مقدمة المؤلف
بسم الله الرّحمن الرّحيم {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ * الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ * مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد
أمّا بعد، فإنّ من سنّة الله عزّ وجلّ في خلقه أنّه ما أو غلت أمة من الأمم في البعد عن طاعة الله سبحانه وتعالى ورضوانه، واستهترت في الذنوب والمعاصي إلّا أقام فيها نبيّا أو أرسل رسولا
{إِنََّا أَرْسَلْنََاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلََّا خَلََا فِيهََا نَذِيرٌ}
(فاطر: 24)
حتى كانت خاتم الأمم: أمّة العرب اتّخذت الشرك دينا والظلم منهاجا والآثام احترافا، فأرسل فيها خاتم الرّسل وأكرمهم عليه جلّ جلاله سيدنا محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا وأنزل عليه = القرآن الكريم = وجعله الكتاب المصدّق لما بين يديه والمهيمن والناسخ للشرائع التي سبقته:
{وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتََابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ عَمََّا جََاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنََا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَلََكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مََا آتََاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرََاتِ إِلَى اللََّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48)
ولمّا كان النبي محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم الرسل وكانت أمته: أمة الدعوة أبسط الأمم موطنا وأمدّ الأمم زمانا، وكان لزاما أن يوغل بعض هذه الأمة بل وأغلبها في البعد عمّا يرضي رب العالمين جلّ جلاله، وليس من نبيّ آت من بعده، كان من فضل الله عزّ وجل على هذه الأمة أن يبعث فيها على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها:
روى = أبو داود رضى الله عنهم في سننه في صدر كتاب الملاحم بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
= إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها = أولئك المبعوثون إنّما هم أئمة العلماء: ورثة الأنبياء، يجددون لهذه الأمّة فقه دينها، فيتجدد لها تدينها، وحسن التزامها في سلوكها بما جاءها عن الله عزّ وجلّ في كتابه وعن النبي صلّى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلّم تسليما كثيرا في سنته المطهرة على النحو الذي يرضي به الله عزّ وجلّ(1/3)
= إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها = أولئك المبعوثون إنّما هم أئمة العلماء: ورثة الأنبياء، يجددون لهذه الأمّة فقه دينها، فيتجدد لها تدينها، وحسن التزامها في سلوكها بما جاءها عن الله عزّ وجلّ في كتابه وعن النبي صلّى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلّم تسليما كثيرا في سنته المطهرة على النحو الذي يرضي به الله عزّ وجلّ
إنّ تجديد العلماء: ورثة الأنبياء للدين إنّما هو تجديد فهم للكتاب والسنة فهما يبعث الناس على حسن التديّن بالكتاب والسنة وليس غيرهما.
ومن لطيف وبديع البيان النبوي أنّ ما يكون فيه تجديد العلماء المبعوثين على رأس كل مائة سنة سمّاه = دينا = أي تديّنا.
في هذا إشارة نبوية إلى أنّ ما يكون من العلماء في فهم الدين (النّصّ / الخطاب الإلهي والنبويّ للأمّة) هو من الدّين (التّدين) وليس شيئا خارجا عن الكتاب والسنة بل هو شيء خارج منهما، فاجتهاد العالم في فهم الكتاب والسنة وفق أصول الفهم الصحيح لهما هو من الكتاب والسنة، فعلى الأمّة ألّا تطمئنّ إلى اجتهاد إلّا إذا كان من عالم بالكتاب والسنّة وطرائق فقههما، وأن يكون اطمئنانها إلى ما جاء عن مجامع أهل العلم أقوى من اطمئنانها إلى ما جاءت به الغرائب والفرائد من اجتهادات فردية، فنحن اليوم في سياق الاجتهاد الجمعىّ الذي يتظاهر ويتعاون عليه جمع من أهل العلم المتخصصين المخلصين، فإنّ في اجتماعهم وتشاورهم وتناصحهم مأمنا من العثرة، ومن إغواء شيطان أو جرأة سلطان.
وفي هذا أيضا هدي نبويّ للأمّة أنّ ما يأتي به العلماء من اجتهاد في فقه وفهم الكتاب والسنّة وفق أصول الفقه والفهم عن الله رب العالمين وعن رسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إنّما فيه خير هذه الأمة، وأنّ عليها أن تقبل على هذا الخير وأن تشكر الله عزّ وجلّ على أن أقام فيها من يجدد لها فقهها وفهمها لكتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم، فيكون من ذلك التجديد في الفقه والفهم تجديد التدين بالكتاب والسنة
وفي هذا هدي نبويّ للأمة أيضا أن ترعى لعلماء الكتاب والسنة العاملين بهما حقهم، فلا يعتدى على أعراضهم وسيرهم، ولا يسمع لمقال مفسد يرمى بإفكه في آذان الدهماء بما يجرح صور علماء الأمة في أفئدة أبنائها، فيرغبون عنهم إلى غيرهم من الذين يتكسبون عرض الدنيا بالقول في كتاب الله عزّ وجلّ وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم
وفي البعث على رأس كل مائة سنة إشارة إلى أن الله عزّ وجلّ من فيض رحمانيته ورحيميته لم يدع هذه الأمة تقيم في الإيغال في المعصية والاستهتار في البعد عن الطاعة أمدا طويلا بل يجعل في كل جيل من أجيالها من يجدّد لها دينها، فلا تتراكم الدياجير عليها، فيكون إخراجها من تلك الدياجير غير عسير لأنّ من أقام في ظلمات المعصية أمدا
بعيدا كان غير يسير على من قام لإخراجه منها أن ينجز ما قام له، وهذا من فيض العون الإلهي لورثة النبي صلّى الله عليه وسلم(1/4)
وفي البعث على رأس كل مائة سنة إشارة إلى أن الله عزّ وجلّ من فيض رحمانيته ورحيميته لم يدع هذه الأمة تقيم في الإيغال في المعصية والاستهتار في البعد عن الطاعة أمدا طويلا بل يجعل في كل جيل من أجيالها من يجدّد لها دينها، فلا تتراكم الدياجير عليها، فيكون إخراجها من تلك الدياجير غير عسير لأنّ من أقام في ظلمات المعصية أمدا
بعيدا كان غير يسير على من قام لإخراجه منها أن ينجز ما قام له، وهذا من فيض العون الإلهي لورثة النبي صلّى الله عليه وسلم
المجدد المبعوث على رأس كلّ سنة لا يكون واحدا بل يكون البعث لأكثر من واحد في مجالات عدة، ومن ثمّ فإنّي أعدّ بعضا من أهل العلم في قرن واحد ومجالات من الفقه في الكتاب والسنّة ممن ابتعثهم الله عزّ وجلّ يجدد لهذه الأمة دينها: فهم كتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم
في القرن التاسع الهجري مجددون لهذه الأمة منهم = برهان الدين البقاعي = صاحب تفسير = نظم الدرر =، جدّد لهذه الأمّة فهم كتاب الله عزّ وجلّ وقدر غبت في أن أعدّ هذا الكتاب عن حياة عقله وجهاد قلمه ومنهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم وأنشره في طلاب العلم بالكتاب والسنة.
ومن ثمّ جعلت الكتاب بابين:
الأول: جهاده في طلب العلم وتعليمه.
والباب الثاني جعلته لتبيان منهاجه في تأويل بلاغة القرآن الكريم
وقد حرصت على أن أذكر نماذج من تفسيره = نظم الدرر = لما أراه معلما من معالم منهاجه في تأويل القرآن الكريم عسى أن يكون في قراءة هذه النماذج ما يغري القارئ بالقراءة في تفسيره نفسه قراءة بحث وعرفان جدير بالصبر والمصابرة
في عصر تنادى شرذمة بأنّه لا يسعها ما وسع الصحابة في عهد النبوة، وبأنّ علينا أن نعيد قراءة القرآن الكريم قراءة عصرية تتواكب مع حركة الحياة في عصر (العولمة) فتكاثرت الأسفار بتلك القراءات التى ليس من همّها في المقام الأول إلّا تسفيه التّراث التأويليّ لأهل السّنّة والجماعة واستعلاء شأن التأويل الفلسفيّ للقرآن الكريم الذي تولى كبره شرذمة من المنسوبين إلى العلماء من أمثال = ابن عربي = وتفسيرات بعض المعتزلة الذين يجاهد بعض المشتغلين بالعلم في نشر منهاجهم العقلي المستعلي على النصّ والدعوة إلى أن النصّ ليس مقدما على العقل بل للعقل المجرّد من التّبعيّة للنصّ سلطان على النّصّ وإن كان متواترا.
ومن ثمّ رأينا من يحاول مخفقا أن يطبق المناهج الأعجمية في نقد النصوص الأدبية على البيان القرآنيّ، ورأينا من ينادي في تلاميذه بوجوب دراسة القرآن الكريم = دراسة أدبية = وأنّ أيّ درس للقرآن الكريم لا يقوم على هذه الدراسة الأدبية هو درس عقيم وأنّ الدرس الأدبي قائم على نزع الإيمان بقدسية النص في أثناء دراسته، فيكون محل مناقدة كمثل أي نصّ، فإذا ما انتهت الدراسة الأدبية للنصّ، فله
أن يعود إلى إقامة قدسيّة النصّ القرآنيّ في قلبه، هكذا وكأنّ قدسية القرآن الكريم وإقامتها في القلب رداء أو ما دونه ينزع متى شاء النازع ويوضع متى شاء.(1/5)
ومن ثمّ رأينا من يحاول مخفقا أن يطبق المناهج الأعجمية في نقد النصوص الأدبية على البيان القرآنيّ، ورأينا من ينادي في تلاميذه بوجوب دراسة القرآن الكريم = دراسة أدبية = وأنّ أيّ درس للقرآن الكريم لا يقوم على هذه الدراسة الأدبية هو درس عقيم وأنّ الدرس الأدبي قائم على نزع الإيمان بقدسية النص في أثناء دراسته، فيكون محل مناقدة كمثل أي نصّ، فإذا ما انتهت الدراسة الأدبية للنصّ، فله
أن يعود إلى إقامة قدسيّة النصّ القرآنيّ في قلبه، هكذا وكأنّ قدسية القرآن الكريم وإقامتها في القلب رداء أو ما دونه ينزع متى شاء النازع ويوضع متى شاء.
كلّ هذا بدعوى الموضوعيّة العلميّة في البحث العلميّ، وغير هذا كثير تموج به الصحائف المنشورة في العباد
ولعلّي انشر قريبا إن شاء الله تعالى في طلاب العلم كتابا قائما ببيان ضوابط فقه المعنى من الكتاب والسنة قد فرغت بحمد الله عزّ وجلّ من إعداد مسودته الأولى، وأسأل الله عزّ وجلّ العون على تنقيحه وتبيضه عسى أن يكون فيه عون لمن يبحث عن الحق فيستبصره ولعلّى أقوّض شيئا ممّا يبنى المفسدون من مسجد ضرار، فأكون ساعيا إلى أداء بعض ما فرض علينا من النصيحة لكتاب الله جلّ جلاله.
روى الإمام = مسلم = رضى الله عنه في صحيحه من كتاب الإيمان بسنده عن = تميم الداريّ = رضى الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا قال:
= الدّين النّصيحة. قلنا: لمن؟ قال: = لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامتهم =
ولو أنّ كلّ طالب علم ومشتغل به أقام ذلك الحديث الجليل نصب عينيه، وكان على ذكر من أنّ مجال الجهاد بالكلمة الحقّ والمرابطة في تحقيق الحقائق العلمية في باب العقيدة والشريعة باب وسيع من أبواب الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ، لاستعذب ما سيلقى في ذلك السبيل من فتن ومحن، وقد قال الله عزّ وجلّ لنا:
{وَجَعَلْنََا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكََانَ رَبُّكَ بَصِيراً} (الفرقان:
من الآية 20)
وإنّ من أشدّ الفتن التي تهلك غير قليل من طلّاب العلم في زماننا فتنة إعلاء ذوى الأمر والسلطان من شأن أهل الفسق والعصيان وتقريبهم وتوليتهم كثيرا من شئون البلاد والعباد، وإغداق الأموال وصنوف التكريم عليهم وإبعاد أهل العلم والتقوى والتغافل عن تكريمهم إذا ما أحسنوا، فظنّ صغار طلاب العلم أنّ في هذا ما يشفع لهم في الإعراض عن المجاهدة في باب العلم والمرابطة في ثغور الدعوة وتنوير القلوب بمعانى الهدى من الكتاب والسنة، وفيه ما يسوغ لهم الارتماء في أخضان إخوان الشياطين وتكثير سواد أهل الحل والعقد في شئون البلاد، فتسارعوا إلى أبواب كل ذي سلطان وأعرضوا عن أبواب وراثة سيد المرسلين صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما
كثيرا إنّ مما يجدر بكلّ داعية إلى الله سبحانه وتعالى مجاهد بكلمة الحقّ مصاحبة سورة = العنكبوت = ترتيلا، وفقها، وتخلقا بما فيها من معانى الهدي إلى الصراط المستقيم هي سورة قائمة بالتحريض على المجاهدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدي لباطل أهل الدنيا، فإنّهم في باطلهم وإن بدوا في ظاهر النّظر أقوياء منعة، فهم في حقيقتهم يحتمون بما هو أو هى من بيت العنكبوت، لا يتردّى فيه إلا من خدع به أمّا أهل البصيرة فإنهم القادرون على اجتثاثه.(1/6)
وإنّ من أشدّ الفتن التي تهلك غير قليل من طلّاب العلم في زماننا فتنة إعلاء ذوى الأمر والسلطان من شأن أهل الفسق والعصيان وتقريبهم وتوليتهم كثيرا من شئون البلاد والعباد، وإغداق الأموال وصنوف التكريم عليهم وإبعاد أهل العلم والتقوى والتغافل عن تكريمهم إذا ما أحسنوا، فظنّ صغار طلاب العلم أنّ في هذا ما يشفع لهم في الإعراض عن المجاهدة في باب العلم والمرابطة في ثغور الدعوة وتنوير القلوب بمعانى الهدى من الكتاب والسنة، وفيه ما يسوغ لهم الارتماء في أخضان إخوان الشياطين وتكثير سواد أهل الحل والعقد في شئون البلاد، فتسارعوا إلى أبواب كل ذي سلطان وأعرضوا عن أبواب وراثة سيد المرسلين صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما
كثيرا إنّ مما يجدر بكلّ داعية إلى الله سبحانه وتعالى مجاهد بكلمة الحقّ مصاحبة سورة = العنكبوت = ترتيلا، وفقها، وتخلقا بما فيها من معانى الهدي إلى الصراط المستقيم هي سورة قائمة بالتحريض على المجاهدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدي لباطل أهل الدنيا، فإنّهم في باطلهم وإن بدوا في ظاهر النّظر أقوياء منعة، فهم في حقيقتهم يحتمون بما هو أو هى من بيت العنكبوت، لا يتردّى فيه إلا من خدع به أمّا أهل البصيرة فإنهم القادرون على اجتثاثه.
{الم * أَحَسِبَ النََّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنََّا وَهُمْ لََا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللََّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكََاذِبِينَ}
(العنكبوت: 21)
{وَالَّذِينَ جََاهَدُوا فِينََا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنََا وَإِنَّ اللََّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:
69)
فانظر راشدا مطلع التلاوة من تلك السورة ومقطعها، فإنّ فيها ما يفتقر كل داعية إلى الله عزّ وجلّ وكل مسلم داعية بلسان حاله إلى أن يقوم طويلا في فقه وفهم ما هو مكنون فيها من معانى الهدى إلى الصراط المستقيم، فإن جمعت إلى ذلك فقه وفهم معاني الهدى في سورة (النحل) كان لك من ذلك زاد كريم لا يفنى ولا تنقضي عجائبه ولذائذه
وإنّ مما ينفع طالب العلم ويعينه بإذن الله عزّ وجلّ حسن قراءة حياة الأئمة من العلماء بالكتاب والسنة ولا سيّما في عصور الطغيان وتكاثر متاع الحياة الدنيا، ففي كل عصر من تلك العصور علماء أئمة عضّوا على الهدى بنواجذهم واستمسكوا بالهدى، وما ألقوا بجباههم من تحت نعال ذوى السلطة بل قالوا كلمة الحق واشعلوا مصابيح الهدى في دياجير الباطل.
وإنّ علينا أن نقدم حياة أولئك العلماء القائمين الشامخين في وجه الطغيان الصابرين على مناصرة الحق والصابرين عن إغراء المال والسلطة والجاه المنثور من تحت أقدام الشيطان
اللهم أني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تصلي وتسلّم وتبارك على عبدك ونبيّك ورسولك محمد بن عبد الله وعلى آله وأزواجه وصحبه وورثته من أهل العلم في كلّ لمحة ونفس عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك
وأن تجعلنى ووالديّ وذريتي وأهل بيتي من أهل القرآن الكريم ظاهرا وباطنا في الدّارين(1/7)
وأن ترفع بالقرآن الكريم بين عبادك الصالحين ذكري في الدنيا والآخرة {رَبَّنََا آتِنََا فِي الدُّنْيََا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنََا عَذََابَ النََّارِ} (البقرة:
من الآية 201)
وأن تجزي عبدك = برهان الدين البقاعي = عن القرآن الكريم خير الجزاء فقد كان فيما أحسب ولا أذكي على الله عزّ وجلّ أحدا ناصحا لكتاب الله جلّ جلالة بما قدمه لنا من تفسيره: (نظم الدرر)، وأن تجزيه عنى وعن طلاب العلم بكتاب الله سبحانه وتعالى ولسان العربية أفضل ما جازيت عالما عن طلاب علمه.
وأن تجزي عنى والديّ بما ربياني صغيرا وأغرياني بأن أكون من أهل طلب العلم بكتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا
وأن تجزي عنى خير الجزاء، وأكرمه، وأدومه شيخي =: = محمّد أبو موسى = الذي جلست بين يديه الكريمة بالعطاء في قاعات العلم بجامعة الأزهر الشريف، فإنّ له يدا باقية مجيدة حميدة في محبتي الاعتكاف على فقه لسان العربية في البيان العالى شعرا ونثرا والبيان العلىّ المعجز: قرآنا وسنة وعلى نشر ذلك وتعليمه للعباد، وقد علمنى أعزّه الله أنّ ذلك باب رئيس من أبواب إنقاذ الأمة من براثن الجهالة والمذلة وقد كان له رفع الله عزّ وجلّ ذكره بالقرآن الكريم في الدارين وما يزال أثر نافذ في كثير من طلاب علم العربية، ألقى بنور عقله وقلبه على الصراط فمهّد وأغرى، ولا يكاد يجحد فضله ويده إلا جاهل أو حانق، وسيبقى أثره فينا إن شاء الله عزّ وجلّ ما بقيت لنا على الأرض حياة وحسبه من نعيم الدنيا ذلك
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وأزواجه وصحبه وورثته من أهل العلم ومن والاه في كلّ لمحة ونفس بعدد كل معلوم لديه والحمد لله رب العالمين
وكتبه
محمود توفيق محمد سعد
الأستاذ في جامعة الأزهر
القاهرة: حدائق الزيتون
ربيع الأول 1423(1/8)
الباب الأول جهاده(1/9)
توطئة
إنّ الله عزّ وجلّ لمّا جعل عبده سيّدنا محمدا صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل دينه: الإسلام خاتم الأديان، وللناس كافة:
{وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا كَافَّةً لِلنََّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28)
وكان من شأن الناس حاجتهم إلى من يأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم: {صِرََاطِ اللََّهِ الَّذِي لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ أَلََا إِلَى اللََّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى: 53)
جعل ذلك رسالة العلماء من بعده صلّى الله عليه وسلم، فكانوا نجوم الامّة كما أخبر صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه = أحمد = رضى الله عنهم في مسنده عن = انس بن مالك رضى الله عنهم: = قال النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا:
= إنّ مثل العلماء في الأرض كمل النّجوم في السّماء يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، فإذا انطمست النّجوم أوشك أن تضلّ الهداة =
(مسند أحمد ج 3ص 157)
وجعلهم ورثة الأنبياء: روي = أحمد = رضى الله عنهم في مسنده عن = أبي الدرداء رضى الله عنهم = أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
= إنّ العلماء هم ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر = (مسند أحمد: 5/ 196)
وعلى مقدار عقل المرء يكون مقدار سعيه إلى أن يأخذ من ميراث النّبوة قولا وعملا، فكثر في الامّة قديما السّاعين إلى أن يأخذوا من ميراث النّبوّة ليقوموا بتبيان الصّراط المستقيم في كلّ ما يجدّ من حركة الحياة المتجدّدة.
وإنّ مما يغري أيضا بالحرص على أن يكون المرء من أهل العلم الوقوف على سيرة العلماء الماجدة، ولا سيّما أولئك الذين أقبلوا علي طلبه احتسابا بقلب مفتوح فلم يتخذوا من طلبه منهاج التكرار لما جاء
عن سلفهم بل اتخذوا منهجا نقديّا يستثمر عليّ القول وكريمه ويضيف إليه لما جاءت به الحكمة النبويّة الجليلة:(1/11)
وإنّ مما يغري أيضا بالحرص على أن يكون المرء من أهل العلم الوقوف على سيرة العلماء الماجدة، ولا سيّما أولئك الذين أقبلوا علي طلبه احتسابا بقلب مفتوح فلم يتخذوا من طلبه منهاج التكرار لما جاء
عن سلفهم بل اتخذوا منهجا نقديّا يستثمر عليّ القول وكريمه ويضيف إليه لما جاءت به الحكمة النبويّة الجليلة:
روى = التّرمذيّ رضى الله عنهم بسنده عن حذيفة رضى الله عنهم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا:
= لا تكونوا إمّعة:
تقولون: إن أحسن النّاس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن النّاس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا =
(صحيح الترمذي: كتاب: البر حديث: 2007)
العلماء هم أقدر الأمّة على التأدّب بهذه الحكمة النّبويّة المغرية بمنهج نقدي لكل ما تجري به حركة الحياة، وهو منهج لا يقتدر عليه إلّا من كان طيّب المنبت والمرعى سامي الغاية يرى الدنيا كما هي عند خالقها، فلا يجعلها في قلبه فوق حقيقتها، فهو يعجب لمن يغري بها عالما، وقد جعله ربّه عزّ وجلّ وارث نبوة، لا وارث ملك يزول، ويعجب أكثر ممن ينتسب إلى أهل العلم ويتطلع إلى ما تلوح به يد السّلطان من لعضاعضة الدّنيا.
و= برهان الدين البقاعيّ = فيما أحسب ولا أذكي على الله عزّ وجلّ أحدا واحد من أولئك العلماء المجاهدين في طلبهم العلم وتعليمه ونشر أسفاره النافعة في الأمة.
قدّم لأمّته كثيرا من أسفار العلم النافع، فرغبت في أن أطلع طلّاب العلم على شيء من جهاده.(1/12)
الفصل الأول جهاده في طلب العلم وتعليمه(1/13)
المنبت والمرعى
في مطلع القرن التاسع الهجري وفي أرض الشام كان هنالك مقدم رجل سيكون له مع تثوير القرآن الكريم وتدبره منهاج يرفع ذكره بين أقرانه في عصره، ثمّ في العصور المتتابعة من بعده، ويجعله بارزا ذكره بين القائمين إلى تدبر البيان القرآني الكريم، وهم من قبله ومن بعده كثير لا يكاد يحصى عددهم، ولكنّه سيحظى بأن يكون رأسا في منهاج من مناهج التدبّر البيانيّ للقرآن الكريم، وهو وإن لم يكن المؤسّس ذلك المنهاج، فإنّه الرافع لقواعده المرابط على ثغره يزود عنه، ويكمل بنيانه
ذلك القادم من أرض البقاع، المنسوب إليها، فجعلها على لسان كثير من أهل العلم، فكان البارّ بذكرها:
= إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن على بن أبي بكر = أبو الحسن برهان الدين البقاعي = ينتهي نسبه كما يذكر إلى سيدنا = سعد بن أبي وقاص الزهريّ = رضى الله عنهم (1)
وكان مولده في قرية = خربة روحا = من البقاع العزيزي بأرض الشام سنة تسع وثمان مائة من الهجرة، وقد تناقل ذلك التاريخ عنه من أرخوا له (2)
__________
(1) عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران للبقاعي: ج 1/ 349، 351 (مخطوط رقم: 2255تاريخ تيمور) والأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة للبقاعي: ق / 1 (خ رقم 1269تفسير دار الكتب المصرية)، وبذل النصح والشفقة في صحبة السيد ورقة للبقاعي: ق: 1 (خ رقم 117تصوف دار الكتب الصرية) والضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السخاوي: 1/ 101 مكتبة الحياة بيروت
(2) الضوء اللامع: ج: 1/ 101والبدر الطالع: للشوكاني ج: 1ص 19مكتبة ابن تيمية القاهرة ونظم العقيان للسيوطى: ص 24، ط: 1927نيويورك وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي: ج 7/ 329ط: 1351، والعنوان في ضبط مواليد ووفيات أهل الزمان، لأبي المفاخر النعيمي: 14 (خ رقم 2193تاريخ تيمور دار الكتب المصرية)(1/15)
وقد بقي في قيد الحياة الدنيا ستا وسبعين سنة عانى من الكبد والكمد ما عانى حتّى رحل إلى ربه جلّ جلاله ليلة السبت الثامن من شهر رجب سنة خمس وثمانين وثمان مائة (885) بدمشق ودفن يوم السبت في المقبرة الحميدية من جهة قبر = عاتكة = بدمشق (1)
* * * مذهبه العقدي والفقهيّ: كان = البقاعيّ = في باب العقيدة على منهاج الأشاعرة وفي فقه الشريعة على منهاج الإمام الشافعيّ رضى الله عنه
ولم يكتف بذلك بل درس المذهب المالكي على شيخه = المشدالى = بالأزهر الشريف، ودرس = الموطأ = على شيخه محمد بن على الصفوي = بالقاهرة سنة سبع وثلاثين وثمان مائة. (2)
والجمع بين مذهبين فقهيين في الدرس من بعد التمكن في أحدهما معين على اتساع النظر العقلى ونفاذ البصيرة
اختلاف المذاهب الفقهية أساسه اختلاف في منهاج التبصر في نصوص الكتاب والسنة من جهة والتبصّر في حركة الحياة والسياق الحضاريّ الذي يقوم فيه صاحب المذهب ودارسه، فليس فقيها من عكف على حفظ آراء أهل العلم وحوى صدره ما سطّروه في أوراقهم وأسفارهم وانعزل عن حركة حياة قومه وسياق وجودهم الزماني والمكاني، فإذا ما كانت شريعة الإسلام صالحة لكلّ زمان ومكان كما هو مشهور فإنّها أيضا مصلحة كلّ زمان ومكان، فما من عصر أو مصر عمّه الفساد فأسلم أمره إلى شريعة الإسلام إسلام المريض أمره إلى طبيبه إلا عوفي وعاد إليه مجده وعزّه وأمنه.
إنّ على فقهاء الأمة في عصرنا هذا وما يردفه من العصور فريضة لازمة لا يقوم بها فرد من جمعهم:
عليهم الوعي البالغ بحركة الحياة المتجددة تجددا محموما يستوجب أن تصاحبه حركة تفقه بالغ لتلك الحركة في نور الكتاب والسنة، والسعي إلى ما يستبقي الناس في دائرة الطاعة والتباعد بهم عن حرج التضييق والتشديد، وعن إلزامهم بمباعدة ما لم تقطع الأدلة بحرمته إذا ما حملتهم حاجة على المقاربة
الخير في أن ندع للناس ولا سيما الدهماء مساحة متسعة من المباح ومما لم تتواتر علي حرمته تحقيقات العلماء المحررين المتقين، فإنّ
__________
(1) عنوان الزمان: 1/ 351
(2) عنوان الزمان: 1/ 48، 352، ج 4ص 48، 65، 267(1/16)
مغريات الحياة أقوى من ركائز الإيمان في قلوب غير قليل من الناس، فإذا ما توافدت على مسامعهم كلمات التحريم غير المقطوع بدلالة النصوص عليه في كل ما يستفتون فإنّ سبل الفرار كثيرة.
ليكن فقهاؤنا ربانيين، ولن يتحقق مثل هذا إذا ما حصرت أبصارهم وبصائرهم في ما جاءت به المذاهب الفقهية الأربعة، وفي تراث علمائنا من قبل أولئك الأمة الأربعة ومعهم ومن بعدهم اجتهادات للأئمة علماء لا يقلون شأنا في علمهم واجتهادهم، ونصحهم لله عزّ وجلّ ولكتابه، ولرسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا وللأئمة المسلمين وعامتهم احتسابا لرضوان ربهم سبحانه وتعالى وجدير بنا أن نحيي درس تراثهم والاستفادة من أصول النظر عندهم.
* * *رحلاته العلمية:
المرحلة الأولى: (835809)
لمّا أدرك البقاعيّ تلقي علوما عدة في قريته = خربة روحا = قرأ على عمه الشهاب البقاعي (820770) القرآن الكريم وحفظه ولازم زاوية الشيخ = موسى = لمراجعة محفوظه من القرآن الكريم، وصلّى به (1)
هذا آية على إتقانه الحفظ والترتيل وهذا منهاج جليل يكشف عن تمكن الطالب من حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فليتنا نأخذ بمثله في تعليم طلابنا في المراحل الأولى من التعليم بأزهرنا الشريف، فيمنح طلابنا اقتدارا على حسن ترتيل القرآن الكريم من بعد حفظه لأنّ الصلاة به في جماعة جهرية من عوامل تثبيت حفظه في الصدر.
ثمّ كانت بلية لقومه في العام الحادى والعشرين من القرن التاسع (821) والفتى في الثانية عشرة من عمره، تؤدي البلية بجمع من أهله: والده وعميه، وستة آخرين، فيغادر قريته مع أمه وجده متنقلا في قرى عدة: يدخل قرى وادي التيم، والعرقوب ويظل بها حتى دخل دمشق = سنة (823) فينشط في طلب العلم:
يدرس الشاطبية حتى سورة المنافقون على شيخه = شرف الدين المسحراتي = (ت 825) (2)
ويقرأ النحو والتصريف والفقه والمعقولات على شيخه الأثير عنده = محمد بن بهادر = (ت: 831)
__________
(1) السابق: 1/ 351، 356، ج 2ص 39
(2) السابق ج 2ص 352، ج 3/ 180(1/17)
فلازمه (1)
ويتلقى المنطق على الشيخ = البدر الهندي = (ت 833) تلميذ السيد الشريف (ت 816) فيعجب الشيخ به، ويعده أن يعلمه = علم الهندسة = غير أن = البدر = غادر دمشق إلى = حماة = من قبل أن يمكن من الوفاء بوعده (2)
وفي سنة (828) يدرس على الشمس بن الجزري (ت: 833) القراءات العشر، ويحفظ = النشر في القراءات العشر =، ويجيزه بكل ما يجوز للشيخ (3)
ويرحل إلى = القدس = لأول مرة مع والدته، فيدرس هناك = علم الحساب = على شيخه = العماد بن شرف = (ت: 852) ويحفظ منظومتى = ابن الهائم = في الجبر وقواعد الإعراب، ويعرضهما على شيخه = العماد =، فيعجب به، ويلقبه بالشيخ والإمام والمقرئ المجيد (4)
وفي رمضان من العام نفسه توفيت والدته بالقدس، ويبقي فيه حتى شهر = ذي القعدة =، فيرتحل إلى دمشق، ويحفظ فيها كتاب = البهجة نظم الحاوي = في الفقه الشافعي، ويقرأ على = ابن قاضي شهبة = كتاب الحاوي = قراءة بحث، ويتم تأليف كتابه: = كفاية القارئ وغنية المقرئ في رواية أبي عمرو = (5)
ويقرأ على = تقي الدين الحصنى الشافعي = (ت: 828) شرحه للتنبيه، والمنهاج، ويبقي ملازما شيخه = ابن بهادر = حتى وفاة الشيخ سنة 831) فيغادر = البقاعي = دمشق مرة أخرى إلى = القدس = فيزيد في منظومته: = الباحة في علم الحساب والمساحة = التى بدأها سنة 827)
ويدرس كتاب = الوسيلة في الحساب والفقه والفرائض = على شيخه = زين الدين ماهر بن عبد الله = تلميذ ابن الهائم، ويتلقى = النحو = على التاج الغرابيلي (ت: 835) ويدرس كتاب = التحفة = لابن حجر على = العماد بن شرف =، ويظل بالقدس مستشرفا لقيا = ابن حجر =، فلما عنّت له حاجة في = الخليل = رحل إليها ومنها إلى = غزة = فكانت الرحلة إلى = القاهرة =، فدخلها، ومثل بين يدي = ابن حجر العسقلانيّ = في شهر
__________
(1) السابق: 1/ 352، 2/ 41
(2) السابق: 1/ 353، 484
(3) السابق: 2/ 352
(4) السابق: 1/ 352/ مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور للبقاعي. ج 1 ص 130ت: عبد البديع حسنين.: الرياض 1408
(5) عنوان الزمان: 1/ 32(1/18)
صفر الخير سنة (834) فكتب جملة من تصانيف شيخه وقرأها عليه وأذن له في التدريس (1)
وسمع في هذه الرحلة من علماء القاهرة ولا يبقى في القاهرة طويلا فيعود إلى = القدس = مرة أخرى في العام نفسه، فيتلقى = سنن أبي داود = وغيرها على بعض شيوخ = القدس.
ويستشرف إلى الإقامة في القاهرة، فيرجع إليها سنة (835) ليبقى بها خمسة وأربعين عاما، فتنتهى مرحلة من مراحل تلقيه العلم لتبدأ مرحلة أخرى يجمع فيها بين تلقيه العلم من أعلامه وتعليمه طلاب العلم ما تلقاه، حرصا على أن يكون المتعلّم المعلّم، وذلك شأن العاقل من المنتسبين إلى هذه الأمة المحمدية غاية ومنهاجا، فلا خير في يوم لا يتعلم فيه المرء علما نافعا، ولا يعلم فيه مسلما ما ينفعه إن بلسان مقاله أو قلمه وإن بلسان حاله وفعاله وأخلاقه.
* * * * *المرحلة الثانية: (880835)
اتخذ في هذه المرحلة القاهرة دارا ووطنا، وقام ببعض الأسفار داخل الديار المصرية، وخارجها، وكان يقيم في القاهرة فوق مسجد في = رحبة باب العيد = وهي رحبة واسعة كانت أمام الباب الشرقي للقصر الفاطمي الكبير الذي أنشأه = جوهر الصقلى = للمعز الفاطمي، وهي الآن متفرعة من شارع قصر الشوق بالغورية بالأزهر، وما يزال شارع = رحبة باب العيد = قائما عامرا
تولى = البقاعي = وظيفة = معيد = بهذا المسجد، وبمسجد = الظاهر = وهي وظيفة يقوم صاحبها بتفهيم بعض الطلاب ما لم يستطيعوا فهمه من الشيخ، فيعيد الدرس عليهم بشيء من التوضيح كما يقول التاج السبكي في = معيد النعم =
وليت هذا المسجد: مسجد الظاهر يعتنى الآن بشأن التعليم والدعوة فيه ليكون منارا علميا تربويا في تلك البقعة القائم فيها فإنّ جيرانه ليفتقرون إلى أن يشرق عليهم منه نور العلم النافع، فلا يكتفى بأن يكون أثرا إسلاميا يشاهده غير المسلمين ولا ينتفع منه أبناء الإسلام بشيء غير إقامة الصلوات المفروضة، ثمّ تغلّق الأبواب في وجوههم، فليست المساجد في الإسلام لإقامة الصلوات فحسب بل هي كذلك ومعاهد تربية
__________
(1) عنوان الزمان: 1/ 162، الذيل على رفع الإصر للسخاوي: 68، النجوم الزاهرة: 15/ 523، شذرات الذهب: 7/ 270(1/19)
ومجامع شورى ومنازل تراحم وتواصل، ولكن القوم مخافة على كرسيّ إماراتهم ارتعدت فرائصهم من أن يتلاقى الشباب برعاية عالم يتلون كتاب الله سبحانه وتعالى ويتدارسونه فيما بينهم، فغلقت المساجد في غير أوقات الفرائض، وفتحت المواخير في كل وقت ولكلّ من رغب.
ظل البقاعيّ ملازما شيخه = ابن حجر العسقلانيّ = في حله وتر حاله حتى وفاة = ابن حجر = (ت: 852) وقد نشط = البقاعي = في التأليف في هذه المرحلة
ومن رحلاته مع = ابن حجر = رحلته إلى الشام سنة (836) في صحبة السلطان = برسباي = وهناك يقرأ على بعض شيوخ الشام كالبرهان الطرابلسي، و = ابن شيخ السوق الحنبلي = وعلى = ابن العديم = وعلى الشهاب الرملى = وسعى إلى الاجتماع بالشاعر = ابن حجة الحموي، فلم يتيسر له (1)
وفي سنة (837) يعود مع شيخه = ابن حجر = إلى القاهرة، فيكثر من القراءة على علمائها:
يقرأ على = المقريزي = المؤرخ بعض مؤلفاته، وعلى = المشدالى = التفسير والفقه المالكي، ويتعلم منه القاعدة الكلية لتناسب آيات وسور القرآن الكريم ويقيم على أساسها تفسيره العظيم: = نظم الدّرر =
ويقرأ على = البدر البوصيري =، وعلى = ابن الصفوي = ويقرأ النحو والبلاغة وتفسير الكشاف والمنطق والفقه وأصوله على = القاياتي =
ويقرأ على = الزين المحلى = و = شهاب الدين الجوهري = وعلى = شرف الدين القرقشندي =
ويقرأ على بعض أهل العلم من نساء القاهرة مثل: زينب بنت الزين العراقي، وكلثوم بنت الزين البابلي (2)
ويجتهد في الأخذ عن العلماء في شتى فنون المعرفة، وقد ترجم شيوخه في كتابه القيم = عنوان الزمان = وهو في أربع مجلدات مخطوطة بدار الكتب المصرية
وطوّف في بلدان (الدلتا) من مصر ويقرأ على بعض أهل العلم فيها ويسجل تراجم بعضهم ويلقى بعضا من شعرائها
__________
(1) عنوان الزمان: 1/ 436
(2) عنوان الزمان: 1/ 10، ج 2/ 419(1/20)
ويسافر إلى أرض الحجاز للحجّ سنة (848) ويمكث عاما يطوّف في = الجزيرة = ويأخذ عن بعض علمائها، ثمّ يعود إلى القاهرة سنة (849) مستأنفا تلقيه وملازمة شيخه ابن حجر
ويشارك في الجهاد والمرابطة في دمياط سنة (851) و (852) ويعود إلى القاهرة مقيما بها حتى عام (880)
وقد جرت له بمصر وقائع ومحن عديدة شديدة لتصدّيه لما رآه منكرا لا يحلّ السكوت عنه فيغادرها إلى = دمشق = (1)
ومما كان له أثر في حياته وفي منزلته من بعد تفسيره تصديه للعبث بأصول العقيدة الإسلامية ولا سيّما صفاء عقيدة التوحيد، إذ رأى في نشر فكر الإلحاد والقول بوحدة الوجود والترويج لمقالات = ابن الفارض = و = ابن عربي = عدوانا داخليّا على الأمة، فرابط في هذا الثغر الذي خطره أشد من الثغور التي تهاجمها جحافل العسكر من أعداء الإسلام، فامتشق قلمه ولسانه وتصدى لإخوان الباطل، وكان له مع الفكر الإلحادي ممثلا في تراث = ابن الفارض = و = ابن عربي = منازلات سجلت في كتب التاريخ:
يقول = ابن إياس الحنفي = في تأريخ أحداث سنة خمس وسبعين وثمان مائة:
= وفي أوائل هذه السنة كثر القال والقيل بين العلماء بالقاهرة في أمر الشيخ العارف بالله تعالى سيدي = عمر بن الفارض = نفع الله النّاس ببركته [!!! كذا] وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبيات قالها في قصيدته = التائية =، فاعترضوا عليه في ذلك، وصرّحوا بفسقه بل وتكفيره، ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد، وحاشاه من ذلك أن ينسب إليه هذا المعنى، ولكن قصرت أفهام جماعة من علماء هذا العصر، ولم يفهموا معنى قول الشيخ = عمر = فيما قصده من هذه الأبيات، فأخذوا بظاهرها ولم يوجهوا لها معنى، فكان كما قال المتنبّي:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم
__________
(1) عنوان الزمان ج 1/ 226و 312: ج 2/ 64، 141، 249، 370، ج 3/ 84، 148، 205(1/21)
فكان رأس من تعصّب على الشيخ = عمر بن الفارض =: = برهان الدين البقاعيّ =، وقاضي القضاة: = محب الدين بن الشحنة =، وتبعهم جماعة كثيرة من طلبة العلم يقولون بفسقه، وأمّا من تعصّب لابن الفارض من العلماء فهم: الشيخ محيي الدين الكافيجي الحنفي، والشيخ القاسم الحنفي
فلمّا زاد الرهج في هذه المسألة كتبت الفتاوى في أمر = ابن الفارض = التى ظاهرها الخروج عن قواعد الشّرع، فكتب الشيخ محيي الدين الكافيجي على هذا السؤال ما هو أحسن عبارة وأقرب إلى انصاف.
والف الجلال السيوطيّ في ذلك كتابا سماه: = قمع المعارض في الرد عن ابن الفارض = وألف = البدري بن الفرس = في ذلك كتابا شافيا في هذا المعنى واضحا في الرد على من تعرض على = ابن الفارض = وصنف بعض العلماء كتابا سماه: = درياق الأفاعي في الردّ على البقاعيّ =
ووقع في هذه المسألة تشاحنات بين العلماء مما يطول شرحه في هذا المعنى ثمّ هجوا = البقاعيّ = و = ابن الشحنة = وغيره ممن تعصّبوا على = ابن الفارض = وصاروا يكتبون الأوراق يهجو المعترضين على = ابن الفارض ويلصقون تلك الأوراق في مزاره
ثمّ إنّ بعض الأمراء تعصّب لابن الفارض بل وتعصّب له السلطان أيضا وأمّا = البقاعيّ = فكادت العوام أن تقتله، وحصل له من الأمراء ما لا خير فيه، فهرب واختفى = (1)
رابط = البقاعي = مجاهدا اعتداء أهل الباطل على صفاء عقيدة التوحيد فما كان إلا أن هاجر من مصر إلى = دمشق =
وهذا الذي قام له = البقاعيّ = فريضة على أهل العلم القيام لمثله في كلّ عصر ومصر، فإنّ أهل الباطل إذا ما علموا أنّ جهرهم بالباطل سيلقى عنتا بليغا من أهل الحق فإنهم لن يجاهروا بباطلهم، فلن يظهر الباطل إلا من خور أهل الحق، وسكوتهم وتساهلهم في دفع ما ينجم من شواهد الباطل فإن الباطل وأهله أضعف من أن ينتصروا من أنفسهم إنما انتصارهم من خور أعدائهم أهل الحق.
هذه المرحلة من حياة = البقاعيّ = أثرى مراحل عمره في التعلّم والتعليم والتأليف، وفي اكتساب كثير من المهارات العلمية والاجتماعية،
__________
(1) بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس الحنفي: ج 3ص 5147ت:
محمد مصطفى(1/22)
وأظن أن هذه المرحلة هي التي كان من ثمارها أن صار واحدا مما لا يمكن أن يستغنى عن تراثه طالب علم مجدّ في علوم القرآن الكريم، فهو يمتاز في هذا على أقرانه كالسخاوي أن ما قدمه لنا من التراث العلمي لا يمكن أن يغنى عنه غيره، ولا سيما تفسيره الجليل: = نظم الدرر في الآيات والسور = أما السخاويّ فإنّه وإن قدّم لنا ما يحمد له فإنّ في ما قدمه غيره ما يغني عنه.
والبقاعي يتميز عن تلميذه السيوطيّ بأنّ السيوطي وإن كان أكثر شهرة وتأليفا فإنّ ما قدمه يغلب عليه أنّ له فيه الجمع والترتيب والتصنيف، وليس له منه ما يتفرّد به على غيره، فمن خلل كثيرا من أسفار = السيوطي = أمكنه أن يعيد ما فيها إلى أصحابها من العلماء السابقين أو المصاحبين للسيوطيّ فلا يبقى له منها ما يمكن أن يشار إليه، وليس للمرء من أسفاره إلّا ما أنتجه قلبه من دقائق العلم لا ما وعته حافظته من مقولات الآخرين، ولا سيما في زماننا هذا الذي أضحت فيه أدوات حفظ المعرفة جد عديدة ويسيرة.
البقاعيّ له في تفسيره على الأقل كثير جدا مما لا تكاد تجده عند سابق عليه أو مصاحب له، فإنّ شخصيته العلمية قائمة في تفسيره تجوبه وتقطعه طولا وعرضا فلا يكاد يغيب عنك جرسه ونفسه، وذلك شأن العالم الماجد، ومن ثمّ فإنّي أزعم أنّه هو وشيخه = ابن حجر = من المجددين في القرن التاسع الهجري.
* * * * *المرحلة الثالثة: من سنة 885880
تبدأ هذه المرحلة بخروجه من القاهرة إلى دمشق، وتنتهي برحيله إلى ربّه الرحمن الرحيم.
في دمشق يتلقاه = ابن قاضي عجلون = (ت: 928) وتلاميذه ويبالغ في إكرامه وإجلاله لما بلغه من علمه، ويبقى في كرم ابن قاضي عجلون إلى أن تنشب فتنة تعرف بفتنة (ليس في الإمكان أبدع مما كان) وهي قضية فلسفية قال بها = الغزاليّ =، ويتصدى لها = البقاعي = ويفنّد آراء القائلين بها ويؤلّف في هذا ولا يرتضي منه = ابن قاضي عجلون = ذلك، تعصبا للغزاليّ
ولا يلين البقاعيّ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال، وليس الغزاليّ أو غيره خلا النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا بالمعصوم من أن يردّ عليه بعض ما يأتي به، فينصرف
= ابن قاضي عجلون = هو وتلاميذه عن = البقاعي = بل يعتدي بعض الناس على البقاعيّ بسبب ذلك (1)(1/23)
ولا يلين البقاعيّ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال، وليس الغزاليّ أو غيره خلا النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا بالمعصوم من أن يردّ عليه بعض ما يأتي به، فينصرف
= ابن قاضي عجلون = هو وتلاميذه عن = البقاعي = بل يعتدي بعض الناس على البقاعيّ بسبب ذلك (1)
يبتلى في القاهرة بفتنة ابن عربيّ وابن الفارض، ويبتلى في دمشق بفتنة: = ليس في الإمكان أبدع مما كان = ولكنه لا يخضع إلا للحق الذي يراه بالدليل من الكتاب والسنة ويؤمن به.
وفي مقامه بدمشق يؤلف بعض أسفاره ورسائله ويحرر، ويبيض نسخته الأخيرة من تفسيره = نظم الدرر =، ويفرغ من هذا التحرير في عصر يوم الأحد عاشر شعبان سنة اثنتين وثمانين وثمان مائة بمنزله الملاصق للمدرسة = البادرائية = بدمشق أي من قبل وفاته بثلاث سنوات (2)
ست وسبعون سنة عاشها البقاعيّ مكابدا لا يلين ولا يتوانى ولا يكلّ، عرف قدر الحياة وعظيم ما هو مقدم عليه من ملاقات ربّه جلّ جلاله وسؤاله عن عمره فيم أنفقه، فسعى إلى أن يعدّ لهذا السؤال الجليل جوابا لا يندم به ولا يخزى. ولو أنّ كلّ واحد منّا شغله البحث عن إجابة حميدة عن هذا السؤال الإلهيّ له يوم القيامة لما وجدت مسلما مستهترا بقتل أوقات فراغه، ولا مستهلكا عمره فيما لا يبقى له منه شيء حميد مجيد عند شدّ الرّحال إلى مصيره.
قد بقي للبقاعيّ إن شاء الله تعالى، ولا أزكي على الله عزّ وجلّ أحدا مجاهدته في إقامة منهاج جليل لتأويل البيان القرآني تأويلا يهدي إلى العرفان ببعض معالم الإعجاز القرآني العظيم، ويهدي إلى العرفان ببعض لطائف حقائق معاني الهدى إلى الصراط المستقيم، فيرتقى المرء بهذا العرفان في مقامات القرب من رب العالمين، ويتنقل في أسنان الطاعة من مطلع الإيمان (الذين آمنوا) إلى مقطعه (المؤمنون) ومنه إلى مطلع التقوى (الذين اتقوا) ثم إلى مقطعها (المتقون) ليلج من بعد إلى سن الإحسان (الذين أحسنوا)، فيعبد الله تعالى موقنا أنّ الله تعالى يراه فلا يلتفت إلى سواه ثم إلى مقطع الإحسان (المحسنون) فيعبد الله سبحانه وتعالى كأنه يرى ربه تعالى، فيذوق لذة القرب والأنس بطاعة رب العالمين.
* * * * * * * __________
(1) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي المكي: ص 4ط: 139مصطفى الحلبي القاهرة
(2) نظم الدرر: ج 22ص 443، تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان للبقاعي لوحة 25مخطوط مصور بالخزانة الزكية بدار الكتب الممصرية رقم / 34، والبدر الطالع للسخاوي: ج 1/ 21، شذرات الذهب: 8/ 158(1/24)
شيوخه وتلاميذه:
ليس يخفى أنّ العالم العامل إنّما هو من ورثة النبي صلّى الله عليه وسلم وراثة تربية وتعليم {كُونُوا رَبََّانِيِّينَ بِمََا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتََابَ وَبِمََا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: من الآية 79)
وكلّ طالب علم نابه ماجد إنّما هو ثمرة جهد ناصح لشيخ أو شيوخ مخلصين في تعليمهم وتربيتهم، وهذا يغري بأن يكون كلّ والد الحريص على أن يقيم ولده بين يدي شيخ يغرس في قلب تلميذه حب العلم النافع والعمل به، واستعلاءه على كلّ متاع من متاع الحياة الدنيا، فذلك أحق بالحرص على تحقيقه لولده من حرصه على أن يحقق له متاعا زائلا، وجاها زائقا.
كان سلفنا الصالح لا يلقون بأبنائهم بين يدي كل من ألقى بنفسه في ميدان التعليم، فكم من مربّ هو أشد افتقارا إلى أن يربّى، وكم من معلّم هو أشد افتقارا إلى من يعلمه، ولا سيما في عصرنا هذا الذي أضحى غير قليل من المشتغلين بالتعليم هم الخطر العظيم على أخلاق الشبيبة.
قد أضحى كثير من الآباء يلقون بأولادهم تحت أيدي أقوام علمانيين يتخذون مما يعرف بالتعليم الخاص للغات سبيلا إلى تنشئة أبناء الأمة تنشئة لا تتصل بكتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، يكررون على مسامعهم ما هو مناقض لصريح الكتاب والسنة دون أن يذكون لهم ما جاء في الكتاب والسنة مناقضا لتعاليمهم حتى لا يتحرج بعض أولئك الأبناء أو الآباء، فنشأ في الأمة أبناء فإذا المنكر شرعا عندهم هو المعروف، وإذا المعروف شرعا هو المنكر الذي ينفرون منه نفورهم من كل بغيض إليهم.
وإذا ما بلغت أمّه إلى أن يستحيل فيها المنكر معروفا يسعى إليه حثيثا ويفتخر به ويحترم ولاة الأمر والمنتسبون إلى العلم وطلابه والدهماء أهله به، ويعتقد العامّة أنّ ذلك من فتح الله سبحانه وتعالى على صاحبه وإكرامه له، فقد اقتربت تلك الأمّة من شفا جرف هار قد ينهار بها في نار جهنّم، والله لا يهدي القوم الظّالمين.
وإنقاذ هذه الأمة حين ذاك يكون جدّ عسير، ولكنّه غير متعذّر، مما يفرض على علمائها المجاهدة والمصابرة، والتّواصي بالحق والصبر والمرحمة.
إنّ علينا نحن الآباء أن نحسن اختيار أماكن تعليم أبنائنا واختيار شيوخهم، وان نعلمهم أنّ رسالة الشّيخ من رسالة النبيّ حسن النصيحة
احتسابا، وليس من عمل قط هو منسول من عمل النبوة كمثل عمل تعليم الناس الخير(1/25)
إنّ علينا نحن الآباء أن نحسن اختيار أماكن تعليم أبنائنا واختيار شيوخهم، وان نعلمهم أنّ رسالة الشّيخ من رسالة النبيّ حسن النصيحة
احتسابا، وليس من عمل قط هو منسول من عمل النبوة كمثل عمل تعليم الناس الخير
ومن ثمّ كان جزاؤه عظيما:
روى الترمذي بسنده عن = أبي أمامة الباهليّ = رضى الله عنهم أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا قال:
= إنّ الله وملائكته وأهل السّماوات والأرضين حتّى النّملة في جحرها، وحتّى الحوت ليصلون على معلّمي النّاس الخير = (صحيح الترمذي:
كتاب العلم باب: ما جاء في فضل التفقه حديث: 2685)
وقارئ كتاب = القابسيّ =: أبو الحسن علي بن محمد بن خلف (324 403) المسمى: = المفصّلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين = يطلع على ما فيه من منزل وأثر للشيخ في تلميذه مما يستوجب على كلّ معلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى في طلابه فإنه القدوة.
وقد قال = عتبة بن أبي سفيان = ل = عبد الصمد بن عبد الأعلى الشيباني = وقد جاء مؤدبا ولده:
= ليكن أوّل ما تبدأ به من إصلاحك بنيّ إصلاحك نفسك، فإنّ أعينهم معقودة بعينك، فإنّ الحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت، علّمهم كتاب الله عزّ وجلّ، ولا تكرههم عليه فيملّوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثمّ روّهم من الشّعر أعقله، ومن الحديث [أي الكلام] أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتّى يحكموه، فإنّ ازدحام الكلام في السّمع مضلّة للفهم، وعلّمهم سير الحكماء، وأخلاق الأدباء، وجنّبهم محادثة النّساء، وتهدّدهم بي، وأدّبهم دوني [اي في غير محضر أبيهم]، وكن لهم كالطّبيب الذي لا يعجل بالدّواء حتّى يعرف الدّاء، ولا تتّكل على عذري، فإنّي قد اتّكلت على كفايتك، وزد في تأديبهم أزدك في برّي إن شاء الله = (1)
شيوخه:
لقى البقاعي في مراحل تلقيه العلم التي أو جزت القول فيها كثيرا من العلماء وتلقى على كثير منهم في كثير من البلدان التي ارتحل إليها وأكثر البلدان التي لقي فيها العلماء القاهرة ثم دمشق
__________
(1) البيان والتبيين للجاحظ: 2/ 73ت: هارون ط: 1405الخانجي بالقاهرة(1/26)
وهو لم يكن في تلقيه على أولئك العلماء على درجة سواء في التلقي، ولم يكن ملازما لكثير منهم ملازمة التلمذة، ولعل أكثرهم ملازمة له شيخه ابن بهادر، وشيخه ابن حجر العسقلاني
ولست هنا بصدد تصنيفهم من حيث ما تلقاه عليهم من العلوم، فقد كان يتلقى العلم الواحد على أكثر من عالم في أكثر من بلد، بل كان يتلقى الكتاب الواحد على أكثر من شيخ، ومعجم شيوخه وأقرانه يفيض بذكر أشياخه وما تلقاه عنهم وأحواله معهم وبذكر أقرانه، فهو معجم وسيع ملأ أربع مجلدات مخطوطة وكنت على رغبة في أن أكتفي هنا بنقل ترجمة البقاعي بعضهم من معجمه المخطوط ليكون نموذجا لمنهجه من جهة وتراجم لشيوخه وتلاميذه من أخرى ولكني لم أوفق إلى ذلك، فقد تعسر على نقل ذلك من معجمه المخطوط نقلا كاملا لضيق الوقت والجهد وكثرة الشواغل، ولا سيما أن كثيرا من شيوخه أعلام عرضت تراجمهم مراجع عدة
وقد رأيت أن أرتب بعض شيوخه على وفق تاريخ وفاتهم، وأن أوجز الترجمة بالإشارة إليهم ومصادر تراجمهم:
شرف الدين المسحراتى:
صدقة بن سلامة بن حسين بن بدران بن إبراهيم الجيدوري (760 825) والمسحراتي بفتح الميم وسكون السين وفتح الحاء نسبة إلى قرية مسحرا من أعمال = الجيدور = على بعد مرحلة من دمشق
له عناية بالغة بالقراءات وانتهت إليه مشيخة الإقراء بدمشق، وأقرأ القراءات بالجامع الأموي، وانتفع به خلائق بدمشق وتخرج به أكثر مشايخها، قرأ عليه البقاعي = الشاطبية = وجود القرآن المجيد عليه إلى سورة = المنافقون =
وللشرف مصنفات منها: التتمة في القراءات الثلاثة الأئمة (1)
* * * * *
التقى الحصنى:
أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز بن معلّى بن موسى الجعفري الحسيني الدمشقي الشافعي ينتهي نسبه بسيدنا الحسين رضى الله عنه (742 829)
__________
(1) عنوان الزمان للبقاعي: ج 2/ 4241، إنباء الغمر بأنباء العصر لابن حجر:
3/ 287ت: حسن حبشي ط: 1418، شذرات الذهب: 17، 7(1/27)
محدث فقيه، متعصب لمذهب الأشاعرة، بالغ في الحط على = ابن تيمية = رضى الله عنهم وثارت بسبب ذلك فتن كثيرة، زاهد قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يؤمن به.
له مؤلفات عدة منها:
تفسير القرآن الكريم إلى الأنعام
وشرح التنبيه في خمس مجلدات
وشرح صحيح مسلم في ثلاث مجلدات
ولخص تخريج = إحياء علوم الدين = في مجلد
وشرح الأربعين في مجلد
و= سير نساء السلف العابدات = في مجلد
و= قواعد الفقه = في مجلدين
وشرح أسماء الله الحسنى = في مجلد
كان متينا في التدين وراغبا في التقشف والعزلة وكثر مع ذلك اتباعه حتى امتنع عن مكالمة الناس وله في الزهد والتقلل حكايات تضاهي ما نقل عن الأقدمين، حضر جنازته عالم لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى (1)
* * * * *سبط ابن الشهيد:
تاج الدين أبو حامد محمد بن بهادر بن عبد الله يعرف بسبط ابن الشهيد (ت: 831)
فقيه نحوي قرأ البقاعي عليه النحو والتصريف والفقه والمعقولات ويقول عنه لم يحصل لي بأحد من النفع ما حصل لي منه كان يعرف علوما كثيرة ويحلّ أي كتاب يقرا عليه فصيح العبارة حسن التقرير صحيح الذهن دينا شديد الانجماع عن الناس (2)
* * * * *الشمس بن الجزري:
أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن على بن يوسف الجزريّ نسبة إلى جزيرة = ابن عمر = (833751هـ)
__________
(1) عنوان الزمان 1/ 429، عنوان العنوان للبقاعي: 6867مخطوط، أنباء المر لابن حجر: 3/ 374، شذرات الذهب: 7/ 188
(2) عنوان الزمان للبقاعي: 3/ 180، شذرات: 7/ 196(1/28)
قرأ على = ابن السلار = و = إبراهيم الحموي = و = ابن اللبان = وفي مصر على = أبي بكر بن الجندي = و = أبي عبد الله بن الصائغ = و = ابن أميلة = و = ابن الشرجي =
كانت عنايته القصوى بالقراءات، وله في الحديث والفقه والأصول والبلاغة، وقد أجازه المحدث المؤرخ = ابن كثير = و = البلقيني =
تولى التدريس بالجامع الأموي = وقضاء الشام ونزل بلاد الروم فدرس بها القراءات وطوف ببلدان كثيرة كان يعلم فيها القراءات العشر فكثر تلاميذه.
له من التصانيف
كتاب = النشر في القراءات العشر =
و= الدرة المضية في القراءات الثلاث المرضية =
و= تحبير التيسير في القراءات العشر =
و= الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء =
و= الظرائف في رسم المصاحف =
و= غاية النهايات في أسماء رجال القراءات =
و= نهاية الدرايات في أسماء رجال القراءات =
وله = الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين =
و= الهداية في فنون الحديث =
و= المسند الأحمد فيما يتعلق بمسند أحمد =
و= القصد الأحمد في رجال أحمد =
و= المصعد الأحمد في ختم مسانيد أحمد =
و= اسنى المطالب في مناقب الإمام على بن أبي طالب = (1)
* * * * *الجمال البرماوى:
عبد الله بن محب الدين خليل بن فرح بن سعيد القدسي (833760) قرا على = ابن الشريشي = و = ابن الجابي = وغيرهما ودخل مصر وجاور بمكة مدة طويلة ثم قدم الشام
يقول = ابن حجر = في = إنباء الغمر =: = وكان شديد الحط على الحنابلة وجرت له معهم وقائع =.
__________
(1) عنوان الزمان: ج 1/ 352، أنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر: ج 3/ 466، شذرات: ج 7/ 204البدر الطالع: ج 2/ 207، الضوء اللامع: ج 9/ 255،(1/29)
يقول عنه البقاعي في حاشية له على نسخة مخطوطة من كتاب شيخه ابن حجر =: = إنباء الغمر =:
= هذا شيخنا الربانيّ الصوفيّ العارف المعروف بالقلعي، كان إماما عارفا مسلكا مربيا قدوة ذا قدم راسخ في علم الباطن، مشاركا في الفقه والنحو مشاركة جيدة أستاذا في علم الكلام ذا حافظة قوية مفتوحا عليه في الكلام في الوعظ
وله مصنفات منها: منار سبل الهدى وعقيدة أهل التقى = بحثت عليه بعضه، وأقمت عنده مدة بزاويته بالعقبة الصغرى، ومات بدمشق (1)
* * * * *البدر الهندي:
حسن بن بدر الهندي (833هـ) تلميذ السيد الشريف في المعقولات، وكان إماما فيها قرأ عليه البقاعي الشمسية في المنطق.
وقد أعجب الشيخ بالتلميذ فوعده أن يعلمه علم الهندسة ومسائل منها يعرف من يوافق مزاجه ومن لا يوافق مزاجه، فلا يخالطه [كذا] ولكن الشيخ غادر = دمشق = إلى = حماة = (2)
* * * * *المجد البرماوي:
إسماعيل بن أبي الحسن على بن عبد الله الشافعي (834749) قرأ على = السراج البلقيني = فقد جعله محط رحله وعظم اختصاصه به = كما يقول السخاوي، واخذ عن = الإسنوي =
مهر في الفقه الشافعي وتصدى للتدريس وخطب بجامع عمرو بن العاص بمصر = وشارك في عدة فنون من فقه وأصول ونحو وغير ذلك وكان من كبار الفضلاء وصار عالما علامة
ومع صبره على الفقر كان زاهدا في الدنيا موقنا بأنّ ذلك هو الحالة الحسنى حتى بلغنا أنه كان يسأل أن يجعل الله سبحانه وتعالى ثلاثة أرباع رزقه علما، فكان قرير العين بفقره وما آتاه الله عزّ وجلّ من العلم بل يعتب على من يتردد إلى غنيّ لماله أو ذي جاه لجاهه = (3)
__________
(1) إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر: ج 3/ 466، شذرات الذهب: ج 7/ 203
(2) عنوان الزمان: ج 1/ 353، 483، عنوان العنوان: 88
(3) عنوان الزمان: 1/ 449، عنوان العنوان: 70، الضوء اللامع: 2/ 295، شذرات الذهب: 7/ 208، حسن المحاضرة: 1440، النجوم الزاهرة: 15/ 171(1/30)
وذلك شأن العالم الواثق بأن أنعام الله عزّ وجلّ عليه بأن جعله من أهل العلم إنما هو من أجل النعم بعد الإيمان لأنه إنعام بوراثة النبوة، فأين من هذا دركات أهل الدنيا وإن تكاثرت أموالهم وتعددت مناصبهم واستفحل سلطانهم وطغيانهم، ولكنّ أكثر النّاس لا يعقلون.
وأهل العلم يستعذبون لذة العلم وطلبه، ويرونها من أجل اللذات حتى قال قائلهم: نحن في لذة لو علمها الملوك لجالدون عليها.
وإنّ من فضل الله عزّ وجلّ على أهل العلم وطلابه أن الملوك والطواغيت ونساءهم وذرياتهم لا يعرفون أن للعلم لذة يستأثر بها العلماء من دونهم، وأنهم محرومون منها برغم أنّ المتلذذين بها في سلطانهم، فاعجب لذي سلطان محروم من أجلّ نعمة يتمتع بها غيره في سلطانه، وليس له من سبيل وإن تظاهر جنده وقوات أمنه المركزي والقومي وحرسه الوطني والجمهوري أن يحرموهم منها!!!
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ}
(سبأ: 36)
{قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشََاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشََاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشََاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26)
* * * * *الشهاب البوصيري:
أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز الكتاني البوصيري القاهري الشافعي (840762)
قرأ على = النور الآدمي = و = البدر القدسي = و = العز بن جماعة = ويوسف إسماعيل الأنبابي = والبلقيني = لازم العراقي و = ابن حجر = له من التصانيف كثير منها:
= زوائد ابن ماجة =
و= زوائد المسانيد العشرة =
و= زوائد السنن الكبرى = للبيهقي
و= زوائد مسانيد الطيالسي =
وزوائد مسند أحمد ومسند الحميد والبزار وابن ابي شيبة وابي يعلى
وتحفة الحبيب للحبيب بالزوائد في الترغيب والترهيب.(1/31)
كثير السكوت والتلاوة والعبادة واعتزال الناس والإقبال على النسخ = (1)
* * * * *البرهان الطرابلسي:
إبراهيم بن محمد بن خليل الشامي الشافعي المعروف بسبط ابن العجمي (841753) قرأ على = ابن العجمى = و = البلقيني = و = ابن الملقن = و = الفيروزآبادي = و = الزين العراقي =، وارتحل إلى بلدان عديدة: مصر والمقدس وغزة وحمص وحماة، وجمع = النجم بن فهد = شيوخه في مجلد.
علت منزلته في علم الحديث، قرأ صحيح البخاري أكثر من ستين مرة، وصحيح مسلم نحوا من عشرين مرة.
له من التصانيف:
شرح صحيح البخاري: = التلقيح لفهم قارئ الصحيح =
وتعليق على سنن ابن ماجة
و= المقتضى في ضبط ألفاظ الشفا =
و= نهاية السول في رواة الستة الأصول =
و= والكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث =
وبالجملة فقد كان ممن أخذ عنه الأكابر، فانتفعوا به. (2)
* * * * *علاء الدين البخاري:
محمد بن محمد بن محمد بن محمد البخاري (841779)
نشأ ببخارى فتفقه بأبيه وعمه العلاء عبد الرحمن وأخذ الأدب والمعقول عن السعد التفتازاني (ت: 792) وتوجه إلى الهند، فاستوطنه مدة وعظم أمره هناك لعلمه وزهده، وكذلك عظم أمره بمصر، وما كان بالراغب في التردد على ذوي السلطة، وكان عالما في فنون المعقول والمنقول واللغة.
وفي سنة (835) قامت فتنة بين الحنابلة والأشاعرة بدمشق وتعصب العلاء البخاري على الحنابلة وبالغ في الحط على = ابن تيمية = رضى الله عنهم
__________
(1) عنوان الزمان: 1/ 18، الضوء اللامع 1/ 252251، شذرات الذهب: 7/ 233، النجوم الزاهرة: 1/ 209
(2) البدر الطالع: 1/ 3028، شذرات الذهب: 7/ 237،(1/32)
وصرح بتكفيره، فتعصّب جماعة لابن تيمية، ولم يناصر جمع من العلماء في مصر العلاء البخاري في إطلاق لسانه في ابن تيمية وأخرج السلطان مرسوما بعدم اعتراض أحد على مذهب غيره فسكنت الفتنة (1)
* * * * *الشهاب الرملى:
أبو العباس أحمد بن حسين بن أرسلان المقدسي الشافعي، ويعرف:
بابن أرسلان (844773)
كان في بدء أمره مشتغلا باللغة والنحو والشواهد والنظم، ثم اشتغل بالفقه والحديث والأصول قرأ الحاوي الصغير على القلقشندي، وأخذ الفرائض والحساب عن ابن الهائم وقرا على أبي حفص الزراتيتي الموطا وعلى الجمال بن الظهيرة وعلى كثير من الشيوخ الذين أشار إليهم السخاوي في = الضوء =، ومن تآليفه:
قطع في التفسير،
و= شرح البخاري
وشرح سنن أبي داود في أحد عشر مجلدا
وشرح الأربعين النووية
وتعليق على الشفا للقاضي عياض
وتعليق على جمع الجوامع في أصول الفقه، وعلى منهاج البيضاوي
ونظم القراءات الثلاث الزوائد على السبع والثلاثة الزائدة على العشر.
وغير ذلك كثير
وكان معروفا بالصلاح والزهد وكثرة الطاعات =
حكى صهره = الحافظ التاج بن الغرابيلي = عنه أنه كان قليلا ما يهجع من الليل، وأنّه في وقت انتباهه ينهض قائما كالأسد لعلّ قيامه يسبق كمال استيقاظه ويقوم كأنه مذعورا، فيتوضأ، ويقف بين يدي ربه تعالى يناجيه بكلامه مع التأمل والتدبر، فإذا أشكل عليه معنى آية أسرع في تينك الركعتين، ونظر في التفسير حتى يعرف المعنى ثم يعود إلى الصلاة =
__________
(1) شذرات الذهب: 7/ 211، 214(1/33)
وبالجملة فهو ممن اشتهر بالعلم والزهد، فقصده طلاب العلم وانتفعوا به (1)
* * * * *تقىّ الدين المقريزي:
أحمد بن على بن عبد القادر بن محمد الحنفي الشافعي = سبط ابن الصائغ منسوب إلى = المقارزة = وهي حارة في = بعلبك = ولد في القاهرة (845766)
من شيوخه جده لأمه = الشمس بن الصائغ الحنفي، و = البرهان الآمدي = والبلقيني = و = والعراقي = و = ابن خلدون = وقد تأثر به في إقامة = ابن خلدون بالقاهرة = وقد بلغت شيوخه ست مائة كما يقول السخاوي في = الضوء =
وكان حنفيا ثم تحول إلى المذهب الشافعي وعمل محتسبا بالقاهرة وخطيبا بمسجد = عمرو = و = جامع الحاكم = بمدرسة السلطان حسن =.
وجاور في مكة المكرمة خمس سنوات.
له من التصانيف:
= الخطط للقاهرة = المعروف بخطط المقريزي
و= درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة =
و= إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأخوال والحفدة والمتاع =
و= عقد جواهر الأسفاط في أخبار مدينة الفسطاط = أرّخ فيه لمصر من الفتح العربي إلى الفتح الفاطمي (35821)
اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا = مؤرخا للعصر الفاطمي
ثم ألف كتابه: = السلوك لمعرفة دول الملوك = مؤرخا لمصر في العهد الأيوبي والمملوكي إلى سنة (845)
و= البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب =
و= الإلمام فيمن تأخر بأرض الحبشة من ملوك الإسلام =
و= التاريخ الكبير المقفى = في ستة عشر مجلدا،
و= التخاصم بين بني أمية وبني هاشم =
و= ضوء الساري في معرفة خبر تميم الداري =
و= إغاثة الأمة بكشف الغمة =
__________
(1) الضوء اللامع: 1/ 288282(1/34)
و = الأوزان والأكيال الشرعية =
و= شذور العقود في ذكر النقود =
و= إزالة التعب والعناء في معرفة حلّ الغناء =
وغير ذلك كثير جدا تجاوزت المائتين كما يقول السخاوي في الضوء
والغالب عليه التصنيف في علم التاريخ، وكان كثير الاستحضار للوقائع القديمة في الجاهلية وغيرها، وأما الوقائع الإسلامية ومعرفة الرجال وأسمائهم والجرح والتعديل والمراتب والسير وغير ذلك من اسرار التاريخ ومحاسنه فغير ماهر فيه، كما يقول = السخاوي =
وكانت له معرفة قليلة بالفقه والحديث والنحو واطلاع على اقوال السلف، وإلمام بمذهب أهل الكتاب حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه = (1)
* * * * *الشمس القاياتي:
محمد بن على بن يعقوب بن محمد القاياتى نسبة إلى = قايات، قرب الفيوم بمصر الشافعي (850785)
من شيوخه = السراج البلقيني =، والشمس القليوبي = و = الهمام الخوارزمي = و = العلاء البخاري = و = والشمس السنباطي =
عمل بالتدريس في = البرقوقية = و = الأشرفية = مدرسة ابن غراب = وكان خطيب الأزهر وكان كما يقول = السخاوي = = إماما علامة، غاية في التحقيق وجودة الفكر والتوفيق مزيحا للمشكلات بعلىّ عباراته ومريحا من التعب بواضح إشاراته وفكره الثاقب غاية في الاستقامة صار شيخ الفنون بلا مدافعة لا يتوقف في ذلك إلا حاسد أو مفتر =
= وسئل الكمال بن الهمام = عن التفضيل بينه وبين = الزين التفهني = في الأصول، فقال: التفهني كان عالما بأصول مذهبه وأما هذا فبالأصول كلها =
كتب على المنهاج للنووي قطعا متفرقة كثر اعتناؤه فيها بدفع كلام الأسنوي، وعمل ذيلا ونكتا على = المهمات = (2)
__________
(1) عنوان الزمان 1/ 84، الضوء اللامع: 2/ 2521، شذرات الذهب: 7/ 254، البدر الطالع: 1/ 79
(2) عنوان الزمان: 4/ 65، الذيل على رفع الإصر: 278شذرات الذهب: 7/ 268(1/35)
* * * * *ابن حجر العسقلاني:
أبو الفضل الشهاب: أحمد بن عليّ بن محمد بن محمد بن على بن أحمد العسقلاني المصري (852773)
من شيوخه = العز بن جماعة = = وعليه أخذ غالب العلوم الآلية والأصولية كالمنهاج وجمع الجوامع، وشرح المختصر والمطول = ومن شيوخه في اللغة = الفيروزآبادي = صاحب = القاموس المحيط = ولكنه أغرم بفنّ الحديث وعلوم السنة فانصرف إليها ولازم = الزبن العراقي = وحمل عنه علما عظيما نافعا سندا ومتنا وعللا واصطلاحا فكان ابن حجر الشيخ المشار إليه في هذا.
وقد ارتحل في طلب العلم شأن كثير من طلاب عصره فسافر إلى مكة واليمن والحجاز والشام، وتصدى للتأليف ونشر الحديث وعلومه
ومن أعظم شروح البخاري وأشهرها شرحه = فتح الباري = شرع في إملائه سنة سبع عشرة وثمان مائة، ثم استمر يكتب بيده ويداوله بين طلاب العلم شيئا فشيئا إلى أن انتهى منه في أول شهر رجب من سنة أربع وعشرين وثمان مائة، وفي آخر مجلس من مجالس الشرح أعدّ = ابن حجر = وليمة عظيمة استغرقت خمس مائة دينار فاجتمع الناس وكان يوما مشهودا وقال فيه الشعراء فأكثروا وفرق عليهم الذهب، وكان = البقاعي = ممن أنشد قصيدة في هذا المحفل المهيب مطلعها:
إن كنت لا تصبو لوصف عذاري ... دع عنك تهيامي وخلع عذاري
وقد تولى التدريس في أماكن عديدة من أهمها المدرسة الشيخونية التي كان التدريس بها إنما يكون بأمر من السلطان إلى كبار علماء العصر
وقد عهد إليه بها السلطان فرج بن برقوق وكان خطيب الأزهر وجامع عمرو، وخازنا لمكتبة = المحمودية =، وكان معنيا بها فقد صنع لكتبها فهرسين:
أحدهما بالحروف على الترتيب الألفبائي لأسماء الكتب
والآخر فهرس موضوعي.
ومصنفاته عديدة من أشهرها كما قلت:
= شرحه صحيح البخاري =
وكتاب = الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع =
و= إنباء الغمر بأنباء العمر =(1/36)
والقول السدد في الذب عن المسند للإمام أحمد وهو من الكتب المهمة لقارئ مسند الإمام أحمد بن حنبل.
و= الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية =
وهو في ترجمة الإمام = الليث بن سعد = جعله في ثمانية أبواب، وهو كتاب لطيف
والإمام الليث بن سعد هو العالم الذي ضيعه أهله، فلم يأخذوا عنه كما أخذوا عن غيره وقد قال عنه الشافعي: = الليث أنفع للأثر من مالك =، وقال عنه: = الليث أفقه من مالك إلا أنّ أصحابه لم يقوموا به، وفي رواية عنه = ضيعه قومه =.
وقد استهتر البقاعي في ترجمة = ابن حجر = من كتابه = عنوان الزمان = وكذلك = السخاوي = في = الضوء اللامع = وفي الذيل على رفع الإصر عن قضاة مصر بل أفرد السخاويّ له ترجمة سماها: = الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر = (1)
* * * * *العماد بن شرف:
أبو الفداء إسماعيل بن إبراهيم بن شرف بن مشرف المعروف بابن شرف (ت: 852)
تتلمذ على الشهاب بن الهائم وانتفع به كثيرا فصار ابن شرف إماما في الحساب والفرائض فتلقى البقاعيّ عليه علم الحساب، وكانت له يد في علم النحو والمعقول، وأخذ عن علماء كثير منهم الشمس القلقشندي، والبرماوي والولي العراقي، فلازمه في الفقه، ولم يكن ناظرا إلى جاه الدنيا بل إلى العلم نظره.
من مؤلفاته: توضيح بهجة الحاوي في مجلدين، وبدأ في شرح البهجة شرحا مطولا وصل فيه إلى صلاة الجمعة فكان الشرح أسفارا
وشرح مصنفات شيخه اين الهائم،
وكتب على ألفية شيخه البرماوي في الأصول توضيحا حسنا مفيدا.
وتوفي بالمقدس وصلى عليه بعد عصر يوم الثلاثاء الثالث عشر من شهر ربيع الآخر سنة (852) بالمسجد الأقصى، (2)
* * * * * __________
(1) عنوان الزمان: 1/ 1749الضوء اللامع: 2/ 4036، البدر الطالع: 1/ 87 92/ والذيل على رفع الإصر للسخاوي: 75الشذرات: 7/ 270
(2) عنوان الزمان 1/ 352، الضوء اللامع: 2/ 285284(1/37)
البدر بن العيني:
أو الثناء محمود با أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف العينتابي الحنفى (855762)
نشأ بعينتاب، إذ كان والده قاضيها، مؤرخ محدث ولي الحسبة والتدريس ووظائف عدّة، وبعد صيته وكان قاضي قضاة الحنفية بمصر، وكان فصيحا بالعربية والتركية، برع في فقه الحنفية والتاريخ والحديث والتفسير واللغة والنحو والتصريف والتاريخ
من تصانيفه الكثيرة:
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
وشرح الهداية في فقه الحنفية
وشرح معاني الآثار للطحاوي في اثنتي عشرة مجلدا
وشرح مجمع البحرين
وشرح الكلم الطيب لابن تيمية
وشرح قطعة من سنن أبي داود
وقطعة كبيرة من سيرة ابن هشام
وشرح العوامل المائة في النحو لعبد القاهر الجرحاني
وشرح التسهيل لابن مالك في النحو
وشرح شواهد ألفية ابن مالك شرحا مطولا ومختصرا
وله التاريخ الكبير على نظام السنين في عشرين مجلدة، واختصره في ثلاث مجلدات، وبالجملة فهو من أوعية العلم في عصره (1)
* * * * *الجلال المحلي:
محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلى الشافعي (864791)
يعرف بتفتازانيّ العرب برع في فنون عديدة فقها وكلاما وتفسيرا وأصولا ونحوا، وكان غاية في الذكاء والفهم، ولكنه كان ضعيفا في حفظه، وكان على صلاح وورع، وتقشف، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر
__________
(1) شذرات الذهب: 7/ 288284(1/38)
عرض عليه القضاء فامتنع، وكان قليل الإقراء يظهر عليه الملل، وألف كتبا تشد إليها الرحال في غاية الاختصار والتحرير والتنقيح وسلاسة العبارة من تصانيفه:
شرح جمع الجوامع في أصول الفقه
وشرح المنهاج في الفقه الشافعي
وشرح الورقات في أصول الفقه.
وله تفسير موجز لم يكمل، وأكمله السيوطي يعرف بتفسير الجلالين، وصغار طلاب العلم اليوم لا يعرفون قدره لوجازته
وهو من التفاسير التي تعلم طالب العلم حسن التحليل والتفصيل لما أجمل، لأنه كالمتن الذي يغرى بالتدريب على تفصيل ما أجمل، وهي ملكة يجدر بطالب العلم الدربة عليها، ومن ثمّ عني بها أسلافنا في مناهج التربية وإعداد طالب العلم، فعاب من المحدثين من جهل أو غفل عن الغاية. (1)
* * * * *أبو افضل المشداليّ:
محمد بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن عبد الصمد المشدالي البجائي المغربي (865821)
والمشداليّ بفتح الميم وتشديد الدال نسبة إلى قبيلة من زواوة.
تلقى العلم على أبيه المشهور في المغرب بابن أبي القاسم، وعلى = ابن مرزوق = وأبي القاسم العقبانيّ =.
قال شيخه ابن مرزوق عنه: = ما عرفت العلم حتى قدم عليّ هذا الشاب. فقيل له: كيف؟ قال: لأني كنت أقول فيسلّم لي كلامي، فلمّا جاء هذا شرع ينازعنى، فشرعت أتحرّز، وانفتحت لي أبواب المعارف =
كان أبو الفضل المشدالي أعجوبة زمانه في الحفظ والذكاء، وهو الذي دلّ تلميذه = البقاعي = على القاعدة الكلية لتناسب القرآن الكريم (2)
* * * * *شرف الدين المناوي:
__________
(1) السابق: 7/ 304303
(2) عنوان الزمان: 4/ 263، والضوء اللامع 1/ 102، توشيح الديباج لبدر الدين القرافي: ص / 219ت: احمد الشتيوي دار الغرب الإسلامي بيروت 1403هـ(1/39)
أبو زكريا يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن احمد بن مخلوف المناوي الشافعي (ت: 871)
وهو منسوب إلى = منية بني الخصيب = بصعيد مصر التي أقام فيها جده، وهو جد = عبد الرءوف المناوي = شارح = الجامع الصغير =
من شيوخه = الشمس البرماوي = و = الشمس الفرقي = وزوج أخته = الولي العراقي = والشمس بن الجزري =.
يقول عنه السخاوي إنه = ناصب نفسه لنشر العلم من فقه وأصول وعربية وحديث وتفسير لكن فنه الذي طار اسمه بسببه = الفقه = ولم يذكره معظم الناس بغيره، وتخرج به في جماعة صاروا رؤساء في حياته مع انّه لم يشغل نفسه بتصنيف غير ما نبهت عليه من كتابه على = المختصر =: مختصر المزني في فقه الشافعية، وكذا بواسطة تدريس = الصالحية النجمية =
وشرع في شرح متوسط على = المنهاج =
وحاشية على شرح = البهجة =
= كانت أوقاته مشحونة بالإقراء والتعبد والاشتغال حرصا على تربية المنتمين إليه، والتنويه بذكرهم وإذا قرئ عنده حديث النبي صلّى الله عليه وسلم يكون هو وجماعته في غاية ما يكون من الإطراق وسكون الأطراف لا يتكلم مع أحد ولا يتزحزح لقادم إلا في النادر فيهما، وكان ذا جلادة على القراءة بحيث يجلس غالبا من بعد صلاة الصبح إلى الظهر = (1)
* * * * *الحسام بن حريز:
حسام الدين محمد بن أبي بكر محمد بن حريز الحسيني الطهطاوي المالكي (873804)
له اليد الطولى في معرفة القراءات والفقه والتاريخ
يقول السخاوي عنه: = لازم القاضي حسام الدين المطاعة في كتب الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والأدب حتى صار يستحضر جملة مستكثرة من ذلك كله، ويذاكر بها مذاكرة جيدة مع سرعة الإدراك والفصاحة والبشاشة والحياء والشهامة والبذل لسائليه وغيرهم والقيام
__________
(1) مصاعد النظر للبقاعي: 1113، الذيل على رفع الإصر: 459، شذرات الذهب 7: / 312(1/40)
مع من يقصده في مهماته واقتناء الكتب النفيسة والتبسط في أنواع المأكل ونحوها (1)
* * * * *عز الدين الحنبلى:
أبو البركات أحمد بن إبراهيم بن نصر الله الكتاني العسقلاني الحنبلي (876800)
قاضي قضاة الحنابلة في الديار المصرية وابن قاضي القضاة وعالم الحنابلة في عصره كما يقول = ابن الصيرفيّ =
من شيوخه الشمس البرماوي والبدر الدماميني والعز بن جماعة والزين العراقي والمقريزي والعيني وابن حجر وكان يبجله ابن حجر والشمس البوصيري
وارتحل في طلب العلم إلى الحجاز والشام والمقدس.
وولى قضاء الحنابلة بعد البدر البغدادي وتولى التدريس في مدارس ومساجد عديدة كالشيخونية والمؤيدية، وقبة الصالح والحاكم، ولقي الأكابر وطارح الشعراء وأكثر من التصنيف حتى إنّه قلّ فن إلا وصنف فيه إمّا نظما وإمّا نثرا كما يقول = السخاوي =
له في التفسير = مختصر زاد المسافر = ولم يكمله
وفي الفقه مختصر المحرر في الفقه الحنبلي للرافعي
واختصر ألفية ابن مالك وضم إليها علم الخط وخاتمة فيما فاته
ونظم التلخيص في البلاغة وغير ذلك كثير (2)
* * * * *محيى الدين الكافيجي:
محيي الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود الرومي الحنفي (879788)
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 116، الضوء اللامع: 7/ 454، الذيل على رفع الإصر:
260، انباء الهصر لابن الصيرفي: 10197ت: حسن حبشي الهيئة المصرية بالقاهرة وحسن المحاضرة للسيوطي: 2/ 124، نظم العقيان للسيوطي:
142
(2) مصاعد النظر للبقاعيّ: 1/ 117، الضوء اللامع: 1/ 205، والذيل على رفع الإصر: ص 6212، انباء الهصر لابن الصيرفي: 454450، والشذرات: 7/ 321(1/41)
فقيه أصوليّ مفسر ومحدث له عناية بالغة بعلوم اللغة لا سيما شرح الكافية في النحو وقد نسب إليها من كثرة اشتغاله بها، وله في المعقولات منزلة وفي أصول الفقه والمعاني والبيان.
يقول عن تلميذه البقاعي في تقريظ تفسيره: = نظم الدرر =:
العالم العلامة، والبحر الفهامة الفائق على الأقران المدرس المؤلف المفتى برهان الدين الشهير بالبقاعي = (1)
ويقول البقاعيّ عنه: = كان كالأمن في فتنة = ابن الفارض = وله من التصانيف مختصرا عديدة منها:
شرح قواعد الإعراب
وشرح كلمتى الشهادة
والتيسير في علوم التفسير (2)
* * * * *المحبّ بن الشحنة:
محب الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي الثقفي الحلبي المشهور بابن الشحنة (890804)
حفظ في أول الدين عمدة النسفي =، وفي القراءات = الطيبة = وفي أصول الفقه = المنار = وفي الفقه الحنفي: = المختار = و = الوقاية = وفي النحو = الملحة = و = ألفية ابن مالك = و = الشذور = وبعضا من = توضيح = ابن هشام و = ألفية ابن معطي = وفي البلاغة = تلخيص المفتاح =
لازم = البرهان الحلبي = في فنون الحديث، وكان يصرفه عن الاشتغال بالمنطق، وقد قرأ = تجريد الشمسية في المنطق = على = ابن سلامة =، ولم يستكثر من الشيوخ بل ولا من المسموع كما يقول السخاوي في = الذيل = وممن قرأ عليهم = الشهاب العجمي =، و = ابن خطيب الدهشة =، و = العلاء البخاري = و = التقي المقريزي =
له من التصانيف = شرح الهداية = في الفقه الحنفي، وهو كما يقول السخاوي حاو لعلوم جمّة كتب منه إلى آخر فصل الغسل خمسة مجلدات أو أقل، ثمّ فتر عزمه عن إكماله، ومن مؤلفاته:
= المنجد المغيث في علم الحديث =
و= تنوير المنار = وهو اختصار = المنار = للنسفي في أصول الفقه
__________
(1) مصاعد النظر للبقاعيّ: 1/ 127126
(2) الضوء اللامع: 7/ 259، والبدر الطالع: 2/ 171، حسن المحاضرة: 1/ 317، بدائع الزهور لابن إياس: ج 3ص 98شذرات الذهب: 7/ 326(1/42)
و = اختصار النشر في القراءات العشر =.
تولى عدة وظائف منها قضاء حلب وكتابة سرها ونظر جيشها وكتابة السر بمصر وقضاء الحنفية عدة مرار بها ومشيخة الخانقاه الشيخونية. كتب تقريظا لتلميذه = البقاعي = على تفسيره (1)
إنّ شيوخ = البقاعي = جد كثير لا يتسع المقام للإشارة إلى أسمائهم وكتابه = عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران = يفيض بتراجم كثير منهم وبعلاقة البقاعي بهم وما تلقاه عنهم من العلوم وما قرأه عليهم من الأسفار وأنواع تلك القراءات والإجازات التي أجازوه بها وأنواع تلك الإجازات.
* * *تلاميذه:
إذا ما كانت الشيوخ من أهم المصادر التي تصب في مجرى = البقاعي = فتشكل شخصيته العلمية مما تلقاه من هذا المصدر المتعدّد المنابع، فأنا أذهب إلى أنّ التلميذ النابه قد يكون رافدا من روافد زيادة بحر علم أشياخه، فإنه يلفت شيخه إلى أشياء لم تكن عناية شيخة بالملتفتة إليه، وكم من سؤال من تلميذ نابه لشيخه يكون سببا في عمل علمى يقوم له وبه الشيخ فيحسن بسببه إلى العلم وأهله.
كان للبقاعي تلاميذ يجلسون إليه ولا سيما وقد شاع اسمه مقرونا بتفسيره الفريد في منهاجه ومراميه، ومن تلاميذه من اتخذه شيخا رئيسا ومنهم من أخذ عنه بعض علمه، وما وقفت عليه من تلاميذه ليس في مقدار أشياخه ومن البين أنّه تولّى وظيفة الإعادة في مسجد = رحبة باب العيد =، وفي مسجد = الظاهر = المعروف الآن بحي = الظاهر = بالقاهرة، وتولى إقراء القرآن الكريم، والقراءات في المدرسة المؤيدية، وعينه شيخه = ابن حجر = قارئا لصحيح البخاري في القلعة في عهد السلطان = جقمق =، وتولى مشيخة القراء في تربة أم الملك الصالح.
المهم أنّه كانت له تلاميذ صاروا من بعده أهل علم يعلمون الناس ما تعلموا، يقول = ابن حجر الهيثمي = (ت: 974):
= كان له تلامذة أكابر أخذوا بقوله وما يعتقده، وبعضهم من
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 114، الذيل على رفع الإصر: 406357، وبدائع الزهور: 3/ 214(1/43)
مشايخي. (1)
وفي قوله: = وما يعتقده = إشارة إلى ما كان من البقاعيّ من الحط على بعض المنتسبين إلى طائفة الصوفية من أمثال = ابن عربي = و = ابن الفارض = و = ابن سبعين = وغيرهم المنسوب إليهم أقاويل معلنة بما لا يرضاه مسلم معافى من فتنة التأويل الباطنيّ المقيت
ومن أشهر تلامذته:
الشهاب الدمياطي:
أحمد بن على بن حسين بن على الأشمونى (ت: 890840)
أخذ عن الشهاب البيجوري، والعلم البلقيني، والبرهان العجلوني وعن البقاعي وتزايد اختصاصه به بحيث كان يرسل إليه ببعض تصانيفه كما يقول السخاوي في الضوء (2)
* * *ابو المفاخر النعيمي:
عبد القادر بن محمد بن عمر بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن نعيم النعيمي الشافعي الدمشقي (927845)
مورخ محدث صوفي قرأ على البقاعي وأجازه بما يجوز له
وله من المؤلفات:
الدارس في تاريخ المدارس
وتذكرة الإخوان في حوادث الزمان
وكتاب التبيين في تراجم العلماء والصالحين
وكتاب: العنوان في ضبط مواليد ووفيات أهل الزمان
والقول المبين في المحكم في إهداء القرب للنبي صلى الله عليه وسلم
وتحفة البررة في الأحاديث المعتبرة (3)
* * *البدر الأربلي:
حسن بن على بن يوسف الحصكفي الأربلي الشافعي المشهور بابن المستوفي (925850) عنى بالفقه والأصول والحديث وعلوم العربية، وكان شاعرا أخذ عن علماء عصره ومنهم البقاعي فأجازه بالإفتاء والتدريس، وله من التصانيف:
__________
(1) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي المكي ك 5453
(2) الضوء اللامع: 2/ 18
(3) السابق: ج 8/ 133(1/44)
حاشية على شرح المنهاج
وحاشية على الكافية (1)
* * *ابن الحملاوي:
أحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن زهير الرملي الدمشقي الشافعي كان يعرف قديما بابن الحملاوي (923854)
عنى بالفقه والحديث والقراءات، وكان متعصبا لشيخه البقاعي ملازما له ينافح عنه، أخذ عنه في ألفية الحديث، وكتب من تفسيره، ولي مشيخة الإقراء بجامع بني أمية، وبدار الحديث الأشرفية، وبتربة الأشرفية، وبتربة أم صالح بعد شيخه البقاعي وقد صار من بعده شيخ القراء في دمشق (2)
الشمس الدلجي:
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الدلجي الشافعي (947860)
عنى بالفقه والحديث وله من التصانيف:
شرح على = الخزرجية =
وشرح على الأربعين النووية
وشرح على الشفا للقاضي عياض
واختصر المنهاج والمقاصد وسماه مقاصد المقاصد،
وشرح هذا المختصر (3)
يقول ابن حجر الهيثمي عنه = كان أعطي في العلوم الشرعية والعقلية من متانة التصنيف وقوة السبك ما لم يعط أحد من أهل زمانه =
ويقول عنه أيضا: = صنف في فن الفقه تصانيف تضاهي تصانيف السعد التفتازاني وغيره من بلاغته وحسن سبكه وجودة تراكيبها، لكن لم يعبأ أحد بها، ولم يلتفت إليها بل الناس عنها في غاية الإعراض =، ويعلل = ابن حجر الهيثمي ذلك بقوله:
= إنّ هذا الشيخ لم يكن يعتقد في = ابن عربي = صاحب الفتوحات المكية، كشيخه = البقاعي = فعوقب بنزع البركة من مؤلفاته = (4)
__________
(1) الضوء اللامع ج 1/ 221، والشذرات: ج 8/ 12
(2) عنوان الزمان للبقاعي: ج 4/ 387
(3) شذرات الذهب: 8/ 270
(4) الفتاوى الحديثية: ص 54(1/45)
وهذا من الهيثمي ضلال وإضلال، وكأنّ الاعتقاد في = ابن عربي = هو مفتاح النفع به، وهذا ما لا يقوله منصف ولا يقبله عاقل.
إنّ معيار الانتفاع بالعلم هو الإخلاص لله رب العالمين فيه.
وماذا يقول = الهيثمي = في ابن تيمية = و = ابن القيم = ألا ينتفع بما تركا من علوم أم كانا ممن يعتقد في = ابن عربي = الذي أعتقد انّه هو لا يعتقد في نفسه، فإنّه أخبر بحال نفسه من غيره؟
لا يقرأ عاقل شيئا من كتاب = فصوص الحكم = ويبقى في صدره أثارة من اعتقاد أنّ كاتبه على صواب فيما سوّد به صحائف الكتاب، وصحائفه هو أيضا
* * *الجلال السيوطي:
عبد الرحمن بن أبي بكر بن عثمان بن محمد الخضيري السيوطي (911849) من أشهر علماء عصره برع في كثير من العلوم والفنون ترجم نفسه في كتابه حسن المحاضرة، وتلقى على علماء عصره ومنهم البقاعي (1)
وكانت بينه وبين البقاعي مناقدات تجاوزت حدّ السماحة الخلقية بين أهل العلم وبين الشيخ وتلميذه
* * * * تلاميذ كلّ عالم هم حاملو علمه ومنهاج حياته، وهم أبرّ به من ولده الذي قد خرج من صلبه.
والعالم الذي هو جدير بأن يكون مداد قلمه أزكى من ريح المسك يوم القيامة هو الذي يقتدر على أن يحيل حياة تلاميذه أولا، وأمّته من بعدهم من مدرجة من مدارج القرب إلى ما هو أسمى منها، وأن يحيل حياتهم إلى ما يقيمهم في مقام التّلذّذ بطلب العلم تعلّما وتعليما، وتأدبا وتخلقا ليكونوا يوما ورثة النّبوّة.
إنّ تكوين تلميذ واحد يحمل عن الشّيخ منهاج حياته يعدل الدّنيا وما فيها
__________
(1) الضوء اللامع للسخاوي: ج 4/ 66(1/46)
الفصل الثاني جهاد قلم آثاره العلمية(1/47)
كان ممّا امتن الله عزّ وجلّ به على عباده في صدر سورة الرّحمن أنّه خلق الإنسان علمه البيان. فبيان الإنسان يعدل وجوده، وقد هدى أهل الحكمة إلى أن المرء مخبوء تحت لسانه، فلسانه هو الكاشف عن وجوده ومنزله القائم فيه، وهو مرآة قلبه فكرا وشعورا.
والبيان الذي امتنّ الله سبحانه وتعالى به على الإنسان أنواعه عديدة كما أشار إليه = أبو عثمان الجاحظ = في = البيان والتبيين = أعلاها بيان اللسان، وبيان القلم، وقد عدّ أهل الحكمة القلم أحد اللسانيين.
والله عزّ وجلّ في تقريره كمال عقل النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا أقسم بالقلم وما يسطرون:
{ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ * مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى ََ خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 41)
وفي هذا دلالة على أنّ العلاقة بين القلم، وما يسطر به وكمال العقل وعظيم الخلق جدّ عظيمة ووثيقة على الرغم من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ما خطّت يمينه بقلم:
{وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48)
وفي هذا إلاحة إلى أنّ كمال عقله وعظيم خلقه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا فوق ما هو ثمرة تسطير الأقلام من كمال العقول وعظيم الأخلاق لدى سائر العباد.
وقد هدى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى عظيم منزلة العرفان بالتسطير بالأقلام بما جعله فداء أسرى المشركين يوم بدر من تعليم الأسير من المشركين عشرة من المسلمين الكتابة، وفي هذا إبانة إلى أن تعلم الكتابة يعدل حرية المرء، ومن كان غير كاتب خلاه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا فإنما هو إلى العبودية أقرب: هي عبودية معرفية، وهي أشد على العاقل من عبودية الجسد.
ولعل أعظم ما هدي إليه الإنسان من الاختراع هو اختراع الكتابة والتسطير بالأفلام، فلولا ذلك لبانت حضارات وذهبت معارف وعلوم عديدة، ولما كان للإنسانية أن تبلغ الذي بلغت.
وهذا ما بعث العلماء على أن يسطروا ما هو مكنون في صدورهم من العلم والحكمة.(1/49)
لا يكون العالم نافعا قومه إذا لم يكن له مقامه الحميد بين يدي طلابه في قاعات الدرس والمباحثة والمحاورة يكوّن شخصياتهم العلمية ويشكلها ويغريهم بالتلذّذ بطلب العلم والتأدب بجليل أخلاقه ونعوته، وإذا لم يكن له مقامه الحميد الداعية إلى الله عزّ وجلّ بحسن خلقه وجليل زهده فيما لا يليق بوارث النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يتطلع إليه، فإنّها وراثة علم وخلق وطاعة لله ربّ العالمين.
وهو أي العالم لا يقصر جوده وعطاءه الماجد على طلاب العلم في عصره ومصره، بل هو الذي يحرص حرصا بالغا على أن تكون مائدة علمه منصوبة عامرة بالقرى لكلّ طالب علم في كلّ عصر ومصر، فإن غاب عنهم جسده فإنّ عقله وقلبه وأدبه قائم في أسفاره التي تخطها يمينه والتي سيكون جزاؤه عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أن يستحيل مدادها أزكى من المسك طيبا. وذلك جزاء من جنس العمل، فإنّ ذلك المداد قد كان سببا في أن غيّر حياة النّاس بما نشر من العلم النّافع إلى ما هو أسمى وأزكى، فكان الجزاء استحالته إلى ما هو أطيب من المسك يوم القيامة.
إنّ نفس العالم لتستطيب رائحة المداد أكثر مما يستطيب غيرها رائحة المسك في الدنيا.
إنّ إعداد البحوث وتأليف الأسفار ونشرها في طلاب العلم لمسئوليّة جليلة لا يليق بعالم يملك القدرة على أن يقوم ببعض حقّها أن يرغب عنها أو يتشاغل دونها بعرض من أعراض الحياة الدّنيا.
لن يلفّ ظلام الجهل والإلحاد ديارنا ما بقي فينا علماء يعلّمون ويربّون ويبحثون ويؤلّفون، وطلاب علم يجاهدون في تحصيل المعرفة وفقهها واستثمارها لتعمير البلاد وقلوب العباد.
وذلك ما كان من = البقاعيّ = قدّم لطلاب العلم وللمكتبة الإسلاميّة أكثر من ستين كتابا ورسالة، وقد بلغت بعض مؤلفاته عدّة مجلدات، وكانت بعض رسائله وريقات مخطوطة إذا ما فصّل إجمالها بلغت مجلدا عظيما، وقد انصرفت الأبصار عن كثير من آثاره زمنا طويلا، ولم يكد يسمع كثير من النّاس باسمه إلّا منذ أقلّ من ثلاثة عقود، بل ما كان يعرفه مفسّرا إلا قليل من المشتغلين بعلوم الكتاب والسّنّة والعربية
واليوم قد لقيت بعض مؤلفاته عناية من طلّاب العلم، ولا سيما تفسيره نظم الدّرر، فإنّ غير قليل من طلاب علوم الكتاب الكريم اليوم يحرصون على مصاحبة هذا التفسير لما يجدون فيه ما ليس في غيره
وقد يسّر الله عزّ وجلّ لي الاطلاع على كثير من كتبه وهي مخطوطة منذ قرابة ربع قرن مضى(1/50)
واليوم قد لقيت بعض مؤلفاته عناية من طلّاب العلم، ولا سيما تفسيره نظم الدّرر، فإنّ غير قليل من طلاب علوم الكتاب الكريم اليوم يحرصون على مصاحبة هذا التفسير لما يجدون فيه ما ليس في غيره
وقد يسّر الله عزّ وجلّ لي الاطلاع على كثير من كتبه وهي مخطوطة منذ قرابة ربع قرن مضى
وقد قسمت الكلام هنا على آثاره قسمين وفقا لعلاقتى بها:
القسم الأول: لما عثرت عليه وقرأته، وهذا قد رتبته حسب فنونه
والقسم الآخر: لما وثقت في نسبته إليه، ولكنى لم أوفق إلى الاطلاع عليه، إمّا لأنه ما يزال مخطوطا ومودعا في خزائن خارج مصر، ولم يتيسر لي الذهاب إليها لضيق ذات اليد، وإمّا لأنها مفقودة لا يعرف لها موطنا.
وهذا رتبته وفق عنوانه ترتيبا (ألفبائيا)، وعنيت بتوثيق نسبته إلى البقاعيّ، وببيان شيء مما وثقت من موضوعه الذي ألف فيه، ولعلّ الله عزّ وجلّ يعينني على أن أعمل على نشر ما يفع العباد منها استرضاء له وتقرّبا وتحبّيا.(1/51)
القسم الأول ما اطلعت عليه من مؤلفاته
أولا:
التفسير وعلوم القرآن الكريم:
مقتضى ما انتهجت أن أرتب أسفار هذا الفن وفق عنوانها ترتيبا ألفبائيا، ولكنّى عدلت هنا إلى البدء بتفسيره لما له من المنزلة العليّة في نفسه والمنزلة الجليلة بالنسبة لما أنا مهموم به من فنون البحث العلمي، ولما هو أساس اشتهار = البقاعي = بين الأئمة، فإن تفسيره هو المصدر الرئيس لما كان للبقاعي من منزل عليّ في عصره والعصور التالية
نظم الدّرر من تناسب الآي والسور
لم يتيسر لى الاطلاع على نسخة المؤلف، ولكنى اطلعت على جزء من نسخة مخطوطة كتبت في عصره سنة (871) وقام المؤلف بتصحيحه بنفسه، وبقية النسخة ملفقة وغير تامة وهي النسخة رقم (285تفسير دار الكتب المصرية)
كتب على وجه الورقة الأولى من هذا الجزء الذي صححه المؤلف (نظم الدرر من تناسب الآي والسور)
وقد جاء عنوانه كذلك في كتابه: (الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة) في الصفحة الثالثة، والصفحة الثالثة والعشرين من المخطوطة رقم: (1269تفسير دار الكتب المصرية) (1)
__________
(1) اقتضت طبيعة هذا الفصل أن أذكر بيانات كثير من المصادر والمراجع في متن القول، لا في هامشه، لأني رأيت أن مثل هذه البيانات لأهميتها هنا هي إلى المتن أقرب.(1/52)
وكذلك في كتابه: (بذل النصح والشفقة: ق: 61) خط رقم: (117 تصوف دار الكتب المصرية) وكتابه: (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور (ج 1ص 114، 116، 118) ولهذا آثرت هذا العنوان
وجاء عنوانه (نظم الدرر في تناسب الآي والسور) في الاتقان للسيوطي (3/ 322) ومعترك الأقران (1/ 55) وكشف الظنون (2/ 1961) وهدية العارفين (1/ 21)، و (مجلة المورد العراقية: ص 199 ع 2م 2)
وجاء عنوان (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) في النسخة المخطوطة رقم (155تفسير تيمور دار الكتب المصرية) والأعلام للزركلي (1/ 50) وجاءت له أسماء أخرى بزيادة أو نقصان أو تبديل (نظم العقيان للسيوطي: ص 24)
وهو يعرف ب = المناسبات = وقد سماه بذلك (مصاعد النظر: ص 10) و (بذل النصح والشفقة ق 61ب) و (الأقوال القويمة: 2) وجاء أيضا في (شذرات الذهب: 7/ 340) و (الأعلام: 1/ 50)
يقول في أوله: = ويناسب أن يسمّى: = فتح الرحمن في تناسب أجزاء القرآن = وأنسب الأسماء له = ترجمان القرآن ومبدي مناسبات الفرقان) وهو معنيّ بتعدد أسماء كتبه، كما تجده أيضا في (مصاعد النظر: ج 1 ص 98) وذلك إشارة منه إلى تعدد الوجوه التي يمكن أن ننظر منها إلى الكتاب إيمانا منه أنّ الاسم دال على المسمى، وأن تعدد أسماء الشيء دال على شرفه
* * *تاريخ تأليفه:
بدأ البقاعي في تأليف تفسيره = نظم الدرر = في شعبان من السنة الحادية والستين وثمان مائة (761) بالقاهرة، وهو في الثانية والخمسين من عمره، وفرغ من المسودة في يوم الثلاثاء سابع شهر شعبان سنة خمس وسبعين وثمان مائة (875) في مسجده برحبة باب العيد المتفرعة من شارع قصر الشوق على مقربة من الجامع الأزهر الشريف بالقاهرة، فاستغرقت المسودة أربع عشرة سنة.
فرغ من تبيضه وتنقيحه في يوم الأحد العاشر من شعبان سنة ثنتين وثمانين وثمان مائة (882) بدمشق بمنزله الملاصق للمدرسة البادرانية
أي قبل وفاته بثلاث سنوات، فاستغرق تأليفه وتحريره ثنتين وعشرين سنة، كما نصّ هو على ذلك في خاتمة تفسيره (1)(1/53)
فرغ من تبيضه وتنقيحه في يوم الأحد العاشر من شعبان سنة ثنتين وثمانين وثمان مائة (882) بدمشق بمنزله الملاصق للمدرسة البادرانية
أي قبل وفاته بثلاث سنوات، فاستغرق تأليفه وتحريره ثنتين وعشرين سنة، كما نصّ هو على ذلك في خاتمة تفسيره (1)
نسخ الكتاب المطبوعة والمخطوطة:
حرصت على أن أذكر تعريفا بالنسخة المطبوعة للكتاب، وبعض النسخ المخطوطة له لأني أزعم أنّ الكتاب نحن بحاجة إلى إعادة تحقيقه لما وقع في النسخة المطبوعة من أمور يحسن أن ترفع منه، وهو من الأسفار التي قد تمتدّ الجملة فيها امتداد لا يعين القارئ على حسن القراءة والفهم، وغير قليل من عبارات البقاعي وتراكيبه تعدو عليه المعاظلة.
أولا النسخة المطبوعة:
على الرغم من كثرة ما ألّف البقاعي من أسفار ورسائل فإنّه لم يطبع منها إلا القليل ومن تلك التي طبعت مؤخرا تفسيره = نظم الدرر = ظلّ هذا التفسير عصيّا على الطبع سنين عديدة.
يزعم = ابن حجر الهيثمي = أن الله عزّ وجلّ لم ينفع بعلم = البقاعيّ = لمعاداته = ابن عربي = يقول:
= البقاعي غفر الله له كان من أكابر أهل العلم، وكان له عبادات كثيرة، وذكاء مفرط، وحفظ بارع في سائر العلوم لا سيما علم التفسير والحديث، ولقد صنّف كتبا كثيرة أبى الله تعالى أن ينفع أحدا منها بشيء [كذا] وله كتاب في = مناسبات القرآن = نحوا من عشرة أجزاء لا يعرفه إلا الخواصّ بالسماع، وأما غيرهم فلا يعرفونه أصلا، ولو كان هذا الكتاب لشيخنا = زكريا = [يقصد زكريا الأنصاري] أو غيره ممن يعتقد [يقصد يعتقد في ولاية = ابن عربي، وابن الفارض، ويقول بقولهما] لكان يكتب بالذهب لأنّه [أي تفسير المناسبات] لم يوضع مثله، ولكن {كُلًّا نُمِدُّ هََؤُلََاءِ وَهَؤُلََاءِ مِنْ عَطََاءِ رَبِّكَ وَمََا كََانَ عَطََاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الاسراء: 20) (2)
__________
(1) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: ج 22ص 443ط: حيدرآباد الهند
(2) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي المكي: ص 53(1/54)
هذا القول من = ابن حجر الهيثمي = هو إلى تغييب العقل المسلم الموحّد أقرب منه إلى أيّ شيء آخر، فمعالم التضليل جدّ ظاهرة عليه، وإذا كان هذا حال من يعتقدون في = ابن عربي = فإنّ في هذا دليلا على أنّ الاعتقاد في ولايته ضلال مبين
من ذا الّذي يملك أن يزعم أن الاعتقاد في مثل = ابن عربي = فريضة وطاعة من لم يستمسك بها عوقب وطرد؟
أيّ تجهيل وتضليل ذلك؟!!
لقد منيت الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة وما تزال كذلك بكثير من القائمين على تخدير وتنويم العقل المسلم الذي يستمد غذاءه وشفاءه من الكتاب والسنة النبوية الصحية، فغير قليل ممن ينتسبون للعلم ويتصدرون للدعوة وتعليم العباد تقوم معارفهم على الأساطير والأقاصيص والخرافات الهزلية التي يخيلها لهم شياطين الأنس والجن، وأمثال هؤلاء لهم الغلبة الزائفة في وسائل الإعلام فمثل هذا يحقق لكل طاغية أن يعيث في قومه فسادا ولا يجد من يردعه ويكشف طغيانه وتضليله لقومه.
ويذهب الأستاذ = عبد القادر عطا = إلى أن التّقاعس عن طبع تفسير البقاعي أمر مبيّت بليل، أو عن جهالة، يقول:
= ومن العجيب أنّ إهمال هذا الجانب من الدراسات القرآنية المهمة لا زال قائما لم يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، فعلى الرغم من أنّ مؤسسات النشر الحكومية، والخاصة دائبة على نشر الكتب التقليدية في التفسير، والتي يغنى بعضها عن مجموعها، فقد أغلقت أبوابها في وجه أول تفسير موسوعيّ من نوعه تخصص في هذا النوع، وهو = نظم الدرر = للبقاعي، ولا حجة لهذه الدّور في أنّها تنشد الرّواج التّجاريّ للكتب، فهذا الكتاب في الدّرجة الأولى من الرّواج لعدم وجود نظير له بين الدارسين، ولجودته الفائقة من جهة أخرى، ولا حجة لكبار العلماء في جهلهم بهذا الكتاب، فالذي نعلمه أنّه كان بصفة دائمة على مكتب الشيخ المراغي [يقصد شيخ الأزهر] واقتبس منه كبير من العلماء جملا صنع منها تفسيرا نسبه لنفسه، فإن كان حبس الكتاب عن الطبع ليكون مصدرا للسطو فبئس الصنيع، وإن كان حبسه مع غيره تنفيذا لمخطط قصد به أن يظلّ المسلمون بين لغط التكرار المملّ لعلوم التفسير، فيا خيبة المسعى = (1)
__________
(1) تناسق الدرر للسيوطي: تقديمة: عبد القادر عطا: ص 40(1/55)
ولعلّ من أسباب الانصراف عن طبع هذا التفسير صعوبة القراءة فيه، فعبارته متداخلة قد تصل إلى حد المعاظلة، وغير قليل من القراء لا يكاد يصبر على متابعة القراءة فيه، وقد رأيت هذا من بعض طلاب العلم بل من مدرسيه وشيوخه لا يكاد يصبر بل يتعلل بأنّه لم يجد فيه ما يطلب!!!، وقد غفل، فإن الذي يطلبه منه وقد أخبرني به مكنون في تفسير = نظم الدرر = على نحو قد لا تجد معشاره في غيره.
ظل هذا التفسير حبيسا في خزائن المخطوطات إلى أن قيّض له بعض أهل العلم بالديار الهندية فعمدوا إلى تحقيقه وطبعه ونشره في الديار الإسلامية:
كان ذلك من = دار المعارف العثمانية = بحيدرآباد الدّكن بالهند وهي دار لها على نشر أسفار العلوم الإسلامية فضل عظيم، وهذا من عجائب الديار العربية يعكف أهل الثّقافة فيها على نشر كتاب الفتوحات المكية، ومنامات الوهرانيّ ورسائل ابن سبعين، والأغاني للأصفهاني، ورسائل إخوان الصفا وتفسير الثعالبي، ويبخلون على مثل تفسير = البقاعيّ = لينفق علي تحقيقه ونشره طلبة العلم في الديار الهندية على الرغم مما يعانون.
أخرج التفسير في اثنين وعشرين جزءا من القطع المتوسط (17* 24 سم) نشر الجزء الأول منه في الهند سنة تسع وثمانين وثلاث مائة وألف (1389) والأخير في سنة أربع وأربع مائة وألف (1404)
وقد تولى تحقيق الجزء الأول = والثاني والثالث ومنتصف الرابع (آخر تفسير سورة البقرة ج 4ص 194) الشيخ: = محمد بن عبد الحميد = شيخ الجامعة النظامية، وتولى تحقيق بقية الأجزاء الشيخ الشّاب: محمد بن عمران الأعظمي الأنصاري العمري أحسن الله عزّ وجلّ إليهما
لما أحسنا إلينا بصنيعهما
قوبلت الطبعة على نسخة المغرب = الرباط = ونسخة عارف حكمت بالمدينة النبوية ونسخة المكتبة الظاهرية بدمشق ونسخة دار الكتب المصرية، واتخذ المحقق نسخة الرباط أصلا دون أن يذكر لنا رقمها، ودون أن يبين لنا وجه اختيارها أصلا للنسخ الأخرى، ودون أن يصف لنا النسخ التي اعتمد عليها ولا أرقامها في خزائنها، مما يجعل الأمر مبهما، ولم يكتب أيضا مقدمة للتحقيق، وهذا أمر مهم جدا، ولا سيما أن الكتاب يحقق للمرة الأولى، وما كان مثل هذا بمتكلّفه كثيرا، وظنّي أنّه على مثل ذلك قدير.(1/56)
حرص المحقق على ذكر مقابلات النسخ في الهامش، ولم يبين لنا منهاجه في هذا:
أيضع في أعلى المتن ما كان في النسخة الأم وإن كان غيره أعلى أم يضع الصحيح في المتن وما عداه في الهامش؟
لم يبين لنا، ولذا تجده يضع الصواب حينا في المتن وغيره في الهامش، وحينا تجد الصواب في الهامش والخطأ في المتن وليس من النسخة الأم
منهج التّحقيق ليس قويما وكثير من تحقيقاته بني على قراءة خاطئة وفهم بعيد عن الصواب (1)
وقد أثقل المحقق الهامش بنقل كثير من تفسير = تبصير الرحمن = لعلي المهاتمي، وهو مطبوع، ومن = البحر المحيط لأبي حيان، وهو مطبوع متداول، وليس ثم مقتض لهذا الإثقال وليس فيما ينقله توضيح لما قال = البقاعي =.
لو أنّه صرف عنايته إلى ضبط النص ولا سيما بعض الكلمات التي يلقها الغموض أو الإبهام من كلام البقاعي، وتحريره، والإشارة إلى تجلية غموض بعض العبارات، وربط الكلام ببعضه لتباعد أطرافه في بيان البقاعي لكان أولى، ولو أنّه عنى بتقسيم الكلام وتمييزه إعانة على حسن القراءة والفهم لكان أعلى، فقد عانيت كثيرا في قراءة النسخة المخطوطة التي اعتمدت عليها في إعداد بحثي لدرجة العالمية التناسب القرآنيّ عبد برهان الدين البقاعيّ (14021399) بإشراف شيخي محمد عبد الرحمن الكرديّ على الرغم من وضوح خطّها النسخيّ، إلا أنّ بها تصحيفا وتحريفا وسقطا بالغا.
المهم أن الطبعة الهندية أضحت كالنّادرة في الديار العربية ولا تكاد تعثر عليها إلا بمشقة باهظة وبثمن كثير، وقد عانيت من جمع أجزائها من مكتبات الحجاز ونجد طيلة خمس سنوات أقمتها هناك (1408 1412)
والتفسير جدير بأن يعاد تحقيقه على نسخ مخطوطة أكثر وأقدم وأن ينشر نشرة جيدة الطبع والإخراج.
__________
(1) راجع في هذا: نظم الدرر (ط: الهند) ج 1ص 5س 8، ج 1ص 168س 32، ج 1ص 196س 65ج 1ص 379س 54، ج 1ص 460س 21، ج 2ص 267 س 4، ج 3ص 322س 5، ج 4ص 44س 8، ج 4ص 187س 15(1/57)
وإذا ما كانت الطبعة الهندية قد بدأت (سنة: 1389) وانتهت (1404) فإن هنالك طبعة كالمسروقة من الطبعة الهندية اقترفت سرقتها في بيروت في دار الكتب العلمية (1415) تولى تخريج الآيات والأحاديث ووضع الحواشيّ = عبد الرازق غالب المهدي =
وبمقارنة هذه الطبعة البيروتية تيقنت أنّها هي الطبعة الهندية نقلت بكل ما في الهندية من أخطاء، ولم يكن إلا حذف هوامش التحقيق ووضع تخريجات الأحاديث موضعها، أمّا نصّ التفسير فهو هو محرفا ومصحفا حتى في الآيات القرآني
كما تراه في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوََالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرََاتِ وَبَشِّرِ الصََّابِرِينَ} (البقرة: 155)، فقد استأنس البقاعي في تفسير هذه الآية بقول الله عزّ وجلّ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتََالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى ََ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى ََ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216)
جاءت الآية في الطبعة الهندية على النحو التالي (يأيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم) وكذلك في الطبعة البيروتية وغير خفي عنك أن الآية الكريمة لم تصدر بهذا النداء في كتاب الله سبحانه وتعالى
بل بلغ الأمر أن حذف من البيروتية جزء من صفحة من التفسير:
الصفحة الخيرة من الجزء الأول من الهندية (ص 357) (البيروتية ج 1 ص 322س 159) والقائم على البيروتية لم ينتبه إلى ما في طبعته من حذف كثير أخلّ بالنص إخلالا لا يستقيم الكلام معه.
والبيروتية أيضا لم تجعل مقدمة لطبعتها تماما اقتداء بالطبعة الهندية، وإن يكن الشيخ = عبد الرازق المهدي = قد أحسن بما صنعه من تخريج الأحاديث التي في التفسير، فجزاه الله عزّ وجلّ عنا خير الجزاء، ولولا هذه التخريجات لما كان للطبعة البيروتية أي قيمة علمية.
ثانيا: النسخ المخطوطة:
قلت إن المحقق الهندي له فضل كبير في إخراج هذا التفسير جدير بفيض الشكر ولكن التفسير بحاجة إلى إعادة تحقيق على نسخ خطية أخرى، وللتفسير نسخ خطية كثيرة جدا في مصر وخارجها وبين يدي نصوص ببيان عشرات من النسخ المخطوطة ومواطن وجودها، ولكنى أذكر بعضها، لا كلها:(1/58)
* نسخة بدار الكتب المصرية برقم (213تفسير) في ست مجلدات من القطع الكبير، وهي تامة إلا مقدار ورقة من الجزء الرابع (ق 373أ 374ب) ومسطرتها (27سطرا) كتبت سنة (1270) بخط محمد أبي الفضل الصفتى ومجموع أوراقها (2304ق)
ومنها مصورة بدار الكتب رقم (1006تفسير) وقد اتخذت الأصل مصدرا في إعداد هذا بحثي للعالمية، فهي أوضح النسخ التي أمكن الاطلاع عليها بمصر، فقد فرغت منه في عام (1402) ولم أتمكن من الاطلاع على أي جزء مما طبع في الهند في ذلك الوقت
وفي هذه النسخة تصحيف وتحريف وسقط لبعض الكلمات، وكأنّ الناسخ لم يكن من أهل العلم المحررين
* * * * نسخة غير كاملة منها أربعة أجزاء فقط برقم (285تفسير بدار الكتب المصرية)
والأجزاء الموجودة: الأول والرابع والسادس والثامن، كتب بعض الجزء الأول في حياة المؤلف
* * * * نسخة كاملة برقم (590/ 12855تفسير) بمكتبة الأزهر في سبع مجلدات كتبت ما بين سنة (13311325) وخطها جيد وهي في (3731: ق) ومنها نسخة منقولة برقم (2308) بمكتبة الأزهر كتبت سنة (1370)
* * * * نسخة رقم (229تفسير الأزهر رواق الأتراك) في ثلاث مجلدات مجموع أوراقها (1527ق) (د. ت) ومنها نسخة مصورة (مكروفلم برقم 650دار الكتب المصرية)
* * * * نسخة رقم (150تفسير تيمور) بدار الكتب المصرية، لا يوجد إلا الجزء الأول ينتهي بالآية (123آل عمران)
* * * * نسخة مصورة (مكروفلم) بمعهد المخطوطات برقم (279237) عن نسخة مكتبة (مدينة) بتركيا رقمها هناك (154151) وهي غير كاملة وملفقة
* * * * نسخة مصورة (مكروفلم) رقم (279275) بمعهد المخطوطات عن نسخة (الظاهرية بدمشق) رقم (145141) ناقصة كتبت في القرن العاشر(1/59)
* * * * نسخة مصورة (مكروفلم) رقم (182180) بمعهد المخطوطات بالقاهرة عن نسخة جامع الشيخ بالاسكندرية، ولم يتيسر لى الاطلاع عليها
* * * * نسخة الرباط بالمغرب في خمسة أجزاء رقم (181ق) بمكتبة الأوقاف كتبت سنة (1097). راجع فهرس مجموعة مختارة لمخطوطات عربية نادرة ج 1ص 20، ولعلها النسخة التى اتخذها محقق الطبعة الهندية أصلا.
* * * * نسخة القرويين بفاس المغرب، في خمسة أجزاء قوبل بعضها على نسخة المؤلف الجزء الأول كتب سنة (949) والثالث (956) والخامس (875) وهي في (1725ق) وفي الجزء الرابع تكرار بعض ما في الثالث، وفي الخامس نقص من آخر (الدخان) إلى أول سورة (الصف)
* * * * نسخة في مكتبة السلطان الغازي محمود خان بالمدينة النبوية رقم (118) راجع فهرس المكتبة المذكورة ص 85مخطوط بدار الكتب المصرية
* * * * نسخة في مكتبة (جستربتي بدبلن). راجع مجلة المورد ص: 119 عد: 2مج: 2
* * * * نسخة رقم: (242241) في مجلدين بمكتبة نور عثمانية بتركيا (فهرس مكتبة نور عثمانية بدار الكتب المصرية)
* * * * نسخة في مكتبة فيض الله أفندي بالمكتبة الوطنية باستنبول مجلة المورد ص: 320عد: 2مج: 7
* * * * نسخة رقم (9996) في أربعة أجزاء في مكتبة = عاشر افندي بتركيا. فهرس عاشر افندي ص 96دار الكتب المصرية
* * * * نسخة في مكتبة راغب باشا بتركيا راجع ج 2ص 110فهرس نوادر المخطوطان للجزائري (خ) دار الكتب المصرية
* * * * نسخة في مكتبة = على باشا الجور ليلي بتركيا راجع فهرس نوادر المخطوطات للجزائري ص 57(1/60)
* * * * نسخة مكتبة بايزيد بتركيا راجع ص 16فهرس مكتبة بايزيد دار الكتب المصرية
* * * * نسخة مكتبة ولي الدين بتركيا راجع ص 38ج 2فهرس مكتبة ولى الدين (خ) بدار الكتب المصرية
* * * * أربع نسخ في مكتبة والدة سلطان بتركيا رقم (164160) راجع فهرس مكتبة والدة سلطان ص 34 (خ) دار الكتب المصرية
وهنالك نسخ أخرى عديدة وما رغبت في ذكر هذا إلّا إيمانا بأنّ هذا الكتاب نحتاج إلى إعادة تحقيقه لما له من أهمية جليلة، ولما مني به التحقيق في الطبعة الهندية من أمور غيرها أعلى منها على الرغم مما جادت به علينا من فضل لا يغيب عنا ضياؤه فجزى الله عزّ وجلّ القائمين به خير الجزاء عن كتابه الكريم
* * * * *قيمة الكتاب عند مؤلفه
سرور المسلم بتوفيق الله عزّ وجلّ له إلى فعل عمل صالح هو أمر حميد في نفسه إذا لم يتجاوز سروره حدّ إبراز فضل الله سبحانه وتعالى عليه ولم يقترب إلى مباءة العجب والتنفّج
وخير ما يسرّ المسلم ما كان فيه نفع عام للمسلمين من نحو علم نافع، وغير قليل من أهل العلم كانوا يتحدّثون في تواضع لله عزّ وجلّ عن نعم الله سبحانه وتعالى عليهم، وكأنّي بهم يعلنون بهذا للناس أنّه إذا ما كان الله عزّ وجلّ قد أفاض مثل هذه النعم عليهم وهم من هم في مقام العبودية لله رب العالمين فكيف هو صانع بمن هو أعلى منهم في ذلك المقام؟
وفي هذا حث للناس على أن يستشرفوا إلى مقامات الفيض الأقدس، وأن يقيموا أنفسهم في مقامات التعرض لنفحات الله عزّ وجلّ
البقاعي كان ممن يكثر من الحديث عن فضل الله سبحانه وتعالى عليه، ولا سيما فضل توفيقه جلّ جلاله إلى تأليف تفسيره = نظم الدرر = والعبارات التي توالت في تفسيره مبينة عن سروره به جد كثيرة منها قوله:
= هذا كتاب عجاب رفيع الجناب في فن ما رأيت من سبقني إليه ولا عوّل ثاقب فكره عليه (1)
__________
(1) السابق: 1/ 2(1/61)
وقوله: = في فن ما رأيت من سبقني إليه = لا يعني أنّه أول من تحدث في مناسبات القرآن الكريم، فإنه قد صرح بمن سبقوه إلى ذلك، ولكنهم لم يقوموا بهذا في تدبرهم القرآن الكريم كله، وإنما في بعضه ولذلك يطلب النظر في صنيعه وصنيعهم، فهو الذي أقام تفسيره كله على علم التناسب القرآني في جميع عناصر البيان القرآني
وهذا بحق لم يقم به أحد من قبله ممن بلغنا تفسيره كمثل ما قام هو به في تفسيره، وأصل العلم لا شك في أنّه مسبوق به، أمّا على هذا النحو المستوعب فإنّما هو بحقّ فريد عصره فيه، ولهذا تراه يذكر سبق = أبي جعفر بن الزبير = بكتابه (البرهان في ترتيب سور القرآن) ويقول:
= وهو لبيان مناسبة تعقيب السورة بالسورة فقط، لا يتعرض فيه للآيات = (1)
وذكر كتاب = الزركشي = (البرهان في علوم القرآن) وقال عنه: = فرأيته ذكر فيه ما يعرّف بمقدار كتابي هذا = (2)
وذكر تفسير = جمال الدين ابن النقيب = (ت: 698) المسمّى (التحرير والتحبير لأقوال أئمّة التفسير في معاني كلام السّميع البصير) قال عنه تلميذه = الذهبيّ = في معجم الشيوخ إنه في تسعة وتسعين مجلدا استوعب القراءات وأسباب النزول والإعراب وأقوال المفسرين وأقوال الصوفية وحقائقهم =
وقال البقاعيّ عن عنايته هذا التفسير بتناسب الآيات والسور: = وفي خزانة جامع الحاكم كثير منه، فطلبت منه جزءا فرأيت الأمر كذلك بالنسبة إلى الآيات لا جملها وإلى القصص لا جميع آياتها، ومن نظر في كتابي هذا مع غيره علم النسبة بينهما = (3)
وقال: = ولقد شافهنى بعض فضلاء العجم، وقد سألته عن شيء من ذلك، فرآه مشكلا، ثمّ قرّرت إليه وجه مناسبته، وسألته: هل وضح له؟ فقال: يا سيدي كلامك هذا يتسابق إلى الدّهن.
فلا تظنّن أيها الناظر لكتابي هذا أنّ المناسبات كانت كذلك قبل الكشف لقناعها، والرّفع لستورها، فربّ آية أقمت في تأمّلها شهورا منها:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(آل عمران: 121)
__________
(1) السابق: 1/ 6
(2) الموضع السابق
(3) السابق: 1/ 10(1/62)
ومنها {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسََاءِ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (النساء: من الآية 127)
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ} (النساء: من الآية 176)
ومن أراد تصديق ذلك، فليتأمل شيئا من الآيات قبل أن ينظر ما قلته، ثمّ لينظره يظهر له ما تعبت فيه، وما حصل من قبل الله سبحانه وتعالى، ومن العون سواء كان ظهره وجه ذلك عند تأمله أو لا، وكذا إذا رأى ما ذكر غيري من مناسبات بعض الآيات = (1)
وقال أيضا: ولا تنكشف هذه الأغراض أتمّ انكشاف إلا لمن خاض غمرة هذا الكتاب، وصار من أوله وآخره وأثنائه على ثقة وصواب، وما يذكر إلا أولو الألباب.
وقد ذكر الزركشي نحو أربع ورقات من مناسبات بعض الآيات، وإذا تأملتها عظم عندك ما في هذا البحر الزّاخر من نفائس الجواهر = (2)
وقال: = أمدنى فيه والحمد لله تأييد سماويّ، فجعلته كالرديف لتفسير القاضي ناصر الدين البيضاوي، ولعل تسهيله كان ببركة مبشرة من آثار النبوة رأيتها في صباي، وأنا في حدود العاشرة من ستي في قرينتا من بلاد البقاع) (3)
وقال عنه: (التفسير الذي لم تسمح الأعصار بمثله، ولا فاض عليها من التفاسير على كثرة أعدادها كصيّب وبله) (4)
وهو يذكر في آخره مدحا له قصيدة من مجزوء الرجز يقول:
(وقد قلت مادحا للكتاب المذكور بما أبان عنه من عجائب المقدور وغرائب الأمور شارحا لحالي وحالهم، وظفر آمالي وخيبة آمالهم من مجزوء = الرجز = وضربه مقطوع والقافية متواتر مطلق مجرد، مسميا له ب = كتاب لمّا = لأنّ جلّ مقصوده بيان ارتباط الجمل بعضها ببعض حتى إنّ كلّ جملة تكون آخذة بحجزة ما أمامها متصلة بها، وذلك هو المظهر المقصود من الكلام وسره ولبابه الذي هو للكلام بمنزلة الروح وبيان معاني المفردات، وكلّ جملة على حيالها بمنزلة الجسد فالروح هو المقصود الأعظم يدرك ذلك من يذوق وبفهم، ويسري ذهنه في ميادين التراكيب ويعلم
__________
(1) السابق: 1/ 1514
(2) السابق: 1/ 16
(3) السابق: 1/ 4
(4) السابق: 22/ 443(1/63)
و = لمّا = ظرف يراد بها ثبوت الثاني مما دخل عليه بثبوت الأول على غاية المكنة بمعنى أنها كالشرط تطلب جملتين يلزم لذلك الملزوم، فتمّ الكتاب في هذا النظم ب = لمّا = لأنّي أكثرت من استعمالها فيه لهذا الغرض (1)
ومما قاله عن تفسيره في كتابه = مصاعد النظر =:
= منّ الله وله الحمد عليّ يصوغي لكتاب: = المناسبات بين السور والآيات = بل الجمل والكلمات الذي لم تسمح الأعصار بمثله حقيقة من غير غلوّ، ولا نسج ناسج على منواله وشكله، إخبارا بالحق من غير فخر وعلوّ، فإنّه أخرج من كتاب الله سبحانه وتعالى خفايا أسرار ما ظفر بها أحد، وأبدى غرائب أنوار ما عثر على بارق منها ولا وجد، وأجرى سوانح أنهار ما صدر عن عذب ينابيعها ولا ورد، كان قلبي فيه مددا طوالا أسير الواردات، وسمير الخفايا الشاردات
بيّنت فيه سرائر آيات ما بيّن أحد ظاهر تفسيرها، وأبديت أسرار سور ما كشف أحد خفيّ ضميرها = (2)
وما ذكره عنه في كتابه = الفتح القدسي =: قلت في بيان فضله واستقامة منهاجه وشرف سبله:
هل رأيتم يا أولى التفسير من ... صاغ تفسيرا كنظم الدّرر
دقّ معنى جلّ سبكا لفظه ... في وجوه الفكر مثل الغرر
وقلت وعن الصدق ما حدت:
هذا كتاب في التّناسب مفرد ... والله لم ينسج على منواله
أعيى بدقته ومحكم رصفه ... من رام أن يأتي الورى بمثاله
وقلت وقد استكتبه العلامة = برهان الدين بن الظهيرة قاضي الشافعية بمكة، وقد عظم موقعه عنده:
أبديت في التفسير ما أعيي الورى أسراره وأجله القرآن ماذا يقول الحاسدون وقد غدا في النّاس ينشر فضله = البرهان = (3)
__________
(1) السابق: 22/ 446
(2) مصاعد النظر: 1/ 102101
(3) الفتح القدسي في آية الكرسي للبقاعي: ق 1مخطوط(1/64)
تلك بعض نصوص مقالات البقاعي عن تفسيره وهي يمتزج فيها التحدث عن نعمة الله سبحانه وتعالى عليه بفرحته بأن جعله الله عزّ وجلّ محل هذا الفيض وهو يعلن في هذه النصوص انه ما يقولها افتخارا وعلوا بل يقولها بيان لحق وشكرا لفضل تفضل به المنعم جلّ جلاله عليه.
* * *موقف العلماء من تفسيره:
يذكر البقاعي أنّ الناس قد انقسموا في شأن تفسيره ثلاثة أقسام: مادح وقادح وصامت لم يبد وجها (1)
«المادحون»
أورد البقاعي في كتابيه (مصاعد النظر) و (الأقوال القويمة) تقاريظ أعلام عصره لكتابه (نظم الدرر) من نحو = الشرف المناوي = و = المحب بن الشحنة = و = حسام الدين الطهطاوي = و = العز الحنبلي = وأمين الدين الأقصرائي = و = سيف الدين السيرافي = و = محيي الدين الكافيجي = و = تقي الدين الشمنى = و = تقي الدين الحصني = ومما جاء في تلك التقاريظ:
ما قاله = شرف الدين المناوي:
= وبعد فقد وقفت من هذا التأليف الحسن المستجاد على ما أعرب عن أنّ مؤلفه إمام علامة في فنون العلم، فإنّه قد أحسن وأجاد وأظهر من مجموع حسن مجموعا حسنا في غاية الصواب
فحق لهذا التأليف أن يتلقّى بالقبول ولا يصغى لقول حاسد فيه ولا عذول. والله تعالى يبقي مؤلفه منهلا للوراد ويديم النفع به، وبعلومه للمسلمين في تاسع عشر شعبان عام ثمانية وستين وثمان مائة) (2)
ومما قاله محب الدين بن الشحنة:
= أما بعد: فقد وقف العبد الفقير الضعيف الحقير على هذا المصنف العديم النظير المشتمل من الورد الصافي على العذب النمير، فوجد مؤلفه قد حلى فيه من أبكار أفكاره المقصورات في الخيام على الأكفاء الكرام من ذوي العقول والأفهام كل خريدة بعيدة المرام
فالله تعالى يبقيه لإبداء الفوائد ويجزيه من ألطافه الخفية على أجمل العوائد بمنه وكرمه = (3)
__________
(1) مصاعد النظر للبقاعي: 1/ 136
(2) السابق: 1/ 113
(3) مصاعد النظر: 1/ 115
ومما قاله حسام الدين الطهطاوي =(1/65)
ومما قاله حسام الدين الطهطاوي =
= وبعد فقد وقفت على جزء من الكتاب الموسوم ب = نظم الدرر من تناسب الآي والسور = جمع الشيخ الإمام العلامة الرحالة الحافظ = برهان الدين البقاعي = شرف الله عزّ وجلّ به البقاع، ونشر من فوائده وفرائده ما تلذ به الخواطر وتتشنف به الأسماع، فرأيته في بابه غريبا في إعرابه بما أتى على عجمه وإعرابه، قد غاص في بحار العلوم، فاستخرج منها فرائد الدرر وسبر محاسنها فجمع منها أحاسن الغرر، وتتبع شواذ الملح، فجمع منها ما شتّ وأرسل خيله في حلباتها، فحازت قصب السبق، فتصرف فيها كيف شاء، فوهن عند ذلك عضد حاسده، وفيه فتر أعاد الله جلّ جلاله من بركاته ونفعنا بصالح دعواته = (1)
ومما قاله أمين الدين الأقصرائي:
= وبعد فقد شرفت بوقوفي على مواضع من المؤلف البديع المتوج ب = نظم الدرر من تناسب الآي والسور = تصنيف سيدنا ومولانا الإمام العلامة الحبر الفهامة المدقق المحقق ذي التآليف الرفيعة في الأنواح فتوحا من رب الأرباب المستغنى عن الإطناب في الألقاب خالصة خلاصة المتقدمين ونخبة الأئمة المتأخرين زاده الله عزّ وجلّ علما وعملا
ومن نظر في مؤلفه بعين الإنصاف وترك الاعتساف علم مقدار ما حازه من قصبات السبق في مضمار التحقيق والتوفيق = (2)
ومما قاله = محيي الدين الكافيجي =:
= هذا الكتاب = نظم الدرر = كتاب عظيم الشأن، ساطع البيان مؤسس بحسن ترتيب وجودة نظام على أحسن جواهر القواعد مرصع بأنواع فرائد الفوائد والعوائد، وأنّه بحر لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غرائبه وموصوفه بما تراه محط دائرة الضبط والبيان وعطية من عطايا الجواد الرحمن
كتاب في سرائره سرور ... مناجيه من الأحزان ناجي
وكم معنى بديع تحت لفظ ... هناك تزاوجا كلّ ازدواج
__________
(1) السابق: 1/ 116
(2) السابق: 1/ 118(1/66)
ولقد تأمل العبد الفقير فيه حق التأمل كما ينبغي في مواضع كثيرة، فوجده ممتلئا بأجناس درر نفيسة منظومة متناسبة عالية، ومتوجا بأصناف فصوص لامعة غالية ومناسبا صدره عجزه ومقرونا بلطائف دقائق المعاني والفحوى مع رعاية السياق والسباق، ولأجل هذا صار مثلا مشهورا في البلدان والآفاق ما عام أحد من الفضلاء والعلماء في بحره سوى العالم العلامة الشيخ الإمام الهمام شرف السلف خير الخلف المدرس المؤلف المفتى برهان الدين أبو الحسن إبراهيم الشهير بالبقاعي = (1)
وغير هذا من التقاريظ ما أثبته في كتابه (مصاعد النظر) وهو يقرر أنه لم يكن غرضه أن يعرض تفسيره على أحد من الأئمة ليقرظه لكنّه لمّا تكلّم فيه بعض الحسدة اضطر إلى عرضه على الأئمة ليشهدوا بما فيه
ولم يكن من شانه في أوّل أمره حريصا على أن يأخذ على مؤلفاته خطوط أشياخه بتقريظهم فكان أصحابه يلومونه على ذلك، فكان يقول لهم:
= إنّي إذا صرت إلى سنّ يؤخذ فيه عن مثلي، فإن كنت أهلا في تقسي فأنا لا أحتاج إلى شهادة أحد، وإن لم أكن أهلا لم تفدني إجازات المشايخ = (2)
ومن ذكر البقاعي تقاريظهم ليسوا جميعا من أنصاره في بعض مواقفه التي يتجالد فيها ولا سيما مواقفه من ابن عربي وابن الفارض والقائلين بوحدة الوجود والاتحاد
تراه يقول في مقدمة ذكره تقريظ = أمين الدين الأقصرائي =: = مال على أهل السّنة في فتنة = ابن الفارض =، وأغنى الله وله الحمد عنه وما ضرّ إلّا نفسه =
وقال في تقديمه تقريظ = عضد الدين السيرافي = = وكان في فتنة = ابن الفارض = ساكتا =
هذا الذي ذكرته بعض ثناء عصريّه من أهل العلم أمّا ثناء العلماء من بعده علي هذا التفسير فإنه جد كثير لا يتسع المقام لذكره، ويكفيك أن تنظر ما قاله = ابن حجر الهيثمي المكي = وهو من المعاندين للبقاعي في موقفه من ابن الفارض وابن عربي، وما قال الشوكانيّ عن تفسير
__________
(1) السابق: 1/ 127120
(2) السابق: ج 1ص 130129(1/67)
البقاعيّ على الرغم من أنّ الشوكانيّ لا يأخذ بمذهب تناسب الآيات والسور.
يقول الشوكانيّ: = ومن أمعن النظر في كتابه في التفسير الذي جعله في المناسبات بين الآي والسور علم أنّه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء الجامعين بين علم المعقول والمنقول.
وكثيرا ما يشكل عليّ شيء في الكتاب فأرجع إلى مطولات التفسير ومختصراتها فلا أجد ما يشفي، وأرجع إلى هذا الكتاب نظم الدرر فأجد فيه ما يفيد في الغالب = (1)
* * * «المعارضون»
كان على رأس معارضي البقاعي قرينه = شمس الدين السخاوي =:
محمد بن عبد الرحمن بن محمد (ت: 902) وكان يذهب إلى أنّ البقاعي قد اجترأ على كتاب الله سبحانه وتعالى بتفسيره هذا وأنّه قد اعتمد على النقل من التوراة والإنجيل في تفسيره، فألف = السخاوي = كتابه: = الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل = (2)
وكان = البدر بن القطان = من أشد المناوئين للبقاعيّ، وقد احتدمت الملاحاة بينهما فهجاه = البقاعي = بما ينفر المرء عن ذكره (3)
وخلاصة ما اعترض به المناوءون على تفسيره:
هذا كتاب لا يحل بقاؤه في الناس لأنه قسمان:
نقل من الكتب القديمة المحرفة: التوراة والإنجيل والزبور، وهذا لا يحل
كلام من عند نفسه فهو تفسير بالرأي لا يحل
أنه سطا على مقولات غيره فنسبها إلى نفسه
لا حاجة إلي مثل هذا التفسير ولا معوّل عليه ولا يسدّ نقصا في غيره
زعمه أنّ بعض أهل العلم قد طلب منه أن يفصل بين تفسيره وبين النّص القرآنيّ بكلمة (أي) حتى لا يلتبس كلامه بالقرآن الكريم
__________
(1) البدر الطالع: 1/ 102
(2) الضوء اللامع: 1/ 102
(3) الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة، للبقاعيّ: ص / 9مخطوط(1/68)
وهذا مما دفع إلى اتهامه بالكفر، ومحاولة إقامة حد الردة عليه (1)
يقول = ابن إياس = في أحداث شهر = ذي الحجة = من سنة (877):
= ومن الوقائع في هذا الشهر أنّ = البرهان البقاعيّ = وقاضي الجماعة = أبو عبد الله القلجانيّ المغربيّ المالكيّ = وقع بينهما بحث في بعض المسائل، فوقع من = البرهان البقاعيّ = في ذلك المجلس جواب ضبطه عليه قاضي الجماعة، وصرّح بكفره، وشهد عليه (2)، وأراد أن يقام عليه الدعوى عند قاضي القضاة المالكيّ، فلمّا علم كاتب السرّ = ابن مزهر = بذلك طلب = البقاعيّ = إلى عنده، وحكم بعض القضاة بحقن دمه، ولولا كاتب السرّ ما حصل على = البقاعيّ = خير، والذي جرى على = البقاعيّ بخطيئة = ابن الفارض = فإنّه كان رأس المتعصبين عليه (3)، واستمر = البقاعيّ = في عكس حتى مات =
يقول = ابن حجر الهيثمي = = ضبط عليه في مناسباته، فحكم بتكفيره وإهدار دمه ولم يبق من ذلك إلا إزهاق روحه لولا استعان ببعض الأكابر حتى خلصه من تلك الورطة واستتيب في الصالحية بمصر وجدد إسلامه = (4)
نقض البقاعي تلك الاعتراضات
* * ألف البقاعي للرد على القول بتحريم النقل من الكتب القديمة المحرفة كتابه: = الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة = بين فيه أنّه اقتفى في هذا أثر الأئمة من السلف (5)
__________
(1) نظم الدرر: 22/ 244، مصاعد النظر: 1/ 112111، 136، 147، البدر الطالع: 1/ 20
(2) لا يليق بأحد فضلا عن أن يكون من اهل العلم فضلا عن أن يكون قاضي جماعة أن يسعى إلى إيقاع أحد من المسلمين في ما لا يرضي، ولا أن يتربص به يحصي عليه زلاته، بل المسلم شأنه معذار يقبل أعذار إخوانه بل يقيم لهم عند نفسه من الأعذار ما يزيده إقبالا عليهم وإن لم يكن لهم عند انفسهم عذر
(3) هذا من الضلال والإضلال الذي لا يستطيع مسلم عاقل أن يسكت عليه: كيف يكون التصدي للمنكر والأمر بالمعروف في باب التوحيد سببا في أن يعاقب
(4) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي المكي: ص / 53. وبدائع الزهور لابن إياس ج 3ص 89
(5) نظم الدرر: 22/ 444(1/69)
* * القول بأنّه تفسير بالرأي لا سند له، نقضه بأنّه قول جاهل لا يعلم الفرق بين التفسير وكلام بالرأي في القرآن الكريم (1)
* * القول بأنّه سطا على مقالات غيره فنسبها لنفسه ردّه بأنّه من العجب أن يكون هو وحده المطلع على تلك الأقوال، فما بال غيره لم يطلع عليها؟
والأعجب كما يقول أن يتجدد له ذلك عند كلّ سؤال أو بدا في الآية إشكال، وهو الذي نوّه في كتابه هذا بالنقل عن جماعة ما عرفهم = المصريون = إلا منه، كمثل = أبو الحسن الحرالّيّ = و = أبو الفضل المشدالىّ المغربي = وقد سأله بعض المغاربة أن يسقط ذكر = المشدالي = من تفسيره لينسخ الكتاب ويبعث به إلى المغرب، فإنّ المغاربة لا يقرون ل = المشداليّ = بالفضل، فامتنع عن ذلك (2)
* * القول بأنّ الكتاب لا يسد نقصا ولا حاجة إليه ولا معوّل عليه منقوض بأنّ كتابه هذا قائم بما لولاه لافتضح أكثرهم لو واقفه في القرآن الكريم مناظر، وحاوره في كثير من الجمل من أهل الملل محاور في مكان يأمن فيه الحيف، ولا يخشى سطوة السيف، ثم يذكر البقاعي أمثلة لتلك الآيات التي لولا تفسيره لها لأمكن للكافر المعاند أن ينال من كثير (3)
* * القول بأنّه قد طلب منه الفصل بين كلامه والقرآن فأبى لم طلع على ردّ للبقاعي عليه
ولعله مما أشيع عنه زورا، أو رأى أنّه رأي أهون من أن يرد عليه، وهو في هذا على حق مبين، فذلك اتهام جد غريب لرجل يؤذن صباح مساء بتقرير إعجاز القرآن الكريم، أضف إلى هذا أنّ مزج القرآن الكريم بكلام المفسر بحيث لا يظهر إنّما هو أمر لا يقوم أبدا وأهل العلم ليسوا جميعا يفصلون في تفسيراتهم بكلمة (أي) ونحن نرى البقاعي يذكرها في تفسيره في مواضع عديدة في النسخ المخطوطة
والحق أنّ تفسيره هذا لا يغنى عنه غيره من كتب التفاسير في باب تاويل مناسبة الجمل والآيات والمعاقد والسور، ولا يوقن بعظيم منزله في كتب التفسير السابقة واللاحقة إلا من صبر وصابر في قراءته قراءة
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 109
(2) السابق: 1/ 138137
(3) السابق: 1/ 147(1/70)
بحث وتفتيش، أمّا من نظر فيه نظرة عجلى فهو إلى الإعراض عنه أقرب من الإقبال عليه.
هو من الأسفار التي تعلم طالب العلم الناظر فيها منهاج التأمل والتدبر لما فيه من مكنون المعاني ولمجاهدة عويص العلم لذة، وتفسير البقاعيّ يمنحك فيضا من تلك اللذة، وإنى لا أستعذب من البيان ما كان مكشوفا، فالغالب على مثل ذلك افتقاره إلى كثير من دقائق المعاني ولطائفها وإلى كثير من المعاني الإحسانية لأنّ طبيعة تلك المعنى الإحسانية يعجز البيان الإنسانيّ المكشوف عن حملها
* * *دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم
كأنّ البقاعي قد استشعر أن اتساع القول في تفسيره وتعرضه لأمور قد يرى غيره أنها ليست من التفسير في شيء، أو أنها لا تعين القارئ على حسن المتابعة والوعي، ولا سيما من كان غير صبور على عناء التلقي، فعمد إلى اختصار تفسيره: نظم الدرر، وسماه (دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم)
وهذا المختصر ما يزال مخطوطا
من الجزء الأول منه نسخة خطية في المكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رقم (4724) وهي في (464ل) مصورة عن نسخة في تركيا استانبول) رقم (853)
وصورة هذا الجزء فيها غير قليل من الطمس والتلف الذي قد لا يتبين القارئ منه المعنى، ومن ثمّ أزعم أنّ هذه النسخة وحدها قد لا تعين محققها على حسن تحقيق وتحرير النّصّ، ولعلّ الله عزّ وجلّ يقيض له من يملك القدرة على استجلاب نسخ أخرى تعين أهل العلم على تحقيقه وتحريره ونشره.
وقد كان لمحقق كتاب (مصاعد النظر) الفضل في إرشادي إليها فجزاه الله خير الجزاء، وما كان لى من علم بها وأنا أعدّ بحثي للعالمية عام (1399)
وفي خزانة كتبي نسخة من هذا الجزء المخطوط أنتظر استكماله والعثور على نسخة أخرى لتحقيقه وإخراجه لطلاب العلم إن شاء الله تعالى.(1/71)
والجزء الذي أكرمت باقتناء صورة منه ينتهي بآخر اختصار تفسير سورة = المائدة =:
استغرقت المقدمة من (ق: 2/ ب 7/ أ)
والفاتحة من 7/ أ 35/ ب)
والبقرة من (35/ ب 261/ أ)
وآل عمران من (261/ أ 327/ أ)
والنساء من (327/ أ 399/ ب)
والمائدة من (399/ أإلى آخر الجزء المخطوط)
وفي أول هذه النسخة من المخطوط (ق: 71) قوله بعد البسملة والحمد والصلاة:
= وبعد فإني أردت في هذا الديوان العظيم الشأن اختصار كتابي: نظم الدرر من تناسب الآي والسور من الفرقان = لأنه طال بسوق الأحاديث وتقليب مواد اللغة وإيراد ما يشهد من الكتب القديمة ببطلان ما يخالف الإسلام من الأديان
وأزيده إن شاء الله عوض ما أحذف منه ما يعليه على الجوزاء والميزان
وأضبط فيه كما فعلت بأصله السّورة ببيان مقصودها، فإنّه هاد إلى معرفة تناسيها
وأدلّ عليه بالتطبيق بينه وبين مدلول اسمها سواء كان ذلك واحدا أو أكثر وسواء كان اسم معنى أو حرف هجاء لأنّ اسم كلّ سورة مترجم عن مقصودها لأنّ اسم كلّ شيء تلحظ المناسبة بينه وبين مسمّاه عنوانه الدالّ إجمالا على تفصيل ما فيه
وأفسر البسملة بما يناسب ذلك المقصود من غير خروج عن مدلولات الكلمات من جهة اللغة
ثم أشرع في السورة بعد ربط أولها بآخر ما قبلها، وافسّر الكلمة سواء كانت من أسماء الله سبحانه وتعالى أو غيرها بحسب سوابق الكلام ولواحقه، مع حفظ القانون اللغوي، وإن عسر استخراج ذلك من كلام اللغويين على من لم يمارس اللغة
وأفسر الكلمة بكلمتين فأكثر بيانا لأنّه لا تقوم كلمة واحدة مقام كلمة من القرآن أصلا
وبذلك تظهر أسرار التخصيص لبعض الأسماء المترادفة كالسّنة والعام والحول والحجة ببعض الأماكن، ولا يقوم آخر مرادف له بمكان آخر، فإنّ السياق نظرا إلى أصل المعنى المشتق منه ذلك اللفظ فينضم إلى
المعنى الموضوع له ذلك اللفظ معنى آخر من أصل الاشتقاق فلا يقوم المرادف مقامه لفوات ما أداه الاشتقاق كما دعا إلى ذلك السياق =(1/72)
وبذلك تظهر أسرار التخصيص لبعض الأسماء المترادفة كالسّنة والعام والحول والحجة ببعض الأماكن، ولا يقوم آخر مرادف له بمكان آخر، فإنّ السياق نظرا إلى أصل المعنى المشتق منه ذلك اللفظ فينضم إلى
المعنى الموضوع له ذلك اللفظ معنى آخر من أصل الاشتقاق فلا يقوم المرادف مقامه لفوات ما أداه الاشتقاق كما دعا إلى ذلك السياق =
وقد بسط القول في مقدمة الكتاب (المختصر) بمثل ما بسطه في مقدمة الأصل (نظم الدرر)
وهو لا يقوم بالاختصار بحذف جمل من الأصل فحسب، بل إنه ليحدث ضروبا من التقديم والتأخير وإعادة صياغة العبارة وإضافة أشياء على الأصل: كلمات وجمل وفقر
ومن يناظر بين صنيعه في تفسيره الفاتحة في الأصل (نظم الدرر) ومختصره (دلالة البرهان) يدرك أن صنيعه في المختصر أقوم وأكثر تنسيقا من صنيعه في الأصل
وهو لا يعنى في المختصر بالنقل من رسائل = الحرالي =: مفتاح الباب المقفل، كمثل ما كانت عنايته بذلك في الأصل
ولا يعنى أيضا في المختصر بالنقل من كتاب = أبي جعفر بن الزبير =: = البرهان = كما في الأصل
في سورة الفاتحة (ق: 7) يبدا ببيان وجه تسميتها بالفاتحة وأم القرآن والأساس والمثاني والكنز والشافية، ويعرض لعدد آياتها وموقف العلماء من ذلك عند تسميتها بالسبع المثاني ووجه اختيار العدد سبعة
وهو يذكر أن الصفات العلى سبع: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر، وإلى هذه الصفات ترجع جميع الأسماء التي نعرفها. (ق: 8/ ب) وهذا منه على أصول الأشاعرة، وهذا التحديد لا مستند له من الكتاب والسنة أو أثر من آثار الصحابة رضوان الله عزّ وجلّ عليهم.
ويبين مقصودها ولا يخرج على ما في الأصل إلا بشيء من زيادة أو نقص يسير: يقول في المختصر:
= مقصودها: اثبات استحقاق الله عزّ وجلّ لجميع المحامد وصفات الكمال وملك الدنيا والآخرة، واستحقاق العبادة والاستعانة في المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ من طريق الهالكين مختصا بذلك كله
ومدار هذا مراقبة العباد لربهم لإفراده بالعبادة لأنه محيط بجميع صفات الكمال، ومختص بها، فهو مقصودها بالذّات وغيره وسائل إليه، فإنّه لا بدّ في ذلك من إثبات إحاطته سبحانه وتعالى بكل شيء، ولن يثبت حتّى يعلم أنّه المختصّ بأنّه الخالق الملك المالك لأنّ المقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمع الخلق على الحقّ، والمقصود من جمعهم تعريفهم بالملك
، وبما يرضيه، ولا يعرف ما يرضه إلّا بالرسل، ولن يكون ذلك إلّا بما ذكر علما وعملا.(1/73)
ومدار هذا مراقبة العباد لربهم لإفراده بالعبادة لأنه محيط بجميع صفات الكمال، ومختص بها، فهو مقصودها بالذّات وغيره وسائل إليه، فإنّه لا بدّ في ذلك من إثبات إحاطته سبحانه وتعالى بكل شيء، ولن يثبت حتّى يعلم أنّه المختصّ بأنّه الخالق الملك المالك لأنّ المقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمع الخلق على الحقّ، والمقصود من جمعهم تعريفهم بالملك
، وبما يرضيه، ولا يعرف ما يرضه إلّا بالرسل، ولن يكون ذلك إلّا بما ذكر علما وعملا.
وأسماؤها تدلّ على المراقبة: مقصودها لأنّ كلّ شيء لا يفتتح بمراقبة الله سبحانه وتعالى لا اعتداد به، وهي أمّ كل خير وأساس كل معروف، ولا يعتد بها إلّا إذا ثنّيت فكانت دائمة التكرر = (1)
وهو من بعد أن يبين علاقة أسمائها بمقصودها يعمد إلى وجه بيان الافتتاح بالتسمية وعلاقة هذه التسمية بمقصودها (ق: 9/ أ) وكيف أنّ نسبة البسملة من الفاتحة نسبة الفاتحة من القرآن الكريم، فصدرت الفاتحة بالبسملة، وكيف أنّ تقديم الجار أفاد الوحدانية وأنّه الإله، وأقاد اسمه الرحمن بيان الشرائع بإنزال الكتب وإرسال الرسل، وأفاد اسمه الرحيم توفيق بعض المدعوين وخذلان بعضهم، وأنّ هذا هو إجمال سورة الفاتحة التي هو إجمال تفصيل سائر القرآن.
وبين وجه مشروعية التعوّذ في مفتتح القراءة وحكم هذا التعوذ عند العلماء والصيغة التى هي أوفق
وما في صيغة التعوّذ من دلالات إشارية وما في بدء البسملة وختمها بحرف شفوي، ومن بعد بدأ في تحليل البسملة معنيا بتفسير الأسماء الحسنى فيها وهو هنا (ق: 11/ أ) لا ينقل عن = الحرالّيّ = كما كان فاعلا في الأصل: = نظم الدرر =
كما أنّه هنا أكثر تنظيما لتداخل الكلام في الأصل بينما المختصر لم يمزج فيه كلامه بكلام = الحرالّيّ = فكان أقوم، ويبسط القول في تأويل البسملة أكثر مما بسطه في الأصل
وهو يؤكد أنّه = لا تكرار أصلا في شيء من كتاب الله عزّ وجلّ، بل مهما وجدته فيه معادا فلمعنى غير المتقدم أو لزيادة في معناه بالتأكيد لما اقتضاه من الحال، فلا تتم البلاغة إلا بالإعادة = (ق: 14/ أ)
ويشير إلى الدلالة الإشارة لعدد حروف البسملة خطا وعددها نطقا فيقول:
وكون البسملة تسعة عشر حرفا خطية وثمانية عشر لفظية إشارة إلى أنّها دوافع للنقمة بالنار التي أصحابها تسعة عشر، وجوالب للرحمة بركعات الصلوات الخمس وركعة الوتر اللاتي هنّ اعظم العبادات = (2) وهذا مما ذكره في الأصل
__________
(1) دلالة البرهان القويم: ق: 8ب 9أ. مخطوط
(2) السابق: ق 14مخطوط(1/74)
ويبين وجه الإتيان بالحمد من بعد البسملة وأنّ هذا من مراعاة النظير، وهو هنا لا يكتفي بما جاء به في الأصل = نظم الدرر = بل يضيف إليه ما يوضحه
يقول: = ولمّا كانت البسملة نوعا من الحمد ناسب كلّ المناسبة تعقيبها لتحصل التثنية باسم الحمد الكليّ الجامع لجميع أفراده، مقترنا ب = لام التعريف = الدّالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله معرفا سبحانه وتعالى لعباده كيف يحمدونه بعلمه بعجزهم عن الإتيان بما يليق به سبحانه وتعالى لهذا قال سيد الأولين والآخرين صلّى الله عليه وسلم: = لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك = فكأنّه قيل: احمدوه لأنّه المستحقّ لجميع المحامد وخصّوا هذا النوع من الحمد في افتتاح أموركم، لما ذكر من استشعار الرّغبة إليه والرّهبة منه المؤدي إلى لزوم طريق الهدى = (1)
وقد عني في المختصر = دلالة البرهان = بتفصيل القول في مدلول مادة الحمد (ق: 16/ ب) وهو لم يفعل هذا في الأصل = نظم الدرر = في تفسيره سورة الفاتحة.
وهو إذا ما كان في الأصل: = نظم الدرر = قد نقل مقالة = السعد التفتازاني = في وجه استفتاح خمس سور من القرآن الكريم بالحمد لله فإنّه في المختصر = دلالة البرهان = يذكر ذلك إجمالا دون إشارة إلى مقالة = السعد = (ق: 16/ أ)
وهو ينقل شيئا قليلا عن = الحرالّيّ = من تفسيره بينما يبسط النقل عنه في تفسيره ورسالته = المفتاح = في الأصل: = نظم الدرر =
ويبين لنا وجه وصف الله عزّ وجلّ بقوله: = رب العالمين = وقد أفاض في بيان معنى العالمين، ثمّ يقرر: = أنّ الإنس والجنّ عاجزون عن الإتيان بمثل البسملة والحمدلة، بل وعن الإتيان بكلمة توازي كلمة من كلماتها، وتغنى عنها في جميع مدلولاتها، وكذا كلّ آية من آيات القرآن العزيز، بل وكلّ كلمة لا يمكن أن يكون في معناها في أسلوبها والحال والذي اقتضاها ما يقوم مقامها، ولو كان معدودا من المترادف.
وهذا لا يعرفه إلا من تبحّر في علم الأدب لا سيّما مفردات اللغة، وتحقق المقامات التي سيقت لها الآيات، وما تقتضيه من الإجمال والتفصيل والمدح والذّم وغيرهما مراتب كلّ من ذلك، أو تفهم ما ذكرته في تقليب المواد في أصل هذا الكتاب = (2)
__________
(1) السابق: ق: 14/ ب 15/ أ
(2) السابق: ق: 23/ ب(1/75)
ونراه في تأويله قول الله سبحانه وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) يقول ما لم يقله في الأصل: = نظم الدرر = في هذا الموضع، فأحببت أن تسمع، يقول:
= (اهدنا) وأصل الهدى أن يتعدّى إلى مفعول أول بنفسه، وإلى ثان بحرف الجر، وهو إمّا = إلى = وهي الأصل، كقوله سبحانه وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(الشورى: من الآية 52) أو = اللام = إشارة إلى أنّ الهادي عظيم التأثير في الهداية، ومنه: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الاسراء:
من الآية 9) وقد يتسع فيه، فيحذف الحرف إذا أريد تأثيرا أبلغ مما أريد باللام، فيتعدى بنفسه، للإشارة إلى تضمينه معنى = الزم = كقوله تعالى:
{وَيَهْدِيَكَ صِرََاطاً مُسْتَقِيماً} (الفتح: من الآية 2) وكهذا الحرف، فالمعنى أوضح لنا ببيان الطريق، وإيجاد التوفيق في كلّ شيء يرضيك أنا وجميع عبادك بأن ترشدنا وتدلنا دلالة عظيمة جدا بلطف ومدد بإضافة القوى التي نتمكن بها من معرفة المصلح، ونصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، وتنوّر بصائرنا، وتوفقنا لنلزم (الصراط) أي الطريق الأكمل بما أشعرت به = لام = الكمال، والتذكير، الواسع الواضح الذي يسترط [أي بالسين المهملة] ويبتلعه بما له من الاتساع المكنى به عن سهولته ووضوحه بما أشار إليه تركيب حروفه، واختلاف القراء فيها مع التدبّر لصفاتها: انفتاح = سينه = الذي هو الأصل في هذه المادة في رواية = قنبل = عن = ابن كثير = ورويس = عن = يعقوب =، و = زاؤه = المتولد من إشراب = الصاد = في قراءة = حمزة = و = رائه = وصفير الأولين، و = الصاد = المبدل من = السين = عند الباقين
وإطباق = صاده = و = طائه = واستعلاؤهما، وجهر = الزاي = و = الراء = و = الطاء = وشدة = الطاء = وقلقلته، وما له من التفخيم، وتكرير = الراء = الذي ضارع به مع التفخيم المستعلية مع رخاوة = السين = و = الصاد = والزاي = وهمس الأولين، واستفال = السين = و = الزاي = و = الراء = وقيامه بين الشدة والرخاوة، فامتزج له بما أبانته هذه الحروف المتصفة بهذه الأوصاف المتضادة من اللين والشدة أمر عجيب له سرّ غريب يحتاج إلى شرح طويل يشير [إلى] حديث: = الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد
إلّا غلبه = (1) وحديث: = إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق = (2)
ونحوهما(1/76)
وإطباق = صاده = و = طائه = واستعلاؤهما، وجهر = الزاي = و = الراء = و = الطاء = وشدة = الطاء = وقلقلته، وما له من التفخيم، وتكرير = الراء = الذي ضارع به مع التفخيم المستعلية مع رخاوة = السين = و = الصاد = والزاي = وهمس الأولين، واستفال = السين = و = الزاي = و = الراء = وقيامه بين الشدة والرخاوة، فامتزج له بما أبانته هذه الحروف المتصفة بهذه الأوصاف المتضادة من اللين والشدة أمر عجيب له سرّ غريب يحتاج إلى شرح طويل يشير [إلى] حديث: = الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد
إلّا غلبه = (1) وحديث: = إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق = (2)
ونحوهما
وإنّما قلت: إنّ هذه المعاني مستفادة من هذه الحروف المرادة لخصوص هذا التأليف لأنّ واضع هذه اللغة الحكيمة هو الله تعالى، وقد جعل سبحانه بحكمته بين الحروف الدّالة والمعاني المفهومة منها مناسبة يفهمها أهل البصائر
وكون الصفات الشديدة أكثر من الرخوة في حروف هذه الكلمة مشير إلى أنّه ينبغي في حال السلوك أن يكون الخوف أغلب على السّالك من الرجاء
هذا ما دلت عليه الحروف أصلا وفرعا من جهة الصفات، ودلّ اتحاد مخرجها، وهو = رأس اللسان = الذي هو أوسع المخارج وأخفاها، وهو مع كونه أوسطها أقرب الوسط إلى الختام [دلّ] على أنّه أوسع الأديان، وأسهلها، وأقربها إلى السّاعة، فما بعده دين ينتظر، ولا بعد نبيه نبيّ يبعث، وعلى أنّه واحد وإن تعدّدت فروعه، وأنّ الكثير إنما هو طرق الضلال = (3)
هذا الذي نقلته هنا لست بالواحدة في الأصل = نظم الدرر = في تفسيره سورة = الفاتحة = وهو كما ترى مهم، ممال يجعلك مستشعرا أنّه وهو يختصر تفسيره في = دلالة البرهان = لم يكن قائما بحذف بعض ما كان في الأصل بل هو قائم بأمور من وراء الحذف هي جدّ جليلة ومهمة مما يجعل الأصل غير مغن عن مختصره.
* * *مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور
ذلك عنوانه في كل النسخ المخطوطة التي اطلعت عليها أو على مصادر ذكرتها. والبقاعي نفسه يذكره بذلك الاسم في مواضع عدة من مؤلفاته وهو من بعد أن يذكر اسمه في مفتتحه يقول:
__________
(1) رواه الشيخان في كتاب الإيمان: ونصّه في البخاري: إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة =
(2) رواه أحمد بسنده مرفوعا عن أنس بن مالك رضى الله عنهم (1/ 199)
(3) السابق: ق: 28/ أ 30/ ب(1/77)
= ويصلح أن يسمى: المقصد الأسمى في مطابقة اسم كل سورة للمسمى = (1)
بدأ في تأليف هذا الكتاب في أثناء تأليفه كتاب = نظم الدرر = سنة سبعين وثمان مائة (870) بالقاهرة
يقول: = وكان ابتدائي فيه في نصف شوال سنة سبعين، وكان فراغي من مسودته ليلة الجمعة رابع عشر جمادى الأولى من سنة إحدى وسبعين وثمان مائة (871)، وكان فراغي من هذه النسخة [نسخة المؤلف المودعة بمعهد المخطوطات بالقاهرة] ليلة الثلاثاء رابع عشر من شعبان من السنة كلّ ذلك بمنزلى ومسجدي في رحبة باب العيد من القاهرة المعزية =
نسخ الكتاب المطبوعة والمخطوطة:
ظلّ الكتاب مخطوطا إلى سنة ثمان وأربع مائة وألف من الهجرة حتى أخرجه موفقا إلى الخير الدكتور: عبد السميع محمد أحمد حسنين الأستاذ المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض محققا معلقا عليه ومخرجا أحاديثه في ثلاث مجلدات.
وقد حققه على نسختين:
نسخة المؤلف، مكتوبة في سنة إحدى وسبعين وثمان مائة وهي مودعة بمعهد المخطوطات بالقاهرة في (146ق)
ونسخة بدار الكتب المصرية تحت رقم (19691/ ب) في (149ق)
معرضا عن نسخة أخرى في دار الكتب المصرية لرداءتها ونسخة أخرى في الرباط بالمغرب
والحق أنّ المحقق قد أحسن إلى الكتاب وإلينا فجزاه الله عزّ وجلّ خير الجزاء
وكنت قد أعددت دراستي للعالمية (الدكتوراة) على نسخة خطية هي النسخة رقم (19691ب) بدار الكتب المصرية وقد اعتمد عليها محقق الكتاب
وهنالك نسخة أخرى مخطوطة بدار الكتب المصرية غير التي ذكرها المحقق رقم (20323/ ب) نسخت عن (19691/ ب) وخطها أجود نسخت سنة (1356)
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 98(1/78)
ونسخة أخرى في مكتبة عاشر أفندي بتركيا راجع فهرس نوادر المخطوطات للجزائري ج: 2ص 48، 69 (خ) دار الكتب المصرية
هدف الكتاب:
يبين البقاعي أنّ كتابه هذا قائم بتبيان مقاصد السور لتحقق معرفة الحق من تفسير كلّ آية من تلك السور
وكأنّ كتابه هذا يستكمل كتابه: (نظم الدرر) فهو كالمقدمة له، ولذا جعل رتبته أوله من حيث إنه كالتعريف، فهو معرفة إجمالية لتفسير السور، وكتابه (نظم الدرر) معرفة تفصيلية لتفسيرها
فكتابه المصاعد هو مما يعرف بعلوم القرآن الكريم المساعدة لعلم تفسير القرآن الكريم، فهي مما يتحدث عن القرآن العظيم وليس مما يتحدث فيه، فكانه مما يعرف بفلسفة العلم وليس من العلم نفسه
منهجه فيه وخطته:
جعل = البقاعي = لكتابه = المصاعد = مقدمة طويلة بين فيها اسم الكتاب واختراعه له والدافع إلى تأليفه مما وقع له بسبب كتابه (نظم الدرر) ذاكرا مواقف العلماء من تفسيره مدحا واعتراضا، ونقل بعض تقارظ العلماء تفسيره، ثم تحدث عن علم التناسب معرفا له ومبينا منزلته من علم البلاغة وغايته ومنفعته وغير ذلك مما عرض له (1)
ثم بدأ في تناول السور القرآنية على النحو التالي:
* يبين منزلة السورة من المكية والمدنية وآراء العلماء ويحدد الخلاف وفي سورة = الفاتحة = يبين ضابط المكي والمدني قائلا:
= كلّ ما نزل قبل الهجرة فهو مكيّ، وكلّ ما نزل بعدها فهو مدنيّ، ولو كان النبيّ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وقت نزوله في بلد آخر
ولم يأت ما نزل في شيء من البلدين مرتبا في نسق واحد لأنّ ترتيب النزول كان باعتبار الحاجة والوقائع، ثمّ نسخه ترتيب المصحف العثمانيّ المنقول من المصحف التي استنسخها = أبو بكر الصديق = رضى الله عنهم المنقول من الرقاع المكتوبة بين يدي سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم بأمره، وعلى حسب ما امر بترتيبه كما أمره الله به سبحانه وتعالى، حيث كان يقول إذا أنزلت عليه الآية: ضعوها في سورة كذا بين آية كذا والآية التي قبلها = (2)
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 15497
(2) مصاعد النظر: 1/ 162161(1/79)
يقول في سورة = آل عمران =: = مدنية إجماعا، هكذا قالوا، وقال = النجم النسفي = في تيسيره: مكية في قول = عكرمة = و = الحسن البصريّ = مدنية في قول عامة أهل التفسير، وقال = الجعبري = في شرح الشاطبية: مدنية إلا خمس آيات فمكية = (1)
ويقول في سورة النساء:
= مدنية إجماعا، كذا قال بعضهم، وقال = الأصبهاني = إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في = عثمان بن أبي طلحة = وهي:
{إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللََّهَ نِعِمََّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللََّهَ كََانَ سَمِيعاً بَصِيراً}
(النساء: 58
وقيل نزلت عند هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلم
وقيل السورة مكية، ولا خلاف أنّ منها ما نزل بالمدينة
والظاهر الأول فإنّ في = البخاريّ = عن = عائشة = رضى الله عنهم: ما نزلت سورة = النساء = إلا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم إنّما بنى بها بالمدينة = (2)
وفي هذا المنهج إشارة منه إلى أن تحقيق معرفة ذلك معين على استبصار ملامح مقصود السورة ومعانيها.
* * * * يبين ما سميت به السورة وإن تعددت أسماؤها
وذلك أنه يذهب إلى أنّ = اسم كلّ سورة مترجم عن مقصودها لأنّ اسم كلّ شيء تلحظ المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدّال بالإجمال على تفصيل ما فيه = (3)
وهو يبين لنا أسماء سورة الفاتحة قائلا:
= فهذه السورة اسمها مع الفاتحة أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والأساس، والمثاني، والكنز والشافية والكافية والواقية، والشفاء، والرقية، والحمد، والشكر، والدعاء، والصلاة = (4)
ويقول في سورة البقرة: = وتسمى: السنام، والذروة، والزهراء، والفسطاط =
__________
(1) السابق: 2/ 64
(2) السابق: 2/ 87886
(3) مصاعد النظر: 1/ 209
(4) السابق: 2/ 6(1/80)
ويقول في سورة = براءة =: = واسمها أيضا التوبة، والفاضحة، والبحوث، والمبعثرة، والمثيرة، والحافرة، والمخزية، والمشردة، والمرشدة والمنكلة، والمدمدمة، وسورة البعوث، وسورة العذاب، والمقشقشة = (1)
* * * * يذكر عدد آيات كلّ سورة ومذاهب العلماء في ذلك ذاكرا وجوه الاختلاف ومواطنه
وهو يذكر في سورة = الفاتحة = أنّ أهل العدّ خمسة: مدني ومكيّ وكوفيّ وبصريّ وشاميّ، ويبيّن رواة كلّ مذهب من مذاهب العدّ، ويبين أن موجب الاختلاف التوقيف كالقراءة.
= قال أبو عمرو: وهذه الأعداد وإن كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة فإنّما لها لا شك مادة تتصل بها، وإن لم نعلمها، إذا كان كلّ واحد منهم قد لقي غير واحد من الصحابة، وشاهده وسمع منه أو لقي من لقي الصحابة مع أنّهم لم يكونوا أهل رأي واختراع، بل كانوا أهل تمسك واتباع، وبالله التوفيق
وقال السّخاويّ ما معناه: = ولو كان ذلك راجعا إلى الرأي لعدّ الكوفيون (الر) آية، ولعدّوا (المر) كما عدّوا (المص) ولعدّوا (طس) كما عدّوا (يس) ولعدّوا (كهيعص) آيتين، كما فعلوا في (حم. عسق) ولعدّ الشّاميّ {قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة: من الآية 11)) كما عدّ {وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: من الآية 7) ومثل ذلك كثير. = (2)
وليس يخفى على صاحب القرآن أن تقسيم السور إلى آيات لن يكون البتة راجعا إلى معيار لغوي نحوي أو معنوي، فإنّ غير قليل من آياته قد جاء فيها المسند إليه في آية والمسند في أخرى، وجاء المعمول في آية وما تعلق به في آية أخرى، وهذا كثر لا يخفى على ذي قلب.
وثمّ أثر عن أم المؤمنين = عائشة = رضى الله عنهم أن عدد آي القرآن على عدد درجات الجنّة. وكان صاحب القرآن في الدنيا في جنة معنوية روحية لا يستشعر نعيمها إلا من كان له قلب معافى من داء الغفلة ونفس رضية مطمئنة بطاعة الله عزّ وجلّ، فهو كلما قرأ آية ارتقت روحه في مدارج ومعارج القرب الأقدس
__________
(1) السابق: 2/ 151
(2) السابق: 1/ 176175(1/81)
وهو يرتب على هذا موقفه من القول بالسجع في القرآن الكريم قائلا:
= ومن هنا نعلم يقينا أنه لا سجع في كتاب الله سبحانه وتعالى أصلا فإنّه لا ريب عند من له أدنى مزاولة لذلك أنّ = طس = أوفق عند الساجعين ل = مبين = من = يس = ل = حكيم =، فلو كان السجع مقصودا لما وقع الإجماع من العادين على أنّ = طس = ليست بآية وعدّ بعضهم = يس = آية = (1)
وقد بسط القول من مناقدة القول بالسجع في القرآن الكريم كمثل ما بسطه في نظم الدرر
وهو ايضا يبين ما في السورة ما يشبه الفواصل ولم يعد فاصلة بإجماع العلماء ويحدد ذلك ويحدد روي السورة ومذاهب العلماء في هذا يقول في سورة = البقرة =: = وعدد آيها مائتان وثمانون كوفي، وسبع بصري، وخمس فيما عداهما.
اختلافهما: إحدى عشرة آية.
انفرد الكوفي بعدّ = الم = (ي: 1) والشاميّ بعدّ = ولهم عذاب عظيم = (ي: 7) والبصري بعدّ = إلا خائفين = (ي: 114) و = قولا معروفا = (ي: 235) والمدنيّ الأول بعدّ = من الظلمات إلى النور = (ي: 257) والمدنيّ الأول، والمكيّ بعدّ = يسألونك ماذا ينفقون = (ي: 219) والكوفيّ والشاميّ والمدنيّ الأخير بعدّ = لعلكم تتفكرون = (ي: 219) والمدنيّ الأخير والبصريّ والمكيّ بعدّ = الحي القيوم = (ي: 255) وأسقط الشاميّ = مصلحون = (ي: 11) والمدنيّ الأول = واتقون يا أولي الألباب = (ي: 197) والمدني الأخير = في الآخرة من خلاف = (ي: 200) وفيها ما يشبه الفاصلة: اثنا عشر، منها أحد عشر موضعا لم يعدها أحد بالإجماع والثاني عشر جاء فيه خلاف، وثم يبن هذه المواضع، ثمّ يبين رويّ السورة وأن رويّها سبعة أحرف يجمعها قولك: قم لندبر (2)
* * * * يذكر مقصود السورة، وهو في هذا يكاد ينقل ما في تفسيره، وقلما يزيد عليه، يقول في مقصود سورة الفاتحة:
= ومقصودها: مراقبة العباد ربهم. فإنّ التزام اسمه تعالى وحده كما دلّ عليه تقديم الجار في كلّ حركة وسكون داع إلى ذلك وعلى ذلك دلت اسماؤها. = (3)
__________
(1) السابق: 1/ 176
(2) السابق: 2/ 96
(3) مصاعد النظر: 1/ 209(1/82)
* * * * يبين علاقة اسمها أو أسمائها بمقصودها، وهو في هذا أيضا يذكر ما في تفسيره النظم وقلما يزيد عليه.
يقول في سورة الفاتحة: = فهذه السورة اسمها مع الفاتحة أم القرى، وأم الكتاب والسبع المثاني
فمدار هذه الأسماء كما ترى على أمر خفي كاف لكل مراد، وذلك هو المراقبة وكلّ شيء لا يفتتح بها لا اعتداد به وهي أمّ كل خير وأساس كل معروف ولا يعتد بها إلا إذا ثنيت، فكانت دائمة التكرار، وهي كنز لكلّ منّى، شافية لكلّ داء، كافية لكلّ مهمّ وافية بكل مرام، واقية من كلّ سوء، شافية من كلّ سقام، رقية لكل مسلم
وهي إثبات الحمد الذي هو الإحاطة بصفات الكمال والشكر الذي هو تعظيم المنعم، وهي عين الدعاء فإنّه التوجه إلى المدعو والمراقبة أعظم توجه وأعظم مجامعها الصلاة
وعلى قدر المقصود من كلّ سورة تكون عظمتها، ويعرف ذلك مما ورد في فضائلها، ويؤخذ من ذلك أسماؤها، ويدلّ على فضلها كثرتها، فلا سورة في القرآن أعظم من الفاتحة لأنّه لا مقصود أعظم من مقصودها.
وهي جامعة لجميع معاني القرآن، ولا يلزم من ذلك اتحاد مقصودها مع مقصوده بالذات، وإن توافقا في المآل، فإنّه فرق بين الشيء وبين ما جمع ذلك الشيء، فمقصود القرآن: تعريف الخلق بالملك وبما يرضيه، ومقصود الفاتحة غاية ذلك، لكونها غاية له، وذلك هو المراقبة المذكورة المستفادة من التزام ذكره تعالى في كلّ حركة وسكون لاعتقاد أنّه لا يكون شيء إلا به، وعلى جلالة هذا المقصد جاءت فضائلها = (1)
* * * * يورد الأحاديث في فضائل السور مع تخريجها،
وهو يبين منهاجه في هذا قائلا: = وليعلم أنّي لا أذكر من ذلك إن شاء الله في الفضائل إلا ما صحّ أو حسن، أو جاز ذكره إن كان ضعيفا، فلم ينزل إلى درجة الموضوع، ولم أذكر شيئا من الحديث الموضوع على = أبي = و = ابن عباس = رضي الله عنهم في فضائل كلّ
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 210(1/83)
السور: سورة سورة كما ذكره الواحديّ والزمخشريّ ومن تبعهما لأنّ الموضوع لا يحلّ ذكره إلا على سبيل القدح في، والله الموفق = (1)
وقد يذكر بعض الأحاديث في فضائل الآيات، كما في فضائل = آية الكرسيّ = و = خواتيم سورة البقرة =.
تلك أمور عامة قائمة في كلامه في شأن كل سورة من سور القرآن الكريم
وقد أودع في أول حديثه عن سورة = الفاتحة = أمورا أخرى مهمة جدا في علوم القرآن الكريم غير التي ذكرتها من قبل منها:
عرض لنفي الشعر عن القرآن الكريم، وعصمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم منه، وذهب إلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم لم يكن يستقيم على لسانه وزن بيت من الشعر وانّه كان يتمثل به على هذا النحو
تحدث عن كيفية نزول الوحي بالقرآن وعن نزول الكتب السماوية في رمضان، ونزول القرآن الكريم منجما
بين فضل كلام الله عزّ وجلّ على سائر الكلام، وفضل حامل القرآن الكريم
ذكر بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالقرآن الكريم من نحو:
معنى إنزال القرآن الكريم على سبعة أحرف
وإنزاله في سبعة أبواب
وأنّ لكلّ آية ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا
واشتمال القرآن على جميع العلوم
وفضيلة السواك عند القراءة
واستحباب تحسين الصوت بالقرآن الكريم
والمراد بحسن الصوت
والنهي عن التلحين في قراءة القرآن الكريم
والنهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو
وعمّا ينبغي لحامل القرآن الكريم من الأدب العالي
وعن تجريد القرآن الكريم مما ليس منه
وكراهة تصغير حجم المصحف الشريف
وعن وجوب كتابته في شيء طاهر
وتحريم قراءة القرآن الكريم منكوسا
__________
(1) السابق: 211(1/84)
وكل مبحث من هذا يتسع القول فيه اتساعا لمن شاء أن يبحر في قاموسه المحيط
تحدث عن رفع القرآن الكريم من الصدور والمصاحف قبل يوم القيامة، وعن حفظ الله عزّ وعلا كتابه العظيم من التحريف
ذكر ثواب قراءة القرآن الكريم مبينا المراد بالحرف المقابل بالحسنة، وثواب من علم ولده القرآن العظيم.
ذكر إعراب الكتاب العزيز بمعنى توضيحه، ونقط المصحف وضبطه بالشكل
ذكر جمع القرآن الكريم في عصر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ودقتهم في الجمع وعدد المصاحف التي نسخها عثمان رضي الله عنهم وغير ذلك من المسائل المهمة في علوم القرآن المجيد
والكتاب في بابه فريد في بعض جوانبه متميز في بعضها
أحسن الله عزّ وجلّ إلى مؤلفه ومحققه وناشره
* * *الفتح القدسي في آية الكرسي
الكتاب منسوب إليه في كشف الظنون (ص 443، 444، 1233) وهدية العارفين (1/ 22) وتاريخ الأدب العربي لعمر فروح: (ج 3ص 872)
ألفه سنة تسع وسبعين وثمان مائة (879هـ) بالقاهرة قبل مغادرتها إلى دمشق بعام
جاء في آخر نسخة خطية مودعة في خزانة (شستربتي) بإيرلندا ومنها صورة في المكتبة المركزية بجامعة الإمام بالرياض ولديّ نسخة منه قوله:
= فرغت من تعليق هذا = الفتح القدسي في آية الكرسي = ليلة الثلاثاء العاشر من شعبان المكرم سنة تسع وسبعين وثمان مائة بمسجدي من رحبة باب العيد بالقاهرة المعزية وأنا في الحادية والسبعين من عمري والمشاغل كثيرة والأيام عسيرة = (1)
قسم البقاعي الكتاب قسمين جاعلا كل قسم فصلا:
االأول: في بيان فضل هذه الآية جامعا أحاديث كثيرة وآثارا عديدة، وقد جعل عنوان هذا الفصل:
__________
(1) الفتح القدسي في آية الكرسي للبقاعي: ق: 19مخطوط(1/85)
= الفصل الأول فيما عليه المعوّل مما يعطاه قارئها من الأجر وينول.
الثاني: لبيان معاني هذه الآية وجعل عنوانه: = الفصل الثاني في إبراز المعاني من مفرداتها والمثاني =
وهو من بعد الافتتاح حمدا وصلاة وتسليما يشير إلى أنّه قد ألّف من قبل تفسيره نظم الدرر ويذكر شيئا من محاسنه وأنّه أردفه بكتابه: = مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور = = أحببت أن أفرد الكلام منهما في الآية العظمى بكتاب أسميه: = الفتح القدسي في آية الكرسي = وزدت عليه ما يشوق فيسوق أولى الهمم إليه =
في الفصل الأول حشد جمعا من الأحاديث والآثار، وكان معنيا بذكر راوي الحديث ومصدر روايته مستفتحا بحدث أبي بن كعب المشهور في فضل هذه السورة الذي رواه مسلم وأبو داود والقاسم بن سلام في فضائل القرآن الكريم، وغير هذا من أسفار السنة كما في مسند احمد والمستدرك وشعب الإيمان وشرح السنة
وهو في = الفتح = يذكر أحاديث لم يذكرها في فضل الآية في كتابه = مصاعد النظر =
وهو لا يكاد يعنى بالتعليق على هذه الأحاديث
والفصل الثاني: = في إبراز المعانى من فرداتها والمثاني كما يقول وهو يبين مقصود الآية بأنه = التفرد بالملك المقتضي تمام العلم وشمول القدرة اللازم منه التفرد بالإلهية، فهي آية العلم والملك =
ثم يبين علاقة اسمها بمقصودها واشتمالها على أمهات المسائل الإلهية حاوية لقواعد العقائد الدينية
ومما بينه أن التوحيد ثلاث درجات:
الأولى: الشهادة بكلمة الإخلاص عن اعتقاد صحيح، وهو التوحيد الجلي
الثانية: توحيد الخاصة وهو الذي يصدر عن استدلال بالشواهد وعن براهين لائحة لا تمازجها ريبة بحال
والثالثة: توحيد خاصة الخاصة: وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد، وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا، ولا فى التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة، فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعمله ووضعه الأشياء مواضعها وتعليقه إياها وإخفاءه إياها في رسومها لا يحقق معرفة العلل ويسلك سبيل إسقاط الحدث(1/86)
وهو في تقسيماته هذه لا يستند إلى كتاب الله سبحانه وتعالى ولا سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ولا أثر عن صحابي، ومثل هذا لا يقال اجتهادا، فليس في المباحث العقدية اجتهاد إلا الاجتهاد في فهم النّص، ونصوص الكتاب والسنة في باب العقيدة قطعية الدلالة لا يفتقر المرء معها إلى تأويل يحتمل وجوها متنوعة أو متقابلة، لأن الاختلاف في باب العقيدة اختلاف في مجال الحق والباطل ومجال الصواب والخطأ، فللحق العقدي وجه واحد وطريق واحد
ومصادر الفقه العقدي مصدران لا ثالث لهما قطعا: الكتاب والسنة، وليس للإجماع والقياس مجال بخلاف مصادر الفقه الشرعي (السلوكي) فإنها أربعة عند الجمهور: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ونصوص الكتاب والسنة في باب التشريع متسعة الدلالة ومجال الاختلاف ليس بلازم أن يكون الصواب والخطأ قطعا والحلال والحرام قطعا، ومن هنا كان هنالك مجال للاجتهاد في التأويل.
فما كان للبقاعيّ أن يذهب إلى تقسيم التوحيد تلك الأقسام من غير أن يتخذ له سندا من الكتاب والسنة.
ويعرض لما جاء عن الحلاج وابن عربي وابن الفارض فيسفه ما جاء عنهم، وموقفه منهما ليس هو موقفه من سائر الصوفية فإنه ليلقى غير قليل من كبارهم بالإجلال، ولا سيما سلفهم، ومن لا يقول بوحدة الوجود، والحلول الذي ظهر في مقولات ابن الفارض وابن عربي.
ويبين معنى = جمع الجمع = عند القوم من الصوفية وعلاقته بدرجة = الإحسان = والفرق بين = الذوق = و = العلم =
وبين حكمة تفريق أدلة التوحيد في القرآن الكريم، وما جاء فيه من آيات الأحكام والقصص
وهو معنى بتبيان موقع الآية في سياقها وبتفسير وتحليل مفردات الآية ولا سيما ما فيها من الأسماء الحسنى وتحليل جملها.
يقول في بيان مناسبتها ما قبلها:
= ووجه نظمها بما قبلها أنّه لمّا ابتدأ سبحانه وتعالى الفاتحة بذكر الذات بالاسم الأعظم الخاصّ الجامع لجميع الصفات ثمّ تعرّف بالأفعال لأنّها مشاهدات، مرقي الخطاب إلى التعريف بالصفات، ثمّ أعلاه رجوعا إلى الذات للتأهل للمعرفة ابتدأ هذه السورة [البقرة] بصفة الكلام لأنها أعظم المعجزات، وأبينها على غيب الذات، وأوقعها في النفوس لا سيما عند العرب، ثمّ تعرّف بالأفعال، فأكثر منها فلمّا لم يبق لبس أثبت الوحدانية بآيتها السابقة [ي: 254] التي حثّ فيها على الإنفاق قبل هجوم
يوم التلاق، يوم انقطاع الأحساب والتواصل بالأنساب يوم لا ينجي عند الحساب إلا ما شرعه سبحانه وتعالى من الأسباب، وكذا ما قبلها مما شاكلها مخللا ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الرّصف والترتيب(1/87)
= ووجه نظمها بما قبلها أنّه لمّا ابتدأ سبحانه وتعالى الفاتحة بذكر الذات بالاسم الأعظم الخاصّ الجامع لجميع الصفات ثمّ تعرّف بالأفعال لأنّها مشاهدات، مرقي الخطاب إلى التعريف بالصفات، ثمّ أعلاه رجوعا إلى الذات للتأهل للمعرفة ابتدأ هذه السورة [البقرة] بصفة الكلام لأنها أعظم المعجزات، وأبينها على غيب الذات، وأوقعها في النفوس لا سيما عند العرب، ثمّ تعرّف بالأفعال، فأكثر منها فلمّا لم يبق لبس أثبت الوحدانية بآيتها السابقة [ي: 254] التي حثّ فيها على الإنفاق قبل هجوم
يوم التلاق، يوم انقطاع الأحساب والتواصل بالأنساب يوم لا ينجي عند الحساب إلا ما شرعه سبحانه وتعالى من الأسباب، وكذا ما قبلها مما شاكلها مخللا ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الرّصف والترتيب
فلما تمت الأمور وهالت تلك الزواجر، وتشوقت الأنفس، فتشوفت الخواطر إلى معرفة سبب انقطاع الوصل بانبتار الأسباب، وانتفاء الشفاعة في ذلك اليوم بيّن سبحانه وتعالى صفة الآمر بما هو عليه من الجلال والعظمة ونفوذ الأمر والعلو عن الضّدّ والتنزه عن الكفؤ والنّدّ والتفرد بجميع الكمالات والهيبة المانعة بعد انكشافها هناك أتمّ انكشاف لأن تتوجّه الهمم لعيره، وأن تنطق بغير إذنه، وأن يكون غير ما يريد ليكون ذلك أدعى إلى قبول أمره، والوقوف عند نهيه وزجره
ولأجل هذه الأغراض ساق الكلام مساق جواب لسؤال، فكانّه قيل:
هذا ما لا يعرف من أحوال الملوك، فمن الملك في ذلك اليوم، فذكر آية الكرسيّ سيدة آي القرآن =
وهذا يبيّن لك أنّ اسم الجلالة في صدر آية الكرسيّ في تأويل البقاعي إنما هو مسند إليه، وخبره محذوف دلّ عليه السؤال المقدر المنسول من السياق الذي أقيمت فيه آية الكرسي، فكأن المعنى الله الملك ذلك اليوم، وهذا الباء يفيد القصر بتعريف الطرفين، فكأنه قيل لا ملك في ذلك اليوم إلا الله، لتأتي الجملة التالية مصرحة بما ألاحت به الأولى ومؤكدة مضمونها فقالت (لا إله إلّا هو)
يقول البقاعي: = فقال (الله) أي الملك الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى والجلال والإكرام هو الملك في ذلك اليوم، ثمّ بيّن ما تقدّم بأن أثبت له صفات الكمال منزها عن شوائب النقص =
فالبقاعي يشير إلى أنّ الجمل المتوالية في بناء آية الكرسي قامت مقام التبيين والتفصيل لما أحكم في الجملة المصدرة بها هذه الآية، وهي جملة أفرد اسم الجلالة منها بالذكر.
وهو في خواتيم تأويله الآية يقول: = كلّ جملة استؤنفت، فهي علة لما قبلها، واردة على سبيل البيان لما ترتب عليه، والبيان متّحد، كما قال الزمخشريّ بالمبيّن، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب:
بين العصا ولحائها.
ذلك نزيد مما تكاثر في تأويله سيدة آي القرآن الكريم.(1/88)
من هذا الكتاب نسخ خطية عديدة في خزائن المخطوطات وكنت قد اعتمدت منذ عشرين سنة مضت على النسخة الخطية رقم 14 تفسير حليم بدار الكتب المصرية.
وهنالك نسخ أخرى منها:
نسخة مكتبة تشستربتي رقم (3666م 4) ومنها نسخة مصورة بالمكتبة المركزية بجامعة الإمام بالرياض، برقم (3666/ ف) في (19ق) كتبت في شعبان سنة تسع وسبعين وثمان مائة (879) بإملاء المؤلف بالقاهرة. وفي خزانة كتبي نسخة منها
نسخة بمكتبة جستربدبلن. مجلة المورد: ص 199عد 2مج 1)
نسخة في مكتبة أيا صوفيا (نوادر المخطوطات ج 2ص 4)
نسخة في مكتبة ولي الدين بتركيا (السابق: 2/ 39)
نسخة في مكتبة بايزيد بتركيا (السابق)
وقد حققه اد: سعود بن عبد الله الفنيسان الأستاذ بجامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض ونشرته مكتبة الرشد بالرياض (19991420)
وكنت قبل الاطلاع على تحقيق الدكتور (الفنيسان) قد بدأت في تحقيق الكتاب على نسخة جامعة الإمام ونسخة دار الكتب المصرية، ولعلّى استكمل ذلك
* * *الأجوبة السّريّة في الألغاز الجزرية
هذا الكتاب أجاب به عن ألغاز في علم القراءات لشيخه = الشمس بن الجزري أبو الخير (833751) صاحب النشر في القراءات العشر، وقد فرغ من إجاباته عن تلك الألغاز في سنة 869هـ في القاهرة
ومن الكتاب نسخة خطية برقم (5950112قراءات بمكتبة الأزهر) ومنها مصورة بدار الكتب المصرية (مكروفيلم) هي التي اطلعت عليها
* * * * *الاستشهاد بآيات الجهاد
هذا الكتاب كأنه الفهرس الموضوعي لآيات الجهاد يجمعها من غير ترتيب أو تعليق
منه نسخة خطية برقم (1376تصوف) بدار الكتب المصرية، وهي النسخة التي قرأتها واعتمدت عليها(1/89)
الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة
الكتاب نسبه إلى نفسه في تفسيره (نظم الدرر ج 1ص 277، ج 6ص 444) ونسب إليه في كشف الظنون (ص 140، 837) انتهى من تأليف بالقاهرة سنة ثلاث وسبعين وثمان مائة.
يقول عنه صنفت في ذلك = الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة = بينت فيه أنّ ذلك سنة مستقيمة لتأييد الملة الحنفية العظيمة، وأخرجت بذلك نصّ الشافعي وكلام النووي والرافعي =
ويقول: إنه كان في غنى عن تأليف هذا الكتاب إلا أنّ بعض الحاسدين شنّع عليه بسبب نقله في تفسيره عن التوراة والإنجيل والزبور، وكان الذي تولى كبر هذا التشنيع = البدر بن قطان = صهر = السخاويّ = فهاجمه البقاعي وهاجاه (1)
أقام الكتاب على فصول ثمانية، ومقدمة وخاتمة:
في المقدمة رد على من شنعوا عليه وطال نفسه في هذا الفصول الثمانية تحدث فيها عن موقف العلماء من تفسيره وأورد أحد عشر تقريظا لكبار عصره لهذا التفسير (الأقوال: 4217) ثم أوضح حكم النقل من التوراة والإنجيل والزبور، وأدلة هذا الحكم، وأسماء من سبقوه من أئمة أهل العلم وبعض من نقلوا ومصادر النقل ومواطنه
وتحدث عن التبديل للكتب السماوية قبل القرآن العظيم، وأثر هذا على حكم الاطلاع عليها
وفي الخاتمة ذكر محاسن تفسيره (نظم الدرر) (2)
ثمّ أورد تفسير = ابن النقيب = سورة = الكوثر =، وتفسيره هو لتلك السورة، وطلب من القارئ الموازنة بين التفسيرين. (3)
وقد ألف = السخاوي = كتابا يرد به على = البقاعي = سماه = الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل = (4)
__________
(1) الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة: للبقاعي: ص 93 مخطوط
(2) الأقوال القويمة: 203147
(3) السابق: 245203
(4) الضوء اللامع: 1/ 106(1/90)
حقق الدكتور = محمد مرسي الخولى = بعض هذا الكتاب من اول الفصل الثاني إلى آخر الثامن في مجلة = معهد المخطوطات العربية = (ص 37 96مج 26ج 2عدد: المحرم: 1401)
من هذا الكتاب نسخة خطية برقم (1269تفسير بدار الكتب المصرية وهي التي اتخذتها مرجعا
ونسخة أخرى برقم (49تفسير) بدار الكتب المصرية.
* * * * *الضوابط والإشارات لأجزاء علم القراءات
نسب الكتاب إلى نفسه في هامش كتابه (إظهار العصر) (ج 1ص 269 ت: محمد سالم العوفي)
ونسب الكتاب إليه في كشف الظنون (ص 1090) وهدية العارفين: ج 1 ص 229
هذا الكتاب أو الرسالة هو نص (إجلاس) أعده ليلقيه بين يدي أساتذته حين أسندت إليه وظيفة تدريس القراءات في المدرسة المؤيدية وهي مدرسة واقعة في جامع (المؤيد) بجوار باب زويلة بالقاهرة أنشأها الملك المؤيد شيخ المحمودي الظاهري سنة تسع عشرة وثمان مائة (1)
وكان هذا الإجلاس الذي هو بمثاب محاضرة علمية يتقرر على إثرها استحقاق التدريس بالمدرسة، وقد كان هذا الإجلاس في يوم الخميس سابع المحرم من سنة سبع وخمسين وثمان مائة، وفي هذا اليوم والذي قبله اشتد المرض على السلطان = جقمق = وأصابه ما يشبه الصرع فشاع في الناس أنّه مات فارتاعوا وماجوا فكان سببا في أن امتنع كثير من الناس من حضور هذا الإجلاس ومع ذلك كما يقول البقاعي حضره وجوه الناس وأعيانهم:
القضاة الأربعة إلا المالكي والشيخ أمين الدين يحيى بن الأقصرائي وقريبه محب الدين إمام السلطان والشيخ حميد الدين ابن قاضي بغداد قاضي الحنفية بدمشق وشيخه = المشداليّ = ومن الطلبة والفضلاء ونواب القضاة وغيرهم خلق كثير لعلهم يزيدون على المائتين. (2)
ويذكر البقاعي في (إظهار العصر) نص ما كان قد عزم على قوله (3)
__________
(1) الخطط المقريزية: 2/ 328
(2) إظهار العصر للبقاعي: 1/ 269
(3) السابق: 1/ 282169(1/91)
والذي جعله من بعد ذلك كتابا انتهى منه سنة ست وستين وثمن مائة وهو مختصر لطيف في القراءات جاء فيه من بعد المقدمة تعريف علم القراءات وموضوعه وفائدته ويبين أن الكلام فيه ينحصر في وسائل وقاصد.
تنحصر الوسائل في سبعة أجزاء:
الأول: الأسانيد والثاني: علم العربية ومنه مخارج الحروف وصفاتها والثالث الوقف والابتداء والرابع الفواصل وهي في عدد الآيات والخامس مرسوم الخط والسادس الاستعاذة والسابع التكبير
وتنحصر المقاصد في جزءين:
الأول الأصول والثاني: الفرش
تنحصر الأصول في نحو عشرين بابا وينحصر الفرش في السور ثم بين وجه الضبط لأجزاء علم القراءات
وهناك نسخة مخطوطة بالمكتبة الظاهرية بدمشق برقم (7422)
ونسخة أخرى في مكتبة: = شهيد على = بتركيا (فهرس مكتبة شهيد على ص: 256مخطوط بدار الكتب. ولم يتيسر لي الاطلاع على نسخة مخطوطة منه بمصر
وقد حقق هذا الكتاب ونشره في مجلة (الإحياء) العدد السابع مسلسل التاسع عشر رمضان 1416الأستاذ: محمد رستم (ص: 195177) على نسخة واحدة هي نسخة في خزانة شيخ المحقق: الشيخ محمد بن الأمين أبو خبزة = ضمن مجموع في القراءات وهي في ورقتين مخطوطتين
وقد بلغنى أنّ = محمد مطيع الحافظ = قد حققه ونشرته دار الفكر بدمشق سنة 1416هـ ولم يتيسر لى اقتناء هذا التحقيق
* * * * *
علوم الحديث والسنة(1/92)
* * * * *
علوم الحديث والسنة
على الرغم من أنّ البقاعي كان تلميذا لإمام من أئمة علوم السنة = ابن حجر العسقلاني = (ت: 852) إلّا أنّه لم يكن معنيّا بالتأليف في علوم السّنّة النّبوية عنايته بالتأليف في التفسير وعلوم القرآن الكريم بل ولا عنايته بالتأليف في التاريخ والتراجم ومما بلغني من تأليفه في هذا وقرأته:
الإعلام بسن الهجرة إلى الشام
لم يكن البقاعيّ أوّل من ألّف في ذلك الموضوع، فإنّ فهارس الكتب زاخرة بمثل ذلك الكتاب.
ألف الكتاب من قبل رحيله عن القاهرة إلى الشام، إذ فرغ منه يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر عام ثمانين وثمان مائة (880)
يقول: = هذا كتاب كتبته لمّا أردت النّقلة من مصر لأمور أنكرتها، وفتّن أبصرتها أذكرتني ما رواه بعض المؤرخين في السيرة النبوية أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لمّا منّ على أخت = عديّ بن حاتم = رضي الله عنهما: = ارحموا عزيز قوم ذلّ وغنيّا افتقر، وعالما ضاع بين جهّال =
وأسميته: الإعلام بسنّ الهجرة إلى الشّام لأمر اقتضى ذلك = (1)
والكتاب قد عني بتحقيقه: محمد مجير الحسيني، ونشره عام 1418، وكنت قد اعتمدت على نسخة خطية بدار الكتب، فلما اقتنيت المحققة راجعة ما عندي عليها
بدأ الكتاب بتحديد المكان الجغرافيّ للشام معتمدا على مصادر عدة متنوعة ككتاب (تهذيب الأسماء واللغات) للنووي، و (البلدان) للذهبي.
وأفاض في مدح الشام ومحاسن أهلها، وذكر عدة أحاديث في فضل الشام، وفي ذمّ مصر وأهلها، وكان مما ذكر حديثا يجمع بين فضائل الشام ومسالب مصر وأهلها
يقول: = وروى الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن الربيع بن بلال بسند حسن إن شاء الله إن سلم من الانقطاع بين الصحابي
__________
(1) الإعلام بسن الهجرة إلى الشام: ص 8381ت: محمد الحسيني دار ابن حزم بيروت(1/93)
والراوي له عنه يعقوب بن عتبة الثقفي، وإن ذكره ابن الجوزي في الموضوعات عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
= دخل إبليس العراق، فقضى حاجته، ودخل الشام فطردوه حتّى بلغ جبل بساق، ودخل مصر فباض، وفرخ ونصب عبقريّه =
وقال الحافظ أبو محمود المقدسي: = إسناده قويّ =. انتهى.
وقد بيّن المحقق = محمد الحسيني = ما في هذا الحديث من مطاعن عند أهل العلم.
وذكر البقاعي أيضا: = في فضائل الإمام أبي الحسن على بن محمد الربعيّ عن واثلة بن الأسقع (1) قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
= ستكون دمشق في آخر الزمان أكثر المدن أهلا، وتكون لأهلها معقلا، وأكثر أبدالا، ومساجد ورجالا، وأقلّ كفرا.
وإنّ مصر أكثر المدن فراعنة وكفارا، وأكثر ظلما وفجورا، وأكثر زنا وسحرا، فإذا عمّرت أكنافها بعث الدال، فويل لأهلها من أتباعه وأشياعه. =
ذكر المحقق أنّ الحديث رواه = الربعيّ = (ص / 44) مطولا، وابن عساكر (2/ 54) مختصرا ليس فيه ذكر مصر، كلاهما من طريق = محمد بن أحمد بن إبراهيم = بإسناده إلى واثلة.
ومحمد بن أحمد بن إبراهيم قال عنه ابن عساكر: = رجل مجهول = فالحديث غير ثابت (2)
وفي رسالة للسيوطيّ عنوانها: = الخبر الدّال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال من حديث = واثلة = رضى الله عنهم ليس فيه ذكر مصر وأهلها، وهو مقصور على ذكر = دمشق = وأهلها (3)
والمحققون على أنّ كلّ حديث يروى عن النبيّ في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب ليس في ذلك شيء صحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا لفظ = الأبدال =، وروي فيهم حديث أنهم أربعون رجلا، وأنهم بالشام، وهو في مسند أحمد رضى الله عنهم من حديث عليّ رضى الله عنهم، وهو حديث منقطع ليس بثابت.
__________
(1) واثلة بن الأسقع بن عبد العزّي (أبو قرفاصة) أسلم والرسول صلّى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك من أصغر أصحاب الصفة مات بالشام سنة خمس وثمانين (الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 128)
(2) الإعلام بسن الهجرة إلى الشام: 101
(3) الحاوي في الفتاوي للسيوطي: 2/ 464463(1/94)
ومعلوم أنّ سيدنا = عليا = رضى الله عنهم ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية رضى الله عنهم ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر سيدنا معاوية رضى الله عنهم دون عسكر سيدنا = عليّ = رضى الله عنهم
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد رضى الله عنهم عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال:
= تمرق مارقة من الدّين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ = (مسلم: الزكاة: 2/ 745حديث رقم: 150)
وهؤلاء المارقة هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لمّا حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة = عليّ بن أبي طالب = رضى الله عنهم فقتلهم، فدلّ الحديث الصّحيح على أنّ = عليا = رضى الله عنهم أولى بالحقّ من معاوية رضى الله عنهم، فكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما في الشام مع معاوية رضى الله عنهم؟ = (1)
يقول = ابن القيّم = أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة (2)
وقد كان للتصوف الفلسفيّ الذي اتخذ الجدل والكلام عبادة آثار سيئة جدا على رقيّ الأمّة، فقد أخلد كثير من المسلمين في أزمان غابرة إلى تلك الترهات والسمادير التي كان يروجها دهاقين التصوف الفلسفي، أمّا التصوف السلوكي التعبدي على هدي الكتاب والسنة الصحيحة لا يحيد ولا يزيد ولا يحرف ولا يؤول فإنّه الطريق المستقيم إن شاء الله ربّ العالمين
وأصحاب هذا السبيل لا يكادون يبرزون بصدورهم إلى العامة في المحافل، ولا يوهمون الناس بأنّهم أهل الوصول والقبول، وأنهم يحتجبون عن الناس مخافة عليهم من أنوارهم التي تشرق من قلوبهم على أنوارهم، إنّهم إلى الخفاء بأحوالهم مع الله سبحانه وتعالى أقرب، إنهم يقيمون نصب أعينهم وفي قلوبهم العامرة بالخوف من الله عزّ وجلّ هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي رواه = مسلم = رضى الله عنهم بسنده عن = سعد بن أبي وقاص = رضى الله عنهم قال:
= سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنّ الله يحبّ العبد التّقيّ الغنيّ الخفيّ = (مسلم: الزهد: حديث رقم: 11/ 29)
وكلّ عالم بالكتاب والسنة عامل بهما هو على هذا الصراط المستقيم، ومن عداهم فهو الضال المضلّ.
مقطع القول أنّ البقاعيّ قد عني بحشد كثير من الأحاديث التي تدلّ على فضل الشام والترغيب في سكناه، ولم يتحرز من الموضوعة
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيميّة: 11/ 167جمع ابن قاسم النجدي
(2) المنار المنيف لابن قيم الجوزيّة: 189(1/95)
والضعيفة، وكان حريا به، وهو المحدث أن يقتصر على ما قوي سنده ففيه متسع لمبتغاه.
* * *إنارة الفكر بما هو الحقّ من كيفيّة الذّكر
نسب إليه في كشف الظنون (1/ 170) ومعجم المصنفين (2/ 278) وهدية العارفين (1/ 22)
حقق الكتاب = سليمان الحرش = سنة 1421عن نسخة (أيرلند شستريتي) ونشرته مكتبة (العبيكان) بالرياض
ألف = البقاعيّ = الكتاب في = دمشق = سنة (881) ناهيا عن المنكر، أمرا بالمعروف في شأن أحكام وآداب ذكر الله سبحانه وتعالى في المساجد.
يقول: = إنّي لمّا رجعت من مصر بعد طول الغيبة إلى دمشق راجيا حسن الأوبة بقلة المناكر، وكثرة الناصر على الظالم وجدتها قد تغيّر أهلها فوجدت في جامعها الأعظم [الجامع الأمويّ] قوما يتحلقون ويهللون بصوت واحد من بعد صلاة الجمعة إلى العصر ذكرا يخرجونه عن وجهه إلى حيز المعصية بالأصوات المزعجة = (1)
ويقصّ علينا بعض ما كان منهم معه لمّا نهاهم عن المنكر.
ويغلب عليه في هذا الكتاب النقل من كتاب (المدخل) لابن الحاج
وقد ألف = السيوطيّ = تلميذ = البقاعيّ رسالة عنوانها: = نتيجة الفكر في الجهر بالذكر = يقرر فيها أنّه لا كراهة في ما اعتاده السادة الصوفية من عقد حلق الذكر والجهر به في المساجد ورفع الصوت بالتهليل، وقد نشرت ضمن كتابه (الحاوي للفتاوي الجزء الثاني).
وهذه الرسالة كالمناقضة رسالة = البقاعيّ = إنارة الفكر = والغالب على = السيوطي = أنّه لم يفرق بين حكم الشيء في ذاته، وحكمه على كيفية معينة، فلم يقل أحد بانّ الجهر بالذكر مطلقا أو في المساجد في غير أوقات الصلوات غير مباح، ولكن ما يجري من ذلك على أيدي المنتسبين إلى التصوف هو أمر أقل ما فيه أنّه معطل بعض ما بنيت له المساجد من الصلاة وتعليم القرآن والعلم النافع.
__________
(1) إنارة الفكر: 23(1/96)
أصول الدين: العقيدة
للبقاعيّ في علوم العقيدة وعلم الكلام تأليف عدة وقد كان البقاعي على مذهب أصحاب أبي الحسن الأشعريّ، وكان شديدا في مناقضة القائلين بوحدة الوجود والقائلين بالاتحاد وكان يكثر من التشنيع عليهم والمناداة بضلالهم كلّما سنحت له الفرصة في أي مؤلف من مؤلفاته ولا سيما تفسيره، وأفرد لهم رسائل في هذا:
ومن مؤلفاته في العقيدة ما هو مطبوع وما هو مخطوط وما هو مفقود، من غير المفقود:
تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد
ذكر هذا الكتاب له في تفسيره نظم الدرر: ج 22ص 245، وهو منسوب إليه في كشف الظنون (ص 355)
من هذا الكتاب نسخة خطية بالخزانة الزكية بدار الكتب المصرية
ونسخة في مكتبة: جستربتي بدبلن (مجلة المورد العراقية ص 200عد 2مج 3)
حقق الكتاب ونشره مع كتاب آخر الشيخ: عبد الرحمن الوكيل = تحت عنوان اختلقه، = مصرع التصوف = سنة: 1373هـ، وما كان للشيخ الوكيل رحمه الله أن يفعل فإنّ ذلك العنوان لا يدل على موقف البقاعيّ من التصوف، والكتابان ليس فيهما إلا تهديم للقائلين بوحدة الوجود، والاتحاد والحلول، وأكثر المنسوبين إلى التصوف لا يقولون بذلك، لا يرون صواب من يقول به، والبقاعيّ لا يناصب الصوفية جميعا عداء بل هو متخذ موقف العداء ممن يقول بما قال به ابن الفارض وابن عربي من وحدة الوجود والاتحاد والحلول.
فالكتاب قائم لنقض قصيدة = ابن الفارض = المسماة: ب = التائية الكبرى = أو = نظم السلوك = وهي في واحد وستين وسبع مائة بيت (761بيت) من البحر الطويل أولها:
سقتني حميّا الحبّ راحة مقلتي ... وكأسي محيّا من عن الحسن جلّت
وقد تظاهر على شرحها كثير من الشراح الصوفيين أولهم = سعد الدين الفرغانيّ = المسمّى شرحه ب: = منتهى المدارك ومشتهى لبّ كل كامل وعارف وسالك = مخطوط بمعهد المخطوطات بالقاهرة(1/97)
سقتني حميّا الحبّ راحة مقلتي ... وكأسي محيّا من عن الحسن جلّت
وقد تظاهر على شرحها كثير من الشراح الصوفيين أولهم = سعد الدين الفرغانيّ = المسمّى شرحه ب: = منتهى المدارك ومشتهى لبّ كل كامل وعارف وسالك = مخطوط بمعهد المخطوطات بالقاهرة
وقد عمد = البقاعي = إلى ما في هذه القصيدة من مناقضة لما جاء به الكتاب والسنة ومجاوزة لحقائق الشرع ومنطق العقل المعافى من داء الشرك وهو يصدر كلامه ببيان أنّ طريق الفقهاء هي طريق كبار الصوفية القائمة على الكتاب والسنة وهو التصوف السلوكي، وما عليه ابن الفارض وابن عربي هو التصوف الفلسفيّ.
ويقرر أنّ العلماء حاكمون بكفر الرجلين: ابن عربي وابن الفارض بل يذهب إلى أنّ من توقف في تكفيرهما هو كافر، ويطعن في شهادة سبط ابن الفارض لجده مبينا ما يفيد الولاية للعبد من الكتاب والسنة.
* * *تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي
نسب الكتاب لنفسه في تفسيره = نظم الدرر = ج 22ص 245
ومن الكتاب نسخة خطية بالخزانة الزكية بدار الكتب المصرية
وهو مطبوع مع كتاب: = تحذير العباد = السابق ذكره في كتاب عنوانه = مصرع التصوف = بتحقيق: عبد الرحمن الوكيل = سبقت الإشارة إليه.
يقول البقاعيّ في أوله: = وسميت هذه الأوراق: = تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي = وإن شئت فسمها: = النصوص من كفر الفصوص = فرغ من تأليفه في شوال من سنة أربع وستين وثمان مائة (864) بالقاهرة
وهو إذا ما كان جاعلا كتابه = تحذير العباد = لنقض قصيدة = ابن الفارض = = التائية الكبرى = فإنّه جاعل كتابه = تنبيه الغبي = لنقض كتاب: = فصوص الحكم = وهو يحدّد مدار كلام = ابن عربي = في الفصوص = بأنّه الوحدة المطلقة أي انّه لا شيء سوى هذا العالم وأنّ الإله أمر كلىّ لا وجود له إلا في ضمن جزئياته
ويقرر أنّ ما قد يبدو من كلام = ابن عربي = على غير هذا فهو خداع وتلبيس، رافضا تأويل كلامه، فليس كلّ كلام يؤوّل ويصرف عن ظاهره
وهو في هذا داخل في باب الاحتياط ودفع المفسدة الذي يجب على كلّ مسلم أن يعتصم به في باب العقيدة، فإنّ أول ما يجب الحفاظ عليه نقيّا صافيا هو التوحيد المجرّد من كلّ شائبة شرك.(1/98)
وعلى العلماء وولاة الأمر حمل النّاس بالحكمة والموعظة الحسنة وتبيان الحق إلى الأخذ بتلك الحيطة وألا يترك النّاس على ما تسوّل لهم شياطينهم من الإنس والجن، فيؤخذ على كلّ من أصرّ على إضلال الناس وصرفهم عمّا جاء به الكتب والسنة.
والبقاعي يتتبع مقالات = ابن عربي = في الفصوص مبرزا ما فيها ممّا يخالف عقيدة الإسلام وهو يقرّر أنّه ما اعتمد إلّا على نسخة من الفصوص أحضرها له واحد ممن يعتقد في = ابن عربي = ويتعصب له، وهذا من تدقيقات البقاعي وحيطته في البحث العلمي وتوثيق مصادره لقي كتاب البقاعيّ = تنبيه الغبي = معارضة من بعض أهل العلم كتلميذه = السيوطي = (ت: 911هـ) فألّف كتابا عارضه به عنوانه: = تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي = وقد حققه = محمد إبراهيم سليم = سنة خمس عشرة وأربع مائة والف (1415)
والسيوطي لم يبيّن وجه الحقّ في مقالات ابن عربي التي نقضها البقاعي وكان جديرا به أن ينقض مقالات البقاعي، ويبين لنا المعنى الصحيح من كلام ابن عربي والدليل على صحة ما يقول، ولكن السيوطي اكتفى بذكر العلماء المؤيدين ابن عربي، وكانّ القول يستدلّ على أنّه الحقّ يمن قاله ومن أيّده لا بما حواه الكلام من الحق، وهذا من العجز عن وجود ما يؤيد الكلام من نفسه مما يدل على أنّ الكلام نفسه ليس فيه ما يقطع بأحقيته
ليس أحد يكون كلامه دليلا على شيء غير كلام الله سبحانه وتعالى ثمّ كلام نبيه صلّى الله عليه وسلم، فإذا ما قيل: قال الله جلّ جلاله، أو قال رسوله صلّى الله عليه وسلم، وتوثقت نسبة الكلام إليه، فقد قام الدليل قياما قاهرا على من كان بهما مؤمنا، وإلا فنحن بحاجة إلى أن نقيم الدليل لمن لم يؤمن بهما من الكلام نفسه لا من مقام القائل، ومن ثمّ سمعنا الحقّ سبحانه وتعالى يدعو إلى تدبر كلامه والنظر فيه ليقف المرء على أنّه كلام الله عزّ وجلّ:
{أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (النساء: 82) (1).
__________
(1) قوله (لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) الضمير في (فيه) لما كان من عند غير الله سبحانه وتعالى أما ما كان من عنده جلّ جلاله فليس فيه اختلاف أصلا، وقوله (كثيرا) وصف لما يكون من الاختلاف في غير القرآن، أما القرآن فليس فيه اختلاف أصلا حتى يوصف بقليل أو كثير.
يقول = أبو جعفر الطبري = في تأويل الآية: (يعني جلّ ثناؤه بقوله (أفلا يتدبّرون القرآن) أفلا يتدبر المبيّتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله، سبحانه وتعالى فيعلموا حجة(1/99)
{أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} (محمد: 24)
{كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} (ص:
29)
منهج السيوطي في كتابه هذا بعيد عن المنهج العلمي بينما منهج البقاعي قائم بأصول البحث العلمي وتحقيق القضايا العلمية.
كان على السيوطي أن يعمد إلى كلّ نصّ ذكره البقاعي من فصوص الحكم لابن عربي يبرهن به على كفره، فيكشف لنا عن وجه الحقّ الذي غاب عن البقاعي إن كان فيه حقّ، ووجه دلالته على ذلك الحق، بدلا من ذكر أسماء من يعتقد ولاية ابن عربي من العلماء.
قد كان من سفسطة الكافرين معارضة الحق بالطعن فيمن أيده وليس في الحق نفسه.
{فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا وَمََا نَرََاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرََاذِلُنََا بََادِيَ الرَّأْيِ وَمََا نَرى ََ لَكُمْ عَلَيْنََا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كََاذِبِينَ} (هود: 27)
السيوطي يذهب إلى أنّ المتصدي لتكفير = ابن عربي = لم يخف سوء الحساب، وأن يقال له: هل ثبت عندك في نصّ أنّه كافر؟، فإن قال:
كتبه تدلّ على كفره، أفأمن أن يقال له: هل ثبت عندك بالطريق المقبول في نقل الأخبار أنّه قال هذه الكلمة بعينها؟ وأنه قصد بها معناها المتعارف؟
والأول لا سبيل إليه لعدم مستند يعتمد عليه في ذلك، ولا عبرة بالاستفاضة الآن، وعلى تقدير ثبوت أصل الكتاب عنه فلا بد من ثبوت كل كلمة كلمة لاحتمال أن يدسّ في الكتاب ما ليس من كلامه من عدوّ أو ملحد
والثاني: وهو أنه قصد بهذه الكلمة [كذا] لا سبيل إليه أيضا ومن ادّعاه كفر لأنّه من أمور القلب التي لا يطلع عليها إلا الله عزّ وجلّ.
وقد سال بعض أكابر العلماء بعض الصوفية في عصره ما حملكم على أن اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يستبشع ظاهرها؟
__________
الله سبحانه وتعالى عليهم في طاعتك واتّباع أمرك، وأنّ الذي أتيتهم به من التّنزيل من عند ربهم جلّ جلاله لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتّحقيق، فإنّ ذلك لو كان من عند غير الله عزّ وجلّ لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض) (4/ 200)(1/100)
فقال: غيرة على طريقنا هذا أن يدعيه من لا يحسنه، ويدخل فيه من ليس من أهله = (1)
هذا الحجاج من السيوطي مثير للضحك، فهو أقرب إلى اللجاجة منه إلى المجادلة بالتي هي أحسن التي حثّ عليها القرآن العظيم، وما كان للسيوطي أن يلقى بنفسه في مثل هذا المكشوف عواره
هو يعلم أنّ أهل العلم إنّما يحكمون على أقوال الناس وأفعالهم لا ما في قلوبهم فذلك أمره إلى الله سبحانه وتعالى ليس لك من أخيك إلا قوله وفعله أمّا قلبه فلربه عزّ وجلّ
والأقوال والأفعال هى مرآة ما في القلوب والمترجمة عنها، فلا ينطق أحد بغير اضطرار شرعي كلمة كفر وإلحاد ثمّ يقول للناس: أشققتم عن قلبي لتحكموا علىّ بذلك؟
إنّ الذي شقّ عن قلبه إنما هو لسانه وقلمه، فالذي يعلن أنّ فرعون عليه اللعنة مؤمن ألا يكون بهذا منكرا صريح القرآن وقطعيه؟ سواء قال ذلك ابن عربي أو غيره، المهم قائل ذلك لا شكّ في أن قوله هذا مقالة كفر تحتمل التأويل الراجح أو المرجوح لأنّ من كان كذلك لا يؤوّل قوله، فما الذي يحمله على ذلك؟!!!
في فصوص الحكم: فصّ حكمة علوية في كلمة موسويّة في شأن التقاط = موسى = من التابوت ومقالة امرأته عليها الرضوان:
{= قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ =} (القصص: 9) مبينا كيف كان موسى عليه السّلام قرة عين فرعون.
= وكان قرة عين ل = فرعون = بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرا مطهرا، ليس فيه شيء من الخبث لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام، والإسلام يجب ما قبله، وجعله آية على عنايته سبحانه وتعالى بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة الله جلّ جلاله فإنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. =
ألا تشق هذه المقالة صدر قائلها وتكشف عما في قلبه؟
أليست هذه صريحة في انّه ينكر ما جاء به القرآن الكريم والسنة الصحيحة من كفر فرعون وأنّه من أصحاب النار؟
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا وَسُلْطََانٍ مُبِينٍ * إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمََا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ}
__________
(1) تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي للسيوطي: ص 45ت: محمد إبراهيم سليم 1415(1/101)
{فَأَوْرَدَهُمُ النََّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)} (هود: 9996)
ألم يقرأ صاحب فصوص الحكم قول الله سبحانه وتعالى {(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النََّارَ)}؟ أليست هذه قاطعة بأنّ فرعون يقدم قومه إلى نار جهنم؟
{فَعَصى ََ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنََاهُ أَخْذاً وَبِيلًا} (المزمل: 16)
إنّ صاحب الفصوص يذهب إلى أبعد من هذا حين يرى أنّ المجرمين في الدنيا يصلون في الآخرة إلى عين القرب من الله سبحانه وتعالى وذلك عند حديثه عن قول الله عزّ وجل:
{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى ََ جَهَنَّمَ وِرْداً} (مريم: 86)
يقول: = وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها [كذا] فهو يأخذ بنواصيهم، والريح تسوقهم وهي عين الأهواء التي كانوا عليها إلى جهنم وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه، فلمّا ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب، فزال البعد، فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون، فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنّة، وإنما أخذوه بما استحقه حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم [كذا] لأنّ نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة، فما مشوا بنفوسهم، وإنّما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب = (1)
ماذا يقول السيوطي في هذا؟
أيمكن لعاقل أن يتأوله على ما يمكن أن يحسب حاسب أن يطوف حول معنى من معاني القرآن الكريم؟!!
أيّ تحريف للكلم عن مواضعه أعظم وأجرم من هذا؟
ومن هذا الإلحاد والتحريف للكلم عن ومواضعه والقول على الله سبحانه وتعالى بغير علم والقول في القرآن الكريم بالرأي الفاسد الضال المضل والمؤذن في الناس بما يعربد في صدر هذا الضال المحرف المارق ما قاله عند قول الله سبحانه وتعالى في شأن قوم هود:
{فَلَمََّا رَأَوْهُ عََارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قََالُوا هََذََا عََارِضٌ مُمْطِرُنََا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهََا عَذََابٌ أَلِيمٌ} (الاحقاف: 24)
يقول: = ألا ترى عادا قوم هود كيف قالوا: هذا عارض ممطرنا = فظنوا
__________
(1) فصوص الحكم لابن عربي الصوفي: ص: 201(1/102)
خيرا بالله سبحانه وتعالى وهو عند ظنّ عبده به [كذا] فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتمّ وأعلى في القرب، فإنّه إذا أمطرهم، فذلك حظّ الأرض، وسقي الحبّ، فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد، فقال لهم: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة [كذا] فإنّ بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة، والمسالك الوعرة والسّدف والمدلهمّة، وفي هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه [كذا] إلا أنّه يوجعهم لفرقة المألوف = (1)
ليس لعاقل ناصح نفسه وأمته أن يزعم أنّ مقالات = صاحب فصوص الحكم = هذه ليس من الضلال المبين، ولا تنادي على قائلها بصريح الكفر.
مجادلة = السيوطي = بأنّه لا دليل على أنّ هذا قاله = ابن عربي = هي إلى التضليل أقرب، فسواء قالها هو أو نسبت إليه فإنّ هذه المقالة مقالة كفر صريح فمن أنشأها ومن رواها معتقدا صوابها ومن هو راض بها هو ساقط في الكفر لأنّه دفع وردّ ونقض لما هو قائم في كتاب الله سبحانه وتعالى قياما لا يحتمل أدنى تأويل على غير ظاهره الصراح.
ول = إبراهيم بن محمد الحلبيّ = (ت: 952) رسالة: = تسفيه الغبي في تكفير ابن عربي = يرد فيها على السيوطي. لم يتيسر لي الاطلاع عليها بسطت القول هنا لأمور:
علاقة هذا بتأويل البيان القرآني الكريم على غير الوجه والمنهاج القويم.
أنّ كثيرا من المرجفين بالفتنة في الأمّة من العلمانيين القائمين على مقاليد الثقافة والإعلام في ديارنا يجاهدون في نشر آثار الملاحدة والمارقين والمحرفين القول عن مواضعه من أمثال: = ابن عربي = و = ابن سبعين = و = إخوان الصفا = فتظاهرت المؤسسات الثقافية في وزارتي = الثقافة = و = الإعلام = على تيسير ولوج هذا التراث التخريبي الإلحادي إلى مكتبات الشبيبة والدّهماء الذين لا يحسن كثير منهم فهم مقال صحفيّ فضلا عن أن يفقهوا ما في آثار أولئك المخربين من أضاليل، ولو أنّك سألت وزير الثقافة نفسه ووزير الإعلام نفسه عن معنى شيء مما تنشره وزارة كلّ من تلك الأباطيل لكان
__________
(1) السابق: ص 108(1/103)
الصمت ملاذه، فكيف بمن لا يحسن قراءة كتاب من كتب وزارة التربية والتعليم على ضحالتها وفقرها الثقافي والعلميّ؟!!!
ما كنت إلى أن أثير الغبار في وجه ابن عربي وأشياعه لو أنّ تراثه مطمور في المكتبات وخزائن المخطوطات لا ينظر فيه إلا أهل العلم القادرين على تمييز الحق من الباطل، أمّا أن تعمل المؤسسات الحكومية على نشر ترثهم تاركة تراث العلماء المحققين كالشافعيّ والبقاعيّ والخطّابيّ وأبي بكر بن العربي الفقيه المالكي، والشاطبي، والبيهقي وابن تيمية وابن القيم والشوكانيّ ومن ناصرهم في حماية عقيدة التوحيد من تلك الأضاليل التي دسّها كثير من الملحدين، فإنّ الأمر يفتقر إلى مجاهدة ومجالدة مرضاة لرب العالمين، وإنّ السكوت عن التصدي لباطلهم مرضاة للشيطان مغضبة للرحمن.
* * *تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان
نسبه إلى نفسه في نظم الدرر (ج 20ص 177، ج 22ص 141) ونسب إليه في (كشف الظنون: ص 513)
فرغ منه سنة ثلاث وثمانين وثمان مائة (883هـ) بدمشق
يناقش فيه مقالة: = ليس في إمكان الله سبحانه وتعالى أن يبدع عالما أبدع من هذا العالم = وكان = الغزالى = قد ذكر ذلك في بعض مؤلفاته، فأثارت جدلا
يقول = البقاعي = عند تفسيره قول الله سبحانه وتعالى:
{خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (التغابن: 3)
= خلق الإنسان في أحسن تقويم لا ينفي أن يكون للنوع الذي جعل أحسن أفراد أنواع لما فوقه من الجنس لا نهاية لأحسنية بعضها بالنسبة إلى بعض يشاهد ما وجد من أفراد نوعه من الذوات، فقدرة الله سبحانه وتعالى لا تتناهى، فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الإمام = الغزالى = أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإن كان قد علم أنّه اعترض عليه في ذلك، وأجاب عنه في الكتاب الذي أجاب فيه عن أشياء اعترض عليه فيها فإنّه لا عبرة بذلك الجواب أيضا، فإنّ ذلك ينحلّ إلى أنّه سبحانه وتعالى لا يقدر على أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد.(1/104)
وهذا لا ينقص مقدار = الغزالي = فإنّ كلّ أحد يؤخذ من كلامه ويردّ، كما قال الإمام = مالك = رضي الله عنهم، وعزاه = الغزالي = نفسه إلى = ابن عبّاس = رضي الله عنهما وقال الإمام = الشافعيّ = رضي الله عنهم: = صنفت هذه الكتب وما ألوت فيها جهدا، وإني لأعلم أنّ فيها الخطأ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول:
{وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (النساء: من الآية 82) (1)
ويقول عند تفسيره قول الله عزّ وجلّ:
{اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللََّهَ قَدْ أَحََاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}
(الطلاق: 12)
= فإنّ من قدر على إيجاد ذرّة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له لأنه لا فرق في ذلك بين قليل ولا كثير جليل أو حقير
{مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ} (الملك: من الآية 3)
وإيّاك أن تلتفت إلى من قال: إنّه ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم فإنّه مذهب فلسفيّ خبيت، والآية نصّ في إبطاله، وإن نسبه بعض الملحدين إلى = الغزاليّ = فإنّي لا أشك في أنّه مدسوس عليه!!!، فإنّه مذهب فلسفيّ خبيث بشهادة = الغزالىّ = كما بينت في كتابي: = تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان = وكتابي: = دلالة البرهان على أنّ في الإمكان أبدع مما كان = وكتابي: = إطباق الأغلال في أعناق الضلال =
ومع كونه مذهب الفلاسفة أخذه أكفر المارقين = ابن عربي = وأودعه = فصوصه = وغير ذلك من كتبه، واستند فيه في بعضها إلى = الغزاليّ = إتقانا لمكره أعاذنا الله من شره و = الغزاليّ = بريء منه بشهادة ما وجد من عقائده في = الإحياء = وغيره = (2)
وقوله عند تفسيره قول الله سبحانه وتعالى
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4)
= وصيغة = افعل = لا تدلّ على ما قاله الزنادقة وإن عزي ذلك إلى بعض الأكابر من قولهم: ليس في الإمكان أبدع مما كان لأنّ الدرجة الواحدة
__________
(1) نظم الدرر: 20/ 107
(2) نظم الدرر: 20/ 177(1/105)
تتفاوت إلى ما لا يدخل تحت حصر، كتفاوت الإنسان في صوره وألوانه وغير ذلك من أكوانه وبديع شأنه.
وقد بيّنت ذلك في تصنيف مفرد لهذه الكلمة سميته: = تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان = وأوضحته غاية الإيضاح والبيان، وجرت فيه فتن تصمّ الآذان، ونصر الله سبحانه وتعالى الحقّ بموافقة الأعيان، وقهر أهل الطغيان، ثمّ أردفته بكتاب = دلالة البرهان على أنّ في الإمكان أبدع مما كان = ثمّ شفيت الأسقام ودمغت الأخصام وخسأت الأوهام ب = القول الفارق بين الصادق والمنافق = وهو نحو ورقتين في غاية الإبداع في قطع النزاع.
ويمكن أن تكون صيغة = افعل = مقيدة بالنسبة إلى شيء أراده الله سبحانه وتعالى بحيث أن نتفطن له نحن، لأنّ من المجمع عليه عند أهل السنة وصرح به = الأشعري = وغيره في غير موضع من كتبهم أنّ الله سبحانه وتعالى لا تناهى مقدوراته.
وممّن صرّح بما صرّح به = الأشعريّ = وأكثر فيه الإمام حجة الإسلام = الغزاليّ = في كتبه = الإحياء = وغيره، ولا سيما: = تهافت الفلاسفة = وبيّن أنّ هذا [أي ليس في الإمكان أبدع مما كان] من قواعدهم لنفيهم صفة الإرادة، وقولهم بأنّ فعله بالذات، وبيّن فساد ذلك = (1)
هذه القضية متعلقة بأصول العقيدة التي ينبغي أن نسعى جاهدين إلى أن تبقى صافية مطهرة من كلّ شائبة.
إنّي أذهب إلى أنّ الرسالة العظمى والأولى بالعناية والرعاية والمجاهدة للعلماء هي حماية عقيدة التوحيد أولا من أن تطوف حول حماها أضاليل أهل الفسق الفكري والضلال العقدي والإفساد في قلوب العباد وأنّ على وليّ الأمر إن كان يريد الخير لأمته أن يعين العلماء على ذلك ويمكّن لهم في الأرض وأن يترصّد لمن يتسلّل إلى قلوب العباد بأضاليله العقدية من الفلاسفة الملحدين المحرفين القول عن مواضعه، فهذا هو الأهم والمقدّم على غيره وإن كان غيره مهمّا جدا، فليس الوقوع في شرب كأس خمر كمثل الوقوع في شائكة شرك وقد قضى الله سبحانه وتعالى قائلا مؤكدا في سورة تأسيس الأسرة المسلمة على هديه عز وعلا سورة = النساء =:
{إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَقَدِ افْتَرى ََ إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 48)
__________
(1) نظم الدرر: 22/ 140(1/106)
{إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلََالًا بَعِيداً} (النساء: 116)
أكّد الله سبحانه وتعالى تلك الحقيقة في سورة (النساء) سورة تأسيس المجتمع على الكتاب والسنة ليكون مجتمعا ومتراحما يعرف لصلة الرحم حقها العظيم وإن امتدت وتطاولت حتى بلغت أبا البشرية عليه السّلام لأنّ الشرك هو الأدعى إلى تهاوي المجتمع وتدابره وتقاطعه، ولذا وصف الله عزّ وجلّ الذين آمنوا بقوله جلّ جلاله {رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: من الآية 29)
كتب = السيوطيّ = كتابا ينقض به كتاب شيخه = البقاعيّ = سماه: = تشييد الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان = وهو ما يزال مخطوطا منه نسخ خطية بالمكتبة الأزهرية نسخة برقم (2728حليم 33329علم الكلام منسوخة سنة سبعين ومائة وألف في سبع عشرة ورقة (17ق)
ونسخة برقم (777) مجاميع حليم (34824)
ونسخة برقم (1362بخيت 44857تصوف كتبت سنة تسع وتسعين ومائتين وألف (1299)
وللسمهودي: نور الدين على بن عبد الله الشافعي (ت: 873) كتاب: = إيضاح البيان لما أراده الحجة من ليس في للإمكان أبدع مما كان، وما عناه مما قاله على ذلك من البرهان) يبين فيه مقصود = الغزالى = من مذهبه هذا
والكتاب ما يزال مخطوطا منه نسخ خطية:
نسخة في مكتبة الأزهر برقم (752) مجاميع حليم (34799) كتبت سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف (1173)
ونسخة في المدرسة القادرية ببغداد برقم (624) ضمن مجموع
وفيما ينسب إلى الغزالى من أنّ له كتاب (الإملاء في إشكالات الإحياء) نصّ سؤال: = ما معنى بأن ليس في الإمكان أبدع من صورة هذا العالم ولا أحسن ترتيبا ولا أكمل صنعا، ولو كان وادخره مع القدرة عليه كان ذلك بخلا يناقض الجود وإن لم يكن قادرا عليه كان ذلك عجزا يناقض القدرة الإلهية) (1)
وقد ردّ على ذلك بما لا يشفي، فمن أراد فدونه الإحياء مبذولا.
__________
(1) الإملاء في إشكالات الإحياء للغزالي: ج 5ص 14 (ذيل كتاب الإحياء ط:
المعرفة بيروت)(1/107)
دلالة البرهان على أنّ في الإمكان أبدع مما كان
سبق بيان موطن نسبته الكتاب إلى نفسه في تفسيره، والكتاب منسوب إليه في كشف الظنون (1/ 494) وهداية العارفين (1/ 22)
واستظهر الدكتور = محمد أحمد القاسم = أنّ كتاب = تهديم الأركان = وكتاب = دلالة البرهان = كتاب واحد وليسا كتابين وأن ما جاء في هداية العارفين فيه سقط مثل (إبطال أو نحوها)
وما ذكر الأستاذ غير دقيق بل هما كتابان الأول ينقض القول والآخر يقرر ضده والأول ألف سنة (883) والآخر ألف بعده بعام.
الكتاب أقيم لتقرير الأدلة على أنّ الله عزّ وجل قدير على أن يبدع ما يشاء وأن يأتي بعالم آخر غير الذي نراه ويكون أبدع وأعظم منه فإنّ قدرته ليست محدودة بما هو مشهود.
والكتاب ما يزال مخطوطا منه نسخة خطية برقم (180عقائد تيمور بدار الكتب المصرية) وهي التي اتخذتها مرجعا.
* * * * *سر الروح
نسب الكتاب إليه في تفسيره: نظم الدرر
وفي (كشف الظنون: 2/ 278) (نظم العقيان ص: 24) وهو مطبوع عن نسخة خطية عليها خط البقاعي محفوظة برواق الأتراك بالمكتبة الأزهرية
ألفه بعد الطاعون الواقع عام ثلاث وخمسين وثمان مائة والذي أودى ببعض أهله بالقاهرة، كما يصرح به في آخر الكتاب
يقول: = هذا آخر ما أردته من كتاب الروح للعلامة شمس الدين بن القيم قد تمّ ولله الحمد، وكان الحامل لي على تهذيبه واختصاره وترتيبه من استشهد لي من الموات في طاعون سنة ثلاث وخمسين وثمان مائة بالقاهرة المعزيّة =
بيّن لنا صنيعه في كتاب (الروح) لابن القيم: التهذيب والاختصار والترتيب.(1/108)
وهذا ما تراه إذا ما ناظرت بابا من كتاب الروح لابن القيم والباب نفسه من كتاب سر الروح.
عمد البقاعي إلى توضيح أو تفصيل ما كان مجملا، واضاف إلى الكتاب ما لم يكن، وأعاد تنسيقه، فيقول في مفتتحه: (وريّما زدت شيئا فميزته بقلت والله أعلم، ورتبته أحسن من ترتيبه، وبالغت جهدي في تهذيبه، وكنت ظننت أنّه يكون بعد الزيادة في نحو ثلثه، والثلث كثير، فجاء في نصفه فائقا في رصفه ووصفه، ولم أخلّ بشيء من مختاره، ولا حذفت صحيحا من أحاديثه وأخباره =
وقد رتّب الكتاب وأجمله في عشر مسائل:
في حقيقة الروح والنفس وفي أنهما واحد او شيئان
أهي قديمة أم محدثة
أتموت أم الموت للبدن وحده
عودتها للميت ومتى تعاد
مستقر الأرواح بعد الموت
إدراكها بعد الموت
ما تتمايز به الأرواح
فتنة القبر
انتفاع الروح بسعي الأحياء
عذاب القبر ونعيمه
والمقدمة المنشورة مع كتاب الروح لابن القيم هي مقدمة كتاب سرّ الروح للبقاعي، نقلها الناشر إليها لما لم يجد لكتاب = ابن القيم = مقدمة
وقد زاد البقاعيّ على الأصل بعض الأخبار التى عاشها البقاعيّ بنفسه مثل سماعه أصواتا من بعض القبور وغير ذلك
* * * * *النكت والفوائد على شرح العقائد
نسب إليه في كشف الظنون (ص 1148) ونظم العقيان للسيوطي (ص 24) وهدية العرفين (1/ 22) وإيضاح المكنون (4/ 678)
سجل هذه العقائد النسفية في أثناء دراسته شرح = السعد التفتازاني = كتاب العقائد النسفية على شيخه القاياتي سنة أربعين وثمان مائة (840) واستغرق إعداده مسودة = النكت = ست سنوات إذ انتهى منها سنة ست وأربعين وثمان مائة وأتم تبييضها سنة سبع وخمسين وثمان مائة(1/109)
وكتاب العقائد النسفية لنجم الدين: عمر بن محمد النسفي (ت: 537) متن في العقائد على مذهب أصحاب أبي الحسن الأشعري.
عني به العلماء شرحا وتعليقا ومن أشهر شروحه شرح السعد التفتازاني (ت: 791) وعلى شرح السعد حواش عدة منها حاشية البقاعي
ومن = النكت = نسخ عدة مخطوطة:
نسخة رقم (23448ب) دار الكتب المصرية، اتخذتها مرجعا.
نسخة رقم (2643السقا 28612المكتبة الأزهرية كتبت سنة ست وألف ضمن مجموعة (228134ق) وبها خرم
نسخة في المكتبة الحميدية بتركيا راجع فهرس المكتبة الحميدية ص: 47
* * *الفقه وأصوله
الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان
نسبه إلى نفسه في تفسيره (نظم الدرر:) ونسبه إليه تلميذه = النعيمي في (العنوان: ص 14خ) وفي إيضاح المكنون (3/ 152) وفي هدية العارفين (1/ 22) و = سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للصالحي. ج: 3ص 354دار الكتب العلمية بيروت 1414)
ومنه نسخة خطية برقم (174مجاميع م) بدار الكتب المصرية اتخذتها مرجعا وقد بلغنى أن الكتاب قد حققه = مجدي السيد = ونشرته مكتبة الرشد بالرياض سنة 1416ولم يتيسر لي الاطلاع عليها
أقام الكتاب على أصلين جاعلا كلّ أصل فصلين:
الأصل الأول في إيراد الأحاديث النبوية:
الفصل الأول منه في الأحاديث الواردة في الأذان
والفصل الثاني في الأحاديث الواردة في التشهد
الأصل الثاني: في الأسرار
الفصل الأول في أسرار الأذان
والفصل الثاني في أسرار التشهد
* * * * *
السيف المسنون اللماع على المفتى المفتون بالابتداع(1/110)
* * * * *
السيف المسنون اللماع على المفتى المفتون بالابتداع
نقض بهذا الكتاب فتوى لزوم قراءة الفاتحة عقب الصلاة، وهي فتوى تنسب إلى = السيوطي = فلم يكن من البقاعي إلا أن يتصدى إلى ادعاء أن مثل ذلك لازم أو أنّه سنة، فهو يجاهد في ألا ينسب إلى الشرع ما ليس منه وليس معنى هذا أنّه يحرم قراءة الفاتحة عقب الصلاة بل يمنع أن يقال إنّ ذلك لازم أو إنّ ذلك من السنة أو ذلك نافلة.
علينا أن نفرق بين القول بمنع فعل الشيء والقول بأنّ فعل ذلك الشيء سنة وهو لم يثبت أنّه من السنة فمن فعل طاعة غير موقوتة بوقت ثم وقتها أو قيدها وزعم أنّ التوقيت والتقييد سنة فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم
وقد ختم البقاعي الكتاب بقصيدة من تسعة وعشرين بيتا يوبخ فيها من افتى بذلك بدأها بقوله:
أهملت ما كان من معنى ورحت إلى ... نزاع لفظ به الأحكام لم تبن
ومن الكتاب نسخ خطية:
نسخة المؤلف برقم (738فقه تيمور) دار الكتب المصرية اتخذتها مرجعا، وهي في ثلاث وعشرين ورقة (23ق) فرغ من مسودتها في ضحى يوم الجمعة مستهل ربيع الأول سنة ثنتين وثمانين وثمان مائة (882) بدمشق وانتهى من تبييضها في اليوم الخامس من الشهر نفسه
نسخة رقم (624) ضمن مجموعة في خزانة المدرسة القادرية العامة ببغداد منها نسخة مصور في خزانة كتب المجمع العلمي العراقي برقم (10عقائد) وهي في ست وعشرين ورقة فهرس مخطوطات المجمع العلمي العراقي ج 1ص 8786)
نسخة في مكتبة = جستربتي بدبلن مجلة المورد العراقية ص 199عد 2مج 2(1/111)
علوم العربية
كانت للبقاعي عناية ماجدة بعلم لسان العربية من أنه الأداة الرئيسة إلى حسن فقه البيان القرآني وحسن فهمه، ومن يخادن تفسيره (نظم الدرر) يدرك عظيم عنايته وعلمه بذلك اللسان مفردات وتراكيب ومذاهب إبانة إفصاحا وإفهاما
وما تركه لنا منه لم أطلع إلا على بعض أمكن بلوغ مكمنه في خزائن المخطوطات، وقد بقيت بقية لعلّ الله عزّ وجل يتفضل بالتوفيق والتسديد والتيسير إلى حسن الاطلاع عليها وما اطلعت عليه كتابان:
أسواق الأشواق من مصارع العشاق
الكتاب منسوب إليه في كشف الظنون (ص 1703) والأعلام (1/ 50)
اختصار لكتاب (مصارع العشاق) للسراج القاري: أبي محمد جعفر بن أحمد (ت: 500)
وقد رتبه البقاعيّ وزاد عليه بعض نوادر الأخبار في هذا وأدخل فيه كتاب الحافظ علاء الدين مغلطاي (ت: 762) المسمى: = الواضح المبين في من مات من المحبين =
وقد جعل البقاعي الكتاب: = أسواق الأشواق = على مقدمة وعشرة أبواب
انتهى من تأليفه سنة ثلاث وسبعين وثمان مائة بالقاهرة
من الكتاب نسخ خطية:
نسخة بشير آغا بتركيا، ومنها مصورة مكروفلم) في معهد المخطوطات بالقاهرة يرقم (37أدب) في (285ل) اتخذتها مرجعا.
نسخة بالرباط برقم (3324) نسخت في حياة المؤلف بقلم = على المنظراوي = سنة ست وسبعين وثمان مائة وهي في ثمانين ومائتي ورقة (280ق)
وفي جامعة الملك سعود صورة من هذه النسخة (رقم: 320/ 1)
نسخة بمكتبة الأسكوريال وأخرى بمكتبة باريس كما ذكر جورجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية: ج 3ص 183)
* * * * *
ما لا يستغنى عنه الإنسان من ملح اللسان(1/112)
* * * * *
ما لا يستغنى عنه الإنسان من ملح اللسان
نسب إليه في كشف الظنون (ص 1575) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المصنفين (3/ 380)
رسالة في ست ورقات من القطع الصغير، لا جديد فيها تقوم على ذكر التعريف والمثال في أبواب النحو، وكأنّها ألّفت لصغار التلاميذ
فرغ من تأليفها سنة ست وثلاثين وثمان مائة (836) بالقاهرة أي في مبدأ قدومه إلى القاهرة، ولعله كان يشتغل بتعليم صغار الطلبة
منها نسخ خطية:
نسخة دار الكتب المصرية برقم (1593نحو) وقد اتخذتها مرجعا نسخة شهيد على بتركيا يرقم (204) ضمن مجموعة.
وهذا الكتاب غير دالّ على منزل = البقاعي = في علم نحو العربية، بل إنّ منزله فيه تراه جليّا عليّا في تفسيره نظم الدرر، فإنّ له فيه من التدبر في مسائل النحو القرآني ما يدلك على تمكّنه في هذا العلم، وكثيرا ما يستطرد في بيان مسألة نحوية وما جاء فيها عند النحاة، وما يرتضيه من ذلك لما هو ذو نسب بعلم التناسب القرآنيّ
* * *التاريخ والتراجم
البقاعي ذو عناية بالغة بالتاريخ وتراجم الأعلام وكأنّه كان متأثرا بشيخه المقريزي وابن حجر العسقلاني، فترك لنا تراثا متميزا في فن التاريخ والتراجم لم أر منه مطبوعا إلا جزءا واحد من كتاب واحد من كتب التاريخية وهو = إظهار العصر = ومعجم شيوخه وأقرانه جدير بأن يحقق وينشر:
أخبار الجلاد في فتوح البلاد
نسب إليه في = الأعلام = للزركليّ (1/ 50) وتاريخ آداب اللغة العربية لزيدان (ج 3/ 183) ومعجم المؤلفين لعمر فروخ (3/ 272)
تحدث فيه عن الفتوحات إلى آخر خلافة سيدنا = عثمان = رضى الله عنهم، وأمّا خلافة سيدنا = على = رضى الله عنهم فما كانت عصر فتوحات بل عصر منازعات داخلية على الخلافة (ل: 524523)(1/113)
وفي فاتحته ذكر مصادره من الكتب والعلماء، وقيمة كل عالم وكتاب ودرجة صدقه وتحريه (ل: 3) ثم سرد آيات الجهاد
وما قاله هو في الحث على الجهاد (ل: 154)
وتحدث عما قبل البعثة وما فيها من ملوك وحكام (ل: 3315)
ثم استعرض الفتوحات الإسلامية (ل: 52333) وخصّ فتح بلده: = البقاع العزيزي = بالحديث (ل: 150)
انتهى من تأليفه سنة أربع وثمانين وثمان مائة (884هـ)
ومنه نسخ خطية:
نسخة دار الكتب المصرية برقم (2220تاريخ تيمور في ثلاث مجلدات مصورة اتخذتها مرجعا
نسخة في مكتبة لاله لي بتركيا (رقم 1994تاريخ)
نسخة مكتبة داماد إبراهيم بتركيا يرقم (886)
نسخة في مكتبة باريس فهرس نوادر المخطوطات للجزائري ج 2ص 142 (خ)
* * *إظهار العصر لأسرار أهل العصر
نسب إليه في كشف الظنون (1/ 118، 171) ومعجم المصنفين (3/ 278) وهدية العارفين (1/ 22)
جعله ذيلا لتاريخ شيخه ابن حجر المسمى (إنباء الغمر بأخبار العمر) والذي بدأ بأخبار سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة (773) وقف فيه إلى أخبار سنة خمسين وثمان مائة (850) والذي كان هو أيضا كالذيل لتاريخ ابن كثير الذي انتهى بأخبار سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة
وهو في تاريخ يبدأ بالمحرم سنة خمس وخمسين وثمان مائة (855) وينتهي بذي الحجة سنة سبع وخمسين وثمان مائة (857)
وقد حقق الكتاب الدكتور محمد سالم العوفي الأستاذ المشارك بجامعة الإمام بالرياض وقد تساءل:
أيكون ما بين (855850) مفقودا أم أن البقاعي لم يكتبه (1)
وقد عنى المحقق محسنا ببيان منهج البقاعي وببيان أهمية كتابه فكان مما قاله:
__________
(1) إظهار العصر لأسرار أهل العصر للبقاعي: ج 1ص 45ت: محمد العوفي(1/114)
= عرض البقاعي بإسهاب أحداث عصره ووصف ما كان يدور في عهده من مواقف سياسية وأحداث عسكرية ومظاهر اجتماعية وحداث طبيعية، وصف الصراع على السلطة والتنافس على مراكز القيادة والريادة في المجتمع
وعرض ما ساد مجتمعه من عادات وتقاليد وصف المماليك والأجلاب والجند في ثوراتهم وما أصاب المجتمع من أوبئة ومجاعات كما اهتم بالعملة زيادة ونقصا
وكذلك أرخ لوفيات أهم أعلام عصره واهتم أيضا بعلاقة الدولة المملوكية بما كان يجاورها من ممالك سلما أو حربا ولم يصرفه اهتمامه بمصر عن تتبعه لأخبار بلاد الشام
وتزداد أهمية تاريخ البقاعي إذا عرفنا أنّه كان على غير وفاق مع السلطة المملوكية ينظر لها نظر سخط وتذمر فقد ناله منها الأذى
عكس أهم مؤرخين معاصرين له: ابن تغرى بردي ومحمد بن أحمد بن إياس، وهما من المماليك أجلاب بل ومن المقربين من الدولة المملوكية وأصحاب الثروة والإقطاع فيها = (1)
* * * * *بذل النصح والشفقة لصحبة السيد ورقة
نسب إليه في خزانة الأدب للبغدادي (3/ 391)
الفه دفعا لإنكار بعض طلاب العلم أن يكون = ورقة بن نوفل = صحابيا فدلّل البقاعيّ على إسلامه وتوحيده قبل البعثة (ق: 2)
وعزمه على نصرة النبي صلّى الله عليه وسلم وأورد اخبارا دالة على إسلامه وأنه في الجنة (ق: 49)
وتحدث عن زيد بن عمرو (ق: 12)
والفرق بينه وبين ورقة (ق: 18)
وبينه وبين أبي طالب (ق: 43)
وتحدث عن تعريف الصابيّ (ق: 46) وعن كفر المقوقس (ق: 48)
ثم استفاض في ترجمة = ورقة = (6854)
من الكتاب نسخ خطية:
* نسخة دار الكتب المصرية برقم (177تصوف حليم إحدى وستون ورقة (61ق) وقد اتخذتها مرجعا.
__________
(1) السابق: 1/ 47(1/115)
* نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق برقم (3733) في ثمان وستين ورقة (68ق) نسخت في حياة المؤلف سنة (884)
وقد قرأت بحثا ألّف الدكتور: = عويد المطرفي = في إيمان = ورقة = سماه (ورقة بن نوفل في بطنان الجنة) نشرته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وهو بحث مبسوط طيب، أحسن الله تعالى إلى مؤلفه في الدّارين
وقد عرض لرأي البقاعيّ وكتابه وذكر أنه سعى إلى الحصول على نسخة المكتبة الظاهرية ليحققها ولعل الله عزّ وجل ييسر له ذلك ويعنه على نشره
* * * * *جواهر البحار في نظم سيرة المختار
نسبه إلى نفسه في تفسيره (نظم الدرر: 7/ 63) وفي كشف الظنون (ص 612) وهدية العارفين (1/ 2) والإعلام (1/ 50)
قصيدة في ست وسبعين وست مائة بيت (676) على روي واحد أولها:
ما بال جفنك هامي الدمع هامره، وبحر فكرك وافي الهم وافره
لا تأسفنّ على ما فات من وطر، فالله من قبل خلق الخلق شاطره
وقد انتهى من نظمها في مدينة رشيد بمصر، وهو مرابط سنة ثمان واربعين وثمان مائة ولما ذهب إلى الحجاز حاجا انشدها امام الروضة النبوية.
وهو ما يزال مخطوطا اتخذت مرجعى نسخة دار الكتب المصرية برقم (2143) تاريخ طلعت في ثمان وثلاثين لوحة (38ل).
* * * * *عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران
ذكره لنفسه في = مصاعد النظر = (1/ 135)
ونسب إليه في كشف الظنون (1174) وتنوير الحوالك للسيوطي (1/ 104) وشذرات الذهب (7/ 9) وقد اتخذه صاحب الشذرات مرجعا وهدية العارفين (1/ 22) والأعلام (ج 1/ 50، ج 10/ 8)(1/116)
معجم ترجم فيه شيوخه وأقرانه في طلب العلم وقد رتب اسماء المترجمين على وفق الترتيب الألفبائي، بادئا باسم (احمد) تبركا ومما يلاحظ عليه أمور:
التزم ذكر النسب والألقاب والكنى والميلاد والوفاة إن كانت قد وقعت عند تسجيل الترجمة، وهو يعتمد على اللقاء والمشافهة والكتابة لمن يترجم، ويكرر اللقاء ويقابل ويواجه بالمخالفة إن وقعت (ج: 2ص 168، ج 3ص 135)
يحدد مكان اللقاء بالمترجم وزمانه وما دار فيه وما قرأ عليه او كتب من أشعاره وكلامه، مع تسجيل شيوخ المترجم وقراءته وإجازته وأخلاقه وأرزاقه (ج: 1ص 17، 26، 48، 53)
يلتزم التوسط في الترجمة إلا نادرا كما فعل في ترجمة شيخه = ابن حجر = (ج: 1ص 17490)
وقع تكرار تراجم بعض الأعلام، ولعله من قبل النساخ او سهو منه (ج: 2ص 29، 68، 71، 101)
وقع اضطراب في ترتيب بعض التراجم فقدم وأخر (ج: 2ص 75، 99، ج 3ص 411، ج 4ص 21، 22، 40، 43، 88)
تعدّى في بعض التراجم وما كان له أن يفعل.
من الكتاب نسخ خطية
نسخة برقم (2255تاريخ تيمور دار الكتب المصرية) في اربع مجلدات. اتخذتها مرجعا
نسخة رقم 1001تاريخ دار الكتب المصرية
نسخة رقم 4911تاريخ دار الكتب المصرية
نسخة عارف حكمت بالمدينة النبوية رقم (43 تاريخ) نسخة المؤلف ناقصة
نسخة تونس رقم (5034تراجم المكتبة الأحمدية فهرس منتخبات تيمور ص: 73)
نسخة مكتبة محمد باشا كوبرلي بتركيا. (مجلة المورد: ص 221عد 4مج 5)
* * * * *
عنوان العنوان تجريد أسماء الشيوخ وبعض التلامذة والأقران(1/117)
* * * * *
عنوان العنوان تجريد أسماء الشيوخ وبعض التلامذة والأقران
نسب إليه في كشف الظنون (ص 11761175) وهدية العارفين (ج 6 ص 22) والأعلام (ج 1ص 50)
ألفه سنة أربع وثمانين وثمان مائة (884) بدمشق
الكتاب اختصار كتابه السابق = عنوان الزمان = يكتفي فيه بذكر اسم المترجم وميلاده ووفاته إن كانت وهو لم يترجم كما ترجمها في الأصل = عنوان الزمان = وترجم والده فيهما، وذكر جماعة لم يذكر هم في الأصل (1)
* * * * * ذلك ما يسّر الله جلّ جلاله الاطلاع عليه من الآثار العلمية = للبقاعيّ = وهي كما ترى متنوعة، ويرغم تنوعها تتسم بالعمق في تناول فضاياها، وما بقي من نتاجه العلمي فلم أوفق إلى العثور عليه في ديارنا غير قليل،
__________
(1) استدراك: من بعد الفراغ من أعداد هذا العمل للنشر بلغني أن كتاب (عنوان العنوان) قد نشرته (دار الكتاب العربي) بيروت في جزء واحد، 231ص، ولم يتيسر لي الاطلاع عليه.(1/118)
القسم الثاني مؤلفاته التي لم أطّلع عليها
ما مضى كان إلاحة عجلى إلى ما يسّر الله عزّ وجلّ اطلاعي عليه، فإن له اسفارا أخرى لم يتسر لى الاطلاع عليها لبعد الشقة بيني وبين مكنوناتها، ولعل الله عزّ وجلّ يمنّ بتيسير وتوفيق وتسديد
ولست هنا بالمصنف لتلك الأسفار تصنيفا موضوعيا، بل مرتبا لها وفق ترتيب أسمائها:
إباحة الباحة في علم الحساب والمساحة
نسبه إلى نفسه في عنوان الزمان (2/ 304) ونسبه إليه في كشف الظنون (ص 1، ص 216)
وهذا الكتاب كان موجودا بدار الكتب المصرية وقد طلبته كثيرا خلال أربع سنوات كنت مرابطا فيها في قسم المخطوطات بدار الكتب المصرية أعد فيها رسالتي للعالمية، ولكن المختص بخزانة المخطوطات كان يقرر في كل مرة أنّ الكتاب غير موجود على الرغم من تسجيله في فهارس المخطوطات بالدار تحت رقم (3) حساب ورياضيات
وذكره الدكتور = كنج = في فهرس المخطوطات العلمية الجزء الأول ووصفه بما يدل على أنه قد اطلع عليه
وهو شرح منظومته (الباحة) التي نظمها سنة سبع وعشرين وثمان مائة (827) بالقدس والآتي ذكرها إن شاء الله تعالى
* * * * *أحسن الكلام المنتقى من ذم الكلام
نسب إليه في كشف الظنون (ص: 828) وهدية العارفين (1/ 21) ومعجم المصنفين (3/ 279)(1/119)
هذا الكتاب انتقاه من كتاب (ذم الكلام وأهله) للهروي: أبي إسماعيل عبد الله بن محمد بن على الهروي الأنصاري. (ت: 481) صاحب كتاب منازل السائرين، ومن كتاب (ذم الكلام وأهله) نسخة مخطوطة بمعهد المخطوطات العربية رقم (97) وفي المكتبة الظاهرية بدمشق نسخة أخرى برقم (337) وللسيوطي كتاب (صون المنطق والكلام) استفاد منه
و= البقاعيّ = تلقى كتاب (ذم الكلام وأهله) عن شيخه = ابن حجر = سنة ست وأربعين وثمان مائة (846)
* * * * *الإدراك لفن الاحتباك
ذكره لنفسه في تفسيره (1/ 225) وفي مختصر تفسيره أيضا (ق: 3أ) وفي الأقوال القويمة (ص 198) ونسبه إليه تلميذه السيوطيّ في الاتقان (3/ 182) وشرح عقود الجمان (ص 133)
قال عنه البقاعي: = هو فن عزيز نفيس، وقد جمعت فيه كتابا حسنا ذكرت تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته: الإدراك لفن الاحتباك =
ويقول في مختصر تفسيره: دلالة البرهان القويم:
= حذفت منه أيضا التصريح ببيان الاحتباك للاستغناء بكتابي = الادراك =
فقد ذكرت فيه نحوا من ثلاث مائة آية من هذا الفنّ البديع والأسلوب المنيع = (ق: 3أ)
* * * * *أسد البقاع الناهسة في متعدي المقادسة
نسبه إلى نفسه في عنوان الزمان 01/ 346، ج 2/ 353)
ونسبه إليه في كشف الظنون (ص 81) ومعجم المصنفين (3/ 278) وهدية العارفين (1/ 22) وهو نظم في ذم بعض المقادسة عرضه على شيخه شمس الدين السعدي فكتب له عليه: = نظم مقبول =
* * * * *الإسفار عن أشرف الأسفار
نسبه إلى نفسه في عنوان الزمان (4/ 175) ونسب إليه في كشف الظنون (1/ 86) وذكر أنه = الإسفار عن أشردة الأسفار = والصواب = أشرف الأسفار = ألفه سنة أربع وأربعين وثمان مائة (844) عند ما رجع من سفره غازيا مع جيش المسلمين = قبرص = و = رودس = وقد
كان لهم غزوات على = رودس = زمن الأشرف = برسباي = إلا أنهم لم يفلحوا في فتحها(1/120)
نسبه إلى نفسه في عنوان الزمان (4/ 175) ونسب إليه في كشف الظنون (1/ 86) وذكر أنه = الإسفار عن أشردة الأسفار = والصواب = أشرف الأسفار = ألفه سنة أربع وأربعين وثمان مائة (844) عند ما رجع من سفره غازيا مع جيش المسلمين = قبرص = و = رودس = وقد
كان لهم غزوات على = رودس = زمن الأشرف = برسباي = إلا أنهم لم يفلحوا في فتحها
* * * * *إشارة المتقى إلى أعلام البيهقي
نسبه إلى نفسه في عنوان الزمان (2/ 355)
وأعلام البيهقى كتاب في أعلام النبوة وهو كتاب مشهور متداول
* * * * *إشعار الواعي بأشعار البقاعي
نسبه إلى نفسه في عنوان الزمان (2/ 365، 3729ونسب إليه في كشف الظنون (1/ 104) ونظم العقيان (ص 25) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المصنفين (3/ 278)
وهو ديوان شعره يقول = حاجي خليفة =:
= وهو كثير الأشعار والجيد من شعره متوسط =
والذي وقفت عليه من شعره هو إلى النظم اقرب، فليست فيه روح الشعر الساحرة، وفي كتابه: = عنوان الزمان = كثير من أشعاره، ولو أنّ في الوقت فسحة لجمعت أشعاره، وإن كنت أرى أن قيمتها الفنية ليست عالية
وفي نهاية الجز الثالث عشر من شرح صحيح البخاري لشيخه = ابن حجر =: = فتح الباري = قصيدته التى ألقاها في الاحتفال بختم شرح صحيح البخاري، وفي = مصاعد النظر = يقول:
= ومما يصلح إيراده في هذا المضمار مما يلي من الأشعار ما قلته في سنة خمسين وثمان مائة، وكنت مرابطا في ثغر = دمياط = فتأملت يوما أحوالى وأحوال الحسدة، فوجدتها في غاية البعد عن مواقع حسدهم فإن طلبي غير ما يطلبونه، فلم نتزاحم على مقصد من المقاصد فاشتد تعجبي من أمرهم، فقلت من الطويل الثالث والقافية متواتر مصمت مطلق مرادف:
ألا ربّ شخص قد غدا لي حاسدا يرجي مماتي وهو مثلى فان
ويا ليت شعري إن أمت ما يناله، وماذا عليه لو اطيل زماني
عدوي قاص عنه ظلمي آمن من الجور داني النفع حيث رجاني
وهل لتراث غير قوس أعدها لحرب ذوي كفر وغير يماني
وما يبتغى الحساد منى وإنني لفتتي شغل عنهم بأعظم شاني
وأنا إذ كتبته على هذا النحو أشير إلى أنّه إلى النثر أو النظم أقرب منه إلى الشعر الذي هو ترانيم سحر(1/121)
أشلاء الباز على ابن الخباز
نسبه إليه في كشف الظنون (1/ 105) والضوء اللامع (1/ 109) ومعجم المصنفين (3/ 278) جزء جمعه في ذمّ = ناصر الدين الزفتاوي = إلا أنّ البقاعيّ ندم على ذلك فكفر عن فعلته بأن قرأ على = الزفتاوي = فصيره شيخا له وحفظ له حقه عليه وهذا حميد من البقاعيّ دال على أنّه رجاع إلى الحق حين يتبيّن له، وهذا من حميد الخلق تثمره الشجاعة والعزة التي تأبى على المرء أن يكون عبدا لمنقصة الاستكبار، فإنّه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، كما هدت إلى ذلك السنة المطهرة، ولو أنّا ولا سيّما ولاة الأمر فينا تخلقنا بخلق الرجوع إلى الحق ومناصرته إذا ما تبيّن لنا لكان لهذه الأمة في هذا الزمان شأن غير ما هي متردية فيه، فقد جرّب فينا ولاة الأمر كل النظم والفلسفات الوافدة علينا من رأس مالية وماركسية واشتراكية ودكتاتورية وديموقراطية مزيفة وماسونية وعلمانية وميكافلية إلخ ولم يبق إلا نهج الإسلام فهلا عاد أولئك إلى الحق، واتخذوا الكتاب والسنة وحدهما منهاج حياة وحكم
* * * * *إطباق الأغلال في أعناق الضلال
نسبه إلى نفسه في تفسيره (20/ 177) وهو من الكتب التي أعدها في قضية = ليس في الإمكان أبدع مما كان = والتي سبقت الإشارة إليها.
* * * * *الاطلاع على حجة الوداع
نسبه إلى نفسه في تفسيره (2/ 264، ج 22/ 321) يقول عند تفسيره قول الله سبحانه وتعالى: {= إِنَّ الصَّفََا وَالْمَرْوَةَ =} (البقرة: 158)
مبينا علاقة هذه الآية بما قبلها قائلا:
= ومن أحسنها أيضا: أنّه تعالى لما ذكر البلايا بنقص الأموال بسبب الذنوب
{(وَمََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)}
(الشورى: 30) أتيعها الدواء الجابر لذلك النقص دينا ودنيا، ف = إنّ الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والفضة =(1/122)
رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن بن مسعود رضي الله عنهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم
وروي أيضا عن عدّة من الصحابة رضي الله عنهم كما بينته في كتابي: = الاطلاع على حجة الوداع =
وقد أشار إليه في أثناء كلامه في سورة = النصر = وأنه ذكر خطبة الوداع في كتابه: = الاطلاع على حجة الوداع = (مصاعد النظر: 3/ 272) ونسب إليه في كشف الظنون (1/ 117)
* * * * *الانتصار من المتعدي بالأبصار
ذكره لنفسه في مصاعد النظر (1/ 135)
كتب له عليه تقريظا شيخه = الكمال محمد بن الهمام الحنفي (ت: 861) صاحب كتاب = الهداية = في فقه الحنفية وكتاب = التحرير في أصول الفقه = ومما قال في تقريظه: = وقفت على ساحل بحر زاخر، إذ وقفت للنظر في هذا المؤلف الباهر المنتصب على معارضه كالسيف الباتر، فلعمري لقد سلك في نظره بعد سبيل الأبرار ما يعجز عنه فحول راسخي النّظّار من دقائق زبد الأفكار، فاستحقّ أن يقال فيه على رءوس الأشهاد إلى يوم التناد:
ولا غرو أن أبدى العجائب ربّه ... وفي ثوبه ير وفي قلبه بحر
ولعل الكتاب فيما جاءت به الأسفار من مخاصمته أهل جار له كانوا يطلعون على أهله من عل، فخاصمهم وكانت منازعة ومقاتلة (1)
* * * * *الباحة في علمي الحساب والمساحة
ذكره لنفسه في عنوان الزمان (2/ 354) ونسب إليه في كشف الظنون (1/ 216) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المصنفين (3/ 277) والأعلام (1/ 50)
وهو نظم في علم الحساب وعلم المساحة بدأه سنة سبع وعشرين وثمان مائة وهو في الثامنة عشر من عمره، وأتمه سنة ثنتين وثلاثين وثمان مائة في القدس.
وكان يسميه أولا: مشترك الملاحة في علمي الحساب والمساحة = وهو في سبع مائة بيت، وقد شرحه في كتاب (الباحة) السابق ذكره.
__________
(1) ينظر: إنباء الهصر لابن الصيرفي ص 509ت: حسن حبشي الهيئة المصرية العامة للكتاب.(1/123)
* * * * *بيان الإجماع على منع الاجتماع في بدعة الغناء والسماع
نسبه إلى نفسه في = تهديم الأركان = (ل: 11)
ونسب إليه في كشف الظنون (1/ 260) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المصنفين (3/ 279)
وموضوعه بيّن من عنه وانه، وهو كتاب جدير بالتحقيق والنشر في زماننا هذا لو كان موجودا، فما أحوجنا إلى مثل هذا وقد تساقطنا في = مستنقع = تلك السيئة المقيتة حتى بات الناس على يقين بأن هذا لا حرج فيه، وهو في الإسلام جد عظيم
ونحن الآن في زمان اختلط فيه الأمر، فكثير من العامة وبعض الخاصّة من المثقفين تقدم على المنكر ظنّا أنّه ليس بمنكر، ولو بيّن لهم الأمر بالحسنى وكرر التبيين من كبار أهل العلم في قاعات الدرس والمساجد والمحافل ووسائل الإعلام لتقرّر في قلوبهم الفارق بين المعروف والمنكر شرعا
إنّ فرضا عظيما على علماء الإسلام أن يبينوا للناس ما هو المعروف وما هو المنكر في الكتاب والسنة بالحكمة والموعظة الحسنة، فذلك أصل عظيم من أصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
* * * * *تتميم إيساغوجي
منه نسخة خطية في = مكتبة شهيد علي بتركيا = ضمن مجموع يضم كتبا للبقاعي برقم (2804)
وكلمة = إيساغوجي = يونانية معناها = الكليات الخمس = وهي: الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام.
والكليات الخمس باب من أبواب المنطق اليوناني التسعة.
ومن أشهر من ألف فيه = عبد اللطيف البغدادي = صاحب = خزانة الأدب = و = أثير الدين الأبهري =
وقد درس = البقاعي = المنطق = على شيخه = البدر الهندي = تلميذ = السيد الشريف = (ت: 816) في = دمشق = وعلى شيخه = القاياتي = في القاهرة
* * * * *تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض
نسبه إلى نفسه في تفسيره (ج 20ص 434، ج 22ص 445) وفي الأقوال القويمة (ص 18)(1/124)
ونسب إليه في كشف الظنون (382) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المصنفين (3/ 279)
وهو من الكتب التي نصبها لنقض مقولات = ابن الفارض = النازعة إلى القول بالحلول والاتحاد
والإكثار من تأليف ونشر الكتب في نقض الأضاليل التى تضرب في الأصول العقدية للإمة المسلمة أمر عظيم ينبغي للعالم ألا يملّ منه وألا يقول قد كتبت في هذا كتابا ولا سيما في عصر يتوافد ويتظاهر على ترسيخ الضلال فيه فرق شتى كمثل عصرنا هذا
رب كلمة يكتبها العالم لا يسمعها كثير ورب كلمة أخرى تنفذ في كل مكان وتحيى في كل بلد، وقد قال أهل المعرفة: ما تكرر تقرر، فمن أراد تقرير شيء في القلوب أذّن به صباح مساء في آذان العباد فإنه نافذ لا محالة في قلوبهم
وهذا ما تنتهجه وسائل الإعلام في بلادنا لا تستحي من ذكر ونشر وتكرير وتصريف الدعوة إلى ما تريد إقامته في قلوب العباد من الاخلاق الدّنية وأساليب الحياة الرديّة البعيدة عن الكتاب والسنة
* * * * *تهذيب جمل الخونجي
منه نسخة خطية في مكتبة = شهيد علي = بتركيا = برقم (2804) ينظر فهرس المكتبة المذكورة ص: 256 (خ)
نسب إليه في كشف الظنون (1/ 602) ومعجم المصنفين (3/ 279) ألفه سنة إحدى وستين وثمان مائة (861)
الكتاب شرح وتهذيب لكتاب (الجمل) في مختصر = نهاية الأمل = في المنطق، لابن مرزوق التلمساني، اختصره تلميذه = أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن نامور الخونجي (ت: 649) وسمى مختصره = الجمل = وجاء = البقاعي = فهذب المختصر: = الجمل =
* * * * *جامع الفتاوي لإيضاح بهجة الحاوي
نسبه إلى نفسه في = عنوان الزمان (1/ 361) وفي مصاعد النظر (1/ 132)
وكتاب = الحاوي = في فروع فقه الشافعية لنجم الدين عبد الغفار بن عبد الكريم القزويني (ت: 665) عنى به العلماء شرحا ونظما، ومن ذلك نظم = زين الدين عمر بم مظفر الوردي = (ت: 749) في خمسة ألاف بيت، وسمى النظم = البهجة =(1/125)
حفظ = البقاعي = نظم = البهجة = في دمشق، وقرأ كتاب = الحاوي = على شيخه = ابن قاضي شهبة = قراءة بحث (عنوان الزمان: 1/ 353352)
يقول = البقاعي = عن كتابه = جامع الفتاوي =: = كتاب غريب مزجت فيه كلام = البهجة = على أنه نظم بكلام الشرح مزجا صار بحيث يظنّ أنّ الكلامين متن مستقل، مثل كتاب = الأنوار = للأردبيلي، وهو أكبر عمدي في هذا الشرح (1)
كتب له = الكمال محمد بن محمد بن البارزي = (ت: 875) عليه تقريظا قال فيه: = وقفت متأملا في محاسن هذا = الجامع = متفكرا في فصاحة خطيبه، وما أبدعه فيه من إعجاب الناظر وإطراب السامع، فألفيته حاويا لكلّ حجّة شاملا ل = الأنوار = و = البهجة = وعلمت تميز مصنفه عن أقرانه، وتنبّهه على أهل زمانه، أمدّه الله بالكفاية وجعل خاتمته بالحسنى وزيادة =. (2)
* * * * *الجامع المبيّن لما قيل في = وكأيّن =
نسبه إلى نفسه في تفسيره (5/ 86) قائلا عند قول الله عزّ وجلّ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} (آل عمران: 146):
= فيها كلام كثير في لغاتها ومعناها وقراءتها المتواترة والشاذة وصلا ووقفا ورسمها في مصحف الإمام = عثمان بن عفان = رضي الله عنه الذي وقع اجماع الصحابة عليه ليكون المرجع عند اختلاف إليه، وهل هي بسيطة أو مركبة، ومشتقة أو جامدة، وفي كيفية التصرف في لغاتها، استوعبته في كتابي: = الجامع المبيّن لما قيل في وكأيّن =
* * * * *خير الزاد من كتاب الاعتقاد
نسب إليه في كشف الظنون (ص 727، ص 1393) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المصنفين (3/ 280)
انتقى = البقاعي = كتابه من كتاب = الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد = للإمام الحافظ: أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 584) وهو في اصول العقيدة على مذهب السلف: أهل السنة والجماعة
يقول = البيهقيّ = في مقدمته من بعد الحمد والصلاة:
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 132
(2) الموضع السابق(1/126)
= فإني بتوفيق الله سبحانه وتعالى صنفت فيما يفتقر أهل التكليف إلى معرفته في أصول العلم وفروعه ما قد انتشر ذكره في بعض البلاد، وانتفع به من وفق لسماعه وتحصيله من العباد غير أنّ جمل ما يحتاج إلى معرفته من ذلك للاعتقاد على السداد مفرقة في تلك الكتب، ولا يكاد يتفق لجماعتهم الاتيان على جمعها والإحاطة بجميعها، فأردت، والمشيئة لله تعالى أن أجمع كتابا يشتمل على بيان ما يجب على المكلف اعتقاده والاعتراف به مع الإشارة إلى أطراف أدلته على طريق الاختصار وما ينبغي أن يكون شعاره على سبيل الإيجاز =
كان البقاعيّ قد قرأ كتاب = الاعتقاد = على شيخه = ابن حجر =
فرغ من تأليف = خير زاد = في ذي القعدة سنة (861)
* * * * *دلائل البرهان لمنصفي الإخوان على طريق الإيمان
نسب إليه في كشف الظنون (ص: 759) ومعجم الصنفين (3/ 279)
ألفه سنة سبع وسبعين وثمان مائة (877) ولا علم لى الآن بموضوعه
* * * * *رفع اللثام عن عرائس النظام
منه نسخة خطية في مكتبة = شهيد على = بتركيا برقم (3804) ينظر فهرس المكتبة (ص 256) (خ) وفهرس منتخبات تيمور. ص: 55)
نسب إليه في كشف الظنون (ص 910) وهدية العارفين (22: 1) ومعجم المصنفين (3/ 280279)
كتاب في العروض والقافية فرغ منه في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وثمان مائة (848) بالقاهرة
* * * * *شرح جمع الجوامع
نسبه إليه في كشف الظنون (ص 596) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المصنفين (3/ 279)
كتاب في أصول الفقه، و = جمع الجوامع = من أشهر كتب أصول الفقه ألفه = التاج السبكي =
وعلى جمع الجوامع شروح وحواش عديدة من أشهرها شرح الجلال المحلى (ت: 864) شيخ البقاعي
* * * * *
شرح جواهر البحار في نظم سيرة المختار(1/127)
* * * * *
شرح جواهر البحار في نظم سيرة المختار
نسبه إلى نفسه في تفسيره (7/ 63) ونسب إليه في كشف الظنون (ص:
612) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المصنفين (3/ 279)
شرح قصيدته = جواهر البحار = السابق ذكرها، وهو في مجلدين كما يقول حاجي خليفة (ص: 612)
* * * * *صواب الجواب للسائل المرتاب
نسبه إلى نفسه في تفسيره (ج 20ص 434، ج: 22ص 445)
الكتاب في نقض مذهب الحلول والاتحاد الذي يقول به بعض فلاسفة الصوفية من أمثال = ابن عربي = وابن الفارض =
ذكر الكتاب في كشف الظنون (ص 267، ص 1083) ومعجم المصنفين (3/ 279) وهدية العارفين (1/ 22) باسم (صواب الجواب للسائل المرتاب المجادل المعارض في كفر ابن الفارض)
يقول البقاعيّ: = وصنفت في ذلك عدة مصنفات بانت فيها مخازيهم وظهرت المخبّئات منها: = صواب الجواب للسائل المرتاب = ومنها الفارض لتكفير ابن الفارض = ومنها = تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض = ومنها = تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي = ومنها = تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد =
أنفقت فيها عمرا مديدا وبددوا فيها أوقاتي بددهم الله تبديدا وهدد أركانهم وأعضادهم تهديدا وقرعتهم بالعجز عن الجواب الكاشف للارتياب صباحا ومساء وإعادة وإبداء فحملهم التقريع والتوبيخ والتبخيع على كتابة جواب لم يخل من ارتجاج واضطراب وشك وارتياب بينت أنّ جامعه أخطأ في جميعه الصواب، وكفر في أربعة مواضع كفرا صريحا، وكذب في ثمانية، فصار بذلك جريحا، بل هالكا طريحا، فأطلت بذلك التقريع والتوبيخ والتبشيع فذلت أعناقهم وضعفت شقاقهم وخفي نفاقهم = (1)
* * * * *العدة في أخبار الرّدة
ذكره لنفسه في تفسيره (20/ 128) وفي كتابه = أخبار الجلاد = ذكره باسم (زوال الشدة بقتال أهل الردة) (ل: 4)
يقوم الكتاب بتحقيق أخبار حروب الردّة في زمن الخليفة الصديق رضي الله عنهم
__________
(1) نظم الدرر: 22/ 445، وانظر ج 20ص 434(1/128)
* * * * *عظم وسيلة الإصابة في صنعة الكتابة
نسب إليه في كشف الظنون (1142) ومعجم المصنفين (3/ 280)
منظومة في الخط والشكل والنقط.
* * * * *الفارض لتكفير ابن الفارض
نسبه إلى نفسه في تفسيره (ج: 20ص 434، ج: 22ص 445) وفي تحذير العباد: 257مصرع التصوف)
ونسب إليه في كشف الظنون (1215) ومعجم المصنفين (3/ 280)
انتقى في هذا الكتاب كما يقول في تحذير العباد (ص: 257) من تائية ابن الفارض ما يقارب أربع مائة وخمسين بيتا شهد البررة والكفرة أنّ مراده منها صريح الاتحاد. =
من هذا يتحقق أنّ عنوان الكتاب (الفارض) بالفاء الموحدة أخت (القاف) اسم فاعل من (فرض) فالكتاب يذكر نصوصا تفرض على كلّ منصف أن يحكم بكفر = ابن الفارض = فما تراه في = نظم الدرر = الطبعة الهندية (ج: 20/ 434، ج: 22/ 445) والطبعة البيروتية (8/ 621) من أنّه (القارض) ب = القاف = ليس صحيحا، ولعله تحريف ناسخ أو طابع
وللشهاب المتبولي: أبو الفتح أحمد بن موسى بن أحمد الشافعي كتاب: = المدد الفائض في الذبّ عن ابن الفارض = (1)
وللسيوطي كتاب يرد به على شيخه = البقاعي = سماه = قمع المعارض في نصرة ابن الفارض =
* * * * *قدح الزند في سقط الزند لأبي العلاء المعري
نسبه إلى نفسه في معجمه = عنوان الزمان = (1/ 363)
بيّن من عنوانه أنه شرح لذلك الديوان
* * * * *قدح الفكر وتنوير البصر بأجوبة الشهاب ابن حجر
ذكره لنفسه في معجمه = عنوان الزمان = (1/ 174)
جمع فيه أجوبة شيخه = الشهاب بن حجر العسقلاني = في الفقه.
* * * * * __________
(1) الضوء اللامع: 2/ 228(1/129)
القول الفارق بين الصادق والمنافق
ذكره لنفسه في تفسيره (22/ 141)
وهو أيضا في قضية الحلول والاتحاد التى استفاض واستهتر في نقضها، فجزاه الله تعالى خير الجزاء.
* * * * *القول المعروف في الرد على منكر المعروف
نسبه إلى نفسه في تفسيره (22/ 444)
ونسب إليه في كشف الظنون (1365) ومعجم المصنفين (3/ 2870)
سماه صاحب = معجم المؤلفين (1/ 71): = القول المألوف =
وذلك غير دقيق فإنّ = القول المألوف = لقرينه = السخاوي = يرد به على = البقاعيّ = يقول = السخاويّ =: = وقد رددت عليه غير مسئلة له في عدة تصانيف منها: = الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل = و = القول المألوف في الرد على منكر المعروف = (1)
وللشهاب المتبولى كتاب ردّ به على البقاعي في إنكار قول = بادائم المعروف = (2)
* * * * *القول المفيد في أصول التجويد
ذكره لنفسه في معجمه = عنوان الزمان = (2/ 335)
ونسبه إليه في كشف الظنون (ص: 1365) وهدية العارفين (1/ 22) والأعلام (10/ 8)
منه نسخة خطية في الظاهرية بدمشق برقم (7423علوم القرآن) في ست عشرة ورقة (16ق) كتبت في سنة ست وستين وثمان مائة
ونسخة في المكتبة العامة بالرباط: المغرب، برقم (1755/ ب)
* * * * *كفاية القارئ وغنية المقرئ في رواية أبي عمرو
نسبه إلى نفسه في = مصاعد النظر = (1/ 131)
ونسب إليه في كشف الظنون (ص: 1500) وهدية العارفين (1/ 22) ومعجم المؤلفين (3/ 381)
__________
(1) السابق: 1/ 106
(2) السابق: 2/ 228(1/130)
ألفه سنة سبع وعشرين وثمان مائة بدمشق وهو في الثامنة عشر من عمره، فلما قدم القاهرة أول مرة سنة أربع وثلاثين وثمان مائة عرضه على شيخه = ابن حجر العسقلانيّ = فكتب له عليه تقريظا قال فيه (1):
= هكذا تنتظم اللآلي، وإلى هنا تنتهى رتب أولى المعالى.
إنّ الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
ويا ليت شعري من هذه بدايته، ... فما الذي بلحاق النجم ينتظر
وكتب له تقريظا عليه = سعد الدين بن الديري (ت: 867) قال فيه:
= وقفت على هذا المؤلف الموسوم بالكفاية الجامع بين صحيح الرواية وغريب الدراية الشاهد لمصنفه ببلوغ رتبة النهاية في سنّ البداية = (2)
* * * * *مختصر السيرة النبوية وثلاثة من الخلفاء الراشدين
الكتاب اختصار كتابه (جواهر البحار) السابق ذكره. ومنسوب للبقاعي في = الأعلام = (1/ 50، 10/ 7) منه نسخة في مكتبة = عبيد = بدمشق،
وفي نشرة أخبار التراث الإسلامي (ص: 25عدد: 20س: 1409) مركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت ذكر الكتاب بالعنوان السابق منسوبا إلى = البقاعيّ = وأن هناك نسخة مخطوطة منه في = رئيس الكتاب = برقم (704) وأن ذلك مذكور في مجلة = عالم الكتب = (ص: 34ع: 34م: 3اكتوبر: 1982)
* * * * *المقصد العالي في ترجمة الإمام الغزالي
ذكره = الزبيدي = في كتابه (إتحاف السادة المتقين) وقال إن البقاعي مدح = الغزالي = في اول الكتاب وأطال في مدحه، ثم تعرض للرد عليه في قضية: ليس في الإمكان أبدع مما كان = وقرر الزبيدي ان الكتاب عنده.
* * * * *الملتقط من معجم الطبراني الوسط
نسبه إلى نفسه في معجمه = عنوان الزمان = (1/ 363)
* * * * * __________
(1) مصاعد النظر: 1/ 131
(2) السابق: 1/ 131(1/131)
منتقى الغريب العاني من الترغيب للأصفهاني
ذكره لنفسه في معجمه = عنوان الزمان = (1/ 363)
* * * * *النكت الوفية بما في شرح الألفية للعراقي
حاشية له على ألفية العراقي علقها في أثناء دراسته شرح الألفية للعراقي على شيخه = ابن حجر = ولكنه لم يكمل الحاشية فقد بلغ نصف المنظومة وعرض حاشيته على شيخه = ابن حجر = فكتب له تقريظا
= عنوان الزمان (1/ 372) و = مصاعد النظر: (1/ 135)
ذكره لنفسه في تفسيره (1/ 277)، وفي = الأقوال القويمة (143) وفي معجمه = عنوان الزمان = (1/ 362) وفي = مصاعد النظر (1/ 135)
ونسب إليه في كشف الظنون (1/ 156) ومعجم المصنفين (3/ 278) ونظم العقيان (24) وهدية العارفين (6/ 22)
من = النكت = نسخة في المكتبة = الظاهرية = بدمشق قرأت على المؤلف
(مجلة المورد العراقية: ص: 299ع: 2م: 6)، ونسخة في فيض الله افندي بالمكتبة الوطنية باستانبول برقم (252) في خمس وسبعين وثلاث مائة ورقة (السابق: ص: 332ع: 2م: 7)، وأخرى في المتحف العراقي ببغداد (السابق: ص: 184ع: 1م: 4)، وأخرى في مكتبة = عاطف أفندي = بتركيا (نوادر المخطوطات للجزائري: ج: 2ص: 58) وأخرى في مكتبة = قاضي العسكر = بتركيا (السابق: 2/ 85) (1)
* * * * *وشي الحرير في اختصار = ابن جرير =
ألفه سنة خمس وثلاثين وثمان مائة (835)
ذكره لنفسه في معجمه = عنوان الزمان = (1/ 354)
__________
(1). استدراك: من بعد الفراغ من مراجعة هذا البحث لنشره علمت أن كتاب النكت الوفية قد قام بتحقيقة ثلاثة باحثين تقاسموه هم يحيى بن عبد الله بن ناصر الأسدي سنة 1414بإشراف: سعدي بن مهدي الهاشمي، والثاني الباحث: عبد الرحمن بن عبد اللطيف الرشيدان سنة 1416، بإشراف سعدي بن مهدي الهاشمي، والباحث الثالث: جمعان بن أحمد بن غرم الله الزهراني سنة 1417بإشراف حافظ بن محمد الحكمي، والرسائل الثلاثة في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض نسخ منها ولم يتيسر لي الاطلاع عليها.(1/132)
مؤلفات لغيره نسبت إليه خطأ
نسب إلى = البقاعي = كتب هي عند التحقيق ليست له، من ذلك:
كتاب = الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل:
نسبه إليه صاحب = معجم المؤلفين = (1/ 71)
وهذا لا يستقيم، فإن = البقاعي = من يؤمن بحل ذلك النقل وقد مارسه وبالغ فيه في تفسيره، وألف كتابا في تقرير جواز هذا النقل سماه
= الأقوال القويمة = وقد سبق بيان هذا الكتاب
وكتاب = الأصل الأصيل = لقرينة = السخاوي = يناقض به كتاب = البقاعي =: = الأقوال القويمة =
و= السخاوي = نفسه قد قرر ذلك في: = الضوء اللامع = (1/ 106)
القول المألوف في الرد على منكر المعروف نسبه للبقاعيّ صاحب = معجم المؤلفين (1/ 71) والكتاب للسخاوي أيضا يرد به على كتاب البقاعي = القول المعروف = السابق ذكره، وقد نسب = السخاوي = كتاب = القول المألوف = إلى نفسه في معجمه = الضوء = (1/ 106) ومنسوب للسخاوي في كشف الظنون (1/ 107) و = شذرات الذهب = (8/ 16)
* * * كتاب = صفوة الصفوة = نسبه إليه الدكتور = محمد البحيري = في رسالته للعالمية (الدكتوراة) في علوم القرآن الكريم المودعة في مكتبة = كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة = ذاكرا أن الكتاب مذكور للبقاعي في تفسيره نظم الدرر (ج: 3ق: 325) من النسخة الخطية رقم (213تفسير دار الكتب المصرية) وهي النسخة نفسها التى اتخذتها مصدرا في إعداد رسالتى للعالمية (الدكتوراة).
وما ذكره الدكتور = البحيري = غير دقيق، فالمذكور إنما هو حديث عن إسلام سيدنا = عمر بن الخطاب = بعد سيدنا = حمزة = رضي الله عنهما بثلاثة أيام
يقول البقاعيّ: = كما بينته في حاشية العقائد عن فوائد الرازي وصفوة الصفوة = لابن الجوزي =(1/133)
هذا قاطع في أن الذي للبقاعي إنما هو حاشيته على شرح = السعد = للعقائد النسفية، وقد سبق الكلام على هذه الحاشية
أمّا كتاب = الفوائد = وكتاب = صفوة الصفوة = فليسا له بل الأول للرازي، والآخر لابن الجوزي، وقد نصّ هو على ذلك
* * * * ترتيب حروف كتاب = العين = للخليل
ترتيب حروف = المحكم = لابن سيده
ترتيب حروف = التهذيب = للأزهري
ترتيب = مواد أبي البهاء =
هذه الأربعة نسبها الدكتور = بحيري = للبقاعي وقال إنها مذكورة له في = عنوان الزمان = (1/ 154) مخطوط رقم (1001) دار الكتب المصرية،
وهذا أيضا غير دقيق، فهذه ليست كتبا للبقاعي، وإنما هي أبيات شعرية رتب فيها فصول وأبواب كل كتاب ليسهل حفظها، فرتب كتاب = العين = في بيتين من الشعر، ومثل هذا ليس كتابا ولا رسالة
* * * ذلك إيجاز البيان عمّا تركه البقاعي من آثار علمية، وهي كما ترى آثار متنوعة، وكثيرة تؤذن باتساع آفاق العرفان عنده، وأنه كان يعيش حياة عصره، منفعلا بأحداث زمانه، وفاعلا فيها، قائما بالدعوة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدي لمن يسعى في الأرض بغير ما يرضي الله عز وعلا.
وإذا ما نظرنا في تراثه الذي تركه لنا ألفينا أنه قد تجاوز الستين كتابا، وأنّه قد غلب على تأليفه عدّة علوم:
الأول: التفسير وعلوم القرآن الكريم
الثاني: الحديث وعلوم السنة
الثالث العقيدة وعلم الكلام والمنطق
الرابع علم التاريخ والتراجم
الخامس علم الفقه وأصوله
السادس اللغة وعلومها
هذه العلوم والمعارف كانت بانية مشكّلة شخصيته العلمية، غير أن تفسير القرآن الكريم كان العلم الذي به رفع ذكره بين علماء الأمة(1/134)
الباب الثاني منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم(1/135)
المدخل إلى المنهج
أقام البقاعي تدبّره البيان القرآنيّ الكريم على أساس أنّ جميع كلمه وجمله وآياته ومعاقده وسوره يرتبط بعضها ببعض ارتباطا معنويا وبيانيا، فكلّ عنصر منه إن جازت العبارة وأخشى ألّا تجوز يأخذ بحجزة ما أمامه، وأنّ كلّ سورة لها مقصد كلّى عظيم مهيمن على جميع أجزائها هو منها بمنزلة الروح من الجسد في عالم الخلق، والقرآن الكريم من عالم الأمر وما هذا إلا تقريب لما هو من عالم الأمر بأمر من عالم الخلق دعا إليه عجزي البيانيّ عن أن أوفّي القول في القرآن الكريم ما يليق به، وإلا فإنّ جلّ مصطلحاتنا البلاغيّة التي نلوكها في تذوّق بياننا البشريّ لا تكاد تليق بالقول في تدبّر البيان القرآنيّ الكريم
وهذا يقتضي اقتضاء باهرا قاهرا لا يتوقف فيه ناصح نفسه نازل على أصول النّظر العقلىّ المعافى من المجادلة العقيمة أنّ بلاغة القرآن الكريم المعجزة كافة العالمين لا تكون في بعض ما أوحي بل في كلّ ما أوحي، وهذا لا يتوقف فيه أدنى توقف من قام في قلبه أنّ القرآن الكريم من عند الله سبحانه وتعالى وحده
وإذا ما كان هذا صحيحا ولن يكون إلا صحيحا فصيحا فإنّ ما أوحي ليس المعنى القرآنىّ وحده ولا نظم الجملة أو الآية وحدها بل أوحي كلّ هذا وموقع كلّ كلمة في جملتها وكلّ جملة في آيتها وكلّ آية في معقدها وكلّ معقد في سورته وكلّ سورة من السياق الكليّ للقرآن الكريم
الموضع الذي تقوم فيه الكلمة وما علاها إلى السورة إذن مما أوحي، فلا بدّ أن يكون في الموضع الذي وضعته الكلمة والجملة والآية والمعقد والسّورة بلاغة معجزة هي آية النّبوة المحمّديّة الخالدة خلود الحياة على هذه الأرض
وهذا مقتض اقتضاء ملحا ملزما أن يكون التدبّر للقرآن الكريم الذي هو فريضة قائما في بلاغة كلّ ما أوحي، ومنه موقع الكلم والجمل والآيات والمعاقد والسّور.
ومن ثمّ فإنّ البقاعيّ يؤمن أنّه من الفريضة تدبّر ما يمكن أن تسمّيه في بيان البشر بالوحدة البيانية للنّصّ المبنيّة على وحدة المقصد الكلّيّ له ووحدة المغزي الذي يرمي به إليه، وكلمة = المغزى = من الكلمات الماجدة في هذا السياق، تكشف عن عظيم اجتهاد المبين من البشر بيانا
عاليا في سعيه إلى بلوغ غايته وقيامه قيام الغازي بجحافل كلمه ونظمه ونغمه قلوب المتلقين الآسرها بما يملك من عتاد الكلمة الساحرة، والمقيم في فسطاط القلوب مكنون معانيه التي هي وجوده الخالد بيانا، إذ يفنى وجوده الجسدي من بعد حين ويبقى هو وجودا بيانيا ما بقيت الحياة.(1/137)
ومن ثمّ فإنّ البقاعيّ يؤمن أنّه من الفريضة تدبّر ما يمكن أن تسمّيه في بيان البشر بالوحدة البيانية للنّصّ المبنيّة على وحدة المقصد الكلّيّ له ووحدة المغزي الذي يرمي به إليه، وكلمة = المغزى = من الكلمات الماجدة في هذا السياق، تكشف عن عظيم اجتهاد المبين من البشر بيانا
عاليا في سعيه إلى بلوغ غايته وقيامه قيام الغازي بجحافل كلمه ونظمه ونغمه قلوب المتلقين الآسرها بما يملك من عتاد الكلمة الساحرة، والمقيم في فسطاط القلوب مكنون معانيه التي هي وجوده الخالد بيانا، إذ يفنى وجوده الجسدي من بعد حين ويبقى هو وجودا بيانيا ما بقيت الحياة.
المهمّ أنّ القرآن الكريم كلّه آت إلى غاية عظمى جاءت كلماته وآياته ومعاقده وسوره تتناسب وتتآخى للبلوغ إلى تلك الغاية وذلك المغزى، ولتوصل إلى القلب المعافى من الاستكبار معانى الهدى إلى الصراط المستقيم المنتهى إلى رضوان المتكلم بهذا الكتاب الكريم جلّ جلاله
البقاعي في تدبره البيان القرآني الكريم إنّما جعل تدبّره مناطه إعجازه القائم في كلّ جملة من جمله وآية من آياته ومعقد من معاقده وسورة من سوره
ذلك هو تناسب معاني بيانه ومبانيه، فذلك الإعجاز هو الروح السّاري في كلّ وجوه الإعجاز القرآنيّ العديدة المديدة التى لا تتناهى ولا يحاط بها فهي نعمة من نعم الله عزّ وجلّ التي لا تحصى
وهذا يغرينا بأن نسعى إلى إيجاز تبيان مفهوم تناسب البيان القرآني معنى ومبنى عند البقاعي ومستوياته ومجالاته، ثم نبيّن معالم منهاجه في تدبر سمات هذا التناسب المعجز(1/138)
التناسب القرآني عند البقاعي
المفهوم
مما سمّى البقاعي به تفسيره: = نظم الدرر في تناسب الآيات والسور = وهي تسمية يقصد إليها قصدا من أنّ من أصوله التى يتخذها علاقة الاسم بالمسمى، وعدّه التسمية من براعة الاستهلال الموحى بما هو مكنون في المسمى، وسوف ننظر في أصله هذا في موضعه اللائق به إن شاء الله تعالى
وأنت تراه قد جعل عمله = نظم درر = في موضوع = تناسب الآيات والسور = ولعله ناظر إلى ما بين النظم والتناسب من علاقات اتفاق وافتراق، فكل تناسب نظم، وليس كل نظم تناسبا
في التناسب كما سيأتى إن شاء الله تعالى ما ليس في النظم:
= التناسب = من أصول ثلاثة: = ن / س / ب = تدور على معنى:
= اتصال شيء بشيء = كما يقول = ابن فارس = في مقاييس اللغة =
وهذا الاتصال إنّما يكون اتصالا جوهريّا، فهو قائم على علائق جوّانيّة تجري في كنه المتناسب، وتضبط برّانيّه وهذا ما أنت تراه في عالم الإنسان: علاقة النسب فيهم علاقة جوهرية تجري في أوصالهم، وتشكل سماتهم المعنوية والحسية، وهى علاقات أبدية
وعالم البيان من عالم الإنسان، الكلمة فيه كالفرد من عالم الإنسان، وهذان العالمان: البيانىّ والإنسانيّ يسيران على نهج سواء في كثير من أحوالهما
وهذا المصطلح: = التناسب = ذو دلالة على مدلوله غير دلالة = النظم = على مدلوله الذي اتخذه = عبد القاهر الجرجانيّ = لنظريته
دلالة مصطلح النظم على مدلوله يفتقر بيانها إلى احتراز من أن يدخل فيه ما ليس مقصودا إليه، ومن ثم تجد الإمام = عبد القاهر = يقول:
= ومما يجب إحكامه الفرق بين قولنا: حروف منظومة وكلم منظومة
وذلك أنّ = نظم الحروف = هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضى عن معنى، ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه، فلو أن واضع اللغة كان قد قال = ربض = مكان: = ضرب = لما كان في ذلك ما يؤدي إلى الفساد.(1/139)
وأما = نظم الكلم = فليس الأمر فيه كذلك لأنّك تقتفي في نظمها آثار المعانى في النفس
فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو = النظم = الذي معناه ضم الشيء كيف جاء واتفق = (1)
و= التناسب = لا يحتاج قائله إلى أن يحتاط كذلك إلا إذا وضع الكلمة في غير موضعها، ولم يلحظ جرثومة مدلولها الاشتقاقي المؤدّنة بأنّه علاقة جوّانيّة تجرى في الأشياء مجرى الروح من الجسد، ذات آثار برّانيّة مصاحبة لها، خاضعة لسلطانها
فما بين آيات القرآن الكريم، وجمله البيانية ومعاقده وسوره علاقات معنوية، ذات نسب عريق فيما بينها، كأنّه في ظهوره وإدراكه علاقات أبناء آدم ببعضهم: = كلكم لآدم = كما هدت الكلمة النبوية المطهرة، وإن كان ذلك النسب في اعتلاقه وآثاره أعظم وأجل مما بين أبناء آدم
و= البقاعي = يجعل التناسب القرآني علما من علوم القرآن الكريم، يكشف لنا عن مفهومه بقوله:
= علم تعرف منه علل ترتيب أجزاء القرآن، وهو سرّ البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال لما اقتضاه الحال = (2)
وهو إذ يستخدم مصطلح = العلم = ينطلق من مفهومه في المصطلح العربي، الدّال على = إدراك الأصول والقواعد عن دليل، وإمكان استحضارها متى أريد =
ومن خلال هذا يقف الدارس موقف فقه وعرفان بالعلل المقتضية الإتيان بكل كلمة وما هو أكثر منها في الموطن الملائم، وعلى الهيئة المناسبة وأنت تلحظ أن = البقاعي = قد عرف هذا العلم بأثره لا بحقيقته، وكنهه، فقال: علم تعرف منه
وهو بهذا يكشف لنا عن أثر هذا العلم فيمن أحاط به أو أدركه، فبإدراك أصوله نقف على ما كان مقتضيا أن توضع أجزاء القرآن الكريم:
الكلمة وما فوقها في رتبتها التى وضعت فيها
وهذا يحقق أيضا: = الاطلاع على الرتبة التى يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه وما أمامه من الارتباط والتعلّق الذي هو كلحمة النسب = (3)
__________
(1) دلائل الإعجاز لعبد القاهر: ص: 49ت: شاكر ط: المدنى نشر الخانجي
(2) نظم الدرر: 1/ 6، ومصاعد النظر: 1/ 124
(3) نظم الدرر: 1/ 5(1/140)
الاطلاع على الرتبة فوق الاطلاع على النظم: في = الترتيب = ملاحظة رتب الأشياء وأقدارها، فلا يوضع شيء إلا في المرتبة التى يستحقها، أما النظم، فهو في أصله ضم الأشياء بعضها إلى بعض من غير تقييد بملاحظة رتب هذه الأشياء ومنازلها
يزيدك بصرا بهذا النظر في قول = عبد القاهر =:
= ووجدت المعول علي أن هاهنا
(نظما وترتيبا / وتأليفا وتركيبا)
و (صياغة وتصويرا / ونسجا وتحبيرا) (1)
فهذه ثمان نسقها الإمام في هذا الموضع نسقا عجيبا دالا على تصاعدها، فمبدأ مراحل = البناء = = النظم، ومنتهاها = التركيب = ومبدأ مراحل الهيئة (التصوير): = الصياغة = ومنتهاها = التحبير =
وليس المقام لبسط القول في مقالة = عبد القاهر = لكنّى أردت الإشارة إلى ان الترتيب مرحلة أعلى من مرحلة = النظم =، في بناء المعاني، والنظم أساسها جميعا، ولعلّ ذلك ما جعل = عبد القاهر = يطلقه = على سائر منازل العلاقات بين الكلم، فما من مرحلة إلا والنظم قائم فيها،
وإذا ما كانت عبارة = البقاعي = هنا دالة على أنّه يرى أن علم التناسب مقصور على بيان الرتبة بين أجزاء الكلام، والرتبة واحدة من أحوال الكلام، فيوحي بتقصير في موقفه، فإن الأمر يزداد تحريرا بقوله عن صنيعه في بيان التناسب بين الجمل والآيات:
إنه = يمهد لكل جملة مهادا يدلّ الحال الذي اقتضى حلولها، وأوجب ترتيبها على ما قبلها من شكلها أو ممّا أوجب تأكيدها أو إعراءها وتقييدها، ونحو ذلك من أفانين الكلام وأساليب النظام = (2)
ويبين أن علم التناسب يتناول كل أحوال البيان التركيبية والترتيبية، وأنّه «به يتبين لك أسرار القصص المكررات، وأن كل سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى ادعى في تلك السورة استدلّ عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سيقت له السورة السابقة
ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع انها لا يخالف شيء من ذلك أصل المعنى الذي تكونت به القصة = (3)
__________
(1) دلائل الإعجاز لعبد القاهر: ص 34
(2) مصاعد النظر للبقاعي: ج 1ص 102
(3) نظم الدرر: 1/ 14(1/141)
علم التناسب عنده إذن يتناول بيان مقتضيات أحوال تركيب وترتيب أجزاء الكلام وعناصره على اختلاف مقاديرها
ولعلّه حين اقتصر على جانب الترتيب في تعريفه = علم التناسب = نظر إلى قوله من بعد ذلك: = هو سر البلاغة لأدائه إلى مطابقة المقال لما اقتضاه من الحال =
ذلك أن المعهود في تحقيق المطابقة النظر في تركيب الجمل أكثر من النظر في الترتيب بين الفقر والمعاقد (الفصول)
لعلّه أراد بما صنع أن يلفت البصائر إلى منزلة = الترتيب = بين الفقر والمعاقد في = علم التناسب القرآني = وأنه لا يقل منزلة في الإعجاز البيانى للقرآن الكريم عن التركيب في مجال الجملة.
ولعله أيضا يشير بالاقتصار على التّصريح بالتّضرتيب في التعريف إلى المستوى الأعلى، ذلك أنّ = التناسب = الذي هو سرّ الإعجاز القرآنى يعتمد على نوعين من النظم عنده للثانى منهما ما ليس للأول
* * *مستويات التناسب
التناسب القرآني عنده قائم من ضربين من النظم، أحدهما أعلى من الآخر:
الأول: النظم التركيبي:
هو عنده: = نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب (1)
هذا النظم يتناول كلّ مظهر بلاغيّ في إطار الجملة القرآنية سواء ما تعلق بركنيها أو بالمتعلقات، وإن تكاثرت، وسواء كانت الجملة صغرى أو كبرى ممتدة تشتمل على مجموع جمل وآيات، بل قد تكون السورة القرآنية جملة واحدة
ومن تلك المظاهر الترتيب بين مواقع عناصر الجملة الواحدة، فهو عنده لا يعدّ ترتيبا بل هو داخل في النظم التركيبي، فالترتيب عند لا يكون في بناء الجملة وإن امتدت
المفردات عنده لا ترتب بل تركّب، ليكون منها جملة واحدة ترتب على أخرى، فكل ما يتناول نظم الجملة وإن امتدت هو عنده تركيب
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 11(1/142)
أنت إذ تنظر في آية الكرسي: سيدة آي القرآن الكريم ترى أنّ نظمها نظم تركيبيّ لا ترتيبي، وذلك أنّها تكاد تكون جملة بيانيّة واحدة، وإن تركبت من عشر جمل نحويّة متتابعة على النحو التالي:
{اللََّهُ} {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ}
{لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلََّا بِإِذْنِهِ} {يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ} {وَلََا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلََّا بِمََا شََاءَ} {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} {وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا} {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة: 255)
فاسم الجلالة عنده مبتدأ خبره محذوف مستفاد من السؤال المنسول من الآيات السابقة، وقد قدّره: = لمن الملك اليوم =؟، فيأتي الجواب (الله)
وتأتي الجمل من بعد بيانا وتفصيلا، فالعلائق بينها علائق تركيبية، وليست علائق ترتيبية بين جمل بيانية.
وأكثر ما يتناوله = علم المعاني = في أحوال المسند إليه والمسند ومتعلقاته، وما يتناوله = علم البيان = و = علم البديع = أكثر هذا هو من النظم التركيبي عند = البقاعيّ =
منزلة النظم التركيبي:
هو عنده نظم = قريب التناول، سهل التذوق، فإنّ كلّ من سمع القرآن من ذكي وغبي [كذا!!] يهتز لمعانيه، وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط، ورهبة مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره، وكلما دقق النظر في المعنى عظم عنده موقع الإعجاز =
فكثير من الناس في صحبة استحضار قواعد علم بلاغة العربية التى عنى البلاغيون بها تحريرا وتطبيقا يستشعر في نفسه القدرة على أن يقول في النظم التركيبي في بناء الجملة، فيظنّ أنّه قد أبحر في قاموس الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وهو بعد لمّا يغمس أخمص قدمه في شاطئ القاموس المحيط المتلاطم موجه.
يمكن القول بأن ترك = البقاعي = التصريح بهذا النظم التركيبي في تعريف = علم التناسب = على أهميته عنده إنّما هو ضرب من الإشارة إلى قيمة هذا النظم بالنظر إلى قيمة النظم الترتيبي عنده، وهذا ضرب من منهجه في التقويم والتعبير عنه.
* * *
الآخر: النظم الترتيبي(1/143)
* * *
الآخر: النظم الترتيبي
هو عنده: = نظم كل جملة مع أختها بالنظر إلى الترتيب =
هو نظم لا يتناول من خصائص البيان إلا علاقات الجمل بعضها ببعض، ومن ذلك ما يسمّيه البلاغيون = الفصل والوصل =، وعلاقات المعاقد والسور بعضها ببعض، وهي علاقات تنظر إلى منازل الجمل والمعاقد والسور بعضها من بعض، فيتحقق من علاقات المنازل تصاعد البيان المحتضن تصاعد المعانى
وهذا النظم هو الدعامة الرئيسة للتناسب عند = البقاعي =، ومهمّته بناء نتاج النظم التركيبي في بناء متكامل متآخ متناغ بحيث يكون كلّ عنصر من عناصر هذا البناء المتكامل آخذا بحجز بعضه.
والأخذ بالحجز ليس من بابة الربط الجزئي بين عناصر البيان بل هو من بابة الاعتلاق الجوهري بين الجمل والمعاقد والسور في القرآن الكريم كلّه
* * * هو ذاهب إلى أنّ القرآن الكريم في جميع مكوناته البيانية معجز:
هو معجز في اصطفاء مفرداته، وفي بناء جمله، وفي بناء آياته، ومعاقده وسوره، لا فرق في ذلك بين شيء وآخر، وفي جميع مكنوناته المعنويّة: هو معجز معنى ومبنى، يقول:
= أمّا من جهة المفردات، فلكونها النهاية في جلالة الألفاظ ورشاقة الحروف وجمع المعانى، فيفيد ذلك أنّه لا تقوم كلمة أخرى مقام كلمة منه أصلا
وأمّا من جهة التركيب، فلكون كلّ كلمة منها أحقّ في موضعها بحيث إنّه لو قدم شيء منها أو أخر لاختل المعنى المراد في ذلك السياق بحسب ذلك المقام
وأمّا من جهة الترتيب في الجمل والآيات والقصص في المبادئ والغايات، فلكون مثل تركيب الكلمات: كلّ جملة منتظمة بما قبلها انتظام الدّرّ اليتيم في العقد المحكم النظيم لأنها إمّا أن تكون علّة لما تلته، أو دليلا، أو متمّمة بوجه من الوجوه الفائقة على وجه ممتنع
الجناب، جليل الحجاب لتكون أحلى في فمه، وأجلى بعد ذوقه في نظمه وسائر علمه = (1)(1/144)
وأمّا من جهة الترتيب في الجمل والآيات والقصص في المبادئ والغايات، فلكون مثل تركيب الكلمات: كلّ جملة منتظمة بما قبلها انتظام الدّرّ اليتيم في العقد المحكم النظيم لأنها إمّا أن تكون علّة لما تلته، أو دليلا، أو متمّمة بوجه من الوجوه الفائقة على وجه ممتنع
الجناب، جليل الحجاب لتكون أحلى في فمه، وأجلى بعد ذوقه في نظمه وسائر علمه = (1)
هو إذن لا يقف به مذهبه عند بناء الجملة من كلمات، ولا بناء آية من جمل، وإن بلغت الآية من البسط مبلغا، بل يتجاوز به بناء المعقد من الآيات، وبناء السورة من المعاقد، وبناء القرآن الكريم كلّه من السّور
أصغر وحدة من النظم الترتيبي الذي هو روح البيان عنده إنما هي الجملة الكاملة، وأكبر وحدة هي السورة القرآنية.
الوحدات في النّظم التركيبيّ المنتج الجملة تستحيل في علاقتها ببعضها، كوحدات بناء الكلمة التى هي الحروف والحركات في بناء بعضها ببعض.
ومن البين أنّ أيّ تغيير يطرأ على أيّ وحدة (حرف أو حركة) في بناء الكلمة إنما يؤثر في دلالة الكلمة، وقدرتها الدّلاليّة تأثيرا بيّنا عند قوم، وخفيّا عند آخرين، إى أنّه تأثير قائم يختلف ظهورا وخفاء اختلافا نسبيّا لأمور ترجع إلى ملكات المتلقين.
وكذلك الأمر في بناء الجملة: أيّ تغيير يطرأ على أيّ وحدة منها (الكلمة) إنما يؤثّر في دلالة الجملة، وقدرتها الدلالية، تأثيرا جليا أو خفيا، وفق قدرات المتلقين.
والأمر كمثله في الوحدات المكونة بناء الآية، والمعقد والسورة، فإن ما يؤثر في الصغير، يؤثر في ما كان أكبر منه
وفي كل وحدة تشكلت من وحدات أصغر روح يهيمن عليها، هذا الروح ينبثق من علائق المكونات ببعضها، وفي امتلاك المتلقى الوعى بهذا الروح المهيمن ما يعينه على إتقان الفهم وإحسان التدبر
من هنا يذهب = البقاعي = إلى أنّ في كلّ سورة روحا مهيمنا على بيانها، يسمى هذا الروح: (المقصود الأعظم)
يقول: = إنّ كلّ سورة لها مقصد واحد يدار عليه أولها وآخرها، ويستدلّ عليه فيها = (2)
وهذا المقصود الكلى الأعظم تفيد معرفته معرفة المقصود من جميع أجزاء السورة (3) فالعلم ب = التناسب القرآنيّ = عنده = تتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها (4)
__________
(1) نظم الدرر: ج 19/ 233
(2) مصاعد النظر: ج 1ص 149
(3) نظم الدرر: ج 1ص 142
(4) مصاعد النظر: ج 1ص 142
= ولأجل اختلاف مقاصد السور تتغير نظوم القصص وألفاظها بحسب الأسلوب المفيد للدلالة على ذلك المقصد (1)(1/145)
= ولأجل اختلاف مقاصد السور تتغير نظوم القصص وألفاظها بحسب الأسلوب المفيد للدلالة على ذلك المقصد (1)
ويقول أيضا: = وبه يتبين لك أسرار القصص المكررات، وأنّ كلّ سورة أعيدت فيها قصة، فلمعنى ادعي في تلك السورة استدلّ عليه بتلك القصّة غير المعنى الذي سيقت له في السورة السابقة، ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنها لا يخالف شيء من ذلك أصل المعنى الذي تكونت به القصّة = (2)
ويقول: = ومن حقّق المقصود منها عرف تناسب آيها وقصصها وجميع أجزائها = (3)
بسطت لك النقل عنه، لأهميته أولا، ولتقف على حقيقة مذهبه وعموده بلغته هو، وسوف يكون لنا وقفة تحليل وتقويم لبعض من ذلك
المهم أنّ تحرير هذا المقصود الأعظم الكلي لا يتأتى خبط عشواء، ولا يمتلكه المرء من قراءات عجلى للسورة القرآنية، بل هو لا يملك معالمه الكبرى إلّا من بعد معايشة للسورة، وسعي بليغ إلى أن يقيم فيها بعقله وقلبه وروحه حتى تستحيل إلى جزء من وجوده الدّاخلىّ أو إلى أن تقوم هي فيه.
يظلّ المتدبر يتنقل بين تأمل الجزء وتأمل الكلّ، فيعيش في حركة دائرية ترددية، وهو يحاول تأويل السورة وتدبرها
وقد كان = البقاعي = يدور في تدبره تحليل الكلمات والجمل والآيات والمعاقد في ضوء المعالم الكبرى للمقصود العظم للسورة، حتى ينتهى إلى تحرير المعالم الدقيقة لذلك المقصود، فيعود إلى تدبر الجمل والآيات والمعاقد تدبرا أعمق من سابقه في ضوء هذا التحرير الدقيق للمعالم الدقيقة للمقصود
نرى = البقاعي = مثلا يقوم بتعديل منهجه وخطته في التدبر عند ما يتقدم فيه، وعند ما يصل إلى سورة = سبأ = يرجع إلى ما سبق أن صنعه من أول سورة = الفاتحة = وحتى سورة = سبأ = فيعيد النظر فيه، وهكذا يقين نفسه في حركة دائرية ترددية بين المقصود الكلى والعناصر في
__________
(1) السابق: ج 1ص 152
(2) نظم الدرر: ج 1ص 14
(3) السابق: ج 1ص 149(1/146)
إطار السورة القرآنية، ثمّ في القرآن الكريم كلّه، لرحابة ميدان التناسب.
وإذا ما كان عمودا = التناسب = عنده هما = النظم التركيبي = و = النظم الترتيبي = وكان كلّ منهما يعتمد على الآخر كما تراه في قوله:
= المقصود بالترتيب معان جليلة الوصف، بديعة الرصف، عليّة الأمر، عظيمة القدر، مباعدة لمعانى الكلام على أنها منها أخذت = إذا ما كان ذلك فإن = البقاعي = ليذهب إلى أنّ = النظم الترتيبي = يحتاج متدبره إلى أن يكون ذا فراسة بيانية في تدبره، لأنّه في غاية الخفاء
فإذا ما أراد المتدبّر العبور من = النظم التركيبي = إلى تأمل ربط الجمل أو الآيات بما جاء من بعد خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد، فظنّ أنّها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما حصل له بالسماع من الهزّ والبسط، فربما شككه ذلك وزلزل إيمانه، وزحزح إيقانه، وربما وقف ذلك بكثير من المخالفين عن الدخول في هذا الدين = (1)
لنتجاوز شيئا ما عن مبالغة = البقاعي = في أثر الجهالة ببعض منازل = النظم الترتيبي = لننتهى إلى أنّ = النظم الترتيبي = الذي هو الممثل لروح الكلام عنده يأتيه سمو أثره وصعوبة تأمله وإدراكه من خفائه وشموله وهيمنته على كل عنصر بحيث يحتاج المتدبر إلى رحابة أفق، وعمق فهم، وبصيرة وقدرة على الاختزان الأمين لدقائق البيان، والتتبع الدقيق لكلّ حركة جزئية، فيرصدها ببصيرة نافذة ليحظى بالروح الممسك بكلّ صغيرة وكبيرة وشاردة بعد أن ألقت إليه قيادها، وذلك أمر صعب مراسه، ومن ثمّ كان مثيرا للذّة والمتعة فينا.
* * * * * وهو يتخذ منهاجا في تدبره تناسب البيان القرآني المعجز، هذا المنهاج ذو معالم كليّة أرى حاجة إلى بيان بعضها، ولن يكون بياني بعض هذه المعالم بالموفي حق الكشف والبيان عن كثير مما يقوم في تفسير البقاعي.
* * * إذا ما كان الذي مضي بيانا لمفهوم التناسب عن البقاعي ومستوياته ومجالاته التي يتحقق فيها فإنّ البقاعيّ يتخذ هذا أساسا لمنهاج تأويل
__________
(1) نظم الدرر: ج 1ص 11(1/147)
بلاغة البيان القرآنيّ المعجز، تراه قائما في كلّ مرحلة من مراحل تأويله البيان القرآنيّ المعجز بمكنوناته ومكوناته: معنى ومبنى
وهذا المنهاج ذو سمات ومعالم عديدة آثرت أن أوجز القول في أهمها، وأن أشفع كل معلم منها بشيء من تأويله ليتبين لنا منه ما لم يسطع بياني أن يبين عنه، وهذه المعالم ضربان:
الضرب الأول:
معالم منهاجه في تأويل تناسب ترتيب سور القرآن كما هي في نسق التلاوة، وكما عليه الأمة قائما بين دفتي المصحف، فكلّ سورة إنّما هي نازلة منزلها الحكيم الذي لا يكون لها غيره لما اقتضاه مقصودها الأعظم وما تناسل منه من معانى الهدى الكلية والجزئية، فتحقق للسور تصاعدها في ترتيبها وتناسل مقاصدها ومعانيها.
وهذا الضرب تراه في المعالم الأربعة الأولى وقد جعلتها الفصل الأول من هذا الباب.
وعناية كثير من المفسرين بهذا الضرب قليلة بالنسبة إلى منزلها في الإعجاز البياني للقرآن الكريم، ومنزلها من الفقه والفهم
وعناية البقاعي بهذا الضرب عناية متميزة عن عناية أقرانه وأشياخه مما يجعل لتفسيره (نظم الدرر) مكانا يمكنك أن توقن أن غيره لا يزاحمه فيه.
ومنهاجه في تدبر هذا الضرب متميّز عن منهاج سابقيه ولاحقيه ممن تكلموا في مناسبات السور، وسوف تكشف لك الأوراق القادمة إن شاء الله تعالى بعضا من ملامح هذا التميز في منهاج البقاعي في تأويله بلاغة القرآن الكريم في تناسب سوره.
والضرب الآخر:
معالم تأويل بناء السورة القرآنية وتصاعد معانيها الكلية والجزئية وتناسلها من مقصود كليّ أعظم
وهذا تراه في بقية المعالم التي أوجزت القول فيها، وقد جعلته الفصل الثاني من هذا الباب، وهذا الضرب هو الجامع بين نوعي النّظم عند البقاعيّ: النظم التركيبي، والنظم الترتيبي
وإذ ما كانت مسالك النظم التركيبي عديدة لا يكاد يحاط بها على نحو ما تراه في علوم البلاغة العربية فإنّ مسالك النظم الترتيبيّ أشدّ مئونة على سالكها فقها وتدبرا، وأبسط ميدانا وأبعد مدى، مما يستوجب على القائم لفقهها أن يتخذ لها الزاد، وخير الزاد التقوى وإتقان العمل.(1/148)
الفصل الأول منهاج تأويل بلاغة النّص القرآنيّ (تناسب السور)(1/149)
المعلم الأول تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم
لكلّ كتاب ذي قدر في بيان البشر غاية يساق البيان فيه إليها ومقصود أعظم يؤمّ إليه، وأحقّ الكتب بذلك ما كان بيانا من الله عزّ وجلّ إلى عباده بل فضله في هذا على كتب العباد كفضل الله تعالى على عباده، وأحقّ كتب الله سبحانه وتعالى قاطبة بهذا كتابه الكريم المنزّل على عبده ونبيه ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، فهو الكتاب الخاتم المنزّل على النبيّ الخاتم صلّى الله عليه وسلم إلى خير أمّة أخرجت للناس، وهو الكتاب الذي جعل بيانه معجزة من أنزل عليه، ولم يجعل كتاب من قبله بيانه معجزة من أنزل عليه، فكان جديرا بأن يكون كل ما فيه من الإعجاز المبلس للعالمين أجمعين.
يبيّن = البقاعيّ = في تاويله سورة = الفاتحة = وبيانه مقصودها الأعظم:
= أنّ المقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمع الخلق على الحقّ، والمقصود من جمعهم تعريفهم الملك وبما يراضيه، وهو مقصود القرآن، الذي انتظمته = الفاتحة = بالقصد الأول، ولن يكون ذلك إلا بما ذكر علما وعملا = (1)
وهو يقرر مثل هذا في مواطن عديدة من تفسيره يبين فيها المقصود الأعظم من إنزال القرآن الكريم.
والحقّ أن القرآن الكريم نفسه لم يدع لنا الاجتهاد في تحرير مقصوده الأعظم استنباطا، فنتفاوت في تحريره، بل قرّر لنا ذلك في آيات كثيرة، فإن للقرآن الكريم حديثا عن نفسه ليس كمثله حديث أحد من العالمين، فمن أراد أن يعلم حقيقة القرآن الكريم ورسالته ومنزلته وفضله، فليس عليه إلا أن يستجمع في سمعه وبصره وقلبه الآيات التي تتحدث عن القرآن الكريم، وينسقها مستحضرا سياقاتها التي تقوم فيها في سورها، فإنّ في هذا من الكشف ما فيه، فخير الحديث عن القرآن الكريم هو حديث القرآن المجيد نفسه، ثمّ من بعده حديث النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، وجميل أن يعمد عامد إلى جمع
__________
(1) نظم الدرر: ج 1ص 22(1/151)
الحديثين: حديث القرآن الكريم والسنة عن القرآن العظيم في وعاء بحث تحليليّ تأويليّ.
ومن رحيمية الله جلّ جلاله أو رحمانيته أنّه إذا ما كان مستفتحا سورة (أم الكتاب: الفاتحة) بالحديث عن نفسه معلنا استحقاقه الحمد، ومعلما عباده كيف يحمدوه، مبرزا لهم خمسة أسماء من أسمائه الحسنى: اسم الذات وأربع صفات من صفات كماله العليّة: الله ربّ العالمين، الرحمن، الرحيم، مالك يوم الدين، فإنّه جلّ جلاله يستفتح أول تفصيله أم الكتاب بسورة البقرة مستهلا بيانه بالحديث عن القرآن الكريم:
{ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 21)
وإذا ما كان جلّ جلاله قد نسق اسمه وصفاته الحسنى نسقا دالا على عظيم ارتباطها واعتلاقها، فاستغنت عن ناسق لسانيّ (حرف عطف) فجاءت متتابعة غير معطوفة {(لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)}
فإنه سبحانه وتعالى أيضا نسق حديثه عن القرآن العظيم نسقا تتابع فيه النعوت على نحو لا محلّ فيه لعاطف، فهي نعوت يتناسل ثانيها من أولها، وثالثها من ثانيها
الحق عزّ وجلّ قد أعلن في مفتتح تفصيل البيان المجمل في سورة الفاتحة أن القرآن الكريم هو الكتاب البعيد المنزلة العليّ القدر الذي لا قبل لأحد أن يستشرف إلى اللحوق به، وهو القائم الشاهد الذي لا يغيب بما أشار إليه اصطفاء اسم الإشارة للبعيد (ذلك) وكأنّ في هذا إشارة إلى الصراط المستقيم المطلوب الهداية إليه في سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقال ذلك الصراط المستقيم الذي تطلبون الهداية إليه هو (الكتاب) وبما أشار إليه التعريف باللام (الكتاب) واصطفاء كلمة (كتاب) الدالة على الجمع من جهة وعلى القضاء والحتم والتوثيق من أخرى، فهو البيان الجامع الموثّق المحتوم الذي لا يتأتى لأحد من العباد أن ينقض بما أبرمه، فهذه معان مكنونة في اصطفاء كلمة (كتاب) دون ذكر أو قرآن، في هذا السياق، فلم يقل ذلك الذكر أو ذلك القرآن.
وأعلن أنّ ذلك الكتاب البعيد الشأن العليّ القدر هو أيضا بعيد كلّ البعد عن أن يكون محلا للريب أو أن يكون أهلا لأن يرتاب فيه مرتاب يقوم ارتيابه من شيء في ما يرتاب فيه أمّا أولئك الذين يرتابون فيما ليس فيه ما يغرى بريب، بل يسقطون ما اعتمل في صدورهم من الريب على ما هو العليّ المنزه عن مثل ذلك فإنه لا اعتداد بمثلهم(1/152)
وكأنّ في هذا هداية وتعليما للأمّة ألا تعتد بكل ما تتقاذفه الألسنة من أقوال بل عليها أن تتحقق وأن تتثبت، وهذا الذي أفاده قوله (لا ريب) فيه إلاحة وإيماء جاء البيان عنه إفصاحا في قول الله سبحانه وتعالى:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جََاءَكُمْ فََاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهََالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ََ مََا فَعَلْتُمْ نََادِمِينَ} (الحجرات: 6)
فقوله (لا ريب فيه) ليس نفيا للريب ولكنه نفي لما يمكن أن يحسب حاسب ما أنّه مما يرتاب ذو ريب فيه، وهذا من الإبلاغ في النفي، وفي هذا بشرى لكلّ من أراد أن يقف من القرآن الكريم موقفا موضوعيا علميّا في طور بحثه عن الحقّ أنه ما عليه إلا أن يلتزم بالأصول العلمية المقررة في البحث عن الحقّ والبحث فيه، فلينظر ماذا يرى؟ وما الذي ينتهى إليه؟
لن ينتهي إلا إلى حقيقة الحقائق: أن هذا المنزّل على عبد الله ورسوله محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ليس إلا الكتاب العلىّ القدر الذي ليس كمثله كتاب وأنه المنزه عن أن يكون فيه ما يصحّ أن يكون محلا للريب
وفي هذا أيضا تعليم للأمّة أن لا تخشي من أن يسعى ساع إلى ما يطلقون عليه في الثقافات الإنسانية الدراسات النقدية القائمة على منهاج الشك في كل الموروثات والمسلمات السلفية، فإن مثل تلك الدراسات إذا ما التزمت بالموضوعية العلمية والتزمت بأصول النظر وبالتحقيق العلمي، فلن ينتهي الأمر إلا إلى الإذعان والإعلان بأنّ القرآن الكريم إنّما هو الكتاب الكامل الذي لا يقوله إلا رب العالمين سبحانه وتعالى، كلّ ما هنا لك أن يلتزم الساعون إلى تلك الدراسات بأن يكونوا متخلقين بأخلاق العلماء الموضوعين
وأعلن الحقّ عزّ وجلّ من بعد هذا أنّ ذلك الكتاب العليّ المنزّه عن أن يكون محلا لريب مرتاب يعتدّ أحد بريبه إنّما هو كتاب نازل لأن يكون هدى للمتقين كلّ ما مني به غيرهم المذكورون في رأس المعنى من سورة الفاتحة: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} والضالون
منهاج هذين الفريقين في البحث عن {الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو المنهاج الجدير بالاتقاء، والإعراض عنه والفرار منه، فمن أخذ نفسه بأن لا يسلك سبيلهم في البحث عنه، فإنّه بهذه التقوى واجد في القرآن الكريم هدايته إلى ما يسعى إليه ويبحث عنه(1/153)
بهذا يبين لنا الحقّ جلّ جلاله أن القرآن الكريم مقصوده الأعظم دلالة العباد على الصراط المستقيم إلى معرفة ربهم وخالقهم وما يرضاه منهم، فيأخذوا به، وما لا يرضاه منهم، فيجتنبوا
المهم أنّ في تبيان هذا المقصود وتحقيقه وتحريره وتعيينه معيارا لكلّ من سعى إلى تأويل كلمة أو جملة أو آية أو معقد أو سورة من القرآن الكريم: أن يكون في تأويله هذا ما يتجلى فيه منهاج القرآن الكريم في الهداية إلى الصراط المستقيم، وكلّ تأويل لا يتحقق به ذاك فليس من الاجتهاد في استنباط المعنى القرآنيّ الكريم استنباطا علميّا محررا من شوائب الغفلة والزيف والضلالة والتدليس
وإذا ما كان للقرآن المجيد مقصود أعظم تتناسل المعاني منه فإنّ الله عزّ وجلّ من فيض رحيميته قد جعل القرآن العظيم سورا تتفاوت في عدد آياتها وطولها، وجعل كلّ سورة من آيات وجعل الآيات جملا، فهو جلّ جلاله أحكمه ثمّ فصّله، وذلك وجه من وجوه المعنى القرآني في قوله سبحانه وتعالى في مستفتح تلاوة سورة = هود =:
{الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1)
ومن ثمّ فإنّا نرى البيان القرآنيّ قد فصّل إلى سور، والسور إلى معاقد (فصول) والمعاقد إلى آيات والآيات غالبا إلى جمل.
والعلائق فيما بين هذه علائق تناسب وتناسل بكلّ ما تحمله هاتان الكلمتان: تناسب وتناسل من دقيق المعنى وجليله
الجنس البشري في عالم الخلق مكونا من قبائل وشعوب، وكانت القبيلة مكونة من بطون والبطون من أسر والأسر من أفراد وكان الفرد مكونا من أعضاء متلاحمة، وهذا ما أراد الله سبحانه وتعالى بالجنس البشري قدرا أن يكونوا عليه في تناسبهم وتناسلهم، وإن كان كثير منهم في حركة سلوكهم على غير ما أراد الله تعالى منهم تكليفا، فنظرنا إلى ما أراد الله سبحانه وتعالى بهم: (قدره) إذ هم جميعا عبيده لا ما أراد منهم (تكليفه) إذ قليل منهم عباده: كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، إذا ما كان هذا فهل لنا أن نقول تقريبا لا تصويرا:
إن السورة في البيان القرآني كالقبلية، وكلّ سورة مكونة من معاقد هي كالبطون للقبيلة، وكل معقد مكون من آيات هو كالأسر للبطن، وكلّ آية من جمل هي كالأفراد للأسرة، وكل جملة من كلمات هي كالأعضاء بالنسبة للفرد في بناء جسده:
منزل الكلمة من الجملة منزل العضو من الفرد
ومنزل الجملة من الآية منزل الفرد من الأسرة(1/154)
ومنزل الآية من المعقد منزل الأسرة من البطن
ومنزل المعقد من السورة منزل البطن من القبيلة
ومنزل السورة من القرآن منزل القبيلة من الجنس البشري
هذا من عالم الخلق، والقرآن الكريم من عالم الأمر
{أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبََارَكَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ} (لأعراف: من الآية 54)
للجنس البشري أب يتناسل منه وينتسب إليه وللبيان القرآني الكريم مقصود أعظم تتناسل منه المعاني القرآنية وتنتسب إليه.
إن هو إلا تقريب لا تصوير، إذ كيف يصور ما هو من عالم الأمر بما من عالم الخلق؟
المقصود الأعظم للقرآن العظيم هو الذي على أساسه القويم كانت
سنة اختيار الكلمة في نظم الجملة
وسنة نظم الجملة من الكلمات المختارة
وسنة نظم الآية من هذه الجملة
وسنة نظم المعقد من هذه الآيات
وسنة نظم السورة من هذه المعاقد
ثم سنة نظم السور وترتيبها
ومن ثمّ كانت عناية البقاعي بتدبر بلاغة تناسب البيان القرآني الكريم من وجوه عدة أعمّها بلاغة ترتيب السور وتناسب موقعها وهو أمر عظيم يقوم عليه منهاج التدبّر والتّأويل في تفسير البقاعي لا يتخلى عنه في موضع من مواضعه.
وسوف نشير إلى معالم أخرى منسولة من هذا المعلم الكليّ وكلها رامية إلى تقرير حقيقة تناسب القرآن الكريم في ترتيب بناء جمله وآياته ومعاقده وسوره.
و= البقاعيّ = يقرر في نهاية مقدمة تفسيره = أنّه لا وقف تام في كتاب الله، ولا على آخر سورة {(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ)} بل هي متصلة مع كونها آخر القرآن بالفاتحة التي هي أوله كاتصالها بما قبلها بل أشدّ = (1)
ويقرر عند تأويل قول الله جلّ جلاله:
{وَقََالُوا قُلُوبُنََا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللََّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مََا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 88) تبعا ل = الحرالّيّ = انّه: = انتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجنّ والإنس الذي انختم به القرآن من قوله: {= مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ =}
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 15(1/155)
(الناس: 6) ليتصل طرفاه، فيكون ختما لا أول له ولا آخر، والفاتحة محيطة به.
لا يقال: هي أوله ولا آخره، ولذلك حتم بعض القراء بوصله حتّى لا يتبيّن له طرف، كما قالت العربية لمّا سئلت عن بنيها: = هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها (1)
وهذا الذي يتخذه أساسا لتأويله يقضي بأنّ كل وجه من وجوه التأويل للبيان القرآنيّ المجيد لا يكون فيه تحقيق للمقصود الأعظم للقرآن المجيد، ولا يتناسب معه لا يكون ذلك الوجه من الصواب في شيء.
وهذا معيار موضوعيّ من ذات البيان المؤول يكون مثابة ومرجعا لما قد يشتجر في تأويله القول بين طوائف العلماء.
__________
(1) سابق: 2/ 34(1/156)
المعلم الثاني بيان تصاعد مقاصد السور ومعانيها
إذا ما كان البقاعيّ ذاهبا إلى أنّ للبيان القرآني المجيد مقصودا أعظم، فإنّه لذو عناية ببيان علائق مقاصد السور ببعضها وتصاعد معانيها منسولة من ذلك المقصود الأعظم للقرآن العظيم فكان معنيّا ببيان ترتب مقصود السورة على مقصود التى قبلها، مما يعنى أن الترابط القائم بين سور القرآن الكريم ليس ترابطا منحصرا في تناسب أوّل السّورة مع خاتمة ما قبلها، بل الأمر أكبر من ذلك.
في تبيانه مقصود سورة = البقرة = يركز على المعنى الذي هو أساس المعاني المنسولة من معنى الفاتحة الذي هو إجمال معنى القرآن العظيم فهو لها كالحجر الأساس في البناء:
معنى الإيمان بالغيب، يقول:
= مقصودها إقامة الدليل على أنّ الكتاب هدى ليتبع في كلّ ما قال [حال]، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة، وفمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصّة البقرة التي مدارها الإيمان بالغيب، فلذلك سمّيت بها السّورة = (1)
كلّ آيات سورة = البقرة = ناظرة إلى تقرير معنى الإيمان بالغيب في القلوب (2) ومن ثمّ كانت أول صفة للمتقين فيها هي صفة الإيمان بالغيب {(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)} فهذا الإيمان بالغيب هو أساس كلّ عمل صالح مصلح، فإنّه لا معنى البتة لأيّ عمل صالح أو إيمان بدين إذا لم يكن ذلك مؤسسا على تقرر معنى الإيمان بالغيب
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 55
(2) وتتفاوت آياتها في وجه الدلالة على هذا المعنى إفصاحا وإفهاما وتصريحا وتلويحا، وهذا مجال خصب للدرس البلاغيّ بمنهاج = علم البيان =، ولو أنّ عمدنا إلى شيء من هذا أي تبيان وجوه دلالة آيات سورة البقرة على هذا المعنى لكان لنا
هذا فيضا جليلا من المعرفة بمناهج الإبانة عن المعنى الواحد بصور مختلفة في وجوه الدلالة عليه، ولذلك أزعم أنّ الاكتفاء في دراسة علم البيان في القرآن الكريم بدراسة أسلوب التشبيه والاستعارة والمجاز المرسل والكناية إنما هو تقصير بالغ(1/157)
، فليس هنالك دين من الأديان لا يقوم إلا على ما ترى الأعين كلها وما تسمع الآذان كلها وما تلمس الأيدى بل إنّ أساس كل دين يدين به أحد من العباد باطلا كان ذلك الدين أو كان حقا نازلا به الوحي الإلهي من السماء إنّما هو الإيمان بالغيب لأنّ أساس الدين الإيمان بوجود ووحدانية الإله المعبود.
ولا يصلح الإله المعبود أن يكون مشهودا ملموسا بل لا بدّ أن يكون غيبا مطلقا تشهد الأبصار والبصائر دلائل وجوده ووحدانيته وكمال جلاله وجماله وقهره ورحمته إلخ
ومن ثمّ كان مقصود السورة الأولى من سور تفصيل أم الكتاب الفاتحة:
سورة البقرة الهداية إلى الإيمان بالغيب.
وهذا تراه جليا في تسمية السورة بالسنام، والذروة، والفسطاط، فإنّ الفسطاط جامع لما كان منه بسبب.
وإذا ما جاء = البقاعيّ = لتبيان المقصود الأعظم من سورة (آل عمران) فإنّه يبسط القول في هذا:
يبيّن لنا ما كان قد ظهر له أوّل الأمر في تاويلها، فلمّا راجع وبالغ التدبّر تبين له تحرير مقصودها على نحو آخر، وهو يبسط القول، فيبين علاقة مقصود سورة (آل عمران) بمقصود سورة (البقرة) ومقصودهما معا بمقصود سورة (الفاتحة) بل إنه ليبسط النظر أكثر، فيمدّه إلى مقصود سورة (النساء).
يقول: = المقاصد التي سيقت لها هذه السورة إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، والإخبار بأنّ رئاسة الدّنيا بالأموال والأولاد وغيرهما مما آثره الكفار على الإسلام غير مغنية عنهم شيئا في الدنيا، ولا في الآخرة، وأنّ ما أعدّ للمتقين من الجنّة والرضوان هو الذي ينبغي الإقبال عليه والمسارعة إليه.
وفي وصف المتقين بالإيمان والدعاء والصبر والصدق والقنوت والاتفاق والاستغفار ما يتعطف عليه كثير من أفانين أساليب هذه السورة.
هذا ما كان ظهر لي أولا.
وأحسن منه أن نخصّ القصد الأول وهو التوحيد بالقصد فيها، فإنّ الأمرين الأخيرين يرجعان إليه، وذلك لأنّ الوصف بالقيومية يقتضي القيام بالاستقامة، فالقيام يكون على كلّ نفس، والاستقامة العدل
وهذا الوجه أوفق للترتيب(1/158)
لأنّ الفاتحة لمّا كانت جامعة للدين إجمالا جاء ما به التفصيل محاذيا لذلك، فابتدئ بسورة الكتاب [البقرة] المحيط بأمر الدين، ثمّ بسورة التوحيد [آل عمران] الذي هو سرّ حرف = الحمد =، وأوّل حروف الفاتحة، لأنّ التوحيد هو الأمر الذي لا يقوم بناء إلّا عليه، ولمّا صحّ الطريق، وثبت الأساس جاءت التي بعدها [النساء] داعية إلى الاجتماع على ذلك.
وأيضا فلمّا ثبت بالبقرة أمر الكتاب في أنّه هدى، وقامت به دعائم الإسلام الخمس جاءت هذه [آل عمران] لإثبات الدعوة الجامعة في قوله سبحانه وتعالى {(يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)} (البقرة: 21) فأثبت الوحدانية لله عزّ وجلّ بإبطال إلهية غيره بإثبات أنّ = عيسى = عليه السّلام الذي كان يحيى الموتى عبده، فغيره بطريق الأولى، فلمّا ثبت أنّ الكلّ عبيده دعت سورة = النساء = إلى إقبالهم إليه، واجتماعهم عليه.
ومما يدلّ على أنّ القصد بها [أي آل عمران] هو التوحيد تسميتها ب = آل عمران = فإنّه لم يعرب عنه في هذه السورة ما أعرب عنه ما ساقه سبحانه وتعالى فيها من أخبارهم بما فيها من الأدلة على القدرة التامة الموجبة للتوحيد الذي ليس في درج الإيمان أعلى منه، فهو التّاج الّذي هو خاصّة الملك المحسوسة، كما أنّ التوحيد خاصته المعقولة.
والتوحيد موجب لزهرة المتحلّي به، فلذلك سمّيت الزهراء = (1)
هذه الوحدانية هي اللبنة الثانية في أساس الإيمان لأنّه إذا تقرّر أنّ الإله لا بدّ أن يكون غيبا غير منظور أو ملموس، فإنّه أيضا لا بدّ أن يكون واحدا، فكما أنه يتعاند مع معنى الألوهية أن يكون الإله مشهودا منظورا ملموسا يتعاند أيضا مع معنى الألوهية أن يكون الإله غير واحد لأنّ هذا يترتّب عليه فساد الكون والحياة فسادا يقرره منطق العقل المعافى من الضلالة.
التعالق بين سورة = البقرة = وسورة = آل عمران = تعالق عظيم لأنهما قائمان على أمر واحد هو تقرر ما هو جوهر في معنى الألوهية وما يجب أن يكون أساسا عظيما من أسس صفات الإله المعبود بحق:
أن يكون غيبا لا تدركه الأبصار وأن يكون واحدا ليس كمثله شيء، وهذا كأنّه من عطف الخاص على العام.
وهذا التعالق تراه باديا في ما جاءت به السّنّة النبوية الشريفة في فضل هاتين السورتين.
__________
(1) نظم الدرر: 4/ 197195(1/159)
روى = مسلم = في صحيحه من كتاب: صلاة المسافرين: باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة بسنده عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا يقول:
= اقرءوا القرآن، فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه.
اقرءوا الزّهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنّهما تأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان أو كأنّهما غيايتان أو كأنّهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن صاحبهما.
اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة = (حديث رقم: 252/ 804)
فهذا دالّ دلالة جليلة على ما بين هاتين السورتين من التناسب والتآخي، والتناسل والتناغي.
والبقاعي كما سمعته لم يكتف ببيان تعالق مقصود سورة (آل عمران) بمقصود سورة (البقرة) بل إنّه ليمد النظر إلى علاقة مقصود سورة (النساء) بما قبلها
في مفتتح تأويله سورة = النساء = يبيّن لنا ما به يتقرر العلم ويتأكّد أنّ مقصودها مبنيّ على مقصود = آل عمران = المبنيّ على مقصود سورة = البقرة = قائلا:
= مقصودها: الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه = آل عمران =، والكتاب الذي حدت عليه = البقرة = لأجل الدين الذي جمعته = الفاتحة = تحذيرا مما أراده = شاس بن قيس =، وأنظاره من الفرقة = (1)
وأنت إذ تنظر في الأحكام والآداب التى قامت بها سورة = النساء = ترى أنها أحكام وآداب تحقق للمجتمع الآخذ بها اجتماعه على أساس الدين:
= التوحيد =.
هذا الأساس إذا ما أقيمت عليه علائق أي مجتمع بحيث تكون حركته مرتبطة باليقين بأنّه ليس لهذا الكون إلا إله واحد وخالق واحد ومالك واحد ومنعم واحد ومانع واحد فإنّك لن ترى في هذا المجتمع ما تراه في غيره من المجتمعات التى لا تؤسّس دينها على التوحيد الخالص.
ويأتي تأويل = البقاعي = وتبيانه المقصود الأعظم لسورة = المائدة = فلا يخرج عن ذلك المنهاج، فيقول:
= مقصودها الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودلّ عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكرا لنعمه واستدفاعا لنقمه = (2)
__________
(1) نظم الدرر: 5/ 169
(2) السابق: ج 6ص: 1(1/160)
ويقول في سورة = الأنعام =:
= مقصودها: الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد بأنّه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة على البعث وغيره =
ويقول أيضا من بعد تأويله مطلع السورة:
= فقد لاح أنّ مقصد السورة الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب الذي تبين أنه الهدى من توحيد الله سبحانه وتعالى، والاجتماع عليه والوفاء بعهوده بأنه سبحانه وتعالى وحده الخالق الحائز لجميع الكمالات من القدرة على البعث وغيره = (1)
فهو بهذا يريك قيام مقصود = النساء = و = آل عمران = و = البقرة = في مقصود = المائدة = وقيام مقصود تلك السورة كلها في مقصود سورة = الأنعام =.
وأنت إذ تنظر في مقال البقاعي في صدر سورة = الأعراف = تراه يبين مقصودها بما يقرر بناءه على ما قررته مقاصد السور السابقة عليها بدأ من سورة = البقرة = وما قامت عليه من دعوة الكتاب المستفتح بيانها بالإشارة إلى عظيم قدره: {ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
وما قامت عليه سورة = آل عمران = من تقرير معنى التوحيد وما قامت عليه سورة = النساء = من تقرير الدعاء إلى الاجتماع على الخير وما قامت عليه سورة = المائدة = من الدعوة إلى الوفاء بالعقود، وما قامت عليه سورة = الأنعام = من التدليل على ما سبق قيام السور السابقة عليها (2)
وهكذا تتناسل مقاصد السور بعضها من بعض تناسلا يقوم بأمرين جليلين: الأول: تأسيس معنى لم يكن مؤسسا في التي قبلها. والآخر: تأكيد ما سبق تأسيسه
وفي كل تأكيد تأسيس من وجه آخر، ولا يكون التأكيد بالتكرير بل بالتصريف البياني في تصوير المعاني ذلك أن القرآن الكريم لا يقوم على منهاج التكرير العقيم المنتجة إعادة البيان مكوّنا ومكنونا ذلك أنّه
__________
(1) السابق ج 8ص: 1، 5
(2) السابق: ج 7ص: 347(1/161)
لا يتأتى البتة تكرّر عنصر مهمّ من عناصر البيان هو ذو أثر جليل في تصوير المعنى.
ذلك العنصر هو السياق الذي يقوم فيه البيان المعاد ذكر مكوّنه المرتّل، فإذا ما تغير موقع البيان المعاد مكوّنه المرتّل تغير المكنون المتذوّق، فليس القائم بالمعنى المكنون في البيان هو ما يرتله اللسان بل هنالك أمور أخرى هي لا تقلّ منزلة عنه
منها السياق المقالى الذي يقوم فيه لك البيان، وذلك السياق معصوم من التناسخ، فهو كدفقة الموج في سياق ماء المحيط الزّاخر لا تتكرّر أبدا
والبقاعيّ ينظر في السياق الكليّ للمعنى القرآنيّ فيبصر أنّه من منازل ومراحل ذات وجوه عدّة
من تلك الوجوه النظر في بيان الله عزّ وجلّ عن القرآن الكريم منزله ومقصده، فنظر = البقاعيّ = في هذا البيان فرأى أن تفصيل أم الكتاب قد بدأ بالبقرة المستهلة بيانها عن القرآن الكريم
{ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
وكانت التالية لمفتتح هذه المرحلة هي سورة = آل عمران = وقد أثبت فيها أنّ القرآن الكريم حقّ:
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ} (آل عمران: 3)
وأنّ السياق قد امتدّ حتى آخر سورة = التوبة = التي هي آخر (الطول) والنازلة في شأن غزوة العسرة: تبوك، وهي في غزو الروم، وكان انتهاء التلاوة فيها
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قََاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفََّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} إلى قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 123 129)
وابتدأ البيان من بعد هذه المرحلة بسورة (يونس) التي هي أوّل (المئين) والمستهلة بيانها أيضا عن القرآن الكريم
{الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ * أَكََانَ لِلنََّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنََا إِلى ََ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النََّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قََالَ الْكََافِرُونَ إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ مُبِينٌ} (يونس: 21)
وكان مقصودها الأعظم = وصف الكتاب بأنّه من عند الله جلّ جلاله لما اشتمل عليه من الحكمة =(1/162)
وكانت التالية لها سورة = هود = مقصودها = وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة)
{الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1)
وأن السياق قد امتدّ حتّى آخر سورة = الروم = النازلة في شأن الروم وانتصار الفرس عليهم ووعد الله سبحانه وتعالى بنصر الروم عليهم ليفرح المؤمنون، وكان انتهاء التلاوة في هذه المرحلة قول الله جلّ جلاله:
{وَلَقَدْ ضَرَبْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا مُبْطِلُونَ * كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَلََا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لََا يُوقِنُونَ} (الروم:
6058)
وابتدأ البيان من بعد هذه المرحلة بسورة = لقمان = المستهلة بيانها أيضا عن القرآن الكريم
{الم * تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ * هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان: 51)
وكانت التالية لها سورة = السجدة = مقررة نفي الريب عن القرآن الكريم ومقرّرة أنّه تنزيل من ربّ العالمين.
{الم * تَنْزِيلُ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (السجدة: 21)
وتنتهي هذه المرحلة بانتهاء سورة = الفتح = التي هي آخر (المئين) فأوّل كلّ مرحلة حديث عن القرآن الكريم، وآخر كلّ مرحلة سورة من سور الجهاد وانتصار الحق (التوبة الروم الفتح)
وتأتي سور (المفصل) المفتتحة بسورة = الحجرات = على مذهب البقاعي (1) والمفصّل منزله منزل ملخّص القرآن، فهي كالختام لمراحل السياق الكلّي للمعنى القرآنيّ الكريم.
__________
(1) المشهور بين أهل العلم أن المفصل يبدأ بسورة (ق) وو ما يحسن ذكره هنا بيان البقاعي وجه تسمية هذا الحزب من القرآن الكريم بالمفصل وما قبله بالمثاني بان ذلك من وجهين:
= الأول أنّ المفصّل أوّل لقب جامع للسور باعتبار القراءة وفوقه المثاني ثمّ المئون ثمّ الطول، فالمثاني ثانية له حقيقة وما هي ثانية للمئين إلا أنّا ألفينا البداءة بالطّول من الطرف الآخر
الثاني: انّها لمّا زادت على المفصّل كانت قسمة السورة منها في ركعتين من الصلاة كقراءة سورتين من المفصّل، فكانت مثاني، لتثنيتها في مجموع الصلاة باعتبار قراءة بعضها في كلّ من الركعتين = (نظم الدرر: ج 8ص 358357)(1/163)
يقول = البقاعيّ = في مفتتح تأويله البيان القرآنيّ في سورة (لقمان):
= مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منزله سبحانه في أقواله وأفعاله، وقصّة لقمان المسمّى بها السورة دليل واضح على ذلك كأنّه سبحانه وتعالى لمّا أكمل ما أراد من أوّل القرآن إلى آخر = براءة = التي هي سورة غزو الروم، وكان سبحانه وتعالى قد ابتدأ القرآن بعد = أمّ القرآن = بنفي الرّيب عن هذا الكتاب وأنّه هدى للمتّقين واستدلّ على ذلك فيما تبعها من السور، ثمّ ابتدأ سورة = يونس = بعد سورة غزو الروم بإثبات حكمته، وأتبع ذلك دليله إلى أن ختم سورة الروم، ابتدأ دورا جديدا على وجه اضخم من الأول فوصفه في أوّل هذه التالية للروم بما وصفه به في = يونس = التالية لغزو الروم، وذلك الوصف هو الحكمة، وزاد أنّه هدى وهداية للمحسنين، فهؤلاء أصحاب النهايات، والمتقون أصحاب البدايات.
ولمّا أثبت في = آل عمران = [التالية للبقرة التي هي أوّل المرحلة الأولى] أنّه أنزل بالحق أثبت في = السجدة = التالية للقمان التي هي أول المرحلة الثالثة] تنزيله ونفي الريب عن أنّه من عنده عزّ وجلّ وأثبت أنّه الحقّ واستمر فيما بعد هذا من السور مناظرا في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكّر والتّأمّل والتّدبّر = (1)
ويقول في مفتتح تأويل سورة (الحجرات):
= حاصل مقصودها مراقبة النبيّ صلّى الله عليه وسلم في الأدب معه لأنّها أوّل المفصّل الذي هو ملخّص القرآن الكريم، كما كان مقصود (الفاتحة) التي هي أوّل القرآن مراقبة الله عزّ وجلّ.
وابتدئ ثاني المفصّل بحرف من الحروف المقطّعة، كما ابتدئ ثاني ما عداه [المئين والمثاني] بالحرف المقطّعة = (2)
كذلك يتبيّن لك عناية = البقاعيّ = بالنظر في تصاعد المعنى القرآني، وتصاعد المقاصد الكلية.
والقول بتصاعد مقاصد السور وتناسلها من بعضها مبناه القول بأنّ من وراء ترتيب سور القرآن الكريم معنى من معاني الإعجاز البياني للقرآن الكريم وهذا ما يزداد بيانه تأسيسا وتقريرا في المعلمين الآتيين من بعد.
__________
(1) نظم الدرر: 15/ 141
(2) السابق: 18/ 350349(1/164)
المعلم الثّالث. علاقة فاتحة كل سورة بخاتمة ما قبلها
لكلّ سورة مطلع تلاوة ومقطع ترتيل، وسوف يتبين لنا منزل المطلع في الدلالة على مقصودها ومضمونها ومنزل المقطع في تكريس معانيها وتكثيف مضامينها.
و= البقاعيّ = ذو عناية بالنظر في تأويل علاقة مطلع السورة بمقطع ما قبلها مثلما كان ذا عناية بتأويل علاقة مقاصد السور ببعضها، ليكون التناسب بين السور ذا أسباب عديدة ومتجليا في مظاهر كثيرة
وقولنا = مطلع = السورة، أو فاتحتها، و = مقطع = السورة أو خاتمتها لا يعنى أن مطلعها هو منقطع عن السابقة عليها
المصطلح هنا ليس منظورا فيه إلى علائق معاني السور، وإنما منظور فيه إلى شأن التلاوة والترتيل
المهمّ أنّ = البقاعيّ = ليس منهاجه بالمقتصر على أن يربط الآية الأولى من السورة بآخر آية من التي قبلها فحسب، بل مستهل السورة عنده هو مفتاحها ومكتنز مقصودها، فربط أولها بآخر التي قبلها الممثل حسن ختامها الراجع على مستهلها هو في حقيقته ربط مقصود بمقصود، فصنيعه هنا ليس ربط جزئيات بجزئيات بل ربط مضمون كليّ لسورة بمضمون كلىّ لأخرى سابقة عليها، وهذا ضرب من التصريف المنهجي لدي البقاعي في تقرير الحقيقة التي انتهى إليها.
يقول في إيلاء سورة = المائدة = سورة = النساء =:
= لمّا أخبر تعالى في آخر سورة = النساء = أنّ اليهود لمّا نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلّت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله:
{وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمََا إِلََّا مََا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمََا أَوِ الْحَوََايََا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ} (الأنعام: 146) (1)
__________
(1) الأعلى أن يذكر هنا قول الله عزّ وجلّ في سورة النساء: فيظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم: ي 160) ولعله قدسها أو كان ذلك من قبل الناسخ(1/165)
واستمر سبحانه وتعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنّه شامل العلم ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذين اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلّ مبناه القلب الذي هو غيب، فقال مشيرا إلى أنّ النّاس الذين خوطبوا أول تلك تأهلوا لأول أسنان الإيمان (1) ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشيرا إلى أنّ من فوقهم من الأسنان (2) عندهم من الرسوخ ما يغنيهم عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبّر والامتثال {(يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)} (المائدة: 1) أي ادّعوا ذلك بألسنتهم (أوفوا) أي صدقوا ذلك بأن توفوا (بالعقود) (3)
هذا نظر إلى رأس المعنى في سورة = النساء = وكيف أنه كالمهاد لما هو أصل المعنى في سورة = المائدة = ففي سورة = النساء = تمهيد بمخاطبة من كانوا في الدرجة التي لم يتأهلوا فيها بالنداء عليهم ب {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا =}، كما كان افتتاح = المائدة = بل كان النداء عليهم ب {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ =}، وهذا أدنى درجات الخطاب، وأعمها.
وأنت إذ تنظر إلى النداء في سورة = النساء = تجد أنها استفتحت ب {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ =} (ي: 1)، وختمت بذلك (ي: 170، 174) وجاء في ثبجها (ي: 133) وكان النداء ب {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا =} فيها مكنوفا بهذا
ولم يزد على عشر مرات على الرغم من طول سورة = النساء = وسورة = المائدة = لم يأت فيها النداء ب {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ =} قط، بل كان النداء ب {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا =} ست عشرة مرة على الرغم من أنّها أقلّ عدد آيات وكلمات من سورة = النساء =
ويقول في مناسبة أوّل = الأنفال = لآخر = الأعراف =:
= وأمّا مناسبة أولها لآخر تلك فقد تبين أنّ آخر = الأعراف = آخر قصة موسى عليه السّلام المختتمة بقصة = بلعام = وأنّ ما بعد ذلك إنما هو تتمات لما تقدم لا بدّ منها وتتمات للتتمات حتى كان آخر ذلك مدح من أهلهم لعنديته سبحانه وتعالى بإذعان وتمام الخضوع، فلمّا أضيفوا إلى تلك الحضرة العالية اقتضى ذلك سؤالا عن حال الذين عند المخاطب صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا فأجيب بقوله تعالى (يسألونك) أي
__________
(1) يقصد: الذين آمنوا، فهم أدني أسنان الطاعة والقرب.
(2) يقصد: المؤمنين والمتقين والمحسنين فهذه أسنان أعلى من سن الذين آمنوا.
(3) نظم الدرر: ج 6ص 2(1/166)
الّذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك فهم المستحقون للأنفال، وليس لهم إليها التفات، وإنّما همهم العبادة والذين عندك إنّما جعلتهم آلة ظاهرة، ومع ذلك، فهم يسألون (عن الأنفال) التي توليتهم إيّاها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعاذة بالله منها كما نبّه عليه آخر الأعراف لأنّ ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداء = (1)
أنت تراه لا يقف في الربط عند الآية الأخيرة من السورة السابقة بل ينظر إلى المقطع الخاتم، فليس الاعتداد بآخر جملة من السورة بل بالجملة التي هي أم الختم وإن جاء من بعدها جمل عديدة.
وتراه أيضا يلاحظ علاقة ضمير الفاعل في (يسألونك) ولم يسبق له مرجع بالمسند إليه (اسم الموصول) في الجملة الأخيرة من سورة الأعراف {(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)} وما بين حالي المتحدث عنهما في كلّ من التقابل والتباين والاختلاف.
وهو قد يمد تدبره علاقة مطلع السورة بسورة من قبلها غير قاصر لها على السورة التي سبقتها مباشرة على نحو ما تراه فاعلا في سورة = يونس = قائلا:
= لمّا قدّم في أوّل الأعراف الحثّ على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأوليين ومصارع الماضيين، وما استتبع ذلك من توصيل القول في ترجمة هذا النبيّ الكريم عليه السّلام مع قومه في أوامره وأثنائه وآخره في سورتي = الأنفال = و = براءة = وختم ذلك بأنّ سور الكتاب تزيد كلّ أحد مما هو ملائم له متهيئ لقبوله وتبعده عمّا هو منافر له بعيد من قبول ملاءمته، أنّ الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا بذلك قد حوى من الأوصاف والحلى والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه، والإخبار بأنّ توليه عنه لا يضرّه شيئا لأنّ ربّه سبحانه وتعالى كافيه ولأنّه لا مثل له، وأنّه ذو العرش العظيم
لما كان ذلك كذلك أعاد سبحانه وتعالى القول في شأن الكتاب الذي افتتح به = الأعراف = وختم به سورة التوبة، وزاده وصف الحكمة، وأشار بأداة البعد إلى أنّ رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال، فقال: = تلك = = آيات الكتاب =
__________
(1) نظم الدرر: 8/ 217(1/167)
وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها = (1)
ومن البيّن أن العناية بتدبّر وتأويل علاقة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها إنّما هو كالعناية بتدبر وتأويل علاقة مقاصد السور المتتالية ببعضها، وكالعناية بافتتاح القرآن العظيم بسورة = الفاتحة = مبنيّ على الإيمان بأن ترتيب السور في السياق الترتيلي الذي هو بين دفتى المصحف الذي عليه الأمة جمعاء إنما هو مظهر من مظاهر إعجازه البياني، وأنّ تناسبه المعجز ليس بالمحصور في تناسب نظمه التركيبي الماثل في بناء الجملة بل هو أيضا متحقق على كماله في نظمه الترتيبي الماثل في علاقات الجمل بعضها ببعض في بناء المعقد وعلاقات المعاقد بعضها ببعض في بناء السورة وعلاقات السور بعضها ببعض في بناء البيان القرآني العظيم كلّه مفتتحا بسورة = الفاتحة = ومختتما بسورة = الناس =
* * * مناقدة مذهبه إلى أن ترتيب السور اجتهاد.
= البقاعي = يصرح في مفتتح تفسيره سورة = آل عمران = برأي = أبي الحسن الحراليّ = المتمثل في أنّ ترتيب بعض السور على ما هو عليه بين أيدينا بين دفتى المصحف إنما هو توفيق:
= قال = الحرالّيّ = مشيرا إلى القول الصحيح في ترتيب السور من أنّه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقرارا لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السّوريّ في مقرر هذا الكتاب: هو ما رضيه الله سبحانه وتعالى فأقره = (2)
البقاعيّ كما ترى هنا مصرّح بصحة القول بأنّ ترتيب السور إنّما هو باجتهاد الصحابة
ولعلّ الحرالّيّ والبقاعيّ من بعده وجمع من العلماء من قبلهما في ذهابهم إلى القول بالاجتهاد من الصحابة في ترتيب بعض السور مثابتهم أو برهانهم ما روي من حديث = يزيد الفارسي = عن = ابن عباس = رضي الله عنهما.
روى = الترمذيّ = رضي الله عنه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهل بن يوسف قالوا حدثنا عوف بن أبي جميلة حدثنا يزيد الفارسي حدثنا ابن عباس رضي الله عنهما قال:
__________
(1) نظم الدرر: 9/ 6462
(2) نظم الدرر: 4/ 199(1/168)
قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول ما حملكم على ذلك؟
فقال = عثمان = رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، فوضعتها في السبع الطول =.
قال أبو عيسى هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث. ويقال هو يزيد بن هرمز ويزيد الرقاشي هو يزيد بن أبان الرقاشي ولم يدرك ابن عباس رضي الله عنه إنما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه وكلاهما من أهل البصرة ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي
(الجامع الصحيح لأبي عيسى الترمذي: كتاب: تفسير القرآن سورة التوبة حديث: 3086)
وهذا فيه نظر نافذ:
الحديث رواه = أحمد = رضي الله عنه في مسنده و = الترمذي = رضي الله عنه في جامعه الصحيح عن = يزيد الفارسي متفردا به، و = يزيد الفارسي = هذا ذكره = البخاري = رضي الله عنه في الضعفاء، وهو كما ترى غير متيقن اسمه ونسبه (1)
__________
(1) يذهب العلامة = احمد محمد شاكر = في تعليقه على مسند الإمام أحمد إلى أنّ حديث يزيد الفارسي ضعيف جدا بل لا أصل له، وذكر ما جاء في بعض نسخ = الترمذي = من أنه حسن صحيح فإنّ كلمة = صحيح = ليست صحيحة، وهي زيادة من الناسخ في بعض النسخ، وقد أفاض الشيخ أحمد شاكر في توهين ذلك الحديث وتقرير أنّه لا أصل له.
مسند الإمام أحمد ت: أحمد شاكر ج 1ص 329(1/169)
فإذا ما كان هذا حال من تفرد برواية هذا الحديث فكيف يظن به أنّه مما يمكن أن يؤخذ بما فيه ولا سيما في أمر يتعلق بتبليغ النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا؟
كيف يحسب حاسب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا يمكن أن يدع إبلاغ الصحابة شيئا من القرآن الكريم وإن كان ذلك الشيء من أمر ترتيب سور القرآن الكريم؟
إنّ في الاستدلال بهذا الحديث ما لا يطمئنّ إلى القول به أو ترجيح ما فيه أو ظنه ظنّا.
ولست بالدافع هذا الاستدلال من أنّه استدلال بحديث آحاد بل من أنّ راويه: = يزيد الفارسي = ليس بذاك، ولو أنّه كان ذا منزلة عند الأئمة لكنّا أول الخاضعين.
المعجب في الأمر أنّ = الحرالّي = يقول في المذهب الذي ذكرته لك من قبل = أنّه باجتهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إقرارا لله سبحانه وتعالى لهذا الانتظام والترتيب السّوريّ =
فلا ندري كيف كان ذلك الإقرار؟
وما وجه أن يدع الله سبحانه وتعالى مثل هذا لعباده وإن كانوا صحابة نبيه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا؟
فإن قيل: إن هذا كمثل ما كان من شأن الأذان ومن شأن موافقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو أمر مدفوع بأن ذلك كان في زمن الوحي فكان الإقرار معلوما بإقرار النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا الذي إقراره من إقرار الوحي لا محالة فيكون مآل الأمر أنه سنة نبوية سبيلها الإقرار.
والذي يقول به = الحرالي = من اقرار الله سبحانه وتعالى اجتهاد الصحابة في ترتيب سور القرآن الكريم إنما هو أمر كائن على زعمه من بعد انقضاء الوحي، فكيف كان العلم بإقرار الله سبحانه وتعالى ما كان من اجتهاد الصحابة في هذا؟
لو أنّ = الحرالّيّ = أراد بقوله = باجتهاد الصحابة = اجتهادهم في ترتيبه جمعا بين دفتى المصحف كمثل ما كان جمعا في صدر النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ثم صدور أصحابه رضوان الله عليهم لكان أمرا غير مدفوع عندنا.
أمّا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا انتقل إلى الرفيق الأعلى والصحابة لا يقوم ترتيب سور القرآن الحكيم في
صدورهم على النحو الذي هو قائم بين دفتي المصحف الذي بين أيدينا، فهذا امر هو المدفوع عندنا.(1/170)
أمّا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا انتقل إلى الرفيق الأعلى والصحابة لا يقوم ترتيب سور القرآن الحكيم في
صدورهم على النحو الذي هو قائم بين دفتي المصحف الذي بين أيدينا، فهذا امر هو المدفوع عندنا.
وأنت حين تتابع = البقاعيّ = في تفسيره تجده مصرحا في مواضع منه بما يدلّ دلالة بيّنة جليّة على أن ترتيب السور إنما هو وجه من إعجازه الذي هو من منزله جلّ جلاله.
في مفتتح تأويله سورة = النساء = يقرر أنها من أواخر ما نزل، ويذكر ما رواه البخاري في فضائل القرآن من صحيحه من أنّ عراقيا سأل أمّ المؤمنين = عائشة = الصديقة رضي الله عنها فقال: = أيّ الكفن خير؟
قالت: ويحك، وما يضرك؟
قال يا أم المؤمنين أريني مصحفك. قالت: لم؟ قال: لعلّى أؤلف القرآن عليه لأنّه يقرأ غير مؤلف. قالت: وما يضرّك أيّه قرأت قبل. إنّما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيء:
لا تشربوا الخمر لقالوا: لا تدع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا.
لقد نزل بمكة على محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا وإنّي لجارية ألعب:
{بَلِ السََّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسََّاعَةُ أَدْهى ََ وَأَمَرُّ)} (القمر: 46)
وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.
قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السّورة =
ويعلق = البقاعيّ = على هذا بقوله:
= وقد عنت بهذا رضي الله عنها أنّ القرآن حاز أعلى البلاغة في إنزاله مطابقا لما تقتضيه الأحوال بحسب الأزمان، ثمّ رتب على أعلى وجوه البلاغة بحسب ما تقتضيه المفاهيم من المقال كما نشاهده من هذا الكتاب البديع المثال البعيد المنال = (1)
تعليقه هذا قائم من أنّ أم المؤمنين أشارت إلى أمرين:
الأول: ناظر إلى مراعاة حال الأمة حين نزول الآيات، فكان النزول كالدواء لما حلّ من أدواء فكان نزولا مطابقا لحال الأمة وواقع حركتها في تأسيس الأمة المسلمة
__________
(1) نظم الدرر: 5/ 170(1/171)
والآخر: ناظر إلى مراعاة حال المعنى والإعجاز البياني، فتنزل كلّ آية في سياق ترتيلها منزلها المحقّق لها كمال إعجازها البيانيّ بما تنتجه مع ما قبلها وما بعدها من معاني الهدى إلى الصراط المستقيم
وكان حريّا بالبقاعي أن يتدبر هذا الخبر:
سؤال العراقي وقوله: = فإنه يقرأ غير مؤلف = دال دلالة بينة على أن مناط الطلب هو الوقوف على ترتيب السور وتأليفها وليس ترتيب الآيات، فإن ترتيب الآيات لم يثبت أنّ مسلما واحدا يجرؤ على أن يقرأ آيات القرآن الكريم على وفق ترتيب نزولها تعبدا ولا سيّما في الصلاة، ولكن الذي يمكن أن يقع أن يقرأ مسلم سورة قبل سورة
وجواب أم المؤمنين رضي الله عنها دال على أنّها دلته على أنّه لا يقع عليه ضرر أي ضرر يخرجه من مقام الطاعة لله رب العالمين أو يلبس عليه فقه المعنى الجمهوري الإيمانيّ إذا ما قرآ سورة قبل سورة أخرى، وإن كانت المؤخرة سابقة في الترتيب النزولي أو الترتيب الترتيلي، فإنّ المعاني المأخوذة من فقه ترتيب السور معان إحسانية تعلو المعاني الجمهورية الإيمانية، فقالت له رضي الله عنها:
= وما يضرّك أيّه قرأت قبل = أي في سياق ترتيب السور، وليس في سياق ترتيب الآيات لأنّه لا ريب أنّه إذا ما قرأ آية من قبل التي هي قبلها في نسق التلاوة سيقع عليه ضرر عظيم في فقه المعنى الجمهوري الإيماني الذي هو هدى للناس.
ثمّ قالت له: إنّما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام =
فهذا منها دال دلالة بينة على أن النزول كان على وفق ما يقتضيه منهاج التربية والتثقيف النفسيّ والقلبيّ للأمة والأخذ بأيدي النّاس إلى ما هو اليسير عليهم والتصاعد بهم في مدارج الطاعة والقرب:
= ولو نزل أوّل شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا =
فإذا ما كان هذا منظورا فيه إلى حال الأمة من قبل أن يثوب الناس إلى الإسلام ويرسخ في قلوبهم، فإن الأمر يقتضي مراعاة مقتضى الحال الذي انتهى إليه الناس من رسوخ الإسلام في قلوبهم، فيكون للقرآن الكريم ترتيبه الذي يراعي مقتضي حال أخرى غير التي راعها الترتيب النزولي.
ولكن يبقى أمر وهو أنّ = العراقي = سأل عن تأليف السور وليس تأليف الآيات في السورة ونهاية الخبر تقول:(1/172)
= فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السّورة =
وفي رواية (آي السور)
مقتضى الظاهر أن يقول الخبر: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه تأليف السور، وليس آي السورة، فليس تأليف آي السورة هو مناط مساءلة، فما الوجه في هذا؟
يقول = ابن حجر = في فتح الباري:
= الذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه فكان تأليف مصحفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان.
ولا شك أن تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف.
وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور ويدل على ذلك قولها له: = وما يضرك أيّه قرأت قبل =
ويحتمل أن يكون أراد تفصيل آيات كل سورة لقوله في آخر الحديث:
فأملت عليه أي السور = أي آيات كل سورة كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا كذا آية الأولى كذا الثانية الخ
وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري وقد اعتنى أئمة القرّاء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه، والأول أظهر ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين والله أعلم = (1)
والذي قاله = ابن حجر = ليس فيه غناء أو شفاء
والذي يبدو لي في صنيع = أم المؤمنين: عائشة = رضي الله تعالى عنها في إملائها آي السورة أو السور إنّما هو من قبيل أسلوب الحكيم النازع إلى لفت انتباه السائل إلى ما هو أولى به أن يسأل عنه، فكأنها تشير إلي العراقيّ أنّ الذي هو أولى بمثلك أن تعنى بتأليف آيات السورة، فأنت أو مثلك أحوج إلى ذلك من أن ينازع غيره في تأليف السور، وحتى لا يتخذ العراقيّ صنيعها سببا في مجادلة أو مجالدة الآخذين بترتيب مصحف = ابن مسعود = أو مصحف = أبيّ بن كعب =، فيقف في وجه الآخر وفي يده نسخة من مصحف أم المؤمنين، وهي من هي، فيحتدم التجادل، وذلك من حكمتها في درء الفتنة وغلق باب المجادلة فيما لا يليق بالأمة التنازع فيه وهي مهمومة حينذاك بما هو أهم من ذلك
__________
(1) فتح الباري لابن حجر: 9/ 32(1/173)
ويحسن أن نستمع في هذا إلى كلمة = أبي سليمان حمد الخطابيّ (ت 388) في هذه المسألة:
= والقدر الذي يحتاج إلى ذكره هنا هو أن يعلم أنّ القرآن كان مجموعا كله في صدور الرجال أيام حياة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ومؤلفا هذا التأليف الذي نشاهده ونقرؤه، فلم يقع فيه تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان إلا سورة = براءة = كانت من أواخر ما نزل من القرآن لم يبين رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا موضعها من التأليف حتى خرج من الدنيا، فقرنها الصحابة بالأنفال.
وبيان ذلك في خبر = ابن عباس = قال: = قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما ولم تجعلوا بينهما سطرا فيه بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال؟
(الحديث (الترمذي: التفسير حديث: 3086)
قلت: هذا يدلك على أنّ الجمع كان حاصلا والتأليف أيام حياة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا كان موجودا
وقد ثبت أنّ أربعة من الصحابة كانوا جمعوا القرآن كله في زمان رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا وقد كان لهم في ذلك شركاء من الصحابة وإن كان هؤلاء أشدّ اشتهارا به وأكثر تجريدا للعناية بقراءته
جمع القرآن كان متقدما لزمان أبي بكر رضي الله عنه، وإنما جمع = أبو بكر = القرآن في الصحف والقراطيس وحوّله إلى ما بين الدّفتين شهرا له وإذاعة في زمانه وتخليدا لرسمه مستأنف الزمان، وكان قبل في الأكتاف ورقاع الأدم والعسب وصفائح الحجارة ونحوها مما كانت تكتب العرب فيه من الظروف.
ويشبه أن تكون العلّة في ترك النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا جمع القرآن في مصحف واحد كما فعله من بعده من الصحابة أن النّسخ كان قد يرد على المنزل منه فيرفع الشيء بعد الشيء من تلاوته كما يرفع بعض أحكامه
فلو كان قد جمع بين الدفتين كله وسارت به الركبان وتناقلته الأيدي في البقاع والبلدان ثم قد نسخ بعضه ورفعت تلاوته لأدّى ذلك إلى اختلاف أمر الدين ووجود الزيادة والنقصان فيه، وأوشك أن تنتقض به الدّعوة، وتتفرق فيه الكلمة، وأن يجد الملحدون السبيل إلى الطعن عليه
والتشكيك فيه، فأبقاه الله سبحانه وتعالى على الجملة التي أنزل عليها من التفريق في ظروفه وحفظه من التبديل والتغيير إلى أن ختم الدين بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، ثمّ قيض لخلفائه الراشدين عند الحاجة إليه جمعه بين الدفتين، ويسّر لهم حصره كلّه باتفاق من إملاء الصحابة وإجماع من آرائهم حين لم يكن بقي للنسخ منه مرتقب، ولا شيء من أحكامه متعقب = (1)(1/174)
فلو كان قد جمع بين الدفتين كله وسارت به الركبان وتناقلته الأيدي في البقاع والبلدان ثم قد نسخ بعضه ورفعت تلاوته لأدّى ذلك إلى اختلاف أمر الدين ووجود الزيادة والنقصان فيه، وأوشك أن تنتقض به الدّعوة، وتتفرق فيه الكلمة، وأن يجد الملحدون السبيل إلى الطعن عليه
والتشكيك فيه، فأبقاه الله سبحانه وتعالى على الجملة التي أنزل عليها من التفريق في ظروفه وحفظه من التبديل والتغيير إلى أن ختم الدين بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، ثمّ قيض لخلفائه الراشدين عند الحاجة إليه جمعه بين الدفتين، ويسّر لهم حصره كلّه باتفاق من إملاء الصحابة وإجماع من آرائهم حين لم يكن بقي للنسخ منه مرتقب، ولا شيء من أحكامه متعقب = (1)
هذا دالّ من أبي سليمان الخطّابيّ على أن جمع القرآن الكريم في الصدور مرتبا آياته وسوره قائم على عهد النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، ومبين وجه تأخير جمعه على ذلك النحو بين دفتي مصحف، ووجه قيام الصحابة بجعل جمعه كذلك في الصدور زمن النبوة مضموما إليه جمعه بين دفتين، فكان الجمعان توثيقا وتحقيقا مخافة أن يزول الجمع الأول بزوال الصدور التي جمعته حين استحر القتل بكثير منهم جهادا في سبيل الله سبحانه وتعالى، فما فعله الصحابة من الجمع لم يكن أكثر من استنساخ الجمع القائم في الصدور ليكون بين دفتي مصحف، وهذا شأنه شأن الوراقين الذين ينسخون الكتاب من النسخة الأم التي أبدعها ورتّبها وألف بين أجزائها مؤلف الكتاب في عالم اهل العلم، فلا يكون من الورّاق إلا أن ينقله من النسخة الأم التي خطها مؤلفها كما هي إلى نسخ أخرى متعددة، غير أن النسخة الأم هنا في شأن القرآن الكريم كانت الصدور المحفوظة بالإيمان والمحفوظ ما بها من القرآن الكريم بحفظ منزله سبحانه وتعالى على عبده ونبيه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا
{إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (الحجر: 9)
وأنت إذ تنظر في بيان هذه الآية الجليلة لا تجدها قائمة من جملة واحدة مخبر فيها عن المسند إليه بخبرين معطوف ثانيهما على أولهما بل قائما من جملتين عطفت الثانية على الأولي، وبنيت كلّ منهما على المسند إليه المؤكد المدلول عليه بنون العظمة (إنّا) مع توكيده في الأولى المخبرة عن الله سبحانه وتعالى بتفرد الإنزال بقوله (نحن) من دون الثانية المخبرة عن الله سبحانه وتعالى باختصاص حفظه بالذكر الحكيم ففي كلّ اختصاص: في الأولى اختص نفسه بإنزاله، فلم ينزل القرآن الكريم غيره، فهو من قصر الصفة على الموصوف: قصر إنزال القرآن الكريم عليه سبحانه وتعالى.
__________
(1) أعلام الحيث في شرح صحيح البخاري لأبي سليمان الخطابي: ج 3ص 1852 1858ت: محمد سعد أل سعود ط: جامعة أم القرى 1409(1/175)
وفي الأخرى قصر حفظه تعالى على القرآن الكريم أي ما تكفلنا بحفظ كتاب مما أنزلنا من الكتب السماوية إلا بحفظ الذكر الحكيم، أي أنّ قصر حفظه على كونه واقعا على القرآن الكريم دون غيره، فهو على منهاج = ما استمعت إلا لمحمد = فهو من قصر الموصوف على الصفة، فاجتمع للقرآن الكريم أمران:
الأول أنه لم ينزله غير الله سبحانه وتعالى.
والآخر: أنه المخصوص بحفظ الله سبحانه وتعالى له من دون غيره من الكتب السماوية السابقة عليه التى منيت بالتحريف على أيدي أتباع من أنزلت عليهم.
وفي هذا إشارة إلى المفارقة العظيمة بين حال أصحاب وأتباع النبي سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا مع القرآن الكريم الذي نزل علي نبيهم صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وحال التابعين للأنبياء والمرسلين وموقفهم من الكتب التي أنزلت عليهم إليهم: صحابة النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا كانوا آلات تأكيد حفظ ذلك الكتاب وعصمته من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان. وأمة الأنبياء السابقين كانت سببا في التحريف والتبديل والتغيير بالزيادة والنقصان. فانظر فضل الله سبحانه وتعالى على أتباع حبيبه محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا وهذا يؤكد تقرير أن حفظ القرآن الكريم من أدنى تغيير بتقديم أو تأخير لآية أو سورة إنّما هو من الله سبحانه وتعالى وأنّ ما كان من فضل أجراه الله سبحانه وتعالى على أيدي صحابة عبده ونبيه ورسوله سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إنما هو متمثل في أن جعلهم آلات إظهار الحفظ في وعاء آخر مضموما إلى الوعاء السابق:
الحفظ بين دفتي المصحف ضميمة إلى الحفظ في الصدور.
مجمل الأمر في هذا: أنّ ترتيب السور بين دفتي المصحف على النحو الذي هو بين أيدينا والذي سيبقى كذلك إلى قيام الساعة هو هو الذي كان قائما في صدر النبي سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا وحيا من الله تعالى، وفي صدور أصحابه رضوان الله عليهم تلقيا من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وليس اجتهادا، وأن في هذا الترتيب من آيات الإعجاز البياني ما في تركيب آياته في السورة الواحدة، بل وما في تركيب كلمات الآية الواحدة من الإعجاز البياني العظيم المجيد.(1/176)
وإذا كان هذا الذي سمعت من رأي = أبي سليمان الخطابيّ = فإنّ لصاحب كتاب = المباني لنظم المعاني = وهو من علماء القرن الرابع والخامس = ليذهب في مقدمة كتابه هذا في الفصل الثالث إلى أنّ القرآن الكريم على ترتيبه الذي بين أيدنا بين دفتي المصحف هو هو الذي في اللوح المحفوظ قائلا:
= وأمّا الدليل على أنّه في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب الذي في أيدينا، وأنّه تعالى أنزله جملة إلى السماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ كان ينزل منه الشيء بعد الشيء على حسب الحاجة إليه، فهو قول الله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا بَيََانَهُ} (القيامة: 1917)
وهذا أدلّ الدليل على أنّ الله سبحانه وتعالى تولى تنزيله وجمعه ونظمه، وأنزله على المصطفي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا على لسان جبريل عليه السّلام وعصمه السهو والخطأ والتحرف فيه = (1)
ثمّ يقول: = وتدلّ عليه الأخبار المروية عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا في تسمية سورة = الحمد لله ربّ العالمين = فاتحة الكتاب، فلولا أنّه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا أمر الصحابة أن يرتبوا هذا الترتيب عن أمر = جبريل = عليه السّلام عن = الله = عزّ وجلّ لما كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى، إذ قد ثبت بالإجماع أنّ هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولا، فثبت أنّها فاتحته نظما وترتيبا وتكلّما = (2)
__________
(1) مقدمتان في علوم القرآن (مقدمة كتاب المباني) ت: أرثر جفري: ص: 40 مكتبة الخانجي.
(2) السابق: 4241(1/177)
المعلم الرابع. ردّ مقطع القرآن الكريم على مطلعه
يقوم تأويل = البقاعي = البيان القرآني الكريم على أنّ القرآن الكريم متناسبة أجزاء بيانه إن كلمة وإن سورة وما بينهما، وأن كل جزء قائم في مقامه قياما أساسه اقتضاء المقام له، وأنّ ما قدّم لم يقدّم على الآخر وهو منفصل معناه عن معنى ما قدّم عليه، بل معانى الهدى في القرآن الكريم متناسل بعضها من بعض، فلست بالذي يستطيع أن تقول إنّ معنى كذا ابتداء لا يسبقه من المعانى ما يبنى عليه، بل هو في تناسب معانيه وتناسلها كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها.
ومن ثمّ فإنّه في مقدمة تفسيره يصرح بأنّه = لا وقف تامّ في كتاب الله تعالى، ولا على آخر سورة {(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ)} بل هي متصلة مع كونها آخر القرآن بالفاتحة التي هي أوله كاتصالها بما قبلها بل أشدّ = (1)
والغاية من تفصيل القرآن الكريم إلى آيات وسور قائمة عند = البقاعيّ = في = أنّ الشيء إذا كان جنسا وجعلت له أنواع، واشتملت أنواعه على أصناف كان أحسن وأفخم لشأنه، وأنبل، ولا سيّما إذا تلاحقت الأشكال بغرابة الانتظام، وتجاوبت النظائر بحسن الالتئام، وتعانقت الأمثال بالتشابه في تمام الإحكام وجمال الأحكام.
وذلك أيضا أنشط للقارئ، وأعظم عنده لما يأخذه منه مسمى بآيات معدودة، أو سور معلومة، وغير ذلك = (2)
وهذا التفصيل إلى سور لا يعنى كما سمعت أنّ سورة = الناس = نهايته التى لا تلتحم معانى الهدى فيها بمعانى الهدى في أول القرآن الكريم، فهذه الأولية والآخرية في ترتيب السور إنما هي أولية في نسق التلاوة، وليست أولية في تفاصل المعنى.
هو ذو سياق دائريّ ليس له بداية لا تلتحم بشيء وليس له نهاية ينقطع عندها، ومن ثمّ كان التحريض النبوي لتالى القرآن الكريم أن يكون الحال المرتحل
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 15
(2) السابق: 1/ 162(1/178)
= سئل النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا: = أيّ العمل أفضل؟ قال الحالّ المرتحل. قيل: وما الحلّ المرتحل؟
قال: صاحب القرآن يضرب من أوّل القرآن إلى آخره ومن آخره إلى أوّله كلما حل ارتحل = (سنن الدارمي: فضائل القرآن)
ومن ثم فإنّ = البقاعيّ = سعى إلىّ ردّ تسع سور من القرآن الكريم من آخره إلى تسع سور من أوله، وهو بذلك يتجاوز بأسلوب رد العجز على الصدر ما هو عند البلاغيين، فيجعله شاملا بناء السورة بل بناء القرآن الكريم كلّه.
وهو في ختام سورة = قريش = يبدأ النظر في رد تسع سور من آخر القرآن الكريم تلاوة على تسع سور من أوله ترتيلا، قائلا:
«وكما التقى آخر كلّ سورة مع أولها، فكذلك التقى آخر القرآن العظيم بأوله بالنسبة إلى تسع سور هذه أولها إذا عددت من الآخر إليها، فإنّ حاصلها المنّ على = قريش = بالإعانة على المتجر إيلافا لهم بالرحلة فيه والضرب في الأرض بسببه واختصاصه بالأمر بعبادة الذي منّ عليهم بالبيت الحرام وجلب لهم به الأرزاق والأمان
ومن أعظم مقاصد التوبة المناظرة لها بكونها التاسعة من الأول البراءة من كلّ مارق، وأنّ فعل ذلك يكون سببا للألفة بعد ما ظنّ أنّه سبب للفرقة، وذكر مناقب البيت ومن يصلح لخدمته، والفوز بأمنه ونعمته، والبشارة بالغنى على وجه اعظم من تحصيله بالمتجر وأبهى وأبهر وأوفى وأوفر وأزهى وأزهر وأجلّ وأفخر بقوله تعالى:
{مََا كََانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسََاجِدَ اللََّهِ شََاهِدِينَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ وَفِي النََّارِ هُمْ خََالِدُونَ} (التوبة: 17)
وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شََاءَ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: من الآية 28)
فعلم بهذا علما جليّا أنّه شرع سبحانه وتعالى في ردّ المقطع على المطلع من سورة قريش الذين أكرمهم الله سبحانه وتعالى بإنزال القرآن بلسانهم، وأرسل به النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا كما أكرمهم ببناء البيت في شأنهم، وتعظيمه أغناهم وأمنهم.
ومن أعظم المناسبات في ذلك كون أول السورة التي أخذ فيها في ردّ المقطع على المطلع شديد المشابهة للسورة المناظرة لها حتى إنّ في كلّ منهما مع التي قبلها كالسورة الواحدة، فإنّ براءة مع الأنفال كذلك حتّى قال = عثمان = رضي الله عنه: = إنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليما كثيرا توفي ولم يبين أمرها، فلم يتحرّر له أنّها مستقلة عنها، ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم(1/179)
ومن أعظم المناسبات في ذلك كون أول السورة التي أخذ فيها في ردّ المقطع على المطلع شديد المشابهة للسورة المناظرة لها حتى إنّ في كلّ منهما مع التي قبلها كالسورة الواحدة، فإنّ براءة مع الأنفال كذلك حتّى قال = عثمان = رضي الله عنه: = إنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليما كثيرا توفي ولم يبين أمرها، فلم يتحرّر له أنّها مستقلة عنها، ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
وكانت هذه التي من الآخر مقطوعا بأنها مستقلة مع ما ورد من كونها مع التي قبلها سورة واحدة في مصحف = أبيّ = رضي الله عنه، وقراءة = عمر = رضي الله عنه لهما على وجه يشعر بذلك، كما مضى إشارة إلى أنّ الآخر كون أوضح من الأول ومن أغرب ذلك أنّ السورتين اللتين قبل سورتي المناظرة بين أمريهما طباق، فالأولى في الآخر وهي = الفيل = أكرم الله عزّ وجلّ فيها قريشا بإهلاك أهل = الإنجيل =، والأولى في الأول، وهي = الأنفال = أكرمهم الله جلّ جلاله فيها بنصر أهل القرآن عليهم بإهلاك جبابرتهم، فكان ذلك سببا لكسر شوكتهم، وسقوط نخوتهم المفضي إلى سعادتهم وعلم أنّ البراءة وغيرها إنما عمل لإكرامهم لأنهم المقصودون بالذات وبالقصد الأوّل بالإرسال والنّاس لهم تبع، كما أنّ جميع الرسل تبع للرسول الفاتح الخاتم» (1)
كذلك يسعى البقاعي إلى تأويل تنسيق السور القرآنية تنسيقا يجعل من النظم البياني للقرآن الكريم في علائقه ببعضه كعلاقة أجزاء الدائرة المفرغة ببعضها لا يدرى أين طرفاها.
وهو يستمر في تبيان تعالق كل سورة من السور التسع في آخر القرآن الكريم ترتيلا بما قابلها من التسع في أوله تلاوة.
ومما هو جليّ لا يدفع، ولا يظهر فيه شائبة تكلّف تأويل ما تراه من العلاقة الوثيقة بين سورة = المسد = الرابعة من آخر تلاوته وسورة = النساء = الرابعة من أول تلاوته
يقول في ختام تأويله سورة = المسد =:
= وحاصل هذه السورة أنّ أبا لهب قطع رحمه، وجار عن قصد السبيل، واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره، وظلم الناصح له الرءوف به الذي لم يأل جهدا في نصحه على ما تراه من أنّه لم يأل هو جهدا في أذاه، واعتمد على ماله وأكسابه، فهلك وأهلك امرأته معه، ومن تبعه من أولاده.
ومن أعظم مقاصد سورة = النساء = المناظرة لها في ردّ المقطع على المطلع التواصل والتقارب والإحسان لا سيّما لذوي الأرحام والعدل في جميع القوال والأفعال، فكان شرح حال الناصح الذي لا ينطق عن الهوى، وحال الضالّ الذي إنما ينطق عن الهوى قوله تعالى:
__________
(1) نظم الدرر: 22م 269268(1/180)
{(يُرِيدُ اللََّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)} (النساء: 26)
وختمها إشارة إلى التحذير من مثل حاله، فكأنّه قيل: يبين الله لكم أن تضلوا فتكونوا كأبي لهب في البوار، وصليّ النّار كما تبين لكم فكونوا على حذر من كلّ ما يشابه حاله، وإن ظهر لكم خلاف ذلك، فأنا أعلم منكم، والله بكل شيء عليم والحمد لله ربّ العالمين» (1)
هذا الذي أبداه = البقاعيّ = من تعانق سورتي = المسد = و = النساء = لا ترى فيه شائبة تكلف، وما هو إلا أن يلفت بصيرتك إليه حتى تسكن إلى ما لفتك إليه.
وهو هنا يهدى إلينا إرشادا أن نمدّ مجال الدرس البلاغي للأساليب فلا نجعلها بالمنحصرة في بناء الجملة أو الآية بل نتجاوز ذلك إلى بناء المعقد أو السورة بل القرآن الكريم كله.
الطباق يمتد به من التقابل بين كلمتين في بناء الجملة أو الجملتين في بناء الآية أو البيت إلى أن نجعله مقابلة بين قصة وقصة كمثل ما عرفه المفسرون والبلاغيون من عطف القصة على القصة، ونمتد به فنجعله تقابلا بين سورة وسورة.
وبهذا يكون عندنا طباق مفرد وطباق متعدد وطباق كليّ مركب، وقد كان للبلاغيين نظر كذلك في التشبيه، ولكنهم لم يفعلوا في شأن الطباق وهو بذلك جدير.
وكذلك = التّصدير = نتجاوز به رد العجز على الصدر في بناء البيت إلى بناء الفصل في القصيدة ورد عجز القصيدة على مطلعها، وفي البيان القرآني نتجاوز به إلى ردّ عجز السورة على مطلعها وردّ مقطع البيان القرآني الكريم تلاوته على مطلعه، ويمكن أن يفعل مثل هذا في أساليب التقديم والتأخير والحذف والفصل والوصل.
مجمل الأمر أنّ هذا الذي كان من = البقاعيّ = دالّ على أنّه ذاهب إلى أن ترتيب سور القرآن العظيم فيه من أسرار الإعجاز البياني ما فيه، وأنه ليس بالمعجز في نظم تراكيب جمله أو آياته بل في ترتيب آياته وسوره ولو أنّ البلاغيين المحدثين انصرفت عناية جمع منهم إلى الوفاء ببعض حق هذا الباب من التأمل والتدبّر واستنباط أصول بلاغته في القرآن الكريم لكان لنا أن نقيم إلى ما أقامه الأسلاف ما يرضي به الله عزّ وجلّ عنا من أنّه من باب النصيحة لكتابه الكريم.
__________
(1) نظم الدرر: 22/ 343(1/181)
ولأمكننا أن نضيف إلى التفكير البلاغي والنقدي للكلمة الإنسان: شعرا ونثرا فنيّا ما يؤكد أنّنا لسنا بالمفتقرين إلى استجداء أصول التفكير النقدي من قوم لا يتكلمون بلساننا ولا يحملون في صدورهم همّا كمثل همّنا، وإنّه لمن المعرّة أن يستجدي الأحفاد ما هو مطمور في خزائن أجدادهم التي بين أيديهم، ولا يكلفون أنفسهم شرف الاستنباط منها، ويرون أنّ شرفهم في أن يقتاتوا فتات موائد الأغيار، وأن ينبشوا الأجداث ليستخرجوا ما واراه الآخر من الفكر النقديّ الذي نسيه القوم ورغبوا عنه.
إنّ غير قليل مما تقرأ من التفكير النّقدي المستجدى من الآخر على الشاطئ الغربيّ أنت واجد أصوله التي يمكن أن تنمى إن صدق العزم في تراث أجدادنا وفي نتاج = البقاعي = خاصّة من تلك الأصول كثير نبيل.(1/182)
الفصل الثّاني منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة(1/183)
المعلم الأول تحقيق مقصود كلّ سورة، وتصاعد معانيها
المعالم السابقة كانت فيما يتعلق بمنهاج = البقاعي = في تأويل تناسب ترتيب سور القرآن الكريم، وما يأتيك من معالم قائم بتبيان منهاجه في تأويل تناسب النظم التركيبيّ والترتيبيّ في بناء السورة القرآنية.
وأساس منهاجه في هذا عنايته بتحقيق وتحرير المقصود الأعظم للسورة القرآنية التي هو بصدد تأويلها وتبيان الإعجاز البياني في نظمها تركيبا وترتيبا.
المقصود الأعظم هو ما تدور عليه معاني البيان في هذه السورة، وهو الذي يتحكم في كل شيء فيها.
يقرر في مقدمة تفسيره (نظم الدرر) أنّ علم مناسبات القرآن الكريم علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه (أي أجزاء القرآن: جمله وآياته ومعاقده وسوره)
وهو سرّ البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال.
وهذا يعنى أنّه لا يرى أنّ سرّ البلاغة القرآنية قائم في النظم التركيبي المتحقق من علاقات الكلم ببعضها في بناء الجملة مفردة عن قرائنها في سياقها وإن امتدت فحسب بل قائم في النظم الترتيبيّ، فليست البلاغة العليّة المعجزة في أن عرّفت هذه الكلمة، فأفادت معنى كذا أو قدمت فأفادت كذا، أو حذف المسند إليه أو المفعول به، فأفاد معنى كذا فإنّ شيئا من ذلك في بناء الجملة مفردة عن قرائنها في سياقها أنت واجده في غير البيان القرآنيّ، ولكنّ البلاغة العليّة المعجزة المبلسة العالمين أجمعين قائمة في علاقات الجمل ببعضها في سياق الآية وعلاقات الآيات ببعضها في سياق المعقد وعلاقات المعاقد ببعضها في سياق السورة وعلاقات السور ببعضها في السياق الكلّى للمعنى القرآنيّ الكريم.
والبقاعيّ يبين أيضا في مقدمة تفسيره ما تتوقف عليه إجادة فقه ذلك وإتقان تأويل البلاغة القرآنية المعجزة قائلا:
«وتتوقف الإجادة فيه [أي في علم فقه مناسبات القرآن الكريم] على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها.(1/185)
ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها» (1)
هو كما ترى يجعل العرفان بمقصود السورة أساس الإجادة في فقه تناسب القرآن الكريم من حيث العرفان بعلل ترتيب أجزاء البيان القرآنيّ بدأ من الكلمة في الجملة وانتهاء بالسّورة، وفي الوقت نفسه يعود ذلك بالنفع الجليل على معرفة المقصود من جمل السورة بفقه نظمها التركيبي.
وهذا يجعل المؤوّل للبيان القرآني الكريم قائما في مقام الحركة الترددية بين تأمل وتذوق الجزء وتدبر وتذوق الكلّ، فكلّما زدت البيان القرآني نظرا في جزء منه زادك اقتدارا على عرفان المقصود الأعظم وكلّما زدت المقصود الأعظم نظرا زادك فهما لبيان النظم التركيبي للجملة.
ذلك ما تراه من بيان = البقاعيّ = منزل العرفان بمقاصد السّور في إتقان تأويل البيان القرآنيّ المجيد.
وإذا ما نظرت في موقع بيانه مقصود السورة، فإنّك ترى الغالب عليه أنّه يستفتح القول بذكر مقصود السورة من قبل ذكر اسمها كما تراه في تأويله سورة = البقرة = وسورة = النساء =، و = المائدة =، و = الأنعام =، و = الأعراف = و = التوبة =، و = يونس =.
وقد يستفتح الكلام بتاويل = البسملة = من قبل ذكر مقصود السورة، كما في سورة = آل عمران = و = إبراهيم =.
وقد يستفتحه بذكر اسم السورة، وتأويل البسملة، كما في سورة = الأنفال = و = الملك = و = القلم = و = المعارج
يبقى أن تنظر في منهاجه في تبيان ذلك المقصود لترى أنّه يتخذ منهاجا قائما على السعي إلى تحرير المعنى الكلّىّ الذي يسري في معاقد السورة المكوّنة لمعانيها الكلّيّة القائمة من المعاني الجزئية المصوّرة ببيان نظم الجملة والآية.
في كتابه = مصاعد النظر = يقرر أنّ «كلّ سورة لها مقصد واحد يدار عليه أولها وآخرها، ويستدلّ عليها فيها، فترتب المقدمات الدّالة عليه على أتقن وجه وأبدع نهج وإذا كان فيها شيء يحتاج إلى دليل استدلّ عليه، وهكذا في دليل الدليل، وهلمّ جرّا، فإذا وصل الأمر إلى غايته ختم بما منه كان ابتداء، ثمّ انعطف الكلام إليه، وعاد النظر عليه، على نهج بديع ومرقى غير الأول منيع، فتكون السورة كالشجرة النضيرة العالية والدوحة البهيجة الأنيقة الحالية المزيّنة بأنواع الزينة المنظومة
__________
(1) نظم الدرر: ج 1ص 65(1/186)
بعد أنيق الورق بأفنان الدرّ وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر، وكلّ دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها، وآخر السورة قد واصل أولها كما لاحم انتهاؤها ما بعدها، وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كلّ سورة كدائرة كبرى مشتملة على دوائر الآيات الغرّ البديعة النظم العجيبة الضمّ بلين تعاطف أفنانها وحسن تواصل ثمارها وأغصانها = (1)
هو في هذا منطلق من القاعدة الكلية التى أرشده إليه شيخه = أبو الفضل المشداليّ المغربي = والتى نصّ عليها في مفتتح تأويله سورة = الفاتحة = قائلا: = الأمر الكلّي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنّك تنظر إلى مراتب تلك المقدّمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستبعته من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء العليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها. فهذا هو الأمر الكلّيّ المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله تعالى وجه النظم مفصلا بين كلّ آية وآية في كلّ سورة وسورة، والله الهادي = (2)
وإذا ما كان في تفسيره (نظم الدرر) يستفتح القول في تأويل سورة = البقرة = بقوله: = مقصودها الأعظم: إقامة الدليل على أنّ الكتاب هدى ليتبع في كل ما قال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة، فمدار الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة التى مدارها الإيمان بالغيب = (3)
تجده من بعد فراغه من تأويل البيان وتناسبه في قول الله سبحانه وتعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ}
(البقرة: 39)
يقف مليّا لينظر في تناسب آيات السورة من أولها إلى أول هذا المعقد وهو يقدم لنا وجهين من تقرير المناسبات بين آيات هذا المعقد، فيقول:
= ولمّا أقام سبحانه وتعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولا، وعقبها بذكر الإنعامات العامة داعيا للناس عامة [يقصد قول الله عزّ وجلّ: يأيّها النّاس اعبدوا ربّكم الآية 21] لا سيّما بني إسماعيل: العرب الذين هم قوم
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 149
(2) نظم الدرر: 1/ 1817
(3) السابق: 1/ 55(1/187)
الدّاعي صلّى الله عليه وسلّم، وكان الحقّ من دعي بعد الأقارب وأولاه بالتقدم أهل العلم الذين كانوا على حقّ، فزاغوا عنه، ولا سيّما إن كانت لهم قرابة لأنّهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدنى بيان وأيسر تذكير، فإن رجعوا اقتدى بهم الجاهل، فسهل أمره وانحسم شرّه، وإن لم يرجعوا طال جدالهم، فبان للجاهل ضلالهم، فكان جديرا بالرجوع والكفّ عن غيّه والنزوع، وعرفت من تمادي الكلام معهم الأحكام وبان الحلال والحرام فلذلك لمّا فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار، وختم بأن وعد في اتباع الهدى وتوعّد شرع سبحانه وتعالى يخصّ العلماء من المنافقين بالذكر، وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب على وجه استلزام عموم المصارحين منهم بالكفر، إذ كانوا من أعظم من خصّ بإتيان ما أشار إليه من الهدى والبيان بما فيه الشفاء، وكان كتابهم المشتمل على الهدى من أعظم الكتب، وأشهرها وأجمعها، فقصّ عليهم ما مثله يليّن الحديد، ويخشع الجلاميد، فقال تعالى مذكرا لهم بنعمه الخاصة بهم (يا بني إسرائيل) = (1)
وهو من بعد أن يفرغ من تبيان تسلسل المعاني في المعقد الأول من معاقد السورة وكيف أنه قد تناسل منه الحديث في المعقد الثاني المبدوء بقول الله سبحانه وتعالى:
{يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيََّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة: 40)
يقرر وجها آخر من وجوه التناسب والتناسل قائلا:
= ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر، فيقال:
لمّا كان الكفّار قسمين: قسم محض كفره وقسم شابه بنفاق وخداع، وكان الماحض قسمين: قسم لا علم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب، وقسم له كتاب يعلم الحقّ منه، ذكر تعالى قسم الماحض بما يعمّ قسميه: العالم والجاهل، فقال عزّ وجلّ = {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 6)
ثمّ أتبعه قسم المنافقين لأنّهم أهمّ بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين، وإظهارهم انّهم منهم ليكونوا من خداعهم على حذر، فقال عزّ وجلّ: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8)
ولمّا فرغ من ذلك استتبعه من الأمر بالوحدانية، وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل، والتخويف من تلك
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 308307(1/188)
الغوائل والاستعطاف بذكر النعم شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنّه يعرف الحقّ ويخفيه فالمنافق ألف الكفر، ثمّ أقلع عنه، وأظهر التلبس بالإسلام، واستمرّ على الكفر باطنا، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل دعوته، فلمّا دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به، وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاء المعرفة التي هي مبدأ الإيمان، فحالهم كما ترى أشبه بحال المنافقين، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثير من القرآن.
وأخّرهم لطول قصّتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم، فإنّ مجادلة العالم ترسل في ميادين العلم أفراس الأفكار، فتسرع في أقطار الأوطار حتّى تصير كالأطيار وتأتي ببديع الأسرار.
ولقد نشر سبحانه وتعالى في غضون مجادلتهم وغضون محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنّه هدى للعالمين.
هذا إجمال الأمر.
وفي تفاصيله كما سترى من بدائع الوصف أمور تجلّ عن الوصف تذاق بحسن التعليم ويشفي عيّ جاهلها بلطيف التكليم والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق = (1)
وأنت ترى في الوجه الثاني تفصيلا ليس في الأول ييسر لك رؤية حركة المعنى القرآني في آيات ذلك المعقد من معاقد السورة.
وفي إشارته إلى تعدد وجوه التناسب والتناسل ما يهدي إلى وثاقة الاعتلاق بين أجزاء السورة القرآنية، وهذا شأن البيان العليّ لا يمنحك وجها واحدا من المعانى أو العطاء بل هو يكنز لك في بيانه ضروبا من معانى الهدى ويدع لك الاجتهاد في استخراج ما يتوافق مع قدرك تحريضا على متابعة الاجتهاد في الاستنباط، وفي الوقت نفسه يدفع عنك غائلة الملل إذا ما أنت أخذت في كل محاولة اجتهادية ما أخذته في السابقة عليها، ولكنك إذا ما لقيت في كل مرة من فيض العطاء غير ما لقيت في التي قبلها أقبلت إقبال المتطلع التائق المؤمّل.
وفيه أن درجات العطاء تتعدد وتفاوت بتعدد المجاهدين في التدبر وتتفاوت بتفاوت أقدارهم.
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 309308(1/189)
والبقاعي من بعد أن يلقي إليك ما قام في صدره من وجهي التناسب والتناسل في آيات هذا المعقد الممهدة لآيات المعقد التالي له يعمد إلى أن يقيم بين يديك ما قام في صدر = أبي الحسن الحرالّيّ = من ذلك قائلا:
= وقال = الحرالّيّ = ثمّ أقبل الخطاب على بني إسرائيل منتظما بابتداء خطاب العرب من قوله (يأيها الناس) وكذلك انتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه، وينتظم تفصيله بتفصيله، فكان أوّل وأولى من خوطب بعد العرب الذين هم ختام بنو إسرائيل الذين هم ابتداء، بما هم أوّل من أنزل عليهم الكتاب الأول من التوراة التي افتتح الله تعالى بها كتبه تلو صحفه وألواحه.
ثمّ قال: لمّا انتظم إقبال الخطاب على العرب التي لم يتقدّم لها هدى بما تقدّمه من الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم انتظم بخطاب العرب خطاب بني إسرائيل بما تقدّم لها من هدى في وقتها
{إِنََّا أَنْزَلْنَا التَّوْرََاةَ فِيهََا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هََادُوا وَالرَّبََّانِيُّونَ وَالْأَحْبََارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتََابِ اللََّهِ وَكََانُوا عَلَيْهِ شُهَدََاءَ فَلََا تَخْشَوُا النََّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ)} (المائدة: 44)
وبما عهد إليها من تضاعف الهدى بما تقدّم لها في ارتقائها من كمال الهدى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبهذا القرآن، فكان لذلك الأولى مبادرتهم إليه حتى يهتدى بهم العرب، ليكونوا أول مؤمن بما عندهم من علمه السابق.
انتهى = (1)
ما قام ببيانه = الحرالّيّ = فيه ما يهدي إلى السنة البيانية للقرآن الكريم في تنسيق المعاني وتقديم بعضها على بعض لما في ترتب الثاني على الأول وتناسله منه.
وغير خفي عليك أنّ ما قام البقاعيّ ببيانه ولا سيّما الوجه الثاني فيه وشيجة انتساب إلى مقال = الحرالي =.
والبقاعي = ما يزال في أثناء السور يجمل لك حركة المعنى في سياقها فتراه عند تأويله قول الله سبحانه وتعالى
{تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (البقرة: 252)
يقول: = ولعلّ ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصّة لما فيها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من واضح الدلالة على صحة دعواه الرسالة لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذّاق علماء بني إسرائيل
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 311(1/190)
ثمّ عقبها بآية الكرسيّ التي هي الأعظم من دلائل التوحيد، فكان ذلك في غاية المناسبة لما في أوائل السورة في قول الله سبحانه وتعالى:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(البقرة: 21) إلى آخر تلك الآيات من دلائل التوحيد المتضمنة لدلائل النبوّة المفتتح بها قصص بني إسرائيل، فكانت دلائل التوحيد مكتنفة قصّتهم أولها وآخرها مع ما في أثنائها جريا على الأسلوب الحكيم في مناضلة العلماء ومجادلة الفضلاء، فكان خلاصة ذلك كأنّه قيل (ألم) تنبيها للنفوس بما استأثر العليم سبحانه وتعالى بعلمه، فلمّا ألقت الأسماع وأحضرت الأفهام قيل: يأيها النّاس، فلمّا عظم التّشوف قال = اعبدوا ربكم = ثمّ عينه بعد وصفه بما بينه بقوله عزّ وجلّ:
{اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلََّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ وَلََا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلََّا بِمََا شََاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:
255)
كما سيجمع ذلك من غير فاصل أول سورة = التوحيد =: = آل عمران = المنزلة في مجادلة أهل الكتاب من النّصارى وغيرهم، وتختتم قصصهم بقوله عزّ وجلّ:
{رَبَّنََا إِنَّنََا سَمِعْنََا مُنََادِياً يُنََادِي لِلْإِيمََانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنََّا رَبَّنََا فَاغْفِرْ لَنََا ذُنُوبَنََا وَكَفِّرْ عَنََّا سَيِّئََاتِنََا وَتَوَفَّنََا مَعَ الْأَبْرََارِ} (آل عمران: 193)
يعنى بالمنادي والله سبحانه وتعالى أعلم القائل: {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ =} (البقرة: 21) إلى آخرها.» (1)
وإذا ما نظرت في موقفه من تصاعد المعنى القرآني في سورة البقرة وتناسل تلك المعانى عند تأويله الآية التي يذهب إلى أنها خاتمة سورة البقرة على الرغم من أنها متلوة بثلاثين آية أخرى: = آية الكرسيّ = (2) تسمعه قائلا:
= ولمّا ابتدأ سبحانه وتعالى = الفاتحة = كما مضى بذكر الذات ثمّ تعرّف بالأفعال لأنها مشاهدات، ثمّ رقّى الخطاب إلى التعريف بالصّفات، ثمّ أعلاه رجوعا إلى الذات للتأهل للمعرفة ابتدأ هذه السورة [سورة البقرة] بصفة الكلام [يقصد قوله: ذلك الكتاب] لأنّها أعظم المعجزات، وأبينها،
__________
(1) نظم الدرر: 3/ 442
(2) السابق: 4/ 198(1/191)
وأدلّها على غيب الذات وأوقعها في النّفوس لا سيّما عند العرب، ثمّ تعرف بالأفعال، فأكثر منها، فلمّا لم يبق لبس أثبت الوحدانية بأيتها السابقة مخللا ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الوصف والترتيب، فلمّا تمت الأوامر، وهالت تلك الزواجر، وتشوفت الأنفس في ذلك اليوم إذ كان المألوف من ملوك الدّنيا أنّهم لا يكادون يتمكنون من أمر من الأمور حقّ التمكن من كثرة الشفعاء والرّاغبين من الأصدقاء إذ كان الملك منهم لا يخلو مجلسه قطّ من جمع كلّ منهم صالح للقيام مقامه، ولو خذله أو وجه إليه مكره ضعضع أمره، وفتّ في عضده، فهو محتاج إلى مراعاتهم واسترضائهم ومداراتهم، بيّن سبحانه وتعالى صفة الآمر بما هو عليه من الجلال والعظمة ونفوذ الأمر والعلو عن الصدّ والتنزه عن الكفر والنّدّ والتفرد بجميع الكمالات والهيبة المانعة بعد انكشافها هناك أتمّ انكشاف لأن تتوجه الهمم لغيره، وأن تنطق بغير إذنه، وأن يكون غير ما يريد ليكون ذلك أدعى إلى قبول أمره والوقوف عند نهيه وزجره
ولأجل هذه الأغراض ساق الكلام مساق جواب السؤال، فكأنّه قيل: هذا ما لا يعرف من أحوال الملوك، فمن الملك في ذلك اليوم؟
فذكر آية الكرسيّ سيدة آي القرآن التي ما اشتمل كتاب على مثلها مفتتحا لها بالاسم العلم الفرد الجامع الذي لم يتسم به غيره = (1)
يأتي أيضا في مقدمة تأويله موقع قصة سيدنا إبراهيم عليه السّلام وطلبه من ربّه عزّ وعلا أن يريه كيف يحيي الموتى، فيلفت نظرنا إلى المقصود الأعظم للسورة قائلا:
= ولمّ كان الإيمان بالبعث بل الإيقان من المقاصد العظمى في هذه السورة وانتهى إلى هذا السياق الذي هو لتثبيت دعائم القدرة على الإحياء مع تباين المناهج، واختلاف الطرق، فبيّن أولا بالرد على الكافر ما يوجب الإيمان، وبإشهاد المتعجب ما ختم الإيقان علا عن ذلك البيان في قصة = الخليل = صلّى الله عليه وسلّم إى ما يثبت الطمأنينة.
وقد قرر سبحانه وتعالى أمر البعث في هذ السورة بعد ما أشارت إليه = الفاتحة = بيوم الدين أحسن تقرير، فبثّ نجومه فيها خلال سماوات آياتها، وفرّق رسومه في أرجائها بين دلائلها وبيناتها فعل الحكيم الذي يلقى ما يريد
__________
(1) نظم الدرر: ج 4/ 2625(1/192)
بالتدريج غير عجل ولا مقصّر، فكرّر سبحانه وتعالى ذكره بالآخرة تارة، والإحياء أخرى، تارة في الدنيا وتارة في الآخرة في مثل قوله عزّ وجلّ:
{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: من الآية 4)
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ} (البقرة: من الآية 28)
{ثُمَّ بَعَثْنََاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 56)
{كَذََلِكَ يُحْيِ اللََّهُ الْمَوْتى ََ} (البقرة: من الآية 73)
{فَقََالَ لَهُمُ اللََّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيََاهُمْ} (البقرة: من الآية 243)
وما كان من أمثاله ونظائره واشكاله في تلك الأساليب المرادة غالبا بالذّات لغيره، فاستأنست أنفس المنكرين له به، فصار لها استعداد لسماع الاستدلال عليه حتى ساق لهم أمر خليله عليه السّلام والتحية والإكرام، فكان كأنّه قيل: يا منكري البعث ومظهري العجب منه ومقلّدي الآباء في أمره بالأخبار التي أكثرها كاذب، اسمعوا قصة أبيكم = إبراهيم = صلّى الله عليه وسلّم التي لقاكم بها الاستدلال على البعث وجمع المتفرق، وإعادة الروح بإخبار من لا يتهم بشهادة القرآن الذي أعجزكم عن الإتيان بمثل شيء منه، فشهادته شهادة الله لتصيروا من ذلك على علم اليقين بل عين اليقين = (1)
فأنت تراه ساعيا إلى تبيان تصاعد المعنى القرآنيّ وهيمنة المقصود الأعظم على تلك المعانى المتصاعدة يقينا منه بأنّ المعنى القرآني في سياق السورة إنّما هو خاضع لسلطان معنى كلّي، وأنّ المعاني الجزئية المشكّلة لمعاني المعاقد التي منها قوام السورة القرآنية إنّما هي معان متصاعدة تؤسّس من وجه ما لم يكن له ذكر سابق، وتؤكّد من آخر ما سبق تأسيسه، وفي كلّ تأكيد تأسيس لما يقوم عليه البيان القرآنيّ من منهاج تصريف المعاني.
هذان الأمران:
تصاعد المعاني وتناسلها من جهة
وتصريف البيان عنها من جهة أخرى
من الخصائص الجليلة للسّنّة البيانيّة في القرآن الكريم أنت لا تجدها في غيره على نحو ولو شديد المفارقة لها. وهذا فيما أزعم معلم من معالم خصائص الإعجاز البياني للقرآن الكريم.
والبقاعي إذا ما تجلت لك عنايته بتبيان وجه انتظام المعاني في سورة البقرة وتصاعدها وخضوعها لسلطان معنى كلّي هو مقصودها الأعظم
__________
(1) نظم الدرر: ج 4/ 6160(1/193)
، فإنه يحرص في نهاية تأويله البيان القرآنيّ في سورة البقرة على أن يخلّص لنا القول في ترتيب معانيها على النحو المعجز الذي جاءت عليه قائلا:
= وسرّ ترتيب سورة = السنام = على هذا النّظام أنّه لمّا افتتحها سبحانه وتعالى بتصنيف النّاس الذين هم للدّين كالقوائم الحاملة لذي السّنام، فاستوى وقام ابتداء المقصود بذكر أقرب السنام إلى أفهام أهل القيام، فقال مخاطبا لجميع الأصناف التي قدمها {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)
واستمر إلى أن بان الأمر غاية البيان، فأخذ يذكر مننه سبحانه على النّاس المامورين بالعبادة بما أنعم عليهم من خلق جميع ما في الوجود لهم بما أكرم به أباهم = آدم = عليه السّلام، ثمّ خصّ العرب ومن تبعهم ببيان المنّة عليهم في مجادلة بني إسرائيل وتبكيتهم
وهو سبحانه وتعالى يؤكد كلّ قليل أمر الربوبية والتوحيد بالعبادة من غير ذكر شيء من الأحكام إلا ما انسلخ منه بنو إسرائيل، فذكره على وجه الامتنان به على العرب، وتبكيت بني إسرائيل بتركه، لا على أنّه مقصود بالذّات.
فلمّا تزكّوا، فارتقوا، فتأهلوا لأنواع المعارف قال معليا لهم من مصاعد الربوبية إلى معارج الإلهية:
{وَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الرَّحْمََنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163)
فلمّا تسنّموا هذا الشرف لقّنهم العبادات المزكية، ولقّاهم أرواحها المصفية، فذكر أمهات الأعمال أصولا وفروعا الدعائم الخمس والحظيرة وما تبع ذلك من الحدود في المآكل والمشارب والمناكح، وغير ذلك من المصالح، فتهيئوا بها، وأنّها المواردات الغرّ من ذي الجلال، فقال مرقيا لهم إلى غيب حضرته الشّماء. ذاكرا مسمّى جميع الأسماء
{اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلََّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ وَلََا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلََّا بِمََا شََاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:
255)
ولمّا كان الواصل إلى أعلى مقام الحريّة لا بدّ عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمال اللائقة بهم، فحثّ على أشياء أكثرها من وادي الإحسان الذي هو مقام أولى العرفان، فذكر مثل
النفقة التي هي أحد مباني السورة عقب ما ذكر مقام الطّمأنينة إيذانا بأنّ ذلك شأن المطمئنّ، ورغّب فيها إشارة إلى أنّه لا مطمع في الوصول إلّا بالانسلاخ من الدّنيا كلّها(1/194)
ولمّا كان الواصل إلى أعلى مقام الحريّة لا بدّ عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمال اللائقة بهم، فحثّ على أشياء أكثرها من وادي الإحسان الذي هو مقام أولى العرفان، فذكر مثل
النفقة التي هي أحد مباني السورة عقب ما ذكر مقام الطّمأنينة إيذانا بأنّ ذلك شأن المطمئنّ، ورغّب فيها إشارة إلى أنّه لا مطمع في الوصول إلّا بالانسلاخ من الدّنيا كلّها
وأكثر من الحثّ على طيب المطعم الذي لا بقاء بحال من الأحوال بدونه، ونهى عن الربا أشدّ نهي إشارة إلى التّقنع بأقلّ الكفاف، ونهيا عن مطلق الزيادة للخواصّ، وعن كلّ حرام للعوام
وأرشد إلى آداب الدّين الموجب للثقة بما عند الله سبحانه وتعالى المقتضي بصدق التوكل المثمر للعون من الله سبحانه وتعالى والإرشاد إلى ذلك، توفّي النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا وهو متلبّس به.
وبنى سبحانه وتعالى كلّ ثلث من هذه الأثلاث على مقدمة في تثبيت أمره وتوجه بخاتمة في التحذير من التهاون به.
وزاد الثالث لكونه الختام، وبه بركة التّمام أن أكّد عليهم بعد خاتمته في الإيمان بجميع ما في السورة.
وختم بالإشارة إلى أنّ عمدة ذلك الجهاد الذي لذوي الغيّ والعناد، والاعتماد فيه على مالك الملك وملك العباد، وذلك هو طريق أهل الرشاد والهداية والسداد.
والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب (1)
بهذا التخليص المحيط بما هو مرتكزات رئيسة ترتكز عليها سورة البقرة وتقوم عليها قياما يحقق لها إعجازها في ترتيب معاني الهدى فيها على نحو يجعل منها سنام القرآن الكريم وفسطاطه وذروته.
وقد كان البقاعي مدركا حسن التقسيم وبديعه للمعاني الكلية التى قامت منها سورة البقرة ومدركا لمنهاج القرآن الكريم في تقسيمه الأحكام والآداب العلية التى احتوتها سنام القرآن الكريم ومنهاج السورة في افتتاح كل قسم واختتامه.
* * * وننظر في سورة أخرى من سور، المئين من بعد نظرنا في سورة من = الطول = ننظر في تبيانه مقصود سورة = النحل =
يقول: = مقصودها الدلالة على أنّه سبحانه وتعالى تام القدرة والعلم فاعل بالاختيار منزه عن شوائب النقص = (2)
__________
(1) نظم الدرر: 4/ 194192
(2) نظم الدرر = 11/ 101(1/195)
ثمّ يضيف تصريحا بالتدليل على الوحدانية التي أبان عنها إجمالا بقوله (منزه عن شوائب النقص) وأوّل وأكبر شوائب النقص الشرك، فمن كان له شريك كان غير منزه عن رأس شوائب النقص، ولعلّ البقاعيّ لم يصرح بالوحدانية أولا في تحقيق مقصود السورة وهو كثير المراجعة لتأويله إشارة منه إلى أنّ الوحدانية ملزوم ما صرح به من كمال علمه وقدرته واختياره وتنزهه عن شوائب النقص، والتصريح باللوازم يلزمه العلم بالملزوم، ومن سلّم باللازم وجب عليه التسليم بالملزوم لا محالة: من سلم لك بأنّ فلانا يتحرك وجب عليه التسليم بأنّه حيّ، فالحياة ملزوم الحركة، وهذا منهاج من مناهج الإلزام بالحقيقة.
وكأنّ البقاعي يشير بذلك إلى منهاج السورة في التدليل، فهي تتخذ ذكر النعم امتنانا دليلا على وحدانية المنعم وكمال علمه وقدرته واختياره وتنزهه عن شوائب النقص، وهذا ما تقوم عليه السورة، فأشعرنا البقاعي بصنيعه هذا حقيقة المنهاج الذي يقوم عليه البيان في السورة من التصريح باللازم لتحقيق وتأكيد الملزوم.
على أنّ بيان السورة يقيم جملا مصرحة بالوحدانية يقيمها في مواقع معينة من مساحة البيان فيها:
تجده في صدر المعقد الأول يقول عزّ وجلّ: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل: من الآية 2) ويقول في ختام تعديده مجموعة من نعمه الممتن بها والمدلل بها على وحدانيته وعلمه وقدرته وتنزهه عن شوائب النقص (ي: 212): {إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (النحل: من الآية 22)
ومن بعد أن يذكر ما اعتراض به الكافرون على الدعوة ويقوضها (ي:
5024) يصرح بالوحدانية
{وَقََالَ اللََّهُ لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ فَإِيََّايَ فَارْهَبُونِ}
(النحل: 51)
أنت إذ تتابع النظر في آيات السورة تجد أنها منسولة من معنى التدليل بالنعم على وحدانية الله سبحانه وتعالى وما يلزمها من الصفات الحسنى: كمال العلم والقدرة والاختيار
وإن تفاوتت دلالة الآيات على هذا المعنى، فالسورة قائمة على منهاج تصريف البيان عن المعنى الواحد (المقصود الأعظم) بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه
وهذا ليس خاصّا بسورة = النحل = بل هو شامل كلّ سورة من سور القرآن الكريم(1/196)
ولا أكاد أملّ تأكيد القول بأنّ علم البيان في البلاغة القرآنية ليس بالمحصور في = التشبيه والاستعارة والمجاز المرسل والكناية = فمن شاء أن يدرس سورة ما في ضوء منهاج علم البيان فإنّ عليه ألا يقتصر اجتهاده في التدبر والتأويل على هذه الأساليب في السورة بل يشمل تأمل وتدبر دلالة كل جملة وآية على المقصود الأعظم للسورة (المعنى الواحد) المتعين فيها، ودرجات الاختلاف في الدلالة وعلاقة هذا التباين بين سبل الابانة بالمعنى الجزئي والمعنى الكلّي، مرتكزا على تأمل وتدبر النظم التركيبي والترتيبي للجمل والآيات والمعاقد
* * * وإذا ما كان البقاعيّ معنيّا بحقيق مقصود السورة التي هو بصدد تدبر منهاج البيان فيها فإنه أيضا حريص على مراجعة ما ينتهى إليه من استنباط المقصود الأعظم للسورة التي هو بصدد تأويل بيانها وبيان عظيم تناسب نظامها، فيبين لنا أحيانا أنّه قد أعاد النظر في تحقيق وتحرير مقصود السورة وبدا له ما هو أعلى مما كان قد أشار إليه من قبل، يقول في مفتتح سورة = الأعراف =:
= مقصودها إنذار من أعرض عمّا دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل من الأنعام، وتحذيره بقوارع الدارين.
وهذا أحسن مما كان ظهر لي، وذكرته عند: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوََازِينُهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف: 8) (1)
وهو في تفسيره تلك الآية يقول بعد بيانه معنى الوزن وأنّه بميزان حقيقي لصحف الأعمال أو للأعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور
فتحرر أنّ مقصود السورة الحثّ على اتباع الكتاب، وهو يتضمن الحثّ على اتّباع الرسول والدلالة على التوحيد والقدرة على البعث ببيان الأفعال الهائلة في ابتداء الخلق وإهلاك الماضين إشارة إلى أنّ من لم يتبعه ويوحّد من أنزله على هذا الأسلوب الذي لا يستطاع والمنهاج الذي وقفت دونه العقول والطباع لما قام من الأدلة على توحيده يعجز من سواه عن أقواله وأفعاله أوشك أن يعاجله قبل يوم البعث بعقاب مثل
__________
(1) نظم الدرر: 7/ 347(1/197)
عقاب الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادّخر له في ذلك اليوم من سوء المنقلب ولإظهار أثر الغضب = (1)
تراه في صدر السورة مكرّسا المقصود في معنى الإنذار، فهذا المعنى هو محور ما تدور عليه المعاني الكلية للسورة المكونة من معان جزئية تصورها جمل السورة وآياتها
وفي تأويله الآية الثامنة {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوََازِينُهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف: 8) يجعل المقصود أعم من معنى الإنذار وإن كان قائما الإنذار في ذلك المقصود العام، فإنّ في الإشارة إلى القدرة على البعث معنى الإنذار، لأنه لا معنى للبعث إذا لم يترتب عليه جزاء العباد على ما عملوا إن خيرا وإن شرا.
مجمل الأمر أنّ البقاعي ذو حرص على السعي إلى تحقيق المعنى الكليّ المهيمن على السورة التي هو بصدد تأويل بيانها وتبيان تناسب نظامها، وحريص على أن يكون لهذا المعنى وجود في معاقد السورة، وإن لطف أثره أحيانا في فقه المعانى الجزئية المكونة لمعاني المعاقد التي يتكون منها نظام السورة.
وهذا المنهاج من أهم ما يميز تفسير البقاعي عن غيره من التفاسير السابقة عليه بل اللاحقة له، فإنك لا تكاد تجد تفسيرا كمثله في ذلك الحرص، والتتبع في كلّ سورة من سور القرآن الكريم كلّها.
فليس من شك في أن الالتفات إلى ابراز بعض وجوه تناسب بعض الآيات في تواليها أمر غير مستحدث على يدي = البقاعيّ = فهو مما تجده في غير قليل من كتب التفسير من قبله، غير أنك تجد هذا فيها كالشذرات، ولا تجد من تنصرف عنايته إلى تحقيق المعنى الكليّ لكلّ سورة من سور القرآن الكريم وتنصرف إلى العناية بتبيان تلاحم بل تناسل المعاني الكليّة القائمة في معاقد السورة، وتناسل المعاني الجزيئة القائمة في جمل السورة وآياتها ولكنك الواحد البقاعيّ يفعل ذلك في كلّ سورة من سور القرآن الكريم.
__________
(1) السابق 7/ 360(1/198)
المعلم الثاني. علاقة اسم السّورة بمقصودها
لكلّ سورة من سور القرآن الكريم اسم أو أكثر به تعرف منذ نزلت وإلى أن تقوم الساعة.
وللبقاعيّ عناية بتأويل تسمية السور، والغالب عليه أنه يذكر اسم السورة أو أسماءها من بعد بيانه مقصودها الأعظم ليبين وجه دلالة اسمها على مقصودها، فذلك من أصوله الذي صرح به في صدر تفسيره سورة الفاتحة من بعد أن ذكر القاعدة الكلية التي تعلمها من شيخه = المشدالي = قائلا:
= وقد ظهر لي باستعمالى لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة = سبأ = في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب:
أنّ اسم كلّ سورة مترجم عن مقصودها لأنّ اسم كلّ شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدّال إجمالا على تفصيل ما فيه، وذلك هو الذي أنبأ به = آدم = عليه السّلام عند العرض على الملائكة عليهم الصلاة والسلام = (1)
وهذا قائم على أنّ أسماء السور من المرفوع نسبه أو الموقوف اجتهادا من الصحابة رضوان الله عليهم.
والبقاعي لم يصرّح بمذهبه في ذلك، وإن دلّ منهاج تاويله التسمية على أنه إلى الرفع أقرب منه إلى الوقف.
وأنت إذ تنظر في كتابه = مصاعد النظر = وقد عني فيه بذكر الأحاديث والأخبار والآثار المتعلقة بشأن السور القرآنية تجده ذاكرا في شأن كلّ سورة حديثا أو خبرا أو أثرا فيه تصريح باسم السورة، وهذا دالّ على أنّ تلك الأسماء التي هو بصدد تأويلها وتبيان دلالتها على مقصود السورة التي سمّيت بها إنما هي إلى الرفع أقرب.
والذي هو من هدي السنّة النبويّة اعتناؤه صلّى الله عليه وسلّم بتسمية الأشياء: إنسانا وغيره، وكان يهدي إلى حسن التسمية، ويغيّر اسم من لا يستطيب اسمه، وما كان من جدّ = سعيد بن المسيّب بن حزن = رضى الله عنه حين سماه سهلا، فأبى عصبية إنّما هو قائم في نفوسنا عظة جليلة لكيلا نرغب
__________
(1) نظم الدرر: ج 1/ 18(1/199)
عمّا رغب فيه البشير النذير صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
فإذا ما كان هذا من هديه صلّى الله عليه وسلّم في الأشياء من حوله، فكيف يكون هديه في شأن تسمية السور القرآنية؟
كتب الصّحاح من السنّة النبوية قائم فيها من بيان النبوة ما يقطع بتسمية غير قليل من السور القرآنية.
المهم أنّ في التسمية ما يغري بأنّه قد تكون هنالك وشيجة نسب بين معنى الاسم ومقصود ما سميت به من السور، فجدير بنا النظر فيها ولا سيّما أنّ تسمية غير قليل من السور لا تصلح أن تعلّل بأنّها سميت بذلك لذكره فيها، وإلّا ما وجه تسمية السورة التالية للتوبة ب = يونس = عليه السّلام، وقد ذكرت قصته في غيرها بأبسط مما ذكرت فيها؟ ولم لم تسمّ واحدة من السور باسم = موسى = عليه السّلام، وهو من أكثر الأنبياء ذكرا لقصته مع بني إسرائيل؟ ولم لم تسمّ سورة = بني إسرائيل: الإسراء = بموسى =؟
بل لم لم تسمّ سورة القصص ب = موسى = عليه السّلام وهي التى بسطت فيها قصته وذكر فيها من أخباره ما لم يذكر في غيرها، ولم يذكر من قصص الأنبياء فيها غير قصته، وما جاء من قصة قارون فيها فإن قارون كان من قوم موسى عليه السّلام، فهذا دالّ دلالة بينة على أن أمر التسمية ليس مرده مجرد ذكر الاسم في تلك السورة.
المهمّ أنّ البقاعيّ ذو عناية بذكر اسم السورة أو أسمائها إن تعددت، وفي تعددها دلالة على عظيم فضلها واتساع مقصودها، فهو يذكر لنا أسماء سورة الفاتحة:
= فالفاتحة اسمها = أم الكتاب = و = الأساس = و = المثاني = و = الكنز = و = الشافية = و = الكافية = و = الوافية = و = الرّقية = و = الحمد = و = الشكر = و = الدعاء = و = الصلاة.
ويبين علاقة مقصود الفاتحة: = مراقبة العباد لربهم لإفراده بالعبادة =، فيقول:
= مدار هذه الأسماء كما ترى على أمر خفيّ كاف لكلّ مراد، وهو المراقبة التى سأقول إنها مقصودها، فكلّ شيء لا يفتتح بها لا اعتداد به، وهي كنز لكل شيء، شافية لكلّ همّ، وافية بكلّ مرام، واقية من كلّ سوء، رقية لكل ملمّ، وهي إثبات للحمد الذي هو الإحاطة بصفات
الكمال، وللشكر الذي هو تعظيم المنعم، وهي عين الدعاء، فإنّه التوجه إلى المدعو وأعظم مجامعها الصلاة = (1)(1/200)
= مدار هذه الأسماء كما ترى على أمر خفيّ كاف لكلّ مراد، وهو المراقبة التى سأقول إنها مقصودها، فكلّ شيء لا يفتتح بها لا اعتداد به، وهي كنز لكل شيء، شافية لكلّ همّ، وافية بكلّ مرام، واقية من كلّ سوء، رقية لكل ملمّ، وهي إثبات للحمد الذي هو الإحاطة بصفات
الكمال، وللشكر الذي هو تعظيم المنعم، وهي عين الدعاء، فإنّه التوجه إلى المدعو وأعظم مجامعها الصلاة = (1)
فهو كما سمعت أبرز معنى كلّ اسم من أسمائها من خلال مقصودها الأعظم الذي هو في الحقيقة المقصود الأعظم للقرآن الكريم.
التّأمّل في معنى الاسم يهدي إلى إبصار ملمح من ملامح مقصود السورة، فإذا ما استجمعت تلك الملامح ونسقتها واستبصرت فيها معنى كلّيا تدور عليه كنت على مقربة من تحقيق المقصود الأعظم للسورة.
ويقول في سورة = يونس = عليه السّلام موضحا وجه اختصاص هذه السورة بهذا الاسم، واختصاص قصة = يونس = عليه السّلام بأن تكون عنوان السورة على الرغم من أنه قد ذكر فيها غيرها من القصص: = نوح = عليه السّلام (ي: 71 74) و = موسى = عليه السّلام (ي: 9375) ثم ذكرت آية واحدة في قصة قوم = يونس = عليه السّلام:
{فَلَوْلََا كََانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهََا إِيمََانُهََا إِلََّا قَوْمَ يُونُسَ لَمََّا آمَنُوا كَشَفْنََا عَنْهُمْ عَذََابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَمَتَّعْنََاهُمْ إِلى ََ حِينٍ} (يونس: 98)
فيقول: = مقصودها: وصف الكتاب بأنّه من عند الله سبحانه وتعالى، لما اشتمل عليه من الحكمة، وأنّه ليس إلا من عنده سبحانه وتعالى لأنّ غيره لا يقدر على شيء منه، وذلك دالّ بلا ريب على أنّه واحد في ملكه لا شريك له في شيء من أمره.
وتمام الدليل على هذا قصة قوم = يونس = عليه السّلام بأنهم لمّا آمنوا عند المخايل كشف عنهم، فدلّ قطعا على أنّ الآتي به هو الله الذي آمنوا به إذ لو كان غيره لكان إيمانهم به موجبا للإيقاع بهم، ولو عذبوا كغيرهم لقيل: هذه عادة الدهر، كما قالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء.
ودلّ ذلك على أنّ عذاب غيرهم من الأمم إنّما هو من عند الله سبحانه وتعالى لكفرهم لما اتسق من ذلك طردا بأحوال سائر الأمم من أنّه كلّما وجد الإصرار على التكذيب وجد العذاب، وعكسا منه كلّما انتفى في وقت يقبل قبول التوبة انتفى والله الموفق = (2)
فهذا دال على أنّ اختصاص = يونس = عليه السّلام بهذه السورة تسمية لما كان من خبر رفع العذاب عن قومه لإيمانهم حين معاينة العذاب، وصدقهم في إيمانهم، فكان من فيض قيومية الحق وأنّه فعّال لما يريد، وأنّه هو الذي يعذب من شاء بما شاء ومتى شاء ولما شاء، فذلك لحكمة هو بها
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 19
(2) نظم الدرر: 9/ 6261(1/201)
عليم وهو الذي أنزل هذا الكتاب الذي يهدي إلى ذلك ويقصّ علينا من تلك الأخبار ما لم يقصّ غيره منها، فالذي أتى بالرحمة من العذاب إلى قوم يونس هو الذي أتى بالكتاب الحكيم إلى عبده ونبيه محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
وفي مفتتح سورة = هود = عليه السّلام يبين المقصود الأعظم بقوله:
= مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة المقتضي ذلك لمنزله سبحانه وتعالى وضع كلّ شيء في أتمّ محاله وإنفاذه مهما أريد الموجب للقدرة على كلّ شيء =
ثم يبين وجه تسميتها ب = هود = عليه السّلام، وقد ذكر فيها من قصص الأنبياء كثير، وذكرت قصة = هود = عليه السّلام في غيرها ولم تسم بها قائلا:
= وأنسب ما فيها لهذا المقصد ما ذكر في سياق قصة = هود = عليه السّلام من إحكام البشارة والنذارة بالعاجل والآجل والتصريح بالجزم بالمعالجة بالمبادرة الناظر إلى أعظم مدارات السورة
{فَلَعَلَّكَ تََارِكٌ بَعْضَ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ وَضََائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جََاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمََا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (هود: 12)
والعناية بكلّ دابّة والقدرة على كلّ شيء من البعث وغيره المقتضي للعلم بكلّ معلوم اللازم منه التفرد بالملك
وسيأتي في = الأحقاف = وجه اختصاص كلّ منهما باسمهما = (1)
وفي سورة الأحقاف يقول:
= مقصودها إنذار الكافرين بالدلالة على صدق الوعد في قيام الساعة اللازم للعزة والحكمة الكاشف لهما أتم كشف بما وقع الصدق في الوعد به من إهلاك المكذبين بما يضادّ حال بلادهم، وأنّه لا يمنع من شيء من ذلك مانع لأنّ فاعل ذلك شريك له، فهو المستحق للإفراد بالعبادة، وعلى ذلك دلت تسميتها ب = الأحقاف = الدالة على هدوء الريح وسكون الجوّ بما دلت عليه قصة قوم = هود = عليه السّلام من التوحيد وإنذارهم بالعذاب دنيا وأخرى ومن إهلاكهم وعدم إغناء ما عبدوه عنهم
ولا يصحّ تسميتها ب = هود = عليه السّلام ولا تسمية سورة = هود = عليه السّلام ب = الأحقاف = لما ذكر من المقصود بكل منهما = (2)
* * * __________
(1) نظم الدرر 9/ 224
(2) السابق: ج 18ص 118(1/202)
وفي تبيان علاقة اسم سورة النحل بمقصودها يقول من بعد بيانه أنّ مقصودها الأعظم: التدليل بنعم الله سبحانه وتعالى على وحدانيته وكمال علمه وقدرته واختياره وتنزهه عن شوائب النقص:
= وأدلّ ما فيها على هذا المعنى أمر النّحل لما ذكر من أمرها من دقة الفهم في ترتيب بيوتها ورعيها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرج منها من أعسالها وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضّارة وغير ذلك من الأمور.
ووسمها بالنعم واضح في ذلك، والله أعلم = (1)
وإذا ما نظرت في الآيات المتحدثة عن النحل = في هذه السورة: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمََّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 6968)
رأيت أنّها بدأت بأمر الإيحاء إلى النحل، وهذا في نفسه دليل على كمال العلم وكمال القدرة على الإيحاء لما شاء ومن شاء، وما أوحي إلى النحل فيه من العلم الذي يحقق لها أمنها وسعادتها في حياتها مما هو معلوم مشهور بين البشر مؤمنهم وكافرهم، فإذا كان هذا لا مرية فيه فإن الإيحاء إلى أفضل العالمين لا يكون إلا بما هو أعظم تحقيقا لأمن العباد وسعادتهم في الدارين، ولا يفعل ذلك إلا إله واحد عالم قادر مختار منزه عن شوائب النقصان
إن تدبر حال النحل دالّ دلالة بيّنة على أنّ الذي خلقها وأوحى إليها إنّما هو الواحد العليم القدير المختار، فكانت هذه الآية وتلك النعمة من أقوى الأدلة على تقرير مقصود السورة، فإنّك لا تجد أحدا ينازع فيما اختصت به النحل من خصائص مبهرة من أظهر سماتها العلم والنظام والقدرة على تحقيق المراد.
وتسمية السورة بسورة = النعم = يكتفي البقاعيّ في تأويله وتعليله بقوله: = وتسميتها بالنعم واضح في ذلك =
هذا الوضوح كوضوح تسميتها = النحل = إلا أن جهة الوضوح مختلفة:
وضوح الدلالة في التسمية بالنحل مما عرف واشتهر عند العامة والخاصة من شأن النّحل الذي أشرت إليه قبل
__________
(1) السابق: 11/ 101(1/203)
ووضوح تسميتها بالنّعم من كثرة ذكر النّعم والآلاء في هذه السورة وكان من سنة البيان عن هذه النعم نظمه على نحو دال على اختصاص الحقّ عزّ وجلّ بفعل ذلك من نحو قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرََابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}
(النحل: 10)
فمثل هذا التركيب: تعريف الطرفين = هو الذي = مفيد للاختصاص فكأنّه قيل: ما أنزل من السماء ماء إلا هو، هذا معنى من معاني = لا إله إلا الله = التي هي عنوان التوحيد والكمال المطلق
ولو أنّا رغبنا في استقصاء الآيات الدالة على التوحيد إفصاحا وإفهاما في سورة النحل لأمكن أن تقول إنّ كل آية من آياتها تصريف بيانيّ لمعنى التوحيد لا تفاوت في الدلالة إلا في درجات بيانها: وضوحا وخفاء.
* * * يتبين لك مما سبق أن البقاعي يقوم تأويله على أنّ لكلّ سورة معنى كليّا هو المهين على معانيها الجزئية هو منها بمثابة الأم من أبنائها، وأنّ هذا المعنى الكلي هو المائز بين السور، وأن في اسم كلّ سورة دلالة على مقصودها، وهي دلالة منسولة من أنّ ذلك الاسم مرتبط ارتباطا وثيقا بذلك المعنى الكلّي المهيمن على تلك السورة، ومن ثم لا يكون معيار التسمية أو باعثه هو أن ذلك الاسم قد ذكر في تلك السورة كما سبقت الإشارة إليه.
إن الأمر مبعثه ومردّه إلى المعنى الكليّ المهيمن على تلك السورة وما هو مكنون في ذلك الاسم من الإشارة إلى ذلك المعنى الكليّ المهيمن.
هذا لو استثمره نقّاد الشعر في عصر = البقاعي = وما بعده وبحثوا عن المعنى الكلي المهيمن على القصيدة واختاروا لها اسما دالا على ذلك المعنى المهيمن لكانوا فاتحين للنقد الأدبي طريقا وسيعا وسبيل بديعا
* * *
المعلم الثالث تأويل البسملة على وفق مقصود السورة(1/204)
* * *
المعلم الثالث تأويل البسملة على وفق مقصود السورة
مما يقوم عليها منهاج تأويل القرآن الكريم عند البقاعي أنّ كلّ كلمة من القرآن الكريم إذا ذكرت مرة أخرى بحروفها في سياق آخر، فإنّ الذي أعيد إنما هو ما ينطقه اللسان أما ما يعيه الجنان من ذلك
المنطوق المعاد في سياق آخر، فإنّه أمر آخر لم يسبق وعيه على النحو الذي هو عليه الآن وهذا ليس خاصا بالكلمة بل بالجملة والآية، ومن ثمّ فإنّه ينظر إلى البسملة على أنها تحمل في مفتتح كل سورة جاءت فيها معنى غير الذي كانت تحمله في السورة السابقة.
وهذا يعنى أنّ للسياق التى تقوم فيه البسملة أثرا عظيما في أن تحمل الكلمات والتراكيب من المعاني التى لا تخلق على كثرة الرد.
يقول: = وأفسّر كلّ بسملة بما يوافق مقصود السورة ولا أخرج عن معاني كلماتها = (1)
وهو في تأويله بسملة كلّ سورة إنما يعمد إلى الأسماء الحسنى الثلاثة:
الله، الرحمن، الرحيم فيذكر مع كل اسم ما يتناسب مع مضمون سورة هذه البسملة شريطة التزامه مع اسم الجلالة الإشارة إلى معنى الجمع والإحاطة، ومع اسمه = الرحمن = الإشارة إلى معنى العموم والاتساع ومع اسمه = الرحيم = الإشارة إلى معنى التخصيص.
يقول في بسملة = آل عمران =:
= (بسم الله) الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال، (الرحمن) الذي وسعت رحمة إيجاده كلّ مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة، (الرحيم) الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه = (2)
تلحظ هنا أنه أشار إلى معنى الوحدانية والتفرد بالإحاطة بالكمال في تأويله اسم الجلالة لأن مقصود سورة = آل عمران = إثبات الوحدانية لله سبحانه وتعالى، والإخبار بأنّ رئاسة الدنيا غير مغنية.
وأشار في تأويل = الرحمن = إلى معنى اتساع رحمة الإيجاد لكلّ مخلوق المشير إلى تفرده جلّ جلاله
وأشار في تأويل = الرحيم = إلى معنى اختيار أهل التوحيد للقرب.
وفي تأويله بسملة سورة = النساء = يقول:
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 19
(2) نظم الدرر: 4/ 195(1/205)
= (بسم الله) الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور، (الرحمن) الذي جعل الأرحام رحمة عامة، (الرحيم) الذي خصّ من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة = (1)
وذلك مرده إلى أنّ مقصود سورة = النساء =:
= الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه = آل عمران = والكتاب الذي حدت عليه البقرة لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة = (2)
وغير خفي العلاقة التي بين مقصود السورة وما أوّل به = البقاعي = الأسماء الحسنى في بسملتها.
* * * وننظر في تأويله بسملة سورة = النحل = وقد سبق أن بينت أنّ مقصودها الأعظم: التدليل بالنعم على وحدانية الله تعالى وكمال علمه وقدرته واختياره، فنراه يقول:
= (بسم الله) المحيط بدائرة الكمال فما شاء فعل)، (الرحمن) الذي عنت نعمته جليل خلقه وحقيره صغيره وكبيره، (الرحيم) الذي خصّ من شاء بنعمة النجاة مما يسخطه بما يرضاه = (3)
قوله (المحيط بدائرة الكمال) دون قوله: (المحيط بالكمال) إشارة إلى اتساع إحاطته بجميع أنواع الكمال بحيث تحيط بها دائرة تتجه فيها جميع أنواع الكمال نحو مركز الدائرة، وهو الذات الإلهية، فلا تستطيع تحديد أوّل أنواع الكمال ولا آخرها، فكلّ ما يحتويه مظهره القولي والفعليّ يدور في دائرة الكمال الإلهيّ، ولا شكّ أنّ ذلك لن يكون إلا إذ كان مركز الكمال واحدا فإذا كان واحدا كان كامل العلم والقدرة وكامل الاختيار يفعل ما يشاء منزها عن شوائب النقص كلّها
ويفسر اسم (الرحمن) بقوله: (الذي عمّت نعمته جليل خلقه وحقيره صغيره وكبيره) إشارة إلى أنّه هو الذي أنعم على الإنسان وهداه إلى ما فيه استقرار معيشته ودله على وسائل تحصيل ضرورات حياته وكمالاته، وهو الذي أنعم على أحقر المخلوقات حجما من الدواب والحشرات بذلك أيضا، كذلك هو الرحمن الذي أنعم بالوحي على أكمل الخلق صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ما فيه سعادة الدارين وهو الذي أوحى إلى حشرة النحل وألهمها ما فيه سعادتها
__________
(1) السابق: ج 5ص 171
(2) السابق: 5/ 169
(3) السابق: 11/ 101(1/206)
وسعادة غيرها، ولا يستطيع تعميم ذلك إلا من كان واحدا كامل العلم والقدرة يفعل ما يشاء وهذا هو مقصود السورة
وأنت تراه يذكر قوله (جليل خلقه) اولا، ويختم بقوله (وكبيره) وفي هذا نظر منه إلى اللف الدائري، فذلك مما عني البقاعيّ بالنظر فيه، فيكاد يقيم نظره في التناسب القرآني على أساس نظرية النظم الدائري للبيان سواء في بناء الآية أو المعقد أو السورة بل القرآن الكريم كلّه
ويفسر اسم (الرحيم) بقوله: = الذي خصّ من شاء بنعمة النجاة مما يستخطه بما يرضاه = إشارة إلى أنّه الذي خصّ النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا بإنزال القرآن الكريم عليه (ي:
44) وبالتبشير بالإسراء (ي: 127)
وخص الخليل أبا الأنبياء إبراهيم عليه السّلام بان جعله قدوة النبيّ محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا (ي: 123)
وخصّ المسلمين بالقرآن الكريم منهاج حياة فأنجاهم من سخطه بالدين الذي ارتضاه لهم (ي: 89)
وخصّهم بأن أحلّ لهم كثيرا ممّا حرم على غيرهم (ي: 114)
وخصّهم بقبول يوم الجمعة الذي رفضه غيرهم من أهل الكتاب من قبلهم فكان بركة على الأمة المحمدية (ي: 124)
وخصّ النحل بدقة الفهم في هندسة البيوت ورعايتها لشئونها بنظام يستمد منه الإنسان كثيرا من منهاجه (ي: 6968)
وهذا لا يكون أبدا إلا من واحد كامل العلم والقدرة يفعل ما يشاء
كذلك يتبين لك منهاج البقاعيّ في تأويل معاني البسملة في سورة النحل على وفق مقصودها الأعظم وهو المعنى الكليّ الذي جاءت كلّ آياتها لبيانه بطرق مختلفة في وضوح دلالتها عليه
* * * وأنت إذ تنظر في صنيعه هذا يتبين لك أنّ ما يؤوّل به البسملة لا يستنبطه من مقصود السورة بل هو يذكر من المعاني ما يتواءم مع ذلك المقصود، فليس منهاجه في هذا المبحث خاصّة منهجا استنباطيا بل منهاجه توقيفيا يذكر ما يتوافق مع ما تبين له من ذلك المقصود، وكل ما التزم به الأصول الكلية لمعانى الأسماء الثلاثة: = الله = و = الرحمن = و = الرحيم =.
وتأويل البسملة في كل سورة على غير ما أولت به في السورة الأخرى لم يك من ابتداع = البقاعي =.(1/207)
أنت تلقاه في تفسير = الإمام القشيري: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك (ت: 465) المسمى: = لطائف الإشارات = وإن اختلف المنهاج التأويلي ومناطه عند كلّ.
يقول = القشيري = في بسملة سورة = آل عمران =:
= اختلف أهل التحقيق في اسم = الله = هل هو مشتق من معنى أم لا؟
فكثير منهم قالوا أنه ليس بمشتق من معنى، وهو له سبحانه على جهة الاختصاص، يجري في وضعه مجرى أسماء الأعلام في صفة غيره، فإذا قرع بهذا اللفظ أسماع أهل المعرفة لم تذهب فهومهم ولا علومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه وتعالى وحقه
وحقّ هذه المقالة أن تكون مقرونة بشهود القلب، فإذا قال بلسانه = الله = أو سمع بآذانه شهد بقلبه = الله =.
وكما لا تدلّ هذه الكلمة على معنى سوى = الله = لا يكون مشهود قائلها إلّا = الله =، فيقول بلسانه = الله =، ويعلم بفؤاده = الله =، ويعرف بقلبه = الله =، ويحب بروحه = الله = فلا يكون فيه نصيب لغير = الله = وإذا أشرف أن يكون محوا في = الله = ل = الله = ب = الله = تداركه الحق سبحانه برحمته فيكاشفه بقوله = الرحمن الرحيم = استبقاء لمهجتهم أن تتلف، وإرادة في قلوبهم أن تنقى فالتلطف سنة منه سبحانه وتعالى لئلا يفنى أولياؤه بالكلية = (1)
غير خفي أن = القشيري يركز هنا على معانى توحيد الله جلّ جلاله ذكرا وعلما وعبادة وشهودا إلخ وكأنه يلاحظ معنى التوحيد في سورة = آل عمران = وهو كما ترى يشير إلى أن ذكر اسمه = الرحمن الرحيم = إنما يأتى رحمة بالأولياء من الفناء في بحار تجريد التوحيد. وهذا مخالف لمنهاج البقاعي في تأويل البسملة
ويقول = القشيري = في تأويل بسملة سورة = النساء =:
= اختلفوا في الاسم عن ماذا اشتق، فمنهم من قال إنه اشتق من السمو، وهو العلو، ومنهم من قال إنه مشتق من السّمة وهي الكيّة.
وكلاهما في الإشارة: فمن قال إنّه مشتق من السّمو فهو اسم من ذكره سمت رتبته ومن عرفه سمت حالته ومن صحبه سمت همته فسموّ الرتبة يوجب وفور المثوبات والمبارّ، وسمو الحالة يوجب ظهور الأنوار في الأسرار، وسمو الهمّة يوجب التحرز عن رقّ الأغيار.
__________
(1) لطائف الإشارات للقشيري: ج 1ص 218217إبراهيم بسيوني الهيئة المصرية العامة للكتاب(1/208)
ومن قال أصله من السّمة فهو اسم من قصده وسم بسمة العبادة، ومن صحبه وسم بسمة الإرادة، ومن أحبّه وسم بسمة الخواصّ، ومن عرفه وسم بسمة الاختصاص، فسمة العبادة توجب هيبة النّار أن ترمي صاحبها بشررها، وسمة الإرادة توجب حشمة الجنان أن تطمع في استرقاق صاحبها مع شرف خطرها، وسمة الخواص توجب سقوط العجب من استحقاق القربة للماء والطينة على الجملة، وسمة الاختصاص توجب امتحاء الحكم عند استيلاء سلطان الحقيقة.
ويقال اسم من واصله سما عنده عن الأوهام قدره سبحانه، ومن فاصله وسم بكيّ الفرقة قلبه = (1)
= القشيري = كما تراه جعل مناط التأويل في بسملة = النساء = اشتقاق كلمة = الاسم = والدلالة الإشارية لهذا الاشتقاق، وكأنّى به يلحظ في هذا معنى اشتقاق الذرية من الأرحام ويلحظ معنى قول الله سبحانه وتعالى:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهََا زَوْجَهََا وَبَثَّ مِنْهُمََا رِجََالًا كَثِيراً وَنِسََاءً وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)} (النساء: 1)
فتناسل المعاني من أصل الاشتقاق يقيم بينها رحما دلالية كمثل الرحم القائمة بين ذرية أبينا آدم عليه السّلام.
وأنت إذا ما نظرت في تأويله بسملة سورة = الحجر = سمعته يقول:
= سقطت ألف الوصل من كتابة = بسم الله =، وليس لإسقاطها علة، وزيد في شكل = الباء = من = بسم الله = وليس لزيادتها علة ليعلم أنّ الإثبات والإسقاط بلا علة فلم يقبل من فبل لاستحقاق علة، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب علة.
فإن قيل: العلة في إسقاط الألف من = بسم الله = كثرة الاستعمال في كتابتها أشكل بأنّ = الباء = من = بسم الله = زيد في كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة
فإن قيل: في زيادة شكل = الباء = بركة أفضالها أشكل بحذف ألف الوصل لأنّ الاتصال بها موجود. فلم يبق إلّا أنّ الإثبات والنّفي ليس لهما علة يرقع من يشاء ويمنع من يشاء = (2)
جعل مناط التأويل هنا الجانب الكتابي للبسملة: إسقاط حرف وزيادة في شكل حرف آخر متجاورين، ملاحظا انتفاء العلة المعقولة عربية بحيث يتحقق المعلول حيث تتحقق العلة وبين أنّ الأمر إنّما هو لمطلق المشيئة
__________
(1) السابق: 1/ 310
(2) لطائف الإشارات للقشيري: 2/ 262(1/209)
الإلهية، وأنه ليست هناك علل تكون المعلولات بكونها، بل هنالك أسباب تكون المسببات عندها وليس بها، وفرق بين أن يكون الشيء بالشيء وأن يكون عنده، وكأنّي به في اختياره الإشارة إلى هذا المعنى في تأويل بسملة سورة الحجر ناظر إلى قوله عزّ وجلّ فيها:
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا عِنْدَنََا خَزََائِنُهُ وَمََا نُنَزِّلُهُ إِلََّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر 21) وكأنّ هذه الآية هي الآية الأمّ والآية المحور التى عليها مدار المعنى القرآني الكريم في سورة الحجر.
المهمّ أنّ تأويل بسملة كل سورة على غير تأويل بسملة الأخرى منهاج قد جاء به بعض أهل العلم من قبل = البقاعي = ولكلّ سنته في التأويل، والذي يؤخذ من هذا كلّه أن الآخذين بتلك السنة في التأويل ينزعون من أمر له قدره في الفقه البياني للخطاب:
ينزعون من الرغبة عن القول بالتكرار اللفظي والدلالي للكلمات في سياقات مختلفة، وأنّ الكلمة وما فوقها لا تأتي إلا مرة واحدة وليس لها إلا موضع واحد، فإذا أقيمت في مقام آخر فما هي بالتي كانت من قبل، وهذا يعنى أن الوجود الدلالي للكلمة يتجدد بتجدد مواقع الكلمة وما فوقها، وأنّ القول بالتكرار البياني في الخطاب العالي فضلا عن الخطاب العليّ المعجز إنما هو قول مفتقر إلى التحرير العلمي، ومن ثمّ لا يعرف عالم البيان التناسخ بين مكوناته ومكنوناته، فهو عالم قائم من متجدّدات، وكأنّ لعالم البيان من عالم الجنة مثلا: تتشابه ثماره ولا تتوحد بل تتجدد وتتعدد: {كُلَّمََا رُزِقُوا مِنْهََا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قََالُوا هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (البقرة: من الآية 25)
وعلى هذا يكون جديرا بمن يقوم للإبحار في قماميس التأويل البياني للقرآن الكريم أن يكون على ذكر من أنّ البيان القرآنيّ خلاء من التكرار التأكيديّ الذي لا يضفي جديدا حميدا على ما سبق تأسيسه.
وأن يكون على ذكر من أنّ البيان القرآنيّ ذو خصيصتين عظيمتين
الأولى: خصيصة تناسل المعنى القرآنيّ وتصاعده
والأخرى: خصيصة التصريف البياني.
هاتان الخصيصتان أراهما من أشمل خصائص الإعجاز البياني للقرآن الكريم من بعد خصيصة إقامة الشعور بجلال القائل في قلب المتلقى المعافي من داء الغفلة.(1/210)
المعلم الرابع. براعة الاستهلال وعلاقته بمقصود السورة
لكلّ سورة من سور القرآن الكريم ولا سيّما الطّول والمئين مفتتح من الآي يكون استهلالا بديعا مشيرا إلى جوهر المعنى الكليّ الذي يقوم في السورة.
وإذا ما كنا قد رأيناه يؤول البسملة بما يتناسب مع مقصود السورة إشارة إلى أنّ في البسملة براعة استهلال، مثلما يرى في اسم السورة براعة استهلالها بمعناها الكلى ومقصودها الأعظم على نحو ما سبقت الإشارة إليه، فإنّ من فوق هذا استهلال الآيات الأول من السورة بمعناها، فيكون في كلّ سورة ما يشير إلى معناها الكلي: اسمها وبسملتها والآية أو الآيات الأول منها.
والغالب على البقاعيّ ان لا يعيّن لنا مطلع السورة واستهلالها، ولكنّه يلمح إلى ذلك في أثناء تأويله، وكذلك قد يفهم التعيين من موضع ذكره ما ينقله في مفتتح كلّ سورة من كلام = أبي جعفر بن الزبير = في تناسب السور من كتابه = البرهان = ويزداد الأمر وضوحا في ختام تأويله السورة حين يردّ مقطع السورة على مطلعا:
في سورة = البقرة = يكون مطلعها من أولها إلى قوله عزّ وجلّ: {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) وما بعده من ذكر الذين كفروا، والمنافقين استكمال للاستهلال، ليبدأ موضوع السورة بقوله سبحانه وتعالى {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)
وهذا المطلع فيه استهلال بمقصود السورة الأعظم: إقامة الدليل على أنّ الكتاب هدى ليتبع في كلّ ما قال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب =
وهذا ما ركز عليه المطلع كما لا يخفي، فقد صرح بجعل قاعدة وأصل صفات المتقين الذين كان الكتاب هدى لهم إنّما هو الإيمان بالغيب، وجعل رأس صفاتهم في الآية الأولى من وصف المتقين: ومما رزقناهم ينفقون، وجعل رأس صفاتهم في الآية الثانية من وصف المتقين أنّهم بالآخرة هم يوقنون.(1/211)
والإنفاق في سبيل الله عزّ وجلّ احتسابا إنّما هو ثمرة الإيمان بالغيب والإيمان بالآخرة إنّما هو إيمان بالغيب الذي لا سبيل إلى علم شيء منه إلا من إنباء الكتاب أو السنة.
في الاستهلال جمل رئيسة مصرحة بالمقصود إذا ما وفّق المتدبّر إلى استبصارها كانت السبيل إلى فقه مقصود السورة الأعظم ملحّبا.
ولذلك تراه في سورة البقرة يشير إلى أنّ الحث على الإنفاق قد ظهر جليّا في مواضع عدة من السورة.
تراه يشير عند تأويله قول الله عزّ وجلّ: {يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ قُلْ مََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمََا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللََّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215)
إلى أن في صدر السورة إشارة إلى النفقة، قائلا:
= ولمّا كانت النفقة من أصول ما بنيت عليه السورة من صفات المؤمنين [المتقين] {(وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ)} (البقرة: 3) ثمّ كرر الترغيب فيها في تضاعيف الآي إلى أن أمر بها في أول آيات الحج الماضية آنفا مع أنّها من دعائم بدايات الجهاد إلى أن تضمنتها الآية السالفة مع القتل الذي هو نهاية الجهاد كان هذا موضع السؤال عنهما فأخبر تعالى عن ذلك على طريق النشر المشوش = (1)
ومن البين أنّ الإنفاق احتسابا لوجه الله عزّ وجلّ إنما يتخلّق به من كان مؤمنا بالغيب، وإلا لم يك إنفاقه احتسابا، فكان باطلا في ميزان الشرع وهو يقرّر مثل هذا الذي نقلته عنه هنا في تأويله قول الله سبحانه وتعالى:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ لَهُ أَضْعََافاً كَثِيرَةً وَاللََّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 245)
قائلا: = ولمّا كانت النفقة التي هي من أعظم مقاصد السورة أوثق دعائم الجهاد، وأقوى مصدق للإيمان ومحقق لمبايعة الملك الديّان كرّر الحثّ عليها على وجه أبلغ تشويقا مما مضى = (2)
وعند تأويل قول الله سبحانه وتعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خُلَّةٌ وَلََا شَفََاعَةٌ وَالْكََافِرُونَ هُمُ الظََّالِمُونَ}
(البقرة: 254)
يقول: = ولمّا كان الاختلاف على الأنبياء سببا للجهاد الذي هو حظيرة الدين، وكان عماد الجهاد النفقة أتبع ذلك قوله رجوعا إلى أول السورة
__________
(1) نظم الدرر: 3/ 212
(2) نظم الدرر: 3/ 402(1/212)
من هنا إلى آخرها، وإلى التأكيد بلفظ الأمر لما تقدم الحثّ عليه من أمر النفقة {(يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)} = (1)
* * * وفي سورة = آل عمران = نجد مطلع السورة من أولها إلى آخر قول الله عزّ وجلّ {وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ} (آل عمران: من الآية 4) =
ففي هذا المطلع عناية بتصوير وتقرير معنى الوحدانية لله سبحانه وتعالى والإخبار بأنّ رئاسة الدنيا غير مغنية في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو المقصود الأعظم من السورة، وهو كما ترى ظاهر لك من قول الله جلّ جلاله في المطلع: {الم * اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (آل عمران: 21)
ومن قول الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ} (آل عمران: 4)
= فهاتان الجملتان تؤدّيان بالمقصود الأعظم للسورة لمن كانت له بصيرة في فقه بيان الذّكر الحكيم عن معانيه.
* * * وفي سورة = النساء = تجد مطلع السورة من أولها إلى آخر قوله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: من الآية 1) فإن في هذا المطلع ما يصرح بمقصود السورة من نحو قوله جلّ جلاله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ}
وقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ} وقوله جلّ جلاله: {إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} فهذه الجمل كالمصرحة بمعنى الاجتماع على أمر عظيم، وأعظم ما يجتمع عليه هو توحيد الله سبحانه وتعالى، وهو اجتماع يحقق معنى التواصل الرحمي الذي به قيام الوجود الإنساني، وهذا هو المقصود الأعظم لسورة النساء، ليبدأ تفصيل البيان عن هذا المقصود بقوله: = وآتوا اليتامى إلخ = (2)
وأنت ترى السورة قد قام فيها من الأحكام والآداب ما فيه تحقيق البناء المحكم المتراحم المتلاحم للأسرة والأمة، فتجتمع على ما فيه مرضاة ربها عزّ وجلّ.
والبقاعيّ يناظر استفتاح هذه السورة بقول الله تعالى:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهََا زَوْجَهََا وَبَثَّ مِنْهُمََا رِجََالًا كَثِيراً وَنِسََاءً وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ}
__________
(1) السابق: 4/ 21
(2) نظم الدرر 5/ 176(1/213)
{وَالْأَرْحََامَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1)
بافتتاح سورة = الحج = بقول الله تعالى:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1)
وكيف أنّ مقصود كلّ سورة هو الذي اقتضى أن يكون وصف الربّ المأمور باتقائه في أول كل سورة بغير ما وصف به في الأخرى، بل هو ناظر إلى موقع كلّ سورة من السياق القرآني المديد.
يقول في تأويل مطلع سورة = النساء =:
= وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعا لسورتين:
هذه وهي رابعة النصف الأوّل والحج وهي رابعة النصف الثاني، وعلّل الأمر بالتقوى في هذه بما دلّ على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدأ.
وعلّل ذلك في الحج بما صوّر المعاد تصويرا لا مزيد عليه، فدلّ فيها على المبدأ والمعاد تنبيها على أنه محط الحكمة، ما خلق الوجود إلا من أجله لتظهر الأسماء الحسنى والصّفات العلى أتمّ ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه.
ورتّب ذلك على الترتيب الأحكم، فقدم سورة المبدأ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية = (1)
* * * وللبقاعي عناية طيبة ببراعة استهلال السور الخمس ب = الحمد لله =، وهي سور: الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر،
وكيف أنّ مقصود كلّ سورة هو الذي اقتضى أن تستفتح بغير ما تستفتح به الأخرى وإن شاركتها في الابتداء بالحمد لله.
وهو في هذا معتمد على مقالة ل = السعد التفتازانيّ = في مقدمة كتابه = التلويح على شرح التنقيح = في أصول فقه الحنفية لصدر الشريعة نقلها عنه البقاعيّ في تأويله سورة الفاتحة قائلا:
= وقد أشير في = أم الكتاب كما قال العلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازانيّ الشافعيّ إلى جميع النعم، فإنّها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولا وإلى إيجاد وإبقاء ثانيا في دار الفناء والبقاء
أمّا الإيجاد الأول فبقوله سبحانه وتعالى {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (الفاتحة: 2)
فإنّ الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية.
__________
(1) نظم الدرر: 5/ 173(1/214)
وأمّا الإبقاء الأوّل فبقوله عزّ وجلّ: {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها التي بها البقاء.
وأمّا الإيجاد الثاني فبقوله جلّ جلاله {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ،} وهو ظاهر.
وأمّا الإبقاء الثاني فبقوله: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} إلى آخرها، فإنّ منافع ذلك تعود إلى الآخرة.
ثمّ جاء التصدير بالحمد بعد الفاتحة في أربع سور أشير في كلّ سورة منها إلى نعمة من هذه النعم على ترتيبها. = (1)
فالفاتحة = أم الكتاب = جامعة الإشارة إلى كلّ ما يكون بسببه الحمد لله، ثم توزع علل الحمد الكلية الأربعة كلّ علّة في سورة، وتنسق هذه السور على ترتيب العلل، فتكون سورة الأنعام مستهلة بالحمد لله على نعمة الإيجاد الأول:
{الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى ََ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (الأنعام: 21)
وسورة = الكهف = مستهلة بالحمد على نعمة الإبقاء الأول، وأعلاه نعمة إنزال الكتاب:
{الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مََاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً * مََا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلََا لِآبََائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلََّا كَذِباً} (الكهف: 51)
وسورة = سبأ = مستهلة بالحمد لله على نعمة الإيجاد الثاني (البعث)
{الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ * وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَأْتِينَا السََّاعَةُ قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عََالِمِ الْغَيْبِ لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ وَلََا أَصْغَرُ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرُ إِلََّا فِي كِتََابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيََاتِنََا مُعََاجِزِينَ أُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى ََ صِرََاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ}
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 4645(1/215)
{عَلى ََ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذََا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذََابِ وَالضَّلََالِ الْبَعِيدِ * أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ََ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمََاءِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (سبأ: 91)
وسورة = فاطر = مستهلة بالحمد لله على نعمة الإبقاء الثاني (الجزاء)
{الْحَمْدُ لِلََّهِ فََاطِرِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ جََاعِلِ الْمَلََائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى ََ وَثُلََاثَ وَرُبََاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مََا يَشََاءُ إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مََا يَفْتَحِ اللََّهُ لِلنََّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلََا مُمْسِكَ لَهََا وَمََا يُمْسِكْ فَلََا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (فاطر: 21)
وفي كل سورة ينتشر ما يدل على علّة الحمد المستهلة بها على الترتيب والمقام لا يتسع هنا لتفصيل القول فيها، وقد فصلته في دراستي للعالمية: التناسب القرآني عند البقاعي =.
في مطلع كلّ سورة من السور الأربع المستفتحة بالحمد لله ما يدل على مضمون السورة ومقصودها على ترتيب النعم المحمود عليها الله عزّ وجلّ وهي نعم كلية جامعة.
والعناية بتأويل مطلع السورة ودلالته على مقصودها الأعظم معدنه الإيمان بأن السورة القرآنية قائمة من معنى كليّ مهيمن على مكونات السورة كلها، وأنّ في مفتتح السورة ما يهدي إلى مكنونها من المعاني.
وهذا المنهاج في التأويل هو من أصول النظر العربي في فقه البيان، فعلماء العربية لهم عناية بهذا الباب، فقد أوصى بعض النقاد الكتاب: = احسنوا معاشر الكتاب الابتداءات، فإنّهن دلائل البيان = (1)
__________
(1) الصناعتين لأبي هلال العسكري: 489ت: مفيد قميحة بيروت، وانظر معه: مقدمة تفسير ابن النقيب: ص 287286ت: زكريا سعيد ت مكتبة
الخانجي بالقاهرة، المطول للسعد التفتازاني: 480478(1/216)
المعلم الخامس ردّ مقطع السورة على مطلعها
يقيم = البقاعيّ = منهاجه في تأويل البيان القرآنيّ على أنّ بناء السورة القرآنية بناء الدائرة المفرغة الملتحم طرفاها التحاما لا يتبيّن مفصل بين أولها وأخرها. لا، بل ليس هنالك أول ولا آخر ولا التحام ولا التئام، بل هنالك سبك وإفراع.
في كتابه = مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور =:
= يقرّر أنّ = كلّ سورة لها مقصد واحد يدار عليه أولها وآخرها، ويستدلّ عليها فيها، فترتّب المقدمات الدّالة عليه على أتقن وجه وأبدع نهج وإذا كان فيها شيء يحتاج إلى دليل استدلّ عليه، وهكذا في دليل الدليل، وهلمّ جرّا.
فإذا وصل الأمر إلى غايته ختم بما منه كان ابتداء، ثمّ انعطف الكلام إليه، وعاد النظر عليه، على نهج بديع ومرقى غير الأوّل منيع، فتكون السورة كالشجرة النضيرة العالية والدوحة البهيجة الأنيقة الحالية المزينة بأنواع الزينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدرّ وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر
وكلّ دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها، وشعبة ملتحمة بما بعدها وآخر السورة قد واصل أولها كما لاحم انتهاؤها ما بعدها، وعانق ابتداؤها ما قبلها، فصارت كلّ سورة كدائرة كبرى مشتملة على دوائر الآيات الغرّ البديعة النظم، العجيبة الضمّ بلين تعاطف أفنانها وحسن تواصل ثمارها وأغصانها = (1)
القول بالبناء الدائريّ للسورة لا يتعاند مع القول بتصاعد المعنى في بنائها من جهة ولا بتصاعده في السياق القرآنيّ الكريم كلّه.
ذلك أن التّصاعد ليس قائما على نسق تراكميّ بل على منهاج التناسل وهذا ناظر إلى أنّ المعاني في السورة القرآنية تتناسل لتطوف على محور واحد هو محور الدائرة الذي يسميه = البقاعي =: المقصود الأعظم، فكل سورة كالدّائرة تتناسل معانيها متصاعدة لتشكل دائرة، والسورة الأخرى دائرة تدور معانيها المتناسلة المتصاعدة على محور (مقصود
__________
(1) مصاعد النظر: 1/ 149.(1/217)
أعظم) مبني على محور (مقصود أعظم) دارت عليه المعاني المتناسلة المتصاعدة في السورة السابقة عليها. وأنت تسمعه مقررا ذلك فيما نقلته لك من بيانه في كتابه = مصاعد النظر =
وهو ذو عناية بالغة بتدبّر وتأويل علاقة مقطع تلاوة السورة بمطلع ترتيلها، والكشف لك عن معالم القربى بين المعنيين القائمين في المطلع والمقطع.
وقولنا: = معنيين = لا يعنى اختلافهما اختلاف تفاصل بل يعنى تغايرهما في درجات الإبانة والتصوير والتّصريف البيانيّ، وإلا فإنّ في كلّ معنى كليّا واحدا مهيمنا، فهما في عالم البيان القرآنيّ كمثل علاقة الولد البكر مخاضا بشقيقه الأخير ميلادا.
وقد أشرت من قبل إلى أن قولنا (مطلع) نريد به مطلع التلاوة وقولنا (مقطع) نريد به مقطع الترتيل، فهما مصطلحان لا يراد بهما علاقة المعاني ببعضهما بل منظور فيهما إلى شأن التلاوة والترتيل.
لم يدع = البقاعيّ = سورة من السور، وإن قلّ عدد كلماتها وآياتها إلا وقد بيّن لنا علاقة مطلعها ترتيلا بمطلعها تلاوة، لا فرق عنده في هذا بين أقصر سورة (الكوثر) وأطول سورة (البقرة)
وهو في تأويله لا ينظر إلى المعنى الجمهوريّ للمطلع والمقطع بل ينظر إلى جوهر المعنى المرتبط بمحور السورة (مقصودها الأعظم) فإنّ المعاني الجمهورية لآيات السورة قد لا تتراءى معالم تناسبها وتناسلها من المقصود الأعظم للنظر العابر، ولكن جوهر المعنى وروحه هو الذي يبصر المتدبر معالم التناسب بينها من جهة، والتناسل من المقصود الأعظم من جهة أخرى
في تأويله ردّ مقطع سورة = البقرة = على = مطلعها = يقول عند تأويل قول الله سبحانه وتعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة: من الآية 285):
= وأمّا مناسبتها لأوّل السورة ردا للمقطع على المطلع، فهو أنّه لمّا ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لا ريب فيه على الوجه الذي تقدّم ختمها بذلك بعد تفصيل الإنفاق الذي وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشدّ اتصال.
وجعل رأسهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم تعظيما للمدح وترغيبا في ذلك الوصف، فأخبر بإيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل، وبقولهم الدّال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع، فقال
استئنافا لجواب من كأنّه قال: ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها (آمن الرسول) = (1)(1/218)
وجعل رأسهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم تعظيما للمدح وترغيبا في ذلك الوصف، فأخبر بإيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل، وبقولهم الدّال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع، فقال
استئنافا لجواب من كأنّه قال: ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها (آمن الرسول) = (1)
ثمّ يقول من بعد تأويل الآيتين الأخيرتين ترتيلا:
= وقد بان بذكر المنزّل والإيمان به والنصرة على الكافرين بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق من ردّ مقطعها على مطلعها، وآخرها على أوّلها = (2)
التناسب بين ما افتتحت به سورة البقرة تلاوة بالحديث عن القرآن الكريم والإيمان به وبالإنفاق والهدى والفلاح وما اختتمت به ترتيلا بالحديث عن إيمان الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإيمان المؤمنين بالقرآن الكريم وما كان منهم وما كان لهم هو جليّ لا ترى تكلفا في تقريره أو الإشارة إليه ولا غموضا في بيان معالمه، فكلّ من نبهته من أهل النظر انتبه وسكن أمّا أهل البصائر فهم في غنى عن تنبيه وإشارة.
وعلاقة ذلك بمقصود السورة وهو تقرير الإيمان بالغيب الذي أعلاه الإيمان بالله تعالى والإيمان باليوم الآخر وما فيه لا تخفى، فإنّ آخرها مقرّر الإيمان بما أنزل والإيمان بالله والملائكة والكتب التي لم يروها والإيمان بالرسل الذين لم يلقوهم لا يفرقون بين أحد منهم يقينا بصدق الخبر عنهم، فكلّ هذا من الإيمان بالغيب، وهذا الدعاء والابتهال والرجاء بالنجاة يوم القيامة هو من الإيمان بالغيب، فتبين لك تناسب مقطع ترتيل السورة بمطلع تلاوتها من جهة وتناسلهما من المقصود الأعظم من جهة أخرى
* * * وفي سورة = الأعراف = لا يكتفي بردّ آخر آية أو آيتين على مطلع السورة بل يرد ثمانيا وعشرين آية من آخرها على أولها:
يبدأ رد مقطعها المبدوء بقول الله سبحانه وتعالى:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لََا يَفْقَهُونَ بِهََا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لََا يُبْصِرُونَ بِهََا وَلَهُمْ آذََانٌ لََا يَسْمَعُونَ بِهََا أُولََئِكَ كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولََئِكَ هُمُ الْغََافِلُونَ} (الأعراف: 179)
على مطلعها قائلا من بعد أن بيّن علاقة الآيات الأربع الخيرة بمطلع السورة:
__________
(1) نظم الدرر: 4/ 168
(2) السابق: 4/ 188(1/219)
= وقد رجع آخر السورة في الأمر باتباع القرآن إلى أولها أحسن رجوع، ولوصف المقربين بعدم الاستكبار والمواظبة على وظائف الخضوع على وصف إبليس بعصيان امر الله سبحانه وتعالى في السجود لآدم عليه السّلام على طريق الاستكبار أيّ التفات بل شرع في ردّ المقطع على المطلع حين أتمّ قصص الأنبياء، فقوله سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا} (الأعراف: 179) هو قوله: {وَالَّذِي خَبُثَ لََا يَخْرُجُ إِلََّا نَكِداً} (الأعراف: من الآية 58) يتضح لك ذلك إذا راجعت ما قدمته في المراد منها.
و {وَلِلََّهِ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ فَادْعُوهُ بِهََا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمََائِهِ سَيُجْزَوْنَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) هو قوله سبحانه وتعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لََا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55)
وقوله عزّ وجلّ: {وَمِمَّنْ خَلَقْنََا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 181) هو قوله جلّ جلاله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (الأعراف: 42)
و [{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لََا يَعْلَمُونَ} (الأعراف:
182) هو] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهََا أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (الأعراف: 36)
وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْ عَسى ََ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: من الآية 185) هو قوله عزّ وجلّ: {فَإِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ لََا يَسْتَأْخِرُونَ سََاعَةً وَلََا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: من الآية 34)
وقوله سبحانه وتعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السََّاعَةِ أَيََّانَ مُرْسََاهََا قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي لََا يُجَلِّيهََا لِوَقْتِهََا إِلََّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لََا تَأْتِيكُمْ إِلََّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهََا قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ اللََّهِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) هو قوله جلّ جلاله: {كَمََا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}
(الأعراف: من الآية 29)
وقوله عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهََا زَوْجَهََا لِيَسْكُنَ إِلَيْهََا فَلَمََّا تَغَشََّاهََا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمََّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللََّهَ رَبَّهُمََا لَئِنْ آتَيْتَنََا صََالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشََّاكِرِينَ} (الأعراف: 189) هو قوله عزّ وجلّ:
{وَلَقَدْ خَلَقْنََاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنََاكُمْ ثُمَّ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السََّاجِدِينَ} (الأعراف: 11)
وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمََا أَتَّبِعُ مََا يُوحى ََ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هََذََا بَصََائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: من الآية 203) إلى آخرها بعد التنفير من الأنداد، هو قوله عزّ وجلّ {كِتََابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلََا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 2) إلى قوله
جلّ جلاله: {وَلََا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: من الآية 3)(1/220)
وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمََا أَتَّبِعُ مََا يُوحى ََ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هََذََا بَصََائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: من الآية 203) إلى آخرها بعد التنفير من الأنداد، هو قوله عزّ وجلّ {كِتََابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلََا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 2) إلى قوله
جلّ جلاله: {وَلََا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: من الآية 3)
فسبحان من هذا كلامه وتعالى حجابه وعزّ مرامه وعلى من أنزل عليه صلاته وسلامه وتحيته وإكرامه = (1)
مقالته في رد مقطع تلاوة سورة = الأعراف = على مطلعها بينة لا يفتقر ذو إدراك إلى أن يتبين صدق مذهبه ومنهجه فكلّ آية من المقطع تتلاقى مع مقابلها من المطلع في ظاهر معناها الذي لا يكاد يخفى على مبصر وسامع.
وإذا ما كان هذا حاله مع أطول سورتين: البقرة، والأعراف فيرد مقطع تلاوة كلّ على مطلعها، فإنّي ناظر حاله في ردّ مقطع تلاوة أقصر سورة في القرآن الكريم على مطلعها: سورة = الكوثر =
يبين = البقاعيّ = في مفتتح تأويله لها أنّ مقصودها = المنحة بكلّ خير يمكن أن يكون = ثمّ يبين استهلال = الكوثر = بقول الله سبحانه وتعالى:
{إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ} وعلاقته بسورة = الدين: الماعون = قائلا:
= لمّا كانت سورة = الدّين = بإفصاحها ناهية عن مساوئ الأخلاق كانت بإفهامها داعية إلى معالى الشيم، فجاءت = الكوثر = لذلك.
[أي أنّ إفصاح الكوثر توكيد للإفهام الماعون] وكانت: = الدّين = قد ختمت بأبخل البخلاء، وأدنى الخلائق: المنع تنفيرا من البخل، ومما جرّه من التكذيب، فابتدئت = الكوثر = بأجود الجود والعظاء لأشرف الحلائق ترغيبا فيه وندبا إليه [أي أنّ إفصاح الكوثر مقابل لإفصاح الماعون]، فكان كأنّه قيل: أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون (إنّا أعطيناك الكوثر) الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين. = (2)
تبين لك علاقة الكوثر بالدّين وأنها علاقة تقابل بين إفصاح السورتين من جهة وتناظر بين إفصاح الكوثر وإفهام = الدّين = من أخرى.
وتبين لك استهلال = الكوثر = بالإفصاح تقرير العطاء الإلهي للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم
فإذا نظرت في خاتمتها {إِنَّ شََانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} رأيت في بناء نظمها دلالة على أن القطع والمنع من كلّ خير حسيّ ومعنوي مخصوص بشانئ المكرّم المبجّل صلّى الله عليه وسلّم، وهذا يفيد إفهاما أنّه صلّى الله عليه وسلّم هو الموصول بجليل
__________
(1) نظم الدرر: 8/ 213
(2) نظم الدرر: 22/ 287(1/221)
العطاء الممنوح كلّ خير ممكن، فما أفاده مقطعها ترتيلا هو ما دلّ عليه إفصاح مطلعها تلاوة، فكان التّناسب الماجد بين المقطع والمطلع.
يقول البقاعي:
= ولمّا أمره باستغراق الزمان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلائق بأعلى الخلائق علّله بما حاصله أنّه لا شاغل له ولا حاجة أصلا تلمّ به، فقال: {إِنَّ شََانِئَكَ هُوَ} أي خاصة {الْأَبْتَرُ} أي المقطوع من أصله والمقطوع النسل والمعدم والمنقطع الخير والبركة والذكر، لا يعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال، وفرغ بدنه لكلّ جمال، وأنت الموصول الأمر النّابه الذكر، المرفوع القدر، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه، فإنّهم أقلّ من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضرتنا الشريفة
فالآية الأخيرة النتيجة لأنّ من الكوثر علوّ أمره وأمر محبيه، وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة وسفول شأن عدوه فيهما.
فقد التفّ كما ترى مفصلها بموصلها، وعرف آخرها من أولها، وعلم أنّ وسطاها كالحدود الوسطى، معانقة للأولى بكونها من ثمارها، ومتصلة بالأخرى، لأنها من غايات مضمارها = (1)
والقول بردّ المقطع على المطلع أو العجز على الصدر كما يقول البلاغيون هو مما عني به البلغاء المبدعون في عالم البيان العالي قديما ومما لفت إلى قدره البلاغيون الناقدون، فقد جعله = ابن المعتز = في كتابه: = البديع = الركن أو الباب الرابع من أبواب البديع الخمسة التي أقام عليها كتابه البديع
وإذا ما كانت عناية البلاغيين في هذا الأسلوب إلى توافق كلمة في عجز البيت أو الفقرة مع أخرى تقدمتها توافقا في المنطوق قد يجتمع إليه توافق في المفهوم (المعنى) وقد لا يتوافق، فإنّ الأمر هنا عند البقاعي يتجاوز أوّلا التّوافق الصّوتيّ إلى التوافق الدّلاليّ، ويتجاوز التّوافق مجال الكلمة إلى مجال أرحب قد يبلغ عدة آيات.
وفي هذا نقل لأسلوب رد الأعجاز على الصدور من التحسين اللفظي عند البديعيين إلى النظم الترتيبي القائم بعلائق المعاني بعضها ببعض عند = البقاعي = وذلك الضرب من النظم هو العليّ الحميد.
* * * __________
(1) السابق: 22/ 291.(1/222)
المعلم السادس علائق الآيات في بناء المعقد
السورة القرآنية في بنائها الدائريّ المنسول أجزاؤه من محور رئيس:
مقصود أعظم تدور عليه، ويهيمن على مكوّناتها ومكنوناتها يتكون ذلك البناء من معاقد وكل معقد من آيات متناسبة متناسلة
وقد أشرت قبل إلى أنّ السورة في البيان القرآنيّ مكونة من معاقد وكل معقد مكوّن من آيات، وكلّ آية من جمل وكل جملة من كلمات
وأنّ منزل الكلمة من الجملة منزل العضو من الفرد
ومنزل الجملة من الآية منزل الفرد من الأسرة
ومنزل الآية من المعقد منزل الأسرة من البطن
ومنزل المعقد من السورة منزل البطن من القبيلة
ومنزل السورة من القرآن منزل القبيلة من الجنس البشري وأنّ للبيان القرآني الكريم مقصودا أعظم تتناسل منه المعاني القرآنية وتنتسب إليه وقلت إن هو إلا تقريب لا تصوير، إذ كيف يصوّر ما هو من عالم الأمر بما هو من عالم الخلق؟
وإذا ما كنّا قد نظرنا في بناء البيان القرآنيّ من سور وعلاقة السور ببعضها: مقاصد ومقاطع ومطالع، وكنّا قد نظرنا في قيام البيان القرآني في السور على محور مركزي تدور عليه معاني السورة، وبيّنا منهاج = البقاعي = في تأويله تصاعد المعنى في السورة على نحو ما سمعته في تأويله بناء البيان في سورة = البقرة = فإنا لننظر في بناء المعقد من آيات وترابط هذه الآيات أو تناسبها.
والبقاعي في تأويله لا يعمد إلى الاكتفاء بربط الآية بالتي هي بعقبها تلاوة، بل قد ينظر فيري تناسب آية بآية هي سابقة عليها تلاوة ومن بينهم آيات عدة.
والبلاغيون والمفسرون من قبل كانت لهم عناية بما يعرف بعطف القصة على القصّة
والقول بالعطف في تعالق الآيات ليس هو المنهج الفريد في هذا التعالق فإنّ علائق الآيات تتجاوز ما يمكن أن تطلق عليه التعليق (الربط) حيث عامل لسانيّ قائم بذلك الربط أو التعلّق إلى التعالق (الترابط) حيث العامل معنويّ باطنيّ قائم بذلك التعالق.
وفي تسميتهم هذا الضرب من التعلق عطفا معنى لطيف:(1/223)
كأنّ المعاني يتعاطف بعضها على بعض، كتعاطف الأم الرءوم على وليدها أو الحبيب على حبيبه، فالعلائق قائمة بين المعطوف والمعطوف عليه، وليس في الحياة ما يعطف على شيء ليست له به علقة، فكذلك الأمر في عالم البيان من أنّه عالم الإنسان، تتقارب المناهج والمذاهب ومعالم الجمال في كلّ.
من العلائق ما هو من التناظر، ومنه ما هو من التناصر ومنه ما هو من التعاطف، فعلائق المعاني تتنوع وتتنوع أدواتها، ولو أنّا نظرنا في المصطلح البلاغي واللغوي في مجال علاقات المعاني ببعضها لنرى ما بينها من فروق دلالية وما بينها من تنوّع وما تتلاقى عليه لكان في هذا إثراء لفقه علائق البيان، فنختار لكل ضرب من ضروب العلائق بين المعاني مصطلحه الأخص به والأشكل.
المهم أنّ = البقاعيّ = ينقل عن = الحرالّيّ =:
= أنّ في كلّ آية معنى تنتظم به بما قبلها ومعنى تتهيّا به للانتظام بما بعدها، وبذلك كان انتظام الآي داخلا في معنى الإعجاز الذي لا يأتي الخلق بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا = (1)
ومن ثمّ فإنّا نرى البقاعي يجعل النظم في البيان القرآني نظمين: نظما تركيبيّا ونظما ترتيبيّا، يقول:
= إنّ للإعجاز طريقين: أحدهما نظم كلّ جملة على حيالها بحسب التركيب
والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب
والأول أقرب تناولا، وأسهل ذوقا، فإنّ كلّ من سمع القرآن يهتز لمعانيه وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط ورهبة مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره، وكلّما دقّق النّظر في المعنى عظم عنده موقع الإعجاز، ثمّ إذا عبر الفطن من ذلك إلى تأمل ربط كلّ جملة بما تلته وما تلاها خفي عليه ذلك ورأى أنّ الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد، فظنّ أنّها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما حصل له بالسماع من الهزّ والبسط
فإذا استعان بالله سبحانه وتعالى وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل، وإظهار العجز والوثوق بأنّه في الذروة من أحكام الربط، كما كان في الأوج من حسن المعنى واللفظ، لكونه كلام من جلّ عن شوائب النقص، وحاز صفات الكمال إيمانا بالغيب، وتصديقا للربّ قائلا ما قال الراسخون في
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 234(1/224)
العلم: {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا وَهَبْ لَنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهََّابُ} (آل عمران: 8)، فانفتح له ذلك الباب، ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار رقص الفكر منه طربا وشكروا لله استغرابا وعجبا وشاط لعظمة ذلك جنانه، فرسخ من غير مرية إيمانه = (1)
إذا ما نظرنا في سورة = النحل = مثلا فإنّا نراها من مقدمة وخاتمة وأربعة معاقد:
المقدمة من الأولى والمعقد الأول من الآية الثانية إلى الحادية والعشرين (212)
والثاني من الثانية والعشرين إلى الرابعة والستين (6422)
والثالث من الخامسة والستين إلى التاسعة والثمانين (8965)
والرابع من الآية التسعين إلى الآية الرابعة والعشرين بعد المائة (90 124)
والخاتمة الآيات الأربع الأخيرة (128125)
حين نتأمل نجد أنّ = البقاعي قد جعل المعقد الثالث معطوفا مطلعه على مقطع المعقد الأول أي الآية (65) على الآية (19)
ووجه ذلك أنّ المعقد الأول من سورة النحل معقود للتدليل بأنعم الله تعالى على وحدانيته وقدرته وعلمه وكماله
والمعقد الثالث معقود أيضا لتأسيس ضرب جديد من التدليل بالنعم على وحدانيته استدلالا يظهر فيه معنى الامتنان بينما آيات المعقد الأول كان التدليل أظهر من الامتنان
أمّا آيات المعقد الثاني فهي كالجملة الاعتراضية بين المعقدين الأول والثالث، وآيات هذا المعقد الثالث قائمة ببيان ونقض اعتراضات المشركين، فهنالك تشاكل بين موقع هذا المعقد الثالث ومضمونه، وهو ضرب من المشاكلة بين الوقع المضمون بديع.
ننظر في تناسب آيات المعقد الأول:
تبدأ آيات المعقد بتقرير نعمة النّعم: إنزال الملائكة بالوحي على من يشاء من عباده، ثم نعمة خلق الله تعالى السموات والأرض وتفرده بذلك وجميع آيات المعقد حديث عن النعم الدالة على وحدانية الله وعلمه وقدرته واختياره
الدليل الأول دليل غيبي ترى آثاره وتسمع، ولا تدركه الحواس وهو إنزال الملائكة بالوحي وخلق السموات والأرض.
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 11(1/225)
والثاني المتعلق به من غير ناسق لساني دليل شهودي تمكن مشاهدته ولا سيّما في عصرنا هذا هو خلق الإنسان من نطفة، عاطفا عليه دليلا شهوديا يشارك الإنسان في خلقه من نطفة هو خلق الأنعام (ي: 95) ثم يأتي دليل من النعم مبسوط يشارك عالم الحيوان في كونه نعمة مسخرة للإنسان (1610)
وهذا الدليل الثالث المستدل به على وحدانية المنعم وكمال علمه وقدراته واختياره قد نسقت آياته على نحو بديع يجعلها ثلاثة عوالم:
العالم الأول: العالم المكشوف المحيط بالهواء (ي: 1310)
العالم الثاني: العالم المغمور الهابط (البحار) (ي: 14)
العالم الثالث: العالم الشاهق (الجبال) (ي: 1615)
ثمّ يأتي مقطع المعقد قائما بالانكار التوبيخي لمن جعل من يخلق ذلك الخلق البديع الدّالّ على وحدانيته كمن لا يخلق شيئا
تترابط آيات المعقد وتنسق نسقا بديعا لا قبل لأحد أن يقدّم وأن يؤخر، وأنت إذ تنظر في أنواع الربط تجد بعضها ربطا معنويا باطنيا كما في الآيات الأول من آيات هذا المعقد وبعضها ربطا بناسق لسانيّ، كما في آيات الدليل الأخير من لآيات المعقد.
ولا يتسع المقام لتفصيل الترابط بين آيات كل معقد في السورة
والنظر في تأويل البقاعي في تناسب آيات هذا المعقد يكشف لك كثيرا من معالم منهاجه في هذا = (1)
* * * وهو قد يبدي وجوها عدة في ربط الآية بما سبقها غير مكتف بوجه، كما تراه في تبيان وضع قول الله عزّ وجلّ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالنَّصََارى ََ وَالصََّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62)
في سياق قصص بني إسرائيل:
= ولمّا بيّن سبحانه وتعالى أنّهم لمّا تعنتوا على موسى عليه السّلام أورثهم كفرا في قلوبهم، فمردوا على العصيان، والتجرؤ على مجاوزة الحدود، فضرب عليهم الذّلّة والمسكنة، وأحلهم الغضب
وكان في ذلك تحذير لمن طلب سلوك ذلك الصراط المستقيم من حالهم، وإعلام بأنّ المتقين المستجاب لهم في الدّعاء بالهداية ليسوا في شيء
__________
(1) نظم الدرر: 11/ 101(1/226)
من ذلك بل قالوا: اهدنا، عن يقين وإخلاص متبرئين من الدّعاوى والاعتراض على الرسل نبّه على أنّ من عمل ضدّ عملهم، فأمن منهم أو من غيرهم من جميع الملل كان على ضدّ حالهم عند ربهم، فلا يغضب عليهم، بل يوفيهم أجورهم، ويورثهم الأمن والسرور المتضمنين لضدّ الذّلّة والمسكنة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}
أو يقال: إنّه سبحانه وتعالى لمّا علّل إهانة بني إسرائيل بعصيانهم واعتدائهم كان كأنّه قيل: فما لمن أطاع؟ فأجيب بجواب عام لهم ولغيرهم.
أو يقال: إنّه لمّا أخبر سبحانه وتعالى بأنهم ألزموا الخزي طوق الحمامة، وكان ذلك ربّما أوهم أنّه لا خلاص لهم منه، وإن تابوا، وكانت عادته سبحانه وتعالى جارية بأنّه إذا ذكر وعدا أو وعيدا أعقبه حكم ضدّه ليكون الكلام تامّا، اعلموا أنّ باب التوبة مفتوح، والربّ كريم على وجه عامّ =
ثمّ ينقل لنا مقالة = الحرالّيّ = في بيان مناسبة هذه الآية ما قبلها:
= وقال = الحرالّيّ = لمّا أنهى الحقّ سبحانه وتعالى نبأ أحوال بني إسرائيل نهايته مما بين أعلى تكرمتهم بالخطاب الأول، وكانوا هم أوّل أهل كتاب أشعر تعالى بهذا الختم أنّ جميع من بعدهم يكون لهم تبعا لنحو مما أصابهم من جميع أهل الملل الأربعة. انتهى
ثمّ يختم = البقاعيّ = كلامه في الآية بقوله: = وحسن وضع هذه الآية في أثناء قصصهم أنّهم كانوا مأمورين بقتل كلّ ذكر ممن عداهم، وربّما أمروا بقتل النساء أيضا، فربّما ظنّ من ذلك أنّ من آمن من غيرهم لا يقبل
وفي وضعها أيضا في أثناء قصصهم إشارة إلى تكذيبهم في قولهم {لَيْسَ عَلَيْنََا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران: 75) وأنّ مدار عصمة الدّم والمال إنّما هو الإيمان والاستقامة، وذلك موجود في نصّ التوراة في غير موضع = (1)
هذه وجوه عدّ ذكرها في ارتباط هذه الآية بما قبلها، وهي التي قد يذهب عجل غير متدبر إلى أنها غير ذات علاقة حميمة بما قبلها.
وهذا الذي قاله = البقاعيّ = في وجه ترابط هذه الآية بما قبلها تراه قائما فيما ذهب إليه = الطاهر بن عاشور = في تفسيره قائلا:
= توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم، وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث، فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كلّ بليغ، وهي أنّ ما تقدّم من حكاية سوء مقابلتهم
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 455453(1/227)
لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضروب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب الله سبحانه وتعالى عليهم، ولمّا كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله سبحانه وتعالى لم يترك الله سبحانه وتعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم، فبيّن لهم في هاته الآية أنّ باب الله مفتوح لهم، وأنّ اللجأ إليه أمر هين عليهم، وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات. = (1)
وترى مثل هذا في تبيانه ارتباط قول الله سبحانه وتعالى:
{قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللََّهِ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 97)
بما قبلها، إذ يذكر وجهين من وجوه التناسب والتناسل، فيقول:
= ولمّا ذكر عداوتهم لأخصّ البشر واجتراءهم عليه بالتكذيب والقتل، وختم ذلك بعداوتهم لأكمل الخلق، وأخصهم حسدا حسدا لنزول هذا الذكر عليه عبارة ثمّ إشارة بما رمزه إلى نصبهم لقتله، وأنهى ذلك بما لا محيص لهم من العذاب لأنّه بصير بأعمالهم الموجبة له ذكر ما هو دقيق أعمالهم من عراقتهم في الكفر بعداوتهم لخواصّ الملائكة الذين هم خير محض لا حامل أصلا على بغضهم إلّا الكفر، وبدئ بذكر المنزّل للقرآن [يعنى المأمور بحمل الوحي وإنزاله: جبريل عليه السّلام] لأنّ عداوتهم للمنزل عليه لأجل ما نزل عليه عداوة لمنزله لأنّه سبب ما كانت العداوة لأجله، فقال آمرا له صلّى الله عليه وسلّم إعلاما بما أبصره من خفيّ مكرهم القاضي بضرهم (قل).
أو يقال وهو أحسن وأبين وأمتن ولمّا أمره صلّى الله عليه وسلّم بما دلّ على كذبهم في ادعائهم خلوص الآخرة لهم، وأخبر بأنه لا بدّ من عذابهم أمره بدليل آخر على كلا الأمرين، فعلى تقدير كونه دليلا على الأول يكون منسوقا على (قل) الأولى بغير عاطف إشعارا بأنّ كلّا من الدليلين كاف فيما سيق له، [و] على تقدير كونه دليلا على الثاني الذي خصّه يكون جوابا لمن كأنّه قال: لم لا يزحزحهم عن التعمير عن العذاب = (2)
فهذا من البقاعي تقليب لوجوه النظر وسعي إلى تتبع منابع العلاقة بين الآيات لما يتسم به البيان القرآن الكريم من تعدد وجوه البيان سواء المتحقق من نظمه التركيبي، أو الترتيبي، بل الترتيبي أكثر وألطف ويقول في بيان علاقة قول الله سبحانه وتعالى:
__________
(1) التحرير والتنوير: للطاهر بن عاشور: 1/ 531ط: تونس
(2) نظم الدرر: 2/ 6564(1/228)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ} (آل عمران: من الآية 4)
= ولمّا علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق والإيمان علم أنّ لمخالفي أمره من الأضداد المؤمنين الموصوفين، وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزّل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور، فاتصل بذلك بقوله عزّ وجلّ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}
والآية على تقدير سؤال ممن كأنّه قال: ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة؟
أو يقال: إنّه لمّا قال: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقََانَ} أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال: = والأحسن من ذلك كلّه أنّه سبحانه وتعالى لما أنزل سورة = البقرة = على طولها في بيان أنّ الكتاب هدى للمتقين، وبيّن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدّالة على تمام العلم وشمول القدرة، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى أيد ذلك بالإعلام بأنّ ذلك الكتاب مع أنّه هاد إليه حقّ، ودلّ على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب = (1)
ونراه يذكر أكثر من وجه في عطف الآية على غيرها إشارة إلى تعدد وجوه الاعتلاق وأنها صالحة للتلاقي والتناسل من أكثر من آية سابقة عليها سواء قاربتها موقعا أو باعدتها
ترى ذلك في تبيان المعطوف عليه في قول الله سبحانه وتعالى:
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ وَمََا يَكْفُرُ بِهََا إِلَّا الْفََاسِقُونَ} (البقرة: 99)
= ولمّا فرغ من ترغيبهم في القرآن بأنّه من عند الله سبحانه وتعالى، وأنّه مصدق لكتابهم، وفي جبريل عليه السّلام بأنّه الآتي به بإذن الله عزّ وجلّ ومن ترهيبهم ممن عداوتهم أتبعه مدح هذا القرآن، وأنّه واضح الأمر لمريد الحقّ وإن كفر به منهم أو من غيرهم فاسق أي خارج عما يعرف من الحقّ فإنّه بحيث لا يخفى على أحد، فقال تعالى عطفا على قوله {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللََّهِ} (ي: 97)، أو قوله عزّ وجلّ: {(وَلَقَدْ جََاءَكُمْ مُوسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ} (ي:
92)، أو على ما تقديره: فلقد بان بهذا الذي نزّله جبريل عليه السّلام أنّ الآخرة ليست خالصة لهم، وأنهم ممن أحاطت به خطيئته لكفره {وَلَقَدْ أَنْزَلْنََا}. = (2)
__________
(1) نظم الدرر: 4/ 214
(2) نظم الدرر: 2/ 69(1/229)
وقارئ تفسير البقاعي يلحظ غلبة ذهابه إلى العطف على مقدر، وكأنّه يشير بهذا إلى أنّ القرآن الكريم إنما تشتد وثاقة المعانى اللازمة بما هي لازمة له من المعانى المصرح بها فيكتفى بدلالة هذه الوثاقة عن التصريح بذكر هذه المعانى اللازمة المعطوف عليه ما بعد المصرح به فيأتي بما بعد العاطف مردودا على مقدر هو في شدة اقتضاء البيان له كالمصرح بذكره.
وبهذا يكون النسيج البياني لمعانى القرآن الكريم قائما على منهاج الحبك الذي تختفي فيه بعض خيوط الإبريسم في نسيج الديباج فلا تكاد تظهر للعين العارضة ولكنها تظهر للبصيرة النافذة، ومن ثمّ ترى غلبة الذهاب إلى الإيجاز بالحذف عند البقاعي في تأويله نسق البيان القرآنيّ، ولا سيما حذف المعطوف عليه المقدر من رحم المعنى في الجملة السابقة المصرح بذكرها.
والبقاعي قد يذهب إلى عطف آية على أخرى تسبقها بأكثر من أربعين آية كما تراه في عطف قول الله سبحانه وتعالى
{وَاللََّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (النحل: 65) على قول الله سبحانه وتعالى {وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا تُسِرُّونَ وَمََا تُعْلِنُونَ} (النحل: 19)
يقول: = ولمّا انقضى الدليل على أنّ قلوبهم منكرة استكبارا وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب بالإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة:
الإلهيات، النبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار وكان أجلّ هذه المقاصد الإلهيات شرع في أدلة الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدم ليعلم أنّ أدلة ذلك أكثر من أوراق الشجر، وأجلى من ضياء النهار، فعطف على قوله سبحانه وتعالى {وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا تُسِرُّونَ وَمََا تُعْلِنُونَ} قولا جامعا في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي {وَاللََّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً} (1)
وهذا قائم على أساس ما يعرف عند البلاغيين بعطف القصة على القصة وهو منهاج من مناهج علاقات المعاني ببعضها، والبقاعي نفسه مؤكد ان منهاج العلائق بين المعاني في السورة القرآنية كمهاج علاقات فروع وأغصان وافنان الشجرة.
__________
(1) نظم الدرر: 11/ 191(1/230)
والقول في علاقة الآيات بعضها ببعض وسيع لا يكاد يحاط به، وهو مبنيّ على ما أجمع عليه أهل العلم من أن ترتيب الآيات توقيف جاء به الوحي، فليس لأحد من العالمين أجمعين: ملكا أو نبيّا دخل فيه، فأنت لا تكاد تجد واحدا ينتسب إلى العلم يزعم أنّ ترتيب الآيات في السورة اجتهاد من صحابي أو نبيّ أو ملك.
وإذا ما كان الأمر توقيفا فلا بد أن يكون من وراء ذلك حكمة ذات منزلة عليه في مناط الإعجاز القرآنيّ: الإعجاز البيانيّ، فكان ضرورة أنّ ثمّ علاقة تناسب وتناسل بين لآيات السورة الواحدة، وأن كلّ آية ليست بمقطوعة الرحم من سابقتها ولاحقتها.(1/231)
المعلم السّابع. تأويل النظم في القصص القرآني
قد جاء البيان القرآنيّ عن مراد الله سبحانه وتعالى من عباده مازجا بين سياقين:
سياق تشريعيّ عماده الأمر والنّهي على اختلاف مسالكهما وصورهما وسياق تثقيفيّ عماده الترغيب والترهيب.
ولا يكاد سياق منهما يتجرد من صحبة الآخر، فهما قائمان معا، وإن تباينت درجات ظهور أحدهما ولطف الآخر.
والقصص القرآنيّ الكريم ضرب من ضروب التثقيف النفسيّ والقلبيّ ترغيبا وترهيبا، تدرك البصائر النافذة في غوره فيضا من درجات التكليف بالمعاني الإحسانية لطائفة ارتقت في مسيرها إلى ربّها من الدرجة الدنيا من درجات الطاعة لله عزّ وجلّ إلى درجة أعلى: ارتقت من سن = الذين آمنوا = إلى سنّ = المؤمنين = ومن فوقهم إلى شرف سنّ = المحسنين = الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى كأنّهم يرونه رأي بصيرة.
والقرآن الكريم يقرر منزل القصص ورسالته الجليلة في آيات عدّة كريمة:
{إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمََا مِنْ إِلََهٍ إِلَّا اللََّهُ وَإِنَّ اللََّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 62)
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف: 176)
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ} (يوسف: 3)
{لَقَدْ كََانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبََابِ مََا كََانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ََ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
(يوسف: 111)
ونظرة متأنية في بيان هذه الآية الأخيرة التى تختم بها سورة = يوسف = القائمة بقصة تامة لم يتكرر مشهد من مشاهدها على غير ما هو السنة البيانية في القرآن الكريم للقصص القرآني تغريك بالتأمل في قوله عزّ وجلّ:
{عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} وكأنّ في هذا إشارة إلى أنّ العبور من الانشغال بظاهر الحدث المقصوص في ذلك القصص وما قام منه المشهد القصصيّ فيها إلى ما هو الغاية المنصوبة المساق لها هذا القصص إنما يكون من أولي الألباب، الذين ينيط القرآن الكريم بهم
التذكر الذي هو استحضار ما كان للمرء معه صحبة علم سبق، فالقصص القرآنيّ الكريم إنّما هو للاعتبار.(1/232)
{عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} وكأنّ في هذا إشارة إلى أنّ العبور من الانشغال بظاهر الحدث المقصوص في ذلك القصص وما قام منه المشهد القصصيّ فيها إلى ما هو الغاية المنصوبة المساق لها هذا القصص إنما يكون من أولي الألباب، الذين ينيط القرآن الكريم بهم
التذكر الذي هو استحضار ما كان للمرء معه صحبة علم سبق، فالقصص القرآنيّ الكريم إنّما هو للاعتبار.
وبالتأمل في قوله سبحانه وتعالى: {مََا كََانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ََ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} فهذا كاشف عن حقيقة هذا القصص الذي لا يتأتى لأي قصص آخر أن يدانيه فيه، والذي لن يتأتى لما تقذف به الأزمان أن يقوم فيها ما يكذب أمرا منه جليلا أو دقيقا.
وبالتأمل في قوله سبحانه وتعالى: {وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فهذا دالّ دلالة بيّنة على أن هذا القصص إنما يهتدي به على نحو يليق بقدره من كان بيّنة على أن هذا القصص إنما يهتدي به على نحو يليق بقدره من كان قائما بالإيمان بأنّ ما يسمع من ذلك القصص ليس افتراء ولا نتاج خيال وهيام في كلّ واد ولكن تصديق الذي بين يديه من الكتب الحق التي أنزلها الله عزّ وجلّ على رسله عليهم السّلام
وكأنّ عجز الآية ناظر إلى صدرها، فهي من قبيل الرد المعنوي للمقطع على المطلع = العجز على الصدر =
وفي هذا من القرآن الكريم هداية نيّرة باهرة تفصل بين حقيقتين:
حقيقة القصص القرآنيّ الكريم القائم من الحق والقائم به الذي لا يتطرق إليه أدنى شبهة أن يكون فيه مباعدة بين ما يقصّ وما كان أو يكون في عالم الشهود وحقيقة ما يسمى في عالم الإبداع الأدبي قصصا معدنه التخيل والتوهم يباعد الحق أيّما مباعدة، وإن انتزع بعضه أو شبهه من حركة الحياة الهادرة.
وفوق هذا هما متباعدان رسالة وغاية.
وهذا يقضي بالمباعدة بينهما منهاج إبانة وتصوير، ومن ثمّ لا يكون من موضوعية التأويل بيانا قرآنيّا أو موضوعية النقد إبداعا أدبيا أن يؤخذ من مناج النقد الأدبي عربيّا أو أعجميا للقصص الفنيّ ما يقرأ به المسلم معالم الإعجاز البياني للقصص القرآنيّ الكريم.
* * * والبقاعيّ يتدبر فصول القصص وأحداثه مبرزا تناسب ذلك مع السياق والقصد من السورة، وقد يعقد موازنة بين مواقع القصة الواحدة في سور متعددة مما يبرز مشتبه النظم التركيبي والترتيبي في القصة
ومقالة = البقاعيّ = في شأن القصص القرآني مقالة وسيعة لا يتسع لها مثل هذه الأوراق في جديرة بأن يفرد لها بحث علميّ يستوعب شذرات الذهب المتناثرة في سياق تأويله البيان القرآني الكريم وفق أصول علم التناسب القرآني عنده، فلسنا إلى غير الإشارة إلى بعض ما يحرض بالقيام إلى النظر فيما كان من مقالة = البقاعيّ = في هذا.(1/233)
يقول عن = علم التناسب =:
= وبه يتبين لك أسرار القصص المكررات، وأنّ كلّ سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى أدعى في تلك السورة استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سيقت له في السورة السابقة.
ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنها لا يخالف شيء من ذلك أصل المعنى الذي تكونت به القصة = (1)
وهذا من = البقاعيّ = أصل عظيم من أصول التأويل البيانيّ للقرآن الكريم، ناظر إلى منزل السياق والغرض المنصوب له الكلام في فقه المعنى وتذوق البيان، ودالّ على أنّ البيان القرآنيّ لا يقوم فيه تكرار عقيم بل هو إلى التصريف البياني في تصوير المعاني مما يمنح المتلقي فيضا من العطاء الدلالي يدفع عنه غائلة الملل والسأم، فهو البيان الذي لا يخلق على كثرة الرّد، ولا تنتهي عجائبه.
ومما قاله في تأويل القصص في سورة = الأعراف =:
= واعلم أنّه لا تكرير في هذه القصص، فإنّ كلّ سياق منها لأمر لم يسبق مثله، فالمقصود من قصّة = موسى = عليه السلام، و = فرعون = عليه اللعنة والملام هذا الاستدلال الوجوديّ على قوله: = وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين =
ومن هنا تعلم أن سياق قصّة بني إسرائيل بعد الخلاص من عدوّهم لبيان إسراعهم في الكفر ونقضهم للعهود.
واستمرّ سبحانه وتعالى في هذا الاستدلال إلى آخر السورة، وما أنسب = قوله سبحانه وتعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قََالُوا بَلى ََ شَهِدْنََا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيََامَةِ إِنََّا كُنََّا عَنْ هََذََا غََافِلِينَ} (الأعراف: 172) لقوله عزّ وجلّ: {وَمََا وَجَدْنََا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنََا أَكْثَرَهُمْ لَفََاسِقِينَ} (الأعراف: 102)
وذكر في أوّل التي تليها [سورة الأنفال] تنازعهم في الأنفال تحذيرا لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه.
هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسرائيل في = البقرة = فإنّه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم لأنّ ذلك في سياق خطابه سبحانه لجميع النّاس بقوله: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 14(1/234)
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 28)
وما شاكله من الاستعطاف بتعدّد النّعم ودفع النّقم. والله أعلم = (1)
فهذا دالّ دلالة بيّنة على أنّه يرى سياقا خاصّا لكل قصّة ولكل جانب / مشهد من جوانبها هو الذي يقتضي أن تكون هذه القصة هنا وأن يكون هذا الجانب منها، وأن يكون نظمها على هذا النحو.
* * * ومما هو معنيّ ببيانه ترتيب أحداث القصص القرآني، وبيان أنّ معيار ترتيبه ليس التوالي الزمنيّ للأحداث في الواقع بل السياق والغرض العام من البيان هو الذي يقضي بتقديم الإنباء بحدث مقدما على الإنباء بحدث قد سبقه في الوقوع.
ترى شيئا من هذا في أول قصة وردت في السياق الترتيلي للقرآن الكريم: قصة أبينا آدم عليه السّلام في سورة = البقرة =:
جاء الإنباء عن أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السّلام بعد الإنباء عن تعليمه الأسماء وإخبار الملائكة بما لم تعلم.
ومقتضى الظاهر عنده أنّ السجود كان أولا، وكان أمر الملائكة بأن تنبئ بأسماء الأشياء من بعده في واقع الأمر، وجاء البيان القصصيّ على غير ذلك، يقول:
= مشى = البيضاويّ = على أنّ الأمر بالسجود كان بعد الإنباء بالأسماء، ولم يذكر دليلا يصرف عن هذا الظاهر (2) على أنّ المشي عليه أولى من جهة المعنى لأنّ سجود الملائكة عليهم السلام قبل [أي قبل إظهار فضيلة العلم لآدم عليه السّلام] يكون إيمانا بالغيب على قاعدة التكليف،
__________
(1) نظم الدرر: ج 8ص 70
(2) يقول البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل): = {وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} لمّا أنبأهم بالأسماء وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له اعترافا بفضله وأداء لحقه، واعتذارا عمّا قالوا فيه.
وقيل امرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله سبحانه وتعالى {فَإِذََا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سََاجِدِينَ} امتحانا لهم وإظهارا لفضله = (أنوار التنزيل ج 2ص 130
ويعلق = الشهاب الخفاجي في حاشيته = عناية القاضي (2/ 130) على قول البيضاوي (وقيل أمرهم): = والمصنف رحمه الله تعالى أشار [أي بقوله: قيل] إلى عدم ارتضائه، ولم يشر إلى جواب استدلاله بالآية [أي فقعوا] وهو أنّ الفاء الجوابية لا تقتضي التعقيب وكما في قوله سبحانه وتعالى: {إِذََا نُودِيَ لِلصَّلََاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ} فإنه لا يجب السعي عقبه =(1/235)
وأمّا بعد إظهار فضيلة العلم، فقد كشف الغطاء، وصار وجه الفضل من باب عين اليقين.
وأمّا الترتيب في الذكر هنا على هذا الوجه، وهو جعل السجود بعد الإنباء، فهو لنكتة بديعة:
وهي أنّه سبحانه وتعالى لمّا كان في بيان النعم التي أوجبت شكره باختصاصه بالعبادة لكونه منعما، فبيّن أولا نعمته على كلّ نفس في خاصتها بخلقها، وإفاضة الرزق عليها [يشير إلى الآيات: 2221]
ثمّ ذكّر الكلّ بنعمة تشملهم، وهي محاجته لأقرب خلقه إذ ذاك إليه عن أبينا آدم عليه السّلام قبل إيجاده اقتضى الأسلوب الحكيم أن يوضح لهم الحجة في فضيلة هذا الخليفة، فذكر ما آتاه من العلم، فلمّا فرغ من محاجتهم بما أوجب إذعانهم ذكّر بنيه بنعمة السجود له، فما كان تقديم إظهار فضيلة العلم إلا محافظة على حسن السياق في ترتيب الدليل على أقوم منهاج وأوضح سبيل = (1)
يبرز = البقاعيّ = كما ترى أثر السياق والغرض المنصوب له الكلام في النظم الترتيبيّ لأحداث القصة، وكيف أنّهما قد يقتضيان تقديم حدث في الذكر على حدث مقدّم في وقوع القصة، فالاعتداد بما يقتضيه الحال والمقام
* * * وهو حين ينظر في التصريف البيانيّ للقصة الواحدة وتصويرها بصور بيانية متنوعة يشير إلى أنّ = المقصود من حكاية القصص في القرآن الكريم إنّما هو المعاني [أي معاني الهدى التي بها الاعتبار = عبرة لأولي الألباب =] فلا يضرّ اختلاف اللفظ إذا أدّى جميع المعنى أو بعضه، ولم يكن هناك مناقضة، فإنّ القصّة كانت حين وقوعها بأوفى المعاني الواردة، ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى يعبّر لنا في كلّ سورة تذكر القصة فيها بما يناسب ذلك المقام في الألفاظ عمّا يليق من المعانى، ويترك ما لا يقتضيه ذلك المقام. = (2)
في هذا إشارة إلى أن الذي يقص علينا ما كان وما يكون إنّما هو العليم الخبير جلّ جلاله، فهو العليم بدقائق ولطائق المعاني المكنونة في الصدور التي يقصّ أخبارها وما كان منها وما سيكون، وهو العليم بما يملك لسان العربية من قدرات الإبانة عن لطائف المعاني وشواردها وأوابدها
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 280
(2) نظم الدرر: 1/ 284(1/236)
وكأني ب = البقاعيّ = يستحضر في عقله هنا مقالة = أبي سليمان: حمد الخطابيّ = (ت: 388هـ) التي يقول فيها:
= وإنّما تعذّر على البشر الإتيان بمثله لأمور منها:
أنّ علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها.
ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ. ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصّل باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أنّ يأتوا بكلام مثله = (1)
يبيّن البقاعيّ الغاية من القصص القرآنيّ وهي بيان المعاني فإذا أديت فلا يضرّ اختلاف الألفاظ لاختلاف المقامات ذلك أنّ الأحداث حين وقوعها تكون كاملة المعاني والله عزّ وجلّ عليم بها جميعها فيعبر عنها في كل مرة بما يلائم ذلك المقام والغرض المنصوب له الكلام.
في هذا إشارة إلى أن الذي يقصّ علينا ما كان وما يكون إنّما هو العليم الخبير جلّ جلاله، فهو العليم بدقائق ولطائق المعاني المكنونة في الصدور التي يقص أخبارها وما كان منها ومكا سيكون، وهو العليم بما يملك لسان العربية من قدرات الإبانة عن لطائف المعاني وشواردها وأوابدها، فيصطفي في كلّ مرة من النظوم ما ينقل إلينا جانبا من جوانب المعنى بحيث يكون ذلك المنقول إلينا هو المتناسب مع السياق والغرض المنصوب له الكلام، لأنّ ذلك القصص له غاية تثقيفية تربوية تهذيبية هي المعيار في الاصطفاء معنى وصورة معنى
وأكثر ما قصّه القرآن الكريم من قصص لم يكن المخبر عنه المحكي أخبارهم بالناطقين بلسان العربيّ ولكن القرآن الكريم قد صور بلسان العربية المبين دقائق معانيهم القائمة في ألسنتهم الأعجمية وما كان من المعاني مكنونا في صدورهم التي خلقها الله عزّ وجلّ وعلم خفاياها
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ * أَلََا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 1413)
{يَعْلَمُ خََائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمََا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر: 19)
__________
(1) بيان إعجاز القرآن الكريم لأبي سليمان الخطابي: 26ضمن كتاب ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ت: محمد خلف الله وزغلول سلام ط: دار المعارف بمصر(1/237)
فلم يدع بيان القرآن الكريم بلسان العربية المبين من معاني المقصوص خبرهم شيئا بل صورها تصويرا معجزا
{مََا كََانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ََ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}
(يوسف: 111)
إنها الآية الجامعة الخاتمة المقررة حقيقة القص القرآني المجيد
* * * وأنت تراه في سور البقرة وسورة الأعراف يقف وقفات كاشفة عن السنة البيانيّة للقرآن الكريم في نظم قصصه ولا سيّما النظم الترتيبي.
في قصة = البقرة = وقد سميت السورة بها مما يوحي بأنّها مبينة عن معالم المقصود الأعظم من السورة إبانة محكمة وإن لطفت ودقت نجده ينظر في النظم الترتيبي لها ولا سيما موقعها في سياق السورة، وفي نظمها التركيبيّ
القصة جاءت في سياق قصة بني إسرائيل وما كان من أمرهم وفي عقب الإشارة إلى اعتدائهم في السبت، وما كان من أمرهم أن يكونوا قردة خاسئين نكالا لما كان منهم وموعظة للمتقين مثل صنيعهم، وكأنّ فيه تحذيرا عظيما لهذه الأمة أن تعتدي في اختيار الله سبحانه وتعالى لها: يوم الجمعة.
في هذا السياق الكاشف عن حال بني إسرائيل من قساوتهم في حق الله سبحانه وتعالى عامة وخاصة جاء البيان عن قساوتهم في مصالح أنفسهم بما كان منهم من قتل النفس بغير حقّ.
يقول البقاعي فيما يقول مبينا اقتضاء المقام إنزال قصة البقرة في سياق السورة حيث أنزلت:
= إنّه لمّا كان السبت إنّما وجب عليهم، وابتلوا بالتشديد فيه باقتراحهم له وسؤالهم إياه بعد إبائهم للجمعة كان أنسب الأشياء تعقبه بقصة البقرة التي ما شدد عليهم في أمرها إلا لتعنتهم فيه، وإبائهم لذبح أيّ بقرة تيسرت
ويجوز أن يقال أنّه لمّا كان من جملة ما استخفوا به السبت المسارعة إلى إزهاق ما لا يحصى من الأرواح الممنوعين منها من الحيتان، وكان في قصّة = البقرة = التعنت والتباطؤ عن إزهاق نفس واحدة أمروا بها تلاه بها = (1)
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 473(1/238)
هذا من = البقاعي = بيان لوجه من وجوه إنزال هذه القصة في هذا المنزل من السياق الترتيليّ للسورة
فيها كشف لجانب من جوانب سوء صنيعهم واختيارهم وإعراضهم عن اختيار الله سبحانه وتعالى لهم، وكيف أنّهم فيما يذهبون إليه مع مقتضى اختيار عقولهم ساقطون في سوء العقبى، ففي القرن بين الخبرين مراعاة نظير، وفي هذا موعظة للمتقين أن يكون منهم انتهاج ما انتهج أولئك المعاندون من بني إسرائيل
* * * وإذا ما كان البقاعيّ قد نظر في منزل قصة = البقرة = في السياق الترتيليّ من سورة البقرة فإنّه ينظر في نسق النظم الترتيبي لأحداثها فيرى أنّ نظمها الترتيبي للأحداث لم يكن على نسق ترتيب تلك الأحداث في الوجود زمن وقوعها، وأن ذلك لمقتضى من الغرض المنصوب له الكلام.
يقول: = لمّا قسمت القصة شطرين تنبيها على النعمتين:
نعمة العفو عن التوقف عن الأمر
ونعمة البيان للقاتل بالأمر الخارق
وتنبيها على أنّ لهم بذلك تقريعين:
أحدهما بإساءة الأدب في الرمي بالاستهزاء والتوقف عن الامتثال
والثاني على قتل النفس وما تبعه
ولو رتبت ترتيبها في الوجود لم يحصل ذلك
وقدّم الشطر الأنسب لقصة السبت اتبعه الآخر = (1)
كان مقتضى الظاهر أن يبدأ القصّ بقوله جلّ جلاله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً}
(البقرة 72) وأن يكون من بعده {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ} (البقرة:
67) ولكنه قدّم مقالة نبيّهم لهم وما كان منهم لما اقتضاه المقام ومراعاة النظائر وتقديما لتقريعهم على إساءة الأدب وتوقفهم عن الامتثال، وهو ناظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ليتقي كلّ مسلم انتهاج سبيلهم في حياتهم، فليس من الاقتداء بهم إلا معرّة الدنيا ومذلة الآخرة
القول في القصص القرآنيّ وما فيه من نظم ترتيبي للأحداث ومواقع ذلك القصص في سياق السورة وسيع مجاله لا يكاد مثلى يستوعب الإشارة مجرد الإشارة إلى كثيرا منه، ولا سيّما في هذا المقام.
__________
(1) نظم الدرر 1/ 474(1/239)
والقول في النظم الترتيبيّ للقصص القرآنيّ جانب من جوانب القصص القرآنيّ الحكيم، فإنّ جوانبه عديدة منها تصريف البيان عن مشاهد القصص وأحداثه
ومنها المعاني القرآنية: الجمهورية والإحسانية التي جاءت في القصص القرآنيّ ووجه الإعجاز فيها
ومنها فرائد القصص القرآني: المشاهد التي لم يثنّ ذكرها ولم يصرف البيان عنها، والكلمات التي لم تأت إلا مرة واحدة فيه أو في القرآن الكريم كلّه
ومنها معجم القصص القرآنيّ، والفروق الدلالية
وفوق هذا خصائص النظم التركيبي ومناهج التصوير والتحبير في البيان القصصي في القرآن الكريم إلخ
هذه أبواب وسيعة وقماميس تدبّر بيانيّ لا يحاط بها، فضلا عن أن تحصى أسرارها، إذ أنها من أجلّ النعم الربّانية:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا إِنَّ اللََّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 18)
* * * * *
المعلم الثّامن. بيان النّظم التّرتيبي للجمل في بناء الآية القرآنية(1/240)
* * * * *
المعلم الثّامن. بيان النّظم التّرتيبي للجمل في بناء الآية القرآنية
من البيّن أن من مناهج البيان القرآني الكريم تفصيل سوره إلى آيات، وهذه الآيات لم يكن تفصيلها وتعيين مطلع تلاوتها ومقطعها قائما على أساس لغويّ بيانيّ، لتنظر قول الله سبحانه وتعالى:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ََ * عَبْداً إِذََا صَلََّى} (العلق: 109)
جعل الحقّ جلّ جلاله مطلع تلاوة الآية الثانية مفعول الفعل الذي جعله مقطع تلاوة الآية السابقة عليها، مما يدلّ على أنّ الأمر ليس مردّه إلى معيار لسانيّ، وإن كان مثل هذا ليس بالغالب على تفصيل السورة إلى آيات، ولا سيّما الآيات التي تبسط، فتكوّن من جمل عدّة قد تكون فيما بينها علائق نحوية وقد تكون علائق سياقية.
للبقاعيّ عناية ماجدة بتأويل النظم الترتيبي للجمل في بناء الآية، ولا سيّما الآيات الممتدّة التي تنزل فيها الجملة النحويّة من الآية منزلة الكلمة من الجملة.
وهو أيضا معنيّ ببيان علاقة دلالات هذا النظم بالسياق القريب والبعيد، وهذا مردّه أنّه يعدّ النظم الترتيبيّ أعلى منزلة في تدبّر تناسب القرآن الكريم من النظم التركيبيّ، ويعدّ الوقوف عليه مما يختص به الأئمة من أهل العلم أمّا النظم التركيبي القائم ببناء الجملة فذلك مما يتيسر الوقوف عليه وإتقان فهمه لكثير
يقول وهو بصدد بيان موضوع علم التناسب:
= وموضوعه أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب وما أمامه من الارتياط والتعلق الذي هو كلحمة النسب = (1)
ويقول: = بهذا العلم أي علم المناسبات يرسخ الإيمان في القلب، ويتمكن من اللبّ، وذلك أنّه يكشف أنّ للإعجاز طريقين:
أحدهما نظم كلّ جملة على حيالها بحسب التركيب.
والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب
والأول أقرب تناولا وأسهل ذوقا = (2)
__________
(1) نظم الدرر: ج: 1ص: 5
(2) السابق: 1/ 1110(1/241)
لعلّ سهولة تأويل النّظم التركيبيّ في بناء الجملة بالنّسبة إلى تأويل النظم الترتيبيّ للجمل المركبة في بناء الآية من أسبابه أنّ النظم التركيبي مرجعه موضوعيّ من العلاقات النحوية بين معاني الكلم، وهو ما أطلق عليه عبد القاهر النظم (1) فمعاني النحو المتوخاة بين معاني الكلم في بناء الجملة أمر موضوعيّ متعين وإن تعددت الوجوه، وما كان كذلك كان أمره أيسر بالنسبة إلى ما لم يكن مردّه إلى معيار موضوعي كالنظم التركيبيّ، فإنّ مردّه سياقيّ قصديّ أي راجع إلى سياق الكلام على اتساع دوائره:
دائرة بناء الآية، ودائرة بناء المعقد ودائرة بناء السورة ودائرة بناء البيان القرآنيّ كله
وكلّما اتسعت الدائرة كان لطف المسمع والمنظر، فتباينت الأسماع والأنظار.
الجملة التي ينظر في نظمها الترتيبيّ في بناء الآية قد تكون جملة مديدة تحتضن في رحمها جملا صغرى عديدة ترتبط بها ارتباطا تركيبيا عماده العلائق النحوية،
والذي يعنينا هنا هو علائق الجمل النحوية القائمة من النظم التركيبي لتشكّل بما بينها من نظم ترتيبيّ آية من آيات السورة، فذلك هو الذي يكون فيه النظم الترتيبيّ.
وهذا القائم بين الجمل في بناء الآية هو أضيق مجالات النظم الترتيبي الذي قد تتسع مجالاته لنظم الآيات في بناء المعاقد ونظم المعاقد في بناء السورة، ثمّ نظم السور وترتيبها لتحقيق السياق الترتيليّ للقرآن الكريم المستفتح تلاوته بسورة الفاتحة والمختتم تلاوة بسورة النّاس، وقد سبق
__________
(1) إذا ما كانت عناية عبد القاهر بالعلائق النحوية في بناء الجملة عناية جلية بالغة فليس معنى هذا أنه كان بالواقف عند ذلك غير متجاوزه أو الذاهب إلى أنّه ليس من وراء هذا المستوى من التعلق بين مكونات الكلام مستوى آخر بل إنك إذا نظرت في كتابه: (دلائل الإعجاز) رأيت موقفا له من بيان للجاحظ في مقدمة كتاب الحيوان يقول فيه: «جنبك الله الشبهة وعصمك من الحيرة إلخ»
لم يجعله من النظم الذي تجب به الفضيلة (دلائل: ص 9897) على الرغم من أنّ كلّ جملة قائمة من نظم تركيبي عال توخي فيها معاني النحو فيما بين معاني كلمها، وإن افتقرت فيما بين الجمل إلى النظم الترتيبي الذي عماده السياق والغرض المنصوب له الكلام فأنت تملك تقديم جملة على جملة دون ان يتهدم البناء.(1/242)
أن نظرت في ما هو أعلى من مجال النظم الترتيبي بين الجمل لبناء الآية.
الآية القرآنية قد تتشكل من مجموع جمل نحوية لكل جملة منها استقلالها الإعرابيّ، ولكنّها برغم من ذلك لا يتم معنى الكلام إلا بمجموع هذه الجملة النحوية، ولا يتأتى لك الوقوف على تمام المعنى البيانيّ من الكلام إلا بمجموع هذه الجملة النحوية.
آية الكرسي إذا نظرت فيها ألفيتها تسع جمل نحوية أو عشر جمل إذا ما قلنا إنّ اسم الجلالة جملة حذف أحد ركنيها ودل عليه السؤال المقدر:
لمن الملك اليوم؟ وهو ما ذهب إليه البقاعي،.
المعنى النحوي في كل جملة لا يفتقر إلى السابق عليه عند النحاة وإن تناسل منه
هذه الجمل النحوية هي عناصر جملة قرآنية (بيانية) واحدة، فأنت لا تقف على المعنى القرآنيّ الكريم من هذه الآية من جملة نحوية واحدة، فالمعنى القرآني البياني الذي جعل هذه الآية سيدة آي القرآن الكريم كما هدت إليه السنة لا تقوم به الجملة النحوية الأولى وحدها {(اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)} بل لا بدّ من الإحاطة بكل الجمل التي بنيت عليها.
الجملة النحوية الأولى هنا هي الجملة المفتاح والجملة الأساس الذي بنيت عليه بقية الجمل في بناء وتشكيل المعنى القرآني لهذه الجملة القرآنية.
والبقاعي عنى بتأويل سيدة آي القرآن الكريم: آية الكرسي في تفسيره، وأفرد لها كتابه: الفتح الكرسي في تفسير آية الكرسي
ولننظر في تأويله النظم الترتيبيّ لجمل هذه الآية في تفسيره، يقول:
= لمّا ابتدأ سبحانه وتعالى الفاتحة، كما مضى بذكر الذّات، ثمّ تعرف بالأفعال لأنها مشاهدات، ثمّ رقى الخطاب إلى التعريف بالصفات، ثمّ أعلاه رجوعا إلى الذّات للتأهل للمعرفة ابتدأ هذه السورة بصفة الكلام، لأنها أعظم المعجزات وأبينها وأدلها على غيب الذات وأوقعها في النفوس لا سيما عند العرب، ثمّ تعرف بالأفعال فأكثر منها
فلمّا لم يبق لبس أثبت الوحدانية بآيتها السابقة مخللا ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الوصف والترتيب، فلمّا تمت الأوامر وهالت تلك الزواجر وتشوقت الأنفس وتشوفت الخواطر إلى معرفة سبب انقطاع الوصل بانبتار الأسباب وانتفاء الشفاعة في ذلك اليوم إذ كان المألوف من ملوك الدنيا أنّهم لا يكادون يتمكنون من أمر من الأمور حقّ التّمكّن من كثرة الشفعاء
والراغبين من الأصدقاء بيّن سبحانه وتعالى صفة الآمر بما هو عليه من الجلال والعظمة ونفوذ الأمر(1/243)
فلمّا لم يبق لبس أثبت الوحدانية بآيتها السابقة مخللا ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الوصف والترتيب، فلمّا تمت الأوامر وهالت تلك الزواجر وتشوقت الأنفس وتشوفت الخواطر إلى معرفة سبب انقطاع الوصل بانبتار الأسباب وانتفاء الشفاعة في ذلك اليوم إذ كان المألوف من ملوك الدنيا أنّهم لا يكادون يتمكنون من أمر من الأمور حقّ التّمكّن من كثرة الشفعاء
والراغبين من الأصدقاء بيّن سبحانه وتعالى صفة الآمر بما هو عليه من الجلال والعظمة ونفوذ الأمر
ولأجل هذه الأغراض ساق الكلام مساق جواب السؤال، فكأنّه قيل:
هذا ما لا يعرف من أحوال الملوك، فمن الملك في ذلك اليوم؟ فذكر آية الكرسيّ سيدة آي القرآن التي ما اشتمل كتاب على مثلها مفتتحا لها بالاسم العلم الفرد الجامع الذي لم يتسمّ به غيره، وذلك لمّا تأهّل السّامع بعد التعرف بالكلام والتودّد بالأفعال لمقام المعرفة فترقّى إلى أوج المراقبة وحضرة المشاهدة فقال عائدا إلى مظهر الجلال الجامع لصفات الجلال والإكرام لأنّه من أعظم مقاماته (الله) أي هو الملك في ذلك اليوم.
ثمّ أثبت له صفات الكمال منزها عن شوائب النقص مفتتحا لها بالتفرد فقال (لا إله إلا هو)
ولمّا وحّد سبحانه وتعالى نفسه الشريفة أثبت استحقاقه لذلك بحياته، وبيّن أنّ المراد بالحياة الأبديّة بوصف القيّومية فقال (الحيّ القيوم)
ثمّ بيّن قيوميته وكمال حياته بقوله جلّ جلاله {(لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ)}
ثمّ بيّن هذه الجملة بقوله عزّ وجلّ {(لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ)}
ثمّ بيّن ما تضمنته هذه الجملة بقوله منكرا على من ربّما توهم أنّ شيئا يخرج عن أمره، فلا يكون مختصا به {(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلََّا بِإِذْنِهِ)} أي بتمكينه لأنّ من لم يقدر أحد على مخالفته كان من البيّن أنّ كلّ شيء في قبضته، وكلّ ذلك دليلا على تفرده بالإلهية
ثمّ بين جميع ما مضى بقوله عزّ وجلّ {(يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ)}
ولمّا بيّن قهره لهم بعلمه بيّن عجزهم عن كلّ شيء من علمه إلا ما أفاض عليهم بحلمه فقال جلّ جلاله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) ثمّ بيّن ما في هذه الجملة من إحاطة علمه وتمام قدرته بقوله مصورا لعظمته وتمام علمه وكبريائه وقدرته بما اعتاد الناس في ملوكهم {(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ)} فبان بذلك ما قبله لأنّ من كان بهذه العظمة في هذا التدبير المحكم والصنع المتقن كان بهذا العلم وهذه القدرة التي لا يثقلها شيء، ولذا قال عزّ وجلّ {(وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا)} في قيوميته كما يثقل غيره
ولمّا لم يكن علوه وعظمته بالقهر والسلطان والإحاطة بالكمال منحصرا فيما تقدم عطف عليه قوله جلّ جلاله {(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)} كما أنبأ عن ذلك افتتاح الآية بالاسم العلم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى علوا وعظمة تتقاصر عنهما الأفهام لما غلب عليها من الأوهام(1/244)
وقد علم من هذا التقرير أنّ كلّ جملة استؤنفت فهي علة لما قبلها، وأنّ الأخيرة شارحة للازم العلم المحيط وهو القدرة التامة
فمن ادّعى شركة فليحفظ هذا الكون، ولو في عام واحد من الأعوام وليعلم بما هو فاعل في ذلك العام ليصحّ قوله وأنّى له ذلك وأنّى!!!
واتضح بما تقرر له سبحانه وتعالى من العلو والعظمة أنّ الكافر به هو الظالم، وأنّ يوم تجليه للفصل لا تكون فيه شفاعة ولا خلة، وأمّا البيع فهم عنه في أشغل الشغل، وإن كان المراد به الفداء فقد علم أنّه لا سبيل إليه ولا تعريج عليه.
وبهذه الأسرار اتضح قول السيد المختار صلّى الله عليه وسلّم
: = إنّ هذه الآية سيّدة آي القرآن = (رواه الترمذي في صحيحه: فضائل القرآن: حديث: 2878)
وذلك لما اشتملت عليه من أسماء الذّات والصفات والأفعال، ونفي النقص وإثبات الكمال، ووفت به من أدلة التوحيد على أتمّ وجه في أحكم نظام وأبدع أسلوب متمحضة لذلك. = (1)
تبيّن لنا من تأويل البقاعي علائق الجمل العشر التي تكونت منها آية الكرسي، وأنّ النظم الترتيبي لها قائم على منهاج التصاعد والتناسل، وقد صرّح البقاعي في خاتمة تأويله أنّ كلّ جملة علّة لسابقته ومبينة ما هو مكنون فيما فبلها.
في التّعليل معنى التناسل وفي التّبين معنى التّصاعد لأنّه تبيّن لا يقف عند شرح ما سبق وتبيينه بل هو يضيف إليه جديدا تأتي الأخرى فتقوم ببيانه، فيتصاعد المعنى إلى ذروته، وتكاثف أنوار الإبانة، فلا يبقى غموض في معنى من معاني سيدة آي القرآن الكريم التي هي في الحقيقة خاتمة المعنى القرآني في سورة البقرة وما جاء من بعدها من الآيات إنّما هو بيان كما صرّح به = البقاعي = في مفتتح سورة = آل عمران = (2)
* * * وإذا ما نظرت في = آية المداينة = أيضا رأيت أنها جملة قرآنية (بيانية) واحدة على الرغم من أنها أبسط آية في القرآن الكريم.
ورأيت أسلوب الشرط بجملتيه هو الأساس الذي بني عليه بقية الآية (الجملة البيانية)
__________
(1) نظم الدرر 4/ 3925
(2) السابق: 4/ 198(1/245)
ما رتب على أسلوب الشرط في المداينة جدّ عديد
وفي آخر الآية أسلوب شرط في المبايعة (وأشهدوا إذا تبايعتم) لم يعلّق به جملا عديدة كما علّقها في أسلوب الشرط في المداينة لما بين التصرفين الماليين من فروق
قوله عزّ وجلّ (أشهدوا) هو في الحقيقة معطوف على أسلوب الشرط في أول الآية، فالمعنى: يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وإذا تبايعتم فأشهدوا)
وهذا وجه من وجوه = الواو = التى يمكن أن نقول إنّها مما استأنف بما بعدها حديث عن البيع من بعد الانتهاء من الحديث عن المداينة، لما بين التصرفين من علائق لطيفة، فهو من عطف القصة على قصّة ذات رحم موصولة بينهما فيكون السياق الأبسط للمعنى القرآني ذا مراحل خمس:
مرحلة الحديث عن الصدقات (ي: 274261)
ومرحلة الحديث عن الربا (ي: 281275)
ومرحلة الحديث عن المداينة (ي: 282)
ومرحلة الحديث عن المبايعة (ي: 282)
ومرحلة الحديث عن الرهن (ي: 283)
كان الحديث عن المرحلتين الأخيرتين موجزا وعن المراحل الثلاث الأولى مبسوطا
وجعل الحديث عن الربا مكنوفا بالحديث عن تصرفين ماليين جليلين لا يعنى بحظه منهما من العباد إلا من كان عظيم الإيمان بالغيب: الإيمان بالبعث واليوم الآخر، وذلك هو رأس المعنى الكليّ والمقصود الأعظم لسورة = البقرة =
وضمّ الحديث عن المبايعة مع الحديث عن المداينة في آية واحدة من أنّ المداينة في وجه من وجوهها ضرب من ضروب المبايعة إلا أنّها مع الله سبحانه وتعالى فهو الذي تكفل بالمقابل ومن ثم حرمت الفائدة المأخوذة من المدين منّ أنّ عقد الدين في أصله عقد مع الله جلّ جلاله وليس مع المدين، فالله تعالى متحمل عن المدين ما هو مقابل للدين، ومن ثمّ كان ثواب القرض الحسن أعلى من ثواب الصدقة.
وثمّ إشارة أخرى لأهل الإحسان:
في كل مبايعة شرعية متأدبة بآداب النبوة مداينة
روى البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا قال:(1/246)
= رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى =
(البخاري ك: البيوع باب: السهولة والسماحة في البيع والشراء)
فكأنّ ما سامح فيه مبايعة وشراء إنّما ناظر إلى جزائه في الآخرة.
مجمل الأمر أن النظم الترتيبي في بناء الآية القائم على العلاقات السياقية بين الجمل يفتقر متدبره إلى مزيد من اللقانة ورهاقة الحس ونفوذ الذوق والقدرة على استبصار منابع الماء وإلى أن تكون معرفته معرفة الصّنع الحاذق الذي يعلم كلّ خيط من الإبريسم الذي في الديباج، وكلّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطّع وكلّ آجرة من الآجر الذي في البناء البديع، كما يقول الإمام عبد القاهر.(1/247)
المعلم التاسع تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة
أشرت قبل إلى أنّ النظم عند = البقاعيّ = نوعان:
نظم ترتيبيّ أضيق مجالاته أن يكون بين الجمل النحوية وهي تشكل بناء الآية القرآنية وتكون العلائق بين هذه الجمل علائق سياقية وليست علائق إعرابية ذات معايير نحوية، وقد نظرت في موقف البقاعيّ من تأويل ذلك النمط من النظم، ومنزله في الإعجاز البيانيّ للقرآن الكريم.
ونظم تركيبي يكون بين عناصر بناء الجملة النحوية أساسه العلائق النحوية بين مكونات الجملة.
ومن البين أن الجملة النحوية وإن امتدت وتكاثرت عناصرها وتنوعت فكانت ألفاظا وكانت جملا في قوة المفرد (لها محل من الإعراب) إنّما أساس العلائق علاقة الاسناد القائم بين مسند ومسند إليه ثمّ يبنى على تلك العلاقة الإسنادية الأم علائق أخرى كمثل علاقة التبعية أو علاقة التضايف أو التعلق
بعض الآيات القرآنية وإن تكونت من جمل عدة، فإنك إذا نظرت في هذه الآية رأيت العلائق بين جملها علائق نحوية، بل إنّ بعض السّور ليست إلّا جملة نحوية تحتضن في سياقها جملا صغرى متعلقة ببعضها تعلقا نحويا
انظر سورة (والعصر) ماذا ترى؟ لا ترى إلا جملة نحوية واحدة تعلّقت مكونها كلّها ببعضها تعلّقا نحويّا، ومن ثمّ فإنّ السّورة كلّها قائمة من النّظم التركيبيّ، وليس النّظم الترتيبيّ، وهذا ما تراه أيضا في سورة {(قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ)} وعلى الرّغم من ذلك فهي معجزة الخلائق أجمعين.
و= البقاعيّ = في تأويله النظم التركيبيّ في بناء الجملة يربط دلالة التركيب وسمات الأسلوب بالسياق القريب والبعيد للجملة وبالقصد الرئيس من السّورة أحيانا، وإن كان بيانه ارتباط الدلالة التركيبية للجملة بالسّياق الممتدّ للجملة قد يكون خافتا لا يبصره من كان متعجلا وغير خفي أنّه كلّما اتسعت دائرة السياق كانت علاقة خصائص بناء الجملة به أدخل في اللطف الذي يفتقر المتدبّرة إلى فيض من اللقانة العقليّة والصفاء الذوقيّ(1/248)
* * * * * لا ريب في أنّ أساليب وأنماط البناء التركيبيّ إنما هي أساليب وأنماط جدّ عديدة لا تكاد يحاط بها فضلا عن أن تحصى، وهذا يقيمنا في مقام المضطر إلى أن يأخذ وأن يدع، وأن يجمل وألا يستوفي التفصيل فيما يأخذ، فثمّ معابتان لا قبل لى أن أتطهر منهما:
معابة أخذ بعض الأساليب وترك بعضها،
ومعابة الإجمال أو الاكتفاء من الأسلوب ببعض صوره، فهذه معابة في البحث العلمي نكراء أبغضها أيّما إبغاض.
كم كنت راغبا في ألا أتلطخ بأي منهما ولكنّ الغاية التي نصبت لهذا البحث لا تدع لى مجالا للتقية.
* * * ومن النظم التركيبيّ الذي عنى به البقاعي مثلا التخصيص ومسالكه الذي يطلق عليه البلاغيون (القصر)
ومن البيّن أنّ مسالك التخصيص في العربية جدّ عديدة، وإن كانت عناية البلاغيين بضرب ذي خصوصية في الدلالة على التخصيص، فهم في دراستهم لطرق القصر اختاروا طرائق معينة (النفي والاستثناء، وإنما، والتقديم، والعطف ب (بل) و (لكن)، و (لا) وضمير الفصل وتعريف الطرفين.
وكان معيار الاصطفاء هو طريق الدلالة على ذلك المعنى، وليس كلّ ما دلّ على التخصيص عند غير البلاغيين هو من التخصيص الاصطلاحي عند البلاغيين الذي يسمونه (القصر)
ومن ثمّ فإنّ دراسة طرق القصر عند البلاغيين هو عندي من علم البيان وليس من علم المعاني. (1)
__________
(1) علم البيان هو العلم المعنىّ بدراسة طرائق الدلالة على المعاني، وليس هو بالمعنىّ بدراسة المعاني نفسها ولا دراسة كيفية تركيب وتأليف الصورة الدالة على المعنى
علينا أن نفرّق بين دراسة المعنى نفسه من حيث هو، ودراسة الصورة الدالة عليه من حيث منهاج تأليفها، ودراسة صورة المعنى من حيث وجه دلالتها وطريق دلالتها على ذلك المعنى.
كلّ دراسة لطريق دلالة الصورة على المعنى هي من علم البيان أيّا كانت الصورة: تشبيها أو تقديما أو حذفا، أو أمرا أو نهيا أو فصلا ووصلا أو تورية أو مطابقة أو تجنيسا إلخ ومن ثمّ فإن علم البيان وسيع غير محصور في التشبيه والمجاز(1/249)
هو في تأويله التخصيص الذي يطلق عليه البلاغيون (القصر) معنيّ بأمور منها طرائقه ودلالتها وعلاقة ذلك بالسياق وبالقصد القريب أو البعيد أحيانا تراه يصرّح بأنّ طريق = النفي والاستثناء هو أصرح أنواع الحصر فيقول في قول الله سبحانه وتعالى:
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نََاراً تَلَظََّى * لََا يَصْلََاهََا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلََّى}
(والليل: 1614)
= لمّا كان قد تقدّم غير مرة تخصيص كلّ من المحسن والمسيء بداره بطريق الحصر إنكارا لأن يسوّى محسن بمسيء في شيء، وكان الحصر ب (لا) و (إلا) أصرح أنواعه قال (لا يصلاها) أي يقاسي حرّها وشدّتها عن طريق اللزوم والانغماس (إلا الأشقى) أي الذي هو في الذروة من الشقاوة، وهو الكافر = (1)
تبصّر قوله = أصرح أنواعه، فهذا دالّ على أنّه ناظر في طريق ودرجة دلالته على معنى الحصر، وهذا من خصائص علم البيان
= علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه = كما يقول = الخطيب = في = الإيضاح =
وهو يبين لنا وجه اقتضاء المقام البيان بأصرح طرق التخصيص النفي والاستثناء
المقام قاض بألا يكون لبس البتة في التفريق بين مصير المحسن والمسيء ودار كلّ في أخراه، فكان لزاما أن يكون الحصر بأداة دلالتها
__________
والكناية كما قد يتوهم بعض طلاب العلم، وما هذه الثلاثة: التشبيه والمجاز والكناية إلا أظهر وأشهر، ولكنها ليست بالمحصور فيها علم البيان.
وعلم المعاني هو العلم الذي ينتهج النظر في المعاني من حيث هي، وفي تأليف الصور الدالة عليها
فطريقة التأليف بين مكونات أسلوب الاحتباك أو اللف والنشر أو الاستخدام أو الالتفات أو التقييد والإطلاق أو التوكيد أو المقابلة أو المزاوجة أو حسن التقسيم وغير ذلك إنما هو من علم المعاني، فالفرق بين العلمين فرق في المنهج الذي يدرس به الأسلوب وليس فرقا في ذات الأساليب التى يدرسها كل علم، فلا يقال التقديم والحذف والفصل من علم المعاني وحده مثلما لا يقال التشبيه من علم البيان أو الجناس وردّ الأعجاز من علم البديع، الأمر مرده إلى منهاج التناول والدرس، وليس إلى الأسلوب الذي يدرس فكل أسلوب يدرس في العلوم الثلاثة بمناهج ثلاثة لكلّ علم منهاجه
ومثل الذي قلته في التخصيص نقوله في غيره.
(1) نظم الدرر: 22/ 94(1/250)
على الحصر دلالة وضعية لا يتوقف فيها أحد، ولا تكون لها دلالة على غيره في أيّ سياق آخر، فالنفي الاستثناء المفرّغ يستفاد منه معنى الحصر بطريق الوضع ولا تجد هذا الطريق دالا على غير الخصيص بحال، بخلاف إنما أو التقديم أو التعريف
والبقاعي ينظر في موضع آخر للحصر بالنفي والاستثناء، واصطفائه من بين طرق الحصر الأخرى
يقول الله جلّ جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ الْكِتََابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولََئِكَ مََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النََّارَ وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَلََا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: 174)
إذا ما نظرت في هذه الجملة رأيت أنّ خبر المسند إليه المعبّر عنه باسم الإشارة جاء جملة بنيت من أسلوب قصر طريقه النفي والاستثناء، والنظر يقف عند كلمتين من عناصر هذه الجملة الواقعة موقع المسند:
= يأكلون = و = النّار = فيحسب حاسب أنّ في كلّ تحولا دلاليّا، ولكنّ البقاعي يرى في اصطفاء النفي والاستثناء طرق حصر في الآية مانعا يمنع حسبان التجوز، فيقول:
= وفي ذكره بصيغة الحصر نفي لتأويل المتأول بكونه سببا، وصرف له إلى وجه التحقيق الذي يناله كشف يقصر عنه الحسّ، فكانوا في ذلك كالحدر الذي تحصل يده في الماء ولا يحسّ به، فيشعر ذلك بموت حواس هؤلاء عن حال ما تناولوه = (1)
سياق الآية متحدث عن أولئك الأحبار الكاتمين ما أنزل الله سبحانه وتعالى ليشتروا به ثمنا قليلا، وذلك أحط ما يمكن أن يصل إليه مشتغل بالعلم او منتسب إليه، فبيّن = البقاعيّ = أنّ التصريح بقوله سبحانه وتعالى (في بطونهم) يتناسب مع عطاء الحصر إذ يرفعان حسبان التجوز في الأكل أو النار، فكلاهما حقيقة لا مجاز (2) فهي نار حقيقية تحرق
__________
(1) نظم الدرر: 2/ 351
(2) ثمّ أمر ذو بال في هذا متعلق بالقول بالتجوز في بعض كلمات القرآن الكريم أو تراكيبه يظن أنّ دلالته على ما كان حسيّا من معانيه دلالة حقيقية، وما كان معنويا منها كانت دلالته مجازية، كمثل ما هنا، وكمثل العمى في قول الله تعالى:
{(وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ))} (الإسراء: 73)
وهذا مرده عند القائلين به حسبانهم أن الإنسان الأول لم يكن يستخدم الكلمات إلا في الدلالة الحسية، فلمّا ارتقى حضاريّا أدرك المعنويات فاستعار لها من ألفاظ ما يشابهها في المحسوسات(1/251)
المعاني الباطنية التي بها يكون المرء آدميّا، وعدم الإحساس بهذه النار لبلادة حسّهم لا لعدم وجودها فيهم أو وجودهم فيها، واصطفاء النفي والاستثناء لا يتناسب معه القول بالتجوز في النار أو الأكل، لأنّ التجوز فيه ادعاء وفي الحصر بهذا الطريق قطع وحسم
والجريمة هنا لا يقدم عليه إلا من بلغ في الضلالة والقطيعة مبلغا عظيما، فمن كان من علماء الكتاب الإلهي المنزل ثمّ يستبدل به عرضا من أعراض الدنيا التي لا تزن عند الله سبحانه وتعالى جناح بعوضة لا يكن صنيعه هذا إلّا من احتراق معانى الخير فيه احتراقا بالغا
وفي هذا تحذير لعلماء الأمة المحمدية من أن يكتموا شيئا مما أنزل الله سبحانه وتعالى ارضاء لذي سلطة أو خوفا منه أو تطلعا إلى متاع من الدنيا
* * * وننظر في موضع آخر من مواضع تأويل البقاعي أسلوب التخصيص في قول الله عزّ وجلّ: {قُلْ إِنَّمََا أَنَا مُنْذِرٌ وَمََا مِنْ إِلََهٍ إِلَّا اللََّهُ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ}
(صّ: 65)
يرى البقاعيّ أنّ القصر في (إنما أنا منذر) قصر موصوف على صفة قصر قلب، وأنّه في (وما من إله إلا الله الواحد القهار) قصر صفة على موصوف قصر إفراد
يقول: = ولمّا كانت قد جرت عادتهم عند التخويف أن يقولوا: عجل لنا هذا إن كنت صادقا فيما ادعيت، ومن المقطوع به أنّه لا يقدر على ذلك إلّا الإله، فصاروا كأنّهم نسبوه إلى أنّه ادعى الإلهية، قال تعالى منبها على ذلك أمرا له بالجواب (قل) أي لمن يقول لك ذلك (إنّما أنا منذر)
__________
هذا حسبان ضلّيل: إنّ الإنسان الأول في هدي الكتاب والسنة إنما هو آدم أبو البشر، وهو نبيّ خلقه الله تعالى بيده وعلّمه الأسماء كلها وأسكنه الجنة نموذج الجمال الحسيّ والمعنوي، فلم يكن يوما غافلا عن الدلالات المعنوية للكلمات.
إن الكلمات لتتسع دلالتها لكثير من المدلولات الحسية والمعنية دون مفاضلة بتقديم أو سبق وضع أو غير ذلك، وإن تفاوتت درجات الوضوح في الدلالة على هذه المدلولات، وليس تفاوتا وضعيّا، فليست دلالة كلمة = العمى = على فقد عين القلب (البصر) القدرة على إدراك المحسوسات هي الدلالة الحقيقية الوضعية ودلالتها على فقد عين القلب (البصيرة) على إدراك المعنويات هي الدلالة المجازية للمشابهة، كلا
كلمة العمى دالة على فقد القدرة على رؤية الأشياء
والرؤية نوعان رؤية لمحسوس الأشياء وهذا لعين الرأس (البصر)
والرؤية لمعنويها وهذا لعين القلب (البصيرة)
من فقد أيّهما فهو أعمى حقيقة لا مجازا(1/252)
أي مخوف لمن عصى، ولم أدّع أنّي إله ليطلب منى ذلك، فإنّه لا يقدر على مثله إلا الإله، فهو قصر قلب للموصوف على الصفة.
وأفرد قاصر للصفة في قوله (وما) وأغرق في النفي بقوله (من إله) أي معبود بحق، لكونه محيطا بصفات الكمال
ولمّا كان السياق للتوحيد الذي هو أصل الدين لفت القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه وأبين، فقال (إلا الله)
وللإحاطة عبّر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى، ولو شاركه شيء لم يكن محيطا، وللتفرد قال مبرهنا على ذلك (الواحد) اي بكلّ اعتبار، فلا يمكن أن يكون له جزء أو يكون له شبيه، فيكون محتاجا مكافئا (القهار) أي الذي يقهر غيره على ما يريد، وهذا برهان على أنّه الإله وحده، وأنّ آلهتهم بعيدة عن استحقاق الإلهية لتعددها وتكافؤها بالمشابهة واحتياجها = (1)
السياق والقصد هاديان إلى انّ التركيب في (إنما أنا منذر) دالّ على قصر النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا على صفة الإنذار، وإبعاده من مظنة أنه يدّعى الإلهية، فإنّ من عادتهم التي درجوا عليها عند تخويفه لهم بسوء العقبي أن ينسبوه إلى ادعاء ما لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، ويطالبونه أن يأتي لهم بما يخوفهم به، فيأتي البيان القرآني الكريم قالبا عليهم دعواهم نسبته إلى ذلك مؤكدا أنّه لا يعدو أن يكون منذرا مخوفا كما أوحي إليه.
تعيين الصّفة المنفيّة في القصر بإنّما هنا مرتبط ارتباطا وثيقا بالسياق، وموقف المخاطبين منه، وهو ناظر إلى السياق القريب القائم في تبيان مآب المتقين، ومآب الطاغين، وما اشتمل عليه من التهديد للمكذبين، وإلى حال المكذبين حين يواجهون بذلك التهديد والبيان لمآلهم إن هم أقاموا عليه.
وإذا ما كان = البقاعيّ = على أنّ المنفيّ في (إنما أنا منذر) هو دعوى الألوهية، فإنّه يشير من بعد قليل إلى أنّ في ذلك أيضا نفيا لدعوى أنّه كذّاب.
وكأنّ التركيب في هذا السياق يرنو إلى أوّل السياق وآخره:
آخره يهدي إلى أنّ الوصف المنفيّ في (إنما أنا منذر) هو دعوى الألوهية، وأوّل السّياق {وَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا سََاحِرٌ كَذََّابٌ} (صّ: من الآية 4) يهدي إلى أنّ الوصف المنفيّ في (إنّما أنا منذر) هو الكذب
__________
(1) نظم الدرر: 6/ 413(1/253)
يقول البقاعيّ من بعد ط ولمّا قصر نفسه الشريفة على الإنذار، وكانوا ينازعونه فيه، وينسبونه إلى الكذب دلّ على صدقه وعلى عظم هذا النبا بقوله جلّ جلاله: {مََا كََانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى ََ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (صّ:
69)
فهو يلمح في قول الله سبحانه وتعالى {مََا كََانَ لِي مِنْ عِلْمٍ} دلالة على صدقه فيما يخبر به عن ربه دمغا لدعواهم أنّه كذّاب، ويلمح فيه تاكيد مفهوم القصر في (إنما أنا منذر) على الوجه الآخر
وكأنّ القصر في (إنّما أنا منذر) قد اكتنفه ما يهدي إلى أنّه يقصر نفسه على الإنذار وينفي عنها ما يرميه به بعضهم من دعوى الإلهية والقدرة على الإتيان بما يهددهم به، وينفي عنها ما يرميه به الآخرون من أنّه كذّاب، فالتركيب حامل الدلالة على انتفاء الوصفين بمعونة السياق والقرائن المكتنفة.
* * * ولننظر في نمط تركيبي آخر عليّ المنزل ماجد العطاء كريمه: أساسه منازل الكلم في بناء الجملة يعرف عند علماء البيان بالتقديم والتأخير.
والوقوف على منازل الكلمات ومجالات حركتها في بناء الأسلوب ذو أهمية مجيدة وهو في الوقت نفسه ذو صعوبة بالغة، ولعلّه لذلك كانت عناية عبد القاهر الجرجاني بالتقديم والتأخير ومنازل الكلمات ورتبها في بيان عمود بلاغة الكلام (النظم) فقد أكثر من الإشارة إلى التقديم والتأخير والترتيب، وأفرد للتقديم فصلا خاصا في دلائل الإعجاز استهله بتوطئة نبيلة يقول فيها:
= هو باب كثير الفوائد جمّ المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية لا يزال يفترّ لك عن بديعة ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرا يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه، ثمّ تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدّم فيه شيء وحوّل اللفظ عن مكان إلى مكان = (1)
توطئة عليّة النظم والصياغة أرى أنها قد صيغت على نهج يكشف به الإمام عن شيء من منزلة التقديم والتاخير في نظم البيان، وفي الوقت نفسه يغرينا بالتلبث عند ذلك المنهاج البياني لنوفيه بعض حقه ولتجتنى بعض ثمره.
__________
(1) دلائل الإعجاز لعبد القاهر: 106ت: محمود شاكر ط: المدنى مكتبة الخانجي(1/254)
وهو قد فعل مثل ذلك مع باب (الحذف) ومع باب (الفصل والوصل) وهي أبواب كاد يستكمل القول فيها في موطنها.
والبقاعي ذو عناية بأسلوب التقديم والتاخير والترتيب، بل هو يجعل التقديم والتأخير والترتيب في بناء الجملة ممّا أسماه النظم التركيبي.
لا يكون تقديم إلا إذا كان هناك عدول بالشيء عن محله الذي هو له في الأصل، فكلّ ما وضع على أن يكون سابقا فلا يكون من التقديم المبني على العدول دلالة على مرغوب في الإبانة عنه، فتقديم أدوات الاستفهام أو النفي لا يقال إنّ من ورائه معنى يسبق المتكلّم بالتقديم إليه سبقا اقتضى منه مصنعا واختيارا، بل هو تقديم من أصل اللغة، وقائم فريضة في كلّ لسان متكلم بالعربية، فلا فضل للمتكلم في هذا التقديم، بل الفضل وهو قائم متقرّر لفطرة لسان العربية المبين.
ومثل هذا تقديم الخبر شبه الجملة على المبتدأ النكرة لا يكون من ورائه سبقا قد رمى إليه المقدّم له على ما هو الفطرة البيانية في العربية بل ترى في تقديم ذلك المبتدأ حين إذ سبقا إلى سعي للدلالة على معنى لا يكون إلا بذلك السبق المبني على العدول عما هو أصل الفطرة البيانية
ومن ثمّ فأنّ التقديم ينظر في عدول الكلمة أو المقدم عن محله الذي له إلى محل سابق، وهذا قد يستصحبه عدول عن الاسم الذي كان له أو لا يستصحبه.
وإذا ما كان البلاغيون المتأخرون قد كانت عنايتهم مصروفة أوّلا إلى تقديم أحد ركنى الجملة على الآخر، ثمّ تقديم المتعلقات على ما تتعلق به أو ما أسند إليه ما تتعلق به أو تقديم المتعلقات بعضها على بعض فإنّ البقاعيّ تمتدّ نظرته إلى تقديم عناصر عديدة سواء ما كان من ركني الجملة أو قيودها أو متعلقاتها.
* * * * * يقول الحق جلّ جلاله: {اقْتَرَبَ لِلنََّاسِ حِسََابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}
(الأنبياء: 1)
ينظر البقاعيّ في نظم الآية، فيرى تقديما لمتعلق الفعل وتأخير أللفاعل، فيبيّن لنا أنه = جاء البيان بتأخير = الفاعل = وتقديم متعلّق الفعل، لأنّ في هذا التأخير = تهويلا، لتذهب النّفس في تعيينه كلّ مذهب = (1)
__________
(1) نظم الدرر: 12/ 379(1/255)
وهذا يتناسب مع مقصود السورة وما سيقت له من = الاستدلال على تحقق الساعة وقربها ولو بالموت ووقوع الحساب فيها على الجليل والحقير = (1)
وكأنّ في الاستهلال بصيغة الافتعال (اقترب) دون الفعل المجرد (قرب) الإشارة = إلى مزيد القرب لأنّه لا أمّة بعد هذه الأمة ينتظر أمرها = فهي في نفس السّاعة
فتلاقى البيان بصيغة الافتعال وتأخير الفاعل في الدلالة على شدة قرب الساعة وشدة هول ما فيها
وقوله = لتذهب النفس في تعينه كلّ مذهب = فيه دلالة على أنّ اتساع المدلول وتنوعه قد لا يكون البيان عنه بكلمة ينطق بها اللسان بل قد تكون بالعدول عن موقع للكلمة إلى موقع آخر، وكأنّ تخلى الكلمة عن موضعها الذي هو لها إنّما هو لأمر جليل عجزت عن الوفاء بحقه ضروب من الإبانة الناطقة بكلمة، فانتدب للوفاء بحقه العدول عن مواقع الكلمات، وفي هذا تأديب للأمة أن على كلّ ذي موقع يرى أنّ في التأخر عنه أو التقدم عليه ما يمنح هذه الأمة فيضا من النعمة فإنّ من الأدب العليّ الأخذ به نزولا على مقتضى حالها، فكم من مقدّم في وضع الحياة تقضي بعض الأحوال تأخّره وتقديم من هو دونه في مرتبة وضعه، فالاعتداد بما تقضي به الأحوال.
* * * ومما كان العدول فيه ماجد العطاء قول الحق عزّ وجلّ:
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظََاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ مِنْ صَيََاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} (الأحزاب: 26)
ما يحيط بالآيات يرسم الهول والفزع والتنكيل الذي أصاب اليهود المظاهرين للأحزاب، والبيان عن بني قريظة بالموصول وصلته (الذين ظاهروهم) لا يخفى عطاؤه، وإبرازه الاشتهار بالصلة ومطابقة الجزاء لجريرتهم، فكان إنزالهم من معاقلهم آية الجزاء على هذه الخيانة، ومجرد البداية بهذا في سياق الهول والتنكيل يفهم منه أنّه إنزال إهانة، ولكن = البقاعي = يرى أنّه = لمّا كان الإنزال من محل التمنع عجبا وكان على وجوه شتى، فلم يكن صريحا في الإذلال،
__________
(1) نظم الدرر: 12/ 378(1/256)
فتشوقت النفس إلى بيان حاله بين أنّه الذل، فقال عاطفا ب = الواو = ليصلح لما قبل ولما بعد {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} = (1)
وهو يوجه العطف ب = الواو = بأنه كان ليصلح قوله {قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أن يشير إلى رعبين:
* الرّعب الذي أنزلهم من صياصيهم
* والرعب الذي ملأهم، وهم في قبضة المسلمين.
أحدهما قبل الإنزال، والآخر بعده
وقد صرح بالرعب الثاني {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} لهول ما ترتب عليه، وهو قوله: جلّ جلاله {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} بخلاف ما ترتب عليه الإنزال الأول.
ويتدبر تقديم المفعول في {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} فيرى أنه = لمّا ذكر ما أذلّهم به ذكر ما تأثر عنه مقسّما له فقال (فريقا) فذكره بلفظ الفرقة، ونصبه ليدل بادئ بدء على أنّه طوّع لأيدي الفاعلين (تقتلون) وهم الرجال، وقد كانوا نحو سبع مائة.
ولمّا بدأ بما دلّ على التقسيم مما منه الفرقة، وقدّم أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب أولاه الأثر الآخر ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة، فقال: (وتأسرون فريقا) وهم الذراري والنساء.
ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم، وقدم الرجال لتحتم القتل فيهم = (2)
جلى البقاعي عطاء مادة (فريق) وإيقاعه مفعولا، دون أن يرفع ليجعل مسندا إليه فيقال: وفريق تقتلون أي تقتلونه، وتفاعل العطاءين:
المادة والموقع (المفعولية) لتصوير الهوان الذي حاق بهم مما يؤكد ويبين ثراء الكلمة القرآنية وتكاثر روافد الدلالة والإفادة، ويبيّن يقظة البقاعي في تدبره النّافذ.
وفي التقديم فوق ما ذكر تشويق النفس المسلمة التي عاشت لحظات القلق على مصير الإسلام، فيأتي الفعل بعد تحديد المفعول ليحدد مصير الفريق المقدّم، فإذا ما أضيفت إليه دلالة إسناد الفعل إلى المسلمين، بينما الأفعال السابقة أسندت إلى الحق سبحانه وتعالى، فإن العطاءين يتناغيان بما فيه شفاء النفوس التي عانت أقصى لحظات القلق.
__________
(1) نظم الدرر: نظم الدرر: 15/ 333
(2) الموضع السابق(1/257)
والبقاعي وهو يجلى عطاء تأخير المفعول في (تأسرون فريقا) كان جوادا مجيدا، فملاحظة التنسيق للأفعال والمفعولين يؤكد دقّة ملاحظة البقاعي تنسيق الجملة القرآنية تنسيقا يتفاعل فيه المضمون والشكل، وكم كان البقاعي مرهف الحس حين لمح وأشار إلى دلالة تقديم المفعول أولا على تحتم المصير لمن قدم، وكأنّ في التقديم دلالة على تأكيد وقوع ما أخر عليهم (القتل) وفي تأخير المفعول على الفعل (تأسرون فريقا) إشارة إلى أنه لا يتحتم فعل ذلك بهم بل لهم أن يفعلوا به غير ذلك إذا ما اقتضى الأمر.
مقال = البقاعي = في عطاء التقديم ونواله في بناء البيان القرآني جد وسيع وبديع، ولياذن المقام ببسطة قول، وإنما هي إشارة تغري بالسفر في تأويله بلاغة القرآن الكريم في تفسيره = نظم الدرر = ومختصره = دلالة البرهان القويم = الذي ما يزال مخطوطا.
* * * ومن النظم التركيبيّ المعنىّ به عند البلاغيين والمفسرين في تأويل القرآن الكريم (الحذف)
وهو في اللغة: القطع والإسقاط والرمي
وفي اصطلاح البلاغيين: ترك ذكر بعض الكلام لمقتض يقتضي ذلك الترك ولقرينة دالة علي المتروك.
وفي تسمية المتروك ذكره محذوفا إشارة إلى أن هذا المتروك لمّا كان الأصل: (الكثير الغالب) ذكره لشدّة حاجة البيان إليه أو لغير ذلك كان كأنّه ذكر، ولو بالقوة البيانية، وليس بالفعل، ثم حذف لأمر اقتضى ذلك الحذف: (الترك). وفي هذا مزيد تنبيه إلى أن ترك ذكره مع أهميته إنما يكون لمقتض قوىّ وجدير بالاعتداد به.
هذا وجه ووجه آخر يمكن أن تلحظه، وهو أنّ المتروك ذكره لا يكون إلا مع قرينة دالة عليه، فجعلوا دلالة القرينة عليه كأنّه ذكر، ثم كان حذف لفظه وبقاء دليله، فتحقق شيء من معنى الإسقاط الذي هو المعنى اللغوى للحذف.
وفي هذا الوجه تنبيه على أهمية القرينة الدالة عليه، بينا الوجه الأوّل فيه تنبيه على أهمية المقتضي لترك ذكره، وغير خفي أن النظر البلاغي مرتب على النظر النحوي والنحو معنىّ بشأن القرينة التى هى مصحح الحذف، والتى كان لها الوجه الثانى والبلاغة معنية بشأن المقتضي للترك، وهو المرجح المحسن للحذف، والذي كان له الوجه الأول، وقد قدمته تناسبا مع العلم الذي نحن بصدد الكلام فيه.(1/258)
ومما أثر عن أهل العلم قولهم: = البلاغة الإيجاز = وهى مقالة فاقهة طبيعة البيان البليغ الذي يكون ملفوظ اللسان فيه نزيرا، ومكنون الجنان فيه كثيرا، فهذا الملفوظ اللسانيّ يحمل في رحمه فيضا من المعانى دقيقها ولطيفها لا يقتدر اللسان على أن يتقاذف منه المعادل الصوتي لهذه المعانى.
لا يقف فضل الإيجاز عند هذا بل إنّه ليكون طريقا إلى أن يقيم السامع والمتلقى له مقاما يذهب فيه المذاهب الوسيعة الفسيحة لاجتناء ثمرات هذا البيان الموجز، فإنّ السامع ليجد لذة عظيمة في سعيه إلى تقدير ما جاء نسج البيان على حذفه وطي ذكره، وكأنّ السامع والمخاطب، ولا سيما في البيان العلىّ المعجز قرآنا وسنة، يجد في فتح المتكلم له باب تقدير ما طوى ذكره إعلاء من شأنه، وكانّه يدعوه إلى أن ينسج نفسه في هذا البيان، أن يدخل خيط الإبريسم الذي يمدّه هو ليتم به نسج ذلك الديباج البديع.
إنها اللذة التى لا تعدلها لذة، ومن العجيب أنك كلما ازددت علما بالكلام، وازددت قربا من المتكلم وعلما به انفتحت لك أبواب عليّة من التقدير لم تكن منفتحة لك وأنت في المنزلة الأدنى والأبعد كذلك تجد نفسك مع بيانات الحذف في ارتقاء وتطرية نشاط، وتمتع بصنوف من اللذة لا تتناهى ولا تنحصر
الإيجاز قرى المتكلم للسامع، وأذان منه للمتلقي بالتآخي: إنّما المتكلم البليغ والمتلقي البليغ في تلفيه إخوة.
والإيجاز في دلالته على المعانى المتكاثرة إنّما يتخذ سبيلا غير مكشوف بل يهدى إليك لطائفه ملفوفة في ستائر حريرية، وذلك مما تعشقه النفس المتذوقة جمال البيان.
والحذف ضرب من ضروب الايجاز التى تتسم بما هو فوق الذي ذكرت لك، وقد كان من = الإمام عبد القاهر الجرجانى = في كتابه:
= دلائل الإعجاز = كلمات في صدر كلامه في باب = الحذف = أشار فيها إلى شيء من محاسن الحذف وفضائله وعطاياه يقول فيها:
= هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتمّ ما تكون بيانا إذا لم ثبن. وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر = (1)
__________
(1) دلائل الإعجاز لعبد القاهر 164ت: شاكر(1/259)
وعبارة = عبد القاهر = هذه جدّ غنية بالدّلالات اللّطيفة والمدلولات النبيلة، وقد أغراك وهداك إلى شيء من لطائفها ببيانه فيها بيانا أقامه على منهاج التوقيع النغمى المرنان.
تأمل عبارته معزوفة على أوتار السجع والتوازن ورد الأعجاز على الصدور من جهة، والتقابل من جهة أخرى، ففي هذا إيماء إلى ما يحتويه = الحذف = من بدائع المعانى والمغانى (1)
قد يكون من وراء حذف كلمة أو حرف ما يدفق إلى قلبك فيضا من المعانى، وإلى سمعك فيضا من المغانى، والمتلقى البليغ في تلقيه، والبديع في قراءة البيان مشغوف بمعانى الكلام شغفه بمعانه، ولا سيما بيان الوحي المعجز الكريم، فإنّ من مغانيه غيثا من معانيه
ولا يتسع المقام هنا لتفصيل صور من تأويل البقاعيّ اسلوب الحذف في القرآن الكريم ومدلولات ذلك الحذف ووجه دلالته عليها، ولكن الذي يلفت نظر قارئ تفسيره عنايته بضرب من ضروب الحذف لا يعنى به كثير من المفسرين والبلاغيين، وإن كان النظر إليه قديما قدم التفكير
__________
(1) وأنت إذ تنظر في كلمة = عبد القاهر = هذه التي يقدّم بها قوله في الحذف تجدها مغرية بالنظر في طريق دلالة الحذف على المعنى أي أنّه يغريك بأن تنظر في الحذف من جهة دلالته على معانيه، وهذا هو المنهج الذي يقوم عليه ما يسميه البلاغيون علم البيان، هو لا يغريك بالنظر في تركيب وتأليف صورة المعنى على منهاج الحذف بقدر ما يغريك بالنظر في طرائق دلالة هذه الصورة على المعنى، وكأنّه يحرضك على أن ترابط مجاهدا في ثغرة قلّ فيها المرابطون: ثغرة تأويل وتدبر طرائق دلالة صورة المعنى عليه
والحقّ أنّا مستهترون بتأمل طرائق تأليف وتركيب صور المعاني، أكثر من عنايتنا بتأمل وتدبّر طرائق دلالة تلك الصور على معانيها.
وأنت إذ تنظر في بيان عبد القاهر معنى الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان وما شاكل ذلك تجده قد جعل أصل خصال هذه الحقيقة حسن الدلالة وتمامها، والنّظر في حسن الدلالة نظر في منهاج علم البيان عند المتأخرين.
وأنت إذ تنظر في بيان = الرمانيّ من قبله معنى البلاغة في كتابه (النكت) تجده جاعلا أصل حقيقتها من حسن دلالتها إذ يقول: البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
أرأيت إلى قوله (إيصال المعنى إلى القلب) أليس هذا حديثا في الدلالة وليس في الدال أو المدلول؟ أليس اسم البلاغة مشتقا من الإبلاغ الذي هو الإيصال الذي هو الدلالة؟(1/260)
والتدبر البيانيّ لبيان العربية عموما وبيان القرآن الكريم خصوصا وهو ما يسمّى: = الحذف التقابليّ =، أو = الاحتباك =.
كانت للبقاعيّ عناية بالغة بليغة بتأويل هذا الأسلوب، ولو أنّا جمعنا مقالاته فيه في تفسيره لكان لنا من ذلك سفر يكون لنا عوضا عن كتابه الذي صنفه وألفه فيه وسماه (الإدراك لفن الاحتباك). (1)
أول ما يلقاك من هذا في تفسيره تأويلا لهذا الأسلوب تأويله قول الله عزّ وجلّ:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ فَسَوََّاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 29)
__________
(1) يقول السيوطي في كتابه: (التحبير في علم التفسير) = النوع الثالث والسبعون: الاحتباك
هذا النوع من زياداتي وهو نوع لطيف ولم نر أحدا ذكره من اهل المعاني والبيان والبديع وكنت تأملت قوله تعالى: {(لََا يَرَوْنَ فِيهََا شَمْساً وَلََا زَمْهَرِيراً)} (الإنسان:
13) والقولين اللذين في الزمهرير، فقيل هو القمر في مقابلة الشمس، وقيل هو البرد فقلت لعل المراد به البرد، وأفاد بالشمس أنّه لا قمر فيها، وبالزمهرير أنه لا حرّ فيها فحذف من كلّ شق مقابل الآخر. وقلت في نفسي: هذا نوع من البديع لطيف لكني لا أدري ما اسمه ولا أعرف في أنواع البديع ما يناسبه حتى اقادني بعض الأئمة الفضلاء [يقصد شيخه البقاعيّ] أنّه سمع بعض شيوخه قرر له مثل ذلك في قوله تعالى {(فِئَةٌ تُقََاتِلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَأُخْرى ََ كََافِرَةٌ)} (آل عمران: 13)
قال: وهذا النوع يسمى بالاحتباك. قال الإمام الفاضل المذكور: وتطلبت ذلك في عدة كتب فلم اقف عليه وأظنه في شرح الحاوي لابن الأثير، ثمّ صنّف المذكور في هذا النوع تأليفا لطيفا سماه (الإدراك في فن الاحتباك)
ثمّ وجدت هذا النوع بعينه مذكورا في شرح بديعية أبي عبد الله بن جابر لرفيقه أحمد بن يوسف الأندلسي، وهما المشهوران بالأعمى والبصير، قال مما نصّه:
= من أنواع البديع: = الاحتباك = وهو نوع عزيز، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، كقوله تعالى {(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)} (البقرة: 171) التقدير: مثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق والذي ينعق به، فحذف من الأول: الأنبياء لدلالة الذي ينعق عليه، ومن الثاني: الذي ينعق به لدلالة الذين كفروا عليه) (التحبير للسيوطي: 129128ط:
دار الكتب العلمية: 1408بيروت
وانظر معه: = طراز الحلة وشفاء الغلة لأبي جعفر الرعيني الغرناطي ص: 508 ت: رجاء السيد الجوهري مؤسسة الثقافة الجامعية الاسكندرية، وانظر البرهان للزركشي: 3/ 129، والإتقان للسيوطي: 3/ 182، شرح عقود الجمان 133(1/261)
يقول: = لمّا أجمل سبحانه وتعالى في اوّل هذه الآية (ي: 28) أوّل أمرهم وأوسطه وآخره على الوجه الذي تقدم أنّه منبّه على الكفر ينبغي أن يكون من قبيل الممتنع لما عليه من باهر الأدلة شرع يفصّله على وجه داع لهم إلى جنابه بالامتنان بأنواع الإحسان بأمر أعلى في إفادة المقصود مما قبله على عادة القرآن في الترقي من العالي إلى الأعلى، فساق سبحانه وتعالى ابتداء الخلق الذي هو من أعظم الأدلة على وحدانيته مساق الإنعام على عباده فقال (هو) (الذي خلق لكم ما في الأرض) بعد أن سواهن سبعا (جميعا)
ولم كانت السماء أشرف من جهة العلو الذي لا يرام عبر في أمرها ب = ثمّ = فقال (ثمّ استوى إلى السماء) (فسوّاهنّ سبع سماوات)
وخلق جميع ما فيها لكم.
فالآية من = الاحتباك =:
حذف أولا كون الأراضي سبعا لدلالة الثاني عليه، وثانيا كون ما في السماء لنا لدلالة الأول عليه.
وهو فنّ عزيز نفيس وقد جمعت فيه كتابا حسنا ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته: = الإدراك لفنّ الاحتباك = = (1)
أبان البقاعي لنا ما كان محذوفا لدلالة القرينة المقالية عليه، ولم يبيّن لنا هنا الوجه البيانيّ لحذف ما حذف وذكر ما ذكر، وكما أنّه لم يبين لنا هنا تعريف (الاحتباك) وإن كان قد عرّفه في موضع آت من بعد.
لعلّ وجه حذف ما حذف في الآية أنّ المحذوف وهو جعل الأرض سبعا والمدلول عليه بذكر جعل السموات سبعا أنّ جعل السموات سبعا من الغيب الذي لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، ولن يكون بملك العلم في طور من أطواره إلى قيام الساعة أن يطلع عليه بأدواته ومناهجه.
فنحن حتى يومنا هذا لم نر سماء واحدة من تلك السموات، وما تتبصره عيوننا ليس هو السماء في حقيقتها، بل هو حجاز أزرق بين أبصارنا والسماء
أمّا جعل الأرض سبعا فذلك أمر قد يكون للعلم سبيل إلى عرفانه، على أنّ في سورة (الطلاق) ما يدل على ذلك
{اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللََّهَ قَدْ أَحََاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}
__________
(1) نظم الدرر: ج 1ص 225219(1/262)
(الطلاق: 12)
وفي السنّة النبوية تصريح بذلك، روى الشيخان:
= من أخذ شيئا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين = (البخاري: بد الخلق، والنص له، ومسلم: مساقاة)
وكذلك جعل ما في السماوات لنا لمّا كان لا يتبيّن لكثير من العباد بخلاف ما في الأرض حذفه، وذكر ما هو ظاهر أمره للعباد كافة.، وطوى ما كان أمره غير ظاهر لهم جميعا تحقيقا لتمام الإبلاغ بالامتنان بذكر النعمة، فجمع لنا بين نعمة إعلامنا بما لا سبيل لنا إلى علمه إلا بالوحي وهي نعمة عليّة جدا لا يقدرها حقّ قدرها إلا من يعرف لنعمة المعرفة والعلم قدرها، ويعرف لبلية الجهالة والضلالة خطرها، وأن العرفان حياة والجهالة موت، ونعمة الامتنان بأنّ ما في الأرض لنا، فعلينا أن نحرص على أن نحسن استثماره لما فيه حسن المآب والمعاد، وأنّ من غفل عن حسن استيعاب استثمار ما في الارض قد خسر خسران مبينا، ولو أننا عدنا ببصيرتنا إلى قوله جلّ جلاله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} وتدبرنا هذا التعريف للطرفين (هو) (الذي) ودلالته على التخصيص المؤذّن بالتوحيد، وأنه ليس من جاعل ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، وتذوقنا تقديم (لكم) المفيض في قلوب أهل العرفان فيوض الأنس والمحبة والاستشراف إلى معرفة نوال الحبيب لهم، فانظر كم يكون شوق المحب إلى معرفة ما يهديه محبوبه له حين يشار إليه أن له منه عطية؟!!! فكيف إذا ما كان النوال من رب العالمين؟!!
وتذوق طلاقة العطية في قوله (ما في الأرض) وما تشير إليه العبارة من آيات حفظه وكنّه عن أيدي من لا يستحقون، وأنّ العطية من كريمها على معطيها لم يجعلها على ظاهر الأرض تلامسها أيدي من ليسوا لها بأهل، بل جعلها (في الأرض) هذه الظرفية دالة على عظيم الحفظ أولا لجليل المكنون، وعلى فريضة الجد في الطلب إيمانا بعظيم قدر المكنون من النوال.
وتدبر قوله (جميعا) وهي ذات دلالة متسعة: تحتمل أن تكون حالا من الضمير في (لكم) أي لا فرق بينكم في هذا إلا بمقدار سعيكم في تحصيل نوال ربكم إليكم، وهذا منسول من معنى قوله (رب العالمين) وقوله (الرحمن) في صدر سورة الفاتحة، فهما اسمان دالان على وسيع فضله وأنّه متجعل على كل خلقه بفيوض من الربوبية الرحمانية.
ويحتمل أن يكون حالا من مفعول (جعل) أي جعل ما في الأرض جميعه لم يبخل بشيء منه على أحد من خلقه إن كان أهلا لأن ينال.(1/263)
ولا أرى بأسا من الجمع بين الوجهين معا.
ذلك ما تبيّن لي.
وهو وإن تعرض لأسلوب الاحتباك في سورة البقرة في عدة مواضع منها فإنّه لم يبين لنا مفهوم الاحتباك إلا في سورة (آل عمران) عند تأويله قول الله سبحانه وتعالى:
{قَدْ كََانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتََا فِئَةٌ تُقََاتِلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَأُخْرى ََ كََافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللََّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشََاءُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصََارِ} (آل عمران: 13)
فيقول: = الآية كما ترى من وادي الاحتباك وهو: أن يؤتى بكلامين يحذف من كلّ منهما شيء إيجازا يدلّ ما ذكر على ما حذف من الآخر. وبعبارة أخرى: هو أن يحذف من كلّ جملة شيء إيجازا، ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه = (1)
والغالب علي منهاج البقاعي أنّه يعنى ببيان ما حذف وما دلّ عليه مذكورا من البيان، وقد يذكر الوجه البيانيّ لحذف ما حذف وذكر ما ذكر، وذلك كمثل ما تراه في تأويله النظم التركيبيّ في قول الله عزّ وجلّ:
{فَلْيُقََاتِلْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقََاتِلْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 74)
يقول: = = {(وَمَنْ يُقََاتِلْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ)} أي فيريد إعلاء كلمة الملك المحيط بصفات الجمال والجلال (فيقتل) أي في ذلك الوجه، وهو على تلك النّية بعد أن يغلب القضاء والقدر على نفسه (أو يغلب) أي الكفار فيسلم (فسوف نؤتيه) أي بوعد لا خلف فيه
والآية من الاحتباك:
ذكر القتل أولا دليل على السّلامة ثانيا
وذكر الغالبيّة ثانيا دليل على المغلوبيّة أولا
وربّما دلّ التعبير بسوف على طول عمر المجاهد غالبا، خلافا لما يتوهمه كثير من الناس إعلاما بأنّ المدار على فعل الفاعل المختار، لا على الأسباب (أجرا عظيما)
واقتصاره على هذين القسمين حثّ على الثبات، ولو كان العدوّ أكثر من الضعف = (2)
__________
(1) نظم الدرر: 4/ 262وانظر معه: التعريفات للسيد الشريف باب الألف، وطراز الحلة ص 508، وشرح عقود الجمان السيوطي ص: 133
(2) نظم الدرر: ج 5: 327326(1/264)
يشير البقاعيّ إلى أنّ البيان القرآنيّ قد ذكر من جانب القتل ما كان إسناده إلى المسلم على جهة المفعولية (يقتل)
وذكر من جانب الغلب ما كان إسناده إليه على جهة الفاعلية (يغلب) لبيان جوهر غاية الإسلام من الجهاد، فليس همّ المسلم في جهاده قتل الأعداء أو الاستحواز على الغنائم، بل همّه نصر الإسلام والاستشهاد في سبيل الله تعالى.
الانتصار دلّ عليه قوله (يغلب)
والشهادة دلّ عليها قوله (يقتل)
وهذا يقتضي من كلّ مجاهد أن يثبت في القتال وإن كان عدوه ذا عدد وعتاد.
وإذا ما كان هذا منهاج المسلم فلن يكون إلا عزّ ومجد، وفي عزّ أهل الاسلام سلام أهل الدنيا وسلامتهم، فإنّه ما كان الأمر للمسلمين في عصر أو مصر إلّا كان النّاس في أمن ودعة.
* * * وقد يتلاقى = الاحتباك = والتشبيه التركيبيّ فيكون نسيج التشبيه مبنيّا على الحذف التقابلي.
ومن أشهر الآيات في هذا قول الله جلّ جلاله:
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171)
جاءت هذه الآية في سياق مصور حال طائفة من الناس يتخذون من دون الله سبحانه وتعالى أندادا، ويتبعون خطوات الشيطان، وإذا أمروا باتباع ما أنزل الله عزّ وجلّ قالوا بل نتبع ما ألفوا عليه آباءهم الذين لا يعقلون ولا يهتدون، فصورهم في صورة تنفر منها كلّ نفس عاقله، صورهم مع دعاتهم إلى الهدى في صورة راع وغنمه ينعق بها يدفعها عن المهلكة فلا تسمع إلا صوته ولا تعقل ما ينعق به عليها
يقول البقاعيّ:
= ولمّا كان التقدير فمثلهم حينئذ كمن تبع أعمى في طريق وعر خفي في فلوات شاسعة كثيرة الخطر عطف عليه ما يرشد إلى تقديره من قوله عزّ وجلّ منبها على أنّهم صاروا بهذا كالبهائم بل أضلّ لأنها وإن كانت لا تعقل، فهي تسمع وتبصر، فتهتدي إلى منافعها (ومثل) وبيّن الوصف الذي حملهم على هذا الجهل بقوله (الذين كفروا) في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودويّ الصوت من غير التقاء أذهان ولا استبصار (كمثل)(1/265)
قال = الحرالّيّ =: المثل ما ينحصل في باطن الإدراك من حقائق الأشياء المحسوسة، فيكون ألطف من الشيء المحسوس، فيقع لذلك جاليا لمعنى مثل المعنى المعقول، ويكون الأظهر منهما مثلا للأخفى، فلذاك ياتي استجلاء المثل بالمثل، ليكون فيه تلطيف للظاهر المحسوس، وتنزيل للغائب المعلوم.
ففي هذه الآية يقع الاستجلاء بين المثلين، لا بين الممثولين، لتقارب المثلين معنى وهو وجه الشبه، وتباعد الممثولين
وفي ذكر هذين المثلين تقابل يفهم مثلين آخرين، فاقتضى ذلك تمثيلين في مثل واحد، كأنّ وفاء اللفظ الذي أفهمه هذا الإيجاز:
مثل الذين كفروا ومثل راعيهم، وكمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم
وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب
ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين يقتصر على تأويله بمثل واحد فيقدّر في الكلام:
ومثل داعي الذين كفروا (كمثل الذي ينعق) أي يصيح
وذلك لأنّ التأويل يحمل على الإضمار والتقدير والفهم يمنع منه ويوجب فهم إيراد القرآن على حدّه ووجهه
وقد علم بهذا أنّ الآية من الاحتباك:
حذف من الأوّل مثل الدّاعي لدلالة النّاعق عليه، ومن الثاني المنعوق به لدلالة المدعوين عليه = (1)
تأويل نظم الآية على هذا المنهاج (الحذف التقابلي) والذي اعتمد فيه على = الحرالي = هو التأويل الذي ترى أصله في صنيع = سيبويه = في = الكتاب = (2)
وهذا التأويل ينظر إلى التمثيل التشبيهي، وتركبه من عدّة عناصر لا يستوجب المقام ذكرها كلّها بل يستوجب الدلالة على بعضها ببعضها طاويا من كل جانب ما يدلّ عليه المذكور في الجانب الآخر.
ونحن إذ ننظر في المثل الأول: مثل الذين كفروا نرى تمثيلهم بالغنم التي ينعق بها راعيها الشفوق الرءوف بها السائقها إلى ما فيه نجاتها،
__________
(1) نظم الدرر: ج 2ص 335331
(2) الكتاب لسيبويه: ج 1ص 212ت: هارون وانظر معه = إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج ج: 1ص: 47ت: إبراهيم البياري دار الكتاب
المصري 1982(1/266)
وهي لا تسمع إلا صوتا ولا تفهم مما ينعق بها، فذكر ما هم قائمون فيه:
حالهم المعرض عن الدّاعي ليكون دليلا على ما هم عالمون به من حال الغنم المنعوق بها ولا تسمع إلا دعاء ونداء (ومثل الذين كفروا في إعراضهم عن دعوة من ينفعهم كمثل غنم ينعق بها صاحبه لينقذها)
وفي المثل الثاني: مثل داعي الذين كفروا نرى تمثيله بحال راعى الغنم في حرصه عليها وذودها عما يضرها إلى ما ينفعها، وقد كانت العرب أهل رعي تفقه حال الراعي برعيته وشفقته عليها وحرصه على ما ينفعها وصبره عليها وهذا يستحضر في قلب من يعقل منهم حقيقة حال النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا معهم، ولهذا كان المذكور من هذا المثل ما لا يمكن لهم أن يغفلوا عنه لأنه قائم فيهم صباح مساء، فذكر راعي الغنم وطوى ذكر حال راعيهم وسائقهم إلى ما فيه نجاتهم (ومثل داعيهم إلى الهدى كمثل الذي ينعق)
إنّ صياغة الآية على هذا النحو مما يحدث في المتلقي حين يسمع أو يقرأ تنبيها إلى أنّ في الأمر شيئا، وأنّه لا يكون البتة بدلالة السياق المستصحب من آيات عديدة سابقة تمثيل حال الذين كفروا وقد أجمل ولم يبين مناط الممثل منه بحال الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء إذا ما أريد بما لا يسمع الغنم بدلالة (ينعق)
فإن قيل المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم أصنامهم حين تلم بهم حاجة كمثل الذي ينعق (يدعو) ما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فإنّ هذا التأويل وإن كان قريبا إدراكه لكن السياق دالّ على أنّ قوله (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) راجع إلى الذين كفروا، وليس الأصنام، فالسياق كله ليس حديثا عن الأصنام وإنما حديث عن الذين كفروا وموقفهم من دعوتهم إلى اتباع ما أنزل الله عزّ وجلّ فتدّعي أنها تتبع ما ألفوا عليه آباءهم فهم كالغنم التى تتبع الكبش الذي يتقدمها لا تعقل ما هي مقدمة عليه
* * * ومن النظم التركيبي الذي عني البقاعيّ بتأويله وهو ضرب من ضروب شجاعة العربية كالتقديم والتأخير والحذف ما يعرف بالالتفات، وهو من التصرف في حركة الضمائر ذات مرجع واحد، فتكون مرة ضمير غيبة وأخرى ضمير متكلم، والمرجع واحد، أمّا إذا تنوعت الضمائر وتنوعت مراجعها بتنوعها فليس من الالتفات الذي هو من شجاعة العربية في شيء.
ولست بالناظر هنا فيما كان بين البلاغيين من مناقدة في تبيين الملتفت منه في ذلك الأسلوب بل فيما كان من = البقاعيّ = في هذا.(1/267)
هو على مذهب أن الملتفت عنه ما كان يقتضيه الظاهر أن يكون، وهو ما يعرف بمذهب الزمخشري والسكاكيّ لا ما كان البيان به أو لا وهو ما يعرف بمذهب الخطيب والجمهور.
ترى هذا في تاويل = البقاعي = البيان في أول سورة عبس:
{عَبَسَ وَتَوَلََّى * أَنْ جََاءَهُ الْأَعْمى ََ * وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكََّى}
يقول في بيان مقصودها الأعظم: = مقصودها:
شرح {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشََاهََا} بأنّ المراد الأعظم تزكية القابل للخشية بالتخويف بالقيامة =
ثم يعمد إلى تأويل مطلع تلاوة السورة قائلا:
= لمّا قصره سبحانه وتعالى على إنذاره من يخشى، وكان قد جاءه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا عبد الله بن أم مكتوم الأعمى رضى الله عنه وكان من السابقين وكان النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا حين مجيئه مشتغلا بدعاء ناس من صناديد قريش إلى الله عزّ وجلّ، وقد وجد منهم نوع لين، فشرع = عبد الله = رضي الله عنه يسأله وهو لا يعلم ما هو فيه من الشغل فكره صلّى الله عليه وسلّم أن يقطع كلامه مع أولئك خوفا من أن يفوته منهم ما يرجوه من إسلامهم فكان صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل عليهم، وتظهر الكراهة في وجهه، لاطفه سبحانه وتعالى بالعتاب عن التشاغل عن أهل ذلك بالتّصدّي لمن شأنه أن لا يخشى فقال مبينا لشرف الفقر وعلو مرتبته وفضل أهل الدين وإن هانوا، وخسّة أهل الدنيا وإن زانوا، معظّما له صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا بسياق الغيبة (عبس) أي فعل الذي هو أعظم خلقنا ونجلّه عن أن نواجهه بمثل هذا العتاب بوجهه فعل الكاره للشيء وآذن بمدح صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا بأنّ ذلك خلاف ما طبع عليه من رحمة المساكين بقوله عزّ وجلّ: (وتولّى) أي كلّف نفسه صلّى الله عليه وسلّم الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف (أن جاءه الأعمى)
ولمّا عرّف بسياق الغيبة ما أريد من الإجلال، وكان طول الإعراض موجبا للانقباض أقبل عليه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، فقال (وما يدرك لعله يزّكّى) = (1)
في هذا المنهاج من خطاب النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إعلاء لشأنه أولا وبيان لمنزله عند ربّه عزّ وجلّ ثانيا وتعليم لأمته كيف يكون خطابها مع نبيها صلّى الله عليه وعلى آله
__________
(1) نظم الدرر: 21/ 252249(1/268)
وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، وتبيان لأنّ ما كان منه صلّى الله عليه وسلّم إنّما هو مراعاة ما فيه صالح الأمة كلّها، فقدم نفع الأمة على نفع واحد منها فإنّ أولئك الصناديد إذا ما دخلوا في الإسلام أو بعضهم كان في دخولهم نفع للإمة من جهة ولعبد الله بن أم مكتوم نفسه رضي الله عنه ثانيا من أنّه يأمن شرهم
وكان من البقاعي إشارة إلى تناظر الالتفات من الخطاب الذي يقتضيه ظاهر الحال إلى الغيبة ثمّ من الغيبة إلى الخطاب، ومع ذلك الالتفات من صيغة الفعل المجردة في (عبس) إلى صيغة (التفعّل) في (تولى) فذلك كلّه قائم إلى الإبانة عن عظيم شأن النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
وغير خفي أن العدول عن صيغة التجريد في الفعل (عبس) إلى صيغة الزيادة (التفعيل) في (تولى) ليس من الالتفات الاصطلاحيّ عن البلاغيين المتأخرين، ولكنّه من باب العدول من شيء إلى آخر لمعنى ومقتض.
* * * ومن النظم التركيبيّ ما يعرف عند البديعيين باللف والنشر
وأنت إذا ما دققت التأمل في أساليب التحسين البديعي رأيت كثيرا منها مرجعه إلى النظم التركيبيّ أو الترتيبيّ، وإن اختلفت جهة النظر إليه فاختلفت مناهج التأويل.
البقاعيّ معنىّ بضرب من ضروب اللف والنشر هو اللف والنشر المعكوس الذي يكون فيه الرابع للأول والثالث للثاني، وهو يسميه اللف والنشر المشوّش، وهي تسمية غير دقيقة، وليس في البيان القرآنيّ إلا ضربان من النشر:
* المرتب على وفق ترتيب اللف: المقدم في النشر للمقدم في اللف، والمؤخر في النشر للمؤخر في اللف على ترتيبه
* والمرتب على عكسه
وليس فيه نشر مختلط والذي يمكن تسميته مشوّشا.
المهم أنّ اللف والنشر وإن كان من المحسنات البديعية عند المتأخرين وهو مما انتبه إليه الأقدمون منذ المبرد (1) فإنّه داخل في النظم التركيبي.
__________
(1) يقول المبرد: = والعرب تلف الخبرين المختلفين ثمّ ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كلّ خبره = (الكامل: 1/ 75) ويقول: (العربي الفصيح الفطن اللقن يرمي بالقول مفهوما، ويرى ما بعد ذلك من التكرير عيّا، قال الله جلّ جلاله وله(1/269)
في تأويل قول الله سبحانه وتعالى
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسََاءُ وَالضَّرََّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى ََ نَصْرُ اللََّهِ أَلََا إِنَّ نَصْرَ اللََّهِ قَرِيبٌ * يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ قُلْ مََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمََا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللََّهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتََالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى ََ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى ََ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ}
يذهب = البقاعيّ = إلى أنّ في الآية لفا ونشرا مشوّشا: ذكر في الآية الأولى البأساء والضرّاء على هذا الترتيب، وفي الثانية ذكر الإنفاق، وهو يناسب الضرّاء، وفي الثالثة ذكر القتال، وهو يناسب البأساء، يقول:
= لمّا كانت النفقة من أصول ما بنيت عليه السورة من صفات المؤمنين {وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} ثمّ كرر الترغيب فيها في تضاعيف الآي إلى أن أمر بها في أوّل آيات الحج الماضية آنفا [ي: 197195] مع أنّها دعائم بدايات الجهاد إلى أن تضمنتها الآية السالفة [ي: 214] مع القتل الذي هو نهاية الجهاد كان هذا موضع السؤال عنهما، فأخبر تعالى عن ذلك على طريق النشر المشوش، وذلك مؤيد لما فهمته في البأساء والضراء، فإنّ استعماله [أي المشوش] في القرآن أكثر من المرتّب فقال معلما لمن سأل: هل سأل المخاطبون بذلك عنهما؟ (يسألونك ماذا ينفقون = (1)
يذهب البقاعيّ إلى أنّ البأساء أكثر استعمالا في الحرب والضراء أكثر ما تستعمل في الأموال، وهذا منه إشارة إلى المنهج الإحصائي التأويلي الذي يستجمع شواهد الظاهرة البيانية في الخطاب المتدبّر كلّه ليقف المتدبّر على ما هو الغالب على الخطاب في سنّته البيانيّة ليتّخذ المتدبّر من ذلك منهاجه في التّأويل على ما هو الغالب على ذلك البيان
__________
المثل الأعلى: = {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)}
(القصص: 73) علما بأن المخاطبين يعرفون وقت السكون ووقت الاكتساب = (الكتاب: 2/ 36المكتبة التجارية الكبرى القاهرة سنة 1355هـ
(1) نظم الدرر: 3/ 213212(1/270)
وأنت إذا ما نظرت في دلالة مادة البأساء في البيان القرآنيّ وجدتها لما اصاب الجسد (النساء: 84، والنحل: 81، والإسراء: 5، والأنبياء:
80، والنمل: 23، والحديد: 25)
وإذا نظرت في مادة = الضراء = وجدتها لما أصاب المال (البقرة: 233، وآل عمران: 134، ويوسف: 88، والطلاق: 6)
فما ذهب إليه البقاعيّ أعلى وأليق بالبيان القرآنيّ.
وإذا ما نظرت في سياق الآيات التي قال فيها البقاعيّ بالنشر المشوّش ألفيت أنّ سورة = البقرة = قد كثر فيها الحديث عن الإنفاق، وجعلته أصلا من صفات المتقين، وقد تقدم في السورة البلاء في الأموال على البلاء في النفس (ي 155) وتحدثت عن الإنفاق (ي: 177، 261، 262، 265، 274)
وفوق هذا كانت قصة البقرة المشتملة عليها السورة والمسماة بها متضمنة التشديد في الإنفاق على بني إسرائيل، فلمّا كان المقام للإنفاق قدمه على القتال، فقال أولا (يسألونك ماذا ينفقون) ثمّ قال (كتب عليكم القتال) فكان لفّا ونشرا مشوّشا (معكوسا)
والبقاعيّ لم يشر إلى وجه البيان بهذا النهج التركيبيّ في هذه الآية، ولعلّ ذلك من أنّ الله عزّ وجلّ لمّا قال في صدر السورة
{(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ)} (البقرة: 32)
وكان البيان عن موقف الإسلام من المال له شان في السورة أيّما شأن كان من العناية أن يجعل البيان عنه في وسط المعنى، وكأنّ فيه إشارة إلى أنّ الجهاد بالمال عمود الجهاد بالسّيف، وأنّ نصر الدين لا يكون بالسّيف وحده بل يكون بأمور أخرى المال فيها رئيس.
* * * إنّ النظر في تأويل النظم التركيبي في بناء الجملة أو الآية في تفسير = البقاعيّ = لا يتسع للوفاء ببعض حقه المقام بكل وجوهه، وما كنت آمّا إلى تفصيل، بل إلى تكريس البيان عن معالم المنهاج بيانا عامّا ضميمته بعض نماذج هادية وهذا يجعلنى غير متهيب الرغبة عن البسط في هذا المعلم القائم بالنظر في النظم التركيبي.(1/271)
المعلم العاشر. تأويل التصريف البياني (متشابه النظم)
ممّا قرره الحقّ جلّ جلاله في بيانه عن القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى:
{اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ ذََلِكَ هُدَى اللََّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ} (الزمر: 23)
قوله: (متشابها مثاني) جامع أصلا عظيما من أصول البيان القرآني الحكيم اقتضاه المقصود الأعظم من إنزال القرآن الكريم، وما يعليه منهاج التربية الربّانيّة المفاض من معدن الرحمة بالعالمين.
المقاصد الكلية للقرآن الكريم لا يأتي البيان عنها في موضع واحد من القرآن الكريم بل تراه يصرّف البيان عنها في مواضع عديدة وينوع طرائق الدلالة عليها تنويعا لا يكاد التدبّر النافذ والوسيع يحيط بها.
يقول البقاعيّ في تأويل قول الله سبحانه وتعالى: (متشابها مثاني)
= (متشابها) أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة لا تفاوت فيه أصلا في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقا في نيّف وعشرين سنة ولم يقل = مشتبها = لئلا يظن أنّه كله غير واضح الدلالة، وذلك لا يمدح به.
ولمّا كان مفصّلا إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله (مثاني) جمع مثنى من التثنية بمعنى التكرير أي تثنّى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلا في أصل المعنى، ولا يملّ من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره مع انّ جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحا إلّا ثنّي بإفهام ما لضدّه تلويحا، فكان مذكورا مرّتين، ومرغبا فيه أو مرهّبا منه كرّتين
وفائدة التكرير انّ النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليه عودا على بدء لم يرسخ عندها، ولم يعمل عمله، ومن ثمّ كان النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا يكرّر قوله ثلاث مرّات فأكثر = (1)
__________
(1) نظم الدرر: ج 16/ 388(1/272)
البيان القرآنيّ قائم على أصلين عظيمين أشرت إليهما من قبل، وأثنّي الإشارة إليهما تقريرا وتوطيدا:
* تصاعد المعاني في السياق القرآنيّ
* التصريف البياني لأصول معاني الهدي في القرآن الكريم
هذان الأصلان حاضران في البيان القرآنيّ حضورا لا تغيب أو تغيم شواهده الباهرة القاهرة
والأصل الثاني (التصريف البيانيّ) قد لقي بعض حقه من كثير من العلماء وصنّفت فيه أسفار، وقد عرف عند أهل العلم ب = متشابه النّظم = والحقّ أنّ = التصريف البيانيّ = عندى أوسع مجالا من = متشابه النظم =:
متشابه النظم أذهب إلى أنّه يجدر به أن يكون مصطلحا لما تشابه من البيان في علاقاته النظمية من تقديم وتأخير وفصل ووصل وذكر وحذف في بناء الجملة أو الآية أو المعقد أو السورة أي التشابه الذي مناطه السمات النّظمية التي هي علاقات نحوية بين معاني الكلم في بناء الجملة (النظم النحوي: التركيبي)، والذي مناطه السمات النظمية التي هي علاقات سياقية بين معاني الجمل في بناء الآية أو بين معاني الآيات في بناء المعقد أو معاني المعاقد في بناء السورة (النظم السياقي:
الترتيبيّ).
والتصريف البيانيّ يشمل هذا مضموما إلى التشابه الذي مرده اختيار كلمة مكان أخرى (انفجرت: انبجست) (قضى: كتب) (حلف: أقسم) (خاف: خشي) (سنة: عام) (زوج: امرأة) (أنزل: نزّل) (نجّى: أنجى) إلخ ما هو معروف عند العلماء بالتصريف في اختيار الكلمات وصيغها
البقاعيّ ذو عناية بالغة بليغة بتدبير هذا الضرب من التصريف البيانيّ (متشابه النظم) ملتزما بمنهج النظر فيما يقتضيه السياق والقصد، وهو في هذا جدير بأن تفرد له دراسة خاصة، وأن يوزان بين منهاجه في هذا ومنهاج = أبي جعفر بن الزبير = في (ملاك التأويل) أو = الكرماني = في (البرهان) أو = الإسكافي = في (درّة التنزيل).
ومن هذا الباب ما جاء عن البقاعي في تأويل قول الله سبحانه وتعالى:
{خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: 7)
وقول الله عزّ وجلّ:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللََّهِ أَفَلََا تَذَكَّرُونَ}
(الجاثية: 23)(1/273)
يقول في آية البقرة: = ولمّا سوّى بين الإنذار وعدمه كانت البداءة بالقلوب أنسب تسوية لهم بالبهائم، ولمّا كان الغبيّ قد يسمع أو يبصر، فيهتدي، وكان [الاحتياج] إلى السمع أضر لعمومه، وخصوص البصر بأحوال الضياء نفى السمع ثمّ البصر تسفيلا لهم عن حال البهائم، بخلاف ما في = الجاثية = فإنّه لمّا أخبر فيها بالإضلال، وكان الضال أحوج شيء إلى سماع الهادي نفاه، ولمّا كان الأصم ذا فهم أو بصر أمكنت هدايته وكان الفهم أشرف نفاهما على ذلك الترتيب = (1)
ويقول في تأويل آية = الجاثية =: = ولمّا كان الضالّ أحوج إلى سماع صوت الهادي منه إلى غيره، وكان من لا ينتفع بما هو له في حكم العادم له قال: (وختم) أي زيادة على الإضلال الحاضر (على سمعه) فلا فهم له في الآيات المسموعة.
ولمّا كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال (وقلبه) أي فهو لا يعي ما من حقه وعيه. ولمّا كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال (وجعل على بصره غشاوة) فصار لا يبصر الآيات المرئية
وترتيبها هكذا لأنها في سياق الإضلال كما تقدم في = البقرة =. = (2)
بيّن أن البقاعي لم يتوقف في تأويل مشتبه النظم في الآيتين إلا عند التشابه في الترتيب بين القلب والسمع والبصر، إذ قدّم السمع على القلب في الجاثية من بعد أن كان مقدما القلب.
وهو لم يتوقف عند إعادة الجار في البقرة مع السمع والقلب (على قلوبهم وعلى سمعهم) وتركه في = الجاثية = (على سمعه وقلبه) وكذلك لم يقف عند الإتيان بالجملة الاسمية في = البقرة = (وعلى بصره غشاوة) بالرفع، وبالجملة الفعلية في = الجاثية = (وجعل على بصره غشاوة)
ومن هذا ما تراه من تبينه لنا وجه البيان بقوله عزّ وجلّ في سورة البقرة:
{وَقُلْنََا يََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلََا مِنْهََا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمََا وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونََا مِنَ الظََّالِمِينَ} (البقرة: 35)
وبقوله عزّ وجلّ في سورة = الأعراف =:
{وَيََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلََا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمََا وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونََا مِنَ الظََّالِمِينَ} (لأعراف: 19)
__________
(1) نظم الدرر: ج 1/ 96
(2) السابق: ج 8/ 9796(1/274)
جاءت قصة أبينا = آدم = عليه السّلام في سور عدّة، ولكنه لم يأت الأمر بالأكل من الجنة من حيث شاءا إلا في سورتين: البقرة والأعراف.
في سورة = البقرة =: جاء البيان معطوفا بالواو وفي الأعراف بالفاء، وفي البقرة جاء البيان بقوله (منها) وفي الأعراف (من حيث شئتما)، في البقرة جاء قوله (رغدا) سائقا قوله (حيث شئتما)، ولم يأت ذلك في الأعراف، على الرغم من أنّ البيان عن أمرهما كان عن شيء واحد، فلأيهما كان البيان الإلهي بأمرهما؟
وإذا جئنا إلى مشتبه النظم في هذه الجملة المصورة الأمر الإلهي لآدم عليه السّلام وزوجته بالأكل من الجنة ألفينا أنّه لمّا كان السياق فيها = لمجرد بيان النعم استعطافا إلى الموالفة كان عطف الأكل بالواو في قوله جلّ جلاله (وكلا منها) كافيا في ذلك، وكان التصريح ب = الرغد = الذي هو أجلّ النعم عظيم الموقع، فقال تعالى (رغدا) (حيث شئتما)
بخلاف سياق الأعراف فإنه أريد منه مع التذكير بالنعم التعريف بزيادة التمكين، وأنها لم تمنع من الإخراج تحذيرا للمتمكنين في الأرض المتوسعين في المعايش ممن إحلال السطوات = (1)
وفي سورة = الأعراف = يقول: = ولمّا كان السياق هنا للتعريف بأنّه مكّن لأبشينا عليه السّلام في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الأرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارنا لوجوده، ثمّ حسن في قوله (فكلا) العطف بالفاء الدّال على أنّ المأكول كان مع الإسكان لم يتأخر عنه، ولا منافاة بينه وبين التعبير بالواو في = البقرة = لأنّ مفهوم = الفاء = نوع داخل تحت مفهوم = الواو = ولا منافاة بين النوع والجنس
وقوله (من حيث شئتما) بمعنى رغدا أي واسعا، فإنّه يدلّ على إباحة الأكل من كلّ شيء فيها غير المنهي عنه
وأمّا آية البقرة فتدلّ على إباحة الأكل منها في أي مكان كان.
وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أنّ من خالف أمره سبحانه وتعالى تلّ عرشه وهدم عزّه، وإن كان فيه غاية المكنة ونهاية القوة كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كلّ ما فيها غير شجرة واحدة = (2)
__________
(1) نظم الدرر: ج 1/ 283
(2) السابق: ج 7/ 371(1/275)
* * * ومن مشتبه النظم الذي تلبث البقاعيّ عنده ما جاء من تأخير (التزكية) عن التعليم في دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام وتقديمها عليه في غيرها، قال الله سبحانه وتعالى:
{رَبَّنََا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 129)
{لَقَدْ مَنَّ اللََّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164)
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (الجمعة 2)
هذه ثلاث آيات قدمت التزكية على التعليم في أولاها وقدّم التعليم على التزكية في الاخريين فما وجه البيان بذلك؟
ينظر البقاعي في تأويل التشابه النظمي بالتقديم والتأخير إلى معنى الكلمة المقدمة والسياق الذي وردت فيه ومن كان الكلام بشأنهم.
نظر فرأى أن آية سورة = البقرة = الحاكية دعاء أبي الأنبياء: إبراهيم عليه السّلام إنّما هي بشأن الدعاء للأمة المسلمة (ذريتي) وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت مكتسبة التزكية من الشرك بأصل الإسلام المتسمة به، فالتزكية المطلوبة هنا ليست هي التزكية من الشرك بل هي تزكية تؤسس على سبق علم بالكتاب والحكمة أي هي تزكية ترقّ في مقامات الطاعة والقرب.
والتزكية في سورة الجمعة هي تزكية من الشرك بها يتأسس أصل الإيمان لأنّ السياق للحديث عن الأميين هم أمّة الدعوة وفيهم من الشرك ما فيهم فكأنّ التزكية هنا ليست هي التى طلبها سيدنا إبراهيم عليه السّلام لقومه في آية سورة = البقرة =
التزكية هنا تحتاج إلى أن تسبق تعليم الكتاب والحكمة، لأنّ تعليمها لا يثمر لمن كان قلبه غير مزكّى من الشرك، ومن ثم قدّمت التزكية من الشرك على تعليم الكتاب والحكمة.
ويبقى ما في آية = آل عمران = والسياق للحديث عن المؤمنين وهم مزكون من الشرك، فكان مقتضى الظاهر أن تؤخر التزكية على التعليم كما كان في دعاء سيدنا إبراهيم عليه السّلام ولكن البقاعيّ يلحظ أمرا مهمّا، وهو أنّ آية = آل عمران = جاءت في سياق عتاب المؤمنين في
شأن الغنائم يوم أحد، فهذا منهم أمر عظيم هم مفتقرون إلى التزكية منه أولا ثمّ يأتي تعليم الكتاب والحكمة ترقية لهم وتطهيرا مما لا يليق بهم وإن كانوا مطهرين من الشرك.(1/276)
ويبقى ما في آية = آل عمران = والسياق للحديث عن المؤمنين وهم مزكون من الشرك، فكان مقتضى الظاهر أن تؤخر التزكية على التعليم كما كان في دعاء سيدنا إبراهيم عليه السّلام ولكن البقاعيّ يلحظ أمرا مهمّا، وهو أنّ آية = آل عمران = جاءت في سياق عتاب المؤمنين في
شأن الغنائم يوم أحد، فهذا منهم أمر عظيم هم مفتقرون إلى التزكية منه أولا ثمّ يأتي تعليم الكتاب والحكمة ترقية لهم وتطهيرا مما لا يليق بهم وإن كانوا مطهرين من الشرك.
اختلاف مدلول التزكية ومن كان الخطاب بشأنه هو المقتضي التقديم والتأخير.
يقول = البقاعي = في آية = البقرة =:
= ولمّا طلب ما هو له في منصب النّبوة من تعليم الله عزّ وجلّ له المناسك بغير واسطة طلب لذريته مثل ذلك بواسطة من جرت العادة لأمثالهم فقال (ربنا وابعث فيهم) أي الأمة المسلمة التي من ذريتي وذرية ابني إسماعيل (رسولا منهم) وذلك الرسول هو محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، فإنّه لم يبعث من ذريتهما بالكتاب غيره (يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة
ولمّا كان ظاهر دعوته عليه السّلام انّ البعث في الأمة المسلمة كانوا إلى تعليم ما ذكر أحوج منهم إلى التزكية، فإنّ أصلها موجود بالإسلام، فأخر قوله (ويزكيهم) أي يطهر قلوبهم بما أوتي من دقائق الحكمة فترقى بصفائها ولطفها من ذروة الدّين إلى محلّ يؤمن عليها فيه أن ترتدّ على أدبارها وتحرّف كتابها كما فعل من تقدمها
ولمّا ذكر سبحانه وتعالى في سورة = الجمعة = بعثه في الأميين عامة اقتضى المقام تقديم التزكية التي رأسها البراءة من الشرك الأكبر ليقبلوا ما جاءهم من العلم.
وأمّا تقديمها في = آل عمران = مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال المعاتبة على الإقبال على الغنائم الذي كان سبب الهزيمة لكونها إقبالا على الدّنيا التي هي أمّ الأدناس = (1)
* * * متشابه النظم وتأويله عند = البقاعيّ = في صحبة السياق والمقصود باب وسيع جدير بأن يكون مناط دراسة قائمة له لتقوم بنزير من حقه، وفيما أشرت إليه ما يهدي إلى ذلك المعلم من معالم منهاج = البقاعيّ = في تأويل البيان القرآنيّ الحكيم
__________
(1) نظم الدرر: ج 2ص 162161(1/277)
المعلم الحادي عشر. التوجيه البياني للقراءات القرآنية
كان من فضل الله الرّحمن الرّحيم على عباده أن لم ينزل كتابه على وجه واحد من وجوه الترتيل التي يستنبط منها معانى الهدى، بل جاء التنزيل بوجوه عدّة، كما هدت إلي ذلك السنة المطهّرة:
= إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه =
(الشيخان: البخاري كتاب: فضائل القرآن، و = مسلم = كتاب: المسافرين والنص له حديث. رقم: 270/ 818)
وفي الباب نفسه روى مسلم عن أبي بن كعب أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا كان عند أضاة بني غفار قال:
فأتاه جبريل عليه السّلام، فقال = إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا (حديث: 274/ 821)
أن في تعدد هذه القراءات فيضا من رحمة التخفيف على هذه الأمة، وهو تخفيف غير مقصور على الأداء والتلاوة، وإن كان هذا أظهرها بل هو تخفيف في التكليف القائم من معانى الهدى المستنبطة من تلك القراءات فمن قرأ بحرف واستنبط منه معانى الهدى استنباطا صحيحا على وفق الأصول العلمية للاستنباط، فقد أصاب فكلها كاف شاف والحمد لله رب العالمين.
تعدد صور الأداء ليس تعدد عقيما من المقاصد التى نزل القرآن لها:
إنباء العباد بمعاني الهدي التى يريدها الحق عزّ وجلّ بل كل صورة من صور الأداء المتواتر ذات عطاء من ضروب هذه المعاني المتكاثرة والتي لا تخلق على كثرة الرد، ومن ثم كان من التعبد الاستماع إلى القرآن الكريم
{وَإِذََا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف 204)
فقد شرط لتحقق الرحمة شرطين: الاستماع والإنصات معا: الاستماع بالقاء السمع والاجتهاد في عدم التشاغل بشاغل كما تلوّح به صيغة الافتعال (استمعوا) والإنصات وهو ترك الكلام بالكلية حتى لا يكون في أدنى صور الكلام ما شغل عن التلقى لما في الاستماع إليه من لطيف
المعانى التى قد لا يتمكن المرء من إدراكها إذا ما شغله شاغل من كلام وإن استمع معه.(1/278)
فقد شرط لتحقق الرحمة شرطين: الاستماع والإنصات معا: الاستماع بالقاء السمع والاجتهاد في عدم التشاغل بشاغل كما تلوّح به صيغة الافتعال (استمعوا) والإنصات وهو ترك الكلام بالكلية حتى لا يكون في أدنى صور الكلام ما شغل عن التلقى لما في الاستماع إليه من لطيف
المعانى التى قد لا يتمكن المرء من إدراكها إذا ما شغله شاغل من كلام وإن استمع معه.
وإذا ما كانت صور الأداء توقيفية فإن في كل صورة قامت في موضعها وسياقها ما يجعلها ذات تناسب وتناسج وتأخ وتناغ مع السياق الذي قامت فيه، وهذا ما يجعل الروايات تتعدد في أداء كلمة قرآنية في سياق بينما الكلمة نفسها في سياق آخر لا ترد فيها إلا رواية واحدة مما دلّ على أن السياق والقصد لهما علاقة وثيقة بتعدد صور الأداء أو توحدها،. وهذا ما أرغب إلي النظر في تأويل البقاعي لمثل هذه الوجوه.
* * * * * من صور الأداء الإدغام والفك لكلمة ما من كلمات القرآن المجيد فالإدغام ذو وجه صوتي ماثل في إدخال صوت حرف في صوت حرف آخر، والفكّ مقابله
وعجيب أن يكون في صورة وأداء لفظ = الفك = إدغام فهذه المفارقة كأنّ فيه إلاحة إلى أنه وإن كان الفك هو الأصل فإن الاعتداد بما يقتضيه التناسب الصوتي في هذا الذي هو أساس عظيم من أسس التناسب القرآني الكريم
وقد كان لعلماء البلاغة العربية عناية جليلة بالتناسب الصوتي في أسفارهم البلاغة، ولا سيما المتأخرين الجاعلين ذلك التناسب الصوتي مقدمة فصاحة الخطاب التى هي أساس بلاغته، وهذا الوجه الصوتي: الإدغام والفك له في البيان القرآني وجه دلالي يتدبر البقاعي بعض صوره فيه:
جاءت كلمة (يرتدّ) في سورة البقرة وفي سورة المائدة:
قال عزّ وجلّ في سورة = البقرة =: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ قُلْ قِتََالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَإِخْرََاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللََّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلََا يَزََالُونَ يُقََاتِلُونَكُمْ حَتََّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطََاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كََافِرٌ فَأُولََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (البقرة: 217)
وفي سورة = المائدة = {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللََّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكََافِرِينَ يُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا يَخََافُونَ لَوْمَةَ لََائِمٍ ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54)(1/279)
في سورة البقرة (ي 217) أجمع الرواة على قراءة فك الإدغام فيها (يرتدد) وو لم يجمعوا على ذلك في سورة المائدة (ي: 54)
في المائدة = قرأ نافع وأبو جعفر وابن عامر (من يرتدد) بفك الإدغام وقرأ بقية العشرة (يرتدّ) بدال واحدة مشددة = (1)
وليس يخفى أن اتفاق الرواة في آية البقرة إنما هو توقيف، لا مواضعة، ومثله اختلاف الروايات بالفك والإدغام في المائدة توقيف.
ومن ثمّ كان عليّا النظر في مقتضي تعدد صورة الأداء في المائدة وتوحدها في سورة البقرة
يقول البقاعي في تدبر آية البقرة: = وإجماع القراء على الفك هنا للإشارة إلى أنّ الحبوط مشروط بالكفر ظاهرا باللسان وباطنا بالقلب، فهو مليح بالعفو عن نطق اللسان مع طمأنينة القلب.
وأشارت قراءة الإدغام في (المائدة) إلى أنّ الصبر أرفع درجة من الإجابة باللسان وإن كان القلب مطمئنا = (2)
ويقول في سورة المائدة: = ولمّا نهى عن موالاتهم وأخبر أنّ فاعلها منهم نفى المجاز مصرحا بالمقصود، فقال مظهرا لنتيجة ما سبق (يا أيها الذين آمنوا) أي أقروا بالإيمان من يوالهم منكم هكذا كان الأصل، ولكنه صرح بأنّ ذلك ترك الدين، فقال (من يرتد) ولو على وجه خفي بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر (منكم عن دينه = (3)
آية البقرة في سياق الحكم بإحباط عمل المرتد عن الاسلام في الدنيا والآخرة، وهذا لا يكون إلا لمن ارتد ظاهرا باللسان وباطنا بالقلب، والآية قد نصت بالعبارة على الارتداد الباطنيّ بالقلب في قوله: (فيمت وهو كافر) فبقي الارتداد الظاهري فكان الأداء هو الدال عليه، فالفكّ لازم هنا لأن في الفكّ إظهار وهو عمل لسانيّ مما يليح إلى التناسب الدقيق في الإشارة.
ففي الآية جمع بين شرطي إحباط العمل بالردة: الردة ظاهرا مدلولا عليها هنا بفك الإدغام والردة باطنا مدلولا عليه بالعبارة (فيمت وهو كافر)
__________
(1) المبسوط في القراءات العشر لابن مهران: ص 162ت: سبيع الحاكمي، والنشر في القراءات العشر: 2/ 250
(2) نظم الدرر: 3/ 233232
(3) السابق: 6/ 191190(1/280)
وعجيب أن الردة الباطنة دل عليها بالعبارة، والردة الظاهرة دلّ عليها بأداء العبارة (فك الإدغام)
وفي اشتراط الردة الباطنية لإحباط العمل والدلالة عليها بطريق العبارة فتح باب العفو لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فهو مما أكره على ارتداد ظاهري لم يجمع إليه ارتدادا باطنيا.
أما آية (المائدة) فقد كانت في سياق النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء (الآية: 51) وعدم الصبر على البلاء (الآية: 52) فجاءت الآية (54) مشيرة إلى أنّ الله عزّ وجلّ قد يعاقب على الارتداد الباطني المشار إليه برواية (الإدغام) والارتداد الظاهري المشار إليه برواية (الإظهار) بالإتيان بقوم يحبهم ويحبونه، وهذا فيه من التهديد العظيم ما تنخلع له قلوب الفاقهين.
ولو أن الرواية جاءت بوجه واحد من وجوه الأداء لكان في هذا إخلال بشروط العقوبة: تحقيق الارتداد بأحد وجهين، فليست العقوبة متوقفة على اجتماع الشرطين معا في وقت واحد بل تحقيق أحدهما قد يترتب عليه العقاب: الإتيان بقوم يحبهم ويحبونه
وثمّ إشارة أخرى: الإدغام هنا مشير إلى أنّ الصبر الذي لم يحرص عليه من تحدثت عنه الآية (52) إنّما هو أرفع درجة من الارتداد الظاهري باللسان.
علينا ملاحظة الفرق بين جواب الشرط في (البقرة) وجوابه في (المائدة): في (البقرة) حبوط عمل وذلك قاتل مبير، وفي (المائدة) تبدل وإحلال قوم مكان قوم، وهو وإن كان عند اهل العرفان عظيم إلا أنه من دون إحباط العمل، فكان المشير إلى شرط جواب الشرط في (المائدة) بطريق الأداء، وهي دلالة فيها شيء من خفاء لا يفقهها كثير من الناس، وكان المشير إلى الشرط الرئيس لتحقق الجواب بطريق العبارة الصريحة.
وهذا فيه من ضروب التناسب ما فيه.
هذا ما كان = البقاعي = فانظر في صحبته ما قال شيخه = ابن الجزري = في النشر معللا فك الادغام اتفاقا في البقرة بقوله:
= لأن طول البقرة يقتضي الاطناب وزيادة الحرف من ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى (ومن يشاقق الله ورسوله) في الأنفال (ي: 13) كيف أجمع
على فك إدغامه، وقوله (ومن يشاقق الله) في (الحشر: 4) كيف أجمع على إدغامه، وذلك لتقارب المقامين من الإطناب والإيجار) (1)(1/281)
= لأن طول البقرة يقتضي الاطناب وزيادة الحرف من ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى (ومن يشاقق الله ورسوله) في الأنفال (ي: 13) كيف أجمع
على فك إدغامه، وقوله (ومن يشاقق الله) في (الحشر: 4) كيف أجمع على إدغامه، وذلك لتقارب المقامين من الإطناب والإيجار) (1)
ما قال = ابن الجزري = لو استقام للزم أن يكون كلّ شيء في البقرة على منهاج البسط، وألا يكون فيها إيجاز بحذف كلمة أو إيجاز قصر فكيف يعلل = ابن الجزريّ = نهجا بيانيّا بنهج بياني هو مفتقر إلى التعليل مثله، طول البيان ليس مقتضيا يوجه به وجه بياني فالمقتضي يكون من ذات المعانى والمقاصد التي تساق السورة إليها، والأحوال التي تكتنف التنزيل.
* * * * * ومما أجمعت الرواية على أدائه في سورة على وجه واختلفت في أدائه في سورة أخرى الفعل (يرى) في قوله عزّ وجلّ:
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرََاتٍ فِي جَوِّ السَّمََاءِ مََا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللََّهُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 79)
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مََا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمََنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (الملك: 19)
اختلفوا في قراءة (يروا) في (النحل) بالغيبة والخطاب واتفقوا على الغيبة في الملك:
= قرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي (ألم يروا) بالياء
وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وخلف (ألم تروا) بالتاء)) (2)
يذهب البقاعي في آية النحل إلى = أنّ الكلام وسياقه يحتمل المقبل والمعرض بخلاف سياق الملك فإنه للمعرض، فلذا اختلف القراء هنا وأجمعوا هناك = (3)
وقال في سورة الملك: = أجمع القراء على القراءة هنا بالغيبة لأنّ السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل = (4)
لو نظرنا سياق آية النحل رأينا أنها جاءت في معرض تعدد النعم تدليلا وامتنانا، والامتنان على الأقل إنما هو للمقبل والمعرض، والآيات (70 72، 78، 8180) مؤكدة هذا
__________
(1) النشر في القراءات العشر: 2/ 255
(2) السابق: 2/ 304، والمبسوط: 225
(3) نظم الدرر ج 11/ 222
(4) السابق: ج 20/ 242(1/282)
من قرأ بالخطاب لاحظ جانب المقبل لأنّ النعم في الحقيقة إنما خلقت له (الأعراف: 32) فهو مقدم لذلك، فليكن أداء الآية ملاحظا ذلك في بعض الوجوه
ومن قرأ بالغيبة لاحظ جانب التدليل الذي هو أساسا للمعرض كيما يقتنع من هذه الجهة فلاحظته قراءة الغيبة.
سياق آية النحل كما ترى محتمل الوجهين معا المقبل والمعرض فكانت الروايتان.
وسياق (الملك) للعرض وحده وللرد على المكذبين (الآيات: 15وما بعدها) فهو سياق لا يحتمل توجيه الخطاب في هذه الآية، ولأنها أيضا لم تأت لتهديد المعرضين كسابقتها ولاحقتها بل لبيان أن من يخسف بالجبارين بسلطان القهر يملك القدرة على أن يمسك الطير الضعيف بفيض رحمته فلا يقع
ومن ثمّ كان التعبير في آية الملك بقوله (إلا الرحمن) بينما في آية النحل (ما يمسكهن إلا الله).
* * * * وننظر في آية أخرى اقتبس البقاعي فيها تأويل صورة الأداء من الحرالّيّ ولكنّه لم يضف إليه شيئا وكان بملكه أن يفعل، مما يبن لنا وجها من منهجه في هذا
قال عزّ وجلّ: {وَإِنْ كََانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 280)
في قوله (عسرة) قراءتان (بضم السين وبإسكانها)، وفي (ميسرة)
قراءة بضم السين وقراءة بفتحها وقراءة بضم السين وكسر الهاء المشبعة.
يقول = ابن مهران =: = قرا أبو جعفر وحده (وإن كان ذو عسرة) بضم السين، وقرأ الباقون (عسرة) ساكنة السين
قرأ نافع (فنظرة إلى ميسرة) بضم السين، وروى = زيد = عن يعقوب (إلى ميسرة) بضم السين وكسر الهاء مشبعة، وقرأ الباقون (إلى ميسرة) بفتح السين = (1)
في الآية وجوه من الأداء، وكل وجه له فيض من المعنى المتناسب مع السياق المديد والقصد الوسيع الذي يجمع الأمة فيمنح كل ذي درجة شيئا من عطائه، يقول البقاعي مقتبسا من = الحرالّيّ =:
__________
(1) المبسوط في القراءات العشر: 137، والنشر: 2/ 136(1/283)
= لما كان الناس منقسمين إلى موسر ومعسر أي غني وفقير كان كأنّه قيل هذا حكم الموسر (وإن كان) أي وجد من المدنين (ذو عسرة) لا يقدر على الأداء في هذا الوقت (فنظرة) أي فعليكم نظرة له
قال = الحرالّيّ =: وهو التأخير المرتقب نجازه (إلى ميسرة) إن لم ترضوا إلا بأخذ أموالكم.
وقرأ نافع وحمزة بضم السين. قال = الحرالي = إنباء عن استيلاء اليسر وهو أوسع النظرتين
والباقون بالفتح إنباء عن توسطها ليكون اليسر في مرتبتين، فمن انتظر إلى أوسع اليسرين كان أفضل توبة. انتهى = (1)
نظر البقاعي تبعا للحرالى إلى دلالة ضم السين من (ميسرة) فاستشعر من صوتها القوى الإشارة إلى تمام يسر المعسر، فتكون دعوة إلى أن يكون إنظاره حتى يكتمل يسره
ونظر إلى دلالة فتح السين منها فاستشعر من صوتها الإشارة إلى توسط اليسر من أن الفتحة أضعف من الضمة، ففي أحوال صوت حركة الكلمة إشارة إلى أحوال المعنى نفسه وعلاقته بمن له البيان
أي الإنظارين للمعسر طاعة إلا أنّ أدناهما حق لازم على كلّ مسلم وأعلاهما فضل يقوم له وبه أهل الإحسان، ومن كان إلى الأعلى المشار إليه بالضم كان افضل توبة مما كان منه من إقراضه بنفع هو عين الربا المقيت الممحوق.
فقراءة الفتح لأهل أول أسنان الإيمان (الذين آمنوا)، وقراءة الضّمّ لمن علاهم في أسنان الإيمان: المؤمنون المحسنون
تنوّع المعانى بتنوع القراءات فيه وفاء بمنازل ومقامات الطاعة فليس أهل الطاعة سواء في منازلهم منها، فمن القراءات ما يصور معنى إحسانيا متساميا على ما صورته قراءة أخرى من المعاني الجمهورية التي هي هدى للناس وللذين آمنوا فكلها كاف شاف كلّ ذي منزل ومقام من مقامات القرب المتصاعدة
وفي الآية وجوه من الأداء في (عسرة) بضم السين وبإسكانها، ومن وراء كل وجه معنى قائم في السياق إلى القصد الذي ترمي إليه الآية الكريمة
__________
(1) نظم الدرر: 4/ 141140(1/284)
استشعر في قراءة ضم السين من (عسرة) ملاحظة حال من كان عسره شديدا فحقّه لا محالة إنظاره بمقدار عسره، فإن زال كان لصاحب الدين مطالبته.
وفي إسكان السين من (عسرة) ملاحظة لحال من كان عسره خفيفا فحقه أن ينظر أيضا على قدره ولا يحرم من الإنظار، ولو جاءت الرواية بضم السين وحدها لكان في هذا حرمان من كان عسره يسيرا من رحمة الإنظار، وفي إنظار ذي العسر اليسير تربية وتدريب على التخلق بالرحمة والإحسان والتفضل.
وفي قوله (نظرة) وجوه من الأداء بعضها ليس من القراءات العشر:
قرأ الجمهور (فنظرة) بكسر (الظاء) فهو خبر محذوف أي فالواجب نظرة
وقرأ الحسن ومجاهد والضحاك (فنظرة) بسكون (الظاء) وهي من تخفيف (نظرة) وهي على لغة في تميم: يقولون في كلمة: كلمة.
وكأنّ في هذه الآية تخفيفا على صاحب المال من وجه وترغيبا له في الإنظار من وجه وإيحاء له أنّ الإنظار إنّما هو خفيف فلا يحسب أنّ في دعوته إليه أثقالا عليه
قراءة كسر (الظاء) فيها إلاحة إلى أن يكون الإنظار تاما قويا مستوليا على حال المعسر، وأن يتمكّن صاحب المال من تحقيق هذا الواجب:
الإنظار، وهذا فيه تربية على الإحسان والإتقان والتنفيس على ذوي الحاجة والعسر
وفي إسكان الظاء معنى إباحة أن يكون الإنظار على قدر الإعسار دون فضل، وإلاحة إلى أنه ليس بالعسير تحقيقه على صاحب المال، فهي قراءة ناظرة لحال صاحب المال من وجهين، وجه هو من حقه ووجه فيه نفع له بالتربية والإغراء والتحريض على ألا يستثقل الإنظار فإنّه خفيف وإن طال أمده. فأهل الهمم العالية يلمحون في إسكان الظاء إغراء لهم بالتحمّل وتصويرا لهم أنّ ذلك غير عسير عليهم بل هو في حقيقته خفيف بما كان من تخفيف صوت وسط الكلمة. {(ذََلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)} (النساء: 59)
وأهل الهمة الدانية ينظرون إلى أنّ في الإسكان إشارة إلى حقهم في ألّا يكون الإنظار بالغا تمام كمال زوال الإعسار.
كلّ يقرأ في وجه الأداء ما يليق به {(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)} (الزمر: 55)(1/285)
وفي الكلمة قراءة أخرى: قرأ عطاء بن أبي رباح (فناظره) بالألف:
اسم فاعل، والهاء ضمير مضاف إلى اسم الفاعل أي فمن أنظر المدين فهو إلى ميسرة.
في هذه القراءة إشارة إلى البشرى بأنّ من ينظر المدين المعسر فإنّ حاله وأمره كلّه بسبب من لإنظاره له يكون إلى ميسرة.
ففي هذا مجاوبة لما جاء به بيان النبوة:
= ومن فرّج عن مسلم فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة = (متفق عليه: البخاري: المظالم، ومسلم البر)
وقراءة رابعة فيها: قرأ عطاء أيضا (فناظره) بإسكان الراء على أنه فعل أمر على معنى فياسره وسامحه إلى وقت الإنظار، فهو من المناظرة أي المسامحة والمداناة، وليس من المناظرة بمعنى المحاجة والمجادلة.
كذلك يتبين لك أن في الآية وجوها من الأداء وأنّ في هذه الوجوه تناسبا مع السياق فإنّ الآية معقودة لدعوة المسلم إلى أن يكون في عون أخيه وألا يكون إقراضه له من وراء الانتفاع بما يأخذه منه بل الانتفاع بما يكتسبه من ثواب الله عزّ وجلّ ثمّ بما يحققه للأمّة من الشعور بالتآلف والتناصر، وهذا إذا شاع في أمّة طهّرها من كثير من الأدواء التى تنهك قواها وتهتك قوامها وتردي في مذلّة الفرقة والتناحر والتغافل والتشاغل عن الاعتناء بأحوال الإخوان، وذلك هو الدّاء التى تؤتى منه الأمّة.
* * * * * إنّ كلّ عنصر من عناصر البيان ولا سيّما البيان القرآنيّ لذو أثر بليغ مجيد في بناء المعنى وتصويره وتحبيره، قد تخفى علينا نحن ملامح ذلك الأثر، ولكن هذا لا يصح أن يكون مدعاة إلى نفي وجوده، ولو أنّ المرء نفى كل ما لا يرى لكان الأمر جدّ خطير، إنّ من رأس الإيمان في الإسلام الإيمان بالغيب، فوجب أن يقف المرء عند ما يعلم غير ناف وجود ما لا يعلم.
* * * الوقوف على ما جاء في هذه الآيات من قراءات هو من باب العلم النافع، والدراسة العربية تحتفى بمثل هذا، فكثرة القراءات في الآية فيه من فيوض المعانى ما يعين العباد على أن يقوموا في رياض الطاعة، وأن تفتح أمامهم سبل القرب من خالقهم وليس كمثل التيسير المحكم بأصول العلم على العباد كيما لا تنفر نفس عن رحاب الطاعة(1/286)
المعلم الثّاني عشر تبيان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية: مادة وصيغة
= البقاعيّ = ذو عناية بالغة بتبيان مدلول مادة الكلمة القرآنية وصيغتها في بناء جملتها وبما يكشف تناسبها مع سياقها والمقصود من السورة وعلاقتها بأخواتها في بناء الجملة الذي يشكل عنده (النظم التركيبي) في السورة والذي يجعله لبنة في بناء (النظم الترتيبي) فيها
ويعنى بما يعتري الكلمة القرآنية من التحوّل الدّلالىّ من موروثها الاشتقاقي والتركيبي إلى ما تكتسبه من السياق الذي تقوم على لاحبه في السورة، وهذا المعلم من معالم منهاجه في تأويل بلاغة القرآن الكريم معلم وسيع لا يحيط به بحث مفرد من وفير ما جاء عنه فيه.
مادة الكلمة هي الحروف الأصلية التى تتكون منها الكلمة وتشترك فيها مع أقرانها وشقائقها، وهذه الحروف الأصلية تحمل في نفسها وفي طريقة ترتيبها ما تدلّ به على معنى من المعانى، ولعلماء العربية عناية بالغة بهذا، والنظريات اللغوية في هذا المجال متسعة عميقة ذات دقائق ولطائف، وقد كان ل = ابن جنى = و = ابن فارس = وآخرين فضل لا يتوارى في هذا المجال.
والمراد بمدلول المادة ما ترثه الكلمة من أصولها التى كونتها، تحمل هذا الميراث معها في مواقعها مازجة بعض المدلولات التى تكتسبها من روافد أخرى بها كمدلولات صورتها أو مدلولات أدائها.
والكلمة في بيان العربية كالفرد في عالم الإنسان يحمل من أصول نسبه وجرثومته فيضا من السمات والخصائص التي لا يتخلى عنها ما بقيت الحياة في قيده أو بقيي هو في قيدها، ثمّ تتنوع أفاعيله وما يمنح وما يمنع، وما يظهر وما يبطن وفقا لما يرمي إليه ويؤم، وما يقوم فيه أو يقام، فهو بليغ في فعله نازل على مقتضى أحواله وسياقات وجوده على تنوعها وتعددها كمثله الكلمة في بيان العربية بليغة بما تنزل عليه من مقتضيات الأحوال على تنوعها وتعددها، والسياقات على امتدادها وبعدها وقربها
إنّ عالم البيان في لسان العربية من عالم الإنسان في الجزيرة العربية يوم أن كانت عربية(1/287)
ورحم الله زمانا كان شربه العزّة وطعامه المنعة والنجدة لكلّ مستصرخ، ولباسه المجد المؤثل المصون المعلى
* * * منهج البقاعيّ قائم على استبصار معالم تناسب القرآن الكريم في كلماته وجمله وآياته ومعاقده وسوره، وهذا التناسب أساسه تحقق معنى جامع للمتناسبات، واستبصار هذا المعنى هو المفتاح الذي يحقق للبقاعيّ ما يصبو إليه، ذلك ما يبدو لمن يتابع التبصر في صنيعه.
وليس من شك في أنّه لن يكون بملكى أن أحيط بنزير مما عنى به = البقاعيّ = في شأن تناسب مادة الكلمة مع السياق مدلولا ودلالة، غير أنّى مجتهد في أن أقف عند ما يرسم منهجه ويكشف معالم حركته وما انتهى إليه في هذا.
* * * لله السماء الحسنى، ولكل اسم منها مدلوله ودلالته، ولكلّ منها موقعه الذي هو به أخصّ، وفقه البيان باسم من أسمائه الحسنى ومناسبة اصطفائه في سياقه من الفقه العلىّ، وكانت للبقاعيّ عناية بذلك.
من أسمائه الحسنى التي لم يتكرر ذكره في القرآن الكريم (البارئ) وقد يظن أنّه مرادف لاسمه (الخالق) أو (الفاطر) الذي تكرر ذكر كلّ في القرآن الكريم، بينا اسمه (الباري) لم يأت إلا في آيتين:
الأولى جاءت في موطن تعداد بعض أسمائه في آخر سورة (الحشر)، والأخرى في سورة (البقرة ي: 54)
{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخََاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بََارِئِكُمْ}
ليس يخفى أن أصل المعنى في كلمة (خالق) إنما هو التقدير، بينما أصل المعنى في كلمة (بارئ) هو البراءة من النقص في الإيجاد والتقدير، ومزيد الامتنان يظهر في البيان بقوله (بارئ)، فإذا ما كان السياق للتذكير بمزيد الفضل إغراء بحسن الإقبال، فإنّ البيان باسمه (البارئ) أعظم تناسبا مع السياق. يقول = البقاعيّ =:
= (وإذ قال موسى لقومه) العابد للعجل والساكت عنه (يا قوم) وأكّد لعراقتهم في الجهل بعظيم ما ارتكبوه وتهاونهم به لما أشربوا في قلوبهم من الهوى، فقال: (إنكم ظلمتم أنفسكم) ظلما تستحقون به العقوبة (باتخاذكم العجل) أي إلها من دون الله سبحانه وتعالى، فجعلتم أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها شيئا ولمن هي أشرف منه، فأنزلتموها من رتبة عزّها بخضوعها لمولاها الذي لا يذلّ من والاه ولا يعزّ من عاداه إلى ذلّها
بخضوعها لمن هو دونكم أنتم (فتوبوا إلى بارئكم) الذي فطركم من قبل أن تتخذوا العجل بريئين من العيب مع إحكام الخلق على الأشكال المختلفة.(1/288)
= (وإذ قال موسى لقومه) العابد للعجل والساكت عنه (يا قوم) وأكّد لعراقتهم في الجهل بعظيم ما ارتكبوه وتهاونهم به لما أشربوا في قلوبهم من الهوى، فقال: (إنكم ظلمتم أنفسكم) ظلما تستحقون به العقوبة (باتخاذكم العجل) أي إلها من دون الله سبحانه وتعالى، فجعلتم أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها شيئا ولمن هي أشرف منه، فأنزلتموها من رتبة عزّها بخضوعها لمولاها الذي لا يذلّ من والاه ولا يعزّ من عاداه إلى ذلّها
بخضوعها لمن هو دونكم أنتم (فتوبوا إلى بارئكم) الذي فطركم من قبل أن تتخذوا العجل بريئين من العيب مع إحكام الخلق على الأشكال المختلفة.
وقال = الحرالّيّ =: البارئ اسم قائم بمعنى البرء، وهو إصلاح المواد للتصوير، كالذي يقطع الجلد والثوب ليجعله خفّا وقميصا، وكالذي يطحن القمح ويعجن الطين ليجعله خبزا وفخارا ونحو ذلك، ومعناه التدقيق للشيء بحسب التهيؤ لصورته. انتهى =
(فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم) أي القادر على إعدامكم كما قدر على إيجادكم.
وفي التعبير بالبارئ ترغيب لهم في طاعته بالتذكير بالإحسان وترهيب بإيقاع الهوان = (1)
في استحضار معنى (بارئ) ما يهزّ النفس الساعية إلى تدنيس ما فطره الله سبحانه وتعالى بريئا من دنس الشرك به، وهذا ضرب من الإفساد، وليس أعظم إفسادا ممن يفسد نفسه المفطورة على التوحيد البريئة من الشرك، فإنّ مثل هذا لا يؤتمن على غيره، فمن خان نفسه التي بين جنبيه ولم يحفظها فإنّ خيانته غيره أشد وأنكلى.
وفي هذا تنفير لهذه الأمة المحمّدية من أن تسلك مسالك الخائنين أنفسهم المدنسيها بالشرك
ورأس أولئك اليهود عليهم من الله سبحانه وتعالى ما يستحقون من اللعن والهوان والنكال في الدارين. (2)
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 373372
(2) ومما هو من الاستطراد غير العقيم تفريق = الطيبيّ = بين الأسماء الثلاثة (الخالق البارئ المصور)
= قال الطيبيّ: قيل إنّ الألفاظ الثلاثة مترادفة، وهذا وهم، فإنّ الخالق من الخلق، وأصله التقدير المستقيم، ويطلق على الإبداع، وهو إيجاد الشيء على غير مثال، كقوله تعالى = خلق السّماوات والأرض =، وعلى التكوين كقوله تعالى: = خلق الإنسان من نطفة =.
والبارئ من البرء، وأصله خلوص الشيء عن غيره، إمّا على سبيل التّفصّي منه، وعليه قولهم: برء فلان من مرضه، والمديون من دينه، ومنه استبرأت الجارية، وإمّا على سبيل الإنشاء، ومنه برأ الله النسمة.
وقيل: البارئ الخالق البريء من التفاوت والتنافر المخلين بالنظام.
والمصوّر مبدع صور المخترعات ومرتبها بحسب مقتضى الحكمة من غير تفاوت ولا اختلال ومصوّره في صورة يترتب عليها خواصّه ويتمّ بها كماله.(1/289)
إنّ فقه مواقع الأسماء الحسني في البيان القرآنيّ من أعظم الفقه، فموقع الاسم فيه كاشف عن لطيف معانيه، وتدبّر سياقه وموقعه ومناظرته بما قاربه في أصل معناه وسياق مواقعه مفتاح من مفاتيح فهم معاني الأسماء الحسني ذلك الفهم الذي أرى أنّه وجه من وجوه الإحصاء الذي حثّ النبي صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم عليه (إنّ لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنّة) (البخارى: التوحيد فتح: 33213)
ولو أنّا عمدنا إلى تدبر وتأويل أسماء الله الحسنى في الذكر الحكيم:
موقعا ومدلولا ودلالة لكان لنا في ذلك من المعانى ما يفتقر كثير من أهل العلم استبصاره ووعيه، ولعلّ الله عزّ وجلّ يسدد ويعين على شيء من ذلك.
ومن هذا أيضا أسماء القرآن الكريم، فقد جاء البيان باسم (الكتاب) و (القرآن) و (الفرقان) إلخ ولكلّ موقع ومدلول ودلالة، وقد كان للبقاعيّ تبعا للحرالي تأمّل لمدلولات تلك الأسماء ودلالاتها ومنازلها في سياق البيان وذلك مما يحمد النظر فيه في مواطنه من تفسيره.
* * * ومما أفتقر إلى النظر فيه هنا تربية نفس أمّارة بغير ما ينفع قوله تعالى في سورة (الهمزة: 41):
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مََالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مََالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلََّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}
اصطفى البيان القرآنيّ الحكيم فعل النبذ: = لينبذنّ = واصطفى للنار اسما لم يأت إلا في هذه السورة من أنّ السياق هنا من بعد ما جاء في سورة (والعصر) سياق تثقيف النفس الأمارة بعظيم الترهيب من تلك الأفاعيل المحطّمة بنيان الأمة والراغبة عمّا به نجاتها من الخسر بحسن الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فيكشف = البقاعي = عما بين مدلول مادة هذا الفعل وهذا الاسم وسياقهما من تناسب قائلا:
__________
والثلاثة من صفات الفعل إلا إذا أريد بالخالق المقدّر، فيكون من صفات الذات لأنّ مرجع التقدير إلى الإرادة، وعلى هذا فالتقدير يقع أولا، ثمّ الإحداث على الوجه المقدر يقع ثانيا، ثمّ التقدير بالتسوية يقع ثالثا)) فتح الباري: 13/ 333(1/290)
= (لينبذنّ): أي ليطرحن بعد موته طرح ما هو خفيف هين جدا على كل طارح، كما دلّ عليه التعبير بالنبذ، وبالبناء للمفعول (في الحطمة) أي الطبقة من النار التى من شأنها أن تحطم أي تكسر وتهشم بشدة وعنف كلّ ما طرح فيها، فيكون أخسر الخاسرين
وعبّر بها في مقابلة الاستعداد بالمال الحامل على الاستهانة بالخلق.
قال الأستاذ = أبو الحسن الحرالّيّ =:
= فلمعنى ما يختص بالحكم يسمى تعالى باسم من أسمائها من نحو جهنم، فيما يكون مواجهة، ومن نحو = الحطمة = فيما يكون جزاء لقوة قهر واستعداد بعدد، ونحو ذلك في سائر أسمائها. =
وعظّم شأنها بقوله: (وما أدراك = = ما الحطمة = = نار الله =
= الموقدة)
ولما وصف الهامز اللامز وصف الحاطم، فقال سبحانه وتعالى (التي) ولمّا كان لا يطلع على أحوال الشيء إلا من قبله علما قال (تطلع) اطلاعا شديدا (على الأفئدة) جمع فؤاد:
وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدة ذكائه، فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص، واطلاعها عليه بأن تعلو وسطه، وتشتمل عليه اشتمالا بليغا سمي بذلك لشدة توقده.
وخصّ بالذكر لأنه ألطف ما في البدن وأشده تألما بأدنى شيء من الأذى ولأنه منشأ العقائد الفاسدة ومعدن حب المال الذي هو منشأ الفساد والضلال، وعنه تصدر الأفعال القبيحة = (1)
يلمح = البقاعي = تناسبا عليّا بين مدلول مادة الفعل = نبذ = والجرائم التى اقترفها أولئك الهمّازون اللمازون المستهترون في جمع المال، فكان عقابهم هوانا عظيما وكراهية بالغة تتعادل مع ما كان منهم
وإذا ما نظرنا في المواضع التى أتت فيها مفردات هذه المادة في القرآن الكريم رأينا الغالب عليها ذلك المعنى مما يؤكد أنها تصطفى لإبرازه في السياق الذي ترد فيه:
(البقرة: 100، 101، آل عمران: 187، الأنفال: 58، القصص: 40، الذاريات: 40، القلم: 49)
وكذلك البيان عن النار باسم الحطمة الجاهر بمدلول التحطيم والتكسير في عنف فيه تناسب عليّ مع السياق الذي جاءت فيه الآية وهي من فرائد القرآن الكريم التى لم تتكرر فيه (2)
__________
(1) نظم الدرر: 22/ 346
(2) للقرآن الكريم فرائد لا تتكرر: كلمات: مادة وصيغة وموقعا ومدلولا، وتراكيب وصورا ومشاهد قصصيّة وأحكاما شرعية جديرة بالتدبّر والتأويل البياني. وإنّي ما أزال في طور الجمع لهذه الفرائد من البيان القرآنيّ الكريم أعدادا لتدبرها وتأويلها تأويلا بيانيّا، ولعلّ الله يعين ويسدد ويتقبل.(1/291)
وإذا ما نظرنا في مدلول مفردات هذ المادة في القرآن الكريم رأينا الغالب عليها أيضا ذلك المعنى مما يؤكد أنها تصطفى لإبرازه في السياق الذي ترد فيه (النمل: 18، الزمر: 21، الواقعة: 65، الحديد: 20)
وكانت إشارة = الحرالي = التى نقلها عنه = البقاعي = في شأن أسماء = النار = ومواقع البيان بكلّ اسم في القرآن الكريم إشارة ماجدة حاملة كثيرا من لطيف المعانى، وهذا يلفت نظرنا إلى أهمية الوقوف عند البيان بأسماء الجزاء على الطاعات والمعاصي وعلاقة ذلك بكل ما يقابله من كسب العباد إن خيرا وإن شرا، وفي هذا بيان من الله عزّ وجلّ لعباده أن جزاءهم من جنس أعمالهم، فعلى العبد أن يتخير الجزاء الذي يريد. وهذا يبرز عظيم مسئولية العبد على ما كسبت يداه.
ويضاف إلى الذي مضى من تناسب مدلول المادة للسياق ما أحدثه ذلك الاصطفاء من تناسب نغميّ بين: = همزة، لمزة، حطمة = وهذا التناغم ذو فاعلية في إبراز المعانى وتصويرها
والبقاعي كما رأيت ذو قدرة على إدراك منزلة اصطفاء الكلمات لمدلول مادتها المستحضر في قلب المتلقي الواقع الذي يثقف القرآن الكريم بإيقاعه في القلوب النفس الإنسانية، فتنفر من تلك الأفاعيل البغيضة فرار من ذلك الجزاء المهين، ولتعلم أن كل متكبر جبار سيلقى في الآخرة من الهوان ما يضارع تكبره وتجبره.
ولو أننا وضعنا كلمة = يطرحنّ = موضع = ينبذن = في غير القرآن الكريم وكلمة = النار = موضع = الحطمة = لنبا بذلك السياق، ولافتقر البيان إلى كثير مما يؤدي ما هو مسوق إليه.
* * * يصطفي القرآن الكريم كلمة في سياق يصوّر بها ما يضطرم في خبايا قوم يحكي عنهم مقالهم، فتكون الكلمة بما تصوره في سياقها الفاضحة لهم، يقول الله سبحانه وتعالى حاكيا مقال المنافقين في سورة = الأحزاب =:
{وَإِذْ قََالَتْ طََائِفَةٌ مِنْهُمْ يََا أَهْلَ يَثْرِبَ لََا مُقََامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنََا عَوْرَةٌ وَمََا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلََّا فِرََاراً}
(الأحزاب: 13)
لم تأت كلمة (يثرب) في غير هذه الآية وجاءت كلمة = تثريب = وهي من مادتها في سورة (يوسف: 92)(1/292)
لم تأت كلمة (يثرب) في غير هذه الآية وجاءت كلمة = تثريب = وهي من مادتها في سورة (يوسف: 92)
{قََالَ لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ}
يقول = البقاعي =: = عدلوا عن الاسم الذي وسمها به النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا من المدينة وطيبة مع حسنه إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديما مع احتمال قبحه باشتقاقه من = الثرب = الذي هو اللوم والتعنيف، إظهارا للعدول عن الإسلام.
قال في = الجمع بين العباب والمحكم =: = ثرب عليه ثربا وأثرابا، بمعنى ثرب تثريبا إذا لامه وعيره بذنبه وذكّره به = (1)
فهذه الكلمة تحمل بمدلول مادتها (ث ر ب) معنى التّأنيب والتّعيير بمعابة ما يومئ إليه أولئك المنافقون من تعنيف القائمين لنصرة الإسلام ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
وفي هذا العدول منهم عن الكلمة التى اصطفاها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى تلك الكلمة البغيضة إيماء إلى دعوتهم إلى العدول عما دعا إليه صلّى الله عليه وسلّم إلى ما كان عليه أجدادهم، وهذا يصوّر ما يعتلج في صدورهم من النفاق، وقد صدق الله سبحانه وتعالى: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمََاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللََّهُ يَعْلَمُ أَعْمََالَكُمْ} (محمد: 30)
فهذه الكلمة في سياق تثبيط المنافقين لعزائم المسلمين بالغة الأنس بمقامها، فهي الكلمة التى هي أخصّ بذلك المعنى وأتمّ له وأكشف عنه، وهي الفاضحة ما يجتهد المنافقون في كفره وستره
وفي ملاحظة = البقاعي = تلك الإشارة القرآنية نقض ما يعيب به بعض المحدثين تراثنا أنّ أصحابه في فقههم البيانيّ لا يلاحظون مطابقة البيان الأحوال الداخلية التى تمر بها نفوس المتكلمين،، فيلتقطون الأسرار النفسية من بين ثنايا الأسرار اللغوية.
* * * ويلمح = البقاعيّ = في اصطفاء كلمة أخرى ما يكشف عن حقيقة عقول المنافقين في سياق السورة نفسها في قول الله جلّ جلاله:
{يَحْسَبُونَ الْأَحْزََابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزََابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بََادُونَ فِي الْأَعْرََابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبََائِكُمْ وَلَوْ كََانُوا فِيكُمْ مََا قََاتَلُوا إِلََّا قَلِيلًا}
(الأحزاب: 20)
جاء البيان بالفعل (يحسب) دون غيره من نحو = يظن =
__________
(1) نظم الدرر: 15/ 306(1/293)
لما بين الفعلين من فرق دلالي، ولما بين مدلول الفعل (يحسب) وسياقه هنا من تناسب جدّ بديع، وهو في هذا يقول:
= أخبر سبحانه وتعالى تحقيقا لقوله الماضي في جبنهم [الآية السابقة] أنّ المانع الذي ذكره لم يزل من عندهم لفرط جبنهم، فقال تحقيقا لذلك وجوابا لمن ربّما قال: قد ذهب الخوف فما لهم ما سلفوا؟ (يحسبون) أي يظنون لضعف عقولهم في هذا الحال، وقد ذهب الخوف لشدة جبنهم وما رسخ عندهم من الخوف (الأحزاب) وقد علمتم أنهم ذهبوا (لم يذهبوا) بل غابوا خداعا.
وعبّر بالحسبان لأنّه كما مضى عن = الحرالي = في البقرة ما تقع غلبته فيما هو من نوع ما فطر الإنسان عليه واستقر عادة له.
والظن فيما هو من المعلوم الماخوذ بالدليل والعلم.
قال: فكان ضعف علم العالم ظن، وضعف عقل العاقل حسبان = (1)
إذا ما رجعنا لمواقع بيان القرآن الكريم بما جاء من مادة = حسب = و = ظن = ألفيناه مقيما كلمات = حسب = في سياق المذمّة أو النهي عن قبيح أو إنكار وتوبيخ، أو ما يدل على أنّ ما وقع خطأ أو ضلال إشارة إلى حقيقة مدلول كلمات هذه المادة التى كشف عنها = البقاعيّ = تأثرا ب = الحرالّيّ =.
أمّا الفعل (ظنّ) فإنّه في البيان القرآنيّ قد يأتى في سياق الدلالة على أن ما وقع حق وصواب، وقد يقام مقام اليقين
* * * ويقف أمام البيان بكلمة = مؤتفكات = في قول الله سبحانه وتعالى:
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعََادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرََاهِيمَ وَأَصْحََابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكََاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} التوبة: 70 ويقول كاشفا عن معالم التناسب البديع بين البيان بكلمة = المؤتفكات = وطبيعة فعل الكافرين من أمّة سيدنا = لوط = عليه السّلام الذي كان مدلول كلمة = مؤتفكات = جزاء وفاقا لفعلتهم النكراء، وطبيعة المنافقين الذين سياق الكلام لهم، فالآيات متتابعة من الآية الثانية والأربعين إلى آخر السورة للحديث عن المنافقين
يقول = البقاعيّ =:
ولما قرر سبحانه وتعالى بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام، أتبع ذلك بتخويفهم من مشابهتهم فيما حلّ
__________
(1) نظم الدرر: 15/ 321(1/294)
بالطوائف منهم، ملتفتا إلى مقام الغيبة لأنّه أوقع في الهيبة، فقال مقررا لخسارتهم: (ألم يأتهم) أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق (نبأ الذين من قبلهم) أي خبرهم العظيم الذي هو جدير بالبحث عنه ليعمل بما يقتضيه حين عصوا رسلنا، ثمّ أبدل منه قوله (قوم نوح وعاد
وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين) (والمؤتفكات) أي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم
وعبر عنهم ب = المؤتفكات = لأنّ القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب، وصرف الأمور عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها، فالمعنى أنّ أولئك لمّا قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم، فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه.
ومادة = إفك = بكل ترتيب تدور على القلب، فإذا كافأت الرجل، فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفته عنك، وأكاف الدابة شبه بالإناء الملوب، والكذب صرف الكلام عن وجهه، فهو إفك لذلك، والله أعلم = (1)
يبصر = البقاعيّ = الوشائج بين الموروث الدلالى لكلمة = مؤتفكات = وطبيعة السياق الخاصّ والعامّ للسورة، وأشار إلى خصوصية هذه الكلمة في دلالتها على حقيقة حال المنافقين الذين السياق لهم، وهي أيضا تلقى في قلب المتلقي إدراكا لما يبلغه النفاق من مقابح تنفر منها النفس السوية، فإذا ما كانت الفطرة نافرة من فعلة الكافرين من أمة سيدنا لوط عليه الصلاة والسلام فإنّ النّفاق من باب هذه الفعلة، فالفطرة السوية والقلب المعافى أشد نفارا.
* * * وإذا ما كان البيان القرآنيّ الكريم قائما على (التصريف البياني) فإنّ هذا التصريف يتضمن ما يعرف بمشتبه النظم وقد سبقت الإشارة إلي شيء منه وقد يتضمن تصريفا في اختيار الكلمة من حيث مادتها في سياق، ويختار أخرى في سياق آخر، فلا يكون من مشتبه النظم لأنه ليس التصريف راجعا إلى نظم الكلمة بل إلى اختيارها هي من حيث مادتها أو صيغتها.
من ذلك ما تراه في قول الله تعالى في سورة = البقرة (ي: 60):
{وَإِذِ اسْتَسْقى ََ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتََا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنََاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللََّهِ}
__________
(1) نظم الدرر: 8/ 543540(1/295)
{وَلََا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة: 60)
وفي سورة = الأعراف =) (ي: 160)
{وَقَطَّعْنََاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبََاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ إِذِ اسْتَسْقََاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتََا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنََاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنََا عَلَيْهِمُ الْغَمََامَ وَأَنْزَلْنََا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَمََا ظَلَمُونََا وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
جاء البيان كما ترى في سورة البقرة بقوله (انفجرت) وفي سورة الأعراف (انبجست) وغير خفيّ أنهما ليسا سواء في مدلولهما، فالانفجار أعظم من الانبجاس فما أثر السياق في اصطفاء كلّ كلمة في سياقها؟
يقول = البقاعي =: = وما أنسب ذكر الانفجار هنا بعد ختم ما قبل بالفسق لاجتماعهما في الخروج من المحيط: هذا خروج يحيي، وذاك خروج يميت.
قال = الحرالّيّ =: الانفجار انبعاث وحي من شيء موعى أو كأنّه موعى انشق وانفلق عنه وعاؤه ومنه الفجر وانشقاق الليل عنه = انتهى ولأنّ هذا سياق الامتنان عبر بالانفجار الذي يدور معناه على انشقاق فيه سيلان وانبعاث مع انتشار واتساع وكثرة.
ولمّا لم يكن سياق = الأعراف = للامتنان عبّر بالانبجاس الذي يدور معناه على مجرد الظهور والنبوع = (1)
فالسياق هو الذي اقتضى اصطفاء الانفجار في سورة = البقرة = وهو الذي اقتضى اصطفاء الانبجاس في سورة = الاعراف =
وأنت إذا نظرت في دائرة السياق القريبة في سورة = البقرة = تجده قد بدأ من الآية الأربعين: {يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيََّايَ فَارْهَبُونِ} بالامتنان على بني إسرائيل بذكر ما أفاض عليهم من النعم غير انّه لم يكن منهم إلا تماديا في الضلالة تنفيرا للأمة المحمدية من ان تقتدي بمنهاجهم وشرعتهم
أمّا السياق القريب في سورة = الأعراف = فإنّه ظاهر في تصوير إسراع بني إسرائيل في الضلالة، تراه يبدأ بقوله سبحانه وتعالى:
{ثُمَّ بَعَثْنََا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى ََ بِآيََاتِنََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِهََا فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (لأعراف: 103)
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 404(1/296)
فكان الأليق الأنسب بسياق آية سورة = البقرة = اصطفاء الكلمة الأدلّ على قوة الحدث (انفجرت) بخلاف سياق آية سورة = الأعراف =.
* * * ونقف معه في تأويل قول الله عزّ وجلّ في سورة الكهف (ي: 77)
{فَانْطَلَقََا حَتََّى إِذََا أَتَيََا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمََا أَهْلَهََا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمََا فَوَجَدََا فِيهََا جِدََاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقََامَهُ قََالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}
وقوله فيها (ي: 82)
{وَأَمَّا الْجِدََارُ فَكََانَ لِغُلََامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكََانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمََا وَكََانَ أَبُوهُمََا صََالِحاً فَأَرََادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغََا أَشُدَّهُمََا وَيَسْتَخْرِجََا كَنزَهُمََا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمََا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذََلِكَ تَأْوِيلُ مََا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}
في الأولى قال (القرية) وفي الأخرى قال (المدينة) والمراد بهما بقعة واحدة، وليس من شك في أن من وراء اصطفاء القرية أو لا مقتضيا غير المقتضي الذي اصطفى كلمة (المدينة) في الأخرى
يلقى البقاعي بصيرته إلى السياق والغرض المنصوب له الكلام، وإلى مدلول مادة كل كلمة من هاتين الكلمتين
يقول في الأولى (ي: 77):
= عبر عنها هنا بالقرية دون المدينة لأنّه أدلّ على الذّمّ لأنّ مادة = قرأ = تدور على الجمع الذي يلزمه الإمساك ثمّ وصفها ليبين أنّ لها مدخلا في لؤم أهلها بقوله تعالى = استطعما = وأظهر، ولم يضمر في قوله = أهلها = لأنّ الاستطعام لبعض من أتوه، أو كلّ من الإتيان والاستطعام لبعض، ولكنه غير متحد، وهذا هو الظاهر لأنّه هو الموافق للعادة = (1)
ثمّ يقول في الآية الأخرى (ي: 82):
= ولمّا كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة، وكان التعبير بالقرية أولا أليق لأنها مشتقة من معنى الجمع، فكان أليق بالذّمّ في ترك الضيافة لإشعاره ببخلهم حالة الاجتماع، وبمحبتهم للجمع والإمساك، وكانت المدينة بمعنى الإقامة، فكان التعبير بها أليق للإشارة إلى أنّ الناس يقيمون فيها، فيتهدم الجدار، وهم مقيمون، فيأخذون الكنز = (2)
عمد = البقاعي = إلى النظر في ما تقوم عليه مادة كلّ من كلمتى: = القرية = و = المدينة = وما يراد من آية كل، فأبصر تناسبا بين مادة كلّ وسياقها
__________
(1) نظم الدرر: 12/ 114
(2) نظم الدرر: 12/ 122(1/297)
ومقصودها: كلمة = قرية = تقوم على معنى الجمع، فالقاف والراء وما يثلثهما فيه معنى الجمع، وهذا ما يستحضر في قلب المتلقى معنى اجتماع أهلها، والآية جاءت في سياق إبراز أن أهل تلك البقعة متصفون بمذمة البخل والإعراض عن إكرام الضيفان، وأنهم مجمعون على مثل هذا، وهذا من أبلغ البخل لأنّ من يبخل والقوم في جمع كان بخله منفردا أعظم، وفيه مذمّة وهي أنّه ليس فيهم من ينهاهم عن تلك المذمّة، وكأنّها أضحت فيهم معروفا غير مستنكر، وهذا من إحالة المنكر معروفا، وإذا ما بلغت أمة ذلك، فهي الخواء من كلّ فضل.
في اصطفاء هذه المادة تناسب مع سياق الإبلاغ في ذمهم ويؤازر هذا البيان بقوله: = استطعما أهلها = وقوله = فأبوا أن يضيفوهما =.
وكلمة = المدينة = تبرز معنى آخر هو أليق بالتعليل لإقامة الجدار: تدور أصول هذه الكلمة على معنى الإقامة، والآية جاءت في سياق بيان وجه ما فعل، وأنّ العبد الصالح لو لم يقم الجدار لتهدم وساعد في إسراع تهدمه إقامة أولئك من حوله، فيكون عرضة انتهابه، فمعنى = الإقامة = الذي هو مركز مدلول مادة = مدن = هو المتناسب مع وجه إقامة ذلك الجدار
وكل ذلك يبرز وجها من المعنى العام للقصة، وأنّ من وراء هذا العلم المكتسب علما أنفذ في باطن الحقائق، وأنّ على كلّ ذي علم أن يعلم أنّ من فوق علمه وإن تعاظم وتكاثر علما أسمى وأعظم
وهذا يتناسب مع المعنى العام لسورة = الكهف = وما استفتحت به من الحمد على نعمة العلم الذي به قوام البقاء النافع والقويم في هذه الحياة.
* * * ومما عنى البقاعيّ بالنظر في تأويله وتدبر مناسبته لسياقه والمقصود من البيان الكلمات (سنة) و (عام) وحجة) و (حول) فهي كلمات يحسب أنها سواء في مدلولها، وقد جاءت من البيان القرآني في سياقات ومقاصد متنوعة
جاءت كلمة (سنة) سبع مرات مفردة، وإحدى عشرة مرة مجموعة (سنين): (البقرة: 96المائدة: 26يونس: 5يوسف: 42، 47 الإسراء: 12الكهف: 11، 25طه: 40الحج: 47 المؤمنون: 112الشعراء: 18، 205العنكبوت: 14الروم:
4 - السجدة: 5الأحقاف: 15المعارج: 4
وجاءت كلمة (عام) تسع مرات (البقرة: 259259التوبة: 373728 126يوسف: 49العنكبوت: 14لقمان: 14)
وكلمة (الحول) جاءت في آيتين من سورة البقرة: ي: 233، 240)(1/298)
وكلمة (حجة) جاءت في آية القصص (ي: 27)
والغالب عند أهل البيان أنّ كلمة = سنة = أكثر ما تستعمل في الحول الذي فيه جدب وشدة، والعام بما فيه الرخاء والخصب، يقال أسنت القوم أصابهم الجدب، كما يقول الراغب في = المفردات =
والبقاعيّ يشير في بعض المواضع إلى تلك الفروق من ذلك ما تراه عند تأويله قول الله عزّ وجلّ:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النََّاسِ عَلى ََ حَيََاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمََا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذََابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللََّهُ بَصِيرٌ بِمََا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 96)
يقول: = والسنة: أمد تمام دورة الشمس وتمام ثنتي عشرة دورة القمر قاله الحرالي.
وهذا المعنى وإن كان موجودا في الحول والعام والحجة غير أنّ مأخذ الاشتقاق ملاحظ في الجملة، فبلاغة القرآن الكريم لا تطلق واحد من هذه الألفاظ إلا فيما يناسب السياق من أصل اشتقاق هذه الألفاظ.
فهذا السياق لمّا كان المراد به ذمهم بتهالكهم على بقائهم في الدنيا على أيّ حالة كانت علما منهم بأنّها ولو كانت أسوأ الأحوال خير لهم مما بعد الموت لتحقّق شقائهم عبّر بما منه الإسنات وهو القحط وسوء الزمان، أو ما منه الدّوران الذي فيه كدّ وتعب إن كان أصلها من سنا يسنو إذا دار حول البئر.
قال السهيلي في = الروض =: وقد تسمى السنة دارا في الخبر:
إنّ بين آدم عليه السّلام ونوح عليه السّلام ألف دار أي سنة
ثمّ قال: فتأمل هذا فإنّ العلم بتنزيل الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح بابا من العلم بإعجاز القرآن، والله المستعان)) (1)
وفي قول الله سبحانه وتعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلََّا خَمْسِينَ عََاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفََانُ وَهُمْ ظََالِمُونَ} (العنكبوت: 14)
ينظر وجه البيان أولا بالسنة وآخرا بالعام، فيقول:
= عبّر بلفظ = سنة = ذما لأيام الكفر، وقال = إلا خمسين عاما = إشارة إلى أنّ زمان حياته عليه السّلام بعد غرقهم كان رغدا واسعا حسنا بإيمان المؤمنين وخصب الأرض = (2)
__________
(1) نظم الدرر: 2/ 63
(2) السابق: 14/ 404(1/299)
فأيام المجاهدة أيام معاناة من جهته فالأنسب بها كلمة (سنة) وأيام مذمة من جهة فعالهم: الكفر، فكذلك يناسبها كلمة = سنة =، بما تحمله من أصل مادتها الذي بينته من قبل
أمّا ما كان من بعد الطّوفان بإغراق الكافرين ونجاة المؤمنين فهي أيام سعة معنوية بالإيمان وسعة حسيّة بخصب الأرض وكثرة النعم
وكأنّ البقاعيّ يذهب إلى أنّ الخمسين عاما هي التي بقيها = نوح = عليه السّلام من بعد الطوفان.
* * * وجاء البيان بكلمة = حول = في قول الله جلّ جلاله:
{وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كََامِلَيْنِ لِمَنْ أَرََادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضََاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لََا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلََّا وُسْعَهََا لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ بِوَلَدِهََا وَلََا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوََارِثِ مِثْلُ ذََلِكَ فَإِنْ أَرََادََا فِصََالًا عَنْ تَرََاضٍ مِنْهُمََا وَتَشََاوُرٍ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلََادَكُمْ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ إِذََا سَلَّمْتُمْ مََا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللََّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 233)
كلمة (حول) فيها معنى الانفصال والتّغيّر من نعت إلى نعت آخر، ومن هنا سميت الصّفة المتغيرة حالا أي لا يبقى على ما هو عليه بل يحول ويتغيّر، والبقاعي يتدبر معنى التحول في هذه الآية قائلا:
= ولمّا ذكر الرضاع ذكر مدّته، ولمّا كان المقصود مجرّد تحوّل الزمان بفصوله الأربعة ورجوع الشمس بعد قطع البروج الاثنى عشر إلى البرج الذي كانت فيه عند الولادة، وليس المراد الإشعار بمدح الزمان ولا ذمه ولا وصفه بضيق ولا سعة عبّر بما يدلّ على مطلق التحوّل فقال (حولين) وكأنّه مأخوذ مما له قوة التّحوّل = (1)
يعمد البقاعيّ إلى تبيان المقصود أوّلا بالآية وما ليس بالمقصود منها ثانيا، فيتبين له أنّ القصد إلى معنى التّحوّل والتّغيّر الذي يطرأ على الوليد بسبب الرضاعة، وهذان العامان هما من أكثر الأعوام التي يظهر فيها على الوليد تغير حاله في جميع مجالاتها الحسية والمعنوية، ولو أنك نظرت حاله عند ميلاده وحاله عند تمام فطامه لرأيت تحولا وتغيرا لا يتأتى لك أن ترى مثله في أي حولين يمران على الوليد من بعد، فهذه المدة هي أحق مدد عمره بمعنى التحول
__________
(1) نظم الدرر: 3/ 330(1/300)
وزيادة على هذا لا يراد الإشارة إلى نعت متعلق بالزمان الذي يقع فيه الإرضاع من سعة نعمة أو ضيقها حتى لا يفهم أن الحكم متعلق بتلك الصفة من سعة أو ضيق
وهذا من كمال حماية المستمع للبيان القرآني أن يفهم من البيان غير ما يراد منه، ومثل هذا عند فقهاء البيان من أصول البلاغة: ألا يؤتى السامع من سوء سوء إفهام الناطق (1)
* * * وجاء البيان بكلمة (حول) في السورة نفسها (ي: 240)
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوََاجِهِمْ مَتََاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرََاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِي مََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 240)
والبقاعيّ في هذه الآية لم يذكر شيئا من عنده، مكتفيا بالنقل عن = الحرالّيّ = مبيّنا وجها من حكمة جعل عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا مستكملة بحول، وأنّ الآية ليس فيها نسخ ووجه الحكمة بجعل فاصلتها {وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2)
* * * وجاء البيان بكلمة = حجة = في آية من سورة القصص:
{قََالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هََاتَيْنِ عَلى ََ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمََانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمََا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شََاءَ اللََّهُ مِنَ الصََّالِحِينَ} (القصص: 27)
يبيّن البقاعيّ وجه التأكيد في (إنّي) ووجه البيان بكلمة (أنكحك) ووجه الإشارة بقوله: (هاتين)، ووجه جعلها ثماني حجج، ثم ينظر في اصطفاء كلمة حجج دون غيرها من الكلمات المقاربة من نحو سنة أو عام أو حول فيقول:
= والتعبير بما هو من الحجّ الذي هو القصد تفاؤلا بأنّها تكون من طيبها بمتابعة أمر الله سبحانه وتعالى وسعة رزقه وإفاضة النعمة ودفع النقمة أهلا لأن تقصد أو يكون فيها الحج في كلّ واحدة منها إلى بيت الله الحرام = (3)
يستحضر = البقاعي = من مادة الكلمة (حجج) معنى القصد الذي هو الأساس القائم في تصرفاتها، وما اكتسبه هذا المعنى من الوضع الشرعي لكلمة (حج) وإغراء بأن يكون هذا مما يجتهد في القصد إليه
__________
(1) البيان والتبيين للجاحظ: 1/ 87ت: هارون
(2) نظم الدرر: 3/ 381378
(3) السابق: 14/ 270269(1/301)
والعناية به وأن يستعر أنّه في هذه الثماني بمنزل الحاجّ الرّاغب عن كلّ شأنه والراغب في ما هو حظ سيده لا يشغله عنه شيء من أمر نفسه أو أمر غير سيده، وأن تكون علاقته بالأشياء من حوله علاقة الحاج بما حوله في الحرم مسالمة لا تتناهى
ويستحضر أيضا ما صحب هذا المعنى الشرعي من مدلولات تتقاذف في النفس من التفاؤل بالنعمة التي تلازمت مع الحج من دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام، وما يكون من نفي الفقر والبلاء.
وهو يشير إلي احتمال أن يكون في هذا اشتراط بحمله إلى الحج كلّ عام من هذه الثماني
كذلك يتبين لك منهاج = البقاعي = في استشعار مدلولات الكلمة المكتسبة من ملابستها مضافة إلى ما هو منسول من جذرها الاشتقاقيّ وأصلها اللغوي الذي نبتت منه.
* * * وينظر البقاعي أيضا في مناسبة اصطفاء كلمة = إبليس = لسياقها وكلمة = الشيطان = لسياقها وكلّ منهما مراد به شيء واحد.
في سورة: = البقرة = جاء البيان بكلمة = إبليس = في سياق الامتناع عن السجود (ي: 34) وفي = الأعراف = (ي: 11) والحجر (ي: 31) والإسراء (ي: 61) وطه (ي: 116)
وفي سياق إغواء آدم وحواء جاء البيان عنه نفسه بكلمة: = الشيطان = جاء في البقرة (ي: 36) و = الأعراف = (ي: 20) وطه (ي: 120)
فهذان اسمان لذات واحدة غير أنّ القرآن الكريم يصطفي كلّ اسم في سياق غير الذي يصطفي فيه الآخر وذلك لتناسب مدلول مادة كل كلمة سياق ورودها
ينقل = البقاعي = عند قوله سبحانه وتعالى:
{وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ أَبى ََ وَاسْتَكْبَرَ وَكََانَ مِنَ الْكََافِرِينَ} (البقرة: 34)
عن = أبي الحسن الحرالّيّ = في هذا قوله:
= إبليس =: = من الإبلاس، وهو انقطاع سبب الرجاء الذي يكون عن اليأس من حيث قطع ذلك السبب = (1)
وينقل عنه في قول الله عزّ وجلّ:
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 256(1/302)
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ عَنْهََا فَأَخْرَجَهُمََا مِمََّا كََانََا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتََاعٌ إِلى ََ حِينٍ} (البقرة: 36)
قوله: «الشيطان: هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد الذي منه سمى الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق فهو من المعنيين مشتق كلفظ = إنسان = و = ملائكة» (1)
لفظ الشيطان مشتق من أصلين أي منحوت منهما وهو مسترض هذا النّهج في النّحت لأنّه يرى فيه جمعا بين مدلولين في لفظ واحد يحصل من اجتماعهما تناسب عال مع السياق والقصد، فيقول:
«ذكر الحق سبحانه وتعالى الإزلال منه أي عدو الله باسم الشيطان لا باسمه لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة التى تقبل التلافي، ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم عليه السّلام بالتوبة» (2)
البيان بكلمة = إبليس = في سياق ترك السجود دال على ما هو آخذ بخناق عدو الله في هذا السياق من اليأس وقطع الرجاء في أن يكون من أهل التفضيل والقرب، فأوحى اصطفاء هذه الكلمة: = إبليس = في هذا السياق بالصورة الجوانية لإبليس عند ما أمر بالسجود عند امتناعه مما أمكر به، وهذا يصور لنا عظيم العذاب الذي أقيم فيه عدو الله بهذا فيعين فقه هذا العبد على أن يعرف الدوافع التى تحمل عدوّ الله على أنّ يقف من أبناء آدم عليه السّلام موقف العداء المستعر، فلا يأمن الإنسان له ولا يطمئن إلى ما يغريه به من فتن الحياة الدنيا.
والبيان بكلمة = الشيطان = في سياق إغواء أبينا آدم عليه السّلام دالّ على ما هو منته إليه جهاده في إغواء أهل الطاعة:
إنّ أثره لمتناه متلاش في سرعة، فكل محاولة منه مع من كان متسما بالفقه لحاله وموقفه إنّما مصيرها الاحتراق، وكلّ محاولة من محاولات الإغراء محترقة بالتوبة النصوح إذا ما ثاب الإنسان إليها، وليس أخسر ممن يحترق جهاده العظيم في الإغواء بكلمة صادقة يقولها المرء يصوّر بها ما يعتلج في صدره من الندم والمخافة.
ويمكنك أن تستثمر مقالة = الحرالّيّ = فترى أن كلمة = إبليس = في دلالتها على = اليأس والتحير تشير إلى أنّ عدوّ الله في أوّل أمره عند ما أمر بالسجود كان حائرا بين قياسات عقله وموازناته بين الطين والنار
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 287
(2) السابق: 1/ 288(1/303)
، ونداءات القلب بالتسليم للأمر الإلهي بالسجود، عاش أولا في حيرة، ثمّ مال إلى صوت العقل وقياسه، فجهر قائلا: = أنا خير منه =، = أأسجد لمن خلقت طينا =، أمّا الملائكة فقد خضعت للتسليم المطلق لمراد الله عزّ وجلّ منها، ولم تقف موقف التحير الذي وقفه = إبليس =، فترتّب على ما مال إليه = عدو الله = أن طرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وأحرق بغضبه تعالى عليه، فكان شيطانا مدحورا محروقا بلعنة الله عزّ وجلّ (1)
ولعله ممّا يقرب هذا أنّ القرآن الكريم لا يطلق كلمة = إبليس = إلا على أول الشياطين وجودا وهو المأمور بالسجود.
ولو أنّ كلمة = إبليس = استخدمت في سياق الإغواء والإغراء لكان في هذا اقناطا عظيما لبنى آدم، ولكن فيض الرحمانية والرحيمية تجلى في اصطفاء كلمة = الشيطان = في هذا السياق.
وهذا من لطائف المعانى الإحسانية للقرآن الكريم التى لا يلتفت إليها إلا أهل الإحسان في فقه بيان القرآن الكريم.
* * * مجمل القول هنا أنّ الكلمة في سياقها لا تستمد مدلولها ووجه دلالته عليه من مادتها الاشتقاقية التى تولدت منها فحسب، بل هي تستمد ذلك من روافد عديدة، منها المادة، والصورة التى تكون عليها، وموقعها الذي تقع فيه، ومنهاج أدائها، بل ومذهب رسمها وكتابتها إلخ
وهذه الروافد لا يتعاند عطاؤها بل يتساند ويتفاعل، وقد يكون بعضها أظهر وأكثر، ولكنّه لا ينفى عطاء الآخر.
ولهذا فإنّه إذا ما كان = البقاعي = قد عنى بما بين مدلول مادة الكلمة وسياقها والمغزى الذي ينصب له الكلام من تناسب وتناسج، فإنّ له عناية أيضا بمدلول صيغة الكلمة وهيئتها وتناسبه مع السياق والمقصد الذي يقام الكلام من أجله، وهو باب وسيع فسيح، من أنّ صيغ الكلمات وهيئاتها في العربية كثيرة بل متكاثرة، واستقصاء ذلك ووعيه فوق ما تطيق النفس، وما يتسع له المقام، مما يقتضي اكتفاء ببعض غير قليل
__________
(1) لعلّ في هذا عبرة لمن رغب في نتاج عقله ورغب عمّا جاء به الوحي كتابا وسنة ورأى بقياساته أنّ استصلاح حاله بما ينتهي إليه تفكيره، تقديما للمصلحة المظنونة أو المتوهمة على ما استنبط من البيان العليّ المعجز قرآنا وسنة، ومنادة بأنّ الشرع نزل لنا فهو لما نراه استصلاحا لحالنا، ولسنا مخلوقين للشرع نقصر على ما جاء وإن رأينا أنّه لا يتواءم مع حالنا في عصرنا ومصرنا، وقد كثر المعتنقون لتلك الفلسفة في زماننا وديارنا، وتنادوا بأنهم زعماء التنوير(1/304)
في تبيان منهاج = البقاعي = في تحقيق وتحرير القول في هذا بما يكشف عن بعض من معالم الإعجاز البيان للقرآن الكريم
* * * يتدبر البقاعي = المضارع = فى أوّل سورة البقرة:
{الم * ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ}
فيقول: ثم وصفهم بمجامع الأعمال تعريفا لهم، فقال: = الذين يؤمنون بالغيب = = ويقيمون الصلاة = = ومما رزقناهم ينفقون = والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقهم على الدوام.
قال = أبو حيان = وغيره فى قوله عزّ وجلّ فى سورة = الحج =: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار. انتهى.
وهذا مما لا محيد عنه، وإلا لم يشمل هذا فى هذه السورة = المدنية = من تخلق به قبل الهجرة، وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيََاءَ اللََّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: من الآية 91) قاطع فى ذلك. = (1)
المضارع فى هذه الأفعال ملحوظ فيه معنى الحصول بعد أن لم يكن، ولذلك يشمل كل من وقع منه الفعل من قبل نزول الآية المدنية، وكل من يقع أو سيقع منه حتى قيام الساعة، ولم يؤت به وصفا، (المؤمنون المقيمون المنفقون) لإرادة الدلالة على التجدد الذى هو من خصائص الأفعال. والسياق سياق إبانة عمن يكون القرآن الكريم نافعا لهم، وهم المتقون صراط المغضوب عليهم وصراط الضالين وهؤلاء المتقون غير مقيد وجودهم بزمان معين فهذه الأفعال واقعة فى كل زمان يكون فيه المتقون، فكان الآنس به أن يأتى المضارع ليدل على ذلك الاستمرار، ولم يأت الماضى حتى لا يتوهم أنّ هذا خاص بمن وقعت منهم تلك الأفعال، أما غيرهم فلا، أو هم من دونهم فى اتقاء صراط المغضوب عليهم وصراط الضّالين ومن دونهم في الهداية بالقرآن الكريم، وذلك ما لا يتناسب مع القصد الذى ترمى إليه الآيات فى مستهل سورة = البقرة =.
* * * أما المضارع فى قول الله سبحانه وتعالى:
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا نُؤْمِنُ بِمََا أُنْزِلَ عَلَيْنََا وَيَكْفُرُونَ بِمََا وَرََاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمََا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيََاءَ اللََّهِ مِنْ قَبْلُ}
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 8382(1/305)
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 91)
فقد جاء على خلاف مقتضى الظاهر، فإن مقتضى الظاهر أن يقال: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل = لأن قوله (من قبل) دال على أن القتل المستنكر وقوعه قد كان من قبل الخطاب.
يتدبّر البقاعىّ هذا قائلا:
«ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم، بقوله مثبتا الجار، لأن ذلك كان منهم فى بعض الأزمان الماضية (من قبل). وفى صيغة = المضارع = تصوير لشناعة هذا القتل بتلك الحال الفظيعة، ورمز إلى أنّهم لو قدروا الآن فعلوا فعلهم، لأن التقدير:
وتصرّون على قتلهم من بعد، وفيه إيماء إلى حرصهم على قتل النبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا تحذيرا مهم» (1)
فالبقاعى يرى فى البيان بالمضارع هنا فى صحبة القرينة الدّالة على وقوع الحدث فى الزمن الماضى دلالة على إرادة تصوير بشاعة ما وقع من أسلافهم، وأنّهم راضون به، غير منكرين له، وأنّهم بهذا كمن يشارك فى إيقاعه، وأنّهم إذا ما حانت لهم فرصة. لا يتوقفون فى انتهازها، فلا يمنعهم منها إلا عجزهم أو خوفهم، وكأنّ فعلهم مع النبى صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا لن يقلّ عن فعل أسلافهم مع أنبيائهم عليهم السلام، ففعل أسلافهم كأنّه قام بعينه وصورته ودرجته فيهم. وفى هذا البيان لحالهم للمسلمين ما لا يخفى على عاقل. غير أنّ المنتسبين إلى الإسلام وراثة من كبار السّاسة والمثقفين ودعاة التنوير وأبناء العهد الجديد ونشطاء السلام لا يرون هذا، فهم عند أنفسهم الأمارة بالسوء أثقب نظرا، وهم أحق بأن تسمع كلمتهم من كلّ ما يستنبط بأليات فهم قديمة من بيان نزل من خمسة عشر قرنا لقوم أقاموا في كبد الصحراء!!!.
* * * وإذا ما كان المضارع (تقتلون) في آية = البقرة = قد جاء فى صحبة قرينة دالة على وقوع القتل فى الزمن الماضى (من قبل) فإن المضارع قد يأتى معطوفا على فعل ماض ثم يعطف عليه ماض كما فى قوله سبحانه وتعالى:
{وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا كَذََلِكَ النُّشُورُ} (فاطر: 9)
__________
(1) نظم الدرر: 2/ 49(1/306)
الآية جاءت في صدر سورة = فاطر = التى = مقصودها: إثبات القدرة الكاملة لله سبحانه وتعالى اللازم منها تمام القدرة على البعث = (1)
وجاءت في سياق تأكيد الله سبحانه وتعالى انّ ما وعد به من البعث والجزاء حقّ، لا مرية فيه، ونهيه عن الوقوع في غرور الدّنيا والشّيطان:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ فَلََا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا وَلََا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ} (فاطر: 5)
جاء الفعل (تثير) المضارع معطوفا على الفعل (أرسل) وكان مقتضى الظاهر أن يقال: الله الذى أرسل الرياح فأثارت سحابا فسقناه.،
أو: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا كما في سورة (الروم): {اللََّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمََاءِ كَيْفَ يَشََاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلََالِهِ فَإِذََا أَصََابَ بِهِ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ إِذََا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الروم: 48)
لكنّ البيان القرآنى هنا عدل عن ذلك فأوقع المضارع معطوفا على ماض (أرسل) ومعطوفا عليه ماض (سقناه) وذلك مرجعه إلى طبيعة الحدث: (الإثارة) وموقعه من القصد الذى ترمى إليه الآية (كذلك النشور) فهذا القصد غير حاضر في آية الروم (ي: 48)، وإن كان فيما بعدها (ي: 50)
يقول البقاعى مجليا وجه البيان بالمضارع:
= ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه لا بدّ من إيجاد ما وعد به من البعث وغيره، وحذر كل التحذير من التهاون بأمره، وأنكر التسوية بين المصدق به والمكذّب، وكان السبب فى الضلال المميت للقلوب الهوى الذى يغشى سماء العقل ويعلوه بسحابه المظلم، فيحول بينه وبين النفوذ، وكان السبب فى السحاب المغطى السماء الأرض المحيى لميت الحبوب الهواء، وكان السبب الإتيان به فى وقت دون آخر دالا على القدرة بالاختيار، قال عاطفا على جملة {إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ} المبنى على النظر، وهو الإخراج من العدم مبينا لقدرته على ما وعد به (والله) (الذى) ولما كان المراد الإيجاد من العدم عبر بالماضى مسندا إليه، لأنّه الفاعل الحقيقى، فقال: (أرسل الرياح) أى أوجدها من العدم مضطربة فيها، أهلية الاضطراب والسير ليصرفها كيف شاء لاثابته كالأرض، وأسكنها ما بين الخافقين لصلاح مكان الأرض.
__________
(1) نظم الدرر: 16/ 10(1/307)
ولما كانت أثارتها تتجدد كلّما أراد أن يسقى أرضا، قال مسندا إلى الرياح لأنّها السبب، معبرا بالمضارع حكاية للحال، لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة.
وهكذا تفعل العرب فيما فيه غرابة للسامع على ذلك، وحثا له على تدبره وتصوره (فتثير) أى بتحريكه لها إذا أراد (سحابا) أى أنه أجرى سبحانه وتعالى سنته أن تظهر حكمته بالتدريج، ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث وكان التعبير بالمضارع يردّ التّعنّت عبر بالمضارع.
ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان التفت عن الغيبة، وجعله فى مظهر العظمة، فقال (فسقناه) أى السحاب، معبرا بالماضى تنبيها على أن كلّ سوق كان بعد إثارتها فى الماضى والمستقبل منه وحده أو بواسطة من إقامة لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم، لا من غيره، ودلّ على أنّه لا فرق بين البعد والقرب بحرف الغاية، فقال (إلى بلد ميّت).
ولما كان السبب فى الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال:
{فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ} ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذى هم به مكذبون قال رافعا للمجاز بكل تقدير وموضحا كل الإيضاح للتصوير: (بعد موتها كذلك النشور) (1)
لاحظ = البقاعيّ = دلالة المضارع على تصوير الحدث، وإقامته بين عينى المخاطب كأنّه يقع، فلا يحجزه عن التبصر فيه والاعتبار إلا حاجز من نفسه
وجاء البيان بالمضارع فى الفعل الذى حدثه فى الكون أدلّ على وقوع البعث الذى السياق له وهو حدث الإثارة (فتثير) وهذه الإثارة مثلها إثارة الموتى من أجداثهم، فمن أثار سحابا ليحيى به أرضا ميتة قادر على إثارة الموتى من قبورهم فى تلك الأرض، فكان المضارع هنا هو القادر على تحقيق القصد، وكان هو الأنس بالسياق، ولم يمنع من إقامته فى مقامه أن سبقه ماض وتبعه ماض، فالتناسق الشكلى العقيم لا يدفع عن العناية بإقامة التناسق الدلالى النبيل الكريم.
ليس المهم إذن أن نقول إنّ المضارع يصوّر الحدث ويستحضره بين ناظرى المخاطب، ولكنّ الأهمّ هو إدراك التناسق بين السياق والقصد والفعل المصطفى ليكون العدول فيه من الماضى إلى المضارع، فليس
__________
(1) نظم الدرر: ج 16/ 1716(1/308)
كل فعل من أفعال الآية بالصّالح لأن يقع فيه ذلك العدول من الماضى إلى المضارع، بل المرجع فى هذا إلى طبيعة حدث هذا الفعل وعلاقته بالسياق والقصد المنصوب له الكلام.
ومن البيّن أنّ بعض البلاغيين يجعل مثل هذا التّصريف البيانيّ القائم على العدول من = الماضي = في (أرسل الرياح) إلى = المضارع = في (فتثير سحابا) من قبيل الالتفات الذي هو من شجاعة العربية، ولا يقصر = الالتفات = على التصرف في أنواع = الضمير = المتحدة المرجع على ما عليه جمهور البلاغيين. وممن يعدّ مثل هذه الآية من = الالتفات = = الضياء بن الأثير = (ت: 637هـ) في = المثل السائر =، وقد فصّل القول في منهاجه في كتابي قراءة في المثل السّائر
* * * ويتدبر = البقاعى = موقع = المضارع = بين اسمى فاعلين فى قول الحق عزّ وجلّ {إِنَّ اللََّهَ فََالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ََ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذََلِكُمُ اللََّهُ فَأَنََّى تُؤْفَكُونَ} (الأنعام: 95)
يشير إلى أن معنى (فالق الحب والنوى) فاطره وشاقه عن الزرع والنبات، وعبّر بذلك، لأنّ الشيء قبل وجوده كان معدوما والعقل يتوهم ويتخيل من العدم ظلمة متصلة، فإذا أخرج من العدم المحض والفناء الصرف، فكانّه بحسب التخيل والتوهم سبق ذلك العدم = (1)
ففلق الحب والنوى إنّما هو ضرب من الإحياء أى إخراج حى من ميت، لأنّ فى النبات نموّا، ومن هنا = فسر الحق عزّ وجلّ معنى الفلق وبينه، إشارة إلى الاعتناء به وقتا بعد وقت، بقوله = يخرج = على سبيل التجديد والاستمرار تثبيتا لأمر البعث (الحي من الميت) ولما انكشف معناه وبان مغزاه بإخراج الأشياء من أضدادها لئلا يتوهم لو كان لا يخرج عن الشيء إلا مثله أن الفاعل الطبيعة والخاصية، عطف على فالق زيادة فى البيان قوله معبرا باسم الفاعل الدال على الثبات، لأنه لا منازعة لهم فيه، فلم تدع الحاجة إلى التعبير بالفعل الدال على التجدد (وخرج الميت من الحى) (2)
المضارع فى: (يخرج الحى) يكشف عن حقيقة قوله: (فالق)، وفى البيان بالمضارع هنا تناسب مع السياق الخاص بالآية، وهو البعث، كما لا يخفى، ومع السياق العام، والمقصود الأعظم لسورة = الأنعام = وهو الإيجاد الأول، والحمد لله عليه، فجمع بين الإيجادين: الأول تصريحا،
__________
(1) نظم الدرر: 7/ 194
(2) السابق: 7/ 198(1/309)
والثانى تلميحا، وفى الوقت نفسه يتناسب البيان بالمضارع فى = يخرج الحى = مع طبيعة حركة وتجدّد وتنوّع الحدث، فلما انكشف بهذا معنى (فالق) عدل إلى اسم الفاعل (مخرج) فعطفه على اسم الفاعل (فالق) والبيان باسم الفاعل فى (مخرج الميت) يتناسب أيضا مع طبيعة المخرج: = الميت = فهو ثابت لا يتحرك، ومنقض لا يتجدد، كما أنّه يتناسب مع حال المخاطبين، فهم ليسوا بحاجة إلى استحضار ذلك الحدث فى عيونهم بالمضارع، لينفذ إلى قلوبهم إن اعتبروا لأنهم لا ينكرونه حتى يأتى البيان بالمضارع معلنا أنّ من قدر على ما ترى أبصاركم يقدر على ما تخبرون به صدقا وحقا ومن ثم كان البيان باسم الفاعل (مخرج الميت) وعطفه على اسم الفاعل نظيرة (فالق) لا على المضارع قبله (يخرج الحى).
* * * ما مضى جاء = المضارع = فى صحبة = اسم فاعل =، وقد يأتى = المضارع = فى صحبة = اسم مفعول = كما فى قول الله سبحانه وتعالى:
{اصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنََا دََاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوََّابٌ * إِنََّا سَخَّرْنَا الْجِبََالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرََاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوََّابٌ * وَشَدَدْنََا مُلْكَهُ وَآتَيْنََاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطََابِ} = (ص: 2017)
جعل تسبيح الجبال فى صورة = المضارع = (يسبحن) وحشر الطير فى صورة اسم المفعول (محشورة) وفى هذا تناسب وتآخ مع السياق والمقصود منه وطبيعة الحدث فى كل وفاعله ومفعوله، يقول البقاعى:
= لما كان وجود التسبيح من الجبال شيئا فشيئا أعجب، لأنهما جماد عبر بالفعل المضارع، فقال مصورا لتلك الحال معبرا بضمير الإناث إشارة إلى أنّها بعد ما لها من الصلابة صارت فى غاية اللين والرخاوة يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه الصوت الآخر، لأنّ ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح كل على انفراده = يسبحن = ولم يقل مسبحة أو تسبح لئلا يظن أن تسبيحها بصوت واحد يشكل الأمر فى بعضها، وهو يمكن أن يكون استئنافا، وأن يكون حالا بمعنى أنّهنّ ينقدن له بالتسبيح قولا وحالا انقياد المختار المطيع له
ولما كان فى سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذى إلف إلى ما ألفه مع أنّه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال: = بالعشىّ = أى تقوية للعامل وتذكيرا للغافل، ولما كان فى سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال: = والإشراق = أى وقت ارتفاع الشمس عند انتشار عند
الناس، وليس الإشراق طلوع الشمس، وانما هو صفاؤها وضوؤها، وشروقها طلوعها(1/310)
ولما كان فى سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذى إلف إلى ما ألفه مع أنّه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال: = بالعشىّ = أى تقوية للعامل وتذكيرا للغافل، ولما كان فى سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال: = والإشراق = أى وقت ارتفاع الشمس عند انتشار عند
الناس، وليس الإشراق طلوع الشمس، وانما هو صفاؤها وضوؤها، وشروقها طلوعها
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له أتبعها أخفها وأكثرها انتقالا، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات، لأنّه أدلّ على القدرة، فقال معبرا باسم الجمع دون الجمع إشارة إلى أنّها فى شدة الاجتماع كأنّها شىء واحد ذكر حالها فى وصف صالح للواحد وجعله مؤنثا إشارة إلى ما تقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصريف الأحكام = والطير = أى سخرناها له حال كونها = محشورة = أى مجموعة إليه كرها من كل جانب دفعة واحدة بما دلّ عليه التعبير بالاسم دون الفعل، وهو أدلّ على القدرة، وهى أشدّ نفرة من قومك وأعسر ضبطا منهم
= كل = أي كل واحد من الجبال والطير = له أوّاب = أي رجّاع لأجل = داود = عليه السلام خاصة عن مألوفه، لا بمعنى آخر مما ألفته، فكلّما رجع هو عن حكمه، وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير
وجعل الخبر مفردا [اي أواب] إشارة إلى أنها في الطواعية في التأديب قد بلغت الغاية حتى كأنّها الشيء الواحد
ولم يجعل مؤنثا إشارة إلى شدة زجلها بالتأديب وعظمته، والإفراد أيضا يفيد الحكم على كلّ فرد، ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجمع بقيد المجموع، فكأنّ داود عليه السّلام يفهم تسبيح الجبال والطير، وينقاد له كلّ منهما إذا أمره بالتسبيح، وكلّ من تحقق بحاله ساعده كلّ شيء قاله القشيري
ففي هذا إشارة إلى النبى صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا بأنّا متى شئنا جعلنا قومك معك فى التسخير هكذا، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم، فإنّا جعلناهم كذلك لتروّض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالا، وعلوا ورفعة وكمالا إلى غير ذلك من الحكم التى لا تسعها العقول. ولا تيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك، فإنهم لا يعدون أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة أو الطير نفرة وطيشا وخفة، فمتى شئنا جعلناهم لك مثل ما جعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون = (1)
__________
(1) نظم الدرر: 16/ 354351(1/311)
السياق الذى تحدّرت فيه هذه الآيات للتدليل على كمال القدرة والهيمنة المطلقة لله سبحانه وتعالى على الأكوان: {كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنََادَوْا وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ} (صّ: 3) إلى آخر الآيات، وفى عطف قوله (اذكر عبدنا داود) على = اصبر = دلالة على أنّ فى قصة = داود = عليه السّلام ما يؤكد طلاقة القدرة والهيمنة، ولذلك اصطفيت هذه القصة فى هذا الموقع من السياق، واصطفيت هذه الأحداث من قصص داود عليه السّلام هنا لما لها من عظيم التناسب والتناسق مع السياق، وهذا من علم التناسب القرآنى بمكان رفيع.
السياق كما قلت للدلالة على كمال القدرة والهيمنة الإلهية المطلقة على الأكوان كلها، والذى يتناسب مع هذا السياق إنما هو إبراز حدث التسبيح من الجبال فى صورة التجديد والحدوث الاستمرارى، ذلك أن صدوره منها مرة واحدة دليل بيّن على القدرة والهيمنة، فكيف حين يكون متجددا مستمرا؟!
أليس ذلك إعلاء للتدليل على كمال القدرة والهيمنة وإعجازها؟
والذى أعطاها ذلك إنّما هو المضارع المسند إلى الجبال المعبر عنها بضمير إناث، ويتناسب أيضا مع السياق إذ يوحى بغاية اللين والخضوع، وهى أجمد جامد وأقسى قاس، كما أبرز = البقاعى = تناسب البيان بالعشى والإشراق وتناسب ما عليه النظم فى تسبحن دون تسبح أو مسبحة.
أما حدث الحشر فإبرازه فى صورة اسم المفعول هو الذى يتجاوب مع السياق أولا، ومع طبيعة الحدث ثانيا وطبيعة الطير ثالثا، فالقدرة على الحشر تكتمل حين يكون الحشر دفعة واحدة
{مََا خَلْقُكُمْ وَلََا بَعْثُكُمْ إِلََّا كَنَفْسٍ وََاحِدَةٍ إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (لقمان: 28) ويعليه إذا ما كان المحشور من شأنه الخفة والنفور كالطير.
وبديع أن كان إبراز الحدث فى صورة اسم مشتق يزيده أن كان اسم مفعول الذى لا يكون فعله إلا مبنيا لما لم يسم فاعله، ليفهم أن فاعل ذلك لن يكون إلا الله عزّ وجلّ، وليفهم أن الطير كأنّها من شدة الهيمنة عليها تسعى بنفسها، فتحشر، ومن ثم أسند الحدث لها، فدلّ هذا على أنّ من قدر على هذا فهو أقدر على حشر من هم أقل نفرة من الطير، وفى هذا تدليل على البعث والحشر العظيم، وسياق البعث فى هذه السّورة سياق عريض وسبيل ملحّب.(1/312)
السياق إذن وطبيعة الحدث وفاعله أو مفعوله هو المستوجب صيغة معينة لكلّ عنصر، وأنّ كلّ عنصر فى البيان خاضع لهيمنة مبدأ موحد وروح واحد هو السياق والمقصود الأعظم.
وقد رأيت البقاعي يتلبث عند كثير من مدلولات هيئة الكلمة القرآنية ويتدبر تناسب وجوه هذه الهيئة مع السياق والقصد، وكأنّه ناظر في هذا إلى مقالة الإمام = عبد القاهر =:
= لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسا ما، وأن تصفها وصفا مجملا، وتقول فيها قولا مرسلا، بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصّل القول وتحصّل، وتضع اليد على الخصائص التى تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا شيئا، وتكون معرفتك معرفة الصّنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج، وكلّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطّع، وكلّ آجرّة من الآجرّ الذي في البناء البديع = (1)
* * * الذي مضى كان نظرا في صيغة الفعل المضارع والماضي المجرد، أو الذي ليس لمجرده استعمال أو غلبة استعمال في معناه، فلم يكن البيان بالمجرد عدولا عن المزيد لأمر منظور في التجرد والزيادة، ولم أغفل النظر فيما صاحب هذين الفعلين من صيغ أفعال وأسماء كان يجمل حسن التدبّر على أن توقى في هذا المقام حقها من تدبّر التناسب، فلا يكون هذا من قبيل الخلط البغيض، فإنّ التبصر فيه إنّما كان غير مسوق إليه سوقا رئيسا بل هو من مستتبعات النظر.
وبنا حاجة إلى أن تكون لنا من بعد هذا محاولة لتدبر البيان بالفعل المضارع والماضي المزيد المنظور إلى صيغة الزيادة فيه وتناسب مدلولها مع السياق والقصد المسوق له الكلام
يتوقف = البقاعي = متدبرا البيان القرآني الكريم بصيغة الفعل المجرد (فعل) في باب الصالحات، وبصيغة الفعل (افتعل) في باب السيئات في قول الله سبحانه وتعالى: (البقرة: من الآية 286)
{لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ}
يقول البقاعي: = لها = أي خاصا بها = ما كسبت = وذكر الفعل مجردا في الخير إيماء إلى أنّه يكفي في الاعتداد به مجرد وقوعه، ولو مع الكسل بل ومجرد نيته.
__________
(1) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني:(1/313)
قال = الحرالّيّ =: وصيغة = فعل = مجردة تعبر عن أدنى الكسب، فلذلك من همّ بحسنة، فلم يعملها كتبت له حسنة. انتهى
= وعليها = أي بخصوصها = ما اكسبت = فشرط في الشّرّ صيغة الافتعال الدّالة على الاعتمال إشارة إلى أنّ من طبع النفس الميل إلى الهوى بكليتها، وإلى أنّ الإثم لا يكتب إلا مع التصميم والعزم القوي الذي إن كان عنه عمل ظاهر كان بجد ونشاط ورغبة وانبساط، فلذلك من هم بسيئة، فلم يعملها لم تكتب عليه. وربّما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام = (1)
* * * ويقول في قول الله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ جََاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لََا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلََّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (النور: 11)
= وصيغة الافتعال من = كسب = تستعمل في الذّنب إشارة إلى أنّ الاثم يرتب على ما حصل فيه تصميم وعزم قويّ صدقه العمل بما فيه من الجد والنشاط
وتجرد في = الخير = إشارة إلى أنّ الثواب يكتب بمجرد فعل الخير بل ونيته = (2)
ويبقى النظر في قول البقاعي: = وربما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام = وهو قول عليّ:
لم يأت الجمع بين = كسب = و = اكتسب = في غير هذه الآية الكريمة، والذي هو غالب اتيان الفعل المجرد: = كسب = مفردا مرادا به الخير حينا ومرادا به الشرّ حينا آخر.
مادة: = ك س ب = جاءت سبعا وستين مرة، كان للفعل المجرد منها = ثنتين وستين = مرة، وكان للفعل المزيد = اكتسب = خمس = مرات
الفعل المجرد جاء حديثا عما هو سيئة في مواضع منها قوله عزّ وجلّ:
{بَلى ََ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (البقرة: 81)
{لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ وَلََكِنْ يُؤََاخِذُكُمْ بِمََا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللََّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (البقرة: 225)
__________
(1) نظم الدرر: 4/ 177
(2) السابق: 13/ 223(1/314)
{ظَهَرَ الْفَسََادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمََا كَسَبَتْ أَيْدِي النََّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41)
وغير ذلك كثير، وهو صريح في البيان عن اتيان السوء بالفعل المجرد = كسب =
وجاء الفعل = اكتسب = مفردا مع السوء، كما في قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ جََاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لََا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلََّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (النور: 11)
أما قول الله جلّ جلاله في سورة النساء (ي: 32)
{وَلََا تَتَمَنَّوْا مََا فَضَّلَ اللََّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى ََ بَعْضٍ لِلرِّجََالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسََاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللََّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللََّهَ كََانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}
فليس الفعل المزيد هنا متمحضا للخير أو الشر، بل هو جامع لهما.
والبقاعي لم يبين وجه مناسبة البيان بصيغة = افتعل = للسياق والقصد في سورة = النساء = ولكنه اكتفى بقوله:
= ولمّا نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل، وهما من أعمال الجوارح ليصير الظاهر طاهرا عن المعاصي الوخيمة، نهى عن التمنى الذي هو مقدمة الأكل ليكون نهيا عن الأكل بطرق الأولى
والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال: {وَلََا تَتَمَنَّوْا مََا فَضَّلَ اللََّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى ََ بَعْضٍ} أي في الإرث وغيره من جميع الفضائل النفسية المتعلقة بالقوة النظرية كالذكاء أو بالقوة العملية كالعفة أو الفضائل البدنية كالصحة أو الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء
ولما نهى سبحانه وتعالى عن ذلك علّله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب فقال مشيرا إلى أنّه لا ينال أحد جميع ما يؤمل (للرجال نصيب) أي قد فرغ من تقديره، فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص، وبيّن سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل، كما أشار إليه الحديث فقال:
(مما اكتسبوا) أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح = (1)
اكتفى كما ترى ببيان دلالة هذه الصيغة على التكلف والاعتمال، من غير أن يبيّن لنا وجه مناسبتها للسياق والقصد المنصوب له الكلام
__________
(1) نظم الدرر: 5/ 262(1/315)
* * * ويبصر = البقاعي = في صيغة = افتعل = داخلا عليها النهي ما لا يبصره في غيرها، كما في قوله تعالى في سورة (المائدة: 51):
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصََارى ََ أَوْلِيََاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ}
جاءت هذه الآية الكريمة في سياق التنفير من التلبس بشيء من الولاء لمن كان على غير ما يرضي الحق عزّ وجلّ، وقد بالغت الآيات السابقة عليها في ذلك التنفير الذي تنخلع منه قلوب الفاقهين فرقا من التلبس بشيء منه، وإن كان أهل الضلالة ممن على أبصارهم غشاوة يؤذّنون فينا صباح مساء بفرية التآخي الإنساني على اختلاف العقائد، واختصاص عبدة العجل وأهل الصليب بمزيد من الاعتناء بذلك التآخى وهم لا يحملون في ظلمات صدورهم إلا البغض والحنق والحقد على كل مسلم
يقول البقاعي: = ولما بيّن عنادهم وأنّ عداوتهم لأهل هذا الدين التى حملتهم على هذا الأمر العظيم ليس بعدها عداوة، نهى من اتّسم بالإيمان عن موالاتهم لأنّه لا يفعلها بعد هذا البيان مؤمن ولا عاقل، فقال {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي أقروا بالإيمان، ولمّا كان الإنسان لا يوالي غير قومه إلا باجتهاد في مقدمات يعملها وأشياء يتحبب بها إلى أولئك الذين يريد أن يواليهم، أشار إلى ذلك بصيغة = الافتعال =، فقال: {لََا تَتَّخِذُوا} أي أنّ ذلك لو كان يتأتى بسهولة لما كان ينبغي لكم أن تفعلوه، فكيف وهو لا يكون إلا ببذل الجهد {الْيَهُودَ وَالنَّصََارى ََ أَوْلِيََاءَ} أي أقرباء تفعلون معهم ما يفعل القريب مع قريبه، وترجون منهم مثل ذلك، وهم أكثر الناس استخفافا بكم وازدراء لكم = (1)
البقاعي ناظر هنا إلى جبلّة الإنسان السّويّ، وأنّه مفطور على أن يمنح ولاءه لمن كان من قومه القائمين لنصرته ظالما أو مظلوما وأنّ ذلك حين يأتى منه إبلاء غيرهم فإنّه لا يكون منطلقا من معدن فطرته وجبلته، بل هو المتكلف المتعمل لذلك والحامل نفسه على أن تأتي ما ليس لها به أن تقاربه من غير دربة وممارسة، إنّه حين يفعل تلك الموالاة لمن يناصب قومه العداء إنّما يصمّ أذنيه ويوصد أبواب قلبه أمام نداء الفطرة ونداء الوحي الكريم، فيتجاوز بصنيعه هذا حواجز عديدة، وهذا ما توحي به صيغة الافتعال التى جاء فيها الفعل المنهي عنه مما أعطى النهى قوة ووكادة، وزاده فيما أراه ما في مادة
__________
(1) نظم الدرر: 6/ 186(1/316)
الفعل من إشارة إلى القوة في إيقاع الموالاة، فإن مادة = أخذ = آتية للدلالة على قوة الفعل وأن صاحبه إنما يجتهد في إيقاعه أو أنّ أثره جدّ عظيم بليغ، وهذا ما أنت مدركه في أفعال هذه المادة في البيان القرآني الكريم، فتآذر مدلول الصيغة والمادة على عظيم تصوير النهي في هذه الآية.
ويقف عند آية من بعدها تؤكّد ذلك المعنى القائم في ذلك النهي الجليل، يقول الحق عزّ وجلّ في سورة (المائدة: 57)
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفََّارَ أَوْلِيََاءَ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
فهذا من تصريف معانى البيان القرآني الكريم ترسيخا للمعنى الرئيس في القلوب وتوجيها إلى معانى أخرى جديرة بالملاحظة.
يقول البقاعي: = ولمّا نبه سبحانه وتعالى على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه وتعالى أنتج ذلك قطعا قوله منبها على علل أخرى موجها للبراءة منهم {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي أقروا بالإيمان، ونبه بصيغة الافتعال على أنّ من يواليهم يجاهد عقله على ذلك اتباعا لهواه، فقال {لََا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا} أي بغاية الجدّ والاجتهاد منهم = دينكم هزوا ولعبا = (1)
ففي الآية السابقة كان فيها المناداة بقوله = بعضهم أولياء بعض = وكأنّ فيه إغراء الذين آمنوا ألّا يكونوا دونهم في هذا فلا بدّ أن يكون الذين آمنوا بعضهم أولياء بعض لا أولياء غيرهم، ولهذا أردف هذا الإغراء بالترهيب والتنفير بقوله {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وهذه لا يطيقها من في قلبه ذرة من إيمان، لأن فيها إعلانا بانتفائه من جماعة الذين آمنوا وارتكاسه في هاوية اليهود والنصارى
وفي النهي الثاني جاء قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} إحماء لهم وحملا على أن يتخذوا موقف الغيرة والأنفة من أن تكون لهم مودّة مع من يقف من الإسلام موقف الهزء واللعب، فلو أنّك طلبت ذلك ممن فيه ذرة من عقل من المنتسبين إلى الإسلام أن يرتضى بصداقة من يستهزئ بالإسلام لاعتصم وأبي أن يكون منه ذلك، فكم من موغل في عصيانه لا يرضي بأن يمسّ مشرك دينه بهزء، وإن كان هو الغارق في الخروج على هديه وشريعته، فتعريف المفعول به باسم الموصول:
__________
(1) نظم الدرر: 6/ 194(1/317)
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} فيه من الإبلاغ في التنفير من الفعل المنهى عنه ما فيه.
* * * من الصيغ التى كثر مجيء الفعل عليها في البيان القرآنيّ الكريم صيغة (تفعّل) بتضعيف العين و (تفاعل)، فيلتفت البقاعي إلى استبصار تناسب كلّ مع السياق الذي تقوم فيه والقصد الذي يساق البيان بعبارتها إليه
يتدبر قول الله: {عَبَسَ وَتَوَلََّى * أَنْ جََاءَهُ الْأَعْمى ََ}
فيرى في هذا البيان بالفعل (تولّى) بصيغته تلك إبلاغا في التكريم والملاطفة لسيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، فيقول:
= آذن بمدحه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا بأنّ ذلك [أي العبوس والتولي] خلاف ما طبعه عليه من رحمة المساكين ومحبتهم والسرور بقربهم وصحبتهم بقوله (وتولّى) أي كلف نفسه الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم، فيتأيّد بهم الإسلام، ويسلم بإسلامهم أتباعهم، فتعلو كلمة الله لأجل (أن جاءه الأعمى) = (1)
أبان = البقاعي = مدلول صيغة (تولى)، وأنّه وإن يكن في (عبس) ما يوحي ظاهره بمخالفة الأولى، فإن في صيغة (تولى) إيذانا بالمدح الكاشف عمّا جبل عليه رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، فإنّ في الاقتران بين الفعلين وكلّ منهما بصيغة دالّ على المقام العليّ الذي كان عليه النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، فهذا التولى لم يك منه على منهاج فطرته بل كان الحامل نفسه على أن تفعل ذلك حرصا على ما فيه صالح الإسلام أولا وصالح = ابن أم مكتوم = ثانيا، ثم صالح أولئك الصناديد ثالثا
ومما يزيد المعنى انكشافا ما جاء من البيان عن فعل التصدي لهؤلاء الصناديد بقوله: {أَمََّا مَنِ اسْتَغْنى ََ * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدََّى}
يقول: = ولما ذكر العبوس والتولي عنه، فأفهما ضدهما لمن كان مقبلا عليهم، بيّن ذلك، فقال: {أَمََّا مَنِ اسْتَغْنى ََ} أي طلب الغنى وهو المال والثروة، فوجده، وإن لم يخش، ولم يجيء إليك {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدََّى} أي
__________
(1) نظم الدرر: 21/ 251250(1/318)
تتعرض بالإقبال عليه والاجتهاد في وعظه رجاء إسلامه وإسلام اتباعه بإسلامه
وأشار بحذف = تاء = التفعل في قراءة الجماعة وإدغامها في قراءة = نافع = و = ابن كثير = إلى أنّ ذلك كان على وجه خفيف، كما هي عادة العقلاء = (1)
هذا الاصطفاء لمادة الفعل، ثمّ لصيغته، ثمّ لأدائها على وجهين:
الحذف والإدغام فيه من الإشارة إلى عظيم التكريم للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا والمدح له بالحرص البليغ على الدعوة وشأنها والنصح لقومه ومحبته الخير للناس كافة وإن كانوا ممن اجتهد في إيذائه، وكل هذا يتناسب مع السياق العام للسورة القائم بمعانى التكريم والمدح العظيم، فهو مدح في صورة معاتبة
وهذا من البقاعيّ إبلاغ في تحليل وتأويل عناصر البيان القرآني على نحو يجعل من منهاجه جديرا بأن يكون نبراسا يهتدى به في مذاهب التحليل البيانيّ لضروب الإبداع الأدبيّ شعرا ونثرا ومن قبله البيان العليّ المعجز قرآنا وسنة
ويتصدى لصيغة الفعل (تزكى) وتناسبها مع السياق قائلا:
= ولما كان فعله ذلك فعل من يخشى أن يكون عليه في بقائهم على كفرهم ملامة، بيّن له أنّه سالم من ذلك، فقال: {وَمََا عَلَيْكَ أَلََّا يَزَّكََّى} أصلا ورأسا ولو أدنى تزكّ بما أشار إليه الإدغام إن عليك إلا البلاغ
ويجوز أن يكون استفهاما أي: وأيّ شيء يكون عليك في عدم تزكّيه، وفيه إشارة إلى أنه يجب الاجتهاد في تزكية التابع الذي عرف منه القبول = (2)
في صيغة (تزكّى: تفعّل) إشارة إلى أن هذا التزكي لن يكون من ذلك المتصدي له النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، مما يهيّئوه لأن يدع الإبلاغ في التصدي له فيحمل نفسه فوق ما هي مكلفة به
__________
(1) السابق: 21/ 252
(2) نظم الدرر: 21/ 255(1/319)
وقد كان البقاعي مبصرا وجه الاستفهام في هذه الجملة وتناغيه أيضا مع دلالة النفي على هذا الإشفاق على النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
ويقف = البقاعي = عند البيان بالفعل (تلهى: تفعل) وما بين مدلول مادته وصيغته وما اعتراها من حذف والسياق والقصد الأعظم من السورة من التناسب البياني البديع، فيقول:
= ولمّا ذكر المستغنى ذكر مقابله، فقال: {وَأَمََّا مَنْ جََاءَكَ يَسْعى ََ * وَهُوَ يَخْشى ََ * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهََّى} أي خاصّة في ذلك المجلس لكونه في الحاصل (تلهى) أي تتشاغل لأجل أولئك الأشراف تشاغلا خفيفا بما أشار إليه حذف = التاء =
من لهى عنه كرضي: إذا سلي وغفل وترك
وفي التعبير بذلك إشارة إلى أن الاشتغال بأولئك لا فائدة فيه على ما تفهمه تصاريف المادة، وإلى أن من يقصد الانسان ويتخطى رقاب الناس إليه له عليك حق عظيم = (1)
حذف = التاء = من صيغة = التفعل = في الفعل (تلهى) فلم يقل (تتلهى) وتقديم الجار والمجرور (عنه) دالان دلالة باهرة على أنّه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ما كان منه إلا مع ذلك المعاتب في شأنه، وأنه ما كان ليفعل لولا حرصه على ما فيه الصالح الأعلى بمقاديره البشرية، فحذف = التاء = آية على أنّ هذا الفعل غير متمكّن فيه ولا مستهتر في إيقاعه
وبديع أن كان الحذف لحرف معنى له الصدارة في صيغته، فهذا موح بفقد الفعل الخاصة الدلالية لهذه الصيغة فكان فيه فارق بين تلهى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا وتلهى غيره
وكانت التفاته إلى وجه اصطفاء مادة (لهى) دون (شغل) وأنه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ما باشر بذلك شيئا من اللهو الذي اعتاده الآخرون، بل هو قائم بما فيه صالح الدعوة، ولكنّ القرآن الكريم صور هذه العناية بدعوة أولئك الصناديد بصورة اللهو نظرا إلى عقباها ل انظرا إلى حال فاعلها، وهذا فيه عظيم مذمّة وهجو بليغ لأولئك الصناديد، ومآذنة بأنّ كلّ مجاهدة مع أمثالهم في دعوتهم إلى الإسلام لن تؤتي ثمارها وأنّ عقباها عقبى التلهي، فإذا ما لامست تلك الكلمة سمع النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم
__________
(1) نظم الدرر: 21/ 256255(1/320)
تسليما كثيرا استراح قلبه من مخافة أن يكون منه ما يلحقه من معاتبة في التخلى شيئا ما في المجاهدة في دعوته، ولأن يعاتب المرء في إبلاغه في الاجتهاد وتحميل النفس فوق ما هي مأمورة به أكرم من أن يعاتب في التقصير، وما جاء عتاب القرآن الكريم للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم في شيء إلا ما كان من باب الإبلاغ في الاجتهاد في الدعوة والإبلاغ رحمة رأفة: {[لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ]} (التوبة: 128)
* * * للتذكير والتأنيث في العربية أصول تقتضي وجوبه أو امتناعه أو جوازه، والدرس البلاغي لا يعنى بما كان واجبا أو ممتنعا منهما بل يرمي إلى ما كان فيه الاختيار، ليتأتى للمتذوق استبصار بلاغة الوجه المصطفى، فعلم البلاغة هو علم فلسفة وتأويل وجوه الاختيار بين البدائل المتاحة في البيان عن المعانى، لأنّه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا وحتى تجد إلى التخير سبيلا
وبعض أهل العم بالبيان يجعل النظر في التذكير والتأنيث من أبواب شجاعة العربية وضربا من ضروب الالتفات على نحو ما هو متعالم لناشئة طلاب العلم عند ابن جنى ومن بعده ابن الأثير في المثل السائر، فإذا ما كان المتأخرون من بلاغيي مدرسة المفتاح لا يعنون كثيرا بهذا فليس ذلك آية على إغفال البلاغيين للتذكير والتأنيث.
والتذكير والتأنيث المتخيّر في البيان القرآني ظاهر لكلّ تال ينادي عليه بتدبّره فإنّ من تحته كنوز لطائف المعانى.
ترى ذلك في قول الله:
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذََابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النََّارِ} (الزمر: 19)
جاء الفعل (حق) مذكرا على الرغم من إسناده إلى قوله (كلمة) وهو مؤنث غير حقيقي يجوز عربية فيه الأمران والغالب في لسان العامة تأنيث الفعل المسند إليه، فعدل في الآية عن ذلك الكثير الغالب لأمر يتناسب مع السياق والقصد ذلك لأنّه = لما خصّ البشارة بالمحسنين [من أول قوله: للذين أحسنوا أولئك هم أولو الألباب (ي: 1810)] علم أنّ غيرهم قد حكم بشقاوته، وكان صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا لما جبل عليه من عظيم الرحمة ومزيد الشفقة جديرا بالأسف على من أعرض
{فَلَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى ََ آثََارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهََذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}
(الكهف: 6) و {لَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ أَلََّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 3)(1/321)
{فَلَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى ََ آثََارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهََذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}
(الكهف: 6) و {لَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ أَلََّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 3)
{فَلََا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرََاتٍ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ بِمََا يَصْنَعُونَ} (فاطر: 8) سبب عنه أسفه: (أفمن حقّ)
وأسقط (تاء) التأنيث الدالة على اللين تأكيدا للنهي عن الأسف عليهم (عليه كلمة العذاب) بإبائه وتوليه، فكان لذلك منغمسا في النار التي أبرمنا القضاء بأنها جزاء الفجار لا يمكن إنقاذه منها (1)
يشير إلى أثر دلالة التأنيث في تصوير عدم استحقاقهم الأسف عليهم، وهم الذين حق عليهم العذاب، بل كانوا فيه، هذا التصوير يتناسب مع دلالة الاستفهام في (أفمن) و (أفأنت) وتقديم الضمير (أنت) على المسند الفعلى، وتصويرهم بأنّهم في النار على الرغم من أنّهم أحياء (وإن كانوا فيما أذهب إليه في نار معنوية تأكل آدميتهم وعلاقتهم بربهم) كل ذلك لتأكيد نهيه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا عن الأسف عليهم، ذلك الأسف الصادر من قلب النبي الرءوف الرحيم صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، فكان حتما إخراج جميع عناصر البيان في صورة بالغة التأثير، لتتناسب مع عظيم الأسف عليهم من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، وفي هذا مزيد مدح له بالرأفة لأمته حتى لمن عاند منهم.
* * * وجاء بالبيان بالفعل مذكرا والفاعل جمع مؤنث، والغالب تأنيث الفعل مع هذا الفاعل، وذلك في قول الله:
{وَلََا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْبَيِّنََاتُ وَأُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105)
جاءت الآية في سياق هداية الأمة إلى الاعتصام بكتاب الله والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتحقق لهم الفلاح.
وأكد هذا بالنهي عمّا يضادّ ما أمرهم به فقال: [ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا]
ويبين لنا البقاعي تناسب تذكير الفعل (جاء) مع السياق وما تحمل الآيات إليه الأمّة من حسن العاقبة:
= ولمّا أمرهم بذلك أكده بالنهي عمّا يضاده معرّضا بمن نزلت هذه الآيات فيهم من أهل الكتاب مبكّتا لهم بضلالهم واختلافهم في دينهم على
__________
(1) ينظر نظم الدرر: 16/ 481480(1/322)
أنبيائهم، فقال [ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا] بما ابتدعوا في أصول دينهم، وبما ارتكبوه من المعاصي
ولمّا كان التّفرّق ربّما كان بالأبدان فقط مع الاتّفاق في الآراء بيّن أنّ الأمر ليس كذلك، فقال: [واختلفوا] بما أثمر لهم الحقد الحامل على الاتّصاف بحالة من يظنّ أنّهم جميع، وقلوبهم شتّى.
ولمّا ذمّهم بالاختلاف الّذي دلّ العقل على ذمّه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النّقل، فقال: [من بعد ما جاءهم] وعظّمه بإعرائه عن التأنيث [البيّنات] = (1)
في تذكير الفعل (جاء) عظيم إبلاغ في تصوير أهل الكتاب بأنّهم لا يصلحون أن يقتدي بفعالهم وآرائهم من في قلبه ذرة من عقل وفقه، فإنّهم قد خالفوا صريح العقل وصحيح النّقل فلم يكن إتيان البيان إليهم إلا إتيانا قويا واضحا لا يغيم على ذي عين، وبرغم من هذا فإنّهم اختلفوا وتفرقوا، فكيف لمسلم أن يتّخذ من هؤلاء في أمر من أمور دينه قدوة، ويدع ما في هذي الكتاب والسنة.
إنّ استجلاب أنظمة الحكم والحياة الاقتصاديّة والاجتماعية من خارج ديارنا لهو بما دلّ عليه تذكير الفعل = جاء = من أشدّ الأمور ضلالة وبعدا عن هدي الله بعدا قد يؤذّن بما هو مكنون في صدور أولئك المستجلبين تلك الأنظمة من نفرة عن هدي الكتاب والسنة، وأمثال هؤلاء من بعد توضيح الأمر لهم بما يدع مجالا لتوقف أحقّ بأن ينفوا عن منازل الولاية والسلطان.
* * * هذا الذي تدبره البقاعي واستبصره هو الأليق بالفقه البياني للآيات الذكر الحكيم وهو في مثل هذا يعلو على كثير من السابقين، وممن جاء من بعده مجمل القول في هذا أن للتذكير والتأنيث في القرآن الكريم من فيض لطائف المعاني ما يلفت البصائر إلى العناية بتدبره، وأنّ عدّ العلماء له من أبواب شجاعة العربية لمن فقههم ما يتضمنه من بديع البيان.
* * * ومما هو وثيق النسب بشجاعة العربية في الذكر الحكيم إفراد ما يشير ظاهر الحال إلى جمعه أو جمع ما يشير ظاهر الحال إلى إفراده وذلك من
__________
(1) نظم الدرر: ج 5ص 20(1/323)
تخريج البيان على غير ظاهر الحال تناسقا مع السياق ولقصد المنصوب له الكلام.
ومن البين أن الجمع هو ما قابل الإفراد فيدخل فيه التثنية لأن في التثنية جمعا بين شيئين، وهدي النبوة أن الاثنين جماعة، وما نرتضيه صلاة نرتضيه بيانا.
من ذلك قول الله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ كُلَّمََا رُزِقُوا مِنْهََا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قََالُوا هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهََا خََالِدُونَ]} (البقرة: 25)
جاء وصف الجمع (أزواج) مفردا (مطهرة) ومقتضى الظاهر أن يقال (مطهرات) ولكنّ البيان عدل عنه إلى الإفراد إشارة إلى أنهنّ وإن تعددن في الجنة لعلى نهج سواء في الطهر، ودفعا لمظنة أنّهن في تعددهن متلبسات بما يتلبس به أزواج الدنيا حين يتعددن لزوج من رديء الأخلاق، فدلّ على أنهن في تعددهن على قلب زوج واحدة لا نقص ولا تباين، وتلك غاية المتعة، وكأنّه نزع من تعدد الأزواج في الجنة من المفسدة مثل ما نزع من الخمر في الجنة.
يقول البقاعي: = لمّا ذكر السكن الذي هو محل اللذة وأتبعه المطعم المقصود بالذات، وكانت لذة الدار لا تكتمل إلا بأنس الجار لا سيما المستمتع به قال (ولهم فيها) أي مع ذلك (أزواج)
ولما كنّ على خلق واحد لا نقص فيه أشار إليه بتوحيد الصفة، وأكد ذلك بالتعبير بالتفعيل إعلاما بأنّه عمل فيه عمل ما يبالغ فيه بحيث لا مطمع في الزيادة فقال (مطهرة) = (1)
مذهب البقاعي في إفراد (مطهرة) أعلى من مذهب القائلين بأنّ الإفراد والجمع هنا لغتان فصيحتان (2) فهذا لا يغني في الفقه البياني لما اصطفاه القرآن الكريم وأعلى من الذهاب إلى أنّ الإفراد أخفّ من الجمع، فإذا اجتمعا تفادوا الثقل بالالتفات إلى الإفراد (3) فمثل هذا ينقده قوله
__________
(1) نظم الدرر: 1/ 196
(2) السابق: الكشاف: 1/ 262، انوار التنزيل للبيضاوي وحاشية الشهاب الخفاجي: 2/ 45
(3) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور: 1/ 357(1/324)
تعالى: {(آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ)} {(الْمُحْصَنََاتِ الْمُؤْمِنََاتِ)} {(فَتَيََاتِكُمُ الْمُؤْمِنََاتِ)} وكان يصح عربية القول (الآيات البينة والمحصنات المؤمنة والفتيات المؤمنة)
* * * ويأتي إفراد (الدار) في قول الله:
{[فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ]} (لأعراف:، 9178)
وجمعها (ديار) في قوله: (هود: 67)
{[وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ]}
وقوله: {[وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ]} (ي: 94)
يقول البقاعي: = لعل توحيد الدار هنا أي في الأعراف مع الرجفة في قصة صالح وشعيب عليهما السلام في قوله (فأصبحوا في دارهم) أي مساكنهم، وجمعها في القصتين في سورة هود للإشارة إلى عظم الزلزلة والصيحة في الموضعين، وذلك لأنّ الزلزلة إذا كانت في شيء واحد كانت أمكن فتكون في المقصود من النكال أعظم، والصيحة من شأنها الانتشار فإذا عمّت الأماكن المتنائية والديار المتباعدة فأهلكت أهلها ومزقت جماعتها وفرّقت شملها كانت من القوة المفرطة والشدّة البالغة من حيث تنزعج من تأمّل وصفها النفوس وتجب له القلوب.
وحاصله أنه حيث عبر بالرجفة وحدّ الدّار إشارة إلى شدة العذاب بعظم الاضطراب، وحيث عبّر بالصيحة جمع إيماء إلى عموم الموت بشدة الصوت ولا مخالفة لأنّ عذابهم كان بكلّ منهما، ولعلّ إحداهما كانت سببا للأخري، ولعلّ المراد بالرجفة اضطراب القلوب اضطرابا قطعها أو أنّ الدار رجفت، فرجفت القلوب، وهو أقرب.
وخصت = الأعراف = بما ذكر فيها لأنّ مقصودها إنذار المعرضين، والرجفة أعظم فزعا لعدم الإلف لها (1)
ويقول في سورة هود: = تقدم سر التعبير بالديار مع الصيحة والدار مع الرجفة في = الأعراف = وخصت = هود = بما ذكر فيها لأنّ مقصودها أعظم نظرا إلى التفصيل، وكل من الديار والصيحة أقرب إلى ذلك = (2)
ينظر البقاعي في تأويله وتدبره إلى علاقة الأثر بالمؤثر فيه (المكان) وبمقصود السورة: في الأعراف الأثر الزلزلة، وهي حين
__________
(1) نظم الدرر: 7/ 451450
(2) السابق: 9/ 326(1/325)
تكون في مكان متقارب (دار) تكون أعظم وأنكى أثرا وهذا يتناسب مع السورة المعقودة للإنذار، وقد صرح به في مستهلها
والصيحة أثر من طبيعته الانتشار والانتشار مظنة الإضعاف، فإذا ما انتشرت ومع ذلك أهلكت دلّ هذا على عظيم قوتها، فكان الجمع (ديار) أدلّ على قوتها، وهذا الانتشار الدّالّ على عظيم الأثر أنسب بمقصود سورة = هود = وهو التفصيل المصرح به في مستهلها.
تبين لك أنّ ما ذهب إليه = البقاعي = من تبيان التناسب بين إفراد (الدار) والبيان بالرّجفة مع السياق في سورة = الأعراف = ومقصودها:
وتبيان التناسب بين جمع (الدار) والبيان بالصيحة مع السياق في سورة (هود) ومقصودها.
وأنت لا تكاد تجد هذا عند كثير من سابقيه وأخشى أن أقول من لاحقيه مما يؤكّد ما ذهب إليه من أنّه = لأجل اختلاف مقاصد السور تتعير نظوم القصص، وألفاظها بحسب الأسلوب المفيد للدلالة على ذلك المقصود = (1)
و= أنّ كلّ سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى ادعى في تلك السورة استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سيقت له في السورة السابقة، ومن هاهنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم والإيجاز والتطويل مع أنها لا يخالف شيء منها أصل المعنى الذي تكونت به القصة = (2)
* * * ويأتي جمع القلة في قول الله:
{إِنَّ إِبْرََاهِيمَ كََانَ أُمَّةً قََانِتاً لِلََّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شََاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبََاهُ وَهَدََاهُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل: 121120)
فيتدبر البقاعي وجه تناسب جمع النعمة على (أنعم) على الرغم من أنّ نعم الله على أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم جدّ كثيرة لا تحصى قائلا: = = لمّا دعاهم إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه، وإن عظم جرمه إجابة لدعوة أبيهم (إبراهيم) في قوله سبحانه وتعالى {[فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصََانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]} (إبراهيم: من الآية 36)
__________
(1) مصاعد النظر للبقاعي: 1/ 152
(2) نظم الدرر: 1/ 14(1/326)
أتبع ذلك ذكره ترغيبا في اتباعه في التوحيد والميل مع الأمر والنهي إقداما وإحجاما إن كانوا ممن يتبع الحق أو يقلد الآباء، فقال على سبيل التعليل لما قبله [إنّ إبراهيم كان أمّة قانتا لله حنيفا]
ولما كان السياق لإثبات الكمال لإبراهيم علي ولم يك من المشركين شاكرا) ولما كان لله عزّ وجلّ على من جعله أمة من النعم ما لا يحصى بيّن أنّ ذلك كلّه قليل في جنب فضله، فقال: مشيرا إلى ذلك بجمع القلة، وإلى أنّ الشاكر على القليل يشكر إذا أتاه الكثير من باب أولى (لأنعمه) (1)
سياق الآية كما يشير البقاعي لحث الكافرين على أن يكونوا صادقين في تصحيح ما ادعوه من اتخاذ قاعدة عامة يلتزمون بها في حياتهم: اتباعهم نهج الآباء برا وطاعة لهم، فبين القرآن الكريم لهم أنّ أحق الآباء بالاتباع هو أبو العرب أجمعين وأعلاهم: إبراهيم، وهو لم يك من المشركين على أي وجه من وجوه الشرك بما أشار إليه حذف (النون) من المضارع (يك)، فما بالهم قد عقوه وخالفوه بشركهم وإعراضهم عن شرعته ومنهاجه إلى شرعة ومنهاج من هو أدنى منه وأنزل، فاقتضي المقام الإبلاغ في إعلاء شأن إبراهيم أبيهم عليه السّلام لعلّهم يقتدوا به في توحيده وشكره لله جلّ جلاله، فهو شاكر للقيل من النعم فكيف به شاكرا للكثير؟ إنّ ذلك لجدّ عظيم كما تقضي به دلالة مفهوم الموافقة التى هي سبيل من سبل الإبانة في لسانهم العربي المبين ففي الإبانة بكونه شاكرا لأنعمه عن أنه شكّار لنعمه سلوك لطريق التنبيه بالدنى على الأعلى.
* * * * * البقاعيّ كما رأيت حريص على النظر في مدلول الكلمات ودلالاتها عليه سواء منها ما هو مكنون فيها من أسرتها الاشتقاقية وما هو قائم فيها من صورتها وصيغتها التكوينية، فالكلمة عنده ذات روافد عديدة في دلالتها على معناها البياني
مجمل القول بأن هذا المعلم على الرغم من أنّي بسطت فيه القول أكثر من غيره فإنّي لم أوفّه الإشارة مجرد الإشارة إلى معشار ما يدخل في تأويل البقاعي البيان القرآنيّ الكريم.
__________
(1) نظم الدرر: 11/ 273272(1/327)
بيان المصادر والمراجع
أولا: المخطوطات:
1 - الأجوبة السرية في الألغاز الجزرية: للبقاعي 112قراءات مكتبة الأزهر
2 - أخبار الجلاد في فتوح البلاد للبقاعي رقم 2220تاريخ تيمور دار الكتب المصرية
3 - الاستشهاد بآيات الجهاد للبقاعي رقم 1376تصوف دار الكتب المصرية
4 - الأعلام بسنّ الهجرة إلى الشام للبقاعي 666الخزانة الزكية دار الكتب المصرية
5 - أسواق الأشواق من مصارع العشاق للبقاعي مصور مكروفلم رقم (27) أدب معهد المخطوطات بالقاهرة
6 - الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة للبقاعي 1269 تفسير دار الكتب المصرية.
7 - الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان للبقاعي م / رقم: 174م دار الكتب المصرية
8 - بذل النصح والشفقة بصحبة السيد ورقة للبقاعي 117تصوف دار الكتب المصرية.
9 - تهديم الأركان من ليس في الأمان أبدع مما كان للبقاعي 34 مصورات الخزانة الزكية دار الكتب المصرية.
10 - جواهر البحار في نظم سيرة المختار للبقاعي 2143تاريخ طلعت دار الكتب المصرية.
11 - دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم (الجزء الأول) مختصر تفسير البقاعي: نظم الدرر للبقاعي 4724المكتبة المركزية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عن نسخة استانبول تركيا.
12 - دلالة البرهان على أنّ في الإمكان أبدع مما كان للبقاعي 180 عقائد تيمور دار الكتب المصرية.
13 - السيف المسنون اللماع على المفتى المفتون بالابتداع للبقاعي 738 فقه تيمور
14 - طبقات المفسرين لأحمد بن محمد 1859تاريخ طلعت دار الكتب المصرية.
15 - عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والاقران للبقاعي 2255تاريخ تيمور دار الكتب المصرية.
16 - عنوان العنوان (مختصر عنوان الزمان) للبقاعي 1474تاريخ تيمور دار الكتب المصرية.(1/328)
17 - العنوان في ضبط مواليد ووفيات أهل الزمان لأبي المفاخر النعيمي 2193تاريخ تيمور دار الكتب المصرية.
18 - الفتح القدسي في تفسير آية الكرسي للبقاعي 14تفسير حليم دار الكتب المصرية.
19 - فهرس مكتبة ايا صوفيا بتركيا 14فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
20 - فهرس مكتبة السلطان محمد الفاتح بتركيا 15فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
21 - فهرس مكتبة شهيد على بتركيا 18فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
22 - فهرس مكتبة نور عثمانية بتركيا 19فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
23 - فهرس مكتبة دلاله لي بتركيا 20فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
24 - فهرس مكتبة عاشر أفندي 25فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
25 - فهرس مكتبة والدة سلطان بتركيا 31فهارس مخطوطات دار الكتب المصرية
26 - فهرس مكتبة على باشا الجوالاليلي تركيا 18فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
27 - فهرس مكتبة شهيد على بتركيا 18فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
28 - فهرس مكتبة نور عثمانية بتركيا 19فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
29 - فهرس مكتبة دلاله لي بتركيا 20فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
30 - فهرس مكتبة عاشر أفندي 25فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
31 - فهرس مكتبة والدة سلطان بتركيا 31فهارس مخطوطات دار الكتب المصرية
32 - فهرس مكتبة على باشا الجواليلي تركيا 18فهارس مكتبات دار الكتب المصرية
33 - فهرس منتخبات تيمور لأحمد تيمور باشا 18فهارس تيمور دار الكتب المصرية
34 - فهرس نوادر المخطوطات لطاهر الجزائري 18فهارس تيمور
35 - ما لا يستغني عنه الإنسان من ملح اللسان للبقاعي خط رقم 1593نحو دار الكتب المصرية(1/329)
ثانيا: المطبوعات
1 - الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي ت: محمد ابو الفضل ط: 1387المشهد الحسيني بالقاهرة
2 - أسباب النزول للواحدي ط: 1388القاهرة
3 - إبراز المعاني من حرز الأماني في القراءات السبع لأبي شامة الدمشقيّ ت:
عطوة ط: مصطفي الحلبي القاهرة
4 - إظهار العصر لأسرار أهل العصر للبقاعي ت:
5 - الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن وسوره محمد أحمد القاسم ط:
دار المطبوعات الدولية القاهرة
6 - الأعلام لخير الدين الزركلي
7 - أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري لأبي سليمان الخطابي ت: محمد بن سعد آل سعود ط: جامعة ام القرى بمكة 914
8 - إنباء الغمر بانمباء العصر لابن حجر العسقلاني: ت: حسن شلبي القاهرة وزارة الأوقاف 1415
9 - إنباء الهصر بأنباء العصر لعليّ بن داود الصيرفي: ت: حسن شلبي الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة 2002
10 - بدائع الزهور لابن إياس الحنفي ت: محمد مصطفى القاهرة 1383
11 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني ط: 1348
12 - البرهان في تناسب سور القرآن لأبي جعفر بن الزبير ت: سعيد الفلاح ط: جامعة الإمام بالرياض 1408
13 - البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني تح: عبد القادر عطا القاهرة
14 - البرهان في علوم القرآن للزركشي تح: محمد أبو الفضل بيروت
15 - بيان إعجاز القرآن للخطابي ضمن ثلاث رسائل دار المعارف مصر
16 - البيان والتبيين للجاحظ تح هارون مكتبة الخانجي
17 - تحذير العباد من أهل العناد للبقاعي (ضمن كتاب: مصرع التصوف) تح: عبد الرحمن الوكيل السمنة المحمدية القاهرة 1953
18 - التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور ط: تونس: 1984م
19 - تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي للسيوطي تح: محمد سليم دار العلم مصر
20 - تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي للبقاعي (ضمن كتاب: مصرع التصوف) تح: عبد الرحمن الوكيل مصر 1953السنة المحمدية
21 - توشيح الديباج وحلية الابتهاج لبدر الدين القرافي تح: أحمد الشتوي دار الغرب الإسلامي 1403(1/330)
22 - الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور لابن الأثير ت:
مصطفى جواد العراق 1975
23 - الخصائص لابن جنى ت: محمد على النجار الهيئة المصرية للكتاب
24 - دلائل الإعجاز لعبد القاهر ت: محمود شاكر ط: المدني
25 - الذيل على رفع الإصر للسخاوي ت: جودة هلال الهيئة المصرية
26 - سر الروح للبقاعي ط: السعادة القاهرة 1908
27 - شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي مكتبة القدسي 1351
28 - الضوء اللامع للسخاوي مكتبة الحياة بيروت
29 - الصناعتين لأبي هلال العسكري م: مفيد قميحة بيروت
30 - غيث النفع في القراءات السبع للسفاقسي ط: البهية القاهرة 1321
31 - الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي ط: الحلبي القاهرة 1390
32 - كشف الظنون لحاجي خليفة استانبول 1941
33 - لطائف الإشارات للقشيري ت: براهيم بسيوني الهيئة المصرية للكتاب
34 - المبسوط في القراءات العشر لابن مهران ت: سبيع حاكمي جدة
35 - مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور للبقاعي ت: عبد السميع محمد حسنين الرياض مكتبة المعارف
36 - معجم المؤلفين عمر كحالة ط الترقي دمشق 1957
37 - معجم المصنفين للتنوكي مطبعة طبارة بيروت 1344
38 - مقدمة تفسير ابين النقيب ت: زكريا سعيد مكتبة الخانجي بالقاهرة
39 - مقدمتان في علوم القرآن تح: آثر جفري مكتبة الخانجي مصر
40 - النشر في القراءات العشر لابن الجزري بيروت دار الكتب العلمية
41 - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ط: الهند دائرة المعارف العثمانية وطبعة بيروت: دار الكتب العلمية.
42 - نظم العقيان للسيوطي كنحرير: فليب حتى نيويورك 1927
43 - هدية العارفين للبغدادي تركيا استانبول 1951(1/331)
المحتويات
الصفحة الموضوع
83 - المقدمة
9 - الباب الأول: (جهاده)
13 - الفصل الأول
جهاده في طلب العلم وتعليمه
47 - الفصل الثّاني
جهاد قلم: آثاره العلمية
52 - القسم الأول: ما اطلعت عليه: (52)
[التفسير وعلوم القرآن] (9252)
تفسيره نظم الدرر من تناسب الآي والسور (7152)
مختصر تفسيره: دلالة البرهان القويم على تناسب أي القرآن العظيم (71)
مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور (77)
الفتح القدسي في آية الكرسي (85)
الأجوبة السرية في الألغاز الجزية (89)
الاستشهاد بآيات الجهاد (89)
الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة (90)
الضوابط والإشارات لأجزاء علم القراءات (91)
[علوم الحديث والسنة] (93)
الإعلام بسن الهجرة إلى الشام (93)
إنارة الفكر بما هو الحق من كيفية الذكر (96)
[أصول الدين: العقيدة] (97)
تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد (97)
تنبيه الغبي على تكفير بن عربي (98)
تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان (104)
دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان (108)
سر الروح (108)
النكت والفوائد على شرح العقائد (109)(1/332)
[الفقه وأصوله] (110)
الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان (110)
السيف المسنون اللماع على المفتي المفتون بالابتداع (111)
[علوم العربية] (112)
أسواق الأشواق من مصارع العشاق (112)
ما لا يستغني عنه الإنسان من ملح البيان (113)
[التاريخ والتراجم] (113)
أخبار الجلاد في فتوح العباد (113)
إظهار العصر لأسرار أهل العصر (114)
بذل النصح والشفقة لصحبة السيد ورقة (115)
جواهر البحار في نظم سيرة المختار (116)
عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران (116)
عنوان العنوان: تجريد أسماء الشيوخ وبعض التلامذة والأقران (118)
القسم الثاني: مؤلفاته التي لم أطلع عليها
إباحة الباحة في علم الحساب والمساحة (119)
أحسن الكلام المنتقى من ذم الكلام (119)
الإدراك لفن الاحتباك (120)
أسد البقاع الناهسة في متعدي المقادسة (120)
الإسفار عن أشرف الأسفار (120)
إشارة المتقي إلى أعلام البيهقي (121)
إشعار الواعي بأشعار البقاعي (121)
أشلاء الباز على ابن الخباز (122)
إطباق الأغلال في أعناق الضلال (122)
الاطلاع على حجة الوداع (122)
الانتصار من متعدي بالأبصار (123)
الباحة في علمى الحساب والمساحة (123)
بيان الإجماع على منع الاجتماع في بدعة الغناء والسماع (124)
تتميم ايساغوجي (124)(1/333)
تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض (124)
تهذيب جمل الخونجي (125)
جامع الفتاوى لإيضاح بهجة الحاوي (125)
الجامع المبين لما قيل في وكأين (126)
خير الزاد من كتاب الاعتقاد (126)
دلائل البرهان لمنصفي الإخوان على طريق الإيمان (127)
رفع اللثام عن عرائس النظام (127)
شرح جمع الجوامع (127)
شرح جواهر البحار فينظم سيرة المختار (128)
صواب الجواب للسائل المرتاب (128)
العدة في أخبار الردة (128)
عظم وسيلة الإصابة في صنعة الكتابة (129)
الفارض لتكفير ابن الفارض (129)
قدح الزند في سقط الزند لأبي العلاء المعري (129)
قدح الفكر وتنوير البصر بأجوبة الشهاب ابن حجر (129)
القول الفارق بين الصادق والمنافق (130)
القول المعروف في الردّ على منكري المعروف (130)
القول المفيد في أصول التجويد (130)
كفاية القارئ وغنية المقرئ في رواية أبي عمرو (130)
مختصر السيرة النبوية وثلاثة من الخلفاء الراشدين (131)
المقصد العالي في ترجمة الإمام الغزالي (131)
الملتقط من معجم الطبراني الوسط (131)
منتقى الغريب العاني من الترغيب للأصفهاني (132)
النكت الوفية بما في شرح الألفية للعراقي (132)
وشي الحرير في اختصار ابن جرير (132)
مؤلفات لغيره نسبت إليه خطأ (133)(1/334)
135 - الباب الثاني: منهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم (135)
المدخل إلى المنهج: (137) التناسب القرآني عند البقاعي
149 - الفصل الأول: منهاج تأويل بلاغة النصّ القرآني (تناسب السور)
151 - تبيان الغاية العظمى والمغزى الرئيس للقرآن الكريم
157 - بيان تصاعد مقاصد السور ومعانيها
165 - علاقة فاتحة كل سورة بما قبلها
178 - رد المقطع على المطلع
183 - الفصل الثاني ك منهاج تأويل بلاغة القرآن الكريم في بناء السورة
185 - تحقيق مقصود كل سورة وتصاعد معانيها
199 - علاقة اسم السورة بمقصوده
205 - تأويل البسملة على وفق مقصود السورة
211 - براعة الاستهلال وعلاقته بمقصود السورة
217 - رد مقطع السورة على مطلعها
223 - علائق الآيات في بناء المعقد
232 - تأويل النظم في القصص القرآني
241 - بيان النظم الترتيبي للجمل في بناء الآية القرآنية
248 - تدبر النظم التركيبي لبناء الجملة
272 - تأويل التصريف البياني للمعاني
278 - التوجيه البياني للقراءات القرآنية
287 - تبيان مدلول ودلالة الكلمة القرآنية
328 - ثبت المصادر والمراجع
پايان(1/335)