفسير والحديث والفقه والأصول والتراجم والمنطق.
ففي اللغة كتب أساس البلاغة، وهو مؤلف بعد كتاب الكشاف، وغرضه منه أن يعين الباحث على تعرف الجهات التى توصل الى تبين مراسم البلغاء، والعثور على مناظم الفصحاء، فيكون الناظر فى اعجاز القرآن أعرف بأسراره ولطائفه، واذا كان الكتاب معجما يحشد ألفاظ اللغة وليس فيه ما يتصل بالدرس البلاغى الا تلك الاشارات المجملة الى المعانى الحقيقية والمجازية، فمن أى وجه يعين الباحث على ادراك الاعجاز حتى يكون صدر يقينه أثلج كما يقول الزمخشرى؟
والجواب أن الزمخشرى قد استكثر فى هذا الكتاب من نوابغ الكلم، الهادية الى مراشد حر المنطق، الدالة على ضالة المنطيق المفلق فهو يربى ملكة البيان بممارسة هذه الأساليب، والاطلاع على فنون التراكيب، وتخير ما وقع فى عبارات المبدعين، وانطوى تحت استعمالات المفلقين. وهذه طريقة عملية فى التعرف على بلاغة القرآن، وادراكها بالذوق المهيأ لهذا الادراك، ولذلك نجد كتاب الأساس اتجاها فريدا بين هذه الاتجاهات التى اتصلت بالاعجاز، فهو لم يدرس مسائل البلاغة، ولم يفصل القول فى التشبيه والاستعارة والالتفات والطباق، ولم يتحدث عن وجوه الاعجاز غير البلاغية، وانما ابتدع طريقة عملية، أساسها تربية الملكة الفنية، وكانت مادة هذا الكتاب كما يقول خلاصة جهده، ومطالعاته فى الكتب، وسماعه
__________
(67) وفيات الأعيان ج 1ص 87.(1/80)
من الأعراب فى بواديها ومن خطباء الحلل فى نواديها، ومن قراضبة نجد فى أكلائها ومراتعها ومن سماسرة تهامة فى أسواقها ومجامعها، وما ترازجت به السقاة على أفواه قلبها، وتساجعت به الرعاة على شفاة علبها، وما تقارضت شعراء قيس وتميم فى ساعات المماتنة، وما تزاملت به سفراء ثقيف وهذيل فى أيام المفاتنة (68).
فهو صور من بلاغات الأقحاح، فيها ريح البادية وأصالة نحيزتها، والتمرس على مثلها أقدر على تجلية الطبائع، وابراز أصالة معادنها، وايقاظ القوى الكامنة فيها.
وله فى اللغة مقدمة الأدب، وبناه على خمسة أقسام: القسم الأول فى الأسماء، والثانى فى الأفعال، والثالث فى الحروف، والرابع فى تصرف الأسماء، والخامس فى تصرف الحروف، وقد طبع قسم الأسماء والأفعال فى مدينة ليبسك وفى آخره مقدمة وتصحيحات باللغة اللاتينية وهو مخطوط أيضا بالدار، ومضبوط بالحركات وبين الأسطر تفسير باللغة الفارسية رقم (100) لغة.
وهناك جزء آخر مخطوط يتضمن قسم الأفعال وقسم الحروف وتعريف الأسماء رقم (272) ومنه قطعة ضمن مجموعة تحتوى على الأفعال فقط (58) مجاميع لغة.
وهذا الكتاب معجم لغوى من نوع متميز فهو يجمع الأسماء التى تتشبه معانيها مثل وقت أوقات، حين أحيان، أجل آجال، أوان أوانه، ايان أيايين، دهر دهور، حقب أحقاب، حقبة أحقاب، وبهذه الطريقة يجمع ما يدل على الزمان، فيذكر أسماء الشهور، والفصول، والحجج، والأعوام، والبارحة، والأسحار، والأصيل، والأصايل، والأيام، والأعيان. فاذا انتقل الى جنس آخر وضع بين يديك فيضا من أسمائه. فيذكر مثلا السماء، الأفق، الكبد، السحاب، الغمام،
__________
(68) مقدمة أساس البلاغة.(1/81)
المزن، الديمة، قوس قزح، المشرق والمشارق، والمغرب والمغارب، والخافقان، والحبيكة والحبائك، والفلك والأفلاك (69).
ونلاحظ أنه يذكر المعنى المجازى المشهور مع المعانى الحقيقية، كذكر الكبد هنا. وفى القسم الخاص بالأفعال لا يجمعها حول المعنى الذى تدور فى فلكه كما كان فى الأسماء، وانما يرتبها مراعيا السلامة والاعلال، والتضعيف، والثلاثى، والرباعى، وأوزان المجرد، والمزيد، وغير ذلك مما لا يترك مجالا لجمع الأفعال المتقاربة أو المتناسبة.
فهو يبدأ قسم الأفعال فيذكر باب فعل، فيذكر هنأ الطعام يهنئه ويهنؤه ويهنأه وهنئه يهنأه هنوءا، وهنئوا الطعام يهنئوا هناء وهناءة وهو هنيء، وهنأ البعير بالقطران يهنئه. ثم يذكر ما يليه مرتبا الأفعال على وفق ترتيب حروف المعجم، مراعيا فى هذه «لام» الكلمة، فيذكر «تلب» عقب هنأ، ثم يذكر «ألت» ثم «ثلث» ثم «حلج» وهكذا. ثم يذكر المضعف فيذكر «تبّ»، و «دبّ»، و «شبّ»، ثم (المعتل الفاء بالواو) فيذكر «وثب»، «وجب» الى آخره، ثم (المعتل الفاء بالياء) فيذكر «يسر»، و «يعرت الماعزة تعر»، ثم يذكر (المعتل العين) فيذكر «جاء»، «فاء»، «آب» الى آخره.
وفى قسم الحروف يذكر الحروف الجارة، والتى تنصب المبتدأ وترفع الخبر، ويذكر بعض أحكامها، كما يذكر «ما» و «لا»، ويبين أن «ما» بمعنى «ليس» تدخل على المعرفة والنكرة، و «لا» بمعنى «ليس» لا تدخل الا على النكرة، ثم يذكر حروفا تنصب المضارع، وحروفا تجزم المضارع، وحروف العطف، وحروفا غير عاملة الى آخره. والكتاب بهذه الدروس يدخل بعضه فى قسم النحو أى هو كتاب نحو ولغة.
__________
(69) مقدمة الأدب ص 2، 3.(1/82)
وألف فى اللغة كتاب الأجناس وكتاب جواهر اللغة وكتاب صميم العربية وهى كتب غير معروفة.
وأشهر كتبه فى النحو كتاب المفصل الذى شرحه ابن يعيش، وهو من أعظم الكتب النحوية الموجودة بين أيدينا، وللزمخشرى حاشية عليه، وهى غير معروفة. وقد جمع فى هذا الكتاب أصول هذا العلم كما يقول شارحه ابن يعيش.
وقد ذكر ابن خلكان أن الزمخشرى شرع فى تأليفه فى غرة شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وخمسمائة (70)، وفرغ منه فى غرة المحرم سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقد أشار الزمخشرى فى مقدمته الى موقف الشعوبية من العربية ونحوها، وحمد الله لأنه عصمه من الانطواء الى لفيفهم، ثم أشار الى أهمية الدراسة النحوية فى كل علم من العلوم الاسلامية كالفقه وأصوله والتفسير، ثم أشار الى أهمية هذه اللغة فى بيئة هؤلاء الشعوبيين، فهى لغة الساسة والكتاب والعلماء، وبعد ما سفه وجهتهم أشار الى ما دفعه الى تأليفه فقال:
«ولقد ندبنى ما بالمسلمين من الأرب الى معرفة الكلام العرب، وما بى من الشفقة والحدب على أشياعى من حفدة الأدب لانشاء كتاب فى الاعراب محيط بكافة الأبواب، مرتب ترتيبا يبلغ بهم الأمر البعيد بأقرب السعى، ويملأ سجالهم بأهون السقى. فأنشأت هذا الكتاب» (71).
أما ترتيب مسائله وأبوابه فقد بينه بقوله: أنه قسمه الى أربعة أقسام: القسم الأول فى الأسماء، والقسم الثانى فى الأفعال، والقسم الثالث فى الحروف، والقسم الرابع فى المشترك.
وله فى النحو كتاب الأنموذج، وهو اختصار شديد لقواعد النحو وأصوله، وحين نقارن كتاب الأنموذج بكتاب المفصل نجد الكتابين يسيران على نهج واحد، وان كان الأنموذج أكثر تركيزا وأشد ايجازا فهو يومئ الى مسائل النحو ايماء وكأنه متن ضيق لأصول هذا العلم،
__________
(70) وفيات الأعيان ج 4ص 255.
(71) مقدمة الفصل.(1/83)
فباب التمييز لا يزيد فيه عن أن يقول: «والتمييز هو رفع الابهام عن الجملة فى قولك: عندى (72)، راقود خمرا، ومنوان سمنا، وعشرون درهما، وملؤه عسلا» وفى كتاب المفصل يذكر هذه الأصول مع شىء من الشرح والتحليل لا يخرج به الكتاب عن أن يكون فى عداد المتون.
ومما هو جدير بالملاحظة أن ترتيب الأنموذج كما قلت يسير على وفق ترتيب المفصل الذى أشرنا الى أنه رتبه على أقسام أربعة:
الأسماء، والأفعال، والحروف، والمشترك، وهذا الترتيب شبيه بما دار عليه كتاب مقدمة الأدب فقد ذكرنا أنه خمسة أقسام: قسم فى الأسماء، وقسم فى الأفعال، وقسم فى الحروف، وفى هذا تتفق الكتب الثلاثة، ولا شك أن المادة العلمية مختلفة، فدراسة الأسماء فى كتابى النحو تعنى النظر فى التعريف، والتنكير، واسم الجنس، والعلم الشخصى، والعلم الجنسى، والمعرب والمبنى، ويجر هذا الى الرفع، والنصب، والجر، ويجر هذا الى الفاعل، والمبتدأ، وما فى هذه الأبواب من أحكام نحوية، الى آخره، وقد رأينا دراسة الأسماء فى كتاب مقدمة الأدب تعنى جمع الأسماء التى تدل على معان متقاربة فى حيز واحد ومرتبة ترتيبا معينا.
وله فى النحو شرح شواهد كتاب سيبويه وهو غير معروف، وله المحاجاة فى المسائل النحوية وقد ألفه فى مكة وأهداه الى أميرها ابن وهاس (73).
وله كتاب المفرد والمؤلف، وضمن لمن يضبط هذا الكتاب أن يضرب مع المعربين بسهم وافر، وأهداه الى أهل مكة (74).
وله أمالي فى النحو وهى غير معروفة، واعراب غريب القرآن وهو غير معروف، وله فى العروض كتاب القسطاس وهو مخطوط ببرلين.
__________
(72) الفيروزج لشرح الأنموذج ص 27.
(73) تنظر المقدمة ط. العراق.
(74) تنظر مقدمة المخطوط فى الدار.(1/84)
وله فى المادة الأدبية كتاب المستقصى فى الأمثال، وقد طبع حديثا بحيدرآباد الدكن بالهند، وقد أشار فى مقدمته الى القيمة الأدبية لهذا النوع من الأدب وبين أن الأمثال قصارى فصاحة العرب العرباء، وجوامع كلمها، ونوادر حكمها، وبيضة منطقها، وزبدة حوارها وبلاغتها التى أعربت بها عن القرائح السليمة، ثم أشار الى خصائصها فى الايجاز والتركيز، وأن العرب فيها أوجزت اللفظ فأشبعت المعنى، وقصرت العبارة فأطالت المغزى، ولوحت فأغرقت فى التصريح وكنت فأغنت عن الافصاح (75).
ويشير ياقوت الى حادثة طريفة بين الزمخشرى والميدانى صاحب الأمثال، ذكر فيها أن الزمخشرى لما وقف على كتاب الأمثال حسد صاحبه على جودة تصنيفه فأخذ القلم وزاد فى لفظ الميدانى نونا فصار النميداني، ومعناه بالفارسية «لا يعرف شيئا»، فلما وقف الميدانى على ذلك أخذ بعض تصانيف الزمخشرى فصير ميم نسبته نونا، فصار الزنخشرى ومعناه: مشترى زوجته. وأرجح أن كتاب المستقصى كتب بعد كتاب الميدانى لأن الزمخشرى أشار فى مقدمة كتابه على غير عادته فى كتبه أن العالم المنصف سوف يرتضى هذا الكتاب غير ناظر الى حدوث عهده وقرب ميلاده، لأنه انما يستجيد الشيء ويسترذله لجودته ورداءته فى ذاته لا لقدمه وحدوثه، أما ما ذكر من أن الزمخشرى ندم على كتابة كتاب المستقصى لما اطلع على كتاب الميدانى فذلك ما أظنه من وضع تلاميذ الميدانى، وكتاب المستقصى أدق منهجا وأبسط شرحا وأسلم من التكرار من كتاب الميدانى. وقد أشار الزمخشرى الى منهجه بقوله: ثم ربطتها فى قرن ترتيب حروف المعجم ارتباطا جنحت فيه الى وطاءة منهاج أبين من عمود الصبح، غير متجانف للتطويل عن الايجاز وذلك أنى بوبتها فأوردت ما فى أوله همزة، ثم قضيت على اثره بما فى أوله الباء، وهلم جرا الى منتهى
__________
(75) مقدمة المستقصى.(1/85)
أبواب الكتاب، وفصلت كل باب، ثم ذكر أنه عنى فى شرح الأمثال بايراد قصصها وذكر النكت والروايات فيها، والكشف عن معانيها، والأنباء عن مضاربها، والتقاط أبيات الشواهد لها، وبذلك تتضح القيمة الأدبية لهذا الكتاب، وأثره فى تربية الملكة الأدبية بكثرة شواهده وجدة أساليبه.
وله فى شرح النصوص الأدبية كتاب أعجب العجب فى شرح لامية العرب، وهو دراسة نحوية لهذه القصيدة، وتتميز هذه الدراسة بالاسهاب والاطالة والاستطراد فى ذكر المسائل النحوية والصرفية المتشابهة. يقول فى قول الشنفرى:
أقيموا بنى أمىّ صدور مطيّكم ... فإنّى إلى قوم سواكم لأميل
أصل «أقيموا» أقوموا، وماضيه: أقام، وعينه واو لقولك فيه أقوم، فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت الى القاف، فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وهو فعل أمر مبنى فى الأصل على السكون، وما يبنى منه على حركة فلعلة أوجبت بناءه عليها، وذهب قوم الى أنه معرب بالجزم، واتفقوا على أن فعل الأمر للغائب نحو ليقم وليذهب مجزوم باللام الداخلة عليه، فهو معرب اتفاقا ودليل البناء أن الأصل فى الأفعال البناء فهى محكوم عليها به الى أن يقوم دليل اعراب شىء منها، فيكون اخراجا لها عن أصلها، ولم يعرب منها سوى المضارع لشبهه بالاسم، وهو ما كان فى أوله احدى الزوائد الأربع فيحكم عليه بالاعراب ما دام وصف المضارعة باقيا وذلك اذا كانت زائدة من الزوائد الأربع موجودة فى أوله، فمتى زايلته زال شبهه بالاسم فيعود الى أصله من البناء أيضا، فانه لا يحتمل معانى يفرق الاعراب بينها والاعراب فى الأصل انما جاء لهذا عند المحققين، وقال الآخرون: ما فيه اللام معرب فيعرب ما لا لام فيه لتقدير اللام، كما قيل: محمد تفد نفسك، أى لتفد نفسك، وحرف المضارعة أيضا مقدر كالمثال المذكور، ولا تعويل على هذا القول فان الحذف من الشيء لا يوجب تغيير الصيغة بل يحذف ما يحذف ويبقى ما يبقى بعد الحذف
على حاله كقولك: ارم، فان الأصل اثبات الياء وبعد حذفها بقى ما كان على ما كان، وهذا مفهوم فى فعل الأمر، ألا ترى أنك اذا حذفت التاء من «تضرب» لا تقول: ضرب زيد، بل تعدل الى صيغة أخرى هى أضرب، وأما البيت فالأصل «تفدى» على الخبر، وانما حذفت الياء للضرورة (76).(1/86)
أقيموا بنى أمىّ صدور مطيّكم ... فإنّى إلى قوم سواكم لأميل
أصل «أقيموا» أقوموا، وماضيه: أقام، وعينه واو لقولك فيه أقوم، فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت الى القاف، فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وهو فعل أمر مبنى فى الأصل على السكون، وما يبنى منه على حركة فلعلة أوجبت بناءه عليها، وذهب قوم الى أنه معرب بالجزم، واتفقوا على أن فعل الأمر للغائب نحو ليقم وليذهب مجزوم باللام الداخلة عليه، فهو معرب اتفاقا ودليل البناء أن الأصل فى الأفعال البناء فهى محكوم عليها به الى أن يقوم دليل اعراب شىء منها، فيكون اخراجا لها عن أصلها، ولم يعرب منها سوى المضارع لشبهه بالاسم، وهو ما كان فى أوله احدى الزوائد الأربع فيحكم عليه بالاعراب ما دام وصف المضارعة باقيا وذلك اذا كانت زائدة من الزوائد الأربع موجودة فى أوله، فمتى زايلته زال شبهه بالاسم فيعود الى أصله من البناء أيضا، فانه لا يحتمل معانى يفرق الاعراب بينها والاعراب فى الأصل انما جاء لهذا عند المحققين، وقال الآخرون: ما فيه اللام معرب فيعرب ما لا لام فيه لتقدير اللام، كما قيل: محمد تفد نفسك، أى لتفد نفسك، وحرف المضارعة أيضا مقدر كالمثال المذكور، ولا تعويل على هذا القول فان الحذف من الشيء لا يوجب تغيير الصيغة بل يحذف ما يحذف ويبقى ما يبقى بعد الحذف
على حاله كقولك: ارم، فان الأصل اثبات الياء وبعد حذفها بقى ما كان على ما كان، وهذا مفهوم فى فعل الأمر، ألا ترى أنك اذا حذفت التاء من «تضرب» لا تقول: ضرب زيد، بل تعدل الى صيغة أخرى هى أضرب، وأما البيت فالأصل «تفدى» على الخبر، وانما حذفت الياء للضرورة (76).
وواضح أن هذا كله يدور حول كلمة «أقيموا» فى البيت فاذا انتقل الى الكلمة التى تليها ناقشها بهذه الطريقة المستفيضة، وهذه الدراسة النحوية اذا قورنت بما كتبه فى النحو كالمفصل والأنموذج ظهر بينهما فرق كبير يتمثل فى الايجاز والاختصار الذى مال اليه فى تأليف كتب النحو، والاطالة والاسهاب، والاستطراد، فى هذه الدراسة النحوية للأساليب الأدبية.
وكان معتزا بهذا اللون من الدرس، يقول فى مقدمة هذه الدراسة:
«هذه نكتة قذفتها خواطر خاطرى، وفائدة جرّتها نواظر ناظرى، وعقد توسط بين درر الجواهر، وروض تبسم بين الزهور النواضر، وسبك لم ينسج على منواله، فيقال قد سبق اليه، وزركش قد نظم بين اليواقيت فكل عالم يعرج اليه، غاص لها الخاطر فى بحر الأفكار فاستخرج دررها، وتاه الناظر فى بكر الأفعال فاستحضر صورها، من كل غريبة كلّ حديد النظر عن تقررها، وملّ مزيد الفكر عن تدبرها» (77).
وهذا يفيدنا أن هذا النوع من الدراسة كان الزمخشرى أبا عذرته، وفارس حلبته، وقد اهتمت كلية اللغة العربية بهذا اللون من الدرس النحوى لتقرر فى نفوس أبنائها أصول النحو ومسائله بهذه الطريقة العلمية المستفيضة حيث تجتمع لهم أشتات من المسائل النحوية فى موضوع واحد، وقد نهض أساتذتها بهذا الدرس فكتبوا كتبا نافعة نهجوا
__________
(76) أعجب العجب ص 3، 4.
(77) المرجع السابق ص 2، 3.(1/87)
فيها منهج الزمخشرى فى شرح هذه اللامية وان اختلفت النصوص التى دار درسهم حولها (78).
ومن خير ما كتبه فى المادة الأدبية كتاب ربيع الأبرار ونصوص الأخيار وهو روايات عن الحكماء والأدباء فى فنون مختلفة، ولذلك تتردد فيه أعلام الحكماء والفلاسفة ومشاهير الرجال، من الأدباء والشعراء والحكام، من العرب واليونان. مثل أفلاطون، وسقراط، وجالينوس، والاسكندر، ويحيى بن أكثم، وإبراهيم بن المهدى، وعمرو بن عبيد، وخالد بن صفوان، وقتيبة بن مسلم الباهلى، ومعاوية البرمكى، والمهدى، وزبيدة بنت جعفر، وأبو سفيان، وفيه روايات طريفة وآراء عجيبة.
فمن ذلك ما يحكيه فى الشعر والخطابة يقول:
«أطال خطيب بين يدى الاسكندر فقال: ليس تحسن الخطبة بحسب طاقة الخاطب، ولكن على حسب طاقة السامع، أعرابى نحن أمراء الكلام فبنا رسخت أعراقه ولنا تعطفت أغصانه، وعلينا تهدلت ثماره، فنجنى منه ما احلولى وعذب ونترك منه ما ملح وخبث».
وسمع خالد بن صفوان مكثارا يتكلم فقال: يا هذا، ليست البلاغة بخفة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها اصابة المعنى والقصد الى الحجة، وسمع الرشيد أولاده يتعاطون الغريب فى محاورتهم فقال:
لا تحملوا ألسنتكم على الوحشى من الكلام، ولا تعودوها الغريب المستبشع، ولا السفساف المتصنع، واعتمدوا سهولة الكلام، وما ارتفع عن طبقات العامة، وانخفض عن درجة المتشدقين، عرضت على المتوكل جارية شاعرة فسأل أبو العيناء أن يستجيزها فقال: أحمد الله
__________
(78) كان هذا زمن ألفت هذا الكتاب وقد مضى على ذلك عشرون سنة كان التعليم فى الأزهر ينهار فيها انهيارا مفزعا كاسحا حتى صار الأزهر كغيره من الجامعات المصرية التى صارت خرائب تتسكع فيها التفاهات ولا حول ولا قوة الا بالله.(1/88)
كثيرا، فقالت: حين أنشأك ضريرا، فقال: يا أمير المؤمنين قد أحسنت فى اساءتها».
«قال بعض الشعراء لزبيدة ابنة جعفر: طوبى لزائرك المثاب، تعطين من رجليك ما تعطى الأكف من الرعاب، فتبادر العبيد ليقعوا به، فقالت زبيدة: كفوا عنه، فانه لم يرد الا خيرا فأخطأ. ومن أراد خيرا وأخطأ خير ممن أراد شرا فأصاب، سمع الناس يقولون: قفاك خير من وجه غيرك، وشمالك أندى من يمين سواك. فقدر أن هذا مثل ذاك، أعطوه ما أمل وعرفوه ما جهل» (79).
ومما قاله فى فصل الحكمة:
«أفلاطون: ليس كل انسان بانسان الا من كان فى أدبه وعلمه انسانا».
«بطلميوس الثانى: خذ الدر من البحر، والذهب من الحجر، والسمك من القارة، والحكمة ممن قالها».
«أرسطاليس: الحكمة سلم العلو فمن عدمها عدم القرب من ربه» «جالينوس وسقراط: قال جالينوس لسقراط: لم لا تدون حكمتك فى الدفاتر؟ فقال: ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأشد تهمتك للجواهر الحية: كيف رجوت العلم من معدن الجهل ويئست من عنصر العقل (80) وقد طبع هذا الكتاب واختصر (81) وقد أشار الزمخشرى الى أنه كتبه ترويحا للقلوب المتعبة باحالة الفكر فى استخراج ودائع ما فى كتاب الكشاف.
__________
(79) ربيع الأبرار ص 354352.
(80) ربيع الأبرار ص 247، 249.
(81) طبع ربيع الأبرار فى القاهرة سنة 1292هـ وطبع مختصره المسمى روض الأخيار لمحمد بن الخطيب المتوفى سنة 940هـ ببولاق ومصر الميمنية.(1/89)
وله فى الأدب الانشائى نوابغ الكلم وهو مطبوع وله شروح لشدة ايجازه وتركيزه، ومن أشهر شروحه شرح العلامة سعد الدين التفتازانى.
وقد طبع هذا الشرح فى استانبول والقاهرة وبيروت، وقد شرحه أيضا أبو الحسن بن عبد الوهاب المتوفى سنة 701هـ وطبع شرحه فى كاسان سنة 1314هـ.
ومن قول الزمخشرى فيه: «ليس يسود النقار ما أسود القار، أم الزائر نزور وأم النابح نثور اذا قلت الأنصار كلت الأبصار
رب صدقة من بين فكيك خير من صدقة من بين كفيك».
وله كتاب المقامات وهى مجموعة من النصائح والحكم، وجه كثيرا منها الى نفسه، وقد كتبها بعد مرضته الناهكة، وفى جواره فى مكة، ويصدر كل مقالة منها بقوله: يا أبا القاسم، وقد شرحها شرحا مستفيضا ذكر فيه كثيرا من الاشارات النحوية واللغوية والبلاغية، وهو كتاب متداول ومشهور.
وله كتاب أطواق الذهب، وقد يسمى النصائح الصغار، وهو مائة مقالة، وقد أنشأها بمكة وتقرب بها الى الله، وضرع اليه أن يفيض عليها من البركة والقبول وأن يحفظ فيها ما أوجب للجار من حق الزمام والزمار، لأنها وجدت فى حرمك المطهر (82).
وله فيه نظرات ونقدات منها ما وجهه الى الحكام والولاة، كقوله فى المقالة الثانية والثلاثين: لا أحدثك عن بلد الشوم ذلك بلد الوالى الغشوم، أدوس من حوافر الخيول، وأحطم من جواحف السيول (83).
ومنها ما وجهه الى الفلاسفة، ويذكر «أن الفيلسوف عند نفسه المهذب، وعند عباد الله المكذب، وبنار الله المعذب» (84).
__________
(82) أطواق الذهب ص 4طبعة بيروت.
(83) أطواق الذهب ص 35.
(84) أطواق الذهب ص 180.(1/90)
وذكر علماء السوء «الذين جمعوا عزائم الشرع ودونوها، ورخصوا فيها لأمراء السوء وهونوها» (85).
ويذكر العلماء الخاشعين الماشين على سبيل محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، «فى أفواههم بيض بواتر على رقاب المبطلين، الفى أيديهم سمر عواثر فى ثغر المبطلين» (86) ويثور على قضاة زمانه، فالقاضى تعمل فيه الرشوة ما لا تعمل فى الشارب النشوة، ان أتته فسكران ميلا وطربا، وان فاتته فثكلان ويلا وحربا (87).
ويشير الى الكذب فى العبادة والرياء فى الدعاء والبكاء ثم يقول: واعلم أن أكثر الأمور مموه، ظاهره جميل وباطنه مشوه، فاستعذ بالله من سيّئ ما أنت راء، فان الدنيا كل يوم الى وراء (88).
وله فى الأدب الانشائى ديوان شعر مخطوط، وقد تقدم كثير من نصوصه وكان شعره كشعر النحاة كما يقول ياقوت.
وله القصيدة البعوضية، وأخرى فى مسائل الغزالى، وهى مخطوطة ببرلين، وله نزهة المستأنس مخطوط فى أيا صوفيا.
وديوان الرسائل، وديوان خطب، وديوان التمثيل، وتسلية الضرير، ورسالة الأسرار، والرسالة الناصحة، وسوائر الأمثال، ورسالة المسألة، وكلها غير معروفة، وله فى القراءات القرآنية كتاب الكشف، ولم يذكره ياقوت، وهو مخطوط بالمدينة كما ذكر فى دائرة المعارف، وعقل الكل وهو غير معروف، وكتاب الجبال والأمكنة، وهو مطبوع، يذكر أسماء الجبال وما يتعلق بها من أخبار أدبية، وقد رتبها ترتيبا هجائيا يبدأ بما أوله همزة وقد ترجم الى اللاتينية.
__________
(85) أطواق الذهب ص 33.
(86) أطواق الذهب ص 32.
(87) أطواق الذهب ص 30.
(88) أطواق الذهب ص 41.(1/91)
وله مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة، والأصل الذى اختصره الزمخشرى لأبى سعيد الرازى اسماعيل كما ذكر ياقوت وهو موجود فى التيمورية.
وله خصائص العشرة الكرام البررة طبع بالعراق.
وله متشابه أسماء الرواة غير معروف، وله كتاب الرائض فى الفرائض، وهو غير معروف، وكتاب معجم الحدود وهو غير معروف، وله ضالة الناشد، وكتاب المنهاج فى الأصول، وله رءوس المسائل، وشقائق النعمان فى حقائق النعمان، والأسماء فى اللغة، وشافى العى من كلام الشافعى، وكلها غير معروفة.
ثم أن له كتابا فى الحديث هو الفائق، وآخر فى التفسير هو الكشاف وهما من أشهر ما كتب. وقد فرغ من كتاب الفائق سنة ست عشرة وخمسمائة وقد طبع مرارا. وقد ذكر فى مقدمته أن الله فتق لسان الذبيح بالعربية وأجراها فى أعراقهم، فلست تجد شعبا من شعوبهم، ولا قبيلة من قبائلهم، ولا عمارة من عمائرهم، ولا بطنا من بطونهم، ولا فخذا من أفخاذهم، ولا فصيلة من فصائلهم، الا وفيها شاعر مفلق، وخطيب مصقع، ثم أن البيان العربى كأن الله عزت قدرته مخضه وألقى زبدته على لسان محمد عليه وآله أفضل صلاة وأوفر سلام.
ثم يبين أن العلماء قد كتبوا ما غمض من ألفاظه واستبهم كتبا تأنقوا فى تصنيفها وجودوها، ثم أشار الى أن الذى دفعه الى الكتابة فى هذا الموضوع هو رغبته فى أن يكون له ذكر فى هذا الباب الذى صبغ به يده وعانى فيه وكده ثم رجا أن يكون ذلك فى موازينه.
وقد ذكر الأحاديث الغريبة مرتبة على وفق ترتيب حروف المعجم ناظرا فى ذلك الى الألفاظ الغريبة الواردة فى الحديث، وبهذا يكون الزمخشرى قد رتب كتاب أساس البلاغة، ومقدمة الأدب، والمستقصى،
والجبال والأمكنة، وغريب الحديث، على وفق حروف المعجم، وهى طريقة سهلة تيسر للطالب الغاية.(1/92)
وقد ذكر الأحاديث الغريبة مرتبة على وفق ترتيب حروف المعجم ناظرا فى ذلك الى الألفاظ الغريبة الواردة فى الحديث، وبهذا يكون الزمخشرى قد رتب كتاب أساس البلاغة، ومقدمة الأدب، والمستقصى،
والجبال والأمكنة، وغريب الحديث، على وفق حروف المعجم، وهى طريقة سهلة تيسر للطالب الغاية.
* * *تفسير الكشاف:
والتفسير كما يتصوره الزمخشرى باب من أبواب المعارف العليا التى لا ينهض بها من الخاصة الا أوحدهم لأنه فى حقيقته لمح لمحاسن النكت ودرك للطائف المعانى وبصر بغوامض الأسرار.
وقد قرر الزمخشرى ضرورة توافر أوصاف مهمة فى المفسر بعضها يرجع الى فطرته وجبلته وبعضها يحصل بالكسب والدأب.
فالصفات التى ترجع الى الفطرة تدور حول الطبع المسترسل والقريحة الوقادة والنفس اليقظى «فلا يكون المفسر جاسيا ولا غليظا جافيا» (89).
ويجب أن تكون له قدرة على ابداع القول الجيد يعرف «كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف» (90).
أما الصفات المحصلة بالكسب والدأب فهى طول الممارسة وادمان المعايشة لعلوم اللغة والأدب والفقه فى أسرارها والتمرس بأساليبها.
ويخص الزمخشرى علمى المعانى والبيان وينبه الى ضرورة التمهل فى ارتيادها والتعب فى التنقير عنها.
ثم بعد ذلك على المتصدى للتفسير أن يحصل قدرا صالحا من كل علم وخصوصا علوم الفقه والأصول والعقائد والتاريخ لتتعمق بذلك ثقافة المفسر وتتسع مداركه، ويجب أن تكون الاحاطة بهذه المعارف احاطة وعى وبصر وفهم، وأن تكون معرفتها معرفة تحقيق وتمثل، وبهذا تكون هذه الثقافات جزءا من تكوين المفسر وقطعة من نفسه وعقله،
__________
(89) مقدمة تفسير الكشاف.
(90) المرجع السابق.(1/93)
فليست هناك فائدة للمعرفة الغامضة، ولا للمعرفة السطحية التى لا تلج العقل والقلب.
وبهذا الرصيد الثقافى والنفسى يستطيع المفسر أن يضيء جوانب النص، وأن ينبه الى لطائفه.
وقد أخذ نفسه بهذه الثقافة وأعدها للتفسير بهذه الأدوات، ولذلك لم يكتب فى هذا العلم الا بعد اكتماله ونضجه وهذا التراث الضخم الذى أشرنا اليه شاهد صدق على ذلك.
وقد حاول الزمخشرى قبل أن يكتب هذا التفسير الكامل أن يسود صحفا فى هذا الباب يراها مثلا يحتذى فى التفسير ولم يكن يقدر أنه سيكتب تفسيرا كاملا. وكانت هذه الصحف كأنها موسوعة قرآنية طال فيها القول وتشعبت فنونه ودارت حول سورة الفاتحة وبعض من سورة البقرة، وقد وصف الزمخشرى هذه الصحف بأنها مبسوطة، كثيرة السؤال والجواب طويلة الذيول والأذناب. وقد أراد بهذا البسط وهذا الطول أن ينبه الى ما يحتويه النص القرآن الكريم من علوم زاخرة وآداب جمة ومعارف عالية، ولكنه رجع فأدرك أن البيئة الفكرية فى زمانه لا تطيق هذه الموسوعة وأنها تحتاج الى تفسير موجز يعينهم على فهم مذهبهم من القرآن الكريم فكتب تفسيره الذى بين أيدينا.
والزمخشرى يتهم فى مقدمته أهل زمانه بالعجز عن فهم علم التفسير فى أبسط صوره وهم أشد عجزا عن فهم التفسير المؤسس على علوم دقيقة كعلمى المعانى والبيان، فاذا كان الزمخشرى يكتب لشيعته من أهل العدل فكأنهم هم المخصصون بهذه التهمة. وليس هذا فان الزمخشرى كان قلقا فى خوارزم كما قدمنا. وكان يهجو أهلها ويغلظ فى الهجاء، وجميعهم من المعتزلة وقد شكا الامام عبد القاهر قبله من عجز هذه البيئة عن تذوق أسرار البيان العربى. ونرى أن ازدهار البحوث البلاغية فى هذه البيئة الأعجمية يحتاج الى دراسة جديدة وتفسير جديد ولا تكفى فى بيانه مقالة ابن خلدون الشهيرة، والتى رددها الباحثون فى هذا العصر، وليس المجال هنا مجال مناقشة واستقصاء فى هذه المسألة.(1/94)
والمهم فى قضيتنا أننا نفهم من وصف الزمخشرى لأهل زمانه بالعجز عن استيعاب التفسير المؤسس على علمى المعانى والبيان أنه لم يودع فى تفسيره كل ما يراه من نكت ولطائف ولم يتكلم عن بلاغة القرآن كما كان يستطيع أن يتكلم لأنه من غير شك نظر الى جمهرة القراء الذين كتب لهم هذا التفسير.
وبهذا يكون الزمخشرى الذى نراه أكبر دارس لبلاغة القرآن داعيا الى ضرورة متابعة البحث فى هذه البلاغة فاتحا باب الاجتهاد فى هذا الموضوع. وقد كتب هذا التفسير فى أحضان الشيعة وفى رعاية الأمير الشريف الحسن على بن وهاس وهو شريف حسنى من مقدمى الشيعة ووجهائهم وكان مشاركا فى العلوم والآداب وقد رغب الى الزمخشرى أن يكتب هذا التفسير، وبهذا يكون هذا التفسير ثمرة من ثمار لقاء الشيعة والمعتزلة، ولكنه ليس تفسيرا شيعيا وليس تصويرا لمعتقداتهم الخاصة وان كان لا يخلو من الدعوة لهم والتشهير ببنى أمية، ونشير هنا الى أن تراث المعتزلة بعد المتوكل لا يخلو من هذا الولاء الشيعى، فقد حالف المعتزلة الشيعة بعد هذا التسلط المحموم الذى وقع عليهم بعد توليته فى سنة 232هـ، وكان الفريقان يلقيان عنتا واضطهادا فى بعض الأقطار الاسلامية، وكانوا يخفون مذهبهم أحيانا، وقد تشدد أهل الأندلس فى اضطهادهم فكانوا اذا وقفوا على معتزلى أو شيعى ربما قتلوه، كما يقول المقدسى (91).
وقد ذاع كتاب الكشاف وصاح صيته فى شرق العالم الاسلامى وغربه واهتم به المثقفون اهتماما يكاد يكون منفردا فى كتب اللغة والأدب والتفسير. ففزع منه أهل السنة والجماعة وشرعوا أقلامهم لمناقشتة والرد على مسائل الاعتزال وبدعه كما يعتقدون وهم مقدرون أن الزمخشرى معتزلى خطير المكانة فى العلم والعقيدة وأنه قادر على أن يدس البدع فى كلامه الحسن الفصيح. وقد بالغوا فى معارضته حتى دعوا الناس الى مقاطعة هذا الكتاب وأجازوا للعلماء المتمكنين فى أحوال الدين
__________
(91) ينظر أحسن التقاسيم ص 236.(1/95)
والذين أحكموا عقائد أهل السنة واقتدروا على الاحاطة بفن البيان أجازوا لهذه الفئة المثقفة أن تطلع على كتاب الكشاف. أما عامة المثقفين وبقية المسلمين فالأولى بهم محاماة هذا التفسير حتى لا يقع الزيغ فى عقائدهم. وهذا هو الوصف العام لموقف أهل السنة والجماعة، ويلخصه تاج الدين السبكى الأشعرى بقوله: «والقول عندنا فيه أنه لا ينبغى أن يسمح بالنظر فيه الا لمن صار على منهاج السنة لا تزحزحه شبهات القدرية» (92).
وكانوا مع هذه المعارضة القوية يشهدون للزمخشرى بطول الباع ونفاذ البصر والتبحر فى جميع العلوم وتميزه بلطائف المحاورة ونفائس المحاضرة، وكان مناقشة الألد أحمد بن المنير كثير الثناء على علمه باللغة والأدب ويصفه بأنه خريت الأساليب أى دليلها الحاذق. وقد أدرك ابن خلدون وكان عدوا للاعتزال القيمة الأدبية لهذا التفسير فدعا من تمكنت أداته من علوم العقيدة والشريعة الى النظر فيه ليفيد منه رأيا عميقا فى الاعجاز الأدبى بشرط أن يكون حذرا على مقعده لأن الزمخشرى يأتى بالحجج على مذاهب المعتزلة الفاسدة ويؤيد هذه البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة (93).
والدراسات التى دارت حول الكشاف تختلف غاياتها واهتماماتها، فمنها ما يهتم بالدراسة البلاغية وتحرير الرأى فيها، ومنها ما يهتم بمسائل الاعتزال ويرصدها فيما يكتب، ومنها ما يوضح وينقح، ومنها ما يختصر أو يستشكل، ومنها ما يهتم بشرح شواهده، ومنها ما يهتم بتخريج أحاديثه. وقد ذكر صاحب كشف الظنون فيضا من هذه الدراسات نرى من الخير أن نشير الى شىء منها ليدرك القارئ عناية الأسلاف بهذا الكتاب العظيم.
فقد كتب العلامة قطب الدين محمود بن محمد التحتانى الرازى المتوفى سنة 766هـ حاشية على الكشاف والحاشية مخطوطة بدار الكتب رقم (353تفسير) وقد أورد عليه العلامة جمال الدين محمد بن محمد الأقسرائى
__________
(92) معيد النعم ومبير النقم للسبكى ص 115.
(93) تنظر مقدمة ابن خلدون ص 508.(1/96)
اعتراضات. وقد أجاب عن هذه الاعتراضات العلامة عبد الكريم ابن عبد الجبار وسمى أجوبته المحاكمات، وقد اطلعت على هذه المحاكمات بدار الكتب مخطوط رقم (241) ومنها تبينت اعتراضات العلامة جمال الدين، وقد ذكر عرب زاده فى حاشية الشقاشق أن ابن سمادة أجاب عن هذه المحاكمات.
وكتب العلامة عماد الدين يحيى بن قاسم العلوى المعروف بالفاضل اليمنى حاشية سماها درر الأصداف من حواشى الكشاف والحاشية مخطوطة بالدار رقم (53) ثم كتب هو نفسه حاشية أخرى بعد فراغه من هذه الحاشية سماها تحفة الأشراف فى كشف غوامض الكشاف والحاشية مخطوطة بالدار رقم (783) وقد شرح خطبة الكشاف العلامة مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى الشيرازى المتوفى سنة 817هـ وسمى شرحه قطبة الخشاف لحل خطبة الكشاف، ثم كتب شرحا آخر لهذه الخطبة سماه نغبة الرشاف من خطبة الكشاف.
وممن اختصروا الكشاف العلامة قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازى وقد سمى تلخيصه تقريب التفسير وقد أتمه فى التاسع من شوال سنة 698هـ والكتاب مخطوط بدار الكتب (67).
وممن خرج أحادية الامام المحدث جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعى الحنفى المتوفى سنة 762هـ، وهناك مخطوط لشرح أبيات المفصل والكشاف لم يعلم مؤلفه والمخطوط رقم (60) بدار الكتب.
وأشير هنا الى أشهر من ناقشوه فى ميدان البلاغة والنحو والاعتزال أعنى أصحاب الشروح التى عنيت بهذه العلوم أكثر مما عنيت بغيرها مما يتضمنه هذا التفسير العظيم.
ففي مقدمة من عنوا بالبحث البلاغى العلامة شرف الدين حسن ابن محمد الطيبى المتوفى سنة 743هـ فقد كتب حاشية على الكشاف سماها فتوح الغيب فى الكشف عن قناع الريب فى ست مجلدات ضخمات فال فيها: «رأيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبيل الشروع ناولنى قدحا من اللبن وأشار اليه فأصبت منه ثم ناولته عليه الصلاة والسلام فأصاب منها» والحاشية موجودة ومصورة بدار الكتب رقم (145).(1/97)
وقد كتب العلامة سعد الدين التفتازانى حاشية على الكشاف، وهى مخطوطة فى مكتبة الأزهر رقم (1804) وقد ذكر صاحب كشف الظنون أن حاشية سعد الدين تلخيص لحاشية الطيبى والحق أن حاشية سعد الدين ليست تلخيصا لحاشية الطيبى بل هى صورة لآرائه البلاغية وشخصيته المستقلة التى تتضح معالمها فى كتبه الأخرى كالمطول والمختصر وان كان قد أفاد مما ذكره الطيبى.
وقد كتب المولى برهان الدين حيدر بن محمد الهروى تلميذ السعد المتوفى سنة 830هـ حاشية على حاشية سعد الدين.
وقد علق المولى علاء الدين على بن محمد المعروف بقوشجى المتوفى سنة 879هـ على أوائل حاشية السعد.
وقد كتب المولى شيخ الاسلام يحيى الهروى المعروف بالحفيد حاشية على حاشية جده سعد الدين.
ثم كتب السيد الشريف المتوفى سنة 816هـ حاشية على أوائل تفسير الكشاف وهى مطبوعة على هامش الكشاف، وقد ناقش سعد الدين فى كثير من آرائه، وكتب المولى محيى الدين محمد بن الخطيب المتوفى سنة 901هـ حاشية على حاشية السيد وهى مخطوطة بدار الكتب تحت رقم (502).
وقد كتب المولى حسن حلمى بن محمد شاه الفنارى المتوفى سنة 886هـ حاشية على حاشية السيد الشريف.
وقد انتفع السيد الشريف بما كتبه العلامة عمر بن عبد الرحمن الفارسى القزوينى المتوفى سنة 745هـ فى حاشيته التى سماها الكشف، وكان السيد الشريف كثيرا ما يعتمد آراءه.
وقد أصاب صاحب الكشف فى كثير من تحليلاته البلاغية، ويبدو أنه امام بصير وقد يكون أنفذ من ناقش الأصول البلاغية التى تقررت فى زمانه، وليس بين أيدينا من هذه الحاشية الا ما يذكره السيد فى حواشيه، وقد رأيت مخطوطة فى دار الكتب رقم (807) تحمل هذا الاسم، وعليها اسم المؤلف الذى ذكره صاحب كشف الظنون، ولكنه مكتوب
بخط محدث، وبعد مطالعتى لهذه المخطوطة، ومقارنة نصوصها بما ذكره السيد فى حواشيه أيقنت أنها شىء آخر.(1/98)
وقد أصاب صاحب الكشف فى كثير من تحليلاته البلاغية، ويبدو أنه امام بصير وقد يكون أنفذ من ناقش الأصول البلاغية التى تقررت فى زمانه، وليس بين أيدينا من هذه الحاشية الا ما يذكره السيد فى حواشيه، وقد رأيت مخطوطة فى دار الكتب رقم (807) تحمل هذا الاسم، وعليها اسم المؤلف الذى ذكره صاحب كشف الظنون، ولكنه مكتوب
بخط محدث، وبعد مطالعتى لهذه المخطوطة، ومقارنة نصوصها بما ذكره السيد فى حواشيه أيقنت أنها شىء آخر.
ومن أشهر من ناقشوه فى المسائل النحوية أبو حيان فى البحر المحيط، وكان متحاملا سطحيا فى كثير من مناقشاته، وسوف نعرض لبعض ملاحظاته فى دراستنا البلاغية، ثم تلاه تلميذاه: الشهاب أحمد ابن يوسف الحلبى المشهور بالسمين، والبرهان بن محمد السفاقسى فى اعرابيهما، ولخص الشيخ تاج الدين أحمد بن مكتوم مناقشات شيخه أبى حيان فى كتاب سماه الدر اللقيط من البحر المحيط.
ومن أشهر الحواشى التى ناقشت مسائل الاعتزال حاشية الانتصار للعلامة أحمد بن محمد بن منصور الجزامى الاسكندرى المالكى، قاضى الاسكندرية المشهور بأبى العباس بن المنير المتوفى سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وكان قاضيا منصفا، ذكيا، مناقشا، قوى الحجة. وقد شهد للزمخشرى برسوخ القدم فى علوم اللغة والبيان، وقد كتب الامام علم الدين عبد الكريم بن على العراقى المتوفى سنة 704هـ كتابا سماه الانصاف، وجعله حكما بين الكشاف والانتصاف، وهو مخطوط بدار الكتب رقم (506) ثم لخصهما أى الانصاف والانتصاف الامام جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام فى مختصر لطيف.
وقد كتب العلامة الشيخ عمر بن محمد خليل السكونى كتابا سماه التمييز لما أودعه الزمخشرى من الاعتزال فى الكتاب العزيز.
وقد ذكر فى مقدمته أن الزمخشرى مزج البحوث النحوية واللغوية والبلاغية بآراء اعتزالية ومقاصد تخالف قواعد السنية، وأن من يطالع هذا التفسير وهو غير متمكن من أصول الدين يخشى عليه من الهلاك، ولذلك كتب كتابه هذا نصيحة للدين وحماية لقواعد عقائد المسلمين.
ويبدو أن الشيخ عمر رحمه الله كان من بيت علم، وكانت أسرته متمسكة بقواعد أهل السنة، فقد ذكر أن كتابه هذا قد بدأه والده رحمه الله ثم من الله عليه بأن أتمه. وذكر أن عمه لما قرأ ما ذكره الزمخشرى فى سورة الأعراف هاجيا به أهل السنة والجماعة رد عليه بقوله:(1/99)
سمّيت جهلا صدر أمّة أحمد ... وذوى البصائر بالحمير المؤكفة
وذكر أبياتا كثيرة، وكان لهذا أثره على شخصية الشيخ عمر رحمه الله فكان ألمعيا شديد الذكاء فى مناقشة الزمخشرى (94).
وقد طرقت كل هذه البحوث مسألة الاعتزال فى هذا الكتاب، وكان أهل السنة متنبهين لكل ما يتصل بهذا الموضوع، مقدرين أن الزمخشرى دس أفكاره وأخفاها فى طيات الدقائق النحوية والبلاغية، فكانوا يلمحون هذا الفكر الاعتزالى فيما يستبعد أن يكون فيه، وذلك لشدة تيقظهم، ولوضوح مسائل الخلاف وتبين حدودها وأبعادها فى أذهانهم ولسوء ظنهم بالزمخشرى، فاذا قال فى قوله تعالى {«ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ»} (95): «اذا أطفئت النار بسبب سماوى ريح أو مطر فقد أطفأها الله فاننى لا أدرك أن فيه شيئا يتصل بمسائل الاعتزال، وأحسب أن كثيرا من أمثالى لا يرون فى هذا التفسير أثرا لنحلة اعتزالية، ولكن الامام أبا على عمر بن محمد صاحب كتاب التمييز المتقدم ذكره يدرك فى هذا التفسير دسيسة اعتزالية ويبين أن الزمخشرى خص ما طفئت كذلك أى بسبب سماوى ريح أو غيره بأن الله أطفأها لمذهب اعتزالى وهو قول المعتزلة «بالتولد، ويسمونه فعل فاعل السبب، ولو طفئت عندهم بصب بعض الخلق عليها ماء وترابا، لم ينسبوا ذلك الى الله تعالى بل للعباد، لأن العبد اذ ذاك فعل السبب وهو الحركات التى فى محله والاعتمادات التى تحرك الماء متولدا عن ذلك. وكلا ذلك باطل بنوه على توهمات فاسدة وهو شرك فى الحقيقة، ولا فاعل لشىء من المخلوقات كان عن سبب أو لا عن شىء الا الله تعالى على ما تقررت دلائله».
واذا قال الزمخشرى فى تثنية الأمثال فى قوله تعالى: {«أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ»} (96): «وكما يجب على البليغ فى مظان الاجمال والايجاز أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه فى موارد التفصيل والاشباع أن يفصل ويشبع» لا أجد فيه ولا يجد فيه كثير مثلى شيئا يتصل بمسألة
__________
(94) تنظر المخطوطة رقم 40مجاميع ورقة 73، 84، 85.
(95) البقرة: 17
(96) البقرة: 19(1/100)
الاعتزال، ولكن العلامة المذكور يلحظ فيه اعتزالا، لأنه عرض هنا بذكر الوجوب، وقد قدمنا بيان استحالة الوجوب على الله تعالى (97).
اذن قد بالغ أهل السنة فى تتبع المسائل الاعتزالية وناقشوها وناقشوا ما يتصل بها من قريب أو من بعيد، أو استخرجوا منها اعتزالا بالمناقيش كما يروى حاجى خليفة.
والحق أن الزمخشرى كان يتعسف أحايين كثيرة، ويتمحل فى اخضاع النص ودلالاته الى قواعد شيعته، واذا أردت أن أعرض صورا لهذا التمحل فان حاشية ابن المنير يصلح أكثرها شاهدا على هذه الدعوى. وكذلك كتاب التمييز وكثير من كتب أهل السنة.
وقد أردت أن يكون بحثى فى كتاب الكشاف خالصا لبيان البحث البلاغى. ولهذا تجنبت الخوض فى هذه المسألة لأنها درست ولن أستطيع أن أقول فيها خيرا مما قاله أهل السنة، وأكثرهم أديب متذوق، له باع بسيط، وله نظر نافذ، وكان يعجبنى أحمد بن المنير فى كثير من اشاراته البلاغية التى تدل على أنها صادرة عن عقل متمكن، وذوق متمرس وكان يعجبه ما يقول الزمخشرى فى مسائل البلاغة، ويشهد له بأنه خريت الأساليب.
اذن ليست المسألة فى حاجة الى أن أضيف فيها الى «طنبور العويل نغمة» كما يقول سيدنا الشريف، على أننى سأشير الى هذا التمحل اذا رأيت أن الاشارة اليه أمر يقتضيه تحقيق القول فى مسألة بلاغية.
وقد أشرت فى بيان مصادر ثقافة الزمخشرى الى شيوخه والى أنه أخذ من الكتب أضعاف ما أخذه عن السماع.
وحسبى أن شير الآن الى أمرين:
__________
(97) ينظر التمييز لما أودعه الزمخشرى من الاعتزال فى الكتاب العزيز ورقات 116، 117.(1/101)
الأول: تحقيق القول فى كتابين يظن فى أولهما أن الزمخشرى أفاد منه، وقد قيل فى ثانيهما: انه أفاد منه فائدة كبيرة.
الثانى: بيان أن تفسير الزمخشرى امتداد لتأويلات شيعته التى لم يبق منها الا القليل.
أما الكتاب الأول، فهو تفسير منسوب للزجاج وهو مصور بمعهد المخطوطات العربية بعنوان معانى القرآن للزجاج. والعلاقة بينه وبين تفسير الكشاف واضحة، فهو يقول فى قوله تعالى {«الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»}:
«ولا يجوز أن يقال رحمن لغير الله عز وجل. ذلك لأن «فعلان» بناء من أبنية ما يبالغ وصفه، ألا ترى أنك اذا قلت: غضبان، فمعناه الممتلئ غضبا، فرحمان للذى وسعت رحمته كل شىء، ولا يجوز أن يقال لغير الله رحمن» (98). ويقول الزمخشرى: «فى «الرحمن» من المبالغة ما ليس فى «الرحيم»، ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، ويقولون ان الزيادة فى البناء لزيادة المعنى، وقال الزجاج فى الغضبان وهو الممتلئ غضبا: لم يستعمل فى غير الله عز وجل (99).
ويقول فى قوله تعالى: {«اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ»} (100): «ومعنى الكلام أن كل من ترك شيئا وتمسك بغيره فالعرب تقول للذى تمسك به: اشتراه، وليس ثمة شراء ولا بيع ولكن رغبته فيه بتمسكه كرغبة المشترى بماله ما يرغب فيه، قال الشاعر:
أخذت بالجمة رأسا أذعرا ... وبالثّنايا الواضحات الدّردرا
وبالطويل العمر عمرا حيدرا ... كما اشترى المسلم إذ تنصّرا
وقوله جل وعز: {«فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ»}: معناه: فما ربحوا فى تجارتهم لأن التجارة لا تربح انما يربح فيها ويوضع فيها والعرب تقول:
قد خسر بيعك، وربحت تجارتك، يريدون بذلك الاختصار وسعة الكلام. قال الشاعر:
__________
(98) المخطوطة لوحة 4.
(99) الكشاف ج 1ص 5.
(100) البقرة: 16.(1/102)
كيف نواصل من أصبحت ... خلالته كأبى مرحب
يريدون: كخلالة أبى مرحب، وقال عز وجل: {«بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ»} (101) والليل والنهار لا يمكران، انما معناه: بل مكركم فى الليل والنهار» (102).
وهذا قريب مما ذكره الزمخشرى فى هذه الآية، والبيتان من شواهد الكشاف فيها (103). ولست مطمئنا الى نسبة هذا التفسير الى الزجاج، فقد ذكر صاحبه فى مقدمته كتب المعانى بأسانيدها فذكر معانى الأخفش ومعانى الفراء، ومعانى الزجاج.
ويقول فى اللوحة الرابعة: قال أبو اسحاق الزجاج وأبو العباس المبرد.
ويقول فى اللوحة الخامسة: وأما معنى {«الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»}
قال ابن عباس: الاسمان دقيقان أحدهما أدق من الآخر، وقال:
الزجاج: «الرحمن» كثير الرحمة.
ويقول فى اللوحة السابعة: قال الزجاج «آمين» حرف موضوع للاستجابة كما أن «صه» حرف موضوع للسكوت، وحقهما بمنزلة الأصوات.
ويضاف الى هذا ذلك الحس الذى يشعر به القارئ المتمرس بقراءة كتب رجال هذه الطبقة، فان أهم خصائصها هو طابع الاجتهاد فى الرأى، والاستقلال فى المناقشة، والقبول والرفض، مما يجعلك تشعر أنك تسمع عقلا مجتهدا، يشقق أصول البحث ولا يحكيها. وهذا التفسير تفسير موجز يبين المعنى بالرواية عن الكلبى ومجاهد والضحاك، ويذكر رأى عالم لغوى كالأخفش والفراء وصاحب النظم.
ولذلك أقول كما قالوا فى نقد نسبة الشعر: ان هذا ليس من بحر الزجاج أو ليس من مائه. وان الزجاج أشد لحيين من صاحبه.
وليس هذا التفسير الذى أشك فى نسبته الى الزجاج هو ما أشار
__________
(101) سبأ: 33
(102) لوحة 18.
(103) ينظر الكشاف ج 1ص 52.(1/103)
اليه الأستاذ الجوينى فى بيانه لمصادر التفسير فى كتاب الكشاف، فقد قارنت نصوصا ذكرها الأستاذ الجوينى للزجاج فى قوله تعالى: {«إِنََّا سَخَّرْنَا الْجِبََالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرََاقِ»} (104)، وفى قوله تعالى: {«إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصََّافِنََاتُ الْجِيََادُ»} (105)، وفى قوله تعالى: {«لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ. وَلََا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوََّامَةِ»} (106)
بما قيل فى هذه الآيات فى المخطوطة المذكورة فوجدت فرقا واضحا، واذا كان هذا الكلام يفيد الشك فى نسبة هذا المخطوط الى أبى اسحاق الزجاج فانه لا ينفى تأثر الزمخشرى بالزجاج لأن ذكره يتردد فى الكشاف كثيرا ويشير الزمخشرى الى تفسيره وافادته منه فى دراسته (107)
للمفردات وفى وجوه القراءات (108) وفى تحديد معانى التراكيب (109) وفى تحديد هيئة الكلمة (110) وغير ذلك أكثر من أن يحصى.
والمخطوطة التى أشير اليها ليست تفسيرا كاملا، وانما هى جزء يبدأ من سورة يس وينتهى الى آخر سورة التين، بآخره خط ابن برى محمد بن محمد بالتملك وعدد أوراقه واحدة ومائتان. هذا تمام القول فى الكتاب الأول.
أما الكتاب الثانى فقد ذكر الأستاذ الجوينى أن الزمخشرى تأثر بتفسير الرمانى الذى لم يبق منه الا جزء «عم يتساءلون»، وهو مخطوط بالتيمورية تحت رقم (210).
وقد نبه الى أن هذه النسخة قد أصابها شىء من التحريف، واستدل على ذلك بأن صاحبها المعتزلى يبدو سنيا مؤمنا بالرؤية أحيانا،
__________
(104) سورة ص: 18
(105) سورة ص: 31
(106) القيامة: 1، 2
(107) الكشاف ج 1ص 398، ج 3ص 147.
(108) الكشاف ج 1ص 496.
(109) الكشاف ج 2ص 73، 550، ج 3ص 133، 234
(110) ينظر منهج الزمخشرى فى تفسير القرآن ص 8785(1/104)
كما يترجح بين الجبر والارادة الحرة، وذكر نصوصا فى هذا. ثم قال:
لهذا كله لسنا نطمئن تماما الى أن هذه النسخة بعينها نتاج صاحبها محررا، وأيا ما كان فسنلمح بالمقارنة بين الكشاف والرمانى أن أولهما تأثر الثانى وسار على نهجه. ثم ذكر كثيرا من النصوص المثبتة فى هذا المخطوط وهى بعينها فى كتاب الكشاف، وقد دفعه هذا الاتحاد فى النص مع طوله الى القول بأن عادة الأقدمين فى التأليف كانت النقل عمن يعجبون به دون اسناده لصاحبه، اما لشهرة القول عنه أو لأن العلم ملك للجميع.
والحق أن هذه المخطوطة ليست للرمانى ولا علاقة لها به، وأكثرها منقول من الكشاف، واقرأ ان شئت ما ذكره الزمخشرى فى الالتفات فى قوله تعالى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ»}، والبدل فى قوله تعالى: {«اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»}، وتقديم {«الرَّحْمََنِ»} على {«الرَّحِيمِ»} فى البسملة، وتقدير المتعلق المحذوف فيها، وتقديم العبادة على الاستعانة وقرنها بها فى {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ»} وتقديم الضمير المفعول فيها، ومعنى التعريف فى الحمد، ومعنى الاستفهام فى قوله: {«وَإِيََّايَ فَارْهَبُونِ»} (111) وسوف نجد ما ذكره الزمخشرى بنصه غير المحرف فى هذه المخطوطة فى الورقات (14، 17، 8، 3، 4، 15، 14، 10، 49).
ومن العجيب أن صاحب المخطوطة يذكر حكاية طريفة وقعت له فى الطائف. يقول: ومما طن على أذنى من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشقدف وهو مركب خفيف ليس فى ثقل محامل العراق، فقلت فى طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟
أردت المحمل العراقى فقال: أليس ذلك اسمه الشقدف؟ قلت: بلى قال: فهذا اسمه الشقنداف فزاد فى بناء الاسم لزيادة المسمى (112).
واستشهد بهذا على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. والحكاية بنصها
__________
(111) البقرة: 40
(112) الورقة 7(1/105)
فى كتاب الكشاف (113) ولسنا ندرى على أى أذن طنت هذه الملحة وقد وجد شيخنا المرحوم محمد على النجار مثل هذا فى كتاب المحكم لابن سيده، الذى كان ينسب خواطر ابن جنى الى نفسه، وقال شيخنا المرحوم فى هذا: ومما يدعو الى العجب أن ابن سيده يقول فى هذا البحث (أعنى القول فى نشأة اللغة الذى بين أستاذنا أنه أخذه من الخصائص) وقد أدمت التنقير، والبحث مع ذلك عن هذا الموضع فوجدت الدواعى والخوالج قوية التجاذب لى، مختلفة جهات التغول على فكرى. وترى هذا مع ما لا يؤبه له من التغيير فى عبارة الخصائص (114).
وقد ذكر صاحب المخطوطة كتاب الكشاف وكتاب الكشف فى أكثر من موضع: يقول فى قوله تعالى: {«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ََ»} (115)
بعد ما بين أن هذه اللام لام الابتداء، وهى مؤكدة لمضمون الجملة، وليست لام القسم، لأن لام القسم لا تدخل على المضارع الا مع نون التأكيد، كذا ذكره صاحب الكشاف، وقال صاحب الكشف: هى لام القسم واستغنى عن نون التأكيد لأن النون انما تدخل ليؤذن أن اللام لام القسم، لا لام الابتداء، وقد علم أنه ليس للابتداء لدخولها على «سوف» لأن لام الابتداء لا تدخل على «سوف» (116).
ويقول فى قوله تعالى {«لََا يُعَذِّبُ عَذََابَهُ أَحَدٌ»} (117): أى لا يتولى عذاب الله أحد، لأن الأمر لله وحده فى ذلك اليوم، {«وَلََا يُوثِقُ»}
بالسلاسل والأغلال {«وَثََاقَهُ أَحَدٌ»} (118)، قال صاحب الكشاف:
لا يعذب أحد أحدا كعذاب الله، ولا يوثق أحد أحدا كوثاق الله (119).
__________
(113) الكشاف ج 1
(114) مقدمة الخصائص ص 31.
(115) الضحى: 5.
(116) المخطوطة ورقة 98.
(117) الفجر: 25
(118) الفجر: 26
(119) المخطوطة ورقة 87.(1/106)
وقد ذكر صاحب المخطوطة فى آخرها: تمت الأوراق بقدرة الخلاق واغفر عبد مذنب ووسع عليه النعمة والأرزاق، وأدخله الجنة فانه المشتاق، قد وقع الفراغ من هذا الكتاب فى يوم الجمعة سنة ست وتسعين وألف (120).
ويترجح عندى أن هذه المخطوطة نصوص من كتب التفسير، جمع فيها صاحبها نصوصا من تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة ولم يناقش شيئا، ولم يعلق على شىء.
واذا كنت أؤكد أن هذه المخطوطة ليست لها صلة بتفسير الرمانى فان هذا لا ينفى أن يكون الزمخشرى قد تأثر به، وليس له بين أيدينا من آثار فى الدراسة البلاغية الا رسالته فى الاعجاز وسوف نعرض لشىء منها.
ولعل مقصد ابن تغرى بردى بقوله: ان الزمخشرى سلك مسلك الرمانى ونهج نهجه فى التفسير، هو بيان أنه كان يهتم بالناحية البلاغية، والاجتهاد فى التأويل، وبيان التجوز، وليس مقصده أن الزمخشرى نقل تفسير الرمانى وكرره، كما يظهر من المقارنة بين النصوص التى أشرنا اليها.
* * ** الكشاف وتراث المعتزلة فى التفسير:
وكان للمعتزلة اجتهادات فى تفسير الآيات وتأويلها وقد درسوا النصوص التى تعارض معتقداتهم دراسة عميقة ومستفيضة وكانوا يخضعون اللغة للعقل معتقدين أن الأوضاع اللغوية تحتمل غير وجه ولا يمكن تحديد مدلولها تحديدا قاطعا فوجب الرجوع الى ما يقتضيه العقل، ومن هنا لم تكن ظواهر النصوص ملزمة لهم لأنها لا تثبت على ظواهرها.
وقد وضح القاضى عبد الجبار هذا المنهج بقوله: «موضوع اللغة يقتضى أنه لا كلمة فى مواضعها الا وهى تحتمل غير ما وضعت له، فلو
__________
(120) المخطوطة ورقة 136.(1/107)
لم يرجع الى أمر لا يحتمل لم يصح التفرقة بين المحكم والمتشابه» فالكلمات لا تحدد معانيها تحديدا منضبطا لأن كل كلمة فيها تحتمل غير ما وضعت له، وبهذا تتحدد وظيفة معاجم اللغة وقواميسها فى نظر المعتزلة.
وهذا الفهم لطبيعة اللغة منحهم حرية طليقة فى توجيه وصرف الألفاظ الى معان غير معانيها القريبة والاجتهاد فى سوق الأدلة اللغوية والأدبية على هذه المعانى فالاضلال فى قوله تعالى: {«يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ»} (121) ليس المراد به الصرف عن الهداية كما يتبادر الى الذهن عند الاستعمال، لأن هذا المعنى يعارض قضية عقلية وهى تنزيه الله سبحانه عن ذلك فوجب أن يراد بالاضلال معنى آخر كالعقوبة، وقد استعمل اللفظ فى هذا المعنى كقوله تعالى: {«أَضَلَّ أَعْمََالَهُمْ»} (122) أى أبطلها، وابطال الأعمال عقوبة للعاملين، وكقوله تعالى: {«وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ»} (123) أى يعاقبهم، وقوله تعالى: {«إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلََالٍ وَسُعُرٍ»} (124) أى فى عقوبة ونار (125).
{«وَطَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ»} (126) ليس معناه الحيلولة بينها وبين الايمان لأن هذا المعنى يرفضه العقل وصفا للمولى سبحانه ودلالة اللفظ على هذا المعنى ليست ضربة لازب ومن هنا يمكن أن نقول: ان المعنى كتب فى قلوبهم كتابة يعرف بها كفرهم كما قال تعالى: {«يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمََاهُمْ»} (127) وكما قال فى وصف المؤمنين: {«كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ»} (128) وهذا أشبه بكلام العرب لأن الطبع عندهم يستعمل فى الكتابة على الخواتيم والدراهم والدنانير (129).
__________
(121) الرعد: 27
(122) محمد: 1
(123) إبراهيم: 27
(124) القمر: 47
(125) المخطوطة ورقة 136.
(126) التوبة: 93
(127) الرحمن: 41
(128) المجادلة: 22
(129) ينظر كتاب الرد على الجبريّة القدرية فيما تعلقوا به من متشابه آى القرآن الكريم تأليف القاضى ابن عمرو أحمد بن محمد الخلال من علماء القرن الرابع، والكتاب مخطوط بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء رقم (71تفسير) ومصور بدار الكتب ميكروفيلم رقم (117تفسير).(1/108)
وهذه الآيات وأمثالها درست فى كتب القوم التى تشرح أصول مذهبهم مثل كتاب العدل والتوحيد ونفى التشبيه عن الواحد الحميد للامام القاسم الرس (130). كما كانت تدرس فى الكتب التى يدفعون بها عن معتقداتهم مثل كتاب الرد على الجبرية الذى لخصنا منه النصوص السابقة.
ودرست كذلك فى الكتب التى كتبوها فى متشابه القرآن ولهم فى هذا الباب جهد واضح وأكثر أئمتهم كتبوا فى هذا الموضوع كأبى على الجبائى (131) وأبى الهزيل العلاف (132) وأبى سهل بشر ابن المعتمر (133) وأبى على بن المستنير (134) والقاضى عبد الجبار (135).
__________
(130) هو القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل الحسنى العلوى فقيه وشاعر من أئمة الزيدية وله ثلاث وعشرون رسالة فى الامامة والرد على ابن المقفع وسياسة النفس والعدل والتوحيد والناسخ والمنسوخ وكان شفيعا لابن طباطبا توفى بالرس وهو جبل يقع على ستة أميال من المدينة فى سنة 246هـ والكتاب مخطوط بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء رقم (167تفسير) ومصور بدار الكتب رقم (351ميكروفيلم).
(131) أبو على الجبائى هو محمد بن عبد الوهاب يتصل نسبه بابن أبان مولى عثمان رضى الله عنه كان شيخ المعتزلة بالبصرة معروفا بالورع والزهد وتتلمذ عليه أبو الحسن الأشعرى وأبو هاشم الجبائى الذى آلت اليه زعامة المعتزلة بعد أبى على ويعرفان بالجبائيين توفى سنة 303هـ، وينظر وفيات الأعيان ص 398وما بعدها.
(132) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله من شيوخ المعتزلة أخذ عن عثمان الطويل صاحب واصل بن عطاء وبرع فى الجدل والمناظرة، وتوفى سنة 235هـ، ينظر طبقات المعتزلة ص 44وأمالي المرتضى ج 1 ص 178وما بعدها.
(133) هو أبو سهل بشر بن المعتمر الهلالى رئيس معتزلة بغداد واليه تنسب فرقة البشرية وقال أبو القاسم البلخى: انه من أهل بغداد وقيل من أهل الكوفة، وذكر الجاحظ أنه كان أبرص توفى سنة 210هـ ينظر لسان الميزان ج 2ص 33وأمالى المرتضى ج 1ص 186.
(134) هو أبو على محمد بن المستنير المشهور بقطرب من أهل البصرة عالم باللغة والأدب وكان ثقة فيما يمليه توفى سنة 206هـ
(135) هو قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد(1/109)
كما أنها درست فى تفاسيرهم المطولة التى شملت كل آيات الكتاب.
فكان وجه التأويل فيها واضحا عند عامة علمائهم.
وقد قرأت كثيرا من هذه الجهود حول هذه الآيات ولحظت أن الاتجاه العقلى الواعى فى بحثها يطغى على الاتجاه البلاغى الذى يعنى بلمس مواطن الجمال والتأثير، ولحظت أن موقفهم من هذه الآيات موقف واحد لا يكاد يختلف اختلافا يزيد عما يوجبه مزاج الباحث وطريقة تأتيه، أما وجه الصرف والتأويل والاستشهاد لذلك باللغة والأدب فكلهم فى هذا سواء، وأرى أن هذا الاتجاه العقلى الواعى جدير بأن يبحث ولا يكتفى فى وصفه بالقول بأن المعتزلة أصحاب منهج عقلى دقيق فى فهم اللغة، ونظن أنه قد آن لنا أن نحدد هذا المنهج وأن نصفه وصفا علميا مفصلا.
واذا استثنينا هذه الآيات وجدنا اتفاقا بين الفرق الاسلامية فى تفسير القرآن الكريم ووجدنا بعضهم يأخذ عن بعض أو حين ننعم النظر فى التاريخ العلمى لهذه الفرق نشعر أننا أمام جماعة واحدة يؤثر بعضها فى بعض، فالاتجاهات تتمايز ولا تتباين وحسبنا أن نذكر أن أبا الحسن الأشعرى رأس فرقة الأشاعرة كان تلميذا لأبى على الجبائى الذى كان رئيس المعتزلة فى زمانه، وقد قالوا: ان تفسير الأشعرى الذى كتبه للرد على تفسير شيخه أبى على بعد خروجه عليه قد نهج نهجه على طريقة المعتزلة الذين تربى فى أحضانهم، ومن الواضح أن الأشعرى كان شديد العبارة على أبى على فقد ذكر أنه أضل الناس وفسر القرآن على خلاف ما أنزل الله عز وجل وعلى خلاف اللسان الذى نزل به ولم
__________
ابن عبد الجبار الهمدانى ولا يطلق المعتزلة لقب قاضى القضاة الا عليه وكان رئيس المعتزلة ومن تلاميذه الحاكم الجشمى وقد طال عمره وبعد حينه وكثرت تصانيفه، توفى سنة 415هـ ينظر طبقات الشافعية ج 3 ص 114، 219وتاريخ بغداد ج 11ص 118ولسان الميزان ج 3ص 386(1/110)
يعتمد فى تفسيره على روايات مستوثقة عن الأئمة وانما اعتمد فيه على وسوسة شيطانه (136).
وقال محيى الدين بن العربى: ان القاضى عبد الجبار قد أخذ تفسيره الكبير من تفسير الأشعرى الذى قرأه الشيخ الأكبر فى المدرسة النظامية وذكر أن الصاحب به عباد الذى كان شديد التعصب للاعتزال والتشيع قد أحرق هذا التفسير الذى لم يكن بين أيدى الناس منه الا نسخة واحدة فذهب بذلك تفسير الأشعرى وبقى تفسير القاضى الذى كان يقر به الصاحب ويشهد له بأنه أفضل أهل الأرض. تأمل!!
ولا أجد غرابة فى القول بأخذ تفاسير المعتزلة من الأشاعرة أو عكسه لأننا حددنا آيات الخلاف التى تدرسها كل فرقة دراسة تتميز عن دراسة الأخرى وتتفق مع ما تعتقده أصول الدين.
واذا كانت هذه التفاسير التى قيل عنها ما قدمناه قد ابتلعتها الأيام ولم تبق لنا منها ما يؤيد أو يرفض ما قيل عنها فان بين أيدينا شواهد ترجح ما رويناه، فتفسير القاضى البيضاوى وهو سنى متصوف مختصر من تفسير الزمخشرى وهو معتزلى متشدد على من يخالفه ويجاهر بكراهيته للتصوف ورجاله. وقد ذكر الامام الشافعى أن الناس فى التفسير عيال على مقاتل بن سليمان البلخى وهو رأس من رءوس المشبهة وكان أبو حنيفة يلعنه.
فاذا قرأنا قول ابن تيمية فى مقدمة التفسير ان المعتزلة قد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم مثل تفسير ابن كيسان الأصم ومثل كتاب أبى على الجبائى والتفسير الكبير للقاضى عبد الجبار وغيرهم فاننا نفهم من هذا أن تفاسيرهم لا تختلف عن تفسير غيرهم الا فيما أشرنا اليه، وحين أصل تفسير الكشاف بهذا التراث فاننى أعنى وصله بطريقة القوم فى تأويل الآيات تأويلا عقليا يسخر اللغة والبيان حتى يصرف الآية الى ما يوافق معتقده وهذا شىء والبحث البلاغى شىء آخر. ومصدر الكشاف فى البحث هو الامام الأشعرى عبد القاهر الجرجانى ولم أتردد فى تقرير
__________
(136) ينظر كذب المفترى ص 134وما بعدها.(1/111)
هذه الحقيقة فى السطور الأولى من مقدمة هذا البحث وسوف أزيد الصلة بينهما وضوحا فى الفصول الآتية ان شاء الله، وكان الزمخشرى بصيرا فى تثقيف نفسه ولم ينغلق على فكر معين بل كان يفتح قلبه وعقله لكل عمل جاد ولم تكن العصبية المذهبية التى كان يشتط فيها أحيانا حائلا بينه وبين تقدير جهود العلماء، فقد كان بين يديه وهو يكتب كتاب الكشاف كتاب التهذيب فى التفسير (137) للحاكم أبى سعد الحسن بن كرامة الجشمى المتوفى سنة 477هـ وهو امام عدلى كان رأس المعتزلة فى القرن الخامس وكان تلميذا برا للقاضى عبد الجبار وكان يظن أن الزمخشرى يأخذ عنه كثيرا فقد عاش فى حياته عشر سنوات، ولكن الزمخشرى لم يجد فى هذا التفسير حاجة حسه الأدبى فتركه وانصرف الى عبد القاهر الأشعرى الذى كان معاصرا للحاكم أبى سعيد فأخذ عنه، ولا أنفى أن يكون الزمخشرى قد أفاد من تفسير الحاكم فائدة محدودة وخاصة وجوه القراءات التى ذكرها، وبعض البحوث اللغوية والنحوية والروايات المأثورة، وقد اهتم الحاكم ببحوث محددة أقام عليها تفسيره فأفرد فى كل آية بحثا للقراءات يذكر فيه ما ورد فى الآية منها فى ايجاز مع شرح مقتضب لبعض الوجوه ثم يذكر بحثا فى اللغة يشرح فيه الألفاظ الغريبة ويشير الى المعنى العام الذى تدور حوله المادة أحيانا وقد يذكر بعض المباحث الصرفية المتعلقة بالكلمة. ثم ينتقل الى الاعراب فيذكر الوجوه التى يمكن أن ترد فى الآية، ثم يذكر المعنى ويكثر فيه من الروايات المأثورة فيذكر السدى والحسن وقتادة وابن يزيد وأبى على وابن العباس والضحاك ومجاهد وغيرهم من متقدمى المفسرين، واذا كان فى الآية ما يتصل بمعتقد اعتزالى جد كغيره فى صرف اللفظ عن ظاهره وكل هذه المعارف مشهورة ومتداولة فى كتب التفسير وتكاد تكون قدرا مشتركا بينها.
__________
(137) الكتاب مخطوط بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء وصور بدار الكتب تحت رقم (153، 154، 155ميكروفيلم) وله تصوير كبير برقم (27618ب) والموجود منه الجزء السادس من نسخة عددها ثمانية عشر جزءا يبدأ من قوله تعالى: {«وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ تَعََالَوْا إِلى ََ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ»} (المائدة: 104) الى قوله تعالى: {«مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ»} (الأعراف: 12).(1/112)
ومن أهم آثار المعتزلة الباقية فى الدراسات القرآنية كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضى عبد الجبار وقسم كبير من هذا الكتاب رد على اعتراضات الطاعنين وعلى ما يمكن أن يتعلق به أصحاب الشبه فى الكتاب العزيز وكأن هذا الجزء من الكتاب موجه الى غير المسلمين، والقسم الآخر من مادته العلمية دراسة اعتزالية للآيات التى يتعلق بها معارضو هذا المعتقد الاعتزالى. ويظهر تأثر الزمخشرى بهذا الكتاب فى بعض نصوصه ومنها ما يقوله القاضى فى تفسير قوله تعالى: {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ»} (138) يقول: «مسألة: قالوا فقد قال تعالى «ختم» وهذا يدل على أنه منعهم من الايمان ومذهبكم بخلافه وكيف تأويل الآية؟
وجوابنا: أن للعلماء فى ذلك جوابين أحدهما أنه تعالى شبه حالهم بحال الممنوع الذى على بصره غشاوة من حيث أزاح كل عللهم فلم يقبلوا كما قد تعين للواحد الحق فتوضحه فاذا لم يقبل صح أن تقول: انه حمار قد طبع الله على قلبه، وربما تقول: انه ميت، وقد قال تعالى للرسول:
{«إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ»} (139) وكانوا أحياء فلما لم يقبلوا شبههم بالموتى وهو كقول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادى
ويبين ذلك أنه تعالى ذمهم ولو كان هو المانع لهم لما ذمهم وأنه ذكر من جملة ذلك الغشاوة على سمعهم وبصرهم وذلك لو كان ثابتا لم يؤثر فى كونهم عقلاء مكلفين، والجواب الثانى أن الختم علامة يفعلها تعالى فى قلبهم تعرف الملائكة كفرهم وأنهم لا يؤمنون فتجتمع على ذمهم ويكون ذلك لطفا لهم ولطفا لمن يعرف ذلك من الكفار فيكون أقرب الى أن يقلع عن الكفر (140).
وقد ذكر الزمخشرى فى هذه الآية وجوها كثيرة يقرب بعضها من هذا الكلام (141).
__________
(138) البقرة: 7.
(139) النمل: 80.
(140) تنزيه القرآن عن المطاعن ص 9، 10.
(141) ينظر الكشاف ج 1ص 37وما بعدها.(1/113)
وللقاضى كتاب آخر أشرنا اليه وهو كتاب متشابه القرآن وقد طبع حديثا وهو دراسة كلامية عميقة وشاملة للآيات المتشابهة، والمتشابه هنا هو كل ما يوهم ظاهره خلاف معتقد القوم، وهذا الكتاب من المصادر المهمة التى يستعين بها الباحث على دراسة وتوضيح المنهج الاعتزالى فى دراسة النصوص وأحسب أن تداول هذا الكتاب يمكن أن يزحزح كتاب الكشاف عن مكان الصدارة فقد ظل زمنا طويلا يمثل أقرب مرجع لمعرفة مواقف المعتزلة من النصوص التى تخالف وجهتهم وان ظل كتاب الكشاف يحتفظ بهذه الدراسة البلاغية العذبة لأسلوب القرآن والتى لا نظن أن كتابا من كتب المعتزلة يؤدى فيها وظيفه الكشاف، والمهم أن القاضى عبد الجبار فى هذا الكتاب يدرس القرآن دراسة استدلالية يحاول أن يستنبط أصلا فكريا من أكثر الآيات التى يتناولها ويبدأ حديثه فى كثير من الآيات بكلمة دلالة، ولهذا كان بحثه فى هذا الكتاب عملا جدليا شاقا يصور فلسفة علم الكلام فى أدق وأعمق صورها.
ومن آثار المعتزلة التى تنتمى الى مدرسة القاضى عبد الجبار كتاب غرر الفرائد ودرر القلائد للشريف المرتضى على بن الحسين الموسوى العلوى المتوفى سنة 436هـ وكان أديبا عالما يتذوق العلم والأدب.
وقد أفاد منه الزمخشرى كثيرا، وقد تكون الروح الأدبية التى تطبع دراسة المرتضى هى التى أغرت صاحبنا به ومن مظاهر افادته من هذه الدراسة ما تجده فى قول الشريف فى تأويل قوله تعالى: {«جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوََاهِهِمْ»} (142) يقول الشريف:
الجواب الأول: أن يكون اخبارا عن القوم بأنهم ردوا أيديهم فى أفواههم عاضين عليها غيظا وحنقا على الأنبياء عليهم السلام كما يفعل المتوعد لغيره المبالغ فى معاندته ومكايدته، وهذه عادة معروفة فى المغيظ المحنق.
ثانيها: أنهم لما سمعوا وعظ الرسل ودعاءهم وانذارهم أشاروا
__________
(142) إبراهيم: 9.(1/114)
بأيديهم الى أفواه الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم.
ثالثها: أنهم اذا سمعوا وعظهم وانذارهم وضعوا أيدى أنفسهم على أفواههم مشيرين اليهم بذلك الى الكف عن الكلام والامساك عنه كما يفعل من يريد منا أن يسكت غيره ويمنعه عن الكلام من وضع إصبعه على فم نفسه.
رابعها: أن يكون المعنى: فردوا القول بأيدى أنفسهم الى أفواه الرسل، أى أنهم كذبوهم ولم يصغوا الى أقوالهم.
وخامسها: أن المراد بالأيدى النعم والتقدير: فردوا بأفواههم نعم الرسل، أى ردوا وعظهم وانذارهم (143).
وقد ذكر الزمخشرى وجوها فى هذه الآية منها بعض هذه الوجوه التى ذكرها المرتضى، ومن أهم ما أفاده الزمخشرى من الشريف المرتضى بيانه تأكيد نفى الموصوف بنفى الصفة، وسوف نعرض له فى دراستنا لبلاغة الكشاف، وأقول هنا: ان الشريف قد ذكر هذا الوجه ووضحه توضيحا لم أعرفه لأحد قبله.
يقول: ان سأل سائل: ما الوجه فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ»} (144)، وفى موضع آخر:
{«وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ»} (145)، وظاهر هذا القول يقتضى أن قتلهم قد يكون بحق وقوله تعالى: {«وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ لََا بُرْهََانَ لَهُ بِهِ»} (146)، وقوله تعالى: {«الَّذِي رَفَعَ السَّمََاوََاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا»} (147)
وقوله تعالى: {«وَلََا تَكُونُوا أَوَّلَ كََافِرٍ بِهِ، وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا»} (148) وقوله: {«لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً»} (149)، والسؤال عن هذه الآيات كلها من وجه واحد وهو الذى تقدم.
__________
(143) أمالى المرتضى ج 2ص 35ط. السعادة.
(144) آل عمران: 21.
(145) آل عمران: 181.
(146) المؤمنون: 117
(147) الرعد: 2
(148) البقرة: 41.
(149) البقرة: 273.(1/115)
الجواب: اعلم أن للعرب فيما جرى هذا المجرى من الكلام عادة معروفة ومذهبا مشهورا عند من تصفح كلامهم وفهم عنهم، ومرادهم بذلك المبالغة فى النفى وتأكيده فمن ذلك قولهم: فلان لا يرجى خيره، ليسوا يريدون أن فيه خيرا لا يرجى وانما غرضهم أنه لا خير عنده على وجه من الوجوه. ومثله: قلما رأيت مثل هذا الرجل، وانما يريدون أن مثله لم ير قليلا ولا كثيرا.
وقال امرؤ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود الدّيافىّ جرجر
يصف طريقا واردا بقوله: لا يهتدى بمناره، أنه لا منار له فيهتدى به، والعود: المسن من الابل، والدّيافى: منسوب الى ديف وهى قرية بالشام معروفة، وسافه: شمه وعرفه، والجرجرة: مثل الهدير، وانما أراد أن العود اذا شمه عرفه فاستبعده وذكر ما يلحقه فيه من المشقة فجرجر لذلك.
وقال ابن أحمد:
لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضّبّ بها ينجحر
وقال آخر: «لا يغمز الساق من أين ولا وصب» أراد ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها من أجلهما. وقال سويد ابن أبى كاهل:
من أناس ليس من أخلاقهم ... عاجل الفحش ولا سوء الأدب
لم يرد أن فى أخلاقهم فحشا عاجلا ولا آجلا ولا جزعا غير سيّئ، وانما أراد نفى الفحش والجزع عن أخلاقهم. ومثل ذلك قولهم: فلان غير سريع الى الخنا، يريدون أنه لا يقرب الخنا لا نفى الاسراع حسب
وعلى هذا تأويل الآيات التى وقع السؤال عنها (150).
وحين نقرأ ما ذكره الشريف المرتضى فى قوله تعالى: {«وَقََالَتِ}
__________
(150) أمالى المرتضى ج 1ص 164، 165.(1/116)
{الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ»} (151) (ج 3ص 90) وفى قوله تعالى: {«تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ»} (152)
(ج 2ص 6) وفى قوله تعالى: {«فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مََا غَشِيَهُمْ»} (153)
(ج 2ص 24) وفى قوله تعالى: {«قََالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ»} (154)
(ج 4ص 124)، وفى قوله تعالى: {«فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ»} (155) (ج 1ص 19، 20) وفى قوله تعالى: {«لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ»} (156) (ج 2ص 105) وفى قوله تعالى:
{«أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قََالُوا بَلى ََ»} (157) (ج 1ص 23). نجد شبها وثيقا بين تأويلاته لهذه الآيات وما ذكره الزمخشرى فيها. وليس من الضرورى أن يكون وجه الشبه مصورا فى نصوص تتشابه فى الكتابين بل ان التأثر كما أعتقد يظهر فى الطريقة والروح أكثر مما يظهر فى الوقوف عند الجزئيات، فاذا كان الشريف المرتضى يقول: ان تقدير المحذوف فى قوله تعالى: {«أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا»} (158) أى أمرناهم بالطاعة ففسقوا، ويقول الزمخشرى: ان تقدير المحذوف: أمرناهم بالفسق ففسقوا، فليس هذا يعنى أن الزمخشرى لم يفد من المرتضى لأنه خالفه فى تقدير مفعول فعل الأمر.
أما الشريف الرضى فانه له كتابين من أهم ما يعتز به التراث الأدبى، الأول كتاب تلخيص البيان فى مجازات القرآن وقد طبع حديثا بتحقيق وتقديم للأستاذ عبد الغنى حسن، والثانى كتاب المجازات النبوية وقد طبع قبل الكتاب الأول بتحقيق الأستاذ محمود مصطفى.
وقد أثار فيهما كثيرا من المباحث البلاغية المتصلة بالمجاز والتوسع وكانت تحليلاته الأدبية وتذوقه البلاغى أدق من دراسته العلمية لأصول المجاز.
__________
(151) المائدة: 64.
(152) المائدة: 116.
(153) طه: 78
(154) الأعراف: 143
(155) طه: 20.
(156) يوسف: 92.
(157) الأعراف: 172.
(158) الاسراء: 16.(1/117)
والذى يعنينى أن أشير اليه هنا هو كتاب حقائق التأويل فى متشابه التنزيل لأنه يتميز بمحاولات تجتهد فى أن تستنبط كثيرا من المعانى، وأن تشير الى كثير من الاحتمالات التى يمكن للكلام أداؤها، وهو بهذا يكون أقرب الى تفسير المعتزلة من كتابيه السابقين.
ولننظر الى ما يقوله فى قوله تعالى: {«وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ، وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»} (159)، وكيف كان التعبير بالرجوع هنا موحيا بأن الأمر كأنه انفلت من يده سبحانه ثم رجع اليه.
يقول: «ما معنى رجوع الأمور اليه وهى غير خارجة عن سلطانه وقدرته وتقلب العباد جميعا فى قبضته وملكته، وهذا يدل على أن الأمور تخرج عن تدبيره حتى يصح أن توصف بالرجوع اليه بعد الخروج عنه؟
الجواب: ذكرنا لمن سأل عن معنى قوله: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ»} (160) أقوالا كلها تخرجه تعالى عن أن يكون مكلفا فوق الطاقة، وآمرا بغير الاستطاعة أقوالا تكشف عن المراد بهذا القول عند اعتراض ما يقتضيه، فمنها قولهم: ان معنى ذلك:
اتقوا الله فى القيام بأداء ما فرض عليكم واستعملت به أبدانكم وجوارحكم» ثم ذكر أقوالا كثيرة فى توضيح معنى {«اتَّقُوا اللََّهَ»} وجعل ذلك مقدمة لتفسير رجوع الأمور اليه سبحانه حيث بنى عليها قوله فى هذه الآية، ومع هذه الأقوال نورد هاهنا ما يكون أنقع للغلة وأكشف للشبهة، فنقول: قد قال العلماء فى ذلك أقوالا منها أن الله ملك الناس فى دار التكليف أمورا تملكوها ووصفوا بالملك لها، وسمى تعالى بعضهم ملوكا على هذا المعنى فقال تعالى: {«اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيََاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً»} (161). قال بعض المفسرين فى ذلك: أنه جعلكم تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب ولا يحول بينكم وبينه حائل،
__________
(159) آل عمران: 109
(160) آل عمران: 102
(161) المائدة: 20(1/118)
وقال بعضهم: معنى ذلك أنه جعل لكم من الأحوال والأموال ما لا تحتاجون معه الى سؤال الناس، وقال بعضهم: جعلكم ذوى منازل لا يدخل عليكم فيها الا باذنه، والمعنى راجع الى ملك الأمر فاذا ثبت ما قلنا من صفة كثير من المخلوقين بتملك الأمور فى دار التكليف جاز أن يقال عند تقوض هذه الدار وانتقال هذه الأحوال: أن الأمور كلها رجعت الى الله تعالى فى الآخرة، بمعنى أنها صارت الى حيث لا يملكها مالك غيره ولا يحكم فيها حاكم سواه كما كان تعالى قبل أن يخلق خليقته ويبرئ بريئته ولا مالك للأمور غيره فرجعت الحال بعد انقضاء التكليف الى حيث كانت قبل ابتداء التكليف، وصار الأمر فى الانتهاء مثله فى الابتداء (162).
هذه هى طريقة الزمخشرى فى تفسيره وان لم تكن مادته، كما أنها طريقه المرتضى التى أشرنا اليها، وبهذا نكون قد وضحنا المصادر الحقيقية لكتاب الكشاف فى مادته وطريقته، وسوف نشير الى مصادر البحث البلاغى ونزيدها ايضاحا فى دراستنا لهذا الموضوع.
__________
(162) حقائق التأويل فى متشابه التنزيل ج 5ص 207وما بعدها ط. النجف.(1/119)
الباب الأول البحث البلاغى فى الكشّاف
البحث البلاغى قبل الكشاف.
النظم فى الكشاف.
النظر فى المفردات.
البحث فى نظم الجملة.
البحث فى الجمل.
البحث فى صور البيان.
البحث فى ألوان البديع.(1/121)
الفصل الأوّل البحث البلاغى قبل الكشاف
مفهوم النظم:
أريد أن أعرض فى هذا الفصل أصول المسائل البلاغية التى كان البحث البلاغى فى الكشاف امتدادا لها. ولا أستطيع هنا أن أتتبع نشأتها وتطورها تتبعا دقيقا لأن كل فن من هذه الفنون يحتاج الى درس مفرد، ينظر فيه الى حاله فى نشأته وتطوره، وحسبى أن أحدد صورتها فى مرحلتها الأخيرة التى كانت بداية بحث الكشاف، وذلك فى اجمال قلما أجنح فيه الى التفصيل.
ومن الواضح أن كثيرا من الدارسين قد كتبوا فى تاريخ البلاغة وتطور البيان العربى، وقد تعود كثير من الكاتبين فى فنون البلاغة وعلاج مسائلها أن يجعلوا فى صدر كتبهم صحفا يذكرون فيها شيئا فى نشأة البلاغة، على أننا قلما نجد كتابا اهتم بتاريخ فنون البلاغة كأن يتناول نشأة كل فن، ويتتبع مراحل نموه وازدهاره تتبعا واعيا ودقيقا، وهذا عمل جليل قد يساعدنا على تبين كثير من قضايا هذا العلم، وتخليصه من كثير من الشوائب، وقد نهض الأستاذ الخولى بكتابة بحث قيم أرخ فيه لأربعة فنون من فنون البلاغة اختار اثنين منها من مباحث المعانى، هما التقديم والفصل والوصل، وآخرين من مباحث البيان هما التشبيه والاستعارة، وقد حاول أن يفسر كل مرحلة من مراحل التطور فى هذه الفنون تفسيرا مبسوطا مستعينا فى ذلك بمعرفة الرجال وألوان ثقافتهم الغالبة والتيارات الفكرية التى سيطرت على كل مرحلة من هذه المراحل (1).
__________
(1) ينظر صور من تطور البيان العربى للأستاذ كامل الخولى.(1/123)
والذين كتبوا فى تاريخ البلاغة قد خلطوا بين أنواع ثلاثة من التاريخ كان ينبغى الفصل بينها، هى تاريخ الفنون، وتاريخ المؤلفات، وتاريخ الرجال، وقد أشار الى منهج الكتابة التاريخية فى البلاغة المرحوم الأستاذ أمين الخولى، وبين ضرورة الفصل بين هذه الطرق.
ثم ان أكثر هذه الكتب التى عنيت بتاريخ البلاغة لم تعد أن تكون فهارس مبسوطة لما أثير فى كتب البلاغيين من المسائل والقضايا.
وأول هذه الأصول التى نشير اليها مسألة النظم التى عقدنا لها فصلا فى بحث بلاغة الكشاف.
وفكرة النظم معروفة فى محيط المشتغلين بمسألة الاعجاز اذ أنها وليدة الدراسة فى هذا الباب، ولم أعرف كتابا من كتب البلاغة التى تناولت شئون الأدب والشعر قد ذكرت هذه الفكرة، أو أضافت اليها شيئا، وان كانوا قد أشاروا الى مباحث تتفرع عنها مما سوف نشير اليه. ومثل النظم فى هذا قليل من البحوث البلاغية التى كانت وليدة النظر فى كتاب الله مثل التكرار والفواصل والاستدراج وغير ذلك مما نبه البلاغيون الى أنهم استنبطوه من كتاب الله. نعم قد كان الشعر من شواهد هذه الأصول، وكان الشعر أيضا مجالا لتطبيقها، وكانت مقياسا من مقاييس جودته، ولكن المهم أن الذى دفع الى الخوض فيها لم يكن هو الشعر ولم يكن هو النثر وانما كان القرآن.
وقد عرف الجرجانى النظم بقوله: «واعلم أن ليس النظم الا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التى نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التى رسمت لك فلا تخل بشيء منها، وذلك انا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم فى نظمه غير أن ينظر فى وجوه كل باب وفروقه، فينظر فى الخبر الى الوجوه التى تراها فى قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق، وزيد هو منطلق، وفى الشرط والجزاء الى الوجوه التى نراها فى قولك: ان تخرج أخرج، وان خرجت خرجت، وان تخرج فأنا خارج، وأنا خارج ان خرجت،
وأنا ان خرجت خارج فتعرف لكل من ذلك موضعه، وتجىء به حيث ينبغى له، وتنظر فى الحروف التى تشترك فى معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية فى ذلك المعنى فيضع كلا من ذلك فى خاص معناه» (2). وهذا الأصل هو الذى دارت حوله دراسة الجرجانى فى دلائل الاعجاز محاولا اثباته وبيانه، ورجوع المزية اليه، وكانت دراسة الفصل والوصل، والتقديم والتأخير، والحذف والذكر، فروعا تفرعت من هذا الأصل، وكذلك كانت دراسة الاستعارة، والكناية، وضروب المجاز فقد حاول أن يربطها بالنظم، وبين أنها عنه تحدث وبه تكون.(1/124)
وقد عرف الجرجانى النظم بقوله: «واعلم أن ليس النظم الا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التى نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التى رسمت لك فلا تخل بشيء منها، وذلك انا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم فى نظمه غير أن ينظر فى وجوه كل باب وفروقه، فينظر فى الخبر الى الوجوه التى تراها فى قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق، وزيد هو منطلق، وفى الشرط والجزاء الى الوجوه التى نراها فى قولك: ان تخرج أخرج، وان خرجت خرجت، وان تخرج فأنا خارج، وأنا خارج ان خرجت،
وأنا ان خرجت خارج فتعرف لكل من ذلك موضعه، وتجىء به حيث ينبغى له، وتنظر فى الحروف التى تشترك فى معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية فى ذلك المعنى فيضع كلا من ذلك فى خاص معناه» (2). وهذا الأصل هو الذى دارت حوله دراسة الجرجانى فى دلائل الاعجاز محاولا اثباته وبيانه، ورجوع المزية اليه، وكانت دراسة الفصل والوصل، والتقديم والتأخير، والحذف والذكر، فروعا تفرعت من هذا الأصل، وكذلك كانت دراسة الاستعارة، والكناية، وضروب المجاز فقد حاول أن يربطها بالنظم، وبين أنها عنه تحدث وبه تكون.
وفى ضوء هذا المقياس الجديد رفض ما قاله فريق من رجوع المزية الى اللفظ، وما قاله آخرون من رجوع المزية الى المعنى، وبين أنها لا ترجع الا الى النظم بهذا المفهوم الذى حدده.
وحين ننظر فى معنى النظم الذى ذكره القاضى أبو بكر محمد ابن الطيب عن أصحابه الأشاعرة فى جملة وجوه الاعجاز يتضح لنا أنه نظم غير هذا النظم المذكور عند عبد القاهر، وأنه يعنى به طريقة الكلام وأسلوبه، فهو مقابل للشعر، والسجع، والكلام المرسل، وكان القرآن كما يقولون معجزا بنظمه أى بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم، فهو خارج عن العادة، ومعجز بهذه الخصوصية التى ترجع الى جملة القرآن وتحصل فى جميعه (3).
وقد تكلم للخطابى فى النظم وذكر أنه «انما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم.
واذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح، ولا أجزل، ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما حسن تأليفا، وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه (4).
__________
(2) دلائل الاعجاز ص 55.
(3) ينظر اعجاز القرآن للباقلانى ص 35.
(4) البيان فى اعجاز القرآن للخطابى ضمن ثلاث رسائل فى اعجاز القرآن ص 23.(1/125)
وقال فى بيان أسباب عجز البشر عن الاتيان بمثله: «ولا تكتمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التى بها يكون ائتلافها (أى الألفاظ الحوامل) وارتباط بعضها ببعض».
ويقول فى بيان المراد بالنظم وصعوبة بناء الكلام على وجه فيه مستقيم:
«وأما رسوم النظم فالحاجة الى الثقافة والحذق فيها أكثر، لأنها لجام الألفاظ وزمام المعانى، وبها تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضه ببعض، فتقوم له صورة فى النفس يتشكل بها البيان» (5).
وحين نتأمل هذا الكلام نجده قريبا من النظم الذى أشار اليه عبد القاهر وجعله أساس بحثه فى الاعجاز البلاغى، لأنه يعنى الروابط بين الكلمات والجمل، وليس هذا الا توخى معانى النحو كما يقول عبد القاهر.
وقد نقل القاضى أبو الحسن عبد الجبار كلاما لشيخه أبى هاشم فى النظم بالمعنى الذى أراده أبو بكر محمد بن الطيب، وأبو هاشم يرفض أن يكون النظم بهذا المعنى وجها من وجوه الاعجاز، لأن الاعجاز كما يراه يرجع الى جزالة اللفظ وحسن المعنى الذى تتحقق بهما الفصاحة، وليس فصاحة الكلام كما يقول بأن يكون له نظم مخصوص، لأن الخطيب عندهم قد يكون أفصح من الشاعر والنظم مختلف اذا أريد بالنظم اختلاف الطريقة، وقد يكون النظم واحدا وتقع المزية فى الفصاحة (6).
ثم أشار أبو هاشم الى حجة قوية يبطل بها أن يكون النظم بمعنى الطريقة وجها من وجوه الاعجاز، فذكر أن القرآن بعد ما جاء بهذه الطريقة وشرعها لفصحائهم كيف يتحداهم بها ويطلب منهم الاتيان بسورة من مثله؟ ومثله أى طريقته فى النظم بهذا المفهوم، قد صارت
__________
(5) المرجع السابق.
(6) المغنى ج 16ص 197(1/126)
واضحة أمامهم. يقول أبو هاشم: «وانما يختص النظم بأن يقع لبعض الفصحاء يسبق اليه ثم يساويه غيره من الفصحاء فيساويه فى ذلك النظم» فبعد توضيح الطريقة لم يعد الاتيان بمثلها معجزا.
ثم بعد ذلك يذكر القاضى أبو الحسن الوجه الذى له يقع التفاضل فى فصاحة الكلام، ويقول فى هذا كلاما نراه قريبا جدا مما ذكره عبد القاهر، ونعتبر كلامه مرحلة ثانية فى تطور النظم بمفهومه عند الجرجانى بعد المرحلة التى ذكرناها عند الخطابى، وان كان عبد الجبار متكلما معتزليا والخطابى فقيها محدثا.
يقول عبد الجبار: «اعلم أن الفصاحة لا تظهر فى أفراد الكلام، وانما تظهر فى الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز فى هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التى تتناول الضم، وقد تكون بالاعراب الذى له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع لأنه اما أن تفيد فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتبار فى كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله فى الكلمات اذا انضم بعضها الى بعض»، ثم يقول: «ان المعانى وان كان لا بد منها فلا تظهر فيها المزية وان كانت تظهر فى الكلام لأجلها، ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق، وقد يكون أحد المعنيين أحسن وأرفع والمعبر عنه فى الفصاحة أدون فهو مما لا بد من اعتباره وان كانت المزية تظهر بغيره، على أنا نعلم أن المعانى لا يقع فيها تزايد، فاذن يجب أن يكون الذى يعتبر التزايد عند الألفاظ التى يعبر بها عنها، فاذا صحت هذه الجملة فالذى به تظهر المزية ليس الا الابدال الذى به تختص الكلمات، أو التقدم والتأخر الذى تختص الموقع. أو الحركات التى تختص الاعراب، فبذلك تقع المباينة ولا يمتنع فى اللفظة الواحدة أن تكون اذا استعملت فى معنى تكون أفصح منها اذا استعملت فى غيره، وكذلك فيما اذا تغيرت
حركاتها فأما حسن النغم وعذوبة القول فمما يزيد الكلام حسنا على السمع لا أنه يوجد فضلا فى الفصاحة» (7).(1/127)
يقول عبد الجبار: «اعلم أن الفصاحة لا تظهر فى أفراد الكلام، وانما تظهر فى الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز فى هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التى تتناول الضم، وقد تكون بالاعراب الذى له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع لأنه اما أن تفيد فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتبار فى كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله فى الكلمات اذا انضم بعضها الى بعض»، ثم يقول: «ان المعانى وان كان لا بد منها فلا تظهر فيها المزية وان كانت تظهر فى الكلام لأجلها، ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق، وقد يكون أحد المعنيين أحسن وأرفع والمعبر عنه فى الفصاحة أدون فهو مما لا بد من اعتباره وان كانت المزية تظهر بغيره، على أنا نعلم أن المعانى لا يقع فيها تزايد، فاذن يجب أن يكون الذى يعتبر التزايد عند الألفاظ التى يعبر بها عنها، فاذا صحت هذه الجملة فالذى به تظهر المزية ليس الا الابدال الذى به تختص الكلمات، أو التقدم والتأخر الذى تختص الموقع. أو الحركات التى تختص الاعراب، فبذلك تقع المباينة ولا يمتنع فى اللفظة الواحدة أن تكون اذا استعملت فى معنى تكون أفصح منها اذا استعملت فى غيره، وكذلك فيما اذا تغيرت
حركاتها فأما حسن النغم وعذوبة القول فمما يزيد الكلام حسنا على السمع لا أنه يوجد فضلا فى الفصاحة» (7).
وتتكرر فى دراسة عبد القاهر كلمة «الضم» الواردة هنا، كما تتكرر كذلك كلمة «المزية»، والنظر فى الكلمة من حيث اعرابها وموقعها وابدالها جزء هام فى دراسة عبد القاهر. وقول عبد الجبار: على أنا نعلم أن المعانى لا يقع فيها تزايد فاذن يجب أن يكون الذى يعتبر التزايد عند الألفاظ، من الكلام المشهور فى دلائل الاعجاز.
وقول عبد الجبار: ولا يمتنع فى الكلمة الواحدة أن تكون اذا استعملت فى معنى تكون أفصح منها اذا استعملت فى غيره، يقول مثله عبد القاهر: انك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك فى موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك فى موضع آخر (8).
وقوله: فأما حسن النغم وعذوبة القول الى آخره، مذهب مشهور لعبد القاهر الجرجانى وقد تنبه الأستاذ الدكتور شوقى ضيف الى هذه العلاقة الوثيقة بين الكلامين فقال معلقا على بعض مما نقله عن القاضى عبد الجبار: «والمهم هو أن عبد الجبار يودع بين أيدينا الآن مفاتيح النغم التى استمد عبد القاهر من توقيعه عليها كتابه دلائل الاعجاز».
وقد أشرت الى أن مفهوم النظم فى كلام أبى بكر محمد بن الطيب يختلف اختلافا كبيرا عن مفهومه عند عبد القاهر، ولست أدرى كيف فهم الأستاذ الفاضل عكس هذا حين قال: وحقا ان الباقلانى لم يستطع أن يبين عن شىء من هذا المعنى، ولكنه هو وأمثاله من الأشعرية انما كانوا يريدونه وعجزوا عن بيانه (9).
وبهذا يتضح لنا أن حديث النظم له جذور ممتدة شهدناها قبل عبد القاهر عند الخطابى وها نحن أولاء نراها عند القاضى عبد الجبار
__________
(7) المغنى ج 16ص 199، 200.
(8) دلائل الاعجاز ص 33
(9) البلاغة تطور وتاريخ ص 117.(1/128)
المعتزلى. على أننا نذكر ما هو فى أيدينا من الكتب التى عالجت نظم القرآن أو أشارت اليه، واذا كنا نعرف أن الجاحظ كتب كتابا فى نظم القرآن ونوه به، وأن أبا يزيد الواسطى كتب كتابا فى اعجاز القرآن بنظمه، فان ذلك يوحى الينا أن هناك جهودا أخرى كانت عاملا مهما فى تطور فكرة النظم فى محيط الدراسات القرآنية، فكونت روافد مختلفة أفاد منها عبد القاهر الجرجانى فى بسط الفكرة وتحليلها. وقد ذكر عبد القاهر اطباق العلماء على تعظيم شأن النظم فدل ذلك على أن القضية كانت ظاهرة فى التراث الذى كان بين يديه.
النظر فى المفردات:
والنظر فى ملاءمة الكلمة لموقعها ووضع كل نوع من الألفاظ موضعه نظر قديم يرجع الى ملاحظات الجاهليين فى تحليل الشعر وتقويمه، فالنابغة حين يخاطب حسان فى أبياته المشهورة:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن فى الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بنى العنقاء وابني مخرّق ... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
ويقول له: لقد قلت «الجفنات» فقللت العدد، ولو قلت «الجفان» لكان أكثر، وقلت «يلمعن فى الضحى»، ولو قلت» يبرقن بالدجى» لكان أبلغ فى المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا، وقلت «يقطرن من نجدة دما»، فدللت على قلة القتل. ولو قلت «يجرين» لكن أكثر لانصباب الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، انما يدرس ملاءمة المفردات، ووضع الكلمات موضعها، وينظر فى اختيارها وفى أحوالها فى الجمع والافراد، وهذا درس فى صميم مطابقة الكلمة لما يقتضيه مقامها الذى هو لب البلاغة.
ومثل ذلك قول طرفة بن العبد للمتلمس أو المسيب لما سمع منه وصف البعير بوصف الناقة: «استنوق الجمل»، ومنه ما قاله ابن هرمة الشاعر للرجل الذى أنشده بيته المشهور:(1/129)
بالله ربّك إن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة قائما بالباب
ما كذا قلت، أكنت أتصدق؟ قال الرجل: فماذا؟ قام ابن هرمة واقفا، ثم قال له: «ليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى».
وهذا القول دليل على أن معرفة مواقع الكلمات من أدق المباحث وأخفاها، وقد كثرت هذه الملاحظات القيمة فى الدراسة الأدبية.
ثم كان الخطابى الذى جعلها عمود البلاغة فى بيان اعجازه، وأشار الى أن فى الكلام ألفاظا متقاربة فى المعانى يحسب أكثر الناس أنها متساوية فى افادة بيان مراد الخطاب، كالعلم والمعرفة، والحمد والشكر، والقعود والجلوس الى آخره. وأن عمود البلاغة هو وضع كل نوع من الألفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذى اذا بدل مكانه غيره جاء منه اما تبدل المعنى الذى يكون به فساد الكلام واما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة، ثم أخذ الخطابى يناقش الطاعنين فى بلاغة القرآن، وكانت كثرة من مطاعنهم واردة على هذا الأساس، من ذلك استعمال الأكل مع الذئب فى قوله تعالى: {«فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ»} (10)، والأنسب كما يقولون: افترسه الذئب، ومن ذلك استعمال «فاعلين» مع الزكاة فى قوله تعالى: {«وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكََاةِ فََاعِلُونَ»} (11)، والأنسب أن يقول: مؤدون، الى آخر ما ذكروه وما ذكره، وقد بين الخطابى ملاءمة هذه الكلمات لمواقعها، وكان فى بيانه بصيرا متذوقا، وجهوده فى هذا الباب من أدق وأجل ما كتب فيه.
ثم جاء بعده القاضى أبو بكر محمد بن الطيب الذى أشار الى هذه المسألة المهمة فى وضع الألفاظ، وبين أن الأمر فيها صعب، وأن رجالها قليل «وكيف لا يكون كذلك وأنت تحسب أن وضع الصبح فى موضع الفجر يحسن فى كل كلام الا أن يكون شعرا أو سجعا، وليس كذلك فان احدى اللفظتين قد تنفر فى موضع وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى بل تتمكن فيه وتضرب بجرانها، وتراها فى مظانها، وتجدها
__________
(10) يوسف: 17
(11) المؤمنون: 4(1/130)
فيه غير منازعة الى أوطانها، وتجد الأخرى ولو وضعت موضعها فى محل نفار، ومرمى شراد، ونابية عن استقرار» (12).
ثم ان الامام عبد القاهر نظر الى خواص المفردات، فأشار الى ما يفيده تنكيرها، وتعريفها، وكونها فعلا، أو اسما، وله فى هذا دراسة قيمة كانت أساسا لكثير مما ذهب اليه الزمخشرى فى هذا الشأن، كما نظر الى الفروق فى معانى أدوات الشرط ك «ان»، و «اذا»، والى المعنى الأدبى للفاء الواقعة فى جواب الشرط المحذوف والتى يسميها النحاة فاء الفصيحة، وضرب لكل ذلك أمثلة وشواهد. وقد أفاد الزمخشرى من كل هذا، وأضاف اليه، كما سنبين ان شاء الله.
وكانت هناك دراسات قرآنية بعيدة عن مسألة الاعجاز والتأويل وتناولت الكلمة القرآنية، وبينت دلالات خصوصياتها فى التعبير.
فابن جنى فى كتابه المحتسب فى وجوه القراءات الشاذة ينظر فى قراءة التنكير فى قوله تعالى: «اهدنا صراطا مستقيما» ويبين دلالتها فيقول:
«ينبغى أن يكون أراد والله أعلم التذلل لله سبحانه، واظهار الطاعة له، أى قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له صراط مستقيم، ولسنا نريد المبالغة فى قول من قرأ {«الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ»}، أى الصراط الذى قد شاعت استقامته، وتعولت فى ذلك حاله وطريقته، فان قليل هذا منك لنا زاك عندنا، وكثير من نعمتك علينا ونحن له مطيعون، والى ما تأمر به وتنهى فيه صائرون، وزاد فى حسن التنكير هنا ما دخله من المعنى، وذلك أن تقديره: أدم هدايتك لنا فانك اذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا الى صراط مستقيم، فجرى مجرى قولك: لئن لقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتلقين فيه رجلا متناهيا فى الخير، ورسولا جامعا لسبل الفضل» (13).
* * * __________
(12) اعجاز القرآن ص 184.
(13) المحتسب ج 1ص 41(1/131)
البحث فى مسائل النظم:
وكان النظر فى صياغة الجملة ودلالات اختلاف الصوغ فيها موضع اهتمام البلاغيين والنحاة، وبذل النحاة فى ذلك جهودا خصبة، وكانت كتبهم تشتمل على كثير من المباحث البلاغية فى هذا الباب.
ويقول أستاذنا أحمد شعراوى: «واذا كان النحو هو انتحاء كلام العرب فى تصرفه من اعراب وغيره ليلحق من ليس من أهل العربية بأهلها فى الفصاحة كما يقول ابن جنى فلا غرابة أن نجد الاعراب فى كتبه الأولى ممزوجا بكثير من أسرار التراكيب، اذ مهمة النحو فى نظرهم لا تقف عند حدود الاعراب، بل هى أكبر من هذا، وأعظم.
يوضحها أبو سعيد السيرافى حيث يقول: معانى النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف فى مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخى الصواب فى ذلك وتجنب الخطأ» (14).
ثم يقول: وأنت حين تقرأ فى كتب النحاة الأولين تجدهم فى الغالب يحاولون أن يحددوا لكل تركيب حالا تختص به ولا يغنى غيره فيه غناه (15).
وكانت جهود النحاة فى هذا الباب أكثر وأعمق من جهودهم فى دراسة صور البيان وألوان البديع.
وقد مخض عبد القاهر الجرجانى كلام القوم وأخرج زبدته فى كتابه دلائل الاعجاز.
وسوف أعرض الآن لدراسة التقديم، والاستفهام، والأمر، والحذف؟
والفصل، والوصل، والالتفات، والاعتراض، وغير ذلك مما هو متصل بدراسة النظم، محاولا تلخيص جهد الامام عبد القاهر فى ضوء جهود من سبقه وذلك فيما عرض له من مسائل.
__________
(14) تاريخ البلاغة: للأستاذ أحمد شعراوى مخطوط ورقة 31.
(15) المرجع السابق ص 33(1/132)
1 - التقديم:
درس عبد القاهر التقديم فى صورة الاثبات، وفى صورة النفى، وفى صورة الاستفهام، وبين أنه يكون لفائدة فى كل حال. لأنه من الخطأ أن يقسم الأمر فى تقديم الشيء وتأخيره قسمين: فيجعل مفيدا فى بعض الكلام وغير مفيد فى بعض (16).
وكان عبد القاهر باحثا دقيق النظر، فقد كان أول من يعرض لنا صورا من التقديم مشيرا الى عدم جوازها لأنها تنطوى على تناقض فى دلالات الخصائص وان أجازها النحاة.
يقول فى هذا: «ومما يعلم به ضرورة، أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم، أنك تقول: أقلت شعرا قط؟ أرأيت اليوم انسانا؟، فيكون كلاما مستقيما، ولو قلت: أأنت قلت شعرا قط؟، أأنت رأيت انسانا؟
أخطأت. وذلك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو فى مثل هذا، لأن ذلك انما يتصور اذا كانت الاشارة الى فعل مخصوص نحو أن تقول: من قال هذا الشعر؟ ومن بنى هذه الدار؟ ومن أتاك اليوم؟
ومن أذن لك فى الذى فعلت؟ وما أشبه ذلك مما يمكن أن ينص فيه على معين. فأما قيل شعر على الجملة ورؤية انسان على الاطلاق فمحال ذلك فيه، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن عين فاعله» (17)
(انتهى كلام الشيخ) فأنت اذا قلت: أأنت رأيت انسانا؟ كنت تسأل عن فاعل فعل لا يصح تحديد فاعله لعمومه وهو رؤية انسان على الجملة، وكذلك اذا قلت: أأنت قلت شعرا قط؟ كنت تسأل عن فاعل فعل لا يصح تحديد فاعله لعمومه وهو قول شعر أى شعر، وهذا النوع من الأفعال العامة لا يسأل عن عين فاعله، ولو أردت أن تتبين هل قال المسئول شعرا أى شعر؟ فالعبارة عن ذلك أن تقول: أقلت شعرا؟، فتسأل عن الفعل، لأنك اذا سألت عن الفاعل فأنت لا تشك فى وقوع الفعل ولكنك تشك فى تعيين فاعله، وقول شعر على الجملة لا يمكن تعيين فاعله، هذا ما أفهمه من كلام عبد القاهر.
__________
(16) ينظر دلائل الاعجاز ص 76
(17) دلائل الاعجاز ص 77(1/133)
وقد ظن الأستاذ الدكتور شوقى ضيف أنه لا يجوز أن نقول: أأنت قلت شعرا قط؟ لأنه أى المتكلم جمع فى كلامه بين اثبات الفعل والشك فى حدوثه، اذ السؤال مسلط على الشخص لا على فعله فكان ينبغى ألا يضيف كلمة «قط» (18).
وكأن المتكلم لو قال: أأنت قلت شعرا؟ دون اضافة كلمة «قط» لصح الأسلوب. وليس هذا مراد عبد القاهر وانما مراده ما ذكرناه بدليل أنه جعل من الخطأ أن نقول: أأنت رأيت انسانا؟ وليس فيه كلمة «قط».
واقرأ قول عبد القاهر: فأما قيل شعر على الجملة، وما بعده يظهر لك مراده.
وهناك صور كثيرة رفضها عبد القاهر وبين ما تنطوى عليه من تناقض وقد عارضه فى بعضها العلامة سعد الدين التفتازانى وجوزها فى مقامات معينة، فقد منع عبد القاهر أن يقال: ما أنا قلت هذا ولا غيرى، لما قدمناه من التناقض فى معانى خصائص تركيب الجملة وبيان ذلك أنك حين قدمت المسند اليه مسبوقا بالنفى دل ذلك على نفى الفعل عنك خصوصا أى عن الفاعل خصوصا والفعل فى نفسه ثابت لغير هذا الفاعل، وقولك «ولا غيرى» نفى لوقوع الفعل وهذا تناقض، وأجازه سعد الدين اذا قامت قرينة على أن التقديم لغرض آخر غير التخصيص، كما اذا ظن المخاطب بك ظنين فاسدين أحدهما أنك قلت هذا القول، والثانى أنك تعتقد أن قائله غيرك، فيقول لك: أنت قلت لا غيرك، فتقول له: ما أنا قلته ولا أحد غيرى، قصدا الى انكار نفس الفعل، فتقدم المسند اليه ليطابق كلامه، وهذا انما يكون فيما يمكن انكاره كما فى هذا المثال، بخلاف قولك: ما أنا بنيت هذه الدار ولا غيرى، فانه لا يصح (19).
ولكى ندرك فى ايجاز أثر عبد القاهر فى بحث التقديم نعرض قدرا من الشواهد التى ساقها فى هذا البحث، وحللها، وبين سر
__________
(18) البلاغة تطور وتاريخ ص 173
(19) المطول ص 19(1/134)
التقديم فيها، والتى دار حولها الدرس فى كتب البلاغيين من بعده، فقد ذكر فى تقديم الفاعل قوله تعالى: {«أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذََا بِآلِهَتِنََا يََا إِبْرََاهِيمُ»} (20).
وفى انكار الفعل قوله تعالى: {«أَفَأَصْفََاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلََائِكَةِ إِنََاثاً»} (21)، وقوله تعالى: {«أَصْطَفَى الْبَنََاتِ عَلَى الْبَنِينَ»} (22).
وذكر فى انكار الفعل فى صورة انكار الفاعل قوله تعالى: {«آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ»} (23)، وقوله تعالى: {«آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ»} (24).
وذكر فى انكار المفعول وأنه بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل قوله تعالى: {«قُلْ أَغَيْرَ اللََّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا»} (25)، وقوله تعالى: {«أَبَشَراً مِنََّا وََاحِداً نَتَّبِعُهُ»} (26).
وقد ذكر من الشواهد قول الشاعر:
أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقوله:
أأترك إن قلّت دراهم خالد ... زيارته إنى إذا للئيم
وقوله:
فدع الوعيد فما وعيدك ضائرى
أطنين أجنحة الذّباب يضير
وقوله:
وما أنا أسقمت جسمى به ... ولا أنا أضرمت فى القلب نارا
وقوله:
هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة ... وأجرد سبّاح يبذّ المغالبا
__________
(20) الأنبياء: 62
(21) الاسراء: 40
(22) الصافات: 153
(23) يونس: 59
(24) الأنعام: 144
(25) الأنعام: 14
(26) القمر: 24(1/135)
وقوله:
هم يضربون الكبش يبرق بيضه ... على وجهه من الدّماء سباسب
وقوله:
هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما استطاعا إليه كلاهما
وغير ذلك مما لم نذكر، وقل أن تخرج دراسة التقديم فى كتب المتأخرين عما دار حول هذه الشواهد من تحليلات. وسوف نجد الامام الزمخشرى متأثرا بكثير من هذه الشواهد فيما درس من التقديم.
وكان الدارسون قبل عبد القاهر يكتفى أكثرهم ببيان أصل العبارة فى دراسة التقديم وذلك مثل قول ابن قتيبة: ومن المقدم والمؤخر قوله تعالى: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً»} (27) أراد: أنزل الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومنه قوله:
{«فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنََاهََا بِإِسْحََاقَ»} (28) أى بشرناها باسحاق فضحكت، وقوله: {«فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهََا»} (29)، أى فعقروها فكذبوه بالعقر» (30).
وقد تجد من المتقدمين من يذكر له سرا بلاغيا ولكنه ليس من النوع الذى يذكره عبد القاهر، من ذلك ما يذكره الباقلانى فى رفضه لما ذهب اليه بعضهم من وجود السجع فى القرآن الكريم مستدلين بتقديم موسى على هارون فى موضع وتأخيره عنه فى موضع آخر، وذلك مراعاة للسجع وتساوى المقاطع كما زعموا. يرفض الباقلانى هذا ويبين أن التقديم والتأخير لغرض آخر غير ما ذكروه.
يقول فى هذا: «وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون عليهما السلام فى موضع وتأخيره عنه فى موضع لمكان السجع وتساوى مقاطع الكلام فليس بصحيح، لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه وهى أن اعادة
__________
(27) الكهف: 1، 2
(28) هود: 71
(29) الشمس: 14
(30) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 158(1/136)
ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدى معنى واحدا من الأمر الصعب الذى تظهر به الفصاحة وتتبين به البلاغة، وأعيد كثير من القصص فى مواضع كثيرة مختلفة على ترتيبات متفاوتة، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الاتيان بمثله مبتدأ به ومكررا، ولو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدى تلك المعانى ونحوها وجعلوها بازاء ما جاء به، وتوصلوا بذلك الى تكذيبهم، والى مساواته فيما حكى وجاء به، وكيف وقد قال لهم: {«فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كََانُوا صََادِقِينَ»} فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها اظهارا للاعجاز على الطريقين جميعا دون السجع الذى توهموه» (31).
ولا نستطيع أن ندعى أن شيئا من هذه الدراسات كان أصلا لبحث التقديم عند الجرجانى لاختلاف المنزع والأسلوب فى كل منهما. اذن فما أصل هذا البحث؟
قد أشار الجرجانى الى صاحب الكتاب والى ما قاله فى التقديم من أنهم يقدمون الذى: بيانه أهم وهم بشأنه أعنى، وان كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم، ثم ذكر عبد القاهر ما قالوه فى قتل الخارجى فلان، وقتل فلان الخارجى، وتحديدهم للمقام الذى يقتضى كل صورة من هاتين الصورتين وعلق على ذلك بقوله: «وهذا جيد بالغ، ثم انه ينبغى أن يعرف فى كل شىء قدم فى موضع من الكلام مثل هذا المعنى ويفسر وجه العناية فيه هذا التفسير» (32).
وحين نسترسل فى قراءة كتاب سيبويه نجد دراسات أخرى فى التقديم تزيد على ما نقله عنه الجرجانى فى هذا الموطن، بل قد تكون أصلا لكل ما ذكره الجرجانى فى هذا الباب.
يقول سيبويه فى باب «ما يكون فيه الاسم مبنيا على الفعل قدم أو أخر، وما يكون فيه الفعل مبنيا على الاسم»:
«واذا بنيت الفعل على الاسم قلت: زيد ضربته، فلزمته الهاء، وانما تريد بقولك مبنى عليه الفعل أنه فى موضع ينطلق اذا قلت: عبد الله
__________
(31) اعجاز القرآن والآية من سورة الطور: 34
(32) دلائل الاعجاز ص 74(1/137)
ينطلق، فهو فى موضع هذا الذى بنى على الأول، وارتفع به، فانما قلت «عبد الله» فنبهته ثم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء» (33).
وقد أفاد عبد القاهر الجرجانى من هذا الكلام حين وجه التقوية والتوكيد فى صورة تقديم الاسم على الفعل أو بناء الفعل على الاسم يقول: «فان قلت: فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدث عنه بالفعل آكد لاثبات ذلك الفعل له؟ وأن يكون قوله: هما يلبسان المجد، أبلغ فى جعلهما يلبسانه من أن يقال: يلبسان المجد؟ فان ذلك من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرى من العوامل الا لحديث قد نوى اسناده اليه، واذا كان كذلك فاذا قلت «عبد الله» فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه، فاذا جئت بالحديث فقلت مثلا: قام، أو قلت: خرج، أو قدم، فقد علم ما جئت به وقد وطأت له وقدمت الاعلام فيه فدخل على القلب دخول المأنوس به، وقبله قبول المتهيئ له، المطمئن اليه، وذلك لا محالة أشد لثبوته، وأنفى للشبهة، وأمنع للشك، وأدخل فى التحقيق» (34).
وهذا شرح وتفصيل لقول سيبويه السابق: فانما قلت «عبد الله» فنبهته ثم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء، وقد أشار عبد القاهر الى هذه العبارة فى كلام سيبويه وأشار الى افادته من نص سيبويه الذى اثبتناه فى قوله: «وهذا الذى قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدث عنه يفيد التنبيه له قد ذكره صاحب الكتاب فى المفعول اذا قدم فرفع بالابتداء وبنى الفعل الناصب كان له عليه، وعدى الى ضميره، فشغل به، كقولنا فى «ضربت عبد الله»: عبد الله ضربته، فقال: وانما قلت «عبد الله» فنبهته ثم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء» (35).
وقد ذكر سيبويه أصول بحث التقديم فى الاستفهام، وقد خالفه الجرجانى فى بعضها ولكنه متأثر به لا محالة.
__________
(33) الكتاب لسيبويه ج 1ص 41
(34) دلائل الاعجاز ص 88
(35) المرجع السابق(1/138)
يقول سيبويه: «هذا باب «أم» اذا كان الكلام بمنزلة أيهما وأيهم، وذلك قولك: أزيد عندك أم عمرو؟ وأ زيدا لقيت أم بشرا؟ فأنت الآن مدع أن عنده أحدهما، لأنك اذا قلت: أيهما عندك وأيهما لقيت؟ فأنت مدع أن المسئول قد لقى أحدهما، أو أن عنده أحدهما، الا أن علمك استوى فيهما لا تدرى أيهما هو، والدليل على أن قولك: أزيد عندك أم عمرا؟ بمنزلة قولك: أيهما عندك؟ أنك لو قلت: أزيد عندك أم بشر؟ فقال المسئول: لا، كان محالا، كما أنه اذا قال: أيهما عندك فقال: لا، فقد أحال.
واعلم أنك اذا أردت هذا المعنى فتقديم الاسم أحسن، لأنك لا تسأله عن اللقى، وانما تسأله عن أحد الاسمين لا تدرى أيهما هو، فبدأت بالاسم لأنك تقصد قصدا أن يبين لك أى الاسمين عنده، وجعلت الاسم الآخر عديلا للأول، وصار الذى لا تسأل عنه بينهما. ولو قلت:
ألقيت زيدا أم عمرا؟ كان جائزا حسنا، ولو قلت: أعندك زيد أم عمرو؟
كان كذلك، وانما كان تقديم الاسم هاهنا أحسن ولم يجز للآخر الا أن يكون مؤخرا لأنه قصد أحد الاسمين فبدأت بأحدهما لأن حاجته أحدهما فبدأت به مع القصة التى لا يسأل عنها ومن هذا الباب قوله:
ما أبالى أزيدا لقيت أم عمرا، وسواء على أبشرا كلمت أم زيدا، كما تقول: ما أبالى أيهما لقيت وتقول: ضربت زيدا أم قتلته؟، فالبدء بالفعل هاهنا أحسن، لأنك انما تسأل عن أحدهما لا تدرى أيهما كان، ولم تسأل عن موضع أحدهما، فالبدء بالفعل هاهنا أحسن كما كان البدء بالاسم ثم أحسن، فيما ذكرنا كأنك قلت: أى ذاك كان بزيد. وتقول:
أضربت أم قتلت زيدا؟ لأنك مدع أحد الفعلين ولا تدرى أيهما، وهو كأنك قلت: أى ذاك كان بزيد؟ (36).
واذا كان سيبويه يضع فى هذا النص أصول بحث التقديم فى الاستفهام فاننا لا نشك فى أن عبد القاهر أضاف تحليلات للأمثلة
__________
(36) الكتاب، لسيبويه ج 1ص 482، 483(1/139)
والشواهد التى ذكرناها تنم عن ذوق بصير قادر، وقد خالف عبد القاهر سيبويه فى أصل مهم يتضمنه هذا النص، ذلك أن الجرجانى يرى أن قولنا: ألقيت زيدا أم عمرا؟ خطأ، وهو جائز حسن عند سيبويه، وقد نقل الدمامينى هذا الرأى عن سيبويه وقال: ومثله فى مقرب ابن عصفور، وقد علق على هذا الشيخ الانبابى رحمه الله بقوله: ان كان مراده يعنى الدمامينى مجرد بيان طريقة النحاة فالأمر ظاهر، وان كان مراده معارضة كلام المصنف بكلامهم ففيه أنه لا يعترض بمذهب، لأنه قد يكون الأحسن عند النحوى واجبا عند البليغ، على أنه يمكن حمل كلام المصنف على الأحسنية (37).
ولا أستطيع أن أفهم كلام الجرجانى على نفى الأحسنية، كما لا أستطيع أن أعتبر هذا من الواجب البلاغى الذى هو من الحسن النحوى كما ذكر الانبابى رحمه الله، لأن عبارة عبد القاهر صريحة فى أن هذا الأسلوب فاسد وخطأ وخارج عن كلام الناس وغير ذلك مما يدل صراحة على البطلان لا على نفى الأحسنية. وان كان لم ينص على هذه الصورة بعينها ولكن الأصول التى راعاها فى هذا الباب صريحة فى بطلانها وفسادها، فالحكم فى المسألة حكم صحة وخطأ وليس حكم حسن وأحسن، والفصل فى هذه المسألة لا يكون بقوة الحجة وقدرة الجدل وانما الحكم فيها لواقع اللغة هل ورد مثله عن العرب أم لم يرد؟ والجرجانى يبنى رفضه على أساس أن المسئول عنه هو ما يلى الهمزة، فوجب أن يكون المعادل ل «أم» هو ما يليها حتى لا يتناقض الكلام.
ولا أشك فى أن سيبويه من أفقه الناس لأسرار هذه اللغة كما أنه من النحاة الأوائل الذين شافهوا الأعراب وأخذوا عنهم. وقصته مع
__________
(37) حاشية تجريد البنانى مع تقرير الشمس الانبابى ج 3 ص 114(1/140)
الكسائى مشهورة، وفيها كان أعراب البادية حكما فى مسألة الخلاف، ولا تهمنا نزاهتهم فى الحكم وعدمها، وانما المهم أنهم كانوا أصحاب سليقة يستشهد بها النحاة.
والنحاة بعد سيبويه يقولون: «ان الاستفهام يقتضى الفعل ويطلبه، وذلك من قبل أن الاستفهام فى الحقيقة انما هو عن الفعل، لأنك انما تستفهم عما تشك فيه وتجهل علمه، والشك انما وقع فى الفعل، وأما الاسم فمعلوم عندك» (38).
ولا نسلم لهم بهذا لأن السائل قد يكون شاكا فى الفاعل وغير شاك فى الفعل كما فى قوله تعالى: {«أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذََا بِآلِهَتِنََا يََا إِبْرََاهِيمُ»} (39)، والاستفهام هنا حقيقى على رأى الخطيب وتقريرى على رأى الشيخين عبد القاهر والسكاكى، وقد اشترطوا فى التقريرى أن يلى المقرر به الهمزة.
ثم يقول ابن يعيش: «واذا كان حرف الاستفهام انما دخل للفعل لا للاسم كان الاختيار أن يليه الفعل الذى دخل من أجله، واذا وقع الاسم بعد حرف الاستفهام وكان بعده فعل، فالاختيار أن يكون مرتفعا بفعل مضمر دل عليه الظاهر، لأنه اذا اجتمع الاسم والفعل كان حمله على الأصل أولى، وذلك نحو قولك: أزيد قام؟ ورفعه بالابتداء جيد حسن لا قبح فيه، لأن الاستفهام يدخل على المبتدأ والخبر، وأبو الحسن الأخفش يختار أن يكون مرتفعا بالابتداء، لأن الاستفهام يقع بعده المبتدأ والخبر كما ذكرناه، ولا يفتقر الى تكلف تقدير محذوف» (نفس المرجع السابق).
وهذا الكلام الذى نقلناه من شرح المفصل يتعارض مع الجرجانى حين يفترض أن السؤال لا يكون الا عن الفعل. ويختلف مع سيبويه حين يرى أن الاختيار تقدير فعل قبل الاسم الداخل عليه حرف الاستفهام،
__________
(38) شرح المفصل لابن يعيش ج 1ص 81.
(39) الأنبياء: 62(1/141)
وبهذا يبدو كأنه موقف ثالث فى هذه المسألة التى نعالجها. والذى أراه أن الحق فى هذه المسألة هو ما ذكره سيبويه. لأن المسألة مسألة جواز ومنع كما قلت، فهى متصلة بقواعد التراكيب وقوانين الاعراب، والجرجانى نفسه يقر لسيبويه بالامامة والأستاذية فى هذا الباب أعنى قواعد اللغة وأصول التراكيب ولأن سيبويه خاطب العرب الأقحاح، وأخذ عنهم، ولم يتهيأ مثل هذا العبد القاهر.
2 - الاستفهام:
عرض الجرجانى لمعانى الاستفهام وهو يعالج مسألة التقديم، وذلك لأن الفرق بين تقديم أحد جزئى الجملة على الآخر وتأخيره عنه يظهر واضحا فى طريقة الاستفهام، وكانت تحليلات عبد القاهر لنصوصه تحليلات كاشفة وبصيرة فقد استطاع أن يستخرج معانى الهمزة فى استعمالات كثيرة ومختلفة، وأن يفرق بين افادتها بطريقة الاستفهام وافادتها بغيره، فاذا كان الاستفهام الانكارى يؤدى معنى أنه لا يكون أو أنه ينبغى ألا يكون فان لطريقة الاستفهام فضلا على هذه الطريقة المعهودة.
يقول عبد القاهر: «وأعلم أنا وان كنا نفسر الاستفهام فى هذا بالانكار فان الذى هو محض المعنى أنه ليتنبه السامع حتى يرجع الى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب، اما لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه فاذا ثبت على دعواه قيل له: فافعل فيفضحه ذلك، واما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله فاذا روجع فيه تنبه وعرف الخطأ، واما لأنه جوز وجود أمر لا يوجد مثله فاذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته وقيل له: فأرناه فى موضع وفى حال وأقم شاهدا على أنه كان فى وقت، ولو كان يكون للانكار وكان المعنى فيه فى بدء الأمر لكان ينبغى ألا يجيء فيما لا يقول عاقل أنه يكون حتى ينكر عليه كقولهم:(1/142)
أتصعد الى السماء؟ أتستطيع أن تنقل الجبال؟ أالى رد ما مضى سبيل»؟ (40).
ويجتهد عبد القاهر فى توضيح المعنى فى ذهن القارئ واكسابه ذوق الطريقة، وذلك بكثرة الأمثلة والشواهد، حتى تشعر بالحاحه على المعنى وتتبعه له، يقول: «فان أردت بتفعل المستقبل كان المعنى اذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالانكار الى الفعل نفسه وتزعم أنه لا يكون أو أنه لا ينبغى أن يكون فمثال الأول:
أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فهذا تكذيب منه لانسان تهدده، وانكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه، ومثله أن يطمع طامع فى أمر لا يكون مثله فتجهله فى طمعه، فتقول: أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره؟ أتجد عنده ما تحب وقد فعلت وصنعت؟ وعلى ذلك قوله تعالى: {«أَنُلْزِمُكُمُوهََا وَأَنْتُمْ لَهََا كََارِهُونَ»} (41). ومثال الثانى قولك للرجل يركب الخطر: أتخرج فى هذا الوقت؟ أتذهب فى غير الطريق؟ أتغرر بنفسك؟ وقولك للرجل يضيع الحق: أتنسى قديم احسان فلان؟ أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن تغير الزمان؟، كما قال:
أأترك إن قلّت دراهم خالد ... زيارته إنى إذن للئيم
وجملة الأمر أنك تنحو بالانكار نحو الفعل (42).
وقد سبق عبد القاهر الجرجانى بكثير من الاشارات فى دراسة الاستفهام، فقد ذكر الفراء بعض معانى الاستفهام.
يقول فى قوله تعالى: {«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ»} (43) رد على وجه التعجب والتوبيخ لا على الاستفهام المحض، أى: ويحكم، كيف تكفرون وهو كقوله: {«فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ»} (44)
__________
(40) دلائل الاعجاز ص 81، 82
(41) هود: 28
(42) دلائل الاعجاز ص 80
(43) البقرة: 28
(44) معانى القرآن للفراء ج 1ص 23والآية من سورة التكوير: 26(1/143)
وقد تكررت اشارات سيبويه الى معانى الاستفهام. من ذلك قوله فى باب ما جرى من الأسماء التى لم تؤخذ من الفعل مجرى الأسماء التى أخذت من الفعل: «وذلك قولك أتميميا مرة وقيسيا أخرى؟ وانما هذا أنك رأيت رجلا فى حال تلون وتنقل فقلت: أتميميا مرة وقيسيا أخرى؟ كأنك قلت: أتحول تميميا مرة وقيسيا أخرى؟ فأنت فى هذه الحال تعمل فى تثبيت هذا له وهو عندك فى تلك الحال فى تلون وتنقل، وليس يسأله مسترشدا عن أمر هو جاهل به ليفهمه اياه ويخبره عنه ولكنه وبخه بذلك، وحدثنا بعض العرب أن رجلا من بنى أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطير منه فقال: يا بنى أسد، أعور وذا ناب؟ فلم يرد أن يسترشدهم ليخبروه عن عوره وصحته ولكنه نبههم كأنه قال: أتستقبلون أعور وذا ناب؟ والاستقبال فى حال تنبهه اياهم كان واقعا كما كان التلوين والتنقل عندك ثابتين فى الحال الأولى (45).
وقد ذكر دلالة الاستفهام على التسوية وهو يتحدث عن دلالة النداء على الاختصاص وقاس خروج النداء الى الاختصاص على خروج الاستفهام الى التسوية. وهو هنا يحاول أن يربط بين المعنى الذى دل عليه الاستفهام والنداء وبين المعنى الأصلى لكل منهما، فهناك مناسبة بين الاستفهام الحقيقى والتسوية، كما أن هناك مناسبة بين النداء والاختصاص، وهذه محاولة مبكرة ولعلها من الأصول التى اعتمد عليها المتأخرون فى اعتبار معانى الاستفهام من المجاز ثم جهدوا فى بيان علاقاته.
يقول سيبويه: «هذا باب ما جرى على حرف النداء وصفا له وليس بمنادى ينبهه غيره ولكنه اختص، كما أن المنادى مختص من بين أمته لأمرك أو نهيك أو خبرك، فالاختصاص أجرى هذا على حرف النداء، كما أن التسوية أجرت ما ليس باستخبار ولا استفهام على حرف الاستفهام
__________
(45) الكتاب لسيبويه ج 1ص 172(1/144)
لأنك تسوى فيه كما تسوى فى الاستفهام، فالتسوية أجرته على حرف الاستفهام، والاختصاص أجرى هذا على حرف النداء وذلك قولك:
ما أدرى أفعل أم لم يفعل؟ فجرى هذا كقولك: أزيد عندك أم عمرو؟
وأزيد أفضل أم خالد؟ اذا استفهمت لأن علمك قد استوى فيهما كما استوى عليك الأمران فى الأول، فهذا نظير الذى جرى على حرف النداء وذلك قولك: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل، ونفعل نحن كذا وكذا أيها القوم، وعلى المضارب الوضيعة أيها البائع، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة» (46).
وقد أشار ابن جنى الى خروج الاستفهام عن معناه وذكر فى ذلك شواهد تكررت كثيرا فى هذا الباب، وله فيه اشارات قيمة منها أن الاستفهام الذى يخرج عن معناه يظل ملاحظا لهذا المعنى ناظرا اليه، وهذه فكرة شغل ببيانها عبد القاهر وأشار اليها فى الاستفهام، كما أشار اليها فى باب الاستعارة حيث يقرر أن كلمة «الأسد» حين يراد بها الرجل الشجاع تستصحب كثيرا من معناها الأصلى أى الحيوان المفترس، فلذلك ترسم فى خيالك صورة الرجل فى هيئة الأسد وعبالته.
يقول ابن جنى: «ومثله خروج الهمزة عن الاستفهام الى التقرير، ألا ترى أن التقرير ضرب من الخبر وذلك ضد الاستفهام، ويدل على أنه قد فارق الاستفهام امتناع النصب بالفاء فى جوابه والجزم بغير الفاء فى جوابه ولأجل ما ذكرنا من حديث همزة التقرير صارت تنقل النفى الى الاثبات والاثبات الى النفى وذلك كقوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
أى أنتم كذلك، وكقول الله عز وجل: {«آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ»} (47)، و {«أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ»} (48)، أى لم يأذن لكم ولم تقل للناس
__________
(46) الكتاب لسيبويه ج 1ص 326
(47) يونس: 59
(48) المائدة: 116(1/145)
اتخذونى وأمى الهين، ولو كانت استفهاما محضا لأقرت الاثبات على اثباته والنفى على نفيه واعلم أنه ليس شىء يخرج عن بابه الى غيره الا لأمر قد كان وهو على بابه ملاحظا له وعلى صدد من الهجوم عليه» (49).
وقد أشار المبرد الى خروج الاستفهام عن معناه وذكر جملة من هذه المعانى فى كتاب الكامل وأشار الى بعضها فى كتاب المقتضب.
وذكر قول الشاعر: «أأنت أخى ما لم تكن لى حاجة» وبين أن الاستفهام هنا تقرير وذكر قوله تعالى: {«أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ»} وأشار الى أن الاستفهام فيها للتوبيخ، ثم قال: وقد ذكرنا التقرير الواقع بلفظ الاستفهام فى موضعه من الكتاب المقتضب مستقصى ونذكر منه جملة فى هذا الكتاب ان شاء الله (50).
وأشار ابن قتيبة الى دلالة الاستفهام على تقرير وذكر قوله سبحانه:
{«أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ»}، وقوله: {«وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ»} (51).
وقوله: {«مََا ذََا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ»} (52)، وذكر دلالته على التعجب ومثل له بقوله تعالى: {«عَمَّ يَتَسََاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ»} (53) وقوله تعالى:
{«لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ»} (54)، وذكر دلالته على التوبيخ ومثل له بقوله تعالى: {«أَتَأْتُونَ الذُّكْرََانَ مِنَ الْعََالَمِينَ»} (55).
ثم ان هناك أديبا ناقدا قد عرض لبعض صور خروج الاستفهام عن معناه. وكانت تأملاته أقرب الى روح عبد القاهر من كل ما ذكرنا.
ذلك هو أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدى، فقد أشار الى خطأ أبى تمام فى اصابة المعنى الذى يريده بأداة الاستفهام، وأشار كذلك الى أن
__________
(49) الخصائص ج 2ص 463وما بعدها.
(50) الكامل ج 1ص 103والآية من سورة المائدة: 116
(51) طه: 17
(52) القصص: 65
(53) النبأ: 1، 2
(54) المرسلات: 12
(55) ينظر تأويل مشكل القرآن ص 215وينظر المطول ص 237، 238، بغية الايضاح ج 2ص 67والآية من سورة الشعراء: 165(1/146)
المفسرين قد يذكرون من معانى هذه الأدوات ما لا يرضى عنه اللغويون، وعرض صورا وحللها، وهو فى عرضه وتحليله كأنه يلهم عبد القاهر الجرجانى فى هذا الباب.
يقول أبو بشر: «ومن خطئه قوله:
رضيت وهل أرضى إذا كان مسخطى
من الأمر ما فيه رضى من له الأمر
فمعنى «هل» فى البيت التقرير، والتقرير على ضربين: تقرير للمخاطب على فعل قد مضى ووقع، أو على فعل هو فى الحال ليوجب المقرر ذلك ويحققه، ويقتضى من المخاطب فى الجواب الاعتراف به نحو قوله: هل أكرمتك؟ هل أحسنت اليك؟ هل أودك وأوثرك؟ وهل أقضى حاجتك؟. وتقرير على فعل يدفعه المقرر وينفى أن يكون قد وقع نحو قوله: هل كان قط اليك شىء كرهته؟ هل عرفت منى غير الجميل؟
فقوله فى البيت «وهل أرضى» تقرير لفصل ينفيه عن نفسه وهو الرضا كما يقول القائل: وهل يمكننى المقام على هذه الحال؟، أى لا يمكننى، وهل يصبر الحر على الذل؟ وهل يروى زيد أو هل يشبع عمرو؟ وهذه أفعال معناها النفى، فقوله «وهل أرضى» انما هو نفى للرضا فصار المعنى:
ولست أرضى اذا كان الذى يسخطنى ما فيه رضا من له الأمر أى رضا الله تعالى وهذا خطأ منه فاحش.
فان قال قائل: فلم لا يكون قوله «وهل أرضى» تقريرا على فعل هو فى الحال ليؤكده من نفسه نحو قوله: هل أودك؟ هل أوثرك؟
ونحو قول الشاعر:
هل أكرم مثوى الضيف إن جاء طارقا
وأبذل معروفى له دون منكرى
قيل له: ليس قول القائل لمن يخاطبه: هل أودك؟ هل أوثرك؟ وقوله:
سل عنى هل أصلح للخير؟ أو هل أكتم السر؟ أو هل أقنع بالميسور؟ مثل
قول أبى تمام: هل رضيت؟ وهل أرضى؟ فان صيغة هذا الكلام دالة على أنه قد نفى الرضا عن نفسه بادخاله الواو على «هل» وانما يشبه هذا قول القائل: وهل أرضى اذا كانت أفعالك كذا؟ وهل أصلح للخير عندك اذا كنت تعتقد غير ذلك؟ وهل ينفع فى يد العتاب؟ كقول الشاعر:(1/147)
سل عنى هل أصلح للخير؟ أو هل أكتم السر؟ أو هل أقنع بالميسور؟ مثل
قول أبى تمام: هل رضيت؟ وهل أرضى؟ فان صيغة هذا الكلام دالة على أنه قد نفى الرضا عن نفسه بادخاله الواو على «هل» وانما يشبه هذا قول القائل: وهل أرضى اذا كانت أفعالك كذا؟ وهل أصلح للخير عندك اذا كنت تعتقد غير ذلك؟ وهل ينفع فى يد العتاب؟ كقول الشاعر:
* وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر *
وقول ذى الرمة:
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى
ثلاث الأثافى والرسوم البلاقع
لأن الواو هاهنا كأنها عطفت جوابا على قول القائل: ان فلانا سيصلح ويرجع الى الجميل، فقال آخر: وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟
كقول ذى الرمة:
أمنزلتى ميّى سلام عليكما ... هل الأزمن اللائى مضين رواجع
لما علم أن التسليم غير نافع عاد على نفسه فقال: وهل يرجع التسليم؟، وكما قال امرؤ القيس:
وإنّ شفائى عبرة مهراقة
ثم قال: وهل عند رسم دارس من معوّل
وكذلك قول أبى تمام «رضيت» ثم قال: «وهل أرضى اذا كان مسخطى».
انما معناه: ولست أرضى، فكان وجه الكلام أن يقول: رضيت وكيف لا أرضى اذا كان مسخطى ما فيه رضا الله تعالى؟. وكذا أراد فأخطأ فى اللفظ وأحال المعنى عن جهته الى ضده.
فان قيل: ان «هل» هنا بمعنى «قد»، وانما أراد الطائى: رضيت وقد
أرضى كما قال تعالى: {«هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ»} (56)
أى قد أتى؟ قيل: هذا انما قاله قوم من أهل التفسير وتبعهم قوم من النحويين وأهل اللغة جميعا على خلاف ذلك اذ لم يأت فى كلام العرب وأشعارها: هل قام زيد؟ بمعنى: قد قام زيد» (57).(1/148)
فان قيل: ان «هل» هنا بمعنى «قد»، وانما أراد الطائى: رضيت وقد
أرضى كما قال تعالى: {«هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ»} (56)
أى قد أتى؟ قيل: هذا انما قاله قوم من أهل التفسير وتبعهم قوم من النحويين وأهل اللغة جميعا على خلاف ذلك اذ لم يأت فى كلام العرب وأشعارها: هل قام زيد؟ بمعنى: قد قام زيد» (57).
وقد نقلت هذا النص الكبير لأنه كما قلت أقرب الدراسات التى دارت حول الاستفهام الى ما ذكره عبد القاهر. وقد كان عبد القاهر وهو يدرس دلائل الاعجاز يتأثر بما كتب فى الأدب والشعر أكثر مما يتأثر بما كتب فى اعجاز القرآن.
* * *3 - الأمر:
وكانت الاشارة الى خروج صيغة الأمر عن معناها الأصلى إشارة مبكرة لأنها لا تحتاج الى جهد وتعمق، فليس الأمر فيها أكثر من ادراك دلالة اللفظ حتى يقال ان الأمر هنا بمعنى التهديد أو بمعنى الدعاء.
فقد أشار سيبويه الى بعض معانى هذه الصيغة، يقول فى هذا:
«واعلم أن الدعاء بمنزلة الأمر والنهى، وانما قيل «دعاء» لأنه استعظم أن يقال أمر أو نهى وذلك قولك: اللهم زيدا فاغفر ذنبه، وزيدا فأصلح شأنه. وعمرا ليجزه الله خيرا، ونقول: زيدا قطع الله يده، وزيدا أمّر الله عليه العيش، لأن معناه معنى: زيدا ليقطع الله يده» (58).
وذكر أبو عبيدة فى مجاز القرآن بعض هذه الصور:
يقول فى قوله تعالى: {«اعْمَلُوا مََا شِئْتُمْ»} (59)، وقوله: {«وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ»} (60)، أن هذا ظاهره الأمر وباطنه الزجر، وهو من سنن العرب تقول: اذا لم تستح فافعل ما شئت» (61).
__________
(56) الانسان: 1
(57) الموازنة ص 189، 190، 191.
(58) الكتاب ج 1ص 71
(59) فصلت: 40
(60) الكهف: 29
(61) عن كتاب تاريخ علوم البلاغة للشيخ المراغى ص 12(1/149)
وأشار ابن قتيبة الى بعض صوره كذلك.
يقول فى باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه: «ومنه أن يأتى الكلام على لفظ الأمور وهو تهديد كقوله: {«اعْمَلُوا مََا شِئْتُمْ»}، وأن يأتى على لفظ الأمر وهو تأديب كقوله: {«وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ»} (62)، وقوله: {«وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضََاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ»} (63)، وعلى لفظ الأمر وهو إباحة كقوله: {«فَكََاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً»} (64)، وقوله:
{«فَإِذََا قُضِيَتِ الصَّلََاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ»} (65)، وعلى لفظ الأمر وهو فرض كقوله تعالى: {«وَاتَّقُوا اللََّهَ»} (66)، وقوله: {«وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ»} (67).
ويشير الشريف المرتضى الى أن خروج الأمر عن معناه كثير فى القرآن والشعر وكلام العرب، يقول فى قوله تعالى: {«أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ»} (68):
«والوجه الثانى أن يكون الأمر وان كان ظاهره أمر فغير أمر على الحقيقة، بل المراد به التقرير والتنبيه على مكان الحجة، وقد يرد بصورة الأمر ما ليس بأمر والقرآن والشعر وكلام العرب مملوء بذلك» (69).
وقد اهتم الفقهاء بمعانى هذه الصيغة كما اهتموا بمعانى صيغة النهى وذلك لاتصالها بالأحكام الفقهية، ولذلك نجد معنى الوجوب والتحريم والاباحة وكلها اصطلاحات فقهية تتكرر فى محيط دراسة الأمر والنهى كما هو واضح فى هذه النصوص، وكما نجده فى أمالي ابن الشجرى فقد ذكر دلالة الأمر على الندب والاستحباب، وعرفهما،
__________
(62) الطلاق: 2
(63) النساء: 34
(64) النور: 33
(65) الجمعة: 10
(66) البقرة: 189
(67) تأويل مشكل القرآن والآية من سورة البقرة: 43
(68) البقرة: 31
(69) أمالي المرتضى ج 3ص 156(1/150)
ومثل لذلك بقوله تعالى: {«وَاذْكُرُوا اللََّهَ كَثِيراً»} (70)، وقوله تعالى:
{«فَإِذََا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفََاتٍ فَاذْكُرُوا اللََّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرََامِ»} (71)، وذكر دلالته على الاباحة، أى افادة الأمر إباحة الشيء بعد حظره كقوله تعالى: {«فَإِذََا قُضِيَتِ الصَّلََاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ»} (72)، وقوله:
{«وَإِذََا حَلَلْتُمْ فَاصْطََادُوا»} (73)، ومما يذكر أن هبة الله كان معاصرا للزمخشرى وله معه محدثات قد أشرنا اليها، وقد أشار ابن الشجرى الى علماء المعانى والى تحديد يدهم دلالة هذه الصيغة بقوله: «فان أصحاب المعانى قالوا: الأمر لمن دونك والطلب والمسألة لمن فوقك، وسموا هذه الصيغة اذا وجهت الى الله تعالى دعاء»، ويقول أيضا: «واعلم أن من أصحاب المعانى من قال ان صيغة الأمر مشتركة بين هذه المعانى، وهذا غير صحيح لأن الذى يسبق الى الفهم هو طلب الفعل فدل على أن الطلب حقيقة فيها دون غيره ولكنها حملت على غير الأمر الواجب بدليل (74).
* * *4 - الحذف:
كان حديث عبد القاهر فى موضوع الحذف مرجعا مهما للدارسين من بعده، وسوف نجد الزمخشرى يعتمد عليه كثيرا فى هذا الباب.
وقد تعرض لهذا الموضوع كثير من البلاغيين قبل عبد القاهر وكان الايجاز هو البلاغة كما قالوا أو هو قسم من أقسامها العشرة كما ذكر الرمانى.
وقد كثر حديث سيبويه عن الحذف، وبيان المحذوف، والمواضع التى يكثر فيها الحذف، ولو تتبعناه فى هذا لطال بنا الحديث، ويكفى أن أقول: ان دراسة الحذف فى كتابه صبغت بالصبغة النحوية، وان كانت
__________
(70) الأنفال: 45
(71) البقرة: 198
(72) الجمعة: 10
(73) المائدة: 2
(74) ينظر الأمالى الشجرية ج 1ص 268، 269، 270، 271(1/151)
تنزع أحيانا منزعا بلاغيا، وسيبويه عالم مهتم ببيان نحو العرب فى كلامها أى اتجاهاتها وطرائقها، لذلك نراه يشير كثيرا الى أن هذه طريقتهم، وقد عقد أبوابا كثيرة للحذف، من ذلك باب «ما يحذف منه الفعل لكثرته فى كلامهم حتى صار بمنزلة المثل» ويقول فيه: «وذلك قولك: هذا ولا زعماتك» أى ولا أتوهم زعماتك، ومن ذلك قول الشاعر وهو ذو الرمة وذكر المنازل والديار:
ديار ميّة إذ مىّ مساعفة ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
كأنه قال: اذكر ديار مية، ولكنه لا يذكر «اذكر» لكثرة ذلك فى كلامهم ومن ذلك قول العرب: كليهما وتمرا، فهذا مثل قد كثر فى كلامهم واستعمل وترك ذكر الفعل لما كان قبل ذلك من الكلام كأنه قال:
اعطنى كليهما وتمرا» (75).
ويذكر أبياتا فى الحذف أشار اليها عبد القاهر فى صدر حديثه عن الحذف، من ذلك قول سيبويه: «وقال الشاعر:
اعتاد قلبك من ليلى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به ... وكل حيران سار ماؤه خضل
كأنه أراد: ذلك ربع أو هو ربع رفعه على ذلك وما أشبهه وسمعناه ممن يرويه عن العرب، ومثله لعمر بن أبى ربيعة:
هل تعرف اليوم رسم الدار والطّلا ... كما عرفت بجفن الصيقل الخللا
دار لمروة إذ أهلى وأهلهم ... بالكانسية نرعى اللهو والغزلا
فاذا رفعت فالذى فى نفسك ما أظهرت، واذا نصبت فالذى فى نفسك ما أظهرت» (76).
__________
(75) الكتاب لسيبويه ج 1ص 141، 142
(76) الكتاب لسيبويه ص 142، 143(1/152)
ويقول فى باب استعمال الفعل فى اللفظ لا فى المعنى لاتساعهم فى الكلام وللايجاز والاختصار: «ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى: {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنََا فِيهََا»} (77)
انما يريد أهل القرية فاختصر عمل الفعل فى القرية كما كان عاملا فى الأهل لو كان هاهنا، ومثله: {«بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ»} (78) وانما المعنى: بل مكرهم فى الليل والنهار، وقال تعالى: {«وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ»} (79) أنما هو: ولكن البر بر من آمن بالله. ومثله فى الاتساع قوله عز وجل: {«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً»} (80) فلم يشبهوا بما ينعق وانما شبهوا بالمنعوق، وانما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذى لا يسمع، ولكنه جاء على سعة الكلام والايجاز لعلم المخاطب بالمعنى ومثل ذلك من كلامهم: بنو فلان يطؤهم الطريق، وانما يطؤهم أهل الطريق» (81).
وسيبويه فى كل هذا ينظر الى الكلام فيجد المعنى يتطلب تقدير محذوف فيشير اليه والمقدر كالمذكور، وكثير من هذه الأمثلة من شواهد المجاز العقلى أو المجاز بالحذف أو المجاز المرسل ولكننا لا نجرؤ على القول بأن سيبويه أشار الى هذه الفنون لأنه درسها مثلا نحوية لبيان الحذف والتقدير، فاذا رأى البلاغيون بعده فى هذه الصور فنونا بلاغية أخرى فمن المغالطة أن نقول ان سيبويه تحدث عنها، وفرق بين أن نقول ان سيبويه أشار الى صور هذه الفنون البلاغية، وان سيبويه أشار الى هذه الفنون البلاغية.
ثم ان سيبويه قد ذكر صورا كثيرة للحذف فى باب «ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار» (ج 1ص 114) وفى باب «ما يكون من المصادر مفعولا» (ج 1ص 117) وفى باب «ما جرى من الأسماء
__________
(77) يوسف: 82
(78) سبأ: 33
(79) البقرة: 177
(80) البقرة: 171
(81) الكتاب لسيبويه ص 108، 109(1/153)
مجرى المصادر التى يدعى بها» (ج 1ص 158) وفى باب «ما أجرى مجرى المصادر المدعو بها من الصفات» (ج 1ص 159) وفى باب «ما ينتصب على اضمار الفعل المتروك اظهاره من المصادر فى غير الدعاء» (ج 1ص 160)، ومثل هذه الطريقة التى يذكرها سيبويه فى مواضع الحذف نجدها عند الفراء فهو يشير الى المحذوف والى أن هذه طريقة العرب.
يقول فى قوله تعالى: {«وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ»} (82):
«فانه أراد حب العجل، ومثل هذا مما تحذفه العرب كثيرا قال تعالى: {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنََا فِيهََا»} (83)
والمعنى: سل أهل القرية وأهل العير وأنشدنى المفضل:
حسبت بغام راحلتى عناقا ... وما هى ويب غيرك بالعناق
ومعناه: بغام عناق، ومثله من كتاب الله: {«وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ»} (84) معناه والله أعلم: ولكن البر بر من فعل هذه الأفاعيل التى وصف الله، والعرب قد تقول: اذا سرك أن تنظر الى السخاء فانظر الى هرم أو الى حاتم» (85).
والمبرد يذكر الحذف بالطريقة التى لا تزيد عن بيان المحذوف والاشارة الى أن هذا مذهب واسع فى كلامهم.
يقول فى قوله تعالى: {«وَتَرَكْنََا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلََامٌ عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ»} (86): أو يقال له هذا فى الآخرين، والعرب تحذف هذا الفعل من «قال» و «يقول» استغناء عنه قال الله عز وجل: {«فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ»} (87) أى فيقال لهم، ومثله قوله:
__________
(82) البقرة: 93
(83) يوسف: 82
(84) البقرة: 177
(85) معانى القرآن ج 1ص 61
(86) الصافات: 108، 109
(87) آل عمران: 106(1/154)
{«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ»} (88) أى يقولون (89).
ويذكر ابن جنى الحذف فى باب «شجاعة العربية». ثم يجمل أمر الحذف فى اللغة يقول: «وقد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة، وليس شىء فى ذلك الا عن دليل والا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب فى معرفته، ثم يذكر حذف الجملة فيشير الى أنها تحذف فى القسم مثل: والله لا فعلت، وتالله لقد فعلت، وأصله: أقسم بالله، فحذف الفعل والفاعل وبقيت الحال من الجار والجواب دليلا على الجملة المحذوفة، وتحذف الأفعال فى الأمر والنهى والتخصيص نحو «زيدا» اذا أردت أن أضرب زيدا، ومنه «اياك» اذا حذرته أى:
احفظ نفسك، والطريق الطريق، وهلا خيرا من ذلك وتحذف فى الشرط نحو: الناس مجزيون بأعمالهم ان خيرا فخير وان شرا فشر (90).
ويذكر ابن جنى حذف المبتدأ، وحذف الخبر، والمضاف، والمضاف اليه، والصفة والظرف والمفعول به، والمعطوف، والمعطوف عليه، والمستثنى وخبر «ان» مع النكرة خاصة ويمثل له بقول الأعشى وهو مذكور فى دلائل الاعجاز.
إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... وإنّ فى السفر إذا مضوا مهلا
أى ان لنا محلا وان لنا مرتحلا.
وذكر حذف المنادى، والمميز وخبر «كان»، وغير ذلك من هذه المواضع التى تكلم فيها النحاة ثم يسكتون عن ذكر أسرار الحذف فيها أو لا يعنون ببيان ما فى الحذف من الجمال بقدر عنايتهم ببيان المحذوف (91).
__________
(88) الزمر: 3
(89) الكامل ج 1ص 180
(90) الخصائص ج 2ص 360
(91) ينظر الخصائص ج 2ص 372362(1/155)
ولم تختلف طريقة البلاغيين عن طريقة النحاة كثيرا فى دراسة الحذف، فالمهم عندهم أن يشيروا الى المحذوف والى أن العرب تفعل هذا للاتساع والاختصار.
يقول أبو هلال: وأما الحذف فعلى وجوه، منها أن يحذف المضاف ويقيم المضاف اليه مقامه كقوله تعالى: {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ»} (92) أى أهلها وقوله تعالى: {«وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ»} (93) أى حبه، وقوله عز وجل: {«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومََاتٌ»} (94) أى وقت الحج، وقوله تعالى:
{«بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ»} (95) أى مكركم فيهما ومنها أن يوقع الفعل على شيئين وهو لأحدهما ويضمر للآخر فعله وهو قوله تعالى:
{«فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ»} (96).
وقول الآخر:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا
ومنها أن يأتى الكلام على أن له جوابا فيحذف الجواب اختصارا لعلم المخاطب كقوله عز وجل: {«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ََ، بَلْ لِلََّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً»} (97) أراد: لكان هذا القرآن فحذف ومنها القسم بلا جواب كقوله تعالى: {«ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ. بَلْ عَجِبُوا»} (98)، معناه والله أعلم: ق، والقرآن المجيد لتبعثن، والشاهد ما جاء بعده من ذكر البعث فى قوله تعالى: {«أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً»} (99).
ويقول الآمدى: والحذف لعمرى كثير فى كلام العرب اذا كان المحذوف ما تدل عليه جملة الكلام، قال الله عز وجل: {«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}
__________
(92) يوسف: 82
(93) البقرة: 93
(94) البقرة: 197
(95) سبأ: 33
(96) يونس: 71
(97) الرعد: 31
(98) سورة ق: 1، 2
(99) الصناعتين ص 177174والآية من سورة الواقعة: 47(1/156)
{فِي أَنْفُسِهِمْ، مََا خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى»} (100) أراد عز وجل: أو لم يتفكروا فيعلموا أنه ما خلق ذلك إلا بالحق، أو لم يتفكروا فيقولوا، وأشباه هذا كثير، ومن باب الحذف والاختصار قوله تعالى: {«فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ»} (101)، وقوله عز وجل: {«إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ»} (102) يفسر ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، وفى الشعر مثل هذا موجود.
قال الشاعر:
لو قلت ما فى قومها لم تأثم ... يفضلها ما فى حسب وميسم
يريد: أحد يفضلها، فحذف «أحد» لأن الكلام يدل عليه ذكر ذلك (103).
ويشير قدامة بن جعفر الى فساد الشعر الذى يكون دليل الحذف فيه غامضا ويسميه الاخلال، وهو عنده من عيوب اللفظ والمعنى، ومن أمثلته قول عبد الله بن عتبة بن مسعود:
أعاذل عاجل ما أشتهى ... أحبّ من الأكثر الرّائث
فانما أراد أن يقول: عاجل ما أشتهى مع القلة أحب الى من الأكثر المبطئ، فترك «من القلة» وبه يتم المعنى، ومثل ذلك قول عروة بن الورد:
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا
فانما أراد أن يقول: عجبت لهم اذ يقتلون نفوسهم فى السلم ومقتلهم عند الوغى أعذر، فترك «فى السلم»، ومن هذا الجنس قول الحارث ابن حلزة:
والعيش خير فى ظلا ... ل النّوك ممن عاش كدّا
__________
(100) الروم: 8
(101) آل عمران: 106
(102) الاسراء: 75
(103) الموازنة ص 169، 170(1/157)
فأراد أن يقول: والعيش خير فى ظلال النوك من العيش بكد فى ظلال العقل، فترك شيئا (104).
وقد نجد فى محيط الدراسات القرآنية اشارات الى بلاغة الحذف وأسباب تأثيره فالباقلانى يذكر أن الايجاز قسم من أقسام عشرة ذكرها بعضهم للبلاغة، ثم يقسم الايجاز قسمين: الحذف والقصر.
ثم يقول: فالحذف اسقاط للتخفيف كقوله تعالى: {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ»} وقوله: {«طََاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ»} (105). وحذف الجواب كقوله: {«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ََ»} (106) كأنه قيل: لكان هذا القرآن، والحذف أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب كل مذهب فى القصد من الجواب (107).
ويقول الشريف المرتضى فى أماليه: وفى القرآن من الحذوف العجيبة والاختصارات الفصيحة ما لا يوجد فى شىء من الكلام، من ذلك قوله تعالى فى قصة يوسف عليه السلام والناجى من صاحبه فى السجن ورؤيا الملك البقر السمان والعجاف: {«أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنََا»} (108) ولو بسط الكلام فأورد محذوفه لقال: أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ففعلوا فأتى يوسف فقال يا يوسف أيها الصديق، ومثله قوله فى سورة الأنعام: {«قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»} (109) أى: وقيل لى ولا تكونن من المشركين، وكذلك قوله تعالى فى قصة سليمان عليه الصلاة والسلام:
{«وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ غُدُوُّهََا شَهْرٌ وَرَوََاحُهََا شَهْرٌ»} الى قوله تعالى: {«اعْمَلُوا آلَ دََاوُدَ شُكْراً»} (110) أى وقيل لهم: اعملوا آل داود شكرا (111).
وكان ابن قتيبة يسير على طريقة النحاة فى بيان المحذوف
__________
(104) نقد الشعر ص 245
(105) محمد: 21
(106) الرعد: 31
(107) اعجاز القرآن ص 161
(108) يوسف: 45، 46
(109) الأنعام: 14
(110) سبأ: 1312
(111) أمالي المرتضى ج 3ص 157(1/158)
والمواطن التى يكثر فيها الحذف فيذكر حذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه ويمثل له بقوله تعالى: {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ»}، وقوله تعالى {«وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ»}، ويشير الى ايقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهما وذلك كقوله سبحانه: {«يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ»} (112)، ثم قال: {«وَفََاكِهَةٍ مِمََّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمََّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ»} (113): «والفاكهة واللحم والحور العين، لا يطاف بها وانما أراد: ويؤتون بلحم طير» ويشير الى حذف الجواب للاختصار وعلم المخاطب ويمثل له بقوله تعالى:
{«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ََ، بَلْ لِلََّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً»} (114) أراد: لكان هذا القرآن، فحذف ويذكر حذف الكلمة والكلمتين ويمثل له بقوله تعالى: {«فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ»} (115) والمعنى فيقال لهم أكفرتم، وقوله تعالى:
{«وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنََا أَبْصَرْنََا وَسَمِعْنََا»} (116)، والمعنى: يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا (117) ثم ذكر حذف جواب القسم وحذف «لا» والاضمار لغير المذكور وحذف الصفات ثم ذكر آيات من الكتاب العزيز بين فيها المحذوف.
والملاحظ أن أكثر الأمثلة التى تذكر فى باب الحذف تتكرر فى الكتب المختلفة والتأثر فيها واضح.
فاذا ما نظرنا الى صنيع عبد القاهر فى هذا الباب وجدنا أنه نفث فيه الروح البلاغية. يقول مشيرا الى قيمته: هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فانك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الافادة أزيد للافادة، وتجدك أنطق ما تكون اذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا اذا لم تبن (118). وهذا
__________
(112) الواقعة: 17، 18
(113) الواقعة: 2220
(114) الرعد: 31
(115) آل عمران: 106
(116) السجدة: 12
(117) ينظر تأويل مشكل القرآن ص 169وما بعدها
(118) دلائل الاعتماد ص 95(1/159)
كلام من نظر فى الشعر والأدب وطال نظره حتى تكشف له سره.
ثم نراه يبدأ الحديث فيه على طريقة النحاة بعد اشارته الى قيمته البلاغية، ويشير الى كتاب سيبويه وما ذكره فى هذه الأبيات:
اعتاد قلبك من ليلى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطّلل
ربع قواء أذاع المعصرات به ... وكلّ حيران سار ماؤه خضل
ثم يشير الى أن هذه طريقة مستمرة عندهم اذا ذكروا الديار والمنازل فانهم يضمرون المبتدأ وقد يضمرون الفعل فينصبون كبيت الكتاب:
ديار ميّة إذ مىّ تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
ثم يقول: ومن المواضيع التى يطرد فيها حذف المبتدأ القطع والاستثناء، يبدءون بذكر الرجل ويقومون بعض أمره ثم يدعون الكلام الأول ويستأنفون كلاما آخر واذا فعلوا ذلك أتوا فى أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ مثال ذلك قوله:
وعلمت أنّى يوم ذا ... ك منازل كعبا ونهدا
قوم إذا لبسوا الحد ... يد تثمّروا حلقا وقدّا
ثم يقول: ومما اعتيد فيه أن يجيء خبرا قد بنى على مبتدأ محذوف قولهم بعد أن يذكروا الرجل: فتى من صفته كذا، وأغر من صفته كيت وكيت. كقوله:
ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ... ولا عرف إلا قد تولّى وأدبرا
فتى حنظلىّ ما تزال ركابه ... تجود بمعروف وتنكر منكرا
وقوله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيّتى ... أيادى لم تمنن وإن هى جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت
ومن ذلك قول جميل:(1/160)
سأشكر عمرا إن تراخت منيّتى ... أيادى لم تمنن وإن هى جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت
ومن ذلك قول جميل:
وهل بثينة يا للنّاس قاضيتى ... دينى وفاعلة خيرا فأجزيها
ترنوا بعينىّ مهاة اقصدت بهما ... قلبى عشيّة ترمينى وأرميها
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... ريّا العظام بلين العيش غاديها
وهذا كله بيان لطريقة القوم فى الحذف وأنهم اعتادوه فى أساليب معينة، ثم تراه يقودك الى الأفق البلاغى فى الحذف ويكشف الحجب حتى يطلعك على سره متجاوزا هذا المجال النحوى بطريقته الفذة التى تستخرج من نفسك الحكم ولا تعول فيه الا على حسك.
يقول بعد ذكر الأمثلة التى أشرنا اليها وكثير مثلها:
«فتأمل الآن هذه الأبيات كلها، واستقرها واحدا واحدا، وانظر الى موقعها فى نفسك، والى ما تجده من اللطف والظرف اذا أنت مررت بموضع الحذف منها، ثم قلبت النفس عما تجد، وألطفت النظر فيما تحس به، ثم تكلف أن ترد ما حذف الشاعر، وأن تخرجه الى لفظك، وتوقعه فى سمعك، فانك تعلم أن الذى قلت كما قلت، وأن رب حذف هو قلادة الجيد، وقاعدة التجويد» (119).
وبهذه الطريقة التى تكشف بلاغة الحذف بالموازنة بين الحذف والذكر فى المقامات المقتضية للحذف أخذ عبد القاهر يرشد الى بلاغته ويبين قيمته وهو كما قلت: لا يقول لنا فيه كلاما صريحا وانما يرشدنا الى أن نعود الى أنفسنا وأن نوازن بين صورتين لندرك البلاغة بحسنا، ونقع على الحسن بأذواقنا.
ومن جيد ذلك قوله: «وان أردت ما هو أصدق فى ذلك شهادة وأدل دلالة فانظر الى قول عبد الله بن الزبير يذكر غريما له قد ألح عليه:
__________
(119) ينظر الاعجاز: ص 9996.(1/161)
عرضت على زيد ليأخذ بعض ما ... يحاوله قبل اعتراض الشّواغل
فدبّ دبيب البغل يألم ظهره ... وقال تعلّم أنّنى غير فاعل
تثاءب حتى قلت داسع نفسه ... وأخرج أنيابا له كالمعاول
الأصل: حتى قلت هو داسع نفسه، أى حسبته من شدة التثاؤب ومما به من الجهد يقذف نفسه من جوفه ويخرجها من صدره، كما يدسع البعير جرته، ثم أنك ترى نصبة الكلام وهيأته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ وتباعده عن وهمك وتجتهد ألا يدور فى خلدك، ولا يعرض لخاطرك، وتراك كأنك تتوقاه توقى الشيء يكره، والثقيل يخشى هجومه» (120).
وهذا الأصل الذى اتضح فى حذف المبتدأ يجرى فى كل حذف «فما من اسم أو فعل تجده قد حذف ثم أصيب به موضعه، وحذف فى الحال التى ينبغى أن يحذف فيها الا وأنك تجد حذفه هناك أحسن من ذكره، وترى اضماره فى النفس أولى وآنس من النطق به» (121).
ويضع عبد القاهر تفسيرا مهما لصلة الفعل بالمفعول وأنها كصلة الفعل بالفاعل فاذا كنت تقصد الاخبار بأن ضربا قد وقع من زيد قلت:
ضرب زيد، وكان كلامك مع من نفى أن يكون من زيد ضرب، واذا قصدت الاخبار بأن ضربا قد وقع من زيد على عمرو قلت: ضرب زيد عمرا، ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون من زيد ضرب على أى وجه وانما يكون مع من نفى أن يكون قد وقع ضرب من زيد على عمرو، فاذا أردت الاخبار بأن ضربا قد كان فقط غير ناظر الى من وقع منه ولا الى من وقع عليه، فالعبارة عن ذلك أن تقول: كان ضرب، أو: حدث ضرب، وهكذا فى كل مرتبة من مراتب التعلقات، ثم يقول:
«واذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن أغراض الناس تختلف فى ذكر
__________
(120) دلائل الاعجاز: ص 99، 100.
(121) المرجع السابق ص 101.(1/162)
الأفعال المتعدية، فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على اثبات المعانى التى اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين.
فاذا كان الأمر كذلك كان الفعل المتعدى كغير المتعدى مثلا فى أنك لا ترى له مفعولا لا لفظا ولا تقديرا، ومثل ذلك قول الناس: فلان يحل ويعقد» (122).
فاذا كان القصد الى مفعول معلوم الا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه فقد يكون جليا لا صنعة فيه مثل: أصغيت اليه، أى أذنى، وقد يكون خفيا تدخله الصنعة، وهذا الخفى الذى تدخله الصنعة تختلف أسرار الحذف فيه. ثم يذكر عبد القاهر فى هذا القسم ما ذكره البلاغيون بعده فى حذف المفعول، وطريقته أدخل فى دراسة النصوص، وأقدر على كشف الأسرار، وقد أفاد البلاغيون بعده بكثرة ما أورد من الشواهد والنصوص التى دارت حولها دراستهم فى هذا الباب، من ذلك وهى شواهد مشهورة:
وقول البحترى:
شجو حسّاده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع
وقول عمر بن معديكرب:
فلو أن قومى أنطقتنى رماحهم ... نطقت ولكنّ الرماح أجرّت
وقول طفيل الغنوى لبنى جعفر بن كلاب وقد تمثل به أبو بكر فى حديثه مع الأنصار وثنائه عليهم:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا فى الواطئين فزلّت
أبو أن يملّونا ولو أنّ أمّنا ... تلاقى الذى لاقوه منّا لملّت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلّت
__________
(122) المرجع السابق ص 101.(1/163)
وقوله تعالى: {«وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودََانِ، قََالَ مََا خَطْبُكُمََا، قََالَتََا لََا نَسْقِي حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ، وَأَبُونََا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى ََ لَهُمََا»} (123)
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد
وقوله تعالى: {«وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ»} (124)، وقوله تعالى: {«وَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ»} (125).
وقول حسان بن اسحاق الخريمى:
ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وقول الجوهرى:
فلم يبق منى الشوق غير تفكّرى ... فلو شئت أن أبكى بكيت تفكّرا
وقول البحترى:
قد طلبنا فلم نجد لك فى السّوء ... دد والمجد والمكارم مثلا
وقول ذى الرمة:
وكم زدت عنّى من تحامل حادث ... وسورة أيّام حززن إلى العظم
وغير ذلك كثير، وسوف يتضح لنا أن الزمخشرى قد أفاد من هذا فائدة كبيرة.
5 - التكرير:
هذا فن من الفنون البلاغية التى ازدهرت دراستها فى ظل الدراسة القرآنية، وقد ذكره الطاعنون فى كتاب الله فكان لزاما على من تصدى للرد عليهم أن يدرس هذا الأسلوب، وأن يبين أسراره، وأن يشير الى نظيره فى كلام العرب، وقد فعلوا ذلك. ومما نلفت
__________
(123) القصص: 23، 24.
(124) الأنعام: 35.
(125) النحل: 9.(1/164)
اليه أن المشتغلين بالدراسة الأدبية من البلاغيين لم يبسطوا القول فيه على غرار ما فعل دارسو القرآن، سواء من عرض لتأويل مشكله، أو عرض لبيان اعجازه، وأن عبد القاهر الجرجانى وهو ممن عالجوا أمر الاعجاز لم يقف عند هذا الأسلوب ولم يشغل ببيان أسراره، وذلك راجع فيما أعتقد الى أن من سبقوه قد تحدثوا فى هذا، ولم يصبح الأمر فى حاجة الى زيادة، وقد عهدنا عبد القاهر لا يقف طويلا عند الفنون التى كانت قد اكتملت دراستها فى زمانه، وأنه كان منصرفا الى أن يحدث الناس فيما لا يعلمون، وهذه طريقة الممتازين من العلماء.
ومن أبرز من أشاروا الى التكرير أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة، فقد ذكر أنواعا من التكرار وبين أسرارها، فذكر تكرار قصص الأنبياء، وأشار الى دواعيها، وبين أن الله عز وجل أنزل القرآن نجوما تيسيرا منه على العباد، وتدريجا لهم الى كمال دينه، ووعظهم وعظا بعد وعظ تنبيها لهم من سنة الغفلة، وشحذا لقلوبهم بمتجدد الموعظة، وأن الله لم يفرض على عباده أن يحفظوا القرآن كله، ولا أن يختموه فى التعليم، وانما أنزله ليعملوا بمحكمه، ويؤمنوا بمتشابهه، ويأتمروا بأمره، وينتهوا بزجره، ويحفظوا للصلاة مقدار الطاقة، ويقرءوا فيها الميسور، ثم يقول: «وكانت وفود العرب ترد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم للاسلام فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن، فيكون ذلك كافيا لهم» وكان يبعث الى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة ومكررة لوقعت قصة موسى الى قوم وقصة عيسى الى قوم وقصة نوح الى قوم وقصة لوط الى قوم فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص فى أطراف الأرض ويلقيها فى كل سمع ويبثها فى كل قلب ويزيد الحاضرين فى الأفهام والتحذير» (126).
وذكر تكرار الكلام الذى يكون من جنس واحد ويغنى بعضه عن بعض كتكرار {«قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ»} (127) ويقول فى بيانه: «فقد أعلمتك
__________
(126) تأويل مشكل القرآن ص 180وما بعدها.
(127) أى سورة «الكافرون».(1/165)
أن القرآن نزل بلسان القوم، وعلى مذهبهم، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والافهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والايجاز، لأن افتنان المتكلم والخطيب فى الفنون وخروجه من شىء الى شىء أحسن من اقتصاره فى المقام على فن واحد (128).
«وأما تكرار: {«فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ»} (129) فانه عدد فى هذه السورة نعماءه، وأذكر عباده آلاءه، ونبههم على قدرته ولطفه بخلقه، ثم أتبع ذكر كل خلة وصفها بهذه الآية، وجعلها بين كل نعمتين ليفهم النعم ويقررهم بها ومثل ذلك تكرار: {«فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»} (130)
فى سورة «اقتربت الساعة» أى هل من معتبر متعظ» (131).
ويذكر تكرار المعنى بلفظين مختلفين، وأن يكون لاشباع المعنى والاتساع فى الألفاظ وذلك قول القائل: آمرك بالوفاء وأنهاك عن الغدر، والأمر بالوفاء هو النهى عن الغدر، وآمركم بالتواصل وأنهاكم عن التقاطع، والأمر بالتواصل هو النهى عن التقاطع، وكقوله سبحانه:
{«فِيهِمََا فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ»} (132) والنخل والرمان من الفاكهة فأفادها من الجملة التى أدخلها فيها لفضلهما وحسن موقعهما» (133).
وقد درس القاضى عبد الجبار التكرار ودافع عن بلاغته، وذكر أن شيخه أبا على قد أشبع القول فيه فى مقدمة التفسير، فذكر أن العادة من الفصحاء جارية بأنهم قد يكررون القصة الواحدة فى مواطن متفرقة بألفاظ مختلفة لأغراض تتجدد فى المواطن وفى الأحوال، وذلك من دلالة المفاخر والفضائل لا من دلالة المعايب فى الكلام (134).
__________
(128) تأويل مشكل القرآن ص 182.
(129) الرحمن: 13وغيرها.
(130) القمر: 15وغيرها.
(131) تأويل مشكل القرآن ص 185.
(132) الرحمن: 68.
(133) تأويل مشكل القرآن ص 186.
(134) المغنى ج 16ص 397.(1/166)
ثم يذكر القاضى رأى شيخه فى تكرار قصص الأنبياء، وأن ذلك لنزول القرآن مفرقا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ثلاث وعشرين سنة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يضيق صدره من الأمور العارضة له من الكفار والمعارضين فكان فى حاجة الى تثبيت الفؤاد حالا بعد حال، فكانت حكايات أخبار المتقدمين تتنزل حسب هذه الأحوال، وتتكرر بتكرار المواقف، وثمة فرض آخر، هو أن يعرف أرباب الفصاحة عند تأمل هذه القصص التى تعاد صياغتها مرة بعد مرة منزلة القرآن من الفصاحة، لأن بلاغة القصص المتكرر أدخل فى باب الاعجاز من القصص المتغايرة، وثمة غرض ثالث وهو حاجة المسلمين الى تكرار المواعظ والقرآن فى هذا كالواعظ والخطيب الذى يكرر مواعظه وعبره ايقاظا للنفوس والتأثير فيها.
أما التكرار فى سورة الرحمن فان القاضى يروى عن شيخه أبى على القول بنفى التكرار فيها، وذلك لاختلاف الغرض فى كل مرة، وسوف نجد صدى هذا الرأى عند الامام الزمخشرى، قال القاضى:
قال أبو على: فأما ما يكون فى سورة الرحمن فى قوله تعالى: {«فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ»} فليس بتكرار لأنه ذكر نعما بعد نعم وعطف كل نعمة من ذلك بهذا القول فكأنه قال: فبأى آلاء ربكما التى ذكرتها تكذبان، وانما عنى بالتثنية الجن والانس، ثم أجرى الخطاب على هذا الحد فى نعمة نعمة وعنى بكل قول غير ما عناه بالقول الأول وان كان اللفظ متماثلا وهذا كقول القائل لمن ينهاه عن قتل المسلم وظلمه ويزجره عن ذلك: أتقتل زيدا وأنت تعرف فضله؟ أتقتل عمرا وأنت تعرف صلاحه؟
ويكرر ذلك فيكون حسنا ولا يعد تكرارا، ولو أن أحدنا عظمت نعمه على ولده وآره آخذا فى طريق العقوق لحسن أن يقبل عليه فيقول:
أتغضبنى فى كذا وقد أنعمت عليك؟ أتغضبني فى كذا وقد أنعمت عليك؟
فيكون تكرار ذلك أبلغ فى المراد حتى لو حذفه لنقص الغرض فى هذا الباب ولم يكن بمنزلته» (135).
__________
(135) المغنى ج 16ص 398، 399.(1/167)
«وكذلك ما جاء فى سورة المرسلات من التكرار فى قوله تعالى:
{«فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ»}: ليس من التكرار كما يروى القاضى عن شيخه أبى على، وذلك لأنه أراد بما ذكره أولا: ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة، وكلما أعاد قصة مختلفة ذكر مثله على هذا الحد فيه، وبمنزلة من يقبل على غيره، وقد قتل جماعة: ويل يومئذ لمن قتل زيدا لمن قتل عمرا، ثم يجرى الخطاب على هذا النحو فى أنه لا يعد تكرارا» (136).
وقد ذكر القاضى أبو بكر بن الطيب: أن تكرار القصص فى القرآن نوع من أنواع التحدى البلاغى، فقد أشار الى الاعجاز البين فى وقوع كلمات القرآن مواقعها وعرض آيات كثيرة يشير فيها الى هذه البلاغة الفائقة، ثم دعا الى النظر فى سورة تامة والتعرف على التصرف فى قصصها ثم عرض سورة النمل وقال فى ذلك:
بدأ بذكر السورة الى أن بين أن القرآن من عنده فقال: {«وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ»} (137) ثم وصل بذلك قصة موسى عليه السلام وأنه رأى نارا فقال لأهله: {«إِنِّي آنَسْتُ نََاراً سَآتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهََابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ»} (138) وقال فى سورة طه فى هذه القصة: {«لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً»} (139)
وفى موضع: {«لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النََّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ»} (140) وقد تصرف فى وجوه وأتى بذكر القصة على ضروب، ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك، ولهذا قال: {«فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ»}، ليكون أبلغ فى تعجيزهم، وأظهر للحجة عليهم» (141).
__________
(136) المرجع السابق ج 16ص 399.
(137) النمل: 6.
(138) النمل: 7.
(139) طه: 10.
(140) القصص: 29.
(141) اعجاز القرآن: ص 189.(1/168)
ويذكر التكرار لونا من ألوان البديع، ويقول: «ومن البديع التكرار كقول الشاعر:
هلّا سألت جموع كندة ... يوم ولّوا أين أين
وكقول الآخر:
وكانت فزارة تصلى بنا ... فأولى فزارة أولى فزار
ونظيره من القرآن كثير كقوله تعالى: {«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً»} (142) وكالتكرار فى قوله تعالى: {«قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ»}
وهذا فيه معنى زائد على التكرار لأنه يفيد الاخبار عن الغيب» (143).
* * *6 - الاعتراض:
أشار اليه العلامة ابن جنى وذكر مواقعه وفائدته البلاغية، ثم أشار إشارة الى دلالته النفسية، وكيف يكون الاعتراض دليلا على قوة النفس، وعلى التمكن من الفصاحة وغزارة المادة وامتداد النفس فى القوة.
يقول ابن جنى: «اعلم أن هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء فى القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام، وهو جار عند العرب مجرى التأكيد فلذلك لا يشنع عليهم ولا يستنكر عندهم أن يعترض بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره وغير ذلك مما لا يجوز فيه الفصل بغيره الا شاذا أو متأولا، قال سبحانه وتعالى: {«فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ»} (144) لأنه اعترض به بين القسم الذى هو قوله:
{«فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ»} وبين جوابه الذى هو قوله: {«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ»} وفى نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذى هو
__________
(142) الشرح: 5، 6
(143) اعجاز القرآن: ص 106
(144) الواقعة: 75، 76(1/169)
قسم وبين صفته التى هى «عظيم» وهو قوله: «لو تعلمون» فذانك اعتراضان كما ترى» (145).
ثم ذكر أمثلة الاعتراض بين الفعل وفاعله، وبين الموصول والصلة، وبين أن الاعتراض لا محل له من الاعراب ولا يعمل فيه شىء من الكلام المعترض به بين بعضه وبعض، ثم قال: «والاعتراض فى شعر العرب ومنثورها كثير وحسن ودال على فصاحة المتكلم وقوة نفسه وامتداد نفسه، وقد رأيته فى أشعار المحدثين وهو فى شعر إبراهيم بن المهدى أكثر منه فى شعر غيره من المولدين» (146).
وقد درسه أبو هلال فى فصل خاص ولم يزد على ذكر بيانه وأنه اعتراض كلام فى كلام لم يتم ثم يرجع اليه فيتمه، وذكر له أمثلة وشواهد منها قول كثير:
وأنّ الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلموا منك المطالا
وقول لبيد:
إنّ الثمانين وبلّغتها ... أحوجت سمعى إلى ترجمان (147)
وقد ذكر بعض الدارسين ومنهم قدامة الاعتراض فى الالتفات وجعله صورة من صوره. يقول قدامة: «ومن نعوت المعانى الالتفات وهو أن يكون الشاعر آخذا فى معنى، فكأنه يعترضه شك أو ظن بأن رادا يرد عليه أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا على ما قدمه، فاما أن يؤكده أو يذكر سببه أو يحل الشك فيه» (148).
ثم ذكر قدامة من أمثلته قول الرماح بن ميّادة:
فلا صرمه يبدو وفى النّفس راحة ... ولا وصله يبدو لنا فنكارمه
__________
(145) الخصائص: ج 1ص 335
(146) الخصائص: ج 1ص 341
(147) الصناعتين: ص 385وما بعدها.
(148) نقد الشعر ص 167(1/170)
وقد أشار ابن رشيق الى أن الالتفات هو الاعتراض عند قوم، وقال فى بيانه: «وسبيله أن يكون الشاعر آخذا فى معنى ثم يعرض له غيره فيعدل عن الأول الى الثانى فيأتى به ثم يعود الى الأول ثم ذكر من أمثلته قول كثير:
لو أنّ الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلّموا منك المطالا
فقوله «وأنت منهم» اعتراض كلام فى كلام، ثم أشار ابن رشيق الى أن «أكثر البلاغيين على جمع الالتفات والاعتراض فى شىء واحد، وأن قليلا منهم من يفرق بينهم» (149).
* * *7 - الالتفات:
والاشارة الى الالتفات إشارة قديمة تعزى الى الأصمعى فقد ذكر كثير من الدارسين ما رواه محمد بن يحيى الصولى عن الأصمعى من قوله: أتعرف التفاتات جرير؟ قال الصولى: قلت: لا، فما هى؟ قال:
أتنسى إذ تودّعنا سليمى ... بعود بشامة سقى البشام
تراه مقبلا على شعره ثم التفت الى البشام فدعا له.
وقوله:
طرب الحمام بذى الأراك فشاقنى ... لا زلت فى علل وأيك ناضر
فالتفت الى الحمام فدعا له (150).
ومن الواضح أن البلاغيين جعلوا هذا النوع من التذييل وهو قسم من الاطناب وقد ذكرت أن بعض الدارسين أدخل الاعتراض فى الالتفات وجعلهما شيئا واحدا، ومن شواهد الالتفات المشهورة قول النابغة الجعدى:
__________
(149) العمدة ج 2ص 45
(150) الصناعتين ص 383وما بعدها، واعجاز القرآن للباقلانى ص 99، والعمدة ج 2ص 46(1/171)
ألا زعمت بنو سعد بأنّى ... ألا كذبوا كبير السّنّ فانى
وقول كثير:
لو أنّ الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلّموا منك المطالا
وقول حسان:
إنّ التى ناولتنى فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
وقول ابن ميادة:
فلا صرمه يبدو فى اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه (151)
وهذا كله من الاعتراض وليس من الالتفات.
وقد كان الالتفات يعنى بجانب هذا معناه البلاغى الذى استقر فى كتب المتأخرين. وكانت الاشارة الى هذا المعنى مبكرة أيضا ولكنها ليست موغلة ايغال رواية الأصمعى. نعم الاشارة الى صور الالتفات بهذا المفهوم الاصطلاحى قديمة أشار اليها أبو عبيدة فى مجاز القرآن ولكننى لا أعنى هنا دراسة صور الالتفات وانما أعنى اطلاق هذا الاصطلاح على هذه الصور، قال ابن رشيق: «وقد أحسن ابن المعتز فى العبارة عن الالتفات بقوله: هو انصراف المتكلم من الاخبار الى المخاطبة ومن المخاطبة الى الاخبار، وتلا قوله تعالى: {«حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ»} (152).
وقد يكون هذا فيما أعلم أقدم ربط بين هذه الصور وبين هذا المصطلح، فقد ذكرت أن كلمة الالتفات دارت على ألسنة أئمة القرن الثانى، وكانت تشمل الاعتراض والتذييل، وأن بحث صور الالتفات بالمفهوم البلاغى المتأخر دارت كذلك فى كتبهم فقد درسها أبو عبيدة
__________
(151) ينظر اعجاز القرآن ص 45، 99، العمدة ج 2ص 45
(152) العمدة ج 2ص 46(1/172)
وذكر الآية المشهورة فى هذا الباب وهى قوله تعالى: {«حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهََا جََاءَتْهََا رِيحٌ عََاصِفٌ»} (153) كما ذكر قوله تعالى: {«ثُمَّ ذَهَبَ إِلى ََ أَهْلِهِ يَتَمَطََّى. أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ»} (154) وقد تبعه فى دراسة هذه الآيات أبو زكريا الفراء ولكنه لم يسمه الترك والتحويل كما سماه أبو عبيدة، وانما سماه الانتقال (155).
وقد درس ابن قتيبة هذه الصور فى باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه.
قال: ومنه أن يخاطب الشاهد بشيء يجعل الخطاب له على لفظ الغائب، كقوله عز وجل: {«حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهََا»}، وقوله: {«وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ»} (156)، وقوله تعالى: {«وَلََكِنَّ اللََّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمََانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ»} (157)، ثم قال: {«أُولََئِكَ هُمُ الرََّاشِدُونَ»} (158) ومنه أن يخاطب الرجل بشيء ثم يجعل الخطاب لغيره كقوله تعالى: {«فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ»} (159)، الخطاب للنبى صلّى الله عليه وسلم، ثم قال للكفار: {«فَاعْلَمُوا أَنَّمََا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللََّهِ وَأَنْ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ»} (160)، يدلك على ذلك قوله: {«فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»} (160)
وقال: {«إِنََّا أَرْسَلْنََاكَ شََاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً»} (161)، ثم قال:
{«لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ»} (162).
وقد آثار القاضى على بن عبد العزيز مناقشة حول قول أبى الطيب:
وإنى لمن قوم كأن نفوسنا ... بها أنف أن تسكن اللّحم والعظما
__________
(153) يونس: 22
(154) القيامة: 33، 34
(155) ينظر أثر القرآن فى تطور البلاغة العربية ص 34، 39.
(156) الروم: 39
(157) الحجرات: 7
(158) الحجرات: 7
(159) هود: 14
(160) هود: 14
(161) الفتح: 8، 9
(162) تأويل مشكل القرآن ص 223.(1/173)
وذلك لأن ناقديه قد عابوه لما رجع من الغيبة الى التكلم ثم ذكر ما اعتذر به المحتجون عنه حيث بينوا أن هذه طريقة العرب فهم يحملون الكلام على المعنى ويصرفون الضمير عن وجهه، وذكروا من أمثلة ذلك قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا»} (163) وليس فى الخبر ما يرجع الى الأول، ولو رددت الضمير الى الأول لقيل: انا لا نضيع أجرهم، لكنه لما كان {«مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا»} هم المضمرون بهم الذين فى أجرهم جاز أن ينوب أحدهما عن الآخر، لأن من أحسن عملا هو من آمن، ومثل هذا قوله تعالى: {«وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتََابِ وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ»} (164) لما كان معنى المصلحين معنى {«الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتََابِ»} جاز أن يقام مقامه فيعود الذكر اليه فى المعنى فكأنه قال:
انا لا نضيع أجرهم (165).
وهذا من اقامة المظهر مقام المضمر ولكننا سوف نجد الزمخشرى يجعله من باب الالتفات ويتبعه فى هذا ابن الأثير والعلامة العلوى.
ثم ان القاضى ربط هذا بقوله تعالى: {«حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ»} يقول: «قالوا وشبيه بهذا قوله تعالى: {«حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ»} (166) عدل عن ضمير المخاطب الى ضمير الغائب اعتمادا على ظهور المعنى».
ونلاحظ أن هذه الدراسة لا تجد فيها تلك اللمسة البلاغية التى ترشدنا الى أثر هذا الأسلوب وقيمته البلاغية، وانما المهم عندهم جميعا أن يبينوا هذه الطريقة وأن يستشهدوا لها من كلام العرب، وهذا مهم عند المدافعين عن المتنبى، وليست لعبد القاهر دراسة بينة فى الالتفات، لذلك سوف يتضح لنا أثر الزمخشرى فيها بعد دراستنا لما أثاره فى هذا الباب.
* * * __________
(163) الكهف: 30
(164) الأعراف: 170
(165) الوساطة ص 446، 447
(166) يونس: 22(1/174)
8 - الفصل والوصل:
ولعل أقدم حديث ترويه لنا كتب الأدب فى شأن فصل الكلام ووصله ما يرويه الجاحظ فى كتاب البيان والتبيين من حادثة الرجل الذى كان معه ثوب وعرض له أبو بكر رضى الله عنه فقال له: أتبيع الثوب؟ فأجابه: لا عافاك الله، فتأذى أبو بكر لأن اللفظ يوهم الدعاء عليه فقال له رضى الله عنه: «لقد علمتم لو كنتم تعلمون قل: لا وعافاك الله» (167).
وهذه الملاحظة تدخل فى صميم بحث الفصل والوصل، وهى من أنواع الوصل الثلاثة، وتسمى فى اصطلاح البلاغيين: كمال الانقطاع مع الايهام.
وقد ذكر البلاغيون كلاما فى الفصل والوصل يعزى أقدمه الى ما يرويه الجاحظ عن الفارسى الذى حصر البلاغة فى الفصل والوصل.
ويعلق الأستاذ الخولى على رواية الجاحظ هذه بقوله: «وهل يفهم من ذلك أن العرب لم تلتفت اليه قبل توجيه الفرس لها؟ ثم ينفى ذلك مستشهدا بكلام العسكرى الذى يرويه عن أكثم بن صيفى والذى قال فيه لكتابه: «افصلوا بين كل منقضى معنى وصلوا اذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض» فالجاهليون اذن تحدثوا عن فصل الكلام ووصله»، وقول هذا البليغ القديم: «وصلوا اذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض»، فيه تصور واضح لصلة الجمل وتداخلها حتى كأنها شىء واحد، وكأنها أخذ بعضها بحجزة بعض، كما يقول العلماء.
ثم ان النظر فيما ذكره أبو هلال من روايات البلغاء وذوى اللسن فى أمر فصل الكلام ووصله قريب مما يقرره القراء فى الوصل والوقف فى قراءة كتاب الله، فالأحنف بن قيس يمدح عمرو بن العاص بأنه أى الأحنف «ما رأى رجلا تكلم فأحسن الوقوف عند مقاطع الكلام ولا عرف حدوده الا عمرو بن العاص رضى الله عنه، كان اذا تكلم تفقد مقاطع
__________
(167) البيان والتبيين ج 1ص 261(1/175)
الكلام وأعطى حق المقام وغاص فى استخراج المعنى بألطف مخرج، حتى كان يقف عند المقطع وقوفا يحول بينه وبين تبيعه من الألفاظ» (168).
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما يقول معاوية يتفقد مقاطع الكلام كتفقد الصريم صريمته وكان عبد الحميد الكاتب اذا استخبر الرجل فى كتابه فكتب: خبرك وحالك وسلامتك فصل بين هذه الأحرف ويقول: قد استكمل كل حرف منها آلته. ووقع الفصل عليه، وكان صالح بن عبد الرحمن التميمى الكاتب يفصل بين الآيات كلها وبين تبيعتها من الكتاب كيف وقعت وكان يقول: ما استؤنف «ان» الا وقع الفصل، وكان جبل بن يزيد يفصل بين الفاءات كلها، وفصل المأمون عند «حتى».
فالفصل كما أفهم من هذا الكلام فى الكتابة ترقيم، وفى الكلام وقف، وهو فى كل يحدد تمام العبارة، وهذا قريب من الفصل فى معناه العلمى المحدد فى البلاغة، ولكنه ليس هو لأن الفصل عندنا ترك الوصل وقد يكون لشدة ارتباط الكلام وتآخيه، أو لشدة تباعده واختلافه، والفصل المذكور فى الصناعتين قريب من الفصل البلاغى الذى يكون لشدة تباعد الكلام واختلافه، أعنى لكمال الانقطاع لأنه هو الذى يصح فيه الوقف.
فاذا أردنا أن نتتبع نشأة البحث فى الفصل والوصل بحثا علميا، كما هو مقرر فى كتب البلاغة فلن نجد شيئا قبل القرن الخامس يمكن أن يعتد به اذا استثنينا هذه الاشارات التى أشار اليها الرمانى والباقلانى وليس فيها كبير عناء، يقول أستاذنا الأستاذ كامل الخولى:
«ونحن اذا بحثنا فيما وصل الينا من التأليف العربى عن أول حديث عن الفصل والوصل لجهدنا ولا نجده اذا بحثنا فيما وصل الينا من مؤلفات القرن الثانى التى تعرضت لبعض المباحث البلاغية كمجاز القرآن
__________
(168) الصناعتين ص 350(1/176)
لأبى عبيدة، ومعانى القرآن للفراء، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة» (169).
نعم، كانت هناك اشارات قد تكون أقرب الى الروح العلمية من اشارات الرمانى والباقلانى وأبى هلال، ولكنها قليلة ونادرة.
من ذلك ما قاله الشريف المرتضى فى أماليه فى تأويل قوله تعالى:
{«وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا»} (170).
يقول المرتضى: «ويمكن أيضا على هذا الوجه مع عطف «الراسخين» على ما تقدم واثبات العلم بالمتشابه لهم أن قوله {«يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ»}
استئناف جملة استغنى فيها عن حرف العطف كما استغنى فى قوله:
{«سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ»} (171) ونحو ذلك مما للجملة الثانية فيه التباس فى الجملة الأولى فيستغنى به عن حرف العطف ولو عطف بحرف العطف كان حسنا ينزل الملتبس منزلة غير الملتبس» (172).
وهذا قريب جدا من دراسات عبد القاهر فى هذا الباب.
وعلينا أن نذكر أن النحاة درسوا الجملة الواقعة بدلا أو بيانا أو تأكيدا كما درسوا العطف للاستئناف، وغير ذلك مما صار أصولا تقوم عليها دراسة الفصل والوصل، فى كتب البلاغيين، ولذلك نقول: ان ما سوف نعرض له فى ايجاز من كلام عبد القاهر فى هذا الباب كانت له أصوله فى كتب النحو وكانت له اشارات تبعد وتقرب فى كتب البلاغيين، ولكن مهما يكن من أمر فقد كان عبد القاهر هو الذى نفث فى الدراسة النحوية روح البلاغة كما بسط اشارات المتقدمين.
وقد بدأ عبد القاهر ببيان أهمية معرفة موضع فصل الجمل ووصلها، وأشار الى أن هذا لا يدركه الا من أوتى فنا من المعرفة فى
__________
(169) صور من تطور البيان العربى ص 41
(170) آل عمران: 7
(171) الكهف: 22
(172) أمالي المرتضى ج 1ص 96ط. السعادة(1/177)
ذوق الكلام، ثم نظر فى عطف المفرد فوجد أن ذلك يكون للاشراك فى الحكم، فاذا كانت الجملة ذات محل من الاعراب فحكمها حكم المفرد، اذا أريد التشريك عطفت، واذا لم يرد التشريك فصلت، والأمر فى هذا سهل «والذى يشكل أمره هو الضرب الثانى وذلك أن تعطف على الجملة العارية الموضع من الاعراب جملة أخرى كقولك: زيد قائم وعمر قاعد، والعلم حسن والجهل قبيح».
ثم يقرر عبد القاهر أن الاشكال يقع فى العطف بالواو دون غيرها من أدوات العطف، وذلك لأن هذه الأدوات لها معان تفيدها مع العطف، فالفاء للترتيب من غير تراخ، و «ثم» للترتيب مع التراخى، و «أو» لتردد الفعل بين شيئين الى آخره فهى ليست متمحضة للتشريك كالواو، واذا كانت الواو لا معنى لها سوى التشريك فى الحكم فاذا لم يكن هناك حكم اعرابى عرض الاشكال.
وبهذا التحديد الذى أخرج الجمل التى لها محل من الاعراب مما يغمض ويعترض فيه الاشكال وأخرج كذلك غير الواو من أدوات العطف أخذ عبد القاهر يدرس الفصل والوصل فى هذه الدائرة التى حددها وكان ذلك اتجاها سار فيه من بعده من البلاغيين.
ثم أخذ عبد القاهر يتحدث عن ضرورة أن يكون المتحدث عنه فى الجملتين بسبب من المحدث عنه فى الأخرى، ولذلك عابوا أبا تمام فى قوله:
لا، والذى هو عالم أن النّوى ... صبر وأنّ أبا الحسين كريم
«وأن يكون الخبر عن الثانى مما يجرى مجرى الشبيه والنظير أو النقيض للخبر عن الأول. فلو قلت: زيد طويل القامة وعمرو شاعر كان خلفا، وجملة الأمر أنها لا تجىء، حتى يكون المعنى فى هذه الجملة لفقا لمعنى فى الأخرى ومضاما له مثل أن زيدا وعمرا اذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكى الأحوال على الجملة كانت الحال التى يكون عليها أحدهما من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك مضمومة فى النفس الى
الحال التى عليها الآخر من غير شك، وكذا السبيل أبدا والمعانى فى ذلك كالأشخاص فانما قلت مثلا: العلم حسن والجهل قبيح، لأن كون العلم حسن مضموما فى العقول الى كون الجهل قبيحا» (173).(1/178)
لا، والذى هو عالم أن النّوى ... صبر وأنّ أبا الحسين كريم
«وأن يكون الخبر عن الثانى مما يجرى مجرى الشبيه والنظير أو النقيض للخبر عن الأول. فلو قلت: زيد طويل القامة وعمرو شاعر كان خلفا، وجملة الأمر أنها لا تجىء، حتى يكون المعنى فى هذه الجملة لفقا لمعنى فى الأخرى ومضاما له مثل أن زيدا وعمرا اذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكى الأحوال على الجملة كانت الحال التى يكون عليها أحدهما من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك مضمومة فى النفس الى
الحال التى عليها الآخر من غير شك، وكذا السبيل أبدا والمعانى فى ذلك كالأشخاص فانما قلت مثلا: العلم حسن والجهل قبيح، لأن كون العلم حسن مضموما فى العقول الى كون الجهل قبيحا» (173).
ثم يقول عبد القاهر: «واعلم أنه اذا كان المخبر عنه فى الجملتين واحدا كقولنا: هو يقول ويفعل ويضر وينفع وأشباه ذلك، ازداد معنى الجمع قوة وظهورا واذا وقع الفعلان فى مثل هذا فى الصلة ازداد الاشتباك والاقتران حتى لا يتصور تقدير أفراد فى أحدهما عن الآخر وذلك فى مثل قولك: العجب من أنى أحسنت وأسأت، وأ يحسن أن تنه عن شىء وتأتى مثله؟، وذلك أنه لا تشتبه على عاقل أن المعنى على جعل الفعلين فى حكم فعل واحد» (174). وهذا كلام مهم، وفيه أن دمج الكلام وشد أسره يأتى على طبقات تتفاوت، وأن تحليل شدة الأسر وقوة السبك وما شابه ذلك أمر ممكن.
وواضح أن الجمل هنا ذات محل من الاعراب فهى من النوع الذى لا يعرض فيه الاشكال ولكن عبد القاهر يسكت عن هذا.
ثم أخذ يدرس دواعى الفصل وقاس الأمر فى الجملة على الأمر فى المفرد، فكما أن الصفة لا تحتاج الى واصل يصل معناها بالذى قبله لأنها قائمة به فهى متصلة به اتصالا معنويا يغنى عن الرابط عبر عنه عبد القاهر بقوله: لاتصالها به من ذات نفسها، فكذلك الجمل منها ما يتصل بما قبله اتصال الصفة بالموصوف من غير واصل يصله وضرب لذلك قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ»} (175)، وقوله تعالى:
{«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ، وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ»} (176)، وقوله تعالى: {«وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ}
__________
(173) دلائل الاعجاز ص 147، 148
(174) المرجع السابق
(175) البقرة: 1، 2
(176) البقرة: 6، 7(1/179)
{الْآخِرِ»} (177) الى آخر الآيات. وقوله تعالى: {«وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا وَلََّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً»} (178). وقد حلل كل هذا تحليلا دقيقا وبصيرا بين فيه الروابط الخفية بينها، وهو فى هذا بصير كل البصر بأحوال المعانى ومناسبات بعضها لبعض وما بينها من التفاوت فى القوة والوكادة، فقوله: {«كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً»} أبلغ فى الدلالة على عدم الافادة من قوله: {«كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا»} وقوله:
{«لََا يُؤْمِنُونَ»} تأكيد لقوله: {«سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ»}، وقوله: {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ»} تأكيد ثان أبلغ من الأول، وقوله:
{«إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ»} هو قوله: {«إِنََّا مَعَكُمْ»} أى لم نترك اليهودية.
واذا كان ارتباط المعنى بما قبله يحتمل وجوها أشار اليها الجرجانى كما فى قوله تعالى: {«مََا هََذََا بَشَراً إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ»} (179)
وذلك أن قوله: {«إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ»} مشابك لقوله: {«مََا هََذََا بَشَراً»} وداخل فى ضمنه من ثلاثة أوجه «وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد ووجه هو فيه شبيه بالصفة، فأحد وجهى كونه شبيها بالتأكيد: هو أنه اذا كان ملكا لم يكن بشرا واذا كان كذلك كان اثبات كونه ملكا تحقيقا لا محالة وتأكيدا لنفى أن يكون بشرا، والوجه الثانى: أن الجارى فى العرف والعادة أنه اذا قيل: ما هذا بشرا، وما هذا بآدمى، والحال حال تعظيم وتعجب مما يشاهد فى الانسان من حسن خلق أو خلق أن يكون الغرض والمراد من الكلام أن يقال: انه ملك وأن يكنى به عن ذلك حتى انه يكون مفهوم اللفظ، واذا كان مفهوما من اللفظ قبل أن يذكر كان ذكره اذا ذكر تأكيدا لا محالة لأن حد التأكيد أن تحقق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك، أفلا ترى أنه انما كان «كلهم» فى قولك:
جاءنى القوم كلهم، تاكيدا من حيث كان الذى فهم منه الشمول قد فهم
__________
(177) البقرة: 8
(178) لقمان: 7
(179) يوسف: 31(1/180)
بديئا من ظاهر لفظ «القوم»، ولو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ «القوم» ولا كان هو من موجبه لم يكن «كل» تأكيدا ولكان الشمول مستفادا من «كل» ابتداء، وأما للوجه الثالث الذى هو فيه شبيه بالصفة: فهو أنه اذا نفى أن يكون بشرا فقد أثبت له جنس سواه، اذ من المحال أن يخرج من جنس البشر ثم لا يدخل فى جنس آخر، واذا كان الأمر كذلك كان اثباته ملكا تبيينا وتعيينا لذلك الجنس الذى أريد ادخاله فيه» (180).
ثم يتكلم عبد القاهر فى ترك العطف فى الجملة التى يكون حالها مع التى قبلها حال ما يعطف ويقرن الى ما قبله، وانما وجب فيها ترك العطف لأنه قد عرض ما يوجب ذلك ويذكر قوله تعالى: {«اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ»} (181) والظاهر أن يعطف على قوله تعالى: {«إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ»} (182) وهو فى هذا نظير قوله تعالى:
{«يُخََادِعُونَ اللََّهَ وَهُوَ خََادِعُهُمْ»} (183)، {«وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ»}، (184)
وما أشبه ذلك مما يرد فيه العجز على الصدر، وانما ترك العطف هنا لأن قوله: {«إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ»} حكاية عنهم وقوله: {«اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ»} خبر عن الله والعطف حينئذ يمتنع لاستحالة أن يكون الذى هو خبر عن الله تعالى معطوفا على ما هو حكاية عنهم (185).
ثم ذكر قوله تعالى: {«وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ»} (186)
وبين أن العلة فى امتناع عطف {«إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ»} على قوله: {«إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»} هو ما ذكروه فى الآية السابقة من كون أحدهما خبرا من الله تعالى والآخر حكاية عنهم.
__________
(180) دلائل الاعجاز ص 150، 151
(181) البقرة: 15
(182) البقرة: 14
(183) النساء: 142
(184) آل عمران: 54
(185) دلائل الاعجاز ص 152
(186) البقرة: 11، 12(1/181)
كذلك يمتنع عطف: {«اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ»} على «قالوا» لأن العطف يؤدى الى ادخاله فى حكم الشرط حيث كان قوله «قالوا» جوابا لقوله:
{«وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ»} (187).
وبعد بيان هذه الأمور الدقيقة يذكر عبد القاهر وجها ثانيا من وجوه القطع والاستئناف وهو وقوع الكلام جوابا لسؤال مقدر.
ويذكر فى هذا قول الشاعر وهو من الشواهد المشهورة:
زعم العواذل أنّنى فى غمرة ... صدقوا ولكن غمرتى لا تنجلى
وقول الآخر:
زعم العواذل أن ناقة جندب ... بجنوب خبت عرّيت وأجمّت
كذب العواذل لو رأينا مناخنا ... بالقادسيّة فلن لجّ وزلّت
ثم لحظ فى البيتين الأخيرين معنى زائدا على البيت السابق ذلك هو وضع الظاهر موضع المضمر ليتأكد أمر القطع من حيث وضع الكلام وضعا لا يحتاج فيه الى ما قبله وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام.
ثم ذكر قول الآخر:
زعمتم أنّ أخواتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف
وبين أن قوله: «لهم الف وليس لكم آلاف» بيان لمحذوف تقديره:
كذبتم، ولو عطف هذا وقال: ولهم الف، لخرج عن أن يكون جواب سؤال مقدر كما يخرج لو قال: وكذبتم، ثم لحظ أنه لو صرح بالمحذوف وقال:
زعمتم أن اخوتكم قريش كذبتم، لحسن أن يجيء الفاء فى قوله «لهم الف» فيصير الكلام: زعمتم أن اخوتكم قريش، كذبتم فلهم ألف» وهو كلام مستقيم، أما مع الحذف فلا مساغ لدخول الفاء.
__________
(187) البقرة: 14(1/182)
ثم ذكر قوله:
ملّكته حبلى ولكنّه ... ألقاه من زهد على غارب
وقال إنى فى الهوى كاذب ... انتقم الله من الكاذب
واعتبره من الاستئناف اللطيف.
وقد كثرت الشواهد التى ساقها لهذا النوع من الاستئناف وكان له فى كل شاهد ملحظ كما أشرنا، ومن ذلك ما لحظه من ضرورة اعادة الفعل فى جواب هذا السؤال المقدر، يقول فى قول الشاعر:
وما عفت الرّياح له محلّا ... عفاه من حدا بهم وساقا
وقوله:
عرفت المنزل الخالى ... عفا من بعد أحوال
عفاه كلّ حنّان ... عسوف الوبل هطّال
«واعلم أن السؤال اذا كان ظاهرا مذكورا فى مثل هذا كان الأكثر ألا يذكر الفعل فى الجواب ويقتصر على الاسم وحده، فأما مع الاضمار فلا يجوز الا أن يذكر الفعل. تفسير هذا أنه يجوز لك اذا قيل: ان كانت الرياح لم تعفه فما عفاه؟ أن تقول: من حدا بهم وساقا، ولا تقول: عفاه من حدا، كما تقول فى جواب من يقول: من فعل هذا؟:
زيد. ولا يجب أن تقول: فعله زيد، وأما اذا لم يكن السؤال مذكورا كالذى عليه البيت فانه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل» (188).
ثم يقرر الجرجانى أن الفصل فى أساليب المقاولة وارد على هذه الطريقة، وذكر لهذا أمثلة كثيرة منها قوله تعالى: {«قََالَ فِرْعَوْنُ وَمََا رَبُّ الْعََالَمِينَ. قََالَ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمَا، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قََالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلََا تَسْتَمِعُونَ. قََالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبََائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قََالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ}
__________
(188) دلائل الاعجاز ص 156.(1/183)
{الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قََالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمََا بَيْنَهُمََا، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ»} (189).
ثم لخص نتائج هذا البحث فى قوله:
«واذ قد عرفت هذه الأصول والقوانين فى شأن فصل الجمل ووصلها فاعلم أنا قد حصلنا من ذلك على أن الجمل على ثلاثة أضرب:
جملة حالها مع التى قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد، فلا يكون فيها العطف البتة لشبه العطف فيها لو عطفت بعطف الشيء على نفسه. وجملة حالها مع التى قبلها حال الاسم يكون غير الذى قبله الا أنه يشاركه فى حكم ويدخل معه فى معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا اليه فيكون حقها العطف. وجملة ليست فى شىء من الحالين بل سبيلها مع التى قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه فى شىء فلا يكون اياه ولا مشاركا له فى معنى بل هو شىء ان ذكر لم يذكر الا بأمر ينفرد به ويكون ذكر الذى قبله وترك الذكر سواء فى حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأسا، وحق هذا ترك العطف البتة فترك العطف يكون اما للاتصال الى الغاية أو الانفصال الى الغاية والعطف لما هو واسطة بين الأمرين وكان له حال بين حالين فاعرفه» (190).
هذه هى الأصول التى استخرج منها المتأخرون قوانينهم فى هذا الباب ولم يزد جهدهم فيه عن التقسيم والتفريع، كما كانت الشواهد التى قدمناها مادتهم فى بيان أقسامهم. وهذا الباب يمكن أن يتسع وأن تدخل فيه بحوث جيدة ونافعة ويكون بذلك بديلا نافعا لما يقتبسه المقتبسون فى وحدة الغرض أو الوحدة العضوية، وقد وسعناه بقدر ما سمح السياق فى دراسات لنا أخرى (191).
__________
(189) الشعراء: 2823
(190) دلائل الاعجاز ص 158.
(191) ينظر كتاب دلالات التراكيب، الطبعة الثانية، وبحث الصورة فى التراث البلاغى: المجلة العلمية لكلية اللغة العربية جامعة الأزهر العدد الرابع.(1/184)
البحث فى التشبيه:
قد تكلم الناس فى التشبيه وفى اصابته وفى الأمثال السائرة منذ عنوا بالنظر فى شئون الأدب والشعر، ولذلك كان التشبيه أسبق مباحث البلاغة وأولها، وقد تتابعت فيه أقوال العلماء والنقاد، ودارت حوله مباحث كثيرة قبل الزمخشرى، ويمكن أن نقول ان بحث التشبيه قد استوى قبل كتاب الكشاف، ولذلك لا نرى للزمخشرى فيه أثرا كبيرا، كما نرى ذلك له فى أبواب البلاغة الأخرى، واذا نظرنا الى دراسته للتشبيه كما حددنا ملامحها فلن نجد فيها شيئا جديدا يلفتنا اليها، اللهم الا ما ينفذ اليه ببصيرته الأدبية فى تحليل صور الأمثال فى كتاب الله، وقد كنت أردت أن أعرض دراسة عبد القاهر للتشبيه فى هذا البحث مستغنيا بها عن غيرها من الدراسات السابقة لأنها بحق خلاصة مركزة لما سبقه فى هذا الباب مع اضافات وابتكارات ذات قيمة كبيرة، فهى أكمل صورة لدراسة التشبيه قبل الزمخشرى، الا أننى رأيت أن أشير اشارات قصيرة وموجزة الى بعض الجهود السابقة، وقد كتب أستاذنا الأستاذ كامل الخولى رحمه الله بحثا ضافيا عن تطور دراسة التشبيه وتتبع فى بصر مراحل هذا التطور. فعرض لدراسة أبى عبيدة واستخلص فى نهاية حديثه جهوده وركزها فى قوله: «ويبدو من فهم أبى عبيدة للصورة البيانية أنه لا يتعدى الفهم اللغوى فهو يتعرض للفن البيانى بحسب ما تفسره اللغة، فكلمة مجاز عنده طريق المعنى، وكلمة تمثيل كما فسرتها اللغة ترادف كلمة تشبيه» (192).
وكذلك يقول فى تلخيص جهود الفراء ناظرا الى ما أضافه الى البحث بعد أبى عبيدة مشيرا الى أن الفراء قد خطا بالتشبيه خطوة بعد أبى عبيدة الذى اكتفى بذكر كلمة تشبيه أو تمثيل من غير زيادة أو تفصيل، لكنا نرى الفراء قد تعرض للطرفين بشيء من التفصيل الى حد أنه بين أن التشبيه فى الآية الأولى يعنى قوله تعالى: {«فَإِذَا انْشَقَّتِ}
__________
(192) صور من تطور البيان العربى ص 58.(1/185)
{السَّمََاءُ فَكََانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهََانِ»} (193) من النوع المتعدد وان لم يصرح بذلك. فقد شبهت السماء بالوردة فى التلون ثم شبهت الوردة بالدهن أو الدهان، ثم أخذ يبين أحوال الوردة التى تتشابه مع أحوال السماء وبين وجه الشبه فى التشبيه (194).
وهكذا يحدد لنا هذا البحث جهد كل امام من الأئمة وما أضافه لاكتمال هذا البناء العلمى لمبحث التشبيه. فذكر الجاحظ ثم المبرد وبين منهجه فى العناية بالشواهد حتى كانت شواهده ذخرا لمن درس التشبيه بعده، وذكر أنه لم يعن بتعريف ولا تحديد ولا ضبط للأقسام، فهو اذا قسم عرف كل قسم بشواهده ومثله ولم يذكر ضابطا واحدا فيما كتب عن التشبيه، وذكر امام أهل الكوفة أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وعرض جهوده، ولحظ أنه يذكر بعض شواهد المبرد، ثم ذكر أنه لم يضف شيئا الى بحث التشبيه لأننا لا زلنا نتعرف التشبيه عنده بمثله وشواهده من غير ضبط ولا تقسيم ولا بيان لأسلوب التشبيه. ثم عرض لجهد ابن المعتز وقارن بينه وبين أستاذيه المبرد وثعلب ولحظ أنه يجعل بعض صور الاستعارة من التشبيه، ثم لخص جهود الأئمة حتى نهية القرن الثالث بقوله: «وهذا عرض يوضح ملامح التشبيه فى القرن الثالث لم يعرف ولم تحدد أقسامه برسوم تخصها، واعتمد فى بيانه على عرض مثل لا تخصه بل أدخل فيها بعض مثل الاستعارات، وتمثل الفهم الأدبى فى دراسة البلاغة الذى يعتمد على كثرة الشواهد من الشعر القديم والحديث وينقص هذا العرض الرائع الجميل للبيان والتحليل لأسلوب التشبيه بيان لطرفيه ووجهه والغرض منه» (195).
ثم يذكر جهد العلماء فى القرن الرابع فيذكر فى مطلعهم محمد ابن أحمد بن طباطبا، ويعرض جهوده فى التشبيه ثم يرى أن بحثه
__________
(193) الرحمن: 37
(194) صور من تطور البيان العربى
(195) المرجع السابق ص 71(1/186)
أكثر تفصيلا مما رأيناه فى القرن الثالث، وأننا وان كنا رأينا تقسيما للمبرد الا أن تقسيم ابن طباطبا أقرب الى صور التشبيه وألوانه المختلفة التى انتهى اليها، ثم يعرض لقدامة ويذكر تلخيصا لدراسته فى التشبيه ثم يعقب عليها بقوله: «وقد خطا قدامة بالتشبيه وتقدم به، فقد بين معناه وصفته وقسمه وميز كل قسم بما أصفى على الأقسام من خواص وصفات ولم يقتصر كعلماء القرن الثالث على ايراد المثل فحسب بل ذكر صورا للتشبيه مميزة واضحة وعرض لما يحسن من التشبيه باسهاب وافاضة» (196).
وبهذه الطريقة ذكر الأستاذ الفاضل جهد الرمانى وبين أخذ العلماء عنه، ثم ذكر جهد أبى هلال العسكرى وعقب عليه بقوله:
«فأبو هلال عرض للتشبيه عرضا مبسوطا شاملا فقد عرض التشبيه وذكر أداته وبين فائدة التشبيه فى الكلام وأنه كثير وجار على جميع الألسنة وتعرض لطريقة العرب فى تشبيهاتهم وما أبقوا منها، وقسم التشبيه ونوعه وان كان اعتمد فى تقسيماته على ابن طباطبا وأبى الحسن الرمانى فتقسيم التشبيه باعتبار الصورة واللون والحركة قدمناه لابن طباطبا وتقسيم التشبيه على أربعة أوجه: اخراج ما لا يدرك بالحاسة الى ما يدرك الى آخر الأقسام قدمنا نقله بحذافيره عن أبى الحسن الرمانى، ولكن أبا هلال قد عرض للتشبيه الذى حذف منه الوجه والأداة المعروف عند المتأخرين بالتشبيه البليغ وبين أنه تشبيه ولم يدخله فى الاستعارة وان كان قد أدخل مثلا كثيرة من الاستعارة أوردنا بعضها فى باب التشبيه» (197). وكنت قرأت بحث التشبيه فى هذه الكتب وجمعت قدرا صالحا مما ذكروه فى هذا الباب.
ثم رأيت أن الأنسب فى كتابة مقدمة مركزة عن بحث التشبيه أن أعرض هذه الخلاصات، وهذه النتائج التى انتهى اليها هذا البحث فى
__________
(196) صور من تطور البيان العربى ص 76
(197) المرجع السابق ص 88، 89(1/187)
دراسته لتطور التشبيه وذلك يعنى أننى لم أجد فيما قرأت وجمعت واستنبطت ما يخالف هذه النتائج.
ثم ان هناك بعض جهود أريد أن أشير اليها فى هذه الدراسة الموجزة.
من ذلك حديث عن التشبيه المقلوب أثاره العلامة ابن جنى فى محاولاته الفذة التى يحول فيها ربط الخصائص النحوية بالمعانى الشعرية، وهذه مسألة لم نقف عندها وفيها علم مفيد لمن يتقصى ويتأمل. يقول أبو الفتح فى باب ترجمه بباب غلبة الفروع على الأصول: هذا فصل من فصول العربية طريف تجده فى معانى العرب كما تجده فى معانى الاعراب، ولا تكاد تجد شيئا من ذلك الا والغرض فيه المبالغة، فمما جاء فيه ذلك للعرب قول ذى الرمة:
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادس
أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعا والفرع أصلا وذلك أن العادة والعرف فى نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء، ألا ترى الى قوله:
ليلى قضيب تحته كثيب ... وفى القلادة رشأ ربيب
والى قول ذى الرمة أيضا:
ترى خلفها نصفا قناة قويمة ... ونصفا نقا يرتجّ أو يتمرمر
فقلب ذو الرمة العادة والعرف فى هذا، فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء، وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة أى قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء، وصار كأنه الأصل فيه حتى شبه به كثبان الأنقاء. ومثله للطائى الصغير:
فى طلعة البدر شىء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنّيها (198)
__________
(198) الخصائص ج 1ص 302300.(1/188)
ثم يقول: «وهذا المعنى عينه قد استعمله النحويون فى صناعتهم فشبهوا الأصل بالفرع الذى أفاده ذلك الفرع من ذلك الأصل، ألا ترى أن سيبويه أجاز فى قولك: هذا الحسن الوجه، أن يكون الجر فى الوجه من موضعين أحدهما الاضافة والآخر تشبيهه بالضارب الرجل الذى انما جاز فيه الجر تشبيها له بالحسن الوجه» (199).
والذى ألهم ابن جنى هذا الربط الفذ بين معانى الشعر وتفسير وجوه الاعراب شيخه أبو على الفارسى فقد ذكر فى باب مشابهة معانى الاعراب معانى الشعر أن شيخه أبا على نبهه من هذا الموضع على أغراض حسنة، من ذلك قولهم فى «لا» النافية للنكرة أنها تبنى معها فتصير كجزء من الاسم نحو: لا رجل فى الدار، ولا بأس عليك، وأنشدنا فى هذا المعنى قوله:
خيط على زفرة فتمّ ولم ... يرجع إلى دقّة ولا هضم
وتأويل ذلك أن هذا الفرس لسعة جوفه واجفار محزمه كأنه زفر، فلما اغترق نفسه بنى على ذلك فلزمته تلك الزفرة فصيغ عليها لا يفارقها، ما أن الاسم بنى على «لا» حتى خلط بها لا تفارقه ولا يفارقها، وهذا موضع متناه فى حسنه آخذ بغاية الصنعة من استخرجه (200).
ثم يقول بعد ذكر أمثله أخرى نبهه اليها أستاذه:
«ووجدت أنا من هذا الضرب أشياء صالحة من ذلك قول من اختار الفعل الثانى لأنه العامل الأقرب نحو: ضربت وضربنى زيد، وضربنى وضربت زيدا، فنظير معنى هذا معنى قول الهذلي:
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضى
ثم ذكر بعض الأبيات التى تتناول هذا المعنى، ثم قال: ومما جاء
__________
(199) ينظر الخصائص ج 2ص 170، 171.
(200) الخصائص ج 1ص 40، 303، 304.(1/189)
فى معنى اعمال الأول. قول الطائى الكبير:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل
ويستشهد على اعراب المجاورة فى قولهم: «هذا جحر صب خرب» بقولهم: يؤخذ الجار بجرم الجار (201) وهذا لون جيد من النظر تتكشف فيه أسرار فى نظام اللغة وحكمة أصولها وما يداخل هذه الأصول من نسق فكرى يتناغى فيه مع خواطر النابهين من الشعراء. ولا ريب أن الشعراء لهم الحظ الأوفر فى تأصيل قيم لغاتهم وأصولها النحوية والبلاغية. والمهم فى هذا حديث التشبيه المقلوب الذى لم يكن بارزا فى دراسة المهمتين بالأدب والشعر.
ثم ان هناك اشارات لابن رشيق قد يكون مسبوقا بها لا محالة لأنها كثيرة على ألسنة الرواة والنقاد وأعنى بها الاشارة الى نشوء فنون معينة من التشبيه فى الأدب العربى وبيان متى نشأت ومن ابتكرها، وهذا نوع من تتبع الصور البيانية على ألسنة الشعراء والأدباء، وقد يكون هذا من صميم دراسة تاريخ الأدب ولكن لا بأس بالاشارة اليه فى علم البلاغة، والمهم أن نسجل هذه اللفتة السّخيّة فى دراسة التشبيه، فابن رشيق يقول فى نشأة التشبيه المتعدد: «وأصل التشبيه مع دخول الكاف وأمثالها أو «كأن» وما شاكلها تشبيه الشيء بشيء فى بيت واحد الى أن وضع امرؤ القيس فى صفة العقاب:
كأن قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى
فشبه شيئين بشيئين فى بيت واحد وأتبعه الشعراء فى ذلك
وحكى عن بشر أنه قال ما قرّ بى القرار منذ سمعت قول امرئ القيس «كأن قلوب الطير رطبا ويابسا»، حتى صغت:
كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (202)
__________
(201) الخصائص ج 2ص 168.
(202) العمدة: ج 2ص 290، 291.(1/190)
وقد كانت للقاضى الجرجانى اشارات هامة انتفع بها عبد القاهر ومن جاء بعده من البلاغيين، من ذلك حديثه فى الفرق بين التشبيه البليغ والاستعارة، فقد قال فى هذا: وربما جاء من هذا الباب ما يظنه الناس استعارة وهو تشبيه أو مثل، فقد رأيت بعض أهل الأدب ذكر أنواعا من الاستعارة عد فيها قول أبى نواس:
والحبّ ظهر أنت راكبه ... فإذا صرفت عنانه انصرفا
«ولست أرى هذا وما أشبهه استعارة، وانما معنى البيت: أن الحب مثل ظهر أو الحب كظهر تديره كيف شئت اذا ملكت عنانه فهو اما ضرب مثل أو تشبيه شىء بشيء، وانما الاستعارة ما اكتفى فيها بالاسم المستعار عن الأصل ونقلت العبارة فجعلت فى مكان غيرها وملاكها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له للمستعار منه وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة ولا يبين فى أحدهما اعراض عن الآخر» (203)
وكان لهذا الكلام أثر بين فيما ذكره الجرجانى فى هذا الموضوع وهو لم يخرج عنه فى جملته وقد أفاد منه الزمخشرى أيضا حين تكلم عن الفرق بين التشبيه والاستعارة، ومن اشارات القاضى الجرجانى التى كان لها أثر بين فى دراسة عبد القاهر قوله: «وللشعراء فى التشبيه أغراض، فاذا شبهوا بالشمس فى موضع الوصف بالحسن أرادوا به البهاء والرونق والضياء ونصوع اللون والتمام، واذا ذكروه فى الوصف بالنباهة والشهرة أرادوا به عموم مطلعها وانتشار شعاعها واشتراك الخاص والعام فى معرفتها وتعظيمها، واذا قرنوه بالجلال والرفعة أرادوا به أنوارها وارتفاع محلها، واذا ذكروه فى باب النفع والارفاق قصدوا به تأثيرها فى النشوء والنماء والتحليل والتصفية، ولكل واحد من هذه الوجوه باب مفرد وطريق متميز، فقد يكون المشبه بالشمس فى العلو والنباهة والنفع والجلالة أسودا وقد يكون منير الفعال كمد اللون واضح الأخلاق كاسف المنظر» (204)
__________
(203) الوساطة ص 41.
(204) الوساطة ص 474.(1/191)
وقد تأثر بهذا عبد القاهر وهو يبين قيمة التمثيل، وأنك تستطيع أن تأخذ من الشيء الواحد أشباها عدة، يقول عبد القاهر: «وانه ليأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدة ويشتق من الأصل الواحد أغصانا فى كل غصن ثمر على حدة نحو أن الزند بايرائه يعطيك شبه الجواد والذكى الفطن وشبه النجح فى الأمور والظفر بالمراد، وباصلادة البخيل الذى لا يعطيك شيئا والبليد الذى لا يكون له خاطر ينتج فائدة ويخرج معنى، وشبه من يخيب سعيه ويعطيك من القمر الشهرة فى الرجل والنباهة والعز والرفعة ويعطيك الكمال عن النقصان والنقصان بعد الكمال كقولهم: هلال نما فعاد بدرا» (205) الى آخره، وكان أوضح عمل لعبد القاهر فى باب التشبيه هو تقسيمه الى تمثيل وتشبيه وجعل التشبيه عاما والتمثيل خاصا فكل تمثيل تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلا.
فالتمثيل هو ما يكون الشبه فيه محصلا بضرب من التأول، والتشبيه ما يكون الشبه فيه أمرا بينا لا يحتاج الى تأول، والذى أوجب انقسام التشبيه الى هذين القسمين هو أن الاشتراك قد يكون فى الصفة نفسها وقد يكون فى حكم لها، فالشجاع يشارك الأسد فى الشجاعة، والخد يشارك الورد فى الحمرة، والكلام لا يشارك العسل فى الحلاوة فى قولنا:
كلام كالعسل فى الحلاوة، وانما يشاركه فى حكم لها وأمر تقتضيه وهو ميل النفس، ولهذا كان التشبيه أصلا والتمثيل فرعا، ولأن الاشتراك فى الصفة يسبق فى التصور الاشتراك فى مقتضى الصفة، كما أن الصفة نفسها مقدمة فى الوهم على مقتضاها، ولأن المتبادر من كلام الناس هو التشبيه الصريح دون التمثيل.
__________
(205) أسرار البلاغة ص 106، 107. وهذه اللفتة يمكن أن نستخرج بها علما نافعا حين نطبقها على دراسة تشبيهات شاعر معين ونحدد العناصر التى استعملها فى تشبيهاته (المشبه به) ونقف عند كل عنصر لنحدد المعانى التى استخرجها من هذا العنصر (ينظر مقدمة الطبعة الثانية لكتابنا: دلالات التراكيب).(1/192)
ثم تكلم عبد القاهر عن انتزاع الشبه العقلى من أمور عدة وذكر الآية المشهورة فى هذا الباب وهى قوله تعالى: {«مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ»} (206) وحللها تحليلا لم يسبق به فى دراسات التشبيه الكثيرة التى سبق بها وبين فى بصر وذكاء قيمة القيود فى رسم صورة التشبيه وكيف روعى فى الحمار فعل مخصوص وهو الحمل وكيف روعى فى المحمول خصوصية معينة وهى كونه أسفارا للحكمة.
ثم يذكر صورة للشبه المنتزع من أمرين لا يقع فيهما هذا التشابك ولا هذا الاختلاط وهو التشبيه المتعدد، وذلك قولهم: هو يصفو ويكدر ويمر ويحلو، وواضح أن هذه الصور من الاستعارة.
ثم يذكر أن الشبه قد ينتزع من الشيء لأمر يرجع الى نفس ذلك الشيء، وذلك كتشبيه الكلام بالعسل فى الحلاوة، فاذا كان وجه الشبه يرجع الى ميل النفس وهى الصفة المشتركة بين الطرفين فاننا نجد أن الكلام نفسه يوصف بهذه الصفة، والعسل نفسه يوصف بهذه الصفة.
وقد ينتزع الشبه من الشيء لأمر لا يرجع الى نفسه ومثاله أن يتعدى الفعل الى شىء مخصوص يكون له من أجله حكم خاص كقولهم: هو كالقابض على الماء، فان الوجه لا ينتزع من القبض نفسه وانما ينتزع مما بين القبض والماء.
يقول عبد القاهر فى هذا: «واعلم أن الشبه اذا انتزع من الوصف لم يخل من وجهين: أحدهما أن يكون لأمر يرجع الى نفسه، والآخر أن يكون لأمر لا يرجع الى نفسه. فالأول ما مضى من نحو تشبيه الكلام بالعسل فى الحلاوة، وذلك أن وجه الشبه هناك أن كل واحد منهما يوجب فى النفس لذة وحالة محمودة، ويصادف منها قبولا. وهذا حكم واجب للحلاوة من حيث هى حلاوة أو للعسل من حيث هو عسل».
__________
(206) الجمعة: 5(1/193)
وقد فهم الأستاذ المرحوم عبد الهادى العدل رحمه الله أن عبد القاهر يريد فى هذا الفصل نوعا خاصا من التمثيل وهو ما كان المشبه به فيه وصفا وأراد به الفعل والحدث سواء عبر عنه بفعل اصطلاحى أم باسم فاعل أم بمصدر أم بغيرهما، ثم قال: «ولعل تمثيل الشيخ لهذا الضرب بقوله: كلام كالعسل فى الحلاوة، سهو أو سبق قلم وكان ينبغى أن يمثل بنحو ما ذكرناه، وذكر عتاب فلان كالضرب فى الايجاع وقولهم: فلان حياة لأوليائه موت لأعدائه، وقولك للغافل: هو كالنائم، وللمضطرب فى مشيه أو كلامه: هو كالسكران».
وليس من الانصاف أن نفترض مرادا معينا لعبد القاهر فنقرر أنه يريد بهذا الفصل كذا ثم بعد ذلك نحكم عليه بالسهو أو سبق القلم لأن مثاله لم يطابق هذا المراد الذى افترضناه. ولعل الذى أوقع شيخنا رحمه الله فى هذا هو ظنه أن الوصف فى قول عبد القاهر: «اعلم أن الشبه اذا انتزع من الوصف» يراد به الصفة وان كان شيخنا افترض أيضا توسع عبد القاهر فى مدلولها فجعلها تشمل الفعل والحدث سواء عبر عنه بفعل اصطلاحى أم باسم فاعل أو بمصدر، وفاته أن الوصف هنا هو المشبه به سواء أكان وصفا بالمعنى الاصطلاحى كالقابض على الماء أو كان غير وصف كالعسل لأن المشبه به وصف معنوى للمشبه وتمثيل عبد القاهر بكلام كالعسل دليل على أنه أراد بالوصف المشبه به مطلقا وليس سهوا منه فقد ذكر فى القسم الثانى أى الوصف الذى ينتزع منه الشبه لأمر لا يرجع الى نفسه قوله تعالى: {«مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهََا كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً»} وليس المشبه به هنا وصفا بالمعنى المذكور.
أما قول عبد القاهر «وهذا حكم واجب للحلاوة من حيث هى حلاوة أو للعسل من حيث هو عسل» فليس ترددا فيما انتزع منه الشبه وليس منشؤه هو السهو أو سبق القلم بذكر هذا المثال والا فان هذا التردد لو صح كان كفيلا بتنبيهه ورجوعه عن سهو، وليس هذا أيضا كلاما غير مفهوم كما يقول العلامة رحمه الله (207)
__________
(207) ينظر دراسات تفصيلية شاملة لبلاغة عبد القاهر فى(1/194)
والذى أفهمه من كلام عبد القاهر هذا، أن وجه الشبه الحقيقى أى الذى تقع فيه الشركة بين الطرفين فى التشبيه التمثيلى له مأخذان كما قرر عبد القاهر، فقد يؤخذ من الوصف الظاهر أى من وجه الشبه الظاهر كالحلاوة فى هذا المثال، فانها وجه شبه ظاهر لأن ميل النفس الذى هو الوجه الحقيقى حكم لها ومقتضى، وقد يؤخذ من المشبه به مباشرة كانتزاع ميل النفس من العسل باعتبار وصفه بالحلاوة، فمعنى كلام عبد القاهر: وهذا حكم أى وميل النفس حكم واجب للحلاوة من حيث هى حلاوة لأنها وصف ظاهر للعسل ولا يوصف بها الكلام الا على طريق التأويل أو حكم واجب للعسل من حيث هو عسل موصوف بالحلاوة التى يلزمها ميل النفس.
ثم ذكر عبد القاهر للشبه الذى ينتزع من الصفة لأمر لا يرجع الى الصفة قوله تعالى: {«كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً»} وبين أن الشبه لا ينتزع من الحمل وانما لا بد من مراعاة أمرين: الأول تعديه للأسفار، والثانى اقتران الجهل به، ومثل هذا قولهم: «أخذ القوس باريها» وقولهم: «ما زال يفتل منه فى الذروة والغارب» وقولهم: «هو كالراقم على الماء» و «كالحادى وليس له بعير» و «كمبتغى الصيد فى عرّيسة الأسد» ثم قال: وعلى الجملة فينبغى أن تعلم أن المثل الحقيقى والتشبيه الذى هو الأولى أن يسمى تمثيلا لبعده عن التشبيه الظاهر الصريح ما تجده لا يحصل لك الا من جملة من الكلام أو جملتين أو أكثر حتى أن التشبيه كلما كان أوغل فى كونه عقليا محضا كانت الحاجة الى الجملة أكثر.
ثم ذكر عبد القاهر قيمة التمثيل وأثره فى توضيح المعنى وله فى هذا كلام مشهور من ذلك قوله: «واعلم أنه مما اتفق العقلاء عليه أن
__________
التشبيه والتمثيل والتقديم والتأخير ص 152تأليف المرحوم الشيخ عبد الهادى العدل.(1/195)
التمثيل اذا جاء فى أعقاب المعانى أو برزت هى باختصار فى معرضه ونقلت عن صورها الأصلية الى صورته كساها أبهة وكسبها منقبة ورفع من أقدارها وشب من نارها وضاعف قواها فى تحريك النفوس لها ودعا القلوب اليها واستثار لها من أقاصى الأفئدة صبابة وكلفا وقصر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا» (208)
ثم تحدث عن أثر التمثيل فى فنون الشعر المختلفة وضرب له أمثلة وقارن بين طريقة التمثيل فى أداء المعنى والطريقة الظاهرة الواضحة.
ثم بسط القول فى أسباب تأثير التمثيل ويدور حديثه فى هذا على خبرة بشئون النفس وأحوالها «فأنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفى الى جلى وتأتيها بصريح بعد مكنى»، والعلم «أتى النفوس أولا من طريق الحواس والطباع ثم من جهة النظر والروية»، «ومن المركوز فى الطبع أن الشيء اذا نيل بعد الطلب أو الاشتياق اليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى» ثم ذكر الجمع بين المتباعدين وهو من أهم أسباب تأثير التمثيل. وذكر الفرق بين دقة الفكر وتعقيد اللفظ، وذكر انتزاع أوصاف عدة من شىء واحد ثم وجوه التفصيل فى الشبه. ثم ذكر التشبيه المركب من شيئين وذكر له قسمين أحدهما أن تقدر صوره بقدر المشبه وهى مما لا يوجد ولا يكون كتشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق، والثانية أن تعتبر فى التشبيه هيئة تحصل من اقتران شيئين، وذلك الاقتران مما يوجد ويكون كقوله:
غدا والصّبح تحت الليل باد ... كطرف أشهب ملق الجلال
ثم يقارن بين الحالتين معتبرا ما صنعه الخيال والوهم أدخل فى باب الغرابة والحسن ويعرض لهذا مثلا وشواهد. ثم يفاضل بين الصور المركبة بحسب حاجتها الى التفصيل قلة وكثرة ويعرض لهذا قول بشار:
__________
(208) أسرار البلاغة ص 84.(1/196)
كأن مثار النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وقول المتنبى:
يزور الأعادى فى سماء عجاجة ... أسنّته فى جانبيها الكواكب
وقول كلثوم بن عمرو العتابى:
تبنى سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفا كواكبه البيض المباتير
ثم فضل بيت بشار وذلك لأنه راعى ما لم يراعه غيره، وهو أن جعل الكواكب تهاوى فأتم الشبه وعبر عن هيئة السيوف وقد سلّت من الأغماد. وهى تعلو وترسب. وتجىء وتذهب، ولم يقتصر على أن يريك لمعانها فى أثناء العجاجة كما فعل الآخران، وكان لهذه الزيادة التى زادها حظ من الدقة تجعلها فى حكم تفصيل بعد تفصيل، وذلك أنا وان قلنا ان هذه الزيادة وهى افادة هيئة السيوف فى حركاتها انما أتت فى جملة لا تفصيل فيها، فان حقيقة تلك الهيئة لا تقوم فى النفس إلا بالنظر الى أكثر من جهة واحدة، وذلك أن نعلم أن لها فى حال احتدام الحرب واختلاف الأيدى بها فى الضرب اضطرابا سديدا وحركات بسرعة ثم ان لتلك الحركات جهات مختلفة وأحوالا تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض، وأن السيوف باختلاف هذه الأمور تتلاقى وتتداخل وتقع بعضها فى بعض ويصدم بعضها بعضا، فقد نظم هذه الدقائق كلها فى نفسه ثم أحضرك صورها بلفظة واحدة ونبه عليها بأحسن التنبيه وأكمله بكلمة وهى قوله: «تهاوى كواكبه» (209) ولم تعهد الدراسة البلاغية تحليلا كهذا التحليل.
ثم يتكلم فى التشبيه الواقع فى هيئات الحركات وهيئات السكون، وله فى هذا اشارات لطيفة وتنبيهات مستحسنة.
وقد لحظ ما يكون لذيوع التشبيه وشيوعه من أثر فى اغفال الناس ما بذل فيه من جهد حتى يصير كالمبتذل المشترك، وحتى يجرى مع
__________
(209) أسرار البلاغة ص 141.(1/197)
دقة تفصيل فيه مجرى المجمل الذى تقوله الوليدة الصغيرة والعجوز الورهاء «فانك تعلم أن قولنا: لا يشق غباره الآن فى الابتذال كقولنا:
لا يلحق ولا يدرك وهو كالبرق ونحو ذلك، الا أنا اذا رجعنا الى أنفسنا علمنا أنه لم يكن كذلك من أصله، وأن هذا الابتذال أتاه بعد أن قضى زمانا بطراءة الشباب وجدة الفتاء وبعزة الامتناع» (210)
ثم ذكر فصلا فى التشبيه المتعدد والفرق بينه وبين المركب، وبين فى هذا أن من التشبيه المركب ما يصح التشبيه فى جزئياته ولكن تعلم بعد ما بين الحالتين ومقدار الاحسان الذى يذهب من البين، ثم أشار الى القيمة البلاغية للتشبيه المتعدد وأنها محصورة فى اختصار اللفظ وحسن الترتيب فيه لا لأن للجمع فائدة فى عين التشبيه.
ثم عاد الى توضيح الفرق بين التشبيه والتمثيل وذكر جعل الفرع أصلا وبين أنه يمكن أن يوجد فى التشبيه الصريح ولا يمكن أن يوجد فى التمثيل الا بضرب من التأول. ويعلق أستاذنا كامل الخولى رحمه الله على دراسة عبد القاهر للتشبيه بقوله:
«وهذا التقسيم للتشبيه الى مفرد ومركب وقصد الصورة بجملتها فى التشبيه وتحليل التشبيه المركب وجعله صورة لا ينظر فيها الى مفرداتها الا من حيث هى مكونة للصورة، ولا ينظر اليها فى التشبيه أمر جديد ابتكره عبد القاهر.
وهذا الحديث عن الفرق بين لطف التشبيه وغموض التعقيد وبيان طبيعة كل منهما أمر انفرد به عبد القاهر بالنسبة للسابقين، وبحث التفصيل وبيان أنواعه وأثره فى تأثير التمثيل مما انفرد به عبد القاهر ولم يسبق به» (211)
__________
(210) أسرار البلاغة ص 154.
(211) صور من تطور البيان العربى ص 106، 107.(1/198)
البحث فى المجاز:
لقد شغل البحث فى المجاز كثيرا من الدارسين وقل أن يسكت كتاب من الكتب التى عالجت علما من علوم هذه اللغة عن الاشارة الى المجاز والتوسع. فهى كثيرة فى كتب النحاة وكثيرة فى كتب البلاغيين وكثيرة فى كتب اللغويين.
وظاهر أن المشتغلين بالدراسة القرآنية سواء منهم من انغمس فى قضية الاعجاز ومن اهتم بالتفسير أو بالتأويل كانوا يهتمون اهتماما واضحا ببيان صور المجاز وأنواعه، لأن ذلك يساعدهم على فهم كثير من آيات الكتاب العزيز، ويعينهم فى تخريج كثير من الآيات المتشابهات، والرد على كثير من الطاعنين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة.
وظاهر كذلك أن المشتغلين بأصول الفقه واستنباط الأحكام من الآيات الكريمة قد نظروا فى الحقيقة والمجاز حتى كان هذا البحث من مقدمات الأصوليين. ولا أستطيع أن أبسط فى هذا التقديم هذه الجهود العظيمة التى بذلت فى هذا الموضوع، وليس ذلك من واجبى، والذى تعنينى الاشارة اليه هو تحديد دراسة المجاز فى المرحلة التى سبقت كتاب الكشاف كما فعلت فى دراسة الفنون البلاغية الأخرى.
وقد عرف عبد القاهر المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له فى وضع واضعها لملاحظة بين الثانى والأول فهى مجاز، وان شئت قلت: كل كلمة جزت بها ما وضعت له فى وضع الواضع الى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة ما تجوز بها اليه وبين أصلها الذى وضعت له فى وضع واضعها فهى مجاز (212)
وهذا تعريف للمجاز فى المفرد ويشمل فى مفهومنا الاستعارة فى المفرد والمجاز المرسل. ثم ان عبد القاهر قسم المجاز فى موضع آخر الى قسمين هما: الاستعارة والتمثيل، وقال: وانما يكون التمثيل مجازا اذا جاء على حد الاستعارة (213)
__________
(212) أسرار البلاغة ص 281.
(213) دلائل الاعجاز ص 45.(1/199)
وبهذا يكون قد أضاف الى أنواع المجاز نوعا آخر هو الاستعارة التمثيلية ثم قسم المجاز تقسيما آخر بقوله: واعلم أن المجاز على ضربين، مجاز عن طريق اللغة، ومجاز عن طريق المعنى والمعقول (214)
المجاز المرسل:
وقد وقف عبد القاهر عند المناسبة بين المعنى الأصلى والمعنى المراد وهى كما يقول تقوى وتضعف، والمناسبة القوية هى ما جرت فى صور الاستعارة، والمناسبة الضعيفة هى ما جرت فى صور المجاز المرسل.
وان كان عبد القاهر لم يطلق هذا الاصطلاح على صور المجاز المرسل ولكنه ميزها تمييزا بينا عن صور الاستعارة، نعم قد أطلق الاستعارة غير المفيدة على بعض صوره ولكنه رجع عن ذلك فى آخر كتابه وأشار الى أنه انما سماها استعارة وهو ضنين عليها بهذا الاسم لأنه وجد الناس يفعلون ذلك فكره التشدد فى الخلاف.
ثم ذكر عبد القاهر صورا من هذا التجوز ذى المناسبة غير القوية فذكر «اطلاق اليد» على النعمة، واستدل على ضعف المناسبة بين اليد والنعمة بأنه لو تكلف متكلف فزعم أنه وضع مستأنف أو فى حكم لغة مفردة لم يمكن دفعه الا برفق، ودليل آخر هو أن اليد لا تستعمل فى النعمة الا وفى الكلام إشارة الى مصدر تلك النعمة والى المولى لها ولا تصلح حيث تراد النعمة مجردة من اضافة لها الى المنعم أو تلويح به» (215)
وذكر قولهم فى صفة الراعى: «ان له عليها إصبعا».
وأنشد:
ضعيف العصا بادى العروق ترى له
عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
أى أثر إصبع وقولهم: «عليه خاتم الملك» قال الشاعر:
وقلن حرام قد أحلّ بربنا ... وتترك أموالا عليها الخواتم
__________
(214) أسرار البلاغة ص 327.
(215) أسرار البلاغة ص 282.(1/200)
وكذا قول الآخر:
إذا فضّت خواتمها وفكّت ... يقال لها دم الودج الذّبيح
ولعبد القاهر هنا اشارات حسنة، من ذلك أن شيخه أبا على الفارسى قدر فى هذين البيتين حذف المضاف، ثم ذكر عبد القاهر أن التقدير هنا بيان لما يقتضيه الكلام فى أصله. دون أن يكون الأمر على خلاف ما ذكرت من جعل أثر الخاتم خاتما، وأنت اذا نظرت الى الشعر من جهته الخاصة به وذقته بالحاسة المهيأة لمعرفة طعمه لم تشك فى أن الأمر على ما أشرت لك اليه، ويدل على أن المضاف قد وقع فى المنسأة وصار كالشريعة المنسوخة تأنيث الفعل فى قوله: «اذا فضت خواتمها» ولو كان حكمه باقيا لذكرت الفعل كما تذكره مع الاظهار (216)
ثم ذكر عبد القاهر صورا أخرى لهذا المجاز فى حديثه عن الفرق بين النقل فى الأعلام وبين النقل فى المجاز، وأن النقل فى الثانى يكون للمناسبة بخلاف تسمية الرجل حجرا، وذلك أن الحجر لم يقع اسما للرجل لا لقياس كان بينه وبين الصخر على حسب ما كان بين اليد والنعمة وبينهما وبين القدرة، ثم ذكر تسميتهم المزادة: راوية، والبعير:
حفضا، والرجل: عينا، والناقة نابا، والنبت: غيثا، والمطر: سماء، ثم يشير الى أن المناسبة هنا أقوى من المناسبة فى وقوع العقيرة على الصوت، وقد أشار قبل ذلك أنها أضعف من مناسبة تسمية الشجاع أسدا، ثم انتهى فى هذا الى أن المجاز أعم من الاستعارة وأن الصحيح من القضية فى ذلك أن كل استعارة مجاز وليس كل مجاز استعارة، وأن ما يقع فى كلام العلماء من ادخال ما ليس طريق نقله التشبيه فى الاستعارة كما صنع أبو بكر بن دريد حيث ذكر صورا من هذا التجوز فى باب عقده للاستعارات أمر لا يراعى فيه عرف القوم، ومثل ذلك اطلاق التمييز على الحال لأنك اذا قلت: راكبا، فقد ميزت المقصود وبينته (217)
__________
(216) ينظر أسرار البلاغة ص 274، 285.
(217) ينظر أسرار البلاغة ص 321وما قبلها.(1/201)
وقد يقع مثل هذا التعميم فى اطلاق الاستعارة على هذه الصورة فى بعض عبارات المتخصصين من البلاغيين كالآمدى، ولكن هذا لا يكون عند ذكر القوانين وحيث تقرر الأصول (218) وكأن الفصل بين صور المجاز المرسل والاستعارة وتخصيص الثانى بما تكون علاقته المشابهة أمر تعرفه الدراسة البلاغية المتخصصة قبل الجرجانى.
والواقع أن الجرجانى كان منصفا فلم يدع أنه أول من ميز بين هذه الصور، وقد ذكر الآمدى صورا من المجاز المرسل ولم يسمها استعارة، يقول حاكيا رد أصحاب البحترى على من عابوه فى قوله:
ضحكات فى أثرهنّ العطايا ... وبروق السّحاب قبل رعوده
فأما قوله: «وبروق السحاب قبل رعوده» فانه أقام الرعد مقام الغيث لأنه مقدمة له وعلم من أعلامه ودليل من أقوى دلائله، ألا ترى أن برق الخلب لا رعد له واذا كان البرق ذا رعد فقلما يخلف، ومثل هذا فى كلام العرب مما ينوب فيه الشيء اذا كان متصلا به أو سببا من أسبابه أو مجاورا له كثير، فمن ذلك قولهم للمطر:
سماء، ومنه قولهم: وما زلنا نطأ السماء، حتى أتيناكم. قال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
يريد: اذا سقط المطر رعيناه يريد النبت الذى يكون عنه، ولهذا سمى النبت «ندى» لأنه عن الندى يكون، وقالوا: ما به طرق، أى ما به قوة، والطرق الشحم فوضعوه موضع القوة، لأن القوة عنه تكون وقولهم للمزادة: راوية، وانما الرواية البعير الذى يسقى عليه الماء، فسمى الوعاء الذى يحمله باسمه، ومن ذلك: الحفض متاع البيت، فسمى البعير الذى يحمله حفضا، وهذا باب واسع وأيسر من أن يحتاج الى استقصائه» (219)
__________
(218) أسرار البلاغة ص 312.
(219) الموازنة ص 33، 34.(1/202)
ويذكر الشريف المرتضى هذه الطريقة ويشير الى أنها طريقة العرب، فقد يسمون الشيء باسم ما يقاربه، ويصاحبه، ويشتد اختصاصه به وتعلقه به، اذا انكشف المعنى وأمن الابهام. ثم يذكر تسميتهم البعير راوية والمزادة المحمولة على البعير راوية، وقولهم: جرعته الكأس فاستلبت عقله، والكأس هى ظروف الشراب، والفعل الذى أضافوه اليها انما هو مضاف الى الشراب (220)
ونجد صورا من التسامح الذى أشار اليه عبد القاهر فى كتاب متخصص فى هذه الدراسة فقد ذكر أبو هلال من الاستعارة قولهم للمطر: سماء، قال الشاعر:
إذا سقط السّماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا (221)
ومن صور الخلط فى الكتب غير المتخصصة ما يذكره ثعلب فى شرح ديوان زهير من أن الحلة بكسر الحاء الموضع الذى ينزل به ثم صير للناس، ومثل هذا كثير يستعار وأصله لغيره كما قالوا: الراوية، وكما قالوا: العقيرة، وأصل العقيرة أن رجلا كانت رجله عقيرة فرفعها ثم تغنى، فيقال لكل مغن: رفع عقيرته، والرواية البعير ثم قيل للمزادة:
راوية. والظعينة: البعير، ثم قيل للمرأة: ظعينة، وهذا كثير (222)
الاستعارة:
أما المجاز الذى علاقته المشابهة أعنى الاستعارة فقد كان صنيع عبد القاهر فيها صنيعا منفردا وأشير هنا اشارات موجزة الى أصول درسها فى هذا الباب، من ذلك تقسيم الاستعارة الى مفيدة وغير مفيدة وعرض كثير من صور الاستعارة غير المفيدة وقد قلنا: ان هذه الصور قسم من المجاز المرسل وان عبد القاهر ضن باسم الاستعارة عليها، وبقى أن نقول: ان قدامة قد درس بعض هذه الشواهد فى باب المعاظلة وعدها من فاحش الاستعارة، من ذلك قول مزرد:
__________
(220) أمالى المرتضى ج 4ص 56ط. السعادة.
(221) الصناعتين ص 268ط. صبيح.
(222) شرح ديوان زهير ص 27ط. دار الكتب.(1/203)
فما رقد الولدان حتى رأيته ... على البكر يمريه بساق وحافر
وقول أوس بن حجر:
وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جدعا (223)
وقد كانت لابن قتيبة اشارات ذات صلة وثيقة بما ذكره الجرجانى فى هذا الباب. يقول ابن قتيبة فى قوله تعالى: {«وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ»} (224): أى كل ذى مخلب من الطير وكل ذى حافر من الدواب كذا قال المفسرون، وسمى الحافر ظفرا على الاستعارة كما قال الآخر وذكر ضيفا طرقه:
فما رقد الولدان حتى رأيته ... على البكر يمريه بساق وحافر
فجعل الحافر موضع القدم، وقال آخر:
سأمنعها أو سوف أجعل رحلها ... إلى ملك أظلافه لم تقلّم
يريد بالأظلاف قدميه وانما الأظلاف للشاة والبقر، تقول للرجل: هو غليظ المشافر تريد الشفتين والمشفر للابل. قال الحطيئة:
قروا جارك العيمان لما جفوته ... وقلّص عن برد الشّراب مشافره (225)
ثم ذكر عبد القاهر الاستعارة المفيدة وقيمتها البلاغية وأكثر فى الاطراء على طريقتها ثم قسمها قسمة عامية، وقال فى بيان هذه العمومية ومعنى العامية: «انك لا تجد فى هذه الاستعارة قسمة الا أخص من هذه القسمة، وانها قسمة الاستعارة من حيث المعقول المتعارف فى طبقات الناس وأصناف اللغات وما تجد وتسمع أبدا نظيره من عوامهم كما تسمع من خواصهم، وقد نظر فى هذه القسمة الى اللفظ المستعار
__________
(223) ينظر نقد الشعر لقدامة ص 20وأسرار البلاغة ص 25، 37.
(224) الأنعام: 146
(225) تأويل مشكل القرآن ص 116.(1/204)
لأنه اما أن يكون اسما واما أن يكون فعلا. فاذا كان اسما فهو على طريقين، الطريق الأول أن تنقله عن مسماه الأصلى الى شىء آخر ثابت معلوم فتجريه عليه وتجعله متناولا له تناول الصفة مثلا للموصوف، وذلك قولك: رأيت أسدا، وهذا الطريق هو طريق الاستعارة التصريحية كما قال المتأخرون. والطريق الثانى أن يؤخذ الاسم عن حقيقته ويوضع موضعا لا يبين فيه شىء يشار اليه، فيقال: هذا هو المراد بالاسم والذى استعير له وجعل خليفة لاسمه الأصلى ونائبا منابه، ومثال قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرّة ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها»
وهذه هى الاستعارة التخييلية عند المتأخرين.
ثم بين الفرق بين هذين القسمين بيانا شافيا ثم قال: «واذا تقرر أن الاسم فى كون استعارته على هذين القسمين فمن حقنا أن ننظر فى الفعل هل يحتمل هذا الانقسام؟ والذى يجب العمل عليه أن الفعل لا يتصور فيه أن يتناول ذات الشيء كما يتصور فى الاسم ولكن شأن الفعل أن يثبت المعنى الذى اشتق منه للشيء فى الزمان الذى تدل صيغته عليه، فاذا قلت: ضرب زيد، أثبت الضرب لزيد فى زمان ماض، واذا كان كذلك فاذا استعير الفعل لما ليس له فى الأصل فانه يثبت باستعارته له وصفا هو شبيه بالمعنى الذى ذلك الفعل مشتق منه» (226)
أى أن الاستعارة تجرى فى المصدر وتتبعها الاستعارة فى الفعل وتلك هى الاستعارة التبعية وبهذا يكون عبد القاهر قد أشار الى الاستعارة التصريحية بنوعيها: الأصلية والتبعية، كما أشار الى الاستعارة التخييلية التى هى قرينة المكنية.
ويجدر أن أشير هنا الى أن الذى وضع هذه المصطلحات ليس هو السكاكى كما يتصور كثير من الباحثين وانما هو ابن الخطيب الرازى وكان رحمه الله من أعلام الفكر الاسلامى ولم يكن من أعيان البلاغيين كما قلت.
__________
(226) ينظر أسرار البلاغة ص 3531.(1/205)
ثم أخذ عبد القاهر يذكر أقسام الاستعارة بادئا بأقرب هذه الأقسام الى الأصل أعنى الحقيقة فذكر استعارة الطيران للعدو لأن كلا منهما جنس واحد، ومثله استعارة التمزيق والتقطيع للتفريق، ثم ذكر الضرب الثانى الذى لا يكون فيه المستعار من جنس المستعار له بل هما جنسان الا أن بينهما وصفا مشتركا كاستعارة الشمس للانسان المتهلل الوجه فى قولك: رأيت شمسا، ثم ذكر الضرب الثالث الذى هو الصميم الخالص من الاستعارة وحده أن يكون الشبه مأخوذا من الصور العقلية وذلك كاستعارة النور للعلم.
وهذه الأقسام الثلاثة لا تجرى الا فى الاستعارة التصريحية كما هو واضح من الأمثلة (227)
وقد كرر عبد القاهر الفرق بين طريقة الاستعارة التصريحية والمكنية فقد ذكر فى دلائل الاعجاز «أن الاستعارة: أن تريد تشبيه الشيء بالشىء فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره وتجىء الى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه، تريد أن تقول: رأيت رجلا هو كالأسد فى شجاعته وقوة بطشه سواء. فتدع ذلك وتقول: رأيت أسدا، وضرب آخر من الاستعارة وهو ما كان نحو قوله: اذ أصبحت بيد الشمال زمامها، هذا الضرب وان كان الناس يضمونه الى الأول حيث يذكرون الاستعارة فليسا سواء، وذلك أنك فى الأول تجعل الشيء ليس به، وفى الضرب الثانى تجعل للشيء الشيء ليس له» (228)
ثم بين عبد القاهر أن جعل الشيء للشيء ليس له يكون ثمرة تشبيه ما جعل الشيء له بما هو له فى الحقيقة أى تشبيه الشمال التى جعلت لها اليد بالمدبر المصرف.
يقول عبد القاهر: ليس لك أكثر من أن تخيل الى نفسك أن الشمال فى تصريف الغداة، على حكم طبيعتها كالمدبر المصرف لما زمامه بيده
__________
(227) ينظر أسرار البلاغة ص 4737.
(228) دلائل الاعجاز ص 45.(1/206)
ومقادته فى كفه، وذلك كله لا يتعدى التخيل والوهم والتقدير فى النفس من غير أن يكون هناك شىء يحس وذات تتحصل (229)
وهذا بيان للاستعارة المكنية أو بيان لمذهب الخطيب فيها، فقد ذكر الخطيب أن الاستعارة المكنية هى التشبه المضمر فى النفس أى التشبه الذى لا يتعدى التخيل والوهم والتقدير فى النفس كما يقول عبد القاهر.
وكانت فى دراسة البلاغيين قبل عبد القاهر اشارات الى الفرق بين هذين الطريقين ولكن هذه الاشارات كانت غائمة، من ذلك قول القاضى على بن عبد العزيز الجرجانى فى الافراط فى الاستعارة:
وقد كان بعض أصحابنا يجارينى أبياتا أبعد أبو الطيب فيها الاستعارة وخرج عن جد الاستعمال والعادة فكان مما عدد منها قوله:
مسرّة فى قلوب الطّيب مفرقها ... وحسرة فى قلوب البيض واليلب
وقوله:
تجمّعت فى فؤاده همم ... ملأ فؤاد الزمان أحداها
فقد جعل للطيب والبيض واليلب قلوبا، وللزمان فؤادا، وهذه استعارة لم تجر على شبه قريب ولا بعيد وانما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من المناسبة، وطرف من التشبيه والمقارنة، فقلت له: هذا ابن أحمد يقول:
ولهت عليه كل معصفة ... هو جاء لبس للبّها زبر
فما الفصل بين من جعل للريح لبا، ومن جعل للطيب والبيض قلبا.
وهذا أبو رميلة يقول:
هم ساعد الدهر الذى يتّقى به ... وما خير كفّ لا تنوء بساعد
__________
(229) أسرار البلاغة ص 32.(1/207)
وهذا الكميت يقول:
ولما رأيت الدّهر يقلب ظهره ... على بطنه فعل الممعك بالرّمل
وشاتم الدهر العبقى يقول:
ولما رأيت الدهر وعرا سبيله ... وأبدى لنا ظهرا أجبّ مسمّحا
ومعرفة حصّاء غير مفادة ... عليه ولونا ذا عثانين أجدعا
وجبهة قرد كالشّراك ضئيلة ... وصعّر خدّيه وأنفا مجدّعا
فهؤلاء قد جعلوا الدهر شخصا متكامل الأعضاء تام الجوارح فكيف أنكرت على أبى الطيب أن جعل له فؤادا. (230)
وقد يبسط القاضى وجه هذه الاستعارات فيقول: «وذلك أن الريح لما خرجت بعصوفها من الاستقامة وزالت عن الترتيب شبهت بالأهوج الذى لا مسكة فى عقله ولا زبر للبه، ولما كان مدار الأهوج على التباس العقل حسن مع هذا الوجه أن يجعل للريح عقلا» (231) وهذه إشارة قريبة الى ما ذكره البلاغيون من أن اللازم المذكور فى الاستعارة المكنية هو ما يكون به قوام وجه الشبه أو كماله كنطق الحال وأظفار الموت.
وقد أشار أبو الفتح عثمان بن جنى الى طريقة الاستعارة بالكناية ووجه التجوز فيها.
يقول فى قوله تعالى: {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا»} (232) مبينا أن المجاز فيها جاء لأغراضه الثلاثة أى التشبيه والاتساع والتأكيد يقول: «وأما التشبيه فلأنها شبهت بمن يصح سؤاله» (233) ويقول فى قولهم: «بنو فلان يطؤهم الطريق»: «ووجه التشبيه اخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه فشبهته بهم اذ كان هو المؤدى لهم فكأنه هم» (234)
__________
(230) الوساطة ص 429، 430.
(231) المرجع السابق.
(232) يوسف: 82
(233) الخصائص ج 2ص 442.
(234) المرجع السابق ص 446.(1/208)
ويقول شيخنا المرحوم محمد على النجار معلقا على هذا: «تراه يميل الى الاستعارة بالكناية فهو يشبه الطريق بقوم سائرين وجعل الوطء دليل ذلك التشبيه» (235) ثم انه بقى من أمر الاستعارة التخييلية شىء لا بأس من أن أشير اليه، ذلك هو أن ما ذهب اليه أبو يعقوب يوسف السكاكى من اعتبار قرينة المكنية استعارة تصريحية تخييلية قد أشار اليه عبد القاهر بالرفض والاستحالة، ولا يمنع رفض عبد القاهر له واعتباره مستحيلا أن يكون السكاكى قد تأثر به فى ذلك. يقول عبد القاهر فى بيان أن النقل لا يتصور فى الاستعارة التخييلية: ذلك أنه ليس هاهنا شىء يزعم أنه شبهه باليد حتى يكون لفظ اليد مستعارا له وكذلك ليس فيه شىء يتوهم أن يكون قد شبهه بالزمام (236)
ويقول فى موضع آخر: «فأنت الآن لا تستطيع أن تزعم فى بيت الحماسة، أى قوله:
إذا هزّه فى عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك
أنه استعار لفظ النواجذ ولفظ الأفواه، لأن ذلك يوجب المحال وهو أن يكون فى المنايا شىء قد شبهه بالنواجز وشىء قد شبهه بالأفواه» (237)
ويقول السكاكى مثبتا ما نفاه عبد القاهر: وهى أى الاستعارة التخييلية أن تسمى باسم صورة متحققة صورة عندك وهمية محضة تقدرها مشابهة لها مفردا فى الذكر فى ضمن قرينة مانعة عن حمل الاسم على ما سبق منه الى الفهم من كون مسماه شيئا متحققا، وذلك مثل أن تشبه المنية بالسبع فى اغتيال النفوس وانتزاع أرواحها بالقهر والغلبة من غير تفرقة بين نفاع وضررا ولا رقة لمرحوم تشبيها بليغا حتى كأنها سبع من السباع فيأخذ الوهم فى تصويرها فى صورة السبع واختراع ما يلازم صورته ويتم به شكله من ضروب هيئات وفنون
__________
(235) هامش المرجع السابق.
(236) دلائل الاعجاز ص 288، 289.
(237) دلائل الاعجاز ص 275.(1/209)
جوارح وأعضاء وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتيال السبع للنفوس بها وتمام افتراسه الفرائس بها من الأنياب والمخالب ثم يطلق على مخترعات الوهم عندك أسامى المتحققة على سبيل الافراد بالذكر وأن تضيفها الى المنية الشبيهة بالسبع ليكون اضافتها اليها قرينة مانعة من اجرائها على ما سبق الى الفهم منها من تحقق مسمياتها (238)
ولم ترجع عظمة جهود عبد القاهر فى دراسة البلاغة الى اشاراته الى أصول التقسيمات والتفريعات فحسب، وانما ترجع أيضا الى هذه التحليلات العالية التى يبسط فيها وجه التجوز ويتحدث فيها عن العلاقات بين الأشياء، وكل ما ذكره عبد القاهر فى دراسة الاستعارة يصلح شاهدا على قدرته البالغة فى فهم النص وذوقه وتحليله.
وقد كانت الخصومات حول النصوص الأدبية حافزا قويا لانهاض همم النقاد وشحذ عقولهم ومد أبصارهم الى جوانب النصوص وتحليل صورها وقد أثرت هذه الخصومات الدراسة البلاغية فى هذا الجانب التطبيقى ولا شك أن هذه الدراسة القيمة التى نهض بها أبو بشر الآمدى فى كتابه الموازنة، وهذه الجهود المثمرة التى أودعها القاضى على بن عبد العزيز كتاب الوساطة من خير ما يعتز به تراثنا الأدبى.
وقد كانت هذه التحليلات عونا لعبد القاهر الجرجانى فى بناء طريقته الفذة فى مجال التحليل والعرض وقد يكون أبو بشر الآمدى أكثر النقاد تأثيرا فى عبد القاهر فى هذا المجال.
وحين ننظر فى بعض النصوص التى تناولها الآمدى وتناولها من بعده عبد القاهر نجد شبها فى المنزع والروح وان لم يكن تقليدا ولا محاكاة.
يقول الآمدى فى قول امرئ القيس:
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
«وقد عاب امرؤ القيس بهذا المعنى من لم يعرف موضوعات المعانى ولا المجازات وهو فى غاية الحسن والجودة والصحة، وهو
__________
(238) مفتاح العلوم ص 200.(1/210)
انما قصد وصف أجزاء الليل الطويل فذكر امتداد وسطه وتثاقل صدره للذهاب والانبعاث وترادف أعجازه وأواخره شيئا فشيئا، وهذا عندى منتظم لجميع نعوت الليل الطويل على هيئته، وذلك أشد ما يكون على من يراعيه ويترقب تصرفه، فلما جعل له وسطا يمتد وأعجازا رادفة للوسط وصدرا متثاقلا فى نهوضه حسن أن يستعير للوسط اسم الصلب وجعله متمطيا من أجل امتداده لأن تمطى وتمدد بمنزلة واحدة وصلح أن يستعير للصدر اسم الكلكل من أجل نهوضه، وهذا أقرب الاستعارات من الحقيقة وأشد ملاءمة لمعناها لما استعير له» (239)
ويقول عبد القاهر فى هذا البيت:
«ومما هو أصل فى شرف الاستعارة أن ترى الشاعر قد جمع بين عدة استعارات قصدا الى أن يلحق الشكل وأن يتم المعنى والشبه فيما يريد، مثاله قول امرئ القيس:
فقلت له لمّا تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
لما جعل الليل صلبا قد تمطى به ثنى ذلك فجعل له أعجازا قد أردف بها الصلب، وثلث فجعل له كلكلا قد نابه، فاستوفى له جملة أركان الشخص وراعى ما يراه الناظر من سواده، اذا نظر قدامه، واذا نظر الى خلفه، واذا رفع البصر ومد فى عرض الجو» (240)
وكثير من شواهد الاستعارة فى كتابة عبد القاهر قد ناقشها الآمدى من ذلك ما ذكره الآمدى فى بيت زهير المشهور «وعرّى أفراس الصّبا ورواحله».
وما ذكره فى قول طفيل الغنوى:
وجعلت كورى فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرّحل (241)
قلت: ان الخصومات حول النصوص الأدبية أثرت البحث البلاغى بجانب مهم من الدراسة النظرية التطبيقية ولست أقصد الخصومة التى
__________
(239) الموازنة ص 340.
(240) دلائل الاعجاز ص 54.
(241) تنظر الموازنة ص 335.(1/211)
قامت حول شعر البحترى وأبى تمام والمتنبى فحسب كما يتبادر الى الأذهان، وانما أقصد بجانب هذا الخصومة حول اعجاز القرآن.
ويجب أن نذكر هنا وقفات على بن عيسى الرمانى عند صور الاستعارة واشاراته الفذة الى دلالاتها الأدبية. يقول فى قوله تعالى:
{«بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عََاتِيَةٍ»} (242): «حقيقته شديدة، و «العتو» أبلغ منه لأن العتو شدة فيها تمرد» ويقول فى قوله تعالى: {«وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ»} (243): «حقيقته انتفاء الغضب، والاستعارة أبلغ لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة فى الحال فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره»، {«وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ»} (244): أصل الاشتعال للنار وهو فى هذا الموضع أبلغ وحقيقته كثرة شيب الرأس الا أن الكثرة لما كانت تتزايد سريعا صارت فى الانتشار والاسراع كاشتعال النار وله موقع فى البلاغة عجيب وذلك أنه انتشر فى الرأس انتشارا لا يتلافى كاشتعال النار، وقال تعالى:
{«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبََاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذََا هُوَ زََاهِقٌ»} (245):
«فالقذف والدمغ هنا مستعار وهو أبلغ، وحقيقته: بل نورد الحق على الباطل فيذهبه، وانما كانت الاستعارة أبلغ لأن فى القذف دليلا على القهر لأنك اذا قلت: قذف به اليه، فانما معناه: ألقاه اليه على جهة الاكراه والقهر فالحق يلقى على الباطل فيزيله على جهة القهر والاضطرار لا على جهة الشك والارتياب و «يدمغه» أبلغ من: يذهبه، لما فى يدمغه من التأثير فيه فهو أظهر فى النكاية وأعلى فى تأثير القوة» (246)
ويعلق الأستاذ الخولى رحمه الله على تحليلات الرمانى لصور الاستعارة بقوله: ويستطيع الدارس لأثر الرمانى فى البيان العربى أن يقرر أن الرمانى فى دراسته القرآنية جاوز بالصورة البيانية مرحلة صباها وكاد يحقق لها شبابها فقد أبدى للباحث الجمال القرآنى سافرا
__________
(242) الحاقة: 6
(243) الأعراف: 154
(244) مريم: 4
(245) الأنبياء: 18
(246) النكت فى اعجاز القرآن ص 8279ضمن ثلاث رسائل.(1/212)
رائعا أخاذا ولم يقف عند بيان المعنى الحقيقى والمجازى والعلاقة بينهما بل يعرض الحقيقة ويوازن بينها وبين الاستعارة ويبين لك مدى أثرها فى النفوس ومبلغ اثارتها للحس، فعرض الرمانى يجعل الوجدان ينفعل بالصورة القرآنية بعد أن أبدى جمالها المكنون (247)
قد أشرت الى أن التمثيل الذى يكون على حد الاستعارة قسم من أقسام المجاز كما بين عبد القاهر، وقد أشار عبد القاهر الى صورها وميزها عن التمثيل الكائن على حد التشبيه يقول فى هذا: «أما التمثيل الذى يكون مجازا لمجيئك به على حد الاستعارة فمثاله قولك للرجل يتردد فى الشيء بين فعله وتركه: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فالأصل فى هذا: أراك فى ترددك كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى، ثم اختصر الكلام وجعل كأنه يقدم الرجل ويؤخرها على الحقيقة كما كان الأصل فى قولك: رأيت أسدا، رأيت رجلا كالأسد» (248)
ثم ذكر قولهم: «أراك تنفخ فى غير فحمم»، و «تخط على الماء»، و «ما زال يفتل منه فى الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد»، ثم يقول فى نهاية الفصل: وهكذا كل كلام رأيتهم قد نحوا فيه نحو التمثيل ثم لم يفصحوا بذلك وأخرجوا اللفظ مخرجه اذا لم يريدوا التمثيل (249)
ولم يحصر عبد القاهر التمثيل الذى جاء على حد الاستعارة فى هذه الصور المركبة وانما أجاز اطلاق التمثيل على الاستعارة فى المفرد اذا كان الشبه فيها عقليا ومنع اطلاقه على الاستعارة فى المفرد اذا لم يكن الشبه فيها عقليا أى اذا كانت الاستعارة مبنية على تشبيه صريح.
يقول عبد القاهر: «واذ قد تقررت هذه الجملة فاذا كان الشبه بين المستعار منه والمستعار له من المحسوس والغرائز والطباع وما يجرى مجراها من الأوصاف المعروفة كان حقها أن يقال انها تتضمن التشبيه ولا يقال ان فيها تمثيلا وضرب مثل، واذا كان الشبه عقليا جاز اطلاق
__________
(247) أثر القرآن فى تطور البلاغة ص 87.
(248) دلائل الاعجاز ص 46.
(249) المرجع السابق 47.(1/213)
التمثيل فيها وأن يقال: ضرب الاسم مثلا لكذا، كقولنا: ضرب النور مثلا للقرآن، والحياة مثلا للعلم» (250)
ويتحصل من هذا أن عبد القاهر يطلق المثل والتمثيل على التشبيه المؤول وما بنى عليه من الاستعارة سواء أكانت مفردة أو مركبة.
أما بحث التجوز فى الاسناد فقد كان موضع اهتمام النحاة والمتكلمين والبلاغيين منذ بداية الاشتغال بعلوم النحو والكلام والبلاغة. اهتم به النحاة لأن موضوعه الحكم وهو موضع الاثبات والنفى فى الجملة وهو مناط الفائدة فيها، واهتم به المتكلمون لاتصال صوره بموضوع أفعال الله وأفعال العباد، واسناد الختم والغى والاضلال وكل ما هو قبيح فى نظرهم الى المولى سبحانه فكان لا بد أن ينشط المانعون وأن يصرفوا هذا الاسناد عن وجهه وأن يبينوا هذه الطريقة اللغوية وأن يفصلوا ملابساتها وقرائنها، وقد اهتم به الأدباء لأنه طريقة من طرق الأداء يجرى فيها الاسناد على غير المألوف، وأشير هنا اشارات سريعة الى الجهود التى سبقت عبد القاهر فى هذا الباب والتى لا نشك فى أنه أفاد منها الكثير،
المجاز العقلى:
ومن هذه الجهود ما صنعه سيبويه الذى وقف عند صور المجاز العقلى وبين ما فيها من تجوز وذكر أمثلة ترددت بعده فى هذا الباب، ومن ذلك قوله فى بيت الخنساء:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادّكرت ... فإنّما هى إقبال وإدبار
فجعلها «الاقبال والادبار» مجازا على سعة الكلام كقولك: نهارك صائم وليلك قائم (251) «وكانت اشارات الفراء فى دراسة صوره قريبة من دراسة المتأخرين ولذلك نجد شبها قويا بين تحليلاته لهذه الصور وتحليلات الزمخشرى من ذلك قوله فى قوله تعالى: {«فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ»} (252): «ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وانما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك، وخسر بيعك، فحسن القول بذلك لأن الريح والخسران انما يكونان فى التجارة فعلم معناه،
__________
(250) اسرار البلاغة ص 194.
(251) الكتاب ج 1ص 169.
(252) البقرة: 16(1/214)
ومثله من كلام العرب: ليل نائم، ومثله من كتاب الله: {«فَإِذََا عَزَمَ الْأَمْرُ»} (253)، وانما العزيمة للرجال فلو قال قائل: قد خسر عبدك، لم يجز ذلك ان كنت تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه أو يوضع، لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يوضع فلا يعلم معناه اذا ربح هو من معناه اذا كان متجوزا فيه، فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزك ورقيقك، كان جائزا لدلالة بعضه على بعض» (254)، «وفى هذا إشارة واضحة الى علاقة المجاز الحكمى وقرينته، وقد أفاد الزمخشرى من هذا النص فى تفسيره هذه الآية (255)
وقد وقف ابن قتيبة عند صور هذا المجاز فى باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه وقال: «ومنه أن يجيء المفعول به على لفظ الفاعل كقوله سبحانه: {«لََا عََاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ إِلََّا مَنْ رَحِمَ»} (256) أى معصوم من أمره، وقوله: {«مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ»} (257) أى مدفوق، وقوله: {«فِي عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ»} (258) أى مرضى بها، وقوله: {«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا جَعَلْنََا حَرَماً آمِناً»} (259) أى مأمونا فيه، وقوله: {«وَجَعَلْنََا آيَةَ النَّهََارِ مُبْصِرَةً»} (260) أى مبصرا بها، والعرب تقول: «ليل نائم» و «سر كاتم» ثم يقول: ومنه أن يأتى الفاعل على لفظ المفعول به وهو قليل كقوله: {«إِنَّهُ كََانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا»} (261)
ويقول فى موطن آخر رادا على الطاعنين على القرآن بالمجاز:
«والله تعالى يقول: {«فَإِذََا عَزَمَ الْأَمْرُ»} وانما يعزم عليه، ويقول
__________
(253) محمد: 211
(254) معانى القرآن للفراء ج 1ص 14.
(255) ينظر الكشاف ج 1ص 53.
(256) هود: 43
(257) الطارق: 6
(258) الحاقة: 21
(259) العنكبوت: 67
(260) الاسراء: 12
(261) تأويل مشكل القرآن ص 227والآية من سورة مريم: 61(1/215)
تعالى: {«فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ»} (262) وانما يربح فيها، ويقول:
{«وَجََاؤُ عَلى ََ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ»} (263) وانما كذب به» (تأويل مشكل القرآن ص 99).
ويشير الآمدى الى صور هذا المجاز ويرى أنه ينبغى أن ينتهى فيه الى ما انتهت العرب لأن اللغة لا يقاس عليها. يقول فى قول الشاعر: «فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد»: لو كان استقام له أن يقول: بعض جهد المجهود، لكان أحسن وأليق وهذا أغرب وأظرف، ثم يقول الآمدى: وقد جاء أيضا فاعل بمعنى مفعول قالوا: «عيشة راضية» بمعنى مرضية، و «لمح باصر» وانما هو يبصر فيه، وأشباه هذا كثير معروفة، ولكن ليس فى كل حال يقال، وانما ينبغى أن ينتهى فى اللغة الى حيث انتهوا ولا يتعدى الى غيره لأن اللغة لا يقاس عليها (264)
وواضح أن هذه الاشارات ضيقة ومحدودة ويظهر عليها الطابع النحوى الذى يهتم بوقوع فاعل موقع مفعول وليست هنا نظرات فى بيان قيمته وأثره فى الأسلوب ولا نظرات تفرق بينه وبين المجاز اللغوى كما أنه ليس فيه بسط ولا تحليل لصوره ولا ابراز لملامحه كطريقة من طرق الأداء.
وقد بسط عبد القاهر القول فى كل هذا ففرق بينه وبين المجاز اللغوى وبين أنه مجاز من طريق المعنى والمعقول وتوصف به الجملة ولا وجه لنسبته الى اللغة وقد طال شرحه فى هذا الموضوع ليقرر أنه مجاز مختلف عن المجاز المشهور فى اللغة، ثم ذكر حد هذا المجاز بقوله:
«وحده أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه فى العقل لضرب من التأول فهى مجاز» (265) وأشار الى أنه كثير فى القرآن وذكر له شواهد كثيرة بين فيها الفرق بين المجاز فى الاثبات والمجاز فى المثبت (266) وقد ذكر هذا المجاز فى كتاب دلائل الاعجاز ولم
__________
(262) البقرة: 16
(263) يوسف: 18
(264) الموازنة ص 202
(265) أسرار البلاغة ص 306
(266) ينظر أسرار البلاغة ص 333292.(1/216)
يقف طويلا ليبين أنه مجاز من جهة العقل كما فعل فى أسرار البلاغة، ولكنه انصرف الى بيان قيمته البلاغية ووازن بينه وبين الأسلوب العادى فى المعنى الذى جاء على طريقته، ثم أشار الى أنه ليس بلازم أن يكون للفعل فيه فاعل فى التقدير اذا أنت نقلت الفعل اليه عدت به الى الحقيقة، وقد خالفه فى هذا المتأخرون وأولهم ابن الخطيب الرازى، ثم أشار الى أن المتكلم قد يحتاج فى كثير من الأحيان الى أن يهئ العبارة لهذا المجاز بشيء يتوخاه فى النظم كما يفعل فى المجاز اللغوى وضرب مثلا لذلك قول الشاعر:
تجوب له الظلماء عين كأنها ... زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر
فقال: «تجوب له» وذكر هذا المتعلق ثم قال «عين» وقطعها عن الاضافة، ولو قال: تجوب له الظلماء عينه لم يكن بهذا الحسن.
ثم ذكر قول الخنساء:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادّكرت ... فإنّما هى إقبال وإدبار
ثم علق عليه بقوله: واعلم أنه ليس بالوجه أن يعد هذا على الاطلاق معد ما حذف منه المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه مثل قوله عز وجل: {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ»}، وان كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف ويقولون: انه فى تقدير «فانما هى ذات اقبال وادبار»، ثم يقول فى تعليل منع تقدير المضاف: «لأنا اذا جعلنا المعنى فيه الآن كالمعنى اذا نحن قلنا «فانما هى ذات اقبال وادبار» أفسدنا الشعر على أنفسنا وخرجنا الى شىء مغسول والى كلام عامى مرذول» (267)، وبهذا يكون عبد القاهر قد وضع أصول هذا الباب.
ويقول الأستاذ الدكتور شوقى ضيف: والذى لا شك فيه أنه يعد مكتشف المجاز الحكمى فى مثل «أنبت الربيع البقل» وهو مجاز لا فى الكلمات وانما فى الاسناد، ولذلك سماه مجازا حكيما أو عقليا، ثم لاحظ الأستاذ الفاضل أن فكرة هذا المجاز لم تكن قد اتضحت تماما فى نفسه،
__________
(267) ينظر دلائل الاعجاز ص 198191.(1/217)
ولعله اندفع فى ذلك بعامل محاولته أن يرد كل شىء فى جمال النظم الى العقل، ثم قال: وانما يدفعنا الى هذا القول أننا نجده يدخل فى المجاز الحكمى أو الاسنادى قولهم عن بعض الابل فى الرعى: «انما هى اقبال وادبار» وأنشد منه أيضا قول المتنبى:
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
وقد علق عليه بأنه ليس على تقدير مثل «قمر» ومثل «عنبر» و «غزال» وبذلك سلك البيت فى المجاز الحكمى وهو من التشبيه البليغ، ويمضى فيجعل من الكناية نوعا يدخل فى هذا المجاز الحكمى وهو الذى يأتى من اسناده لغيره كقول زياد الأعجم:
إن السّماحة والمروءة والنّدى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج
ويجعل من هذا الضرب قول الشّنفرى يصف امرأته بالعفة:
يبيت بمنجاة من اللّوم بيتها ... إذ ما بيوت بالملامة حلّت
فقد توصل الى نفى اللوم عنها وابعادها عنه بأن نفاه عن بيتها وباعد بينها وبينه، والفرق بينه وبين زياد أنه ينفى وزياد يثبت، وقد سمى البلاغيون بعده هذا اللون باسم الكناية عن نسبة» (268) اهـ.
وهذا كلام غريب حتى حسبت أن هنا خطأ فى الكتاب أو فى ترتيب صفحاته فقد عهدت الأستاذ عافاه الله دقيقا فى فهمه لكثير من مسائل هذه اللغة.
أما أن عبد القاهر مكتشف المجاز الحكمى فذلك غريب بدليل ما قدمناه من جهود السابقين على عبد القاهر ولو أتيح لنا أن نستقصى القول فى بيان جهود أخرى لوضعنا يد القارئ على دراسة واعية لهذا الباب وخصوصا فى محاولات المعتزلة الذين يهتمون بصرف الاسناد عن ظاهره اذا كان هذا الظاهر يوجب اثبات أفعال لله يرون أنها للعبد،
__________
(268) البلاغة تطور وتاريخ ص 485.(1/218)
واذا نظر القارئ الى كتاب أمالى المرتضى وكتاب تنزيه القرآن عن المطاعن ومتشابه القرآن للقاضى عبد الجبار فسوف يجد من ذلك الكثير فضلا عما أشرنا اليه.
وأما أن عبد القاهر أدخل فى المجاز الحكمى بيت الخنساء فليس هذا الا تطبيقا دقيقا للحد الذى ذكره للمجاز العقلى فهو كما يقول:
«كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه فى العقل لضرب من التأول» وهذا الحد ينطبق تماما على هذا البيت لأن الحكم فيه خارج عن موضعه فى العقل، نعم ليس قول الخنساء هذا داخلا فى المجاز العقلى عند الخطيب لأنه جعله خاصا باسناد الفعل أو ما فى معناه الى غير ما هو له، ولعل تصور الأستاذ الفاضل للمجاز العقلى عند الخطيب هو الذى دفعه الى انكار أن يكون البيت من المجاز عند عبد القاهر، ثم ان هذا البيت مشهور فى نسبته الى الخنساء وقد ذكره عبد القاهر منسوبا اليها فكيف ينسبه العلامة الى قولهم عن بعض الابل فى الرعى، والبيت من أروع ما قيل فى الرثاء.
وأما أن عبد القاهر قد أدخل بيت المتنبى:
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
فى المجاز الحكمى فذلك ما لا يفهم من كلام عبد القاهر لأنه ذكر هذا البيت بعد ما بين أن تقدير المحذوف فى بيت الخنساء يخرج الشعر الى شىء مغسول وكلام عامى مرذول ثم قال: وكان سبيلنا سبيل من يزعم مثلا فى بيت المتنبى:
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
أنه فى تقدير محذوف وأن معناه الآن كالمعنى اذا قلت: بدت مثل قمر ومالت مثل خوط بان فى أنا نخرج الى الغثانة والى شىء يعزل البلاغة عن سلطانها» ولا يفهم من هذا أنه أدخل بيت المتنبى فى المجاز الحكمى، وانما هو مثال لما يفسد بتقدير المحذوف كما يكون فى بيت الخنساء.(1/219)
وأما أن عبد القاهر جعل من الكناية نوعا يدخل فى هذا المجاز الحكمى وأن هذا النوع سماه البلاغيون بعده كناية عن نسبة، فذلك أبعد عن الصواب من كل ما سبق لأن هذين البيتين مذكوران فى فصل خاص بالكناية لم يذكر فيه المجاز الحكمى بحرف واحد وعبارات عبد القاهر واضحة لا لبس فيها ولا غموض فى أن هذه الصور من الكناية عن اثبات صفة لموصوف وهذا شىء والتجوز فى الاسناد شىء آخر.
ولا ترى عالما لا يقع فى غفلة، ولا شك أن الدكتور شوقى من علمائنا الذين نعتز بهم وله أثره الطيب فى نفوس الباحثين ولهذا كنت حريصا على تخليص ما التبس.
الكناية:
كانت دراسة عبد القاهر للكناية هى الصورة التى تناقلتها كتب المتأخرين، وذلك لأنه حرر أقسامها وحلل مثلها، وان كان لم يتكلم عن الموصوف ولكنه كان دقيقا فيما تكلم فيه، وليت البلاغيين بعده حافظوا على طريقته فى التحليل والتمييز.
وقد أشار الى أن العرب كما يتركون التصريح بالصفة الى التعبير عنها بطريق الكناية والتعريض «كذلك يذهبون فى اثبات الصفة هذا المذهب، واذا فعلوا بدت هناك محاسن تملأ الطرف ودقائق تعجز الوصف ورأيت هناك شعرا وسحرا» (269) ثم أخذ عبد القاهر فى سوق الأمثلة وتحليلها وبيان الفروق الدقيقة بين الصور فذكر قول زياد الأعجم:
إن السّماحة والمروءة والنّدى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج
ثم بين أن الشاعر عدل فى هذا عن اثبات هذه الخلال للممدوح بالطريق الواضح المكشوف كأن يقول: هى مجموعة فيه أو مقصورة عليه الى هذا الطريق فجعل كونها فى القبة المضروبة عليه عبارة عن كونها فيه وكان لهذا فضل فى جزالة هذا القول وفخامته ولو أنه
__________
(269) دلائل الاعجاز ص 199(1/220)
أتى هذا المعنى من طريق التصريح لكان كلاما غفلا وحديثا ساذجا.
وهذه الصنعة فى طريق الاثبات هى نظير الصنعة فى المعانى اذا جاءت كنايات عن معان أخر نحو قوله:
وما يك فىّ من عيب فإنّى ... جبان الكلب مهزول الفصيل
«فكما أنه انما كان من فاخر الشعر ومما يقع فى الاختيار لأجل أن أراد أن يذكر نفسه بالقرى والضيافة فكنى عن ذلك بجبن الكلب وهزال الفصيل، وترك أن يصرح فيقول: قد عرف أن جانبى مألوف وكلبى مؤدب لا يهر فى وجوه من يغشانى من الأضياف، وانى أنحر المتالى من ابلى وأدع فصالها هزلى» (270)
ثم بين عبد القاهر الصور المتشابهة فى الكناية عن اثبات الصفة الى الموصوف والصور المتشابهة فى الكناية عن الصفة نفسها فذكر أن قول زياد:
إن السّماحة والمروءة والنّدى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج
نظير قول يزيد بن الحكم يمدح المهلب وهو فى حبس الحجاج:
أصبح فى قيدك السّماحة والمجد وفضل الصّلاح والحسب.
وقول عوف بن الأحوص:
* زجرت كلابى أن يهرّ عقورها *
شبيه بالبيت السابق:
وما يك فىّ من عيب فإنّى ... جبان الكلب مهزول الفصيل
وقوله «مهزول الفصيل» وان كان كناية عن الجود ليس كقوله جبان الكلب فلا يلزم أن تكون الصور الواقعة كناية عن معنى واحد متشابهة وانما قوله «مهزول الفصيل» شبيه بقول ابن هرمة: «لا أمتع العوذ بالفصال».
__________
(270) دلائل الاعجاز ص 200، 201(1/221)
وقول نصيب:
وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بالابنة الزائرة
نظير قول الآخر:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلّمه من حبّه وهو أعجم
وقوله:
* وحيثما يك أمر صالح تكن *
نظير قوله:
يصير أبان قرين السّما ... ح والمكرمات معا حيث صارا
ومثله قول أبى نواس:
فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير (271)
وبهذه الطريقة الفذة بسط عبد القاهر الكناية فى قسمين مهمين من أقسامها، وكان التعريض عنده مرادفا لها لا يفرق بينهما كما كان التلويح كذلك.
ومما لا ريب فيه أن عبد القاهر سبق باشارات قديمة الى هذه الدراسة ولكنها لم تكن مثل أسلوبه المحدد.
فقد درس قدامة صورا من الكناية وسماها الارداف.
يقول: «ومن أنواع ائتلاف اللفظ والمعنى الارداف وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعانى فلا يأتى باللفظ الدال على ذلك المعنى بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له فاذا دل التابع أبان عن المتبوع» ثم ذكر قول ابن أبى ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم
وانما أراد هذا الشاعر أن يصف طول الجيد فلم يذكره بلفظه
__________
(271) ينظر دلائل الاعجاز ص 203201(1/222)
الخاص به بل أتى بمعنى هو تابع لطول الجيد وهو بعد مهوى القرط.
ومثل ذلك قول امرئ القيس:
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضّحى لم تنتطق عن تفضّل
وانما أراد امرؤ القيس أن يذكر ترفه هذه المرأة وأن لها من يكفيها فقال: نؤوم الضحى، وأن فتيت المسك يبقى الى الضحى فوق فراشها، وكذلك سائر البيت (272)
وهكذا ظل قدامة يعرض صورا للكناية عن صفة ويبين وجه الدلالة فيها.
ثم عرض لكثرة الوسائط أو اخفاء التلازم التى لا يظهر فيها المطلوب بسرعة وبين أن هذا الباب اذا غمض لم يكن داخلا فى جملة ما ينسب الى جيد الشعر، وقد أشار الى أن هذه الطريقة فى الدلالة هى طريقة التمثيل أيضا، وعرف التمثيل بأنه أن يريد الشاعر إشارة الى معنى فيضع كلاما يدل على معنى آخر وذلك المعنى الآخر والكلام منبئان عما أراد أن يشير اليه مثل قول الرماح بن ميادة:
ألم أك فى يمنى يديك جعلتنى ... فلا تجعلنّى بعدها فى شمالكا (273)
وقد أفاد الجرجانى من هذا حين أشار الى أن الكلام على ضربين:
ضرب أنت تصل منه الى الغرض بدلالة اللفظ وحده كقولك: خرج زيد، وضرب آخر أنت لا تصل منه الى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذى يقتضيه موضوعه فى اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها الى الغرض، ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل (274)
واذا نظرنا الى تعريف عبد القاهر للكناية وجدناه لا يختلف كثيرا عما ذكره قدامة فى الارداف. يقول عبد القهر: «والمراد بالكناية هنا
__________
(272) ينظر نقد الشعر ص 178
(273) المرجع السابق ص 181، 182
(274) ينظر دلائل الاعجاز ص 171(1/223)
أن يريد المتكلم اثبات معنى من المعانى فلا يذكره باللفظ الموضوع له فى اللغة ولكن يجيء الى معنى هو تاليه وردفه فى الوجود فيومئ اليه ويجعله دليلا عليه» (275) ثم ذكر أمثلة ومنها: نؤوم الضحى.
وقد أفاد أبو هلال العسكرى من كلام قدامة السابق فذكر أن الارداف والتوابع أن يريد المتكلم الدلالة على معنى فيترك اللفظ الدال عليه الخاص به ويأتى بلفظ هو ردفه وتابع له فيجعل عبارة عن المعنى الذى أراده، وذلك مثل قول الله تعالى: {«فِيهِنَّ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ»} (276)
وقصور الطرف فى الأصل موضوعة للعفاف على جهة التوابع والارداف، وذلك أن المرأة اذا أعفت قصرت طرفها على زوجها فكان قصور الطرف ردفا للعفاف، والعفاف ردف وتابع لقصور الطرف، ثم ذكر من أمثلته قولهم: فلان كثير الرماد، وقول الشاعر:
وما يك فىّ من عيب فإنّى ... جبان الكلب مهزول الفصيل (277)
وقد أفاد من كلام قدامة ابن سنان الخفاجى وابن رشيق القيروانى وكلاهما عاصر عبد القاهر الجرجانى «يقول ابن سنان: ومن نعوت البلاغة والفصاحة أن يراد الدلالة على المعنى فلا يستعمل اللفظ الخاص الموضوع له فى اللغة بل يؤتى بلفظ يتبع ذلك المعنى ضرورة فيكون فى ذكر التابع دلالة على المتبوع وهذا يسمى الأرداف والتبع، ثم ذكر أمثلة منها قول عمر بن أبى ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل ... أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم
ويذكر بيت امرئ القيس:
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضّحى لم تنتطق عن تفضّل
__________
(275) دلائل المرجع ص 44
(276) الرحمن: 56
(277) الصناعتين ص 341، 342(1/224)
ويشير الى الكناية عن الموصوف ويذكر شاهده المشهور:
فأوجرته أخرى فأضللت نصله ... بحيث يكون اللّبّ والرعب والحقد
ويقول: «فلم يعبر عنه يريد القلب باسمه الموضوع له وعدل الى الكناية عنه بما يكون اللب والرعب والحقد فيه وكان ذلك أحسن».
ويذكر أيضا:
الضّاربين الكبش يبرق بيضه ... والطاعنين مجامع الأضغان
ويبين وجه الدلالة فى كل هذا ويقارن بينه وبين أسلوب الحقيقة (278)
ويقول ابن رشيق: ومن أنواع الاشارة التتبيع وقوم يسمونه «التجاوز» وهو أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيجاوزه ويذكر ما يتبعه فى الصفة وينوب عنه فى الدلالة عليه ثم يذكر:
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضّحى لم تنتطق عن تفضل
فقوله: «يضحى فتيت المسك» تتبيع، وقوله: «نؤوم الضحى» تتبيع ثان، وقوله: «لم تنتطق عن تفضل» تتبيع ثالث، وأنه أراد أن يصفها بالترفه والنعمة وقلة الامتهان فى الخدمة وأنها شريفة مكفية المئونة فجاء بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة ثم يذكر شواهد لهذا النوع من الكناية ويحللها (279)
وابن رشيق يذكر الكناية مرادفة للتمثيل ولا يزيد فى الموضع الذى ذكرها فيه عن ايراد شاهدين لابن مقبل وكان جافيا فى الدين يبكى أهل الجاهلية وهو مسلم، فقيل له مرة فى ذلك فقال:
وما لى لا أبكى الدّيار وأهلها ... وقد رادها روّاد عكّ وحميرا
وجاء قطا الأجباب من كلّ جانب ... فوقّع فى أعطاننا ثم طيّرا
__________
(278) سر الفصاحة ص 271وما بعدها.
(279) ينظر العمدة ج 1ص 312وما بعدها.(1/225)
وقال معلقا على هذين البيتين: فكنى عما أحدثه الاسلام ومثل (280)
وهذه إشارة ليس فيها غناء فى هذا الباب، أما أمثلة الكناية وشواهدها التى ذكرها فى باب التتبيع والارداف فانه لم يشر فى دراستها الى الكناية وكان التتبيع والارداف شىء والكناية شىء آخر.
ومثله فى هذا ابن سنان فقد ذكر الكناية الحسنة التى تقع فى الموضع الذى لا يحسن فيه التصريح ثم قال: وانما قلنا فى الموضع الذى لا يحسن فيه التصريح لأن مواضع الهزل والمجون وايراد النوادر يليق بها ذلك ولا تكون الكناية فيها مرضية. ثم ذكر من الكناية عن الوطء: بالسر، والمرأة: بالوديعة والأمانة، ثم ذكر الكنايات القبيحة، وقد أشرنا الى أنه ذكر صورا من الكناية ولكنه لم يذكر الكناية وهو يحلل هذه الصور.
وكانت الكناية تطلق على صور من المجاز المرسل كما بينا وتطلق أيضا بمعناها اللغوى وترادف التورية والتعريض، وقد ذكر المبرد أنها تقع على ثلاثة أضرب:
الأول: التعمية والتغطية، ومثاله قول أحد القرشيين:
وقد أرسلت فى السرّ أن قد فضحتنى
وقد بحت باسمى فى النسيب وما تكنى
والثانى وهو أحسنها: الرغبة عن اللفظ الخسيس المتفحش الى ما يدل على معناه غيره، ومنه قوله تعالى: {«أَوْ لََامَسْتُمُ النِّسََاءَ»} (281)
والثالث: التفخيم والتعظيم، ومنه اشتقت الكنية (282)
وذلك واضح فى كتاب الصناعتين وفى كتاب سر الفصاحة كما قلنا (283)
__________
(280) المرجع السابق ج 1ص 305
(281) النساء: 43
(282) ينظر الكامل ج 3ص 40
(283) ينظر الصناعتين ص 360وسر الفصاحة ص 192(1/226)
التعريض:
ومما يذكر فى هذا الباب أن ابن رشيق قد ذكر التعريض منفصلا عن الكناية وذكر له أمثلة لا تدخل فى الارداف والتتبيع، وقد عول فى هذه الأمثلة على السياق، فهو الذى يحدد المعنى التعريضى كما استقر عليه الرأى بين البلاغيين المتأخرين، قال ابن رشيق: ومن أنواعها يعنى الاشارة التعريض، كقول كعب بن زهير لرسول الله صلّى الله عليه وسلم:
فى فتية من قريش قال قائلهم ... يبطن مكّة لما أسلموا زولوا
فعرض بعمر بن الخطاب وقيل بأبى بكر رضى الله عنه، ومن مليح التعريض قول أيمن بن خريم الأسدي لبشر بن مروان يمدحه ويعرض بكلف كان بوجه أخيه عبد العزيز حين نفاه عن مصر على يدى نصيب الشاعر لمولاه:
كأن التاج تاج بنى هرقل ... جلوه لأعظم الأعياد عيدا
يصافح خدّ بشر حين يمسى ... إذا الظلماء باشرت الخدودا
فهذا من خفى التعريض لأنه أوهم السامع أنه انما أراد المبالغة بذكر الظلماء لا سيما وقد قال «حين يمسى» وانما أراد الكلف (284)
ولولا السياق فى هذه الأبيات ما استطاع النص أن يوضح هذه المعانى التعريضية لأنها تفهم عند اللفظ لا به.
ويذكر ابن قتيبة مثلا وشواهد للتعريض من القرآن بعد ما ذكر صورا للكناية لا تتصل بصورها الاصطلاحية وانما تدور حول الكناية اللغوية. يقول فى قوله تعالى: {«لََا تُؤََاخِذْنِي بِمََا نَسِيتُ»} (285): «لم ينس ولكنها من معاريض الكلام وهذا مروى عن ابن عباس، ويقول فى تفسيره أراد ابن عباس أنه لم يقل: انى نسيت، فيكون كاذبا ولكنه قال: {«لََا تُؤََاخِذْنِي بِمََا نَسِيتُ»} فأوهم النسيان ولم ينس ولم يكذب ولهذا قيل: ان فى المعاريض عن الكذب لمندوحة. ومنه قول إبراهيم صلّى الله عليه وسلم:
{«إِنِّي سَقِيمٌ»} (286) أى: سأسقم لأن من كتب عليه الموت فلا بد من أن
__________
(284) العمدة ج 1ص 303، 304
(285) الكهف: 73
(286) الصافات: 89(1/227)
يسقم وكذلك قوله: {«بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذََا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كََانُوا يَنْطِقُونَ»} (287) أراد بل فعله الكبير أن كانوا ينطقون فسلوهم فجعل النطق شرطا للفعل أى ان كانوا ينطقون فقد فعله وهو لا يعقل ولا ينطق» (288)
ثم يذكر من هذا الباب ما سماه البلاغيون الكلام المنصف وذلك كقول الله عز وجل: {«وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (289)
والمعنى انا لضالون أو مهتدون وانكم أيضا لضالون أو مهتدون، وهو جل وعز يعلم أن رسوله المهتدى وأن مخالفه الضال، وهذا كما تقول للرجل يكذبك ويخالفك: ان أحدنا لكاذب، وأنت تعنيه فكذبته من وجه هو أحسن من التصريح كذلك قال الفراء (290)
وسوف نجد أثر هذه الدراسة فى بحث الكشاف، والمهم أن نقول هنا: أن التعريض كان ينفصل أحيانا عن الكناية، ثم ان عبد القاهر جعله رديفا لها ثم ان الزمخشرى حدد الفرق بينهما تحديدا واضحا كما سنبين ان شاء الله.
وخلاصة ما يقال فى نهاية هذا الفصل: ان عبد القاهر لم ينضج مباحث البلاغة فى المعانى والبيان وان كان خطابهما خطوة واسعة تميزت بها دراسته عن الدراسة السابقة تميزا واضحا.
البحث فى ألوان البديع:
لا تحتاج ألوان البديع الى ما تحتاج اليه فنون البيان من الدراسة والتحليل. فكل لون منها مستقل عن صاحبه، فدراسة الجناس غير مرتبطة بدراسة الطباق، ودراسة المشاكلة غير مرتبطة بدراسة السجع، فليس فن منها مبنيا على فن، وليس فن منها قسيما لفن، وذلك بخلاف
__________
(287) الأنبياء: 63
(288) تاويل مشكل القرآن ص 209
(289) سبأ: 24
(290) المرجع السابق(1/228)
ألوان البيان التى تجدها متشابكة فالاستعارة مبنية على التشبيه، والتمثيل قسم من التشبيه، والمجاز منه مجاز فى الكلمة ومنه مجاز فى الحكم، والمجاز فى الكلمة ينقسم الى مجاز مرسل واستعارة، والكناية أخت المجاز وغير ذلك من الروابط بين هذه الفنون التى يتفرع بعضها عن بعض ويستلزم بعضها بعضا، لذلك كانت مباحث البيان كأنها مبحث واحد وكانت مباحث البديع كأنها مباحث متفرقة، ومن هنا تأخر نضج المباحث البيانية فى حين سبقت مباحث ألوان البديع واكتملت تقريبا قبل عهد الجرجانى. اللهم الا تلك الفنون التى أضافها المتأخرون فى عصر البديعيات وهذه اضافات لم تغير شيئا فيما سبق العلماء الى دراسته من هذه الألوان.
لذلك رأيت من التكلف أن أبسط دراسة واسعة أتتبع فيها نشأة المباحث البديعية وتطورها الى عصر الزمخشرى لأن الدارسين جميعا يعرفون أن هذه المباحث قد اكتملت قبل القرن الخامس الذى عاش فيه الجرجانى، ولذلك لم يشغل عبد القاهر بدراسة البديع كما شغل بدراسة البيان ومسائل النظم. وهذا راجع الى ما قلته من أنه ليست هناك حاجة للاضافة فى دراسة البديع، وظن بعض الدارسين أن هذا راجع الى أنه لم يدخل البديع فى قضية الاعجاز، وسوف أناقش هذا الزعم فى حديثى عن مذهب الزمخشرى فى البديع لأن كثيرا من الدارسين ربط بين المذهبين وهذا صواب، أما بيانهم لمذهب الشيخين فى البديع فذلك ما سوف نخالف فيه.
ولكنى أؤكد ما ذهبت اليه من أن دراسة ألوان البديع ليست دراسة معقدة، وانما هى نظرات ترسل فى أعطاف الأساليب فتتبين أوصافها فى غير عناء، أقول: ان فنونه كأنها تولد مكتملة فليست فى حاجة الى مراحل تاريخية وظروف ثقافية لتؤثر فى نموها وازدهارها كما هو الحال فى مسائل النظم والبيان، وحين نعرض صورا من دراسة ألوان البديع فى الزمن القديم التى كانت فيه مسائل المعانى والبيان وحيا وإشارة نرى هذه المباحث كأنها فى صورتها الأخيرة.(1/229)
من هذه الصورة ما ذكره الفراء فى صور المشاكلة.
يقول: فان قال قائل «أرأيت قوله: {«فَلََا عُدْوََانَ إِلََّا عَلَى الظََّالِمِينَ»} (291): أعدوان هو وقد أباحه الله لهم؟ قلت: ليس بعدوان فى المعنى انما هو لفظ على مثل ما سبق قبله، ألا ترى أنه قال: {«فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ»} (292) فالعدوان من المشركين فى اللفظ ظلم فى المعنى، والعدوان الذى أباحه الله وأمر به المسلمين انما هو قصاص فلا يكون القصاص ظلما وان كان لفظه واحدا، ومثله قوله تبارك وتعالى: {«وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا»} (293) وليست من الله على مثل معناها من المسيء لأنها جزاء (294)
وهذا قريب جدا مما قاله المتأخرون وليس بيان هذه الطريقة فى حاجة الى أكثر من هذا، اللهم الا أن يوضع فى قالب علمى محدد، ثم اننا لو قسناه باشارات الفراء فى مسائل النظم والبيان لوجدنا كلامه هنا يسبق اشاراته هناك سبقا بينا وذلك راجع الى ما قلته.
وقد أشار ابن قتيبة الى صور المشاكلة أيضا فى باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه وفى باب الاستعارة.
يقول فى الباب الأول: «ومن ذلك الجزاء عن الفعل بمثل لفظه والمعنيان مختلفان نحو قوله تعالى {«إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ»} (295)، أى يجازيهم جزاء الاستهزاء، وكذلك: {«سَخِرَ اللََّهُ مِنْهُمْ»} (296)، و {«وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ»} (297)، و {«وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا»} (298)، هى من المبتدأ سيئة ومن الله عز وجل جزاء، وقوله:
{«فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ»} (299)
__________
(291) البقرة: 193
(292) البقرة: 194
(293) الشورى: 40
(294) معانى القرآن ص 116، 117
(295) البقرة: 14، 15
(296) التوبة: 79
(297) آل عمران: 54
(298) الشورى: 40
(299) البقرة: 194(1/230)
فالعدوان الأول ظلم والثانى جزاء، والجزاء لا يكون ظلما، وان كان لفظه كاللفظ الأول وكذلك قوله: {«نَسُوا اللََّهَ فَنَسِيَهُمْ»} (300)
ويقول فى باب الاستعارة: «ومن ذلك قوله: {«صِبْغَةَ اللََّهِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً»} (301) يريد الختان فسماه صبغة لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فى ماء ويقولون: هذا طهر لهم كالختان للحنفاء. فقال الله تعالى: {«صِبْغَةَ اللََّهِ»} أى الزموا صبغة الله لا صبغة النصارى أولادهم وأرادوا بها ملة إبراهيم عليه السلام» (302)
ويكاد بحث المشاكلة تتم صورته الأخيرة وهو لا يزال فى أحضان القرنين الثانى والثالث، ويشير سيبويه الى تأكيد المدح بما يشبه الذم إشارة تكاد تستوعب ما جاء به المتأخرون فى هذا الباب. يقول فى باب ما يكون «الا» على معنى «ولكن»:
وقوله عز وجل: {«الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلََّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللََّهُ»} (303): ولكنهم يقولون: ربنا الله، وهذا الضرب فى القرآن كثير ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
ولا عيب فيم غير أنّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
أى ولكن سيوفهم بهن فلول.
وقال النابغة الجعدى:
فتى كملت أخلاقه غير أنّه ... جواد فما يبقى من المال باقيا
كأنه قال: ولكنه مع ذلك جواد» (304)
ويتكلم على بن عبد العزيز الجرجانى فى المطابقة والتجنيس ويكاد
__________
(300) تأويل مشكل القرآن ص 225والآية من سورة التوبة: 67
(301) البقرة: 138
(302) تأويل مشكل القرآن ص 113
(303) الحج: 40
(304) الكتاب لسيبويه ج 1ص 366، 367(1/231)
يصل بهما الى الصورة الأخيرة التى انتهى اليها الدرس فى هذين الفنين.
يقول فى المطابقة: «ومن أشهر أقسام المطابقة ما جرى مجرى قول دعبل:
لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
وقول مسلم بن الوليد:
مستعبر يبكى على دمنة ... ورأسه يضحك فيه المشيب
وقال أبو تمام:
وتنظّرى خبب الركاب ينصّها ... محيى القريض إلى مميت المال
وقد يجرى منه جنس آخر تكون المطابقة فيه بالنفى كقول البحترى:
يقيّض لى من حيث لا أعلم الهوى ... ويسرى اليّ الشوق من حيث أعلم
لما كان قوله «لا أعلم» كقوله «أجهل» وكان قوله «أجهل» مطابقة كان الآخر بمثابته، ومن أغرب ألفاظه وألطف ما وجد منه قول أبى تمام:
مها الوحش إلا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخطّ إلّا أنّ تلك ذوابل
فطابق ب «هاتا» و «تلك» وأحدهما للحاضر والآخر للغائب فكانا نقيضين فى المعنى وبمنزلة الضدين» (305)
ويقول فى التجنيس: «وأما التجنيس فقد يكون منه المطلق، وهو أشهر أوصافه كقول النابغة:
وأقطع الخرق بالخرقاء قد جعلت ... بعد الكلال تشكّى الاين والسّأما
وقول رؤبة:
* أحضرت أهل حضرموت *
فجانس فى موضعين فى بيت رجز
__________
(305) الوساطة ص 44(1/232)
وقول أبى تمام:
تطلّ الطلول الدّمع فى كلّ موقف ... وتمثل بالصّبر الديار المواثل
فجانس فى المصراعين وقد يكون منه التجنيس المستوفى كقول أبى تمام:
ما مات من كرم الزمان فإنّه ... يحيى لدى يحيى بن عبد الله
فجانس ب «يحيا» و «يحيى»، وحروف كل واحد منهما مستوفاة فى الآخر، وانما عد فى هذا الباب لاختلاف المعنيين لأن أحدهما فعل والآخر اسم ولو اتفق المعنيان لم يعد تجنبا وانما كان لفظة مكررة.
ومن التجنيس الناقص قول الأخنس بن شهاب:
وحامى لواء قد قتلنا وحامل ... لواء منعنا والسيوف شوارع
فجانس ب «حامى» و «حامل» والحروف الأصلية فى كل واحد منهما تنقص عن الآخر، ومثله قول أبى تمام:
يمدّون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواص قواضب (306)
لو نظرنا فى كتب المتأخرين لوجدنا أن هذه الاشارات هى أهم ما فى هذه الأبواب، ولو قارنا دراسة على بن عبد العزيز الجرجانى للتجنيس بدراسته للاستعارة لوجدنا فرقا كبيرا فان بحثه للتجنيس شارف الصورة الأخيرة لهذا البحث ولم يكن كذلك بالنسبة لبحث الاستعارة التى ظلت فى حاجة الى مزيد من الجهد. نعم كانت بينهم خلافات فى التسمية فقد يطلق قدامة اسم المطابقة على ما أطلق عليه غيره اسم التجنيس، وقد يضيف قدامة الى فنون البديع فنونا أخرى، وقد يدخل ابن قتيبة صور المشاكلة فى الاستعارة، ولكن هذا لا يؤثر فى جوهر
__________
(306) الوساطة ص 41(1/233)
ما نريد بيانه وهو أن مباحث هذه الألوان تكاد تبدأ كاملة، وسواء سميت صور التجنيس جناسا أو مطابقة، وسواء استخرجها قدامة أو عبد الله بن المعتز فقد وجدت واضحة المعالم، وفى حالة تفضل كثيرا الحال التى ظهر فيها بحث التشبيه أو المجاز العقلى أو التقديم أو غير ذلك من فنون علمى المعانى والبيان.(1/234)
الفصل الثّانى النظم فى الكشاف
تحديد المراد بالنظم وبيان موضوعه:
أريد أن أحدد فى هذا الفصل مفهوم النظم وبيان موضوعه كما يصوره كتاب الكشاف والى أى مدى يتصل هذا المفهوم بمفهوم علمى المعانى والبيان وعلم الاعراب. ولهذا الغرض تتبعت كلمة النظم فى تفسير الكشاف وكلمة علم المعانى وعلم البيان، ثم أخذت فى درسها ومناقشتها ولم يكن من الخير فى بحثى هذا أن أذكر النتائج فحسب، وانما الخير فى عرض هذه المجالات التى ذكرت فيها هذه المصطلحات لأنها ليست واضحة فى موضع معين فى كتابه فيسهل تصورها وانما هى مبثوثة هنا وهناك، وعلينا أن نذكر دائما أن الزمخشرى يتكلم فى التفسير فليس من عمله تحديد المصطلح العلمى وتحريره. وهذا لون من الصعوبة، قد واجهنا فى تحديد هذه المفاهيم، ولكن الاستقصاء الكامل والمتابعة الدقيقة قد تعيننا على هذه الصعوبة.
وواضح كما بينت أن نظم القرآن قد شغل الدارسين قبل الزمخشرى وأن كتبا تحمل هذه الترجمة قد ظهرت من القرن الثالث، وأن النظم قد تواردت عليه مفاهيم مختلفة فى البيئات الفكرية المختلفة، فالنظم له مفهوم عند القاضى عبد الجبار وله مفهوم عند على بن عيسى الرمانى وله مفهوم عند القاضى الباقلانى.
ثم ان الامام عبد القاهر بسط درسه بسطا علميا دقيقا وقد بينت أنه أفاد كثيرا من جهود العلماء قبله وأنه نظر الى كلام الخطابى الذى يقول فيه: «وانما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى قائم ورباط لها ناظم، واذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى
غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلازما وتشاكلا من نظمه» (1).(1/235)
ثم ان الامام عبد القاهر بسط درسه بسطا علميا دقيقا وقد بينت أنه أفاد كثيرا من جهود العلماء قبله وأنه نظر الى كلام الخطابى الذى يقول فيه: «وانما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى قائم ورباط لها ناظم، واذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى
غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلازما وتشاكلا من نظمه» (1).
ويقول الخطابى فى موضع آخر: «وأما رسوم النظم فالحاجة الى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعانى وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة فى النفس يتشكل بها البيان».
كما نظر الى كلام عبد الجبار وأفاد منه أكثر وقد بسطت هذا فى الفصل السابق.
أما الامام الزمخشرى فقد استمد فهمه مما ذكره عبد القاهر الذى تعتبر جهوده تلخيصا مركزا لجهود من سبقه.
فنظم الكلام كما يتصوره الزمخشرى يعنى بيان الروابط والعلاقات بين الجمل وكيف يدعو الكلام بعضه بعضا وكيف يأخذ بعضه بحجزة بعض.
يقول فى قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (2): {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ»} الجملة فى محل الرفع ان كان {«يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} مبتدأ، والا فلا محل لها، ونظم الكلام على الوجهين أنك اذا نويت الابتداء ب {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} فقد ذهبت به مذهب الاستئناف، وذلك أنه لما قيل {«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»} واختص المتقون بأن «الكتاب لهم هدى» اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}
__________
(1) بيان اعجاز القرآن للخطابى ص 24ضمن ثلاث رسائل فى اعجاز القرآن.
(2) البقرة: 51(1/236)
{بِالْغَيْبِ»} الى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدر وجىء بصفة «المتقين» المنطوية تحتها خصائصهم التى استوجبوا بها من أن يلطف بهم ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم، أى الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح، ونظيره قولك: أحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه وكشفوا الكرب عن وجهه أولئك أهل المحبة، وان جعلته تابعا ل «المتقين» وقع الاستئناف على «أولئك» كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب: بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا، فان قلت: هل يجوز أن يجرى الموصول الأول على «المتقين»، وأن يرتفع الثانى على الابتداء، و «أولئك» خبره؟ قلت: نعم على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح» (3).
فموضوع النظم هنا: بحث علاقة الجملة بالجملة وبيان وجه ارتباطها بها، والأسرار المعنوية التى وراء هذه الارتباطات، واذا كان الاعراب يبين لنا أن {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} مبتدأ و {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً»}
فى محل رفع خبرا لهذا المبتدأ أو أن {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ»} تابع «للمتقين» بدل منه، وجملة «أولئك» لا محل لها لأنها وقعت موقع الاستئناف اذا كان علم الاعراب يبين لنا هذا فان علم النظم هو الذى يبحث عما وراء هذه الصناعة النحوية ويفسرها ويكشف لنا ألوان المعنى التى وراءها، ولهذا تراه يقول: واذا ارتفع الموصول الثانى على الابتداء وهذا وجه ثالث من التخريجات النحوية يعطى التركيب معنى جديدا يفهم من عرضه ويكون فيه غمزا لأهل الكتاب.
وعلم النظم هو الذى يبرز الأسرار والنكت فى أسلوب القرآن ويكشف الفروق المعنوية الدقيقة بين خصوصيات التراكيب ويربط هذه الخصوصيات بالسياق والغرض العام.
__________
(3) الكشاف ج 1ص 34(1/237)
يقول فى قوله تعالى: {«فَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ دَعََانََا ثُمَّ إِذََا خَوَّلْنََاهُ نِعْمَةً مِنََّا قََالَ إِنَّمََا أُوتِيتُهُ عَلى ََ عِلْمٍ»} (4): فان قلت: ما السبب فى عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها فى أول السورة بالواو؟ قلت: السبب فى ذلك أن هذه وقعت مسببة عن قوله: {«وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ»} (5)
على معنى يشمئزون عند ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة فاذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره، وما بينها من الآى اعتراض. فان قلت: حق الاعتراض بأن يؤكد المعترض بينه وبينه؟ قلت: ما فى الاعتراض من دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربه بأمر منه وقوله: {«أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبََادِكَ»} (6) ثم ما عقبه من الوعيد العظيم تأكيد لانكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم الى الله فى الشدائد دون آلهتهم كأنه قيل: قل يا رب لا يحكم بينى وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة ويرتكبون مثل هذا المنكر الا أنت، وقوله: {«وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا»} (7) متناول لهم ولكل ظالم ان جعل مطلقا أو اياهم خاصة ان عنيتهم به كأنه قيل: ولو أن لهؤلاء الظالمين ما فى الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به حين أحكم عليهم بسوء العذاب، وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها الا علم النظم والا بقيت محتجبة فى أكمامها. (الكشاف ج 1ص 104).
فعلم النظم هنا يبين صلة معانى الجمل المعترضة بالكلام الذى وقعت معترضة فيه. فالتسبيب بين آية {«وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ»} وآية {«فَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ»} واضح وان اعترضت بينهما هذه الجمل الطويلة لأن الاعتراض تأكيد الكلام وتقريره فهو جزء منه مرتبط به.
ومثل هذا البحث الذى يكون موضوعه علاقة الجمل المعترضة وجلاء هذه العلاقة حتى يظهر اتحاد الجمل والتئام بعضها ببعض وتخصيص هذا البحث بعلم النظم، وأنه لا يطيق هذا البحث الا من ارتاض بهذا العلم وتدرب على ذوق هذا النمط من التعبير الذى تتداخل
__________
(4) الزمر: 49
(5) الزمر: 45
(6) الزمر: 46
(7) الزمر: 47(1/238)
حمله وتقوم بينها روابط قوية خفية وعلاقات وثيقة غامضة يذكرها الزمخشرى فى قوله تعالى: {«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهََامََانَ وَجُنُودَهُمََا كََانُوا خََاطِئِينَ. وَقََالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لََا تَقْتُلُوهُ عَسى ََ أَنْ يَنْفَعَنََا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ»} (8)
يقول: فان قلت {«وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ»} حال فما ذو حالها؟ قلت: ذو حالها {«آلُ فِرْعَوْنَ»} وتقدير الكلام: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم فى التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه وقوله: {«إِنَّ فِرْعَوْنَ»} الآية، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم وما أحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم (9).
والكلام المنتظم هو الذى تتضح معانيه ويشف أسلوبه عن مدلوله، والكلام المتنافر هو الذى تختفى مدلولاته ولا يقف الذهن منها على شىء ومهما تابع الجمل لا يستقيم عنده معنى متسق، والقرآن العظيم قد يخفى فيه هذا المعنى المتسق اذا وقف الناظر عند ظاهر النص ولم يتغلغل فى باطنه، والزمخشرى يقف مع هذه النصوص ويبين لنا وجه تلاؤم النظم يقول فى قوله تعالى: {«ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقََاقٍ»} (10) فان قلت: {«ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقََاقٍ»} كلام ظاهر متنافر غير منتظم فما وجه انتظامه؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدى والتنبيه على الاعجاز كما مر فى أول الكتاب ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدى عليه كأنه قال:
والقرآن ذى الذكر انه لكلام معجز، والثانى أن يكون «ص» خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه «ص» يعنى هذه
__________
(8) القصص: 8، 9
(9) الكشاف ج 3ص 30
(10) سورة ص: 1، 2(1/239)
السورة التى أعجزت العرب {«وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ»} كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء، والله أعلم» (11).
وبحث النظم هنا هو توضيح المدلول بتقدير المحذوف وتحديد مواقع الجمل فى نظام الكلام اذ أن جملة القسم قبل جوابها لا يظهر ارتباطها بقوله تعالى: {«بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا»} كما لا يظهر ارتباطها بقوله «ص» والذهن عند ذكر القسم ينتظر الجواب ويتوقف متطلبا له ويعجز عن أن يتمثل للكلام المذكور معنى مستقيما واضحا يستشف منه الخيط الممتد الذى ينتظم هذه الجمل كما يوحى بذلك تساؤل الزمخشرى. ومثل هذا النظم الذى يحتاج الى شىء من الايضاح حتى يستقيم المعنى فى أذهان غير المتخصصين أو فى أذهان غير ذوى الفهم النافذ للأساليب الأدبية قوله تعالى: {«بَلْ مَتَّعْتُ هََؤُلََاءِ وَآبََاءَهُمْ حَتََّى جََاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمََّا جََاءَهُمُ الْحَقُّ قََالُوا هََذََا سِحْرٌ وَإِنََّا بِهِ كََافِرُونَ»} (12).
يقول الزمخشرى: فان قلت: قد جعل مجىء الحق والرسول غاية التمتيع ثم أردفه قوله: {«وَلَمََّا جََاءَهُمُ الْحَقُّ قََالُوا هََذََا سِحْرٌ»} (13)
فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت: المراد بالتمتيع ما هو سبب له وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته فقال: بل اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبيه، ثم ابتدأ قصتهم عند مجىء الحق فقال:
«ولما جاءهم الحق جاءوا بما هو شر من غفلتهم التى كانوا عليها» (14)
وبيان طريقة النظم هنا تعنى استقامة المعنى وتوضيح المفهوم من الكلام وربط بعضه ببعض بطريقة بالغة فى الفهم والذكاء، والوسيلة هى التحليل لمحتويات الكلام والكشف عن العلاقات والروابط، وليست الوسيلة هنا هى الاعراب وبيان موقع الجمل بعضها من بعض من حيث التسبيب والاستئناف أو الاعتراض.
__________
(11) الكشاف ج 3ص 53
(12) الزخرف: 29، 30
(13) الزخرف: 30
(14) الكشاف ج 4ص 195(1/240)
وتجاوب النظم يعنى انسجام المعانى وتقاربها ووضوح الوشائج والصلات بينها، وهذا سمت الأسلوب القرآنى ولهذا فصل كتاب الله سورا، يقول الزمخشرى فى بيان الأسرار التى من أجلها كان كتاب الله سورا:
«ومنها أى ومن هذه الفوائد أن التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها البعض وبذلك تتلاحظ المعانى وبتجاوب النظم» (15).
ويذكر تجاوب النظم أيضا ويقصد به انسجام المعانى ووضوح الوشائج والصلات بينها فاذا لم يكن هذا ظاهرا فى النص القرآنى كشفه الزمخشرى وأبان عنه.
يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»} (16): «فان قلت: فهلا قيل «تعبدون» لأجل «اعبدوا» أو «اتقوا» لمكان «تتقون» ليتجاوب طرفا النظم؟ قلت:
ليس التقوى غير العبادة حتى يؤدى الى تنافر النظم وانما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده فاذا قال: {«اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ»} للاستيلاء على أقصى غايات العبادة، كان أبعث على العبادة وأشد الزاما لها وأثبت لها فى النفوس، ونحوه أن تقول لعبدك: احمل خريطة المكتب فما ملكتك يمينى الا لجر الأثقال، ولو قلت «لحمل خرائط المكتب» لم يقع من نفسه ذلك الموقع» (17).
فعدول القرآن هنا عن العبادة الى نوع خاص منها وهو التقوى التى هى قصارى أمر العابد جعل الأسلوب أقوى والمعنى أوقع كما قال فى المثال الذى ساقه، وذلك لأن الأمر بالعبادة أمر بأداء بعض ما خلقوا من أجله لأنهم لم يخلقوا ليبلغوا فى عبوديتهم لله درجة العبادة فحسب، وانما خلقوا ليبلغوا فى العبادة غايتها وهى التقوى. ومن البلاغة وسداد النظم أن يردف الأمر بما يحث النفس حثا الى الامتثال
__________
(15) الكشاف ج 1ص 74
(16) البقرة: 21
(17) الكشاف ج 1ص 66(1/241)
اليه وقد وقف الزمخشرى عند قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهََا زَوْجَهََا»} (18) ليسأل نفس السؤال ويجيب نفس الاجابة وكأن هذه قاعدة بلاغية يهتم بتوضيحها فى نظم القرآن، قال: فان قلت: الذى يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو اليها ويبعث عليها فكيف كان خلقه اياهم من نفس واحدة على التفصيل الذى ذكره موجبا للتقوى وداعيا اليها؟ قلت: لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شىء، ومن المقدورات عقاب العصاة فالنظر فيه يؤدى الى أن يتقى القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنه يدل على النعمة السابقة عليهم فحقهم أن يتقوه فى كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها، أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهى أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم فلا يقطعون ما يجب عليهم وصله (الكشاف ج 1ص 355).
وكأن الزمخشرى قد استنبط هذه القاعدة البلاغية فى أسلوب الأمر من مثل قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ»} (19) فقد جاء عقيب الأمر بالتقوى بما يدفع النفس دفعا اليها بما صوره من هول هذه اللحظات.
ونظم الكلام هنا تأليفه، وسداد النظم وجزالته مراعاة الأصول البلاغية فى هذا النظم أو هذا التأليف، والبحث هنا كشف واستنباط لهذه الأصول التى تجرى عليها أساليب البلغاء.
وللنظم وجه من الحسن يدركه الزمخشرى فى قوة بناء الأسلوب وشدة تماسكه، وعبارة الزمخشرى فيه تقرب من عبارة عبد القاهر فى فصل عقده للنمط العالى والأسلوب الأعظم (20) ويلمح الزمخشرى فى هذا الصدد أثرا بلاغيا لبعض مواقع المصادر. يقول فى قوله تعالى:
__________
(18) النساء: 1
(19) الحج: 1
(20) ينظر دلائل الاعجاز ص 63، 64(1/242)
{«وَتَرَى الْجِبََالَ تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ، صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»} (21): «فالنظر الى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة اضماده ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ افراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق، ونحو هذا المصدر اذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته، والمنادى على سداده، وانه ما كان ينبغى أن يكون الا كما قد كان، ألا ترى الى قوله:
{«صُنْعَ اللََّهِ»} و {«صِبْغَةَ اللََّهِ»} و {«وَعَدَ اللََّهُ»} و {«فِطْرَتَ اللََّهِ»} بعد ما وسمها باضافتها اليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله: {«الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»}، و {«وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً»}، و {«لََا يُخْلِفُ اللََّهُ الْمِيعََادَ»}
و {«لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ»} (22).
وقد أشرنا كثيرا الى اهتمامه ببيان ما ينطوى عليه أسلوب القرآن من شدة الروابط وقوة العلاقات. ولاهتمامه بهذا الأصل البلاغى فى نظم الكلام يفضل قراءة على قراءة يقول فى قوله تعالى: {«وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى ََ حِمْلِهََا لََا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كََانَ ذََا قُرْبى ََ»} (23): «فان قلت:
ما تقول فيمن قرأ «ولو كان ذو قربى» على «كان» التامة، كقوله تعالى:
{«وَإِنْ كََانَ ذُو عُسْرَةٍ»}؟ (24) قلت: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة لأن المعنى على أن المثقلة ان دعت أحدا الى حملها لا يحمل منه شىء، وان كان مدعوها ذا قربى، وهذا معنى صحيح ملتئم، ولو قلت: ولو وجد «ذو قربى» لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه (25).
قال الشهاب: لا يلتئم معها النظم لأن هذه الجملة الشرطية كالتتميم والمبالغة فى أن لا غياث أصلا ولو قدر المدعو ذا قربى، ولو
__________
(21) النمل: 88
(22) الكشاف ج 3ص 304، 305والآيات من سور: النمل:
88، والبقرة: 138، والزمر: 20، والروم: 30.
(23) فاطر: 18
(24) البقرة: 280
(25) الكشاف ج 3ص 479(1/243)
قدرته: ان تدع النفس المثقلة الى تخفيف ما عليها لا تجد معاونا ولو وجد «ذو قربى» لم يحسن ذلك الحسن (26).
ونظم الكلام وترتب معانيه تراعى فيه أحوال النفس وتطبيق الكلام على هذه الأحوال وله فى هذا نظر ثاقب يدل على بصر بشئون النفس وما يعرض لها من أحوال الشعور والانفعال، يقول فى قوله تعالى:
{«أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السََّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذََابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي فَكَذَّبْتَ بِهََا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكََافِرِينَ»} (27): «وقوله تعالى: {«بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي»} جواب لقوله: {«أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»} وبين الزمخشرى لماذا تأخر جواب القرينة الثانية فيقول: «فان قيل: هلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله: {«لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي»}
ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو اما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، واما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، واما الثانى فلما فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط فى الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، ثم تمنى الرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب» (28).
والزمخشرى يحرص على أن تكون القرائن متجاورة وألا يفصل بينها بما هو جزء احداها حتى تتلاقى هذه النغمات الحزينة متجاورة متناغمة تتراجع أصداؤها الوالهة فى آفاق النفس المتألمة فتمس أعماقها البعيدة، وأن يكون هذا الفيض من الحزن والأسى والندم الموجع فى وحدة واحدة فيكون الكلام أقدر على اثارة النفس وتحريك الوجدان، ويحرص كذلك على ألا تتأخر الثانية مكان الثالثة لتجاور جوابها لأن
__________
(26) حاشية الشهاب الخفاجى ج 7ص 322
(27) الزمر: 5956
(28) الكشاف ج 4ص 107(1/244)
ذلك يؤدى الى اختلال ترتيب الكلام وعدم مطابقته لترتيب المعانى فى النفس، وفى هذا يدرك هذا الفقيه العظيم ترتيب المعانى النفسية ومراتب الأحوال الوجدانية وضرورة ترتيب الكلام على وفقها ونظامها ولكى لا نبعد عن موضوع حديثنا نقول: ان النظم هنا كما فى غيره من المواضع هو تأليف الكلام وترتيبه، وسداد النظم هنا يتطلب منا هذه النظرة النفسية الدقيقة التى تحيط بما تشيعه هذه الآيات المتجاورة وتبعثه نغماتها الحزينة من هذا الفيض الانفعالى الذى ترسله النفس الانسانية فى انسياب وتتابع حينما تواجه هذا المصير المحتوم، ثم أن الزمخشرى يرى أن نظوم الكلام المختلفة توضع بازاء معان تركيبية مختلفة ويرتبط كل نظم من هذه النظوم فى هذه اللغة بمعنى، فأسلوب الكلام ونظمه يوضع لمعنى كذا، وكما أن الألفاظ المفردة توضع بازاء معانيها التركيبية ويتبين معناها الخبير بهذه التراكيب الممارس لها ويجب أن يكون أدق وأنفذ، وأن تكون خبرته أوسع لدقة المعنى التركيبى وخفائه. ولهذا يقع الناس فى الخطأ ويفهمون من النظم والأسلوب غير معناه وحينئذ يخرجون الكلام عن دلالاته البلاغية الشريفة. يقول الزمخشرى مفصحا عن كل هذا فى تفسيره لقوله تعالى:
{«قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ»} (29) يقول: «وهذا كلام وأرد على سبيل الفرض والتمثيل وهو المبالغة فى نفى الولد والاطناب فيه وألا يترك الناطق به شبهة الا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم فى باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهى محال فى نفسها فكان المعلق بها محالا مثلها فهو فى صورته اثبات الكينونة والعبادة وفى معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها، ونظيره أن يقول العدلى للمجبر: ان كان الله تعالى خالقا الكفر فى القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول هو شيطان وليس باله، فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفى أن يكون الله تعالى خالقا الكفر
__________
(29) الزخرف: 81(1/245)
وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذى ذكرنا مع الدلالة على سماجة المذهب، وضلالة الذاهب اليه، والشهادة القاطعة باحالته، والافصاح عن نفسه بالبراءة منه، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه، ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له: أما والله لأبدلنك نارا تلظى: «لو عرفت أن ذلك لك ما عبدت الها غيرك» وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد، المستقل باثبات التوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: ان كان للرحمن ولد فى زعمكم، فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم باضافة الولد اليه (30) وقد لاحظنا فى كل هذه الدراسة التى تدور حول النظم أن النظم لا يخرج فى مدلوله العام عن معناه اللغوى الذى هو التأليف وضم الشيء الى شىء كما قال صاحب القاموس (31). وقد قال الزمخشرى فى أساسه:
أنه يستعمل فى ضم الكلام بعضه الى بعض على سبيل المجاز (32).
كما لاحظنا أن مباحثه تشمل روابط الجمل وعلاقات بعضها ببعض وهذا يعنى النظر فى معانيها ولمح ما بين هذه المعانى من صلات، ولا شك أن بحث الفصل والوصل باصطلاح المتأخرين جزء وجزء هين فى مباحث روابط الجمل هنا لأننا لاحظنا أن بحث علاقات الجمل غير ناظر الى كونها ذات محل من الاعراب أو لا، وغير ناظر الى كونها معطوفة بالواو أو بالفاء أو غير معطوفة، كل هذه الأشياء التى اعتبرها البلاغيون مبادئ أساسية لدراسة الفصل والوصل والتى قيدوه بها وجعلوه محدودا فى دائرتها كان أفق هذا البحث أوسع من أن يتحدد بها، لأن الذى يواجه النص ويعالجه علاجا بلاغيا لا يستطيع أن يلتزم بهذه الدائرة الضيقة الخانقة، كما لاحظنا أن دراسة نظم الكلام تشمل ما تألف منه هذا النظم أعنى آحاده ومواقع هذه الآحاد واصابتها فى هذا النظم كما فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ»} (33)
__________
(30) الكشاف ج 4ص 210.
(31) القاموس ج 4ص 181.
(32) الأساس ص 970.
(33) البقرة: 21(1/246)
ولحظنا أيضا أنه ذكر أوصافا للنظم الجيد، منها «سداد النظم» و «جزالة النظم» و «تجاوب أطراف النظم» وجعل هذا علما وسماه «علم محاسن النظم» كما ذكر أوصافا للنظم الردىء منها «تنافر النظم» و «تبتير النظم» و «تفكك النظم» وخروجه عن اتساقه والتئامه.
واذا كان النظم فيما ذكرنا وصفا لجمل الكلام غالبا فاننا نجده وصفا لبناء الجملتين أو الجملة الواحدة، ونجد الزمخشرى يقف عندها يتأمل تأليفها وما جاء عليه نسقها ويستخرج من ذلك المعانى والاشارات، وهو لا يغفل هنا أيضا عن مفرداتها بل يضع بصره عليها وينفذ فيها ويستخرج منها ما تحمله وما توحى به، ثم تكون له نظرته العامة لجملة معناها والغرض منها، يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوََاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللََّهِ أُولََئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ََ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ»} (34): «وهذه الآية بنظمها الذى رتبت عليه من ايقاع الغاضين أصواتهم اسما ل «ان» المؤكدة وتصيير خبرها جملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وايراد الجزاء نكرة مبهما أمره، ناظر فى الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم، وفى الاعلام بمبلغ عزة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقدر شرف منزلته، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء» (35).
وقد ينظر فى نظم الجملة أعنى ترتيب كلماتها وما يفيده هذا الترتيب ويكشف عن مطابقته لقصد المتكلم واحاطته بدقيق خواطره وتصويره لخلجات نفسه. يقول فى قوله تعالى: {«وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ»} (36): «فان قلت: أى فرق بين «وظنوا أن حصونهم تمنعهم»
__________
(34) الحجرات: 3
(35) الكشاف ج 4ص 383.
(36) الحشر: 2(1/247)
وبين النظم الذى جاء عليه؟ قلت: فى تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها اياهم، وفى تصيير ضميرهم اسما ل «ان»، واسناد الجملة اليه دليل على اعتقادهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة لا يبالى معها أحد يتعرض لهم أو يطمع فى معازتهم، وليس ذلك فى قولهم: وظنوا أن حصونهم تمنعهم» (37).
فقولنا: وظنوا أن حصونهم مانعتهم، لا يصور ما فى نفس المتكلم ولا يطابق حاله بخلاف ما جاء عليه، فان الخصوصيات التى روعيت فى بناء الجملة أشارت الى كل ما فى نفوسهم من خواطر القوة والمنعة والوثوق بحصانتها.
ولو نظرنا الى مثل هذا التحليل بشيء من التريث والأناة لقادنا الى مقالة أبى يعقوب فى تعريف علم المعانى حيث يقول: وهو أى علم المعانى «تتبع خواص تراكيب الكلام فى الافادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضى الحال ذكره» (38) وهذا التعريف قد شذ به الخطيب فى عبارته المتداولة حيث قال: «وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربى التى بها يطابق مقتضى الحال» (39) وليست مطابقة الكلام لمقتضى الحال الا قدرة التعبير على تصوير ما يراد تصويره فى المقامات المختلفة.
تحديد المراد بعلم المعانى وبيان موضوعه:
وبعد هذا الكلام الذى أطلناه عن النظم وموضوع درسه نعود الى ما يفهم من كلمة المعانى، وكلمة البيان، وموضوع درسهما لنربط بين هذه المفاهيم.
ونقول فى بداية هذا الحديث: ان الزمخشرى لم يذكر مصطلح علمى المعانى والبيان فى مقدمة تفسير الكشاف فحسب كما يوهم وقوف كثير من الباحثين عند عبارته المشهورة. وانما ذكر هذا المصطلح قبل
__________
(37) الكشاف ج 4ص 398
(38) مفتاح العلوم ص 86
(39) بغية الايضاح ج 1(1/248)
تأليف الكشاف وكرر ذكره فى كتابه الصغير أعجب العجب وذكره فى كتاب المفصل وكرره كثيرا فى ديوان شعره ومدح الكثير بتبحرهم فى علمى المعانى والبيان. وكل هذه الاشارات لا تكشف لنا مراده بهذين العلمين كشفا محددا وان كانت تدلنا على أن هذا الاصطلاح كان قارا فى نفسه وواضحا فى ادراكه وأنه لم يقع فى مقدمة التفسير عفوا وانسياقا وراء الكلام. وكنا نظن أن الشيخ العلامة السيد الشريف سيعيننا فى هذا الموضوع بكلمة فى حاشيته الفائقة على الكشاف عند ذكر هذا الاصطلاح ولكنه رحمه الله مر عليها غير ملتفت اليها لأن العناية بتاريخ العلوم لم تكن تلاقى كثيرا من اهتماماتهم التى انصرفت الى الفن ومسائله.
ونحاول الآن أن نقف على مدلول هذين العلمين فى تفسيره.
والزمخشرى يذكر علماء المعانى ويعنى بهم العلماء القادرين على استخراج المعانى بفهم ونفاذ وذلك باستبطانهم لهذه النصوص وتغلغلهم فيها فهم قوم قد راضوا أذهانهم على هذا النوع من النظر، يقول فى قوله تعالى: {«قََالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذََا بِآلِهَتِنََا يََا إِبْرََاهِيمُ. قََالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذََا»} (40): «هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها الا أذهان الراضة من علماء المعانى والقول فيه: ان قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن الى أن ينسب الفعل الصادر عنه الى الصنم وانما قصد تقريره لنفسه واثباته لها على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من الزامهم الحجة وتبكيتهم. وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمى لا يحسن الخط ولا يقدر الا على خرمشة فاسدة فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك واثباته للأمى أو المخرمش لأن اثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاء به واثبات للقادر» (41).
__________
(40) الأنبياء: 62، 63
(41) الكشاف ج 3ص 98.(1/249)
واذا كانت هذه وظيفة علماء المعانى كما يحددها هذا النص فانه يمكن أن نقول: ان علم المعانى هو العلم الذى يرشد الى ما تحمله النصوص الأدبية من دقيق المعانى وخفى الايحاءات وذلك بدراسة هذه النصوص وتقليب دلالتها على وجوه مختلفة وتوضيح ما يعطيه متن النص أو جانبه.
ونلاحظ هنا أن الأسلوب المدروس أسلوب التعريض وهو من فنون علم البيان كما حددها المتأخرون.
ويؤكد هذا المفهوم لهذا العلم قوله فى آية: {«لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلََّهِ وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»} (42) يقول: «فان قلت: من أين دل قوله {«وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»} على أن المعنى ولا من فوقه؟ قلت:
من حيث أن علم المعانى لا يقتضى غير ذلك. وذلك أن الكلام انما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم فى رفع المسيح عن منزلة العبودية فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أرفع منه درجة.
كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح، ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
وما مثله ممن يجاود حاتم ... ولا البحر ذو الأمواج يلتجّ زاخره
لا شبهة فى أنه قصد بالبحر ذى الأمواج ما هو فوق حاتم فى الجود ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: {«وَلَنْ تَرْضى ََ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصََارى ََ»} (43) حتى يعترف بالفرق البين (44).
ثم ما علاقة هذا المفهوم بمفهوم النظم أو علم النظم؟
نكون من المتكلفين اذا أقمنا هنا فرقا فقد أوضحنا أن علم النظم هو الذى يختص بابراز الأسرار والنكت كما قال، وليست الأسرار والنكت الا تلك المعانى الخفية التى تظل محتجبة حتى يبرزها راضة هذا العلم.
__________
(42) النساء: 172
(43) البقرة: 120
(44) الكشاف ج 1ص 462، 463(1/250)
وليس البحث عن علاقات الجمل وروابط المعانى الا تجلية لهذه الأسرار وتوضيحا لها.
ثم انه قد يخرج مفهوم علم المعانى أو علماء المعانى عنده عن هذا المدلول ويريد به العلم الذى ينظر فى فنون الشعر ويحدد معانى كل فن وما يجب على الشاعر أن يقوله اذا أراد المديح وما يجب عليه أن يقوله اذا قصد الى الرثاء أو الغزل الى آخر ما هو معروف فى فنون الشعر مما ذكره نقاده، وجماع القول فيها ما ذكره قدامة من وجوب كون المعنى مواجها للغرض المقصود غير عادل عن الأمر المطلوب (45)
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَلََكِنَّ اللََّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمََانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيََانَ»} (46) وهو يحاول اثبات أن الايمان والكفر مخلوقان للعبد لا لله كما توهمه ظاهر الآية لأن كونهما مخلوقين لله يؤدى الى أن يمدح العبد بالايمان وهو فعل الله وأن يذم بالكفر وهو فعل الله ومدح الرجل ينبغى ألا يكون الا بفعله وقد ذم القرآن من يحب المدح بما لم يفعل فاذا رأيت العرب يمدحون الرجل بالجمال والوسامة وهذه أفعال الله فاعلم أنهم رأوا حسن الوجه دليلا على حسن الخلق وطهارة النفس وهذه مخلوقة للعبد فلذلك ساغ لهم المدح بالظاهر المخلوق لله لأنه دليل الباطن المخلوق للعبد، ثم قال: «على أن من محققة الثقاة وعلماء المعانى من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر النعت على المدح بأمهات الخير وهى الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب منها ويرجع اليها، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس للانسان فيه عمل غلطا ومخالفة عن المعقول» (47).
وكان الزمخشرى يشير بهذا الى قدامة الذى يقول: «ولما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان على ما عليه أهل الألباب من الاتقان فى ذلك انما هى
__________
(45) ينظر نقد الشعر ص 61.
(46) الحجرات: 7
(47) الكشاف ج 4ص 288.(1/251)
العقل والشجاعة والعدل والعفة كان القاصد لمدح الرجال بهذه الأربع الخصال مصيبا والمادح بغيرها مخطئا» (48).
ويشير الزمخشرى فى موضع آخر الى أن علماء المعانى هم الذين ينظرون فى المعانى ويدرسونها أو يتبينون ما فيها من الصواب والاستقامة أو من الخطأ والتناقض والا حالة، يقول فى قوله تعالى: {«أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً»} (49):
«أى لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه فكان بعضه بالغا حد الاعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته وبعضه اخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه وبعضه اخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعانى وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم» (50).
فعلماء المعانى فى هذا النص هم الذين يعرفون صحة المعانى وفسادها، وهم فى النص السابق الذين يعرفون أنواع المعانى وأجناسها وكيف تلائم الأغراض وفنون الشعر، وهم فى النصوص التى هى أسبق الذين تتغلغل أذهانهم فى النص، فيستخرجون منه مراميه ومعانيه ويحددون مدلولاته لخبرتهم بالأساليب وخصائص صياغتها، وعلم المعانى فى هذا المدلول الأخير يطابق علم النظم أو علم محاسن النظم بل هما شىء واحد. ثم ان هذه الاطلاقات قد أفاد منها السكاكى ونقلها بنصها وتحير بعض الباحثين فى رجوع هذه العبارات الى مصادرها، وقال الدكتور أحمد مطلوب: «ويكرر السكاكى نفسه بعض العبارات مثل صناعة علم المعانى وعلماء علم المعانى وأذهان الراضة من علماء المعانى وأئمة علم المعانى، ولكن لم يحدد معانى هذه العبارات ولا ندرى ما المقصود بها؟ ومن علماء المعانى وأئمته؟ فلم نعثر فى تاريخ البلاغة قبل السكاكى على علماء اختصوا بالمعانى وبحثوا فيه كما بحثه وحددوا موضوعاته ولم تكن البلاغة قبله مقسمة الى معان وبيان وبديع» (51).
__________
(48) نقد الشعر ص 69.
(49) النساء: 82
(50) الكشاف ج 1ص 428.
(51) البلاغة عند السكاكى للدكتور أحمد مطلوب، ص 215.(1/252)
وهذه العبارات منقولة من الكشاف كما رأينا وفى ذلك اجابة عن كل تساؤلات الدكتور مطلوب.
تحديد المراد بعلم البيان وبيان موضوعه:
أما علم البيان فاننا نلاحظ اطلاقه على مباحث التشبيه والتمثيل والتصوير والكناية ويتردد هذا ويكثر، فعلماء البيان هم الذين يفهمون أساليب التصوير والتمثيل وتقع عيونهم على الزبدة والخلاصة من غير نظر الى ما عليه الألفاظ من حقيقة ومجاز كما فى قوله تعالى: {«وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ»} (52) ويقول فى هذا: «ولا ترى بابا فى علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى فى القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فان أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما وما أتى الزالون الا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير حتى يعلموا أن فى عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره لما خفى عليهم أن العلوم كلها مفتقرة اليه وعيال عليه اذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكرية الا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة والوجوه الرثة لأن من تأويل ليس من هذا العلم فى عير ولا نفير ولا يعرف قبيلا منه من دبير» (53).
وهذا الكلام يشير الى أن علم البيان هو العلم الذى يعين على تأويل المشتبهات من كلام الله ويبين ما جاء منه على التمثيل والتخييل، ويوضح المراد من هذه الصور وأن الجهل بهذا العلم يؤدى الى الزلل فى العقيدة والقول بالتشبيه، فهو اذن علم دراسة الصور وما تحمله من الأغراض، والمرامى، وعالم البيان هو الذى ينفذ من هذه الصور ويتجاوزها ليصل الى المراد منها، وهذا هو موضوعه عند المتأخرين.
ولكنا لا نجزم بالقول بأن الزمخشرى خصص هذا العلم بدراسة الصور
__________
(52) الزمر: 67
(53) الكشاف ج 4ص 111.(1/253)
البيانية لأنه هو نفسه يقول فى الفصل والوصل: وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه (54). ويسأل عن علاقة قوله تعالى:
{«قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قََالَ يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ»} (55) بما قبله، ويقول:
فان قلت: كيف مخرج هذا القول فى علم البيان؟ ويجيب بأن مخرجه مخرج الاستئناف (56) والبحث فى التقديم ومعانيه من وظيفة علم البيان كما يقول فى آية: {«قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي»} (57)
وعلم البيان يرادف نظم القرآن (58) وقد سبق أن لحظنا أن علم المعانى يتناول التعريض فى آية: {«أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذََا»}. لهذا لا نستطيع أن نقول ان الزمخشرى قد ميز مباحث هذه العلوم، وغاية ما يمكن أن يقال بعد تتبع ومقارنة: ان اطلاق علم المعانى على مباحث البيان قليل واطلاق علم المعانى على مباحثه فى مصطلح المتأخرين كثيرا، وان اطلاق علم البيان على مباحث علم المعانى قليل بالنسبة الى اطلاقه على مباحث علم البيان، على أننا نعنى هنا علم المعانى الذى يدرس الصياغة وخصائصها ويبين مدلولاتها، أما علم المعانى بهذا المفهوم الآخر الذى يعنى النظر فى أنواع المعانى وأجناسها أو النظر فى صحتها وخطئها فذلك بعيد قطعا عن مفهوم علم البيان بل وعن مفهوم علم للمعانى بهذا المعنى الذى حدده المتأخرون ونظروا فيه الى كلامه كما رأينا، وبهذا يصبح لعلم المعانى مفهوما مغايرا لمفهوم علم البيان، ولهذا ساغ له كثرة اطلاق مصطلح علمى المعانى والبيان مع خلطه بين مباحثهما أحيانا.
والفصاحة ترادف البلاغة ولا نجد لها مفهوما يخالف مفهوم البلاغة فهى عنده وصف للمعنى يقول فى قوله تعالى: {«وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ»} (59): «كلام فصيح لما فيه من الغرابة وهو أن القصاص قتل
__________
(54) الكشاف ج 2ص 332.
(55) يس: 26
(56) الكشاف ج 4ص 8
(57) الكشاف ج 2ص 543. والآية من سورة الاسراء: 100
(58) الكشاف ج 4ص 40.
(59) البقرة: 179(1/254)
وتفويت للحياة وقد جعل مكانا وظرفا للحياة» فقوله: كلام فصيح، معناه: كلام بليغ وكلام حسن. فاذا خرجت الفصاحة فى كلامه عن هذا المدلول، أعنى وصف الكلام بالبلاغة والحسن الى وصف المفرد نبه الى هذا كما نجده فى قوله تعالى: {«لََا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقََاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مََا أَصََابَ قَوْمَ نُوحٍ»} (60) أى لا يكسبكم شقاقى اصابة العذاب، وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرمته ذنبا اذا جعلته جارما له أى كاسبا منقول من جرم المتعدى الى مفعول واحد، والقراءتان مستويتان فى المعنى لا تفاوت بينهما الا أن المشهورة أفصح لفظا كما أن «كسبته مالا» أفصح من «أكسبته»، والمراد بالفصاحة أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور، وهم له أكثر استعمالا (61).
علاقة علم النظم بعلم الاعراب:
وبهذا تتلاقى مفاهيم الفصاحة والبلاغة والنظم وعلم المعانى وعلم البيان مع مراعاة ما أشرنا اليه. ثم أن الزمخشرى الذى درس النظم فى كتب من سبقه واستوعبه بل وتمثله من كتابة عبد القاهر وأثراه وأضاف اليه، لم يكن يغفل الفرق الواضح بين علم النظم وعلم الاعراب فهو يقول: ان النحوى وان كان أنحى من سيبويه لا يصل الى غرائب النكت ومستودعات الأسرار فى كتاب الله الا اذا برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما علم المعانى وعلم البيان (62) وهذا قول قاطع بالفرق بين علم النحو وعلم المعانى وان كان نحو سيبويه الذى مازجته كثير من فنون البلاغة، وقد كان فى تطبيقاته لمعارفه النحوية والبلاغية حريصا على ميز العلمين.
فقد تتخلف القاعدة النحوية المستقلة ولا تنهض باعراب القرآن لأن بعض وجوه الاعراب الجائزة قد تؤدى الى افساد النظم، والنظم هو ميزة هذا الكلام المعجز وهو هاد يقود النحو ويرشده ويحدد له وجها من الاعراب دون وجه، يقول فى قوله تعالى: {«إِذْ أَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّكَ}
__________
(60) هود: 89
(61) الكشاف ج 9ص 330329
(62) الكشاف: المقدمة ج 1ص (ك).(1/255)
{مََا يُوحى ََ. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التََّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسََّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ»} (63): «والضمائر كلها راجعة الى موسى ورجوع بعضها اليه وبعضها الى التابوت فيه هجنة لما يؤدى اليه من تنافر النظم، فان قلت: المقذوف فى البحر هو التابوت وكذلك الملقى الى الساحل، قلت: ما ضرك لو قلت: المقذوف والملقى هو موسى فى جوف التابوت، حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذى هو أم اعجاز القرآن والقانون الذى وقع عليه التحدى ومراعاته أهم ما يجب على المفسر» (64).
ويرفض أقوال أئمة النحو فى اعراب القرآن لأنها لا تراعى اتساق نظمه، يقول فى قوله تعالى: {«وَقِيلِهِ يََا رَبِّ إِنَّ هََؤُلََاءِ قَوْمٌ لََا يُؤْمِنُونَ»} (65):
«وقيله: قرئ بالحركات الثلاث وذكر فى النصب عن الأخفش أنه حمله على: أم يحسبون ألا نسمع سرهم ونجواهم وقيله، وعنه وقال قيله، وعطفه الزجاج على محل الساعة كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمرا، وحمل الجر على لفظ الساعة والرفع على الابتداء والخبر ما بعده، وجوز عطفه على علم الساعة على تقدير حذف المضاف ومعناه: عنده علم الساعة وعلم قيله. والذى قالوه ليس بقوى فى المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على اضمار حرف القسم وحذفه والرفع على قولهم: أيمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك، ويكون قوله {«إِنَّ هََؤُلََاءِ قَوْمٌ لََا يُؤْمِنُونَ»} جواب القسم» (66).
وقد تجد النظم فى كلامه يقرب من الاعراب حتى تحبهما مترادفين واذا دققت النظر بدا لك وجه الفرق بينهما، يقول فى قوله تعالى:
{«وَابْتَلُوا الْيَتََامى ََ حَتََّى إِذََا بَلَغُوا النِّكََاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ، وَلََا تَأْكُلُوهََا إِسْرََافاً وَبِدََاراً أَنْ يَكْبَرُوا»} (67): «فان قلت
__________
(63) طه: 38، 39
(64) الكشاف ج 3ص 499
(65) الزخرف: 88
(66) الكشاف ج 4ص 213211
(67) النساء: 6(1/256)
كيف نظم هذا الكلام؟ قلت: ما بعد «حتى» الى {«فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ»}
جعل غاية للابتلاء وهى «حتى» التى تقع بعدها الجمل كالتى فى قوله:
فما زالت القتلى تمجّ دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن «اذا» متضمنة معنى الشرط وفعل الشرط {«بَلَغُوا النِّكََاحَ»} وقوله: {«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ»} جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذى هو {«إِذََا بَلَغُوا النِّكََاحَ»} فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى الى وقت بلوغهم فاستحقاقهم دفع أموالهم اليهم بشرط ايناس الرشد» (68).
والزمخشرى فى هذا النص لما أراد أن يبين نظم الكلام لم يزد عن اعرابه وكأنه يقصد بنظمه اعرابه، ولكن الذى نراه أن هنا فرقا بين النظم والاعراب وأن قوله «كيف نظمه» يراد به السؤال عن استقامة معنى الكلام ووضوح المراد منه، فاذا كان الجواب: هو اعراب النص، فلأن الاعراب هو الذى يكشف لنا المعنى فى مثل هذا التركيب الذى ألقى عليه تداخل أدوات الشرط شيئا من الغموض.
ونجد هذا التقارب بين النظم والاعراب فى قوله فى آية: {«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ»} (69): فان قلت: أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة النظم؟ قلت: الواو الأولى عاطفة ل «كفرتم» على فعل الشرط كما عطفته «ثم» فى قوله تعالى: {«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ»} (70). وكذلك الواو الأخرى عاطفة ل «استكبرتم» على «شهد شاهد» وأما الواو فى «وشهد شاهد» فقد عطفت جملة قوله {«شَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ»} على جملة قوله {«كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَكَفَرْتُمْ»}، ونظيره قولك: أن أحسنت اليك وأسأت وأقبلت عليك وأعرضت عنى لم نتفق فى أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما (71).
__________
(68) الكشاف ج 1ص 365
(69) الأحقاف: 10
(70) فصلت: 52
(71) الكشاف ج 4ص 237(1/257)
فالنظم هنا مدخل لفهم المعنى لأنه يكشف عن نسق المعانى ويحدد أجزاءها ويربط جملة بجملة ثم يربط الجملتين أو الجمل بما قبلها وهذا غير عطف الجمل بعضها على بعض دون نظر الى هذا الترابط القائم بين كل اثنين منها.
ومن السهل أن يتصور الباحث أن النظم هنا معناه الاعراب لأنه لما سأل عن نظم هذا الكلام أجاب باعرابه فكأن السؤال كما قلنا فى النص السابق سؤال عن الاعراب وعن بيان المعطوف والمعطوف عليه وهذا شأن النحو، والواقع أن بيان النظم هنا كشف عن معنى الاعراب لا عن الاعراب وبحث عما وراء النحو من نسق المعانى وترابطها.
والزمخشرى قد يلقى على النص نظرتين نظرة يتناول فيها اعرابه ونظرة يستخرج منها مدلولاته واشاراته، والنظرة الأولى نظرة علم الاعراب أو يقتضيها علم الاعراب والثانية نظرة علم البيان، يقول فى قوله تعالى: {«قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفََاقِ»} (72): «لو» حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من فعل بعدها فى {«لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ»} وتقديره: لو تملكون، فأضمر تملك اضمارا على شريطة التفسير وأبدل من الضمير المتصل الذى هو الواو ضمير منفصل وهو «أنتم» لسقوط ما يتصل به من اللفظ ف «أنتم» فاعل الفعل المضمر و «تملكون» تفسيره وهذا هو الوجه الذى يقتضيه علم الاعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان فهو: ان «أنتم تملكون» فيه دلالة على الاختصاص وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، ونحوه قول حاتم: «لو ذات سوار لطمتنى»، وقول الملتمس: «ولو غير أخوالى أرادوا نقيصتى» وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام فى صورة المبتدأ والخبر (73).
فعلم الاعراب يبين جريان الأسلوب على طريقة القوم ومطابقته لقواعد النحو، فان من قواعده المقررة أن أدوات الشرط لا تدخل على
__________
(72) الاسراء: 100
(73) الكشاف ج 2ص 543(1/258)
الأسماء، والظاهر فى الآية يخالف هذه القاعدة فلزم تقدير فعل، وعليه يفترضون أن أصل التعبير كان كذا ثم صار الى ما أشار اليه الزمخشرى وهنا تنتهى مهمة علم الاعراب.
أما استخراج المعنى الذى أومأ اليه هذا الحذف أو ظهور المسند اليه فى صورة المقدم بعد هذا الحذف وان كان فى الحقيقة مؤخرا بالنسبة لفاعله المحذوف فهو من عمل علم البيان لا علم الاعراب.
وبهذا تتضح لنا الفواصل بين علم الاعراب وعلم البيان. وقد أشار العلوى الى هذا الفرق بقوله: فان النحوى وصاحب علم المعانى وان اشتركا فى تعلقهما بالألفاظ المركبة لكن نظر أحدهما مخالف لنظر الآخر فالنحوى ينظر فى التركيب من أجل تحصيل الاعراب كمال الفائدة، وصاحب علم المعانى ينظر فى دلالته الخاصة وهو ما يحصل عند التركيب من بلاغة المعانى وبلوغها أقصى المراتب (74).
أما علم اللغة فمن الواضح أن مفهومه وموضوعه لا يلتبسان بمفهوم علم المعانى ولا بموضوعه حتى يتناوله حديثنا فى هذا الفصل الذى نحاول فيه تحديد مفاهيم مختلفة وبيان ما بينها من صلات، ولكننى رأيت الزمخشرى يشير الى ضرورة معرفة هذا العلم والبصر به قبل التصدى لمعرفة بلاغة الفول ونظمه، وأنه اذا لم تتحدد معانى المفردات تحديدا واضحا فانك لا تستطيع أن تستشرف مواطن الحسن والبلاغة، وكأن الزمخشرى يوجب على البلاغى أن يستوعب هذه اللغة وأن يحيط خبرا بأوضاعها، وهذا يذكرنا بحديث المتأخرين فى مقدمة البلاغة حينما يقولون:
ان علم اللغة يحترز به عن الغرابة، وان علم الصرف يحترز به عن مخالفة القياس، وان علم النحو يحترز به عن ضعف التأليف، فجعلوا هذه العلوم من لوازم البلاغة، كذلك الزمخشرى هنا يضع على اللغة هذا الموضع.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ»} (75): «من مد الجيش وأمده اذا زاده وألحق به
__________
(74) الطراز ج 1ص 17
(75) البقرة: 15(1/259)
ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواة وأمدها: زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض اذا استصلحتهما بالزيت والسماد، ومده الشيطان فى الغى وأمده اذا وصله بالوساوس حتى يتلاحق فيه ويزداد انهماكا فيه.
فان قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المد فى العمر والاملاء والامهال؟
قلت: كفاك دليلا على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن «ويمدهم» وقراءة نافع واخوانهم «يمدونهم»، على أن الذى بمعنى أمهله انما هو مدّ له مع الكلام ك «أملى له» فان قلت: فما حملهم على تفسير المد فى الطغيان بالامهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت: استجرهم الى ذلك خوف الإقدام أن يسندوا الى الله ما أسندوا الى الشيطان، ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد بصحته والا كان منه بمنزلة الأروى من النعام، ومن حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد فى مذاهبه بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدى سليما من القادح، فاذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل» (76).
وبهذا نكون قد بينا مفهوم علم النظم وعلم المعانى وعلم البيان وموضوع دراستهم ثم صلتهم بعلم الاعراب وعلم اللغة.
__________
(76) الكشاف ج 1ص 5251(1/260)
الفصل الثالث النظر فى المفردات
وقف الزمخشرى كثيرا عند المفردات القرآنية يتأمل وقع كلماتها وملاءمتها للسياق. والنظر فى مفردات النص الأدبى من أوجب ما يجب على مفسره ودارسه لأنها مفتاح النص وزمام ما فيه من دقيق المعانى وخفى الاشارات. وكلما أحسن الدارس هذه الوقفات واستشف من المفردات كل ما تعطيه وتلوح به من معنى ووحى ورمز كان أقدر على الاندماج والمشاركة وبهذا يصل نفسه بنفس منشئه ويحلق فى آفاقه ويتابع خطراته ويملك تجربته كاملة. وحينما يصل المفسر الى هذه الدرجة فقد وصل الى ما ينبغى أن يصل اليه.
لقد رأيت للزمخشرى فى هذا الصدد تراثا ضخما ومفيدا. وقد طال نظرى وتأملى لهذه الوقفات فوجدت بعضا منها يهتم بمادة الكلمة أى بمعناها المفاد من مادتها. وبعضا منها يهتم بهيئة الكلمة أى بمعناها المفاد من هيئتها. وبعضا منها يهتم بحروف المعانى وأدوات الربط.
وبعضا منها يهتم بما يفيده تعريفها بأى نوع من أنواع التعريف. وبعضا منها يهتم بمعانى تنكيرها.
وسوف أعرض لكل نوع من هذه الأنواع. وليس كل همى أن أقول ان الزمخشرى نظر الى الكلمة المفردة من حيث مادتها وهيئتها وأن أذكر هذه الأنواع ومثلا لها من كلامه وانما كل همى أن أصور من خلال هذا كله حسه الدقيق بمفردات النصوص وعنايته بدراسة هذا النوع المهم الذى أهمله البلاغيون بعده، وأن أضع صورة دقيقة لبلاغته كما يصورها تفسيره، وأن أبين الى أى مدى أحاطت دراسته البلاغية بكل أجزاء الكلام متتبعة له من مفرده الى جملته ثم الى جمله.(1/261)
ملاءمة الكلمة لسياقها من حيث مادتها:
أما دراسته لمادة الكلمة وملاءمتها لسياقها فقد اجتهد الزمخشرى فى ربط مدلول الكلمة بسياقها حتى تكون ملائمة له على أحسن وجه من وجوه الملاءمة، يقول فى قوله تعالى: {«مَنْ خَشِيَ الرَّحْمََنَ بِالْغَيْبِ»} (1):
«فان قلت: كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة؟ قلت: للثناء البليغ على الخاشى وهو خشيته مع علمه أنه الواسع الرحمة كما أثنى عليه بأنه خاش مع أن المخشى منه غائب ونحوه: {«الَّذِينَ يُؤْتُونَ مََا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ»} (2) فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات» (3).
فكلمة «الرحمن» لا تتلاءم فى الظاهر مع الخشية وانما يكون التلاؤم ظاهرا لو قال: من خشى الجبار أو القهار، ولكن الزمخشرى يدرك وراء هذا التباعد الظاهرى تقاربا خفيا ملائما أشد الملاءمة وأحسنها ومثل هذا ما يذكره فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الْإِنْسََانُ مََا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ»} (4) يقول: «فان قلت: ما معنى قوله {«مََا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ»}
وكيف طابق الوصف بالكرم انكار الاغترار به؟ وانما يغتر بالكريم كما يروى عن على رضى الله عنه أنه صاح بغلام له كرات فلم يلبه، فنظر فاذا هو بالباب فقال له: مالك لم تجبنى؟ فقال: لثقتى بحلمك، وأمنى من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه، وقالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه؟ قلت: معناه: أن حق الانسان ألا يغتر بتكرم الله عليه حيث خلقه حيا لينفعه ويتفضل عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب، وطرح العقاب اغترارا بالتفضل الأول فانه منكر خارج عن حد الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما تلاها: «غره جهله» (5).
وقد يعمد القرآن الى اثبات المعنى بنفى ضده، ويقف الزمخشرى عند هذا اللون ليكشف أن للفظ اشاراته الخفية التى هى جزء من المعنى
__________
(1) سورة ق: 33
(2) المؤمنون: 60
(3) الكشاف ج 4ص 310309
(4) الانفطار: 6
(5) الكشاف ج 4ص 517(1/262)
القائم به فكلمة «فاسد» لا تؤدى فقط معنى غير صالح، ونحن وان كنا نفسر الفساد بعدم الصلاح والصلاح بعدم الفساد فهذا هو تفسير منا لظاهر المعنى الذى لا يكون وحده مرادا فى النسق، يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صََالِحٍ»} (6): «فان قلت: فهلا قيل انه عمل فاسد؟ قلت: لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفى التى يستبقى معها لفظ المنفى، وآذن بذلك أنه انما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم لا لأنهم أهلك وأقاربك، وان هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوتك، كقوله: {«كََانَتََا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ فَخََانَتََاهُمََا فَلَمْ يُغْنِيََا عَنْهُمََا مِنَ اللََّهِ شَيْئاً»} (7).
ولهذا الرمز الخفى يصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه عسير، ثم يصفه بأنه غير يسير على الكافرين يقول تعالى: {«فَإِذََا نُقِرَ فِي النََّاقُورِ. فَذََلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكََافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ»} (8) والزمخشرى يعلق على هذا بقوله: «فان قلت: فما فائدة قوله {«غَيْرُ يَسِيرٍ»} وعسير مغن عنه؟ قلت: لما قال: {«عَلَى الْكََافِرِينَ»} فقصر العسر عليهم قال {«غَيْرُ يَسِيرٍ»} ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم. ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجع يسيرا كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا» (9).
ويقف الزمخشرى عند استعمال القرآن لكلمة «عوج» فقد دل بنفيها على اثبات الاستقامة للقرآن فى قوله تعالى: {«قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ»} (10) ويقارن بين هذا المعنى وبين قولنا: مستقيما أو غير
__________
(6) هود: 46
(7) الكشاف ج 2ص 312والآية من سورة التحريم: 10
(8) المدثر: 108
(9) الكشاف ج 4ص 517
(10) الزمر: 28(1/263)
معوج، ويستخرج من تعبير القرآن فائدتين، الأولى نفى أن يكون فيه عوج قط، والثانية أن لفظ «عوج» مختص بالمعانى دون الأعيان (11).
ويقول القرآن فى موضع آخر: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً»} (12) فيجمع بين نفى العوج واثبات الاستقامة، ويقول الزمخشرى: «فان قلت: ما فائدة الجمع بين نفى العوج واثبات الاستقامة وفى أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت: فائدته التأكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح» (13).
فاذا ما نقل القرآن استعمال الكلمة من المعانى التى هى مختصة بها الى الأعيان اجتهد الزمخشرى فى بيان ملاءمتها لسياقها ولماذا آثرها القرآن على غيرها. يقول فى قوله تعالى: {«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبََالِ فَقُلْ يَنْسِفُهََا رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُهََا قََاعاً صَفْصَفاً. لََا تَرى ََ فِيهََا عِوَجاً وَلََا أَمْتاً»} (14):
«فان قلت: قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا العوج بالكسر فى المعانى والعوج بالفتح فى الأعيان والأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين؟
قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع فى وصف الأرض بالاستواء والملاسة ونفى الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت الى قطعة أرض فسويتها وبالغت فى التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة واتفقتم على أنه لم يبق فيها عوج قط ثم استطلعت رأى المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج فى غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسى فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذى دق ولطف عن الادراك، اللهم الا بالمقياس الذى يعرفه صاحب التقدير والهندسة وذلك الاعوجاج لما لم يدرك الا بالقياس دون الاحساس لحق بالمعانى فقيل عوج بالكسر» (15).
__________
(11) ينظر الكشاف ج 4ص 97
(12) الكهف: 1، 2
(13) الكشاف ج 2ص 548
(14) طه: 107105
(15) الكشاف ج 3ص 69(1/264)
والكلمة الواحدة لها ايحاءان مختلفان حسب سياقها، فقد عبر القرآن الكريم بكلمة «سيق» فى جانب الكافرين وسوقهم الى جهنم زمرا، وفى جانب المؤمنين وسوقهم الى الجنة زمرا. ويقف الزمخشرى عند هذا اللفظ فى هذين المقامين المتباينين، ليشير الى ايحائه هنا وايحائه هناك فيقول: «فان قلت: كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت: المراد بسوق أهل النار طردهم اليها بالهوان والعنف، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان اذا سيقوا الى حبس أو قتل، والمراد بسوق أهل الجنة، سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم الا راكبين وحثها اسراعا بهم الى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين» (16).
والزمخشرى يجتهد كما قلنا فى توضيح ما فى اللفظ القرآنى من تلويحات، يبث الحذر والاشفاق بها فى قلوب المؤمنين حتى تستقيم نفوسهم على الجادة، واللفظ القرآنى غنى بهذه الايحاءات لأنه كتاب تهذيب وتقويم وطريقته فى التهذيب والتقويم هى النفاذ الى النفس الانسانية وقيادتها واقامتها قيمة على نفسها، وطريقة التلويح والايحاء طريقة لا تخطئ فى النفاذ الى النفس وايقاظها والتأثير فيها. يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَعَصى ََ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ََ»} (17): «بهذا الاطلاق والتصريح وحيث لم يقل «وزل آدم وأخطأ» وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات، فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة، وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبى المعصوم حبيب الله الذى لا يجوز عليه الا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر، فضلا أن يجسروا على التورط فى الكبائر» (18).
__________
(16) الكشاف ج 4ص 114
(17) طه: 121
(18) الكشاف ج 3ص 74(1/265)
ومن هذا تعليل القرآن عقاب الكافرين بما هو أعم من السبب الحقيقى لهذا العقاب، فالذين استكبروا عن آيات الله لا يدخلون الجنة لعنادهم، والقرآن لا يعلل حرمانهم من الجنة بهذه العلة الحقيقية وانما يقول: {«إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهََا لََا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوََابُ السَّمََاءِ وَلََا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ، وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ»} (19)، فيعلل هذا الخلود فى النار بالاجرام، والاجرام عام يشمل التكذيب والاستكبار وغير ذلك من الذنوب، والزمخشرى يفصح عن سر العدول الى لفظ الاجرام وكيف يلوح لهم بهذا اللفظ فقد قال: {«نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ»} ليؤذن أن الاجرام هو السبب الموصل الى العقاب وأن كل من أجرم عوقب وقد كرره فقال: {«وَكَذََلِكَ نَجْزِي الظََّالِمِينَ»} (20) لأن كل مجرم ظالم لنفسه» (21).
ويقول فى قوله تعالى: {«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً، وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ بِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ»} (22): «والمراد بكذبهم قولهم:
{«آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ»} وفيه رمز الى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم، ونحوه قوله تعالى:
{«مِمََّا خَطِيئََاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نََاراً»} والقوم كفرة وانما خصت الخطيئات استعظاما لها وتنفيرا عن ارتكابها» (23).
ويوضح هذا المعنى فى آية نوح ويقول: «وكفى به مزجرة لمرتكب الخطايا فان كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وان كانت كبراهن وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم كما نعى عليهم كفرهم ولم يفرق بينه وبينهن فى استيجاب العذاب لئلا يتكل المسلم الخاطئ على اسلامه ويعلم أن معه ما يستوجب به العذاب وان خلا من الخطيئة الكبرى» (24).
__________
(19) الأعراف: 40
(20) الأعراف: 41
(21) الكشاف ج 2ص 82
(22) البقرة: 10
(23) الكشاف ج 1ص 46، 47والآية من سورة نوح: 2
(24) الكشاف ج 4ص 496(1/266)
وقد يذكر القرآن الكريم الأنبياء المشهورين بلفظ العبد الذى يشمل الناس جميعا برهم وفاجرهم، ويلمح الزمخشرى المعنى الأدبى وراء هذا الاطلاق ويبين مراد القرآن به وأنه تأصيل صفة البشرية والعبودية فى هؤلاء المختارين وأنهم لم يرتقوا الى درجاتهم الا بصالح الأعمال يقول فى قوله تعالى: {«ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كََانَتََا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ»} (25): «فان قلت:
ما فائدة قوله {«مِنْ عِبََادِنََا»}؟ قلت: لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح فى الانسان كائنا من كان وأنه وحده الذى يبلغ به الفوز وينال ما عند الله، قال: {«عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ»} فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما عبدان لم يكونا الا كسائر عبادنا من غير تفاوت بينهما وبينهم الا بالصلاح وحده، اظهارا وإبانة لأن عبدا من العباد لا يرجح عنده الا بالصلاح لا غير، وأن ما سواه مما يرجح به الناس ليس بسبب للرجحان» (26).
ويقف الزمخشرى عند كلمة «طبن» فى قوله تعالى: {«فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً»} (27) ويبين تصويرها لنفوس هؤلاء النسوة وما ينبغى أن يحتاط به الأزواج عند قبول الموهوب من نحلتهن فيقول: «وفى الآية دليل على ضيق المسلك فى ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل: {«فَإِنْ طِبْنَ»} ولم يقل: فان وهبن وسمحن، اعلاما بأن المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب طيبة، وقيل: {«فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ»} ولم يقل: فان طبن لكم عنها، بعثا لهن على تقليل الموهوب» (28).
ويستوحى معانى الاحتقار والازدراء من كلمة «أدبر» الذى وصفت بها القرآن فرعون فى قوله تعالى: {«ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ََ»} (29)، ويكشف
__________
(25) التحريم: 10
(26) الكشاف ج 4ص 458
(27) النساء: 4
(28) الكشاف ج 1ص 363
(29) ينظر الكشاف ج 4ص 556والآية من سورة النازعات: 22(1/267)
ما تلوح به كلمة «ذرأ» من تجهيل المشركين وغفلتهم فى قوله تعالى:
{«وَجَعَلُوا لِلََّهِ مِمََّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعََامِ نَصِيباً»} (30)، ويشير الى ما فى كلمة «أخ» من معانى المحبة والمودة التى تحبب العفو الى نفس ولى الدم فى قوله تعالى: {«فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ»} (31)، ويشير الى ما فى لفظ «الخرطوم» من الاستخفاف والاستهانة فى قوله تعالى: {«سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ»} (32)، وفى كلمة «بارئكم» فى نداء موسى عليه السلام لبنى اسرائيل فى قوله تعالى: {«فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ»} (33) معنى التقريع واللوم لأنهم تركوا عبادة البارى أى الذى خلق الخلق بريا من التفاوت الى عبادة البقرة وهى مثل فى البلادة (34).
والزمخشرى يشير الى الفروق بين دلالات الألفاظ المتقاربة ويبين فى ضوء هذه التفرقة الدقيقة سر اختيار كل كلمة فى موضعها.
يقول فى قوله تعالى: {«الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ»} (35): «والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير وفى الجعل معنى التصيير كانشاء شىء من شىء أو تصيير شىء شيئا أو نقله من مكان الى مكان، ومن ذلك: {«وَجَعَلَ مِنْهََا زَوْجَهََا»} (36)، و {«جَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ»}، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار، {«ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوََاجاً»} (37)، {«أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلََهاً وََاحِداً»} (38).
وقد تبدل كلمة مكان أخرى فى آية مشابهة ويلحظ الزمخشرى هذا ويناقشه ويبحث المقامين ويشرح أسلوب الآيتين وكيف اقتضى كل مقام من المقامين هذه الكلمة بعينها، وله فى هذا كلام جيد يقول فى قوله
__________
(30) ينظر الكشاف ج 2ص 53والآية من سورة الأنعام: 136
(31) ينظر الكشاف ج 2ص 167والآية من سورة البقرة: 178
(32) ينظر الكشاف ج 4ص 473والآية من سورة القلم: 16
(33) البقرة: 54
(34) ينظر الكشاف ج 2ص 105
(35) الأنعام: 1
(36) الأعراف: 189
(37) فاطر: 11
(38) سورة ص: 5(1/268)
تعالى: {«قََالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»} (39):
«فان قلت: هلا قيل يعلم السر لقوله: {«وَأَسَرُّوا النَّجْوى ََ»}؟
قلت: القول عام يشمل السر والجهر فكان فى العلم به العلم بالسر وزيادة فكان آكد فى بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم سرهم، كما أن قوله «يعلم السر» آكد من أن يقول: يعلم سرهم، ثم بين ذلك بأنه {«السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»} لذاته فكيف تخفى عليه خافية. فان قلت: فلم ترك هذا الآكد فى سورة الفرقان فى قوله تعالى: {«قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ»} (40)؟ قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد فى كل موضع ولكن يجيء بالوكيدة تارة وبالآكد أخرى كما يجيء بالحسن فى موضع وبالأحسن فى غيره ليفتن الكلام افتنانا وتجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى فكأنه أراد أن يقول: ان ربى يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأنه: {«أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ»} فهو كقوله: {«عَلََّامُ الْغُيُوبِ»}، {«عََالِمِ الْغَيْبِ، لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ»} (41).
وفى هذا النص يتضح رأيه فى تفاوت بلاغة القرآن بين البليغ والأبلغ، والحسن والأحسن، ليجمع الغاية وما دونها كما يقول. وفيه نزعة اعتزالية لا نتعرض لها لأننا منصرفون الى تمحيص البحث البلاغى فى هذا الكتاب أما أن الصفات عين الذات كما يقول أو غيرها كما يقول أهل السنة وكما رد بذلك ابن المنير فى قوة جدل فذلك أمر لا نريد أن نزحم بحثنا به.
__________
(39) الكشاف ج 1ص 1والآية من سورة الأنبياء: 4
(40) الفرقان: 6
(41) الكشاف ج 3ص 81، وينظر الشهاب الخفاجى ج 6 ص 345والآية من سورة سبأ: 3(1/269)
والزمخشرى يعتمد فى تفسير الكلمة على خبرته اللغوية واحاطته بمفردات اللغة ومعانيها وعلى فقه الأساليب وادراك المقامات التى تجرى فيها الكلمة وتكون فيها معروفة مشهورة، ثم على ذوقه الذى يقبل ويرفض، وله فى هذا الكلمة العليا.
يقول فى قوله تعالى: {«فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ»}: «فان قلت: هلا فسرت «عفا» ب «ترك» حتى يكون «شىء» فى معنى المفعول به؟ قلت:
لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس يثبت ولكن اعفاءه، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «واعفوا اللحى». فان قلت: فقد ثبت قولهم: عفا أثره، اذا محاه وأزاله، فهلا جعلتم معناه: فمن محى له من أخيه شىء؟
قلت: عبارة قلقة فى مكانها والعفو فى باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة فى الكتاب والسنة واستعمال الناس فلا يعدل عنها الى أخرى قلقة نابية عن مكانها» (42).
وقد يشير فى تفسير الكلمة الى مدلولها الحسى ويربط بين هذا المدلول وبين المراد منها، وحسه فى هذا دقيق بالغ، يقول فى قوله تعالى: {«مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذََلِكَ»} (43): «ومعنى {«مُذَبْذَبِينَ»} ذبذبهم الشيطان والهوى بين الايمان والكفر فهم مترددون بينهما متحيرون، وحقيقة المذبذب الذى يذب عن كلا الجانبين أى يزاد ويدفع فلا يقر فى جانب واحد كما قيل: فلان يرمى به الرحوان، الا أن الذبذبة فيها تكرار ليس فى الذب، كان المعنى: كلما مال الى جنب ذب عنه» (44).
وقد يتتبع الزمخشرى الكلمة فى معجم القرآن الكريم ويحدد دلالتها فى ضوء هذا التتبع ويرفض أن يكون المراد منها معنى آخر وان أقرته اللغة، وهذا لفت قديم الى وجوب النظر فى ألفاظ القرآن
__________
(42) الكشاف ج 1ص 167
(43) النساء: 143
(44) الكشاف ج 1ص 449(1/270)
فى ضوء معجمه واستعمالات ألفاظه لكن هذا اللفت القديم ظل غائما، ولو قدر لدراستنا الأدبية أن تلتفت الى هذه الطريقة لكان لدينا الآن تراث أكثر خصوبة فى هذا المجال. ويقول الزمخشرى فى قوله تعالى:
{«الزََّانِي لََا يَنْكِحُ إِلََّا زََانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزََّانِيَةُ لََا يَنْكِحُهََا إِلََّا زََانٍ أَوْ مُشْرِكٌ»} (45): «وقيل: المراد بالنكاح الوطء وليس بقول، لأمرين:
أحدهما أن هذه الكلمة أينما وردت فى القرآن لم ترد الا فى معنى العقد. والثانى فساد المعنى وأداؤه الى قولك: الزانى لا يزنى الا بزانية والزانية لا يزنى بها الا زان» (46).
والزمخشرى قد يسوّى بين لفظتين فى الدلالة والتحقيق أن بينهما فرقا، يقول فى قوله تعالى: {«إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهََا»} (47): «فان قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالاصابة؟ قلت: المس مستعار لمعنى الاصابة فكان المعنى واحدا ألا ترى الى قوله: {«إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ»} (48)، {«مََا أَصََابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللََّهِ، وَمََا أَصََابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»} (49)، {«إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً»} (50).
وهو حينما يسوق هذه الآيات التى ذكرت فيها الاصابة مع الحسنة ومع السيئة وذكر فيها المس مع الشر لم يبحث الفرق بين سياق هذه الآيات وسياق الآية التى يتحدث فيها. اذ أنها تحذر المسلمين من الاطمئنان الى الكافرين وأخذ الصفى والخليل منهم، ثم تصور ما تنطوى عليه صدورهم من الكراهية والبغضاء وتعتب على المسلمين غفلتهم وحبهم لهؤلاء الذين لا يحبونهم، ثم رسمت صورتهم وهم فى خلوتهم يعضون الأنامل من الغيظ. فكان المقتضى والحال كما صورها
__________
(45) النور: 3
(46) الكشاف ج 4ص 167
(47) آل عمران: 120
(48) التوبة: 50
(49) النساء: 79
(50) الكشاف ج 4ص 417والآية من سورة المعارج: 20، 21(1/271)
القرآن أن يكون مس الحسنة وهو أقل قدر من الخير ينال المسلمين، مسيئا لهم أبلغ اساءة، وأن تكون اصابة السيئة وتمكنها من المؤمنين أمرا سارا لهم، فالمس لا يساوى الاصابة.
ولو رجعنا الى الأصل اللغوى لوجدنا المس أقل من الاصابة فالمس هو اللمس، ومن مجازاة مس العذاب ومس الخير.
وقال الزمخشرى فى الأساس: مسه مسا ومسيسا وماسه مماسة ومساسا وهما يتماسان ومن المجاز مسه الكبر والمرض، ومسه العذاب (51)، أما الاصابة فانها ترجع الى اصابة الرمية أى رمى فأصاب، ومنه اصابة المطر الأرض وهذا أبلغ من المس واللمس.
وقد كثر استعمال المس فى القرآن للاصابة الخفيفة كقوله تعالى:
{«وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذََابِ رَبِّكَ»} (52)، وكقوله تعالى:
{«وَلََا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النََّارُ»} (53)، وقوله: {«إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ»} (54)، وقوله: {«وَإِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعََاءٍ عَرِيضٍ»} (55)، وقوله: {«وَإِذََا مَسَّ النََّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ»} (56)، وقوله: {«ثُمَّ إِذََا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ»} (57)
وقوله: {«وَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ الضُّرُّ دَعََانََا لِجَنْبِهِ أَوْ قََاعِداً أَوْ قََائِماً»} (58)
وقوله: {«وَإِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ كََانَ يَؤُساً»} (59)، وقوله: {«وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ»} (60)، وقوله: {«إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً»} (61)، وغير ذلك من الآيات التى يهدينا فيها التأمل الى أن المس فيها أقل من الاصابة. على أننا نجد بعض الآيات يستعمل فيها المس مع العذاب الأليم والعذاب العظيم كقوله
__________
(51) الأساس ص 900899
(52) الأنبياء: 46
(53) هود: 113
(54) آل عمران: 140
(55) فصلت: 51
(56) الروم: 33
(57) النحل: 53
(58) يونس: 12
(59) الاسراء: 83
(60) فصلت: 49
(61) المعارج: 2119(1/272)
تعالى حكاية عن أهل أنطاكية ومخاطبتهم لرسل عيسى عليه السلام:
{«قََالُوا إِنََّا تَطَيَّرْنََا بِكُمْ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنََّا عَذََابٌ أَلِيمٌ»} (62)، وكقوله تعالى فى آية الافك: {«لَوْلََا كِتََابٌ مِنَ اللََّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمََا أَخَذْتُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ»} (63)، وقوله تعالى: {«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا يَمَسُّهُمُ الْعَذََابُ بِمََا كََانُوا يَفْسُقُونَ»} (64)، وقوله تعالى:
{«وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنََّا عَذََابٌ أَلِيمٌ»} (65)، ويمكن أن يقال ان سياق هذه الآيات ومقام التهديد والوعيد فيها يكسب المس معنى أقوى وأبلغ، وذلك بخلاف آية آل عمران التى نناقش الزمخشرى فيها فان سياقها يساعد على الذى قلناه.
وقد تنبه ابن المنير الى هذا وقال: «يمكن أن يقال: المس أقل تمكنا من الاصابة وكأنه أقل درجاتها، فكان الكلام والله أعلم: ان تصبكم الحسنة أدنى اصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها وان تمكنت الاصابة منكم وانتهى الأمر فيها الى الحد الذى يرثى الشامت عنده فهم لا يرثون لكم ولا ينفكون عن حسدهم» (66).
ومما نرى الزمخشرى فيه سوى بين المفردات وأغفل ما فيها من اشارات قوله فى قوله تعالى: {«قََالَ فَاخْرُجْ مِنْهََا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى ََ يَوْمِ الدِّينِ. قََالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قََالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»} (67). قال الزمخشرى: و {«يَوْمِ الدِّينِ»} و {«يَوْمِ يُبْعَثُونَ»} و {«يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»} فى معنى واحد ولكن خولف بين العبارات سلوكا بالكلام طريقة المبالغة» (68).
وقد نلحظ فروقا بين الكلمات الثلاث المضافة الى اليوم فان {«يَوْمِ الدِّينِ»} يشير الى ما يلاقيه ابليس من الجزاء على معصيته وتمرده، وهذه الاشارة لا تجدها فى الكلمتين الأخيرتين وانما نراها فى كلمة
__________
(62) يس: 18
(63) الأنفال: 68
(64) الأنعام: 49
(65) هود: 48
(66) حاشية ابن المنير هامش الكشاف ج 1ص 313
(67) الحجر: 3834
(68) الكشاف ج 1ص 450(1/273)
{«الدِّينِ»}. و {«يَوْمِ يُبْعَثُونَ»} يشير الى طلب أقصى المدة فإبليس يطلب الانظار الى يوم البعث لا الى يوم تقوم الساعة، و {«يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»} فيه نبرة تهديد لا تخطئها الأذن أى الى يوم الوقت الذى تعرف ما فيه من العذاب والأخذ الشديد. فاذا كانت الكلمات الثلاث تشترك فى المدلول العام فان لكل كلمة خصوصية فى الدلالة لاءمت موقعها، فليست الكلمات الثلاث فى معنى واحد كما يقول الزمخشرى.
نظرات فى هيئة الكلمة
(ا) الجمع والافراد:
وفى نظرات الزمخشرى للكلمة المفردة يبصر السر البلاغى لافراد الكلمة وجمعها جمع قلة أو جمع كثرة ويساعده على لمح ما فى هذه الهيئات من وحى واشارات حس أدبى وذوق بصير.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ»} (69): «فان قلت: لم قيل «من شجرة» على التوحيد دون اسم الجنس الذى هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة الا بريت أقلاما» (70)
ويقول فى قوله تعالى: {«إِنَّمََا وَلِيُّكُمُ اللََّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا»} (71): «فان قلت: قد ذكرت جماعة فهلا قيل: انما أولياؤكم؟
قلت: أصل الكلام: {«إِنَّمََا وَلِيُّكُمُ اللََّهُ»} فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة، ثم نظم فى سلك اثباتها له اثباتها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمؤمنين على سبيل التبع. ولو قيل: انما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا، لم يكن فى الكلام أصل وتبع» (72) وهذا جيد بالغ.
ويلحظ الزمخشرى أن الكلمة الواحدة تقع مفردة مرة وجمعا مرة
__________
(69) لقمان: 27
(70) الكشاف ج 3ص 396
(71) المائدة: 55
(72) الكشاف ج 1ص 505(1/274)
فى سياق واحد وآيات متحدة فى الغرض ثم يجتهد فى بيان ملاءمة صيغة الافراد لموقعها الخاص بها، وملاءمة صيغة الجمع لموقعها الخاص بها.
يقول فى قوله تعالى: {«قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلََاتِهِمْ خََاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكََاةِ فََاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ. إِلََّا عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى ََ وَرََاءَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ العََادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمََانََاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رََاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلَوََاتِهِمْ يُحََافِظُونَ»} (73)، يقول الزمخشرى: «وأيضا فقد وحدت يعنى الصلاة أولا ليفاد الخشوع فى جنس الصلاة أى صلاة كانت، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها وهى الصلوات الخمس، والوتر، والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة، والعيدين، والجنازة، والاستسقاء» (74).
وكذلك يفسر الافراد والجمع فى المقام الواحد بما خبر من أخلاق الناس وعرف من أحوالهم وعاداتهم.
يقول فى قوله تعالى: {«فَمََا لَنََا مِنْ شََافِعِينَ. وَلََا صَدِيقٍ حَمِيمٍ»} (75): «فان قلت: لم جمع الشافعين ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء فى العادة وقلة الصديق، ألا ترى أن الرجل اذا امتحن بارهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته، رحمة له وحسبة، وان لم يسبق له بأكثرهم معرفة، وأما الصديق وهو الصادق فى ودادك الذى يهمه ما أهمك فأعز من بيض الأنوق، وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقيل: اسم لا معنى له» (76).
وابن المنير وان كان له ذوق فى فهم الأساليب يتعجب من هذه الوقفة ويبنى عجبه على أن كلمة «صديق» تدل على الجمع كما تدل على
__________
(73) المؤمنون: 93
(74) الكشاف ج 3ص 140
(75) الشعراء: 100، 101
(76) الكشاف ج 3ص 254(1/275)
المفرد، ولكنه غفل عن ما لفت الزمخشرى وأبان عنه فى دقة، وهو الخلاف بين الكلمتين من ناحية الجمع والافراد، وان كانت كل واحدة دالة على الجمع. ونلحظ فى كلام ابن المنير روح الجدل الفقهى، كما نلحظ فيه كلمات انفعالية تدل على موقفه المتعصب، يقول ابن المنير معلقا على كلام الزمخشرى السابق: «والعجيب أن الصديق يقع على الواحد وعلى الجمع فما الدليل على إرادة الافراد؟ ثم لو كان المراد الافراد لكان أعم لأنه فى سياق النفى فينفى الواحد وما زاد عليه الى ما لا نهاية له» (77). ولا ينهض هذا مع قوته اعتراضا على الزمخشرى لأن الصديق وان كانت تطلق على الجمع فان السؤال: لماذا خالف القرآن بين الكلمتين وعمد الى الجمع فى «شافعين» والافراد فى «صديق» وان كان مدلولهما واحدا؟
وقد يلحظ الزمخشرى فى صيغة الجمع لمسة أخلاقية لا يدركها الا من له بصيرة فى ذوق الأسلوب، يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ يُنََادُونَكَ مِنْ وَرََاءِ الْحُجُرََاتِ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ»} (78):
«ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات متطلبين له فناداه بعض من وراء هذه وبعض من وراء تلك وأنهم قد أتوا حجرة فنادوه من ورائها وأنهم نادوه من وراء الحجرة التى كان فيها، ولكنها جمعت اجلالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولمكان حرمته» (79).
فالزمخشرى يدرك الفرق بين أن يكون التعبير: ان الذين ينادونك من وراء حجرتك أو من وراء الحجرة، وبين ما جاء عليه القرآن، وأن فى كلمة حجرة بهذا النص وهذا التحديد معنى يكره القرآن أن يواجه به محمد صلوات الله عليه اجلالا لحرمته فيأتى بصيغة الجمع ليفهم هذا التنصيص ضمن مدلولها حتى لا يتجه اليه الفكر منفردا، وانما يكتفى باللمسة الخفيفة والاشارة التى هى كالوحى فى هذا المقام. ولهذا المعنى
__________
(77) حاشية ابن المنبر على هامش المرجع السابق.
(78) الحجرات: 4
(79) الكشاف ج 4ص 284(1/276)
يقول الزمخشرى معلقا على هذه الآية ومتعجبا مما تتضمنه من عناصر البلاغة واعجاز الفن: «فورود الآية على النمط الذى وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات اكبار محل رسول الله صلّى الله عليه وسلم واجلاله، منها مجيئها على النظم المسجل على الصائحين بالسفه والجهل لما أقدموا عليه، ومنها لفظ الحجرات وايقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه، ومنها المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذى تبين به ما استنكر عليهم» (80).
وصيغة الجمع قد تشعر بمعانى التعظيم والاجلال حينما يوضع ما للجماعة للواحد. وقد أشار النحاة الى هذا المعنى فى الضمائر وقالوا:
ان ضمير جمع المتكلمين المتصل أو المنفصل قد يأتى للمتكلم المعظم نفسه. والزمخشرى ينقل هذا من ضمائر الجمع الى صيغ الجمع فيقول فى قوله تعالى: {«وَلَقَدْ نََادََانََا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ»} (81): «والجمع دليل العظمة والمعنى: انا أجبناه أحسن الاجابة وأوصلها الى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون» (82).
وقد يأتى القرآن الكريم بجمع القلة مكان جمع الكثرة ليشير بهذا الى معنى، وقد يعكس هذا فيأتى بجمع الكثرة مكان جمع القلة، والزمخشرى يقف فى هذه المقامات محاولا كشف هذه الاشارات والافصاح عن النكتة البلاغية وهو فى هذا قد يصيب وقد ترى أن تخالفه.
فمن ذلك وهو فيه مصيب قوله تعالى: {«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللََّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ»} (83) قال: «والأذلة جمع قلة والأذلاء جمع الكثرة، وجاء بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم ما كان بهم من ضعف الحال، وقلة السلاح والمال المركوب» (84).
ومنه ما قاله فى قوله تعالى: {«رَبَّنََا هَبْ لَنََا مِنْ أَزْوََاجِنََا وَذُرِّيََّاتِنََا}
__________
(80) نفس المرجع السابق.
(81) الصافات: 75
(82) الكشاف ج 4ص 37
(83) آل عمران: 123
(84) الكشاف ج 4ص 316(1/277)
{قُرَّةَ أَعْيُنٍ»} (85) قال: «وانما قيل «أعين» دون عيون لأنه أراد أعين المتقين وهى قليلة بالاضافة الى عيون غيرهم قال تعالى: {«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبََادِيَ الشَّكُورُ»} (86).
فاذا وقف الزمخشرى عند آية: {«وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ»} (87) ورأى كلمة «قروء» وهى جمع كثرة مستعملة فى موطن جمع القلة أغفل هذه الأسرار التى تنطوى عليها الكلمة القرآنية وحمل الأمر على الاتساع. وما كان للزمخشرى وهو الأديب المتذوق أن يهمل لمحة اللفظ أو يغفل عنها. وأن يحملها على الاتساع لأن الاتساع يعنى التسوية فى أداء المعنى. وقد سبق أن ذكر الزمخشرى مثل هذا فى قوله تعالى: {«يَوْمِ الدِّينِ»}، {«يَوْمِ يُبْعَثُونَ»}، {«يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»}، وقد سبق أن نبهنا الى بعض الفروق فى الكلمات الثلاث، وهنا يقول الزمخشرى: «فان قلت: لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التى هى الأقراء؟ قلت: يتسعون فى ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما فى الجمعية، ألا ترى الى قوله {«بِأَنْفُسِهِنَّ»} وما هى الا نفوس كثيرة ولعل القروء كانت أكثر استعمالا فى جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل فيكون مثل قولهم: ثلاثة شموع» (88).
ونرى أن جمع الكثرة فى «قروء» يشير الى وجوب الاحتياط فى استيفاء مدة العدة حتى لا تتعجل المرأة المطلقة عدتها، وقد أشار الى هذا بعض النحاة. أما انهم يتسعون فى هذا ويستعملون جمع الكثرة مكان جمع القلة فهذا يصح تعليلا فى كلام الناس، على أننا لا نعدم تلك الاشارات فى صياغات كلام الموهوبين، وقد تكون هذه الاشارات دون وعى منهم وانما هو أثر الموهبة والحس اللغوى. أما فى كلام الله فاننا
__________
(85) الفرقان: 74
(86) الكشاف ج 3ص 233والآية من سورة سبأ: 13
(87) البقرة: 228
(88) الكشاف ج 1ص 208206(1/278)
نرفض مثل هذا التعليل. وليس هذا الرفض مبنيا على حماس دينى وانما هو النظر والتذوق، أما قوله فيما ساقه شاهدا على الاتساع:
«ألا ترى الى قوله «بأنفسهن» وما هى الا نفوس كثيرة» فقد أغفل الزمخشرى فيه أيضا النكتة البلاغية، وذلك لأن «الأنفس» وهى جمع قلة استعملت هنا مكان جمع الكثرة لتشير الى معنى التقليل والتهوين من شأن هؤلاء النسوة الطامحات الى الأزواج قبل تمام عدة صاحبها الأول.
فالآية الكريمة تحدد عدة المرأة المطلقة وتوحى بكمال هذه العدة وتمامها غاية التمام وأسلوبها فيه تشديد على المطلقة فى هذا الموقف وفيه لذعات. فكلمة «يتربصن» تشير الى أنها تعالج أمر نفسها الطامحة الى الزواج، وكلمة «بأنفسهن» فيه تهييج لهن ولذع بتوق نفوسهن الى الرجل. وكان لذع الأسلوب أنكى حينما قال: {«وَلََا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مََا خَلَقَ اللََّهُ فِي أَرْحََامِهِنَّ»} (89) وكأنه يشير الى أن بعضهن يفعلن هذا، وقوله:
{«إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»} (90) شرط فيه قسوة. وفى هذا السياق العام أطمئن الى أن اختيار جمع القلة هنا فى كلمة «الأنفس» فيه إشارة الى التقليل والتهوين لتتلاءم هذه الخصوصية وتتجاوب مع هذا السياق.
(ب) المعانى البلاغية لصيغ الأفعال:
والزمخشرى يلحظ ما فى صيغة المضارع من المعانى الأدبية ويشير الى قدرتها على التصوير واحضار الحدث، وكأنما تراه العين وتسمعه الأذن.
يقول فى قوله تعالى: {«إِنََّا سَخَّرْنَا الْجِبََالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرََاقِ»} (91): «ويسبحن: فى معنى مسبحات على الحال، فان، قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسبحات؟ قلت: نعم، وما اختير يسبحن على مسبحات الا لذلك وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا
__________
(89) البقرة: 228
(90) البقرة: 228
(91) سورة ص: 18(1/279)
بعد شىء وحالا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح، ومثله قول الأعشى:
* إلى ضوء نار فى يفاع تحرّق *
ولو قال «محرقة» لم يكن شيئا» (92).
وقد تأثر الزمخشرى فى هذا بالامام عبد القاهر الذى يذكر الفرق بين الاخبار بالفعل والاخبار بالاسم ويقول: «انه فرق لطيف تمس الحاجة فى علم البلاغة اليه» ثم يعلق على بيت الأعشى المذكور فى كلام الزمخشرى بقوله: معلوم أنه لو قيل: الى ضوء نار متحرقة لنبا عنه الطبع وأنكرته النفس» (93).
ومثل هذه المقارنة بين صيغة المضارع وصيغة اسم الفعل تكرر فى قوله تعالى: {«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ وَيَقْبِضْنَ»} (94)
يقول الزمخشرى: «فان قلت: لم قيل: «يقبضن» ولم يقل قابضات؟
قلت: «لأن الأصل فى الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران فى الهواء كالسباحة فى الماء والأصل فى السباحة مد الأطراف وبسطها وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجىء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح» (95).
فالفعل يفيد التجدد والحدوث. والاسم يفيد الثبوت والاستمرار، ولا معنى لاحضار الصورة هنا لأن ذلك يكون فى حكاية الحال الماضية وما هنا ليس كذلك لأن الناس يرون الطير فوقهم صافات ويقبضن فى كل زمان، فالآية وصف صادق ودقيق للطير فى حال طيرانه.
وقد يقع المضارع مكان الماضى فيقارن الزمخشرى بين الصيغتين ويبين دلالة المضارع وقيمتها فى الأسلوب.
__________
(92) الكشاف ج 4ص 6160
(93) ينظر دلائل الاعجاز ص 116114
(94) الملك: 19
(95) الكشاف ج 4ص 465(1/280)
يقول فى قوله تعالى: {«وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ»} (96): «فان قلت: لم جاء «فتثير» على المضارع دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكى الحال التى تقع عليها اثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصورة البديعية الدالة على القدرة الربانية وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك كما قال تأبط شرا:
بأنّى قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصّحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التى تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول كأنه يبصرهم اياها ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب من جرأته على كل هول وثباته عند كل شدة» (97).
ومثل هذا يذكره فى قوله تعالى مخاطبا بنى اسرائيل ومنكرا عليهم جسارتهم على أنبيائه عليهم السلام: {«أَفَكُلَّمََا جََاءَكُمْ رَسُولٌ بِمََا لََا تَهْوى ََ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ»} (98).
قال الزمخشرى: «فان قلت: هلا قيل وفريقا قتلتم؟ قلت: هو على وجهين ان تراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره فى النفوس وتصويره فى القلوب وان يراد» (99).
وقد يقع المضارع موقع الماضى ولا يكون الغرض منه استحضار الصورة، وانما يشير الى أن هذا الحدث مستمر، وهنا فرق بين معنى الاستمرار فى الفعل المضارع ومعنى الاستمرار فى صيغة الاسم. يقول فى قوله تعالى: {«وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللََّهِ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ»} (100): «فان قلت: فلم قيل «يطيعكم» دون أطاعكم؟ قلت:
__________
(96) فاطر: 9
(97) الكشاف ج 3ص 274
(98) البقرة: 87
(99) الكشاف ج 1ص 121
(100) الحجرات: 7(1/281)
للدلالة على أنه كان فى ارادتهم استمرار عمله على ما يستصوبون وأنه كلما عنّ لهم رأى فى أمر كان معمولا عليه بدليل قوله: {«فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ»}، كقولك: فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم، تريد أنه مما اعتاده ووجد منه» (101).
ومثل هذا المعنى للفعل المضارع الواقع موقع الماضى ما ذكره فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ»} (102) قال:
«يقال: فلان يحسن الى الفقراء وينعش المضطهدين، لا يراد حال ولا استقبال وانما يراد استمرار وجود الحال منه والنعشة فى جميع أزمنته وأوقاته، ومنه قوله تعالى: {«وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ»} (103)
أى الصدود منهم مستمر دائم» (104).
ويلحظ الشهاب فرقا بين الاستمرار التجددى الذى يفهم من آية:
{«لَوْ يُطِيعُكُمْ»} والاستمرار فى قوله {«وَيَصُدُّونَ»}، لأن استمرار الصد غير متجدد، فلا تتخلله فترات انقطاع للحدث بل هو مستمر دائم.
والاستمرار فى الأولى تتخلله فترات انقطاع بدليل قوله: كلما عنّ لهم.
قال البيضاوى فى آية {«وَيَصُدُّونَ»} مقتبسا من كلام الزمخشرى أو ملخصا له: «لا يريد به حالا ولا استقبالا وانما يريد به استمرار الصدود منهم كقولهم: فلان يعطى ويمنع، ولذلك حسن عطفه على الماضى» قال الشهاب:
«جعل الفعل المضارع دالا على الدوام كقولهم: فلان يحسن الى الفقراء، اذ المراد به استمرار وجود الاحسان كما فى الكشاف. وهذا غير الاستمرار التجددى وغير دلالة الاسمية الخبرية فعلا على الثبوت لتصريحه به فى قوله: {«فَمَا اسْتَكََانُوا لِرَبِّهِمْ وَمََا يَتَضَرَّعُونَ»} (105).
__________
(101) الكشاف ج 4ص 287
(102) الحج: 25
(103) الأنفال: 47
(104) الكشاف ج 3ص 119
(105) حاشية الشهاب الخفاجى ج 6ص 291وينظر كلام البيضاوى فى نفس الصفحة على الهامش والآية من سورة المؤمنون: 76(1/282)
وتتكرر هذه الدلالة فى صيغة المضارع وتتكرر اشاراته اليها فى قوله تعالى: {«كَذََلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ»} (106) ولم يقل «أوحى» ليدل على أن الوحى من عادته وفى قوله تعالى: {«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً»} (107) حيث قال «فتصبح» ولم يقل:
فأصبحت، ليشير الى أن خضرتها تبقى وتتجدد زمانا بعد زمان كقولك:
أنعم على فلان فأروح وأغدوا فى نعمه، ولو قلت: فرحت وغدوت لم يكن شيئا» (108).
وقد يختلف نوع الفعل فى الآية الواحدة والمقام الواحد ويلفتنا الزمخشرى الى السر وراء هذا الاختلاف ويشير الى لمحته الدالة.
يقول فى قوله تعالى: {«قََالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللََّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ»} (109): «فان قلت: هلا قيل: انى أشهد الله وأشهدكم؟
قلت: لأن اشهاد الله على البراءة من الشرك اشهاد صحيح ثابت فى معنى تثبيت التوحيد وشد معاقده، وأما اشهادهم فما هو الا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل بهم عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما وجىء به على لفظ الأمر بالشهادة كما تقول لمن يبس الثرى بينه وبينك: أشهد على انى لا أحبك» (110).
وللزمخشرى نظرات فى صيغ الأفعال الماضية يشير فيها الى المعانى البلاغية التى تفيدها هذه الصيغ فى مقاماتها المختلفة. فالقرآن الكريم يختار صيغة «فعّل» على صيغة «أفعل» فى قوله تعالى: {«وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ»} (111) لأن المراد النزول على سبيل التدرج والتنجيم «وهو من مجازه لمكان التحدى، وذلك أنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله مخالفا لما يكون من
__________
(106) الشورى: 3
(107) الحج: 63
(108) ينظر الكشاف ج 4ص 163، ج 3ص 132
(109) هود: 54
(110) الكشاف ج 2ص 315
(111) البقرة: 23(1/283)
عند الناس لم ينزل هكذا نجوما سورة بعد سورة وآيات غب آيات على حسب النوازل وكفاء الحوادث وعلى سنن ما ترى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقا حينا فحينا وشيئا فشيئا حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة لا يلقى الناظم ديوان شعره دفعة ولا يرمى الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة فلو أنزله الله لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة، قال الله تعالى: {«وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً»} (112). فقيل: ان ارتبتم فى هذا الذى وقع انزاله هكذا على مهل وتدرج فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه وهلموا نجما فردا من نجومه» (113).
ويفرق بين دلالة «فعل» و «افتعل» ويشير الى ما فيها من معانى الاهتمام والاعتمال ولهذا تقع مع الأحداث التى تنجذب اليها النفوس وتكون موضع تعلقها واهتمامها، يقول فى قوله تعالى: {«لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ»} (114): «فان قلت: لم خص الخبر بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت: فى الاكتساب اعتمال فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهى منجذبة اليه وأمارة به كانت فى تحصيله أعمل وأجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك فى باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» (115).
وقد يشير الى أهمية صيغة الكلمة واصابتها لموقعها وأثرها فى نفسه من غير أن يشرح هذه الأهمية ولا أن يوضح هذه الاصابة، وهذا لون من دراسة البلاغة التى يعتمد فيها على حسه ثم لا يعلل. واذا كانت من عادته أن يشرح عناصر الجودة وأسس البلاغة فلا ضير أن يتركنا لأنفسنا فى بعضها وحسبه أن يشير الى ما يجد.
يقول فى قوله تعالى: {«أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمََنِ عَهْداً»} (116): «من قولهم أطلع الجبل اذا ارتقى الى أعلاه وأطلع
__________
(112) الفرقان: 32
(113) الكشاف ج 1ص 73
(114) البقرة: 286
(115) الكشاف ج 1ص 254
(116) مريم: 78(1/284)
الثنية قال جرير: «لاقيت مطّلع الجبال وعورا» ويقولون: مر مطلعا لذلك الأمر عاليا له، مالكا له، ولاختيار هذه الكلمة شأن» (117).
وبناء الماضى للمجهول له مواقع أدبية يلمحها الزمخشرى ويشير اليها ويربطها بالموقف الذى تصوره الآية ويكشف عن أهميتها فى المعنى، فالسحرة لما رأوا آية موسى عليه السلام واستيقنوها بعد ما سحروا أعين الناس واسترهبوهم بادروا بالانقياد والسجود لله سبحانه. والقرآن يصور هذه المفاجأة العظيمة وهذه السرعة الفائقة فى الانقياد والاستسلام فى هذا الموقف الذى تمثل فيه الصراع بين حق موسى وباطل فرعون واجتمع الناس فيهم لعلهم يتبعون السحرة ان كانوا هم الغالبين، يقول سبحانه: {«فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنََالِكَ وَانْقَلَبُوا صََاغِرِينَ. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سََاجِدِينَ»} (118)، والزمخشرى يعلق على هذا بكلمة موجزة تكشف عن هذا الموقف العجيب ويستوحى حركة بناء الفعل الماضى للمجهول ويقول: {«وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ»} خروا سجدا كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم، وقيل: لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا» (119) ويستوحى هذا البناء فى قوله تعالى: {«وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمََاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ»} (120).
يقول: «ومجىء اخباره على الفعل المبنى للمفعول للدلالة على الجلالة والكبرياء وأن تلك الأمور العظام لا تكون الا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر وأن فاعلها فاعل واحد لا يشارك فى أفعاله. فلا يذهب الوهم الى أن يقول غيره: {«يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي»} ولا أن يقضى ذلك الأمر الهائل غيره ولا أن تستوى السفينة على متن الجودى وتستقر عليه الا بتسويته واقراره» (121).
__________
(117) الكشاف ج 3ص 30
(118) الأعراف: 120118
(119) الكشاف ج 2ص 111
(120) هود: 44
(121) الكشاف ج 2ص 311(1/285)
وهناك نظر آخر لصيغة الماضى لا يتعلق ببنائها للمعلوم ولا للمجهول ولا بمجيئها على «أفعل أو «فعل» أو «افتعل»، وانما يتناول هذه الصيغة من حيث وقوعها موقع المضارع وهو غير ناظر فى هذا الى كون هذا الاستعمال حقيقة أو مجازا وانما هو ناظر الى ما يفيده هذا الاستعمال من المعانى وما يوحى به من الايحاءات التى تمد النص بمزيد من الأسرار والاشارات فيزداد بذلك خصوبة ونماء، يقول فى قوله تعالى:
{«إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدََاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ»} (122): «فان قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعا مثله ثم قال «وودوا» بلفظ الماضى؟ قلت: الماضى وان كان يجرى فى باب الشرط مجرى المضارع فى علم الاعراب فان فيه نكتة كأنه قيل: وودوا قبل كل شىء كفركم وارتدادكم. يعنى أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارا. وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها. لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم لأنكم بذالون لها دونه والعدو أهم شىء عنده أن يقصد أعز شىء عند صاحبه» (123).
وقد يقع الماضى موقع المضارع لأن الحدث محقق الوقوع ثم يلمح الزمخشرى ما فى هذا التعبير من الدلالة على علو شأن المخبر. يقول فى قوله تعالى: {«إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً»} (124): «هو فتح مكة وقد نزلت مرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح، وجىء به على لفظ الماضى على عادة رب العزة سبحانه فى اخباره لأنها فى تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفى ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى» (125).
__________
(122) الممتحنة: 2
(123) الكشاف ج 4ص 409
(124) الفتح: 1
(125) الكشاف ج 4ص 263262(1/286)
(ج) المعانى البلاغية فى أبنية المشتقات:
ويقف الزمخشرى عند أبنية المشتقات ويبين سر ايثار بناء على بناء، وقيمته فى المعنى. وما يوحى به فى المقام. وهو كغيره من اللغويين والنحاة يرى أن زيادة المبنى دليل على زيادة المعنى. وأن هذا الارتباط بين المبنى والمعنى أمر تقره الفطرة اللغوية.
يقول فى قوله تعالى: {«الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} (126): «وفى «الرحمن» من المبالغة ما ليس فى «الرحيم» ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، ويقولون: ان الزيادة فى البناء لزيادة المعنى. وقال الزجاج فى الغضبان الممتلئ غضبا: ومما طن على أذنى من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشقدف وهو مركب خفيف ليس فى ثقل محامل العراق، فقلت فى طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقى فقال: أليس ذاك اسمه الشقدف؟
قلت: بلى فقال: هذا اسمه الشقنداف، فزاد فى بناء الاسم لزيادة المسمى» (127).
وكلمة الشقنداف التى رواها عن العربى ليست من كلامهم كما قال صاحب القاموس (128). ولكنها دلت على جذر هذا الأصل اللغوى فى فطرة الأعراب وهذا ينظر اليه ولو لم يستشهد بكلام هذا الأعرابى.
ويبين الفرق بين كلمة «مرضعة» و «مرضع» وأن فى مرضعة خصوصية فى المعنى لها أثرها فى سياق الآية وغرضها، فيقول فى قوله تعالى:
{«يَوْمَ تَرَوْنَهََا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمََّا أَرْضَعَتْ»} (129): «فان قلت:
لم قيل «مرضعة» دون مرضع، قلت: المرضعة التى فى حال الارضاع ملقمة ثديها للصبى، والمرضع التى شأنها أن ترضع وان لم تباشر الارضاع فى حال وصفها، فقيل «مرضعة» ليدل على أن ذلك الهول اذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة» (130).
__________
(126) الفاتحة: 3
(127) الكشاف ج 1ص 5
(128) القاموس المحيط ج 3ص 160مطبعة دار المأمون
(129) الحج: 2
(130) الكشاف ج 3ص 112.(1/287)
ويلمح ما فى كلمة «مطهّرة» وبنائها للمفعول من المعنى فيقول فى قوله تعالى: {«لَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ»} (131): «فان قلت: هلا قيل طاهرة؟ قلت: فى «مطهرة» فخامة لصفتهن ليست فى طاهرة، وهى الاشعار بأن مطهرا طهرهن وليس ذلك الا لله عز وجل» (132).
وقد يعبر القرآن عن الحدث باسم الفاعل فى موضع وباسم المفعول فى موضع آخر، والزمخشرى يشير الى الفرق بين الموضعين وكيف اقتضى كل منهما صيغة معينة. يقول فى قوله تعالى: {«وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ»} (133): «فان قلت: لم قيل «المولود له» دون الوالد؟ قلت:
ليعلم أن الوالدات انما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون اليهم لا الى الأمهات، وأنشد للمأمون بن الرشيد:
فإنما أمّهات الناس أوعية ... مستودعات وللآباء أبناء
فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن اذا أرضعن ولدهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله تعالى:
{«وَاخْشَوْا يَوْماً لََا يَجْزِي وََالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ»} (134).
ويوازن بين دلالة الفعل ودلالة اسم المفعول ليبين أن اسم المفعول أكثر توكيدا للمعنى واثباتا له وتقريرا، ويدعو الى الموازنة والنظر فى الصورتين والرجوع الى النفس لتعرف الفرق وتلمس المغزى، وتلك أنجح الوسائل لفقه اللغة وذوق التراكيب.
يقول فى قوله تعالى: {«ذََلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النََّاسُ»} (135): «فان قلت: لأى فائدة أوثر اسم المفعول على فعله؟ قلت: لما فى اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه لا بد من أن يكون ميعادا مضروبا لجمع الناس له وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة، وهو أثبت
__________
(131) النساء: 57.
(132) الكشاف ج 1ص 82.
(133) البقرة: 233.
(134) الكشاف ج 1ص 212والآية من سورة لقمان: 33.
(135) هود: 103.(1/288)
أيضا لاثبات الجمع الى الناس وأنهم لا ينفكون منه، ونظيره قول المتهدد:
انك لمنهوب مالك محروب قومك، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس فى الفعل، وان شئت فوازن بينه وبين قوله تعالى: {«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ»} (136) تعثر على صحة ما قلت لك» (137).
وأفعل التفضيل لا يدل على أن الشيء أفعل فى نفسه وانما هو أفعل بالنسبة لوقعه على النفس أو بالنسبة الى تلقيه، يقول فى قوله تعالى: {«لِيُكَفِّرَ اللََّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كََانُوا يَعْمَلُونَ»} (138): «وأما التفضيل فإيذان بأن الشيء الذى يفرط منهم من الصغائر والذلات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذين يعملون هو عند الله الأحسن لحسن اخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ وحسنهم بالأحسن» (139).
ويلمح الزمخشرى معنى اللين والرخاوة فى الكلمات المؤنثة كما يلمح معنى الصلابة والقوة فى الكلمات المذكرة.
يقول فى قوله تعالى: {«هَلْ هُنَّ كََاشِفََاتُ ضُرِّهِ»} (140): «فان قلت: لم قيل «كاشفات» و «ممسكات» على التأنيث بعد قوله:
{«وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ»}؟ قلت: أنثهن وكن اناثا وهن اللات والعزى ومناة قال تعالى: {«أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى. وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ََ»}؟ (141) ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وامساك الرحمة، لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة كما أن الذكورة من باب الشدة والصلابة كأنه قال: الاناث اللاتى هن اللات والعزى ومناة، أضعف مما تدعون لهن وأعجز، وفيه تهكم أيضا» (142).
__________
(136) التغابن: 1.
(137) الكشاف ج 1ص 334.
(138) الزمر: 35
(139) الكشاف ج 4ص 199.
(140) الزمر: 38.
(141) النجم: 2119.
(142) الكشاف ج 4ص 10.(1/289)
ويشير الى مثل هذا المعنى فى التأنيث فى قوله تعالى: {«فَلَمََّا رَأَى الشَّمْسَ بََازِغَةً قََالَ هََذََا رَبِّي هََذََا أَكْبَرُ»} (143) يقول: «فان قلت:
ما وجه التذكير فى قوله {«هََذََا رَبِّي»} والاشارة للشمس؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شىء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، {«ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلََّا أَنْ قََالُوا»}، وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا فى صفة الله «علام» ولم يقولوا «علامة» وان كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث» (144).
أدوات الربط:
«ثم» والفاء:
سوف نعرض هنا ملاحظاته فى دلالة «ثم، والفاء، وحتى»، من حروف العطف. ودلالة «ان، واذا، وكلما» من أدوات الشرط.
ودلالة «قد» و «ربما»، وبعض حروف الجر.
أما «ثم» فاننا حينما نتابع تحليله لمواقعها فى الكتاب العزيز يتضح لنا أصلان يرجع بمعنى «ثم» غالبا اليهما. الأول الاستبعاد. وذلك يكون اذا كان ما بعد «ثم» أمرا مستبعد الوقوع بالنسبة لما قبلها، أو بعبارة أخرى اذا كان ما قبل «ثم» من الأحداث والأفعال مهيئا لعدم حصول ما بعدها، وذلك مثل قوله تعالى: {«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيََاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهََا»} (145) فان الاعراض عن آيات الله مستبعد الوقوع بالنسبة للتذكير بها. يقول الزمخشرى: «ثم» فى قوله: {«ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهََا»} للاستبعاد، والمعنى أن الاعراض عن مثل آيات الله فى وضوحها وانارتها وارشادها الى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد فى العقل والعدل كما تقول لصحبك: وجدت مثل تلك الفرصة
__________
(143) الأنعام: 78.
(144) الكشاف ج 2ص 32والآية من سورة الأنعام: 23.
(145) السجدة: 22(1/290)
ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز، ومنه «ثم» فى بيت الحماسة:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرّة ... يرى غمرات الموت ثم يزوره
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها وأطلع على شدتها» (146).
وقد تكرر هذا فى قوله تعالى: {«يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللََّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهََا»} (147) يقول فيها: «فان قلت: ما معنى «ثم»؟ قلت:
الدلالة على أن انكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر» (148).
ومثله ما يذكره فى قوله تعالى: {«وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ لََا تَسْفِكُونَ دِمََاءَكُمْ وَلََا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ»} (149).
الثانى: بيان البعد بين الأمرين وهذا غير الاستبعاد اذ المراد أن الأمرين من جنس واحد ولكن ما بعد «ثم» أعلى مرتبة فى هذا الجنس وأبلغ مما قبلها، فليس بين الأمرين منافاة كما فى الاستبعاد وانما بينهما تفاوت وهما من جنس واحد. ومن ذلك ما ذكره فى قوله تعالى:
{«خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهََا زَوْجَهََا»} (150) فقد قال: «فان قلت: ما وجه قوله: {«ثُمَّ جَعَلَ مِنْهََا زَوْجَهََا»} وما يعطيه من معنى التراخى؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التى عددها دالا على وحدانيته وقدرته: تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه بضم القاف وفتح الصاد أى أسفل أضلاعه الا أن أحدهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجر بها العادة ولم
__________
(146) الكشاف ج 2ص 407.
(147) النحل: 83.
(148) الكشاف ج 2ص 488.
(149) ينظر الكشاف ج 1ص 119والآية من سورة البقرة:
84، 85.
(150) الزمر: 6.(1/291)
تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل فكانت أدخل فى كونها آية وأجلب لعجب السامع فعطفها ب «ثم» على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع الى زيادة كونها آية فهو من التراخى فى الحال والمنزلة لا من التراخى فى الوجود» (151).
ومثله ما ذكره فى قوله تعالى: {«وَلَوْ أَنْزَلْنََا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لََا يُنْظَرُونَ»} (152) فقد قال: «ومعنى «ثم»: بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الانظار، وجعل عدم الانظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجاة الشدة أشد من نفس الشدة» (153).
أما «الفاء» فان أحسن مواقعها ما تدل فيه على المفاجأة. ولقد لحظ الزمخشرى هذا وقال فى قوله تعالى: {«فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمََا تَقُولُونَ»} (154): «هذه المفاجأة بالاحتجاج والالزام حسنة رائعة وخاصة اذا انضم اليها الالتفات وحذف القول، ونحوها قوله تعالى: {«يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ََ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مََا جََاءَنََا مِنْ بَشِيرٍ وَلََا نَذِيرٍ، فَقَدْ جََاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ»} (155)، وقول القائل:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسان (156)
ويكرر هذا الكلام فى هذه «الفاء» ويضيف اليه تحليلا نحويا بين فيه حقيقتها، يقول فى قوله تعالى: {«لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتََابِ اللََّهِ إِلى ََ يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهََذََا يَوْمُ الْبَعْثِ»} (157): «فان قلت: ما هذه «الفاء» وما حقيقتها؟ قلت: هى التى فى قوله: فقد جئنا خراسانا، وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام كأنه قال: ان صح ما قلتم من أن خراسان
__________
(151) الكشاف ج 4ص 88.
(152) الأنعام: 8.
(153) الكشاف ج 2ص 5.
(154) الفرقان: 19.
(155) المائدة: 19.
(156) الكشاف ج 3ص 214.
(157) الروم: 56.(1/292)
أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسانا وآن لنا أن نخلص، وكذلك: ان كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث أى فقد تبين بطلان قولكم» (158)
وقوله: هى التى قوله: «فقد جئنا خراسانا» احالة على ما ذكره فى الآية السابقة الا أنه لما سكت هناك عن بيان حقيقتها النحوية عمد هنا اليه.
وقد أشار عبد القاهر الى هذه «الفاء» وحسن موقعها وذكر هذا البيت، ولكن عبد القاهر كان يبسط فكرة عامة تكون هذه «الفاء» احدى صورها الجزئية. وهذه الفكرة تعنى أن معانى النحو لا تحسن فى كل موضع تقع فيه وانما تحسن حيث تصيب موقعها الأشكل بها، وأن هذه المعانى كالأصباغ يتهدى صانعها الى مقاديرها وكيفية مزجها وتخير مواضعها، لهذا يكون نقش أعجب من نقش وصورة أغرب من صورة، وعلى هذا الأساس تنظر فى الشعر لتعرف مدى اصابة الشاعر فى استخدام معانى النحو، فمن الشعراء من تقع الاصابة فى معانيه كالأصباغ المتفرقة تتلاحق وينضم بعضها الى بعض حتى تكثر فى العين، وللحكم على هذا الشاعر بالاصابة والحذق ينبغى أن تتابع عدة أبيات حتى تجمع هذه المحاسن وتملأ العين منها. ومن الشعراء من تفاجئك قدراته وفحولته فترى الحسن يهجم عليك دفعة ويأتيك منه ما يملأ العين غرابة فتعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل. وكأنه فى هذا يذكر خصائص الشعر الجاهلى وهو نص جيد وقد قرأته على شيخنا الاستاذ محمود شاكر وقلت له: أحسب أن عبد القاهر يشير فيه الى خصائص الشعر الجاهلى، فأجاب: بأن ذلك ليس بعيدا.
ويقول عبد القاهر فى معنى «الفاء»:
«ثم انك تحتاج الى أن تستقرئ عدة قصائد بل أن تفلى ديوانا من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات، وذلك ما كان مثل قول الأول
__________
(158) الكشاف ج 3ص 384.(1/293)
وتمثل به أبو بكر الصديق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح فى هزيمة الأعاجم:
تمنّانا ليلقانا بقوم ... نخال بياض لأمهم السّرابا
فقد لاقيتنا فلقيت حربا ... عوانا تمنع الشيخ الشّرابا
انظر الى موضع «الفاء» فى قوله: «فقد لاقيتنا فلقيت حربا» ومثل قول العباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
انظر الى موضع «الفاء» و «ثم» قبلها (159).
فهذه الأبيات اذن من الأبيات العالية التى اذا أنشدتها وضعت فيها اليد على شىء فقلت هذا، وما كان كذلك فهو شعر الشاعر والكلام الفاخر والنمط الشريف.
ولكن عبد القاهر بعد هذا الكلام العميق فى دراسة الشعر وتمييز منازله لم يزد فى بيان الصفة التى هى سر الجودة على أن قال: انظر الى موضع «الفاء». وقد تكفيه هذه الاشارة لأنه يمثل لما يذكر، ولأنه صاحب حس تكفى معه اللمحة، ولأن المتفهمين للأدب فى زمانه قد تلفتهم هذه اللفتة الى ما فى النص من الحسن.
وقد طال أخذى من عبد القاهر لأننى أردت أن أبين فى وضوح صنيع الزمخشرى فى هذه الجزئيات مقترنا بصنيع الامام عبد القاهر، وقد لاحظنا أنه يبسط فى هذه الجزئيات اشارات عبد القاهر ويفسرها ويقربها من الأذواق، ثم يعمقها ويثبتها فى الحقل البلاغى حينما يثريها بالتطبيق على نصوص مختلفة.
«قد» و «رب»:
و «قد»: دالة على التوقع واذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» فوافقتها فى الخروج الى معنى التكثير. يقول فى قوله تعالى:
__________
(159) دلائل الاعجاز ص 61، 62.(1/294)
{«أَلََا إِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ مََا أَنْتُمْ عَلَيْهِ»} (160):
أدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ومرجع توكيد العلم الى توكيد الوعيد، وذلك أن «قد» اذا دخلت على المضارع كانت بمعنى التكثير فى نحو قوله:
فان تمس مهجور الفناء فربّما ... أقام به بعد الوفود وفود
ونحو قول زهير:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنّه قد يهلك المال نائله
وتتكرر هذه الفكرة فى قوله تعالى: {«قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ»} (161). يقول: «قد فى «قد نعلم» بمعنى «ربما» الذى يجيء لزيادة الفعل وكثرته كقوله:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنّه قد يهلك المال نائله (162)
ويشرح معنى التقليل فى «ربما» اذا كانت مستعملة فى مقام التكثير كما فى قوله تعالى: {«رُبَمََا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كََانُوا مُسْلِمِينَ»} (163).
يقول فى هذه الآية: «فان قلت: فما معنى التقليل؟ قلت: هو وارد على مذهب العرب فى قولهم: لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الانسان على ما فعل ولا يشكون فى تندمه ولا يقصدون تقليله ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك ألا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من المتيقن ومن القليل منه كما من الكثير، وكذلك المعنى فى الآية: لو كانوا يودون الاسلام مرة واحدة فبالحرى أن يسارعوا اليه فكيف وهم يودونه فى كل ساعة» (164).
__________
(160) النور: 64
(161) الأنعام: 33
(162) الكشاف ج 2ص 13.
(163) الحجر: 2
(164) الكشاف ج 2ص 443، 444(1/295)
حروف الجر:
وللزمخشرى نظرات صائبة فى حروف الجر يوضح فيها دلالاتها الأدبية توضيح الناقد المتذوق وقد يمتد بصره فيحيط بالكتاب كله ليستنبط خصوصيات لهذه الحروف، وسوف نعرض صورا من هذه النظرات وهذه الاستنباطات.
فمن نظراته الصائبة فى حروف الجر قوله فى قوله تعالى:
{«وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (165): «فان قلت: كيف خولف بين حرفى الجر الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء والضال كأنه منغمس فى ظلام مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه» (166).
وقد طالت وقفته مع كلمة «على» حين تقع فى موقع يمكن أن يكون غيرها مكانها فيه فمن ذلك قوله فى قوله تعالى: {«لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»} (167): «فان قلت: فهلا قيل:
«لكم شهيدا» وشهادته لهم لا عليهم؟ قلت: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جىء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى: {«وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»} (168)، وقوله: {«كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»} (169).
ويقول فى قوله تعالى: {«فَتَنََادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلى ََ حَرْثِكُمْ»} (170): «فان قيل: «اغدوا الى حرثكم» وما معنى «على»؟ قلت: لما كان الغدو اليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه لا له كما تقول: عدا عليه العدو» (171).
والفعل يعدى مرة ب «اللام» ومرة ب «على» ويقف الزمخشرى ليعلل هذا
__________
(165) سبأ: 24
(166) الكشاف ج 3ص 459.
(167) البقرة: 143
(168) البروج: 9
(169) الكشاف ج 1ص 149والآية من سورة المائدة: 117
(170) القلم: 21، 22
(171) الكشاف ج 4ص 473.(1/296)
وليبين المطابقة، يقول فى قوله تعالى: {«وَأَهْلَكَ إِلََّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ»} (172): «جىء ب «على» مع سبق الضار كما جىء ب «اللام» مع سبق النافع قال الله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ََ»} (173)، وقوله: {«وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنََا لِعِبََادِنَا الْمُرْسَلِينَ»} (174)، ونحو قوله تعالى: {«لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ»}، وقول عمر رضى الله عنه:
ليتها كانت كفافا لا على ولا ليا» (175).
ولام الجر يستشف منها الزمخشرى معنى أدبيا خلابا فى قوله تعالى: {«أَكََانَ لِلنََّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنََا إِلى ََ رَجُلٍ مِنْهُمْ»} (176). يقول:
«فان قلت: فما معنى اللام فى قوله {«أَكََانَ لِلنََّاسِ عَجَباً»} وما هو الفرق بينه وبين قولك: أكان عند الناس عجبا؟ قلت: معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وانكارهم وليس فى «عند الناس» هذا المعنى» (177).
فاذا كان الفعل يتعدى مرة باللام ومرة ب «الى» فان الزمخشرى يبين دلالة كل فى موضعه، يقول فى قوله تعالى: {«وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللََّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ»} (178): «فان قلت: ما له عدى ب «الى» وقد عدى باللام فى قوله تعالى: {«بَلى ََ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلََّهِ»}؟ (179) قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته سالما لله أى خالصا له، ومعناه مع «الى» أنه أسلم اليه نفسه كما يسلم المتاع الى الرجل اذا دفع اليه» (180).
ويمتد نظره كما قلنا فيحيط بالكتاب كله فيدرك أن فعل المغفرة لا يعدى ب «من» الا فى خطاب الكافرين ويعدى بدونها فى خطاب المؤمنين ليشمل كل خطاياهم يقول فى قوله تعالى: {«يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ}
__________
(172) هود: 40
(173) الأنبياء: 101
(174) الصافات: 171
(175) الكشاف ج 3ص 154والآية من سورة البقرة: 286
(176) يونس: 2
(177) الكشاف ج 2ص 257.
(178) لقمان: 22
(179) البقرة: 112
(180) الكشاف ج 2ص 394.(1/297)
{ذُنُوبِكُمْ»} (181): «فان قلت: ما معنى التبعيض فى قوله {«مِنْ ذُنُوبِكُمْ»}؟
قلت: ما علمته جاء هكذا الا فى خطاب الكافرين كقوله: {«وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ»} (182)، وقوله: {«يََا قَوْمَنََا أَجِيبُوا دََاعِيَ اللََّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ»} (183) وقال فى خطاب المؤمنين: {«هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ تِجََارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ»}
الى أن قال: {«يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ»} (184) وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين فى الميعاد» (185).
وهذه لفتة الى النظر فى القرآن كله والإحاطة به وتبين مميزات أساليبه. ومثالها ما يلحظه فى فعل الايمان وأنه يعدى ب «اللام» لغير الله تعالى، يقول فى قوله تعالى: {«يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ»} (186)
«فان قلت: لم عدى فعل الايمان ب «الباء» الى الله تعالى والى المؤمنين ب «اللام»؟ قلت: لأنه قصد التصديق بالله الذى هو نقيض الكفر به فعدى ب «الباء» وقصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده فعدى ب «اللام»، ألا ترى الى قوله: {«وَمََا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنََا وَلَوْ كُنََّا صََادِقِينَ»} (187) ما أنباه عن الباء، ونحوه:
{«فَمََا آمَنَ لِمُوسى ََ إِلََّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ»} (188)، {«أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ»} (189)، {«آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ»} (190).
ثم يقرر هذه القاعدة فى قوله تعالى: {«آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ»} فيقول: «واللام مع الايمان فى كتاب الله لغير الله تعالى، كقوله:
{«يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ»} (الكشاف: ج 3ص 60).
__________
(181) إبراهيم: 10
(182) نوح: 3، 4
(183) الأحقاف: 31
(184) الصف: 1210
(185) الكشاف ج 2ص 423.
(186) التوبة: 61
(187) يوسف: 17
(188) يونس: 83
(189) الشعراء: 111
(190) الكشاف ج 2ص 223والآية من سورة طه: 71(1/298)
«ان» و «اذا»:
وأداتا الشرط «ان» و «اذا» يقرر الزمخشرى فيهما هذا المعنى المشهور وهو أن «ان» للشرط المشكوك فيه و «اذا» للشرط المتيقن، ويجتهد الزمخشرى ليبين هذه الدلالة واصابتها للغرض والمقام ويفسر فى ضوئها خصوصيات الكلمات فى التركيب. يقول فى قوله تعالى: {«فَإِذََا جََاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قََالُوا لَنََا هََذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ََ وَمَنْ مَعَهُ»} (191): «فان قلت: كيف قيل {«فَإِذََا جََاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ»} ب {«فَإِذََا»}
وتعريف الحسنة {«وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ»} ب «ان» وتنكير السيئة؟ قلت:
لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه أما السيئة فلا تقع الا فى الندرة ولا يقع الا شىء منها، ومنه قول بعضهم: قد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء» (192).
وقد يرمز الذكر الحكيم باستعمال «ان» الى شىء مما كانت تحتويه الحياة العربية من أخلاق وعادات فى شىء من اللوم والتعنيف ثم تجد الزمخشرى يتنبه الى هذا وينبهنا اليه وهو لم يتجاوز شرح المعنى الأصلى للأداة، يقول فى قوله تعالى: {«وَلََا تُكْرِهُوا فَتَيََاتِكُمْ عَلَى الْبِغََاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً»} (193): «فان قلت: لم أقحم قوله {«إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً»}؟ قلت: لأن الاكراه لا يتأتى الا مع إرادة التحصن وأمر الطيعة المواتية للبغاء لا يسمى مكرها ولا آمره اكراها، وكلمة «ان» وايثارها على كلمة «اذا» ايذان بأن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن» (194).
وفى ضوء هذه الدلالة ل «ان» و «اذا» يرفض أقوال بعض المفسرين للآية كما فى قوله تعالى: {«وَإِذََا شِئْنََا بَدَّلْنََا أَمْثََالَهُمْ تَبْدِيلًا»} (195) قال: «بدلنا أمثالهم فى شدة الأسر يعنى النشأة الأخرى وقيل: معناه بدلنا غيرهم ممن يطيع، وحقه أن يجيء ب «ان»
__________
(191) الأعراف: 131
(192) الكشاف ج 2ص 114113.
(193) النور: 33
(194) الكشاف ج 3ص 189.
(195) الانسان: 28(1/299)
لا ب «اذا» كقوله: {«وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ»} (196)، {«إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ»} (197).
وفى ضوء هذه الدلالة يعيب الشعر وينقد الشعراء يقول: «وللجهل بموقع {«إِنْ»} و {«إِذََا»} يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون، ألا ترى الى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطأ بهما الموقع فى قوله يخاطب بعض الولاة، وقد سأله حاجة فلم يقضها ثم شفع له فيها فقضاها:
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتى ... تولّى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأى مقصّر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هى حثّته على الخير مرّة ... عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها
فلو عكس لأصاب» (198).
وقد تستعمل «ان» فى الشرط المقطوع به وحينئذ تخرج عن دلالتها الأصلية، والزمخشرى يكشف سر هذا الخروج ومغزاه، يقول فى قوله تعالى: {«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا»} (199): «فان قلت: انتفاء اتيانهم بالسورة واجب فهلا جىء ب «اذا» الذى للوجوب دون «ان» الذى للشك؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم والثانى أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه: ان غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه» (200).
وظاهر أن الوجه الأول فيه بيان أن الأداة لم تخرج عن استعمالها الأصلى لأنها جاءت على وفق ما يعتقدون. أما الوجه الثانى فانه بيان لسر استعمالها فى غير موضعها لمعنى بلاغى هو التهكم بهم وبقدراتهم.
وقد يكون فى هذه الطريقة معنى تأكيد الشرط وتقريره فضلا عن
__________
(196) محمد: 38
(197) الكشاف ج 4ص 540الآية من سورة النساء: 133
(198) بغية الايضاح ج 1ص 189178
(199) البقرة: 24
(200) الكشاف ج 1ص 76.(1/300)
أنه مقطوع به، يقول فى قوله تعالى: {«أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ»} (201): «فان قلت: كيف استقام معنى «ان» الشرطية وقد كانوا مسرفين على البت؟ قلت: هو من الشرط الذى ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما يقول الأجير: ان كنت عملت لك فوفنى حقى، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل فى كلامه أن تفريطك فى الخروج عن الحق فعل من له شك فى الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له» (202)
وقد كرر هذا المعنى فى قوله تعالى: {«إِنََّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنََا رَبُّنََا خَطََايََانََا أَنْ كُنََّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ»} (203)، حيث يقول: «وقرئ {«إِنْ كُنََّا»}
بالكسر وهو من الشرط الذى يجيء به المدل بأمره المتحقق لصحته وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين، ونظيره قول العامل لمن يؤخر جعله:
ان كنت عملت لك فوفنى حقى، ومنه قوله تعالى: {«إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهََاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغََاءَ مَرْضََاتِي»} (204) مع علمه أنهم له يخرجوا الا لذلك» (205)
وقد تستعمل «ان» فى الشرط المقطوع بعدمه ويبين الزمخشرى أيضا سر استعمالها وتفسيره لموقعها له أصل واحد كما فى بيان استعمالها فى الشرط المقطوع به، يقول فى قوله تعالى: {«فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مََا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا»} (206): «فقيل: فان آمنوا بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير أى فان حصلوا دينا آخر مثل دينكم مساويا له فى الصحة والسداد فقد اهتدوا، وفيه أن دينهم الذى هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل لأنه حق وهدى وما سواه باطل وضلال، ونحوه قولك للرجل الذى تشير عليه: هذا هو الرأى الصواب فان كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به، وقد علمت ألا أصوب من رأيك ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأى وراءه» (207)
__________
(201) الزخرف: 5
(202) الكشاف ج 4ص 186.
(203) الشعراء: 51
(204) الممتحنة: 1
(205) الكشاف ج 2ص 247
(206) البقرة: 137
(207) الكشاف ج 1ص 146.(1/301)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَلََا يَزََالُونَ يُقََاتِلُونَكُمْ حَتََّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطََاعُوا»} (208): «ان استطاعوا: استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوه: ان ظفرت بى فلا تبق على، وهو واثق بأنه لا يظفر به» (209)
وواضح أن هذا البحث فى هاتين الأداتين قد انتقل الى كتب المتأخرين ولم يزيدوا شيئا ذا غناء.
التعريف:
التعريف باللام:
وله فى التعريف ب «ال» واسم الموصول واسم الاشارة والاضافة ملاحظات بلاغية يلمحها من دلالة هذه الطرق، وهذه الملاحظات البلاغية وأمثالها جزء مهم فى الدراسة البلاغية، نعم قد يشوب هذا الدرس شىء من البحث النحوى، ولكنا لا نرى ضيرا فى هذا لأننا اذا أردنا أن نستشف ما وراء هذه الأدوات من المعانى فانه من الضرورى أن نطرق هذه الأصول النحوية ولكن لنتجاوزها لا لنقف عندها.
واللام كما يلاحظ الزمخشرى تدل على العهد أو الجنس وتتكرر هذه الدلالة فى مواطن كثيرة، يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ»} (210): «واللام فى «الناس» للعهد أى كما آمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن معه، أو هم ناس معهودون كعبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم ومن أبناء جنسهم، أى كما آمن أصحابكم واخوانكم أو للجنس، أى كما آمن الكاملون فى الانسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم فى فقد التمييز بين الحق والباطل» (211)
__________
(208) البقرة: 217
(209) الكشاف ج 1ص 19.
(210) البقرة: 13
(211) الكشاف ج 3ص 49وينظر ج 1ص 153، 42(1/302)
ثم ان «لام الجنس» لها مدلولات ولها أحكام وقد أغرق المتأخرون هذا البحث فى الدراسات الكلامية وهو جزء من مباحث أصول الفقه، وحينما ننعم النظر فى هذه الدراسة تتبين لنا أهميتها العلمية الدالة على عبقرية هؤلاء العلماء وموهبتهم فى التحليل والمناقشة والاستنتاج ولكننا واثقون من عدم جدوى هذه الدراسة فى تربية الذوق وتحليل النص. وكان الزمخشرى رحمه الله يلمح الناحية البلاغية ولا يتغلغل فيما وراءها من أحكام.
فهذه اللام الداخلة على المفرد والداخلة على الجمع قد استغرقت جهدا كبيرا من الدارسين وهم يحاولون تحديد استغراق المفرد واستغراق الجمع. والزمخشرى يمس هذا مسا أدبيا خفيفا حينما يقول فى قوله تعالى: {«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ»} (212):
«والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقاب والكتاب والسنة واللام للجنس فان قلت: أى فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد وبينها داخلة على الجمع؟
قلت: اذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس الى أن يحاط به وأن يراد به بعضه الى الواحد منه. واذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا الى الواحد منه «لأن وزانه فى تناول الجمعية فى الجنس وزان المفرد فى تناول الجنسية، والجمعية فى جمل الجنس لا فى وحدانه» (213)
ويناقش هذا الموضوع فى موطن آخر فى قوله تعالى: {«كُلٌّ آمَنَ بِاللََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ»} (214) قال: «وقرأ ابن عباس «وكتابه» يريد القرآن أو الجنس وعنه الكتاب أكثر من الكتب فان قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه اذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة فى وحدان
__________
(212) البقرة: 25
(213) الكشاف ج 1ص 79.
(214) البقرة: 285(1/303)
الجنس كلها لم يخرج منه شىء فأما الجمع فلا يدخل تحته الا ما فيه الجنسية من المجموع» (215)
ولست أرى فرقا بين هذين النصين فكلاهما يقرر أن الواحد اذا أريد به الجنس صح أن يراد به آحاده أى الأفراد، وأن الجمع اذا أريد به الجنس صح أن يراد به آحاده أى المجموع، لأن الجمعية فى جمل الجنس لا فى وحدانه. ولهذا لا نوافق العلامة سعد الدين حينما يقرر أن الزمخشرى أورد هذا توجيها لكلام ابن عباس رضى الله عنه ولم يقصد أنه مذهبه (216)
وذلك لأننا رأينا الزمخشرى يذكر نفس الفكرة فى موطن آخر ليس فيه كلام ابن عباس وقد تردد بهاء الدين السبكى فى نسبة هذا الكلام لابن عباس وقال: ولو ثبت أمكن تأويله على المعنى الثالث ويكون معنى كونه أكثر أن دلالته على الاستغراق أقوى كما سبق ولا يمتنع أن يقال: مال زيد أكثر من مال عمرو، اذا كان مال زيد أجل وأبرك، وان استويا فى الكلمة (217) «ويقصد بالمعنى الثالث وبما سبق قوله «لا شك أن قولنا استغراق المفرد أشمل، تارة يعنى به أن المفرد دل على فرد زائد لم يدل عليه الجمع، وتارة يعنى به أن مجموع جزئيات المفرد أكثر عددا من مجموع جزئيات الجمع، وتارة يعنى به أن دلالة المفرد على الشمول أقوى من دلالة الجمع عليه» (218)
وحمل كلام ابن عباس على هذا المعنى الثالث بعيد لأن كلمة «أكثر» تدل بمادتها على الكثرة ولأنها فى الكتاب والكتب غيرها فى مال زيد وعمرو كما ذكر اذ يتأتى هناك معنى أجل وأبرك ولا يتأتى هنا.
وتفسير كلام ابن عباس أحسن تفسير هو ما ذكره الزمخشرى وهو مذهبه بدليل ذكره كما قلنا فى آية أخرى. وقد اعتمد على هذا فى تفسيره
__________
(215) الكشاف ج 1ص 254253
(216) المرجع السابق
(217) المطول ينظر ص 86
(218) شروح التلخيص ج 1ص 340(1/304)
لقوله تعالى: {«وَالْمَلَكُ عَلى ََ أَرْجََائِهََا»} (219) حيث يقول: «فان قلت:
ما الفرق بين قوله «والملك» وبين أن يقال والملائكة؟ قلت: الملك أعم من الملائكة، ألا ترى أن قولك: ما من ملك الا وهو شاهد، أعم من قولك: من الملائكة» (220)، ولا فرق بين قوله: والملك أعم من الملائكة وقول ابن عباس: والكتاب أكثر من الكتب.
نعم قد ذكر الزمخشرى دلالة الجمع المعرف على كل واحد من الأفراد لا من الجموع كما فى قوله تعالى: {«وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»} قال الزمخشرى: «يجوز أن تكون للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورين» (221) وقال: «يقال: فلان يركب الخيل ويلبس البرود وما له الا فرس واحد وبرد فرد» (222)
وقال سعد الدين: «افادة الجمع المحلى ب «اللام» تعلق الحكم بكل فرد مما هو مقرر فى علم الأصول والنحو، وكلامه فى الكشاف أيضا مشحون به حيث قال فى قوله تعالى {«وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»} (223): أنه جمع ليتناول كل محسن، وفى قوله تعالى: {«وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعََالَمِينَ»} (224): أنه نكر «ظلما» وجمع «العالمين» على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، وفى قوله تعالى: {«وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً»} (225): أى ولا تخاصم على خائن قط، وفى قوله تعالى: {«رَبِّ الْعََالَمِينَ»} (226): أنه جمع ليشمل كل جنس مما سمى بالعالم يعنى لو أفرد لتوهم أنه إشارة الى هذا العالم المحسوس المشاهد فجمع ليفيد الشمول والاحاطة» (227)
وقال ابن يعقوب: «قد نص الأئمة على أن الجمع المحلى يعم
__________
(219) الحاقة: 17
(220) المرجع السابق.
(221) الكشاف ج 4ص 480
(222) الكشاف ج 1ص 320
(223) آل عمران: 134
(224) آل عمران: 108
(225) النساء: 105
(226) الفاتحة: 2
(227) الكشاف ج 1ص 340(1/305)
الحكم فيه كل فرد وهو فى ذلك أقوى من المفرد، فاذا قيل: انى أحب المسلمين الا زيدا، فالمراد كل فرد لا كل جمع والا قيل فى الاستثناء:
الا الجمع الفلانى، وليست دلالته فى ذلك أضعف من قولنا: انى أحب المسلم، وقد صرح بذلك النحويون وأهل اللغة وصرح به أئمة التفسير فى كل ما وقع فى القرآن العزيز من هذا القبيل نحو: {«أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ»} (228)، {«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا»} (229)، {«وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ»} (230)، {«وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»} وغير ذلك مما لا ينحصر» (231)
وابن يعقوب وان لم يصرح بأن دلالة الجمع المحلى ب «ال» على مفرداته مذهب الزمخشرى وغيره فان ذكر أئمة اللغة والنحو والتفسير وذكر الآيات التى ذكرها يدلنا على أنه فهم هذا من كلام الزمخشرى كما فهمه من كلام غيره. والعلامة سعد الدين يكرر هذه الفكرة ويشير الى أنها مذهب الزمخشرى وغيره فيقول: «فالقول بأن الجمع يفيد تعلق الحكم بكل واحد من الأفراد مثبتا كان أو منفيا مما قرره الأئمة وشهد به الاستعمال وصرح به صاحب الكشاف فى غير موضع فلا وجه لرفض جميع ذلك بكلام صدر عن صاحب المفتاح» (232)
فقد ثبت من كل ما ذكرنا أن الزمخشرى يقرر دلالة الجمع المحلى ب «اللام» على كل فرد من أفراده بل وقد يطلق ويراد به فرد واحد كما ذكر فى البرود والخيل، وثبت أن الأئمة فهموا هذا من كلامه وقرروه وثبت أيضا أن الزمخشرى ذكر فى آية «الصالحات» وفى رواية ابن عباس وفى آية «الملك» أن الجمع المحلى ب «اللام» صالح لأن يتناول جميع الجنس وأن يتناول بعضه لا الى الواحد منه وقد صرح بهذا فى غير لبس وفى غير غموض، وبهذا نرى للزمخشرى رأيين مختلفين فى مسألة واحدة
__________
(228) البقرة: 33
(229) البقرة: 31
(230) البقرة: 34
(231) المطول ص 86
(232) شروح التلخيص ج 1ص 340(1/306)
اللهم الا اذا لجأنا الى التأويل وحمل كلامه على خلاف ظاهره، ومما نرجح به ما ذهبنا اليه أن سعد الدين لما لحظ اختلافا بين كلام الزمخشرى فى أكثر الآيات وكلامه فى توجيه ما روى عن ابن عباس قال: «هذا الكلام مبنى على ما هو المعتبر عند البعض من أن الجمع المعرف ب «اللام» بمعنى كل جماعة أورده توجيها لكلام ابن عباس ولم يقصد أنه مذهبه بدليل أنه صرح بخلافه» (233)
فالزمخشرى صرح بخلاف ما ذكره توجيها لكلام ابن عباس وهذا صحيح أما أنه ليس مذهبه فهذا ما لا نوافق عليه كما قلنا، وقد لاحظنا أن الزمخشرى ذكر هذه الفكرة قبل تعرضه لحديث ابن عباس اذا صح ما نتوهمه من أن الزمخشرى بدأ فى تفسير الفاتحة ثم ما يليها من السور فقد ذكر الفكرة أولا ووضحها فى سورة البقرة (فى آية 25) وذكر كلام ابن عباس فى السورة نفسها (فى آية 285) هذا وقد كثرت اشارات الزمخشرى الى أن «لام الجنس» تفيد معنى الكمال فى الصفة، يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ»} (234): «أى كما آمن الكاملون فى الانسانية، أو جعل المؤمنين كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم فى فقد التمييز بين الحق والباطل» (235)
وقال فى: {«أُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ»} (236): «أى الكاملون فى الكفر» (237)، وفى قوله تعالى: {«وَمََا أُولََئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ»} (238):
«أى بالكاملين فى الايمان» (239)
ويشير الى معنيين للتعريف ب «اللام» لا نجد صعوبة فى أن نرجع بكلامه فيهما الى كلام عبد القاهر الجرجانى وقد نبه بعضهم الى ذلك،
__________
(233) المطول ص 86
(234) البقرة: 13
(235) الكشاف ج 1ص 49
(236) النساء: 151
(237) الكشاف ج 1ص 454
(238) المائدة: 43
(239) الكشاف ج 1ص 494(1/307)
يقول فى قوله تعالى: {«وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (240): «والتعريف فى «المفلحون» للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون فى الآخرة، كما اذا بلغك أن انسانا قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل: زيد التائب، أى هو الذى أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين ان حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة، كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الاقدام؟ ان زيدا هو هو» والوجه الأول مأخوذ من كلام الامام عبد القاهر فى حديثه عن الفرق بين: زيد منطلق، وزيد المنطلق. حيث يقول: «اذا قلت: زيد المنطلق فأنت فى حديث انطلاق قد كان وعرف السامع كونه الا أنه لم يعلم أمن زيد كان أم من عمرو، فاذا قلت: المنطلق، أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد بعد أن كان يرى ذلك على سبيل الجواز» (241)
فالتعريف يشير الى أن السامع قد عرف الحدث وبلغه أمره الا أنه شاك فى الفاعل من هو؟ فقيل له: زيد المنطلق، بتقديم الفاعل الذى يشك فيه والحكم عليه بالحدث المعرف، وكلام الزمخشرى لا يخرج عن هذا، لأن المخاطب قد بلغه أمر الحدث أى فلاح قوم ولكنه لا يعرف صاحب هذا الوصف فقيل له: ان المتقين هم المفلحون، أى الذين بلغك أنهم يفلحون. والمعنى الثانى أشار اليه الزمخشرى فى تعريف «المفلحون» مأخوذ من قول عبد القاهر: «واعلم أن للخبر المعرف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت لك وله مسلك ثم دقيق ولمحة كالخلس يكون المتأمل عنده كما يقال يعرف وينكر وذلك قولك: هو البطل المحامى، وهو المتقى المرتجى، وأنت لا تقصد شيئا مما تقدم ولكنك تريد أن تقول لصحبك:
هل سمعت بالبطل المحامى؟ وهل حصلت معنى هذه الصفة وكيف ينبغى أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فان كنت قبلته عاما وتصورته حق تصوره فعليك صاحبك واشدد به يدك فهو ضالتك
__________
(240) البقرة: 5
(241) دلائل الاعجاز ص 123(1/308)
وعنده بغيتك، وطريقه كطريق قولك: هل سمعت بالأسد وهل تعرف ما هو؟ فان كنت تعرفه فزيد هو بعينه» (242)
ولست فى حاجة الى توضيح ما بين الكلامين من صلة فان كلام الزمخشرى لا يزيد عن أن يكون تلخيصا لهذا الكلام وقد تنبه الى هذا السيد الشريف فى حاشيته (243)
على أن من المتأخرين من ذهب الى أن كلام الزمخشرى يفيد دلالة ضمير الفصل على قصر المسند اليه واحتجوا لذلك بقوله: «فهم لا يعدون تلك الحقيقة» وقد نقض سعد الدين هذا الفهم وبين صلة هذا الكلام بكلام عبد القاهر على ما ذكرنا (244)
التعريف باسم الموصول:
وصلة الموصول يجب أن تكون معلومة عند المخاطب لأنها معرّفة ولا يعرف بالمجهول، يقول فى قوله تعالى: {«فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ»} (245): «فان قلت: صلة «الذى» و «التى» يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت: لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب أو سمعوه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى فى سورة التحريم: {«نََاراً وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ»} (246)
ويناقش الزمخشرى أسرار التعبير باسم الموصول مناقشة يتصل بعضها بهذه القاعدة أى ضرورة سبق العلم بالصلة وله فى هذه المناقشات لمحات أدبية صافية، يقول فى قوله تعالى: {«قُلْ هَلُمَّ شُهَدََاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللََّهَ حَرَّمَ هََذََا، فَإِنْ شَهِدُوا فَلََا تَشْهَدْ مَعَهُمْ»} (247): «فان
__________
(242) دلائل الاعجاز ص 120
(243) حاشية السيد الشريف على هامش الكشاف ج 1ص 113، وحاشيته على المطول ص 140.
(244) المطول ص 140وينظر حاشية السيد أيضا هامش المطول.
(245) البقرة: 24
(246) الكشاف ج 1ص 77والآية من سورة التحريم: 6
(247) الأنعام: 150(1/309)
قلت: هلا قيل: قل هلم شهداء يشهدون أن الله حرم هذا؟، قلت:
المراد أنهم يحضرون شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم وجىء ب «الذين» للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم والدليل عليه قوله تعالى: {«فَإِنْ شَهِدُوا فَلََا تَشْهَدْ مَعَهُمْ»}. ولو قيل: هلم شهداء يشهدون لكان معناها هاتوا أناسا يشهدون بتحريم ذلك، فكان الظاهر طلب شهداء بالحق وذلك ليس بالغرض ويناقضه قوله تعالى: {«فَإِنْ شَهِدُوا فَلََا تَشْهَدْ مَعَهُمْ»} (248)
وقد تكون فى جملة الصلة من المعانى ما يحرص المتكلم على ابرازها وتوضيحها فيعدل الى التعريف بالصلة دون غيرها. والزمخشرى ينبه الى هذا فى قوله تعالى: {«وَمِنَ الَّذِينَ قََالُوا إِنََّا نَصََارى ََ»} (249)
يقول: «فان قلت: فهلا قيل من النصارى؟ قلت: لأنهم سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله، ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصارا للشيطان» (250)
فالصلة هنا تشير الى ذم هؤلاء القوم بنقضهم ما ألزموا به أنفسهم من نصرة دين الله لأنهم هم الذين قالوا انا نصارى.
ومن العناية بابراز ما فى الصلة من المعانى لأنها ذات قيمة فى سياق الكلام والمراد منه ما ذكره فى قوله تعالى: {«وَلََكِنْ أَعْبُدُ اللََّهَ الَّذِي يَتَوَفََّاكُمْ»} (251) يقول الزمخشرى: «وانما وصفه بالتوفى ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى فيعبد دون ما لا يقدر على شىء» (252)
ومن الموصولات ما ترجع روعته فى التعبير الى ما يكتنف دلالته من الغموض، والزمخشرى يقف عند هذه الأسماء ويسجل ما وجده فى نفسه من آثارها، يقول فى قوله تعالى: {«إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مََا يَغْشى ََ»} (253): «ما يغشى: تعظيم وتكثير لما يغشاها فقد علم
__________
(248) الكشاف ج 2ص 61.
(249) المائدة: 14
(250) الكشاف ج 1ص 479.
(251) يونس: 104
(252) الكشاف ج 2ص 293.
(253) النجم: 16(1/310)
بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف» (254)
وهذا الغموض قد يلمح فيه الزمخشرى معنيين متناقضين، يقول فى قوله تعالى: {«وَأَلْقِ مََا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مََا صَنَعُوا»} (255): «وقوله {«وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ»} ولم يقل «عصاك» جائز أن يكون تصغيرا لها أى لا تبالى بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذى فى يمينك فانه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها.
وجائزا أن يكون تعظيما لها أى لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فان فى يمينك شيئا أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شىء وأنزره عنده فالقه يتلقفها باذن الله ويمحقها» (256)
والعلامة ابن المنير يصيب حينما يربط بين ما ذكره الزمخشرى من معنى التصغير للعصا وبين مذهب العرب فى سوق المعانى وتأكيدها وطريقهم فى تحليلها وتفصيلها يقول: «ولأصحاب البلاغة طريق فى غلو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه فصغر الله أمر العصا ليلزم منه تصغير كيد السحرة الداحض بها فى طرفة عين» (257)
وقد يعدل القرآن الكريم الى كلمة «ما» دون «من» حين يتحدث عن العقلاء. والزمخشرى يحاول كشف ما وراء هذا العدول مبينا الدلالة الأدبية التى توحى بها معنى الوصفية فى «ما» يقول فى قوله تعالى: {«وَوََالِدٍ وَمََا وَلَدَ»} (258): «فان قلت: هلا قيل: ومن ولد؟
قلت: فيه ما فى قوله: {«وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا وَضَعَتْ»} (259) أى بأى شىء وضعت يعنى موضوعا عجيب الشأن» (260)
__________
(254) الكشاف ج 4ص 335.
(255) طه: 69
(256) الكشاف ج 3ص 58.
(257) حاشية ابن المنير على هامش الكشاف ج 3ص 58.
(258) البلد: 3
(259) آل عمران: 36
(260) الكشاف ج 2ص 602.(1/311)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَالسَّمََاءِ وَمََا بَنََاهََا. وَالْأَرْضِ وَمََا طَحََاهََا. وَنَفْسٍ وَمََا سَوََّاهََا»} (261): «والوجه أن تكون موصولة وانما أوثرت على «من» لارادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذى بناها، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذى سواها، وفى كلامهم «سبحان ما سخركن لنا» (262)
التعريف باسم الاشارة:
واسم الاشارة قد يفيد توكيد استحقاق المبتدأ للخبر وذلك اذا تقدمه تعديد صفات للمبتدإ كل صفة منها ترشحه لاستحقاق هذا الخبر.
وهذا المعنى واضح فى كتب المتأخرين بل قد أخذ بلفظه ومعناه من كتاب الكشاف.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (263): «وفى اسم الاشارة الذى هو «أولئك» ايذان بأن ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التى عددت لهم كما قال حاتم: «ولله صعلوك» ثم عدد خصالا فاضلة ثم عقب تعديدها بقوله:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمّما (264)
وقد يرمز اسم الاشارة الى تصوير المعانى حتى تكون كأنها مرئية فيشير اليها وذلك فى مواقف التأكيد والتقرير. يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«هََذََا فِرََاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ»} (265): «فان قلت: «هذا» إشارة الى ماذا؟ قلت: قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام: {«إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهََا فَلََا تُصََاحِبْنِي»} (266)، فأشار اليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون «هذا» إشارة الى غير الأخ» (267)
__________
(261) الشمس: 75
(262) الكشاف ج 4ص 605.
(263) البقرة: 5
(264) الكشاف ج 1ص 34.
(265) الكهف: 78
(266) الكهف: 76
(267) الكشاف ج 2ص 578.(1/312)
وقد يشير اسم الاشارة الى معنى التعظيم والتنويه سواء أكان للقريب أم للبعيد كما أنه قد يشير الى معنى التحقير والتصغير. والسياق هو الذى يكشف عن هذه الاشارات ويبرزها وله فى هذا كلام جيد.
فمن دلالة اسم الاشارة على التعظيم قوله تعالى: {«إِنَّمََا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هََذِهِ الْبَلْدَةِ»} (268) يقول الزمخشرى: «وأشار اليها إشارة تعظيم وتقريب دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه» (269)
ومنه ما ذكر فى قوله تعالى: {«فَذََلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ»} (270):
«ولم تقل «فهذا» وهو حاضر رفعا لمنزلته فى الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئا بحاله واستبعادا لمحله» (271)
ومن دلالة اسم الاشارة على التحقير والاهانة ما ذكره فى قوله تعالى: {«مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا»} (272) يقول: «استرذال واستحقار كما قالت عائشة رضى الله عنها فى عبد الله بن عمرو بن العاص: يا عجبا لابن عمرو هذا» (273)
التعريف بالاضافة:
والاضافة قد تفيد تعظيم المضاف وتفخيمه كما فى قوله تعالى:
{«تِلْكَ آيََاتُ الْقُرْآنِ وَكِتََابٍ مُبِينٍ»} (274) يقول الزمخشرى: «واضافة الآيات الى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأن المضاف الى العظيم يعظم بالاضافة اليه» (275)
وكما فى قوله تعالى: {«نََاقَةُ اللََّهِ»} (276): «فانها انما أضيفت الى اسم الله تعظيما وتفخيما لشأنها وأنها جاءت من عنده لكونه من غير فحل وطروقة آية من آياته» (277)
وقد تفيد توبيخ المخاطب والاستهزاء به كما فى قوله تعالى: {«ثُمَّ}
__________
(268) النمل: 91
(269) الكشاف ج 3ص 306
(270) يوسف: 32
(271) الكشاف ج 2ص 364
(272) المدثر: 31
(273) الكشاف ج 1ص 88
(274) النمل: 1
(275) الكشاف ج 3ص 373
(276) الأعراف: 73
(277) الكشاف ج 2ص 59(1/313)
{يَوْمَ الْقِيََامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكََائِيَ»} (278) يقول: «شركائى: على الاضافة الى نفسه حكاية لاضافتهم ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم» (279)، ومثله قوله تعالى: {«وَيَوْمَ يَقُولُ نََادُوا شُرَكََائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ»} (280) يقول: «واضافة الشركاء اليه على زعمهم توبيخا لهم» (281)
وقد توحى الكلمة المضافة بما يوقظ النفس والوجدان، وينبه الفطرة ويستثيرها، ويلفتها الى نفسها فتأتى لأمر الله طوعا، والزمخشرى يتنبه الى هذا، يقول فى قوله تعالى: {«لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ بِوَلَدِهََا»} (282):
«فان قلت: كيف قيل «بولدها»؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف اليها الولد استعطافا لها عليه، وأنه ليس بأجنبى منها، فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد» (283)
ويقول فى قوله تعالى: {«قََالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي»} (284): «وقيل: كان أخاه لأبيه وأمه، فان صح فانما أضافه الى الأم إشارة الى أنهما من بطن واحدة، وذلك أدعى الى العطف والرحمة، وأعظم للحق الواجب، ولأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها، ولأنها هى التى قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها» (285)
وقد تفيد الاضافة معنى الاستحقاق أى ما يستحقه المضاف اليه من معنى المضاف، وما يستوجبه، وهذا المعنى فى الاضافة له قيمته البلاغية. والزمخشرى ينبه الى هذا فى قوله تعالى: {«إِذََا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزََالَهََا»} (286) يقول: «فان قلت: ما معنى زلزالها بالاضافة؟
__________
(278) النحل: 27
(279) الكشاف ج 2ص 469
(280) الكهف: 52
(281) الكشاف ج 2ص 568
(282) البقرة: 233
(283) الكشاف ج 1ص 213
(284) الأعراف: 150
(285) الكشاف ج 2ص 127
(286) الزلزلة: 1(1/314)
قلت: معناه زلزالها الذى تستوجبه فى الحكمة ومشيئة الله، وهو الزلزال الشديد الذى ليس بعده، ونحوه قولك: أكرم التقى اكرامه، وأهن الفاسق اهانته، تريد ما يستوجبانه من الاكرام والاهانة، أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن» (287)
التنكير:
وفى بحثه لمفردات القرآن يقف عند كثير من النكرات لبحث سر تنكيرها وما أفاده من معنى، وباستقصائنا لتفسيره، وتتبعنا لكلماته، لنستطيع أن نثبت هنا المعانى الأساسية التى يدور حولها معانى التنكير كما يتصورها الزمخشرى أو كما يصورها تفسيره، وسوف يتضح لنا أن هذه المعانى وأمثلتها كانت مادة أساسية فى بلاغة المتأخرين، وأنهم اعتمدوا عليه فى هذا الأمر اعتمادا كبيرا.
فالتنكير قد يفيد معنى الابهام، والابهام من عناصر الاثارة فى الكلام. وقد كثر حديث الزمخشرى عن الابهام وأثره فى النفس. وقد أشار الى هذا فى تأملاته لمعانى الموصولات كما أشرنا. يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ»} (288): «ونكر «هدى» ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره كأنه قيل: على أى هدى، كما تقول: لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. وقول الهذلى:
فلا وأبى الطّير المربّة بالضّحى ... على خالد لقد وقعت على لحم (289)
ويلمح هذا المعنى ويصيب غاية الاصابة فى قوله تعالى: {«اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً»} (290) يقول: «أرضا منكورة مجهولة بعيدة عن العمران وهو معنى تنكيرها واخلائها من الوصف. ولابهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة» (291)
__________
(287) الكشاف ج 3ص 624وما بعدها
(288) البقرة: 5
(289) الكشاف ج 1ص 35
(290) يوسف: 9
(291) الكشاف ج 2ص 348(1/315)
وعبارة الزمخشرى هنا مصورة لنفوس الاخوة وهم يتآمرون وذلك بلمحه معنى التنكير.
وكلمة «بعض» كلمة مبهمة فى مدلولها ولهذا نجد لها وقعا فى استعمالات القرآن وفى كلام الفحول، والزمخشرى ينبه الى هذا فى قوله تعالى: {«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ»} (292)
«يعنى بذنب التولى عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع «ببعض ذنوبهم» موضع ذلك وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد وأن هذا الذنب مع عظمه بعضها. وواحد منها، أو هذا الابهام لتعظيم التولى واستسرافهم فى ارتكابه، ونحو البعض فى هذا الكلام ما فى قول لبيد: «أو يرتبط بعض النفوس حمامها» أراد نفسه وانما قصد تفخيم شأنها بهذا الابهام كأنه قال: نفسا كبيرة، ونفسا أى نفس، فكما أن التنكير يعطى تعالى: {«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ»} (293):
ويتكرر هذا فى قوله تعالى: {«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنََا بَعْضَهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللََّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجََاتٍ»} (294)، يقول: «والظاهر أنه أراد محمدا صلّى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم».
«وفى هذا الابهام من تفخيم فضله واعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذى لا يشتبه والمتميز الذى لا يلتبس ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، يريد الذى تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال فيكون أفخم من التصريح وأنوه بصاحبه، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرا والنابغة ثم قال:
ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسى، لم يفخم أمره» (295)
وقد يشير التنكير الى النوعية اى الى نوع من أنواع الاسم النكرة.
__________
(292) المائدة: 49
(293) الكشاف ج 1ص 498
(294) البقرة: 253
(295) الكشاف ج 1ص 226(1/316)
يقول فى قوله تعالى: {«وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ»} (296): «ومعنى التنكير أن على أبصرهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامى عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه الا الله» (297) ويتكرر ذكره لافادة التنكير هذا المعنى فى آيات كثيرة (298)
وقد يفيد التنكير معنى التعظيم أى وصف المعنى بأنه عظيم، يقول فى قوله تعالى: {«قََالُوا إِنَّ لَنََا لَأَجْراً»} (299): «والتنكير للتعظيم كقول العرب: ان له لإبلا وان له لغنما، يقصدون الكثرة» (300)، ويتكرر هذا فى مواطن كثيرة (301)
وقد يفيد معنى التقليل كما فى قوله تعالى: {«وَتَعِيَهََا أُذُنٌ وََاعِيَةٌ»} (302) يقول الزمخشرى: «فان قلت: لم قيل «أذن واعية» على التوحيد والتنكير؟ قلت: للايذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعى منهم. وللدلالة على أن الأذن الواحدة اذا وعت وعقلت عن الله فهى السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة، وان ملئوا ما بين الخافقين» (303)
ويذكر هذا فى قوله تعالى: {«وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسََانِي»} (304)، وفى قوله تعالى: {«وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ لِغَدٍ»} (305) ويبين أن تنكير العقدة وتنكير النفس لغرض التقليل (306)
__________
(296) البقرة: 7
(297) الكشاف ج 1ص 41
(298) ينظر الكشاف ج 1ص 62، 63، 64، 24، ج 2 ص 200195
(299) الأعراف: 113
(300) الكشاف ج 3ص 110
(301) ينظر الكشاف ج 1ص 241، 457
(302) الحاقة: 12
(303) الكشاف ج 4ص 481.
(304) طه: 27
(305) الحشر: 18
(306) ينظر الكشاف ج 3ص 48، ج 4ص 406.(1/317)
وقد يفيد التنكير معنى التكثير، والزمخشرى يبين وجه هذه الدلالة وكيف يكون التنكير وهو فى الأصل دال على الوحدة مفيدا لمعنى التكثير. يقول فى قوله تعالى: {«عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا أَحْضَرَتْ»} (307):
«فان قلت: كل نفس تعلم ما أحضرت كقوله تعالى: {«يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مََا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً»} (308)، لا نفس واحدة، فما معنى قوله {«عَلِمَتْ نَفْسٌ»}؟ قلت: هو من عكس كلامهم الذى يقصدون به الافراط فيما يعكس عنه، ومنه قوله عز وجل: {«رُبَمََا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كََانُوا مُسْلِمِينَ»} (309) ومعناه «كم»، وأبلغ منه قول القائل: «قد أترك القرن مصفرّا أنامله «وتقول لبعض قواد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارس عندى، أو: لا تعدم عندى فارسا، وعنده المقانب وقصده بذلك التمادى فى تكثير فرسانه ولكنه أراد اظهار براءته من التزيد وأنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين» (310)
ويكرر هذا فى قوله تعالى: {«أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ»} (311): «فيجوز أن يكون المراد بها بعض الأنفس، وهى نفس الكافر، أو أن يراد بها نفس متميزة بلجاج فى الكفر، أو أن يراد التكثير، كما قال الأعشى:
وربّ بقيع لو هتفت بحوّه ... أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا
وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، ونظيره: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت، وقد اختلس الطعنة، ولا يقصد الا التكثير» (312)
وقد يفيد التنكير معنى قلة الالتفات، وأن المنكر أمر تائه يغفل الناس عنه، ولا يلتفتون اليه، يقول فى قوله تعالى: {«هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى ََ}
__________
(307) التكوير: 14
(308) آل عمران: 30
(309) الحجر: 2
(310) الكشاف ج 4ص 567566.
(311) الزمر: 56
(312) الكشاف ج 4ص 105(1/318)
{رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذََا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ»} (313) يقول:
«فان قلت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشهورا علما فى قريش وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، فما معنى قوله: {«هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى ََ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ»} فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على مجهول فى أمر مجهول؟
قلت: كانوا يقصدون بذلك الطّنز والسخرية، فأخرجوه مخرج التحلى ببعض الأحاجى التى يتحاجى بها للضحك والتلهى، متجاهلين به وبأمره» (314)
ولم تكن دراسة التنكير مقصورة على بيان المعانى البلاغية التى تفيدها الكلمة النكرة فى النص، وانما كانت له وقفات يشير فيها الى حسن الكلمة واصابتها فى موقعها. وقد رأينا اشاراته فى هذا فيما قدمنا من النصوص ومن أحسنها ما قاله فى قوله تعالى: {«وَإِنََّا عَلى ََ ذَهََابٍ بِهِ لَقََادِرُونَ»} (315) يقول: «من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب وطريق من طرقه، وفيه ايذان باقتداره، وأنه لا يتغابى عليه شىء اذا أراده، وهو أبلغ فى الايعاد من قوله: {«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مََاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمََاءٍ مَعِينٍ»} (316)
وقد ذهب أحد المشتغلين بالدراسات البلاغية من المعاصرين الى رأى فى التنكير خالف فيه البلاغيين، يقول صاحب هذا الرأى:
«وقفت طويلا عند الاسم النكرة أتبين ما قد يدل عليه التنكير من معنى، ودرست ما ذكر العلماء من معان قالوا ان هذا التنكير يفيدها، وبدا لى من هذا التأمل الطويل أن النكرة يراد بها واحد من أفراد الجنس، ويؤتى بها عند ما لا يراد تعين هذا الفرد، كقوله سبحانه:
{«وَجََاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ََ قََالَ يََا مُوسى ََ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ}
__________
(313) سبأ: 7
(314) الكشاف ج 1ص 450.
(315) المؤمنون: 18
(316) الكشاف ج 3ص 141والآية من سورة الملك: 30(1/319)
{بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النََّاصِحِينَ»} (317) فليس المراد هنا تعيين الرجل، ولكن يراد هنا أن يصل الى موسى نبأ الائتمار عليه بالقتل.
والنكرة بعدئذ تفيد معناها مطلقا من كل قيد، أما ما يذكره علماء البلاغة من معان استفيدت من النكرة فانها لم تفدها بطبيعتها وانما استفادتها من المقام الذى وردت فيه، فكأنما المقام هو الذى يصف النكرة ويحدد معناها» (318)
ثم أخذ يسوق أمثلة ويشرحها فى ضوء فكرته هذه، وقبل أن نناقش أمثلته يلزمنا أن نقف قليلا عند ما ذهب اليه مما أثبتناه، فقوله:
أنه بدا له من التأمل الطويل أن النكرة يراد بها واحد من أفراد الجنس ويؤتى بها عند ما لا يراد تعيين هذا الفرد، كلام ذكره النحاة والبلاغيون وهو مشهور عند كبارهم وصغارهم فليس مما استنبطه هو كما أوهم رحمه الله، ولكنهم ذكروا أيضا أنها تدل على الجنس فهى صالحة عندهم للدلالة على الجنس أو على واحد من أفراده كقولك: جاءنى رجل لا رجلان، فهى هنا دالة على الواحد، وكقولك: جاءنى رجل لا امرأة، فهى هنا دالة على الجنس. وقد كثر كلام عبد القاهر فى بيان دلالتها على الجنس وهو يفرق بين قولنا: أجاءك رجل؟ وأرجل جاءك؟ وأن الأول يكون حين تريد أن تسأله: هل كان مجىء من أحد الرجال اليه؟
والثانى يكون حين تريد أن تسأله عن جنس من جاءه أرجل هو أم امرأة؟
وقد ذكر الفرق الدقيق بين دلالة النكرة على الجنس ودلالة المعرف ب «الى» على الجنس فقال: «واعلم أنا لم نرد بما قلناه من أنه انما حسن الابتداء بالنكرة فى قولهم: شر أهر ذا ناب، لأنه أريد به الجنس، ان معنى شر والشر سواء، وانما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبين أن الذى أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا من جنس الخير، كما أنا اذا قلنا فى
__________
(317) القصص: 20
(318) من بلاغة القرآن للأستاذ المرحوم أحمد بدوى ص 128.(1/320)
قولهم: أرجل أتاك أم امرأة؟ ان السؤال عن الجنس لم نرد ذلك أنه بمنزلة أن يقال: الرجل أم المرأة أتاك؟ ولكنا نعنى أن المعنى على أنك سألت عن الآتى أهو من جنس الرجال أم من جنس النساء» (319)
فكأن التعريف يدل على عموم الجنس بخلاف النكرة فانها لا تدل على عموم الجنس، وانما هى لبيان جنس المذكور، يقول عبد القاهر:
«فالنكرة اذن على أصلها من كونها لواحد من الجنس الا أن القصد منك لم يقع الى كونه واحدا، وانما وقع الى كونه من جنس الرجال، وعكس هذا أنك اذا قلت: أرجل أتاك أم رجلان؟، كان القصد منك الى كونه واحدا دون رجلان، فاعرف ذلك أصلا، وهو أنه قد يكون فى اللفظ دليل على أمرين ثم يقع القصد الى أحدهما دون الآخر فيصير ذلك الآخر بأن لم يدخل فى القصد كأنه لم يدخل فى دلالة اللفظ» (320)
وهذا هو كلام من يتأملون ويقع فى خواطرهم.
فالذى ذكره العلامة رحمه الله فيه اهمال لأحد جزئى دلالة النكرة أعنى دلالتها على الجنس لا على فرد من أفراده.
وقد ذكر البلاغيون أيضا أن النكرة لا تتجاوز هذا المعنى الأصلى فى كل موضع تكون فيه الى معنى بلاغى وانما ترى هذا فى القليل دون الكثير.
وما ذكره الأستاذ المرحوم ينطبق على حال من أحوال استعمال النكرة دون أن يشمل كل أحوال استعمالها كما قلنا. والآية التى ذكرها لا يراد فيها بالنكرة أكثر من هذا المعنى المشار اليه أى واحد من جنس الرجال، وهذا الاستعمال لا يقف عنده البلاغيون ليقولوا شيئا فى معنى تنكيره، أما أن النكرة تفيد معناها مطلقا من كل قيد فى كل المقامات والأحوال فهذا ما لا نوافق الأستاذ المرحوم عليه وهو ما تأباه طبيعة الأساليب ويرفضه ذوقها. وكلام أهل العلم قاطع فى أن الخصوصية
__________
(319) دلائل الاعجاز ص 95.
(320) المرجع السابق.(1/321)
الأسلوبية ما دامت قد أفادت فى موضع لا بد أن تكون كذلك فى كل موضع، ومن المحال أن يكون التنكير والتقديم وباقى الخصوصيات مفيدا مرة وغير مفيد مرة.
وأما أن هذه المعانى لم تفدها النكرة بطبيعتها يعنى بقطع النظر عن السياق فان البلاغيين لا يقولون خلاف هذا لأنها لو كانت تفيدها بطبيعتها ما تخلفت عنها، ولكنهم يقولون مع هذا ان هذه المعانى تكمن فى النكرة، والسياق هو الذى يخرجها ويكشفها، والاعتماد على السياق وحده فى افادة هذه المعانى كما ذهب الأستاذ الغاء لقيمة أحوال اللفظ وعلاقاتها بالسياق، ومن الواضح أن السياق له خطره فى الكشف عن خصائص الألفاظ والتراكيب، وأنه كما يحدد معنى التنكير ويصفه، كذلك يحدد معنى التعريف ويصفه، ويحدد المراد من الذكر، والمراد من الحذف، والمراد من التقديم، والمراد من الاستفهام، بل والمراد من التشبيه، وأبواب المجاز، فاذا رأى العلامة الغاء دلالة التنكير فعليه أن يلغى دلالة التعريف وباقى الخصوصيات البلاغية، لأن الكل سواء.
ويذكر المرحوم فيما ذكر من الأدلة قوله تعالى: {«فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ»} (321) ويقول: «فكلمة «حرب» منكرة لا تدل على أكثر من حقيقتها، واذا كان ثمة تعظيم لهذه الحرب فمنشؤه وصفها بأنها من الله ورسوله، وأن حربا يثيرها الله جديرة أن تبعث فى النفس أشد ألوان الفزع والرعب» (322)
واذا كانت كلمة «حرب» لا تدل على أكثر من حقيقتها وأن التعظيم غير مفاد من التنكير وانما هو مفاد من السياق، ووصفها بأنها من الله ورسوله، فهل يبقى هذا المعنى اذا زال التنكير وبقى السياق والوصف، أعنى هل يفيد قولنا: فأذنوا بحرب الله أو بالحرب من الله ورسوله ما تفيده الآية؟ ولم يحدث أكثر من ذهاب التنكير.
ويقول الأستاذ: دل المقام على تعظيم الاسم المنكر فى قوله تعالى:
__________
(321) البقرة: 279
(322) المرجع السابق ص 129(1/322)
{«وَجََاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قََالُوا إِنَّ لَنََا لَأَجْراً إِنْ كُنََّا نَحْنُ الْغََالِبِينَ»} (323)، ذلك أنهم يطلبون مكافأة على عمل ضخم يقومون به هو ابطال دعوة موسى والابقاء على دين فرعون أو لا يكون ثواب ذلك عظيما يناسبه؟
فهلا يرى الأستاذ أن المقام صالح للدلالة على التعظيم لو ذهب التنكير الذى لا يدل الا على مطلق معناه وقلنا: ان لنا الأجر؟ ألم يدخل هذا فى تأمله الطويل رحمه الله؟
والواقع أن البلاغيين كانوا فى هذا المقام أكثر فهما وأنفذ ادراكا لخصائص التنكير مما ظن بهم الأستاذ، وكان كشفهم عن مغزى التنكير ووجهه يقوم فى الغالب على الموازنة بين أسلوب التنكير وبين ما يمكن أن يكون عليه الكلام بعد ذهاب خصوصية التنكير وبقاء السياق، ثم يلحظون ذهاب معنى كبير من الكلمة بذهاب التنكير، والسياق باق والمقام هو، ومن ذلك فى تفسير الكشاف تلك الموازنة بين القراءة المشهورة وقراءة أبىّ فى قوله تعالى: {«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النََّاسِ عَلى ََ حَيََاةٍ»} (324) يقول الزمخشرى: ولذلك كانت القراءة بها أى بكلمة «حياة» منكرة أوقع من قراءة أبىّ «على الحياة» وقوله:
ولذلك أى: ولأن التنكير يفيد حياة مخصوصة أى حياة متطاولة (325)
وكان المرحوم أحمد بدوى رجلا صالحا ولكنه وجد القدح فى علومنا وعلمائنا بابا مفتوحا لا تراعى فيه للحق حرمة. ثم هو طريق سهل لمن يريد أن يكون مفكرا أو رائدا لا عليه الا أن يستخف بعقول هؤلاء العلماء سواء فهم أو لم يفهم، ولا يزال الحال كذلك وان عظمت فيه البلوى.
* * * __________
(323) الأعراف: 113
(324) البقرة: 96
(325) ينظر الكشاف ج 1ص 125(1/323)
الفصل الرّابع البحث فى نظم الجملة
أريد فى هذا الفصل أن أدرس ما ذكره الزمخشرى فى نظم الجملة مما يتصل ببلاغتها وحسنها، سواء أكان هذا معالجة لاعراب، أو تفسيرا لتركيب، أو بحثا فى أسرار نظم، لذلك سوف أنظم فى هذا الفصل حديثه فى التقديم والتأخير، وحديثه فى الاستفهام، وصور النفى، وصور التوكيد، ودواعيه بالنسبة للمتكلم والمخاطب، وأساليب الأمر، والنهى، والقسم، والقصر، والنداء، ومواطن الحذف والذكر، وأسرار الأعراب البلاغية، فى الصفات، والبدل، والبيان، وما سماه القول المنصف، والدلالات الجانبية للجملة، والنظر فى المعنى وتذوق بناء الجملة.
ومن الخير أن نشير الى أن دراسة الجملة قد استفدت جهدا كبيرا من علماء النحو والبلاغة، وقد امتزجت الدراسات النحوية بمسائل بلاغية، كما قامت الدراسات البلاغية فى كثير من الحالات على دراسات نحوية بصيرة واعية. لذلك كان من الصعب على من يتصدى لدراسة الجملة دراسة بلاغية أن يفصل بحثه عن الدراسة النحوية، أو يحدد بين اللونين تحديدا كاملا وتاما. ولا عبرة بقول من يقول: ان المباحث النحوية قد داخلت الدراسة البلاغية وأفسدتها، فهذا كلام فاسد وهو من كلام الرواد!!
والزمخشرى وهو نحوى بصير بالنحو وفنونه قامت دراسته البلاغية للجملة على أسس نحوية وسوف يتضح لنا هذا المزج الذكى بين الفكرة النحوية والروح البلاغية فى دراسته للجملة.(1/324)
ونبدأ بدراسته للتقديم:
اتسعت نظرة الزمخشرى فى دراسة التقديم فخرجت عن دائرة الجملة وشملت تقديم جملة على جملة وترتيب الجمل، ولكننى رأيت أن أضم هذه النظرة المتسعة فى دراسة هذا اللون الى أخواتها من نظراته الأخرى التى جعلت لها فصلا خاصا بالبحث فى الجمل، لذلك سأتناول فى بحث التقديم هنا ما يتعلق بالجملة، وليس همى فى هذه الدراسة أن أستخلص القواعد والأحكام فان هذا افساد لهذا البحث وقتل لروحه، وانما همى أن أعرض روح البحث البلاغى، أعنى روحه الأدبية التى تعنى بالتعليق على كل صورة وتحليل كل مثال فى ضوء سياقه تحليلا لا يغنى عنه غيره، ولا يختصر فى قاعدة، لذلك سوف أذكر كثيرا من النصوص والشواهد حتى أستطيع أن أضع الأعين على بلاغته.
وبحث التقديم يشمله لونان:
1 - التقديم بين جزئى الجملة.
2 - التقديم فى المتعلقات.
والتقديم بين جزئى الجملة يشمل تقديم الخبر على المبتدأ سواء أكان مفردا أو جارا ومجرورا أو ظرفا، كما يشمل تقديم المبتدأ على الخبر سواء أكان هذا الخبر فعلا أو اسما.
وقد يبدو اطلاق التقديم على هذا النوع غريبا لأن المبتدأ حينما يتقدم على خبره يكون قد وافق الأصل، وما جاء على الأصل لا يسأل عن علته، والزمخشرى نفسه صاحب تلك العبارة المشهورة التى تقرر أنه «انما يقال مقدم ومؤخر للمزال لا للقار» وكأنه بها يخالف عبد القاهر مخالفة صريحة لأن عبد القاهر قسم التقديم الى قسمين:
يكون فيه المقدم باقيا على حكمه قبل التقديم كقولك: زيدا ضربت، وقسم يزول حكمه ويصير له حكم آخر كأن تعمد الى هذا المثال فترفع «زيدا» على الابتداء وتعمل الفعل فى ضميره وتقول: زيد ضربته، الا أن الزمخشرى
أطلق التقديم على القار كما أطلقه على المزال. وقد أحسن حينما خالف هذا التحديد الضيق لمفهوم التقديم والذى يجعله خاصا بالمزال لا بالقار فقد رجع بهذه المخالفة الى طريقة عبد القاهر لأن البلاغة تبحث أسرار وقوع الكلمات فى مواقعها ما جاء منها على الأصل وما جاء على خلافه، لأنها يمكن أن تقول: لم جاء هذا الأسلوب على الأصل، وكان يمكن فيه المخالفة؟ فالسكوت عن السؤال عن علة ما جاء على الأصل أمر لا يطمئن اليه الدارس المتشوق الى معرفة أسرار اللغة. ولعل الزمخشرى حين قال عبارته السابقة التى خالف مفهومها فى تفسيره كان متأثرا بالفكرة النحوية أكثر مما هو متأثر بالروح البلاغية.(1/325)
يكون فيه المقدم باقيا على حكمه قبل التقديم كقولك: زيدا ضربت، وقسم يزول حكمه ويصير له حكم آخر كأن تعمد الى هذا المثال فترفع «زيدا» على الابتداء وتعمل الفعل فى ضميره وتقول: زيد ضربته، الا أن الزمخشرى
أطلق التقديم على القار كما أطلقه على المزال. وقد أحسن حينما خالف هذا التحديد الضيق لمفهوم التقديم والذى يجعله خاصا بالمزال لا بالقار فقد رجع بهذه المخالفة الى طريقة عبد القاهر لأن البلاغة تبحث أسرار وقوع الكلمات فى مواقعها ما جاء منها على الأصل وما جاء على خلافه، لأنها يمكن أن تقول: لم جاء هذا الأسلوب على الأصل، وكان يمكن فيه المخالفة؟ فالسكوت عن السؤال عن علة ما جاء على الأصل أمر لا يطمئن اليه الدارس المتشوق الى معرفة أسرار اللغة. ولعل الزمخشرى حين قال عبارته السابقة التى خالف مفهومها فى تفسيره كان متأثرا بالفكرة النحوية أكثر مما هو متأثر بالروح البلاغية.
أما تقديم الخبر وهو جار ومجرور فقد أبان الزمخشرى عن الغرض منه فى مواطن متعددة فذكر دلالته على الاختصاص.
يقول فى قوله تعالى: {«ذََلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنََا يَسِيرٌ»} (1): «تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعنى لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم الا على القادر الذات الذى لا يشغله شأن عن شأن، كما قال تعالى:
{«مََا خَلْقُكُمْ وَلََا بَعْثُكُمْ إِلََّا كَنَفْسٍ وََاحِدَةٍ»} (2).
ويقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا حِسََابَهُمْ»} (3):
«فان قلت: ما معنى تقديم الظرف؟ قلت: معناه التشديد فى الوعيد وأن ايابهم ليس الا الى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس بواجب الا عليه، وهو الذى يحاسب على النقير والقطمير، ومعنى الوجوب: الوجوب فى الحكمة» (4).
ودلالة تقديم الخبر الظرف على الاختصاص يذكرها أيضا فى قوله تعالى: {«لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ»} (5)، وفى قوله تعالى: {«وَلِلََّهِ غَيْبُ}
__________
(1) سورة ق: 44
(2) الكشاف ج 4ص 312والآية من سورة لقمان: 28
(3) الغاشية: 25، 26
(4) الكشاف ج 4ص 595.
(5) الكشاف ج 4ص 436والآية من سورة التغابن: 1(1/326)
{السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ»} (6) وفى مواطن أخرى كثيرة. ويؤكد هذا المعنى فى قوله تعالى: {«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ. إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ»} (7)، ولأجل ضرورة دلالة التقديم هنا على الاختصاص اتجه الى صرف النظر الى معنى الانتظار، والترقب لأنه لو كان بمعنى الرؤية للزم عليه أن هذه الوجوه لا تنظر الا الى ربها كما هو مقتضى التقديم، والواقع أن هذه الوجوه تنظر يوم القيامة الى أشياء كثيرة لأن أصحابها آمنون، وهم نظارة ذلك اليوم» (8).
ويقول فى قوله تعالى: {«لََا رَيْبَ فِيهِ»} (9): «فان قلت: فهلا قدم الظرف على الريبة كما قدم على الغول فى قوله تعالى: {«لََا فِيهََا غَوْلٌ»}؟ (10) قلت: لأن القصد فى ايلاء الريب حرف النفى نفى الريب عنه واثبات أنه حق وصدق، لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدعون، ولو أولى الظرف لقصد الى ما يبعد عن المراد، وهو أن كتابا آخر فيه ريب لا فيه، كما قصد فى قوله: {«لََا فِيهََا غَوْلٌ»} تفضيل خمر الجنة على الدنيا، بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هى كأنه قيل:
ليس فيها ما فى غيرها من هذا العيب والنقيصة» (11).
وهذا الكلام صريح فى لزوم الاختصاص لهذا النوع من التقديم وان كان هناك فرق بين هذا المثال وبين ما سبقه، لأن هنا التقديم فى النفى وهناك فى الاثبات.
وقد رفض أبو حيان مذهب الزمخشرى فى دلالة التقديم على الاختصاص وناقشه فى هذه الآية نفسها. وقال بعد ما لخص كلامه فيها:
«وقد انتقل الزمخشرى من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول الى دعواه
__________
(6) الكشاف ج 3ص 486والآية من سورة هود: 123
(7) القيامة: 22، 23
(8) ينظر الكشاف ج 4
(9) البقرة: 2
(10) الصافات: 47
(11) الكشاف ج 1ص 27(1/327)
بتقديم الخبر ولا نعلم أحدا يفرق بين: ليس فى الدار رجل، وليس رجل فى الدار، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال، وقد وصفت العرب بذلك خمر الدنيا قال علقمة بن عبدة:
تشفى الصّداع ولا يؤذيك طالبها ... ولا يخالطها فى الرأى تدويم (12)
ولم يكن أبو حيان على صواب حينما رفض كلام الزمخشرى فى هذه الآية وحينما ادعى التسوية بين قولنا: ليس فى الدار رجل، وليس رجل فى الدار، وقوله: «لا نعلم أحدا يفرق بين قولنا الخ»، ليس كلاما دقيقا لأن أئمة هذا الفن قد فرقوا بين تقديم الشيء وتأخيره. وقد قال عبد القاهر: «اذا ثبت أن هناك معنى للتقديم فى مثال فيجب أن يثبت هذا المعنى للتقديم فى كل مثال» واذا كنا قد رأينا أن كلام الزمخشرى يدل صراحة على لزوم التقديم فى هذا النوع للاختصاص فان الزمخشرى يرى أن السياق له أثره فى تحديد هذه الدلالة، لذلك تراه يسكت عن الاختصاص فى سياق آخر لا يجد له فيه معنى. يقول فى قوله تعالى:
{«وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللََّهِ»} (13): «فان قلت: ما فائدة تقديم خبر «ان» على اسمها؟ قلت: القصد الى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لآرائهم، فوجب تقديمه لانصباب الغرض اليه» (14).
فان معنى الاختصاص هنا لا يستقيم الا بشيء من التأويل ولذلك لم تكن عبارة الزمخشرى مشعرة به واكتفى ببيان أن الخبر هو المقصود الأهم، فوجب تقديمه. لذلك أميل حين أقرر رأيه فى هذا الموضوع الى القول بأنه يرى دلالة التقديم على الاختصاص غالبا وهذا هو رأى الجمهور الذى صاغه الخطيب فى قوله: «والتخصيص لازم للتقديم غالبا» وقد قال العصام: ان عبارة الخطيب هذه فيها حزازة لأنه لا معنى لكلمة اللزوم ما دام الأمر مبنيا على الغالب (15).
__________
(12) البحر المحيط ج 1ص 37.
(13) الحجرات: 7
(14) الكشاف ج 4ص 287.
(15) ينظر تقرير الانبابى ج 3ص 27(1/328)
والاختصاص فيما أثبتناه من كلامه يعنى قصر المسند اليه على المسند، وهذا هو المشهور فى دلالة قولنا: تميمى أنا، وقد لحظ العلامة سعد الدين فى شرحه للكشاف أن كلام الزمخشرى يشعر أحيانا أن التقدم يفيد قصر المسند على المسند اليه، كما فى قوله تعالى: {«لَهََا مََا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مََا كَسَبْتُمْ»} (16) قال الزمخشرى: «والمعنى أن أحدا لا ينفعه كسب غيره» يشعر بأن فى {«لَهََا مََا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مََا كَسَبْتُمْ»} قصر المسند على المسند اليه أى لها كسبها لا كسب غيرها ولكم كسبكم لا كسب غيركم، وهذا كما قيل فى: {«لَكُمْ دِينُكُمْ»} أى لا دينى {«وَلِيَ دِينِ»} (17)، أى لا دينكم، وقال فيه أيضا فى تفسير قوله تعالى: {«لَنََا أَعْمََالُنََا وَلَكُمْ أَعْمََالُكُمْ»} (18): أى لنا اعمالنا لا أعمالكم وبالعكس أو لنا أعمالنا لا لكم وبالعكس» (19).
وقد رجع البلاغيون بهذا الى السياق وقالوا: وذلك يتوقف على أن استفادة القصر بقسميه من نفس التقديم لا من المقام، والمقام يبين المقصود منها كما فى المشترك (20).
وقد لحظ الزمخشرى أن بعض التراكيب يصير فيها المسند مسندا اليه أو بعبارة أوضح: يصير فيها ما حقه أن يكون مسندا مسندا اليه، ثم يناقش التركيب ويبين سر هذا العدول.
يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»} (21):
«هذا كلام جمع لا يزاد عليه فان قلت: كيف جعل {«خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ»} اسما ل «ان»، و {«الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»} خبرا؟ قلت: هو مثل قوله:
ألا إنّ خير الناس حيّا وهالكا ... أسير ثقيف عندهم فى السّلاسل
فى أن العناية هى سبب التقديم» (22).
__________
(16) البقرة: 134
(17) الكافرون: 6
(18) القصص: 55
(19) تقرير الانبابى ج 2ص 439
(20) المرجع السابق
(21) القصص: 26
(22) الكشاف ج 3ص 317(1/329)
وينظر الزمخشرى فى تركيب الجملة فيرى أن حملها على وجه نحوى أولى من غيره لفائدة بلاغية فيعول عليه وان كان خلاف المشهور بين النحاة تفضيلا للوجه الذى هو أخصب معنى وأوفر دلالة، يقول فى قوله: {«أَرََاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يََا إِبْرََاهِيمُ»} (23): «لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعنى، وفيه ضرب من التعجب والانكار، لرغبته عن آلهته، وأن آلهته ما ينبغى أن يرغب عنها أحد» (24) واعتبار «راغب» خبرا و «أنت» مبتدأ لا يرضى عنه ابن مالك وأبو البقاء وغيرهم لأنه يترتب عليه اما الفصل بين العامل ومعموله أى «راغب» و «عن آلهتى» بأجنبى وهو المبتدأ، واما الحاجة الى تقدير عامل وهو خلاف الأصل، وقد قالوا فى توجيه ما ذهب اليه الزمخشرى: ان المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه، ولا سيما والمفصول ظرف متوسع فيه، والمقدم فى نية التأخير، والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ، وهذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان على القياس لقوة أثره، وأن زيادة الانكار انما تنشأ من تقديم الخبر كأنه قيل: أراغب أنت عنها، لا طالب لها راغب فيها، منبها له على الخطأ فى ذلك، ولو قيل «أترغب» لم يكن من هذا الباب فى شىء فتدبر» (25).
وتوجيه النحاة لما ذهب اليه الزمخشرى ادراك للروح الأدبى التى تأثر بها توجيهاته الاعرابية.
أما تقديم المسند اليه، فان الكلام فيه يشمل تقديم الاسم على الفعل وتقديم الاسم على المشتق، أما تقديم الاسم على الفعل فقد أشار اليه فى مواطن كثيرة منها قوله تعالى: {«اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ»} قال:
«وايقاع اسم {«اللََّهُ»} مبتدأ وبناء {«نَزَّلَ»} عليه فيه تفخيم ل {«أَحْسَنَ}
__________
(23) مريم: 46
(24) الكشاف ج 3ص 15
(25) حاشية الشهاب ج 6ص 193(1/330)
{الْحَدِيثِ»} وتأكيد لاستناده الى {«اللََّهُ»} وأنه من عنده وأن مثله لا يجوز أن يصدر الا عنه» (26).
والتقديم هنا لا يفيد الاختصاص فحسب، وانما يفيد تلك المعانى التى أشار اليها من التفخيم والتأكيد، ويقول فى قوله تعالى: {«أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفََاقِ لََا تَعْلَمُهُمْ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»} (27): «أى يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنوقهم فى تحاشى ما يشكك فى أمرهم، ثم قال سبحانه: {«نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»} أى لا يعلمهم الا الله، ولا يطلع على سرهم غيره» (28) فالتقديم هنا دال على الاختصاص وقد يكون الاختصاص مفهوما من النفى والاثبات الصريحين فى قوله: {«لََا تَعْلَمُهُمْ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»} وحينئذ يكون تركيب جملة {«نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»} متآزرة مع معنى الجملتين معا.
ويقول فى قوله تعالى: {«إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا»} (29):
{«إِنََّا نَحْنُ}: تكرير الضمير بعد ايقاعه اسما لأن تأكيد «على» تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليقرر فى نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه اذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أى وجه نزل الا حكمة وصوابا، كأنه ما نزل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما الا أنا، لا غيرى، وقد عرفتنى حكيما فاعلا لكل ما أفعله بدواعى الحكمة» (30).
وقد قال مثال ذلك فى قوله تعالى: {«هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ»} (31)
وفى قوله تعالى: {«اللََّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ»} (32). وفى قوله تعالى:
{«هُمْ يُنْشِرُونَ»} (33)، وفى قوله تعالى: {«أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ»} (34).
__________
(26) الكشاف ج 4ص 95والآية من سورة الزمر: 23
(27) التوبة: 101
(28) الكشاف ج 1ص 540
(29) الانسان: 23
(30) الكشاف ج 4ص 39
(31) الكشاف ج 2ص 318والآية من سورة هود: 61
(32) الكشاف ج 2ص 411والآية من سورة الرعد: 26
(33) الكشاف ج 3ص 86والآية من سورة الأنبياء: 21
(34) الكشاف ج 2ص 246والآية من سورة التوبة: 104(1/331)
واذا كان كلامه فى هذه الآيات صريحا فى دلالة هذا النوع من التقديم على الاختصاص فلا شك أن السياق هنا أيضا هو الذى حدد هذه الدلالة، وأن خصوصية المادة فى كل منها دالة على الاختصاص، على أن الزمخشرى قد ذكر دلالة هذا النوع على الاختصاص فى قوله تعالى: {«قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ»} (35) بعد ما قدر ما يقتضيه الاعراب، والاسم فى الحقيقة ليس مقدما على الفعل، لأنه فاعل فعل محذوف، والكلام فى الحقيقة لا تقديم فيه، يقول الزمخشرى فى هذا: «لو: حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من فعل بعدها فى {«لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ»}، وتقديره: لو تملكون تملكون فأضمر تملك اضمارا على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذى هو الواو ضميرا منفصلا وهو «أنتم»، لسقوط ما يتصل به من اللفظ، ف «أنتم» فاعل الفعل المضمر و «تملكون» تفسيره، وهذا هو الوجه الذى يقتضيه علم الاعراب. فأما ما يقتضيه علم البيان فهو: ان أنتم تملكون، فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بلشح المتبالغ، ونحوه قول حاتم: «لو ذات سوار لطمتنى»، وقول المتلمس: «لو غير أخو الى أرادوا نقيصتى» وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام فى صورة المبتدأ والخبر» (36).
وهذا الكلام صريح فى أن التركيب اذا كان فى صورة المبتدأ والخبر أفاد الاختصاص ما دام الخبر فعلا وان كان تقدير الكلام يخالف هذه الصورة، وهذه مغالاة فى هذه الدلالة، لأننا نرى أن هذا التركيب لا يفيد الاختصاص، وأن المعنى الذى ذكره للاختصاص غريب على هذا النص، لأن التقديم هنا بين «أنتم»، و «تملكون»، فمقتضى الاختصاص: أن يكون اختصاص الناس بالملك، ويكون المعنى: لو لم يملك خزائن الله الا أنتم لكان كذا، أما الشح المتبالغ فذلك واقع فى جواب «لو»، وليس فى جملة الاختصاص، وقد تنبه الى هذا ونبه اليه تقى الدين
__________
(35) الاسراء: 100
(36) الكشاف ج 2(1/332)
السبكى فى عروس الأفراح، وقد أشار الشهاب الخفاجى الى شىء من هذا فى قوله: «وقد قيل عليه انه وان كان فى صورة المبتدأ والخبر لكنه انما يفيد لو كان معنى كذلك، حق يقدر فيه التقديم والتأخير المفيد لما ذكر، وهذا فاعل لفعل مقدر فكما لا يفيد ذلك اذا ذكر لا يفيده بعد حذفه. وأجيب عنه بأن «أنتم» بعينه ضمير «تملكون» المؤخر، فهو فى المعنى فاعل مقدم، وتقديم الفاعل المعنوى يفيد الاختصاص اذا ناسب المقام» (37).
وهذا الجواب الذى ذكره الشهاب فيه اعتراف بالاعتراض، وتسليم به، وانحراف فى الجواب، لأن كلام الزمخشرى لا يفهم منه أن «أنتم» فاعل ضمير «تملكون» المؤخر. على أن الزمخشرى يذهب فى كثير من الصور الى أن التقديم فيها يفيد التقوية، والتوكيد، ويسكت عن الاختصاص، يقول فى قوله تعالى: {«وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ»} (38): «وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضا فصل تأكيد، ولو قيل: ويتربصن المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة» (39) ويقول سعد الدين فى شرحه للكشاف فى قوله: {«وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ»} (40):
«قوله: ولا ينصرهم أحد إشارة الى أن التقديم فى {«وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ»}
ليس للحصر، بل للتّقوى ورعية الفاصلة» (41).
وتقديم المبتدأ على الخبر المشتق يتضح رأى الزمخشرى فى افادته للتخصيص من قوله فى آية: {«وَمََا أَنْتَ عَلَيْنََا بِعَزِيزٍ»} (42) حيث يقول:
«أى لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم وانما يعز علينا رهطك لأنهم أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك
__________
(37) حاشية الشهاب ج 6ص 64
(38) البقرة: 228
(39) الكشاف ج 1ص 205، 206
(40) البقرة: 48
(41) شرح سعد الدين للكشاف ورقة 81مخطوط.
(42) هود: 91(1/333)
دوننا وقد دل ايلاء ضميره حرف النفى على أن الكلام واقع فى الفاعل لا فى الفعل كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا، ولذلك قال فى جوابهم: {«أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللََّهِ»} (43) ولو قيل:
وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب» (44) وقد نص هنا على أهمية النفى فى افادة التركيب للاختصاص وكأنه ناظر الى كلام عبد القاهر فى هذا الموضوع. واذا كان هذا التركيب يفيد الاختصاص فاننا نلاحظ افادته التقوى فقط فى آية أخرى حيث يقول فى قوله تعالى: {«وَمََا هُمْ بِخََارِجِينَ مِنَ النََّارِ»} (45): «هم: بمنزلة فى قولهم: «هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة» فى دلالته على قوة أمرهم فيما أسند اليهم لا على الاختصاص» (46).
وقد شهر به السبكى فى هذه الآية ولم يكن على حق فى كل ما قاله، يقول السبكى: «ان ما ذكره الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَمََا هُمْ بِخََارِجِينَ مِنَ النََّارِ»} فيه دسيسة اعتزالية لأنه لو جعل للاختصاص لزمه تخصيص عدم الخروج من النار بالكفار فيلزم خروج أصحاب الكبائر، كما هو مذهب أهل السنة، والزمخشرى أكثر الناس أخذا بالاختصاص فى مثله فاذا عارضه الاعتزال فزع منه» (47).
ولا ننكر أن الزمخشرى يصرف دلالة هذا التركيب عن الاختصاص تشيعا لعقيدته، وانما ننكر أنه من أكثر الناس أخذا بالاختصاص فى مثله، فالزمخشرى يصرف دلالة هذا التركيب عن الاختصاص فى آية أخرى لا تمس الجانب الاعتزالى حيث يقول فى قوله تعالى: {«وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ»} (48): «فان
__________
(43) هود: 92
(44) الكشاف ج 2ص 331
(45) البقرة: 167.
(46) الكشاف ج 1ص 159.
(47) حاشية الشهاب ج 1ص 308.
(48) البقرة: 8(1/334)
قلت: كيف طابق قوله {«وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ»} قولهم {«آمَنََّا بِاللََّهِ»} والأول فى ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثانى فى ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ قلت:
القصد الى انكار ما ادعوه ونعيه، فسلك فى ذلك طريقا أدى الى الغرض المطلوب، وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس فى غيره، وهو اخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين فى الايمان، واذا شهد عليهم بأنهم فى أنفسهم على هذه الصفة، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا اثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع، ونحوه قوله تعالى: {«يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النََّارِ وَمََا هُمْ بِخََارِجِينَ مِنْهََا»} (49) هو أبلغ من قولك:
يخرجون منها» (50) وقد لحظ الشهاب الخفاجى أن ربط الزمخشرى بين الصورتين يدل دلالة قاطعة على أن هذه الصورة لا تفيد الاختصاص، ونسب هذا أيضا الى الفاضلين فى شرح الكشاف ورد كثيرا من التفاسير التى ذهبت بكلام الزمخشرى مذهب الاختصاص.
على أن وجه دلالة هذا التركيب على التأكيد قد استنفدت جهدا كبيرا من الشراح وأقحموها فى باب الكناية الإيمائية وكان قول الزمخشرى:
«واذا شهد عليهم بأنهم فى أنفسهم على هذه الصفة فقد انطوى
الخ» موطنا خصبا للحديث فى دلالة اللازم والملزوم. وقد أفاض سعد الدين فى هذا المجال وذكر مسألة هو مشغوف بها وهى «نفى التأكيد وتأكيد النفى» وفى كل هذا ملاحظات ذهنية فذة، الا أننا لا نجد لها صلة بالبحث البلاغى (51).
والمهم أن الزمخشرى لم يأخذ بالاختصاص فى هذه الآية مع عدم صلتها بأمور النحلة ولم يأخذ كذلك به فى قوله تعالى: {«وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبََّارٍ»} (52).
__________
(49) المائدة: 37
(50) الكشاف ج 1ص 42.
(51) ينظر حاشية الشهاب ج 4ص 308.
(52) ينظر الكشاف ج 4ص 331والآية من سورة ق: 45(1/335)
وفى قوله تعالى: {«فَمََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكََاهِنٍ وَلََا مَجْنُونٍ»} (53)
فلا وجه لما ذهب اليه السبكى رحمه الله.
والزمخشرى يلحظ أن موقع الكلمة قد يتغير فى آيتين فيقدم المتأخر ثم يؤخر المتقدم ثم يقف ليتأمل ويستكشف السر وراء هذا العدول مستعينا بسياق الآية والغرض منها، ومستعينا بخبرته بشئون النفس وأحوال الناس. يقول فى قوله تعالى: {«الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلََا تَأْخُذْكُمْ بِهِمََا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذََابَهُمََا طََائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. الزََّانِي لََا يَنْكِحُ إِلََّا زََانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً»} (54):
«فان قلت: كيف قدمت الزانية على الزانى أولا، ثم قدمه عليها ثانيا؟ قلت: سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هى المادة التى منها نشأت الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل. ولم تومض له، ولم تمكنه لم يطمح ولم يتمكن. فلما كانت أصلا وأولا فى ذلك، بدئ بذكرها. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح، والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب» (55).
وأما التقديم فى المتعلقات فان الكلام فيها ينقسم قسمين:
الأول تقديم المتعلقات على العامل. والثانى تقديم بعض المتعلقات على بعض، والزمخشرى يبين فائدة تقديم المعمول على العامل ويشرح ما تتضمنه من معنى الاختصاص فى مواطن كثيرة، منها قوله فى آية:
{«وَعَلََامََاتٍ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»} (56): «فان قلت: قوله {«وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»} خرج عن سنن الخطاب مقدم فيه «النجم» مقحم فيه «هم»
__________
(53) ينظر الكشاف ج 4ص 328والآية من سورة الطور: 29
(54) النور: 2، 3
(55) الكشاف ج 3ص 168167
(56) النحل: 16(1/336)
كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فمن المراد؟ قلت:
كأنه أراد قريشا كان لهم اهتداء بالنجوم فى مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن لغيرهم. فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصوا» (57).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَلَوْلََا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مََا يَكُونُ لَنََا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهََذََا»} (58): «فان قلت: فأى فائدة فى تقديم الظروف حتى أوقع فصلا؟ قلت: الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالافك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم» (59).
ويذكر دلالة هذا التقديم على الاختصاص فى قوله تعالى: {«إِنَّهُ عَلى ََ رَجْعِهِ لَقََادِرٌ»} (60)، وفى قوله تعالى: {«فَبِهُدََاهُمُ اقْتَدِهْ»} (61)، وفى قوله تعالى: {«وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ»} (62)، وفى قوله تعالى:
{«ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهََا سَبْعُونَ ذِرََاعاً فَاسْلُكُوهُ»} (63).
وليس الحصر عنده محصورا للحدث فى الشيء دون كل ما عداه، وانما هو حصر له فى شىء، دون ما يظن اثباته له، أى هو حصر اضافى لا حقيقى، هو حصر للحدث فى الأهم وما عداه كغير الملتفت اليه، ولذلك تراه يقول بالحصر فى قوله تعالى: {«وَأَخْرَجْنََا مِنْهََا حَبًّا فَمِنْهُ}
__________
(57) الكشاف ج 2ص 466
(58) النور: 16
(59) الكشاف ج 3ص 173.
(60) ينظر الكشاف ج 4ص 587والآية من سورة الطارق: 8
(61) ينظر الكشاف ج 2ص 34والآية من سورة الأنعام: 90
(62) ينظر الكشاف ج 1ص 32والآية من سورة البقرة: 3
(63) ينظر الكشاف ج 4ص 484والآية من سورة الحاقة:
31، 32(1/337)
{يَأْكُلُونَ»} (64)، وفى قوله تعالى: {«وَالْأَنْعََامَ خَلَقَهََا، لَكُمْ فِيهََا دِفْءٌ وَمَنََافِعُ وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ»} (65) فالأكل محصور فى الحب لأنه هو الشيء الذى يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الانس، واذا قل جاء القحط، ووقع الضر،، واذن فقد جاء الهلاك ونزل البلاء (66)
والأكل محصور فى الأنعام، لأن الأكل منها هو الأصل الذى يعتمد عليه الناس فى معايشهم، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجارى مجرى التفكه (67) ويشير الى أن القصر فى هذه الآية يحتمل أن يكون قصرا حقيقيا على معنى «ان طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر فالحب والثمار التى تأكلونها منها وتكتسبون باكراء الابل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها» (68).
ويلحظ الزمخشرى أن القرآن قد يخالف السنن العربى الفصيح لسر بلاغى حين يقدم الظرف الذى هو لغو، ويجتهد فى بيان هذا السر، يقول فى قوله تعالى: {«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ»} (69): «فان قلت: الكلام العربى الفصيح أن يؤخر الظرف الذى هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك فى كتابه فما باله مقدما فى أفصح كلام وأعربه؟ قلت: هذا الكلام انما سيق لنفى المكافأة عن ذات البارى سبحانه، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف فكان لذلك أهم شىء وأحقه بالتقديم وأحراه» (70).
وقد يقدم المتعلق فى آية ويؤخر فى أخرى، وفى هذا تظهر براعة الزمخشرى فى بيان ما يقتضيه كل مقام، وكيف طابق كل بناء مقتضاه يقول فى قوله تعالى: {«لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ}
__________
(64) يس: 33
(65) النحل: 5
(66) الكشاف ج 4ص 11
(67) الكشاف ج 2ص 462
(68) نفس المرجع السابق.
(69) الاخلاص: 4
(70) الكشاف ج 4ص 654(1/338)
{شَهِيداً»} (71): «فان قلت لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا؟
قلت: لأن الغرض فى الأول اثبات شهادتهم على الأمم، وفى الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم» (72).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»} (73): فان قلت: لم أخرت الصلة فى قوله {«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»} وقدمت فى قوله {«هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ»}؟ قلت: هناك قصد الاختصاص وهو محزه فقيل {«هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ»} وان كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هرم وعاقر، وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص كيف والأمر مبنى على ما يعقلون من أن الاعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى» (74).
وقد أصاب ابن المنير حين علق على هذا بقوله: «كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر لا بالحبر» (75) وفى تقدير العامل المحذوف يشير فى بعض المواطن الى وجوب تقديره متأخرا ليفيد معنى التخصيص يقول فى قوله تعالى: {«لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبََاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ»} (76): «فان قلت: بم يتعلق {«لِيُحِقَّ الْحَقَّ»}؟ قلت:
بمحذوف تقديره: ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله الا لهما، وهو اثبات الاسلام واظهاره وابطال الكفر ومحقه، ويجب أن يقدر المحذوف متأخرا حتى يفيد معنى الاختصاص، فينطبق عليه المعنى» (77)
ويذكر مثله فى قوله تعالى: {«بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} (78). وقد يسكت عن دلالة تقديم المعمول على الاختصاص ويكتفى بذكر الأهمية كما فى قوله: {«أَفَغَيْرَ دِينِ اللََّهِ يَبْغُونَ»} (79) يقول فيها: «وقدم المفعول
__________
(71) البقرة: 143
(72) الكشاف ج 1ص 149
(73) الروم: 27
(74) الكشاف ج 3ص 375
(75) حاشية ابن المنير فى المرجع السابق.
(76) الأنفال: 8
(77) الكشاف ج 2ص 150
(78) الكشاف ج 1ص 3
(79) آل عمران: 83(1/339)
الذى هو {«أَفَغَيْرَ دِينِ اللََّهِ»} على فعله لأنه أهم من حيث أن الانكار الذى هو معنى الهمزة متوجه الى المعبود بالباطل» (80).
وقد رفض أبو حيان دلالة تقديم المعمول على الاختصاص كما يقول الزمخشرى واحتج بحجج واهية. يقول أبو حيان: «والتقديم على العامل عنده يعنى الزمخشرى يوجب الاختصاص وليس كما زعم، قال سيبويه وقد تكلم على: ضربت زيدا، ما نصه: واذا قدمت الاسم فهو عربى جيد كما كان ذلك يعنى تأخيره عربيا جيدا وذلك قولك: زيدا ضربت، والاهتمام والعناية هنا فى التقديم والتأخير سواء مثله فى:
ضرب زيد عمرا، وضرب زيدا عمرو» (81).
وعاد أبو حيان الى مناقشة الزمخشرى فى قوله تعالى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ»} (82) قال: «والزمخشرى يزعم أنه لا يقدم على العامل الا للتخصيص فكأنه قال: ما نعبد الا اياك، وقد تقدم الرد عليه فى تقديره:
باسم الله أتلو، وذكرنا نص سيبويه هناك، فالتقديم عندنا انما هو للاعتناء والاهتمام بالمفعول، وسب أعرابى آخر فأعرض عنه وقال: اياك أعنى، فقال له: وعنك أعرض، فقدم الأهم» (83).
والحجة التى أقامها أبو حيان لرفض كلام الزمخشرى حجة واهية وذلك لأنه لا يحتج برأى على رأى، على أننا لا نرى فى كلام سيبويه ما يعارض كلام الزمخشرى لأن سيبويه يثبت العناية والاهتمام لدلالة صورة التقديم، وهذه العناية لا تعنى أن الصورة لا تفيد التخصيص، لأنه لا منافاة بينهما، ومن المقرر أن النكات لا تتزاحم، وليس فى كلام سيبويه ما يرفض دلالة الاختصاص، كما أنه ليس فى كلام الزمخشرى ما يرفض دلالة العناية والاهتمام. أما حكاية الأعرابى فاننا نفهم منها دلالة التخصيص. فقد قال لصاحبه لما رآه منصرفا عنه رغم تعمده
__________
(80) الكشاف ج 1ص 291
(81) البحر المحيط ج 1ص 9
(82) الفاتحة: 5
(83) نفس المرجع ص 24(1/340)
اياه بالسب: «اياك أعنى» أى لا أقصد بهذا الشتم سواك فكيف تعرض؟
وقول صاحبه له: «وعنك أعرض» أى أعرض عنك خصوصا، وقول أبى حيان: «والتقديم عنده يوجب الاختصاص» ليس كلاما دقيقا لأن التقديم عنده يفيد الاختصاص ولا يوجبه، ولذلك نراه يسكت عن الاختصاص فى بعض الآيات كما رأينا فى آية: {«أَفَغَيْرَ دِينِ اللََّهِ يَبْغُونَ»}، وكما قال فى قوله تعالى: {«أَغَيْرَ اللََّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا»} (84)، وفى قوله تعالى:
{«أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ»} (85) فانه جعل التقديم فى كل هذا للأهمية، وسكت عن دلالة الاختصاص، لأن المراد انكار أن يكون غير الله بمثابة أن يتخذ وليا، وأن يكون غير دين الله بمثابة أن يقصد ويطلب، وأن يكون غير الله كذلك أهلا لأن يعبد، وكان التقديم ليتوجه الانكار الى المقدم فيفيد ما ذكرنا، ولنا دراسة فى باب الاستفهام سوف نبين فيها تعدد دلالات التقديم فى باب الاستفهام.
أما تقديم بعض المعمولات على بعض فاننا حين نتتبع مواقعها فى الكشاف نلحظ أن الزمخشرى أدار حديثه فيها على أصول.
منها مراعاة أحوال النفس فى نسق الكلام وترتيبه، فالقرآن حين يحث النفس الانسانية أن تعطى حق الله والناس، انما يواجهها بما يظن أنها تنصرف عنه، ويورده فى النسق مقدما على ما اطمأنت النفس الى بذله، يقول فى قوله تعالى: {«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهََا أَوْ دَيْنٍ»} (86): «فان قلت: لم قدمت الوصية على الدين، والدين مقدم عليها فى الشريعة؟ قلت: لما كانت الوصية مشبهة للميراث فى كونها مأخوذة من غير عوض كان اخراجها مما يشق على الورثة، ويتعاظمهم، ولا تطيب أنفسهم بها، كان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين، فان نفوسهم مطمئنة الى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثا على
__________
(84) الكشاف 2ص 7، والآيتين من سورتى آل عمران: 83، والأنعام: 14
(85) الزمر: 64
(86) النساء: 12(1/341)
وجوبها، والمسارعة الى اخراجها مع الدين، ولذلك جىء بكلمة «أو» للتسوية بينهما فى الوجوب» (87).
وفى مقام دفع النفس الى محاربة شهواتها ومجاهدة شرورها يقدم فى نهيه ما يمكن أن يكون سببا للخطيئة ومؤديا اليها، يقول فى قوله تعالى: {«وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ»} (88): «فان قلت: لم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج؟
قلت: لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد وأكثر» (89).
وحينما يصف القرآن أهوال يوم القيامة وشغل كل امرئ بنفسه وفراره من أهله يقول سبحانه: {«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصََاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ»} (90) وفى هذا الترتيب يلحظ الزمخشرى أحوال احساس النفس بالهول، وتدرجها فى هذه الأحوال، وفرارها من أصناف الأهل، على وفق مراتب شعورها بالهول، يقول: «وبدأ بالأخ، ثم بالأبوين، لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين، لأنهم أقرب منه وأحب، كأنه قال: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته، وبنيه» (91).
ونجد ترتيبا يقرب من عكس هذا الترتيب فى آية أخرى، ونجد الزمخشرى يفسره تفسيرا وجدانيا ويبين مواقع الكلمات على وفق منازلها فى النفس يقول فى قوله تعالى: {«فَقُلْ تَعََالَوْا نَدْعُ أَبْنََاءَنََا وَأَبْنََاءَكُمْ وَنِسََاءَنََا وَنِسََاءَكُمْ وَأَنْفُسَنََا وَأَنْفُسَكُمْ»} (92): «وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن لتمنعهم من
__________
(87) الكشاف ج 1ص 373
(88) النور: 31
(89) الكشاف ج 3ص 181
(90) عبس: 3634
(91) الكشاف ج 4ص 563
(92) آل عمران: 61(1/342)
الهرب، ويسمون الزادة منهم بأرواحهم حماة الحقائق، وقدمهم فى الذكر على الأنفس، لينبه على لطف مكانهم، وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها» (93).
ومنها تقديم الأفضل، يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذْ أَخَذْنََا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثََاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ»} (94):
«فان قلت: لم قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نوح فمن بعده؟ قلت: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم، فلما كان محمد صلّى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء المفضلين قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه، فان قلت: فقد قدم عليه نوح عليه السلام فى الآية التى هى أخت هذه الآية وهى قوله تعالى: {«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ»} (95) ثم قدم على غيره؟ قلت: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك، وذلك أن الله تعالى انما أوردها لوصف دين الاسلام بالأصالة والاستقامة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذى بعث عليه نوح فى العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء فى العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير» (96).
ولاهتمامه بتقديم الأفضل يبحث سر تأخيره فى بعض الصور مبينا كيف خالف القرآن هذا الأصل فى التقديم. يقول فى قوله تعالى:
{«وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ»} (97):
«فان قلت: لم قدمت الأرض على السماء بخلاف قوله تعالى فى سورة سبأ: {«عََالِمِ الْغَيْبِ، لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ»}؟ (98) قلت: حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر
__________
(93) الكشاف ج 1ص 283.
(94) الأحزاب: 7
(95) الشورى: 13
(96) الكشاف ج 3ص 415.
(97) يونس: 61
(98) سبأ: 3(1/343)
شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصل بذلك {«لََا يَعْزُبُ عَنْهُ»} لاءم ذلك أن قدم الأرض على السماء» (99).
ومنها أهمية المقدم بالنسبة للغرض المسوق له الكلام.
يقول فى قوله تعالى: {«خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»} (100): «وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعيا الى العمل من نصب موته بين عينيه. فقدم لأنه فيما يرجع الى الغرض المسوق له الآية أهم» (101).
ومنه قوله تعالى: {«وَلَكُمْ فِيهََا جَمََالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ»} (102) يقول: «فان قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟
قلت: لأن الجمال فى الإراحة أظهر. اذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم آوت الى الحظائر حاضرة لأهلها» (103) وعلى هذا الأساس أى تقديم الأهم بالنسبة للغرض المسوق له الكلام يفسر جملتين اختلفتا فى تركيب الكلمات ويربط أهمية كل مقدم بسياقه يقول فى قوله تعالى: {«لَقَدْ وُعِدْنََا هََذََا نَحْنُ وَآبََاؤُنََا مِنْ قَبْلُ»} (104): «فان قلت:
قدم فى هذه الآية «هذا» على {«نَحْنُ وَآبََاؤُنََا»} وفى آية أخرى قدم {«نَحْنُ وَآبََاؤُنََا»} على «هذا»؟ قلنا: التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر، وأن الكلام انما سيق لأجله، ففي احدى الآيتين دل على أن اتخاذ البعث هو الذى تعمد بالكلام، وفى الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد» (105).
ومنها أى ومن الأصول التى اعتبرها الزمخشرى فى التقديم ودار حولها درسه تقديم الأدخل فى الوصف المسوق له الكلام، كما فى قوله
__________
(99) الكشاف: ج 2ص 278
(100) الملك: 2
(101) الكشاف: ج 4ص 461
(102) النحل: 6
(103) الكشاف: ج 1ص 462
(104) النمل: 68
(105) الكشاف: ج 3ص 299والآية من سورة المؤمنون: 83(1/344)
تعالى: {«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النََّاسِ عَدََاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا»} (106) يقول الزمخشرى: «وصف الله شدة شكيمة اليهود وصعوبة اجابتهم، الى الحق، ولين عريكة النصارى، وسهولة ارعوائهم، وميلهم الى الاسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين فى شدة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وكذلك فعل فى قوله: {«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النََّاسِ عَلى ََ حَيََاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا»} (107)، فانه لما كان اليهود أدخل فى وصف العداوة قدمهم القرآن وكذلك فى الحرص على الحياة».
ومنها تقديم الأغرب فى الوصف كما فى قوله تعالى: {«وَسَخَّرْنََا مَعَ دََاوُدَ الْجِبََالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ»} (108) يقول الزمخشرى: «فان قلت:
لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب، وأدل على القدرة، وأدخل فى الاعجاز، لأنها جماد والطير حيوان الا أنه غير ناطق» (109).
ومن تقديم الأغرب فى الصفة ما أشار اليه فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئُونَ وَالنَّصََارى ََ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»} (110). يقول الزمخشرى: «فان قلت: ما التقديم والتأخير الا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على الصابئين يتاب عليهم ان صح منهم الايمان والعمل الصالح، فما الظن بغيرهم، وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا، وأشدهم غيا، وما سموا صابئين الا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها أى خرجوا، كما أن الشاعر قد قدم قوله: وأنتم يعنى قوله:
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم ... بغاة ما بقينا فى شقاق
__________
(106) المائدة: 82
(107) الكشاف: ج 1ص 520والآية من سورة البقرة: 96
(108) الأنبياء: 79
(109) الكشاف ج 3ص 101
(110) المائدة: 69(1/345)
منبها على أن المخاطبين أوغل فى الوصف بالبغاة من قومه، حيث عاجل بهم قبل الخبر الذى هو «البغاة» لئلا يدخل قومه فى البغى قبلهم، مع كونهم أوغل فيه منهم، وأثبت قدما، فان قلت: فلو قيل والصابئين واياكم، لكان التقديم حاصلا؟ قلت: لو قيل هذا لم يكن من التقديم فى شىء، لأنه لا ازالة فيه عن موضعه، وانما يقال: مقدم ومؤخر، للمزال لا للقار فى مكانه» (111).
ومنها مراعاة ما ينبغى أن يكون عليه حال المؤمنين فى الضراعة والتوسل.
يقول فى قوله تعالى: {«رَبَّنَا اغْفِرْ لَنََا ذُنُوبَنََا وَإِسْرََافَنََا فِي أَمْرِنََا وَثَبِّتْ أَقْدََامَنََا»} (112): «والدعاء بالاستغفار منهم مقدم على تثبيت الأقدام فى مواطن الحرب والنصرة على العدو، ليكون طلبهم الى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع، وأقرب الى الاستجابة» (113).
ومنها ما يؤديه التقديم فى بعض الصور من تقوية المعنى وتوكيده.
وذلك لخصوصية فى المقدم كما فى قوله تعالى: {«فَلََا تَحْسَبَنَّ اللََّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ»} (114) يقول الزمخشرى: «فان قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثانى على الأول؟ قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، كقوله: {«إِنَّ اللََّهَ لََا يُخْلِفُ الْمِيعََادَ»} (115): ثم قال «رسله» ليؤذن أنه اذا لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه اخلاف المواعيد كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته» (الكشاف ج 2 ص 440).
وبعد هذه المحاولات الجادة والمثمرة التى بذلها الزمخشرى لكشف أسرار التقديم فى نطاق الجملة والتى حاول فيها أن يجد لكل صورة معنى يشير اليه التقديم، نجد له موقفا جريئا فى هذا الباب يخالف فيه الامام عبد القاهر مخالفة واضحة. ذلك أنه يرى أن التقديم لا يجب
__________
(111) الكشاف ج 1ص 515
(112) آل عمران: 147
(113) الكشاف ج 1ص 227
(114) إبراهيم: 47
(115) آل عمران: 9(1/346)
أن يكون لمعنى فى كل صورة، وهذا قول جرىء وخصوصا بالنسبة للجملة القرآنية التى أودعها الله من أسرار البلاغة ما أعجز الانسان فى كل عصوره. يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«تِلْكَ آيََاتُ الْقُرْآنِ وَكِتََابٍ مُبِينٍ»} (116): «فان قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله: {«الر، تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ»}؟ (117) قلت: لا فرق بينهما الا ما فى المعطوف عليه من التقدم والتأخر، وذلك على ضربين: ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب، وضرب فيه ترجح، فالأول نحو قوله تعالى: {«وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً»} (118) ومنه ما نحن بصدده، والثانى نحو قوله تعالى: {«شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ»} (119).
ومثل هذا ما قاله فى المقارنة بين قوله تعالى: {«وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ»} (120)، وقوله تعالى:
{«لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ»} (121) فانه رجع بعد ما ذكر وجها حسنا، أشرنا اليه سابقا. فقال: «على أن العطف بالواو حكمه حكم التثنية» (122).
وقد روى فى قوله تعالى: {«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»} (123) حكاية الأعرابى الذى أخر {«خَيْراً يَرَهُ»} فقيل له: قدمت وأخرت، فقال:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنّه ... كلا جانبى هرشى لهنّ طريق
ولم يعلق عليها. وقد نظرت فى بيان وجه التقديم فى هذه
__________
(116) النمل: 1
(117) الحجر: 1
(118) الأعراف: 161
(119) الكشاف ج 3ص 273والآية من سورة آل عمران: 18
(120) يونس: 61
(121) سبأ: 3
(122) الكشاف ج 2ص 278
(123) الزلزلة: 7، 8(1/347)
الآيات ولكننى لم أهتد الى شىء أطمئن اليه فى الترتيب بين «الكتاب» و «قرآن مبين» وان كنت أثق أن هناك سرا محجبا لم يرنى الله اياه، ولم أستطع أن أقول فى آية: {«وَقُولُوا حِطَّةٌ»} (124) أكثر من أن التقديم للاهتمام فلما كان القول أهم قدم على الدخول، أما آية الزلزلة فانى أرى لها وجها ملخصه أن الآيات السابقة تصف أهوال هذا اليوم، وهى أهوال تنخلع لها قلوب المؤمنين، وقد بادر القرآن بذكر {«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ»} لتطمئن القلوب المؤمنة وسط هذه المفزعات، وأيضا لشرف الخير وتقدمه.
وقد حام العلامة الطبرى قديما حول هذا الرأى الذى ذكره الزمخشرى وقال فى جواب سؤال أورده فى قوله تعالى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ»} (125) حيث ان النظر يقتضى تقديم طلب المعونة على العبادة لأن العبادة تكون بها، قال الطبرى: «لما كان معلوما أن العبادة لا سبيل للعبد اليها الا بمعونة من الله جل ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبد عابدا الا وهو على العبادة معان، وأن يكون معانا عليها الا وهو فاعل، كان سواء تقديم ما قدم منها على صاحبه كما سواء قولك للرجل اذا قضى حاجتك فأحسن اليك فى قضائها: قضيت حاجتى فأحسنت الى، فقدمت ذكر قضاء حاجتك اذ قلت: أحسنت الى فقضيت حاجتى، فقدمت ذكر الاحسان، على ذكر قضاء الحاجة، لأنه لا يكون قاضيا حاجتك الا وهو اليك محسن، ولا محسنا الا وهو لحاجتك قاض، فكذلك سواء قول القائل: اللهم اياك نعبد فأعنا على عبادتك، وقوله: اللهم أعنا على عبادتك فانا اياك نعبد» (126).
وكأن الطبرى وهو يرى التقديم والتأخير هنا سواء يجد شيئا فى نفسه يمنعه من التصريح بأن تقديم احدى الجملتين على الأخرى
__________
(124) الأعراف: 161
(125) الفاتحة: 5
(126) تفسير الطبرى ج 1ص 70(1/348)
كتأخيرها عنها ولهذا مثل بالاحسان وقضاء الحاجة وبقول القائل:
اللهم انا اياك نعبد الى آخره.
الاستفهام:
وبالتتبع المستقصى لحديثه فى الاستفهام نستطيع أن نقول ان البحث فيه يتفرع الى فروع ثلاثة:
الأول: التقديم فى الاستفهام أو بناء الجملة مع أدوات الاستفهام.
الثانى: دراسة المعانى التى تفيدها جملة الاستفهام.
الثالث: دراسة جواب الاستفهام وبيان موافقته أو مخالفته للسؤال وما وراء المخالفة من أسرار.
أما التقديم فى الاستفهام فان الزمخشرى كغيره من البلاغيين يرى أن المستفهم عنه هو ما يلى الهمزة. وحينما يدخل معنى جديد على حرف الاستفهام كالانكار أو التعجب فان الذى يلى هذا الحرف هو المقصود بهذا المعنى الجديد.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كََانُوا لََا يَعْقِلُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كََانُوا لََا يُبْصِرُونَ»} (127):
«وقوله: «أفأنت أفأنت» دلالة على أنه لا يقدر على اسماعهم وهدايتهم الا الله عز وجل بالقسر والالجاء كما لا يقدر على رد الأصم والأعمى المسلوبى العقل حديدى السمع والبصر راجحى العقل الا الله وحده» (128).
ويقول فى قوله تعالى: {«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»} (129): «أفأنت تكره الناس بادخال همزة الانكار على
__________
(127) يونس: 42، 43
(128) الكشاف ج 2ص 274.
(129) يونس: 99(1/349)
المكره دون فعله دليل على أن الله وحده هو القادر على هذا الاكراه دون غيره» (130).
وقد تدخل همزة الاستفهام على المفعول فيكون هو المراد بمعناها كما كان الحال مع الفاعل فى المثالين السابقين.
يقول فى قوله تعالى: {«أَغَيْرَ اللََّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا»} (131): «أولى عير الله همزة الاستفهام دون الفعل الذى هو «أتخذ» لأن الانكار فى اتخاذ غير الله وليا، لا فى اتخاذ الولى فكان أولى بالتقديم ونحوه:
{«أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجََاهِلُونَ»} (132) وقوله: {«آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ»} (133).
ومثل ايلاء الهمزة المفعول ايلاؤها الجر والمجرور والظرف، يقول فى قوله تعالى: {«أَإِذََا مََا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا»} (134): «وتقديم الظرف وايلاؤه حرف الانكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ومنه جاء انكارهم فهو كقولك للمسيء الى المحسن: أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت اليه»؟ (135).
قلت: ان القسم الأول من بحث الاستفهام يتعلق ببناء الجملة مع أدوات الاستفهام أو التقديم فى الاستفهام. ويجدر أن أشير هنا الى أن خصائص الصياغة وأحوال الكلمات فى الجملة تظل مؤدية مع الاستفهام أغراضها ودلالاتها التى كانت تؤديها فى الخبر المثبت والمنفى، فالتنكير والتعريف والحذف والذكر وغير ذلك من الخصائص يظل محتفظا بدلالاته، لذلك لم يعن الزمخشرى بالحديث عن هذه الخصائص وانما تكلم فى التقديم مع الهمزة. واذا كان البلاغيون كما ذكرت قد قرروا أن المستفهم عنه أو المقرر به أو المنكر هو ما يلى الهمزة. سواء أكان فعلا
__________
(130) الكشاف ج 4ص 65.
(131) الأنعام: 14
(132) الزمر: 64
(133) الكشاف ج 2ص 7والآية من سورة يونس: 59
(134) مريم: 66
(135) الكشاف ج 3ص 4.(1/350)
أو فاعلا أو مفعولا أو ظرفا فاننا نلحظ هنا تنازعا بين هذا الشرط أو هذه الدلالة ودلالات التقديم التى أشرنا اليها والتى تدور حول العناية والاهتمام أو التقوية والاختصاص، فتقديم الفاعل المعنوى فى قولنا: أنت قلت هذا، قد يكون للتقوى وقد يكون للتخصيص كما ذكرنا، وتقديم المفعول فى: زيدا ضربت، يكون للاختصاص غالبا وهذا واضح فى الخبر مثبتا أو منفيا.
أما اذا قلت: أأنت قلت هذا؟ أو: أزيدا ضربت؟ سواء أكان استفهاما حقيقيا أو انكاريا أو تقريريا، فاننا لا نهتم حينئذ بالقول بأن التقديم للتقوية أو للاختصاص، وانما نقول: انه قدم الفاعل لأنه هو المستفهم عنه، أو المنكر أو المقرر به، وكذلك نقول فى تقديم المفعول ونسكت غالبا عن دلالة الاختصاص أو التقوية، وكذلك فعل عبد القاهر الجرجانى فقد كان اهتمامه فى بحث التقديم فى الاستفهام منصبا على توضيح أن ما يلى الهمزة يكون دائما هو المراد بمعناها، أصليا أو غير أصلى، كما ذكر فى قوله تعالى: {«أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذََا بِآلِهَتِنََا يََا إِبْرََاهِيمُ»} (136) وقوله تعالى: {«قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ»} (137) وقوله تعالى: {«أَنُلْزِمُكُمُوهََا وَأَنْتُمْ لَهََا كََارِهُونَ»} (138) وقوله تعالى: {«أَغَيْرَ اللََّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا»} (139) وقوله تعالى: {«أَغَيْرَ اللََّهِ تَدْعُونَ»} (140)، وقوله تعالى: {«فَقََالُوا أَبَشَراً مِنََّا وََاحِداً نَتَّبِعُهُ»} (141).
فهل يعنى هذا أن التقديم مع همزة الاستفهام يفقد دلالته على التقوية والتخصيص ويتخصص لهذا الغرض، أعنى لأنه المسئول عنه أو المقرر به الى آخره، أم أن دلالته على التخصيص والتأكيد باقية؟
__________
(136) الأنبياء: 62
(137) الأنعام: 144
(138) هود: 28
(139) الأنعام: 14
(140) الأنعام: 40
(141) القمر: 24(1/351)
وبعد التأمل فى كلام عبد القاهر لم جد فيه ما يشير الى دلالة التقديم فى الاستفهام على الاختصاص الا ما ذكره فى قوله تعالى:
{«أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ»} (142).
فقد فقال بعد ما بين مجيئها على سبيل الفرض والتمثيل: «ثم المعنى فى تقدم الاسم وان لم يقل: أتسمع الصم؟ هو أن يقال النبى صلّى الله عليه وسلم:
أأنت خصوصا قد أوتيت أن تسمع الصم؟ وأن يجعل فى ظنه أنه يستطيع اسماعهم بمثابة من يظن أنه قد أوتى قدرة على اسماع الصم» (143).
وكلامه هنا لا يبعد أن يفهم منه افادة التقديم لمعنى الاختصاص كما أن كلام الزمخشرى الذى أثبتناه فى هذه الآية وفى قوله تعالى:
{«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ»} (144) لا يبعد أن يفهم منه أيضا التقديم لمعنى الاختصاص.
ومهما يكن من أمر فان اهتمام عبد القاهر والزمخشرى كان منصرفا أو كالمنصرف عن فائدة الاختصاص فى تقديم صور الاستفهام فلم يكرروا حديث الاختصاص فى هذه الصور كما كرروه فى صور الخبر مثبتا كان أو منفيا.
وكلام السكاكى والبلاغيين بعده ينص على أن دلالة التقديم على الاختصاص تظل باقية مع أدوات الاستفهام، وبذلك عللوا قبح قولنا:
هل زيدا ضربت؟ يقول صاحب المفتاح: «وقبح: هل رجل عرف؟ وهل زيدا عرفت؟ دون: هل زيدا عرفته؟ ولم يقبح: أرجل عرف؟ وأزيد عرفت؟ لما سبق أن التقديم يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل فبينه وبين «هل» تدافع، واذا استحضرت ما سبق من التفاصيل فى صور التقديم عساك تهتدى لما طويت ذكره أنا» (145).
__________
(142) يونس: 42
(143) دلائل الاعجاز
(144) يونس: 99
(145) مفتاح العلوم ص 167.(1/352)
ويكرر الخطيب هذا التعليل فى كتاب الايضاح ويعترض عليه بشأنه يلزم عليه ألا يقبح «هل زيد عرف»؟ لامتناع تقدير التقديم فيه على مذهب السكاكى مع أن ذلك قبيح باتفاق النحاة. ويدفع سعد الدين هذا الاعتراض بأن العلة التى ذكرها السكاكى لا يلزم أن تطرد فى كل مثال، والمهم أن اعتراض الخطيب على السكاكى ورد سعد الدين لم يتصلا بما نحن فيه فكلهم يقرون أن التقديم فى «هل زيدا عرفت»؟ يفيد الاختصاص ولذلك قبح هذا الاستعمال لتدافع دلالة الاختصاص مع دلالة «هل» التى يسأل بها عن التصديق قال ابن يعقوب المغربى فى شرح قول الخطيب: وجعل السكاكى قبح «هل رجل عرف» لذلك قال: وهو كون التقديم للتخصيص المفيد للعلم بأصل الثبوت المنافى لمقتضى:
هل» (146).
وكما ذكروا افادة التقديم للاختصاص مع «هل» ذكروها أيضا مع الهمزة التى هى لتصور أحد طرفى النسبة فالسكاكى يحذر من الغفلة عن خصوصيات تركيب الجملة قبل الاستفهام فيقول بعد ما ذكر صور التقرير والانكار بالهمزة: «واياك أن يزل عن خاطرك التفصيل الذى سبق فى نحو: «أنا ضربت، وأنت ضربت، وهو ضرب» من احتمال الابتداء واحتمال التقديم، وتفاوت المعنى فى الوجهين، فلا تحمل نحو قوله تعالى: {«آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ»} (147) على التقديم، فليس المراد أن الاذن ينكر من الله دون غيره. ولكن أحمله على الابتداء مرادا منه تقوية حكم الانكار، وانظم فى هذا المسلك قوله تعالى: {«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ»} (148) وقوله تعالى: {«أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ»} (149) وقوله: {«أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ»} (150) وما جرى مجراه» (151).
__________
(146) شروح التلخيص شرح ابن يعقوب ج 2ص 258. ويراجع هذا البحث فى دراستنا للقصر والانشاء.
(147) يونس: 59
(148) يونس: 99
(149) الزخرف: 40
(150) الزخرف: 32
(151) المفتاح ص 171.(1/353)
وقال سعد الدين فى بيان أن المنكر هو ما يلى الهمزة:
«وكذا اذا قدم المرفوع على الفعل فقد يكون للانكار على نفس الفاعل بحمل التقديم على التخصيص كما مر، وقد يكون لانكار الحكم على أن يكون التقديم لمجرد التقوى، وجعل صاحب المفتاح قوله تعالى:
{«أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ»} من قبيل تقوية حكم الانكار، نظرا الى أن المخاطب وهو النبى صلّى الله عليه وسلم لم يعتقد اشتراكه فى ذلك، ولا انفراده به».
ثم قال سعد الدين مشيرا الى كلام الزمخشرى الذى أثبتناه وأنه يفيد أن التقديم فيه للاختصاص مع أن الانكار موجه للفاعل المقدم على سبيل التمثيل كما ذكرنا، يقول سعد الدين: «وجعلهما صاحب الكشاف من قبيل التخصيص نظرا الى أنه عليه السلام لفرط شغفه بايمانهم.
وتبالغ حرصه على ذلك. كأنه يعتقد قدرته على ذلك».
ثم أشار الى امكان القول بتأكيد دلالة التقديم فى الاستفهام الانكارى على التخصيص. وذلك بتنزيل هذا الاستفهام منزلة النفى فقال: «لا يقال همزة الانكار بمنزلة حرف النفى، وقد مر أن ما يلى حرف النفى يفيد التخصيص مطلقا، فكيف يحمله السكاكى على التقوى دون التخصيص؟ لأنا نقول: لو سلم أن الهمزة بمنزلة حرف النفى فى ذلك، فالسكاكى لم يفرق بين ما يلى حرف النفى وغيره، بل جعل الجميع محتملا للتقوى والتخصيص، ان كان المقدم مضمرا، ومفيدا للتخصيص ان كان مظهرا منكرا، وللتقوى ان كان معرفا» (152).
وقال بهاء الدين السبكى فى عروس الأفراح: «وحمل الزمخشرى تقديم الاسم فى قوله تعالى: {«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»} (153)، وقوله تعالى: {«أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ»} (154) على أن المعنى: أفأنت تقدر على اكراههم على سبيل
__________
(152) المطول ص 237.
(153) يونس: 99
(154) الزخرف: 40(1/354)
القصر. أى انما يقدر على ذلك الله. ولم يقدر السكاكى فيه تقديما بل حمله على الابتداء دون تقدير التقديم، كما هو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما فى: أنا قمت، فلا يفيد غير تقوى الحكم» (155).
فتلخص من كل ما ذكرنا أن التقديم مع همزة الاستفهام يكون لبيان المطلوب بمعناها، ويكون أيضا لافادة التقوى والتخصيص، ولا تزاحم بين النكات، الا أننا فى تحليل هذه الصورة نهتم ببيان معنى الاستفهام أو التقرير، وتوجهه الى الفاعل أو المفعول، لأن ذلك هو الأهم فى الجملة. وقد يكون مناط الفائدة فيها، وللعلامة سعد الدين ملاحظة دقيقة فى هذه المسألة. فقد لحظ أن الانكار حين يتوجه الى المفعول المقدم للاختصاص قد تظن أن القصد فيه انكار الاختصاص لأن الاختصاص قيد والانكار نفى، والنفى انما يتوجه الى القيد دون المقيد، ثم أجاب عن هذا الوهم اجابة فيها كثير من التكلف».
يقول سعد الدين فى شرحه للكشاف معلقا على قوله فى آية: {«أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ»} (156): «فان قلت: لو كان التقديم فى الآيتين للاختصاص لكان مدلول الكلام انكار اختصاص الغير بالعبادة والربوبية، وهو لا يفيد انكار الشركة بل ربما يفيد جوازها بناء على ما تقرر عندهم من أن النفى اذا أدخل فى كلام فيه قيد توجه الى القيد خاصة، وأفاد ثبوت أصل الحكم. قلت: ذلك انما يكون اذا اعتبر القيد أولا ثم نفى، وأما اذا اعتبر النفى أولا ثم قيد فلا، والتعويل على القرائن، فههنا اعتبر النفى والانكار ثم الاختصاص، فكان لاختصاص الغير بالانكار، بمعنى أن المنكر هو الأمر بعبادة الغير، ألا ترى قولنا: ما زيدا ضربت، وما أنا قلت هذا، معناه: ولكنى ضربت غيره، وقلت أنا وغيرى، وأن قوله تعالى:
{«وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ»} (157) لتأكيد النفى لا لنفى التأكيد» (158).
__________
(155) عروس الأفراح فى شروح التلخيص ج 2ص 300.
(156) الزمر: 64
(157) البقرة: 8
(158) حاشية سعد الدين على الكشاف ورقة 16(1/355)
وهذه التحقيق صورة من البحث البلاغى الذى استغرقه النظر العقلى وهو كلام لا نستطيع انكاره، لأنه يقوم على النظر والمنطق، وما يقوم على هذين يصعب ابطاله، ولكننا مطمئنون الى أن لدراسة اللغة وفهم الأساليب منطقا آخر، وهذا المنطق كما أتصوره هو منطق الاحساس والفطرة، هو ما يتبادر الى الذهن عند سماع التعبير، وعليه عوّل سعد الدين فى هذه المناقشة حين قال: والتعويل على القرائن، اما أن يكون الكلام قد روعى فيه القيد أولا ثم نفى، فيكون النفى منصبا على القيد، أو أنه نفى ثم قيد فيكون لتقييد النفى لا لنفى التقييد، فهذه أمور لا يراعيها الناس فى انشائهم، ولا تخطر بخيال متكلم، وما أشبه هذا بقول من قال: ان قولنا: ضرب زيد، فيه مجازا لأن الضارب يده، وقولنا: ضربت عمرا، فيه مجازا، لأنك تضرب يده أو رأسه لا كله، كل هذه ملاحظات قد يستجيب لها المنطق ولكنها تكلف فى دراسة الأساليب.
أما البحث الثانى من مباحث الاستفهام فهو بحث يتعلق ببيان المعانى التى تفيدها أداة الاستفهام مما هو غير معناه الحقيقى. وواضح أن الاستفهام بمعناه الأصلى لا يقع فى كلام رب العزة لأن احاطة علمه شاملة، ولهذا كثر حديث الزمخشرى عن المعانى التى تفهم من صورة الاستفهام. نعم قد يقع الاستفهام الحقيقى فى القرآن حين يحكى مواقف أو يفصل مقاولات. والمهم أن أكثر أساليب الاستفهام فى الكتاب العزيز جاءت لغير المعنى الحقيقى للاستفهام.
فالاستفهام قد يفيد تفخيم شأن المستفهم عنه كما فى قوله تعالى:
{«عَمَّ يَتَسََاءَلُونَ»} (159) ومعنى هذا الاستفهام تفخيم الشأن كأنه قال:
عن أى شىء يتساءلون، ونحوه «ما» فى قولك: زيد ما زيد؟، جعلته لانقطاع قرينه، وعدم نظيره، كأنه شىء خفى عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه، وتفحص عن جوهره، كما تقول: ما الغول؟ وما العنقاء؟
تريد أى شىء هو من الأشياء، هذا أصله ثم جرد للعبارة عن التفخيم،
__________
(159) النبأ: 1(1/356)
حتى وقع فى كلام من لا تخفى عليه خافية» (160) والناظر فى كتب البلاغيين المتأخرين يجد أثر هذا الكلام واضحا فى حديثهم عن «ما» الاستفهامية.
وقد يكون لتبكيت المخاطب كقوله تعالى: {«قََالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيََاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهََا عِلْماً أَمََّا ذََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»} (161): «للتبكيت لا غير ذلك أنهم لم يعملوا الا التكذيب فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدقنا بها، وليس الا التصديق بها أو التكذيب. ومثاله أن تقول لراعيك وقد عرفته:
رويعى سوء أتاكل نعمى أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل «ما» تبدأ به، وتجعله أصل كلامك، وأساسه هو الذى صح عندك من أكله وفساده، وترمى بقولك «أم ماذا تعمل بها»؟ مع علمك أنه لا يعمل بها الا الأكل، لتبهته وتعلمه بأنه لا يجيء منه الا أكلها، وأنه لا يقدر أن يدعى الحفظ والاصلاح لما شهر من خلاف ذلك، أو أراد: أما كان لهم عمل فى الدنيا الا الكفر والتكذيب بآيات الله أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعنى أنه لم يكن لهم عمل غيره كأنهم لم يخلقوا الا للكفر والمعصية وانما خلقوا للايمان والطاعة» (162).
وقد يفيد التحقيق كما فى قوله تعالى: {«أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ»} (163) يقول الزمخشرى: «ألا: مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفى لاعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام اذا أدخل على النفى أفاد تحقيقا كقوله: {«أَلَيْسَ ذََلِكَ بِقََادِرٍ»} (164)، ولكونها فى هذا المنصب من التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها الا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وأختها التى هى «ما» من مقدمات اليمين وطلائعها».
__________
(160) الكشاف ج 4ص 542.
(161) النمل: 84
(162) الكشاف ج 3ص 303
(163) البقرة: 12
(164) القيامة: 40(1/357)
«أما والذى لا يعلم الغيب غيره»، «أما والذى أبكى وأضحك» (165).
وقد يفيد الاستبعاد كقوله تعالى: {«قََالَتْ يََا وَيْلَتى ََ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ»} (166) يقول: «وهو استبعاد من حيث العادة التى أجراها الله وانما أنكرت عليها الملائكة تعجبها فقالوا: {«أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ»}
لأنها كانت فى بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات» (167).
وقد يفيد الانكار كما فى قوله تعالى: {«أَفَأَصْفََاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ»} (168) قال الزمخشرى: «والهمزة للانكار يعنى: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون لم يجعل فيهم نصيبا لنفسه واتخذ أدونهم وهى البنات وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعاداتكم» (169).
وقد يفيد التعظيم كما فى قوله تعالى: {«كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ»} (170) يقول: «تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مثله وتسلية له» (171).
وقد يفيد التوبيخ كما فى قوله تعالى: {«يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ»} (172) قال الزمخشرى: «يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ {«أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ»} (173).
وقد يفيد المبالغة فى طلب الفعل والحض عليه كما فى قوله تعالى:
{«فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»} (174) قال الزمخشرى: «من أبلغ ما ينهى به
__________
(165) الكشاف ج 1ص 4948.
(166) هود: 72
(167) الكشاف ج 2ص 312.
(168) الاسراء: 40
(169) الكشاف ج 2ص 521
(170) يونس: 73
(171) الكشاف ج 1ص 282.
(172) الأنعام: 130
(173) الكشاف ج 2ص 52.
(174) المائدة: 91(1/358)
كأنه قيل: قد تلا عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم من هذه الصوارف منتهون؟ أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا»؟ (175).
وقد يفيد التقريع كما فى قوله تعالى: {«سَلْ بَنِي إِسْرََائِيلَ»} (176)
قال: «وهذا السؤال سؤال تقريع كما تسأل الكفرة يوم القيامة» (177).
وقد يفيد التعبير كما فى قوله تعالى: {«أَفَحُكْمَ الْجََاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ»} (178). قال الزمخشرى بعد ما ذكر وجها لهذا الاستفهام:
«والثانى أن يكون تعييرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التى هى هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع الى وحى من الله تعالى» (179).
وقد يفيد التعجيب كما فى قوله تعالى: {«وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرََاةُ فِيهََا حُكْمُ اللََّهِ»} (180) يقول: {«وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ»} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص فى كتابهم الذى يدعون الايمان به» (181).
وقد يفيد التقرير كما فى قوله تعالى: {«هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتََالُ أَلََّا تُقََاتِلُوا»} (182) يقول الزمخشرى:
«والمعنى هل قاربتم ألا تقاتلوا، يعنى هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول: هل عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل «هل» مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون وأراد بالاستفهام التقرير، وتثبت أن المتوقع كائن، وأنه صائب فى توقعه، كقوله تعالى: {«هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ»} (183) معناه التقرير».
__________
(175) الكشاف ج 1ص 526.
(176) البقرة: 211
(177) الكشاف ج 1ص 196.
(178) المائدة: 50
(179) الكشاف ج 1ص 498.
(180) المائدة: 43
(181) الكشاف ج 1ص 494.
(182) البقرة: 246
(183) الانسان: 1(1/359)
وقد يفيد التسوية كما فى قوله تعالى: {«سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ»} (184) يقول: «والهمزة و «أم» مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا، قال سيبويه: «جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك: «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» يعنى أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذاك جرى على صورة النداء، ولا نداء، ومعنى الاستواء استواؤهما فى علم المستفهم عنهما، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن اما الانذار واما عدمه ولكن لا بعينه فكلاهما معلوم بعلم غير معين» (185).
وقد يفيد الاستفهام أن المستفهم عنه أمر مشهور والعلم به شائع كما فى قوله تعالى: {«وَهَلْ أَتََاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ»} (186)، قال: «ظاهره الاستفهام ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التى حقها أن تشيع ولا تخض على أحد، والتشويق الى استماعه» (187).
وقد يفيد الاستبطاء كما فى قوله تعالى: {«وَقِيلَ لِلنََّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ»} (188) استبطاء لهم فى الاجتماع والمراد منه استعجالهم واستحثاثهم كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ اذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل اليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد ربّ أخا عون به محراق
يريد: ابعثه الينا سريعا ولا تبطئ» (189).
وقد يفيد الاستفهام عدة معان كالتقرير والتوبيخ والتعجيب كما
__________
(184) البقرة: 6
(185) الكشاف ج 1ص 37.
(186) سورة ص: 21
(187) الكشاف ج 4ص 79.
(188) الشعراء: 39
(189) الكشاف ج 3ص 245.(1/360)
فى قوله تعالى: {«أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ»} (190) يقول: «الهمزة للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم» (191).
وقد يفيد الانكار والتعجيب كما فى قوله تعالى: {«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ»} (192) يقول: «معنى الهمزة فى «كيف» مثله فى قولك: أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو الى الايمان وهو الانكار والتعجيب، ونظيره قولك: أتطير بغير جناح؟ فان قلت:
قولك «أتطير بغير جناح» انكار للطيران لأنه مستحيل مع ما ذكر من الاماتة والاحياء، قلت: قد أخرج فى صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعى الى الايمان» (193).
وقد يفيد الاستقصار، والتعيير، والتوبيخ، كما فى قوله تعالى:
{«وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ»} (194) يقول: «يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الاسلام ويقتضى حصوله لا محالة فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا الا سلكته: هل فهمتها لا أم لك؟، ومنه قوله عز وعلا: {«فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»} (195) بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر وفى هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الانصاف لأن المنصف اذا تجلت له الحجة لم يتوقف اذعانا للحق. وكذلك فى «فهل فهمتها» توبيخ بالبلادة وكلة القريحة وفى {«فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»}
بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطى المنهى عنه» (196).
وقد يفيد التوبيخ والتقريع كما فى قوله تعالى: {«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ»} (197) يقول: «فان قلت: فاذا كان عالما
__________
(190) البقرة: 44
(191) الكشاف ج 1ص 99.
(192) البقرة: 28
(193) الكشاف ج 1ص 91.
(194) آل عمران: 20
(195) المائدة: 91
(196) الكشاف ج 1ص 266
(197) الأعراف: 6(1/361)
بذلك وكان يقصه عليهم فما معنى سؤالهم؟ قلت: معناه التوبيخ والتقريع والتقرير اذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم» (198) وقد يراد بهذه المعانى غير المخاطب كأن يكون الخطاب موجها الى الرسل عليهم السلام والمراد توبيخ من كذب بها وهذا النوع قريب من التعريض.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلََائِكَةِ أَهََؤُلََاءِ إِيََّاكُمْ كََانُوا يَعْبُدُونَ»} (199): «هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر «اياك أعنى واسمعى يا جارة»، ونحوه قوله تعالى: {«أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ»} (200) وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين برءاء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، والغرض أن يقول ويقولوا ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد وتعييرهم أبلغ وخجلهم أعظم» (201)
ومنه قوله تعالى: {«يَوْمَ يَجْمَعُ اللََّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مََا ذََا أُجِبْتُمْ»} (202)
يقول: «فان قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد» (203)
وقد يكون للسؤال مقصد ومغزى غير حقيقة الاستفهام وغير هذه المعانى التى أشرنا اليها كان يراد لفت المسئول الى المسئول عنه ليتبينه أشد التبيين تمهيدا لاحداث أمر عظيم فيه كما فى سؤال المولى لموسى عليه السلام عما فى يمينه فى قوله تعالى: {«وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ»} (204) يقول الزمخشرى: «انما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا فى الخشبة اليابسة من قلبها حية نضاضة، وليقرر فى نفسه
__________
(198) الكشاف ج 2ص 69
(199) سبأ: 40
(200) المائدة: 116
(201) الكشاف ج 3ص 464463
(202) المائدة: 109
(203) الكشاف ج 3ص 537.
(204) طه: 17(1/362)
المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب اليه وينبهه على قدرته الباهرة، ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد ويقول لك: ما هى؟
فتقول: زبرة حديد، ثم يريك بعد أيام لبوسا مسرودا فيقول لك: هى تلك الزبرة صيرتها الى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد» (205)
وقد يكون الجواب نفسه هو المقصد من السؤال لأن للجواب أثرا فى سياق الكلام والغرض منه كما فى قوله تعالى: {«قََالَ رَبِّ أَنََّى يَكُونُ لِي غُلََامٌ وَكََانَتِ امْرَأَتِي عََاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا»} (206) قال الزمخشرى: «فان قلت: لم طلب أولا وهو وامرأته على صفة العتى والعقر فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به فيزداد المؤمنون ايقانا ويرتدع المبطلون والا فمعتقد زكريا أولا وأخيرا كان على منهاج واحد فى أن الله غنى عن الأسباب» (207)
ويجدر بنا الآن أن نسأل: كيف تفيد أدوات الاستفهام هذه المعانى؟
أى ما نوع دلالتها؟ ولا تجد جوابا قاطعا فى كلام الزمخشرى على هذا السؤال أى أنه لم يبين لنا أن افادة أداة الاستفهام هذه المعانى جاء على طريق المجاز أو على طريق الحقيقة، نعم قد قال: ان الأداة انسلخ عنها معنى الاستفهام رأسا، وروى عن سيبويه أنها جرت على حرف الاستفهام ولا استفهام، كما جرى حرف النداء على صورة النداء ولا نداء. وهذا صريح فى أن الأداة صارت خالية من معنى الاستفهام وأنها صارت تحمل معنى آخر جديدا أى هناك نقلا لها، ثم انه يقول فى «ما» الاستفهامية فى قوله تعالى: {«فَبِمَ تُبَشِّرُونَ»}؟ (208):
«وهى «ما» الاستفهامية دخلها معنى التعجيب» (209)
وقد يفهم من هذا أن «ما» لم تنسلخ عن الاستفهام رأسا وانما ظل يكمن فيها الاستفهام بعد ما دخلها معنى التعجب. وسواء أكانت
__________
(205) الكشاف ج 3ص 44.
(206) مريم: 8
(207) الكشاف ج 3ص 4.
(208) الحجر: 54
(209) الكشاف.(1/363)
الأداة قد انسلخت أم لم تنسلخ فان الزمخشرى لم يذكر لنا وجه التجوز، واذا كان من أوائل من اهتموا بالتجوز فى الحروف كما نعتقد فلماذا يسكت هنا عن ذكر المجاز؟ ولما جاء الشراح بعده أجهدوا أنفسهم وأجهدوا الناس فى بيان العلاقة بين هذه المعانى ومعنى الاستفهام، وقد تعسفوا فى هذا الباب، يقول السيد الشريف معلقا على قول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«أَغَيْرَ اللََّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا»}؟ (210): «انكار الشيء بمعنى كراهته والنفرة عن وقوعه فى أحد الأزمنة وادعاء أنه مما لا ينبغى أن يقع يستلزم عدم توجه الذهن اليه المستدعى للجهل به المفضى الى الاستفهام عنه. أو نقول: الاستفهام عنه يستلزم الجهل به المستلزم لعدم توجه الذهن اليه المناسب للكراهية والنفرة عنه وادعاء أنه مما لا ينبغى أن يكون واقعا وقس حال الانكار بمعنى التكذيب عليه» (211)
والسيد رحمه الله يحاول أن يبين وجه التجوز على أنه رغم تجشم هذه المشاق الواضحة فى الربط بين المعانى بأوهى الروابط يقول: انه فى هذا الموضع الصعب سيحاول توضيح وجه المجاز فى بعضها ويستعين بهذا البعض على ما عداه (212) أى أنه لا يستطيع بيان وجه التجوز فى كل موضع رغم ما فى طريقته من تكلف شديد.
وقد سرى هذا الاتجاه التعسفى وأغرم به كثير ممن يهيمون بالرياضة الذهنية، وعلى رأسهم ابن يعقوب المغربى، وقد اقتبس منه بعض المحدثين فى كتبهم التى يقدمونها لصغار الطلاب رغم أن من المتقدمين من قال: وتحقيق كيفية هذا المجاز وبيان أنه من أى نوع من أنواعه لم يحم أحد حوله (213) على أن نوعا آخر من الصعوبة يواجه من يتصدى لتحقيق وجه الدلالة فى هذه الأدوات ذلك ما لحظناه من أن الاستفهام قد يفيد معانى متعددة كالتقريع والتوبيخ والتعجيب فى نص
__________
(210) الأنعام: 14
(211) حاشية الشهاب ج 4ص 31.
(212) تنظر حاشية السيد على المطول ص 235.
(213) المطول ص 235.(1/364)
واحد، فاذا ادعينا أن الأداة مجاز فى احدى هذه المعانى فما موقفنا من غيرها؟ وهل يمكن أن نقول انها نقلت من معناه الأصلى الى هذه المعانى مجتمعة؟ الواقع أن اللفظ فى المجاز ينقل من معناه الى معنى آخر لا الى جملة معان، وقد أدرك هذا بعض القدماء وأشاروا اليه، يقول الشهاب تعليقا على قول البيضاوى المختصر من كلام الزمخشرى فى قوله تعالى: {«أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللََّهِ آلِهَةً أُخْرى ََ»} (214) يقول: «قوله تقرير لهم مع انكار واستبعاد سبق أن التقرير بمعنى التثبيت أو الحمل على الاقرار، والانكار يكون بمعنى التكذيب وأنه لم يقع، وبمعنى أنه لا ينبغى وقوعه والمراد هنا أنه تثبيت وتسجيل له وأنه مما لا يليق، وفيه جمع بين معانى الاستفهام وهى معان مجازية لا يجمع بينها وأن فى ذلك التجوز خفاء حتى قيل انه لم يحم أحد حوله وأنه من أى أنواعه وقد حققه السيد الشريف قدس سره فى حمله الا أن يقال انه يستعمل فى أحد هذه المعانى وغيره مأخوذ من السياق فليتأول» (215) وهذا الجواب الذى ذكره للخروج من هذا الحرج مرفوض لأنه لا يفهم من كلام الزمخشرى.
وقد فكرت فيما قال هؤلاء المدققون فلم أجد فى نفسى اقتناعا به، ولا قبولا له، وأحسب أنهم أنفسهم غير مقتنعين به، ولا متقبلين له، وقد ذكر العلامة عبد الحكيم وجوها من الاحتمالات قد يكون أحدها أقرب من غيره أو أقل اغرابا منها، قال عبد الحكيم: «انه قد يراد منها تلك المعانى بطريق الكناية، وقد تراد بطريق أنها من مستتبعات التراكيب كما تراد بطريق المجاز» (216) وهذا التردد دليل على غموض وجه هذه الدلالة وعلى عدم اقتناعه بواحدة منها وان كان أولاها اعتبار أنها من مستتبعات التراكيب وان كان القول به لا يسلم من ورود اعتراض عليه.
والزمخشرى أكثر تحررا فى بحثه من المتأخرين لا يقف عند الكلمة
__________
(214) الأنعام: 19
(215) حاشية الشهاب ج 4ص 37.
(216) تقرير الشمس الانبابى ج 3ص 148.(1/365)
فى كل موضع ليقول انها هنا حقيقة أو مجاز ويكفيه أن يحيط بالغرض والمقصود من الكلام فى بعض المقامات غير ملتفت الى وجه الاستعمال (217)
والقسم الثالث فى دراسة الاستفهام هو البحث فى مطابقة الجواب للسؤال.
وقد لحظ الزمخشرى فى هذا ملاحظات دقيقة وبين كيف يعدل الكلام البليغ عن الجواب المباشر الى غيره مما هو أهم، وهذا قريب من أسلوب الحكيم الذى فصل البلاغيون القول فيه بعد عصر الزمخشرى وليس هو لأن العدول فيه ليس لأنه الأهم كما قالوا فى أسلوب الحكيم ولهذا استحق هذه التسمية. أما ما نحن فيه فان العدول لمعان كثيرة.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مََا تَعْبُدُونَ. قََالُوا نَعْبُدُ أَصْنََاماً فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ»} (218): «فان قلت «ما تعبدون» سؤال عن المعبود فحسب فكان القياس أن يقولوا «أصناما» كقوله تعالى:
{«وَيَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ»} (219)، وقوله: {«مََا ذََا قََالَ رَبُّكُمْ، قََالُوا الْحَقَّ»} (220)، وقوله: {«مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قََالُوا خَيْراً»} (221)
قلت: هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم وعلى ما قصدوه من اظهار ما فى نفوسهم من الابتهاج والافتخار، ألا تراهم كيف عطفوا على قوله {«نَعْبُدُ»}: {«فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ»} ولم يقتصروا على زيادة «نعبد» وحده، ومثاله أن تقول لبعض الشطار: ما تلبس فى بلادك؟ فيقول: ألبس البرد الأتحمى فأجر ذيله بين جوارى الحى» (222)
__________
(217) ينظر الكشاف ج 2ص 110، 111.
(218) الشعراء 70، 71
(219) البقرة: 219
(220) سبأ: 23
(221) النحل: 30
(222) الكشاف ج 3ص 250.(1/366)
والعدول هنا يعنى الزيادة والتعميم عما يتطلبه السؤال. ومثل هذا جواب ابليس حينما سأله البارى قائلا: {«مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، قََالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نََارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»} (223) «فانه ذكر قصته مبتهجا بها وهى تنطوى على علة امتناعه» (224)
وقد يكون الجواب ناظرا الى أحد معانى السؤال مغفلا غيرها كما فى قوله تعالى: {«وَمََا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يََا مُوسى ََ. قََالَ هُمْ أُولََاءِ عَلى ََ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ََ»} (225) قال الزمخشرى: «فان قلت:
{«وَمََا أَعْجَلَكَ»} سؤال عن سبب العجلة فكان الذى ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك أو الشوق الى كلامك وتنجيز موعدك، وقوله {«هُمْ أُولََاءِ عَلى ََ أَثَرِي»} كما ترى غير منطبق عليه؟ قلت: قد تضمن ما واجه به رب العزة شيئين: أحدهما انكار العجلة فى نفسها. والثانى السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه فكان أهم الأمرين الى موسى بسط العذر وتمهيد العلة فى نفس ما أنكر عليه فاعتل بأنه لم يوجد منه الا تقدم يسير مثله لا يعتد به ولا يحتفل به وليس بينى وبين من سبقته الا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال فقال: {«وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ََ»} (226)
وقد يكون الجواب ناظرا الى ما فى الاستفهام من معنى فرعى غير معناه الأصلى كما فى قوله تعالى: {«وَيَقُولُونَ مَتى ََ هََذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ. قُلْ لَكُمْ مِيعََادُ يَوْمٍ»} (227) يقول الزمخشرى: فان قلت:
كيف انطبق هذا جواب عن سؤالهم؟ قلت: ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له الا تعنتا لا استرشادا فجاء الجواب عن طريق التهديد مطابقا لمجيء السؤال على سبيل الانكار والتعنت وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما» (228)
__________
(223) الأعراف: 12
(224) الكشاف ج 2ص 70.
(225) طه: 83، 84
(226) الكشاف ج 3ص 63، 64.
(227) سبأ: 29، 30
(228) الكشاف ج 3ص 460.(1/367)
وقد يعدل المتكلم عن الجواب لادعاء أن الأمر فى ثبوته وتقرره واضح لا شبهة فيه وأن السؤال عنه لا وجه له، ثم يذكر ما ينبنى على هذه الدعوى ويجعله جوابا وفى هذه الطريقة تأكيد للجواب وتقرير له.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صََالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، قََالُوا إِنََّا بِمََا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ»} (229): «فان قلت: كيف صح قولهم {«إِنََّا بِمََا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ»} جوابا عنه؟ قلت: سألهم عن العلم بارساله فجعلوا ارساله أمرا معلوما مكشوفا مسلما لا يدخله ريب كأنهم قالوا العلم بارساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وانارته، وانما الكلام فى وجوب الايمان به، فنخبرهم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة: انا بالذى آمنتم به كافرون، فوضعوا «آمنتم به» موضع «أرسل به»، ردا لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما».
الأمر:
وصيغ الأمر فى القرآن كانت موضع عناية الأصوليين والفقهاء وذلك لاهتمامهم ببيان ما يراد بها فى أمور الدين من ناحية الوجوب والندب والاباحة وكان المنهج الفقهى غالبا على كثير من المفكرين المسلمين فى شتى ميادين الثقافة الاسلامية، لذلك كانت مباحث الأمر فى بعض الدراسات اللغوية والأدبية تقف عند الحد الفقهى فلا تتجاوز الوجوب والندب والاباحة وكان بحث الزمخشرى لمعانيها أدخل فى باب اللغة والبلاغة ولم يمس معناها التشريعى الا مسا خفيفا.
والزمخشرى يشرح لنا معنى الأمر الذى هو طلب الفعل والعلاقة بينه وبين الأمر بمعنى الشأن من الشئون فيقول فى قوله تعالى:
{«وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»} (230): «فان قلت: ما الأمر؟
قلت: هو طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه وبه سمى الأمر
__________
(229) الأعراف: 75
(230) البقرة: 27(1/368)
الذى هو واحد الأمور لأن الداعى الذى يدعو اليه من يتولاه شبه بأمر يأمره به فقيل له «أمر» تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به كما قيل له «شأن» والشأن الطلب والقصد يقال: شأنت شأنه، أى قصدت قصده» (231)
وبين الزمخشرى أن هذا الأمر الذى هو طلب الفعل ممن هو دونك قد يفيد معانى أخرى منها التهكم كما فى قوله تعالى: {«وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ»} (232) يقول: «وفى أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذى لا ينطق فى معارضة القرآن بفصاحته غاية التهكم» (233)
ومنها التبكيت كما فى قوله تعالى: {«أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ»} (234) يقول: «وانما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الانباء على سبيل التبكيت» (235)
ومنها الاستهزاء كما فى قوله تعالى: {«قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ»} (236) يقول: «استهزاء بهم أى: ان كنتم رجالا دافعين لأسباب الموت فادرءوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا».
ومنها طلب الثبات على الفعل والزيادة منه كما فى قوله تعالى:
{«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ»} (237) يقول: «فان قلت: لا يخلو الأمر بالعبادة من أن يكون متوجها الى المؤمنين والكافرين جميعا أو الى كفار مكة خاصة، وعلى ما روى عن علقمة والحسن، فالمؤمنون عابدون ربهم فكيف أمروا بما هم ملتبسون به؟ وهل هو الا كقول القائل «فلو أنى فعلت كنت من تسأله وهو قائم أن يقوما».
أما الكفار فلا يعرفون الله ولا يقرون به فكيف يعبدونه؟ قلت: المراد بعبادة المؤمنين ازديادهم منهم واقبالهم وثباتهم عليها، وأما عبادة
__________
(231) الكشاف ج 1ص 91.
(232) البقرة: 23
(233) الكشاف ج 1ص 76.
(234) البقرة: 31
(235) الكشاف ج 1ص 94.
(236) آل عمران: 168
(237) البقرة: 21(1/369)
الكفار فمشروط فيها ما لا بد منه وهو الاقرار كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرها وما لا بد للفعل منه فهو مندرج تحت الأمر به» (238)
ومنها الاباحة كما فى قوله تعالى: {«وَإِذََا حَلَلْتُمْ فَاصْطََادُوا»} (239)
يقول: «إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم كأنه قيل: واذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا» (240)
وينفى أن تكون صيغة الأمر مشتملة على معنيين مختلفين ويرى أن هذا من باب الالغاز والتعمية وخصوصا اذا كانت الصيغة مستعملة فى مجال التشريع، يقول فى قوله تعالى: {«إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»} (241): «هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم لهؤلاء على وجه الايجاب ولهؤلاء على وجه الندب؟ قلت: لا لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية» (242)
وكلامه فى الاباحة والوجوب والندب مظهر لما أشرنا اليه من تأثر دراسة هذه الصيغة بالدراسة الفقهية.
ومن المعانى البلاغية التى أشار اليها فى صيغة الأمر: الحيرة والاضطراب فى حال الشدة، يقول فى قوله تعالى: {«وَنََادى ََ أَصْحََابُ النََّارِ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنََا مِنَ الْمََاءِ»} (243): «وانما يطلبون ذلك مع يأسهم من الاجابة اليه حيرة فى أمرهم كما يفعل المضطر الممتحن» (244)
ومنها الاستعجال كما فى قوله تعالى: {«فَأْتِنََا بِمََا تَعِدُنََا»} (245)
يقول: «استعجال منهم للعذاب» (246)
__________
(238) الكشاف ج 1ص 338.
(239) المائدة: 2
(240) الكشاف ج 1ص 68.
(241) المائدة: 6
(242) الكشاف ج 1ص 474.
(243) الأعراف: 50
(244) الكشاف ج 2ص 585.
(245) الأعراف: 70
(246) الكشاف ج 2ص 97.(1/370)
ومنها الدعاء كما فى قوله تعالى: {«قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ»} (247)
قال: «دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به» (248)
وقد يكون الدعاء بما علم أنه واقع لا محالة فيكون من باب اللجأ والضراعة الى الله كما فى قوله تعالى: {«رَبَّنََا وَآتِنََا مََا وَعَدْتَنََا عَلى ََ رُسُلِكَ»} (249)، فانه من باب اللجأ الى الله والخضوع له كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع له والملجأ الذى هو سيما العبودية (250) ومن الدعاء بما علم أنه واقع لا محالة ما كان من بعض الأنبياء عليهم السلام لما أفرغوا عظيم جهدهم فى الدعوة وما وجدوا من أقوامهم الا اصرارا وعنادا كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:
{«رَبَّنََا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوََالًا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا رَبَّنََا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى ََ أَمْوََالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَلََا يُؤْمِنُوا حَتََّى يَرَوُا الْعَذََابَ الْأَلِيمَ»} (251) يقول: «فان قلت: ما معنى قوله {«رَبَّنََا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ»}؟ قلت: هو دعاء بلفظ الأمر كقوله {«رَبَّنَا اطْمِسْ»}، {«وَاشْدُدْ»} وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا، وردد عليهم النصائح والمواعظ زمنا طويلا، وحذرهم عذاب الله وانتقامه وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات الا كفرا، وعلى الانذار الا استكبارا، وعلى النصيحة الا نبوا، لم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم الا الغى والضلال، وأن ايمانهم كالمحال الذى لا يدخل تحت الصحة، أو علم ذلك بوحى من الله، اشتد غضبه عليهم، وأفرط مقته وكرهه لحالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن الله ابليس، وأخزى الله الكافر، مع علمك أنه لا يكون غير
__________
(247) آل عمران: 119
(248) الكشاف ج 1ص 313.
(249) آل عمران: 88
(250) الكشاف ج 1ص 351.
(251) يونس: 88(1/371)
ذلك، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم صلة، وأنهم لا يستأهلون الا أن يخذلوا، ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه» (252)
ومن معانى صيغة الأمر الدلالة على تناهى السخط من الآمر وذلك اذا كان المأمور به غير مرغوب فيه كما فى قوله تعالى: {«لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»} (253) قال الزمخشرى: «فان قلت: كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتخلية، وان ذلك الأمر متسخط الى غاية، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أن ذلك الأمر خطأ، وأنه يؤدى الى ضرر عظيم، فتبالغ فى نصحه واستنزاله عن رأيه، فاذا لم تر منه الا الإباء والتصميم حردت عليه، وقلت: أنت وشأنك، وافعل ما شئت، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر، وكيف والآمر بالشىء مريد له وأنت شديد الكراهية متحسر، ولكنك كأنك تقول له: فإذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك: افعل ما شئت، وتبعث عليه، ليتبين لك اذا فعلت صحة رأى الناصح، وفساد رأيك» (254)
ومنها الترغيب فى المأمور به وذلك اذا كان الأمر بالشىء عقب النهى عن نقيضه كما فى قوله تعالى: {«وَلََا تَنْقُصُوا الْمِكْيََالَ وَالْمِيزََانَ، إِنِّي أَرََاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيََا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيََالَ وَالْمِيزََانَ»} (255) يقول الزمخشرى: «فان قلت: النهى عن النقصان أمر بالايفاء فما فائدة قوله «أوفوا»؟ قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذى كانوا عليه من نقص المكيال والميزان لأن فى التصريح بالقبيح نعيا على المنهى، وتعييرا له، ثم ورد الأمر بالايفاء الذى هو حسن فى العقول معرفا بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه» (256)
وقد يكون الأمر بمعنى الخبر فى صورة الأمر وذلك لمعان
__________
(252) الكشاف ج 2ص 286.
(253) العنكبوت: 66
(254) الكشاف ج 3ص 365.
(255) هود: 84، 85
(256) الكشاف ج 1ص 326.(1/372)
منها الاشارة الى التسوية بين فعل المأمور به وتركه وهذا دال على نهاية السخط على المأمور ورد أعماله اليه، أو دال على نهاية الرضا والقبول، يقول فى قوله تعالى: {«قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ»} (257):
«فان قلت: كيف أمرهم بالانفاق ثم قال {«لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ»}؟ قلت: هو أمر فى الخبر كقوله تبارك وتعالى: {«قُلْ مَنْ كََانَ فِي الضَّلََالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمََنُ مَدًّا»} (258) ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها، ونحوه قوله: {«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لََا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ»} (259) وقوله: أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة. أى لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت الينا أم أحسنت، فاذا قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: اذا دل الكلام عليه كما جاز عكسه فى قولك: رحم الله زيدا، وغفر له، فان قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه وهى أن كثيرا كأنه يقول لعزة: امتحنى لطف محلك عندى وقوة محبتى لك وعاملينى بالاساءة والاحسان وانظرى هل يتفاوت حالى معك مسيئة كنت أم محسنة، وفى معناه قول القائل:
أخوك الذى ان قمت بالسيف عامدا ... لتضربه لم يستغثّك فى الودّ
وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه» (260)
ويكرر هذا التحليل فى قوله تعالى: {«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لََا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ»} (261)
وقد تشير هذه الطريقة الى معنى اهانة المأمور، واحتقاره، وازدرائه، وأنه لا يلتفت الى فعله، يقول فى قوله تعالى: {«قُلْ آمِنُوا}
__________
(257) التوبة: 53
(258) مريم: 75
(259) التوبة: 80
(260) الكشاف ج 2ص 219218.
(261) الكشاف ج 2ص 270.(1/373)
{بِهِ أَوْ لََا تُؤْمِنُوا»} (262): «أمر بالاعراض عنهم، واحتقارهم، والازدراء بشأنهم، وألا يكترث بهم، وبايمانهم، وبامتناعهم عنه، وأنهم ان لم يدخلوا فى الايمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فان خيرا منهم وأفضل وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعملوا بالوحى وبالشرائع قد آمنوا به وصدقوه» (263)
ومن معانى مجىء الخبر فى صورة الأمر: الدلالة على أنه حتم واجب كما فى قوله تعالى: {«فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً»} (264) يقول:
«معناه فسيضحكون قليلا ويبكون كثيرا (جزاء)، الا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره» (265)
وقد يعكس هذا فيقع الأمر فى صورة الخبر كما فى قوله تعالى:
{«يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ»} (266) يقول الزمخشرى: {«يُقََاتِلُونَ»} فيه معنى الأمر كقوله: {«وَتُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ»} (267)
وبلاغة هذه الطريقة أن المأمور كما يقول الزمخشرى «كأنه سورع الى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه» (268) ويقول أيضا: «وانما يخرج الأمر فى صورة الخبر للمبالغة فى ايجاب ايجاد المأمور به فيجعل كأنه يوجد فهو يخبر عنه» (269)
وقد يعبر القرآن عن حدث وقع بصيغة الأمر لتشير هذه الصيغة الى كيفية وقوع هذا الحدث، يقول فى قوله تعالى: {«فَقََالَ لَهُمُ اللََّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيََاهُمْ»} (270): «فان قلت: ما معنى قوله {«فَقََالَ لَهُمُ اللََّهُ مُوتُوا»}؟ قلت:
__________
(262) الاسراء: 107
(263) الكشاف ج 2ص 545
(264) التوبة: 82
(265) الكشاف ج 3ص 233
(266) النساء: 76
(267) الكشاف ج 2ص 246والآية من سورة الصف: 11
(268) الكشاف ج 1ص 118
(269) الكشاف ج 2ص 372
(270) البقرة: 243(1/374)
معناه فأماتهم، وانما جىء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته وتلك ميتة خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف كقوله تعالى: {«إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»} (271)
ويلاحظ الزمخشرى أن تعميم الخطاب فى صيغة الأمر دال على شرف المأمور به وفخامته. يقول فى قوله تعالى: {«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ»} (272): «فان قلت: من المأمور بقوله تعالى:
{«وَبَشِّرِ»}؟ قلت: يجوز أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأن يكون كل واحد كما قال عليه الصلاة والسلام: «بشر المشائين الى المساجد فى الظلم بالنور التام يوم القيامة»، ولم يأمر بذلك واحدا بعينه، وانما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامته شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به» (273)
ومن خصائص صيغة الأمر كما يقول الزمخشرى أن يقع عقيبها ما يحث عليها ويدعو اليها ليتلاءم الكلام ويأخذ بعضه بحجزة بعض، يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ»} (274): «فان قلت: الذى يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو اليها، ويبعث عليها، فكيف كان خلقه اياهم من نفس واحدة على التفصيل الذى ذكره موجبا للتقوى وداعيا اليها؟ قلت: لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شىء، ومن المقدورات عقاب العصاة فالنظر فيه يؤدى الى أن يتقى القادر عليه، ويخشى عقابه، ولأنه يدل على النعمة السابقة عليهم أن يتقوه فى كفرانها، والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها، أو أراد بالتقوى تقوى خاصة، هى
__________
(271) الكشاف ج 1ص 221والآية من سورة يس: 82
(272) البقرة: 25
(273) الكشاف ج 1ص 87
(274) النساء: 1(1/375)
أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل: اتقوا ربكم الذى وصل بينكم، حيث جعلكم صنوفا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة» (275)
النهى:
وقد يكون النهى عن الفعل دالا على شدة الرغبة فى وقوعه موصوفا بصفة معينة حتى كأنه بدون هذه الصفة منهى عنه وفى هذه الحالة تكون أداة الاستثناء مع النهى. وقد تؤدى صيغة الأمر هذا المعنى فيقع الأمر بالشىء والمراد الحرص على الوصف بصفة معينة، وكأن هذا الشيء بهذه الصفة أمر جدير بالبحث عنه والجد فى طلبه، يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»} (276): «فالنهى فى الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الاسلام اذا ماتوا كقولك: لا تصل الا وأنت خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع فى حال صلاته، فان قلت: فأى نكتة فى ادخال حرف النهى عن الصلاة وليس بمنهى عنها؟ قلت: النكتة فيه اظهار أن الصلاة التى لا خشوع فيها كلا صلاة فكأنه قال: أنهاك عنها اذا لم تصلها على هذه الحالة، ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لجار المسجد الا فى المسجد» فانه كالتصريح بقولك لجار المسجد: لا تصل الا فى المسجد، وكذلك المعنى فى الآية اظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الاسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت ألا يحل فيهم، وتقول فى الأمر أيضا: مت وأنت شهيد، وليس مرادك الأمر بالموت، ولكن بالكون على صفة الشهداء، اذا مات، وانما أمرته بالموت اعتدادا منك بميتته واظهارا لفضلها على غيرها، وأنها حقيقة بأن يبحث عنها» (277)
__________
(275) الكشاف ج 1ص 355.
(276) آل عمران: 102
(277) الكشاف ج 1ص 143.(1/376)
وقد يراد بالنهى عن الفعل الاستمرار على الحال التى عليها المخاطب وذلك اذا كان المخاطب غير متصف بالمنهى عنه كما فى قوله تعالى: {«لََا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلََادِ»} (278) يقول الزمخشرى: «فيه وجهان والثانى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه كقوله: {«وَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»} (279)، {«فَلََا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ»} (280) وهذا فى النهى نظير قوله فى الأمر: {«اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ»} (281)، {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»} (282)
وهذا الأسلوب نفسه الذى نهى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أفعال لا يجوز عليه التلبس بها يلحظ الزمخشرى فيه معنى الالهاب والتهييج والاثارة لشدة التمسك بما هو عليه.
يقول فى قوله تعالى: {«لَقَدْ جََاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ. وَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِ اللََّهِ»} (283): «فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك، والتكذيب بآيات الله، ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والالهاب كقوله: {«فَلََا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكََافِرِينَ»} (284)، {«وَلََا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيََاتِ اللََّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ»} (285) ولزيادة التثبيت والعصمة».
وقد يعمد البليغ الى صورة من صور الفعل فيسلط النفى عليها ومراده النهى عن الفعل بصوره كلها الا أن هذه الصورة التى اختارها البليغ أقبح صور الفعل وأبغضها عند النفس فاستجابة النفس الى الكف عنها أطوع وأسرع، وقد تنبه الزمخشرى الى هذه الطريقة فى آيات القرآن التى يراد فيها مواجهة النفس الانسانية برذائلها المنفرة وتصوير هذه
__________
(278) آل عمران 196
(279) الأنعام: 14
(280) القلم: 8
(281) الفاتحة: 6
(282) الكشاف ج 1ص 352.
(283) يونس: 94، 95
(284) القصص: 86
(285) القصص: 87(1/377)
الرذائل أمامها فى صورة منكرة كريهة حتى تنكف عنها وتلزم طريق الخير. يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَلََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَهُمْ إِلى ََ أَمْوََالِكُمْ»} (286): «فان قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم فلم ورد النهى عن أكله معها؟ قلت: لأنهم اذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها كان القبح أبلغ والذم أحق، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم، وسمّع بهم ليكون أزجر لهم» (287)
وقد ينهى المخاطب عن السؤال عن الشيء ويكون فى هذا النهى معنى تهويل حال الشيء، وأن ما صار اليه من الشدة والهول أمر لا يسأل عنه لفظاعته وبشاعته، كما فى قوله تعالى: {«وَلََا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحََابِ الْجَحِيمِ»} (288) قال الزمخشرى معلقا على قراءة النهى: «وقيل معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول: كيف فلان؟ سائلا عن الواقع فى بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه، ووجه التعظيم أن المستخبر يجزع أن يجرى على لسانه ما هو فيه لفظاعته فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع واضجاره فلا تسأل عنه» (289)
النداء:
وقد أدار الزمخشرى حول هذه الصيغة لونا من الدراسة النحوية الأدبية وبيّن خصوصيات فى نداء القرآن الكريم وحللها وربطها بموضوعه ورسالته.
يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ»} (290): «خطاب لمشركى مكة، و «يا» حرف نداء، وضع فى أصله لنداء البعيد، صوت
__________
(286) النساء: 2
(287) الكشاف ج 1ص 385.
(288) البقرة: 119
(289) الكشاف ج 1ص 136.
(290) البقرة: 21(1/378)
يهتف به الرجل بمن يناديه، وأما نداء القريب فله «أى» والهمزة. ثم استعمل فى مناداة من سها وغفل وان قرب تنزيلا له منزلة من بعد، فاذا نودى به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذى يتلوه معنى به جدا. فان قلت: فما بال الداعى يقول فى جؤاره: يا رب ويا الله، وهو أقرب اليه من حبل الوريد، وأسمع به وأبصر؟ قلت: هو استقصار منه واستبعاد لها من مظان الزلفى وما يقربه الى رضوان الله ومنازل المقربين، هضما لنفسه واقرارا عليها بالتفريط فى جنب الله مع فرط التهالك على استجابة دعوته، والاذن لندائه وابتهاله، و «أى» وصلة الى نداء ما فيه الألف واللام وهو اسم مبهم مفتقر الى ما يوضحه ويزيل ابهامه، فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجرى مجراه يتصف به حتى يصح المقصود بالنداء، وفى هذا التدرج من الابهام الى التوضيح ضرب من التأكيد، والتشديد، وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين، معاضدة حرف النداء، ومكاتفته، بتأكيد معناه، ووقوعها عوضا مما يستحقه، أى من الاضافة. فان قلت: لم كثر فى كتاب الله النداء على هذه الطريقة ما لم يكثر فى غيره؟ قلت: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة لأن كل ما نادى الله له عباده من أوامره، ونواهيه، وعظاته، وزواجره، ووعده، ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليها، وغير ذلك مما انطلق به كتابه، أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم اليها، وهم عنها غافلون، فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ» (291)
ويذكر الزمخشرى أن نداء الجماد فى القرآن مظهر من مظاهر استعلاء الربوبية وانقياد الأشياء لها، ولهذا يعمد القرآن الى هذا الأسلوب، وله عنه مندوحة، ليبث فى النفوس هيبة الربوية، ويطبع فيها الشعور بعزتها وكبريائها. يقول فى قوله تعالى: {«وَلَقَدْ آتَيْنََا دََاوُدَ}
__________
(291) الكشاف ج 1ص 68.(1/379)
{مِنََّا فَضْلًا، يََا جِبََالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ»} (292): «فان قلت: أى فرق بين هذا النظم وبين أن يقال: وآتينا داود منا فضلا تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما، ألا ترى الى ما فيه من الفخامة التى لا تخفى من الدلالة على عزة الربوبية، وكبرياء الألوهية، حيث جعلت الجبال منزلة منزلة العقلاء الذين اذا أمرهم أطاعوا، وأذعنوا، واذا دعاهم سمعوا، وأجابوا، اشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت الا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع عن ارادته» (293)
أما نداء الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد لحظ الزمخشرى أنه لم يناد باسمه كما نودى غيره من الأنبياء عليهم السلام وذلك تشريفا له ورفعا لمحله، يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللََّهَ»} (294): «جعل نداءه بالنبى والرسول فى قوله: {«يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللََّهَ»} و {«يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ»} (295) و {«يََا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»} (296) وترك نداءه باسمه كما قال: يا آدم يا موسى يا عيسى يا داود، كرامة له وتشريفا وربئا بمحله، وتنويها بفضله، فان قلت: ان لم يوقع اسمه فى النداء فقد أوقعه فى الاخبار فى قوله: {«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ»} (297)، {«وَمََا مُحَمَّدٌ إِلََّا رَسُولٌ»} (298) قلت: ذلك لتعليم الناس بأنه رسول الله، وتلقين لهم أن يسموه بذلك، ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والاخبار، ألا ترى الى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ذكره فى النداء: {«لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ»} (299)، {«وَقََالَ الرَّسُولُ يََا رَبِّ»} (300)، {«لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللََّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»} (301)، {«وَاللََّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ»} (302)
__________
(292) سبأ: 10
(293) الكشاف ج 3ص 451.
(294) الأحزاب: 1
(295) التحريم: 1
(296) المائدة: 67
(297) الفتح: 29
(298) آل عمران: 144
(299) التوبة: 128
(300) الفرقان: 30
(301) الأحزاب: 21
(302) الكشاف ج 3ص 410والآية من سورة التوبة: 62(1/380)
واذا حذف حرف النداء ترى الزمخشرى يلحظ فى هذا الحذف معنى التقريب والملاطفة، يقول فى قوله تعالى: {«يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذََا»} (303): «حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله» (304)
القسم:
وقد تحدث الزمخشرى فى صور القسم عن العلاقة بين المقسم به والمقسم عليه وبيّن أن أحسن القسم ما وضحت فيه هذه العلاقة، يقول فى قوله تعالى: {«حم. وَالْكِتََابِ الْمُبِينِ. إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا»} (305):
«أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن، وجعل قوله {«إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا»} جوابا للقسم، وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه وكونهما من واد واحد، ونظيره قول أبى تمام: «وثناياك انها اغريض» (306)
ويذكر العلاقة بين وصف المقسم به والمقسم عليه ويرى أن هذا الوصف ينبغى أن يكون له نوع علاقة بالمقسم عليه فى الكلام البليغ، يقول فى قوله تعالى: {«وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَأْتِينَا السََّاعَةُ، قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عََالِمِ الْغَيْبِ، لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ»} (307): «فان قلت: هل للوصف الذى وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت: نعم، وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها فى الخفية، وأولها مسارعة الى القلب اذا قيل {«عََالِمُ الْغَيْبِ»}، فحين أقسم باسمه على اثبات أنه كائن لا محالة، ثم وصف بما يرجع الى الغيب وأنه لا يفوته علم شىء من الخفيات، واندرج تحته احاطته بوقت قيام الساعة، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئا واضحا» (308)
__________
(303) يوسف: 29
(304) الكشاف ج 2ص 360
(305) الزخرف: 31
(306) الكشاف ج 4ص 185
(307) سبأ: 3
(308) الكشاف ج 3ص 448(1/381)
التعجب:
وقد لحظ الزمخشرى ما فى طريقة التعجب من غير لفظه من قوة فى الأداء، ونفاذ الى أدق مواطن الادراك فى النفس حين تواجهها بنقائصها ورذائلها مواجهة فيها حدة وفيها قوة ليلتفت الانسان الى فطرته فيعود اليها. يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللََّهِ أَنْ تَقُولُوا مََا لََا تَفْعَلُونَ»} (309):
«وهذا من أفصح كلام وأبلغه فى معناه، قصد فى «كبر» التعجب من لفظه كقوله: «علت ناب كليب بواؤها» ومعنى التعجب تعظيم الأمر فى قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون الا من شىء خارج عن نظائره وأشكاله، وأسند الى {«أَنْ تَقُولُوا»} ونصب {«مَقْتاً»} على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه» (310)
الكلام المنصف:
وطريقة الكلام المنصف تكون غالبا فى مقامات الحوار والجدل ولا شك أن فى انصاف الخصم ما يستدرجه الى الحق ويقوده اليه وقد اعتمد النبيون وأتباعهم فى أداء رسالتهم الكبيرة على هذا الأسلوب المهذب وكان الزمخشرى أديبا متذوقا فى فقه هذه الطريقة ويرى فهمها خاصا بالأدباء وذوى الحس البصير، وقد وصف أبا عبيدة: بأنه أجفى من أن يفقه ما يقول فيها يقول الزمخشرى فى قوله تعالى:
{«وَإِنْ يَكُ صََادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»} (311): «فان قلت: لم قال:
{«بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»} وهو نبى صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتجاج فى مقاولة خصوم موسى ومناكريه الى أن
__________
(309) الصف: 3
(310) الكشاف ج 4ص 318317
(311) غافر: 28(1/382)
يلاوصهم ويداريهم ويسلك معهم طريق الانصاف فى القول ويأتيهم من وجهة المناصحة فجاء بما علم أنه أقرب الى تسليمهم لقوله، وأدخل فى تصديقهم له، وقبولهم منه، فقال: {«وَإِنْ يَكُ صََادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»}، وهو كلام المنصف فى مقاله غير المشتط فيه، ليسمعوا منه، ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق فى جميع ما يعد، ولكنه أردفه {«يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»} ليهضمه بعض حقه فى ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا أن يتعصب له، أو يرمى بالحصا من ورائه، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل، وكذلك قوله: {«إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ»} (312) فان قلت: فعن أبى عبيدة أنه فسر البعض بالكل وأنشد بيت لبيد:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها (313)
قلت: ان صحت الرواية عنه قد حق فيه قول المازنى فى مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له» (314)
وهذه الطريقة توحى بمقصود المتكلم مما هو مخالف لظاهرة العبارة فيها، وقد أشار الزمخشرى الى أن الايحاء بمقصود المتكلم أفعل فى نفس السامع وان كان معاندا، وأجلب له وان كان مشتطّا فى اعراضه، يقول فى قوله تعالى: {«وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (315): «وهذا من الكلام المنصف الذى كل كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفى درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو فى الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أفضى بالمجادل الى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم، وفل شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق منى
__________
(312) غافر: 28
(313) الكشاف ج 3ص 561
(314) الكشاف ج 4ص 137
(315) سبأ: 24(1/383)
ومنك، وان أحدنا لكاذب، ومنه بيت حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء (316)
وقد علق ابن المنير على هذا بقوله: «وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب رددته على مسمعى فزاد رونقا بالترديد، واستعاده الخاطر كأنى بطيء الفهم حين يعيد» (317)
النفى:
يشير الزمخشرى الى أن النفى قد يأتى فى صورة الاثبات وهو حينئذ يدل على أبلغ الجحود والانكار، يقول فى قوله تعالى: {«أَهََذَا الَّذِي بَعَثَ اللََّهُ رَسُولًا»} (318): «وبعث الله رسولا، واخراجه فى معرض التسليم والاقرار وهم على غاية الجحود والانكار سخرية واستهزاء، ولو يستهزءوا لقالوا: أهذا الذى زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولا»؟ (319)
وقد يحذف حرف الانكار الدال على النفى ليكون النفى أبلغ وآكد، وذلك كقوله تعالى: {«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيهََا أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ»} (320) يقول الزمخشرى: «فان قلت: ما معنى قوله تعالى: {«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيهََا أَنْهََارٌ»} كمن هو خالد فى النار؟ قلت: هو كلام فى صورة الاثبات ومعنى النفى والانكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصور بحرف الانكار، ودخوله فى حيزه، وانخراطه فى مسلكه، وهو قوله تعالى:
{«أَفَمَنْ كََانَ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ»} (321) فكأنه
__________
(316) الكشاف ج 3ص 459
(317) الكشاف ج 3ص 222
(318) الفرقان: 41
(319) حاشية ابن المنير فى نفس الصفحة.
(320) محمد: 15
(321) محمد: 14(1/384)
قيل: أمثل الجنة كمن هو خالد فى النار؟ أى كمثل جزاء من هو خالد فى النار، فان قلت: فلم عرى من حرف الانكار، وما فائدة التعرية؟
قلت: تعريته من حرف الانكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوى بين التمسك بالبينة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التى تجرى فيها تلك الأنهار، وبين النار التى يسقى أهلها الحميم، ونظيره قول القائل:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا
هو كلا منكر للفرح برزية الكرام، ووراثة الزود مع تعريته عن حرف الانكار، لانطوائه تحت حكم قول من قال: أتفرح بموت أخيك ووراثة ابله؟، والذى طرح لأجله حرف الانكار إرادة أن يصور قبح ما أذن به، فكأنه قال له: نعم مثلى يفرح بمرزأة الكرام، وبأن يستبدل منه زودا يقل طائله، وهو من التسليم الذى تحته كل انكار» (322)
والشصائص جمع شصوص بفتح الأول مثل عجوز وعجائز وهى الناقة التى قل لبنها جدا، والنبل بفتحتين هى الابل الصغار، واللفظ من الأضداد وقالوا: هو لحضرمى بن عامر وكان له تسعة اخوة فماتوا وورثهم وعيّر بذلك فقال هذا البيت:
إن كنت أزننتنى بها كذبا ... جزء فلاقيت مثلها عجلا
وأزنّه: أتهمه.
وقد يتوجه النفى الى معنى ثابت ليفيد بهذا أن وجوده مخالف لما ينبغى أن يكون، وأن الأصل فى مثله أن يكون منفيا وذلك فى قولى تعالى: {«لََا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوََادُّونَ مَنْ حَادَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ»} (323): «من باب التخييل، خيل أن من الممتنع المحال أن نجد قوما مؤمنين يوالون المشركين، والغرض به أنه لا ينبغى أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال، مبالغة فى النهى عنه،
__________
(322) الكشاف ج 4ص 255
(323) المجادلة: 22(1/385)
والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتغلب فى مجانبة أعداء الله، ومباعدتهم، والاحتراس عن مخالطتهم ومعاشرتهم» (324)
وقد يتوجه النفى الى الفعل فى حالة من حالاته وليس المراد تخصيص النفى بهذه الحالة وانما المراد نفيه فى كل الأحوال وخصت هذه الحال لأن الفعل معها أقبح فالنفس فى طواعيتها لمجانبته أسرع.
يقول فى قوله تعالى: {«فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ وَلََا جِدََالَ فِي الْحَجِّ»} (325):
«وانما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب فى كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير فى الصلاة، والتطريب فى قراءة القرآن، والمراد بالنفى وجوب انتفائها وأنها حقيقة بألا تكون» (326)
وقد يعمد البليغ الى نفى نقيض الشيء قصدا الى اثباته، وفى هذه الطريقة يدرك الزمخشرى لطائف لها وقع ولها نفاذ، يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ لَكَ أَلََّا تَجُوعَ فِيهََا وَلََا تَعْرى ََ. وَأَنَّكَ لََا تَظْمَؤُا فِيهََا وَلََا تَضْحى ََ»} (327): «الشبع والرى والكسوة والكن هى الأقطاب التى يدور عليها كفاف الانسان فذكره استجماعها له فى الجنة وأنه مكفى لا يحتاج الى كفاية كاف ولا الى كسب كاسب، كما يحتاج الى ذلك أهل الدنيا، وذكرها بلفظ النفى لنقائضها التى هى: الجوع، والعرى، والظمأ، والضحوة، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التى حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها» (328)
وقد يتوجه النفى الى مقيد فيوهم أن المراد نفى المقيد فى حالة قيده خصوصا، ولكن المراد هو نفى المقيد والقيد فى كل الأحوال، يقول فى قوله تعالى: {«لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً»} (329): «وهو نفى للسؤال والالحاف جميعا كقوله: «على لا حب لا يهتدى بمناره» يريد نفى المنار والاهتداء به» (330) ويبين ما فى هذه الطريقة من المبالغة
__________
(324) الكشاف ج 4ص 396
(325) البقرة: 197
(326) الكشاف ج 1ص 184
(327) طه: 118، 119
(328) الكشاف ج 3ص 7372
(329) البقرة: 273
(330) الكشاف ج 1ص 243(1/386)
فى نفى القيد ويحلل هذا ويبسطه، يقول فى قوله تعالى: {«مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ»} (331): «فان قلت: ما معنى قوله تعالى:
{«وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ»}؟ قلت: يحتمل أن يتناول النفى الشفاعة والطاعة معا، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، كما تقول: ما عندى كتاب يباع، فهو محتمل نفى البيع وحده، وأن عندك كتابا الا أنك لا تبيعه، ونفيهما جميعا، وأن لا كتاب عندك ولا كونه مبيعا ونحوه».
«ولا ترى الضب بها ينجحر».
يريد نفى الضب وانجحاره فان قلت: فعلى أى الاحتمالين يجب حمله؟ قلت: على نفى الأمرين جميعا من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون الا من أحبه الله ورضيه، وأن الله لا يحب الظالمين فلا يحبونهم، واذا لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم. فان قلت:
الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه، فما الفائدة فى ذكر هذه الصفة ونفيها؟
قلت: فى ذكرها فائدة جليلة وهى أنها ضمت اليه ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك ازالة لتوهم وجود الموصوف، بيانه أنك اذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لى فرس أركبه، ولا معى سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس، وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى منى الركوب والمحاربة، ولا فرس لى ولا سلاح معى، فكذلك {«وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ»} معناه: كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذى لا ينبغى أن يتوهم خلافه» (332)
وقد يراد تعميم النفى وشموله فيتجه النفى الى أخص حالات المنفى التى يلزم من نفيها نفى ما عداها وذلك كما فى قوله تعالى:
{«لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ»} (333) يقول الزمخشرى: «فان قلت: لم قال {«لَيْسَ}
__________
(331) غافر: 18
(332) الكشاف ج 4ص 123122
(333) الأعراف: 61(1/387)
{بِي ضَلََالَةٌ»} ولم يقل «ضلال» كما قالوا؟ قلت: الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ فى نفى الضلال عن نفسه كأنه قال: ليس بى شىء من الضلال، كما لو قيل لك: ألك تمر؟ قلت: ما لى تمرة» (334)
وقد يتجه النفى الى أبلغ حالات المنفى والمراد نفيه فى حالاته كلها ونفى الأبلغ لا يقتضى نفى ما هو دونه ولكن المتكلم يعمد الى هذه الطريقة ليلفت الى أن البلوغ الى أبلغ الحالات فى هذا الفعل المنفى حقيق بمن هو فى مثل حاله، مثال ذلك قوله تعالى: {«وَلَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ عِنْدَهُ لََا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبََادَتِهِ وَلََا يَسْتَحْسِرُونَ»} (335) فقد نفى عنهم الاستحسار الذى هو مبالغة فى الحسور والمراد نفى أدنى مراتب الحسور لا أبلغها، ونفى الأبلغ كما قلنا لا يستلزم نفى الأقل ولكنه عمد الى هذا ليشير الى أن ما هم فيه من مواصلة العبادة حقيق بأن يصيبهم بغاية الضعف والكلال، يقول الزمخشرى: «فان قلت: الاستحسار مبالغة فى الحسور فكان الأبلغ فى وصفهم أن ينفى عنهم أدنى الحسور، قلت: فى الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون، أى تسبيحهم متصل دائم فى جميع أوقاتهم، لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر» (336)
وقد يتجه النفى الى ما علم نفيه وذلك للفت السامع الى نفسه ومراجعة فكره حتى يرجع الى الحق، وفيه ضرب من التهكم وذلك كما فى قوله تعالى: {«وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلََامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ»} (337) يقول الزمخشرى: «فان قلت:
لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفى استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت: كان معلوما عندهم علما يقينيا أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحى مع علمهم بأنه
__________
(334) الكشاف ج 3ص 89
(335) الأنبياء: 19
(336) الكشاف ج 3ص 85
(337) آل عمران: 44(1/388)
لا سماع ولا قراءة، ونحوه: {«وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الْغَرْبِيِّ»}، {«وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الطُّورِ»}، {«وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ»} (338)
وتتكرر هذه الصورة من النفى ويكرر الزمخشرى هذا التحليل الواعى فى قوله تعالى: {«ذََلِكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ»} (339) قال الزمخشرى:
«والمعنى أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك الا من جهة الوحى لأنك لم تحضر بنى يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو القاؤهم أخاهم فى البئر كقوله:
{«وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيََابَتِ الْجُبِّ»} (340)، وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ولا لقى فيها أحدا، ولا سمع فيه ولم يكن من علم قومه، فاذا أخبر به، وقص هذا القصص العجيب الذى أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة فى أنه ليس منه، وأنه من جهة الوحى، فاذا أنكروه تهكم بهم، وقيل لهم: علمتم بالمكابرة أنه لم يكن شاهدا لما مضى من القرون الخالية، ونحوه: {«وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنََا إِلى ََ مُوسَى الْأَمْرَ»} (الكشاف ج 2ص 395).
القصر:
تكلم الزمخشرى عن افادة صور التقديم لمعنى الاختصاص وقد بينا رأيه فى هذا وقد حاول بعض الدارسين أن يجد فرقا بين الاختصاص والحصر وقال: «التخصيص قصد المتكلم افادة السامع خصوص شىء من غير تعرض لغيره باثبات ولا نفى بسبب اعتناء المتكلم بذلك الشيء وتقديمه له فى كلامه، فاذا قلت: زيدا ضربت، كان المقصود الأهم افادة خصوص وقوع الضرب على زيد لا افادة حصول الضرب منك، ولا تعرض
__________
(338) الكشاف ج 1ص 278والآيات من سور: القصص: 44، والقصص: 46، ويوسف: 102
(339) يوسف: 102
(340) يوسف: 15(1/389)
فى الكلام لغير زيد باثبات ولا نفى، وأما الحصر فمعناه نفى غير المذكور واثبات المذكور ويعبر عنه ب «ما» و «الا» وب «انما» فهو زائد على الاختصاص ولا يستفاد بمجرد التقديم» (341) وهذا الكلام غير صحيح لأنه ليس وصفا دقيقا لمفاد الأساليب فضلا عن أنه يخالف فهم الثقاة فى دراسة التراكيب.
وتكلم الزمخشرى عن النفى والاستثناء ومن الواضح أن البلاغيين درسوا النفى والاستثناء فى موضعين، الأول القصر، حيث بينوا القصر الاضافى، وقصر الصفة على الموصوف، والموصوف على الصفة، وكان النفى والاستثناء كأنه رأس باب القصر، والثانى فى علم البديع حين ذكروا تأكيد المدح بما يشبه الذم وعكسه، وكأنها فى تصورهم لا تستعمل فى الأساليب البليغة الا فى هذين الموضعين، وأن معانيها الأدبية والبلاغية لا تعدوهما».
وقد أشار الزمخشرى الى افادتها التأكيد، أى تأكيد ما استعملت فيه وليس تأكيد المدح بما يشبه الذم، ولا عكسه فقط، وهذا التأكيد هو الذى تفرعت عنه دلالة القصر، لأنه تأكيد على تأكيد، ثم انه يتجدد معناه تبعا لتجدد الجملة واختلاف سياقها. فمن ذلك التأكيد فى مقام النصح والارشاد، كما فى قوله تعالى: {«قُلْ مََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلََّا مَنْ شََاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلًا»} (342)
قال الزمخشرى: «الا: فعل من «شاء» واستثنائه عن الأجر قول ذى شفقة عليك قد سعى لك فى تحصيل مال: ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت الا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب لكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين: احداهما، خلع شبهة الطمع فى الثواب من أصله، كأنه يقول لك: ان كان حفظك لمالك ثوابا فانى أطلب الثواب، والثانية اظهار
__________
(341) تقرير الشمس الانبابى ج 3ص 27
(342) الفرقان: 57(1/390)
الشفقة البالغة، وأنك ان حفظت مالك اعتد بحفظك ثوابا، ورضى به كما يرضى المثاب بالثواب» (343)
ويلاحظ أنها أحسن ما تكون موقعا اذا كان ما بعد «الا» غير داخل فيما قبلها، أى فى حال الاستثناء المنقطع وكأن البلاغيين وأكثرهم من مقدمى النحاة لما قصروا البحث فيها على هذين الموضعين استلهوا باب الاستثناء فى النحو وكأن بحث القصر امتداد للاستثناء المتصل غير الموجب، وبحث تأكيد المدح فى أحد وجوهه امتداد للاستثناء المنقطع غير الموجب، واذا كنا نلاحظ أنها أحسن ما تكون موقعا فى حالة الاستثناء المنقطع فان هذا يعنى أن البلاغيين أهملوا بحث أحسن مواقعها لأنهم لم يدرسوا من هذه الأحوال حالا واحدة هى تأكيد المدح بما يشبه الذم وعكسه، ولست أدرى لماذا اختص البلاغيون هذه الحالة ودرسوها وأهملوا غيرها من حالات التأكيد وهى جد كثيرة فى كتاب الله.
وهناك كثير من الصور التى تنبه اليها الزمخشرى ونبه اليها وهى كما قلت تدور حول فائدة التأكيد، يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«لَيْسَ لَهُمْ طَعََامٌ إِلََّا مِنْ ضَرِيعٍ. لََا يُسْمِنُ وَلََا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ»} (344): «أو أريد لا اطعام أصلا، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الانس، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن، وهو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظل الا الشمس، تريد نفى الظل على التوكيد» (345)
ويقول فى قوله تعالى: {«قُلْ لََا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللََّهُ»}: «فان: لم رفع اسم الله والله يتعالى أن يكون ممن فى السموات والأرض؟ قلت: دعت اليه نكتة سرية ليئول المعنى الى قولك: ان كان الله ممن فى السموات والأرض فهم يعلمون الغيب، يعنى أن علمهم الغيب فى استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أن معنى ما فى البيت يعنى قوله:
وبلدة ليس بها أنيس إلا ... اليعافير وإلا العيس
__________
(343) الكشاف ج 3ص 227
(344) الغاشية: 6، 7
(345) الكشاف ج 4ص 395(1/391)
ان كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، بتا للقول بخلوها عن الأنيس» (346) وبيان وجه الدلالة على التوكيد فى هذه الجملة هو ما ذكره البلاغيون فى بيان وجه الدلالة فى توكيد المدح بما يشبه الذم.
ثم ان الزمخشرى يربط هذه الطريقة من التوكيد بطريقة أخرى يسميها العكس أحيانا، وقد سماها البلاغيون طريقة التنويع، واختلفوا فى موضعها وهم يصنفون فنون البلاغة على علومها الثلاثة، يقول فى قوله تعالى: {«يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ. إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»} (347): «وهو من قولهم: «تحيّة بينهم ضرب وجيع»، «وما ثوابه الا السيف» وبيانه أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟
فتقول: ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفى المال والبنين عنه، واثبات سلامة القلب له، بدلا من ذلك» (348)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَمََا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلََّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»} (349): «وما نقموا منهم، وما عابوا منهم، وما أنكروا الا الايمان، كقوله: «ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم». قال قيس الرقيات:
ما نقموا من بنى أميّة إلّا ... أنّهم يحلمون إن غضبوا (350)
وواضح أن ما ذكره فى هذه الآية من أمثلة البلاغيين فى باب البديع حين يتكلمون فى تأكيد المدح بما يشبه الذم.
قلنا: ان الزمخشرى تكلم فى التقديم، وبين افادته للاختصاص، وتكلم فى النفى والاستثناء وأشار الى معانى هذه الأداة الأدبية وحسن موقعها فى باب التوكيد. ونقول: انه فى هذا المجال يذكر ويشير الى أنها تفيد قصر الصفة على الموصوف يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»} (351): «وانما: لقصر الحكم على شىء كقولك: انما ينطلق
__________
(346) الكشاف ج 3ص 297والآية من سورة النمل: 65
(347) الشعراء: 88، 89
(348) الكشاف ج 3ص 252.
(349) البروج: 8
(350) الكشاف ج 4ص 584.
(351) البقرة: 11(1/392)
زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: انما زيد كاتب، ومعنى {«إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»} أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد» (352)
ويشير الى ما فيها من معنى التعريض، ذلك المعنى الذى شرحه عبد القاهر شرحا مبسوطا وجعله أحسن مواقعها، يقول فى قوله تعالى:
{«إِنَّمََا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ»} (353): «يعنى أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وانما يستجيب من يسمع كقوله: {«إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ»} (354)
والمقصور عليه فى «انما» هو المتأخر يقول فى قوله تعالى:
{«إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ وَالْمَسََاكِينِ وَالْعََامِلِينَ عَلَيْهََا»} (355): «قصر لجنس الصدقات على الأصناف المحدودة وأنها مختصة بها لا يتجاوزها الى غيرها كأنه قيل: انما هى لهم لا لغيرهم، ونحوه قولك: انما الخلافة لقريش، تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم» (356)
وقد فهم بعض البلاغيين من كلامه فى غير هذا الموضع أن المقصور عليه فى «انما» ليس بلازم أن يكون متأخرا بل قد يكون هو المتقدم وذلك كما فى قوله تعالى: {«إِنَّمََا سُكِّرَتْ أَبْصََارُنََا»} (357): «وقالوا «انما» ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس الا تسكيرا للأبصار» (358)
وقد جمع الشهاب الخفاجى جملة من آراء البلاغيين فى هذه المسألة وذكر موقف بعضهم من كلام الزمخشرى، يقول الشهاب: «بيّن الزمخشرى الحصر بقوله: يبتون القول بأن ذلك ليس الا تسكيرا، وتبعه بعض المتأخرين وأورد عليه العلامة أن «انما» تفيد الحصر فى المذكور آخرا فيكون الحصر فى الأبصار لا فى التسكير فكأنهم قالوا: سكرت أبصارنا
__________
(352) الكشاف ج 1ص 48
(353) الأنعام: 36
(354) الكشاف ج 2ص 15والآية من سورة النمل: 80
(355) التوبة: 60
(356) الكشاف ج 2ص 221.
(357) الحجر: 15
(358) الكشاف ج 2ص 447(1/393)
لا عقولنا فنحن وان تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا فى الحال بخلافه، ثم أضربوا عن الحصر فى الأبصار وقالوا: بل تجاوز ذلك الى عقولنا، وكذا قال الامام أيضا، وهذا مبنى على أن تقديم المقصور على المقصور عليه لازم، أو خلافه ممتنع، وقد قال المحقق فى شرح التلخيص أنه يجوز اذا كان نفس التقديم مفيدا للقصر كما فى قولنا: انما زيدا ضربت، فانه لقصر الضرب على زيد. قال أبو الطيب:
أساميا لم تزده معرفة ... إنما لذّة ذكرناها
أى ما ذكرناها الا للذة، وأجاب بأن الكلام فيما اذا كان القصر مستفادا من «انما» وهذا ليس كذلك وجوابه غير مسلم فانه قال فى عروس الأفراح: ان هذا الحكم غير مسلم فان قولك: انما قمت، معناه لم يقع الا القيام، فهو لحصر الفعل، وليس بأخير ولو قصد حصر الفاعل لانفصل، ثم أورد أمثلة متعددة من كلام المفسرين تدل على خلاف ما قاله أهل المعانى فى هذه المسألة، فالظهر أن الزمخشرى لا يرى ما قالوه مضطردا وهم قد غفلوا عن مراده هنا» (359)
وكلامه لا يدل على ما فهموه منه فليس فيه شىء يتعلق بالمقصور عليه أو المقصور، وانما هو بيان لما تضمنه كلام المعاندين وأكدوه ب «انما» ليثبتوا أن ذلك تسكير، وليس بآية دالة على صدق النبى، أما أن التسكير فى الأبصار لا فى العقول فهذا شىء لم يعن الزمخشرى ببيانه وانما عنايته ببيان ما قالوه عن الحجة المبينة ولو أراد الزمخشرى ما فهموه من قصر الأبصار على التسكير لقال: ليدل على أنهم يبتون القول بأن أبصارهم ليست الا مسكرة، أما قوله: بأن ذلك ليس الا تسكيرا للأبصار فمعناه أن ما رأوه ليس الا تسكيرا للأبصار لا يتعداه الى كونه آية فهو قصر ما رأوه على التسكير لنفى أن يكون حجة.
__________
(359) حاشية الشهاب ج 5ص 286(1/394)
العطف:
ويلحظ الزمخشرى فى العطف بالواو معانى أدبية لم يستخرجها النحاة غالبا ولم يلتفتوا اليها لأنها تتصل بالنحاية البلاغية أكثر من اتصالها بالصواب والخطأ.
فمن ذلك أن المعطوف عليه بالواو أحيانا لا يكون مقصودا بالحكم وانما يذكر للدلالة على قوة صلته بالمعطوف وأنه منه بمكان، وذلك كما فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ»} (360) يقول الزمخشرى: «ويجوز أن يجرى مجرى قولك: سرنى زيد وحسن حاله، وأعجبت بعمرو وكرمه، وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص، ولما كان رسول الله عليه السلام من الله بالمكان الذى لا يخفى سلك به ذلك المسلك» (361)
ويقول فى قوله تعالى: {«لََا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ»} (362):
«أراد ليحطمنكم جنود سليمان فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسى ومن اشفاقها» (363)
وقد أخذ البلاغيون من كلامه فى تحليل هذه الطريقة أنه اذا ذكر اسمان متعاطفان والحكم انما هو لأحدهما أفاد قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه وأنهما بمنزلة شىء واحد بحيث يصح نسبة أوصاف أحدهما وأحواله الى الآخر وأن هذه الطريقة غير طريقة البدل لأن الثانى هو المقصود بالنسبة فيها ففرق بين قولك: «أعجبنى زيد وكرمه»، و «أعجبنى زيد كرمه» (364)
ومن ذلك أى ومن مواقع الواو البلاغية أن المعطوف ربما لا يراد تشريكه فى الحكم مع المعطوف عليه وانما يراد اللفت الى معنى يحدده سياق الكلام. يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ}
__________
(360) الحجرات: 1
(361) الكشاف ج 4ص 278
(362) النمل: 18
(363) الكشاف ج 3ص 281
(364) تنظر حاشية الشهاب ج 6ص والكشاف ج 3 ص 196195.(1/395)
{وَأَرْجُلَكُمْ»} (365): «قرأ جماعة «وأرجلكم» بالنصب فدل على أن الأرجل مغسولة، فان قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها فى حكم المسح؟
قلت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة الاسراف المذموم المنهى عنه فعطف على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصار فى صب الماء عليها» (366)
وقد تدخل الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة وحينئذ تفيد تأكيد وصف الموصوف بالصفة، يقول فى قوله تعالى: {«سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سََادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ»} (367): «فان قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأولين؟ قلت:
هى الواو التى تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا من المعرفة فى نحو قولك: جاءنى رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفى يده سيف، ومنه قوله تعالى: {«وَمََا أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ إِلََّا وَلَهََا كِتََابٌ مَعْلُومٌ»} (368) وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هى التى أذنت بأن الذين قالوا {«سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ»} قالوا عن ثبات وعلم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما قال غيرهم والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأوليين قوله: {«رَجْماً بِالْغَيْبِ»} وأتبع القول الثالث قوله:
{«مََا يَعْلَمُهُمْ إِلََّا قَلِيلٌ»} (369) وقال ابن عباس رضى الله عنه: حين وقعت الواو انقطعت العدة لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت اليه» (370)
ويكرر هذا الكلام فى قوله تعالى: {«وَمََا أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ إِلََّا وَلَهََا كِتََابٌ مَعْلُومٌ»} (371)
وقد تقع الواو فاصلة فى ذكر الشيء بألفاظ متعددة كل منها مشعر
__________
(365) المائدة: 6
(366) الكشاف ج 1ص 474
(367) الكهف: 22
(368) الحجر: 4
(369) الكهف: 22
(370) الكشاف ج 2ص 557
(371) ينظر الكشاف ج ص 444.(1/396)
بوصف من أوصافه فتفيد هذه الواو أن هذا المذكور جامع لكل هذه الصفات، يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَالْفُرْقََانَ»} (372): «يعنى الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل يعنى التوراة كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة، ونحوه. ونحوه قوله تعالى:
{«وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسى ََ وَهََارُونَ الْفُرْقََانَ وَضِيََاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ»} قوى يعنى الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرى» (373)
وقد تقع الواو بين الصفات للاشارة الى أن الموصوف بلغ الكمال فى كل صفة منها، يقول فى قوله تعالى: {«الصََّابِرِينَ وَالصََّادِقِينَ وَالْقََانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحََارِ»} (374): «والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم فى كل واحدة منها» (375)
وقد تفيد الواو أن أحد المتعاطفين قد بلغ فى الوصف المراد بيانه مبلغ الآخر الذى عرف وشهر ببلوغه الغاية فى هذا الوصف. يقول فى قوله تعالى: {«وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ»} (376):
«وقد آذن عز وجل اذ قرن الأرحام باسمه أن صلتها منه بمكان كما قال: {«لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً»} (377)
ويقول فى قوله تعالى: {«سَنَكْتُبُ مََا قََالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ»} (378): وجعل {«وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيََاءَ»} قرينة له ايذانا بأنهما فى العظم اخوان» (379)
وقد تأتى الصفات متتابعة لا يفصلها عاطف ثم تقع الواو بين صفتين منها وبهذا يختلف نسق هاتين الصفتين عن باقى الصفات، ويبحث الزمخشرى سر هذه المخالفة. يقول فى قوله تعالى: {«حم. تَنْزِيلُ الْكِتََابِ}
__________
(372) البقرة: 53
(373) الكشاف ج 1ص 104والآية من سورة الأنبياء: 48
(374) آل عمران: 17
(375) الكشاف ج 1ص 263
(376) النساء: 1
(377) الكشاف ج 1ص 356والآية من سورة البقرة: 83
(378) آل عمران: 181
(379) الكشاف ج 1ص 343.(1/397)
{مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ ذِي الطَّوْلِ»} (380): «فان قلت: ما بال الواو فى قوله {«وَقََابِلِ التَّوْبِ»}؟
قلت: فيها نكتة جليلة وهى افادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب كأن لم يذنب كأنه قال: جامع المغفرة والقبول» (381)
وقد تقع الواو بين صفتين من الصفات المتتابعة بدون عاطف لا للاشارة الى أن المذكور يجمع بين الصفتين كما فى الآية السابقة ولكن للاشارة الى أنه لا يمكن الجمع بينهما لتنافى المعنى فيهما، يقول فى قوله تعالى: {«عَسى ََ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوََاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمََاتٍ مُؤْمِنََاتٍ قََانِتََاتٍ تََائِبََاتٍ عََابِدََاتٍ سََائِحََاتٍ ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً»} (382): «فان قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟
قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن فى سائر الصفات فلم يكن بد من الواو» (383)
وقد أشار الزمخشرى الى ما يفيده عطف البيان من معنى التوكيد والتقرير وذلك لأن البيان يعنى أن المبيّن هو عين الشيء المتقدم لأنه تفسير له وتبيين وبهذا يتكرر ذكره، ثم انه قد يكون فى المعطوف عليه معنى من المعانى التى يتميز بها فيصير هذا المعنى وصفا للمعطوف وعلامة له. يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذْ نََادى ََ رَبُّكَ مُوسى ََ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ»} (384): «سجل عليهم بالظلم بأن قدم {«الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ»} ثم عطفهم عليهم عطف البيان كأن معنى «القوم الظالمين» وترجمته قوم فرعون» (385) ويقول فى قوله تعالى: {«أَلََا بُعْداً لِعََادٍ قَوْمِ هُودٍ»} (386): «قوم هود: عطف بيان ل «عاد»، فان قلت: ما الفائدة
__________
(380) غافر: 31
(381) الكشاف ج 4ص 116.
(382) التحريم: 5
(383) الكشاف ج 4ص 455454.
(384) الشعراء: 10، 11
(385) الكشاف ج 3ص 237.
(386) هود: 60(1/398)
فى هذا البيان والبيان حاصل بدونه؟ قلت: الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوى وسما وتجعل فيهم أمرا محققا لا شبهة فيه بوجه من الوجوه» (387)
البدل:
وطريقة البدل لا تكاد تختلف من الناحية البلاغية عن طريقة عطف البيان فكلاهما فيه تثنية وتأكيد، لأن فيه جمعا بين المفسر والتفسير، وكلاهما مشعر بأن الثانى هو عين الأول وكأنه ترجمته وان كان أخص منه فى بعض صوره. وكلام الزمخشرى فى البدل لا يختلف كثيرا عن كلامه فى عطف البيان. يقول فى قوله تعالى: {«اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»} (388): {«صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»}
بدل من {«الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ»}، وهو فى حكم تكرير العامل، كأنه قيل:
اهدنا الصراط المستقيم، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، كما قال الذين استضعفوا لمن آمن منهم، فان قلت: ما فائدة البدل؟ وهلا قيل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت: فائدته التوكيد، لما فيه من التثنية، والتكرير، والاشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين، ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟
فلان، فيكون ذلك فى وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل؟ لأنك تثبت ذكره مجملا أولا، ومفصلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيرا وايضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما فى الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما، غير مدافع ولا منازع» (389)
__________
(387) الكشاف ج 2ص 317
(388) الفاتحة: 6، 7
(389) الكشاف ج 1ص 13(1/399)
ولا نجده قد ذكر فائدة البدل فى تفسيره بمثل ما ذكره هنا، وما ذكره فى غير هذا الموضع لا يعدو أن يكون تلخيصا لبعض ما ذكره هنا، كما يقول فى قوله تعالى: {«وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ»} (390): «فان قلت: فهلا قيل ولكل واحد من أبويه السدس وأى فائدة فى ذكر «لأبويه» أولا، ثم فى الابدال منهما؟ قلت: لأن فى الابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيدا، وتشديدا، كالذى تراه فى الجمع بين المفسر والتفسير» (391)
الوصف:
وقد لاحظ الزمخشرى أن الصفة قد تكون للدلال على تعظيم الموصوف كما فى قوله تعالى: {«وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرََامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوََاناً»} (392) يقول: «أى لا يتعرضون لقوم هذه صفتهم، تعظيما لهم، واستنكارا أن يتعرضوا لمثلهم» (393)
وقد تكون لمدح الموصوف فيكون الموصوف مدحا لها وذلك اذا أجريت صفة عظيمة على موصوف عظيم، يقول فى قوله تعالى: {«يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا»} (394): «صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح، كالصفات الجارية على القديم سبحانه، لا للتفصيل والتوضيح، وأريد باجرائها التعريض باليهود وأنهم بعداء عن ملة الاسلام التى هى دين الأنبياء كلهم، فى القديم والحديث» (395) والتعريض باليهود وبأنهم بعداء عن ملة الاسلام التى هى دين الأنبياء لا يكون الا لأن الصفة قد أفادها الموصوف مزيدا من التعظيم والتقدير، فالمدح الذى ذكره الزمخشرى مدح للصفة والموصوف معا وقد علق ابن المنير على هذا بما يفيد اعتراضه على كلام الزمخشرى من حيث ان الصفات الجارية
__________
(390) النساء: 11
(391) الكشاف ج 1ص 372
(392) المائدة: 2
(393) الكشاف ج 1ص 467
(394) المائدة: 44
(395) الكشاف ج 1ص 495494(1/400)
على القديم سبحانه وعلى النبيين عليهم السلام والملائكة المقربين انما هى لاعظام الصفات بالموصوفين لا لاعظام الموصوفين بالصفات، وأن الغرض منها هو حث الناس على اكتسابهم لها، وترغيبهم فيها، لأنها صفات العظماء، واذا كانت النبوة أعلى من الاسلام فان مدحهم بالاسلام بعدها يكون نزولا من الأعلى الى الأدنى، وهذا عكس قانون البلاغة فى الترقى فى الصفات من الأدنى الى الأعلى، وهذا أعنى مدح الصفات بالموصوفين طريقة عرفها الشعراء وعليها قول القائل فى مدح المصطفى عليه السلام:
ما إن مدحت محمدا بقصيدتى ... لكن مدحت قصيدتى بمحمد
وهذا ملخص ما ذكره ابن المنير وهو كلام طيب ولكننى كما قلت أرى أن كلام الزمخشرى يفيد ما اعترض عليه به من أن الوصف هنا لمدح الموصوفين والصفات بدليل ما ذكره من التعريض ولأن فضل النبوة على الاسلام لا يغيب عنه ولأن الترقى من الأدنى الى الأعلى أمر لا يجهله كما سنبين وأنه لا ضير علينا ان قلنا ان صفات القديم سبحانه مدح له لأنها خاصة به كالقدرة والرزق والاحياء الى آخرها، كما أن وصف النبيين بالاسلام مدح لهم لأن الله قد اختاره لهم فلا محل اذن لما اعترض به ابن المنير.
وقد يكون الوصف للافادة بأن الموصوف أمر يستعظم وقوعه ويستبعد حدوث مثله كما فى قوله تعالى: {«كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ»} (396)
قال الزمخشرى: «ووصفه ل «كلمة» تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق بها واخراجها من أفواههم فان كثيرا مما يوسوسه الشيطان فى قلوب الناس ويحدثون به أنفسهم من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوهوا به، ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشورا من اظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر» (397)
وقد يكون الوصف لزيادة التعميم والاحاطة كما فى قوله تعالى:
__________
(396) الكهف: 5
(397) الكشاف ج 2ص 549(1/401)
{«وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ»} (398) يقول: «فان قلت: وما من دابة ولا طائر الا أمم أمثالكم وما معنى زيادة قوله {«فِي الْأَرْضِ»}، و {«يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ»}؟ قلت: معنى ذلك زيادة التعميم والاحاطة كأنه قيل: وما من دابة قط فى جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط فى جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه، الا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها» (399)
وقد يكون الوصف لتحديد المراد من الموصوف وتمييز مدلوله وذلك اذا كان دالا على أمرين والمراد تخصيص أحدهما كما فى قوله تعالى:
{«وَقََالَ اللََّهُ لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ»} (400) قال الزمخشرى: «فان قلت: انما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا: عندى رجال ثلاثة وأفراس أربعة، لأن المعدود عار من الدلالة على العدد الخاص، وأما: رجل ورجلان، وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة الى أن يقال: رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله {«إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ»}؟ قلت: الاسم الحامل لمعنى الافراد والتثنية دال على شيئين، على الجنسية والعدد المخصوص، فاذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما والذى يساق له الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد اليه به، ألا ترى أنك لو قلت. انما هو اله، ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الألوهية لا الوحدانية» (401)
ويدرك الزمخشرى الملاءمة الدقيقة بين الصفات والموصوفين ويعينه على هذا تأمل بصير لمدلول الكلمات وايحاءاتها، يقول فى قوله تعالى:
{«لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهََا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ»} (402):
«فان قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؟ قلت: لأن
__________
(398) الأنعام: 38
(399) الكشاف ج 2ص 16
(400) النحل: 51
(401) الكشاف ج 2ص 475
(402) يس: 40(1/402)
الشمس لا تقطع فلكها الا فى سنة والقمر يقطع فلكه فى شهر فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالادراك لتباطئ سيرها عن سير القمر، وكان القمر خليقا بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره» (403)
وقد يوصف الموصوف بصفتين متتابعتين دالتين على معنى واحد دلالة عامة الا أن احداهما أبلغ من الأخرى، وحينئذ يبين الزمخشرى أن الأصل فى مثل هذا النوع من الصفات أن يرتبه المتكلم ترتيبا ينتقل فيه من الأدنى الى الأعلى، فيقال: هو أبيض ناصع، ولا يقال: هو ناصع أبيض، فاذا جاء الكلام البليغ على غير هذا الترتيب فذلك لغرض يكشف عنه النظر، يقول فى قوله تعالى: {«بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»}: «فان قلت: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه والقياس الترقى من الأدنى الى الأعلى كقولهم: فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجواد فياض؟
قلت: لما قال «الرحمن» فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها أردفه «الرحيم» كالتتمة والرديف ليتناول ما رق منها وبطن» (الكشاف ج 1ص 7).
الحذف:
والحذف لا يكون الا عند العلم وأمن الالباس، والشيء اذا علم وشهر موقعه سهل حذفه واسقاطه. والزمخشرى يقرر هذا الأساس فى قوله تعالى: {«لَوْ نَشََاءُ جَعَلْنََاهُ أُجََاجاً فَلَوْلََا تَشْكُرُونَ»} (404)
يقول: «فان قلت: لم أدخلت اللام على جواب «لو» فى قوله تعالى: {«لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََاهُ حُطََاماً»} (405)، ونزعت فيه هنا؟ قلت: ان «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط اتفاقا ولم تكن مخلصة للشرط ك «ان» ولا عاملة مثلها، وانما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث افادتها مضمون جملتيها أن الثانى امتنع لامتناع الأول، افتقرت فى جوابها الى ما ينصب علما على هذا التعلق، فزيدت
__________
(403) الكشاف ج 4ص 14
(404) الواقعة: 70
(405) الواقعة: 60(1/403)
هذه اللام لتكون علما على ذلك فاذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه، فلأن الشيء اذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به لم يبال باسقاطه عن اللفظ استغناء» (الكشاف ج 4ص 371).
ولم يكن كلام الزمخشرى فى الحذف مقصورا على بيان المحذوف كما هو الحال عند كثير من البلاغيين وانما كان يبحث سره دائما ويكشف ما ينطوى عليه من معنى بلاغى. فالخبر قد يحذف ليفيد حذفه مزيدا من التقوية والتوكيد، يقول فى قوله تعالى: {«وَاعْلَمُوا أَنَّمََا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلََّهِ خُمُسَهُ»} (406): «فأن لله: مبتدأ خبره محذوف تقديره: فحق أو فواجب أن لله خمسه، وروى الجعفى عن أبى عمرو: فان لله بالكسر وتقويه قراءة النخعى، فلله خمسه والمشهورة آكد وأثبت للايجاب، كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه ولا سبيل الى الاخلال به والتفريط فيه، من حيث انه اذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدورات كقولك: ثابت واجب، حق لازم
وما أشبه ذلك كان أقوى لايجابه من النص على واحد» (407)
ولحذف الموصوف فى بعض المواقع ذوق يدركه صاحب الحس ولا يخطئه، والزمخشرى يشير الى هذا ويعلل هذا الحسن بما فى الحذف من الابهام يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»} (408): «للحالة التى هى أقوم الحالات، وأسدها، أو للملة، أو للطريقة، وأيما قدرت لم تجد مع الاثبات ذوق البلاغة الذى تجده مع الحذف، لما فى ابهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع ايضاحه» (409)
وفى حذف المفعول ملاحظات قيمة تبلغ الغاية فى الدقة وسمو الادراك يقول فى قوله تعالى: {«قََالََا رَبَّنََا إِنَّنََا نَخََافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنََا}
__________
(406) الأنفال: 41
(407) الكشاف ج 2ص 272.
(408) الاسراء: 9
(409) الكشاف ج 2ص 805.(1/404)
{أَوْ أَنْ يَطْغى ََ»} (410): «أو أن يطغى بالتخطى الى أن يقول فيك ما لا ينبغى لجرأته عليك، وقسوة قلبه، وفى المجيء به هكذا على الاطلاق وعلى سبيل الرمز باب من حسن الأدب، وتحاش عن التفوه بالعظيمة» (411)
وقد يكون حذف المفعول للدلالة على عظمة المحذوف حتى انه لا يكتنه ولا يحيط به وصف، كما يقول فى قوله تعالى: {«فَإِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ»} (412): «وورود الفعل غير معدى الى المبين اعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الذكر ولا يحيط به الوصف» (413)
وقد يكون حذفه للدلالة على التعميم وأنه يتناول كل ما يصح أن يدخل تحت هذا الفعل فليس ذكر البعض بأولى من الآخر كما فى قوله تعالى: {«وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ»}. يقول: «فان قلت: لم أطلقت الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله {«اهْدِنَا»} بيانا للمطلوب من المعونة كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: {«اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ»}
وانما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض» (414)
ومما شاع حذفه حتى لا يكاد يذكر مفعول «شاء»، و «أراد»، يقول فى قوله تعالى: {«وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصََارِهِمْ»} (415):
«ومفعول «شاء» محذوف لأن الجواب يدل عليه والمعنى: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، ولقد تكاثر هذا الحذف فى «شاء»، و «أراد» لا يكادون يبرزون المعمول الا فى الشيء المستغرب كنحو قوله:
«فلو شئت أن أبكى دما لبكيته»
__________
(410) طه: 45
(411) الكشاف ج 1ص 266
(412) الحج: 5
(413) الكشاف ج 3ص 51.
(414) الكشاف ج 3ص 114.
(415) البقرة: 20(1/405)
وقوله تعالى: {«لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا»} (416):
لو أراد الله أن يتخذ ولدا (417)
ويعترض أبو حيان على ما ذهب اليه الزمخشرى من أن مفعول المشيئة فى الآية والبيت انما وجب ذكره لأنه أمر مستغرب لا يصح ان يكون المذكور دليلا عليه، يعترض أبو حيان على هذا ويقول: ان الذكر هنا ليس لما ذكره الزمخشرى وانما هو لعود الضمير، اذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه (418)
وكلام أبى حيان ضعيف، لأن عود الضمير لا يوجب ذكر المفعول مقدما عليه اذ يمكن ذكر اللفظ الصريح بدل الضمير ويكون البيت: «لو شئت لبكيت دما»، وتكون الآية: لو أردنا لاتخذنا لهوا من لدنا، وهذا كلام غامض لأنه ليس فيه ما يدل على المحذوف لغرابته فذكر المفعول هنا متعين كما قال الزمخشرى وللسبب الذى ذكره.
والزمخشرى يذكر ضرورة أن يكون المقدر من جنس المذكور الدال عليه ولا ينظر فى هذا للقرائن الأخرى اذا كانت تدافع دلالة المذكور يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا»} (419): «أمرناهم بالفسق ففسقوا، والأمر مجاز، فان قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به انما حذف لأن «فسقوا» يدل عليه، وهو كلام مستفيض يقال:
أمرته فقرأ، لا تفهم منه الا أن المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب فان قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وانما يأمر بالقصد والخير دليلا على أن المراد: أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت: لا يصح ذلك لأن قوله «ففسقوا»
__________
(416) الأنبياء: 17
(417) الكشاف ج 1ص 66.
(418) ينظر البحر المحيط ج 1ص 89.
(419) الاسراء: 16(1/406)
يدافعه، فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدعى اضمار خلافه ونظير «أمر»: «شاء» فى أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه، تقول: لو شاء لأحسن اليك، ولو شاء لأساء اليك، تريد: لو شاء الاحسان ولو شاء الاساءة، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت:
قد دلت حال من أسندت اليه المشيئة أنه من أهل الاحسان، أو من أهل الاساءة فأترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم تكن على سداد (420)
وقد يحذف المفعول لأن القصد الى الفعل غير معتمد الى شىء، يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ»} (421): «وفى قوله {«لََا تُقَدِّمُوا»} من غير ذكر مفعول وجهان، أحدهما أن يحذف ليتناول كل ما يقع فى النفس مما يقدم، والثانى ألا يقصد قصد مفعول ولا حذفه ويتوجه بالنهى الى نفس التقدمة كأنه قيل: لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل ولا تجعلوه منكم بسبيل كقوله تعالى: {«وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ»} (422)
والزمخشرى كثيرا ما يردد حذف المفعول بين فرضين الأول إرادة العموم فيحذف ليشمل كل ما يمكن أن يقع عليه الفعل، والثانى ألا يراد له مفعول أصلا وهذا واضح فى الآية السابقة ويقول مثله فى قوله تعالى: {«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ»} (423)
ومن الواضح أن الزمخشرى يستمد أكثر ما ذكره فى هذا الموضوع من كلام عبد القاهر فى دلائل الاعجاز وأن أكثر شواهده هنا من شواهد عبد القاهر هناك (424)
__________
(420) الكشاف ج 2ص 510.
(421) الحجرات: 1
(422) الكشاف ج 4ص 277والآية من سورة المؤمنون: 80
(423) ينظر الكشاف ج 4ص 681والآية من سورة العلق:
1، 2
(424) ينظر دلائل الاعجاز ص 11295(1/407)
ويشير الزمخشرى الى مواقع الجملة المحذوفة ويبين أسرار حذفها.
فقد تحذف الجملة المعطوف عليها لظهور معناها ولسر بلاغى يتجدد بتجدد مقامات الكلام يقول فى قوله تعالى: {«وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ إِذِ اسْتَسْقََاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ، فَانْبَجَسَتْ»} (425):
«فان قلت: فهلا قيل: فضرب فانبجست؟ قلت: لعدم الالباس، وليجعل الانبجاس مسببا عن الايحاء بضرب الحجر، للدلالة على أن الموحى اليه لم يتوقف عن اتباع الأمر» (426)
وقد تحذف جملة الشرط وتدل عليها فاء الفصيحة التى لا تقع الا فى الكلام البليغ يقول فى قوله تعالى: {«فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ»} (427): «الفاء متعلقة بمحذوف أى فضرب فانفجرت كما ذكرنا فى قوله: {«فَتََابَ عَلَيْكُمْ»} وهى على هذا فاء فصيحة لا تقع الا فى كلام بليغ» (428)
ولحذف الشرط مواقع يكون حذفه فيها من أحاسن الحذوف كما يقول (429)
وقد يحذف جواب «لما» لاستطالة الكلام مع أمن الالباس وفى حذفه من الايجاز وقوة الدلالة ما ليس فى ذكره يقول فى قوله تعالى:
{«فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ»} (430): «فان قلت:
أين جواب «لما»؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أن جوابه: ذهب الله بنورهم والثانى أنه محذوف كما حذف فى قوله: {«فَلَمََّا ذَهَبُوا بِهِ»} (431) وانما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الالباس للدال عليه وكان الحذف أولى من الاثبات لما فيه من الوجازة مع الاعراب عن الصفة التى حصل
__________
(425) الأعراف: 160
(426) الكشاف ج 2ص 132
(427) البقرة: 60
(428) الكشاف ج 1ص 108.
(429) ينظر الكشاف ج 2ص 64
(430) البقرة: 17
(431) يوسف: 15(1/408)
عليها المستوقد مما هو أبلغ من اللفظ فى أداء المعنى كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين فى ظلام متحسرين على فوت الضوء خائبين بعد الكدح فى احياء النار» (432)
وقد يحذف جواب «لو» للاشارة الى أنه أمر فظيع لا يحيط به وصف يقول فى قوله تعالى: {«وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ»} (433)
أى: لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله على كل شىء من العذاب والثواب دون أندادهم، ويعلمون شدة عقبه للظالمين اذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم، فحذف الجواب كما فى قوله: {«وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا»} (434)، وقولهم: «لو رأيت فلانا والسياط تأخذه» (435) وقد يراد ذكر أشياء كثيرة فيعمد المتكلم الى بعضها ويذكره ويسقط غيره ويحرص البليغ على أن يكون فى كلامه ما يرشد الى مقصده كأن يذكر أقساما ولا يستوفيها.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«فِيهِ آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ مَقََامُ إِبْرََاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كََانَ آمِناً»} (436): «ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل: فيه آيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما، ونحوه فى طى الذكر قول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهموا ... من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله عليه السلام: «حبب الى من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عينى فى الصلاة» (437)
وقد تكون الكلمة فى الجملة ذات مدلول واسع فتساعد المتكلم على التركيز والايجاز يقول فى قوله تعالى: {«عَوََانٌ بَيْنَ ذََلِكَ»} (438)
__________
(432) الكشاف ج 1ص 55
(433) البقرة: 165
(434) الأنعام: 27
(435) الكشاف ج 1ص 159
(436) آل عمران: 97
(437) الكشاف ج 1ص 159.
(438) البقرة: 68(1/409)
«فان قلت: «بين» يقتضى شيئين فصاعدا فمن أين جاز دخوله على «ذلك»؟ قلت: لأنه فى معنى شيئين حيث وقع مشارا به الى ما ذكر من الفارض والبكر، فان قلت: كيف جاز أن يشار به الى المؤمنين وانما هو للاشارة الى واحد مذكر؟ قلت: جاز ذلك على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار فى الكلام، كما جعلوا فعل نائبا عن أفعال جمة تذكر قبله تقول للرجل: نعم ما فعلت، وقد ذكر لك أفعالا كثيرة وقصة طويلة كما تقول له: ما أحسن ذلك» (439)
الذكر:
وينبه الزمخشرى الى ما تفيده متعلقات الأفعال من تحديد المعنى وتصويره أو توكيده ورفع احتماله، ويشير فى هذا الى أن ما يقصده المتكلم فى كلامه يكون هو الجزء الأهم فى الجملة، ولذلك يذكره وينص عليه وخلافه من الاجزاء التى يمكن أن تتعلق بالأفعال تكون مطروحة ملقاة لا يلتفت اليها ما دام الغرض لم يتعلق بها، وفى هذا تحديد لأهمية متعلقات الأفعال على حسب أغراض الكلام ومقاصده، وهذه المتعلقات سماها النحاة «فضلات» وهى تسمية فيها اشعار بقلة شأنها فى الجمل يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«إِذْ أَرْسَلْنََا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمََا فَعَزَّزْنََا بِثََالِثٍ»} (440): «فان قلت: لم ذكر المفعول به؟ قلت: لأن الغرض ذكر المعزز به، وهو شمعون، وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وذل الباطل. واذا كان الكلام منصبا الى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه اليه كأن ما سواه مرفوض مطرح ونظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق، الغرض المسوق اليه قولك «بالحق» فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه (441)
__________
(439) الكشاف ج 1ص 112
(440) يس: 14
(441) الكشاف ج 7ص 117(1/410)
وقد يكون القيد لتقرير المعنى وتأكيده ولذلك يخاطب به المنكر، كما يخاطب بالكلام المؤكد بمؤكدات حسب انكاره، يقول فى قوله تعالى: {«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ»} (442): «بأيديهم:
تأكيد، وهو من مجاز التأكيد، كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه:
يا هذا كتبته بيمينك هذه» (443)
ويلحظ زيادة القيد على حسب حال المخاطب من الانكار فى قوله تعالى: {«قََالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً»}، {«قََالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً»} (444) حيث زاد قوله: «لك» فى المخالفة الثانية، وذلك لزيادة المكافحة، بالعتاب، على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية» (445)
وهذا القيد كما يفيد تأكيد الكلام المثبت يفيد كذلك تأكيد الكلام المنفى يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ»} (446): فان قلت: ما فائدة قوله:
{«بِيَمِينِكَ»}؟ قلت: ذكر اليمين وهى الجارحة التى يزاول بها الخط زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا، ألا ترى أنك اذا قلت فى الاثبات: رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه، كان أشد لاثباتك أنه تولى كتابته، فكذلك النفى» (447)
ويشير الى ما فى هذا القيد من توضيح للمعنى وتصوير له حتى كأنه أمام السامع صورة شاخصة يتأملها بوجدانه فيتقرر المعنى فى نفسه، يقول فى قوله تعالى: {«مََا جَعَلَ اللََّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»} (448): «فان قلت: أى فائدة فى ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة فى قولك: فى القلوب التى فى الصدور، وذلك ما يحصل
__________
(442) البقرة: 79
(443) المرجع السابق
(444) الكهف: 72، 75
(445) ينظر الكشاف ج 2ص 574
(446) العنكبوت: 48
(447) الكشاف ج 3ص 361
(448) الأحزاب: 4(1/411)
للسامع من زيادة التصور والتجلى للمدلول عليه، لأنه اذا سمع به صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع الى الانكار» (449)
وقد يكون القيد للايضاح بعد الابهام وهذه طريقة حسنة فى بناء الكلام وتركيبه ويرجع فضلها كما يقول الزمخشرى الى التأكيد والتفصيل.
يقول فى قوله تعالى: {«قََالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي»} (450): فان قلت: «لى» فى قوله: {«اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي»} ما جدواه والكلام بدونه مستتب؟ قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل {«اشْرَحْ لِي»} و {«يَسِّرْ لِي»} فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ثم بين ودفع الابهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره من أن يقول: اشرح صدرى ويسر أمرى على الايضاح الساذج، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقى الاجمال والتفصيل» (451)
ويكرر هذا التحليل فى قوله تعالى: {«أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ»} (452)
وقد يكون القيد لتأكيد المعنى لغرابته ولمجيئه على طريقة المجاز فيحتاج الى زيادة كشف وتوضيح وتصوير، فيكون هذا القيد مؤديا كل هذه الأغراض يقول فى قوله تعالى: {«فَإِنَّهََا لََا تَعْمَى الْأَبْصََارُ وَلََكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»} (453): «فان قلت: أى فائدة فى ذكر الصدور؟ قلت: الذى قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله فى القلب مثل، فلما أريد اثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى الى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير الى زيادة تعيين، وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذى بين فكيك، فقولك «الذى بين فكيك»
__________
(449) الكشاف ج 3ص 412
(450) طه: 25، 26
(451) الكشاف ج 3ص 47.
(452) ينظر الكشاف ج 4ص 614والآية من سورة الشرح: 1
(453) الحج: 46(1/412)
تقرير لما ادعيته للسانه وتثبيت لأن محل المضاء هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة، ولا سهوا، ولكن تعمدت به اياه تعمدا» (454)
وقد يكون القيد لاثارة النفس وبعثها على الطاعة والانقياد، كما فى قوله تعالى: {«وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ»} (455)
يقول: «فان قلت: هلا قيل يتربصن ثلاثة قروء كما قيل تربص أربعة أشهر، وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: فى ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص، وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن وذلك أن أنفس النساء طوامح الى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص» (456)
التوكيد:
ويعنينى فى بحث التوكيد أن أبين أمرين:
الأول دواعى التوكيد وأغراضه. والثانى عناصر التوكيد وأدواته.
أما الأمر الأول فقد ضاق صدرى بحديث المتأخرين حينما أداروه حول مواجهة انكار المخاطب التحقيقى أو الاعتبارى، وكأن جواب أبى العباس المبرد على سؤال الكندى المتفلسف كان محيطا بدواعى التوكيد وأسراره فى هذه اللغة فجاء كلامهم ترديدا أو شرحا لهذا الجواب. وهذا قصور كثير فى فهم هذه الخصوصية التى هى من أدق الخصائص البلاغية وأكثرها صلة بالحس والشعور. وأكثرها شيوعا فى الكلام كله.
وقد ذكر الزمخشرى دواعى كثيرة للتوكيد تجاوزت هذا الأفق الذى حددته اجابة أبى العباس المبرد، منها: أن التوكيد قد يكون لتقرير المعنى فى نفس المخاطب وتثبيته وان كانت خالية من كل أثر للانكار
__________
(454) الكشاف ج 3ص 128.
(455) البقرة: 228
(456) الكشاف ج 1ص 206.(1/413)
أو الشك كما فى قوله تعالى: {«إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا»} (457) يقول الزمخشرى: «تكرير الضمير بعد ايقاعه اسما ل «ان» تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليتقرر فى نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه اذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أى وجه نزل الا حكمة وصوابا، ولقد دعتنى حكمة بالغة الى أن أنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين» (458)
ومنها أن التأكيد قد يكون لتحقيق المعنى عند المتكلم، وهو يريد أن يوطن نفس المخاطب لتلقيه وقبوله كما فى قوله تعالى:
{«إِنِّي آنَسْتُ نََاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ»} (459) قال الزمخشرى:
«لما وجد منه الايناس فكان مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة «ان» ليوطن أنفسهم، ولما كان الاتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع» (460)
ومنها مواجهة انكار المخاطب كما فى جواب أبى العباس وتكون أدوات التوكيد بمقدار الانكار قوة أو ضعفا يقول فى قوله تعالى: {«إِذْ أَرْسَلْنََا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمََا فَعَزَّزْنََا بِثََالِثٍ فَقََالُوا إِنََّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قََالُوا مََا أَنْتُمْ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا وَمََا أَنْزَلَ الرَّحْمََنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا تَكْذِبُونَ. قََالُوا رَبُّنََا يَعْلَمُ إِنََّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ»} (461): «فان قلت: لم قيل {«إِنََّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ»} أولا و {«إِنََّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ»} آخرا؟ قلت: لأن الأول ابتداء اخبار، والثانى جواب عن انكار» (462)
وقد جعل الأقل تأكيدا ابتداء اخبار، وهذا خلاف المتعارف من أن ابتداء الاخبار لا يحتاج الى شىء من التوكيد كما أن سياق الآية التى معنا ينافى أن يكون الأول ابتداء اخبار لأنهم كذبوا اثنين فجىء
__________
(457) الانسان: 23
(458) الكشاف ج 4ص 539
(459) طه: 10
(460) الكشاف ج 3ص 41.
(461) يس: 1614
(462) الكشاف ج 4ص 6.(1/414)
بالثالث، ولعل الزمخشرى يقصد بكونه ابتداء اخبار أنهم بدءوهم بالحديث بأنهم مرسلون اليهم ولم تكن بينهم محاورة بخلاف مقام الخطاب الثانى فانه كان مقام تحاور ومحاجة وانكار، وهذا لا ينافى أن يكونوا مع الأول منكرين.
ومن دواعى التوكيد اماطة الشبهة لغرابة الخبر وحاجته الى التقرير والتحقيق يقول فى قوله تعالى: {«فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ يََا مُوسى ََ. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ»} (463): «تكرير الضمير فى {«إِنِّي أَنَا رَبُّكَ»} لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة واماطة الشبهة» (464)
وقد يكون التوكيد مظهرا لتعلق النفس بالخبر واهتمامها به، وأنه جدير عندها بالتقوية والتقرير، وأن المخاطب متقبل له، غير منكر، ولا مدافع، كما أن ارسال الكلام غفلا من التأكيد لأن النفس غير متعلقة به، ولا صادقة الرغبة فيه، وأن المخاطب ينكره انكارا لا ينفع معه أبلغ صور التوكيد. يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ»} (465):
«فان قلت: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة ب «ان»؟ قلت: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين، وأوكدهما، لأنهم فى ادعاء حدوث الايمان منهم ونشئه من قبلهم لا فى ادعاء أنهم أوحديون فى الايمان غير مشقوق فيه غبارهم، وذلك اما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه، اذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد، واما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة، وكيف يقولون ويطمعون فى رواجه وهم بين ظهرانى المهاجرين والأنصار الذين مثلهم فى التوراة والانجيل، ألا ترى حكاية الله قول المؤمنين: {«رَبَّنََا إِنَّنََا آمَنََّا»} (466)، وأما مخاطبة اخوانهم فهم فيما
__________
(463) طه: 11، 12
(464) الكشاف ج 3ص 42.
(465) البقرة: 14
(466) آل عمران: 16(1/415)
أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزالوا عنه عن صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد» (467)
وقد يكون التوكيد لمواجهة تطلعات النفس وحسم آمالها، واطماعها كما فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لََا يَجْزِي وََالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلََا مَوْلُودٌ هُوَ جََازٍ عَنْ وََالِدِهِ شَيْئاً»} (468): «فان قلت:
قوله: {«وَلََا مَوْلُودٌ هُوَ جََازٍ عَنْ وََالِدِهِ شَيْئاً»}، وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه؟ قلت: الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم الى ذلك قوله «هو» وقوله «مولود» والسبب فى مجيئه على هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلى، فأريد حسم أطماعهم، وأطماع الناس فيهم أن ينفعوا آباءهم فى الآخرة، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا، فلذلك جىء به على الطريق الآكد» (469)
وقد يكون التوكيد لتقرير وعد الله وتثبيته حتى تزداد النفوس اطمئنانا اليه ووثوقا فيه، فلا تلتفت الى أمانى الشيطان ووعده لأوليائه، يقول فى قوله تعالى: {«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ، خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً، وَعْدَ اللََّهِ حَقًّا، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللََّهِ قِيلًا»} (470): {«وَعْدَ اللََّهِ حَقًّا»} مصدران، الأول مؤكد لنفسه، والثانى مؤكد لغيره، {«وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللََّهِ قِيلًا»}، توكيد ثالث بليغ. فان قلت: ما فائدة هذه التوكيدات؟ قلت: معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة، وأمانيه الباطلة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه، ترغيبا للعباد فى ايتاء ما يستحقون به تنجيز وعد الله على ما يتجرعون عاقبته غصص اخلاف مواعيد الشيطان» (471)
__________
(467) الكشاف ج 1ص 50.
(468) لقمان: 33
(469) الكشاف ج 3ص 398.
(470) النساء: 122
(471) الكشاف ج 1ص 440.(1/416)
وقد يتجه المتكلم الى تصوير ما فى نفوس الآخرين من خواطر وأفكار فيأتى تصويره فى عبارات مؤكدة ليشير بهذا الى أن هذه الخواطر والأفكار متقررة فى هذه النفوس ومتمكنة منها كما فى قوله تعالى:
{«وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ»} (472) يقول الزمخشرى: «فان قلت: أى فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم، وبين النظم الذى جاء عليه؟ قلت: فى تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها، ومنعها اياهم، وفى تصيير ضميرهم اسما ل «ان»، واسناد الجملة اليه، دليل على اعتقادهم فى أنفسهم، أنهم فى عزة ومنعة، لا يبالى معهم بأحد يتعرض لهم أو يطمع فى معازتهم، وليس ذلك فى قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم» (473)
عناصر التوكيد:
والمؤكدات كثيرة لا يمكن الاحاطة بها فان كثيرا من طرق بناء الكلام تعطيه تقوية ووكادة، فالذكر قد يفيد توكيدا، والحذف قد يفيد توكيدا، والوصل والفصل، والتكرار، والاعتراض، والالتفات، وصور التشبيه، والاستعارة، وأنواع المجاز، والكناية، كل هذه وغيرها تفيد أنواعا من التوكيد والمبالغة فى تثبيت المعنى أو نفيه، ولذلك سوف أذكر هنا صورا من مظاهر التوكيد فى التعبير، سواء أكان هذا التوكيد بأداة من أدوات التوكيد، أو كان بصورة من صور البناء، أو كان بحال من أحوال اللفظ.
وغرضى فى هذا أن أوضح رؤيته لعناصر القوة فى القول ولا أستقصى فى هذا وانما أشير اليه. ولا شك أن كثيرا مما ذكرناه يصح أن يكون نماذج لأنواع من المؤكدات. ونضيف هنا ما يلحظه فى دلالة الكلمة لخصوص معناها على التوكيد يقول فى قوله تعالى: {«لََا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ»} (474): «فيه تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف
__________
(472) الحشر: 2
(473) الكشاف ج 4ص 398.
(474) طه: 67(1/417)
وبكلمة التشديد وبتكرير الضمير ولام التعريف وبلفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة وبالتفضيل» (475) فكلمة العلو هنا أفادت التوكيد بمعناها ومبناها. ويلحظ فى الجملة الاسمية قوة الدلالة وتوكيد المعنى يقول فى قوله تعالى: {«فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلََا يَخََافُ بَخْساً وَلََا رَهَقاً»} (476):
«فان قلت: أى فائدة فى رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب ادخال الفاء وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال: لا تخف؟
قلت: الفائدة فيه أنه اذا فعل ذلك فكأنه قيل: فهو لا يخاف، فكأنه دال على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره» (477)
والجملة الاسمية تفيد الثبات والاستمرار وهما من عناصر القوة والتوكيد يقول فى قوله تعالى: {«وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ»} (478):
«فان قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية فى جواب «لو»؟
قلت: لما فى ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستمرارها كما عدل عن النصب الى الرفع فى: سلام عليكم» (479)
وواضح أن التوكيد فى الجملة الاسمية لا يكون ملحوظا فى كل حال لأننا لا نقول فى قولنا «زيد قائم» انه كلام مؤكد بدليل أنه لا يخاطب به المنكر وانما نقول ذلك اذا انضم اليه شىء آخر من مؤكدات القول أو دعا المقام الى لمح شىء من التأكيد فيه. وقد تكون الجملة المؤكدة ب «ان» منطوية على عناصر أخرى من عناصر القوة والوكادة كأن يكون خبرها جملة دالة على التوكيد بتركيبها وأحوال ألفاظها. يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوََاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللََّهِ أُولََئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ََ»} (480): «وهذه الآية بنظمها الذى رتبت عليه من ايقاع الغاضين أصواتهم اسما ل «ان» المؤكدة وتصيير خبرها جملة
__________
(475) الكشاف ج 3ص 57.
(476) الجن: 13
(477) الكشاف ج 4ص 502.
(478) البقرة: 103
(479) الكشاف ج 1ص 130
(480) الحجرات: 3(1/418)
من مبتدأ وخبر معرفين معا، والمبتدأ اسم إشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وايراد الجزاء نكرة مبهما أمره، ناظرة فى الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم، وفى الاعلام بمبلغ عزة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقدر شرف منزلته، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء» (481) ويشير الى هذه العناصر فى قوله تعالى: {«إِنَّ هََؤُلََاءِ مُتَبَّرٌ مََا هُمْ فِيهِ»} (482) حيث قدم خبر الجملة الواقعة خبرا لها، وجعل اسم الاشارة اسما لها، ليؤكد أنهم معرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب (483)
وكأن تقع جملة خبر «ان» مؤكدة كذلك ب «ان» كما فى قوله تعالى:
{«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئِينَ وَالنَّصََارى ََ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللََّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ»} (484) يقول الزمخشرى:
«وأدخلت «ان» على كل واحد من جزئى الجملة لزيادة التوكيد.
ونحوه قول جرير:
إن الخليفة إنّ الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم (485)
ومن عنصر القوة فى الجملة الحروف الزائدة مثل «لا» فى قوله تعالى: {«مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ»} (486) يقول الزمخشرى: «لا: فى {«أَلََّا تَسْجُدَ»} صلة بدليل قوله {«مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»} (487)
ومثلها: {«لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ»} (488) بمعنى ليعلم، فان قلت:
ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذى تدخل عليه وتحقيقه، كأنه قيل: ليحقق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك» (الكشاف ج 2ص 70).
__________
(481) الكشاف ج 4ص 283
(482) الأعراف: 139
(483) ينظر الكشاف ج 2ص 118
(484) الحج: 17
(485) الكشاف ج 3ص 117
(486) الأعراف: 12
(487) سورة ص: 75
(488) الحديد: 29(1/419)
ومثل اللام التى تزاد فى تعدية الأفعال كما فى قوله تعالى:
{«أُبَلِّغُكُمْ رِسََالََاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ»} (489) يقول الزمخشرى: «يقال:
نصحته ونصحت له، وفى زيادة اللام مبالغة ودلالة على امحاض النصيحة، وأنها وقعت خالصة للمنصوح له، مقصود بها جانبه لا غير».
ومثل «أن» الزائدة بعد «لما» فى قوله تعالى: {«وَلَمََّا أَنْ جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً»} (490) يقول: «أن: صلة أكدت وجود الفعلين مترتبا أحدهما على الآخر فى وقتين متجاورين لا فاصل بينهما كأنهما وجدا فى جزء واحد من الزمان كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث، خيفة عليهم من قومه» (الكشاف ج 3 ص 356).
ومن عناصر القوة فى الجملة كلمة «أما» يقول الزمخشرى: «وفائدته فى الكلام أنه يعطيه فضل توكيد، تقول: زيد ذاهب، فاذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت: أما زيد فذاهب» (491)
ويلحظ الزمخشرى أن الجملة القرآنية قد تتزاحم فيها عناصر التوكيد والتقرير سواء منها ما كان بأداة، أو بطريقة نظم، أو باختيار لفظ، وذلك لتأكيد ما حرّم الله حتى تنكف عنه النفوس المؤمنة أو لتأكيد ما أحل الله حتى تندفع نحوه.
يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ»} (492): «أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد، منها تصدير الجملة ب «انما» ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام، ومنها أن جعلها رجسا، ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان والشيطان لا يأتى منه الا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب، ومنها أنه جعل الاجتناب من
__________
(489) الأعراف: 62
(490) العنكبوت: 33
(491) الكشاف ج 1ص 88
(492) المائدة: 90(1/420)
الفلاح، واذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة ومحقة، ومنها أنه ذكر ما ينتج منها من الوبال وهو وقوع التعادى والتباغض» (493)
ويقول فى آية الحث على الحج: {«وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»} (494):
«وفى هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد، منها قوله تعالى:
{«وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»} (495): «يعنى أنه حق واجب فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته، ومنها أنه ذكر {«النََّاسِ»} ثم أبدل عنه {«مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»}، وفيه ضربان من التأكيد، أحدهما أن الابدال تثنية للمراد وتكرير له، والثانى أن الايضاح بعد الابهام والتفصيل بعد الاجمال ايراد له فى صورتين مختلفتين، ومنها قوله تعالى {«وَمَنْ كَفَرَ»} مكان «ومن لم يحج» تغليظا على تارك الحج، ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان، ومنها قوله {«عَنِ الْعََالَمِينَ»} وان لم يقل: عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه اذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذى وقع عبارة عنه» (496)
النظر فى المعنى:
ولما كان استخراج ما فى الجملة من المعنى هو المقصد الأعلى فى الدراسة اللغوية بجميع فروعها، ولما كانت الدراسة البلاغية بوجه خاص تعنى ببحث أسرار التراكيب أى كشف ما وراء كل خصوصية من معنى، رأيت أن أعتبر من البحث البلاغى فى الكشاف هذا اللون من البحث الخاص بتفسير الجملة وتوضيح مدلولها، وقصدت هذا التفسير الذى يشير فيه الزمخشرى الى معنى بعيد، لا يفهم من متن اللفظ، وانما يدركه الخاصة من ذوى الثقافة العالية.
__________
(493) الكشاف ج 1ص 525
(494) آل عمران: 97
(495) آل عمران: 97
(496) الكشاف ج 1ص 299(1/421)
ومن الواضح أن البلاغيين المتأخرين كان لهم نظر فى تحديد المعانى، وبيان مرامى القول، وأنهم درسوا لذلك أغراض الخبر، وان صبغوه صبغة منطقية حين حصروا قصد المخبر بخبره فى أمرين، وان تجاوز البحث بعد ذلك هذا الأفق المحدود. وما أكتبه الآن من نظرات الزمخشرى فى تحديد المعانى يتصل أكثره ببحث أغراض الخبر عند المتأخرين، مما يلفتنا الى أنهم اعتمدوا عليه فى كثير من هذا الباب.
وقد بين الزمخشرى أن الخبر قد يوجه الى العالم به تنزيلا لعلمه منزلة عدمه لقصد تنبيهه من غفلته حتى يلتفت الى ما يعلم فيعمل به، يقول فى قوله تعالى: {«لََا يَسْتَوِي أَصْحََابُ النََّارِ وَأَصْحََابُ الْجَنَّةِ»} (497):
«هذا تنبيه للناس وايذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم فى العاقبة وتهالكهم على ايثار العاجلة واتباع الشهوات كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز مع أصحاب الجنة، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه بذلك على حق الأبوة» (498)
ومن الآيات المشهورة فى هذا المعنى قوله تعالى: {«وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرََاهُ مََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ، وَلَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ»} (499) يقول الزمخشرى: «فان قلت: كيف أثبت لهم العلم أولا فى قوله: {«وَلَقَدْ عَلِمُوا»} على سبيل التوكيد القسمى ثم نفاه عنهم فى قوله {«لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ»}؟ قلت: معناه: لو كانوا يعلمون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه» (500)
وقد يراد بالخبر حث النفوس واثارتها للأخذ بأمر والتمسك به، كما فى قوله تعالى: {«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}
__________
(497) الحشر: 20
(498) الكشاف ج 4ص 406
(499) البقرة: 102
(500) الكشاف ج 1ص 129(1/422)
{مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا وََاقٍ»} (501)، يقول الزمخشرى: «وهذا من باب الالهاب والتهيج والبعث للسامعين على الثبات فى الدين والتصلب فيه، وألا يزل زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحق، والا فكان الرسول صلّى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان» (502)
وقد يكون الخبر للاذكار بما علم تنبيها للنفس وايقاظا لها ولفتا الى ما هى فيه من المنزلة الدون حتى تأنف وتترفع عنها. يقول فى قوله تعالى: {«لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ»} (503): «فان قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفى الاستواء؟ قلت: معناه للاذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفى ارتفاع طبقته، ونحوه: {«هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ»} (504)
أريد به التحريك من حمية الجاهل، وأنفته، ليهاب به الى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل الى شرف العلم» (505)
وقد يراد بالخبر التسلية والتصبر كما فى قوله تعالى: {«فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ»} (506) يقول: «وهذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتكذيب اليهود» (507) وقد يراد به التحسر كما فى قوله تعالى: {«رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهََا أُنْثى ََ»} (508) يقول الزمخشرى: «فان قلت: فلم قالت {«إِنِّي وَضَعْتُهََا أُنْثى ََ»} وما أرادت الى هذا القول؟ قلت: قالته تحسرا على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها فتحزنت الى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرا، ولذلك نذرته محررا للسدانة ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال
__________
(501) الرعد: 37
(502) الكشاف ج 2ص 415
(503) النساء: 95
(504) الزمر: 9
(505) الكشاف ج 1ص 429
(506) آل عمران: 184
(507) الكشاف ج 1ص 345
(508) آل عمران: 36(1/423)
الله تعالى: {«وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا وَضَعَتْ»} (509) تعظيما لموضوعها، وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشىء الذى وضعته، وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهى جاهلة بذلك لا تعلم شيئا فلذلك تحزنت» (510)
وقد يراد البث والحزن والشكوى كما فى قوله تعالى: {«قََالَ رَبِّ إِنِّي لََا أَمْلِكُ إِلََّا نَفْسِي وَأَخِي»} (511) يقول: «وهذا من البث والحزن والشكوى الى الله، والحسرة ورقة القلب، التى بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة» (512)
وقد يراد توطين النفوس وتهيئتها للشدائد كما فى قوله تعالى:
{«وَمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا مَتََاعُ الْغُرُورِ»} (513) يقول: «خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها، حتى اذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تبغته الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه» (514)
وقد يراد به الوعد أو الوعيد، يقول فى قوله تعالى: {«أُولََئِكَ أَعْتَدْنََا لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً»} (515): {«أُولََئِكَ أَعْتَدْنََا لَهُمْ»} فى الوعيد نظير {«فَأُولََئِكَ يَتُوبُ اللََّهُ عَلَيْهِمْ»} (516) فى الوعد، ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة» (517)
وقد يراد التخويف وبيان الاقتدار كما فى قوله تعالى: {«إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النََّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ»} (518) قال: «وهذا غضب عليهم وتخويف وبيان لاقتداره» (519)
__________
(509) آل عمران: 36
(510) الكشاف ج 1ص 273
(511) المائدة: 25
(512) الكشاف ج 1ص 483
(513) آل عمران: 185
(514) الكشاف ج 1ص 446
(515) النساء: 18
(516) النساء: 17
(517) الكشاف ج 1ص 378
(518) النساء: 133
(519) الكشاف ج 1ص 445(1/424)
وأغراض الكلام لا تضبط ولا تحصر لأنها مظهر لخواطر النفس ومشاعرها وهذه الخواطر والمشاعر لا سبيل الى حصرها.
وكان الزمخشرى قوى الحس بالجملة وايماءاتها ولهذا يستخرج منها أدق أسرارها وينفذ منها الى الأبعاد الغائمة فى مستسر نفس قائلها يقول فى قوله تعالى: {«قََالَ أَجِئْتَنََا لِتُخْرِجَنََا مِنْ أَرْضِنََا بِسِحْرِكَ يََا مُوسى ََ»} (520): يلوح من جيب قوله: {«أَجِئْتَنََا لِتُخْرِجَنََا مِنْ أَرْضِنََا بِسِحْرِكَ»} أن فرائصه كنت ترعد خوفا مما جاء به موسى عليه السلام لعلمه وايقانه أنه على الحق وأن الحق لو أراد قود الجبال لانقادت، وأن مثله لا يخذل، ولا يقل ناصره، وأنه غالبه على ملكه لا محالة، وقوله «بسحرك» تعلل وتحير والا فكيف يخفى عليه أن سحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر» (521)
ويدرك هذا التحير والدهش فى أعماق نفس فرعون فى خطاب آخر لقومه يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمََا ذََا تَأْمُرُونَ»} (522): «ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين، وبقى لا يدرى أى طرفيه أطول، حتى زال عنه ذكر دعوى الألوهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه، وانتفخ سحره خوفا وفرقا، وبلغت به الاستكانة لقومه الذين هم بزعمه عبيده، وهو إلههم أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذره، وتوقعه وأحس به من جهة موسى عليه السلام، وغلبته على ملكه وأرضه، وقوله {«إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ»} قول باهت اذا غلب، ومتمحل اذا لزم» (523)
وفى موقف آخر من مواقف فرعون وخطابه للسحرة يلمح
__________
(520) طه: 57
(521) الكشاف ج 3ص 54
(522) الشعراء: 34، 35
(523) الكشاف ج 3ص 244(1/425)
الزمخشرى وراء العبارة نفسا ثانية، فيها صلف وكبرياء، يقول فى قوله تعالى: {«وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنََا أَشَدُّ عَذََاباً وَأَبْقى ََ»} (524):
«وفيه نفاجة باقتداره، وقهره، وما ألفه، وضرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى واستضعاف له من الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب فى شىء» (525)
وقد يجد الزمخشرى فى ظاهر معنى الجملة شيئا من الغموض والتناقض فيحلله تحليلا أدبيا مبينا وجه استقامته على طريقة الأدب، يقول فى قوله تعالى: {«وَمََا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلََّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهََا»} (526): «فان قلت: هو كلام متناقض لأن معناه: ما من آية الا هى أكبر من كل واحدة منها، فتكون واحدة منها فاضلة ومفضولة فى حالة واحدة؟ قلت: الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة فى الأشياء التى تتلاقى فى الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير، أن تختلف آراء الناس فى تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك ومنه بيت الحماسة:
من تلق منهم فقل لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التى يسرى بها السّارى
وقد فاضلت الانمارية بين الكملة من بنيها، ثم قالت لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت: ثكلتهم ان كنت أعلم أيّهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها» (527)
وقد ينظر الزمخشرى الى ما فى الجملة من حكمة ومعنى جامع ويكون هذا المدلول أساس اعجابه بها، يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ خَيْرَ}
__________
(524) طه: 71
(525) الكشاف ج 3ص 60
(526) الزخرف: 48
(527) الكشاف ج 1ص 202201(1/426)
{مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»} (528): «كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه اذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعنى الكفاية والأمانة فى القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك، وقد استغنت بارسال هذا الكلام الذى سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول: استأجره لقوته وأمانته» (529)
وقد يعتمد الزمخشرى على الموازنة بين صورتين لمعنيين يتشابهان فى الظاهر وذلك ليستعين بهذه الموازنة على اخراج كل ما فى التركيب من معنى وكشف جميع جوانبه، يقول: «فان قلت: ما الفرق بين معنى قوله: {«وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ»} (530) وبين معنى: {«وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى ََ حِمْلِهََا لََا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ»}؟ (531) قلت: الأول فى الدلالة على عدل الله تعالى فى حكمه وأنه تعالى لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها.
والثانى فى أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى ان نفسا قد أثقلتها الأوزار وبهظتها لو دعت الى أن تخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث وان كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ» (532)
يقول فى قوله تعالى: {«قََالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلََهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ»} (533): «فان قلت: ألم يكن لأسجننك أخصر من {«لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ»} ومؤديا مؤداه؟ قلت: أما أخصر فنعم، وأما مؤديا مؤداه فلا، لأن معناه لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم فى سجونى، وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه فى هوة ذاهبة فى الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل» (534)
وفى نهاية البحث فى نظم الجملة أعرض صورا من تذوقه البلاغى للجملة القرآنية أراها خير ما يقال فى دراسة النص الأدبى. يقول
__________
(528) القصص: 26
(529) الكشاف ج 3ص 316
(530) الأنعام: 164
(531) فاطر: 18
(532) الكشاف ج 3ص 479
(533) الشعراء: 29
(534) الكشاف ج 3ص 243(1/427)
فى قوله تعالى: {«أَلََا يَظُنُّ أُولََئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النََّاسُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ»} (535): «وفى هذا الانكار، والتعجب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين، بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الاثم فى التطفيف» (536)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ»} (537): «وفى قوله {«وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا»}، وفى أن لم يقل «وقالوا» وفى قوله {«لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ»}، وفى اللامين من الاشارة الى القائلين والمقول فيه، وفى «لما» من المبادهة بالكفر دليل على صدور الكلام عن انكار عظيم وغضب شديد وتعجب من أمرهم بليغ» (538)
ويقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ يُنََادُونَكَ مِنْ وَرََاءِ الْحُجُرََاتِ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ»} (539): «فورود الآية على النمط الذى وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات اكبار محل رسول الله صلّى الله عليه وسلم واجلاله، منها مجيئها على النظم المسجل على الصائحين بالسفه والجهل لما أقدموا عليه، ومنها لفظ «الحجرات» وايقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه، ومنها المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذى تبين به ما استنكر عليهم، ومنها التعريف بالسلام دون الاضافة، ومنها أنه شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز فى المخاطبات تهوينا للخطب على رسول صلّى الله عليه وسلم وتسلية له واماطة لما تداخله من ايحاش تعجرفهم وسوء أدبهم» (540)
ويقول فى قوله تعالى: {«فَأَوْقِدْ لِي يََا هََامََانُ عَلَى الطِّينِ»} (541):
«ولم يقل: اطبخ لى الآجر واتخذه، لأنه أول من عمل الآجر، فهو
__________
(535) المطففين: 64
(536) الكشاف ج 4ص 575
(537) سبأ: 43
(538) الكشاف ج 3ص 464
(539) الحجرات: 4
(540) الكشاف ج 4ص 284
(541) القصص: 38(1/428)
يعلمه الصنعة، ولأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن، وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة، وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالايقاد على الطين مناديا باسمه ب «يا» فى وسط الكلام دليل التعظم والتجبر» (542)
__________
(542) الكشاف ج 3ص 327.(1/429)
الفصل الخامس البحث فى الجمل
وقد تناول البحث البلاغى فى تفسير الكشاف الجمل المتتابعة كما تناول المفرد والجملة الواحدة.
ولم يكن بحث الفصل والوصل وحده هو مظهر خروج البحث البلاغى من نطاق الجملة الواحدة. بل هناك محاولات كثيرة لدراسة الجمل والفقرات فى علم البلاغة. منها بحث الفواصل القرآنية وملاءمتها لمضامين الآيات، ومنها دراسة المعانى وملاءمة بعضها لبعض، ومنها بحث اختصار القصص، ومنها بحث التكرار الذى يمثل مذهبا بارزا فى أسلوب القرآن، ومنها بحث الاعتراض من حيث كمه ومن حيث مواقعه وفوائده، ومنها ما نلحظه فى تحليل النصوص تحليلا خاصا بابراز مواطن القوة والتأثير فى الآيات المتتابعة الى غير ذلك مما نستعين الله على توضيحه فى هذا البحث.
الفصل والوصل:
وليس مرادى فيه ما حدده عبد القاهر وغيره من خصوص الجمل التى لا محل لها من الاعراب وخصوص الواو من بين سائر حروف العطف، وانما أردت عطف الجمل مطلقا بالواو وغيرها ما دام فى هذا العطف أو عدمه سر بلاغى يشير اليه الزمخشرى.
ويلفتنا الزمخشرى الى أن الفصل وصل تقديرى خفى وأنه أقوى من الوصل الظاهر بحروف العطف وأن التنبه الى هذا الوصل الخفى باب دقيق من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه.(1/430)
يقول فى قوله تعالى: {«وَيََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذََابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كََاذِبٌ»} (1): «فان قلت: أى فرق بين ادخال الفاء ونزعها فى {«سَوْفَ تَعْلَمُونَ»}؟ قلت: ادخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفى تقديرى بالاستئناف الذى هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون اذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت، فقال: {«سَوْفَ تَعْلَمُونَ»}
فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف للتفنن فى البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب. وأقوى الوصلين، وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه» (2).
والواو تقع بين الجملتين لتفصل بين معنييهما فتكون كل واحدة ذات معنى مستقل عن الآخر ومتميز عنه، فاذا تكررت الجملتان فى مقام آخر وسقطت هذه الواو كان الكلام كلاما واحدا يقرر بعضه بعضا.
يقول فى قوله تعالى: {«قََالُوا إِنَّمََا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَمََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا»} (3): «فان قلت: هل اختلف المعنى بادخال الواو هنا، وتركها فى قصة ثمود؟ قلت: اذا أدخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم. التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا، ولا يجوز أن يكون بشرا، واذا تركت فلم يقصد الا معنى واحد وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا مثلهم» (4).
والواو فى المقاولات تشير أيضا الى التميز بين المعنيين ليوازن السامع بينهما ويدرك ما فى كل من الصواب والخطأ، فاذا سقطت الواو كان الكلام على الاستئناف، وهو كلام واحد يتولد بعضه من بعض.
__________
(1) هود: 93
(2) الكشاف ج 2ص 231، 232
(3) الشعراء: 185، 186
(4) الكشاف ج 3ص 262(1/431)
يقول فى قوله تعالى: {«فَلَمََّا جََاءَهُمْ مُوسى ََ بِآيََاتِنََا بَيِّنََاتٍ قََالُوا مََا هََذََا إِلََّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمََا سَمِعْنََا بِهََذََا فِي آبََائِنَا الْأَوَّلِينَ. وَقََالَ مُوسى ََ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جََاءَ بِالْهُدى ََ مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عََاقِبَةُ الدََّارِ، إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ»} (5):
«وقرأ ابن كثير: «قال موسى» بغير واو على ما فى مصاحف أهل مكة وهى قراءة حسنة لأن الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة سحرا مفترى، ووجه الأخرى أنهم قالوا ذلك وقال موسى عليه السلام هذا، ليوازن الناظر بين القول والمقول ويتبصر فساد أحدهما، وصحة الآخر وبضدها تتميز الأشياء» (6).
ويتابع الزمخشرى الآية الواحدة التى تتكرر فى سور مختلفة مقترنة بالعاطف مرة وخالية منه مرة أخرى ويفسر فى هذه المتابعة ما وراء الواو من دقائق. يقول: «فان قلت: فى سورة البقرة {«يُذَبِّحُونَ»}
وفى الأعراف {«يُقَتِّلُونَ»} وهاهنا {«يُذَبِّحُونَ»} مع الواو فما الفرق؟ قلت:
الفرق أن التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيرا للعذاب وبيانا له، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أوفى على جنس العذاب وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر» (7).
وينظر فى الآيات التى يتكرر فيها نص معين فى السورة الواحدة وهذا النص يختلف نوع حرف الوصل فيه فيفسر اختلاف هذا الحرف، ولماذا جاء بالواو مرة وبالفاء أخرى؟ كما يقول فى سورة هود وفيها قصص الأنبياء عليهم السلام ويتكرر فيها قوله تعالى: {«وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا»} (8)
ويلحظ أن هذه الآية تكررت فى أربع مواطن (من آية 58الى آية 94) وقد جاءت بالواو مرتين وبالفاء مرتين، وقال فى هذا: «فان قلت:
__________
(5) القصص: 36
(6) الكشاف ج 3ص 324
(7) الكشاف ج 2ص 232.
(8) هود: 58وغيرها(1/432)
ما بال ساقتى قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والساقتان الوسيطان بالفاء؟ قلت: وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد وذلك قوله:
{«إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ»}، {«ذََلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ»} (9) فجىء بالفاء الذى هو السبب كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت، وأما الأخيرتان فلم تقع بتلك المثابة، وانما وقعتا مبتدأتين فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة» (10).
وقد يكون سقوط العاطف تخييلا باستقلال الجمل فى معانيها كما قلنا ولتكون كل واحدة منها كأنها كافية فى الغرض المسوق له الكلام.
يقول فى قوله تعالى: {«الرَّحْمََنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسََانَ. عَلَّمَهُ الْبَيََانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبََانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدََانِ»} (11):
«الرحمن: مبتدأ وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، واخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من احسانه؟! فان قلت: كيف أخل بالعاطف فى الجمل الأول ثم جىء به بعد؟ قلت: بكت بتلك الجمل الأول واردة على سنن التهديد ليكون كل واحدة من تلك الجمل مستقلة فى تقريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه، كما يبكت منكر أيادى المنعم عليه بتعديدها عليه فى المثال الذى قدمته، ثم رد الكلام الى منهاجه بعد التبكيت فى وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف» (12).
ويذكر الزمخشرى أن الجمل التى يقرر بعضها بعضا تتناسق من داخلها ويأخذ بعضها بعنق بعض، وهذا التناسق الداخلى أقوى فى
__________
(9) هود: 81، 65
(10) الكشاف ج 2ص 332.
(11) الرحمن: 61
(12) الكشاف ج 4ص 353.(1/433)
ترابطها من ذكر حرف النسق، ولذلك كان اعتباره أدخل فى البلاغة من غيره، وفى ترتيب هذا النوع من الجمل وبناء بعضه على بعض ما يبين منه قوة الكلام وجودة بلاغته.
يقول فى قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»} (13):
«والذى هو أرسخ عرقا فى البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا وأن يقال: ان قوله {«الم»} جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و {«ذََلِكَ الْكِتََابُ»} جملة ثانية، و {«لََا رَيْبَ فِيهِ»} جملة ثالثة، و {«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»} رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم، حتى جىء بها متناسقة هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جرا الى الثالثة والرابعة، بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريرا لجهة التحدى وشدا من أعضاده، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة، وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: فى حجة تتبختر اتضاحا، وفى شبهة تتضاءل افتضاحا، ثم أخبر عنه بأنه {«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»} فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم السوى من نكتة ذات جزالة» (14).
والجمل التى تتوارد على سبيل البيان لا حاجة فيها الى ذكر لفظ يدل على الربط لأنها ما دامت كذلك فهى شىء واحد، أو هى
__________
(13) البقرة 1، 2
(14) الكشاف ج 1ص 29(1/434)
كما يتصور الزمخشرى «جسم واحد، فاذا داخلها حرف نسق كان غريبا وشاذا فى هذا الجسم».
يقول: «فان قلت: كيف ترتبت الجمل فى آية الكرسى من غير عطف؟ قلت: ما منها جملة الا وهى واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه. والبيان متحد بالمبين فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب: بين العصا ولحائها، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مهيمنا عليه، غير ساه عنه، والثانية لكونه مالكا لما يدبره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لاحاطته بأحوال خلقه، وعلمه بالمرتضى منه، المستوجب للشفاعة، وغير المرتضى، والخامسة لسعة علمه، وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله وعظم قدره» (15).
وقد يلحظ الزمخشرى فى الاستئناف قوة وفخامة حين يكون هذا الاستئناف ردا لكلام سابق ووعيدا للذاهب اليه كما فى قوله تعالى:
{«إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ»} (16) يقول: «فان قلت:
كيف ابتدئ قوله {«اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ»}، ولم يعطف على الكلام قبله؟ قلت: هو استئناف فى غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله عز وجل هو الذى يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذى ليس استهزاؤهم اليه باستهزاء، ولا يؤبه له فى مقابلته لما ينزل بهم من النكال، ويحل يهم من الهوان والذل، وفيه أن الله هو الذى يتولى الاستهزاء بهم، انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله» (17)
وقد ينطوى هذا النوع من الاستئناف على شىء من التعجيب فيزيد الأسلوب حسنا وقوة تأثير، يقول فى قوله تعالى: {«وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلََائِكَةُ أَوْ نَرى ََ رَبَّنََا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي}
__________
(15) الكشاف ج 1ص 22
(16) البقرة: 14، 15
(17) الكشاف ج 1ص 5(1/435)
{أَنْفُسِهِمْ»} (18): «واللام جواب قسم محذوف، وهذه الجملة فى حسن استئنافها غاية، وفى أسلوبها قول القائل:
وجارة جسّاس أبانا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها
وفى فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى أن المعنى: ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب» (19).
ثم ان هذا الاستئناف قد يكون تعليلا للكلام السابق وفى هذا التعليل توكيد له وتقرير، ويكون هذا النوع تارة باعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، وتارة باعادة صفته، يقول فى قوله تعالى:
{«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ»} (20): {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً»} الجملة فى محل الرفع ان كان {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} مبتدأ، والا فلا محل له ونظم الكلام على الوجهين أنك اذا نويت الابتداء ب {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»}، فقد ذهبت به مذهب الاستئناف، وذلك أنه لما قيل {«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»}، واختص المتقون بأن الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟، فوقع قوله {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} الى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدر، وجىء بصفة المتقين المنطوية عليهم خصائصهم التى استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم، أى الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح، ونظيره قولك: أحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار، الذين قارعوا دونه، وكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة. وان جعلته تابعا ل «المتقين» وقع الاستئناف على «أولئك»
__________
(18) الفرقان: 21
(19) الكشاف ج 3ص 215، 216
(20) البقرة: 51(1/436)
كأنه قيل: ما بال المستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب:
بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا، وبالفلاح آجلا، واعلم أن هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة باعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كقولك: قد أحسنت الى زيد زيد حقيق بالاحسان، وتارة باعادة صفته، كقولك أحسنت الى زيد صديقك القديم أهل لذلك، فيكون الاستئناف باعادة الصفة أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه» (21).
والزمخشرى قد يفسر فائدة الاستئناف تفسيرا اعتزاليا يخضع فيه خصوصية التركيب لمعتقده، والنص بعيد عما ذهب اليه من المعنى.
يقول فى قوله تعالى: {«شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قََائِماً بِالْقِسْطِ، لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللََّهِ الْإِسْلََامُ»} (22): «وقوله: {«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللََّهِ الْإِسْلََامُ»} (23) جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، فان قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟
قلت: فائدته أن قوله: {«لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ»} توحيد، وقوله: {«قََائِماً بِالْقِسْطِ»} تعديل، فاذا أردفه قوله: {«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللََّهِ الْإِسْلََامُ»} فقد آذن أن الاسلام هو العدل والتوحيد. وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده فى شىء من الدين. وفيه أن من ذهب الى تشبيه أو ما يؤدى اليه، كإجازة الرؤية، أو ذهب الى الجبر الذى هو محض الجور، لم يكن على دين الله الذى هو الاسلام. وهذا بين جلى كما ترى» (24).
وهذا تعسف لا يقتضيه النظم كما يقول الشيخ عليان (25) ولست أدرى كيف يذيّل كلامه: «وهذا بيان جلى كما ترى».
__________
(21) الكشاف ج 1ص 34
(22) آل عمران: 18، 19
(23) آل عمران: 19
(24) الكشاف ج 1ص 264، 265
(25) تنظر حاشية الشيخ عليان على هامش الكشاف ج 1ص 264(1/437)
الجامع:
ويرى الزمخشرى أن حرف العطف يستلزم أن يكون بين الجملتين قدر من الاتفاق يصحح الربط بينهما، ولكنه لا يكون اتفاقا قويا حتى يصل الى اتحاد الجملتين فى المعنى أو نشوء احداهما عن الأخرى، ولذلك وقع الفصل بين قصة الذين كفروا والحديث عن الكتاب الذى لا ريب فيه.
يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ»} (26): «فان قلت: لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله: {«إِنَّ الْأَبْرََارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجََّارَ لَفِي جَحِيمٍ»} (27) وغيره من الآى الكثيرة؟ قلت: ليس وزان هاتين وزان ما ذكرت. لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب. وأنه {«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»}. وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت.
فبين الجملتين تباين فى الغرض والأسلوب. وهما على حد لا مجال فيه للعاطف. فان قلت: هذا اذا زعمت أن {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ»} جار على {«الْمُتَّقِينَ»} فأما اذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين ثم عقبته بكلام آخر فى صفة أضدادهم كان مثل ذلك آلاء المتلوة؟ قلت: قد مر لى أن الكلام المبتدأ عقيب {«الْمُتَّقِينَ»} سبيله سبيل الاستئناف، وأنه مبنى على تقدير سؤال، فذلك ادراج له فى حكم المتقين. وتابع له فى المعنى.
وان كان مبتد فى اللفظ فهو فى الحقيقة كالجارى عليه» (28).
ويؤكد ضرورة الجامع أو التناسب بين الجملتين وأنه ليس هناك عاطف بين الجمل المتصلة غاية الاتصال. وليس هناك عطف كذلك بين الجمل المنفصلة غاية الانفصال، وانما هو فى الجمل التى تتوسط بين الغايتين كما قال المتأخرون، وهذه الفكرة هى التى دار حولها درس الفصل والوصل عند المتأخرين.
__________
(26) البقرة: 6
(27) الانفطار: 13، 14
(28) الكشاف ج 1ص 36(1/438)
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (29): «فان قلت: لم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله: {«أُولََئِكَ كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولََئِكَ هُمُ الْغََافِلُونَ»}؟ (30) قلت: قد اختلف الخبران هاهنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمة، فانهما متفقان، لأن التسجيل عليهم بالغفلة، وتشبيههم بالبهائم شىء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة لمعانى الأولى فهى من العطف بمعزل» (31).
ويبحث التناسب بين أجزاء الجمل المتعاطفة وقد يكون التناسب بالتقابل وقد يكون بعيدا وفيه شىء من الخفاء يقول فى قوله تعالى:
{«الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبََانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدََانِ»} (32):
«فان قلت: أى تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟
قلت: ان الشمس والقمر سماويان. والنجم والشجر أرضيان فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، وأن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وان جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود الشمس والقمر» (33).
وليس من اللازم أن تتناسب الجملتان خبرا وانشاء فقد يعطف الانشاء على الخبر اذا لم يكن المعتمد بالعطف هى الألفاظ. وانما مضمون الجملة. يقول فى قوله تعالى: {«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ، أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ. وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ»} (34):
«فان قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهى يصح عطف عليه؟
قلت: ليس الذى اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهى يعطف عليه، انما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين
__________
(29) البقرة: 5
(30) الأعراف: 179
(31) الكشاف ج 1ص 35
(32) الرحمن: 5، 6
(33) الكشاف ج 3ص 353
(34) البقرة: 24، 25(1/439)
فهى معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والارهاق، وبشر عمرا بالعفو والاطلاق» (35).
وقد أشار الخطيب الى أن فى هذا الكلام نظرا لا يخفى على المتأمل. ثم رأى أن يكون «وبشر» معطوفا على مقدر أى: أنذرهم وبشر.
ولست أجد لهذا التقدير ذلك المذاق الذى أجده لتحليل الزمخشرى كما لا أجد مذاقا لتقدير السكاكى أن العطف على «قل» مقدرا قبل {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ»} والزمخشرى يشير فى هذا الى عطف القصة على القصة وأنه يكتفى فى مثله بالتناسب بين القصتين ولا ينظر فيه الى التناسب بين الألفاظ وقد أطفئت مثل هذه القبسات فى بلاغة الزمخشرى كما رأينا عند الشيخين وعطف القصة على القصة من أجل مباحث الفصل والوصل وأحد المعاقد الأساسية فى بناء الكلام.
الفواصل القرآنية:
ويلتفت الزمخشرى الى الفواصل القرآنية ويبين وجه الملاءمة بين مدلولها ومدلول الآيات السابقة، وله فى هذه اللفتات نفاذ الى المعانى. وبيان لأجناسها. يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ. وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ قََالُوا أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ، أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهََاءُ وَلََكِنْ لََا يَعْلَمُونَ»} (36): «فان قلت:
فلم فصلت هذه الآية ب {«لََا يَعْلَمُونَ»} والتى قبلها ب {«لََا يَشْعُرُونَ»}؟ قلت:
لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج الى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة. وأما النفاق وما فيه من البغى المؤدى الى الفتنة والفساد فى الأرض فأمر دنيوى مبنى على العادات معلوم عند الناس خصوصا عند العرب فى جاهليتهم وما كان قائما بينهم من التغاور والتناصر والتحارب والتحازب فهو
__________
(35) الكشاف ج 1ص 78
(36) البقرة: 1311(1/440)
كالمحسوس المشاهد. ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا» (37).
ويلتفت الى فواصل الآيات التى تشير الى آثار قدرة الله فى هذا الكون. ويبين فى ذكاء كيف تكون الفاصلة مشيرة إشارة واعية الى مدى دلالة هذه الآثار. فتسلسل الانسانية من نفس واحدة أدق صنعة وألطف تدبيرا من تسخير النجوم للاهتداء بها فى ظلمات البر والبحر. لذلك كانت فاصلة آية النجوم ب {«يَعْلَمُونَ»} وفاصلة آية النشأة ب {«يَفْقَهُونَ»}
والفقه أدق من العلم.
يقول فى قوله تعالى: {«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهََا فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ»} (38): «فان قلت: لم قيل {«يَعْلَمُونَ»} مع ذكر النجوم و {«يَفْقَهُونَ»} مع ذكر انشاء بنى آدم؟ قلت: كان انشاء الانس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذى هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له» (39).
ويقول فى قوله تعالى: {«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرََابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنََابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ، إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَالنُّجُومُ مُسَخَّرََاتٌ بِأَمْرِهِ، إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»} (40): وقال: {«إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»} فجمع الآية وذكر العقل لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة لكبرياء العظمة» (41).
وقد تكون الفاصلة غير مطابقة لسياق الآيات مطابقة تامة فى الظاهر فيكشف الزمخشرى هذه الملاءمة.
__________
(37) الكشاف ج 1ص 49.
(38) الأنعام: 97، 98
(39) الكشاف ج 2ص 39.
(40) النحل: 1210
(41) الكشاف ج 2ص 465.(1/441)
يقول فى قوله تعالى: {«قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً»} (42): «فان قلت: كيف طابق قوله:
{«إِنَّهُ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً»} هذا المعنى؟ قلت: لما كان ما تقدم فى معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة الا القادر على العقوبة، أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبا، ولكن صرف ذلك عنهم أنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل» (43).
ويلحظ الزمخشرى أن القرآن قد يعدل عن لفظ الى لفظ مراعاة الحق الفاصلة اذ أن الفواصل القرآنية فى سور كثيرة يتحد نغمها الصوتى، وفى وحدة النغم هذه تأثير يبلغ مداه فى نفس قارئه وسامعه ولا ضير اذا قلنا ان القرآن يراعى الفاصلة فيبدل فى كلمة أو يضع مكانها أخرى لأن هذا ليس أمرا لفظيا هينا كما فهمه بعض البلاغيين، وقليل منهم تنبه الى قيمة الأثر الصوتى أو الأثر الموسيقى فى التأثير والايحاء وظل أكثرهم يفهم أن شئون اللفظ لا تعدو أن تكون محسنات سطحية لا تتصل بجوهر البلاغة.
وليس من الخطأ فى الدين ولا فى البلاغة أن تقول: ان القرآن يهتم بالناحية اللفظية لأنها جزء من أسلوبه ولأنها من دواعى التأثير، وتلك وظيفة القرآن فالغرض منه أولا هو قيادة النفس الانسانية الى سبيل الخير فمن الحتم أن يأخذ كل سبيل الى هذه الغاية فلا يهمل هذا الجانب المهم فى بلاغته، والزمخشرى من قلة من البلاغيين يرون هذا الرأى، لذلك يفسر بعض الخصائص القرآنية تفسيرا مبنيا على اهتمامه بالناحية الصوتية.
يقول فى قوله تعالى: {«وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا»} (44): «وانقطع اليه،
__________
(42) الفرقان: 6
(43) الكشاف ج 3ص 209.
(44) المزمل: 8(1/442)
فان قلت: كيف قبل «تبتيلا» مكان «تبتلا»؟ قلت: لأن معنى «تبتل» بتل نفسه فجىء به على معناه مراعاة لحق الفواصل» (45).
ويقول فى قوله تعالى: {«رَبَّنََا إِنََّا أَطَعْنََا سََادَتَنََا وَكُبَرََاءَنََا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا»} (46): «وزيادة الألف لاطلاق الصوت، جعلت فواصل الآى كقوافى الشعر، وفائدتها الوقوف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف» (47).
الالتفات:
ويدرك الزمخشرى أن ايقاظ النفس وتحريكها من أهم أغراض الكلام، ولذلك كانت كل خصوصية من خصائص الصياغة تحدث لونا من التأثير والايقاظ هى خصوصية بلاغية ممتازة يحرص عليها المتكلم الأديب، ويدرك الزمخشرى أن الالتفات فى الأسلوب كأنه ضربة على أوتار النفس يزيدها تنبها وايقاظا أو هزا وتحريكا كما يقول، وله فى هذا تحليلات جيدة.
والبلاغيون قد درسوا هذا الباب وتنبهوا له منذ زمن بعيد والواقع أنه لم ينبه أحد الى قيمته البلاغية بالطريقة المفصلة الواضحة التى درسه بها الزمخشرى. وجرت كتب المتأخرين على دراسة مذهبين فى الالتفات، مذهب الجمهور، ومذهب السكاكى. والواقع أن المذهب المنسوب الى السكاكى هو طريقة الزمخشرى وارتضاها السكاكى وسار عليها (48).
__________
(45) الكشاف ج 4ص 512.
(46) الأحزاب: 67
(47) الكشاف ج 4ص 444.
(48) ينظر المفتاح ص 106وبغية الايضاح ج 1ص 151وما بعدها وننبه هنا الى أن السكاكى لم يضع تعريفا محددا للالتفات وانما ذكر أن النقل من الخطاب الى الغيبة لا يختص بالمسند اليه ولا بهذا(1/443)
يقول الزمخشرى مبينا أن الالتفات هو مخالفة ظاهر الحال ولو كان ابتداء كلام كما هو المذهب المنسوب الى أبى يعقوب: «فان قلت:
لم عدل عن لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب؟ يعنى قوله تعالى:
{«مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيََّاكَ نَعْبُدُ»} (49) قلت: هذا يسمى الالتفات فى علم البيان قد يكون من الغيبة الى الخطاب. ومن الخطاب الى الغيبة. ومن الغيبة الى التكلم. كقوله تعالى: {«حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ»} (50) وقوله تعالى: {«وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ»} (51) وقد التفت امرؤ القيس ثلاثة التفاتات فى ثلاثة أبيات:
تطاول ليلك بالأثمد ... وبات الخلىّ ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءنى ... وخبّرته عن أبى الأسود
وذلك على عادة افتنانهم فى الكلام وتصرفهم فيه. ولأن الكلام اذ نقل من أسلوب الى أسلوب كان أحسن تطرية لنشاط السامع وايقاظا للاصغاء اليه من اجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد.
ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات. فخوطب ذلك المعلوم بتلك الصفات.
فقيل: اياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا نعبد غيرك ولا نستعينه. ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذى لا تحق العبادة الا به» (الكشاف ج 1ص 11).
__________
القدر بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها الى الآخر ويسمى هذا التفاتا وقد ذكر الخطيب أن هذا المذهب يفهم من تفسير السكاكى.
(49) الفاتحة: 4، 5
(50) يونس: 22
(51) فاطر: 9(1/444)
ونسمع هنا حديث التطرية لنشاط السامع والايقاظ للاصغاء اليه وهذه الصفات من أهم خصائص الأسلوب الأدبى. ومن أهم ما يعول عليه فى البلاغ والتأثير.
ويعود الزمخشرى فيبين أثر طريقة الالتفات فى نفس السامع وأن هذا الأسلوب يهز من طبعه ويحرك حسه وهو لهذا فن من الكلام جزل.
يقول فى قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ»} الى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ»} (52). لما عدد الله تعالى فرق المكلفين من المؤمنين، والكفار، والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف أمورهم، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها، ويشقيها، ويحظيها عند الله، ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب. وهو من الالتفات المذكور عند قوله: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ»} (53). وهو فن من الكلام جزل فيه هز وتحريك من السامع. كما أنك اذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: ان فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه ثم عدلت بخطابك الى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة فى مجارى أمورك وتستوى على جادة السداد فى مصادرك ومواردك، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه. واستدعيت اصغاءه ارشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالالتفات من الغيبة الى المواجهة هازا من طبعه ما لا يجده اذا استمررت على لفظ الغيبة.
وهكذا الافتنان فى الحديث والخروج منه من صنف الى وصف يستفتح الآذان للاستماع ويستهش الأنفس للقبول» (54).
وهذا شرح للقيمة البلاغية لهذا الأسلوب يعتمد على النفس ومعرفة أحوالها.
واذا كان الالتفات الى الغيبة أدرك الزمخشرى منه معنى التشهير
__________
(52) البقرة: 211
(53) الفاتحة: 5
(54) الكشاف ج 1ص 67.(1/445)
والنداء حتى كأن المتكلم بهذا الالتفات يخيل أنه يحكى هذا الأمر المهم ويرويه لكل عاقل ليستنكره ويستقبحه.
يقول فى قوله تعالى: {«حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ»} (55): «فان قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب الى الغيبة؟ قلت: المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعى منهم الانكار والتقبيح» (56).
ويقول فى قوله تعالى: {«إِنَّمََا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشََاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ. وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ»} (57):
«لهم: الضمير للناس وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم، لأنه لا ضالة أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء:
انظروا الى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون» (58).
والانصراف الى الغيبة قد يكون فى مقام المدح والثناء أمدح وأعظم ثناء وكأن المتكلم يروى الأمر للآخرين تعجبا واستعظاما.
يقول فى قوله تعالى: {«وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ»} (59): {«فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ»} التفات حسن كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون، فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون» (60).
وقد يعدل المتكلم الى الخطاب تخييلا بالاقبال على المخاطب ومواجهته بزيادة اللوم والانكار، يقول فى قوله تعالى: {«عَبَسَ وَتَوَلََّى. أَنْ جََاءَهُ الْأَعْمى ََ. وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكََّى»} (61): «وفى الاخبار عما فرط منه ثم الاقبال عليه بالخطاب دليل على زيادة الانكار، كمن يشكو
__________
(55) يونس: 22
(56) الكشاف ج 2ص 266.
(57) البقرة: 169، 170
(58) الكشاف ج 1ص 160
(59) الروم: 39
(60) الكشف ج 3ص 379
(61) عبس: 31(1/446)
الى الناس جانيا جنى عليه ثم يقبل على الجانى اذا حمى فى الشكاية مواجها له بالتوبيخ والزام الحجة» (62).
ومن أحسن ما قاله فى قيمة هذا النوع من الالتفات قوله تعالى:
{«وَإِذْ نََادى ََ رَبُّكَ مُوسى ََ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ، أَلََا يَتَّقُونَ»} (63): «وأما من قرأ: «ألا تتقون» على الخطاب، فعلى طريقة الالتفات اليهم، أو جبههم وضرب وجوههم بالانكار والغضب عليهم كما ترى من يشكو من ركب جناية الى بعض أخصائه والجانى حاضر فاذا اندفع فى الشكاية وحر مزاجه وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجانى يوبخه ويعنف به ويقول له: ألم تتق الله، ألم تستح من الناس» (64).
وقد يعدل المتكلم الى الاسم الظاهر ليتمكن من اجراء صفات على هذا الاسم وفيه تفخيم للملتفت اليه. يقول فى قوله تعالى:
{«يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ، فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ»} (65): «فان قلت: هلا قيل: فآمنوا بالله وبى، بعد قوله:
{«إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً»}؟ قلت: عدل عن المضمر الى الاسم الظاهر لتجرى عليه الصفات التى أجريت عليه، ولما فى طريقة الالتفات من مزية البلاغة. ويقول فى قوله تعالى: {«وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جََاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللََّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ»} (66): «ولم يقل:
«واستغفرت لهم» وعدل عنه الى طريقة الالتفات تفخيما لشأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتعظيما لاستغفاره وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان» (67).
__________
(62) الكشاف ج 4ص 560
(63) الشعراء: 10، 11
(64) الكشاف ج 3ص 237
(65) الأعراف: 158
(66) النساء: 64
(67) الكشاف ج 1ص 408(1/447)
التكرار:
والتكرار طريقة واضحة فى أسلوب القرآن. وقد وقف الزمخشرى عند كثير من صوره ليفسر أثره البلاغى فى مواقعه المختلفة، فقد أشار الى التكرار فى مقام الوعظ والنصيحة، وفى مقام دفع الشبهة، وفى القصص، وفى مقام الوعيد، وفى مواقف الكف والنهى، وفى ذكر مظاهر القدرة، وغير ذلك مما سنذكره، وكانت المعانى التى لحظها الزمخشرى فى هذه الطريقة مستمدة من صلتها المباشرة بنفس السامع أو المتكلم.
يقول الزمخشرى مبينا فائدة التكرير فى أسلوب النداء فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ»} (68)، {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَرْفَعُوا أَصْوََاتَكُمْ»} (69): «اعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وطريقة الانصات لكل حكم نازل، وتحريك منهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم، وما أخذوا به. عند حضور مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الأدب الذى المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى فى دينهم» (70).
ويفسر تكرار النداء فى سورة غافر مستوحيا اللفظ المكرر وما له من أثر فى استجابة النفس فيقول فى قوله تعالى: {«وَقََالَ الَّذِي آمَنَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ. يََا قَوْمِ إِنَّمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا مَتََاعٌ»}، {«وَيََا قَوْمِ مََا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجََاةِ»} (71): «فان قلت: لم كرر نداء قومه؟ قلت: أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وايقاظ عن سنة الغفلة، وفيه أنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزن لهم، ويتلطف بهم، ويستدعى بذلك ألا يتهموه فان سرورهم سروره، وغمهم غمه، وينزلوا
__________
(68) الحجرات: 1
(69) الحجرات: 2
(70) الكشاف ج 4ص 279
(71) غافر: 38، 41(1/448)
على نصيحته لهم كما كرر إبراهيم عليه السلام فى نصيحة أبيه:
يا أبت» (72).
ويبين الزمخشرى أن دفع النفوس الى الخير وانقيادها له من الأشياء الصعبة، لذلك كان على الواعظين أن يصبروا على تكرار ما يعظون به، تعهدا لهذه النفوس وتتبعا لها بالنصيحة، حتى تنقاد الى أمر الله، وهذا هو السر فى أن الله جعل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى.
يقول الزمخشرى: «فان قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت:
النفوس أنفر شىء عن حديث الوعظ والنصيحة، فان لم يكرر عليها عودا على بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله ومن ثم كانت عادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به، وينصح، ثلاث مرات، وسبعا، ليركزه فى قلوبهم ويغرسه فى صدورهم» (73).
ويرى الزمخشرى أن هناك من الحالات ما هو غريب على النفس وهى وان كانت لا تنكره لأنه لا مجال فيه للانكار الا أنها محتاجة الى مزيد من الاطمئنان والتقرير وهذا موطن من مواطن التكرير وغرض من أغراضه.
يقول فى قوله تعالى: {«وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ، وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ، وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»} (74): «وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشنيده لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان، والحاجة الى التفصلة بينه وبين البداء، فكرر عليهم لينبهوا ويعزموا ويجدّوا» (75).
والتكرير فى آيات الوعيد والتهديد متابعة للنفس وتجديد التذكير
__________
(72) الكشاف ج 4ص 131.
(73) الكشاف ج 4ص 95.
(74) البقرة: 149، 150
(75) الكشاف ج 1ص 154(1/449)
لها. يقول: «فان قلت: ما فائدة تكرير قوله {«فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»}؟ (76) قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين اذكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، اذا سمعوا الحث على ذلك والبعث، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشّن تارات، لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولى عليهم الغفلة، وهذا حكم التكرير كقوله: {«فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ»} (77) عند كل نعمة عدها فى سورة الرحمن وقوله:
{«فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ»} (78) عند كل آية أوردها فى سورة المرسلات وكذلك تكرير الأنباء والقصص فى أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية فى كل أوان» (79).
ويشير الزمخشرى الى نوع من التكرير فى القصص القرآنى أعنى تكرير آية أو آيتين فى كل قصة من قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم كما فى سورة الشعراء حيث تختم كل قصة بقوله تعالى:
{«إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً، وَمََا كََانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»} (80). والزمخشرى يفسر هذا اللون من التكرار بقوله:
فان قلت: كيف كرر فى هذه السورة فى أول كل قصة وآخرها ما كرر؟
قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه وفيها من الاعتبار مثل ما فى غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلى بحق فى أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به، ولأن فى التكرير تقريرا للمعانى فى الأنفس وتثبيتا لها فى الصدور، ألا ترى أنه لا طريق الى تحفظ العلوم الا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له فى القلب، وأرسخ فى الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الانصات للحق وقلوب غفل عن تدبره فكوثرت بالوعظ والتذكير، ورجعت بالترديد والتكرير،
__________
(76) القمر: 16، 17وغيرها.
(77) الرحمن: 13وغيرها
(78) المرسلات: 15وغيرها
(79) الكشاف ج 4ص 249
(80) الشعراء: 8وغيرها(1/450)
لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ» (81).
وقد تتكرر الجملة مع اختلاف فى صياغتها وهذا تكرير حسن كما يقول الزمخشرى لأن الاختلاف فى الصياغة من عناصر القوة فى التكرير، يقول فى قوله تعالى: {«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعََادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتََادِ. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ، أُولََئِكَ الْأَحْزََابُ. إِنْ كُلٌّ إِلََّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقََابِ»} (82): «ولقد ذكر تكذيبهم أولا فى الجملة الخبرية على وجه الابهام ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم اذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوهم جميعا، وفى تكرير التكذيب وايضاحه بعد ابهامه والتنويع فى تكريره بالجملة الخبرية أولا وبالاستثنائية ثانيا، وما فى الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص، أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه» (83).
وهناك التكرير الذى يضاف فيه مع الكلام اكرر جملة جديدة ذات أهمية فى المعنى، وهذه طريقة العلماء فيما يكتبون، لا يكررون الكلام الا لفائدة، يقول فى قوله تعالى: {«يَسْئَلُونَكَ عَنِ السََّاعَةِ أَيََّانَ مُرْسََاهََا، قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي، لََا يُجَلِّيهََا لِوَقْتِهََا إِلََّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، لََا تَأْتِيكُمْ إِلََّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهََا»} (84): «فان قلت: لم يكرر {«يَسْئَلُونَكَ»} وانما علمها عند الله؟ قلت: للتأكيد ولما جاء به من زيادة قوله: {«كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهََا»} وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق فى كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة زائدة منهم محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة رحمهما الله» (85).
__________
(81) الكشاف ج 3ص 263
(82) سورة ص: 1412
(83) الكشاف ج 4ص 59.
(84) الأعراف: 187
(85) الكشاف ج 2ص 45(1/451)
الاعتراض
ويلتفت الزمخشرى الى الجملة أو الجمل المعترضة مبينا مواقعها، وقيمتها البلاغية، وعلاقاتها بمعانى الكلام المعترضة فيه.
فقد تقع الجملة أو الجمل المعترضة فى أثناء الكلام، فتكون بين المبتدأ وخبره كما فى قوله تعالى: {«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ، هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ»} (86)
يقول: {«لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا»} جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب فى اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد» (87).
وقد يكون بين الفعل ومعموله كما فى قوله تعالى: {«وَلَئِنْ أَصََابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللََّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يََا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً»} (88) يقول الزمخشرى: {«كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ»} اعتراض بين الفعل الذى هو {«لَيَقُولَنَّ»} وبين مفعوله وهو {«يََا لَيْتَنِي»} (89).
ويقع بين البدل والمبدل منه كما فى قوله تعالى: {«وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ إِبْرََاهِيمَ، إِنَّهُ كََانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ يََا أَبَتِ»} (90) يقول:
«وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله أعنى إبراهيم، و «اذ قال» نحو قولك: رأيت زيدا نعم الرجل أخاك» (91).
ويقع بين القسم والمقسم عليه كما فى قوله تعالى: {«فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ»} (92) يقول: «وقوله:
{«وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ»} اعتراض فى اعتراض لأنه اعترض به
__________
(86) الأعراف: 42
(87) الكشاف ج 2ص 83
(88) النساء: 73
(89) الكشاف ج 1ص 413
(90) مريم: 41
(91) الكشاف ج 2ص 395
(92) الواقعة: 75، 76(1/452)
بين القسم والمقسم عليه وهو قوله {«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ»} واعترض ب {«لَوْ تَعْلَمُونَ»} بين الموصوف وصفته» (93).
وقد تقع جملة من الكلام معترضة فى كلام آخر على سبيل الاستطراد كما فى قوله تعالى: {«وَإِذْ قََالَ لُقْمََانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يََا بُنَيَّ لََا تُشْرِكْ بِاللََّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ»} (94): «فان قلت: هذا الكلام كيف وقع فى أثناء وصية لقمان؟ قلت: هو كلام اعترض على سبيل الاستطراد تأكيدا لما فى وصية لقمان من النهى عن الشرك» (95).
وقد يقع الاعتراض فى آخر الكلام وهذا مسلك الزمخشرى وهو فيه مخالف لطريقة الجمهور يقول فى قوله تعالى: {«كُلَّمََا رُزِقُوا مِنْهََا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قََالُوا هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً»} (96):
«فان قلت: كيف موقع قوله {«وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً»} من نظم الكلام؟ قلت:
هو كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل، ورأى كذا وكان صوابا، ومنه قوله تعالى: {«وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً، وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ»} (97)
وما أشبه ذلك من الجمل التى تساق فى الكلام معترضة للتقرير» (98).
وهذا النوع من الاعتراض يسميه البلاغيون تذييلا، يقول الشهاب نقلا عن شرح الفاضل للكشاف فى هذه الآية: «هذا على تجويز الاعتراض فى آخر الكلام والأكثرون يسمونه تذييلا والعلامة يجعل الاعتراض شاملا للتذييل كما يعرفه من تتبع كلامه فلا يرد الاعتراض عليه بأنه لا شبهة أنه تذييل، وهو أن يعقب الكلام بما يشمل معناه توكيدا، ولا محل له من الاعراب، ولا مشاحة فى الاصطلاح» (99).
والشهاب يفسر آخر الكلام بتمامه وانقطاعه. كآخر السور
__________
(93) الكشاف ج 2ص 58
(94) لقمان: 13، 14
(95) الكشاف ج 3ص 390
(96) البقرة: 25
(97) النمل: 34
(98) الكشاف ج 1ص 83
(99) حاشية الشهاب ج 3ص 390(1/453)
والخطب والقصائد لا آخر الجمل المنقطعة عما بعدها، وعليه يكون الاعتراض فى قوله تعالى: {«وَاللََّهُ مُحِيطٌ بِالْكََافِرِينَ»} (100) اعتراض فى وسط الكلام لا فى آخره وبالقياس على هذا يكون الاعتراض فى: {«وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ»}، منه. أى من الاعتراض فى وسط الكلام فلا يصح أن يكون المذكور فى آية {«وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ»} دليلا على مسلكه فى الاعتراض كما ذهب الشارح العلامة، وأنه يقع آخر الكلام ولكن المثالين المذكورين فى كلامه يدلان دلالة واضحة على أن الاعتراض يكون فى آخر الكلام.
والجمل الاعتراضية كما يقول الزمخشرى لا بد لها من الاتصال بالكلام الذى وقعت معترضة فيه لأنها مسوقة لتوكيده وتقريره، يقول فى قوله تعالى: {«ثَمََانِيَةَ أَزْوََاجٍ، مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحََامُ الْأُنْثَيَيْنِ، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ»} (101): «فان قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبى من المعدود وذلك أن الله عز وجل منّ على عباده بانشاء الأنعام لمنافعهم باباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها، والاحتجاج على من حرّمها تأكيد شديد للتحليل والاعتراضات فى الكلام لا تساق الا للتوكيد» (102).
ثم انه قد أشار الى هذا وبين أيضا أن الاعتراض طريقة من طرق توكيد الكلام يقول فى قوله تعالى: {«وَاتَّخَذَ اللََّهُ إِبْرََاهِيمَ خَلِيلًا»} (103):
«فان قلت: ما وقع هذه الجملة؟ قلت: هى جملة اعتراضية لا محل لها من الاعراب كنحو ما يجيء فى الشعر من قولهم: والحوادث جمة، فائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته لأن من بلغ الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته» (104).
__________
(100) البقرة: 19
(101) الأنعام: 143، 144
(102) الكشاف ج 2ص 58
(103) النساء: 125
(104) الكشاف ج 1ص 941(1/454)
واذا كانت الجملة أو الجمل المعترضة غير واضحة الصلة بالكلام المسوقة فيه عند النظرة الأولى وقف الزمخشرى ليبين قوة صلتها بها وأنها مسوقة للتوكيد والتقرير، يقول فى قوله تعالى: {«وَإِبْرََاهِيمَ إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَاتَّقُوهُ، ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إِنَّمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْثََاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً. إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لََا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللََّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَمََا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلََاغُ الْمُبِينُ. أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللََّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ»} (105): «وهذه الآية: {«وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ»} والآيات التى بعدها الى قوله: {«فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ»}
محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه. وأن تكون آيات وقعت معترضة فى شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها فان قلت: فاذا كانت خطابا لقريش فما وجه توسطها بين طرفى قصة إبراهيم والجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه، ألا تراك لا تقول: مكة وزيد أبوه قائم خير بلاد الله؟ قلت: ايراد قصة إبراهيم ليس الا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأن أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوا بنحو ما منى به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان.
فاعترض بقوله {«وَإِنْ تُكَذِّبُوا»} على معنى: انكم يا معشر قريش ان تكذبوا محمدا فقد كذب إبراهيم وكل أمة نبيها لأن قوله: {«فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ»} لا بد من تناوله لأمة إبراهيم وهو كما ترى اعتراض واقع متصل، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله وهدم الشرك وتوهين قواعده واصفة قدرة الله وسلطانه ووضوح حجته وبرهانه» (106).
__________
(105) العنكبوت: 2016
(106) الكشاف ج 3ص 352، 353(1/455)
وقد أشرنا فى كلامنا فى النظم الى كثير من المحاولات التى كان يهدف بها الزمخشرى الى كشف العلاقة بين الكلام المعترض وما وقع فيه معترضا.
الاختصار:
ذكرت فى بحث الجملة ما يتعلق بالحذف فى أحد أجزائها سواء أكان مبتدأ أو خبرا أو مفعولا. وذكرت كذلك حذف الجملة بتمامها.
وأذكر هنا ما يتعلق بحذف جملة من الكلام حين يعمد المتكلم الى طريقة الايجاز فيطوى فى أثناء كلامه كثيرا من الجمل.
والزمخشرى يشير الى أن هناك مواطن تقتضى الايجاز والاكتفاء بالاشارة والوحى. وأن هناك مواطن تحتاج الى أن يفصل القول فيها تفصيلا. وأن يشبع المتكلم الحديث اشباعا. يقول فى قوله تعالى:
{«أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ»} (107): «ثم ثنى سبحانه فى شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وايضاحا غب ايضاح، وكما يجب على البليغ فى مظان الاجمال والايجاز أن يجعل ويوجز فكذلك الواجب عليه فى موارد التفصيل والاشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ:
يوحون بالخطب الطّوال وتارة ... وحى الملاحظ خيفة الرقباء
ومما ثنى من التمثيل فى التنزيل قوله: {«وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ»} (108). ألا ترى الى ذى الرمة كيف صنع قصيدته:
أذك أم نمش بالوشى
أذاك أم خاضب بالسّىّ مرتعة (109)
__________
(107) البقرة: 19
(108) فاطر: 2219
(109) الكشاف ج 1ص 6059(1/456)
وينبه الى المواطن التى يفصل القرآن فيها القول ويبسطه وينبه كذلك الى غيره مما يوجز الحديث فيه ويطويه.
يقول فى قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ»} (110) الى آخر آية (احدى وعشرين) مبينا ما فى هذه الآيات من أغراض ثلاثة تناولت مواقف الناس جميعا من دين الله، فتحدثت عن المتقين ثم الكافرين ثم المنافقين. ولقد اختلف البيان القرآنى فى هذه المواقف ايجازا واشباعا.
يقول الزمخشرى: «افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم. ووافق سرهم علنهم. وفعلهم قولهم.
ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، قلوبا والسنة، ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، وهم الذين قال فيهم: {«مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذََلِكَ لََا إِلى ََ هََؤُلََاءِ وَلََا إِلى ََ هََؤُلََاءِ»} (111) وسماهم المنافقين. وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم اليه، وأمقتهم عنده، لأنهم خلطوا بالكفر تمويها وتدليسا، وبالشرك استهزاء وخداعا، ولذلك أنزل فيهم: {«إِنَّ الْمُنََافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النََّارِ»}، ووصف حال الذين كفروا فى آيتين وحال الذين نافقوا فى ثلاث عشرة آية، واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم، وعمههم، ودعاهم صما بكما عميا، وضرب لهم من الأمثال الشنيعة، وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا، كما تعطف الجملة على الجملة» (112).
ويشير الى طريقة القرآن فى اختصار القصة وحذف أجزائها غير الأساسية. والنص منها على أهم المواقف فيها. يقول فى قوله تعالى:
{«وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَجَعَلْنََا مَعَهُ أَخََاهُ هََارُونَ وَزِيراً. فَقُلْنَا اذْهَبََا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَدَمَّرْنََاهُمْ تَدْمِيراً»} (113): «والمعنى:
فذهبا اليهم فكذبوهما فدمرناهم. كقوله: {«اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ،}
__________
(110) البقرة: 1، 2
(111) النساء: 143
(112) الكشاف ج 1ص 42، 43والآية من سورة النساء: 145
(113) الفرقان: 35، 36(1/457)
{فَانْفَلَقَ»} (114) أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها، أعنى الزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدبير بتكذيبهم» (115).
ويكرر هذا فى قوله تعالى: {«وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلََا يَنْطَلِقُ لِسََانِي فَأَرْسِلْ إِلى ََ هََارُونَ»} (116): «وهذا كلام مختصر وقد بسطه فى غير هذا الموضع وقد أحسن الاختصار حيث قال: {«فَأَرْسِلْ إِلى ََ هََارُونَ»} فجاء بما يتضمن الاستنباء. ومثله فى تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى:
{«فَقُلْنَا اذْهَبََا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَدَمَّرْنََاهُمْ تَدْمِيراً»} (117)
حيث اقتصر على ذكر طرفى القصة أولها وآخرها وهما الانذار والتدمير ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله الزام الحجة عليهم فبعث اليهم رسولين فكذبوهما فأهلكهم» (118).
ترتيب الجمل والآيات:
وقد اهتم الزمخشرى ببيان الأسس التى سار عليها نسق الجمل وترتيبها فى القرآن كما اهتم كذلك ببيان ترتيب الآيات. وهذا اللون من البحث جدير بالاهتمام والتوضيح وهو فى صميمه نظر فى المعانى وتتابعها وكيف يمهد سابقها للاحقها وهو أيضا غير واضح فى الدراسة البلاغية وان كان متصلا بصميمها.
والزمخشرى لم يقف عند كل جملتين. ولا أشار الى وجه الترتيب بين كل آيتين. وانما كانت له وقفات عند كثير من الجمل والآيات المتتابعة. ينظر فى معانيها. ووجه ترتيب بعضها على بعض، وبين
__________
(114) الشعراء: 63
(115) الكشاف ج 3ص 220، 221
(116) الشعراء: 13
(117) الفرقان: 36
(118) الكشاف ج 3ص 238(1/458)
فى هذا أن الجملة قد تقدم على الأخرى لأنها أدل على الغرض المسوق له الكلام.
يقول فى قوله تعالى: {«وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ»} (119): «فان قلت: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت: قدم ما هو أعرق فى القدرة وهو الماشى بغير آلة مشى من أرجل أو قوائم، ثم الماشى على الرجلين، ثم الماشى على أربع» (120).
وقد تتقدم الجملة لأنها تدل على الأكثر عددا كما فى قوله تعالى:
{«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا، فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ بِإِذْنِ اللََّهِ»} (121) يقول: «فان قلت:
لم قدم الظالم؟ ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للايذان بكثرة الفاسقين، وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالاضافة اليهم، والسابقون أقل من القليل» (122).
والآيات التى تتحدث عن نعم الله وتعددها قد يتقدم منها ما هو أكثر أثرا فى حياة الناس المادية والروحية كما فى قوله تعالى:
{«لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمََّا خَلَقْنََا أَنْعََاماً وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً»} (123)
يقول: «فان قلت: لم قدم احياء الأرض وسقى الأنعام على الأناسى؟
قلت: لأن حياة الأناسى بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على مسقيهم، ولأنهم اذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم» وكما فى قوله تعالى: {«الرَّحْمََنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسََانَ. عَلَّمَهُ الْبَيََانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبََانٍ»} (124) يقول: «عدّد الله عز وعلا آلاءه فأراد أن يقدم أول
__________
(119) النور: 45
(120) الكشاف ج 4ص 195.
(121) فاطر: 32
(122) الكشاف ج 3ص 458.
(123) الفرقان: 49
(124) الرحمن: 51(1/459)
شىء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهى نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو فى أعلى مراتبها وأقصى مراقيها وهو انعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحى الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأحسنه فى أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها، وأخر ذكر خلق الانسان عن ذكره ثم أتبعه اياه ليعلم أنه انما خلقه للدين وليحيط علما بوحيه، وكتبه، وما خلق الانسان من أجله، وكأن الغرض فى انشائه كان مقدما عليه وسابقا له، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان وهو المنطق الفصيح المعرب عما فى الضمير» (125).
وقد يكون ترتيب الجمل على أساس ما يعن للنفس من خواطر وأفكار فتقع الجمل مرتبة على وفق ترتيب هذه الخطرات. يقول فى قوله تعالى: {«مََا يَفْعَلُ اللََّهُ بِعَذََابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ»} (126):
«فان قلت: لم قدم الشكر على الايمان؟ قلت: لأن العاقل ينظر الى ما عليه من النعمة العظيمة فى خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكرا مبهما، فاذا انتهى به النظر الى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكرا مفصلا، فكان الشكر متقدما على الايمان، وكأنه أصل التكليف ومداره» (127).
وقد يختلف ترتيب الآيات فى الظاهر وهو فى الحقيقة موافق لأحوال النفس وما يعرض لها فى المواقف الصعبة من مشاعر وخواطر، وللزمخشرى كلام جيد فى كشف تطبيق الآيات على وفق هذه الأحوال.
يقول فى قوله تعالى: {«أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السََّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذََابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي فَكَذَّبْتَ بِهََا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكََافِرِينَ»} (128):
__________
(125) الكشاف ج 4ص 353
(126) النساء: 147
(127) الكشاف ج 1ص 451
(128) الزمر: 5956(1/460)
«فان قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله {«لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي»}، ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لا يخلو اما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، واما أن تؤخر القرينة الوسطى.
فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثانى فلما فيه من النقض بين الترتيب وهو التحسر على التفريط فى الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب عن بعضها على ما اقتضى الجواب» (129).
وفى مواقف تهذيب النفس وارشادها الى طريق البر وأخذ الوسائل التى تبعد بها عن مواطن الرذيلة يلمح الزمخشرى ترتيبا يلائم طبيعة النفس ويتسق مع أحوالها حيث تتوالى الأوامر وتتصاعد حسب الأحوال والشئون.
يقول فى قوله تعالى: {«قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ»} الى قوله تعالى: {«وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لََا يَجِدُونَ نِكََاحاً حَتََّى يُغْنِيَهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ»} (130): «وما أحسن ما رتب هذه الأوامر، حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة، ويبعد عن مواقعة المعصية، وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذى يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء، وعزفها عن الطموح، الى الشهوة عند العجز عن النكاح الى أن يرزق القدرة عليه» (131).
ويدرك الزمخشرى أن القرآن حين يواجه النفس الانسانية بأخطائها لائما معنفا، أو هاديا مترفقا، انما يرتب الآيات ترتيبا حسنا وعجيبا فتكون كل آية كأنها ممهدة للأخرى وبساط لها، يقول فى آيات الحجرات التى يواجه القرآن فيها الصائحين برسول الله ينادونه من وراء الحجرات: «فتأمل كيف ابتدئ بايجاب أن تكون الأمور التى
__________
(129) الكشاف ج 4ص 107
(130) النور: 3330
(131) الكشاف ج 3ص 188(1/461)
تنتمى الى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد، ثم أردف ذلك النهى عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر، كأن الأول بساط للثانى، ووطاء لذكره. ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم دلالة على عظيم موقعه عند الله، ثم جىء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلّى الله عليه وسلم فى حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه على فظاعة من أجروا اليه، وجروا عليه، لأن من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخى السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذى بلغ من التفاحش مبلغا، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب» (132).
وحينما يكون المقام مقام مناظرات فكرية بين التوحيد والشرك يلحظ الزمخشرى أفكارا تتصاعد فى هذا المجال فتبدأ بالسؤال البسيط وتنتهى بابطال المعتقد الباطل وتحقيق الحق.
وقد وقف الزمخشرى عند مناقشات إبراهيم عليه السلام لأبيه ولقومه وبين كيف رتب إبراهيم عليه السلام أفكاره ومعانيه، يقول فى قوله تعالى: {«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرََاهِيمَ. إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مََا تَعْبُدُونَ. قََالُوا نَعْبُدُ أَصْنََاماً فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ. قََالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قََالُوا بَلْ وَجَدْنََا آبََاءَنََا كَذََلِكَ يَفْعَلُونَ»} (133):
«وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون، سؤال مقرر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر، ولا تنفع، ولا تبصر، ولا تسمع على تقليد آبائهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا أن يكون حجة، ثم صور المسألة فى نفسه دونهم حتى تخلص منها الى ذكر الله
__________
(132) الكشاف ج 4ص 285284.
(133) الشعراء: 7469(1/462)
عز وعلا فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وانشائه الى حين وفاته مع ما يرجى فى الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين، وابتهل اليه ابتهال الأوابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه، وما يدفع اليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمنى الكرة الى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا» (134).
وفى مناصحة إبراهيم عليه السلام لأبيه ودعوته الى التوحيد يلحظ الزمخشرى ترتيب المعانى وتلاحقها كما يلحظ أسلوب الدعوة الهادئ، والمجاملة اللينة، والأدب الحسن، وان كان فى أعماقه صراعا بين الحق والباطل، كما يناقش القضايا التى ساقها إبراهيم عليه السلام ويبين وجه قوتها ودلالتها، وقد طالت دراسته لمعانى هذه المناصحة وترتيب أفكارها وقد أغفل المتأخرون هذا اللون من النظر فى الدراسة البلاغية، كما أغفلوا كثيرا من مباحثها، واذا كنا بصدد توضيح عنايته بدراسة المعانى ومناقشتها فمن الخير أن أذكر هذا النص القيم وان طال حديثه فيه.
يقول فى قوله تعالى: {«وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ إِبْرََاهِيمَ، إِنَّهُ كََانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ يََا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مََا لََا يَسْمَعُ وَلََا يُبْصِرُ وَلََا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يََا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جََاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مََا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرََاطاً سَوِيًّا»} (135) الى آخر الآيات
يقول: «انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم، والارتكاب الشنيع الذى عصى فيه أمر العقلاء، وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التى ليس بعدها غباوة، كيف رتب الكلام معه فى أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة واللطف، والرفق، واللين، والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا فى ذلك بنصيحة ربه عز وعلا وذلك أنه طلب منه: أولا
__________
(134) الكشاف ج 3ص 253
(135) مريم: 41، 42(1/463)
العلة فى خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لافراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، الا أنه بعض الخلق لاستخف عقل من أهله للعبادة، ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغى المبين، والظلم العظيم، وان كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة، كالملائكة والنبيين، قال الله تعالى:
{«وَلََا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلََائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبََاباً، أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»} (136) وذلك أن العبادة هى غاية التعظيم فلا تحق الا لمن له غاية الانعام وهو الخالق الرازق المحيى المميت والمثيب المعاقب الذى منه أصول النعم وفروعها فاذا وجهت الى غيره وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره لم يكن الا ظلما، وعتوا، وغيا وكفرا، وجحودا، وخروجا عن الصحيح المنير الى الفاسد المظلم، فما ظنك به من وجه عبادته الى جماد ليس به حس ولا شعور؟
ثم ثنى بدعوته الى الحق مترفقا به متلطفا فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: ان معى طائفة من العلم، وشيئا منه، ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوى، فلا تستنكف، وهب أنى واياك فى مسير، وعندى معرفة بالهداية دونك، فاتبعنى أنجك من أن تضل، ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذى استعصى على ربك الرحمن الذى جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك الذى لا يريد بك الا كل هلاك، وخزى، ونكال، وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم، هو الذى ورطك فى هذه الضلالة، وأمرك بها، وزينها لك، فأنت ان حققت النظر عابد الشيطان، الا أن إبراهيم عليه السلام لا معانه فى الاخلاص ولارتقاء همته فى الربانية لم يذكر من جنايتى الشيطان الا التى تختص منها برب العزة من عصيانه، واستكباره، ولم يلتفت الى ذكر معاداته لآدم وذريته، كأن النظر فى عظم ما ارتكب من ذلك غمره فكره وأطبق على ذهنه، ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال،
__________
(136) آل عمران: 80(1/464)
ولم يخل ذلك من حسن الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لا حق به. ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف، والمس، ونكّر العذاب، وجعل ولاية الشيطان، ودخوله فى جملة أشياعه وأوليائه، أكبر من العذاب، وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه وسماه الله تعالى المشهود له ب «الفوز العظيم» حيث قال: {«وَرِضْوََانٌ مِنَ اللََّهِ أَكْبَرُ، ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»} (137) فكذلك ولاية الشيطان التى هى معارضة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم. وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله: «يا أبت» توسلا اليه واستعطافا» (138).
وسوف نجد أثر هذا التحليل القيم فى كتابى «المثل السائر» و «الطراز».
تفسير النص:
من الواضح أن كل ما ذكرته من النظر البلاغى فى كتاب الكشاف صالح لأن يكون نوعا من تحليل النص، سواء أكان ذلك نظرا فى المفرد أو بحثا فى الجملة أو الجمل، وسواء أكان ذلك دراسة لفنون بلاغية كالالتفات والتقديم وأكثر ما ذكرنا، أو كان نظرا فى المعانى، وتحليلا لها، وأريد هنا أن أزيد هذا الجانب بيانا وتوضيحا لتتبين لنا مقدرته البلاغية فى ضوء شرح النص وتحليله، وكون هذا البحث أعنى شرح النص داخلا فى بلاغته فذلك أمر لا أعتقد أن أحدا يخالف فيه. لأن الزمخشرى نفسه ذكر فى مقدمة تفسيره أن أداة المفسر الأولى هى علم البيان وعلم المعانى، وحدد المعنى المراد من النص وقال: ان هذا ما يقتضيه علم المعانى كما فى آية: {«لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ»} (139).
ومن الواضح أيضا أن هذا البحث أعنى شرح النص وتفسيره لا يدخل الآن دائرة البحث البلاغى الا فى حدود تحليل الأمثلة وشرحها،
__________
(137) التوبة: 72
(138) الكشاف ج 3ص 14، 15
(139) النساء: 172(1/465)
وأن هذا البحث أيضا هو أكبر وظائف النقد الأدبى، على أن بعض الدارسين يحصر مهمة النقد فى هذه الوظيفة اذ جعل الواجب الرئيسى للناقد هو العرض (140).
والزمخشرى فى تفسيره للنصوص يستصحب مقاييس عرفتها الدراسة البلاغية قبله، من ذلك أن أمارات التفوق فى الأسلوب أن يكون الكلام متماسكا أشد التماسك مرتبطا قوى ارتباط كأنه بناء متين يشد بعضه بعضا.
يقول فى قوله تعالى: {«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلََّا مَنْ شََاءَ اللََّهُ، وَكُلٌّ أَتَوْهُ دََاخِرِينَ. وَتَرَى الْجِبََالَ تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ، صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَفْعَلُونَ. مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهََا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ»} (141)
يقول الزمخشرى: {«صُنْعَ اللََّهِ»}: من المصادر المؤكدة كقوله: {«وَعَدَ اللََّهُ»}
و {«صِبْغَةَ اللََّهِ»} الا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ل {«يَوْمَ يُنْفَخُ»}، والمعنى ويوم ينفخ فى الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين، ثم قال: {«صُنْعَ اللََّهِ»} يريد الانابة والمعاقبة وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التى أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب حيث قال: {«صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»} يعنى أن مقابلة الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب من جملة احكامه للأشياء واتقانه لها واجرائه لها على قضايا الحكمة، انه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك، ثم لخص ذلك بقوله: {«مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ»}
الى آخر الآيتين، فانظر الى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه، وترتيبه، ومكانة اضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ افراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى، وأخرس الشقاشق، ونحو هذا المصدر اذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته، والمنادى على
__________
(140) النقد الأدبى للأستاذ المرحوم أحمد أمين ص 380
(141) النمل: 9087(1/466)
سداده، وأنه ما كان ينبغى أن يكون الا كما قد كان «ألا ترى الى قوله:
{«صُنْعَ اللََّهِ»}، و {«صِبْغَةَ اللََّهِ»}، و {«وَعَدَ اللََّهُ»}، و {«فِطْرَتَ اللََّهِ»}، بعد ما وسمها باضافتها اليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله: {«الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»}، {«وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً»}، {«لََا يُخْلِفُ اللََّهُ الْمِيعََادَ»}، {«لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ»} (142).
وهذا الأساس الذى يشير اليه الزمخشرى فى كثير من المواضع قد ذكره عبد القاهر وبسط القول فيه وسماه النمط العالى والباب الأعظم وقال: «ولا ترى سلطان المزية يعظم فى شىء كعظمة فيه» (143).
وسبب المزية فى هذا النوع غموض المسلك ودقة النظر والتأمل فى الصنعة والاحتفال بصياغة القول.
والزمخشرى يذكر الأسلوب الصحيح المحكم الذى يقرر بعضه بعضا، يقول فى قوله تعالى: {«الم. تَنْزِيلُ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مََا أَتََاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ»} (144): «وهذا أسلوب صحيح محكم أثبت أولا أن تنزيله من رب العالمين وأن ذلك ما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك الى قوله: {«أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ»}، لأن «أم» هى المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» والهمزة، انكارا لقوله وتعجيبا منه لظهور أمره فى عجز بلغائهم عن ثلاث آيات منه، ثم أضرب عن الانكار الى اثبات أنه {«الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ»}.
ونظيره أن يعلل العالم فى المسألة بعلة صحيحة جامعة قد احترز فيها أنواع الاحتراز كقول المتكلمين: النظر أول الأفعال الواجبة على الاطلاق التى لا يعرى عن وجوبها مكلف، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك ثم يعود الى تقرير كلامه وتمشيه» (145).
__________
(142) الكشاف ج 3ص 304، 305والآيات من سور:
النمل: 88، البقرة: 138، الزمر: 20
(143) دلائل الاعجاز ص 66
(144) السجدة: 31
(145) الكشاف ج 3ص 409.(1/467)
ويذكر كذلك الأسلوب الخشن والغليظ، وله احساس دقيق بمواقع الكلمات واصابتها، وتفاعل صادق مع ما تحتويه. يقول فى قوله تعالى: {«قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ»} (146): «دعاء عليه وهو من أشنع دعواتهم لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، و {«مََا أَكْفَرَهُ»}: تعجب من افراطه فى كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه، ولا أخشن مسا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطا فى المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة على قصر متنه» (147).
تأمل كيف وصف المعنى والمبنى والصنعة فى هذه الكلمات القصار.
والزمخشرى يعتمد حكم الذوق ويستجيب له، ويقف عند هذا الحكم غير محلل ولا موضح، ويرفض تأويل المخالفين ووجه فهمهم للنص، ولا حجة له أحيانا الا الذوق، والاعتماد عليه فى نظره اعتماد على أساس متين، وكأنه المرجع الذى يرجع اليه المختلفون مهما كانت درجة خلافهم. يقول فى رده على أهل السنة، وجه تفسيرهم لقوله تعالى: {«وَلَقَدْ كَرَّمْنََا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنََاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنََاهُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ وَفَضَّلْنََاهُمْ عَلى ََ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنََا تَفْضِيلًا»} (148): «ومن ارتكابهم أنهم فسروا «كثيرا» بمعنى «جميع» فى هذه الآية، وخذلوا، حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا» (149).
ويذكر صفات للأسلوب فيها ابهام واجمال ثم يبين ويحلل ما أبهم وما أجمل يقول فى قوله تعالى: {«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ لََا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلََامَكُمْ، بَلِ اللََّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدََاكُمْ لِلْإِيمََانِ»} (150): «وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة وذلك أن الكائن من الأعاريب قد سماه الله اسلاما، ونفى أن يكون كما زعموا ايمانا، فلما منوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه السلام: ان هؤلاء
__________
(146) عبس: 17
(147) الكشاف ج 4ص 561.
(148) الاسراء: 70
(149) الكشاف ج 2ص 532
(150) الحجرات: 17(1/468)
يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به، من حدثهم الذى حق تسميته أن يقال له اسلام، فقل لهم: لا تعتدوا على اسلامكم، أى حدثكم المسمى اسلاما عندى لا ايمانا، ثم قال: بل الله يعتد عليكم أن أمركم بتوفيقه حيث هداكم للايمان على ما زعمتم، وادعيتم أنكم أرشدتم اليه، ووفقتم له ان صح زعمكم، وصدقت دعواكم، الا أنكم تزعمون وتدعون، والله عليم بخلافه، وفى اضافة الاسم اليهم وايراد الايمان غير مضاف ما لا يخفى على المتأمل» (151).
ويوازن بين النص الذى يشرحه والنصوص التى تشابهه فى معناه وفى غرضه ويدعو الى النظر المتثبت فى النصوص الأدبية والموازنة الدقيقة بين ما تشابه منها حتى يتسنى لنا أن نعرف أقواها فى غرضها.
يقول فى آيات الافك: «ولو فليت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به من العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ فى شىء تغليظه فى افك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة، وأساليب مفتنة، كل واحد منها كاف فى بابه، ولو لم ينزل الا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين فى الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم فى الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا، وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذى هم هله، حتى يعلموا عند ذلك أنه الحق المبين، فأوجز فى ذلك وأشبع، وفصّل وأجمل، وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع فى وعيد المشركين عبدة الأوثان الا ما هو دونه فى الفظاعة، وما ذاك الا لأمر» (152).
ويلتفت الزمخشرى فى تحليله للنص الى أهمية المقابلات بين المعانى وكيف اعتمد القرآن عليها فى بث الرغبة والرهبة. يقول فى
__________
(151) الكشاف ج 4ص 300.
(152) الكشاف ج 3ص 176.(1/469)
قوله تعالى: {«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ»} (153): «من عادته عز وجل فى كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالانذار، إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف» (154).
وحينما يتابع الزمخشرى كلمات الآيات بالنظر والتحليل نرى فى هذه المتابعة لونا من الدراسة البلاغية الممتعة، ونجد ذوقا، وحسا نادرين، نرفع صاحبهما الى درجة الأفذاذ من المتذوقين، ولا نجد كثيرا ممن يفضلون الزمخشرى فى هذا الباب مع شغفنا بتتبع هذا اللون من الدراسة وحرصنا على أن نقرأ ما نعثر عليه من تحليل النصوص تحليلا بلاغيا بصيرا، سواء أكان هذا فى شرح الدواوين والنصوص الأدبية القديمة، أو كان عند المعاصرين، ممن يتعرضون فى أثناء دراسة النظريات النقدية الى أنواع من التطبيق وضرب الأمثلة. أقول: ان الزمخشرى من الأفذاذ المتذوقين فى هذا الباب وله تحليلات ما استطاع الزمن الطويل ولا تطور الدراسات الأدبية أن يذهب شيئا من بهائها وزهائها. وقد ترى صدق هذه الدعوى فى كثير من النصوص التى أثبتناها فى المواضع المختلفة وقد يكون مسبوقا بتحليلات بلاغية لبعض النصوص القرآنية فيقع عليها ويكون جهده حينئذ تلخيصا لما كتب، أو بسطا له، مع اضافات يسيرة. ثم يشير الى أنه لهذا الذى ذكر استفصح علماء البلاغة هذه الآية.
يقول فى قوله تعالى: {«رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً»} (155): «وانما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه فاذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فاذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحد لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده الى هذا أن هذا الجنس الذى هو العمود والقوام وأشد
__________
(153) البقرة: 25
(154) الكشاف ج 1ص 78
(155) مريم: 4(1/470)
ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن. ولو جمع لكان قصدا الى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها وشبه الشيب بشواظ النار فى بياضه وانارته وانتشاره فى الشّعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال الى مكان الشعر ومنبته. وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الآية وشهد لها بالبلاغة» (156).
ولو نظرنا الى ما كتبه عبد القاهر فى هذه الآية لتبين لنا أن جزءا كبيرا من كلام الزمخشرى ليس الا تلخيصا لكلام عبد القاهر (157).
ويقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمََاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ»} (158):
«نداء للأرض وللسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والاقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات. وهو قوله {«يََا أَرْضُ»} و {«يََا سَمََاءُ»}. ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله {«ابْلَعِي مََاءَكِ»} و {«أَقْلِعِي»}. من الدلالة على الاقتدار العظيم. وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلاله.
وثوابه. وعقابه. وقدرته على كل مقدور. وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامثال له والنزول على مشيئه على الفور من غير ريث، فكلما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولا لا حبس ولا ابطاء. والبلع عبارة عن النشف والاقلاع والامساك. يقال: أقلع المطر، وأقلعت الحمى. وغيض الماء من غاضه
__________
(156) الكشاف ج 3ص 3.
(157) ينظر دلائل الاعجاز ص 69، 70
(158) هود: 44(1/471)
اذا نقصه. وقضى الأمر وأنجز ما وعد نوحا من هلاك قومه واستوت واستقرت السفينة على الجودى وهو جبل بالموصل ومجىء اخباره على الفعل المبنى للمفعول للدلالة على الجلالة والكبرياء وأن تلك الأمور العظام لا تكون الا بفعل فاعل قادر. وتكوين مكوّن قاهر. وأن فاعلها فاعل واحد لا يشارك فى أفعاله. فلا يذهب الوهم الى أن يقول غيره:
{«يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي»}. ولا أن يقضى ذلك الأمر الهائل غيره. ولا أن تستوى السفينة على متن الجودى وتستقر عليه الا بتسويته واقراره. ولما ذكرنا من المعانى والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية. أو رقصوا لها رءوسهم. لا لتجانس الكلمتين وهما {«ابْلَعِي»} و {«أَقْلِعِي»} وذلك وان كان لا يخلى الكلام من حسن فهو كغير الملتفت اليه بازاء تلك المحاسن التى هى اللب وما عداها قشور» (159).
ولو نظرنا أيضا الى ما قاله عبد القاهر فى هذه الآية، لوجدنا ما ذكره الزمخشرى بسطا وتفصيلا لما ذكر عبد القاهر (160).
__________
(159) الكشاف ج 2ص 311.
(160) ينظر دلائل الاعجاز ص 32، 33(1/472)
الفصل السّادس البحث فى صور البيان
نتابع فى هذا الفصل دراسة الزمخشرى لصور البيان من التشبيه والمجاز بأقسامه والكناية والتعريض.
وعلينا أن نذكر أن صور البيان فى القرآن والأدب قد درست دراسة مفصلة، وكانت موضع اهتمام المشتغلين بدراسة الأدب ونقده، ولا شك أنها كانت أوفر حظا من الدراسة الخاصة بجمال النظم، وبلاغة الصوغ، لأن النحو جذب الباحثين فى الصياغة والنظم الى آفاقه ولوّن دراستهم بروحه ومزاجه.
واذا كانت دراسة ألوان البيان دراسة مفصلة قد تمت قبل القرن الذى عاش فيه الزمخشرى، فاننا نرى فيما ذكره الدارسون اختلاف الألوان وتمايز الاتجاهات، وذلك لأن دراسة الفنون البلاغية تتأثر تأثرا واضحا بروح الدارس وذوقه، لأنها ليست دراسة علمية خالصة، أعنى ليست تحريرا للقواعد وضبطا لها فحسب وانما للطبع فيها نصيب كبير، لذلك يدرك المتأنى فرقا كبيرا بين دراسة التشبيه فى الكتب المختلفة وان ذكر الجميع أن التشبيه ينقسم الى مفرد ومركب، وحسى وعقلى، وتشبيه فى الشكل، وفى اللون، الى آخر هذه التفريعات العلمية.
وبهذا التصور نحاول أن نبرز دراسة الزمخشرى لصور البيان، تلك الدراسة التى تعكس على صفحتها ذوقه وروحه محاولين المحافظة على صورتها الحقيقية جاهدين فى تنسيقها وتنظيمها.(1/473)
التشبيه:
درس الزمخشرى التشبيه المركب والمتعدد والمفرد، ودرس تشبيه التخييل، وفرّق بين الاستعارة والتشبيه، وبين القيمة البلاغية للقيود فى الصورة، ودرس العلاقة بين الطرفين، فى حال التعدد، والافراد والتركيب، وبيّن قيمة التمثيل، كما أشار الى التشبيه المقلوب.
التشبيه التخييلى:
وهو ما يكون المشبه به أمرا له وجود فى طباع الناس من غير أن تقع عليه حواسهم كما فى قوله تعالى: {«طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ»} (1). يقول الزمخشرى: «وشبه رءوس الشياطين دلالة على تناهيه فى الكراهة وقبح المنظر لأن الشيطان مكروه مستقبح فى طباع الناس لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير، فيقولون فى القبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس الشيطان، واذا صوّره المصورون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدرون وأهوله، كما أنهم اعتقدوا فى الملك أنه خير محض لا شر فيه، فشبهوا به الصورة المحسنة قال الله تعالى:
{«مََا هََذََا بَشَراً إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ»} (2) وهذا تشبيه تخييلى» (3).
ويشير الى هذا اللون من التشبيه فى قوله تعالى: {«قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَنْفَعُنََا وَلََا يَضُرُّنََا وَنُرَدُّ عَلى ََ أَعْقََابِنََا بَعْدَ إِذْ هَدََانَا اللََّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيََاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرََانَ لَهُ أَصْحََابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنََا»} (4)، يقول: «كالذى ذهبت به مردة الجن الغيلان فى الأرض المهمه حيران تائها ضالا عن الجادة لا يدرى كيف يصنع وهذا مبنى على ما تزعمه العرب وتعتقده أن الجن تستهوى الانسان، والغيلان تستولى عليه كقوله: {«الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطََانُ مِنَ الْمَسِّ»} (5). وهذه
__________
(1) الصافات: 65
(2) يوسف: 31
(3) الكشاف ج 3ص 47.
(4) الأنعام: 71
(5) ينظر الكشاف ج 4ص 245والآية من سورة البقرة: 275(1/474)
صورة لها تأثيرها القوى فى النفوس وكذلك كل تشبيه يبنى على هذا اللون من الاعتقاد. وهذا يشبه من وجه حكايات «الندّاهة» فى القصص الشعبى وله قيمة بيانية بليغة، ثم ان له أصلا من الحقيقة وهو أن الرجل يصيبه دوار من هم ألم به حتى ليتخيل صوتا يدعوه فيتبعه حتى يهلك به.
المفرد والمركب والمتعدد:
وقد أشار الزمخشرى الى التشبيه المفرد فى مواطن كثيرة، من ذلك ما أشرنا اليه فى التشبيه التخييلى فى آية رءوس الشياطين. وقد ناقش أبا العلاء فى قوله:
حمراء ساطعة الذوائب فى الدّجى ... ترمى بكلّ شرارة كطراف
فشبهها بالطراف وهو بيت الأدم فى العظم والحمرة وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ولتبجحه سوّل له من توهم الزيادة جاء فى صدر بيته بقوله «حمراء» توطئة لها ومناداة عليها وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمى جمع الله له عمى الدارين عن قوله جل وعلا: {«كَأَنَّهُ جِمََالَتٌ صُفْرٌ»} (6)، فانه بمنزلة قوله: كبيت أحمر، وعلى أن فى التشبيه بالقصر وهى الحصن تشبيها من جهتين:
من جهة العظم ومن جهة الطول فى الهواء، وفى التشبيه بالجمالات وهى القلوص تشبيه من ثلاث جهات: من جهة العظم والطول والصفرة، فأبعد الله اغرابه فى طرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه» (7).
والفرق بين تشبيه الشرارة بالقصر وتشبيهها بالطراف لا يقف عند هذا الظاهر. وذلك لأن تشبيه القرآن فيه تصوير للهول والفزع توحى به ضخامة القصر وهو يقذف ويرمى به، وسقوط الطراف ليس كسقوط
__________
(6) المرسلات: 33
(7) الكشاف ج 3ص 545.(1/475)
القصر. على أننا لا نجد مبررا كما يقول الدكتور أحمد الحوفى لهذه الحملة العنيفة على المعرى فانه لم يدع أن تشبيهه يسامى تشبيه القرآن الكريم.
ويردد الزمخشرى كثيرا من صور التشبيه فى القرآن بين التشبيه المركب والتشبيه المفرق، وهذا الترديد يرجع الى الرغبة فى تحليل الجزئيات والوقوف عند المفردات، وهذا الميل نتاج الدراسة اللغوية والنحوية، اذ أن هذين اللونين من الدراسة يكوّنان فى الدارس ميلا شديدا الى التدقيق والوقوف عند الجزئيات، وهذا أدق منهج فى فهم التراكيب كما نعتقد وان عابه المتعجلون.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَكَأَنَّمََا خَرَّ مِنَ السَّمََاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكََانٍ سَحِيقٍ»} (8):
«يجوز فى هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فان كان تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه اهلاكا ليس بعده نهاية بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزعا فى حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به فى بعض المطاوح البعيدة.
وان كان مفرقا فقد شبه الايمان فى علوه بالسماء، والذى ترك الايمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التى تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذى يطوح به فى وادى الضلالة بالريح التى تهوى بما عصفت به فى بعض المهاوى المتلفة» (9).
وتشبيه الأهواء التى تتوزع أفكاره بالطير من الاستخراج الدقيق الفطن وقريب منه: سكن طائره وفزع طائره أو طار طائره، وما يدخل فى بابه مما يذكر فيه الطائر فى سياق الحديث عن صادحات الخواطر.
ويقول فى قوله تعالى: {«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمُ ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ}
__________
(8) الحج: 31
(9) الكشاف ج 3ص 122.(1/476)
{اللََّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصََابَهََا وََابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهََا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهََا وََابِلٌ فَطَلٌّ»} (10): «والمعنى: مثل نفقة هؤلاء فى زكاتها عند الله {«كَمَثَلِ جَنَّةٍ»} وهى البستان {«بِرَبْوَةٍ»} بمكان مرتفع، وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرا، {«أَصََابَهََا وََابِلٌ»}، مطر عظيم، {«فَآتَتْ أُكُلَهََا»}، ثمرتها، {«ضِعْفَيْنِ»} مثلما كانت تثمر بسبب الوابل {«فَإِنْ لَمْ يُصِبْهََا وََابِلٌ فَطَلٌّ»} فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها، أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع زاكية عند الله زائدة فى زلفاهم وحسن حالهم عنده» (11).
ويصور القرآن حال المنافقين فى صورتين متتاليتين وفى كل صورة منها اذا نظرت اليها متناسقة متكاملة تصوير قوى وواضح لحيرتهم وضلالهم، والزمخشرى يحاول أن يجد شبها بين جزئيات الصورة وأحوال فى المشبه ثم يعدل عن هذا الى المذهب الجزل الذى عليه العلماء لا يتخطونه يقول فى قوله تعالى: {«مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ فِيهِ ظُلُمََاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ مِنَ الصَّوََاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَاللََّهُ مُحِيطٌ بِالْكََافِرِينَ»} (12): «فان قلت: فيم شبهت حالهم بحال المستوقد؟ قلت:
فى أنهم غبّ الاضاءة خبطوا فى ظلمة، وتورطوا فى حيرة، فان قلت:
وأين الاضاءة فى حال المنافق؟ وهل هو أبدا الا حائر خابط فى ظلماء الكفر؟ قلت: المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التى ترمى بهم الى ظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمدى، ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد اطلاع الله على أسرارهم، وما افتضحوا به بين المؤمنين،
__________
(10) البقرة: 165
(11) الكشاف ج 1ص 57.
(12) البقرة: 1917(1/477)
واتسموا به من سمة النفاق، والأوجه أن يراد الطبع، لقوله: {«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ»}، وفى الآية تفسير آخر، وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذى باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التى اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه اياهم فى الظلمات» (الكشاف ج 1ص 57).
ويقول فى الصورة الثانية: «فان قلت: قد شبه المنافق فى التمثيل الأول بالمستوقد نارا، واظهاره الايمان بالاضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، فلماذا شبه بالتمثيل الثانى بالصيب وبالظلمات وبالرعد والبرق وبالصواعق؟ قلت: لقائل أن يقول: شبه دين الاسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيب الكفار من الافزاع، والبلايا، والفتن، من جهة أهل الاسلام بالصواعق، والمعنى:
أو كمثل ذوى صيب، والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. فان قلت: هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات؟ وهلا صرح به كما فى قوله تعالى: {«وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَلَا الْمُسِيءُ»} (13)، وفى قول امرئ القيس:
كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى
قلت: كما جاء صريحا فقد جاء مطويا ذكره على سنن الاستعارة كقوله تعالى: {«وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ»} (14)، {«ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ»} (15)، والصحيح الذى عليه علماء البيان لا يتخطونه أن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف الواحد واحد شىء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل،
__________
(13) غافر: 58
(14) فاطر: 12
(15) الزمر: 29(1/478)
بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك، فتشبهها بنظائرها، كما فعل امرؤ القيس وجاء فى القرآن، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت، وتلاصقت، حتى عادت شيئا واحدا، بأخرى مثلها كقوله تعالى: {«مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ»} (16) الآية، الغرض تشبيه حال اليهود فى جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة، بحال الحمار فى جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار، لا يشعر من ذلك الا بما يمر بدفيه من الكد والتعب، وكقوله تعالى: {«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ»} (17) المراد: قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر، فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئا واحدا «فلا» فكذلك لما وصف وقوع المنافقين فى ضلالاتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، شبهت حيرتهم، وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره، بعد ايقادها فى ظلمة الليل وكذلك من أخذته السماء فى الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق» (18).
التمثيل والتشبيه:
ذكر الناس أن الزمخشرى لم يفرق بين التشبيه والتمثيل بخلاف عبد القاهر الذى أجهد نفسه فى بيان التمثيل وتمييزه من التشبيه الصريح، وتبعه الرازى والسكاكى والخطيب كلهم يفرقون بين التمثيل والتشبيه الصريح وان اختلفوا فى التحديد، والزمخشرى وتبعه ابن الأثير لم يفرق بينهما، وللتمثيل مدلولات كثيرة فى بلاغة الكشاف وهى أقرب الى الاستعمال اللغوى فهو يطلقه على التشبيه، وعلى الاستعارة التمثيلية، وعلى الاستعارة فى المفرد، وعلى فرض المعانى.
__________
(16) الجمعة: 5
(17) الكهف: 45
(18) الكشاف ج 1ص 80، 81(1/479)
وقد عنيت ببيان رأيه فى التشبيه والتمثيل ليتحقق عندى ما ذكره الناس من أنه لا يفرق بينهما، وكان الذى يثبت هذا هو أن أراه قد أطلق اصطلاح التمثيل على صورة أو صور اتفق على أنها من التشبيه الصريح، ولا يكفى أن يقول: ان المثل والمثل والمثيل كالشبه والشبه والشبيه. لأن هذه تفسيرات لغوية لا تدل على مفهوم اصطلاح معين، وقد تسامح أكثر البلاغيين حينما ساقوا مثل هذا القول دليلا على أن التشبيه والتمثيل عنده سواء، ولا يكفى كذلك أن يطلق التشبيه على صور التمثيل لعموم التشبيه عند من يفرق بينهما.
وقد قال الزمخشرى فى قوله تعالى: {«إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوََاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ»} (19): «فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم اخلاء الكلام من لفظ التشبيه، واخراجه مخرج الاستعارة وان جعلوا حميرا وصوتهم نهاقا، مبالغة شديدة فى الذم والتهجين، وافراط فى التثبيط عن رفع الصوت.
وتشبيه الأصوات بالنهاق تشبيه صريح، ولكن الزمخشرى سماه تمثيلا، وذلك لأنه كما قالوا لا يفرق بينهما، ولست أعتقد أن هناك دليلا واضحا على صحة هذه الدعوى أعنى عدم التفريق بينهما الا كلامه فى هذه الآية فذلك هو الدليل الذى لا يتطرق اليه الاحتمال.
وهذه المسألة مسألة اصطلاحية هينة لا تتصل بأساس من أسس العلم ولذلك نجد الذين يفرقون بين التشبيه والتمثيل يختلفون فى وجه الفرق فما كان تمثيلا عند أحدهم لا يكون تمثيلا عند غيره، ولا ضير على البلاغة فى هذا الاتفاق أو الاختلاف.
__________
(19) لقمان: 19(1/480)
التصوير والتشكيل:
ويحدثنا الزمخشرى عن أثر التشبيه فى تصوير المعانى، وتشخيصها وسوقها فى سياق من صنعة الأسلوب تكشفها وتحققها، وهو فى هذا عالم بصير بأحوال الأساليب، وقيمة فعلها فى نفس متلقيها وهذا هو جوهر معرفة أقدار الكلام، يقول فى هذا: «ولضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر، شأن ليس بالخفى فى ابراز خبيات المعانى، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل فى صورة المحقق، والمتوهم فى معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامع الأبى، ولأمر ما أكثر الله فى كتابه المبين، وفى سائر كتبه أمثاله، وفشت فى كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكلام الأنبياء، والحكماء، قال الله تعالى: {«وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ»} (20) ومن سور الانجيل سورة الأمثال، والمثل فى أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير. يقال: مثل ومثل ومثيل كشبه، وشبه، وشبيه، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده:
مثل، ولم يضربوا مثلا ولا رأوه أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول، والقبول الا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه، ومن ثم حوفظ عليه وحمى من التغيير» (21).
وهذا الكلام له صلة ظاهرة بما ذكره عبد القاهر فى تأثير التمثيل وأسبابه ثم انك ترى الزمخشرى فيه قد قرأ التوراة وفطن الى أسلوبه كما ألم بسائر كتب الله وكلام الأنبياء والحكماء. وهذا سبيل العلماء.
ويقول: «والتشبيهات انما هى الطرق الى المعانى المحتجبة فى الأشياء حتى تبرزها وتكشف عنها، وتصورها للأفهام» (22).
__________
(20) العنكبوت: 43
(21) الكشاف ج 1ص 54.
(22) الكشاف ج 3ص 358.(1/481)
ويقول: «لأن التمثيل مما يكشف المعانى ويوضحها لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها، ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوهة» (23).
وهذا لا يخرج عن بيان ما فى صور التشبيه من توضيح المعنى وقوة كشفه وتقريره حتى يؤثر فى النفس، وينفذ الى مواطن الشعور والحس، بقوة التصوير والتشكيل، ويقول فى تثنية الأمثال والانتقال فيها من البليغ الى الأبلغ، كما فى آية المنافقين فى سورة البقرة:
«ثم ثنى الله سبحانه فى شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وايضاحا غب ايضاح، وكما يجب على البليغ فى مظان الاجمال والايجاز أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه فى موارد التفصيل والاشباع أن يفصّل ويشبع أنشد الجاحظ.
يوحون بالخطب الطّوال وتارة ... وحى الملاحظ خيفة الرّقباء
ومما ثنى من التمثيل فى التنزيل قوله تعالى: {«وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ»} (24).
العلاقة بين المشبه والمشبه به:
ولما كان الغرض الأعظم من التشبيه هو الكشف والايضاح، كان من الضرورى أن تكون الملاءمة بين المشبه والمشبه به ملاءمة واضحة، حتى يؤدى التشبيه الى الغرض منه، فاذا كان المشبه عظيما وجب أن يكون المشبه به كذلك، واذا كان حقيرا وجب أن يكون المشبه به كذلك، والزمخشرى يشرح هذه العلاقة يحوم حول الربط المعنوى أو النفسى بين طرفى التشبيه، ويتجاوز الربط الشكلى الحسى حين لا يكون مرادا وحده،
__________
(23) الكشاف ج 3ص 377.
(24) الكشاف ج 1ص 59والآية من سورة فاطر: 2219(1/482)
ثم ان النظر الى العلاقة الحسية وحدها بين الطرفين ليس أمرا قادحا فى الدراسة البلاغية كما يشيع فى كتب كثيرة لأن هذه العلاقة الحسية قد تكون هى مقصد التشبيه، وجودة الشاعر فى مثل هذا تكون بمقدار براعته فى بيان مراده، ولهذا نجد هذه العلاقة وحدها فى شعر جيد فى عصور العربية المختلفة وعند فحولها الأقدمين من أمثال امرئ القيس وزهير وذى الرمة، كما نجدها فى كلام الله وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلم.
ولعل دراسة الزمخشرى للصور القرآنية وهى لا تعتمد فى تكوينها وتصويرها غالبا الا على هذا الأساس النفسى، لعل دراسته هذه هى التى حامت به حول هذا الأساس المعنوى المهم.
يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا»} (25): «ان التمثيل انما يصار اليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وادناء المتوهم من المشاهد، فان كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله، وان كان حقيرا كان المتمثل به كذلك، فليس العظم والحقارة فى المضروب به المثل اذن الا أمرا تستدعيه حال المتمثل به، وتستجره الى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية، ألا ترى الحق لما كان واضحا جليا أبلج كيف تمثل له بالضياء والنور، والى الباطل لما كان بضد صفته كيف تمثل له بالظلمة، ولما كانت حال الآلهة التى جعلها الكفار أندادا لله تعالى لا حال أحقر منها وأقل، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها فى الضعف والوهن، وجعلت أقل من الذباب، وأخس قدرا، وضربت لها البعوضة فالذى دونها مثلا، لم يستنكر ولم يستبدع، ولم يقل للمتمثل: استحى من تمثيلها بالبعوضة، لأنه مصيب فى تمثيله، محق فى قوله، سائق للمثل فى قضية مضربه، محتذ على مثال ما يحتكمه ويستدعيه» (26)
فالعظم والحقارة فى المشبه، تستدعى لنفسها ما يلائمها من مشبه به، والضارب للمثل يعمل على حسب تلك القضية، فيربط بين الطرفين
__________
(25) البقرة: 26
(26) الكشاف ج 1ص 83(1/483)
من هذه الناحية، فلا يجلب مشبها به له فى النفس احساس التعظيم والتكبير، لمشبه له فى النفس احساس يخالف هذا، أو يناقضه، فالحق الواضح الأبلج يشبه النور، والباطل يشبه الظلمة، والوقع النفسى واحد فى الطرفين.
ويشير الزمخشرى الى أن المشابهة مماثلة فى بعض الأوصاف، دون كل الأوصاف، وأن الوصف الذى يشترك فيه الطرفان قد يكون أقوى فى المشبه به من المشبه، فيشبه الغريب بالأغرب، يقول فى قوله تعالى:
{«إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ»} (27): «فان قلت: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب ووجد آدم من غير أب وأم؟
قلت: هو مثيله فى احدى الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، لأن المماثلة مشاركة فى بعض الأوصاف، ولأنه مشبه به لأنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، وهما فى ذلك نظيران، لأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته، اذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه» (28).
التشبيه المقلوب:
بين الزمخشرى عكس التشبيه فى آية البيع والربا، ويشير الى سر العدول عن الأصل، وأنه ادعاء المبالغة حتى صار ما حقه أن يكون فرعا مقيسا عندهم، أصلا مقيسا عليه.
يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبََا»} (29): «فان قلت هلا قيل: انما الربا مثل البيع، لأن الكلالة فى الربا لا فى البيع، فوجب أن يقال: انما شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه، وكانت شبهتهم أنهم
__________
(27) آل عمران: 59
(28) الكشاف ج 1ص 281
(29) البقرة: 275(1/484)
قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوى الا درهما بدرهمين جاز، فكذلك اذا باع درهما بدرهمين؟ قلت: جىء به على طريق المبالغة، وهو أنه قد بولغ فى اعتقادهم فى حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا فى الحل حتى شبهوا به البيع» (30).
أداة التشبيه:
يذكر الزمخشرى أن أداة التشبيه فى التشبيه المركب لا يجب أن تلا مفردا يتأتى التشبيه به، لأنه فيه تراعى الكيفية المنتزعة، واذا كان التشبيه مفرقا فانه كثيرا ما يقدر محذوفا حتى يستقيم الكلام.
يقول فى قوله تعالى: {«أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ فِيهِ ظُلُمََاتٌ»} (31):
«فان قلت: الذى تقدره فى المفرق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك:
أو كمثل ذوى صيب هل تقدر مثله فى المركب منه؟ قلت: لولا طلب الراجع فى قوله تعالى: {«يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ»} (32) ما يرجع اليه لكنت مستغنيا عن تقديره، لأنى أراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام، فلا على أولى حرف التشبيه مفردا يتأتى التشبيه به أم لم يله، ألا ترى الى قوله تعالى: {«إِنَّمََا مَثَلُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا»} (33) الآية، كيف ولى الماء الكاف وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحّل لتقديره، ومما هو مبين فى هذا قول لبيد:
وما الناس إلا كالدّيار وأهلها ... بها حلّوها حلّوها وغدوا بلاقع
لم يشبه الناس بالديار، وانما شبه وجودهم فى الدنيا، وسرعة زوالهم وفنائهم، بحلول أهل الديار فيها، ووشك نهوضهم عنها وتركها خلاء خاوية» (34).
__________
(30) الكشاف ج 1ص 245
(31) البقرة: 19
(32) البقرة: 19
(33) يونس: 24
(34) الكشاف ج 1ص 485(1/485)
والمثل يحذف على الاتساع فى الكلام، وحذفه شائع مستفيض.
يقول فى قوله تعالى: {«إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ»} (35): «فان قلت: كيف يحمل اثم قتله له {«وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ»} (36)؟
قلت: المراد بمثل اثمى على الاتساع فى الكلام كما تقول: قرأت قراءة فلان وكتبت كتابته، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره».
يقول فى موضع آخر: «والمثل يحذف كثيرا فى كلامهم، كقولك:
ضربته ضرب زيد، تريد مثل ضربه، وأبو يوسف وأبو حنيفة، تريد مثله، ولا هيثم الليلة للمطى، وقضية ولا أبا حسن لها، تريد ولا مثل هيثم ولا مثل أبى حسن» (37).
القيمة البلاغية للقيود فى المشبه به:
من عادة القرآن فى رسم صورة التشبيه أن يذكر فيها من القيود وأحوال الصياغة ما يجعلها معبرة تعبيرا دقيقا عن الغرض المسوقة فيه، ولهذه القيود والأحوال شأن فى صورة التشبيه لا يتنبه اليها الا المعنى بابراز نواحى الجمال وسر البلاغة فى الأسلوب، وللزمخشرى وقفات فى هذا المجال يدرك فيها أسرار هذه القيود، ومعانيها الأدبية الدقيقة.
يقول فى قوله تعالى: {«مَثَلُ مََا يُنْفِقُونَ فِي هََذِهِ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهََا صِرٌّ أَصََابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ»} (38):
«وشبه بحرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلك عقوبة لهم على معصيتهم لأن الهلاك من سخط أسوأ وأبلغ» (39).
يشير الى قوله: {«ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»}
__________
(35) المائدة: 29
(36) فاطر: 18
(37) الكشاف ج 1ص 294.
(38) آل عمران: 117
(39) الكشاف ج 1ص 311.(1/486)
وبين قيمة وصفه المشبه به فى قوله تعالى: {«وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ»} (40) وكيف أفاد هذا الوصف قوة فى أداء المعنى، وأنهم لا نفع لهم ولا خير فيهم، يقول: «فان قلت: ما معنى قوله تعالى {«كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ»}؟ قلت: شبهوا فى اسنادهم وما هم الا أجرام خالية عن الايمان والخير بالخشب المسندة الى الحائط ولأن الخشب اذا انتفع به كان فى سقف، أو جدار، أو غيرهما من مظان الانتفاع وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند الى الحائط، فشبهوا به فى عدم الانتفاع» (41).
وكما رأيناه يشرح ويفسر قيمة وصف المشبه به، نراه كذلك يشرح ويفسر أحوال مفرداته من التعريف أو التنكير، مبينا دلالة هذه الأحوال، وأثرها فى الصورة البيانية، يقول فى قوله تعالى: {«أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً»} (42)
يقول بعد ما بين أن هذا مثل ضربه الله للحق وأهله وللباطل وحزبه.
وبعد ما وضح قيمة الماء والفلز الذى مثل الله بهما للحق: «فان قلت:
لم ذكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتى الا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض» (43) ويشير الى سر تنكير الصيب فى آية المنافقين ويقول: «وتنكير الصيب لأنه أريد نوع من المطر شديد، كما نكرت النار فى التمثيل الأول» (44).
ويشير كذلك الى تنكير الظلمات، والرعد، والبرق، فى هذه الصورة نفسها، ويقول: «وانما جاءت هذه الأشياء منكرات لأن المراد أنواع منها كأنه قيل: فيه ظلمات داجية، ورعد قاصف، وبرق خاطف» (45).
__________
(40) المنافقون: 4
(41) الكشاف ج 4ص 432
(42) الرعد: 17
(43) الكشاف ج 2ص 407
(44) الكشاف ج 1ص 62
(45) الكشاف ج 1ص 63(1/487)
الفرق بين التشبيه والاستعارة:
درس البلاغيون هذا الموضوع قبل الزمخشرى، وكان لهم فيه رأى مختلف، لذلك نراه يشير الى هذا الخلاف، ويميل الى رأى طائفة سماها المحققين من علماء البيان، وهؤلاء المحققون فى ظننا، على بن عبد العزيز الجرجانى، وعبد القاهر الجرجانى (46) يقول فى قوله تعالى: {«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ»} (47): «فان قلت: كيف طريقته عند علماء البيان؟ قلت: طريقة قولهم: هم ليوث للشجعان، وبحور للأسخياء، الا أن هذا فى الصفات، وذلك فى الأسماء، وقد جاءت الاستعارة فى الأسماء، والصفات، والأفعال جميعا، تقول: رأيت ليوثا، ولقيت صما عن الخبر، ودجا الاسلام، وأضاء الحق، فان قلت: هل يسمى ما فى الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه، والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة، لأن المستعار له مذكور، وهم المنافقون، والاستعارة انما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلوا عنه، صالحا أن يراد به المنقول عنه، والمنقول اليه.
لولا دلالة الحال، أو فحوى الكلام كقول زهير:
لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف ... له لبد أظفاره لم تقلّم
ومن ثم نرى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه، ويضربون عن توهمه صفحا، قال أبو تمام:
ويصعد حتى يظنّ الجهول ... بأن له حاجة فى السّماء
وبعضهم:
لا تحسبوا أن فى سرباله رجلا
ففيه غيث وليث مسبل شبل
وليس لقائل أن يقول: طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدأ،
__________
(46) ينظر الوساطة ص 41وأسرار البلاغة ص 271258
(47) البقرة: 18(1/488)
فأتسلق بذلك الى تسميته استعارة، لأنه فى حكم المنطوق به. نظير قول من يخاطب الحجاج:
أسد علىّ وفى الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصّافر (48)
وقد كان الزمخشرى بصيرا فى تطبيق هذا الأساس الذى ارتضاه فرقا بين التشبيه والاستعارة. فقد يجرى الكلام على ما يوهم طرح المشبه واسقاطه، فيظن أنه من باب الاستعارة ثم يقع فى الكلام ما يجعله من باب التشبيه، يقول فى قوله تعالى: {«حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ»} (49): «والخيط الأبيض هو أول ما يبدو من الفجر المعترض فى الأفق كالخيط الممدود، والخيط الأسود ما يمتد معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود، وقال أبو داود:
فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاح من الصّبح خيط أنارا
وقوله: {«مِنَ الْفَجْرِ»} بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود، لأن بيان أحدهما بيان للثانى، ويجوز أن تكون «من» للتبعيض، لأنه بعض الفجر وأوله، فان قلت: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟ قلت: قوله {«مِنَ الْفَجْرِ»} أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسدا مجازا، فاذا زدت: من فلان، رجع تشبيها، فان قلت: فلم زيد {«مِنَ الْفَجْرِ»} حتى كان تشبيها؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التى هى أبلغ من التشبيه، وأدخل فى الفصاحة؟ قلت: لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام ولو لم يذكر {«مِنَ الْفَجْرِ»} لم يعلم أن الخيطين مستعاران فزيد {«مِنَ الْفَجْرِ»} فكان تشبيها بليغا وخرج من أن يكون استعارة» (50).
__________
(48) الكشاف ج 1ص 58، 59
(49) البقرة: 187
(50) الكشاف ج 1ص 174، 175(1/489)
وقد يجيء المشبه فى التشبيه مطويا ذكره على سنن الاستعارة، كقوله تعالى: {«وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ»} (51)،
و {«ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ»} (52).
وقد وضع سعد الدين فى شرحه لهذه العبارة قاعدة مهمة، تعين على التفرقة بين التشبيه والاستعارة، وبين أن مصداق الفرق: أن اسم المشبه به فى الاستعارة مستعمل فى المشبه، مراد به ذلك، بحيث لو أقيم مقامه اسم المشبه استقام الكلام، وفى التشبيه يكون مستعملا فى معناه الحقيقى، مرادا به ذلك، فلو قلنا فى آية المنافقين: «مثلهم كمثل ذى دين حق»، تتعلق به مشبهات وفيه وعد ووعيد لم يكن له معنى، وكذا لو قلنا فى آية: {«وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ»}: وما يستوى المؤمن والكافر، لأن قوله: {«هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ»} الى قوله: {«وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوََاخِرَ»} (53) دليل على أن المراد بهما المعنى الحقيقى فيكون الكلام تشبيها أى لا يستوى الاسلام والكفر، اللذان هما كالبحرين الموصوفين، وكذا قوله تعالى: {«ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا»} الآية، معناها جعل الله عبدا يملكه شركاء متشاكسون مثلا لعابد الأصنام، وجعل عبدا سالما لواحد مثلا لله وحده، فذكر المشبه مطوى، والمشبه به مستعمل فى معناه الحقيقى، ثم قال سعد الدين: «ولخفاء ذلك ذهب كثير من الناس الى أن الآيتين من قبيل الاستعارة وأن صاحب الكشاف أوردهما مثالين للاستعارة، ولا يخفى ضعفه على من تأمل لفظ الكشاف» (54).
ومع هذه التفرقة الدقيقة، والتنبه اليقظ، للفرق بين الأسلوبين،
__________
(51) فاطر: 12
(52) الكشاف ج 1ص 61والآية من سورة الزمر: 29
(53) فاطر: 12
(54) تنظر حاشية سعد الدين على الكشاف (مخطوطة) ورقة 46 وتنظر حاشية أخرى على الكشاف (مخطوطة) ورقة 137لم يعلم مؤلفها وينظر المطول ص 360(1/490)
نرى فى كلام الزمخشرى ما يوهم عدم مراعاة هذه الفروق، حيث يطلق المجاز على صورة التشبيه البليغ فى قوله تعالى: {«نِسََاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ»} (55) يقول: «فيها مواضع حرث لكم، وهذا مجاز شبههن بالمحارث، تشبيها لما يلقى فى أرحامهن من النطف التى منها النسل بالبذور» (56).
وقد تردد العلماء فى تفسير كلامه هذا، لأنه وضع رأيه فى مثل «زيد أسد»، وأنه من التشبيه، فكيف يطلق المجاز على مثله، فقالوا:
ان المجاز باعتبار اطلاقه الحرث على موضع الحرث، أو باعتبار تغير حكم الكلمة فى الاعراب بسبب حذف المضاف، كما فى {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ»} (57)
أو باعتبار حمل المشبه بعد حذف الأداة، كما فى «زيد أسد»، فكثير ما يقال له المجاز، وقد قالوا أيضا: ان المراد بالمجاز هنا الاستعارة بالكناية، لأن جعل النساء محارث دلالة على أن النطف بذور، وقد أشار الى ذلك بقوله: تشبيها لما يلقى فى أرحامهن بالبذور، وقد اعترض على هذا بأن الاستعارة بالكناية يذكر فيها المشبه صريحا، والمشبه به مكنيا، وهنا لم يذكر المشبه صريحا، نعم يستقيم هذا الرأى لو كان النص: نساؤكم حرث لنطفكم، ولو قيل: ان الحرث يدل على البذور دلالة قوية تجعله فى حكم الملفوظ، كما جنح اليه من جعله استعارة مكنية، لكان هذا قسما من المكنية، لا يذكر فيه الطرفان وهو غريب، وذهبوا الى أنه تمثيل على سبيل الكناية، والقوم قد أغفلوا هذا النوع وبيانه هنا أنه تشبيه مترتب على تشبيه متروك، وهو تشبيه النطف بالبذور ترتب اللازم على الملزوم (58).
ولست أجد مبررا لهذه التفسيرات ولعل أقربها الى الحق هو القول بأنه أطلق المجاز هنا باعتبار حمل المشبه به على المشبه، فيكون
__________
(55) البقرة: 223
(56) الكشاف ج 1ص 202
(57) يوسف: 82
(58) ينظر حاشية سعد الدين على الكشاف (مخطوطة) ورقة 13 وحاشية الشهاب ج 2ص 308(1/491)
قد أطلق المجاز على صورة التشبيه تساهلا، وعدم التزام برأى المحققين فقد قال: هذا مجاز شبههن بالمحارث، وهذا تفسير واضح لظاهر التركيب {«نِسََاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ»} ولعل بناء هذا التشبيه على تشبيه آخر هو الذى ساعد على هذا التساهل.
وقد يتسامح العلماء فى غير مواطن التحقيق، فالخطيب القزوينى يطلق الاستعارة على اليد فى قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم دناهم، وهم يد على من سواهم» (59).
وواضح أن هذا من التشبيه البليغ كما يذكر المحققون، ومنهم الخطيب. والامام عبد القاهر وهو خير من حقق الفرق بين التشبيه والاستعارة، يذكر قولهم: هو يصفو ويكدر، ويمر ويحلو، ويشج ويأسو، ويسرج ويلجم، مثالا لما يجيء فيه التشبيه معقودا على أمرين أو أمور لا تتشابك تشابك المركب (60) وواضح أن هذا من قبيل الاستعارة المكنية. كما يذكر فى أمثلة التشبيه التمثيلى الذى ينتزع فيه الشبه من الوصف لأمر لا يرجع الى نفسه قولهم: «أخذ القوس باريها» وقولهم: «ما زال يفتل منه فى الذروة والغارب» (61).
وواضح أيضا أن هذا من قبيل الاستعارة التمثيلية كما حقق عبد القاهر نفسه.
وقد أشار عبد القاهر الى هذا الذى نقوله، فذكر أن المتخصصين فى هذا الشأن قد يتسامحون، ولكن ذلك لا يكون عند ذكر القوانين، وحيث تقرر الأصول، ثم ذكر كلاما للآمدى فيه هذا التسامح (62).
__________
(59) الايضاح ج 3ص 92
(60) أسرار البلاغة ص 75
(61) ينظر أسرار البلاغة ص 77
(62) ينظر أسرار البلاغة ص 222، 223.(1/492)
المجاز:
كان الزمخشرى يبذل الجهد الأكبر ليصرف القول عن ظاهره، ليحقق به فكرة اعتزالية، ولم تكن غايتى تناول قضايا الاعتزال، وموقف النصوص القرآنية منها، حتى أتوسع فى هذا الموضوع وانما همى هو بيان ملامح البحث البلاغى فى تفسير الكشاف، وحسبى أن أشير إشارة سريعة الى هذا الأثر الاعتزالى، وذلك فى النصوص التى نسوقها مصورين بها بحثا بلاغيا، اذا كان فى هذه النصوص ما يتصل بالناحية العقيدية فهى اذن تأتى تبعا فى بحثنا.
والزمخشرى قسم المجاز الى قسمين: استعارة وتمثيل.
يقول فى قوله تعالى: {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ»} (63): «فان قلت:
ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت: لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، وانما هو من باب المجاز، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه، وهما الاستعارة والتمثيل، أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها، ولا يخلص الى ضمائرها، من قبل اعراضهم عنه، واستكبارهم عن قبوله، واعتقاده. وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الاصغاء اليه، وتعاف استماعه، كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلى آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة، كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين، كأنما غطى عليها، وحيل بينها، وبين الادراك، وأما التمثيل فأن تمثل حيث لم ينتفعوا بها فى الأغراض الدينية التى كلفوها، وخلقوا من أجلها، بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها، بالختم والتغطية، وقد جعل بعض المازنيين الحبسة فى اللسان والعى ختما عليه فقال:
ختم الإله على لسان عذافر ... ختما فليس على الكلام بقادر
وإذا أراد النّطق خلت لسانه ... لحما يحرّكه لنقر ناقر (64)
__________
(63) البقرة: 7
(64) الكشاف ج 1ص 37، 38(1/493)
ونرى أن الاستعارة هنا هى ما سماها المتأخرون الاستعارة المكنية، حيث ذكر شبه القلوب والأسماع بأشياء يستوثق منها بالختم، فصارت كأنها مستوثق منها كما يقول، الا أن العلامة سعد الدين لا يرضى بهذا الذى نفهمه ويقول انه يريد تشبيه عدم نفوذ الحق الى القلوب وتحقق نبو الأسماع عن قبوله بالختم عليها، أى بكونها مختوما عليها على ما ينبئ عنه قوله: كأنها مستوثق منها بالختم، ويشبه عدم اجتلاء الأبصار للآيات والأدلة بالتغشية عليها، ثم يقول: وقد يتوهم من ظاهر عبارة الكتاب أن المشبه هو القلوب والأسماع، ومن هاهنا ذهب بعضهم فى القول الأول الى أن القلوب استعارة بالكناية والختم تخييل
ولا يخفى على من له قدم فى علم البيان أن الأولى ما ذكرنا، وأن قوله:
تجعل القلوب الى آخره، بمنزلة قولك: يجعل الحال لكونها دالة على كذا كأنها ناطقة به وأن عبارته ظاهرة فى أن الختم والتغشية مجاز» (65).
وقول الزمخشرى: «تجعل القلوب الخ»، لا يصح تنزيله منزلة قولك: تجعل الحال لكونها دالة كأنها ناطقة، وذلك لأن هذا يكون فى الحال بعد بيان الاستعارة فى «نطقت»، وحينئذ يكون جعلها كأنها ناطقة تبعا لهذه الاستعارة، أما أن نقول ابتداء فى «نطقت الحال»: جعل الحال كأنها ناطقة، فانه لا يفهم منه الا طريق الاستعارة المكنية، فاذا كان كلام الزمخشرى خاليا مما يدل على أن التشبيه فى لفظ «الختم» فليس ما يدعو الى جعل كلامه عن القلوب والأسماع بمنزلة القول فى «نطقت»، لأنه يأتى هناك تبعا كما قلت.
وقد نقل الشهاب الخفاجى كلام سعد الدين، وعلق عليه، بقوله:
«وهو كلام حسن، ثم ذكر أصلا يفرق به بين المكنية والتبعية، وهو أصل دقيق، وأظن أن صاحبه الأول العلامة السيد الشريف، وخلاصته أنه يصار الى المكنية اذا كان اللازم المذكور قد اشتهر أنه من لوازم المشبه به، وكان تشبيه المذكور بالمستعار منه المحذوف تشبيها شائعا، كما فى
__________
(65) حاشية سعد الدين ورقة 32(1/494)
قوله تعالى: {«يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ»} (66)، وقولنا: عالم يغترف منه الناس، اذ كون النقض والاغتراف من لوازم الحبل والبحر أمرا مشهورا، وتشبيه العهد بالحبل والعالم بالبحر تشبيه كذلك مستفيض، وليس الأمر كذلك فى تشبيه القلوب بالأوانى فانه انما يفهم من ايقاع الختم عليها» (67).
وهذا أصل قوى ودقيق كما قلت، والأولى أن تكون الآية من قبيل التبعية، كما يقول الأئمة، الا أن هذا شىء والقول بأن كلام الزمخشرى يفيده شىء آخر، ولعل الخلط بين ما قاله الزمخشرى فى هذه الآية، وما ينبغى أن يقوله فيها، هو الذى رجح عند الائمة تفسيره على وجه الاستعارة المكنية.
أما مراده بالتمثيل فى الآية فقد بينه سعد الدين، وهو مصيب، حيث يقول: «أما وجه التمثيل فهو أن يشبه حال القلوب والأسماع والأبصار بحال أشياء مخلوقة للانتفاع بها مع المنع عن ذلك بطريق الختم والتغطية، ثم استعمل فى المشبه اللفظ الدال على المشبه به» (68)
أى التمثيل هنا استعارة تمثيلية.
على أننا نجد المجاز الذى يقسم الى هذين القسمين مجازا ضيقا، لا يتسع الى كل ألوان المجاز، وقد ذكر هو نفسه فنونا من المجاز المرسل، وقابلها بالاستعارة وبسط الكلام فى المجاز الحكمى، ومع وضوح هذين النوعين من المجاز فى بلاغته فقد أغفلهما حين قسم المجاز الى استعارة، وتمثيل، ومن المعروف أن الذى ينقسم الى الاستعارة والتمثيل هو الاستعارة نفسها، فانها تنقسم الى استعارة تمثيلية، وغير تمثيلية، وهذه تشمل التصريحية والمكنية.
وسوف أعرض الآن حديثه فى قسمى المجاز اللذين ذكرتهما، ثم حديثه فى باقى أنواعه:
__________
(66) البقرة: 27
(67) ينظر حاشية الشهاب ج 1ص 281
(68) ينظر حاشية سعد الدين نفس الصفحة.(1/495)
الاستعارة:
ذكر الزمخشرى صور الاستعارة التصريحية بقسميها: التبعية والأصلية، وذكر صور الاستعارة المكنية كما ذكر الترشيح والتجريد.
ومن أبرز ما اهتم به الزمخشرى فى الاستعارة ذلك الذى تراهم يسكتون فيه عن اللفظ المستعار، ثم يرمزون اليه بذكر شىء من روادفه، وهذا النوع من أسرار البلاغة ولطائفها كما يقول، وقد أشار فى أكثر من موضع الى حسن هذه الاستعارة وفصاحتها.
يقول فى قوله تعالى: {«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ»} (69): «فان قلت: من أين ساغ استعمال النقض فى ابطال العهد؟ قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، ومنه قول ابن التيهان فى بيعة العقبة: «يا رسول الله، ان بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها، فنخشى ان الله عز وجل أعزك، وأظهرك، أن ترجع الى قومك». وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا اليه بذكر شىء من روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه، ونحوه قولك: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس لم تقل هذا الا وقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما أسد وبحر» (70).
وقد علق السيد الشريف على هذا بقوله: يريد بيان الاستعارة بالكناية، وكذلك قال سعد الدين (71) ثم ذكر كل منهما ما دار حول الاستعارة بالكناية وقرينتها من خلاف.
واذا كان اصطلاح الاستعارة بالكناية لم يعرف الا فى كتاب نهاية الايجاز، وهو كتاب كتب بعد الكشاف بما يقرب من قرن، فليس لنا أن
__________
(69) البقرة: 27
(70) الكشاف ج 1ص 90
(71) تنظر حاشية الشهاب ج 2ص 140ومخطوط التفتازانى ورقة 60(1/496)
نقول: ان الزمخشرى يريد الاستعارة بالكناية، الا على معنى أنه يريد مسمى الاستعارة بالكناية، وحقيقتها، لأن تسميتها الاصطلاحية كما قلت لم تكن معروفة فى زمانه. وقد قلت هذا لأن كثيرا من المعلقين على عبارات الزمخشرى يفسرونها فى ضوء التقسيمات التى تحددت حقائقها وأصولها فى عصره. وتحددت مصطلحاتها بعد عصره، لذلك وجب التنبيه الى هذا أصلا فى فهم هذه التعليقات.
وفهم من كلام الزمخشرى هذا أن قرينة الاستعارة المكنية قد تكون استعارة تصريحية، وذلك لأنه يرى أن النقض مستعمل فى ابطال العهد، واذا كانت القرينة مرادا بها معنى مجازى فانها لا تنهض دليلا على المحذوف، فاذا كان النقض مرادا به ابطال العهد فليس هناك ما يدعونا الى اعتبار العهد مشبها بالحبل، لأن الكلام حينئذ يكون كلاما مستقيما، اذ التقدير: يبطلون عهد الله، لذلك قال السيد الشريف مجيبا على هذا الاشكال الوارد على كلام الزمخشرى حين اعتبر القرائن مجازات: ان هذه الاستعارات من حيث انها متفرعة على الاستعارات الأخر صارت كنايات عنها، فان النقض انما شاع استعماله فى ابطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل، فلما نزل العهد منزلة الحبل، وسمى باسمه، نزل ابطاله منزلة نقضه، فلولا استعارة الحبل للعهد لم يحسن، بل لم يصح استعارة النقض للابطال، وقس على ذلك استعارة الافتراس والاغتراف، فانها تابعة لاستعارة الأسد للشجاع والبحر للعالم، ولما كانت هذه الاستعارات تابعة لتلك الاستعارات الأخر، ولم تكن مقصودة فى أنفسها، بل قصد بها الدلالة على تلك الاستعارات الأخر، كانت كناية عنها، وذلك لا ينافى كونها فى أنفسها استعارات، على قياس ما عرفت من أن الكناية لا تنافى إرادة الحقيقة، فالافتراس مع كونه استعارة مصرحا بها كناية عن استعارة الأسد للشجاع» (72).
__________
(72) حاشية السيد الشريف على المطول ص 384(1/497)
ويقول السيد مبينا وجهة الزمخشرى فى أن الرادف المذكور لا يشترط فيه إرادة المعنى الأصلى، يقول: «فان قلت: لو كان النقض مثلا مستعملا فى ابطال العهد لم يكن شىء من روادف المستعار المسكوت عنه أعنى الحبل مذكورا فلا يصح قوله: ثم يرمزون اليه بذكر شىء من روادفه، فوجب أن يكون النقض ونظائره من قرائن الاستعارة بالكناية مستعملة فى معانيها الحقيقية، التى هى من روادف المستعار المسكوت عنه، وحينئذ يكون اثباتها للمستعار له على سبيل التخييل، فصح أن الاستعارة المكنية تستلزم التخييلية؟ قلت: لما صرح باستعمال النقض فى ابطال العهد، علم أنه أراد بذكر الروادف ما هو أعم من أن يراد به معناه الأصلى الذى هو الرادف الحقيقى، أو يراد به ما هو مشبه بذلك المعنى، منزل منزلته، فان النقض من روادف الحبل، أما اذا أريد به معناه الحقيقى فظاهر، وأما اذا أريد به معناه المجازى فلأنه اذ أنزل المعنى الحقيقى وعبر عنه باسمه صار رادفا للحبل أيضا، فالرادف على الأول مذكور لفظا، ومعنى حقيقة، وعلى الثانى مذكور لفظا حقيقة، ومعنى ادعاء، وكلاهما يصلحان قرينة الاستعارة بالكناية» (73).
ومهما يكن من شىء فان اعتبار الاستعارة فى الرادف يضعف التخييل، وتصوير المشبه فى صورة المشبه به، وتمثله فى الخيال مصورا بصورته، وهذا هو سر بلاغة المكنية، اذ أنها تكون فى أكثر أحوالها مظهرا لتصوير الحياة فى الجماد، أو تصوير المعانى وتجسيدها، أو تشخيصها، كأظفار المنية، ويد الشمال، وكفى اليأس، وأذن الجوزاء، وأنف الغيرة وهذا اللون من التصوير له سحره وتأثيره والذى يعين على ذلك كما قلت هو كون هذه الروادف مستعملة فى معانيها الحقيقية، فالافتراس فى قولنا: شجاع يفترس أقرانه، يكون أعون على تصورنا للشجاع فى صورة الأسد، وهيئته، وعبالته، ما دمنا غير منصرفين عن معناه الحقيقى الذى هو فعل الأسد، أما اذا انصرفت
__________
(73) نفس المرجع السابق(1/498)
نفوسنا الى معنى مجازى للافتراس، أى شدة القتل مثلا، فان التصور حينئذ يكون أضعف فى نفوسنا من الأول، وهذا لا ينفى أن اللفظ المستعمل فى غير معناه لعلاقة المشابهة لا يتجرد من معناه الأصلى، فلفظ الأسد يصور فى النفس صورة الحيوان المفترس وان كان منقولا الى الرجل الشجاع.
والزمخشرى يدرك ما فى هذه الاستعارة من القدرة على التصوير والتشخيص، ويظهر ذلك فى شرحه لأساليبها، يقول فى قوله تعالى:
{«وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمََا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً»} (74): «جعل كل واحد منهما فى صورة الباغى على صاحبه فهو يتعوذ منه، وهى من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة» (75).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ»} (76):
«هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك اليك، فترك النطق بذلك، وقطع الاغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم وذوق صحيح الا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة، والا فما لقراءة معاوية بن قرة «ولما سكن عن موسى الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة، وطرفا من تلك الروعة» (77).
وقد عرض الزمخشرى لمثل الاستعارة الأصلية والتبعية ولكنه لم يفصل القول فيها ويشير الى استعارة المصادر فيما يكون الفعل فيه مجازا.
يقول فى قوله تعالى: {«وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنََا»} (78):
__________
(74) الفرقان: 53
(75) الكشاف ج 3ص 226
(76) الأعراف: 154
(77) الكشاف ج 2ص 128
(78) الزخرف: 45(1/499)
«ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لا حالته، ولكنه مجاز عن النظر فى أديانهم، والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط فى ملة من ملل الأنبياء، والسؤال الواقع مجازا عن النظر حيث لا يصح السؤال على الحقيقة كثير، منه مساءلة الشعراء الديار، والرسوم والأطلال، وقول من قال: سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فانها ان لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا» (79).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَاللََّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً»} (80):
«استعير الانبات للانشاء كما يقال: زرعك الله للخير» (81).
وأشار الى الاستعارة فى الحرف، وكان من أوائل من أبرزوا فى دراستهم هذا الفن، يقول فى قوله تعالى: {«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً»} (82): «اللام فى «ليكون» هى لام «كى» التى معناها التعليل، كقولك: جئتك لتكرمنى سواء بسواء، ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز، دون الحقيقة، لأنهم لم يكن داعيهم الى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا، ولكن المحبة والتبنى، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعى الذى يفعل الفعل لأجله، وهو الاكرام الذى هو نتيجة المجيء، والتأدب الذى هو ثمرة الضرب فى قولك: ضربته ليتأدب، وتحريره أن هذه اللام حكمها حكم الأسد، حيث استعيرت لما يشبه التعليل، كما يستعار الأسد لما يشبه الأسد (83).
واجراء التشبيه فى العداوة والحزن، والمحبة والتبنى، يشعرنا بأن الاستعارة والتشبيه السابق عليها يجريان فى مدخول الحرف، الا أن قوله: وتحريره أن هذه اللام حكمها حكم الأسد الخ، لم يترك مجالا للاجتهاد، وانما هو نص صريح على أن موطن التجوّز هو الحرف
__________
(79) الكشاف ج 4ص 495
(80) نوح: 17
(81) الكشاف ج 4ص 201
(82) القصص: 8
(83) الكشاف ج 3ص 309(1/500)
نفسه، ويقرب منه قوله فى قوله تعالى: {«وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ»} (84) يقول: «شبه تمكن المصلوب فى الجذع بتمكن الشيء الموعى فى وعائه، فلذلك قيل: {«فِي جُذُوعِ النَّخْلِ»} (85).
ومن اجراء الاستعارة فى مدخول الحرف قوله فى قوله تعالى:
{«إِنََّا لَنَرََاكَ فِي سَفََاهَةٍ»} (86) حيث يقول: «فى خفة حلم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك الى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، أراد أنه متمكن فيها غير منفك عنها» (87).
وقد فكرت كثيرا فى كلام الزمخشرى فى هذا الموضوع لأقف على مراده، وأتبين فى أيهما يكون التشبيه والاستعارة، فى الحرف أم فى مدخوله، وكلما قوى فى نظرى وجه نظرت فوجدت الآخر لا يقل عنه قوة، فكلامه صريح فى أن التشبيه والاستعارة يجريان فى مدخول الحرف، وكلامه صريح أيضا فى أن اللام مستعارة كاستعارة الأسد للرجل الشجاع، وقد بان لى أن كلام الزمخشرى يصح أن يستدل به على الوجهتين، ومن الخطأ أن يحمل على وجهة دون أخرى، وليس فى هذا قدح لأن هذه المسألة لم تكن محددة فى زمانه، واذا قيل: ان الزمخشرى يجرى الاستعارة فى قرينة المكنية كما أجراها فى النقض فى آية {«يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ»} (88) فاذا كان قد أجراها فى اللام فليس هذا دليلا على أن التشبيه عنده لا يكون فى مدخول اللام، قلنا: انه اقتصر فى قوله تعالى:
{«وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ»} على جريان التشبيه فى مدلول الحرف.
أما تعرضه لصور الاستعارة الأصلية، فمنه قوله فى قوله تعالى:
{«رَبَّنََا وَلََا تَحْمِلْ عَلَيْنََا إِصْراً»} (89): «والاصر العبء الذى يأصر حامله أى يحبسه، فكأنه لا يستقل به لثقله، استعير للتكليف الشاق
__________
(84) طه: 71
(85) الكشاف ج 3ص 60
(86) الأعراف: 66
(87) الكشاف ج 2ص 95
(88) البقرة: 27
(89) البقرة: 286(1/501)
من نحو قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد، والثوب وغير ذلك» (90).
ويقول فى قوله تعالى: {«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ»} (91): «واستعمال المرض فى القلوب يجوز أن يكون حقيقة ومجازا، فالحقيقة أن يراد الألم، كما تقول: فى جوفه مرض، والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد، والغل، والحسد، والميل الى المعاصى، والعزم عليها، واستشعار الهوى، والجبن، والضعف، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبهت بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة فى نقائض ذلك» (92).
وغير ذلك كثير وكثير، الا أننا لا نجد فيه تفصيلا علميا لهذين النوعين من الاستعارة اذا استثنينا الاستعارة فى الحرف، فانه كما أعلم من أوائل من بسطوا الحديث فيها وأشاروا الى جريان التشبيه فى الحرف أو فى مدخوله كما قلنا.
وله لمحات متذوقة يدرك فيها ما تنطوى عليه الكلمة المستعارة من وحى، وإشارة، وأكثر النصوص التى ذكرناها وخاصة تفسيره لصور الاستعارة المكنية ملىء بمثل هذه اللفتات ومنها قوله فى قوله تعالى:
{«إِنَّمََا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشََاءِ»} (93) يقول: «فان قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله: ليس لك عليهم سلطان؟ قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر كما تقول: أمرتنى نفسى بكذا، وتحته رمز الى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم وقبولكم وساوسه» (94).
الترشيح والتجريد:
قد درس الزمخشرى الترشيح فى المجاز، كما درس التجريد، وبين مذاهب العرب فى هذين اللونين، ولم أجد دراسة الترشيح والتجريد مبسوطة بهذه الروح الأدبية المتذوقة فى كتاب قبل الكشاف.
__________
(90) الكشاف ج 1ص 156
(91) البقرة: 10
(92) الكشاف ج 1ص 45
(93) البقرة: 169
(94) الكشاف ج 1ص 16(1/502)
وكلام الزمخشرى فى الترشيح مشعر بأن هذا الفن من أبلغ الفنون البلاغية ان لم يكن أبلغها، وأنه حين يقع موقعه لا نجد كلاما أحسن منه، ولا أكثر ماء ورونقا، وأنه من الصنعة البديعية التى يبلغ المجاز معها الذروة العليا، يقول فى قوله تعالى: {«أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ وَمََا كََانُوا مُهْتَدِينَ»} (95):
«فان قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا فى معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن ثمة مبايعة على الحقيقة؟ قلت: هذا من الصنعة البديعية التى تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات، اذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماء ورونقا، وهو المجاز المرشح، وذلك نحو قول العرب فى البليد: كأن أذنى قلبه خطل، فقد جعلوه كالحمار، مشاهدة معاينة ونحو:
ولما رأيت النّسر عزّ ابن داية ... وعشّش فى وكريه جاش له صدرى
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر، ونحو قول بعض فتاكهم فى أمه:
فما أمّ الرّدين وإن أدلّت ... بعالمة بأخلاق الكرام
إذا الشيطان قصّع فى قفاها ... تنفقناه بالحبل التّوام
أى اذا دخل الشيطان فى قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم، اذا مردت وأساءت الخلق اجتهدنا فى ازالة غضبها، واماطة ما يسوء من خلقها، استعار التقصيع أولا ثم ضم اليه التنفق، ثم الحبل التوام، فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله، ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه اليه تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته» (96).
__________
(95) البقرة: 16
(96) الكشاف ج 1ص 5453(1/503)
والترشيح فى الاستعارة المركبة يضيف الى صورتها اضافات تكتمل بها الصورة ويزداد تأثيرها فى توضيح المعنى وتقويته.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ تَقْوى ََ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ شَفََا جُرُفٍ هََارٍ فَانْهََارَ بِهِ فِي نََارِ جَهَنَّمَ»} (97): «فان قلت: فما معنى قوله {«فَانْهََارَ بِهِ فِي نََارِ جَهَنَّمَ»}؟ قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل: {«فَانْهََارَ بِهِ فِي نََارِ جَهَنَّمَ»} على معنى فطاح به الباطل فى نار جهنم، الا أنه رشح المجاز، فجىء بلفظ الانهيار الذى هو للجرف، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهو فى قعرها ولا ترى أبلغ من هذا الكلام، ولا أدل على حقيقة الباطل وكنه أمره» (98).
والترشيح عنده لا يكون استعارة، فاذا أجريت فيه الاستعارة، أخرجته من أن يكون ترشيحا، وهذا كلام مصيب، لأن المبالغة فى الترشيح لا تكون الا باعتبار حقيقته، التى تخيل الينا أن هناك اشتراء على الحقيقة، وأن هناك تأسيس بناء كما مر فى المثالين السابقين.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللََّهِ جَمِيعاً وَلََا تَفَرَّقُوا»} (99): «يجوز أن يكون الحبل استعارة للعهد، والاعتصام استعارة للوثوق بالعهد، أو هو ترشيح لاستعارة الحبل لما يناسبه» (100).
وحين أراد أن يبين طريقة التجريد ذكر الطريقين معا، وذكر ضرورة فهمهما، حتى لا ننكر ما يجيء عليهما من كلام العرب. يقول فى قوله تعالى: {«فَأَذََاقَهَا اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ»} (101): «فان قلت: الاذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟ والاذاقة المستعارة
__________
(97) التوبة: 109
(98) الكشاف ج 2ص 244
(99) آل عمران: 103
(100) الكشاف ج 1ص 302
(101) النحل: 112(1/504)
موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة ايقاعها؟ قلت: أما الاذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها فى البلايا والشدائد وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس، والضر، وأذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر البشع، وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشى الانسان والتبس به من بعض الحوادث، وأما ايقاع الاذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منها ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم فى نحو هذا طريقان لا بد من الاحاطة بهما، فان الاستنكار لا يقع الا لمن فقدهما، أحدهما أن ينظر فيه الى المستعار له كما نظر اليه هنا، ونحوه قول كثير:
غمر الرّداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذى هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء نظرا الى المستعار له.
والثانى أن ينظر فيه الى المستعار كقوله:
ينازعنى ردائى عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمر بن بكر
لى الشّطر الذى ملكت يمينى ... ودونك فاعتجر منه بشطر
أراد بردائه سيفه، ثم قال: فاعتجر منه بشطر، فنظر الى المستعار فى لفظ الاعتجار، ولو نظر اليه فيما نحن فيه لقيل: فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير: ضافى الرداء اذا تبسم ضاحكا» (102).
وقد اعترض على الزمخشرى فى بيت كثير، وذلك لأن الغمر يوصف به الرداء كما يوصف به العطاء مجازا فى كليهما وقد أشار
__________
(102) الكشاف ج 2ص 498، 499(1/505)
الزمخشرى الى هذا فى الأساس، فلا يصح أن يكون تجريدا لأنه ليس من أوصاف المستعار له فقط، بل هو من أوصافهما، وأجيب على هذا:
بأنه وان كان من أوصافهما الا أنه شاع فى النوال وهذا يكفى، وهناك اعتراضات أخرى لا نجد فى التعرض لها غناء وقد أحسن الشهاب حين قال: «وهذا المثال المستشهد به يشبه ما فى الآية فى أن التجريد ليس تجريدا محضا» (103).
الاستعارة اللفظية:
قد ذكر عبد القاهر الاستعارة غير المفيدة وسماها الاستعارة اللفظية، وذكر لها أمثلة، وحللها، وأشار الى أنها تجرى بين الأسماء التى تتحد أجناس مسمياتها، كالشفة، والجحفلة، والمشفر، والقدم، والحافر، والأظلاف، والأظافر، والتولب، والولد، والطلا، وما شابه ذلك مما يكون منشؤه اختصاص الاسم بما وضع له من طريق أريد به التوسع فى أوضاع اللغة والتّنوّق فى مراعاة دقائق فى الفروق فى المعانى المدلول عليها، ونبه أيضا الى أن هذه الدقائق فى الفروق قد تكون معتبرة فى هذا التصرف، فيكون استعارة مفيدة، كاطلاق المشفر على الشفة الغليظة فى مقام الذم، أو اطلاق الحافر على القدم بقصد التشبيه، وقد ذكرنا أن عبد القاهر رجع عن اطلاق اسم الاستعارة على هذا النوع من التصرف، وضن باسم الاستعارة عليه، وقال:
«واعلم أن الواجب ألا أعد وضع الشفة موضع الجحفلة، والجحفلة فى مكان المشفر ونظائره التى قدمت ذكرها فى الاستعارة وأضن باسمها أن يقع عليها ولكنى رأيتهم قد خلطوه بالاستعارة، وعدوه معدها، فكرهت التشدد فى الخلاف، واعتددت به فى الجملة ونبهت على ضعف أمره بأن سميته استعارة غير مفيدة» (104).
__________
(103) تنظر حاشية الشهاب ج 5ص 376.
(104) أسرار البلاغة ص 325(1/506)
ولعله يقصد بقوله: رأيتهم قد خلطوه بالاستعارة وعدوه معدها، قدامة ابن جعفر وابن قتيبة، فقد قدمت فى الفصل الأول من هذا الباب أنهما درسا شواهد عبد القاهر فى هذا النوع من الاستعارة.
والمهم أن نذكر هنا أن الزمخشرى قد ذكر هذه الاستعارة، ونبه الى أنها تدور بين أسماء هذه الأجناس، ولم يضف اليها شيئا، لأن صورها تصرف لفظى ليس وراءه اعتبارات بلاغية يراعيها المتكلم، فهى أشبه بالعمل اللغوى الخالى من الاعتبارات اللطيفة.
وكانت اشاراته اليها اشارات مجملة، من ذلك قوله فى قوله تعالى: {«فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ»} (105): «فان قلت: لم سمى الزحف على البطن مشيا؟ قلت: على سبيل الاستعارة، كما قالوا فى الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر، ونحوه استعارة الشفة مكان الجحفلة، والمشفر مكان الشفة، ونحو ذلك» (106).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً»} (107) بعد ما ذكر تفسير ابن عباس لها بالخيل، وانكار على رضى الله عنه عليه هذا التفسير، وقوله فى تفسيرها: انها الابل من عرفة الى المزدلفة، ومن المزدلفة الى منى، يقول بعد هذا: «فان صحت الرواية فقد استعير الضبح للابل كما استعير المشافر والحافر للانسان والشفتان للمهر».
وهذان النصان المذكوران ليس فيهما تصريح بأن هذه استعارة لفظية، أو استعارة غير مفيدة، ولكن تنظير الزمخشرى باستعارة الشفة مكان الجحفلة والمشفر مكان الشفة والحافر مكان القدم وقوله فى الأول:
ونحو ذلك، وفى الثانى: وما أشبه ذلك، ولم نعهده يذكر مثل هذه الألفاظ فى مواطن الاستعارة التى تعرض لها وهى كثيرة جدا. كل
__________
(105) النور: 45
(106) الكشاف ج 3ص 195.
(107) العاديات: 1(1/507)
ذلك يشير الى أنها استعارة تدور بين الأسماء التى تتحد أجناس مسمياتها، كما أنه لم يشر الى ابتنائها على التشبيه، ولا الى شىء من بلاغتها، حتى يمكن القول بأنها من النوع المفيد الذى روعى فيه التشبيه.
وقد صرح فى موطن آخر باصطلاح الاستعارة اللفظية، بأنها يمكن أن تحمل على الاستعارة المعنوية. يقول فى قوله تعالى: {«طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ»} (108): «والطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجر الزقوم من حملها اما استعارة لفظية أو معنوية» (109).
* * *العكس فى الكلام:
أشار الزمخشرى الى أن العكس فى الكلام مذهب واسع، وأن العرب كثيرا ما يضعون الشيء مكان غيره، ويدعون للشيء جنسا غير جنسه.
يقول فى قوله تعالى: {«فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ»} (110): «وأما {«فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ»} فمن العكس فى الكلام الذى يقصد به الاستهزاء الزائد فى غيظ المستهزأ به، وتألمه، واغتمامه، كما يقول الرجل لعدوه: بشر بقتل ذريتك، ونهب مالك، ومنه: «فأعتبوا بالصّيلم» (111).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَقََالُوا يََا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ»} (112):
«والتعكيس فى كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع، وقد جاء فى كتاب الله سبحانه وتعالى فى مواقع، منها: {«فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ}
__________
(108) الصافات: 65
(109) الكشاف ج 4ص 36
(110) آل عمران: 21
(111) الكشاف ج 1ص 79
(112) الحجر: 6(1/508)
{أَلِيمٍ»}، {«إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ»} (113) وقد يوجد كثيرا فى كلام العجم» (114).
وهذه صورة الاستعارة العنادية (التهكمية) كما ذهب الى ذلك السكاكى وغيره، ولست أجد لهذا النوع مذاق الاستعارة، ولست أستسيغ أيضا تكلف اجرائها فى هذه الأساليب، وأن طريقة الزمخشرى هذه التى تكتفى ببيان أصل هذه الطريقة، وأنها من العكس فى الكلام وأن القوم كثيرا ما يذهبون اليها، وهم ليسوا بدعا فى هذا، فان غيرهم من الأعاجم قد يعكس فى كلامه، لا شك أن هذه الطريقة خير من تكلف الاستعارة التى ينزل فيها التضاد منزلة التناسب.
وقد ذكر الدكتور شوقى ضيف أن من اضافات الزمخشرى فى علم البيان الاستعارة التى سميت بعده بالعناية، وذكر الآية وغيرها، وظن أن كلام الزمخشرى هذا يفيد أن العكس من باب الاستعارة، وليس فى كلامه ما يدل على هذا، بل اننى تتبعت كلامه فى هذه الصور، وهو كثير لأتأكد من أنه لم يحم بهذا الفن حول الاستعارة، واكتفى بأن جعله من العكس فى الكلام، وجعل من هذا الباب أيضا الأساليب التى سماها المتأخرون التنويع.
يقول فى قوله تعالى: {«وَمََا كََانَ صَلََاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلََّا مُكََاءً وَتَصْدِيَةً»} (115): «فان قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو قوله:
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة حمرا
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة» (116).
ويقول فى قوله تعالى: {«يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ. إِلََّا مَنْ أَتَى}
__________
(113) هود: 87
(114) الكشاف ج 1ص 444
(115) الأنفال: 35
(116) الكشاف ج 2ص 170(1/509)
{اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»} (117): «هو من قولهم: تحية بيتهم ضرب وجيع، وما ثوابه الا السيف، وبيانه أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول:
ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفى المال والبنين عنه، واثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك» (118).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَالْبََاقِيََاتُ الصََّالِحََاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوََاباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا»} (119): «فان قلت: كيف قيل «خير ثوابا» كأن لمفاخرتهم ثوابا حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟ قلت: كأنه قيل ثوابهم النار، على طريقة قولهم فأعتبوا بالصيلم، وقوله:
شجعاء جرّتها الزميل تلوكه ... أصلا إذا راح المطىّ غراثا
وقوله: تحية بيتهم ضرب وجيع، ثم بنى عليه {«خَيْرٌ ثَوََاباً»}، وفيه ضرب من التهكم الذى هو أغيظ للمستهزىء من أن يقال له: عقابك النار» (120).
وقد سهل على المتأخرين أن يعتبروا بعض هذه الصور من الاستعارة العنادية، وصعب عليهم أن يجدوا لبعضها وجها من وجوه البيان، اذ استعصى التشبيه والاستعارة على مثل: فأعتبوا بالصيلم، وقال الشهاب فى هذا النوع الذى صعب عليهم تكلف التشبيه والاستعارة فيه، قال:
«وفيه تسكب العبرات» إشارة الى صعوبة تخريجه، واختلاف آراء القوم فيه، وقد كان عبد القاهر من خير من درسوا هذا النوع، وبين خطأ حمله على الاستعارة، ويقول الشهاب فى هذا: «وليس الشيخ يعنى عبد القاهر أبا عذرته، فانه مصرح به فى باب الاستثناء من كتاب سيبويه، وقد نبه عليه السكاكى أيضا فى قسم الاستدلال، وفصله العلامة الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى: {«يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ»} (121).
__________
(117) الشعراء: 88، 89
(118) الكشاف ج 3ص 252
(119) مريم: 76
(120) الكشاف ج 2ص 39
(121) حاشية الشهاب ج 2ص 6260(1/510)
ويقول أيضا: «وهذا نوع من خلاف مقتضى الظاهر، يقال له التنويع، وهو ادعاء أن للمسمى نوعين: متعارف، وغير متعارف، على طريق التخييل ويجرى فى مواطن شتى».
وهذا التنويع كما قلت هو العكس الذى ذكره الزمخشرى لأن أمثلة العكس تصلح كلها للتنويع، بل هى أهم نوع فيه، والذى اذا أطلق التنويع انصرف اليه، يقول الشهاب: «وأهم نوع فى التنويع هو أن ينزل ما يقع فى موقع شىء بدلا عنه منزلته بلا تشبيه، ولا استعارة، كما فى الاستثناء المنقطع، وما يضاهيه، سواء أكان بطريق الحمل، كما فى قوله: تحية بيتهم ضرب وجيع، أو بدونه كما فى قولهم: فأعتبوا بالصيلم، وحيث أطلق التنويع فالمراد به هذا» (122).
فباب العكس كما يتصوره الزمخشرى يشمل الاستعارة العنادية، والتنويع، فهو اذن لم يضف الاستعارة العنادية، كما ذكر الأستاذ الدكتور شوقى ضيف، وان كان يقصد أن الزمخشرى درس صورها فليس هو أول من درس صور الاستعارة العنادية أعنى أمثلتها بل ان عبد القاهر تحدث كثيرا عن استعارة الحى للميت الذى بقى فى الناس ذكره، واستعارة الميت للحى الذى لا نفع فيه، وذكر أن من المعروف المتمكن فى العادات أن ينزل الوجود منزلة العدم اذا أريد المبالغة فى حط الشيء والوضع منه، وله فى هذا كلام كثير (123).
التمثيل:
قلنا: ان الزمخشرى قسم المجاز الى استعارة، وتمثيل، وذكرنا من نصوص كلامه ما يدل على هذا، واتفقنا مع شراحه على أنه يراد
__________
(122) نفس المرجع وانظر مذكرة فى البيان للمرحوم الشيخ سليمان نوار ص 125.
(123) انظر أسرار البلاغة ص 5952.(1/511)
بالتمثيل فيما ذكر صورة الاستعارة التى سماها المتأخرون استعارة تمثيلية. والآن نقول: هل حافظ الزمخشرى على هذا المدلول الاصطلاحى الذى حدده لكلمة التمثيل، والذى جعله قسيما للاستعارة، فيكون بهذا قد خالفه المتأخرون فى شىء، ووافقوه فى آخر، خالفوه حين جعلوا التمثيل قسما من الاستعارة، وقد جعله هو قسيما لها، ووافقوه حين سموا الاستعارة المركبة تمثيلا، أم أن الزمخشرى خالف هذا المصطلح الذى حدده هو وأطلق كلمة التمثيل على غير صورة الاستعارة المركبة؟
1 - يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«كَأَنَّهُمْ جَرََادٌ مُنْتَشِرٌ»} (124): «الجراد مثل فى الكثرة والتموج، يقال فى الجيش الكثير المائج بعضه فى بعض: جاءوا كالجراد» (125).
2 - ويقول فى قوله تعالى: {«وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ»} (126): «ضرب الأعمى والبصير مثلا للمحسن والمسيء» (127).
ويقول فى قوله تعالى: {«فَلَوْلََا كََانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ»} (128): «أولوا فضل وخير، وسمى الفضل والجودة «بقية» لأن الرجل يستبقى مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلا فى الجودة والفضل، يقال: فلان من بقية القوم، أى من خيرهم، ومنه فسر بيت الحماسة:
* أن تذنبوا ثم يأتينى بقيّتكم
ومنه قولهم: «فى الزوايا خبايا وفى الرجال بقايا» (129).
__________
(124) القمر: 7
(125) الكشاف ج 4ص 344
(126) فاطر: 19
(127) هود: 116
(128) الكشاف ج 4ص 136
(129) الكشاف ج 1ص 341.(1/512)
3 - ويقول فى قوله تعالى: {«وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ»} (130):
«هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك اليك، فترك النطق بذلك وقطع الاغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم، وذوق صحيح، الا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة، والا فما لقراءة معاوية بن قرة: «ولما سكن عن موسى الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة وطرفا من تلك الروعة» (131).
قال الشهاب معلقا على هذا الكلام: «يعنى أنه شبه الغضب بشخص أمّرناه، فهو استعارة مكنية وأثبت له السكوت على طريق التخييل» (132).
4 - ويقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذََابِ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مََا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ»} (133): «وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم الى النجاة بوجه» (134).
قال الشهاب: قال القطب: «أى كناية عن لزوم العذاب، فان لزوم العذاب من لوازمه أن ما فى الأرض جميعا ومثله معه لو افتدى به منه لم يتقبل منهم ولعل التمثيل يطلق على الكناية اذا كانت بالتمثيل، وقال: التحرير لا يريد الاستعارة التمثيلية، بل ايراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم» (135).
5 - ويذكر التمثيل بالأفعال والحركات فى قصة داود عليه السلام مع الخصمين اللذين بغى بعضهما على بعض، وينبه الى أهمية هذا
__________
(130) الأعراف: 154
(131) الكشاف ج 2ص 128
(132) حاشية الشهاب ج 4ص 222.
(133) المائدة: 36
(134) الكشاف ج 1ص 488
(135) الكشاف ج 3ص 240(1/513)
النوع من التمثيل. والى ما له من ايحاء قوى، وتأثير بالغ، فى التوجيه والتهذيب، وينبه الى الأثر القوى فى تصوير المعانى فى مشاهد متحركة، أو بين أشخاص تتحاور وتتجادل والحقيقة المرادة وراء هذا التحاور، يشف عنها كأنه غشاء رقيق، وينبه الى وجوب أن يكون فى المشهد التمثيلى رمز يشير الى الغرض الذى يدور حوله هذا المشهد، يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«وَهَلْ أَتََاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرََابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى ََ دََاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قََالُوا لََا تَخَفْ، خَصْمََانِ بَغى ََ بَعْضُنََا عَلى ََ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنََا بِالْحَقِّ وَلََا تُشْطِطْ وَاهْدِنََا إِلى ََ سَوََاءِ الصِّرََاطِ. إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ فَقََالَ أَكْفِلْنِيهََا وَعَزَّنِي فِي الْخِطََابِ، قََالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤََالِ نَعْجَتِكَ إِلى ََ نِعََاجِهِ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطََاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَقَلِيلٌ مََا هُمْ، وَظَنَّ دََاوُدُ أَنَّمََا فَتَنََّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رََاكِعاً وَأَنََابَ»} (136).
يقول: «فان قلت: ما معنى ذكر النعجة؟ قلت: كان تحاكمهم فى نفسه تمثيلا، ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا مع داود، بقصة رجل له نعجة واحدة، ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع فى نعجة خليطه، وأراده على الخروج من ملكها اليه، وحاجه فى ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، والدليل عليه قوله: {«وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطََاءِ»}، وانما خص هذه القصة لما فيها من الرمز الى الغرض بذكر النعجة» (137).
ويقول: «فان قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ فى التوبيخ، من قبل أن التأمل اذا أداه الى الشعور بالمعرض به كان أوقع فى نفسه، وأشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى الى التنبه على
__________
(136) سورة ص: 2421
(137) الكشاف ج 4ص 64.(1/514)
الخطأ فيه من أن يبادره به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة، ألا ترى الى الحكماء وكيف أوصوا فى سياسة الولد اذا وجدت منه هنة منكرة أن يعرض له بانكارها عليه ولا يصرح، وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله اذا تأملها استسمج صاحب الحكاية، فاستسمج حال نفسه، وذلك أزجر له لأنه ينصب ذلك مثالا لحالته، ومقياسا لشأنه، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة، فان قلت: فلم كان ذلك على وجه التحاكم اليه؟ قلت: ليحكم بما حكم به من قوله: {«لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤََالِ نَعْجَتِكَ إِلى ََ نِعََاجِهِ»}، حتى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه» (138).
وهذا التحليل يتناول التمثيل الذى هو فن الحركة والأداء، يقول سعد الدين فى شرحه للكشاف: «كان تحاكمهم فى نفسه تمثيلا، يعنى أنه فى الأفعال بمنزلة الاستعارة التمثيلية فى الأقوال، حيث لم يكن المقصود من تحاكمهم ما هو ظاهر الحال» (139).
6 - ويقول فى قوله تعالى: {«قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ»} (140): «وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة فى نفى الولد، والاطناب فيه، وألا يترك الناطق به شبهة الا مضمحلة، مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم فى باب التوحيد ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له: أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى: لو عرفت أن ذلك اليك ما عبدت الها غيرك» (141).
ومن غير ريب أن التمثيل فى هذه الأنواع التى ذكرناها ليس تمثيلا بالمعنى الاصطلاحى الذى حدده الزمخشرى، وجعله قسما من المجاز،
__________
(138) الكشاف ج 4ص 63.
(139) شرح الكشاف للعلامة سعد الدين ورقة 37مخطوط.
(140) الزخرف: 81
(141) الكشاف ج 3ص 209(1/515)
وقسيم الاستعارة، وانما هو فى النوع الأول تشبيه، وفى الثانى من الاستعارة فى المفرد، وفى الثالث من الاستعارة بالكناية، وفى الرابع من الكناية، وفى الخامس من التمثيل بالأفعال، وفى السادس من الكلام الوارد على سبيل الفرض وهو من الحقيقة المفروضة.
والزمخشرى يتساهل فى استعمال المصطلحات العلمية التى حدد مدلولها، ومرجع هذا الى ميله للمعنى اللغوى الذى يعدل به كثيرا عن الاصطلاح المحدد، أما صور التمثيل الذى هو قسيم الاستعارة فى اصطلاحه فقد أشار اليه فى مواضع كثيرة.
يقول فى قوله تعالى: {«وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً»} (142): «ليس هاهنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثلث حال هؤلاء وأعمالهم التى عملوها فى كفرهم من صلة رحم، واغاثة ملهوف، وقرى ضيف، ومنّ على أسير، وغير ذلك من مكارمهم، ومحاسنهم، بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم الى أشيائهم، وقصد الى ما تحت أيديهم، فأفسدها ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا» (143).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا»} (144):
«فان قلت: ما معنى اسناد المجيء الى الله والحركة والانتقال انما يجوزان على من كان فى جهة؟ قلت: هو تمثيل لظهور آيات اقتداره، وتبين آثار قهره، وسلطانه، مثلت حاله فى ذلك بحال ملك اذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة، والسياسة، ما لا يظهر بحضور عساكره كلها، ووزرائه، وخواصه عن بكرة أبيهم» (145).
ويشرح صورة المثل فى ضوء صور الحياة التى هى منبع هذا التصوير، ومن الواضح أن صور البيان جزء من حياة العرب ترمز كل
__________
(142) الفرقان: 23
(143) الكشاف ج 3ص 216
(144) الفجر: 22
(145) الكشاف ج 4ص 600(1/516)
واحدة منها الى شىء فى حياتهم الواقعية، أو النفسية، وليس هذا محتاجا الى بيان. والمهم هو أن نقول: ان ربط التعبير البيانى بحياة القوم وعاداتهم، وما فى بيئاتهم من الصور، والأحداث، أمر عنى به الزمخشرى وأشار اليه، حين ذكر أصول هذه الصور وهى جزء من الحياة فى بيئتهم قبل أن تكون بيانا فى لغتهم.
يقول فى قوله تعالى: {«يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ»} (146): «الكشف عن الساق والابداء عن الخدام مثل فى شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله فى الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن فى الهرب، وابداء خدامهن عند ذلك.
قال حاتم:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها
وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
وقال ابن الرقيات:
تذهل الشّيخ عن بنيه وتبدى ... عن خدام العقيلة العذراء
فمعنى {«يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ»} فى معنى: يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثمة ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم، ولا غل، وانما هو مثل فى البخل، وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره فى علم البيان» (147).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَاخْفِضْ لَهُمََا جَنََاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»} (148):
الطائر اذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، واذا أراد
__________
(146) القلم: 42
(147) الكشاف ج 4ص 475
(148) الاسراء: 24(1/517)
أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا فى التواضع، ولين الجانب، ومنه قول بعضهم:
وأنت الشّهير بخفض الجناح ... فلا تك فى رفعه أجدلا
ينهاه عن التكبر بعد التواضع» (149).
ويبين قيمة التصوير الحسى للمعانى الذهنية الاستدلالية، وكيف يكون هذا التصوير أدعى للاعتقاد والتيقن، يقول فى قوله تعالى:
{«وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللََّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ََ»} (150): «بالعروة الوثقى: من الحبل الوثيق المحكم المأمون انفصالها. أى انقطاعها، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر اليه بعينيه، فيحكم اعتقاده والتيقن به» (151).
والكلام اذا جرى على سنن الحقيقة وخلا من فائدة هذا التصوير البيانى يسميه الزمخشرى كلاما عريانا.
يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ»} (152): «وحقيقة قولهم: جلس بين يدى فلان، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه، فسميت الجهتان «يدين» لكونهما على سمت اليدين، مع القرب منهما توسعا كما يسمى الشيء باسم غيره اذا جاوزه وداناه فى غير موضع، وقد جرت هذه العبارة هنا على سنن ضرب من المجاز هو الذى يسميه أهل البيان تمثيلا، ولجريانها هكذا فائدة ليست فى الكلام العريان، وهى تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عن الاقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة» (153).
__________
(149) الكشاف ج 3ص 268
(150) لقمان: 22
(151) الكشاف ج 1ص 233
(152) الحجرات: 1
(153) الكشاف ج 4ص 277(1/518)
وحين يعارض ظاهر النص مبدءا من مبادئ المعتزلة يصرفه الزمخشرى عن ظاهره، فيلجأ أحيانا الى طريقة التمثيل، ويحمل الكلام عليها، من ذلك قوله فى قوله تعالى: {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ»} (154) وقد مر بيان وجه المجاز فى هذا الأسلوب، وأنه يحتمل أن يكون من الاستعارة، وأن يكون من التمثيل، وقد ذكرت ذلك، ولكنه نظر فوجد الختم مسندا الى الله سبحانه، فبحث عن وجه يصرف به الكلام عن ظاهره، لأن الله منزه عن فعل القبيح، يقول فى ذلك: «فان قلت: لم أسند الختم الى الله تعالى واسناده اليه يدل على المنع من قبول الحق، والتوصل اليه بطرقه، وهو قبيح، والله يتعالى عن فعل القبيح علوا كبيرا لعلمه بقبحه، وعلمه بغناه عنه، وقد نص على تنزيهه ذاته بقوله: {«وَمََا أَنَا بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ»} (155)، {«وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا هُمُ الظََّالِمِينَ»} (156)، {«إِنَّ اللََّهَ لََا يَأْمُرُ بِالْفَحْشََاءِ»} (157)
ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ ويجوز أن يضرب الجملة كما هى {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ»} مثلا، كقولهم: «سال به الوادى»، اذا هلك، و «طارت به العنقاء» اذا أطال الغيبة، وليس للوادى ولا للعنقاء عمل فى هلاكه، ولا فى طول غيبته، وانما هو تمثيل، مثلت حاله فى هلاكه بحال من سال به الوادى، وفى طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافى عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الأغنام التى هى فى خلوها عن الفطن كقلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها لا تعى شيئا ولا تفقهه، وليس له عز وجل فعل فى تجافيها عن الحق ونبوها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك» (158).
__________
(154) البقرة: 7
(155) سورة ق: 29
(156) الزخرف: 76
(157) الأعراف: 28
(158) الكشاف ج 1ص 39.(1/519)
التمثيل والتخييل:
يذكر الزمخشرى التمثيل والتخييل وكأنه لا يفرق بينهما فى كثير من المواضع، يقول فى قوله تعالى: {«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قََالُوا بَلى ََ»} (159):
«من باب التخييل والتمثيل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته، ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم، وبصائرهم، التى ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلال والهدى فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وأفردهم، وقال لهم: {«أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ»}؟: وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع فى كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفى كلام العرب، ونظيره قوله تعالى: {«إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»} (160)، {«فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ»} (161) وقوله:
اذ قالت الأنساع للبطن الحق ... وقالت له ريح الصبا قرقار
ومعلوم أنه لا قول ثم وانما هو تمثيل وتصوير للمعنى» (162).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ»} (163):
«لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو الا تصوير لعظمته، وتخييل فقط، ولا كرسى ثمة ولا قعود ولا قاعد، كقوله:
{«وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ»} (164)، من غير تصوير قبضة وطى ويمين، وانما هو تخييل لعظمة شأنه، وتمثيل حسى، ألا ترى الى قوله تعالى:
{«وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»} (165).
__________
(159) الأعراف: 172
(160) النحل: 40
(161) فصلت: 11
(162) الكشاف ج 2ص 137
(163) البقرة: 255
(164) الزمر: 67
(165) الكشاف ج 1ص 229.(1/520)
ويقول: «كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، صنم كل قوم بحيالهم، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانت لقبائل العرب يحجون اليها، وينحرون لها فشكا البيت الى الله عز وجل فقال: أى ربى، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولى دونك؟ فأوحى الله الى البيت: «انى سأحدث لك نوبة جديدة فأملأك خدودا سجدا، يدفون اليك دفيف النسور، ويحنون اليك حنين الطير الى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية» وشكاية البيت والوحى اليه تمثيل وتخييل» (166).
واذا كنا نجده لا يفرق بينهما فى هذه النصوص التى ذكرناها وغيرها كثير فانا نراه أحيانا يفرق بينهما ويجعل الكلام اما من التمثيل، أو من التخييل، ومن ذلك قوله فى قوله تعالى: {«فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ»} (167): «ومعنى أمر السماء والأرض بالاتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وكانتا فى ذلك كالمأمور المطيع اذا ورد عليه فعل الأمر المطاع، وهو من المجاز الذى يسمى التمثيل، ويجوز أن يكون تخييلا، ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: ائتيا على الطوع لا على الكره، والغرض تصوير أثر قدرته فى المقدورات لا غير من غير أن يحقق شىء من الخطاب والجواب، ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقنى؟ قال الوتد: اسأل من يدقنى فلم يتركنى ورائى الحجر الذى ورائى» (168).
ونلاحظ أن هذه الآية التى جعلها من قبيل التمثيل أو من قبيل التخييل قد ذكرها مثالا للتمثيل والتخييل فى النصوص التى أوردناها وقلنا انه يذكر التمثيل والتخييل وكأنه لا يفرق بينهما، كما نلاحظ فرقا بين تحليل الأسلوب على طريقة التمثيل فى هذا الموضع وبين تحليله على طريقة التخييل، فطريقة التمثيل هى طريقة الاستعارة التمثيلية فى
__________
(166) الكشاف ج 2ص 537
(167) فصلت: 11
(168) الكشاف ج 4ص 148.(1/521)
مفهوم المتأخرين أما طريقة التخييل فهى أقرب الى فرض الأشياء وتخيلها كالمحاورة بين الجدار والوتد، ونداء الأرض واجابتها، ومقاولة جهنم، وشكاية البيت، والوحى اليه، وقد يكون منه القصص على ألسنة الحيوان، فهو باب الخيال الطليق الحر، الذى يبعد فى التحليق عن الخيال المحدود فى صور الاستعارة، وقد لحظ هذا بعض القدامى، قال الشهاب تعليقا على قول البيضاوى الملخص من كلام الكشاف فى قوله تعالى: {«وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ»} (169): «والمراد بالتخييل ما يقابل التصديق كما فى قولهم: الناس للتخييل أطوع منهم للتصديق، وهو ما سلف من المقدمات المتخيلة، لا تخييل الاستعارة بالكناية، كما يوهمه تشبيهه بقولهم: شابت لمة الليل، فما قيل فى كتب القوم ان القياسات الشعرية وان أفادت الترغيب والترهيب لا ينبغى للنبى صلّى الله عليه وسلم لأن مدارها على الكذب، ولذا قيل: أعذبه أكذبه» (انتهى كلام الشهاب).
والزمخشرى ينبه الى أن التمثيل كما يكون بالأمور المحققة يكون كذلك بالأمور المتخيلة المفروضة، وقد سبق أن ذكر فى التشبيه نوعا سماه التشبيه التخييلى، وقلنا انه يقصد به ما كان المشبه به فيه خياليا محضا ك: «رءوس الشياطين» ولعله أراد هنا التمثيل التخييلى أى ما تكون صورة المشبه به المستعارة خيالية مفروضة.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهََا وَأَشْفَقْنَ مِنْهََا»} (170): «والثانى أن ما كلفه الانسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به، وأشفق منه، وحمله الانسان على ضعفه ورخاوة قوته {«إِنَّهُ كََانَ ظَلُوماً جَهُولًا»}، حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها
__________
(169) الزمر: 67
(170) الأحزاب: 72(1/522)
ثم خاس بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير فى لسان العرب وما جاء القرآن الا على طرقهم، وأساليبهم، من ذلك قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أسوى العوج، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات، وتصور مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن فى الحيوان مما يحسن قبيحه كما أن العجف مما يقبح حسنه فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع فى نفس السامع وهى به آنس، وله أقبل وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها، وثقل محملها، والوفاء بها، فان قلت: قد علم وجه التمثيل فى قولهم للذى لا يثبت على رأى واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حاله فى تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضى على أحدهما بحال من يتردد فى ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى فى وجهه وكل واحد من الممثل والممثل به شىء مستقيم داخل تحت الصحة، والمعرفة، وليس كذلك ما فى هذه الآية فان عرض الأمانة على الجماد، وإباءه واشفاقه، محال فى نفسه غير مستقيم فكيف صح بناء التمثيل على المحال، وما مثال هذا الا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول؟ قلت: الممثل به فى الآية، وفى قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب، وفى نظائره، مفروض، والمفروضات تتخيل فى الذهن كما فى المحققات، مثلت حال التكليف فى صعوبته وثقل محمله، بحاله المفروضة، لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها» (171).
ويقول الشهاب معلقا على هذا: «ومنه ظهر أن التخييل تمثيل خاص والتصوير لا ينافى كونه تمثيلا وهذا أبسط موضع حقق المصنف فيه التمثيل فليحذ على مثاله» (172).
ويلخص الشهاب استعمالات التخييل، فيقول: «التخييل له استعمالات كما ذكره الشريف فى حواشى شرح المفتاح حيث قال: انه يطلق
__________
(171) الكشاف ج 3ص 446.
(172) حاشية الشهاب ج 7ص 187.(1/523)
على التمثيل بالأمور المفروضة وعلى فرض المعانى الحقيقية وعلى قرينة الاستعارة المكنية» (173).
ويقول فى موطن آخر: «فالتخييل له ثلاث معان: التمثيل بالأمور المفروضة، وفرض المعانى الحقيقية، وقرينة المكنية» (174).
ويذكر التمثيل التخييلى فيقول: «والتخييل نوع من التمثيل، الا أنه تمثيل خاص يكون المشبه به فيه أمرا مفروضا ثم ان كان الممثل بجميع أجزائه مفروضا كما نحن فيه وكقولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أسوى العوج، فهو التمثيل التخييلى، والا فهو الاستعارة التمثيلية أو التابعة للاستعارة بالكناية، واسم التمثيل يقع عليها» (175).
وقد يطلق التخييل على بعض صور حسن التعليل، يقول الزمخشرى فى حديث: «ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان اياه، الا مريم وابنها» يقول: الله أعلم بصحته، واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير، لطمعه فيه كأنما يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومى:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد (176)
وقد يطلق على ما ليس من صور البيان وانما هو من الحقائق المفروضة، يقول فى قوله تعالى: {«لََا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوََادُّونَ مَنْ حَادَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ»} (177): «من باب التخييل، خيل أن من
__________
(173) حاشية الشهاب ج 6ص 30.
(174) حاشية الشهاب ج 7ص 351
(175) حاشية الشهاب ج 2ص 335
(176) الكشاف ج 1ص 274
(177) المجادلة: 22(1/524)
الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين، والغرض به أنه لا ينبغى أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة فى النهى عنه، والزجر عن ملابسته» (178).
ولعل اطلاقه على مثل هذا النوع هو المراد بقول الشهاب: انه يطلق على فرض المعانى الحقيقية.
وتراه حين يذكر طريقة التخييل يرشد القارئ الى أخذ الزبدة من الكلام واستشعار ما يوحى به من المعانى، غير ملتفت الى ما عليه حال المفرد من الحقيقة والمجاز، وانما تصرف همك كله الى ما وراء هذا التصوير من غرض يساق له الكلام، وهذا تفكير جيد فى فهم التصوير البيانى جعله الزمخشرى أدق وألطف أبواب علم البيان، وأنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات.
يقول فى قوله تعالى: {«وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ»} (179): «ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه، على طريقة التخييل، فقال: {«وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ»} والغرض من هذا الكلام اذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه، تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين الى جهة حقيقة، أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى أن جبريل جاء الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، ان الله يمسك السموات والأرض يوم القيامة على اصبع، والجبال على اصبع، وسائر الخلق على اصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم تعجبا مما قال ثم قرأ تصديقا له: {«وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»} وانما ضحك أفصح العرب صلّى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه الا ما يفهم علماء البيان من غير تصور امساك ولا اصبع
__________
(178) الكشاف ج 4ص 396
(179) الزمر: 67(1/525)
ولا هزولا شىء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شىء وآخره على الزبدة والخلاصة التى هى الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التى تتحير فيها الأفهام والأذهان، ولا تكتنهها الأوهام، هينة عليه هوانا لا يوصل السامع الى الوقوف عليه الا اجراء العبارة فى مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابا فى علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى فى القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فان أكثره وعليته تخيلات قد زلت فيها الأقدام قديما، وما أتى الزالون الا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير حتى يعلموا أن فى عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره لما خفى عليهم أن العلوم كلها مفتقرة اليه، وعيال عليه، اذ لا يحل عقدها المورية، ولا يفك قيودها المكربة، الا هو، وكم آية من آيات التنزيل، وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة والوجوه الرثة، لأن من تأول ليس من هذا العلم فى عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير» (180).
وقد أطلق ابن السبكى على هذه الطريقة طريقة الاستعارة بالتخييل، وفسر المجاز فى قول الزمخشرى: «من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين الى جهة حقيقة، أو جهة مجاز» بالمجاز المرسل، ثم ذكر كلام الزمخشرى الذى أثبتناه مع شىء من التصرف ثم قال: هذه نبذة من كلام الزمخشرى ذكرتها لحسنها (181).
ولا وجه لابن السبكى فى تحديد المجاز فى قول الزمخشرى: «من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين الى جهة حقيقة، أو جهة مجاز» بالمجاز
__________
(180) الكشاف ج 4ص 110، 111.
(181) ينظر عروس الأفراح ص 35وما بعدها ج 4ضمن شروح التلخيص.(1/526)
المرسل، لأنه ليس فى كلام الزمخشرى ما يشير الى هذا التخصيص، بل ان تخصيص المجاز هنا بالمجاز المرسل بعد عن مراد الزمخشرى، لأن الذى يفهم من كلامه أنه فى حال التجوز بالصورة المركبة لا توصف المفردات بالحقيقة أو المجاز مطلقا، لأن المفردات تصبح كأنها حروف فى الكلمة المفردة، وهذا أثر من آثار المزج بين المفردات فى الاستعارة المركبة، فلا ينظر فيها الى المفردات الا من جهة مشاركتها فى تكوين الصورة.
المجاز المرسل:
لا أعرف أحدا ذكر هذا الاصطلاح لهذا اللون من التجوز قبل أبى يعقوب يوسف السكاكى، وان كان عبد القاهر فرّق بين صوره وصور الاستعارة وأطلق الاستعارة اللفظية غير المفيدة على ما كان التجوّز فيه مبنيا على علاقة التقييد والاطلاق، كاطلاق المشفر على الشفة، من غير نظر الى تشبيه، ثم ضن بهذا الاسم على هذا التجوّز كما ذكرنا، وأنكر على ابن دريد ذكر قولهم: رعينا الغيث. وتسميتهم الهودج والبعير ظعينة، وغير ذلك مما ليس طريق نقله التشبيه، أنكر عليه ذكر هذا ونحوه ضربا من ضروب الاستعارة، وذكر أنه لم يراع عرف القوم كغيره من اللغويين (182).
أما الزمخشرى فقد ذكر أنواعا من العلاقات، وفرّق أيضا بين صوره وصور الاستعارة حيث يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبََارِ وَالرُّهْبََانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوََالَ النََّاسِ بِالْبََاطِلِ»} (183):
«معنى أكل الأموال على وجهين: اما أن يستعار الأكل للأخذ، ألا ترى
__________
(182) ينظر أسرار البلاغة ص 2920، 325316.
(183) التوبة: 34(1/527)
الى قولهم: أخذ الطعام وتناوله، واما على أن الأموال يؤكل بها فهى سبب للأكل، ومنه قوله:
إنّ لنا أحمرة عجافا ... يأكلن كلّ ليلة إكافا
يريد علفا يشترى بثمن اكاف.
وتردد التجوز بين نوعين يعنى الفرق بينهما، على أن الزمخشرى ذكر صورا منه وسماها الاستعارة اللفظية كما فعل عبد القاهر، وقد أشرنا الى ذلك.
أما علاقات المجاز المرسل، فقد ذكر الزمخشرى منها:
1 - علاقة السببية: أعنى اطلاق المسبب وإرادة السبب، واطلاق السبب وإرادة المسبب، أما اطلاق المسبب وإرادة السبب فقد ذكرها فى مواطن كثيرة منها قوله فى قوله تعالى: {«رَبَّنََا لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا»} (184): «فان قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت: ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه من التفريط والاغفال، ألا ترى الى قوله:
{«وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلَّا الشَّيْطََانُ»} (185) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان وانما يوسوس فتكون وسوسته سببا للتفريط الذى منه النسيان» (186).
ويقول فى قوله تعالى: {«إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»} (187): {«إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ»} كقوله: {«فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ»} (188)، وكقولك: اذا ضربت فلانا فهوّن عليه، فى أن المراد إرادة الفعل، فان قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟
قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه، وارادته له، وهو قصده اليه، وميله، وخلوص داعيه، كما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل
__________
(184) البقرة: 286
(185) الكهف: 63
(186) الكشاف ج 1ص 254.
(187) المائدة: 6
(188) النحل: 98(1/528)
فى قولهم: الانسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أى لا يقدران على الطير والابصار، ومنه قوله تعالى: {«وَعْداً عَلَيْنََا، إِنََّا كُنََّا فََاعِلِينَ»} (189)، يعنى: انا كنا قادرين على الاعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، لأن الفعل مسبب عن القدرة، والارادة، فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما ولا يجاز الكلام، ونحوه من اقامة المسبب مقام السبب، قولهم: كما تدين تدان، عبر عن الفعل المبتدأ الذى هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذى هو مسبب عنه» (190).
وأما اطلاق السبب وإرادة المسبب، فكقوله تعالى: {«ذََلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَوْلَ الْحَقِّ»} (191)، يقول: «وانما قيل لعيسى «كلمة الله» و «قول الحق» لأنه لم يولد الا بكلمة الله وحدها، وهى قوله «كن من غير واسطة أب» تسمية للمسبب باسم السبب كما سمى العشب بالسماء والشحم بالندى» (192).
ويقول الزمخشرى: «وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما» (193).
2 - وقد ذكر منها اطلاق الكل وإرادة البعض:
يقول فى قوله تعالى: {«الْحَجُّ أَشْهُرٌ»} (194): «فان قلت:
كيف كان الشهران وبعض الثالث أشهرا؟ وقيل: نزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان» (195)
ويذكر القيمة البلاغية لهذا التجوّز أو لهذه العلاقة، فيقول فى قوله تعالى: {«يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ»} (196): «فان قلت: رأس الأصبع هو الذى يجعل فى الأذن فهلا قيل «أناملهم»؟ قلت: هذا من
__________
(189) الأنبياء: 104
(190) الكشاف ج 1ص 473
(191) مريم: 34
(192) الكشاف ج 3ص 12
(193) الكشاف ج 1ص 249
(194) البقرة: 197
(195) الكشاف ج 1ص 183
(196) البقرة: 19(1/529)
الاتساعات فى اللغة التى لا يكاد الحاصر يحصرها، كقوله: {«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ»} (197)، {«فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا»} (198) أراد للبعض الذى هو المرفق، والذى الى الرسغ، وأيضا ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس فى ذكر الأنامل» (199).
3 - ويذكر اطلاق الجزء وإرادة الكل:
يقول فى قوله تعالى: {«وَقُرْآنَ الْفَجْرِ»} (200): «صلاة الفجر، سميت قرآنا وهى القراءة لأنها ركن، كما سميت ركوعا وسجودا وقنوتا» (201)
ويقول فى قوله تعالى: {«فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»} (202): «والرقبة عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس فى قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق» (203)
4 - ويذكر تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه:
يقول فى قوله تعالى: {«وَآتُوا الْيَتََامى ََ أَمْوََالَهُمْ»} (204): «فان قلت:
فما معنى قوله: {«وَآتُوا الْيَتََامى ََ أَمْوََالَهُمْ»}؟ قلت: اما أن يراد باليتامى الصغار، وباتيانهم الأموال ألا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته واما أن يراد الكبار تسمية لهم يتامى على القياس، أو لقرب عهدهم اذا بلغوا بالصغر، كما نسمى الناقة عشراء بعد وضعها، على أن فيه إشارة الى أنه لا يؤخر دفع أموالهم اليهم عن حد البلوغ، ولا يمطلوا ان أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى» (205)
__________
(197) المائدة: 6
(198) المائدة: 38
(199) الكشاف ج 1ص 64
(200) الاسراء: 78
(201) الكشاف ج 2ص 535
(202) النساء: 92
(203) الكشاف ج 1ص 426
(204) النساء: 2
(205) الكشاف ج 1ص 357(1/530)
5 - ويذكر تسمية الشيء بما يؤول اليه:
يقول فى قوله تعالى: {«إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً»} (206): «يعنى عنبا. تسمية للعنب بما يؤول اليه» (207)
6 - ويذكر تسمية الشيء بما يجاوره:
يقول فى قوله تعالى: {«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقََاءِ اللََّهِ، حَتََّى إِذََا جََاءَتْهُمُ السََّاعَةُ بَغْتَةً»} (208): «حتى: غاية ل «كذبوا» لا ل «خسروا»، لأن خسرانهم لا غاية له، أى ما زال بهم التكذيب الى حسرتهم وقت مجىء الساعة، فان قلت: أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت: لما كان الموت وقوعا فى أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمى باسمها.
ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته» (209)
7 - ويذكر تسمية الشيء باسم آلته:
يقول فى قوله تعالى: {«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ»} (210): {«قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ»}: أى سابقة، وفضلا، ومنزلة رفيعة، فان قلت: لم سميت السابقة قدما؟ قلت: لما كان السعى والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وباعا لأن صاحبها يبوع بها، فقيل: لفلان قدم فى الخير» (211)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَجَعَلْنََا لَهُمْ لِسََانَ صِدْقٍ»} (212):
«لسان الصدق: الثناء الحسن وعبر ب «اللسان» عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يطلق باليد وهى العطية، قال: انى أتتنى لسان لا أسر بها».
يريد الرسالة، ولسان العرب لغتهم وكلامهم (213)
__________
(206) يوسف: 36
(207) الكشاف ج 2ص 365
(208) الأنعام: 31
(209) الكشاف ج 2ص 12
(210) يونس: 2
(211) الكشاف ج 2ص 275
(212) مريم: 50
(213) الكشاف ج 3ص 16(1/531)
8 - ويذكر تسمية الشيء باسم محله:
يقول فى قوله تعالى: {«إِنْ كََانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقََامِي»} (214):
«مقامى: مكانى، يعنى نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان، وفلان ثقيل الظل، ومنه: {«وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ»} (215) بمعنى خاف ربه» (216)
وهذه العلاقات التى ذكرها أنواع وأمثلة لعلاقة كبرى هى علاقة الملابسة بين المعنيين، وقد يكتفى فى بيان وجه التجوّز بذكر الملابسة من غير أن يبين نوعها.
يقول فى قوله تعالى: {«وَلََا تَجْعَلُوا اللََّهَ عُرْضَةً لِأَيْمََانِكُمْ»} (217):
«أى حاجزا لما حلفتم عليه، وسمى المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين، كما قال النبى صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن سحرة: «اذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذى هو خير، وكفر عن يمينك»، أى على شىء مما يحلف عليه» (218)
ويقول فى قوله تعالى: {«مََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النََّارَ»} (219):
«لأنه اذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة له فكأنه أكل النار، ومنه قولهم: أكل فلان الدم، اذا أكل الدية التى هى بدل منه، «أكلت دما ان لم أرعك بضرة».
وقال: «يأكلن كل ليلة اكافا».
أراد ثمن الاكاف، فسماه اكافا لتلبسه بكونه ثمنا له» (220)
وعلاقة الملابسة هذه تتسع لكثير من الصور، ولهذا لا تستطيع أن تقول انه حصر علاقات المجاز المرسل فيما ذكر.
__________
(214) يونس: 71
(215) الرحمن: 46
(216) الكشاف ج 2ص 281
(217) البقرة: 224
(218) الكشاف.
(219) البقرة: 174
(220) الكشاف ج 1ص 162.(1/532)
وقد ذكر الأستاذ الفاضل الدكتور شوقى ضيف أن الزمخشرى أضاف الى علاقات المجاز المرسل تسمية الجزء باسم الكل، واعتبار ما كان، واعتبار ما يؤول اليه الشيء (221) والواقع أن هذه العلاقات مذكورة ومفصلة فى كتاب لأبى حامد الغزالى كتبه فى أصول الفقه، واطلع عليه ابن الأثير، ونقلها منه وناقشها. فقد ذكر الغزالى تسمية الشيء بما يؤول اليه، وذكر الآية المشهورة {«إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً»} (222)
وتسمية الشيء باسم أصله كقولهم للآدمى: مضغة، وتسمية الشيء بكله (223)
واذا كان أبو حامد الغزالى قد توفى فى سنة (505هـ) والامام الزمخشرى قد فرغ من تفسيره فى سنة (528هـ) فالأرجح فيما أراه أن الثانى قد أفاد من الأول، ولا يصح أن نعتبر هذا من اضافاته.
المجاز الحكمى:
وبحث المجاز الحكمى فى تفسير الكشاف من أهم البحوث البلاغية التى عنى بها الزمخشرى، لأن الأمر فى اسناد الأفعال يتصل اتصالا قويا بقضايا خلافية فى شئون العقيدة.
واذا كان المعتزلة يرون أن اسناد الأفعال القبيحة الى الله سبحانه أمر قادح فى التنزيه، واذا كان القرآن يذكر فى كثير من آياته اسناد هذه الأفعال الى الله سبحانه، كان لا مناص من وقوف الزمخشرى عند هذه الآيات وبيان وجه التجوّز فيها.
ومن أهم ما ذكره فى هذا الباب قوله فى قوله تعالى: {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ»} (224)
__________
(221) انظر البلاغة تطور وتاريخ ص 263.
(222) يوسف: 36
(223) انظر المثل السائر ج 2ص 9388.
(224) البقرة: 7(1/533)
يقول الزمخشرى: «ويجوز أن يستعار الاسناد فى نفسه من غير الله لله، فيكون الختم مسندا الى اسم الله على سبيل المجاز، وهو لغيره حقيقة، تفسير هذا أن للفعل ملابسات شتى، يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب، فاسناده الى الفاعل حقيقة، وقد يسند الى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة، وذلك لمضاهاتها للفاعل فى ملابسة الفعل كما يضاهى الرجل الأسد فى جراءته فيستعار اليه اسمه، فيقال فى المفعول به: عيشة راضية، وماء دافق، وفى عكسه: سيل مفعم، وفى المصدر: شعر شاعر، وذيل ذائل، وفى الزمان: نهاره صائم، وليله قائم، وفى المكان: طريق سائر ونهر جار، وأهل مكة يقولون: صلى المقام، وفى المسبب: بنى الأمير المدينة، وناقة ضبوث وحلوث وقال:
«إذا ردّ عافى القدر من يستعيرها»
فالشيطان هو الخاتم فى الحقيقة أو الكافر، الا أن الله سبحانه لما كان هو الذى أقدره ومكنه أسند اليه الختم كما يسند الفعل الى السبب» (225)
ومن الواضح أن هذا النص لدقته وضبطه أفاد كثيرا من البلاغيين، فنقلوه فى هذا الباب كما ذكره الزمخشرى، وعليه بنى مذهب الخطيب فى تعريف المجاز العقلى، ويدور درس المجاز العقلى عنده حول هذا النص (226)
ونلاحظ هنا أن الزمخشرى يقول فى هذا المجاز: انه اسناد على طريق المجاز المسمى استعارة، وهو يعنى بهذا استعارة الاسناد مما هو له الى غير ما هو له، وليس هذا خلطا بين هذا المجاز والمجاز اللغوى اذ أننا سوف نرى له نصوصا واضحة فى التفريق بينهما.
__________
(225) الكشاف ج 1ص 39، 40
(226) ينظر بغية الايضاح ج 1ص 56(1/534)
كما أننا نلحظ هنا أن الزمخشرى يجعل العلاقة بين الفاعل المجازى والفاعل الحقيقى، ويشير الى أنها المشابهة فى ملابسة الفعل.
وقد ذكر الزمخشرى فى هذا النص أنواعا من الملابسات، وقد وقف الخطيب عندها كما قلنا، وكذلك أكثر المتأخرين ولا زال الكاتبون فى المجاز العقلى من المعاصرين يقف أكثرهم عند هذه الملابسات لا يتعداها، ولكن الزمخشرى الذى تأثروا به فى هذا يعود فيذكر أنواعا كثيرة من الملابسات.
من ذلك اسناد الفعل الى الجنس كله وهو فى الحقيقة مسند الى بعضه، يقول فى قوله تعالى: {«وَيَقُولُ الْإِنْسََانُ أَإِذََا مََا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا»} (227): «يحتمل أن يراد بالانسان الجنس بأسره، وأن يراد بعض الجنس، وهم الكفرة، فان قلت: لم جاز إرادة الأناسى كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم صح اسناده الى جميعهم كما يقولون: بنو فلان قتلوا فلانا، وانما القاتل رجل منهم، قال الفرزدق:
فسيف بنى عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدىّ ورقاء عن رأس غارب
فقد أسند الضرب الى بنى عبس مع قوله: نبا بيدى ورقاء» (228)
ويقول فى قوله تعالى: {«فَعَقَرُوا النََّاقَةَ»} (229) يقول:
«أسند العقر الى جميعهم لأنه كان برضاهم وان لم يباشره الا بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا، وما فعله الا واحد منهم» (230)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى ََ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا»} (231):
__________
(227) مريم: 66
(228) الكشاف ج 3ص 23.
(229) الأعراف: 77
(230) الكشاف ج 2ص 97
(231) الأعراف: 148(1/535)
«فان قلت: لم قيل: واتخذ قوم موسى عجلا والمتخذ هو السامرى؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما أن ينسب الفعل اليهم لأن رجلا منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو فلان قالوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين اتخاذه، راضين به، وكأنهم أجمعوا عليه» (232)
وقد يسند الفعل الى الجارحة التى هى آلته.
يقول فى قوله تعالى: {«فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»} (233): «فان قلت:
هلا اقتصر على قوله آثم؟ وما فائدة ذكر القلب والجملة هى الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان اثما مقترفا بالقلب أسند اليه لأن اسناد الفعل الى الجارحة التى يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول اذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عينى، ومما سمعته أذنى، ومما عرفه قلبى» (234)
وقد يسند الفعل الى ما له مزيد اختصاص وقربى بالفاعل الحقيقى.
يقول فى قوله تعالى: {«إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََا إِنَّهََا لَمِنَ الْغََابِرِينَ»} (235):
«فان قلت: لم أسند الملائكة فعل التقدير وهو لله وحده الى أنفسهم ولم يقولوا قدره الله؟ قلت: لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذى ليس لأحد غيرهم، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا، وأمرنا بكذا، والمدبر والآمر هو الملك لا هم، وانما يظهرون بذلك اختصاصهم، وأنهم لا يتميزون عنه» (236)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَمََا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهََا إِلََّا لِنَعْلَمَ}
__________
(232) الكشاف ج 2ص 125.
(233) البقرة: 283
(234) الكشاف ج 1ص 252
(235) الحجر: 60
(236) الكشاف ج 2ص 454(1/536)
{مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ»} (237): «وقيل: معناه ليعلم رسول الله والمؤمنون، وانما أسند علمهم الى ذاته لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده» (238)
ويشير الى أن الاسناد فى هذا المجاز الحكمى يكتفى فيه بنوع من الملابسة. يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمََالَهُمْ»} (239): «فان قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم الى ذاته، وقد أسنده الى الشيطان فى قوله {«وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ»} (240)؟ قلت: بين الاسنادين فرق، وذلك أن اسناده الى الشيطان حقيقة، واسناده الى الله عز وجل مجاز وله طريقان فى علم البيان، أحدهما أن يكون من المجاز الذى يسمى استعارة، والثانى أن يكون من المجاز الحكمى، فالطريق الأول والطريق الثانى أن امهاله الشيطان، وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند اليه، لأن المجاز الحكمى يصححه بعض الملابسات» (241)
ويشير الى التجوّز فى وقوع الفعل على غير مفعوله الحقيقى، وذلك لعلاقة بين المفعول به الحقيقى والمفعول به المجازى، يقول فى قوله تعالى {«وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»} (242): «فان قلت: الموالى هم ملاك مهورهن لا هن، والواجب أداؤها اليهم لا اليهن، فلم قيل وآتوهن؟ قلت: لأنهن وما فى أيديهن مال الموالى، فكان أداؤها اليهن أداء الى الموالى» (243)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَلََا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ»} (244):
«استعير لامتثال الأمر وارتسامه طاعة الأمر المطاع، أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمى، والمراد الأمر، ومنه قولهم: لك على امرة مطاعة، وقوله تعالى {«وَأَطِيعُوا أَمْرِي»} (245)
__________
(237) البقرة: 143
(238) الكشاف ج 1ص 150
(239) النمل: 4
(240) النمل: 24
(241) الكشاف ج 3ص 274
(242) النساء: 25
(243) الكشاف ج 1ص 387
(244) الشعراء: 151
(245) الكشف ج 3ص 258والآية من سورة طه: 90(1/537)
وقد أشار الى التجوّز فى النسب الاضافية.
يقول فى قوله تعالى: {«يََا صََاحِبَيِ السِّجْنِ»} (246): «يريد يا صاحبى فى السجن فأضافهما الى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أن الليلة غير مسروقة فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، وانما المصحوب غيره، وهو يوسف عليه السلام، ونحوه قولك لصاحبيك:
يا صاحبى الصدق، فتضيفهما الى الصدق، ولا تريد أنهما صحبا الصدق، ولكن كما تقول: رجلا صدق» (247)
ويشير الى أن من المجاز الحكمى وصف الشيء بوصف محدثه.
يقول فى قوله تعالى: {«تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ»} (248): «ذو الحكمة لاشتماله عليها، ونطقه بها، أو وصف بصفة محدثه، قال الأعشى:
وغريبة تأتى الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها (249)
ومنه اسناد ما فى معنى الفعل الى ما يتصل به بواسطة، كقوله تعالى: {«فِي ضَلََالٍ بَعِيدٍ»} (250) يقول: «فان قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت: هو من الاسناد المجازى، والبعد فى الحقيقة للضال لأنه هو الذى يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله كما تقول: جدّ جدّه» (251)
وهذا والذى قبله لا يتناوله تعريف المجاز العقلى عند الخطيب وكذلك التجوّز فى النسبة بين المبتدأ والخبر، كما فى قوله تعالى:
{«وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ»} (252) يقول الزمخشرى: {«وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ»} على تأويل حذف المضاف أى بر من آمن، أو بتأويل البر بمعنى ذى البر، أو كما قالت: فانما هى اقبال وادبار» (253)
__________
(246) يوسف: 39
(247) الكشاف ج 2ص 367
(248) يونس: 1
(249) الكشاف ج 2ص 256
(250) إبراهيم: 3
(251) الكشاف ج 2ص 419
(252) البقرة: 177
(253) الكشاف ج 1ص 163(1/538)
ويشرح كثيرا من الصور فى ضوء العلاقات التى ذكرها فى آية:
{«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ»}. (254) فيذكر الاسناد الى السبب فى قوله تعالى: {«وَأَخِي هََارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسََاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي»} (255): «فأسند التصديق الى هارون لأنه السبب فيه اسنادا مجازيا، ومعنى الاسناد المجازى أن التصديق حقيقة فى المصدق فاسناده اليه حقيقة، وليس فى السبب تصديق، ولكن استعير له الاسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب، كما لابسه الفاعل بالمباشرة» (256)
ويذكر الاسناد الى الزمان. يقول فى قوله تعالى: {«وَإِنْ خِفْتُمْ شِقََاقَ بَيْنِهِمََا»} (257): «أصله شقاقا بينهما فأضيف الشقاق الى الظرف على طريق الاتساع كقوله: {«بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ»} (258) وأصله:
بل مكر فى الليل والنهار، أو على أنه جعل البين شاقا، والليل والنهار ماكرين، على قولهم: نهارك صائم (259) ويقول فى قوله تعالى:
{«فِي يَوْمٍ عََاصِفٍ»} (260): جعل العصف لليوم وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك: يوم ماطر، وليلة ساكرة، وانما السكور لريحها» (261)
ويذكر الاسناد الى المكان يقول فى قوله تعالى: {«جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ»} (262): «واسناد الجرى الى الأنهار من الاسناد المجازى، كقولهم: بنو فلان يطؤهم الطريق، وصيد عليه يومان» (263)
ويشير الى القيمة البلاغية الى هذا النوع من الاسناد، والى أن
__________
(254) البقرة: 7
(255) القصص: 34
(256) الكشاف ج 3ص 322
(257) النساء: 35
(258) سبأ: 33
(259) الكشاف ج 1ص 392
(260) إبراهيم: 18
(261) الكشاف ج 2ص 426
(262) البقرة: 25
(263) الكشاف ج 1ص 80(1/539)
مرجع الحسن فيه هو تخييل أن المكان يقع منه الحدث، وفيه من المبالغة وقوة التأثير ما ليس فى غيره.
يقول فى قوله تعالى: {«تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً»} (264): «تفيض مع الدمع كقولك: تفيض دمعا، وهو أبلغ من «يفيض دمعها»، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض» (265)
ويذكر الاسناد الى المصدر.
يقول فى قوله تعالى: {«صَفْرََاءُ فََاقِعٌ لَوْنُهََا»} (266): «فان قلت:
فهلا قيل صفراء فاقعة؟ وأى فائدة فى ذكر اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأن اللون اسم للهيئة، وهى الصفرة فكأنه قيل: شديدة الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جد جده، وجنونك مجنون» (267)
وأشار الزمخشرى الى أن هذا التجوّز لا بد له من قرينة دالة عليه ومصححة ارادته، يقول فى قوله تعالى: {«فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ»} (268): «فان قلت: هل يصح ربح عبدك، وخسرت جاريتك، على الاسناد المجازى؟ قلت: نعم اذا دلت الحال، وكذلك الشرط فى صحة: رأيت أسدا، وانما تريد المقدام ان لم تقم حال دالة لم يصح» (269)
ويدل كلام الزمخشرى فى كثير من المواطن على أن الملابسة تكون بين الفاعل الحقيقى والفاعل المجازى، من ذلك قوله: «وقد يسند الى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة، وذلك لمضاهاتها للفاعل فى ملابسة الفعل» (270) وقوله فى تعريف المجاز: «وهو أن يسند الفعل الى شىء يتلبس بالذى هو فى الحقيقة له» (271)
__________
(264) التوبة: 92
(265) الكشاف ج 2ص 236.
(266) البقرة: 69
(267) الكشاف ج 1ص 112
(268) البقرة: 16
(269) الكشاف ج 1ص 53
(270) الكشاف ج 1ص 40
(271) الكشاف ج 1ص 53(1/540)
ويدل أيضا فى كثير من المواطن على أن الملابسة تكون بين الفاعل المجازى وما أسند اليه من فعل أو غيره، من ذلك قوله: «أسند التصديق الى هارون لأنه السبب فيه وليس فى السبب تصديق، ولكن استعير له الاسناد، لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة» (272)، وقوله: «ان امهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند اليه لأن المجاز الحكمى يصححه بعض الملابسات» (273)، وقوله: «وللفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به، والزمان والمكان» الى آخر ما ذكرنا.
لذلك لا نستطيع أن نحصر كلامه فى احدى هاتين الملابستين دون الأخرى، ولا نرى ما يراه العلامة سعد الدين حين ذهب الى أن المعتبر عند صاحب الكشاف تلبس ما أسند اليه الفعل بفاعله الحقيقى (274)
وذلك لأننا رأينا صاحب الكشاف يعتبر الملابسة بين ما أسند اليه الفعل أى الفاعل المجازى، وفاعله الحقيقى، وبين ما أسند اليه الفعل والفعل نفسه، أى بين الفاعل المجازى وما أسند اليه من فعل أو غيره. فكلام سعد الدين فيه نصف الحقيقة.
وظاهر أن ما ذهب اليه عبد القاهر فى تعريف المجاز الحكمى وأنه كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه فى العقل لضرب من التأول (275) هو ما يفهم من كلام الزمخشرى فى هذا الباب، حيث جعل مكان التجوّز هو الاسناد، وهو يستلزم مسندا اليه ومسندا، ثم لم يخصصه باسناد الفعل كما رأينا، وهو تعريف السكاكى الذى أنكره الخطيب وأن السكاكى كان أكثر فهما فى تلخيص كلام الأصحاب.
وأما قول الزمخشرى فى تعريفه: هو أن يسند الفعل الى شىء يتلبس
__________
(272) الكشاف ج 3ص 322
(273) الكشاف ج 3ص 274
(274) المطول ص 58
(275) أسرار البلاغة ص 306(1/541)
بالذى هو فى الحقيقة له، والذى تأثر به الخطيب، فليس تعريفا جامعا لكل صور المجاز العقلى كما يتصوره الزمخشرى نفسه، لما قدمناه ولا اعتراض عليه فى هذا، فانه كان يذكر من أصول البلاغة فى كل موقف ما يقتضيه هذا الموقف، فاذا كان تفسير اسناد الربح الى التجارة لا يحتاج الى أكثر من هذا الذى ذكره اكتفى به، ولذلك يقع الباحث فى الخطأ اذا توهم أن كلامه فى موطن واحد يوضح رأيه فى مسألة بلاغية مهما أسهب فى هذا الموطن.
قلت: ان الزمخشرى يفرق بين المجاز اللغوى والمجاز العقلى. ولذلك يردد صورة التركيب بين المجازين، يقول فى قوله تعالى: {«إِنََّا نَخََافُ مِنْ رَبِّنََا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً»} (276): «ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين، أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولهم: نهارك صائم وأن يشبه فى شدته وضرره بالأسد العبوس، أو بالشجاع الباسل» (277)
ويقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمََالَهُمْ»} (278): «فان قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم الى ذاته وقد أسنده الى الشيطان فى قوله: {«وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ»} (279) قلت:
بين الاسنادين فرق، وذلك أن اسناده الى الشيطان حقيقة، واسناده الى الله عز وجل مجاز، وله طريقان فى علم البيان أحدهما أن يكون من المجاز الذى يسمى الاستعارة، والثانى أن يكون من المجاز الحكمى» (280)
ولا يبعد أن تكون صحة الوجهين فى هذه الصور ألهمت أبا يعقوب السكاكى اختيار التجوّز اللغوى على التجوّز فى الاسناد، وقد جعله
__________
(276) الانسان: 10
(277) الكشاف ج 4ص 535
(278) النمل: 4
(279) النمل: 24
(280) الكشاف ج 3ص 274(1/542)
من الاستعارة المكنية التى رأينا الزمخشرى يحلل المثل الأول تحليلا يشير اليها، حيث يشبه اليوم بالأسد العبوس، أو بالشجاع الباسل، ثم نرى المذكور وصف الأسد أو الشجاع.
يقول السكاكى بعد تفصيل القول فى المجاز الحكمى: «هذا كله تقرير للكلام فى هذا الفصل بحسب رأى الأصحاب من تقسيم المجاز الى لغوى وعقلى. والا فالذى عندى هو نظم هذا النوع فى سلك الاستعارة بالكناية. بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقى بواسطة المبالغة فى التشبيه على ما عليه مبنى الاستعارة كما عرفت، وجعل نسبة الاثبات اليه قرينة للاستعارة بالكناية» (281)
وقد رأينا الزمخشرى يذكر ما لهذا المجاز من قيمة أدبية.
يقول فى قوله تعالى: {«نََاصِيَةٍ كََاذِبَةٍ خََاطِئَةٍ»} (282): «ووصفها بالكذب والخطأ على الاسناد المجازى، وهو فى الحقيقة لصاحبها وفيه من الحسن والجزالة ما ليس فى قولك: ناصية كاذب خاطئ» (283)
ويذكر فائدة أخرى أوحى بها رأيه الاعتزالى فى نسبة الفعل غير الحسن الى الله سبحانه، يقول فى قوله تعالى: {«وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ»} (284): «ووجه اسناد الفعل الى ذاته وهو قوله:
{«وَجَعَلْنََا»} للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه» (285)
ويقول فى قوله تعالى: {«كَذََلِكَ سَلَكْنََاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ»} (286):
«فان قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب الى ذاته؟ قلت: أراد به
__________
(281) مفتاح العلوم ص 212
(282) العلق: 16
(283) الكشاف ج 4ص 620
(284) الأنعام: 25
(285) الكشاف ج 3ص 10
(286) الشعراء: 200(1/543)
الدلالة على تمكنه مكذبا فى قلوبهم أشد التمكن وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا، ألا ترى الى قولهم: هو مجبول على الشح، يريدون تمكن الشح فيه، لأن الأمور الخلقية أثبت على العارضة، والدليل عليه أنه أسند ترك الايمان به اليهم على عقبه، وهو قوله:
{«لََا يُؤْمِنُونَ»} (287)
وفى نهاية بحث المجاز بجميع أنواعه يجدر أن نشير الى مسألتين:
المسألة الأولى: بحث المجاز عن المجاز، فقد برزت هذه المسألة فى دراسة الزمخشرى وليس لها حيز فى دراسة عبد القاهر. وهذا راجع الى ما يقوله الزمخشرى فى شيوع المجاز أو الكناية حتى يكون الأسلوب كأنه حقيقة، يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنََا عَنِ الْيَمِينِ»} (288): «استعير لجهة الخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين أى من قبل الخير وناحيته، فصده عنه وأضله فان قلت:
قولهم: أتاه من جهة الخير وناحيته، مجاز فى نفسه فكيف جعلت اليمين مجازا عن المجاز؟ قلت: من المجاز ما غلب فى الاستعمال حتى ألحق بالحقائق، وهذا من ذاك» (289)
والمسألة الثانية: أن أئمة المعتزلة قد ذهبوا الى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز كما ذهب الى هذا غيرهم من أئمة الفقه واللغة، كالامام الشافعى، والغزالى. وأبى الحسين، وغيرهم كثير كما ذكر العلامة السبكى (290)، أما الزمخشرى فقد ذهب الى ما يخالف هؤلاء جميعا ورفض أن يكون اللفظ دالا على معنيين حقيقى ومجازى فى حال واحدة.
__________
(287) الكشاف ج 3ص 265، 266والآية من سورة الشعراء:
201
(288) الصافات: 28
(289) الكشاف ج 4ص 31
(290) شروح التلخيص (شرح السبكى) ج 4ص 239(1/544)
يقول فى قوله تعالى: {«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبََالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النََّاسِ»} (291): «سميت مطاوعتها له فيما يحدث فيها من أفعاله، ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بادخال أفعال المكلف فى باب الطاعة والانقياد، وهو السجود الذى كل خضوع دونه، فان قلت: فما تصنع بقوله: {«وَكَثِيرٌ مِنَ النََّاسِ»}، وبما فيه من الاعتراض، أحدهما: أن السجود على المعنى الذى فسرته به لا يسجده بعض الناس دون بعض، والثانى:
أن السجود قد أسند على سبيل العموم الى من فى الأرض من الانس والجن أولا، فاسناده الى كثير منهم آخرا مناقضة؟ قلت: لا أنظم كثيرا فى المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل، وانما أرفعه بفعل مضمر يدل عليه قوله: {«يَسْجُدُ»}، أى يسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة، ولم أقل: أفسر {«يَسْجُدُ»} الذى هو ظاهر بمعنى الطاعة والعبادة فى حق هؤلاء، لأن اللفظ الواحد لا يصح استعماله فى حالة واحدة على معنيين مختلفين» (292)، ويقول فى موضع آخر: «وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير صحيحة» (الكشاف ج 3ص 298).
الكناية:
ذكر الزمخشرى الكناية بمعناها الاصطلاحى، وأشار الى فائدتها وقيمتها الأدبية، وذكر أقسامها الثلاثة المشهورة، وفرّق بينها وبين التعريض، وذكر الكناية فى المفرد، ومن أوضح ما يتميز به بحث الكناية فى الكشاف أنه أول من أثار موضوع ضرورة امكان المعنى الحقيقى فى طريقة الكناية، وأول من ذكر المجاز عن الكناية، وأول من فرّق بين الكناية والتعريض تفريقا علميا دقيقا.
__________
(291) الحج: 18
(292) الكشاف ج 3ص 117(1/545)
يقول الزمخشرى فى بيان طريقة الكناية وأنها شعبة من شعب البلاغة وأن فائدتها الايجاز، يقول فى قوله تعالى: {«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ»} (293): «فان قلت: ما معنى اشتراطه فى اتقاء النار اتيانهم بسورة من مثله؟ قلت: انهم اذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد، ولم ينقادوا ولم يشايعوا استوجبوا العقاب بالنار، فقيل لهم: ان استبنتم العجز فاتركوا العناد، فوضع {«فَاتَّقُوا النََّارَ»} موضعه لأن اتقاء العناد لصيقه وضميمه ترك العناد، من حيث انه من نتائجه لأن من اتقى النار ترك المعاندة، ونظيره أن يقول الملك لحشمه: ان أردتم الكرامة عندى فاحذروا سخطى، يريد:
فأطيعونى واتبعوا أمرى وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط، وهو من باب الكناية التى هى شعبة من شعب البلاغة، وفائدته الايجاز الذى هو من حلية القرآن، وبتهويل شأن العناد بانابة اتقاء النار منابه، وابرازه فى صورته، مستتبعا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها» (294)
وهذا الكلام يفيد أن الانتقال فى الكناية من الملزوم الى اللازم، لأن اتقاء النار هو المذكور والمراد به ترك المعاندة، وترك المعاندة لازم لاتقاء النار.
ويقول فى قوله تعالى: {«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ»} (295): «فان قلت: قد تبين أمر الهمزة وأنها لانكار الفعل، والايذان باستحالته فى نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول فى «كيف» حيث كان انكارا للحال التى يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فاذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال، فكان انكار حال الكفر لأنها تبيع ذات الكفر، ورديفها انكارا لذات
__________
(293) البقرة: 24
(294) الكشاف ج 1ص 77
(295) البقرة: 28(1/546)
الكفر وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لانكار الكفر، وأبلغ وتحريره أنه اذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كل موجود لا ينفك عن حال وصفة عند وجوده، ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات، كان انكارا لوجوده على الطريق البرهانى» (296)
وهذا واضح فى أن الانتقال من اللازم الى الملزوم، وبذلك نقول:
أنه لا يحدد الانتقال فى الكناية بطريق دون آخر (297)
ويشير الزمخشرى الى أن المذكور وان لم يكن هو المقصود بالاثبات والنفى سواء أكان لازما أو ملزوما فانه ملحوظ فى الافادة، وأنه يجعل التصوير أقوى دلالة وأكثر ايحاء، فقوله تعالى: {«لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ»} (298)
فى حق الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لا يراد به نفى قبول التوبة لو وجدت منهم، كما هو ظاهر العبارة، وانما يراد به أنهم مائتون على الكفر وأنهم لن يتوبوا فلن تقبل توبتهم، وانما جاء على هذه الطريقة، أعنى أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة، لأن الفائدة فيها جليلة، وهى التغليظ فى شأن أولئك الفريق من الكفار، وابراز حالهم فى صورة حالة الآيسين من الرحمة التى هى أغلظ الأحوال، وأشدها، ألا ترى أن الموت على الكفر انما يخاف من أجل اليأس من الرحمة» (299)
وقوله تعالى: {«فَضَرْبَ الرِّقََابِ»} (300) وان كان المراد به القتل وان ضرب بغير رقبته من المقاتل فان فى هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس فى لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة «وهو
__________
(296) الكشاف ج 1ص 91
(297) ينظر حاشية السيد الشريف ج 1ص 192، ومخطوطة ورقة 177
(298) آل عمران: 90
(299) الكشاف ج 1ص 293
(300) محمد: 4(1/547)
حز العنق، واطارة العضو الذى هو رأس البدن، وعلوه، وأوجه أعضائه، ولقد زاد فى هذه الغلظة فى قوله: {«فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنََاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنََانٍ»} (301)
ويشير الزمخشرى الى أن الرادف أو المكنى به يوضع موضع المردوف أو المكنى عنه.
يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتََّى تَسْتَأْنِسُوا»} (302): {«تَسْتَأْنِسُوا»} فيه وجهان: أحدهما أنه من الاستئناس الظاهر الذى هو خلاف الاستيحاش، لأن الذى يطرق باب غيره لا يدرى أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فاذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم، كقوله:
{«لََا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلََّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ»} (303)، وهذا من باب الكناية والارداف لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الاذن فوضع موضع الاذن» (الكشاف ج 3ص 178).
ولست أدرى ماذا يراد بهذا الوضع، هل هو كوضع السبب موضع المسبب فيكون مستعملا فيها وحينئذ لا نجد فرقا بين طريقة الكناية وطريقة المجاز فى أن فى كل استعمال اللفظ فى غير ما وضع له، وان اختلفا بعد ذلك فى استحالة إرادة المعنى الأصلى فى المجاز وجوازه فى الكناية؟ أم أن هذا من التسامح فى العبارة وأن المكنى به مستعمل فى معناه لينتقل الذهن الى المكنى عنه كما قرر كثير من البلاغيين، وتكون الكناية من قبيل الحقيقة؟ والحق أن هذا البحث وان كان ذا أهمية كبيرة فى نظر المدققين، الا أن الزمخشرى لم يدل فيه بدلو، ولا أستطيع أن أحدد له فيه رأيا لأنى اذا اعتمدت على هذا النص وقلت: ان اللفظ فى الكناية موضوع موضع مردوفه، أو رادفه
__________
(301) الكشاف ج 4ص 251والآية من سورة الأنفال: 12
(302) النور: 27
(303) الأحزاب: 53(1/548)
للمناسبة بينهما، فهى كالمجاز من حيث استعمال اللفظ فى غير ما وضع له، وجدته يقرر فى موضع آخر أن الكلمات فى الكناية مستعملة فى معانيها الحقيقية.
ومما هو كالصريح فى استعمال ألفاظ الكناية فى معانيها الحقيقية لينتقل منه الذهن الى غيره، قوله فى قوله تعالى: {«إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ»} (304) يقول: «وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد المسجد الحرام والثانى: أن يراد جنس المساجد، واذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك ألا يعمروا المسجد الحرام الذى هو صدر الجنس ومقدمته، وهو آكد، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك» (305)، وهذا النص كما قلت كالصريح فى أن الكناية مستعملة فى معانيها الحقيقية، وأن المعنى الكنائى يفهم منه بطريق اللزوم، فاذا كان الاستئناس هناك وضع موضع الاذن فالمساجد هنا لم توضع موضع المسجد الحرام، وانما استعملت فى جنس المساجد كما هى دلالة الجمع، وفهم المعنى الكنائى بطريق اللزوم.
وقد أشار الزمخشرى الى الكناية عن النسبة وبين أنها أبلغ من الدلالة الصريحة. يقول فى قوله تعالى: {«أُوْلََئِكَ شَرٌّ مَكََاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا»} (306): «جعلت الشرارة للمكان وهى لأهله، وفيه مبالغة ليست فى قولك: أولئك شر وأضل، لدخوله فى باب الكناية التى هى أخت المجاز» (307)
ويقول فى قوله تعالى: {«أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ»} (308):
__________
(304) التوبة: 18
(305) الكشاف ج 2ص 198
(306) الفرقان: 34
(307) الكشاف ج 1ص 508
(308) الزمر: 56(1/549)
«والجنب الجانب يقال: أنا فى جنب فلان، وجانبه، وناحيته، وفلان لين الجنب. والجانب، ثم قالوا: فرّط فى جنبه، وفى جانبه يريدون حقه، قال سابق البربرى:
أما تتّقين الله فى جنب وامق ... له كبد حرّى عليك تقطّع
وهذا من باب الكناية لأنك اذا أثبت الأمر فى مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه، ألا ترى الى قوله:
إنّ السّماحة والمروءة والنّدى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج
ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون لأجلك، وفى الحديث:
«ومن الشرك الخفى أن يصلى الرجل لمكان الرجل»، وكذا: فعلت هذا من جهتك، فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع الى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه، قيل: فرّطت فى جنب الله، على معنى فرّطت فى ذات الله» (309)
ويذكر الكناية عن الموصوف يقول فى قوله تعالى: {«وَلََا يَأْتِينَ بِبُهْتََانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ»} (310): «كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدى منك، كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذى تلصقه بزوجها كذبا، لأن بطنها الذى تحمل فيه بين اليدين، وفرجها الذى تلد به بين الرجلين» (311)
ويبين أنه لا يصح الجمع بين الكناية والمكنى عنه فى هذا القسم، وأن هذه الطريقة من فصيح الكلام وبديعه. يقول فى قوله تعالى:
{«وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ»} (312): «أراد السفينة وهى من الصفات التى تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها، وتؤدى مؤداها، بحيث لا يفصل بينها وبينه، ونحوه: ولكن قميصى مسرودة من
__________
(309) الكشاف ج 4ص 106
(310) الممتحنة: 12
(311) الكشاف ج 4ص 415
(312) القمر: 13(1/550)
حديد. أراد: ولكن قميصى درع، وكذلك: «ولو فى عيون النّازيات بأكرع» أراد: ولو فى عيون الجراد، ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة، أو بين الدرع والجراد، وهاتين الصفتين، لم يصح، وهذا من فصيح الكلام وبديعه» (313)
وقد ذكر المجاز عن الكناية، وعنى به صور الكناية التى يستحيل فيها إرادة المعنى الحقيقى للتركيب المكنى به، اذ أنه يرى أن شرط الكناية صحة جواز المعنى الحقيقى للتركيب، وأن هذا هو مناط الفرق بينها وبين المجاز.
يقول فى قوله تعالى: {«وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ»} (314):
«مجاز عن الاستهانة والسخط عليهم. تقول: فلان لا ينظر الى فلان، تريد نفى اعتداده به واحسانه اليه، فان قلت: أى فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر، وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت: أصله فيمن يجوز عليه النظر كناية، لأن من اعتد بانسان التفت اليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد، والاحسان، وان لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الاحسان مجازا عما وقع كناية عنه» (315)
وهذا التفصيل فى الكناية والمجاز عن الكناية رأينا الزمخشرى يهمل الاشارة اليه فى الآيات المشابهة لهذه الآية، ويجعل بعضها من المجاز ويسكت عن الكناية، كما يجعل البعض الآخر من الكناية ويسكت عن المجاز.
يقول فى قوله تعالى: {«وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ»} (316):
«غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى:
__________
(313) الكشاف ج 4ص 345
(314) آل عمران: 77
(315) الكشاف ج 1ص 288.
(316) المائدة: 64(1/551)
{«وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ وَلََا تَبْسُطْهََا كُلَّ الْبَسْطِ»} (317)
ولا يقصد من يتكلم به اثبات يد، ولا غل، ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه، لأنهما كلامان يتعاقبان على حقيقة واحدة، حتى انه يستعمله فى ملك لا يعطى عطاء قط، ولا يمنعه لا باشارته من غير استعمال يد وبسطها، وقبضها، ولو أعطى الأقطع الى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود، وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقوله:
جاد الحمى، بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه، تلاعه. ووهاده
ولقد جعل لبيد للشمال يدا فى قوله:
* إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها *
ويقال: بسط اليأس كفيه فى صدرى، فجعلت لليأس الذى هو من المعانى لا من الأعيان كفان، ومن لم ينظر فى علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب فى تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن اذا عبثت به» (318)
ويقول فى قوله تعالى: {«الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ»} (319):
«لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وان لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضا لشهرته فى ذلك المعنى، ومساواته ملك فى مؤداه، وان كان أشرح، وأبسط، وأدل، على صورة الأمر، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه
__________
(317) الاسراء: 29
(318) الكشاف ج 1ص 509
(319) طه: 5(1/552)
جواد، أو بخيل، لا فرق بين العبارتين الا فيما قلت، حتى ان من لم يبسط يده قط بالنوال، أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه: يده مبسوطة، لمساواته عندهم قوله: هو جواد، ومنه قوله عز وجل {«وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ»} أى هو بخيل {«بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ»} أى هو جواد، من غير تصور يد ولا غل ولا بسط» (320)
ويقول فى قوله تعالى: {«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»} (321) «قالوا:
مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة فى ذلك فسلكوا به طريق الكناية لأنهم اذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه، ونظيره قولك للعربى: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر ومنه قولهم: قد أيفعت لداته، وبلغت أترابه، يريدون ايفاعه وبلوغه.
فاذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شىء، وبين قوله: {«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»} الا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان متعقبتان على معنى واحد، وهو نفى المماثلة عن ذاته، ونحوه قوله عز وجل: {«بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ»} فان معناه: بل هو جواد من غير تصور يد، ولا بسط لها، لأنها وقعت عبارة عن الجود، ولا يقصدون شيئا آخر حتى انهم استعملوا فى من لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل، ومن لا مثل له» (322)
فهذه أربع صور فى اتفاق وجه الدلالة على المعنى فيها، ويختلف فيها كلام الزمخشرى هذا الاختلاف الذى نراه، ففي واحدة يقول: انها من المجاز عن الكناية، وفى الثنية يقول: انها من المجاز، وفى الثالثة والرابعة يقول: انها من الكناية، بل انه ذكر آية: {«وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ}
__________
(320) الكشاف ج 3ص 40.
(321) الشورى: 11
(322) الكشاف ج 4ص 166، 167(1/553)
{اللََّهِ مَغْلُولَةٌ»} مثالا للكناية فى الآيتين الأخيرتين، وقد ذكر فى شرحها أنها من المجاز كما هو واضح من هذه النصوص.
وقد طال نظرى فى هذه الصور التى لا أشك فى أنها من فن واحد، ثم وجدت حديثه فى آية: {«وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ»} (323) أول كلامه فيها، فأيقنت أنه اعتمد فيما أتى بعدها على ما ذكره فيها، وقد نظرت فى الرسالة البيانية وفى حواشى المطول وفى تجريد البنانى وتقرير الانبابى فرأيت أوضح ما قيل فى هذا الموضوع وأقربه الى القبول قول السيد الشريف فى حاشيته الفائقة على الكشاف. فقد ذكر فى قوله تعالى: {«وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ»} أن أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه مجردا لمعنى الاحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر، فظهر مما قرره هناك أنه اذا أمكن المعنى الأصلى كان كناية، واذا لم يمكن كان مجازا مبنيا على تلك الكناية، ويجوز اطلاق الكناية عليه أيضا نظرا الى أنه فى أصله كان كناية فى معنى، ثم انقلب فيه مجازا، والتغاير اعتبارى، ومن ثم نراه جعل بسط اليد وغلها فى سورة المائدة مجازين عن الجود والبخل، وجعلهما فى «طه» من الكنايات كالاستواء على العرش، فلا منافاة بين قوليه، ولا حاجة فى دفعهما الى ما قيل: انه قد يشترط فى الكناية امكان المعنى الأصلى وقد لا يشترط» (324)
ويلاحظ أن الزمخشرى معنى فى هذه النصوص بمسألة شهرة الكناية أو المجاز حتى يصير المجاز أو تصير الكناية كأنها حقيقة،
__________
(323) آل عمران: 77
(324) الحاشية الفائقة للسيد الشريف مخطوطة ورقة 119 والحاشية مطبوعة على الكشاف والنص ج 1ص 112وتنظر حاشية السيد على المطول ص 497والرسالة البيانية ص 107104وحاشية الانبابى على الرسالة البيانية فى نفس الصفحة.(1/554)
وكأنها وما دلت عليه عبارتان تعتقبان على معنى واحد، وهو فى هذا يريد أن يلهم السامع المعانى المجازية، أو الكنائية بسرعة ودون وقوف عند ظاهر النص، وأن يلغى الواسطة التى هى الصورة البيانية، أعنى غل اليد وبسطها، والاستواء على العرش وعدم النظر الى آخره، وذلك لنفى التشبيه فى ذات الله تعالى أو نفى الجارحة بسرعة خوفا على السامع من خطرات تقع للجهال، وأهل التشبيه كما يقول لجرجانى (325) لذلك اهتم فى كل أسلوب من هذه الأساليب ببيان الغاء الدلالة الظاهرة للتعبير حتى تنعدم الواسطة كما يقول الشراح، لأن بقاء الواسطة قد يدفع الى تصور الجارحة، أو تصور التشبيه كما هو الحال فى دلالة المعنى على المعنى، حيث ينقل السامع من المعنى الأول الى المعنى الثانى وجل الله عن ذلك.
ويطلق الزمخشرى التمثيل على صورة قد اعتبرها من الكناية، وذكرها من أمثلتها، وقد اعتبرها كذلك من المجاز فيما قدمنا من النصوص.
يقول فى قوله تعالى: {«وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ وَلََا تَبْسُطْهََا كُلَّ الْبَسْطِ»} (326): «هذا تمثيل لمنع الشحيح، واعطاء المسرف، وأمر بالاقتصاد الذى هو بين الاسراف والتقتير» (327)
ولعل الزمخشرى نظر هنا الى وجه آخر من وجوه الدلالة وأدرك علاقة شبه بين منع الشحيح وغل اليد، ولحظ أن غل اليد أدل على المنع لأن من غلت يده لا تمتد بالعطاء، كما لحظ شبها بين اعطاء المسرف وبسط اليد، ولحظ كذلك أن بسط اليد أقوى فى الدلالة على السخاء فاعتبر ذلك من التمثيل، وعلى كل حال لا مفر لنا من القول
__________
(325) انظر أسرار البلاغة ص 286.
(326) الاسراء: 29
(327) الكشاف ج 2ص 516.(1/555)
بجواز حمل الصورة الواحدة على الكناية وعلى المجاز ولا ضير فى ذلك ما دامت تختلف الحيثية التى ينظر اليها فى وجه الدلالة، وقد رأيناهم يرددون الصورة بين المجاز المرسل والاستعارة بحسب مراعاة وجه التجوّز، وعلينا أن نذكر الفرق بين غل اليد وبسطها فى هذه الآية وغل اليد وبسطها فى: {«وَقََالَتِ الْيَهُودُ»}، فالغل والبسط هنا ممكن لأن الخطاب خطاب لمن له يد تغل وتبسط، والغل والبسط هناك يستحيل أن يكون، وكان اعتبار الآية هنا من باب الكناية أمرا لا اعتراض عليه. وليس فى حاجة الى التحليل المذكور فى الآيات السابقة. الا أن الزمخشرى قد أعرض فيها عن دلالة اللزوم الى دلالة المشابهة. وليس هذا من اطلاق التمثيل على الكناية كما ذكرنا فى بحث التمثيل، لأن الصورة التى ذكرناها هناك لا وجه فيها للمشابهة، كما أنه لا ضير فى أن يكون هذا تمثيلا لوجود المشابهة كما قلنا، ولأن المعنى الحقيقى وان كان ممكنا الا أن هنا قرينة مانعة من ارادته، وهى كون المخاطب غير مغلول اليد ولا مبسوطها بالمعنى الحقيقى فلا محل للنهى، الا أن يكون الكلام على المجاز.
وقد توهم العلامة السبكى أن كلام الزمخشرى فى آية: {«وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ»} يوهم أن الكناية قد تكون مجازا، وأنه اذا أمكنت الحقيقة تصح الكناية والمجاز جميعا بحسب الارادة، وأن الزمخشرى قد صرح بذلك فى قوله تعالى: {«وَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسََاءِ»} (328)، فقال: «الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شىء لم تذكره»، ثم قال السبكى: «وهذا مخالف لما يقتضيه كلام غيره» (329)
__________
(328) البقرة: 235
(329) شروح التلخيص (عروس الأفراح) ج 4ص 241 وما بعدها بتصرف.(1/556)
وحمل كلام الزمخشرى على ما ذهب اليه السبكى باطل، لأن الزمخشرى أراد بالمجاز فى آية: {«وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ»} المجاز المتفرع عن الكناية، وقد صرح به ولم يقصد المجاز المستقل، أو المجاز المحض، الذى يكون من أول الأمر مجازا، وما ذكره فى آية: {«وَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ»}
لا يقصد فيه التعريف الجامع المانع للكناية، وانما أراد أن يذكر من أوصافها ما يفرق بينها وبين التعريض، ولا ضير أن يكون هذا الوصف مشتركا بينها وبين غيرها من فنون البيان الأخرى، لأن المطلوب فيه أن يكون فاصلا بينها وبين التعريض.
يقول العلامة سعد الدين فى حاشيته المخطوطة على الكشاف معلقا على كلامه فى هذه الآية: «ليس القصد الى تعريفها حتى يعترض بأن ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له شامل للمجاز، بل الى تمييز أحدهما عن الآخر» (330)
وقد يضاف الى الكناية ما يزيدها حسنا وتأثيرا، وذلك بذكر ما يشاكلها ويلائمها. يقول فى قوله تعالى: {«وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ فِي أَيََّامٍ مَعْلُومََاتٍ عَلى ََ مََا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعََامِ»} (331): «وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن أهل الاسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه اذا نحروا أو ذبحوا، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلى فيما يتقرب به الى الله أن يذكر اسمه، وقد حسن الكلام تحسينا بينا أن جمع بين قوله:
{«وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ»} وقوله: {«عَلى ََ مََا رَزَقَهُمْ»}، ولو قيل: لينحروا فى أيام معلومات بهيمة الأنعام لم تر شيئا من ذلك الحسن والروعة» (332)
ويذكر الزمخشرى تعدد الكنايات لمعنى واحد، ويشير الى بلاغتها، وهذه طريقة جيدة فى تذوق اللغة، وفقه أسرارها، يقول فى قوله تعالى: {«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظََّالِمُ عَلى ََ يَدَيْهِ»} (333): «عض
__________
(330) حاشية سعد الدين ورقة 118.
(331) الحج: 28
(332) الكشاف ج 3ص 120
(333) الفرقان: 27(1/557)
اليدين والأنامل، والسقوط فى اليد، وأكل البنان، وحرق الأسنان والأرم وقرعها، كنايات عن الغيظ والحسرة، لأنها من روادفها، فيذكر الرادفة ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به فى طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده فى نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنى عنه» (334)
ويذكر الكناية فى المفرد وهى كناية بالمعنى اللغوى. يقول فى قوله تعالى: {«تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ»} (335): «السوء: الرداءة والقبح فى كل شىء، فكنى به عن البرص، كما كنى عن العورة بالسوأة، وكان جذيمة صاحب الزباء أبرص فكنّوا عنه بالأبرص، والبرص أبغض شىء الى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه مجّاجة، فكان جديرا بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه» (336)
ويقول فى قوله تعالى: {«يُوََارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ»} (337): «والسوأة عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده، والسوأة الفضيحة لقبحها، قال:
* يا لقومى للسّوأة السّوءاء *
أى: للفضيحة العظيمة، فكنى بها عنها» (338)
وفى كنايات المفرد يذكر صورا من المجاز المرسل ويسميها كناية.
يقول فى قوله تعالى: {«وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ»} (339): «وقيل هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات.
يقال: فلان طاهر الثياب، وطاهر الجيب، والذيل، والأردان، اذا
__________
(334) الكشاف ج 3ص 218
(335) طه: 22
(336) الكشاف ج 3ص 46
(337) المائدة: 31
(338) الكشاف ج 1ص 486
(339) المدثر: 4(1/558)
وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، وفلان دنس الثياب للغادر، وذلك لأن الثوب يلابس الانسان ويشتمل عليه فكنى به عنه، ألا ترى الى قولهم: أعجبنى زيد ثوبه، كما يقولون: أعجبنى زيد عقله، وخلقه، ويقولون: المجد فى ثوبه، والكرم تحت حلّته» (340) فالتعبير عن الانسان بثوبه من المجاز المرسل الذى علاقته المجاورة، أو الحالية.
ولكن الزمخشرى يجعله من الكناية، وقولهم: المجد فى ثوبه، اذا كان يراد بالثوب فيه لابسه، فذلك أيضا من المجاز المرسل، وليس من الكناية عن النسبة، ويمكن أن يكون المثال الواحد كناية لغوية باعتبار، ومجازا مرسلا باعتبار آخر.
وقد ذكر الزمخشرى توارد الكناية والمجاز المرسل على كلمة واحدة فى أطوار مختلفة، يقول فى قوله تعالى: {«وَلََكِنْ لََا تُوََاعِدُوهُنَّ سِرًّا»} (341): «السر وقع كناية عن النكاح الذى هو الوطء، لأنه مما يسّر. قال الأعشى:
ولا تقربن من جارة إن سرّها ... عليك حرام فانكحن أو تأبّدا
ثم عبر به عن النكاح الذى هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح» (342)
فالسر سبب فى النكاح بمعنى العقد باعتبار المعنى المجازى الذى هو الوطء، أو النكاح بمعنى الوطء، لذلك صح أن يعبر بالسر عن العقد، لأن بينهما علاقة السببية.
أما أن يكون السر بمعناه الأصلى القديم وهو ما كان ضد الجهر فانه لا يصح أن يعبر به عن العقد لأنه لا علاقة بينهما. فالكلمة اذن قد
__________
(340) الكشاف ج 4ص 516
(341) البقرة: 235
(342) الكشاف ج 1ص 215، 216(1/559)
تجاوزت فى هذا التعبير طور الحقيقة. وانتقلت الى طور آخر كانت فيه ذات مدلول مجازى جديد، ثم انتقلت من هذا المعنى المجازى الجديد الى معنى مجازى آخر. وهذا لا يمنع أن تظل الكلمة دالة على المعنى الأصلى الذى تفرعت عنه هذه المعانى، ولو نظرنا الى كلامه هنا والى حديثه عن المجاز والكناية اللذين يصبحان فى شهرة الحقيقة ولا يلتفت فيهما الى المعانى الأصلية، لقلنا: ان هذه النظرات كانت احساسا واضحا بضرورة بحث تطور الدلالات فى الألفاظ. وقد كانت هذه الارهاصات جديرة بأن تكون بذورا لدراسة لغوية شاملة ترصد فيها معانى الكلمات، وما يعتريها من التغيير فى تاريخها البعيد.
وما أدرانا فلعل كثيرا من الكلمات التى نستعملها فى معان نعتقد أنها فيها حقيقة لغوية تكون من هذا القبيل من المجاز الذى نسيت حقائقه، وماتت، وابتلعها التاريخ الطويل المجهول لهذه اللغة. ألسنا ننكر كثيرا من ألفاظها التى نبا عنها الذوق لما أهلمها التاريخ أو نبا عنها الذوق فأهملها التاريخ، وليس انكارنا لها مانعا من أن تكون لغة أدبية يوما ما، لها تأثيرها، وايحاؤها فى فترة من فترات التاريخ اللغوى، بل قد تكون هذه الألفاظ مرت بزمن ازدهرت فيه وكانت أكثر تداولا فى هذا الزمن المجهول.
لم نستبعد اذن أن تكون كلمات كثيرة من التى نستعملها الآن وتشير معاجمنا الى معانيها الحقيقية قد انتقلت من معانيها الأولى الى معان أخرى، ثم نسى هذا النقل وصارت حقيقة فيما كانت فيه مجازا؟
ولعل هذا يكون قد تكرر بالنسبة للكلمة الواحدة، وكل هذه ضروب من الظن، لا أستطيع الجزم بقبولها أو رفضها، وانما أردت بكل هذا أن أقول ان هذه اللفتات التى أشار اليها الزمخشرى فى تطور دلالات الألفاظ المجازية أوحت اليه بها عبقرية لغوية نادرة تحس بأبعاد الدرس اللغوى وآفاقه، وما يجب على الدارس أن يلتفت اليه فى هذه الدراسة.(1/560)
ويذكر الزمخشرى أن الكلمات الواسعة المدلول صالحة لأن يكنى بها عن جملة أحداث وأفعال، فتفيد نوعا من الاختصار كما فى كلمة «فعل» التى يصح أن تكون كناية عن جملة كاملة أو عدة جمل، وقد أشرنا الى هذا فى بحث الاختصار ونذكره هنا لأنه أشار فيه الى الكناية واختلفت آراء الشراح فى بيان مراده بها.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ»} (343): «فان قلت: لم عبر عن الاتيان بالفعل وأى فائدة فى تركه اليه؟ قلت: لأنه فعل من الأفعال تقول: أتيت فلانا فيقال لك: نعم ما فعلت، والفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية التى تعطيك اختصارا ووجازة تغنيك عن طول المكنى عنه، ألا ترى أن الرجل يقول:
ضربت زيدا فى موضع كذا على صفة كذا، وشتمته، ونكلت به، ويعد كيفيات وأفعالا، فتقول: بئسما فعلت، ولو ذكرت ما أثبته عنه لطال عليك، وكذلك لو لم يعدل عن لفظ الاتيان الى لفظ الفعل لا أستطيل أن يقال: فان لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله (344)
وقد ذهب بعض البلاغيين الى أنه يريد بالكناية هنا الضمير المبنى على الاختصار ودفع التكرار. وقد ورد على هذا أن الضمير كناية فى الأسماء، وما هنا فعل، واذا قيل: ان الكناية هنا ما قابلت المجاز لأن الفعل عام كنى به عن خاص، رد هذا بأنه يكون حينئذ كناية لا جاريا مجراها، وقد يعتذر بأن الملازمة ليست متساوية، لأن الفعل أعم مطلقا، وحصول الانتقال منه بمعونة المقام. فلذلك حكم بجريانه مجراها.
هذا شىء مما قاله البلاغيون (345) فى تفسير الكناية فى هذا النص.
__________
(343) البقرة: 24
(344) الكشاف ج 1ص 76
(345) انظر الحاشية الفائقة للسيد الشريف ج 1ص 191 وحاشية الشهاب ج 2ص 49(1/561)
والواقع أننا لسنا فى حاجة الى تفسيرها بالضمير لأنه ليس فى كلامه ما يشعر بصحة هذا التفسير، وأنه لا ضير علينا اذا فهمناها كما نفهم كلمة الكناية فى استعمالاته، أى الكناية الاصطلاحية أو اللغوية، وهى هنا أقرب الى اللغوية، وليس قوله: «جاريا مجرى الكناية» صالحا لأن يعترض به علينا حتى نذهب الى تفسير آخر. أو نتحمل فى التماس شىء فى الملازمة، فان الزمخشرى ذكر هذه الكناية فى آية أخرى وقال انها كناية، ولم يقل جارية مجراها، يقول فى قوله تعالى:
{«وَلََا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَنْفَعُكَ وَلََا يَضُرُّكَ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظََّالِمِينَ»} (346): «فان فعلت: معناه فان دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فكنى عنه بالفعل ايجازا» (347)
ويذكر الزمخشرى من فوائد الكناية زيادة على الاختصار الذى يكرره فى مواضعها وعلى تأثير الصورة المكنى بها، لأنها وان كانت غير مقصودة بالنفى والاثبات فان لها دخلا فى الايحاء والتأثير كما قلنا، يذكر من فوائد الكناية أنها قد تكون مظهرا لشرف المكنى عنه وتعظيمه، كما أن عكسها وهو التصريح قد يكون مظهرا للتنفير عن المكنى عنه وتحقيره.
يقول فى قوله تعالى: {«قََالَتْ أَنََّى يَكُونُ لِي غُلََامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ»} (348): «جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه كقوله تعالى: {«مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ»} (349)، {«أَوْ لََامَسْتُمُ النِّسََاءَ»} (350)، والزنا ليس كذلك انما يقال فيه: فجر بها، وخبث بها، وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب» (351)
__________
(346) يونس: 106
(347) الكشاف ج 1ص 293
(348) مريم: 20
(349) الأحزاب: 49
(350) النساء: 43
(351) الكشاف ج 3ص 7(1/562)
التعريض:
وادراك المعنى المعرض به فى الأساليب الأدبية لا يستطيعه الا من أوتى مقدرة على الفهم والتذوق، وليس الفهم الأدبى وقوفا عند المدلولات اللغوية للأساليب، وانما هو ذهاب وراء هذه النصوص، وبحث فى أضواء كلماتها، وتسمع لخافيات ايحاءاتها، والناس فى هذا مختلفون كل حسب قدرته.
وقد كان الزمخشرى بلاغيا مرهف الحس دقيق الشعور، نافدا بطبيعته الأدبية الى ما وراء ظاهر النصوص، وهذه المقدرة تتجلى فى ادراكه لما توحى به الأساليب من المعانى البعيدة عن متن ألفاظها.
وقد كان الزمخشرى أول دارس يحدد فرقا دقيقا بين الكناية والتعريض كما قلت، وهو بهذا يخالف عبد القاهر الذى جعل التعريض رديفا للكناية.
يقول الزمخشرى فى الفرق بين الكناية والتعريض:
«الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، كقولك: طويل النجاد والحمائل لطويل القامة. وكثير الرماد للمضياف، والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شىء لم تذكره، كما يقول للمحتاج اليه: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر وجهك الكريم، ولذلك قالوا: وحسبك بالتعريض منى تقاضيا، وكأنه امالة الكلام الى عرض يدل على الغرض، ويسمى التلويح، لأنه يلوح منه ما يريد» (352)
وقد سبق أن ناقشنا ما ذكره فى تعريف الكناية، ونقول هنا: ان ما ذكره فى تعريفه التعريض لم يستطع أحد من العلماء المدققين أن يغير
__________
(352) الكشاف ج 1ص 215(1/563)
فيه كلمة واحدة فقد قالوا فى تعريفه: انه امالة الكلام الى عرض أى جانب يدل على المقصود» (353)
وهذا التعريف مأخوذ من جراء كلام الزمخشرى السابق أى من قوله: والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شىء لم تذكره.
والسبب فى أن كان تعريفه للكناية فى هذا الموضع غير دقيق حتى كان شاملا لأنواع المجاز كلها، وكان تعريفه للتعريض دقيقا حتى لم يصح أن يطلق الا عليه. السبب فى ذلك أنه يعلم أن الكناية قد سبقه بتعريفها علامة القرن الخامس عبد القاهر، أما التعريض فانه أول من وضع له تعريفا علميا، فكان من الضرورى أن يراعى فيه أصول التعاريف.
وقد كان كلامه فى التعريض مثيرا لمسألة شغلت البلاغيين بعده، واضطربت أقوالهم فيها، ذلك أنهم قد فهموا مما ذكره هنا أن الكلام غير مستعمل فى المعنى التعريضى، فقيل: كيف يدل الكلام على معنى دلالة صحيحة، وهو غير مستعمل فيه على طريق الحقيقة، أو على طريق المجاز، ومن هنا ظهرت فكرة مستتبعات التراكيب، وهى وان كانت فكرة تائهة فى الدراسة البلاغية، الا أنها ومضة أدبية كان ينبغى أن تكون أكثر وضوحا وابرازا، لأنها تعنى فهم ما وراء المدلولات اللغوية للتراكيب فى التعبير الأدبى، وواضح أن النص الأدبى انما تقاس قيمته بثراء معانيه وايحاءاته، وأن النصوص الأدبية الخالدة هى التى لا ينتهى مددها الروحى والنفسى. وهذا من أسرار الاعجاز البلاغى فى القرآن الكريم. والحق أن تقدم بعض التفاسير يرجع الى الاجتهاد فى كشف آفاق جديدة لمدلول النص القرآنى، أعنى البحث الجاد الدءوب فى رؤية مستتبعات التراكيب.
__________
(353) حاشية السيد الشريف على المطول ص 414(1/564)
ونعرض هنا بعض النماذج التى كان يلتفت فيها الى المعانى التعريضية فى النصوص القرآنية.
يقول فى قوله تعالى: {«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهََادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللََّهِ»} (354): «وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد صلّى الله عليه وسلم بالنبوة فى كتبهم وسائر شهاداته» (355)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ»} (356): «تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة فى تكرمة الله اياهم بكلامه» (357)
ويقول فى قوله تعالى: {«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنََّا مُسْلِمُونَ»} (358): «ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه اشهدوا واعترفوا، بأنكم كافرون، حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره» (359)
ويقول فى قوله تعالى: {«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قََاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمََا وَهَنُوا لِمََا أَصََابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَمََا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكََانُوا»} (360):
«تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الارجاف بقتل رسول الله، وبضعفهم عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبىّ فى طلب الأمان من أبى سفيان» (361)
ويقول فى قوله تعالى: {«فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلََافَ رَسُولِ اللََّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجََاهِدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ»} (362): {«أَنْ يُجََاهِدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ»} تعريض بالمؤمنين بتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم، وأرواحهم فى سبيل
__________
(354) البقرة: 140
(355) الكشاف ج 1ص 147، 148
(356) البقرة: 174
(357) الكشاف ج 1ص 162
(358) آل عمران: 64
(359) الكشاف ج 1ص 284
(360) آل عمران: 146
(361) الكشاف ج 1ص 326
(362) التوبة: 81(1/565)
الله تعالى، وايثارهم ذلك على الدعة والخفض وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما فى المؤمنين من باعث الايمان ودواعى الايقان» (الكشاف ج 2ص 232).
ويقول فى قوله تعالى: {«لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي كَيْدَ الْخََائِنِينَ»} (363): «وكأنه تعريض بامرأته فى خيانتها أمانة زوجها، وبه فى خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه» (364)
وبالتأمل فى هذه النصوص نلحظ أن فى سياقها أحوالا موحية بالمعانى التعريضية، فاذا كانت الآية تسم الذى يكتم شهادة الله بأشد الظلم، فان هناك نفرا من أهل الكتاب عرفوا شهادة الله لمحمد عليه الصلاة والسلام فى كتبهم ثم كتموها.
واذا كانت الآية تصف اعراض الله عن الكافرين، فهناك مؤمنون يأملون اقبال الله عليهم.
واذا كان هناك من كره أن يجاهد بنفسه، فان هناك من جاهد.
واذا كان هناك من صدق فان هناك من كذب، وهكذا كانت المقامات والأحوال ملهمة المعانى التعريضية.
وقد ذكر الزمخشرى نوعا من التعريض لا أحسب أنه يختلف عن التعريض المذكور فى هذه النصوص. وذلك هو ما يعرض به المخاطب ليقى نفسه الوقوع فى الكذب، أو هو الكلام الذى يذكره المتكلم وهو صادق ليشغل به مخاطبه عن شىء لا يريد المتكلم من مخاطبه أن يتجه اليه، كما فى قول موسى عليه السلام فيما حكاه القرآن:
{«لََا تُؤََاخِذْنِي بِمََا نَسِيتُ»} (365) «فقد أخرج الكلام فى معرض النهى عن المؤاخذة بالنسيان ليوهم أنه قد نسى بسطا لعذره فى الانكار».
__________
(363) يوسف: 52
(364) الكشاف ج 2ص 74.
(365) الكهف: 73(1/566)
قال الزمخشرى: «وهو من معاريض الكلام التى يتقى بها الكذب مع التوصل الى الغرض كقول إبراهيم: هذه أختى، وانى سقيم» (366)
ولما نظر إبراهيم عليه السلام فى علم النجوم وقال لقومه: انى سقيم. فهموا منه أنه مشارف للاصابة بالطاعون، وكان القوم مصابين به، ففروا منه، ويقول الزمخشرى فى بيان قصده عليه السلام: والذى قاله إبراهيم عليه السلام معراض من الكلام، ولقد نوى به أن من فى عنقه الموت سقيم، ومنه المثل: كفى بالسلامة داء، وقول لبيد:
فدعوت ربّى بالسلامة جاهدا ... ليصحّنى فإذا السلامة داء
وقد مات رجل فجأة فالتفت عليه الناس، وقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابى: أصحيح من الموت فى عنقه»؟ (367)
ولابراهيم عليه السلام تعريض آخر لما سأله قومه: أأنت فعلت هذا بآلهتنا؟ قال عليه السلام {«بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذََا»} (368)
يقول الزمخشرى: «هذا من معاريض الكلام، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها الا أذهان الراضة من علماء المعانى، والقول فيه أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن الى أن ينسب الفعل الصادر عنه الى الصنم. وانما قصد تقريره لنفسه، واثباته لها، على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من الزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمى لا يحسن الخط، ولا يقدر الا على خرمشة فاسدة! فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك واثباته للأمى أو المخرمش، لأن اثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاء به واثبات للقادر» (369)
وقد كان الزمخشرى يلمح ما فى صورة التمثيل من التعريض،
__________
(366) الكشاف ج 2ص 574
(367) الكشاف ج 4ص 38
(368) الأنبياء: 63
(369) الكشاف ج 3ص 98(1/567)
ويعتبر المعانى التعريضية فيها من الرموز البالغة فى اللطف والخفاء، وأنه لا يتنبه اليها الا القليل من ذوى الفطنة من العلماء.
يقول فى قوله تعالى: {«ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كََانَتََا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ فَخََانَتََاهُمََا»} (370):
«وفى طى هذين التمثيلين تعريض بأمى المؤمنين المذكورتين فى أول السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما كره، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده، لما فى التمثيل من ذكر الكفر، ونحوه فى التغليظ قوله تعالى: {«وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعََالَمِينَ»} (371) وإشارة الى أن من حقهما أن تكونا فى الاخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، ولا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله، فان ذلك الفضل لا ينفعهما الا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بحفصة أرجح، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله، وأسرار التنزيل ورموزه فى كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العلماء ويزل عن تبصرهم» (372)
قلت: ان الزمخشرى فى تعريفه للتعريض أثار مسألة هامة لدى البلاغيين، وهى وجه الدلالة على المعنى التعريضى. وكان مما لا يقبله العقل عند العلامة سعد الدين أن يدل الكلام على معنى دلالة صحيحة وهو ليس حقيقة فيه ولا مجازا. والحق أن الزمخشرى قرر أن الكلام الذى يلوح منه معنى تعريضى قد يكون حقيقة كما ذكرنا فى الأمثلة السابقة فهى حقائق فى معانيها، والمراد منها، وان عرضت بما ذكر، وقد يكون التعريض من الأمثال المضروبة، كما فى آية امرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون، وكما فى قصة داود عليه السلام حين دخل عليه الخصم ففزع منهم. والزمخشرى يقول تعقيبا على هذا التمثيل، أو هذه القصة: «فان قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ فى التوبيخ من قبل أن التأمل اذا أداه
__________
(370) التحريم: 10
(371) آل عمران: 97
(372) الكشاف ج 4ص 458(1/568)
الى الشعور بالمعرض به كان أوقع فى نفسه، وأشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه، وحيائه. وأدعى الى التنبه على الخطأ فيه، من أن يبادره به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة» (373)، وقوله: انه أبلغ من قبل أن التأمل اذا أداه الى الشعور بالمعرض به كان أوقع فى نفسه، تفسير لأثر التعريض يقوم على فهم لأحوال النفس، حيث تنقاد دائما الى ما تهتدى اليه بتفكيرها وتأملها.
وقد انتهى البلاغيون فى بيان وجه دلالة التعريض الى ما لخصه العلامة السيد الشريف وذكره البنانى فى حاشيته على مختصر السعد من أن المعنى التعريضى مقصود من الكلام إشارة وسياقا، لا استعمالا، فجاز أن يكون اللفظ مستعملا فى معناه الحقيقى، أو المجازى، أو المكنى عنه، وقد دل به أى بالمعنى المستعمل فيه من تلك المعانى على مقصود آخر بطريق الامالة الى عرض، فالتعريض يجامع كلا من الحقيقة والمجاز والكناية» (374)
وهذا راجع الى كلام الزمخشرى الذى ذكرناه.
__________
(373) الكشاف ج 4ص 64
(374) تقرير الشمس الانبابى ج 4ص 338(1/569)
الفصل السّابع ألوان البديع
البحث فى ألوان البديع:
قد عرض الزمخشرى للمشاكلة، والطباق، والجناس، والمزاوجة، والتقسيم، وغير ذلك مما جعله المتأخرون من علم البديع. كما عرض لفنون البيان والمعانى، ولا أجد من كلامه ما يدل على أن الألوان التى جعلها المتأخرون من علم البديع دون غيرها من فنون البيان والمعانى، من حيث أثرها فى قوة الكلام وبلاغته، وقد نظرت فى كتابه كله، ووقفت عند كل لون ذكره من هذه الألوان. فوجدته يشير الى بلاغتها، والى أنها فن من كلامهم بديع، وطراز عجيب، وأنها من مستغرب فنون البلاغة، ثم يشيد ببلاغة القرآن المعجزة التى تحيط بكل هذه الفنون، وتوجد فيها على أحسن صورة وأقوم منهج.
يقول فى المشاكلة: «ولله در التنزيل واحاطته بفنون البلاغة وشعبا، لا تكاد تستغرب منه فنا الا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسد مدارجه» (1).
ويقول فى نوع من أنواع اللف: «انه لطيف المسلك، لا يكاد يهتدى الى تبينه الا النقاب المحدث من علماء البيان» (2).
ويذكر اعجاب شريح القاضى ببلاغة الشاهد الذى راعى المشاكلة حين قال شريح: انك لسبط الشهادة، فقال الرجل: انها لم تجعد عنى. فقال له شريح: لله بلادك، وقبل شهادته (3).
__________
(1) الكشاف ج 1ص 85
(2) الكشاف ج 1ص 122
(3) الكشاف ج 1ص 85(1/570)
ثم هو يبسط هذه الألوان ويحللها، ويشرح أسلوبها، وما تنطوى عليه من أسرار ونكت، وهذه طريقة فى دراسة فنون البيان والمعانى.
وقد ذهب بعض الدارسين الى القول بأن ألوان البديع لا تدخل فى قضية الاعجاز القرآنى كما يتصورها صاحب الكشاف، وأن الزمخشرى يرى أن البديع ذيل تابع لعلمى المعانى والبيان. وكان أول من ذهب الى هذا من المعاصرين الأستاذ مصطفى الجوينى فى بحث كتبه عن منهج الزمخشرى فى تفسير القرآن وبيان اعجازه، وكان أول بحث مبسوط يكتب عن الزمخشرى، ويتناول المسائل البلاغية بالصورة التى تناولها.
يقول الأستاذ الجوينى: «والزمخشرى حين يرى أن القرآن مختص بعلمين هما المعانى والبيان فهو فى هذا يتأثر عبد القاهر الذى يرى مزية الكلام الجمالية فى معناه. وأما اللفظ فهو خادم المعنى، ولهذا فلن تظفر هنا بأكثر من ثلاثة ضروب من البديع على كثرتها، وليس الزمخشرى بهذا منكرا للصنعة البديعية، فبها يحسن الكلام ولكنها قشر بجانب اللب، وما اللب الا الظلال المعنوية والنفسية التى يوحيها نظم الكلام» (4).
وقبل مناقشة هذا الكلام أرى أن أذكر رأيين لكتابين تعرض أحدهما فى كتاب كتبه عن البلاغة لمذهب الزمخشرى، وكتب الآخر كتابه خاصا بالزمخشرى، وليس هناك فرق بين ما ذهب اليه الأستاذ الجوينى وما ذهب اليه الفاضلان فى بيان مذهب الزمخشرى فى البديع، بل أرجح أنهما اعتمدا عليه فيما كتباه فى هذا الموضوع.
يقول أولهما الأستاذ الدكتور شوقى ضيف: «وكانت كلمة البيان كما قدمنا قد ترددت على لسان عبد القاهر فى فاتحة كتابه أسرار البلاغة فاتخذها الزمخشرى علما على مباحثه فيه، وهى مباحث تناولت فى تفصيل: التشبيه، والاستعارة، والمجاز بنوعيه اللغوى والعقلى.
__________
(4) منهج الزمخشرى فى تفسير القرآن ص 256، 257(1/571)
أو الاسناد الحكمى، وبذلك كان الزمخشرى أول من ميز بين هذين العلمين فجعل لكل منهما مباحثه الخاصة، واستقلاله الذى يشخصه، ونقل عن السيد الجرجانى لأنه لم يكن يعد البديع علما مستقلا، بل كان يراه ذيلا لعلمى المعانى والبيان، وسنرى السكاكى يتأثر به فى ذلك، وكأنه هو الذى ميز لأول مرة بين علوم البلاغة الثلاثة، وان كنا سنجد بينهما شيئا من التداخل فى الحين بعد الحين» (5).
ويقول فى موضع آخر: «رأينا المتكلمين فى القرن الخامس من الباقلانى الى عبد القاهر ينحون البديع عن مباحث أسرار البلاغة فى الذكر الحكيم، وقد مضى عبد القاهر يكتشف نظرية المعانى ويضع نظرية البيان بمتشابكاتها الكثيرة، وعرض فى تضاعيفها للسجع، والجناس، وحسن التعليل، والطباق، ولكنه لم يعن بعد ذلك بتفصيل القول فى ألوان البديع، اذ كان يرى كما رأى المتكلمون من قبله أنه لا يدخل فى قضية الاعجاز القرآنى لأن كثيرا من ألوانه مستحدث، وما جاء فى القرآن انما جاء دون تأت له وتكلف، ومضى الزمخشرى على هذا الهدى لا يعنى بما جاء فى الآيات الكريمة من بديع الا عرضا، ونرى السيد الجرجانى ينقل عنه كما مر بنا أنه لم يكن يعد البديع علما مستقلا من علوم البلاغة انما كان يعده ذيلا متمما لها. وتتمة تحمل عليها، وكانت هذه النظرة الى البديع سببا فى أن لا يطيل النظر فى ألوانه القرآنية، وأن لا يلم بها الا فى الحين البعيد بعد الحين، واذا ألم بها مسها فى خفة» (6).
ويقول الأستاذ الدكتور الحوفى وهو الذى كتب كتابه بعد الأولين:
«والحق أن الجرجانى كان يريد بالنظم علم المعانى أى الأسلوب وكان قد ردد فى كتابه أسرار البلاغة كلمة «البيان» فجاء الزمخشرى وأطلق علم المعانى وعلم البيان على ما يطلقان عليه اليوم. ولهذا فصل العلمين بعضها عن الآخر.
__________
(5) البلاغة تطور وتاريخ ص 221، 222
(6) المرجع السابق ص 265(1/572)
أما علم البديع فهو فى رأى الزمخشرى تابع للمعانى والبيان، وليس علما قائما بذاته» (7) انتهى كلامهم.
ولست أوافق الأستاذ الجوينى فى تصوره لمرجع المزية عند عبد القاهر، اذ أنها لا ترجع الى المعنى كما يرى، ولا ترجع الى اللفظ كذلك، وانما ترجع الى النظم، وهذا أمر يفهمه المبتدءون فى قراءة كتب عبد القاهر، وأما أن الزمخشرى حصر بلاغة القرآن فى علمين هما المعانى والبيان فذلك حق، وليس فيه ابعاد للصنعة البديعية، لأن علمى المعانى والبيان لم يتحددا فى بلاغة الكشاف بالصورة التى يتصورها المتأخرون حين حصروا كلا منهما فى أبواب معينة.
ولست أوافقه كذلك فى أن الزمخشرى لم يذكر الا ثلاثة أنواع من ضروب البديع، وسوف أعرض ما ذكره منها وهو يزيد على ثلاثة أضعاف ما ذكر الأستاذ الجوينى.
وقد يكون من أهم ما دفع هؤلاء جميعا الى القول بأن ألوان البديع لا تدخل فى بلاغة القرآن عند الزمخشرى: أنهم وقفوا عند كلامه فى التجانس، وأخذوا منه ظاهره. فالزمخشرى يقول فى قوله تعالى:
{«وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمََاءُ»} (8)
بعد ما ذكر ما فيها من نكت وأسرار: «ولما ذكرنا من المعانى والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية، ورقصوا لها رءوسهم لا لتجانس الكلمتين، وهما قوله: «ابلعى» و «أقلعى». وذلك وان كان لا يخلى الكلام من حسن فهو كغير الملتفت اليه بازاء تلك المحاسن التى هى اللب وما عداها قشور» فقد يتوهم أن الزمخشرى بهذا يضع من مكانة ألوان البديع فى الاعجاز القرآنى، والحق أننا لا نسمع منه هذه النغمة الا فى فن الجناس، وذلك راجع الى انصراف اهتمام الأدباء والشعراء فى عصره الى هذا الفن، حتى صار صناعة ثقيلة متكلفة، فهو بهذا
__________
(7) الزمخشرى للأستاذ الدكتور أحمد الحوفى
(8) هود: 44(1/573)
يشير الى أن ما جاء فى القرآن من هذا اللون الذى فتنتم به لم يكن هو وحده سر بلاغته، كما جعلتموه سر بلاغتكم، ولهذا يقول فى الجناس فى آية: {«وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ»} (9): «من جنس الكلام الذى سماه المحدثون البديع. وهو من محاسن الكلام الذى يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا، أو يضعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى، وسداده»، ثم يقول فى موقعه من القرآن: «ولقد جاء هنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا، ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان {«بِنَبَإٍ»}
بخبر لكان المعنى صحيحا وهو كما جاء أصح لما فى {«النَّبَإِ»} من الزيادة التى يطابقها وصف الحال».
والجناس وان كان أقرب ألوان البديع الى الحسن اللفظى لكنه فى القرآن من محاسن الألفاظ والمعانى كما يقول.
وقد يكون من أهم ما دفع هؤلاء جميعا الى القول بأن ألوان البديع لا تدخل فى بلاغة القرآن عند عبد القاهر، أنهم رأوه قد أهمل ألوان البديع، ولم يبسط القول فيها. كما فعل فى ألوان البيان، وصور النظم، فظن أكثر الباحثين أنه غير ملتفت اليها، لأنها لا تدخل فى الاعجاز البلاغى للقرآن، وهذا وهم لأن عبد القاهر أشار الى أن الاستعارة داخلة فى الاعجاز وهى من البديع كما يقول، وأشار الى أن المزاوجة من صور النظم وأنه يبلغ الغاية فى دقته وتماسكه فى صورها، ومثلها الجمع والتقسيم. وأشار الى أن سلطان المزية لا يعظم فى شىء كعظمه فى باب المزاوجة، والجمع والتقسيم، وبعض صور التشبيه الى آخر ما ذكر. وقد حدد المرحوم الشيخ سليمان نوار مذهب عبد القاهر فى البديع، وكان رحمه الله قارئا فطنا كتب فى مسائل البلاغة فصولا جادة تجتهد فى تنقية البحث البلاغى واستقامة منهجه، وقد كتبت هذه البحوث فى أوائل الثلاثينات، فهى من البحوث الرائدة كما نرى. يقول طيب الله ثراه: «أن بعض ما عده العلماء من علم
__________
(9) النمل: 22(1/574)
البديع ومن المحسنات العرضية لا الذاتية، يجعله الشيخ من دقة النظم، وقد سبق له أن النظم من عماد البلاغة، وسيأتى عده من دقة النظم للتقسيم وحده، والتقسيم والجمع، واذا كانت المزاوجة من صميم البلاغة كان كثير من المحسنات المعنوية مثل المذهب الكلامى، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وحسن التعليل، وتجاهل العارف أولى بأن تكون من صميمها ومن المحسنات الذاتية» (10).
أما لماذا أغفل عبد القاهر ألوان البديع فذلك راجع الى أن هذه الألوان قد اهتم بها النقاد والبلاغيون قبل القرن الخامس الذى عاش فيه عبد القاهر، وأكملوا بحثها، وحصروا أنواعها، فكان عمله لو فعل تكرارا لمجهود غيره، فأولى أن يتناول النظم الذى هو فى حاجة الى وضع القواعد، وتأصيل الأصول، وأن يتناول البيان، فانه وان كثر القول فيه الا أن تحديد الفروق الدقيقة بين ألوانه لم تكن قد اتضحت، ولهذا كانت محاولة الفرق بين التشبيه والتمثيل، ومحاولة الفرق بين الاستعارة والتشبيه، والفرق بين الاستعارة والتمثيل. أكبر الدروس وأجلها فى هذا الكتاب، فعبد القاهر قد اهتم بأمور كانت فى حاجة الى جهد، وانصرف عن أمور انتهى القول فيها وهذا خلق العالم الجاد. أما أن نفهم أنه انصرف عنها لقلة شأنها فى البلاغة القرآنية فذلك بعد عن الحق فيما أرى. ولو تأملنا ما كتبه فى التجنيس والسجع لوجدناه دفاعا عن بلاغة هذه الفنون، ومحاولة جادة لتجلية جانبها المشرق، الذى أطفأته تكلفات الأدباء والشعراء فى زمانه.
وقد يقال: ان عبد القاهر اهتم بالتشبيه الحسى وأنواعه، وقد سبقته جهود فيه جعلت حديثه فيه كالمعاد وأقول: نعم ان ذلك حق، ولكن الذى أفهمه أنه ذكر التشبيه الحسى وكرر القول فيه بالنسبة الى من سبقه لأنه يريد أن يوضح ويظهر الفرق بينه وبين التمثيل، فلا مفر من استيعاب جميع صوره، ولذلك كانت أول عبارته فى دراسة التشبيه
__________
(10) مذكرة فى البلاغة للأستاذ المرحوم الشيخ سليمان نوار ص 58(1/575)
هى بيان تقسيمه الى تشبيه وتمثيل، ثم استطرد به القول وفاء بحق البحث. وكان أول من جعل الفرق بين التشبيه الصريح والتمثيل رأس مسألة.
ولما ذكر الزمخشرى علم المعانى وعلم البيان وسكت عن علم البديع زعم السيد الشريف أنه يرى أن البديع ذيل لعلمى المعانى والبيان، ولست أدرى كيف يفهم هذا من كلام الزمخشرى الذى لم يشر الى أن المعانى والبيان رأس البلاغة حتى نفهم أنه اعتبر البديع ذيلا، وسوف يتضح لنا مذهبه فى البديع حين نعرض دراسته لفنون البديع وبيانه لقيمتها البلاغية، وقد يكون فيما قدمناه من اشاراته الى اللف وأنه فى دقيق المسلك لا يهتدى اليه الا النقاب المحدث، وفيما ذكره فى المشاكلة وأنها فن من فنون البلاغة وشعبة من شعبها. قد يكون فى هذا وذاك ما يقوى زعمنا من عدم اصابة مولانا الشريف كبد الحق حين حسب أن الزمخشرى جعل البديع ذيلا فى بلاغة القرآن المعجزة، وكان على الأستاذ العلامة الدكتور شوقى وهو الباحث الذكى أن يشير الى خطأ السيد فى هذه المسألة خير من أن يعتبر عبارته أصلا يبنى عليه رأيه فى تصور الزمخشرى لفنون البديع متأثرا فى هذا بما ذكره الفضل الجوينى فى مذهب الزمخشرى فى البديع، على أننا لا نحسب عبارة الزمخشرى فى «الجناس» وأنه مما سماه المحدثون «البديع» مسقطة له، لأنها ناظرة الى عبارة الجاحظ فى الاستعارة، وأنها مما سماها المحدثون البديع، فكما أن عبارة الجاحظ هذه لا تسقط القيمة البلاغية لفن الاستعارة، فكذلك عبارة الزمخشرى لا تسقط القيمة البلاغية لفن الجناس، أو لفنون البديع، نعم قد ذكر أن الجناس قشور وقد ذكرنا أن ذلك قول يتجه به الزمخشرى كما فعل غيره الى طائفة من الشعراء والأدباء عناهم عبد القاهر قبله بقوله: «وقد تجد فى كلام المتأخرين كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع الى ما له اسم فى البديع الى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم ويقول ليبين» (11).
__________
(11) أسرار بلاغة القرآن ص 5(1/576)
تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وأن الكلام الذى يتأتى فيه هذا الفن تأتيا طيعا يتلاحق، لم تر كلاما أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقا.
فاذا كانت الاستعارة مظهرا من مظاهر الاعجاز البيانى أو سرا من أسرار البلاغة، فهل يمكن القول بأن الترشيح وهو ماؤها ورونقها ليس مظهرا من مظاهر الاعجاز، وليس سرا من أسرار البلاغة، وانما هو ذيل للبلاغة فى مفهوم الزمخشرى؟
أما الألوان التى ذكرها الزمخشرى مما جعله المتأخرون من علم البديع والتى نرى حديثه فيها أصدق دليل على ما أقوله فى فهم مذهبه فى البديع فهى:
1 - المشاكلة:
ويسميها المقابلة أحيانا، وهو يعنى بالمقابلة معناها اللغوى.
يقول فى قوله تعالى: {«إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا»} (12):
«ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟ مجاز على سبيل المقابلة واطباق الجواب على السؤال، وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبى تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلّها ... أنّى بنيت الجار قبل المنزل
وشهد رجل عند شريح فقال: انك لسبط الشهادة، فقال: انها لم تجعد عنى، فقال: لله بلادك، وقبل شهادته، فالذى سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة، ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار.
ولولا سبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها، ولله در أمر التنزيل واحاطته بفنون البلاغة وشعبها، لا تكاد تستغرب منها فنا الا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسد مدارجه» (13).
__________
(12) البقرة: 26
(13) الكشاف ج 1ص 85(1/577)
والمشاكلة فى قول تعالى: {«إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي»} وفى قول أبى تمام: ذكر الشيء بلفظ غيره المقدر ذكره، لأن قولهم: أما يستحى رب محمد؟ غير مذكور فى الكلام، وكذلك بناء المنزل اذ التقدير:
أنى بنيت الجار قبل بناء المنزل، وقول الشاهد: انها لم تجعد عنى، فيه مشاكلة بذكر ضد اللفظ المذكور، لأن التجعيد هنا معناه امتناع الشهادة وتأبيها عليه. وصح ذلك لأن القاضى ذكر السبوطة فى ضد ذلك، فشاكل الشاهد بذكر ضد ما ذكر القاضى. وهذا الذى ذكره الزمخشرى يكاد يكون بلفظه فى الايضاح (14).
ويقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«صِبْغَةَ اللََّهِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً»} (15): «وهى فعلة من «صبغ» كالجلسة من «جلس»، وهى الحالة التى يقع عليها الصبغ، والمعنى تطهير الله. لأن الايمان يطهر النفوس، والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: هو تطهير لهم، واذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قالوا: الآن صار نصرانيا حقا، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا بالله وصبغنا الله بالايمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا، أو يقول المسلمون: صبغنا الله بالايمان صبغة، ولم نصبغ صبغتكم، وانما جىء بلفظ «الصبغة» على طريقة المشاكلة كما يقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرام» (16).
والمشاكلة هنا بين قول وفعل لأن الغرس لم يجر ذكره تحقيقا ولا تقديرا كما فى الأمثلة الأخرى (17). وقد نقل الخطيب هذا النص وجعله من القسم الثانى من المشاكلة وهو ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته تقديرا، لأن لفظ «الصبغ» لم يقع من النصارى (18).
__________
(14) تنظر بغية الايضاح ج 4ص 23
(15) البقرة: 138
(16) الكشاف ج 1ص 147
(17) تنظر حاشية الشهاب ج 2ص 248
(18) بغية الايضاح ج 4ص 24(1/578)
ويقول فى قوله تعالى: {«تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ»} (19): «والمعنى: تعلم معلومى ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة، وهو من فصيح الكلام وبينه، فقيل: {«فِي نَفْسِكَ»}
لقوله: {«فِي نَفْسِي»} (20).
والمشاكلة هنا من فصيح الكلام وبينه.
وقد يكون ذكر الشيء بلفظ المذكور فى صحبته يصلح أن يكون مبنيا على التشبيه، ولكن الزمخشرى يجعله من طريق المشاكلة، ثم يشير الى ما ينطوى عليه هذا التعبير من فوائد أساسها علاقة الشبه.
يقول فى قوله تعالى: {«قََالَ لَهُمْ مُوسى ََ أَلْقُوا مََا أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبََالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقََالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنََّا لَنَحْنُ الْغََالِبُونَ. فَأَلْقى ََ مُوسى ََ عَصََاهُ فَإِذََا هِيَ تَلْقَفُ مََا يَأْفِكُونَ. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سََاجِدِينَ»} (21):
«وانما عبر عن الخرور بالالقاء لأنه ذكر مع الالقاءات فسلك به طريق المشاكلة، وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوها لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم الى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا» (22).
وقد يطلق المزاوجة على صور المشاكلة، يقول فى قوله تعالى:
{«وَإِنْ عََاقَبْتُمْ فَعََاقِبُوا بِمِثْلِ مََا عُوقِبْتُمْ بِهِ»} (23): «سمى الفعل الأول باسم الثانى للمزاوجة» (24).
* * *2 - اللف:
يذكر الزمخشرى صورا من اللف منها ذكر المتعدد على جهة الاجمال، ثم ذكر ما لكل على جهة التفصيل ثقة بأن السامع سيرده، يقول
__________
(19) المائدة: 116
(20) الكشاف ج 1ص 541
(21) الشعراء: 4643
(22) الكشاف ج 3ص 246
(23) النحل: 126
(24) الكشاف ج 2ص 502(1/579)
فى قوله تعالى: {«وَقََالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلََّا مَنْ كََانَ هُوداً أَوْ نَصََارى ََ»} (25): «والمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة الا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة الا من كان نصارى، فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد الى كل فريق قوله، وأمنا من الالباس لما علم من التعادى بين الفريقين، وتضليل كل واحد منهما لصاحبه، ونحوه: {«وَقََالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصََارى ََ تَهْتَدُوا»} (26).
والآية من شواهد الايضاح وما ذكره الخطيب فيها منقول من كلام الزمخشرى (27).
ويشير الى ذكر المتعدد على جهة التفصيل والترتيب.
يقول فى قوله تعالى: {«لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»} (28): «وهو اللطيف يلطف عن أن تدركه الأبصار، الخبير بكل لطيف، فهو يدرك الأبصار لا تلطف عن ادراكه، وهذا من باب اللف» (29).
وقد يكون ذكر المتعدد وتوابعه على غير ترتيب، فيشير الى ترتيبه ويعلل اهماله، يقول فى قوله تعالى: {«وَمِنْ آيََاتِهِ مَنََامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَابْتِغََاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ»} (30): هذا من باب اللف، وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار الا أنه فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الأخريين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشىء واحد من اعانة اللف على الاتحاد» (31).
ويشير الى نوع من اللف يلطف مسلكه ويدق فهمه.
__________
(25) البقرة: 111
(26) الكشاف ج 1ص 132والآية من سورة البقرة: 135
(27) ينظر بغية الايضاح ج 4ص 34
(28) الأنعام: 103
(29) الكشاف ج 2ص 43
(30) الروم: 23
(31) الكشاف ج 3ص 373(1/580)
يقول فى قوله تعالى: {«فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كََانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى ََ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيََّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللََّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلََا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللََّهَ عَلى ََ مََا هَدََاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»} (32):
«الفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق، تقديره: {«وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللََّهَ عَلى ََ مََا هَدََاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»}، فعل ذلك يعنى جملة ما ذكر من أن الشاهد بصوم الشهر وأن المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه. ومن الترخيص فى إباحة الفطر، فقوله {«لِتُكْمِلُوا»} علة الأمر بمراعاة العدة. {«وَلِتُكَبِّرُوا»} علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، {«وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»} علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك، لا يكاد يهتدى اليه الا النقاب المحدث من علماء البيان» (33).
وقد أشار سعد الدين الى هذا النوع. وقال: وهنا نوع آخر من اللف لطيف المسلك، وهو أن يذكر متعدد على التفصيل، ثم يذكر ما لكل ويؤتى بعده بذكر المتعدد ملفوظا أو مقدرا فيقع النشر بين لفين، أحدهما مفصل، والآخر مجمل. وهذا معنى لطف مسلكه، ثم نقل كلام الزمخشرى السابق وأورد عليه اعتراضا، ملخصه: أن الزمخشرى ذكر فى اللف أمر الشاهد بصوم الشهر ولم يجعل له مقابلا فى العلل وأنه ذكر فى العلل {«وَلِتُكَبِّرُوا»} واعتبرها علة لما علم من كيفية القضاء، وهذا لم يذكر فى المعللات، وأجاب بأن ذكر الشاهد بالصوم لم يذكر الا ليبنى عليه غيره فليس ما يدعو الى ذكر علة له، وأن ما علم من كيفية القضاء مفهوم من الأمر بمراعاة العدة، وبهذا يكون تطبيق العلل على المعلولات فى كلام الزمخشرى وافيا وصحيحا» (34).
وقد تكون الصفات الراجعة الى المذكور متقابلة فيجتمع اللف والطباق، يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ}
__________
(32) البقرة: 185
(33) الكشاف ج 1ص 172
(34) ينظر المطول ص 427، 428(1/581)
{وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ»} (35): «وشبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللف والطباق» (36).
* * *3 - الاستطراد:
وقد أشار الزمخشرى فى مواطن كثيرة الى طريقة الاستطراد وذلك فى بيانه لمناسبات الجمل وعلاقات أجزاء الكلام بعضها ببعض.
يقول فى قوله تعالى: {«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوََاقِيتُ لِلنََّاسِ وَالْحَجِّ، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهََا وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ََ»} (37): «فان قلت: ما وجه اتصاله بما قبله (يعنى: {لَيْسَ الْبِرُّ}) قلت: ويجوز أن يجرى ذلك على طريق الاستطراد، لما ذكر أنها مواقيت للحج لأنه كان من أفعالهم فى الحج» (38).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَكَذََلِكَ أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنََا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً. فَتَعََالَى اللََّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، وَلََا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى ََ إِلَيْكَ وَحْيُهُ»} (39): «ولما ذكر القرآن وانزاله قال على سبيل الاستطراد: واذا لقنك جبريل ما يوحى اليك من القرآن فتأن عليه ريثما يسمعك ويفهمك ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك» (40).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتََابِ لَكََانَ خَيْراً لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفََاسِقُونَ. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلََّا أَذىً»} (41): «فان قلت: ما موقع الجملتين أعنى: {«مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ»}، {«لَنْ يَضُرُّوكُمْ}
__________
(35) هود: 24
(36) الكشاف ج 2ص 203
(37) البقرة: 189
(38) الكشاف ج 1ص 177
(39) طه: 113، 114
(40) الكشاف ج 3ص 21
(41) آل عمران: 110، 111(1/582)
{إِلََّا أَذىً»}؟ قلت: هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند اجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فان من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء من غير عاطف» (42).
وينقل صاحب الايضاح فى بحث الاستطراد قوله فى آية: {«يََا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنََا عَلَيْكُمْ لِبََاساً يُوََارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِبََاسُ التَّقْوى ََ ذََلِكَ خَيْرٌ»} (43) يقول الزمخشرى فيها: «وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدء السوءات، وخصف الورق عليها، اظهارا للمنة فيما خلق من اللباس، لما فى العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة، واشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى» (44).
* * *4 - التفصيل:
وأشار الى طريقة الاجمال والتفصيل، والى قيمتها فى أداء المعنى فهى تارة تفيد التعظيم، يقول فى قوله تعالى: {«لََا أُضِيعُ عَمَلَ عََامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَالَّذِينَ هََاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقََاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئََاتِهِمْ»} (45)
يقول: «فالذين هاجروا: تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم، كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة، وهى المهاجرة عن أوطانهم فارين الى الله بدينهم» (46).
وتارة تفيد تقوية المعنى، واثباته، وذلك باجماله أولا حتى تتهيأ النفس الى معرفة تفصيله، فاذا جاء مفصلا كان أثره أبلغ، وكان التفات النفس اليه أشد، وأقوى. يقول فى قوله تعالى: {«قََالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي»} (47): «فان قلت: {«لِي»} فى
__________
(42) الكشاف ج 1ص 308
(43) الأعراف: 26
(44) الكشاف ج 2ص 76وينظر بغية الايضاح ج 4ص 25
(45) آل عمران: 195
(46) الكشاف ج 1ص 351.
(47) طه: 25، 26(1/583)
قوله: {«اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي»} ما جدواه والكلام بدونه مستتب؟ قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل: اشرح لى ويسر لى، فعلم أن ثم مشروحا وميسرا، ثم بين ورفع الابهام بذكرهما، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره من أن يقول: اشرح صدرى ويسر أمرى، على الايضاح الساذج، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريق الاجمال والتفصيل» (48).
ويشير الى حذف أحد أقسام المفصل أو التفصيل، ودلالة المذكور على المحذوف، يقول فى قوله تعالى: {«لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلََّهِ وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبََادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذََاباً أَلِيماً»} (49): «فان قلت: التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد، قلت: هو مثل قولك:
جمع الامام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين، أحدهما أن يحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثانى، كما حذف أحدهما فى التفصيل فى قوله عقيب هذا: فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به، والثانى وهو أن الاحسان الى غيرهم مما يغمهم فكان داخلا فى جملة التنكيل بهم، فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة اذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله» (50).
والبعض لم ير حذفا فى المفصل كما ذكر الزمخشرى، لأن قوله:
{«فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً»} شامل للمستنكف وغير المستنكف، وذكر عيسى عليه السلام والملائكة يرشح هذا. وقد أشار الى ذلك ابن المنير وهو على حق. نعم ان المثال الذى ذكره صالح لهذا النوع الذى
__________
(48) الكشاف ج 3ص 47.
(49) النساء: 172
(50) الكشاف ج 1ص 464(1/584)
يحذف فيه قسم من المفصل، ثم ان الآية بعده مثال صحيح للنوع الثانى الذى يحذف فيه قسم من التفصيل.
ويشير الزمخشرى الى أن أحد أقسام التفصيل قد يكون داخلا فى الآخر، ولكنه يذكر قسيما له لتخصص معناه بشيء دون شىء، وبذلك يصبح القسم قسيما.
يقول فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفََّارَ أَوْلِيََاءَ»} (51): «وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار وان كان أهل الكتاب من الكفار اطلاقا للكفار على المشركين خاصة» (52).
* * *5 - الكلام الموجه:
ويذكر الزمخشرى احتمال الكلام لوجهين مختلفين ويسميه «القول ذا الوجهين» يقول فى قوله تعالى: {«وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرََاعِنََا»} (53):
«وهو قول ذو وجهين يحتمل الذم أى اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكن أصم غير مسمع، ويحتمل المدح أى {«وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ»} مكروها، من قولك: أسمع فلان فلانا، اذا سبه، وكذلك قولهم: {«رََاعِنََا»} يحتمل: راعنا نكلمك أى ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها
فكانوا سخرية بالدين وهزءا برسول الله صلّى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والاهانة ويظهرون به التوقير والاكرام فان قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذى الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا: سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء» (54).
وقد نقل صاحب الايضاح هذا التحليل ولم يزد فى بيان التوجيه زيادة ذات فائدة عن ما ذكره الزمخشرى هنا (55).
__________
(51) المائدة: 57
(52) الكشاف ج 1ص 506
(53) النساء: 46
(54) الكشاف ج 1ص 400
(55) تنظر بغية الايضاح ج 4ص 64، 65(1/585)
ويذكر الكلام الموجه أيضا فى قوله تعالى: {«قََالَ مَعََاذَ اللََّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلََّا مَنْ وَجَدْنََا مَتََاعَنََا عِنْدَهُ»} (56): يقول: {«مَعََاذَ اللََّهِ»} هو كلام موجه، ظاهره أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم؟ وباطنه أن الله أمرنى وأوحى الى بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة فلو أخذت غير من أمرنى بأخذه كنت ظالما وعاملا على خلاف الوحى» (57).
* * *6 - التورية:
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«كَذََلِكَ كِدْنََا لِيُوسُفَ، مََا كََانَ لِيَأْخُذَ أَخََاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ»} (58): «فان قلت: ما أذن الله يجب أن يكون حسنا، فمن أى وجه حسن هذا الكيد، وما هو الا بهتان، وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله: {«إِنَّكُمْ لَسََارِقُونَ»} (59)، {«فَمََا جَزََاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كََاذِبِينَ»}؟ (60) قلت: هو فى صورة البهتان وليس ببهتان فى الحقيقة لأن قوله: {«إِنَّكُمْ لَسََارِقُونَ»}
تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف» (61).
والتورية لا تظهر بمعناها الاصطلاحى فى هذا التعبير لأنها اطلاق لفظ له معنيان قريب وبعيد وإرادة البعيد، واللفظ هنا ليس ذا معنيين، اللهم الا اذا توسعنا فى هذا وقلنا: ان فعلهم بيوسف يشبه السرقة لما فيها من مخادعة، وادعاء، وكذب، ولأنها فى نهايتها كانت سرقة لأخيهم.
ولذلك يمكن أن يقال: ان التورية هنا أقرب الى المعنى اللغوى الذى هو الاختفاء من قولهم: وراه تورية، أخفاه كواراه (62) لأن عليه السلام أخفى مراده فى هذا التعبير، وليس للزمخشرى حديث عن
__________
(56) يوسف: 79
(57) الكشاف ج 2ص 384
(58) يوسف: 76
(59) يوسف: 70
(60) يوسف: 74
(61) الكشاف ج 1ص 383
(62) القاموس المحيط ج 4ص 399(1/586)
التورية فى تفسيره الا هذه الاشارة الغامضة، وهذا راجع الى أن هذا اللون البديعى لم يكثر فى القرآن الذى جرى أسلوبه على أعراق البلاغة الأصيلة، متسما بوضوح الفطرة الانسانية الصادقة، ولهذا كانت شواهد الخطيب القرآنية فى هذا اللون غير مسلمة له، اذ أنه ذكر قوله تعالى:
{«الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ»} (63)، {«وَالسَّمََاءَ بَنَيْنََاهََا بِأَيْدٍ»} (64)، وهذه من صور البيان، وقد كره عبد القاهر أن تفسر اليد هنا بالقدرة، ولهذا قال سعد الدين: «ان الخطيب جرى فى هذا على مذهب أهل الظاهر من المفسرين، وهذا يعنى أنه خالف شيوخ البيان حين اعتبر هذه الأمثلة من التورية» (65).
* * *7 - المقابلة:
والمقابلة قد تكون بين لفظين متقابلين، كما فى قوله تعالى:
{«وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذََا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذََا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ»} (66) يقول الزمخشرى: «ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز اذ كل واحد منهما غاية فى بابه لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض فى أديم وجهه» (الكشاف ج 4ص 102).
وقد تكون المقابلة بمعنى الموافقة فى نظم الجمل، يقول فى قوله تعالى: {«اللََّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهََارَ مُبْصِراً»} (67):
«فان قلت: لم قرن الليل بالمفعول له والنهار بالحال، وهلا كانا حالين، أو مفعولا لهما، فيراعى حق المقابل؟ قلت: هما متقابلان من حيث
__________
(63) طه: 5
(64) الذاريات: 47
(65) ينظر المطول ص 425، 426وبغية الايضاح ج 4ص 29، 30
(66) الزمر: 45
(67) غافر: 61(1/587)
المعنى لأن كل واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل: ليبصروا فيه فاتت الفصاحة التى فى الاسناد المجازى، ولو قيل: ساكنا، والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى الى قولهم: ليل ساج وساكن لا ريح فيه، لم تتميز الحقيقة من المجاز» (68).
ويقول فى هذه الصورة فى موطن آخر: «جعل الابصار للنهار وهو لأهله. فان قلت: ما للتقابل لم يراع فى قوله {«لِتَسْكُنُوا»}
و {«مُبْصِراً»} حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأن معنى {«مُبْصِراً»}:
ليبصروا فيه طرق التقلب فى المكاسب» (الكشاف ج 2ص 303).
* * *8 - الطباق:
وكما رأينا المقابلة تخرج عن معناها الاصطلاحى فى كثير من المواقع التى سماها مقابلة، كذلك نرى الطباق وهو أصل المقابلة عند الخطيب يتعدد مدلوله.
فقد يراد به مقابلة الكلمات من حيث التضاد وهذا أقرب الى المعنى البلاغى الذى هو الجمع بين المتضادين أى معنيين متقابلين فى الجملة.
يقول الزمخشرى فى قوله تعالى: {«مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ»} (69): «شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصير والسميع وهو من اللف والطباق» (70).
وقد يذكر الطباق ويراد به موافقة أحوال الكلمات لمعانيها، فالكلام المطابق هو الذى تتنزل فيه الأحوال على وفق المعانى. يقول فى قوله تعالى: {«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهََا زَوْجَهََا لِيَسْكُنَ إِلَيْهََا، فَلَمََّا تَغَشََّاهََا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً»} (71): «وقال {«لِيَسْكُنَ»}
__________
(68) الكشاف ج 4ص 137
(69) هود: 24
(70) الكشاف ج 2ص 203
(71) الأعراف: 189(1/588)
فذكر بعد ما أنث فى قوله {«وََاحِدَةٍ»}، {«مِنْهََا زَوْجَهََا»} ذهابا الى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم ولأن الذكر هو الذى يسكن الى الأنثى ويتغشاها فكان التذكير أحسن طبقا للمعنى» (72).
وقد يذكر الطباق بمعنى لا يبعد كثيرا عن معنى اللف الذى سبق ذكره، يقول فى قوله تعالى: {«كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»} (73): «فان قلت: ما معنى «ثم»؟ قلت: ليس معناها التراخى فى الوقت ولكن فى الحال كما تقول: هى محكمة أحسن الاحكام، مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل، و {«كِتََابٌ»} خبر مبتدأ محذوف، و {«أُحْكِمَتْ»} صفة له، وقوله {«مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»} صفة ثانية، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون صلة ل {«أُحْكِمَتْ»} و {«فُصِّلَتْ»}، أى من عنده احكامها، وتفصيلها، وفيه طباق حسن لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أى بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور» (74).
والفرق بين هذه الآية وآية: {«لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ»} (75) التى ذكر أنها من اللف أن الأوصاف هناك لموصوف واحد هو المولى عز وجل، فهو لا تدركه الأبصار وهو اللطيف، وهو الذى يدرك الأبصار وهو الخبير، وهنا الاحكام والتفصيل وصفان للكتاب، والحكيم والخبير وصفان للمولى عز وجل، وكان الطباق لأن الكتاب المحكم المفصل من عند حكيم خبير، وقد يذكر الطباق بمعنى مراعاة تلاؤم الألفاظ ووقوعها فى مواقعها، وقد يبدو من مظاهر التعبير ما يخالف هذا الأصل أى تبدو الكلمات وكأنها متباعدة، وحينئذ يحاول الزمخشرى أن يكشف تطابقها المعنوى مشيرا الى أن المطابيع هم الذين يراعون طباق المعانى.
يقول فى قوله تعالى: {«وَقََالُوا قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ»} (76): «فان قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل:
__________
(72) الكشاف ج 2ص 145
(73) هود: 1
(74) الكشاف ج 2ص 296
(75) الأنعام: 103
(76) فصلت: 5(1/589)
{«وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ»}، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت: هو على نمط واحد لأنه لا فرق فى المعنى بين قولك: قلوبنا فى أكنة، وعلى قلوبنا أكنة، والدليل عليه قوله تعالى: {«إِنََّا جَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً»} (77)
ولو قيل: انا جعلنا فى قلوبهم أكنة لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة الا فى المعانى» (78).
ويقول فى قوله تعالى: {«وَتَحْمِلُ أَثْقََالَكُمْ إِلى ََ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بََالِغِيهِ»} (79): «فان قلت: كيف طابق قوله {«لَمْ تَكُونُوا بََالِغِيهِ»}
قوله: {«وَتَحْمِلُ أَثْقََالَكُمْ»}، وهلا قيل: لم تكونوا حامليها؟ قلت:
طباقه من حيث أن معناه: وتحمل أثقالكم الى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم الا بجهد ومشقة فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم، ويجوز أن يكون المعنى: لم تكونوا بالغيه بها الا بشق الأنفس» (80).
* * *9 - الازدواج:
أشار الزمخشرى إشارة قصيرة الى الازدواج، وهو يعنى به توافق آخر الكلمات فى النطق، فهو قريب من السجع الذى سكت عنه واكتفى بالاشارة الى الحسن اللفظى، أو توافق الفواصل. ولعله يرى أنه لا يصح اطلاق السجع على أسلوب القرآن، والازدواج ليس فنا بديعيا مستقلا فى بلاغة الايضاح وشراح التلخيص، وانما أشار الخطيب اليه فى دراسة السجع حيث يقول: «ان فواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الاعجاز موقوفا عليها، لأن الغرض أن يزاوج بينها» ويقول:
«واذا رأيتهم يخرجون الكلام عن أوضاعه للازدواج فى قولهم: انى لآتيه بالغدايا والعشايا».
وقد يكون هذا كل ما ذكر عن الازدواج فى الايضاح.
__________
(77) الكهف: 57
(78) الكشاف ج 4ص 145
(79) النحل: 7
(80) الكشاف ج 2ص 463(1/590)
أما إشارة الزمخشرى القصيرة الى هذا اللون فقد ذكرها فى قوله تعالى: {«وَقََالُوا لََا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلََا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلََا سُوََاعاً وَلََا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً»} (81): «وقرأ الأعمش «ولا يغوثا ويعوقا» بالصرف، وهذه قراءة مشكلة لأنهما ان كانا عربيين أو أعجميين ففيهما سببا منع الصرف، اما التعريف ووزن الفعل، واما التعريف والعجمة، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات: ودا، وسواعا، ونسرا» (82).
فالقراءة قد تخالف المشهور لتراعى توافق النغم الصوتى، وهذا التوافق لا شك فى أنه أمر يتعلق باللفظ وحسنه، وذلك جزء فى البلاغة القرآنية.
* * *10 - التجانس:
وقد كان الجناس من فنون البديع التى ذاعت فى القرن السادس الذى كتب فيه الكشاف، وكان هذا الجناس غاية الأديب، يقصد اليه، ويتكلفه، فسقط واسترذله النقاد، وليس ذلك راجعا الى قلة شأنه فى الأسلوب اذا وقع مطبوعا، بل ان غرام الأدباء به وتعلقهم بصوره دليل على أصالته وتأثيره وان عجزوا عن أن يصوغوا منه صورا زاهية، فحين هاجم النقاد هذا اللون البديعى انما هاجموا صوره المتكلفة المرذولة، ومثل الجناس فى هذا مثل الاستعارات التى أغرب فيها أبو تمام وتكلفها، فليس استسقاط هذه الصور دليلا على قلة شأن الاستعارة فى الأسلوب، وانما هو استرذال لصور متكلفة قبيحة كانت أثرا من آثار الافراط فيها.
وقد وجدت هذا المعنى ظاهرا فى كلام الزمخشرى.
يقول فى قوله تعالى: {«وَقََالَ يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ»} (83):
«والتجانس بين لفظتى الأسف ويوسف مما يقع مطبوعا غير متعمل
__________
(81) نوح: 23
(82) الكشاف ج 2ص 496
(83) يوسف: 84(1/591)
فيلمح، ويبدع، ونحوه: {«اثََّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ، أَرَضِيتُمْ»} (84)، {«وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ»} (85)، {«وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»} (86)، {«مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ»} (87).
وكأن الزمخشرى يشير بهذا الى أن هناك تجانسا يقع متكلفا مصنوعا فلا يملح ولا يحسن ويقول فى قوله تعالى: {«مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ»}:
«وقوله: {«مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ»} من جنس الكلام الذى سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذى يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا، أو يضعه عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن، وبدع، لفظا ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان {«بِنَبَإٍ»} بخبر لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح لما فى النبأ من الزيادة التى يطابقها وصف الحال» (88).
فاذا كان الجناس من محاسن اللفظ فهو يقع فى القرآن مطبوعا غير متكلف، فيحسن ويبدع لفظا ومعنى، وهو من صميم البلاغة بشرط أن يضعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى، وسداده، وكأن هناك تجنيسا لا يراعى فيه هذا الشرط فيضعه متكلفون أدعياء لا يحفظون فيه روح المعنى، ولا سلاسة النظم، وقد أشرت الى هذا فى أول الفصل.
* * *11 - تأكيد المدح:
قد أشرت فى بحث الجملة الى المعانى الأدبية لصيغة النفى والاستثناء، وأشرت كذلك فى دراسة العكس الى أن الزمخشرى يربط صورا من التنويع والاستعارة الضدية بعضها ببعض، ويجعلها من باب العكس.
__________
(84) التوبة: 38
(85) الأنعام: 26
(86) الكهف: 104
(87) الكشاف ج 2ص 386والآية من سورة النمل: 22
(88) الكشاف ج 3ص 284.(1/592)
وأشرت الى أن التأكيد فى طريقة الاستثناء ليس خاصا بتأكيد المدح ولا بتأكيد الذم.
ولما كنت أتكلم هنا عن ألوان البديع رأيت من الحسن أن أذكر شيئا من كلامه فى هذه الطريقة ليتضح لنا مقدار ما عالجه من فنون البديع، وكيف كان يعالجها، يقول الزمخشرى فى قوله تعالى:
{«لََا يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً إِلََّا سَلََاماً»} (89): «أى ان كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا الا ذلك، فهو من وادى قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب» (90).
ويقول فى قوله تعالى: {«قُلْ لََا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللََّهُ»} (91): «فان قلت: لم رفع اسم الله والله يتعالى أن يكون ممن فى السموات والأرض؟
قلت: جاء على لغة بنى تميم حيث يقولون: ما فى الدار أحد الا حمار، يريدون ما فيها الا حمار، كأن أحدا لم يذكر، ومنه قوله:
عشية ما تغنى الرّماح مكانها ... ولا النّبل إلا المشرفىّ المصمّم
وقولهم: ما أتاني زيد الا عمرو، وما أعانه اخوانكم الا اخوانه.
فان قلت: ما الداعى الى اختيار المذهب التميمى على الحجازى؟
قلت: دعت اليه نكتة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: الا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليئول المعنى الى قولك: ان كان الله ممن فى السموات والأرض فهم يعلمون الغيب، يعنى أن علمهم الغيب فى استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أن معنى ما فى البيت: ان كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس بتا للقول بخلوها عن الأنيس» (92).
__________
(89) مريم: 62
(90) الكشاف ج 3ص 20
(91) النمل: 65
(92) الكشاف ج 3ص 297وما بعدها.(1/593)
12 - الادماج:
قد أشار الزمخشرى الى الكلام الذى يدرج تحته معنى آخر.
وهذه الطريقة سماها البلاغيون الادماج.
يقول فى قوله تعالى: {«وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قََالُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ عَلى ََ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتََابَ الَّذِي جََاءَ بِهِ مُوسى ََ نُوراً وَهُدىً لِلنََّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَرََاطِيسَ تُبْدُونَهََا وَتُخْفُونَ كَثِيراً»} (93):
«والقائلون هم اليهود بدليل قراءة من قرأ {«تَجْعَلُونَهُ»} بالتاء. وكذلك {«تُبْدُونَهََا»} و {«تُخْفُونَ»}، وانما قالوا ذلك مبالغة فى انكار انزال القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فألزموا ما لا بد لهم من الاقرار به من انزال التوراة على موسى عليه السلام، وأدرج تحت الالزام توبيخهم، وان نعى عليهم سوء جعلهم لكتابهم، وتحريفهم، وابداء بعض، واخفاء بعض، فقيل: جاء به موسى وهو نور وهدى للناس، حتى غيروه، ونقصوه، وجعلوه قراطيس مقطعة، ورفات مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من الابداء والاخفاء» (94).
قال ابن المنير: «وهذا من دقة نظره فى الكتاب العزيز، والتعمق فى آثار معادنه وابراز محاسنه» (95).
__________
(93) الأنعام: 91.
(94) الكشاف ج 2ص 34
(95) نفس المرجع.(1/594)
الباب الثانى أثر الكشّاف فى الدّراسات البلاغيّة
أثره فى مدرسة المفتاح.
أثره فى كتاب المثل السائر.
أثره فى كتاب الطراز.(1/595)
الفصل الأول أثر الكشاف فى مدرسة المفتاح
أثره فى كتاب المفتاح:
لا يمارى منصف فى أن أبا يعقوب كان رجلا قادر العقل حاد الذهن واسع الثقافة متضلعا فى علوم شتى (1).
وقد كانت مباحث البلاغة تدرس قبله وكأنها جذاذات من الورق فى كل قطعة منها مسألة، ويختلف ترتيب هذه المسائل فى الكتب البلاغية كما يختلف ترتيب هذه الجذاذات قبل أن تمتد نحوها يد تنظم وتنسق.
وهذا واضح فيما كتبه عبد القاهر الجرجانى، وفيما نثره الزمخشرى فى الكشاف.
نعم، كان هناك احساس بأواصر قوية بين الفنون المتصلة بدراسة
__________
(1) ولد أبو يعقوب يوسف السكاكى فى خوارزم سنة خمس وخمسين وخمسمائة للهجرة، وذكر صاحب روضات الجنات: أنه كان فى أصول أحد أبويه سكاكى، وذكره بعض من ترجموا له بابن السكاك والسكك المحاريث التى تفلح بها الأرض، وكانت داخلة فى صناعة المعادن، وقد أجمع من ترجموا له أنه ظل مشغولا بصناعة المعادن حتى تجاوز الثلاثين من عمره، ثم شغل بالعلم طلبا للحظوة عند السلاطين، ويرع فى علوم شتى، منها السحر، والتنجيم، والبلاغة، والنحو، والاستدلال، والعروض، وله مؤلفات أشهرها كتاب المفتاح، وتوفى رحمه الله فى سنة ست وعشرين وستمائة، وقيل: فى سنة ثلاث وعشرين، وقيل: فى سبع وعشرين،. ينظر بحث بلاغة المفتاح دراسة وتقويم، مخطوط بكلية اللغة العربية لكاتب هذا البحث، والبلاغة عند السكاكى للدكتور أحمد مطلوب، ومعجم الأدباء لياقوت، وطبقات الشافعية للسبكى.(1/597)
الصورة البيانية فكان يجمع التشبيه مع المجاز والكناية فى نظام واحد، الا أن هذا كان احساسا غائما، وقد يتخلف فتختلط المسائل كما هو الحال فى كتاب دلائل الاعجاز.
وكان ذكر الزمخشرى لعلمى المعانى والبيان إشارة بينة الى تمييز هذه المسائل وتصنيفها فى هذين العلمين وان كان ذلك لم يتم على يده.
وكان من الخير كما يرى السكاكى أن تضبط مسائل هذين العلمين وأن تحدد تحديدا بينا، وأن تميز تمييزا واضحا، فكان هو أول من فعل ذلك فحدد أبواب علم المعانى وحصرها، وحدد أبواب علم البيان وحصرها، فأتم بذلك ما بدأ الزمخشرى.
وكان عجيبا فى تصوره لطريقة ضبط معاقد هذين العلمين، ورسمه لهما طريقا يحيط بكل شعبهما، ووضعه لهما منهجا يستوعب الأصول والفروع.
وكان منهجه فى ضبط مسائل كل علم ثمرة لنظره فى تعريفه.
فقد ذكر أن علم المعانى «هو تتبع خواص تراكيب الكلام وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضى الحال ذكره».
ومن هذا التعريف وضع لعلم المعانى منهجه المحدد، وأبوابه المعروفة، ولم يسبق بشيء مما ذكره فى هذا التحديد. والذى يلفتنا فى هذا التعريف هو ذلك الربط القوى بين هذا العلم والنصوص الأدبية الرفيعة، اذ أنه يعنى بالتراكيب تراكيب البلغاء المشهود لهم بالسبق والتفوق. وهذا هو معدن هذا العلم ومرجعه والذى يجب أن يطول فيه نظر دارسيه، والسكاكى هذا يجعل قراءة البلاغة تتبعا لخواص التراكيب يعنى قراءة نصوص أدبية بطريقة واعية تتبع فيها أحوال المبانى لتستخرج منها دقائق المعانى وهذا هو السكاكى الذى عابه الناس.
وقد نظر السكاكى فوجد التعرض لخواص التراكيب موقوفا على
التعرض للتراكيب. ثم ان التعرض لتراكيب الكلام وهى منتشرة أمر يصعب، فوجب المصير الى ايرادها تحت الضبط. ولهذا صنف كلام العرب فى قسمين كبيرين: الخبر والانشاء، ثم رأى أن الخبر يرجع الى الحكم بمفهوم لمفهوم وهو الذى نسميه الاسناد الخبرى، فتحصل له أربعة أبواب:(1/598)
وقد نظر السكاكى فوجد التعرض لخواص التراكيب موقوفا على
التعرض للتراكيب. ثم ان التعرض لتراكيب الكلام وهى منتشرة أمر يصعب، فوجب المصير الى ايرادها تحت الضبط. ولهذا صنف كلام العرب فى قسمين كبيرين: الخبر والانشاء، ثم رأى أن الخبر يرجع الى الحكم بمفهوم لمفهوم وهو الذى نسميه الاسناد الخبرى، فتحصل له أربعة أبواب:
1 - الانشاء.
2 - أحوال المفهوم المحكوم به (المسند).
3 - أحوال المفهوم المحكوم عليه (المسند اليه).
4 - أحوال الاسناد
وهكذا ظلت تتولد أبواب المعانى وتتفرع.
وكان هذا هو الحال فى علم البيان الذى حده بقوله: أما علم البيان فهو معرفة ايراد المعنى الواحد فى طرق مختلفة بالزيادة فى وضوح الدلالة عليه. وبالنقصان، ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ فى مطابقة الكلام لتمام المراد منه، ثم مهد له بقاعدة بيّن فيها مسائل هذا العلم، وكان يلهمه فى هذا حديث عن الدلالة سبقه اليه العلامة ابن الخطيب الرازى فى كتابه نهاية الايجاز، فقد تكلم فى كتابه هذا عن الدلالة الوضعية والدلالة العقلية. ومن العقلية دلالة اللفظ على جزء داخل فى مفهومه، كدلالة لفظ البيت على السقف، ودلالة اللفظ على خارج عنه لازم له كدلالة السقف على الحائط. ولم يذكر السكاكى شيئا زائدا على ما ذكره الرازى فى موضوع الدلالة يمكن أن يعتد به.
ثم يقول السكاكى بعد ذكر كلام الرازى فى الدلالة: واذا عرفت أن ايراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى الا فى الدلالات العقلية وهى الانتقال من معنى الى معنى بسبب علاقة بينهما كلزوم أحدهما الآخر بوجه من الوجوه، ظهر لك أن علم البيان مرجعه اعتبار الملازمات بين المعانى، ثم اذا عرفت أن اللزوم اذا تصور بين الشيئين فاما أن
يكون من الجانبين كالذى بين الأمام والخلف بحكم العقل أو بين طول القامة وطول النجاد، بحكم الاعتقاد، ظهر لك أن مرجع علم البيان اعتبار هاتين الجهتين: جهة الانتقال من ملزوم الى لازم، وجهة الانتقال من لازم الى ملزوم واذا ظهر لك أن مرجع علم البيان هاتان الجهتان علمت أن انصباب علم البيان الى التعرض للمجاز والكناية، فان المجاز ينتقل فيه من ملزوم الى لازم وان الكناية ينتقل فيها من اللازم الى الملزوم.(1/599)
ثم يقول السكاكى بعد ذكر كلام الرازى فى الدلالة: واذا عرفت أن ايراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى الا فى الدلالات العقلية وهى الانتقال من معنى الى معنى بسبب علاقة بينهما كلزوم أحدهما الآخر بوجه من الوجوه، ظهر لك أن علم البيان مرجعه اعتبار الملازمات بين المعانى، ثم اذا عرفت أن اللزوم اذا تصور بين الشيئين فاما أن
يكون من الجانبين كالذى بين الأمام والخلف بحكم العقل أو بين طول القامة وطول النجاد، بحكم الاعتقاد، ظهر لك أن مرجع علم البيان اعتبار هاتين الجهتين: جهة الانتقال من ملزوم الى لازم، وجهة الانتقال من لازم الى ملزوم واذا ظهر لك أن مرجع علم البيان هاتان الجهتان علمت أن انصباب علم البيان الى التعرض للمجاز والكناية، فان المجاز ينتقل فيه من ملزوم الى لازم وان الكناية ينتقل فيها من اللازم الى الملزوم.
وقد شعر السكاكى بما فى هذه الطريقة التى حدد بها أبواب علم البيان من التكلف والتجشم فقال وكأنه يعتذر: «والمطلوب بهذا التكلف هو الضبط».
في تقسيم البلاغة:
ومن الواضح أن دراسة أهل خوارزم للبلاغة العربية دراسة ذات خصائص متشابهة، وأن تقسيم البلاغة الى علمى المعانى والبيان لم يظهر ولم يتم الا فى هذه البيئة.
وبحث المفتاح وان كان امتدادا لهذا الاتجاه فقد أخذ طابعا واضحا ميزه عن البحوث الأخرى التى نهض بها رجال هذه البيئة. فاذا كانوا جميعا يعنون ببحث الجملة وصياغتها كما يعنون بدراسة صور البيان، فان السكاكى قد شغل بهذا، الا أن دراسته كانت علمية ومحددة وجافة أو هى استنتاجات عقلية وتقنين منطقى لما استطاع ادراكه من كلام أئمة ثلاثة عرفتهم بيئته، وهم: عبد القاهر الجرجانى، ومحمود بن عمر الزمخشرى، وابن الخطيب الرازى، ولعل هؤلاء هم الأصحاب الذين يذكرهم كثيرا فى كتابه.
وقد سارت الدراسة البلاغية فى هذه البيئة فى مراحل ثلاث كما أتصور:
المرحلة الأولى: كانت جهودا نظرية مرتبطة ارتباطا كاملا بالنص الأدبى وذلك واضح فى كتابى عبد القاهر الجرجانى
والمرحلة الثانية: كانت جهودا تحليلية تطبيقية تنفذ من خلال النص الى مس القواعد والأصول أو تحديدها وذلك واضح فى دراسة الزمخشرى فى الكشاف.(1/600)
والمرحلة الثالثة: كانت جهدا نظريا خالصا، تشوبه أحيانا ومضات تحليلية، بعضها سرى اليها من المرحلتين الأولى والثانية، وبعضها كان من جهد السكاكى، ولم يكن له سبق فى هذا الباب.
واذا كان أبو يعقوب فى عمله الأكبر الذى هو تحديد مسائل علمى المعانى والبيان يسير على الطريق الذى رسمه الزمخشرى، فقد كان يأخذ كثيرا من قبساته فى دراسة مسائل البلاغة وأصولها، ونعرض الآن صورا من هذا الأخذ والتأسى.
الالتفات:
وكان تأثر السكاكى بالزمخشرى واضحا فى هذا الفن، فقد أشار الى أن الكلام اذا انتقل من أسلوب الى أسلوب كان أدخل فى القبول عند السامع «وأحسن تطرية لنشاطه، وأملأ باستدرار اصغائه، وأنه يختص مواقعه بلطائف معان قلما تصح الا لأفراد بلغائهم، أو للحذاق المهرة فى هذا الفن» (2).
وهذا تلخيص لقيمة الالتفات كما ذكره الزمخشرى.
وقد أخذ عن الكشاف معنى الالتفات وقد خالفه البلاغيون فى هذا، فقد ذكر أن امرأ القيس قد التفت فى قوله:
تطاول ليلك بالأثمد ... وبات الخلىّ ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءنى ... وخبّرته عن أبى الأسود
وواضح أن جمهور البلاغيين لا يرون التفاتا فى البيت الأول، لأن الالتفات لا يقع عندهم الا بعد جريان الأسلوب على طريقة من الطرق الثلاثة ثم يعدل عنها الى غيرها.
__________
(2) ينظر المفتاح ص 106، 107(1/601)
واذا حاول أبو يعقوب بيان مواقع الالتفات، وكشف قيمتها الفنية فى النصوص الأدبية وجدته بين حالين، حال يكون فيها مجيدا فى الكشف والتحليل عن موقع هذه الطريقة، وذلك اذا كان يصدر عن تأثر بصاحب الكشاف، اما لأنه سبقه ببيان الالتفات فى هذا النص ولطف موقعه، واما لأنه أى السكاكى جرى فيه على طريقة الزمخشرى فى نص آخر. وحال لا يكون فيها مجيدا ولا قريبا من الإجادة وذلك اذا اعتمد على مقدرته الأدبية، واستقل بفهمه وذوقه، فانه فى كثير من هذه الحالات يحوم ولا يقع على شىء يعتد به.
مثاله فى الحال الأولى ما يقوله فى قوله تعالى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ»} (3):
«أليس مما يشهد له الوجدان بحيث يغنيه عن شهادة ما سواه أن المرء اذا أخذ فى استحضار جنايات جان منتقلا فيها عن الاجمال الى التفصيل وجد من نفسه تفاوتا فى الحال بينا لا يكاد يشبه آخر حاله هناك أولها، أو ما تراك اذا كنت فى حديث مع انسان وقد حضر مجلسكما من له جنايات فى حقك كيف تصنع؟ تحول عن الجانى وجهك، وتأخذ فى الشكاية عنه الى صاحبك تبثه الشكوى معددا جناياته واحدة فواحدة، وأنت فيما بين ذلك واجد مزاجك يحمى على تزايد يحرك حالة لك غضبية تدعوك الى أن تواثب ذلك الجانى، وتشافهه بكل سوء، وأنت لا تجيب، الى أن تغلب فتقطع الحديث مع الصاحب، ومباحثتك اياه، وترجع الى الجانى شافها له: بالله قل لى: هل عامل أحد مثل هذه المعاملة، هل يتصور معاملة أسوأ مما فعلت، أما كان لك حياء يمنعك، أما كانت لك مروءة تردعك على هذا؟. واذا كان الحاضر لمجلسكما ذا نعم عليك كثيرة فاذا أخذت فى تعديد نعمة عند صاحبك مستحضرا لتفاصيلها أحسست من نفسك بحالة كأنها تطالبك بالاقبال على منعمك، وتزين لك ذلك، ولا تزال تتزايد ما دمت فى تعديد نعمه حتى تحملك من حيث لا تدرى على أن تجدك وأنت معه فى الكلام تثنى عليه، وتدعو له،
__________
(3) الفاتحة: 5(1/602)
وتقول: بأى لسان أشكر صنائعك الروائع، وبأية عبارة أحصر عوارفك الذوارف، وما جرى ذلك المجرى» (4).
وقد ذكر الزمخشرى مثل هذا فى مواطن كثيرة من الكشاف وقد بيناها فى دراسة الالتفات، ومثاله فى الحال الثانية ما يقوله فى أبيات امرئ القيس السابقة بعد ما نوه بمكانة الشاعر وفحولته: «وكان يمكنه ألا يلتفت البتة، وذلك أن يسوق الكلام على الحكاية فى الأبيات الثلاثة، فيقول: تطاول ليلى بالأثمد ونام الخلى ولم أرقد، وبت وبات لنا ليلة، كقول لبيد: «فوقفت أسألها وكيف سؤالنا» أو أن يلتفت نوعا واحدا، فيقول: وبت وبات لكم، وذلك من نبأ جاءكم، وخبرتم عن أبى الأسود. أن يكون حين قصد تهويل الخطب واستفظاعه فى النبأ الموجع، والخبر المفجع للواقع الفات فى العضد، المحرق للقلب والكبد، فعل ذلك منبها فى التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهت وله الثكلى، فأقامها مقام المصاب الذى لا يتسلى بعض التسلى الا بتفجع الملوك وتحزنهم عليه، وأخذ يخاطبه بتطاول ليلك تسلية، أو نبه على أن نفسه لفظاعة شأن النبأ واستشعارها معه كمدا وارتماضا أبدت قلقا لا يقلقه كمد، وضجرا لا يضجره مرتمض، وكان من حقها أن تثبت وتتصبر، فعل الملوك وجريا على سننها المسلوك عند طوارق النوائب وبوارق المصائب فحين لم تفعل شككته فى أنها نفسه، فأقامها مقام مكروب ذى حرق، قائلا له: تطاول ليلك، مسليا.
وفى التفاته الثانى على أن المتحزن تحزن تحزّن صدق، ولذلك لا يتفاوت الحال خاطبتك أم لم أخاطبك، وفى التفاته الثالث على أن جميع ذلك انما كان لما خصه ولم يتعداه الى من سواه».
وهكذا تدور النكتة البلاغية للالتفات فى هذه الأبيات حول مكانة الشاعر الاجتماعية، اذ أنه ملك وتفجع الملوك تفجع له شأنه، وقلق نفوسهم لا يكون الا لأمر خطير، ولو كان شاعرنا غير ملك لما كان لهذا
__________
(4) المفتاح ص 109(1/603)
التصرف قيمة. والسكاكى له رأى عجيب، يذكر فى هذا الصدد، وهو أنه يستمد قيمة الخصائص البلاغية فى الأسلوب من قيمة قائلها، لذلك لا يعتد بخواص التراكيب الا اذا كانت قد صدرت من بليغ، فهو لا ينظر للخصوصية من حيث هى، وانما يعنى بالصنعة المقصودة والاحتفال المتعمد من القائل، فلو صدرت التراكيب البليغة من غير بليغ سقطت قيمتها وليس من حقك أن تعجب بالنص قبل أن تعرف قدر قائله.
يقول فى شرحه لتعريف علم المعانى: «وأعنى بخاصية التراكيب ما سبق منه الى الفهم عند سماع ذلك التركيب جاريا مجرى اللازم له لكونه صادرا عن البليغ، لا لنفس ذلك التركيب من حيث هو» (5).
* * *أحوال المسند والمسند اليه:
وقد أفاد السكاكى من الكشاف فى بعض الصور التى ذكرها أحوالا للمسند اليه، أو المسند، يقول فى الحال المقتضى كون المسند جملة فعلية، أو اسمية، بعد ما بيّن دلالة الفعلية على التجدد والاسمية على الثبوت: «وما نسمع من تفاوت الجملتين الفعلية والاسمية تجددا وثبوتا هو يطلعك على أنه حين ادعى المنافقون الايمان بقولهم: {«آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ»} (6)، جائين به جملة فعلية، معنى: أحدثنا الدخول فى الايمان وأعرضنا عن الكفر ليروج ذلك عنهم، كيف طبق المفصل فى رد دعواهم الكاذبة قوله تعالى: {«وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ»} (7) حيث جىء به جملة اسمية ومع الباء وعلى تفاوت كلام المنافقين مع المؤمنين، ومع شياطينهم، فيما يحكيه جل وعلا عنهم وهو: {«وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ»} (8)
تفاوتا الى جملة فعلية، وهى {«آمَنََّا»}، والى اسمية ومع {«إِنَّ»} وهى {«إِنََّا مَعَكُمْ»} كيف أصاب شاكلة الرمى» (9).
__________
(5) المفتاح ص 86
(6) البقرة: 8
(7) البقرة: 8
(8) البقرة: 14
(9) المفتاح ص 117(1/604)
وقد أشرت الى هذا فى دراسة التوكيد فى الباب الأول (10).
ويذكر تفسير المسند اليه ويشير الى قوله تعالى: {«لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ»} (11)، ويقول: «شفع الهين باثنين والها بواحد، لأن لفظ {«إِلََهَيْنِ»} يحتمل معنى الجنسية، ومعنى التثنية، وكذلك لفظ «اله» يحتمل الجنسية، والوحدة، والذى له الكلام مسوق هو العدد فى الأول، والوحدة فى الثانى، ففسر الهين باثنين، والها بواحد، بيانا لما هو الأصل فى الغرض، ومن هذا الباب من وجه قوله تعالى:
{«وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ»} (12) ذكر {«فِي الْأَرْضِ»} مع {«دَابَّةٍ»} و {«يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ»} مع {«طََائِرٍ»} لبيان أن القصد من لفظ {«دَابَّةٍ»} ولفظ {«طََائِرٍ»} انما هو الى الجنسين والى تقريرهما» (13).
ويقول: «والتخصيص لازم للتقديم غالبا ولذلك نسمع أئمة علم المعانى فى معنى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ»} يقولون: نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك، ونخصك بالاستعانة منك لا نستعين أحدا سواك، وفى معنى: {«إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ»} (14) يقولون: ان كنتم تخصونه بالعبادة، وفى معنى قوله: {«وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ»} (15)، نذهب الى أنه تعريض بأن الآخرة التى عليها أهل الكتاب فيما يقولون أنها لا يدخل الجنة فيها الا من كان هودا أو نصارى، وأنها لا تمسهم النار فيها الا أياما معدودات، وأن أهل الجنة فيها لا يتلذذون فى الجنة الا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ، ليست بالآخرة وايقانهم بمثلها ليس من الايقان بالتى هى الآخرة عند الله فى شىء وفى قوله تعالى: {«لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»} (16) يقولون: أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت ثانيا لأن
__________
(10) ينظر هذا البحث ص 413وما بعدها.
(11) النحل: 51
(12) الأنعام: 38
(13) المفتاح ص 101، 102، وينظر الكشاف ج 2ص 71
(14) البقرة: 172
(15) البقرة: 4
(16) البقرة: 143(1/605)
الغرض فى الأولى اثبات شهادتهم على الأمم، وفى الأخرى اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم، وتسمعهم فى قوله تعالى:
{«لََا فِيهََا غَوْلٌ وَلََا هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ»} (17) يقولون: قدم الظرف تعريضا بخمور الدنيا، وأن المعنى: هى على الخصوص لا تغتال العقول اغتيال خمور الدنيا. ويقولون فى قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ»} (18): يمتنع تقديم الظرف على اسم {«لََا»} لأنه اذا قدم أفاد تخصيص نفى الريب بالقرآن» (19).
والمراد بأئمة البيان الذين تردد ذكرهم فى هذا النص، والذين سمعهم السكاكى أى سمع كلامهم فى كتبهم هو الامام الزمخشرى فقد وجدنا هذه النصوص فى تفسيره وأثبتناه فى دراستنا لبلاغته (20).
* * * «ان» و «اذا»:
ويذكر «ان» و «اذا» فى تقييد المسند، ويأخذ من الكشاف الشواهد والتحليلات التى تبين معانى كل منهما الأصلية والبلاغية.
يقول فى قوله تعالى: {«فَإِذََا جََاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قََالُوا لَنََا هََذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ََ وَمَنْ مَعَهُ»} (21): «جىء فيه بلفظ «اذا» فى جانب الحسنة حيث أريدت الحسنة المطلقة لا نوع منها كما فى قوله تعالى: {«وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هََذِهِ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ»} (22)، وفى قوله تعالى: {«وَلَئِنْ أَصََابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللََّهِ لَيَقُولَنَّ»} (23) لكون حصول الحسنة المطلقة مقطوعا به كثرة وقوع واتساعا، ولذلك عرفت ذهابا الى كونها معهودة وجىء بلفظ «ان» فى جانب السيئة مع تنكير السيئة
__________
(17) الصافات: 47
(18) البقرة: 1، 2
(19) المفتاح ص 126
(20) ينظر الباب الأول، فصل الجملة، بحث التقديم ص 325 وما بعدها.
(21) الأعراف: 131
(22) النساء: 78
(23) النساء: 73(1/606)
اذ لا تقع الا فى الندرة بالنسبة الى الحسنة المطلقة، ولا يقع الا شىء منها، ولذلك قيل: قد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟
ومنه: {«وَإِذََا أَذَقْنَا النََّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهََا، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ»} (24) بلفظ {«إِذََا»} فى جانب الرحمة، وكان تنكيرها وقصد النوع للنظر الى لفظ الاذاقة فهو المطابق للبلاغة» (25).
واذا استعملت «ان» مع المقطوع به علل هذا بما ذكره الزمخشرى، وأورد هنا السر البلاغى الذى أورده الزمخشرى هناك.
يقول: وأما قوله: {«وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا»} (26)
و {«إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ»} (27)، بلفظ {«إِنَّ»} مع المرتابين فاما لقصد التوبيخ على الريبة لاشتمال المقام على ما يقلعها عن أصلها، وتصوير أن المقام لا يصلح الا لمجرد الغرض للارتياب، كما قد تفرض المحالات حتى تعلقت بغرضها أغراض ومنه ما قد يقول العامل عند التقاضى بالعمالة اذا امتد التسويف وأخذ يترجم عن الحرمان: ان كنت لم أعمل فقولوا أقطع الطمع» (28).
وقد أشرنا الى هذا فى بلاغة الكشاف فى فصل الحديث عن المفردات (29).
* * *التغليب:
ويأخذ من الكشاف ما ذكره فى التغليب ولا يزيد عليه شيئا.
يقول: وباب التغليب باب واسع يجرى فى كل فن. قال تعالى حكاية عن قوم شعيب: {«لَنُخْرِجَنَّكَ يََا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنََا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنََا»} (30): «أدخل شعيب فى {«لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنََا»}
بحكم التغليب، والا فما كان شعيب فى ملتهم كافرا مثلهم»
__________
(24) الروم: 36
(25) المفتاح ص 130
(26) البقرة: 23
(27) الحج: 5
(28) المفتاح ص 130، 131
(29) ينظر ص 297وما بعدها
(30) الأعراف: 88(1/607)
وكذلك قوله تعالى: {«إِنْ عُدْنََا فِي مِلَّتِكُمْ»} (31) وقال تعالى:
{«إِلَّا امْرَأَتَهُ كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ»} (32) وفى موضع آخر: {«وَكََانَتْ مِنَ الْقََانِتِينَ»} (33): «عدت الأنثى من الذكور بحكم التغليب. وقال تعالى:
{«وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ»} (34) عد ابليس من الملائكة بحكم التغليب عد الأنثى من الذكور، ومن هذا الباب قوله تعالى: {«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ»} (35) فيمن قرأ بتاء الخطاب، غلب جانب {«أَنْتُمْ»} على جانب {«قَوْمٌ»} وكذا {«يَذْرَؤُكُمْ»} فى قوله تعالى: {«جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً وَمِنَ الْأَنْعََامِ أَزْوََاجاً، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ»} (36)
خطابا شاملا للعقلاء والأنعام مغلبا فيه المخاطبون على الغيب والعقلاء على ما لا يعقل» (37).
* * *الكلام المنصف:
ويسوقه الحديث فى معانى الشرط الى القول فى الكلام المنصف.
وذلك لأن التعريض أحد المعانى التى تقصد ب «ان» الشرطية المستعملة فى غير أصل استعمالها، كقوله تعالى: {«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ»} (38)
وقوله: {«لَئِنْ أَشْرَكْتَ»} (39)، وقوله: {«فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَتْكُمُ الْبَيِّنََاتُ»} (40) ثم يقول السكاكى: ونظيره فى كونه تعريضا: {«وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»} (41) والمراد: وما لكم لا تعبدون الذى فطركم، والمنبه عليه قوله {«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»}، ولولا التعريض لكان المناسب: واليه أرجع وكذا: {«أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمََنُ بِضُرٍّ لََا تُغْنِ عَنِّي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلََا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (42)
__________
(31) الأعراف: 89
(32) الأعراف: 83
(33) التحريم: 12
(34) البقرة: 34
(35) النمل: 55
(36) الشورى 11
(37) المفتاح ص 131، وينظر الكشاف ج 2ص 101، 102، ج 3ص 295.
(38) البقرة: 120
(39) الزمر: 65
(40) البقرة: 209
(41) يس: 22
(42) يس: 23، 24(1/608)
المراد: أتتخذون من دونه آلهة ان يردكم الرحمن بضر لا تغنى عنكم شفاعتهم شيئا ولا ينقذوكم، انكم اذن لفى ضلال مبين، ولذلك قيل:
{«إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ»} دون «بربى» وأتبعه {«فَاسْمَعُونِ»}، ولا تعرف حسن موقع هذا التعريض الا اذا نظرت الى مقامه، وهو تطلب اسماع الحق على وجه لا يورث طالب دم المسمع مزيد غضب، وهو ترك المواجهة بالتضليل، والتصريح لهم بالنسبة الى ارتكاب الباطل، ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: {«قُلْ لََا تُسْئَلُونَ عَمََّا أَجْرَمْنََا وَلََا نُسْئَلُ عَمََّا تَعْمَلُونَ»} (43)
والا فحق النسق من حيث الظاهر: قل لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون. وكذلك ما قبله: {«وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ»} (44) وهذا النوع من الكلام يسمى المنصف» (45).
وهذا مأخوذ من الكشاف وقد بيناه فى موضعه (46).
* * *التعبير بالمضارع عن الماضى:
وقد أخذ السكاكى بيان سر هذه الطريقة من تحليل الزمخشرى.
يقول فى قوله تعالى: {«وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا»} (47): «قال:
{«فَتُثِيرُ»} استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية من اثارة السحاب مسخرا بين السماء والأرض، متكونا فى المرأى تارة عن قزع، وكأنها قطع قطن مندوف، ثم تنضام متقلبة بين أطوار حتى يعدن ركاما، وأنه طريق للبلغاء لا يعدلون عنه اذا اقتضى المقام سلوكه، أو ما ترى تأبط شرا فى قوله:
بأنّى قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصّحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران
كيف سلك فى «فأضربها بلا دهش» قصدا الى أن يصور لقومه الحالة
__________
(43) سبأ: 25
(44) سبأ: 24
(45) المفتاح ص 132، 133
(46) ينظر الكلام المنصف فى الباب الأول من هذا البحث ص 382وما بعدها.
(47) فاطر: 9(1/609)
التى تشجع فيها بضرب الغول كأنه يبصرهم اياها ويطلعهم على كنهها ويتطلب منهم مشاهدتها تعجيبا من جرأته على كل هول وثباته عند كل شدة» (48).
* * *الفصل والوصل:
وللسكاكى جهد كبير فى هذا الباب حيث وضعه فى قالبه العلمى المحدد الذى يدور عليه درسه الى الآن. وقد أفاد من الكشاف فى بعض تحليلاته وصوره.
يقول السكاكى فى قوله تعالى: {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (49): {«أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ»}
جاء مفصولا عما قبله بطريق الاستئناف كأنه قيل: ما للمتقين الجامعين بين الايمان بالغيب فى ضمن اقامة الصلاة والانفاق مما رزقهم الله تعالى وبين الايمان بالكتب المنزلة فى ضمن الايقان بالآخرة اختصوا بهدى لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره، مقولا فى حقهم {«هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ»}، و {«الَّذِينَ»} بتنكير {«هُدىً»}؟ فأجيب: بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد ولا مستبدع أن يفوزوا دون من عداهم بالهدى عاجلا، وبالفلاح آجلا، ولك أن تقدر تمام الكلام هو {«الْمُتَّقِينَ»}، وتقدر السؤال، ويستأنف {«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»} الى ساقة الكلام، وأنه أدخل فى البلاغة لكون الاستئناف على هذا الوجه منطويا على بيان الموجب لاختصاصهم بما اختصوا به على نحو ما تقول: أحسنت الى زيد صديقك القديم أهل منك لما فعلت (50) وهذا مأخوذ من الكشاف وقد أثبتناه فى دراسة الجمل.
* * *الايجاز والاطناب:
وقد اقتصر السكاكى فى بحث الايجاز والاطناب على بيان معناهما، وايراد عدة أمثلة لكل منهما، وذلك لأن من تأمل ما ذكره
__________
(48) المفتاح ص 133، 134وينظر بحث المفرد من هذا البحث.
(49) البقرة: 5
(50) المفتاح ص 143، 144(1/610)
فى الأبواب السابقة يستطيع أن يدرك مقامات الذكر ومقامات الحذف كما يقول
ثم ان الأمثلة التى ضربها لا يخلو أكثرها من أثر الكشاف، ونذكر هنا منها قوله: «ومن الايجاز قوله عز قائلا: {«قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللََّهَ بِمََا لََا يَعْلَمُ»} (51) أى بما لا ثبوت له ولا علم الله متعلق به، نفيا للملزوم، وهو المنبأ به بنفى لازمه، وهو وجوب كونه معلوما للعالم الذات لو كان له ثبوت بأى اعتبار كان، وقوله: {«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمََانِهِمْ ثُمَّ ازْدََادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ»} (52) أصله: لن يتوبوا فلن يكون قبول توبة، فأوثر الايجاز ذهابا الى انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم وهو قبول التوبة الواجب فى حكمته تعالى وتقدس، وقوله: {«بِمََا أَشْرَكُوا بِاللََّهِ مََا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطََاناً»} (53) أى شركاء لا ثبوت لها أصلا، ولا أنزل الله باشراكها حجة، أى تلك وانزال الحجة كلاهما منتف، فى أسلوب قوله: «على لا حب لا يهتدى بمناره»، أى لا منار ولا اهتداء به، وقوله: «ولا ترى الضب بها ينجحر»، أى لا ضب ولا انجحار نفيا للأصل والفرع. ومنه: {«وَإِنْ جََاهَدََاكَ عَلى ََ أَنْ تُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»} (54)، اذ المراد لا ذلك ولا علمك به، أى كلاهما غير ثابت، وكذا {«مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ»} (55) أى لا شفاعة ولا طاعة» (المفتاح ص 152).
وقد بينا هذا فى دراستنا للنفى فى بحث الكشاف (56).
ويقول فى صور الأطناب: «ومما يعد من الاطناب وهو فى موقعه قول الخضر لموسى عليه السلام فى الكرة الثانية: {«أَلَمْ أَقُلْ لَكَ»} (57)
بزيادة {«لَكَ»} لاقتضاء المقام مزيد تقرير لما قد كان قدم له من {«إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً»} وكذا قول موسى عليه السلام: {«رَبِّ}
__________
(51) يونس: 18
(52) آل عمران: 90
(53) آل عمران: 151
(54) لقمان: 15
(55) غافر: 18
(56) ينظر هذا البحث فصل الجملة.
(57) الكهف: 75(1/611)
{اشْرَحْ لِي صَدْرِي»} (58) بزيادة {«لِي»} لاكتساء الكلام معها من تأكيد الطلب لانشراح الصدر ما لا يكون بدونه، ألا تراك اذا قلت: اشرح لى، أفاد أن شيئا ما عندك تطلب شرحه فكنت مجملا، فاذا قلت: صدرى، عدت مفصلا» (59).
وهذا قليل من كثير ذكره الزمخشرى وبيناه فى بحث قيود الجملة.
* * *الاستعارة فى الحرف:
وقد أشرنا فى بحث بلاغة الكشاف الى أن الزمخشرى من أوائل من أشاروا الى الاستعارة فى الحرف وكان تحليله لصورها مادة أفاد منها السكاكى. نعم لقد سكت الزمخشرى عن ذكر متعلقات الحروف، وهو ما يعبر بها عنها عند تفسير هذه الحروف كما قال السكاكى، ولكنه تكلم عن استعارة اللام، وعن استعارة «لعل»، وهذه الصور قد ذكرها السكاكى وان لم يكن بلفظ الكشاف الا أنه لا يبعد عنه.
يقول السكاكى: فاذا أردت استعارة «لعل» لغير معناها قدرت الاستعارة فى معنى الترجى، ثم استعملت هناك «لعل»، مثل أن تبنى على أصول العدل ذاهبا الى أن الصانع الحكيم تعالى وتقدس أن يكون فى أفعاله عبث، بل كل ذلك حكمة وصواب مفعول لغرض صحيح، ما خلق الانسان الا لغرض الاحسان، وحين ركب فيه الشهوة الحاملة على فعل ما يجب تركه، والنفرة الحاملة على ترك ما يجب فعله، وأودع عقله المضادة لحكميهما، حتى تنازعته أيدى الدواعى والصوارف فوقفت به حيث الحيرة، لا متقدم له عنه ولا متأخر تحمله الحيرة على ما لا يورثه الا العناء. اذا اتبع العقل وقع من النفس المشتهية النافرة فى عناء، واذا اتبع النفس وقع من العقل الناهى الآمر فى عناء، لا مخلص هناك مما أوقعه فى ورطة تلك الحيرة سفها، ولا عبثا،
__________
(58) طه: 25
(59) المفتاح ص 153(1/612)
تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وانما فعل ذلك لغرض الاحسان وهو التكليف ليتمكن من اكتساب ما لا يحسن فعله فى حقه ابتداء من التعظيم العظيم، مع الدوام فى ضمن التمتيع من أنواع المشتهيات بما لا عين رأت. ولا أذن سمعت، ولا خطر على بال أحد، مخلصة أن يشوبها منغص ما، فيكتسبه ان شاء لا بالقسر، ولذلك وضع زمام الاختيار فى يده، ممكنا اياه من فعل الطاعة والمعصية، مريدا منه أن يختار ما يثمر له تلك السعادة الأبدية، مزيحا فى ذلك جميع علله، فشبه حال المكلف الممكن من فعل الطاعة والمعصية مع الارادة منه أن يطيع باختيره بحال المرتجى المخير بين أن يفعل وأن لا يفعل، ثم تستعير لجانب المشبه:
لعل» (60).
وهذا شرح وتوضيح لقول الزمخشرى فى هذه الآية انها «واقعة موقع المجاز لا الحقيقة، لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة فى أقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضع فى أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم فى صورة المرجو منهم أن يتقوا، ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان. كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وألا يفعل» (61).
وقد ذكر السكاكى مع هذه الآية قوله تعالى: {«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ»} (62) وكلام الزمخشرى فيها مشهور، ثم قال: هذا تلخيص كلام الأصحاب، ولا أعرف أحدا من البلاغيين سبقه بدراسة هذا الموضوع بينه غير الزمخشرى.
واذا كنت قد أشرت الى أخذه الكثير من الكشاف فيجدر أن أقول ان السكاكى كان ذا عقل قوى، يستوعب ما يقرأ، فاذا كتب ما استوعب كانت كتابته مصبوغة بصبغة عقله، حتى كأنها من بناته، لأنه يكتب
__________
(60) المفتاح ص 203
(61) الكشاف ج 1ص 70
(62) القصص: 8(1/613)
بأسلوبه، ولم يكن كغيره ممن يستريحون لنقل العبارة نقلا كاملا أو بتغيير طفيف، كما سنجد فى كتاب المثل السائر، لذلك كان أثر الكشاف محصورا فى فقه المسألة وصميمها، أما متن اللفظ فيها فهو من صنع السكاكى، وان كانت تتساقط بعض كلمات الزمخشرى فى عباراته، وبهذا نقول: ان أخذ المفتاح من الكشاف يتميز بهذه الميزة التى تضفى على هذا المأخوذ صبغة صاحبه.
ثم ان كتاب المفتاح قد شغل الدارسين بعد السكاكى، فلخصه الخطيب، ثم وضح تلخيصه، وتناول الشراح هذا التلخيص، واهتموا به وكتبت حوله الحواشى والتقارير، وفى وسط هذا الزحام الهائل من الدراسة البلاغية حول كتاب المفتاح أختار كتابين أبين فيهما أثر الكشاف وهما يمثلان فى تقديرى خير ما كتب حول المفتاح. الأول كتاب الايضاح للخطيب القزوينى، والثانى كتاب المطول لسعد الدين التفتازانى، ولا شك أنك لا تجد فى مدرسة المفتاح رجلا يسبق هذين الرجلين، كما لا تجد فيها كتابا يفوق هذين الكتابين، على أننى قد أشرت فى كثير من المواضع فى دراسة بلاغة الكشاف الى جهود كثير منهم فى تحديد مراده، وبيان مذهبه.
* * *2 - الايضاح:
كتب الخطيب القزوينى (63) هذا الكتاب «الايضاح تلخيص المفتاح» فكأنه صورة ثانية لكتاب المفتاح. وقد أضاف الخطيب الى هذا الكتاب كثيرا مما رآه فى كتب عبد القاهر وكتاب الزمخشرى، وكثيرا مما اهتدى هو اليه حتى تميز كتاب الايضاح عن أصله بفضل هذه الاضافات، وصار أقرب الى الروح الأدبية من كتاب المفتاح.
__________
(63) الخطيب القزوينى: لقب بالخطيب لأنه ولى خطابة دمشق فى الجامع الأموى وشهر بها فطلبه السلطان الناصر محمد بن قلاوون الى القاهرة فخطب بين يديه فى جامع القلعة، وكان زلق اللسان(1/614)
والذى يهمنى هنا هو بيان أثر الكشاف فيما أضافه الخطيب الى كتاب المفتاح، والمرحلة الثانية تتمثل فيما أخذه الخطيب وأودعه كتاب الكشاف فى مرحلتين، المرحلة الأولى تتمثل فيما أخذه السكاكى وأودعه كتاب المفتاح ولذلك يكون كتاب الايضاح فى مادته العلمية متأثرا بدراسة الايضاح.
ومن أهم وأبرز ما أخذه الخطيب من الكشاف ما ذكره فى علاقات المجاز العقلى، فقد قال الخطيب: «وللفعل ملابسات شتى، يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب، فاسناده الى الفاعل اذا كان مبنيا له. حقيقة، كما مر، وكذلك الى المفعول اذا كان مبنيا له واسناده الى غيرهما لمضاهاته لما هو له فى ملابسة الفعل مجاز، كقولهم فى المفعول به: عيشة راضية، وماء دافق، وفى عكسه: سيل مفعم، وفى المصدر: شعر شاعر، وفى الزمان:
نهاره صائم، وليله قائم» (64).
ويقول الخطيب فى تعريف المجاز العقلى: هو اسناد الفعل أو معناه الى ملابس له غير ما هو له بتأول، وهذا كله مأخوذ من الكشاف، وتكاد تتحد العبارة، وقد أشرت فى دراسة المجاز العقلى الى موقف الخطيب من الزمخشرى، وبينت أنه تأثر فى تعريفه هذا بكلام
__________
ناصع البيان، ونسب الى قزوين لأن بعض أجداده سكنها وهو عربى يرجع نسبه الى أبى دلف العجلى قائد المأمون، وقد ولد بالموصل سنة ست وستين وستمائة، وأخذ العلم عن أبيه، وتولى القضاء فى جهات من الأناضول، وفى الشام، وفى مصر، وكان بارعا فى أصول الفقه، وأتقن علوم البلاغة، وكان شاعرا بليغا.
(تنظر ترجمته فى النجوم الزاهرة، وفى شذرات الذهب، وفى بحث قيم كتبه الدكتور أحمد مطلوب عن جهوده البلاغية وهو مطبوع فى بغداد).
(64) بغية الايضاح ج 1ص 56، 57(1/615)
ذكره الزمخشرى فى بعض المواضع، ثم أضاف اليه فى مواضع أخرى، ولكن الخطيب أغفل هذه الاضافة واستمد تعريفه مما ذكره فى قوله تعالى: {«فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ»} (65) حيث يقول الزمخشرى: «هو أى المجاز فى الاسناد أن يسند الفعل الى شىء يتلبس بالذى هو فى الحقيقة له، كتلبس التجارة بالمشترين».
وقد تنبه الخطيب الى أثر الكشاف فى المفتاح، فهو يشير أحيانا الى الأصل الذى أخذ منه السكاكى فى كلام الزمخشرى، وفى هذه الاشارة نوع من التوضيح والكشف.
يقول الخطيب: «وأما قوله تعالى: {«وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ»} (66) قال السكاكى: شفع دابة ب {«فِي الْأَرْضِ»}. وطائرا ب {«يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ»}، لبيان أن القصد بهما الى الجنسين، وقال الزمخشرى: معنى ذلك زيادة التعميم والاحاطة، كأنه قيل: وما من دابة قط فى جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط فى جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه» (67).
ويقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدى رحمه الله معلقا على هذا:
«ولا يخفى أن كلام السكاكى يؤول الى ذلك أيضا يعنى كلام الزمخشرى لأنه عند قصد الجنس يكون الاستغراق حقيقيا» (68)، وكلامه رحمه الله مأخوذ من كلام السبكى (69).
وقد يعترض الخطيب على كلام السكاكى ثم يرجع به الى أصله المأخوذ منه فى الكشاف ويشير الى أن فيه نظرا.
يقول الخطيب: «ثم قال أى السكاكى ومما يفيد التخصيص ما يحكيه علت كلمته عن قوم شعيب عليه السلام: {«وَمََا أَنْتَ عَلَيْنََا}
__________
(65) البقرة: 16
(66) الأنعام: 38
(67) بغية الايضاح ج 1ص 110
(68) نفس المرجع
(69) شرح التلخيص ج 1ص 365(1/616)
{بِعَزِيزٍ»} (70) أى العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت لكونهم من أهل ديننا، ولذلك قال عليه السلام فى جوابهم: {«أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللََّهِ»} (71) أى من نبى الله ولو كان معناه: ما عززت علينا، لم يكن مطابقا، وفيه نظر لأن قوله: {«وَمََا أَنْتَ عَلَيْنََا بِعَزِيزٍ»} من باب: أنا عارف، لا من باب: أنا عرفت، والتمسك بالجواب ليس بشيء لجواز أن يكون عليه السلام فهم كون رهطه أعز عليهم من قولهم: {«وَلَوْلََا رَهْطُكَ لَرَجَمْنََاكَ»} (72) وقال الزمخشرى: دل ايلاء ضميره حرف النفى على أن الكلام فى الفاعل لا فى الفعل، كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا. وفيه نظر لأنا لا نسلم ايلاء الضمير حرف النفى اذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر» (73).
ولم يكن الخطيب على حق حين رفض تسوية المشتق بالفعل فى هذه الصورة وهو متأثر بما فهم من كلام عبد القاهر الذى لم يرفض التسوية بينهما رفضا صريحا، وانما ذكر أمثلته وشواهده من تقديم الفاعل على الفعل الصريح ففهم من هذا أن ذلك مذهبه.
وقد يستحسن الخطيب تحليلات الزمخشرى البلاغية ثم يخالفه فى الوجهة النحوية التى كانت مدخلا لهذه النكت والأسرار.
يقول: ومما يتصل بما ذكرناه أى بالتعبير عن المضارع بالماضى أن الزمخشرى قدر قوله تعالى: {«إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدََاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ»} (74) وقال: الماضى وان كان يجرى فى باب الشرط مجرى المضارع فى علم الاعراب فان فيه نكتة، كأنه قيل: وودوا قبل كل شىء كفركم، وارتدادكم، يعنى أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا، من قتل
__________
(70) هود: 91
(71) هود: 92
(72) هود: 91
(73) بغية الايضاح ج 1ص 133، 134
(74) الممتحنة: 2(1/617)
الأنفس وتمزيق الأعراض، وردكم كفارا أسبق المضار عندهم، وأولها، لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شىء عنده أن يقصد أعز شىء عند صاحبه، هذا كلامه وهو حسن دقيق، لكن فى جعل {«وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ»} عطفا على جواب الشرط نظر لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وان لم يظفروا بهم فلا يكون فى تقيدها بالشرط فائدة، فالأولى أن يجعل قوله: {«وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ»}
عطفا على الجملة الشرطية، كقوله تعالى: {«وَإِنْ يُقََاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبََارَ ثُمَّ لََا يُنْصَرُونَ»} (75).
وقد أشار سعد الدين الى ترجيح وجهة الزمخشرى وبيّن أن كل واحد من المعطوفات فى هذه الجملة يصح أن يكون جزاء. وذلك لأن المراد اظهار ودادة الكفر، واستيفاء مقتضياتها، ولا شك أنه موقوف على الظفر بهم، وكذلك المراد اظهار كونهم أعداء، والا فالعداوة حاصلة ظفروا أو لم يظفروا (76).
وقد يرفض الخطيب وجهة السكاكى فى بيان بعض الأسرار، ويأخذ فيها برأى الزمخشرى، يقول: «ومما عد السكاكى الحذف فيه لمجرد الاختصار قوله تعالى: {«وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودََانِ، قََالَ مََا خَطْبُكُمََا، قََالَتََا لََا نَسْقِي حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ، وَأَبُونََا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقى ََ لَهُمََا»} (77) والأولى أن يجعل لاثبات المعنى فى نفسه للشيء على الاطلاق كما مر، وهو ظاهر قول الزمخشرى فانه قال: ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ألا ترى أنه رحمهما لأنهما كانتا على الذياد، وهم على السقى، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم ابل، مثلا، وكذلك قولهما {«لََا نَسْقِي حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ»} المقصود منه السقى لا المسقى» (78).
__________
(75) بغية الايضاح ج 1ص 197والآية من سورة آل عمران: 111
(76) ينظر المطول ص 116
(77) القصص: 23، 24
(78) بغية الايضاح ج 2ص 10، 11(1/618)
ومما رفض فيه كلام السكاكى واعتمد فيه كلام الزمخشرى قوله فى قول السكاكى: «ان افراد العظم فى قوله تعالى: {«رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي»} (79) لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فحصل ما ترى» (أى ترك الجمع الى الافراد).
قال الخطيب: «وعليك أن تتنبه لشىء وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ العظام الى لفظ العظم فيه نظر، لأنا لا نسلم صحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد، فالوجه فى ذكر العظم دون سائر ما تركب منه البدن، وتوحيده، ذكره الزمخشرى قال: انما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه.
واذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فاذا وهن كان ما وراءه أوهن ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية وقصده الى أن هذا الجنس هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد، قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدا الى معنى آخر وهو أنه لم يهن بعض عظامه ولكن كلها» (80).
وقد يتأثر الخطيب بالكشاف فى شرح القاعدة البلاغية، كما يظهر ذلك فى دراسته للاستعارة فى الحرف حيث يفهم الخطيب أن متعلق المعنى الذى يجرى فيه التشبيه هو المجرور، كما فى قولنا: زيد فى نعمة، لأن الزمخشرى أجرى التشبيه فى هذا المجرور حين قال: شبهت العداوة والحزن الخ. يقول الخطيب: «فالتشبيه فى الأفعال والصفات المشتقة منها لمعانى مصادرها، وفى الحروف لمتعلقات معانيها كالمجرور فى قولنا: زيد فى نعمة، ورفاهية، وفى لام التعليل كقوله تعالى:
{«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً»} (81) للعداوة والحزن» (82).
__________
(79) مريم: 4
(80) بغية الايضاح ج 2ص 144
(81) القصص: 8
(82) بغية الايضاح ج 3ص 132(1/619)
ويقول العلامة سعد الدين: «هذا الذى ذكره المصنف مأخوذ من كلام صاحب الكشاف، ثم ذكر ما قاله الزمخشرى فى هذه الآية، ثم ناقش الخطيب فى هذا وبيّن أنه غير جار على مذهبه لأن المشبه يجب أن يكون متروكا فى الاستعارة سواء أكانت أصلية أم تبعية وأن ما ذكره هنا لا يصح الا على الاستعارة المكنية» (83).
وللزمخشرى نظرات فى تحليل الصور البيانية لا نحسب أحدا يسبقه فيها، وكانت هذه النظرات تروق الخطيب فينقل الى كتابه قدرا كبيرا منها. وقد يكون هذا من أهم العوامل التى أجرت فى كتاب الايضاح الروح الفنية فأغرت به الباحثين هذا الزمن الطويل، من ذلك ما يقوله الخطيب فى تجريد الاستعارة ذاكرا تحليل الزمخشرى لقوله تعالى: {«فَأَذََاقَهَا اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ»} (84).
يقول الخطيب: «قال الزمخشرى: الاذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها فى البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون:
ذاق فلان البؤس، والضر وأذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر البشع فان قيل: الترشيح أبلغ من التجريد فهلا قيل: فكساها الله لباس الجوع والخوف؟ قلنا: لأن الادراك بالذوق يستلزم الادراك باللمس من غير عكس فكان فى الاذاقة اشعار بشدة الاصابة بخلاف الكسوة» (85).
ويقول فى الكناية: «قال الزمخشرى: نفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة فى ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم اذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه، ونظيره قولك للعربى: العرب لا تخفر الذمم، فانه أبلغ من قولك: أنت لا تخفر، ومنه قولهم: أيفعت لداته، وبلغت أترابه، يريدون ايفاعه وبلوغه» (86).
__________
(83) ينظر المطول ص 375
(84) النحل: 112
(85) بغية الايضاح ج 3ص 136
(86) بغية الايضاح ج 3ص 177(1/620)
وقد أشرت فى دراسة ألوان البديع عند الزمخشرى الى تأثر الخطيب بهذه الدراسة وافادته منها افادة كثيرة، وكان هذا من أهم ما أكدت به اهتمام الزمخشرى بدراسة ألوان البديع، وأنه لم يغفلها، ولم تكن عنده محسنا عرضيا كما ذكر الدارسين، ونذكر هنا صورا ونماذج من هذا الأخذ البين لنؤكد به تأثر الخطيب ببحث الكشاف فى علوم البلاغة الثلاثة.
يقول الخطيب فى المشاكلة: «ومنه قول أبى تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلّها ... أنّى بنيت الجار قبل المنزل
وشهد رجل عند شريح فقال: انك لسبط الشهادة، فقال الرجل:
انها لم تجعد عنى، فالذى سوّغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة، ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار، ولولا سبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها وأما الثانى أى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته تقديرا فكقوله تعالى: {«صِبْغَةَ اللََّهِ»} (87) وهو مصدر مؤكد منتصب عن قوله: {«آمَنََّا بِاللََّهِ»}، والمعنى تطهير الله، لأن الايمان يطهر النفوس، والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: آمنا بالله وصبغنا الله بالايمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا، أو يقول المسلمون: صبغنا الله بالايمان صبغة ولم نصبغ صبغتكم، وجىء بلفظ الصبغة للمشاكلة، وان لم يكن قد تقدم لفظ الصبغ، لأن قرينة الحال التى هى سبب النزول من غمس النصارى أولادهم فى الماء الأصفر دلت على ذلك، كما تقول لمن يغرس الأشجار:
اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرام» (88).
ويقول فى التوجيه:
«وعليه قوله تعالى: {«وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرََاعِنََا»} (89) قال الزمخشرى: «غير مسمع: حال من المخاطب، أى اسمع وأنت غير مسمع
__________
(87) البقرة: 138
(88) بغية الايضاح ج 4ص 24
(89) النساء: 46(1/621)
وهو قول ذو وجهين يحتمل الذم أى: اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم: لا سمعت، دعوة مستجابة، أو: اسمع غير مجاب ما تدعو اليه، ومعناه: غير مسمع جوابا يوافقك. فكأنك لم تسمع شيئا. أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب.
ويجوز على هذا أن يكون {«غَيْرَ مُسْمَعٍ»} مفعول «اسمع»، أى اسمع كلاما غير مسمع اياك، لأن أذنك لا تعيه، نبوا عنه. ويحتمل المدح أى:
اسمع غير مسمع مكروها، من قولك: أسمع فلان فلانا، اذا سبه، وكذلك قوله «راعنا»، يحتمل: راعنا نكلمك أى ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل شبه كلمة عبرانية، أو سريانية، كانوا يتسابون بها، وهى راعينا، فكانوا سخرية بالدين وهزءا برسول الله صلّى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والاهانة ويظهرون به التوقير والاحترام ثم قال: «فان قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذى الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا: سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء» (90).
* * *3 - المطول:
قد رأينا الخطيب ينقل كلام الزمخشرى نقلا كاملا، ورأينا كذلك أنه فى أكثر أحواله لا يقف عند هذا الكلام، ليستخرج منه أصولا وقواعد بلاغية، وسنرى أن سعد الدين (91) كان له أثر فى بلاغة الكشاف بمقدار ما للكشاف من أثر فى كتابه. وذلك أنه عنى عناية بينة بتفسير
__________
(90) بغية الايضاح ص 6564
(91) هو مسعود بن عمر بن عبد الله بن مسعود التفتازانى، ولد بتفتازان، وهى بلدة بخراسان فى سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، وأخذ عن العلامة القطب، والعضد. وغيرهما وبرع فى الأصول،(1/622)
كلام الزمخشرى وتحليل مثله، واستخراج الأصول والقواعد البلاغية منها، وبيان مذهبه فى ضوء الدراسة العلمية المقررة لقواعد الفن فى عصره، وهذه المحاولات التى تعود عائدتها على بلاغة الكشاف هى مظهر تأثره بهذا الدرس البلاغى، لذلك نجد أثر الكشاف فى كتابه يختلف عن أثره فى كتاب المفتاح، وكتاب الايضاح، ويختلف كذلك عن أثره فى كتاب المثل السائر، وكتاب الطراز فلم تكن لهؤلاء الأئمة أعنى القزوينى وابن الأثير والعلوى جهود فى شرح بلاغة الكشاف وتحليلها، وبيان ما تنطوى عليه من أصول علمية مقررة فى هذا الفن.
ولذلك يرجع ابراز جهود الزمخشرى فى البلاغة بصورتها العلمية التى استقرت بعد المفتاح الى الكتب التى عنيت بالشرح والتحليل.
وأولها كتاب «المطول». ويظهر اهتمام العلامة سعد الدين بكتاب الكشاف فى اشارته اليه فى خطبة كتاب المطول. فقد ذكر فى هذه الخطبة أمهات الكتب البلاغية التى تأثر بها. وذلك بطريقة التورية التى أغرم بها الأدباء فى عصره.
يقول سعد الدين فى خطبة كتابه: «وبعد، فان أحق الفضائل بالتقدم، وأسبقها فى استيجاب التعظيم، هو التحلى بحقائق العلوم والمعارف، والتصدى للاحاطة بما فى الصناعات من النكت واللطائف، لا سيما علم البيان المطلع على نكت نظم القرآن، فانه كشاف عن حقائق
__________
والكلام، والمنطق، وكان فى لسانه حبسة، ومن مصنفاته المطول، والمختصر، وحاشية التلويح على التوضيح فى الأصول وحاشية على شرح مختصر ابن الحاجب للعضد، ورسالة الارشاد والمقاصد وشرحها، وشرح المفتاح، وشرح الكشاف، وغير ذلك، وكان من محاسن زمانه، وأحد أعلام عصره، وله تحقيقات مستحسنة فى علم البلاغة، وله مناظرة هامة فى مسألة الاستعارة التبعية، وهى مخطوطة بدار الكتب، ومطبوعة فى حاشية الانبابى على الرسالة البيانية.(1/623)
التنزيل رائق، مفتاح لدقائق التأويل فائق، تبيان لدلائل الاعجاز وأسرار البلاغة، ايضاح لمعالم الايجاز وآثار الفصاحة، تلخيص لغوامض مشكل كتاب الله ومفصله» (92).
وتستطيع أن تجمل مواقف العلامة سعد الدين من بلاغة الكشاف فى النقاط التالية:
1 - توضيح وجهة الزمخشرى فى بعض الأصول البلاغية وذلك مثل بيان مذهبه فى الاستعارة التى سميت بعده بالاستعارة المكنية، وحدها فى كلامه، ورأيه فى قرينتها، وأنها أى المكنية لا تلازم التخييلية، ثم مناقشة ما يحوم حول هذا الرأى من الاعتراضات.
يقول العلامة سعد الدين:
«فان قلت: ما ذكره المصنف من تفسير الاستعارة بالكناية شىء لا مستند له فى كلام السلف ولا ينبنى على مناسبة لغوية، وكأنه استنباط منه، فما تفسيرها الصحيح؟ قلنا: معناها الصحيح المذكور فى كلام السلف هو ألا يصرح بذكر المستعار بل يذكر رديفه ولازمه الدال عليه، فالمقصود بقولنا: أظفار المنية، استعارة السبع للمنية، كاستعارة الأسد للرجل الشجاع، فى قولنا: رأيت أسدا، لكنا لم نصرح بذكر المستعار، أعنى السبع، بل اقتصرنا على ذكر لازمه لينقل منه الى المقصود، كما هو شأن الكناية، فالمستعار هو لفظ السبع الغير المصرح به، والمستعار منه هو الحيوان المفترس، والمستعار له هو المنية، وبهذا يشعر كلام صاحب الكشاف فى قوله تعالى: {«يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ»} (93)
حيث قال: شاع استعمال النقض فى ابطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه اثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها، أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا اليه بذكر شىء من روادفه، فينبهوا بذلك الرمز على مكانه، نحو «شجاع يفترس أقرانه»، ففيه تنبيه على أن الشجاع أسد.
__________
(92) مقدمة المطول.
(93) البقرة: 27(1/624)
هذا كلامه وهو صريح فى أن المستعار هو اسم المشبه به المتروك صريحا المرموز اليه بذكر لازمه. لكنا قد استفدنا منه أن قرينة الاستعارة بالكناية لا يجب أن تكون استعارة تخييلية، بل قد تكون تحقيقية كاستعارة النقض لابطال العهد» (94).
وهذا استنباط دقيق وفهم واضح بيّن فيه رأى الزمخشرى فى أمرين، الأول: فى معنى الاستعارة المكنية وأنها هى المستعار المحذوف المرموز له بذكر لازمه، والأمر الثانى: أن هذا اللازم وهو القرينة قد يكون استعارة تحقيقية، وهاتان المسألتان من المسائل الخلافية بين البلاغيين.
ومعنى الاستعارة المكنية كما يفهم من كلام الزمخشرى هو الرأى المنسوب الى الجمهور وهو المقابل لمذهب السكاكى ومذهب الخطيب فى تحديدها.
واعتبار القرينة استعارة تصريحية يحتاج الى شىء من التوجيه نهض صاحب الكشاف ببيانه وأورده السيد الشريف ملخصا فى حاشيته على المطول (95).
وقد بينت ذلك فى دراسة الاستعارة فى الكشاف.
قال السيد: «فان قلت: اذا كان النقض ونظائره استعارات مصرحا بها قد شبه معانيها المرادة بمعانيها الأصلية فكيف تكون كنايات عن استعارات أخرى؟ قلت: هذه الاستعارات من حيث انها متفرعة على الاستعارات الأخر صارت كنايات عنها فان النقض انما شاع استعماله فى ابطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل، فلما نزل العهد منزلة الحبل وسمى باسمه نزل ابطاله منزلة نقضه فلولا استعارة الحبل للعهد لم يحسن بل لم يصح استعارة النقض للابطال، وقس على ذلك استعارة الافتراس والاغتراف فانها تابعة لاستعارة الأسد للشجاع، والبحر للعالم.
__________
(94) المطول ص 383.
(95) حاشية السيد الشريف على المطول ص 384، 385.(1/625)
ولما كانت هذه الاستعارات تابعة لتلك الاستعارات الأخر ولم تكن مقصودة فى أنفسها بل قصد بها الدلالة على تلك الاستعارات الأخر كانت كناية عنها وذلك لا ينافى كونها فى أنفسها استعارات على قياس ما عرفت من أن الكناية لا تنافى إرادة الحقيقة فظهر بذلك أن الاستعارة بالكناية لا تستلزم الاستعارة التخييلية فان قلت: لو كان النقض مثلا مستعملا فى ابطال العهد لم يكن شىء من روادف المستعار المسكوت عنه أعنى الحبل مذكورا فلا يصح قوله: ثم يرمزوا اليه بذكر شىء من روادفه فوجب أن يكون النقض ونظائره من قرائن الاستعارة بالكناية مستعملة فى معانيها الحقيقية التى هى روادف المستعار المسكوت عنه
قلت: لما صرح باستعمال النقض فى ابطال العهد علم أنه أراد بذكر الرادف ما هو أعم من أن يراد به معناه الاصلى الذى هو الرادف الحقيقى أو يراد به ما هو مشبه بذلك المعنى منزل منزلته، فان النقض من روادف الحبل، أما اذا أريد به معناه الحقيقى فظاهر، وأما اذا أريد به معناه المجازى فلأنه اذا نزل منزلة المعنى الحقيقى وعبّر عنه باسمه صار رادفا للحبل أيضا، فالرادف على الأول مذكور لفظا ومعنى حقيقة، وعلى الثانى مذكور لفظا حقيقة ومعنى ادعاء وكلاهما يصلحان قرينة للاستعارة بالكناية» (96) وقد أشرت الى هذا فى دراسة الاستعارة فى الكشاف.
2 - اعتماده على بلاغة الكشاف فى محاولة تجاوز الحد الضيق الذى فرضه الخطيب على خصائص الصياغة فى التعبير البليغ، فحين حاول الخطيب أن يحصر أغراض التوكيد فى نفى الشك أورد الانكار فى المقام التحقيقى والمقام التنزيلى، رفض سعد الدين هذا وأحس أن التوكيد فى الجملة يكون لأغراض أخرى، واستشهد على وجهته الصائبة بكلام الشيخين عبد القاهر والزمخشرى.
يقول سعد الدين بعد شرحه لكلام الخطيب فى أضرب الخبر: «وهاهنا
__________
(96) حاشية السيد الشريف على المطول ص 384، 385.(1/626)
بحث لا بد من التنبيه له وهو أنه لا ينحصر فائدة «ان» فى تأكيد الحكم نفيا لشك، أو رد انكار، ولا يجب فى كل كلام مؤكد أن يكون الغرض منه رد انكار محقق أو مقدر، وكذا المجرد عن التأكيد ثم ينقل كلام الجرجانى فى مواقع «ان»، ثم يقول: وقد يترك تأكيد الحكم لمنكر لأن نفس المتكلم لا تساعده على تأكيده لكونه غير معتقد له أو لأنه لا يروج منه، ولا يتقبل على لفظ التوكيد. ويؤكد الحكم المسلم لصدق الرغبة فيه والرواج. قال صاحب الكشاف فى قوله تعالى: {«وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ»} (97):
«ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين وأوكدهما لأنهم فى ادعاء حدوث الايمان منهم، لا فى ادعاء أنهم أوحديون فيه، اما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه لعدم الباعث والمحرك من العقائد، واما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة، وأما مخاطبة اخوانهم فى الاخبار عن أنفسهم بالثبات على اليهودية، فهم فيه على صدق رغبة ووفور نشاط، وهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد» (98).
وحين ذكر الخطيب السر فى بيان المسند اليه أى تعقيبه بعطف البيان، وحدد ذلك وحصره فى ايضاح المسند اليه نحو قولك: قدم صديقك خالد، ورأى سعد الدين أن هذه النكتة لا تتحقق فى كثير من صور بيان المسند اليه فهى غير شاملة لهذه الخصوصية ولا مفسرة لها تفسيرا بينا وشافيا. يقول سعد الدين: «وفائدة عطف البيان لا تنحصر فى الايضاح كما ذكر صاحب الكشاف أن البيت الحرام فى قوله تعالى:
{«جَعَلَ اللََّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرََامَ قِيََاماً لِلنََّاسِ»} (99) عطف بيان جىء به للمدح لا للايضاح كما تجىء الصفة لذلك، وذكر فى قوله تعالى:
{أَلََا بُعْداً لِعََادٍ قَوْمِ هُودٍ»} (100) أنه عطف بيان ل «عاد» وفائدته وان كان البيان حاصلا بدونه أن يوسموا بهذه الدعوة وسما وتجعل فيهم أمرا محققا لا شبهة فيه بوجه من الوجوه» (101).
__________
(97) البقرة: 14
(98) المطول ص 53
(99) المائدة: 97
(100) هود: 60
(101) المطول ص 96، 97(1/627)
3 - محاولة تصحيح أوهام القوم فى فهم بلاغة الكشاف وتفسيرها:
من ذلك ما قاله الزمخشرى فى وجه افراد العظم فى قوله تعالى:
{«قََالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي»} (102) فقد ذكر أن زكريا عليه السلام أراد أن يقول: ان هذا الجنس الذى هو عمود البدن وقوامه قد أصابه الوهن، وهذه مبالغة فى تصوير الضعف الذى أصاب زكريا عليه السلام، لأن العظم اذا وهن كان غيره أوهن، فاذا جمع كان المعنى ان الوهن قد أصاب كل العظم لا بعضه، وفرق بين أن يقول عليه السلام: ان كل عظامى قد أصابه الوهن، وأن يقول: ان جنس العظم الذى هو قوام البدن وأصلبه قد أصابه الوهن، ويقول صاحب المفتاح:
انه ترك جمع العظم الى الافراد لطلب شمول الوهن للعظام فردا فردا، لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد، ومع هذا الفرق البين بين الكلامين توهم بعضهم الجمع بينهما، وذلك بحمل كلام الزمخشرى على خلاف ما يدل عليه، قال سعد الدين:
«فالتنافى بين الكلامين واضح وتوهم بعضهم أنه لا منافاة بينهما بناء على أن مراد صاحب الكشاف أنه لو جمع لكان قصدا الى أن بعض عظامه مما لم يصبه الوهن، ولكن الوهن انما أصاب الكل من حيث هو كل والبعض بقى خارجا كالواحد والاثنين، ومنشأ هذا التوهم سوء الفهم وقلة التدبر» (103).
ومن محاولته تصحيح أوهام القوم فى فهم بلاغة الكشاف ما ذكره فى أغراض تعقيب المسند اليه بضمير فصل حيث ذكر أن ذلك يكون لغرض قصر المسند على المسند اليه، فاذا قلت: زيد هو القائم، كان القيام مقصورا على زيد لا يتعداه الى غيره، ثم ذكر سعد الدين أن ناسا زعموا أن الفصل كما يكون لقصر المسند على المسند اليه يكون لقصر المسند اليه على المسند، وأن هذا مستنبط من كلام صاحب
__________
(102) مريم: 4
(103) المطول ص 85، 86(1/628)
الكشاف حين يقول فى قوله تعالى: {«وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (104):
«ان معنى التعريف فى {«الْمُفْلِحُونَ»} الدلالة على أن المتقين هم الذين ان حصلت لهم صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة، قال سعد الدين مبينا وجه فهمهم لهذا الكلام: فزعموا أن معنى: «لا يعدون تلك الحقيقة» أنهم مقصورون على صفة الفلاح لا يتجاوزونه الى صفة أخرى، وهذا غلط منشؤه عدم التدرب فى هذا الفن، وقلة التدبر لكلام القوم، أما أولا فلأن هذا إشارة الى معنى آخر للخبر المعرف باللام أورده الشيخ فى دلائل الاعجاز حيث قال: اعلم أن للخبر المعرف باللام معنى غير ما ذكر دقيقا مثل قولك: هو البطل المحامى، لا تريد أنه البطل المعهود ولا قصر جنس البطل عليه مبالغة، ونحو ذلك، بل تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامى؟ وهل حصلت على معنى هذه الصفة؟ وكيف ينبغى أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فان كنت تصورته حق تصوره فعليك بصاحبك، يعنى زيدا، فانه لا حقيقة له وراء ذلك، وطريقته طريقة قولك: هل سمعت بالأسد؟
وهل تعرف حقيقته؟ فزيد هو هو بعينه، هذا كلامه، وأما ثانيا فلأن صاحب الكشاف انما جعل هذا معنى التعريف وفائدته، لا معنى الفصل، بل صرح فى هذه الآية بأن فائدة الفصل الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة، والتوكيد، وايجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند اليه دون غيره» (105).
4 - وهمه فى تفسير كلام الزمخشرى، فاذا كان قد حاول كما قلنا أن يصحح أوهام القوم فى فهم كلام الزمخشرى فقد وقع هو نفسه فى هذا الوهم، وفاته أن يدرك الحق فى بعض المواضع من كلام الزمخشرى، وقد تنبه الى هذا العلامة السيد الشريف، من ذلك اطلاقه الحكم بأن صاحب الكشاف يجوّز عطف الانشاء على الخبر والعكس من غير أن
__________
(104) البقرة: 5
(105) المطول ص 104، 105(1/629)
يجعل الخبر بمعنى الانشاء، يقول فى هذا: «فان قلت: قد جوّز صاحب الكشاف عطف الانشاء على الاخبار من غير أن يجعل الخبر بمعنى الانشاء أو على العكس، بل يؤخذ عطف الحاصل من مضمون احدى الجملتين على الحاصل من مضمون الأخرى، حيث ذكر فى قوله تعالى: {«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا»} الى قوله {«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا»} (106):
أنه ليس المعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه، وانما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهى معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والارهاق، وبشر عمرا بالعفو والاطلاق. قلت: هذا دقيق حسن لكن من يشترط اتفاق الجملتين خبرا وانشاء لا يسلم صحة ما ذكره من المثال» (107).
وقد رفض العلامة السيد الشريف أن تفهم هذه القاعدة من كلام الزمخشرى اذ أنه لا يدل عليها بهذا الاطلاق الذى ذكره العلامة سعد الدين، وانما هو بيان لعطف القصة على القصة وهذا النوع من العطف سكت عنه السكاكى كما يقول صاحب الكشاف.
يقول السيد الشريف: «لفظ الجملة فى عبارة الكشاف لم يرد به ما هو المقصود فى هذه المباحث كما يشعر به قوله: «فان قلت قد جوّز صاحب الكشاف عطف الانشاء على الاخبار من غير أن يجعل الخبر بمعنى الانشاء أو على العكس، بل يؤخذ عطف الحاصل من مضمون احدى الجملتين على الحاصل من مضمون الأخرى، بل أريد به معنى المجموع، أى المعتمد بالعطف هو مجموع قصة بيّن فيها ثواب المؤمنين على مجموع قصة بيّن فيها عقاب الكافرين، ثم ذكر عبارة صاحب الكشاف. ثم قال: والعجب من الشارح أنه لم يتنبه لهذا المعنى مع ظهوره من عبارة العلامة» (108).
__________
(106) البقرة: 24، 25
(107) المطول ص 263
(108) ينظر حاشية السيد الشريف على المطول ص 263(1/630)
واذا كان هذا بيانا لعطف القصة على القصة فلا يستشهد به على جواز عطف الانشاء على الخبر، وبالعكس، بل انه جدير بأن يستشهد به على عدم صحة هذا العطف، لأنه يقول: ليس المعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه، ومفهوم هذا الكلام أنه ولو كان المعتمد بالعطف هو الأمر لطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه، وقد قلت فى دراسة الفصل والوصل: ان الزمخشرى لا يمنع عطف الانشاء على الخبر ما دام المعتمد بالعطف هو مضمون الجمل لا الألفاظ، وحينئذ لا تطلب المشاكلة بين الألفاظ، وانما تطلب المناسبة بين المعانى وهذا موضع دقيق يحسن تأمله. ثم هو يتسع بتأمل صاحب البصيرة لأنه بحث فى روابط الفقر ومعاقد المعانى أو هو من البحوث النادرة فى تراث العربية.
5 - افادته من تحليلات الزمخشرى ونسجه على منوالها فى شرحه واضافاته الى كلام الخطيب، فحين يذكر الخطيب قول ضابئ ابن الحارثى: «فانى وقيار بها لغريب» مثالا لحذف المسند، يضيف سعد الدين بيان السر فى تقديم المسند اليه الذى هو «قيار» على خبر «ان» الذى هو غريب، ويذكر فى بيان هذا السر أن الشاعر «قصد التسوية بينهما فى التحسر على الاغتراب، كأنه أثر فى غير ذوى العقول أيضا، بيان ذلك أنه لو قيل: انى لغريب وقيار، لجاز أن يتوهم أن له مزية على «قيار» فى التأثر بالغربة، لأن ثبوت الحكم أولا أقوى، فقدمه ليتأتى الاخبار عنهما دفعة بحسب الظاهر، تنبيها على أن قيارا مع أنه ليس من ذوى العقول قد ساوى العقلاء فى استحقاق الاخبار عنه بالاغتراب قصدا الى التحسر» (109).
ثم بيّن لنا أن هذا السر الذى ذكره فى تقديم المسند اليه قد أدركه مما ذكره الزمخشرى فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئُونَ وَالنَّصََارى ََ»} (110) يقول: «وهذا الوجه هو الذى قطع
__________
(109) المطول ص 140.
(110) المائدة: 69(1/631)
به صاحب الكشاف فى قوله تعالى: {«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئُونَ وَالنَّصََارى ََ»} الآية. وقال: {«الصََّابِئُونَ»} مبتدأ وهو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على الجملة {«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا»} الى آخره لا محل لها من الاعراب، وفائدة تقديم {«الصََّابِئُونَ»} التنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا، وأشدهم غيا، يثاب عليهم ان صح منهم الايمان والعمل الصالح، فما الظن بغيرهم» (111).
6 - افادته من تحليلات الزمخشرى فى تحرير الأصول البلاغية، فقد كان كتاب الكشاف من المصادر الأساسية التى اعتمد عليها سعد الدين فى تحديد القواعد البلاغية، فكثيرا ما كان معتمد سعد الدين فى تقرير المسألة العلمية هو كتاب الكشاف وحده.
من ذلك اعتماده فى الحكم على قولنا «رأيت أسدا فى الشجاعة» بأنه من التشبيه وان ترك فيه المشبه بالكلية على ما ذكره الزمخشرى فى قوله تعالى: {«حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ»} (112)
يقول سعد الدين: «واما اذا ترك المشبه بالكلية لكن أتى بوجه الشبه نحو: رأيت أسدا فى الشجاعة، ونحو قوله:
ولاحت من بروج البدر بعدا ... بدور مها تبرّجها اكتنان
ففيه اشكال، لأن ترك المشبه لفظا أو تقديرا، واجراء اسم المشبه به عليه، يقتضى أن يكون هذا استعارة، وذكر وجه الشبه يقتضى أن يكون تشبيها، أى: رأيت رجلا كالأسد فى الشجاعة، ولاحت من قصور مثل بروج البدر فى البعد، فبينهما تدافع، كذا ذكره صدر الأفاضل فى ضرام السقط، والظاهر أن مثل هذا من باب التشبيه، لأن المراد بكون المشبه مقدرا أعم من أن يكون محذوفا جزء كلام كما فى قوله تعالى: {«صُمٌّ بُكْمٌ»} (113) أو يكون فى الكلام ما يقتضى
__________
(111) المرجع السابق.
(112) البقرة: 187
(113) البقرة: 18(1/632)
تقريره، كما فى قولنا: رأيت أسدا فى الشجاعة، بدليل أنهم جعلوا الخيط الأسود فى قوله تعالى: {«حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ»} (114) تشبيها، لأن بيان الخيط الأبيض بالفجر قرينة على أن الخيط الأسود أيضا مبين سواد آخر الليل. وأبعد من ذلك ما يشعر به كلام صاحب الكشاف من أن قوله تعالى: {«ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيََانِ»} (115) وقوله تعالى: {«وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ»} (116) من باب التشبيه المطوى فيه ذكر المشبه كما فى الاستعارة ثم يضع أصلا للفرق بين التشبيه والاستعارة وهو صحة قيام المشبه مقام المستعار مع فوات المبالغة فى أسلوب الاستعارة وعدم صحة ذلك فى أسلوب التشبيه، ثم يطبق هذا الأصل على الآيات التى ذكرها صاحب الكشاف فى هذا النص، ثم يقول:
«ولخفاء ذلك ذهب كثير من الناس الى أن الآيتين من قبيل الاستعارة وأن صاحب الكشاف أوردهما مثالين للاستعارة، ولا يخفى ضعفه على من تأمل لفظ الكشاف» (117).
7 - نقده لبعض آراء الزمخشرى:
وقد يقف العلامة سعد الدين من كلام صاحب الكشاف موقف الناقد المتأمل، ثم يرفض هذا الكلام اذا وجد فيه بعدا عن الحق، وهو فى نقده ورفضه يعتمد على ادراك فطن وفهم نافذ. ومن خير ما قاله فى هذا الصدد: موازنته بين رأى الشيخين عبد القاهر والزمخشرى ورأى السكاكى فى سر حذف المفعول فى قوله تعالى {«وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ»}.
يقول: «وأما قوله تعالى: {«وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودََانِ»} (118) فذهب
__________
(114) البقرة: 187
(115) الزمر: 29
(116) فاطر: 12
(117) المطول ص 359، 360
(118) القصص: 23(1/633)
الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف الى أن حذف المفعول فيه للقصد الى نفس الفعل، وتنزيله منزلة اللازم، أى يصدر منهم السقى، ومنهما الذود، وأما أن المسقى والمذود ابل، أو غنم، فخارج عن المقصود، بل يوهم خلافه، اذ لو قيل أو قدر: يسقون ابلهم، وتذودان غنمهما، لتوهم أن الترحم عليهما ليس من جهة أنهما على الذود والناس على السقى، بل من جهة أن مذودهما غنم، ومسقيهم ابل، ألا ترى أنك اذا قلت: مالك تمنع أخاك؟ كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع الأخ، وذهب صاحب المفتاح الى أنه لمجرد الاختصار، والمراد: يسقون مواشيهم، وتذودان غنمهما، وكذا سائر الأفعال المذكورة فى هذه الآية، وهذا أقرب الى التحقيق لأن الترحم لم يكن من جهة صدور الذود عنهما، وصدور السقى من الناس، بل من جهة ذودهما غنمهما، وسقى الناس مواشيهم، حتى لو كانتا تذودان غير غنمهما، وكان الناس يسقون غير مواشيهم، بل غنمهما مثلا لم يصح الترحم فليتأمل ففيه دقة اعتبرها صاحب المفتاح بعد التأمل فى كلام الشيخين وغفل عنها الجمهور فاستحسنوا كلامهما» (119).
وقد علق السيد الشريف على هذه الموازنة وقال مشيرا الى وجهة صاحب المفتاح: «وهذا أدق نظرا وأصح معنى» (120).
* * * __________
(119) المطول ص 197.
(120) حاشية السيد الشريف على المطول ص 197.(1/634)
الفصل الثانى أثر الكشاف فى المثل السائر
لا شك فى أن كتاب «المثل السائر» من أعظم الكتب التى تناولت شئون البلاغة والنقد بعد عصر الزمخشرى، وأنه أثار كثيرا من القضايا البلاغية الهامة وعالجها بالروح الأدبية المتذوقة، وأن صاحبه (1) كان ذا بصر بشئون الكتابة والشعر، لذلك رأيت أن أتعرف على أثر الدراسة البلاغية التى أثارها الزمخشرى فى هذا الكتاب العظيم ليتضح لنا مدى تأثيره فى الاتجاهات الدراسية الهامة فى هذا العلم بعد ما بينا أثره فى مدرسة المفتاح.
ومن الواضح أن الدراسة البلاغية بعد الزمخشرى سارت فى اتجاهات مختلفة كان أبرز هذه الاتجاهات: اتجاه السكاكى والقزوينى وشراحهما، وطريقتهما هى الطريقة التى سيطرت على الدراسة البلاغية زمانا طويلا، وأصولها تمتد كما قلنا فى بيئة المشرق حيث
__________
(1) هو أبو الفتح نصر الدين بن محمد بن محمد الشيبانى الجزرى الملقب بضياء الدين، ولد بجزيرة ابن عمرو بالموصل سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وعرفت أسرته بالعلم والفضل والأدب، وهو أحد اخوة ثلاثة برعوا فى العلوم العربية والاسلامية فأخوه مجد الدين محدث وفقيه وأخوه عز الدين مؤرخ وصاحب تصانيف قيمة منها أسد الغابة فى معرفة الصحابة وكتاب الكامل، وقد التحق صاحبنا ضياء الدين بخدمة صلاح الدين الأيوبى وتولى ديوان الرسائل لأمير الموصل ناصر الدين محمود، وتوفى سنة سبع وثلاثين وستمائة هجرية.(1/635)
ترفدها دراسة عبد القاهر فى جرجانية خوارزم ودراسة الزمخشرى فى زمخشر وقبلهما دراسة على بن عبد العزيز.
ولا شك أن اتجاه ابن الأثير كان يختلف اختلافا واضحا عن هذه المدرسة الخوارزمية البارزة الملامح وأنه لم يفد من هذه الدراسة العظيمة بمقدار ما أفاد من غيرها، فقد كان يضع بصره على دراسة الخفاجى والآمدى، نعم قد قرأ ابن الأثير كتاب الكشاف قراءة فهم وتمثل وأفاد منه الكثير، وقد أكون على حق اذا قلت: ان أثر دراسة خوارزم فى كتاب «المثل السائر» تتمثل فيما سوف أبينه من أثر الكشاف فى هذا الكتاب.
وقد عالج ابن الأثير كما قلت أصولا نقدية ومسائل بلاغية لها أهميتها، ونلحظ أثر الكشاف ينعدم فى كثير من أبواب هذا الكتاب، فهو حين يتكلم فى المقدمة عن موضوع علم البيان، وآلاته، وما يجب على الأديب الكاتب أن يثقف به نفسه، وحين يتكلم فى المقالة الأولى عن الصناعة اللفظية ويذكر فنون البديع لا تجد أثرا واضحا لدراسة الزمخشرى فى هذين الموضعين. وقد يرجع هذا الى أن الزمخشرى لم يدرس هذه المسائل دراسة بينة يلتفت اليها الباحثون. وحين يتكلم فى المقالة الثانية عن معانى الخطابة والشعر، وعن الاستعارة والتشبيه لا نجد كذلك أثرا بينا لدراسة الزمخشرى، وقد حاول ابن الأثير أن يكون له رأى فى تقسيمات البيان ولكنه لم ينجح.
أما حين يتكلم فى الالتفات، وفى توكيد الضميرين، وفى التفسير بعد الابهام، وفى استعمال العام فى النفى والخاص فى الاثبات، وفى التقديم والتأخير، وفى الحروف العاطفة، والجملة الفعلية والاسمية، وعكس الظاهر، والاستدراج، وحذف الجمل، والتكرار، نجد فى كل هذه الفنون أثر الزمخشرى واضحا وجليا، حتى أنه يعتمد عليه أحيانا وينقل عباراته كاملة، وقد نجده يخالف الزمخشرى فى أصل المسألة ثم يعود اليه ويأخذ منه أخذا مباشرا، وقد نجده يدعى استنباط فن من فنون البلاغة ثم هو لا يزيد على أن يذكر فيه كلام الزمخشرى.(1/636)
وظاهر لنا أن ما أخذه من الزمخشرى لم يكن مشهورا عند غيره، وان كان معروفا فى مسائل العلم وأصوله، ولكنه على كل حال لم تذكر فيه النصوص وتحلل تحليلا بلاغيا دقيقا كما تذكر وتحلل فى كتاب الكشاف، وأن ما أغفل فيه حديث الزمخشرى كان مشهورا عند غيره.
نعم ان للزمخشرى كلاما فى تحليل صور البيان لم يصل اليه أحد قبله، وله فى ميزان الدراسة البلاغية المتذوقة وزن راجح، وقد أغفله ابن الأثير، وذلك راجع فى نظرى الى أن أكثر دوافع التحليل والبحث لمثل هذه الصور يكمن فى محاولة التنزيه وتأويل النصوص المشتبهة، وهذه قضية ابتعد عنها ابن الأثير فلم يكن فى حاجة الى ذكر نصوصها وتحليلاتها.
ودونك بعضا من هذه المباحث التى أفادها من الكشاف:
الالتفات:
يقول ابن الأثير فى القيمة البلاغية للالتفات: «وهذا النوع وما يليه هو خلاصة علم البيان التى حولها يدندن، واليها تستند البلاغة، وعنها يعنعن».
ويزعم أن الالتفات فن تختص به اللغة العربية دون غيرها من اللغات (2).
ثم يحاول ابن الأثير أن يجد علة وسرا لهذا الحسن الكامن فى هذه الطريقة، ويرفض فى هذا كلام البلاغيين حيث يقولون: انه من عادة العرب وافتنانهم فى كلامهم، ويسمى مثل هذا التعليل بعكاز الأعمى، وهو على حق، فان بيان أسرار البلاغة لا يكتفى فيها بهذا القول اذ أننا محتاجون دائما الى معرفة السبب الذى قصدت العرب ذلك من أجله حتى صار من عادتهم.
__________
(2) ينظر المثل السائر ج 2ص 170(1/637)
ومن الواضح أن الزمخشرى ذكر القيمة البلاغية لهذا الفن وسر تأثيره وأفاض فى هذا، ولكن ابن الأثير حاول أن يغمطه هذا الحق، فذكر بعض كلامه، وناقشه فيه، ورفضه، ولكنه لم يلبث أن رجع اليه فأخذ منه تحليلاته الفنية الفذة.
يقول ابن الأثير: «وقال الزمخشرى رحمه الله: ان الرجوع من الغيبة الى الخطاب انما يستعمل للتفنن فى الكلام والانتقال من أسلوب الى أسلوب تطرية لنشاط السامع، وايقاظا للاصغاء اليه، وليس الأمر كما ذكره الزمخشرى لأن الانتقال فى الكلام من أسلوب الى أسلوب اذا لم يكن الا تطرية لنشاط السامع وايقاظا للاصغاء اليه، فان ذلك دليل على أن السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل الى غيره ليجد نشاطا للاستماع، وهذا قدح فى الكلام لا وصف له، لأنه لو كان حسنا لما مل» (3).
وليس ايقاظ السامع واثارته وتجديد نشاطه دليلا على عيب الكلام وقدحه كما يزعم ابن الأثير، ولم يقف الزمخشرى عند هذه العلة وحدها، بل ذكر أن مواقعه تختص بفوائد، وذكر لها أمثلة وشواهد، وقد أحسن ابن أبى الحديد حين رفض هذا الاعتراض وذكر أن الملال لا يكون الا من الحسن المستعذب، وأنهم يستقبحون قول من يقول: قد مل المحبوس من الحبس، والمضروب من الضرب (4).
ثم يقول ابن الأثير: «ولو سلمنا الى الزمخشرى ما ذهب اليه لكان انما يوجد ذلك فى الكلام المطول، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك، لأنه قد ورد الانتقال من الغيبة الى الخطاب، ومن الخطاب الى الغيبة فى مواضع كثيرة من القرآن، ويكون مجموع الجانبين مما يبلغ عشرة ألفاظ أو أقل من ذلك» (5).
__________
(3) المثل السائر ج 2ص 171، 172
(4) ينظر كتاب الفلك الدائر على المثل السائر، ملحق بهذا النبأ ج 4ص 24، 25
(5) المثل السائر ج 2ص 177(1/638)
وليس كما زعم ابن الأثير، فان ايقاظ السامع واثارته وجذب انتباهه، لا يستلزم كلاما مطولا، وقد رد ذلك ابن أبى الحديد واعتبر هذا من العرب شدة اهتمام وعناية بالافهام، فوقع ذلك فى قصير كلامهم كما وقع فى طويله (6).
ويقول ابن الأثير:
«ومفهوم قول الزمخشرى فى الانتقال من أسلوب الى أسلوب انما يستعمل قصدا للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل اليه لا قصدا لاستعمال الأحسن، وعلى هذا فاذا وجدنا كلاما قد استعمل فى جميعه الايجاز ولم ينتقل عنه، أو استعمل فيه جميعه الاطناب ولم ينتقل عنه، وكان كلا الفريقين واقعا فى موقعه، قلنا: هذا ليس بحسن، اذ لم ينتقل فيه من أسلوب الى أسلوب، وهذا قول فيه ما فيه» (7).
والحق أن ابن الأثير قد تعسف حين حمل كلام الزمخشرى على هذا المعنى وذهب به هذا المذهب فليس مراد الزمخشرى أن الانتقال يكون قصدا للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل اليه وانما يكون قصدا لاثارة السامع وتجديد نشاطه بهذه المخالفة وعند مقاطع معينة من المعانى تقتضى اللفت والتنبيه والهز والتحريك، ومن هنا يحسن الالتفات مع ملاحظة خصوصيات المقامات التى تنبه اليها الزمخشرى، وقد أحسن فى هذا.
ولا يلزم من هذا أن يقال: ان الايجاز الواقع موقعه الذى لا انتقال فيه، وان الاطناب الواقع موقعه الذى لا انتقال فيه أيضا كلاهما غير حسن، لأن الانتقال ليس شرطا لازما للحسن، ولا يفهم هذا من كلام الزمخشرى وقد أحسن ابن أبى الحديد حين قال فى هذا: «ان هذا الاعتراض من أظرف ما يحكى، وذلك أن الزمخشرى لم يجعل حسن الكلام مقصورا على الالتفات كالشروط التى تعدم عند عدم شروطها،
__________
(6) ينظر الفلك الدائر ج 4ص 26
(7) المثل السائر ج 2ص 172(1/639)
ولكنه قال: ان الالتفات مما تستعمله العرب، ووجه استعمالها له أنه يحصل فيه نوع تنبيه ما للسامع، وتجديد لنشاطه الى سماع الخطاب فلا يلزم من ذلك أن كل خطاب لا التفات فيه، فانه لا يكون حسنا كما اذا قلنا: انما حسن استعمال المطابقة والتجنيس فى الشعر لكذا وكذا، لا يلزم منه أن يكون كل شعر لا تجنيس فيه ولا مطابقة غير حسن
فقد بان أن هذا الموضع ما ذهب على الزمخشرى وانما ذهب على من اعترضه» (8).
ثم قال ابن الأثير: «والذى عندى فى ذلك أن الانتقال من الخطاب الى الغيبة أو من الغيبة الى الخطاب لا يكون الا لفائدة اقتضته، وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب الى أسلوب، غير أنها لا تحد بحد، ولا تضبط بضابط، لكن يشار الى مواضع منها لا يقاس عليها غيرها» (9).
وهذه الفائدة التى تكمن وراء الانتقال من أسلوب الى أسلوب والتى لا تحد بحد ولا تضبط بضابط قد أشار اليها الزمخشرى بقوله بعد ما ذكر التطرية والايقاظ: «وقد تختص مواقعه بفوائد» (10).
وقد ذكر ابن الأثير كلام الزمخشرى فى المواضع التى ذكرها ليقاس عليها غيرها، من ذلك قوله تعالى: {«وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»} (11) يقول ابن الأثير: «وانما صرف الكلام عن خطاب نفسه الى خطابهم لأنه أبرز الكلام لهم فى معرض المناصحة وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم، لأن ذلك أدخل فى امحاض النصح، حيث لا يريد لهم الا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله:
{«وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي»} مكان قوله: «وما لكم لا تعبدون الذى فطركم» ألا ترى الى قوله: {«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»} ولولا أنه قصد ذلك لقال:
الذى فطرنى اليه أرجع. وقد ساقه ذلك المساق الى أن قال: {«إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ»} (12).
__________
(8) الفلك الدائر ج 4ص 27
(9) المثل السائر ج 2ص 173
(10) الكشاف ج 1ص 12
(11) يس: 22
(12) المثل السائر ج 2ص 172والآية من سورة يس: 25(1/640)
ويقول الزمخشرى فى هذه الآية: «ثم أبرز الكلام فى معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم، ولأنه أدخل فى امحاض النصح حيث لا يريد لهم الا ما يريد لروحه، ولقد وضع قوله: {«وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي»} مكان قوله: «وما لكم لا تعبدون الذى فطركم» ألا ترى الى قوله: {«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»} ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذى فطرنى واليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق الى أن قال:
{«آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ»} (13).
ويقول ابن الأثير فى قوله تعالى: {«يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ، فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَكَلِمََاتِهِ»} (14):
«فانما قال {«فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ»} ولم يقل: فآمنوا بالله وبى، عطفا على قوله: {«إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ»} لتجرى عليه الصفات التى أجريت عليه وليعلم أن الذى وجب الايمان به والاتباع له هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبى الأمى الذى يؤمن بالله وبكلماته كائنا من كان، أنا أو غيرى، اظهارا للنصفة وبعدا من التعصب لنفسه» (15).
ويقول الزمخشرى فى هذا: «فان قلت: هلا قيل: آمنوا بالله وبى بعد قوله {«إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً»}؟ قلت: عدل عن المضمر الى الاسم الظاهر لتجرى عليه الصفات التى أجريت عليه، ولما فى طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أن الذى وجب الايمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان، أنا أو غيرى، اظهارا للنصفة وتفاديا من التعصب لنفسه» (16).
وقريب من هذا التوافق ما يذكره فى قوله تعالى: {«هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ}
__________
(13) الكشاف ج 4ص 8
(14) الأعراف: 158
(15) المثل السائر ج 2ص 182، 183
(16) الكشاف ج 2ص 131(1/641)
{طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهََا جََاءَتْهََا رِيحٌ عََاصِفٌ»} (17) فقد ذكر ابن الأثير فيها كلام الزمخشرى وزاد عليه زيادة لا تعدو أن تكون شرحا لهذا الكلام لا يضيف اليه شيئا (18).
ومن الالتفات عند ابن الأثير الرجوع عن الفعل المستقبل الى فعل الأمر، وعن الفعل الماضى الى فعل الأمر.
وقد ذكر من شواهد ذلك قوله تعالى: {«قََالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللََّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ»} (19) وقال فيها: «فانه انما قال:
{«أُشْهِدُ اللََّهَ وَاشْهَدُوا»} ولم يقل: وأشهدكم، ليكون موازنا له وبمعناه لأن اشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت، وأما اشهادهم فما هو الا تهاون بهم، ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم، ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجىء به على لفظ الأمر كما يقول الرجل لمن يبس ثرى بينه وبينه: اشهد على أنى لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله» (20).
ويقول الزمخشرى فيها: «فان قلت: هلا قيل: انى أشهد الله وأشهدكم؟ قلت: لأن اشهاد الله على البراءة من الشرك اشهاد صحيح ثابت فى معنى تثبيت التوحيد وشد معاقده، وأما اشهادهم فما هو الا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجىء به على لفظ الأمر بالشهادة كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: اشهد على أنى لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله» (21).
ويذكر ابن الأثير أن عطف المستقبل على الماضى يكون على ضربين، الضرب الأول: ما يستعمل فيه المستقبل للدلالة على حدث
__________
(17) يونس: 22
(18) ينظر المثل السائر ج 2ص 181، والكشاف، ج 1ص 226
(19) هود: 54
(20) المثل السائر ج 2ص 183، 184
(21) الكشاف ج 2ص 315، 316(1/642)
قد مضى، والضرب الثانى ما يستعمل فيه المستقبل للدلالة على حدث يقع فى المستقبل، والضرب الأول هو القسم البلاغى الذى يعنى به.
وأمثلته قوله تعالى: {«وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا»} (22). يقول ابن الأثير:
«فانه انما قال «فتثير» مستقبلا، وما قبله وما بعده ماض لذلك المعنى الذى أشرنا اليه، وهو حكاية الحال التى يقع فيها اثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة، وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية كحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك ثم يحكى حديث الزبير بن العوام رضى الله عنه الذى أخبر فيه أنه لقى عبيدة بن سعد بن العاص وهو على فرسه وعليه لأمته كاملة لا يرى منه الا عيناه. قال الزبير: «وفى يدى عنزة فأطعن بها فى عينيه فوقع وأطأ برجلى على خده حتى خرجت العنزة متعقفة، ثم يقول ابن الأثير: وعلى هذا ورد قول تأبط شرا:
بأنّى قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصّحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران
فانه قصد أن يصور لقومه الحال التى تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يبصرهم اياها مشاهدة للتعجب من جراءته على ذلك الهول ولو قال «فضربتها» عطفا على الأول، لزالت هذه الفائدة المذكورة» (23).
وهذا مأخوذ من كلام الزمخشرى فى هذه الآية وقد أضاف اليه ابن الأثير حديث الزبير بن العوام وله نظير فى كلام الكشاف فى موطن آخر وقد أثبتنا هذه النصوص فى دراسة المفرد (24).
__________
(22) فاطر: 9
(23) المثل السائر ج 2ص 187185بتصرف.
(24) ينظر الكشاف ج 3ص 474، 475وهذا البحث فى دراسة المفرد.(1/643)
أما الضرب الثانى من عطف المستقبل على الماضى فانه يراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض، وقد ذكر ابن الأثير شواهده من تحليلات الزمخشرى فى الكشاف من ذلك قوله تعالى: {«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً، إِنَّ اللََّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ»}.
يقول ابن الأثير: «ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضى هاهنا الى المستقبل، فقال: {«فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً»} ولم يقل: فأصبحت عطفا على «أنزل»، وذلك لافادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان فانزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض، وهذا كما نقول:
أنعم علىّ فلان فأروح وأغدو شاكرا له، ولو قلت: فرحت وغدوت شاكرا له، لم يقع ذلك الموقع لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى، وهذا موضع حسن ينبغى أن يتأمل» (25).
ولست أدرى لماذا كان هذا القسم غير بلاغى؟ أليست البلاغة نظرا فيما تنطوى عليه خصائص الألفاظ وأحوالها لابراز معانيها وبيان لطائفها ومطابقتها لسياق الكلام؟ وأ ليس هذا داخلا فى أحوال اللفظ التى بها يطابق مقتضى الحال؟ وأ ليس هذا موضعا حسنا ينبغى أن يتأمل كما يقول؟
الحق أن عبد القاهر الجرجانى قد أصاب حين جعل ادراك الخطأ الخفى الذى لا ينتبه اليه الا الخاصة من المثقفين من صميم علوم البلاغة ومن صميم لطائفها وأسرارها، وقد ذكر فى هذا بيت المتنبى:
عجبا له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها
وقال فيه: «مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه فلا ننكر منه شيئا ولا يقع لنا أن فيه خطأ، ثم بان بآخره أنه قد أخطأ، وذلك أنه كان ينبغى أن يقول: ما حفظ الأشياء من عاداتها، فيضيف المصدر الى المفعول فلا يذكر الفاعل، ذلك لأن المعنى على أنه ينفى الحفظ عن أنامله جملة
__________
(25) المثل السائر ج 2ص 189وينظر الكشاف ج 3ص 132 والآية من سورة الحج: 63(1/644)
وأنه يزعم أنه لا يكون منها أصلا واضافته الحفظ الى ضميرها فى قوله «ما حفظها الأشياء» يقتضى أن يكون قد أثبت لها حفظا، ونظير هذا أنك تقول: ليس الخروج فى مثل هذا الوقت من عادتى، ولا تقول:
ليس خروجى فى مثل هذا الوقت من عادتى» (26).
ومن الالتفات الاخبار بالفعل الماضى عن المستقبل والغرض منه توكيد تحقق الفعل وايجاده ومنه قوله تعالى: {«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ»} (27).
يقول ابن الأثير: «فانه انما قال {«فَفَزِعَ»} بلفظ الماضى بعد قوله {«يُنْفَخُ»}
وهو مستقبل للاشعار بتحقق الفزع، وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضى يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به، وكذلك جاء قوله تعالى: {«وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبََالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بََارِزَةً وَحَشَرْنََاهُمْ فَلَمْ نُغََادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً»} (28) وانما قيل {«وَحَشَرْنََاهُمْ»} ماضيا بعد {«نُسَيِّرُ»}
و {«وَتَرَى»} وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليشاهدوا تلك الأحوال، كأنه قال {«وَحَشَرْنََاهُمْ»} قبل ذلك لأن الحشر هو المهم، لأن من الناس من ينكره كالفلاسفة وغيرهم، ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضى. ومما يجرى هذا المجرى الاخبار باسم المفعول عن الفعل المستقبل، وانما يفعل ذلك لتضمنه معنى الفعل الماضى، وقد سبق الكلام عليه، فمن ذلك قوله تعالى: {«إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خََافَ عَذََابَ الْآخِرَةِ، ذََلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النََّاسُ وَذََلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ»} (29).
فانه انما أوثر اسم المفعول الذى هو «مجموع» على الفعل المستقبل الذى هو «يجمع» لما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه الموصوف بهذه الصفة، وان شئت فوازن بينه وبين قوله تعالى: {«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ»} (30) فانك تعثر على صحة ما قلت» (31).
__________
(26) دلائل الاعجاز ص 346، 347
(27) النمل: 87
(28) الكهف: 47
(29) هود: 103
(30) التغابن: 9
(31) المثل السائر ج 1ص 190، 191، وينظر الكشاف ج 3 ص 304، ج 2ص 567، 334(1/645)
وهذا مأخوذ من الكشاف وقد أثبتناه فى دراسة المفرد.
* * *توكيد الضميرين:
ويستمد ابن الأثير دراسته فى هذا الموضوع من تحليلات الكشاف كما فعل فى دراسة الالتفات ولا تجد له زيادة كبيرة، ومن الواضح أنه أضاف ترجمة هذا الموضوع وجمع مثله وشواهده من الكشاف، وأضاف اضافات جاءت على نسقها وكأنها زيادة فى الأمثلة.
يقول فى جماع أمر التوكيد: «اذا كان المعنى المقصود معلوما ثابتا فى النفوس فأنت بالخيار فى توكيد أحد الضميرين فيه بالآخر، واذا كان غير معلوم وهو مما يشك فيه فالأولى حينئذ أن يؤكد أحد الضميرين بالآخر فى الدلالة عليه لتقرره وتثبته، فمما جاء من ذلك قوله تعالى: {«قََالُوا يََا مُوسى ََ إِمََّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ»} (32) فان إرادة السحرة الالقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده لأنهم لم يصرحوا بما فى أنفسهم من ذلك، لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم موسى بمثله الى توكيد ما هو لهم بالضميرين اللذين هما «نكون» و «نحن» دل ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه والالقاء قبله، لأن من شأن مقابلة خطابهم موسى بمثله أن كانوا قالوا: {«إِمََّا أَنْ تُلْقِيَ»}، و «اما أن نلقى»، لتكون الجملتان متقابلتين فحيث قالوا عن أنفسهم: {«وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ»} استدل بهذا القول على رغبتهم فى الالقاء قبله» (33).
وهذا شرح لقول الزمخشرى فى الآية: «وقولهم: {«وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ»} فيه ما يدل على رغبتهم فى أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل، وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر واقحام الفصل، وقد سوّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم» (34).
__________
(32) الأعراف: 115
(33) المثل السائر ج 2ص 192
(34) الكشاف ج 2ص 110(1/646)
ويقول ابن الأثير: «وأما توكيد المتصل بالمتصل فكقوله تعالى فى سورة الكهف: {«فَانْطَلَقََا حَتََّى إِذََا لَقِيََا غُلََاماً فَقَتَلَهُ قََالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قََالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً»} (35) وهذا بخلاف قصة السفينة فانه قال فيها: {«أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً»} (36) والفرق بين الصورتين أنه أكد الضمير فى الثانية دون الأولى فقال فى الأولى {«أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ»} وقال فى الثانية {«أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ»} وانما جىء بذلك للزيادة فى مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة على مرة، والوسم بعدم الصبر، وهذا كما لو أتى الانسان ما نهيته عنه فلمته وعنفته، ثم أتى ذلك مرة ثانية أليس أنك تزيد فى لومه وتعنيفه؟ وكذلك فعل هاهنا، فانه قيل فى الملامة أولا {«أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ»} ثم قيل ثانيا {«أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ»} وهذا موضع يدق عن العثور عليه ببادرة النظر ما لم يعط التأمل فيه حقه» (37).
وهذا الكلام شرح لما فى الكشاف وان كان الزمخشرى لم يجعل ذكر الجار والمجرور من توكيد المتصل بالمتصل وانما هو قيد للفعل، وقد جمع ذلك كله بقوله:
«فان قلت: ما معنى زيادة «لك»؟ قلت: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية» (38).
ويقول ابن الأثير: «وأما توكيد المتصل بالمنفصل فنحو قوله تعالى: {«فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ََ. قُلْنََا لََا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ»} (39) فتوكيد الضميرين هاهنا أنفى للخوف من قلب موسى وأثبت فى نفسه للغلبة والقهر ولو قال: لا تخف انك الأعلى، أو فأنت الأعلى، لم يكن له من التقرير والاثبات لنفى الخوف ما لقوله {«إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ»}، وفى هذه الكلمات الثلاث وهى قوله: {«إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ»} ست
__________
(35) الكهف: 74، 75
(36) الكهف: 72
(37) المثل السائر ج 2ص 193
(38) الكشاف ج 2ص 574
(39) طه: 67، 68(1/647)
فوائد: الأولى «ان» المشددة التى من شأنها الاثبات لما يأتى بعدها
الثانية تكرير الضمير فى قوله {«إِنَّكَ أَنْتَ»} الثالثة لام التعريف فى قوله {«الْأَعْلى ََ»} الرابعة لفظ أفعل الذى من شأنه التفضيل
الخامسة اثبات الغلبة له من العلو لأن الغرض من قوله {«الْأَعْلى ََ»} أى الأغلب السادسة الاستئناف» (40).
وقد جمع الزمخشرى كل هذه المعانى فى قوله: «فيه تقرير لغلبته، وقهره، وتوكيد بالاستئناف، وبكلمة التشديد، وبتكرير الضمير، وبلام التعريف، وبلفظ العلو، وهو الغلبة الظاهرة، وبالتفضيل» (41).
* * *فى عطف المظهر على ضميره:
وكانت التحليلات البلاغية فى الكشاف زاد ابن الأثير فى دراسة هذا النوع الذى ترجم له بعطف المظهر على ضميره والافصاح به بعده، يقول فى هذا النوع: «ومما جاء من ذلك قوله تعالى: {«أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللََّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللََّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ»} (42)، ألا ترى كيف صرح باسمه تعالى فى قوله {«ثُمَّ اللََّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ»} مع ايقاعه مبتدأ فى قوله {«كَيْفَ يُبْدِئُ اللََّهُ الْخَلْقَ»}، وقد كان القياس أن يقول: كيف يبدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة، والفائدة فى ذلك أنه لما كانت الاعادة عندهم من الأمور العظيمة وكان صدر الكلام واقعا معهم فى الابداء، وقررهم أن ذلك من الله احتج عليهم بأن الاعادة انشاء مثل الابداء، واذا كان الله الذى لا يعجزه شىء هو الذى لا يعجزه الابداء فوجب ألا تعجزه الاعادة» (43).
__________
(40) المثل السائر ج 2ص 194، 195
(41) الكشاف ج 3ص 58
(42) العنكبوت: 19، 20
(43) المثل السائر ج 2ص 119، 200(1/648)
ويقول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت: ما معنى الافصاح باسمه مع ايقاعه مبتدأ فى قوله {«ثُمَّ اللََّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ»} بعد اضماره فى قوله {«كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ»} وكان القياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلت: الكلام معهم كان واقعا فى الاعادة وفيها كانت تصطك الركب، فلما قررهم فى الابداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الاعادة انشاء مثل الابداء، فاذا كان الله الذى لا يعجزه شىء هو الذى لم يعجزه الابداء فهو الذى وجب ألا تعجزه الاعادة» (44).
ويقول ابن الأثير: «وكذلك جاء قوله تعالى: {«وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالُوا مََا هََذََا إِلََّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمََّا كََانَ يَعْبُدُ آبََاؤُكُمْ وَقََالُوا مََا هََذََا إِلََّا إِفْكٌ مُفْتَرىً، وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ مُبِينٌ»} (45)، فانه انما قال {«وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا»}
ولم يقل: وقالوا، كالذى قبله للدلالة على صدور ذلك عن انكار عظيم وغضب شديد وتعجب من كفرهم بليغ لا سيما وقد انضاف اليه قوله:
{«وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ»} وما فيه من الاشارة الى القائلين والمقول فيه وما فى {«لَمََّا»} من المبادهة كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المبين قبل أن يتدبروه: {«إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ مُبِينٌ»} (46).
ويقول الزمخشرى: «وفى قوله: {«وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا»} وفى أن لم يقل: وقالوا، وفى قوله {«لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ»} وما فى اللامين من الاشارة الى القائلين والمقول فيه، وفى {«لَمََّا»} من المبادهة بالكفر دليل على صدور الكلام عن انكار عظيم وغضب شديد، وتعجيب من أمرهم بليغ، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه: {«إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ مُبِينٌ»} (47).
وهذه التحليلات التى نقلها ابن الأثير فى هذا النص لم تكن
__________
(44) الكشاف ج 3ص 353
(45) سبأ: 43
(46) المثل السائر ج 2ص 201
(47) الكشاف ج 1ص 464(1/649)
مقصورة على عطف المظهر على المضمر وانما شرحت نكتا وأسرارا فى التعريف وفى معنى الشرط، ولم يأخذ ابن الأثير منها ما كان خاصا بعطف المظهر على ضميره الذى هو موطن شاهده فحسب.
* * *التفسير بعد الابهام:
ويأخذ ابن الأثير من تحليلات الكشاف أكثر ما فى هذا النوع، يقول بعد ما بين أنه لا يعمد الى هذا النوع الا لضرب من المبالغة: «ومثل هذا ورد قوله تعالى فى سورة أم الكتاب: {«اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»} (48) فانه انما قال ذلك ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لما فى الأولى من التنبيه والاشعار بأن الصراط المستقيم هو صراط المؤمنين، فدل عليه بأبلغ وجه كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ ثم تقول: فلان، فيكون ذلك أبلغ فى وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك تثبت ذكره مجملا ومفصلا فجعلته علما فى الكرم والفضل، كأنك قلت:
من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان» (49).
ويقول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت: ما فائدة البدل وهلا قيل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت: فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير والاشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان، فيكون ذلك أبلغ فى وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك تثبت ذكره مجملا أولا ومفصلا ثانيا وأوقعت «فلانا» تفسيرا وايضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما فى الكرم والفضل، فكأنك قلت:
من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع» (50).
__________
(48) الفاتحة: 6، 7
(49) المثل السائر ج 2ص 203
(50) الكشاف ج 1ص 13(1/650)
ويقول ابن الأثير: «ومما جاء من التفسير بعد الابهام قوله تعالى:
{«وَقََالَ الَّذِي آمَنَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ. يََا قَوْمِ إِنَّمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا مَتََاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دََارُ الْقَرََارِ. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلََا يُجْزى ََ إِلََّا مِثْلَهََا»} (51). ألا ترى كيف قال: {«أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ»} فأبهم سبيل الرشاد ولم يبين أى سبيل هو، ثم فسر ذلك فافتتح كلامه بذم الدنيا وتصغير شأنها ثم ثنى ذلك بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها ثم ثلث بذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منها ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، كأنه قال: سبيل الرشاد وهو الاعراض عن الدنيا والرغبة فى الآخرة والامتناع عن الأعمال السيئة خوف المقابلة عليها، والمسارعة الى الأعمال الصالحة رجاء المجازاة عليها» (52).
ويقول الزمخشرى فى هذه الآية: قال: {«أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ»}
فأجمل ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها، لأن الاخلاد اليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدى الى سخط الله ويجلب الشقاوة فى العاقبة، وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها وأنها هى الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها، وعاقبة كل منهما ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف، ثم وازن بين الدعوتين دعوته الى دين الله الذى ثمرته النجاة، ودعوتهم الى اتخاذ الأنداد، الذى عاقبته النار، وحذر، وأنذر، واجتهد فى ذلك واحتشد» (53).
وقد ذكر ابن الأثير من شواهد هذا النوع قوله تعالى: {«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ»} (54)، وقوله تعالى: {«وَقََالَ فِرْعَوْنُ يََا هََامََانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبََابَ. أَسْبََابَ السَّمََاوََاتِ»} (55)، وذكر فى الابهام بدون تفسير قوله تعالى: {«إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي}
__________
(51) غافر: 4038
(52) المثل السائر ج 2ص 204
(53) الكشاف ج 4ص 131
(54) البقرة: 127
(55) غافر: 36، 37(1/651)
{هِيَ أَقْوَمُ»} (56)، وما ذكره من التحليلات لهذه النصوص منقول أو مختصرا من الكشاف (57).
* * *استعمال العام فى النفى والخاص فى الاثبات:
بين ابن الأثير فى هذا النوع أن الأبلغ فى النفى أن تعمد الى الأعم لأن نفيه يستلزم نفى الأخص، وأن الأبلغ فى الاثبات أن تعمد الى الأخص لأن اثباته يستلزم اثبات الأعم.
يقول: «ومثال ذلك الانسانية والحيوانية فان اثبات الانسانية يوجب اثبات الحيوانية ولا يوجب نفيها نفى الحيوانية، وكذلك نفى الحيوانية يوجب نفى الانسانية ولا يوجب اثبات الانسانية» (58).
وهذه القاعدة مستمدة من كلام ابن المنير الذى رد به بعض تحليلات الزمخشرى، يقول ابن المنير: «فان نفى الأخص أعم من نفى الأعم فلا يستلزمه ضرورة أن الأعم لا يستلزم الأخص بخلاف العكس ألا تراك اذا قلت: هذا ليس بانسان، لم يستلزم ذلك ألا يكون حيوانا، ولو قلت: هذا ليس بحيوان لاستلزم ألا يكون انسانا، فنفى الأعم كما ترى أبلغ من نفى الأخص» (59).
ثم يسوق ابن الأثير فى هذا النوع أمثلته وشواهده من الكشاف، ويذكر تحليلات الزمخشرى وليس فيها تغيير كبير، يقول: «فالأول وهو الخاص والعام نحو قوله تعالى: {«مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ»} (60) ولم يقل: ذهب بضوئهم
__________
(56) الاسراء: 9
(57) ينظر المثل السائر ج 2ص 204، 205، 206والكشاف ج 1ص 140، ج 4ص 130، ج 2ص 508وما بعدها.
(58) المثل السائر ج 2ص 209
(59) حاشية ابن المنير على هامش الكشاف ج 2ص 89
(60) البقرة: 17(1/652)
موازنا لقوله {«فَلَمََّا أَضََاءَتْ»} لأن ذكر النور فى حالة النفى أبلغ من حيث ان الضوء فيه الدلالة على النور وزيادة فلو قال: «ذهب الله بضوئهم» لكان المعنى يعطى ذهاب تلك الزيادة وبقاء ما يسمى نورا لأن الاضاءة هى فرط الانارة قال تعالى: {«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيََاءً وَالْقَمَرَ نُوراً»} (61) فكل ضوء نور وليس كل نور ضوءا، فالغرض من قوله:
{«ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ»} انما هو ازالة النور عنهم أصلا فهو اذا أزاله فقد أزال الضوء» (62).
ويقول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت: هلا قيل: ذهب الله بضوئهم لقوله: فلما أضاءت؟ قلت: ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة. فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا، والغرض ازالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا، ألا ترى كيف ذكر عقيبه: {«وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ»} (63).
ويذكر ابن الأثير أن أسماء الأجناس التى يفرق بينها وبين واحدها بالتاء يكون استعمالها فى الاثبات أبلغ من استعمال مفردها، ويكون استعمال مفردها فى النفى أبلغ من استعمالها.
ويذكر قوله تعالى: {«قََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنََّا لَنَرََاكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ. قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ»} (64) مثالا لهذا النوع ويقول فى شرحه:
«فانه انما قال: {«لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ»} ولم يقل: ليس بى ضلال كما قالوا، لأن نفى الضلالة أبلغ من نفى الضلال عنه كما لو قيل: ألك تمر؟ فقلت فى الجواب: ما لى تمرة، وذلك أنفى للتمر، ولو قلت: ما لى تمر، لما كان يؤدى ما أداه القول الأول» (65).
وهذا مأخوذ من الكشاف.
يقول الزمخشرى: «فان قلت: لم قال: {«لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ»} ولم يقل: ضلال، كما قالوا؟ قلت: الضلالة أخص من الضلال فكانت
__________
(61) يونس: 5
(62) المثل السائر ج 2ص 210
(63) الكشاف ج 1ص 56
(64) الأعراف: 60، 61
(65) المثل السائر ج 2ص 211(1/653)
أبلغ فى نفى الضلال عن نفسه كأن قال: ليس بى شىء من الضلال.
كما لو قيل لك: ألك تمر؟ فقلت: ما لى تمرة» (66).
وقد كان ابن المنير على حق حين رفض تعليل الأبلغية هنا بنفى الأخص وأشار الى أن نفى الأخص لا يستلزم نفى الأعم، وعلل الأبلغية هنا بنفى الأدنى والتنبيه به على نفى الأعلى، وكان نقاشه أساسا كما قلنا للقاعدة التى قررها ابن الأثير. وقد كان ابن الأثير يقظا حين سكت عن ذكر الأخص فى هذه الآية ونظائرها لأنه نظر فى اعتراض ابن المنير وأخذ منه وقد حذف من كلام الزمخشرى الجزء الذى اعترض عليه ابن المنير وهو قوله: والضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ فى نفى الضلال عن نفسه، ويقول ابن الأثير: «وفى هذا الموضع دقة تحتاج الى فضل تمام فينبغى لصاحب هذه الصناعة مراعاته والعناية به» (67).
وكأنه بهذا يوهم أن هذا البحث من اجتهاده وخالص فكره.
* * *التقديم والتأخير:
ذكر ابن الأثير أن باب التقديم باب طويل وعريض، وأنه يشتمل على أسرار دقيقة، منها ما استخرجه ابن الأثير، ومنها ما وجده فى أقوال العلماء، ويقسم التقديم الى قسمين: القسم الأول يختص بدلالة الألفاظ على المعانى ولو أخر المقدم أو قدم المؤخر لتغير المعنى. والقسم الثانى يختص بدرجة التقدم فى الذكر لاختصاصه أى المتقدم بما يوجب ذلك ولو أخر لما تغير المعنى.
ويدرس فى القسم الأول تقديم المبتدأ على الخبر وتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم المفعول، وتقديم الظرف والحال الى غير ذلك مما هو فى حدود الجملة.
__________
(66) الكشاف ج 2ص 89، 90
(67) المثل السائر ج 2ص 212(1/654)
ويدرس فى القسم الثانى تقديم الجمل بعضها على بعض، وقد يتناول فيه تقديم بعض المعمولات على بعض. وهو فى هذا القسم الثانى يعتمد على الكشاف ويأخذ منه أخذا مباشرا. أما فى القسم الأول فانه يدعى فيه أنه يخالف علماء البيان ومنهم الزمخشرى حيث جعلوا تقديم الخبر والمفعول والظرف لا يكون الا للاختصاص، والذى يراه أنه قد يكون للاختصاص وقد يكون لنظم الكلام.
يقول ابن الأثير: «وقال علماء البيان ومنهم الزمخشرى رحمه الله:
ان تقديم هذه الصورة المذكورة انما هو للاختصاص وليس كذلك» (68).
ولم يكن ابن الأثير على حق حين زعم أن تقديم هذه الصور لا يكون عند الزمخشرى الا للاختصاص. فقد بينا أنها تكون عنده للاختصاص غالبا. لذلك لم يكن هناك خلاف بينه وبين الزمخشرى.
نعم، ان كثيرا من الصور التى جعل الزمخشرى التقديم فيها مفيدا للاختصاص جعلها ابن الأثير من باب مراعاة نظم الكلام. والاختصاص بيّن فى هذه الصور ولا يستطيع ابن الأثير أن يدفعه، ومن ذلك قوله تعالى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ»} فقد ذكر أن التقديم فيه لمراعاة نظم الكلام. واذا كان الزمخشرى يذكر أن التقديم هنا للاختصاص فان ذلك لا ينفى أن يكون لمراعاة الحسن أيضا. ثم ان ابن الأثير يعتمد على الزمخشرى فى هذا القسم الذى يدعى فيه أنه يخالفه وان كان ما أخذه منه ليس متصلا بمسألة الاختصاص التى وقع فيها الخلاف.
يقول ابن الأثير: «ومما ورد منه أى من تقديم خبر المبتدأ عليه قوله تعالى: {«وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ»} (69) فانه انما قال ذلك ولم يقل: وظنوا أن حصونهم تمنعهم، أو مانعتهم، لأن فى تقديم الخبر الذى هو {«مََانِعَتُهُمْ»} على المبتدأ الذى هو {«حُصُونُهُمْ»} دليلا على فرط اعتقادهم فى حصانتها وزيادة وثوقهم بمنعها اياهم، وفى تصيير ضميرهم اسما ل «ان» واسناد الجملة اليه دليل على تقريرهم فى
__________
(68) المثل السائر ج 2ص 218
(69) الحشر: 2(1/655)
أنفسهم أنهم فى عزة وامتناع لا يبالى معهم بقصد قاصد ولا تعرض متعرض، وليس شىء من ذلك فى قولك: وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله» (70).
وهذا مأخوذ من قول الزمخشرى فى هذه الآية: «فان قلت:
أى فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم، أو مانعتهم، وبين النظم الذى جاء عليه؟ قلت: فى تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها اياهم وفى تصيير ضميرهم اسما ل «ان» واسناد الجملة اليه دليل على اعتقادهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة لا يبالى معهم بأحد يتعرض لهم أو يطمع فى معازتهم وليس ذلك فى قولك:
وظنوا أن حصونهم تمنعهم» (71).
وكذلك يأخذ من الكشاف فى هذا الباب تحليل قوله تعالى: {«قََالَ أَرََاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يََا إِبْرََاهِيمُ»} (72) يقول ابن الأثير: «فانه انما قدم خبر المبتدأ عليه فى قوله: {«أَرََاغِبٌ أَنْتَ»} ولم يقل: أأنت راغب، لأنه كان أهم عنده وهو به شديد العناية، وفى ذلك ضرب من التعجب والانكار لرغبة إبراهيم عن آلهته، وأن آلهته لا ينبغى أن يرغب عنها» (73).
ويدور كلامه فى التقديم والتأخير فى النفى على ما ذكره الزمخشرى، ويسوق الآيتين الكريمتين الشهيرتين فى هذا الموضوع.
يقول: «وأما الثانى وهو تأخير الظرف وتقديمه فى النفى فنحو قوله تعالى: {«الم. ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ»} (74)، وقوله تعالى:
{«لََا فِيهََا غَوْلٌ وَلََا هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ»} (75) فانه انما أخر الظرف فى الأول لأن القصد فى ايلاء حرف النفى الريب نفى الريب عنه واثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدعونه، ولو أولاه الظرف
__________
(70) المثل السائر ج 2ص 221، 222.
(71) الكشاف ج 4ص 398.
(72) مريم: 46
(73) المثل السائر ج 2ص 222وينظر الكشاف ج 3ص 14.
(74) البقرة: 1، 2
(75) الصافات: 47(1/656)
لقصد أن كتابا آخر فيه الريب لا فيه كما قصد فى قوله تعالى: {«لََا فِيهََا غَوْلٌ»} فتأخير الظرف يقتضى النفى أصلا من غير تفضيل، وتقديمه يقتضى تفضيل المنفى عنه وهو خمر الجنة على غيرها من خمور الدنيا أى ليس فيها ما فى غيرها من الغول وهذا مثل قولنا: «لا عيب فى الدار» «ولا فيها عيب» فالأول نفى العيب عن الدار فقط، والثانى تفضيل لها على غيرها، أى ليس فيها ما فى غيرها من العيب فاعرف ذلك فانه من دقائق هذا الباب» (76).
وأصل هذا الكلام ما قاله الزمخشرى فى هذه الآية من قوله:
«فان قلت: فهلا قدم الظرف على الريبة كما قدم على الغول فى قوله تعالى: {«لََا فِيهََا غَوْلٌ»}؟ قلت: لأن القصد فى ايلاء الريب حرف النفى نفى الريب عنه واثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب كما كان المشركون يدعونه ولو أولى الظرف لقصد الى ما يبعد عن المراد وهو أن كتابا آخر فيه الريب لا فيه كما قصد فى قوله: {«لََا فِيهََا غَوْلٌ»} تفضيل خمر الجنة على الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هى كأنه قيل:
ليس فيها ما فى غيرها من هذا العيب والنقيصة» (77).
وأما الضرب الثانى من التقديم والذى يختص بدرجة المتقدم فى الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك فقد كان اعتماد ابن الأثير فيه على ما ذكره الزمخشرى أوضح وأبين.
يقول ابن الأثير: «فمن ذلك أى فمن الضرب الثانى الذى لا يحصره حد ولا ينتهى اليه شرح تقديم السبب على المسبب كقوله تعالى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ»} (78) فانه انما قدم العبادة على الاستعانة لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلب وأسرع لوقوع الاجابة وعلى نحو منه جاء قوله تعالى:
{«وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمََّا خَلَقْنََا}
__________
(76) المثل السائر ج 2ص 225، 226.
(77) الكشاف ج 1ص 27
(78) الفاتحة: 5(1/657)