ووقع خلاف في أنّ إبليس من الملائكة أم لا؟ والتحقيق أنه ليس منهم عنصرا، ففي «صحيح مسلم» (1): «خلقت الملائكة من نور، وخلقت (2) الجانّ من النّار، وخلق آدم مما وصف (3) لكم» (4) وهو منهم حكما لدخوله في الخطاب بالأمر بالسجود معهم، ولو كان من غيرهم لم يدخل معهم.
وأما قوله: {إِلََّا آلَ لُوطٍ إِنََّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 59) فلم يذكر قبله {كُلُّهُمْ}
لما لم يكن المراد كلّ واحد واحد من الآية (5) لم تحسن (6) الزيادة في التأكيد، بدليل الاستثناء بعده من قوله: {إِلَّا امْرَأَتَهُ} (الحجر: 60).
__________
السماوي للأنفس وعودتها إلى الله، وقد صدر العالم عن الله، كما يصدر الكلام عن المتكلم أو الضوء عن الشمس، ففاض عن وحدة الله بالتدرج: العقل، ومن العقل النفس، ثم المادة الأولى، ثم عالم الطبائع، ثم الأجسام، ثم عالم الأفلاك، ثم العناصر ثم ما يتركب منها وهي المعادن والنبات والحيوان.
والمادة في هذا الفيض تبدو أساسا للتشخص ولكل شر ونقص وليست النفوس الفردية إلا أجزاء من النفس الكلية، تعود إليها مطهرة بعد الموت، كما ترجع النفس الكلية إلى الله ثانية يوم المعاد. والموت عند إخوان الصفاء يسمى البعث الأصغر، بينما تسمى عودة النفس الكلية إلى بارئها البعث الأكبر.
ويذهب إخوان الصفاء إلى أن الأديان كلها في جميع العصور وعند جميع الناس يجب أن تتفق وهذه الحكمة. وغرض كل فلسفة وكل دين هو أن تتشبه النفس بالله بقدر ما يستطيعه الانسان. وقد أوّلوا القرآن تأويلا رمزيا لكي يتمشى مع هذا التصور الروحي للأديان، كما أوّلوا بعض القصص غير الدينية تأويلا رمزيا مثل قصص كتاب «كليلة ودمنة».
وقد كتبت هذه الرسائل الاثنتان والخمسون في أسلوب مسهب فيه تكرار وحض على الفضيلة. وهذه الرسائل تشبه في الظاهر موسوعة في العلوم المختلفة. والجزء الأول من هذه الرسائل يحتوي على أربع عشرة رسالة تعالج مبادئ الرياضيات والمنطق. بينما يعالج الجزء الثاني الذي يحتوي على سبع عشرة رسالة في العلوم الطبيعية بما فيها علم النفس. أما الرسائل العشر التي يتضمنها الجزء الثالث فتبحث فيما بعد الطبيعة. وتتناول الرسائل الإحدى عشرة الأخيرة التصوف والتنجيم والسحر. وقد فصل الكلام في الرسالة الخامسة والأربعين من الجزء الرابع عن نظام هذه الجماعة وطبيعة تكوينها.
(1) في المخطوطة (الصحيح).
(2) في صحيح مسلم: (وخلق الجانّ من مارج من نار).
(3) في المخطوطة (وصفت) والصواب ما أثبتناه وهو الموافق للفظ مسلم.
(4) أخرجه في الصحيح (من حديث عائشة رضي الله عنها) 4/ 2294، كتاب الزهد والرقائق (53)، باب في أحاديث متفرقة (10) الحديث 60/ 2996.
(5) في المخطوطة (الآن).
(6) في المخطوطة (يخش).(2/489)
ومنها قصد تحقيق (1) المخبر به كقوله تعالى: {إِنِّي جََاعِلٌ} (البقرة: 30) فأكد بإنّ وباسم الفاعل مع أنهم ليسوا بشاكين (2) في الخبر. ومثله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}
(الزمر: 30) وقال حاكيا عن نوح: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبََادَكَ} (نوح: 27).
ومنها قصد إغاظة (3) السامع بذلك الخبر كقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يس: 3).
ومنها الترغيب، كقوله: {فَتََابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوََّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 54) أكّده بأربع تأكيدات، وهي: إن، وضمير الفصل، والمبالغتان مع الصفتين له ليدل على ترغيب الله العبد في التوبة فإنه إذا علم ذلك طمع في عفوه. وقوله: {لََا تَحْزَنْ إِنَّ اللََّهَ مَعَنََا} (التوبة: 40).
ومنها الإعلام بأن المخبر [به] (4) كله من عند المتكلم، كقوله: [138/ ب] {فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} (البقرة: 38) دون الاقتصار على «يأتينكم هدى»، قال المفسرون: فيه إشارة إلى أن الخير كلّه منه. وعليه قوله: {قَدْ جََاءَتْكُمْ} [5] مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفََاءٌ [لِمََا فِي الصُّدُورِ] (6) (يونس: 57) {قَدْ جََاءَكُمْ بُرْهََانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (النساء: 174).
ومنها التعريض بأمر آخر كقوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} (القصص: 16) وقول موسى [عليه السلام] (7) {رَبِّ إِنِّي لِمََا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص: 24) وقوله تعالى: {قََالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهََا أُنْثى ََ} (آل عمران: 36) تعريضا بسؤال قبولها فإنها كانت تطلب للنذر ذكرا.
تنبيهان
(الأول): قالوا: إنما يؤتى به للحاجة للتحرّز عن ذكر ما لا فائدة له، فإن كان المخاطب ساذجا ألقي إليه الكلام خاليا (8) عن التأكيد، وإن كان متردّدا فيه حسن تقويته بمؤكد، وإن كان منكرا وجب تأكيده (9). ويراعى في القوة والضعف بحسب حال المنكر كما في قوله تعالى
__________
(1) في المخطوطة (لقصد التحقيق) بدل (قصد تحقيق).
(2) في المخطوطة (الشاكين).
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (أغلظة).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (لقد جاءكم).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) ليست في المطبوعة.
(8) في المخطوطة (خال).
(9) في المخطوطة (توكيده).(2/490)
عن رسل عيسى: {رَبُّنََا يَعْلَمُ} الآية، (يس: 16) وذلك أن الكفار نفوا رسالتهم بثلاثة أشياء. أحدها قولهم: {مََا أَنْتُمْ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا} (يس: 15) والثاني قولهم: {وَمََا أَنْزَلَ الرَّحْمََنُ مِنْ شَيْءٍ} (يس: 15) والثالث قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا تَكْذِبُونَ} (يس: 15) فقوبلوا على نظيره بثلاثة أشياء: أحدها قولهم: {رَبُّنََا يَعْلَمُ} (يس: 16) ووجه التأكيد فيه أنه في معنى قسم (1)، والثاني قوله: {إِنََّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 16) والثالث قوله [تعالى] (2): {وَمََا عَلَيْنََا إِلَّا الْبَلََاغُ [الْمُبِينُ]} [2] (يس: 17).
وقد ينزّل المنكر كغير المنكر وعكسه. وقد اجتمعا في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذََلِكَ لَمَيِّتُونَ * [} [4] ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ تُبْعَثُونَ] (4) (المؤمنون: 15و 16) أكّدت (6) تأكيدين وإن لم ينكروا (7)، لتنزيل المخاطبين لتماديهم في الغفلة منزلة من ينكر الموت، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان أكثر، لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا يتكرر ويتردد فيه، حثّا لهم على النظر في أدلته الواضحة.
(الثاني): قال التّنوخي في «الأقصى القريب» (8): «إذا قصدوا مجرّد الخبر أتوا بالجملة الفعلية، وإن أكّدوا فبالاسمية، ثم ب «إنّ»، ثم بها وب «اللام». وقد تؤكد الفعلية ب «قد». وإن احتيج بأكثر جيء بالقسم مع كلّ من الجملتين، وقد تؤكد الاسمية باللام فقط، نحو: «لزيد قائم»، وقد تجيء مع الفعلية مضمرة بعد اللام. وحاصله أن الخطاب على درجات: قام زيد، ثم لقد قام فإنه جعل الفعلية كأنها دون الاسمية ثم إن زيدا قائم، ولزيد قائم».
ويلتحق بالتأكيد الصناعي أمور:
* (أحدها): تأكيد الفعل بالمصدر ومنه قوله تعالى: {جَزََاؤُكُمْ جَزََاءً مَوْفُوراً}
(الإسراء: 63) [وقوله تعالى] (9): {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} (النساء: 164) {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) [وقوله تعالى] (9) {يَوْمَ تَمُورُ السَّمََاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبََالُ سَيْراً}
__________
(1) في المخطوطة (القسم).
(2) ليست في المخطوطة.
(4) الآية ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (أكد).
(7) في المخطوطة (ينكر).
(8) في المطبوعة (أقصى القرب)، وقد تقدم التعريف به في 2/ 448، وصاحبه محمد بن محمد، زين الدين التنوخي.
(9) ليست في المخطوطة.(2/491)
(الطور: 9و 10) {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ} (النمل: 88) {فَدُكَّتََا دَكَّةً وََاحِدَةً} (الحاقة: 14) {إِذََا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزََالَهََا} (الزلزلة: 1) {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} (يوسف: 5) وهو كثير.
قالوا: وهو عوض عن تكرار الفعل مرتين فقولك: «ضربت ضربا» (1) [بمنزلة قولك:
«ضربت، ضربت»] (1) ثم عدلوا عن ذلك واعتاضوا عن الجملة بالمفرد.
وليس منه قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللََّهِ الظُّنُونَا} (3) (الأحزاب: 10) بل هو جمع «ظنّ»، وجمع لاختلاف أنواعه قاله ابن الدهان (4).
ثم اختلفوا في فائدته، فقيل: إنه يرفع المجاز عن الفاعل، فإنك تقول. «ضرب الأمير اللصّ»، ولا يكون باشر بل أمر به [فإذا قلت] (5) «ضربا» علم أنه باشر. وممن نص على ذلك ثعلب في «أماليه» (6)، وابن عصفور في «شرح الجمل الصغير» (7). والصواب أنّه إنما يرفع الوهم عن الحديث لا عن المحدّث عنه فإذا قلت: «ضرب الأمير» احتمل مجازين:
أحدهما إطلاق الضرب على مقدماته، والثاني إطلاق الأمير على أمره، فإذا أردت رفع الأول أتيت بالمصدر، فقلت: «ضربا»، وإن أردت الثاني قلت: «نفسه» أو «عينه».
ومن هذا (8) [139/ أ] يعلم ضعف استدلال أصحابنا على المعتزلة في إثبات كلام الله
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (الظنون).
(4) هو سعيد بن المبارك بن علي بن الدهان، أبو محمد البغدادي: عالم فاضل له معرفة كاملة بالنحو، ويد باسطة في الشعر، كتب الكثير من كتب الأدب بخطّه، تصدر بالموصل للإقراء والإفادة والتصنيف له الكثير من المصنفات منها «الفصول في النحو» و «شرح الإيضاح» ت 569هـ (إنباه الرواة 2/ 47).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) كتاب «الأمالي» لثعلب مخطوط في المكتبة العمومية باستنبول (بروكلمان (بالعربية) 2/ 213).
(7) كتاب «الجمل في النحو» عنوان واحد لكتابين (الأول) لعبد القاهر الجرجاني (منظومة) (والثاني) لأبي القاسم الزجاجي، وابن عصفور شرح الكتابين، إلا أنه شرح كتاب الزجاجي ثلاثة شروح: كبير وأوسط وصغير، وهذا الأخير هو المقصود هنا، غير أن صاحب «كشف الظنون» ذكر أن الشروح الثلاثة هي الكتاب الجرجاني، ولكن أحد الفضلاء كتب بخطه على هامش الأصل لكتاب «كشف الظنون» أن الشروح الثلاثة هي لجمل الزجاجي (انظر البلغة: 160، كشف الظنون 1/ 603، وبغية الوعاة 2/ 210)، «وشرح الجمل الصغير» للزجاجي مخطوط بمكتبة ليدن 43، والأمبروزيانا 154، والتيمورية (انظر مجلة المجمع العلمي 3/ 341).
(8) في المخطوطة (هنا).(2/492)
لموسى، في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} (النساء: 164) فإنه لما (1) أريد [إثبات] (2) كلام الله نفسه قال {تَكْلِيماً} دل (3) على وقوع الفعل حقيقة أما تأكيد فاعله فلم يتعرض له. ولقد سخف (4) عقل من تأوله على أنه كلّمه بأظفار المحن من الكلم وهو الجرح لأنّ الآية مسوقة (5) في بيان الوحي.
ويحكى أنه استدل بعض علماء السّنة على بعض المعتزلة في إثبات التكليم حقيقة بالآية من جهة أن المجاز لا يؤكّد، فسلم المعتزليّ [له] (6) هذه القاعدة وأراد دفع الاستدلال من جهة أخرى، فادّعى أن اللفظ إنما هو {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ} بنصب (7) لفظ الجلالة، وجعل موسى فاعلا ب «كلّم» وأنكر القراءة المشهورة وكابر، فقال [له] (8) السنيّ: فماذا (9) تصنع بقوله تعالى: {وَلَمََّا جََاءَ مُوسى ََ لِمِيقََاتِنََا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (الأعراف: 143) فانقطع المعتزليّ عند ذلك.
قال ابن الدهان (10): ومما يدل على أن التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر:
قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج ... ويوم اللّوى حتى قسرت الهوى قسرا (11)
[قلت] (12): وكذا قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنََا مَكْراً} (النمل: 50) وأما قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرََاراً} (نوح: 9) فمفعول {أَسْرَرْتُ} محذوف، أي الدعاء والإنذار ونحوه. فإن قلت: التأكيد ينافي الحذف، فالجواب من وجهين: (أحدهما): أن المصدر لم يؤت به هنا للتأكيد وإن كان بصورته (13) لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما أتى به لأجل الفواصل، ولهذا لم يؤت بمصدر {أَعْلَنْتُ}، وهو مثله.
__________
(1) في المخطوطة (لو).
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) في المطبوعة (ودلّ).
(4) في المخطوطة (استخف).
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (مستوقة).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) وهي قراءة إبراهيم، ويحيى بن وثاب ذكرها الزمخشري في الكشاف 1/ 314.
(8) ساقطة من المطبوعة.
(9) في المخطوطة (فما).
(10) هو سعيد بن المبارك بن علي تقدم قريبا في 2/ 492.
(11) في المخطوطة (قشرا). والبيت لابن الأعرابي ذكره ابن منظور في لسان العرب 1/ 572مادة (ظنب) قال: (قرع لذلك الأمر ظنبوبه: تهيأ له، وذلّله، يقول: ذللت الهوى بقرعي ظنبوبه كما تقرع ظنبوب البعير ليتنوّخ لك فتركبه).
(12) ساقطة من المخطوطة.
(13) في المخطوطة (هذا بصورته).(2/493)
(والثاني): أن «أسرّ» وإن كان متعدّيا في الأصل، إلا أنه هنا قطع النظر عن مفعوله، وجعل نسيا، كما في قولهم: «فلان يعطي ويمنع»، فصار لذلك كاللازم، وحينئذ فلا منافاة بين المجيء به بالمصدر لو كان.
ثم التأكيد بالمصدر تارة يجيء من لفظ الفعل كما سبق، وتارة يجيء من مرادفه، كقوله (1) تعالى: {إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهََاراً} (نوح: 8) [فإن] (2) الجهار أحد نوعي الدعاء، وقوله: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} (النساء: 46) فإنه منصوب بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} (النساء: 46) لأن {لَيًّا} نوع من التحريف. ويحتمل أن يكون منه: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتََاناً} (النساء: 20) لأن البهتان ظلم، والأخذ على نوعين: ظلم وغيره.
وزعم الزمخشريّ [أن] (3) قوله: {نََافِلَةً لَكَ} (الإسراء: 79) وضع موضع «تهجّدا» لأن التهجد عبادة (4) زائدة، فكأنّ التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد.
وقوله: {وَعْدَ اللََّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللََّهِ قِيلًا} (النساء: 122) قيل: كأن الأصل تكرار الصدق بلفظه فاستثقل التكرار للتقارب، فعدل إلى ما يجاريه خفة ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا، خفة ووزنا، إحرازا للتناسب.
وأما قوله: {وَاللََّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهََا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرََاجاً} (نوح:
17 - و 18) ففائدة {إِخْرََاجاً} أن المعاد في الأرض هو الذي يخرجكم (5) منها بعينه، دفعا لتوهم من يتوهم أن المخرج منها أمثالهم وأن (6) المبعوث الأرواح المجرّدة. (فإن قيل): هذا يبطل بقوله تعالى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً} (نوح: 17) فإنّه أكّد بالمصدر، وليس المراد حقيقة النبات. (قلت): لا جرم حيث لم يرد الحقيقة هنا لم يؤكده بالمصدر الحقيقي القياسيّ بل عدل به إلى غيره وذلك لأن مصدر أنبت «الإنبات» والنبات اسمه لا هو، كما قيل في «الكلام» و «السلام» اسمان للمصدر الأصليّ الذي هو «التكليم» و «التسليم»، وأما قوله:
__________
(1) في المخطوطة (بقوله).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) ساقطة من المطبوعة. وانظر قول الزمخشري في الكشاف 2/ 372.
(4) في المخطوطة (عبارة).
(5) في المخطوطة (يخرج).
(6) في المخطوطة (أو أن).(2/494)
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8) وإن لم يكن جاريا على «تبتّل» لكنه ضمن (1) [معنى] (2)
بتّل نفسك [139/ ب] تبتّلا».
ومثله (3) قوله [تعالى] (4) {[سُبْحََانَهُ]} [4] وَتَعََالى ََ عَمََّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (الإسراء:
43) قال أبو البقاء (6): «هو (7) موضع «تعاليا» لأنه مصدر قوله {وَتَعََالى ََ} ويجوز أن يقع مصدرا (8) في موضع آخر من معناه» وكذا قال الراغب (9)، قال: وإنما عدل عنه لأن لفظ التفاعل من التكلف، كما يكون من البشر».
وأما قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمََاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبََالُ سَيْراً} (الطور: 9و 10) فقال بعضهم: الجملة الفاعلية تحتمل المجاز في مفرديها جميعا وفي كلّ منهما مثاله هاهنا أنه يحتمل أن المجاز في {تَمُورُ} وأنها ما تمور، بل تكاد أو يخيّل إلى الناظر أنها تمور. ويحتمل أن المجاز في السماء، وأن المور الحقيقيّ لسكّانها وأهلها لشدة الأمر. وكذلك الكلام في {وَتَسِيرُ الْجِبََالُ سَيْراً} (الطور: 10) فإذا رفع المجاز عن أحد جزأي الجملة نفي احتماله في الآخر، فلم تحصل فائدة التأكيد. وأجيب بهذه القاعدة: وهي أن {مَوْراً} في تقدير «تمور» فكأنه قال: «تمور السماء، تمور السماء»، و «تسير الجبال، تسير الجبال»، فأكد كلّا من الجزءين بنظيره، وزال الإشكال.
وأما قوله تعالى: {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ رَبِّي شَيْئاً} (الأنعام: 80) فيحتمل أن يكون {شَيْئاً} من تأكيد الفعل بالمصدر، كقوله: «بعت بيعا»، ويجوز أن يكون الشيء بمنزلة الأمر والتبيان (10)
__________
(1) في المخطوطة (ضمنه).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (ومنه).
(4) ليست في المطبوعة.
(6) هو عبد الله بن الحسين العكبري، وانظر قوله في كتابه إملاء ما من به الرحمن 2/ 51 (طبعة دار الكتب العلمية ببيروت).
(7) في المخطوطة (في).
(8) في المخطوطة (مصدر).
(9) هو الحسين بن محمد، أبو القاسم المعروف بالراغب الأصفهاني، وانظر قوله في مفردات القرآن ص 345.
مادة (علا). بتصرف.
(10) في المخطوطة (والشأن).(2/495)
والمعنى: «إلّا أن يشاء ربي أمرا» أو وضع (1) موضع المصدر. وانظر كيف ذكر مفعول المشيئة. وقول البيانيّين: إنه يجب حذفه إذا كان عاما. وأما قوله [تعالى] (2): {دَكًّا دَكًّا}
(الفجر: 21) فالمراد به التتابع، أي دكّا بعد دكّ، وكذا قوله: {صَفًّا صَفًّا} (الفجر: 22) أي صفّا يتلوه صفّ، ولو اقتصر على الواحد لا يحتمل صفّا واحدا.
وأما قوله تعالى: {إِذََا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزََالَهََا} (الزلزلة: 1) فإن إضافة الزلزال إليها يفيد (3) معنى ذاتها وهو زلزالها المختص بها، المعروف منها المتوقع! كما تقول: غضب زيد غضبه (4) [وقاتل زيد قتاله، أي غضبه] (4) الذي يعرف منه، وقتاله المختص به، كقوله:
أنا أبو النّجم وشعري شعري (6)
واعلم أن القاعدة في المصدر والمؤكد (7) أن يجيء اتباعا لفعله، نحو: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} (النساء: 164) وقد يخرج عنها نحو قوله [تعالى] (10): {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}
(المزمل: 8) وقوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذََاباً} (المائدة: 115) وقوله [تعالى] (10) {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً} (الحديد: 11) وقوله [تعالى] (10): {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً}
(نوح: 17) (11) [ولم يقل «تبتّلا» و «تعذيبا» و «إقراضا» و «إنباتا».
واختلف في ذلك على أقوال:
(أحدها): أنه وضع الاسم منها موضع المصدر.
(الثاني): أنه منصوب بفعل مضمر يجري عليه المصدر ويكون ذلك الفعل الظاهر دليلا على المضمر، فالمعنى {وَاللََّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً} (نوح: 17) فنبتّم نباتا] (11) وهو (13)
__________
(1) في المخطوطة (وموضوع).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (تقييد).
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(6) تقدم هذا البيت في 2/ 354.
(7) في المخطوطة (المذكور).
(10) ليست في المخطوطة.
(11) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(13) في المخطوطة (وهو).(2/496)
قول المبرّد (1)، واختاره ابن خروف (2)، وزعم أنه مذهب سيبويه، وكذا قال ابن يعيش (3)، ونازعه ابن عصفور.
(والثالث): أنها منصوبة بتلك الأفعال الظاهرة، وإن لم تكن جارية عليها.
(والرابع): التفصيل بين أن يكون معنى الفعل غير معبّر بمعنى مصدر (4) ذلك الفعل الظاهر فهو منصوب بفعل مضمر، يدلّ عليه ذلك الفعل الظاهر، كقوله تعالى: {وَاللََّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً} (نوح: 17) أي ونبتّم، أي وساغ (5) إضماره لأنهم إذا أنبتوا فقد نبتوا، ولا يجوز في غير ذلك أن ينصب بالظاهر، لأن الغرض من المصدر تأكيد الفعل الذي نصبه، أو تبيين (6) معناه. وإذا كان المصدر مغايرا لمعنى الفعل الظاهر لم يحصل بذلك الغرض المقصود لأن «النبات» ليس بمعنى «الإنبات»، وإذا لم يكن بمعناه فكيف يؤكده أو يبينه! وأما قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَدََايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} (البقرة: 282) فإنما ذكر قوله:
{بِدَيْنٍ} مع {تَدََايَنْتُمْ} يدلّ عليه لوجوه:
(أحدها): ليعود الضمير في [{فَاكْتُبُوهُ} عليه] (7) إذ لو لم يذكره لقال: «فاكتبوا
__________
(1) هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد، وانظر قوله في المقتضب 3/ 204، باب ما جرى مجرى الفعل وليس بفعل ولا مصدر.
(2) هو علي بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي، أبو الحسن المشهور بابن خروف النحوي وهو غير ابن خروف الشاعر علي بن محمد بن يوسف (ت 604هـ) الذي يشترك معه باسمه وكنيته، وبلده وعصره وقد وهم ياقوت في معجم الأدباء فجعلهما واحدا وميّز بينهما ابن خلكان أما صاحبنا فكان عالما بالعربية من أهل إشبيلية، وينتسب لحضرموت، ولعل أصله منها، قال ابن الساعي: كان ينتقل في البلاد ولم يتزوج قط، له مصنّفات في النحو شهدت بفضله وسعة علمه منها: «شرح كتاب سيبويه» و «شرح الجمل» ت 609هـ (معجم الأدباء 15/ 75، ووفيات الأعيان 3/ 335).
(3) هو يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا محمد بن علي بن المفضل موفق الدين الأندلسي الأصل الموصلي ثم الحلبي المولد والمنشأ: سمع بالموصل وحلب ودمشق، كان خطيب الموصل الماهر، وصناعته التصريف. له تصانيف مشهورة منها «شرح المفصل» و «شرح الملوكي» لابن جني.
ت 643هـ (الفيروزآبادي، البلغة: 243).
(4) في المخطوطة (مصدره).
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (وضاع).
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (ينبت).
(7) ليست في المخطوطة.(2/497)
الدين»، ذكره الزمخشريّ (1) وهو ممنوع لأنه كان يمكن أن يعود على المصدر المفهوم من {تَدََايَنْتُمْ} لأنه [140/ أ] يدلّ على الدّين.
(الثاني): أن {تَدََايَنْتُمْ} مفاعلة (2) من «الدّين» ومن «الدّين»، فاحتيج إلى قوله:
{بِدَيْنٍ} ليبيّن أنه من «الدّين» لا من «الدّين». وهذا أيضا فيه نظر لأن السياق يرشد إلى إرادة الدّين.
(الثالث): أن قوله: {بِدَيْنٍ} إشارة إلى امتناع بيع الدّين بالدّين، كما فسر قوله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بيع الكالئ بالكالئ (3)، ذكره الإمام فخر الدين (4). وبيانه أن قوله [تعالى] (5):
{تَدََايَنْتُمْ} مفاعلة من الطرفين، وهو يقتضي وجود الدّين من الجهتين، فلما قال {بِدَيْنٍ} علم أنّه دين واحد من الجهتين.
(الرابع): أنه أتي به ليفيد أن الإشهاد مطلوب، سواء كان الدّين صغيرا أو كبيرا كما سبق نظيره في قوله تعالى: {فَإِنْ كََانَتَا اثْنَتَيْنِ} (النساء: 176) ويدلّ على هذا هاهنا قوله بعد ذلك: {وَلََا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى ََ أَجَلِهِ} (البقرة: 282).
(الخامس): أن {تَدََايَنْتُمْ} مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة، وذكر (6)
«الدّين» لتمييز (7) المراد، قال الحماسي (8):
__________
(1) في الكشاف 1/ 167.
(2) في المخطوطة (تفاعلتم).
(3) وفيه حديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» أخرجه الدارقطني في السنن 3/ 71في كتاب البيوع، الحديث (270269) وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 57، كتاب البيوع، النهي عن بيع الكالئ بالكالئ وأخرجه البيهقي في السنن 5/ 290، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيع الدين بالدين. وفسّر ابن الأثير معنى الكالئ بالكالئ فقال: أي النسيئة بالنسيئة، وذلك أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حلّ الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض (النهاية 4/ 194).
(4) انظر تفسير الرازي 7/ 109108.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (فذكر).
(7) في المخطوطة (لضمير).
(8) البيت للفند الزّمّاني، قاله في حرب البسوس في قصيدة مطلعها: صفحنا عن بني ذهل (ديوان الحماسة بشرح الخطيب التبريزي 1/ 6).(2/498)
ولم يبق سوى العدوا ... ن دنّاهم كما دانوا
ونظير هذه الآية في (1) التصريح بالمصدر (1) مع ظهوره فيما قبله قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهََا رَبُّهََا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} (آل عمران: 37) وقوله [تعالى] (3): {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بََايَعْتُمْ بِهِ} (التوبة: 111) وقوله: {سَأَلَ سََائِلٌ} (المعارج: 1) فيقال: ما الحكمة في (1) التصريح بالمصدر (1) فيهما، أو بضميره مع أنه مستفاد مما قبله.
وقد يجيء التأكيد (6) به لمعنى الجملة، كقوله [تعالى] (7): {صُنْعَ اللََّهِ} [8] [الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (النمل: 88) فإنه تأكيد لقوله تعالى: {تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ} (النمل: 88) لأن ذلك صنع الله] (8): وقوله [تعالى] (8): {وَعْدَ اللََّهِ} (الروم:
(11) تأكيد لقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللََّهِ} (الروم: 4، 5) لأن هذا وعد الله.
وقوله [تعالى] (8): {وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ كِتََاباً مُؤَجَّلًا} (آل عمران: 145) انتصب {كِتََاباً} على المصدر بما دلّ عليه السياق، تقديره «وكتب الله»، لأن قوله: {وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} (آل عمران: 145) يدل على «كتب».
وقوله تعالى: {كِتََابَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ} (النساء: 24) تأكيد لقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ}
(النساء: 23) الآية، لأن هذا مكتوب علينا، وانتصب المصدر بما دلّ عليه سياق الآية، فكأنه (11) فعل، تقديره «كتب [الله] (14) عليكم». وقال الكسائيّ: انتصب «بعليكم» على الإغراء، وقدم المنصوب. والجمهور على منع التقدير. وقوله: {صِبْغَةَ اللََّهِ} (البقرة: 138) تأكيد لقوله: (15) {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مََا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (البقرة: 137) لأنّ (16) [هذا دين الله، وقيل منصوبة على الأمر. وقوله تعالى: {مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ} (الزمر:
3) منصوبة على المصدر بما دلّ عليه الكلام لأن] (16) الزلفى مصدر كالرّجعى، ويقربونا يدل على «يزلفونا» فتقديره «يزلفونا زلفى».
__________
(1) عبارة المخطوطة (بالتصريح في المصدر).
(3) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (التوكيد).
(7) ليست في المخطوطة.
(8) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(11) في المخطوطة (كأنه).
(14) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.
(15) في المخطوطة (كقوله).
(16) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(2/499)
وقد يجيء التأكيد به مع حذف عامله، كقوله: {فَإِمََّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمََّا فِدََاءً} (محمد صلّى الله عليه وسلّم: 4) والمعنى: «فإما تمنوا منّا، وإما أن تفادوا فداء» فهما (1) مصدران منصوبان بفعل مضمر.
وجعل سيبويه (2) من المصدر المؤكّد لنفسه قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: 7) (3) [لأنه إذا أحسن كلّ شيء فقد خلقه خلقا حسنا، فيكون {خَلَقَهُ} على معنى «خلقه خلقا»، والضمير هو الله تعالى. ويجوز أن يكون بدل اشتمال، أي أحسن خلق كلّ شيء] (3). قال الصّفار (5): والذي قاله سيبويه أولى لأمرين: أن في هذا إضافة المصدر إلى المفعول وإضافته إلى الفاعل أكثر، وأن المعنى الذي صار إليه أبلغ في الامتثال، وذلك أنه إذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فهو أبلغ من قولك: «أحسن خلق كلّ شيء» (6) [لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة، ولا يكون الشيء في نفسه حسنا، وإذا قال:
{أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ}] (6) اقتضى أنّ كلّ شيء خلقه حسن، بمعنى أنه وضع كلّ شيء موضعه، فهو أبلغ في الامتنان.
فائدتان
(الأولى): هل الأولى التأكيد بالمصدر أو الفعل؟ قال بعضهم: المصدر أولى لأنه اسم، وهو أخفّ من الفعل وأيضا فلأن الفعل يتحمل الضمير فيكون جملة، فيزداد ثقلا ويحتمل أن الفعل أولى لدلالته على الاستمرار.
(الثانية): حيث أكّد المصدر النوعي، فالأصل فيه أن ينعت بالوصف المراد منه، نحو «قمت قياما حسنا»، {وَسَرِّحُوهُنَّ} [8] [140/ ب] {سَرََاحاً جَمِيلًا} (الأحزاب: 49) وقوله:
{اذْكُرُوا اللََّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب: 41). وقد يضاف الوصف إلى المصدر فيعطى حكم المصدر، قال تعالى: {اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ} (آل عمران: 102).
* * * __________
(1) في المخطوطة (هما).
(2) انظر الكتاب 1/ 381، (بتحقيق عبد السلام محمد هارون) باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا.
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(5) هو القاسم بن علي البطليوسيّ الصفار، تقدمت ترجمته في 2/ 451.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(8) تصحفت في المخطوطة إلى (فسرحوهن).(2/500)
(الثاني) (1): الحال المؤكدة وهي الآتية على حال واحدة، عكس المبيّنة، فإنها لا تكون إلا منتقلة، وهي لتأكيد الفعل كما سبق في المصدر المؤكد لنفسه وسمّيت مؤكدة لأنها تعلم قبل ذكرها [فيكون ذكرها] (2) توكيدا، لأنها (3) معلومة من ذكر صاحبها. كقوله تعالى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (مريم: 33). وقوله: {وَلََا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
(العنكبوت: 36) {فَتَبَسَّمَ ضََاحِكاً مِنْ قَوْلِهََا} (النمل: 19) لأن معنى «تبسم» ضحك مسرورا. وقوله: {وَأَرْسَلْنََاكَ لِلنََّاسِ رَسُولًا} (النساء: 79) {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلََّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (البقرة: 83) وذكر الإعراض للدلالة على تناهي حالهم في الضلال، ومثله {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (البقرة: 84) إذ معنى الإقرار أقرب من الشهادة ولأن الإعراض والشهادة حالان لهم عند التولي والإقرار. وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (ق: 31) وقوله: {خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} (هود: 108) فإنه حال مؤكدة لقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خََالِدِينَ فِيهََا} (هود: 108) وبهذا يزول الإشكال في أن شرط الحال الانتقال ولا يمكن ذلك هنا [فإنا] (4) نقول: ذلك شرط في غير المؤكدة ولما لم يقف ابن جني على ذلك قدّر محذوفا، أي معتقدا خلودهم فيها لأن اعتقاد ذلك أمر ثابت عند غير المؤمنين، فلهذا ساغ مجيئها غير منتقلة.
ومنهم من نازع في التأكيد في بعض ما سبق لأن الحال المؤكدة مفهومها مفهوم عاملها، وليس كذلك التبسم والضحك، فإنه قد يكون من غير ضحك، بدليل قوله: «تبسم تبسّم الغضبان». وكذلك التولية والإدبار في قوله تعالى: {وَلََّى مُدْبِراً} (النمل: 10) {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة: 25) فإنهما بمعنيين مختلفين، فالتولية أن يولي الشيء ظهره، والإدبار أن يهرب منه، فليس كل مولّ مدبرا، ولا كل مدبر مولّيا.
ونظيره قوله تعالى: {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ إِذََا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}
(النمل: 80) فلو كان أصمّ مقبلا لم يسمع، فإذا ولّى ظهره كان أبعد له من السماع (5)، فإذا
__________
(1) هذا الأمر الثاني مما يلتحق بالتأكيد الصناعي وقد تقدم الأول ص 491.
(2) ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (لا أنها).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (الاسماع).(2/501)
أدبر مع ذلك كان أشدّ لبعده عن السماع. ومن الدليل على أن التولّي لا يتضمن الإدبار قوله:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} (البقرة: 144) فإنه بمعنى الإقبال. وقوله: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} (النمل: 10) إشارة إلى استمراره في الهروب وعدم رجوعه، يقال: فلان ولّى إذا رجع، وكل راجع معقب، وأهل التفسير يقولون: لم يقف ولم يلتفت.
وكذلك قوله: {وَأَرْسَلْنََاكَ لِلنََّاسِ رَسُولًا} (النساء: 79) قيل: ليست بمؤكدة، لأن الشيء المرسل قد لا يكون رسولا، كما قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنََا} [1] عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
(الذاريات: 41) وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} (البقرة: 91) جعلها كثير من المعربين مؤكدة لأن صفة الحق التصديق. قيل: ويحتمل أن يريدوا به تأكيد العامل، وأن يريدوا به تأكيد ما تضمنته الجملة.
ودعوى التأكيد غير ظاهرة لأنه يلزم من كون الشيء حقّا في نفسه أن يكون مصدّقا لغيره، والفرض أن القرآن العزيز فيه الأمران وهو كونه حقا وكونه مصدّقا لغيره من الكتب، فالظاهر أن {مُصَدِّقاً} حال مبينة لا مؤكدة، ويكون العامل فيها {الْحَقُّ} لكونه بمعنى الثابت، وصاحب الحال الضمير الذي تحمّله {الْحَقُّ} لتأوله بالمشتق.
وقوله: {قََائِماً بِالْقِسْطِ} (آل عمران: 18) ف {قََائِماً} حال مؤكدة لأن الشاهد به «لا إله إلا هو قائم بالقسط»، فهي لازمة مؤكدة وقد وقعت بعد الفعل والفاعل. قال ابن أبي الربيع (2): ويجوز أن يكون حالا على جهة [141/ أ] أخرى، على معنى «شهد الله أنه منفرد بالربوبية وقائم بالقسط» فإنه سبحانه [وتعالى] (3) بالصفتين لم ينتقل عنهما، فهو متصف بكل واحدة منهما في حال الاتصاف بالأخرى، وهو سبحانه لم يزل (4) بهما لأن صفاته ذاتية قديمة.
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (وأرسلنا).
(2) هو عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله، أبو الحسين بن أبي الربيع: إمام أهل النحو في زمانه، أخذ القراءات عن محمد بن أبي هارون التيمي، وقرأ النحو على الدّباج، والشلوبين وأخذ عنه محمد بن عبيدة الإشبيلي، وإبراهيم الغافقي وغيرهما. من تصانيفه «شرح الجمل» و «شرح الإيضاح» قال السيوطي: «لم يشذّ عنه مسألة في العربية» ت 688هـ (بغية الوعاة 2/ 125).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (لا يزل).(2/502)
(فائدة) قال صاحب «المفصّل» (1): لا تقع المؤكدة إلا بعد الجملة الاسمية، وهو خلاف قول أبي عليّ (2): إنها تكون بعد الجملتين محتجا بما سبق، وكذا بقوله (3) تعالى:
{وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ إِذََا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (النمل: 80) وقوله [تعالى] (4): {وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} (النمل: 10) ف {مُدْبِرِينَ} و {مُدْبِراً} حال مؤكدة لفعل التولية.
[فصل] (5) في أدوات التأكيد
* الأول: [التأكيد ب «إنّ»] (5) قال تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ} (فاطر:
5) وقوله [تعالى]: (143): {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1) وهي أقوى من التأكيد باللام كما قاله عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» (7) قال: وأكثر مواقع «إنّ» بحكم الاستقراء هو الجواب لكن بشرط أن يكون للسائل فيه ظن بخلاف ما أنت تجيبه به فأما أن تجعل مردّ الجواب أصلا فيها فلا بأنه يؤدي إلى (8) قولك: «صالح» في جواب: كيف زيد؟
حتى تقول: إنه صالح، ولا قائل (9) به، بخلاف اللام فإنه لا يلحظ فيها غير أصل الجواب.
__________
(1) قال صاحب كشف الظنون 2/ 1774: («المفصّل» في النحو للزمخشري، جعله على أربعة أقسام:
الأول في الأسماء، الثاني في الأفعال، الثالث في الحروف، الرابع في المشترك من أحوالها، ثم اختصره وسمّاه «الأنموذج» وله في بعض مشكلات المفصل كتاب آخر، وهو كتاب عظيم القدر، وقد اعتنى عليه أئمة هذا الفن فشرحه) وذكر شروحاته طبع بعناية المستشرق السويدي بروخ .. في ليبسك عام 1276هـ / 1859م، وطبع بتصحيح حمزة فتح الله بمطبعة الكواكب في الاسكندرية عام 1291هـ / 1874م، وطبع بتحقيق المستشرق. (مع شرح ابن يعيش) في ليبسك عام 1293هـ / 1876م، وصور عام 1297هـ / 1879من عن طبعة. .، وطبع بتحقيق المولوي محمد يعقوب راسبوري بدهلي عام 1309هـ / 1891م، وطبع بتصحيح محمد بدر النعساني الحلبي بالقاهرة 1323هـ / 1905م وشرح أبياته في ذيل سماه «المفضّل في شرح أبيات المفصل» وقوم بتحقيقه مؤخرا كمال جبري أمين (انظر أخبار التراث العربي 2/ 16و 29/ 27) وانظر قول الزمخشري في الكتاب ص 62.
(2) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي، تقدم في 1/ 375.
(3) في المخطوطة (يقول).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ساقطة من المخطوطة.
(7) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، وانظر قوله في كتابه ص 242وما بعدها (بتصحيح محمد رشيد رضا) باب اللفظ والنظم، فصل في «إن» ومواقعها.
(8) عبارة المخطوطة (وإنما لم يستقم) بدل (لأنه يؤدي إلى).
(9) في المخطوطة (فلا).(2/503)
وقد يجيء مع التأكيد في تقدير سؤال السائل (1) إذا تقدمها من الكلام ما يلوح نفسه للنفس، كقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1) أمرهم بالتقوى ثم علّل وجوبها مجيبا لسؤال مقدّر بذكر الساعة، واصفا لها بأهول وصف، ليقرر عليه الوجوب. وكذا قوله تعالى: {وَلََا تُخََاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود: 37) أي [لا] (2) تدعني في شأنهم واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك، لأنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد جفّ به القلم فلا سبيل إلى كفه عنهم.
ومثله في النهي عن الدعاء لمن وجبت شقاوته قوله تعالى: {يََا إِبْرََاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هََذََا إِنَّهُ قَدْ جََاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذََابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} (هود: 76) ومنه قوله تعالى: {وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلََّا مََا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53) فإن قوله [تعالى]: {وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أورث للمخاطب حيرة: كيف لا ينزّه نفسه مع كونها مطمئنة زكية! فأزال حيرته بقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ} في جميع الأشخاص {بِالسُّوءِ} إلا المعصوم. وكذا قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلََاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103).
واعلم أن كل جملة (3) صدّرت ب «إنّ» [لاظهار فائدة، الأولى] (4) مفيدة للتعليل وجواب سؤال مقدر فإنّ الفاء يصح أن تقوم فيها مقام (5) [«أن» مفيدة للتعليل، حسن تجريدها عن كونها جوابا للسؤال المقدر كما سبق من الأمثلة. وإن صدّرت لإظهار فائدة، الأولى لم يصح قيام الفاء مقامها] (5) كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ََ أُولََئِكَ عَنْهََا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء: 101) بعد قوله: {لَهُمْ فِيهََا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهََا لََا يَسْمَعُونَ} (الأنبياء: 100).
ومن فوائدها تحسين ضمير الشأن معها إذا فسّر بالجملة الشرطية ما لا يحسن بدونها، كقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} (يوسف: 90) {أَنَّهُ مَنْ يُحََادِدِ اللََّهَ [وَرَسُولَهُ]} [7] (التوبة: 63) {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً [بِجَهََالَةٍ]} [7] (الأنعام: 54). {إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْكََافِرُونَ}
__________
(1) في المخطوطة (سائل).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (صلة).
(4) ساقط من المطبوعة.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(7) ليست في المخطوطة.(2/504)
(المؤمنون: 117) وأما حسنه بدونها في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (الاخلاص: 1) فلفوات الشرط.
* الثاني: [«أنّ»] (1) المفتوحة نحو «علمت أن زيدا قائم» وهي حرف مؤكد كالمكسورة نصّ عليه النحاة. واستشكله بعضهم قال: لأنك لو صرّحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيدا ويقال: التوكيد (2) للمصدر المنحل لأن محلها مع ما بعدها المفرد (3)
وبهذا يفرق بينها وبين «إنّ» المكسورة فإن التأكيد في المكسورة للإسناد، وهذه لأحد الطرفين.
* الثالث: «كأنّ» وفيها التشبيه المؤكد إن كانت بسيطة، وإن كانت مركبة [141/ ب] من كاف التشبيه و «أن»، فهي متضمنة لأنّ فيها ما سبق وزيادة. قال الزمخشريّ (4): والفصل بينه وبين الأصل أي بين قولك: «كأنه أسد»: وبين «أنه كالأسد» [أنك] (5) (6) [مع كأنّ بان على] (6) التشبيه من أول [الأمر] (5) وثمّ بعد مضي صدره على الإثبات. وقال الإمام في «نهاية الإيجاز» (9): اشترك (10) «الكاف» و «كأنّ» في الدلالة على التشبيه، «وكأنّ» أبلغ، و (11) بذلك جزم حازم في «منهاج] (11) البلغاء» وقال: وهي إنّما تستعمل حيث يقوى الشّبه حتى يكاد الرائي يشكّ في أن المشبّه هو المشبه به أو غيره، ولذلك قالت بلقيس: {كَأَنَّهُ هُوَ}
(النمل: 42).
الرابع: «لكنّ» لتأكيد الجمل (13)، ذكره ابن عصفور (14) والتنوخيّ في
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (التأكيد).
(3) في المخطوطة (لمفرد).
(4) في المفصل: 301. بتصرف. باب (كأنّ) من أصناف الحروف المشبهة للفعل.
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) عبارة المخطوطة (مع إنه كأن باق).
(9) كتاب «نهاية الايجاز» للفخر الرازي محمد بن عمر تقدم التعريف به في 2/ 476.
(10) في المخطوطة (أشرك).
(11) تصحفت العبارة في المخطوطة: (وقد أكد حزم جازم في جزم منهاج) وحازم هو ابن محمد القرطاجني، تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 155.
(13) في المخطوطة: (للتأكيد المجرّد).
(14) هو علي بن مؤمن بن محمد، أبو الحسن، تقدم في 1/ 466.(2/505)
«الأقصى» (1) وقيل: للتأكيد مع الاستدراك. وقيل: للاستدراك المجرد، وهي أن يثبت لما بعدها حكم يخالف ما قبلها ومثلها «ليت» و «لعلّ» و «لعنّ» في لغة بني تميم لأنهم يبدلون همزة «أن» المفتوحة عينا وممن ذكر أنها من المؤكدات: التنوخي.
الخامس: لام الابتداء نحو: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعََاءِ} (إبراهيم: 39) وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة، ولهذا زحلقوها في باب «إنّ» عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام بمؤكدين ولأنّها تدلّ بجهة التأكيد، وإنّ تدلّ بجهتين: العمل والتأكيد، والدالّ بجهتين مقدّم على الدال (2) بجهة كنظيره في الإرث وغيره. وإذا جاءت (3) مع «إنّ» [كان] (4) بمنزلة تكرار الجملة ثلاث مرات، لأن [إنّ] (169) أفادت التكرير مرتين فإذا دخلت اللام صارت ثلاثا. وعن الكسائي أنّ اللام لتوكيد الخبر «وإنّ» لتأكيد (5) الاسم وفيه تجوّز، لأن التأكيد إنما هو للنسبة (6) لا للاسم والخبر.
السادس: الفصل، وهو من مؤكدات الجملة وقد نص سيبويه (7) على أنه يفيد التأكيد، وقال في قوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مََالًا وَوَلَداً} (الكهف: 39) {أَنَا} وصف للياء في {تَرَنِ} يزيد تأكيدا وهذا صحيح، لأن المضمر يؤكد الضّمير، وأما تأكيد المظهر بالمضمر فلم يعهد، ولهذا سماه بعضهم «دعامة»، لأنه يدعم به الكلام، أي يقوى، ولهذا قالوا: لا يجاء مع التوكيد، فلا يقال: «زيد نفسه هو الفاضل». ووافق على ذلك ابن الحاجب (8) في «شرح المفصّل» وخالف في «أماليه» (9) فقال: ضمير الفصل ليس توكيدا،
__________
(1) هو محمد بن محمد، زين الدين التنوخي، تقدم التعريف به وبكتابه «الأقصى القريب» في 2/ 448.
(2) في المخطوطة (المولي).
(3) في المخطوطة (اجتمعت).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (لتوكيد).
(6) في المخطوطة (بنسبته).
(7) الكتاب 2/ 392 (بتحقيق عبد السلام محمد هارون)، باب ما يكون فيه هو وأنت وأنا ونحن وأخواتهنّ فصلا.
(8) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب، تقدم ذكره في 1/ 466، وكتابه «الإيضاح في شرح المفصل» طبع بتحقيق موسى بناي العكيلي، بمطبعة المجمع العلمي الكردي ببغداد (كرسالة دكتوراه) عام 1396هـ / 1976م، وأعادت طبعه وزارة الأوقاف العراقية عام 1401هـ / 1981م (ذخائر التراث العربي 1/ 82، وفهرست الكتب النحوية: 48).
(9) تقدم التعريف به في 1/ 511.(2/506)
لأنه لو كان، فإما لفظيا أو معنويا، لا جائز أن يكون لفظيا، لأنّ اللفظيّ إعادة اللفظ الأول كزيد زيد، أو معناه كقمت، والفصل ليس هو المسند إليه ولا معناه لأنه ليس مكنيّا عن المسند إليه، ولا مفسرا، ولا جائز أن يكون معنويا، لأن ألفاظه محصورة، كالنفس والعين، وهذا منه نفي للتوكيد الصناعي ولبس للكلام (1).
وفي «البسيط» للواحديّ (2) عند قوله تعالى: {وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) قال سيبويه (3): دخل الفصل في قوله [تعالى]: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللََّهِ هُوَ خَيْراً} (المزمل: 20) قوله تعالى: {وَلََا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ [بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ]} [4] (آل عمران: 180) وفي قوله [تعالى]: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (سبأ: 6) وفي قوله تعالى: {إِنْ كََانَ هََذََا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ}
(الأنفال: 32) وذكر أن هذا بمنزلة ما في قوله [تعالى]: {فَبِمََا رَحْمَةٍ} (آل عمران: 159) انتهى.
السابع: ضمير البيان (5) للمذكر، والقصة للمؤنث، ويقدمونه قبل الجملة نظرا لدلالته (6) على تعظيم الأمر في نفسه، والإطناب فيه، ومن ثمّ قيل له: الشأن والقصة، وعادتهم إذا أرادوا ذكر جملة قد يقدمون قبلها ضميرا يكون كناية عن تلك الجملة، وتكون الجملة خبرا عنه، ومفسرة (7) له، ويفعلون ذلك في مواضع التفخيم، والغرض منه أن يتطلع (8) [142/ أ] السامع إلى الكشف عنه وطلب تفسيره، وحينئذ تورد (9) الجملة
__________
(1) عبارة المخطوطة (فليس الكلام).
(2) هو علي بن أحمد، أبو الحسين الواحدي، صاحب التفسير الكبير المسمّى ب «البسيط» تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 105.
(3) انظر الكتاب 2/ 392 (بتحقيق عبد السلام محمد هارون).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (الشأن).
(6) في المخطوطة (للدلالة).
(7) في المخطوطة (ومفسرا).
(8) في المخطوطة (يطلع).
(9) في المخطوطة (يورد).(2/507)
المفسرة له. وقد يكون لمجرد التعظيم، كقوله [تعالى]: {إِنَّنِي أَنَا اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا}
(طه: 14) وقد يفيد معه الانفراد، نحو قوله [تعالى]: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (الاخلاص:
1) أي المنفرد بالأحدية. قال جماعة من النحاة: {هُوَ} ضمير الشأن و {اللََّهُ} مبتدأ ثان و {أَحَدٌ} خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، ولم يفتقر إلى عائد لأنّ الجملة تفسير له، ولكونها مفسرة لم يجب تقديمها عليه، وقيل: هو كناية عن «الله» لأنهم سألوه أن يصف ربّه فنزلت.
ومنه: {وَأَنَّهُ لَمََّا قََامَ عَبْدُ اللََّهِ} (الجن: 19) ويجوز تأنيثه إذا كان في الكلام مؤنث، كقوله [تعالى]: {فَإِنَّهََا لََا تَعْمَى الْأَبْصََارُ} (الحج: 46) فالهاء في {فَإِنَّهََا} ضمير القصة و {تَعْمَى الْأَبْصََارُ} في موضع [رفع] (1) خبر [إن] (1) وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمََاءُ بَنِي إِسْرََائِيلَ} (الشعراء: 197) بقراءة الياء (3) و {أَنْ يَعْلَمَهُ} مبتدأ و {آيَةً}
الخبر، والهاء ضمير القصة، وأنث لوجود {آيَةً} في الكلام.
الثامن: تأكيد الضمير ويجب أن يؤكد المتصل بالمنفصل إذا عطف عليه كقوله [تعالى]: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: 35) وقوله [تعالى]: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} (المائدة: 24) وقيل: لا يجب التأكيد، بل يشترط الفاصل بينهما بدليل قوله [تعالى]: {مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا} (الأنعام: 148) فعطف {آبََاؤُنََا} على المضمر المرفوع وليس هنا تأكيد بل فاصل وهو {لََا}. وهذا لا حجة فيه لأنها دخلت بعد واو العطف والذي يقوم مقام التأكيد إنما يأتي قبل واو العطف، كالآيات المتقدمة بدليل قوله (4) [{فَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ وَمَنْ تََابَ مَعَكَ} (هود: 112).
ومنهم من لم يشترط فاصلا، بدليل قوله] (4): {إِمََّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (الأعراف: 115) فأكّد السحرة ضمير أنفسهم في الإلقاء دون ضمير موسى حيث لم يقولوا: «إما أن تلقي أنت». وفيه دليل على أنهم أحبوا التقديم في الإلقاء لعلمهم بأنهم
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (قراءة)، وقراءة ابن عامر بالتاء، والباقون بالياء (التيسير ص 166).
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(2/508)
يأتون بسحر عظيم يقرر (1) عظمته في أذهان الحاضرين فلا يرفعها (2) ما يأتي بعدها على زعمهم. وإنما ابتدءوا بموسى فعرضوا عليه البداءة بالإلقاء على عادة العلماء والصناع في تأدبهم مع قرنائهم! ومن ثم قيل: تأدّبوا تهذّبوا. وأجيب بأنه إنما لم يؤكّد في الآية لأنه استغنى عن التأكيد بالتصريح بالأوليّة في قوله: {وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ََ} (طه: 65) وهذا جواب بياني لا نحويّ. فإن قيل: ما وجه هذا الإطناب؟ وهلّا (3) قالوا: «[إما أن تلقي وإمّا] (4) أن نلقي» (5)؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: لفظيّ، وهو المزاوجة لرءوس الآي على سياق خواتمها، من أول السورة إلى آخرها.
(والثاني): معنوي، وهو أنه سبحانه أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم عند أنفسهم على موسى فجاء عنهم باللفظ أتمّ (6) وأوفى منه في إسنادهم الفعل إليه. ذكر ذلك ابن جنّي في «خاطريّاته» (7) ثم أورد سؤالا وهو: إنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان فيذهب بهم هذا (8) المذهب من صيغة الكلام! وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون الخالية إنما هو من معروف معانيهم وليست بحقيقة ألفاظهم، ولهذا (9) لا يشك في أن قوله (9) تعالى: {قََالُوا إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ يُرِيدََانِ أَنْ يُخْرِجََاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمََا وَيَذْهَبََا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ََ} (طه: 63) أن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم.
التاسع: تصدير الجملة بضمير مبتدأ يفيد التأكيد ولهذا قيل بإفادة الحصر، ذكره
__________
(1) في المخطوطة (فقرر).
(2) في المخطوطة (يرفعا).
(3) في المخطوطة (وهذا).
(4) ساقط من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (يلقي).
(6) في المخطوطة (ثم).
(7) تقدم التعريف بالكتاب في 2/ 436.
(8) في المخطوطة (من هذا).
(9) عبارة المخطوطة (ولهذا لا شك أن في قوله).(2/509)
الزمخشري في مواضع من «كشّافه». قال (1) في قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
(البقرة: 4) معناه الحصر، أي لا يؤمن بالآخرة إلا هم. وقال في قوله (2): {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} (الأنبياء: 21) أن معناه لا ينشر إلا هم [142/ ب]، وإن المنكر عليهم ما يلزمهم حصر الألوهية فيهم. ثم خالف هذه القاعدة لمّا خالف مذهبه الفاسد في قوله تعالى: {وَمََا هُمْ بِخََارِجِينَ مِنَ النََّارِ} (البقرة: 167) فقال (3): هم هنا بمنزلتها في قوله:
هم يفرشون اللّبد كل طمرّة (4)
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص. انتهى.
وبيانه أن مقتضى قاعدته في هذه الآية يدلّ على خروج المؤمنين الفسّاق من النار وليس هذا معتقده، فعدل عن ذلك إلى التأويل للآية بفائدة (5) تتم له، فجعل الضمير المذكور يفيد تأكيد نسبة الخلود لهم لا اختصاصه (6) بهم وهم عنده بهذه المثابة لأن عصاة المؤمنين وإن خلّدوا في النار على زعمه إلا أن الكفّار عنده أحق بالخلود وأدخل في استحقاقه من عصاة المؤمنين، فتخيل في تخريج الآية على قاعدة مذهبه من غير خروج عن قاعدة أهل المعاني في اقتضاء تقديم الضمير الاختصاص. والجواب عن هذا أنّ إفادة تقديم الضمير المبتدإ للاختصاص والحصر أقوى وأشهر عندهم من إفادة مجرد التمكن في الصفة.
وقد نص الجرجانيّ في «دلائل الإعجاز» (7) على أن إفادة تقديم الفاعل على الفعل للاختصاص جليلة وأما إرادة تحقيق الأمر عند السامع أنهم بهذه الصفة، وأنهم متمكنون منها فليست جليلة (8)، وإذا كان كذلك فلا يعدل عن المعنى الظاهر إلا بدليل، وليس هنا ما يقتضي إخراج الكلام عن معناه الجليّ، كيف وقد صحت الأحاديث وتواترت على أن العصاة
__________
(1) انظر الكشاف 1/ 24.
(2) انظر الكشاف 3/ 706.
(3) انظر الكشاف 1/ 106.
(4) في المخطوطة (ظهيرة). والبيت ذكره الجرجاني في دلائل الإعجاز: 100.
(5) في المخطوطة (لفائدة).
(6) في المخطوطة (لاختصاصه).
(7) انظر دلائل الإعجاز للجرجاني ص: 11196، فصل التقديم والتأخير.
(8) في المخطوطة (جلية).(2/510)
يخرجون من النار بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وشفاعة (1) غيره، حتى لا يبقى فيها موحّد أبدا! فهذه الآية فيها دليل لأهل السنة على انفراد الكفار بالخلود في النار واختصاصهم بذلك، والسنّة المتواترة، موافقة، ولا دليل للمخالف سوى قاعدة الحسن والقبيح العقليين وإلزامهم الله تعالى مما لا ينبغي لهم أن يلزموه من عدم العفو وتحقيق العقاب والخلود الأبديّ للمؤمنين (2) في النار. نعوذ بالله من ذلك! (فائدة): لا تخصّ (3) إفادة الحصر بتقديم الضمير المبتدإ، بل هو كذلك إذا تقدم الفاعل، أو المفعول، أو الجار أو المجرور المتعلقات بالفعل ومن أمثلته قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمََنُ آمَنََّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنََا} (الملك: 29) فإن الإيمان لما لم يكن منحصرا في الإيمان بالله بل لا بدّ معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرّده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره، لأن غيره لا يملك ضرا ولا نفعا فيتوكل عليه ولذلك قدم الظرف في قوله: {لََا فِيهََا غَوْلٌ} (الصافات: 47) ليفيد النفي عنها فقط واختصاصها بذلك، بخلاف تأخيره في: {لََا رَيْبَ [فِيهِ]} [4] (البقرة: 2) لأن نفي الريب لا يختص بالقرآن بل سائر الكتب المنزلة، كذلك.
* العاشر: منها «هاء» التنبيه في النداء نحو: «يأيّها» (5) [قال سيبويه: وأما الألف والهاء اللتان لحقتا «أيا» توكيدا فكأنك كررت «يا» مرتين إذا قلت: «يأيها»] (5) وصار الاسم تنبيها. هذا كلامه. وهو حسن جدا، وقد وقع عليه الزمخشري (7) فقال: وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدة تبيين معاضدة (8) حرف النداء ومكاتفته (9) بتأكيد معناه ووقوعها عوضا مما يستحقه (10)، أي من الإضافة.
__________
(1) في المخطوطة (وبشفاعة).
(2) في المخطوطة (للمؤمن النار).
(3) في المخطوطة (تختص).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(7) انظر المفصل ص 309، في القسم الثالث من الكتاب، وهو قسم الحروف، فصل حروف النداء.
(8) في المخطوطة (مقاصده).
(9) في المخطوطة (ومخالفته).
(10) في المخطوطة (تستحقه).(2/511)
* الحادي عشر «يا» الموضعة للبعيد [143/ أ] إذا نودي بها القريب الفطن قال الزمخشري (1): إنّه للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جدا.
* الثاني عشر: «الواو»، زعم الزمخشري (2) أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة لتأكيد ثبوت الصفة بالموصوف، كما تدخل على الجملة الحالية، كقوله تعالى: {وَمََا أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ إِلََّا وَلَهََا كِتََابٌ مَعْلُومٌ} (الحجر: 4) وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ} [3] سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ (الكهف: 22) والصحيح أن الجملة الموصوف بها لا تقترن بالواو لأن الاستثناء المفرّغ لا يقع في الصفات بل الجملة حال من {قَرْيَةٍ} لكونها عامة بقديم {إِلََّا} عليها.
الثالث عشر: «إما» المكسورة، كقوله [تعالى]: {فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً}
(البقرة: 38) أصلها «إن» الشرطية زيدت «ما» تأكيدا. وكلام الزجاج (4) يقتضي أن سبب اللحاق (5) نون التوكيد. وقال الفارسي (6): الأمر بالعكس لمشابهة فعل الشرط بدخول «ما» للتأكيد بالفعل المقسم عليه من جهة أنها كالعدم في القسم لما فيها من التأكيد. وجميع ما في القرآن من الشرط بعد «إما» توكيده بالنون.
قال أبو البقاء (7): وهو القياس، لأن زيادة «ما» مؤذنة بإرادة شدة التوكيد. واختلف النحاة: أتلزم (8) النون المؤكدة فعل الشرط عند وصل «إما» أم لا؟ فقال المبرّد والزجاج: يلزم ولا تحذف إلا ضرورة. وقال سيبويه (9) [وغيره: لا تلزم فيجوز إثباتها وحذفها، والإثبات أحسن. ويجوز حذف «ما» وإثبات النون، قال سيبويه] (9): إن شئت (11) لم تقحم النون، كما أنك إذا شئت لم تجئ (11) بها. انتهى.
__________
(1) في المفصّل ص 309 [باب] ومن أصناف الحرف حروف النداء.
(2) الكشاف 2/ 310سورة الحجر، و 2/ 385سورة الكهف.
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (سيقولون).
(4) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/ 117، في كلامه على الآية 38من سورة البقرة.
(5) في المخطوطة (لحاق).
(6) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي، تقدم في 1/ 375.
(7) هو عبد الله بن الحسين، أبو البقاء العكبري، وانظر إملاء ما منّ به الرحمن 1/ 19 (طبعة الميمنية بالقاهرة 1306هـ) في الكلام على الآية (38) من سورة البقرة.
(8) في المخطوطة (أن نلزم).
(9) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(11) تصحفت العبارة في المطبوعة كالتالي: (إن ثبتت لم تقحم النون، كما أنك إذا أثبت لم تجئ بما)(2/512)
وجاء السماع بعدم النون بعد «إما» كقول الشاعر:
فإما تريني ولي لمّة ... فإن الحوادث أودى بها (1)
* الرابع عشر: «أمّا» المفتوحة، قال الزمخشريّ (2) في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (البقرة: 26) إنها تفيد التأكيد.
* الخامس عشر: «ألا» الاستفتاحية، كما صرح به الزمخشريّ (3)، في قوله تعالى:
{أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (البقرة: 12) ويدلّ عليه قولهم: إنها للتحقيق (4)، أي تحقيق الجملة بعدها، وهذا معنى التأكيد، قال الزمخشريّ: ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، نحو: {أَلََا إِنَّ أَوْلِيََاءَ اللََّهِ لََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: 62).
* السادس عشر: «ما» النافية، نحو: ما زيد قائما (5) أو قائم، على لغة تميم، جعل سيبويه (6) فيها معنى التوكيد لأنه جعلها في النفي جوابا ل «قد» في الإثبات، كما أن [قد] (7)
فيها معنى التوكيد، فكذلك ما جعل جوابا لها ذكره ابن الحاجب (8) في «شرح المفصّل».
* السابع عشر: «الباء» في الخبر نحو ما زيد بمنطلق، قال الزمخشريّ في «كشافه
__________
والتصويب من كتاب سيبويه 3/ 515 (بتحقيق عبد السلام محمد هارون) باب النون الثقيلة والخفيفة.
(1) البيت للأعشى، وهو في ديوانه ص 120 (طبعة رودلف جاير، فينّا 1927م) وهو من شواهد سيبويه في الكتاب 2/ 46، والبغدادي في الخزانة 4/ 578، والعيني 2/ 466و 4/ 327، وابن يعيش في شرح المفصل 5/ 95و 9/ 6و 41، وابن الشجري في أماليه 2/ 345، ومعنى البيت: إن كنت قد رأيتني فيما مضى ولي لمة فينانة فإن حوادث الدهر قد غيّرتها وذهبت بها. ويروى صدر البيت كالتالي:
«فإمّا تري لمّتي بدّلت».
(2) انظر الكشاف 1/ 57.
(3) انظر الكشاف 1/ 33.
(4) في المخطوطة (لتحقيق).
(5) في المخطوطة (قائم).
(6) انظر كتاب سيبويه 1/ 57، (بتحقيق عبد السلام هارون) باب ما أجري مجرى ليس في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز، ثم يصير إلى أصله.
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) هو عثمان بن عمر بن يونس. أبو عمرو، تقدم التعريف به في 1/ 466، وبكتابه في 2/ 506.(2/513)
القديم» (1): هي عند البصريين لتأكيد النفي. وقال الكوفيون: قولك: ما زيد بمنطلق، جواب إن زيدا لمنطلق، «ما» بإزاء «إنّ» والباء [بإزاء] (2) اللام والمعنى راجع إلى أنها للتأكيد لأن اللام لتأكيد (3) الإيجاب، فإذا كانت بإزائها كانت لتأكيد النفي. هذا كله في مؤكدات الجملة الاسمية.
وأما (4) مؤكدات الفعلية فأنواع:
* (أحدها): «قد» فإنها حرف تحقيق وهو معنى التأكيد، وإليه أشار الزمخشريّ (5) في قوله [تعالى]: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللََّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران:
101) معناه (6) لا محالة. وحكى الجوهريّ (7) عن الخليل أنه لا يؤتى بها في شيء إلا إذا كان السامع متشوقا إلى سماعه، كقولك لمن يتشوق سماع [قدوم زيد: قد] (8) قدم زيد، فإن لم يكن، لم يحسن المجيء بها، بل تقول: قام زيد. [وقال بعض النحاة في] (9) قوله (9)
تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (الإسراء: 89) [وقال بعض النحاة] (11) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} (البقرة: 65) «قد» في الجملة الفعلية المجاب بها القسم، مثل «إنّ» و «اللام» في الاسمية المجاب بها في إفادة التأكيد.
[143/ ب] وتدخل على الماضي نحو {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكََّاهََا} (12) (الشمس: 9)
__________
(1) تقدم الكلام عن الكشاف القديم في 1/ 164.
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (لتوكيد).
(4) في المخطوطة (فأما).
(5) الكشاف 1/ 206.
(6) في المخطوطة (هذا).
(7) هو إسماعيل بن حماد الجوهري، تقدم التعريف به في 1/ 373.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(9) في المخطوطة (أما قوله).
(11) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(12) في المخطوطة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1].(2/514)
والمضارع، نحو: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [الَّذِي يَقُولُونَ]} [1] (الأنعام: 33) {قَدْ يَعْلَمُ مََا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (النور: 64) قال الزمخشريّ (2): دخلت قد لتوكيد العلم. ويرجع ذلك لتوكيد الوعيد، وبهذا يجاب عن قولهم: إنما تفيد التعليل (3) [مع المضارع. وقال ابن أبان (4):
تفيد مع المستقبل التعليل] (3) في وقوعه أو متعلقه، فالأولى كقولك: زيد قد يفعل كذا، وليس ذلك منه بالكثير، والثاني كقوله [تعالى]: {قَدْ يَعْلَمُ مََا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (النور: 64) المعنى والله أعلم: أقل معلوماته ما أنتم عليه.
* (ثانيها) (6): السين التي للتنفيس، قال سيبويه (7) في قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللََّهُ [وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]} [8] (البقرة: 137) معنى السين أن ذلك كائن لا محالة، وإن تأخر إلى حين. وجرى عليه الزمخشريّ (9) فقال في قوله تعالى: {أُولََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللََّهُ} (التوبة:
71) السين تفيد وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد، في قولك:
«سأنتقم منك يوما» يعني أنك لا تفوتني (10) وإن تبطّأت (11).
ونحوه: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمََنُ وُدًّا} (مريم: 96) {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ََ}
(الضحى: 5) {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} (النساء: 152) لكن قال في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ََ} (12) معنى الجمع بين حرفي التأكيد [والتأخير] (13) أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر. وقد اعترض عليه بأن وجود الرحمة مستفاد من الفعل لا من السين، وبأن الوجوب المشار إليه بقوله: «لا محالة» (14) لا إشعار للسين به. وأجيب بوجهين:
__________
(1) ليس في المطبوعة.
(2) ليس قوله في الكشاف الجديد، ولعله في القديم.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) هو أحمد بن أبان بن السيد اللغوي تقدم التعريف به في 1/ 394.
(6) في المخطوطة (الثاني).
(7) كتاب سيبويه 1/ 35 (بتحقيق عبد السلام محمد هارون) باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعول.
(8) بقية الآية ليست في المطبوعة.
(9) الكشاف 2/ 162.
(10) في المخطوطة (يفوتني).
(11) في المخطوطة (تباطأ).
(12) الكشاف 4/ 219.
(13) ساقطة من المخطوطة.
(14) في هذا الموضع من المخطوطة تكررت عبارة (وإن تأخر وقد اعترض عليه) التي تقدمت سابقا.(2/515)
(أحدهما): أن السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخر، فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة (1) تمحضت لإفادة الوقوع، وتحقيق الوقوع يصل الى درجة الوجوب. وفيه نظر لأن ذلك يستفاد (2) من المقام لا من السين.
(والثاني): أن السين يحصل بها ترتيب الفائدة لأنها تفيد أمرين: الوعيد والإخبار بطرقه، وأنه متراخ، فهو كالإخبار بالشيء مرتين ولا شك أن الإخبار بالشيء وتعيين طرقه مؤذن (3) بتحققه عند المخبر به (4).
* (ثالثها): النون (5) [الشديدة وهي بمنزلة ذكر الفعل ثلاث مرات، وبالخفيفة، فهي بمنزلة ذكره مرتين. قيل: وهذان النونان] (5) لتأكيد الفعل في مقابلة تأكيد الاسم بإنّ واللام ولم يقع في القرآن التأكيد بالخفيفة إلّا في موضعين: {وَلَيَكُوناً مِنَ الصََّاغِرِينَ} (يوسف:
32) وقوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ} (العلق: 15) ولما لم يتجاوز الثلاثة في تأكيد الأسماء فكذلك (7) لم يتجاوزها في تأكيد الأفعال، قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكََافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}
(الطارق: 17) لم يزد على ثلاثة: مهل، وأمهل، ورويدا، كلّها بمعنى واحد، وهنّ: فعلان واسم فعل.
* (رابعا): (8) «لن» لتأكيد النفي [كإنّ] (9) في تأكيد الإثبات فتقول: لا أبرح، فإذا أردت تأكيد النفي، قلت: لن أبرح. قال سيبويه (10): هي جواب لمن قال: سيفعل. يعني والسين للتأكيد فجوابها كذلك.
وقال الزمخشريّ: «لن» تدل على استغراق النفي في الزمن المستقبل، بخلاف [«لا»] (9) [و] (12) كذا قال في «المفصل» (13): لن لتأكيد ما تعطيه، لا من نفي المستقبل،
__________
(1) في المخطوطة (إشارة محضة).
(2) في المخطوطة (مستفاد).
(3) في المخطوطة (يؤذن).
(4) في المخطوطة (الخبرية).
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (فلذلك).
(8) في المخطوطة (رابعها).
(9) ساقطة من المخطوطة.
(10) كتاب سيبويه 4/ 217، باب عدة ما يكون عليه الكلم.
(12) زيادة من المطبوعة.
(13) انظر ص 307 (حروف النفي).(2/516)
وبنى على ذلك مذهب الاعتزال في قوله تعالى: {لَنْ تَرََانِي} (الأعراف: 143) قال (1): هو دليل عن نفي الرؤية في الدنيا والآخرة وهذا الاستدلال حكاه إمام الحرمين (2) في «الشامل» عن المعتزلة وردّ عليهم بقوله تعالى لليهود: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} (البقرة: 94، 95) ثم أخبر عن عامة الكفرة أنهم يتمنون الآخرة فيقولون: {يََا لَيْتَهََا كََانَتِ الْقََاضِيَةَ} (الحاقة: 27) يعني الموت.
ومنهم من قال: لا تنفي الأبد، ولكن (3) إلى وقت، بخلاف (4) قول المعتزلة، وأن (5) النفي ب «لا» أطول من النفي ب «لن» لأنّ آخرها ألف، وهو حرف يطول فيه النّفس، فناسب طول المدة بخلاف لن ولذلك قال تعالى: {لَنْ تَرََانِي} (الأعراف: 143) وهو مخصص (6) بدار الدنيا. وقال: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} (الأنعام: 103) وهو [144/ أ] مستغرق لجميع أزمنة الدنيا والآخرة، وعلّل بأن الألفاظ تشاكل المعاني ولذلك اختصّت لا بزيادة مدة. وهذا ألطف من رأي المعتزلة، ولهذا أشار ابن الزملكانيّ (7) في «التبيان» بقوله:
«لا» تنفي ما بعد، «ولن» تنفي ما قرب، وبحسب المذهبين أوّلوا الآيتين: قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} (البقرة: 95) {وَلََا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} (الجمعة: 7).
ووجه القول الثاني أن {لََا يَتَمَنَّوْنَهُ} جاء بعد الشرط في قوله [تعالى]: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيََاءُ لِلََّهِ مِنْ دُونِ النََّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} (الجمعة: 6) وحرف الشرط يعمّ كلّ الأزمنة،
__________
(1) الكشاف 2/ 89عند تفسير الآية من سورة الأعراف.
(2) هو عبد الملك بن أبي عبد الله الجويني، إمام الحرمين تقدم ذكره في 1/ 23، وكتابه «الشامل في أصول الدين» طبع بتحقيق هلموت كلويفر بدار الغرب في القاهرة عام 1379هـ / 1959م، وطبع بتحقيق علي سامي النشار، وسهير مختار، وفيصل بدير عون بمنشأة المعارف في الاسكندرية عام 1391هـ / 1971م.
(3) في المخطوطة (لكي).
(4) في المخطوطة (عكس).
(5) في المخطوطة (ان النفي).
(6) في المخطوطة (مخصوص).
(7) هو عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف تقدم التعريف به في 1/ 135و 2/ 452، وكتابه «التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن» طبع بتحقيق أحمد مطلوب ود. خديجة الحدثي في بغداد، بمطبعة العاني عام 1383هـ / 1964م.(2/517)
فقوبل ب «لا» ليعم (1) ما هو جواب له، أي زعموا ذلك في وقت ما قيل لهم: تمنوا الموت، وأما {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} (البقرة: 95) فجاء بعد قوله: {قُلْ إِنْ كََانَتْ لَكُمُ الدََّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللََّهِ خََالِصَةً} (البقرة: 94) أي إن كانت لكم الدار الآخرة فتمنوا الموت الآن (2)، استعجالا للسكون في دار الكرامة التي أعدّها الله لأوليائه وأحبائه. وعلى وفق هذا القول جاء قوله: {لَنْ تَرََانِي} (الأعراف: 143).
(قلت): والحق أن «لا» و «لن» لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة، والتأبيد وعدمه يؤخذان من دليل خارج، ومن احتجّ على التأبيد بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (البقرة:
24) وبقوله: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً} (الحج: 73) عورض بقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}
(مريم: 26) ولو كانت للتأبيد لم يقيّد منفيّها باليوم، وبقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} (البقرة: 95) ولو كانت للتأبيد لكان ذكر الأبد تكريرا والأصل عدمه، وبقوله: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عََاكِفِينَ حَتََّى يَرْجِعَ إِلَيْنََا مُوسى ََ} (طه: 91) لا يقال: هي مقيدة فلم تفد التأبيد، والكلام عند الإطلاق، لأن الخصم يدعي أنها موضوعة لذلك، فلم تستعمل في غيره. وقد استعملت «لا» للاستغراق الأبديّ في قوله تعالى: {لََا يُقْضى ََ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (فاطر: 36) وقوله: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255) {وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا} (البقرة: 255) وقوله: {وَلََا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ [فِي سَمِّ الْخِيََاطِ]} [3] (الأعراف: 40) وغيره مما هو للتأبيد، وقد استعملت فيه «لا» دون «لن» فهذا يدلّ على أنها لمجرد النفي، والتأبيد يستفاد من دليل آخر. (4)
__________
(1) في المخطوطة (ليعلم).
(2) في المخطوطة (لأن).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) وانظر الكلام على «لن» في «مغني اللبيب» 1/ 284حرف اللام لف. فقد استقى منه الزركشي، كما سيذكر الزركشي «لن» في النوع السابع والأربعين 4/ 387.(2/518)
الجزء الثالث
بسم الله الرّحمن الرّحيم
القسم الثاني (1): الصفة
وهي مخصصة إن وقعت صفة للنكرة، وموضحة للمعرفة، وتأتي (2) لأسباب:
(أحدها): لمجرد المدح والثناء، ومنه صفات الله تعالى، كقوله: {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) فليس ذكر الوصف هنا للتمييز لأنه ليس له مثل تعالى [الله] (3) عن ذلك حتى يوضّح بالصفة. وأخذ أبو الطيب هذا المعنى فذكر أسامي بعض ممدوحه، ثم قال: 2/ 423 أساميا لم تزده معرفة ... وإنّما لذّة ذكرناها (4)
فقوله: «لم تزده» بيان أنها للإطناب والثناء، لا للتعريف والتبيين.
وقيل: إنّ الصفات (5) الجارية على القديم (6) سبحانه المراد بها التعريف، فإنّ تلك الصفات حاصلة له، لا لمجرد الثناء، ولو كانت للثناء لكان الاختيار قطعها ومنه قوله تعالى:
{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} (المائدة: 44) فهذا الوصف للمدح ليس غير لأنه ليس (7)
يمكن أن يكون ثمّة (8) نبيّون غير مسلمين، كذا قاله الزمخشري (9). قال: «وأريد بها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملّة الإسلام التي (10) هي دين الأنبياء (11) [كلهم، وأن اليهود بمعزل عنها» والتحقيق أن هذه الصفة للتمييز، وقد أطلق الله وصف الإسلام على الأنبياء] (11) وأتباعهم
__________
(1) هذا القسم تابع للنوع السادس والأربعين في أساليب القرآن وفنونه البليغة، وقد تقدم القسم الأول، وهو التوكيد الصناعي ص 486.
(2) في المخطوطة (أو).
(3) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.
(4) البيت في ديوانه 4/ 275 (بشرح أبي البقاء العكبري)، من قصيدة له يمدح فيها عضد الدولة أبا شجاع.
(5) في المخطوطة (صفاته).
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (التقديم).
(7) في المخطوطة (لا).
(8) في المخطوطة (ثم).
(9) الكشاف 1/ 341340.
(10) في المخطوطة (الذي هو).
(11) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/5)
والأصل في المدح التمييز بين الممدوح وغيره بالأوصاف الخاصة، والإسلام وصف عام، فوصفهم بالإسلام، إما باعتبار الثناء عليه أو الثناء عليهم بعد النبوة تعظيما وتشريفا (1)، أو باعتبار أنهم بلغوا من هذا الوصف غايته لأن معنى (2) ذلك يرجع إلى معنى الاستسلام والطاعة الراجعين إلى تحقيق معنى العبودية، التي هي أشرف أوصاف العباد، فكذلك يوصفون [144/ ب] بها في أشرف حالاتهم، وأكمل أوقاتهم.
وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنََا وَاجْعَلْنََا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة: 128) أي، مستسلمين لأمرك، لقضائك، وكذا قول يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} (يوسف: 101) [وكذلك] (3) قوله: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [4] [لِلَّذِينَ هََادُوا] (4) (المائدة: 44) تنويه بقدر الإسلام، وتنبيه على عظم أمره، فإن الصفة تعظم بعظم موصوفها كما وصفت الملائكة المقربون بالإيمان في قوله [تعالى] (6) {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ [بِهِ]} [6] (غافر: 7) تنويها بقدر الإيمان، وحضّا للبشر على التحلّي به، ليكونوا كالمقربين في وصف الإيمان، حتى قيل:
أوصاف الأشراف أشرف الأوصاف.
(الثاني): لزيادة البيان، [كذا] قاله ابن مالك (8) ومثّله بقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} (الأعراف: 158)، وليس ما قاله بواضح فإن «رسول الله» كما يستعمل في نبينا صلوات الله وسلامه عليه (9)، يستعمل في غيره بطريق الوضع، وتعريفه إنما حصل بالإضافة.
(فإن قال): قد كثر استعماله في نبينا صلّى الله عليه وسلّم حتى إنه لم يبق الذهن يتبادر إلا إليه! (قلنا):
ليس هذا من وضعه بل ذلك من الاستعمال وقد استعمل في غيره، قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} (الأعراف: 158) وفي موضع آخر: {رُسُلُ اللََّهِ} (الأنعام: 124) وفي حق عيسى:
__________
(1) في المخطوطة (تشريفا لهم).
(2) في المخطوطة (معناه) بدل (معنى ذلك).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ليست في المخطوطة.
(6) ساقطة من المخطوطة.
(8) هو جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك تقدم التعريف به في 1/ 381.
(9) في المخطوطة (عليه وسلامه). تقديم وتأخير.(3/6)
{وَرَسُولًا إِلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ} (آل عمران: 49) وفي حق موسى: {كَمََا أَرْسَلْنََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ رَسُولًا} (المزمل: 15).
ثم إن الصفة إنما تكون مثل الموصوف أو دونه في التعريف، وأمّا أن تكون فوقه فلا 2/ 425 لأنها على كل حال تابعة والتابع دون المتبوع. (فإن قيل): كيف يصحّ أن يزال إبهام الشيء بما هو أبهم منه؟ (فالجواب): أن التعريف لم يقع بمجرد الصفة وإنما حصل بمجموع الصفة والموصوف، لأنهما كالشيء الواحد.
(الثالث): لتعيينه (1) للجنسية، كقوله تعالى: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ} (الأنعام: 38) لأن المعنيّ بدابة والذي (2) سيق له الكلام الجنسية لا الإفراد، بدليل قوله تعالى: {إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ} فجمع {أُمَمٌ} محقّق إرادة الجنس من الوصف اللازم للجنس المذكور، وهو كون الدابة غير منفكة عن كونها في الأرض، وكون الطائر غير منفك كونه طائرا بجناحيه، لينتفي توهم الفرديّة، هذا معنى ما أشار إليه السكاكيّ (3) في «المفتاح».
وحمل بعضهم كلامه على أنه إنما ذكر الوصف ليعلم أن المراد ليس دابّة مخصوصة، وهو بعيد، لأن ذلك معلوم قطعا بدون الوصف، لأنّ النكرة المنفية لا سيما مع «من» الاستغراقية قطعية. وقال الزمخشريّ (4): إن معنى زيادة {فِي الْأَرْضِ} و {يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ}
يفيد زيادة التعميم (5) والإحاطة حتى كأنه قيل: «وما من دابة من جميع ما في الأرض، وما من 2/ 426 طائر من جميع ما يطير بجناحيه».
ويحتمل [أن] (6) يقال: إن الطّيران لما كان يوصف به من يعقل كالجانّ والملائكة، فلو لم يقل: {بِجَنََاحَيْهِ} لتوهّم الاقتصار على جنسها ممّن يعقل، فقيل: {بِجَنََاحَيْهِ} ليفيد إرادة
__________
(1) في المخطوطة (تعيينه).
(2) اضطربت عبارة المخطوطة كما يلي (بدا منه والمدعي). بدل (بدابة والذي).
(3) هو يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي تقدم ذكره في 1/ 163، وانظر قوله في كتابه مفتاح العلوم: 190.
(4) الكشاف 2/ 1312.
(5) في المخطوطة (التعظيم).
(6) في المخطوطة: (إن).(3/7)
هذا الطير المعتقد فيه عدم المعقولية بعينه. وقيل: إن الطيران يستعمل لغة في الخفة، وشدة الاسراع في المشي، كقول الحماسي (1):
طاروا إليه زرافات ووحدانا
فقوله: {يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ} رافع (2) لاحتمال هذا المعنى. وقيل: لو اقتصر على ذكر الطائر فقال: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ} لكان ظاهر العطف يوهم (3): «ولا طائر في الأرض» لأن المعطوف عليه إذا قيّد بظرف أو حال يقيّد به المعطوف، وكان ذلك يوهم اختصاصه بطير الأرض (4) الذي لا يطير بجناحيه، كالدجاج والإوز [145/ أ] والبط ونحوها، فلما قال: {يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ} زال هذا الوهم، وعلم أنه ليس بطائر (5) مقيّد إنما (6) تقيدت به الدابة.
وأما قوله تعالى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} (البقرة: 11) مع أن المعلوم أن الفساد لا يقع إلا في الأرض، قيل: في ذكرها تنبيه (7) على أن [هذا] (8) المحلّ الذي فيه شأنكم وتصرفكم ومنه مادة حياتكم وهي سترة أموالكم جدير ألّا يفسد فيه، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محلّ الإفساد.
وهذا بخلاف قوله تعالى في سورة براءة: {وَمََا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ}
(التوبة: 74) لأن المراد نفي النصير عنهم في جميع الأرض، فلو لم يذكر لاحتمل [أن يكون] (9) ذلك خاصّا ببعضها.
وأما قوله تعالى: {ذََلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ} (التوبة: 30) [وقوله تعالى] (10): {إِنَّمََا}
__________
(1) هو أنيف بن قريط العنبري وصدر البيت * كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع * وانظر ديوان الحماسة 1/ 22 (بشرح المرزوقي).
(2) في المخطوطة (راجع).
(3) في المخطوطة (يفهم).
(4) في المخطوطة (بطيران الطير) بدل (بطير الأرض).
(5) في المخطوطة (كطائر) بدل (ليس بطائر).
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (أحيا).
(7) في المخطوطة (تنبيها).
(8) ساقطة من المطبوعة.
(9) ساقط من المخطوطة.
(10) ليست في المخطوطة.(3/8)
{يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً} (النساء: 10) وقوله تعالى: {وَلََكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
(الحج: 46) ونحوها من المقيّد إذ القول لا يكون إلّا بالفم، والأكل إنما يكون في البطن ففوائده مختلفة:
فقيل: {بِأَفْوََاهِهِمْ} للتنبيه على أنه قول لا دليل عليه بل ليس فيه إلا مجرد اللسان، أي لا يعضده حجة ولا برهان، وإنما هو لفظ فارغ من معنى تحته، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم، لا تدلّ (1) على شيء مؤثر لأن القول الدال على معنى قول بالفم ومؤثر في القلب، وما لا (2) معنى له مقول بالفم لا غير أو المراد بالقول المذهب أي هو مذهبهم بأفواههم لا بقلوبهم لأنه لا حجة عليه توجب اعتقاده بالقلب.
وقيل: إنه رافع لتوهم إرادة حديث النفس كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} (المجادلة: 8).
وقيل: لأن القول يطلق على الاعتقاد، فأفاد {بِأَفْوََاهِهِمْ} التنصيص على أنه باللسان 2/ 428 دون القلب، ولو لم يقيّد لم يستفد هذا المعنى ويشهد له: {إِذََا جََاءَكَ الْمُنََافِقُونَ قََالُوا نَشْهَدُ [إِنَّكَ]} [3] (المنافقون: 1) الآية فلم يكذّب ألسنتهم، بل كذّب ما انطوى عن ضمائرهم من خلافه (4)، وإنما قال (5): {فِي بُطُونِهِمْ نََاراً} (النساء: 10) لأنه (6) يقال: أكل في بطنه، إذا أمعن، وفي بعض بطنه، إذا اقتصر، قال:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإنّ زمانكم زمن خميص (7)
فكأنه قيل: يأكلون ما يجرّ إذا امتلأت (8) بطونهم نارا. وإنما قال: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكر والتعقل وسماع أخبار من مضى من
__________
(1) في المخطوطة (يدل).
(2) في المخطوطة (ولا) بدل (وما لا).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (خلافهم).
(5) في المخطوطة (وقال) بدل (وإنما قال).
(6) في المخطوطة (الآية).
(7) البيت من شواهد سيبويه ولم يذكر قائله انظر الكتاب 1/ 210باب الصفة المشبهة بالفاعل فيما عملت فيه.
(8) في المخطوطة (امتلأ).(3/9)
الأمم، وكيف أهلكهم بتكذيبهم رسله ومخالفتهم لهم قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهََا أَوْ آذََانٌ يَسْمَعُونَ بِهََا} (الحج: 46).
قال ابن قتيبة (1): وهل شيء أبلغ في العظمة والعزّة من هذه الآية! لأن الله تعالى أراد:
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالكفر والعتوّ فيروا بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرا يشرب أهلها فيها (2) قد عطلت، وقصرا بناه ملكه بالشّيد خلا (3) من 2/ 429السكن، وتداعى بالخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله، مثل الذي نزل بهم! ثم ذكر (4) تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر والرؤية وإن عميت قلوبهم التي في صدورهم.
وقيل: لما كانت (5) [العين قد يعنى بها القلب، في نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ كََانَتْ]} [5]
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطََاءٍ عَنْ ذِكْرِي (الكهف: 101) جاز أن يعنى بالقلب العين، فقيد القلوب بذكر محلّها رفعا لتوهم إرادة غيرها.
وقيل: ذكر محل العمى الحقيقيّ الذي هو أولى باسم العمى من عمى البصر، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (7)، أي هذا أولى [145/ ب] بأن يكون شديدا منه، فعمى القلب هو الحقيقيّ لا عمى البصر، فأعمى القلب أولى أن يكون أعمى من أعمى العين، فنبّه بقوله: {[الَّتِي]} [8] فِي الصُّدُورِ (الحج:
46) على أن العمى الباطن في العضو الذي عليه الصدر، لا العمى الظاهر في العين التي (9)
محلّها الوجه.
__________
(1) هو عبد الله بن مسلم، أبو محمد ابن قتيبة، تقدم التعريف به في 1/ 160.
(2) في المخطوطة (منها).
(3) في المخطوطة (قد خلت) بدل (خلا).
(4) في المخطوطة (دل).
(5) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(7) الحديث متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح 10/ 518، كتاب الأدب (78)، باب الحذر من الغضب (76)، الحديث (6114). وأخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2014، كتاب البر (45)، باب فضل من يملك نفسه (30)، الحديث (107/ 3609).
(8) ليست في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (الذي).(3/10)
فوائد تتعلق بالصفة
(الأولى): اعلم أن الصفة العامة لا تأتي بعد الصفة الخاصة لا تقول: هذا رجل فصيح متكلم، لأن المتكلم أعمّ من الفصيح إذ كل فصيح متكلّم ولا عكس. وإذا تقرر هذا أشكل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ إِسْمََاعِيلَ إِنَّهُ كََانَ صََادِقَ الْوَعْدِ وَكََانَ رَسُولًا نَبِيًّا} 2/ 430 (مريم: 54) [إذ لا يجوز أن يكون] (1) {نَبِيًّا} (2) صفة ل (رسول)، لأن النبيّ أعمّ من الرسول، إذ كل رسول من الآدميين نبيّ ولا عكس. والجواب أن يقال: إنه حال من الضمير في {رَسُولًا} والعامل في الحال ما في «رسول» من معنى «يرسل» (3)، أي كان إسماعيل مرسلا في حال نبوته، وهي حال مؤكدة، كقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} (البقرة: 91).
(الثانية): تأتي الصفة لازمة لا للتقييد [فلا مفهوم لها] (4) كقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ لََا بُرْهََانَ لَهُ بِهِ} (المؤمنون: 117) قال الزمخشريّ (5): هي كقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللََّهِ مََا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطََاناً} (الأعراف: 33) وهي صفة لازمة [نحو قوله: {يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ}] (6)
(الأنعام: 38) جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز [إلّا] (7) أن يقوم عليه برهان.
ويجوز (8) أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحقّ بالإحسان منه فالله مثيبه. وقال الماتريديّ (9): هذا لبيان خاصة الإشراك بالله ألّا تقوم (10) على صحته حجة، لا بيان أنه نوعان، كما في قوله: {وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ} (الأنعام: 38) هو بيان خاصة الطيران، لا أنه نوعان.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (فنبيّا).
(3) في المخطوطة (مر قبل).
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(5) الكشاف 3/ 58.
(6) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (إلا أن يقوم).
(8) في المخطوطة (ويحتمل).
(9) هو محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي، نسبة إلى «ما تريد» وهي محلّة بسمرقند كان إمام علم الكلام في وقته، وناصر أهل السنّة، ألّف كتبا كثيرة منها «التفسير» و «أوهام المعتزلة» و «التوحيد» و «الردّ على القرامطة». ت 333هـ (الفوائد البهية: 195).
(10) في المخطوطة: (يقوم).(3/11)
وقوله: {سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 140) والسّفه لا يكون إلا عن جهل. وقيل {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بمقدار قبحه. وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (البقرة: 61) ولا يكون قتلهم إلا كذلك لأن (1) معناه «بغير الحق» في اعتقادهم لأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل، كما في عكسه: {قََالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} (الأنبياء:
112) لزيادة معنى في التصريح بالصفة. وقال بعضهم: ولأن قتل النبيّ قد يكون بحق، كقتل إبراهيم [عليه السلام] (2) ولده ولو وجد لكان بحق. وقال الزمخشريّ (3): «إنما قيّده لأنهم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض، وإلا استوجبوا القتل بسبب كونه شبهة. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، ولو أنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يوجب عندهم القتل».
وكقوله تعالى (4): {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ وَلََا جِدََالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197) (5) [مع أن ذلك منهيّ عنه في غير الحج أيضا، لكن خصص بالذكر هنا لتأكيد الأمر وخطره في الحج] (5)، وأنه لو قدّر جواز مثل ذلك في غير الحج لم يجز في الحج، كيف وهو لا يجوز مطلقا! وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلََّهِ} (البقرة: 196) ولم يذكر مثل ذلك في قوله [تعالى] (7):
{ثُمَّ أَتِمُّوا} [8] الصِّيََامَ إِلَى اللَّيْلِ (البقرة: 187) لأن الرياء يقع في الحج كثيرا، فاعتنى فيه بالأمر بالإخلاص.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوََاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللََّهِ} (القصص: 50) واتباع الهوى لا يكون إلا كذلك. وقيل: بل يكون الهوى في الحق، فلا يكون من هذا النوع. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50) فإن حكمه تعالى حسن لمن يوقن ولمن لا يوقن، لكن لما كان القصد ظهور حسنه والاطلاع عليه وصفه بذلك لأن الموقن هو الذي يطلع على ذلك دون الجاهل.
__________
(1) في المخطوطة (إن).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) الكشاف 1/ 72.
(4) في المخطوطة (وقوله) بدل (وكقوله تعالى).
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(7) ليست في المخطوطة.
(8) تصحفت في المخطوطة إلى (وأتمّوا).(3/12)
وقوله [تعالى] (1) {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ} (البقرة: 79) والكتابة لا تكون (2) إلا باليد ففائدته مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم، وذلك زيادة في [146/ أ] تقبيح فعلهم فإنه يقال: كتب فلان كذا وإن لم يباشره بل أمر به، كما في قول عليّ: «كتب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم [يوم] (3) الحديبية» (4).
(الثالثة): قد تأتي الصفة بلفظ والمراد غيره، كقوله تعالى: {صَفْرََاءُ فََاقِعٌ لَوْنُهََا}
(البقرة: 69) قيل: المراد: «سوداء ناصع» (5) وقيل: بل على بابها ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمََالَتٌ صُفْرٌ} (المرسلات: 33) قيل: كأنه أينق سود، وسمي الأسود من الإبل أصفر، لأنه سواد تعلوه صفرة.
(الرابعة): قد تجيء للتنبيه على التعميم، كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذََا أَثْمَرَ}
(الأنعام: 141) مع أن المعلوم أنما يؤكل إذا أثمر، فقيل: فائدته نفي توهم توقّف الإباحة على 2/ 433 الإدراك والنضج بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمرة. وقوله [تعالى] (6): {وَمِنْ شَرِّ حََاسِدٍ إِذََا حَسَدَ} (الفلق: 5) وقوله: {وَلََا تَقْرَبُوا مََالَ الْيَتِيمِ إِلََّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الأنعام:
152) فإن غير مال اليتيم كذلك، لكن إنما خصه بالذّكر، لأن الطمع فيه أكثر لعجزه وقلة الناصر له بخلاف مال البالغ، أو لأن التخصيص بمجموع الحكمين وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن. وقوله: {وَإِذََا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: 152) مع أن الفعل كذلك، وقصد به ليعلم وجوب العدل في الفعل من باب أولى، كقوله: {فَلََا تَقُلْ لَهُمََا أُفٍّ} (الإسراء: 23).
(الخامسة): قد يحتمل اللفظ كثيرا من الأسباب السابقة، وله أمثلة، منها قوله تعالى:
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (والكتاب لا يكون).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح 5/ 303، كتاب الصلح (53)، باب كيف يكتب هذا ما صالح (6)، الحديث (2699). وأخرجه مسلم في الصحيح 3/ 1410، كتاب الجهاد والسير (32)، باب صلح الحديبية (34)، الحديث (92/ 1783). وفي كتابة النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده الشريفة يوم الحديبية خلاف بين العلماء.
(5) قال ابن قتيبة في تفسير الغريب ص 53: وقد ذهب قوم إلى أن الصفراء: السوداء، وهذا غلط في نعوت البقر. وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل، يقال: بعير أصفر أي أسود.
(6) ليست في المخطوطة.(3/13)
{وَقََالَ اللََّهُ لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (النحل: 51) فإن (1) ابن مالك (2) وغيره من النحويين جعلوه نعتا، قصد به مجرد التأكيد (3). ولقائل (4) أن يقول: [إن] (5) {إِلََهَيْنِ}
مثنّى وال {اثْنَيْنِ} (6) للتثنية، فما فائدة الصفة؟ وفيه وجوه:
أحدها (7): قاله ابن الخباز (8): «إن فائدتها توكيد نهي الإشراك بالله سبحانه، وذلك لأن العبرة في النهي عن اتخاذ الإلهين (9) إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط، ولو وصف {إِلََهَيْنِ}
بغير ذلك من الصفات، كقوله: «لا تتخذوا إلهين عاجزين» لأشعر بأن القادرين يجوز أن يتخذا، فمعنى التثنية شامل لجميع الصفات فسبحان من دقت حكمته في كل شيء». ونظير هذا ما قال الأخفش في قوله: {فَإِنْ كََانَتَا اثْنَتَيْنِ} (النساء: 176).
الثاني: أن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما نحن وبنو عبد المطلب شيء واحد» (10)، وتطلق ويراد بها العدد، نحو (11) «إنما زيد رجل واحد»، فالتثنية باعتبارها.
فلو (12) قيل: {لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ} فقط لصحّ في موضوعه (13) أن يكون نهيا عن اتخاذ جنسين آلهة وجاز أن (14) يتخذ من نوع واحد أعداد آلهة (15) لأنه يطلق عليهم أنهم واحد، لا سيما وقد
__________
(1) في المخطوطة (قال).
(2) هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك جمال الدين أبو عبد الله، تقدم في 1/ 381.
(3) في المخطوطة (التوكيد).
(4) في المخطوطة (لأن لقائل).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) في المطبوعة (والاثنان).
(7) في المطبوعة (أحدهما).
(8) هو أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي، شمس الدين، ابن الخباز، النحوي الضرير. كان أستاذا بارعا علّامة زمانه في النحو واللغة والفقه والعروض والفرائض. وله المصنفات المفيدة منها: «النهاية في النحو و «شرح ألفيّة ابن معطي» ت 637هـ في الموصل (بغية الوعاة 1/ 304).
(9) في المخطوطة (إلهين).
(10) الحديث من رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 244، كتاب فرض الخمس (57)، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه (17)، الحديث (3140).
(11) في المخطوطة (مثل).
(12) في المخطوطة (فإن قيل).
(13) في المخطوطة (موضعه).
(14) في المخطوطة (وإن جاز) بدل (وجاز أن).
(15) في المخطوطة (الآلهة).(3/14)
يتخيّل أن الجنس الواحد لا تتضادّ مطلوباته، فيصح، فلما قال: {اثْنَيْنِ} بيّن فيه قبح التعديد للإله، وأنه منزّه عن العددية. وقد أومأ إليه الزمخشري [بقوله] (1).
(2) [وكذا القول في {إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ} فيتبع كل واحد مما يؤكد فيه العدد ليدلّ على أن القصد إليه قال الزمخشري] (2) «ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله ولم تصفه بواحد لم يحسن، وقيل لك: إنك نفيت الإلهية لا الوحدانية».
الثالث: أنّه لما كان النهي واقعا على التعدّد والاثنينيّة دون الواحد أتى بلفظ الاثنين، لأن قولك: «لا تتخذ ثوبين» يحتمل النهي عنهما جميعا، ويحتمل النهي عن الاقتصار عليهما، فإذا قلت: «ثوبين اثنين» علم المخاطب أنك نهيته عن التعدد والاثنينيّة دون الواحد، وأنّك إنما أردت منه الاقتصار على [ثوب] (4) واحد، فتوجه النفي إلى نفس التعدد والعدد، فأتى باللفظ 2/ 435 الموضوع له، الدالّ عليه فكأنه قال: «لا تعدّد الآلهة [146/ ب]، ولا تتخذ عددا تعبده، إنما هو إله واحد».
الرابع: أن «اتخذ» هي التي تتعدى إلى مفعولين، ويكون {اثْنَيْنِ} مفعولها الأول و {إِلََهَيْنِ} مفعولها الثاني وأصل الكلام: «لا تتخذوا اثنين إلهين» ثم قدم المفعول الثاني على الأول. ويدلّ على التقديم والتأخير أنّ {إِلََهَيْنِ} أخصّ من {اثْنَيْنِ} واتخاذ اثنين يقع على ما يجوز و [على] (5) ما لا يجوز وأما اتخاذ اثنين إلهين (6) فلا يقع إلا على ما لا يجوز.
وقدم {إِلََهَيْنِ} على {اثْنَيْنِ} إذ المقصود بالنهي اتخاذهما إلهين فالنهي وقع على معنيين:
الآلهة المتخذة، وعلى هذا فلا بدّ من ذكر «الاثنين» و «الإلهين» (7) إذ هما مفعولا الاتّخاذ.
قال صاحب (8) «البسيط»: «وهذا الوجه هو الجيّد، ليخرج بذلك على التأكيد وأما إذا جعل {إِلََهَيْنِ} مفعول {تَتَّخِذُوا} و {اثْنَيْنِ} صفة، فإنه أيضا لا يخرج عن الوصف إلى
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) ما بين الحاصرتين ليس من المطبوعة، وانظر قول الزمخشري في الكشاف 2/ 332.
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) عبارة المخطوطة (إلهين اثنين).
(7) في المخطوطة (وإلهين).
(8) هو الحسن بن شرف شاه الأسترآباذي، تقدم التعريف به وبكتابه في 2/ 464.(3/15)
التأكيد [لأنه] (1) لا يستفاد من {اثْنَيْنِ} ما استفيد من {إِلََهَيْنِ} لأن الأول يدلّ على العدد والجنس، والثاني على مجرد الاثنينية.
قال: وهذا الحكم في قوله تعالى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (هود: 40) في دخول {اثْنَيْنِ} في حد الوصف إلّا أنّ من قرأ بتنوين «كلّ» فإنه حذف المضاف إليه، وجعل التنوين عوضا عنه، و {زَوْجَيْنِ} مفعول {احْمِلْ} (هود: 40) أو {فَاسْلُكْ} (2) و {اثْنَيْنِ}
(المؤمنون: 27) نعت. و {مِنْ} يحتمل أنه متعلق بفعل الأمر، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف، لكونه حالا من نكرة تقدم عليها والتقدير: احمل أو اسلك فيها زوجين اثنين من كل صنف.
ومن قرأ بإضافة {كُلٍّ} (3) احتمل وجهين: أحدهما أن تجعل: {اثْنَيْنِ} (4) المفعول، والجار 2/ 436والمجرور متعلق بفعل الأمر المحذوف كما تقدم. والثاني جعل {مِنْ} زائدة على رأي الأخفش، و {كُلٍّ} هي المفعول و {اثْنَيْنِ} صفة».
الخامس: أنه بدل، وينوى بالأول الطّرح، واختاره النّيلي (5) في «شرح الحاجبية» قال:
لما فيه من حسم مادة التأويل. ونظير السؤال في الآية قوله [تعالى] (6): {فَإِنْ كََانَتَا اثْنَتَيْنِ}
(النساء: 176) فإن مروان بن سعيد (7) المهلّبي سأل أبا الحسن الأخفش، فقال: ما الفائدة في هذا الخبر؟ أراد مروان أن لفظ {كََانَتَا} تفيد التثنية، فما فائدة تفسيره الضمير المسمى باثنتين، مع أنه لا يجوز «فإن كانتا ثلاثا» ولا فوق ذلك، فلم يفصّل الخبر الاسم في شيء؟
فأجاب (8) أبو الحسن بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن الصفة (9)، أي قد كان يجوز
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (اسلك).
(3) قرأ حفص (من كل) بالتنوين في (كل) وقرأ الباقون بغير تنوين فيهما (مكي، التبصرة: 223)
(4) في المخطوطة (الاثنين).
(5) هو محمد بن الحسن الرؤاسي النيلي، تقدم التعريف به في 2/ 402.
(6) ليست في المخطوطة.
(7) تصحف الاسم في المخطوطة والمطبوعة إلى مروان بن سعد، والتصويب من معجم الأدباء 19/ 146، وهو مروان بن سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي، أحد أصحاب الخليل بن أحمد المتقدمين في النحو المبرّزين فيه. وما جرى بينه وبين الأخفش نقله الحريري في درة الغواص ص 17.
(8) في المخطوطة (وأجاب).
(9) في المخطوطة (القصة).(3/16)
أن يقال: «فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا» أو «كبيرتهن فلهما كذا» أو «صالحتين» أو غير ذلك من الصفات، فلما قال: {اثْنَتَيْنِ} أفهم أن فرض الثلثين (1) تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط (2)، وهي فائدة لا تحصل من ضمير المثنى. ومعناه أنهم كانوا في الجاهلية يورّثون البنين دون البنات، وكانوا يقولون: لا نورّث إلا من يحمل الكلّ وينكئ العدوّ فلما جاء الإسلام بتوريث البنات أعلمت الآية (3) أن العبرة في أحد الثلثين من الميراث منوط بوجود اثنتين من الأخوات، من غير اعتبار أمر زائد على العدد. قال الحريري (4): ولقد (5) أبدع مروان في استنباطه وسؤاله، وأحسن أبو الحسن في كشف إشكاله! ولقد (6) نقل ابن الحاجب في «أماليه» (7) هذا الجواب عن أبي علي الفارسي (8) وقد بيّنا أنه من كلام الأخفش ثم اعترض عليه بأنّ اللفظ وإن كان صالحا لإطلاقه [على المثنى] (9) 2/ 437 مجردا عن الصفات لا يصحّ إطلاقه خبرا دالا على التجريد من الصفات، وإنما يعنى باللفظ ذاته الموضوعة له ألا ترى أنك إذا قلت: «جاءني رجل»، لا يفهم إلا ذات، من غير أن يدلّ على تجريد [147/ أ] عن مرض أو جنون أو عقل، فكذلك «اثنين» لا تدل إلا على مسمى «اثنتين» فقط فلم يستفد (10) منه شيء زائد على المستفاد من ضمير التثنية.
ثم لو سلم صحة إطلاق اللفظ كذلك فلا يصحّ هاهنا إذ لو صحّ لجاز أن يقال: «فإن (11)
[كانتا على أي صفة حصل» ولو قيل ذلك لم يصحّ، لأن تثنية الضمير في] (11) {كََانَتَا} عائد (13)
__________
(1) العبارة في درة الغواص: (الثلثين للاختين).
(2) عبارة الحريري: (فقط على أي صفة).
(3) في المخطوطة (علمت الأمة).
(4) هو القاسم بن علي بن محمد الحريري، تقدمت ترجمته في 1/ 164. وانظر قوله في كتابه درة الغواص ص 17.
(5) عبارة الحريري: (ولعمري قد).
(6) في المخطوطة (وقد).
(7) كتاب «الأمالي النحوية» لابن الحاجب أبي عمرو عثمان بن عمر بن يونس تقدم التعريف به في 1/ 511.
(8) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي، تقدم ذكره في 1/ 375.
(9) ساقطة من المخطوطة.
(10) تصحفت في المخطوطة إلى (يفسد).
(11) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(13) في المخطوطة (عائدا).(3/17)
على الكلالة [والكلالة] (1) تكون واحدا واثنين وجماعة (2) فإذا أخبر باثنتين حصلت به فائدة.
ثم لما كان الضمير (3) الذي في «كانتا» العائد (4) على الكلالة هو في معنى اثنين صحّ أن [تثنيه لأن] (5) تثنيته فرع عن الإخبار [باثنين] (5) إذ لو لاه لم يصح أنه لم تستفد التثنية إلا من اثنين.
وقد أورد على ذلك اعتراض آخر وهو أن هذه الآية مماثلة لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ} (النساء: 11) ثم قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسََاءً} (النساء: 11) {وَإِنْ كََانَتْ وََاحِدَةً}
(النساء: 11) ولو كان على ما ذكرتم لوجب أن يصح إطلاق الأولاد على الواحد كما في الكلالة، وإلا لكان الضمير لغير مذكور! والجواب بشيء يشمل (7) الجميع وهو أن الضمير قد يعود على الشيء باعتبار المعنى الذي سيق إليه ونسب إلى صاحبه فإذا قلت: إذا جاءك رجال، فإن كان واحدا (8) فافعل به كذا، وإن كان اثنين فكذا صح إعادة الضمير باعتبار المعنيين لأن المقصود الجائي، وكأنك قلت: وإن كان الجائي من الرجال لأنه علم من قولك: «إذا جاءك» (9) والآية سيقت لبيان 2/ 438 (10) [الوارثين الأولاد فكأنه قيل: «فإن كان] (10) الوارث من الأولاد» لأنّه المعنى الذي سيق له الكلام، فقد دخلت «الاثنان» باعتبار هذا المعنى.
ويجوز أن تبقى الآية الأولى على ما ذكرنا ويختص هذا الجواب بهذه.
(قلت): وفي هذه الآية ثلاثة أجوبة [أخر] (12):
أحدها: أنه كلام محمول على المعنى أي: «فإن كان من ترك اثنتين» وهذا مقيّد
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (أو جماعة).
(3) في المخطوطة (المضمر).
(4) في المخطوطة (عائدا).
(5) ساقط من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (يسمى).
(8) في المخطوطة (واحد).
(9) في المخطوطة (جاءك الرجال).
(10) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(12) ساقطة من المخطوطة.(3/18)
فأضمره على ما بعده، و «من» يسوغ معها ذكر الاثنين لأنه لفظ مفرد يعبّر به عن الواحد والاثنين والجمع فإذا وقع (1) الضمير موقع «من» جرى مجراها في جواز الاخبار عنها بالاثنين.
الثاني: أن يكون من الأشياء التي جاءت على أصولها المرفوضة كقوله تعالى:
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطََانُ} (المجادلة: 19) وذلك أنّ حكم الاعداد فيما دون العشرة أن تضاف إلى المعدود كثلاثة رجال، وأربعة أبواب (2)، فكان القياس أن يقول: اثنين (3) رجل، وواحد رجل ولكنهم رفضوا ذلك لأنك تجد لفظة تجمع العدد والمعدود، فتغنيك عن إضافة أحدهما إلى الآخر وهو قولك (4): رجلان ورجل وليس كذلك [لأنك تجد] (5) ما فوق الاثنين ألا ترى أنك إذا قلت: ثلاثة، لم يعلم المعدود ما هو؟ وإذا قلت: رجال، لم يعلم عددهم ما هو؟ فأنت مضطر إلى ذكر [العدد] (6) والمعدود، فلذلك (7) قيل: كان (8) الرجال ثلاثة ولم يقل: كان الرجلان اثنين، ولا الرجلان كانا اثنين، فإذا استعمل (9) شيء من ذلك كان استعمالا للشيء المرفوض كقوله:
ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (10)
(فإن قيل): كيف يحمل القرآن عليه؟ وإنما هو في الشعر؟ (قيل): إنا وجدنا في القرآن 2/ 439 أشياء جاءت على الأصول المرفوضة «كاستحوذ» [ونظائرها] (11).
الثالث: أن المراد «فإن كانتا اثنتين فصاعدا»، فعبّر بالأدنى عنه وعما فوقه. قاله ابن
__________
(1) في المخطوطة (فأوقع) بدل (فإذا وقع).
(2) في المخطوطة (أثواب).
(3) في المخطوطة (اثني).
(4) في المخطوطة (كقولك).
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (فكذلك).
(8) في المخطوطة (لو كان).
(9) في المخطوطة (استعملت).
(10) هذا عجز بيت لشمّاء الهذلية، وصدره: «كأنّ خصييه من التّدلدل» وهو من شواهد الزمخشري في المفصل ص 184. باب ومن أصناف الاسم المثنى وابن هشام في شذور الذهب ص 599، باب العدد.
(11) ساقطة من المخطوطة.(3/19)
الضائع (1) النحويّ. (قلت): ونظائرها قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونََا رَجُلَيْنِ} (البقرة: 282) فإن الرجولية المثنّاة فهمت من الضمير بدليل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجََالِكُمْ} (البقرة:
282) فالظاهر أن (2) قوله: {رَجُلَيْنِ} حال لا خبر، فكأن (3) المعنى: «فإن لم يوجدا حال كونهما رجلين». ومثله قوله تعالى: {إِنِّي وَضَعْتُهََا أُنْثى ََ} (آل عمران: 36) فإنّ الأنوثة فهمت من قوله: {وَضَعَتْهََا}.
وأورد بعضهم السؤال في الأول (فقال): الضمير في {يَكُونََا} للرّجلين، لأن (الشّهيدين) قيّدا بأنهما من [147/ ب] الرجال فكأنّ (4) الكلام: «فإن لم يكن الرجلان رجلين»، وهذا محال. (وأجاب بعضهم) بما أجاب به الأخفش في آية المواريث (5): إنّ الخبر هنا أفاد العدد المجرّد عن الصفة. وهذا ضعيف إذ وضع فيه «الرّجلين» موضع «الاثنين»، وهو تجوّز بعيد والذي ذكره الفارسيّ المجرّد منهما (6)، الرّجولية أو الأنوثية أو غيرها من الصفات فكيف يكون لفظ موضوع لصفة ما دالا على نفيها (7)! 2/ 440على أنّ في جواب الفارسي هناك نظرا فإنه لم يزد على أن جعل نفس السؤال جوابا! كأنه قيل: لم ذكر العدد وهو متضمّن للضمير؟ فقال: لأنه يفيد العدد المجرد، فلم يزد الألفاظ تجردا. (قال): وأمّا من أجاب بأن {رَجُلَيْنِ} منصوب على الحال المبيّنة و «كان» تامة فهو أظرف من الأول، فإنه سئل عن وجه النظم، وأسلوب البلاغة ونفي ما لا يليق بها من الحشو، فأجاب بالإعراب، ولم يجب عن السؤال بشيء والذي يرد عليه وهو خبر يرد عليه وهو حال، وما زادنا إلا التكلّف في جعله حالا.
والذي يظهر في جواب السؤال هو أن {شَهِيدَيْنِ} لما صحّ أن يطلق على المرأتين بمعنى «شخصين شهيدين» قيده بقوله تعالى: {مِنْ رِجََالِكُمْ} (البقرة: 282) ثم أعاد الضمير في قوله
__________
(1) هو علي بن محمد الكتامي، تقدم التعريف به في 2/ 364.
(2) في المخطوطة (فإن).
(3) في المخطوطة (لكان والمعنى) بدل (فكأن المعنى).
(4) في المخطوطة (وكان).
(5) يريد قوله تعالى {فَإِنْ كََانَتَا اثْنَتَيْنِ} (النساء: 176). انظر قول الأخفش ص 2/ 436.
(6) في المخطوطة (منها).
(7) في المخطوطة (نعتها).(3/20)
[تعالى] (1): {فَإِنْ لَمْ يَكُونََا} على «الشهيدين المطلقين»، وكان عوده عليهما أبلغ ليكون نفي الصفة عنهما كما كان إثباتها لهما، فيكون الشرط موجبا ونفيا على الشاهدين (2) المطلقين لأن قوله: {مِنْ رِجََالِكُمْ} كالشرط كأنه قال: «إن كانا رجلين»، وفي النظم على هذا الأسلوب من الارتباط وجري الكلام على نسق واحد ما لا خفاء به.
وأما في آية المواريث فالظاهر أنّ الضمير وضع موضع الظاهر اختصارا لبيان المعنى بدليل أنه لم يتقدمه ما يدل عليه لفظا، فكأنه قال: «فإن كان الوارث اثنين»، ثم وضع ضمير الاثنين موضع الوارث الذي هو جنس (3)، لمّا كان المراد به منه «الاثنان» (4). وأيضا فإنّ الإخبار عن الوارث وإن كان جمعا باثنين ففيه تفاوت ما (5) لكونه مفرد اللفظ، فكان الأليق بحسن النظم وضع المضمر موضع الظاهر، ثمّ يجري الخبر على من حدث عنه وهو الوارث فيجري الكلام في طريقه، مع الإيجاز في وضع (6) المضمر موضع الظاهر، والسلامة من تفاوت اللفظ، في الإخبار عن لفظ مفرد بمثنى.
ونظير هذا ممّا وقع فيه [اسم موضع] (7) غيره إيجازا ثم جرى الكلام مجراه في الحديث 2/ 441 عمّن هو له، وإن لم يذكر قوله [تعالى] (8): {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا فَجََاءَهََا بَأْسُنََا بَيََاتاً أَوْ هُمْ قََائِلُونَ} (الأعراف: 4) فعاد هذا الضمير والخبر على أهل القرية الّذين أقيمت القرية في الذكر [مقامهم] (8)، فجرى الكلام مجراه مع حصول الإيجاز في وضع القرية موضع أهلها، وفهم المعنى بغير (10) كلفة وهذه الغاية في البيان يقصّر عن مداها [بيان] (11) الإنسان.
ومنها قوله تعالى: {فَإِذََا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وََاحِدَةٌ} (الحاقة: 13) قال ابن
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (وقعتا الشهيدين) بدل (ونفيا على الشاهدين).
(3) في المخطوطة (خبر).
(4) في المخطوطة (الاثنين).
(5) في المخطوطة (إما).
(6) في المخطوطة (موضع).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) ليست في المخطوطة.
(10) في المخطوطة (من غير).
(11) ساقطة من المطبوعة.(3/21)
عمرون (1): [لما] (2) فهم منها التأكيد ظنّ بعضهم أنها ليست بصفة. وليس بجيّد لأنها دلالة (3) على بعض أحوال الذات، وليس في {وََاحِدَةٌ} دلالة على نفخ، فدلّ على أنها ليست تأكيدا (4) [148/ أ] [انتهى] (5).
وفي فائدة {وََاحِدَةٌ} خمسة أقوال:
أحدها: التوكيد، مثل قولهم: «أمس الدابر».
الثاني: وصفها ليصح أن تقوم مقام الفاعل (6) [لأنها مصدر والمصدر لا يقوم مقام الفاعل] (6) إلا إذا وصف. وردّ بأن تحديدها بتاء التأنيث مصحّح لقيامها مقام الفاعل.
الثالث: أن الوحدة لم تعلم من «نفخة» إلا ضمنا وتبعا، لأن قولك: «نفخة» يفهم منه أمران: النفخ والوحدة، فليست «نفخة» موضوعة للوحدة، فلذلك صحّ وصفها.
الرابع: وصفه النفخة بواحدة لأجل توهم (8) الكثرة، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} (إبراهيم: 34) فالنعمة في اللفظ واحدة وقد علّق عدم الإحصاء بعدّها.
الخامس: أتى بالوحدة ليدلّ على أن النفخة لا اختلاف في حقيقتها، فهي واحدة بالنوع، كقوله: {وَمََا أَمْرُنََا إِلََّا وََاحِدَةٌ} (القمر: 50) أي لا اختلاف في حقيقته. ومنها قوله تعالى: {وَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (البقرة: 163)، (9) [قيل: ما فائدة {إِلََهٌ}؟ وهلّا جاء «وإلهكم واحد»] (9) وهو أوجز؟
قيل: لو قال: «وإلهكم واحد» لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في إلهيته، يعني لا إله
__________
(1) هو محمد بن محمد بن أبي علي جمال الدين بن عمرون، أبو عبد الله الحلبي النحوي. ولد سنة 596هـ. وسمع من ابن طبرزد، وأخذ النحو عن ابن يعيش وغيره، وبرع فيه وتصدر لإقرائه، وتخرّج به جماعة، وجالس ابن مالك، وأخذ عنه البهاء بن النحاس، وروى عنه الشرف الدمياطي. من تصانيفه:
«شرح المفصّل». ت 649هـ (بغية الوعاة 1/ 231).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (دالا).
(4) في المخطوطة توكيدا.
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(8) كذا عبارة الأصول، ولعل العبارة تقتضي وجود كلمة (نفي) قبل (توهم) كي يستقيم المعنى، فتأمّل.
(9) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/22)
غيره و [إن] (1) لم يكن إخبارا عن توحده في ذاته، بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله (2)، والآية إنما سيقت لإثبات أحديّته في ذاته، ونفي ما يقوله النصارى: إنه إله واحد والأقانيم ثلاثة، أي الأصول، كما أن زيدا واحدا وأعضاؤه متعدّدة، فلما قال: {إِلََهٌ وََاحِدٌ} دلّ على أحدية الذات والصفة. ولقائل أن يقول: قوله: {وََاحِدٌ} يحتمل الأحدية في الذات والأحدية في الصفات، سواء ذكر «الإله» أو لا، فلا يتم الجواب.
ومنهما قوله [تعالى] (3): {وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ} (النجم: 20) ومعلوم بقوله: {الثََّالِثَةَ}
أنها {الْأُخْرى ََ}، وفائدته التأكيد. ومثله على رأي الفارسي: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عََاداً الْأُولى ََ}
(النجم: 50).
وأما قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل: 26) (قيل): بمعنى «عن» أي خرّ (4) عن كفرهم بالله كما تقول: اشتكى فلان عن دواء شربه أي من أجل كفرهم. أو بمعنى اللام، أي فخرّ لهم، (وقيل): لأن العرب لا تستعمل لفظة «على» في مثل هذا الموضع إلا في الشرّ والأمر المكروه، تقول: خربت على فلان ضيعته، كقوله: {وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ} (البقرة: 102) {وَيَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ} (آل عمران: 78) {أَتَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 28) وقيل: لأنه يقال: سقط عليه موضع كذا، إذا كان يملكه، وإن لم يكن من فوقه بل تحته، فدلّ قوله تعالى: {مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل: 26) على الفوقية الحقيقية وما أحسن هذه المقابلة بالفوقية بما (5) تقدم من قوله: {فَأَتَى اللََّهُ بُنْيََانَهُمْ مِنَ الْقَوََاعِدِ} (النحل: 26) كما تقول: أخذ برجله فسقط على رأسه.
(السادسة) (6): إذا اجتمع مختلفان في الصراحة والتأويل قدّم (7) الاسم المفرد، ثم الظرف أو عديله، ثم الجملة، كقوله تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النََّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصََّالِحِينَ} (آل عمران: 45، 46) فقوله {وَجِيهاً} حال، وكذلك {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، وقوله {يُكَلِّمُ} وقوله: {مِنَ الصََّالِحِينَ}، فهذه
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) في المخطوطة (إله).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (خوفه).
(5) في المخطوطة (لما).
(6) من الفوائد التي تتعلق بالصفة.
(7) في المخطوطة (وقدّم).(3/23)
أربعة أحوال انتصبت عن قوله: (كلمة) (1) والحال (2) الأولى جيء بها على الأصل اسما صريحا، والثانية في تأويله (3)، جار ومجرور، وجيء بها هكذا لوقوعها فاصلة في الكلام ولو جيء بها اسما صريحا لناسبت الفواصل، والثالثة (4) جملة فعلية، [والرابعة جار ومجرور] (5).
ومنه قوله تعالى: {وَقََالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمََانَهُ} (غافر: 28)، [148/ ب] {قََالَ رَجُلََانِ مِنَ الَّذِينَ يَخََافُونَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمَا} (المائدة: 23) ولمّا كان الظرف فيه شبه من المفرد وشبه من الجملة جعل بينهما. وقد أوجب ابن عصفور (6) ذلك، وليس كما قال، [فقد قال] (7) تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللََّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
(المائدة: 54) ولا يقال: إن {أَذِلَّةٍ} بدل لأنه مشتق، والبدل إنما يكون في الجوامد، كما نص عليه هو وغيره. وأما (8) قوله تعالى: {وَهََذََا كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ مُبََارَكٌ} (الأنعام: 155) فقيل: إنه من تقديم الجملة على المفرد، ويحتمل أن يكون {مُبََارَكٌ} خبرا لمحذوف، فلا يكون من هذا الباب.
(السابعة): في اجتماع التابع والمتبوع أنهم يقدمون المتبوع، فيقولون: «أبيض ناصع» و «أصفر فاقع» و «أحمر قان» (9) و «أسود غربيب»، قال الله تعالى: {صَفْرََاءُ فََاقِعٌ لَوْنُهََا}
(البقرة: 69) والمعنى أن التبع فيه [معنى] (10) زيادة الوصف، فلو قدّم لكان ذكر الموصوف (11)
بعده عيبا (12) إلا أن يكون لمعنى أوجب [تقديمه] (13).
__________
(1) في المخطوطة (يكلم).
(2) في المخطوطة (فالحال).
(3) في المخطوطة زيادة كلمة وهي (والثالثة).
(4) في المخطوطة (والرابعة).
(5) العبارة بين الحاصرتين ساقطة من المخطوطة.
(6) هو علي بن مؤمن بن محمد، أبو الحسن بن عصفور، تقدم التعريف به في 1/ 466.
(7) ساقط من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (أما).
(9) في المخطوطة (قاني).
(10) ساقطة من المخطوطة.
(11) في المخطوطة (المتبوع).
(12) في المخطوطة (عيالا) بدل (عيبا إلا).
(13) ساقطة من المخطوطة.(3/24)
وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: {وَغَرََابِيبُ سُودٌ} (فاطر: 27) وهي من الآيات التي صدئت (1) فيها الأذهان الصقيلة، وعادت بها أسنّة الألسنة مفلولة ومن جملة العجائب أن شيخا أراد أن يحتج على مدرس لما ذكر له هذا السؤال، فقال: إنما ذكر السّواد لأنه قد يكون في الغربان (2) ما فيه بياض، وقد رأيته ببلاد المشرق (3)! فلم يفهم من الآية إلا أن الغرابيب هو الغراب، ولا قوة إلا بالله! والذي يظهر في ذلك أن الموجب لتقديم (الغرابيب) هو تناسب الكلم وجريانها على 2/ 445 نمط (4) متساوي التركيب، وذلك أنه لمّا تقدم البيض والحمر دون إتباع كان (5) كان الأليق بحسن النّسق وترتيب النظام أن يكون «السود» كذلك و [لكنه] (6) لما كان في [هذا] (7)
«السّود» هنا زيادة الوصف، كان الأليق في المعنى أن يتبع بما يقتضي ذلك، وهو الغرابيب، فيقابل حظ (8) اللفظ وحظ المعنى، فوفّى (9) الخطاب وكمل الغرضان جميعا ولم يطرح أحدهما الآخر، فيقع (10) النقص من جهة الطرح، وذلك بتقديم «الغرابيب» على «السود» فوقع (11) في لفظ «الغرابيب» حظ المعنى في زيادة الوصف. وفي ذكر «السود» مفردا من الإتباع حظّ اللفظ إذ جاء مجردا عن صورة البيض والحمر فاتسقت الألفاظ كما ينبغي، وتمّ المعنى كما يجب، ولم يخلّ بواحدة من الوجهين، ولم يقتصر على «الغرابيب» وإن كانت متضمنة لمعنى «السود» لئلا (12) [تتنافر] (13) الألفاظ، [فإن ضمّ] (14) الغرابيب إلى البيض والحمر ولزّها (15) في قرن واحد:
كابن اللبون إذا ما لزّ في قرن (16)
__________
(1) في المخطوطة (صدت).
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (الغربان سود ما).
(3) في المخطوطة (الشرق).
(4) في المخطوطة (لفظ).
(5) في المخطوطة (وكان).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) ساقطة من المطبوعة.
(8) تصحفت في المخطوطة إلى (غيظ).
(9) في المخطوطة (فقوى).
(10) في المخطوطة (فوقع).
(11) في المخطوطة (فوفى).
(12) في المخطوطة (دليلا).
(13) ساقطة من المخطوطة وفي موضعها بياض.
(14) ساقطة من المخطوطة.
(15) في المخطوطة (ذكرها).
(16) صدر بيت عجزه لم يستطع صولة البزل القناعيس وهو لجرير من قصيدة مطلعها: حيّ الهذملة من ذات المواعيس (الديوان: 250).(3/25)
[وذلك] (1) غير مناسب لتلاؤم الألفاظ وتشاكلها، وبذكر (2) السود وقع الالتئام واتّسق نسق النظام، وجاء اللفظ والمعنى في درجة التمام، وهذا لعمر الله من العجائب التي تكلّ (3)
دونها العقول وتعيا بها الألسن لا تدري ما تقول! والحمد [لله] (4).
ثم رأيت أبا القاسم السهيلي (5)، أشار إلى معنى غريب، فنقل عن أبي حنيفة الدينوريّ (6) أن «الغربيب» اسم لنوع من العنب وليس بنعت، قال: ومن هذا يفهم معنى الآية، و {سُودٌ} عندي بدل لا نعت، وإن كان «الغربيب» إذا أطلق لفظه ولم [يقيد] (7) بذكر (8) شيء موصوف قلّما يفهم منه العنب الذي هو اسمه خاصة، فمن ثمّ حسن التقييد.
(الثامنة): إذا تكررت النعوت لواحد، فتارة يترك العطف، كقوله: {وَلََا تُطِعْ كُلَّ حَلََّافٍ مَهِينٍ * هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم: 1110) وتارة تشترك بالعطف كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوََّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ََ} (الأعلى: 31) [149/ أ] ويشترط في ذلك اختلاف معانيها (9)، قال الزمخشري وأبو البقاء (10): دخول العاطف يؤذن بأنّ كلّ صفة مستقلة [انتهى] (11). والعطف أحسن [إن] (11) تباعد معنى الصفات نحو: {[هُوَ]} [13]
الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ (الحديد: 3) وإلا فلا.
(التاسعة): فصل الجمل في مقام المدح والذمّ أبلغ من جعلها نمطا واحدا قال أبو
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) في المخطوطة (وذكر).
(3) في المخطوطة (تكمل).
(4) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.
(5) هو عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي تقدّم في 1/ 242.
(6) هو أحمد بن داود بن وتند، أبو حنيفة الدّينوريّ: أديب نحوي أخذ عن البصريين والكوفيين، وأكثر أخذه عن ابن السكيت وكان نحويا مهندسا منجما حاسبا راوية، ثقة فيما يرويه ويحكيه. من تصانيفه كتاب «النبات» و «الشعر والشعراء» و «الفصاحة» ت 282هـ (معجم الأدباء 3/ 26).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (يذكر).
(9) في المخطوطة (معانيهما).
(10) هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله، أبو البقاء العكبري، تقدم في 1/ 159.
(11) ساقطة من المخطوطة.
(13) ليست في المخطوطة.(3/26)
علي الفارسيّ: إذا ذكرت صفات في معرض المدح والذم، فالأحسن أن يخالف في إعرابها لأن المقام يقتضي الإطناب، فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل لأنّ المعاني عند الاختلاف تتنوع (1) وتتفتن، وعند الإيجاز تكون نوعا واحدا.
ومثله (2) في المدح قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ 2/ 447 وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكََاةَ} (النساء: 162) فانتصب {الْمُقِيمِينَ} على القطع، وهو من صفة المرفوع الذي هو {الْمُؤْمِنُونَ}. وقيل: بل انتصب بالعطف على قوله: {بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (النساء: 162) وهو مجرور، وكأنه قال: «يؤمنون بالذي أنزل إليك وبالمقيمين» أي بإجابة المقيمين، والأوّل أولى، لأن الموضع للتفخم فالأليق به إضمار الفعل، حتى يكون الكلام جملة لا مفردا.
ومثله قوله تعالى: {وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ} إلى قوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذََا عََاهَدُوا وَالصََّابِرِينَ} (البقرة: 177) نصّ عليه سيبويه (3). وجوّز السّيرافي (4) أن يحمل على قوله: {وَآتَى الْمََالَ عَلى ََ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ََ} (البقرة: 177) إلى أن قال: {وَالصََّابِرِينَ} وردّه الصفّار (5) بأنه لا يعطف على الموصول قبل تمام الصلة (6)، وإن كان {وَالصََّابِرِينَ} معطوفا على {وَالسََّائِلِينَ} فهو من صلة «من» فكذلك المعطوف عليه (7).
والصواب أن يكون المعطوف من صلة «من» (8)، وتكون الصلة كملت (9) عند قوله 2/ 448 تعالى: {وَآتَى الزَّكََاةَ} (البقرة: 177) ثم أخذ في القطع. ومثاله في الذم: {وَامْرَأَتُهُ حَمََّالَةَ الْحَطَبِ} (المسد: 4) بنصب {حَمََّالَةَ}.
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (تينون).
(2) في المخطوطة (ومثاله).
(3) انظر الكتاب 2/ 63 (بتحقيق عبد السلام محمد هارون)، باب ما ينتصب على التعظيم والمدح.
(4) هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد السيرافي تقدم التعريف به في 1/ 414.
(5) هو القاسم بن علي البطليوسي الصفّار، تقدم التعريف به في 2/ 451.
(6) في المخطوطة (صلته).
(7) هذه المسألة وردت في إعراب القرآن للنحاس 1/ 281، يردّ فيها النحاس على الكسائي.
(8) تصحفت في المخطوطة إلى (شيء).
(9) في المخطوطة (كما كانت).(3/27)
تنبيهان
* (الأول): إنما يحسن القطع بشرطين:
(أحدهما): أن يكون [الموصوف] (1) معلوما، أو منزّلا منزلة المخاطب لا يتصور عنده البناء على مجهول. وقولنا «أو منزّلا منزلة المعلوم» لا بد منه. وقال الزمخشري (2) في قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (الفرقان: 2): رفع على الإبدال من {الَّذِي نَزَّلَ} (الفرقان: 1) أو رفع على المدح، أو نصب عليه. قال الطيبي (3): «والإبدال أولى، لأنّ من حقّ صلة الموصول أن تكون معلومة عند المخاطب، وكونه تعالى: {نَزَّلَ الْفُرْقََانَ عَلى ََ عَبْدِهِ} (الفرقان: 1) لم يكن معلوما للعالمين، فأبدل بقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ}
بيانا وتفسيرا وتبيّن (4) لك المدح».
(وجوابه): ما ذكرنا أن (5) المنزّل منزلة المعلوم بمنزلة المعلوم (5)، وهاهنا لقوة دليله أجري مجرى المعلوم، وجعلت صلة (7)، نص عليه سيبويه والجمهور.
(وثانيهما): أن يكون الصفة للثناء والتعظيم.
(وشرط بعضهم ثالثا): وهو تقدم الإتباع، [حكاه] (8) ابن بابشاذ (9).
وزيّفه الأستاذ أبو جعفر بن الزّبير (10)، وقال: إنما يتمّ ذلك إذا كان الموصوف يفتقر إلى
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) الكشاف 3/ 88.
(3) هو الحسن بن محمد بن عبد الله الطّيبي بكسر الطاء الإمام المشهور، العلامة في المعقول والعربية والمعاني والبيان، قال ابن حجر: «كان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن» صنف «شرح الكشاف» و «التبيان في المعاني والقرآن» و «شرح المشكاة». ت 743هـ (بغية الوعاة 1/ 522).
(4) في المخطوطة (وبين ذلك) بدل (وتبين لك).
(5) عبارة المطبوعة (أن المنزل بمنزلة المعلوم منزلة المعلوم).
(7) في المخطوطة (صلته).
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) هو طاهر بن أحمد بن بابشاذ أبو الحسن المصري النحوي اللغوي. ولّي متأمّلا مصحّحا في ديوان الإنشاء يتأمل ما تصدر منه من السجلات والرسائل فيصلح ما فيها من خطأ، تزهّد في آخر عمره. من تصانيفه «شرح جمل الزجاجي» و «شرح النخبة» و «التعليق في النحو» ت 469هـ (معجم الأدباء 12/ 17).
(10) هو أحمد بن إبراهيم أبو جعفر بن الزبير، تقدم التعريف به في 1/ 130، وانظر قوله في ملاك التأويل 1/ 20 في الحاشية.(3/28)
زيادة بيان، فحينئذ يتقدم الإتباع ليستحكم العلم بالموصوف أما إذا كان معلوما فلا يفتقر إلى زيادة بيان. قال: والأصل فيما الصفة فيه مدح أو ذم والموصوف معلوم قطع الضمير، وهو (1)
الأفصح، ولا يشترط غير ذلك.
وقد أورد على دعوى أفصحيّة (2) القطع عند ذلك إجماع [149/ ب] القراء السبعة على الإتباع في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ * الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ * مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فضعّفوا قراءة النصب (3) على القطع مع حصول شرطي القطع. وأجاب ابن الزبير (4) بأنّ اختيار القطع مطّرد ما لم تكن الصفة خاصّة بمن جرت عليه! لا يليق ولا يتّصف بها سواه. ولا شكّ أن هذا الضرب قليل جدّا، فكذلك لم يفصح سيبويه باشتراطه، فإذا كانت الصفة ممن (5) لا يشارك فيها الموصوف غيره، وكانت مختصة بمن جرت عليه، فالوجه فيها الإتباع.
ونظير ذلك في صفات الله سبحانه وتعالى مما يتصف به غيره فلذلك (6) لم يقطع، وعليه ورد السماع لهذه الآيات الشريفة. وكذلك قوله [تعالى] (7): {حم * تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ ذِي الطَّوْلِ} (غافر: 31) لمّا (8) كان وصفه تعالى ب {غََافِرِ الذَّنْبِ} وما بعده لا يليق بغيره، لم يكن فيه إلا الإتباع، والإتباع لا يكون إلا بعد القطع (9)، ويلزم الإتباع في الكل. وهذا مع تكرر الصفات، وذلك من مسوّغات القطع على صفة ما، وعند بعضهم من غير تقييد بصفة.
وأما الإتباع فيما لم يقع فيه الاختصاص من صفته تعالى فكثير فهذا هو السماع، 2/ 450 وله وجه في القياس، وهو شبيه بالوارد في سورة والنجم، في قوله [تعالى]: {وَأَنَّهُ هُوَ}
__________
(1) في المخطوطة (إنه).
(2) في المخطوطة (فصحه).
(3) وهي قراءة المطوعي، قرأ: (مالك) نصبا على القطع أو منادى مضافا توطئة لإياك نعبد والجمهور بالكسر (اتحاف فضلاء البشر: 122).
(4) انظر ملاك التأويل 1/ 21في الحاشية.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (تمكن).
(6) في المخطوطة (فكذلك).
(7) ليست في المخطوطة.
(8) في المخطوطة (فمن).
(9) في المخطوطة (قطع).(3/29)
{أَضْحَكَ وَأَبْكى ََ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمََاتَ وَأَحْيََا} (النجم: 43، 44) ثم قال بعد: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى ََ وَأَقْنى ََ * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ََ} (النجم: 48، 49) فورد في هذه الجمل الأربع الفصل بالضمير المرفوع بين اسم إنّ وخبرها، ليتحدّد (1) بمفهومه نفي الاتصاف عن غيره تعالى (2) بهذه الأخبار، وكان الكلام في قوة (3) أن لو قيل «وأنه هو لا غيره». ولم يرد هذا الضمير في قوله (4)
تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ} (النجم: 45) لأن ذلك مما لا يتعاطاه أحد، لا حقيقة ولا مجازا ولا ادعاء، بخلاف الإحياء والإماتة، فيما حكاه الله تعالى عن نمروذ.
(قلت): وما ذكره في الجواب يرد عليه قوله تعالى: {التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ} الآية (التوبة: 112) وقوله تعالى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوََاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمََاتٍ} (التحريم: 5) الآيات ومما يرد عليه بالنسبة لأوصاف الذم قوله: {وَلََا تُطِعْ كُلَّ حَلََّافٍ مَهِينٍ * هَمََّازٍ [مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ]} [5] الآية (القلم: 1110) قد (6) جرت كلّها على ما قبلها بالاتباع، ولم يجيء فيها القطع. وقرأ الحسن (7): {عُتُلٍّ} (القلم: 13) بالرفع على الذم، قال الزمخشريّ (8): وهذه القراءة تقوية لما يدلّ عليه بعد ذلك.
* (الثاني): قد يلتبس المنصوب على المدح بالاختصاص، وقد فرّق سيبويه بينهما فيما بيّن والفرق أنّ المنصوب على المدح أن يكون المنتصب لفظا (9) يتضمن نفسه مدحا نحو «هذا زيد عاقل قومه» و [في] (10) الاختصاص لا يقتضي (11) اللفظ ذلك، كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللََّهِ وَبَرَكََاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (هود: 73) فيمن نصب {أَهْلَ} (12).
__________
(1) في المخطوطة (ليحترز).
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (قال تعالى).
(3) في المخطوطة (فتراه).
(4) في المخطوطة (وقوله) بدل (في قوله تعالى).
(5) تمام الآية ليس في المطبوعة.
(6) في المخطوطة (فقد).
(7) في المخطوطة (وقيل حكى الحسن)، والمقصود به الحسن بن يسار البصري، وانظر (إتحاف فضلاء البشر:
421).
(8) الكشاف 4/ 127.
(9) في المخطوطة (نظما).
(10) ساقطة من المخطوطة.
(11) في المخطوطة (إذا لم يقتض) بدل (لا يقتضي).
(12) راجع البحر المحيط 5/ 245.(3/30)
(العاشرة): يوصف الجمع بالمفرد (1)، قال تعالى: {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمََاوََاتِ الْعُلى ََ} (طه: 4) فوصف الجمع بالمفرد. وقال تعالى: {وَلِلََّهِ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ} (الأعراف:
180) فوصف «الأسماء» وهي جمع اسم، بالحسنى وهو مفرد، تأنيث الأحسن. وكذلك قوله تعالى: {فَمََا بََالُ الْقُرُونِ الْأُولى ََ} (طه: 51) فإن {الْأُولى ََ} تأنيث «الأول» وهو صفة لمفرد.
وإنما حسن وصف الجمع بالمفرد لأن اللفظ المؤنث يجوز إطلاقه على [150/ أ] جماعة المؤنث بخلاف [لفظ] (2) المذكر (3) [يرد إلى لفظ جماعة المؤنث] (3) وأما قوله تعالى:
{وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} (الفرقان: 18) والبور: الفاسد، فقال الرمّاني (5): «هو بمعنى الجمع إلا أنه ترك جمعه في اللفظ لأنه مصدر وصف».
وقد يوصف الجمع بالجمع، ولا يوصف مفرد كل منهما بالمفرد ومنه: {فَوَجَدَ فِيهََا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلََانِ} (القصص: 15) فثنى الضمير، ولا يقال في الواحد «يقتتل». ومنه: {وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7) ولا يقال «وأخرى متشابهة».
(الحادية عشرة): قد تدخل الواو على الجملة الواقعة صفة تأكيدا، ذكره الزمخشريّ (6)، وجعل منه قوله تعالى: {وَمََا أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ إِلََّا وَلَهََا كِتََابٌ مَعْلُومٌ} (الحجر:
4) قال: «الجملة صفة لقرية، والقياس عدم دخول الواو فيها كما في قوله تعالى: {وَمََا أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ إِلََّا لَهََا مُنْذِرُونَ} (الشعراء: 208) وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف». وقد أنكره عليه ابن مالك والشيخ أبو حيان (7) وغيرهما، والقياس مع الزمخشريّ، لأن الصفة كالحال في المعنى.
وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بالواو في الصفات إلا إذا تكررت (8) النعوت، وليس كذلك،
__________
(1) في المخطوطة (بالجمع).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(5) هو علي بن عيسى أبو الحسن الرماني تقدم ذكره في 1/ 111.
(6) الكشاف 2/ 310.
(7) انظر النهر الماء المطبوع بهامش البحر المحيط 5/ 444443.
(8) في المخطوطة (كررت).(3/31)
ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (الكهف: 22) وقوله [تعالى] (1): {آتَيْنََا مُوسى ََ [وَهََارُونَ]} [1] الْفُرْقََانَ وَضِيََاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (الأنبياء: 48) وتقول: جاءني (3) زيد والعالم.
(الثانية عشرة): الصفة لا تقوم مقام الموصوف إلا على استكراه لأنها إنما يؤتى بها للبيان والتخصيص، أو المدح والذم، وهذا في موضع الإطالة لا الاختصار، فصار من باب نقص الغرض. وقال ابن عمرون (4): «عندي أن البيان حصل بالصفة والموصوف معا، فحذف الموصوف ينقص الغرض، ولأنه ربما أوقع لبسا (5)، ألا ترى أن قولك: «مررت بطويل» يحتمل أنه رجل أو قوس (6) أو غير ذلك، إلا (7) إذا ظهر أمره ظهورا يستغنى به عن ذكره، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} (الصافات: 48) قال السخاوي (8): «ولا فرق في صفة النكرة بين أن يذكر معها أو لا». قال ابن عمرون (4):
«وليس قوله بشيء».
القسم الثالث البدل
والقصد به الإيضاح بعد الإبهام، وهو يفيد البيان والتأكيد، أما البيان فإنك إذا قلت:
2/ 454 «رأيت زيدا أخاك» بيّنت أنك تريد بزيد الأخ لا غير، وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل، ألا ترى إذا قلت: «ضربت زيدا» جاز أن تكون ضربت رأسه أو يده أو جميع بدنه
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (جاء).
(4) هو محمد بن محمد بن أبي علي، وقد تقدم التعريف به في 3/ 22.
(5) اضطربت في المخطوطة إلى (للسا).
(6) في المخطوطة (فرس).
(7) في المخطوطة (بما).
(8) هو علي بن محمد بن عبد الصمد علم الدين السخاوي تقدمت ترجمته في 1/ 206.(3/32)
فإذا قلت: «يده» فقد رفعت ذلك الإبهام، فالبدل جار مجرى التأكيد، لدلالة الأول عليه، أو المطابقة (1) كما في بدل الكلّ، أو التضمن كما في بدل البعض، أو الالتزام (2) كما في بدل الاشتمال فإذا قلت: «ضربت زيدا رأسه» فكأنك قد ذكرت الرأس مرتين، مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة، وإذا قلت: «شربت ماء البحر بعضه» فإنه مفهوم من قولك: «شربت ماء البحر» أنك لم تشربه كله فجئت بالبعض تأكيدا.
وهذا معنى قول سيبويه، ولكنه ثنّى (3) الاسم تأكيدا، وجرى (4) مجرى الصفة في الإيضاح، لأنك إذا قلت: «رأيت أبا عمرو زيدا»، «ورأيت غلامك زيدا»، «ومررت برجل صالح زيد»، فمن الناس من يعرفه بأنه غلامك، أو بأنه رجل صالح، ولا يعرف أنه زيد، وعلى العكس، فلمّا ذكرتهما أثبتّ باجتماعهما المقصود. وهذا معنى قول الزمخشري (5): وإنما يذكر الأول لتجوز التوطئة، وليفاد (6) بمجموعهما فضل تأكيد وتبيين [150/ ب] لا يكون في الإفراد.
وقال ابن السيّد (7): ليس كلّ بدل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في المبدل (8)
منه، بل من البدل ما يراد به التأكيد، وإن كان ما قبله غنيا عنه، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرََاطِ اللََّهِ} (الشورى: 52، 53)، ألا ترى أنه لو لم يذكر «الصراط» الثاني لم يشكّ أحد أن الصراط المستقيم هو صراط الله. وقد نصّ سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد، ولهذا جوزوا بدل المضمر من المضمر، كلقيته إياه (9).
انتهى.
__________
(1) في المخطوطة (بالمطابقة).
(2) في المخطوطة (بالالتزام).
(3) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (بنى). والصواب من كتاب سيبويه 1/ 150، باب من الفعل يستعمل في الاسم ثم يبدل مكان ذلك الاسم
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (أو جاء).
(5) انظر المفصّل ص 121. باب البدل.
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (وليتفادى).
(7) هو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي تقدم التعريف به في 1/ 343.
(8) في المخطوطة (البدل).
(9) تصحفت في المطبوعة إلى (أباه)، وانظر كتاب سيبويه 2/ 386، باب ما تكون فيه أنت وأنا ونحن.(3/33)
2/ 455والفرق بينه وبين الصفة أن البدل في تقدير تكرار العامل، وكأنه في التقدير (1) من جملتين بدليل تكرر حرف الجرّ في قوله: {قََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (الأعراف: 75)، وبدليل بدل النكرة [من المعرفة] (2)
والمظهر (3) من المضمر، وهذا مما يمتنع في الصفة، فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم، فكذلك تكرار العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرار (4)، وهو إن كان كذلك فلا يخرج عن أن يكون فيه تبيين للأول كالصفة.
وقيل لأبي عليّ (5): كيف يكون البدل إيضاحا للمبدل (6) منه، وهو من غير جملته؟
فقال (7): لما لم يظهر العامل في البدل، وإنما دل عليه العامل في المبدل منه، واتصل البدل بالمبدل منه في اللفظ، جاز أن يوضّحه.
ومن فوائد البدل التبيين على وجه المدح فقولك: هل أدلّك على أكرم الناس وأفضلهم؟
فلان، أبلغ من قولك: فلان الأكرم والأفضل، بذكره مجملا ثم مفصّلا. وقال الأخفش والواحديّ (8) في بدل البعض من الكلّ، نحو: {وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97) يسمى هذا بدل البيان لأن الأوّل يدلّ على العموم ثم يؤتى بالبدل إن أريد (9) البعض.
وأعلم أن في كلا البدلين أعني بدل البعض وبدل الاشتمال بيانا وتخصيصا للمبدل منه، وفائدة البدل أنّ ذلك الشيء يصير مذكورا مرتين: إحداهما بالعموم، والثانية بالخصوص.
__________
(1) في المخطوطة (من تقدير).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (والمضمر).
(4) في المخطوطة (التكرير).
(5) الفارسي تقدم التعريف به في 1/ 375.
(6) في المخطوطة (البدل).
(7) في المخطوطة (وقال).
(8) هو علي بن أحمد أبو الحسين الواحدي تقدم التعريف به في 1/ 105.
(9) في المخطوطة (إذ المراد).(3/34)
ومن أمثلته قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرََاطَ الَّذِينَ} (الفاتحة:
76).
{آمَنََّا بِرَبِّ الْعََالَمِينَ * رَبِّ مُوسى ََ وَهََارُونَ} (الشعراء: 4847). 2/ 456
وقوله: {لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ * نََاصِيَةٍ كََاذِبَةٍ} (العلق: 1615) وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتنصيص على «ناصية»، والثانية على علة السفع (1)، ليشمل بذلك ظاهر كلّ ناصية (2) هذه (3) صفتها.
ويجوز بدل المعرفة من المعرفة نحو: {الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرََاطَ الَّذِينَ}
(الفاتحة: 76).
وبدل النكرة من المعرفة، نحو: {بِالنََّاصِيَةِ * نََاصِيَةٍ كََاذِبَةٍ} (العلق: 1615).
قال ابن يعيش (4): ولا يحسن بدل النكرة من المعرفة حتى توصف كالآية لأن البيان مرتبط بهما جميعا.
والنكرة من النكرة كقوله [تعالى: {إِنَ]} [5] لِلْمُتَّقِينَ مَفََازاً * حَدََائِقَ وَأَعْنََاباً * وَكَوََاعِبَ أَتْرََاباً * وَكَأْساً دِهََاقاً (النبأ: 3431)، فحدائق وما بعدها (6) بدل من «مفازا».
ومنه قوله تعالى: {وَغَرََابِيبُ سُودٌ} (فاطر: 27)، فإن «سود» بدل من «غرابيب» لأن الأصل «سود غرابيب» فغرابيب في الأصل صفة لسود (7)، ونزع الضمير منها، وأقيمت مقام الموصوف، ثم أبدل منها الذي كان موصوفا بها، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً} (آل عمران: 85). وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرََاهِمَ مَعْدُودَةٍ}
(يوسف: 20) فهذا بدل نكرة (8) موصوفة من أخرى موصوفة فيها بيان الأولى.
__________
(1) في المخطوطة (الشفع).
(2) في المخطوطة (كل ذلك ناصية).
(3) في المخطوطة (وهذه).
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (ابن مسعود). وابن يعيش تقدم التعريف به في 2/ 497.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (بعده).
(7) في المخطوطة (سود).
(8) في المخطوطة (النكرة).(3/35)
[151/ أ] ومثل (1) إبدال النكرة المجردة من مثلها مجردة وبدل المعرفة من النكرة:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرََاطِ اللََّهِ} (الشورى: 5352) لأن «صراط الله» مبين إلى الصراط المستقيم فإن مجيء الخاص والأخص بعد العام والأعم كثير ولهذا المعنى قال الحذّاق في قوله تعالى: {مََا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} (ق: 18): إنه لو عكس فقيل:
«ما يقول من لفظ» لم يجز، لأن القول أخصّ من اللفظ، لاختصاصه بالمستعمل، واللفظ يشمل (2) المهمل الذي لا معنى له.
وقد يجيء للاشتمال، والفرق بينه وبين بدل البعض، أن البدل في البعض جرّ في الاشتمال وصفا، كقوله: {وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلَّا الشَّيْطََانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (الكهف: 63) فإن {أَذْكُرَهُ} بمعنى «ذكره» وهو بدل من الهاء في (3) {أَنْسََانِيهُ} العائدة إلى الحوت، وتقديره: «وما أنساني ذكره إلا الشيطان».
وقوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ} (البقرة: 217) ف {قِتََالٍ} بدل من «الشهر» بدل الاشتمال، لأن الشهر يشتمل على القتال وعلى غيره كما كان زيد يشتمل على العقل وغيره وهو مؤكد لأنهم لم يسألوا عن الشهر الحرام فإنهم يعلمونه، وإنما سألوا عن القتال فيه، فجاء به تأكيدا.
وقوله: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ * النََّارِ} (البروج: 54)، فالنار بدل من «الأخدود» بدل اشتمال لأنه يشتمل على النار وغيرها، والعائد محذوف تقديره: «الموقدة فيه».
ومن بدل البعض قوله [تعالى] (4): {وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97) فالمستطيعون بعض الناس، لا كلّهم.
وقال ابن برهان (5): بل هذه بدل كلّ من كلّ، واحتج بأن الله لم يكلّف الحج من لا يستطيعه فيكون المراد بالناس بعضهم على حدّ قوله: {الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ إِنَّ النََّاسَ قَدْ}
__________
(1) في المخطوطة (ونقل).
(2) عبارة المخطوطة (وعموم اللفظ ومعنى) بدل (واللفظ يشمل).
(3) في المخطوطة (من).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) هو أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان تقدم التعريف به في 2/ 208.(3/36)
{جَمَعُوا لَكُمْ} (آل عمران: 173) في أنه لفظ عام أريد به خاص، لأن {النََّاسُ} 2/ 458 [في] (1) اللفظ الأول لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله بعده: {إِنَّ النََّاسَ} فعلى هذا هو عنده مطابق لعدة المستطيعين في كميّتهم، وهم بعض الناس لا جميعهم.
والصحيح ما صار إليه الجمهور لأن باب البدل أن يكون في الثاني بيان ليس في الأول بأن يذكر الخاصّ بعد العام مبيّنا وموضحا.
ولا بدّ في إبدال البعض من ضمير، كقوله: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}
(البقرة: 251). {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى ََ بَعْضٍ} (الأنفال: 37).
وقد يحذف لدليل، كقوله: {وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ} (آل عمران: 97)، «منهم»، وهو مراد بدليل ظهوره في الآية الأخرى وهي (2) قوله:
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرََاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (البقرة: 126)، ف {مَنْ آمَنَ} بدل من {أَهْلَهُ}، وهم بعضهم.
وقد يأتي البدل لنقل الحكم عن مبدله (3)، نحو: «جاء القوم أكثرهم (4)، وأعجبني زيد ثوبه». وقال ابن عصفور (5): ولا (6) يصح «غلمانه».
وعدل عن البدل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنََادُونَكَ مِنْ وَرََاءِ الْحُجُرََاتِ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} (الحجرات: 4)، لأنه أريد الاخبار عنهم كلهم في الحال الثاني وهو {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا»} (الحجرات: 5)، فلو أبدل لأوهم، بخلاف: «إنك أن تقوم خير لك». البدل أرجح.
والبدل في تقدير تكرير العامل وليس كالصفة، ولكنه في تقدير جملتين بدليل تكرير حرف الجرّ.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (وفي).
(3) في المخطوطة (لبدله).
(4) في المخطوطة (كلهم).
(5) تقدم التعريف به في 1/ 466.
(6) في المخطوطة (لا).(3/37)
قد (1) يكرر عامله إذا كان حرف جر، كقوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهََا قِنْوََانٌ دََانِيَةٌ}
(الأنعام: 99)، ف {طَلْعِهََا} بدل اشتمال من {النَّخْلِ} وكرر العامل فيه وهو {مِنَ}
(2) [أول ما يخرج النخل] (2) وقوله تعالى: {قََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [4] [لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ (الأعراف: 75)، {لِمَنْ آمَنَ}، بدل بعض من كل، من {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}] (4) لأن المؤمنين بعض [151/ ب] المستضعفين، وقد كرر اللام.
وقوله: {وَلَوْلََا أَنْ يَكُونَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً لَجَعَلْنََا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمََنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} (الزخرف: 33)، فقوله: {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمََنِ}. وجعل ابن عطية (6) اللام الأولى للملك والثانية للاختصاص، فعلى هذا يمتنع البدل لاختلاف معنى الحرفين.
وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنََا عِيداً لِأَوَّلِنََا وَآخِرِنََا} (المائدة: 114)، [ف {لِأَوَّلِنََا وَآخِرِنََا}] (7)
بدل من الضمير في {لَنََا} وقد أعيد معه العامل مقصودا به التفصيل.
ومنه قراءة يعقوب (8): {وَتَرى ََ كُلَّ أُمَّةٍ جََاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى ََ إِلى ََ كِتََابِهَا} (الجاثية:
28)، قال أبو الفتح: «جاز إبدال الثانية من الأولى، لأن في الثانية ذكر سبب الجثو».
قيل: ولم يظهر عامل البدل إذا كان حرف جرّ، إيذانا بافتقار الثاني إلى الأول، فإن حروف الجر مفتقرة، ولم يظهروا الفعل، إذ لو أظهروه لانقطع الثاني عن الأول بالكلية لأن الكلام مع الفعل قائم بنفسه.
واعلم أنه لا خلاف في جواز إظهار العامل في البدل إذا كان حرف جرّ كالآيات السابقة فإن كان رافعا أو ناصبا ففيه خلاف، والمجوّزون احتجوا بقوله [تعالى] (9): {فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمََا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ} (الشعراء: 133131) فيجوز أن
__________
(1) في المخطوطة (وقد).
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(6) هو عبد الحق بن غالب بن عطية تقدم التعريف به في 1/ 101.
(7) ليست في المخطوطة.
(8) القراءة وقول أبي الفتح ابن جني تجدها في المحتسب 2/ 262.
(9) ليست في المخطوطة.(3/38)
يكون {أَمَدَّكُمْ} الثاني بدلا من {أَمَدَّكُمْ} الأول. وقد يكون من إبدال الجملة من الجملة، وتكون الثانية [صلة] (1) «الذي» كالأولى. ويجوز أن تكون الثانية شارحة للأولى، كقولك: «ضربت رأس زيد قذفته (2) بالحجر». ثم (3) قوله تعالى: {يََا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لََا يَسْئَلُكُمْ} (يس: 2120) (4) [أبدل قوله: {اتَّبِعُوا مَنْ لََا يَسْئَلُكُمْ}] (4) (يس: 21) من قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (يس: 20) لأنه أكثر تلطفا في اقتضاء اتباعهم. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً * يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ}
(الفرقان: 6968) ف {يَلْقَ} مجزوم بحذف الألف لأنه جواب الشرط، ثم أبدل منه:
{يُضََاعَفْ [لَهُ الْعَذََابُ} [4]] (الفرقان: 69) فبيّن بها «الأثام» ما هو.
وينقسم البدل باعتبار آخر إلى بدل مفرد من مفرد، وجملة، من جملة وقد سبقا، وجملة من مفرد، كقوله تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ} (آل عمران: 59) وقوله:
{مََا يُقََالُ لَكَ إِلََّا مََا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقََابٍ أَلِيمٍ} (فصلت:
43) (7) [فإن {إِنَّ} وما عملت فيه بدل من {مََا} وصلتها على تقدير «ما يقال لك ألا إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب»] (7) وجاز إسناد {يُقََالُ} إلى ما عملت فيه، كما جاز إسناد {قِيلَ} في {وَإِذََا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ} (الجاثية: 32).
ومن إبدال الجملة من المفرد قوله (9) تعالى: {(10) [وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا]} [10] هَلْ هََذََا إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (الأنبياء: 3) قال الزمخشري (12): «هذا 2/ 461 الكلام كلّه في محل نصب (13)، بدلا من {النَّجْوَى}».
ويبدل الفعل من الفعل الموافق له في المعنى مع زيادة بيان، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً * يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ} (الفرقان: 6968) الآية.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (فقذفته).
(3) في المخطوطة (نعم).
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(9) في المخطوطة (كقوله).
(10) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(12) الكشاف 3/ 3.
(13) في المخطوطة (النصب).(3/39)
والرابع: بدل المفرد من الجملة، كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لََا يَرْجِعُونَ} (يس: 31)، ف {أَنَّهُمْ} بدل لأن الإهلاك وعدم الرجوع بمعنى واحد.
فإن قلت: لو كان بدلا لكان معه الاستفهام.
قيل: هو بدل معنويّ.
تنبيه
وقد يكرر البدل كقوله: {إِلََّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللََّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثََانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمََا فِي الْغََارِ إِذْ يَقُولُ لِصََاحِبِهِ} (التوبة: 40)، فقوله: {إِذْ هُمََا} [152/ أ] بدل من قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (التوبة: 40)، وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصََاحِبِهِ} (التوبة 40) بدل من [قوله] (1) {إِذْ هُمََا فِي الْغََارِ} (التوبة: 40).
تنبيه
أعربوا {آزَرَ} من قوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} (الأنعام: 74) بدلا.
قال ابن عبد السلام: والبدل لا يكون إلا للبيان، والأب لا يلتبس بغيره، فكيف حسن البدل؟.
والجواب أن الأب يطلق على الجدّ، بدليل قوله: {آبََائِي إِبْرََاهِيمَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ}
(يوسف: 38)، فقال: «آزر» (2) لدفع توهم المجاز.
هذا كله إذا قلنا: إن «آزر» اسم أبيه لكن في «المعرّب» للجواليقي (3) عن الزّجاج:
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (إنه).
(3) هو موهوب بن أحمد بن محمد أبو منصور الجواليقي إمام في اللغة والنحو والأدب وهو من مفاخر بغداد، قرأ الأدب على أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي ولازمه وتلمذ له حتى برع في فنه سمع من شيوخ زمانه وأخذ الناس عنه علما جما وله من التصانيف «شرح أدب الكاتب» و «المعرب» و «تتمة درة الخواص» وغيرها ت 539هـ (القفطي، إنباه الرواة 3/ 335). وكتابه «المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم» طبع بتحقيق إدوارد سخاو في ليبسك عام 1293هـ / 1876م، وطبع بتحقيق أحمد شاكر في القاهرة بدار الكتب المصرية عام 1361هـ / 1942م وأعيد طبعه عام 1390هـ / 1969م.
وأعيد نشر الطبعة الأولى بالأوفست في طهران عام 1387هـ / 1966م. (ذخائر التراث العربي 1/ 456 وانظر قوله في كتابه ص 2928.(3/40)
«لا خلاف أن اسم أبي إبراهيم «تارح» والذي في القرآن يدلّ على أن اسمه آزر وقيل:
«آزر» ذمّ في لغتهم، وكأنه: «يا مخطئ» وهو من العجميّ الذي وافق لفظه لفظ العربيّ، نحو الإزار والإزرة، قال تعالى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ}» (الفتح: 29).
وعلى هذا فالوجه الرفع، في قراءة (1) {آزَرَ}.
القسم الرابع عطف البيان
وهو كالنعت في الإيضاح وإزالة الاشتراك الكائن فيه.
وشرط صاحب «الكشاف» فيه أن يكون وضوحه زائدا على وضوح (2) متبوعه (3).
وردّ ما قاله بأن الشرط حصول زيادة الوضوح بسبب انضمام عطف البيان مع متبوعه لا 2/ 463 أن (4) الشرط كونه أوضح وأشهر من الأول لأن من الجائز أن يحصل باجتماع الثاني مع الأول زيادة وضوح لا تحصل حال انفراد كل واحد (5) منهما، كما في «خالي» (6) أبو عبد الله زيد» مع [أنّ] (7) اللقب أشهر فيكون في كلّ واحد منهما خفاء بانفراده ويرفع بالانضمام (8).
وقال (9) سيبويه: جعل «يا هذا ذا الجمة» (10) عطف بيان مع أن اسم الإشارة أعرف من المضاف إلى ذي اللام.
__________
(1) في المخطوطة (القراءة). وهي قراءة يعقوب على أن (آزر) منادى. انظر إتحاف فضلاء البشر ص 211.
(2) في المخطوطة (وضوحه).
(3) انظر المفصل ص 122عطف البيان.
(4) في المخطوطة (لأن).
(5) في المخطوطة (واضح أحد) بدل (واحد).
(6) في المخطوطة (جاءني).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (بانضمام).
(9) في المخطوطة (وبأن). تصحيف.
(10) تصحفت في المخطوطة إلى (هذه الجملة)، وفي المطبوعة إلى (يا هذا الحمد) والتصويب من كتاب سيبويه 2/ 190189. باب لا يكون الوصف المفرد فيه إلا رفعا(3/41)
وقيل: يشترط أن يكون عطف البيان معرفة.
والصحيح أنه ليس بشرط، كقولك: «لبست ثوبا جبّة».
وقد أعرب الفارسي: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} (النور: 35) وكذا: {فَكَفََّارَتُهُ إِطْعََامُ عَشَرَةِ مَسََاكِينَ} (المائدة: 89)، وكذلك صاحب (1) «المفتاح» في {لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (النحل: 51).
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين الصفة؟
قلت: عطف البيان وضع ليدلّ (2) على الإيضاح باسم يختص به، وإن استعمل في غير الإيضاح، كالمدح في قوله تعالى: {جَعَلَ اللََّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرََامَ} (المائدة: 97) (3) [فإنّ {الْبَيْتَ الْحَرََامَ}] (3) عطف بيان جيء به للمدح لا للإيضاح، وأما الصفة فوضعت لتدل على معنى حاصل في متبوعه، وإن كانت في بعض الصور مفيدة للإيضاح للعلم بمتبوعها من غيرها.
وكقوله تعالى: {إِنَّمََا أَعِظُكُمْ بِوََاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلََّهِ} (سبأ: 46)، وقوله [تعالى] (3)
{آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ مَقََامُ إِبْرََاهِيمَ} (آل عمران: 97).
وزعم الزمخشريّ (6) في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}
(الطلاق: 6) (7) [أن {مِنْ وُجْدِكُمْ}] (7) عطف بيان.
وهو مردود فإن العامل إنما يعاد في البدل لا في عطف البيان.
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين البدل؟.
قلت: قال أبو جعفر النحاس: «ما علمت أحدا فرّق بينهما إلا ابن كيسان (9) فإن الفرق
__________
(1) هو يوسف بن أبي بكر السكاكي وانظر مفتاح العلوم ص 190.
(2) في المخطوطة (البدل).
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(6) الكشاف 4/ 110.
(7) ليست في المخطوطة.
(9) هو محمد بن أحمد بن كيسان أبو الحسن النحوي، أحد المذكورين بالعلم الموصوفين بالفهم وكان يحفظ مذهب البصريين في النحو والكوفيين لأنه أخذ عن المبرد وثعلب، وكان أبو بكر بن مجاهد يقول: أبو الحسن بن كيسان أنحى من الشيخين. يعني ثعلبا والمبرد، وتصانيفه كثيرة منها «غريب الحديث» و «المهذب» و «الوقف والابتداء» و «القراءات» وغيرها ت 299هـ (القفطي، إنباه الرواة 3/ 57).(3/42)
بينهما أن البدل يقرر الثاني في موضع الأول، وكأنك لم تذكر الأول، وعطف البيان أن تقدّر (1)
أنك إن ذكرت الاسم الأول لم يعرف إلا بالثاني [152/ ب]، وإن ذكرت الثاني لم يعرف إلا بالأول، فجئت بالثاني مبيّنا للأول، قائما له مقام النعت والتوكيد.
قال: وتظهر فائدة هذا في النداء، تقول: «يا أخانا زيد أقبل»، على البدل، كأنك رفعت الأول وقلت: «يا زيد أقبل»، فإن أردت عطف البيان قلت: «يا أخانا (2) زيدا أقبل».
القسم الخامس ذكر الخاصّ بعد العام
فيؤتى به معطوفا عليه بالواو للتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنس العام تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وعلى هذا بنى المتنبي قوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال (3)
وابن الرومي أيضا حيث قال:
كم من أب قد علا بابن ذرا شرف (4) ... كما علت (5) برسول الله عدنان (6)
وحكى الشيخ أثير الدين (7) عن شيخه أبي جعفر بن الزبير (8) أنه كان يقول: «إن هذا العطف يسمى بالتجريد، كأنه جرّد من الجملة وأفرد بالذكر تفصيلا».
وله شرطان ذكرهما ابن مالك: أحدهما كون العطف بالواو، والثاني كون المعطوف ذا
__________
(1) في المخطوطة (يقدر).
(2) في المخطوطة (أخا).
(3) البيت ختم به قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة ويعزيه بها سنة 337هـ، مطلعها:
نعدّ مشرفيّة والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
وهي في ديوانه ص 268265.
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (ذي سرف)، والتصويب من مغني اللبيب 1/ 118.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (علا).
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (عدنانا): والبيت من شواهد مغني اللبيب 1/ 118رقم (175). باب حرف الثاء (ثم).
(7) هو أبو حيان الأندلسي صاحب تفسير البحر المحيط.
(8) هو أحمد بن إبراهيم أبو جعفر بن الزبير تقدم التعريف به في 1/ 130.(3/43)
مزية (1)، وحكى قولين في العام المذكور: هل يتناول الخاص المعطوف عليه، أو لا (2) يتناوله؟
فعلى القول الأول يكون (3) [هذا نظير مسألة: «نعم الرجل زيد» على المشهور فيه وهو الظاهر من لفظ العام، وعلى الثاني يكون] (3) عطف الخاص قرينة دالة على إرادة التخصيص في العام، وأنه لم يتناوله، وهو نظير بحث الاستثناء في نحو قولك: «قام القوم إلا زيدا» (5) [من أن «زيدا»] (5) لم يدخل في القوم، وقد يتقوى هذا بقوله:
يا حبّ (7) ليلى لا تغيّر وازدد ... وانم كما ينمو الخضاب في اليد (8)
وإن كان هذا ليس من العطف العام.
وقد أشار الزمخشري (9) إلى القولين في سورة الشعراء. في قوله: {فِي جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهََا هَضِيمٌ} (الشعراء: 148147).
2/ 466وقد يقال: آية الشعراء إنما جاز فيها الاحتمالان (10) من جهة أن لفظ «جنات» وقع بلفظ التنكير، ولم يعم الجنس وأما الآية [السابقة] (11) فالإضافة تعمّ. و [لذلك] (12) لا ينبغي أن يجعل من هذا قوله تعالى: {فِيهِمََا فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ} (الرحمن: 68) أما على قول أبي حنيفة ومحمد فواضح، لأنهما يقولان: إن النخل والرمان ليسا بفاكهة، وأما على قول أبي يوسف فقوله: «فاكهة» مطلق وليس بعام.
ومن أمثلته قوله تعالى: {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ} (البقرة: 238)، على القول بأنها إحدى (13) الصلوات الخمس.
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (وأمر به).
(2) في المخطوطة (لم).
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) سقط من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (يا صاحب).
(8) البيت من شواهد ابن منظور في لسان العرب 15/ 342. مادة (نمي).
(9) الكشاف 3/ 123122.
(10) في المخطوطة (الاحتمالات).
(11) ليست في المخطوطة.
(12) ساقطة من المطبوعة.
(13) في المخطوطة (أحد).(3/44)
قلنا (1): إن المراد غيرها كالوتر والضحى والعيد (2)، فليس من هذا الباب.
وقوله [تعالى] (3): {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتََابِ وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ} (الأعراف: 170)، مع أن التمسك بالكتاب يشمل كلّ عبادة، ومنها الصلاة، لكن خصها بالذكر إظهارا لمرتبتها لكونها عماد الدين.
وقوله [تعالى] (3): {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} (5) (البقرة:
98)، فإن عداوة الله راجعة إلى عداوة حزبه، فيكون جبريل كالمذكور أربع مرات، فإنه اندرج تحت عموم ملائكته، وتحت عموم رسله، ثم عموم حزبه، ثم خصوصه بالتنصيص عليه.
ويجوز أن يكون عومل معاملة العدد، فيكون الذّكر ثلاثا، وذكرهما بعد الملائكة مع كونهما من الجنس دليل على قصد التنويه بشرفهما. على أن التفصيل إن كان بسب الإفراد فقد 2/ 467 عدل (6) للملائكة مثله بسبب الإضافة، وقد يلحظ شرفهما على غيرهما.
وأيضا فالخلاف السابق في أنّ ذكر بعض أفراد العام [153/ أ] بعد العام هل يدل على أنه لم يدخل في العامّ فرارا من التكرار أو يدخل؟
وفائدته التوكيد، و [قد] (7) حكاه الروياني (8) في «البحر» من كتاب الوصية. وخرّج عليه ما إذا أوصى لزيد بدينار وبثلث ماله للفقراء، وزيد فقير، فهل يجمع له بين ما أوصى لديه (9)
وبين شيء من الثلث على ما أراد الوصيّ؟ وجهان، والأصح أنه لا يعطى غير الدينار: لأنّه بالتقدير قطع اجتهاد الوصيّ.
__________
(1) في المخطوطة (فإن قلنا).
(2) في المخطوطة (أو العيد).
(3) ليست في المخطوطة.
(5) الآية في المطبوعة (قل من كان) وفي المخطوطة ضرب على لفظة (قل) وهو الصواب الموافق للقرآن الكريم.
(6) في المخطوطة (عدد).
(7) ساقطة من المطبوعة.
(8) هو عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد أبو المحاسن الروياني ولد سنة 415هـ الفقيه الشافعي، من رءوس الأفاضل في أيامه مذهبا وأصولا وخلافا سمع عبد الفاخر بن محمد الفارسي وتفقه على أبي عبد الله الكازوني على مذهب الشافعي، وكان له الجاه العظيم والحرمة الوافرة، من مصنفاته «بحر المذهب» و «الكافي» و «حلية المؤمن» وغيرها مات شهيدا قتله الملاحدة سنة 502هـ (ابن خلكان، وفيات الأعيان 3/ 198). وكتابه «بحر المذهب في الفروع» ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 1/ 226.
وقال: «هو بحر كاسمه».
(9) في المخطوطة (له).(3/45)
قلت: والقول بعدم دخوله تحت اللفظ هو قول أبي علي الفارسيّ وتلميذه ابن جني، وعلى هذا القول فلا (1) يحسن عدّ هذه الآية من هذا النوع.
وأيضا فإذا اجتمع في الكلام معطوفان (2): هل يجعل الآخر معطوفا على الأول؟ أو على ما يليه؟ وقع في كلام الزمخشري في مواضع من الكشاف تجويز الأمرين.
فذكر (3) في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ فََالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ََ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الأنعام: 95)، أن «مخرجا» معطوف على {فََالِقُ} لا على {يُخْرِجُ}، فرارا من عطف الاسم على الفعل، وخالفه ابن مالك وأوّله.
وذكر (4) أيضا في قوله تعالى: {إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ وَالْمَلََائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (البقرة: 210)، على هذه القراءة (5) أنه معطوف على {اللََّهُ} لأن قضاءه قديم.
وذكر (6) أيضا في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهََا زَوْجَهََا وَبَثَّ مِنْهُمََا رِجََالًا كَثِيراً وَنِسََاءً} (النساء: 1)، حاصله أن قوله: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ} إذا أريد به العموم كان قوله: {وَخَلَقَ مِنْهََا زَوْجَهََا} عطفا على مقدر أي أنشأها وأوجدها، {وَخَلَقَ مِنْهََا زَوْجَهََا وَبَثَّ مِنْهُمََا رِجََالًا كَثِيراً}، يعني خلقكم من نفس هذه صفتها. وإن أريد به المخاطبون بمكة كان قوله: {وَخَلَقَ} عطفا على {خَلَقَكُمْ}، وموجب ذلك الفرار (7) من التكرار.
وعلى هذا فيجوز أن يكون «جبريل» معطوفا على لفظ الجلالة، فلا تكون الآية من هذا النوع. ولو سلمنا بعطفه على «رسله» فكذلك لكن الظاهر أن المراد بالرسل من بني آدم لعطفهم على الملائكة، فليسوا منه.
وفي الآية سؤالان:
__________
(1) في المخطوطة (فلا خلاف يحسن).
(2) في المخطوطة (معطوفات).
(3) الكشاف 2/ 28. بتصرف.
(4) الكشاف 1/ 128127.
(5) أي قراءة رفع الملائكة وهي قراءة الجمهور وقرأ أبو جعفر بالجر عطفا على الغمام أو ظلل (إتحاف فضلاء البشر ص 156).
(6) الكشاف 1/ 241.
(7) في المخطوطة (القرر).(3/46)
أحدهما: لم خصّ جبريل وميكائيل بالذكر؟ الثاني: لم قدّم جبريل عليه؟
والجواب عن الأول أنه سبحانه وتعالى خصّهما بالحياة، فجبريل بالوحي الذي هو حياة القلوب، وميكائيل بالرزق الذي هو حياة الأبدان، ولأنهما كانا سبب النزول في تصريح اليهود بعداوتهما.
و [عن] (1) الثاني: أن حياة القلوب أعظم من حياة الأبدان ومن ثم قيل:
عليك بالنفس فاستكمل (2) فضائلها ... فأنت بالنّفس لا بالجسم إنسان 2/ 469
ومنه قوله تعالى: {فِيهِمََا فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ} (الرحمن: 68)، وغلّط بعضهم من عدّ هذه الآية من هذا النوع، من جهة أن «فاكهة» نكرة في سياق الإثبات فلا عموم لها. وهو غلط لأمرين:
أحدهما: أنها في سياق الإثبات، وهو مقتضى العموم كما ذكره القاضي أبو الطيب الطبريّ (3).
والثاني: أنه ليس المراد بالخاص والعام هاهنا المصطلح عليه في الأصول، (4) بل كلّ ما كان الأول فيه شاملا للثاني (4).
وهذا الجواب أحسن من الأول، لعمومه بالنسبة إلى كل مجموع يشتمل على متعدّد.
ولما لمح أبو حنيفة معنى العطف وهو المغايرة لم يحنّث الحالف على أكل الفاكهة بأكل الرمان.
ومنه قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ} [153/ ب] {إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 104)، إذ الأمر والنهي من جملة الدعاء إلى الخير.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (فاستعمل).
(3) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر. أبو الطيب الطبري القاضي الفقيه الشافعي ولد سنة 348هـ كان ثقة صادقا دينا ورعا عارفا بأصول الفقه وفروعه محققا في علمه. تفقه على أبي علي الزجاجي وأدرك أبا علي الماسرجسي فصحبه وتفقه عليه وحضر مجلس الشيخ أبا حامد الأسفراييني من مصنفاته «شرح مختصر المزني» وصنف في الأصول والمذهب والخلاف والجدل. ت 450هـ (ابن خلكان، وفيات الأعيان 2/ 512).
(4) عبارة المخطوطة (بل كل ما كان في الأول فيه شامل للثاني).(3/47)
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَآمَنُوا بِمََا نُزِّلَ عَلى ََ مُحَمَّدٍ}، (محمد:
2) والقصد تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلم، وما نزّل عليه إذ لا يتم الإيمان إلا به.
وقوله: {وَلَهُمْ فِيهََا مَنََافِعُ وَمَشََارِبُ} (يس: 73).
وقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النََّاسِ عَلى ََ حَيََاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} (البقرة: 96)، ففائدة قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مع دخولهم في عموم الناس، أنّ حرصهم على الحياة أشدّ، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.
وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: 3)، فهذا عام، {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
(البقرة: 4)، وإن كان الإيمان بالغيب يشملها، ولكن خصها لإنكار المشركين لها في قولهم {مََا هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا نَمُوتُ وَنَحْيََا} (الجاثية: 24)، فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم.
وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1)، فعمّ بقوله: {خَلَقَ} جميع مخلوقاته، ثم خصّ فقال: {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 2).
وقوله تعالى: {إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} (الأنعام: 145)، فإنه عطف «اللحم» على «الميتة» مع دخوله في عموم الميتة، لأن الميتة كلّ ما ليس له ذكاة شرعية، والقصد به التنبيه على شدة التحريم فيه.
(تنبيه)
ظاهر كلام الكثيرين تخصيص هذا العطف بالواو، وقد سبق عن ابن مالك وآخرين مجيئه في «أو» في قوله [تعالى]: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} (النساء: 110) (1) [مع أن ظلم 2/ 471النفس من عمل السوء فقيل هو بمعنى الواو، والمعنى يظلم نفسه] (1) بذلك السوء حيث دسّاها بالمعصية.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ قََالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} (الأنعام: 93) فإن الوحي مخصوص بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء، خصّ بالذكر تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/48)
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذََا فَعَلُوا فََاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (آل عمران: 135)، مع أن فعل الفاحشة داخل فيه، قيل: أريد به نوع من أنواع ظلم النفس وهو الربا، أو كل كبيرة، فخص بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب.
القسم السادس ذكر العام بعد الخاص
وهذا أنكر بعض الناس وجوده وليس بصحيح.
والفائدة في هذا القسم واضحة، والاحتمالان المذكوران في العامّ قبله ثابتان هنا أيضا.
ومنه قوله: {إِنَّ صَلََاتِي وَنُسُكِي [وَمَحْيََايَ]} [1] (الأنعام: 162): والنّسك العبادة فهو أعمّ من الصلاة.
وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوََاهُمْ وَأَنَّ اللََّهَ عَلََّامُ الْغُيُوبِ} (التوبة:
78).
و [منه] (1) قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الحجر: 87).
وقوله [تعالى] (1)، إخبارا عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوََالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ} (نوح: 28).
وقوله: {فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ مَوْلََاهُ وَجِبْرِيلُ وَصََالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ} 2/ 472 (التحريم: 4).
وجعل الزمخشريّ (4) منه قوله تعالى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} (يونس: 31) بعد قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} (يونس: 31).
واعلم أن هذين النوعين يقعان في الأفعال والأسماء (5) لكن وقوعهما في الأفعال لا يأتي إلا في النفي، وأما في الإثبات فليس من هذا الباب بل من عطف المطلق على المقيّد، أو المقيّد على المطلق.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(4) الكشاف 2/ 189.
(5) في المخطوطة (الأسماء والأفعال).(3/49)
القسم السابع عطف أحد المترادفين على الآخر أو ما هو قريب منه في المعنى، والقصد منه التأكيد
وهذا إنما يجيء عند اختلاف اللفظ وإنما يحسن [154/ أ] بالواو، ويكون في الجمل كقوله: {أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ * ثُمَّ أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ} (القيامة: 34، 35).
ويكثر في المفردات كقوله: {فَمََا وَهَنُوا لِمََا أَصََابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَمََا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكََانُوا} (آل عمران: 146).
وقوله: {فَلََا يَخََافُ ظُلْماً وَلََا هَضْماً} (طه: 112)، {لََا تَخََافُ دَرَكاً وَلََا تَخْشى ََ} (طه:
77).
وقوله: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} (المدثر: 22).
وقوله: {إِنَّمََا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللََّهِ} (يوسف: 86).
وقوله: {لََا تُبْقِي وَلََا تَذَرُ} (المدثر: 28).
وقوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقََاهََا إِلى ََ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (النساء: 171).
وقوله: {لََا تَرى ََ فِيهََا عِوَجاً وَلََا أَمْتاً} (طه: 107) قال الخليل: العوج والأمت بمعنى واحد. وقيل: الأمت أن يغلظ مكان ويرقّ مكان، قاله ابن فارس (1) في «المقاييس» (2)، وهو راجع لما قاله الخليل.
وقوله: {أَنََّا لََا نَسْمَعُ} [3] سِرَّهُمْ وَنَجْوََاهُمْ (الزخرف: 80).
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنََا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً} (المائدة: 48).
وقوله: {إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً} (البقرة: 171).
__________
(1) «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس طبع بتحقيق عبد السلام محمد هارون في القاهرة بدار إحياء الكتب العربية عام 13711366هـ / 19521946م، وأعيد طبعه عام 13921389هـ / 1969 1972م. وعنه صورة بالأوفست بدار الكتب العلمية قم إيران (ذخائر التراث العربي 1/ 200). وانظر قوله في 1/ 137من الكتاب. مادة (أمت).
(2) تصحفت إلى (المقابلين).
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (نعلم).(3/50)
وفرّق الراغب (1) بين النداء، والدعاء (2) بأن النداء، قد يقال إذا قيل «يا» أو «أيا» ونحوه من غير أن يضمّ (3) إليه الاسم، والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو: «يا فلان».
وقوله: {إِنََّا أَطَعْنََا سََادَتَنََا وَكُبَرََاءَنََا} (الأحزاب: 67).
وقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (الأحزاب: 12).
وقوله: {لََا يَمَسُّنََا فِيهََا نَصَبٌ وَلََا يَمَسُّنََا فِيهََا لُغُوبٌ} (فاطر: 35)، فإن «نصب» مثل 2/ 474 «لغب» وزنا ومعنى ومصدرا.
وقوله: {أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 157)، على قول من فسّر الصلاة بالرحمة، والأحسن خلافه، وأن الصلاة للاعتناء وإظهار الشرف، كما قاله الغزاليّ (4)
وغيره، وهو قدر مشترك بين الرحمة والدعاء والاستغفار، وعلى هذا فهو من عطف المتغايرين (5).
وقال الزمخشريّ (6) في قوله [تعالى] (7): {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (البقرة: 4): إنّهم هم المذكورون أولا وهو من عطف الصفة على الصفة.
(8) [واعترض عليه بأن شرط عطف الصفة على الصفة] (8) تغاير الصفتين في المعنى، تقول: «جاء زيد العالم والجواد والشجاع» أي الجامع لهذه المعاني الثلاثة المتغايرة، ولا تقول: «زيد العالم والعالم» فإنه تكرار والآية من ذلك لأن (10) المعطوف عليه قوله [تعالى] (11): {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: 3)، والمعطوف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (البقرة: 4)، والمنزل هو الغيب بعينه.
__________
(1) انظر مفردات القرآن ص 169. مادة (دعا).
(2) في المخطوطة (الدعاء والنداء).
(3) في المخطوطة (تضم).
(4) إحياء علوم الدين 1/ 159وما بعدها.
(5) في المخطوطة (المتغاير).
(6) الكشاف 1/ 23.
(7) ليست في المخطوطة.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(10) في المخطوطة (إن).
(11) ليست في المخطوطة.(3/51)
ويحتمل أن يقال: المعطوف عليه مطلق الغيب، والمعطوف غيب خاصّ، فيكون من عطف الخاصّ على العام.
وجعل منه بعضهم قوله [تعالى] (1): {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جََاءَتْهُمْ 2/ 475رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتََابِ الْمُنِيرِ} (فاطر: 25)، فإن المراد بالكتاب المنير هو الزّبور، ونقله عن إجماع المفسرين لما تضمنه من النعت، كما تعطف النعوت بعضها على بعض وهذا يردّه تكرار الباء، فإنه يشعر بالفصل، لأن فائدة تكرار العامل بعد حرف العطف إشعار بقوة الفصل من الأول والثاني، وعدم التجوز في عطف الشيء على نفسه.
والذي يظهر أنه للتأسيس (2)، وبيانه وجوه:
أحدها أن قوله تعالى: {جََاءَتْهُمْ} يعود الضمير فيه على المكذبين للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلى (3)
الذين من قبلهم، فيكون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم داخلا في المرسلين المذكورين، والكتاب المنير هو القرآن، وقوله [تعالى] (4): {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (فاطر: 26)، معطوف على قوله [تعالى] (4): {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (فاطر: 25) أي كذبوا ثم أخذتهم (6) بقيام الحجة عليهم {بِالْبَيِّنََاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتََابِ الْمُنِيرِ} (فاطر: 25). وجاء تقديم قيام الحجة عليهم قبل العطف اعتراضا للاهتمام به، وهو من أدق وجوه البلاغة. ومثله في آية آل عمران قوله (7) [تعالى] (8): {[وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ]} [9] فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ الآية (10) (آل عمران:
184)، وقوله: {جََاؤُ} انصراف (10) من الخطاب إلى الغيبة، كأنه قال: «جاء هؤلاء المذكورون»، فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم داخلا في الضمير وهو في موضع «جئتم بالبينات» فأقام الإخبار [154/ ب] عن الغائب مقام المخاطب، كقوله [تعالى] (11): {وَجَرَيْنَ} [12] بِهِمْ
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (للمتأملين).
(3) في المخطوطة (عن).
(4) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (أخذت).
(7) في المخطوطة (وقوله).
(8) ليست في المخطوطة.
(9) ليست في المطبوعة.
(10) تصحفت في المخطوطة إلى (أنصارفا).
(11) ليست في المخطوطة.
(12) في المطبوعة (جرين).(3/52)
(يونس: 22)، وفيه وجه من التعجب كأنّ المخاطب إذا استعظم الأمر رجع إلى الغيبة ليعم الإخبار به جميع الناس، وهذا موجود في الآيتين.
والثاني: أن يكون على حذف مضاف كأنه قيل: «الكتاب المنير» يعني القرآن، فيكون مثل قوله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6). 2/ 476
وهذا وجه حسن.
تنبيهات (1)
الأول: أنكر المبرّد هذا النوع، ومنع (2) عطف الشيء على مثله إذ لا فائدة فيه، وأوّل ما سبق باختلاف المعنيين ولعله ممن ينكر أصل الترادف في اللغة كالعسكري (3)
وغيره.
الثاني: ما ذكرناه من تخصيص هذا النوع بالواو هو المشهور، وقال ابن مالك: وقد أنيبت «أو» عنها، كما في قوله تعالى: {نُشُوزاً أَوْ إِعْرََاضاً} (النساء: 128)، {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} (النساء: 112).
قال شيخنا: «وفيه نظر لإمكان أن يراد بالخطيئة ما وقع خطأ، وبالإثم ما وقع عمدا.
قلت: ويدلّ له قوله [تعالى] (4) قبل ذلك: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمََا يَكْسِبُهُ عَلى ََ نَفْسِهِ} (النساء: 111).
وجعل (5) منه بعضهم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك،
__________
(1) في المخطوطة (تنبيهان).
(2) في المخطوطة (مع).
(3) هو الحسن بن عبد الله بن سهل أبو هلال العسكري الفاضل الكامل صاحب التصانيف الأدبية صحب خاله أبا أحمد ويعرف بالعسكري أيضا وأخذ عنه فأكثر، وأخذ عن غيره وكان تاجرا كانت له نفس طاهرة ذكية، وتصانيفه في غاية الجودة فمن تصانيفه «الصناعتين» في النظم والنشر و «الفروق» و «النظائر» وغيرها عاش إلى بعد سنة 400هـ (القفطي، إنباه الرواة 4/ 189) وانظر قوله في كتابه الفروق اللغوية ص 12، في الباب الأول في الإبانة عن كون اختلاف العبارات موجبا لاختلاف المعاني في كل لغة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (فإن قيل).(3/53)
أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك (1)».
قلت: ما ذكره ابن مالك قد سبقه به (2) ثعلب، فيما حكاه ابن سيده (3) في «المحكم»، فقال ثعلب في قوله تعالى: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} (المرسلات: 6) [فقال] (4):
العذر والنذر واحد.
قال اللّحياني (5): وبعضهم يثقّل (6).
وعن الفراء: أنه يجرى في العطف بثم، وجعل منه قوله: {وَيََا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 52)، قال: معناه: وتوبوا إليه، لأن التوبة الاستغفار.
وذكر بعضهم أنه قد تجرد عن العطف، وجعل منه قوله تعالى: {وَغَرََابِيبُ سُودٌ}
(فاطر: 27) والغرابيب هي السود {سُبُلًا فِجََاجاً} (7) (نوح: 20)، {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
(الفاتحة: 3)، وغير ذلك.
الثالث: مما يدفع وهم التكرار في مثل هذا النوع، أن يعتقد أن مجموع المترادفين
__________
(1) الحديث ورد من طريقين: الأولى عن ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه أحمد في المسند 1/ 391 و 452، وأبو يعلى في المسند 9/ 198، الحديث 331/ 5297، مسند عبد الله بن مسعود وابن السني في عمل اليوم والليلة ص 133الحديث (342)، وابن حبان ذكره ابن بلبان في الإحسان 2/ 159، ذكر الأمر لمن أصابه حزن الحديث (968). والطبراني في كتاب الدعاء، دعاء يذهب الهم والحزن.
وأخرجه البزار (عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 138و 186). والحاكم في المستدرك 1/ 509.
والثانية عن أبي موسى الأشعري أخرجها ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 133 (341) باب ما يقول إذا أصابه هم أو حزن.
(2) في المخطوطة (إليه).
(3) هو علي بن إسماعيل الضرير تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 159.
(4) ساقطة من المطبوعة.
(5) هو علي بن المبارك الأحمر اللّحياني النحوي صاحب علي بن حمزة الكسائي كان مؤدب الأمين. وهو من اشتهر بالتقدم في النحو واتساع الحفظ وجرت بينه وبين سيبويه مناظرة لما قدم بغداد، قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كان علي بن المبارك يحفظ أربعين ألف بيت شاهد في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب ت 194هـ (القفطي إنباه الرواة 2/ 313).
(6) في المخطوطة (ينقل).
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (فجاجا سبلا).(3/54)
يحصّل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما، فإن التركيب يحدث معنى زائدا وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى، فكذلك كثرة الألفاظ.
القسم الثامن الإيضاح بعد الإبهام
ليرى المعنى في صورتين، أو ليكون بيانه بعد التشوف إليه، لأنّه يكون ألذّ للنفس وأشرف (1) عندها، وأقوى لحفظها وذكرها، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنََا إِلَيْهِ ذََلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دََابِرَ هََؤُلََاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} (الحجر: 66).
وقوله [تعالى] (2): {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) فإنّ وضع الضمير موضع 2/ 478 الظاهر معناه البيان أو الحديث، أو الأمر لله أحد (3) مكفوا بها ثم فسّر (3)، وكان أوقع في النفس من الإتيان به مفسرا من أول الأمر، ولذلك وجب تقديمه. وتفيد به الجملة المراد، تعظيما له (5).
وسيأتي عكسه في وضع الظاهر موضع المضمر.
ومثله التفصيل بعد الإجمال، كقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللََّهِ اثْنََا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتََابِ اللََّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهََا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (التوبة: 36).
وعكسه كقوله تعالى: {ثَلََاثَةِ أَيََّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذََا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كََامِلَةٌ}
(البقرة: 196).
وقوله [تعالى] (6): {وَوََاعَدْنََا مُوسى ََ ثَلََاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنََاهََا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقََاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الأعراف: 142)، وأعاد قوله: {أَرْبَعِينَ} وإن كان معلوما من «الثلاثين» و «العشر» أنها أربعون لنفي اللّبس لأن العشر لما أتت بعد الثلاثين، التي هي نصّ في
__________
(1) في المخطوطة (وأعرف).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) عبارة المخطوطة (فكفوا فيها ثم فسروا).
(5) في المخطوطة (به).
(6) ليست في المخطوطة.(3/55)
المواعدة دخلها الاحتمال أن تكون من غير المواعدة، فأعاد ذكر «الأربعين» نفيا لهذا الاحتمال، وليعلم أن جميع العدد للمواعدة.
وهكذا قوله [تعالى] (1): {فَصِيََامُ ثَلََاثَةِ} [155/ أ] {أَيََّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذََا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كََامِلَةٌ} (البقرة: 196) أعاد ذكر العشرة، لما كانت الواو تجيء في بعض المواضع للإباحة، وقوله: {كََامِلَةٌ} تحقيق لذلك وتأكيد له.
فإن قلت: فإذا كان زمن المواعدة أربعين فلم كانت «ثلاثين» ثم عشرا؟
أجاب ابن عسكر (2) في «التكميل والإتمام» (3) بأن العشر إنما فصل من أولئك ليتحدّد قرب انقضاء المواعدة (4)، ويكون فيه متأهبا مجتمع الرأي، حاضر الذهن لأنه لو ذكر «الأربعين» أولا لكانت متساوية فإذا جعل العشر فيها إتماما لها استشعرت النفس قرب التمام، وتجدّد بذلك عزم لم يتقدم.
قال: وهذا شبيه بالتلوم الذي جعله الفقهاء في الآجال المضروبة في الأحكام، ويفصلونه من أيام الأجل ولا يجعلونها شيئا واحدا ولعلهم استنبطوه من هذا.
فإن قلت: فلم ذكر في هذه السورة أعني الأعراف الثلاثين ثم العشر، وقال في البقرة: {وَإِذْ وََاعَدْنََا مُوسى ََ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (البقرة: 51) ولم يفصل العشر منها؟
والجواب، والله أعلم: أنه قصد في الأعراف ذكر صفة المواعدة والإخبار عن كيفية وقوعها فذكر على صفتها، وفي البقرة إنما ذكر الامتنان (5) على بني إسرائيل بما أنعم به عليهم، فذكر نعمه عليهم مجملة، فقال: {وَإِذْ فَرَقْنََا بِكُمُ الْبَحْرَ} (البقرة: 50)، {وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ} [6] مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (البقرة: 49).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) تصحفت في المطبوعة إلى عساكر والتصويب من المخطوطة. وهو محمد بن علي بن الخضر الغساني تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 242.
(3) تصحفت في المطبوعة إلى (الإفهام.
(4) في المخطوطة (العدة).
(5) في المخطوطة (الأمثال).
(6) تصحفت في المطبوعة إلى (أنجيناكم).(3/56)
واعلم أنه يخرج لنا مما سبق جوابان في ذكر العشرة بعد الثلاثة والسبعة إما الإجمال بعد التفصيل، وإما رفع الالتباس، ويضاف إلى ذلك أجوبة:
ثالثها: أنه قصد رفع ما قد يهجس في النفوس، من أنّ المتمتع إنما عليه صوم سبعة 2/ 480 أيام لا أكثر (1)، ثلاثة منها في الحج، ويكمل سبعا إذا رجع.
رابعها: أن قاعدة الشريعة أن الجنسين في الكفارة لا يجب على المكفّر الجمع بينهما، فلا يلزم الحالف أن يطعم المساكين ويكسوهم ولا المظاهر العتق والصوم فلما اختلف محلّ هذين الصومين فكانت ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، صارا باختلاف المحلّين كالجنسين، والجنسان لا يجمع بينهما. وأفادت هذه الزيادة وهي قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كََامِلَةٌ} (البقرة:
196) رفع ما قد يهجس في النفوس (2)، من أنه إنما (3) عليه أحد النوعين: إما الثلاث وإما السبع.
الخامس: أن المقصود ذكر كمال لا ذكر العشرة، فليست العشرة مقصودة بالذات، لأنها لم تذكر إلا للإعلام بأن التفصيل المتقدّم عشرة، لأن ذلك من المعلوم بالضرورة، وإنما ذكرت لتوصف بالكمال الذي هو مطلوب في (4) القصة.
السادس: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: فصيام عشرة أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجعتم وهذا وإن كان خلاف الأصل، لكنّ الإشكال ألجأنا إليه.
السابع: أن الكفارات في الغالب إنما تجب متتابعة ككفارات الجنايات، ولما فصل هاهنا بين صوم هذه الكفارة بالإفطار قبل صومها بذكر الفدية (5) ليعلم (6) أنها وإنما كانت منفصلة فهي كالمتصلة.
فإن قلت: فكفارة اليمين لا تجب متتابعة، ومن جنس هذه الكفارة ما يجب على
__________
(1) في المخطوطة (والأكثر).
(2) في المخطوطة (النفس).
(3) في المخطوطة (أن) بدل (أنه إنما).
(4) في المخطوطة (من).
(5) في المخطوطة (العد).
(6) عبارة المخطوطة (يعلم).(3/57)
2/ 481المحرم إذا حلق ثلاث شعرات، ومن عجز عن الفدية فإنه يصوم ثلاثة أيام ولا يشترط التتابع.
قلت: هي في حكم المتتابعة بالنسبة إلى الثواب إلا أن الشرع خفّف بالتفريق.
ثامنها (1): أن السبع قد تذكر والمراد به الكثرة لا العدد والذي (2) فوق الستة (3) ودون الثمانية، وروى أبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي عن العرب: سبّع الله لك الأجر، أي أكثر ذلك، يريدون التضعيف.
وقال الأزهري (4) في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (التوبة: 80):
«هو جمع السبع، الذي يستعمل (5) [155/ ب] للكثرة، وإذا كان كذلك فاحتمل أن يتوهم أن المراد بالسبع ما هو أكثر من السبع ولفظها معطوف على الثلاثة بآلة الجمع، فيفضي إلى الزيادة في الكفارة على العدد المشروع، فيجب حينئذ رفع [هذا] (6) الاحتمال بذكر الفذلكة وللعرب مستند قويّ في إطلاق السبع والسبعة، وهي تريد الكثرة ليس هذا موضع ذكره».
تاسعها (7): أن الثلاثة لما عطف عليها السبعة احتمل أن يأتي بعدها ثلاثة أو غيرها من الأعداء، فقيّد بالعشرة ليعلم أن المراد كمل، وقطع الزيادة المفضية للتسلسل.
عاشرها (8): أن السبعة المذكورة عقب الثلاثة يحتمل أن تكون الثلاثة داخلة فيها، كما في قوله: {وَقَدَّرَ فِيهََا أَقْوََاتَهََا فِي أَرْبَعَةِ أَيََّامٍ} (فصلت: 10)، أي مع اليومين اللذين خلق الأرض فيهما، فلا بدّ من اعتقاد هذا التأويل ليندفع ظاهر التناقض، فجاء التقييد بالعشرة لرفع توهم التداخل.
وهذا الجواب أشار إليه الزمخشري (9) ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام
__________
(1) في المخطوطة (الثامن).
(2) في المخطوطة (الذي).
(3) في المخطوطة (السبعة).
(4) هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر تقدم التعريف به في 1/ 309.
(5) في المخطوطة (التي تستعمل).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (التاسع).
(8) في المخطوطة (العاشر).
(9) الكشاف 3/ 384.(3/58)
ترجيحه وردّه (1) ابن أبي الإصبع (2) لأن (3) احتمال التداخل لا يظن إلا بعددين منفصلين لم يأت بهما جملة، فلو اقتصر على التفصيل احتمل ذلك فالتقييد مانع من هذا الاحتمال.
وهذا أعجب منه، فإن مجيء الجملة رافع لذلك الاحتمال.
الحادي عشر: أن حروف السبعة والتسعة مشتبهة، فأزيل الإشكال بقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كََامِلَةٌ} (البقرة: 196) لئلّا يقرءوها «تسعة»، فيصير العدد اثنى عشر. ونظير هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا» (4). فإن (5) التأكيد بمائة إلا واحدا (6)، لإزالة إلباس التسعة والتسعين بالسبعة والسبعين لكن مثل هذا مأمون في القرآن لأن الله حفظه.
القسم التاسع وضع الظاهر موضع المضمر
لزيادة التقرير والعجب أن البيانيين لم يذكروه في أقسام الإطناب.
ومنه بيت «الكتاب (7):
إذا الوحش ضمّ الوحش في ظللاتها (8) ... سواقط من حرّ وقد كان أظهرا (9).
__________
(1) في المخطوطة (وردده).
(2) هو عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر الأديب أبو محمد زكي الدين ابن أبي الأصبع العدواني المصري شاعر مشهور إمام في الأدب له تصانيف حسنة في الأدب وشعره رائق من تصانيفه «بدائع القرآن»، و «تحرير التحبير» في علم البديع و «خواطر السوانح في أسرار الفواتح» وغير ذلك ت 654هـ بمصر (الكتبي، فوات الوفيات 2/ 363).
(3) في المطبوعة (بأن).
(4) متفق عليه من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في الصحيح 13/ 377، كتاب التوحيد (97)، باب إن لله مائة اسم إلا (12)، الحديث (7392). وأخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2063، كتاب الذكر (48)، باب في أسماء الله تعالى (2)، الحديث (6/ 2677).
(5) تصحفت في المطبوعة إلى (فائدة).
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (واحد).
(7) كتاب سيبويه 1/ 63. باب ما أجري مجرى ليس في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز ثم يصير إلى أصله والبيت للنابغة الجعدي انظر ديوانه ص 74. (طبعة المكتب الإسلامي).
(8) في المخطوطة (طلالتها).
(9) في المخطوطة (أظهر).(3/59)
ولو أتى على وجهه لقال: «إذا الوحش ضمّها».
وإنما يسأل عن حكمته إذا وقع في الجملة الواحدة، فإن كان (1) في جملتين مستقلتين كالبيت سهل الأمر، لكنّ الجملتين فيه كالجملة الواحدة، لأن الرافع للوحش الأول فعل محذوف كما يقول (2) البصريون، والفعل المذكور ساد (3) مسدّ الفعل المحذوف حتى كأنه هو ولهذا لا يجتمعان، وإن قدر رفع الوحش بالابتداء فالكلام جملة واحدة.
ويسهل عند اختلاف اللفظين كقوله:
إذا المرء لم يغش الكريهة أو شكت ... حبال الهوينى بالفتى أن تقطّعا (4).
فاختلاف لفظين ظاهرين (5) أشبها لفظي الظاهر والمضمر في اختلاف اللفظ وعليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} (التوبة: 61) ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللََّهِ} (التوبة: 61). ولم يقل: «يؤذونه» مع ما في ذلك من التعظيم، فالجمع بين الوصفين، كقوله في الحديث: «نبيك الذي أرسلت (6)»، وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) الآية فإنه قد تكرّر اسم الله ظاهرا في هذه الجمل الثلاث، ولم يضمر لدلالته على استقلال كل جملة منها، وأنّها لم تحصل (7) مرتبطة ببعضها ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطََّاغُوتِ فَقََاتِلُوا أَوْلِيََاءَ الشَّيْطََانِ} (النساء:
2/ 76484)، وفيه (8) دلالة على أن الطاغوت هو الشيطان، وحسن ذلك هنا تنبيها على تفسيره.
__________
(1) في المخطوطة (كانا).
(2) في المخطوطة (تقول).
(3) في المخطوطة (شاد مثل).
(4) البيت للكلحبة اليربوعي انظر المفضليات بشرح ابن الانباري ص 23.
(5) عبارة المخطوطة (لفظي الظاهرين).
(6) قطعة من حديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 357، كتاب الوضوء (4)، باب فضل من بات على الوضوء (75)، الحديث (247). وأخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2081، كتاب الذكر والدعاء (48)، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (17) الحديث (5756/ 2710).
(7) في المخطوطة (يحصل).
(8) في المخطوطة (ومنه).(3/60)
وقال ابن السيّد (1): «إن كان في جملتين حسن الإظهار والإضمار لأن كلّ جملة تقوم بنفسها، كقولك: «جاء زيد، وزيد رجل فاضل» (2) [وإن شئت قلت: «وهو رجل فاضل»] (2).
وقوله: {مِثْلَ مََا أُوتِيَ رُسُلُ اللََّهِ اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} [156/ أ] {رِسََالَتَهُ} (الأنعام:
124). وإن كان في جملة واحدة قبح الإظهار ولم يكد يوجد إلا في الشعر (4) كقوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (5)
قال: وإذا اقترن بالاسم الثاني حرف الاستفهام بمعنى التعظيم والتعجب كان المناسب الإظهار كقوله [تعالى] (6): {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 21) و {الْقََارِعَةُ * مَا الْقََارِعَةُ} (القارعة: 1، 2)، والإضمار جائز كقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هََاوِيَةٌ * وَمََا أَدْرََاكَ مََا هِيَهْ} (القارعة: 9، 10).
واعلم أن الأصل في الأسماء أن تكون ظاهرة، وأصل المحدّث عنه كذلك. والأصل أنه إذا ذكر ثانيا أن يذكر مضمرا للاستغناء عنه بالظاهر السابق، كما أن الأصل في الأسماء الإعراب، وفي الأفعال البناء، وإذا جرى (7) المضارع مجرى الاسم أعرب، كقوله [تعالى] (8):
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللََّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (العنكبوت: 17).
وقوله [تعالى] (8): {فَمَنْ عَفََا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللََّهِ إِنَّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ} 2/ 485 (الشورى: 40).
وقوله [تعالى] (10): {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كََانَ تَوََّاباً} (النصر: 3).
__________
(1) هو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي تقدم التعريف به في 1/ 343.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) بعد هذا الموضع زيادة في المخطوطة كما يلي (كقولك جاء زيد) ولا محل لها هنا.
(5) البيت من شواهد سيبويه في الكتاب 1/ 62، ونسبه لسواد بن عدي، باب ما أجري مجرى ليس في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز
(6) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (أجرى).
(8) ليست في المخطوطة.
(10) ليست في المخطوطة.(3/61)
وللخروج على خلاف الأصل [أسباب] (1)
أحدها: قصد التعظيم
كقوله [تعالى]: {وَاتَّقُوا اللََّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللََّهُ وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282).
وقوله [تعالى]: {أُولََئِكَ حِزْبُ اللََّهِ أَلََا إِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة:
22).
وقوله [تعالى]: {وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18).
وقوله [تعالى] (1): {لََكِنَّا هُوَ اللََّهُ رَبِّي وَلََا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} (الكهف: 38).
فأعاد ذكر الرب (3)» لما فيه من التعظيم والهضم للخصم.
وقوله [تعالى] (1): {اللََّهُ أَحَدٌ * اللََّهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص: 21).
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبََادِ} (غافر: 44).
{هُوَ اللََّهُ رَبِّي وَلََا أُشْرِكُ بِرَبِّي} (الكهف: 38).
{كُلًّا نُمِدُّ هََؤُلََاءِ وَهَؤُلََاءِ مِنْ عَطََاءِ رَبِّكَ وَمََا كََانَ عَطََاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء:
20).
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسََّاعَةِ وَأَعْتَدْنََا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسََّاعَةِ سَعِيراً} (الفرقان: 11).
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كََانَ مَشْهُوداً} (الإسراء: 78).
{وَكَفَّلَهََا زَكَرِيََّا كُلَّمََا دَخَلَ عَلَيْهََا زَكَرِيَّا الْمِحْرََابَ} (آل عمران: 37).
وقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 21)، {الْقََارِعَةُ مَا الْقََارِعَةُ}
(القارعة: 21)، كان القياس لولا (5) ما أريد به من التعظيم والتفخيم «الحاقة ما هي».
ومثله: {فَأَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ} [6] [مََا أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ] (6) (الواقعة: 98) تفخيما لما ينال (8) الفريقين من جزيل الثواب وأليم العقاب.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) تصحفت في المطبوعة إلى (لرب).
(5) في المخطوطة (أولا).
(6) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(8) في المخطوطة (شأن).(3/62)
(1) [ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «قل ومن يعص الله ورسوله» (2) فلا يرد، «كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (3) لأن المعنى في نهي الخطيب عن عدم الإفراد احتمال عدم التعظيم وهو سيّئ في حقه صلّى الله عليه وسلّم، ولأن كلام الخطيب في جملتين فلا بد من إعادته بخلافه في الآخر] (1).
الثاني: قصد الإهانة والتحقير
كقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّبِعُوا خُطُوََاتِ الشَّيْطََانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوََاتِ الشَّيْطََانِ} (النور: 21).
[وقوله تعالى] (5): {أُولََئِكَ حِزْبُ الشَّيْطََانِ أَلََا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطََانِ} (المجادلة:
19).
وقوله: {إِنَّ الشَّيْطََانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطََانَ كََانَ لِلْإِنْسََانِ عَدُوًّا مُبِيناً} (الإسراء:
53).
وقوله [تعالى] (5): {وَكَذََلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمََا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} (غافر: 37).
وقول الشاعر: 2/ 487 فما للنّوى لا بارك الله في النّوى ... وعهد النّوى عند الفراق ذميم
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(2) قطعة من حديث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أخرجه مسلم في الصحيح 2/ 594كتاب الجمعة (7)، باب تخفيف الصلاة والخطبة (13)، الحديث (48/ 870). وفي بيان معنى الحديث ما ذكره النووي في شرح صحيح مسلم 6/ 159: (قال القاضي وجماعة من العلماء: إنما أنكر عليه لتشريكه في الضمير المفضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيما لله تعالى بتقديم اسمه كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الآخر: «لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان»). وقد تقدم تخريج الحديث مع بعض التفصيل في 1/ 499، معرفة الوقف والابتداء.
(3) قطعة من حديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 60، كتاب الإيمان (2)، باب حلاوة الإيمان (9)، الحديث (16). وأخرجه مسلم في الصحيح 1/ 66، كتاب الإيمان (1)، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (15)، الحديث (6867/ 43). وانظر كلام ابن حجر في سياق شرحه للحديث في فتح الباري 1/ 6261، وما نقله من أقوال العلماء في هذا الشأن.
(5) ليست في المخطوطة.(3/63)
وسمع الأصمعيّ من ينشد:
فما للنوى جدّ النوى قطع النوى ... كذاك (1) النوى قطاعة للقرائن (2)
فقال: لو قيّض لهذا البيت شاة لأتت عليه.
الثالث: الاستلذاذ بذكره
كقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الإسراء: 105)، إن كان «الحق» الثاني هو الأول.
وقوله: {مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلََّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر: 10).
وقوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ} (الزمر: 74)، ولم يقل: «منها» ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة وإن كان المراد بالأرض الجنة ولله درّ القائل:
كرّر على السمع منّي أيها الحادي ... ذكر المنازل والأطلال والنادي
وقوله:
يا مطر بي بحديث من سكن [156/ ب] الغضى (3) ... هجت الهوى وقدحت فيّ حراق
كرّر حديثك يا مهيّج لوعتي ... إنّ الحديث عن الحبيب تلاق
الرابع: زيادة التقدير
كقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الإسراء: 105).
وقوله: {اللََّهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص: 2)، بعد قوله: {اللََّهُ أَحَدٌ}
(الإخلاص: 1) ويدل على إرادة التقدير سبب نزولها، وهو ما نقل عن ابن عباس (4) أن قريشا قالت: يا محمد صف لنا ربّك الذي تدعوننا (5) إليه، فنزل {اللََّهُ أَحَدٌ}
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (لذاك).
(2) البيت ذكره ابن الشجري في أماليه 1/ 281، فصل في أقسام الكلام.
(3) في المخطوطة (الغطا).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم وابن عدي والبيهقي في الأسماء والصفات (ذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 410.
(5) في المخطوطة (تدعونا).(3/64)
(الإخلاص: 1)، معناه أن الذي سألتموني وصفه هو الله ثم لما أريد تقدير كونه «الله» أعيد بلفظ الظاهر دون ضميره.
وقوله: {إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} (غافر:
61).
وقوله [تعالى] (1): {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَمََا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} (آل عمران:
78).
{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتََابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتََابِ وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ} (آل عمران: 78).
الخامس: إزالة اللبس حيث يكون الضمير يوهم أنه غير المراد (2)
كقوله تعالى: {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ} (آل عمران: 26)، لو قال: «تؤتيه» لأوهم أنه الأول، قاله ابن الخشاب (3).
وقوله تعالى: {الظََّانِّينَ} [4] بِاللََّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دََائِرَةُ السَّوْءِ (الفتح: 6)، (كرر السوء) (5) لأنه 2/ 489 [لو] (6) قال: «عليهم دائرته» لالتبس بأن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى. قاله الوزير المغربي (7) في «تفسيره».
ونظيره: {اللََّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} (الروم: 54)، وتبيينه: الأول النطفة أو التراب، والثاني الوجود في الجنين أو الطفل، والثالث الذي بعد الشيخوخة وهو أرذل العمر والقوة الأولى التي تجعل للطفل
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (الأول).
(3) هو عبد الله بن أحمد أبو محمد، ابن الخشاب تقدم التعريف به في 1/ 163.
(4) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (يظنون) والصواب ما أثبتناه.
(5) ساقط من المخطوطة.
(6) زيادة يقتضيها السياق.
(7) هو الحسين بن علي بن الحسين المعروف بالوزير المغربي، استظهر القرآن العزيز وعدة من الكتب المجردة في النحو واللغة ونحو خمسة عشر ألف بيت شعر من مختار الشعر القديم، ونظم الشعر والصّرف في النثر، وكان من الدهاة العارفين من مصنفاته «الشعر والنثر» و «مختصر إصلاح المنطق» و «الإيناس» ت 418هـ (ابن خلكان، وفيات الأعيان 2/ 172). وكتابه ذكره الداودي في طبقات المفسرين 1/ 156 واسمه «إملاءات عدة في تفسير القرآن العظيم وتأويله».(3/65)
التحرك والاهتداء للثدي، والثانية بعد البلوغ، قاله ابن الحاجب (1)، ويؤيد الغيرية (2)
التنكير.
ونحوه قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كََانَ مَشْهُوداً} (الإسراء:
78) الآية، لو قال: «إنه» لأوهم عود الضمير إلى الفجر.
وقوله [تعالى] (3): {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجََادِلُ عَنْ نَفْسِهََا} (النحل: 111)، فلم يقل «عنها» لئلا يتحد الضميران فاعلا ومفعولا مع أن المظهر (4) السابق لفظ النفس، فهذا أبلغ من «ضرب زيد نفسه».
وكقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهََا مِنْ وِعََاءِ أَخِيهِ} (يوسف: 76)، وإنما حسن إظهار الوعاء مع أنّ الأصل «فاستخرجها منه» لتقدم ذكره، لأنه لو قيل ذلك لأوهم عود الضمير على الأخ، فيصير كأن الأخ مباشر لطلب (5) خروج الوعاء وليس كذلك لما في المباشرة من الأذى (6) الذي تأباه النفوس (7) الأبية، فأعيد لفظ الظاهر لنفي هذا.
وإنما لم يضمر الأخ فيقال: «ثم استخرجها من وعائه» لأمرين.
أحدهما: أن ضمير الفاعل في {اسْتَخْرَجَهََا} ليوسف عليه السلام، فلو قال: «من وعائه» لتوهم أنه يوسف، لأنه أقرب مذكور فأظهر لذلك.
والثاني: أن الأخ مذكور مضاف إليه ولم يذكر فيما تقدم مقصودا بالنسبة الإخبارية، فلما احتيج إلى إعادة ما، وأضيف إليه أظهره أيضا.
وقوله [تعالى] (8): {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبََالُ وَكََانَتِ الْجِبََالُ} (المزمل: 14)
__________
(1) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن يونس تقدم التعريف به في 1/ 466.
(2) اضطربت في المخطوطة إلى (العربة).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (المضمر).
(5) في المخطوطة (بطلب).
(6) في المخطوطة (الأدا).
(7) في المخطوطة (النفس).
(8) ليست في المخطوطة.(3/66)
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ فَإِذََا أُوذِيَ فِي اللََّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النََّاسِ كَعَذََابِ اللََّهِ}
(العنكبوت: 10).
السادس: أن يكون القصد تربية المهابة وإدخال الروعة في ضمير السامع
بذكر الاسم المقتضي لذلك، كما يقول الخليفة لمن يأمره بأمر: «أمير المؤمنين يأمرك بكذا» مكان: «أنا آمرك بكذا».
ومنه قوله (1) تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 21).
وقوله: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا} (النساء: 58) {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} (النحل: 90).
وقوله: {وَقََالَ الَّذِينَ فِي النََّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} (غافر: 49)، ولم يقل:
«لخزنتها».
السابع: قصد تقوية داعية المأمور
2/ 491 كقوله تعالى: {فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:
159)، ولم يقل «عليّ» وحين قال: {عَلَى اللََّهِ} لم يقل [157/ أ]: «إنه يحب»، أو «إني أحبّ» تقوية لداعية المأمور بالتوكّل بالتصريح باسم المتوكّل عليه.
وقوله [تعالى] (2): {وَاتَّقُوا اللََّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللََّهُ وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة:
282).
الثامن: تعظيم الأمر
كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللََّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (العنكبوت: 2019).
وقوله: {هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنََّا خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ} (الإنسان: 21) ولم يقل «خلقناه» للتنبيه على عظم خلقه للإنسان.
__________
(1) في المخطوطة (وقوله) بدل (ومنه قوله تعالى).
(2) ليست في المخطوطة.(3/67)
وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبََالُ وَكََانَتِ الْجِبََالُ كَثِيباً مَهِيلًا} (المزمل: 14) فإنما أعيد لفظ {الْجِبََالُ} والقياس الإضمار لتقدم (1) ذكرها مثل ما ذكرنا في الم السجدة 2/ 492في أحد القولين وهو قوله: {كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا} [2] [أُعِيدُوا فِيهََا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ] (2) (السجدة: 20) وهو أن الآيتين سيقتا للتخويف والتنبيه على عظم الأمر فإعادة الظاهر أبلغ.
وأيضا فلو لم يذكر {الْجِبََالُ} لاحتمل عود الضمير إلى الأرض.
التاسع: أن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف
كقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَكَلِمََاتِهِ} (الأعراف:
158) (4) [بعد قوله في صدر الآية: {إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158) {فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} (الأعراف: 158) دون «فآمنوا بالله وبي» ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها من النبي الأمّيّ الذي يؤمن بالله،] (4) فإنه لو قال: «وبي» لم يتمكن من ذلك لأن الضمير لا يوصف ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو من وصف بهذه الصفات كائنا من كان، أنا أو غيري إظهارا للنصفة، وبعدا من التعصب لنفسه.
العاشر: التنبيه على علة الحكم
كقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (البقرة: 59).
وقوله: {فَإِنَّ اللََّهَ عَدُوٌّ لِلْكََافِرِينَ} (البقرة: 98) أعلمنا أنه من كان عدوا لهؤلاء فهو كافر هذا إن خيف الإلباس لعوده للمذكورين.
وكذا قوله: {فَإِنَّ اللََّهَ} [دون] (6) «فإنه».
وكقوله (7) تعالى: {فَأَنْزَلْنََا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمََاءِ} (البقرة: 59)، ولم يقل
__________
(1) في المخطوطة (لتقديم).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة، وكتب مكانها عبارة (من غم).
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (كقوله).(3/68)
«عليهم» لأنه ليس في الضمير ما في قوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} من ذكر الظلم المستحق به العذاب.
وجعل منه الزمخشري (1) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30).
وقوله تعالى: {فَلَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الْكََافِرِينَ} (البقرة: 89) والأصل «عليهم» للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم.
وليس من ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
(يوسف: 90) فإنّ العلة قد تقدمت في الشرط وإنما فائدة ذلك إثبات صفة أخرى زائدة. وقال الزمخشري (2): فائدته اشتماله على المتقين والصابرين.
ومنه قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جََاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللََّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}
(النساء: 64) لأن شفاعة (3) من اسمه الرسول من الله بمكان عظيم.
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ}
(الأنعام: 21) والقياس «أنهم لا يفلحون»، ولو ذكر الظاهر لقال: «لا يفلح المفترون» أو «الكاذبون» لكن صرّح بالظلم تنبيها على أن علّة عدم الفلاح الظلم.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتََابِ وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}
(الأعراف: 170)، ولم يقل: «أجرهم» تنبيها على أنّ صلاحهم علّة لنجاتهم.
وقوله: {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 1، 2) ولم يقل:
«لنا» لينبه على أنه أهل لأن يصلّى له لأنه ربه الذي خلقه وأبدعه وربّاه بنعمته. 2/ 494
وكقوله تعالى: {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ فَإِنَّ اللََّهَ عَدُوٌّ لِلْكََافِرِينَ} (البقرة: 98) قال الزمخشري (4): أراد «عدوا لهم»، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله
__________
(1) الكشاف 2/ 389.
(2) الكشاف 2/ 374.
(3) في المخطوطة (الشفاعة).
(4) الكشاف 1/ 494.(3/69)
إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر، وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا، فما بال [157/ ب] الملائكة وهم أشرف!. والمعنى: ومن عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب [المهين] (1). [انتهى] (2).
وقد أدمج في هذا الكلام (3) مذهبه، في تفضيل الملك على النّبيّ وإن لم يكن مقصودا فهو كما قيل:
وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرّجل
ومثله قول مطيع:
أمّي الضريح الذي أسمّي (4) ... ثم استهلّ (5) على الضريح
ألا ترى أنه لم يقل: «عليه» لأنه باك بذكر الضريح الذي من عادته أن يبكي عليه ويحزن لذكراه (6).
الحادي عشر: قصد العموم
كقوله تعالى: {حَتََّى إِذََا أَتَيََا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمََا أَهْلَهََا} (الكهف: 77) ولم يقل:
«استطعمهم (7) للإشعار بتأكيد العموم وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها إلا استطعماه وأبى، 2/ 495ومع ذلك قابلهم بأحسن الجزاء. وفيه التنبيه على محاسن الأخلاق، ودفع السيئة بالحسنة.
وقوله [تعالى] (8): {وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53) فإنه لو قيل: «إنها لأمارة» لاقتضى تخصيص ذلك فأتى بالظاهر ليدلّ على أن المراد التعميم
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) في المخطوطة (الكتاب).
(4) في المخطوطة (أمسى).
(5) اضطربت في المخطوطة كما يلي (اسهلى).
(6) في المخطوطة (لذكره).
(7) في المخطوطة (استطعماهم).
(8) ليست في المخطوطة.(3/70)
مع أنه بريء من ذلك بقوله بعده {إِلََّا مََا رَحِمَ رَبِّي} (يوسف: 53)، وقوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53) ولم يقل: «إنه» إما للتعظيم وإما للاستلذاذ.
وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لََا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (النجم:
28).
وقوله تعالى: {وَإِنََّا إِذََا أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهََا} (الشورى: 48) [ثم] (1)
قال: {فَإِنَّ الْإِنْسََانَ كَفُورٌ} (الشورى: 48) ولم يقل: «فإنه» مبالغة في إثبات أنّ هذا الجنس شأنه كفران النعم.
الثاني عشر: قصد الخصوص:
كقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ} (الأحزاب: 50)، ولم يقل:
«لك» لأنه لو أتى بالضمير لأخذ جوازه لغيره، كما في قوله تعالى: {وَبَنََاتِ عَمِّكَ}
(الأحزاب: 50)، فعدل عنه إلى الظاهر للتنبيه على الخصوصية وأنه ليس لغيره ذلك.
الثالث عشر: مراعاة التجنيس
2/ 496 ومنه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ} السورة (الناس: 1)، ذكره (2) الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله.
الرابع عشر: أن يتحمل ضميرا لا بدّ منه.
كقوله: {أَتَيََا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمََا أَهْلَهََا} (الكهف: 77).
الخامس عشر: كونه أهم من الضمير
كقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} (البقرة: 282). وقال بعضهم: إنما أعيدت {إِحْدََاهُمََا} لتعادل الكلم وتوازن الألفاظ (3) [في التركيب وهو المعنى في الترصيع البديعيّ بل هذا أبلغ من الترصيع، فإن الترصيع توازن الألفاظ] (3) من حيث صيغها، وهذا من حيث تركيبها فكأنه ترصيع معنويّ، وقلما يوجد إلا في نادر من الكلام، وقد استغرب أبو الفتح (5) ما حكي عن المتنبي في قوله:
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (ذكرها).
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(5) ابن جني.(3/71)
وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهارا في الخدود الشقائق (1).
2/ 497قال: سألته: هل هو «قرحى (2)» أو «قرحا» منوّن؟ (3) [فقال لي: «قرحا» منوّن] (3)، ألا ترى أن بعدها «وعادت بهارا»! قال: يعني أن «بهارا»: جمع بهار، وقرحى: جمع قرحة، ثم أطنب في الثناء على المتنبي، واستغرب فطنته لأجل هذا.
وبيان ما ذكرت في الآية أنها متضمنة لقسمين: قسم الضلال وقسم التذكير، فأسند الفعل الثاني إلى ظاهر حيث أسند الأول، ولم يوصل بضمير مفصول لكون الأول لازما، فأتى بالثاني على صورته من التجرد عن المفعول، ثم أتى به خبرا بعد اعتدال الكلام وحصول التماثل في تركيبه.
ولو قيل: إن المرفوع حرف لكان أبلغ في المعنى المذكور، ويكون الأخير بدلا أو نعتا على وجه (5) البيان، كأنه (6) قال: «إن كان ضلال من إحداهما (7) كان تذكير من الأخرى»، وقدم على «الأخرى» لفظ «إحداهما» ليسند [158/ أ] الفعل الثاني إلى مثل ما أسند إليه الأول لفظا ومعنى. والله أعلم.
السادس عشر كون ما يصلح للعود ولم يسق الكلام [له] (8).
كقوله: {رُسُلُ اللََّهِ اللََّهُ أَعْلَمُ} (الأنعام: 124)، وكقول الشاعر:
تبكي على زيد ولا زيد مثله ... بريء من الحمّى سليم الجوانح (9).
__________
(1) البيت تصحف صدره وعجزه في المطبوعة إلى (وقد عادت ... وعادت بهارا) والتصويب من الديوان بشرح أبي البقاء العكبري 2/ 342. وتجد في الشرح ما جرى بينه وبين ابن جني. والبهار. زهر أصفر، والشقائق: جمع شقيقة وهي زهر أحمر ينسب إلى النعمان. وقرحى: بغير تنوين جمع قريح كجرحى وجريح.
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (فرحي).
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (جهة).
(6) في المخطوطة (فإنه).
(7) في المخطوطة (أحدهما).
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) البيت في خزانة الأدب للبغدادي 2/ 98. ولم ينسبه لأحد.(3/72)
السابع عشر: الإشارة إلى عدم دخول الجملة في حكم الأولى
كقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللََّهُ يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ} (الشورى: 24) في سورة الشورى، فإن {يَمْحُ} استئناف وليس عطفا على الجواب لأن المعلّق على الشرط عدم قبل وجوده وهذا صحيح في {يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ} وليس صحيحا في {يَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ} (الشورى: 24) لأنّ محو الباطل ثابت فلذلك أعيد الظاهر، وأما حذف الواو من الخط فللفظ، وأما حذفها في الوقف كقوله تعالى: {يَدْعُ الدََّاعِ} (القمر: 6) و {سَنَدْعُ الزَّبََانِيَةَ} (العلق: 18) فللوقف ويؤكد ذلك وقوف يعقوب عليها بالواو.
وهذا ملخص (1) كلام عبد العزيز (2) في كلامه على البزدويّ (3)، وفيما ذكره نزاع، وهذا أنا لا نسلم أن المعلّق هاهنا بالشرط هو موجود قبل الشرط لأن الشرط هنا (4) المشيئة وليس المحو ثابتا قبل المشيئة فإن قيل (5): إن الشرط هنا مشيئة خاصة وهي مشيئة الختم، وهذا وإن كان محذوفا فهو مذكور بالقوة. شائع في كثير من الأماكن كقوله [تعالى] (6): {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ} (الأنعام: 35)، (7) [{وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكُوا}] (7) (الأنعام:
107)، {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (البقرة: 253) (7) [المعنى «ولو شاء الله جمعهم لجمعهم» و «لو شاء الله عدم ما أشركوا»] (7) و «لو شاء الله عدم قتالهم ما اقتتلوا».
قيل: لا يكاد يثبت مفعول المشيئة إلا نادرا كما سيأتي في الحذف إن شاء الله تعالى، وإذا 2/ 499 ثبت هذا صحّ ما ادعيناه، فإن محو الله ثابت قبل مشيئة الله الختم.
فإن قلت: سلّمنا أنّ الشرط مشيئة خاصة لكنها إنما تختص بقرينة الجواب.
والجواب: هنا شيئان (11) فالمعنى: إن يشأ الله الختم ومحو الباطل يختم على قلبك، ويمح الباطل، وحينئذ لا يتم ما ادّعاه.
__________
(1) في المخطوطة (يلحظ).
(2) هو عبد العزيز بن أحمد البخاري تقدم التعريف به في 2/ 96.
(3) هو علي بن محمد بن عبد الكريم البزدوي الإمام الكبير الجامع بين أشتات العلوم إمام الدنيا في الفروع والأصول له تصانيف معتبرة منها «المبسوط» و «الأصول» ت 482هـ (الفوائد البهية: 124).
(4) في المخطوطة (هو).
(5) في المخطوطة (قال).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(11) في المخطوطة (سياق).(3/73)
وجوابه أنّ الشرط لا (1) بد أن يكون غير ثابت وغير ممتنع، و «يمحو الباطل» كان ثابتا فلا يصحّ دخوله في جواب (2) الشرط. وهذا أحسن جدّا.
بقي أن يقال: إن الجواب ليس كلّا من الجملتين بل مجموع الجملتين والمجموع معدوم قبل وجود الشرط وإن كان أحدهما ثابتا.
[تنبيهان] (3)
الأول: قد سبق أنه لا يشترط في وضع الظاهر موضع المضمر أن يكون بلفظ الأول ليشمل مثل قوله تعالى: {إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30).
وقوله [تعالى] (4): {مََا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللََّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ} (البقرة: 105) لأنّ إنزال الخير هنا سبب للربوبية، وأعاده بلفظ «الله» لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية لأن دائرة الربوبية أوسع.
ومثله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ} (الزمر: 74) كما سبق.
ومن فوائده: التلذذ بذكره وتعظيم المنّة (5) بالنعمة.
ومن فوائده: قصد الذمّ (6)، وجعل [منه] (7) الزمخشري (8) قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مََا قَدَّمَتْ يَدََاهُ وَيَقُولُ الْكََافِرُ} (النبأ: 40)، فقال: المرء هو الكافر وهو ظاهر، وضع موضع الضمير لزيادة الذم.
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: {سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ}
__________
(1) في المخطوطة (أبدا) بدل (لا بد).
(2) في المخطوطة (حيز).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (أمره).
(6) في المخطوطة (في صدره) بدل (قصد الذم).
(7) ساقطة من المطبوعة.
(8) الكشاف 4/ 180.(3/74)
{يَغْفِرَ اللََّهُ لَهُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} (المنافقون: 6). إنّ «الفاسقين» يراد بهم (1) المنافقون، ويكون قد أقام الظاهر مقام المضمر، [158/ ب] والتصريح بصفة الفسق سبب لهم. ويجوز أن يكون المراد العموم لكل فاسق، ويدخل فيه المنافقون دخولا أوليّا، وكذا سائر هذه النظائر.
وليس من هذا الباب قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صََالِحِينَ} (الإسراء: 25) أي في معاملة (2) «الأبوين» (3) {فَإِنَّهُ كََانَ لِلْأَوََّابِينَ غَفُوراً} (الإسراء: 25).
وقوله [تعالى] (4): {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} (البقرة: 97) إلى قوله: {فَإِنَّ اللََّهَ عَدُوٌّ لِلْكََافِرِينَ} (البقرة: 98).
وكذلك كل ما (5) فيه شرط فإن الشروط أسباب (6) ولا يكون الإحسان للوالدين سببا (6)
لغفران الله لكل تائب، لأنه يلزم أن يثاب غير الفاعل بفعل (8) غيره وهو خلاف الواقع.
وكذلك معاداة بعض الكفرة لا يكون سببا لمعاداة كلّ كافر، فتعيّن (9) في هذه المواضع أن يكون من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ليس إلا.
الثاني: قد مرّ أن سؤال وضع الظاهر موضع المضمر حقه أن يكون في الجملة الواحدة 2/ 501 نحو: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1، 2) فأما إذا وقع في جملتين فأمره سهل وهو أفصح من وقوعه في الجملة الواحدة، لأن الكلام جملتان، فحسن فيهما ما لا يحسن في الجملة الواحدة، ألا ترى إلى قوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (10).
__________
(1) في المخطوطة (به).
(2) في المخطوطة (مقابلة).
(3) في المخطوطة (الأوابين).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (كلما). بدل (كل ما).
(6) عبارة المخطوطة (ولا يكون إحسان الوالدين لوالديهم سبب).
(8) في المخطوطة (بثبات).
(9) في المخطوطة (فيتعين).
(10) تقدم الكلام عن البيت في 3/ 61.(3/75)
فتكرار «الموت» في عجز البيت أوسع من تكراره في صدره (1) لأنا إذا عللنا هذا انما (2) نقول: أعاد الظاهر موضع المضمر لما أراد من تعظيم الموت وتهويل أمره، فإذا علّلها مكررة (3) في عجزه عللناه بهذا، وبأن الكلام جملتان.
إذا علمت هذا، فمثاله في الجملتين كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللََّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللََّهُ} (البقرة: 282)، وقوله: {إِنََّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هََذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهََا كََانُوا ظََالِمِينَ} (العنكبوت: 31).
(4) [وقد أشكل الإظهار هاهنا] (4) والإضمار في المثل قوله: {إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً فََاسِقِينَ} (القصص: 32).
وأجيب بأنه لما كان المراد في مدائن لوط إهلاك القرى صرح في الموضعين بذكر القرية التي يحلّ بها (6) الهلاك كأنها اكتسبت الظلم معهم واستحقت الهلاك معهم إذ للبقاع تأثير في الطباع، ولما كان المراد في قوم فرعون إهلاكهم بصفاتهم، حيث كانوا ولم (7) يهلك بلدهم، أتى بالضمير العائد على ذواتهم، من حيث هي من غير تعرض للمكان.
2/ 502واعلم أنه (8) [متى طال الكلام حسن إيقاع الظاهر موضع المضمر كيلا يبقى الذهن متشاغلا بسبب ما يعود عليه اللفظ فيفوته ما شرع] (8) فيه، كما إذا كان ذلك في ابتداء آية أخرى، كقوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللََّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ} (البقرة: 140) الآية.
وقوله: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِيعَ إِيمََانَكُمْ إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ [لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ]} [10] (البقرة:
143).
وقوله: {يَهْدِي اللََّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشََاءُ وَيَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ لِلنََّاسِ} (النور: 35).
وقوله: {رِجََالٌ لََا تُلْهِيهِمْ تِجََارَةٌ} (النور: 37) الآية.
__________
(1) في المخطوطة (هذه).
(2) في المخطوطة (إنا).
(3) في المخطوطة (تكرره).
(4) العبارة ساقطة من المخطوطة.
(6) في المخطوطة (لها).
(7) في المخطوطة (أو لم).
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(10) تمام الآية ليس في المطبوعة.(3/76)
القسم العاشر تجيء اللفظة الدالة على التكثير (1) والمبالغة بصيغ من صيغ المبالغة
كفعّال وفعيل وفعلان فإنه أبلغ من «فاعل». ويجوز أن يعدّ هذا من أنواع الاختصار فإن أصله وضع لذلك، فإن «ضروبا» ناب عن قولك: «ضارب وضارب وضارب».
أما «فعلان» فهو أبلغ من «فعيل»، ومن ثمّ قيل: الرحمن أبلغ من الرحيم وإن كانت صيغة «فعيل» (2) من جهة أن «فعلان» من أبنية المبالغة كغضبان للممتلئ غضبا ولهذا لا يجوز التسمية به، وحكاه الزّجاج في تأليفه (3) المفرد على البسملة.
وأما قول شاعر اليمامة:
وأنت غيث الورى (4) ... لا زلت رحمانا (5) 2/ 503
فهو من كفرهم وتعنتهم كذا أجاب به الزمخشري (6).
وردّه [159/ أ] بعضهم بأن التعنت لا يدفع وقوع إطلاقهم وغايته أنّه ذكر السبب الحامل لهم على الإطلاق وإنما الجواب أنهم لم يستعملوا الرحمن المعرّف بالألف واللام وإنما استعملوه مضافا ومنكّرا، وكلامنا إنّما هو في المعرّف باللام.
وأجاب ابن مالك بأن الشاعر أراد: «لا زلت ذا رحمة» ولم يرد الاسم المستعمل بالغلبة.
ويدلّ على أن العرب كانت تعرف هذا الاسم قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا}
__________
(1) في المخطوطة (التكرر).
(2) في المخطوطة (فقيل).
(3) ألف الزجاج كتابا عن معاني البسملة سماه «الإبانة والتفهيم عن معاني بسم الله الرحمن الرحيم» وهو مخطوط بمكتبة جوتا بألمانيا رقم 727. (بروكلمان مترجم 2/ 172).
(4) في المخطوطة (الذرى).
(5) عجز بيت صدره: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا * كذا في «مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف» ص 125قافية النون. ونسبه لرجل من بني حنيفة يمدح مسيلمة الكذاب.
(6) انظر الكشاف 1/ 6.(3/77)
{الرَّحْمََنَ أَيًّا مََا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ} (الإسراء: 110). وأما قوله: {قََالُوا]} [1] وَمَا الرَّحْمََنُ (الفرقان: 60)، فقال (2) ابن العربيّ: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف، ولذلك لم يقولوا: «ومن الرحمن».
[وذكر] (3) البرزاباذاني (4) أنهم غلطوا في تفسير «الرحمن» حيث جعلوه بمعنى المتصف بالرحمة.
قال: وإنما معناه الملك العظيم العادل (5)، بدليل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمََنِ}
(الفرقان: 26) إذ الملك يستدعي العظمة والقدرة والرحمة لخلقه لا أنه يتوقّف عليها.
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمََنِ} (الفرقان: 60) وإنما يصلح السجود لمن له العظمة والقدرة و {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمََنِ} (مريم: 18) ولا يعاذ إلا بالعظيم القادر على الحفظ والذبّ.
2/ 504 {وَمََا يَنْبَغِي لِلرَّحْمََنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} (مريم: 92)، أي وما ينبغي للعظيم القادر على كل شيء المستغني عن معاونة الولد وغيره أن يتخذ ولدا.
{الرَّحْمََنِ لََا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطََاباً} (النبأ: 37).
{وَخَشَعَتِ الْأَصْوََاتُ لِلرَّحْمََنِ} (طه: 108).
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ مِنَ الرَّحْمََنِ} (الأنبياء: 42) ولا يحتاج الناس إلى حافظ يحفظهم من ذي الرحمة الواسعة.
{إِلََّا آتِي الرَّحْمََنِ عَبْداً} (مريم: 93).
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (قال).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) البرزاباذاني بضم الباء وفتحها وسكون الراء وفتح الزاي في لسان الميزان 4/ 437. هو الفضل بن أحمد اللؤلؤي روى عن أبي حاتم الرازي ولعله واضع حديث الأعرابي على إسماعيل بن عمرو البجلي، وفي الأنساب للسمعاني 2/ 146هو الفضل بن أحمد أبو العباس القرشي البرزاباذاني وهي قرية من قرى أصبهان قال ابن مردويه ضعيف جدا، وفي أخبار أصبهان لأبي نعيم 2/ 154، الفضل بن أحمد المديني أبو العباس من قرية برزفاذان يروي عن إسماعيل بن عمرو البجلي خلّط في آخر عمره فترك حديثه.
(5) في المخطوطة (القادر).(3/78)
{إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ مِنَ الرَّحْمََنِ} (مريم: 45).
{وَرَبُّنَا الرَّحْمََنُ الْمُسْتَعََانُ} (الأنبياء: 112).
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمََنَ بِالْغَيْبِ} (ق: 33).
ولا مناسبة لمعنى الرحمة في شيء من هذه المواضع، وأما «رحيم» فهو من صفات الذات، كقولهم: «كريم».
وما ذكرناه من أن «الرحمن» أبلغ ذهب إليه أبو عبيد (1) والزمخشري (2) وغيرهما، وحكاه ابن عسكر (3) في «التكميل والإفهام» عن الأكثرين.
وفي كلام ابن جرير (4) ما يفهم حكاية الاتفاق عليه. ونصره السهيلي (5) بأنّه ورد على لفظ 2/ 505 2لتنبيه، والتنبيه تضعيف. وكأن البناء تضاعفت فيه الصفة.
وقال قطرب (6): المعنى فيهما واحد وإنما جمع بينهما في الآية للتوكيد.
وكذلك قال ابن فورك: قال: (7) وليس قول (8) من زعم أن (8) «رحيما» أبلغ بجيّد إذ لا فرق بينهما في المبالغة. ولو قيل «فعلان» أشد مبالغة كان أولى ولهذا خصّ (10) بالله فلا يوصف به غيره ولذلك (11) قال بعض التابعين: الرحمن اسم ممنوع وأراد به منع الخلق أن يتّسموا به، ولا وجه لهذا الكلام إلا التوكيد وإتباع الأول ما هو في معنى الثاني.
وقال ابن عباس: «هما اسمان رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر» (12).
__________
(1) هو القاسم بن سلام الهروي تقدم في 1/ 119.
(2) انظر الكشاف 1/ 6.
(3) تصحف الاسم في المطبوعة إلى ابن عساكر، والتصويب من المخطوطة، تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 243.
(4) انظر تفسير الطبري 1/ 4342.
(5) هو أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي تقدم التعريف به في 1/ 242.
(6) هو محمد بن المستنير، أبو علي تقدم التعريف به في 2/ 176.
(7) في المخطوطة (قاله ابن فورك)، وهو محمد بن الحسن تقدم في 1/ 324.
(8) عبارة المخطوطة (أن من زعم).
(10) في المخطوطة (اختص).
(11) في المخطوطة (وكذلك).
(12) أخرجه الطبري في التفسير 1/ 44.(3/79)
وعن الخطابي (1) استشكال هذا، وقال: لعله أرفق، كما جاء في الحديث «إن الله رفيق يحبّ الرّفق في الأمر كله» (2).
وقال ابن الأنباري (3) في «الزاهر»: الرحيم أبلغ من الرحمن.
ورجّحه ابن عسكر (4) بوجوه: منها أن الرحمن جاء متقدما على الرحيم ولو كان أبلغ [منه] (5) لكان متأخرا عنه، لأنهم في كلامهم إنما يخرجون من الأدنى إلى الأعلى فيقولون: فقيه عالم، وشجاع باسل، وجواد فياض، ولا يعكسون هذا لفساد المعنى لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته، فلم (6) يكن لذكره [159/ ب] معنى.
[وهذا] (7) قد ذكره الزمخشريّ (8) وأجاب عنه بأنه من باب الإرداف، وأنه أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم، ليكون كالتتمة والرديف، ليتناول ما رق منها ولطف.
2/ 506وفيه ضعف لا سيّما إذا قلنا: إن الرحمن علم لا صفة، وهو قول الأعلم (9) وابن مالك.
وأجاب الواحديّ (10) في «البسيط» بأنه لما كان الرحمن كالعلم إذ لا يوصف [به] (11) إلا الله
__________
(1) هو حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي تقدم التعريف به في 1/ 343.
(2) قطعة من حديث عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري في الصحيح 12/ 280، كتاب استتابة المرتدين (88)، باب إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يصرح (4)، الحديث (6927). وأخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2003، كتاب البر والصلة والآداب (45)، باب فضل الرفق (23)، الحديث (77/ 2593).
(3) هو أبو بكر محمد بن القاسم، ابن الأنباري تقدم التعريف به في 1/ 299، وكتابه «الزاهر في معاني كلمات الناس» طبع بتحقيق حاتم الضامن في بغداد وزارة الثقافة والإعلام عام 1400هـ / 1979م، وعنه صورة في بيروت بمؤسسة الرسالة عام 1405هـ / 1984م. (ذخائر التراث العربي 1/ 47).
(4) تصحفت في المطبوعة إلى (ابن عساكر).
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) في المخطوطة (لكن لم) بدل (فلم).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) الكشاف 1/ 7.
(9) هو يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي الشنتمري تقدم التعريف به في 2/ 453.
(10) هو علي بن أحمد تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 105.
(11) ساقطة من المخطوطة.(3/80)
قدّم، لأنّ حكم الأعلام وغيرها من المعارف أن يبدأ بها، ثم يتبع الأنكر (1)، وما كان [في] (2) التعريف أنقص.
قال: وهذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين، فجاء هذا على منهاج كلام العرب.
وأجاب الجوينيّ (3) بأن الرحمن للخلق، والرحيم لهم بالرزق، والخلق قبل الرزق.
ومنها أن أسماء الله تعالى إنما يقصد بها المبالغة في حقه، والنهاية في صفاته وأكثر صفاته سبحانه جارية على «فعيل»، كرحيم، وقدير، وعليم، وحكيم، وحليم، وكريم ولم يأت على «فعلان» إلا قليل. ولو كان «فعلان» أبلغ لكان صفات الباري تعالى عليه أكثر.
قلت: وجواب هذا أن ورود «فعلان» بصيغة التكثير (4) كان في عدم تكرار الوصف به، بخلاف «فعيل» فإنه لمّا لم يرقّ في الكثرة رقته كثر في مجيء الوصف.
ومنها: أنه إن كانت المبالغة في «فعلان» من جهة موافقة التثنية كما زعم السهيلي ففعيل (5) من أبنية جمع الكثرة كعبيد. وكليب ولا شك أن الجمع أكثر من التثنية وهذا أحسنها.
قال: وقول قطرب (6) «إنهما بمعنى واحد» فاسد، لأنه لو كان كذلك لتساويا في التقديم والتأخير، وهو ممتنع.
تنبيهات (7) [صيغ المبالغة في أسماء الله] (7)
الأول: نقل [عن] (9) الشيخ برهان الدين الرشيدي [رحمه الله] (10) أن صفات الله التي
__________
(1) في المخطوطة (الأمكن).
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) هو عبد الملك بن أبي عبد الله بن يوسف إمام الحرمين تقدم التعريف به في 1/ 118.
(4) في المخطوطة (التكرير).
(5) في المخطوطة (فعيل).
(6) محمد بن المستنير، تقدم في 2/ 176.
(7) كتب هذا العنوان على هامش المخطوطة.
(9) ساقطة من المخطوطة.
(10) ليست في المطبوعة.(3/81)
هي صيغة المبالغة كغفار ورحيم وغفور ومنان كلّها مجاز، إذ هي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها، لأن المبالغة هي أن تثبت للشيء أكثر مما له، وصفات الله (1) [متناهية في الكمال، لا يمكن المبالغة فيها، والمبالغة أيضا تكون في صفات تقبل الزيادة والنقصان، وصفات الله] (1)
تعالى منزّهة عن ذلك. انتهى.
وذكر هذا للشيخ ابن (3) الحسن السّبكي فاستحسنه، وقال: إنه صحيح إذا قلنا: إنها صفات.
فإن قلنا: أعلام زال ذلك.
قلت: والتحقيق أنّ صيغ المبالغة على قسمين:
أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
والثاني: بحسب تعدّد المفعولات.
ولا شك أن تعدّدها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعدّدين.
و [على] (4) هذا التقسيم (5) يجب تنزيل جميع أسماء الله تعالى التي وردت على صيغة المبالغة كالرحمن والغفور والتواب ونحوها، ولا يبقى إشكال حينئذ، لهذا (6) قال بعض المفسرين في حكيم (7) معنى المبالغة فيه تكرار (8) حكمه بالنسبة إلى الشرائع.
2/ 508وقال الزمخشري (9) في سورة الحجرات: المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب إليه (10) من عباده، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، نزّل صاحبها منزلة من لم يذنب (11) قط لسعة كرمه.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (أبو).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (القسم).
(6) في المخطوطة (ولهذا).
(7) في المخطوطة (حكم).
(8) في المخطوطة (فتكرار) بدل (فيه تكرار).
(9) انظر الكشاف 4/ 1716.
(10) في المخطوطة (عليه).
(11) في المخطوطة (يتب) وتصويبه من الكشاف.(3/82)
وقد أورد بعض الفضلاء سؤالا في قوله تعالى: {وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:
284)، وهو أن «قديرا» (1) من صيغ المبالغة يستلزم الزيادة على معنى «قادر»، والزيادة على معنى «قادر» محال، إذ الاتحاد من واحد لا يمكن فيه التفاضل، باعتبار كلّ فرد فرد.
وأجيب عنه بأن المبالغة لما لم يقدر حملها على كلّ فرد وجب صرفها إلى مجموع الأفراد التي دلّ السياق عليها، والمبالغة إذن بالنسبة إلى تكثير التعلق لا بالنسبة إلى تكثير الوصف.
وكذلك قوله تعالى: {وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282)، [160/ أ] يستحيل عود المبالغة إلى نفس الوصف، إذ العلم بالشيء لا يصح التفاوت فيه، فيجب صرف المبالغة فيه إلى المتعلق، إما لعموم كل أفراده، وإما لأن يكون المراد الشيء ولواحقه، فيكون من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
الثاني: سئل أبو علي الفارسيّ: هل تدخل المبالغة في صفات الله تعالى فيقال:
«علّامة»؟ فأجاب بالمنع لأن الله تعالى ذمّ من نسب إليه الإناث لما فيه من النقص، فلا يجوز إطلاق اللفظ المشعر بذلك.
حكاه الجرجاني (2) في «شرح الإيضاح».
الثالث: أنه لو جرّد عن الألف واللام لم يصرف (3) لزيادة الألف والنون في آخره مع 2/ 509 العلمية أو الصفة.
وأورد الزمخشريّ (4) بأنه لا يمنع «فعلان» صفة من الصرف إلا إذا كان مؤنثة، «فعلى» كغضبان وغضبى، وما لم يكن مؤنثة «فعلى» ينصرف، كندمان وندمانة (5) وتبعه (6) ابن عسكر (7) بأن «رحمن» وإن لم يكن له [مؤنث] (8) على «فعلى» فليس له مؤنث على
__________
(1) في المخطوطة (قدير).
(2) تقدم التعريف به في 2/ 420، وكتابه «شرح الإيضاح والتكملة» مخطوط بالإسكوريال ثاني 44، وفي بايزيد 4015، وفي القاهرة ثاني 2/ 163. (بروكلمان مترجم 2/ 191).
(3) في المخطوطة (يعرف).
(4) انظر الكشاف 1/ 76.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (وندمان).
(6) زيادة في المخطوطة كما يلي (وأجاب وتبعه).
(7) تصحف الاسم في المطبوعة إلى (عساكر).
(8) ساقطة من المخطوطة.(3/83)
«فعلانة» لأنه اسم مختص بالله تعالى فلا مؤنث له من لفظه، فإذا عدم ذلك رجع فيه إلى القياس، وكلّ ألف ونون زائدتان فهما محمولتان على منع الصرف.
قال الجوينيّ (1): «وهذا فيه ضعف في الظاهر، وإن كان حسنا في الحقيقة، لأنه إذا لم يشبه «غضبان» ولم يشبه «ندمان» من جهة التأنيث فلماذا ترك صرفه، مع أن الأصل الصرف، بل كان ينبغي أن يقال: ليس هو كغضبان فلا يكون غير منصرف، ولا يصحّ أن يقال: ليس هو كندمان فلا يكون منصرفا، لأنّ الصرف ليس بالشبه، إنما هو بالأصل وعدم الصّرف بالشبه ولم يوجد».
قلت: والتقدير الذي نقلناه عن ابن عسكر (2) يدفع هذا عن الزمخشريّ، نعم أنكر ابن مالك على ابن الحاجب تمثيله ب «رحمن» لزيادة الألف والنون في منع الصرف، وقال: لم يمثل به غيره، ولا ينبغي التمثيل به، فإنه اسم علم بالغلبة لله [تعالى] (3) مختص به، وما كان كذلك لم يجرّد من «أل» ولم يسمع مجردا إلا في النداء قليلا، مثل يا رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة.
قال: وقد أنكر على الشاطبي: [رحمه الله] (4).
تبارك رحمانا رحيما وموئلا (5)
لأنّه أراد الاسم المستعمل بالغلبة.
ولم يحضر الزمخشري هذا الجواب فذكر انه من تعنتهم في كفرهم كما سبق.
وأما «فعيل» فعند النحاة أنّه من صيغ المبالغة والتكرار، كرحيم، وسميع، وقدير، وخبير، وحفيظ، وحكيم، [وحليم] (6) وعليم فإنه محوّل عن «فاعل» بالنسبة، وهو إنما (7)
[يكون] (6) كذلك للفاعل لا للمفعول (9) به، بدليل قولهم: قتيل وجريح، والقتل لا يتفاوت.
__________
(1) تقدم التعريف به في 1/ 118.
(2) تصحف الاسم في المطبوعة إلى (عساكر).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) مطلع أرجوزته المسماة حرز الأماني ووجه التهاني وهو عجز بيت صدره: بدأت بسم الله في النّظم أوّلا انظر ص 9بشرح أبي شامة.
(6) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (أنهما).
(9) في المخطوطة (المفعول).(3/84)
وقد يجيء في معنى الجمع كقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً} (النساء: 69)، وقوله: {وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم: 4)، وقوله: {خَلَصُوا نَجِيًّا} (يوسف:
80)، وغير ذلك.
ومن المشكل: {وَمََا كََانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64)، فإن النفي متوجّه (1) على الخبر وهو صيغة مبالغة، ولا يلزم من نفي المبالغة نفي أصل الفعل فلا يلزم نفي أصل النسيان، وهو كالسؤال الآتي في (ظلام للعبيد).
ويجاب عنه بما سيأتي من الأجوبة. ويختص هذا بجواب آخر وهو مناسبة رءوس الآي قبله.
وأما فعّال، فنحو: غفّار، ومنان، وتوّاب، ووهّاب، {فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (البروج: 2/ 511 16). {عَلََّامُ الْغُيُوبِ} (المائدة: 116)، ونحو: {لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ} (إبراهيم:
5)، ونحو: {نَزََّاعَةً لِلشَّوى ََ} (المعارج: 16).
ومن المشكل قوله تعالى: {وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) وتقريره (2) أنه لا يلزم [160/ ب] من نفي الظلم بصيغة المبالغة نفي أصل الظلم، والواقع نفيه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ النََّاسَ شَيْئاً} (يونس: 44)، {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ}
(النساء: 40).
وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا (3):
أحدها: أن «ظلاما» وإن كان يراد (4) به الكثرة لكنه [جاء] (5) في مقابلة العبيد وهو جمع كثرة، إذا قوبل بهم [الظلم] (5) كان كثيرا.
ويرشح هذا الجواب أنّه سبحانه وتعالى قال في موضع آخر: {عَلََّامُ الْغُيُوبِ}
(المائدة: 116)، فقابل صيغة [«فعال»] (5) بالجمع، وقال في موضع آخر: {عََالِمُ الْغَيْبِ} (الجن: 26) فقابل صيغة (8) «فاعل» الدالة على أصل الفعل بالواحد.
__________
(1) في المخطوطة (يتوجه).
(2) في المخطوطة (وتقديره).
(3) لم يذكر المصنف فيما يلي سوى أحد عشر جوابا.
(4) في المخطوطة (المراد).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (بصيغة).(3/85)
وهذا قريب من الجواب عن قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلََّهِ وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (النساء: 172) حيث احتج به المعتزلة على تفضيل الملائكة على الأنبياء.
2/ 512وجوابه أنه قابل عيسى بمفرده بمجموع الملائكة، وليس النزاع في تفضيل الجمع على الواحد.
الثاني: أنه نفى الظلم الكثير (1)، فينتفي القليل ضرورة، لأن [القليل] (2) الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة ظلمه في حق من يجوز عليه النفع [والضر] (2)، كان الظلم القليل في المنفعة (4) أكثر.
الثالث: أنه على النسب، واختاره ابن مالك (5)، وحكاه في «شرح الكافية» عن المحققين، أي ذا ظلم كقوله:
«وليس بنبّال» (6)
أي بذي نبل. أي لا ينسب إلى الظلم فيكون من باب بزّاز، وعطار.
الرابع: أن فعّالا قد جاء غير مراد به الكثرة كقول طرفة:
ولست بحلّال التّلاع (7) مخافة ... ولكن [متى] (8) يسترفد القوم أرفد (9)
__________
(1) في المخطوطة (الكبير).
(2) ساقطة من المطبوعة.
(4) في المخطوطة (نفعه).
(5) هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك، العلامة جمال الدين الطائي الشافعي، تقدم التعريف به في 1/ 381. وأما كتابه «شرح الكافية في النحو» فقد ذكر صاحب كشف الظنون في 2/ 1369 «أن الكافية الشافية في النحو» كتاب منظوم لخّص منه ألفيته ثم شرحها وسمى هذا الشرح «الوافية شرح الكافية» وطبع شرح المؤلف باسم «شرح الكافية الشافية» بتحقيق عبد المنعم هريدي بدمشق دار المأمون للتراث (فهرس الكتب النحوية ص 124).
(6) قطعة من عجز بيت لامرئ القيس وهو بتمامه:
وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبّال
ديوانه ص 142 (طبعة دار صادر).
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (البلاغ).
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) البيت من معلقته انظر ديوانه ص 29 (طبعة دار صادر).(3/86)
لا يريد أنّه يحل التلاع قليلا، لأن ذلك يدفعه قوله: «يسترفد القوم أرفد»، هذا يدل على نفي الحال في كلّ حال، لأن (1) تمام المدح لا يحصل بإيراد (2) الكثرة.
الخامس: أن أقل القليل لو ورد منه سبحانه وقد جلّ عنه لكان كثيرا، لاستغنائه عنه كما يقال: «زلة العالم كبيرة».
ذكره الحريري (3) في «الدرّة»، قال: وإليه أشار المخزوميّ في قوله:
كفوفة الظّفر تخفى من حقارتها ... ومثلها في سواد العين مشهور
(4) [فوقة الظفر شين في ظفر الأحداث] (4).
السادس: أن نفي المجموع يصدق بنفي واحد، ويصدق بنفي كل واحد، ويعيّن الثاني 2/ 513 في الآية للدليل الخارجيّ، وهو قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ} (النساء: 40).
السابع: أنه أراد: «ليس بظالم، ليس بظالم، [ليس بظالم] (6)» فجعل في مقابلة ذلك {وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ} (فصلت: 46).
الثامن: أنه جواب لمن قال: ظلّام، والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص لم يكن له مفهوم كما إذا خرج مخرج الغالب.
التاسع: أنه قال: «بظلّام»، لأنه قد يظن أن من يعذّب غيره عذابا شديدا ظلّام قبل الفحص عن جرم الذنب.
__________
(1) في المخطوطة (وإن).
(2) في المخطوطة (بإرادة).
(3) هو القاسم بن علي الحريري تقدم التعريف به في 1/ 164، وكتابه «درة الغواص في أوهام الخواص» طبع بتحقيق دي ساسي باريس عام 1244هـ / 1828م وطبع في القاهرة طبعة حجر عام 1273هـ / 1856م، وطبع في القسطنطينية بمطبعة الجوائب عام 1296هـ / 1878م، وطبع بتحقيق نوربك في ليبسك عام 1389هـ / 1968م، وأعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى في بغداد عام 1389هـ / 1968م، وطبع بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة بمطبعة نهضة مصر عام 1396هـ / 1975م (ذخائر التراث العربي: 1/ 470) وانظر درة الغواص ص: 54.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(6) ساقطة من المخطوطة.(3/87)
العاشر: أنه لما كان صفات الله تعالى صيغة المبالغة [فيها وغير المبالغة] (1) سواء في الإثبات جرى النفي على ذلك.
الحادي عشر: أنه قصد التعريض بأن ثمة ظلّاما للعبيد من ولاة الجور.
وأما «فعال» بالتخفيف والتشديد، نحو عجاب وكبار، قال تعالى: {إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ عُجََابٌ} (ص: 5)، وقال: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبََّاراً} (نوح: 22)، قال المعري (2) في «اللّامع العزيزي»: (3) «فعيل» إذا أريد به المبالغة نقل به إلى «فعال» وإذا أريد به الزيادة شدّدوا فقالوا: «فعّال»، ذلك من عجيب وعجاب وعجّاب، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي:
2/ 514 {إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ عُجََابٌ} (ص: 5) بالتشديد، وقالوا: طويل وطوّال ويقال: نسب قريب، وقراب، وهو أبلغ، قال الحارث بن ظالم (4):
وكنت إذا رأيت بني لؤيّ ... عرفت الودّ والنسب القرابا
وأما فعول: كغفور، وشكور، وودود، فمنه قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسََانَ لَظَلُومٌ}
[161/ أ] {كَفََّارٌ} (5) (إبراهيم: 34).
وقوله تعالى في نوح: {إِنَّهُ كََانَ عَبْداً شَكُوراً} (الإسراء: 3).
وقد أطربني قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبََادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13) فقلت:
الحمد لله الذي [ما] (5) قال: «الشاكر».
فإن قيل: قوله تعالى: {إِنََّا هَدَيْنََاهُ السَّبِيلَ إِمََّا شََاكِراً وَإِمََّا كَفُوراً} (الإنسان: 3)، كيف غاير بين الصفتين وجعل المبالغة من جانب الكفران؟.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) أبو العلاء، وكتابه قال القفطي عنه في إنباء الرواة 1/ 100 «كتاب الفتحي ويعرف «باللامع العزيزي» في شرح غريب شعر المتنبي، عمل للأمير عزيز الدولة، أبي الدوام ثابت بن الأمير تاج الأمراء، مقداره مائة وعشرون كراسة». وانظر (معجم الأدباء 3/ 162).
(3) زيادة في المخطوطة في هذا الموضع لا محل لها وهي (فعول).
(4) هو الحارث بن ظالم بن غيظ المري أبو ليلى، أشهر فتاك العرب في الجاهلية نشأ يتيما قتل أبوه وهو طفل، وشب في نفسه أشياء من قاتل والده وآلت إليه سيادة غطفان وكان له في كل حي يأوي إليه حادثة وشاع خبره في القبائل فتحامت العرب شره، وانطلق فجعل يطوف في البلاد حتى وصل إلى الشام فقتل في حوران نحو 22ق هـ. (الأعلام 2/ 156).
(5) ساقطة من المخطوطة.(3/88)
قلت: هذا سأله الصاحب بن عباد للقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي، فأجاب بأن نعم الله على عباده كثيرة، وكلّ شكر يأتي في مقابلتها قليل، وكلّ كفر يأتي في مقابلتها عظيم، فجاء شكور (1) بلفظ «فاعل» وجاء كفور (2) [بلفظ] (3) «فعول» على وجه المبالغة.
فتهلّل وجه الصاحب.
وأما فعل: فكقوله تعالى: {وَإِنََّا لَجَمِيعٌ حََاذِرُونَ} (الشعراء: 56).
وقوله [تعالى] (4): {كَذََّابٌ أَشِرٌ} (القمر: 25)، قرن «فعلا» بفعّال.
وأما فعل: فيكون صفة، كقوله تعالى: {أَهْلَكْتُ مََالًا لُبَداً} (البلد: 6)، [اللّبد] (4): الكثير (6).
وقوله [تعالى] (4): {إِنَّهََا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} (المدثر: 35).
ويكون [مصدرا] (8) كهدى وتقى، ويكون معدولا عن أفعل من كذا، كقوله تعالى:
{وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7) وقوله [تعالى: {فَعِدَّةٌ]} [8] مِنْ أَيََّامٍ أُخَرَ
(البقرة: 184)، كما قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللََّهِ آلِهَةً أُخْرى ََ} (الأنعام: 19).
وأما فعلى: فيكون اسما، كالشّورى والرجعى، قال الله تعالى: {إِنَّ إِلى ََ رَبِّكَ الرُّجْعى ََ} (العلق: 8)، وقال تعالى: {وَكَلِمَةُ اللََّهِ هِيَ الْعُلْيََا} (التوبة: 40).
ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن، والسوأى في تأنيث الأسوأ، قال [تعالى] (10): {ثُمَّ كََانَ عََاقِبَةَ الَّذِينَ أَسََاؤُا السُّواى ََ [أَنْ كَذَّبُوا بِآيََاتِ اللََّهِ]} [10] (الروم:
10).
قال الفارسيّ: يحتمل السوأى تأويلين.
أحدهما: أن يكون تأنيث «الأسوأ»، والمعنى كان عاقبتهم لخلة (12) السوأى، فتكون [«السوأى»] (13) على هذا خارجة من الصلة، فتنصب على الموضع، وموضع «أن» 2/ 516
__________
(1) في المخطوطة (شكر).
(2) في المخطوطة (كفر).
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (الكسر).
(8) ليست في المخطوطة.
(10) ليست في المخطوطة.
(12) في المخطوطة (الخلة).
(13) ليست في المخطوطة.(3/89)
نصب، فإنه مفعول له، أي كان عاقبتهم الخصلة (1) السوأى لتكذيبهم.
الثاني: أن يكون السّوأى مصدرا مثل الرّجعى، وعلى هذا فهي داخلة في الصلة، ومنتصبة بأساءوا، كقوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8)، ويكون {أَنْ كَذَّبُوا}
نصبا، لأنه خبر كان.
ويجوز في إعراب {السُّواى ََ} وجه ثالث وهو أن يكون في موضع رفع صفة «العاقبة» وتقديرها: ثم كان عاقبتهم المذمومة التكذيب.
و «الفعلى» في هذا الباب وإن كانت في الأصل صفة، بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ََ} (الأنفال: 42)، وقوله [تعالى] (2): {فَأَرََاهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ََ}
(النازعات: 20)، فجرت صفة على موصوفها، فإنها في كثير من الأمور تجرى مجرى الأسماء كالأبطح، والأجرع، والأدهم.
القسم الحادي عشر [إطلاق] (3) المثنى وإرادة الواحد.
كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجََانُ} (الرحمن: 22) وإنما يخرج من أحدهما.
ونظيره قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا}، (فاطر: 12)، وإنما تخرج الحلية من الملح، وقد غلط في هذا المعنى أبو ذؤيب الهذليّ (4) حيث، قال يذكر الدّرة:
(5) فجاء بها ما شئت من لطميّة (5) ... يدوم الفرات فوقها ويموج (7).
__________
(1) في المخطوطة (الخلة).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) هو خويلد بن خالد بن محرث، أبو ذؤيب الهذلي، كان فصيحا، كثير الغريب متمكنا في الشعر، وعاش في الجاهلية دهرا، وأدرك الإسلام فأسلم، وعامة ما قال من الشعر في إسلامه، توفي في خلافة عثمان، وقيل استشهد غازيا بأرض الروم (ابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة 4/ 66).
(5) العبارة في المخطوطة: (فاجأها من لطمه).
(7) البيت في ديوان الهذليين 1/ 57.(3/90)
والفرات لا يدوم فوقها وإنما يدوم الأجاج.
وقال أبو عليّ (1) في قوله تعالى: {عَلى ََ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف:
31): «(2) [إن ظاهر اللفظ يقتضي أن يكون من مكة والطائف جميعا ولما لم يمكن أن يكون منهما، دلّ المعنى على تقدير: «رجل من إحدى القريتين».
وقوله [تعالى]: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} (نوح: 16) (2)». أي في إحداهنّ.
وقوله تعالى: {نَسِيََا حُوتَهُمََا} (الكهف: 61)، والناسي كان يوشع (4)، بدليل قوله 3/ 4 لموسى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} (الكهف: 63) ولكن أضيف النّسيان لهما جميعا لسكوت موسى عنه.
وقوله [تعالى]: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [5] [فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ (5)] (البقرة: 203). والتعجيل يكون في اليوم الثاني، وقوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ}
(البقرة: 203)، قيل: إنه من هذا أيضا، وإن موضع الإثم والتعجيل يجعل [المتأخر] (7)
الذي لم يقصّر مثل ما جعل للمقصّر. ويحتمل أن يراد: لا يقولنّ أحدهما لصاحبه: أنت مقصّر فيكون المعنى: لا يؤثّم أحدهما صاحبه.
وقوله [تعالى]: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (النساء: 11).
وقوله [تعالى]: {جَعَلََا لَهُ شُرَكََاءَ} (الأعراف: 190)، أي أحدهما، على أحد القولين.
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا يُقِيمََا حُدُودَ اللََّهِ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:
229). فالجناح على الزّوج لأنه أخذ ما أعطى قال أبو بكر الصيرفي (8) المعنى: فإن
__________
(1) هو أبو علي الفارسي، كما في الاتقان للسيوطي 3/ 118في النوع الثاني والخمسين في حقيقته ومجازه.
تقدم ذكره في 1/ 375.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) هو فتى موسى عليه السلام، وهو من ذرية النبي يوسف عليه السلام، قال ابن الأثير: «وولد يوسف افرايم ومنشا فولد لافرايم نون ولنون يوشع» (الكامل في التاريخ 1/ 88).
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة وهو في المطبوعة.
(7) في المخطوطة «التأخير».
(8) هو محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي تقدم ذكره في 1/ 380.(3/91)
[161/ ب] خيف من [أحدهما] (1) ذلك جازت الفدية، وليس الشرط أن يجتمعا على عدم الإقامة.
وقوله تعالى: {أَلْقِيََا فِي جَهَنَّمَ} (ق: 24)، قيل هو خطاب للملك. وقال المبرد (2):
ثنّاه على «ألق»، والمعنى: ألق ألق، وكذلك القول في «قفا» وخالفه أبو إسحاق (3)، وقال:
بل هو مخاطبة للملكين.
وقال الفراء (4) في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (الرحمن: 13) قال:
يخاطب الإنسان مخاطبه بالتثنية. وجعل منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ}
(الرحمن: 46): وقوله تعالى: {[لِأَحَدِهِمََا]} [5] جَنَّتَيْنِ (الكهف: 32) فقيل:
[المراد] (5) جنة واحدة بدليل قوله تعالى آخر الآية: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} (الكهف: 35) فأفرد بعد ما ثنى.
وقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهََا} (الكهف: 33) فإنه ما ثنى هنا إلا للإشعار بأن لها وجهين، وأنك إذا نظرت عن يمينك ويسارك رأيت في كلتا (7) الناحيتين ما يملأ عينك قرّة (7)، وصدرك مسرّة.
وقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} (المائدة:
116) وإنما المتخذ إلها عيسى دون مريم فهو من باب «والنجوم الطوالع» (9) قاله أبو
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة وهو في المخطوطة.
(2) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، أبو العباس المبرّد، تقدم ذكره في 2/ 497.
(3) هو إبراهيم بن السّري بن سهل، أبو اسحاق الزجاج، تقدمت ترجمته في 1/ 105.
(4) هو يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي، أبو زكريا الفراء، تقدمت ترجمته في 1/ 159.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة وهو في المخطوطة.
(7) في المخطوطة «الجنتين ما لا عين رأت».
(9) من بيت للفرزدق تمامه:
أخذنا بآفاق السّماء عليكم ... لنا قمراها والنّجوم الطّوالع
والبيت في ديوانه (طبعة دار صادر بيروت 1/ 419) من قصيدة «أولئك آبائي».(3/92)
الحسن (1)، وحكاه عنه ابن جني (2) في كتاب «القدّ» وعليه حمل ابن جني وغيره قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (3) ويؤيده قوله بعده:
أصاح ترى برقا أريك وميضه (4).
وقول الفرزدق:
عشيّة سال المربدان كلاهما ... سحابة موت بالسّيوف الصّوارم (5)
وإنما هو مربد البصرة فقط.
وقوله: «ودار لها بالرقمتين» (6).
وقوله: «ببطن المكتين» (7).
__________
(1) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي البصري، تقدمت ترجمته (في 1/ 134).
(2) هو عثمان بن جنّي، أبو الفتح النحوي تقدم ذكره في 1/ 361. وكتابه «ذي القدّ في النحو» ذكره (ياقوت الحموي في معجم الأدباء 12/ 113). وقول ابن جنّي ذكره (السيوطيّ في الاتقان 3/ 118).
(3) من بيت لامرئ القيس تمامه:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
والبيت في ديوانه (طبعة دار صادر. بيروت ص: 29) من معلقته «قفانبك».
(4) صدر بيت له من آخر المعلقة، وتمامه:
أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبيّ مكلّل
(ديوان امرئ القيس ص: 59).
(5) البيت في ديوانه (طبعة دار صادر بيروت 2/ 319) من قصيدة عنوانها «حقّنا دماء المسلمين». وفي الديوان «عجاجة موت».
(6) من بيت لزهير بن أبي سلمى. من معلقته وتمامه:
ودار لها بالرّقمتين كأنّها ... مراجيع وشم في نواشر معصم
والبيت في ديوانه (طبعة دار صادر بيروت ص: 74).
(7) أورد المرتضى في (أماليه 2/ 184) بيتا قال فيه:
فقولا لأهل المكّتين تحاشدوا ... وسيروا إلى آطام يثرب والنّخل(3/93)
وقول جرير:
لما مررت بالدّيرين أرقني ... صوت الدّجاج وقرع بالنّواقيس (1).
قالوا: أراد «دير الوليد» (2) فثناه باعتبار ما حوله.
القسم الثاني عشر إطلاق الجمع وإرادة الواحد
كقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبََاتِ} (المؤمنون: 51)، إلى قوله:
3/ 7 {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتََّى حِينٍ} (المؤمنون: 54)، قال أبو بكر الصيرفي (3): فهذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وحده إذ لا نبيّ معه ولا بعده.
ومثله: {نَحْنُ قَسَمْنََا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} (الزخرف: 32) الآية، وهذا مما لا شريك فيه، والحكمة في التعبير بصيغة الجمع أنه لما كانت تصاريف أقضيته سبحانه وتعالى تجري على أيدي خلقه (4) نزّلت أفعالهم منزلة قبول القول بمورد الجمع (4).
وجعل منه ابن فارس (6) قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنََاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل: 35)، والرسول كان واحدا، بدليل قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} (النمل: 37).
وفيه نظر من جهة أنه يحتمل مخاطبة رئيسهم، فإنّ العادة جارية لا سيّما من الملوك ألّا يرسلوا واحدا.
ومنه: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمََّا خِفْتُكُمْ} (الشعراء: 21) وغير ذلك، وقد تقدم في وجوه المخاطبات (7).
__________
(1) البيت في ديوانه (طبعة دار صادر بيروت) ص: 249من قصيدة عنوانها «نحمي ونغتصب الجبار» وفي الديوان «لما تذكّرت بالدّيرين». انظر (معجم البلدان لياقوت 2/ 540).
(2) «دير الوليد» بالشام. ذكره (ياقوت في معجم البلدان 2/ 540).
(3) هو محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي تقدمت ترجمته في 1/ 380.
(4) اضطربت العبارة في المخطوطة.
(6) هو أحمد بن فارس بن زكريا، تقدمت ترجمته في 1/ 191. وقد ذكره السيوطي في (الاتقان 3/ 118).
(7) في المخطوطة «الخطاب».(3/94)
ومنه: {يُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} (النحل: 2)، والمراد جبريل.
وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النََّاسَ عَلى ََ مََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: 54) والمراد محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: {الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ} (آل عمران: 173) والمراد بهم ابن مسعود الثقفي (1) وإنما جاز إطلاق لفظ «الناس» على الواحد لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع 3/ 8 يقولون مثل قوله، حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا} (البقرة: 72)، {وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً} (البقرة:
55) والقائل ذلك رءوسهم. وقيل: «المراد بالناس ركب من عبد القيس دسّهم أبو سفيان إلى المسلمين وضمن لهم عليه جعلا» (2)، قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما.
القسم الثالث عشر إطلاق لفظ التثنية والمراد الجمع
كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (الملك: 4) فإنّه وإن كان لفظه (3) لفظ التثنية فهو جمع، والمعنى «كرات» لأنّ البصر لا يحسر إلا بالجمع (3).
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {الطَّلََاقُ مَرَّتََانِ} (البقرة: 229).
القسم الرابع عشر التكرار على وجه التأكيد
وهو مصدر كرر إذا ردّد وأعاد هو «تفعال» بفتح التاء وليس بقياس، بخلاف التفعيل.
__________
(1) هو نعيم بن مسعود بن عامر، أبو سلمة الأشجعي رضي الله عنه. صحابي مشهور. له ذكر في البخاري أسلم ليالي الخندق، وهو الذي أوقع الخلاف بين الحيّين قريظة وغطفان في وقعة الخندق، قتل في أول خلافة الامام علي رضي الله عنه قبل قدومه البصرة في وقعة الجمل، وقيل في خلافة عثمان (ابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة 3/ 538).
(2) الخبر ورد ذكره في السيرة النبوية لابن هشام 3/ 103 (بتحقيق مصطفى السقا وآخرين). عقب غزوة أحد.
(3) في المخطوطة (التثنية على معنى كرات لأنّ البصر لا يحسر إلا بالجمع).(3/95)
3/ 9وقال الكوفيون: هو مصدر «فعّل» والألف عوض من الياء في التفعيل. [162/ أ] والأول مذهب سيبويه.
وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة، ظنا أنه لا فائدة له وليس كذلك بل هو من محاسنها، لا سيما إذا تعلّق بعضه ببعض وذلك أنّ عادة العرب في خطاباتها إذ أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه، كرّرته توكيدا، وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه، أو الاجتهاد في الدعاء عليه، حيث تقصد الدعاء وإنما نزل القرآن بلسانهم، وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة. وعلى ذلك يحتمل ما ورد من تكرار المواعظ والوعد والوعيد، لأنّ الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة، وكلّها داعية إلى الشهوات، ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} (القمر: 17) قال في «الكشاف»: «أي سهّلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحنّاه (1) بالمواعظ الشافية وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد (2)».
ثم تارة يكون التكرار مرتين كقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}
(المدثر: 2019).
وقوله: {أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ * ثُمَّ أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ} (القيامة: 3534).
وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهََا عَيْنَ الْيَقِينِ} (التكاثر: 76).
وقوله: {كَلََّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلََّا سَيَعْلَمُونَ} (النبأ: 54).
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتََابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتََابِ وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَمََا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} (آل عمران: 78).
وقوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلََاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلََاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلََاقِهِمْ} (التوبة: 69).
وفائدته العظمى (3) التقرير، وقد قيل: الكلام إذا تكرّر تقرر.
__________
(1) في المطبوعة «نسجناه».
(2) الكشاف للزمخشري 4/ 46.
(3) في المخطوطة «ومن الفوائد العظمى التقرير».(3/96)
وقد أخبر الله سبحانه بالسبب الذي لأجله كرّر الأقاصيص والأخبار في القرآن فقال:
{وَلَقَدْ وَصَّلْنََا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 51).
وقال: {وَصَرَّفْنََا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113).
وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى خشية تناسي الأول، لطول العهد به.
فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه، كقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخََافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مََا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزمر: 11 15).
فأعاد قوله: {قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (الزمر: 14) بعد قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}، لا لتقرير الأول بل لغرض آخر لأن معنى الأول الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها، ومعنى الثاني أنه يخصّ الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص ولذلك قدّم المفعول على فعل العبادة في الثاني، وأخّر في الأول 3/ 11 لأن الكلام أولا في الفعل وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل.
واعلم أنّه إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل، أما إذا وافق الأصل فلا ولهذا لا يتجه سؤالهم: لم كرر «إياك» في قوله: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ}
(الفاتحة: 5).
فقيل: إنما كررت للتأكيد، كما تقول: «بين زيد وبين عمرو مال».
وقيل: إنما كررت لارتفاع أن يتوهم إذا حذفت أنّ مفعول «نستعين» ضمير متصل واقع بعد الفعل، فتفوت إذ ذاك الدلالة على المعنى المقصود، بتقديم المعمول على عامله.
والتحقيق أنّ السؤال غير متجه لأنّ هنا عاملين متغايرين، كلّ منهما يقتضي معمولا، فإذا ذكر معمول كلّ واحد منهما بعده فقد جاء الكلام على أصله، والحذف خلاف الأصل، فلا وجه للسؤال عن سبب ذكر ما الأصل ذكره، ولا حاجة إلى تكلّف الجواب عنه، وقس بذلك نظائره.
وله فوائد:
أحدها: التأكيد واعلم أنّ التكرير أبلغ من التأكيد، لأنه وقع في تكرار [162/ ب] التأسيس وهو أبلغ من التأكيد، فإنّ التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز، فلهذا قال الزمخشري في قوله تعالى: {كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر:(3/97)
وله فوائد:
أحدها: التأكيد واعلم أنّ التكرير أبلغ من التأكيد، لأنه وقع في تكرار [162/ ب] التأسيس وهو أبلغ من التأكيد، فإنّ التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز، فلهذا قال الزمخشري في قوله تعالى: {كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر:
43): «إنّ الثانية تأسيس لا تأكيد لأنه جعل الثانية أبلغ في الإنشاء فقال: وفي {ثُمَّ}
تنبيه على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول» (1).
3/ 12وكذا قوله: {وَمََا أَدْرََاكَ مََا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مََا أَدْرََاكَ مََا يَوْمُ الدِّينِ} (الانفطار:
1817)، وقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (المدثر: 2019) يحتمل أن يكون منه، وأن يكون من المتماثلين.
والحاصل أنه: هل هو إنذار تأكيد، أو إنذاران؟ فإن قلت: «سوف تعلم، ثم سوف تعلم» كان أجود منه بغير عطف لتجريه على غالب استعمال التأكيد، ولعدم احتماله لتعدد المخبر به.
وأطلق بدر الدين بن مالك (2) في «شرح الخلاصة» أن الجملة التأكيدية قد توصل بعاطف، ولم تختص بثم، وإن كان ظاهر كلام والده التخصيص وليس كذلك فقد قال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللََّهَ} (الحشر:
18)، فإن المأمور فيهما واحد، كما قاله النّحاس (3) والزمخشري والإمام فخر الدين والشيخ عزّ الدين (4)، ورجّحوا ذلك على احتمال أن تكون «التقوى» الأولى مصروفة لشيء غير «التقوى» الثانية مع شأن إرادته.
وقولهم: إنه تأكيد، (5) فمرادهم تأكيد المأمور به بتكرير الإنشاء، لا أنّه تأكيد لفظيّ (5)، ولو كان تأكيدا لفظيا لما فصل بالعطف، ولما فصل بينه وبين غيره: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ} (الحشر:
18).
__________
(1) ذكره الزمخشري في الكشاف 4/ 231 «بتصرف».
(2) هو محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك، الشافعي النحوي، تقدم التعريف به وبكتابه في 2/ 188، وانظر قوله في كتابه «شرح الألفية» ص 509عند كلامه عن التوكيد.
(3) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل تقدمت ترجمته في 1/ 356.
(4) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي، تقدمت ترجمته في 1/ 132.
(5) اضطربت العبارة في المخطوطة على الشكل التالي «فمرادهم تأكيد المأمور به بتأكيد الانشاء، لا أنه تكرير لفظي».(3/98)
فإن قلت: «اتقوا» الثانية معطوفة على «ولتنظر».
أجيب بأنهم قد اتفقوا على أنّ: {وَقُولُوا لِلنََّاسِ حُسْناً} (البقرة: 83)، معطوف 3/ 13 على {لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ} (البقرة: 83)، لا على قوله: {وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً} (البقرة:
83) وهو نظير ما نحن فيه.
وقوله تعالى: {يََا مَرْيَمُ إِنَّ اللََّهَ اصْطَفََاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفََاكِ عَلى ََ نِسََاءِ الْعََالَمِينَ} (آل عمران: 42)، وقوله: {فَاذْكُرُوا اللََّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرََامِ وَاذْكُرُوهُ كَمََا هَدََاكُمْ} (البقرة:
198) ويحتمل أن يكون «اصطفاءين» و «ذكرين»، وهو الأقرب في الذكر، لأنّه محل طلب فيه تكرار الذكر.
وكقوله تعالى حكاية عن موسى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} (طه:
3433). [ولم يقل «نسبّحك ونذكرك كثيرا»] (1)
وقوله: {أُولََئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ الْأَغْلََالُ فِي أَعْنََاقِهِمْ وَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ} (الرعد: 5)، كرر «أولئك».
وكذلك قوله: {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5).
وكذا قوله: {فَلَمََّا أَنْ أَرََادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي [هُوَ عَدُوٌّ لَهُمََا]} [2] (القصص:
19) إلى قوله: {مِنَ الْمُصْلِحِينَ} (القصص: 19)، كررت «أن» في أربع مواضع تأكيدا.
وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (الزمر: 1211).
الثاني: زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليكمل تلقّي الكلام بالقبول، ومنه قوله تعالى: {وَقََالَ الَّذِي آمَنَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ * يََا قَوْمِ إِنَّمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا 3/ 14 مَتََاعٌ [وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دََارُ الْقَرََارِ *]} (3)، (غافر: 3938)، فإنه كرر فيه النداء لذلك.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/99)
الثالث: إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيا تطرية له، وتجديدا لعهده (1)، كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهََالَةٍ ثُمَّ تََابُوا مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهََا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 119).
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هََاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مََا فُتِنُوا} [النحل: 110] الآية.
وقوله: {وَلَمََّا جََاءَهُمْ كِتََابٌ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} (البقرة: 89) ثم قال: {فَلَمََّا جََاءَهُمْ مََا عَرَفُوا} فهذا تكرار للأول، ألا ترى أن لما لا تجيء بالفاء! ومثله: {لََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} (آل عمران: 188)، ثم قال: {فَلََا تَحْسَبَنَّهُمْ} (آل عمران: 188).
وقوله: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (البقرة: 253)، ثم قال: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (البقرة: 253).
ومنه قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ}
(يوسف: 4).
وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذََا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرََاباً وَعِظََاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (المؤمنون: 35) فقوله: {أَنَّكُمْ} الثاني بناء على الأول، إذكارا (2) به خشية [163/ أ] تناسيه.
وقوله: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غََافِلُونَ} (الروم: 7).
وكذلك قوله: {إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْبَلََاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنََاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات: 105إلى 107) إلى قوله: {كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
(الصافات: 105).
بغير {إِنََّا} وفي غيره من مواضع ذكر {إِنََّا كَذََلِكَ}، لأنه يبنى على ما سبقه في هذه الصّفة (3) من قوله {إِنََّا كَذََلِكَ} فكأنه صرّح (4) فيما اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا. ولأن التأكيد بالنسبة، فاعتبر اللفظ من حيث هو دون توكيده (5).
__________
(1) في المخطوط «وتجديد العهد».
(2) في المخطوط «وإذكارا».
(3) في المطبوعة «القصّة».
(4) في المطبوعة «طرح».
(5) في المخطوطة «تأكيده».(3/100)
ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء وهذا أسلوب غريب، وقلّ في القرآن وجوده، وأكثر ما يكون عند تقدم مقتضيات الألفاظ، كالمبتدإ، وحروف الشرطين الواقعين (1) في الماضي والمضارع. ويستغنى عنه عند أمر محذور (2) التناسي.
وقد يرد منه شيء يكون بناؤه بطريق الإجمال والتفصيل بأن تتقدم (3) التفاصيل والجزئيات في القرآن، فإذا خشي عليها التناسي لطول العهد بها بنى على ما سبق بها بالذكر الجمليّ، كقوله تعالى: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيََاتِ اللََّهِ وَقَتْلِهِمُ} [4] [الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنََا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ فَلََا يُؤْمِنُونَ إِلََّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ] (4)
(النساء: 155) إلى قوله: {وَأَعْتَدْنََا لِلْكََافِرِينَ مِنْهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} (النساء: 161) فقوله {فَبِظُلْمٍ} بيان لذكر الجمليّ على ما سبق في القول من التفصيل، وذلك أن الظلم جمليّ على ما سبق من التفاصيل من النقض والكفر وقتل الأنبياء، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنََا غُلْفٌ} (النساء:
155) والقول على مريم بالبهتان، ودعوى قتل المسيح عليه السلام، إلى ما تخلل ذلك من أسلوب الاعتراض بها موضعين. وهما قوله: {بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ فَلََا يُؤْمِنُونَ إِلََّا قَلِيلًا} (النساء: 155)، وقوله: {وَمََا قَتَلُوهُ وَمََا صَلَبُوهُ} (النساء: 157) إلى قوله:
{شَهِيداً} (النساء: 159) و [دون] (6) أنه لما ذكر بالبناء جمليّ الظلم من قوله {فَبِظُلْمٍ}
لأنه يعم على كل ما تقدم وينطوي عليه ذكر حينئذ متعلق الجملي من قوله: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ} (النساء: 155) عقب الباء لأن العامل في الأصل حقه أن يلي معموله، فقال:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا} (النساء: 160) هو متعلق بقوله: {فَبِظُلْمٍ} (النساء: 3/ 16 160)، وقد اشتمل الظلم على كلّ ما تقدم قبله، كما أنه أيضا اشتمل على كل ما تأخر من المحرّمات الأخر التي عددت بعد ما اشتملت على ذكر الشيء بالعموم والخصوص فذكرت الجزئيات الأولى بخصوص كلّ واحد، ثم ذكر العام المنطوي عليها فهذا تعميم بعد تخصيص. ثم ذكرت جزئيات أخر بخصوصها، فتركيب الأساليب من وجوه كثيرة في الآية وهو التعميم بعد التخصيص، ثم التخصيص بعد التعميم، ثم البناء بعد الاعتراض.
__________
(1) في المخطوط «الواقع».
(2) في المخطوط «محدود».
(3) في المخطوط «يتقدّم».
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/101)
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلََا رِجََالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسََاءٌ مُؤْمِنََاتٌ} (الفتح: 25) إلى قوله:
{عَذََاباً أَلِيماً} (الفتح: 25)، فقوله: {وَلَوْلََا رِجََالٌ مُؤْمِنُونَ} (الفتح: 25) إلى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الفتح: 25) هو المقتضي الأول المتقدم، وقوله {لَوْ تَزَيَّلُوا}
(الفتح: 25) هو المقتضي الثاني وهو البناء، لأنه المذكّر بالمقتضي الأول الذي هو «لولا» خشية تناسيه، فهو مبني على الأول، ثم أورد مقتضاها من الجواب بقوله: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} (الفتح: 25) ورودا واحدا من حيث أخذا معا، كأنهما مقتضى منفرد، من حيث هما واحد بالنوع وهو الشرط الماضي. فقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} (الفتح: 25) بناء على قوله: {وَلَوْلََا رِجََالٌ} (الفتح: 25) نظر في المضارعة. وأما قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهََالَةٍ ثُمَّ تََابُوا مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهََا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
(النحل: 119) فيجوز أن يكون تكريرا، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله: {وَأَصْلَحُوا}
ويكون الثاني بيانا لمجمل لا تكريرا.
وقد جعل ابن المنيّر (1) من هذا القسم قوله [163/ ب] تعالى. {مَنْ كَفَرَ بِاللََّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمََانِهِ} (النحل: 106) ثم قال: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} (النحل: 106).
3/ 17وقوله: {وَلَوْلََا رِجََالٌ مُؤْمِنُونَ} (الفتح: 25) ثم قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} (الفتح:
25) ونازعه العراقي (2) لأن المعاد فيهما أخصّ من الأول وهذا يجيء في كثير مما ذكرنا، ولا بد أن يكون وراء التكرير شيء أخصّ منه كما بيّنا.
الرابع: في مقام التعظيم والتهويل كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة:
21) {الْقََارِعَةُ * مَا الْقََارِعَةُ} (القارعة: 21). {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمََا أَدْرََاكَ مََا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (القدر: 21).
وقوله: {وَأَصْحََابُ الْيَمِينِ مََا أَصْحََابُ الْيَمِينِ} (الواقعة: 27).
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن منصور الجذامي، تقدمت ترجمته في 1/ 176.
(2) هو عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري، علم الدين العراقي، خطيب جامع مصر، ولد سنة (622هـ) اعتنى علم الدين بالعلوم الشرعية فمهر في الفقه والأصول والعربية، ومهر في الكتابة والحساب وله نظم ونثر، كان حسن الفكاهة متواضعا لا يسأم من المذاكرة، له من التصانيف «الانتصار للزمخشري من ابن المنير» أخذ عنه أبو حيّان والسبكي وآخرون توفي سنة (704هـ) (ابن حجر، الدرر الكامنة 2/ 399).(3/102)
وقوله: {فَأَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ} (الواقعة: 98).
وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ} (المدثر: 31).
الخامس: في مقام الوعيد والتهديد، كقوله تعالى: {كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 54) وذكر {ثُمَّ} في المكرر دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول، وفيه تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى، وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرّق إليه تغيير، بل هو مستمر دائما.
السادس: التعجّب، كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (المدثر: 3/ 18 2019)، فأعيد تعجّبا من تقديره وإصابته الغرض، على حدّ: قاتله الله ما أشجعه! السابع: لتعدد المتعلق، كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (الرحمن:
13)، فإنها وإن تعدّدت فكلّ واحد منها متعلق بما قبله، وإنّ الله تعالى خاطب بها الثّقلين من الإنس والجن، وعدّد عليهم نعمه التي خلقها لهم، فكلّما ذكر فصلا من فصول النّعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه، وهي أنواع مختلفة، وصور شتى.
فإن قيل: فإذا كان المعنىّ في تكريرها عدّ النعم واقتضاء الشكر عليها، فما معنى قوله:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ فَلََا تَنْتَصِرََانِ} (الرحمن: 35)؟ وأيّ نعمة هنا! وإنما هو وعيد.
قيل: إن نعم الله فيما انذر به وحذّر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها، نظير أنعمه على ما وعده، وبشر من ثوابه على طاعته ليرغبوا فيها، ويحرصوا عليها وإنما تتحقق معرفة الشيء بأن تعتبره بضدّه، والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما، فإنهما متقاربان في موضع النعم بالتوقيت على ملاك الأمر منها، وعليه قول بعض حكماء الشعراء:
والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي أنباك كيف نعيمها
وإنما ذكرنا هذا، لتعلم الحكمة في كونها زادت على ثلاثة، ولو كان عائدا لشيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يقع به أكثر من ثلاثة.
فإن قيل: فإذا كان المراد بكلّ ما قبله، فليس ذلك بإطناب، بل هي ألفاظ أريد بها غير ما أريد بالآخر.
3/ 19قلت إن قلنا: العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به غير ما أريد بالآخر.(3/103)
فإن قيل: فإذا كان المراد بكلّ ما قبله، فليس ذلك بإطناب، بل هي ألفاظ أريد بها غير ما أريد بالآخر.
3/ 19قلت إن قلنا: العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به غير ما أريد بالآخر.
وقد تكلف لتوجيه العدّة التي جاءت عليها هذه الآية مكررة، قال الكرمانيّ (1): جاءت آية واحدة في هذه السورة كرّرت نيّفا وثلاثين مرة، لأن ست عشرة راجعة إلى الجنان، لأن لها ثمانية أبواب، وأربعة عشر منها راجعة إلى النعم والنقم، فأعظم النقم جهنم، ولها سبعة أبواب. وجاءت سبعة في مقابلة تلك الأبواب، وسبعة عقب كل نعمة ذكرها للثّقلين.
وقال غيره: نبّه في سبع منها على ما خلقه الله للعباد من نعم الدنيا المختلفة على عدّة أمهات النعم [164/ أ] وأفرد سبعا منها للتخويف، وإنذارا على عدة أبواب المخوف منه، وفصل بين الأول والسبع الثواني بواحدة سوّى فيها بين الخلق كلهم فيما كتبه عليهم من الفناء، حيث اتصلت بقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ} (الرحمن: 26)، فكانت خمس عشرة، أتبعت بثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدة أبوابها، ثم بثمانية أخر في وصف الجنتين اللتين من دون الأوليين لذلك أيضا فاستكملت إحدى وثلاثين.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (الآية: 15)، في سورة المرسلات عشر مرات، لأنه سبحانه ذكر قصصا مختلفة، وأتبع كلّ قصة بهذا القول، فصار كأنه قال عقب كل قصة: «ويل للمكذبين بهذه القصة! وكل قصة مخالفة لصاحبتها»، فأثبت الويل لمن كذّب بها.
ويحتمل أنه لما كان جزاء الحسنة بعشر أمثالها، وجعل للكفّار في مقابلة كلّ مثل من الثواب ويل.
3/ 20ومنها في سورة الشعراء قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً وَمََا كََانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الآية: 98) في ثمانية مواضع لأجل الوعظ، فإنه قد يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحدة.
وأما قوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً}، فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم السلام، والعجب من تخلّف من لا يتأملها مع ظهورها.
وأما مناسبة قوله: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر فدلّ بالمفهوم
__________
(1) هو محمود بن حمزة بن نصر، تقدمت ترجمته في 1/ 206. وانظر قوله في كتابه البرهان في توجيه متشابه القرآن (بتحقيق: عبد القادر أحمد عطا) ص: 179، بتصرّف.(3/104)
على إيمان الأقلّ، فكانت العزة على من لم يؤمن، والرحمة لمن آمن، وهما مرتبتان كترتيب الفريقين. ويحتمل أن يكون من هذا النوع قوله تعالى: {كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 54) الآية، لأنّ علمهم يقع أولا وثانيا على نوعين مختلفين بحسب المقام وهذا أقرب للحقيقة الوضعية وحال المعبر عنه فإن المعاملات الإلهيّة للطائع والعاصي متغيّرة الأنواع [الدنيوية] (1) ثم البرزخية، ثم الحشرية، كما أن أحوال الاستقرار بعد الجميع في الغاية بل كل مقام من هذه أنواع مختلفة، وفي «ثم» دلالة على الترقي، إن لم يجعل الزمان مرتبا في الإنذار على التكرار، وفي المنذر به على التنويع.
ومنه تكرار: {فَذُوقُوا عَذََابِي وَنُذُرِ} (القمر: 39)، قال الزمخشري: كرّر ليجدوا عند سماع كل نبإ منها اتعاظا وتنبيها، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق باعتبار يختص به، وأن يتنبهوا كيلا يغلبهم السرور والغفلة (2).
ومنه قوله تعالى: {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ * لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} (الكافرون:
21) إلى آخرها يحكى أن بعض الزنادقة سأل الحسن بن عليّ رضي الله عنهما عن هذه الآية 3/ 21 فقال: «إنّي أجد في القرآن تكرارا وذكر له ذلك، فأجابه الحسن بما حاصله: إن الكفار قالوا:
نعبد إلهك شهرا وتعبد آلهتنا شهرا»، فجاء النفي متوجها إلى ذلك. والمقصود أن هذه [الآية] (3) ليست من التكرار في شيء، بل هي بالحذف والاختصار أليق وذلك لأن قوله:
{لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 2) أي لا أعبد في المستقبل [ما تعبدون في المستقبل] (4)، وقوله: {وَلََا أَنََا عََابِدٌ مََا عَبَدْتُّمْ} (الكافرون: 4)، أي ولا أنا عابد في الحال ما عبدتم في المستقبل، [{وَلََا أَنْتُمْ عََابِدُونَ} (الكافرون: 3) في الحال ما أعبد في المستقبل] (5).
والحاصل أن القصد نفي عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة: الحال، والماضي،
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(2) الكشاف 4/ 46، بتصرّف.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/105)
والاستقبال والمذكور في الآية النفي في الحال والاستقبال، وحذف الماضي من جهته ومن جهتهم ولا بد من نفيه، لكنه حذف لدلالة الأولين عليه.
وفيه تقدير آخر وهو أن الجملة الأولى فعلية، والثانية اسمية، وقولك: [164/ ب] «لا أفعله ولا أنا فاعله» أحسن من قولك: «لا أفعله ولا أفعله» فالجملة الفعلية نفي لإمكانه، والاسمية نفي لاتّصافه، كما في قوله تعالى: {وَمََا أَنْتَ بِهََادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلََالَتِهِمْ} (الروم: 53)، {وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (فاطر: 22). والمعنى أنه تبرّأ من فعله ومن الاتّصاف به، وهو أبلغ في النفي وأما المشركون فلم ينتف عنهم إلا بصيغة واحدة وهي قوله: {وَلََا أَنْتُمْ عََابِدُونَ مََا أَعْبُدُ} (الكافرون: 3) في الموضعين.
وفرق آخر، وهو أنه قال في نفيه الجملة الاسمية: {وَلََا أَنََا عََابِدٌ مََا عَبَدْتُّمْ}
(الكافرون: 4)، وقال في النفي عنهم: {وَلََا أَنْتُمْ عََابِدُونَ مََا أَعْبُدُ} (الكافرون: 3) عائد في حقه بين الجملتين، وقال: {لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 2) بالمضارع، وفي الثاني: {وَلََا أَنََا عََابِدٌ مََا عَبَدْتُّمْ} (الكافرون: 4) بالماضي، فإن المضارع يدل على الدوام، بخلاف الماضي، فأفاد ذلك أنّ ما عبدتموه ولو مرّة ما أنا عابد له البتّة، ففيه كمال 3/ 22براءته ودوامها ممّا عبدوه ولو مرّة بخلاف قوله: {لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 2)، فإن النفي من جنس الإثبات، وكلاهما مضارع يظهران جملة ومنفردا.
ومنه تكرير الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس: اليهود لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم. وأهل النفاق أشدّ إنكارا له، لأنه كان أول نسخ نزل. وكفار قريش قالوا: ندم محمد على فراق ديننا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملّة إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود وقال الله تعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة: {لِئَلََّا يَكُونَ لِلنََّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (البقرة: 150) والاستثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. وقال سبحانه: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (البقرة: 147) أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك، وقال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 146)، أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ومنه قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتََّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات:
175174:) وقال صاحب «الينبوع» (1): لم يبلغني عن المفسرين فيه شيء.(3/106)
ومنه قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتََّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات:
175174:) وقال صاحب «الينبوع» (1): لم يبلغني عن المفسرين فيه شيء.
وقال المفسرون في غريب القرآن: هما في المعنى كالآيتين المتقدمتين، فكرّر (2) 3/ 23 للتأكيد وتشديد الوعيد.
ويحتمل أن يكون «الحين» في الأوليين يوم بدر، و «الحين» في هاتين يوم فتح مكة.
ومن فوائد قوله تعالى في الأوليين: (وأبصارهم) وفي هاتين: (فأبصر) أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلا وأسرا وهزيمة ورعبا، فما تضمنت التشفّي بهم قيل له:
(أبصارهم)، وأما يوم الفتح فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم والهداية إلى إيمانهم فلم يكن وفقا للتشفي بهم، بل كان في استسلامهم، وإسلامهم لعينه قرّة، ولقلبه مسرّة، فقيل له:
(أبصر).
ويحتمل على هذا إن شاء الله أن يكون من فوائد قوله تعالى في هذه: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي يبصرون منك عليهم بالأمان، ومننّا عليهم بالإيمان.
ومنه قوله تعالى: {لََا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلََا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (الممتحنة: 10).
وللتكرار فائدتان:
إحداهما: أنّ التحريم قد يكون في الطرفين ولكن يكون المانع من إحداهما كما لو [165/ أ] ارتدّت الزوجة قبل الدخول يحرم النكاح من الطرفين والمانع من جهتهما (3)، فذكر الله سبحانه الثانية، ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين كذلك المانع منهما.
والثانية: أنّ الأولى دلّت على ثبوت التحريم في الماضي ولهذا أتى فيها بالاسم الدّال على الثبوت والثانية في المستقبل، ولهذا أتى فيها بالفعل المستقبل.
ومنه تكرار الإضراب.
__________
(1) هو محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر، أبو عبد الله الصقلي، تقدمت ترجمته والتعريف بكتابه في 2/ 167.
(2) في المخطوطة «فكرّرتا».
(3) في المخطوطة «جهتها».(3/107)
واعلم أن «بل» إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب.
وهو إما أن يقع في كلام الخلق ومعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم أو أنّ الثاني أولى.
وإما أن يقع في كلام الله تعالى، وهو ضربان:
أحدهما: أن يكون ما فيها من الردّ راجعا إلى العباد كقوله تعالى: {قََالُوا أَضْغََاثُ أَحْلََامٍ بَلِ افْتَرََاهُ بَلْ هُوَ شََاعِرٌ} (الأنبياء: 5).
والثاني: أن يكون إبطالا ولكنه على أنه قد انقضى وقته وأن الذي بعده أولى بالذكر، كقوله تعالى: {بَلِ ادََّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهََا بَلْ هُمْ مِنْهََا عَمُونَ]} [1] (النمل: 66) وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمََّا يَذُوقُوا عَذََابِ} (ص:
8).
وزعم ابن مالك في شرح «الكافية» (2) أن «بل» حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لا لإبطال الأول وهو مردود بما سبق، وبقوله: {وَقََالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمََنُ وَلَداً سُبْحََانَهُ بَلْ عِبََادٌ مُكْرَمُونَ} (الأنبياء: 26) فأضرب بها عن قولهم، وأبطل كذبهم.
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عََادُونَ} (الشعراء: 166)، أضرب بها عن حقيقة إتيانهم الذكور وترك الأزواج.
ومنه قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهََادَةَ لِلََّهِ} (الطلاق: 2)، 3/ 25فالأول للمطلّقين والثاني للشهود نحو: {وَإِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلََا تَعْضُلُوهُنَّ [أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوََاجَهُنَ]} [3] (البقرة: 232)، [أوّلها للأزواج] (4) وآخرها للأولياء.
ومنه تكرار الأمثال، كقوله تعالى: {وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ} (فاطر:
22212019).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(2) هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك، العلّامة جمال الدين الطائي الشافعي، تقدم في 1/ 381 وانظر التعريف بكتابه في 3/ 86.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/108)
وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة (1) ثنّاه الله تعالى.
قال الزمخشريّ: «والثاني [أبلغ (2) من الأول لأنه أدلّ على فرط الحيرة، وشدّة الأمر وفظاعته»، قال: «ولذلك أخّر]، وهم يتدرّجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ».
ومنه تكرار القصص في القرآن كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى وغيره من الأنبياء، قال بعضهم: ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من كتابه، قال ابن العربي (3)
في «القواصم»: ذكر الله قصة نوح في خمسة وعشرين آية، وقصة موسى في سبعين آية.
انتهى.
وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر وهي أمور:
أحدهما: أنه إذا كرّر القصة زاد فيها شيئا، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى عليه 3/ 26 السّلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا، ففائدته أن ليس كل حية ثعبانا، وهذه عادة البلغاء، أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة [لصفة] (4) زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين وكان أكثر من آمن به مهاجريا فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص، فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع [165/ ب] فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون، وعبّر عن هذا ابن الجوزي (5) وغيره. [بأن يقال كل من الصادرين عنه صلّى الله عليه وسلّم] (6).
__________
(1) يشير المؤلف إلى قوله تعالى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ} الآية. (البقرة:
1917).
(2) ذكره الزمخشري في الكشاف 1/ 41.
(3) هو محمد بن عبد الله بن محمد، الإمام أبو بكر ابن العربي الاندلسي الاشبيلي (ت 543هـ) تقدمت ترجمته في 1/ 109. وأما كتابه «القواصم» فقد طبع باسم «العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم» طبعة أولى في الجزائر باشراف (عبد الحميد بن باريس) سنة 1346هـ / 1927م.
وطبع ثانيا بتحقيق (محب الدين الخطيب) ونشرته لجنة الشباب عام 1371هـ / 1951م في (295) ص. وطبع بتحقيق (عمار الطالبي) بدار الغرب الإسلامي في بيروت عام 1405هـ / 1985م. ولم نجد قوله في الكتاب المطبوع.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج بن الجوزي، تقدمت ترجمته في 1/ 182.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/109)
الثالثة: [تسليته لقلب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم] (1) مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم قال تعالى:
{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الرُّسُلِ مََا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤََادَكَ} (هود: 120).
الرابعة: أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.
الخامسة: أن الدّواعي لا تتوفر على نقلها [كتوفرها على نقل] (2) الأحكام، فلهذا كررت القصص دون الأحكام.
2/ 27السادسة: أن الله تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية، لصحّة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأيّ نظم جاءوا، بأي عبارة عبّروا، قال ابن فارس (3): وهذا هو الصحيح.
السابعة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (البقرة: 23)، وقال في موضع [آخر: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} (هود: 13)، فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد واكتفى بها لقال العربيّ بما قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}] (4)، (البقرة:
23)، «ايتونا أنتم بسورة من مثله»، فأنزلها سبحانه في تعداد السور، دفعا لحجّتهم من كل وجه.
الثامنة: أنّ القصة الواحدة من هذه القصص كقصة موسى مع فرعون وإن ظنّ أنها لا تغاير الأخرى فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ فإن كلّ واحدة لا بدّ وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها فكأنّ الله تعالى فرّق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء، ثم قسّم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة من انفراد كل قصة منها بموضع كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصّة، فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدة معان عجيبة:
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) هو أحمد بن فارس بن زكريا، أبو الحسين القزويني، تقدمت ترجمته في 1/ 191.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/110)
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة، ولا أحدث مللا، فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها: أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه 3/ 28 واحدة بأعيانها، فيكون شيئا معادا فنزّهه عن ذلك بهذه التغييرات.
ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ لما فيها من التغيير ميلا إلى سماعها، لما جبلت عليه النفوس من حبّ التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد وقد كان المشركون في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم، وبيان وجوه التأليف، فعرّفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية، ولا يقع على كلامه عدد لقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كََانَ الْبَحْرُ مِدََاداً لِكَلِمََاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمََاتُ رَبِّي} [166/ أ] {وَلَوْ جِئْنََا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:
109) وكقوله: {وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} (لقمان:
27) الآية.
وقال القفّال في تفسيره (1): ذكر الله في أقاصيص بني إسرائيل وجوها من المقاصد:
أحدها: الدلالة على صحة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه أخبر عنها من غير تعلّم وذلك لا يمكن إلا بالوحي.
الثاني: تعديد النعم على بني إسرائيل، وما منّ الله على أسلافهم من الكرامة والفضل كالنجاة من آل فرعون، وفرق البحر لهم، وما أنزل عليه في التيه من المنّ والسلوى، وتفجّر الحجر وتظليل الغمام.
الثالث: إخبار الله نبيّه بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاوتهم وتعنتهم على الأنبياء، فكأنه تعالى 3/ 29
__________
(1) هو محمد بن علي بن إسماعيل القفّال، تقدمت ترجمته في 2/ 96. وتفسيره ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 16/ 285وقال: «قال أبو الحسن الصّفّار: سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير أبي بكر القفّال، فقال: قدّسه من وجه، ودنّسه من وجه، أي دنّسه من جهة نصره للاعتزال». والتفسير ذكره أيضا البغدادي في هدية العارفين 2/ 48.(3/111)
يقول: إذا كانت هذه معاملتهم مع نبيّهم الذي أعزهم الله به، وأنقذهم من العذاب بسببه فغير بدع ما يعامله به أخلافهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
الرابع: تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من نزول العذاب بهم كما نزل بأسلافهم.
وهنا سؤالان:
أحدهما: ما الحكمة في عدم تكرر قصة يوسف عليه السلام، وسوقها مساقا واحدا في موضع واحد، دون غيرها من القصص؟
والجواب من وجوه:
الأول (1): [ما] (2) فيها من تشبيب النسوة به، وتضمن الإخبار عن حال امرأة ونسوة افتتنّ بأبدع الناس جمالا، وأرفعهم مثالا، فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإغضاء والستر عن ذلك. وقد صحح الحاكم في «مستدركه» (3) حديثا مرفوعا: النهي عن تعليم النساء سورة يوسف.
الثاني (4): أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة، بخلاف غيرها من القصص، فإنّ مآلها إلى الوبال، كقصة إبليس، وقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح وغيرهم، فلما اختصّت هذه القصة في (5) سائر القصص، بذلك اتفقت الدّواعي على نقلها لخروجها عن سمت (6) القصص.
الثالث (7): قاله الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني (8) إنما كرر الله قصص الأنبياء، وساق
__________
(1) في المخطوطة «أحدها».
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(3) هو محمد بن عبد الله بن حمدويه بن الحاكم النيسابوري ت (405هـ). وأما كتابه «المستدرك على الصحيحين» فقد طبع بحيدرآباد عام 1343هـ / 1924م في أربع مجلدات كبار.
(4) في المخطوطة «ثانيها».
(5) في المخطوطة «من بين».
(6) في المخطوطة «سمة».
(7) في المخطوطة «ثالثها».
(8) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الأسفراييني تقدم في 2/ 179.(3/112)
قصة يوسف مساقا واحدا، إشارة إلى عجز العرب، كأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: إن كان من تلقاء 3/ 30 نفسي تصديره على الفصاحة، فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في قصص سائر الأنبياء.
السؤال الثاني: أنّه سبحانه وتعالى ذكر قصة قوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى، في سورة الأعراف وهود والشعراء، ولم يذكر معهم قصة إبراهيم، وإنّما ذكرها في سورة الأنبياء، ومريم، والعنكبوت، والصافات.
والسرّ في ذلك أن تلك السّور الأول ذكر الله فيها نصر رسله بإهلاك قومهم، ونجاء الرسل وأتباعهم، وهذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم بل كان المقصود ذكر الأنبياء وإن لم يذكر قومهم ولهذا سميت سورة الأنبياء فذكر فيها إكرامه للأنبياء وبدأ [فيها] (1) بقصة إبراهيم، إذ كان المقصود ذكر كرامته الأنبياء قبل محمد، وإبراهيم أكرمهم على الله، وهو خير البرية، وهو أب أكثرهم، وليس هو أب نوح ولوط لكن لوط من أتباعه، وأيوب من ذريته، بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ وَأَيُّوبَ}
(الآية: 84).
وأما سورة العنكبوت فإنه سبحانه وتعالى ذكر فيها امتحانه للمؤمنين، ونصره لهم، وحاجتهم إلى الجهاد وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر، وعاقبة من كذب الرسل فذكر قصة إبراهيم لأنها من النّمط الأول.
وكذلك في سورة الصافات قال [166/ ب] فيها: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} (الآيات: 737271) وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة إما بكونهم غلبوا وذلّوا وإما بكونهم أهلكوا، ولهذا ذكر قصة إلياس دون غيرها ولم يذكر إهلاك قومه، بل قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (الصافات: 127).
وقد روي أن الله رفع إلياس وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة فإن إلياس لم يقم 13/ 31 بينهم، وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل، وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال وبعد نوح لم يهلك جميع النوع، وقد بعث الله في كلّ أمة نذيرا، والله سبحانه لم يذكر عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا كما ذكر ذلك عن غيرهم بل ذكر أنّهم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما، وفي هذا ظهور برهانه وآياته حيث أذلّهم ونصره {فَأَرََادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنََاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} (الصافات: 98) وهذا من جنس المجاهد الذي [يعرض عدوّه،
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/113)
والقصص الأول من جنس المجاهد الذي] (1) قتل عدوه، وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين أظهرهم حتى هلكوا، ولم يوجد في حق إبراهيم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم، وانتظار العذاب النازل وهكذا محمد صلّى الله عليه وسلّم مع قومه، لم يقم فيهم، بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك ومحمد وإبراهيم أفصل الرسل فإنهم إذا علموا حصل المقصود، وقد يتوب منهم من تاب، كما جرى لقوم يونس فهذا والله أعلم هو السرّ في أنّه سبحانه لم يذكر قصة إبراهيم مع هؤلاء لأنها ليست من جنس واقعتهم.
فإن قيل: فما وجه الخصوصية بمحمد وإبراهيم بذلك؟
فالجواب: أمّا حالة إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل فلم يسع في هلاك قومه [لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام] (2) إقامة (3) الحجة عليهم وقد قال الله تعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنََا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنََا فَأَوْحى ََ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظََّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (إبراهيم: 1413)، وكان كلّ قوم يطلبون هلاك نبيّهم فعوقبوا 3/ 32وقوم إبراهيم وإن أوصلوه إلى العذاب لكن جعله الله عليه بردا وسلاما، ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب إذ الدنيا ليست دار الجزاء العام وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة كما في العقوبات الشرعية، فمن أرادوا عداوة [أحد] (4) من أتباع الأنبياء ليهلكوه فعصمه الله، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره فهو أشبه بإبراهيم عليه السلام إذ عصمه الله من كيدهم، وأظهره حتى صارت الحرب بينهم وبينه سجالا، ثم كانت له العاقبة فهو أشبه بحال محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإن محمدا سيد الجميع، وهو خليل الله، كما أن إبراهيم عليه السلام خليله، والخليلان هما أفضل الجميع، وفي طريقهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريق غيرهما، ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم ذنبا غير الشرك، وكذلك عن قوم نوح، وأما عاد فذكر عنهم التجبّر، وعمارة الدنيا، وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الأنبياء، وأهل مدين الظلم في الأموال مع الشرك، وقوم لوط استحلال الفاحشة، ولم يذكر أنهم أقروا بالتوحيد، بخلاف سائر الأمم، وهذا يدل [167/ أ] على أنهم لم يكونوا مشركين، وإنما كان دينهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك، وكانت عقوبتهم أشدّ.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «لإقامة».
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/114)
وهذه الأمور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم ولما لم يكن في قوم نوح خير يرجى غرق الجميع. والله المستعان.
فتأمل هذا الفصل وعظم فوائده وتدبر حكمته، فإنه سر عظيم من أسرار القرآن العظيم، كقوله تعالى: {أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهََارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهََارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ، وَأَنْهََارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} (محمد: 15)، فأعاد ذكر «الأنهار» مع كل صنف وكان يكفي أن يقال فيها: «أنهار من ماء، ومن لبن، ومن خمر، ومن عسل» لكن لما 3/ 33 كانت الأنهار من الماء حقيقة وفيما عدا الماء مجازا للتشبيه فلو اقتصر على ذكرها مع الماء وعطف الباقي عليه لجمع بين الحقيقة والمجاز.
فإن قلت: فهلّا أفرد ذكر الماء وجمع الباقي صيغة واحدة؟ قيل: لو فعل ذلك لجمع بين محامل من المجاز مختلفة في صيغة واحدة، وهو قريب في المنع من الذي قبله.
فائدة
قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون [عنه] (1) لمعناه كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكََافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} (الطارق: 17) فإنه لما أعيد اللفظ غيّر «فعّل» إلى «أفعل» فلما ثلّث ترك اللفظ أصلا، فقال: «رويدا».
وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} (الكهف: 74)، ثم قال: {إِمْراً}
(الكهف: 71).
قال الكسائي (2): معناه شيئا منكرا كثير الدهاء من جهة الإنكار من قولهم: أمر القوم إذا كثروا.
قال الفارسيّ (3): وأنا أستحسن قوله هذا.
وقوله تعالى: {ارْجِعُوا وَرََاءَكُمْ} (الحديد: 13)، قال الفارسي: {وَرََاءَكُمْ}
(الحديد: 13) في موضع فعل الأمر أي تأخروا والمعنى ارجعوا تأخروا فهو تأكيد وليست ظرفا لأن الظروف لا يؤكّد بها.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(2) هو عليّ بن حمزة الكسائي انظر ترجمته في 1/ 477.
(3) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، الإمام أبو علي الفارسي، تقدمت ترجمته في 1/ 375.(3/115)
3/ 34وإذا تكرر اللفظ بمرادفه جازت الإضافة كقوله تعالى: {عَذََابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}
(سبأ: 5)، والقصد المبالغة، أي عذاب مضاعف، وبالعطف كقوله تعالى: {إِنَّمََا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللََّهِ} (يوسف: 86)، وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} (البقرة: 109).
القسم الخامس عشر الزيادة في بنية الكلمة
وأعلم أنّ اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه فلا بدّ أن يتضمّن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلّة على المعاني فإذا زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة.
ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذْنََاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر: 42) فهو أبلغ من «قادر» لدلالته على أنه قادر متمكّن القدرة لا يردّ شيء عن اقتضاء قدرته ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى.
وكقوله تعالى: {وَاصْطَبِرْ} (القمر: 27) فإنّه أبلغ من الأمر بالصبر من «اصبر».
وقوله: {لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) لأنه لما كانت السيئة ثقيلة وفيها تكلّف زيد في لفظ فعلها.
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهََا} (فاطر: 37) فإنّه أبلغ من «يتصارخون».
وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهََا} (الشعراء: 94) ولم يقل «وكبوا» قال الزمخشري (1): والكبكبة تكرير الكبّ، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في 3/ 35المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم كبه مرة بعد أخرى حتى يستقرّ في قعرها، اللهم أجرنا منها خير مستجار! وقريب من هذا قول الخليل (2) في قول العرب: صرّ الجندب، وصرصر البازي،
__________
(1) في الكشاف تفسير آية {فَكُبْكِبُوا فِيهََا هُمْ} الآية 3/ 119. بتصرّف.
(2) هو العالم الأديب، الخليل بن أحمد بن عمر، أبو عبد الرحمن الفراهيدي، تقدم ذكره في 1/ 305وانظر قوله في: كتابه العين 7/ 81 (بتحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي ونشرته دار الهجرة في قم إيران).(3/116)
كأنهم توهموا في صوت [167/ ب] الجندب استطالة، فقالوا: صرّ صريرا، فمدوا وتوهموا في صوت البازي تقطيعا، فقالوا: «صرصر».
ومنه الزيادة بالتشديد أيضا فإنّ «ستّارا» و «غفّارا» أبلغ من «ساتر» و «غافر» ولهذا قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كََانَ غَفََّاراً} (نوح: 10) ومن هذا رجّح بعضهم معنى «الرحمن» على معنى «الرحيم» لما فيه من زيادة البناء، وهو الألف والنون، وقد سبق في السادس.
ويقرب منه التضعيف ويقال التكثير وهو أن يؤتى بالصيغة دالة على وقوع الفعل مرة بعد مرة. وشرطه أن يكون في الأفعال المتعدّية قبل التضعيف وإنما جعله متعديا تضعيفه ولهذا ردّ على الزمخشري في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا}
(البقرة: 23) حيث جعل {نَزَّلْنََا} هنا للتضعيف.
وقد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا، نحو: موّت المال.
وجاء حيث لا يمكن فيه التكثير، كقوله تعالى: {لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}
(الرعد: 7) {لَنَزَّلْنََا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمََاءِ مَلَكاً رَسُولًا} (الإسراء: 95).
فإن قلت: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} (البقرة: 126) مشكل على هذه القاعدة، لأنه إذا كان «فعّل» للتكثير، فكيف جاء «قليلا» نعتا لمصدر «متّع» وهذا وصف كثير بقليل، وإنه ممنوع.
قلت: وصف بالقلّة من حيث صيرورته إلى نفاد ونقص وفناء. 3/ 36
واعلم أن زيادة المعنى في هذا القسم مقيد بنقل صيغة الرباعيّ غير موضوعة لمعنى فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة فقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} (النساء: 164) لا يدلّ على كثرة صدور الكلام منه لأنه غير منقول عن ثلاثيّ.
وكذا قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (المزمل: 4) [لا] (1) يدلّ على كثرة القراءة على هيئة التأني والتدبّر.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/117)
وكذا قوله تعالى: {وَمََا عَلَّمْنََاهُ الشِّعْرَ} (يس: 69) ليس النفي للمبالغة بل [نفي] (1) أصل الفعل.
القسم السادس عشر التفسير
وتفعله (2) العرب في مواضع التعظيم، كقوله تعالى: {اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255)، قال البيهقي (3) في شرح الأسماء الحسنى: «قرأت في تفسير الجنيدي (4) أن قوله: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} (البقرة: 255)، تفسير للقيّوم».
وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 212019).
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
(المائدة: 9) فإن هذا تفسير للوعد.
3/ 37وقوله تعالى: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} (النور:
55) [فقوله ليستخلفنهم] (5) تفسير للوعد وتبيين له، لا مفعول ثان فلم يتعدّ الفعل منها إلا إلى واحد.
وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ} (آل عمران:
59). ف «خلقه» تفسير للمثل.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(2) في المخطوطة «وتفضّله».
(3) هو الإمام أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي النيسابوري، تقدمت ترجمته في 1/ 100وأما كتابه «شرح الأسماء الحسنى» ذكره حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون 2/ 1032.
(4) هو أبو بكر محمد بن عبدوس بن أحمد بن الجنيد المقرئ المفسّر الواعظ الجنيدي، من أهل نيسابور، كان إماما فاضلا بالقراءات عالما بمعاني القرآن، سمع «الحسين بن الفضل» والسريّ بن خزيمة وغيرهما وسمع منه «الحاكم الحافظ» وذكره في التاريخ وقال: «أبو بكر المفسر الواعظ، كان إمام خراسان بلا مدافعة في القراءات ومعاني القرآن». توفي في شهر ربيع الأول سنة (338هـ). (السمعاني، الأنساب 3/ 327).
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/118)
وقوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ يُذَبِّحُونَ} (البقرة: 49)، ف «يذبّحون» وما بعده تفسير للسّوم، وهو في القرآن كثير.
قال أبو الفتح بن جني (1): «ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها لأن تفسير الشيء لاحق به، ومتمّم له، وجار مجرى بعض أجزائه كالصلة من الموصول، والصفة من الموصوف».
وقد يجيء لبيان العلّة والسبب، كقوله تعالى: {فَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنََّا نَعْلَمُ مََا يُسِرُّونَ وَمََا يُعْلِنُونَ} (يس: 76) وليس هذا من قولهم، (2) [وإلّا لما حزن الرسول وإنما يجيء به لبيان السبب في أنه لا يحزنه قولهم.
وكذلك قوله: {وَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ]} [2] إِنَّ الْعِزَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً (يونس: 65).
ولو جاءت الآيتان على حد ما جاء قوله تعالى: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [168/ أ] {[وَعَمِلُوا]} [4] الصََّالِحََاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (المائدة: 9)، لكانت «أن» مفتوحة، لكنها جاءت على حد قوله
فائدة
3/ 38 قيل: الجملة التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. وقيل: يكون لها موضع إذا كان للمفسّر موضع ويقرب منها ذكره تفصيلا، كما سبق في قوله: {وَوََاعَدْنََا مُوسى ََ ثَلََاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنََاهََا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقََاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الأعراف: 142).
ومثل: {فَصِيََامُ ثَلََاثَةِ أَيََّامٍ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 196).
القسم السابع عشر خروج اللفظ مخرج الغالب
كقوله تعالى: {وَرَبََائِبُكُمُ اللََّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسََائِكُمُ} (النساء: 23)، فإن
__________
(1) هو أبو الفتح، عثمان بن جنّي النحوي. تقدمت ترجمته في 1/ 361.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/119)
الحجر ليس بقيد عند العلماء لكنّ فائدة التقييد تأكيد الحكم في هذه الصورة مع ثبوته عند عدمها ولهذا قال بعده: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23) ولم يقل: «{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (النساء: 23) ولم يكنّ في حجوركم» فدلّ على أن الحجر خرج مخرج العادة.
واعترض بأن الحرمة إذا كانت بالمجموع فالحلّ يثبت بانتفاء المجموع، والمجموع ينتفي بانتفاء جزئه، كما ينتفي بانتفاء كل فرد من المجموع.
وأجيب بأنه إذا نفي أحد شطري العلّة كان جزء العلة ثابتا فيعمل عملها.
فإن قيل: لما قال: {مِنْ نِسََائِكُمُ اللََّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (النساء: 23)، (1) [قال في 3/ 39الآية بعدها] (1): {وَأُحِلَّ لَكُمْ مََا وَرََاءَ ذََلِكُمْ} (النساء: 24) علم من مجموع ذلك أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمّها فما فائدة قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23)؟
قيل: فائدته ألّا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط كما في الحجر المفهوم إذا خرج مخرج الغالب، فلا تقييد فيه عند الجمهور، خلافا لإمام الحرمين (3)
والشيخ عز الدين بن عبد السلام (4) والعراقي (5)، حيث قالوا: «إنه ينبغي أن يكون حجة بلا خلاف إذا لم تغلب» لأن الصفة إذا كانت غالبة دلّت العادة عليها فاستغنى المتكلم بالعادة عن ذكرها، فلما ذكرها مع استغنائه عنها دلّ ذلك على أنه لم يرد الإخبار بوقوعها للحقيقة بل ليترتب عليها نفي الحكم من المسكوت (6) أما إذا لم تكن غالبة أمكن أن يقال: إنما ذكرها ليعرف السامع أن هذه الصفة تعرض لهذه الحقيقة.
ومنه قوله تعالى: {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ} (الإسراء: 31).
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى ََ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كََاتِباً فَرِهََانٌ مَقْبُوضَةٌ} (البقرة:
283)، وجوّزوا أنّ الرهن لا يختصّ بالسفر، لكن ذكر لأن فقد الكاتب يكون [فيه] (7)
__________
(1) في المخطوطة «ثم قال في آخر الآية».
(3) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي تقدمت ترجمته في 1/ 118.
(4) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي تقدمت ترجمته في 1/ 132.
(5) هو عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري، علم الدين العراقي، تقدمت ترجمته في 3/ 102.
(6) في المخطوطة «عن السكوت».
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/120)
غالبا، فلما كان السفر مظنة إعواز الكاتب والشاهد الموثوق بهما، أمر على سبيل الإرشاد بحفظ مال المسافرين بأخذ الوثيقة الأخرى وهي الرهن.
وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنََاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلََاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (النساء:
101)، والقصر جائز مع أمن السفر، لأن ذلك خرج مخرج الغالب لا الشرط، وغالب أسفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم تخل من خوف العدوّ.
ومنهم من جعل الخوف هنا شرطا إن حمل القصر على ترك الركوع والسجود والنزول عن الدابّة والاستقبال ونحوه لا في عدد الركعات، لكن ذلك شدة خوف لا خوف، وسبب 3/ 40 النزول لا يساعده.
وكقوله تعالى: {فَكََاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} (النور: 33).
القسم الثامن عشر القسم
وهو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر، حتى إنهم جعلوا قوله تعالى: {وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنََافِقِينَ لَكََاذِبُونَ} (المنافقون: 1) قسما وإن كان فيه إخبار، إلا أنه لما جاء توكيدا للخبر سمّي قسما.
[168/ ب] ولا يكون إلا باسم معظم، كقوله: {فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}
(الذاريات: 23).
وقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (يونس: 53).
وقوله: {قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التغابن: 7).
وقوله: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيََاطِينَ} (مريم: 68).
وقوله: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 92).
وقوله: {فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ} (النساء: 65).
وقوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ} (المعارج: 40).
فهذه سبعة مواضع أقسم الله فيها بنفسه والباقي كله أقسم بمخلوقاته.
كقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التين: 1).
{فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الواقعة: 7675).
{فَلََا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوََارِ} [1] الْكُنَّسِ (التكوير: 1615).(3/121)
{فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الواقعة: 7675).
{فَلََا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوََارِ} [1] الْكُنَّسِ (التكوير: 1615).
وإنما يحسن في مقام الإنكار.
فإن قيل: ما معنى القسم منه سبحانه؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن، فالمؤمن يصدّق مجرّد (2) الإخبار وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
[فالجواب] (3): قال الأستاذ أبو القاسم القشيريّ (4): «إنّ الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها، وذلك أن الحكم يفصل باثنين: إمّا بالشّهادة، وإمّا بالقسم، فذكر الله تعالى [في كتابه] (5) النوعين حتى لا يبقي لهم حجة» (6) [فقال: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] وقال {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}] (6) (يونس: 53).
(8) [وقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72).
وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: {وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ وَمََا تُوعَدُونَ * فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}] (8) (الذاريات: 2322) صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا، ثم مات.
فإن قيل: كيف أقسم بمخلوقاته وقد ورد النهي علينا ألّا نقسم بمخلوق؟
قيل: فيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّه حذف مضاف، أي «ورب الفجر» و «رب التين»، وكذلك الباقي.
والثاني: أن العرب كانت تعظّم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون.
3/ 42والثالث: أن الأقسام إنما تجب بأن يقسم الرجل بما يعظّمه، أو بمن يجلّه وهو فوقه
__________
(1) في المطبوعة «الجواري».
(2) في المخطوطة «بمجرد الإخبار [من غير قسم]» وما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك تقدم ذكره في 1/ 360.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/122)
والله تعالى ليس شيء فوقه فأقسم تارة بنفسه، وتارة بمصنوعاته، لأنها تدلّ على بارئ وصانع واستحسنه ابن خالويه (1).
وقسمه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: {لَعَمْرُكَ} (الحجر: 72) ليعرّف الناس عظمته عند الله، ومكانته لديه، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في «كنز اليواقيت» (2): «والقسم بالشيء لا يخرج عن وجهين: إما لفضيلة أو لمنفعة فالفضيلة كقوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ * وَهََذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (التين: 32)، والمنفعة نحو: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}» (التين:
1).
وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء:
أحدها: بذاته، كقوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} (الذاريات: 23) {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 92).
والثاني: بفعله، نحو: {وَالسَّمََاءِ وَمََا بَنََاهََا * وَالْأَرْضِ وَمََا طَحََاهََا * وَنَفْسٍ وَمََا سَوََّاهََا} (الشمس: 765).
والثالث: مفعوله، نحو: {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ} (النجم: 1)، {وَالطُّورِ * وَكِتََابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 21).
وهو ينقسم باعتبار آخر إلى مظهر ومضمر:
فالمظهر كقوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} (الذاريات: 23) ونحوه.
والمضمر على قسمين: قسم دلّت عليه لام القسم، كقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوََالِكُمْ 3/ 43 وَأَنْفُسِكُمْ} (آل عمران: 186) وقسم دلّ عليه المعنى، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا} (مريم: 71) تقديره «والله».
وقد أقسم تعالى بطوائف [من] (3) الملائكة في أول سورة الصافات، والمرسلات، والنازعات.
__________
(1) هو الحسين بن أحمد بن حمدان بن خالويه تقدم في 2/ 369.
(2) أبو القاسم القشيري تقدمت ترجمته في 1/ 360وأما كتابه «كنز اليواقيت» فقد ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون» 2/ 1520.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/123)
فوائد
الأولى: أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن لا تكون إلا بالواو، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ [جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ]} [1] (النحل: 38) و {يَحْلِفُونَ بِاللََّهِ} (التوبة: 62). ولا تجيء (2) الباء والفعل محذوفا إلا قليلا وعليه حمل 3/ 44بعضهم قوله: {يََا بُنَيَّ لََا تُشْرِكْ بِاللََّهِ} (لقمان: 13) (3) [وقال: الباء باء القسم وليست متعلّقة ب «تشرك»، وكأنّه يقول: {يََا بُنَيَّ لََا تُشْرِكْ} ثم] (3) ابتدأ فقال: {بِاللََّهِ} لا تشرك وحذف «لا تشرك» لدلالة الكلام عليه: وكذلك قوله: {ادْعُ لَنََا رَبَّكَ بِمََا عَهِدَ عِنْدَكَ} (الزخرف: 49) قيل: إن قوله: [169/ أ] {«بِمََا عَهِدَ»} قسم والأولى أن يقال: إنه سؤال لا قسم.
وقوله: {مََا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مََا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} (المائدة: 116) فتقف على {لِي} وتبتدئ {بِحَقٍّ} فتجعله قسما.
هذا مع قول النحويين: إن الواو فرع الياء لكنه قد يكثر الفرع في الاستعمال ويقلّ الأصل.
الثانية: قد علمت أن القسم إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه فتارة يزيدون فيه للمبالغة في التوكيد، وتارة يحذفون منه للاختصار وللعلم بالمحذوف.
فما زادوه لفظ «إي» بمعنى «نعم» كقوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي} (يونس: 53).
ومما يحذفونه فعل القسم وحرف الجر، ويكون الجواب مذكورا، كقوله تعالى: {لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللََّهِ} (الأحزاب: 21) أي «والله».
وقوله: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} (الشعراء: 49)، {لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ} (العلق:
15)، {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصََّاغِرِينَ} (يوسف: 32).
3/ 45وقد يحذفون الجواب ويبقون القسم للعلم به، كقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي}
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(2) في المخطوطة «تجد».
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/124)
{الذِّكْرِ} (ص: 1) على أحد الأقوال أن الجواب حذف لطول الكلام وتقديره «لأعذّبنهم على كفرهم».
وقيل: الجواب: إن ذلك لحق.
ومما حذف فيه المقسم به قوله تعالى: {قََالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللََّهِ} (المنافقون:
1)، أي نحلف إنك لرسول الله لأن الشهادة بمعنى اليمين، بدليل قوله: {أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً}
(المنافقون: 2).
وأما قوله تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} (ص: 84) (1) [فالأول قسم بمنزلة، «والحقّ» وجوابه «لأملأنّ»، وقوله: {وَالْحَقَّ أَقُولُ}] (1) (ص: 84) توكيد للقسم.
وأما قوله: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْبُرُوجِ} (البروج: 1)، ثم قال: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ} (البروج: 4) قالوا: وهو جواب القسم، وأصله «لقد قتل» ثم حذف اللام وقد.
الثالثة: قال الفارسي (3) في «الحجّة»: «الألفاظ الجارية مجرى القسم ضربان:
أحدهما: ما تكون جارية كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم، فلا تجاب بجوابه، كقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الحديد: 8)، {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ} (البقرة: 63)، {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمََا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} (المجادلة: 18) فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا لخلوّه من الجواب.
والثاني: ما يتعلق بجواب القسم، كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} (آل عمران: 187)، {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ} (النحل: 38). 3/ 46
الرابعة: القسم والشرط، يدخل كلّ منهما على الآخر فإن تقدم القسم ودخل الشرط بينه وبين الجواب كان الجواب للقسم وأغنى عن جواب الشرط وإن عكس فبالعكس وأيهما تصدّر كان الاعتماد عليه والجواب له.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار تقدمت ترجمته في 1/ 375.(3/125)
ومن تقدّم القسم قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} (مريم: 46)، تقديره «والله لئن لم تنته»، فاللام الداخلة على الشرط ليست بلام القسم، ولكنها زائدة، وتسمى الموطّئة للقسم ويعنون بذلك أنها مؤذنة بأن جواب القسم منتظر أي الشرط لا يصلح أن يكون (1) [جوابا لأن الجواب لا يكون إلا خبرا] (1).
وليس دخولها على الشرط بواجب، بدليل حذفها في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمََّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (المائدة: 73).
والذي يدلّ على الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه وأنه ليس بمجزوم، بدليل قوله تعالى: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}
(الإسراء: 88) ولو كان جواب الشرط لكان مجزوما.
وأما قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللََّهِ تُحْشَرُونَ} (آل عمران: 158) فاللام في «ولئن» هي الموطّئة للقسم، واللام في {لَإِلَى اللََّهِ} هي لام القسم ولم تدخل نون التوكيد على الفعل للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور. والأصل «لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله» فلما قدم معمول الفعل عليه حذف منه.
3/ 47
القسم التاسع عشر [169/ ب] إبراز الكلام في صورة المستحيل على طريق المبالغة ليدل على بقية جمله.
كقول العرب: لا أكلمك حتى يبيض القار، وحتى يشيب الغراب، وكقوله تعالى:
{وَلََا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ} (الأعراف: 40)، يعنى والجمل لا يلج في السّم، فهؤلاء (3) لا يدخلون، فهو في المعنى متعلق بالحال، فالمعنى أنهم لا يدخلون الجنة أصلا، وليس للغاية هنا مفهوم، ووجه التأكيد فيه كدعوى الشيء ببينة، لأنه جعل ولوج الجمل في السّم غاية لنفي دخولهم الجنة، وتلك غاية لا توجد، فلا يزال دخولهم الجنة منتفيا.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «فهم».(3/126)
وغالى بعض الشعراء في وصف جسمه بالنحول، فجاء بما يزيد على الآية، فقال:
ولو أنّ ما بي من جوى وصبابة ... على جمل لم يبق في النّار خالد
وهذا على طريقة الشعراء في اعتبار المبالغة، وإلا فمعارضات القرآن لا تجوز، كما سبق التنبيه عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَلََا تَنْكِحُوا مََا نَكَحَ آبََاؤُكُمْ مِنَ النِّسََاءِ إِلََّا مََا قَدْ سَلَفَ} (النساء:
22). فإن المعنى: إن كان ما سلف في الزمن السالف يمكن رجوعه فحلّه ثابت، لكن لا يمكن رجوعه أبدا، ولا يثبت حلّه أبدا، وهو أبلغ في (1) النهي المجرد.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (الزخرف: 81)، أي ولكن ليس له ولد، فلا أعبد سواه.
وقوله تعالى: {لََا يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً إِلََّا سَلََاماً} (مريم: 62)، أي إن كان تسليم 3/ 48 بعضهم على بعض، أو تسليم الملائكة عليهم لغوا، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك فهو من باب قوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب (2).
ومنه قوله: {لََا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ََ} (الدخان: 56)، فإن الناس استشكلوا وجه الاستثناء، مع أنهم لا يذوقون فيها الموت مطلقا. ومقتضى استثنائها من النفي أنهم يذوقونها في الجنة وليس كذلك.
ووجهه الزمخشري «بأنه من التوكيد في الدلالة، والموتة الأولى لا يذوقونها أصلا إذ يستحيل عود ما وقع فلا يذوقون فيها الموت أصلا، أي إن كانوا يذوقون فلا يكون ذلك إلا الموتة الأولى، وإن [كان] (3) إيقاع الموتة الأولى في الجنة مستحيلا، فعرّض بالاستثناء إلى استحالة الموت فيها» (4).
__________
(1) في المخطوطة «من».
(2) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة مطلعها «كليني لهم». (ديوان النابغة الذبياني ص: 11) طبعة دار صادر، بيروت.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) الكشاف 3/ 435بتصرف.(3/127)
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا، فإن كان منقطعا، فالمعنى: «لكن الموتة الأولى قد ذاقوها».
ويحتمل على الاتصال أن يكون المعنى فيها، أي في مقدّماتها، لأن الذي يرى مقامه في الجنة عند الجنة عند موته ينزّل منزلة من هو فيها، بتأويل الذوق على معنى المستحيل.
فهذه ثلاثة أوجه.
القسم الموفي العشرين الاستثناء والاستدراك
3/ 49 ووجه التأكيد فيه أنه ثنّى ذكره مرتين، مرة في الجملة ومرة في التفصيل. فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فكأنه كان في جملتهم، ثم خرج منهم كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلََائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلََّا إِبْلِيسَ} (الحجر: 3130) فإنّ فيه معنى زائدا على الاستثناء، هو تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس، من كونه خرق إجماع الملائكة، وفارق جميع الملأ الأعلى بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم وهو بمثابة قولك: أمر الملك بكذا فأطاع أمره جميع الناس، من أمير ووزير إلا فلانا، فإن الإخبار عن معصية الملك بهذه الصيغة، أبلغ من قولك: [أمر الملك] (1) فعصاه فلان.
وفي ضمن ذلك [170/ أ] وصف الله سبحانه بالعدل فيما ضربه على إبليس من خزي الدنيا، وختم عليه من عذاب الآخرة.
ومنه قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلََّا خَمْسِينَ عََاماً} (العنكبوت: 14) فإنّ في الإخبار عن المدة بهذه الصيغة (2) [تهويلا على السامع ليشهد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه. وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة] (2) تعظيم للمدّة ليكون أوّل ما يباشر السمع ذكر «الألف» واختصار اللفظ فإنّ لفظ القرآن أخصر من «تسعمائة وخمسين عاما» ولأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور ولا يحتمل الزيادة عليه ولا النقص.
ومنه قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النََّارِ لَهُمْ فِيهََا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ إِلََّا مََا شََاءَ رَبُّكَ} (هود: 107106) فإنه سبحانه لما علم أن
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/128)
وصف الشقاء يعمّ المؤمن العاصي والكافر، استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع، حيث أثبت الاستثناء المطلق، وأكده بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (هود: 107) أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار. ولما علم أنّ أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة أكّد خلودهم بعد الاستثناء بما يرفع أصل الاستثناء، حيث قال: {عَطََاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 108) أي غير منقطع ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع. وهذه 3/ 50 المعاني زائدة على الاستثناء اللغويّ.
وقيل: وجه الاستثناء فيه الخروج من الجنة إلى منزلة أعلى كالرضوان والرؤية ويؤيّده قول بعض الصحابة (1):
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وصوبه النبي صلّى الله عليه وسلّم وجعل الزمخشري الاستثناء الأول لخروج أهل النار إلى الزمهرير، أو إلى نوع آخر من العذاب (2) [بناء على مذهبه من تخليد أهل الكبائر في النار، وجعل الاستثناء الثاني دالّا على نجاة أهل الكبائر من العذاب] (2)، فكأنه تصوّر أن الاستثناء الثاني لمّا لم يحمل على انقطاع النعيم، لقوله تعالى: {عَطََاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 108) فكذا الاستثناء الأول لا يحمل على انقطاع عذاب الجحيم لتناسب أطراف الكلام. وقال: معنى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (هود: 107) عقب الاستثناء الأول في مقابلة قوله:
{عَطََاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 108) عقب الثاني، أنّ الله تعالى يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي لأهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له (4).
قيل: وما أصدق في سياق الزمخشري في هذا الموضع قول القائل:
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
__________
(1) هو الصحابي الجليل عبد الله بن قيس، النابغة الجعديّ، رضي الله عنه، ويكنى أبا ليلى وهو جاهلي جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنشده:
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتابا كالمجرة نيّرا
بلغنا السّماء مجدنا وجدودنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يفضض الله فاك» فبقي عمره لم تنقضّ له سنّ. (ابن قتيبة، الشّعر والشّعراء أو طبقات الشّعراء ص: 177).
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) الكشاف 2/ 236235، بتصرف.(3/129)
3/ 51وذلك لأن ظاهر الاستثناء هو الإخراج عن حكم ما قبله، ولا موجب للعدول عن الظاهر في الاستثناء الأول، فحمل على النجاة. ولما كان إنجاء المستحق العذاب (1) محلّ تعجب وإنكار، عقّبه بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (هود: 107) أي من العذاب والإنجاء منه، بفضله، ولا (2) يتوجّه عليه اعتراض أحد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وأما الاستثناء الثاني فلما لم يكن على ظاهره، كان إخراج أهل الجنة المستحقين (3) [للثواب وقطع النعيم] (3) لا يناسب إنجاء أهل النار المستحقين للعذاب، فلذا (5) عقّب بقوله: {عَطََاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 108) بيانا للمقصود.
ورعاية هذا الباب أولى من رعاية الباب الذي توهم (6) الزمخشري فإنّ حاصله يرجع إلى أن الاستثناء الثاني لمّا لم يكن على ما هو الظاهر في باب الاستثناء، ينبغي ألّا يكون الاستثناء الأول أيضا على ما هو الظاهر. ولا يخفى على المنصف أنّه تعسّف.
وأما قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ} [170/ ب] {طَعََامٌ إِلََّا مِنْ ضَرِيعٍ} (الغاشية: 6) فالمعنى لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام البهائم فضلا عن الإنس وذلك كقولك: ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد بذلك نفي الظلّ عنه على التوكيد، والضريع نبت ذو شوك يسمى الشّبرق في حال خضرته وطراوته، فإذا يبس سمّي الضريع، والإبل ترعاه طريّا لا يابسا.
وقريب منه تأكيد المدح بما يشبه الذمّ، بأن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح، بتقدير دخولها فيها، كقوله تعالى: {لََا يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً وَلََا تَأْثِيماً * إِلََّا قِيلًا سَلََاماً سَلََاماً} (الواقعة: 2625) التأكيد فيه من وجهين: على الاتصال في الاستثناء والانقطاع.
__________
(1) في المخطوطة «للعذاب».
(2) في المخطوطة «لا».
(3) في المخطوطة «للتوبة دفع النعيم عنهم».
(5) في المخطوطة «فلهذا».
(6) في المخطوطة «توهّمه».(3/130)
القسم الحادي والعشرون المبالغة
وهي أن يكون للشيء صفة ثابتة فتزيد في التعريف بمقدار شدته أو ضعفه فيدّعى له 3/ 52 من الزيادة في تلك الصفة ما يستبعد عند السماع (1) أو يحيل عقله ثبوته.
ومن أحسنها قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشََاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحََابٌ ظُلُمََاتٌ بَعْضُهََا فَوْقَ بَعْضٍ} (النور: 40)، وهي ظلمة البحر وظلمة الموج فوقه وظلمة السحاب فوق الموج.
وقوله تعالى: {بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنََاجِرَ} (الأحزاب: 10)، أي كادت تبلغ لأن القلب إذا زال عن موضعه مات صاحبه.
وقيل: هو حقيقة، وإن الخوف والروع يوجب للخائف أن تنفخ رئته، ولا يبعد أن ينهض بالقلب نحو الحنجرة. ذكره الفراء (2) وغيره.
أو أنها لما اتصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر.
وردّ ابن الأنباري (3) تقدير «كادت» فإنّ «كاد» لا تضمر.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ} (إبراهيم: 46).
وقوله تعالى: {تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمََنِ وَلَداً} (مريم: 9190).
ومنه المبالغة في الوصف بطريق التشبيه كقوله تعالى: {إِنَّهََا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمََالَتٌ صُفْرٌ} (المرسلات: 3332).
وقد يخرج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة وهو مجاز، كقوله تعالى: 3/ 53 {وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر: 22)، فجعل مجيء جلائل آياته، مجيئا له سبحانه، على المبالغة.
__________
(1) في المخطوطة «السامع».
(2) هو يحيى بن زياد بن عبد الله الدّيلمي، أبو زكريا الفراء تقدمت ترجمته في 1/ 159.
(3) هو محمد بن القاسم بن بشار، أبو بكر ابن الانباري النحوي اللغوي. تقدمت ترجمته في 1/ 299.(3/131)
وكقوله سبحانه: {وَوَجَدَ اللََّهَ عِنْدَهُ فَوَفََّاهُ حِسََابَهُ} (النور: 39) فجعل نقله بالهلكة من دار العمل إلى دار الجزاء وجدانا للمجازي.
ومنه ما جرى مجرى الحقيقة، كقوله تعالى: {يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ}
(النور: 43)، فإن اقتران هذه ب «يكاد صرفها إلى الحقيقة، فانقلب من الامتناع إلى الإمكان.
وقد تجيء المبالغة مدمجة، كقوله تعالى: {سَوََاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ} (الرعد: 10)، فإن المبالغة في هذه الآية مدمجة في المقابلة، وهي بالنسبة إلى المخاطب، لا إلى المخاطب معناه أن علم ذلك متعذّر عندكم وإلا فهو بالنسبة إليه سبحانه ليس بمبالغة.
وأما قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كََانَ الْبَحْرُ مِدََاداً لِكَلِمََاتِ رَبِّي} (الكهف: 109) الآية، فقيل: سببها أن اليهود جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا له: كيف عنّفنا بهذا القول:
{وَمََا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلََّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85)، ونحن قد أوتينا التوراة، وفيها كلام الله وأحكامه، ونور وهدى! فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «التوراة قليل من كثير» (1)، ونزلت (2) هذه الآية.
3/ 54وقيل: إنما نزلت: {وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ} (لقمان: 27).
قال المفسرون: والغرض من ذلك الإعلام بكثرة كلماته وهي في نفسها غير
__________
(1) أخرجه من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ابن جرير الطبري في تفسيره 22/ 51عند تفسير قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ} الآية، وأخرجه بلفظ مقارب من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنه: أحمد بن حنبل في المسند 1/ 255، والترمذي في السنن كتاب (48) باب (18) «ومن سورة بني إسرائيل» الحديث (3140)، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى كتاب التفسير عزاه له المزّي في تحفة الاشراف 5/ 133الحديث (6083)، وأخرجه ابن حبان ذكره ابن بلبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 1/ 155الحديث (99)، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 531كتاب التفسير، وذكره الواحدي في أسباب النزول بدون إسناد ص: 223و 260، وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 199عند تفسير قوله تعالى {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية.
(2) في المخطوطة «فنزلت».(3/132)
[171/ أ] متناهية وإنما قرّب الأمر على أفهام البشر (1) [بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر] (1) من الكثرة.
وقال بعض المحققين: إن ما تضمنت الآية أن كلمات الله تعالى لم تكن لتنفذ، ولم تقتض الآية أنها تنفذ بأكثر من هذه الأقلام والبحور وكما قال الخضر عليه السلام: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر حين غمس (3) منقاره فيها (4).
وعدّ بعضهم من هذا القبيل ما جاء من المبالغة في القرآن من الإغضاء عن العيوب، والصفح عن الذنوب، والتغافل عن الزلات، والستر على أهل المروءات، كقوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ} (الأعراف: 199).
وقيل في تفسيره: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت: 34) الآية.
تنبيه
3/ 55 تحصّل مما سبق أن قصد المبالغة يستلزم في الحال الإيجاز إما بالحذف، وإما بجعل الشيء نفسي (5) الشيء، أو بتكرر لفظ يتم بتكرره التهويل والتعظيم، ويقوم مقام أوصاف، كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 21).
وقد نص سيبويه على هذا كله في مواضع شتى من كتابه لافتراقها في أحكام.
فائدة
اختلف في المبالغة على (6) أقوال:
أحدها: إنكار أن تكون من محاسن الكلام لاشتمالها على الاستحالة.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «غمز».
(4) في المخطوطة «فيه».
(5) في المخطوطة «نفس».
(6) في المخطوطة «في».(3/133)
والثاني: أنها الغاية في الحسن وأعذب الكلام ما بولغ فيه وقد قال النابغة:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (1)
والثالث: وهو الأصح أنها من محاسن الكلام ولا ينحصر الحسن فيها فإن فضيلة الصدق لا تنكر ولو كانت معيبة لم ترد في كلام الله تعالى ولها طريقان:
[أحدهما] (2): أن يستعمل اللفظ في غير معناه لغة، كما في الكناية والتشبيه والاستعارة وغيرها، من أنواع المجاز.
والثاني: أن يشفع ما يفهم المعنى بالمعنى على وجه يقتضي زيادة فتترادف (3)
3/ 56الصفات بقصد التهويل، كما في قوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشََاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحََابٌ ظُلُمََاتٌ بَعْضُهََا فَوْقَ بَعْضٍ} (النور: 40).
القسم الثاني والعشرون الاعتراض
وأسماه [قدامة] (4): «التفاتا»، وهو أن يؤتى [في أثناء] (5) كلام أو كلامين متصلين معنى، بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه، ولا يفوت بفواته، فيكون فاصلا بين الكلام والكلامين، لنكتة.
وقيل: هو إرادة وصف شيئين: الأول منهما قصدا، والثاني بطريق الانجرار وله تعليق بالأول بضرب (6) من التأكيد.
__________
(1) عزو هذا البيت للنابغة خطأ لأنه من شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه وقد أورده الزركشي في كتابه ثانية في 3/ 417مع عزوه إلى حسان ولكن عقب عليه باعتراض للنابغة على حسان وهذا هو الصواب وانظر البيت في ديوانه 1/ 35، في قصيدة مطلعها:
ألم تسأل الرّبع الجديد التّكلّما
(2) ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «فتزداد».
(4) هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب توفي سنة (337) تقدمت ترجمته في 1/ 156وما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(6) في المخطوطة «لضرب».(3/134)
وعند النحاة جملة صغرى تتخلل جملة كبرى على جهة التأكيد.
وقال الشيخ عز الدين في [أماليه] (1): «الجملة المعترضة تارة تكون مؤكدة، وتارة تكون مشددة، لأنها إمّا ألّا تدلّ على معنى زائد (2) [على ما دل عليه الكلام بل دلت عليه فقط، فهي مؤكدة. وإمّا أن تدل عليه وعلى معنى زائد] (2)، فهي مشدّدة». انتهى.
وذكر النحاة مما تتميز به الجملة الاعتراضية عن الحالية كونها طلبيّة، كقوله تعالى:
{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللََّهُ} (آل عمران: 135)، فإنه معترض بين: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} 3/ 57 (آل عمران: 135)، وبين: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ََ مََا فَعَلُوا} (آل عمران: 135).
وله أسباب:
منها تقرير الكلام، كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل. ورأى من الرأي كذا وكان صوابا.
ومنه قوله تعالى: {تَاللََّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مََا جِئْنََا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} (يوسف: 73)، {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} اعتراض والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة.
وقوله: {وَآمَنُوا بِمََا نُزِّلَ عَلى ََ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (محمد: 2). {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 34)، واعترض بقوله: {وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل:
34)، بين كلامها.
وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً} (البقرة: 25).
__________
(1) ساقط من المخطوطة. والشيخ عز الدين هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي تقدمت ترجمته في 1/ 132 وأما كتابه أمالي عز الدين بن عبد السلام فهو مخطوط يوجد منه خمس نسخ:
نسخة في المتحف البريطاني بعنوان (مسائل وأجوبة في علوم متعددة من القرآن والحديث والفقه) رقم 7713/ 570، ونسخة في المتحف البريطاني بدون عنوان، رقم 9691ونسخة في دار الكتب المصرية رقم (77تفسير م) عنوانها (فوائد العز بن عبد السلام، وتسمى أيضا إعجاز القرآن) 166 ورقة. ونسخة في الخزانة الآلوسية في مكتبة المتحف العراقي وعنوانها (فوائد في علوم القرآن) رقم 2348754صفحة. ونسخة في مكتبة كوبرللي باستنبول رقم 9344صفحة. (العز بن عبد السلام حياته للوهيبي ص: 119).
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.(3/135)
[171/ ب] ومنها قصد التنزيه، كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلََّهِ الْبَنََاتِ سُبْحََانَهُ وَلَهُمْ مََا يَشْتَهُونَ} (النحل: 57)، فاعتراض (1) {سُبْحََانَهُ} لغرض التنزيه والتعظيم، وفيه الشناعة على من جعل البنات لله.
ومنها قصد التبرك، وكقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ آمِنِينَ}
(الفتح: 27).
ومنها قصد التأكيد: كقوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}
(الواقعة: 7675).
وفيها اعتراضان فإنه اعترض بقوله {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} (الواقعة: 76) بين القسم وجوابه، واعترض بقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} (الواقعة: 76) بين الصفة والموصوف والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم، وتأكيد إجلاله في النفوس، لا سيما بقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} (الواقعة:
76).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولََئِكَ لَهُمْ جَنََّاتُ عَدْنٍ} (الكهف: 3130) ف «أولئك» الخبر و «إنّا لا نضيع» اعتراض.
ومنها كون الثاني بيانا للأول، كقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
(البقرة: 222)، فإنه اعتراض وقع بين قوله: {فَأْتُوهُنَّ} (البقرة: 222)، وبين قوله:
{نِسََاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (البقرة: 223)، وهما متصلان معنى لأنّ الثاني بيان للأول كأنه قيل: فأتوهنّ من حيث يحصل منه الحرث. وفيه اعتراض بأكثر من جملة.
ومنها تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد على أمر علق بهما، كقوله تعالى:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى ََ وَهْنٍ وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ}
(لقمان: 14)، فاعترض بقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى ََ وَهْنٍ وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ} (لقمان: 14) بين ووصّينا، وبين الموصّى به، وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله، فذكّر الحمل والفصال يفيد زيادة التوصية بالأم، لتحمّلها من المشاق والمتاعب في حمل الولد ما لا يتكلفه الوالد، ولهذا جاء في الحديث التوصية بالأم ثلاثا، وبالأب مرة.
__________
(1) في المخطوطة «فاعترض».(3/136)
ومنها زيادة الردّ على الخصم، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا} (البقرة: 3/ 59 72) الآية فقوله: {وَاللََّهُ مُخْرِجٌ} (البقرة: 72) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.
وفائدته أن يقرّر (1) [في أنفس المخاطبين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك] (1) الأنفس (3) لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه، لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه، ولو جاء الكلام خاليا من هذا الاعتراض لكان {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا} (البقرة: 72) {فَقُلْنََا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهََا}
(البقرة: 73).
وقوله: {وَإِذََا بَدَّلْنََا آيَةً مَكََانَ آيَةٍ وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا يُنَزِّلُ قََالُوا إِنَّمََا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النحل:
101)، فاعترض بين «إذ» وجوابها بقوله: {وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا يُنَزِّلُ} (النحل: 101) فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا.
قوله (4): {وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر: 45) إلى قوله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 49).
وقوله: {قُلِ اللََّهُمَّ فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (الزمر: 46) إلى قوله: {وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (الزمر: 48) اعتراض في أثناء الكلام. وهو قوله: {وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} (الزمر: 45) الآية، وذلك لأن قوله: {فَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ} (الزمر: 49) سبب عن قوله: {وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} (الزمر: 45) على معنى أنهم يشمئزّون من توحيد الله تعالى، ويستبشرون بالشرك الذي هو ذكر الآلهة فإذا مسّ أحدهم ضرّ أو أصابته شدّة تناقض في دعواه، فدعا من اشمأز من ذكره وانقبض من توحيده ولجأ إليه دون الآلهة، فهو اعتراض بين السبب والمسبب، فقيّد القول بما فيه من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمره بذلك، وبقوله {أَنْتَ تَحْكُمُ} [172/ أ] {بَيْنَ عِبََادِكَ} (الزمر: 46) ثم عقبه من الوعيد العظيم أشدّ التأكيد وأعظمه وأبلغه ولذلك كان اتصال قوله: {وَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ دَعََا رَبَّهُ} (الزمر: 8) للسبب الواقع 3/ 60 فيها، وخلوّ الأول، منه من الأمر اشتراك (5) جملة مع جملة، ومناسبة أوجبت العطف بالواو الموضوعة لمطلق الجمع، كقولهم: قام زيد وعمرو. وتسبيب السبب مع ما في ظاهر الآية من
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «النفس».
(4) في المخطوطة «وقوله».
(5) في المخطوطة «اشتراكه».(3/137)
اشمئزازهم ليس يقتضي التجاءهم إلى الله تعالى، وإنما يقتضي إعراضهم عنه من جهة أن سياق الآية يقتضي إثبات التناقض وذلك أنك تقول: زيد يؤمن بالله تعالى: فإذا مسه الضرّ لجأ إليه (1) [فهذا سبب ظاهر مبنيّ على اطراد الأمر وتقول: زيد كافر بالله، فإذ مسّه ضر لجأ إليه] (1)، فتجيء بالفاء هنا كالأول لغرض التزام التناقض، أو العكس، حيث أنزل الكافر كفره منزلة الإيمان في فصل سبب الالتجاء فأنت تلزمه (3) العكس بأنك (4) إنما تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله.
وقوله: {وَيُنَجِّي اللََّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفََازَتِهِمْ لََا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر:
61) بقوله: {اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقََالِيدُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ}
(الزمر: 6362) اعتراض واقع في أثناء كلام متصل وهو قوله: {وَيُنَجِّي اللََّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفََازَتِهِمْ لََا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر: 61)، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ} (الزمر: 63)، وهو على مهيع أسلوب القرآن من ذكر الضدّ عقب الضد [كثير] (5) كما قيل:
وبضدها تتبين الأشياء
ومنها الإدلاء بالحجة كقوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنََاتِ وَالزُّبُرِ} (النحل: 4443)، فاعترض بقوله:
{فَسْئَلُوا} بين قوله {نُوحِي إِلَيْهِمْ} (النحل: 43) وبين قوله: {بِالْبَيِّنََاتِ وَالزُّبُرِ} (النحل:
44) إظهارا لقوة الحجة عليهم.
3/ 61وبهذه الآية ردّ ابن مالك (6) على أبي علي الفارسيّ (7) قوله: «إنه لا يعترض بأكثر من جملة واحدة».
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «فإنه يلزمه».
(4) في المخطوطة «فإنك».
(5) ساقط من المطبوعة.
(6) هو محمد بن عبد الله بن مالك جمال الدين الطائي الشافعي، تقدمت ترجمته في 1/ 381.
(7) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار تقدمت ترجمته في 1/ 375. وفي المخطوطة «أبو موسى الفارسي» وهو تصحيف واضح.(3/138)
وردّ: بأن جملة الأمر دليل [على] (1) للجواب عند الأكثرين ونفسه عند آخرين، فهو (2)
مع جملة الشرط، كالجملة الواحدة. نعم جوّزوا في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلى ََ فُرُشٍ بَطََائِنُهََا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} (الرحمن: 54)، أن يكون حالا من قوله: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ}
(الرحمن: 46)، فلزم الاعتراض بسبع جمل مستقلّات إن كان: {ذَوََاتََا أَفْنََانٍ} (الرحمن:
48)، خبر مبتدأ محذوف وإلا فيكون بست جمل.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ََ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بَرَكََاتٍ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ وَلََكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنََاهُمْ بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ََ}
(الأعراف: 9796) الآية: «إن في هذه الآية الكريمة سبع جمل معترضة: جملة الشرط، و «اتقوا» و «فتحنا» و «كذّبوا» و «أخذناهم» و «بما كانوا يكسبون». وزعم أن {أَفَأَمِنَ} (الأعراف: 97) معطوف على {فَأَخَذْنََاهُمْ بَغْتَةً}» (الأعراف: 95)، وكذا نقله ابن مالك عن الزمخشري وتبعه أبو حيان (3)، ولم يوجد ذلك في كلام الزمخشريّ! قال ابن مالك: «ورد عليه من ظن أن الجملة والكلام مترادفان، قال: وإنما (4) اعترض بأربع جمل وزعم أنّ من عند {وَلَوْ أَنَّ} (الأعراف: 96) إلى {وَالْأَرْضِ} (الأعراف: 96) جملة لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه». [انتهى] (5).
وفي القولين نظر أما على قول ابن مالك فينبغي أن يكون بعدها ثمان جمل أحدها:
{وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} (الأعراف: 95) وأربعة في حيّز «لو» وهي {آمَنُوا} و {اتَّقَوْا} و «فتحنا»، 3/ 62 والمركبة مع أنّ وصلتها مع «ثبت» مقدرا على الخلاف في أنها فعلية أو اسمية، والسادسة {وَلََكِنْ كَذَّبُوا} (الأعراف: 96) والسابعة {فَأَخَذْنََاهُمْ} (الأعراف: 96) والثامنة {بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96).
(6) [وأما قول المعترض فلأنه كان من حقه أن يعدها ثلاث جمل أحدها: {وَهُمْ لََا}
__________
(1) ساقط من المطبوعة، وفي المخطوطة «على الجواب».
(2) في المخطوطة «فهي».
(3) هو محمد بن يوسف بن علي الغرناطي أثير الدين. تقدمت ترجمته في 1/ 130.
(4) في المخطوطة «إنّما».
(5) ساقط من المطبوعة.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/139)
{يَشْعُرُونَ} (الأعراف: 95) لأنها حال مرتبطة بعاملها وليست مستقلة برأسها والثانية «لو» وما في حيّزها، جملة واحدة فعلية إن قدر: «ولو ثبت أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا»، أو اسمية وفعلية إن قدر إيمانهم، واتقوا ثابتان، والثالثة {وَلََكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنََاهُمْ بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ}] (الأعراف: 96) كله جملة.
وينبغي على قواعد البيانيين أن يعدّوا لكل جملة واحدة لارتباط بعضها ببعض، وعلى رأي النحاة ينبغي أن يكون {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ََ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (الأعراف: 96) جملة [172/ ب] واحدة (1) [لأن جملة «واتقوا» معطوفة على خبر «أنّ» و «لفتحنا» جملة ثانية وما بعدها جملة واحدة] (1) لارتباط الشرط بالجزاء لفظا، {وَلََكِنْ كَذَّبُوا} (الأعراف: 96) ثانية أو ثالثة {فَأَخَذْنََاهُمْ} (الأعراف: 96) ثالثة أو رابعة، و {بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96) متعلق ب «أخذناهم» فلا يعدّ اعتراضا.
وقوله: {وَغِيضَ الْمََاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (هود: 44)، فهذه ثلاث جمل معترضة بين {وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ} (هود: 44) وبين {وَقِيلَ بُعْداً} (هود: 44).
وفيه اعتراض في اعتراض، فإنّ {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (هود: 44) معترض بين {وَغِيضَ الْمََاءُ} (هود: 44) وبين {وَاسْتَوَتْ} (هود: 44).
ولا مانع من وقوع الاعتراض في الاعتراض، كقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}
(الواقعة: 76).
3/ 63ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت ذاكرا عن إبراهيم قوله: {اعْبُدُوا اللََّهَ وَاتَّقُوهُ}
(الآية: 16) ثم اعترض تسلية لقلب النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمََا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلََاغُ الْمُبِينُ} (العنكبوت: 18)، وذكر آيات، إلى أن قال: {فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ} (العنكبوت: 24) يعني قوم إبراهيم، فرجع إلى الأول.
وجعل الزمخشريّ (3) قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ} (الصافات: 149)، وفي آخر الصافات
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(3) ذكر قوله في الكشاف 3/ 312عند تفسير قوله تعالى {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنََاتُ} الآية [149:
الصافات]، بتصرف.(3/140)
معطوفا على {فَاسْتَفْتِهِمْ} (الآية: 11) في أول السورة وقال في قول بعضهم [في] (1):
{نَذِيراً لِلْبَشَرِ} (المدثر: 36): إنه حال من فاعل {قُمْ} (المدثر: 2) في أول هذه السورة، هذا من بدع التفاسير وهذا الذي ذكره في الصافات منه.
ومن العجب دعوى بعضهم كسر همزة «إن» في قوله تعالى: {إِنَّ ذََلِكَ لَحَقٌّ تَخََاصُمُ أَهْلِ النََّارِ} (ص: 64) على جواب القسم في قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص: 1)، حكاه الرمانيّ (2).
فإن قيل: أين خبر «إن» في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمََّا جََاءَهُمْ}
[الآية] (3) (فصلت: 41) قيل الخبر: {أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44).
فوائد
3/ 64 قال ابن عمرون (4): لا يجوز وقوع الاعتراض بين واو العطف وما دخلت عليه وقد أجازه قوم في (5) «ثم» و «أو» (5) فتقول: «زيد قائم ثم والله عمرو».
وقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا} [7] [فَلََا تَتَّبِعُوا. (النساء: 135) جواب الشرط فقوله: {فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا}] (7) (النساء: 135) اعتراض بين الشرط وجوابه مع أن فيه فاء والجملة مسندة ل «يكن».
قال الطيبي (9): سئل الزمخشريّ عن قوله تعالى: {فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ} (المدثر: 55): أهو
__________
(1) ساقط من المخطوطة.
(2) هو علي بن عيسى بن علي، أبو الحسن النحوي المعروف بالرّماني تقدمت ترجمته في 1/ 111.
(3) ساقط من المطبوعة.
(4) هو محمد بن محمد بن أبي علي، جمال الدين، ابن عمرون، تقدم التعريف به في 3/ 22.
(5) اضطربت العبارة في المخطوطة كما يلي (وأو لأنّ أو لا يقمن معا بأنفسهنّ).
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(9) هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي الإمام المشهور، كان ذا ثروة من الإرث والتجارة فلم يزل ينفق ذلك في وجوه الخيرات إلى أن كان في آخر عمره فقيرا، وكان كريما متواضعا حسن المعتقد شديد الردّ على الفلاسفة والمبتدعة مظهرا فضائحهم، كثير الحياء ملازما للجماعة من تصانيفه «شرح المشكاة» و «شرح الكشاف» وغيرها توفي سنة (743هـ) (ابن حجر، الدرر الكامنة 2/ 68).(3/141)
اعتراض؟ قال: لا، لأن من شرط الاعتراض أن يكون بالواو ونحوها وأما بالفاء فلا. وفهم صاحب «فرائد القلائد» (1) من هذا اشتراط الواو، فقال: وقد ذكر الزمخشري: {إِنَّهُ كََانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} (مريم: 41و 56) هذه الجملة اعتراض بين البدل وبين المبدل منه، أعني «إبراهيم» و «إذ» قال: هذا معترض لأنه اعتراض (2) بدون الواو بعيد عن الطبع وعن الاستعمال، وليس كما قال، فقد يأتي بالواو كما سبق في الأمثلة، وبدونها (3) كقوله سبحانه: {وَلَهُمْ مََا يَشْتَهُونَ}
(النحل: 57). وقد اجتمعا في قوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الواقعة: 777675).
القسم الثالث والعشرون الاحتراس
3/ 65 وهو أن يكون الكلام محتملا لشيء بعيد، فيؤتى بما يدفع ذلك الاحتمال كقوله تعالى:
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (القصص: 32)، فاحترس سبحانه بقوله:
{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (القصص: 32) عن إمكان أن يدخل في ذلك البهق (4) والبرص.
وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكََافِرِينَ} (المائدة: 54) فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة وهو السهولة لتوهّم أن ذلك لضعفهم، فلما قيل: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكََافِرِينَ}
(المائدة: 54) علم أنها منهم تواضع ولهذا عدّى «الذل» بعلى لتضمنه معنى العطف.
__________
(1) هو محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد، البدر أبو محمد العيني، الحلبي الأصل العينتابي المولد ثم القاهري الحنفي ولد في السابع عشر من رمضان سنة (762هـ) في عينتاب فنشأ بها وقرأ القرآن، وأكمل الدين ونظر في الصرف والعربية والمنطق، وسمع عن العسقلاني «الشاطبية» وعلى الزين العراقي «صحيح مسلم» و «الإلمام»، وهو إمام عالم فاضل مشارك في علوم وعنده حشمة ومروءة وعصبية وديانة ولم يزل ملازما للجمع والتصنيف حتى مات سنة (855هـ) من مصنفاته «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» و «فرائد القلائد» (السخاوي، الضوء اللّامع 5/ 131) وأما كتابه فقد طبع في مصر باسم «فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد» وهو المعروف بالشواهد الصغرى، سنة 1297هـ / 1879م (سركيس، معجم المطبوعات ص: 1404).
(2) في المخطوطة «لأن الاعتراض».
(3) في المخطوطة «وبدونه».
(4) البهق: بياض دون البرص، يعتري الجسد بخلاف لونه ليس من البرص (ابن منظور، لسان العرب 10/ 29).(3/142)
وكذلك قوله تعالى [173/ أ]: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29).
وقوله تعالى: {لََا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} (النمل: 18) فقوله:
{وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} (النمل: 18) احتراس بيّن أنّ من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنّهم لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألّا يشعروا بها.
وقد قيل: إنما كان تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها ولذلك أكّد التبسم بالضحك لأنهم يقولون: تبسّم كتبسم الغضبان، لينبه على أن تبسمه تبسم سرور.
ومثله قوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الفتح: 25) التفات إلى أنهم لا يقصدون ضرر مسلم.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} (هود: 44) فإنه سبحانه لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان، عقّبهم (1) بالدعاء عليهم، ووصفهم بالظلم، ليعلم أن جميعهم كان مستحقّا للعذاب، احتراس من ضعف يوهم أنّ الهلاك بعمومه ربما شمل من لا يستحق العذاب فلما 3/ 66 دعا على الهالكين، ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم وحل بساحتهم، مع قوله أولا: {وَلََا تُخََاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود: 37).
وأعجب احتراس (2) [وقع في القرآن] (2) قوله تعالى مخاطبا لنبيّه عليه السلام: {وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنََا إِلى ََ مُوسَى الْأَمْرَ} الآية (القصص: 44).
وقال حكاية عن موسى: {وَنََادَيْنََاهُ مِنْ جََانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} (مريم: 52)، فلما نفى سبحانه عن رسوله أن يكون بالمكان الذي قضى لموسى فيه الأمر عرّف المكان بالغربيّ ولم يقل في هذا الموضع {الْأَيْمَنِ} كما قال: {وَنََادَيْنََاهُ مِنْ جََانِبِ} [4] [الطُّورِ الْأَيْمَنِ] (4) (مريم:
52) أدبا مع النبي (6) صلّى الله عليه وسلّم أن ينفى عنه كونه بالجانب الأيمن، أو يسلب عنه لفظا مشتقّا من اليمن، أو (7) مشاركا لمادته (7)، ولما أخبر عن موسى عليه السلام ذكر الجانب الأيمن تشريفا
__________
(1) في المخطوطة «عقّبه».
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) ساقط من المخطوطة.
(6) في المخطوطة «للنبي».
(7) اضطربت العبارة في المخطوطة.(3/143)
لموسى فراعى في المقامين حسن الأدب معهما، تعليما للأمة، وهو أصل (1) عظيم في الأدب في الخطاب.
وقوله: {إِذََا جََاءَكَ الْمُنََافِقُونَ قََالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللََّهِ وَاللََّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنََافِقِينَ لَكََاذِبُونَ} (المنافقون: 1) فإنه لو اختصر لترك: {وَاللََّهُ يَعْلَمُ} لأن سياق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة، لكن حسن ذكره رفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر.
وقوله حاكيا عن يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} (يوسف:
100) ولم يذكر الجبّ مع أن النعمة فيه أعظم [من السجن] (2) لوجهين:
3/ 67أحدهما: لئلا يستحيي إخوته، والكريم يغضي ولا سيّما في وقت الصفاء.
والثاني: لأن السجن كان باختياره، فكان الخروج منه أعظم، بخلاف الجب.
وقوله: {تُكَلِّمُ النََّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} (المائدة: 110) وإنما ذكر الكهولة مع أنه لا إعجاز فيه لأنه كان في العادة، أنّ من يتكلم في المهد أنه لا يعيش ولا يتمادى به العمر، فجعل الاحتراس بقوله: {وَكَهْلًا} (المائدة: 110).
ومنه قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل: 26)، والسقف لا يكون إلا من فوق لأنه سبحانه رفع الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون من تحت بالنسبة فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لآخرين فرفع تعالى هذا الاحتمال بشيئين وهما قوله: {عَلَيْهِمُ} (النحل: 26)، ولفظة (خر) لأنها لا تستعمل إلا فيما [173/ ب] هبط أو سقط من العلوّ إلى سفل.
وقيل: إنما أكد ليعلم أنهم كانوا حالّين (3) تحته، والعرب تقول: خرّ علينا سقف ووقع علينا حائط، (4) [فجاء بقوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل: 26)، ليخرج هذا الشك الذي في كلامهم، فقال: {مِنْ فَوْقِهِمْ}، أي عليهم وقع] (4) وكانوا تحته، فهلكوا وما قتلوا.
__________
(1) ساقط من المخطوطة.
(2) ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «خالدين».
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/144)
وقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنََّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223) لأنه لمّا كان يحتمل معنى «كيف» و «أين» احترس بقوله: {حَرْثَكُمْ} لأن الحرث لا يكون إلا حيث [تنبت] (1)
البذور، وينبت الزرع، وهو المحل المخصوص.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذََابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزخرف:
39) وذلك لأن الاشتراك في المصيبة يخفف منها، ويسلي عنها فأعلم سبحانه أنه لا ينفعهم ذلك.
فائدة
3/ 68 عاب قدامة (2) على ذي الرّمة (3) قوله:
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر
فإنه لم يحترس، وهلّا (4) قال كما قال طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها ... [صوب الغمام وديمة تهمي] (5)
وأجيب بأنه قدّم الدعاء بالسلامة للدار.
وقيل: لم يرد بقوله: «ولا زال منهلّا» اتصال الدوام بالسّقيا من غير إقلاع، وإنّما ذلك بمثابة من يقول: ما زال فلان يزورني، إذا كان متعاهدا له بالزيارة.
__________
(1) ساقط من المخطوطة.
(2) هو قدامة بن جعفر بن قدامة الكاتب، تقدمت ترجمته في 1/ 156.
(3) هو غيلان بن عقبة بن بهيس بن مسعود العدوي من مضر، أبو الحارث ذو الرمة شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره، قال أبو عمرو بن العلاء: «فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمّة» وكان شديد القصر دميما يضرب لونه إلى السواد، أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال، وامتاز بإجادة التشبيه. توفي بأصبهان وقيل بالبادية سنة (117هـ) (ابن قتيبة، الشعر والشعراء ص: 350) و (الزركلي، الأعلام 5/ 124)
(4) في المخطوطة «وهذا».
(5) هو طرفة بن العبد بن سفيان وهو صاحب المعلقة المشهورة ومطلعها «لخولة أطلال ببرقة ثمهد» وله بعدها شعر حسن وليس عند الرواة من شعره إلا القليل وكان في حسب من قومه جريئا على هجائهم وهجاء غيرهم، وكان قد تناول بهجائه عمرو بن هند فأرسل إليه وكتب إلى عامله في البحرين فقتله (ابن قتيبة، الشعر والشعراء 103وأما بيت الشّعر في (ديوانه، طبعة دار صادر ص: 88).(3/145)
القسم الرابع والعشرون التذييل
مصدر «ذيّل» للمبالغة وهي لغة، جعل الشيء ذيلا للآخر. واصطلاحا أن (1) يؤتى بعد تمام (1) الكلام بكلام مستقل في معنى الأول تحقيقا لدلالة منطوق الأول، أو مفهومه ليكون معه كالدليل ليظهر المعنى عند من لا يفهم ويكمل عند من فهمه.
كقوله تعالى: {ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِمََا كَفَرُوا} (سبأ: 17)، ثم قال عز من قائل:
3/ 69 {وَهَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (سبأ: 17)، أي هل يجازي ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور إلا الكفور فإن جعلنا الجزاء عاما كان الثاني مفيدا فائدة زائدة.
وقوله: {وَقُلْ جََاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبََاطِلُ إِنَّ الْبََاطِلَ كََانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81).
وقوله: {وَمََا جَعَلْنََا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ} (الأنبياء:
34).
وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مََا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لََا يَسْمَعُوا دُعََاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجََابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلََا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر:
1413).
فقوله: {وَلََا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) تذييل لاشتماله على (3)
وقوله (4): {فَاسْتَكْبَرُوا وَكََانُوا قَوْماً عََالِينَ} (المؤمنون: 46).
وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكََانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} (الأعراف: 133).
وجعل القاضي أبو بكر في كتابه «الإعجاز» (5) منه قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلََا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهََا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طََائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنََاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسََاءَهُمْ إِنَّهُ كََانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 4).
وقوله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهََامََانَ وَجُنُودَهُمََا كََانُوا خََاطِئِينَ} (القصص: 8).
__________
(1) عبارة المخطوطة «أن يأتي بتمام».
(3) بياض في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (قوله).
(5) هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد البصري المالكي الأصولي تقدمت ترجمته في 1/ 117، وأما كتابه «الإعجاز» فقد تقدم ذكره في 1/ 145.(3/146)
ويحتمل أن يكون من التعليل.
وقوله: {إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ وَإِنََّا عَلى ََ آثََارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف: 22)، فقوله: {وَكَذََلِكَ} (الزخرف: 23)، تذييل، أي فذلك شأن الأمم مع الرسل، وقوله: 3/ 70 {مََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} (الزخرف: 23) [تفسير للتذييل] جعل (1) التذييل هنا من التفسير.
القسم الخامس والعشرون التتميم
وهو أن يتم الكلام، فيلحق به ما يكمّله، إما مبالغة، أو احترازا، أو احتياطا.
وقيل: هو أن يأخذ في معنى فيذكره غير مشروح وربما كان السامع لا يتأمله ليعود المتكلّم إليه شارحا كقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعََامَ عَلى ََ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}
(الإنسان: 8)، فالتتميم في قوله: {عَلى ََ حُبِّهِ} (الإنسان: 8)، جعل الهاء كناية عن الطعام مع اشتهائه.
وكذلك قوله: {وَآتَى الْمََالَ عَلى ََ حُبِّهِ} (البقرة: 177).
وكقوله تعالى [174/ أ]: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصََّالِحََاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} (النساء: 124)، فقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (النساء: 124) تتميم في غاية الحسن.
القسم السادس والعشرون الزيادة
والأكثرون ينكرون إطلاق هذه العبارة في كتاب الله، ويسمونه التأكيد. ومنهم من يسميه بالصلة. ومنهم من يسميه المقحم.
قال ابن جني: «كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة 3/ 71 أخرى. وبابها الحروف والأفعال».
__________
(1) في المخطوطة «فجعل» وما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/147)
كقوله تعالى: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ} (المائدة: 13). {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ}
(آل عمران: 159).
وقوله: {قََالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (مريم: 29) (1) [قيل: {كََانَ}
هاهنا زائدة وإلا لم يكن فيه إعجاز لأن الرجال كلهم كانوا في المهد،] (1) وانتصب {صَبِيًّا} على الحال.
وقال ابن عصفور (3): هي في كلامهم زيدت في وسط الكلام للتأكيد وهي مؤكدة للماضي في {قََالُوا}.
ومنه زيادة «أصبح»، قال حازم (4): «إن كان الأمر الذي ذكر أنه أصبح فيه [لم] (5)
يكن أمسى فيه، فليست زائدة، وإلا فهي زائدة كقولك: أصبح العسل حلوا».
وأجاب الرمّاني (6) عن قوله: {فَأَصْبَحُوا خََاسِرِينَ} (المائدة: 53)، «فإن العادة أن من به علة تزاد عليه بالليل يرجو الفرج عند الصباح، فاستعمل «أصبح» لأن الخسران جعل لهم في الوقت الذي يرجون فيه الفرج، فليست زائدة».
وهو معنى قول غيره: «إنها تأتي للدوام واستمرار الصفة، كقوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لََا يُرى ََ إِلََّا مَسََاكِنُهُمْ} (الأحقاف: 25)، {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكََانَهُ بِالْأَمْسِ} (القصص:
82).
وأما قوله تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل: 58) [فهو على] (7)
الأصل، لظهور الصفة نهارا، والمراد الدوام أيضا، أي استقرت له الصفة نهاره.
3/ 72واعلم أن الزّيادة واللغو من عبارة البصريين، والصلة والحشو من عبارة الكوفيين،
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) هو علي بن مؤمن أبو الحسن ابن عصفور تقدمت ترجمته في 1/ 466.
(4) هو حازم بن محمد. تقدمت ترجمته في 1/ 155.
(5) ساقط من المطبوعة.
(6) هو علي بن عيسى أبو الحسن الرمّاني تقدمت ترجمته في 1/ 111.
(7) عبارة المخطوط «فعلى».(3/148)
قال سيبويه عقب قوله تعالى: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ} (النساء: 155): إن «ما» لغو، لأنها لم تحدث شيئا.
والأولى اجتناب مثل هذه العبارة في كتاب الله تعالى، فإنّ مراد النحويين بالزائد من جهة الإعراب، لا من جهة المعنى، فإن قوله: {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران:
159) معناه: «ما لنت لهم إلا رحمة» وهذا قد جمع نفيا وإثباتا، ثم اختصر على هذه الإرادة، وجمع فيه بين لفظي الإثبات وأداة النفي التي هي «ما».
وكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا اللََّهُ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (النساء: 171) ف «إنّما» هاهنا حرف تحقيق وتمحيق، إنّ هنا للتحقيق، وما للتمحيق فاختصر، والأصل: «ما الله اثنان فصاعدا، وأنه إله واحد».
وقد اختلف في وقوع الزائد في القرآن فمنهم من أنكره، قال الطرطوشي في «العمد» (1): «زعم المبرّد (2) وثعلب (3) ألّا صلة في القرآن، والدّهماء من العلماء والفقهاء والمفسّرين على إثبات الصّلات في القرآن، وقد وجد ذلك على وجه لا يسعنا إنكاره فذكر كثيرا».
وقال ابن الخباز في «التوجيه» (4): «وعند ابن السراج (5) أنه ليس في كلام العرب زائد، لأنه تكلّم بغير فائدة، وما جاء منه حمله على التوكيد».
ومنهم من جوّزه وجعل وجوده كالعدم وهو أفسد الطرق. 3/ 73
وقد ردّ على فخر الدين الرازي (6) قوله: إنّ المحققين على أن المهمل لا يقع في كلام
__________
(1) تصحفت عبارة المطبوعة إلى (الطرطوسي في العمدة). والتصويب من المخطوطة، وهو محمد بن الوليد الطرطوشي تقدم التعريف به في 2/ 113، وبكتابه في 2/ 412.
(2) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس المبرد تقدم ذكره في 2/ 497.
(3) هو أحمد بن يحيى بن يسار أبو العباس ثعلب تقدمت ترجمته في 1/ 309.
(4) ابن الخباز هو أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي تقدم ذكره في 3/ 14. وأما كتابه «التوجيه» فقد ذكره صاحب كشف الظنون 1/ 504باسم «التوجيه في النحو».
(5) هو محمد بن السري تقدمت ترجمته في 2/ 438.
(6) هو محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي، تقدمت ترجمته في 1/ 116. وانظر قوله في التفسير 9/ 62 عند قوله تعالى {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ} الآية. بتصرف.(3/149)
الله سبحانه (1) [فأما في قوله تعالى: {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ} (آل عمران: 159) فيمكن أن تكون استفهامية للتعجب، والتقدير «فبأي رحمة»؟ فجعل الزائد مهملا،] (1) وليس كذلك، لأن الزائد ما أتي [به] (3) لغرض التقوية والتوكيد، والمهمل ما لم تضعه العرب، وهو ضدّ المستعمل، وليس المراد من الزيادة [ما أتى] (4) حيث ذكرها النحويون إهمال اللفظ، ولا كونه لغوا فتحتاج إلى التنكّب (5) عن التعبير بها إلى غيرها فإنّهم (6) إنما سمّوا «ما» (6) زائدة هنا لجواز تعدّي العامل قبلها إلى ما بعدها، [لا] (8) لأنها ليس لها معنى.
وأما ما قاله في الآية: إنّها للاستفهام [174/ ب] التعجّبي، فقد انتقد عليه بأن قيل:
تقديره «فبأي رحمة» دليل على أنه جعل «ما» مضافة للرحمة، وأسماء الاستفهام التعجبي لا يضاف منها غير «أيّ» وإذا لم تصح الإضافة كان ما بعدها بدلا منها، والمبدل من اسم الاستفهام يجب معه ذكر همزة الاستفهام، وليست الهمزة مذكورة، فدل على بطلان هذه الدعوى وسنبين في فصل زيادة الحروف الفائدة في إدخال «ما» هاهنا، فانظره هناك.
تنبيهات
الأول: أهل الصناعة يطلقون الزائد على وجوه: منها ما يتعلق به هنا وهو ما أقحم تأكيدا (9)، نحو: {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران: 159) {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً} (البقرة: 26) {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11).
3/ 74ومعنى كونه زائدا أنّ أصل المعنى حاصل بدونه دون التأكيد فبوجوده حصل فائدة التأكيد، والواضع الحكيم لا يضع الشيء إلا لفائدة.
وسئل بعض العلماء عن التوكيد بالحرف، وما معناه إذ إسقاط الحرف لا يخلّ بالمعنى؟ فقال: هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ساقط من المطبوعة.
(5) في المخطوطة «التنكيت».
(6) عبارة المخطوطة «ما سمّوها».
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) في المخطوطة للتأكيد.(3/150)
يجدونه بإسقاط الحرف، قال: ومثال ذلك مثال العارف بوزن الشعر طبعا فإذا تغير البيت بزيادة أو نقص أنكره وقال: أجد نفسي على خلاف ما أجده بإقامة الوزن، فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع عند نقصانها، ويجد نفسه بزيادتها على معنى بخلاف ما يجدها بنقصانه.
الثاني: حق الزيادة أن تكون في الحرف (1) وفي الأفعال كما سبق وأما الأسماء فنصّ أكثر النحويين على أنها لا تزاد. ووقع في كلام كثير من المفسّرين الحكم عليها في بعض المواضع بالزيادة، كقول الزمخشري في قوله تعالى: {يُخََادِعُونَ اللََّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}
(البقرة: 9) إن اسم الجلالة (2) مقحم، ولا يتصوّر مخادعتهم لله تعالى.
الثالث: حقها أن تكون آخرا وحشوا وأما وقوعها أوّلا فلا لما فيه من التناقض، إذ قضية الزيادة إمكان اطّراحها، وقضية التصدير الاهتمام، ومن ثم ضعّف قول بعضهم [بزيادة «لا»] (3) في قوله تعالى: {لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ} (القيامة: 1). وأبعد منه قول آخر:
إنها بمعنى «إلّا»، والظاهر أنها ردّ لكلام تقدّم في إنكار البعث، أي ليس الأمر كما تقولون، ثم قال بعده: {أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ} (القيامة: 1)، وعليه فيجوز الوقف على «لا» وفيه بعد.
فصل
3/ 75 الزيادة إما أن تكون لتأكيد النفي، كالباء في خبر ليس وما، أو لتأكيد الإيجاب كاللام الداخلة على المبتدإ.
وحروف الزيادة سبعة: إنّ، وأن، ولا، وما، ومن، والباء، واللام. بمعنى أنها تأتي في بعض الموارد زائدة لا أنّها (4) لازمة للزيادة. ثم ليس المراد حصر الزوائد (5) فيها، فقد زادوا الكاف وغيرها بل المراد أن الأكثر في الزيادة أن تكون بها.
__________
(1) في المخطوط «الحروف».
(2) في المخطوط «الله».
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة «لأنها».
(5) في المخطوطة «الزيادة».(3/151)
فأما إن الخفيفة فتطّرد زيادتها مع ما النافية، كقول امرئ القيس (1):
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال
أي فما حديث. فزاد «إن» للتوكيد، قال الفراء (2): إن الخفيفة زائدة، فجمعوا بينها وبين ما النافية، تأكيدا للنفي، فهو بمنزلة تكرارها (3)، فهو عند الفراء من التأكيد اللفظي، وعند سيبويه من [التأكيد] (4) المعنوي.
[وقيل] (5): قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنََّاهُمْ فِيمََا إِنْ مَكَّنََّاكُمْ فِيهِ} (الأحقاف: 26):
أنها زائدة. وقيل نافية والأصل «في الذي ما مكناكم فيه» بدليل: {مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مََا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} (الأنعام: 6) وكأنه إنما عدل عن «ما» لئلا تتكرر فيثقل اللفظ.
ووهم ابن الحاجب (6) حيث زعم أنها تزاد بعد «لما» الإيجابية وإنما تلك في «أن» المفتوحة.
3/ 76وأما أن المفتوحة [175/ أ] فتزاد بعد لما الظرفية، كقوله تعالى: {وَلَمََّا أَنْ جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ}، (العنكبوت: 33) وإنما حكموا بزيادتها لأن «لما ظرف زمان ومعناها وجود الشيء لوجود غيره وظروف الزمان غير المتمكنة لا تضاف إلى المفرد «وأن» المفتوحة تجعل الفعل بعدها في تأويل المفرد، فلم تبق «لمّا» مضافة إلى الجمل (7) فلذلك حكموا بزيادتها.
وجعل الأخفش (8) من زيادتها قوله تعالى: {وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ}
__________
(1) هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي وهو من أهل نجد من الطبقة الأولى قال لبيد بن ربيعة: «أشعر الناس ذو القروح» يعني امرأ القيس (الترجمة وافية في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة الدينوري ص: 49). وأما بيت الشّعر فهو من قصيدة مطلعها «ألا عم صباحا» في ديوانه ص: 141 طبعة دار صادر. بيروت.
(2) هو يحيى بن زياد بن عبد الله الفرّاء تقدمت ترجمته في 1/ 159.
(3) في المخطوطة «تكررها».
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو بن الحاجب الكردي، تقدمت ترجمته في 1/ 466.
(7) في المخطوطة «الجملة».
(8) هو الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي تقدم ذكره في 1/ 134.(3/152)
(إبراهيم: 12)، {وَمََا لَنََا أَلََّا نُقََاتِلَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} (البقرة: 246). وقيل: بل هي مصدرية والأصل «وما لنا في ألّا نفعل كذا»! فليست زائدة لأنها عملت النصب في المضارع.
وأما «ما» فتزاد بعد خمس كلمات من حروف الجر فتزاد بعد «من» و «عن» غير كافة لهما عن العمل، وتزاد بعد الكاف، وربّ، والباء كافة تارة وغير كافة أخرى.
[فأما] (1) الكافة إما أن تكفّ عن عمل النصب والرفع وهي المتصلة بإنّ وأخواتها نحو: {إِنَّمَا اللََّهُ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (النساء: 171). {كَأَنَّمََا يُسََاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} (الأنفال:
6). وجعلوا منها: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ} (فاطر: 28) ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى «الذي» و «العلماء» خبر، والعائد مستتر في «يخشى»، وأطلقت «ما» على جماعة العقلاء، كما في قوله تعالى: {أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ} (النساء: 3). 3/ 77
وإما أن تكفّ عن عمل الجر، كقوله تعالى: {اجْعَلْ لَنََا إِلََهاً كَمََا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف:
138) (2) [وقيل: بل موصولة أي «كالذي هو لهم آلهة»] (2).
وغير الكافة تقع بعد الجازم نحو [قوله تعالى] (4): {وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ} (الأعراف: 200)، {أَيًّا مََا تَدْعُوا} (الإسراء: 110)، {أَيْنَمََا تَكُونُوا} (النساء: 78).
وبعد الخافض حرفا كان [نحو] (5): {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ} (آل عمران: 159). {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ} (المائدة: 13) {عَمََّا قَلِيلٍ} (المؤمنون: 40)، {مِمََّا خَطِيئََاتِهِمْ} (نوح:
25)، أو اسما، نحو: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} (القصص: 28).
«وتزاد بعد أداة الشرط جازمة كانت، نحو: (6) [{أَيْنَمََا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}
(النساء: 78). أو غير جازمة، نحو] (6): {حَتََّى إِذََا مََا جََاؤُهََا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} (فصلت:
20).
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) ساقط من المخطوطة.
(5) ساقط من المخطوطة.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/153)
وبين المتبوع وتابعه نحو: {مَثَلًا مََا بَعُوضَةً} (البقرة: 26)، قال الزّجاج (1): «ما حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين» [انتهى] (2). ويؤيّده سقوطها في قراءة ابن مسعود و «بعوضة» بدل. وقيل «ما» اسم نكرة صفة ل «مثلا»، أو بدل و «بعوضة» [عطف بيان]» (3)
وقيل في قوله: {فَقَلِيلًا مََا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 88) بأنها زائدة لمجرد تقوية الكلام نحو:
3/ 78 {فَبِمََا رَحْمَةٍ} (آل عمران: 159) و «قليلا» في معنى النفي، أو لإفادة التقليل كما في نحو أكلت أكلا ما»، وعلى هذا فيكون «فقليلا بعد قليل» (4).
وأما «لا» فتزاد مع الواو بعد النفي، كقوله تعالى: {وَلََا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}
(فصلت: 34) لأن «استوى» من الأفعال التي تطلب اسمين أي لا تليق بفاعل واحد نحو «اختصم»، فعلم أن «لا» زائدة. وقيل: دخلت في السيئة لتحقّق أنه (5) لا تساوي الحسنة (6) [السيئة، ولا السيئة الحسنة] (6).
وتزاد بعد «أن» المصدرية كقوله: {لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ} (الحديد: 29) أي ليعلم ولولا تقدير الزيادة لانعكس المعنى، فزيدت «لا» لتوكيد النفي. قاله ابن جني (8).
واعترضه ابن ملكون (9): «بأنه ليس هناك نفي حتى تكون هي مؤكدة له». ورد عليه الشّلوبين (10): «بأن هنا ما معناه النفي» وهو ما وقع عليه العلم من قوله: {أَلََّا يَقْدِرُونَ عَلى ََ}
__________
(1) هو إبراهيم بن السري بن سهل تقدم ذكره في 1/ 105.
(2) ساقط من المطبوعة.
(3) هذا كلام ابن هشام في كتابه مغني اللبيب 1/ 314 (بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد). وما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.
(4) مغني اللبيب لابن هشام 1/ 316، وعبارة المخطوط «تقليلا بعد تقليل» وهو الصواب.
(5) في المخطوطة «أنها».
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(8) هو عثمان بن جنّي، أبو الفتح النحوي تقدم ذكره في 1/ 361.
(9) هو إبراهيم بن محمد بن منذر بن سعيد بن ملكون، أبو إسحاق الحضرمي، قال ابن الزبير: «أستاذ نحوي جليل» روى عن أبي الحسن شريح وأبي مروان بن محمد، وأجاز له القاسم بن بقي روى عنه ابن حوط الله وابن خروف والشلوبين من تصانيفه «شرح الحماسة» و «النكت على تبصرة الصّيمري». توفي سنة (584هـ) (السيوطي، بغية الوعاة 1/ 431).
(10) عبارة المطبوع «السّكوني» والتصويب ما جاء في المخطوطة. والشلوبين تقدم ذكره في 2/ 364.(3/154)
{شَيْءٍ} (الحديد: 29) ويكون هذا من وقوع النفي على العلم، (1) [والمراد ما وقع عليه العلم] (1) كقوله: «ما علمت أحدا يقول ذلك إلا زيدا» فأبدلت من الضمير الذي في «يقول» ما بعد «إلا» وإن كان البدل لا يكون إلا في النفي فكما كان النفي هنا واقعا على العلم، وحكم لما وقع عليه العلم (3) [بحكمه، كذلك يكون تأكيد النفي أيضا على ما وقع عليه العلم، ويحكم للعلم بحكم النفي، فيدخل على العلم توكيد النفي، والمراد تأكيد نفي ما دخل عليه العلم] (3).
وإذا كانوا قد زادوا «لا» في الموجب المعنى لما توجه عليه فعل منفيّ في المعنى كقوله 3/ 79 تعالى: {مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ} (الأعراف: 12)، المعنى «أن تسجد»، فزاد «لا» تأكيدا للنفي المعنوي الذي تضمنه «منعك» فكذلك تزاد «لا» في العلم الموجب توكيدا للنفي الذي تضمنه الموجّه عليه.
قال الشّلوبين (5): وأما زيادة [175/ ب] «لا» في قوله: {لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ}
(الحديد: 29) فشيء متفق عليه وقد نصّ عليه سيبويه، ولا يمكن أن تحمل الآية إلا على زيادة «لا» فيها، لأن ما قبله من الكلام وما بعده يقتضيه.
ويدل عليه قراءة ابن عباس وعاصم الجحدري (6): «ليعلم أهل الكتاب» وقرأ ابن مسعود وابن جبير «لكي يعلم» (7) وهاتان القراءتان تفسير لزيادتها وسبب النزول يدل على ذلك أيضا وهو أن المشركين كانوا يقولون: إن الأنبياء منّا، وكفروا مع ذلك بهم (8)، فأنزل الله تعالى:
{لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ} (الحديد: 29) الآية.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) تقدم ذكره في 2/ 364.
(6) في المطبوعة «عاصم والحميدي» والتصويب ما ورد في المخطوطة «عاصم الجحدري» والجحدري هو:
عاصم بن أبي الصباح العجاج تقدم ذكره في 1/ 347. ذكر قراءته ابن خالويه في كتابه «مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع» ص: 153قال: «ليي يعلم بياءين الجحدري كأنه قلب الهمزة ياء» انتهى.
وذكره أبو حيّان في البحر المحيط 8/ 229عند تفسير قوله تعالى {لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ} الآية قال: «والجحدري لينيعلم أصله «لأن يعلم» قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة».
(7) ذكرها ابن خالويه في كتابه «مختصر في شواذ القرآن» ص: 152. «شواذ سورة الحديد» وأبو حيّان في «البحر المحيط» 8/ 229. آخر تفسير سورة الحديد.
(8) أورد سبب النزول بمعناه الطبري في جامع البيان 27/ 143عند تفسير الآية. والقرطبي أيضا في تفسيره الجامع لأحكام القرآن 17/ 268، ولكن ورد في الموضعين أن اليهود هم الذين قالوا ذلك وهو الصواب.(3/155)
و [منه] (1): {مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ} (الأعراف: 12)، بدليل الآية الأخرى: {مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} (ص: 75) وليس المعنى: ما منعك من ترك السجود؟ فإنه ترك، فلا يستقيم التوبيخ عليه.
وقيل: ليست بزائدة من وجهين:
أحدهما: أنّ التقدير ما دعاك إلى ألّا تسجد؟ لأنّ الصارف عن الشيء داع إلى تركه، فيشتركان في كونهما من أسباب عدم الفعل.
3/ 80الثاني: أنّ التقدير ما منعك من ألّا تسجد، وهذا أقرب مما قبله لأن فيه إبقاء المنع على أصله، وعدم زيادتها أولى لأن حذف حرف الجر مع «أن» كثير كثرة لا تصل إلى المجاز، والزيادة في درجته.
قالوا: وفائدة زيادتها تأكيد الإثبات فإن وضع «لا» نفي ما دخلت عليه، فهي معارضة للإثبات ولا يخفى أنّ حصول الحكم مع المعارض أثبت مما إذا لم يعترضه المعارض، أو أسقط معنى ما كان من شأنه أن يسقط.
ومنه: {مََا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلََّا تَتَّبِعَنِ} (طه: 9392).
وقيل: وقد تزاد قبل القسم، نحو: {فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ} (المعارج:
40) {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ} (الواقعة: 75)، {لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ} (القيامة: 1) أي أقسم بثبوتها.
وضعّف في الأخيرة، بأنها (2) وقعت صدرا، بخلاف ما قبلها، لوقوعها بين الفاء ومعطوفها.
وقيل: زيدت توطئة لنفي الجواب أي لا أقسم بيوم القيامة، فلا يتركون سدى.
ورد بقوله تعالى: {لََا أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ} (البلد: 1) الآيات، فإن جوابه مثبت، وهو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي كَبَدٍ} (البلد: 4).
وقيل غير زائدة.
__________
(1) ساقط من المخطوطة.
(2) في المخطوطة «لأنها».(3/156)
وقيل: هي ردّ لكلام قد تقدّم من الكفّار، فإنّ القرآن كلّه كالسورة الواحدة، فيجوز أن يكون الادّعاء في سورة، والردّ عليهم في أخرى فيجوز الوقف على «لا» هذه.
واختلف في قوله تعالى: {قُلْ تَعََالَوْا أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلََّا تُشْرِكُوا بِهِ} (الأنعام: 3/ 81 151).
فقيل: زائدة ليصحّ المعنى لأنّ المحرّم الشّرك.
وقيل: نافية أو ناهية.
وقيل: الكلام تمّ عند قوله: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} (الأنعام: 151)، ثم ابتدأ: {عَلَيْكُمْ أَلََّا تُشْرِكُوا بِهِ} (الأنعام: 151).
وقوله تعالى: {وَمََا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهََا إِذََا جََاءَتْ لََا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 109) فيمن فتح الهمزة (1)، فقيل «لا» زائدة، وإلا لكان عذرا للكفار.
وردّه الزّجاج (2) بأنها نافية في قراءة الكسر، فيجب ذلك في قراءة الفتح.
وقيل: نافية وحذف المعطوف أي وأنهم يؤمنون.
وقوله تعالى: {وَحَرََامٌ عَلى ََ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا أَنَّهُمْ لََا يَرْجِعُونَ} (الأنبياء: 95).
وقيل: «لا» زائدة، والمنع (3): ممتنع على أهل قرية قدّرنا إهلاكهم [لكفرهم] (4) أنهم لا يرجعون عن الكفر إلى قيام الساعة.
وعلى هذا ف «حرام» خبر مقدم وجوبا لأن المخبر عنه «أن وصلتها».
وقوله تعالى: {مََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللََّهُ الْكِتََابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنََّاسِ كُونُوا 3/ 82 عِبََاداً لِي مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََكِنْ كُونُوا رَبََّانِيِّينَ بِمََا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتََابَ وَبِمََا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلََا}
__________
(1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه {أَنَّهََا إِذََا جََاءَتْ} بكسر الهمزة، والباقون بفتحها.
(الداني، التيسير ص: 106).
(2) هو إبراهيم بن السري بن سهل تقدمت ترجمته في 1/ 105. وقوله ورد في كتابه إعراب القرآن 1/ 132.
وانظر تفصيلا للمسألة في المغني لابن هشام 1/ 251.
(3) في المخطوطة «والمعنى».
(4) ساقط من المخطوطة.(3/157)
{يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلََائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبََاباً} (آل عمران: 8079) على قراءة من نصب {يَأْمُرَكُمْ} (1) عطفا على {يُؤْتِيَهُ} ف «لا» زائدة مؤكّدة لمعنى النفي السابق.
وقيل: عطف على {يَقُولَ}، والمعنى: ما كان لبشر أن ينصبه الله للدعاء إلى عبادته وترك الأنداد، ثم يأمر الناس [176/ أ] بأن يكونوا عبادا له، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.
وقيل: ليست زائدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، وأهل الكتاب عن عبادة عزير وعيسى فلما قالوا له: أنتخذك ربّا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة، ثم يأمر الناس بعبادته، وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
وأما «من» فإنّها تزاد في الكلام الوارد بعد نفي أو شبهه نحو: {وَمََا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلََّا يَعْلَمُهََا} (الأنعام: 59). {مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى ََ مِنْ فُطُورٍ} (الملك: 3). {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ} (المؤمنون: 91).
3/ 83وجوّز الأخفش (2) زيادتها مطلقا محتجّا بنحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ جََاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (الأنعام: 34). {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (نوح: 4). {يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} (الحج: 23، الكهف: 31). {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئََاتِكُمْ} (البقرة: 271).
وأما «ما» في نحو قوله تعالى: {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران: 159)، وقوله: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ لَعَنََّاهُمْ} (المائدة: 13) ف «ما» في هذين الموضعين زائدة إلّا أنّ فيها فائدة جليلة وهي أنه لو قال: فبرحمة (3) [من الله لنت لهم، وبنقضهم لعنّاهم، جوّزنا أنّ اللين واللعن كانا للسببين المذكورين ولغير ذلك، فلما أدخل «ما» في الموضوعين قطعنا بأن اللين لم يكن إلّا للرحمة، وأن اللعن لم يكن إلا لأجل نقض الميثاق] (3).
وأما الباء فتزاد في الفاعل نحو «كفى بالله»، أي كفى الله، ونحو «أحسن بزيد»! إلا أنها في التعجب لازمة. ويجوز حذفها في فاعل {كَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً} (الرعد: 43)، {وَكَفى ََ بِنََا}
__________
(1) عاصم وحمزة وابن عامر «ولا يأمركم» بنصب الراء، والباقون برفعها، وأبو عمرو على أصله في الاختلاس والإسكان. (الداني، التيسير ص: 89).
(2) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي أبو الحسن الأخفش تقدم ذكره في 1/ 134.
(3) اضطربت العبارة في المخطوطة.(3/158)
{حََاسِبِينَ} (الأنبياء: 47) وإنما هو «كفى الله» و «كفانا» (1). وقال الزجاج (2): «دخلت لتضمّن «كفى» معنى اكتفي وهو حسن».
وفي المفعول، نحو: {وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) لأن الفعل يتعدّى بنفسه بدليل قوله: {وَأَلْقَيْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ} (الحجر: 19)، ونحو: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم: 25). {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللََّهَ يَرى ََ} (العلق: 14). {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمََاءِ} (الحج: 15)، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحََادٍ بِظُلْمٍ} (الحج: 25). {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ 3/ 84 وَالْأَعْنََاقِ} (ص: 33)، أي يمسح السوق مسحا.
وقيل في الأول: ضمّن «تلقوا» معنى «تفضوا».
وقيل: المعنى لا تلقوا أنفسكم بسبب أيديكم كما يقال: لا تفسد أمرك برأيك.
وقيل في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (المؤمنون: 20): إن الباء زائدة والمراد:
«تنبت الدهن».
وفي المبتدإ وهو قليل ومنه عند سيبويه: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (ن: 6).
وقال أبو الحسن (3): {بِأَيِّكُمُ} متعلّق باستقرار محذوف مخبر عنه بالمفتون ثم اختلف فقيل: «المفتون» مصدر بمعنى الفتنة، وقيل: الباء ظرفية، أي في أيّكم الجنون».
وفي خبر المبتدإ نحو: {جَزََاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهََا} (يونس: 27). وقال أبو الحسن: «الباء زائدة، بدليل قوله في موضع آخر: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا}» (الشورى: 40).
وفي خبر ليس كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذََلِكَ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ََ} (القيامة:
40). {أَلَيْسَ اللََّهُ بِكََافٍ عَبْدَهُ} (الزمر: 36).
__________
(1) في المخطوطة «وكيلا».
(2) هو إبراهيم بن السري تقدم ذكر ترجمته في 1/ 105وقوله ورد في كتابه إعراب القرآن 3/ 855. وانظر المغني لابن هشام 1/ 106.
(3) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي، أبو الحسن الأخفش تقدمت ترجمته في 1/ 134وأما قوله فقد أورده ابن هشام في كتاب مغني اللبيب 1/ 111110، وعبارة المغني جاءت على الشكل التالي «فقيل المفتون مصدر بمعنى الفتنة، وقيل الباء ظرفية، أي في أيّ طائفة منكم المفتون».(3/159)
وقال ابن عصفور في «المقرّب» (1): وتزاد في نادر كلام لا يقاس عليه، كقوله تعالى:
{بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ََ} (القيامة: 40) و (الأحقاف: 33) انتهى.
3/ 85ومراده الآية التي أولها: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقََادِرٍ} (الأحقاف: 33)، ولذا (2) صرّح به ابن أبي الربيع (3) في القراءتين. ويدلّ على الزيادة الآية التي في (الاسراء) (4): {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ قََادِرٌ عَلى ََ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لََا رَيْبَ فِيهِ} (الآية: 99).
وزعم (5) ابن النحاس (6) أنه أراد الآية الأولى، أعني قوله: {أَلَيْسَ ذََلِكَ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ََ} (القيامة: 40)، فاعتذر عنه بأنه: إنما قال ذلك وإن كان في خبر ليس لأن «ليس» هنا بدخول الهمزة عليها لم يبق معناها من النفي، فصار الكلام تقريرا ويعني بقوله: «في نادر» في القياس لا في الاستعمال.
وأما اللام، فتزاد معترضة بين الفعل ومفعوله كقوله:
وملكت ما بين العراق ويثرب ... ملكا أجار لمسلم ومعاهد (7)
__________
(1) هو علي بن مؤمن بن محمد أبو الحسن بن عصفور الاشبيلي تقدمت ترجمته في 1/ 466. وأما كتابه «المقرب» فقد طبع (بتحقيق أحمد عبد الستار الجواري وعبد الله الجبوري) بغداد رئاسة ديوان الأوقاف 1392هـ / 1972م، وحققه أيضا برسالة ماجيستير (يعقوب يوسف الغنيم) دار العلوم، جامعة القاهرة.
(عبد الجبار، ذخائر التراث العربي 1/ 190).
(2) في المخطوطة «وكذلك».
(3) هو أحمد بن سليمان بن أحمد أبو جعفر الكناني الأندلسي الطنجي، المقرئ المعروف بابن أبي الربيع، مسند القراء بالأندلس، رحل وقرأ الروايات على أبي أحمد السامري وأبي بكر الأذفوني، وأبي الطيب بن غلبون، وأقرأ الناس ببجّانة والمرّية، وعمّر دهرا طويلا توفي قبل سنة (144هـ) (الذهبي، معرفة القراء الكبار 1/ 398) وأما القراءتان فقد ذكرهما ابن جرير في تفسيره جامع البيان 26/ 23، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 16/ 219، وأبو حيّان في البحر المحيط 8/ 68عند تفسير سورة الأحقاف.
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة «وظن».
(6) هو محمد بن إبراهيم، ابن النحاس، سيأتي التعريف به ص 343.
(7) البيت لابن ميّادة، الرّماح بن أبرد بن ثوبان بن سراقة بن حرملة، من قصيدة يمدح مطلعها:
من كان أخطأه الرّبيع فإنّما ... نصر الحجاز بغيث عبد الواحد
فيها أمير المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك. انظر أخبار ابن ميّادة في كتاب الأغاني لأبي الفرج(3/160)
وجعل منه المبرّد (1)، قوله تعالى: {رَدِفَ} [176/ ب] {لَكُمْ} (النمل: 72)، والأكثرون على أنه ضمّن {رَدِفَ} معنى: «اقترب» كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنََّاسِ حِسََابُهُمْ} (الأنبياء: 1).
واختلف في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللََّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} (النساء: 26) (2) [{وَأُمِرْنََا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ}] (2) (الأنعام: 71)، فقيل زائدة، وقيل للتعليل والمفعول محذوف، أي يريد الله التبيين وليبيّن لكم ويهديكم، أي فيجمع لكم بين الأمرين.
وقال الزمخشري (4) في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (الآية: 12)، 3/ 86 في سورة الزمر: «لك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في «أردت لأن أفعل»، ولا تزاد إلا مع «أن» خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه كما أتت (5)
السين في «أسطاع» يعني بقطع الهمزة (6) عوضا من ترك الأصل الذي هو «أطوع» والدليل على هذا مجيئه بغير لام في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (الزمر: 12).
انتهى.
وزيادتها في «أردت لأن أفعل» لم يذكره أكثر النحويين وإنما تعرّضوا لها (7) في إعراب:
{يُرِيدُ اللََّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (النساء: 26).
وتزاد لتقوية العامل الضعيف إما لتأخّره (8)، نحو: {هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف: 154)، ونحو: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيََا تَعْبُرُونَ} (يوسف: 43). أو لكونه فرعا في العمل، نحو: {مُصَدِّقاً لِمََا مَعَهُمْ} (البقرة: 91)، {فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (البروج: 16) {نَزََّاعَةً لِلشَّوى ََ} (المعارج: 16).
__________
الأصفهاني 1/ 12088، وقد ورد البيت في مغني اللبيب، لابن هشام 1/ 215، وفرائد العقود، للعيني 3/ 278، المطبوع على هامش خزانة الأدب وهمع الهوامع، للسيوطي 2/ 33، وشرح شواهد المغني، للسيوطي 2/ 580.
(1) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس المبرد، تقدم ذكره في 2/ 497.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(4) في الكشاف عند تفسير قوله تعالى {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 3/ 342.
(5) في الكشاف «كما عوض السين».
(6) ليس من قول الزمخشري.
(7) في المخطوطة «له».
(8) في المخطوطة «لتأخيره».(3/161)
وقيل منه: {إِنَّ هََذََا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} (طه: 117)، وقيل: بل يتعلق بمستقرّ محذوف صفة لعدوّ وهي للاختصاص.
وقد اجتمع التأخر (1) والفرعية، في نحو: {وَكُنََّا لِحُكْمِهِمْ شََاهِدِينَ} (الأنبياء: 78).
3/ 87وأما قوله تعالى: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} (المدثر: 36)، فإن كان «نذيرا» (2) بمعنى المنذر، فهو مثل: {فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (البروج: 16)، وإن كان بمعنى الإنذار، فاللام مثلها في: «سقيا لزيد».
وقد تجيء اللام للتوكيد بعد النفي، وتسمّى لام الجحود، وتقع بعد «كان» مثل:
{وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} (الأنفال: 33)، اللام لتأكيد النفي، كالباء الداخلة في خبر «ليس»، ومعنى قولهم: «إنها للتأكيد» (3) أنك إذا قلت: «ما كنت أضربك» بغير لام، جاز أن يكون الضرب مما يجوز كونه: فإذا قلت: «ما كنت لأضربك»، فاللام جعلته بمنزلة ما لا يكون أصلا.
وقد تأتي مؤكدة في موضع، وتحذف في آخر لاقتضاء المقام ذلك.
ومن أمثلته قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذََلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ تُبْعَثُونَ}
(المؤمنون: 1615)، فإنه سبحانه أكّد إثبات الموت الذي لا ريب فيه تأكيدين، وأكّد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا، وكان المتبادر العكس، لأن التأكيد إنما يكون حيث الإنكار لكن في النّظم وجوه:
أحدها: أنّ البعث لما قامت البراهين القطعية عليه صار المنكر له كالمنكر للبديهيات فلم يحتج إلى تأكيد وأمّا الموت فإنه وإن أقروا به لكن لمّا لم يعلموا ما (4) بعده نزّلوا منزلة من لم يقرّ به فاحتاج إلى تأكيد ذلك لأنه قد ينزّل المنكر كغير المنكر إذا كان معه ما لو تأمّله ارتدع من (5) الإنكار. ولمّا ظهر على المخاطبين من التمادي في الغفلة والإعراض عن العمل
__________
(1) عبارة المخطوطة «يجتمع التأخير».
(2) في المخطوطة «النذير».
(3) عبارة المخطوطة «ومعنى قوله للتأكيد».
(4) في المخطوطة «لما».
(5) في المخطوطة «عن».(3/162)
لما بعده والانهماك في الدنيا، وهي من أمارات إنكار الموت، فلهذا قال: «ميتون» ولم يقل: تموتون وإنما أكّد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا، لظهور أدلته المزيلة للإنكار، إذا تأملوا فيها، ولهذا قيل: «تبعثون» على الأصل، وهو الاستقبال بخلاف «تموتون».
الثاني: أنّ دخول اللام على «ميتون» أحق لأنه تعالى يردّ على الدّهرية (1) القائلين ببقاء النوع الإنساني [177/ أ]، خلفا عن سلف، وقد أخبر تعالى عن البعث في مواضع من القرآن، [وأكّده] (2) وكذّب منكره كقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التغابن: 7) قاله الشيخ تاج الدين بن الفركاح (3).
الثالث: أنه لما كان العطف يقتضي الاشتراك في الحكم استغني (4) [به عن إعادة لفظ اللّام وكأنه قيل: «لتبعثون» واستغني] (4) بها في الثاني لذكرها في الأول.
الرابع: قال الزمخشري: بولغ في تأكيد الموت تنبيها للإنسان (6) [أن يكون الموت نصب عينيه، ولا يغفل عن ترقبه فإن مآله إليه فكأنه أكّدت جملته ثلاث مرات لهذا المعنى، لأن الإنسان] (6) في الدنيا يسعى فيها غاية السعي [حتى] (8) كأنه مخلّد، ولم يؤكّد جملة البعث إلا ب «إنّ» لأنه أبرز بصورة (9) المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع، ولا يقبل إنكارا.
__________
(1) الدّهريّة هم الذين أنكروا الاعتقاد في الله، وأنكروا خلق العالم والعناية الإلهية. ولم يسلموا بما جاءت به الأديان الحقّة كالشرائع السماوية والبعث والعقاب، وقالوا بقدم الدهر وأنّ المادة لا تفنى، وأن كل ما حدث في العالم إنما يرد إلى فعل القوانين الطبيعية. أي إلى حركة الأفلاك، وقولهم بقدم الدهر هو أبرز أقوالهم. (الخوارزمي، مفاتيح العلوم ص 25) بتصرف.
(2) ساقط من المخطوطة.
(3) هو عبد الرحمن بن إبراهيم بن ضياء بن سباع الفزاري، تاج الدين المعروف بالفركاح فقيه أهل الشام كان إماما مدققا نظارا تفقه على شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام. وروى البخاري عن ابن الزبيدي وسمع من ابن اللّتي وابن الصلاح، حدث عنه جماعة من تصانيفه كتاب «الإقليد لذوي التقليد» وشرحا على «التنبيه» لم يسمّه، وله على «الوجيز» مجلدات توفي سنة (690هـ) (السبكي، طبقات الشافعية 5/ 60).
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(8) ساقط من المطبوعة.
(9) في المخطوطة «في صورة».(3/163)
قلت: هذه الأجوبة من جهة المعنى وأما الصناعة فتوجب (1) ما جاءت الآية الشريفة عليه وهو حذف اللام في «تبعثون» لأن اللام تخلّص المضارع للحال فلا يجاء [به] (2) مع يوم القيامة، لأنه مستقبل، ولأن «تبعثون» عامل في الظرف المستقبل.
وأما قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} (النحل: 124) فيمكن تأويلها بتقدير عامل.
3/ 89ونظير هذا آية الواقعة وهي قوله سبحانه: {لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََاهُ حُطََاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}
(الآية: 65). وقال سبحانه في الماء: {لَوْ نَشََاءُ جَعَلْنََاهُ أُجََاجاً} (الواقعة: 70) بغير لام والفرق بينهما من أربعة أوجه:
أحدها: أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما، إذ الماء العذب يمرّ بالأرض السبخة فيصير ملحا، فالتوعّد به لا يحتاج إلى تأكيد، وهذا كما أنّ الإنسان إذا توعد عبده بالضرب بعصا ونحوه لم يحتج إلى توكيد، وإذا توعّد بالقتل احتاج إلى تأكيد.
والثاني: إنّ جعل الحرث حطاما، قلب للمادّة والصورة، وجعل الماء أجاجا قلب للكيفية فقط، وهو أسهل وأيسر (3).
الثالث: أن «لو» لمّا كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعليق الجزاء أتى باللام علما على ذلك، ثم حذف الثاني للعلم بها، لأن الشيء إذا علم لم يبال بإسقاطه عن اللفظ ويساوي لشهرته حذفه وإثباته، مع ما في حذفه من خفّة اللفظ ورشاقته (4) لأن تقدّم ذكرها والمسافة قصيرة يغني عن ذكرها ثانيا.
الرابع: أن اللام أدخلت في آية المطعوم للدّلالة على أنه يقدّم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب، من قبل أنّ المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم ولهذا قدّمت [في] (5) آية المطعوم على آية المشروب، ذكرها (6) والذي قبله الزمخشري (7).
__________
(1) في المخطوطة «فتوجيه».
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «أكبر».
(4) ساقط من المطبوعة.
(5) ساقط من المطبوعة.
(6) عبارة المخطوطة «ذكر هذا».
(7) ذكره الزمخشري في الكشاف 4/ 61. مع تصرف في العبارة.(3/164)
ومن ذلك حذف اللام في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفََالِ قُلِ الْأَنْفََالُ لِلََّهِ وَالرَّسُولِ} (الأنفال: 1) وإثباتها بعد قوله: {فَأَنَّ لِلََّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 3/ 90 41) الآية، والجواب أنك إذا عطفت على مجرور.
القسم السابع والعشرون باب الاشتغال
فإنّ الشيء إذا أضمر ثم فسّر كان أفخم مما إذا لم يتقدم إضمار ألا ترى أنك تجد اهتزازا في نحو قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ} (التوبة: 6).
وفي قوله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} (الإسراء: 100).
وفي قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشََاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظََّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} (الإنسان:
31).
وفي قوله: {فَرِيقاً هَدى ََ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ} (الأعراف: 30) لا تجد مثله فإذا قلت: وإن استجارك أحد من المشركين فأجره. وقولك: لو تملكون خزائن رحمة ربي.
وقولك: يدخل من يشاء في رحمته وأعدّ للظّالمين عذابا أليما، وقولك: هدى فريقا وأضلّ فريقا إذ الفعل المفسّر في تقدير المذكور مرتين.
وكذا قوله تعالى: {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} (الانشقاق: 1)، {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ}
(الانفطار: 1)، ونظائره، فهذه فائدة اشتغال الفعل عن المفعول بضميره [177/ ب].
القسم الثامن والعشرون التعليل
بأن يذكر الشيء معلّلا فإنّه أبلغ من ذكره بلا علة، لوجهين:
أحدهما: أن العلّة المنصوصة قاضية بعموم المعلول ولهذا اعترفت الظاهرية بالقياس في العلّة المنصوصة (1).
الثاني: أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعلّلة، بخلاف غيرها وغالب التعليل
__________
(1) أورد ابن حزم هذا الكلام في كتابه المحلّى 1/ 57.(3/165)
في القرآن، فهو على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى، وهو سؤال عن العلّة.
منه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53). {إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
(الحج: 1). {إِنَّ صَلََاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103).
وتوضيح التعليل أن الفاء السببية لو وضعت مكان «إنّ» لحسن.
والطرق الدالة على العلة أنواع:
الأول: التصريح بلفظ الحكم، كقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بََالِغَةٌ} (القمر: 5).
وقال: {وَأَنْزَلَ اللََّهُ عَلَيْكَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: 113)، والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح.
3/ 92الثاني: أنه فعل كذا لكذا، أو أمر بكذا لكذا، كقوله تعالى: {ذََلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} (المائدة: 97).
وقوله تعالى: {اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا} (الطلاق: 12).
{جَعَلَ اللََّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرََامَ قِيََاماً لِلنََّاسِ} (المائدة: 97).
{لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ} (الحديد: 29).
{وَمََا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهََا إِلََّا لِنَعْلَمَ} (البقرة: 143).
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (الأنفال: 11).
{وَمََا جَعَلَهُ اللََّهُ إِلََّا بُشْرى ََ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} (آل عمران: 126)، وهو كثير.
فإن قيل: اللام فيه للعاقبة، كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} (القصص: 8)، وقوله: {لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً} (الحج: 53)، وإنما قلنا ذلك لأنّ أفعال الله تعالى لا تعلّل.
فالجواب أن معنى قولنا: إن أفعال الله تعالى لا تعلّل، أي لا تجب ولكنها لا تخلو عن الحكمة، وقد أجاب الملائكة عن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا} (البقرة: 30) بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30).
ولو كان فعله (1) سبحانه مجردا عن الحكم والغايات لم يسأل (2) الملائكة عن حكمته ولم يصحّ الجواب بكونه يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح، وفرق بين العلم والحكمة ولأنّ لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهل العاقبة، كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ 3/ 93 عَدُوًّا وَحَزَناً} (القصص: 8) وأما من هو بكل شيء عليم فمستحيلة في حقه وإنما اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكمة والغاية المطلوبة من الحكمة. ثم قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} (القصص: 8) هو تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره لهم، فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره، وذكر فعلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم.(3/166)
فالجواب أن معنى قولنا: إن أفعال الله تعالى لا تعلّل، أي لا تجب ولكنها لا تخلو عن الحكمة، وقد أجاب الملائكة عن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا} (البقرة: 30) بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30).
ولو كان فعله (1) سبحانه مجردا عن الحكم والغايات لم يسأل (2) الملائكة عن حكمته ولم يصحّ الجواب بكونه يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح، وفرق بين العلم والحكمة ولأنّ لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهل العاقبة، كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ 3/ 93 عَدُوًّا وَحَزَناً} (القصص: 8) وأما من هو بكل شيء عليم فمستحيلة في حقه وإنما اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكمة والغاية المطلوبة من الحكمة. ثم قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} (القصص: 8) هو تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره لهم، فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره، وذكر فعلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم.
قاعدة تفسيرية (3):
حيث دخلت (4) واو العاطف على لام التعليل فله وجهان:
أحدهما: أن يكون تعليلا معلّله محذوف، كقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلََاءً حَسَناً} (الأنفال: 17) فالمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك.
[وقوله] (5) الثاني: أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة، ليظهر صحة العطف، كقوله تعالى: {وَخَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى ََ} (الجاثية: 22) التقدير: ليستدلّ بها المكلف على قدرته تعالى ولتجزى. وكقوله: {وَكَذََلِكَ مَكَّنََّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ} (يوسف: 21) التقدير: ليتصرف فيها ولنعلمه.
والفرق بين الوجهين أنه في الأول عطف جملة على جملة، وفي الثاني عطف مفرد على مفرد.
وقد يحتملهما الكلام، كقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنََّاسِ} (البقرة: 259)، فالتقدير على الأول، ولنجعله آية فعلنا ذلك، وعلى الثاني: ولنبين للناس (6) قدرتنا ولنجعله آية. ويطّرد الوجهان في نظائره، ويرجّح كل واحد بحسب المقام، وحذف المعلّل هاهنا
__________
(1) في المخطوطة «تعليمه».
(2) في المخطوطة «تسأل».
(3) تأخرت القاعدة في المخطوطة إلى ما بعد القسم الثالث وهو «الإتيان بكي».
(4) في المخطوطة «دلّت».
(5) ساقط من المطبوعة.
(6) في المخطوطة «له».(3/167)
أرجح، إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بدّ من معلّل محذوف، وليس قبلها ما يصلح له.
3/ 94فإن قلت: لم قدّر المعلّل مؤخرا؟
قلت: فائدة هذا الأسلوب هو أن يجاء بالعلّة بالواو للاهتمام بشأن العلة المذكورة لأنه إمّا أن يقدّر علة أخرى ليعطف عليها، فيكون اختصاص ذكرها لكونها أهمّ، وإما أن يكون على تقدير معلل فيجب أن يكون مؤخرا ليشعر تقديمه بالاهتمام.
الثالث: الإتيان بكي كقوله تعالى: {مََا أَفََاءَ اللََّهُ عَلى ََ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ فَلِلََّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لََا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيََاءِ مِنْكُمْ}
(الحشر: 7)، فعلّل سبحانه قسمة الفيء بين هذه الأصناف كيلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء.
وقوله: {مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلََّا فِي كِتََابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهََا إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ وَلََا تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ} (الحديد:
2322)، وأخبر سبحانه أنه قدّر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن تبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع، ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنّه هين عليه، وحكمته البالغة التي منها ألّا يحزن عباده على ما فاتهم، ولا يفرحوا بما آتاهم، فإنهم إذا علموا أنّ المصيبة فيه مقدّرة كائنة، ولا بدّ قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت، [178/ أ] فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا.
الرابع: ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلّل به، كقوله: {وَنَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} (النحل: 89).
ونصب ذلك على المفعول له أحسن من غيره، كما صرح به في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44).
وقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة: 150).
وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} (القمر: 17)، أي لأجل الذكر كما قال تعالى: {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الدخان: 58).
وقوله: {فَالْمُلْقِيََاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً} (المرسلات: 65)، أي للإعذار والإنذار.
وقد يكون معلولا بعلّة أخرى، كقوله تعالى {يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ مِنَ
الصَّوََاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19)، ف «من الصواعق» يحتمل أن تكون فيه «من» لابتداء الغاية فتتعلّق بمحذوف، أي خوفا من الصواعق، ويجوز أن تكون معلّلة بمعنى اللام كما في قوله تعالى: {كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا مِنْ غَمٍّ} (الحج: 22)، أي لغمّ.(3/168)
وقد يكون معلولا بعلّة أخرى، كقوله تعالى {يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ مِنَ
الصَّوََاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19)، ف «من الصواعق» يحتمل أن تكون فيه «من» لابتداء الغاية فتتعلّق بمحذوف، أي خوفا من الصواعق، ويجوز أن تكون معلّلة بمعنى اللام كما في قوله تعالى: {كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا مِنْ غَمٍّ} (الحج: 22)، أي لغمّ.
وعلى كلا التقديرين ف «من الصواعق» في محل نصب على أنه مفعول له، والعامل فيه {يَجْعَلُونَ}. و {حَذَرَ الْمَوْتِ} مفعول له أيضا فالعامل فيه {مِنَ الصَّوََاعِقِ}، ف «من الصواعق» علة ل «يجعلون». معلول لحذر الموت، لأن المفعول الأول الذي هو «من الصواعق» يصلح جوابا لقولنا: (1) [لم يجعلون أصابعهم في آذانهم؟ والمفعول الثاني الذي هو «حذر الموت» يصلح جوابا لقولنا] (1): لم يخافون من الصواعق؟ فقد ظهر ذلك.
الخامس: اللام في المفعول له، وتقوم مقامه الباء، نحو: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هََادُوا} (النساء: 160).
[ومن] (3)، نحو: {مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا} (المائدة: 32). 3/ 96
والكاف، نحو: {كَمََا أَرْسَلْنََا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} (البقرة: 151)، وقال:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة: 152)، وقال: {فَاذْكُرُوا اللََّهَ كَمََا عَلَّمَكُمْ} (البقرة:
239)، أي لإرسالنا وتعليمنا.
السادس: الإتيان بإنّ، كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المزمل:
20).
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلََاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103).
{وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53).
{فَقََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً} (طه: 10).
وكقوله: {فَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنََّا نَعْلَمُ مََا يُسِرُّونَ وَمََا يُعْلِنُونَ} (يس: 76)، وليس هذا من قولهم، لأنه لو كان قولهم لما حزن الرسول، وإنما جيء بالجملة لبيان العلة والسبب [178/ ب] في أنه لا يحزنه قولهم.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) ساقطة من المخطوطة.(3/169)
وكذلك قوله تعالى: {وَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً} (يونس: 65) والوقف على القول في هاتين الآيتين والابتداء بإنّ لازم.
وقد يكون علة [لعلّة] (1) كقوله: {إِنَّ عَذََابَهََا كََانَ غَرََاماً * إِنَّهََا سََاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقََاماً}
(الفرقان: 6665).
وفيها وجهان لأهل المعاني.
3/ 97أحدهما: أن سؤالهم لصرف العذاب معلّل بأنه غرام، أي ملازم الغريم، وبأنها ساءت مستقرا ومقاما.
الثاني: أنّ «ساءت». تعليل لكونه غراما.
السابع: أن والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله، كقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمََا أُنْزِلَ الْكِتََابُ عَلى ََ طََائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنََا} (الأنعام: 156).
وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ} (الزمر: 56).
وقوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلََّا يَجِدُوا مََا يُنْفِقُونَ} (التوبة: 92) كأنه قيل: لم فاضت أعينهم من الدمع؟ قيل: للحزن، فقيل: لم حزنوا؟ فقيل: لئلا يجدوا.
وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} (البقرة: 282).
ونظائره كثيرة. وفي ذلك طريقان:
أحدهما: للكوفيين، أنّ المعنى لئلّا يقولوا، ولئلّا تقول نفس.
الثاني: للبصريين، أنّ المفعول له محذوف أي كراهة (2) أن يقولوا، أو حذار أن يقولوا.
فإن قيل: كيف يستقيم الطريقان في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ}؟ (البقرة: 282) فإنك إذا قدرت: «لئلا تضلّ إحداهما» لم يستقم عطف «فتذكر» عليه وإن قدّرت «حذار أن تضل إحداهما» لم يستقم العطف أيضا لأنه لا يصحّ أن تكون الضلالة علّة لشهادتهما.
3/ 98قيل: بظهور المعنى يزول الإشكال، فإن المقصود إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلّت
__________
(1) ساقط من المطبوعة.
(2) في المخطوطة «كراهية».(3/170)
ونسيت فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع العلة [كما] (1)، تقول: «أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعم بها» فإنما أعددتها للدّعم لا للميل و (2) أعددت هذا الدواء أن أمرض فأداوى به ونحوه، هذا قول سيبويه والبصريين (2).
وقال الكوفيون: تقديره في «تذكّر إحداهما الأخرى» إن ضلّت، فلمّا تقدم الجزاء اتصل بما قبله، ففتحت أن.
الثامن: «من أجل» في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (المائدة: 32) فإنه لتعليل الكتب، وعلى هذا فيجب الوقف على: {مِنَ النََّادِمِينَ} (المائدة: 31). وظن قوم أنه تعليل لقوله: {مِنَ النََّادِمِينَ} أي من أجل قتله لأخيه وهو غلط، لأنه يشوّش صحّة النظم ويخلّ بالفائدة.
فإن قلت: كيف يكون قتل أحد ابني آدم للآخر علة للحكم على أمّة أخرى بذلك الحكم؟
وإذا كان علّة فكيف كان قتل (4) نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلّهم؟
قيل: إن الله سبحانه يجعل أقضيته وأقداره عللا لأسبابه الشرعية وأمره، فجعل حكمه الكوني القدريّ علة لحكمة أمره الديني (5) لأن القتل لما كان من أعلى أنواع الظلم والفساد، 3/ 99 فخم أمره، وعظم شأنه، وجعل إثمه أعظم من إثم غيره، ونزّل قاتل النّفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلّها في أصل العذاب لا في وصفه.
التاسع: التعليل بلعلّ، كقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)، قيل: هو تعليل لقوله: {اعْبُدُوا} (البقرة: 21)، وقيل لقوله:
{خَلَقَكُمْ}.
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ كَمََا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:
183) حيث لمح فيها معنى الرجاء رجعت (6) إلى المخاطبين.
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) اضطربت عبارة المخطوطة كما يلي: «وإن أعددت من هذا الدواء أن أمرض فيما يداوى ونحوه من هذا القول سيبويه والبصريين».
(4) في المخطوطة «قاتل».
(5) عبارة المخطوطة «الديني الأمري».
(6) في المخطوطة «وحيث».(3/171)
العاشر: ذكر الحكم الكونيّ أو الشرعيّ عقب الوصف المناسب له، فتارة يذكر بأن، وتارة بالفاء [179/ أ]، وتارة يجرّد.
فالأول: كقوله تعالى: {وَزَكَرِيََّا إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ رَبِّ لََا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوََارِثِينَ}
(الأنبياء: 89) إلى قوله: {خََاشِعِينَ} (الأنبياء: 90). وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كََانُوا قَبْلَ ذََلِكَ مُحْسِنِينَ} (الذاريات: 1615).
والثاني: كقوله: {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا} (المائدة: 38). {الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2).
والثالث: كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهََا بِسَلََامٍ} (الحجر: 45 3/ 46100). {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 277).
الحادي عشر: تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه كقوله تعالى: {وَلَوْلََا أَنْ يَكُونَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً لَجَعَلْنََا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمََنِ} (الزخرف: 33) الآية.
وقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللََّهُ الرِّزْقَ لِعِبََادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} (الشورى: 27)، {وَمََا مَنَعَنََا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيََاتِ إِلََّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59)، أي آيات الاقتراح، لا الآيات الدالّة على صدق الرسل التي تأتي منه سبحانه ابتداء.
وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُ} (فصلت: 44).
وقوله: {لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنََا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ} (الأنعام: 8)، فأخبر سبحانه عمّا يمنع من إنزال الملك (1) [عيانا بحيث يشاهدونه، وإنّ عنايته وحكمته بخلقه اقتضت منع ذلك بأنه لو أنزل عليه الملك] (1) ثم عاينوه ولم يؤمنوا به لعوجلوا بالعقوبة، وجعل الرسول بشرا ليمكنهم التّلقّي عنه والرجوع إليه، ولو جعله ملكا فإمّا أن يدعه على هيئته الملكية، أو يجعله على هيئة البشر والأول يمنعهم من التلقّي عنه، والثاني لا يحصل مقصوده (3) إذا كانوا يقولون: هو بشر لا ملك.
* * * __________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة «مقصودهم».(3/172)
الثاني عشر: إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه [وأمره] (1)، كقوله:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرََاشاً وَالسَّمََاءَ بِنََاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً} الآية (البقرة: 22). 3/ 101
وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهََاداً} الآيات (النبأ: 6).
وقوله: {وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} الآية (النحل: 80).
وكما يقصدون البسط والاستيفاء يقصدون الإجمال والإيجاز، كما قيل:
يرمون بالخطب الطّوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرّقباء (2)
(3) [وقوله: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً}] (3) (الروم: 21).
الأسلوب الثاني الحذف
3/ 102 وهو لغة الإسقاط ومنه حذفت الشعر إذا أخذت منه.
واصطلاحا إسقاط جزء الكلام أو كله لدليل. وأما قول النحويين: الحذف لغير (5) دليل، ويسمى اقتصارا فلا تحرير فيه، لأنه [لا حذف فيه] (6) بالكلية كما سنبينه فيما (7) يلتبس به الإضمار والإيجاز.
والفرق بينهما أن شرط الحذف والإيجاز (8) أن يكون ثمّ مقدّر نحو: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}
(يوسف: 82) بخلاف الإيجاز فإنه عبارة عن اللفظ القليل الجامع للمعاني الجمة بنفسه.
[والفرق] (9) بينه وبين الإضمار أنّ شرط المضمر بقاء أثر المقدّر [في اللفظ] (10)، نحو:
{يُدْخِلُ مَنْ يَشََاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظََّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} (الإنسان: 31) أي ويعذّب
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) البيت لأبي دؤاد بن حريز الدؤلي، ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد 4/ 55.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (بغير).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (ومما).
(8) في المخطوطة (والإضمار).
(9) ساقطة من المخطوطة: والعبارة في المخطوطة (بين الحذف) بدل (بينه).
(10) ساقطة من المخطوطة:(3/173)
الظالمين (1). {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} (النساء: 171). [أي ائتوا أمرا خيرا لكم] (2) وهذا لا يشترط في الحذف.
ويدلّ على أنه لا بدّ في الإضمار (3) من ملاحظة المقدّر باب (4) الاشتقاق فإنه من أضمرت الشيء، أخفيته، قال:
سيبقى (5) لها في مضمر القلب والحشا (6)
3/ 103وأما الحذف (7) فمن حذفت (8) الشيء قطعته وهو يشعر بالطرح، بخلاف الإضمار، ولهذا قالوا: «أن» تنصب ظاهرة (9) ومضمرة.
وردّ ابن ميمون (10) قول النحاة: إن (11) الفاعل يحذف في باب المصدر، وقال: الصواب أن يقال: يضمر ولا يحذف لأنه عمدة في الكلام.
وقال ابن جني (12) في «خاطرياته»: من اتصال الفاعل بالفعل (13) أنّك تضمره في لفظ إذا عرفته نحو [قم] (14) ولا تحذفه كحذف المبتدإ [179/ ب] ولهذا لم يجز عندنا ما ذهب إليه الكسائيّ في «ضربني، وضربت قومك».
__________
(1) تصحفت في المطبوعة إلى (المنافقين).
(2) العبارة ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (الإفراد).
(4) العبارة في المخطوطة (في باب الاشتقاق).
(5) في المخطوطة (سنبقي).
(6) البيت في لسان العرب 4/ 492مادة (ضمر) ونسبه إلى الأحوص بن محمد الأنصاري.
(7) في المخطوطة (الحرف).
(8) في المخطوطة (حذف).
(9) في المخطوطة (مظهره).
(10) هو محمد بن عبد الله بن ميمون أبو بكر العبدري، استوطن مراكش وكان عالما بالقراءات ذاكرا للتفسير حافظا للفقه واللغة والأدب شاعرا كاتبا مبرّزا في النحو حسن الخلق متواضعا روى عن أبي بكر بن العربي وشروع وأبي الوليد بن رشد ولازمه عشر سنين من مصنفاته «شرح أبيات الإيضاح» و «شرح المقامات» وله شرحين على «الجمل» وغيرها ت 567هـ بمراكش (السيوطي، بغية الوعاة 1/ 147).
(11) في المخطوطة (بأن).
(12) تقدم التعريف به في 1/ 361، وبكتابه 2/ 436.
(13) تقديم وتأخير في المخطوطة (الفعل بالفاعل).
(14) ساقطة من المخطوطة.(3/174)
فصل (1)
المشهور أن الحذف مجاز وحكى إمام الحرمين (2) في «التلخيص» عن بعضهم: أن الحذف ليس بمجاز، إذ هو استعمال اللفظ في غير موضعه (3)، والحذف ليس كذلك.
وقال ابن عطية (4) في تفسير سورة يوسف: وحذف المضاف هو عين المجاز أو معظمه (5) وهذا (6) مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر، وليس كلّ حذف مجازا. انتهى.
وقال الزنجاني (7) في «المعيار»: إنما يكون مجازا إذا تغيّر [بسببه] (8) حكم فأما إذا 3/ 104 لم يتغير به حكم، كقولك: زيد منطلق وعمرو (9)، بحذف الخبر فلا يكون مجازا إذا لم يتغير حكم ما بقي من الكلام.
والتحقيق أنه إن أريد بالمجاز استعمال اللفظ في غير موضعه فالمحذوف ليس كذلك، لعدم استعماله، وإن أريد بالمجاز [استعمال] (10) إسناد الفعل إلى غيره وهو المجاز العقلي فالحذف كذلك.
__________
(1) في المخطوطة (مسألة).
(2) تقدم التعريف به في 1/ 118. وكتابه قال عنه حاجي خليفة في كشف الظنون 1/ 466، كتاب التقريب في الفروع لقاسم بن محمد، ابن القفال الشاشي، لخصه إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ا. هـ بتصرف. والكتاب قام بتحقيق الجزء الأول منه عبد الله جولم بالمدينة المنورة الجامعة الإسلامية كرسالة دكتوراه، وقام بتحقيق الجزء الثاني شبير أحمد العمري بالمدينة المنورة الجامعة الإسلامية كرسالة ماجستير (أخبار التراث العربي 25/ 20).
(3) في المخطوطة (موضوعه).
(4) هو عبد الحق بن غالب الغرناطي تقدم التعريف به في 1/ 101.
(5) في المخطوطة (ومعظمه).
(6) في المخطوطة (هذا).
(7) هو عبد الوهاب بن إبراهيم بن عبد الوهاب بن أبي المعالي الزنجاني صاحب «شرح الهادي» المشهور أكثر الجاربردي من النقل عنه في «شرح الشافية» ومن مصنفاته أيضا «متن الهادي» و «التصريف» المشهور بتصريف العزّي وله مؤلفات في العروض والقوافي ت 660هـ (السيوطي، بغية الوعاة 1/ 122).
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) في المخطوطة (وعمرو منطلق).
(10) ساقطة من المخطوطة.(3/175)
فصل (1)
والحذف خلاف الأصل وعليه ينبني فرعان:
أحدهما: إذا دار (2) الأمر بين الحذف وعدمه كان الحمل على عدمه، أولى، لأن الأصل عدم التغيير.
والثاني: إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته كان الحمل على قلّته أولى.
ويقع الكلام [في الحذف من] (3) [على] (4) خمسة أوجه: في فائدته، وفي أسبابه، ثم في أدلته، ثم في شروطه، ثم في أقسامه.
الوجه الأول في فوائده:
فمنها التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام، لذهاب الذهن في كلّ مذهب، وتشوّقه (3)
إلى ما هو المراد، فيرجع قاصرا عن إدراكه، فعند ذلك يعظم شأنه، ويعلو في النفس مكانه. ألا ترى أن المحذوف إذا ظهر في اللفظ زال ما كان يختلج في الوهم من المراد، وخلص للمذكور (6)! 3/ 105ومنها: زيادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف (7)، وكلّما (8) كان الشعور بالمحذوف أعسر (9)، كان الالتذاذ (10) به أشدّ وأحسن.
ومنها: زيادة الأجر بسبب الاجتهاد في ذلك بخلاف غير المحذوف، كما تقول في العلّة المستنبطة والمنصوصة.
ومنها: طلب الإيجاز والاختصار، وتحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
ومنها: التشجيع على الكلام ومن ثم سماه ابن جني (11): «شجاعة العربية».
ومنها: موقعه في النفس في موقعه (12) على الذكر ولهذا قال شيخ الصناعتين عبد القاهر
__________
(1) في المخطوطة (مسألة).
(2) في المخطوطة (أراد).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ساقطة من المطبوعة.
(6) في المخطوطة (المذكور).
(7) في المخطوطة (بالمحذوف).
(8) في المخطوطة (كلما).
(9) في المخطوطة (أحسن).
(10) في المخطوطة (كالالتذاذ).
(11) انظر الخصائص 2/ 360.
(12) في المخطوطة (موضعه).(3/176)
الجرجاني (1): ما من اسم حذف في الحالة التي (2) ينبغي أن يحذف فيها إلّا وحذفه أحسن من ذكره. ولله در القائل:
إذا نطقت جاءت بكلّ مليحة ... وإن سكتت جاءت بكل مليح
الثاني في أسبابه:
فمنها: مجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر، نحو: الهلال والله، أي هذا، فحذف المبتدأ استغناء (3) عنه بقرينة شهادة الحال، إذ لو ذكره مع ذلك لكان عبثا من القول.
ومنها: التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف، وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهمّ، وهذه هي فائدة باب التحذير نحو: إياك (4) والشرّ، والطريق الطريق والله (5) الله. وباب الإغراء هو لزوم (6) أمر يحمد به، وقد اجتمعا في قوله تعالى:
{نََاقَةَ اللََّهِ وَسُقْيََاهََا} [الشمس: 13) (7) [على التحذير أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها، و «سقياها»] (7) إغراء بتقدير الزموا [ناقة الله] (9).
ومنها التفخيم والإعظام قال حازم (10) في «منهاج البلغاء»: إنما يحسن الحذف (11) ما لم يشكل (12) به المعنى، لقوة الدلالة عليه، أو يقصد به تعديد أشياء، فيكون في تعدادها طول 3/ 106 وسآمة، فيحذف (13) ويكتفي بدلالة الحال عليه، وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال [180/ أ] عن ذكرها على الحال. قال: وبهذا القصد يؤثّر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل على النفوس، ومنه قوله تعالى في وصف أهل الجنة: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (الزمر: 73) فحذف الجواب إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه، وتركت النفوس تقدّر ما شأنه،
__________
(1) تقدم التعريف به في 2/ 420.
(2) في المخطوطة (الذي).
(3) في المخطوطة (للاستغناء).
(4) في المخطوطة (إياي).
(5) في المخطوطة (الله الله).
(6) في المخطوطة (بلزوم) بدل (هو لزوم).
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(9) ليست في المخطوطة.
(10) تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 155.
(11) في المخطوطة (الفعل).
(12) في المخطوطة (يشتمل).
(13) في المخطوطة (يحذف).(3/177)
ولا يبلغ مع ذلك كنه ما هنالك (1)، لقوله (2) عليه [الصلاة] (3) والسلام: «لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (4).
قلت: ومنه: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مََا غَشِيَهُمْ} (طه: 78) ما لا يعلم كنهه إلا الله، قال الزمخشري (5): وهذا من باب الاختصار ومن جوامع الكلم المتحملة مع قلّتها للمعاني الكثيرة.
ومنها: التخفيف لكثرة دورانه في كلامهم، كما [في] (6) حذف حرف النداء! في نحو:
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذََا} (يوسف: 29) وغيره. قال سيبويه: العرب تقول لا أدر فيحذفون الياء، والوجه «لا أدري»، لأنه رفع، وتقول: «لم أبل»، فيحذفون الألف، والوجه «لم أبال».
ويقولون: «لم يك» (7) فيحذفون النون كلّ ذلك يفعلونه استخفافا لكثرته في كلامهم.
ومنها: حذف نون التثنية والجمع وأثرها باق، نحو «الضاربا زيدا» و «الضاربو زيدا» (8)
وقراءة من قرأ (9): {وَالْمُقِيمِي الصَّلََاةِ} (الحج: 35) كأن النون ثابتة، فعلوا ذلك لاستطالة 3/ 107الموصول في الصلة، نحو: {وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} (الفجر: 4) حذفت الياء للتخفيف.
ويحكى عن الأخفش أن المؤرّج السّدوسيّ (10) سأله: فقال: لا أجيبك حتى تنام على
__________
(1) في المخطوطة (هناك).
(2) في المخطوطة (كقوله).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) قطعة من حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 319، كتاب بدء الخلق (59)، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (8)، الحديث (3244). وأخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2174، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (51)، الحديث 2/ 2824.
(5) الكشاف 2/ 442.
(6) ساقطة من المطبوعة.
(7) في المخطوطة (أك).
(8) في المخطوطة (زيد).
(9) وهي قراءة أبي عمرو، في رواية والحسن، وابن أبي إسحاق (البحر المحيط 6/ 369)، وانظر الكتاب 1/ 202181.
(10) هو مؤرج بن عمرو بن الحارث السدوسي البصري من أعيان أصحاب الخليل، عالم بالعربية والحديث والأنساب سمع الحديث من شعبة بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما، وأخذ منه أحمد بن محمد اليزيدي وغيره، وكان قد رحل مع المأمون إلى خراسان فسكن مدينة مرو من تصانيفه «غريب القرآن» و «الأنواء» و «المعاني» وغيرها (ياقوت، معجم الأدباء، 19/ 196).(3/178)
بأبي ليلة، ففعل (1)، فقال له: إن عادة العرب إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه، والليل لما كان لا يسري، وإنما يسرى فيه، نقص منه حرف، كما في قوله: {وَمََا كََانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مريم: 28)، الأصل «بغيّة» فلما حوّل (2) ونقل عن فاعل نقص منه حرف.
انتهى.
ومنها: رعاية الفاصلة، نحو: {مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ} (الضحى: 3).
{وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} (الفجر: 4) ونحوه. وقال (3) الرّماني (4): إنما حذفت الياء في الفواصل لأنها على نية الوقف، وهي في ذلك كالقوافي التي لا يوقف عليها بغير ياء.
ومنها: أن يحذف صيانة له كقوله تعالى: {قََالَ فِرْعَوْنُ وَمََا رَبُّ الْعََالَمِينَ}
(الشعراء: 23) إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (الشعراء: 28) حذف المبتدأ في ثلاثة مواضع: قبل (5) ذكر الرب، أي هو رب السموات. والله ربكم. والله رب المشرق لأن موسى عليه السلام استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال تهيّبا وتفخيما، فاقتصر على ما يستدلّ به من أفعاله الخاصة به، ليعرّفه أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ومنها: صيانة اللسان عنه، كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (البقرة: 18)، أي [هم] (6).
ومنها: كونه لا يصلح إلا له، كقوله تعالى {عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} (المؤمنون: 3/ 108 92). {فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (البروج: 16).
ومنها شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء، قال الزمخشريّ: وهو نوع من دلالة الحال التي لسانها أنطق من لسان المقال، كقول رؤبة: خير، [جواب] (7) لمن (8) قال
__________
(1) في المخطوطة (ففعله).
(2) في المخطوطة (حوّله).
(3) في المخطوطة (قال).
(4) هو أبو الحسن علي بن عيسى الرماني تقدم التعريف به في 1/ 111.
(5) في المخطوطة (قيل).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المطبوعة (من).(3/179)
كيف أصبحت؟ فحذف الجارّ، وعليه حمل قراءة حمزة (1): {تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ}
(النساء: 1) لأن هذا مكان شهر بتكرير الجار، فقامت الشهرة مقام الذكر.
وكذا (2) قال الفارسيّ متخلصا من عدم إعادة حرف الجر في المعطوف على الضمير (3)
المجرور: إنه مجرور بالجار المقدّر، أي و «بالأرحام» وإنما حذفت استغناء به في المضمر المجرور [قبله] (4).
فإن قلت: هذا المقدّر يحيل المسألة لأنه يصير من عطف الجار والمجرور [180/ ب] على مثله! قلت: إعادة الجارّ شرط لصحة العطف لا أنه مقصود لذاته (5).
[الوجه] (6) الثالث في أدلته:
ولما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل احتيج إلى ذكر دليله (7).
[والدليل] (8) تارة يدلّ على محذوف مطلق، وتارة على محذوف معيّن.
فمنها: أن يدلّ عليه العقل حيث تستحيل (9) صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف: 82) فإنه يستحيل (10) [عقلا تكلم الأمكنة إلا] (10)
معجزة.
ومنها: أن تدلّ عليه العادة الشرعية، كقوله تعالى: {إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} (12)
3/ 109 (النحل: 115) فإن الذات، لا تتّصف بالحلّ والحرمة شرعا، إنما هما (13) من صفات الأفعال الواقعة على الذوات، فعلم أن المحذوف التناول ولكنه لما حذف وأقيمت الميتة مقامه أسند
__________
(1) انظر إتحاف فضلاء البشر: 185.
(2) في المخطوطة (قد).
(3) في المخطوطة (المضمر).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (بالعطف).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (الدليل).
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) في المخطوطة (يستحيل).
(10) العبارة ليست في المخطوطة، وكتب مكانها (لنبيه).
(12) الآية في المخطوطة {إِنَّمََا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوََاحِشَ} [الأعراف: 33].
(13) في المخطوطة (وأنهما) بدل (إنما هما).(3/180)
إليها الفعل وقطع (1) النظر عنه، فلذلك (2) أنّث الفعل في بعض الصور، كقوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (المائدة: 3)، وقول صاحب (3) «التلخيص»: إن هذه الآية من باب دلالة العقل ممنوع (4)، لأن العقل لا يدرك محل الحلّ ولا الحرمة، فلهذا جعلناه من دلالة العادة الشرعية.
ومنها: أن يدلّ العقل عليهما، أي على الحذف والتعيين، كقوله تعالى: {وَجََاءَ رَبُّكَ} (الفجر: 22)، أي أمره أو عذابه أو ملائكته لأن العقل دلّ على أصل الحذف، والاستحالة مجيء البارئ عقلا لأن المجيء من سمات الحدوث. ودل العقل أيضا على التعيين، وهو الأمر ونحوه، وكلام الزمخشريّ (5) يقتضي أنه لا حذف البتة فإنه قال: هذه الآية الكريمة تمثيل مثّلت حاله سبحانه وتعالى في ذلك (6) بحال الملك الملك إذا حضر بنفسه.
وكقوله تعالى: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ} [7] [لَفَسَدَتََا (الأنبياء: 22) المقدمة الثانية وهو لكنها لم تفسد فلم يكن فيها آلهة إلا الله] (7) لأنه في معرض التوحيد، فعدم الفساد دليل على عدم تعدد الآلهة، وإنما حذف لأن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ضرورة، ولذلك لم يذكر المقدمة الثانية عند استعمال الشرط بلوغا لها (9).
ومنها: أن يدلّ العقل على أصل الحذف، وتدلّ عادة الناس على تعيين المحذوف،
__________
(1) في المخطوطة (وقع).
(2) في المخطوطة (فلذا).
(3) هو محمد بن عبد الرحمن بن عمر قاضي القضاة جلال الدين القزويني قدم دمشق من بلاده هو وأخوه قاضي القضاة إمام الدين، ثم ناب في القضاء بدمشق عنه، ثم عن قاضي القضاء نجم الدين ابن صصرى ثم ولي خطابة دمشق، وكان رجلا فاضلا متفننا له مكارم وسؤدد وهو مصنف كتاب «التلخيص في المعاني والبيان» و «الإيضاح (السبكي، طبقات الشافعية 5/ 239238) وكتابه طبع بشرح عبد الرحمن البرقوقي بالقاهرة بمطبعة النيل عام 1322هـ / 1904م وأعيد طبعه في القاهرة عام 1350هـ / 1932م، وصور في بيروت بدار الكتاب العربي عام 1400هـ / 1980م و 1404هـ / 1984م، وبدار الفكر عام 1401هـ / 1981م وانظر قوله ص 220، الإيجاز والإطناب والمساواة.
(4) في المخطوطة (مضمون) تصحيف.
(5) انظر الكشاف 4/ 211.
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (القمر) والتصويب من الكشاف.
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(9) في المخطوطة (يكون غالبا) بدل (بلوغا لها).(3/181)
كقوله تعالى: {فَذََلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (يوسف: 32) فإن يوسف عليه السلام ليس ظرفا للومهنّ (1) فتعيّن أن يكون غيره فقد دلّ العقل على أصل الحذف. ثم يجوز أن يكون الظرف حبّه، بدليل: {شَغَفَهََا حُبًّا} (يوسف: 30)، أو مراودته (2) بدليل:
3/ 110 {تُرََاوِدُ فَتََاهََا} (يوسف: 30)، ولكن (3) العقل لا يعيّن واحدا منها (4) بل العادة دلّت على أن المحذوف هو الثاني، فإن الحبّ لا يلام (5) عليه صاحبه لأنه (6) يقهره ويغلبه، وإنما (7) اللوم فيما للنفس (8) فيه اختيار، وهو المراودة، لقدرته على دفعها.
ومنها: أن تدلّ العادة على تعيين المحذوف، كقوله تعالى: {[قََالُوا]} [9] لَوْ نَعْلَمُ قِتََالًا (آل عمران: 167)، أي مكان قتال، والمراد مكانا صالحا للقتال، لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال والعادة تمنع أن يريدوا: لو نعلم حقيقة القتال فلذلك قدّره مجاهد:
«مكان قتال».
وقيل: إنّ تعيين المحذوف هنا من دلالة السياق لا العادة.
ومنها: أن يدلّ اللفظ على الحذف، والشروع في الفعل على تعيين المحذوف كقوله:
{بِسْمِ اللََّهِ} (الفاتحة: 1) فإن اللفظ يدل على أن فيه حذفا لأنّ حرف الجر لا بدّ له من متعلق ودلّ الشروع على تعيينه وهو الفعل الذي جعلت (10) التسمية في مبدئه من قراءة، أو أكل أو شرب ونحوه، ويقدر في كل موضع ما يليق، ففي القراءة: أقرأ، وفي الأكل: آكل ونحوه.
وقد اختلف: هل يقدّر الفعل أو الاسم [181/ أ]؟ وعلى الأول، فهل يقدّر عام كالابتداء أو خاص كما ذكرنا؟
ومنها اللغة كضربت فإن اللغة قاضية أن الفعل المتعدّي لا بدّ له من مفعول نعم هي تدلّ على أصل الحدث لا تعيينه. وكذلك حذف المبتدإ والخبر (11).
__________
(1) في المخطوطة (للّوم).
(2) في المخطوطة (فراودته).
(3) في المخطوطة (لكن).
(4) في المخطوطة (منهما).
(5) في المخطوطة (يلزم).
(6) في المخطوطة (فإنه).
(7) في المخطوطة (وأما).
(8) في المخطوطة (للتعيين).
(9) ليست في المطبوعة.
(10) في المخطوطة (حصلت).
(11) في المخطوطة (أو الخبر).(3/182)
ومنها: تقدم ما يدلّ على المحذوف وما (1) في سياقه، كقوله (2): {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات: 179)، وفي (3) موضع آخر نحو: {مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ}
(ص: 75). وفي موضع: {أَلََّا تَسْجُدَ} (الأعراف: 12). وكقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلََّا 3/ 111 سََاعَةً مِنْ نَهََارٍ بَلََاغٌ} (الأحقاف: 35) أي هذا، بدليل ظهوره في سورة إبراهيم، فقال تعالى: {هََذََا بَلََاغٌ لِلنََّاسِ} (إبراهيم: 52)، ونظائره.
ومنها اعتضاده بسبب النزول كما في قوله (4) تعالى: {إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ}
(المائدة: 6)، فإنه لا بدّ فيه من تقدير فقال زيد بن أسلم (5): أي قمتم من المضاجع يعني النوم وقال غيره: إنما يعني إذا قمتم محدثين.
واحتجّ لزيد بأن [هذه] (6) الآية إنما نزلت بسبب فقدان (7) عائشة رضي الله عنها عقدها، فأخّروا الرحيل إلى أن أضاء الصبح، فطلبوا الماء عند قيامهم من نومهم فلم يجدوه فأنزل الله هذه الآية (8).
وبما رجّح من طريق النظر بأن الأحداث المذكورة (9) بعد قوله: {إِذََا قُمْتُمْ}
(المائدة: 6) الأولى أن يحمل قوله: {إِذََا قُمْتُمْ} معنى غير الحدث، لما فيه من زيادة الفائدة، فتكون الآية جامعة للحدث ولسبب الحدث فإن النوم ليس بحدث بل سبب للحدث.
__________
(1) في المخطوطة (أما).
(2) في المخطوطة (كقوله له).
(3) في المخطوطة (أو في).
(4) في المخطوطة (كقوله).
(5) هو الإمام الحجة القدوة أبو عبد الله العدوي العمري حدث عن والده أسلم مولى عمر، وعن عبد الله بن عمر، ومسلمة بن الأكوع وغيرهم، وعنه سفيان الثوري، والأوزاعي، وابن عيينة، وكان له حلقة للعلم في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ت 136هـ (الذهبي، سير أعلام النبلاء 5/ 316)، وقوله أخرجه الطبري في التفسير 6/ 72.
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (بفقدان) بدل (بسبب فقدان).
(8) من حديث عن عائشة رضي الله عنها أوله «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لي» الحديث أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 431، كتاب التيمم (7)، باب (1)، الحديث (334)، ومسلم في الصحيح 1/ 279، كتاب الحيض (3)، باب التيمم (28) الحديث (108/ 367).
(9) في المخطوطة (مذكورة).(3/183)
الوجه الرابع في شروطه:
فمنها: أن تكون (1) في المذكور دلالة على المحذوف إما من لفظه أو من سياقه، وإلا لم يتمكّن (2) من معرفته، فيصير اللفظ مخلّا بالفهم. ولئلا يصير الكلام لغزا فيهجّن في الفصاحة، وهو معنى قولهم: لا بد (3) أن يكون فيما أبقي دليل (4) على ما ألقي.
وتلك الدلالة مقالية وحالية.
فالمقالية قد تحصل من إعراب اللفظ، وذلك كما إذا كان منصوبا، فيعلم أنّه لا بدّ 3/ 112 [له] (5) من ناصب، وإذا لم يكن ظاهرا لم يكن بدّ من أن يكون مقدّرا، نحو: أهلا وسهلا ومرحبا، أي وجدت أهلا، وسلكت سهلا، وصادفت رحبا. ومنه قوله [تعالى] (6):
{الْحَمْدُ لِلََّهِ} (6) (الفاتحة 2) على قراءة النصب (8). وكذلك قوله: {وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ} (النساء: 1) والتقدير: احمدوا الحمد، واحفظوا الأرحام وكذلك قوله تعالى (9): {[صِبْغَةَ اللََّهِ]} [10] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً (البقرة: 138). {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرََاهِيمَ} (الحج: 78).
والحالية (11) قد تحصل من النظر إلى المعنى والعلم (11) فإنه لا يتمّ إلا بمحذوف، وهذا يكون أحسن حالا من [النظم] (13) الأول لزيادة عمومه، كما في قولهم: فلان يحلّ ويربط، أي يحلّ الأمور ويربطها، أي ذو تصرّف.
وقد تدل الصناعة النحوية على التقدير كقولهم في: {لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ}
(القيامة: 1): [إن] (13) التقدير لأنا (15) أقسم لأنّ فعل (16) الحال لا يقسم عليه. وقوله تعالى:
__________
(1) في المخطوطة (يكون).
(2) في المخطوطة (تتمكن).
(3) في المخطوطة (إلا) بدل (لا بد).
(4) في المخطوطة (دليلا).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) ليست في المخطوطة.
(8) وهي قراءة هارون العتكي، ورؤية، وسفيان بن عيينة (أبو حيان، البحر المحيط، 1/ 18).
(9) في المخطوطة (وقوله) بدل (وكذلك قوله تعالى).
(10) ليست في المخطوطة.
(11) تصحفت العبارة في المطبوعة إلى (قد تحصل من النظر إلى المعنى والنظر والعلم). وما أثبتناه من المخطوطة.
(13) ساقطة من المخطوطة.
(15) في المخطوطة (لا أنا).
(16) في المخطوطة (فعله).(3/184)
{[تَاللََّهِ]} [1] تَفْتَؤُا (2) [تَذْكُرُ يُوسُفَ] (2) (يوسف: 85)، التقدير: لا تفتأ لأنه لو كان الجواب مثبتا (4) لدخلت اللام والنون، كقوله: {بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التغابن: 7).
وهذا كلّه عند قيام دليل واحد، وقد يكون هناك أدلة يتعدّد التقدير بحسبها، كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} (فاطر: 8)، فإنه يحتمل [تقدير] (5) ثلاثة أمور:
أحدها: كمن لم يزيّن له سوء عمله، والمعنى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} 3/ 113 (فاطر: 8) من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما، كمن لم يزين له»! ثمّ كأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما قيل له ذلك، قال: لا، فقيل: {فَإِنَّ اللََّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ فَلََا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرََاتٍ} (فاطر: 8).
ثانيها: تقدير: ذهبت نفسك عليهم حسرات فحذف الخبر لدلالة {فَلََا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرََاتٍ} (فاطر: 8).
ثالثها: تقدير: «كمن هداه الله»، فحذف لدلالة: {فَإِنَّ اللََّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} (فاطر: 8).
واعلم أنّ هذا [181/ ب] الشرط إنما يحتاج إليه إذا كان المحذوف الجملة بأسرها نحو: {قََالُوا سَلََاماً} (هود: 69)، أي سلّمنا سلاما، أو أحد ركنيها نحو: {قََالَ سَلََامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (الذاريات: 25) أي «سلام عليكم أنتم قوم منكرون»، فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية.
وأمّا إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه دليل ولكن يشترط ألّا يكون في حذفه إخلال بالمعنى أو اللفظ، كما في حذف العائد المنصوب ونحوه.
وشرط ابن مالك في حذف (6) [الجار] (7) أيضا أمن اللبس، ومنع الحذف في نحو:
رغبت [في] (8) أن تفعل، أو عن أن تفعل، لإشكال المراد بعد الحذف.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (مبينا).
(5) ليست في المطبوعة.
(6) في المخطوطة (حذفه).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) ساقطة من المطبوعة.(3/185)
وأورد عليه {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (النساء: 127)، فحذف الحرف.
وجوابه أنّ النساء يشتملن على وصفين، وصف الرغبة فيهنّ وعنهنّ، فحذف للتعميم.
3/ 114وشرط بعضهم في الدليل اللفظيّ أن يكون على وفق المحذوف. وأنكر قول الفرّاء في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسََانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظََامَهُ * بَلى ََ قََادِرِينَ عَلى ََ أَنْ نُسَوِّيَ بَنََانَهُ} (القيامة:
43) أن التقدير: بلى حسبنا قادرين، والحساب المذكور بمعنى الظنّ، والمحذوف [بمعنى] (1) العلم إذ التردد في الإعادة كفر، فلا يكون مأمورا به.
ويجاب بأن الحساب المقدّر بمعنى الجزم والاعتقاد لا بمعنى الظنّ، وتقديره بذلك أولى، لموافقته الملفوظ.
وقد يدلّ على المحذوف ذكره في مواضع أخر:
منها: وهو أقواها، كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} (2)
(الأنعام: 158) أي أمره، بدليل قوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} (النحل: 33).
وقوله في آل عمران: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} (آل عمران: 133)، أي كعرض بدليل التصريح به في آية الحديد (3).
وفيه إيجاز بليغ فإنه إذا كان العرض كذلك. فما ظنك بالطول! كقوله: {بَطََائِنُهََا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} (الرحمن: 54).
وقيل: إنما أراد التعظيم والسّعة (4) [لأحقيّة العرض، كقوله:
كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المظلوم كفّة حابل] (4)
ومنها: ألّا يكون الفعل طالبا له بنفسه، فإن كان امتنع حذفه كالفاعل، ومفعول ما لم يسم فاعله، واسم كان وأخواتها، وإنما لم يحذف لما في ذلك من نقض الغرض.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) تصحفت الآية في المخطوطة إلى (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله أو أمره).
(3) وهي قوله تعالى {سََابِقُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهََا كَعَرْضِ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} [الآية: 25].
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة. والبيت في الأغاني لأبي الفرج 12/ 27، ينسبه لعبد الله بن الحجاج. وعجزه في الأغاني: على الخائف المطرود كفة حابل.(3/186)
ومنها: قال أبو الفتح بن جني (1): «ومن حق الحذف أن يكون في الأطراف لا في 3/ 115 الوسط لأن طرف الشيء أضعف من قلبه ووسطه، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهََا مِنْ أَطْرََافِهََا} (الرعد: 41)، وقال الطائي الكبير (2):
كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ... ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا»
فكأنّ الطرفين سياج للوسط ومبذولان للعوارض دونه، ولذلك تجد الإعلال عند التصريفيّين، بالحذف منها، فحذفوا الفاء في المصادر من باب وعد، نحو العدة والزنة والهبة واللام في نحو اليد والدم والفم والأب والأخ، وقلّما تجد الحذف في العين لما ذكرنا، وبهذا يظهر لطف هذه اللغة العربية (3).
تنبيهات
الأول: قد توجب صناعة النحو التقدير وإن كان المعنى غير متوقف عليه كما في قوله: «لا إله إلا الله» فإن الخبر محذوف، وقدّره النحاة ب «موجود» أو «لنا».
وأنكره الإمام فخر الدين (4)، وقال: هذا كلام (5) لا يحتاج إلى تقدير، وتقديرهم فاسد، لأن نفي الحقيقة مطلقة أعمّ من نفيها مقيّدة، فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلا على سلب الماهية مع القيد، وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر.
ولا معنى لهذا الإنكار فإن تقدير «في الوجود»، يستلزم نفي كلّ إله غير الله قطعا فإنّ العدم لا كلام فيه، فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة (6) لا مقيّدة (7). ثم لا بدّ من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر، ظاهرا أو مقدرا وإنما يقدّر النحويّ القواعد [182/ أ] حقها وإن
__________
(1) انظر الخصائص 2/ 166باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني.
(2) هو حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، أبو تمام، الشاعر الأديب أحد أمراء البيان ولد في جاسم من قرى حوران بسورية ورحل إلى مصر ثم ولي بريد الموصل فلم يتم سنين حتى توفي 231هـ (الأعلام 2/ 165). والبيت في ديوانه 2/ 374.
(3) في المخطوطة (الغريبة).
(4) في التفسير الكبير 4/ 174 (المسألة الثامنة).
(5) في المخطوطة (الكلام).
(6) في المخطوطة (مطلقا).
(7) في المخطوطة (مقيد).(3/187)
3/ 116كان المعنى مفهوما، وتقديرهم هنا أو غيره ليروا صورة التركيب من حيث اللفظ مثالا، لا من حيث المعنى، ولهم تقديران: إعرابيّ، وهو الذي خفي [على المعترض] (1)، ومعنويّ وهو الذي ألزمه، وهو غير لازم.
ومن المنكر في هذا أيضا قول ابن الطّراوة (2): إن (3) الخبر في هذا «إلا الله»، وكيف يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة! الثاني: اعتبر أبو الحسن (4) في الحذف التدريج حيث أمكن ولهذا قال في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} (البقرة: 48): إن أصل الكلام:
«يوم لا تجزي فيه» فحذف حرف الجرّ، فصار «تجزيه»، ثم حذف [حرف] (5) الضمير فصار «تجزي».
وهذا ملاطفة في الصناعة، ومذهب سيبويه أنه حذف فيه دفعة واحدة.
وقال (6) أبو الفتح في «المحتسب» (7): وقول أبي الحسن أوثق في النفس وآنس من أن يحذف الحرفان معا في وقت واحد.
الثالث: المشهور في قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ} (البقرة: 60)، أنه معطوف على جملة محذوفة، التقدير: «فضرب فانفجرت»، ودلّ «انفجرت» على المحذوف، لأنه يعلم من الانفجار أنه قد ضرب.
وكذا: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} (الشعراء: 63)، إذ لا جائز أن يحصل الانفجار والانفلاق دون ضرب.
__________
(1) العبارة ساقطة من المخطوطة وكتب مكانها (المعنى).
(2) هو أبو الحسين سليمان بن عبد الله المالقي، تقدم التعريف به في 2/ 326.
(3) في المخطوطة (لأن).
(4) انظر معاني القرآن 1/ 88، باب إضافة الزمان إلى الفعل.
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) في المخطوطة (قال).
(7) تقدم التعريف بالكتاب في 1/ 481. وانظر قوله في الخصائص 2/ 473باب في ملاطفة الصيغة.(3/188)
وابن عصفور يقول في [مثل] (1) هذا: إنّ حرف العطف المذكور مع المعطوف (2) [هو الذي كان مع المعطوف] (2) عليه، وإنّ المحذوف هو المعطوف عليه، وحذف حرف العطف من المعطوف، فالفاء في «انفلق» هو (4) فاء الفعل المحذوف وهو «ضرب» فذكرت فاؤه 3/ 117 وحذف فعلها وذكر فعل «انفلق» (5) وحذفت فاؤه ليدلّ المذكور على المحذوف وهو تحيّل (6)
غريب.
الخامس في أقسامه:
الأول: الاقتطاع، وهو ذكر حرف من الكلمة وإسقاط الباقي، كقوله:
درس المنا بمتالع فأبان
أي المنازل، وأنكر صاحب (7) «المثل السائر» ورود هذا النوع في القرآن العظيم، وليس كما قال.
وقد جعل منه بعضهم فواتح السور لأن كل حرف منها يدلّ على اسم من أسماء الله
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) العبارة ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (هي).
(5) في المخطوطة (الفلق).
(6) في المخطوطة (تخيل).
(7) هو نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد ضياء الدين أبو الفتح الشيباني الخزرجي المعروف بابن الأثير ولد بجزيرة ابن عمر عام 558هـ، مهر في النحو واللغة وعلم البيان، واستكثر من حفظ الشعر، وزر للأفضل على ابن السلطان صلاح الدين، من مصنفاته «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» و «الوشي المرقوم في حل المنظوم» و «المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء» ت 637هـ (السيوطي، بغية الوعاة 2/ 315). وكتابه طبع في القاهرة ببولاق عام 1282هـ / 1865م في بيروت عام 1292هـ / 1875م، وفي القاهرة بالمطبعة البهية وبهامشه أدب الكاتب 1312هـ / 1894م، وفي القاهرة بمطبعة مصطفى الحلبي عام 1935هـ / 1939م بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، وطبع في القاهرة بتحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة بمكتبة نهضة مصر عام 1371هـ / 1951م، و 1379هـ / 1959م وفي الرياض بدار الرفاعي عام 1404هـ / 1984م (ذخائر التراث العربي 1/ 41).
وانظر قوله في 2/ 113 (طبعة مصطفى الحلبي).(3/189)
تعالى، كما روى ابن عباس «الم» معناه: «أنا الله أعلم وأرى» (1)، و «المص» أنا الله أعلم وأفصّل (2) وكذا الباقي.
وقيل في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} (المائدة: 6): إن الباء هنا أول كلمة «بعض» ثم حذف الباقي (3)، كقوله:
قلت لها قفي [لنا] (4) قالت قاف (5)
أي وقفت، وفي الحديث: «كفى بالسيف شا» (6) أي شاهدا.
3/ 118وقال الزمخشري (7) في قوله: «م (8) الله» في القسم: إنها «أيمن» (9) التي تستعمل في القسم، حذفت نونها.
ومن هذا الترخيم، ومنه: قراءة بعضهم (10): يا مال (الزخرف: 77) على لغة من ينتظر، ولمّا سمعها بعض السلف قال: ما أشغل (11) أهل النار عن الترخيم! وأجاب بعضهم بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة.
الثاني: الاكتفاء وهو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفى بأحدهما عن الآخر، ويخصّ بالارتباط العطفيّ غالبا فإن الارتباط خمسة أنواع: وجوديّ، ولزوميّ، وخبريّ، وجوابيّ، وعطفيّ.
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير 1/ 67، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1/ 22وقال: «أخرجه وكيع وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس».
(2) أخرجه الطبري في التفسير 8/ 85، وذكره السيوطي في الدرّ المنثور 3/ 67قال: «أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
(3) في المخطوطة (الباء).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) البيت للوليد بن عقبة ذكره ابن جني في الخصائص 1/ 30. وعجزه لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف وقد تقدم ذكر هذه الشطرة في 1/ 262.
(6) أخرجه بلفظه عبد الرزاق في المصنف 9/ 434، عن الحسن مرسلا كتاب العقول، باب الرجل يجد على امرأته رجلا، الحديث (17918).
(7) في المفصل ص 346344.
(8) في المطبوعة (من). تصحيف.
(9) في المخطوطة (من).
(10) وهي قراءة ابن مسعود، انظر الكشاف 3/ 426.
(11) في المخطوطة (أغنى).(3/190)
ثم ليس المراد الاكتفاء بأحدهما كيف اتفق بل لأنّ فيه نكتة تقتضي الاقتصار عليه.
و [العلم] (1) المشهور في مثال هذا النوع قوله تعالى: {سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل:
81) أي والبرد، هكذا قدّروه. وأوردوا عليه سؤال الحكمة من تخصيص الحرّ بالذّكر. وأجابوا بأن الخطاب للعرب، وبلادهم حارة، والوقاية عندهم من الحرّ أهمّ لأنه أشدّ [من] (2) البرد عندهم.
والحقّ [182/ ب] أن الآية ليست من هذا القسم، فإنّ البرد ذكر الامتنان (3) بوقايته قبل ذلك صريحا في قوله: {وَمِنْ أَصْوََافِهََا وَأَوْبََارِهََا وَأَشْعََارِهََا} (النحل: 80) وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبََالِ أَكْنََاناً} (النحل: 81)، وقوله في صدر السورة: {وَالْأَنْعََامَ خَلَقَهََا لَكُمْ فِيهََا دِفْءٌ} 3/ 119 (النحل: 5).
فإن قيل: فما الحكمة في ذكر الوقايتين بعد قوله: {وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمََّا خَلَقَ ظِلََالًا}
(النحل: 81)، فإن هذه وقاية الحرّ، ثم قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبََالِ أَكْنََاناً} (النحل:
81)، فهذه وقاية البرد على (4) عادة العرب؟
قيل: لأنّ ما تقدم بالنسبة إلى المساكن، وهذه إلى الملابس [نعم اعملوا في الآية] (5)، وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبََالِ أَكْنََاناً} (النحل: 81) (6) ولم يقل السهل (6) وفيه الجوابان السابقان.
وأمثلة هذا القسم كثيرة كقوله تعالى: {وَلَهُ مََا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} (الأنعام: 13) فإنّه قيل: المراد: «وما تحرك»، وإنما آثر ذكر السكون لأنه أغلب الحالين على (8) المخلوق من (9) الحيوان والجماد، ولأن الساكن أكثر عددا من المتحرك. أو لأنّ (10) [كل] (11) متحرك (12)
يصير إلى السكون، ولأن السكون هو الأصل، والحركة طارئة.
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (الامتثال).
(4) في المخطوطة (عن).
(5) العبارة ليست في المطبوعة.
(6) تصحفت في المطبوعة إلى (ولم يذكره السهيلي).
(8) في المخطوطة (من).
(9) في المخطوطة (على).
(10) في المخطوطة (ولأن).
(11) ساقطة من المخطوطة.
(12) في المخطوطة (المتحرك).(3/191)
وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (آل عمران: 26) تقديره «والشرّ» إذ مصادر الأمور كلها بيده جلّ جلاله وإنما آثر ذكر الخير لأنه مطلوب [العباد] (1) ومرغوبهم إليه أو لأنه أكثر وجودا في العالم من الشر ولأنه يجب في باب الأدب (2) ألّا يضاف إلى الله تعالى، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «والشرّ ليس إليك» (3).
وقيل: إن الكلام إنما ورد ردّا على المشركين فيما أنكروه مما وعده الله به على لسان جبريل، من فتح بلاد الروم وفارس ووعد (4) النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بذلك فلما كان الكلام في الخير خصّه بالذكر باعتبار الحال [بالذكر] (5).
3/ 120وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: 3) أي والشهادة لأن الإيمان بكلّ منهما واجب، وآثر الغيب لأنه أبدع (6)، ولأنه يستلزم الإيمان بالشهادة من غير عكس.
ومثله: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً * عََالِمُ الْغَيْبِ} (الجن: 2625)، أي والشّهادة، بدليل التصريح به في موضع آخر.
وقوله: {يَكََادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصََارَهُمْ} (البقرة: 20) فإنه سبحانه ذكر أولا الظلمات والرعد والبرق، وطوى الباقي.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذََا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} (الإسراء: 67) أي والبرّ، وإنما آثر ذكر البحر لأن ضرره أشدّ.
وقوله: {وَمََا بَيْنَهُمََا وَرَبُّ الْمَشََارِقِ} (الصافات: 5)، أي والمغارب.
وقوله: {لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً} (البقرة: 273)، أي ولا غير إلحاف.
وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ أُمَّةٌ قََائِمَةٌ} (آل عمران: 113)، أي وأخرى غير قائمة.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (الآداب).
(3) أخرجه من حديث طويل عن علي رضي الله عنه، أوله، أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي مسلم في الصحيح 1/ 534، كتاب صلاة المسافرين وقصرها (6)، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامة (26)، الحديث (201/ 771).
(4) في المخطوطة (ووعيد).
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) في المخطوطة (أمدح).(3/192)
وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام: 55)، أي والمؤمنين.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2)، أي والكافرين. قاله ابن الأنباري، ويؤيده قوله:
{هُدىً لِلنََّاسِ} (البقرة: 185).
وقوله: {وَلََا تَكُونُوا أَوَّلَ كََافِرٍ بِهِ} (البقرة: 41)، قيل: المعنى وآخر كافر به، فحذف 3/ 121 المعطوف لدلالة قوة الكلام، من جهة أن أول الكفر وآخره سواء، وخصّت الأولوية بالذكر لقبحها بالابتداء.
وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [مََا يُمْسِكُهُنَ]} (1) (الملك:
19)، أي ويبسطن، قاله الفارسيّ.
وحكى في «التذكرة» (2) عن بعض أهل التأويل في قوله [تعالى] (3): {أَكََادُ أُخْفِيهََا [لِتُجْزى ََ]} [3] (طه: 15) (5) [أنّ المعنى: «أكاد أظهرها أخفيها لتجزى»، فحذف «أظهرها» لدلالة «أخفيها» عليه.
قال: وعندي] (5) أن المعنى: «أزيل خفاءها»، فلا حذف.
وقوله: {لََا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (البقرة: 285)، أي بين أحد وأحد.
وقوله: {لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ}، (الحديد: 10) (5) [أي ومن أنفق بعده وقاتل] (5)، لأن الاستواء يطلب اثنين وحذف المعطوف لدلالة الكلام عليه ألا تراه قال بعده: (9) [{أُولََئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ]} [9] وَقََاتَلُوا (الحديد: 10).
وقوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبََادَتِهِ} [9] [وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً] (9) (النساء:
172)، أي ومن لا (13) يستنكف ولا يستكبر (13) بدليل التقسيم بعده [183/ أ] بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (النساء: 173) {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا} (15) (النساء: 173).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) الكتاب لأبي علي الفارسي تقدم التعريف به في 2/ 394.
(3) ليست في المخطوطة.
(5) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(9) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(13) عبارة المخطوطة (لا يستكبر ولا يستخسر).
(15) الآية في المخطوطة (والذين كفروا).(3/193)
وقوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمََانِهِمْ وَعَنْ شَمََائِلِهِمْ}
(الأعراف: 17)، فاكتفى هنا بذكر الجهات الأربع عن الجهتين.
وقوله: {إِذْ جََاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} (فصلت: 14)، الاكتفاء بجهتين عن سائرها.
وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهََا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرََائِيلَ} (الشعراء: 22)، أي ولم تعبدني.
وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (النساء: 176) [والمعنى] (1) أي ولا والد بدليل أنه أوجب للأخت النصف وإنما يكون ذلك مع فقد الأب فإن الأب يسقطها.
وقوله: {فَأَمََّا} [2] مَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَعَسى ََ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (القصص:
67) ولم يذكر القسم الآخر الذي تقتضيه «أما» إذ وضعها (3) لتفصيل كلام مجمل وأقل أقسامها قسمان، ولا ينفكّ عنهما في جميع القرآن إلا في موضعين هذا أحدهما والتقدير: وأما من لم يتب ولا يؤمن ولم يعمل صالحا فلا يكون من المفلحين. والثاني في آل عمران: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آل عمران: 7) إلى [قوله] (4) {إِلَّا اللََّهُ} (آل عمران: 7) هذا أحد القسمين، والقسم الثاني ما بعده، وتقديره: وأما الراسخون في العلم فيقولون.
وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (البقرة: 59)، أي وفعلا غير الذي أمروا [به] (5) لأنهم أمروا بشيئين: بأن يدخلوا الباب سجّدا، وبأن يقولوا حطّة، فبدّلوا القول في «(6) حنطة» «حطة» (6) وبدّلوا الفعل بأن دخلوا يزحفون على أستاههم ولم يدخلوا ساجدين والمعنى: إرادتنا حطة، أي حط عنّا ذنوبنا.
3/ 123وقوله: {وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (إلا).
(3) في المخطوطة (إذا وضع) بدل (إذ وضعها).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) تقديم وتأخير في المخطوطة إلى (حطة حنطة).(3/194)
(فاطر: 212019)، قال (1) ابن عطية: دخول «لا» على نية التكرار كأنه قال: ولا الظلمات [والنور] (2)، ولا النور والظلمات، واستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودلّ بمذكور الكلام على متروكه.
وقوله: {حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187).
فإن قيل: ليس للفجر خيط أسود، إنما الأسود من الليل.
فأجيب: إن {مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187) متصل بقوله: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} (البقرة:
187) والمعنى: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل لكن حذف «من الليل» (3) لدلالة الكلام عليه ثم لوقوع الفجر (3) في موضعه لأنه لا يصح أن يكون {مِنَ الْفَجْرِ} متعلقا [بالخيط] (5) الأسود (6) ولو وقع {مِنَ الْفَجْرِ} في موضعه متصلا بالخيط الأبيض لضعفت الدلالة على المحذوف وهو «من الليل» فحذف «من الليل» للاختصار، وأخّر «من الفجر» للدلالة عليه.
الثالث: من هذا قسم يسمى الضمير والتمثيل وأعني بالضمير أن يضمر من القول المجاور [به] (7) لبيان (8) أحد جزءيه كقول الفقيه: النبيذ مسكر فهو حرام، فإنّه (9) أضمر «وكل مسكر حرام».
ويكون في القياس الاستثنائي، كقوله: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} (الأنبياء:
22).
وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وقد شهد الحسّ والعيان أنهم ما انفضوا من حوله (10) وهي المضمرة وانتفى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه فظّ غليظ [القلب] (11).
__________
(1) في المخطوطة (وقال).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) عبارة المطبوعة (لدلالة الكلام ثم عليه ولوقوع الفجر).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) في المخطوطة (بأسود).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (البيان).
(9) في المخطوطة (وإنه).
(10) في المخطوطة (قوله).
(11) ليست في المخطوطة.(3/195)
3/ 124وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنفال:
23) المعنى لو أفهمتهم لما أجدى فيهم التّفهيم فكيف وقد سلبوا القوة الفاهمة! فعلم بذلك أنهم مع انتفاء الفهم أحقّ بفقد القبول والهداية.
الرابع: أن يستدلّ بالفعل لشيئين وهو في الحقيقة لأحدهما فيضمر للآخر (1)
[183/ ب] فعل يناسبه كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ} (الحشر: 9) أي واعتقدوا الإيمان.
وقوله [تعالى] (2): {سَمِعُوا لَهََا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} (الفرقان: 12)، أي وشمّوا لها زفيرا.
وقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوََامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوََاتٌ} (الحج: 40)، والصلوات لا تهدّم فالتقدير: ولتركت (3) صلوات.
وقوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ} [الآية] (4) (الواقعة: 17) فالفاكهة ولحم الطير والحور العين لا تطوف، وإنما يطاف بها.
وأما قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ} (يونس: 71)، فنقل ابن فارس (5) عن البصريين أن الواو بمعنى «مع» أي [مع] (6) شركائكم، كما يقال: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها أي مع فصيلها.
وقال الآخرون: أجمعوا أمركم وادعوا شهداءكم (7)، اعتبارا بقوله تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} (هود: 13).
واعلم أن تقدير فعل محذوف للثاني ليصحّ العطف (8) [هو قول الفارسي والفراء وجماعة من البصريين والكوفيين لتعذّر العطف] (8). وذهب أبو عبيدة (10) والأصمعي واليزيدي (11) وغيرهم إلى أن ذلك من عطف المفردات، وتضمين العامل معنى ينتظم (12) المعطوف والمعطوف عليه
__________
(1) في المخطوطة (الآخر).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (لتركت).
(4) ليست في المطبوعة.
(5) هو أحمد بن فارس بن زكريا تقدم التعريف به في 1/ 191.
(6) ليست في المطبوعة.
(7) في المخطوطة (شركاءكم).
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(10) هو معمر بن المثنى تقدم التعريف به في 1/ 383.
(11) في المخطوطة (الزندي).
(12) في المخطوطة (يتضمن).(3/196)
جميعا فيقدّر آثروا الدار والإيمان، ويبقى النظر في أنه: أيهما (1) أولى؟ ترجيح الإضمار أو 3/ 125 التضمين؟ واختار الشيخ أبو حيّان (2) تفصيلا حسنا وهو: إن كان العامل الأول تصحّ نسبته إلى الاسم الذي يليه حقيقة كان الثاني محمولا على الإضمار لأنه أكثر من التضمين نحو «يجدع الله أنفه وعينيه، أي ويفقأ عينيه فنسبة الجدع إلى الأنف حقيقة وإن كان لا يصحّ فيه ذلك كان العامل مضمّنا معنى ما يصحّ نسبته إليه لأنه لا يمكن الإضمار كقولهم:
علفتها تبنا وماء باردا (3)
وجعل ابن مالك من هذا القبيل قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: 35) قال: لأنّ فعل أمر المخاطب لا يعمل في الظاهر فهو (4) على معنى «اسكن أنت ولتسكن زوجك»، لأن شرط المعطوف أن يكون صالحا لأن يعمل فيه ما عمل في المعطوف عليه، وهذا متعذر هنا لأنه لا يقال: «اسكن زوجك».
ومنه قوله تعالى: {لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ بِوَلَدِهََا وَلََا مَوْلُودٌ} (البقرة: 233) ولا يصحّ أن يكون «مولود» معطوفا على «والدة» لأجل تاء المضارعة، أو للأمر فالواجب في ذلك أن نقدّر مرفوعا بمقدر من جنس المذكور، أي ولا يضارّ مولود [له] (5).
وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ} (سبأ: 10)، قال الفراء (6): التقدير: «وسخرنا له الطير» عطفا على قوله: {فَضْلًا} وقيل: هو مفعول معه، ومن رفعه فقيل: على المضمر في {أَوِّبِي} (7)، وجاز ذلك لطول الكلام بقوله: {مَعَهُ}، وقيل: بإضمار فعل أي ولتؤوب معه الطير. 3/ 126
الخامس: أن يقتضي الكلام شيئين فيقتصر على أحدهما لأنه المقصود كقوله تعالى
__________
(1) في المخطوطة (أيما).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 247بتصرف.
(3) البيت لذي الرمّة وصدره: لما حططت الرّحل عنها واردا كذا في خزانة الأدب للبغدادي 1/ 499، وفي الإنصاف 2/ 613، صدر البيت عجزه حتى شتت همالة عيناها.
(4) في المخطوطة (فهي).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) في معاني القرآن 2/ 355.
(7) تصحفت في المطبوعة إلى (آتي).(3/197)
حكاية عن فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمََا يََا مُوسى ََ} (طه: 49)، ولم يقل: «وهارون» (1) لأن موسى المقصود المتحمل أعباء الرسالة، كذا قاله ابن عطية.
وغاص الزمخشريّ فقال (2): أراد أن يتم الكلام فيقول: «وهارون»، ولكنه تكل عن خطاب هارون توقيا لفصاحته وحدّة جوابه ووقع خطابه إذ الفصاحة تنكّل الخصم عن الخصم للجدل (3)، وتنكّبه عن معارضته.
السادس: أن يذكر شيئان، ثم يعود الضمير إلى أحدهما دون الآخر، كقوله تعالى:
{وَإِذََا رَأَوْا تِجََارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهََا} (الجمعة: 11)، قال الزمخشريّ (4): تقديره: إذا رأوا تجارة [انفضوا إليها] (5)، أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
ويبقى عليه سؤال وهو أنه: لم أوثر ذكر التجارة (6)؟ وهلّا أوثر اللهو؟
وجوابه ما قاله الراغب (7) في تفسير سورة البقرة [184/ أ]: إن التجارة لما كانت [سبب] (8) انفضاض الّذين نزلت فيهم هذه الآية أعيد الضمير إليها. ولأنه قد تشغل التجارة عن العبادة ما لا يشغله اللهو.
واختلف في مواضع: منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلََا يُنْفِقُونَهََا فِي 3/ 127سَبِيلِ اللََّهِ} (التوبة: 34)، فإنه سبحانه ذكر الذهب والفضة، وأعاد الضمير على الفضة وحدها لأنها أقرب المذكورين ولأنّ الفضّة أكثر وجودا في أيدي الناس والحاجة إليها أمسّ، فيكون كنزها أكثر، وقيل أعاد الضمير على المعنى لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال.
ونظيره: {وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) لأنّ الطائفة جماعة. وقيل: من عادة العرب إذا ذكرت شيئين مشتركين في المعنى تكتفي بإعادة (9) الضمير على أحدهما استغناء بذكره عن الآخر اتكالا (10) على فهم السامع، كقول حسّان.
__________
(1) في المخطوطة (هارون).
(2) في الكشاف 2/ 435. بتصرف.
(3) في المخطوطة (الجدلي).
(4) في الكشاف 4/ 99.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (العادة).
(7) الأصفهاني تقدم التعريف فيه في 1/ 218.
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) في المخطوطة (باعتبار).
(10) في المخطوطة (إشكالا).(3/198)
إن شرخ الشّباب (1) والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا (2)
ولم يقل «يعاصا».
ومنها قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهََا} (الأحزاب: 9) وقد جعل ابن الأنباري (3) في كتاب «الهاءات» ضمير {لَمْ تَرَوْهََا} راجعا إلى الجنود.
ونقل عن قتادة قال: «هم الملائكة» (4)، والأشبه أن يأتي هنا بما سبق.
ومنها قوله تعالى: {وَاللََّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كََانُوا مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 62) فقيل:
«أحقّ» خبر عنهما، وسهل إفراد الضمير بعدم إفراد «أحقّ» وأنّ إرضاء الله سبحانه إرضاء لرسوله.
وقيل: «أحق» خبر عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
وقيل: العكس، وإنما أفرد (5) الضمير لئلا يجمع بين اسم الله ورسوله في ضمير واحد، كما جاء في الحديث: «قل ومن يعص الله ورسوله (6)» قال الزمخشري (7): قد يقصدون ذكر الشيء فيذكرون قبله ما هو سبب منه، ثم يعطفونه عليه مضافا إلى ضميره، 3/ 128 وليس [لهم] (8) قصد إلى الأول كقوله: سرّني زيد وحسن حاله والمراد حسن حاله. وفائدة هذا الدلالة على قوة الاختصاص بذكر المعنى، ورسول الله أحق أن يرضوه. ويدلّ عليه ما تقدمه من قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللََّهِ} (التوبة: 61) ولهذا وحد الضمير، ولم يثنّ.
ومنها قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَلََا تَوَلَّوْا عَنْهُ} (الأنفال:
__________
(1) في المخطوطة (النبات).
(2) البيت في الديوان 1/ 236. مطلع القصيدة رقم (113).
(3) هو محمد بن القاسم أبو بكر بن الأنباري النحوي تقدم التعريف به 1/ 209. وكتابه الهاءات ذكره البغدادي في تاريخ بغداد 3/ 184، وقال: «إنه في ألف ورقة»، وقال بروكلمان في دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية الأولى: «كتاب في الآيات القرآنية التي استبدلت الهاء فيها تاء» مخطوط بباريس انظر: فهرس دار الكتب الوطنية بباريس: 651و 652ومن المحتمل أن يكون هذا الكتاب ملخصا من كتاب الهاءات في كتاب الله.
(4) أخرجه الطبري في التفسير 21/ 81.
(5) في المخطوطة (أفردوا).
(6) تقدم تخريج الحديث في 1/ 343، معرفة الوقف والابتداء.
(7) في الكشاف 2/ 160، بتصرف.
(8) ساقطة من المخطوطة.(3/199)
20) ومنها قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ وَإِنَّهََا لَكَبِيرَةٌ} (البقرة: 45) فقيل:
الضمير للصلاة لأنها أقرب المذكورين. وقيل: أعاده على المعنى وهو الاستعانة المفهومة من استعينوا. وقيل: المعنى على التثنية وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} (النساء: 112) وهو نظير آية الجمعة كما سبق.
وفي هاتين الآيتين لطيفتان: وهما (1) أنّ الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في آية الجمعة على التجارة، وإن كانت أبعد، ومؤنثة أيضا لأنها أجذب للقلوب عن طاعة الله من اللهو لأن المشتغلين بالتجارة أكثر من المشتغلين باللهو أو لأنها أكثر نفعا من اللهو، أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا، لأنه ضرب بالطبل لقدومه (2)، كما جاء في «صحيح البخاري»: «أقبلت عير يوم الجمعة (3)»، وأعاده في قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً}
(النساء: 112) على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير فتدبر ذلك.
وأما قوله تعالى: (4) {وَاللََّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} (المزمل: 20) [184/ ب] فقيل الأصل تحصوها وقوله] (4) {فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (يونس: 58)، أي بذلك القول.
3/ 129السابع: الحذف المقابليّ: وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من [كل] (6)
واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرََامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمََّا تُجْرِمُونَ} (هود: 35)، الأصل: فإن (7) افتريته فعليّ إجرامي وأنتم برآء منه، وعليكم إجرامكم وأنا بريء مما تجرمون فنسبة قوله تعالى: «إجرامي»، وهو الأوّل إلى قوله: «وعليكم إجرامكم» وهو الثالث كنسبة قوله: «وأنتم برآء منه» وهو الثاني (8). إلى قوله تعالى: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمََّا تُجْرِمُونَ} (هود: 35)، وهو الرابع، واكتفى من كلّ متناسبين بأحدهما.
__________
(1) في المخطوطة (وهي).
(2) في المخطوطة (لقدومها).
(3) أخرجه في 8/ 644، كتاب التفسير (65)، باب {إِذََا رَأَوْا تِجََارَةً أَوْ لَهْواً} (2) الحديث (4899).
(4) ما بين الحاصرتين ليس بالمطبوعة.
(6) ساقطة من المطبوعة.
(7) في المخطوطة (إن).
(8) تكررت في المطبوعة عبارة (إلى قوله وعليكم إجرامكم وهو الثالث كنسبة قوله وأنتم برآء منه وهو الثاني).(3/200)
ومنه قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنََا بِآيَةٍ كَمََا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} (الأنبياء: 5)، (1) [تقديره: إن أرسل فليأتنا بآية كما أرسل الأولون] (1) فأتوا بآية.
وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنََافِقِينَ إِنْ شََاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (الأحزاب: 24) (3) [تقديره كما قال المفسرون: «ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم، أو يتوب عليهم] (3) فلا يعذّبهم»، عند ذلك يكون مطلق قوله: فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم مقيّدا (5) بمدة الحياة الدنيا.
وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسََاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلََا تَقْرَبُوهُنَّ حَتََّى يَطْهُرْنَ فَإِذََا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [6] [مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللََّهُ (البقرة: 222) فتقديره: لا تقربوهنّ حتى يطهرن ويطّهرن، فإذا طهرن وتطهّرن فأتوهنّ] (6) وهو قول مركب من أربعة أجزاء [نسبة] (8) الأول إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الرابع ويحذف من أحدهما لدلالة الآخر عليه.
واعلم أن دلالة السياق قاطعة بهذه المحذوفات وبهذا التقدير يعتضد القول بالمنع من وطء الحائض إلا بعد الطهر والتّطهر جميعا وهو مذهب الشافعيّ.
ومنه قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (النمل: 3/ 130 12)، تقديره: «أدخل يدك تدخل (9)، وأخرجها تخرج» إلا أنه قد عرض في هذه المادة تناسب بالطباق فلذلك بقي القانون فيه، الذي هو نسبة (10) الأول إلى الثالث، ونسبة الثاني إلى الرابع على حالة الأكثرية (10) فلم يتغيّر عن موضعه (12) ولم يجعل بالنسبة التي بين الأول والثاني، وبين الثالث والرابع وهي نسبة النّظير (13)، كقوله:
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (مقيد).
(6) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) في المخطوطة (تخرج).
(10) العبارة في المخطوطة (الأول دون الثاني إلى الرابع على حاله الأكثرية).
(12) في المخطوطة (وضعه).
(13) في المخطوطة (النضير).(3/201)
وإنّي لتعروني لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر (1)
أي هزة بعد انتفاضة، كما انتفض العصفور بلله القطر، ثم [اهتزّ] (2). كذا قاله جماعة. وأنكره ابن الصائغ (3)، وقال: هذا التقدير لا يحتاج إليه ولو يكون لكان خلفا وإنّما أحوجهم إليه أنهم رأوا أنه لا يلزم من إدخالها خروجها و «يخرج» مجزوم على الجواب، فاحتاج أن نقدّر جوابا لازما، وشرطا [ملزوما] (4) حذفا لأنهما نظير (5) ما ثبت لكن وقع في تقدير ما لا يفيد لأنه معلوم أنه إن أدخلها تدخل، لكنّه قد يقدّره تقديرا بعيدا وهو: أدخلها تدخل [كما هي] (6)، وأخرجها تخرج بيضاء وهو بعد (7) ذلك ضعيف، فيقال له: لا يلزم في الشرط وجوابه أن يكون اللزوم بينهما ضروريّا بالفعل (8) فإذا قيل: إن جاءني زيد أكرمته [فهذا] (9) اللازم بالوضع وليس بالضرورة، والإكرام لازم للمجيء، بل لوضع المتكلم فالموضوع [هنا] (9) أن الإدخال سبب في خروجها بيضاء بقدرة الله تعالى ألا ترى أنه لا يلزم من إخراجها أن تخرج بيضاء لزوما (11) ضروريّا إلا بضرورة صدق الوعد. فإن قال: لم أرد هذا وإنما أردت أنها لا تخرج إلا حتى تخرج. قيل:
هذا (12) من المعلوم الذي لا معنى للتنصيص عليه.
[185/ أ] ومنه قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صََالِحاً وَآخَرَ 3/ 131سَيِّئاً} (التوبة: 102)، (13) [أصل الكلام: خلطوا عملا صالحا بسيّئ، آخر سيئا] (13)
بصالح لأن الخلط يستدعي مخلوطا ومخلوطا به أي تارة أطاعوا وخلطوا الطاعة بكبيرة، وتارة عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة.
__________
(1) البيت لأبي صخر الهذلي انظر الأمالي لأبي على القالي 1/ 149 (طبعة دار الكتب)، وهو من شواهد ابن عقيل الشاهد رقم (207) حروف الجر. والإنصاف 1/ 253. المسألة (32).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) علي بن محمد الكتامي تقدم التعريف به في 2/ 364.
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (نظيرا).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (مفيد).
(8) في المخطوطة (بالعقل).
(9) ساقطة من المخطوطة.
(11) في المخطوطة (لضرر ما).
(12) في المخطوطة (هاهنا).
(13) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/202)
وقوله: {فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدََايَ} (طه: 123) الآية، فإنّ مقتضى التقسيم اللفظيّ: من اتبع الهدى فلا خوف ولا حزن يلحقه، وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن وهو صاحب النار فحذف من كلّ ما أثبت نظيره في الأخرى.
قيل: ومنه قوله [تعالى] (1): {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً} (البقرة: 171)، قال سيبويه (2): في «باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى»: «لم يشبّهوا بالناعق وإنما شبّهوا بالمنعوق به وإنما المعنى: ومثلكم (3)
ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع إلا دعاء ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى». انتهى.
والذي أحوجه إلى هذا التقدير، أنّه لمّا شبّه (4) الذين كفروا بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا بناه على أن الناعق بمعنى الداعي وليس بمتعين لجواز ألّا يراد به الداعي بل الناعق من الحيوان شبّههم في تألّفهم وتأتّيهم بما ينعق من الغنم بصاحبه من أنهم يدعون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ما يريده، فيكون (5) ثمّ حذف.
وقيل: ليس من هذا النوع إلا الاكتفاء من (6) الأول بالثالث لنسبة بينهما وذلك أنه اكتفى بالذي ينعق وهو الثالث المشبه به عن المشبّه، وهو الكناية (7) المضاف إليها في قوله: ومثلك، وهو الأول وأقرب إلى هذا التشبيه المركب والمقابلة وهو الذي غلط من وضعه في هذا النوع وإنما هو من نوع الاكتفاء للارتباط العطفي على ما سلف. وقد قال 3/ 132 الصّفار (8): هذا الذي صار إليه سيبويه من أنه حذف من الأول المعطوف عليه، ومن الثاني المعطوف ضعيف لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند الضرورة، لأنّ فيه حذفا كثيرا مع إبقاء حرف
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في الكتاب 1/ 212.
(3) في المخطوطة (ومثلك).
(4) في المخطوطة (لمناسبة) بدل (لما شبه).
(5) في المخطوطة (فلا يكون).
(6) في المخطوطة (عن).
(7) في المخطوطة (الكاف).
(8) هو القاسم بن علي البطليوسي تقدم التعريف به في 2/ 451.(3/203)
العطف وهو الواو. ألا ترى أن ما قبلها مستأنف، والأصل مثلك ومثلهم إلا أن يدّعي أنّ الأصل ومثلك ومثلهم، ثم حذف «مثلك» والواو التي عطفت ما بعدها، وبقيت الواو الأولى ويزعم أنّ الكلام ربط مع ما قبله بالواو وليس بينهما ارتباط. وفيه ما ترى (1).
وقال ابن الحاج (2): عندي [أنه] (3) لا حذف في الآية، والقصد تشبيه الكفّار في عبادتهم لأصنام (4) بالذي (5) ينعق بما لا يسمع فهو تمثيل داع بداع محقق لا حذف فيه والكفار على هذا داعون وعلى التأويل الأول مدعوّون (6).
ونظيرها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى ََ وَجْهِهِ أَهْدى ََ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الملك: 22) فإن فيه جملتين حذف نصف كل واحدة منهما (7) اكتفاء (8)
بنصف الأخرى. وأصل الكلام: أفمن يمشي مكبّا على وجهه أهدى ممّن (9) يمشي سويّا على صراط مستقيم، أمّن (10) يمشي سويّا على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبّا! وإنما قلنا: إن أصله هكذا لأن أفعل التفضيل لا بدّ في معناه من المفضّل [185/ ب] عليه. وهاهنا وقع السؤال عمّن في نفس الأمر: هل هذا أهدى من ذلك أم ذاك (11) أهدى من هذا؟ فلا بد من ملاحظة أربعة أمور، وليس في الآية إلا نصف إحدى الجملتين ونصف الأخرى، والذي حذف من هذه مذكور في تلك، والذي حذف من تلك
__________
(1) في المخطوطة (نرى).
(2) تصحفت في المطبوعة إلى (الحجاج)، وابن الحاج هو أحمد بن محمد بن أحمد الأزدي أبو العباس الإشبيلي، عرف بابن الحاج قرأ على أبي علي الشلوبين مقرئ، أصولي، محدث، أديب، لم يكن في أصحاب الشلوبين مثله وله على كتاب سيبويه إملاء غريب ومصنف في علم القوافي، ومختصر لخصائص ابن جني ت 647هـ (الفيروزآبادي، البلغة: 63).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (للأصنام).
(5) في المخطوطة (للذي).
(6) في المخطوطة (يدعون).
(7) في المخطوطة (منها).
(8) في المخطوطة (فاكتفى).
(9) في المخطوطة (أمّن).
(10) في المخطوطة (أو من).
(11) في المخطوطة (ذلك).(3/204)
مذكور في هذه، فحصل المقصود مع الإيجاز والفصاحة. ثم ترك أمر آخر لم يتعرّض له وهو الجواب الصحيح لهذين (1) الاستفهامين، وأيّهما (2) هو الأهدى؟ لم يذكره في الآية أصلا، اعتمادا على أن العقل يقول: الذي يمشي على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبّا على وجهه.
وهذا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لََا يَخْلُقُ} (النحل: 17). وقوله: {قُلْ 3/ 133 هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9).
فائدة
(3)
قد يحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وقد يعكس، وقد يحتمل اللفظ الأمرين (4).
فالأول كقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (5) (الأحزاب: 56) في قراءة (6) [من] (5) رفع «ملائكته»، [أي] (5) إن الله يصلي، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وليس عطفا عليه.
والثاني كقوله [تعالى] (9): {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ [وَيُثْبِتُ]} [10]، (الرعد: 39) أي ما يشاء.
وقوله: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 3)، أي بريء أيضا.
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ} (إبراهيم: 48).
وقوله: {[وَاللََّائِي]} [11] يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسََائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلََاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللََّائِي لَمْ يَحِضْنَ (الطلاق: 4)، أي كذلك.
__________
(1) في المخطوطة (كهذا من).
(2) في المخطوطة (وإنما).
(3) في المخطوطة (قاعدة).
(4) في المخطوطة (للأمرين).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) القراءة ذكرها ابن خالويه في «المختصر»: 120وقال: هي قراءة عبد الوارث عن أبي عمرو.
(9) ليست في المطبوعة.
(10) ليست في المخطوطة.
(11) ليست في المطبوعة.(3/205)
وجعل منه أبو الفتح قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (مريم: 38) التقدير: وأبصر بهم لكنه حذف لدلالة ما قبله عليه حيث كان بلفظ الفضلة وإن كان ممتنعا في الفاعل.
وهذا التوجيه إنما يتم إذا قلنا: إن الجارّ والمجرور في «أسمع بهم وأبصر» في محل الرفع:
فإن قلنا في محل النصب فلا.
3/ 134وقوله (1) تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ} [2] اللََّهُ (الزمر:
38)، [والتقدير خلقهنّ الله] (3)، فحذف «خلقهنّ» لقرينة تقدمت في السؤال.
وقوله: {سَلََامٌ عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ * كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (الصافات:
110109)، ولم يقل: «إنا كذلك» اختيارا واستغناء عنه (4) بقوله فيما سبق: {إِنََّا كَذََلِكَ} (الصافات: 105).
والثالث كقوله [تعالى] (5): {وَاللََّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (التوبة: 62)، فقد قيل: إن «أحقّ» خبر عن اسم الله [تعالى] (6)، وقيل بالعكس.
وأما قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتََابِ أَنْ إِذََا سَمِعْتُمْ آيََاتِ اللََّهِ يُكْفَرُ بِهََا وَيُسْتَهْزَأُ بِهََا} (النساء: 140)، فالفائدة في إعادة الجار والمجرور أعني «بها». لأنه لو حذف من الثاني لم يحصل الربط لوجوب الضمير فيما وقع مفعولا ثانيا، أو كالمفعول الثاني ل «سمعتم»، ولو حذف من الأول لم يكن نصّا على أن الكفر يتعلق بالإثبات لجواز أن يكون متعلق الأول غير متعلق الثاني
الثامن الاختزال وهو الافتعال من خزله، قطع وسطه، ثم نقل في الاصطلاح إلى حذف كلمة أو أكثر. وهي إما اسم، أو فعل، أو حرف.
__________
(1) في المخطوطة (وكقوله).
(2) تصحفت في المخطوطة إلى {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9).
(3) العبارة ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (واستغفارا) بدل (واستغناء عنه).
(5) ليست في المطبوعة.
(6) ليست في المخطوطة.(3/206)
الأول الاسم
فمنه حذف المبتدإ، كقوله تعالى [{سَيَقُولُونَ]} [1] ثَلََاثَةٌ (2) [و {خَمْسَةٌ} و {سَبْعَةٌ}
(الكهف: 22)، أي] (2) هم ثلاثة، وهم خمسة، وهم سبعة.
وقوله: {قَدْ كََانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتََا فِئَةٌ} (آل عمران: 13)، أي إحداهما (4)، بدليل قوله بعده (5): {وَأُخْرى ََ} [6] كََافِرَةٌ (آل عمران: 13).
وقوله: {بَلََاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ} (الأحقاف: 35)، أي هذا بلاغ.
وقوله [186/ أ]: {بَلْ عِبََادٌ مُكْرَمُونَ} (الأنبياء: 26)، أي هم عباد.
وعلى هذا قال أبو عليّ: قوله تعالى: {بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكُمُ النََّارُ} (الحج: 72)، أي هي النار.
وقوله: {وَحََاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذََابِ *} [7] [النََّارُ (غافر: 4645)، أي هو النار.
ويمكن أن يكون «النار» في الآيتين مبتدأ والخبر الجملة التي بعدها، ويمكن في الثانية أن تكون النار بدلا من «سوء العذاب»] (7).
وقوله: {فَقََالُوا} [9] سََاحِرٌ كَذََّابٌ (غافر: 24)، أي [هذا] (10) ساحر. 3/ 136
وقوله: {إِلََّا قََالُوا سََاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات: 52). {وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
(الفرقان: 5).
{وَقُلِ} [11] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ (الكهف: 29)، أي هذا الحق من ربكم وليس هذا
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (إحداهما فيه).
(5) في المخطوطة (بعد).
(6) في المخطوطة (أخرى) تصحيف.
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (قالوا).
(10) ساقطة من المطبوعة.
(11) في المخطوطة (قل).(3/207)
كما يظنّه بعض الجهّال، أي قل القول الحق فإنه لو أريد هذا لنصب «الحق» والمراد إثبات أن القرآن حقّ، ولهذا قال: {مِنْ رَبِّكُمْ} وليس المراد هنا قول حق مطلق بل هذا المعنى مذكور في قوله: {وَإِذََا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: 152)، وقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثََاقُ الْكِتََابِ أَنْ لََا يَقُولُوا عَلَى اللََّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (الأعراف: 169).
وقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنََاهََا} (النور: 1) أي هذه سورة.
{مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا} (فصلت: 46)، أي فعمله لنفسه وإساءته عليها.
وقوله: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ} (فصلت: 49) أي [فهو] (1) يئوس.
{لََا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلََادِ * مَتََاعٌ قَلِيلٌ} (آل عمران: 197196)، أي تقلّبهم متاع، أو ذاك (2) متاع.
{وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نََارُ اللََّهِ الْمُوقَدَةُ} (الهمزة: 65)، [أي والحطمة نار الله] (3).
{إِنَّهََا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} (المرسلات: 32)، أي كلّ واحدة منها (4) كالقصر فيكون من باب قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً} (النور: 4)، أي كلّ واحد منهم، والمحوج إلى ذلك أنه لا يجوز أن يكون الشّرر كله كقصر واحد والقصر هو البيت من أدم، 3/ 137كان يضرب على المال ويؤيده (5) قوله: {جِمََالَتٌ صُفْرٌ} (المرسلات: 33)، أفلا تراه (6)
كيف شبّهه بالجماعة! أي كلّ واحدة من الشّرر كالجمل لجماعاته، فجماعاته إذن مثل الجمالات الصّفر، وكذلك الأول، شررة منه كالقصر. قاله أبو الفتح بن جني (7).
وأما قوله: {وَلََا تَقُولُوا ثَلََاثَةٌ} (النساء: 171)، فقيل: إن «ثلاثة» خبر مبتدإ محذوف تقديره: «آلهتنا ثلاثة».
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (أذل).
(3) العبارة ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (منهما).
(5) في المخطوطة (ويؤكده).
(6) في المخطوطة (فلا يزده).
(7) انظر المحتسب 2/ 347346.(3/208)
واعترض باستلزامه إثبات الإلهية لانصراف النفي الداخل على المبتدإ أو الخبر إلى المعنى المستفاد من الخبر لا إلى معنى المبتدأ، وحينئذ يقتضي نفي عدة الآلهة لا نفي وجودهم.
قيل: وهو مردود لأنّ [نفي] (1) كون آلهتهم ثلاثة (2) يصدق بألّا (3) يكون للآلهة الثلاثة وجود بالكليّة لأنه من السالبة المحصلة، فمعناه: ليس آلهتكم ثلاثة، وذلك يصدق بألّا (4)
يكون لهم آلهة وإنما حذف إيذانا بالنهي عن مطلق العدد المفهم للمساواة بوجه ما (5) فما ظنّك بمن صرّح بالشركة كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ ثََالِثُ ثَلََاثَةٍ}
(المائدة: 73)، وقال سبحانه: {وَمََا مِنْ إِلََهٍ إِلََّا إِلََهٌ وََاحِدٌ} (المائدة: 73) (6) [فأفهم أنه لو وجد الإله يكون غيره معه خطأ لإفهامه مساواة ما، كقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1)، ولزم من نفي الثلاثة لامتناع المساواة المعلومة عقلا، والمدلول عليها بقوله: {إِنَّمَا اللََّهُ إِلََهٌ وََاحِدٌ}] (6) (النساء: 171)، نفي الشركة مطلقا فإنّ تخصيص [النهي] (8) وقع في مقابلة الفعل، ودليلا عليه: فإنهم كانوا يقولون في الله وعيسى وأمه: ثلاثة.
ونحوه في الخروج على السبب: {لََا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعََافاً مُضََاعَفَةً} (آل عمران: 3/ 138 130). وقال صاحب (9) «إسفار الصباح»: «الوجه تقدير كون ثلاثة، أو «في الوجود»،
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (منه).
(3) في المخطوطة (بأن لا).
(4) في المخطوطة (بأن لا).
(5) في المخطوطة (يوجد) بدل (بوجه ما).
(6) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) هو محمد بن يعقوب بن إلياس (ابن النحوية) بدر الدين الدمشقي، قال الذهبي في «معجمه»: «الإمام البارع بدر الدين أبو عبد الله النحوي، أخذ عن القاضي نجم الدين البارزي وجمال الدين ابن واصل وغيرهما وصار رأسا في العربية والمعاني والبيان خيرا كيسا متواضعا وقورا مقتصدا، ت 718هـ (ابن حجر الدرر الكامنة 4/ 286)، وكتابه ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 1/ 85و 2/ 1707و 1764 ضمن كلامه عن «مفتاح العلوم» للسكاكي 626هـ فقال (اختصره بدر الدين محمد بن محمد بن مالك الدمشقي ت 686هـ وسماه «المصباح في اختصار المفتاح» ثم اختصر هذا المختصر بدر الدين محمد بن يعقوب الحموي المعروف بابن النحوية سماه «ضوء المصباح» ثم شرحه في مجلدين وسماه «إسفار الصباح عن ضوء المصباح» وانظر الدرر الكامنة أيضا.(3/209)
ثم حذف الخبر الذي هو «لنا»، أو «في الوجود» الحذف المطّرد، وما دلّ عليه توحيد لا إله إلا الله».
ثم حذف المبتدإ حذف الموصوف كالعدد إذا كان معلوما. كقولك: عندي ثلاثة.
أي دراهم وقد علم بقرينة قوله [تعالى] (1): {إِنَّمَا اللََّهُ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (النساء: 171).
وقد عورض هذا بأن نفي وجود ثلاثة لا ينفي وجود إلهين. وأجيب (2) بأن تقديره (3)
«آلهتنا ثلاثة» يوجب ثبوت الآلهة وتقدير «لنا آلهة» لا يوجب ثبوت إلهين.
فعورض بأنه كما لا يوجبه فلا ينفيه.
فأجيب بأنه إذا لم ينفه فقد [186/ ب] نفاه ما بعده من قوله: {إِنَّمَا اللََّهُ إِلََهٌ وََاحِدٌ}
(النساء: 171).
فعورض بأنّ ما بعده إن (4) نفي ثبوت إلهين فكيف ثبوت آلهة! فأجاب بأنه (5) لا ينفيه، ولكن يناقضه، لأن تقدير آلهتنا ثلاثة يثبت وجود إلهين (6)
لانصراف النفي (7) [في الخبر عنه، بخلاف تقدير: «لنا آلهة ثلاثة»، فإنه لا يثبت وجود إلهين لانصراف النفي] (7) إلى أصل الإثبات للآلهة.
وفي أجوبة هذه المقدمات نظر.
قلت: وذكر ابن جنّي أن الآية من حذف المضاف أي ثالث ثلاثة لقوله (9) في موضع آخر: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ ثََالِثُ ثَلََاثَةٍ} (المائدة: 73).
3/ 139
حذف الخبر
نحو: {أُكُلُهََا دََائِمٌ وَظِلُّهََا} (الرعد: 35)، أي [وظلها] (10) دائم.
وقوله في سورة ص بعد ذكر من اقتص ذكره من الأنبياء، فقال: {هََذََا ذِكْرٌ} (ص:
49) ثم لما ذكر مصيرهم إلى الجنة وما أعد لهم فيها من النعيم قال: {هََذََا وَإِنَّ لِلطََّاغِينَ لَشَرَّ}
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (فأجيب).
(3) في المخطوطة (تقدير).
(4) في المخطوطة (بأن).
(5) في المخطوطة (أنه).
(6) في المخطوطة (الآلهة).
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (كقوله).
(10) ساقطة من المطبوعة.(3/210)
{مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ الْمِهََادُ * هََذََا} (ص: 575655) قد أشارت الآية إلى مآل [أمر] (1) الطاغين، ومنه يفهم الخبر.
وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللََّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ فَهُوَ عَلى ََ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (الزمر: 22) أي أهذا (2) خير أمّن جعل صدره ضيقا حرجا وقسا قلبه، فحذف بدليل قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللََّهِ} (الزمر: 22).
وقوله تعالى: {قََالُوا لََا ضَيْرَ} (الشعراء: 50).
{وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} (سبأ: 51).
وقوله: {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (المائدة: 38) قال سيبويه (3): الخبر محذوف، أي فيما أتلوه السارق والسارقة، وجاء {فَاقْطَعُوا} جملة أخرى (4). وكذا قوله:
{الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي} (النور: 2) [أي] (5) فيما نقصّ [لكم] (6).
وقال غيره: السارق مبتدأ، فاقطعوا (7) خبره وجاز ذلك لأن الاسم عام فإنه لا يريد به سارقا مخصوصا، فصار كأسماء الشرط تدخل الفاء في خبرها لعمومها وإنما قدّر سيبويه 3/ 140 ذلك لجعل الخبر أمرا وإذا ثبت الإضمار فالفاء داخلة في موضعها، تربط بين الجملتين.
ومما يدلّ على أنه على الإضمار إجماع القراء على الرفع مع أن الأمر الاختيار فيه النصب.
قال: وقد قرأ ناس بالنصب (8) ارتكانا (9) للوجه القويّ في العربية ولكن أبت العامة إلا الرفع. وكذا قال في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (الرعد: 35): مثل،
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (هذا).
(3) في الكتاب 1/ 144142. وقد نقل قوله أبو حيان في البحر المحيط 3/ 476.
(4) في المخطوطة (واحدة).
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (وفاقطعوا).
(8) وهي قراءة عيسى بن عمرو بن أبي عبلة والسارق والسارقة بالنصب على الاشتغال (أبو حيان، البحر المحيط، 3/ 476).
(9) في المخطوطة (ارتكابا).(3/211)
هنا خبر مبتدأ محذوف أي فيما نقصّ عليكم مثل الجنّة. وكذا قال أيضا في قوله تعالى:
{وَالَّذََانِ يَأْتِيََانِهََا مِنْكُمْ فَآذُوهُمََا} (النساء: 16): إنه على الإضمار.
وقد ردّ بأنّه أيّ ضرورة تدعو إليه هنا؟ فإنّه إنما صرنا إليه في السارق ونحوه لتقديره (1)
دخول الفاء في الخبر، فاحتيج للإضمار حتى تكون الفاء على بابها في الربط وأما هذا فقد وصل بفعل هو بمنزلة: الذي يأتيك فله درهم.
وأجاب الصفار (2) بأنّ الذي حمله على هذا أنّ الأمر دائر مع الضرورة كيف كان لأنه إذا أضمر فقد تكلّف [كما قلت] (3)، وإن لم يضمر كان الاسم مرفوعا وبعده الأمر، فهو قليل بالنظر إلى «للذين (4) يأتيانها» فكيفما (5) عمل [لم] (6) يخل من قبح.
وإن قدّر منصوبا، وجاء القرآن بالألف على لغة من يقول «الزيدان» (7) في جميع الأحوال وقع أيضا في محذور (8) آخر فلهذا قدّره هذا التقدير، لأن الإضمار مع الرفع يتكافآن (9).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمََّا جََاءَهُمْ} (فصلت: 41)، الخبر محذوف، أي يعذّبون. ويجوز أن يكون الخبر: {أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44).
3/ 141وقوله: {لَوْلََا أَنْتُمْ لَكُنََّا مُؤْمِنِينَ} (سبأ: 31) فأنتم مبتدأ والخبر محذوف أي حاضرون وهو لازم الحذف هنا.
__________
(1) في المخطوطة (لتقدر).
(2) هو القاسم بن علي البطليوسي تقدم في 2/ 451.
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) في المخطوطة (اللذين).
(5) في المخطوطة (فكيف ما).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (الزائد).
(8) في المخطوطة (محدود).
(9) في المخطوطة (متكافئان).(3/212)
وقوله [تعالى] (1): {وَطَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ} [2] [حِلٌّ لَكُمْ وَطَعََامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنََاتُ مِنَ الْمُؤْمِنََاتِ وَالْمُحْصَنََاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ] (2) مِنْ قَبْلِكُمْ (المائدة: 5) أي حلّ لكم [187/ أ] [كذلك] (4).
وأما قوله تعالى: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ} (التوبة: 30)، أمّا على قراءة التنوين (5) فلا حذف لأنه يجعله مبتدأ و «ابن الله» خبر حكاية عن مقالة اليهود وأما على قراءة من لم ينوّن فقيل: إنه صفة والخبر محذوف أي عزير ابن الله إلهنا، وقيل: بل المبتدأ محذوف، أي إلهنا عزير، وابن صفة.
وردّ بوجهين:
أحدهما: أنه لا يطابق: {وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ} (التوبة: 30).
والثاني: أنه يلزم عليه أن يكون التكذيب ليس عائدا إلى النبوّة، فكذّب لأنّ صدق الخبر وكذبه راجع إلى نسبة الخبر لا إلى الصفة. فلو قيل: زيد القائم فقيه، [فكذب] (6) انصرف التكذيب لإسناد فقهه لا لوصفه بالقائم.
وفيه نظر لأن الصّفة ليست إنشاء فهي خبر إلّا أنها غير تامة الإفادة، فيصحّ تكذيبها. والأولى تقويته، وأن يقال الصفة والإضافة ونحوهما في المسند إليه لواحق بصورة الإفراد (7) أي يريد أن يصوّره بهيئة خاصّة ويحكم عليه كذلك لكن لا سبيل إلى كذبها، مع أنها تصوّرت، فالوجه أن يقال: إن كذب الصفة بإسناد مسندها إلى معدوم الثبوت. ونظير 3/ 142 هذه المسألة في (8) الفقه ما لو قال: والله لا أشرب ماء هذا الكوز ولا ماء فيه.
وقال بعضهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ} (التوبة: 30) خبر الجملة، أي حكى فيه لفظهم، أي قالوا هذه العبارة القبيحة وحينئذ فلا يقدّر خبر ولا مبتدأ.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) وهي قراءة عاصم والكسائي والباقون بدون تنوين (التيسير: 118، والبحر المحيط 5/ 31).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (الإفرادي).
(8) في المخطوطة (من).(3/213)
وقيل: «ابن الله» خبر وحذف التنوين من «عزير» للعجمة والعلمية.
وقيل: حذف تنوينه لالتقاء الساكنين لأن الصفة مع الموصوف كشيء واحد، كقراءة (1):
{قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ * اللََّهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص: 21)، على إراد التنوين بل هنا أوضح لأنه في جملة واحدة.
وقيل: «ابن الله» نعت ولا محذوف وكأنّ الله تعالى حكى أنهم ذكروا هذا اللفظ إنكارا عليهم إلا أن فيه بعدا (2)، لأن سيبويه قال: إن قلت وضعته العرب لتحكي به ما كان كلاما لا قولا. وأيضا إنه لا يطابق قوله: {وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ} (التوبة:
30) والظاهر أنه خبر. والقولان منقولان.
والصحيح في هذه القراءة أنه ليس الغرض إلا أن اليهود قد بلغوا في رسوخ الاعتقاد في هذا الشيء إلى أن يذكرون هذا النكر (3)، كما تقول في قوم تغالوا في تعظيم صاحبهم:
أراهم اعتقدوا فيه أمرا عظيما ثابتا، يقولون: زيد الأمير!
ما يحتمل الأمرين
قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف: 18) يحتمل حذف الخبر، أي أجمل، أو حذف (4) المبتدأ، أي فأمري صبر جميل. وهذا أولى لوجود قرينة حالية هي قيام الصبر به 3/ 143دالة على المحذوف، وعدم قرينة حالية أو مقالية تدلّ على خصوص الخبر، وأنّ الكلام مسوق للإخبار بحصول الصبر له واتصافه به، وحذف المبتدأ يحصّل (5) ذلك دون حذف الخبر لأن معناه أن الصبر الجميل أجمل ممن (6) لأن المتكلم متلبس به.
وكذلك يقوله من لم يكن وصفا له ولأن الصبر مصدر، والمصادر معناها الإخبار فإذا حمل على حذف المبتدأ فقد أجري على أصل معناه من استعماله خبرا، وإذا حمل على حذف الخبر فقد أحرج عن أصل معناه.
__________
(1) في المخطوطة كقوله تعالى.
(2) تصحفت المخطوطة إلى (نعتا).
(3) في المخطوطة (الذكر).
(4) في المخطوطة (وحذف).
(5) في المخطوطة (يجعل).
(6) كذا وردت العبارة في المخطوطة والمطبوعة، وفيها غموض.(3/214)
ومثله (1) قوله: {طََاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} (2) (النور: 53) أي أمثل، أو أولى لكم من هذا، أو أمركم الذي يطلب منكم.
ومثله قوله [في] (3) {سُورَةٌ أَنْزَلْنََاهََا} (النور: 1) [187/ ب] إما أن يقدر: فيما أوحينا إليك سورة، أو هذه سورة.
وقد يحذفان جملة، كقوله تعالى: {وَاللََّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسََائِكُمْ} (الطلاق: 4) الآية.
حذف الفاعل
المشهور امتناعه إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا بني الفعل للمفعول.
ثانيها: في المصدر، إذا لم يذكر معه الفاعل مظهرا يكون محذوفا، ولا يكون مضمرا، نحو {أَوْ إِطْعََامٌ} (البلد: 14).
ثالثها (4): إذا لاقى الفاعل ساكنا من كلمة أخرى، كقولك للجماعة: اضرب القوم، 3/ 144 وللمخاطبة: اضرب القوم.
وجوز الكسائيّ حذفه مطلقا إذا وجد ما يدلّ عليه كقوله تعالى: {كَلََّا إِذََا بَلَغَتِ التَّرََاقِيَ} (القيامة: 26) أي بلغت الروح.
وقوله: {حَتََّى تَوََارَتْ بِالْحِجََابِ} (ص: 32) أي الشمس.
{فَإِذََا نَزَلَ بِسََاحَتِهِمْ} (الصافات: 177) يعني العذاب، لقوله قبله: {أَفَبِعَذََابِنََا يَسْتَعْجِلُونَ} (الصافات: 176).
{فَلَمََّا جََاءَ سُلَيْمََانَ} (النمل: 36) تقديره: فلما جاء الرسول سليمان.
والحق أنه في المذكورات مضمر لا محذوف، وقد سبق الفرق بينهما.
__________
(1) في المطبوعة (ومثاله).
(2) في المخطوطة تصحيف إلى (طاعة وقول معروف).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (الثالثة).(3/215)
أما حذفه وإقامة المفعول مقامه، مع بناء الفعل للمفعول فله أسباب:
منها العلم به، كقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسََانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37).
{وَخُلِقَ الْإِنْسََانُ ضَعِيفاً} (النساء: 28)، ونحن نعلم أن الله خالقه.
قال ابن جني (1): وضابطه أن يكون الغرض إنما هو الإعلام بوقوع الفعل بالمفعول ولا غرض في إبانة الفاعل من هو.
ومنها تعظيمه، كقوله: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيََانِ} (يوسف: 41)، إذ كان الذي قضاه عظيم القدر.
وقوله: {وَغِيضَ الْمََاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (هود: 44).
3/ 145وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (البقرة: 4) قال الزمخشري في «كشافه القديم»: هذا أدلّ على كبرياء المنزّل وجلالة شأنه من القراءة الشاذة «أنزل» (2) مبنيّا للفاعل، كما تقول: الملك أمر (3) بكذا، [ورسم بكذا] (4) وخاصّة إذا كان الفعل فعلا لا يقدر [عليه] (4)
إلا الله، كقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (هود: 44) قال: كأن طيّ ذكر الفاعل كالواجب لأمرين:
أحدهما: أنه إن تعيّن الفاعل وعلم أن الفعل مما لا يتولّاه إلّا هو وحده، كان ذكره فضلا ولغوا.
والثاني: الإيذان بأنه منه غير مشارك ولا مدافع عن الاستئثار به والتفرّد بإيجاده.
وأيضا فما في ذلك من مصير أن اسمه جدير بأن يصان ويرتفع (6) به عن الابتذال والامتهان. وعن الحسن: لولا أني مأذون لي في ذكر اسمه لربأت به عن مسلك الطعام والشراب.
ومنها مناسبة الفواصل، نحو: {وَمََا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ََ} (الليل: 19)، ولم يقل يجزيها (7).
__________
(1) في الخصائص 2/ 204203.
(2) وهي قراءة يزيد بن قطيب انظر الكشاف 1/ 24.
(3) في المخطوطة (أمرك).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(6) في المخطوطة (ونرفع).
(7) في المخطوطة (تجزيها).(3/216)
ومنها مناسبة ما تقدمه، كقوله في سورة براءة: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ وَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَفْقَهُونَ} (التوبة: 87) لأنّ قبلها: {وَإِذََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} (التوبة:
86) على بناء الفعل للمفعول فجاء قوله: {وَطُبِعَ} (التوبة: 87) ليناسب بالختام المطلع، بخلاف قوله فيما بعدها: {وَطَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (التوبة: 93)، فإنه لم يقع قبلها ما يقتضي البناء، فجاءت على الأصل.
حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
3/ 164 وهو كثير، قال ابن جنّي (1): وفي القرآن منه زهاء ألف موضع. وأما أبو الحسن (2)، فلا يقيس عليه ثم ردّه بكثرة المجاز في اللغة، وحذف المضاف مجاز. انتهى.
وشرط المبرّد في كتاب «ما اتّفق لفظه واختلف معناه» (3) لجوازه وجود دليل على المحذوف من عقل أو قرينة، نحو: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف: 82)، أي أهلها، قال:
«ولا يجوز على هذا أن نقول: جاء زيد، وأنت تريد غلام زيد لأنّ المجيء يكون [188/ أ] له، ولا دليل على المحذوف».
وقال الزمخشريّ في «الكشاف القديم»: لا يستقيم تقدير حذف المضاف في كل موضع ولا يقدم عليه إلا بدليل واضح وفي غير ملبس كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}
(يوسف: 82) [{وَجََاءَ رَبُّكَ}] (4) (الفجر: 22) وضعّف بذلك قول من قدّر في قوله: {وَهُوَ خََادِعُهُمْ} (النساء: 142)، أنّه على حذف مضاف.
فإن قلت: كما لا يجوز مجيئه لا يجوز خداعه فحين جرّك إلى تقدير المضاف امتناع مجيئه، فهلّا (5) جرّك إلى مثله امتناع خداعه!
__________
(1) في الخصائص 2/ 362، حذف الاسم على أضرب.
(2) الأخفش.
(3) «ما اتفق لفظه واختلف معناه» طبع بتحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي، القاهرة بالمطبعة السلفية عام 1350هـ / 1931م (معجم مصنفات القرآن 4/ 215، معجم الدراسات القرآنية: 259) ذكره ابن النديم في الفهرست: 64وانظر قوله ص 33من الكتاب.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (فهل).(3/217)
قلت: يجوز في اعتقاد المنافقين تصوّر خداعه فكان الموضع ملبسا فلا يقدّر.
انتهى.
فمنه قوله تعالى: {لِمَنْ كََانَ يَرْجُوا اللََّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الأحزاب: 21)، أي رحمة (1)
(2) [الله، وقوله: {يَخََافُونَ رَبَّهُمْ} (النحل: 50) أي عذاب ربهم، وقد ظهر من هذا أن المضافان من قوله تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخََافُونَ عَذََابَهُ}] (2). (الإسراء:
57).
3/ 147 {حَتََّى إِذََا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} (الأنبياء: 96) أي سدّ يأجوج ومأجوج.
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم: 4)، أي شعر الرأس.
{وَلََا تَجْهَرْ بِصَلََاتِكَ وَلََا تُخََافِتْ بِهََا} (الإسراء: 110)، أي بقراءة صلاتك، ولا تخافت بقراءتها.
{وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ} (البقرة: 177)، أي برّ من آمن [بالله] (4).
{فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ} (طه: 11) أي ناحيتها، والجهة التي هو فيها.
و {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} (الشعراء: 72) أي هل يسمعون دعاءكم، بدليل الآية الأخرى.
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لََا يَسْمَعُوا دُعََاءَكُمْ} (فاطر: 14).
{عَلى ََ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ} (يونس: 83)، أي من آل فرعون.
{إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ} (الإسراء: 75)، أي ضعف عذابهما.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} (البقرة: 171)، أي ومثل واعظ الذين كفروا كناعق الأنعام.
{وَأَزْوََاجُهُ أُمَّهََاتُهُمْ} (الأحزاب: 6)، أي مثل أمهاتهم.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (الواقعة: 82)، أي شكر رزقكم. وقيل تجعلون التكذيب شكر رزقكم.
__________
(1) عبارة المطبوعة (رحمته ويخاف عذابه).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(4) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.(3/218)
(1) [وقوله: {وَآتِنََا مََا وَعَدْتَنََا عَلى ََ رُسُلِكَ} (آل عمران: 194)، أي على ألسنة رسلك] (1).
وقوله: {وَتَخُونُوا أَمََانََاتِكُمْ} (الأنفال: 27)، أي ذوي أماناتكم، كالمودع والمعير والموكّل والشريك، ومن يدك في ماله أمانة لا يد ضمان، ويجوز أن لا حذف فيه لأن «خنت» 3/ 148 من باب «أعطيت» فيتعدّى إلى مفعولين، ويقتصر على أحدهما.
[وقوله] (3): {وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً} (هود: 84)، أي أهل مدين بدليل قوله:
{وَمََا كُنْتَ ثََاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} (القصص: 45).
{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا [وَالْعِيرَ]} [4] (يوسف: 82)، أي أهل القرية وأهل العير.
وقيل: فيه وجهان: أحدهما أنّ القرية يراد بها نفس الجماعة، والثاني أنّ المراد [سؤال] (5) الأبنية نفسها لأنّ المخاطب نبيّ صاحب معجزة.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومََاتٌ} (البقرة: 197)، ويجوز أن يقدر: الحج حجّ أشهر معلومات.
{وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} (الفجر: 22)، أي أمر ربك.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (البقرة: 93) (6) [أي حب العجل قال الراغب (7): إنه على بابه فإنّ في ذكر العجل] (6) تنبيها على أنّه لفرط محبّتهم صار صورة العجل في قلوبهم لا تمحي (9).
وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ * إِرَمَ} (الفجر: 76) فإرم اسم لموضع (10)
[وهو] (11) في موضع جرّ إلّا أنه منع الصرف للعلمية والتأنيث أما العلمية فواضح، وأما التأنيث فلقوله: {ذََاتِ الْعِمََادِ} (الفجر: 7).
وقوله: {قَدْ سَأَلَهََا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهََا كََافِرِينَ} (المائدة: 102) أي بسؤالها
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) ليست في المطبوعة.
(6) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(7) انظر المفردات: 257. مادة (شرب).
(9) في المخطوطة (تسمى).
(10) في المخطوطة (الموضوع).
(11) ساقطة من المخطوطة.(3/219)
فحذف المضاف (1) [وقدرت بالمصدر المحذوف الاضافة إلى المفعول به] (1) ولم يكفروا بالسؤال إنما كفروا بربّهم المسئول عنه، فلما كان السؤال سببا للكفر فيما سألوا عنه نسب الكفر إليه على الاتساع.
3/ 149وقيل: الهاء عائدة على غير ما تقدّم لقوة هذا الكلام بدليل أنّ الفعل تعدّى (3) بنفسه والأول بغيره (4) وإنما هذه الآية كناية عما سأل قوم [188/ ب] موسى، وقوم عيسى [من الآيات] (5)، ثم كفروا، فمعنى السؤال الأول والثاني الاستفهام، ومعنى الثالث طلب الشيء (6).
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (المائدة: 3)، أي تناولها، لأنّ الأحكام لا تتعلق بالأجرام إلا بتأويل الأفعال.
وقيل: إنّ الميتة يعبّر بها عن تناولها فلا حذف ولو كان ثمّ حذف لم يؤنث الفعل ولأن المركب إنما يحذف إذا كان للكلام دلالة غير الدلالة الإفرادية والمفهوم من هذا التركيب التناول من غير تقدير، فيكون اللفظ موضوعا له، والمشهور في الأصول أنه من محال الحذف.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصََّالِحِينَ} (العنكبوت:
9)، (7) [فهاهنا إضمار لأنّ قائلا لو قال: «من عمل صالحا جعلته في جملة الصالحين» لم يكن فيه فائدة وإنما المعنى لندخلنّهم في زمرة الصالحين] (7).
وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرََاطِيسَ} (الأنعام: 91)، أي ذا قراطيس، أو مكتوبا في قراطيس، {تُبْدُونَهََا} (الأنعام: 91)، أي تبدون مكتوبها.
وقوله: {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} (الأنعام: 91) ليس المعنى تخفونها إخفاء كثيرا ولكنّ التقدير: تخفون كثيرا من إنكار ذي القراطيس، أي يكتمونه فلا يظهرونه، كما قال تعالى: {إِنَّ}
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(3) في المخطوطة (يتعدى).
(4) في المخطوطة (لغيره).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (للشيء).
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/220)
{الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مََا أَنْزَلْنََا مِنَ الْبَيِّنََاتِ وَالْهُدى ََ مِنْ بَعْدِ مََا بَيَّنََّاهُ لِلنََّاسِ فِي الْكِتََابِ} (البقرة: 3/ 159). ويدلّ له قوله: {قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمََّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتََابِ}
(المائدة: 15).
وقوله: {فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا} (الرعد: 17) أي بقدر مياهها.
وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهََا} (يوسف: 24)، أي هم بدفعها، أي عن نفسه في هذا التأويل بتنزيه يوسف صلّى الله عليه وسلّم عما لا يليق به لأنّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الصغائر والكبائر (1)، وعليه فينبغي الوقف على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} (يوسف: 24).
تنبيه
أعلم أنّ المضاف إذا علم جاز حذفه مع الالتفاف إليه فيعامل معاملة الملفوظ به من عود الضمير عليه [وغير ذلك] (2)، ومع اطّراحه يصير (3) الحكم في عود الضمير للقائم مقامه.
فمثال استهلاك حكمه وتناسي أمره قوله تعالى: (4) [{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف: 82) إذ لو راعى المحذوف لجرّ القرية، وجوزوا أيضا مراعاة المحذوف بدليل قوله تعالى] (4) {أَوْ كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشََاهُ مَوْجٌ} (النور: 40) فإن الضمير في {يَغْشََاهُ} عائد على المضاف المحذوف بتقدير أو كذي ظلمات.
وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} (البقرة: 19) أي كمثل ذوي صيّب ولهذا رجع الضمير إليه مجموعا في قوله [تعالى] (6): {يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ [فِي آذََانِهِمْ]} [7] (البقرة: 19) [ولو] (8)
لم يراع لأفراده (7) أيضا.
__________
(1) تقديم وتأخير في المخطوطة (الكبائر والصغائر).
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) في المخطوطة (فيصير).
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(6) ليست في المطبوعة.
(8) ليست في المخطوطة.
(7) عبارة المخطوطة (لأفرده وكثيره أيضا).(3/221)
3/ 151وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} (الشعراء: 105)، ولولا ذلك لحذفت التاء لأنّ القوم مذكّر، ومنه قول حسّان [رضي الله عنه] (1):
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل (2).
بالياء، أي ماء بردى (3)، ولو راعى المذكور لأتى بالتاء.
قالوا: وقد جاء في آية واحدة مراعاة التأنيث والمحذوف، وهي قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا فَجََاءَهََا بَأْسُنََا بَيََاتاً أَوْ هُمْ قََائِلُونَ}] (الأعراف: 4) (4) [أنث الضمير في {أَهْلَكْنََاهََا} و {فَجََاءَهََا} لإعادتهما على القرية المؤنثة، وهي الثابتة، ثم قال: {أَوْ هُمْ قََائِلُونَ}] (4) فأتى بضمير من يعقل حملا على «أهلها» المحذوف.
وفي تأويل إعادة الضمير على التأنيث وجهان: أحدهما أنه لما قام مقام المحذوف صارت المعاملة معه. والثاني أن يقدّر في الثاني حذف المضاف كما قدر في الأول. فإذا قلت:
سألت القرية وضربتها، فمعناه: وضربت أهلها، فحذف [189/ أ] المضاف كما حذف من الأول إذ وجه الجواز قائم.
وقيل: هنا مضاف محذوف، والمعنى (6) أهلكنا أهلها. وبياتا، حال (7) منهم، أي مبيّتين و {أَوْ هُمْ قََائِلُونَ} (الأعراف: 4) جملة معطوفة عليها، ومحلها النصب.
وأنكر الشّلوبين (8) مراعاة المحذوف، وأوّل ما سبق على أنه من باب الحمل على المعنى ونقله عن المحققين لأن القوم جماعة ولهذا يؤنث (9) تأنيث الجمع، نحو هي الرجال وجمع
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) البيت في ديوانه 1/ 74القصيدة (13)، البيت (13) البريص وبردى نهران بدمشق اللسان 3/ 88 (برد)، و 7/ 6 (برص).
(3) في المخطوطة (بردا).
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (المعنى).
(7) في المخطوطة (حالا).
(8) هو عمر بن محمد بن عمر أبو علي الأزدي الإشبيلي تقدم التعريف به في 2/ 364.
(9) في المخطوطة (يؤنثوا).(3/222)
التكسير عندهم مؤنث وأسماء الجمع تجري مجراها، وعلى هذا (1) جاء التأنيث، لا على الحذف وكذا القول في البيت.
وفي قراءة بعضهم: {وَاللََّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (الأنفال: 67) [بالجر] (2)، قدّروه «عرض 3/ 152 الآخرة». والأحسن أن يقدّر: «ثواب الآخرة» لأن العرض لا يبقى، بخلاف الثواب.
حذف المضاف إليه
وهو أقلّ استعمالا، كقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء: 33).
وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنََا بَعْضَهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ} (البقرة: 253).
وكذا (3) كل ما قطع عن الإضافة ممّا وجبت إضافته معنى لا لفظا، كقوله تعالى: {لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4)، أي من قبل ذلك ومن بعده.
حذف المضاف والمضاف إليه
قد يضاف المضاف إلى مضاف فيحذف الأول والثاني ويبقى الثالث، كقوله تعالى:
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} (الواقعة: 82) أي بدل شكر رزقكم.
وقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى ََ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (الأحزاب: 19)، أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
وقيل: الرزق في الآية الأولى الحظّ والنصيب (4) فلا حاجة إلى تقدير. وكذلك، إذا قدرت في الثانية «كالذي» حالا من الهاء والميم في «أعينهم»، لأن المضاف بعض فلا تقدير.
وقوله: {فَمََا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النََّارِ} (البقرة: 175)، وقدّره أبو الفتح في «المحتسب» (5) 3/ 153 على أفعال أهل النار.
__________
(1) في المخطوطة (فعلى ذلك).
(2) ساقطة من المطبوعة، وهي قراءة سليمان بن حماز المدني (أبو حيان، البحر المحيط، 4/ 518).
وذكرها الزمخشري في الكشاف 2/ 134بدون ذكر صاحبها.
(3) في المخطوطة (وكذلك).
(4) في المخطوطة (والنصب).
(5) تقدم التعريف به 1/ 361وبكتابه في 1/ 481.(3/223)
وأما قوله: {مِنَ الْمَوْتِ} (الأحزاب: 19) فالتقدير [من] (1) مداناة الموت أو مقاربته (2)
ولا ينكر (3) عسره (4) على الإنسان [من خوفه] (5) ولكن إذا دفع إلى أمر يقاربه (6) [أو يشارفه] (5).
ومثله الآية الأخرى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (محمد: 20).
وقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} (طه: 96)، أي من أثر حافر فرس الرسول.
وقوله: {مََا أَفََاءَ اللََّهُ عَلى ََ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ} (الحشر: 7)، أي من أموال كفار أهل القرى.
وقوله: {فَإِنَّهََا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32)، أي من أفعال ذوي تقوى القلوب.
وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ} (البقرة: 19) الآية، فإنّ التقدير كمثل ذوي صيّب، فحذف المضاف والمضاف إليه، أما حذف المضاف فلقرينة عطفه على: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً} (البقرة: 17) وأما المضاف إليه فلدلالة: {يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ}
(البقرة: 19) عليه فأعاد (8) الضمير عليه مجموعا، وإنما صير إلى هذا التقدير لأن التشبيه بين صفة المنافقين وصفة ذوي الصيّب، لا بين صفة المنافقين وذوي الصيّب.
حذف الجار والمجرور
كقوله [تعالى] (9): {خَلَطُوا عَمَلًا صََالِحاً} (التوبة: 102)، أي بسيئ {وَآخَرَ سَيِّئاً}
3/ 154 (التوبة: 102) أي بصالح. وكذا بعد أفعل التفضيل، كقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللََّهِ أَكْبَرُ}
(العنكبوت: 45)، أي من كلّ شيء.
{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ََ} (طه: 7) أي من السرّ، وكلام الزمخشريّ في «المفصّل» (10)
يقتضي أنه مما قطع فيه عن متعلّقه قصدا لنفي الزيادة، نحو فلان يعطي، ليكون كالفعل المتعدّي. إذا جعل قاصرا للمبالغة فعلى هذا لا يكون من الحذف، فإنه قال: أفعل التفضيل
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (مقابلته).
(3) في المخطوطة (يكاد).
(4) في المخطوطة (يسر).
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) في المطبوعة (هابه).
(8) في المخطوطة (فعاد).
(9) ليست في المطبوعة.
(10) ص 234.(3/224)
له معنيان: أحدهما أن يراد أنه زائد على المضاف إليه في الجملة التي هو وهم فيها شركاء.
والثاني أن يوجد [189/ ب] مطلقا له الزيادة فيها إطلاقا، ثم يضاف للتفضيل على المضاف إليه لكن بمجرد التخصيص كما يضاف ما لا تفضيل فيه، نحو قولك: الناقص والأشجّ أعدلا بني مروان كأنك قلت: عادلا. انتهى.
حذف الموصوف
يشترط فيه أمران:
أحدهما: كون الصفة خاصة بالموصوف حتى يحصل العلم بالموصوف فمتى كانت الصفة عامة امتنع حذف الموصوف. نص عليه سيبويه (1) في آخر باب ترجمة «هذا باب مجاري أواخر الكلم العربيّة». وكذلك نص عليه أرسطاطاليس (2) ليس في كتابه «الخطابة» (3).
الثاني: أن يعتمد على مجرد الصفة [من حيث هي] (4)، لتعلق غرض السياق، كقوله تعالى: {وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 115)، {وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِالظََّالِمِينَ} (البقرة: 95) فإن الاعتماد في سياق القول على مجرد الصفة لتعلّق غرض القول من المدح أو الذم (5) بها.
كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ} (الصافات: 48)، [أي حور قاصرات] (6).
وقوله: {وَدََانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلََالُهََا} (الإنسان: 14)، أي وجنّة دانية.
وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبََادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13)، أي العبد الشكور.
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2)، أي القوم المتقين.
وقوله: {وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ [وَدُسُرٍ]} [7] (القمر: 13)، أي سفينة ذات ألواح.
[وقوله] (7): {ذََلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5)، أي الأمة القيمة.
[وقوله: {أَنِ]} [7] اعْمَلْ سََابِغََاتٍ (سبأ: 11)، أي دروعا (10) سابغات.
__________
(1) في الكتاب 1/ 13.
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (أرسطاطا).
(3) كتاب الخطابة طبع بتحقيق عبد الرحمن بدوي بمكتبة النهضة القاهرة هـ / 1379هـ / 1959م. (معجم المنجد 1/ 41).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (والذم).
(6) ليست من المخطوطة.
(7) ليست في المخطوطة.
(10) في المخطوطة (دروع).(3/225)
وقوله: {يََا أَيُّهَا السََّاحِرُ} (الزخرف: 49)، أي يا أيها الرجل الساحر.
[وقوله] (1): {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} (النور: 31)، أي القوم المؤمنون.
[وقوله] (1): {وَعَمِلَ صََالِحاً} (القصص: 67)، أي عملا صالحا.
حذف الصفة
وأكثر ما يرد للتفخيم والتعظيم في النكرات، وكأنّ التنكير حينئذ علم عليه، كقوله تعالى:
{فَلََا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَزْناً} (الكهف: 105) أي وزنا نافعا.
وقوله: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش: 4)، أي من جوع شديد وخوف عظيم.
3/ 156وقوله: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ لَسْتُمْ عَلى ََ شَيْءٍ} (المائدة: 68)، أي شيء نافع.
وقوله: {مََا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ [أَتَتْ عَلَيْهِ]} [3] (الذاريات: 42)، أي سلطت عليه.
وقوله: {وَأَرْسَلْنََاكَ لِلنََّاسِ رَسُولًا} (النساء: 79)، أي جامعا لأكمل [كل] (4) صفات الرسل.
وقوله: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف: 79)، أي صالحة. وقيل: إنها قراءة ابن عباس (5). وفيه بحث وهو أنا لا نسلّم الإضمار، بل هو عام (6) مخصوص.
وقوله: {بِفََاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرََابٍ} (ص: 51)، أي كثير، بدليل ما قبله.
ويجيء في العرف، كقوله تعالى: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} (البقرة: 71)، أي المبين.
وقوله: {الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ إِنَّ النََّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آل عمران: 173)، أي الناس الذين يعادونكم.
وقوله: {[إِنَّهُ]} [7] لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (هود: 46) أي الناجين (8).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) ذكرها الزمخشري في الكشاف 2/ 399، وأبو حيان في البحر المحيط 6/ 154.
(6) في المخطوطة (علم).
(7) ليست في المطبوعة.
(8) في المخطوطة (المتأخرين) بدون (أي).(3/226)
وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [وَهُوَ الْحَقُ]} [1] (الأنعام: 66) أي قومك المعاندون.
ومنه: {فَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ [بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ]} [2] عَلَى الْقََاعِدِينَ [دَرَجَةً] (2)
(النساء: 95)، أي من أولي الضرر، {وَفَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ عَلَى الْقََاعِدِينَ} (النساء:
95)، أي من غير أولي الضرر.
قاله (4) ابن مالك وغيره، وبهذا التقدير يزول إشكال التكرار (5) من الآية.
وقوله تعالى: {فَقَدْ} [6] لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ (يونس: 16) أي لم أتل عليكم فيه شيئا، فحذفت الصفة أو الحال، قيل والعمر هنا أربعون (7) سنة.
حذف المعطوف
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} (الأعراف: 185)، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} (يوسف: 109)، {أَثُمَّ إِذََا مََا وَقَعَ} (يونس: 51) التقدير: أعموا! أمكثوا! أكفرتم! وقوله: {مََا شَهِدْنََا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} (النمل: 49)، أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، 3/ 157 بدليل قوله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} (النمل: 49) وما روي أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله وعلى هذا فقولهم: {وَإِنََّا لَصََادِقُونَ} (النمل: 49) كذب في الإخبار، وأوهموا قومهم أنهم [إذا] (8) قتلوه وأهله سرّا ولم يشعر بهم أحد وقالوا تلك المقالة [190/ أ] [يوهمون] (9) أنهم صادقون، وهم كاذبون.
ويحتمل أن يكون من حذف المعطوف عليه أي ما شهدنا مهلكه ومهلك أهله.
وقال بعض المتأخرين: أصله ما شهدنا مهلك أهلك بالخطاب ثم عدل عنه إلى الغيبة، فلا حذف.
وقد يحذف المعطوف مع حرف العطف، مثل: {لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ} (الحديد: 10).
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (قال).
(5) في المخطوطة (التقدير).
(6) تصحفت في المطبوعة إلى (لقد).
(7) في المخطوطة (أربعين).
(8) ساقطة من المطبوعة.
(9) ساقطة من المخطوطة.(3/227)
وقوله تعالى: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} [1] [فَفَسَقُوا فِيهََا (الإسراء:
16) أي أمرنا مترفيها] (1)، فخالفوا (3) الأمر، ففسقوا. وبهذا التقدير يزول الإشكال من الآية وأنه ليس الفسق مأمورا به. ويحتمل أن يكون: {أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} (الإسراء: 16) صفة للقرية لا جوابا لقوله: {وَإِذََا أَرَدْنََا} (الإسراء: 16)، التقدير: وإذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها أنا أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ويكون إذا على هذا لم يأت لها جواب ظاهر استغناء بالسياق، كما في قوله: [تعالى] (4) {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (الزمر:
73).
حذف المعطوف عليه
{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى ََ بِهِ} (آل عمران: 91)، (5) [أي لو ملكه ولو افتدى به] (5).
3/ 158ويجوز حذفه مع حرف العطف، كقوله [تعالى] (7): {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى ََ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ [مِنْ أَيََّامٍ أُخَرَ]} (8) (البقرة: 184)، أي فأفطر فعدة.
وقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} (الشعراء: 63) التقدير: فضرب فانفلق، فحذف المعطوف عليه، وهو «ضرب»، وحرف العطف وهو الفاء المتصلة ب «انفلق» فصار: «فانفلق» فالفاء الداخلة، على «انفلق» (9) هي الفاء التي كانت متصلة ب (ضرب) وأما المتصلة ب «انفلق» فمحذوفة (10).
كذا زعم ابن عصفور والأبّذيّ (11) قالوا: والذي دل على ذلك أنّ حرف العطف إنما نوى
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (فخالفه).
(4) ليس في المطبوعة.
(5) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(7) ليست في المطبوعة.
(8) ليست في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (فانغلق).
(10) في المخطوطة (المحذوفة).
(11) هو علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحيم أبو الحسن الأبذي بضم الهمزة وتشديد الموحدة وفتحها والذال(3/228)
به مشاركة الأول للثاني فإذا حذف أحد اللفظين أعني لفظ المعطوف أو المعطوف (1) عليه ينبغي ألّا يؤتى به ليزول ما أتى به من أجله.
وقال (2) ابن الضائع (3): ليس هذا من الحذف بل من إقامة المعطوف مقام المعطوف عليه لأنه سببه، ويقام السبب كثيرا (4) مقام مسبّبه وليس (5) [ما] (6) بعدها معطوفا على الجواب بل صار (7) هو الجواب بدليل (8) {فَانْبَجَسَتْ} هو جواب الأمر.
حذف المبدل منه
اختلفوا فيه، وخرّج عليه قوله: {وَلََا تَقُولُوا لِمََا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ [هََذََا حَلََالٌ وَهََذََا حَرََامٌ]} [9] (النحل: 116).
حذف الموصول
قوله: {آمَنََّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنََا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} (العنكبوت: 46)، أي (10) والذي أنزل إليكم لأن «الذي أنزل إلينا» ليس هو الذي أنزل إلى من قبلنا ولذلك (11) أعيدت «ما» بعد «ما» في قوله: {قُولُوا آمَنََّا بِاللََّهِ وَمََا أُنْزِلَ إِلَيْنََا وَمََا أُنْزِلَ إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ} (البقرة: 136). 3/ 159
__________
المعجمة من أبذة بليدة بالأندلس (ابن حجر، تبصير المشتبه 1/ 32ومعجم البلدان لياقوت 1/ 64)، كان نحويا ذاكرا للخلاف في النحو، من أحفظ أهل وقته لخلافهم، من أهل المعرفة بكتاب سيبويه والواقفين على غوامضه، أقرأ بمالقة وقرأ عليه ابن الزبير، ولي إمامة جامع القيسارية، انتقل إلى غرناطة فأقرأ بها حتى مات سنة 680هـ (السيوطي، بغية الوعاة 2/ 199).
(1) في المخطوطة (والمعطوف).
(2) في المخطوطة (قال).
(3) في المخطوطة (الصائغ) وابن الضائع هو علي بن محمد الكتامي تقدم التعريف به في 2/ 364.
(4) في المخطوطة (كثير).
(5) في المخطوطة (فليس).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (هو صار).
(8) في المخطوطة (وبدليل).
(9) ليست في المخطوطة.
(10) في المخطوطة (لأن).
(11) في المخطوطة (وكذلك).(3/229)
وهو نظير قوله. (1) [{آمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتََابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى ََ رَسُولِهِ وَالْكِتََابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (النساء: 136).
وقوله: {وَمَنْ هُوَ]} [1] مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ (الرعد: 10).
وقوله: {وَمََا مِنََّا إِلََّا لَهُ مَقََامٌ مَعْلُومٌ} (الصافات: 164) أي من له.
وشرط ابن مالك في بعض كتبه لجواز (3) الحذف كونه معطوفا على موصول آخر ويؤيده (4) هذه الآية. قال: ولا يحذف موصول حرفيّ إلا «أن» كقوله تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} (الروم: 24).
حذف المخصوص في باب نعم إذا علم من سياق الكلام
كقوله تعالى (5): {نِعْمَ الْعَبْدُ [إِنَّهُ أَوََّابٌ]} [6] (ص: 30) التقدير: نعم العبد أيوب، أو نعم العبد هو، لأن القصة في ذكر أيوب فإن قدرت: نعم العبد هو لم يكن «هو» عائدا (7) على العبد بل على أيوب.
وكذلك قوله تعالى: {وَوَهَبْنََا لِدََاوُدَ سُلَيْمََانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} (ص: 30)، فسليمان هو المخصوص الممدوح، وإنما لم يكرر لأنه تقدم منصوبا.
وكذلك قوله تعالى: {فَقَدَرْنََا فَنِعْمَ الْقََادِرُونَ} (المرسلات: 23)، أي نحن.
وقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دََارُ الْمُتَّقِينَ} (النحل: 30)، أي الجنة، أو دارهم.
{فَنِعْمَ عُقْبَى الدََّارِ} (الرعد: 24)، أي عقباهم.
3/ 160 {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} (آل عمران: 136)، أي أجرهم.
وقال [190/ ب]: {لَبِئْسَ الْمَوْلى ََ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الحج: 13) أي من ضرّه أقرب من نفعه.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) في المطبوعة (لجواب).
(4) في المخطوطة (يزده).
(5) في المخطوطة (قوله).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (عائد).(3/230)
وقال تعالى: {قُلْ بِئْسَمََا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمََانُكُمْ} (البقرة: 93)، أي إيمانكم بما أنزل عليكم، وكفركم [بما] (1) وراءه.
وقد يحذف الفاعل والمخصوص، كقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظََّالِمِينَ بَدَلًا} (الكهف:
50)، أي بئس البدل إبليس وذريّته، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فبها ونعمت» (2)، أي ونعمت الرخصة.
حذف الضمير المنصوب المتصل
يقع في أربعة أبواب:
أحدها: الصلة، كقوله تعالى: {أَهََذَا الَّذِي بَعَثَ اللََّهُ رَسُولًا} (الفرقان: 41).
الثاني: الصفة، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}
(البقرة: 48)، أي فيه، بدليل قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ} (البقرة:
281) ولذلك يقدّر في الجمل المعطوف على الأولى لأن حكمهنّ حكمها، فالتقدير:
{وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة: 48) فيه.
ثم اختلفوا، فقال الأخفش: حذفت على التدريج أي حذف (3) العطف فاتصل الضمير فحذف. وقال سيبويه (4): حذفا معا لأول وهلة.
وقيل: عدّي الفعل إلى الضمير أولا اتساعا، وهو قول الفارسي. 3/ 161
وجعل الواحديّ (5) من هذا قوله تعالى: {يَوْمَ لََا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً}
(الدخان: 41)، أي منه: وقوله: {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ} (غافر:
18)، أي ما للظالمين منه.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) قطعة من حديث أوله «من توضأ يوم الجمعة»، أخرجه أحمد في المسند 5/ 16، 22. مسند سمرة بن جندب رضي الله عنه، والدارمي في السنن 1/ 362، كتاب الصلاة، باب الغسل يوم الجمعة، وأبو داود في السنن 1/ 251، كتاب الطهارة (1)، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة (130)، الحديث (354)، والترمذي في السنن 2/ 369، كتاب الصلاة (2)، باب في وضوء يوم الجمعة (357)، الحديث (497)، والنسائي في المجتبى من السنن 3/ 94، كتاب الجمعة (14)، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة (9).
(3) في المخطوطة (حرف).
(4) في الكتاب 1/ 386 (باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال).
(5) هو علي بن أحمد الواحدي تقدم في 1/ 105.(3/231)
وفيه نظر أما الأولى فلأنّ {يُغْنِي} جملة قد أضيف إليها اسم الزمان، وليست صفة.
وقد [نصّوا] (1) على أنّ عود ضمير إلى المضاف من الجملة التي أضيف إليها الظرف غير جائز حتى قال ابن السراج (2): فإن قلت: أعجبني يوم قمت فيه امتنعت الإضافة لأن الجملة حينئذ صفة، ولا يضاف موصوف إلى صفته. قال ابن مالك: و [هذا] (3) مما خفي على أكثر النحويين. وأما الثانية فكأنه يريد أن {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} (غافر: 18) صفة ليوم، المضاف إليها الأزمنة وذلك متعذر لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة، والظاهر أن الجملة حال [منه] (4)، ثم حذف العائد المجرور ب «في»، كما يحذف من الصفة.
الثالث: الخبر، كقوله تعالى: {وَكُلًّا} [5] وَعَدَ اللََّهُ الْحُسْنى ََ (النساء: 95) في قراءة ابن عامر.
الرابع: الحال.
تنبيه
قال ابن الشّجري (6): أقوى هذه الأمور في الحذف (7) الصلة، لطول الكلام فيها لأنه أربع كلمات نحو: جاء الذي ضربت وهو: الموصول، والفعل، والفاعل، والمفعول.
ثم الصفة لأنّ الموصوف قائم بنفسه، وإنما أتى بالصفة للتوضيح. ثم الخبر لانفصاله عن المبتدأ باعتبار أنه محكوم عليه.
3/ 162ووجه التفاوت أن الصفة رتبة متوسطة بين الصلة والخبر لأن الموصول وصلته (8)
كالكلمة الواحدة، ولهذا لا يفصل بينهما والصفة دونها في ذلك ولهذا يكثر حذف
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) تقدم التعريف به 2/ 438.
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (وكلا)، والقراءة ذكرها ابن الشجري في أماليه 1/ 326.
(6) انظر الأمالي الشجرية 1/ 327، بتصرف.
(7) في المخطوطة (الصرف).
(8) في المخطوطة (والصلة).(3/232)
الموصوف وإقامة الصفة مقامه، والخبر دون ذلك، فكان الحذف آكد في الصلة من الصفة، لأن هناك شيئين يدلّان على الحذف الصفة تستدعي موصوفا، والعامل يستدعيه أيضا. [ثم الخبر] (1)
ويستحسن (2) ابن مالك هذا الكلام، ولم يتكلّم على الحال لرجوعه إلى الصفة.
حذف المفعول
وهو ضربان:
أحدهما: أن يكون مقصودا مع الحذف فينوى لدليل ويقدّر في [191/ أ] كلّ موضع ما يليق به كقوله تعالى: {فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (البروج: 16)، أي يريده.
{فَغَشََّاهََا مََا غَشََّى} (النجم: 54) أي غشاها إياه.
{اللََّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ} (الرعد: 26).
{لََا عََاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ إِلََّا مَنْ رَحِمَ} (هود: 43).
{وَسَلََامٌ عَلى ََ عِبََادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ََ} (النمل: 59).
[و] (3) {أَيْنَ شُرَكََائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (القصص: 62).
وكلّ هذا على حذف ضمير المفعول، وهو مراد، حذف تخفيفا لطول الكلام بالصفة ولولا إرادة (4) المفعول وهو الضمير (4) لخلت الصلة من ضمير يعود على الموصول وذلك لا يجوز وكان في حكم المنطوق به فالدلالة عليه من وجهين: اقتضاء الفعل له، واقتضاء 3/ 163 الصلة إذا كان العائد.
ومنه قوله تعالى: وما عملت أيديهم (يس: 35) في قراءة حمزة والكسائي (6)
بغيرها، أي [ما] (7) عملته، بدليل قراءة الباقين، ف «ما» في موضع خفض للعطف (8) على (ثمره) (9).
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) في المخطوطة (واستحسن).
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) تقديم وتأخير في المخطوطة وهو (الضمير وهو المفعول).
(6) وأبي بكر والباقون بالهاء (التيسر: 184).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (بالعطف).
(9) في المخطوطة (غيره).(3/233)
ويجوز أن تكون «ما» نافية، والمعنى: ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم فيكون أبلغ في الامتنان. ويقوّي ذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزََّارِعُونَ} (الواقعة: 6463) وعلى هذا فلا تكون الهاء مرادة، لأنها غير موصولة.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {وَيَشْرَبُ مِمََّا تَشْرَبُونَ} (1) (المؤمنون: 33)، وهو فاسد، لأن «شرب» يتعدّى بنفسه.
والغرض حينئذ بالحذف أمور:
منها: قصد الاختصار عند قيام القرائن والقرائن إما حالية كما في قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (الأعراف: 143)، لظهور [أن] (2) المراد: أرني ذاتك. ويحتمل أن يكون هاب المواجهة بذلك، ثم براه الشوق. ويجوز أن يكون أخّر ليأتي به مع الأصرح لئلا يتكرّر هذا المطلوب العظيم على المواجهة إجلالا.
ومنه قوله تعالى: {عَلى ََ أَنْ تَأْجُرَنِي} (القصص: 27) (3) [الظاهر أنه متعدّ حذف مفعوله أي تأجرني] (3) نفسك.
وجعل منه السكاكيّ (5) قوله تعالى: {وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ 3/ 164وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودََانِ قََالَ مََا خَطْبُكُمََا قََالَتََا لََا نَسْقِي حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ}
(القصص: 23) فمن قرأ بكسر الدال (6) من {يُصْدِرَ} فإنه حذف المفعول في خمسة مواضع، والأقرب أنه من الضرب الثاني كما سنبيّنه (7) فيه إن شاء الله [تعالى] (8).
وقوله: {فَإِذََا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفََاتٍ} (البقرة: 198)، أي أنفسكم.
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (تشربون منه).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) هو يوسف بن أبي بكر السكاكي تقدم في 1/ 163، وانظر مفتاح العلوم: 229ترك المفعول «دلائل الإعجاز» للجرجاني ص 124.
(6) قراءة ابن عامر وأبي عمرو «يصدر» بفتح الياء وضم الدال، والباقون بضم الياء وكسر الدال (التيسير:
171).
(7) في المخطوطة (سنذكره).
(8) ليست في المخطوطة.(3/234)
وقوله: {فَذُوقُوا بِمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا} (السجدة: 14)، أي فذوقوا العذاب.
وقوله: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} (إبراهيم: 37)، أي ناسا أو فريقا.
وقوله: {فَادْعُ لَنََا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنََا} (البقرة: 61)، أي شيئا.
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ} (إبراهيم: 48)، أي غير السموات. وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمََنَ} (الإسراء: 110) على أن الدعاء بمعنى التسمية التي تتعدى (1) إلى مفعولين أي سمّوه الله، أو سموه الرحمن أيّا ما تسمّوه (2)، فله الأسماء الحسنى، إذ لو كان المراد بمعنى الدعاء المتعدي لواحد لزم الشرك إن كان مسمّى الله غير مسمّى الرحمن وعطف الشيء على نفسه إن كان عينه.
ومنها قصد الاحتقار كقوله: {كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (المجادلة: 21) أي الكفار.
ومنها قصد التعميم ولا سيما إذا كان في حيّز النفي، كقوله تعالى: {وَمََا تُغْنِي الْآيََاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لََا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101). وكذا {وَمََا كََانُوا مُؤْمِنِينَ} (3)
(الأعراف: 72) وكثيرا ما يعتري الحذف في رءوس الآي نحو: {لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ}
(البقرة: 102).
و {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} (الأعراف: 58).
{أَفَلََا} [191/ ب] {تَسْمَعُونَ} (القصص: 71).
{أَفَلََا تُبْصِرُونَ} (القصص: 72).
{أَوَلََا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا يُسِرُّونَ وَمََا يُعْلِنُونَ} (البقرة: 77).
{إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} (البقرة: 14).
{فَلََا تَجْعَلُوا لِلََّهِ أَنْدََاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22).
وكذا (4) كلّ موضع كان الغرض (5) إثبات المعنى الذي دلّ عليه الفعل لفاعل غير متعلّق بغيره.
__________
(1) في المخطوطة (الذي يتعدى).
(2) في المخطوطة (تسمونه).
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (وما أنتم بمؤمنين).
(4) في المخطوطة (وكذا).
(5) في المخطوطة (اللفظ).(3/235)
ومنه قوله تعالى: {وَاللََّهُ يَدْعُوا إِلى ََ دََارِ السَّلََامِ} (يونس: 25)، أي كلّ أحد (1)، لأن الدعوة عامة والهداية خاصة.
وأما قوله تعالى: {وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 3)، فكال ووزن يتعديان إلى مفعولين: أحدهما باللام، والتقدير: كالوا لهم ووزنوا لهم، وحذف المفعول الثاني لقصد التعميم.
وما ذكرناه من كون «هم» منصوبا في الموضع بعد اللام هو (2) الظاهر، وقرره ابن الشجري في «أماليه (3)»، قال: «وأخطأ بعض المتأولين حيث زعم أن (4) [«هم»] (5)
ضمير مرفوع أكدت به الواو كالضمير في قولك: «خرجوا هم»، ف «هم» على هذا التأويل عائد على المطفّفين.
ويدلّ على بطلان هذا القول أمران:
3/ 166أحدهما: عدم ثبوت الألف [بعد الواو] (6) في «كالوهم» و «وزنوهم» ولو كان كما قال لأثبتوها في خط المصحف كما أثبتوها في قوله تعالى: {خَرَجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ}
(البقرة: 243) {قََالُوا} [7] لِنَبِيٍّ لَهُمُ (البقرة: 246) ونحوه.
والثاني أن تقدم ذكر «النّاس» يدلّ على أنّ الضمير راجع إليهم فالمعنى: {إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (المطففين: 2) وإذا كالوا للناس أو وزنوا للناس يخسرون».
وجعل الزمخشريّ (8) من حذف المفعول قوله (9) تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ}
__________
(1) في المخطوطة (واحد).
(2) في المخطوطة (وهو).
(3) الأمالي الشجرية 1/ 364363 (فصل حذف الحرف).
(4) في المخطوطة (أنه).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) ساقطة من المطبوعة.
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (وقالوا).
(8) الكشاف 1/ 114.
(9) في المخطوطة زيادة (منه قوله).(3/236)
{فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) أي في المصر. وعند أبي عليّ أن الشهر ظرف، والتقدير فمن شهد منكم [المصر] (1) في الشهر.
ومنها تقدم مثله في اللفظ كقوله تعالى: {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد:
39)، أي ويثبت ما يشاء.
فلما كان المفعول الثاني بلفظ الأول في عمومه واحتياجه إلى الصلة (2) جاز حذفه، لدلالة ما ذكر عليه، كقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ} (المؤمنون: 96).
وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ} (إبراهيم: 48) أي غير السموات.
وقوله: {لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ} (الحديد: 10)، أي ومن (3) أنفق من بعده وقاتل بدليل ما بعده.
وقوله: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات: 179) أي أبصرهم، بدليل قوله:
{وَأَبْصِرْهُمْ} (الصافات: 175). وسبق عن ابن ظفر (4) السرّ في ذكر المفعول في الأول وحذفه في الثاني في هذه الآية الشريفة أن الأولى اقتضت نزول العذاب بهم يوم بدر، فلما تضمنت 3/ 167 التشفّي قيل: {أَبْصِرْهُمْ}. وأما الثاني فالمراد بها يوم الفتح واقترن بها مع الظهور عليهم تأمينهم والدعاء إلى إيمانهم فلم يكن وقتا للتشفّي بل للبروز فقيل له: {أَبْصِرْ}، والمعنى: فسيبصرون منّك عليهم.
وقوله: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مََا وَعَدَ رَبُّكُمْ} (الأعراف: 44)، أي وعدكم ربكم فحذف لدلالة قوله قبله: {مََا وَعَدَنََا رَبُّنََا} (الأعراف: 44)، قاله الزمخشري (5).
وقد يقال: أطلق ذلك ليتناول كلّ ما وعد الله من الحساب والبعث والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة لأنهم كانوا يكذّبون [بذلك] (6) أجمع، ولأن الموعود كلّه مما ساءهم
__________
(1) ساقطة من المخطوطة وبياض في موضعها.
(2) عبارة المخطوطة (واحتياطه للعلة).
(3) في المخطوطة (من).
(4) هو أبو عبد الله بن ظفر بن محمد الصقلي تقدم في 2/ 167.
(5) في الكشاف 2/ 64.
(6) ساقطة من المخطوطة.(3/237)
وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم، فأطلق لذلك ليكون (1) من الضرب الآتي.
وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللََّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ فَهُوَ عَلى ََ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقََاسِيَةِ} (الزمر:
22).
ومنها رعاية الفاصلة، نحو: {وَالضُّحى ََ * وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ * مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ}
(الضحى: 321) [192/ أ] [أي ما قلاك] (2)، فحذف [المفعول] (2)، لأن فواصل الآي على الألف.
ويحتمل أنه للاختصار لظهور المحذوف [فيما] (4) قبله أي أفمن (5) شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه فحذف لدلالة: {فَوَيْلٌ لِلْقََاسِيَةِ} (الزمر: 22).
ومنها البيان بعد الإبهام كما في مفعول المشيئة والإرادة، فإنهم لا يكادون يذكرونه، كقوله تعالى: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصََارِهِمْ} (البقرة: 20).
{وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ} (الأنعام: 35).
3/ 168 {وَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9).
{فَإِنْ يَشَإِ اللََّهُ يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ} (الشورى: 24).
{مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ} (الأنعام: 39).
{وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا} (السجدة: 13).
التقدير: لو شاء الله أن يفعل [ذلك] (6) لفعل.
وشرط ابن النحوية (7) في حذفه دخول أداة الشرط عليه كما سبق من قوله (8): {فَإِنْ} [9]
يَشَإِ اللََّهُ يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ (الشورى: 24).
__________
(1) في المخطوطة (فيكون).
(2) ليست في المخطوطة.
(4) ساقطة من المطبوعة.
(5) في المخطوطة (فمن).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) هو محمد بن يعقوب بن إلياس بدر الدين ابن النحوية الدمشقي صاحب كتاب «إسفار الصباح» تقدم التعريف به في 3/ 209.
(8) في المخطوطة (وقوله).
(9) تصحفت في المخطوطة (إن).(3/238)
[و] (1) {لَوْ نَشََاءُ لَقُلْنََا مِثْلَ هََذََا} (الأنفال: 31).
{مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: 39).
والحكمة في كثرة حذف مفعول المشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مثيلة (2) الجواب ولذلك كانت الإرادة كالمشيئة في جواز اطّراد حذف مفعولها صرح به الزمخشريّ في تفسير سورة البقرة (3)، وابن الزّملكاني (4) في «البرهان»، والتنوخي (5) في «الأقصى»: كقوله: [تعالى]: (6) {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ} (الصف:
8)، وإنما حذفه لأن في الآية قبلها ما يدلّ على أنهم أمروا لكذب وهو بزعمهم (7) إطفاء نور الله، فلو ذكر أيضا لكان كالمتكرر فحذف وفسّر بقوله: {لِيُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ} 3/ 169 (الصف: 8) وكان في الحذف تنبيه على هذا المعنى الغريب.
وينبغي أن يتمهل في تقدير مفعول المشيئة فإنه يختلف المعنى بحسب التقدير ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا} (السجدة: 13) فإن التقدير كما قاله عبد القاهر [الجرجاني] (8): ولو شئنا أن نؤتي كلّ نفس هداها لآتيناها، لا يصحّ إلا على ذلك لأنه إن لم يقدر [ل {شِئْنََا}] (9) هذا المفعول أدّى والعياذ بالله إلى أمر عظيم، وهو نفي أن يكون لله مشيئة على الإطلاق لأن من شأن «لو» أن يكون الإثبات بعدها نفيا، ألا ترى أنك إذا قلت: لو جئتني أعطيتك، كان المعنى على أنه لم يكن مجيء ولا إعطاء وأما قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنََا لَرَفَعْنََاهُ بِهََا} (الأعراف: 176) فقدّره النحويون: فلم نشأ فلم نرفعه.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (مشيئة).
(3) الكشاف 1/ 43.
(4) هو محمد بن علي بن عبد الواحد تقدم التعريف به في 1/ 135، وبكتابه في 2/ 228.
(5) هو محمد بن محمد التنوخي تقدم التعريف به وبكتابه في 2/ 448.
(6) ليست في المطبوعة.
(7) في المخطوطة (يزعم).
(8) ساقط من المخطوطة، وانظر كتابه دلائل الإعجاز ص 126، حذف المفعول به باب من الإضمار والحذف بابا يسمى الإضمار على شريطة التفسير. مع تصرف في النقل.
(9) ليست في المطبوعة.(3/239)
وقال ابن الخبّاز (1): «الصواب أن يكون التقدير «فلم نرفعه فلم نشأ»، لأنّ نفي اللازم يوجب نفي الملزوم، فوجود (2) الملزوم يوجب وجود اللازم فيلزم من وجود المشيئة وجود الرفع، ومن نفى الرفع نفى المشيئة وأما نفي الملزوم فلا يوجب نفي اللازم، ولا وجود اللازم وجود الملزوم». انتهى.
ويؤيده قوله تعالى: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} (الأنبياء: 22)، فإن المقصود [منه] (3) انتفاء وجود الآلهة لانتفاء لازمها وهو الفساد.
ويمكن توجيه كلام النحويين بأنهم جعلوا الأوّل شرطا للثاني، لأنّهم عدوّا «لو» من حروف الشرط، وانتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط. وقد يكون الشرط مساويا للمشروط بحيث يلزم من وجوده وجود المشروط، ومن عدمه عدمه. والمقصود في الآية تعليل عدم الرفع بعدم المشيئة لا العكس.
3/ 170وأوضح منه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ََ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بَرَكََاتٍ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ وَلََكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنََاهُمْ بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} [192/ ب] (الأعراف:
96)، جعل انتفاء الملزوم سببا لانتفاء اللازم لأن «كذبوا» ملزوم عدم الإيمان والتقوى فأخذهم (4) بذلك ملزوم عدم فتح بركات السماء والأرض عليهم. والفاء في قوله {فَأَخَذْنََاهُمْ} للسببية، وجعل التكذيب سببا لأخذهم بكفرهم ولعلّ ذلك يختلف باختلاف المواد ووقوع الأفراد، مع أن القول ما قاله ابن الخباز. وأما ما جاء على خلافه فذلك من خصوص المادة، وذلك لا يقدح في القضية الكلية ألا ترى أنا نقول: الموجبة الكلية لا تنعكس كلية [مع أنها تنعكس كليّة] (5) في بعض المواضع، كقولنا: كل إنسان ناطق، ولا يعدّ ذلك مبطلا للقاعدة.
__________
(1) هو أحمد بن الحسين شمس الدين ابن الخباز تقدم التعريف في 3/ 14.
(2) في المخطوطة (ووجود).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (وفأخذناهم).
(5) العبارة بين الحاصرتين ليست في المخطوطة.(3/240)
تنبيهان
[التنبيه] (1) الأول
يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة أمور: أحدها ما إذا كان مفعول المشيئة عظيما أو غريبا فإنه لا يحذف، كقوله تعالى: {[لَوْ أَرََادَ اللََّهُ]} [2] أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى ََ مِمََّا يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ سُبْحََانَهُ (الزمر: 4) الآية (3)، أراد ردّ قول الكفار: «اتخذ الله [ولدا] (2)» بما يطابقه في اللفظ ليكون أبلغ في الردّ، لأنه لو حذفه فقال: «لو أراد الله لاصطفى» لم يظهر المعنى المراد لأن الاصطفاء قد لا يكون بمعنى التبنّي، ولو قال: لو أراد الله لاتخذ ولدا لم يكن فيه ما في إظهاره من تعظيم جرم قائله.
ومثله [الإمام أبو العباس الحلبي] (5) صاحب كتاب «القول الوجيز في استنباط علم البيان من الكتاب العزيز» بقوله تعالى: {لَوْ نَشََاءُ لَقُلْنََا مِثْلَ هََذََا} (الأنفال: 31). 3/ 171
وقوله: {فَإِنْ يَشَإِ اللََّهُ يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ} (الشورى: 24). و {مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: 39). وفيما ذكره نظر.
قلت: (6) يجيء الذكر في مفعول الإرادة أيضا، إذا كان (6) [غريبا] (8) كقوله تعالى:
{لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} (الأنبياء: 17).
الثاني: إذا احتيج لعود الضمير عليه، فإنه يذكر، كقوله [تعالى] (9): {لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنََاهُ} (الأنبياء: 17)، فإنه لو حذف لم يبق للضمير ما يرجع عليه.
__________
(1) ساقط من المخطوطة.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (إلا أنه).
(5) الكنية ساقطة من المطبوعة، وهو أحمد بن يوسف بن عبد الدائم بن محمد أبو العباس الحلبي شهاب الدين المقرئ النحوي المعروف بالسّمين، نزيل القاهرة تعاني النحو فمهر فيه ولازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه، وأخذ القراءات عن التقي الصائغ ومهر فيها، من تصانيفه «تفسير القرآن» و «الدر المصون في إعراب علوم الكتاب المكنون» وشرح التسهيل والشاطبية ت 756هـ (ابن حجر، الدرر الكامنة 1/ 339) وكتابه مخطوط منه نسخة بالمكتبة الأزهرية (معجم مصنفات القرآن الكريم 1/ 116).
(6) عبارة المخطوطة (ويجيء المذكر في مفعول أراد إذا).
(8) ساقطة من المطبوعة.
(9) ليست في المطبوعة.(3/241)
وقد يقال: الضمير لم يرجع عليه وإنما عاد على معمول معموله.
الثالث: أن يكون السامع (1) منكرا لذلك، أو كالمنكر، فيقصد إلى إثباته عنده، فإن لم يكن منكرا، فالحذف.
والحاصل أن حذف مفعول «أراد» و «شاء» لا يذكر إلا لأحد هذه الثلاثة.
[التنبيه] (2) الثاني
أنكر الشيخ أبو حيّان في باب عوامل الجزم من شرح «التسهيل» (3) هذه القاعدة وقال:
غلط (4) البيانيون في دعواهم لزوم حذف مفعول المشيئة إلا فيما إذا كان مستغربا وفي القرآن: {لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 28). {لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 37). ولهم أن يقولوا: إن المفعول هاهنا عظيم فلهذا صرّح به فلا 3/ 172غلط على القوم وأما قوله تعالى: {فَيَقُولُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا} (البقرة: 26) فإذا جعلت «ماذا» بمعنى «الذي» فمفعول «أراد» متقدّم عليه، وإن جعلت «ذا» [وحدها] (5) بمعنى «الذي» فيكون مفعول «أراد» محذوفا وهو ضمير «ذا» ولا يجوز أن يكون «مثلا» مفعول «أراد» لأنه أحد معموليه ولكنه حال.
فصل
وقد كثر حذف مفعول أشياء غير ما سبق منها الصبر، نحو: {فَاصْبِرُوا أَوْ لََا تَصْبِرُوا} (الطور: 16)، [و] (6) {اصْبِرُوا وَصََابِرُوا} (آل عمران: 200).
وقد يذكر، نحو: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (الكهف: 28) قال الزمخشري في تفسير سورة الحجرات (7): قولهم: صبر عن كذا (8)، محذوف منه المفعول وهو النفس.
__________
(1) في المخطوطة (للسامع).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) كتاب «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك الطائي شرحه العلامة أثير الدين، أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي المتوفى سنة 745هـ وسماه «التذييل والتكميل» وهو شرح كبير في مجلدات (حاجي خليفة، كشف الظنون 1/ 405).
(4) في المخطوطة (قال وغلط).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) ليست في المطبوعة.
(7) الكشاف 4/ 8.
(8) في المخطوطة (هذا).(3/242)
ومنها مفعول «رأى»، كقوله: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى ََ} (النجم: 35).
قال الفارسيّ: الوجه أنّ «يرى» هنا للتعدية (1) لمفعولين لأن رؤية الغائب لا تكون إلا علما، والمعنى عليه قوله: {عََالِمُ الْغَيْبِ} (2) (الجن: 26) [193/ أ] وذكره العلم، قال:
والمفعولان محذوفان فكأنه (3) قال: فهو يرى الغائب حاضرا، (4) أو حذف كما حذف (4) في قوله: {أَيْنَ شُرَكََاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (6) (الأنعام: 22)، أي تزعمونهم إياهم.
وقال ابن خروف (7): هو من باب الحذف لدليل، لأن المعنى دالّ (8) على المفعولين 3/ 173 أي فهو يعلم ما يفعله ويعتقده حقّا وصوابا، ولا فائدة في الآية مع الاقتصار، لأنه لا يعلم منه (9) المراد. وقد ذهب إليه بعض المحققين وعدل عن الصواب.
ومنها وعد يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما كأعطيت، قال تعالى:
{وَوََاعَدْنََاكُمْ جََانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} (طه: 80)، ف «جانب» مفعول ثان، ولا يكون ظرفا لاختصاصه. والتقدير: واعدناكم (10) إتيانه أو مكثا (11) فيه.
{وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} (المائدة: 9).
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللََّهُ إِحْدَى الطََّائِفَتَيْنِ أَنَّهََا لَكُمْ} (الأنفال: 7)، فإحدى الطائفتين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني وأنها لكم، بدل منه، والتقدير: وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطائفتين أو ملكها.
وقال تعالى: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (النور: 55)، فلم يتعدّ (12) الفعل فيها إلا إلى واحد، و {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تفسير
__________
(1) في المخطوطة (المتعدية).
(2) تكررت في هذا الموضع عبارة (قال الفارسي إن يرى).
(3) في المخطوطة (وكأنه).
(4) عبارة المخطوطة (وحذفا كما حذفا).
(6) الآية في المخطوطة {أَيْنَ شُرَكََائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 74].
(7) هو علي بن محمد بن علي أبو الحسن تقدم التعريف به في 2/ 497.
(8) في المخطوطة (دل).
(9) في المخطوطة (معه).
(10) في المخطوطة (وعدناكم).
(11) في المخطوطة (مكناكم).
(12) في المطبوعة (يعدّ).(3/243)
للوعد ومبين له، كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(النساء: 11)، فالجملة الثانية تبيين للوصية، لا مفعول ثان.
وأما قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} (طه: 86)، {إِنَّ اللََّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (إبراهيم: 22) فإن هذا ونحوه يحتمل أمرين: انتصاب الوعد بالمصدر، وبأنه المفعول الثاني على تسمية الموعود به وعدا.
وأما قوله تعالى: {وَإِذْ وََاعَدْنََا مُوسى ََ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (البقرة: 51) فمما (1) تعدّى 2/ 174 [فيه] (2) «وعد» إلى اثنين، لأن «الأربعين» لو كان ظرفا لكان الوعد في جميعه يعني من حيث إنه معدود، فيلزم وقوع المظروف في كل فرد من أفراده، وليس الوعد واقعا في «الأربعين» [بل] (3) ولا في بعضها.
ثم قدّر الواحديّ وغيره محذوفا [مضافا] (4) إلى «الأربعين»، وجعلوه المفعول الثاني، فقالوا: التقدير: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين [ليلة] (5)، أو تمام أربعين، ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه.
قال بعضهم: ولم يظهر لي وجه عدولهم عن كون «أربعين» هو نفس المفعول إلى تقدير هذا المحذوف إلا أن يقال: نفس الأربعين ليلة لا توعد (6) لأنها واجبة الوقوع، وإنما المعنى على تعليق الوعد بابتدائها وتمامها، ليترتب على [ذلك] (7) الانتهاء شيء.
قلت: وقال أبو البقاء (8): ليس أربعين ظرفا (9) [إذ ليس المعنى وعده في أربعين.
وقال غيره: لا يجوز أن يكون ظرفا] (9) لأنه لم يقع الوعد في كل من أجزائه، ولا [في] (9) بعضه.
__________
(1) في المخطوطة (مما).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) ليست في المطبوعة.
(6) في المخطوطة (يوعد).
(7) ساقطة من المطبوعة.
(8) العكبري، تقدم التعريف به في 1/ 159، وانظر إملاء ما من به الرحمن 1/ 21.
(9) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/244)
ومنها «اتخذ» تتعدى لواحد أو لاثنين، فمن الأول قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا} (الأنبياء: 17)، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} (الفرقان: 3)، {أَمِ اتَّخَذَ مِمََّا يَخْلُقُ بَنََاتٍ} (الزخرف: 16)، {يََا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}
(الفرقان: 27). ومن الثاني: {اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً} (المنافقون: 2)، {لََا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيََاءَ} (الممتحنة: 1)، {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} (المؤمنون: 110) والثاني من المفعولين هو الأول في المعنى.
قال الواحدي (1) فأما قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} (البقرة: 51) 3/ 175 وقوله: {بِاتِّخََاذِكُمُ الْعِجْلَ} (البقرة: 54) {اتَّخَذُوهُ وَكََانُوا ظََالِمِينَ} (الأعراف: 148) {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} (الأعراف: 152)، فالتقدير في هذا كلّه: اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني.
والدليل على ذلك أنه لو كان على ظاهره لكان من صاغ عجلا أو نحوه، أو عمله بضرب من الأعمال، استحقّ الغضب من الله، لقوله (2): {سَيَنََالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ [وَذِلَّةٌ]} [3] (الأعراف: 152).
وفيما قاله [193/ ب] نظر لأن الواقع أن أولئك عبدوه فالتقدير على هذا في المتعدي لواحد (4) أنّ الذين اتخذوا العجل وعبدوه ولهذا جوّز الشيخ أثير الدين (5) في هذه الآيات كلّها أن تكون (6) «اتخذ» فيها (7) متعدّية (8) [إلى واحد، قال: ويكون ثمّ جملة محذوفة تدل على المعنى وتقديره: «وعبدتموه إلها» ورجّحه على القول الآخر بأنها لو كانت متعدّية] (8) في هذه القصة لاثنين لصرّح بالثاني ولو في موضع واحد.
__________
(1) هو علي بن أحمد الواحدي تقدم التعريف به في 1/ 105.
(2) في المخطوطة (كقوله).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (بواحد).
(5) انظر البحر المحيط 1/ 200.
(6) في المخطوطة (يكون).
(7) في المخطوطة (فيه).
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/245)
الضرب الثاني:
ألّا يكون المفعول مقصودا أصلا وينزّل الفعل المتعدّي (1) منزلة القاصر (2)
[وذلك] (3) عند إرادة وقوع نفس (4) الفعل فقط وجعل (5) المحذوف نسيا منسيّا، كما ينسى الفاعل عند بناء الفعل، فلا يذكر المفعول، ولا يقدّر غير أنه لازم الثبوت عقلا لموضوع كلّ فعل متعدّ [لأن الفعل] (3) لا يدرى تعيينه.
وبهذا يعلم أنه ليس كلّ ما [هو] (7) لازم من موضوع (8) الكلام مقدرا فيه، كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (البقرة: 24).
وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} (البقرة: 60)، لأنه لم يرد الأكل من معيّن، وإنما أراد وقوع (9) هذين الفعلين.
3/ 176وقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، ويسمّى المفعول حينئذ مماتا.
ولما كان التحقيق أنه لا يعدّ هذا من المحذوف، فإنه لا حذف فيه بالكلّيّة ولكن تبعناهم في العبارة نحو فلان يعطي قاصدا (10) أنه يفعل الإعطاء. وتوجد هذه الحقيقة إيهاما للمبالغة بخلاف ما يقصد فيه تعميم الفعل نحو: هو يعطي ويمنع فإنه أعمّ تناولا من قولك: يعطي الدرهم ويمنعه والغالب أنّ هذا يستعمل في النفي، كقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17)، والآخر في الإثبات، كقوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الروم: 24).
__________
(1) في المخطوطة (المتقدم).
(2) في المخطوطة (المتأخر).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) تقديم وتأخير في المخطوطة (نفس وقوع).
(5) في المخطوطة (ويجعل).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (المراد أوقعوا).
(9) في المخطوطة (وقوع).
(10) عبارة المخطوطة (إنه قاصدا أنه).(3/246)
ومن أمثلة هذا الضرب قوله تعالى: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 258).
وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مََا لََا يَسْمَعُ وَلََا يُبْصِرُ} (مريم: 42).
وقوله: {وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ} (القصص: 23) [الخ الآية] (1) حذف منها المفعول خمس مرات لأنه غير مراد وهو قوله {يَسْقُونَ}، وقوله {تَذُودََانِ}، وقوله: {لََا نَسْقِي حَتََّى يُصْدِرَ} (القصص: 23) (2) [فيمن قرأ بكسر الدال وقوله {فَسَقى ََ لَهُمََا} والتقدير «يسقون مواشيهم وتذودان عنهما ولا نسقي عنها حتى يصدر] (2) الرّعاء مواشيهم فسقى لهما غنمهما.
وقوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يََا شُعَيْبُ} (الأعراف: 88) قيل: لو ذكر المفعول فيها نقص المعنى والمراد أن الله تعالى له الإحياء والإماتة وأن إلههم ليس له سمع ولا بصر، وأن 3/ 177 موسى عليه السلام وجد قوما يعانون السقي، وامرأتين تعانيان الذّود، وأخبرتاه أنّا لا نستطيع السقي فوجدا (4) من موسى عليه السلام لهما (5) السقي، ووجد من أبيهما مكافأة على السقي. وهذا مما حذف لظهور المراد وأن القصد (6) الإعلام بأنه كان من الناس في تلك الحالة سقي، ومن المرأتين ذود، وأنهما (7) قالتا: لا يكون منّا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنّ موسى سقى بعد ذلك فأمّا أنّ المسقي (8) غنم أو إبل أو غيره فخارج عن المقصود لأنه لو قيل: يذودان غنمهما لجاز أن يكون الإنكار لم يتوجه من موسى [عليه السلام] (9) على الذّود [من حيث هو ذود] (10) بل من حيث هو ذود (11) غنم حتى لو كان ذود إبل [لم] (10)
ينكره.
واعلم أنّا جعلنا هذا من الضرب الثاني موافقة للزمخشري (13) فإنه قال: ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيّهم إبل (14) [194/ أ]، وكذلك قولهما: {لََا نَسْقِي حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ} (القصص: 23) المقصود منه السقي لا المسقيّ.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (فوجد).
(5) في المخطوطة (بها).
(6) في المخطوطة (المقصود).
(7) في المخطوطة (أنهما).
(8) في المخطوطة (السقي).
(9) ليست في المطبوعة.
(10) ليست في المخطوطة.
(11) في المخطوطة (ذوا).
(13) في الكشاف 3/ 162.
(14) في المخطوطة (مستقيم مثلا).(3/247)
وجعله السكاكي (1) من الضرب الأول أعني مما حذف [فيه] (2) للاختصار مع الإرادة.
والأقرب قول الزمخشريّ، ورجح الحريريّ (3) قول السكاكي أنه للاختصار، فإن (4) الغنم ليست ساقطة (5) عن الاعتبار بالأصالة فإن فيها ضعفا عن المزاحمة، والمرأتان فيهما ضعف، فإذا انضمّ إلى ضعف المسقيّ (6) ضعف الساقي، كان ذلك أدعى للرحمة والإعانة.
وكقوله تعالى: {فَأَمََّا مَنْ أَعْطى ََ وَاتَّقى ََ} (الليل: 5).
وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى ََ وَأَقْنى ََ} (النجم: 48).
3/ 178وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ََ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمََاتَ وَأَحْيََا} (النجم: 4443).
وإنما ذكر المفعول في قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ [الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ]} [7] (النجم:
45) لأن المراد جنس الزوجين فكأنه قال: يخلق كلّ ذكر و [كل] (8) أنثى، وكان ذكره هنا أبلغ ليدلّ على عموم ثبوت الخلق له بالتصريح.
وليس منه قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (الأحقاف: 15)، لوجود العوض من المفعول به لفظا، أو هو المفعول به وهو قوله: {فِي ذُرِّيَّتِي} (الأحقاف: 15)، ومعنى الدعاء به قصر الإصلاح [له] (9) على الذرية إشعارا بعنايته بهم.
وقوله: {كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 43)، أي عاقبة أمركم لأن سياق القول في التهديد والوعيد.
__________
(1) انظر مفتاح العلوم: 229. فصل اعتبارات الفعل وما يتعلق به (ترك مفعوله).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) تصحفت في المطبوعة إلى (الجزري). والحريري هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان تقدم في 1/ 164.
(4) في المخطوطة (فإنه).
(5) في المخطوطة (ما قطعه) بدل (ليست ساقطة).
(6) في المخطوطة (السقي).
(7) ليست في المطبوعة.
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) ساقطة من المخطوطة.(3/248)
واعلم أن الغرض حينئذ بالحذف في هذا الضرب أشياء:
منها البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة على ما سبق نحو (1): أمرته فقام أي بالقيام. وعليه قوله تعالى: {أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا} (الإسراء: 16) أي أمرناهم بالفسق وهو مجاز عن تمكينهم وإقدارهم.
ومنها: المبالغة بترك التقييد نحو: {هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ} (يونس: 56)، وقوله:
{فَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ} (يس: 9) ونفي الفعل غير متعلق أبلغ من نفيه متعلقا به لأن المنفيّ في الأول نفس الفعل، وفي الثاني متعلّقه.
تنبيه
3/ 179 قد يلحظ (2) الأمران فيجوز الاعتباران كقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1) أجاز الزمخشريّ (3) في حذف المفعول منه الوجهين (4).
وكذلك في قوله في آخر سورة (5) [الحج] (6): {وَجََاهِدُوا فِي اللََّهِ} (الحج:
78).
حذف الحال
كقوله تعالى: {وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ * سَلََامٌ عَلَيْكُمْ} (الرعد:
2423)، أي قائلين سلام عليكم.
قال ابن أبي الربيع (7): اعلم أنّ العرب قد تحذف الحال إذا كانت بالفعل لدلالة مصدر الفعل عليه فتقول: قتلته صبرا، وأتيته ركضا (8) [والتقدير أتيته أركض ركضا] (8)، قال
__________
(1) في المخطوطة (ونحو).
(2) في المخطوطة (تلخص).
(3) في الكشاف 4/ 2أول سورة الحجرات.
(4) في المخطوطة (لوجهين).
(5) في المخطوطة (السورة).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) تقدم التعريف به في 2/ 502.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/249)
تعالى: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} (يوسف: 47)، فدأبا يقدر بالفعل تقديره:
«تدأبون» [ويدأبون] (1) في موضع الحال.
قال أبو عليّ: لا خلاف بين سيبويه وأبي العباس في الحال المحذوف (2) الذي المصدر منصوب به، وإنما الخلاف بينهما في القياس، فسيبويه يذهب إلى السماع ولا يقيس، والأخفش والمبرّد يقيسان (3).
حذف المنادى
قوله تعالى: ألا ياسجدوا (النمل: 25) على قراءة الكسائيّ (4) بتخفيف «ألا» على أنها تنبيه و «يا» نداء، والتقدير ألا يا هؤلاء اسجدوا لله. ويجوز أن يكون «يا» تنبيها ولا منادى هناك، وجمع بينهنّ تأكيدا لأنّ الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الأمر.
وأما على قراءة الأكثر بالتشديد فعلى أنّ أن الناصبة (5) للفعل دخلت عليها لا النافية، والفعل المضارع بعدها منصوب وحذفت النون علامة النصب، فالفعل هنا معرب [194/ ب]، وفي تلك القراءة مبنيّ (6)، فاعرفه.
فائدة
كثر في القرآن حذف الياء من المنادى المضاف إلى [ياء] (7) المتكلم نحو يا ربّ، يا قوم وعلّل ذلك بأن النداء باب حذف ألا ترى أنه يحذف منه التنوين (8) وبعض الاسم للترخيم وجاء فيه إثباتها ساكنة، كقراءة من قرأ (9): يا عبادي فاتّقون (الزمر: 16)،
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة: (المجرور).
(3) في المخطوطة (يقيس).
(4) انظر التيسر: 168167.
(5) في المخطوطة (الناصب) بدل (أن الناصبة).
(6) في المخطوطة (منفي).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (النون).
(9) انظر إتحاف فضلاء البشر: 375.(3/250)
ومحركة بالفتح كقراءة من قرأ (1): {قُلْ يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ} (الزمر:
53)، ومنقلبة عن الياء (2) في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ [عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ]} [3] (الزمر: 56).
حذف الشرط
{قُلْ لِعِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلََاةَ} (إبراهيم: 31) أي إن قلت لهم: أقيموا يقيموا.
وجعل منه الزمخشريّ [منه] (4) {[قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللََّهِ عَهْداً]} [5] فَلَنْ يُخْلِفَ اللََّهُ 3/ 181 عَهْدَهُ (البقرة: 80). (6) [فقال يتعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده] (6).
وجعل أبو حيان (8) منه قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيََاءَ اللََّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 91)، أي إن كنتم آمنتم بما أنزل إليكم فلم تقتلون؟ وجواب [الشرط] (9) «إن كنتم» محذوف دلّ عليه ما تقدم، أي فلم فعلتم؟ وكرر الشرط وجوابه مرتين للتأكيد، إلا أنه حذف الشرط من الأول وبقي جوابه، وحذف الجواب من الثاني وبقي شرطه. انتهى.
وهو حسن، إلا أنه قد كان خالف الزمخشريّ وأنكر قوله بحذف الشرط في: {فَتََابَ عَلَيْكُمْ} (البقرة: 54) وفي: {فَانْفَجَرَتْ} (10) (البقرة: 60)، وقال: إنّ الشرط لا يحذف في غير الأجوبة، والآن قد رجع إلى موافقته.
__________
(1) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر بالفتح، والباقون بالسكون (إتحاف فضلاء البشر: 376).
(2) عبارة المخطوطة (ومنقلبة ألفا).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ساقطة من المطبوعة. وانظر الكشاف 1/ 78.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(8) انظر البحر المحيط 1/ 307.
(9) ساقطة من المطبوعة.
(10) انظر البحر المحيط 1/ 228227.(3/251)
وقوله: {وَقََالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمََانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتََابِ اللََّهِ إِلى ََ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهََذََا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلََكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (الروم: 56)، تقديره: إن كنتم منكرين فهذا يوم البعث أي فقد تبيّن بطلان إنكاركم.
وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ} (الأنفال: 17)، بمعنى إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم، فعدل عن الافتخار بقتلهم، فحذف لدلالة الفاعلية.
وقوله: {فَاللََّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} (الشورى: 9) (1) [تقديره: إن أرادوا أولياء] (1) فالله هو الوليّ بالحق، لا وليّ سواه.
حذف جواب الشرط
2/ 182 قوله: {إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ. فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (الأحقاف: 10) أي أفلستم (3) ظالمين؟ بدليل قوله عقبه: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} (الأحقاف: 10) وقدّره البغويّ (4): من المحق (5) منّا ومن المبطل؟
ونقله عن أكثر المفسرين.
ومن حذف جواب الفعل: {اذْهَبََا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَدَمَّرْنََاهُمْ}
(الفرقان: 36)، تقديره: «فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم»، والفاء العاطفة على الجواب المحذوف هي المسمّاة عندهم بالفاء الفصيحة.
وقال صاحب (6) «المفتاح»: وانظر إلى الفاء الفصيحة في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بََارِئِكُمْ فَتََابَ عَلَيْكُمْ} (البقرة: 54)، (7) [كيف أفادت: «ففعلتم فتاب عليكم»] (7)!
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (فلستم).
(4) انظر تفسيره المسمى معالم التنزيل 4/ 165.
(5) في المخطوطة (أحق).
(6) السكاكي، يوسف بن أبي بكر، وانظر مفتاح العلوم: 278 (الإيجاز).
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/252)
وقوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهََا} (البقرة: 73) تقديره: فضربوه فحيي {كَذََلِكَ يُحْيِ اللََّهُ الْمَوْتى ََ} (البقرة: 73).
وقال صاحب (1) «الكشاف» في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََا دََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ عِلْماً وَقََالا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي فَضَّلَنََا [عَلى ََ كَثِيرٍ]} [2] (النمل: 15) تقديره: فعملا به وعلّماه، وعرفا حق النّعمة فيه والفضيلة {وَقََالا الْحَمْدُ لِلََّهِ} (النمل: 15).
وقال السكاكيّ (3): هو إخبار عمّا صنع بهما وعمّا قالاه (4)، حتى كأنه قيل: نحن فعلنا إيتاء العلم وهما فعلا (5) الحمد (6)، تعريضا (7) لاستثارة الحمد على إيتاء العلم إلى فهم السامع، مثله «قم يدعوك» بدل «قم فإنه يدعوك».
حذف الأجوبة
3/ 183 ويكثر ذلك في جواب لو، ولولا، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النََّارِ} (الأنعام:
27).
وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا} [195/ أ] {عَلى ََ رَبِّهِمْ} (الأنعام: 30).
وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (سبأ: 31).
وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلََائِكَةُ يَضْرِبُونَ [وُجُوهَهُمْ]} [8]
(الأنفال: 50).
وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (السجدة: 12).
وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ فِي غَمَرََاتِ الْمَوْتِ} (الأنعام: 93)، تقديره في هذه المواضع «لرأيت عجبا» أو «أمرا عظيما»، ولرأيت (9) سوء منقلبهم»، أو «لرأيت سوء حالهم».
والسرّ في حذفه في هذه المواضع أنها لما ربطت إحدى الجملتين بالأخرى حتى صارا
__________
(1) الكشاف 3/ 135.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) انظر مفتاح العلوم: 278 (الإيجاز).
(4) في المخطوطة (قالوه).
(5) في المخطوطة (فعلان).
(6) في المخطوطة (الحمد لله).
(7) في المخطوطة (تعريفا).
(8) ليست في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (أو لرأيت).(3/253)
جملة واحدة، أوجب ذلك لها فضلا وطولا فخفف بالحذف خصوصا مع الدلالة على ذلك.
قالوا: وحذف الجواب يقع في مواقع التفخيم (1) والتعظيم، ويجوز حذفه لعلم المخاطب به، وإنما يحذف لقصد المبالغة، لأن السامع مع أقصى تخيّله (2) يذهب منه الذهن كلّ مذهب، ولو صرّح بالجواب لوقف الذهن عند المصرّح به فلا يكون له ذلك الوقع، ومن ثمّ لا يحسن تقدير الجواب مخصوصا إلا بعد العلم بالسياق، كما قدر بعض النحويين في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ} (الرعد: 31) الآية، فقال: تقديره: لكان 3/ 184هذا القرآن وحكاه أبو عمر (3) الزاهد في «الياقوتة» عن ثعلب والمبرّد. وهو مردود، لأن الآية (4) ما سيقت [لتفضيل] القرآن (4)، بل سيقت في معرض ذم الكفار، بدليل قوله قبلها:
{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمََنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتََابِ} (الرعد: 30).
وبعدها: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَهَدَى النََّاسَ جَمِيعاً} (الرعد: 31) فلو قدر الخبر «لما آمنوا به» لكان أشدّ.
ونقل الشيخ محيي الدين النووي في كتاب «رءوس المسائل» (6) كون الجواب «[كان] (7) هذا القرآن»، عن (8) الأكثرين. وفيه ما ذكرت.
وقيل تقديره: لو قضيت أنه لا يقرأ القرآن على الجبال إلّا سارت ورأوا ذلك، لما آمنوا.
وقيل: جواب «لو» مقدّم، معناه: يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال، وهذا قول الفراء.
__________
(1) في المخطوطة (التخفيف).
(2) في المخطوطة (التحلية).
(3) تصحفت في المطبوعة إلى (عمرو)، وهو محمد بن عبد الواحد المعروف بالزاهد تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 393.
(4) عبارة المخطوطة (ما سيقت للقرآن) بدون (لتفضيل).
(6) تقدم التعريف بالكتاب في 2/ 79.
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (على).(3/254)
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ} (لقمان: 27)، [جواب لو] (1) محذوف، والتقدير: لنفدت (2)
هذه الأشياء وما نفدت كلمات الله. ويحتمل أن يكون «ما نفدت» هو الجواب مبالغة في نفي النفاد لأنه إذا كان نفي النفاد لازما على تقدير كون ما في الأرض من شجرة أقلاما (3) والبحر مدادا لكان (4) لزومها على تقدير عدمها أولى.
وقوله تعالى: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طََائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} (النساء:
113). فإنه قد قيل: ظاهره نفي وجود الهمّ منهم بإضلاله، وهو خلاف الواقع فإنهم همّوا وردّوا 3/ 185 القول (5).
وقيل: قوله: {لَهَمَّتْ} ليس جواب [«لو»] (6) بل هو كلام تقدم على «لو»، وجوابها مقول على طريق القسم، وجواب «لو» محذوف تقديره {لَهَمَّتْ} [7] طََائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ (النساء: 113)، لولا (8) فضل الله عليك لأضلّوك.
وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهََا لَوْلََا أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24)، (9) [أي همت بمخالطته، وجواب «لولا» محذوف أي لولا أن رأى برهان ربه] (9) لخالطها.
وقيل: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها والوقف على هذا {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}
(يوسف: 24)، والمعنى أنه لم يهمّ بها.
ذكره أبو البقاء (11). والأوّل للزمخشريّ (12).
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) في المخطوطة (لفقدت).
(3) في المخطوطة (أقلام).
(4) في المخطوطة (وكان).
(5) في المخطوطة (ورأوا بالقول).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (لو همت).
(8) في المخطوطة (ولولا).
(9) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(11) العكبري، وانظر كتابه إملاء ما من به الرحمن 2/ 28.
(12) انظر الكشاف 2/ 249.(3/255)
ولا يجوز (1) تقديم جواب «لو» عليها لأنه في حكم الشرط، وللشرط (2) صدر الكلام.
وقوله: {وَإِنََّا إِنْ شََاءَ اللََّهُ لَمُهْتَدُونَ} (البقرة: 70) جواب الشّرط محذوف يدلّ عليه قوله: إنا لمهتدون أي إن شاء الله اهتدينا. وقد توسّط الشرط هنا بين جزأي [195/ ب] الجملة بالجزاء لأن التقديم على الشرط، فيكون دليل الجواب متقدما على الشرط والذي حسّن تقديم الشرط عليه الاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله تعالى.
وقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لََا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النََّارَ} (الأنبياء:
39)، تقديره: لما استعجلوا فقالوا متى هذا الوعد.
3/ 186وقال الزجاج: تقديره «لعلموا صدق الوعد» لأنهم قالوا: متى هذا الوعد، وجعل الله [تعالى] (3) الساعة موعدهم فقال تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} (الأنبياء: 40).
وقيل: تقديره: «لما أقاموا على كفرهم [ولندموا] (4) أو تابوا (5)».
وقوله [تعالى] (3) في سورة التكاثر: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} (التكاثر: 5) تقديره لما: {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ} (التكاثر: 1).
وقيل تقديره: لشغلكم ذلك عمّا أنتم فيه.
وقيل: لرجعتم عن كفركم أو لتحققتم (7) مصداق ما تحذرونه.
وقوله: {قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً [وَلََا يَهْتَدُونَ]} [8]
(البقرة: 170)، أي لا يتبعونهم.
وقوله: {قََالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلََّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (المؤمنون: 114) تقديره:
«لآمنتم» أو «لما كفرتم» أو «لزهدتم (9) في الدنيا» أو «لتأهبتم للقائنا».
ونحوه: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكََاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذََابَ لَوْ أَنَّهُمْ كََانُوا يَهْتَدُونَ} (القصص: 64)، أي يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة، أو لما اتبعوهم.
__________
(1) في المخطوطة (ويجوز).
(2) في المخطوطة (والمشروط).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (وتابوا).
(7) في المخطوطة (ولتحققتم).
(8) ليست في المطبوعة.
(9) في المخطوطة (لهبتم).(3/256)
وقوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى ََ رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود: 80)، قال محمد بن إسحاق (1): معناه لو أنّ لي قوة لحلت بينكم وبين المعصية.
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} (سبأ: 51)، أي رأيت ما يعتبر به عبرة عظيمة.
وقوله [تعالى] (2) عقب آية اللّعان (3): {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللََّهَ تَوََّابٌ 3/ 187 حَكِيمٌ} (النور: 10)، قال الواحدي (4): قال الفراء: جواب «لو» محذوف لأنه معلوم المعنى، وكلّ ما (5) علم فإن العرب تكتفي بترك جوابه ألا ترى أن الرجل يشتم الرجل، فيقول المشتوم: أما والله لولا (6) أبوك فيعلم أنك تريد (7): لشتمتك.
وقال (8) المبرّد: تأويله والله أعلم: لهلكتم، أو (9) لم يبق لكم باقية، أو لم يصلح أمركم، ونحوه من الوعيد الموجع، فحذف لأنه لا يشكل.
وقال الزجاج: المعنى لنال الكاذب منكم أمر عظيم وهذا أجود مما قدّره المبرد.
وكذلك «لولا» التي بعدها في قوله تعالى: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللََّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (النور: 20)، جوابها محذوف وقدّره بعضهم في الأولى: لافتضح (10)
فاعل ذلك وفي الثانية: لعجّل عذاب فاعل ذلك وسوّغ الحذف طول الكلام بالمعطوف، والطول داع للحذف.
وقوله: {وَلَوْلََا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنََا لَوْلََا أَرْسَلْتَ إِلَيْنََا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيََاتِكَ} (القصص: 47) جوابها محذوف، أي لولا احتجاجهم بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة.
__________
(1) هو محمد بن إسحاق صاحب المغازي والسيرة وقوله أخرجه الطبري في التفسير 12/ 53عنه تفسيره للآية.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (للعالمين).
(4) هو علي بن أحمد الواحدي تقدمت ترجمته في 1/ 105. وانظر قول الفراء في معاني القرآن 2/ 247.
(5) في المخطوطة (وكلما).
(6) في المخطوطة (إلا).
(7) عبارة المخطوطة (فتعلم أنه يريد).
(8) في المخطوطة (قال).
(9) في المخطوطة (ولم).
(10) في المخطوطة (لفضح).(3/257)
وقال مقاتل (1): تقديره لأصابتهم مصيبة.
وقال الزجاج: لولا ذلك لم يحتج إلى إرسال الرسول ومواترة الاحتجاج.
وقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤََادُ أُمِّ مُوسى ََ فََارِغاً إِنْ كََادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلََا أَنْ رَبَطْنََا عَلى ََ قَلْبِهََا}
(القصص: 10)، أي لأبدت.
3/ 188وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} (الإسراء: 100)، تقديره:
لو (2) تملكون، [تملكون] (3)، فأضمر «تملك» (4) الأولى على شريطة التفسير وأبدل من الضمير المتصل، الذي هو «الواو» ضمير منفصل (5)، وهو «أنتم» لسقوط ما يتصل به من الكلام، ف «أنتم» فاعل الفعل المضمر، «وتملكون» تفسيره.
قال الزمخشريّ (6): هذا ما يقتضيه الإعراب فأما ما يقتضيه علم البيان، فهو أنّ (7)
أنتم تملكون فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشحّ المتتابع وذلك لأن الفعل [196/ أ] الأول لما سقط لأجل المفسّر برز (8) الكلام في صورة المبتدأ والخبر.
ومن حذف الجواب قوله تعالى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مََا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمََا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (يس: 45)، أي أعرضوا؟ بدليل قوله بعده: {إِلََّا كََانُوا عَنْهََا مُعْرِضِينَ}
(يس: 46).
وقوله في قصة إبراهيم في الحجر: {فَقََالُوا سَلََاماً قََالَ إِنََّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} (الحجر:
52)، وفي غيرها من السور: {قََالُوا سَلََاماً} (الفرقان: 63)، {قََالَ سَلََامٌ} (الذاريات: 25)، قال الكرمانيّ (9): لأن هذه السورة متأخرة عن الأولى، فاكتفى بما في هذه ولو ثبت تعدّد الوقائع لنزلت على واقعتين.
__________
(1) هو مقاتل بن سليمان الأزدري. تقدم التعريف به في 1/ 98.
(2) في المخطوطة (لولا).
(3) زيادة من الكشاف يقتضيها السياق.
(4) في المخطوطة (تملكون).
(5) في المخطوطة (ضميرا منفصلا).
(6) في الكشاف 2/ 376.
(7) في المخطوطة (من) بدل (فهو أن).
(8) في المخطوطة (صار).
(9) هو برهان الدين محمود بن حمزة بن نصر الكرماني تقدمت ترجمته في 1/ 206.(3/258)
وكقوله تعالى: {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} (الانشقاق: 1)، قال الزمخشريّ (1): 3/ 189 [في] (2) حذف الجواب، وتقديره مصرّح به في سورتي التكوير والانفطار، وهو قوله:
{عَلِمَتْ نَفْسٌ} (التكوير: 14).
وقال (3) في: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْبُرُوجِ} (البروج: 1): الجواب محذوف، أي أنهم ملعونون، يدلّ عليه قوله: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ} (البروج: 4).
وكقوله تعالى: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (الزمر: 73)، أي «حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها»، والواو واو حال، وفي هذا ما حكي أنه اجتمع أبو عليّ الفارسي مع أبي عبد الله الحسين بن خالويه (4) في مجلس سيف الدولة، فسئل ابن خالويه عن قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (الزمر: 70)، في النار بغير واو، وفي الجنة بالواو! فقال ابن خالويه: هذه الواو تسمّى واو الثمانية لأن العرب لا تعطف الثمانية إلا بالواو، قال: فنظر سيف الدولة إلى أبي عليّ وقال: أحق هذا! فقال أبو عليّ: لا أقول كما قال إنما تركت الواو في النار، لأنها مغلقة، وكان مجيئهم شرطا في فتحها، فقوله: {فُتِحَتْ}
فيه معنى الشرط، وأما قوله: {وَفُتِحَتْ} في الجنة، فهذه واو الحال، كأنه قال: جاءوها وهي مفتحة الأبواب أو (5) هذه حالها.
وهذا الذي قاله أبو عليّ هو الصواب، ويشهد له أمران:
أحدهما: أن العادة مطّردة شاهدة في إهانة المعذبين بالسجون، من إغلاقها حتى يردوا عليها، وإكرام المنعمين بإعداد فتح الأبواب لهم مبادرة واهتماما (6).
والثاني: النظير في (7) قوله [تعالى] (8): {جَنََّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوََابُ} (ص: 3/ 190 50).
وللنحويين في الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الواو زائدة، والجواب قوله «فتحت» وهؤلاء قسمان: منهم من جعل هذه الواو مع أنها زائدة واو الثمانية، ومنهم من لم يثبتها.
__________
(1) في الكشاف 4/ 197.
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) في الكشاف 4/ 199. بتصرف.
(4) تقدمت ترجمته في 2/ 369.
(5) في المخطوطة (أي).
(6) في المخطوطة (واهتمام).
(7) في المخطوطة (من).
(8) ليست في المطبوعة.(3/259)
والثاني: أن الجواب محذوف عطف عليه قوله: {وَفُتِحَتْ} كأنه قال «حتّى إذا جاءوها وفتحت» قال الزجاج وغيره: وفي هذا حذف المعطوف وإبقاء المعطوف عليه.
والثالث: أن الجواب محذوف آخر الكلام كأنه قال بعد الفراغ: استقروا، أو خلّدوا، أو استووا مما يقتضيه المقام وليس فيه حذف معطوف. ويحتمل أن يكون التقدير: إذا جاءوها أذن لهم في دخولها وفتحت أبوابها المجيء ليس سببا مباشرا للفتح بل الإذن في الدخول هو السبب (1) في ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا ضََاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمََا رَحُبَتْ وَضََاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لََا مَلْجَأَ مِنَ اللََّهِ إِلََّا إِلَيْهِ} [2] [ثُمَّ تََابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا] (2) (التوبة: 118) أي رحمهم ثم تاب عليهم وهذا التأويل أحسن من القول بزيادة «ثم».
وحذف المعطوف عليه وإبقاء المعطوف سائغ، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبََا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَدَمَّرْنََاهُمْ تَدْمِيراً} (الفرقان: 36)، التقدير والله أعلم: فذهبا فبلّغا، فكذّبا فدمّرناهم لأن المعنى يرشد إلى ذلك.
وكذا [196/ ب] قوله [تعالى] (4): {ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بََارِئِكُمْ فَتََابَ عَلَيْكُمْ}
(البقرة: 54) أي فامتثلتم، أو (5) فعلتم فتاب عليكم.
وقوله: {فَلَمََّا أَسْلَمََا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (الصافات: 103)، أي رحما وسعدا وتله.
وابن عطية (6) يجعل التقدير: فلما أسلما أسلما وهو مشكل.
3/ 191وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذََا هِيَ شََاخِصَةٌ أَبْصََارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يََا وَيْلَنََا} (الأنبياء:
97)، المعنى: حتى إذا كان ذلك ندم الذين كفروا ولم ينفعهم إيمانهم لأنه من الآيات والأشراط.
وقد يجيء في الكلام شرطان ويحذف جواب أحدهما اكتفاء بالآخر كقوله تعالى:
__________
(1) في المخطوطة (سبب).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (أي).
(6) هو عبد الحق بن غالب الغرناطي صاحب المحرر الوجيز تقدمت ترجمته في 1/ 101.(3/260)
{وَأَمََّا إِنْ كََانَ مِنْ أَصْحََابِ الْيَمِينِ * [فَسَلََامٌ]} [1] (الواقعة: 9190) (2) [فجعل سيبويه الجواب ل «أمّا» وأجرى إن كان من أصحاب اليمين] (2) في الاعتراض به مجرى الظرف لأنّ الشرط وإن كان جملة فإنه لما لم يقم بنفسه جرى مجرى الجزء الواحد، ولو كان عنده جملة لما جاز الفصل به بين «أما» وجوابها، لأنه لا يجوز. أما زيد فمنطلق وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لهما.
ونظيره: {وَلَوْلََا رِجََالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسََاءٌ مُؤْمِنََاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللََّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا} [4] [الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ] (4)
(الفتح: 25)، فقوله: {لَعَذَّبْنَا} (الفتح: 25) جواب للولا وللو (6) جميعا.
واختار ابن مالك قول سيبويه أن الجواب «لأمّا» واستغنى به عن جواب «إن» لأن الجواب الأول الشرطين المتواليين في قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [7] [إِنْ كََانَ اللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ] (7) (هود: 34) ونظائره (9).
فإذا كان أول الشرطين «أما» كانت (10) أحق بذلك لوجهين:
أحدهما: أنّ جوابها إذا انفردت لا يحذف أصلا وجواب غيرها إذا انفرد يحذف كثيرا لدليل وحذف ما عهد حذفه أولى من حذف ما لم يعهد.
والثاني: أن «أما» قد التزم معها حذف فعل الشرط، (11) [وقامت هي مقامه، فلو حذف 3/ 192 جوابها لكان ذلك إجحافا، وإن ليست كذلك. انتهى.
والظاهر أنه لا حذف في الآية الكريمة، وإنما] (11) الشرط الثاني وجوابه جواب الأول، والمحذوف إنما هو أحد الفاءين.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة. وانظر الكتاب 3/ 79، هذا باب يذهب فيه الجزاء من الأسماء.
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(6) في المطبوعة (ولو).
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (ونظيره).
(10) عبارة المخطوطة (أما إن كانت).
(11) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/261)
وقال الفارسيّ في قوله تعالى: {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ} (آل عمران: 26) الآية: إنه حذف منه: أعزّنا ولا تذلّنا.
وقال في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذََا أَصََابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} (النساء:
62)، تقديره: «فكيف تجدونهم مسرورين» أو «محزونين»، ف «كيف» [في] (1) موضع نصب بهذا الفعل المضمر، [وهذا الفعل المضمر] (1) قد سدّ مسدّ جواب إذا.
حذف جواب القسم
لعلم السامع (3) المراد منه، كقوله تعالى: {وَالنََّازِعََاتِ غَرْقاً * وَالنََّاشِطََاتِ نَشْطاً * وَالسََّابِحََاتِ سَبْحاً * فَالسََّابِقََاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرََاتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرََّاجِفَةُ} (النازعات:
654321) تقديره: لتبعثنّ ولتحاسبنّ، بدليل إنكارهم للبعث في قولهم (4):
{أَإِنََّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحََافِرَةِ} (النازعات: 10).
وقيل: القسم وقع على قوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى ََ} (النازعات: 26).
وكقوله تعالى: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} (طه: 72) وحذف لدلالة الكلام السابق عليه.
3/ 193واختلف في جواب القسم في: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص: 1) فقال الزجّاج (5):
{إِنَّ ذََلِكَ لَحَقٌّ تَخََاصُمُ أَهْلِ النََّارِ} (ص: 64)، واستبعده الكسائي.
وقال الفراء (6): قد تأخّر كثيرا، وجرت بينهما قصص مختلفة، فلا يستقيم ذلك في العربية.
وقيل: {كَمْ أَهْلَكْنََا} (ص: 3)، ومعناه: لكم أهلكنا، وما بينهما اعتراض (7)، وحذفت اللام لطول الكلام.
وقال [الأخفش] (8): {إِنْ كُلٌّ إِلََّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} (ص: 14)، والمعترض بينهما قصة
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (العلم السابع).
(4) في المخطوطة (قوله تعالى).
(5) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (فقال الكسائي والفراء والزجاج).
(6) في معاني القرآن 2/ 397.
(7) في المخطوطة (اغراض).
(8) ساقطة من المخطوطة.(3/262)
واحدة. وعن قتادة (1): {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقََاقٍ} (ص: 2)، مثل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا} (ق: 21).
وقال صاحب (2) «النظم» [في] (3) هذا القول: معنى (4) «بل» توكيد الأمر (5) بعده فصار مثل أنّ الشديدة تثبت ما بعدها، وإن كان لها معنى [197/ أ] آخر في نفي خبر متقدم كأنه قال: إن الذين كفروا في عزة وشقاق.
وقال أبو القاسم الزجّاجي (6): إن النحويين قالوا: إن «بل» تقع في جواب القسم كما تقع «إنّ» لأن المراد بها توكيد الخبر وذلك في {ص وَالْقُرْآنِ} (ص: 1) الآية. و [في] (7)
{ق وَالْقُرْآنِ} (ق: 1) الآية وهذا من طريق الاعتبار، ويصلح أن يكون بمعنى «إنّ» لأنه سائغ في كلامهم أو يكون (8) «بل» جوابا للقسم لكن لما كانت متضمنة (9) رفع خبر وإتيان خبر بعده كانت (10) أوكد من سائر التوكيدات، فحسن وضعها موضع «إن».
وقيل: الجواب محذوف، أي والقرآن المجيد، ما الأمر كما يقول هؤلاء. أو الحق (11) ما 3/ 194 جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الفراء (12) في قوله تعالى: {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} (الانشقاق: 1) جوابه محذوف أي فيومئذ يلاقي حسابه.
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير 23/ 76. ذكر الاختلاف في الذي وقع عليه اسم القسم.
(2) هو الحسن بن يحيى الجرجاني انظر 2/ 225.
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (بمعنى).
(5) في المخطوطة (للأمر).
(6) هو عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي، لزم الزجاج أبا إسحاق وقرأ عليه النحو، وكانت طريقته في النحو متوسطة وتصانيفه يقصد بها الإفادة وقد صنف «الجمل» بمكة حماها الله، وكان إذا فرغ من باب طاف به أسبوعا ودعا الله أن يغفر له وأن ينتفع به قارئه وله أيضا «الحلل في إصلاح الخلل» و «شرح مقدمة أدب الكاتب» ت 340هـ (القفطي، إنباه الرواة 2/ 160).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (تكون).
(9) في المخطوطة (متضمنا).
(10) في المخطوطة (كان).
(11) في المخطوطة (لحق).
(12) في معاني القرآن 3/ 249.(3/263)
وعن قتادة (1)
(2) [أن جوابه: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ}] (2) (الانشقاق: 2) يعني أن الواو فيها بمعنى السقوط، كقوله تعالى: {فَلَمََّا أَسْلَمََا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنََادَيْنََاهُ} (الصافات: 103 104)، أي ناديناه.
حذف الجملة
هي أقسام: قسم هي مسببة عن المذكور، وقسم هي سبب له، وقسم خارج عنها (4)
فالأول: كقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبََاطِلَ} (الأنفال: 8) فإن اللام الداخلة على الفعل لا بدّ لها من متعلّق، يكون سببا عن مدخول اللام، فلما لم يوجد لها متعلّق في الظاهر وجب تقديره ضرورة فيقدّر: فعل ما فعل ليحق الحق.
والثاني (5): كقوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتََا عَشْرَةَ عَيْناً} (البقرة: 60) فإن الفاء، إنما تدخل على شيء مسبّب عن شيء، ولا مسبّب إلا له (6) سبب، فإذا وجد المسبب ولا سبب له ظاهرا أوجب (7) أن يقدّر ضرورة، فيقدر: فضربه فانفجر.
والثالث: كقوله تعالى: {فَنِعْمَ الْمََاهِدُونَ} (الذاريات: 48)، أي نحن هم، أو هم نحو.
وقد يكون المحذوف أكثر من جملة كقوله تعالى: {فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ} (يوسف:
4645) الآية، فإن التقدير: «فأرسلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه لذلك، 3/ 195 [فجاء] (8) فقال له: يا يوسف» وإنما قلنا: إنّ هذا الكل محذوف لأن قوله: {فَأَرْسِلُونِ} (9)
(يوسف: 45) يدل لا محالة على المرسل إليه، فثبت أن «إلى يوسف» محذوف. ثم إنه لما طلب الإرسال إلى يوسف عند العجز الحاصل للمعبّرين عن تعبير رؤيا الملك دلّ (10) ذلك على أن المقصود من طلب الإرسال إليه استعباره الرؤيا التي (11) عجزوا عن تعبيرها ومنه قوله تعالى:
{اذْهَبْ بِكِتََابِي هََذََا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} (النمل: 28) الآية، فأعقب بقوله حكاية عنها: {قََالَتْ}
__________
(1) انظر إملاء ما منّ به الرحمن 2/ 153.
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (عنهما).
(5) في المخطوطة (الثاني).
(6) في المخطوطة (وله).
(7) في المخطوطة (يجب).
(8) ساقطة من المخطوطة.
(9) تصحفت في المطبوعة إلى (أرسلون).
(10) في المخطوطة (دون).
(11) في المخطوطة (الذي).(3/264)
{يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتََابٌ كَرِيمٌ} (النمل: 29)، تقديره: فأخذ الكتاب فألقاه إليهم، فرأته بلقيس، وقرأته، و {قََالَتْ يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ} (النمل: 29).
وقوله: {يََا يَحْيى ََ خُذِ الْكِتََابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنََاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (مريم: 12)، حذف يطول، تقديره: فلما ولد يحيى ونشأ وترعرع قلنا: {يََا يَحْيى ََ خُذِ الْكِتََابَ بِقُوَّةٍ} (مريم: 12).
ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم موسى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عََاكِفِينَ حَتََّى يَرْجِعَ إِلَيْنََا مُوسى ََ * قََالَ يََا هََارُونُ مََا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلََّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (طه: 91، 92، 93).
وقوله: {فَلَمََّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} (النمل: 40) إلى قوله: {نَكِّرُوا لَهََا عَرْشَهََا} (النمل:
41).
وقوله [تعالى] (1): {أَفَمَنْ شَرَحَ اللََّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ} (الزمر: 22) أي كمن قسا قلبه ترك (2) على ظلمه وكفره ودلّ على المحذوف قوله [تعالى] (1): {فَوَيْلٌ لِلْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللََّهِ} (الزمر: 22).
ومن حذف الجملة قوله [تعالى] (4): {وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قََالُوا أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا} (البقرة: 30) قيل: المعنى جاعل في الأرض خليفة يفعل [فيها] (5) كذا وكذا وإلا فمن أين علم الملائكة (6) أنهم يفسدون! وباقي الكلام يدلّ [197/ ب] على المحذوف (7).
وقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} (الحجرات: 12)، قال الفارسي (8): المعنى فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة: {وَاتَّقُوا اللََّهَ} (الحجرات: 12)، عطف 3/ 196 على قوله: «فاكرهوا» وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه كقوله [تعالى] (9): {فَانْفَجَرَتْ}
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (وتركه).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) تكررت في المخطوطة في هذا الموضع الآية {إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قََالُوا أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا}.
(7) في المخطوطة (الحذف).
(8) نقل قوله ابن الشجري في أماليه 2/ 330329.
(9) ليست في المخطوطة.(3/265)
(البقرة: 60)، أي فضرب فانفجرت. فقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ} (الحجرات: 12) كلام مستأنف، وإنما دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الجواب لأن قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} (الحجرات:
12) كأنهم قالوا في جوابه: لا، فقال: فكرهتموه أي فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة.
قال ابن الشجريّ (1): وهذا التقدير بعيد لأنه قدر المحذوف موصولا، وهو «ما» المصدرية، وحذف الموصول، وإبقاء صلته ضعيف وإنما التقدير: فهذا كرهتموه والجملة المقدرة المحذوفة ابتدائية لا أمرية، والمعنى: فهذا كرهتموه، والغيبة مثله وإنما قدرها أمرية ليعطف عليها الجملة الأمرية [التي] (2) في قوله: {وَاتَّقُوا اللََّهَ} (الحجرات: 12).
حذف القول
قد كثر في القرآن العظيم حتى إنه في الإضمار بمنزلة الإظهار، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ} (الزمر: 3)، أي يقولون: ما نعبدهم إلا للقربة.
ومنه: {وَنَزَّلْنََا} [3] عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ * كُلُوا (طه: 8180)، أي وقلنا كلوا، أو قائلين.
وقوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنََاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا [مِنْ رِزْقِ اللََّهِ]} [4] (البقرة: 60)، أي قلنا (5). {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا} (البقرة: 63)، [أي وقلنا:
3/ 197خذوا] (6). {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثََابَةً لِلنََّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة:
125)، أي وقلنا: اتخذوا.
وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [وَإِسْمََاعِيلُ رَبَّنََا]} [7] (البقرة: 127)، أي يقولان: ربنا. وعليه قراءة عبد الله (8).
__________
(1) في الأمالي 1/ 149و 2/ 329.
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) في المخطوطة {وَأَنْزَلْنََا}. [البقرة: 57].
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (أي قائلا أنت).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) ليست في المخطوطة.
(8) ذكرها أبو حيّان في البحر المحيط 1/ 388.(3/266)
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} (آل عمران: 106) أي فيقال لهم، لأنّ «أمّا» لا بدّ لها في الخبر من فاء، فلما أضمر القول أضمر الفاء.
وقوله: {وَعِنْدَهُمْ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ أَتْرََابٌ * هََذََا مََا تُوعَدُونَ} (ص: 5352)، [أي] (1) يقال لهم هذا.
وقوله: {وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ * [سَلََامٌ عَلَيْكُمْ]} [2] (الرعد: 23 24)، أي يقولون [سلام] (2).
وقوله: {وَتَتَلَقََّاهُمُ الْمَلََائِكَةُ [هََذََا يَوْمُكُمُ]} [4] (الأنبياء: 103)، أي يقولون لهم ذلك.
وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ مََا نَعْبُدُهُمْ [إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا]} [5]، (الزمر: 3) أي يقولون ما نعبدهم (6).
وقوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنََّا لَمُغْرَمُونَ} (الواقعة: 6665) أي يقولون إنّا لمغرمون، أي معذّبون، وتفكّهون: تندّمون (7).
وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [رَبَّنََا أَبْصَرْنََا وَسَمِعْنََا]} [8]
(السجدة: 12) أي يقولون: ربنا.
وقوله: {مََا ذََا قََالَ رَبُّكُمْ قََالُوا الْحَقَّ [وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ]} [9] (سبأ: 23)، أي قالوا: قال 3/ 198 الحق.
حذف الفعل
وينقسم إلى عام وخاص:
فالخاص نحو «أعني» مضمرا، وينتصب المفعول به في المدح نحو {وَالصََّابِرِينَ فِي}
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) ليست في المخطوطة.
(4) ليست في المطبوعة. وقد تصحفت في المخطوطة إلى (هذا يوم كلم).
(5) ليست في المطبوعة.
(6) تكررت هذه العبارة في المخطوطة وزيد عليها (إلا ليقربونا).
(7) في المخطوطة (وتندمون).
(8) ليست في المخطوطة.
(9) تمام الآية ليس في المخطوطة.(3/267)
{الْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ} (البقرة: 177)، وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكََاةَ} (النساء:
162)، أي أمدح.
واعلم أنه إذا كان المنعوت متعيّنا لم يجز تقدير ناصب نعته بأعني (1) نحو الحمد لله الحميد بل المقدّر فيه، (2) [وفي نحوه أذكر أو أمدح، فاعرف ذلك. والذم نحو قوله تعالى:
{وَامْرَأَتُهُ حَمََّالَةَ الْحَطَبِ}، (المسد: 4) في قراءة] (2) النصب (4)، والأخفش ينصب في المدح بأمدح، وفي الذم بأذمّ.
واعلم أنّ مراد المادح إبانة الممدوح (5) من غيره، فلا بدّ من إبانة إعرابه (6) [عن] (7)
غيره، ليدلّ اللفظ على المعنى المقصود، ويجوز فيه النصب بتقدير أمدح، والرفع على معنى «هو» ولا يظهران لئلا يصيرا (8) بمنزلة الخبر.
والذي لا مدح فيه فاختزال العامل فيه واجب، كاختزاله (9) [198/ أ] في «والله لأفعلن» إذ لو قيل: «أحلف بالله» لكان عدة لا قسما.
3/ 199والعامّ كلّ منصوب دلّ عليه الفعل لفظا، أو معنى، أو تقديرا. ويحذف لأسباب:
أحدها: أن يكون (10) مفسّرا، كقوله تعالى: {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} (الانشقاق: 1)، {وَإِيََّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة: 40).
ومنه: {أَبَشَراً مِنََّا وََاحِداً نَتَّبِعُهُ} (القمر: 24). {وَالسَّمََاءَ رَفَعَهََا} (الرحمن: 7). {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: 1). {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ} (التوبة: 6). {إِنْ طََائِفَتََانِ} (الحجرات: 9) فإنه ارتفع ب «اقتتل» مقدّرا (11).
__________
(1) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (بل نحيي).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(4) وهي قراءة عاصم بنصب التاء في (حمالة)، والباقون برفعها. (التيسير: 225).
(5) عبارة المخطوطة (بأنه للممدوح).
(6) في المخطوطة (إعراب).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (يصير).
(9) في المخطوطة (لاختزاله).
(10) في المخطوطة (يقول).
(11) في المخطوطة (مقدر).(3/268)
قالوا: ولا يجوز حذف الفعل مع شيء من حروف الشرط العاملة، سوى «إن» لأنها الأصل.
وجعل ابن الزملكاني (1) هذا مما هو دائر بين الحذف والذكر فإن الفعل المفسّر كالمتسلط على المذكور ولكن لا يتعين إلا بعد تقدم إبهام ولقد يزيده الإضمار إبهاما إذا لم يكن المضمر من جنس الملفوظ به نحو: {وَالظََّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} (الانسان: 31).
(2) [إذ المذكور في حكم الشاهد للمقدر فيلتحق بباب الكناية والتقدير ويعذب الظالمين لأنه أعدّ لهم عذابا أليما] (2).
الثاني: أن يكون هناك حرف جرّ نحو {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) فإنه يفيد أن المراد: بسم الله أقرأ أو أقوم، أو أقعد عند القراءة، وعند الشروع في القيام أو القعود، 3/ 200 أيّ فعل كان.
واعلم أنّ النحاة اتفقوا على أنّ «بسم الله» بعض جملة، واختلفوا.
فقال البصريون: الجملة اسمية أي ابتدائي بسم الله.
وقال الكوفيون: الجملة فعلية، وتابعهم الزمخشريّ (4) في تقدير الجملة فعلية ولكن خالفهم في موضعين: أحدهما أنّهم يقدّرون الفعل مقدّما، وهو يقدره مؤخرا. والثاني: أنّهم يقدرونه فعل البداية (5)، وهو يقدّره في كلّ موضع بحسبه، فإذا قال الذابح: بسم الله، كان التقدير: بسم الله أذبح، وإذا قال القارئ: بسم الله، فالتقدير: بسم الله أقرأ.
وما قال أجود مما قالوا (6) لأن مراعاة المناسبة أولى من إهمالها، ولأنّ اسم الله أهمّ من الفعل، فكان أولى بالتقديم ومما يدلّ على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «باسمك ربّي وضعت جنبي» (7)، فقدم اسم الله على الفعل المتعلق فيه (8) الجار، وهو «وضعت».
__________
(1) هو محمد بن علي بن عبد الواحد، كمال الدين الزملكاني تقدم التعريف به في 1/ 135.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(4) انظر الكشاف 1/ 4و 5.
(5) في المخطوطة (البداءة).
(6) في المخطوطة (قالوه).
(7) أخرجه البخاري في الصحيح 13/ 378، من حديث عن أبي هريرة أوله: «إذا جاء أحدكم فراشه فلينفضه بصنفة ثوبه» الحديث كتاب التوحيد (97)، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، الحديث (13).
(8) في المطبوعة (ثم).(3/269)
الثالث: أن يكون جوابا لسؤال وقع، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ} (لقمان: 25).
وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهََا لَيَقُولُنَّ اللََّهُ}
(العنكبوت: 63).
وقوله (1): {[وَقََالُوا]} [2] كُونُوا هُوداً أَوْ نَصََارى ََ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرََاهِيمَ (البقرة: 135) 3/ 201أي بل نتبع. أو جوابا لسؤال مقدّر كقراءة (3): {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهََا بِالْغُدُوِّ وَالْآصََالِ * رِجََالٌ}
(النور: 3736) ببناء الفعل للمفعول فإنّ التقدير: يسبّحه [فيها] (4) رجال.
وفيه فوائد: منها الإخبار بالفعل مرّتين. ومنها جعل الفضلة عمدة.
ومنها: أنّ الفاعل فسّر بعد اليأس منه كضالة وجدها بعد اليأس، ويصحّ أن يكون «يسبّح» بدل من «يذكر» على طريقة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الأعلى: 1) و «له فيها» خبر مبتدأ هو «رجال».
مثله قراءة من قرأ (5): {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ} (الأنعام:
137)، قال أبو العباس: المعنى زيّنه شركاؤهم فيرفع الشركاء بفعل مضمر دلّ عليه «زيّن».
ومثله (6) قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ} (الأنعام: 100) إن جعلنا قوله «لله شركاء» (7)
مفعولي «جعلوا»، لأن «لله» في موضع الخبر [198/ ب] المنسوخ، وشركاء (8)
(9) [نصب في موضع المبتدأ. وعلى هذا فيحتمل وجهين: أحدهما أن يكون مفعولا بفعل] (9) محذوف دل عليه
__________
(1) زيادة في المخطوطة كلمة (تهتدون) في هذا الموضع.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء في (يسبّح له). والباقون بكسرها (التيسير: 162).
(4) ليست في المطبوعة.
(5) قرأ ابن عامر «وكذلك زيّن» بضم الزاي وكسر الياء «قتل» برفع اللام «أولادهم» بنصب الدال «شركائهم» بخفض الهمزة، والباقون بفتح الزاي ونصب اللام وخفض الدال ورفع الهمزة. (التيسر: 107).
(6) في المخطوطة (ومنه).
(7) في المخطوطة (شركاء لله شركاء).
(8) في المخطوطة (وشركاؤكم).
(9) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/270)
سؤال مقدّر، كأنّه (1) [قيل: أجعلوا لله شركاء؟] (1) قيل: جعلوا الجنّ، فيفيد الكلام إنكار الشريك مطلقا، فدخل اعتقاد الشريك من غير الجن (3) في إنكار (4) دخول اتخاذه من الجن.
والثاني: ذكره الزمخشريّ أنّ الجنّ بدل من «شركاء»، فيفيد إنكار الشريك مطلقا، كما سبق، وإن جعل (5) «لله» صلة كان «شركاء الجن» مفعولين، قدم ثانيهما على أولهما (6) وعلى هذا فلا حذف (6).
فأما على الوجه الأول فقيل: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ الْجِنَّ} (الأنعام: 100)، ولم يقل:
«وجعلوا الجنّ شركاء لله» تعظيما لاسم الله [تعالى] (8) لأنّ شأن الله أعظم في النفوس فإذا 3/ 202 قدم «لله» والكلام فيه يستدعي طلب المجعول له ما هو؟ فقيل: شركاء وقع في غاية التشنيع لأنّ النفس منتظرة لهذا المهمّ المعلّق بهذا المعظم نهاية التعظيم فإذا علم أنّه علّق به هذا المستبشع (9) في النهاية، كان أعظم موقعا من العكس لأنّه إذا قيل: وجعلوا شركاء (10) [لم] (11)
يعطه تشوف النفوس (12) لجواز أن يكون: جعلوا شركاء في أموالهم وصدقاتهم أو غير ذلك.
الثالث: أنّ الجعل غالبا لا يتعلق بالله ويخبر به إلا وهو جعل مستقبح كاذب إذ لا يستعمل جعل الله رحمة ومشيئة وعلما (13) ونحوه، لا سيّما بالاستقراء القرآني ك {وَيَجْعَلُونَ لِلََّهِ الْبَنََاتِ} (النحل: 57) {وَيَجْعَلُونَ لِلََّهِ مََا يَكْرَهُونَ} (النحل: 62) إلى غير ذلك (14) [فإذا قيل وجعلوا عصبه اقترحوها وافتروها وقصدوا بها تشوّف النفوس إلى ذلك ما لا يحصل في جعلوا شركاء] (14).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (الحق).
(4) في المخطوطة (الإنكار).
(5) في المخطوطة (جعلنا).
(6) عبارة المخطوطة (وهذا على خلاف).
(8) ليست في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (المتشبع).
(10) في المخطوطة (وجعله شركاؤكم).
(11) ساقطة من المخطوطة.
(12) في المخطوطة (النفس).
(13) في المخطوطة (وغالبا).
(14) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/271)
الرابع: أن أصل الجعل وإن جاز وإسناده إلى الله فيما إذا كان الأمر لائقا، فإن بابه مهول لأن الله تعالى قد علّمنا عظيم خطره، وألا (1) نقول فيه إلا بالعلم، كقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169)، {وَإِنَّ الظَّنَّ لََا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28)، إلى غير ذلك، مع ما دلّ عليه الأدب عقلا، وكان نفس الجعل مستنكرا إن لم يتبع بمجعول (2)
لائق، فإذا أتبع بمجعول غير لائق منهم ثم فسّر بخاص مستنكر، صار قوله: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ الْجِنَّ} (الأنعام: 100) في قوة إنكار ذلك ثلاث مرات: الأوّل جسارتهم في أصل الجعل (3)، الثاني في كون المجعول شركاء، الثالث في أنهم شركاء جنّ.
الخامس: أن في تقديم «لله» إفادة تخصيصهم إياه بالشركة على الوجه الثالث، دون جميع ما يعبدون، لأنه الإله (4) الحق.
السادس: أنه جيء بكلمة «جعلوا» لا «اعتقدوا» ولا «قالوا» (5) [لأنه أدلّ على إثبات المعتقد] (5)، لأنه يستعمل في الخلق والإبداع.
3/ 203السابع: كلمة «شركاء» ولم يقل «شريكا» وفاقا لمزيد ما فتحوا من اعتقادهم.
الثامن: لم يقل «جنّا»، وإنما قال «الجن»، دلالة على أنهم اتخذوا الجن كلها وجعلوه من حيث هو صالح لذلك وهو أقبح من التنكير الذي وضعه للمفردات المعدولة.
* * * الرابع: أن يدلّ عليه معنى (7) الفعل الظاهر كقوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ}
(النساء: 171)، أي (8) وائتوا أمرا خيرا لكم (8) فعند سيبويه (10) أن «خيرا» انتصب بإضمار «ائت» (11) لأنّه لما نهاه علم أنه يأمره بما هو خير فكأنه قال: «وائتوا خيرا» لأن النهي عن
__________
(1) في المخطوطة (ولأنا). تصحيف.
(2) في المخطوطة (مجعول).
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (العجل).
(4) في المخطوطة (إله).
(5) العبارة ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (بمعنى).
(8) تكررت الآية في المخطوطة {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ}.
(10) انظر الكتاب 1/ 284282 (هذا باب يحذف منه الفعل لكثرته في كلامهم).
(11) في المخطوطة (وائت).(3/272)
الشيء أمر بضدّه ولأنّ (1) النهي تكليف، وتكليف العدم محال لأنه ليس مقدورا، فثبت أنّ متعلّق التكليف أمر وجوديّ، ينافي المنهيّ عنه وهو الضدّ.
وحمله الكسائيّ على إضمار «كان» أي يكن الانتهاء خيرا (2) لكم. ويمنعه إضمار كان، ولا تضمر في كل [199/ أ] موضع، ومن (3) جهة المعنى إذ من ترك ما نهي عنه فقد سقط عنه اللوم وعلم أن ترك المنهيّ عنه خير من فعله، فلا فائدة في قوله «خيرا».
وحمله الفراء على أنه صفة لمصدر محذوف، أي انتهوا انتهاء خيرا [لكم] (4). وقال:
إنّ هذا الحذف لم يأت إلا فيما كان أفعل، نحو خير لك، وأفعل.
ورد مذهبه ومذهب الكسائي بقوله تعالى: {وَلََا تَقُولُوا ثَلََاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} (النساء:
171) (5) [لو حمل على ما قالا لا يكون خيرا] (5) لأن من انتهى عن التثليث وكان معطّلا لا يكون خيرا له. وقول سيبويه: وائت خيرا يكون أمرا بالتوحيد الذي هو خير. فلله در الخليل وسيبويه، ما أطلعهما على المعاني! وقوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ} (يونس: 71)، إن لم يجعل مفعولا معه، 3/ 204 أي وادعوا شركاءكم، وبإظهار «ادعوا» قرأ أبيّ (7)، وكذلك هو مثبت في مصحف ابن مسعود.
وقوله تعالى: {فَرََاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} (الصافات: 93)، قال ابن الشجري (8): معناه مال عليهم يضربهم ضربا. ويجوز نصبه على الحال نحو أتيته مشيا، [أي ماشيا] (9). {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} (البقرة: 260) أي ساعيات. وقوله:
__________
(1) في المخطوطة (لأن).
(2) في المخطوطة (خير).
(3) في المخطوطة (من).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(7) ذكرها أبو حيان في البحر المحيط 5/ 179.
(8) هو هبة الله بن علي الحسني المعروف بابن الشجري تقدم التعريف به في 2/ 475. وانظر أماليه 2/ 165.
(9) ساقطة من المخطوطة.(3/273)
«باليمين» إمّا اليد أو القوة. وجوّز ابن الشجري إرادة القسم والباء للتعليل أي لليمين التي حلفها، وهي قوله تعالى: {[تَاللََّهِ]} [1] لَأَكِيدَنَّ أَصْنََامَكُمْ (الأنبياء: 57).
وزعم النوويّ في قوله تعالى: {قُلْ لََا تُقْسِمُوا طََاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} (النور: 53)، أن التقدير ليكن منكم طاعة معروفة.
* * * الخامس: أن يدلّ عليه العقل كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [مِنْهُ]} [1] (البقرة: 60) [أي فضرب فانفجرت] (3).
وقوله: {فَدَعََا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنََا} (القمر: 1110)، قال النحاس (4): التقدير فنصرناه ففتحنا أبواب السماء لأن ما ظهر من الكلام يدلّ على ما حذف.
وقوله: {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (لقمان: 27) أي يكتب بذلك كلمات الله ما نفدت، قاله أبو الفتح (5).
وقوله: {فَقََالَ لَهُمُ اللََّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيََاهُمْ} (البقرة: 243).
[فقوله: «ثم أحياهم»] (6) معطوف على فعل محذوف [تقديره] (6) فماتوا ثم 3/ 205أحياهم، (8) [ولا يصحّ عطف قوله: «ثم أحياهم»] (8) على قوله: «موتوا» لأنه أمر، وفعل الأمر لا يعطف على الماضي.
وقوله: {كََانَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً فَبَعَثَ اللََّهُ النَّبِيِّينَ} (البقرة: 213)، [أي فاختلفوا فبعث] (10)، وحذف لدلالة قوله [تعالى] (11) {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}
(البقرة: 213)، وهي في قراءة عبد الله كذلك (12).
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(3) العبارة ساقطة من المخطوطة.
(4) في إعراب القرآن 4/ 288إعراب سورة القمر.
(5) انظر المحتسب 2/ 169والخصائص 2/ 212.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(10) ليست في المخطوطة.
(11) ليست في المطبوعة.
(12) ذكرها أبو حيان في البحر المحيط 2/ 135.(3/274)
وقيل: تقديره كان الناس أمّة واحدة كفارا، فبعث الله النبيين، فاختلفوا والأول أوجه.
وقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جََاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (الأعراف: 63)، (1) [فالهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف تقديره: أكذّبتم وعجبتم أن جاءكم] (1).
وقوله: {قََالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الأعراف: 114)، هو معطوف على محذوف سدّ مسدّه حرف الإيجاب كأنّه قال إيجابا لقولهم: {إِنَّ لَنََا لَأَجْراً} (الأعراف:
113)، (3) نعم إن لكم أجرا وإنكم لمن المقربين (3).
وقوله تعالى: {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى ََ سَفَرٍ} (البقرة: 184)، أي فأفطر (5)
فعدة، خلافا للظاهرية حيث أوجبوا الفطر على المسافر أخذا من الظاهر (6).
وقوله [تعالى] (7): {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} (البقرة:
196)، أي فحلق ففدية.
وقوله: {فَقُلْنََا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهََا} (البقرة: 73)، قال الزمخشري (8): التقدير فضربوه فحيي، فحذف ذلك لدلالة قوله: {كَذََلِكَ يُحْيِ اللََّهُ الْمَوْتى ََ} (البقرة: 73). 3/ 206
وزعم ابن جني أن التقدير في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذََا جِئْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}
(النساء: 41) أن التقدير فكيف [يكون] (9) إذا جئنا.
* * * السادس: أن يدلّ عليه ذكره في موضع آخر، كقوله [تعالى] (10): {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً}
(البقرة: 72)، قال الواحديّ (11): هو بإضمار «اذكر»، ولهذا لم يأت لإذ بجواب. ومثله
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) تصحفت العبارة في المخطوطة تكرارا كما يلي (نعم إن لكم لأجرا إنّ لنا لأجرا وإنكم لمن المقربين).
(5) في المخطوطة (ويفطر).
(6) انظر المحلى لابن حزم 6/ 243المسألة (762).
(7) ليست في المطبوعة.
(8) انظر الكشاف 1/ 76.
(9) ساقطة من المخطوطة.
(10) ساقطة من المطبوعة.
(11) هو علي بن أحمد الواحدي تقدم التعريف به في 1/ 105.(3/275)
قوله تعالى: {وَإِلى ََ ثَمُودَ أَخََاهُمْ صََالِحاً} (هود: 61)، وليس شيء قبله تراه ناصبا ل «صالحا» (1)، بل علم بذكر النبي والمرسل إليه أن فيه إضمار «أرسلنا».
وقوله: {وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ} (الأنبياء: 81) أي وسخرنا.
ومثله [199/ ب]: {وَنُوحاً إِذْ نََادى ََ مِنْ قَبْلُ} (الأنبياء: 76) {وَذَا النُّونِ}
(الأنبياء: 87).
وكذا: {وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ إِذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ} (الأنبياء: 78)، أي واذكر.
قال: ويدل على «اذكر» في هذه الآيات (2) قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} (الأنفال: 26)، {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} (الأعراف:
86).
وما قاله ظاهر، لأنّ (3) مفعول «اذكر» يكون محذوفا أيضا تقديره: (4) «واذكروا حالكم» (4) ونحوه إذا (6) كان كذا، وذلك ليكون «إذ» في موضع نصب على الظرف، ولو لم يقدّر (7) ذلك المحذوف لزم وقوع «إذ» مفعولا (8) به والأصح أنها لا تفارق الظرفية.
* * * 3/ 207السابع: المشاكلة، كحذف (9) الفاعل في «بسم الله» لأنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله فلو ذكر (10) الفعل وهو لا يستغنى عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله كما تقول في الصلاة: الله أكبر، ومعناه «من كل شيء»، ولكن (11) لا تقول هذا المقدّر ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود الجنان (12) وهو أن يكون (13) في القلب ذكر الله [العظيم] (14) وحده. وأيضا فلأنّ الحذف أعمّ من الذكر فإنّ (15) أيّ فعل ذكرته كان المحذوف أعمّ منه لأن التسمية تشرع عند كل فعل.
__________
(1) في المخطوطة (صالح).
(2) في المخطوطة (الآية).
(3) في المطبوعة (إلا أن).
(4) تصحفت عبارة المطبوعة إلى (واذكروا أخالكم).
(6) في المخطوطة (إذ).
(7) في المطبوعة (يفد).
(8) في المخطوطة (محذوفا بها).
(9) في المخطوطة (في حذف).
(10) في المخطوطة (ذكرت).
(11) في المخطوطة (ويمكن).
(12) في المخطوطة (الخيال).
(13) تصحفت في المخطوطة إلى (لا يكون).
(14) ليست في المطبوعة.
(15) في المخطوطة (فإذن).(3/276)
الثامن: أن يكون بدلا من مصدره كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقََابِ} (محمد:
4)، وقوله: {فَإِمََّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمََّا فِدََاءً} (محمد: 4) أي فإما [أن] (1) تمنّوا، وإما أن تفادوا.
وقد اختلف في نصب «السلام» في قوله تعالى في سورة هود: {وَلَقَدْ جََاءَتْ رُسُلُنََا إِبْرََاهِيمَ بِالْبُشْرى ََ قََالُوا سَلََاماً} (هود: 69) وفي الذاريات: {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقََالُوا سَلََاماً} (الذاريات: 2524) وفي نصبها وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوبا (2) بالقول، أي يذكرون قولا «سلاما» (2) فيكون من [باب] (4) قلت حقا وصدقا.
الثاني: أن يكون منصوبا بفعل (5) محذوف تقديره: فقالوا سلّمنا سلاما، أي سلمنا تسليما فيكون قد حكى الجملة بعد القول، ثم حذفها واكتفى ببعضها.
والحاصل أنه هل هو منصوب بالقول، أو بكونه مصدرا لفعل محذوف؟.
ومثله قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قََالُوا خَيْراً} (النحل: 30)، منصوب، ب «قالوا» كقولك فقلت حقا، أو منصوب بفعل مضمر [أي] (6) قالوا: أنزل خيرا، 3/ 208 من باب حذف الجملة المحكيّة وتبقية بعضها.
وأما قوله تعالى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (النحل:
24) فمرفوع لأنه (7) لا يمكن نصبه على تقدير «قالوا أساطير الأولين»، لأنهم لم يكونوا يرونه (8) من عند الله حتى يقولوا ذلك، ولا هو أيضا من باب: قلت حقا وصدقا، فلم يبق إلا رفعه (9).
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) تصحفت عبارة المخطوطة تكرارا كما يلي (بفعل محذوف تقديره فقالوا سلمنا سلاما).
(4) ساقطة من المطبوعة.
(5) في المخطوطة (بالفعل).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (أنه).
(8) في المخطوطة (بمنزلة).
(9) تكررت عبارة في المخطوطة بعد كلمة رفعه (رفعه، على تقدير قالوا أساطير الأولين).(3/277)
تنبيه
قد يشتبه الحال في أمر (1) المحذوف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل، كما قالوا في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمََنَ أَيًّا مََا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ}
(الإسراء: 110)، فإنّه قد يظن أن الدعاء فيه بمعنى النّداء فلا يقدّر في الكلام حذف، وليس كذلك، وإلّا لزم الاشتراك إن كانا متفاوتين، أو عطف الشيء على نفسه وإنما الدعاء هنا بمعنى التسمية التي تتعدى لمفعولين، أي سمّوه الله أو الرحمن.
وقد يشتبه في تعيين المحذوف لقيام قرينتين، كقوله تعالى: {بَلى ََ قََادِرِينَ}
(القيامة: 4) قدرّه سيبويه (2) ب «بلى (3) نجمعها قادرين»، فقادرين حال وحذف الفعل لدلالة: {أَلَّنْ نَجْمَعَ} (القيامة: 3) عليه.
وقدّره الفرّاء (4) «نحسب» لدلالة {أَيَحْسَبُ} [5] الْإِنْسََانُ (القيامة: 3) أي بلى 3/ 209نحسبنا قادرين (6). وتقدير سيبويه أولى [200/ أ] لأنّ «بلى» ليس جوابا ل «يحسب» إنما هو جواب ل «أن لن نجمع» وقدره بعضهم: بلى نقدر قادرين.
وقيل: منصوب، لوقوعه (7) موقع الفعل (8)، وهو باطل لأنه ليس من نواصب الاسم وقوعه موقع الفعل.
تنبيه آخر
إنّ الحذف على ضربين: أحدهما ألّا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق. والثاني:
أن يقام مقامه ما يدل عليه، كقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مََا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}
__________
(1) في المخطوطة (أثر).
(2) انظر الكتاب 1/ 346 (هذا باب ما جرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الأفعال).
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (بل).
(4) انظر معاني القرآن 3/ 208، سورة القيامة.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (يحسب).
(6) تكررت كلمة (قادرين) في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (بوقوعه).
(8) في المخطوطة (المصدر).(3/278)
(هود: 57) ليس الإبلاغ هو الجواب لتقدّمه على قولهم فالتقدير (1): فإن تولّوا فلا ملام عليّ، لأنّي قد أبلغتكم (2) [أو: فلا عذر لكم عند ربكم لأني أبلغتكم] (2).
وقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} (فاطر: 4) فلا تحزن واصبر.
وقوله: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال: 38)، أي يصيبهم ما (4)
أصاب الأولين.
حذف الحرف
قال أبو الفتح في «المحتسب (5)»: أخبرنا أبو عليّ قال: قال أبو بكر ابن السّرّاج (6):
حذف الحرف ليس يقاس، وذلك لأن الحرف نائب عن الفعل بفاعله، ألا تراك إذا قلت: ما قام زيد، فقد نابت «ما» عن «أنفي» كما نابت «إلا» عن «أستثني»، وكما نابت الهمزة وهل عن «أستفهم»، وكما نابت حروف العطف عن «أعطف»، ونحو ذلك. فلو ذهبت تحذف الحرف لكان ذلك اختصارا، واختصار المختصر إجحاف (7) به إلا [أنه] (8) إذا 3/ 210 صحّ التوجّه [إليه، وقد] (9) جاز في بعض الأحوال حذفه لقوة الدلالة عليه. انتهى.
فمنه الواو، تحذف لقصد البلاغة فإنّ في إثباتها ما يقتضي تغاير المتعاطفين فإذا حذفت أشعر بأن الكلّ كالواحد: كقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا بِطََانَةً مِنْ دُونِكُمْ لََا يَأْلُونَكُمْ خَبََالًا وَدُّوا مََا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضََاءُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ وَمََا تُخْفِي صُدُورُهُمْ [أَكْبَرُ]} [10]
(آل عمران: 118) تقديره: ولا يألونكم (11) [خبالا] (12).
__________
(1) في المخطوطة (والتقدير).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (مثل أصاب) بدون (ما).
(5) تقدم التعريف بالكتاب في 1/ 481.
(6) هو محمد بن السري، تقدم التعريف به في 2/ 438.
(7) في المخطوطة (إجحافا).
(8) ساقطة من المطبوعة.
(9) ساقطة من المخطوطة.
(10) ليست في المخطوطة.
(11) في المخطوطة (يولونكم).
(12) ساقطة من المخطوطة.(3/279)
وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاعِمَةٌ} (الغاشية: 8)، أي ووجوه.
وخرّج عليه الفارسيّ قوله تعالى: {وَلََا عَلَى الَّذِينَ إِذََا مََا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لََا أَجِدُ مََا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} (التوبة: 92) الآية. وقال: تقديره: «وقلت لا أجد» فهو معطوف على قوله: «أتوك» لأن جواب «إذا» قوله: {تَوَلَّوْا}.
ومنعه ابن الشجريّ (1) في «أماليه» وعلى هذا فلا موضع له من الإعراب، لأنه معطوف على الصلة والصلة لا موضع لها من الإعراب، فكذلك ما عطف [عليها] (2).
وقال الزمخشريّ (3): هي حال من الكاف في «أتوك»، «وقد» قبله مضمرة كما في قوله [تعالى] (4) {أَوْ جََاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (النساء: 90)، أي إذا ما أتوك (5)
قائلا: لا أجد تولوا وعلى هذا فله موضع من الإعراب لأنه [حال] (6).
قال السهيليّ (7) في «أماليه»: ليس معنى الآية كما قالوا (8) لأنّ رفع الحرج (9) عن القوم ليس مشروطا بالبكاء عند التولّي وإنما شرطه عدم الجدة، و [الآية] (10) نزلت في السبعة الذين سماهم (11) ابن (12) إسحاق ولو كان جواب «إذا أتوك» في قوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} (التوبة: 92) لكان من لم تفض عيناه من الدمع هو الذي حرج وأثم 3/ 211وما (13) رفع الله الحرج عنهم إلا لأن الرسول لم يجد ما يحملهم عليه. وإذا عطفت (14) «قلت لا
__________
(1) هو هبة الله بن علي تقدم التعريف به في 2/ 376.
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في الكشاف 2/ 167.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (إذا أتوك).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي تقدم التعريف به في 1/ 242. وكتابه «الأمالي في النحو واللغة والحديث والفقه» طبع بتحقيق محمد إبراهيم البنا بمطبعة السعادة في القاهرة عام 1390هـ / 1970م (معجم المنجد 3/ 99وذخائر التراث 1/ 583وفهرس الكتب النحوية: 45).
(8) في المخطوطة (تأوّلوا).
(9) في المخطوطة (الجزع).
(10) ليست في المطبوعة.
(11) في المطبوعة (سمّى).
(12) تصحفت في المطبوعة إلى (أبو). وسبب ذكره ابن هشام في السيرة النبوية 4/ 518عن ابن اسحاق في (غزوة تبوك، شأن البكائين).
(13) في المخطوطة (ما رفع).
(14) في المخطوطة (عطف الحرج).(3/280)
أجد» على «أتوك» كان (1) الحرج غير مرفوع عنهم حتى يقال: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ}
(التوبة: 92)، فجواب «إذا» في قوله «لا أجد» وما بعد ذلك خبر ونبأ على هؤلاء السبعة الذين كانوا سبب نزول هذه الآية ففضيلة البكاء مخصوصة بهم، ورفع الحرج بشرط عدم الجدة عامّ فيهم وفي غيرهم.
وقال الواحديّ (2) في قوله تعالى: {قََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً} (البقرة: 116): آية البقرة في مصاحف الشام بغير واو يعني قراءة ابن عامر (3) لأن هذه الآية ملابسة لما قبلها من قوله:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسََاجِدَ اللََّهِ} (البقرة: 114) لأن القائلين: «اتخذ الله [200/ ب] ولدا» من جملة المتقدم ذكرهم، فيستغنى عن ذكر الواو لالتباس الجملة بما قبلها، كما استغنى عنها في نحو قوله [تعالى] (4): {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ}
(البقرة: 39)، ولو كان «وهم» (5) كان حسنا إلا أنّ التباس إحدى الجملتين بالأخرى وارتباطها بها أغنى (6) عن الواو.
ومثله: {سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ} (الكهف: 22) (7) [ولم يقل: «ورابعهم»] (7) كما قال:
{وَثََامِنُهُمْ} ولو حذف الواو منها كما حذف من التي قبلها واستغنى عن الواو بالملابسة التي بينهما [كان حسنا] (7) ويمكن أن يكون حذف الواو (7) [لاستئناف الجملة، ولا يعطف على ما تقدم. انتهى.
وحصل من كلامه أنه عند حذف الواو] (7) يجوز أن يلاحظ معنى العطف، ويكتفي للرّبط بينها وبين ما قبلها بالملابسة كما ذكر. ويجوز ألّا يلاحظ (12) ذلك فتكون الجملة مستأنفة.
قال ابن عمرون (13): وحذف الواو في الجمل أسهل منه في المفرد، وقد كثر حذفها في
__________
(1) في المخطوطة (لكان).
(2) هو علي بن أحمد تقدم التعريف به في 1/ 105.
(3) وقراءة الباقين (وقالوا) بالواو (التيسير: 76).
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (فيهما).
(6) في المخطوطة (أغنت).
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(12) في المخطوطة (يلحظ).
(13) هو محمد بن محمد بن أبي علي بن عمرون تقدم التعريف به في 3/ 22.(3/281)
3/ 212الجمل في الكلام المحمول بعضه على بعض، نحو قوله تعالى: {قََالَ فِرْعَوْنُ وَمََا رَبُّ الْعََالَمِينَ * قََالَ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قََالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلََا تَسْتَمِعُونَ * قََالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبََائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قََالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قََالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (الشعراء: 23إلى 28) كله محمول بعضه على بعض، والواو مزيدة (1)، حذفت لاستقلال الجمل بأنفسها بخلاف المفرد ولأنه في المفرد ربّما أوقع لبسا في نحو «رأيت زيدا ورجلا عاقلا» ولو جاز حذف الواو احتمل أن يكون «رجلا» بدلا بخلاف الجملة.
وقريب منه قوله [تعالى] (2): {فَخَرَجَ عَلى ََ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قََالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ}
(القصص: 79)، أي: وقال.
ومنه الفاء في جواب الشرط على رأي، وخرّج [عليه] (2) قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} (البقرة: 180) [أي] (2) فالوصية.
والفاء في العطف كقوله [تعالى] (5): {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قََالُوا أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً قََالَ أَعُوذُ بِاللََّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ} (البقرة: 67)، تقديره «فقال أعوذ بالله»، ذكره ابن الشجري في «أماليه» (6).
وقوله تعالى: {وَإِلى ََ عََادٍ أَخََاهُمْ هُوداً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ} (الأعراف: 65) (7) حذف حرف العطف من قوله: {قََالَ} ولم يقل: «فقال» كما في قصة نوح لأنه على تقدير سؤال سائل قال: ما قال لهم هود؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله واتقوه (7).
3/ 213ومنه حذف همزة الاستفهام، كقوله تعالى: {فَلَمََّا [جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ]} [9] رَأى ََ كَوْكَباً قََالَ هََذََا رَبِّي (الأنعام: 76)، أي أهذا [ربي] (9)؟
__________
(1) في المخطوطة (مزادة).
(2) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المطبوعة.
(6) الأمالي الشجرية 1/ 79و 371.
(7) العبارة في المخطوطة كتبت كما يلي (واتقوا الله، وكذلك قال الملأ، وأخاهم عطف على قوله نوحا.
وهودا عطف بيان).
(9) ليست في المخطوطة.(3/282)
وقوله: {وَمََا أَصََابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (النساء: 79) [أي أفمن نفسك] (1)! وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ [تَمُنُّهََا عَلَيَ]} [2] (الشعراء: 22) أي أو تلك نعمة! وقوله: {إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} (يوسف: 90) على قراءة ابن كثير (3) بكسر الهمزة، على خلاف في ذلك جميعه.
ومنه حذف ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر للفرق بين الاستفهامية والخبرية كقوله [تعالى] (4): {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيََاءَ اللََّهِ} (البقرة: 91)، {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرََاهََا} (النازعات:
43)، {عَمَّ يَتَسََاءَلُونَ} (النبأ: 1)، و {مِمَّ خُلِقَ} (الطارق: 5).
ومنه حذف الياء في {وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} (الفجر: 4) للتخفيف ورعاية الفاصلة.
ومنه حذف حرف النداء، كقوله: {هََا أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ} (آل عمران: 66)، [أي يا هؤلاء] (5).
وقوله: {يُوسُفُ} (يوسف: 29)، أي يا يوسف.
وقوله: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} (مريم: 4)، أي يا رب.
ويكثر في المضاف نحو: {فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ} (يوسف: 101). {رَبَّنََا أَنْزِلْ عَلَيْنََا مََائِدَةً}
(المائدة: 114).
وكثر ذلك في نداء الربّ سبحانه [وتعالى] (6) وحكمة ذلك دلالته على التعظيم والتنزيه لأن النداء يتشرّب معنى الأمر لأنك إذا قلت: يا زيد، فمعناه أدعوك يا زيد، فحذفت «يا» من نداء الرب ليزول معنى الأمر، ويتمحّض التعظيم (7) والإجلال.
وقال الصفار (8): يجوز حذف حرف النداء من المنادى، إلّا إذا كان المنادى نكرة مقبلا 3/ 214 عليها [أولا] (9) إذ لا دليل عليه وإلا إذا كان اسم إشارة.
__________
(1) ليست في المخطوطة. وانظر البحر المحيط لأبي حيان 3/ 301.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) قرأ ابن كثير إنك لأنت بكسر الهمزة على الخبر، والباقون على الاستفهام (التيسير: 130).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) ليست في المطبوعة.
(7) في المخطوطة (للتعظيم).
(8) هو القاسم بن علي البطليوسي، تقدم في 2/ 451.
(9) ساقطة من المطبوعة.(3/283)
ومنه حذف «لو» في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ وَلَعَلََا بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ} (المؤمنون: 91)، تقديره [201/ أ] لو كان معه إله لذهب كلّ إله بما خلق.
وقوله: {وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ}
(العنكبوت: 48)، معناه لو كان كذلك لارتاب المبطلون.
ومنه حذف «قد» في قوله [تعالى] (1): {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (الشعراء:
111)، أي وقد اتبعك لأن الماضي لا يقع موقع (2) الحال إلا و «قد» معه ظاهرة أو مقدرة.
ومثلها: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً [فَأَحْيََاكُمْ]} [3] (البقرة: 28) [أي وقد كنتم] (4).
وقوله: {أَوْ جََاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (النساء: 90) (5) [قيل معناه «قد حصرت» بدلالة قراءة يعقوب (6). «حصرة صدورهم». وقال الأخفش: الحال محذوفة، و «حصرت صدورهم»] (5) صفتها أي جاءوكم يوما حصرت [صدورهم] (8) دعاء عليهم (5) [بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم] (5) على طريقة (11) قاتلهم الله. وردّه أبو عليّ بقوله «أي قاتلوا قومهم» فلا يجوز أن يدعى عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتالهم لقومهم لكن بقول: اللهم ألق (12) بأسهم بينهم.
ومنه [حذف] (13) «أن» في قوله تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [خَوْفاً وَطَمَعاً]} [13]
(الروم: 24)، المعنى أن يريكم.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (في موضع).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(6) ذكرها ابن الجزري في النشر في القراءات العشر 2/ 251، وانظر الأمالي الشجرية 1/ 372.
(8) ليست في المطبوعة.
(11) في المطبوعة (طريقته) بدون (على).
(12) في المخطوطة (ألحق).
(13) ليست في المخطوطة.(3/284)
وحذف «لا» في قوله: {تَاللََّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ} (يوسف: 85)، أي لا تفتأ، لأنها ملازمة للنفي 3/ 215 ومعناها لا تبرح.
قوله: {وَأَلْقى ََ فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل: 15)، أي لا تميد.
وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} (المائدة: 29)، أي لا تبوء.
وبهذا [التقدير] (1) يزول الإشكال من الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (البقرة:
184) أي لا يطيقونه، على قول.
فائدة (2)
كثر في القرآن حذف الجار، ثم إيصال الفعل إلى المجرور به، كقوله تعالى: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ} (الأعراف: 155)، أي من قومه.
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجََاتٍ} (البقرة: 253).
{لََا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكََاحِ} (البقرة: 235)، أي على عقدة.
{إِنَّمََا ذََلِكُمُ الشَّيْطََانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيََاءَهُ}، أي يخوفكم بأوليائه، ولذلك قال: {فَلََا} [3]
تَخََافُوهُمْ (آل عمران: 175).
{وَيَبْغُونَهََا عِوَجاً} (الأعراف: 45)، أي يبغون لها.
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنََاهُ} (يس: 39) أي قدرنا له.
{سَنُعِيدُهََا سِيرَتَهَا} (طه: 21) [أي على سيرتها] (4).
* * *فصل (5)
من الأنواع ما حذف في آية، وأثبت في أخرى وهو قسمان:
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) في المخطوطة (فصل).
(3) في المخطوطة (فهل لا).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (تنبيه).(3/285)
أحدهما: أن يكون ما حذف منه محمولا على المذكور [وهذا] (1) كالمطلق في الرقبة في كفارة الظهار (2)، مقيّدا بالمؤمنة [كما] (3) في كفارة القتل (4).
وكقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} (آل عمران: 133)، قيدت بالتشبيه في موضع آخر (5).
ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ وَالْمَلََائِكَةُ} (البقرة: 210)، وقوله في سورة النحل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} (النحل: 33)، فإن هذه تقتضي أن الأولى على حذف مضاف.
* * * 3/ 217والقسم الثاني: لا يكون مرادا. فمنه قوله تعالى في سورة المؤمنين: {لَكُمْ} [6] فِيهََا فَوََاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ (المؤمنون: 19)، وفي الزخرف: {[لَكُمْ فِيهََا فََاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ]} [7] مِنْهََا (8)
تَأْكُلُونَ (الزخرف: 73).
وقوله في [سورة] (9) البقرة: {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(الآية: 5) وفي سورة الأعراف: {أُولََئِكَ كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولََئِكَ هُمُ الْغََافِلُونَ}
(الآية: 179).
وحكمته أنه قد اختلف الخبران في سورة البقرة فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) من قوله تعالى في سورة المجادلة {وَالَّذِينَ يُظََاهِرُونَ مِنْ نِسََائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[الآية: 3].
(3) ليست في المطبوعة.
(4) من قوله تعالى في سورة النساء {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [الآية: 92].
(5) وهو قوله تعالى في سورة الحديد {سََابِقُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهََا كَعَرْضِ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ}
[الحديد: 21].
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (ولكم).
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(8) تصحفت في المخطوطة إلى (ومنها).
(9) ليست في المطبوعة.(3/286)
في الأعراف، فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم واحد فكانت (1)
الجملة الثالثة مقرّرة ما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى في البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ} (البقرة: 6) وقال في يس:
{وَسَوََاءٌ} [2] [عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ] (2) (يس: 10) مع العاطف، وحكمته أنّ ما في يس وما بعده جملة معطوفة على جملة أخرى، فاحتاجت إلى العاطف. والجملة هنا ليست معطوفة، فهي من العطف بمعزل.
ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى ََ} [2] [لََا يَتَّبِعُوكُمْ] (2) (الأعراف: 193) فأثبت الواو في الأعراف، وحذفها في الكهف، فقال: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى ََ} (الكهف:
57) والفرق [201/ ب] بينهما أن الذي في الأعراف خطاب لجمع، وأصله «تدعونهم» (6)، حذفت [النون] (7) للجزم، والتي في الكهف خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو واحد، وعلامة الجزم فيه سقوط الواو.
ومنه في آل عمران: {جََاؤُ بِالْبَيِّنََاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتََابِ الْمُنِيرِ} (آل عمران: 184) وفي فاطر: {جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتََابِ الْمُنِيرِ} (فاطر: 25) والفرق [بينهما] (8) أن 3/ 218 الأولى حذفت الباء فيها للاختصار استغناء بالتي قبلها، و [الثانية] (9) خرجت عن (10) الأصل للتوكيد (10)، وتقدير المعنى كما تقول: مررت بك وبأخيك وبأبيك إذا اختصرت.
[ومنه] (12) قوله في قصة ثمود: {مََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا} (الشعراء: 154)، وفي قصة شعيب: {وَمََا أَنْتَ} (الشعراء: 186) بالواو، والفرق أن الأولى جرى على انقطاع الكلام عند النحويين، واستئناف {مََا أَنْتَ} (الشعراء: 154)، فاستغنى عن الواو لما تقرّر من الابتداء،
__________
(1) في المخطوطة (وكانت).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (تدعهم).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) ساقطة من المطبوعة.
(9) ساقطة من المطبوعة.
(10) عبارة المخطوطة (عن أن الأصل التوكيد).
(12) ساقطة من المخطوطة.(3/287)
وفي الثانية جرى في العطف (1)، وأن يكون قوله: {وَمََا أَنْتَ} (الشعراء: 186) معطوفا على {إِنَّمََا أَنْتَ} (الشعراء: 185).
ومنه (2) قوله [تعالى] (3) في سورة النحل: {وَلََا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلََا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمََّا يَمْكُرُونَ} (الآية: 127)، وفي سورة النمل {وَلََا تَكُنْ [فِي ضَيْقٍ]} [3] (الآية: 70)، بإثبات النون، وحكمته أن القصة لما طالت في سورة النحل ناسب التخفيف بحذف النون، بخلافه في سورة النمل فإنّ الواو استئنافية، ولا (5) تعلّق لها بما قبلها.
وقوله [في البقرة] (6): {فَلََا} [7] تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (الآية: 147)، وفي آل عمران:
{فَلََا تَكُنْ [مِنَ الْمُمْتَرِينَ]} [6] (الآية: 60) وحكمته أنّ الخطاب في البقرة لليهود وهم (9) أشدّ جدالا (10).
ومنه (11) قوله [تعالى] (12) [في الأعراف] (13): {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قََالُوا [بَلى ََ]} [13] شَهِدْنََا
(الآية: 172) وفي الأنعام: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا قََالُوا شَهِدْنََا عَلى ََ أَنْفُسِنََا} (الآية: 130).
3/ 219ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الآية: 61)، وفي سورة آل عمران: {بِغَيْرِ حَقٍّ} (الآية: 21). والحكمة فيه أن الجملة في آل عمران خرجت (15) مخرج الشرط، وهو عام، فناسب أن يكون النفي بصيغة التنكير حتى يكون عاما،
__________
(1) في المخطوطة (على المعطوف).
(2) في المخطوطة (ومنها).
(3) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (لا).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (ولا).
(9) تصحفت في المخطوطة إلى (وهي).
(10) في المخطوطة (ضلالا).
(11) في المخطوطة (ومنها).
(12) ليست في المطبوعة.
(13) ليست في المخطوطة.
(15) في المخطوطة (أخرجت).(3/288)
وفي سورة البقرة جاء عن أناس معهودين وهو قوله تعالى: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كََانُوا يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الآية: 61)، فناسب أن يؤتى بالتعريف، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس (1) [عندهم كان معروفا، كقوله تعالى: {وَكَتَبْنََا عَلَيْهِمْ فِيهََا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (المائدة: 45)، فالحقّ هنا الذي تقتل به الأنفس] (1) معهود معروف، بخلاف ما في سورة آل عمران.
و [منه] (1) قوله تعالى في [سورة] (4) هود حاكيا عن شعيب: {وَيََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الآية: 93)، (5) [وأمر نبينا صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لقريش: {لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}] (5). (النحل: 55).
ويمكن أن يقال: لما كررت مراجعته (7) لقومه، ناسب اختصاص قصته بالاستئناف الذي هو أبلغ في الإنذار والوعيد وأما نبينا صلّى الله عليه وسلّم فكانت مدة إنذاره لقومه قصيرة، فعقّب عملهم على مكافأتهم بوعيدهم بالفاء إشارة إلى قرب نزول الوعيد لهم بخلاف شعيب، فإنه طالت مدته في قومه، فاستأنف لهم ذكر (8) الوعيد.
ولعلّ قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم، فأجابهم بهذا الجواب، والفاء لا تحسن فيه، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقل ذلك جوابا للسؤال (9)، ولا يحسن معه الحذف.
ومنه أنه تعالى قال في خطاب المؤمنين: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ تِجََارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذََابٍ 3/ 220 أَلِيمٍ} (الصف: 10)، إلى أن قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (الصف: 12)، وقال في خطاب الكافرين: (10) {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (إبراهيم: 10)، {يََا قَوْمَنََا أَجِيبُوا دََاعِيَ اللََّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ} [202/ أ] {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (10) (الأحقاف: 31).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (مجامعته).
(8) في المخطوطة (ذلك).
(9) في المخطوطة (لسؤال).
(10) وقع تقديم وتأخير في المخطوطة وجاءت العبارة فيها كالتالي: (واتقوا الله وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم)، (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا يغفر لكم من ذنوبكم)، {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}.(3/289)
قال الزمخشريّ (1) في تفسير سورة إبراهيم: ما علمته (2) جاء الخطاب هكذا في القرآن إلّا (3) في خطاب الكافرين (3)، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوّى (5) بين الفريقين في الميعاد.
واعترض الإمام فخر الدين (6) بأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا.
وقال الشيخ أثير الدين (7) أبو حيان في «تفسيره»: ويقال: ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك؟ إذ الكافر إذا آمن والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران، وما تخيلت فيه مغفرة (8) بعض الذنوب من الكافر إذا هو آمن (9) موجود في المؤمن إذا تاب. وسيأتي بسط الكلام على ذلك في آخر الكتاب (10) [عند الكلام على «من».
فصل (11)
ومن لواحق ذلك الإدغام في موضع وتركه في آخر، في سورة النساء {وَمَنْ يُشََاقِقِ الرَّسُولَ} (الآية: 115)، وفي الأنفال: {وَمَنْ يُشََاقِقِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} (الآية: 13)، وجاء بالإدغام في الحشر {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ} (الآية: 4)، وذلك لأن الإدغام تخفيف وليس بالأصيل فورد في النساء على الأصل، ولم يقترن به ما يقتضي تخفيفه، ولما تقدم في سورة الحشر قوله {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ} وتقدم الماضي مدغما ولم يسمع في الماضي فجيء بما حمل عليه من قوله {وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ} مدغما ليحصل التناسب.
__________
(1) في الكشاف 2/ 294.
(2) في المخطوطة (علمت).
(3) عبارة المخطوطة (على هذا الوجه).
(5) في المخطوطة (يسري).
(6) انظر التفسير الكبير 19/ 94، المسألة الرابعة.
(7) انظر البحر المحيط 6/ 410409.
(8) في المخطوطة (معرفة).
(9) في المخطوطة (آمن هو).
(10) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(11) هذا الفصل بكامله ليس في المطبوعة.(3/290)
وأما سورة الأنفال فتعارض فيها شيئان مجيء الإدغام قبله في الماضي من قوله {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللََّهَ} وعطف {وَرَسُولَهُ} على اسم الله وقد وردت نسبة المشاقة لله ورسوله ورد ذلك بالعطف بالواو الجامعة وهو مما يناسب الشك فاستدعى الموضع داعيان، أحدهما ما قبل من الإدغام، والثاني ما بعده من العطف المشبه للفظ، فروعي البعديّ لأنه أقوى من القبلي كما فعلوا في «الأمام» فلم يميلوا نحو «مناشيط» ونحوه مما تأخر فيه حرف الاستعلاء، وإن حال بينه وبين الألف حرفان ومع ذلك فإنه ينفع الإمالة وليس ذلك في قوة المنع إذا تقدم مع حائل.
ومنه في الأنعام {فَأَخَذْنََاهُمْ بِالْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (الآية: 42) بالإدغام ووجّه أن العرب تراعي مجاورة الألفاظ فيحمل اللفظ على مجاورة المشاكلة للمشاكلة القطعية، وفيه الاتباع في «نسوك وبنوك» والأصل بنيك، وماضي الفعل من الضراعة لا إدغام فيه إنما نقول «يضرع» إذ لا حرف مضارعة فيه يسوغ الإدغام فلما أورد الماضي فيما بني على آية الأنعام من قوله {فَلَوْلََا إِذْ جََاءَهُمْ بَأْسُنََا تَضَرَّعُوا} (الآية: 43) ولا إدغام فيه ورد الأول مفكوكا غير مدغم دعيا للمناسبة بخلاف آية الأعراف، إذا لم يرد فيه ما يستدعي هذه المناسبة فجاء مدغما على الوجه الأخف إذ لا يقتضي بخلافه.
ومنه {فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ} في البقرة (38)، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدََايَ} في طه (123) وكذلك في الأنعام: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمََّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشََابِهٍ} (الآية: 99) وقال بهذه في هذه السورة {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمََّانَ مُتَشََابِهاً وَغَيْرَ مُتَشََابِهٍ} (الآية: 141) فورد في آخر الأمر على أخف التباين وفي الثاني على أثقلهما دعيا للترتيب].
الإيجاز
وهو قسم من الحذف، ويسمى إيجاز القصر فإن الإيجاز عندهم قسمان: وجيز بلفظ، ووجيز بحذف.
فالوجيز باللفظ (1) أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقلّ من القدر المعهود عادة 3/ 122 وسبب [202/ ب] حسنه أنه يدلّ على التمكن في الفصاحة، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم (2)».
__________
(1) في المخطوطة (بلفظه).
(2) قطعة من حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 128، كتاب الجهاد(3/291)
واللفظ لا يخلو إما أن يكون مساويا لمعناه وهو المقدر أو أقل منه وهو المقصور.
أما المقدّر فكقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} (النحل: 90) الآية. وقوله: {قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17)، وهو كثير.
وأما المقصور فإما أن يكون نقصان لفظه عن معناه لاحتمال لفظه لمعان كثيرة، أو لا.
* * * الأول (1) كاللفظ المشترك الذي (2) له مجازان (3)، أو حقيقة ومجاز إذا أريد معانيه كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (الأحزاب: 56) فإن الصلاة من الله مغايرة للصلاة من الملائكة، والحق أنه من القدر المشترك وهو الاعتناء والتعظيم.
وكذلك قوله [تعالى] (4): {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ}
(الحج: 18) الآية فإن السجود في الكل يجمعه معنى واحد وهو الانقياد.
* * * والثاني (5) كقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ} (الأعراف:
199).
وقوله: {أُولََئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82).
3/ 222وكذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (البقرة: 179)، إذ معناه كبير (6)، ولفظه يسير.
وقد نظر لقول العرب: «القتل أنفى للقتل» وهو بنون ثم فاء، ويروى (7) [بتاء ثم قاف ويروى] (7) «أوقى». والمعنى أنه إذا أقيم وتحقق حكمه خاف من يريد قتل أحد أن
__________
(56)، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» (122)، الحديث (2977)، ومسلم في الصحيح 1/ 371، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (5) الحديث (7/ 523).
(1) في المخطوطة (والأول).
(2) في المخطوطة (والذي).
(3) في المخطوطة (مجازات).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (الثاني).
(6) في المخطوطة (كثير).
(7) ليست في المخطوطة.(3/292)
يقتصّ منه، وقد حكاه الحوفيّ (1) في «تفسيره» عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (2)، وقال: قول عليّ في غاية البلاغة وقد أجمع الناس على بلاغته وفصاحته (3) وأبلغ منه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (البقرة: 179) انتهى (4) وقد تكلّموا في وجه الأبلغية.
وقد أشار صاحب (5) «المثل السائر» إلى إنكار ذلك، وقال: لا نسبة بين كلام الخالق عزّ وجل وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك. وهو كما قال، وكيف يقابل المعجز بغيره مفاضلة، وهو منه في مرتبة العجز (6) عن إدراكه:
وماذا يقول القائلون إذا بدا ... جمال خطاب فات (7) فهم الخلائق
وجملة ما ذكروا في ذلك وجوه (8):
أحدها أن قوله: {الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (البقرة: 179) أوجز فإن حروفه عشرة، وحروف «القتل أنفى للقتل» أربعة عشر حرفا، والتاء وألف الوصل ساقطان لفظا، وكذا التنوين لتمام الكلام المقتضي للوقف.
الثاني: أن قولهم فيه كلفة بتكرير القتل، ولا تكرير في الآية.
الثالث: أنّ لفظ «القصاص» فيه حروف متلائمة لما فيه من الخروج من القاف إلى الصاد، إذ القاف من حروف الاستعلاء، (9) [والصاد من حروف الاستعلاء] (9) والإطباق بخلاف الخروج من القاف إلى التاء، التي هي حرف منخفض، فهو غير ملائم [للقاف] (11)، وكذا 3/ 223 الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد ما دون (12) طرف اللسان وأقصى الحلق.
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن إبراهيم تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 409.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(3) تقديم وتأخير في المخطوطة. (بلاغته وفصاحته).
(4) تأخرت في المطبوعة بعد قوله (وجه الأبلغية).
(5) هو ضياء الدين محمد بن محمد، ابن الاثير الجزري تقدم التعريف به وبكتابه 3/ 189.
(6) في المخطوطة (المعجوز).
(7) في المخطوطة (ذات).
(8) في المخطوطة (وجوها).
(9) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(11) ساقطة من المطبوعة.
(12) في المخطوطة (بين).(3/293)
الرابع: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والفاء.
الخامس: تكرير ذلك في (1) كلمتين [متماثلتين] (2) بعد فصل (3) طويل، وهو ثقل في الحروف أو الكلمات.
السادس: الإثبات أوّل والنفي ثان عنه والإثبات أشرف.
السابع: أنّ القصاص المبنيّ على (4) المساواة أوزن في المعادلة من مطلق القتل، ولذلك يلزم التخصيص، بخلاف الآية.
الثامن: الطباع أقبل للفظ «الحياة» (5) [من كلمة «القتل»، لما فيه من الاختصار، وعدم تكرار الكلمة، وعدم تنافر الحروف، وعدم تكرار الحرفين وقبول الطبع للفظ «الحياة»] (5) وصحة الإطلاق.
التاسع: أنّ نفي القتل لا يستلزم الحياة، والآية ناصّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه.
العاشر: أن قولهم لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة، وقوله: {فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (البقرة: 179) مفهوم لأوّل (7) وهلة [203/ أ].
الحادي عشر: أنّ قولهم خطأ فإن القتل كلّه ليس نافيا للقتل فإنّ القتل العدوانيّ (8)
3/ 224لا ينفي القتل، وكذا القتل في الرّدة والزنا لا ينفيه وإنما ينفيه قتل خاص وهو قتل القصاص فالذي في الآية تنصيص على المقصود، والذي في المثل لا يمكن حمله على ظاهره.
الثاني عشر: فيه دلالة على ربط المقادير بالأسباب، وإن كانت الأسباب أيضا بالمقادير، وكلام العرب يتضمنه إلّا أنّ فيه زيادة وهي الدلالة على ربط الأجل في الحياة بالسبب، لا (9) من مجرد نفي القتل.
الثالث عشر: في تنكير «حياة» نوع تعظيم يدلّ على أنّ في القصاص حياة متطاولة،
__________
(1) في المخطوطة (من).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (بغير مطل).
(4) في المخطوطة (عن).
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (أول).
(8) في المخطوطة (العدوان).
(9) في المخطوطة (إلا).(3/294)
كقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النََّاسِ عَلى ََ حَيََاةٍ} (البقرة: 96) ولا كذلك المثل فإنّ اللام فيه للجنس ولهذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
الرابع عشر: فيه بناء أفعل التفضيل من [فعل] (1) متعد، والآية سالمة منه.
الخامس عشر: أنّ «أفعل» في الغالب تقتضي الاشتراك فيكون ترك القصاص نافيا القتل ولكن القصاص أكثر نفيا، وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من هذا.
السادس عشر: أنّ اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكّن اللسان من النطق، وظهرت فصاحته، بخلافه (2) إذا تعقب كل حركة سكون، والحركات تنقطع بالسكنات نظيره:
إذا تحركت الدابة أدنى حركة، فخنست، ثم تحركت فخنست، لا يتبين انطلاقها (3)، ولا تتمكن من حركتها على ما نختاره وهي كالمقيّدة، وقولهم: «القتل [أنفى للقتل] (4)»، حركاته متعاقبة بالسكون بخلاف الآية.
السابع عشر: الآية اشتملت على فنّ بديع وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلا ومكانا لضدّه الذي هو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة. ذكره في «الكشاف (5)».
الثامن عشر: أنّ في الآية طباقا لأنّ القصاص (6) مشعر بضدّ الحياة، بخلاف المثل. 3/ 225
التاسع عشر: القصاص في الأعضاء والنفوس، وقد جعل في الكلّ حياة فيكون جمعا بين حياة النفس والأطراف، وإن فرض قصاص بما لا حياة فيه كالسنّ فإن مصلحة الحياة تنقص بذهابه، ويصير (7) كنوع آخر وهذه اللطيفة لا يتضمنها المثل.
العشرون: أنها أكثر فائدة لتضمنه القصاص في الأعضاء، وأنه نبّه على حياة النفس من وجهين: من وجه به القصاص صريحا، ومن وجه القصاص في الطرف لأن أحد أحوالها أن يسري إلى (8) النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل.
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) في المخطوطة (بخلاف ما).
(3) في المخطوطة (إطلاقها).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5). 1/ 111.
(6) في المخطوطة (في القصاص).
(7) في المخطوطة (فيصير).
(8) في المخطوطة (تسري في).(3/295)
وقد قيل غير ذلك.
وأما زيادة (لكم) ففيها (1) لطيفة وهي بيان (2) العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم (3) لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم [من غير حذف] (4).
والحاصل أنّ هذا من البيان الموجز الذي لا يقترن به شيء.
* * * ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ * اللََّهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص:
21) الآية، فإنها نهاية التنزيه.
وقوله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقََامٍ كَرِيمٍ} (الدخان:
2625)، وهذا بيان عجيب يوجب التحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقََاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الدخان: 40).
وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقََامٍ أَمِينٍ} (الدخان: 51)، وهذا من أحسن الوعد والوعيد.
3/ 226وقوله: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94)، فهذه ثلاث كلمات اشتملت على جميع [203/ ب] ما في (5) الرسالة.
وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، فهذه جمعت مكارم الأخلاق كلّها لأن في {خُذِ الْعَفْوَ} (الأعراف: 199) صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الأرحام، وصرف اللسان عن الكذب، وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم، وتنزيه النفس عن مماراة السفيه.
وقوله (6): {مُدْهََامَّتََانِ} (الرحمن: 64)، معناه مسودّتان من شدة الخضرة.
وقوله: {لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة:
286).
__________
(1) في المخطوطة (فيها).
(2) في المخطوطة (بناء).
(3) تكررت كلمة (وأنهم) في هذا الموضع.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (معاني).
(6) في المطبوعة (قوله).(3/296)
وقوله: {أَخْرَجَ مِنْهََا مََاءَهََا وَمَرْعََاهََا} (النازعات: 31)، فدلّ بأمرين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام، من العشب، والشجر، والحبّ، والثمر، والعصف، والحطب، واللباس، والنار، والملح لأن النار من العيدان، والملح من الماء.
وقوله: {يُسْقى ََ بِمََاءٍ وََاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهََا عَلى ََ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} (الرعد: 4)، فدلّ على نفسه ولطفه ووحدانيته وقدرته، وهدى للحجة على من ضلّ عنه لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتربة، لوجب في القياس ألّا تختلف الطعوم والروائح، ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا نبت في مغرس واحد ولكنّه صنع اللطيف الخبير.
وقوله: {لََا يُصَدَّعُونَ عَنْهََا وَلََا يُنْزِفُونَ} (الواقعة: 19)، كيف نفى [عنها] (1)
بهذين جميع عيوب الخمر، [وجمع بقوله] (2): {لََا يُنْزِفُونَ} عدم العقل وذهاب (3) المال ونفاد الشراب.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كََانُوا لََا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ 3/ 227 يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كََانُوا لََا يُبْصِرُونَ} (يونس: 4342) فدلّ على فضل السمع [على] (4) البصر، حيث جعل مع الصّمم فقدان العقل، ولم يجعل مع العمى إلا فقدان البصر وحده.
[وقوله] (5): {وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمََاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} (هود: 44) كيف أمر ونهى، وأخبر ونادى، ونعت وسمّى، وأهلك وأبقى، وأسعد وأشقى، قصّ (6) من الأنباء ما لو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفّت الأقلام وانحسرت الأيدي.
وقوله تعالى عن النمل (7): {يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ} (النمل: 18) فجمع في هذه اللفظة أحد عشر جنسا من الكلام، نادت، وكنت، ونبهت وسمّعت (8)، وأمرت، وقضت وحذّرت، وخصت، وعمّت، وأشارت، وغدرت فالنداء «يا»، والكناية «أيّ»، والتنبيه «ها»، والتسمية النمل، والأمر، «ادخلوا»، والقصص «مساكنكم»،
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (ذهاب).
(4) في المطبوعة (والبصر).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (وقص).
(7) في المطبوعة (النملة).
(8) في المخطوطة (وسمّت).(3/297)
والتحذير «لا يحطمنكم»، والتخصيص سليمان والتعميم جنوده، والإشارة «وهم»، والعذر (1) «لا يشعرون». فأدّت خمس حقوق: حق الله، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها وحق جنود سليمان. فحقّ الله أنها استرعيت (2) على النمل فقامت بحقهم، وحق سليمان أنها نبهته على النمل، وحقها إسقاطها حق الله عن الجنود في نصحهم، وحق الجنود بنصحها لهم 3/ 228ليدخلوا مساكنهم، وحق الجنود إعلامها إياهم وجميع الخلق أن من استرعى (3) رعيّة فواجب (4)
عليه حفظها والذبّ عنها (5) وهو داخل في الخبر المشهور: «كلّكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (6)».
ويقال: إن سليمان عليه السلام لم يضحك في عمره إلا مرة واحدة، وأخرى حين أشرف على [204/ أ] وادي النمل فرآها على كبر الثعالب (7)، لها خراطيم وأنياب، فقال رئيسهم (8): ادخلوا مساكنكم، فخرج كبير النمل في عظم الجواميس، فلما نظر إليه (9)
سليمان هاله، فأراه الخاتم، فخضع له، ثم قال: أهذه كلها نمل؟ فقال: إن النمل لكبير (10)، إنها ثلاثة أصناف: صنف في الجبال، وصنف في القرى، وصنف في المدن.
فقال سليمان عليه السلام: اعرضها عليّ، فقال له: قف. فبقى [سليمان] (11) عليه السلام تسعين يوما واقفا، يمرّ (12) عليه النمل فقال: هل انقطعت عساكركم، فقال ملك النمل:
لو وقفت إلى يوم القيامة ما انقطعت. وذكر الجنيد (13) أنّ سليمان عليه السلام قال لعظيم
__________
(1) في المطبوعة (الغدر).
(2) في المخطوطة (استرعت).
(3) في المطبوعة (استرعاه).
(4) في المطبوعة (فوجب).
(5) في المخطوطة (عليها).
(6) غرّة حديث متفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه البخاري في الصحيح 2/ 380، كتاب الجمعة (11)، باب الجمعة في القرى والمدن (11)، الحديث (893). وأخرجه مسلم في الصحيح 3/ 1459، كتاب الإمارة (33)، باب فضيلة الإمام العادل (5)، الحديث 20/ 1829.
(7) في المخطوطة (البغال).
(8) في المخطوطة (رائسهم).
(9) في المخطوطة (رآه) بدل (نظر إليه).
(10) في المخطوطة (كثير).
(11) ليست في المخطوطة.
(12) في المخطوطة (تمر).
(13) ترجمته في 2/ 217.(3/298)
النمل: لم قلت للنمل: ادخلوا مساكنكم! أخفت عليهم من ظلمنا؟ قال: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما رأوا (1) من ملكك، فيشغلهم ذلك عن طاعة الله [تعالى] (2).
وقوله: {وَضَرَبَ لَنََا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قََالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ [وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ]} [3] (يس: 7978)، وهذا أشد (4) ما يكون من الحجاج.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذََابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزخرف:
39)، وهذا أعظم ما يكون من التحسير (5).
وقوله: {الْأَخِلََّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67)، وهذا أشدّ ما يكون من التنفير عن الخلة إلا على التقوى.
وقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ} (الزمر: 56)، 3/ 229 وهذا أشدّ ما يكون من التحذير من التفريط.
وقوله: {أَفَمَنْ يُلْقى ََ فِي النََّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيََامَةِ} (فصلت: 40)، وهذا أشدّ ما يكون من التبعيد.
وقوله: {اعْمَلُوا مََا شِئْتُمْ} (فصلت: 40) فهذا أعظم ما يكون من التخيير.
وقوله: {(6) [وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذََلِكَ مََا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذََلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ *]} [6] وَجََاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهََا سََائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هََذََا فَكَشَفْنََا عَنْكَ غِطََاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (ق: 2219)، وهذا أبلغ ما يكون من التذكير.
وقوله: {كَذََلِكَ مََا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلََّا قََالُوا سََاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوََاصَوْا}
__________
(1) في المخطوطة (يرون).
(2) ليست في المطبوعة.
(3) تمام الآية ليس في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (أبلغ).
(5) في المخطوطة (التحيير).
(6) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.(3/299)
{بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طََاغُونَ} (الذاريات: 5352)، وهذا أشدّ ما يكون في التقريع على التمادي في الباطل.
وقوله: {هََذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهََا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}
(الرحمن: 4443)، وهذا أشدّ ما يكون من التقريع.
[وقوله] (1) {وَمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا مَتََاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185)، وهذا غاية الترهيب.
وقوله: {وَلَكُمْ فِيهََا مََا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} [2] وَلَكُمْ فِيهََا مََا تَدَّعُونَ (فصلت: 31)، وهذه غاية الترغيب.
3/ 230وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ وَلَعَلََا بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ} (المؤمنون: 91).
وقوله: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} (الأنبياء: 22)، وهذا أبلغ ما يكون من الحجاج وهو الأصل الذي عليه أثبتت دلالة التمانع في علم الكلام.
وقوله: {فِيهََا مََا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (الزخرف: 71)، وهذا أبلغ ما يكون من الوصف بكل ما تميل إليه النفس من الشهوات، وتلذّ الأعين من المرئيات، ليعلم أن هذا اللفظ القليل جدّا، حوى معاني (3) كثيرة لا تنحصر عددا (4).
وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} (المنافقون: 4)، وهذا أشدّ ما يكون من الخوف.
وقوله: {وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ} (فاطر: 43).
[204/ ب] وقوله: {إِنَّمََا بَغْيُكُمْ [عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ]} [5] (يونس: 23).
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (تشتهي الأنفس وتلذ الأعين).
(3) في المخطوطة (معانيا).
(4) في المخطوطة (عدّا).
(5) ليست في المطبوعة.(3/300)
وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكََانٍ قَرِيبٍ} (سبأ: 51).
وقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2).
وقوله: {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ} (غافر: 18).
وقوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى ََ سَوََاءٍ} (الأنفال: 58)، معناه قابلهم بما يفعلونه معك، وعاملهم مثل معاملتهم لك سواء مع ما يدلّ عليه «سواء» من الأمر بالعدل.
وقوله: {وَغِيضَ الْمََاءُ [وَقُضِيَ الْأَمْرُ]} [1] (هود: 44)، فإنه أشار به إلى انقطاع مدة (2)
الماء النازل من السماء والنابع من الأرض. وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (هود: 44) أي هلك من 3/ 231 قضى هلاكه، ونجا من قدرت نجاته، وإنما عدل عن لفظه إلى لفظ التمثيل لأمرين: اختصار اللفظ، وكون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع، إذ الأمر يستدعي آمرا ومطاعا، وقضاؤه يدلّ على قدرته.
* * * ومن أقسام الإيجاز الاقتصار على السبب الظاهر للشيء اكتفاء بذلك عن جميع الأسباب، كما يقال: فلان لا يخاف الشجعان، والمراد لا يخاف أحدا.
ومنه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} (البقرة: 228)، ولا شك أنّ من فسخت النكاح أيضا تتربص، لأن السبب الغالب للفراق الطلاق.
وقوله (3): {أَوْ جََاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغََائِطِ} (النساء: 43)، ولم يذكر النوم وغيره لأنّ السبب الضروريّ الناقض خروج الخارج: فإن النوم الناقض ليس بضروريّ، فذكر السبب الظاهر، وعلم منه الحكم في الباقي.
ومنه قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ََ} (طه: 7)، أي وهو ما لم يقع في وهم الضمير من الهواجس، ولم يخطر على القلوب من مخيّلات الوساوس.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (مادة).
(3) في المخطوطة (وقال تعالى).(3/301)
ومنه: (1) [{إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (الأحزاب: 56)، ونظائره.
وكذلك] (1) زيد (3) وعمرو قائم (3)، على القول بأن «قائم» خبر عن أحدهما، واستغنى به عن (5) [خبر الآخر.
ومنها الاقتصار على المبتدأ وإقامة الشيء مقام الخبر نحو: أقائم الزيدان، فإن «قائم» مبتدأ] (5) لا خبر له.
3/ 232ومنها باب «علمت أنك قائم»، إذا جعلنا (7) الجملة سادة مسدّ المفعولين فإن الجملة محلّة لاسم واحد سدّ مسدّ اسمين مفعولين من غير حذف.
ومنه باب النائب عن الفاعل، في «ضرب زيد»، ف «زيد» دلّ على الفاعل بإعطائه حكمه، وعلى المفعول بوضعه.
ومنها جميع أدوات الاستفهام والشرط فإنّ «كم مالك» (8)؟ يغني عن عشرين أو ثلاثين، و «من يقم أكرمه» يغني عن زيد وعمرو (9)، قاله ابن الأثير (10) في «الجامع».
ومنه الألفاظ اللازمة للعموم، مثل أحد وديّار، قاله ابن الأثير أيضا.
ومنه لفظ الجمع فإن «الزيدين» يغني عن زيد وزيد [وزيد] (11)، وكذا التثنية أصلها رجل
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) عبارة المخطوطة (ومن نحو قام زيد وعمرو قائم).
(5) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (جعلت).
(8) في المخطوطة (ملك).
(9) في المخطوطة (وعمر).
(10) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم، أبو السعادات الشيباني الملقب بمجد الدين المعروف بابن الأثير كان عالما فاضلا وسيدا كاملا قد جمع بين علم العربية والقرآن والنحو واللغة والحديث وشيوخه وصحته وسقمه والفقه وكان شافعيا من تصانيفه «الباهر في الفروق في النحو» و «الإنصاف في تفسير القرآن» و «غريب الحديث» ت في 606هـ (ياقوت، معجم الأدباء 17/ 71). وكتابه «جامع الأصول من أحاديث الرسول» طبع في القاهرة بالمطبعة الجمالية عام 1331هـ / 1912م، وطبع بتحقيق محمد حامد الفقي بمطبعة السنة المحمدية في القاهرة عام 1377هـ / 1955م، وطبع بتحقيق عبد القادر الأرناءوط بدمشق مكتبة الحلواني عام 1391هـ / 1971م، وصور في بيروت بدار إحياء التراث عن طبعة حامد الفقي عام 1400هـ / 1980م، وفي دار الفكر عن طبعة عبد القادر الأرناءوط مع فهارس (ذخائر التراث العربي 1/ 39، دليل المطبوعات المصرية لعام 19561940، معجم المنجد 1/ 5).
(11) ساقطة من المخطوطة.(3/302)
ورجل، فحذفوا العطف والمعطوف، وأقاموا حرف الجمع والتثنية مقامهما اختصارا وصحّ ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد، فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى التكرار بالعطف نحو مررت بزيد وبكر.
ومنه (1) باب الضمائر على ما سيأتي بيانه، في قاعدة الضمير.
ومنه لفظ «فعل» فإنه يجيء كثيرا كناية عن أفعال متعددة، قال تعالى: {لَبِئْسَ مََا كََانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 79) {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مََا يُوعَظُونَ بِهِ} (النساء: 66).
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (البقرة: 24)، أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله.
القول في التقديم والتأخير
3/ 233 هو أحد أساليب البلاغة فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة، وملكتهم في الكلام وانقياده لهم. وله في القلوب أحسن موقع، وأعذب مذاق.
وقد اختلف [205/ أ] في عدّه من المجاز فمنهم من عدّه منه لأنه (2) تقديم ما رتبته التأخير، كالمفعول، وتأخير ما رتبته التقديم، كالفاعل [على] (3)، نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه.
والصحيح أنّه ليس منه فإنّ المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع.
ويقع الكلام فيه في فصول:
[الفصل الأول] (4)
الأول: في أسبابه، وهي كثيرة:
أحدها: أن يكون أصله التقديم، ولا (5) مقتضى للعدول عنه (5)، كتقديم الفاعل على المفعول، والمبتدأ على الخبر، وصاحب الحال عليها نحو جاء زيد راكبا.
* * * __________
(1) في المخطوطة (منه).
(2) في المخطوطة (لأن).
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (ولا مقتضى لتقديم العدول عنه).(3/303)
والثاني: أن يكون في التأخير إخلال ببيان المعنى، كقوله تعالى: {وَقََالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ}
{آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمََانَهُ} (غافر: 28)، فإنّه لو أخر قوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} (غافر: 28)، (1) [عن قوله {يَكْتُمُ إِيمََانَهُ} لتوهم أنه من صفة يكتم فيكون المعنى: إن الرجل يكتم إيمانه من آل فرعون] (1) فلا يفهم أنه منهم.
3/ 234/ وجعل السكاكي (3) من (4) الأسباب كون التأخير مانعا، مثل الإخلال بالمقصود، كقوله تعالى: {[وَقََالَ الْمَلَأُ]} [5] مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقََاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنََاهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا (المؤمنون: 33) بتقديم الحال أعني {مِنْ قَوْمِهِ} (المؤمنون: 33) على الوصف، أعني {الَّذِينَ كَفَرُوا} (المؤمنون: 33) ولو تأخر لتوهّم أنه من صفة الدنيا لأنها هاهنا اسم تفضيل من الدنو، وليست اسما، والدنوّ يتعدّى ب «من»، وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم (6) أهم: من قومه أم لا؟ فقدّم لاشتمال (7) التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود وهو كون القائلين من قومه. وحين أمن (8) هذا الإخلال بالتأخير قال (9) تعالى في موضع آخر من هذه السورة. {فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [10] [مََا هََذََا إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ] (10)
(المؤمنون: 24)، بتأخير المجرور عن صفة المرفوع.
* * * الثالث: أن يكون في التأخير إخلال بالتناسب، فيقدّم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة، كقوله: {(12) [وَاسْجُدُوا لِلََّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ]} [12] إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ (فصلت: 37)، بتقديم «إياه» على «تعبدون» لمشاكلة رءوس الآي وكقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ََ} (طه:
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(3) انظر مفتاح العلوم: 239، النوع الثالث من أنواع باب التقديم والتأخير مع الفعل.
(4) في المخطوطة (في).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (هم) بدل (أنهم أهم).
(7) في المخطوطة (كاشتمال).
(8) في المخطوطة (وخيرا من). بدل (وحين أمن).
(9) تصحفت في المخطوطة إلى (وقال).
(10) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(12) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/304)
67) (1) [فإنه لو أخّر {فِي نَفْسِهِ} (طه: 67) عن {مُوسى ََ} (طه: 67)] (1) فات تناسب الفواصل لأن قبله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهََا تَسْعى ََ} (طه: 66)، وبعده: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ} (طه: 68).
وكقوله: {وَتَغْشى ََ وُجُوهَهُمُ النََّارُ} (إبراهيم: 50) فإن تأخير الفاعل عن المفعول لمناسبته لما بعده.
وكقوله: {إِنَّ اللََّهَ سَرِيعُ الْحِسََابِ} (إبراهيم: 51)، وهو أشكل بما قبله، لأن قبله:
{مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفََادِ} (إبراهيم: 49).
وجعل منه السكاكي (3): {آمَنََّا بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ} (طه: 70)، بتقديم 3/ 235 {هََارُونَ} (طه: 70) مع أن {مُوسى ََ} (طه: 70) أحقّ بالتقديم.
* * * الرابع: لعظمه (4) والاهتمام به وذلك أنّ من عادة العرب الفصحاء، إذا أخبرت عن مخبر ما وأناطت (5) به حكما وقد يشركه غيره في [ذلك] (6) الحكم، أو فيما أخبر به عنه، وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب فإنهم مع ذلك إنما (7) يبدءون بالأهم والأولى. قال سيبويه (8): «كأنهم يقدّمون الذي بيانه (9) أهمّ لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم». انتهى.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ} (البقرة: 43)، فبدأ بالصلاة لأنها أهمّ.
وقال [سبحانه] (10): {وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (التغابن: 12).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) انظر مفتاح العلوم: 239، النوع الثالث من أنواع باب التقديم والتأخير مع الفعل.
(4) في المخطوطة (للعظمة).
(5) في المخطوطة (أو أناطت).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (كذا).
(8) انظر الكتاب 1/ 34باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعول.
(9) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (شأنه) وما أثبتناه من الكتاب.
(10) ليست في المخطوطة.(3/305)
(1) [وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} (الأعراف: 158).
وقال تعالى: {وَاللََّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ} (التوبة: 62)] (1).
وقال تعالى: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} [205/ ب] (الفاتحة: 5) فقدّم العبادة للاهتمام بها.
ومنه تقدير المحذوف في بسم الله مؤخّرا.
وأوردوا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق: 1) وأجيب بوجهين:
أحدهما: أنّ تقديم الفعل هناك أهمّ، لأنها أول سورة نزلت.
والثاني [أن] (3): {بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق: 1) متعلق ب {اقْرَأْ} الثاني، ومعنى الأول: أوجد القراءة، والقصد التعميم.
* * * 3/ 236الخامس: أن يكون الخاطر ملتفتا إليه والهمة معقودة به وذلك كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ} (الأنعام: 100)، بتقديم المجرور على المفعول الأول لأن الإنكار متوجّه إلى الجعل لله، لا إلى مطلق الجعل.
* * * السادس: أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجيب من حال المذكور، كتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ الْجِنَّ} (الأنعام: 100)، والأصل «الجنّ شركاء» وقدّم، لأنّ المقصود التوبيخ، وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله.
ومنه قوله تعالى في سورة يس: {وَجََاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ََ} (يس: 20)، وسنذكره.
* * * السابع: الاختصاص، وذلك بتقديم المفعول، والخبر، والظرف، والجار والمجرور،
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(3) ساقطة من المخطوطة.(3/306)
ونحوها [تقديم المفعول] (1) على الفعل، كقوله تعالى: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5)، أي نخصّك بالعبادة فلا نعبد غيرك.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} (النحل: 114)، أي إن كنتم تخصّونه بالعبادة.
والخبر كقوله [تعالى] (2): {[قََالَ]} [3] أَرََاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي (مريم: 46)، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللََّهِ} (الحشر: 2).
وأما تقديم الظرف ففيه تفصيل، فإن كان في الإثبات دلّ على الاختصاص، كقوله [تعالى] (4): {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا حِسََابَهُمْ} (الغاشية: 2625)، وكذلك:
{لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} (التغابن: 1)، فإن ذلك يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى: وقوله:
{لَإِلَى اللََّهِ تُحْشَرُونَ} (آل عمران: 158) أي لا إلى غيره، وقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى 3/ 327 النََّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143)، أخّرت صلة الشهادة في الأوّل وقدمت في الثاني لأنّ الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.
وقوله: {وَأَرْسَلْنََاكَ لِلنََّاسِ رَسُولًا} (النساء: 79)، أي لجميع الناس من العجم والعرب (5)، على أن التعريف للاستغراق.
وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفيّ [عنه] (6)، كما في قوله تعالى (7) [{لََا فِيهََا غَوْلٌ وَلََا هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ} (الصافات: 47)، أي ليس في خمر الجنة ما في خمرة غيرها من الغول.
وأما تأخيره فإنها تفيد النفي فقط، كما في قوله] (7): {لََا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) فكذلك إذا قلنا لا عيب في الدار كان معناه: نفي العيب في الدار، وإذا قلنا لا في الدار عيب، كان معناه: أنها تفضّل على غيرها بعدم العيب.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) تقديم وتأخير في المخطوطة (العرب والعجم).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/307)
تنبيه
ما ذكرناه من أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، فهمه الشيخ أبو حيان في كلام الزمخشري وغيره، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم، بدليل قوله تعالى:
{كُلًّا هَدَيْنََا وَنُوحاً هَدَيْنََا مِنْ قَبْلُ} (الأنعام: 84)، وقوله: {أَفِي اللََّهِ شَكٌّ} (إبراهيم:
(10)، إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ.
وقد ردّ صاحب (1) «الفلك الدائر» القاعدة بالآية الأولى، وكذلك ابن الحاجب (2) والشيخ 3/ 238أبو حيان، وخالفوا البيانيين في ذلك، وأنت إذا علمت أنهم ذكروا في ذلك قيد الغلبة سهل الأمر. نعم له شرطان:
أحدهما: ألا (3) يكون المعمول مقدما بالوضع فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة، كأسماء الاستفهام، وكالمبتدإ عند من يجعله معمولا لخبره.
والثاني: ألّا يكون التقديم لمصلحة التركيب، مثل: {وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ} (فصلت:
17) على قراءة النصب (4).
وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة وهي قوله [تعالى]: {أَغَيْرَ اللََّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ * بَلْ إِيََّاهُ تَدْعُونَ} [206/ أ] {فَيَكْشِفُ} (الأنعام: 4140)، التقديم في الأول قطعا ليس للاختصاص، بخلاف الثاني.
الفصل الثاني في أنواعه
وهي إما أن يقدّم والمعنى عليه، أو يقدّم وهو في المعنى مؤخر، أو بالعكس.
__________
(1) هو عبد الحميد بن هبة الله، ابن أبي الحديد الشيعي المعتزلي تقدم ذكره في 2/ 251. وكتابه «الفلك الدائر على المثل السائر» وهو نقد لكتاب المثل السائر لضياء الدين ابن الأثير الجزري، طبع في بومبايي بالهند عام 1309هـ / 1891م، وطبع بتحقيق د. بن بدوي طبانة وأحمد الحوفي في الرياض بدار الرفاعي عام 1404هـ / 1984م (معجم سركيس: 30أخبار التراث 16/ 26).
(2) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن يونس ابن الحاجب تقدم التعريف به في 1/ 466.
(3) في المخطوطة (أن).
(4) بدون تنوين، ممنوعا من الصرف وهي قراءة الحسن، (البحر المحيط: 7/ 491).(3/308)
النوع الأول ما قدم والمعنى عليه
ومقتضياته كثيرة، قد يسر الله خمسا وعشرين، ولله درّ ابن عبدون (1) في قوله:
سقاك الحيا من مغان سفاح (2) ... فكم لي بها من معان فصاح
أحدها 3/ 239 السبق
وهو أقسام: منها السبق بالزمان والإيجاد، كقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النََّاسِ بِإِبْرََاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهََذَا النَّبِيُّ} (آل عمران: 68) قال ابن عطية (3): المراد بالذين اتبعوه في زمن الفترة.
وقوله: {اللََّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلََائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النََّاسِ} (الحج: 75) فإن (4) مذهب أهل السنة تفضيل البشر، وإنما قدّم الملك لسبقه في الوجود.
وقوله: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ وَبَنََاتِكَ} (الأحزاب: 59) فإنّ الأزواج أسبق بالزمان لأن البنات أفضل منهنّ، لكونهنّ بضعة منه صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: {هَبْ لَنََا مِنْ أَزْوََاجِنََا وَذُرِّيََّاتِنََا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان: 74).
__________
(1) هو عبد المجيد بن عبدون أبو محمد الفهري، روى عن أبي عاصم بن أيوب والأعلم الشنتمري وابن سراج وكان أديبا شاعرا كاتبا عالما بالخبر والأثر ومعاني الحديث ت 520هـ (فوات الوفيات 2/ 388، الترجمة رقم 301، والبيت ذكره ابن شاكر ضمن ترجمته، وجاء صدر البيت عنده:
سقاها الحيا من مغان فساح
(2) في المخطوطة (فساح).
(3) هو عبد الحق بن غالب الغرناطي صاحب «المحرر الوجيز» تقدمت ترجمته في 1/ 101.
(4) في المخطوطة (قال).(3/309)
واعلم أنه ينضم إليه مع ذلك التشريف، كقوله: {إِنَّ اللََّهَ اصْطَفى ََ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرََاهِيمَ [وَآلَ عِمْرََانَ]} [1] (آل عمران: 33).
[وقوله] (1): {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ وَعِيسَى} (الأحزاب: 7).
[وقوله] (3) {صُحُفِ إِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ} (الأعلى: 19).
وأما [قوله] (4): {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمََا فِي صُحُفِ مُوسى ََ * وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى} (النجم:
3736) فإنما قدم ذكر موسى لوجهين: أحدهما أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالمنزّل (5)
وكانت صحف موسى (6) منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم، وثانيهما مراعاة رءوس الآي.
3/ 240وقد ينضم إليه التحقير، كما في قوله [تعالى] (7): {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضََّالِّينَ} (الفاتحة: 7) تقدّم اليهود لأنهم كانوا أسبق من النصارى، ولأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين بالمجاورة.
وقد لا يلحظ هذا كقوله تعالى: {وَعََاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسََاكِنِهِمْ}
(العنكبوت: 38) وقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عََاداً الْأُولى ََ * وَثَمُودَ فَمََا أَبْقى ََ} (النجم: 50 51).
ومن التقديم بالإيجاد تقديم السّنة على النوم في قوله [تعالى] (8): {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255) لأن العادة في البشر أن تأخذ (9) العبد السنة قبل النوم، فجاءت العبارة على حسب هذه العادة.
ذكره السهيلي (10) وذكر معه وجها آخر وهو أنها وردت في معرض (11) التمدح [والثناء] (12)
والثناء (13) السّنة أبلغ في التنزيه فبدىء (14) بالأفضل لأنه إذا استحالت عليه السّنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المطبوعة (بالترك).
(6) زيادة كلمة (منه) بعد (موسى).
(7) ليست في المطبوعة.
(8) ليست في المطبوعة.
(9) في المخطوطة (يأخذ).
(10) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي تقدم التعريف به في 1/ 242.
(11) في المخطوطة (عرض).
(12) ليست في المخطوطة.
(13) في المطبوعة (وافتقاد).
(14) في المخطوطة (فبدأ).(3/310)
ومنه تقديم الظّلمة على النور في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ} (الأنعام: 1) فإنّ الظلمات سابقة على النور في الإحساس، وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور المعنوي قال تعالى: {وَاللََّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ لََا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (النحل: 78) فانتفاء العلم ظلمة، وهو متقدم بالزمان على نور الإدراكات.
ومنه تقديم الليل على النهار: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ آيَتَيْنِ} (الإسراء: 12) {سِيرُوا فِيهََا لَيََالِيَ وَأَيََّاماً آمِنِينَ} (سبأ: 18). {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} (سبأ: 33). {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم: 17) ولذلك اختارت العرب التاريخ بالليالي دون الأيام 3/ 241 وإن كانت الليالي مؤنثة والأيام مذكّرة، وقاعدتهم تغليب المذكّر إلا في التاريخ.
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهََا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ} (يس: 40).
قلت: استشكل الشيخ [أبو] (1) محمد بن عبد السلام (2) في «قواعده» [ذلك] (3)
بالإجماع على سبق الليلة (4) [206/ ب] على اليوم. وأجاب بأن المعنى: تدرك القمر في سلطانه، وهو الليل، أي لا تجيء الشمس في أثناء الليل، فقوله بعده: {وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40)، أي لا يأتي [الليل] (5) في بعض سلطان الشمس وهو النهار. وبين الجملتين مقابلة.
فإن قيل: قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ} (الحديد:
6) مشكل على هذا لأن الإيلاج إدخال الشيء في الشيء، وهذا البحث ينافيه.
قلت: المشهور في معنى (6) الآية أن الله يزيد في زمن الشتاء مقدارا من النهار، ومن (7)
النهار في الصيف مقدارا من الليل وتقدير الكلام: يولج بعض مقدار الليل في النهار، وبعض مقدار النهار في الليل. وعلى غير المشهور، يجعل (8) الليل في المكان الذي كان فيه
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) هو عز الدين، ابن عبد السلام تقدم التعريف به في 1/ 132، وبكتابه في 2/ 106.
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) في المخطوطة (الليل).
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) في المخطوطة (المعنى).
(7) في المخطوطة (وفي).
(8) في المخطوطة (بجعل).(3/311)
النّهار ويجعل النهار في المكان الذي كان فيه الليل، والتقدير: يولج الليل في مكان النهار ويولج النهار في مكان الليل.
ومنه تقديم المكان على الزمان في قوله: {خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ 3/ 242وَالنُّورَ} (الأنعام: 1)، أي الليل والنهار، وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمََاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيََاتِهََا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
(الأنبياء: 3332).
وهذه مسألة مهمة قلّ من تعرّض لها، أعني سبق المكان على الزمان، وقد صرّح بها الإمام أبو جعفر الطبري في أول «تاريخه (1)، واحتج على ذلك بحديث ابن عباس: إن الله خلق التربة يوم السبت، وخلق الشمس والقمر وكان ذلك كلّه ولا ليل ولا نهار إذ كانا إنما هما أسماء لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر وإذا كان (2) ذلك صحيحا وأنه لا شمس ولا قمر، كان معلوما (3) أنه لا ليل ولا نهار. قال: وحديث أبي هريرة يعني في صحيح مسلم صريح فيه فإن فيه: «وخلق [الله] (4) النور يوم الأربعاء» (5)، قال: ويعني به الشمس إن شاء الله.
والحاصل أنّ تأخر خلق الأيام عن بعض الأشياء المذكورة في الخبر لازم.
فإن قلت: الحديث كالمصرّح بخلافه فإنه قال: خلق الله التربة يوم السبت، حين خلق البرية وهي أول المخلوقات المذكورة، فلا يمكن أن يكون خلق الأيام كلّها متأخرا عن ذلك.
قلت: قد نبّه الطبريّ على جواب ذلك بما حاصله: أن (6) الله تعالى سمّى أسماء الأيام قبل خلق التربة، وخلق الأيام كلّها، ثم قدّر كل يوم مقدارا، فخلق التربة في مقدار يوم
__________
(1) انظر كتابه 1/ 24، القول في هل كان الله عز وجل خلق قبل خلقه الزمان والليل والنهار مع تصرف بالنقل.
(2) في المخطوطة (وكان) بدل (وإذا كان).
(3) في المخطوطة (معلوم).
(4) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.
(5) تقدم تخريج الحديث في 2/ 195. مع تعليقات هامة يستفاد منها.
(6) في المخطوطة (إن شاء الله).(3/312)
السبت قبل خلقه يوم السبت، وكذا الباقي.
وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكن أوجبه ما قاله الطبري من أنه يتعين (1) تأخير [خلق] (2) الأيام لما ذكرناه من الدليل المستفاد من الخبرين.
والحاصل أن الزمان قسمان: تحقيقيّ وتقديريّ والمذكور في الحديث التقديريّ.
ومنه قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (الرحمن: 17). {مَشََارِقَ 3/ 243 الْأَرْضِ وَمَغََارِبَهَا} (الأعراف: 137) ولذلك لما استغنى عن أحدهما ذكر المشرق فقط، فقال: {وَرَبُّ الْمَشََارِقِ} (الصافات: 5). {إِنََّا زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا}
(الصافات: 6).
ومنه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ} (الملك: 2)، وقوله [207/ أ]:
(3) [{وَأَنَّهُ هُوَ أَمََاتَ وَأَحْيََا} (النجم: 44). {وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ} (البقرة: 28).
ويمكن فيه وجوه أخر:
منها أن فيه قهرا للخلق، والمقام يقتضيه.
ومنها أنّ حياة الإنسان كلا حياة، ومآله إلى الموت] (3)، ولا حياة إلا بعد الموت.
ومنها (5) أن الموت تقدم (6) في الوجود، إذ (7) الإنسان قبل (8) نفخ الروح فيه [كان] (9) ميتا لعدم الروح وهذا إن أريد بالموت عدم الوجود بدليل: {وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ} (البقرة:
28)، وإن أريد به بعد الوجود، فالناس متنازعون في الموت: هل هو أمر وجوديّ (10) [كالحياة أولا؟
وقيل بالوقف، فقالت الفلاسفة: الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيّا.
والجمهور على أنه أمر وجوديّ] (10) يضادّ الحياة، محتجين بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ}
__________
(1) تكررت العبارة في المخطوطة كما يلي (يتعين خلق الأيام كلها ثم قدّر كل يوم مقدارا فخلق التربة في مقدار يوم السبت قبل خلقه يوم السبت وكذا الباقي وهذا وان كان خلاف الظاهر) الخ.
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (ومنه).
(6) في المخطوطة (يقدم).
(7) في المخطوطة (إن).
(8) في المخطوطة (كان قبل).
(9) ساقطة من المخطوطة.
(10) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/313)
{وَالْحَيََاةَ} (الملك: 2)، والحديث في الإتيان بالموت في صورة كبش وذبحه (1).
وأجيب عن الآية بأن الخلق بمعنى التقدير، ولا يجب في المقدّر أن يكون وجوديّا، وعن الثاني بأنّ ذلك على طريق التمثيل لبيان انقطاع الموت وثبوت الخلود.
فإن قلنا: عدميّ، فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم [والملكة] (2) وعلى الصحيح تقابل التضاد. وعلى القول بأنه وجوديّ يجب أن يقال: تقديم (3) الموت الذي هو عدم 3/ 244الوجود لكونه (4) سابقا أو معدوم (5) الحياة، الذي هو مفارقة الروح البدنيّ يجوز أن يكون لكونه الغاية التي يساق إليها [الإنسان] (6) في دار الدنيا فهي العلّة الغائبة بعدم تحقيقها (7)، لتحققه، (8) [فخص العلة العامة] (8) كما وقع تأكيده في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذََلِكَ لَمَيِّتُونَ} (المؤمنون: 15)، أو تزهيدا في الدار الفانية، وترغيبا فيما بعد الموت.
فإن قيل: فما وجه تقدّم (10) «الحياة» في قوله: {قََالَ فِيهََا تَحْيَوْنَ وَفِيهََا تَمُوتُونَ}
(الأعراف: 25) وقوله: {وَمَحْيََايَ وَمَمََاتِي لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (الأنعام: 162).
قلنا: إن كان الخطاب لآدم وحواء، فلأنّ حياتهما [في الدنيا] (11) سبقت الموت، وإن كان للخلق بالخطاب لمن هو حيّ يعقبه (12) الموت، فما (13) التقديم بالترتيب، وكذا الآية بعده.
__________
(1) من حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد» الحديث. أخرجه البخاري في الصحيح 8/ 428، كتاب التفسير 65، السورة (19) باب (1)، الحديث (4730). ومسلم في الصحيح 4/ 188كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (51)، باب النار يدخلها الجبارون (13)، الحديث 40/ 2849.
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (يقدم).
(4) في المخطوطة (ولكونه).
(5) في المخطوطة (تقدم).
(6) ساقطة من المطبوعة.
(7) في المخطوطة (بعد ما تحقيقا).
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(10) في المخطوطة (تقديم).
(11) ساقطة من المخطوطة.
(12) في المخطوطة (يقتضيه).
(13) في المخطوطة (فجاء).(3/314)
فإن قيل: فما وجه تقديم الموت على الحياة في الحكاية عن منكر البعث (1) [في قوله {وَقََالُوا]} [1] مََا هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا نَمُوتُ وَنَحْيََا (الجاثية: 24) (3) [فإن التقدير نحيا ونموت] (3).
قلت: لأجل مناسبة رءوس الآي.
فإن قلت: فما وجه تقدم التوفّي على الرفع في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرََافِعُكَ إِلَيَّ}
(آل عمران: 55) مع أنّ الرفع سابق؟
قيل: فيه جوابان:
أحدهما: المراد بالتوفّي [في] (5) النوم، كقوله تعالى: {يَتَوَفََّاكُمْ بِاللَّيْلِ}
(الأنعام: 60).
وثانيهما: أن التاء في «متوفّيك» زائدة، أي موفيك عملك.
ومنها سبق إنزال، كقوله [تعالى] (5): {وَأَنْزَلَ التَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنََّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقََانَ} (آل عمران: 43). وقوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرََاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (الأعراف: 157).
وأما قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَمََا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمََا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} (آل 3/ 245 عمران: 199)، فإنّما (7) قدم القرآن منبّها (8) له على فضيلة المنزّل إليهم.
ومنها سبق وجوب، كقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (الحج: 77)، وقوله:
{تَرََاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} (الفتح: 29).
فإن قيل: فقد قال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [9] مَعَ الرََّاكِعِينَ (آل عمران: 43).
قيل: يحتمل أنه كان في شريعتهم السجود قبل الركوع، ويحتمل أن يراد بالركوع ركوع الركعة الثانية.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة وقد تصحفت في المخطوطة إلى (وقالوا إن هي) الآية والصواب ما أثبتناه.
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة، وقد تصحفت في المخطوطة إلى (يحيي ويميت).
(5) ليست في المطبوعة.
(7) في المخطوطة (فإنه).
(8) في المخطوطة (تنبيها).
(9) تصحفت في المخطوطة إلى (واسجدوا واركعوا).
وقيل: المراد ب «اركعي» اشكري.(3/315)
وقيل: المراد ب «اركعي» اشكري.
وقيل: أراد ب «اسجدي» صلّي وحدك، وب «اركعي» صلّي في جماعة، ولذلك قال: {مَعَ الرََّاكِعِينَ}. (آل عمران: 43).
ومنها سبق تنزيه، كقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [وَرُسُلِهِ]} [1] (البقرة: 285)، فبدأ بالرسول قبل المؤمنين، ثم قال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ} (البقرة: 285)، فبدأ بالإيمان بالله لأنه قد يحصل بدليل العقل، والعقل [207/ ب] سابق (2) في الوجود على الشرع، ثم قال: {وَمَلََائِكَتِهِ} مراعاة لإيمان الرسول، فإنه يتعلق بالملك الذي هو جبريل [أوّلا] (3) ثم بالكتاب الذي نزل به جبريل، ثم بمعرفة نفسه أنه رسول. وإنما عرف نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل (4) عليه السلام وإيمانه، فترتب الذكر المنزل عليه بحسب ذلك، فظهرت الحكمة والإعجاز، فقال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285) لأن الملك هو النازل بالكتاب، وإن كان الكتاب أقدم من الملك، ولكن رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم للملك كانت قبل سماعه الكتاب. وأما إيماننا 3/ 246نحن بالعقل، آمنا بالله، أي بوجوده، ولكن الرسول صلّى الله [تعالى] (5) عليه وسلّم عرفنا اسمه ووجوب النظر المؤدي إلى معرفته، فآمنا بالرسول ثم بالكتاب المنزل عليه، وبالملك النازل به، فلو ترتب اللفظ على حسب إيماننا لبدأ بالرسول قبل الكتاب ولكن إنما ترتب على حسب إيمان الرسول صلّى الله [تعالى] (5) عليه وسلّم، الذي هو إمام المؤمنين. ذكره السهيليّ (7) في «أماليه».
وقال غيره: في هذا الترتيب سرّ لطيف، وذلك لأن النور والكمال والرحمة والخير كلّه مضاف إلى الله تعالى، والوسائط في ذلك الملائكة، والمقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل، فلا بدّ أولا من أصل، وثانيا من وسائط، وثالثا من حصول تلك الرحمة، ورابعا من وصولها إلى المقابل لها والأصل المقتضي للخيرات والرحمة هو الله، ومن أعظم رحمة رحم بها عباده إنزال كتبه إليهم، والموصل لها هم الملائكة، والمقابل لها المنزلة عليهم هم الأنبياء فجاء الترتيب على ذلك بحسب الوقائع.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (يقع).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (لجبريل).
(5) ليست في المخطوطة.
(7) تقدم التعريف به في 1/ 242، وبكتابه في 3/ 280.(3/316)
الثاني بالذات
كقوله تعالى: {مَثْنى ََ وَثُلََاثَ وَرُبََاعَ} (النساء: 3). ونحوه {مََا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ََ ثَلََاثَةٍ إِلََّا هُوَ رََابِعُهُمْ وَلََا خَمْسَةٍ إِلََّا هُوَ سََادِسُهُمْ} (المجادلة: 7)، وقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} (الكهف: 22) وكذلك جميع الأعداد كلّ مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات.
وأما قوله تعالى: {إِنَّمََا أَعِظُكُمْ بِوََاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلََّهِ مَثْنى ََ وَفُرََادى ََ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مََا بِصََاحِبِكُمْ [مِنْ جِنَّةٍ]} [1] (سبأ: 46) فوجه تقديم المثنى أن المعنى حثّهم على القيام بالنصيحة لله، وترك الهوى، مجتمعين متساويين أو منفردين متفكرين. ولا شك أنّ الأهمّ حالة الاجتماع فبدأ بها.
الثالث بالعلّة والسببية
3/ 247 كتقديم «العزيز» على «الحكيم»، لأنه عزّ فحكم، وتقديم «العليم» على «الحكيم»، لأن الإتقان ناشئ [عن العلم] (2)، وكذا أكثر ما في القرآن من تقديم وصف العلم على الحكمة: {قََالُوا سُبْحََانَكَ لََا عِلْمَ لَنََا إِلََّا مََا عَلَّمْتَنََا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
(البقرة: 32).
ويجوز أن يكون قدّم وصف العلم هنا ليتّصل بما يناسبه (3)، وهو {لََا عِلْمَ لَنََا}
(البقرة: 32)، (4) [ويجوز أن يكون قدم وصف العلم هنا] (4) وفي غيره من نظائره، لأنه صفات (6) ذات فيكون من القسم قبله.
ومنه قوله: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، قدمت العبادة لأنها سبب حصول الإعانة.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (يناسب).
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(6) في المخطوطة (صفة).(3/317)
وقوله: {إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) فإنّ التوبة سبب الطهارة.
وكذا: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ} (الجاثية: 7) لأن (1) الإفك سبب الإثم.
وكذا: (2) [{وَمََا يُكَذِّبُ بِهِ إِلََّا]} [2] كُلُّ [208/ أ] {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} (المطففين: 12).
وقوله: {وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمََّا خَلَقْنََا أَنْعََاماً وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً} (الفرقان: 4948) قدم إحياء الأرض لأنّه سبب إحياء الأنعام [والأناسيّ] (2)، وقدّم إحياء الأنعام لأنّه مما يحيا به الناس، بأكل لحومها وشرب ألبانها.
3/ 248وكذا كل علة مع معلولها، كقوله (5): {وَاعْلَمُوا أَنَّمََا أَمْوََالُكُمْ وَأَوْلََادُكُمْ فِتْنَةٌ} (الأنفال:
28)، قيل: قدّم الأموال من باب تقديم السبب فإنه إنّما شرع النكاح عند قدرته على مئونته، فهو سبب التزويج، والتزويج سبب للتناسل ولأنّ المال سبب للتنعيم بالولد، وفقده سبب لشقائه (6).
وكذا تقديم البنات على البنين في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنََاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} (آل عمران: 14) (7) [وأخّر ذكر الذهب والفضة] (7) عن النساء والبنين لأنهما أقوى في الشهوة الجبلّيّة (9) من المال، فإن الطبع يحث [على] (10) بذل المال، فيحصل (11) النكاح، والنساء أقعد من الأولاد في الشهوة الجبليّة (12)، (13) [والبنون أقعد من الأموال، والذهب أقعد من الفضة، والفضة أقعد (13) من الأنعام إذ هي وسيلة إلى تحصيل النّعم، فلما صدّرت الآية بذكر الحب، وكان المحبوب مختلف المراتب، اقتضت حكمة الترتيب أن يقدّم ما هو الأهمّ فالأهمّ، في رتبة المحبوبات.
__________
(1) في المخطوطة (فإن).
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (وقوله).
(6) في المخطوطة (للمقام).
(7) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(9) في المخطوطة (الجليلة). تصحيف.
(10) ساقط من المخطوطة.
(11) في المخطوطة (لتحصيل).
(12) في المخطوطة (والجبلّة).
(13) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/318)
وقال الزمخشريّ (1) في قوله تعالى: {مََا يَفْعَلُ اللََّهُ بِعَذََابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}
(النساء: 147)، قدّم الشكر على الإيمان لأنّ العاقل ينظر ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن (2)
به، ثم شكر شكرا منفصلا (3) فكان الشكر متقدما على الإيمان وكأنه أصل التكليف ومداره. انتهى.
وجعله غيره من عطف الخاص على العام لأن الإيمان من الشكر، وخصّ بالذكر لشرفه.
الرابع بالرتبة
3/ 249 كتقديم «سميع» على «عليم» فإنه يقتضي التخويف والتهديد، فبدأ بالسميع لتعلقه بالأصوات، وإنّ من سمع حسك فقد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم، وإن كان علم الله تعلق بما ظهر وما بطن.
وكقوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة: 173)، فإن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة وإنما تأخرت في آية سبأ في قوله: {الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} (سبأ:
2) لأنها منتظمة في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلّفين وغيرهم، وهو قوله: {مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} (سبأ:
2)، فالرحمة شملتهم (4) جميعا، والمغفرة تخصّ بعضا، والعموم قبل الخصوص بالرتبة.
وقوله تعالى: {هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم: 11) فإن الهمّاز هو المغتاب وذلك لا يفتقر إلى شيء بخلاف النميمة.
وقوله [تعالى] (5) {يَأْتُوكَ رِجََالًا وَعَلى ََ كُلِّ ضََامِرٍ} (الحج: 27) (6) [فإنّ الغالب أنّ الذين يأتون رجالا من مكان قريب، والذين يأتون على الضامر] (6) من البعيد. ويحتمل أن
__________
(1) في الكشاف 1/ 308.
(2) في المخطوطة (أمر).
(3) تصحفت في المطبوعة إلى (متصلا).
(4) في المخطوطة (تشملهم).
(5) ليست في المطبوعة.
(6) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/319)
يكون من التقديم بالشرف (1): لأن الأجر في المشي مضاعف.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجََالًا أَوْ رُكْبََاناً} (البقرة: 239) مع أنّ الراكب متمكن من الصلاة أكثر من الماشي، فجبرا (2) له في باب الرخصة.
3/ 250ومنه قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ وَالْقََائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (3) (الحج:
26)، فقدّم الطائفين لقربهم من البيت ثم ثنّى [208/ ب] بالقائمين وهم العاكفون لأنهم يخصّون موضعا بالعكوف والطواف بخلافه فكان أعمّ منه، والأعمّ قبل الأخصّ [بالمرتبة] (4)، ثم ثلث بالرّكوع، لأنّ الركوع لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده.
ثم في هذه الآية [ثلاثة] (5) أسئلة:
الأول: كيف جمع الطائفين والقائمين جمع سلامة، والرّكع جمع تكسير؟ والجواب أنّ جمع السلامة أقرب إلى لفظ الفعل، فطائفون بمنزلة يطوفون، ففي لفظه إشعار بصلة (6) التطهير، وهو حدوث الطواف وتجدّده، ولو قال: بالطواف لم يفد (7) ذلك، لأن لفظ المصدر يخفي ذلك وكذا القول في القائمين، وأمّا الراكعون فلما سبق أنه لا يلزم كونه في البيت ولا عنده فلهذا لم يجمع جمع سلامة (8) إذ لا يحتاج فيه إلى بيان الفعل الباعث على التطهير، كما احتيج فيما قبله.
الثاني: كيف وصف الركّع بالسجود، ولم يعطف بالواو؟
والجواب، لأن الركّع هم السّجود، والشيء لا يعطف على نفسه لأن السجود يكون عبارة عن المصدر، وهو هنا عبارة عن الجمع، فلو عطف بالواو لأوهم إرادة المصدر دون اسم
__________
(1) في المخطوطة (من الشرف).
(2) اضطربت العبارة في المخطوطة إلى (جوابه في باب الرخصة) أو (جيء به في).
(3) الآية في المطبوعة {أَنْ طَهِّرََا بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ وَالْعََاكِفِينَ} (البقرة: 125).
(4) ساقطة من المطبوعة.
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) في المخطوطة (بقلة).
(7) في المخطوطة (يقبل).
(8) في المخطوطة (السلامة).(3/320)
الفاعل لأن الراكع إن لم يسجد فليس براكع شرعا، ولو (1) عطف بالواو لأوهم أنه مستقلّ، كالذي قبله.
الثالث: هلّا قيل: السّجّد كما قيل الرّكّع، وكما جاء في آية أخرى: {تَرََاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} (الفتح: 29)، والركوع (2) قبل السجود! والجواب أنّ السجود يطلق على وضع الجبهة بالأرض وعلى الخشوع، فلو قال: السجّد، لم يتناول إلا المعنى الظاهر، ومنه:
{تَرََاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} (الفتح: 29)، وهو من رؤية العين، [ورؤية العين] (3) لا تتعلّق 3/ 251 إلا بالظاهر، فقصد بذلك الرمز إلى السجود المعنويّ والصوري (4) بخلاف الركوع، فإنّه ظاهر في أعمال الظاهر التي يشترط فيها البيت كما في الطواف والقيام المتقدم، دون أعمال القلب، فجعل السجود وصفا للركوع وتتميما له لأنّ الخشوع روح الصلاة وسرّها الذي شرعت له.
الخامس بالداعية
كتقدم الأمر بغضّ الأبصار على حفظ الفروج في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور: 30)، لأن البصر داعية إلى الفرج، لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«العينان تزنيان والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه» (5).
السادس التعظيم
كقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَالرَّسُولَ} (النساء: 69).
وقوله: {إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (الأحزاب: 56).
__________
(1) في المخطوطة (فلو).
(2) في المخطوطة (إذ الركوع).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (الضروري).
(5) أخرجه أحمد في المسند 2/ 344و 535مسند أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه ابن حبّان في صحيحه ذكره ابن بلبان في الإحسان 6/ 299، باب الزنا وحده، ذكر إطلاق اسم الزنا على الأعضاء،
الحديث (4402).(3/321)
{شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} (آل عمران: 18).
{إِنَّمََا وَلِيُّكُمُ اللََّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (المائدة: 55).
3/ 252
السابع الشرف وهو أنواع
منها شرف الرسالة، كقوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا [مِنْ قَبْلِكَ]} [1] مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ (الحج:
52)، فإنّ الرسول أفضل من النبي خلافا لابن عبد السلام (2).
وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (الأعراف: 157) [وقوله] (3): {وَكََانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (مريم: 54).
ومنها شرف الذكورة:
كقوله تعالى (4) [{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمََاتِ} (الأحزاب: 35).
وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ََ} (النجم: 21).
وقوله: {رِجََالًا كَثِيراً وَنِسََاءً} (النساء: 1).
وأما تقديم الإناث في قوله تعالى] (4): {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً} (الشورى: 49)، فلجبرهنّ، إذ هنّ موضع الانكسار، ولهذا جبر الذكور بالتعريف، للإشارة إلى ما فاتهم من فضيلة التقديم.
ويحتمل أنّ تقديم الإناث، لأن المقصود بيان أن الخلق كلّه بمشيئة الله تعالى، لا [على] (6) وفق غرض العباد.
ومنها شرف الحريّة، كقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [209/ أ] {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (البقرة:
178)، ومن الغريب حكاية بعضهم قولين في أن الحرّ أشرف من العبد أم لا، حكاه [عنه] (7) القرطبي، في تفسير سورة النساء (8) فلينظر فيه.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) هو عز الدين بن عبد السلام تقدم ذكره في 1/ 132.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) ساقطة من المطبوعة.
(8) الجامع لأحكام القرآن 5/ 314عند آية {وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً} (النساء: 92).(3/322)
ومنها شرف العقل، كقوله [تعالى] (1): {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ 3/ 253 صَافََّاتٍ} (النور: 41).
وقوله: {مَتََاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعََامِكُمْ} (النازعات: 33).
وأما تقديم الأنعام عليهم في قوله: {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعََامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} (السجدة: 27)، فمن باب تقديم السّبب، وقد سبق.
ومنها شرف الإيمان، كقوله تعالى: {وَإِنْ كََانَ طََائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطََائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} (الأعراف: 87)، وكذلك تقديم المسلمين على الكافرين في كلّ موضع، والطائع على العاصي (2) {وَأَصْحََابُ الْيَمِينِ} ثم قال {وَأَصْحََابُ الشِّمََالِ} (2)
[الواقعة: 27و 41].
ومنها شرف العلم، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ}
(الزمر: 9).
ومنها شرف الحياة، كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (الروم: 19).
وقوله: {وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ} (فاطر: 22). وأما تقديم الموت في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ} (الملك: 2)، فمن تقدّم السبق بالوجود، وقد سبق.
ومنها شرف المعلوم نحو {عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} (المؤمنون: 92)، فإن علم الغيبيّات أشرف من المشاهدات.
ومنه: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} (الأنعام: 3). {وَيَعْلَمُ} [4] مََا تُسِرُّونَ وَمََا تُعْلِنُونَ
(التغابن: 4) وأما قوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ََ} (طه: 7)، أي من السرّ، فعن ابن 3/ 254
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) تصحفت في المطبوعة إلى (وأصحاب اليمين عن أصحاب الشمال) والتصويب من المخطوطة.
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (يعلم).(3/323)
عباس (1) وغيره: السرّ: ما أسررت في نفسك، وأخفى منه ما لم تحدّث به نفسك، مما (2)
يكون في عدّ (3) علم الله فيهما سواء، ولا شكّ أن الآتي أبلغ، وفيه (4) وجهان:
أحدهما: أنه أفعل تفضيل يستدعي مفضلا عليه، علم حتى يتحقق في نفسه، فيكون حينئذ تقديم السرّ من النوع الأول.
وثانيهما: مراعاة رءوس الآي.
ومنها شرف الإدراك، كتقديم السّمع على البصر، والسميع على البصير (5) لأنّ السمع أشرف على أرجح القولين عند جماعة، وقدم القلب عليهما في قوله [تعالى] (6):
{خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ [غِشََاوَةٌ]} [6] (البقرة: 7)، لأن الحواسّ خدمة القلب، وموصلة إليه وهو المقصود وأما قوله: {وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}
(الجاثية: 23)، فأخّر القلب فيها لأن العناية هناك بذمّ المتصامّين عن السماع ومنهم الذين كانوا يجعلون القطن في آذانهم حتى لا يسمعوا (8)، ولهذا صدرت (9) السورة بذكرهم في قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيََاتِ اللََّهِ تُتْلى ََ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا} (الجاثية: 87).
ومنها شرف المجازاة، كقوله: {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ}
(الأنعام: 160).
ومنها شرف العموم فإنّ العامّ أشرف من الخاص، كتقديم العفوّ على الغفور أي عفوّ عمّا لم يؤاخذنا به مما (10) نستحقّه بذنوبنا، غفور (11) لما واخذنا به في الدنيا، قبلنا ورجعنا
__________
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات: 151. باب ما جاء في إثبات صفة العلم وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 379378، كتاب التفسير، تفسير سورة طه، باب بيان معنى السر وأخفى. وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/ 290وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) في المخطوطة (ما).
(3) في المخطوطة (عند) بدل (في عدّ).
(4) في المخطوطة (ففيه).
(5) العبارة في المخطوطة (وسميع على بصير).
(6) ليست في المخطوطة.
(8) في المخطوطة (لا يسمعون) بدل (حتى لا يسمعوا).
(9) في المخطوطة (صدّر).
(10) في المخطوطة (فيما).
(11) في المخطوطة (غفورا).(3/324)
إليه فتقدم العفوّ على الغفور، لأنه أعمّ، وأخّرت المغفرة لأنها أخصّ.
ومنها شرف الإباحة للإذن بها، كقوله تعالى: {وَلََا تَقُولُوا لِمََا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ 3/ 255 هََذََا حَلََالٌ وَهََذََا حَرََامٌ} (النحل: 116)، وإنما تقديم الحرام في قوله: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرََاماً وَحَلََالًا} (يونس: 59) فللزيادة في التشنيع عليهم، أو لأجل السياق لأن قبله:
{فَكُلُوا مِمََّا رَزَقَكُمُ اللََّهُ حَلََالًا طَيِّباً} (النحل: 114). ثم {إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}
(البقرة: 173).
ومنها الشّرف بالفضيلة، كقوله تعالى: {مَعَ} [1] الَّذِينَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدََاءِ [209/ ب] {وَالصََّالِحِينَ} (النساء: 69).
وقوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (الأحزاب: 7).
وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ} [2] [رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ] (2)
(الفتح: 29) الآية.
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسى ََ وَهََارُونَ الْفُرْقََانَ} (الأنبياء: 48).
{ثُمَّ بَعَثْنََا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى ََ وَهََارُونَ} (يونس: 75).
وقوله: {رَبِّ مُوسى ََ وَهََارُونَ} (الأعراف: 122الشعراء: 48) في الأعراف والشعراء، فإنّ موسى استأثر باصطفائه تعالى له بتكليمه، وكونه من أولي العزم.
فإن قلت: فقد جاء هارون وموسى في سورة طه بتقديم هارون؟
قلنا: لتناسب رءوس الآي.
ومنه تقديم جبريل على ميكائيل في قوله تعالى: {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} (البقرة: 98) لأن جبريل صاحب الوحي والعلم، وميكائيل صاحب 3/ 256 الأرزاق، والخيرات النفسانية أفضل من الخيرات الجسمانية.
ومنه تقديم المهاجرين في قوله تعالى: {لَقَدْ تََابَ اللََّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ} (التوبة: 117).
__________
(1) تصحفت الآية في المخطوطة إلى (مع النبيين والصديقين والشهداء).
(2) ليست في المخطوطة.(3/325)
وقوله: {وَالسََّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ} (التوبة: 100)، ويدلّ على فضيلة الهجرة (1) [قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا الهجرة] (1) لكنت امرأ من الأنصار» (3)، وبالآية احتجّ الصّدّيق على تفضيلهم وتعيين الإمامة فيهم.
ومنه قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56)، فإن الصلاة أفضل من السلام.
وقوله: {وَآتَى الْمََالَ عَلى ََ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينَ} (البقرة: 177)، قدم القريب لأن الصدقة عليه أفضل من الأجنبي.
ومنه تقديم الوجه في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} (المائدة: 6).
وتقديم اليمين على الشمال في نحو: {جَنَّتََانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمََالٍ} (سبأ: 15)، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ} (4) (المعارج: 37).
ومنه تقديم الأنفس على الأموال في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ} (التوبة: 111). وأما تقديم الأموال في سورة الأنفال [في قوله] (5):
{وَجََاهَدُوا} [6] بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ (الأنفال: 72)، فوجه التقديم أنّ الجهاد يستدعي تقديم إنفاق الأموال (7)، فهو من باب السبق بالسببية.
ومنه (8): {مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (الفتح: 27)، فإن الحلق أفضل من التقصير.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) أخرجه بلفظه الكامل من رواية عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، البخاري في الصحيح 8/ 48، كتاب المغازي (64)، باب غزوة الطائف (56)، الحديث (4330)، ومسلم في الصحيح 2/ 739738، كتاب الزكاة (12)، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (46)، الحديث (139/ 1061).
(4) الآية في المخطوطة {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمََائِلِ سُجَّداً} (النحل: 48).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (والذين جاهدوا) تصحيف.
(7) في المخطوطة (المال).
(8) في المخطوطة (ومنهم).(3/326)
ومنه تقديم السّماوات على الأرض، [كقوله] (1): {خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} (العنكبوت: 44) وهو كثير، وكذلك كثيرا ما يقع [«السموات»] (1) بلفظ الجمع، و «الأرض» لم تقع إلا مفردة.
وأما تأخيرها عنها (3) في قوله [تعالى] (4): {وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} (يونس: 61) فلأنه (5) لما ذكر المخاطبين، وهو قوله: {وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلََّا كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (يونس: 61)، وهو خطاب لأهل الأرض، وعملهم يكون في الأرض وهذا بخلاف الآية التي في سبأ (6) فإنها منتظمة في سياق علم الغيب.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَخْفى ََ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} (آل عمران: 5).
وأما تأخيرها عنها في قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) فلأن الآية في سياق الوعد والوعيد وإنما هو لأهل الأرض. (7) [وعلمهم يكون في الأرض، وهذا بخلاف الآية] (7).
قوله [تعالى] (9): {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ} (إبراهيم: 48).
ومنه تقديم الإنس على الجن في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ} [10] [لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ] (10) (الإسراء: 88) الآية.
وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لََا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلََا جَانٌّ} [210/ أ] (الرحمن: 39).
وقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلََا جَانٌّ} (12) (الرحمن: 56).
وقوله: {وَأَنََّا ظَنَنََّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللََّهِ كَذِباً} (الجن: 5).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (عنه).
(5) في المخطوطة (ولأنه).
(4) ليست في المطبوعة.
(6) في المخطوطة (معنا).
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة وكتب مكانه (كذا).
(9) ليست في المطبوعة.
(10) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(12) زيادة بعد هذه الآية في المخطوطة كما يلي وقوله {وَأَنََّا ظَنَنََّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللََّهَ فِي الْأَرْضِ} (الجن: 12).(3/327)
وقوله: {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مََارِجٍ مِنْ نََارٍ}
(الرحمن: 1514).
وأما تقديم الجن في مواضع أخر، كقوله: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (الأنعام:
130) فلأنّهم أقدم في الخلق، فيكون من النوع الأول (1) أعني التقديم بالزمان ولهذا لمّا أخّر (2) في آية الحجر (3) صرّح بالقبلية بذكر [خلق] (4) الإنسان، ثم قال: {وَالْجَانَّ} [5]
خَلَقْنََاهُ مِنْ قَبْلُ (الحجر: 27).
ويجوز أن يكون في الأمثلة السالفة (6) من باب تقديم الأعجب لأنّ خلقها أغرب (7)، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ} (النور: 45).
أو لأنهم أقوى أجساما، وأعظم أقداما ولهذا قدّموا في: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (الرحمن: 33)، وفي: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمََانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ} (النمل: 17).
ومنه تقديم السّجّد على الراكعين (8) في قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرََّاكِعِينَ}
(آل عمران: 43)، وسبق فيه شيء آخر.
ومنه تقديم الخيل على البغال، والبغال على الحمير في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهََا} (النحل: 8).
ومنه تقديم الذهب على الفضة في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (التوبة:
34).
__________
(1) تقدم في 3/ 309 (السبق بالزمان والإيجاد).
(2) في المخطوطة (أخبروا) تصحيف.
(3) وهي قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (الآية: 26).
(4) ساقطة من المطبوعة.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (والإنسان).
(6) في المخطوطة (السابقة).
(7) في المخطوطة (أقرب).
(8) العبارة في المخطوطة (السجود على الركوع).(3/328)
فإن قلت: فهل يجوز [فيه] (1) أن يكون من تقديم المذكر على المؤنث؟
قلت: هيهات، الذهب أيضا مؤنث، ولهذا يصغّر (2) على ذهيبة ك «قدم» (3).
ومنه تقديم الصّوف في قوله: {وَمِنْ أَصْوََافِهََا وَأَوْبََارِهََا وَأَشْعََارِهََا} (النحل: 80) ولهذا احتجّ به بعض الصوفية على اختيار لبس الصوف على غيره من الملابس: وأنه شعار الملائكة في قوله: {مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125) قيل: سيماهم يومئذ الصّوف. وعن عليّ الصوف الأبيض: رواه أبو نعيم في [كتاب] (4) «مدح الصوف» (5)، وقال: إنه شعار الأنبياء. وقال (6) ابن مسعود: «كانت الأنبياء [عليهم السلام] (7) قبلكم يلبسون الصوف» (8) وفي الصحيح في موسى عليه السلام: «عليه عباءة» (9).
ومنه تقديم الشمس على القمر في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (الحج: 18)، وقوله: {وَجَعَلَ فِيهََا سِرََاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} (10) (الفرقان: 61)، ولهذا قال تعالى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيََاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} (يونس: 5) والحكماء يقولون: إن نور القمر مستمدّ من نور الشمس، قال الشاعر:
يا مفردا بالحسن والشّكل ... من دلّ عينيك على قتلي
البدر من شمس الضّحى نوره ... والشّمس من نورك تستملي
وأما قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللََّهُ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ طِبََاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرََاجاً} (نوح: 1615) فيحتمل وجهين: مناسبة رءوس الآي أو أنّ (11)
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(3) في المخطوطة (فتقدم).
(2) في المخطوطة (تصغر).
(4) ساقطة من المطبوعة.
(5) الكتاب ذكره في حلية الأولياء 1/ 20وسماه «كتاب لبس الصوف»، والأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 2/ 70وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(6) في المخطوطة (قال).
(7) ليست في المطبوعة.
(8) أخرجه أحمد بن حنبل في كتاب الزهد: 78من مواعظ عيسى عليه السلام.
(9) أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ «وعليه جبة صوف»، وأوله «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر بوادي الأزرق فقال» «الصحيح» 1/ 152، كتاب الإيمان (1)، باب الإسراء (74)، الحديث (268/ 166)، ولكن الحكاية عن سيدنا يونس عليه السلام، وهي ضمن حديث عن موسى عليه السلام.
(10) تصحفت في المخطوطة إلى (وجعلنا فيها سراجا وهاجا).
(11) في المخطوطة (وأن).(3/329)
انتفاع أهل السموات به أكثر. قال ابن الأنباري: يقال: إن القمر وجهه يضيء لأهل الشمس، وظهره إلى الأرض (1)، ولهذا قال تعالى: {فِيهِنَّ} لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء.
الثامن الغلبة والكثرة
كقوله [تعالى] (2): {فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ [بِإِذْنِ اللََّهِ]} [2] (فاطر: 32)، قدم الظالم لكثرته، ثم المقتصد، ثم السابق.
وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 105).
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيََا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [210/ ب] (آل عمران: 152).
{الْخَبِيثََاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [4] [وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثََاتِ] (4) وَالطَّيِّبََاتُ لِلطَّيِّبِينَ (النور: 26).
وجعل منه الزمخشريّ (6): {فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (التغابن: 2) يعني بدليل قوله [تعالى] (7) {وَمََا أَكْثَرُ النََّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) وحديث بعث النار.
وأما قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذََاباً شَدِيداً} (آل عمران: 56)، قدّم ذكر العذاب لكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله (8) [ولأن ما قبله من ذكر حكمه فقال نبيهم هو على سبيل التهديد والوعيد لهم فناب العداة منهم] (8).
وجعل من هذا النوع قوله تعالى: {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ} (المائدة: 38) لأنّ السرقة في الذكور أكثر.
وقدم في الزنا المرأة في قوله: {الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي} (النور: 2) لأن الزنا فيهنّ (10)
__________
(1) في المخطوطة (للأرض).
(2) ليست في المخطوطة.
(4) ليست في المخطوطة.
(6) الكشاف 4/ 104.
(7) ليست في المطبوعة.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(10) في المخطوطة (فيه).(3/330)
أكثر. وأما قوله: {الزََّانِي لََا يَنْكِحُ إِلََّا زََانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزََّانِيَةُ لََا يَنْكِحُهََا إِلََّا زََانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}
(النور: 3). فقال الزمخشريّ (1): سيقت الآية التي قبلها لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة هي المادة التي نشأت (2) منها الجناية (3) لأنها لو لم تطمع الرجل، وتمكّنه لم يطمع ولم يتمكّن، فلما كانت أصلا وأوّلا في ذلك بدأ بذكرها (4)، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح، والرجل أصل، لأنّه هو الراغب والخاطب (5) [ومنه] (6) يبدأ الطلب.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور:
30)، قال الزمخشريّ (7): «قدم غضّ البصر لأن النظر بريد (8) الزنا، ورائد الفجور، والبلوى به أشدّ وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه».
ومنه تقديم الرحمة على العذاب حيث وقع في القرآن، ولهذا ورد: «إن رحمتي غلبت غضبي» (9).
وأما تقديم التعذيب على المغفرة في آية المائدة فللسياق (10) [لأنه قوبل بذكر تقدم السرقة على التوبة] (10).
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ وَأَوْلََادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} (التغابن: 14)، قال ابن الحاجب (12) في «أماليه»: إنّما قدّم الأزواج لأنّ المقصود الإخبار أن فيهم أعداء، ووقوع (13)
__________
(1) الكشاف 3/ 6261.
(3) في المطبوعة (الخيانة).
(2) في المخطوطة (منها نشأت).
(4) في المخطوطة (بها).
(5) في المخطوطة (الخاطب والراغب).
(6) ليست في المطبوعة.
(7) الكشاف 3/ 261.
(8) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (يزيد الزنا وأزيد).
(9) أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 287، كتاب بدء الخلق (59)، باب ما جاء في قول الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (الروم: 27). (1)، الحديث (3194). وأخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2108، كتاب التوبة (49)، باب في سعة رحمة الله تعالى (4) الحديث (15/ 2751). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(10) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(12) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن يونس تقدم التعريف به في 1/ 466وبكتابه في 1/ 511.
(13) في المخطوطة (وأوقع).(3/331)
ذلك في الأزواج أقعد (1) منه في الأولاد فكان (2) أقعد في المعنى المراد فقدّم، ولذلك قدمت الأموال في قوله: {إِنَّمََا أَمْوََالُكُمْ وَأَوْلََادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن: 15)، لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة (3): {إِنَّ الْإِنْسََانَ لَيَطْغى ََ * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ََ} (العلق: 76).
{أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا} (الإسراء: 16)، وليست (4) الأولاد في استلزام الفتنة مثلها (5)، وكان تقدّمها أولى.
التاسع سبق ما يقتضي تقديمه
وهو دلالة السياق، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهََا جَمََالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}
(النحل: 6) لمّا كان إسراحها وهي خماص، وإراحتها وهي بطان، قدم الإراحة لأنّ الجمال بها حينئذ أفخر (6).
وقوله: {وَجَعَلْنََاهََا وَابْنَهََا آيَةً لِلْعََالَمِينَ} (الأنبياء: 91)، لأن السياق في ذكر مريم [في] (7) قوله [تعالى] (8) {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا} (الأنبياء: 91)، ولذلك قدّم الابن في غير هذا المكان، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (المؤمنون: 50).
وقوله: {فَفَهَّمْنََاهََا سُلَيْمََانَ وَكُلًّا آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء: 79) فإنه قدّم الحكم مع أن العلم لا بدّ من سبقه للحكم ولكن لما كان السياق في الحكم قدّمه، قال تعالى: {وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ إِذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنََّا لِحُكْمِهِمْ شََاهِدِينَ} (الأنبياء: 78)، ويحتمل أن [يكون] (9) المراد بالحكم الحكمة، وبها فسر الزمخشريّ (10) قوله تعالى في [سورة] (11) يوسف: {وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً}
(يوسف: 22) وأما [211/ أ] تقديم الحكيم على العليم في سورة الأنعام، فلأنه مقام تشريع الأحكام، وأما في أول سورة يوسف فقدّم (12) العليم على الحكيم، لقوله في آخرها:
{وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ} (يوسف: 101).
__________
(1) في المخطوطة (أكثر).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (وكان).
(8) ليست في المطبوعة.
(3) في المخطوطة (يفارقها لنفسه).
(9) ساقطة من المطبوعة.
(4) في المخطوطة (في ليست).
(10) الكشاف 2/ 248.
(5) في المخطوطة (سر لها).
(11) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (فخر).
(12) في المخطوطة (قدم).(3/332)
ومنه تقديم المحو (1) على الإثبات في قوله [تعالى] (2): {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ}
(الرعد: 39)، فإنّ قبله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ} (الرعد: 38). ويمكن أن يقال: ما يقع عليه المحو أقلّ مما يقع عليه غيره، ولا سيما على قراءة تشديد «يثبّت» (3) فإنها ناصّة على الكثرة، والمراد به الاستمرار لا الاستئناف.
وقوله: {وَيَمْحُ} [4] اللََّهُ الْبََاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ (الشورى: 24).
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنََا لَهُمْ أَزْوََاجاً} (الرعد: 38)، قدّم «رسلا» هنا على «من قبلك» وفي غير هذه بالعكس لأن السياق هنا في الرسل.
ومنه قوله [تعالى] (5): {وَاللََّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ} (البقرة: 245)، قدم القبض لأن قبله (6) {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ لَهُ أَضْعََافاً كَثِيرَةً} (البقرة: 245)، وكان هذا بسطا، فلا يناسب تلاوة البسط، فقدّم القبض لهذا، وللترغيب (7) في الإنفاق لأن الممتنع منه سببه خوف القلّة، فبيّن أنّ هذا لا ينجيه، فإن القبض مقدر ولا بدّ.
العاشر مراعاة اشتقاق اللفظ
كقوله [تعالى] (8): {لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 37).
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (الانفطار: 5).
{يُنَبَّؤُا الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ بِمََا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة: 13).
{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ} [9] [إِلى ََ مِيقََاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ] (9)
(الواقعة: 5049).
__________
(1) في المخطوطة (المؤخر).
(2) ليست في المطبوعة.
(3) قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو بالتخفيف، والباقون بالتشديد (التيسير: 134).
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (ويمحو).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (قوله).
(7) في المخطوطة (والترغيب).
(8) ليست في المطبوعة.
(9) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/333)
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} (الواقعة: 4039).
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} (الحجر: 24).
وأما قوله: {فَإِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ لََا [يَسْتَأْخِرُونَ سََاعَةً وَلََا]} [1] يَسْتَقْدِمُونَ (النحل:
61) (2) [وقوله {قُلْ لَكُمْ مِيعََادُ يَوْمٍ لََا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سََاعَةً وَلََا تَسْتَقْدِمُونَ]} (2) (سبأ: 30) فقدّم (4) نفي التأخير لأنه الأصل في الكلام، وإنما ذكر التقديم (5) مع عدم إمكان (6)
التقديم (5)، نفيا لأطراف الكلام كله.
وكقوله: {[إِنَّهُ هُوَ]} [8] يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (البروج: 13).
وقوله: {كَمََا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29).
{لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4).
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى ََ وَالْآخِرَةِ} (القصص: 70).
وقوله: {[هُوَ]} [9] الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ (الحديد: 3).
{فِي الدُّنْيََا} [10] وَالْآخِرَةِ (البقرة: 220).
فإن قلت قد جاء: {[فَأَخَذَهُ اللََّهُ]} [11] نَكََالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ََ (النازعات: 25).
{أَمْ لِلْإِنْسََانِ مََا تَمَنََّى * فَلِلََّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ََ} (النجم: 2524).
قلت: لمناسبة رءوس الآي.
ومثله: {هََذََا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنََاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} (المرسلات: 38)، ولأنّ الخطاب لهم، فقدّموا.
الحادي عشر للحث عليه خيفة من التهاون به
كتقديم تنفيذ الوصية على وفاء الدين، في قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهََا أَوْ دَيْنٍ}
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (تقدم).
(5) في المطبوعة (التقدم).
(6) ليست في المخطوطة.
(8) في المخطوطة (إنكار).
(9) تصحفت في المخطوطة إلى (والدنيا).
(10) ليست في المخطوطة.
(11) ليست في المخطوطة.(3/334)
(النساء: 11)، فإن وفاء الدّين سابق على الوصية، لكن قدّم الوصيّة، لأنهم كانوا يتساهلون بتأخيرها، بخلاف الدّين.
ونظيره: {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً} [1] [وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ] (1) (الشورى: 49)، قدّم الإناث حثّا على الإحسان إليهم.
وقال السهيلي في (3) «النتائج»: إنما قدّمت الوصية لوجهين:
أحدهما: أنها قربة إلى الله [تعالى] (4) بخلاف [الدّين] (4) الذي تعوّذ الرسول (6)
منه (7)، فبدىء (8) بها للفضل.
والثاني: أنّ الوصية للميت، والدّين لغيره، ونفسك قبل نفس غيرك، تقول: هذا لي وهذا لغيري، ولا تقول في فصيح الكلام: هذا لغيري وهذا لي.
الثاني عشر لتحقق ما بعده واستغنائه هو عنه في تصوّره
كقوله: {[إِنَ]} [9] الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ (مريم: 96).
وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ وَعَمِلَ صََالِحاً} (فصلت: 33).
[211/ ب] وقوله: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئََاتِ ثُمَّ تََابُوا} (الأعراف: 153).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(3) هو عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي تقدم التعريف به في 1/ 242وكتابه «نتائج الفكر في النحو» طبع بتحقيق د. محمد إبراهيم البنا في القاهرة بدار الاعتصام عام 1406هـ / 1985م (أخبار التراث العربي 33/ 20).
(4) ليست في المخطوطة.
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (الرسل).
(7) إشارة إلى حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم القائل في أوله «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن الحديث أخرجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، البخاري في الصحيح 11/ 173، كتاب الدعوات (80)، باب التعوذ من غلبة الرجال (36)، الحديث (6363).
(8) في المخطوطة (فبدأ).
(9) ليست في المخطوطة.(3/335)
الثالث عشر الاهتمام عند المخاطب
كقوله {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهََا أَوْ رُدُّوهََا} (النساء: 86).
ونظيره قوله عليه السلام: «وأن تقرأ السلام على من عرفته ومن لم تعرفه» (1).
وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينِ} (الأنفال: 41) لفضل الصدقة على القريب.
وكقوله (2): {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} [3] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ (النساء: 92)، فقدم (3) الكفارة على الدّية، وعكس في قتل المعاهد حيث قال: {وَإِنْ كََانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثََاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى ََ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (النساء: 92).
قال الماورديّ (5) في «الحاوي»: ووجهه أنّ المسلم يرى تقديم حقّ الله على نفسه والكافر يرى تقديم نفسه على حق الله، قال: وقال ابن أبي هريرة (6): إنما خالف بينهما ولم يجعلهما (7) على نسق واحد، لئلا يلحق بهما ما بينهما من قتل المؤمن في دار الحرب في قوله:
{فَإِنْ} [8] كََانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (النساء: 92)، فضم إليه الدّية إلحاقا بأحد الطرفين، فأزال هذا الاحتمال باختلاف اللفظين.
__________
(1) أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، البخاري في الصحيح 11/ 21، كتاب الاستئذان (79)، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة (9)، الحديث (6236).
(2) في المخطوطة (وقوله).
(3) عبارة المطبوعة ({فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وقوله {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى ََ أَهْلِهِ} فقدم) والتصويب من المخطوطة.
(5) هو أبو الحسن علي بن حبيب الشافعي تقدم التعريف به في 1/ 274، وكتابه «الحاوي الكبير» في الفروع حقق كتاب القضاء فيه د. محيي الدين السرحان بالعراق عام 1404هـ / 1984م وحقق كتاب الزكاة فيه ياسين ناصر محمود الخطيب كرسالة دكتوراه بمكة المكرمة جامعة أم القرى كلية الشريعة عام 1404هـ / 1984م، وحقق كتاب الحج غازي طه خصيفان، وكتابه البيوع محمد عبد القادر الكفراوي، وكتاب الجنايات يحيى أحمد الجردي، وكتاب الحدود إبراهيم علي صندقجي، وكتاب السير محمد رويد المسعودي، وحقق كتاب التفليس عبد الفتاح محمود إدريس بالقاهرة كرسالة ماجستير بجامعة الأزهر كلية الشريعة عام 1401هـ / 1981م (أخبار التراث العربي: 13/ 16و 5/ 21و 14/ 13و 5/ 20و 1/ 12).
(6) هو الحسن بن الحسين الشافعي تقدم التعريف به في 2/ 177.
(7) في المخطوطة (يجعلها).
(8) تصحفت في المخطوطة إلى (وإن).(3/336)
وقال الفقيه نجم الدين بن الرّفعة (1): يحتمل أن يقال: إنه لما كان الكفر يهدر (2) 3/ 167 الدماء (3) وهو موجود، كان الغاية ببذل الدم عند العصمة (4) لأجل الميثاق أتمّ، لأنّه يغمض حكمه، فلذلك قدمت الدّية فيه، وأخّرت الكفارة، لأنّ (5) حكمها قد سبق. ولما كانت عصمة المسلم ثابتة، وقياس الأصول [أنّه] (6) لا تجب الكفارة (7) في قتل الخطإ، لأنّه لا إثم فيه، خصوصا على المسلمين لرفع القلم عن الخطإ، كانت العناية بذكر الكفارة فيه (8) أتمّ لأنها التي تغمض، فقدّمت.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ} [9] سَبَباً * حَتََّى إِذََا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ
(الكهف: 8685) قيل: لماذا (10) بدأ بالمغرب قبل المشرق، وكان مسكن ذي القرنين من ناحية المشرق؟ قيل: لقصد الاهتمام (11)، إما لتمرّد أهله وكثرة طغيانهم في ذلك الوقت، أو غير ذلك ممّا لم ينته (12) إلينا علمه.
ومن هذا أنّ تأخر المقصود بالمدح والذم أولى من تقدّمه كقوله: نعم الرجل، زيد (13)، أحسن من قولك: زيد نعم الرجل، لأنهم يقدّمون الأهمّ، و [هم] (14) في هذا [بذكر] (14) المدح والذمّ أهمّ.
فأما (16) تقديمه في قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ} (ص: 30و 44)، فإن (17)
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة نجم الدين، أبو العباس، شافعي زمانه تفقه على السديد والظهير التزمنتي والشريف العباسي، ولقب بالفقيه لغلبة الفقه عليه، وسمع الحديث من محيي الدين الدميري، وله من التصانيف «شرح الوسيط» و «الكفاية في شرح التنبيه» ت 710هـ (السبكي، طبقات الشافعية 5/ 177).
(2) في المخطوطة (بهذا).
(3) في المخطوطة (والدنيا).
(4) في المخطوطة (العظمة).
(5) في المخطوطة (ولأن).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (كفارة).
(8) في المخطوطة (فيها).
(9) تصحفت في المخطوطة إلى (ثم أتبع).
(10) في المخطوطة (لم).
(11) عبارة المخطوطة (لفقد اهتمام).
(12) في المخطوطة (لما ينته).
(13) في المخطوطة (زيدا).
(14) ليست في المخطوطة.
(16) في المخطوطة (وأما).
(17) في المخطوطة (فلأن).(3/337)
الممدوح هنا ب «نعم العبد» هو سليمان عليه السلام، وقد تقدّم ذكره، وكذلك أيوب في الآية الأخرى والمخصوص بالمدح في الآيتين ضمير سليمان وأيوب، وتقديره: نعم العبد هو إنه أوّاب.
الرابع عشر للتنبيه (1) على أنه مطلق لا مقيد
كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ الْجِنَّ} (الأنعام: 100)، على القول بأن «الله» في موضع المفعول الثاني ل «جعل»، و «شركاء» مفعول أول، ويكون «الجن» في كلام 3/ 268ثان مقدر، كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء؟ قيل: الجن وهذا يقتضي وقوع الإنكار على جعلهم (2) «لله شركاء» على الإطلاق، فيدخل مشركة (3) غير الجنّ [ولو أخّر] (4) فقيل:
وجعلوا الجنّ شركاء لله، كان الجنّ مفعولا أولا، وشركاء ثانيا، فتكون الشركة مقيّدة غير مطلقة لأنه جرى على الجنّ، فيكون الإنكار توجه لجعل المشاركة للجن خاصة، وليس كذلك وفيه زيادة سبقت.
الخامس عشر للتنبيه على أن السبب مرتب
كقوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمى ََ عَلَيْهََا فِي نََارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى ََ بِهََا جِبََاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} [212/ أ] {وَظُهُورُهُمْ} (التوبة: 35) قدّم الجباه ثم الجنوب لأن مانع الصدقة في الدنيا كان يصرف وجهه أولا عن السائل، ثم ينوء بجانبه، ثم يتولّى بظهره.
السادس عشر التنقل
وهو أنواع: إما من الأقرب إلى الأبعد، كقوله [تعالى] (5): {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا}
__________
(1) في المخطوطة (التنبيه).
(2) في المخطوطة (وجعلهم).
(3) في المخطوطة (شر له).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) ليست في المطبوعة.(3/338)
{رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرََاشاً وَالسَّمََاءَ بِنََاءً} (البقرة: 2221) قدّم ذكر المخاطبين على من قبلهم، وقدم الأرض على السماء.
وكذلك قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَخْفى ََ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} (آل عمران: 5)، لقصد (1) الترقي.
وقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمََاوََاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (المؤمنون: 86). 3/ 269
وإمّا بالعكس كقوله في أول الجاثية: {إِنَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمََا يَبُثُّ مِنْ دََابَّةٍ} (الآية: 43).
وإما من الأعلى، كقوله: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} (آل عمران: 18).
وقوله: {مََا كُنْتَ تَعْلَمُهََا أَنْتَ وَلََا قَوْمُكَ} (هود: 49).
و [إما] (2) من الأدنى، كقوله [تعالى] (3): {وَلََا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً}
(التوبة: 121).
وقوله: {مََا لِهََذَا الْكِتََابِ لََا يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً} (الكهف: 49).
وقوله: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255).
فإن قلت: لم لا اكتفى بنفي الأدنى، ليعلم منه نفي الأعلى بطريق الأولى؟ قلت:
[يعلم] (4) جوابه ممّا سبق من التقديم بالزمان.
وكقوله: {وَلََا يَرْتََابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} (المدثر: 31) الآية، وبهذا يتبين فساد استدلال المعتزلة على تفضيل الملك على البشر بقوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلََّهِ} (النساء: 172) فإنّهم زعموا أنّ سياقها يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، إذ لا يحسن أن يقال: [لا] (5) يستنكف (6) فلان عن خدمتك (6)، ولا من دونه بل ولا من فوقه.
وجوابه أن هؤلاء لمّا عبدوا المسيح، واعتقدوا فيه الولديّة لما فيه من القدرة على
__________
(1) في المخطوطة (القصيد).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ساقطة من المطبوعة.
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) عبارة المخطوطة (يستنكف المسيح فلان عن حديثك).(3/339)
3/ 270الخوارق والمعجزات، من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وغيره ولكونه خلق من غير تراب. والتزهيد في الدنيا وغالب هذه الأمور هي للملائكة (1) أتمّ، وهم فيها أقوى، فإن كانت هذه الصفات أوجبت عبادته، فهو مع هذه الصفات لا يستنكف عن عبادة الله، بل ولا من هو أكبر منه في هذه الصفات، للترقي (2) من الأدنى إلى الأعلى في المقصود، ولم يلزم منه الشرف المطلق والفضيلة على المسيح.
السابع عشر الترقي
كقوله [تعالى] (3): {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهََا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهََا}
(الأعراف: 195) الآية فإنه سبحانه بدأ منها بالأدنى لغرض الترقي لأن منفعة [الوصف] (3) الرابع أهمّ من منفعة الثالث، فهو أشرف منه، ومنفعة الثالث أعم من منفعة الثاني، ومنفعة الثاني أعم من منفعة الأول، فهو أشرف منه.
وقد قرن السمع بالعقل ولم يقرن به البصر في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كََانُوا لََا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كََانُوا لََا يُبْصِرُونَ} (يونس: 4342)، وما قرن بالأشرف كان أشرف وحكي ذلك عن علي بن عيسى الربعيّ (5).
قال الشيخ أبو الفتح القشيريّ (6):
فإن قيل: قد كان الأولى أن يقدّم الوصف الأعلى، ثم ما دونه، حتى (7) ينتهي إلى
__________
(1) في المخطوطة (في الملائكة).
(2) في المخطوطة (يرقى).
(3) ليست في المطبوعة.
(5) هو علي بن عيسى بن الفرج أبو الحسن الربعي النحوي صاحب أبي علي الفارسي درس ببغداد الأدب على أبي سعيد السيرافي وأقام على أبي النحوي عشرين سنة يدرس فقال أبو علي: ما بقي له شيء يحتاج أن يسأل عنه من تصانيفه «شرح البلغة» و «البديع في النحو» و «شرح مختصر الجرمي» وغيرها ت 420هـ (القفطي، إنباه الرواة 2/ 297).
(6) هو محمد بن علي بن وهب، أبو الفتح تقي الدين بن دقيق العيد القشيري تقدم التعريف به في 1/ 117و (2/ 338).
(7) في المخطوطة (ثم).(3/340)
أضعفها لأنّه إذا بدا بسلب الوصف الأعلى، ثم بسلب (1) ما دونه، كان ذلك أبلغ في الذمّ لأنه لا يلزم من سلب الأعلى سلب ما دونه، كما تقول: ليس زيد بسلطان [212/ ب]، ولا 3/ 271 وزير، ولا أمير، ولا وال، والغرض من الآية المبالغة (2) في الذم.
قلت: ما ذكرته طريقة حسنة في علم المعاني، والمقصود من الآية طريقة أخرى، وهي أنه تعالى أثبت [أنّ] (3) الأصنام التي تعبدها الكفار (4) [أمثال الكفار، في أنها مقهورة مربوبة، ثم حطّها عن درجة المثلية بنفي هذه الصفات الثابتة للكفار] (4) عنها. وقد علمت أن المماثلة بين الذوات المتنائية (6) إنما تكون (7) باعتبار الصفات الجامعة بينهما إذ هي أسباب في ثبوت المماثلة بينها، وتقوى المماثلة بقوة أسبابها، وتضعف بضعفها، فإذا سلب وصف ثابت لإحدى الذاتين عن الأخرى انتفى وجه (8) من المماثلة (9) [بينهما، ثمّ إذا سلب وصف من الأول انتفى وجه من المماثلة] (9) أقوى من الأول، [ثم لا يزال] (9) يسلب أسباب المماثلة، أقواها [فأقواها] (9) حتى تنتفي المماثلة كلّها بهذا التدريج. وهذه الطريقة ألطف من سلب أسباب المماثلة أقواها ثم أضعفها فأضعفها.
الثامن (13) عشر مراعاة الإفراد
فإن المفرد سابق على الجمع، كقوله تعالى: {الْمََالُ وَالْبَنُونَ} (الكهف: 46).
وقوله: {مِنْ مََالٍ وَبَنِينَ} (المؤمنون: 55) ولهذا لما عبّر عن المال بالجمع أخّر عن البنين في قوله: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ} [14] [وَالْقَنََاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] (14) (آل عمران: 14).
__________
(1) في المخطوطة (سلب).
(2) في المخطوطة (البالغة).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(6) في المخطوطة (المتباينة).
(7) في المخطوطة (يكون).
(8) عبارة المخطوطة (انتهى وجهه).
(9) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(13) تصحفت في المخطوطة إلى (السابع).
(14) ليست في المخطوطة.(3/341)
3/ 272ومنه تقديم الوصف بالمفرد على الوصف بالجملة، في قوله: {وَقََالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمََانَهُ} (غافر: 28)، وقوله: {وَهََذََا ذِكْرٌ مُبََارَكٌ أَنْزَلْنََاهُ} (الأنبياء:
50).
التاسع (1) عشر التحذير منه والتنفير عنه
كقوله [تعالى] (2): {الزََّانِي لََا يَنْكِحُ إِلََّا زََانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} (النور: 3)، قرن الزنى بالشرك وقدّمه.
وقوله: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنََاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} (آل عمران: 14)، قدّمهن في الذّكر لأنّ المحنة بهن (3) أعظم من المحنة (4) بالأولاد، وفي «صحيح مسلم»: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء» (5). ومن الحكمة العظيمة أنه بدأ بذكر النساء في الدنيا، وختم ب «الحرث» وهما طرفان متشابهان، وفيهما الشهوة والمعاش الدنيويّ، ولمّا ذكر بعد ذلك ما أعدّه للمتقين أخّر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخرويّ، وختم بالرضوان. وكم في القرآن من مثل هذا العجب (6) إذا حضر له الذهن، وقرع له الذهن (7).
ومنه تقديم نفي الولد على نفي الوالد، في قوله [تعالى] (8) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (الإخلاص:
3) فإنه لما وقع في الأول منازعة الكفرة (9) وتقوّلهم اقتضت (10) الرتبة بالطبع تقديمه في الذكر، اعتناء به، قبل التنزيه عن الوالد الذي لم ينازع (11) فيه أحد من الأمم.
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (الثامن).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (المحبة بهم).
(4) في المخطوطة (المحبة).
(5) أخرجه البخاري في الصحيح 9/ 137، كتاب النكاح (67)، باب ما يتّقى من شؤم المرأة (17)،
الحديث (5096). ومسلم في الصحيح 4/ 2097، كتاب الرقاق (48)، باب أكثر أهل الجنة الفقراء (26)، الحديث (97/ 2740)، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(6) في المخطوطة (التعجب).
(7) عبارة في المخطوطة (وفرغ له الفهم).
(8) ليست في المطبوعة.
(9) في المخطوطة (الكفر).
(10) في المخطوطة (اقتضاء).
(11) في المخطوطة (يزاع).(3/342)
العشرون (1)
التخويف منه
كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 105)، ونظائره السابقة في الثامن.
الحادي والعشرون (2) 3/ 373 التعجيب (3) من شأنه.
كقوله تعالى: {وَسَخَّرْنََا مَعَ دََاوُدَ الْجِبََالَ يُسَبِّحْنَ [وَالطَّيْرَ]} (4) (الأنبياء: 79).
قال الزمخشريّ (5): «قدم الجبال على الطير لأن تسخيرها له وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة، وأدخل في الإعجاز لأنها جماد، والطير حيوان ناطق».
قال ابن النحاس (6): وليس مراد الزمخشريّ ب «ناطق» ما يراد به في حدّ الإنسان.
الثاني (7) والعشرون كونه أدلّ على القدرة
كقوله [تعالى] (8): {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ} (النور: 45).
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (التاسع عشر).
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (العشرون).
(3) في المخطوطة (التعجب).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) الكشاف 3/ 17.
(6) هو محمد بن إبراهيم بن محمد بهاء الدين ابن النحاس، النحوي، أخذ العربية عن ابن عمرون والقراءات عن الكمال الضرير، والحديث من ابن اللّتي وابن يعيش وهو شيخ الديار المصرية في علم اللسان والمنطق من تصانيفه «شرح المقرب» لابن عصفور ت 698هـ (السيوطي، بغية الوعاة 1/ 13).
(7) في المخطوطة (الحادي).
(8) ليست في المخطوطة.(3/343)
والثالث (1) والعشرون قصد الترتيب
كما في آية الوضوء، فإن إدخال المسح بين الغسلين، وقطع النظر عن النظير مع مراعاة ذلك في لسانهم، دليل على قصد الترتيب.
3/ 274وكذلك (2) البداءة في الصفا بالسعي. ومثله الكفارة المرتبة في الظهار والقتل.
وهنا قاعدة ذكرها أصحابنا، وهي أن الكفارة [213/ أ] المرتبة بدأ الله فيها بالأغلظ، والمخيّرة بدأ فيها بالأخفّ، كما في كفارة اليمين، ولهذا حملوا آية المحاربة في قوله (3):
{إِنَّمََا جَزََاءُ الَّذِينَ يُحََارِبُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسََاداً أَنْ يُقَتَّلُوا}
(المائدة: 33)، الآية على الترتيب لا التخيير لأنه بدأ فيها بالأغلظ طردا للقاعدة، خلافا لمالك حيث جعلها على التخيير.
الرابع (4) والعشرون خفة اللفظ
كما في قولهم: ربيعة ومضر [مع أنّ مضر] (5) أشرف لكون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهم، لأنهم لو قدّموا مضر لتوالى حركات كثيرة، وذلك يثقل (6)، فإذا قدّموا ربيعة ووقفوا على مضر، بسكون الراء، نقص الثّقل لقلة الحركات المتوالية.
وقد يكون تقديم الإنس على الجنّ من ذلك فالإنس [أخفّ] (7) لمكان النون والسين المهموسة.
الخامس (8) والعشرون رعاية (9) الفواصل
كتأخير الغفور في قوله: {لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (الحج: 60)، وقوله {وَكََانَ رَسُولًا نَبِيًّا}
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (الثاني).
(2) في المخطوطة (وكذا).
(3) في المخطوطة (كقوله).
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (الثالث).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) في المخطوطة (مستثقل).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) تصحفت في المخطوطة إلى (الرابع).
(9) في المخطوطة (لرعاية).(3/344)
(مريم: 54)، وإن كانت القاعدة في علم البيان تأخير ما هو الأبلغ، فإنه يقال: عالم 3/ 275 نحرير، وشجاع باسل، وسبق له نظائر.
وكقوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * [ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ]} [1] (الحاقة: 3130)، ولو قال:
صلّوه الجحيم لأفاد المعنى، ولكن يفوت الجمع.
وقيل: فائدته الاختصاص.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} (النحل: 114)، فقدم «إياه» على «تعبدون» لمشاكلة رءوس الآي.
تنبيه
قد يكون في كلّ واحد مما ذكرنا من الأمثلة سببان فأكثر للتقديم، فإمّا أن يعتقد إعادة (2)
الكلّ، أو يرجح بعضها لكونه أهمّ في ذلك المحلّ. وإن كانت الأخرى أهمّ (3) في محلّ (4)
آخر. وإذا تعارضت (5) الأسباب روعي أقواها، فإن تساوت كان المتكلم بالخيار في تقديم أيّ الأمرين شاء.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (إرادة).
(3) في المخطوطة (لهم).
(4) في المخطوطة (حد).
(5) في المخطوطة (تعارض).(3/345)
النوع الثاني مما قدم النية (1) به التأخير
فمنه ما يدل على ذلك (2) الإعراب، كتقديم المفعول على الفاعل في نحو قوله [له] (3): {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ} (فاطر: 28)، و {لَنْ يَنََالَ اللََّهَ لُحُومُهََا 3/ 276وَلََا دِمََاؤُهََا} (الحج: 37)، {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ [بِكَلِمََاتٍ]} [4] (البقرة: 124).
ونحوه ممّا يجب في الصناعة النحوية كذلك (5)، ولكن [ذلك] (6) لقصد (7) الحصر كتقديم المفعول. كقوله (8): {أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [أَيُّهَا الْجََاهِلُونَ]} [9] (الزمر:
64). [{قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ}] (10) (الزمر: 14).
وكتقديم الخبر على المبتدأ في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللََّهِ}
(الحشر: 2) ولو قال «وظنوا أنّ حصونهم ما نعتهم» لما أشعر بزيادة وثوقهم بمنعها إياهم.
وكذا (11): {أَرََاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي [يََا إِبْرََاهِيمُ]} [12] (مريم: 46)، ولو قال: «أأنت (13) راغب عنها»؟ ما أفادت زيادة الإنكار على إبراهيم.
وكذلك: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذََا هِيَ شََاخِصَةٌ} [14] [أَبْصََارُ الَّذِينَ كَفَرُوا
(الأنبياء: 97) ولم يقل: «فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة»] (14)، وكان يستغني عن الضمير، لأن هذا لا يفيد اختصاص الذين كفروا بالشخوص.
__________
(1) في المخطوطة (والنية).
(2) في المخطوطة (عليه) بدل (على ذلك).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (ذلك).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (القصد به).
(8) في المخطوطة (لقوله).
(9) تمام الآية ليس في المطبوعة.
(10) الآية ليست في المخطوطة.
(11) في المخطوطة (وكذلك).
(12) ليست في المطبوعة.
(13) في المخطوطة (أنت).
(14) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/346)
ومنه ما يدلّ على (1) المعنى، كقوله [تعالى] (2): {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا}
(البقرة: 72)، قال البغويّ (3): هذا أول القصة، وإن كانت مؤخّرة في التلاوة.
وقال الواحدي (4): كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة، وإنما أخّر في الكلام لأنه سبحانه لما قال: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ} (البقرة: 67) الآية علم المخاطبون أنّ البقرة لا تذبح إلا للدلالة (5) على قاتل خفيت عينه عليهم، فلما استقرّ [علم] (6) هذا في نفوسهم أتبع بقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا} (البقرة: 72) (7) [على جهة التوكيد، لا أنه عرّفهم الاختلاف في القاتل بعد أنّ دلّهم على ذبح البقرة. وقيل: إنه من المؤخر الذي يراد به التقدم، وتأويله: وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها] (7) فسألتم (9) موسى فقال [لكم] (10): {إِنَّ 3/ 277 اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة: 67).
وأما الزمخشري (11) ففي كلامه ما يدلّ على أن إيرادها إنما كان يتأتّى على الوجه الواقع في القرآن، لمعنى حسن لطيف استخرجه وأبداه.
ومنه قوله [213/ ب] تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ} (الجاثية: 23)، وأصل الكلام: «هواه إلهه»، كما تقول: اتخذ الصنم معبودا، لكن قدّم المفعول الثاني على الأول للعناية، كما تقول: علمت منطلقا زيدا، لفضل عنايتك بانطلاقه.
ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ} (الكهف: 1) الآية، أي أنزله قيّما ولم يجعل له عوجا. قاله جماعة منهم الواحديّ.
وردّه فخر الدين في (12) «تفسيره» بأن قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً * قَيِّماً} (الكهف:
__________
(1) في المخطوطة (عليه).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) هو الحسين بن مسعود الفراء البغوي وانظر تفسيره 1/ 84.
(4) هو علي بن أحمد تقدم التعريف به في 1/ 105.
(5) في المخطوطة (لدلالة).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (فسألهم).
(10) ليست في المخطوطة.
(11) الكشاف 3/ 277.
(12) انظر التفسير الكبير 21/ 75البحث الثالث من المسألة الثالثة من مسائل الآية بتصرف.(3/347)
21)، معناه أنّه كامل في ذاته، وأن «قيّما»، معناه أنه مكمّل لغيره، (1) وكونه كاملا في ذاته، سابق على كونه مكمّلا (1) لغيره لأن معنى كونه «قيّما (3)» [أنه قائم] (4) بمصالح الغير. قال: فثبت بالبرهان العقليّ أن الترتيب الصحيح ما ذكر (5) في الآية، وما ذكر من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه. انتهى.
وهذا فهم عجيب من الإمام، لأنّ القائل بالتقديم والتأخير لا يقول بأن كونه غير ذي عوج متأخّر عن كونه «قيّما» في المعنى، وإنما الكلام في ترتيب اللفظ لأجل الإعراب. وقد يكون أحد المعنيين ثابتا قبل الآخر ويذكر بعده.
وأيضا فإن هذا البحث إنّما هو على تفسير القيم بالمستقيم، فأما إذا فسّر بالقيام على غيره فلا نسلّم أنّ [هذا] (6) القائل يقول بالتقديم والتأخير، وهاهنا أمران:
* * * 3/ 278أحدهما: أنّ الأظهر جعل هذه الجملة أعني قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً * قَيِّماً} (الكهف: 1 2) من جملة صلة «الذي» وتمامها، وعلى هذا (7) لا موضع لها من الإعراب لوجهين: أحدهما أنها في حيّز الصلة لأنها معطوفة عليها. والثاني أنها اعتراض بين الحال وعاملها. ويجوز في الجملة المذكورة أن يكون موضعها النصب على أنها حال من «الكتاب» والعامل فيها «أنزل».
قاله جماعة، وفيه نظر.
وأما قوله: «قيّما» فيجوز في نصبه وجوه:
أحدها وهو قول الأكثر أنّه منصوب على الحال من «الكتاب» والعامل فيه «أنزل»، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره (8): «الحمد لله الّذي أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا» فتكون الجملة على هذا اعتراضا.
__________
(1) عبارة المخطوطة (وأنه مكمل في ذاته شأن على كونه مكمل).
(3) في المخطوطة (قائما).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (ذكره).
(6) ساقطة من المطبوعة.
(7) في المخطوطة (وهذه) بدل (وعلى هذا).
(8) في المخطوطة (تقديره).(3/348)
والثاني أن يكون منصوبا بفعل (1) [مقدّر، وتقديره: «ولكن جعله قيما»، فيكون مفعولا للفعل المقدّر.
والثالث: أن يكون حالا] (1) من الضمير في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً * [قَيِّماً]} [3]
(الكهف: 21) وتكون حالا مؤكدة (4).
واختار صاحب «الكشاف» (5) أن يكون «قيّما» مفعولا لفعل مقدّر كما ذكرناه (6) لأن الجملة التي قبلها عنده معطوفة على الصلة، و «قيّما» من تمام الصلة، وإذا كان حالا يكون (7) فيه فصل بين بعض الصلة وتمامها، فكان الأحسن جعله معمولا لمقدر.
وقال جماعة منهم ابن المنيّر (8) في «تفسير البحر» بعد نقله كلام الزمخشري: وعجيب من كونه لم يجعل الفاصل المذكور حالا أيضا، ولا فصل، بل هما حالان متواليان من شيء واحد والتقدير: أنزل الكتاب غير معوجّ.
وهذا القول وهو جعل الجملة حالا قد ذكره جماعة قبل ابن المنيّر. والظاهر أن (9) 3/ 279 (10) [الزمخشريّ لم يرتض هذا القول، لأنّ جعل الجملة حالا لا يفيده ما يفيد العطف، من نفي العوج عن الكتاب مطلقا، غير مقيد] (10) بالإنزال وهو المقصود. فالفائدة التي هي أتمّ إنما تكون على تقدير استقلال الجملة، كيف والقول بالتقديم والتأخير منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما نقله الطبري (12) وغيره.
وقال الواحدي (13): هو قول جميع أهل [214/ أ] اللغة والتفسير. والزمخشريّ ربما (14) لاحظ هذا المعنى، ولم يمنع جواز غير (15) ما قال، لكنّ ما قال هو الأحسن.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) زيادة في المخطوطة بعد هذا الموضع وهي (من قوله {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً}).
(5) الكشاف 2/ 379. بتصرف.
(6) في المخطوطة (ذكرنا).
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (لا يكون).
(8) هو أحمد بن محمد بن منصور الجذامي تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 176.
(9) في المخطوطة (أنه).
(10) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(12) انظر تفسيره جامع البيان 15/ 127126.
(13) هو علي بن أحمد الواحدي تقدم التعريف به في 1/ 105.
(14) في المخطوطة (ولما).
(15) في المخطوطة (غيرها).(3/349)
وقال غير ابن المنيّر في الاعتراض على الزمخشريّ: إن الجملة وإن كانت مستقلّة (1)
فهي في حيّز الصلة للعطف، فلم يقع فصل، ويؤيد ما ذكره صاحب «الكشاف» أنّ بعض القراء يسكت عند قوله: «عوجا» ويفصل بينه وبين «قيّما» بسكتة لطيفة، وهي رواية حفص (2) عن عاصم، وذلك يحتمل أن يكون لما ذكرنا من تقدير الفصل وانقطاع الكلام عمّا قبله.
قال ابن المنيّر: وتحتمل السكتة وجها آخر، وهو أن يكون ذلك لرفع توهّم أن [يكون] (3) «قيما» نعتا للعوج لأن النكرة تستدعي النعت غالبا، وقد كثر في كلامهم (4)
إيلاء النكرة الجامدة نعتها، كقوله: {صِرََاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء: 68)، و {قُرْآناً عَرَبِيًّا} (يوسف: 2)، فإذا ولي (5) النكرة الجامدة اسم مشتق نكرة ظهر فيه معنى الوصف، فربما خيف اللبس في جعل «قيّما» نعتا ل «عوج» فوقع اللبس بهذه السكتة.
وهذا أيضا فيه نظر، لأن ذلك إنما يتوهم [فيما] (6) يصلح أن يكون وصفا، ولا يصلح [«قيما»] (6) أن يكون وصفا ل «عوج» فإنّ الشيء لا يوصف بضده لأن العوج (8) لا يكون قيما، والأولى ما ذكرناه أولا.
3/ 280الثاني: نقل الإمام (9) عن بعضهم أن «قيّما» بدل من قوله: «عوجا»، وهو مشكل، لأنه لا يظهر له وجه.
* * * وقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهََا} (يوسف: 24)، قيل: التقدير: لقد همّت
__________
(1) في المخطوطة (مستقبلة).
(2) انظر التيسير: 142.
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (كلامهم في).
(5) في المخطوطة (أولى).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (المعوج).
(9) هو الفخر الرازي، وانظر تفسيره 21/ 7675. الوجه الثالث من البحث الرابع من المسألة الثالثة من مسائل الآية.(3/350)
به لولا أن رأى برهان ربه وهمّ بها. وهذا أحسن لكن في تأويله قلق، ولا يحتاج إلى هذا التأويل إلّا على قول من قال: إنّ الصغائر يجوز وقوعها منهم.
وقوله: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنََاهََا بِإِسْحََاقَ} (هود: 71) قيل: أصله: فبشرناها [بإسحاق] (1) فضحكت. وقيل: ضحكت أي حاضت بعد الكبر عند البشرى، فعادت إلى عادات النساء من الحيض والحمل والولادة.
وقوله [تعالى] (2): {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهََا} (الكهف: 79)، قدّم على ما بعده، وهو مؤخّر عنه في المعنى لأنّ ذلك يحصل للتوافق.
وقوله: {فَجَعَلَهُ غُثََاءً أَحْوى ََ} (الأعلى: 5)، [أي أحوى غثاء] (3)، أي أخضر، يميل إلى السواد، والموجب لتأخير {أَحْوى ََ} (الأعلى: 5) رعاية الفواصل.
وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً} (آل عمران: 85)، قال ابن برهان النحوي (4): أصله: (5) ومن يبتغ دينا غير الإسلام (5).
وقوله: {وَغَرََابِيبُ سُودٌ} (فاطر: 27)، قال أبو عبيد (7): الغربيب: الشديد السواد، ففي الكلام تقديم وتأخير. وقال صاحب (8) «العجائب والغرائب»: قال ابن عيسى (9):
الغربيب: الذي لونه لون الغراب، فصار كأنه غراب. قال: والغراب يكون أسود وغير أسود، 3/ 281 وعلى هذا فلا تقديم ولا تأخير فيه.
وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنََا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} (الأنبياء: 105) على قول من يقول: إنّ الذّكر هنا القرآن.
وقوله: {حَتََّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى ََ أَهْلِهََا} (النور: 27).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) العبارة ليست في المخطوطة.
(4) هو أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان تقدم التعريف به في 2/ 208.
(5) تصحفت في المخطوطة تكرارا {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً}.
(7) هو القاسم بن سلام تقدم في 1/ 119.
(8) هو برهان الدين محمود بن حمزة بن نصر الكرماني تقدم التعريف به في 1/ 206وبكتابه في 1/ 254.
(9) هو علي بن عيسى الرمّاني تقدم في 1/ 111.(3/351)
وقوله: {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (القمر: 1).
وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهََا} (الشمس: 14) أي فعقروها ثم كذبوه في عقرها وفي إجابتهم.
وقوله: {ثُمَّ قَضى ََ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (الأنعام: 2) [تقديره: ثم قضى أجلا وعنده أجل مسمى] (1)، أي وقت مؤقت.
وقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثََانِ} (الحج: 30) أي الأوثان من الرجس.
{هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف: 154)، أي يرهبون ربهم (2).
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ} (المؤمنون: 5)، أي الذين هم حافظون لفروجهم.
{فَلََا تَحْسَبَنَّ اللََّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} (إبراهيم: 47) أي مخلف رسله وعده.
{بَلِ الْإِنْسََانُ عَلى ََ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (القيامة: 14)، أي بل الإنسان بصير (3) على نفسه في شهود جوارحه عليه.
[214/ ب] {خُلِقَ الْإِنْسََانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37) [أي] (4) خلق العجل من الإنسان.
3/ 282 {وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكََانَ لِزََاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} (طه: 129)، أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمّى لكان العذاب لازما (5) لهم.
{أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الفرقان: 45)، [أي] (6) كيف مدّه ربك.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 8) أي لشديد لحبّ الخير.
{وَكَذََلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ} (الأنعام: 137) أي زيّن للمشركين شركاؤهم قتل أولادهم لأن الشياطين كانوا يحسّنون لهم قتل بناتهم خشية العار.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (لربهم).
(3) في المخطوطة (بصيرة).
(4) ساقطة من المطبوعة.
(5) في المخطوطة (لزاما).
(6) ساقطة من المخطوطة.(3/352)
وقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [1] [لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطََانَ إِلََّا قَلِيلًا (النساء: 83) تقديره لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم] (1).
وقوله: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهََا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} (التوبة: 55)، أي فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذّبهم بها في الآخرة.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} (إبراهيم:
18)، [تقديره] (3): مثل [أعمال] (4) الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلََّا رَبَّ الْعََالَمِينَ} (الشعراء: 77)، أي فأنا عدوّ آلهتهم وأصنامهم، وكلّ معبود يعبدونه من دون الله.
وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ وَأُخِذُوا} (سبأ: 51)، أي فزعوا [وأخذوا] (5)، فلا فوت، [لأن الفوت] (5) يكون بعد الأخذ.
وقوله: {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ الْغََاشِيَةِ} (الغاشية: 1)، يعني القيامة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خََاشِعَةٌ} (الغاشية: 2) وذلك يوم القيامة. ثم قال: {عََامِلَةٌ نََاصِبَةٌ} (الغاشية: 3)، 3/ 283 والنصب والعمل يكونان في الدنيا، فكأنه على التقديم والتأخير (7)، معناه: وجوه عاملة ناصبة [في الدنيا] (8) ويوم القيامة خاشعة، والدليل عليه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاعِمَةٌ} (الغاشية:
8).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنََادَوْنَ لَمَقْتُ اللََّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمََانِ فَتَكْفُرُونَ} (غافر: 10)، تقديره: لمقت الله إياكم في الدنيا حين دعيتم إلى (9) الإيمان فكفرتم، ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم إذ دعيتم إلى النار (10).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة، وقد تصحفت عبارة المخطوطة تكرارا كما يلي (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا، تقديره لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته وقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته). وما صوبناه من معاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/ 8483وإعراب القرآن للنحاس 1/ 475.
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (التقدير) بدل (التقديم والتأخير).
(8) ليست في المطبوعة.
(9) تصحفت في المطبوعة إلى (إلا).
(10) في المخطوطة (الجبار) وفيها زيادة عبارة (وعند علي ما كان منكم).(3/353)
وقوله: {حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة:
187)، لأن الفجر ليس له سواد (1)، والتقدير (2): حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض (3) من الفجر من الخيط الأسود من الليل أي [حتى] (4) يتبين لكم بياض (5) الصبح من بقية سواد الليل.
وقوله: {وَلَئِنْ أَصََابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللََّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} (النساء:
73).
وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ} (النساء: 73) منظوم بقوله: {قََالَ قَدْ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيَّ}
(النساء: 72)، لأنه موضع الشماتة.
وقوله: {وَقََالَ اللََّهُ لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ} (النحل: 51)، [أي اثنين إلهين] (6)، لأن اتخاذ اثنين يقع على ما يجوز وما لا يجوز، و «إلهين» لا يقع إلا على ما لا يجوز، ف «إلهين» أخصّ، فكان جعله صفة أولى.
__________
(1) في المخطوطة (أسود).
(2) في المخطوطة (فالتقدير).
(3) عبارة المخطوطة فيها زيادة كلمة (الأبيض أعمالكم من الفجر).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (مولد).
(6) العبارة ليست في المخطوطة.(3/354)
النوع الثالث ما قدّم في آية وأخّر في أخرى
فمن ذلك قوله في فاتحة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلََّهِ} (الفاتحة: 2) وفي خاتمة [الجاثية] (1) {فَلِلََّهِ الْحَمْدُ} (الآية: 36)، [فتقديم «الحمد»] (1) في الأول (3) جاء على الأصل، والثاني على تقدير الجواب، فكأنه قيل عند وقوع الأمر: لمن الحمد؟ ومن أهله؟ فجاء الجواب على ذلك، نظيره: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} (غافر: 16)، ثم قال:
{لِلََّهِ الْوََاحِدِ الْقَهََّارِ} (غافر: 16).
و [وقوله] (4) في سورة يس: {وَجََاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ََ} (الآية: 20)، قدّم المجرور على المرفوع، لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل، وإصرارهم على تكذيبهم، فكان مظنّة التتابع على مجرى العبارة، تلك القرية، ويبقى مخيّلا [215/ أ] في فكره: أكانت (5) كلّها كذلك، أم كان فيها (6) [فنطر أن أفاض] (6) على خلاف ذلك، بخلاف ما في سورة القصص.
ومنها قوله في سورة النمل: {لَقَدْ وُعِدْنََا هََذََا نَحْنُ وَآبََاؤُنََا} [8] [مِنْ قَبْلُ (الآية: 68)، وفي سورة المؤمنين: {لَقَدْ وُعِدْنََا نَحْنُ وَآبََاؤُنََا]} [8] هََذََا [مِنْ قَبْلُ] (8) (المؤمنون:
83)، فإنّ ما قبل الأولى {أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا} (النمل: 67)، وما قبل الثانية: {أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً}، (المؤمنون: 82) [فالجهة] (8) المنظور فيها هناك كون أنفسهم وآبائهم ترابا، والجهة المنظور فيها [هنا] (8) كونهم ترابا وعظاما، ولا شبهة أنّ (13) الأولى أدخل عندهم في تبعيد (14)
البعث.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (الأولى).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (لما كانت).
(6) العبارة مضطربة وهي ساقطة من المطبوعة.
(8) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(13) في المخطوطة (والأشبه في) بدل (ولا شبهة أن).
(14) في المخطوطة (توعيد).(3/355)
3/ 285ومنها قوله في سورة المؤمنين: {وَقََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الآية: 33)، فقدّم المجرور على الوصف لأنه لو أخبر عنه وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل عليه الموصوف (1)، وتمامه: {وَأَتْرَفْنََاهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} (المؤمنون:
33) لاحتمل أن يكون من نعيم الدنيا. واشتبه الأمر في القائلين: أهم من قومه، أم لا؟
بخلاف قوله في موضع آخر منها: {فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} (المؤمنون: 24) فإنه جاء على الأصل.
ومنها قوله في سورة طه: {آمَنََّا بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ} (طه: 70). بخلاف قوله في سورة الشعراء: {رَبِّ مُوسى ََ وَهََارُونَ} (الشعراء: 48).
ومنها قوله: {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ [مِنْ إِمْلََاقٍ]} [2] نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيََّاهُمْ (الأنعام:
151)، وقال في سورة الإسراء: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيََّاكُمْ} (الإسراء: 31)، قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية، لأنّ الخطاب في الأولى في الفقراء، بدليل قوله: {مِنْ إِمْلََاقٍ} (الأنعام: 151)، فكان رزقهم عندهم أهمّ من رزق أولادهم، (3) [فقدّم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم، والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل {خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ}
(الإسراء: 31) فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع، فكان رزق أولادهم] (3) هو المطلوب، دون رزقهم، لأنّه حاصل، فكان أهمّ، فقدّم الوعد (5) [برزق أولادهم على الوعد] (5) برزقهم.
ومنها ذكر الله في أواخر سورة الملائكة: {إِنَّ اللََّهَ عََالِمُ غَيْبِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ}
(فاطر: 38)، فقدّم ذكر السموات لأن معلوماتها أكثر، فكان تقديمها أدلّ على صفة العالمية، ثم قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكََاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ} [7] مِنْ دُونِ اللََّهِ أَرُونِي مََا ذََا خَلَقُوا مِنَ 3/ 286الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمََاوََاتِ (فاطر: 40) فبدأ بذكر الأرض، لأنه في سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة، وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير فبدأ بالأرض
__________
(1) في المخطوطة (الموصول).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة وكتب عوضا عنها (وفي الثانية رزق أولادهم).
(5) العبارة ليست في المخطوطة.
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (تزعمون).(3/356)
مبالغة في بيان عجزهم لأن من عجز عن أيسر الأمرين كان عن أعظمهما (1) أعجز، ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللََّهَ يُمْسِكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولََا} (فاطر: 41)، فقدّم السموات تنبيها على عظم قدرته سبحانه لأنّ خلقها أكبر من خلق الأرض، كما صرّح به في سورة المؤمن ومن قدر على إمساك الأعظم كان على إمساك الأصغر أقدر.
فإن قلت: فهلّا اكتفى [به] (2) عن (3) ذكر الأرض بهذا التنبيه البيّن، الذي لا يشكّ فيه أحد! قلت: أراد ذكرها مطابقة لأنه على كلّ حال أظهر وأبين فانظر أيها العاقل حكمة القرآن، وما أودعه من البيان والتبيان، تحمد عاقبة النظر، وتنتظر (4) خير منتظر!.
* * * ومن أنواعه أن يقدم (5) اللفظ في الآية ويتأخر فيها لقصد أن يقع البداءة والختم به، للاعتناء بشأنه، وذلك كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (آل عمران: 106).
وقوله: {وَإِذََا رَأَوْا تِجََارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهََا} (الجمعة: 11) إلى قوله:
{[قُلْ]} [6] مََا عِنْدَ اللََّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجََارَةِ (الجمعة: 11) وكذلك (7) قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مََا تُبْدُونَ} [215/ ب] {وَمََا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: 33) فإنه لولا ما أسلفناه، لقيل: (8) ما تكتمون وتبدون (8) لأنّ الوصف بعلمه أمدح، كما قيل: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} (الأنعام: 3)، و {عََالِمُ الْغَيْبِ 3/ 278 وَالشَّهََادَةِ} (الرعد: 9) {وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا تُسِرُّونَ وَمََا تُعْلِنُونَ} (النحل: 19).
__________
(1) في المخطوطة (من أعظمها).
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) في المطبوعة (من).
(4) في المخطوطة (وتنظر).
(5) في المخطوطة (تقدم).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (وكذا).
(8) في المخطوطة (ما تبدون وتكتمون).(3/357)
فإن قلت: فقد قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ََ} (طه: 7)، قلت: لأجل تناسب رءوس الآي.
ومنها أن يقع (1) التقديم في موضع والتأخير في آخر، واللفظ واحد، والقصة واحدة للتفنن في الفصاحة، وإخراج الكلام على عدة أساليب، كما في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} (البقرة: 58)، وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً}
(الأعراف: 161).
وقوله: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ} (البقرة: 7)، وقوله: {وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} (الجاثية: 23)، قال الزمخشريّ في «كشافه القديم (2)»: علم بذلك أنّ [كلا] (3) الطريقين (4) داخل تحت الحسن وذلك لأنّ العطف في المختلفين، كالتثنية في المتفقين، فلا عليك أن تقدّم (5) أيّهما شئت، فإنه حسن مؤدّ إلى الغرض. وقد قال سيبويه: ولم يجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه، بكونه (6) أولى [بها] (7) من الجائي (8) كأنك قلت: مررت بهما، يعني في قولك: مررت برجل وجاءني، إلّا أنّ الأحسن تقديم الأفضل، فالقلب رئيس الأعضاء، والمضغة لها الشأن، ثم السمع طريق إدراك وحي الله، وكلامه الذي قامت [به] (9) السماوات والأرض، وسائر العلوم التي هي الحياة كلها.
قلت: وقد سبق توجيه كل موضع بما ورد فيه من الحكمة.
3/ 288
القلب
وفي كونه من أساليب البلاغة خلاف، فأنكره جماعة، منهم حازم في (10) في كتاب «منهاج البلغاء» وقال: إنه مما يجب أن ينزّه كتاب الله عنه لأن العرب إن صدر ذلك منهم فبقصد (11) العبث أو التهكّم أو المحاكاة أو حال اضطرار، والله منزّه عن ذلك.
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى (أن لا يقع).
(2) تقدم التعريف بالكتاب في 1/ 105.
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (الطرفين).
(5) في المخطوطة (تعد).
(6) في المخطوطة (تكون).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (الجاري).
(9) ساقطة من المخطوطة.
(10) تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 155.
(11) في المخطوطة (فيقصد).(3/358)
وقبله جماعة مطلقا، بشرط عدم اللّبس كما قاله المبرّد في كتاب «ما اتفق لفظه واختلف معناه (1)».
وفصّل آخرون بين أن يتضمن اعتبارا لطيفا (2)، فبليغ وإلا فلا ولهذا قال ابن الضائع (3): يجوز القلب على التأويل، ثم قد يقرب التأويل فيصحّ في فصيح الكلام، وقد يبعد فيختص بالشعر.
وهو أنواع:
أحدها قلب الإسناد
وهو أن يشمل الإسناد إلى شيء والمراد غيره، كقوله تعالى: {[مََا إِنَ]} [4] مَفََاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ (القصص: 76)، إن لم تجعل الباء للتعدية لأن ظاهره أن المفاتح تنوء بالعصبة، ومعناه أنّ العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها، فأسند «لتنوأ» (5) [إلى] (6) «المفاتح»، والمراد إسناده إلى العصبة لأن الباء للحال والعصبة مستصحبة (7) المفاتح، لا تستصحبها (8) 3/ 289 المفاتح. وفائدته المبالغة، بجعل المفاتح كأنها مستتبعة للعصبة القوية بثقلها.
وقيل: لا قلب فيه (9)، والمراد والله أعلم أنّ المفاتح تنوء بالعصبة، أي تميلها من ثقلها. وقد ذكر هذا الفرّاء (10) وغيره.
وقال ابن عصفور (11): والصحيح ما ذهب إليه الفارسيّ أنّها بالنقل ولا قلب، والفعل غير متعدّ، فصار متعدّيا بالباء، لأن «ناء» غير متعدّ، يقال: ناء النجم، أي نهض، ويقال:
ناء، أي مال للسقوط. (12) [فإذا نقلت الفعل بالباء قلت: نؤت به، أي أنهضته وأملته للسقوط،] (12) فقوله: {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} (القصص: 76)، أي تميلها المفاتح للسقوط لثقلها.
__________
(1) تقدم الكلام عن الكتاب في 3/ 217، حذف المضاف.
(2) في المخطوطة (لفظيّا).
(3) في المخطوطة (الصائغ) وابن الضائع هو علي بن محمد، تقدم التعريف به في 2/ 364.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (لتوالي).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) في المخطوطة (مستحقة).
(8) في المخطوطة (لاستصحابها).
(9) في المخطوطة (عنه).
(10) انظر معاني القرآن 2/ 310.
(11) هو علي بن مؤمن بن محمد، تقدم ذكره في 1/ 466.
(12) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/359)
قال: وإنما كان مذهب الفارسيّ أصحّ، لأن نقل (1) الفعل غير المتعدي بالباء مقيس، والقلب غير مقيس، فحمل الآية على ما هو مقيس أولى.
ومنه [216/ أ] قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسََانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37)، أي خلق العجل من الإنسان. قاله ثعلب وابن السكيت (2).
قال الزجّاج (3): ويدلّ على ذلك [قوله تعالى] (4) {وَكََانَ} [5] الْإِنْسََانُ عَجُولًا
(الإسراء: 11).
قال ابن جنّي (6): «والأحسن أن يكون تقديره: خلق الإنسان من العجلة، لكثرة فعله إياه، واعتماده له، وهو أقوى في المعنى من القلب، لأنه أمر قد اطّرد واتسع، فحمله على القلب يبعد في الصنعة، ويضعف (7) المعنى. ولمّا خفي هذا على بعضهم قال: إنّ العجل هاهنا الطين، قال: ولعمري إنه في اللغة كما ذكر، غير أنه ليس هنا إلا نفس العجلة (8)
[والسرعة] (9)، ألا ترى إلى قوله عقبه: {سَأُرِيكُمْ آيََاتِي فَلََا تَسْتَعْجِلُونِ} (الأنبياء:
37)، ونظيره (10) قوله: {وَكََانَ الْإِنْسََانُ عَجُولًا} (الإسراء: 11)، {وَخُلِقَ الْإِنْسََانُ 3/ 290ضَعِيفاً} (النساء: 28) لأن العجلة ضرب من الضعف، لما تؤذن به الضرورة والحاجة.
وقيل في قوله: {وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} (ق: 19)، [أي] (11) إنه من المقلوب، وأنه (12) وجاءت سكرة الحق بالموت (13)، وهكذا في قراءة أبي بكر (14).
__________
(1) في المخطوطة (ثقل).
(2) هو يعقوب بن إسحاق تقدم التعريف به في 1/ 402.
(3) انظر معاني القرآن وإعرابه 3/ 392.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (وخلق).
(6) الخصائص 2/ 204. بتصرف.
(7) في المخطوطة (ويصغر).
(8) في المطبوعة (العجل) والتصويب من الخصائص والمخطوطة.
(9) ساقطة من المطبوعة.
(10) في المخطوطة (فنظيره).
(11) ساقطة من المخطوطة.
(12) في المخطوطة (القلوب أي).
(13) تصحفت في المخطوطة إلى (الموت بالحق).
(14) وهي قراءة أبي بكر الصديق وأبيّ رضي الله عنهما (ابن خالويه مختصر في شواذ القراءات: 144).(3/360)
ومثله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ} (الرعد: 38)، قال الفرّاء (1): أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجّل.
وقيل في قوله: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} (يونس: 107): هو من المقلوب (2)، أي يريد بك الخير، ويقال: أراده بالخير وأراد به الخير.
وجعل ابن الضائع (3) منه: {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ} (البقرة: 37)، قال: فآدم صلوات الله على نبينا وعليه هو المتلقّي للكلمات حقيقة، ويقرب أن ينسب التلقي للكلمات لأن من تلقّى شيئا، أو طلب أن يتلقّاه (4) فلقيه كان (5) الآخر [أيضا] (6) قد طلب ذلك لأنه قد لقيه (7)، قال: ولقرب هذا المعنى قرئ بالقلب (8).
وجعل الفارسيّ منه قوله تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} (هود: 28)، أي فعميتم (9)
عليها.
وقوله: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ الْأَرْضِ} (يونس: 24).
وقوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (مريم: 8)، {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} (آل عمران: 40)، [أي بلغت الكبر] (10).
وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ} (الجاثية: 23)، وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلََّا رَبَّ الْعََالَمِينَ} (الشعراء: 77) فإن الأصنام لا تعادي، وإنما المعنى: فإني (11) عدوّ لهم،
__________
(1) انظر معاني القرآن 2/ 6665.
(2) في المخطوطة (القلوب).
(3) في المخطوطة (ابن الصائغ)، وابن الضائع هو علي بن محمد، تقدم التعريف به في 2/ 364.
(4) في المخطوطة (يلقاه).
(5) في المخطوطة (فكان).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) عبارة المخطوطة (قد طلب لقيه).
(8) وهي قراءة ابن كثير (فتلقى آدم) بالنصب (كلمات) بالرفع والباقون برفع آدم، وكسر التاء في (كلمات) (التيسير: 73).
(9) في المخطوطة (فعميت).
(10) العبارة ساقطة من المخطوطة.
(11) في المخطوطة (فإنهم).(3/361)
مشتقّ من عدوت الشيء، إذا جاوزته (1) وخلفته، وهذا لا يكون إلا فيمن له إرادة، وأمّا «عاديته» فمفاعلة لا يكون إلا من اثنين.
وجعل منه بعضهم: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 8)، أي إنّ حبّه للخير لشديد.
وقيل: ليس منه، لأنّ المقصود منه أنه لحبّ المال [لبخيل] (2)، والشدة: البخل، أي من أجل حبّه للمال يبخل.
وجعل الزمخشريّ (3) منه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النََّارِ}
(الأحقاف: 20)، كقوله (4): عرضت النّاقة على الحوض، لأنّ المعروض ليس له اختيار، وإنما الاختيار للمعروض عليه فإنّه قد يفعل ويريد (5) وعلى هذا فلا قلب في الآية لأنّ الكفار مقهورون (6) فكأنهم لا اختيار لهم، والنار متصرفة فيهم، وهو كالمتاع الذي يقرب منه من يعرض عليه، كما قالوا: عرضت الجارية على البيع.
وقوله: {وَحَرَّمْنََا عَلَيْهِ الْمَرََاضِعَ مِنْ قَبْلُ} (القصص: 12)، ومعلوم أنّ التحريم لا يقع إلا على المكلّف، فالمعنى: وحرّمنا على المراضع أن ترضعه. ووجه تحريم إرضاعه عليهنّ ألّا يقبل إرضاعهنّ حتى يردّ إلى أمّه.
وقوله تعالى: {وَمََا يَخْدَعُونَ إِلََّا أَنْفُسَهُمْ} (7) (البقرة: 9)، وقيل: الأصل وما تخدعهم (8) إلّا أنفسهم، لأنّ الأنفس هي المخادعة والمسوّلة، قال تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} (يوسف: 18).
وردّ بأن الفاعل في مثل هذا هو المفعول في المعنى، وأنّ التغاير في اللفظ فقط، فعلى هذا يصحّ إسناد الفعل إلى كلّ منهما ولا حاجة إلى القلب.
__________
(1) في المخطوطة (جاورته).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) الكشاف 3/ 447.
(4) في المخطوطة (كقولك).
(5) في المخطوطة (يقبل ويدبر).
(6) في المخطوطة (يقهرون).
(7) وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمر والباقون بغير ألف «يخدعون» (التيسير: 72).
(8) في المخطوطة (يخادعهم).(3/362)
الثاني قلب المعطوف
إما بأن تجعل المعطوف [216/ ب] عليه معطوفا والمعطوف معطوفا عليه، كقوله تعالى: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مََا ذََا يَرْجِعُونَ} (النمل: 28) (1) [حقيقته: فانظر ماذا يرجعون] (1) ثم تولّ عنهم، لأنّ نظره (3)، ما يرجعون من القول غير متأتّ مع تولّيه عنهم.
وما يفسّر (4) به التولّي من أنه يتوارى في الكوّة التي ألقي منها الكتاب مجاز والحقيقة راجحة (5)
عليه.
وقوله: {ثُمَّ دَنََا فَتَدَلََّى} (النجم: 8)، [أي تدلّى] (6) فدنا [لأنه] (6) بالتدلّي، نال الدنوّ والقرب إلى المنزلة الرفيعة وإلى المكانة، لا إلى المكان.
وقيل: لا قلب، والمعنى: ثم أراد الدنوّ [فتدلى] (8)، وفي «صحيح البخاري»:
{فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} (النحل: 98) [إن] (9) المعنى فإذا استعذت فاقرأ (10).
وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا فَجََاءَهََا بَأْسُنََا} (الأعراف: 4)، وقال صاحب «الإيضاح» (11): لا قلب فيه لعدم تضمّنه اعتبارا لطيفا.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (لا نظير).
(4) في المخطوطة (يقربه).
(5) في المخطوطة (فالحقيقة راجعة).
(6) ليست في المخطوطة.
(8) ليست في المطبوعة.
(9) ليست في المخطوطة.
(10) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/ 384، كتاب التفسير (65)، تفسير سورة النحل (16).
(11) هو محمد بن عبد الرحمن جلال الدين القزويني تقدم التعريف به في 3/ 181، وكتابه «الإيضاح في علوم البلاغة» أو «الإيضاح في المعاني والبيان» كما في كشف الظنون أو «إيضاح المعاني والبيان» كما في النسخ الخطية في دار الكتب المصرية طبع في بولاق عام 1317هـ / 1899م، (معجم سركيس:
1509)، وطبع بتحقيق عبد المنعم خفاجي في القاهرة بمطبعة الحسين التجارية عام 1370هـ / 1950م (دليل المطبوعات المصرية: 114، 19561940) وصور بدار الكتاب اللبناني في بيروت عام 1400هـ / 1980م، وفي بيروت بدار الجيل (معاينة). وانظر قوله في كتابه: 47، القول في أصول المسند إليه.(3/363)
وردّ بتضمنه المبالغة في شدة سورة البأس يعني هلكت بمجرد توجّه الناس إليها، ثم جاءها.
الثالث العكس
العكس وهو أمر لفظيّ، كقوله [تعالى] (1): {مََا عَلَيْكَ مِنْ حِسََابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمََا مِنْ حِسََابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 52).
3/ 293وقوله: {هُنَّ لِبََاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبََاسٌ لَهُنَّ} (البقرة: 187).
{لََا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلََا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (الممتحنة: 10).
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ} (الحج: 61).
الرابع المستوى
وهو أنّ الكلمة أو الكلمات تقرأ من أوّلها إلى آخرها، ومن آخرها إلى أوّلها، لا يختلف لفظها ولا معناها، كقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر: 3).
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ} (الأنبياء: 33).
الخامس مقلوب البعض
وهو أن تكون الكلمة الثانية مركبة من حروف الكلمة الأولى، مع بقاء بعض حروف الكلمة الأولى، كقوله تعالى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرََائِيلَ} (طه: 94)، ف «بني» مركّب من حروف «بين» وهو مفرّق، إلا أن الباقي بعضها في الكلمتين، وهو أولها.
3/ 294
المدرج (2)
هذا النوع سمّيته بهذه التسمية، بنظير المدرج من الحديث، وحقيقته في أسلوب القرآن
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) لمعرفة المدرج في الحديث وأقسامه انظر مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: 45، النوع العشرون.(3/364)
أن تجيء الكلمة إلى جنب (1) أخرى كأنها في الظاهر معها، وهي في الحقيقة غير متعلّقة بها، كقوله تعالى ذاكرا عن بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 34) (2) [فقوله {وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ}] (2)، هو من قول الله لا من قول المرأة.
ومنه قوله تعالى: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ}
(يوسف: 51)، انتهى قول المرأة، ثم قال يوسف عليه السلام: {ذََلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (يوسف: 52)، معناه ليعلم الملك أني لم أخنه.
ومنه: {يََا وَيْلَنََا مَنْ بَعَثَنََا مِنْ مَرْقَدِنََا} (يس: 52)، [تمّ الكلام] (4)، فقالت (5)
الملائكة: {هََذََا مََا وَعَدَ الرَّحْمََنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (يس: 52).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذََا مَسَّهُمْ طََائِفٌ مِنَ الشَّيْطََانِ تَذَكَّرُوا فَإِذََا هُمْ مُبْصِرُونَ}
(الأعراف: 201) فهذه صفة لأتقياء المؤمنين، ثم قال: {[وَإِخْوََانُهُمْ]} [6] يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ (الأعراف: 202)، فهذا يرجع إلى كفار مكة تمدهم إخوانهم من الشياطين في الغيّ.
وقوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} (الشعراء: 35)، ثم أخبر عن 3/ 295 فرعون متّصلا: {فَمََا ذََا تَأْمُرُونَ} (الشعراء: 35).
وقوله: {هََذََا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لََا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صََالُوا النََّارِ} (ص: 59)، فالظاهر أنّ الكلام كلّه من كلام الزبانية، والأمر ليس كذلك.
وقوله: {إِذْ جََاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الصافات: 84) من كلامه تعالى، وقال: {إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: 89).
__________
(1) في المخطوطة (مقلوب).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (ثم قالت).
(6) ليست في المطبوعة.(3/365)
الترقي
كقوله تعالى: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255)، {لََا يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً} (الكهف: 49).
فإن قيل: فقد ورد: {فَلََا يَخََافُ ظُلْماً وَلََا هَضْماً} (طه: 112)، والغالب أن يقدّم [فيه] (1) القليل على الكثير مع أن الظّلم منع للحق من أصله، والهضم منع له من وجه كالتطفيف (2) فكان يناسبه تقديم الهضم.
قلت: لأجل فواصل الآي فإنه تقدم قبله: {وَقَدْ خََابَ مَنْ حَمَلَ} [217/ أ] {ظُلْماً}
(طه: 111)، فعدل عنه في الثاني، كيلا يكون أبطأ (3)، وقد سيقت أمثلة الترقّي في أسباب التقديم.
الاقتصاص
ذكره أبو الحسين بن فارس (4)، وهو أن يكون كلام في سورة مقتصّا [من كلام] (5) في سورة أخرى، أو في السورة نفسها، ومثّله بقوله تعالى: [{وَآتَيْنََاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيََا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصََّالِحِينَ} (العنكبوت: 27)، والآخرة دار ثواب لا عمل فيها، فهذا مقتصّ من قوله:] (5) {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصََّالِحََاتِ فَأُولََئِكَ لَهُمُ الدَّرَجََاتُ الْعُلى ََ} (طه:
75).
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلََا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (الصافات: 57)، مأخوذ من قوله تعالى: {فَأُولََئِكَ فِي الْعَذََابِ مُحْضَرُونَ} (الروم: 16).
وقوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (مريم: 68).
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (كالتصعيد).
(3) في المخطوطة (أيضا).
(4) هو أحمد بن فارس بن زكريا تقدم التعريف به في 1/ 191، وانظر قوله في كتابه الصاحبي ص 202201 باب من النظم الذي جاء في القرآن.
(5) ليست في المخطوطة.(3/366)
فأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهََادُ} (غافر: 51)، فيقال: إنها مقتصّة من أربع آيات لأنّ الأشهاد أربعة:
الملائكة عليهم السلام في قوله [تعالى]: {وَجََاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهََا سََائِقٌ وَشَهِيدٌ}
(ق: 21).
والأنبياء عليهم السلام لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذََا جِئْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنََا بِكَ عَلى ََ هََؤُلََاءِ شَهِيداً} (النساء: 41).
وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لقوله: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ}
(البقرة: 143).
والأعضاء لقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ}
(النور: 24).
ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنََادِ} (غافر: 32)، وقرئت مخففة ومثقلة، فمن شدد فهو [من] (1) «ندّ» إذا نفر وهو مقتصّ من قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [وَأُمِّهِ]} [2] (عبس: 3534) الآية، ومن خفّف فهو تفاعل من النداء، مقتصّ من قوله تعالى {وَنََادى ََ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ أَصْحََابَ النََّارِ} (الأعراف: 44).
الألغاز
واللّغز الطريق المنحرف، سمّي به لانحرافه عن نمط ظاهر الكلام، ويسمّى أيضا أحجيّة لأنّ الحجا هو العقل وهذا النوع يقوّي [العقل] (3) عند التمرّن والارتياض (4) بحلّه والفكر فيه.
وذكر بعضهم أنه وقع في القرآن العظيم، وجعل منه ما جاء في أوائل السّور من الحروف المفردة والمركّبة التي [جهل] (1) معناها، وحارت العقول في منتهاها.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) تصحّفت في المطبوعة إلى (الارتماض).(3/367)
ومنه قوله تعالى في قصة إبراهيم لما سئل عن كسر الأصنام وقيل له: أنت فعلته فقال:
{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذََا} (الأنبياء: 63)، قابلهم بهذه المعارضة ليقيم عليهم الحجة، ويوضّح لهم المحجة.
وكذلك قول نمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: 258)، أتى باثنين فقتل أحدهما، وأرسل الآخر، فإن هذا مغالطة.
الاستطراد
وهو التعريض بعيب انسان بذكر عيب غيره، كقوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسََاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنََا بِهِمْ} (إبراهيم: 45).
وكقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ} (فصلت: 13).
وقوله: {أَلََا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمََا بَعِدَتْ ثَمُودُ} (هود: 95).
الترديد
وهو أن يعلّق المتكلم لفظة من الكلام [بمعنى] (1) ثم يردّها بعينها، ويعلّقها بمعنى آخر، كقوله [تعالى]: {حَتََّى نُؤْتى ََ مِثْلَ مََا أُوتِيَ رُسُلُ اللََّهِ، اللََّهُ أَعْلَمُ} (الأنعام:
124)، الآية فإنّ الأول مضاف إليه، والثاني مبتدأ.
وقوله: {وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظََاهِراً مِنَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} (الروم:
76).
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ََ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجََالٌ}
(التوبة: 108).
وقد يحذف أحدها ويضمر، أولا يلاحظ (2) على الخلاف في قوله تعالى: {لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2).
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (يلحظ).(3/368)
التغليب
وحقيقته إعطاء الشيء حكم غيره. وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، أو إطلاق لفظة عليهما إجراء للمختلفين مجرى المتفقين.
[وهو أنواع:] (1)
الأول تغليب المذكّر
كقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة: 9) غلّب المذكر لأن الواو جامعة لأن لفظ الفعل مقتض، ولو أردت العطف امتنع.
وقوله: {وَكََانَتْ مِنَ الْقََانِتِينَ} (التحريم: 12).
وقوله: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ} (الأعراف: 83)، والأصل «من القانتات والغابرات» فعدّت الأنثى من المذكّر بحكم التغليب (2).
هكذا قالوا وهو عجيب فإنّ العرب [217/ ب] تقول: نحن من بني فلان لا تريد إلّا موالاتهم، والتصويب لطريقتهم وفي الحديث الصحيح في الأشعريين: «هم مني وأنا منهم» (3) فقوله سبحانه: {مِنَ الْقََانِتِينَ} (التحريم: 12) ولم يقل: «من القانتات» إيذانا بأن وضعها في العبّاد جدّا واجتهادا، وعلما وتبصّرا ورفعة من الله لدرجاتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم.
ونظيره، ولكن (4)
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) انظر مفتاح العلوم للسكاكي ص 242تقييد الفعل.
(3) أخرجه من رواية أبي عامر الأشعري رضي الله عنه، أحمد في المسند 4/ 129، والترمذي في السنن 5/ 731، كتاب المناقب (50)، باب مناقب ثقيف (74)، الحديث (3947)، والطبراني في الكبير، وأبو يعلى، والبغوي، ذكره المتقي الهندي في كنز العمال 12/ 58الحديث (33983)، والحاكم في المستدرك 2/ 138كتاب قسم الفيء، باب النهي عن بيع المغانم، وقال (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وبدايته «نعم الحيّ الأسد والأشعريون
(4) في المخطوطة (ولكن على العكس).(3/369)
بالعكس قول عقبة بن أبي معيط (1) لأميّة بن خلف (2) لما أجمع القعود عن وقعة بدر لأنه كان شيخا فجاء بمجمرة، فقال: يا أبا عليّ استجمر، فإنما أنت من النساء فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به! ثم تجهّز (3).
ونازع بعضهم في ذلك من وجه آخر، فقال: يحتمل ألا تكون «من» للتبعيض بل لابتداء الغاية، أي كانت ناشئة من القوم القانتين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليه السلام.
الثاني تغليب المتكلم على المخاطب والمخاطب على الغائب
فيقال: أنا وزيد (4) فعلنا، وأنت وزيد تفعلان. ومنه قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (النمل: 55)، بتاء الخطاب، غلّب جانب «أنتم» على جانب «قوم»، «والقياس أن يجيء بالياء لأنه وصف (5) القوم، وقوم اسم غيبة، ولكن حسن آخر الخطاب، وصفا ل «قوم» لوقوعه خبرا عن ضمير المخاطبين». قاله ابن الشجري (6).
ولو قيل: إنه حال ل {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خََاوِيَةً} (النمل: 52) لأنّ في ضمير الخطاب معنى الإشارة لملازمته لها، أو لمعناها لكان متجها وإن لم تساعده الصناعة، لكن يبعده أن المراد وصفهم بجهل (7) مستمر، لا مخصوص بحال الخطاب، ولم يقل «جاهلون»، إيذانا بأنهم يتجددون عند كل مصيبة لطلب آيات جهلهم.
__________
(1) هو عدو الله أبو الوليد عقبة بن أبي معيط، وكان من أشد الناس أذى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعداوة له وللمسلمين، وأسر عقبة ببدر فقتل صبرا وصلب، وهو أول مصلوب في الإسلام (ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 50).
(2) تقدم التعريف به في 1/ 251.
(3) انظر الخبر في الكامل في التاريخ 2/ 8281ذكر غزوة بدر الكبرى.
(4) في المخطوطة (أنا وأنت).
(5) في المخطوطة (صفة لقوم).
(6) هو هبة الله بن علي بن محمد العلوي تقدم التعريف به في 2/ 475، وانظر قوله في الأمالي الشجرية 1/ 2827المجلس الرابع باب يشتمل على تفسير أبيات إعرابا ومعنى. وانظر أيضا مفتاح العلوم للسكاكي ص 242تقييد الفعل.
(7) في المخطوطة (بوجه مستمر).(3/370)
وقال أبو البركات بن الأنباري (1): ولو قيل: إنما قال: {تَجْهَلُونَ} (النمل: 52) [بالتاء لأن «قوم» هو «أنتم» في المعنى فلذلك، قال: «تجهلون»] (2) حملا على المعنى لكان حسنا، ونظيره قوله: أنا الذي سمّتني أمّي حيدرة (3)
بالياء حملا على «أنا» لأن «الذي» هو «أنا» في المعنى.
ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ وَمَنْ تََابَ مَعَكَ} (هود: 112)، غلّب فيه جانب «أنت» على جانب «من» فأسند إليه الفعل، وكان تقديره: فاستقيموا، فغلّب الخطاب على الغيبة، لأن حرف العطف فصل بين المسند إليهم الفعل، فصار كما ترى. قال صاحب «الكشاف» «تقديره فاستقم كما أمرت وليستقم كذلك من تاب معك» (4).
وما قلنا أقل تقديرا من هذا فاختر أيّهما شئت.
وقوله تعالى: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزََاؤُكُمْ} (الإسراء: 63)، فأعاد الضمير بلفظ الخطاب، وإن كان «من تبعك» يقتضي الغيبة، تغليبا للمخاطب وجعل الغائب تبعا (5) له، كما كان تبعا له في المعصية والعقوبة، فحسن أن يجعل تبعا له في اللفظ، وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى.
وكقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)، فإنّ الخطاب في {لَعَلَّكُمْ} (البقرة: 21) متعلق بقوله:
__________
(1) هو عبد الرحمن بن أبي الوفاء محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد الأنباري الملقب كمال الدين، النحوي كان من الأئمة المشار إليهم في النحو، سكن بغداد من صباه إلى أن مات، وصنف في النحو وكتبه كلها نافعة، وكانت ولادته سنة (513) هـ وتوفي سنة (577) هـ (ابن خلكان، وفيات الأعيان 3/ 139).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) قاله سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر حين خرج لمبارزة اليهودي مرحب، وتمامه:
أنا الذي سمّتني أمي حيدرة ... كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندرة ذكره ابن الشجري في الأمالي الشجرية 2/ 152في المجلس الموفي الستين، وذكره المحب الطبري في الرياض النضرة 3/ 149ذكر اختصاصه بإعطائه الراية يوم خيبر وبفتحها.
(4) ذكره الزمخشري في الكشاف 2/ 237236تفسير الآية 112من سورة هود.
(5) في المخطوطة (وجعل الغائب تغليبا له) والصواب ما في المطبوعة.(3/371)
{خَلَقَكُمْ} (البقرة: 21) لا بقوله: {اعْبُدُوا} (البقرة: 21) حتى يختص بالناس المخاطبين، إذ لا معنى لقوله: «اعبدوا لعلكم تتقون».
ومنه قوله تعالى: {[وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ]} [1] عَمََّا تَعْمَلُونَ (هود: 123)، فيمن قرأ بالتاء. ويجوز أن يكون المراد ب «ما تعملون» الخلق كلهم، والمخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم (2) وكلّ سامع أبدا، فيكون تغليبا، ولا يجوز أن يعتبر (3) خطاب من سواه بدونه من غير اعتبار التغليب، لامتناع (4) أن يخاطب [218/ أ] في كلام واحد اثنان أو أكثر من غير عطف أو تثنية أو جمع.
ومنه قوله [تعالى] (5)
الثالث تغليب العاقل على غيره
بأن يتقدم لفظ يعم من يعقل ومن لا يعقل فيطلق اللفظ المختص بالعاقل على الجميع، كما تقول: «خلق الله الناس والأنعام ورزقهم»، فإن لفظ «هم» مختصّ بالعقلاء. [ومنه قوله تعالى] (6): {وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ} (النور: 45)، لمّا تقدم لفظ الدابة، والمراد بها عموم من يعقل ومن لا يعقل غلّب من يعقل، فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي} (النور: 45).
فإن قيل: هذا صحيح في «فمنهم» لأنّه لمن يعقل وهو راجع إلى الجميع، فلم قال:
«من» وهو لا يقع على العامّ، بل خاصّ بالعاقل؟
قلت: «من» هنا بعض «هم» وهو ضمير من يعقل.
فإن قلت: فكيف يقع على بعضه لفظ ما لا يعقل؟
قلت: «من» هنا قال أبو عثمان (7): إنه تغليب من غير عموم لفظ متقدّم، فهو بمنزلة من يقول: رأيت ثلاثة: زيدا وعمرا وحمارا.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) انظر مفتاح العلوم للسكاكي ص 242تقييد الفعل.
(3) في المخطوطة (أن يعتبر من خطاب من سواه).
(4) في المطبوعة (الامتنان) والصواب ما في المخطوطة.
(5) كذا في المطبوعة والمخطوطة، الكلام مبتور.
(6) ليست في المخطوطة.
(7) هو بكر بن محمد بن بقية أبو عثمان المازني، تقدم التعريف به في 2/ 365.(3/372)
وقال ابن الضائع (1): «هم» لا تقع إلا على من يعقل، فلما أعاد الضمير على كل دابة غلب من يعقل، فقال: [«هم»] (2)، و «من» بعض هذا الضمير وهو للعاقل، فلزم أن يقول «من» فلما قال: [«من»] (3) لوقوع التغليب في الضمير، صار ما يقع عليه حكمه حكم العاقلين فتمّم ذلك بأن أوقع «من».
وكقوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض: {قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (فصلت: 11)، [إنما جمعهما جمع السلامة، ولم يقل «طائعين»] (4) ولا «طائعات»، لأنه أراد: ائتيا بمن فيكم من الخلائق طائعين، فخرجت الحال على لفظ الجمع، وغلّب من يعقل من الذكور.
وقال بعض النحويين: لما أخبر عنهما أنهما يقولان كما يقول الآدميون أشبهتا الذكور من بني آدم، وإنما قال: «طائعين» ولم يقل: «مطيعين»، لأنه من طعنا [أي] (5) انقدنا، وليس من أطعنا يقال: طاعت الناقة تطوع طوعا، إذا انقادت.
وقوله تعالى: {بَلْ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ} (البقرة: 116)، قيل: أوقع «ما» لأنها تقع على أنواع من يعقل لأنه (6) إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل فغلّب ما لا يعقل كان الأمر بالعكس ويناقضه: {كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ} (البقرة: 116).
وقال الزمخشري: «جاء ب «ما» تحقيرا لشأنهم وتصغيرا (7)، قال: «له قانتون» تعظيم.
وردّ عليه ابن الضائع بصحة وقوعها على الله عز وجلّ، قال: وهذا غاية الخطأ وقوله في دعاء الأصنام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} (الشعراء: 72).
وقوله: {وَقََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا} (فصلت: 21).
وأما قوله: {فَظَلَّتْ أَعْنََاقُهُمْ لَهََا خََاضِعِينَ} (الشعراء: 4)، وقوله [تعالى]: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) {لَقَدْ عَلِمْتَ مََا هََؤُلََاءِ يَنْطِقُونَ} (الأنبياء: 65).
__________
(1) هو علي بن محمد بن علي بن يوسف تقدم التعريف به في 2/ 239.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) عبارة المخطوطة (لا لأنه اجتمع من وما لا يعقل فغلب ما لا يعقل، لأن الأمر بالعكس).
(7) انظر الكشاف 1/ 90عند تفسير الآية 116من سورة البقرة.(3/373)
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ} (يوسف: 4)، {لَوْ كََانَ هََؤُلََاءِ آلِهَةً مََا وَرَدُوهََا} (الأنبياء: 99). {يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ}
(النمل: 18) [لأنه سبحانه] (1) لما أخبر عنها بأخبار الآدميين جرى ضميرها على حدّ من يعقل، وكذا البواقي.
فإن قيل: فقد غلّب غير العاقل [على العاقل] (2) في قوله: {وَلِلََّهِ يَسْجُدُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ مِنْ دََابَّةٍ} (النحل: 49)، فإنه لو غلّب العاقل على غير العاقل لأتى ب «من».
فالجواب أنّ هذا الموضع غلّب فيه من يعقل، وعبّر عن ذلك [ب «ما»] (2)، لأنها واقعة على أجناس من يعقل [ومن لا يعقل، وقد يقع على أجناس من يعقل] (4) خاصة، كهذه الآية.
[و] (4) قوله: {لِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا فِيهِنَّ} (المائدة: 120)، ولم يقل «ومن فيهن» قيل: لأن كلمة «ما» تناول الأجناس كلّها تناولا عاما بأصل الوضع، و «من» لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع، فكان استعمال «ما» هنا أولى.
وقد يجتمع في لفظ واحد تغليب المخاطب على الغائب، والعقلاء [218/ ب] على غيرهم، كقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً وَمِنَ الْأَنْعََامِ أَزْوََاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}
(الشورى: 11)، أي خلق لكم أيها الناس من جنسكم ذكورا وإناثا، وخلق الأنعام أيضا من أنفسها ذكورا وإناثا، يذرؤكم، أي ينبتكم ويكثركم أيها الناس والأنعام، في هذا التدبير والجعل، فهو خطاب للجميع للناس المخاطبين وللأنعام المذكورة بلفظ الغيبة، ففيه تغليب المخاطب على الغائب، وإلا لما صحّ ذكر الجميع (6) أعني الناس والأنعام بطريق الخطاب لأن الأنعام غيب، وتغليب العقلاء على غيرهم وإلّا لما صح خطاب الجمع بلفظ [«كم»] (7) المختص بالعقلاء، ففي لفظ «كم» تغليبان، ولولا التغليب لكان القياس أن يقال: يذرؤكم وإياها. هكذا قرره السكاكيّ (8) والزمخشريّ.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ليست في المخطوطة.
(4) ليست في المطبوعة.
(6) في عبارة المخطوطة اضطراب (والاصح لما ذكر الجميع) والصواب ما في المطبوعة.
(7) ليست في المخطوطة.
(8) هو يوسف بن أبي بكر تقدم التعريف به في 1/ 163، وانظر قوله في كتابه مفتاح العلوم ص 243242،(3/374)
ونوزعا فيه بأن جعل الخطاب شاملا للأنعام تكلّف لا حاجة إليه لأن الغرض إظهار القدرة وبيان الألطاف في حق الناس فالخطاب مختص بهم، والمعنى: يكثركم أيها الناس في التدبير حيث مكّنكم من التوالد والتناسل، وهيّأ لكم من مصالحكم ما تحتاجون إليه في ترتيب المعاش وتدبير التوالد، [والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون] (1) وجعلها أزواجا تبقى ببقائكم، وعلى هذا يكون التقدير: وجعل لكم من الأنعام أزواجا وهذا أنسب بنظم الكلام مما قرروه، وهو جعل الأنعام أنفسها أزواجا.
وقوله: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} (الشورى: 11) أي في هذا التدبير كأنه محلّ لذلك، ولم يقل «به» كما قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (البقرة: 179) لأنه مسوق لإظهار الاقتدار مع الوحدانية، فأسقط السببية، وأثبت «في» الظرفية، وهذا وجه من إعجاز قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (البقرة: 179) لأن الحياة من شأنها الاستناد إليه سبحانه لا إلى غيره، فاختيرت «في» على «الباء» لأنه مسوق لبيان الترغيب والمعنى مفهوم، والقصاص مسوق للتجويز وحسن المشروعية، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} (البقرة: 237).
الرابع تغليب المتّصف بالشيء على ما لم يتصف به
كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ [عَبْدِنََا]} [2] (البقرة: 23)، قيل:
غلّب [غير] (2) المرتابين [على المرتابين] (2)، واعترض بقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (البقرة: 23)، وهذا خطاب للكفار فقط قطعا، فهم المخاطبون أوّلا بذلك ثم «إن كنتم صادقين» لا يتميز فيها التغليب، ثم هي شاهدة بأن المتكلّم معهم يخصّ الجاحدين بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (البقرة: 23)، وإذا لم يكن الخطاب إلا فيهم، فتغليب حال من لم يدخل في الخطاب، لا عهد به في مخاطبات العرب، (5) [ثم أوضح لبعضها هنا لأن جواز أن يتناول المشكوك وغير المرتابين عالمين، فلا يستحق حالهم «إن» ويحتمل أن يكون للتهيج زيادة في التعجيز] (5).
__________
وانظر قول الزمخشري في الكشاف 3/ 399عند تفسير الآية 11، من سورة الشورى.
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المطبوعة.(3/375)
الخامس تغليب الأكثر على الأقل
بأن ينسب إلى الجميع وصف يختصّ بالأكثر، كقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يََا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنََا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنََا} (الأعراف: 88)، أدخل شعيب عليه السلام في قوله: {لَتَعُودُنَّ} (الأعراف: 88) بحكم التغليب إذ لم يكن في ملّتهم أصلا حتى يعود إليها. ومثله قوله: {إِنْ عُدْنََا فِي مِلَّتِكُمْ} (1)، (الأعراف: 89)، واعترض بأن «عاد» بمعنى «صار» لغة معروفة، وأنشدوا:
فإن تكن الأيام أحسن مرّة ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
ولا حجة فيه لجواز أن [219/ أ] يكون ضمير «الأيام» فاعل «عادت» وإنما الشاهد في قول أمية (2):
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ويحتمل جوابا ثالثا وهو أن يكون قولهم لشعيب ذلك، من تعنتهم وبهتانهم وادّعائهم أنّ شعيبا كان على ملّتهم، لا كما قال فرعون لموسى. وقوله: {[وَمََا يَكُونُ لَنََا]} [3] أَنْ نَعُودَ فِيهََا (الأعراف: 89) كناية عن أتباعه لمجرّد فائدتهم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم إن قال ذلك عن نفسه وأتباعه فقد استثنى، والمعلّق بالمشيئة لا يلزم إمكانه شرعا تقديرا، والاعتراف بالقدرة والرجوع لعلمه سبحانه، وأنّ علم العبد عصمة نفسه أدبا مع ربّه لا شكّا.
ويجوز أن يراد بالعود في ملّتهم مجرد المساكنة والاختلاط، بدليل قوله: {إِذْ نَجََّانَا اللََّهُ مِنْهََا} (الأعراف: 89) ونظيره: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران: 55)، ويكون ذلك إشارة إلى الهجرة عنهم، وترك الإجابة لهم، لا جوابا لهم، وفيه بعد.
__________
(1) انظر مفتاح العلوم للسكاكي ص 242تقييد الفعل.
(2) هو أمية ابن أبي الصلت بن أبي ربيعة، وكان قد قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله عز وجل ورغب عن عبادة الأوثان، وكان يخبر بأن نبيا يبعث قد أظلّ زمانه ويؤمّل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر حسدا له (ابن قتيبة الشعر والشعراء: 301300) وانظر البيت في شرح ديوان أمية بن أبي الصلت ص 66ضمن قافية الكلام.
(3) ليست في المخطوطة.(3/376)
السادس تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغموز فيما بينهم بأن يطلق اسم [ذلك] (1) الجنس على الجميع
كقوله: {فَسَجَدَ الْمَلََائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلََّا إِبْلِيسَ} (2)، (ص: 7473)، وأنّه عدّ منهم مع أنه كان من الجنّ، تغليبا لكونه جنّيا واحدا فيما بينهم، ولأنّ حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل. ويدلّ على كونه من غير الملائكة ما رواه مسلم في «صحيحه»: «خلقت الملائكة من نور والجن من النار» (3).
وقيل: إنه كان ملكا فسلب الملكيّة، وأجيب عن كونه من الجن بأنه اسم لنوع من الملائكة.
قال الزمخشريّ: كان مختلطا بهم، فحينئذ عمّته الدعوة [بالخلطة] (4) لا بالجنس فيكون من تغليب الأكثر.
هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا ولم يجعل «إلا» بمعنى «لكن».
وقال ابن جنّي في «القد» (5): قال أبو الحسن في قوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ اللََّهُ يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} (المائدة: 116)، وإنما المتّخذ [إلها] (6) عيسى دون أمه فهو من باب:
لنا قمراها والنجوم الطوالع (7)
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) انظر مفتاح العلوم للسكاكي ص 242تقييد الفعل.
(3) أخرجه من رواية عائشة رضي الله عنها، مسلم في الصحيح 4/ 2294كتاب الزهد (53)، باب في أحاديث متفرقة (10)، الحديث (60/ 2996) ولفظه «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار»
(4) ليست في المخطوطة وانظر قول الزمخشري في «الكشاف» 3/ 334ضمن تفسير الآية من سورة ص.
(5) هو عثمان بن جني أبو الفتح تقدم التعريف به في 1/ 361، وكتابه «القد» تقدم التعريف به في 2/ 399، وأبو الحسن هو الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة تقدم التعريف به في 1/ 134.
(6) ليست في المطبوعة.
(7) هذا عجز بيت للفرزدق، انظر ديوان الفرزدق ص: 419ضمن قصيدته (أولئك آبائي) وصدر البيت:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع(3/377)
السابع تغليب الموجود على ما لم يوجد
كقوله [تعالى]: {بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (البقرة: 4) قال الزمخشريّ: «فإن المراد المنزّل كلّه، وإنما عبّر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقّبا، تغليبا للموجود على ما لم يوجد» (1).
الثامن تغليب الإسلام
كقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجََاتٌ} (الأحقاف: 19) قاله الزمخشريّ: «لأن الدّرجات للعلوّ والدركات للسفل، فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبا» (2).
التاسع تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه
كقوله تعالى: {ذََلِكَ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (آل عمران: 182) «ذكر الأيدي [لأنّ أكثر الأعمال] (3) تزاول بها، فحصل الجمع بالواقع (4) بالأيدي، تغليبا» أشار إليه الزمخشري في آخر آل عمران.
ويشاكله ما أنشده الغزنويّ في {الْعََادِيََاتِ} (5) لصفية بنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع ... بأيديها إذا سطع الغبار (6)
__________
(1) انظر الكشاف 1/ 23عند تفسير الآية من سورة البقرة.
(2) انظر الكشاف 3/ 447عند تفسير الآية من سورة الأحقاف، وما ذكره الزركشي ملخص لعبارة الكشاف، أما نصها {وَلِكُلٍّ} من الجنسين المذكورين {دَرَجََاتٌ مِمََّا عَمِلُوا} أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منهما، فإن قلت كيف قيل {دَرَجََاتٌ} وقد جاء «الجنة درجات والنار دركات»؟ قلت: يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب لاشتمال كل على الفريقين).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (بالواو)، وعبارة الزمخشري (فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب) الكشاف 1/ 234.
(5) تصحفت في المطبوعة (العامريات)، وقوله (لصفية بنت عبد المطلب) تصحفت في المخطوطة إلى (لطيفة بنت عبد الملك).
(6) البيت ذكره أبو حيان في البحر المحيط 8/ 503عند تفسير سورة العاديات، وصفية هي عمة النبي صلّى الله عليه وسلّم(3/378)
العاشر تغليب الأشهر
كقوله تعالى: {يََا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} (الزخرف: 38) أراد المشرق والمغرب، فغلّب المشرق، لأنه أشهر الجهتين (1)، قاله ابن الشجري (2) وسيأتي فيه وجه آخر.
فائدتان
إحداهما:
جميع باب التغليب من المجاز، لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الذكور والإناث على غير ما وضع له، وقس على هذا جميع الأمثلة السابقة.
الثانية:
الغالب من التّغليب أن يراعى الأشرف كما سبق، ولهذا قالوا في تثنية الأب والأم:
أبوان، وفي تثنية المشرق والمغرب: [219/ ب] المشرقين، لأن الشرق دالّ على الوجود، والغرب دالّ على العدم، والوجود لا محالة أشرف، وكذلك القمران، قال:
لنا قمراها والنجوم الطوالع
أراد الشمس والقمر، فغلّب القمر لشرف التذكير. وأما قولهم سنّة العمرين، يريدون أبا بكر وعمر، قال ابن سيده في «المحكم» (3): إنما فعلوا ذلك إيثارا للخفّة، أي غلّب الأخفّ على الأثقل، لأن لفظ «عمر» مفرد ولفظ أبي بكر مركب.
__________
ووالدة الزبير بن العوام أحد العشرة، وهي شقيقة حمزة وهاجرت مع ولدها الزبير وهي أول امرأة قتلت رجلا من المشركين قال ابن سعد توفيت في خلافة عمر (ابن حجر الإصابة 4/ 340).
(1) انظر المحيي في كتابه جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين ص 128في تثنية (المشرقين) وص 126في تثنية (القمرين).
(2) انظر الأمالي الشجرية 1/ 14المجلس الثاني في تقاسيم التثنية، وكذلك ما سيذكره الزركشي عن تغليب «العمران» عند ابن الشجري.
(3) هو علي بن أحمد بن إسماعيل تقدم التعريف به وبكتابه «المحكم» في 1/ 159.(3/379)
وذكر أبو عبيد في «غريب الحديث» أن ذلك للشهرة وطول المدة.
وذكر غيرهما أن المراد به عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز (1)، وعلى هذا فلا تغليب.
وردّ بأنهم نطقوا بالعمرين قبل أن يعرفوا عمر بن عبد العزيز، فقالوا يوم الجمل لعليّ بن أبي طالب: [أعطنا] (2) سنّة العمرين.
الالتفات
وفيه مباحث:
الأول: في حقيقته
وهو نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخر تطرية واستدرارا (3) للسامع، وتجديدا لنشاطه، وصيانة لخاطره من الملال والضجر، بدوام (4) الأسلوب الواحد على سمعه، كما قيل:
لا يصلح النّفس إن (5) كانت مصرّفة ... إلّا التنقل من حال إلى حال
قال حازم في «منهاج البلغاء» (6): وهم يسأمون (7) الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب، فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة، وكذلك أيضا يتلاعب المتكلم بضميره، فتارة يجعله ياء على جهة الإخبار عن نفسه، وتارة يجعله كافا [أو تاء] (8) فيجعل نفسه مخاطبا وتارة يجعله هاء، فيقيم نفسه مقام الغائب. فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير المتكلم والمخاطب لا يستطاب وإنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض، وهو نقل معنويّ لا
__________
(1) ذكر هذه الأقوال المحبي في كتابه جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين ص 81وص 125.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) في المخطوطة (استجرارا للسامع وتسديدا).
(4) في المخطوطة (وأما الاسلوب الواحد).
(5) في المخطوطة (لا يصلح النفس إن كانت مصرفة إلى التنقل).
(6) هو أبو الحسن حازم بن محمد بن حسين القرطاجني تقدم التعريف به وبكتابه في 1/ 155.
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (يسمعون).
(8) ليست في المطبوعة.(3/380)
لفظيّ، وشرطه أن يكون الضمير في المتنقّل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتفت عنه، ليخرج نحو أكرم زيدا، وأحسن إليه، فضمير «أنت» الذي هو في (1) «أكرم» غير الضمير في «إليه».
* * * واعلم أنّ للتكلم والخطاب والغيبة مقامات، والمشهور أنّ الالتفات هو الانتقال من أحدها إلى الآخر بعد التعبير بالأول.
وقال السكاكيّ (2): إما ذلك، وإما التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره.
[البحث] الثاني: في أقسامه
وهي كثيرة:
الأول الالتفات من التكلم إلى الخطاب
ووجهه حثّ السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأنّه أعطاه فضل عناية وتخصيص بالمواجهة، كقوله تعالى: {وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3)
(يس: 22)، الأصل (4): «وإليه أرجع»، فالتفت من التكلم إلى الخطاب، وفائدته أنّه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه، وهو يريد نصح قومه، تلطّفا وإعلاما أنه [يريد لهم ما] (5) يريده لنفسه، ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله.
وأيضا فإنّ قومه لما أنكروا عليه عبادته لله، أخرج الكلام معهم بحسب حالهم، فاحتجّ عليهم بأنّه يقبح منه أنّه لا يعبد فاطره ومبدعه ثم حذّرهم بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس:
22).
لذا جعلوه (6) من الالتفات، وفيه نظر، لأنه إنّما يكون منه إذا كان القصد الإخبار عن نفسه في كلتا الجملتين، وهاهنا ليس كذلك، لجواز أن يكون أراد بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
__________
(1) في المخطوطة (الذي هو فاعل أكرم).
(2) هو يوسف بن أبي بكر تقدم التعريف به في 1/ 163.
(3) انظر مفتاح العلوم للسكاكي ص 245.
(4) عبارة المخطوطة (الأصل فيه «أرجع»).
(5) ليست في المطبوعة.
(6) عبارة المخطوطة (لذا جعلوا هذا من).(3/381)
(يس: 22) المخاطبين ولم يرد نفسه، ويؤيده ضمير الجمع، ولو أراد نفسه لقال:
«ترجع».
وأيضا فشرط الالتفات أن يكون في جملتين [220/ أ] و «فطرني» و «[وإليه] (1)
ترجعون» كلام واحد.
وأجيب بأنه لو كان المراد بقوله: {تُرْجَعُونَ} (يس: 22) ظاهره لما صحّ الاستفهام الإنكاريّ لأنّ رجوع العبد إلى مولاه ليس بمعنى (2) أن يعيده غير ذلك الراجع. فالمعنى:
كيف [لا] (3) أعبد من إليه رجوعي وإنما ترك «وإليه أرجع» إلى {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
(يس: 22) لأنه داخل فيهم. ومع ذلك أفاد فائدة حسنة وهي أنه نبّههم أنّهم مثله في وجوب [عبادة] (4) من إليه الرجوع فعلى هذا، الواو [واو الحال] (3) للحال، وعلى الأول واو العطف.
ومنه قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (الكهف: 82) عدل [عن قوله: «رحمة] (6) منّا» إلى قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (الكهف: 82) لما فيه من الإشعار بأنّ ربوبيته تقتضي رحمته وأنّه رحيم بعبده، كقوله: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} (سبأ: 15).
وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} (الأعراف: 55) [{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ}] (6) (الحج:
77). وهو كثير.
وقوله: {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللََّهُ} (الفتح: 21) ولم يقل:
«لنغفر لك» تعليقا لهذه المغفرة التامة باسمه المتضمّن لسائر أسمائه الحسنى، ولهذا علّق به النصر، فقال: {وَيَنْصُرَكَ اللََّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: 3).
الثاني من التكلم إلى الغيبة
ووجهه أن يفهم السامع أنّ هذا نمط المتكلم وقصده من السامع، حضر أو غاب، وأنّه
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) عبارة المخطوطة (ليس بملوم أن يعيده).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة، وفي عبارة المخطوطة تحريف كلمة (وجوب) ورسمها (حبت).
(6) ليست في المخطوطة.(3/382)
في كلامه ليس ممّن يتلوّن ويتوجّه، فيكون في المضمر ونحوه ذا لونين، وأراد بالانتقال إلى الغيبة الإبقاء على المخاطب من قرعه في الوجه بسهام الهجر، فالغيبة أروح له، وأبقى على ماء وجهه أن يفوت، كقوله: {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ [وَانْحَرْ]} [1] (الكوثر:
21)، حيث لم يقل «لنا» تحريضا على فعل الصلاة لحقّ الربوبية.
وقوله: {فِيهََا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنََا إِنََّا كُنََّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الدخان: 654).
وقوله: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158) إلى قوله: {فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} (الأعراف: 158)، ولم يقل: [«بي»] (2).
وله فائدتان: إحداهما دفع التهمة عن نفسه بالعصبيّة لها، والثاني تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتّصف به من الصفات المذكورة، من النبوّة والأميّة، التي هي [أكبر دليل على] (2) صدقه، وأنّه لا يستحق الاتباع لذاته، بل لهذه الخصائص.
الثالث من الخطاب إلى التكلم
كقوله: {فَاقْضِ مََا أَنْتَ قََاضٍ إِنَّمََا تَقْضِي هََذِهِ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا * إِنََّا آمَنََّا بِرَبِّنََا} (طه:
7372) وهذا إنما يتمشّى على قول من لم يشترط أن يكون المراد بالالتفات واحدا فأما من اشترطه فلا (4) يحسن أن يمثّل به، ويمكن أن يمثل بقوله تعالى: {قُلِ اللََّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنََا يَكْتُبُونَ مََا تَمْكُرُونَ} (يونس: 21) على أنه سبحانه نزّل نفسه منزلة المخاطب.
الرابع من الخطاب إلى الغيبة
كقوله تعالى: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (يونس: 22)، فقد التفت عن {كُنْتُمْ} (يونس: 22) إلى {جَرَيْنَ بِهِمْ} (يونس: 22)، وفائدة العدول عن
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (فلم يحسن).(3/383)
خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم، لتعجّبه من فعلهم وكفرهم، إذ لو استمرّ على خطابهم لفاتت تلك الفائدة.
وقيل: لأنّ الخطاب أوّلا كان مع الناس: مؤمنهم وكافرهم بدليل قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (يونس: 22)، فلو قال: «وجرين بكم» للزم الذمّ للجميع، فالتفت عن الأول للإشارة إلى الاختصاص بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية، فعدل عن الخطاب العامّ إلى الذمّ الخاصّ ببعضهم، وهم الموصوفون بما أخبر به عنهم.
وقيل: لأنهم وقت الركوب [حصروا] (1) لأنّهم خافوا الهلاك وتقلّب الرياح، فناداهم نداء الحاضرين. ثم إن الرياح لما جرت بما تشتهي النفوس، وأمنت الهلاك لم يبق حضورهم كما كان، على ما [هي عادة الإنسان أنّه إذا] (1) [220/ ب] أمن غاب، فلما غابوا عند جريه بريح طيبة فكّرهم (3) الله بصيغة الغيبة فقال: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (يونس: 22).
وقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} (الزخرف: 70) ثم قال: {يُطََافُ عَلَيْهِمْ} (الزخرف: 71)، فانتقل من الخطاب إلى الغيبة، ولو ربط بما قبله لقال:
«يطاف عليكم»، لأنه مخاطب لا مخبر، ثم التفت فقال: {وَأَنْتُمْ فِيهََا خََالِدُونَ}
(الزخرف: 71) فكرّر الالتفات.
وقوله: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ زَكََاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (الروم:
39).
وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيََانَ أُولََئِكَ هُمُ الرََّاشِدُونَ} (الحجرات:
7).
وقوله: {إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}
(الأنبياء: 9392)، والأصل «فقطعتم» عطفا على ما قبله، لكن عدل من الخطاب إلى الغيبة، فقيل إنّه سبحانه نعى (4) عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين، ووبخهم (5)
عليه قائلا: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله [لم] (6)!
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (ذكرهم).
(4) في المخطوطة (ينعي).
(5) في المخطوطة (ويوبخهم عليهم).
(6) ليست في المخطوطة.(3/384)
وجعل منه ابن الشجريّ (1): {مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ} (الضحى: 3)، وقد سبق أنه على حذف المفعول، فلا التفات (2).
الخامس من الغيبة إلى التكلم
كقوله: {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بََارَكْنََا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1).
{وَأَوْحى ََ فِي كُلِّ سَمََاءٍ أَمْرَهََا وَزَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا} (فصلت: 12).
{وَقََالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمََنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (مريم: 8988).
وقوله: {[وَ]} [3] اللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ (فاطر: 9) وفائدته أنّه لما كان سوق السحاب إلى البلد [الميت] (4) إحياء للأرض بعد موتها بالمطر، دالا على القدرة الباهرة، والآية العظيمة التي لا يقدر عليها غيره، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص، وأدلّ عليه وأفخم.
وفيه معنى آخر، وهو أنّ الأفعال (5) المذكورة في هذه [الآية] (6)، منها ما أخبر به سبحانه بسببه (7) وهو سوق السحاب، فإنه بسوق الرياح، فتسوقه الملائكة بأمره، وإحياء الأرض به بواسطة إنزاله، وسائر الأسباب التي يقتضيها حكمه وعلمه، وعادته سبحانه في كلّ هذه الأفعال أن يخبر بها بنون التعظيم، الدالة على أن له جندا وخلقا (8) قد سخرهم في ذلك، كقوله تعالى:
{فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 18)، أي إذا قرأه رسولنا جبريل. وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} (طه: 102).
__________
(1) انظر الأمالي الشجرية 1/ 322فصل في الحذوف الواقعة بالأسماء والأفعال، وفي 1/ 327المجلس الموفي الأربعين.
(2) في المخطوطة زيادة في هذا الموضع هي (وقوله يا أيها الناس).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المطبوعة (الأقوال).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (سبحانه، أنه بسبب، وهو).
(8) في المخطوطة (الدالة على أنه خلقا وجندا).(3/385)
وأما إرسال السحاب فهو سحاب يأذن في إرسالها، ولم يذكر له سببا، بخلاف سوق السحاب، وإنزال المطر فإنه قد ذكر أسبابه: {(1) [وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ نَبََاتَ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام: 99)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} (الحج: 63)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ]} [1] أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ ثَمَرََاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهََا (فاطر: 27). {أَمَّنْ خَلَقَ} [3] السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَنْبَتْنََا بِهِ حَدََائِقَ ذََاتَ بَهْجَةٍ (النمل: 60).
وجعل الزمخشريّ منه قوله: في سورة طه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ أَزْوََاجاً [مِنْ نَبََاتٍ شَتََّى]} [4] (طه: 53): وزعم الجرجاني أن في هذه الآية التفاتا، وجعل قوله:
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً} (طه: 53) آخر كلام موسى، ثم ابتدأ الله تعالى فأخبر عن نفسه بأوصافه لمعالجتها.
وأشار الزمخشري (4) إلى أن فائدة الالتفات إلى التكلم في هذه المواضع التنبيه على التخصيص بالقدرة وأنه لا يدخل تحت قدرة واحد، وهو معنى قول غيره: إن الإشارة إلى حكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة الدالّة على القدرة. وكذا يفعلون لكلّ فعل [221/ أ] فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، [أو تهمّ المخاطب] (6) وإنما قال:
{فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} (الحج: 63)، لإفادة بقاء المطر زمانا بعد زمان.
ومثله: {فَقَضََاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى ََ فِي كُلِّ سَمََاءٍ أَمْرَهََا وَزَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ} (فصلت: 12)، عدل عن الغيبة في «قضاهنّ» و «سواهنّ» إلى التكلم في قوله: {وَزَيَّنَّا} (فصلت: 12)، فقيل للاهتمام بذلك، والإخبار عن نفسه، بأنّه جعل الكوكب زينة السماء الدنيا، وحفظا تكذيبا لمن أنكر ذلك.
وقيل: لما كانت الأفعال المذكورة في هذه الآية نوعين:
أحدهما: وجه الإخبار عنه بوقوعه في الأيام المذكورة، وهو خلق الأرض في يومين، وجعل (7) الرواسي من فوقها وإلقاء البركة فيها، وتقدير الأقوات في تمام أربعة أيام ثم الإخبار
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(3) عبارة الآية في المخطوطة (أم خلقوا السموات) والصواب ما في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة، وانظر الآية عند الزمخشري في الكشاف 2/ 436تفسير سورة طه.
(6) ليست في المخطوطة.
(7) عبارة المخطوطة (وجعل فيها رواسي من فوقها، وألقى البركة).(3/386)
بأنّه استوى إلى السماء، وأنّه أتمّها وأكملها سبعا في يومين فأتى في هذا (1) [النوع بضمير الغائب، عطفا] (1) على أول الكلام في قوله: {(1) [قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ]} [1] فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً ذََلِكَ رَبُّ الْعََالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ [مِنْ فَوْقِهََا] (5) (فصلت: 109) إلى قوله: {فَقَضََاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ} (فصلت: 12) الآية.
والثاني: قصد به الإخبار مطلقا، من غير قصد مدة خلقه، وهو تزيين سماء الدنيا بمصابيح، (6) [وجعلها حفظا فإنه لم يقصد بيان مدّة ذلك بخلاف ما قبله فإن نوع الأول يتضمن إيجادا لهذه المخلوقات العظيمة في هذه المدة اليسيرة، وذلك من أعظم آثار قدرته.
وأما تزيين السماء الدنيا بالمصابيح] (6) فليس المقصود به الإخبار عن مدة خلق النجوم، فالتفت من الغيبة إلى التكلم، فقال: {زَيَّنَّا}.
فائدة
وقد تكرر الالتفات في قوله تعالى: {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بََارَكْنََا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيََاتِنََا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(الإسراء: 1) في أربعة مواضع فانتقل عن الغيبة في قوله: {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ [بِعَبْدِهِ]} [8] (الإسراء: 1)، إلى التكلم في قوله: {بََارَكْنََا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1)، ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله: (8) [{لِيُرِيَهُ} (الإسراء: 1)، بالياء على قراءة الحسن (10)، ثم عن الغيبة إلى التكلم في قوله: {آيََاتِنََا} (الإسراء: 1) ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله] (8): {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء: 1).
وكذلك في الفاتحة، فإنّ من أولها إلى قوله: {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) أسلوب [غيبة] (12)، ثم التفت بقوله: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) إلى أسلوب خطاب في قوله (13): {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7)، ثم التفت إلى الغيبة بقوله: {غَيْرِ}
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المطبوعة.
(6) ليست في المخطوطة.
(8) ليست في المخطوطة.
(10) ذكرها أبو حيان في البحر المحيط 6/ 6.
(12) في المخطوطة مكان هذه الكلمة بياض.
(13) في المخطوطة زيادة (ثم إلى قوله) بعد عبارة (في قوله).(3/387)
{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7)، ولم يقل «الذين غضبت» كما قال: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
(الفاتحة: 7).
السادس من الغيبة إلى الخطاب
كقوله: {وَقََالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمََنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (مريم: 8988)، ولم يقل: «لقد جاءوا» للدلالة على أنّ من قال مثل قولهم ينبغي أن يكون موبّخا عليه، منكرا عليه قوله، كأنه يخاطب به [قوما] (1) حاضرين.
وقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} (مريم: 39)، ثم قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا} (مريم: 71).
وقوله: {وَسَقََاهُمْ رَبُّهُمْ شَرََاباً طَهُوراً * إِنَّ هََذََا كََانَ لَكُمْ جَزََاءً} (الإنسان: 2221).
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} (آل عمران: 106).
وقوله: {فَتُكْوى ََ بِهََا جِبََاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هََذََا مََا كَنَزْتُمْ} (التوبة: 35).
وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الفرقان: 45)، ثم قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} (الفرقان: 45).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ]} [2] أَأَنْذَرْتَهُمْ (البقرة: 6) الآية.
وقوله: {وَظَلَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْغَمََامَ وَأَنْزَلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ [كُلُوا]} [2] (البقرة:
57).
وقوله: {إِنْ أَرََادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهََا خََالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب:
50).
وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مََا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ}
(الأنعام: 6).
وقوله حكاية عن الخليل: {اعْبُدُوا اللََّهَ وَاتَّقُوهُ ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمََا}
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ليست في المخطوطة.(3/388)
{تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْثََاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} (العنكبوت: 1716)، إلى قوله: {فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ} (العنكبوت: 24).
وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [1] وَيَأْتِ بِخَلْقٍ [221/ ب] {جَدِيدٍ * وَمََا ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا لِلََّهِ جَمِيعاً} (إبراهيم: 212019).
وقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا} (الأعراف: 175) إلى قوله:
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} (الأعراف: 176).
وقوله: {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا جَزََاءً بِمََا كَسَبََا نَكََالًا مِنَ اللََّهِ وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تََابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ [فَإِنَّ اللََّهَ يَتُوبُ]} [2] الآية (المائدة: 38 39).
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا قُمْتُمْ [إِلَى الصَّلََاةِ فَاغْسِلُوا]} [3] (المائدة: 6)، وهو عجيب لأن «الذين» موصول لفظه [للغيبة] (3) ولا بدّ له من عائد وهو الضمير في «آمنوا»، فكيف يعود ضمير مخاطب على غائب! فهذا مما لا يعقل.
وقوله: {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيََّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 54) فقد التفت عن الغيبة وهو {مََالِكِ} (الفاتحة: 4) إلى الخطاب وهو: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5).
ولك أن تقول: إن كان التقدير: قولوا الحمد لله، ففيه التفاتان أعني في الكلام المأمور به:
أحدهما: في لفظ الجلالة، فإن الله تعالى حاضر، فأصله الحمد لك.
والثاني: {إِيََّاكَ} (الفاتحة: 5) لمجيئه على خلاف الأسلوب السابق وإن لم يقدّر:
«قولوا» كان في «الحمد لله» التفات عن التكلم إلى الغيبة فإنّ الله سبحانه حمد نفسه، ولا يكون في {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) التفات لأن «قولوا» مقدرة معها قطعا فإمّا أن يكون في الآية التفاتين (5)، أو لا التفات بالكلية.
__________
(1) في المخطوطة زيادة في الآية (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت).
(2) ليست في المطبوعة.
(3) ليست في المخطوطة.
(5) في المطبوعة (فإما أن يكون في الآية التفات).(3/389)
السابع بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه
فيكون التفاتا عنه، كقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) بعد {أَنْعَمْتَ} (الفاتحة: 7) فإن (1) المعنى «غير الذين غضبت عليهم» ذكره التنوخي (2) في «الأقصى القريب» والخفاجي (3)، وابن الأثير (4) وغيرهم.
واعلم أنّه على رأي السكاكي (5) تجيء الأقسام الستة في القسم الأخير، وهو الانتقال التقديريّ.
وزعم صاحب «ضوء المصباح» (6) أنه لم يستعمل منها إلا وضع الخطاب والغيبة موضع التكلم، ووضع التكلم موضع الخطاب، ومثّل الثالث بقوله: {وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي}
(يس: 22)، مكان «وما لكم لا تعبدون الذي فطركم».
وجعل بعضهم من الالتفات قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} (البقرة: 177) ثم قال: {وَالصََّابِرِينَ فِي الْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ} (البقرة: 177)، وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكََاةَ} (النساء: 162).
البحث الثالث في أسبابه
اعلم أن للالتفات فوائد عامة وخاصة فمن العامة التفنّن والانتقال من أسلوب إلى آخر
__________
(1) في المخطوطة (فالمعنى).
(2) هو محمد بن محمد التنوخي زين الدين تقدم التعريف به وبكتابه في 2/ 448.
(3) هو عبد الله بن محمد بن سعيد تقدم التعريف به في 1/ 153.
(4) هو نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ضياء الدين تقدم التعريف به في 3/ 189.
(5) هو يوسف بن أبي بكر أبو يعقوب السكاكي تقدم التعريف به في 1/ 163.
(6) هو محمد بن يعقوب بن إلياس المعروف بابن النحوية تقدم التعريف به في 3/ 209، وكذلك ذكر ضمن الحاشية التعريف بكتابه «ضوء المصباح» ولكن مما يقتضي التنويه وجود كتاب ثان بهذا العنوان هو «ضوء المصباح» للأسفراييني تاج الدين محمد بن محمد (ت 684هـ) ولكنه شرح «المصباح» للمطرزي ملخصا، وللأسفراييني أيضا شرح أوفى «للمصباح» هو «المفتاح» ثم اختصره فسماه «ضوء المصباح» المتقدم ذكره (حاجي خليفة كشف الظنون 2/ 1708)، وهناك كتاب عنوانه: «ضوء المصباح» لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الضرير المراكشي، وهو شرح «المصباح في اختصار المفتاح» أي «مفتاح العلوم» للسكاكي.(3/390)
لما في ذلك من تنشيط السامع، واستجلاب صفائه، واتساع مجاري الكلام، وتسهيل الوزن والقافية [شعرا ونثرا] (1).
وقال البيانيون: إن الكلام إذا جاء على أسلوب واحد وطال حسن تغيير الطريقة.
ونازعهم القاضي شمس الدين الخوييّ (2) وقال: الظاهر أنّ مجرّد هذا لا يكفي في المناسبة، فإنّا رأينا كلاما أطول في هذا، والأسلوب محفوظ، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمََاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ} (الأحزاب: 35) إلى [أن] (3) ذكر عشرة أصناف، وختم ب {الذََّاكِرِينَ اللََّهَ كَثِيراً وَالذََّاكِرََاتِ} (الأحزاب: 35)، ولم يغيّر الأسلوب وإنما المناسبة أن الإنسان كثير التقلب، وقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، ويقلّبه كيف يشاء، فإنه يكون غائبا فيحضر بكلمة واحدة، وآخر يكون حاضرا فيغيب، فالله تعالى لما قال:
{الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (الفاتحة: 2) تنبه السامع وحضر قلبه (4)، فقال: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وأمّا الخاصة فتختلف باختلاف محالّه ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم.
* * * فمنها قصد تعظيم شأن المخاطب، كما في: {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (الفاتحة:
2)، فإنّ العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله: «الحمد لله» الدالّ على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه التحرّك [222/ أ] للإقبال عليه سبحانه فإذا انتقل إلى قوله: {رَبِّ الْعََالَمِينَ}
(الفاتحة: 2) الدالّ على ربوبيته لجميعهم قوي تحرّكه، فإذا قال: {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
(الفاتحة: 3) الدالّ على أنه منعّم بأنواع النعم جليلها وحقيرها تزايد التحرّك عنده، فإذا وصل ل {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) وهو خاتمة الصفات الدالّة على أنه مالك الأمر يوم الجزاء، [فيتأهّب قربه] (5) وتيقّن الإقبال عليه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) هو أحمد بن خليل بن سعادة قاضي القضاة شمس الدين تقدم التعريف به في 1/ 108، وقد تحرف الاسم في المطبوعة إلى (شمس الدين بن الجوزي) والتصويب من المخطوطة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (بقلبه).
(5) ليست في المخطوطة.(3/391)
[وقيل] (1) إنما اختير للحمد لفظ الغيبة، وللعبادة الخطاب، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة فإنّك تحمد نظيرك ولا تعبده، إذ الإنسان يحمد من لا يعبده، ولا يعبد من لا يحمده (2)، فلما كان كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال: {الْحَمْدُ لِلََّهِ} ولم يقل «[الحمد] (3) لك»، ولفظ العبادة مع الخطاب فقال: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ}
(الفاتحة: 5) لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة، على ما هو أعلى رتبة وذلك على طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
(الفاتحة: 7) مصرّحا (4) بذكر المنعم، وإسناد الإنعام إليه لفظا ولم يقل «صراط المنعم عليهم» فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه لفظ (5) الغضب في النسبة إليه لفظا، وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب فلم يقل «غير الذين غضبت عليهم»، تفاديا عن نسبة الغضب في اللفظ حال المواجهة.
ومن هذا قوله: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} (الإسراء: 111) فإنّ التأدب في الغيبة دون الخطاب.
وقيل: لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه ربّا للعالمين ورحمانا ورحيما، ومالكا ليوم الدين، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بأن يكون معبودا دون غيره، مستعانا به، فخوطب بذلك لتميّزه بالصفات المذكورة، تعظيما لشأنه [كلّه] (6)
حتى كأنه قيل: إياك، يا من هذه صفاته نخصّ بالعبادة والاستعانة لا غيرك.
قيل: ومن لطائفه (7) التنبيه على أنّ مبتدأ الخلق الغيبة منهم (8) عنه سبحانه، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته، وقيام حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو له، وتوسلوا للقرب بالثناء عليه، وأقروا بالمحامد له وتعبّدوا له بما يليق بهم، تأهّلوا لمخاطباته ومناجاته فقالوا:
{إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (ولا يعبد إلا من يحمده) والصواب ما في المطبوعة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (معرجا).
(5) في المخطوطة (ذكر الغضب).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) في المطبوعة (ومن لطائف).
(8) في المخطوطة (مبتدأ الخلق إليه منه عنه سبحانه، وقصورهم عن مخاطرته).(3/392)
وفيه أنّهم يبدون بين يدى كلّ دعاء له سبحانه ومناجاة له صفات عظمته لمخاطبته على الأدب والتعظيم، لا عن الغفلة والإغفال، ولا عن اللعب والاستخفاف، كمن يدعو بلا نيّة أو على تلعب وغفلة، وهم كثير.
ومنه أن مناجاته لا تصعد (1) إلا إذا تطهر [له] (2) من أدناس الجهالة به، كما لا تسجد الأعضاء إلا بعد التطهير من حدث الأجسام ولذلك قدمت الاستعاذة على القرآن.
قال الزمخشريّ: وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جََاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللََّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (النساء: 64)، ولم يقل «واستغفرت لهم» لأنّ في [هذا] (2)
الالتفات بيان تعظيم استغفاره، وأنّ شفاعة من اسمه الرسول بمكان (4).
* * * ومنها: التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه، كقوله تعالى: {وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 22)، أصل الكلام «وما لكم لا تعبدون الذي فطركم» ولكنه أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه، وهو يريد مناصحتهم ليتلطّف بهم، ويريهم [222/ ب] أنه لا يريد لهم، إلا ما يريد لنفسه، ثم لما انقضى غرضه [من ذلك] (5) قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 22) ليدلّ على ما كان من أصل الكلام، ومقتضيا [له] (5)، ثم ساقه هذا المساق إلى أن قال: {آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} (يس: 25).
* * * ومنها: أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم فيأتي به محافظة على تتميم ما قصد إليه من المعنى المطلوب له، كقوله: {فِيهََا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنََا إِنََّا كُنََّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الدخان: 4، 5، 6)، أصل الكلام «إنا [كنا] (7) مرسلين رحمة منّا»، ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر (8)، للإنذار بأنّ الربوبية تقتضي الرحمة للمربوبين، للقدرة عليهم، أو لتخصيص النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالذكر، أو الإشارة
__________
(1) في المخطوطة (لا تشرع).
(2) ليست في المطبوعة.
(4) انظر الكشاف 1/ 277عند تفسير الآية (64) من سورة النساء.
(5) ليست في المخطوطة.
(7) ليست في المطبوعة.
(8) في المخطوطة (موضع الضمير).(3/393)
إلى أنّ الكتاب (1) إنما هو إليه دون غيره، ثم التفت بإعادة الضمير إلى الربّ الموضوع موضع المضمر، للمعنى المقصود من تتميم المعنى.
ومنها: قصد المبالغة، كقوله تعالى: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}
(يونس: 22) كأنّه يذكر لغيرهم حالهم، ليتعجّب منها ويستدعي منه (2) الإنكار والتقبيح لها إشارة منه على سبيل المبالغة إلى [أنّ] (3) ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغي في الأرض بغير الحقّ، ممّا ينكر ويقبح.
* * * [و] (3) منها: قصد الدلالة على الاختصاص، كقوله: {[وَ]} [3] اللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا [بِهِ] (3) (فاطر: 9) فإنه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالّا على القدرة الباهرة التي لا يقدر عليها (7) غيره، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه:
[قال] (8) «سقنا» و «أحيينا».
* * * ومنها: قصد الاهتمام، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ وَهِيَ دُخََانٌ فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ * فَقَضََاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى ََ فِي كُلِّ سَمََاءٍ أَمْرَهََا وَزَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَحِفْظاً ذََلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت:
1211)، فعدل عن الغيبة في (9) «قضاهن» {وَأَوْحى ََ} إلى التكلم في {وَزَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا} للاهتمام بالإخبار عن نفسه، فإنه تعالى جعل الكواكب في سماء الدنيا للزينة والحفظ وذلك لأن طائفة اعتقدت في النجوم أنها ليست في [سماء] (10) الدنيا، وأنها ليست
__________
(1) في المخطوطة (إلى إنزال الكتاب).
(2) في المخطوطة (ويستدعي من الإنكار).
(3) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (على غيره).
(8) ليست في المطبوعة.
(9) في المخطوطة (فقضاهن).
(10) ليست في المخطوطة.(3/394)
حفظا ولا رجوما، فعدل إلى التكلّم والإخبار عن ذلك، لكونه مهمّا من مهمات الاعتقاد، ولتكذيب الفرقة المعتقدة بطلانه.
* * * ومنها: قصد التوبيخ، كقوله [تعالى] (1): {وَقََالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمََنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (مريم: 8988)، عدل عن الغيبة إلى الخطاب، للدلالة على أنّ قائل مثل قولهم (2)، ينبغي أن يكون موبّخا ومنكرا عليه ولما أراد توبيخهم على هذا أخبر (3) عنه بالحضور، فقال: {لَقَدْ جِئْتُمْ} (مريم: 89)، لأن توبيخ الحاضر أبلغ في الإهانة له.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} (الأنبياء: 9392) [قال: {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}] (4) (الأنبياء: 93) دون «تقطّعتم أمركم بينكم»، كأنّه ينعي عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ويقبّح عندهم ما فعلوه، ويوبخهم عليه قائلا: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، فجعلوا أمر دينهم به قطعا، تمثيلا لاختلافهم (5) في الدين.
فائدة
اختلف في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُخْلِفُ الْمِيعََادَ} (آل عمران: 9) بعد {رَبَّنََا إِنَّكَ جََامِعُ النََّاسِ لِيَوْمٍ لََا رَيْبَ فِيهِ} (آل عمران: 9).
فقيل: إن الكلام تمّ عند [223/ أ] قوله: {لََا رَيْبَ فِيهِ} (آل عمران: 9)، وهذا الذي بعده من مقول الله تصديقا لهم.
وقيل: بل هو من بقية كلامهم الأول على طريقة (6) الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، كقوله [تعالى]: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (يونس: 22).
فإن قلت: قد قال [تعالى] (7) [في] (8) آخر السورة: {وَلََا تُخْزِنََا يَوْمَ الْقِيََامَةِ إِنَّكَ لََا}
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (مثل قوله).
(3) في المخطوطة (عبّر عنه).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المطبوعة (تمثيلا لأخلاقهم).
(6) في المخطوطة (على طريق الالتفات).
(7) ساقطة من المطبوعة.
(8) ليست في المخطوطة.(3/395)
{تُخْلِفُ الْمِيعََادَ} (آل عمران: 194)، فلم عدل (1) عن الخطاب هنا؟ قلت: إنما جاء الالتفات في صدر السورة، لأن المقام يقتضيه، فإن الإلهية تقتضي الخير والشر لتنصف المظلومين من الظالمين، فكان العدول إلى ذكر الاسم الأعظم أولى. وأما قوله تعالى في آخر السورة: {إِنَّكَ لََا تُخْلِفُ الْمِيعََادَ} (آل عمران: 194) فذلك المقام مقام الطلب للعبد من ربه أن ينعم عليه بفضله، وأن يتجاوز عن سيئاته، فلم يكن فيه ما يقتضي العدول عن الأصل المستمرّ.
البحث الرابع [في شرطه] (2)
تقدم أنّ شرط الالتفات أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه وشرطه أيضا أن يكون في جملتين، أي كلامين مستقلين، حتى يمتنع بين الشرط وجوابه.
وفي هذا الشرط نظر! فقد وقع في القرآن مواضع، الالتفات فيها وقع في كلام واحد وإن لم يكن بين جزأي الجملة، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ وَلِقََائِهِ أُولََئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} (العنكبوت: 23).
وقوله: {وَمََا كََانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى ََ حَتََّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهََا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِنََا}
(القصص: 59).
وقوله: {[وَامْرَأَةً]} [3] مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ (الأحزاب: 50)، بعد قوله:
{إِنََّا أَحْلَلْنََا لَكَ} (الأحزاب: 50)، التقدير: إن وهبت امرأة نفسها للنّبيّ (4) {إِنََّا أَحْلَلْنََا لَكَ} (الأحزاب: 50)، وجملتا الشرط والجزاء كلام واحد.
وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمََا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ فَيَقُولُ} (الفرقان: 17).
وقوله: {إِنََّا أَرْسَلْنََاكَ شََاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} (الفتح:
98) وفيه التفاتان: أحدهما بين «أرسلنا» والجلالة، والثاني بين الكاف في «أرسلناك» «ورسوله» وكلّ منهما في كلام واحد.
__________
(1) في المخطوطة (فلم يعدل).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة عبارة زائدة في هذا الموضع بعد قوله «للنبي» هي (بعد قوله).(3/396)
وقوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمََا أَشْرَكُوا بِاللََّهِ} (آل عمران:
151).
وقوله: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزََاؤُكُمْ جَزََاءً مَوْفُوراً} (الإسراء: 63)، [و] (1) جوز الزمخشري فيه أن يكون ضمير «جزاؤكم» يعود على «التّابعين» على طريق الالتفات (2).
وقوله: واتّقوا يوما يرجعون فيه إلى الله (3) (البقرة: 281)، على قراءة [الياء] (1).
وقوله: {وَبَعَثْنََا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} (المائدة: 12)، قال التنوخي في «الأقصى القريب» (5): الواو للحال.
وقوله: {[وَ]} [6] مََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس: 22).
البحث الخامس أنه يقرب من الالتفات نقل الكلام إلى غيره
وإنما يفعل ذلك إذا ابتلي العاقل بخصم جاهل متعصّب، فيجب أن يقطع الكلام [معه] (6) في تلك المسألة لأنه كلّما كان خوضه معه أكثر، كان بعده عن القبول [أشدّ] (6)، فالوجه حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، وأن يؤخذ في كلام آخر أجنبي ويطنب [فيه] (6)، بحيث ينسى الأول، فإذا اشتغل خاطره به أدرج له أثناء الكلام الأجنبيّ مقدمة تناسب ذلك المطلب الأول، ليتمكن من انقياده.
وهذا ذكره الإمام أبو الفضل في كتاب «درة التأويل» (10)، وجعل منه قوله [تعالى]:
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) الكشاف 2/ 366عند تفسير الآية (63) من سورة الإسراء.
(3) انظر القراءة في الكشاف 1/ 167عند تفسير الآية (281) من سورة البقرة.
(5) هو محمد بن محمد زين الدين تقدم التعريف به وبكتابه في 2/ 448.
(6) ليست في المخطوطة.
(10) في المطبوعة (التنزيل)، والكتاب تقدم التعريف به في 1/ 206وهو للفخر الرازي، ولكن؟ لم نقف على هذه الكنية للفخر الرازي (أبو الفضل) فيما لدينا من مصادر ترجمته، وإنما أفدنا من محقق «التكملة لوفيات النقلة» في 2/ 187ضمن حاشيته على الترجمة (1121) وهي ترجمة الفخر الرازي قوله: (ومما يستفاد أن شخصا توفي في هذه السنة 606هـ يتفق مع المترجم في الاسم واسم الأب والنسبة والمعاصرة، هو فخر الدين أبو الفضائل! محمد بن عمر الرازي الحنفي، لم يذكره المنذري).(3/397)
{اصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنََا دََاوُدَ} (ص: 17)، قال: إن قوله: {وَاذْكُرْ} ليس متصلا بما قبله، بل نقلا لهم عما هم عليه، والمقدمة المدرجة قوله: {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا بََاطِلًا} (ص: 27) إلى قوله: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} (ص: 29).
وهذا الذي قاله يخرج الآية عن الاتصال [223/ ب] مع أنّ في الاتصال وجوها مذكورة في موضعها.
وألحق به الأستاذ أبو جعفر بن الزبير (1) قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا} (ق: 21) الآية فهذا إنكار منهم للبعث واستبعاد، نحو الوارد في سورة «ص» فأعقب ذلك بما يشبه الالتفات بقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمََاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنََاهََا} (ق: 6) إلى قوله [في ماء السماء] (2): {وَأَحْيَيْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذََلِكَ الْخُرُوجُ} (ق: 11)، فبعد العدول عن مجاوبتهم، في قولهم: {ذََلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
(ق: 3)، وذكر اختلافهم المسبّب عن تكذيبهم، في قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} (ق: 5)، صرف تعالى الكلام إلى نبيّه والمؤمنين، فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمََاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنََاهََا} (ق: 6) إلى قوله: {وَأَحْيَيْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً}
(ق: 11)، وذلك حكمة تدرك مشاهدة، لا يمكنهم التوقف في شيء منه ولا حفظ عنهم إنكاره، فعند تكرر هذا، قال تعالى: {كَذََلِكَ الْخُرُوجُ} (ق: 11).
ومما يقرب من الالتفات أيضا الانتقال من خطاب الواحد والاثنين والجمع إلى خطاب آخر وهو ستة أقسام، كما سبق تقسيم الالتفات:
[المشهور] (3) أحدها: الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين، كقوله تعالى:
{أَجِئْتَنََا لِتَلْفِتَنََا عَمََّا وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيََاءُ فِي الْأَرْضِ} (يونس: 78).
الثاني: من خطاب الواحد إلى خطاب الجمع: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ}
(الطلاق: 1).
__________
(1) هو أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي تقدم التعريف به في 1/ 130وانظر قوله في ملاك التأويل 2/ 809807في الكلام على سورة ص.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) ليست في المطبوعة.(3/398)
الثالث: من الاثنين إلى الواحد، كقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمََا يََا مُوسى ََ} (طه: 49)، {فَلََا يُخْرِجَنَّكُمََا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ََ} (طه: 117).
الرابع: من الاثنين إلى الجمع، كقوله: {وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءََا لِقَوْمِكُمََا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ [قِبْلَةً]} [1] وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (يونس: 87)، وفيه انتقال آخر من الجمع [إلى] (2) الواحد، فإنه ثنّى ثم جمع، ثم وحّد، توسعا في الكلام.
وحكمة التثنية أنّ موسى وهارون هما اللذان يقرران قواعد النبوة، ويحكمان في الشريعة، فخصمهما بذلك، ثم خاطب الجميع باتخاذ البيوت قبلة للعبادة لأن الجميع مأمورون بها، ثم قال لموسى [وحده] (2): {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 87)، لأنه الرسول الحقيقي الذي إليه البشارة والإنذار.
الخامس: من الجمع إلى الواحد، كقوله [تعالى] (2): {وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 87) وقد سبق حكمته. ومن نظائره قول بعضهم في قوله تعالى:
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً} (البقرة: 38)، ثم قال: {فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} (البقرة:
38)، ولم يقل «منّا» مع أنه للجمع أو للواحد المعظم نفسه، وحكمته المناسبة للواقع، فالهدى لا يكون إلا من الله، فناسب الخاص للخاص.
السادس: من الجمع إلى التثنية، كقوله: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} (الرحمن: 33) إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ}
(الرحمن: 34).
السابع (5): ذكر بعضهم من الالتفات تعقيب الكلام بجملة مستقلة ملاقية له في المعنى على طريق المثل أو الدعاء، فالأول كقوله: {وَزَهَقَ الْبََاطِلُ إِنَّ الْبََاطِلَ كََانَ زَهُوقاً}
(الإسراء: 81) والثاني كقوله [تعالى]: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} (التوبة:
127).
الثامن: من الماضي إلى الأمر، كقوله [تعالى]: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ} (الأعراف: 29) وقوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعََامُ إِلََّا مََا}
__________
(1) ليست في المخطوطة، وكلمة «بيوتكم» محرفة في المخطوطة إلى (بيوتا).
(2) ليست في المخطوطة.
(5) هذه الأقسام الآتية زيادة على التقسيم المذكور أولا حيث جعلها «ستة أقسام».(3/399)
{يُتْلى ََ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثََانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * [حُنَفََاءَ لِلََّهِ]} [1] (الحج:
3130).
التاسع: من المستقبل إلى الأمر، تعظيما لحال من أجري عليه المستقبل (2). وبالضد من ذلك في حق من أجري عليه الأمر، كقوله تعالى: {يََا هُودُ مََا جِئْتَنََا} [224/ أ] {بِبَيِّنَةٍ} (هود: 53) إلى قوله: {بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ} (هود: 54)، فإنه إنما قال {أُشْهِدُ اللََّهَ} (هود: 54)، و {اشْهَدُوا} (هود: 54) ولم يقل: «وأشهدكم» ليكون موازنا له ولا شك أنّ معنى إشهاد الله على البراءة صحيح في معنى يثبت التوحيد بخلاف إشهادهم فما هو [إلا تهاون بدينهم] (3)، ودلالة على قلة المبالاة به، فلذلك عدل عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر، كما تقول للرجل منكرا: اشهد عليّ أني أحبّك.
العاشر: من الماضي إلى المستقبل، نحو: {[وَ]} [3] اللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ
(فاطر: 9)، {فَكَأَنَّمََا خَرَّ مِنَ السَّمََاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج: 31)، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} (الحج: 25).
والحكمة في هذه أن الكفر لما كان من شأنه إذا حصل أن يستمر حكمه عبّر عنه بالماضي، ليفيد ذلك مع كونه باقيا أنه قد مضى عليه زمان ولا كذلك الصدّ عن سبيل الله، فإن حكمه إنما ثبت حال حصوله مع أن في الفعل المستقبل إشعارا بالتكثير، فيشعر قوله:
«ويصدون»، أنه في [كلّ] (5) وقت بصدد ذلك، ولو قال: «وصدّوا» لأشعر بانقطاع صدّهم (6).
الحادي عشر: عكسه، كقوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ}
(النمل: 87)، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبََالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بََارِزَةً وَحَشَرْنََاهُمْ} (الكهف: 47).
قالوا: والفائدة في الفعل الماضي إذا أخبر به عن المستقبل الذي لم يوجد أنه أبلغ
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة عبارة مكررة بعد كلمة «المستقبل» وهي (إلى الأمر تعظيما لحال من أجري عليه المستقبل).
(3) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) تحرفت في المخطوطة إلى (فيدهم).(3/400)
وأعظم موقعا، لتنزيله منزلة الواقع. والفائدة في المستقبل [إذا] (1) أخبر (2) به عن الماضي لتتبين هيئة الفعل باستحضار صورته، ليكون السامع كأنه شاهد، وإنما عبر (3) في الأمر بالتوبيخ بالماضي بعد قوله: {يُنْفَخُ} (النمل: 87) للإشعار بتحقيق الوقوع وثبوته، وأنه كائن لا محالة، كقوله: {وَبَرَزُوا لِلََّهِ جَمِيعاً} (إبراهيم: 21)، والمعنى: «يبرزون»، وإنما قال: {وَحَشَرْنََاهُمْ} (الكهف: 47) بعد {نُسَيِّرُ} (الكهف: 47) {وَتَرَى}
(الكهف: 47)، وهما مستقبلان، لذلك.
التضمين
وهو إعطاء الشيء معنى الشيء، وتارة يكون في [الأسماء، وفي] (4): الأفعال، وفي الحروف، فأمّا في الأسماء فهو أن تضمّن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا، كقوله [تعالى]: {حَقِيقٌ عَلى ََ أَنْ لََا أَقُولَ عَلَى اللََّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (الأعراف: 105)، ضمّن «حقيق» معنى «حريص» ليفيد أنه محقوق بقول الحقّ وحريص عليه.
وأما الأفعال فأن تضمّن فعلا [معنى فعل] (4) آخر، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا وذلك بأن يكون الفعل يتعدّى بحرف، فيأتي متعديا بحرف آخر ليس من عادته التعدّي به، فيحتاج إمّا إلى تأويله أو تأويل الفعل، ليصحّ تعدّيه به.
واختلفوا أيّهما أولى؟ فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أنّ التوسع في الحرف وأنه واقع موقع غيره من الحروف أولى.
وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدى لتضمّنه معنى ما يتعدى بذلك الحرف أولى لأن التوسع في الأفعال أكثر.
مثاله قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهََا عِبََادُ اللََّهِ} (الإنسان: 6)، فضمّن «يشرب» معنى «يروى»، لأنّه يتعدى (6) بالباء، فلذلك دخلت الباء، وإلا ف «يشرب» يتعدّى بنفسه، فأريد باللّفظ الشرب والريّ معا، فجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة هي (عبر).
(3) في المخطوطة هي (يخبر).
(4) ليست في المخطوطة.
(6) عبارة المطبوعة (لأنه لا يتعدى بالباء)، وما أثبتناه من المخطوطة.(3/401)
وقيل: التجوّز في الحرف وهو الباء فإنها بمعنى «من».
وقيل: لا مجاز أصلا، بل العين هاهنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء، لا إلى الماء نفسه، نحو نزلت بعين، فصار كقوله: مكانا يشرب به.
وعلى هذا: {فَلََا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفََازَةٍ مِنَ الْعَذََابِ} (آل عمران: 188)، قاله الراغب (1).
وهذا بخلاف المجاز فإنّ فيه العدول عن مسمّاه بالكليّة، ويراد [224/ ب] به غيره، كقوله [تعالى]: {جِدََاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (الكهف: 77)، [فإنّه] (2) استعمل «أراد» في معنى مقاربة السقوط لأنه من لوازم الإرادة، وإنّ من أراد شيئا فقد قارب فعله، ولم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقيّ الذي هو الإرادة البتة. والتضمين [أيضا مجاز لأنّ اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، والجمع بينهما مجاز خاصّ يسمونه بالتضمين] (2)، تفرقة بينه وبين المجاز المطلق.
ومن التضمين قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ} (البقرة:
187) لأنه لا يقال: رفثت [إلى] (2) المرأة: لكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك.
وهكذا قوله: {هَلْ لَكَ إِلى ََ أَنْ تَزَكََّى} (النازعات: 18) وإنما يقال: هل لك في كذا؟ لكن المعنى أدعوك إلى أن تزكّى.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبََادِهِ} (الشورى: 25)، فجاء ب «عن»، لأنه ضمّن التوبة معنى العفو والصفح.
وقوله: {وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ} (البقرة: 14)، وإنما يقال: خلوت به، لكن ضمّن «خلوا» معنى «ذهبوا» وانصرفوا»، وهو معادل لقوله: {لَقُوا} (البقرة: 14) وهذا أولى من قول من قال: إنّ «إلى» هنا بمعنى الباء، أو بمعنى «مع».
__________
(1) انظر قول الراغب في المفردات ص 355كتاب العين، وفي 387كتاب الفاء، والراغب هو أبو القاسم الحسين بن محمد تقدم التعريف به في 1/ 218.
(2) ليست في المخطوطة.(3/402)
وقال مكّي (1): إنما [لم] (2) تأت الباء لأنه يقال: خلوت به إذا سخرت منه، فأتى ب «إلى» لدفع هذا الوهم.
وقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرََاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف: 16)، قيل: الصراط منصوب على المفعول به، أي لأكرّهنّ لهم (3) صراطك، أو لأملّكنّه لهم، و «أقعد» وإن كان غير متعدّ ضمّن معنى فعل متعدّ.
وقوله: {وَلََا تَعْدُ عَيْنََاكَ عَنْهُمْ} (الكهف: 28)، ضمّن «تعد» معنى «تنصرف» فعدّى ب «عن». قال ابن الشجريّ (4): «ومن زعم أنه كان حق الكلام «لا تعد عينيك عنهم» بالنصب لأن «تعد» متعدّ بنفسه فباطل، لأن عدوت وجاوزت بمعنى واحد، وأنت لا تقول: جاوز فلان عينيه (5) عن فلان، ولو كانت التلاوة بنصب العينين (6) لكان اللفظ بنصبهما (7)
محمولا أيضا على: لا تصرف عينيك (8) عنهم، وإذا كان كذلك، فالذي وردت [به] (9) التلاوة من رفع العينين (10) يؤول إلى معنى النصب فيها إذ كان {لََا تَعْدُ عَيْنََاكَ} بمنزلة «لا تنصرف» ومعناه لا تصرف عينيك (11) عنهم، فالفعل مسند إلى العينين (10)، وهو في الحقيقة موجّه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما قال: {وَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ} (التوبة: 85)، أسند الإعجاب إلى الأموال، والمعنى لا تعجب بأموالهم» (13).
وقوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنََا} (إبراهيم: 13)، ضمّن معنى «لتدخلنّ» أو «لتصيرنّ» وأما قول شعيب: {وَمََا يَكُونُ لَنََا أَنْ نَعُودَ فِيهََا [إِلََّا أَنْ يَشََاءَ]} [14] (الأعراف:
__________
(1) هو مكي بن حموش بن محمد بن مختار القيسي تقدم التعريف به في 1/ 278.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) عبارة المطبوعة (لألزمنّ لك صراطك).
(4) هو أبو السعادات هبة الله بن علي بن حمزة، تقدم التعريف به في 2/ 376وانظر قوله في كتابه «الأمالي الشجرية» 1/ 148المجلس الثاني والعشرون.
(5) في المطبوعة والمخطوطة تحرفت إلى (عينه) والتصويب من الأمالي الشجرية.
(6) في المطبوعة والمخطوطة (العين) والصواب من الأمالي.
(7) في المطبوعة والمخطوطة (يتضمنها) والصواب من الأمالي.
(8) في المطبوعة والمخطوطة (عينك) والصواب من الأمالي.
(9) ليست في المخطوطة.
(10) في المطبوعة والمخطوطة (العين) والصواب من الأمالي.
(11) في المطبوعة والمخطوطة (عينك) والصواب من الأمالي.
(13) هنا ينتهي قول ابن الشجري.
(14) ليست في المطبوعة.(3/403)
89) فليس اعترافا بأنه كان فيهم، بل مؤوّل على ما سبق، وتأويل آخر وهو أن يكون من نسبة فعل البعض إلى الجماعة، أو قاله على طريق المشاكلة لكلامهم، وهذا أحسن.
وقوله: {أَنْ لََا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} (الحج: 26)، ضمّن «لا تشرك» معنى «لا تعدل» والعدل: التسوية، أي لا تسوّي به شيئا.
[وقوله] (1): {وَأَخْبَتُوا إِلى ََ رَبِّهِمْ} (هود: 23) ضمّن معنى «أنابوا» فعدّى بحرفه.
وقوله: {إِنْ كََادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلََا أَنْ رَبَطْنََا عَلى ََ قَلْبِهََا} (القصص: 10) ضمّن {لَتُبْدِي بِهِ} (القصص: 10) معنى «تخبر به» أو «لتعلم» ليفيد الإظهار معنى الإخبار (2)
لأن الخبر قد يقع سرّا غير ظاهر.
وقوله: {عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً} (الإسراء: 79)، جوّز الزمخشري (3)
نصب {مَقََاماً}، على [الظرف على] (1) تضمين {يَبْعَثَكَ} [معنى «يقيمك»] (1).
وقوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ} (يونس: 71)، قال الفارسي (6): ومن قرأ «فأجمعوا» بالقطع أراد فأجمعوا أمركم و [اجمعوا] (7) شركاءكم، كقوله:
متقلّدا سيفا ورمحا
وقوله: {حَتََّى إِذََا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (سبأ: 23)، قال ابن سيده (8): عدّاه: ب «عن» لأنه في معنى كشف الفزع.
وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكََافِرِينَ} (المائدة: 54)، فإنه يقال: ذلّ له، لا عليه، ولكنه هنا ضمّن معنى التعطف والتحنّن.
وقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسََائِهِمْ} (البقرة: 226) ضمن [{يُؤْلُونَ}] (9) (البقرة:
226) معنى «يمتنعون» من وطئهن بالأليّة.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) عبارة المخطوطة (ليفيد الإخبار معنى الخبر).
(3) انظر قوله في الكشاف 2/ 372عند تفسير الآية (79) من سورة الإسراء.
(6) انظر الكشاف 2/ 197عند تفسير الآية (71) من سورة يونس، والفارسي هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار تقدم التعريف به في 1/ 375وانظر إتحاف فضلاء البشر» ص 253سورة يونس.
(7) ليست في المطبوعة.
(8) هو علي بن أحمد بن إسماعيل تقدم التعريف به في 1/ 159.
(9) ليست في المخطوطة.(3/404)
وقوله: {لََا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ََ} (الصافات: 8) أي لا يصغون.
[225/ أ] {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} (القصص: 85)، أي أنزل.
{فِيمََا فَرَضَ اللََّهُ لَهُ} (الأحزاب: 38)، أي أحلّ له.
{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران: 55) أي مميّزك.
{إِنَّ اللََّهَ لََا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس: 81) أي لا يرضى.
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} (فصلت: 6)، أي أنيبوا [إليه] (1) وارجعوا.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ} (الحاقة: 29)، أي زال.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخََالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63)، فإنه يقال (2): خالفت زيدا، من غير احتياج لتعديه بالجارّ، وإنما جاء (3) محمولا على «ينحرفون» أو «يزيغون».
ومثله تعدية «رحيم» بالباء في نحو: {وَكََانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: 43) حملا على «رءوف»، في نحو: {رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128)، ألا ترى أنك تقول:
رأفت به، ولا تقول: رحمت به، ولكن لما وافقه في المعنى تنزّل منزلته في التعدية.
وقوله: {إِنِّي لِمََا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص: 24)، ضمّن معنى «سائل».
{الَّذِينَ إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ [يَسْتَوْفُونَ]} [4] (المطففين: 2)، قال الزمخشري:
ضمن معنى «تحاملوا» فعداه ب «على» والأصل فيه «من» (5).
تنبيهان
الأول: الأكثر أن يراعى في التعدية ما ضمّن منه، وهو المحذوف لا المذكور، كقوله تعالى: {الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ} (البقرة: 187)، أي الإفضاء.
وقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهََا عِبََادُ اللََّهِ} (الإنسان: 6)، أي يروى [بها] (6)، وغيره مما سبق.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (فإنك تقول).
(3) في المخطوطة (وإنما جاز).
(4) ليست في المطبوعة.
(5) هذه العبارة معنى قول الزمخشري الذي ذكره في الكشاف 4/ 194عند تفسير الآية (2) من سورة المطففين.
(6) ليست في المخطوطة.(3/405)
ولم أجد مراعاة الملفوظ به إلا في موضعين: أحدهما قوله تعالى: {يُقََالُ لَهُ إِبْرََاهِيمُ}
(الأنبياء: 60) على قول ابن الضائع (1) أنّه ضمن «يقال» معنى «ينادي» و «إبراهيم» نائب عن الفاعل وأورد على نفسه: [كيف] (2) عدّي باللام، والنداء لا يتعدى به؟ وأجاب بأنه روعي الملفوظ به وهو القول لأنه يقال: قلت له الثاني: قوله: {وَحَرَّمْنََا عَلَيْهِ الْمَرََاضِعَ مِنْ قَبْلُ}
(القصص: 12) فإنه قد يقال: كيف يتعلّق التكليف بالمرضع؟ فأجيب بأنّه ضمن «حرّم» المعنى اللغوي، وهو المنع. فاعترض كيف عدّي ب «على» والمنع لا يتعدى به فأجيب بأنه روعي صورة اللفظ.
* * * الثاني: أن التضمين يطلق على غير ما سبق قال القاضي أبو بكر في كتاب «إعجاز القرآن» (3): «هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم [أو صفة] (4) هي عبارة عنه، ثم قسمه إلى قسمين: أحدهما ما يفهم من البنية، كقولك: معلوم، فإنه يوجب أنه لا بد من عالم.
والثاني من معنى العبارة كالصفة، فضارب يدل على مضروب. قال: والتضمين كله إيجاز، قال: وذكر أن {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) من باب التضمين لأنّه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تعالى، أو التبرّك باسمه».
* * * وذكر ابن الأثير في كتاب «المعاني المبتدعة» (5): أنّ التضمين واقع في القرآن خلافا لما أجمع عليه أهل البيان وجعل منه قوله تعالى في الصافات: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنََا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنََّا عِبََادَ اللََّهِ الْمُخْلَصِينَ} (الصافات: 169168).
* * * ويطلق التضمين أيضا على إدراج كلام الغير في أثناء الكلام لتأكيد المعنى، أو لترتيب النظم ويسمى الإبداع، كإبداع الله تعالى في حكايات أقوال المخلوقين، كقوله [تعالى]
__________
(1) هو علي بن محمد بن علي بن يوسف تقدم التعريف به في 2/ 364.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) انظر قوله في كتابه «إعجاز القرآن» ص 273272فصل في وصف وجوه من البلاغة، ومنها:
التضمين.
(4) زيادة من كتاب الباقلاني يقتضيها النص لاستقامة سياقه.
(5) هو نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد الموصلي تقدم التعريف به وبكتابه في 3/ 189.(3/406)
حكاية عن قول الملائكة: {قََالُوا أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا وَيَسْفِكُ الدِّمََاءَ} (البقرة: 30).
ومثل ما حكاه عن المنافقين: {قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة: 11).
وقوله: {قََالُوا أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ} (البقرة: 13).
[{وَقََالَتِ الْيَهُودُ}] (1) (البقرة: 113).
[ومثله] (2) {وَقََالَتِ النَّصََارى ََ} (البقرة: 113)، ومثله في القرآن كثير.
وكذلك ما أودع في القرآن من اللغات الأعجمية.
* * * ويقرب من التضمين في إيقاع فعل موقع آخر إيقاع الظن موقع اليقين في الأمور المحققة كقوله تعالى: (1) [{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة: 46).
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ]} [1] أَنَّهُمْ مُلََاقُوا اللََّهِ كَمْ [مِنْ] فِئَةٍ [قَلِيلَةٍ] (1) (البقرة: 249).
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النََّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوََاقِعُوهََا} (الكهف: 53).
{وَظَنَّ دََاوُدُ أَنَّمََا فَتَنََّاهُ} (ص: 24).
[225/ ب] {وَظَنُّوا مََا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} (فصلت: 48).
وشرط ابن عطية في ذلك ألا يكون متعلّقه حسيّا، كما تقول العرب في رجل يرى حاضرا:
أظن هذا إنسانا، وإنما يستعمل ذلك فيما لم يخرج إلى الحسّ بعد، كالآيات السابقة.
قال الراغب في «الذريعة» (6): «الظنّ إصابة المطلوب بضرب من الأمارة متردّد بين يقين وشك، فيقرب تارة من طرف اليقين، وتارة من طرف الشك، فصار أهل اللغة يفسّرونه بهما فمتى رئي إلى طرف اليقين أقرب استعمل معه «أنّ» المثقلة والمخففة فيهما، كقوله
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ليست في المطبوعة.
(6) قول الراغب موجود أيضا في كتابه المفردات في غريب القرآن ص 317مادة (ظنّ) بمعناه، وبلفظه في كتابه «الذريعة إلى مكارم الشريعة» ص 186185توابع العقل، وقد طبع كتاب الذريعة في القاهرة مطبعة الوطن سنة 1299هـ / 1881م، وسنة 1308هـ / 1890م، وطبع في القاهرة المطبعة الشرفية سنة 1324هـ / 1906م، وطبع في القاهرة سنة 1334هـ / 1915م، وفي القاهرة المطبعة الأزهرية وراجعه طه عبد الرءوف سعد سنة 1399هـ / 1979م (معجم سركيس ص 922)، وطبع بالأوفست في بيروت بدار الكتب العلمية سنة 1401هـ / 1981م، وطبع في القاهرة بتحقيق أبو اليزيد العجمي دار الصحوة سنة 1405هـ / 1985، وحققه عبد المجيد النجار (أخبار التراث العربي 19/ 16).(3/407)
تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ} (1) (البقرة: 46) {وَظَنُّوا أَنَّهُ وََاقِعٌ بِهِمْ}
(الأعراف: 171). ومتى رئي إلى الشك أقرب استعمل معه «أن» التي للمعدومين من الفعل، نحو ظننت أن يخرج.
قال: وإنما استعمل الظن بمعنى العلم في قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ}
(البقرة: 46) لأمرين:
أحدهما: للتنبيه على أنّ علم أكثر الناس في الدنيا بالنسبة إلى علمهم في الآخرة (2)، كالظنّ في جنب العلم.
والثاني: أن العلم الحقيقيّ في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنّبيّين والصديقين المعنيين بقوله [تعالى]: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتََابُوا} (الحجرات: 15)، والظنّ متى كان عن أمارة قوية فإنه يمدح به، ومتى كان عن تخمين لم يمدح، كما قال تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}» (3) (الحجرات: 12).
وجوّز أبو الفتح في قوله: {أَلََا يَظُنُّ أُولََئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين:
54) أن يكون المراد بها اليقين، وأن تكون على بابها، وهو أقوى في المعنى، أي فقد يمنع من هذا التوهم، فكيف عند تحقيق الأمر، فهذا أبلغ كقوله: «يكفيك من شرّ سماعه» أي لو توهم البعث والنشور وما هناك من عظم الأمر وشدته لاجتنب المعاصي، فكيف عند تحقق الأمر! وهذا أبلغ.
وقيل: آيتا البقرة بمعنى الاعتقاد، والباقي بمعنى اليقين، والفرق بينهما أن الاعتقاد يقبل التشكيك بخلاف اليقين، وإن اشتركا جميعا في وجوب الجزم بهما.
وكذلك قوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلََاقٍ حِسََابِيَهْ} (الحاقة: 20).
وقد جاء عكسه وهو التجوّز عن الظن بالعلم، كقوله تعالى: {وَمََا شَهِدْنََا إِلََّا بِمََا عَلِمْنََا}
(يوسف: 81)، ولم يكن ذلك علما جازما بل اعتقادا ظنيّا.
__________
(1) الآية في المطبوعة (الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) (البقرة: 249)، وما أثبتناه من المخطوطة موافق لما في كتاب الذريعة.
(2) عبارة المخطوطة (إلى علم الآخرة).
(3) هنا تنتهي عبارة الراغب المنقولة من كتابه «الذريعة».(3/408)
وقوله: {وَلََا تَقْفُ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36)، وكان يحكم بالظن وبالظاهر.
وقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنََاتٍ} (الممتحنة: 10) وإنما يحصل بالامتحان في الحكم، ووجه التجوز أنّ بين الظن والعلم قدرا مشتركا وهو الرجحان، فتجوّز بأحدهما عن الآخر.
وضع الخبر موضع الطلب [أي] (1) في الأمر والنهي
كقوله تعالى: {وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ [حَوْلَيْنِ كََامِلَيْنِ]} [1] (البقرة: 233).
{وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (البقرة: 228).
[وقوله] (1) {سَلََامٌ عَلَيْكُمْ} (الرعد: 24).
{الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ [لَكُمْ]} [4] (يوسف: 92).
وقوله: {فَكَفََّارَتُهُ إِطْعََامُ عَشَرَةِ مَسََاكِينَ} (المائدة: 89) الآية ولهذا جعلها العلماء من أمثلة الواجب [المخير] (1).
{فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ} (البقرة: 197) على قراءة الرفع (6)، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا.
{وَمََا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغََاءَ وَجْهِ اللََّهِ} (البقرة: 272) قالوا: هو خبر، وتأويله نهي، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، كقوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) وكقوله: {لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ بِوَلَدِهََا} (البقرة: 233)، على قراءة الرفع. وقيل: إنه نهي مجزوم أعني قوله:
{لََا يَمَسُّهُ} (الواقعة: 79) ولكن ضمّت اتباعا للضمير، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا لم نردّه عليك إلا أنّا حرم» (7).
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.
(6) ذكر مكي الآية في الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/ 285فقال: (قوله {فَلََا رَفَثَ وَلََا فُسُوقَ}
قرأهما ابن كثير وأبو عمرو بالتنوين والرفع، وقرأ الباقون بالفتح من غير تنوين)، وكلمة (الرفع) تصحفت في المطبوعة إلى (نافع).
(7) متفق عليه من رواية الصعب بن جثّامة الليثي رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح 4/ 31كتاب جزاء الصيد (28)، باب إذا أهدي للمحرم حمارا وحشيا (6)، الحديث (1825)، وأخرجه مسلم في الصحيح 2/ 850كتاب الحج (15)، باب تحريم الصيد للمحرم (8)، الحديث (50/ 1193)،(3/409)
وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَ بَنِي إِسْرََائِيلَ لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ} (البقرة: 83)، ضمّن {لََا تَعْبُدُونَ} معنى «لا تعبدوا بدليل قوله بعده: {وَقُولُوا لِلنََّاسِ حُسْناً} (البقرة: 83)، وبه يزول (1) الإشكال في عطف [226/ أ] الإنشاء على الخبر [لكن] (2) إن كان {حُسْناً}
معمولا لأحسنوا، فعطف {قُولُوا} عليه أولى لاتفاقهما لفظا ومعنى، وإن كان التقدير و «يحسنون» فهو كالذي قبله، والعطف على القريب أولى. وقيل [إن] (3): {لََا تَعْبُدُونَ}
(البقرة: 83) أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهيّ يسارع إلى الانتهاء، فهو مخبر عنه.
وكذا قوله: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ لََا تَسْفِكُونَ دِمََاءَكُمْ} (البقرة: 84) في موضع «لا تسفكوا».
وقوله في سورة الصف: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الآية: 13) عطفا على قوله:
{تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} (الصف: 11)، ولهذا جزم الجواب.
وقوله: «{إِنَّ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فََاكِهُونَ} (يس: 55) إلى قوله:
{وَامْتََازُوا الْيَوْمَ} (يس: 59): فإن المقام يشتمل على تضمين {إِنَّ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ} (يس: 55) معنى الطلب، بدليل ما قبله: {فَالْيَوْمَ لََا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} (يس:
54)، فإنه كلام وقت الحشر لوروده معطوفا بالفاء، على قوله: {إِنْ كََانَتْ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً فَإِذََا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنََا مُحْضَرُونَ} (يس: 53) وعامّ لجميع الخلق لعموم قوله: {لََا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} (يس: 54)، وإن الخطاب الوارد بعده على سبيل الالتفات، وهو قوله: {وَلََا تُجْزَوْنَ إِلََّا مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (يس: 54)، خطاب [عام] (4) لأهل المحشر، فيكون قوله: {إِنَّ}
__________
ولكن ضبط كلمة (نردّه) في الصحيحين بفتح الدال وفي بيان ذلك نقل ابن حجر في فتح الباري 4/ 33ما نصه (قال عياض: ضبطناه في الروايات «لم نردّه» بفتح الدال، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا: الصواب أنه بضم الدال لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجيها لها ضمة الهاء بعدها، قال وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب في «الفصيح». نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف، وأوهم صنيعه أنه فصيح، وأجازوا أيضا الكسر وهو أضعف الأوجه، قلت: ووقع في رواية الكشميهني بفك الإدغام «لم نردده» بضم الأولى وسكون الثانية ولا إشكال فيه)، وشاهد الزركشي في الحديث بضمها.
(1) في المخطوطة (فيزول).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.(3/410)
{أَصْحََابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فََاكِهُونَ} (يس: 55) إلى قوله: {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس:
59) مقيدا بهذا (1) الخطاب لكونه تفصيلا لما أجمله: {وَلََا تُجْزَوْنَ إِلََّا مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
(يس: 54)، وإن التقدير أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر، ثم جاء في التفسير أن قوله هذا: {إِنَّ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فََاكِهُونَ} (يس: 55) يقال لهم حين يساق بهم إلى الجنة، بتنزيل ما هو للتكوين منزلة الكائن، أي أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر، يؤول حالهم إلى أسعد حال، والتقدير حينئذ: ليمتازوا عنكم إلى الجنة»، هكذا قرره السكاكيّ في «المفتاح» (2).
قيل: وفيه نظر لأنها إذا كانت طلبية ومعناها أمر المؤمنين بالذهاب إلى الجنة، فليكن الخطاب معهم لا مع أهل المحشر [لأن الخطاب في التحيير هنا هو المأمور فيها] (3).
ولهذا قال بعضهم: إن تضمين أصحاب أهل الجنة للطّلب ليس المراد منه أن الجملة نفسها طلبية، بل معناه أن يقدر جملة إنشائية بعدها، بخلاف قوله: {وَقُولُوا لِلنََّاسِ حُسْناً}
(البقرة: 83).
ومنه قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (الصف: 1211)، فإنه يقال:
كيف جاء الجزم في جواب الخبر؟ وجوابه أنه لمّا كان في معنى الأمر جاز ذلك، إذ المعنى:
آمنوا وجاهدوا.
وقال ابن جنّي: لا يكون {يَغْفِرْ [لَكُمْ]} [4] (الصف: 12) جوابا ل {هَلْ أَدُلُّكُمْ} (الصف: 10) وإن كان أبو العباس قد قاله، [قال أبو علي] (4) لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلالة. انتهى. وقد يقال الدلالة: سبب السبب.
إذا علمت هذا فإنما يجيء الأمر بلفظ الخبر الحاصل تحقيقا لثبوته وأنه مما ينبغي أن يكون واقعا ولا بد، وهذا هو المشهور.
__________
(1) عبارة المخطوطة (تقييدا بعد الخطاب).
(2) ذكره السكاكي في مفتاح العلوم ص 259258الفن الرابع الفصل والوصل، ثم ذكر التوسط.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المطبوعة.(3/411)
وفيه طريقة أخرى نقلت عن القاضي أبي بكر وغيره وهي أنّ هذا خبر حقيقة غير مصروف عن جهة الخبرية ولكنه خبر عن حكم الله وشرعه ليس خبرا عن الواقع حتى يلزم ما ذكره من الإشكال وهو احتمال عدم وقوع مخبره فإن هذا إنما يلزم الخبر عن الواقع أما الخبر عن الحكم فلا لأنه لا يقع خلافه أصلا.
وضع الطلب موضع الخبر
كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كََانَ فِي الضَّلََالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمََنُ مَدًّا} (مريم: 75).
وقوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} (التوبة: 53).
[226/ ب] وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثََابَةً لِلنََّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125).
وقوله: «{فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ وَمَنْ حَوْلَهََا وَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ * يََا مُوسى ََ إِنَّهُ أَنَا اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصََاكَ} (النمل: 1098) فقوله: {وَأَلْقِ} معطوف على قوله. {أَنْ بُورِكَ} ف {أَلْقِ} وإن كان إنشاء لفظا، لكنه خبر معنى. والمعنى: فلما جاءها قيل بورك من [في] (1) النار، وقيل: ألق.
والموجب لهذا قول النحاة (2) [إن] (1) «أن» هذه مفسّرة لا تأتي إلا بعد فعل في معنى القول، وإذا قيل: كتبت إليه أن ارجع، وناداني أن قم، كلّه (4) بمنزلة: قلت له [ارجع] (5)، وقال لي قم» كذا قاله صاحب «المفتاح» (6).
وما ذكره من أن {بُورِكَ} خبرية لفظا ومعنى ممنوع (7) لجواز أن يكون دعاء وهو إنشاء وقد ذكر هذا التقدير، الفارسي وأبو البقاء (8)، فتكون الجملتان متفقتين في معنى الإنشاء فتكون مثل {لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ} (البقرة: 83).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (النحويين).
(4) في المخطوطة (مكان بمنزلة).
(5) ليست في المطبوعة.
(6) ذكره السكاكي في مفتاح العلوم ص 259عند قوله عن «التوسط».
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (فهو).
(8) انظر قول أبي البقاء العكبري في كتابه «إملاء ما من به الرحمن» 2/ 93 (ط ميمنية) عند تفسير الآية من سورة النمل.(3/412)
وقوله: {يََا لَيْتَنََا نُرَدُّ وَلََا نُكَذِّبَ [بِآيََاتِ رَبِّنََا]} [1] (الأنعام: 27) إلى قوله:
{وَإِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ} (الأنعام: 28) فإنه يقال: كيف ورد التمني على التكذيب وهو إنشاء؟.
وأجاب الزمخشري (2) أنه ضمّن معنى العدة، وأجاب غيره بأنه محمول على المعنى من الشرط والخبر كأنه قيل: إن رددنا لم نكذّب وآمنّا. والشرط خبر، فصحّ ورود التكذيب عليه.
وقوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنََا وَلْنَحْمِلْ خَطََايََاكُمْ} (العنكبوت: 12)، أي ونحن حاملون، بدليل قوله: {إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ} (العنكبوت: 12) والكذب إنما يرد على الخبر.
وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (مريم: 38) تقديره: ما أسمعهم وأبصرهم! لأنّ الله تعالى لم يتعجّب منهم، ولكنّه دلّ المكلّفين على أن هؤلاء قد نزّلوا (3) منزلة من يتعجب منه.
وممّا يدلّ على كونه ليس [أمرا] (4) حقيقيا ظهور الفاعل الذي هو الجار والمجرور في الأول، وفعل الأمر لا يبرز فاعله أبدا.
ووجه التجوّز في هذا الأسلوب أنّ الأمر شأنه أن يكون ما فيه داعية للأمر وليس الخبر كذلك، فإذا عبّر عن الخبر بلفظ الأمر أشعر ذلك بالدّاعية، فيكون ثبوته وصدقه [أقرب] (4).
هذا بالنسبة لكلام العرب لا لكلام الله إذ يستحيل في حقه سبحانه الداعية للفعل.
بقي الكلام في أيّهما أبلغ؟ هذا القسم أو الذي قبله؟.
قال الكواشي (6) في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمََنُ مَدًّا} (مريم: 75)، الأمر بمعنى الخبر لتضمنه [معنى] (7) اللزوم نحو إن زرتنا فلنكرمك، يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) انظر قول الزمخشري في الكشاف 2/ 9عند تفسير الآية (27) من سورة الأنعام.
(3) في المخطوطة (قد ينزلون).
(4) ليست في المخطوطة.
(6) هو أحمد بن يوسف بن حسن تقدم التعريف به في 1/ 272.
(7) ليست في المطبوعة.(3/413)
وقال الزمخشريّ (1) في قوله تعالى: {لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ} (البقرة: 83)، ورود الخبر والمراد الأمر أو النهي، أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنّه سورع فيه إلى الامتثال والخبر عنه.
وقال النّوويّ في «شرح مسلم» (2) في باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها [في النكاح] (3): وقوله صلّى الله عليه وسلّم: («لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه»، هكذا هو في جميع النسخ، «ولا يسوم» بالواو «ولا يخطب» بالرفع، وكلاهما لفظه لفظ الخبر والمراد به النهي وهو أبلغ في النهي، لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه، والنهي قد تقع مخالفته، فكأن المعنى: عاملوا هذا النهي معاملة خبر الحتم، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تسأل المرأة طلاق أختها» يجوز في «تسأل» الرفع والكسر، والأول على الخبر الذي يراد به النهي، وهو المناسب لقوله قبله: «لا يخطب ولا يسوم»، والثاني على النهي الحقيقي) انتهى.
وضع النداء موضع التعجب
كقوله [227/ أ] تعالى: {يََا حَسْرَةً عَلَى الْعِبََادِ} (يس: 30)، قال الفراء:
«معناه: فيا لها من حسرة» (4)! والحسرة في اللغة أشدّ الندم لأن القلب يبقى حسيرا.
وحكى أبو الحسين بن خالويه في كتاب «المبتدأ» (5) عن البصريين أن هذه من أصعب مسألة في القرآن، لأن الحسرة لا تنادى، وإنما تنادى الأشخاص لأن فائدته التنبيه، ولكن المعنى على التعجب، كقوله: يا عجبا لم فعلت! {يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ} (الزمر:
56) [وهو] (6) أبلغ من قولك: العجب. قيل: فكأنّ التقدير يا عجبا احضر، يا حسرة احضري!
__________
(1) انظر الكشاف 1/ 7978عند تفسير الآية (83) من سورة البقرة.
(2) انظر قول النووي في «شرح صحيح مسلم» 9/ 192كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) انظر قوله في معانى القرآن 2/ 375عند تفسير الآية (30) من سورة يس.
(5) هو الحسين بن خالويه تقدم التعريف به وبكتابه «المبتدأ» في 2/ 369.
(6) ليست في المخطوطة، وعبارة المخطوطة (في هذا أبلغ).(3/414)
وقرأ الحسن: يا حسرة العباد (1).
ومنهم قال: الأصل «يا حسرتاه» ثم أسقطوا الهاء تخفيفا، ولهذا قرأ عاصم يا أسفاه على يوسف (يوسف: 84).
وقال ابن جني في كتاب «الفسر» (2) معناه أنه لو كانت الحسرة مما يصحّ نداؤه لكان هذا وقتها.
وأما قوله تعالى: {يََا بُشْرى ََ} (يوسف: 19)، فقالوا: معنى النداء فيما لا يعقل تنبيه المخاطب وتوكيد القصة فإذا قلت: يا عجبا! فكأنك قلت: اعجبوا، فكأنه قال: يا قوم أبشروا.
قال أبو الفتح في «الخاطريات» (3): وقد توضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع المفعول به، كقوله تعالى: {[وَلَكُمْ]} [4] فِيهََا مَنََافِعُ (غافر: 80) بعد قوله: {[اللََّهُ]} [5] 3/ 354 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعََامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهََا (غافر: 79)، المعنى: ولتنتفعوا بها، عطفا على قوله: (6) {لِتَرْكَبُوا مِنْهََا} (غافر: 79) وعلى هذا قال: {[وَ]} [7] لِتَبْلُغُوا عَلَيْهََا حََاجَةً فِي صُدُورِكُمْ (غافر: 80). وكذلك قوله: {وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ} (غافر: 79)، أي ولتأكلوا منها. ولذلك أتى: {وَعَلَيْهََا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (غافر: 80)، فعطف الجملة من الفعل ومرفوعه على المفعول له.
ونظيره قوله تعالى: {وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ [فَاتَّقُونِ]} [8]
(المؤمنون: 52)، [أي ولأنّي ربّكم فاتقون] (7)، فوضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع المفعول له.
وبهذا يبطل تعلّق [من تعلق] (7) على ثبوته في قوله تعالى: {وَأَذََانٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ}
__________
(1) قراءة الحسن ذكرها ابن البنا في إتحاف فضلاء البشر ص 364.
(2) تقدم التعريف بكتابه في 2/ 284.
(3) تقدم التعريف بكتابه في 2/ 436.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المطبوعة.
(6) عبارة المخطوطة (عطف قوله {لِتَرْكَبُوا مِنْهََا} ولهذا قال).
(7) ليست في المخطوطة.
(8) ليست في المطبوعة.(3/415)
{إِلَى النََّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 3)، وقوله:
إن هذا ليس من مواضع الابتداء لجواز تقدير: وأذان بأن الله بريء، وبأنّ رسوله كذلك.
وضع جمع القلة موضع الكثرة
لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض، لاشتراكها في مطلق الجمعية، كقوله تعالى:
{وَهُمْ فِي الْغُرُفََاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 37)، فإن المجموع بالألف والتاء للقلة، وغرف الجنة لا تحصى.
وقوله: {هُمْ دَرَجََاتٌ عِنْدَ اللََّهِ} (آل عمران: 163)، ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة.
وقوله: {اللََّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} (الزمر: 42).
وقوله: {وَاسْتَيْقَنَتْهََا أَنْفُسُهُمْ} (النمل: 14)، وهو كثير.
[و] (1) قيل: [سبب] (1) ذلك في الآية الأولى دخول الألف واللام الجنسية فيكون ذلك تكثيرا لها، وكان دخولها على جمع القلة أولى من دخولها على جمع الكثرة، إشارة إلى قلة من يكون فيها، ألا ترى أنّه لا يكون فيها إلا المؤمنون! وقد نصّ سبحانه على قلّتهم بالإضافة إلى غيرهم في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَقَلِيلٌ مََا هُمْ} (ص: 24)، فيكون التكثير الداخل في قوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفََاتِ} (سبأ: 37)، لا من جهة [وضع جمع القلة موضع جمع الكثرة ولكن من جهة] (1) ما اقتضته الألف واللام للجنس.
واعلم أن جموع التكثير الأربعة وجمعي التصحيح (4) أعني جمع التأنيث وجمع التذكير كل ذلك للقلّة أما جموع التكسير فبالوضع، وأمّا جمعا التصحيح فلأنهما (5)
[أقرب] (1) إلى التثنية وهي أقل العدد، فوجب أن [يكون] (7) الجمع المشابه لها بمنزلتها في القلّة، وما عداها من الجموع فيرد تارة للقلة وتارة للكثرة بحسب القرائن، قال تعالى:
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(4) تصحفت في المطبوعة إلى (التخصيص).
(5) في المخطوطة (فلأنه).
(7) ليست في المخطوطة.(3/416)
{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضََّالِّينَ} (الفاتحة: 7). {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2). {وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5)، {إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة: 11). {أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (البقرة: 12). {مُسْتَهْزِؤُنَ}
(البقرة: 14) [227/ ب] {وَمََا كََانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16). {وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً}
(البقرة: 28). {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} (البقرة: 31). {فَقََالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (البقرة: 31). {بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصََارِهِمْ} (البقرة: 20). {أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: 44). {إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ} (الطلاق: 1).
{وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (التوبة: 70). {ثُمَّ أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}
(البقرة: 85). {وَلََا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتٌ بَلْ أَحْيََاءٌ} (البقرة: 154).
{وَبَيِّنََاتٍ مِنَ الْهُدى ََ} (البقرة: 185). {وَاتَّقُونِ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ} (البقرة: 197).
{بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ} (المائدة: 89). {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوََاجَهُنَّ} (البقرة: 232).
{حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ} (البقرة: 238). فإن قلت: ليس هذا منه، بل هي للقلة، لأنها خمس.
قلت: لو كان كذلك لما صحّ: {لََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ} (البقرة:
236). {فِيمََا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسََاءِ} (البقرة: 235) فالمراد منها واحد، والجواب عن أحدهما الجواب عن الآخر.
وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ} (البقرة: 266). {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقََاتِ}
(البقرة: 271)، {الصََّابِرِينَ وَالصََّادِقِينَ} (آل عمران: 17) الآية. {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ} (1) (الأحزاب: 35) الآية. ولا تحصى كثرة.
ومن شواهد مجيء جمع القلة مرادا به الكثرة قول حسان رضي الله عنه:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن (2) في الضّحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وحكى أن النابغة قال له: قد قلّلت جفناتك (3) وأسيافك (4).
__________
(1) في المخطوطة زيادة «إنّ» في الآية (إن المؤمنين والمؤمنات) وليست في الآية.
(2) في المخطوطة (يلمحن) والصواب ما في المطبوعة، كما في الديوان، وقد تقدم عزو البيت في 3/ 134.
(3) تصحفت في المطبوعة إلى (جفتاك).
(4) هذه الحكاية عن اعتراض النابغة ذكرها البغدادي في خزانة الأدب 3/ 430فقال تحت عنوان جمع(3/417)
وطعن الفارسي (1) في هذه الحكاية لوجود وضع جمع القلة موضع الكثرة فيما له جمع كثرة، وفيما لا جمع له كثرة في كلامهم. وصحّحها بعضهم قال: يعني أنه كان ينبغي لحسان تجنّب اللفظ الذي أصله أن يكون في القلة، وإن كان جائزا في اللسان وضعه لقرينة إذا كان الموضع موضع مدح، أو أنّه وإن كانت القلة [توضع] (2) لمعنى الكثرة، لكن ليس في كل مقام.
ومن المشكل قوله تعالى: {فَيُضََاعِفَهُ لَهُ أَضْعََافاً كَثِيرَةً} (البقرة: 245) فإن {أَضْعََافاً} جمع قلّة فكيف جاء بعده كثرة! والجواب أن جمع القلة يستعمل مرادا به الكثرة، وهذا منه.
تنبيهان
الأول: إنما يسأل عن حكمة ذلك حيث كان له جمع كثرة، فإن لم يكن [له] (2) فلا، كقوله [تعالى]: {أَيََّاماً مَعْدُودََاتٍ} (البقرة: 184) فإنّ {أَيََّاماً} أفعال مع أنها ثلاثون، لكن ليس لليوم جمع غيره ومن ثم أفرد السّمع وجمع (4) الأبصار في قوله: {[وَ]} [5]
عَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ (البقرة: 7) لأن «فعلا» ساكن العين صحيحها لا يجمع على «أفعال» غالبا وليس له جمع تكسير فلما كان كذلك اكتفى بدلالة الجنس على الجمع.
وجعل بعضهم من هذا «أنفسكم» على كثرتها في القرآن وليس كذلك، فقد جاء {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (التكوير: 7)، وحكمته هنا ظاهرة، لأنّ المراد استيعاب جميع الخلق في المحشر.
ونظيره: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ} (البقرة: 266) لإمكان «الثمار» وليس رأس آية.
__________
التكسير، بعد إيراد البيت لحسان (على أنه ثبت اعتراض النابغة على حسان بقوله: قللت جفانك وسيوفك).
(1) انظر طعن الفارسي في هذه الحكاية في خزانة الأدب 3/ 430.
(2) ليست في المطبوعة.
(4) في المخطوطة تصحفت إلى (وأفرد الأبصار) والصواب ما في المطبوعة.
(5) ليست في المخطوطة.(3/418)
ومنه: {آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ} (آل عمران: 7) لإمكان «آي»، ولا يقال إنه لطلب المشاكلة فقد قال تعالى بعده (1): {وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7)، فدل على عدم المشاكلة لإمكان «أخريات».
وكذلك (2) قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} (البقرة: 25)، وليس رأس آية، ولا فيه مشاكلة، لإمكان «الأنهر».
وقد جاء أنفس للقلة، كقوله: {وَأَنْفُسَنََا وَأَنْفُسَكُمْ} (آل عمران: 61)، وقيل:
المراد نفسان من باب: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا} (التحريم: 4).
* * * الثاني: إنما يتم في المنكّر أما المعرّف فيستغنى بالعموم عن ذلك، وبهذا يخدش في كثير (3) مما سبق جعله [من] (4) هذا النوع. وقد قال الزمخشري في قوله تعالى: {مِنَ الثَّمَرََاتِ} (البقرة: 22): إنه جمع قلة، وضع موضع جمع الكثرة (5)، وردّ عليه بأن [«أل»] (4) في «الثمرات» للعموم فيصير كالثمار، ولا حاجة إلى ارتكاب وضع جمع قلة موضع جمع [كثرة] (4)، وكذلك بيت حسان السابق فإن الجفنات [228/ أ] معرّفة ب «أل» «وأسيافنا» مضاف، فيعمّ.
تذكير المؤنث
يكثر في تأويله بمذكر، كقوله تعالى: {فَمَنْ جََاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (البقرة: 275)، على تأويلها بالوعظ.
وقوله: {وَأَحْيَيْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} (ق: 11)، على تأويل البلدة بالمكان، وإلا لقال:
«ميتة».
__________
(1) عبارة المخطوطة (فقال بعده).
(2) في المخطوطة (وكذا).
(3) في المخطوطة زيادة في العبارة (من باب كثير).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) انظر الكشاف 1/ 46عند تفسير الآية (22) من سورة البقرة.(3/419)
وقوله: {فَلَمََّا رَأَى الشَّمْسَ بََازِغَةً قََالَ هََذََا رَبِّي} (الأنعام: 78)، أي الشخص أو الطالع.
وقوله: {قَدْ جََاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (الأعراف: 85)، أي بيان ودليل وبرهان.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمََاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرََاراً} (الأنعام: 6).
وإنما يترك التأنيث كما يترك في صفات المذكر، لا كما في قولهم: امرأة معطار لأن السماء بمعنى المطر، مذكر، قال:
إذا نزل السّماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا (1)
ويجمع على أسمية وسمّي، قال العجاج:
تلفّه الأرواح والسميّ (2)
وقوله: {وَإِذََا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} (النساء: 8)، إلى قوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (النساء:
8)، ذكّر الضمير لأنه ذهب بالقسمة إلى المقسوم.
وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعََامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهِ} (النحل: 66)، ذهب بالأنعام إلى معنى النعم، أو حمله على معنى الجمع.
وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللََّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56)، ولم يقل «قريبة» قال الجوهري: ذكّرت (3) على معنى الإحسان. وذكر الفراء (4) أن العرب تفرق بين النسب، والقرب من المكان، فيقولون: هذه قريبتي من النسب، وقريبي من المكان، فعلوا ذلك فرقا بين قرب النسب والمكان.
قال الزجاج: وهذا غلط (5) لأنّ كلّ ما قرب من مكان ونسب، فهو جار على ما يقتضيه
__________
(1) البيت ذكره ابن منظور في لسان العرب 14/ 399مادة (سما) وعزاه لمعاوية بن مالك، معوّد الحكماء، قال:
(وسمّي معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة:
أعوّد مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الحدثان نابا)
(2) ذكره ابن منظور في المصدر نفسه وعزاه لرؤية، وتمام البيت: في دفء أرطاة لها جنيّ، وقد تصحف اسم (العجاج) في المخطوطة إلى (الحجاج).
(3) انظر الصحاح 1/ 198.
(4) تصحف اسمه في المخطوطة إلى الغزي، والصواب ما في المطبوعة، وانظر قوله في معاني القرآن 1/ 380عند تفسير الآية (56) من سورة الأعراف.
(5) في المخطوطة (وهذا أقرب).(3/420)
من التذكير والتأنيث يريد أنّك إذا أردت القرب من المكان، قلت: زيد قريب من عمرو، وهند قريبة من العباس، فكذا في النسب.
وقال أبو عبيدة (1): ذكّر «قريب» لتذكير المكان، أي مكانا قريبا. وردّه ابن الشجري (2)
بأنه لو صحّ لنصب «قريب» على الظرف.
وقال الأخفش: المراد بالرحمة هنا المطر لأنه قد تقدم ما يقتضيه، فحمل المذكّر عليه.
وقال الزّجاج: لأن الرحمة والغفران بمعنى واحد وقيل: لأنها والرحم سواء.
ومنه: {وَأَقْرَبَ رُحْماً} (الكهف: 81)، فحملوا الخبر على المعنى، ويؤيده قوله تعالى: {[هََذََا]} [3] رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي (الكهف: 98).
وقيل: الرحمة مصدر، والمصادر كما لا تجمع لا تؤنث.
وقيل: «قريب» على وزن «فعيل» و «فعيل» يستوي فيها المذكر والمؤنث حقيقيّا كان أو غير حقيقي. ونظيره قوله تعالى: {وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: 78).
وقيل: من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، مع الالتفات إلى المحذوف، فكأنه قال: وإنّ مكان رحمة الله قريب، ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره.
وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، أي إنّ رحمة الله شيء قريب أو لطيف، أو برّ أو إحسان.
وقيل: من باب إكساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني، والمشهور في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث، كقوله:
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ... أعاليها مرّ الرياح النّواسم (4)
فقال: «تسفهت» والفاعل مذكر لأنه اكتسب تأنيثا من الرياح، إذ الاستغناء عنه جائز، وإذا كانت الإضافة على هذا تعطي المضاف تأنيثا لم يكن له. فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له
__________
(1) ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن 1/ 216سورة الأعراف، الآية (56).
(2) انظر الأمالي الشجرية 1/ 227ضمن فصل: مما أنكر على أبي طيب.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) البيت ذكره ابن منظور في مواضع من لسان العرب دون ذكر نسبته، في 3/ 288مادة عود، وفي 4/ 446مادة صدر، وفي 11/ 536مادة قبل، وفي 13/ 499مادة سفه.(3/421)
كما في الآية الكريمة أحقّ وأولى لأنّ التذكير [228/ ب] أولى والرجوع إليه أسهل من الخروج عنه.
وقيل: من الاستغناء بأحد المذكورين لكون الآخر تبعا له، ومعنى من معانيه.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنََاقُهُمْ لَهََا خََاضِعِينَ} (الشعراء: 4)، فاستغنى عن خبر الأعناق بخبر أصحابها والأصل هنا إن رحمة الله قريب (1)، وهو قريب من المحسنين، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود (2)، وسوغ ظهور ذلك المعنى.
ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: {وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السََّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى:
17)، قال البغويّ (3): «لم يقل «قريبة» لأن تأنيثها غير حقيقيّ، ومجازها الوقت، وقال الكسائيّ: إتيانها قريب».
وقيل في قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} (الحاقة: 6)، ولم يقل: «صرصرة» كما قال: {بِرِيحٍ [صَرْصَرٍ]} [4] عََاتِيَةٍ (الحاقة: 6) لأنّ الصرصر وصف مخصوص بالريح لا يوصف به غيرها، فأشبه باب «حائض» ونحوه بخلاف «عاتية» فإن غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به.
وأما قوله تعالى: {السَّمََاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} (المزمل: 18)، ففي تذكير «منفطر» خمسة أقوال:
أحدها: للفراء (5)، أن السماء تذكر وتؤنث، فجاء «منفطر» على التذكير.
والثاني: لأبي علي أنّه من باب اسم الجنس الذي بينه وبين واحدة التاء، مفرده سماءة واسم الجنس يذكر ويؤنث، نحو: {أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (القمر: 20).
والثالث: للكسائيّ، أنه ذكّر حملا على معنى السقف.
__________
(1) في المخطوطة (قريبة).
(2) في عبارة المخطوطة زيادة في هذا الموضع وهي (عن خبر الموجود إليه أسهل من الخروج عنه، وسوغ ذلك ظهور المعنى).
(3) ذكره البغوي في معالم التنزيل 4/ 123عند تفسير الآية (17) من سورة الشورى، وتمام عبارته (ومجازه:
الوقت قريب، وقال الكسائي: إتيانها قريب).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) انظر معاني القرآن 3/ 199عند تفسير الآية (18) من سورة المزمل.(3/422)
والرابع: لأبي عليّ (1) أيضا على معنى النسب أي ذات انفطار كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات رضاع.
والخامس: للزمخشريّ (2)، أنه صفة لخبر محذوف مذكّر، أي شيء منفطر.
وسأل أبو عثمان المازنيّ (3) بحضرة المتوكل (4) قوما من النحويّين، منهم ابن السّكيت (5)
وأبو [بكر] (6) بن قادم (7) عن قوله تعالى: {وَمََا كََانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مريم: 28): كيف جاء بغير هاء. ونحن نقول: امرأة كريمة إذا كانت هي الفاعل [وبغي هنا الفاعل] (8) وليست بمنزلة «القتيل» التي هي بمعنى «المفعول»؟ فأجاب ابن قادم وخلّط، فقال له المتوكّل:
أخطأت، قل يا بكر (9) للمازني، قال: «بغيّ» ليس ل «فعيل» وإنما هو «فعول» والأصل فيه «بغوي»، فلما التقت واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون أدغمت الواو في الياء، فقيل:
«بغيّ» كما تقول: امرأة صبور، بغير هاء لأنها بمعنى صابرة فهذا حكم «فعول» إذا عدل عن فاعله، فإن عدل عن مفعوله جاء بالهاء، كما قال.
منها اثنتان وأربعون حلوبة (10)
__________
(1) انظر قولي أبي علي وقول الكسائي عند أبي حيان في البحر المحيط 8/ 366365عند تفسير سورة المزمل.
(2) قول الزمخشري في الكشاف 4/ 155سورة المزمل.
(3) هو بكر بن محمد بن بقية أبو عثمان المازني تقدم التعريف به في 2/ 365.
(4) هو جعفر بن محمد بن هارون الرشيد، لقبه المتوكل على الله بن المعتصم بالله، خليفة عباسي ولد ببغداد وبويع له بعد وفاة أخيه الواثق سنة (232هـ) وكان جوادا محبا للعمران، من آثاره «المتوكلية» ببغداد أنفق عليها أموالا كثيرة، ثم أقام في سامراء إلى أن اغتيل فيها ليلا بإغراء ابنه المنتصر سنة 247هـ (الأعلام للزركلي 2/ 127).
(5) هو يعقوب بن إسحاق أبو يوسف تقدم التعريف به في 1/ 402.
(6) كذا ورد في المطبوعة والمخطوطة، والصواب في كنيته (أبو جعفر) كما جاء في مصادر ترجمته.
(7) هو محمد بن عبد الله بن قادم أبو جعفر النحوي، كان حسن النظر في علل النحو وكان من أعيان أصحاب الفراء وأخذ عنه ثعلب، وكان ابن قادم يعلّم «المعتز» قبل الخلافة وكان قد حقد عليه بطريق تأديبه له، فلما ولي بعث إليه فقيل له: أجب أمير المؤمنين فقال لعياله: عليكم السلام فخرج ولم يرجع إليهم وذلك في سنة 251هـ (ياقوت معجم الأدباء 18/ 207).
(8) ليست في المطبوعة.
(9) في المخطوطة (يا أبا بكر) والصواب ما في المطبوعة.
(10) صدر بيت لعنترة من المعلقة عجزه: (سودا كخافية الغراب الأسحم)، انظر ديوان عنترة ص 17.(3/423)
بمعنى «محلوبة» حكاه التوحيدي في «البصائر» (1).
وقال البغويّ في قوله تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: 78) «ولم يقل «رميمة»، لأنه معدول عن فاعله، وكلما كان معدولا عن جهته ووزنه كان مصروفا عن فاعلة، كقوله: {وَمََا كََانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مريم: 28)، أسقط الهاء لأنها مصروفة عن «باغية» (2).
وقال الشريف المرتضى (3) في قوله تعالى: {وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 119118) إن الضمير في ذلك يعود للرحمة، وإنما لم يقل و «لتلك» (4) لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقي، كقوله [تعالى]: {هََذََا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}
(الكهف: 98) ولم يقل «هذه» على أن قوله: {إِلََّا مَنْ رَحِمَ} (هود: 119)، كما يدل [229/ أ] على الرحمة يدل على «أن (5) يرحم» ويجوز رجوع الكتابة إلى قوله إلا أن يرحم، والتذكير في موضعه.
قال: ويجوز أن يكون قوله: {وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 119) كناية عن اجتماعهم على الإيمان، وكونهم فيه أمة واحدة، ولا محالة أنه لهذا خلقهم.
ويطابق هذه [الآية] (6) قوله تعالى: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ}
(الذاريات: 56)، قال: فأما قوله: {وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118) فمعناه الاختلاف في الدين والذهاب عن الحق فيه بالهوى، والشبهات، وذكر أبو مسلم بن بحر (7) فيه معنى غريبا، فقال: معناه أنّ خلف هؤلاء الكفار (8) يخلف سلفهم في الكفر، لأنه سواء قولك: خلف
__________
(1) هو أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي تقدم التعريف به في 1/ 342وكتابه «البصائر» تقدم التعريف به في 1/ 414.
(2) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل 4/ 20تفسير سورة يس.
(3) هو علي بن الحسين بن موسى أبو القاسم الشريف المرتضى، ولد سنة (355هـ)، وكانت إليه نقابة الطالبيين وكان شاعرا مشتهرا يعرف النحو واللغة، روى عن جماعة من النحاة وروي عنه، وله الكثير من المصنفات أهمها «الغرر والدرر» (القفطي إنباه الرواة 2/ 249)، وقوله في كتابه «أمالي المرتضى» 1/ 70نقله الزركشي مع تصرف واختصار.
(4) في الأصول (وتلك) والتصويب من «أمالي المرتضى».
(5) في المخطوطة زيادة في العبارة هي (أن الرحمة يرحم، فيجوز).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) هو محمد بن بحر الأصفهاني تقدم التعريف به في 2/ 377.
(8) في المخطوطة (الكافرين).(3/424)
بعضهم بعضا، وقولك اختلفوا كما سواء قولك: قتل بعضهم بعضا، وقولهم: اقتتلوا. ومنه قولهم: لا أفعله ما اختلف العصران، أي [جاء] كل واحد منهم بعد الآخر.
واختلف في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعََامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهِ} (النحل:
66)، فقال الكسائيّ، أي من بطون ما ذكرنا.
وقال الفراء (1): ذكّر لأنه ذهب إلى المعنى يعني معنى النّعم، وقيل: الأنعام تذكر وتؤنث.
وقال أبو عبيدة (2): أراد البعض، أي من بطون أيها كان ذا لبن.
وأنكر أبو حاتم (3) تذكير الأنعام، لكنه أراد معنى النعم.
تأنيث المذكّر
كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهََا} (المؤمنون: 11) فأنث «الفردوس»، وهو مذكّر، حملا على معنى الجنة.
وقوله: {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا} (الأنعام: 160) [فأنّث «عشر»] (4)
حيث جرّدت من الهاء مع إضافته (4) [إلى الأمثال، وواحدها مذكر، وفيه أوجه:
أحدها: أنّث لإضافة] (4) الأمثال إلى مؤنث وهو ضمير الحسنات، والمضاف يكتسب (7)
أحكام المضاف إليه، فتكون كقوله: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيََّارَةِ} (يوسف: 10).
والثاني: هو من باب مراعاة المعنى لأنّ الأمثال في المعنى مؤنثة لأن مثل الحسنة حسنة لا محالة، فلما أريد توكيد الإحسان إلى المطيع، وأنه لا يضيع شيء من عمله كأنّ الحسنة المنتظرة واقعة، جعل التأنيث في أمثالها منبهة (8) على ذلك الوضع، وإشارة إليه، كما جعلت الهاء في قولهم: راوية وعلامة (9)، تنبيها على المعنى المؤنث [المراد] (10) في أنفسهم،
__________
(1) انظر قول الكسائي والفراء في معاني القرآن 2/ 109108تفسير سورة النحل.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 362.
(3) هو سهل بن محمد بن عثمان أبو حاتم السجستاني تقدم التعريف به في 1/ 309.
(4) ليست في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (يكتسي).
(8) في المخطوطة (شبهة على ذلك).
(9) في المخطوطة (سرا وعلانية) والصواب ما في المطبوعة.
(10) ليست في المخطوطة.(3/425)
وهو الغاية والنهاية ولذلك أنث المثل هنا توكيدا لتصوير الحسنة في نفس المطيع ليكون ذلك أدعى له إلى الطاعة، حتى كأنه قال: «فله عشر حسنات أمثالها» حذف وأقيمت صفته مقامه، وروعي ذلك المحذوف الذي هو المضاف إليه، كما يراعى المضاف في نحو قوله: {أَوْ كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (النور: 40)، [أي «أو كذي ظلمات»] (1)، وراعاه في قوله:
{يَغْشََاهُ مَوْجٌ} (النور: 40)، وهذا الوجه هو الذي عوّل عليه الزمخشري (2)، ولم يذكر سواه.
وأما ابن جني فذكر في «المحتسب» (3) الوجه الأول، وقال: فإن قلت: فهلا حملته على حذف الموصوف، (4) [فكأنه قال: «فله عشر حسنات وأمثالها»؟ قيل: حذف الموصوف] (4) وإقامة الصفة (6) مقامه ليس بمستحسن في القياس وأكثر ما أتى في الشعر، ولذلك حمل {دََانِيَةً} من قوله: {وَدََانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلََالُهََا} (الإنسان: 14) على أنه وصف جنة أو «وجنة دانية» عطف على «جنة» من قوله (7): {وَجَزََاهُمْ بِمََا صَبَرُوا جَنَّةً} (الإنسان:
12) لما قدّر حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، حتى عطف على قوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهََا عَلَى الْأَرََائِكِ} (الإنسان: 13) فكانت حالا معطوفة على حال.
وفي «كشف المشكلات» (8) للأصبهاني، حذف الموصوف هو اختيار سيبويه، وإن كان لا يرى حسن «ثلاثة مسلمين» بحذف الموصوف (9) [لكن المثل [229/ ب] وإن كان معنى جرى مجرى الاسم في «مررت بمثلك» ولا يستقل به الموصوف] (9).
وقوله تعالى حكاية عن لقمان: {يََا بُنَيَّ إِنَّهََا إِنْ تَكُ مِثْقََالَ حَبَّةٍ [مِنْ خَرْدَلٍ]} [9]
(لقمان: 16) فأنث الفعل المسند ل {مِثْقََالَ} وهو مذكّر، [ولكن] (12) لما أضيف إلى «حبّة» اكتسب منه [التأنيث] (12)، فساغ تأنيث فعله.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) انظر الكشاف 2/ 50عند تفسير الآية (160) من سورة الأنعام.
(3) هو أبو الفتح عثمان بن جني تقدم التعريف به في 1/ 361، وتقدم التعريف بكتابه «المحتسب» في 1/ 481.
(4) ليست في المخطوطة.
(6) تصحفت عبارة المطبوعة إلى (وإقامة الموصوف مقامه).
(7) في المطبوعة (من قولهم).
(8) ذكره في كشف الظنون 2/ 1495وعنوانه «كشف مشكلات القرآن».
(9) ليست في المطبوعة.
(12) ليست في المخطوطة.(3/426)
وذكر أبو البقاء في (1) قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران: 185) أنّ التأنيث [في] (2) «ذائقة» باعتبار معنى «كلّ» [لأن معناها التأنيث، قال: لأن كلّ نفس نفوس ولو ذكّر على (3) لفظ «كلّ»] جاز يعني أنه لو قيل: كلّ نفس ذائق [كذا] (4)، جاز.
وهو مردود لأنه يجب اعتبار ما يضاف إليه «كلّ» إذا كانت نكرة، ولا يجوز أن يعتبر كلّ.
وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقََاتِ فَنِعِمََّا هِيَ} (البقرة: 271) فإنّ الظاهر عود الضمير إلى الإبداء بدليل قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهََا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرََاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة:
271) فذكّر الضمير العائد على الإخفاء، ولو قصد الصدقات لقال: «فهي» وإنما أنّث (هي) والذي عاد إليه مذكّر، على حذف مضاف، أي وإبداؤها نعم ما هي، كقوله: القرية اسألها.
ومنه (5) {سَعِيراً} (الفرقان: 11) وهو مذكر، ثم قال: {إِذََا رَأَتْهُمْ} (الفرقان:
12) فحمله على النار.
وأما قوله: {لََا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلََا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلََّهِ الَّذِي [خَلَقَهُنَ]} (6)
(فصلت: 37)، فقيل: الضمير عائد على الآيات المتقدمة في اللفظ.
وقال البغويّ (7) إنما قال {خَلَقَهُنَّ} بالتأنيث، لأنه أجري على طريق جمع التكسير، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث» لأنه فيما لا يعقل.
وقيل في قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ} (النساء: 1)، إن المراد آدم فأنثه ردّا إلى النفس. وقد قرئ شاذّا «من نفس واحد» (8).
__________
(1) انظر إملاء ما من به الرحمن 1/ 94تفسير الآية (185) من سورة آل عمران.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) عبارة المخطوطة (في لفظ).
(4) ليست في المطبوعة.
(5) عبارة المخطوطة (وقوله سعيرا).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) انظر معالم التنزيل 4/ 115عند تفسير الآية (37) من سورة فصلت.
(8) ذكره أبو حيان في البحر المحيط 3/ 154عند تفسير الآية (1) من سورة النساء، فقال: (والمراد بقوله من {نَفْسٍ وََاحِدَةٍ} آدم، وقرأ الجمهور {وََاحِدَةٍ} بالتاء، وقرأ ابن أبي عبلة «واحد» على مراعاة المعنى).(3/427)
وحكى الثعلبي في تفسيره (1) في سورة «اقترب» (2) بإسناده إلى المبرّد (3) سئل عن ألف مسألة، منها: ما الفرق بين قوله تعالى: {جََاءَتْهََا رِيحٌ عََاصِفٌ} (يونس: 22)، وقوله:
{وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ عََاصِفَةً} (الأنبياء: 81) وقوله: {أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ} (الحاقة: 7)، و {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (القمر: 20)، فقال: كلّ ما ورد عليك من هذا الباب، فلك أن تردّه إلى اللفظ تذكيرا، ولك أن تردّه إلى المعنى تأنيثا وهذا من قاعدة أن اسم الجنس تأنيثه غير حقيقي، فتارة يلحظ معنى الجنس فيذكّر، وتارة معنى الجماعة فيؤنث قال تعالى في قصة شعيب: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هود: 94)، وفي قصة صالح: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هود: 67) وقال: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشََابَهَ عَلَيْنََا} (البقرة: 70)، وقرئ:
«تشابهت» (4).
وأبدى السّهيلي (5) للحذف والإثبات معنى حسنا فقال: إنما حذفت منه لأن «الصيحة» فيها [بمعنى] (6) العذاب والخزي، إذ كانت منتظمة بقوله [سبحانه] (7): {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} (هود: 66)، فقوي التذكير بخلاف قصة شعيب، فإنّه لم يذكر فيها ذلك.
وأجاب غيره: بأنّ الصيحة يراد بها المصدر بمعنى الصياح، فيجيء فيها التذكير، فيطلق ويراد بها الوحدة من المصدر، فيكون التأنيث أحسن.
وقد أخبر سبحانه عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور، كلّها مفردة اللفظ:
أحدها: الرجفة، في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} (العنكبوت: 37).
والثاني: الظّلة، في قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذََابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} (الشعراء: 189).
والثالث: الصيحة، وجمع لهم الثلاثة لأن الرجفة بدأت بهم فأصحروا في الفضاء، خوفا من سقوط الأبنية عليهم، فضربتهم الشمس [230/ أ] بحرّها، ورفعت لهم الظّلة،
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم تقدم التعريف به في 1/ 105، وتفسيره المسمى «الكشف والبيان في تفسير القرآن» مطبوع في اسطنبول سنة 1350هـ / 1931م (ذخائر التراث العربي 1/ 428)، وحققه عبد الله أبو السعود بدر سنة 1403هـ / 1983 (أخبار التراث العربي 8/ 16).
(2) هي سورة الأنبياء (21).
(3) عبارة المخطوطة (أن المبرد).
(4) ذكره أبو حيان في البحر المحيط 1/ 254عند تفسير الآية (70) من سورة البقرة، فقال: (وقرأ أبي «تشابهت»).
(5) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد تقدم التعريف به في 1/ 242.
(6) ليست في المخطوطة.
(7) ليست في المطبوعة.(3/428)
فهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس، فنزل عليهم [فيها] (1) العذاب وفيه الصيحة فكان ذكر الصيحة مع الرجفة والظلّة أحسن من ذكر الصياح، فكان ذكر التاء أحسن.
فإن قلت: ما الفرق بين قوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللََّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ} (النحل: 36)، وبين قوله: {فَرِيقاً هَدى ََ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ}
(الأعراف: 30).
قيل: الفرق بينهما من وجهين:
لفظي ومعنويّ:
أما اللفظي، فهو أن الفصل بين الفعل والفاعل في قوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ}
(الأعراف: 30)، أكثر منها في قوله: {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ} (النحل: 36)، والحذف مع كثرة (2) الحواجز أحسن.
وأما المعنويّ فهو أنّ «من» [في] (3) قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ}
(النحل: 36)، راجعة على الجماعة، وهي مؤنثة لفظا بدليل: {وَلَقَدْ بَعَثْنََا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} (النحل: 36)، ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ}
(النحل: 36)، أي من تلك الأمم، ولو قال «ضلت» لتعينت التاء والكلامان واحد وإن كان معناهما واحدا فكان إثبات التاء أحسن من تركها، لأنها ثابتة فيما هو من معنى الكلام المتأخر.
وأما {فَرِيقاً هَدى ََ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ} (الأعراف: 30)، فالفريق مذكّر، ولو قال (4): «ضلّوا» لكان بغير تاء، وقوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ} (الأعراف: 30) في معناه، فجاء بغير تاء، وهذا اسلوب لطيف من أساليب العرب، أن يدعوا حكم اللفظ [الواجب] (5) في قياس لغتهم، إذا كان في مركّبه كلمة لا يجب لها حكم ذلك الحكم.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) عبارة المخطوطة (مع كثرة آخر الحواجز).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) عبارة المخطوطة (ولو قال: فريقا ضلوا).
(5) ليست في المخطوطة.(3/429)
تنبيه
جاء عن ابن مسعود: «ذكّروا القرآن» (1). ففهم منه ثعلب أنّ ما احتمل تأنيثه وتذكيره كان تذكيره أجود.
وردّ بأنه يمتنع إرادة تذكير غير الحقيقي التأنيث، لكثرة ما في القرآن منه بالتأنيث:
{النََّارُ وَعَدَهَا اللََّهُ} (الحج: 72). {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ} (القيامة: 29).
{قََالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} (إبراهيم: 11) وإذا امتنع إرادة غير الحقيقي، فالحقيقيّ أولى.
قالوا: ولا يستقيم إرادة أن ما احتمل التذكير والتأنيث غلّب فيه التذكير، لقوله تعالى:
{وَالنَّخْلَ بََاسِقََاتٍ} (ق: 10). {أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ} (الحاقة: 7)، فأنّث مع جواز التذكير، قال تعالى: {أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (القمر: 20)، {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ}
(يس: 80). قال: فليس المراد ما فهم، بل المراد الموعظة والدعاء، كما قال تعالى:
{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} (ق: 45) إلّا أنّه حذف الجارّ، والمقصود ذكّروا الناس بالقرآن، أي ابعثوهم على حفظه كيلا ينسوه.
وقال الواحدي (2): إنّ قول ابن مسعود على ما ذهب إليه ثعلب، والمراد أنه إذا احتمل اللفظ التذكير والتأنيث ولم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف ذكّر، نحو: {وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ} (البقرة: 48).
قال: ويدلّ على إرادته هذا أن أصحاب عبد الله من قراء الكوفة كحمزة والكسائي ذهبوا إلى هذا فقرءوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير، نحو: يوم يشهد عليهم ألسنتهم (3)
(النور: 24). وهذا في غير الحقيقي.
ضابط التأنيث ضربان:
حقيقيّ وغيره، فالحقيقي لا يحذف التأنيث من فعله غالبا إلا أن يقع فصل، نحو: قام
__________
(1) ذكره ابن منظور في لسان العرب 4/ 310مادة «ذكر» فقال (وفي الحديث: القرآن ذكر فذكروه، أي أنه جليل خطير فأجلّوه).
(2) هو علي بن أحمد بن محمد تقدم التعريف به في 1/ 105.
(3) ذكره البناء في إتحاف فضلاء البشر ص 324سورة النور فقال: (واختلف في {يَوْمَ تَشْهَدُ} فحمزة والكسائي وخلف بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، وجه التذكير أن التأنيث مجازي).(3/430)
اليوم هند، وكلما كثر الفصل حسن الحذف، والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعا.
وأمّا غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: {فَمَنْ جََاءَهُ مَوْعِظَةٌ}
(البقرة: 275)، فإن كثر الفصل ازداد حسنا، ومنه: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}
(هود: 67) ويحسن الإثبات أيضا نحو: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هود:
94) فجمع بينهما في سورة هود.
وأشار بعضهم إلى ترجيح الحذف، واستدلّ عليه بأن الله [230/ ب] تعالى قدّمه عليه حيث جمع بينهما في سورة واحدة. وفيما قاله نظر.
التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه
قد سبق منه كثير في نوع الالتفات ويغلب ذلك فيما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهدّدة المتوعّد بها، فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه، كقوله تعالى: {[وَ]} [1] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ (النمل: 87).
وقوله في الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} (الزمر: 68).
وقوله: {وَبَرَزُوا لِلََّهِ جَمِيعاً} (إبراهيم: 21).
وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبََالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بََارِزَةً وَحَشَرْنََاهُمْ} (الكهف: 47) أي نحشرهم.
وقوله: {وَنََادى ََ أَصْحََابُ الْأَعْرََافِ رِجََالًا} (الأعراف: 48). ثم تارة يجعل المتوقع فيه كالواقع، فيؤتى بصيغة الماضي مرادا به المضيّ، تنزيلا للمتوقّع منزلة ما وقع، فلا يكون تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضي، بل جعل المستقبل ماضيا مبالغة.
ومنه: {أَتى ََ أَمْرُ اللََّهِ فَلََا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1). {وَنََادى ََ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ}
(الأعراف: 44) ونحوه.
* * * وقد يعبّر عن المستقبل بالماضي مرادا به المستقبل فهو مجاز لفظي، كقوله تعالى:
{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} (النمل: 87) فإنه لا يمكن أن يراد به المضيّ، لمنافاة
__________
(1) ليست في المخطوطة.(3/431)
{يُنْفَخُ} الذي هو مستقبل في الواقع. وفائدة التعبير عنه بالماضي (1) [الإشارة إلى استحضار التحقق، وإنه من شأنه لتحققه أن يعبّر عنه بالماضي] (1) وإن لم يرد معناه. والفرق بينهما أنّ الأول مجاز، والثاني لا مجاز فيه إلا من جهة اللفظ فقط.
* * * وقوله: {وَإِذْ قََالَ اللََّهُ يََا عِيسَى} (المائدة: 116) أي يقول، عكسه لأن المضارع يراد به الديمومة والاستمرار، كقوله [تعالى]: {أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتََابَ} (البقرة: 44).
وقوله: {ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: 59)، أي فكان استحضارا لصورة تكوّنه.
وقوله: {وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ} (البقرة: 102) أي ما تلت.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} (الحجر: 97)، أي علمنا.
فإن قيل: كيف يتصور التقليل في علم الله؟
قيل: المراد أنهم أقل معلوماته ولأن المضارع هنا بمعنى الماضي ف «قد» فيه للتحقيق لا التقليل.
وقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيََاءَ اللََّهِ} (البقرة: 91)، أي فلم قتلتم! وقوله: {حَتََّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة: 1) أي لم يتفارقوا (3) حتى تأتيهم.
وقوله: {مُنْفَكِّينَ} (البينة: 1)، قال مجاهد (4): «منتهين» وقيل: زائلين من الدنيا.
وقال الأزهري (5): «ليس هو من باب «ما انفك» و «ما زال» إنما هو من انفكاك الشيء إذا انفصل عنه».
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المطبوعة (يتعارفوا) والصواب ما في المخطوطة، كما نقله الأزهري أيضا في تهذيب اللغة 9/ 458 فقال (وقال ابن عرفة الملقب بنفطويه: معنى قوله «منفكين» مفارقين).
(4) انظر تفسير مجاهد 2/ 774تفسير سورة البينة.
(5) انظر تهذيب اللغة 9/ 459مادة «فك» ثم عقب بقوله (كما فسّره ابن عرفة)، والأزهري هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر، تقدم التعريف به في 1/ 309.(3/432)
وقوله: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصََارى ََ نَحْنُ أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ [بِذُنُوبِكُمْ]} [1]
(المائدة: 18)، المعنى: فلم عذّب آباءكم بالمسخ والقتل؟ لأن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بأن يحتجّ عليهم بشيء لم يكن [بعد] (2) لأن الجاحد يقول: إني لا أعذّب، لكن احتجّ عليهم بما قد كان.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} (الحج:
63). فعدل عن لفظ «أصبحت» إلى «تصبح»، قصدا للمبالغة في تحقيق اخضرار الأرض لأهميته إذ (3) هو المقصود بالإنزال.
فإن قلت: كيف قال النحاة: إنه يجب نصب الفعل المقرون بالفاء إذا وقع في جواب الاستفهام، كقوله [تعالى]: {فَهَلْ لَنََا مِنْ شُفَعََاءَ فَيَشْفَعُوا لَنََا} (الأعراف: 53) و «فتصبح» هنا مرفوع؟
قلت: لوجوه:
أحدها: أنّ شرط الفاء المقتضية للنصب أن تكون سببية، وهنا ليست كذلك، بل هي للاستئناف (4) لأن الرؤية ليست سببا للإصباح.
الثاني: أن شرط النصب أن ينسبك من الفاء وما قبلها شرط وجزاء، وهنا ليس كذلك لأنه لو قيل: إن تر أن الله أنزل [ماء] (5) تصبح لم يصح لأن إصباح (6) الأرض حاصل سواء رئي أم لا.
فإن قيل: شاع في كلامهم إلغاء فعل الرؤية، كما في قوله: «ولا تزال تراها ظالمة» أي ولا تزال ظالمة وحينئذ فالمعنى منصبّ إلى الإنزال [لا إلى الرؤية] (7) ولا شك أنّه يصحّ أن [231/ أ] يقال: «إن أنزل تصبح»، فقد انعقد الشرط والجزاء.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة وهو المقصود.
(4) في المخطوطة (بل في الاستئناف).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (اصحاب).
(7) ليست في المخطوطة.(3/433)
قلت: إلغاء فعل الرؤية في كلامهم جائز لا واجب فمن أين لنا ما يقتضي تعيين حمل الآية عليه؟
الثالث: إن همزة الاستفهام إذا دخلت على موجب تقلبه (1) إلى النفي، كقوله تعالى:
{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ [مِنْ دُونِ اللََّهِ]} [2] (المائدة: 116)، وإذا دخلت على نفي تقلبه (1) إلى الإيجاب فالهمزة في الآية للتقرير، فلما انتقل الكلام من النفي إلى الإيجاب لم ينتصب الفعل، لأن شرط النصب (4) كون السابق منفيّا محضا: ذكره العزيزي في «البرهان» (5).
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة السجدة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا نَسُوقُ الْمََاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} (السجدة: 27).
الرابع: «أنه لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الاخضرار، فكان ينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت فتشكر! إن نصبت فأنت ناف لشكره، شاك تفريطه، وإن رفعت فأنت مثبت لشكره. ذكر هذا الزمخشري في «الكشاف» (6)، قال: وهذا ومثاله مما يجب أن يرغب له من اتّسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله».
وقال ابن الخباز (7): النصب يفسد المعنى لأنّ رؤية المخاطب الماء الذي أنزله الله ليس سببا للاخضرار وإنما الماء نفسه هو سبب الاخضرار.
ومنه قوله تعالى: {وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ}
(فاطر: 9)، فقال: «تثير» مضارعا، وما قبله وما بعده ماضيا، مبالغة في تحقيق إثارة الرياح السحاب للسامعين وتقدير تصوّره في أذهانهم.
__________
(1) في المخطوطة (نقلته).
(2) ليست في المطبوعة.
(4) في المطبوعة (لأن شرط النفي) وما أثبتناه من المخطوطة.
(5) هو أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك المعروف بشيذلة تقدم التعريف به في 1/ 112، وتقدم التعريف بكتابه في 2/ 224.
(6) انظر الكشاف 3/ 39عند تفسير الآية (63) من سورة الحج.
(7) هو أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي شمس الدين، تقدم التعريف به في 3/ 14.(3/434)
فإن قيل: أهمّ الأفعال المذكورة في الآية إحياء الموتى، وقد ذكر بلفظ الماضي، وما ذكرته يقتضي أولويّة ذكره بلفظ المضارع، إذ هو أهمّ، وإثارة السحاب سبب أعيد على قريب.
قيل: لا نسلم بأهميّة إحياء الأرض بعد موتها فالمقدّمات المذكورة أهمّها وأدلها على القدرة أعجبها وأبعدها عن قدرة البشر، وإثارة السحاب أعجبها فكان أولى بالتخصيص بالمضارع وإنما قال: إن إثارة السحاب أعجب لأن سببها أخفى من حيث أنّا (1) نعلم بالعقل (2) أن نزول الماء سبب في اخضرار الأرض، وإثارة السحاب وسوقه (3) سبب نزول الماء. فلو خلّينا وظاهر العقل لم نعلم (4): إن الرياح سببها لعدم إحساسنا بمادّة السحاب وجهته [ولطافة الريح عن إدراك الحس] (5).
ومن لواحق ذلك العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول، لتضمّنه معنى الماضي، كقوله [تعالى {ذََلِكَ]} [5] يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النََّاسُ (هود: 103)، تقريرا للجمع فيه، وأنّه لا بد أن يكون [معادا] (7) للناس، مضروبا لجميعهم، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [ذََلِكَ يَوْمُ التَّغََابُنِ]} [5] (التغابن: 9)، لتعرف (9) صحة هذا المعنى.
فإن قلت: الماضي أدلّ على [هذا] (5) المقصود من اسم المفعول، فلم عدل عنه إلى ما دلالته أضعف؟ قلت: لتحصل المناسبة بين «مجموع» و «مشهور» في استواء شأنهما طلبا للتعديل في العبارة.
ومنه العدول عن المستقبل إلى اسم الفاعل، كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوََاقِعٌ}
الذاريات: 6)، فإن اسم الفاعل ليس حقيقة في الاستقبال، بل في الحال.
__________
(1) في المخطوطة (من حيث انا لا نعلم).
(2) في المطبوعة (نعلم بالفعل).
(3) رسمها في المخطوطة (ونوقصه).
(4) في المطبوعة (لم نقل).
(5) ليست في المطبوعة.
(7) ليست في المخطوطة.
(9) في المخطوطة (يطلعك على صحة).(3/435)
مشاكلة اللفظ للفظ
هي قسمان: أحدهما وهو الأكثر المشاكلة بالثاني للأول نحو «أخذه ما قدم وما حدث». وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا} [231/ ب] {بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة: 6) على مذهب الجمهور وأن الجرّ للجوار: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدََانِ * وَالسَّمََاءَ رَفَعَهََا}
(الرحمن: 76).
وقد تقع المشاكلة بالأول للثاني كما في قراءة إبراهيم بن أبي عبلة (1): {الْحَمْدُ لِلََّهِ}
(الفاتحة: 2) بكسر الدال، وهي أفصح من ضم اللام للدال (2).
مشاكلة اللفظ للمعنى
ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ} (آل عمران: 59)، ولم يقل من «طين» كما أخبر به سبحانه في غير موضع: {إِنِّي خََالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} (ص: 71) [{خَلَقْتَنِي مِنْ نََارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (ص: 76)] (3) إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرّد التراب لمعنى لطيف وذلك أنّه أدنى العنصرين وأكثفهما، لما كان المقصود مقابلة من ادّعى في المسيح الإلهية أتى بما يصغّر أمر خلقه عند من ادعى ذلك فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب
__________
(1) تصحفت في المطبوعة إلى (عبيلة)، وهو إبراهيم بن أبي عبلة شمر بن يقظان ثقة كبير تابعي، له حروف في القراءات واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة بنت يحيى وعن غيرها، وأخذ عنه الحروف موسى بن طارق وروى عنه مالك بن أنس وابن المبارك وخلق، ومن كلامه: «من حمل شاذ العلماء حمل شرا كبيرا» (ت 153هـ) (الجزري طبقات القراء 1/ 19).
(2) عزو الزركشي القراءة بكسر الدال إلى ابن أبي عبلة مجانب للصواب، إذ هو مخالف لما جاء في المصادر، فالقراءة معزوة للحسن البصري، وقراءة ابن أبي عبلة هي ضم اللام تبعا للدال، قال ابن خالويه في مختصر شواذ القرآن ص 1شواذ سورة الفاتحة (الحمد لله الحسن البصري ورؤبة، الحمد لله إبراهيم بن أبي عبلة)، وقال أبو حيان في البحر المحيط 1/ 18تفسير سورة الفاتحة (والجمهور قرءوا بضم دال {الْحَمْدُ} واتبع إبراهيم بن أبي عبلة ميمه لام الجر لضمة الدال، كما أتبع الحسن وزيد بن على كسرة الدال، كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام)، وقال البناء في إتحاف فضلاء البشر ص 122 (وعن الحسن الحمد لله حيث وقع بكسر الدال اتباعا لكسرة لام الجر بعدها).
(3) ليست في المطبوعة.(3/436)
أمسّ في المعنى من غيره من العناصر ولما أراد سبحانه الامتنان على [بني] (1) إسرائيل [بعيسى عليه السلام] (2) أخبرهم أنه (3) يخلق [لهم] (1) من الطين كهيئة الطير، تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه إذ كان [المعنى] (2) المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه (6) ليعظّموا قدر النعمة به.
ومنه قوله تعالى: {وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ} (النور: 45) [فإنه] (1) سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر لأنّه أتى بصيغة الاستغراق، وليس في العناصر الأربع ما يعمّ جميع المخلوقات إلا الماء ليدخل الحيوان البحريّ فيها.
ومنه قوله تعالى: {[تَاللََّهِ]} [8] تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتََّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهََالِكِينَ (يوسف: 85) فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها فإنّ «والله» و «بالله» أكثر استعمالا وأعرف من «تالله» لما كان الفعل الذي جاور القسم أغرب الصيغ التي في بابه فإنّ «كان» وأخواتها أكثر استعمالا من «تفتأ» وأعرف عند العامة ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة، وهي لفظة «حرض»: ولما أراد غير ذلك [قال] (9): {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ} (فاطر: 42)، لما كانت جميع الألفاظ مستعملة.
ومنه قوله تعالى: {وَلََا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النََّارُ} (هود: 113) فإنه سبحانه لما نهى عن الركون إلى الظالمين، وهو الميل إليهم والاعتماد عليهم، وكان دون ذلك (10) مشاركتهم في الظلم، أخبر أنّ العقاب [على ذلك دون العقاب] (11) على الظلم وهو مسّ النار الذي هو دون الإحراق والاضطرام وإن كان المسّ قد يطلق ويراد به الإشعار بالعذاب.
ومنه قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مََا أَنَا بِبََاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ}
(المائدة: 28) فإنه نشأ في الآية سؤال، وهو أن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل وتعقيبه بالفاعل، ثم بالمفعول، فإن كان في الكلام مفعولان: أحدهما تعدّى وصول الفعل
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) في المطبوعة (أن يخلق).
(6) في المخطوطة (بجعله).
(8) ليست في المطبوعة.
(9) ليست في المخطوطة.
(10) في المخطوطة (وكان ذلك دون).
(11) ليست في المخطوطة.(3/437)
إليه بالحرف (1)، والآخر [تعدى] (2) بنفسه، قدم ما تعدّى إليه الفعل بنفسه وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [3] (الفتح: 24).
إذا ثبت هذا، فقد يقال: كيف توخّى حسن الترتيب في عجز الآية دون صدرها؟
والجواب أنّ حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع أقوى، وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخرج فيثقل الكلام بسبب ذلك فإنه لو قيل «لئن بسطت يدك إليّ» والطاء والتاء [والياء] (2) متقاربة [232/ أ] المخرج فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدّى الفعل إليه بالحرف على [الفعل] (5) الذي تعدى إليه بنفسه ولمّا أمن هذا المحذور في عجز الآية لما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية، لتضمّنه معنى الفعل الذي تصحّ به المقابلة، جاء الكلام على ترتيبه: من تقديم المفعول الذي تعدّى الفعل إليه بنفسه، على المفعول الذي تعدى إليه بحرف [الجرّ] (6). وهذا أمر يرجع إلى تحسين اللفظ وأما المعنى فعلى نظم الآية لأنه لما كان الأول حريصا على التعدّي على الغير قدّم المتعدي [إليه] (7) على الآلة، فقال: {إِلَيَّ يَدَكَ} ولما كان الثاني غير حريص على ذلك، لأنه نفاه عنه، قدّم الآلة فقال: {يَدِيَ إِلَيْكَ} ويدل لهذا أنه عبّر عن (8) الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم.
ويؤيد ذلك أيضا قوله [تعالى] في سورة الممتحنة: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدََاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ]} [9] (الممتحنة: 2) لأنه لمّا نسبهم للتعدي (10)
الزائد قدّم ذكر المبسوط [إليهم] (11) على الآلة وذلك الجواب السابق لا يمكن في هذه الآية.
ومثله قوله [تعالى]: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسََاؤُا بِمََا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31) مقتضى الصناعة أن يؤتى بالتجنيس للازدواج في صدر الآية،
__________
(1) عبارة المخطوطة (أحدهما تعدى وصول الحرف إليه بالفعل).
(2) ليست في المطبوعة.
(3) في المخطوطة (هو الذي كف أيديكم عنهم وأيديهم عنكم).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) ليست في المخطوطة.
(7) ليست في المطبوعة.
(8) في المخطوطة (مع الأول).
(9) ليست في المطبوعة.
(10) في المخطوطة (إلى التعدي).
(11) ليست في المخطوطة.(3/438)
كما أتي به في عجزها، لكن منعه توخّي الأدب والتهذيب في نظم الكلام وذلك أنه لما كان الضمير الذي في «يجزي» عائدا على الله سبحانه، وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاصّ إلى رديفه، حتى لا تنسب السيئة إليه (1) سبحانه، فقال في موضع السيئة {بِمََا عَمِلُوا}
فعوض عن تجنيس المزاوجة بالإرداف لما فيه من الأدب مع الله بخلاف قوله: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (الشورى: 40)، فإن هذا المحذور منه مفقود، فجرى (2) الكلام على مقتضى الصناعة.
ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ََ} (النجم: 49) فإنّه سبحانه خصّ الشّعرى بالذّكر دون غيرها من النجوم وهو ربّ كلّ شيء، لأن العرب ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة (3) عبد الشّعرى، ودعا خلقا إلى عبادتها.
وقوله [تعالى]: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلََكِنْ لََا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}
(الإسراء: 44)، ولم يقل: «لا تعلمون» لما في الفقه من الزيادة على العلم.
وقوله حكاية عن إبراهيم: {يََا أَبَتِ إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ مِنَ الرَّحْمََنِ} (مريم:
45) فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه، حيث لم يصرّح فيه بأن العذاب لاحق له، ولكنه قال: {إِنِّي أَخََافُ} (مريم: 45) فذكر الخوف والمسّ، [و] (4) ذكر العذاب ونكّره ولم يصفه بأنه يقصد التهويل، بل قصد استعطافه ولهذا ذكر «الرحمن» ولم يذكر «المنتقم» ولا «الجبار» على، حد قوله:
فما يوجع الحرمان من كفّ حازم ... كما يوجع الحرمان من كفّ رازق
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحََاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [4] [مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الأنعام: 10) فإنه قد يقال: ما الحكمة في التعبير بالسخرية دون الاستهزاء؟ وهلّا قيل: «فحاق بالذين استهزءوا بهم»] (4) ليطابق ما قبله؟
__________
(1) عبارة المخطوطة (حتى لا تنسب السيئة إلى الله تعالى سبحانه).
(2) عبارة المخطوطة (في الكلام).
(3) كذا في المطبوعة والمخطوطة، ولكن قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 17/ 119 (أول من عبده أبو كبشة، أحد أجداد النبي صلّى الله عليه وسلّم من قبل أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن أبي كبشة)، فالصواب أنه «أبو كبشة».
(4) ليست في المخطوطة.(3/439)
والجواب أن الاستهزاء هو إسماع الإساءة، والسخرية قد تكون في النفس [غير ممنوع] (1)
ولهذا يقولون (2): سخرت منه كما يقولون (2): عجبت منه ولا يقال: تجنّب ذلك [لما في ذلك] (4) من تكرار الاستهزاء [ثلاث] (4) مرات لأنه قد كرر السخرية ثلاثا في قوله تعالى:
{إِنْ تَسْخَرُوا مِنََّا فَإِنََّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمََا تَسْخَرُونَ} (هود: 38)، وإنما لم يقل: «نستهزئ بكم» لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء.
[232/ ب] وأما قوله: {اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة: 15) فالعرب تسمي الجزاء على الفعل باسم الفعل، كقوله: {نَسُوا اللََّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة: 67) وهو مجاز حسن وأما الاستهزاء الذي نحن بصدده فهو استهزاء حقيقة، لا يرضى به إلا جاهل.
ثم قال سبحانه: {فَحََاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} (الأنعام: 10)، أي حاق بهم من الله الوعيد البالغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا به يستهزءون بألسنتهم، فنزّلت كلّ كلمة منزلتها.
وقوله [تعالى]: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} (البقرة:
149) ولم يذكر الكعبة، لأن البعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حرج عليه، بخلاف القريب ولما خصّ الرسول بالخطاب تعظيما وإيجابا لشرعته عمّم تصريحا بعموم الحكم (6)، وتأكيدا لأمر القبلة.
قاعدة
إذا اجتمع الحمل على اللفظ والمعنى، بدئ باللفظ ثم بالمعنى، (7) [هذا هو الجادّة في القرآن، كقوله تعالى: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا} (البقرة: 8)، أفرد أوّلا باعتبار اللفظ، ثم جمع ثانيا باعتبار المعنى] (7)، فقال: {وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8) فعاد الضمير (7) [مجموعا كقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَيَعْمَلْ صََالِحاً يُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} (الطلاق: 11)، فعاد الضمير] (7) من «يدخله» مفردا على لفظ «من»،
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) عبارة المخطوطة في الموضعين (تقول).
(4) ليست في المخطوطة.
(6) عبارة المخطوطة (تعظيما له بالمشروعية، عمم تصريحا لعموم الحكم).
(7) ليست في المخطوطة.(3/440)
ثم قال: «خالدين» وهو حال من الضمير.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (الأنعام: 25).
و [قوله] (1): {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلََا تَفْتِنِّي أَلََا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} (التوبة:
49).
و [قوله] (1): {وَمِنْهُمْ مَنْ عََاهَدَ اللََّهَ لَئِنْ آتََانََا مِنْ فَضْلِهِ [لَنَصَّدَّقَنَ]} [3]
(التوبة: 75) إلى قوله: {فَلَمََّا آتََاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} (التوبة: 76).
وقد يجري الكلام على أوله في الإفراد، كقوله تعالى: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَيُشْهِدُ اللََّهَ عَلى ََ مََا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصََامِ} (البقرة: 204) الآيتين، فكرر فيها ثمانية ضمائر، كلّها عائد على لفظ «من»، ولم يرجع منها شيء على معناها، مع أن المعنى على الكثرة.
وقد يقتصر على معناها في الجميع، كقوله تعالى في سورة يونس: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (يونس: 42). وما ذكرنا من البداءة باللفظ عند الاجتماع هو الكثير، قال الشيخ علم الدين العراقي (4): ولم يجيء في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى: {وَقََالُوا مََا فِي بُطُونِ هََذِهِ الْأَنْعََامِ خََالِصَةٌ لِذُكُورِنََا وَمُحَرَّمٌ عَلى ََ أَزْوََاجِنََا} (الأنعام: 139) فأنث «خالصة» حملا على معنى «ما»، ثم راعى اللفظ فذكّر وقال: {وَمُحَرَّمٌ عَلى ََ أَزْوََاجِنََا}.
واعترض بعض الفضلاء وقال: إنما يتمّ ما قاله من البداءة بالحمل على المعنى في ذلك إذا كان الضمير الذي في الصّلة التي [هي] (5) في بطون هذه الأنعام يقدر مؤنثا أما (6)
إذا قدر مذكّرا فالبداءة إنما هو بالحمل على اللفظ.
وأجيب بأنّ اعتبار اللفظ والمعنى أمر يرجع إلى الأمور التقديرية لأن اعتبار الأمرين أو
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) هو عبد الكريم بن علي بن عمر تقدم التعريف به في 3/ 102.
(5) ليست في المطبوعة.
(6) عبارة المخطوطة (وإذا).(3/441)
أحدهما إنما يظهر في اللفظ وإذا كان كذلك صدق أنّه إنما بدئ في الآية بالحمل على المعنى فيتم كلام (1) العراقيّ.
ونقل الشيخ أبو حيان في «تفسيره» (2) عن ابن عصفور (3): أن الكوفيّين لا يجيزون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال: ولم يرد السماع إلا بالفاصل، كما ذهب إليه الكوفيون. ونازعه الشيخ أثير الدين (4) بقوله تعالى: {وَقََالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلََّا مَنْ كََانَ هُوداً أَوْ نَصََارى ََ} (البقرة: 111)، وقال: ألا تراه كيف جمع بين الجملتين دون فصل! انتهى.
والذي ذكره ابن عصفور في «شرح المقرب» (5) [له] (6): شرط الكوفيون في جواز اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى الفصل فيجوّزون: من يقومون اليوم وينظر في أمرنا إخوتنا، [ولا يجوّزون: من يقومون وينظر في أمرنا إخوتنا] (7) لعدم الفصل، وإنما [233/ أ] ورد السماع بالفصل. انتهى.
وهذا يقتضي أنّ الكوفيين لا يشترطون الفصل عند اجتماع الجملتين إلا أن يقدّم اعتبار المعنى ويؤخّر اعتبار اللفظ كما في قوله تعالى: {وَقََالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلََّا مَنْ كََانَ هُوداً أَوْ نَصََارى ََ} (البقرة: 111) إنما بدئ فيه بالحمل على اللفظ.
وقال ابن الحاجب (8): إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى وإذا حمل على المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ لأن المعنى أقوى، فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ، ويضعف بعد اعتبار المعنى القويّ الرجوع إلى الأضعف (9).
__________
(1) عبارة المخطوطة (بالحمل على معنى كلام العراقي).
(2) انظر البحر المحيط 1/ 350عند تفسير الآية (111) من سورة البقرة، وفي 4/ 232عند تفسير الآية (139) من سورة الأنعام، فقد ذكر قول شيخه علم الدين العراقي، الذي أورده الزركشي آنفا.
(3) هو علي بن مؤمن تقدم التعريف به في 1/ 466.
(4) هو محمد بن يوسف بن علي الغرناطي أثير الدين، أبو حيان الاندلسي صاحب «البحر المحيط» السابق ذكره.
(5) حققه عبد الرحمن محمد العمار كرسالة ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود كلية اللغة العربية بالرياض سنة 1401هـ / 1981م (النشرة الإخبارية 3/ 7).
(6) ليست في المطبوعة.
(7) ليست في المخطوطة.
(8) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر تقدم التعريف به في 1/ 466.
(9) عبارة المخطوطة (الرجوع إلى ضعف).(3/442)
وهذا معترض بأن الاستقراء دلّ على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى، وكثرة موارده تدل على قوله وأما العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به (1) التنزيل، كما ورد باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ، فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما، بعد الآخر من غير ضعف.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلََّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صََالِحاً [نُؤْتِهََا]} [2]
(الأحزاب: 31) فقرأه الجماعة بتذكير «يقنت» حملا على لفظ «من» في التذكير «وتعمل» بالتأنيث، حملا على معناها لأنها للمؤنث. وقرأ حمزة والكسائي «يعمل» (3)
بالتذكير فيهما حملا على لفظها رعاية للمناسبة في المتعاطفين. وتوجيه الجماعة أنّه لما تقدم على الثاني صريح التأنيث في «منكنّ» حسن الحمل على المعنى.
وقال أبو الفتح في «المحتسب» (4): لا يجوز مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى. وقد يورد عليه قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطََاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف: 3736) ثم قال:
{حَتََّى إِذََا جََاءَنََا} (الزخرف: 38)، فقد راجع (5) اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى إلا أن يقال: إن الضمير في «جاء» يرجع إلى الكافر لدلالة السياق عليه لا إلى «من».
ومنه الفرق بين «أسقى» و «سقى» بغير همز لما [لا] (6) كلفة معه في السقيا ومنه قوله تعالى: {وَسَقََاهُمْ رَبُّهُمْ شَرََاباً طَهُوراً} (الدهر: 21) فأخبر أن السقيا في الآخرة لا يقع فيها كلفة، بل جميع ما يقع فيها من الملاذّ يقع فرصة وعفوا، بخلاف «أسقى» بالهمزة،
__________
(1) في المخطوطة (بها).
(2) ليست في المطبوعة.
(3) قال البنا في إتحاف فضلاء البشر ص 355عند سورة الأحزاب: (واختلف في ويعمل صالحا نؤتها فحمزة والكسائي وخلف بياء التذكير فيهما، على إسناد الأول إلى لفظ «من»، والثاني لضمير الجلالة لتقدمها ووافقهم الأعمش والباقون بتاء التأنيث في «يعمل» على إسناده لمعنى «من» وهن النساء).
(4) انظر «المحتسب» لابن جني 2/ 179عند سورة الأحزاب، ولكن نص هذه العبارة أقرب ما يكون من عبارة «الخصائص» له 2/ 420فصل في الحمل على المعنى، وقد تقدم التعريف «بالمحتسب» في 1/ 481.
(5) في المخطوطة (فراجع).
(6) ليست في المخطوطة.(3/443)
فإنه لا بدّ فيه من الكلفة بالنسبة للمخاطبين (1) كقوله تعالى: {وَأَسْقَيْنََاكُمْ مََاءً فُرََاتاً}
(المرسلات: 27)، {لَأَسْقَيْنََاهُمْ مََاءً غَدَقاً} (الجن: 16)، لأن الإسقاء في الدنيا لا يخلو من الكلفة أبدا.
و [منه] (2) قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنََاهََا وَأَلْقَيْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ وَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (الحجر: 19)، قال أبو مسلم (3) محمد بن بحر الأصبهاني في «تفسيره» (4) إنما خصّ الموزون بالذكر دون المكيل، لأمرين:
أحدهما: أن غاية المكيل ينتهي إلى الموزون، لأن سائر المكيلات إذا صارت قطعا دخلت في باب الموزون وخرجت عن المكيل، فكان الوزن أعمّ من المكيل.
والثاني: أن في الموزون معنى المكيل لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء ومقايسته وتعديله به، وهذا المعنى ثابت في المكيل، فخصّ الوزن بالذكر لاشتماله على معنى المكيل.
وقال الشريف المرتضى في «الغرر» (5): هذا خلاف المقصود بل المراد بالموزون القدر (6) الواقع بحسب الحاجة، فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرّة.
ومنه قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلََّا خَمْسِينَ عََاماً} (العنكبوت: 14)، فذكر في مدة اللّبث السنة، وفي الانفصال العام للإشارة إلى (7) أنه كان في شدائد في مدته كلّها،
__________
(1) عبارة المخطوطة (إلى المخاطبين).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) تصحفت كنيته في المطبوعة إلى (أبو سلمة)، وفي المخطوطة (أبو مسلمة) تقدم التعريف به في 2/ 377.
(4) ذكره ياقوت في معجم الأدباء 18/ 36فقال (وله من الكتب: كتاب «جامع التأويل لمحكم التنزيل» على مذهب المعتزلة أربعة عشر مجلدا)، وقد طبع قسم منه باسم «ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل» عنى بترتيبه سعيد الأنصاري كلكتا 1348هـ / 1929م (معجم الدراسات القرآنية ص 591).
(5) هو علي بن الحسين بن موسى تقدم التعريف به في 3/ 124، وكتابه «غرر الفوائد ودرر القلائد» المعروف «بأمالي المرتضى» طبع في الهند سنة 1272هـ / 1855م، ثم طبع في القاهرة مطبعة السعادة سنة 1325هـ / 1907م (معجم سركيس: 1124)، ثم طبع في القاهرة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1374هـ / 1954م (معجم المنجد 1/ 81)، ثم صورته دار الكتاب العربي عن طبعة محمد أبو الفضل إبراهيم سنة 1400هـ / 1980م.
(6) في المخطوطة (المقدار).
(7) في المخطوطة (إلا أنه).(3/444)
إلا خمسين عاما قد جاءه الفرج والغوث فإن السّنة تستعمل غالبا في موضع الجدب ولهذا سمّوا شدة القحط سنة.
قال السّهيليّ (1): ويجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن عمره كان ألفا إلا أن الخمسين منها كانت أعواما، فيكون (2) عمره ألف [233/ ب] سنة ينقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة لأن الخمسين عاما بحسب الأهلّة أقل من خمسين سنة شمسية، بنحو [من] (3) عام ونصف.
وابن على هذا المعنى قوله: {فِي يَوْمٍ كََانَ مِقْدََارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج: 4) وقوله: {أَلْفَ سَنَةٍ مِمََّا تَعُدُّونَ} (السجدة: 5) فإنه كلام ورد في موضع التكثير والتتميم بمدّة ذلك اليوم، والسنة أطول من العام.
النّحت
نحو الحوقلة والبسملة، جعله ابن الزملكاني (4) من نظوم القرآن، ومثّله بقوله: {وَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً} (النساء: 79)، قال: وكفى (5)، من كفيته الشيء ولم يجيء للعرب كفيته بالشيء، فجعل بين الفعلين الفعل المذكور وهو متعدّ، وخصّ من الفعل اللازم وهو اكتفيت به، بالباء، وكذلك انتصب «شهيدا» على التمييز أو الحال كأنه قيل: كفى بالله [فاكتف به] (6)، فاجتمع فيه الخبر والأمر.
الإبدال
من كلامهم إبدال الحروف، وإقامة بعضها مقام بعض يقولون: مدحه ومدهه، وهو كثير، ألف فيه المصنفون، وجعل منه ابن فارس (7) «قوله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكََانَ كُلُّ فِرْقٍ}
__________
(1) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد تقدم التعريف به في 1/ 242.
(2) عبارة المخطوطة (مكان ألفا إلا خمسين منها كانت أعواما، فكان عمره ألف، ينقص منها).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) هو عبد الواحد بن عبد الكريم تقدم التعريف به في 1/ 135.
(5) في المخطوطة (كيف من كفيته).
(6) ليست في المخطوطة.
(7) هو أحمد بن فارس بن زكريا تقدم التعريف به في 1/ 191وانظر قوله في كتابه «الصاحبي» ص 173باب الإبدال.(3/445)
{كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (الشعراء: 63)، فقال: فالراء واللام متعاقبان، كما تقول العرب: فلق الصبح وفرقه. قال: وذكر عن الخليل ولم أسمعه سماعا أنه قال في قوله تعالى: {فَجََاسُوا خِلََالَ الدِّيََارِ} (الاسراء: 5)، [إنما أراد «فحاسوا»] (1) فقامت الجيم مقام الحاء.
قال ابن فارس: وما أحسب الخليل قال هذا، ولا أحقّه عنه».
قلت: ذكر ابن جني في «المحتسب» (2): «أنها قراءة أبي السّمال (3)، وقال: قال أبو زيد (4) أو غيره: قلت له: إنما هو «فجاسوا»، فقال: حاسوا وجاسوا واحد. وهذا يدل على أنّ بعض القراء يتخير بلا رواية! ولذلك نظائر». انتهى.
وهذا الذي قاله ابن جني غير مستقيم، ولا يحلّ لأحد أن يقرأ إلا بالرواية. وقوله: «إنهما بمعنى واحد» لا يوجب القراءة بغير الرواية كما ظنه أبو الفتح وقائل ذلك، والقارئ به هو أبو السّوّار الغنويّ لا أبو السّمال فاعلم ذلك. كذلك أسنده الحافظ أبو عمرو الداني (5)، فقال:
حدثنا المازنيّ، قال: سألت أبا السّوار الغنوي، فقرأ: «فحاسوا» بالحاء غير الجيم، فقلت:
إنما هو «فجاسوا» قال: حاسوا وجاسوا واحد، يعني أن اللفظين بمعنى واحد وإن كان أراد أن القراءة بذلك تجوز في الصلاة، والغرض كما جازت بالأولى، فقد غلط في ذلك وأساء (6).
3/ 389وزعم الفارسيّ في «تذكرته» (7) في قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} (ص: 32)، أنه
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) انظر «المحتسب» 2/ 15سورة بني إسرائيل، و «البحر المحيط» لأبي حيان 6/ 10سورة الإسراء.
(3) قعنب بن أبي قعنب أبو السّمّال بفتح السين وتشديد الميم وباللام العدوي البصري، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة رواه عنه أبو زيد، سعيد بن أوس، وأسند الهذلي قراءة أبي السمال عن هشام البربري عن عباد بن راشد عن الحسن عن سمرة عن عمر، وهذا سند لا يصح. (ابن الجزري، غاية النهاية 2/ 27)، وعبارة المطبوعة (قراءة أبو السّمّال).
(4) هو سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري تقدم التعريف به في 1/ 470.
(5) هو عثمان بن سعيد تقدم التعريف به في 1/ 149.
(6) وانظر لابن خالويه «مختصر في شواذ القرآن» ص 75شواذ سورة الإسراء حيث قال («فحاشوا خلال الديار» بالحاء والشين أبو السّمّال، «فجوّسوا خلال الديار» بتشديد الواو في بعض المصاحف)، وقال الزمخشري في «الكشاف» 2/ 352 (وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء، وقرئ «فجوّسوا»)، وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 10/ 216 (وقرأ ابن عباس «حاسوا» بالحاء المهملة)، فهذه القراءة من الشواذ حيث لم يوردها البنا في «إتحاف فضلاء البشر» وعن حكم القراءة بالشواذ في الصلاة انظر ما ذكره الزركشي سابقا في 1/ 481.
(7) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي تقدم التعريف به في 1/ 375، وتقدم التعريف بكتابه «التذكرة» في 2/ 394.(3/446)
بمعنى حبّ الخيل وسميت الخيل خيرا لما يتصل بها من العز والمنعة كما روي: «الخيل معقود بنواصيها الخير» (1)، وحينئذ فالمصدر مضاف إلى المفعول به.
وقيل في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ} (الحجر: 22): إن أصله «ملاقح»، لأنه يقال: ألقحت الريح السحاب، أي جمعته، وكل هذا تفسير معنى، وإلا فالواجب صون القرآن أن يقال فيه مثل ذلك.
وذكر أبو عبيدة (2) في قوله: {إِلََّا مُكََاءً وَتَصْدِيَةً} (الأنفال: 35)، معناه «تصددة»، فأخرج الدال الثانية ياء لكسرة الدال الأولى، كما حكاه صاحب «الترقيص» (3).
وحكي عن أبي رياش في قول امرئ القيس (4):
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلي
معناه «تنسلل» فأخرج اللام الثانية ياء لكسرة اللام الأولى ومثله قول الآخر:
وإنّي لأستنعي وما بي نعسة ... لعلّ خيالا منك يلقى خياليا (5)
أراد [234/ أ] أستنعس فأخرج السين ياء.
__________
(1) في المخطوطة (الخير معقود بنواصي الخيل)، ونص الحديث كما هو في المطبوعة، أخرجه من رواية جرير بن عبد الله رضي الله عنه، مسلم في الصحيح 3/ 1493كتاب الإمارة (33)، باب الخيل في نواصيها الخير (26)، الحديث (97/ 1872).
(2) هو معمر بن المثنى تقدم التعريف به في 1/ 383، وانظر كتابه «مجاز القرآن» 1/ 246سورة الأنفال، ولم نجد عبارة الزركشي عنده، ولعل صاحب «الترقيص» تصرف في العبارة ونقل عنه الزركشي
(3) هو محمد بن المعلى بن عبد الله الأزدي النحوي أبو عبد الله، روى عن الفضل بن سهل وأبي كثير الأعرابي، وله «شرح ديوان تميم بن مقبل وغير ذلك» (ياقوت، معجم الأدباء 19/ 55)، وكتابه «الترقيص» ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 1/ 401.
(4) عجز بيت من ديوان امرئ القيس ص 37وصدره: وإن تك قد ساءتك مني خليقة، وهو من معلقته ومطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
أما أبو رياش فهو أحمد بن إبراهيم الشيباني اللغوي من أهل اليمامة، روى عن مشايخ زمانه بالبصرة، وكان فصيح اللسان روى عنه عبد السلام البصري وطبقته ت (339هـ) (القفطي إنباء الرواة 1/ 60).
(5) البيت للمجنون، ذكره الجرجاني في أسرار البلاغة ص 259فصل وهذا نوع آخر في التعليل، وفيه «وإني لأستغشي».(3/447)
وقال الفارسيّ في «التذكرة»: قرأ الحسن (1) أو من قرأ له قوله تعالى: فيما حكى عن يعقوب (2) في القلب والإبدال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ} (الأنعام: 145)، «غير 3/ 390عائد»، واستحسنه الفارسي ألّا يعود إليه كما يعود في حال السعة من العشاء إلى الغداء.
وقيل في قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنََاتٍ [بِغَيْرِ عِلْمٍ]} [3] (الأنعام: 100): إنّ خرقه واخترقه، وخلقه، واختلقه بمعنى [واحد] (3) هو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير (5)، وقول قريش في الملائكة.
وجوّز الزمخشري كونه (6) من خرق الثوب إذا شقّه أي أنهم اشتقوا له بنين وبنات.
3/ 391
المحاذاة
ذكره ابن فارس (7)، وحقيقته أن يؤتى باللفظ على وزن الآخر لأجل انضمامه (8) إليه وإن كان لا يجوز فيه ذلك لو استعمل منفردا كقولهم: أتيته الغدايا والعشايا، فقالوا: الغدايا لانضمامها إلى العشايا.
قيل: ومن هذا كتابة المصحف، كتبوا: {وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ} (الضحى: 2) بالياء وهو من ذوات الواو (9) لما قرن بغيره مما يكتب بالياء.
ومنه قوله تعالى: {لَسَلَّطَهُمْ [عَلَيْكُمْ]} [10] (النساء: 90) فاللام التي [في] (11)
{لَسَلَّطَهُمْ} جواب {لَوْ}. ثم قال: {فَلَقََاتَلُوكُمْ} فهذه حوذيت بتلك اللام وإلا فالمعنى: لسلّطهم عليكم فقاتلوكم (12).
__________
(1) عبارة المطبوعة (قرأ أبو الحسن) والصواب ما أثبتناه من المخطوطة، وهو الحسن البصري.
(2) هو يعقوب بن إسحاق الحضرمي أبو محمد المقرئ تقدم التعريف به في 1/ 470.
(3) ليست في المطبوعة.
(5) عبارة المخطوطة (في العزير والمسيح)، والإشارة هنا إلى قوله تعالى في سورة التوبة {وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ} الآية (30) وانظر في قصة العزير تفسير ابن كثير 2/ 362361.
(6) انظر الكشاف 2/ 31عند تفسير الآية (100) من سورة الأنعام.
(7) هو أحمد بن فارس وانظر قوله في كتابه «الصاحبي» ص 196195باب المحاذاة.
(8) عبارة المخطوطة (بانضمامه).
(9) في المخطوطة (من ذوات الياء) والصواب ما في المطبوعة.
(10) ليست في المطبوعة.
(11) ليست في المخطوطة.
(12) في المخطوطة (فلقاتلوكم) والصواب ما في المطبوعة.(3/448)
ومثله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} (النمل: 21) فهما لا ما قسم ثم قال:
{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي [بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ]} [1]، فليس ذا موضع قسم لأنه حذر (2) الهدهد فلم يكن ليقسم على الهدهد أن يأتي بعذر، لكنه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه.
ومنه الجزاء على (3) الفعل بمثل لفظه نحو: {إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ * اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ 3/ 392 بِهِمْ} (البقرة: 1514) أي مجازيهم جزاء الاستهزاء.
وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ} (آل عمران: 54) {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللََّهُ مِنْهُمْ}
(التوبة: 79). {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (الشورى: 40).
قواعد (4) في النفي
قد تقدّم في شرح معاني الكلام جمل من قواعده ونذكر هاهنا زيادات.
اعلم أنّ نفي الذات الموصوفة قد يكون نفيا للصفة دون الذات، وقد يكون نفيا للذات.
وانتفاء النهي (5) عن الذات الموصوفة قد يكون نهيا عن الذات، وقد يكون نهيا عن الصفة دون الذوات، قال الله تعالى: {وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ} (الإسراء: 33)، فإنه نهى عن القتل بغير الحق. وقال [تعالى]: {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ مِنْ إِمْلََاقٍ} (الأنعام:
151).
ومن الثاني قوله: {لََا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (المائدة: 95)، {وَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)، أي فلا يكون موتكم إلا على حال كونكم ميّتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة [عن كونهم] (6) على خلاف حال الإسلام كقول القائل: لا تصلّ إلا وأنت خاشع، فإنه ليس نهيا عن [الصلاة، بل عن] (7) ترك الخشوع.
وقوله: {لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ وَأَنْتُمْ سُكََارى ََ} (النساء: 43) الآية.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) كذا في الأصول، ولكن عبارة «الصاحبي» (لأنه عذر للهدهد).
(3) في المطبوعة (عن) والصواب ما في المخطوطة كما في عبارة «الصاحبي».
(4) في المخطوطة (قاعدة).
(5) في المخطوطة (النفي).
(6) ليست في المطبوعة.
(7) ليست في المخطوطة.(3/449)
وقد ذكروا أن النفي بحسب ما يتسلّط عليه يكون أربعة أقسام:
الأول: بنفي المسند نحو، ما قام زيد بل قعد، ومنه قوله تعالى: {لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً} (البقرة: 273) فالمراد نفي السؤال من أصله لأنهم متعفّفون ويلزم من نفيه نفي الإلحاف.
الثاني: أن ينفى المسند إليه، فينتفي المسند، نحو ما قام زيد [إذا كان زيد غير موجود لأنه يلزم من عدم زيد] (1) نفي القيام. ومنه قوله تعالى: {فَمََا تَنْفَعُهُمْ شَفََاعَةُ الشََّافِعِينَ}
(المدثر: 48)، أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم.
ومنه قول الشاعر (2):
على لاحب لا يهتدى بمناره (3)
أي: على طريق لا منار له، فيهتدى به ولم يكن مراده أن يثبت المنار فينتفي الاهتداء به.
الثالث: أن ينفى المتعلق دون المسند [234/ ب] والمسند إليه، نحو ما ضربت زيدا بل عمرا.
الرابع: أن ينفى قيد المسند إليه أو المتعلق نحو ما جاءني رجل كاتب بل شاعر، وما رأيت رجلا كاتبا بل شاعرا فلما كان النفي قد ينصبّ على المسند وقد ينصبّ على المسند إليه أو المتعلق، وقد ينصبّ على القيد احتمل في قولنا: ما رأيت رجلا كاتبا. أن يكون المنفيّ هو القيد فيفيد الكلام رؤية غير الكاتب (4) وهو احتمال مرجوح ولا يكون (5) المنفيّ المسند أي الفعل، بمعنى أنه لم يقع منه رؤية عليه لا على رجل ولا على غيره وهو في المرجوحية كالذي قبله.
نفي الشيء رأسا
لأنه عدم كمال وصفه أو لانتفاء ثمرته، كقوله تعالى في صفة أهل النار: {لََا يَمُوتُ فِيهََا}
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) صدر بيت لامرئ القيس عجزه: إذا سافه العود النّباطي جرجرا. انظر ديوانه ص 95من قصيدة مطلعها:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا * وحلّق سليمى بطن قوٍّ فعرعرا
(3) في المطبوعة (لمناره) وما أثبتناه من المخطوطة والديوان.
(4) في المخطوطة هنا زيادة هي (للمفهوم، وهذا الاحتمال راجح أن يكون المنفي الواقع عليه الفعل وهو الرجل، ويلزم من ذلك انتفاء رؤية الكاتب)
(5) في المخطوطة (وأن يكون).(3/450)
{وَلََا يَحْيى ََ} (طه: 74) فنفى عنه الموت، لأنه ليس بموت صريح، ونفى عنه الحياة، لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة، كقوله تعالى: {وَتَرَى النََّاسَ سُكََارى ََ وَمََا هُمْ بِسُكََارى ََ} (الحج:
2) أي ما هم بسكارى مشروب ولكن سكارى فزع.
وقوله: {لََا يَنْطِقُونَ * وَلََا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات: 3635)، وهم قد نطقوا بقولهم: {يََا لَيْتَنََا نُرَدُّ وَلََا نُكَذِّبَ بِآيََاتِ رَبِّنََا} (الأنعام: 27)، ولكنهم لما نطقوا بما لم ينفع فكأنهم لم ينطقوا.
وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لََا يَفْقَهُونَ بِهََا} (الأعراف: 179).
وقوله: {لَوْ كُنََّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مََا كُنََّا فِي أَصْحََابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10).
و [منه] (1) قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى ََ لََا يَسْمَعُوا وَتَرََاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ} (الأعراف: 198)، فإنّ المعتزلة احتجوا [به] (1) على نفي الرؤية، لأنّ النظر لا يستلزم الإبصار، ولا يلزم من قوله: {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} (القيامة: 23) إبصار.
وهذا وهم، لأن الرؤية تقال (3) على أمرين: أحدهما الحسبان [كقوله: {وَتَرَى النََّاسَ سُكََارى ََ وَمََا هُمْ بِسُكََارى ََ} (الحج: 2) أي تحسبهم] (4)، الثاني العلم، [{مََا أُرِيكُمْ إِلََّا مََا أَرى ََ} (غافر:
29) والرؤية في] (4) الآية من المعنى الأول، أي تحسبهم ينظرون إليك لأنّ لهم أعينا (6)
مصنوعة بأجفانها وسوادها يحسب الإنسان أنها تنظر إليه بإقبالها عليه، وليست تبصر شيئا.
ومنه: {فَقََاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لََا أَيْمََانَ لَهُمْ} (التوبة: 12).
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرََاهُ مََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ وَلَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 102) فإنّه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسميّ، ثم نفاه أخيرا عنهم لعدم جريهم على موجب العلم كذا قاله السكاكي (7) وغيره.
وقد يقال: لم يتوارد النفي والإثبات على محلّ واحد، لأنّ المثبت أولا نفس العلم، والمنفي إجراء (8) العمل بمقتضاه، ويحتمل حذف المفعولين أو اختلاف أصحاب الضميرين.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (تفاد).
(4) ليست في المطبوعة.
(6) في المخطوطة (لأنهم أعين).
(7) هو أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي تقدم التعريف به في 1/ 163، وانظر قوله في كتابه «مفتاح العلوم» ص 172الفن الأول في تفصيل اعتبارات الإسناد الخبري، ومنه الخبر الإنكاري.
(8) في المخطوطة (آخر).(3/451)
قال: ونظيره في النفي والإثبات قوله: {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}
(الأنفال: 17).
قلت: المنفيّ أولا التأثير، والمثبت ثانيا نفس الفعل.
ومن هذه القاعدة يزول الإشكال في قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمََا بَلَّغْتَ رِسََالَتَهُ}
(المائدة: 67) والمعنى: إن لم تفعل بمقتضى ما بلغت فأنت في حكم غير المبلّغ، كقولك لطالب العلم إن لم تعمل بما علمت فأنت لم تعلم شيئا، أي في حكم من لم يعلم.
* * * ومنه نفي الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي وتأكيده، كقولهم: فلان لا يرجى خيره، ليس المراد أن فيه خيرا لا يرجى، [وإنما] (1) غرضهم أنه (2) لا خير فيه على وجه من الوجوه.
ومنه: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) فإنه يدلّ أنّ قتلهم لا يكون إلا بغير حقّ، ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون [عليه] (1) من الصفة، [235/ أ] وهي وقوعه (4) على خلاف الحق.
وكذلك قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ لََا بُرْهََانَ لَهُ بِهِ} (المؤمنون: 117) إنها وصف لهذا الدعاء، وأنه لا يكون إلا [عن] (5) غير برهان.
وقوله: {وَلََا تَكُونُوا أَوَّلَ كََافِرٍ بِهِ} (البقرة: 41)، تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر.
وقوله: {وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا} (البقرة: 41) لأنّ كلّ ثمن لها لا يكون إلا قليلا، فصار نفي الثمن القليل نفيا لكل ثمن.
وقوله تعالى: {لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً} (البقرة: 273)، فإنّ ظاهره نفي الإلحاف في المسألة، والحقيقة نفي المسألة البتة وعليه أكثر المفسرين، بدليل قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجََاهِلُ أَغْنِيََاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} (البقرة: 273)، ومن لا يسأل لا يلحف قطعا ضرورة أنّ نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (أن).
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (قوله).
(5) ليست في المخطوطة.(3/452)
ومثله قوله: {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ [يُطََاعُ]} [1] (غافر: 18)، ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة بل نفيه مطلقا وإنما قيّده بذلك لوجوه:
أحدها: أنه تنكيل بالكفار لأنّ أحدا لا يشفع إلا بإذنه وإذا شفّع يشفّع، لكن الشفاعة مختصّة بالمؤمنين، فكان نفي الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لأضدادهم كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع: لقد حدّثت صديقا نافعا، وإنما تريد التنويه بما حصل لغيره، لأنّ له صديقا ولم ينفع.
الثاني: أنّ الوصف اللازم للموصوف ليس بلازم أن يكون للتقييد بل بدل الأعراض (2)
من تحسينه أو تقبيحه، نحو: له مال يتمتع به، وقوله تعالى: {وَمََا آتَيْنََاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهََا}
(سبأ: 44) {وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: 174).
الثالث: قد يكون الشفيع غير مطاع في بعض الشفاعات، وقد ورد في بعض الحديث ما يوهم صورة الشفاعة من غير إجابة، كحديث الخليل مع والده يوم القيامة (3) وإنما دلّ على التلازم دليل الشرع.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} (الإسراء: 111) أي [من] (4) خوف الذلّ، فنفى الوليّ لانتفاء خوف الذلّ فإن اتخاذ الوليّ فرع عن خوف الذل وسبب عنه.
وقوله [تعالى]: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255)، نفى الغلبة والمراد نفي أصل النوم [لا النوم] (5) والسّنة عن ذاته ففي الآية التصريح بنفي النوم وقوعا وجوازا، أمّا
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المطبوعة (بل يدلّ لأغراض).
(3) إشارة إلى حديث أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 387كتاب الأنبياء (60)، باب قول الله تعالى {وَاتَّخَذَ اللََّهُ إِبْرََاهِيمَ خَلِيلًا} (النساء: 165)، الحديث (3350) ونصّه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغيرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب إنّك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيّ خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرّمت الجنة على الكافرين. ثمّ يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك، فينظر فاذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» والذيخ: ذكر الضباع، وأراد بالتلطخ: برجيعة أو بالطين.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المطبوعة.(3/453)
وقوعا فبقوله: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255)، وأما جوازا فبقوله: {الْقَيُّومُ}، وقد جمعهما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» (1).
(2) [وقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللََّهَ بِمََا لََا يَعْلَمُ} (يونس: 18) أي بما لا وجود له، لأنه لو وجد لعلمه موجودا لوجوب (3) تعلق علم الله تعالى بكل معلوم] (2).
وقوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (آل عمران: 90)، على قول من نفى القبول لانتفاء سببه، وهو التوبة، لا يوجد توبة فيوجد قبول.
وعكسه: {وَمََا وَجَدْنََا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} (الأعراف: 102)، فإنّه نفي لوجدان العهد لانتفاء سببه، وهو الوفاء بالعهد.
[وقوله] (2) {مََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلََّا أَسْمََاءً سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ بِهََا مِنْ سُلْطََانٍ} (يوسف: 40)، أي من حجّة، أي لا حجة عليها، فيستحيل إذن أن ينزل بها حجة. ونظيره من السنة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الدجّال أعور والله ليس بأعور» (6)، أي بذي جوارح كوامل بتخيل [له أن له] (7) جوارح نواقص.
ونظيره قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كََانَ الْبَحْرُ مِدََاداً لِكَلِمََاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمََاتُ رَبِّي} (الكهف: 109) ليس المراد أن كلمات الله تنفد بعد نفاد البحر بل لا تنفد أبدا، لا قبل نفاد البحر ولا بعده. وحاصل الكلام: لنفد البحر ولا تنفد كلمات ربي.
ووقع في شعر جرير قوله (8):
__________
(1) أخرجه من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، مسلم في الصحيح 1/ 162كتاب الإيمان (1)، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام (79)، الحديث (293/ 179).
(3) العبارة في المطبوعة (بوجود الوجوب، تعلق علم الله) والصواب ما أثبتناه من المخطوطة.
(2) ليست في المخطوطة.
(6) متفق عليه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه البخاري في الصحيح 13/ 389كتاب التوحيد (97)، باب قول الله تعالى {وَلِتُصْنَعَ عَلى ََ عَيْنِي} (طه: 39) (17)، الحديث (7407)، ومسلم في الصحيح 4/ 2247كتاب الفتن (52)، باب ذكر الدجال وصفته (20)، الحديث (100/ 169) ولفظه: «إن الله تعالى ليس بأعور، ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى».
(7) ليست في المطبوعة.
(8) البيت في ديوانه ص 385 (طبعة دار صادر) من قصيدة مطلعها:
ألم تر أنّ الجهل أقصر باطله ... وأمسى عماء قد تجلّت مخايله(3/454)
فيا لك (1) يوما خيره قبل شرّه ... تغيّب واشيه وأقصر عاذله
قال الأصمعيّ: أنشدته (2) كذلك لخلف الأحمر (3)، فقال: أصلحه:
فيا لك [235/ ب] يوما (4) خيره دون شرّه
فإنه لا خير لخير (5) بعده شر، وما زال العلماء يصلحون أشعار العرب، قال الأصمعيّ:
فقلت: والله لا أرويه أبدا إلا كما أوصيتني (6).
نقل ابن رشيق هذه الحكاية في «العمدة» وصوّبها (7)!.
__________
(1) في الديوان (وذلك يوم).
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (أشبه).
(3) هو خلف الأحمر بن حيان بن محرز، أحد رواة الغريب واللغة والشعر ونقّاده والعلماء به، وهو أحد الشعراء المحسنين. وكان يبلغ من حذقه واقتداره على الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء، ووصفه العلماء بعلم الشعر. وكان قد تعبّد في آخر عمره. وكان أبو نواس تلميذا له، ويفتخر به. من مصنفاته «جبال العرب» توفي في حدود (180). (القفطي، إنباه الرواة، 1/ 383).
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (ذلك يوم).
(5) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (فإنه لا خير دون خير بعده شر).
(6) الخبر ذكره المرزباني في «المرشح» ص 125.
(7) هو الحسن بن رشيق القيرواني، الفاضل الأديب، الجليل القدر. ولد سنة (370). قرأ الأدب بالمحمّديّة، وقال الشعر قبل أن يبلغ الحلم، رحل إلى القيروان وعمره ست عشرة سنة وامتدح بها. وله من التصانيف «العمدة في محاسن الشعر وآدابه»، اشتمل من هذا النوع على ما لم يشتمل عليه تصنيف من نوعه. وله كتاب «الشذوذ» وغيرها. توفي سنة (450). (القفطي، إنباه الرواة 1/ 333). وكتابه «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» طبع في تونس سنة 1283هـ / 1865م، وطبع في القاهرة بمطبعة السعادة بتصحيح محمد بدر النعساني سنة 1326هـ / 1907م، وطبع بالقاهرة بعناية أمين هندية مطبعة السعادة سنة 1344هـ / 1925م، وطبع بتحقيق محيي الدين عبد الحميد الطبعة الأولى بالمطبعة التجارية سنة 1353هـ / 1934م، والثانية سنة 1374هـ / 1955م، والثالثة في المكتبة التجارية سنة 1382هـ / 1963م، والطبعة الرابعة في بيروت دار الجيل سنة 1393هـ / 1974، وطبع في بيروت بتحقيق مفيد قميحة دار الكتب العلمية سنة 1403هـ 1983م، ثم طبع أخيرا في بيروت بتحقيق محمد قرقزان دار المعرفة سنة 1408هـ / 1988م، وقد ساق ابن رشيق قصة الأصمعي مع خلف في «العمدة» 2/ 986985باب في أغاليط الشعراء والرواة (91)، وهذا نصها:
(قال الأصمعي: قرأت على أبي محرز خلف بن حيان الأحمر شعر جرير، فلما بلغت إلى قوله:
وليل كإبهام الحبارى محبّب ... إليّ هواه غالب لي باطله(3/455)
قال ابن المنير (1): ووقع لي (2) أن الأصمعيّ وخلف الأحمر وابن رشيق أخطئوا جميعا وأصاب جرير وحده لأنه لم يرد إلا «فيا لك يوم خير لا شر فيه»، وأطلق «قبل» للنفي كما قلناها، في قوله تعالى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمََاتُ رَبِّي} (الكهف: 109)، وقوله تعالى: {اللََّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمََاوََاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا} (الرعد: 2) وقوله: {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهََا أَمْ لَهُمْ آذََانٌ يَسْمَعُونَ بِهََا} (الأعراف: 195) فإنّ ظاهره نفي هذه الجوارح، والحقيقة توجب نفي الإله (3) عمّن [يكون له فضلا عمّن] (4) لا يكون له.
وقوله: {وَإِنْ جََاهَدََاكَ عَلى ََ أَنْ تُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (لقمان: 15)، فالمراد لا ذاك ولا علمك به أي كلاهما غير ثابت.
وقوله: {بِمََا أَشْرَكُوا بِاللََّهِ مََا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطََاناً} (آل عمران: 151) أي شركاء لا
__________
رزقنا به الصّيد الغرير، ولم تكن ... كمن نبله محرومة وحبائله
فيا لك يوما خيره قبل شرّه ... تغيّب واشيه، وأقصر عاذله
قال خلف: ويحه، وما ينفعه خير يؤول إلى شرّ؟ فقلت: هكذا قرأته على أبي عمرو بن العلاء، قال:
صدقت، وكذا قال جرير، وكان قليل التّنقيح لألفاظه، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلّا كما سمع، قلت:
فكيف يجب أن يكون؟ قال: الأجود أن يكون:
«خيره دون شرّه» فاروه كذلك، فقد كانت الرّواة قديما تصلح أشعار الأوائل، فقلت: والله لا أرويه إلا كذا.
قلت أنا: أمّا هذا الإصلاح، فمليح الظّاهر، غير أنّه خلاف قصد الشاعر، وذلك أنّ الشاعر أراد أنّه كان ليله في وصال، ثم فارق حبيبه نهارا، وذلك هو الشّرّ الذي ذكر.
والرّواية جعله لم يفارق، فغيّر عليه المعنى، إلّا أن تكون الرواية:
«ويوم كإبهام الحبارى» فحينئذ: على أنّ «دون» تحتمل ما قصده، وتحتمل معنى «قبل» فهي لفظة مشتركة، وتكون أيضا بمعنى «بعد» لأنها من الأضداد، ولكن في غير هذا الموضع.
فإنه لم يصوب كلام خلف في بيت جرير إذ قال «غير أنه خلاف قصد الشاعر» لذا لا يتجه لابن رشيق نقد ابن المنيّر الذي ذكره الزركشي.
(1) هو أحمد بن محمد بن منصور تقدم التعريف به في 1/ 176.
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (الا).
(3) تصحفت في المطبوعة إلى (الآية).
(4) ساقطة من المخطوطة.(3/456)
ثبوت لها أصلا، ولا أنزل الله بإشراكها حجة [أي تلك] (1)، وإنزال الحجة كلاهما منتف.
وقوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللََّهَ بِمََا لََا يَعْلَمُ} (يونس: 18)، أي ما لا ثبوت له ولا علم الله متعلقا به نفيا للملزوم وهو النيابة بنفي لازمه، وهو وجوب كونه معلوما للعالم بالذات، لو كان [له] (2) ثبوت، بأي اعتبار كان.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمََانِهِمْ ثُمَّ ازْدََادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (آل عمران:
90) (3) [أصله لن يتوبوا فلن يكون لهم قبول توبة، فأوثر الإلحاق ذهابا إلى انتفاء الملزوم 3/ 401 بانتفاء اللازم وهو قبول التوبة الواجب في حكمه تعالى وتقدّس] (3).
وقوله: {وَلََا تُكْرِهُوا فَتَيََاتِكُمْ عَلَى الْبِغََاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} (النور: 33) ومعلوم أنه لا إكراه على الفاحشة لمن لا يريد تحصنا، لأنها نزلت فيمن يفعل ذلك.
ونظيره: {لََا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعََافاً مُضََاعَفَةً} (آل عمران: 130)، وأكل الربا منهيّ عنه قليلا وكثيرا لكنها نزلت على سبب وهو فعلهم ذلك ولأنه مقام تشنيع عليهم، وهو بالكثير أليق.
وقوله: {فَلَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا قََالُوا آمَنََّا بِاللََّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنََا بِمََا كُنََّا بِهِ مُشْرِكِينَ} (غافر:
84) الآية، المعنى آمنا بالله دون الأصنام وسائر ما يدعى إليه دونها، إلا أنّهم نفوا الإيمان بالملائكة والرسل والكتب المنزّلة والدار الآخرة والأحكام الشرعية، ولهذا إنه لمّا ردّ بقوله:
[{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمََانُهُمْ]} [5] لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا (غافر: 85)، بعد إثباته [إيمانهم] (5)، لأنّه ضروري لا اختياري، أوجب (7) ألّا يكون الكلام مسوقا لنفي أمور يراعى فيها الحصر والتقييد، [كقوله] (5): {قُلْ هُوَ الرَّحْمََنُ آمَنََّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنََا} (الملك: 29)، فإنه لم يقدّم المفعول في «آمنا» حيث لم يرد ذلك المعنى، فركّب تركيبا يوهم إفراد الإيمان بالرحمن عن سائر ما يلزم من الإيمان.
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) ليست في المخطوطة.
(5) ليست في المخطوطة.
(7) العبارة في المخطوطة (ولهذا حيث لا يكون الكلام مسبوقا بالنفي أمور تراعى).(3/457)
وقوله [تعالى]: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الأعراف: 146)، فقيل من هذا الباب، فهي صفة لازمة، وقيل التكبّر قد يكون بحق، وهو التنزه عن الفواحش والدنايا والتباعد من فعلها.
وأما قوله: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الأعراف: 33)، (1) [فإن أريد بالبغي الظلم كان قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ}] (1) تأكيدا، وإن أريد به الطلب كان قيدا.
3/ 402
قاعدة
اعلم أن نفي العام يدلّ على نفي الخاص، وثبوته لا يدل على ثبوته، وثبوت الخاص يدلّ على ثبوت العام، ولا يدل نفيه على نفيه ولا شكّ أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به، فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام.
* * * فالأول: كقوله [236/ أ] تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ} (البقرة: 17)، ولم يقل: «بضوئهم» (3) بعد قوله:
{أَضََاءَتْ} لأن النور أعم من الضوء إذ يقال على القليل والكثير وإنما يقال الضوء على النور الكثير ولذلك قال [تعالى]: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيََاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} (يونس:
5) ففي الضوء دلالة على الزيادة، فهو أخصّ من النور، وعدمه (4) لا يوجب عدم الضوء، لاستلزام عدم العام عدم الخاص، فهو أبلغ من الأول، والغرض إزالة النور عنهم أصلا، ألا ترى ذكره بعده (5): {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ [لََا يُبْصِرُونَ]} [6] (البقرة: 17).
وهاهنا دقيقة، وهي أنه قال: {ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ} (البقرة: 17)، ولم يقل:
«أذهب نورهم» لأن الإذهاب بالشيء إشعار له بمنع عودته، بخلاف الذهاب إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب، ومقتضى [ذلك] (6) منعه من الرجوع.
ومنه قوله تعالى: {[يََا قَوْمِ]} [8] لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ (الأعراف: 61)، ولم يقل:
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (ببصرهم).
(4) في المخطوطة (فقده).
(5) في المخطوطة (عقبه).
(6) ليست في المطبوعة.
(8) ليست في المخطوطة.(3/458)
«ضلال» كما قالوا: {إِنََّا لَنَرََاكَ فِي ضَلََالٍ} (الأعراف: 60)، لأنّ نفي الواحد يلزم 3/ 403 منه نفي الجنس البتة.
وقال الزمخشري: «لأن الضلالة أخصّ من الضلال، فكان أبلغ في نفي الضلال عنه، فكأنّه قال: ليس بي شيء من الضلال، كما لو قيل: ألك تمرة فقلت: ما لي تمرة» (1).
ونازعه ابن المنيّر (2) وقال: تعليله (3) نفيها أبلغ لأنها (4) أخص [وهذا غير مستقيم، فإنّ نفي الأعم أخصّ من نفي الأخص] (5)، ونفي الأخص أعم من نفي الأعمّ، فلا يستلزمه لأن الأعم لا يستلزم الأخصّ. فإذا قلت هذا ليس بإنسان لم يلزم سلب الحيوانية عنه، وإذا قلت: هذا ليس بحيوان، لم يكن إنسانا، والحق أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة منه، والضلال يصلح للقليل والكثير، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى [لا] (6) من جهة كونه أخصّ، [بل] (6) من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى».
* * * والثاني: كقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} (آل عمران: 133)، ولم يقل «طولها»، لأن العرض أخصّ، إذ كل ما له عرض فله طول، ولا ينعكس. وأيضا فإذا كان للشيء صفة يغني ذكرها عن ذكر صفة (8) أخرى، تدلّ عليها كان الاقتصار عليها أولى من ذكرها لأن ذكرها كالتكرار، وهو مملّ، وإذا ذكرت فالأولى تأخير الدلالة على الأخرى حتى لا تكون المؤخرة قد تقدمت الدلالة عليها.
وقد يخلّ بذلك مقصود آخر كما في قوله: {وَكََانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (مريم: 51) لأجل 3/ 404 السجع وإذا كان ثبوت شيء أو نفيه يدل على ثبوت آخر أو نفيه، كان الأولى الاقتصار على الدالّ على الآخر، فإن ذكرت فالأولى تأخير الدال.
__________
(1) انظر «الكشاف» 2/ 67عند تفسير الآية (61) من سورة الأعراف، وعبارة الزمخشري «ألك تمر؟ فقلت ما لي تمرة».
(2) هو أحمد بن محمد بن منصور تقدم التعريف به في 1/ 176، وقوله في حاشيته على الكشاف المعروفة «بالانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال» 2/ 67.
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (قوله).
(4) عبارة المخطوطة (تعليله نفيها لأنها أبلغ من نفي الأخص).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) ليست في المخطوطة.
(8) في المخطوطة (صفات).(3/459)
وقد يخلّ بذلك لمقصود آخر كما في قوله تعالى: {مََا لِهََذَا الْكِتََابِ لََا يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً إِلََّا أَحْصََاهََا} (الكهف: 49) وعلى قياس ما قلنا ينبغي الاقتصار على صغيرة، وإن ذكرت الكبيرة منها فلتذكر أولا.
وكذلك قوله [تعالى]: {فَلََا تَقُلْ لَهُمََا أُفٍّ وَلََا تَنْهَرْهُمََا} (الإسراء: 23) وعلى ذلك القياس يكفي «لهما أف» أو يقول «ولا تنهرهما»، «فلا تقل لهما أف» وإنما عدل عن ذلك للاهتمام بالنهي عن التأفيف، والعناية بالنهي [حتى] (1) كأنه قال: نهى عنه مرتين: مرة بالمفهوم، وأخرى بالمنطوق.
وكذلك قوله تعالى: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255) فإنّ النوم غشية ثقيلة تقع على القلب تمنعه معرفة الأشياء، والسّنة مما يتقدمه من النعاس، فلم يكتف بقوله: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} (البقرة: 255) دون ذكر النوم لئلا يتوهم أن السّنة إنما لم تأخذه لضعفها، ويتوهم أن النوم قد يأخذه لقوته فجمع بينهما لنفي التوهمين، أو السّنة [236/ ب] في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب تلخيصه هو منزه عن جميع المفتّرات، ثم أكّد نفي السنة والنوم بقوله: {[لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ]} [2] لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ (البقرة: 255) لأنّه خلقهما بما فيهما، والمشاركة إنما تقع فيما فيهما، ومن يكن له ما فيهما فمحال نومه ومشاركته إذ لو وجد شيء من ذلك لفسدتا بما فيهما.
وأيضا فإنه يلزم من [نفي] (3) السّنة نفي النوم أنه لم يقل: لا ينام (4) وإنما قال: {لََا 3/ 405تَأْخُذُهُ} (البقرة: 255) [يعني] (5) لا تغلبه فكأنه يقول: لا يغلبه القليل ولا الكثير من النوم. والأخذ في اللغة بمعنى القهر والغلبة ومنه سمّي الأسير: مأخوذا وأخيذا. وزيدت «لا» في قوله: {وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255) لنفيهما عنه بكل حال، ولو لاها لاحتمل ان يقال: لا تأخذه سنة و [لا] (5) نوم في حال واحدة، وإذا ذكرت صفات فإن كانت للمدح فالأولى الانتقال فيها من الأدنى إلى الأعلى ليكون المدح متزايدا بتزايد الكلام
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) عبارة المخطوطة (ان قال لا ينام).
(5) ليست في المخطوطة.(3/460)
فيقولون (1): فقيه عالم، وشجاع باسل، وجواد فياض، ولا يعكسون هذا لفساد (2) المعنى لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني [داخلا] (3) تحته، فلم يكن لذكره معنى ولا يوصف بالعالم بعد الوصف بالعلّام (4).
وقد اختلف الأدباء (5) في الوصف بالفاضل والكامل، أيهما أبلغ؟ على ثلاثة أقوال:
ثالثهما أنهما سواء.
قال الأقليشيّ (6): والحق أنّك مهما نظرت إلى شخص، فوجدته مع شرف العقل والنفس كريم الأخلاق والسجايا، معتدل الأفعال وصفته بالكمال، وإن وجدته وصل إلى هذه الرتب بالكسب والمجاهدة وإماطة الرذائل وصفته بالفضل وهذا يقتضي أنهما متضادان فلا يوصف الشخص الواحد بهما إلّا بتجوّز.
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: {عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} (المؤمنون: 92) إنما قدّم الغيب مع أنّ علم المغيّبات أشرف من المشاهدات، والتمدّح به أعظم، وعلم البيان يقتضي تأخير الأمدح. وأجاب بأن المشاهدات له أكثر (7) [من الغائب عنّا، والعلم يشرف بكثرة متعلّقاته فكان تأخير الشهادة أولى.
وقول الشيخ: إن المشاهدات له أكثر] (7)، فيه نظر بل في غيبه [ما] (7) لا يحصى {وَيَخْلُقُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (النحل: 8) وإنما الجواب أن الانتقال للأمدح ترقّ فالمقصود 3/ 406 هنا بيان [أن] (10) الغيب والشهادة في علمه سواء، فنزل الترقي [في] (10) اللفظ منزلة ترقّ في المعنى، لإفادة استوائهما في علمه تعالى. و [يوضحه] (10) قوله تعالى: {سَوََاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} (الرعد: 10) فصرح بالاستواء.
__________
(1) في المخطوطة (فنقول).
(2) في المخطوطة (لتضاد).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (بالعلامة).
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (الآي).
(6) أقليش بضم الهمزة وسكون القاف وكسر اللام، مدينة بالأندلس ينسب إليها عدة، ومنهم عبد الله بن يحيى التجيبي الأقليشي أبو محمد يعرف بابن الوحشي، أخذ القراءة بطليطلة وسمع بها الحديث، وله «مختصر كتاب مشكل القرآن» لابن فورك وغير ذلك، توفي سنة (502هـ) (ياقوت معجم البلدان 1/ 237) ولعله المعني بعبارة الزركشي.
(7) ليست في المخطوطة.
(10) ليست في المخطوطة.(3/461)
هذا كلّه في الصفات، وأما الموصوفات فعلى العكس من ذلك فإنّك تبدأ بالأفضل، فتقول: قام الأمير ونائبه وكاتبه قال تعالى: [{وَ]} [1] الْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ [لِتَرْكَبُوهََا] (1) (النحل: 8) الآية، فقدّم الخيل لأنها أحمد وأفضل من البغال، وقدّم البغال على الحمير لذلك أيضا.
فإن قلت: قاعدة الصفات منقوضة بالقاعدة الأخرى وهي أنهم يقدّمون الأهم فالأهم في كلامهم كما نصّ عليه سيبويه وغيره.
وقال الشاعر:
أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمّها ... ودع أمرنا إن المهمّ (3) المقدّم
قلت: المراد بقوله: «فقدم الأهم فالأهم» فيما إذا كانا شيئين متغايرين مقصودين، وأحدهما أهمّ من الآخر فإنه يقدّم، وأما تأخر الأمدح في الصفات فذلك فيما إذا كانتا صفتين لشيء واحد فلو أخرنا الأمدح لكان تقديم الأول نوعا من العبث.
هذا كلّه في صفات المدح فإن كانت للذم فقد قالوا: ينبغي الابتداء بالأشدّ ذمّا كقوله تعالى: {مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) قال [237/ أ] ابن النفيس (4): في 3/ 407كتاب «طريق الفصاحة»: وهو عندي مشكل ولم يذكر توجيهه.
وقال حازم في «منهاجه» (5) يبدأ في الحسن بما ظهور الحسن فيه أوضح، وما النفس بتقديمه أعنى، ويبدأ في الذمّ بما ظهور القبح فيه أوضح، والنفس بالالتفات إليه أعنى ويتنقّل في (6) الشيء إلى ما يليه من المزية في ذلك، ويكون بمنزلة المصوّر الذي يصور أوّلا ما حلّ من رسوم تخطيط الشيء، ثم ينتقل إلى الأدقّ فالأدق.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (إن الأهم).
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (أبو النفيس) وتصحف اسم كتابه إلى (تطريق الفصاحة) والصواب ما في المطبوعة، وهو علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي المصري المعروف بابن النفيس طبيب مشارك في الفقه والأصول والحديث توفي بمصر في ذي القعدة سنة (687هـ) (السبكي طبقات الشافعية 5/ 129)، وكتابه «طريق الفصاحة» ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1114فقال (طريق الفصاحة، لابن النفيس «علي» المصري المتوفي سنة 687هـ).
(5) هو حازم القرطاجني تقدم التعريف به وبكتابه «منهاج البلغاء» في 1/ 59.
(6) عبارة المخطوطة (ما لشيء).(3/462)
فائدة
نفي الاستطاعة قد يراد به نفي الامتناع، أو عدم إمكان [وقوع] (1) الفعل مع إمكانه نحو هل تستطيع أن تكلّمني؟ بمعنى هل تفعل ذلك وأنت تعلم أنه قادر على الفعل؟ وقد حمل قوله تعالى حكاية عن الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} (المائدة: 112) على المعنى الأول أي هل يجيبنا إليه؟ أو هل يفعل ربك؟ وقد علموا أن الله قادر على الإنزال، وأن عيسى قادر (2) على السؤال، وإنما استفهموا هل هنا صارف أو مانع؟
وقوله: {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} (يس: 50). {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهََا} (الأنبياء:
40). {فَمَا اسْطََاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطََاعُوا لَهُ نَقْباً} (الكهف: 97).
وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة كقوله تعالى: {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} (الكهف:
67).
فائدة
3/ 408 قوله تعالى: {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} (الأنفال: 17)، قالوا: المجاز يصح نفيه بخلاف الحقيقة، لا يقال للأسد: ليس بشجاع.
وأجيب بأن المراد بالرّمي هنا المرتب عليه، وهو وصوله إلى الكفّار فالوارد عليه السلب هنا مجاز لا حقيقة [والتقدير] (3): وما رميت [خلقا] (3) إذ رميت كسبا، أو ما رميت انتهاء إذ رميت ابتداء وما رميت مجازا إذ رميت حقيقة.
إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ 3/ 409 دون الحقيقة لضرب من المسامحة وحسم العناد
كقوله: {وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24) وهو يعلم أنه على الهدى، وأنّهم على الضلال، لكنه أخرج الكلام مخرج الشك، تقاضيا ومسامحة، ولا شك عنده ولا ارتياب.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (قال على السؤال).
(3) ليست في المخطوطة.(3/463)
وقوله: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (الزخرف: 81).
ونحوه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحََامَكُمْ} (محمد:
22) أورده على طريق الاستفهام والمعنى: هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم (1) لما تبين لكم من المشاهد ولاح منكم في المخايل: {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحََامَكُمْ} (محمد: 22) تهالكا على الدنيا؟
وإنما أورد الكلام في الآية على طريق سوق غير المعلوم سياق غيره، ليؤدّيهم التأمل في التوقع عمّن يتصف بذلك إلى ما يجب أن يكون مسبّبا عنه من أولئك الذين أصمّهم الله وأعمى أبصارهم، فيلزمهم به على ألطف وجه إبقاء عليهم من أن يفاجئهم به وتأليفا لقلوبهم، ولذلك (2) التفت عن الخطاب إلى الغيبة، تفاديا عن مواجهتهم بذلك.
وقد يخرج الواجب في صورة الممكن (3)، كقوله تعالى: {عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً} (الإسراء: 79).
{فَعَسَى اللََّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} (المائدة: 52).
3/ 410و {عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} (الإسراء: 8).
{وَعَسى ََ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 216) [الآية] (4).
وقد يخرج الإطلاق في صورة التقييد كقوله: {حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ}
(الأعراف: 40).
ومنه قوله تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمََا يَكُونُ لَنََا أَنْ نَعُودَ فِيهََا إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ رَبُّنََا}
(الأعراف: 89) فالمعنى لا يكون أبدا من حيث علّقه بمشيئة الله لما (5) كان معلوما أنه يشاؤه (5) إذ يستحيل [237/ ب] ذلك على الأنبياء، وكلّ أمر قد علّق بما [لا] (7) يكون فقد نفي كونه على أبعد الوجوه.
__________
(1) في المخطوطة (عليها).
(2) في المخطوطة (لذلك).
(3) في المخطوطة (المتمكن:).
(4) ليست في المطبوعة.
(5) عبارة المخطوطة (لما كان معلوم لأنه لا يشاؤه) تصحيف.
(7) ساقطة من المخطوطة.(3/464)
وقال قطرب (1): في الكلام تقديم وتأخير، والاستثناء من الكفار لا من شعيب، والمعنى: لنخرجنّك يا شعيب، والذين آمنوا معك من قريتنا إلا أن يشاء الله أن تعودوا في ملّتهم. ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمََا يَكُونُ لَنََا أَنْ نَعُودَ فِيهََا} (الأعراف: 89) على كل حال.
وقيل: الهاء عائدة إلى القرية، لا إلى الله.
الإعراض عن صريح الحكم
3/ 411 كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهََاجِراً إِلَى اللََّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللََّهِ} (النساء: 100)، أعرض عن ذكر مقدار الجزاء والثواب، وذكر ما هو معلوم مشترك بين جميع أعمال البشر، تفخيما لمقدار الجزاء، لما فيه من إبهام المقدار، وتنزيلا له منزلة ما هو غير محتاج إلى بيانه، على حدّ «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» (2)، أعرض عن ذكر الجزاء إلى إعادة الشرط، تنبيها على عظم ما ينال، وتفخيما لبيان ما أتى به من العمل، فصار السكوت عن مرتبة الثواب أبلغ من ذكرها.
وكقوله (3) تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}
(الكهف: 30)، وهذه الآية تتضمن الرجوع والبقاء والجمع، ألا تراه كيف رجع بعد ذكره المبتدأ الذي هو الذين عن ذكر خبره إلى الشروع في كلام آخر، فبنى مبتدأ على مبتدأ وجمع، والمعنى قوله: {إِنََّا لََا نُضِيعُ} (الكهف: 30) من خبر المبتدأ الأول، وتقديره: إنّا لا نضيع أجرهم، لأنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.
الهدم
3/ 412 وهو أن يأتي الغير بكلام يتضمن معنى، فتأتي بضده فإنك قد هدمت ما بناه المتكلم الأول كقوله تعالى: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصََارى ََ نَحْنُ أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ} (المائدة: 18)
__________
(1) هو محمد بن المستنير تقدم التعريف به في 2/ 176.
(2) قطعة من حديث عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات» أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 9، كتاب بدء الوحي (1)، باب كيف كان بدء الوحي (1) الحديث (1)، ومسلم في الصحيح 3/ 15161515، كتاب الإمارة (33)، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم «إنما الأعمال بالنية»، الحديث (155/ 1907).
(3) في المخطوطة (وقوله).(3/465)
هدمه بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ} (المؤمنون: 91)، وبقوله: {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ} (آل عمران: 57)، وبقوله (1): {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} (المائدة: 18) تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم.
ومنه: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ} (التوبة:
30) هدمه بقوله: {ذََلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ} (التوبة: 30)، وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ} (المؤمنون: 91).
ومنه: {إِذََا جََاءَكَ الْمُنََافِقُونَ قََالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللََّهِ} (المنافقون: 1) هدمه بقوله: {وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنََافِقِينَ لَكََاذِبُونَ} (المنافقون: 1)، أي في دعواهم الشهادة.
3/ 413
التوسع
منه الاستدلال بالنظر في الملكوت، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ مََاءٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا} [2] [وَبَثَّ فِيهََا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ] (2) وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ وَالسَّحََابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة: 164).
ويكثر ذلك في تقديرات العقائد الإلهية: لتتمكن في النفوس، كقوله [تعالى] (4):
{أَلَيْسَ ذََلِكَ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ََ} (القيامة: 40) وذلك بعد ذكر النطفة وتقلّبها في مراتب الوجود، وتطورات الخلقة.
وكقوله تعالى: {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67).
ومنه التوسّع في ترادف الصفات كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشََاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحََابٌ ظُلُمََاتٌ بَعْضُهََا فَوْقَ بَعْضٍ إِذََا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرََاهََا} (النور:
40)، فإنه لو أريد اختصاره لكان: {أَوْ كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (النور: 40) مظلم.
__________
(1) في المخطوطة (وقوله).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(4) ليست في المطبوعة.(3/466)
ومنه التوسع في الذم كقوله تعالى: {وَلََا تُطِعْ كُلَّ حَلََّافٍ مَهِينٍ * هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ}
(القلم: 1110) إلى قوله: {عَلَى الْخُرْطُومِ} (القلم: 16).
التشبيه
3/ 414 اتفق الأدباء على شرفه في أنواع البلاغة، وأنّه إذا جاء في أعقاب المعاني [238/ أ] أفادها كمالا، وكساها حلّة وجمالا، قال المبرّد (1) في «الكامل»: «هو جار في كلام العرب حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد».
وقد صنّف فيه أبو القاسم بن البندار البغدادي (2) كتاب «الجمان في تشبيهات القرآن».
وفيه مباحث:
الأول في تعريفه
وهو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه.
وقيل: أن [تثبت] (3) للمشبّه (4) حكما من أحكام المشبّه به.
وقيل: الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد [في نفسه] (5) كالطّيب في المسك، والضياء في الشمس والنور في القمر. وهو حكم إضافيّ لا يرد (6) إلا بين الشيئين بخلاف الاستعارة.
__________
(1) انظر قوله في الكتاب 2/ 996.
(2) في المطبوعة البنداري البغدادي هو عبد الله وقيل عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن داود بن ناقيا البغدادي المعروف ببندار، كان أديبا شاعرا لغويا فاضلا بارعا له مصنفات كثيرة منها «ملح الممالحة» و «الجمان في تشبيهات القرآن» وله «ديوان شعر كبير» ت 485هـ (ابن خلكان 3/ 9998) بتصرف.
وكتابه طبع بتحقيق عدنان زرزور ومحمد رضوان الداية بالكويت وزارة الأوقاف عام 1388هـ / 1968م، وبتحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي ببغداد وزارة الثقافة عام 1388هـ / 1968م (معجم المنجد 3/ 42)، وطبع بتحقيق مصطفى الصاوي الجويني بالاسكندرية منشأة المعارف عام 1396هـ / 1976م (دليل الكتاب المصري عام 1976م ص 63).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (المشبه).
(5) ساقطة من المطبوعة.
(6) في المخطوطة (يؤذن).(3/467)
3/ 415
الثاني (1)
[في الغرض منه] (2)
وهو تأنيس النفس بإخراجها من خفيّ إلى جلّي وإدنائه البعيد من القريب ليفيد بيانا.
وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار فإنك إذا قلت: زيد أسد (3)، كان الغرض بيان حال زيد، وأنه متصف بقوة البطش والشجاعة وغير ذلك [إلا] (4) أنا لم نجد شيئا يدل عليه سوى جعلنا إيّاه شبيها بالأسد، حيث كانت هذه الصفات مختصة به، فصار هذا أبين وأبلغ من قولنا: زيد شهم شجاع قويّ البطش ونحوه.
الثالث في أنه حقيقة أو مجاز
والمحققون على أنّه حقيقة، قال الزنجاني في «المعيار» (5): التشبيه ليس بمجاز لأنه (6) معنى من المعاني وله ألفاظ تدل عليه وضعا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه وإنما هو توطئة لمن سلك سبيل الاستعارة والتمثيل لأنه كالأصل لهما، وهما كالفرع له.
والذي يقع منه في حيّز المجاز عند البيانيين هو الذي يجيء على حد الاستعارة.
وتوسط الشيخ عز الدين (7)، فقال: «إن كان بحرف فهو حقيقة، أو بحذفه فمجاز، بناء على أن الحذف من باب المجاز».
3/ 416
الرابع في أدواته
وهي أسماء، [وأفعال] (8)، وحروف.
__________
(1) في المخطوطة (الثاني به).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (سيد).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) هو عبد الوهاب بن إبراهيم الزنجاني تقدم التعريف به وبالكتاب في 3/ 175.
(6) في المخطوطة (إلا أنه).
(7) انظر كتابه الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز: 64، الفصل 44في مجاز التشبيه بتصرف.
(8) ساقطة من المخطوطة.(3/468)
فالأسماء: مثل، وشبه، ونحوهما، قال تعالى: {مَثَلُ مََا يُنْفِقُونَ فِي هََذِهِ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهََا صِرٌّ} (آل عمران: 117). {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ} (هود:
24). {وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً} (البقرة: 25) {إِنَّ الْبَقَرَ تَشََابَهَ عَلَيْنََا} (البقرة: 70).
والأفعال كقوله [تعالى] (1): {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً} (النور: 39). {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهََا تَسْعى ََ} (طه: 66).
والحروف إما بسيطة كالكاف نحو: {كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} (إبراهيم: 18) {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} (آل عمران: 11) وإما مركّبة، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ} (الصافات: 65).
الخامس في أقسامه
وهو ينقسم باعتبارات:
الأول
أنه إما أن يشبّه (2) بحرف، أو لا.
* * * وتشبيه الحرف ضربان:
أحدهما: يدخل عليه حرف التشبيه فقط، كقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ}
(النور: 35).
وقوله: {وَلَهُ الْجَوََارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلََامِ} (الرحمن: 24).
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمََاءُ فَكََانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهََانِ} (الرحمن: 37).
{خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ} (الرحمن: 14).
{وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثََالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (الواقعة: 2322).
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهََا كَعَرْضِ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} (الحديد: 21).
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (تشبيه).(3/469)
وثانيها: أن يضاف إلى حرف التشبيه حرف مؤكّد، ليكون ذلك علما على قوة التشبيه وتأكيده، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيََاقُوتُ وَالْمَرْجََانُ} (الرحمن: 58).
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (الصافات: 49).
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} (الأعراف: 171).
{تَنْزِعُ النََّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (القمر: 20).
{كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ} (الحاقة: 7).
فإن قيل: كيف استرسل أهل الجنة وقوله [تعالى] (1): {كُلَّمََا رُزِقُوا مِنْهََا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قََالُوا هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ} (البقرة: 25)، ولا شك أنه ليس به، واحترزت بلقيس فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} (النمل: 42)، ولم تقل: هو [هو] (2)؟
قيل: أهل الجنة وثقوا بأن الغرض مفهوم وأن أحدا لا يعتقد في الحاضر أنه عين 3/ 418المستهلك الماضي وأما بلقيس فالتبس عليها الأمر، وظنّت أنه يشبهه، (3) [بل صمّمت في المغايرة مع المشابهة] (3) لأنها بنت على العادة، وهو أن السرير لا ينتقل من إقليم إلى آخر في طرفة عين.
* * * وأما التشبيه بغير حرف، فيقصد به المبالغة، تنزيلا للثاني منزلة الأول تجوّزا [238/ ب] كقوله: {وَأَزْوََاجُهُ أُمَّهََاتُهُمْ} (الأحزاب: 6).
وقوله: {وَسِرََاجاً مُنِيراً} (الأحزاب: 46).
وقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} (آل عمران: 133).
وكذلك: {تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ} (النمل: 88).
وجعل الفارسيّ منه قوله تعالى: {قَوََارِيرَا * قَوََارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} (الإنسان:
1615)، (5) [أي كأنها في بياضها من فضة، فهو على التشبيه، لا على أن القوارير من فضة] (5)، بدليل قوله: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضََاءَ} (الصافات: 4645)، فقوله:
{بَيْضََاءَ} مثل قوله: {مِنْ فِضَّةٍ}.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) ما بين الحاصرتين ساقطة من المطبوعة.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.(3/470)
تنبيهان
الأول: هذا القسم يشبه الاستعارة في بعض المواضع، والفرق بينهما كما قاله حازم (1)
وغيره أنّ الاستعارة، وإن كان فيها معنى التشبيه، فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها، والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك لأنّ تقدير حرف التشبيه واجب فيه.
وقال الرّماني (2) في قوله تعالى: {وَآتَيْنََا ثَمُودَ النََّاقَةَ مُبْصِرَةً} (الإسراء: 59)، أي تبصرة (3)، لأنه لا يجوز تقدير حرف التشبيه فيها.
وقد اختلف البيانيون في نحو قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (البقرة: 18)، إنه 3/ 419 تشبيه بليغ أو استعارة؟ والمحققون كما قاله الزمخشري (4) على الأول، قال: «لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون أي مذكور في تقدير الآية والاستعارة لا يذكر فيها المستعار له، ويجعل الكلام خلوا عنه، بحيث يصلح لأن (5) يراد به المنقول عنه وإليه لولا القرينة، ومن ثمّ ترى المفلقين السحرة يتناسون التشبيه ويضربون عنه صفحا».
وقال السكاكيّ (6): لأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر، وتناسي التشبيه، وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز أن يكون استعارة.
* * * الثاني: قد يترك التشبيه لفظا ويراد معنى، إذ لو لم يرد معنى ولم يكن منويّا، كان استعارة.
مثاله قوله تعالى: {حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة:
187)، فهذا تشبيه لا استعارة، لذكر الطرفين: الخيط الأسود، وهو ما يمتدّ [معه] (7) من غسق الليل
__________
(1) القرطاجني، صاحب كتاب منهاج البلغاء تقدم التعريف به في 1/ 155. وذكر قوله السيوطي في الإتقان 3/ 142. آخر النوع (53).
(2) هو علي بن عيسى الرّماني تقدم في 1/ 111.
(3) عبارة المخطوطة (أي تبصرا أو مبصرة).
(4) الكشاف 1/ 4039بتصرف.
(5) في المخطوطة (أن).
(6) مفتاح العلوم: 387. بتصرف، وذكر قوله السيوطي في الاتقان 3/ 142النوع (53) تشبيهه واستعاراته ولتمام الفائدة انظر أسرار البلاغة للجرجاني: 278الفرق بين الاستعارة والتشبيه.
(7) ساقطة من المخطوطة.(3/471)
شبيها بخيط أسود وأبيض، وبيّنا بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} والفجر وإن كان بيانا للخيط الأبيض لكن لما كان أحدهما بيانا للآخر لدلالته عليه، اكتفي به عنه، ولولا البيان كان من باب الاستعارة كما أن قولك: رأيت أسدا، استعارة، فإذا زدت «من فلان» صار تشبيها، 3/ 420وأمّا أنه لم زيد {مِنَ الْفَجْرِ} حتى صار تشبيها؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ! فلأن شرط الاستعارة أن يدلّ عليه الحال، ولو لم يذكر {مِنَ الْفَجْرِ} لم يعلم أن الخيطين مستعاران من «بدا الفجر»، فصار تشبيها.
التقسيم الثاني
ينقسم باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما:
إما حسيّان، كقوله تعالى: {حَتََّى عََادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (يس: 39)، وقوله:
{كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (القمر: 20).
أو عقليان، كقوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74).
وإما تشبيه المعقول بالمحسوس، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} (العنكبوت: 41) وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} (إبراهيم: 18) وقوله: {كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً} (الجمعة: 5)، لأن حملهم التوراة ليس كالحمل على العاتق (1)، إنما هو القيام بما فيها.
وأما عكسه فمنعه الإمام، لأن العقل مستفاد من الحس، ولذلك قيل: من [فقد] (2)
حسّا فقد فقد علما وإذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به، يستلزم جعل (3) الأصل فرعا والفرع أصلا (3)، وهو غير جائز.
3/ 421وأجازه غيره كقوله:
وكأنّ النجوم بين دجاه (5) ... سنن لاح بينهنّ ابتداع
__________
(1) في المخطوطة (العنق).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) عبارة المخطوطة (الفرع أصلا والأصل فرعا).
(5) في المخطوطة (دجاها) والبيت للقاضي التنوخي، ذكره الجرجاني في أسرار البلاغة: 196، والسكاكي في المفتاح: 343.(3/472)
وينقسم باعتبار آخر إلى خمسة أقسام:
الأول: قد يشبّه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع، اعتمادا على معرفة النقيض والضدّ فإنّ إدراكهما أبلغ من إدراك الحاسة، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ} (الصافات:
65)، [فشبّه] (1) بما [لا] (1) نشكّ أنه منكر قبيح، لما حصل في نفوس الناس من [239/ أ] بشاعة صور الشياطين، وإن لم ترها عيانا.
الثاني: عكسه، كقوله [تعالى] (3): {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ} (4)، (النور: 39)، أخرج ما لا يحسّ وهو الإيمان إلى ما يحسّ وهو السراب والمعنى الجامع بطلان التوهم بين شدة الحاجة وعظم الفاقة.
الثالث: إخراج ما لم تجر العادة به إلى ما جرت به، نحو: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} (الأعراف: 171)، والجامع بينهما الانتفاع بالصورة. وكذا (5) قوله: {إِنَّمََا مَثَلُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ} (يونس: 24)، والجامع البهجة والزينة، ثم الهلاك، وفيه العبرة.
الرابع: إخراج ما لا يعرف بالبديهة، إلى ما يعرف بها، كقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} (آل عمران: 133)، الجامع العظم، وفائدته التشويق إلى الجنّة بحسن الصفة.
الخامس: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها، كقوله: {وَلَهُ الْجَوََارِ 3/ 422 الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلََامِ} (الرحمن: 24)، والجامع [فيهما] (6) العظم، والفائدة البيان عن القدرة على تسخير الأجسام العظام في أعظم ما يكون من الماء.
وعلى هذه الأوجه تجري تشبيهات القرآن.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب).
(5) في المخطوطة (كذلك).
(6) ساقط من المخطوطة.(3/473)
التقسيم الثالث (1)
ينقسم إلى مفرد ومركب:
المركّب أن ينزع من أمور مجموع بعضها إلى بعض كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً} (الجمعة: 5) فالتشبيه (2) مركّب من أحوال الحمار وذلك هو (3) حمل الأسفار التي هي أوعية العلم، وخزائن ثمرة العقول، ثم لا يحسن ما فيها، ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، فليس له مما يحمل حظّ سوى أنه يثقل عليه ويتعبه.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} (العنكبوت:
41).
وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ} (الكهف: 45)، قال بعضهم: شبّه الدنيا بالماء، ووجه الشبه أمران: أحدهما أنّ الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تضررت، وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به، فكذلك الدنيا. وثانيهما (4) أنّ الماء إذا أطبقت كفّك عليه لتحفظه لم يحصل فيه شيء، فكذلك الدنيا، وليس المراد تشبيهها بالماء وحده بل المراد تشبيهه بهجة الدنيا في قلة البقاء والدوام بأنيق النبات الذي يصير بعد تلك البهجة والغضاضة والطراوة إلى ما ذكر.
3/ 423ومن تشبيه المفرد بالمركب قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ} (النور: 35)، فإنه سبحانه أراد تشبيه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن، ثم مثّله بمصباح ثم لم يقنع بكلّ مصباح [بل بمصباح] (5) اجتمعت فيه أسباب الإضاءة بوضعه (6) في مشكاة وهي الطاقة غير النافذة وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للتبصّر، وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة، فيه الكواكب الدّريّ في صفائها، ودهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقودا، لأنه من زيت شجر في أوسط الزّجاج لا شرقية ولا غربية، فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل تصيبها أعدل إصابة.
__________
(1) تصحفت في المخطوطة إلى الثاني.
(2) في المخطوطة (أفاد أن التشبيه).
(3) في المخطوطة (أن).
(4) في المخطوطة (وكذلك).
(5) العبارة ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (إما بوضعه).(3/474)
وهذا مثل ضربه الله للمؤمن، ثم ضرب للكافر مثلين: أحدهما: {كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ}
(النور: 39)، والثاني: {كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (النور: 40)، شبّه في الأول ما يعلمه من لا يقدّر الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها بقيعة، ثم يخيب أمله، بسراب يراه الكافر بالمشاهدة (1)، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيجيئه فلا يجده ماء، ويجد زبانية الله عنده، فيأخذونه فيلقونه إلى جهنم.
البحث السادس ينتظم قواعد تتعلق بالتشبيه
الأولى: قد تشبّه أشياء بأشياء، ثم تارة يصرح بذكر المشبّهات، كقوله تعالى: {وَمََا 3/ 424 يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} (غافر: 58)، وتارة لا يصرّح به بل يجيء مطويّا [239/ ب] على سنن الاستعارة، كقوله: {وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ} (فاطر: 12)، {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ} (الزمر: 29) الآية.
قال الزمخشريّ (2): والذي عليه علماء البيان أنّ التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركّبة لا المفرقة (3) بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى فتشبّهها بنظائرها [كما ذكرنا] (4)، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء تضامّت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ} (الجمعة: 5) الآية.
ونظائره من حيث اجتمعت تشبيهات كما في تمثيل الله حال المنافقين أول سورة البقرة، قال الزمخشريّ (5): وأبلغه الثاني لأنه أدلّ على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته ولذلك أخّر، قال: وهم يتدرّجون في نحو هذا، من الأهون إلى الأغلظ.
* * * الثانية: أعلى (6) مراتب التشبيه في الأبلغية ترك وجه الشبه وأداته، نحو زيد أسد أما ترك وجهه وحده، فكقوله (7): زيد كالأسد وأما ترك أداته وحدها فكقوله (7): زيد الأسد شدة.
__________
(1) في المطبوعة (بالساهرة).
(2) الكشاف 1/ 40.
(3) في المطبوعة (المفردة).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) الكشاف 1/ 41.
(6) في المخطوطة (على).
(7) في المخطوطة (فكقولك).(3/475)
وفي كلام صاحب (1) «المفتاح» إشارة إلى أن ترك وجه الشبه أبلغ من ترك أداته قال:
لعموم وجه الشبه.
3/ 425وخالفه صاحب «ضوء المصباح» (2) لأنه إذا عمّ واحتمل التعدد، ولم تبق دلالته على ما به الاشتراك دلالة منطوق بل دلالة مفهوم فيحتمل أن يكون ما به الاشتراك صفة ذمّ لا مدح، وهو غير لازم في ترك الأداة إلا أن يقال (3): يلزم مثله من تركها، لأن قرينة ترك الأداة، تصرف إرادة المدح دون الذم.
وذكرهما كقولك: زيد كالأسد شدة.
* * * الثالثة: قد تدخل الأداة على شيء وليس هو عين المشبّه، ولكنه ملتبس به، واعتمد على فهم المخاطب، كما قال تعالى: {كُونُوا أَنْصََارَ اللََّهِ كَمََا قََالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}
(الصف: 14) الآية، المراد: كونوا أنصارا (4) لله خالصين في الانقياد كشأن مخاطبي (5)
عيسى إذ قالوا.
ومما دلّ على السياق قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} (الأعراف: 171)، وفيه زيادة، وهو تشبيه الخارق بالمعتاد.
* * * الرابعة: إذا كانت فائدته، إنما هي تقريب الشّبه في فهم السامع وإيضاحه له، فحقّه أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أتمّ، والقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى، مثل قياس النحوي ولا سيما إذا كان الدنوّ جدا أو العلوّ (6) جدا، وعليه بنى المعرّي قوله:
ظلمناك (7) في تشبيه صدغيك بالمسك ... وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى
وقول آخر:
__________
(1) هو يوسف بن أبي بكر تقدم التعريف به في 1/ 163وانظر المفتاح: 355، مراتب التشبيه.
(2) هو محمد بن يعقوب بن إلياس بدر الدين ابن النحوية الدمشقي تقدم التعريف به وبكتابه في 3/ 209 الحاشية رقم (1).
(3) في المخطوطة (لا يقال) بدل (إلا أن يقال).
(4) في المخطوطة (أنصاري).
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (مخاطبين).
(6) في المخطوطة (والعلو).
(7) في المخطوطة (غلطنا).(3/476)
كالبحر والكاف أنّى ضفت (1) زائدة ... فيه فلا تظنّنها كاف تشبيه
وأما قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ} (النور: 35) فيمكن أن يكون المشبّه به 3/ 426 أقوى لكونه في الذهن أوضح إذ الإحاطة به أتمّ.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ]} [2] (آل عمران:
59) فهو من تشبيه الغريب بالأغرب لأن خلق آدم [أغرب] (3) من خلق عيسى ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس. وفيه دليل على جواز القياس، وهو ردّ فرع إلى أصل لشبه ما لأن عيسى ردّ إلى آدم لشبه بينهما والمعنى أن آدم خلق من تراب ولم يكن له أب ولا أم، فكذلك خلق عيسى من غير أب.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} (المنافقون: 4) شبّههم بالخشب، لأنه لا روح فيها، وبالمسنّدة لأنه لا انتفاع بالخشب (4) في حال تسنيده.
* * * الخامسة: الأصل دخول أداة التشبيه على المشبّه به، وهو الكامل، كقولك: ليس الفضة كالذهب، وليس العبد كالحرّ وقد تدخل على المشبه لأسباب:
منها وضوح الحال [240/ أ]، كقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ََ} (آل عمران:
36) [فإنّ الأصل] (5) وليس الأنثى كالذكر وإنما عدل عن الأصل لأن معنى (6): {وَلَيْسَ الذَّكَرُ}
الذي طلبت {كَالْأُنْثى ََ} التي وهبت لها، لأن الأنثى أفضل منه. وقيل: لمراعاة الفواصل، لأنّ قبله:
{إِنِّي وَضَعْتُهََا أُنْثى ََ} (آل عمران: 36).
ووهم ابن الزملكاني (7) في «البرهان» حيث زعم أنّ هذا من التشبيه المقلوب، وليس كذلك لما ذكرنا من المعنى.
__________
(1) في المخطوطة (إن أتصفت).
(2) ليست في المطبوعة.
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) في المخطوطة (في الخشب).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (المعنى).
(7) هو عبد الواحد بن عبد الكريم كمال الدين ابن الزملكاني تقدم التعريف به في 1/ 135وبكتابه في 2/ 228.(3/477)
4273 - وقيل: لما كان جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في التشبيه في حالة الإثبات يقتضي المبالغة في التشبيه كقولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفّيه، كان جعل الأصل فرعا والفرع أصلا في كماله الذي يقتضي نفي المبالغة (1) [في المشابهة لا نفي المشابهة، وذلك هو المقصود هنا، لأن المشابهة واقعة بين الذكر والأنثى في أعمّ الأوصاف وأغلبها، ولهذا يقاد أحدهما بالآخر.
ومنها قصد المبالغة] (1)، فيقلب التشبيه، ويجعل المشبه هو الأصل ويسمى تشبيه العكس لاشتماله على جعل المشبّه مشبّها به، والمشبّه به مشبّها كقوله تعالى: {قََالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبََا} (البقرة: 275)، كان الأصل أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع لأنّ الكلام في الربا لا في البيع، لكن عدلوا عن ذلك وتجرءوا، إذ جعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز، وأنه الخليق بالحلّ.
ويحتمل أن يكون المراد إلزام الإسلام، فيحرّم البيع قياسا على الربا، لاشتماله على الفضل طردا لأصلهم وهو في المعنى نقض على علة التحريم ويؤيده قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللََّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبََا} (البقرة: 275)، وفيه إشارة إلى أنّ الواجب اتباع أحكام الله واقتفاؤها من غير تعرّض لإجرائها على قانون واحد، وأنّ الأسرار الإلهية كثيرا ما تخفى وهو أعلم بمصالح عباده فيسلّم له عنان الانقياد وأنهم جعلوا ذلك من باب إلزام (3) الجدليّ، وجاء (3) الجواب بفكّ الملازمة، وأن الحكمة فرقت بينهما. وفيه إبطال القياس في مقابلة النصّ.
ومنه قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لََا يَخْلُقُ} (النحل: 17) فإن الظاهر 3/ 428العكس، لأن الخطاب لعبدة الأوثان وسمّوها آلهة، تشبيها بالله سبحانه (5)، وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فخولف في خطابهم لأنهم بالغوا في عبادتهم وغلوا، حتى صارت عندهم أصلا في العبادة، والخالق سبحانه فرعا، فجاء الإشكال على وفق ذلك.
والظاهر أنهم لما قاسوا غير الخالق [بالخالق] (6) خوطبوا بأشد الإلزامين (7) وهو تنقيص المقدّس لا تقديس الناقص.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) عبارة المخطوطة (التزام الجد في رجاء).
(5) في المخطوطة (تعالى).
(6) ليست في المطبوعة.
(7) في المخطوطة (اللازمين).(3/478)
قال السكاكيّ (1): «وعندي أن المراد ب «من لا يخلق» الحيّ القادر من الخلق تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله تعالى من طريق الأولى. وجعل منه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ} (الجاثية: 23) بدل «هواه إلهه» فإنه جعل المفعول الأول ثانيا والثاني أولا للتنبيه على أن الهوى أقوى وأوثق عنده من إلهه» (2).
ومنه قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم: 35).
وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجََّارِ} (ص: 28)، فإنّ بعضهم أورد أنّ أصل التشبيه يشبّه الأدنى بالأعلى فيقال: «أفتجعل المجرمين كالمسلمين، والفجار كالمتقين»، فلم خولفت القاعدة! ويقال: فيه وجهان:
أحدهما: أنّ الكفار كانوا يقولون: نحن نسود في الآخرة، كما نسود في الدنيا ويكونون أتباعا لنا، فكما أعزنا الله في هذه الدار يعزنا في الآخرة، فجاء الجواب على معتقدهم أنهم أعلى، وغيرهم أدنى.
الثاني: لما قيل قبل الآية: {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا بََاطِلًا ذََلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ 3/ 429 كَفَرُوا} (ص: 27) أي يظنون أن الأمر يهمل (3)، وأن لا حشر ولا نشر، أم لم (4) يظنوا ذلك، ولكن يظنون أنا نجعل المؤمنين كالمجرمين، والمتقين كالفجار.
* * * السادسة: أن التشبيه (5) [إذا كان] (6) في الذمّ يشبّه الأعلى بالأدنى، لأن (7) الذمّ مقام الأدنى، والأعلى ظاهر (8) عليه فيشبه (9) به في السلب، ومنه قوله: {يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ}
[240/ ب] {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسََاءِ} (الأحزاب: 32)، أي في النزول لا في العلوّ.
ومنه: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجََّارِ} (ص: 28) أي في سوء (10) [الحال] (11)
__________
(1) انظر مفتاح العلوم: 345344. الغرض العائد إلى المشبه به.
(2) في المخطوطة (إله).
(3) في المخطوطة (مهمل).
(4) في المخطوطة (ولم).
(5) في المخطوطة (المشبه).
(6) ساقطة من المطبوعة.
(7) في المخطوطة (كان).
(8) في المخطوطة (طار).
(9) في المخطوطة (فتشبه).
(10) في المخطوطة (سواء).
(11) ساقطة من المخطوطة.(3/479)
وإذا كان في المدح يشبّه الأدنى بالأعلى فيقال (1): تراب كالمسك، وحصى (2) كالياقوت، وفي الذمّ: مسك كالتراب وياقوت كالزجاج.
* * * السابعة: قد يدخل التشبيه على لفظ وهو محذوف لامتناع ذلك، لأنه بسبب المحذوف كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ} (البقرة: 171). فإنّ التقدير: ومثل واعظ الذين كفروا، فالمشبه الواعظ، (3) [وإلا ما الذي ينعق غير القبيح من الحسن] (3) والمقصود تشبيه حال الواعظ منهم بالناعق للأغنام، وهي لا تعقل معنى دعائه وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه، وإنما وقع التشبيه على الغنم التي ينعق بها الراعي، ويمدّ صوته إليها، (3) [فلم يحمل التشبيه فيها وصوله إلى الراعي الذي يصيح لما كان من الأمر تشبيه] (3)
وفيه وجوه:
أحدها: أن المعنى: مثل الذين كفروا كمثل الغنم لا تفهم نداء الناعق، فأضاف المثل إلى الناعق، وهو في المعنى للمنعوق به، على القلب.
ثانيها: ومثل الذين كفروا ومثلنا ومثلك، كمثل الذي ينعق، أي مثلهم في الإعراض 3/ 430ومثلنا في الدعاء والإرشاد (7)، كمثل الناعق بالغنم، فحذف المثل (8) الثاني اكتفاء بالأول، كقوله: {سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل: 81).
وثالثها أن المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وهي لا تعقل ولا تسمع كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وعلى هذا فالنداء والدعاء (9) منتصبان ب «ينعق» و «لا» توكيد للكلام، ومعناها الإلغاء.
رابعها: أن المعنى ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها، كمثال الراعي الذي ينعق بأغنامه (10) ويناديها، فهي تسمع نداء ولا تفهم معنى كلامه، فيشبّه من يدعوه الكفار من المعبودات من دون الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب.
__________
(1) في المخطوطة (فتقول).
(2) في المخطوطة (وحصبى).
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(7) في المخطوطة (والاسناد).
(8) في المخطوطة (المثال).
(9) في المخطوطة (فالدعاء والنداء).
(10) تصحفت في المطبوعة إلى (بغنمه).(3/480)
وهذا قريب من الذي قبله، ويفترقان في أن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة، ويجب صرفه إلى [غير] (1) الغنم، وهذا يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة، وإن لم يفهمهما، والأصنام من حيث كانت (2) لا تسمع الدعاء جملة يجب أن يكون داعيها وناديها (3) أسوأ حالا من منادي الغنم. ذكر (4) ذلك الشريف المرتضى (5) في كتاب «غرر الفوائد».
ومنه قوله تعالى {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهََا صِرٌّ} (آل عمران: 117) الآية، وإنما وقع التشبيه على الحرث الذي أهلكته الريح (6) [يقول أن يجعله على الحرث وصوله إلى الريح التي أهلكت الحرث لما كانت الريح من الأمر بسبب] (6)، قيل فيه إضمار، أي مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك الريح.
قال (8) ثعلب: فيه تقديم وتأخير، أي كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته.
وأما قوله تعالى: {(9) وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ} [9] مِنْ دُونِ اللََّهِ أَنْدََاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللََّهِ 3/ 431 (البقرة: 165)، فإنّ التقدير: كما يحب المؤمنون الله، قال: وحذف الفاعل، لأنه غير ملتبس.
واعترض عليه بأنه لا حاجة لذلك، فإن المعنى حاصل بتقديره مبنيا للفاعل.
وأجيب بأنه تقدير معنى، لكن محافظة على اللفظ فلا يقدّر الفاعل، إذ الفاعل في باب المصدر فضلة، فلذلك جعله كذلك في التقدير.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (كان).
(3) في المخطوطة (ومناديها).
(4) في المخطوطة (وذكر).
(5) هو علي بن الحسين بن موسى تقدم التعريف به في 3/ 424وبكتابه في 3/ 444وانظر قوله في الكتاب 1/ 218217.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(8) في المخطوطة (وقال).
(9) تصحفت في المخطوطة إلى (اتخذوا من دون).(3/481)
3/ 432
الاستعارة
هي من أنواع البلاغة، وهي كثيرة في القرآن، ومنهم من أنكره بناء على إنكار المجاز في القرآن، والاستعارة مجاز، وقد سبق تقديره. ومنع القاضي عبد الوهاب المالكي (1) إطلاق لفظ الاستعارة فيه، لأن فيها إبهاما للحاجة، وهذا كما منع بعضهم لفظ (2): القرآن [241/ أ] (3) [أو لفظي بالقرآن] (3) مخلوق، وهو لا ينكر وقوع المجاز، والاستعارة فيه إنما توقف على إذن الشرع.
ولا شك أن المجوّزين للإطلاق شرطوا عدم الإبهام وقد يمنعون الإبهام وقد يمنعون الإبهام المذكور لأنه في الاصطلاح اسم لأعلى مراتب الفصاحة.
وقال الطرطوشي (5): «إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها وإن امتنعوا امتنعنا ويكون هذا من قبيل أن الله تعالى عالم، والعلم هو العقل، ثم لا نصفه به لعدم التوقيف».
انتهى.
والمشهور تجويز الإطلاق.
ثم فيها مباحث:
الأول
3/ 433 وهي (6) «استفعال» من العارية، ثم نقلت إلى نوع من التخييل لقصد المبالغة في التخييل والتشبيه مع الإيجاز نحو لقيت أسدا، وتعني به الشجاع.
وحقيقتها أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك
__________
(1) هو عبد الوهاب بن علي بن نصر التغلبي الفقيه القاضي المالكي ولد سنة 362هـ كان فقيها أديبا شاعرا حسن النظر جيد العبارة وحدّث بشيء يسير كان ثقة ولم يلق من المالكيين أحدا أفقه منه وله من التصانيف «التلقين» وهو مع صغر حجمه من خيار الكتب وأكثرها فائدة و «المعونة» و «شرح الرسالة» وغيرها ت 462هـ (ابن خلكان، وفيات الأعيان 3/ 219.
(2) في المخطوطة (لفظة).
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(5) تصحفت في المطبوعة إلى (الطرطوسي) وما صوبناه من المخطوطة. وهو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الطرطوشي تقدم التعريف به في 2/ 113.
(6) في المخطوطة (هي).(3/482)
إظهار الخفيّ، وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي، أو بحصول المبالغة أو للمجموع (1).
فمثال إظهار الخفيّ قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتََابِ} (الزخرف: 4)، فإنّ حقيقته أنه في أصل الكتاب فاستعير لفظ «الأم» للأصل لأن الأولاد تنشأ من الأمّ، كما تنشأ الفروع من الأصول. وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئيّ حتى يصير مرئيا، فينتقل السامع من حدّ السماع إلى حدّ العيان وذلك أبلغ في البيان.
ومثال إيضاح ما ليس بجليّ ليصير جليّا، قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمََا جَنََاحَ الذُّلِّ} [من الرحمة] (2) (الإسراء: 24) لأن المراد أمر الولد بالذلّ لوالديه رحمة فاستعير للذل (3)
أولا «جانب» (4)، ثم للجانب «جناح» (5) وتقدير الاستعارة القريبة: «واخفض لهما جانب الذل»، أي اخفض جانبك ذلا.
وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئيّ مرئيا لأجل حسن البيان، ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يبقي الولد من الذلّ لهما والاستكانة (6) مركبا احتيج من الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى فاستعير الجناح، لما فيه من المعاني التي [لا] (7)
تحصل من خفض الجناح لأنّ من ميّل جانبه (8) [إلى جهة السفل أدنى ميل، صدق عليه أنه خفض جانبه] (8) والمراد خفض يلصق الجنب بالأرض (10) ولا يحصل ذلك إلا بخفض الجناح كالطائر وأما قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام (11) [فإنّني * صبّ قد استعذبت ماء بكائي (12)
فيقال: إنه أرسل إليه قارورة، وقال: ابعث إليّ فيها شيئا من ماء الملام] (11) فأرسل
__________
(1) في المخطوطة (المجموع).
(2) ليست في المطبوعة.
(3) تصحفت في المطبوعة (للولد) وقد ذكر هذا الفصل السيوطي في الإتقان 3/ 134، النوع الثالث والأربعون.
(4) في المخطوطة (جانبا).
(5) في المخطوطة (جناحا).
(6) في المخطوطة (والاستعانة).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(10) تصحفت في المطبوعة إلى (بالإبط). وما أثبتناه من المخطوطة والاتقان.
(11) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(12) البيت في ديوانه: 1/ 25. وقد ذكر القزويني في الإيضاح: 180.(3/483)
3/ 434أبو (1) تمام: أن ابعث لي ريشة من جناح الذّلّ أبعث إليك من ماء الملام.
وهذا (2) لا يصحّ له تعلّق به، والفرق بين التشبيهين ظاهر لأنه ليس جعل الجناح للذلّ كجعل الماء للملام، فإن الجناح للذلّ مناسب فإن الطائر إذا وهي وتعب بسط جناحه وألقى نفسه إلى الأرض. وللإنسان أيضا جناح: فإنّ يديه جناحاه، وإذا خضع واستكان يطأطىء من رأسه، وخفض من بين يديه، فحسن عند ذلك جعل الجناح للذلّ، وصار شبها مناسبا، وأما ماء الملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه فلذلك استهجن (3) منه. على أنه قد يقال: إنّ الاستعارة التخييلية (4) فيه تابعة للاستعارة بالكناية فإنّ تشبيه الملام بظرف الشراب لاشتماله على ما يكرهه الشارب لمرارته، ثم استعار الملام له كمائه، ثم يخرج منه شيء يشبّه بالماء فالاستعارة في اسم الماء.
الثاني
في أنها قسم من أقسام المجاز لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له.
وقال الإمام فخر الدين: ليس بمجاز لعدم النقل. وفي الحقيقة هي تشبيه محذوف الأداة لفظا وتقديرا ولهذا حدّها بعضهم بادعاء معنى الحقيقة في الشيء، مبالغة في التشبيه.
كقولهم: انشقت عصاهم [241/ ب] إذا تفرقوا، وذلك للعصا لا للقوم، ويقولون:
كشفت الحرب عن ساق.
ويفترقان [في] (5) أن التشبيه (6) إذا ذكرت معه الأداة فلا خفاء أنه تشبيه وإن حذفت فهذا يلتبس بالاستعارة فإذا ذكرت المشبه كقولك: زيد الأسد، فهذا تشبيه [بليغ] (7)، كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (البقرة: 18)، وإن لم يذكر المشبه به فهو استعارة، كقوله:
لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف (8) ... له لبد أظفاره لم تقلّم (9).
__________
(1) في المخطوطة (إلى أبي).
(2) في المخطوطة (فهذا).
(3) في المخطوطة (استحق).
(4) اضطربت في المخطوطة إلى (التحها).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) في المخطوطة (الشبه).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (غضنفر).
(9) البيت لزهير بن أبي سلمى من معلقته التي مطلعها أمن أمّ أوفي دمنة لم تكلم انظر ديوانه: 84طبعة دار صادر بيروت.(3/484)
فهذه استعارة نقلت لها وصف الشجاع إلى عبارة صالحة للأسد، لولا قرينة 3/ 435 [السلاح] (1) لشككت: هل أراد الرجل الشجاع أو الأسد الضاري؟
الثالث
لا بدّ فيها من ثلاثة أشياء أصول: مستعار، ومستعار منه، وهو اللفظ ومستعار له وهو المعنى ففي قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم: 4) المستعار الاشتعال، والمستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النهار لبياض الشيب.
وفائدة ذلك وحكمته وصف ما هو أخفى بالنسبة (2) إلى ما هو أظهر. وأصل الكلام أن يقال: واشتعل شيب الرأس وإنما قلب للمبالغة لأنه يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس ولو جاء الكلام [على وجهه] (3) لم يفد ذلك العموم. ولا يخفى أنه أبلغ من قولك:
كثر (4) الشيب في الرأس وإن كان ذلك حقيقة المعنى والحقّ أن المعنى يعار أولا ثم بواسطته يعار اللفظ، ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان الشبه مقرّرا بينهما ظاهرا وإلّا فلا بدّ من التصريح بالشبه فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قوله: «مثل المؤمن كمثل النخلة» (5) أو «الخامة» (6) لكنت كالملغز (7).
ومن أحسن الاستعارة قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذََا تَنَفَّسَ} (التكوير: 18) وحقيقته (8) «بدأ انتشاره» و «تنفس» أبلغ فإن ظهور الأنوار في المشرق من أشعة الشمس قليلا قليلا، بينه وبين إخراج النّفس مشاركة شديدة.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (بالشبه).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (أكثر).
(5) إشارة إلى حديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه مسلم في الصحيح 4/ 21652164كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (50)، باب مثل المؤمن مثل النخلة (15)، الحديث (64/ 2811).
(6) إشارة إلى حديث متفق عليه من رواية كعب بن مالك رضي الله عنه أخرجه البخاري في الصحيح 10/ 103، كتاب المرتضى (75)، باب ما جاء في كفارة المرض (1)، الحديث (5643)، ومسلم في الصحيح 4/ 2163، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (50)، باب مثل المؤمن كالزرع
(14) الحديث (59/ 2810) و (الخامة) هي الطاقة الفضة اللينة من الزرع. (النهاية 2/ 89) مادة (خوم).
(7) في المخطوطة (كاللغز).
(8) في المخطوطة (وتحقيقه).(3/485)
وقوله: {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ} (يس: 37)، لأن انسلاخ [الشيء عن] (1)
الشيء أن يبرأ [منه] (1) ويزول عنه حالا فحالا، كذلك انفصال الليل عن النهار والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان.
وقوله: {أَحََاطَ بِهِمْ سُرََادِقُهََا} (الكهف: 29).
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (القلم: 16).
وقوله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} (المدثر: 50)، ويقولون للرجل المذموم: إنما هو حمار.
وقوله: {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ} (القيامة: 29).
{أَإِنََّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحََافِرَةِ} (النازعات: 10) أي في الخلق الجديد.
{بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (المطففين: 14).
{خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي كَبَدٍ} (البلد: 4) (3) [أي ضيق وشدة] (3).
{لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ} (العلق: 15).
{وَامْرَأَتُهُ حَمََّالَةَ الْحَطَبِ} (المسد: 4).
[وقوله] (5) {فَمََا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمََاءُ وَالْأَرْضُ وَمََا كََانُوا مُنْظَرِينَ} (الدخان: 29).
{وَيُتَخَطَّفُ النََّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67).
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وََادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء: 225).
{أَلََا إِنَّمََا طََائِرُهُمْ عِنْدَ اللََّهِ} (الأعراف: 131) والمراد حفظهم وما يحصل لهم.
وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلََاةَ} (الإسراء: 78)، أي أتمها (6) كما أمرت [به] (7).
{إِنَّ رَبَّكَ أَحََاطَ بِالنََّاسِ} (الإسراء: 60)، أي عصمك منهم، رواه شعبة عن أبي رجاء (8) عن الحسن.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(5) ليست في المطبوعة.
(6) في المخطوطة (ائتمر بها).
(7) ليست في المطبوعة.
(8) تصحفت في المطبوعة إلى أبي وجاء، وما صوّبناه من المخطوطة وتفسير الطبري. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة والطبري في التفسير 15/ 75وابن المنذر وابن أبي حاتم (عزاه لهم السيوطي في الدر المنثور 4/ 190).(3/486)
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتََابِ} (الزخرف: 4).
{وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ} (الأنعام: 59).
{وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الأعراف: 154).
{فَمَحَوْنََا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنََا آيَةَ النَّهََارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء: 12).
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبََاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذََا هُوَ زََاهِقٌ} (الأنبياء: 18)، فالدمغ والقذف مستعار.
{فَضَرَبْنََا عَلَى آذََانِهِمْ} (الكهف: 11)، يريد لا إحساس بها، من غير صمم.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94)، فإنه أبلغ من «بلّغ»، وإن كان بمعناه، لأن تأثير الصّدع أبلغ من تأثير التبليغ فقد لا يؤثّر التبليغ، والصدع يؤثّر جزما.
الرابع
3/ 438 تنقسم إلى مرشّحة وهي أحسنها وهي أن تنظر إلى جانب المستعار وتراعيه، كقوله تعالى: {أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ} (البقرة: 16)، فإن المستعار منه الذي هو الشراء هو المراعى (1) هنا، وهو الذي رشّح لفظتي الربح والتجارة للاستعارة لما بينهما [242/ أ] من الملاءمة.
وإلى تجريدية وهي أن تنظر إلى جانب المستعار له، ثم تأتي بما يناسبه ويلائمه، كقوله تعالى: {فَأَذََاقَهَا اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} (النحل: 112)، فالمستعار اللباس، والمستعار له الجوع، فجرد (2) الاستعارة، بذكر لفظ الأداة المناسبة (3) للمستعار له وهو الجوع، لا المستعار وهو اللباس، ولو أراد ترشيحها لقال: وكساها لباس الجوع. وفي هذه الآية مراعاة المستعار له الذي هو المعنى، وهو الجوع والخوف لأن ألمهما يذاق ولا يلبس. [ولا يكسى] (4).
وقد تجيء ملاحظة المستعار الذي هو اللفظ، كقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمََّالَةَ}
__________
(1) في المخطوطة (المدعي).
(2) في المطبوعة (فمجرد) تصحيف.
(3) في المخطوطة (لمناسبة).
(4) ساقطة من المطبوعة.(3/487)
{الْحَطَبِ} (المسد: 4)، (1) [إذا حملنا الحطب على النميمة فاعتبر اللفظ فقال: «حمالة»] (1) ولم يقل: «رواية» فيلاحظ المعنى.
وأما الاستعارة بالكناية فهي ألّا يصرّح بذكر المستعار، بل تذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه، كقوله (3): شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس، تنبيها على أن الشجاع أسد والعالم بحر.
ومنه المجاز العقلي كلّه عند السكاكي (4).
3/ 439ومن أقسامها وهو دقيق أن يسكت عن ذكر المستعار ثم يومى إليه بذكر شيء من توابعه وروادفه تنبيها عليه، فيقول: شجاع (5) يفترس أقرانه، فنبّهت (6) بالافتراس على أنك قد استعرت له الأسد.
ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ} (البقرة: 27)، فنبّه بالنقض الذي هو من توابع الحبل وروادفه، على أنه قد استعار للعهد الحبل لما فيه من باب الوصلة (7) بين المتعاهدين.
ومنها قوله تعالى: {وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً} (الفرقان:
23)، لأن حقيقته «عملنا» لكن {قَدِمْنََا} أبلغ لأنه يدلّ على أنه عاملهم (8) معاملة القادم من سفره لأنه من أجل إمهالهم السابق عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمر به. وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: {إِنََّا لَمََّا طَغَى الْمََاءُ حَمَلْنََاكُمْ فِي الْجََارِيَةِ} (الحاقة: 11)، لأن حقيقة «طغى» علا، والاستعارة أبلغ، لأن «طغى»، علا قاهرا (9).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (كقولك).
(4) انظر كتابه مفتاح العلوم: 359، الأصل الثاني من علم البيان في المجاز، ما هو المجاز.
(5) في المخطوطة (جواد).
(6) في المخطوطة (فنبه).
(7) في المخطوطة (الصلة).
(8) في المخطوطة (معاملتهم).
(9) في المخطوطة (فأقهر).(3/488)
وكذلك: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عََاتِيَةٍ} (الحاقة: 6)، لأن حقيقة «عاتية» شديدة، والعتوّ أبلغ، لأنه شدّة فيها تمرد.
وقوله: {وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ} (الإسراء: 29)، الآية وحقيقته: لا تمنع ما تملك كلّ المنع، والاستعارة أبلغ، لأنّه جعل منع النائل بمنزلة غلّ [اليدين إلى] (1) العنق، وحال الغلول (2) أظهر.
وقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقََالَهََا} (الزلزلة: 2)، قيل: أخرجت ما فيها من 3/ 440 الكنوز.
وقيل: يحيي به الموتى، وأنها أخرجت موتاها، فسمى الموتى ثقلا تشبيها بالحمل الذي يكون في البطن لأن الحمل يسمى ثقلا، قال تعالى: {فَلَمََّا أَثْقَلَتْ} (الأعراف:
189).
ومنها: جعل الشيء للشيء وليس له من طريق الادعاء والإحاطة به نافعة في آيات الصفات، كقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا} (القمر: 14).
وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر:
67). ويسمّى التخييل: قال الزّمخشري (3): ولا تجد بابا في علم البيان أدقّ ولا أعون في تعاطي المشبهات منه، وأما قوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ} (الصافات: 65) قال الفرّاء (4): فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه جعل طلعها رءوس الشياطين في القبح.
والثاني أن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا (5) وهو ذو القرن.
والثالث: أنّه شوك (6) قبيح المنظر، يسمى رءوس الشياطين.
فعلى الأول يكون تخييلا، وعلى الثاني يكون تشبيها مختصّا.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (الحلول).
(3) انظر «الكشاف»: 3/ 356عند تفسير الآية من سورة الزمر.
(4) انظر معاني القرآن 2/ 387.
(5) في المخطوطة (شياطين).
(6) في المخطوطة (إنه نبت شوك).(3/489)
تقسيم آخر
الاستعارة فرع التشبيه، فأنواعها كأنواعه خمسة:
3/ 441الأول: استعارة حسّيّ لحسّيّ بوجه حسيّ، كقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}
[242/ ب] (مريم: 4) فإن المستعار منه هو النار، والمستعار له هو الشّيب، والوجه هو الانبساط فالطرفان حسّيان والوجه أيضا حسّيّ، وهو استعارة بالكناية لأنّه ذكر التشبيه، [وذكر المشبّه] (1) وذكر المشبه به مع لازم من لوازم المشبه به وهو الاشتعال.
وقوله: {وَتَرَكْنََا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} (الكهف: 99)، [أصل] (1)
الموج حركة المياه (3) فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة.
* * * الثاني: حسّي لحسّيّ (4) بوجه عقلي، كقوله تعالى: {أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}
(الذاريات: 41) فالمستعار له الريح. والمستعار منه المرأة، وهما حسّيّان، والوجه المنع من ظهور النتيجة (5)، والأثر وهو عقلي وهو أيضا استعارة بالكناية.
قال في «الإيضاح» (6): وفيه نظر، لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها ولهذا جعل صفة للريح، لا اسما. والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحبل والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر.
وهو مندفع بالعناية، لأن المراد من قوله: «المستعار منه» المرأة التي عبّر عنها بالعقيم، ذكرها السكاكي (7) بلفظ ما صدق عليه. (8) [والغرض الوصف العنواني] (8).
ومنه قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ} (يس: 37)، المستعار له ظلمة النهار من ظلمة الليل، والمستعار منه ظهور المسلوخ عند جلدته، والجامع عقليّ وهو ترتب أحدهما على الآخر.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (الماء).
(4) في المخطوطة (حسي).
(5) في المخطوطة (القحفة).
(6) للخطيب القزويني وانظر كتابه ص 169.
(7) انظر كتابه مفتاح العلوم: 389388. والإيضاح للقزويني: 169.
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.(3/490)
وقوله: {فَجَعَلْنََاهََا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يونس: 24)، أصل الحصيد 3/ 442 النبات والجامع الهلاك، وهو أمر عقليّ.
* * * الثالث: معقول لمعقول، كقوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنََا مِنْ مَرْقَدِنََا [هََذََا]} [1] (يس:
52)، فالرقاد (2) مستعار للموت وهما أمران معقولان، والوجه عدم ظهور الأفعال وهو عقليّ، والاستعارة تصريحيّة لكون المشبه به مذكورا.
وقوله: {وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الأعراف: 154) المستعار السكوت، والمستعار له الغضب، والمستعار منه الساكت، وهذه ألطف الاستعارات، لأنها استعارة معقول لمعقول، لمشاركته في أمر معقول.
* * * الرابع: محسوس لمعقول، كقوله تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسََاءُ وَالضَّرََّاءُ} (البقرة:
214)، أصل (3) التماسّ في الأجسام، فاستعير لمقاساة الشدة، وكون المستعار منه حسيّا، والمستعار له عقليا (4)، وكونها تصريحيّة ظاهر (5)، والوجه اللحوق وهو عقليّ.
وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبََاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} (الأنبياء: 18) فالقذف والدمغ مستعاران.
وقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مََا ثُقِفُوا إِلََّا بِحَبْلٍ مِنَ اللََّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النََّاسِ} (آل عمران: 112).
وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرََاءَ ظُهُورِهِمْ} (آل عمران: 187).
وقوله: {وَإِذََا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيََاتِنََا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (الأنعام: 68) وكلّ 3/ 443 خوض ذكره الله في القرآن فلفظه مستعار من الخوض في الماء.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (المرقد).
(3) في المخطوطة (قيل).
(4) في المخطوطة (عقلا).
(5) في المخطوطة (ظاهرة).(3/491)
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) استعارة لبيانه عما أوحي إليه، كظهور ماء في الزجاجة عند انصداعها.
وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ} (التوبة: 109)، البنيان مستعار وأصله للحيطان.
وقوله: {وَيَبْغُونَهََا عِوَجاً} (هود: 19) العوج مستعار.
وقوله: {لِتُخْرِجَ النََّاسَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 1) وكلّ ما في القرآن من الظلمات والنور مستعار.
وقوله: {فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً} (الفرقان: 23).
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وََادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء: 225) الوادي مستعار، وكذلك الهيمان، وهو على غاية الإيضاح.
{وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ} (الإسراء: 29).
* * * الخامس: استعارة معقول لمحسوس: {إِنََّا لَمََّا طَغَى الْمََاءُ} (الحاقة: 11) المستعار منه التكبّر (1)، والمستعار له الماء، والجامع الاستعلاء المفرط (2).
وقوله: {وَأَمََّا عََادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عََاتِيَةٍ} (الحاقة: 6)، العتوّ هاهنا مستعار.
3/ 444وقوله: {تَكََادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} (الملك: 8) فلفظ الغيظ مستعار.
وقوله: {وَجَعَلْنََا آيَةَ النَّهََارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء: 12)، فهو أفصح [243/ أ] من مضيئة.
{حَتََّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزََارَهََا} (محمد: 4).
ومنها الاستعارة بلفظين، كقوله تعالى: {قَوََارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} (الإنسان: 16) يعني تلك الأواني ليس من الزجاج، ولا من الفضة، بل في صفاء القارورة وبياض الفضة. وقد سبق عن الفارسيّ جعله من التشبيه.
__________
(1) في المخطوطة (الكبر).
(2) في المخطوطة (المضمر).(3/492)
ومثله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذََابٍ} (الفجر: 13)، ينبي عن الدوام والسوط ينبي عن الإيلام فيكون المراد والله أعلم تعذيبهم عذابا دائما مؤلما.
التورية
3/ 445 وتسمى الإيهام والتخييل والمغالطة والتوجيه وهي أن يتكلّم المتكلم بلفظ مشترك بين معنيين: قريب وبعيد، ويريد المعنى البعيد، يوهم (1) السامع أنه أراد القريب مثاله قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدََانِ} (الرحمن: 6)، أراد بالنجم النبات الذي لا ساق له، والسامع يتوهم أنه أراد الكوكب، لا سيما مع تأكيد الإيهام بذكر الشمس والقمر.
وقوله: {وَهُوَ قََائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرََابِ} (آل عمران: 39) والمراد المعرفة.
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاعِمَةٌ} (الغاشية: 8)، أراد بها في نعمة وكرامة، والسامع يتوهم أنه أراد من النعومة.
وقوله: {وَالسَّمََاءَ بَنَيْنََاهََا بِأَيْدٍ} (الذاريات: 47) أراد بالأيد القوة الخارجة.
وقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ} (الانسان: 19)، أي مقرّطون تجعل في آذانهم القرطة، والحلق الذي في الأذن يسمى قرطا وخلدة، والسامع يتوهم أنه من الخلود.
وقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهََا لَهُمْ} (محمد: 6)، أي علّمهم منازلهم فيها، أو يوهم إرادة العرف، الذي هو الطيّب.
وقوله: {وَمََا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوََارِحِ مُكَلِّبِينَ} (المائدة: 4) (2).
وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوََانٍ وَجَنََّاتٍ} (التوبة: 21) فذكر «رضوان» مع «الجنات» مما يوهم إرادة خازن الجنات (3).
وكان الأنصار يقولون: {رََاعِنََا} (البقرة: 104) أي أرعنا (4) سمعنا (5) وانظر إلينا 3/ 446 والكفار يقولونها «فاعل» من الرعونة. وقال أبو جعفر (6): هي بالعبرانية، [فلما عوتبوا] (7)
__________
(1) في المخطوطة (وتوهم).
(2) زيادة عبارة في المخطوطة بعد الآية وهي (هل هي الكواكب).
(3) في المخطوطة (الجنان).
(4) في المخطوطة (أراعنا).
(5) في المخطوطة (سمعك).
(6) الطبري في تفسيره 1/ 376.
(7) ساقطة من المخطوطة.(3/493)
قالوا: إنما نقول مثل ما يقول المسلمون، فنهي المسلمون عنها (1).
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مََا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}
(الشورى: 28) فقوله: [{الْوَلِيُّ} هو] (2) من أسماء الله [تعالى] (3)، ومعناه الوليّ لعباده (4) بالرحمة والمغفرة، وقوله: {الْحَمِيدُ} يحتمل أن يكون من «حامد» لعباده المطيعين، أو «محمود» في السراء والضراء، وعلى هذا فالضمير راجع إلى الله سبحانه.
ويحتمل أن يكون الوليّ من أسماء المطر (5)، وهو مطر الربيع، والحميد بمعنى المحمود، وعلى هذا فالضمير عائد على الغيث.
وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسََاهُ الشَّيْطََانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (يوسف: 42)، فإن لفظة «ربك» رشحت لفظة «ربّه» لأن تكون (6) تورية إذ يحتمل أنه أراد بها الإله سبحانه والملك، فلو اقتصر على قوله: {فَأَنْسََاهُ الشَّيْطََانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (يوسف: 42)، ولم تدلّ لفظة «ربه» إلا على الإله فلما تقدمت لفظة «ربك» احتمل المعنيين.
تنبيه
كثيرا ما تلتبس التورية بالاستخدام والفرق (7) بينهما أن التورية استعمال المعنيين في (8) اللفظ وإهمال الآخر وفي الاستخدام استعمالهما معا بقرينتين.
3/ 447وحاصله أنّ المشترك إن استعمل في مفهومين (9) معا فهو الاستخدام وإن أريد أحدهما مع لمح الآخر باطنا فهو التورية.
ومثال الاستخدام قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ * يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ}
(الرعد: 3938)، فإنّ لفظة «كتاب» يراد بها الأمد المحتوم والمكتوب، وقد توسطت بين
__________
(1) لتمام الفائدة راجع تفسير الطبري 1/ 376373.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) في المخطوطة (بعباده).
(5) العبارة في المخطوطة (من أسماء الله المطر). تصحيف.
(6) في المطبوعة (يكون).
(7) في المطبوعة (والفراق).
(8) في المخطوطة (من اللفظ).
(9) في المخطوطة (مفهوميه).(3/494)
لفظتين، فاستخدمت أحد مفهوميها، وهو الأمد واستخدمت «يمحو» المفهوم الآخر، وهو المكتوب.
وقوله تعالى: {لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ وَأَنْتُمْ سُكََارى ََ حَتََّى تَعْلَمُوا مََا تَقُولُونَ} [1] [وَلََا جُنُباً إِلََّا عََابِرِي سَبِيلٍ] (1) (النساء: 43) فإن الصلاة تحتمل إرادة نفس الصلاة (3)، وتحتمل إرادة موضعها (4) فقوله: {حَتََّى تَعْلَمُوا} (النساء: 43) استخدمت إرادة نفس الصلاة، وقوله [243/ ب]: {إِلََّا عََابِرِي سَبِيلٍ} (النساء: 43)، استخدمت إرادة موضعها.
التجريد
3/ 448 وهو أن تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر، كأنه مباين له، فتخرج ذلك إلى ألفاظه بما (5) اعتقدت ذلك، كقولهم: لئن لقيت زيدا لتلقينّ معه (6) الأسد، ولئن سألته لتسألنّ منه البحر. فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا (7) وهو عينه هو (8) الأسد والبحر لا أنّ هناك شيئا منفصلا (9) عنه، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ لَآيََاتٍ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} (آل عمران: 190)، فظاهر هذا أن في العالم من نفسه آيات، (10) وهو عينه ونفسه تلك الآيات (10).
وكقوله (12) تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (13) (البقرة: 260)، وإنما هذا ناب عن قوله: «واعلم أنّي عزيز حكيم».
ومنه قوله (14) تعالى: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ [أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ]} [15] (ق: 37).
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.
(3) تكررت هذه العبارة في المخطوطة.
(4) زيادة عبارة مضطربة في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (لما).
(6) في المخطوطة (منه).
(7) في المخطوطة (أسد ونحر).
(8) في المخطوطة (وهو).
(9) في المخطوطة (منفعلا).
(10) تكررت هذه العبارة في المخطوطة.
(12) في المخطوطة (وقوله).
(13) الآية في المخطوطة {قََالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. (البقرة: 259).
(14) في المخطوطة (وقوله).
(15) تمام الآية ليس في المطبوعة.(3/495)
وقوله تعالى: {لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللََّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21).
وقوله: {لَهُمْ فِيهََا دََارُ الْخُلْدِ} (فصلت: 28)، ليس المعنى أن الجنّة فيها دار خلد وغير دار خلد، بل [كلّها] (1) دار خلد فكأنك (2) لما قلت: في الجنة دار الخلد اعتقدت أن الجنة منطوية على دار نعيم ودار أكل وشرب وخلد، فجردت منها هذا الواحد، كقوله:
وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل (3)
وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الأنعام: 95)، على 3/ 499أحد التأويلات في الآية عن ابن مسعود: «هي النطفة تخرج من الرجل ميّتة، وهو حيّ، ويخرج الرجل منها حيّا وهي ميتة (4)، قال ابن عطية: في تفسيره هذه الآية: إن لفظة الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلا، إنما هو عبارة عن تغيير الحال، كما تقول في صبّي جيّد البنية: يخرج من هذا رجل قويّ.
وقد يحتمل قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الأنعام: 95)، أي الحيوان كله ميتة، ثم (5) يحييه قال: وهو معنى التجريد.
وذكر الزمخشريّ (6) أن عمرو بن عبيد (7) قرأ في قوله تعالى: {فَكََانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهََانِ}
(الرحمن: 37)، بالرفع، بمعنى حصلت منها وردة، قال: وهو من التجريد.
وقرأ عليّ وابن عباس في سورة مريم: يرثني وارث من آل يعقوب (مريم:
6)، (8) [قال ابن جنّي (9): هذا هو التجريد، وذلك أنه يريد: وهب لي من لدنك وليّا يرثني منه وارث من آل يعقوب] (8)، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرّد منه وارثا.
__________
(1) ساقطة من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (وكأنك).
(3) البيت لأبي الخطار الكلبي ذكره ابن جني في الخصائص 2/ 475، باب التجريد. وصدره أقادت بنو مروان ظلما دماءنا وهو في لسان العرب 12/ 142مادة (حكم).
(4) أخرجه الطبري في التفسير 3/ 149، وهو المرجح عنده.
(5) تصحفت في المخطوطة إلى (لم).
(6) الكشاف 4/ 53.
(7) تصحف الاسم في المخطوطة إلى (عبيد بن عمير) وهو عمرو بن عبيد أبو عثمان البصري، الزاهد العابد، القدري كبير المعتزلة، روى عن أبي العالية وأبي قلابة، والحسن البصري وعنه الحمادان، وابن عيينة. قال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن المبارك: دعا إلى القدر فتركوه له كتاب «العدل» و «التوحيد» وغيرهما.
ت 144هـ (سير أعلام النبلاء 6/ 104).
(8) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(9) انظر المحتسب لابن جني 2/ 38.(3/496)
التجنيس
3/ 450 وهو إمّا بأن تتساوى حروف الكلمتين، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مََا لَبِثُوا غَيْرَ سََاعَةٍ} (الروم: 55).
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} (الصافات: 72 73)، وفي ذلك ردّ على من قال (1): ليس منه في القرآن غير الآية الأولى.
وإما بزيادة في إحدى الكلمتين، كقوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ * إِلى ََ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسََاقُ} (القيامة: 3029).
وإما لاحق، بأن يختلف أحد الحرفين، كقوله: {وَإِنَّهُ عَلى ََ ذََلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 87).
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ * إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} (القيامة: 2322).
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (الأنعام: 26).
{بِمََا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمََا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} (غافر: 75).
وقوله: {وَإِذََا جََاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ [أَوِ الْخَوْفِ]} [2] (النساء: 83).
وإما في الخطّ، وهو أن تشتبها (3) في الخط لا اللفظ، كقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 104).
وقوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذََا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 79 80).
وأما في السمع لقرب أحد المخرجين من الآخر، كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ * إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} (القيامة: 2322).
تنبيهات
الأول: نازع ابن أبي الحديد (4) في الآية الأولى وقال: عندي أنه ليس بتجنيس أصلا،.
__________
(1) هو ابن الأثير الجزري، وانظر كتابه المثل السائر: 246.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (يشتبها).
(4) هو عبد الحميد بن هبة الله المعتزلي تقدم في 2/ 251. وانظر كتابه الفلك الدائر: 13.(3/497)
وأن الساعة في الموضعين بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى، وألا تكون إحداهما حقيقة والأخرى مجازا بل تكونا (1) حقيقتين وإنّ زمان القيامة (2) وإن طال لكنّه عند الله [تعالى] (3) في حكم الساعة الواحدة لأنّ قدرته (4) لا يعجزها [244/ أ] أمر، ولا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظة «الساعة» على أحد الموضعين حقيقة، وعلى الآخر مجازا وذلك يخرج الكلام من التجنيس كما لو قلت (5): ركبت حمارا، ولقيت حمارا، وأردت بالثاني البليد (6). وأيضا لا يجوز (7) أن يكون المراد بالساعة الساعة الأولى خاصّة (8)
وزمان البعث، فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن (9)
التجنيس.
* * * الثاني: يقرب منه الاقتضاب، وهو أن تكون الكلمات يجمعها أصل واحد في اللغة، كقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} (الروم: 43).
وقوله: {يَمْحَقُ اللََّهُ الرِّبََا وَيُرْبِي الصَّدَقََاتِ} (البقرة: 276).
وقوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحََانٌ} (الواقعة: 89).
3/ 452وقوله: {وَإِذََا أَنْعَمْنََا عَلَى الْإِنْسََانِ أَعْرَضَ وَنَأى ََ بِجََانِبِهِ وَإِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعََاءٍ عَرِيضٍ} (فصلت: 51).
{قََالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقََالِينَ} (الشعراء: 168).
{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دََانٍ} (الرحمن: 54).
{يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ} (يوسف: 84).
{تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصََارُ} (النور: 37).
__________
(1) في المخطوطة (يكونا).
(2) في المخطوطة (القيد).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (قدرها).
(5) في المخطوطة (قال).
(6) في المخطوطة (البلبل).
(7) عبارة المخطوطة (وأيضا لم لا يجوز).
(8) في المخطوطة (حاضر).
(9) في المخطوطة (من).(3/498)
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} (الأنعام: 79).
{اثََّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [أَرَضِيتُمْ]} [1] (التوبة: 38).
* * * الثالث: اعلم أن الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية، ولهذا تركوه عند قوة المعنى بتركه ولذلك (2) مثالان:
أحدهما قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخََالِقِينَ} (الصافات: 125)، فذكر الرازي في «تفسيره» (3): «أن الكاتب الملقب بالرشيد (4)، قال: لو قيل: «أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين». [لكان] (5) تحصل (6) به رعاية معنى التجنيس أيضا مع كونه موازنا ل «تذرون».
وأجاب الرازي: بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكلّفات، بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ».
وقال بعضهم: مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ، فلو كان «أتدعون» «وتدعون» 3/ 453 كما قال هذا القائل لوقع الإلباس على القارئ فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا منه، وحينئذ (7)
فينخرم اللفظ، إذا قرأ و «تدعون» الثانية بسكون الدال لا سيما وخط المصحف الإمام لا ضبط فيه ولا نقط.
قال: ومما صحّف من القرآن بسبب ذلك وليس بقراءة قوله تعالى: {قََالَ عَذََابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشََاءُ} (الأعراف: 156) بالسين المهملة.
وقوله: {إِلََّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ} (التوبة: 114) بالباء الموحدة.
وقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس: 37) بالعين المهملة.
وقرأ ابن عباس: «من تدعون» (8) على الاستفهام.
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) في المخطوطة (ولهذا).
(3) انظر 26/ 161و 162.
(4) في المطبوعة (بالرشيدي) وما صوبناه من المخطوطة وتفسير الرازي.
(5) ليست في المطبوعة.
(6) في المخطوطة (يحصل).
(7) في المخطوطة (حينئذ).
(8) تصحفت في الأصول إلى (فرعون) والتصويب من السياق السابق.(3/499)
قلت: وأجاب الجويني (1) عن هذا بما يمكن أن يتخلّص منه: أن «يذر» (2) أخصّ من «يدع» (3) وذلك لأن (4) الأول بمعنى ترك الشيء اعتناء (5)، بشهادة الاشتقاق، نحو الإيداع، فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها، ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها ومن ذلك الدّعة بمعنى الراحة (6). وأما «تذر» فمعناها الترك مطلقا، والترك (7) مع الإعراض والرّفض (8)
الكليّ ولا شكّ أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول فأريد هنا تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم، وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض.
قلت: ويؤيده قول الراغب (9): يقال: فلان (10) يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد (11)
به. والوذرة (12) قطعة من اللحم لقلة الاعتداد به، نحو (13) قولهم: «هو لحم على وضم»، قال تعالى: {أَجِئْتَنََا لِنَعْبُدَ اللََّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مََا كََانَ يَعْبُدُ آبََاؤُنََا} (الأعراف: 70)، وقال تعالى:
{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} (الأعراف: 127)، {فَذَرْهُمْ وَمََا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112) {وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا} (البقرة: 278) وإنما قال: {تَذَرُونَ} ولم يقل «تتركون» و «تخلّفون» لذلك. انتهى.
وعن الشيخ كمال الدين ابن الزملكانيّ (14) [أنه أجاب] (15) عن هذا السؤال بأنّ التجنيس تحسين، وإنما يستعمل في مقام الوعد والإحسان وهذا مقام تهويل، والقصد فيه المعنى، فلم يكن لمراعاة اللفظة (16) فائدة.
وفيه نظر، فإنه ورد في قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ} [244/ ب] {[مََا لَبِثُوا غَيْرَ سََاعَةٍ]} [17]
(الروم: 55).
__________
(1) كذا في المخطوطة والمطبوعة وفي الإتقان 3/ 374 (الخويي).
(2) في المخطوطة (يدع) تصحيف.
(3) في المخطوطة (يذر) تصحيف.
(4) في المخطوطة (أن).
(5) في المخطوطة (اعتنى به).
(6) في المخطوطة (الراعة) تصحيف.
(7) في المخطوطة (أو الترك).
(8) في المخطوطة (واللفظ).
(9) انظر المفردات: 518مادة (وذر).
(10) في المطبوعة (فلا) تصحيف.
(11) في المخطوطة (اعتياده).
(12) في المطبوعة (والوزرة). وفي المخطوطة (ومنه الوذرة).
(13) في المخطوطة (في نحو).
(14) تقدم التعريف به في 1/ 135.
(15) ساقطة من المخطوطة.
(16) في المخطوطة (اللفظ).
(17) ليست في المطبوعة.(3/500)
المثال الثاني: قوله تعالى: {وَمََا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنََا وَلَوْ كُنََّا صََادِقِينَ}
(يوسف: 17) قال (1): معناه: وما أنت مصدّق لنا، فيقال: ما الحكمة في العدول عن الجناس، وهلّا قيل: «وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين»، فإنّه يؤدي معنى الأول مع زيادة (2) رعاية التجنيس اللفظي؟
والجواب أن في «مؤمن لنا» من المعنى ما ليس في «مصدّق»، وذلك أنك إذا قلت:
«مصدّق لي» فمعناه. قال لي: صدقت، وأما «مؤمن» فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن، ومقصودهم التصديق وزيادة، وهو طلب الأمن فلهذا عدل إليه.
فتأمل هذه اللطائف الغريبة، والأسرار العجيبة فإنه نوع من الإعجاز!
فائدة
قال الخفاجي (3): «إذا دخل التجنيس نفي عدّ طباقا، كقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، لأن «الّذين لا يعلمون» هم الجاهلون، قال: وفي هذا يختلط (4) التجنيس بالطباق.
الطباق
3/ 455 هو أن يجمع بين متضادّين مع مراعاة التقابل، كالبياض، والسواد، والليل والنهار وهو قسمان: لفظيّ ومعنويّ كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} (التوبة:
82)، طابق بين الضحك والبكاء، والقليل والكثير.
ومثله: {لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ وَلََا تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ} (الحديد: 23).
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ََ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمََاتَ وَأَحْيََا}. (النجم: 4443).
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقََاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} (الكهف: 18).
{سَوََاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ}
(الرعد: 10).
__________
(1) في المخطوطة (فإن).
(2) في المخطوطة (وزيادة).
(3) هو عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي تقدم التعريف به في 1/ 153.
(4) في المخطوطة (تخليط).(3/501)
وقوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشََاءُ} (آل عمران:
26) الآية.
{وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ} (فاطر: 19إلى 22).
ثم إذا شرط فيهما (1) شرط وجب أن يشترط في ضدّيهما ضدّ ذلك الشرط، كقوله تعالى: {فَأَمََّا مَنْ أَعْطى ََ وَاتَّقى ََ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ََ} (الليل: 65) 3/ 456الآية، لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والتقى والتصديق، وجعل ضدّه وهو التعسير مشتركا بين أضداد تلك الأمور، وهي المنع والاستغناء والتكذيب.
ومنه: {فِي جَنَّةٍ عََالِيَةٍ * قُطُوفُهََا دََانِيَةٌ} (الحاقة: 2322)، قابل بين العلوّ والدنو.
وقوله: {فِيهََا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوََابٌ مَوْضُوعَةٌ} (الغاشية: 1413).
وقوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}
(القصص: 73)، فذكر الليل والنهار وهما ضدّان، ثم قابلهما بضدّين وهما الحركة والسكون، على الترتيب، ثم عبّر عن الحركة بلفظ «الإرداف» فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن زائدا على المبالغة، وعدل عن لفظ الحركة إلى لفظ «ابتغاء الفضل» لكون الحركة تكون للمصلحة دون المفسدة وهي تسير (2) إلى الإعانة بالقوة وحسن الاختيار الدالّ على رجاحة العقل، وسلامة الحسّ، وإضافة الظرف (3) إلى [تلك] (4) الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرّك (5) إلى بلوغ المأرب.
* * * ومن الطباق المعنويّ قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا تَكْذِبُونَ * قََالُوا رَبُّنََا يَعْلَمُ إِنََّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 1615)، معناه: ربنا يعلم إنا لصادقون.
وقوله: {الَّذِي} [6] جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرََاشاً وَالسَّمََاءَ بِنََاءً (البقرة: 22)، قال أبو عليّ في
__________
(1) في المخطوطة (فيها).
(2) في المخطوطة (تشير).
(3) في المخطوطة (الطرف).
(4) ساقطة من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (التحرك).
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (هو الذي).(3/502)
«الحجة (1)»: لمّا كان البناء رفعا للمبنيّ قوبل بالفراش الذي هو على خلاف البناء، ومن ثمّ وقع البناء على ما فيه ارتفاع في نصيبه إن لم يكن مدرا.
* * * ومنه نوع (2) يسمى الطباق الخفيّ كقوله تعالى: {مِمََّا خَطِيئََاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نََاراً} 3/ 457 (نوح: 25)، لأن الغرق من صفات الماء، فكأنه جمع بين الماء [في النار] (3) والنار، قال ابن منقذ (4): وهي أخفى مطابقة في القرآن.
قلت: ومنه قوله تعالى: {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نََاراً} (يس: 80) فكأنه جمع بين الأخضر والأحمر، وهذا أيضا (5) فيه تدبيج بديعي.
ومنه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ} [245/ أ] {حَيََاةٌ} (البقرة: 179)، لأن [معنى] (6)
القصاص القتل، فصار القتل سبب الحياة.
قال ابن المعتز (7) وهذا من أملح الطباق وأخفاه.
وقوله تعالى في الزخرف: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} (الآية: 17) لأن «ظلّ» لا تستعمل (8) إلا نهارا، فإذا لمح مع ذكر السواد كأنه طباق يذكر البياض مع السواد.
__________
(1) كتاب الحجة لأبي علي الفارسي تقدم التعريف به في 1/ 488.
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (ومرفوع) بدل (ومنه نوع).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) تصحفت في المخطوطة إلى (ابن سعد)، وهو أسامة بن مرشد بن علي بن مقلّد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشّيزري من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر وعلمائهم وشجعانهم، ويلقب مؤيد الدولة ومجد الدين وله تصانيف حسان منها «لباب الآداب» و «البديع في نقد الشعر» و «الشيب والشباب» ت 584هـ (ياقوت، معجم الأدباء 5/ 188). وقد ذكر قوله السيوطي في الاتقان 3/ 285. النوع الثامن والخمسون في بديع القرآن.
(5) في المخطوطة (فيه أيضا).
(6) ساقطة من المخطوطة.
(7) هو عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد الهاشمي ولد سنة 247هـ كان أديبا بليغا شاعرا مخالطا للعلماء والأدباء أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وثعلب وغيرهما، وله من التصانيف «الزهر والرياض» و «الجوارح والصيد» و «مكاتبة الإخوان بالشعر» وغيرها ت 296هـ (ابن خلكان، وفيات الأعيان 3/ 76).
(8) في المخطوطة (يستعمل).(3/503)
وقوله (1): {وَيََا قَوْمِ مََا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجََاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النََّارِ} (غافر: 41).
3/ 458
المقابلة
وفيها مباحث:
الأول: في حقيقتها
وهي ذكر الشيء مع ما يوازيه (2) في بعض صفاته، ويخالفه في بعضها، وهي من باب «المفاعلة»، كالمقابلة والمضاربة، وهي قريبة من الطباق والفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن الطّباق لا يكون إلا بين الضدّين (3) غالبا، والمقابلة تكون لأكثر (4) من ذلك غالبا.
والثاني: لا يكون الطباق إلا بالأضداد، والمقابلة بالأضداد وغيرها ولهذا جعل ابن الأثير (5) الطّباق أحد أنواع المقابلة.
الثاني: في أنواعها
وهي ثلاثة: نظيريّ، ونقيضيّ، (6) [وخلافيّ. والخلافيّ أتمها في التشكيك، وألزمها بالتأويل، والنّقيضيّ] (6) ثانيها، والنظيريّ ثالثها.
وذكر الشيخ أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي القلعيّ (8): أن القرآن كلّه وارد عليها بظهور نكته الحكمية العلمية، من الكائنات والزمانيات والوسائط الروحانيات والأوائل الإلهيات حيث اتّحدت من حيث تعددت، واتصلت من حيث انفصلت وأنها قد ترد على
__________
(1) في المخطوطة (ومنه).
(2) تصحفت في المخطوطة إلى (زيه).
(3) في المخطوطة (ضدين).
(4) في المخطوطة (الأكثر).
(5) هو ابن الأثير الجزري صاحب المثل السائر تقدم التعريف به في 3/ 189.
(6) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(8) هو يوسف بن محمد بن يوسف التوزري أبو الفضل المعروف بابن النحوي كان فقيها يميل إلى الاجتهاد من أهل تلمسان أصله من توزر سكن سلجماسة، وله تصانيف، نظم «القصيدة المنفرجة» توفي بقلعة بني حماد سنة 513هـ (التنبكتي، نيل الابتهاج: 349) المطبوع على هامش الديباج.(3/504)
شكل المربع تارة، وشكل المسدس أخرى، وعلى شكل المثلث، إلى غير ذلك من التشكيلات 3/ 459 العجيبة، والترتيبات البديعة، ثم (1) أورد أمثلة من ذلك.
مثال [مقابلة النظيرين] (2)، مقابلة السّنة والنوم في قوله تعالى: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (البقرة: 255) لأنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة.
وقوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقََاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} (الكهف: 18)، وهذه هي مقابلة النقيضين أيضا، ثم السّنة والنوم بانفرادهما متقابلان في باب النظيرين ومجموعهما يقابلان النقيض الذي هو اليقظة.
ومثال مقابلة الخلافين، مقابلة الشرّ بالرشد في قوله تعالى: {وَأَنََّا لََا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرََادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} (الجن: 10)، فقابل الشرّ بالرشد وهما خلافيان، وضد الرشد الغيّ، وضد الشر الخير، والخير الذي يخرجه لفظ الشر ضمنا نظير الرشد قطعا، والغي الذي يخرجه لفظ الرشد ضمنا نظير الشر قطعا [فقد] (3) حصل من هذا الشكل أربعة ألفاظ: نطقان وضمنان فكان بهما رباعيّان.
وهذا الشكل الرباعي يقع في تفسيره على وجوه، فقد يرد وبعضه مفسّر، مثل ما ذكرناه، وقد يرد وكله مفسّر، كقوله تعالى: {فَلََا صَدَّقَ وَلََا صَلََّى * وَلََكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلََّى}
(القيامة: 3231) فقابل «صدّق» ب «كذّب» «وصلّى» الذي هو أقبل ب «تولّى».
قوله (4): {لََا يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً وَلََا تَأْثِيماً * إِلََّا قِيلًا سَلََاماً سَلََاماً} (الواقعة:
2625)، اللغو في الحيثية المنكرة والتأثيم في الحيثية الناكرة، واللّغو منشأ المنكر ومبدأ درجاته، والتأثيم منشأ التكبّر ومبدأ درجاته، فلا نكير إلا بعد منكر، ولا اعتقاد (5) إنكار إلا (6) بعد اعتقاد تأثيم، ومنشأ اللغو (7) في أول طرف (8) المكروهات وآخره في طرف المحظورات ومبدأ التأثيم.
__________
(1) في المخطوطة (إن).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) في المخطوطة (وكقوله).
(5) تكررت هذه العبارة في المخطوطة.
(6) عبارة المخطوطة (فكان لأبعد).
(7) في المخطوطة (اللغوي).
(8) في المخطوطة (طرق).(3/505)
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا وَيَسْفِكُ الدِّمََاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة: 30) فقابل الإفساد بالتسبيح والحمد، وسفك الدماء 3/ 460بالتقديس، فالتسبيح بالحمد إذن ينفي الفساد، والتقديس ينفي سفك الدماء، والتسبيح شريعة للإصلاح، والتقديس شريعة حقن الدماء، وشريعة التقديس أشرف من شريعة التسبيح فإن التسبيح بالحمد للإصلاح لا للفساد (1)، وسفك الدماء للتسبيح لا للتقديس وهذا شكل مربّع، من أرضيّ وهو الإفساد [245/ ب] وسفك الدماء، [وسمائي] (2) وهو التسبيح والتقديس، والأرضيّ ذو فصلين، والسمائيّ ذو فصلين، ووقع النفس من الطرفين المتوسطين فالطرفان الإفساد في الطرف الأول، والتقديس في الطرف الآخر، والوسطان آخر الأرض، وأول السماء، فالأول متشرف (3) على الآتي والآخر ملفت (4) إلى الماضي:
وكم في كتاب الله من كلّ موجز ... يدور على المعنى وعنه يماصع (5)
لقد جمع الاسم المحامد كلّها ... مقاسيمها مجموعة والمشايع
وهذا القدر الذي ذكره هذا الحبر مرمى (6) عظيم، يوصّل إلى أمور غير متجاسر عليها، كما في آية الكرسيّ وغيرها.
* * * وقسم بعضهم المقابلة إلى أربع:
أحدها: أن يأتي بكل واحد من المقدمات مع قرينة من الثواني، كقوله تعالى:
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبََاساً * وَجَعَلْنَا النَّهََارَ مَعََاشاً} (النبأ: 1110).
والثانية (7): أن يأتي بجميع [المقدمات مع قرينة] (8) الثواني مرتّبة من أولها، كما قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (القصص:
73).
__________
(1) في المخطوطة (الافساد).
(2) ساقطة من المخطوطة.
(3) في المخطوطة (مستشرف).
(4) في المخطوطة (ملتفت).
(5) المماصعة: المقاتلة والمجالدة (اللسان 8/ 338) مادة (مصع).
(6) في المخطوطة (مر من).
(7) في المخطوطة (والثاني).
(8) العبارة ليست في المطبوعة.(3/506)
وكذلك: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كََافِرٌ فَأُولََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (البقرة: 217).
الثالث: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مرتبة من آخرها، ويسمى ردّ 3/ 461 العجز على الصدر، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللََّهِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (آل عمران: 107106).
الرابع: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مختلطة غير مرتبة، ويسمى اللفّ (1) كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى ََ نَصْرُ اللََّهِ أَلََا إِنَّ نَصْرَ اللََّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214) فنسبة قوله: {مَتى ََ نَصْرُ اللََّهِ} (البقرة: 214) إلى قوله:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا}، كنسبة قوله: {يَقُولَ الرَّسُولُ} إلى: {أَلََا إِنَّ نَصْرَ اللََّهِ قَرِيبٌ}، لأن القولين المتباينين يصدران عن [مقامين] (2) متباينين.
وكما قال تعالى: {وَلََا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدََاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مََا عَلَيْكَ مِنْ حِسََابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمََا مِنْ حِسََابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظََّالِمِينَ}
(الأنعام: 52) فنسبة قوله: {وَلََا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدََاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
(الأنعام: 52) إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظََّالِمِينَ} (الأنعام: 52) كنسبة قوله: {مََا عَلَيْكَ مِنْ حِسََابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمََا مِنْ حِسََابِكَ عَلَيْهِمْ} (الأنعام: 52) إلى قوله:
{فَتَطْرُدَهُمْ} (الأنعام: 52) (3) فجمع المقدّمين التاليين بالالتفات (3).
* * * وجعل بعضهم من أقسام التقابل مقابلة الشيء بمثله وهو ضربان:
مقابل (5) في اللفظ دون المعنى، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنََا مَكْراً} [6]
(النمل: 50).
__________
(1) في المخطوطة (الكف).
(2) ساقطة من المطبوعة.
(3) عبارة المخطوطة (فجمع المقدمتين وجمع التاليين بالتفات).
(5) في المخطوطة (يقابل).
(6) الآية في المخطوطة {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ} (آل عمران: 54).(3/507)
3/ 462ومقابل في المعنى دون اللفظ، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمََا أَضِلُّ عَلى ََ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمََا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} (سبأ: 50) فإنه لو كان التقابل هنا من جهة اللفظ، لكان التقدير: «وإن اهتديت، فإنما اهتديت لها».
وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى، أنّ النفس كلّ ما هو عليها لها، فهو (1) أعني أن كلّ ما هو وبال عليها وصار لها فهو بسببها ومنها لأنها أمّارة بالسوء، وكلّ ما هو مما ينفعها فبهداية (2) ربها وتوفيقه إياها، وهذا حكم لكلّ مكلف، وإنما [أمر] (3) رسول (4) الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسند إلى نفسه، لأنه إذا دخل تحته (5) مع علو محلّه كان غيره أولى به.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنََّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهََارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النمل: 86)، فإنه لم يدع التقابل [246/ أ] في قوله:
{لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ [النَّهََارَ]} [6] مُبْصِراً، لأن القياس يقتضي أن يكون «والنهار لتبصروا فيه»، وإنما هو مراعى من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، لأنّ [معنى] (6) «مبصرا» تبصرون فيه طرق التقلب في الحاجات.
* * * واعلم أنّ في تقابل المعاني بابا عظيما يحتاج إلى فضل تأمّل، وهو يتصل غالبا بالفواصل، كقوله تعالى: {إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * [أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ]} [8] (البقرة: 1211) إلى قوله {لََا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 12).
(9) [وقوله: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ} (البقرة: 13) إلى قوله: {لََا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 13).
فانظر فاصلة الثانية {يَعْلَمُونَ} والتي قبلها {يَشْعُرُونَ}] (9) لأن أمر الديانة والوقوف
__________
(1) عبارة المخطوطة (فهو لها).
(2) في المخطوطة (فهداية).
(3) ساقطة من المخطوطة.
(4) في المخطوطة (الرسول).
(5) في المخطوطة (معه).
(6) ليست في المخطوطة.
(8) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(9) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.(3/508)
على أن المؤمنين: يجتمعون وهم مطيعون يحتاج إلى نظر واستدلال، حتى يكسب الناظر المعرفة والعلم وإنما النفاق وما فيه من الفتنة والفساد أمر دنيوي مبنيّ على العادات معلوم 3/ 463 عند الناس، فلذلك قال فيه {يَعْلَمُونَ}.
وأيضا فإنّه لما ذكر السّفه في الآية الأخرى (1) وهو جهل كان ذكر العلم طباقا وعلى هذا تجيء فواصل القرآن، وقد سبق في بابه.
* * * ومن المقابلة قوله تعالى: {الشَّيْطََانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشََاءِ وَاللََّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} (البقرة: 268)، فتقدم اقتران الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء، ثم قوبل بشيء واحد وهو الوعد، فأوهم الإخلال بالثاني، وليس كذلك وإنما لما كان الفضل مقابلا للفقر، والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء لأن الفحشاء توجب العقوبة، والمغفرة تقابل العقوبة، استغني بذكر المقابل عن ذكر مقابله، لأن ذكر أحدهما ملزوم ذكر الآخر.
تقسيم
3/ 464 من مقابلة اثنين باثنين: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} (التوبة: 82).
ومن مقابلة أربعة بأربعة: {فَأَمََّا مَنْ أَعْطى ََ وَاتَّقى ََ} (الليل: 5إلى 10) الآية.
ومن مقابلة خمس بخمس قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا} (البقرة: 26)، للدلالة على الحقير والكبير (2) وهو من الطباق الخفيّ، الثاني:
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}، الثالث: {يُضِلُّ [بِهِ كَثِيراً]} [3] وَيَهْدِي بِهِ [كَثِيراً] (3)، والرابع {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ} (البقرة: 27)، الخامس {يَقْطَعُونَ} و {أَنْ يُوصَلَ}.
ومن مقابلة ست (5) [بستّ] (6): قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنََاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعََامِ وَالْحَرْثِ ذََلِكَ مَتََاعُ}
__________
(1) وهي قوله تعالى {قََالُوا أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ} (البقرة: 13).
(2) في المخطوطة (الكثير).
(3) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (ستة).
(6) ساقطة من المخطوطة.(3/509)
{الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} (آل عمران: 14)، ثم قال تعالى: {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذََلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا 3/ 465عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَأَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوََانٌ مِنَ اللََّهِ} (آل عمران: 15)، قابل الجنات والأنهار والخلد والأزواج والتطهير والرضوان بإزاء النساء (1) [والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ومن الحكمة العظيمة أن بدأ بذكر النساء] (1) في الدنيا، وختم بالحرث، وهما طرفان متشابهان، وفيهما الشهوة والانعاش (3) الدنياويّ، وأخّر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخرويّ، وختم بالرضوان.
فائدة
قد يجيء نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر وإذا تؤمل (4) كان من أكمل المقابلات ولذلك أمثلة:
منها قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلََّا تَجُوعَ فِيهََا وَلََا تَعْرى ََ * وَأَنَّكَ لََا تَظْمَؤُا فِيهََا وَلََا تَضْحى ََ} [5] (طه: 119118) فقابل الجوع بالعري والظمأ بالضّحى والواقف مع الظاهر ربّما يحيل أنّ الجوع يقابل بالظمأ، والعري بالضّحى.
والمدقّق يرى هذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة لأن الجوع ألم الباطن (6) والضّحى موجب لحرارة الظاهر، فاقتضت الآية نفي جميع (7) الآفات ظاهرا وباطنا وقابل الخلو بالخلوّ، والاحتراق بالاحتراق. وهاهنا موضع الحكاية المشهورة بين المتنبي وسيف الدولة (8) لما أنشده:
وقفت وما في [الموت] (9) شكّ لواقف ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
3/ 466 [246/ ب] ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ}
__________
(1) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(3) في المطبوعة (والمعاش).
(4) في المخطوطة (تأمل).
(5) قال الفراء في معاني القرآن 2/ 194: «ولا تضحى» لا تصيبك شمس مؤذية، وذكر في بعض التفسير لا تعرق والأول أشبه بالصواب». انتهى.
(6) في المخطوطة (في الباطن).
(7) عبارة المطبوعة (جميع نفي).
(8) الحكاية بتمامها في التبيان في شرح الديوان للعكبري 3/ 386.
(9) ساقطة من المخطوطة.(3/510)
(هود: 24) فإنه [قد] (1) يتبادر فيه سؤال وهو أنه لم لا قيل: «مثل الفريقين كالأعمى والبصير، والأصم والسميع»، لتكون (2) المقابلة في لفظ «الأعمى» وضده بالبصير، وفي لفظ «الأصم» وضده السميع.
والجواب أنه يقال: لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، وبضدّ (3) ذلك لما ذكر انفتاح البصر أعقبه (4) بانفتاح السمع فما تضمّنته الآية الكريمة هو الأنسب في المقابلة والأتمّ في الإعجاز.
رد العجز على الصدر [وعكسه] (5)
3/ 467 {خُلِقَ الْإِنْسََانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيََاتِي فَلََا تَسْتَعْجِلُونِ} (الأنبياء: 37).
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مََا دُمْتُمْ حُرُماً} (المائدة: 96).
العكس
وهو أن يقدّم في الكلام جزء ثم يؤخر، كقوله تعالى: {لََا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلََا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (الممتحنة: 10) وقدره الزّمخشري (6)، «أي لاحلّ بين المؤمن والمشرك، والآية صرّحت بنفي الحلّ من الجهتين، فقد يستدلّ بها من قال: إن الكفار مخاطبون بالفروع.
ومثله (7) قوله تعالى: {وَطَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعََامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}
(المائدة: 5) أي ذبائحكم، وهذه رخصة للمسلمين.
إلجام الخصم بالحجة
3/ 468 وهو الاحتجاج على المعنى المقصود بحجة (8) عقلية، تقطع المعاند له فيه. والعجب
__________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(2) في المخطوطة (فتكون).
(3) في المخطوطة (ويصد).
(4) في المخطوطة (عقبه).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) الكشاف 4/ 88.
(7) في المخطوطة (ومنه).
(8) في المخطوطة (الحجة).(3/511)
من ابن المعتز (1) في «بديعه»، حيث أنكر وجود هذا النوع في القرآن، وهو من أساليبه.
ومنه قوله تعالى: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} (الأنبياء: 22) ثم قال النحاة: إنّ الثاني امتنع لأجل امتناع الأول، وخالفهم ابن الحاجب (2) وقال: الممتنع الأول لأجل [امتناع] (3) الثاني فالتعدّد منتف لأجل امتناع الفساد.
وقوله {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 79).
وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [4] [بَلى ََ وَهُوَ الْخَلََّاقُ الْعَلِيمُ] (4) (يس: 81).
وقوله حكاية عن الخليل: {وَحََاجَّهُ قَوْمُهُ} (الأنعام: 80) إلى قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنََا آتَيْنََاهََا إِبْرََاهِيمَ عَلى ََ قَوْمِهِ} (الأنعام: 83).
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم: 27) المعنى أنّ الأهون أدخل في الإمكان من غيره وقد أمكن هو، فالإعادة أدخل في الإمكان من بدء الخلق.
وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ [وَلَعَلََا]} [6] (المؤمنون: 91) الآية، وهذه حجة عقلية، تقديرها أنه لو كان خالقان (7) لاستبدّ كل منهما بخلقه، فكان الذي يقدر عليه أحدهما لا يقدر عليه الآخر، ويؤدّي 3/ 469إلى تناهي مقدوراتهما (8) وذلك يبطل الإلهية، فوجب أن يكون الإله واحدا ثم زاد في
__________
(1) تقدم التعريف به في 3/ 503وكتابه «البديع» طبع بتحقيق اغناطيوس ترانشكوفسكي بلندن لوزاك عام 1354هـ / 1935م، وأعاد نشره مجمع العلوم الروسي بلننغراد ضمن مجموعة آثار كرانشوفسكي المجلد السادس عام 1380هـ / 1960م وأعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد عام 1387هـ / 1967م، وطبع بتحقيق محمد عبد المنعم خفاجي بالقاهرة بمطبعة مصطفى البابي الحلبي عام 1364هـ / 1945م، وطبع بدار الحكمة بدمشق (ذخائر التراث العربي 1/ 243).
(2) هو أبو عمرو عثمان بن عمر تقدم التعريف به في 1/ 466.
(3) ساقطة من المطبوعة.
(4) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.
(6) ليست في المطبوعة.
(7) في المخطوطة (كانا خالقين).
(8) في المخطوطة (مقدوريهما).(3/512)
الحجاج فقال: {وَلَعَلََا بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ} (المؤمنون: 91)، أي ولغلب بعضهم بعضا في المراد، ولو (1) أراد أحدهما إحياء جسم والآخر إماتته لم يصحّ ارتفاع مرادهما لأن رفع النقيضين محال، ولا وقوعهما للتضادّ، فنفى وقوع أحدها دون الآخر وهو المغلوب (2) وهذه تسمى دلالة التمانع، وهي كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: {إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ََ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (الإسراء: 42).
وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ} (الأنفال: 23).
وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخََالِقُونَ} (الواقعة: 5958) فبيّن أنّا لم نخلق المنيّ (3) لتعذّره علينا، فوجب أن يكون الخالق غيرنا.
* * * ومنه نوع منطقيّ وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين، وذلك من أول سورة الحج إلى قوله: {وَأَنَّ اللََّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الآية: 7)، فنطق على خمس نتائج من عشر مقدمات فالمقدمات من أول السورة [إلى قوله] (4): {وَأَنْبَتَتْ} [5] مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (الحج: 5)، والنتائج من قوله: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْحَقُّ} (الحج: 6) إلى قوله: {وَأَنَّ اللََّهَ يَبْعَثُ} [247/ أ] {مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الحج: 7).
وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقول: أخبر الله أنّ زلزلة الساعة شيء عظيم، وخبره هو الحق، ومن أخبر عن الغيب بالحق فهو حق بأنه هو الحق، وأنه يأتي بالساعة على 3/ 470 تلك الصفات ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى ليدركوا ذلك، ومن يأتي بالساعة يحيي الموتى فهو يحيي الموتى. وأخبر أنه يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب، ولا يقدر على عموم الناس لشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير فإنه على كل شيء قدير. وأخبر أنّ الساعة يجازى فيها من يجادل في الله بغير علم، ولا بدّ من مجازاته، ولا يجازى حتى تكون الساعة آتية، ولا تأتي الساعة حتى يبعث من [في] (6) القبور، فهو يبعث
__________
(1) في المخطوطة (لم).
(2) في المخطوطة زيادة عبارة وهي (والمغلوب ليس ماله).
(3) في المخطوطة (المعنى) تصحيف.
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (وأنبتنا) وعليه تكون الآية (7) من سورة (ق).
(6) ساقطة من المخطوطة.(3/513)
من في القبور. والله (1) ينزّل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من القبور.
ومنه قوله (2) تعالى: {وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ} (ص: 26) مقدّمتان ونتيجة، لأن اتباع الهوى يوجب (3)
الضلال، والضلال يوجب سوء العذاب فأنتج أنّ اتباع الهوى يوجب سوء العذاب.
وقوله: {فَلَمََّا أَفَلَ قََالَ لََا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: 76)، أي القمر أفل، وربي فليس بآفل، فالقمر ليس بربّي، أثبته بقياس اقتراني جليّ من الشكل الثاني، واحتج بالتعبير على الحدوث، والحدوث (4) على المحدث.
3/ 471
التقسيم
وليس المراد به القسمة العقلية التي يتكلم عليها المتكلم لأنها قد تقتضي أشياء مستحيلة كقولهم: الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة، أو لا مفترقة ولا مجتمعة، أو مجتمعة ومفترقة معا، أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق، فإن هذه القسمة صحيحة عقلا، لكن بعضها يستحيل وجوده (5) [فإن الشيء لا يكون مجتمعا متفرقا في حالة واحدة وإنما المراد هنا بالتقسيم ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده] (5)، وهو استيفاء المتكلّم أقسام الشيء بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ} [7] وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ بِإِذْنِ اللََّهِ (فاطر: 32) فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الأقسام الثلاثة (7) إما [عاص] (9) ظالم نفسه، وإما [سابق] (10) مبادر إلى الخيرات، وإما مقتصد فيها، وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها.
__________
(1) في المخطوطة (وأن الله).
(2) في المخطوطة (ومنه).
(3) في المخطوطة (بعض).
(4) في المخطوطة (وبالحدوث).
(5) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(7) تكرار في المخطوطة.
(9) ساقط من المطبوعة.
(10) ساقطة من المخطوطة.(3/514)
ومثله قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوََاجاً ثَلََاثَةً * فَأَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسََّابِقُونَ السََّابِقُونَ} (الواقعة: 7إلى 10)، وهذه الآية مماثلة في المعنى للتي قبلها، وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون، والسابقون هم السابقون بالخيرات.
كذلك (1) قوله تعالى: {لَهُ مََا بَيْنَ أَيْدِينََا وَمََا خَلْفَنََا} (مريم: 64) الآية، فاستوفى أقسام الزمان ولا رابع لها.
وقوله: {وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ} (النور: 45) إلى قوله: {مََا يَشََاءُ} (النور: 45)، وهو في القرآن كثير، وخصوصا في سورة براءة.
ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} (الرعد: 12)، وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهما.
وقوله: {فَسُبْحََانَ اللََّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *} [2] [وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمََاوََاتِ 3/ 472 وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ] (2) (الروم: 1817)، فاستوفت أقسام الأوقات، من طرفي كل يوم ووسطه مع المطابقة والمقابلة.
وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللََّهَ قِيََاماً وَقُعُوداً وَعَلى ََ جُنُوبِهِمْ} (آل عمران: 191)، فلم بترك سبحانه قسما من أقسام الهيئات.
ومثله آية يونس: {وَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ الضُّرُّ دَعََانََا لِجَنْبِهِ أَوْ قََاعِداً} [247/ ب] {أَوْ قََائِماً}
(الآية: 12).
لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها المبالغة، وذلك أنّ المراد بالذّكر في الأولى الصلاة فيجب فيها تقديم (4) [القيام عند العجز [عن] (5) القعود ثم عند الاضطجاع وهذه بخلاف الضر فإنه يجب فيه تقديم] (4) الاضطجاع، وإذا زال بعض الضرّ قعد المضطجع، وإذا زال كل الضرّ قام القاعد، فدعا لتتم الصحة، وتكمل القوّة.
__________
(1) في المخطوطة (وكذلك).
(2) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة وكتب موضعها (الآية).
(4) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(5) زيادة يقتضيها السياق.(3/515)
فإن قلت: هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو عاطفة، فإنها تحصل في الكلام حسن اتّساق، وائتلاف الألفاظ مع المعاني، وقد عدل عنها إلى «أو» التي سقط معها ذلك.
قلت: يأتي التضرّع على أقسام، فإنّ منه ما يتضرّع المضرور عند وروده، ومنه ما يقعده (1)، ومنه ما يأتي وصاحبه قائم لا يبلغ به شيئا، والدعاء عنده أولى من التضرّع (2)، فإن الصّبر والجزع عند الصدمة الأولى، فوجب العدول عن الواو، لتوخّي (3) الصدق في الخبر، والكلام [مع ذلك موصوف] (4) بالائتلاف (5)، ويحصل (6) النّسق، والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص [واحد] (7)، وبالثاني عن أشخاص فغلّب الكثرة، فوجب الإتيان ب «أو» وابتدئ بالشخص الذي تضرع لأن خبره (8) أشدّ فهو أشدّ تضرعا، فوجب تقديم ذكره، ثم القاعد ثم القائم، فحصل حسن الترتيب وائتلاف الألفاظ ومعانيها.
3/ 473وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشََاءُ عَقِيماً} (الشورى: 5049)، قسّم سبحانه حال الزّوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود، لأنه سبحانه إمّا أن يفرد العبد بهبة الإناث، أو بهبة الذكور، أو يجمعهما له، أو لا يهب شيئا، وقد جاءت الأقسام في هذه الآية (9) لينتقل منها إلى أعلى منها، (10) [وهي هبة الذكور فيه، ثم انتقل إلى أعلى منها] (10) وهي وهبتهما جميعا (12)، وجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة، وأفرد معنى الحرمان بالتأخير، وقال فيه {يَجْعَلُ} فعدل عن لفظ الهبة للتغاير بين المعاني، كقوله [تعالى] (13): {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزََّارِعُونَ * لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََاهُ حُطََاماً} (الواقعة: 63إلى 65)، فذكر امتداد (14) إنمائه (15)
بلفظ الزرع، ومعنى الحرمان بلفظ الجعل.
__________
(1) في المخطوطة (يقصده).
(2) في المخطوطة (الصبر).
(3) في المخطوطة (ولتوخي).
(4) العبارة ساقطة من المطبوعة.
(5) في المخطوطة (بائتلاف).
(6) في المخطوطة (يحصل).
(7) ساقطة من المخطوطة.
(8) في المخطوطة (خيره).
(9) في المخطوطة (الآيات).
(10) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(12) في المخطوطة (هبتها جمعا).
(13) ليست في المطبوعة.
(14) في المخطوطة (الاعتداد).
(15) اضطربت في المخطوطة.(3/516)
وقيل: إنما بدأ سبحانه بالإناث لوجوه غير ما سبق.
أحدها: جبرا لهنّ، لأجل (1) استثقال الأبوين لمكانهنّ (2).
الثاني: أنّ سياق الكلام أنّه فاعل (3) لما يشاء، لا (4) ما يشاء الأبوان، فإن الأبوين لا يريدان [إلا] (5) الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان غالبا (6).
الثالث: أنّه قدم ذكر ما كانت تؤخره (7) الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدونهن (8)، أي هذا النوع الحقير عندكم مقدّم عندي في الذّكر.
الرابع: قدّمهنّ لضعفهنّ، وعند العجز والضعف (9) تكون العناية أتم.
وقيل: لينقله من الغمّ إلى الفرج (10).
وتأمّل كيف عرّف سبحانه الذكور بعد تنكير، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص المتأخر (11) بالتعريف، فإنّ التعريف تنويه.
وهذا أحسن مما ذكره الواحدي (12) أنه عرّف الذكور لأجل الفاصلة. 3/ 474
ولمّا ذكر الصنفين معا قدّم الذكور، فأعطى لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير.
والله أعلم بما أراد.
بقي سؤال آخر وهو أنه عطف الثاني والرابع بالواو، والثالث ب «أو» ولعلّه، لأنّ هبة كلّ من الإناث والذكور (13) قد لا يقترن بها، فكأنه وهب لهذا الصنف وحده أو مع غيره فلذلك (14) [تعينت] (15) «أو» فتأمل لطائف القرآن وبدائعه!
__________
(1) في المخطوطة (لأن أصل).
(2) في المخطوطة (مكانهن).
(3) زيادة كلمة (على) بعد (أنه) في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (إلا).
(5) ساقطة من المخطوطة.
(6) زيادة عبارة (في القدرة) بعد (غالبا) في المخطوطة.
(7) في المخطوطة (كان يؤخره).
(8) تصحفت في المطبوعة إلى (يئدوهن).
(9) في المخطوطة (لضعف).
(10) في المخطوطة (فرج).
(11) في المخطوطة (التأخير).
(12) هو علي بن أحمد الواحدي تقدم التعريف به في 1/ 105.
(13) في المخطوطة (أو الذكور).
(14) في المخطوطة (فكذلك).
(15) ساقطة من المخطوطة.(3/517)
ومن هذا التقسيم أخذ بعض العلماء أن الخنثى لا وجود له لأنه ليس واحدا من المذكورين [248/ أ]، ولا حجّة فيه، لأنه مقام امتنان والمنة بغير الخنثى أحسن وأعظم. أو لأنه باعتبار ما في نفس الأمر والخنثى لا يخرج عن أحدهما.
3/ 475
التعديد (1)
هي إيقاع الألفاظ المبدّدة على سياق واحد وأكثر ما يؤخذ في الصفات ومقتضاها ألّا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها، ولجريها (2) مجرى الوصف في الصدق (3) على ما صدق ولذلك يقلّ عطف بعض صفات الله [تعالى] (4) على بعض في التنزيل، وذلك كقوله (5): {اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: 255).
وقوله: {الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ} (الحشر: 24).
وقوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلََامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبََّارُ} (الحشر: 23).
وإنما عطف قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} (الحديد: 3) لأنها أسماء متضادّة المعاني في موضوعها (6)، فوقع الوهم بالعطف عمن يستبعد ذلك في ذات واحدة لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهرا باطنا من وجه [واحد] (7)، وكان العطف فيه أحسن. ولذلك عطف «الناهون» على «الآمرون»، «وأبكارا» على «ثيّبات» من قوله:
{التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ الْحََامِدُونَ السََّائِحُونَ الرََّاكِعُونَ السََّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنََّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحََافِظُونَ لِحُدُودِ اللََّهِ} (التوبة: 112).
وقوله: {أَزْوََاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمََاتٍ مُؤْمِنََاتٍ قََانِتََاتٍ تََائِبََاتٍ عََابِدََاتٍ سََائِحََاتٍ ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً} (التحريم: 5)، فجاء العطف لأنه لا يمكن اجتماعهما (8) في محل واحد بخلاف ما قبله.
وقوله: {غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ ذِي الطَّوْلِ} (غافر: 3)، إنما 3/ 476عطف فيه بعضا ولم يعطف بعضا، لأن «غافرا» و «قابلا» يشعران بحدوث المغفرة والقبول، وهما من صفات الأفعال وفعله في غيره لا في نفسه، فدخل العطف للمغايرة لتنزلهما منزلة
__________
(1) في المخطوطة (التعدية).
(2) في المطبوعة (ويجريها).
(3) في المخطوطة (الصدف).
(4) ليست في المطبوعة.
(5) في المخطوطة (وكذلك قوله).
(6) في المخطوطة (موضعها).
(7) ساقط من المطبوعة.
(8) في المخطوطة (اجتماعها).(3/518)
الجملتين، تنبيها على أنه سبحانه يفعل هذا ويفعل هذا، وأما شديد العقاب فصفة مشبّهة، وهي تشعر بالدوام والاستمرار فتدلّ على القوة، ويشبه ذلك صفات الذات.
وقوله: {ذِي الطَّوْلِ} (غافر: 3)، المراد به ذاته، فترك العطف لاتّحاد المعنى.
وقد جاء قليلا في غير الصفات، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمََاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ} (الأحزاب: 35) الآية، قال الزمخشريّ (1): العطف الأول كقوله:
{ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً}، في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بدّ من توسيط العاطف بينهما، وأمّا العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع فكان معناه: أن الجامعين والجامعات لهذه (2) الصفات أعدّ لهم مغفرة انتهى.
وقال بعضهم: الصفات المتعاطفة (3) إن علم أن موصوفها واحد من كل وجه، كقوله:
{غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ} (غافر: 3)، فإن الموصوف «الله»، وإما في النوع كقوله:
{ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً} (التحريم: 5) فإن الموصوف الأزواج، وقوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنََّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (التوبة: 112) فإن الموصوف النوع الجامع للصفات المتقدّمة.
وإن لم يعلم أن موصوفها واحد من جهة وضع اللفظ. فإن دلّ دليل على أنه من عطف الصفات اتبع كهذه الآية، فإنّ هذه الأعداد لمن جمع الطاعات العشر، لا لمن انفرد بواحدة (4) منها إذ الإسلام والإيمان كلّ منهما شرطه في الآخر، وكلاهما شرط في حصول الأجر على البواقي، ومن (5) كان مسلما مؤمنا فله (6) أجره، ولكن ليس هذا الأجر العظيم الذي أعده الله في هذه الآية الكريمة، وقرن (7) به إعداد المغفرة زائدا على المغفرة فلخصوص (8) هذه الآية 3/ 477 جعل الزمخشريّ ذلك من عطف الصفات، والموصوف واحد فلو لم يكن كذلك واحتمل تقدير موصوف [248/ أ] مع كل صفة وعدمه حمل على التقدير فإن ظاهر العطف التغاير.
ولا يقال: الأصل عدم التقدير لأن الظاهر يقدم على رعاية ذلك الأصل.
ومثاله قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ وَالْمَسََاكِينِ} (التوبة: 60) الآية، ولو كان من عطف الصفات لم يستحقّ الصدقة إلا من جميع الصفات الثمان، ولذلك إذا وقف على الفقهاء والنحاة والفقراء استحق من فيه إحدى الصفات.
__________
(1) الكشاف 3/ 236.
(2) في المخطوطة (من).
(3) في المخطوطة (العاطفة).
(4) في المخطوطة (بواحد).
(5) في المخطوطة (ومتى).
(6) في المخطوطة (له).
(7) في المخطوطة (وقرر).
(8) اضطربت في المخطوطة.(3/519)
الجزء الرابع
تتمة المقابلة
تتمة اقسام المقابلة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقابلة الجمع بالجمع (1)
تارة يقتضي مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا، كقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرََاتِ} (المائدة: 48) {وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ} (البقرة: 43) {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ} (البقرة: 238) فإن الصلاة والزكاة في معنى الجمع، فيقتضي اللفظ ضرورة أنّ كل واحد مأمور بجميع الصلوات (2) وبالاستباق إلى كلّ خير (2)، كما يقال: لبس القوم ثيابهم، وركبوا دوابّهم.
وقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} (يوسف: 31) أي لكل واحدة منهنّ. وقوله:
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مََا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} (فاطر: 37) لأنه لا يجوز أن يتذكّر جميع المخاطبين بهذا القول في مدة وعمر واحد.
وقوله: {إِنَّهََا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} (المرسلات: 32) أي كل واحدة من هذا الشرر كالقصر، والقصر: البيت من أدم، كان يضرب على الماء إذا نزلوا به، ولا يجوز أن يكون الشرر كله كقصر واحد لأنه مناف للوعيد، فإنّ المعنى تعظيم الشرر أي كلّ واحد من هذا الشرر كالقصر، ويؤكده قوله بعده: {كَأَنَّهُ جِمََالَتٌ صُفْرٌ} (المرسلات: 33) فشبّه بالجماعة، أي فكل واحدة من هذا الشرر كالجمل فجماعته، إذ الجمالات الصّفر كذلك الأول كلّ شررة منه كالقصر قاله ابن جنّي (4).
وقوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيََابَهُمْ} (نوح: 7). وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ} 4/ 4
__________
(1) هذا الفن تابع للنوع السادس والأربعين: في أساليب القرآن وفنونه البليغة، وهو أوسع أنواع الكتاب وأوله في 2/ 480.
(2) عبارة المخطوطة (وبسياق كل خير).
(4) انظر «الخصائص» 3/ 326باب في جمع الأشباه حيث ذكر قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}.(4/5)
{رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285) فإنّ كلّ واحد من المؤمنين آمن بكلّ واحد من الملائكة والكتب والرسل. وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ} (النساء: 23) الآية فإنه لم يحرّم على كلّ واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين، وإنما حرم على كلّ واحد أمّه وبنته.
وكذلك قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ [مََا تَرَكَ أَزْوََاجُكُمْ} [1] (النساء: 12) فإنه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء وإنما لكلّ واحد نصف ما تركت زوجته (2) فقط.
وكذا قوله: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ} (النساء: 11).
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [3] [بِإِيمََانٍ أَلْحَقْنََا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ] (4) (الطور:
21) إنما معناه أتبع كلّ واحد ذريته، وليس معناه أنّ كل واحد (4) [من الذرية اتبع كلّ واحد من الآباء. وقوله: {وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ} (البقرة: 233) أي كلّ واحدة] (4) ترضع ولدها.
وكقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التوبة: 5) فإنّ مقابلة الجمع أفادت المكنة لكلّ واحد من المسلمين قتل من وجد من المشركين. وقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ}
(النور: 24).
وأما قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرََافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6) فذكر {الْمَرََافِقِ} بلفظ الجمع، و {الْكَعْبَيْنِ}
4/ 5بلفظ التثنية لأنّ مقابلة الجمع [بالجمع] (7) تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد ولكلّ يد مرفق، فصحّت المقابلة. ولو قيل «إلى الكعاب» فهم منه أنّ الواجب (8) فإن لكلّ رجل كعبا واحدا، فذكر الكعبين بلفظ التثنية، ليتناول الكعبين من كلّ رجل (فإن قيل): فعلى هذا يلزم ألّا يجب إلا غسل يد واحدة ورجل واحدة؟ (قلنا): صدّنا عنه [فعل] (9) النبيّ صلّى الله عليه وسلّم [والإجماع] (9).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (زوجته).
(3) الآية في المخطوطة وأتبعناهم ذرياتهم وهي قراءة أبي عمرو (إتحاف فضلاء البشر ص 400).
(4) ليست في المخطوطة.
(7) ليست في المطبوعة.
(8) بياض في المخطوطة والمطبوعة مقدار ثلاث كلمات.
(9) ليست في المخطوطة.(4/6)
وتارة يقتضي مقابلة ثبوت الجمع لكلّ واحد من آحاد المحكوم عليه، كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً} (النور: 4). وجعل منه الشيخ عز الدين: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ]} [1] (البقرة: 25).
وتارة يحتمل الأمرين فيفتقر ذلك إلى دليل يعيّن أحدهما.
أمّا مقابلة الجمع بالمفرد، فالغالب أنّه [249/ أ] لا يقتضي تعميم المفرد، وقد يقتضيه بحسب عموم الجمع المقابل [له] (1)، كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعََامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184) [المعنى كلّ واحد لكلّ يوم طعام مسكين] (1). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدََاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً}
(النور: 4) إنما هو على كلّ واحد منهم ذلك.
قاعدة 4/ 6 فيما ورد في القرآن مجموعا ومفردا، والحكم (4) في ذلك
[فمنه] (5) أنه حيث ورد ذكر «الأرض» في القرآن فإنها مفردة، كقوله تعالى:
{خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) وحكمته أنها بمنزلة السّفل والتحت، ولكن وصف بها هذا المكان المحسوس، فجرت مجرى امرأة زور وضيف فلا معنى لجمعهما كما لا يجمع الفوق والتحت، والعلوّ والسّفل فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعيّن قطعة محدودة منها خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلوّ، فجاز أن تثنّى إذا ضممت إليها جزءا آخر.
ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «طوّقه من سبع أرضين» (6) فجمعها لمّا اعتمد [الكلام] (7) على ذات
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (والحكمة).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) الحديث متفق عليه من رواية سعيد بن زيد رضي الله، أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 293كتاب بدء الخلق (59)، باب ما جاء في سبع أرضين (2)، الحديث (3198)، ومسلم في الصحيح 3/ 1231 كتاب المساقاة (22)، باب تحريم الظلم وغصب الأرض (30)، الحديث (140/ 1610) وتمامه: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنّه يطوّقه من سبع أرضين».
(7) ليست في المخطوطة.(4/7)
الأرض، وأثبتها على التفصيل والتعيين لآحادها (1)، دون الوصف بكونها تحت أو سفل في مقابلة علوّ، وأما جمع السموات، فإنّ المقصود بها ذاتها دون معنى الوصف، فلهذا (2) [جمعت] (2) جمع سلامة لأن العدد قليل، وجمع القليل أولى به، بخلاف الأرض فإن المقصود بها معنى التحت والسّفل، دون الذات والعدد.
وحيث أريد بها الذات والعدد أتي بلفظ يدلّ على التعدد، كقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) وأيضا فإنّ الأرض لا نسبة إليها إلى السموات وسعتها، بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء، (2) [فهي وإن تعددت، كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس. وأيضا فالأرض هي دار الدنيا التي بالنسبة] (2) إلى الآخرة، كما يدخل الإنسان إصبعه في اليمّ، فما يعلّق بها هو مثال الدنيا والله تعالى لم يذكر الدّنيا إلا مقلّلا لها.
4/ 7وأما «السموات» فليست من الدنيا على أحد القولين، فإذا (6) أريد الوصف الشامل للسماوات وهو معنى العلوّ والفوق أفردته كالأرض بدليل قوله تعالى: (7) [{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمََاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (الملك: 16) {أَمْ]} [7] أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمََاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حََاصِباً (الملك: 17) فأفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل وليس المراد سماء معيّنة.
وكذا قوله: {وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ}
(يونس: 61) بخلاف قوله في سبأ: {عََالِمِ الْغَيْبِ لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ} (الآية: 3) فإنّ قبلها ذكر الله سبحانه سعة علمه (9)، وأنّ له ما في السموات وما في الأرض، فاقتضى السياق أن يذكر سعة (10) علمه، وتعلّقه بمعلومات ملكه وهو السموات كلّها والأرض. ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها (11) إرادة للجنس.
__________
(1) في المخطوطة (لأحدها).
(2) ليست في المخطوطة.
(6) في المخطوطة (فأما إذا).
(7) ليست في المخطوطة.
(9) إشارة إلى الآية قبلها: {يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا}.
(10) تصحفت في المخطوطة إلى (معه).
(11) عبارة المخطوطة (ذكر أفرادها).(4/8)
وقال السّهيليّ (1): لأن المخاطبين بالإفراد مقرّون بأن الرزق ينزل من السحاب وهو سماء، ولهذا قال في آخر الآية: {فَسَيَقُولُونَ اللََّهُ} (يونس: 31) وهم لا يقرّون بما نزل من فوق ذلك من الرحمة والرحمن وغيرها، ولهذا قال في آية سبأ: {قُلِ اللََّهُ} (سبأ: 24) أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بهذا القول ليعلم بحقيقته.
وكذا قوله: {وَهُوَ اللََّهُ فِي السَّمََاوََاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} (الأنعام:
3) فإنّها جاءت مجموعة لتعلّق الظرف بما في اسم الله تبارك وتعالى من معنى الإلهيّة 4/ 8 فالمعنى هو الإله المعبود في كلّ واحدة من السموات، فذكر الجمع هنا أحسن. ولما خفي هذا المعنى على بعض المجسّمة قال بالوقف [249/ ب] على قوله: {فِي السَّمََاوََاتِ}
(الأنعام: 3) ثم يبتدئ بقوله: {وَفِي الْأَرْضِ} (الأنعام: 3).
وتأمّل كيف جاءت مفردة في قوله: {فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} (الذاريات:
23) أراد لهذين الجنسين، أي ربّ كلّ ما علا وسفل. وجاءت مجموعة في قوله: {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [2] (الحديد: 1) في جميع السور لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم، وتباين مراتبهم لم يكن بدّ من جمع محلّهم.
ونظير هذا جمعها في قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [3] وَمَنْ عِنْدَهُ لََا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبََادَتِهِ وَلََا يَسْتَحْسِرُونَ (الأنبياء: 19) وقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمََاوََاتُ السَّبْعُ} (الإسراء: 44) أي تسبّح بذواتها وأنفسها على اختلاف عددها ولهذا صرّح بالعدد بقوله: {السَّبْعُ}.
وتأمّل كيف جاءت مفردة في قوله: {وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ وَمََا تُوعَدُونَ} (الذاريات:
22) فال (رزق) المطر و {مََا تُوعَدُونَ} الجنّة، وكلاهما في هذه الجهة لا أنّها (4) في كلّ واحدة واحدة من السموات، فكان لفظ الإفراد أليق. وجاءت مجموعة في قوله: {قُلْ لََا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللََّهُ} (النمل: 65) لمّا كان المراد نفي علم
__________
(1) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد، تقدم التعريف به في 1/ 242.
(2) في المخطوطة {يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} (الجمعة: 1).
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (ومن في الأرض).
(4) عبارة المطبوعة (لأنها في كل) والتصويب من المخطوطة.(4/9)
4/ 9الغيب عن كلّ من هو في واحدة [واحدة] (1) من السموات أتى بها مجموعة، ولم يجيء في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت، لمّا (2) لم يكن المراد نزوله من ذاتها بل المراد الوصف.
(فإن قيل): فهل (3) يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ} (يونس: 31) وبين قوله في سورة سبأ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللََّهُ}؟ (سبأ: 24).
(قيل): السياق في كلّ منهما مرشد إلى الفرق فإنّ الآيات التي في [سورة] (4)
يونس سيقت للاحتجاج عليهم بما أقرّوا به من كونه تعالى هو رازقهم، ومالك أسماعهم وأبصارهم، ومدبّر أمورهم بأن يخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميت من الحيّ فلما كانوا مقرّين بهذا كلّه، حسن الاحتجاج به عليهم [إذ] (5) فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره، فكيف تعبدون معه غيره! ولهذا قال بعده: {فَسَيَقُولُونَ اللََّهُ} (يونس: 31) أي هم يقرّون به ولا يجحدونه، والمخاطبون المحتجّ عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرّين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها، ولم يكونوا مقرّين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى ينتهي إليهم، فأفردت لفظة «السماء» هنا لذلك.
وأما الآية التي في سبأ فإنه لم ينتظم لها ذكر إقرارهم لما ينزل من السماء، ولهذا أمر رسوله بأن يجيب، ولم (6) يذكر عنهم أنهم [هم] (7) المجيبون، فقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاوََاتِ} [7] [وَالْأَرْضِ قُلِ اللََّهُ (سبأ: 24) ولم يقل: {فَسَيَقُولُونَ اللََّهُ} أي الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات] (7).
ومنها ذكر «الرياح» (7) [في القرآن جمعا ومفردة، فحيث ذكرت في سياق الرحمة 4/ 10جاءت مجموعة، كقوله تعالى: {اللََّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ} [7] فَتُثِيرُ سَحََاباً (الروم: 48) {(7) [وَأَرْسَلْنَا]} [7] الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ (الحجر: 22) {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيََاحَ مُبَشِّرََاتٍ}
(الروم: 46)
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) في المخطوطة (ما لم يكن).
(3) في المخطوطة (فهلا).
(4) ليست في المطبوعة.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) تصحفت في المطبوعة إلى: (وأن).
(7) ليست في المخطوطة.(4/10)
وحيث ذكرت في سياق العذاب أتت مفردة، كقوله تعالى: {[فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ]} [1] رِيحاً صَرْصَراً [فِي أَيََّامٍ نَحِسََاتٍ] (1) (فصلت: 16) {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهََا}
(الأحزاب: 9) {[وَأَمََّا عََادٌ فَأُهْلِكُوا]} [1] بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عََاتِيَةٍ (الحاقة: 6) {[مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ]} [1] كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ (إبراهيم: 18) {وَفِي عََادٍ إِذْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات: 41).
ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (5) والمعنى فيه أنّ رياح الرحمة مختلفة الصفات والماهيّات والمنافع، وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها، فينشأ من بينهما ريح لطيفة، تنفع الحيوان والنبات، وكانت (6) في الرحمة رياحا، وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه [250/ أ] واحد، ولا معارض ولا دافع ولهذا وصفها الله بالعقيم فقال: {وَفِي عََادٍ إِذْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات: 41) أي تعقم ما مرّت به. وقد اطّردت هذه القاعدة إلا في مواضع يسيرة (7) لحكمة:
فمنها قوله سبحانه في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ 4/ 11 فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهََا جََاءَتْهََا رِيحٌ عََاصِفٌ} (يونس: 22) فذكر ريح الرحمة بلفظ الإفراد لوجهين:
(أحدهما): لفظيّ، وهو المقابلة، فإنه ذكر ما يقابلها (8) ريح العذاب، وهي لا تكون إلّا مفردة، وربّ شيء يجوز في المقابلة ولا يجوز استقلالا (9)، نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ}
(آل عمران: 54) (الثاني): معنويّ، وهو أن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح [لا] (10)
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(5) الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه الشافعي في الأم 1/ 253، وفي المسند 1/ 175، الباب السادس عشر في الدعاء، الحديث (502)، وأبو يعلى في المسند 4/ 341في مسند ابن عباس رضي الله عنهما الحديث (129/ 2456)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 213ضمن معجم عبد الله بن عباس، الحديث (11533).
(6) في المخطوطة (وإذا كانت).
(7) تصحفت في المخطوطة إلى (كثيرة).
(8) في المخطوطة (ما يشابهها).
(9) في المخطوطة (استعمالا).
(10) ليست في المخطوطة.(4/11)
باختلافها فإنّ السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد، فإن (1) اختلفت عليها الرياح وتصادمت كان سبب الهلاك والغرق، فالمطلوب هناك ريح واحدة، ولهذا أكّد هذا المعنى، فوصفها بالطيب دفعا لتوهّم أن تكون عاصفة، بل هي ريح يفرح بطيبها.
ومنها قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوََاكِدَ عَلى ََ ظَهْرِهِ} (الشورى:
33) وهذا أورده ابن المنيّر (2) في كتابه على الزمخشريّ قال: «الريح رحمة ونعمة، وسكونها شدة على أصحاب السفن».
قال الشيخ علم الدين العراقي (3): وكذا جاء في القراءات السبع (4): {وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ} (فاطر: 9) {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ} (الأعراف: 57) والمراد به الذي ينشر السحاب.
4/ 12ومن ذلك جمع «الظلمات» و [إفراد] (5) «النور»: (5) [كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ}] (5) (الأنعام: 1) {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيََاؤُهُمُ الطََّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمََاتِ} (البقرة: 257) ولذلك جمع سبيل الباطل، وأفرد سبيل الحق، كقوله: {وَأَنَّ هََذََا صِرََاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلََا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153).
__________
(1) في المخطوطة (فإذا اختلفت).
(2) هو أحمد بن محمد بن منصور، تقدم التعريف به في 1/ 176، وكتابه «الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال» ألّفه في الردّ على كشاف الزمخشري، وقد تقدم تعريفه في 1/ 13، وانظر قوله في كتابه الانتصاف 3/ 406 (المطبوع بحاشية الكشاف) ضمن تفسير الآية (33) من سورة الشورى، وقد نقله الزركشي بتصرف.
(3) هو عبد الكريم بن علي بن عمر، تقدم التعريف به في 3/ 102. وهو صاحب كتاب «الإنصاف مختصر الانتصاف» قال حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1477: (جعله حكما بين الكشاف والانتصاف لابن المنير) ومن الكتاب نسخة خطية في أياصوفيا برقم 78 (معجم الدراسات القرآنية ص 217) ونسخة في دار الكتب المصرية برقم 506تفسير، ومنه صورة ميكروفيلمية بمعهد المخطوطات في القاهرة برقم 30 تفسير.
(4) قال الداني في التيسير ص 78ضمن الآية (164) من سورة البقرة: (ابن كثير وحمزة والكسائي في الأعراف: 57والنمل: 63والثاني من «الروم: 48» و «فاطر: 9» بالتوحيد، والباقون بالجمع).
(5) ليست في المطبوعة.(4/12)
والجواب في ذلك كله، أنّ طريق الحق واحد، وأمّا الباطل فطرقه متشعّبة متعددة، ولما كانت (1) الظّلم بمنزلة طريق الباطل، والنور بمنزلة طريق الحق (2)، بل هما [هما] (3)، أفرد النور وجمع الظلمات ولهذا وحّد الوليّ (4)، فقال: {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة:
257) لأنّه الواحد الأحد، وجمع أولياء الكفار لتعددهم، وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغيّ لكثرتها واختلافها، ووحّد النور وهو دين الحق.
ومن ذلك إفراد «اليمين والشمال» في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ عِزِينَ}
(المعارج: 37) وجمعها في قوله: {وَعَنْ أَيْمََانِهِمْ وَعَنْ شَمََائِلِهِمْ} (الأعراف: 17) ولا سؤال فيه، إنما السؤال في جمع أحدهما وإفراد الآخر، كقوله تعالى: {[يَتَفَيَّؤُا ظِلََالُهُ]} [5]
عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمََائِلِ سُجَّداً لِلََّهِ (النحل: 48) قال الفرّاء: «كأنّه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظّلمة، وإذا جمع ذهب إلى كلّها» (6)، والحكمة في تخصيص اليمين بالإفراد ما سبق فإنّه لما كانت اليمين جهة الخير والصلاح، وأهلها هم الناجون أفردت، ولما كانت الشمال جهة أهل الباطل وهم أصحاب الشمال جمعت في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمََائِلِ} (النحل: 48) وفيه وجوه أخر:
(أحدها): أن اليمين (7) [مقصود به الجمع أيضا، فإنّ الألف واللام فيه للجنس، فقام العموم مقام الجمع. قاله ابن عطية.
(الثاني): أن اليمين] (7) «فعيل» وهو مخصوص بالمبالغة، فسدّت مبالغته [مسدّ (9)] جمعه، كما سدّ مسدّ الشبه قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ قَعِيدٌ} (ق: 17) قاله ابن بابشاذ (10).
(الثالث): أن الظلّ حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطّول، ثم يبدو كذلك ظلّا
__________
(1) في المخطوطة (كان).
(2) في المطبوعة (طريق الجنّة).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) في المخطوطة (وحّد ولي المؤمنين).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) انظر معاني القرآن 2/ 103عند تفسير الآية (48) من سورة النحل.
(7) ليست في المخطوطة.
(9) ليست في المطبوعة.
(10) هو أبو الحسن طاهر بن أحمد، تقدم التعريف به في 3/ 28.(4/13)
واحدا من جهة اليمين، ثم يأخذ في النقصان، وإذا أخذ في جهة الشّمال فإنه يتزايد [250/ ب] شيئا فشيئا، والثاني فيه غير الأول، فكلما زاد فيه شيئا فهو غير ما كان قبله، فصار كلّ جزء منه ظلّا، فحسن (1) جمع الشمائل في مقابلة تعدد الظلال [قاله الرماني وغيره] (2). قال ابن بابشاذ: «وإنما يصحّ هذا إذا كانا متوجّهين نحو القبلة».
(الرابع): أنّ اليمين يجمع على أيمن وأيمان فهو من أبنية جمع القلّة غالبا، والشمال يجمع على شمائل وهو جمع كثرة والموطن موطن تكثير ومبالغة، فعدل عن جمع اليمين إلى الألف واللام (3) الدالّة على قصد التكثير قاله السّهيلي (4).
وأما إفرادها في قوله: {وَ [أَصْحََابُ الشِّمََالِ]} [5] مََا أَصْحََابُ الشِّمََالِ (الواقعة:
41) فلأنّ المراد أهل هذه الجهة ومصيرهم إلى جهة واحدة، وهي جهة أهل الشمال مستقرّ أهل النار، فإنّها من جهة أهل الشمال فلا يحسن مجيئها مجموعة.
وأما إفرادهما في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ قَعِيدٌ} (ق: 17) فإن لكل عبد قعيدا، واحدا عن يمينه وآخر شماله، يحصيان عليه الخير والشر، فلا معنى للجمع بينهما، 4/ 14وهذا بخلاف قوله تعالى ذاكرا عن إبليس: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمََانِهِمْ وَعَنْ شَمََائِلِهِمْ} (الأعراف: 17) فإنّ الجمع هناك يقابله كثير مما يريد إغواءهم، فجمع لمقابلة الجملة بالجملة المقتضي لتوزيع الأفراد على الأفراد.
ومنها حيث وقع في القرآن ذكر «الجنّة»، فإنها تجيء تارة مجموعة، وتارة غير مجموعة، و «النار» لم تقع إلا مفردة، وفي ذلك وجهان:
(أحدهما): لما كانت «الجنات» مختلفة الأنواع، حسن جمعها وإفرادها، و [لما] (6) كانت «النار» واحدة أفردت باعتبار الجنس، ونظيره قوله تعالى: {بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الواقعة: 18) ولم يقل «وكئوس» لما سنذكره.
(الثاني): أنه لما كانت النار تعذيبا، والجنّة رحمة ناسب جمع الرحمة وإفراد
__________
(1) في المخطوطة (فحصل).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (الألف والدال).
(4) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله تقدم التعريف به في 1/ 242.
(5) ليست في المخطوطة.
(6) ليست في المخطوطة.(4/14)
العذاب، نظير جمع الريح في الرحمة، وإفرادها في العذاب. وأيضا فالنار دار حبس والغاضب يجمع جماعة من المحبوسين في موضع واحد أنكد لعيشهم، والكريم لا يترك ضيفه، ولا سيّما إذا كان للدوام إلا في دار مفردة مهيأة له وحده (1) [فالنّار لكلّ مذنب، ولكل مطيع جنّة، فجمع الجنان ولم يجمع النار.
ومنها: جمع «الآيات» في موضع وإفرادها] (1) في آخر، فحيث جمعت فلجمع الدلائل، وحيث وحدت فلوحدانية المدلول عليه لما يخرج عن ذلك. ولهذا قال في الحجر (3): {[إِنَ]} [1] فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (الآية: 75) ثم قال: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} (الآية: 77) فلما ذكر صفة المؤمنين بالوحدانية، وحدّ الآية وليس لها نظير إلا في العنكبوت، وهو قوله: {خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً}
(الآية: 44) ومنها مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة بالجمع، وأخرى بالتثنية، وأخرى بالإفراد، لاختصاص كلّ مقام بما يقتضيه. فالأول كقوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ} (المعارج: 40) والثاني كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}
(الرحمن: 17) والثالث قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} (المزّمّل: 9).
فحيث جمع كان المراد أفقي (5) المشرق والمغرب، وحيث ثنّيا كان المراد مشرقي صعودها وارتفاعها فإنها تبتدئ صاعدة، حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها فهذا مشرق صعودها وارتفاعها وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء، فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقا واحدا، ومشرق هبوطها بجملته مشرقا واحدا، ومقابلهما مغربا. وقيل: هو إخبار عن الحركات الفلكية، متحركة بحركات متداركة، لا تنضبط لخطّة ولا تدخل تحت قياس لأن معنى الحركة انتقال الشيء من مكان إلى آخر، وهذه صفة الأفلاك [251/ أ] قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهََا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} (يس: 40) الآية.
فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ بالإفراد والتثنية والجمع، وقد أجرى الله العادة أنّ القمر
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) تصحفت في المخطوطة إلى (الحجرات).
(5) تصحفت في المطبوعة إلى (المراد ففي) والتصويب من المخطوطة.(4/15)
يطلع في كلّ ليلة من مطلع غير الذي طلع فيه بالأمس، وكذلك الغروب، فهي من أوّل فصل الصيف في تلك المطالع والمغارب، إلى أن تنتهي إلى مطلع الاعتدال، ومغربه عند أول فصل الخريف، ثم تأخذ جنوبا في كلّ يوم في مطلع ومغرب، إلى أن تنتهي إلى آخر مثلها الذي (1) يقدّر الله لها عند أوّل فصل الشتاء، ثم ترجع كذلك إلى أن تنتهي إلى مطلع الاعتدال الربيعي ومغربه، وهكذا أبدا.
فحيث أفرد الله له لفظ المشرق والمغرب، أراد به الجهة نفسها التي تشتمل الواحدة على تلك المطالع جميعها، والأخرى على تلك المغارب من غير نظر إلى تعدّدها وحيث جيء 4/ 16بلفظ الجمع المراد به كلّ فرد منها بالنسبة إلى تعدّد تلك المطالع والمغارب، وهي في كل جهة مائة وثمانون يوما، وحيث كان بلفظ التثنية، فالمراد بأحدهما الجهة التي تأخذ منها الشمس من مطلع الاعتدال إلى آخر المطالع والمغارب الجنوبية، و [هما] (2) بهذا الاعتبار مشرقان ومغربان.
وأمّا وجه اختصاص كلّ موضع بما وقع منه، فأبدى فيه بعض المتأخرين معاني لطيفة، فقال: أمّا ما ورد مثنّى في سورة الرحمن (3)، فلأنّ سياق السورة [سياق] (4) المزدوجين.
(الثاني): فإنه سبحانه أوّلا ذكر نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعليم، ثم ذكر سراجي العالم ومظهر نوره، وهما الشمس والقمر، ثم ذكر نوعي النبات فإنّ منه [ما هو] (4) على ساق، ومنه ما انبسط على وجه الأرض، وهما النجم والشجر. ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة والأرض، ثم أخبر أنّه رفع هذه ووضع هذه، ووسّط بينهما ذكر الميزان، ثم ذكر العدل والظلم في الميزان، فأمر بالعدل، ونهى عن الظلم، ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض، وهما الجنوب، ثم ذكر نوعي المكلّفين، وهما نوع الإنسان والجان، ثم ذكر نوعي المشرق والمغرب، ثم ذكر بعد ذلك البحر من الملح والعذب، فلهذا حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة.
وإنما أفردا في سورة المزمّل (6) لما تقدم من ذكر (6)) الليل والنهار، فإنه سبحانه أمر نبيّه
__________
(1) في المخطوطة (التي).
(2) ليست في المطبوعة.
(3) إشارة إلى الآية (17) من سورة الرحمن {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}.
(4) ليست في المخطوطة.
(6) عبارة المخطوطة (لما تقدمها ذكر).(4/16)
بقيام الليل، ثم أخبر أنّه له في النهار سبحا طويلا فلما تقدم ذكر الليل والنهار، تمّمه بذكر المشرق والمغرب، اللّذين هما مظهر الليل والنهار، فكان ورودهما مفردين في هذا السياق، أحسن من التثنية والجمع لأن ظهور الليل والنهار فيهما واحد. وإنما جمعا في سورة المعارج في قوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ إِنََّا لَقََادِرُونَ * عَلى ََ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمََا 4/ 17 نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (المعارج: 4140) لأنّه لما كان هذا القسم [في] (1) سعة مشارق ربوبيته، وإحاطة قدرته، والمقسم عليه إذهاب هؤلاء، والإتيان بخير منهم ذكر المشارق والمغارب لتضمّنها انتقال الشمس التي في أحد آياته العظيمة، ونقله سبحانه لها، وتصريفها كلّ يوم في مشرق ومغرب، فمن فعل هذا كيف يعجزه أن يبدّل هؤلاء، وينقل إلى أمكنتهم خيرا منهم! وأيضا فإن تأثير مشارق الشّمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهود، [وقد جعله الله] (2) بحكمته سببا لتبدّل أجسام النبات وأحوال الحيوانات وانتقالها من حال إلى حال، ومن برد إلى حرّ، وصيف وشتاء، وغير ذلك بسبب اختلاف مشارق الأرض ومغاربها، فكيف لا يقدر مع ما يشهدونه [251/ ب] من ذلك على تبديل من هو خير! وأكّد هذا المعنى بقوله: {وَمََا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (المعارج: 41) فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظ الجمع.
وأما جمعهما في سورة الصافات في قوله: {وَرَبُّ الْمَشََارِقِ} (الصافات: 5) لما جاءت (3) مع جملة (3) المربوبات المتعدّدة، وهي السموات والأرض وما بينهما، وكان الأحسن مجيئها مجموعة، [لتنتظم] (5) مع ما تقدم من الجمع والتعدد.
ثم تأمّل كيف اقتصر على «المشارق» دون «المغارب»، لاقتضاء الحال ذلك، فإنّ «المشارق» مظهر الأنوار، وأسباب لانتشار الحيوان وحياته، وتصرّفه في معاشه وانبساطه، فهو إنشاء شهود، فقدّمه بين يدي [الرد] (6) على مبدأ البعث، فكان الاقتصار على ذكر المشارق هاهنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب فتأمّل هذه المعاني الكاملة، والآيات 4/ 18 الفاضلة، التي ترقص القلوب لها طربا، وتسيل الأفهام منها رهبا!
__________
(1) ليست في المطبوعة.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (من جملة).
(5) ليست في المخطوطة.
(6) وقع في المطبوعة بياض مكانها، وقد أثبتناها من المخطوطة. {إِنََّا لَمَبْعُوثُونَ}.(4/17)
وحيث ورد «البارّ» مجموعا في صفة الآدميين قيل «أبرار»، كقوله: {إِنَّ الْأَبْرََارَ لَفِي نَعِيمٍ} (الانفطار: 13) وقال في صفة الملائكة: {بَرَرَةٍ} (عبس: 16) قال الراغب: «فخصّ الملائكة بها من حيث إنه أبلغ من «أبرار» جمع «برّ» و «أبرار» جمع «بار»، [وبرّ أبلغ من بارّ] (1)، كما أن عدلا أبلغ من عادل» (2). وهذا بناء على رواية في تفضيل الملائكة على البشر.
ومنها أن «الأخ» يطلق على أخي النسب، وأخي الصداقة والدين، ويفترقان في الجمع، فيقال في النسب إخوة، وفي الصداقة إخوان، كما قيل: {إِخْوََاناً عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ} (الحجر: 47) وقال: {فَإِنْ كََانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (النساء: 11) قاله جماعة من أهل اللغة، منهم ابن فارس (3)، وحكاه أبو حاتم (4) عن أهل البصرة، ثم ردّه بأنه يقال للأصدقاء والنسب: إخوة وإخوان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:
10) لم يعن النسب.
وقال: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوََانِكُمْ} (النور: 61) وهذا في النسب، ونظيره قوله: {وَلََا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلََّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (النور: 31) إلى قوله: {أَوْ بَنِي أَخَوََاتِهِنَّ} (5) (النور: 31) 4/ 19وهذا هو الصواب. واشتقاق اللفظين من تأخيت الشيء، فسمّي الأخوان أخوين لأن كل واحد منهما يتأخّى ما تأخّاه الآخر، أى يقصده. قال ابن السكيت (6): ويقال أخوة، بضم الهمزة.
ومنها إفراد «العم» والخال.
ومنها إفراد «السمع» وجمع «البصر»، كقوله تعالى: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ} (البقرة: 7) لأنّ السمع غلب عليه المصدرية فأفرد، بخلاف البصر، فإنه اشتهر في الجارحة، وإذا أردت المصدر قلت: أبصر إبصارا،
__________
(1) العبارة ساقطة من بعض النسخ.
(2) انظر مفردات القرآن ص (41) مادة (بر).
(3) هو أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي، أبو الحسين، تقدم التعريف به في 1/ 190.
(4) هو سهل بن محمد السجستاني تقدم التعريف به في 1/ 309.
(5) في المخطوطة {أَوْ إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوََانِهِنَّ} وهذه الكلمات في الآية قبل قوله {أَوْ بَنِي أَخَوََاتِهِنَّ}.
(6) هو يعقوب بن إسحاق، المعروف بابن السكيت تقدم التعريف به في 1/ 402.(4/18)
و [لهذا] (1) لمّا استعمل الحاسة جمعه بقوله: {يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ} (البقرة:
19) وقال: {وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ} (فصلت: 5).
(وقيل): في الكلام حذف مضاف، أي على حواسّ سمعهم. (وقيل): لأنّ متعلق السمع الأصوات، وهي حقيقة واحدة، ومتعلّق البصر الألوان والأكوان، وهي حقائق مختلفة، فأشار في كلّ منهما إلى متعلّقه. ويحتمل أن يكون البصر الذي هو نور العين معنى يتعدّد بتعدد المقلتين، ولا كذلك السمع، فإنه معنى واحد، ولهذا إذا غطيت إحدى العينين ينتقل نورها إلى الأخرى، بخلاف السمع، فإنه ينقص بنقصان أحدهما.
وقال الزمخشريّ (2) في قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمََاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} (البقرة: 19) أجرى الرعد والبرق على أصلهما مصدرين، فأفردهما دون الظلمات، يقال: رعدت السماء رعدا، وبرقت برقا، والحق أن الرعد والبرق مصدران (3)، فأفردهما. أو هما مسببان عن 4/ 20 سبب لا يختلف، بخلاف الظلمة، فإن أسبابها [252/ أ] متعددة.
ومنها حيث ذكر «الكأس في القرآن كان مفردا، ولم يجمع (4) في قوله تعالى:
{بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ وَكَأْسٍ} (الواقعة: 18) ولم يقل: «وكئوس»، لأن الكأس إناء فيه شراب، [فإن لم يكن فيه شراب] (5) فليس بكأس، بل قدح. والقدح إذا جعل فيه الشراب فالاعتبار للشراب، لا لإنائه، لأنّ المقصود هو المشروب، والظرف اتخذ للآلة، ولولا الشراب والحاجة إلى شربه لما اتّخذ، والقدح مصنوع والشراب جنس، فلو قال: «كئوس» لكان اعتبر حال القدح والقدح تبع، ولما لم يجمع اعتبر حال الشراب، وهو أصل، واعتبار الأصل أولى.
فانظر كيف اختار الأحسن من الألفاظ! وكثير من الفصحاء قالوا: دارت الكئوس، ومال الرءوس فدعاهم السجع إلى اختيار غير الأحسن، فلم يدخل كلامهم في حدّ الفصاحة، والذي يدلّ على ما ذكرنا أنّ الله تعالى لما ذكر الكأس واعتبر الأصل، قال: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الواقعة: 18) فذكر الشراب.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) انظر الكشاف 1/ 41عند تفسير الآية (19) من سورة البقرة.
(3) في المخطوطة (ملكان).
(4) في المخطوطة (ولم يجمعه).
(5) ليست في المخطوطة.(4/19)
وحيث ذكر المصنوع، ولم يكن في اللفظ دلالة على الشراب جمع فقال: {بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ} (الواقعة: 18) ثم ذكر ما يتخذ منه فقال: {مِنْ فِضَّةٍ} (الإنسان: 15).
ومنها إفراد «الصديق»، وجمع «الشافعين»، في قوله تعالى: {فَمََا لَنََا مِنْ شََافِعِينَ * وَلََا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (الشعراء: 101100) وحكمته كثرة الشفعاء في العادة وقلة 4/ 21الصديق، قال الزمخشري: «ألا ترى أنّ الرّجل إذا امتحن بإرهاق ظالم، نهضت جماعة وافرة من أهل بلده بشفاعته رحمة له، وإن لم يسبق له (1) [بأكثرهم معرفة! وأما الصديق ف «أعزّ من بيض الأنوق» (2). وعن بعض الحكماء أنّه سئل عن الصديق، فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن] (1) يريد بالصديق الجمع» (4).
وقال السّهيلي في «الرّوض الأنف» (5): «إذا قلت: «عبيد» و «نخيل»، فهو اسم يتناول الصغير والكبير من ذلك الجنس قال الله تعالى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} (الرعد:
4) وقال: {وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) وحين ذكر المخاطبين منهم قال {الْعِبََادِ} (يس: 30) وكذلك قال حين ذكر التمر من النخيل: {وَالنَّخْلَ بََاسِقََاتٍ}
(ق: 10) و {أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (القمر: 20) فتأمّل الفرق بين الجمعين في حكم البلاغة، واختيار الكلام! وأما في مذهب [أهل] (6) اللغة، فلم يفرقوا هذا التفريق، ولا نبّهوا على هذا المعنى الدقيق».
ومنها اختلاف الجمعين في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} (البقرة:
266) إلى قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفََاءُ} (البقرة: 266). وقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعََافاً} (النساء: 9) فأما وجه التفرقة بين الجمع في الموضعين، وكذلك قوله: {وَلََا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلََّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (النور: 31) إلى قوله: {أَوْ أَبْنََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ}
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) «أعزّ من بيض الأنوق» مثل ذكره الميداني في مجمع الأمثال 2/ 44وقال في شرحه: «قالوا: الأنوق الرّخمة، وعزّ بيضها لأنّه لا يظفر به لأن أوكارها في رءوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة، قال الأخطل:
من الجاريات الحور مطلب سرّها * كبيض الأنوق المستكنّة في الوكر
(4) انظر الكشاف 3/ 120119عند تفسير الآية من سورة الشعراء.
(5) انظر الروض الأنف 1/ 171ضمن ذكر حفر زمزم وما جرى من الخلف فيها، معنى الرويّ والجمع واسم الجمع.
(6) ليست في المطبوعة.(4/20)
{إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوََانِهِنَّ} فخالف بين الجمعين في (1) الأبناء. وفي سورة (1) الأحزاب: {وَلََا 4/ 22 أَبْنََاءِ إِخْوََانِهِنَّ [وَلََا أَبْنََاءِ أَخَوََاتِهِنَ]} [3] (الأحزاب: 55).
ومنه قوله تعالى: {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ} (البقرة: 261) وفي موضع آخر:
{وَسَبْعَ سُنْبُلََاتٍ} (يوسف: 43) فالمعدود واحد. وقد اختلف تفسيره، فالأول جاء بصيغة جمع الكثرة، والثاني بجمع القلّة. وقد قيل في توجيهه: إنّ آية البقرة سيقت في بيان المضاعفة والزيادة، فناسب صيغة جمع الكثرة، وآية يوسف لحظ فيها [المرئي] (4) وهو قليل، فأتى بجمع (5) القلّة ليصدّق اللفظ المعنى.
(تنبيه)
جمع التكسير يشمل أولي العلم وغيرهم، وجمع السلامة يختص في أصل الوضع بأولي العلم، وإن في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه، كقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ} (يوسف: 4) وعلى هذا فأشرف الجمعين جمع السلامة، وما يجمع جمع التكسير من مذكّر غير العاقل قد يتبع بالصفة المفردة مؤنثة بالتاء، كما يفعل بالخبر، تقول: حقوق معقودة، وأعمال محسوبة، قال تعالى: {فِيهََا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوََابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمََارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرََابِيُّ} [252/ ب] {مَبْثُوثَةٌ} (الغاشية:
1613).
وقال تعالى: {أَيََّاماً مَعْدُودَةً} (البقرة: 80) وقد يجمع بالألف والتاء في غير المفرد وإن لم يكثر، إلا أنه فصيح، ومنه: {وَاذْكُرُوا اللََّهَ فِي أَيََّامٍ مَعْدُودََاتٍ} (البقرة: 203).
(قاعدة نحويّة)
4/ 23 نون (6) ضمير الجمع في جمع العاقلات (7)، سواء القلّة كالهندات، أو الكثرة كالهنود،
__________
(1) عبارة المخطوطة (في الأبناء وثنى، وفي سورة) بزيادة (وثنى).
(3) ليست في المطبوعة.
(4) وقع في المطبوعة بياض مكان هذه الكلمة، وهي من المخطوطة.
(5) في المخطوطة (بلفظ).
(6) تصحفت في المخطوطة إلى (محو).
(7) تصحفت في المطبوعة إلى (العلاقات).(4/21)
فتقول: الهندات يقمن، والهنود يقمن قال تعالى: {وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ} (البقرة: 233) {وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (البقرة: 228) هذا هو الأكثر. وقد جاء في القرآن بالإفراد، قال تعالى: {وَأَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ} (آل عمران: 15) ولم يقل: «مطهرات».
وأما جمع غير العاقل ففيه تفصيل: إن كان للكثرة أتيت بضميره مفردا، فقلت:
الجذوع انكسرت، وإن كان للقلة، أتت جمعا. وقد اجتمعا في قوله [تعالى]: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللََّهِ اثْنََا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتََابِ اللََّهِ} (التوبة: 36) إلى أن قال: {مِنْهََا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (التوبة: 36) فالضمير في «منها» يعود إلى «الاثني عشر» وهو جمع كثرة، ولم يقل «منهن»، ثم قال سبحانه: {فَلََا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة: 36) فهذا عائد إلى الأربعة، وهو جمع قلة.
(فإن قيل): فما السرّ في هذا حيث كان يؤتى مع الكثرة بضمير المفرد، ومع القلة بضمير الجمع؟ وهلّا عكس؟ (قلنا): ذكر الفراء له سرّا لطيفا، فقال: لما كان المميّز من (1) جمع الكثرة واحدا، وحدّ الضمير لأنه من أحد عشر يصير مميزه واحدا، وهو الدرهم (2)، وأما جمع القلة فمميّزه جمع، لأنّك تقول: ثلاثة دراهم، [أربعة دراهم] (3)، وهكذا، إلى العشرة تمييزه جمع، فلهذا أعاد الضمير باعتبار المميّز جمعا وإفرادا، ومن هذا قوله سبحانه: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (لقمان: 27) فأتى بجمع القلة ولم يقل: «بحور» لتناسب نظم الكلام وهذا هو الاختيار في إضافة العدد إلى جمع القلّة.
4/ 24وأما قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة: 228) فأضاف الثلاثة إلى القروء، وهو جمع كثرة، ولم يضفها إلى الأقراء التي هي جمع قلة. قال الحريري (4): المعنى: لتتربّص كلّ واحدة منهن (5) ثلاثة أقراء، فلمّا أسند إلى جماعتهنّ [ثلاثة] (6) والواجب على كل فرد (7) منهن ثلاثة أتى بلفظ «قروء» لتدل على الكثرة المرادة، والمعنى الملموح.
__________
(1) في المطبوعة (مع).
(2) تصحفت في المطبوعة إلى (أندرهم).
(3) ليست في المخطوطة.
(4) هو القاسم بن علي بن محمد، تقدم التعريف به في 1/ 164.
(5) في المخطوطة (من المطلقات).
(6) ليست في المطبوعة.
(7) في المخطوطة (واحد).(4/22)
(قاعدة في الضمائر)
وقد صنف ابن الأنباريّ (1) في «بيان الضمائر الواقعة في القرآن» مجلدين وفيه مباحث:
الأول: للعدول إلى الضمائر أسباب:
منها وهو أصل وصفها للاختصار، ولهذا قام قوله تعالى: {أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب: 35) مقام خمسة وعشرين [كلمة] (2) لو أتى بها مظهرة وكذا قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ} (النور: 31) نقل ابن عطية عن مكّي، أنه ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها، وهي مشتملة على خمسة وعشرين ضميرا. وقد قيل: في آية الكرسي أحد وعشرون اسما ما بين ضمير وظاهر.
ومنها، الفخامة بشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه، ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته، كقوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
(القدر: 1) يعني القرآن، وقوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ} (البقرة: 97) ومنه ضمير الشأن.
ومنها التحقير، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة: 168) يعني 4/ 25 الشيطان. وقوله: {إِنَّهُ يَرََاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لََا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} (الانشقاق: 14).
الثاني: الأصل أن يقدم ما يدلّ [عليه] (3) الضمير، بدليل الأكثرية وعدم التكليف، ومن ثم ورد قوله تعالى: {إِذََا تَدََايَنْتُمْ} [253/ أ] {بِدَيْنٍ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة:
282) وتقدّم المفعول الثاني في قوله: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيََاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ} (الأنعام: 112) فأخّر المفعول الأول ليعود الضمير الأول عليه لقربه.
وقد قسم النحويون ضمير الغيبة إلى أقسام:
(أحدها) وهو الأصل، أن يعود إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة، نحو:
{وَعَصى ََ آدَمُ رَبَّهُ [فَغَوى ََ]} (4) (طه: 121) {وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ} (هود: 42) {إِذََا}
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن القاسم الانباري تقدم التعريف به في 1/ 299. وبكتابه في 2/ 345.
(2) ليست في المطبوعة.
(3) ليست في المخطوطة.
(4) ليست في المخطوطة.(4/23)
{أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرََاهََا} (النور: 40) وقوله: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمََّا حَضَرُوهُ}
(الأحقاف: 29) (الثاني): أن يعود على مذكور في سياق الكلام، مؤخر في اللفظ مقدم في النية، 4/ 26كقوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} (طه: 67) وقوله: {وَلََا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص: 78) وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لََا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلََا جَانٌّ}
(الرحمن: 39).
(الثالث): أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمّن، كقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} (المائدة: 8) فإنه عائد على «العدل» المفهوم من «اعدلوا». وقوله:
{وَلََا تَأْكُلُوا مِمََّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام: 121) فالضمير يرجع للأكل لدلالة «تأكلوا». وقوله: {وَإِذََا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} (النساء: 8) إلى قوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (النساء: 8) أي المقسوم، لدلالة القسمة عليه. ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان والأقربون لأنه مذكور، وإن كان بعيدا.
(الرابع): [أن يدلّ عليه بالالتزام، كإضمار النفس] (1) في قوله تعالى:
{[فَلَوْلََا]} [1] إِذََا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (الواقعة: 83) {كَلََّا إِذََا بَلَغَتِ التَّرََاقِيَ} (القيامة:
26) [يعني] (3) أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم والتراقي عليها. وقوله: {حَتََّى تَوََارَتْ بِالْحِجََابِ} (ص: 32) يعني الشمس. [وقيل] (4): بل سبق ما يدلّ عليها، وهو {بِالْعَشِيِّ} لأن العشيّ ما بين زوال الشمس وغروبها، والمعنى: إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب. وقيل: فاعل {تَوََارَتْ} ضمير {الصََّافِنََاتُ} ذكره ابن مالك (5)، وابن العربي (6) في «الفتوحات» (7)!
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) ليست في المطبوعة.
(4) ليست في المخطوطة.
(5) هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك جمال الدين أبو عبد الله، تقدم التعريف به في 1/ 381.
(6) هو محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر المعافري، تقدم التعريف به في 1/ 16.
(7) كذا في الأصول! وهو بعيد عن المراد، ولعل الصواب «أحكام القرآن» لأن كتاب «الفتوحات» في التصوّف لا في علوم القرآن، وانظر القول الذي ساقه الزركشي في «أحكام القرآن» 4/ 1648في الكلام على سورة ص، الآية الثامنة، المسألة الرابعة.(4/24)
ويرجّحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها، وسنذكره في الثامن (1).
وكذا قوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (العاديات: 54) قيل: الضمير 4/ 27 لمكان «الإغارة» بدلالة (2) «والعاديات» عليه، فهذه الأفعال إنما تكون لمكان.
وقوله: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1) أضمر القرآن (3) لأن الإنزال يدل عليه وقوله [تعالى]: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبََاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدََاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسََانٍ}
(البقرة: 178) ف «عفى» يستلزم «عافيا» إذ أغنى ذلك عن ذكره، وأعيد الهاء من {إِلَيْهِ} عليه.
(الخامس): أن يدلّ عليه السياق فيضمر، ثقة بفهم السامع كإضمار «الأرض» في قوله [تعالى]: {مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا مِنْ دَابَّةٍ} (فاطر: 45) وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ} (الرحمن: 26).
وجعل ابن مالك الضمير للدنيا، وقال: وإن لم يتقدم [لها ذكر، لكن تقدّم] (4) ذكر بعضها، والبعض يدلّ على الكلّ.
وقوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سََامِراً تَهْجُرُونَ} (المؤمنون: 67) يعني القرآن أو المسجد الحرام. وقوله: {قََالَ هِيَ رََاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} (يوسف: 26).
{يََا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} (القصص: 26) {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (النساء:
11) الضمير يعود على الميت، وإن لم يتقدم له ذكر، إلا أنه لمّا قال: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ} (النساء: 11) علم أن ثمّ ميتا يعود الضمير عليه. وقوله: {وَإِذََا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} (النساء: 8) ثم قال: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (النساء: 8) أي من الموروث، وهذا وجه آخر غير (5) ما سبق.
وقوله: {وَإِذََا عَلِمَ مِنْ آيََاتِنََا شَيْئاً اتَّخَذَهََا} (الجاثية: 9) ولم يقل «اتخذه»، ردا 4/ 28 للضمير إلى «شيئا»، لأنه لم يقتصر على الاستهزاء بما يسمع من آيات الله بل كان إذا سمع
__________
(1) انظر ص 33من هذا الجزء.
(2) في المخطوطة (بدليل).
(3) في المخطوطة (الضمير للقرآن).
(4) ليست في المخطوطة.
(5) في المخطوطة (آخر على ما سبق).(4/25)
بعض آيات الله استهزأ بجميعها. وقيل: «شيئا» بمعنى الآية لأن بعض الآيات آية.
وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره [253/ ب] بالمذكور وعدم صلاحيته له، كقوله: {إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلََالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ} (يس: 8)، فأعاد الضمير للأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال، وأغنى ذكر الأغلال (1) عن ذكرها. ومثله قوله [تعالى]: {وَمََا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلََا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} (فاطر: 11)، أي من عمر غير المعمّر، فأعيد الضمير على غير المعمّر لأن ذكر المعمّر يدل عليه لتقابلهما، فكان يصاحبه الاستحضار الذهنيّ.
وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم [له] (2)، كقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسََاءً}
(النساء: 11)، بعد قوله: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ} (النساء: 11) وقوله:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (البقرة: 228) فإنه عائد على المطلّقات مع أن هذا خاصّ بالرّجعى، وهل (3) يقتضي ذلك تخصيص الأول؟ فيه خلاف أصوليّ. وقوله: {وَلََا يُنْفِقُونَهََا فِي سَبِيلِ اللََّهِ} (التوبة: 34) فإن الفضة بعض المذكور، فأغنى ذكرها عن ذكر الجميع حتى كأنه قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} (التوبة: 34)، أصناف ما يكنز.
وقد يعود على اللفظ الأوّل دون معناه، كقوله تعالى: {وَمََا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلََا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} (فاطر: 11)، وقد سبق فيه وجه آخر.
4/ 29وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ} (السجدة: 23) على أحد الأقوال.
ومما يتخرّج عليه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (البقرة: 228)، ويستراح من إلزام تخصيص الأول.
وقد يعود على المعنى، كقوله في آية الكلالة: {فَإِنْ كََانَتَا اثْنَتَيْنِ} (النساء:
176)، ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه الضمير من «كانتا»، قال الأخفش (4): إنما يثنّى،
__________
(1) في المخطوطة (وأغنى عن ذكر الاعناق).
(2) ليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة (وهذا يقتضي).
(4) هو سعيد بن مسعدة أبو الحسن تقدم التعريف به في 1/ 134.(4/26)
لأن الكلام لم يقع على الواحد والاثنين والجمع، فثنى الضمير الراجع إليها، حملا على المعنى، كما يعود الضمير جمعا في «من» حملا على معناها. وقال الفارسيّ: إنما جازت من حيث كان يفيد العدد، مجردا من الصغير والكبير.
(السادس): ألّا يعود على مذكور، ولا معلوم بالسياق أو غيره وهو الضمير المجهول الذي يلزمه التفسير بجملة أو مفرد، فالمفرد في نعم وبئس، والجملة ضمير الشأن والقصة، نحو هو زيد منطلق، وكقوله [تعالى]: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1)، [أي] (1)
الشأن الله أحد. وقوله: {لََكِنَّا هُوَ اللََّهُ رَبِّي} (الكهف: 38) وقوله: {أَنَا اللََّهُ} (طه:
14) وقوله: {فَإِنَّهََا لََا تَعْمَى الْأَبْصََارُ} (الحج: 46).
وقد يكون مؤنثا [إذا كان عائده مؤنثا] (1)، كقوله [تعالى]: {إِنْ هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا} (الأنعام: 29)، وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} (طه:
74) فذكّر الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة، لأنها في حكم الفضلة، إذا 4/ 30 المعنى: من يأت ربه مجرما يجزه جهنم.
(تنبيه): والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على لفظ الغائب والمتكلم والمخاطب، قال تعالى: {هََذََا هُوَ الْحَقَّ} (الأنفال: 32). {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ}
(المائدة: 117). {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مََالًا} (الكهف: 39)، ويكون له محل من الإعراب، وضمير الشأن لا يكون إلا غائبا ويكون مرفوع المحلّ ومنصوبه، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (الاخلاص: 1). {وَأَنَّهُ لَمََّا قََامَ عَبْدُ اللََّهِ} (الجن: 19).
البحث الثالث: قد يعود على لفظ شيء، والمراد به الجنس من ذلك الشيء، كقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً} (البقرة: 25) فإن الضمير في «به» يرجع إلى المرزوق في الدارين جميعا لأن قوله: {هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ} (البقرة: 25) مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين. قال الزمخشريّ (3): ونظيره: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا}
(النساء: 135)، أي بجنس الفقير والغني، لدلالة قوله: {غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً} على الجنسين، ولو رجع إلى المتكلم به لوحّده.
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(3) انظر «الكشاف» 1/ 304عند تفسير الآية (135) من سورة النساء.(4/27)