وبعد ربع قرن من وفاة الأستاذ الإمام تكشفت غيوم الحيرة، وخضدت
شوكة الجمود وحماته، وألقيت مقادة الأزهر في يد تلميذ من تلامذة الإمام، فأخذت دعوته طريقها إلى قلوب الأزهريين وعقولهم، وسرت في الأزهر روح جديدة، وأيقن رجالاته بضرورة الإصلاح، وأن اتجهوا في ذلك وجهات مختلفة متباينة
فليعد علماؤنا إلى المجتمع حاملين في ظلمات الحياة الاجتماعية نور الدين وهدايته، ناشرين في ضلال الحياة الإنسانية دعوة الله ورسالته، هادين الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم (1).
إن هيئة كبار العلماء أكبر هيئة دينية في العالم الإسلامي، وأعضاؤها الموقرون من أفذاذ العلماء في الأزهر الشريف، وإنى لأقترح على أولى الأمر في الأزهر تحويل عضوية الهيئة إلى كراسي دائمة، تطلق عليها أسماء الخالدين من شيوخ الأزهر وسواهم من أعلام العلماء: فنجد من بينها كرسى الظواهري، والمراغي، ومصطفى عبد الرازق، والشناوي. وكرسي محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني ففي ذلك تخليد لذكرى أئمتنا وكبار شيوخنا، وفيه تمجيد لأعمالهم العظيمة في خدمة الأزهر، وما حملوا من أعباء الجهاد في سبيل الإصلاح الديني.
الدراسات العليا في 61887 الأزهر الجامعي
1
نعني بالدراسات العليا تلك الدراسات الخاصة التي تنظمها الجامعات للنابغين من أبنائها الذين وقفوا حياتهم على الدرس والبحث.
وهذه الدراسات بمعناها العلمي دعامة من دعامات الحضارات الإنسانية التي تقوم على أساس وطيد من المعرفة والثقافة، وهي أعظم ما تعني به الجامعات الكبيرة في الدول العريقة، وعليها يتوقف التطور البشري.
__________
(1) من مقال نشر في الرسالة 19411229.(2/235)
ولقد عرفتها الجامعات العلمية الأولى في الشرق في أحقاب التاريخ القديم، وفي شتى أطوار الحياة الإسلامية العظيمة، ففي البصرة والكوفة، وفي دمشق وبغداد وفي قرطبة والقاهرة وسواها من العواصم الإسلامية ازدهرت الدراسات العليا التي كان يقوم بها قادة الفكر الإسلامي، ثم شاء الله أن تذوي هذه الحضارة الزاهرة، وتطفأ مصابيح ذلك النور المشرق، وأن يستكين المسلمون لأحداث الزمن ونكبات التاريخ، فحمل العلماء في هذا الاضطراب العاصف مشعل الثقافة الإسلامية، ولكن الأحداث كانت أقوى من جهودهم، فتلاشى كثير من تلك الدراسات في شتى الجامعات، ولم يبق منها إلا شعاع خافت ضئيل.
وخضع الأزهر في حياته العلمية الطويلة لهذه التطورات حتى كان العصر الحديث، وقيض الله لمصر والشرق رجلا من أنبه رجال الفكر فيه هو السيد جمال الدين الأفغاني، فنفخ في حياته روح الشباب والقوة والتفكير، وكان من أبر أبنائه الإمام محمد عبده الذي جاهد في سبيل الأزهر والعلم والدين جهاد الأبطال، وكانت أول دعوة للأستاذ الإمام رفع مستوى الدراسة في الأزهر، حتى يستطيع أن يساير النهضة الفكرية في الشرق والغرب أولا، وأن تؤدي رسالته العظيمة ثانيا، وأنشئت على أساس أفكاره أقسام الدراسات العليا في الأزهر التخصصات بعد وفاته بكثير، وكان من أهم هذه الأقسام تخصصات العالمية من درجة أستاذ التي أنشئت عام 1930والتي حملت عبء الثقافة الدينية والعربية والعقلية في الأزهر وكلياته من ذلك العهد إلى الآن، وقام خريجوها ببحوث جديدة في شتى فروع الثقافة تجلت في رسائلهم المختلفة التي تقدموا بها لنيل العالمية من درجة أستاذ، وكانت الغاية من إنشاء هذه الأقسام هي:
أولا افساح مجال البحث الحر أمام الأساتذة والكفايات الممتازة من طلبة الأزهر.
ثانيا خلق جيل جديد من الخريجين يحملون في مستقبل حياتهم مشعل الثقافة في مصر والعالم الإسلامي.(2/236)
وقد بعثت رغبات جامحة لا نعرف أسبابها على أن ينظر كثير من المسئولين في الأزهر إلى هذه الأقسام نظرة لا تليق بمكانتها وجهودها في الأزهر ورسالتها التي تحملها، حتى لقد مضى عليها خمس سنوات لم يقبل فيها أحد من أوائل الشهادات العالية بالأزهر.
ونحن ننادي بفتح هذه الأقسام من جديد، على أسس أكثر نظاما، وأدق تجديدا من النظم الأولى التي كان يسير الأزهر عليها، فجهود خريجه ورسائلهم وبحوثهم العلمية وآثارهم الثقافية في حياة الأزهر الآن هي سجل ناطق بمدى نجاحهم ونجاح هذه الأقسام الدراسية العليا في غايتها الثقافية والعلمية.
وأهم هذه الأسس التي نراها صالحة لتوجيه هذه الدراسات والطلبة المثابرين عليها هي:
أولا العناية التامة بطلبة هذه الأقسام عناية أدبية ومادية تحول بينهم وبين كل ما يعوقهم عن التفرغ للبحث والدرس.
ثانيا الاختيار الصالح لأساتذة هذه الأقسام، فحيث يوجد الأستاذ الكفء يوجد النشاط العلمي والحياة العقلية الخصبة، ويخلق الطالب النابغة، وذلك هو ما ننشده لهذه الأقسام، ولقد كانت محاضرات الأستاذ الشيخ محمد عرفه في هذه الأقسام ومدى أثرها وتوجيهها العقلي دليلا على ما يمكن للأستاذ أن يفعله وأن يأتي به من معجزات حينما يختار لمهمته فيحسن اختياره، ويكلف بالعبء الذي يستطيع أن ينهض به.
ثالثا تحديد مناهج الدراسة والكتب ومواعيد المحاضرات والامتحانات تحديدا واضحا لا لبس فيه ولا غموض.
رابعا جعل العلوم الإضافية في هذه الأقسام قاصرة على السنتين الأوليتين فيها، على أن يعقد امتحان بعد العامين للطالب الذي يلتحق بها يمتحن فيه في جميع المواد الإضافية ليفرغ بعد هذا الإمتحان إلى المواد الأساسية التي يعد نفسه من أجلها.(2/237)
خامسا دراسة إحدى اللغات الأجنبية الأوروبية في هذه الأقسام.
سادسا وضع الخريجين من هذه الأقسام بعد تخرجهم منها في وظائف التدريس في الكليات مباشرة بدون أي تأخير، واختيار أعضاء البعثات التي تسافر إلى الخارج من بينهم. فبذلك يكون الأزهر قد عمل على خلق جيل جديد من شبابه يقدر على حمل أعباء رسالته والنهوض بها.
2
ولقد كان محمد عبده رحمه الله أبرز قائد لحركة البعث والإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي، بعد أستاذه جمال الدين الأفغاني. وكان من البدهي أن يتجه هذا المصلح الديني الخالد الذكر إلى إصلاح الأزهر نفسه لأنه نواة الفكرة الإسلامية، ومغذى الروح الديني. ولم تظهر آثار جهاد الشيخ عبده وجهوده في إصلاح الأزهر إلا بعد وفاته، وعلى أيدي تلاميذه الذين تحمسوا لآراء أستاذهم في الإصلاح، وتعهدوها بالعناية والتنفيذ.
كانت الدراسة في الأزهر في عهد محمد عبده تسير على النظام القديم البدائي: حلقات للتعليم، وطلبة يختارون أستاذهم الذي يتتلمذون عليه ويناقشونه فيما صعب من مشكلات العلم والثقافة، وكتب ألفت في العصور الوسطى وغلبت عليها آثار الثقافة العقلية التي كانت سائدة في هذه العصور. وفي 1872م وضع قانون لإصلاح الأزهر، نظم طريقة نيل العالمية، وحدد مواد الامتحان فيها، وبتعضيد الشيخ محمد عبده، وعلى يدي صديقه المرحوم الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر حينذاك، صدر قانون عام 1896، الذي نظم الدراسة في الأزهر، وأدخل العلوم الحديثة في مناهجه، أما النظام الإداري للأزهر ومعاهده فقد صدر به قانون عام 1911، بعد وفاة الإمام محمد عبده بسنوات. وأخذ الأزهر يسير على هذا النمط من الدراسة، دون أن يوجد فيه أثر للدراسات العليا، حتى صدر قانون 1923، الذي أوجد نوعا من هذه الدراسات قامت على أسسه أقسام التخصص القديم، التي كانت تمنح درجات علمية تعادل درجة الماجستير في جامعتي القاهرة والاسكندرية، ثم أخذ الأزهر يعمل على مسايرة النظم
الجامعية التي تسير عليها شتى الجامعات في الشرق والغرب، ففكر المراغي في عهد مشيخته الأولى في إنشاء أقسام أكبر للدراسات العليا في الأزهر، والمراغي أنبه تلاميذ محمد عبده، وأكثرهم دعاية لآراء أستاذه، وتحقيقا للكثير منها وقد ظهرت آثار هذا الاتجاه في قانون إصلاح الأزهر الذي صدر عام 1930في عهد المرحوم الشيخ الأحمدي الظواهري، وقد نظم هذا القانون الأزهر الجامعي، فقسمه إلى كليات ومعاهد، وأنشأ أقسام الدراسات العليا بشتى فروعها، وعدل عام 1936وما والاه تعديلا أملته الضرورة والتجرية والرغبة في خلق الروح الجامعي في الأزهر. وسمى هذا القانون أقسام الدراسات العليا: أقسام تخصص المادة، ومنها ينال المتخرج شهادة العالمية من درجة أستاذ، وهي أرفع شهادات الأزهر العلمية، وتعادل الدكتوراه الممتازة، وتدرس بها علوم الشريعة وأصول الدين والقرآن والحديث والبلاغة والأدب واللغة والفلسفة والتاريخ، ومدة الدراسة بها لا تقل عن ست سنوات بعد انتهاء دراسة الكلية، وكان طلبتها يختارون من بين أوائل المتخرجين. واختير للتدريس بهذه الأقسام أئمة العلماء والمفكرين في الأزهر ومصر، وقد حققوا نهضة فكرية وعلمية جديرة بالإشارة في تاريخ الأزهر الحديث، كما كانت امتحانات أقسام هذه الدراسات، ومناقشات رسائل الخريجين مواسم خالدة للعلم والأدب في الأزهر، وكان يشرف عليها أفذاذ العلماء والأدباء والمفكرين، ومن بينهم المراغي ولطفي السيد ومأمون الشناوي واللبان وحمروش وعبد المجيد سليم وعرفة وشلتوت والجارم وسواهم.، ورسائل الخريجين من أقسام العالمية من درجة أستاذ فيها جهد كبير وألوان جديدة من البحث والتحليل، وهي أوضح أثر لنهضة الأزهر العلمية الحديثة، وقد طبع بعض قليل منها. كما حمل خريجوه بجدارة مناصب التدريس في كلياته ومعاهده، ولكثير منهم نشاط علمي خصب، وانتاج حافل في الأدب والشريعة والفلسفة والتاريخ والعقائد. ومن سوء الحظ ألا يهضم الأزهر الجامعي نظام الدراسات العليا، وأن يحاربها من وراء ستار، وأن يعطل الدراسة بأقسامها من عام 1941حتى الآن. وكان
اعتزاز الأزهر بهذه الدراسات ضئيلا محدودا، تجلي في طبع رسالتين أو ثلاث من رسائل خريجيها، وفي عرض بعضها في المعرض الزراعي عام 1949ولا يزال جل هذه الرسائل مخطوطا في مكتبات الكليات الأزهرية، وعددها يقارب المائتين.(2/238)
كانت الدراسة في الأزهر في عهد محمد عبده تسير على النظام القديم البدائي: حلقات للتعليم، وطلبة يختارون أستاذهم الذي يتتلمذون عليه ويناقشونه فيما صعب من مشكلات العلم والثقافة، وكتب ألفت في العصور الوسطى وغلبت عليها آثار الثقافة العقلية التي كانت سائدة في هذه العصور. وفي 1872م وضع قانون لإصلاح الأزهر، نظم طريقة نيل العالمية، وحدد مواد الامتحان فيها، وبتعضيد الشيخ محمد عبده، وعلى يدي صديقه المرحوم الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر حينذاك، صدر قانون عام 1896، الذي نظم الدراسة في الأزهر، وأدخل العلوم الحديثة في مناهجه، أما النظام الإداري للأزهر ومعاهده فقد صدر به قانون عام 1911، بعد وفاة الإمام محمد عبده بسنوات. وأخذ الأزهر يسير على هذا النمط من الدراسة، دون أن يوجد فيه أثر للدراسات العليا، حتى صدر قانون 1923، الذي أوجد نوعا من هذه الدراسات قامت على أسسه أقسام التخصص القديم، التي كانت تمنح درجات علمية تعادل درجة الماجستير في جامعتي القاهرة والاسكندرية، ثم أخذ الأزهر يعمل على مسايرة النظم
الجامعية التي تسير عليها شتى الجامعات في الشرق والغرب، ففكر المراغي في عهد مشيخته الأولى في إنشاء أقسام أكبر للدراسات العليا في الأزهر، والمراغي أنبه تلاميذ محمد عبده، وأكثرهم دعاية لآراء أستاذه، وتحقيقا للكثير منها وقد ظهرت آثار هذا الاتجاه في قانون إصلاح الأزهر الذي صدر عام 1930في عهد المرحوم الشيخ الأحمدي الظواهري، وقد نظم هذا القانون الأزهر الجامعي، فقسمه إلى كليات ومعاهد، وأنشأ أقسام الدراسات العليا بشتى فروعها، وعدل عام 1936وما والاه تعديلا أملته الضرورة والتجرية والرغبة في خلق الروح الجامعي في الأزهر. وسمى هذا القانون أقسام الدراسات العليا: أقسام تخصص المادة، ومنها ينال المتخرج شهادة العالمية من درجة أستاذ، وهي أرفع شهادات الأزهر العلمية، وتعادل الدكتوراه الممتازة، وتدرس بها علوم الشريعة وأصول الدين والقرآن والحديث والبلاغة والأدب واللغة والفلسفة والتاريخ، ومدة الدراسة بها لا تقل عن ست سنوات بعد انتهاء دراسة الكلية، وكان طلبتها يختارون من بين أوائل المتخرجين. واختير للتدريس بهذه الأقسام أئمة العلماء والمفكرين في الأزهر ومصر، وقد حققوا نهضة فكرية وعلمية جديرة بالإشارة في تاريخ الأزهر الحديث، كما كانت امتحانات أقسام هذه الدراسات، ومناقشات رسائل الخريجين مواسم خالدة للعلم والأدب في الأزهر، وكان يشرف عليها أفذاذ العلماء والأدباء والمفكرين، ومن بينهم المراغي ولطفي السيد ومأمون الشناوي واللبان وحمروش وعبد المجيد سليم وعرفة وشلتوت والجارم وسواهم.، ورسائل الخريجين من أقسام العالمية من درجة أستاذ فيها جهد كبير وألوان جديدة من البحث والتحليل، وهي أوضح أثر لنهضة الأزهر العلمية الحديثة، وقد طبع بعض قليل منها. كما حمل خريجوه بجدارة مناصب التدريس في كلياته ومعاهده، ولكثير منهم نشاط علمي خصب، وانتاج حافل في الأدب والشريعة والفلسفة والتاريخ والعقائد. ومن سوء الحظ ألا يهضم الأزهر الجامعي نظام الدراسات العليا، وأن يحاربها من وراء ستار، وأن يعطل الدراسة بأقسامها من عام 1941حتى الآن. وكان
اعتزاز الأزهر بهذه الدراسات ضئيلا محدودا، تجلي في طبع رسالتين أو ثلاث من رسائل خريجيها، وفي عرض بعضها في المعرض الزراعي عام 1949ولا يزال جل هذه الرسائل مخطوطا في مكتبات الكليات الأزهرية، وعددها يقارب المائتين.(2/239)
كانت الدراسة في الأزهر في عهد محمد عبده تسير على النظام القديم البدائي: حلقات للتعليم، وطلبة يختارون أستاذهم الذي يتتلمذون عليه ويناقشونه فيما صعب من مشكلات العلم والثقافة، وكتب ألفت في العصور الوسطى وغلبت عليها آثار الثقافة العقلية التي كانت سائدة في هذه العصور. وفي 1872م وضع قانون لإصلاح الأزهر، نظم طريقة نيل العالمية، وحدد مواد الامتحان فيها، وبتعضيد الشيخ محمد عبده، وعلى يدي صديقه المرحوم الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر حينذاك، صدر قانون عام 1896، الذي نظم الدراسة في الأزهر، وأدخل العلوم الحديثة في مناهجه، أما النظام الإداري للأزهر ومعاهده فقد صدر به قانون عام 1911، بعد وفاة الإمام محمد عبده بسنوات. وأخذ الأزهر يسير على هذا النمط من الدراسة، دون أن يوجد فيه أثر للدراسات العليا، حتى صدر قانون 1923، الذي أوجد نوعا من هذه الدراسات قامت على أسسه أقسام التخصص القديم، التي كانت تمنح درجات علمية تعادل درجة الماجستير في جامعتي القاهرة والاسكندرية، ثم أخذ الأزهر يعمل على مسايرة النظم
الجامعية التي تسير عليها شتى الجامعات في الشرق والغرب، ففكر المراغي في عهد مشيخته الأولى في إنشاء أقسام أكبر للدراسات العليا في الأزهر، والمراغي أنبه تلاميذ محمد عبده، وأكثرهم دعاية لآراء أستاذه، وتحقيقا للكثير منها وقد ظهرت آثار هذا الاتجاه في قانون إصلاح الأزهر الذي صدر عام 1930في عهد المرحوم الشيخ الأحمدي الظواهري، وقد نظم هذا القانون الأزهر الجامعي، فقسمه إلى كليات ومعاهد، وأنشأ أقسام الدراسات العليا بشتى فروعها، وعدل عام 1936وما والاه تعديلا أملته الضرورة والتجرية والرغبة في خلق الروح الجامعي في الأزهر. وسمى هذا القانون أقسام الدراسات العليا: أقسام تخصص المادة، ومنها ينال المتخرج شهادة العالمية من درجة أستاذ، وهي أرفع شهادات الأزهر العلمية، وتعادل الدكتوراه الممتازة، وتدرس بها علوم الشريعة وأصول الدين والقرآن والحديث والبلاغة والأدب واللغة والفلسفة والتاريخ، ومدة الدراسة بها لا تقل عن ست سنوات بعد انتهاء دراسة الكلية، وكان طلبتها يختارون من بين أوائل المتخرجين. واختير للتدريس بهذه الأقسام أئمة العلماء والمفكرين في الأزهر ومصر، وقد حققوا نهضة فكرية وعلمية جديرة بالإشارة في تاريخ الأزهر الحديث، كما كانت امتحانات أقسام هذه الدراسات، ومناقشات رسائل الخريجين مواسم خالدة للعلم والأدب في الأزهر، وكان يشرف عليها أفذاذ العلماء والأدباء والمفكرين، ومن بينهم المراغي ولطفي السيد ومأمون الشناوي واللبان وحمروش وعبد المجيد سليم وعرفة وشلتوت والجارم وسواهم.، ورسائل الخريجين من أقسام العالمية من درجة أستاذ فيها جهد كبير وألوان جديدة من البحث والتحليل، وهي أوضح أثر لنهضة الأزهر العلمية الحديثة، وقد طبع بعض قليل منها. كما حمل خريجوه بجدارة مناصب التدريس في كلياته ومعاهده، ولكثير منهم نشاط علمي خصب، وانتاج حافل في الأدب والشريعة والفلسفة والتاريخ والعقائد. ومن سوء الحظ ألا يهضم الأزهر الجامعي نظام الدراسات العليا، وأن يحاربها من وراء ستار، وأن يعطل الدراسة بأقسامها من عام 1941حتى الآن. وكان
اعتزاز الأزهر بهذه الدراسات ضئيلا محدودا، تجلي في طبع رسالتين أو ثلاث من رسائل خريجيها، وفي عرض بعضها في المعرض الزراعي عام 1949ولا يزال جل هذه الرسائل مخطوطا في مكتبات الكليات الأزهرية، وعددها يقارب المائتين.
فمن مبلغ الأزهر بأن نظامه الجامعي وازدهاره العلمي لن يكون لهما كيان إلا إذا عادت من جديد هذه الدراسات العليا فيه، تؤدي رسالتها العظيمة في خدمة الدين والثقافة، وتجديد مناهج البحث العلمي الحر، والكشف عن آثار التراث الإسلامي المجيد، والنهضة بالثقافة الأزهرية، حتى تبلغ المنزلة الرفيعة، التي بلغتها الثقافات الحديثة، في جامعات الشرق والغرب.
ويتحدث الخريجون من قسم الأستاذية في مذكرة رفعوها إلى المسئولين في أكتوبر عام 1952، عن حاضرهم وآمالهم فيقولون:
أنشىء قسم الأستاذية في الأزهر بمقتضى القانون رقم 49لسنة 1930 المعدل بالقانون رقم 29لسنة 1936حينما أريد للأزهر أن يكون جامعة وأن تنشأ به كليات للتعليم العالي، وأن يقضي على عوامل الانحلال التي عصفت به وذهبت بكل ما كان له من مجد وجلال. ولم يكن بالأزهر عند صدور القانون أساتذة يحملون مؤهلات ممتازة تخول حامليها التدريس في كلياته، فأنشىء فيه هذا القسم لتخريج أساتذة ممتازين يعهد إليهم بهذه المهمة، وأطلق عليه إسم تخصص المادة ويختار طلابه من أوائل الشهادات العالية من الكليات ويقضي فيه الطالب ست سنوات على الأقل، ثم يقدم في نهايته رسالة قيمة تناقش مناقشة علنية ويمنح الناجح فيها شهادة تسمى العالمية من درجة أستاذ وهي تعادل «دكتوراه ممتازة حرف أ». ومن هؤلاء وحدهم تتكون هيئات التدريس بالكليات تطبيقا للمواد 41، 42، 119من القانون رقم 26لسنة 1936، كما جعل الحصول على هذه الشهادة شرطا لعضوية جماعة كبار العلماء، ومن بين هؤلاء يختار شيخ الأزهر وكبار الموظفين الإداريين فيه(2/240)
ولكن الذي حدث من المسئولين في الأزهر حيال أقسام الأستاذية هو:
1 - أغلقوا قسم الأستاذية إغلاقا نهائيا منذ أكثر من أربع عشرة سنة، واحتجوا لذلك بأنهم سيعيدون النظر في نظامه.
2 - سلكوا الحاصلين على هذه الشهادة مع حملة أدنى شهادات الأزهر في سلك واحد وحكموا الأقدمية المطلقة بينهم في الترقيات ومنح الألقاب العلمية.
وإنا لنقترح مساواة خريجي الأستاذية بنظرائهم في الجامعات من كل النواحي العلمية والأدبية والمادية، وفتح أقسام الدراسات العليا في كليات الأزهر فورا وقبول المتقدمين إليها من الطلاب. وزيادة عدد الأساتذة ذوي الكراسي في كليات الأزهر بما يناسب الزيادة في عدد الطلاب والمدرسين والمواد الدراسية فقد حدد عدد هذه الكراسي في عام 1936، ولم يكن بالكليات من المدرسين والطلاب أكثر من خمس العدد الحالي.
الصلات العلمية بين 61888 الأزهر والجامعة
منذ أعوام قلائل قرأت في بعض الصحف، سؤالا لشاب أزهري كتب يقول: «أنا طالب أزهري حاصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من معهد القاهرة وأجيد الفرنسية والانجليزية إجادة تامة، فهل يجوز لي الالتحاق بكلية الآداب؟» ونشر مع السؤال رأي سيادة عميد كلية الآداب ونصه: «لا يمكن قبول الطالب بكلية الآداب، وفقا للوائح التي لا تزال متبعة إلى الآن»، وأمر هذه اللوائح عجيب حقا، فهي التي تسيطر على التفكير الحر في مصر. وكيف يمكن إقناع الطالب المسكين الذي يريد إكمال دراسته بقسم اللغة بكلية الآداب بأن رد العميد عادل ومعقول؟ ولم فات الدكتور طه حسين أمر هذه اللوائح حين كان عميدا لكلية الآداب، فأمر بقبول عدد كبير من طلاب الأزهر بكليته، ونظم لمن لا يعرف منهم لغة أجنبية دراسات خاصة، فكانوا أكثر خريجها نشاطا وانتاجا؟. ولا تزال هذه اللوائح أيضا تحول بين أساتذة الأزهر وحرية التقديم لشهادات الجامعة، والانتظام في
دراساتها، فإلى متى تظل هذه اللوائح والقيود والأفكار القديمة تتحكم في مصير الثقافة في مصر في القرن العشرين؟.(2/241)
منذ أعوام قلائل قرأت في بعض الصحف، سؤالا لشاب أزهري كتب يقول: «أنا طالب أزهري حاصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من معهد القاهرة وأجيد الفرنسية والانجليزية إجادة تامة، فهل يجوز لي الالتحاق بكلية الآداب؟» ونشر مع السؤال رأي سيادة عميد كلية الآداب ونصه: «لا يمكن قبول الطالب بكلية الآداب، وفقا للوائح التي لا تزال متبعة إلى الآن»، وأمر هذه اللوائح عجيب حقا، فهي التي تسيطر على التفكير الحر في مصر. وكيف يمكن إقناع الطالب المسكين الذي يريد إكمال دراسته بقسم اللغة بكلية الآداب بأن رد العميد عادل ومعقول؟ ولم فات الدكتور طه حسين أمر هذه اللوائح حين كان عميدا لكلية الآداب، فأمر بقبول عدد كبير من طلاب الأزهر بكليته، ونظم لمن لا يعرف منهم لغة أجنبية دراسات خاصة، فكانوا أكثر خريجها نشاطا وانتاجا؟. ولا تزال هذه اللوائح أيضا تحول بين أساتذة الأزهر وحرية التقديم لشهادات الجامعة، والانتظام في
دراساتها، فإلى متى تظل هذه اللوائح والقيود والأفكار القديمة تتحكم في مصير الثقافة في مصر في القرن العشرين؟.
61889 - حياة الأزهر الثقافية
1
لقد ابتدأت الدولة الفاطمية حياتها السياسية بالقيروان سنة 296هـ على يدى مؤسسها الأول عبيد الله بن محمد وأخذت توسع نطاقها السياسي ومجالها الدولي بالتدريج، وفي عهد الخليفة الرابع المعز لدين الله دخل الفاطميون مصر بعد منتصف القرن الرابع الهجري بقليل فقضوا على نفوذ الخلافة العباسية فيها، وعلى مذاهبها السياسية والاجتماعية والعقلية من جميع أرجائها، وبسطت الدولة الجديدة سيادتها على البلاد بالقوة وأخذت تصبغ جميع نواحي النشاط في الدولة بصبغة تلائم عقيدتها الشيعية الاسماعيلية، سواء في أداء الشعائر أم في سياسة الدولة وأمور الاجتماع ونواحي التفكير.
وكان لا بد للدولة الجديدة أن تقوم بدعاية واسعة النطاق تكرس لها كل ما تستطيع من قوة وجهد في سبيل تغيير الاتجاه الفكري في مصر كلها، حتى يؤمن العقل المصري بعقيدتها الشيعية، ويتحمس لها ويدعو إليها، ويكون بين الدولة والشعب تفاهم عقلي بعد هذا الوثام السياسي الذي وجهته القوة وأملاه السيف.
ومن ذا الذي يقوم بهذه الدعاية، وبدأ في جد لتغيير مناحي التفكير في مصر، ولجذب الشعور الوطني نحو الدولة؟ إنهم العلماء الشيعيون الاسماعيليون ورجال السياسة والتفكير فيهم وإذا فلتقم جامعة علمية منظمة، ولتشرف هذه الجامعة بأساتذتها وشيوخها على مناحي الثقافة والتفكير في الدولة، داعية إلى العقيدة الشيعية بأصولها وتشريعها الفقهي وكافة آرائها السياسية والاجتماعية والعقلية، حريصة على نشر هذه المبادىء في مصر وسائر أنحاء الشرق الإسلامي.(2/242)
وشيد الأزهر وتم تشييده في عامين وافتتح فعلا للصلاة في 7رمضان عام 361هـ وقام رجال الدولة بإلقاء المحاضرات العامة فيه بين حين وحين إلى أن تولى العزيز بن المعز لدين الله العرش (من عام 365إلى 386هـ) فاتجه بعنايته إلى الأزهر وجعله معهدا علميا منظما، شمله برعايته الكاملة، واختار للدراسة فيه أساطين الفقه الشرعي من شتى أنحاء العالم الإسلامي وأحاطهم بشتى أسباب الرعاية والتقدير وكان من بين هؤلاء وزير العزيز بالله يعقوب بن كلس (1).
وقام الأزهر بما طلبته منه الدولة، وما هيأته له، فأخذ ينشر العقيدة الاسماعيلية ويدرس مبادئها السياسية وتشريعاتها الفقهية، وأصولها المذهبية واتجاهاتها الفكرية فضلا عن عنايته بالكثير من الدراسات العقلية واللغوية والأدبية وصار أعظم بيئة علمية وأحفلها في الشرق الإسلامي بهذه الدراسات، التي خرج فيها جيلا جديدا من العلماء الذين أصبحوا يد الدولة ودعاتها وقوام الحياة السياسية والاجتماعية والعقلية والأدبية فيها، كانت الدولة الفاطمية تشمل بنفوذها السياسي حوض البحر الأبيض الأفريقي كله من مراكش إلى الشام، فضلا عن الحجاز ويهفو إليها جميع الاسماعيليين في العراق وإيران والهند بقلوبهم، ويتجهون إليها بشعورهم وكان الأزهر هو المثابة العظيمة للعلم والتفكير والثقافة في هذه الأقطار كلها، وهو الذي يحمل مشعل النور والهداية إلى سائر هذه الأمصار، ووفدت إليه أفواج الشباب من شتى هذه الأرجاء، ترتوي من معينه وتقتبس من نوره وتهتدي بهديه، وتضافرت هذه العوامل الأجنبية والسياسية والفكرية كافة على تكوين شخصية مستقلة لهذه الجامعة الجديدة، ظهر أثرها الفذ في الثقافة الإسلامية في مصر وجاراتها الشقيقة على عهد الدولة الفاطمية.
ومن العبث أن نوازن بين الأزهر حينئذ وبين المدرسة النظامية التي كان يدرس فيها أقطاب العلماء ببغداد كالغزالي وسواه، لأن مواد هذه
__________
(1) من محاضرة ألقاها المؤلف عام 1940(2/243)
الموازنة مفقودة، فالتاريخ الذي حفظ لنا تراث المدرسة النظامية في شخصيات كبار أساتذتها قد ضن علينا بتراث الأزهر وإنتاجه العلمي في هذه الحقبة، لأنه إنتاج شيعي تعصب عليه وناوأه أعداء الشيعة.
ولقد شاء القدر العتيد أن تطوي الدولة الفاطمية وآثارها من الوجود بعد قرنين حافلين حيث ثل السلطان صلاح الدين الأيوبي عرشها ومحى آثارها وثقافتها، وقبض بيده على أمور مصر وسياستها عام 567هـ، وكان فيما حاربه وقضى عليه المذهب الشيعي الفاطمي، وأحل محله المذهب السني الذي تؤيده خلافة بني العباس وتنكر الزمن للأزهر فعطلت دروسه، وتفرقت شيوخه، ومنعت منه الخطبة، وحل الكثير من أوقافه، وشارك الدولة الراحلة آلام التطور السياسي الجديد وبعد عهد الانقلاب السياسي وعودة الاطمئنان العقلي، عادت إلى حلقاته الدراسات الفقهية، لا سيما الفقه الشافعي ولكن بشكل متقطع غير مستقر، واستمر الأمر على ذلك قرنا من الزمن.
ولكن الأحداث السياسية العظيمة في الشرق الإسلامي أعادت إلى الأزهر ماضيه العلمي المجيد ففتح التتار المغول لبغداد وشتى عواصم البلاد الإسلامية وعصفهم بالتراث الإسلامي الثقافي بإحراق دور الكتب، وتبديد نفائس الأسفار فيها حرقا وتمزيقا ورميا بها في ماء دجلة والفرات، وتفريق العلماء ورجال الثقافة الإسلامية وتعطيل الدراسات الثقافية: دينية وعقلية ولغوية في شتى مدارس الشرق الإسلامي وجامعاته، ثم انتقال الخلافة العباسية من بغداد إلى القاهرة في عهد المماليك وعلى يد السلطان الظاهر بيبرس سنة 659هـ، ثم أهمية مصر السياسية والاقتصادية وصبغتها العربية، ووقوعها في قلب العالم الإسلامي وثقافتها العقلية القديمة كل هذه الأسباب أدت إلى إعادة النشاط العلمي في الأزهر فشجع بيبرس التعليم فيه وأعاد إليه الخطبة عام 659هـ، ووقف على أساتذته وطلابه الأوقاف الكثيرة والأموال الطائلة.
ومنذ ذلك الحين ذاع صيت الأزهر واستعاد مكانته العلمية وأمه الطلاب من كل صوب وحدب، من أواسط أفريقية إلى جنوب روسيا، ومن
مراكش إلى أقاصي الهند، وجد الأزهر وعلماؤه في إحياء الثقافة الإسلامية التي رماها التتار بأقسى النكبات في فتحهم الوحشى لبلاد الخلافة العباسية، فكان للأزهر جهوده العظيمة الحافلة في هذا المضمار، مما وطد من مكانته، ودعم من كيانه، وأقر له منزلته العلمية العظيمة وشخصيته الجامعية الضخمة. وزاد من مكانة الأزهر قوة واستقرارا انقراض الحضارة الإسلامية من الأندلس عام 897هـ وانتهاء جامعاتها العلمية الكبيرة وتبديد مسيحيى أسبانيا للتراث العربي فيها، فألقيت مقاليد الثقافة الإسلامية في الشرق كافة في يد الأزهر، فحمل الأمانة، وبذل في سبيل أداء رسالته كل ما يستطيع من جهد وقوة، وأخذ الأزهر يسير في دراساته الدينية، وفي انتاجه الثقافي على المنهج العلمي المألوف في عصره، فكانت كتب الدراسة فيه والمؤلفات العلمية التي يؤلفها علماؤه، شروحا لأصول الكتب العلمية الدائمة في عصره، وحواشي على هذه الشروح وتقارير على هذه الحواشي؟(2/244)
ومنذ ذلك الحين ذاع صيت الأزهر واستعاد مكانته العلمية وأمه الطلاب من كل صوب وحدب، من أواسط أفريقية إلى جنوب روسيا، ومن
مراكش إلى أقاصي الهند، وجد الأزهر وعلماؤه في إحياء الثقافة الإسلامية التي رماها التتار بأقسى النكبات في فتحهم الوحشى لبلاد الخلافة العباسية، فكان للأزهر جهوده العظيمة الحافلة في هذا المضمار، مما وطد من مكانته، ودعم من كيانه، وأقر له منزلته العلمية العظيمة وشخصيته الجامعية الضخمة. وزاد من مكانة الأزهر قوة واستقرارا انقراض الحضارة الإسلامية من الأندلس عام 897هـ وانتهاء جامعاتها العلمية الكبيرة وتبديد مسيحيى أسبانيا للتراث العربي فيها، فألقيت مقاليد الثقافة الإسلامية في الشرق كافة في يد الأزهر، فحمل الأمانة، وبذل في سبيل أداء رسالته كل ما يستطيع من جهد وقوة، وأخذ الأزهر يسير في دراساته الدينية، وفي انتاجه الثقافي على المنهج العلمي المألوف في عصره، فكانت كتب الدراسة فيه والمؤلفات العلمية التي يؤلفها علماؤه، شروحا لأصول الكتب العلمية الدائمة في عصره، وحواشي على هذه الشروح وتقارير على هذه الحواشي؟
وهذه الشروح والتقارير والحواشي تتجه إلى خدمة أمرين عظيمين: أولا:
الشرح التحليلي التفصيلي لأساليب هذا الأصل العلمي المشروح، والمبالغة البعيدة في توجيه الفهم فيه وجهة خاصة، يتحرى فيها الدقة والعمق والإحاطة بألوان الثقافة المنوعة، عند ما تستوجب هذه الإحاطة دراسة الأسلوب والفاظه. وثانيا: إثارة المشكلات العلمية العميقة التي تتصل بأصل الفكرة المبحوثة أو التي تضيء جوانب البحث فيها، أو التي تعتبر لازمة للتوسع في دراستها، وبجانب هذه الدراسة العلمية، وهذا الانتاج الثقافي الخاص، توجد موسوعات علمية ألفت في شتى نواحي الثقافة الإسلامية لتعويض ما فقده التراث الإسلامي من نفائس المؤلفات وكانت الطريقة العلمية ملائمة لعقول العلماء إذ ذاك ومتمشية مع أساليب المنهج العلمي المألوف في عصرهم، فقد كان الشرق كله يقرها ويسير عليها في ميادين الثقافة والتعليم والتفكير، وما زالت محل اعجاب الباحثين من المستشرقين والمفكرين، ومن العبث أن نزوي بها أو نحط من شأنها، أو نرميها بالخطأ والخمول.(2/245)
ومن أساتذة الأزهر في ذلك العهد عز الدين بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء وتلميذه القشيري وهو الذي لقبه بهذا اللقب، وعز الدين هذا كما كان مثلا في الشجاعة وهو أصدق مرآة نرى فيها أخلاق العلماء، يقول ابن السبكى في طبقاته: «إنه وقف في وجه القائم بأمر مصر وقتئذ لما أراد أن يفرض ضريبة على التجار قائلا: «إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك من الحلى وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلى الحرام وضربته سكة ونقدا وفرقته ولم يقم بالكفاية فلك أن تطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا». ويقول عنه أيضا إنه لما توفى عز الدين بن عبد السلام سنة 660هـ ومرت جنازته تحت القلعة، وشاهد الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين معها قال لبعض خواصه: «اليوم استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو كان أمر الناس في بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره». وكان عز الدين هذا خطيبا لجامع عمرو، ولهذه المناسبة أقول: إن المقريزي المؤرخ العظيم كان هو الآخر خطيبا لجامع الحاكم.
ومن علماء مصر الأفاضل الذين أثروا في الأزهر وتأثروا به العالم البارع الطويل الباع في أصول الفقه وفروعه وفي العربية وغيرها، الفقيه المالكي ابن الحاجب وكان أبوه حاجبا عند الأمير عز الدين موسك الصلاحي، وقد صنف في الأصول: المختصر والمنتهي، وفي فقه المالكية المختصر وله في النحو الكافية، والوافية، وفي التصريف الشافية، وشرح الكل، وله شرح المفصل، والأمالي النحوية وقصيدة في العروض. ومن أساتذته في القراءات الشاطبي وتوفى بالأسكندرية سنة 646هـ، ونذكر أنه مدفون بجوار أبي العباس المرسي، ومنهم إمام النحو واللغة ابن هشام الذي قال عنه ابن خلدون «ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحي من سيبويه»، ومن أكابر أساتذة العلم المنتجين الذين عرفتهم مصر: الثبت الثقة، الصدوق النبيل، الحافظ للحديث، الحجة فيه، أستاذ الحديث في المؤيد، البدر العينى صاحب عمدة القارىء شرح صحيح البحارى، ويقولون: إنه داوم على إقراء الحديث
فيه وحده ما يقرب من أربعين سنة عدا ما له من الدروس في بقية مدارس القاهرة، وتناوب وظيفة حسبة القاهرة هو والمقريزي مدة، وقد ولاه الملك المؤيد «نظر الأحباس» وزارة الأوقاف وكان معاصرا للحافظ ابن حجر صاحب كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري «وكان ابن حجر هذا أصغر من العينى باثنتي عشرة سنة، ويروي المقريزي أنه كان بينهما من المنافسة ما يكون بين المتعاصرين، فلما فوض إلى العينى تدريس الحديث بالمؤيدية صادف أن مالت مئذنة الجامع المؤيدي على البرج الشمالي وكادت تسقط فهدمت وبنيت من جديد، فقال الحافظ بن حجر في ذلك:(2/246)
ومن علماء مصر الأفاضل الذين أثروا في الأزهر وتأثروا به العالم البارع الطويل الباع في أصول الفقه وفروعه وفي العربية وغيرها، الفقيه المالكي ابن الحاجب وكان أبوه حاجبا عند الأمير عز الدين موسك الصلاحي، وقد صنف في الأصول: المختصر والمنتهي، وفي فقه المالكية المختصر وله في النحو الكافية، والوافية، وفي التصريف الشافية، وشرح الكل، وله شرح المفصل، والأمالي النحوية وقصيدة في العروض. ومن أساتذته في القراءات الشاطبي وتوفى بالأسكندرية سنة 646هـ، ونذكر أنه مدفون بجوار أبي العباس المرسي، ومنهم إمام النحو واللغة ابن هشام الذي قال عنه ابن خلدون «ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحي من سيبويه»، ومن أكابر أساتذة العلم المنتجين الذين عرفتهم مصر: الثبت الثقة، الصدوق النبيل، الحافظ للحديث، الحجة فيه، أستاذ الحديث في المؤيد، البدر العينى صاحب عمدة القارىء شرح صحيح البحارى، ويقولون: إنه داوم على إقراء الحديث
فيه وحده ما يقرب من أربعين سنة عدا ما له من الدروس في بقية مدارس القاهرة، وتناوب وظيفة حسبة القاهرة هو والمقريزي مدة، وقد ولاه الملك المؤيد «نظر الأحباس» وزارة الأوقاف وكان معاصرا للحافظ ابن حجر صاحب كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري «وكان ابن حجر هذا أصغر من العينى باثنتي عشرة سنة، ويروي المقريزي أنه كان بينهما من المنافسة ما يكون بين المتعاصرين، فلما فوض إلى العينى تدريس الحديث بالمؤيدية صادف أن مالت مئذنة الجامع المؤيدي على البرج الشمالي وكادت تسقط فهدمت وبنيت من جديد، فقال الحافظ بن حجر في ذلك:
لجامع مولانا المؤيد رونق
منارته بالحسن تزهو وبالزين
نقول وقد مالت عليهم: تمهلوا
فليس على حسنى أضر من العين
فتحدث الناس أنه قصد التورية بالعينى، ويروي المقريزي أن العيني رد عليه بهذين البيتين وهما من نظمه، وغيره يقول إنهما لبدر الدين العنتابي:
منارة كعروس الحسن إذ جليت
وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط
ما آفة الهدم إلا خسة الحجر
وللعينى مؤلفات كثيرة أجلها عمدة القاري الذي تقدم ذكره، ويقولون: إنه ابتدأ فيه سنة 821وأتمه سنة 847هـ بعد فراغ ابن حجر من شرحه فتح الباري بخمس سنوات، وله أيضا «نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار، في شرح معاني الآثار» في مجلدين، ومنها «البناية في شرح الهداية» للإمام المرغيناني في عشرة مجلدات، ومنها «الدرر الزاهرة في شرح البحار الزاخرة» لشيخه الرهاوي في المذاهب الأربعة في مجلدين، ومنها
عقد الجمان في تاريخ الزمان» في خمسة وعشرين مجلدا، وعد مؤلفاته أمر يطول، فليرجع إليها في مقدمة كتابه عمدة القارىء.(2/247)
منارة كعروس الحسن إذ جليت
وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط
ما آفة الهدم إلا خسة الحجر
وللعينى مؤلفات كثيرة أجلها عمدة القاري الذي تقدم ذكره، ويقولون: إنه ابتدأ فيه سنة 821وأتمه سنة 847هـ بعد فراغ ابن حجر من شرحه فتح الباري بخمس سنوات، وله أيضا «نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار، في شرح معاني الآثار» في مجلدين، ومنها «البناية في شرح الهداية» للإمام المرغيناني في عشرة مجلدات، ومنها «الدرر الزاهرة في شرح البحار الزاخرة» لشيخه الرهاوي في المذاهب الأربعة في مجلدين، ومنها
عقد الجمان في تاريخ الزمان» في خمسة وعشرين مجلدا، وعد مؤلفاته أمر يطول، فليرجع إليها في مقدمة كتابه عمدة القارىء.
ومن رجالات مصر وأعيان العلماء جلال الدين السيوطي مؤلف حسن المحاضرة وسواه من نفائس المؤلفات.
وجاء العصر العثماني بفتح السلطان سليم مصر سنة 922. وبقضائه على دولة المماليك فيها فاستمرت للأزهر أهميته البالغة في الدراسات الدينية. ولكن روحه أصابها الوهن. وقوته نال منها الضعف واعتورتها عوامل الخمول والجمود، ولذلك أسبابه البعيدة والقريبة فقد ضعفت ملكات التفكير في الشرق كافة وصارت الدولة الحاكمة بعيدة عن الروح العربية الصحيحة، بعنصرها ودمها التركي المتطرف وكثرت الفتن السياسية والأحداث الإجتماعية في مصر والشرق ولم تجد دولة العلم والثقافة من الدولة رعاية ولا عطفا، اللهم إلا نوعا ضئيلا من التشجيع لا يجدي ولا يبعث على المجد والرجاء. كل ذلك أورث الأزهر صبغة من التقليد العلمي وأضاع منه روح التجديد والاجتهاد فأصبحت غاية رجاله نقل ما ورثوه عن السلف في أمانة واخلاص دونه العناية بالبحث والتمحيص والموازنة والتحقيق وعكف شيوخه على دراسة الكتب التقريرية التي ألفت في العصور المتأخرة دون الرجوع إلى الأصول الأولى التي ألفت قديما والتي قلت فيها روح البحث والجدة والابتكار.
وكانوا يقدسون كل ما يتصل بالقديم من خلق وعادات ودين، وكانت الدراسة قاصرة على العلوم الدينية وما يتصل بها من العلوم اللغوية وقليلا من الفلسفة، وقلت فيه الدراسات العقلية والفلسفية في كتبها الواسعة التي كان يحرمها عصره، وتحاربها الهيئات العلمية والجماعات الدينية حين ذاك، وفضلا عن ذلك فقد ناوأ الأزهر المذاهب المتطرفة لأنها كانت مشربة بفلسفة خاصة، ولم يكن فيه مكان للشعراني الصوفي م سنة 973ولا لأمثاله، وكانت كل جهود الأزهر في هذا العصر العثماني هي المحافظة على التراث القديم، والذود عنه والقيام بشرحه والتعليق عليه دون زيادة به أو
تغيير في أصوله أو تجديد في بحوثه، وليس في ذلك من ذنب، فالأحوال السياسية والاجتماعية التي عاش فيها المسلمون آنذاك، كانت باعثة على الضعف العقلي الذي تجلى أثره في بيئة الأزهر العلمية.(2/248)
وكانوا يقدسون كل ما يتصل بالقديم من خلق وعادات ودين، وكانت الدراسة قاصرة على العلوم الدينية وما يتصل بها من العلوم اللغوية وقليلا من الفلسفة، وقلت فيه الدراسات العقلية والفلسفية في كتبها الواسعة التي كان يحرمها عصره، وتحاربها الهيئات العلمية والجماعات الدينية حين ذاك، وفضلا عن ذلك فقد ناوأ الأزهر المذاهب المتطرفة لأنها كانت مشربة بفلسفة خاصة، ولم يكن فيه مكان للشعراني الصوفي م سنة 973ولا لأمثاله، وكانت كل جهود الأزهر في هذا العصر العثماني هي المحافظة على التراث القديم، والذود عنه والقيام بشرحه والتعليق عليه دون زيادة به أو
تغيير في أصوله أو تجديد في بحوثه، وليس في ذلك من ذنب، فالأحوال السياسية والاجتماعية التي عاش فيها المسلمون آنذاك، كانت باعثة على الضعف العقلي الذي تجلى أثره في بيئة الأزهر العلمية.
كان الأزهر منذ نشأته يدرس العلوم العقلية والرياضية والطب والموسيقى، وفي العصر الأيوبي شاعت فكرة تحريم علوم الفلسفة والرياضة على العالمين والمتعلمين، وقد ساعد على ذلك فتوى ابن الصلاح بتحريم المنطق، حيث سادت موجة كراهية علم المنطق والفلسفة، ولذلك كره العلماء دراسة المنطق وتدريسه، ومنهم السيوطي.
ولما تولى حكم مصر سنة 1611هـ أحمد كور باشا، وكان ولعا بالعلوم العقلية، قابل صدور العلماء، ومنهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر، فتكلم معهم في الرياضيات، فقالوا لا نعرف هذه العلوم، فضحك
واستمر الحال كذلك إلى أن أصدر الشيخ محمد الانبابي والشيخ محمد البنا فتوى بجواز تعلم هذه العلوم، وذلك في أواخر عام 1305هـ.
وكان الأزهر مبعث المقاومة الوطنية للاحتلال الفرنسي فلقى من القائد وجيشه كثيرا من الأذى والمقاومة، وإن استعان ببعض رجاله المرنين في أعمال الإصلاح والإدارة، فكان في المجلس الوطني الذي ألفه نابليون بعض كبار شيوخه وأعلامه.
وكان الأزهر يكره الاستعانة برجال الغرب وعلمائه، فقاوم محمد علي، واستولت الحكومة على أملاكه وأوقافه ولكن بقى له على كل حال نفوذه الديني والأدبي بين الشعب.
فعلماء الأزهر وشبابه هم الذين اختارهم الوالي للدراسة في مدارسه الخصوصية الكثيرة التي أنشأها من طب وهندسة وزراعة وصناعة وقانون ولغات إلخ.
وأعضاء بعوثه العلمية التي أوفدها إلى أوروبا من بدء عام 1826كان جلها من أبناء الأزهر الناضجين.(2/249)
وعاد أعضاء هذه البعثات من أوروبا فكانوا في مصر جيلا جديدا له ميزته الخاصة في الثقافة والتفكير والترجمة والإنتاج.
وسار الأزهر على منهجه العلمي القويم بعيدا عن الدراسات العقلية والأدبية وعن العلوم الحديثة، اللهم إلا دراسة الكتب الأولية في المنطق ودراسة بعض كتب الأدب وآثاره كالمقامات والمعلقات التي ابتدئت قراءتها فيه نحو عام 1828.
2
وفي الحديث انتشر النفوذ الأجنبي، والثقافة الغربية في مصر، ووفدت على ربوعها رسل الثقافة الأوروبية ورجال البعثات العلمية الذين أوفدهم إسماعيل إلى باريس وروما وجامعات انجلترا، وأخذت هذه العوامل الجديدة تعمل عملها في تكوين العقلية المصرية تكوينا يتلاءم مع النهضة الفكرية والاجتماعية التي كانت تسود أوروبا، وأبعد رجال الأزهر عن كثير من ميادين النشاط الاجتماعي في الدولة، ومع هذه العوامل الهدامة في صرح الأزهر فقد كان إسماعيل يحلم بتكوين دولة عربية خاضعة لنفوذه، مؤتمرة بأمره، فدفعته آماله السياسية إلى العناية بأمر الأزهر وإصلاحه حتى يساير روح النهضة الحديثة في مصر، وفي عام سنة 1871صدر قانون بإصلاح الأزهر لرفع مستوى أساتذته وطلابه والثقافة فيه، وذلك في عهد شيخه الشيخ محمد العباسي المهدي الحنفي الذي كان يتبرك به الخديوي ويصطفيه. ونص هذا القانون على إجراء امتحان نهائي للمتخرجين في الأزهر، وعين المواد التي يجب أداء الامتحان فيها (وهي إحدى عشرة مادة) وقدرت مرتبات عالية للأساتذة ومكافآت مالية للطلاب. ولكن الأزهر عادى الإصلاح، وحمل الشيخ عليش لواء المعارضة، فوقفت روح الإصلاح فيه.
واضطرب جو مصر السياسي بالثورة العربية وأحداثها، كما زلزل كيانها المالي في تصفية ديونها العامة، وكان الاحتلال الأجنبي عام 1882، فوقفت حركات التجديد في سائر مرافق البلاد، وأخذ دنلوب وأعوانه يغيرون اتجاه
الثقافة في المدارس المصرية، حريصين على تغيير العقلية المصرية المعارضة لمبادىء انجلترا السياسية، سواء بنشر الثقافة الانجليزية في مصر ومدراسها الحكومية أم بإرسال بعوث إلى انجلترا، أم بإنشاء مدارس انجليزية لنشر الثقافة الغربية أم بإلقاء زمام الثقافة في مصر في أيدي الأساتذة والمستشارين الانجليز.(2/250)
واضطرب جو مصر السياسي بالثورة العربية وأحداثها، كما زلزل كيانها المالي في تصفية ديونها العامة، وكان الاحتلال الأجنبي عام 1882، فوقفت حركات التجديد في سائر مرافق البلاد، وأخذ دنلوب وأعوانه يغيرون اتجاه
الثقافة في المدارس المصرية، حريصين على تغيير العقلية المصرية المعارضة لمبادىء انجلترا السياسية، سواء بنشر الثقافة الانجليزية في مصر ومدراسها الحكومية أم بإرسال بعوث إلى انجلترا، أم بإنشاء مدارس انجليزية لنشر الثقافة الغربية أم بإلقاء زمام الثقافة في مصر في أيدي الأساتذة والمستشارين الانجليز.
وأخذت المدارس المصرية تتأثر بالآراء الغربية على كل حال، ما عدا الأزهر فإنه بقى على تقاليده الصريحة وآثر الذود والدفاع عنها، ونجم عن ذلك أن اتسعت مسافة الخلاف بين الأزهر ورجال المدرسة الحديثة، ووجدت في مصر ثقافتان مختلفتان متعارضتان: تقوم إحداهما على التراث الشرقي القديم والتخصص له وتتمثل في بيئة الأزهر، وتقوم الأخرى على العلم والتفكير الغربي الحديث وتتمثل في مدارس الحكومة على شتى درجاتها، وفي المدارس الأجنبية على اختلاف الثقافات التي تدعو إليها، من فرنسية وانجليزية وأمريكية وإيطالية وهكذا استقلت الحياة السياسية في الدولة عن الأزهر، وترك الأزهر على حاله، يتصرف فيه رجاله كما يريدون، بعيدين عن توجيه السياسة المباشرة لشئون الثقافة والتعليم فيه، وفكر الغيورون على مستقبل العلم والدين من أبنائه مليا في أمره، ورأوا حاجته الماسة إلى الإصلاح، فطالبوا بإصلاح مناهجه ونظمه، ولكن هذه الدعوات قوبلت في داخل الأزهر بعصبية متطرفة في الانكار، بيد أن رغبات الإصلاح كانت قوية جبارة، وكانت النهضة الحديثة تدفع الأزهر إلى التجديد العلمي، وكان أبرز شخصية دعت إلى هذا الإصلاح هي شخصية الإمام محمد عبده تلميذ جمال الدين الأفغاني، وكان الشيخ محمد عبده يرى أن بقاء الأزهر على حاله محال، فإمّا أن يعمر وإما أن يخرب وابتدأ يعمل على تغيير مناهج الدراسة والثقافة فيه: بدراسته كتابى عبد القاهر الأسرار والدلائل، وبقراءته البصائر النصيرية، وقد علق الشيخ محمد عبده على نهج البلاغة ومقامات البديع، وهو مدين في أسلوبه لمقدمة ابن خلدون، واهتم الشيخ بالإصلاح.
فاستصدر مرسوما بكساوي التشريف، واهتم بمساكن الطلاب
ومكافآتهم المالية وحدد مدة الإجازات السنوية وأدخل في مناهج الدراسة بعض العلوم الحديثة، وعنى بمكتبة الأزهر ومكتبات المعاهد التابعة له.(2/251)
فاستصدر مرسوما بكساوي التشريف، واهتم بمساكن الطلاب
ومكافآتهم المالية وحدد مدة الإجازات السنوية وأدخل في مناهج الدراسة بعض العلوم الحديثة، وعنى بمكتبة الأزهر ومكتبات المعاهد التابعة له.
وفي عام 1911صدر قانون رقم 10الذي انتقل بالأزهر إلى مرحلة أخرى من النظام فزيدت مواد الدراسة وجدد اختصاص شيخ الأزهر، وأنشىء للأزهر مجلس يسمى الأزهر الأعلى، ووضع نظام هيئة كبار العلماء وجعل لكل معهد مجلس إدارة ولكل مذهب شيخ.
وهكذا أثرت دعوات الإصلاح وأخذت تخطو بالأزهر خطوة فخطوة في سبيل التجديد والنظام والثقافة، وكان من أثرها صدور قانون رقم 33عام 1923خاصا بانشاء قسم للتخصص ثم صدر عام 1930مرسوم بقانون رقم 49خاصا بإعادة تنظيم الأزهر وفروعه فقسم الأزهر إلى كليات، وأنشئت معاهد فروعا له في كثير من الأقاليم. وأنشئت أقسام الإجازات وأقسام الدراسات العليا وتخصصات الأستاذية، وعدل هذا المرسوم بمرسوم جديد عام 1936. وهكذا خطا الأزهر خطوات جديدة واسعة في سبيل إصلاحه المنشود، وصار الأزهر يخرج شبانا ناضجى العقلية والثقافة.
وأصبحت مناهج الدراسة والتعليم في الأزهر تنصرف تدريجيا عن القشور إلى اللباب وعن العناية بالبحوث اللفظية إلى الاهتمام بالفكرة وفهمها ومناقشتها.
ولكن رغم ذلك كله يجب أن نسائل أنفسنا من جديد. هل فرغنا حقا من خطوات الإصلاح، وهل أثمرت هذه الإصلاحات ثمراتها المنشودة؟
وللجواب عن ذلك نقرر الحقائق الآتية:
1 - ما يزال المنهج العلمي السائد في الأزهر: كلياته ومعاهده، هو المنهج القديم المحافظ. ولا تزال الكتب القديمة هي أهم المقررات العلمية للطلبة.
2 - لا يزال انتاج الأزهر العلمي ضئيلا قليلا لا تكاد تحس به أو تلمس آثاره.(2/252)
3 - ما تزال رغبات الإصلاح في الأزهر حائرة لا يستقر لها قرار، ولا ندري كيف تسير مرافق الدولة بسرعة مدهشة، ويبقى الأزهر وحده متخلفا عن القافلة لا يشعر بأثر الحياة فيه أحد.
4 - ما تزال مكانة الأزهر الاجتماعية في الدولة ضئيلة وشخصيته في المجتمع غير واضحة.
3
وقد بسطنا تاريخ الأزهر الثقافي والعيوب التي لا تزال محيطة به، والآن نبسط رأينا في بعض مناهج الإصلاح، راجين أن يتفضل الغيورون على الأزهر بإصلاحه وتمكينه من أداء رسالته.
إننا نريد أن يكون للأزهر شخصية علمية واضحة، وأن يكون فيه بيئة قوية مهذبة أساسها الخلق الديني والنمو الروحي، الذي يجب أن يشيع في نفس كل رجل من رجال الدين.
ونرى أنه يجب علينا أن نعني بالأمور الآتية:
أولا مدة التعليم في الأزهر.
وفي رأيى أن يكون التعليم في الأزهر على المراحل الآتية:
1 - مرحلة التعليم العام ومدتها ست سنوات، وتدرس فيها إحدى اللغات الأجنبية، وتكون مناهجها قريبة جدا من مناهج التعليم في وزارة المعارف ويجب إقصاء الكتب القديمة والحواشي عن هذه المرحلة إقصاء تاما، ويباح لمن ينال هذه المرحلة الالتحاق بجميع المدارس المتوسطة، الزراعية والصناعية والتجارة والصيارف ومدارس الجيش ومدرسة أخرى تنشأ لتكوين المعلم تكوينا قويا ملائما للآمال المنشودة الملقاة على عاتق رجال التعليم.
2 - مرحلة التعليم الخاص: ومدتها ثلاث سنوات، ويعني فيها بدراسة العلوم الدينية والعلوم الحديثة، وإكمال دراسة لغة من اللغات الأجنبية، ويباح لخريجي هذا القسم الالتحاق بجميع المدارس العالية وبالجامعات المصرية.(2/253)
3 - مرحلة التعليم العالي ومدة الدراسة فيها خمس سنوات، ويمنح منها الطالب العالمية ويباح له الالتحاق بجميع وظائف الدولة وبالوظائف الدينية وسواها في الأزهر وفروعه وفي خارجه.
4 - مرحلة الدراسات العليا ومدتها أربع سنوات، ويخرج منها أساتذة الكليات وأعضاء البعثات التي تسافر إلى الخارج.
ثانيا يجب تغيير الزي الأزهري بالزى المدني في المراحل الثلاث الدراسية، أما مرحلة الدراسات الدينية فيجب الاحتفاظ فيها بالزي الأزهري خاصة.
ثالثا خلق صلات ثقافية بين كلية اللغة وكليات الآداب وبين كليات الشريعة وكلية الحقوق.
رابعا تنظيم الأزهر وفروعه ومعاهده وهيئاته العلمية تنظيما حديثا قائما على أساس الافادة من التجارب الحديثة في التربية والثقافة والتنظيم.
خامسا وضع الفقه الإسلامي على نظام المجموعات الفقهية الحديثة كما هو متبع في الفقه المدني والكتابة فيه.
سادسا برسم برنامج واضح لإصلاح الأزهر محدد الزمن والغاية والأهداف.
سابعا يجب أن يؤلف رجال الأزهر مؤلفات حديثة في فروع الثقافة التي تدرس فيه ليستطيع أن يفيد منها الناس كافة.
ثامنا يجب أن يكون مستوى القضاء الشرعي والأهلي واحدا، كما يجب إتمام مدينة الأزهر. وإنشاء كراسي الأساتذة وجعل كادر الأزهر على نظام الكادر الجامعي.
دراسة النحو في 61890 الأزهر
كان يدرس في الأزهر من كتب النحو شرح الشيخ حسن الكفراوي
على متن الاجرومية ثم حاشية أبي النجا على شرح الشيخ خالد ثم حاشية العطار على الأزهرية ثم حاشية السجاعي على شرح القطر ثم شرح الشذور وحواشيه ثم حاشية السجاعي أو الخضري على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ثم حاشية الصبان على شرح الأشموني على الالفية ثم المغنى وشروحه وحواشيه وذلك في نحو ست سنوات وهذا كله بعد حفظ الطلاب متن الاجرومية ومنظومة الألفية وغيرهما وكيفية الدراسة أن يعين المدارس لطلبته جزءا من أول الكتاب المراد قراءته يطالعه كل واحد منهم على انفراده أو بالاشتراك مع غيره ثم يجيئون في اليوم التالي ويجلسون بين يدى شيخهم بهيئة حلقة ويسمعون منه توضيح ما عينه لهم ويناقشونه فيه هذا يسأل وهذا يعترض على المصنف وثالث يجيب عنه وهكذا وكل منهم يجتهد في اظهار علمه في مناقشاته وربما طالع لهذا الغرض حواشي غير المقرر قراءتها ولا يزال الطلبة في أخذ ورد وتصويب وتخطئة إلى أن ينتهي الدرس في نحو ساعتين وربما لا يتم الجزء المعين فيعين لهم جزءا آخر ويحصل فيه ما حصل في سابقه وهكذا إلى أن يفرغ الكتاب وهذه الطريقة تربي فيهم ملكة الجدل والبحث.(2/254)
كان يدرس في الأزهر من كتب النحو شرح الشيخ حسن الكفراوي
على متن الاجرومية ثم حاشية أبي النجا على شرح الشيخ خالد ثم حاشية العطار على الأزهرية ثم حاشية السجاعي على شرح القطر ثم شرح الشذور وحواشيه ثم حاشية السجاعي أو الخضري على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ثم حاشية الصبان على شرح الأشموني على الالفية ثم المغنى وشروحه وحواشيه وذلك في نحو ست سنوات وهذا كله بعد حفظ الطلاب متن الاجرومية ومنظومة الألفية وغيرهما وكيفية الدراسة أن يعين المدارس لطلبته جزءا من أول الكتاب المراد قراءته يطالعه كل واحد منهم على انفراده أو بالاشتراك مع غيره ثم يجيئون في اليوم التالي ويجلسون بين يدى شيخهم بهيئة حلقة ويسمعون منه توضيح ما عينه لهم ويناقشونه فيه هذا يسأل وهذا يعترض على المصنف وثالث يجيب عنه وهكذا وكل منهم يجتهد في اظهار علمه في مناقشاته وربما طالع لهذا الغرض حواشي غير المقرر قراءتها ولا يزال الطلبة في أخذ ورد وتصويب وتخطئة إلى أن ينتهي الدرس في نحو ساعتين وربما لا يتم الجزء المعين فيعين لهم جزءا آخر ويحصل فيه ما حصل في سابقه وهكذا إلى أن يفرغ الكتاب وهذه الطريقة تربي فيهم ملكة الجدل والبحث.
دراسة النحو في المدارس
نتقدم أولا بذكر نبذة من تاريخ المدارس في مصر فنقول:
قبل استيلاء محمد علي باشا رأس الأسرة الفخيمة الخديوية على مصر كانت المعارف فيها مقصورة على معرفة القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم بالكتاتيب التي أنشأها سلاطين المماليك وأمراؤهم وعلى التخرج من علوم الأزهر السابقة فكانت هذه الكتاتيب بمنزلة مدارس ابتدائية والأزهر بمنزلة مدارس ثانوية وعليا فلما استقام الأمر للباشا بهذه الديار أنشأ عدة مدارس ذات شأن كبير منها مدرسة للطب بأبي زعبل ومدرسة للهندسة ببولاق ومدرسة للألسن ومدرسة للزراعة ببلد نبروه ومدرسة للصناعات وثلاث مدارس للفنون الحربية ثم اقتفى أثره في ذلك من خلفه من أمراء هذه
الأسرة الخديوية وكذا حكوماتهم وأشراف الأمة فزادوا في المدارس وشيدوا في أركانها وفرضوا لها النفقات إلى أن وصلت الى ما هي عليه في وقتنا الحاضر من التقدم والنظام يدير شئونها ديوان عال يرأسه وزير كبير من وزراء الحكومة وله وكيل من كبار الأمراء.(2/255)
قبل استيلاء محمد علي باشا رأس الأسرة الفخيمة الخديوية على مصر كانت المعارف فيها مقصورة على معرفة القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم بالكتاتيب التي أنشأها سلاطين المماليك وأمراؤهم وعلى التخرج من علوم الأزهر السابقة فكانت هذه الكتاتيب بمنزلة مدارس ابتدائية والأزهر بمنزلة مدارس ثانوية وعليا فلما استقام الأمر للباشا بهذه الديار أنشأ عدة مدارس ذات شأن كبير منها مدرسة للطب بأبي زعبل ومدرسة للهندسة ببولاق ومدرسة للألسن ومدرسة للزراعة ببلد نبروه ومدرسة للصناعات وثلاث مدارس للفنون الحربية ثم اقتفى أثره في ذلك من خلفه من أمراء هذه
الأسرة الخديوية وكذا حكوماتهم وأشراف الأمة فزادوا في المدارس وشيدوا في أركانها وفرضوا لها النفقات إلى أن وصلت الى ما هي عليه في وقتنا الحاضر من التقدم والنظام يدير شئونها ديوان عال يرأسه وزير كبير من وزراء الحكومة وله وكيل من كبار الأمراء.
من تاريخ 61891 الأزهر المعاصر
تولى الشيخ عبد المجيد سليم المشيخة في 26ذي الحجة 1369هـ 6أكتوبر 1950، وأقيل منها في 2ذى الحجة سنة 1370هـ 4سبتمبر 1951، وتولى مكانه في اليوم نفسه الشيخ إبراهيم حمروش.
وفي 14جمادى الأولى 1371هـ 10فبراير 1952أقيل الشيخ حمروش وعين مكانه الشيخ المجيد سليم.
وقد استقال الشيخ سليم في 27ذي الحجة 1371هـ 17سبتمبر 1952م وعين مكانه الشيخ محمد الخضر الحسين، وظل فيها إلى أن استقال في يوم 8يناير 1954وتولى مكانه الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر الحالي.
المعمرون من علماء 61892 الأزهر
في عام 1952أحتفل بالعيد المئوي للشيخ عبد المعطي الشرشيمي من كبار علماء الأزهر الشريف، متعه الله بالصحة والعمر المديد.
ومن علماء الأزهر المعمرين ممن عرفناهم الشيخ محمد عبد الله العربي وقد ولد عام 240هـ فهو اليوم يبلغ أربعة وثلاثين ومائة عام من عمره المديد، وقد تخرج في الأزهر عام 1274هـ، واشتغل مدرسا في الأزهر، وترك التدريس عام 1315هـ، وكان من شيوخه الشيخ الباجوري والشيخ عليش، وحدثنا أن جمال الدين الأفغاني حدثه أنه أي الأفغاني من مواليد عام 1235هـ.(2/256)
61893 - مكتبة الأزهر (1)
كان من تمام التيسير على طلبة العلم أن يكون لكل رواق مكتبة خاصة به، تبتدىء بعدد قليل من الكتب يقفها أهل الخير ثم يتكاثر، وعلى هذا كان لكثير من الأروقة مكتبات خاصة لا تخضع لأنظمة المكتبات التي عرفت أخيرا، بل كان الانتفاع بها متروكا لمن ينشده من أهل الرواق أو غيرهم، وليس في التاريخ نص صريح على أنه كان للأزهر مكتبة عامة قبل هذه المكتبة، كما أنه يتعذر تحديد الوقت الذي نشأت فيه مكتبات الأروقة، وكل ما يمكن أن يقال عنها: إنها قديمة أو قديمة جدا.
وقد لبثت مكتبات الأروقة على النحو الذي ذكرناه من عدم الضبط وإهمال الرقابة إلى عهد عبده، فقد كان فيما تناوله تفكيره في الإصلاح إنشاء مكتبة أزهرية عامة تجمع شتات هذه الكتب المتفرقة في مكتبات الأروقة، وتحفظ ما بقى من ذلك التراث العلمي الذي خلفه علماء الجامع الأزهر في العصور المتعاقبة من العبث والضياع. فقد ذكر بعض الباحثين أن كثيرا من نفائس الكتب التي كانت مودعة بمكتبات الأروقة تسرب إلى أيدي علماء أوروبا بواسطة سماسرة الكتب واستغلال الجهل والضعف الخلقي في نفوس القائمين على هذه المكتبات، «فحين رئي تنظيم الجامع الأزهر وتوحيد مكتبته ظهر وهن الضمائر وضعف النفوس وإهمال الواجب نحو الكتب التي لعبت بها أيدي الضياع، فتسرب بعضها وأهمل البعض الآخر للحشرات والأتربة فتلفت أوراقها وبليت ومزقت وخرمت وقطعت جلودها، وأصبح لا يوجد منها كتاب سليم مستقيم إلا ما ندر، ويظهر للباحث أن كتب الأزهر قبل سنة 1897كانت تتسرب لمتصيديها المتربصين لها منتهزين فرصة وجودها في عهدة أشخاص ملأ الجهل صدورهم وتبرأت الأمانة من قلوبهم بداعي الحاجة أو الاغراء، فأساءوا للتعليم وخانوه جهلا أو عمدا أو تقصيرا من أولى الشأن، فبدد هؤلاء الاشخاص أثمن ما ترك السلف ثروة
__________
(1) من تقرير للأستاذ مدير مكتبة الأزهر: الشيخ أبو الوفا المراغى مجلة الأزهر.(2/257)
للخلف من هذه الكتب القيمة، وتصرفوا فيها تصرف الملاك فباعوها مع نفاستها بالثمن البخس» ولا أدل على مقدار ما فقدت مكتبات الأزهر في الماضي من المثال الآتي: «حوالي سنة 1270هـ 1853م أمر ديوان عموم الأوقاف بجرد كتب مكتبات المساجد والتكايا وأروقة الأزهر وحاراته وقيدت جميعها في سجلين جامعين، خصص أولهما لمكتبات الجامع الأزهر، وثانيهما لمكتبات المساجد والتكايا، وقد بلغ مجموع المجلدات الموجودة في ذلك الوقت في مكتبات أروقة الأزهر وحاراته 18564مجلدا: فإذا رجعنا الآن إلى هذا السجل التاريخي فلا نجد من أثمن الكتب وأنفسها إلا أسماءها، وكأن هذين السجلين أنشأ ليكونا في الواقع مرشدا لأيدي الأغتيال التي عمدت إلى أنفس ما في المكتبات من المؤلفات الأصيلة القيمة فانتهبتها انتهابا. «وأغرب من هذا أن نفس السجلين تسربا أيضا إلى أيد أجنبية خارج الأزهر ولم يعودا اليه إلا بالشراء سنة 1911م ودفع لهما ثمن قدره 150قرشا، وأعيد قيدهما بالمكتبة».
ويقول الأستاذ عبد الكريم سلمان: «كان في الأزهر خزائن كتب وضعت في بعض الأروقة والحارات وبعضها في المساجد القريبة كجامع الفاكهاني وجامع العينى ونيط حفظها جميعها بأشخاص يقال لهم «المغيرون» فتصرفوا فيها تصرفا سيئا للغاية صح معه اطلاق اسم «المغيرين» عليهم، لأنهم غيروا وضعها وشتتوا جمعها، ومزقوا جلودها وأوراقها، وتركوا ما لا عناية لهم به منها في التراب يأكله العث ويبليه التراب، وهذا غير ما تصرفوا فيه تصرف الملاك وطار بأيدي باعة الكتب، يباع على نفاسته بالثمن البخس، ولم يبال المتصرف الأول والباغة بما كتب على ظهور تلك الكتب من العبارات التي تفيد وقفها على طلبة العلم والعلماء، وبالجملة فلم يكن ليعرف للكتب قيمة، ولا لينتفع بها لعدم إمكان الانتفاع». ولقد كان تعرض كتب الأروقة والحارات للضياع والتسرب إلى أيدي المترصدين لها ممن يعرف مقدارها، هو الذي أوحى إلى الإمام بفكرة إنشاء المكتبة، وقد تقدم بها إلى مجلس إدارة الأزهر وكان ذا نفوذ فيه فنالت القبول من أعضائه،
وبخاصة من الشيخ حسونة النواوي، والشيخ عبد الكريم سلمان الذي كان عضدا قويا للأستاذ الإمام في حركات إصلاح الأزهر، ووافق عليها المجلس واختار المكان المناسب، وكتب لديوان الأوقاف الذي كان يتولى الاشراف على شئون الأزهر لاعداده للمهمة التي أختير لها، فنفذت الفكرة فعلا من أول سنة 1897م الموافق شعبان سنة 1314، وقد لاقى صاحب الفكرة عناء عظيما في إقناع أهل الأروقة بفائدتها، ورغم ما بذله من المحاولات في هذا السبيل فقد امتنع أهل بعض الأروقة عن ضم مكتباتها إلى المكتبة العامة كرواق الأتراك ورواق المغاربة، وقد ضمت مكتبة الصعايدة إلى المكتبة العامة سنة 1936، ولاقي المباشرون للتنفيذ صعوبات جمة في ترميم الكتب وإصلاحها وترتيبها للحالة السيئة التي كانت عليها في خزائن الأروقة كما أسلفنا ويصور الشيخ عبد الكريم سلمان هذه الصعوبات كلها، فيقول:(2/258)
ويقول الأستاذ عبد الكريم سلمان: «كان في الأزهر خزائن كتب وضعت في بعض الأروقة والحارات وبعضها في المساجد القريبة كجامع الفاكهاني وجامع العينى ونيط حفظها جميعها بأشخاص يقال لهم «المغيرون» فتصرفوا فيها تصرفا سيئا للغاية صح معه اطلاق اسم «المغيرين» عليهم، لأنهم غيروا وضعها وشتتوا جمعها، ومزقوا جلودها وأوراقها، وتركوا ما لا عناية لهم به منها في التراب يأكله العث ويبليه التراب، وهذا غير ما تصرفوا فيه تصرف الملاك وطار بأيدي باعة الكتب، يباع على نفاسته بالثمن البخس، ولم يبال المتصرف الأول والباغة بما كتب على ظهور تلك الكتب من العبارات التي تفيد وقفها على طلبة العلم والعلماء، وبالجملة فلم يكن ليعرف للكتب قيمة، ولا لينتفع بها لعدم إمكان الانتفاع». ولقد كان تعرض كتب الأروقة والحارات للضياع والتسرب إلى أيدي المترصدين لها ممن يعرف مقدارها، هو الذي أوحى إلى الإمام بفكرة إنشاء المكتبة، وقد تقدم بها إلى مجلس إدارة الأزهر وكان ذا نفوذ فيه فنالت القبول من أعضائه،
وبخاصة من الشيخ حسونة النواوي، والشيخ عبد الكريم سلمان الذي كان عضدا قويا للأستاذ الإمام في حركات إصلاح الأزهر، ووافق عليها المجلس واختار المكان المناسب، وكتب لديوان الأوقاف الذي كان يتولى الاشراف على شئون الأزهر لاعداده للمهمة التي أختير لها، فنفذت الفكرة فعلا من أول سنة 1897م الموافق شعبان سنة 1314، وقد لاقى صاحب الفكرة عناء عظيما في إقناع أهل الأروقة بفائدتها، ورغم ما بذله من المحاولات في هذا السبيل فقد امتنع أهل بعض الأروقة عن ضم مكتباتها إلى المكتبة العامة كرواق الأتراك ورواق المغاربة، وقد ضمت مكتبة الصعايدة إلى المكتبة العامة سنة 1936، ولاقي المباشرون للتنفيذ صعوبات جمة في ترميم الكتب وإصلاحها وترتيبها للحالة السيئة التي كانت عليها في خزائن الأروقة كما أسلفنا ويصور الشيخ عبد الكريم سلمان هذه الصعوبات كلها، فيقول:
«حملت تلك الكتب من خزائنها إلى المكان الجديد، فكان يأتي بها أولئك المغيرون محشوة في الزكائب والمقاطف، ثم يفرغونها تلالا وأكواما عليها خيوط العناكب وبينها الأتربة، ويتخللها الجلود البالية، وليس بينها من كتاب سليم مستقيم الوضع إلا ما لا يكاد يذكر، وبجانبها أولئك الموظفون المكلفون بجمعها وترتيبها وأعضاء المجلس والأمين يراقبون عملهم ويرشدونهم إلى الطريق الأقوم، فعملوا وأكدوا وأستخلصوا من بين هذه الدشوت والأوراق المتفرقة كتبا معتبرة في كل الفنون، وكان معهم مندوب من ديوان الأوقاف وموظف آخر نيط به تقويم كل كتاب وجد أو جمع بالثمن اللائق به، وقيدت في دفاتر بأعداد متسلسلة، واستلمها الأمين بأثمانها المقدر لها، ثم اشتغلوا بعد ذلك في توحيد الفنون، وقرروا لكل فن موضعا مخصوصا من المكان، وقد استغرق عملهم هذا أزمانا طوالا كانت كلها أتعابا ومشاقا، وإني لأعرف كتبا كثيرة مما نجده الآن كاملا كان الكتاب الواحد منها بعضه في خزانة فلان، وبعضه الآخر في خزانة فلان، وباقيه في خزانة فلان. ولم تجمع أجزاؤه بعضها على بعض إلا بطريق المصادفة
الحسنة، وأعرف كذلك أن بعض الكتب النفيسة النادرة الوجود وجد في دشت كان في خزائن الجامع العينى ولم يعبأ به أحد ممن تولوا تغييرها للطلاب، ولم يعن بفرز الدشت لتوحيد تلك النفائس، إلا بعد أن كان قد صدر أمر أحد مشايخ الجامع بإحراقه وتدارك الأمر من يعرف قيمة العلم ولا يبالي بالتعب في المحافظة عليه، وقد رأيت بعينى كثيرا من المصاحف الشريفة وهي بين الأتربة مع أنها من أجود المصاحف خطا وورقا وفيها من الفوائد وعلوم التجويد ما لا يوجد في سواها، وغير ذلك كثير نكتفي بما ذكرناه، فما الغرض إلا بيان حالها قبل جمعها، وفي هذا القدر ما يكفي».(2/259)
«حملت تلك الكتب من خزائنها إلى المكان الجديد، فكان يأتي بها أولئك المغيرون محشوة في الزكائب والمقاطف، ثم يفرغونها تلالا وأكواما عليها خيوط العناكب وبينها الأتربة، ويتخللها الجلود البالية، وليس بينها من كتاب سليم مستقيم الوضع إلا ما لا يكاد يذكر، وبجانبها أولئك الموظفون المكلفون بجمعها وترتيبها وأعضاء المجلس والأمين يراقبون عملهم ويرشدونهم إلى الطريق الأقوم، فعملوا وأكدوا وأستخلصوا من بين هذه الدشوت والأوراق المتفرقة كتبا معتبرة في كل الفنون، وكان معهم مندوب من ديوان الأوقاف وموظف آخر نيط به تقويم كل كتاب وجد أو جمع بالثمن اللائق به، وقيدت في دفاتر بأعداد متسلسلة، واستلمها الأمين بأثمانها المقدر لها، ثم اشتغلوا بعد ذلك في توحيد الفنون، وقرروا لكل فن موضعا مخصوصا من المكان، وقد استغرق عملهم هذا أزمانا طوالا كانت كلها أتعابا ومشاقا، وإني لأعرف كتبا كثيرة مما نجده الآن كاملا كان الكتاب الواحد منها بعضه في خزانة فلان، وبعضه الآخر في خزانة فلان، وباقيه في خزانة فلان. ولم تجمع أجزاؤه بعضها على بعض إلا بطريق المصادفة
الحسنة، وأعرف كذلك أن بعض الكتب النفيسة النادرة الوجود وجد في دشت كان في خزائن الجامع العينى ولم يعبأ به أحد ممن تولوا تغييرها للطلاب، ولم يعن بفرز الدشت لتوحيد تلك النفائس، إلا بعد أن كان قد صدر أمر أحد مشايخ الجامع بإحراقه وتدارك الأمر من يعرف قيمة العلم ولا يبالي بالتعب في المحافظة عليه، وقد رأيت بعينى كثيرا من المصاحف الشريفة وهي بين الأتربة مع أنها من أجود المصاحف خطا وورقا وفيها من الفوائد وعلوم التجويد ما لا يوجد في سواها، وغير ذلك كثير نكتفي بما ذكرناه، فما الغرض إلا بيان حالها قبل جمعها، وفي هذا القدر ما يكفي».
ولم يكتف الأستاذ الإمام في تكوين المكتبة بما جمع من مكتبات الأروقة، بل دعا العظماء والعلماء إلى المشاركة في فضل تكوينها، واستعان في ذلك بنفوذه عندهم ومكانته لديهم، فاستجاب لدعوته بعض هؤلاء، ووهبها الشيخ حسونة مكتبته الخاصة، ووهبها ورثة سليمان باشا أباظة مكتبة والدهم، وكان المرحوم سليمان أباظة من خاصة أصدقاء الشيخ، وكان أبناؤه يعدون الشيخ كوالدهم في العطف والرعاية، وهذه المكتبة أنفس المكتبات الخاصة بالمكتبة الأزهرية.
وتشغل المكتبة الأزهرية الآن ثلاثة أمكنة: اثنان منها داخل الأزهر وهما: المدرسة الأقبغاوية والمدرسة الطيبرسية، والثالث خارج الأزهر ملاصق له وهو الطابق الثاني من بناء أنشأته مشيخة الجامع الأزهر سنة 1936كملحق للإدارة العامة المجاورة للأزهر. ولقدم المكانين الأولين وقيمتهما نلم بتاريخهما: أما المدرسة الأقبغاوية فهي على يسار الداخل إلى الأزهر من بابه الغربي الكبير «باب المزينين» وقد أنشأها الأمير أقبغا على نظم المدارس الإسلامية لهذا العهد، والمدرسة الإسلامية لهذا العهد مسجد له خصائص المساجد من منارة ومحراب وميضأة ونحو ذلك، إلا أنه تقام فيه الحلقات الدراسية فيقال له مدرسة، وأنشأ بها مدفنا به قبة تعتبر من نوادر الفن الإسلامي في العمارة إلا أنه لم يدفن به ودفن بالإسكندرية، وانتهت عمارة المدرسة سنة 740هـ. ومن الطرائف التاريخية عن هذه المدرسة ما
يرويه المؤرخون من أنها «مدرسة مظلمة ليس عليها من بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادات شيء البتة»، ويعللون ذلك بأن منشئها اغتصب مكانها من مالكيها وسخر العمال في عمارتها وحصل على مواد البناء ولوازم العمارة بطريق الغصب أو الخيانة ووقف على هذه المدرسة أوقافا وشرط في كتاب وقفه ألا يلي النظر أحد من ورثته(2/260)
وتشغل المكتبة الأزهرية الآن ثلاثة أمكنة: اثنان منها داخل الأزهر وهما: المدرسة الأقبغاوية والمدرسة الطيبرسية، والثالث خارج الأزهر ملاصق له وهو الطابق الثاني من بناء أنشأته مشيخة الجامع الأزهر سنة 1936كملحق للإدارة العامة المجاورة للأزهر. ولقدم المكانين الأولين وقيمتهما نلم بتاريخهما: أما المدرسة الأقبغاوية فهي على يسار الداخل إلى الأزهر من بابه الغربي الكبير «باب المزينين» وقد أنشأها الأمير أقبغا على نظم المدارس الإسلامية لهذا العهد، والمدرسة الإسلامية لهذا العهد مسجد له خصائص المساجد من منارة ومحراب وميضأة ونحو ذلك، إلا أنه تقام فيه الحلقات الدراسية فيقال له مدرسة، وأنشأ بها مدفنا به قبة تعتبر من نوادر الفن الإسلامي في العمارة إلا أنه لم يدفن به ودفن بالإسكندرية، وانتهت عمارة المدرسة سنة 740هـ. ومن الطرائف التاريخية عن هذه المدرسة ما
يرويه المؤرخون من أنها «مدرسة مظلمة ليس عليها من بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادات شيء البتة»، ويعللون ذلك بأن منشئها اغتصب مكانها من مالكيها وسخر العمال في عمارتها وحصل على مواد البناء ولوازم العمارة بطريق الغصب أو الخيانة ووقف على هذه المدرسة أوقافا وشرط في كتاب وقفه ألا يلي النظر أحد من ورثته
وأقبغا هو الأمير علاء الدين، كان رقيقا للتاجر عبد الواحد ابن بدال اشتراه منه الناصر قلاوون، ورفعه حظه وذكاؤه إلى مراتب الموظفين، وتقلب في مناصب الدولة المختلفة، إلى أن قتله الملك الصالح عماد الدين في الفتنة بينه وبين أخيه أحمد الناصر. أما المدرسة الطيبرسية فهي على يمين الداخل إلى الأزهر من بابه الغربي المذكور، وفد أنشأها علاء الدين الطيبرس نقيب الجيوش المصرية، وفرغ من عمارتها سنة 709هـ وجعل له بها مدفنا دفن به، وقد عرف بالصلاح والتقوى، فاتفق أنه لما فرغ من بناء هذه المدرسة أحضروا له حساب مصروفها فاستدعى بطست فيه ماء وغسل أوراق الحساب بأسرها من غير أن يقف على شيء عنها، وقال: «شيء خرجنا عنه لله لا نحاسب عليه».
وقد شغلت المكتبة أولا المدرسة الاقبغاوية، لاتساعها واستقلالها بعض الاستقلال، ولما ضاقت بالكتب ضمت إليها المدرسة الطيبرسية.
ويقول الشيخ عبد الكريم سلمان: «ولما جاءت للمجلس فكرة جمع هذه الكتب في مكان واحد وإصلاح ما أفسدته منها هذه الأيدي وتسهيل الانتفاع بها اختار المكان المعروف في الأزهر برواق (الابتغاوية) وكتب لديوان الأوقاف سنة 1314فأرسل من أخذ المقايسة لاصلاحه وإنشاء ما يلزم له من الخزائن التي توضع فيها الكتب، ثم عرض الأمر على ولي الأمر فأقره مستحسنا له، وخرج هذا العمل من القوة إلى الفعل وتهيأ المكان لما وجد له من وضع الكتب وحفظها فيه ومن الانتفاع بها تحت ضوابط ونظامات، وشرع عمالها في إنقاذ ما عهد إليهم من أول مايو سنة 1897الموافق شعبان سنة 1314، ويقول: واشتريت كتبا كثيرة من كثير من التركات حتى
ضاق بها المكان على سعته، فاضطر المجلس إلى أخذ مكان آخر من الأزهر أصلحه ديوان الأوقاف وعمل فيه ما عمل في الأول، وامتلأت خزائنه أيضا بمعتبرات الكتب ونفائسها مما يتجدد شراؤه كل عام.(2/261)
ويقول الشيخ عبد الكريم سلمان: «ولما جاءت للمجلس فكرة جمع هذه الكتب في مكان واحد وإصلاح ما أفسدته منها هذه الأيدي وتسهيل الانتفاع بها اختار المكان المعروف في الأزهر برواق (الابتغاوية) وكتب لديوان الأوقاف سنة 1314فأرسل من أخذ المقايسة لاصلاحه وإنشاء ما يلزم له من الخزائن التي توضع فيها الكتب، ثم عرض الأمر على ولي الأمر فأقره مستحسنا له، وخرج هذا العمل من القوة إلى الفعل وتهيأ المكان لما وجد له من وضع الكتب وحفظها فيه ومن الانتفاع بها تحت ضوابط ونظامات، وشرع عمالها في إنقاذ ما عهد إليهم من أول مايو سنة 1897الموافق شعبان سنة 1314، ويقول: واشتريت كتبا كثيرة من كثير من التركات حتى
ضاق بها المكان على سعته، فاضطر المجلس إلى أخذ مكان آخر من الأزهر أصلحه ديوان الأوقاف وعمل فيه ما عمل في الأول، وامتلأت خزائنه أيضا بمعتبرات الكتب ونفائسها مما يتجدد شراؤه كل عام.
وبالمدرسة الاقبغاوية الآن المكتبة العامة بجميع فنونها، وبقبتها الخارجية، ودهليزها مكتب الأمين وإدارة المكتبة، وبالمدرسة الطيبرسية طائفة من كتب الفنون التي تدور حولها الدراسات الأزهرية، كالتفسير، والحديث، والفقه المالكي، والحنفي، والشافعي، والحنبلي، والبلاغة، والنحو، والصرف وبالمبنى الجديد مكتبتا الشيخين المغفور لهما الشيخ الامبابي والشيخ بخيت، والأمكنة المشار إليها لم يلاحظ في إنشائها أن تكون مكتبة، لهذا فهي غير وافية بالغرض الذي تؤديه، وتفقد كثيرا من الأمور التي يجب توافرها في أبنية المكتبات، ويكفي للتدليل على ذلك أن المكتبة تفقد أهم خواص المكتبات، وهي قاعة المطالعة ومكان الإدارة، وليس لها مرافق خاصة بها، وينقصها الأحكام في الأبواب والنوافذ لمنع تسرب الأتربة والحشرات.
وكان عدد الكتب التي ابتدأت بها المكتبة سنة 77031897كتب منها: 6617كتابا بطريق الاهداء، و 1086بطريق الشراء وعدد فنونها 27 فنا وهي: المصاحف. القراءات، التفسير، الحديث، الأصول، النحو، الصرف، البلاغة، فقه أبي حنيفة. فقه مالك، فقه الشافعي، فقه أحمد بن حنبل، المجاميع، التوحيد، المنطق، التاريخ، التصوف، الأدب والمديح، الآداب والمواعظ والفضائل، الأحزاب والأوراد والأدعية، الوضع وآداب البحث والعروض، الفلك والميقات، مصطلح الحديث، الفنون المنوعة، الحساب والهندسة، اللغة، الطب، وقد بلغت فنون المكتبة سنة 1943 58فنا وبلغ عدد مجلداتها 90075مجلدا.
وبالمكتبة الأزهرية مكتبات خاصة حملت الغيرة الدينية أصحابها أو ورثتهم على إهدائها للمكتبة الأزهرية ليكون نفعها وقفا على العلماء وطلبة العلم بالأزهر ابتغاء مغفرة الله ورضوانه، ويذكر لأصحابها هذا العمل بالثناء
مقرونا بالدعاء أن يحسن الله لهم الجزاء ويهبهم الثواب، وهذه المكتبات وإن كان بعضها مستقلا بخزائنه كشروط أصحابها إلا أنها مسجلة ومفهرسة ضمن المكتبة العامة، ويجري الانتفاع بهما معا دون تمييز، وهذه هي أهم هذه المكتبات مرتبة حسب أهميتها:(2/262)
وبالمكتبة الأزهرية مكتبات خاصة حملت الغيرة الدينية أصحابها أو ورثتهم على إهدائها للمكتبة الأزهرية ليكون نفعها وقفا على العلماء وطلبة العلم بالأزهر ابتغاء مغفرة الله ورضوانه، ويذكر لأصحابها هذا العمل بالثناء
مقرونا بالدعاء أن يحسن الله لهم الجزاء ويهبهم الثواب، وهذه المكتبات وإن كان بعضها مستقلا بخزائنه كشروط أصحابها إلا أنها مسجلة ومفهرسة ضمن المكتبة العامة، ويجري الانتفاع بهما معا دون تمييز، وهذه هي أهم هذه المكتبات مرتبة حسب أهميتها:
1 - مكتبة سليمان أباظة باشا، وقد أهداها ورثته إلى الأزهر سنة 1898م عملا بمشورة الإمام محمد عبده كما أسلفنا، وهي أنفس المكتبات الخاصة بالمكتبة الأزهرية، يستأثر فنا التاريخ والأدب بغالب كتبها، وتمتاز بكثرة المخطوطات وبخاصة الفنين المذكورين، وعدد مجلداتها 1484 مجلدا، وبها جملة صالحة من مطبوعات أوربا.
2 - مكتبة حليم باشا، وقد وزعت بين المكتبة الأزهرية ووزارة المعارف في أغسطس سنة 1912، وخص المكتبة الأزهرية منها نحو 2857 مجلدا، ويظهر من فنونها: القراءات والحديث والتصوف والطب والفلك والتاريخ، وبها كتب في بعض الفنون باللغات التركية والفارسية، وكثير من كتبها بخطوط جيدة موشاة بالذهب.
3 - مكتبة الشيخ عبد القادر الرافعي المفتي المتوفى سنة 1323هـ وقد وقفت بخزائنها الخاصة بها على الأزهر في مارس سنة 1927م ووضعت في حجرة خاصة بها، وعدد مجلداتها 1457مجلدا، وهي أغنى المكتبات الخاصة بفن الفقه الحنفي، وبها مخطوطات في هذا الفن يقال إنها من النوادر العالمية كشرح السندى على الدر المختار.
4 - مكتبة المغفور له الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية المتوفى سنة 1935م وقد وقفها في حياته بخزائنها الجميلة، ونفذ ورثته رغبته سنة 1938م، وعدد مجلداتها 3365مجلدا في فنون مختلفة يغلب فيها الفقه على مذهب أبي حنيفة.
5 - مكتبة المغفور له الشيخ الامبابي شيخ الجامع الأزهر المتوفى
سنة 1313هـ، وقفها على طلبة العلم، وجعل مقرها منزله بالظاهر، وجعل لها مغيرا بمرتب مما وقفه من ماله على جهات البر، وقد خشيت عليها وزارة الأوقاف فأهدتها إلى المكتبة الأزهرية سنة 1941م، وعدد مجلداتها 1452 مجلدا، وبها مخطوطات نادرة في الفقه الشافعي.(2/263)
5 - مكتبة المغفور له الشيخ الامبابي شيخ الجامع الأزهر المتوفى
سنة 1313هـ، وقفها على طلبة العلم، وجعل مقرها منزله بالظاهر، وجعل لها مغيرا بمرتب مما وقفه من ماله على جهات البر، وقد خشيت عليها وزارة الأوقاف فأهدتها إلى المكتبة الأزهرية سنة 1941م، وعدد مجلداتها 1452 مجلدا، وبها مخطوطات نادرة في الفقه الشافعي.
6 - مكتبة يسيم أغا، كانت برواق الجبرت، ورغب في نقلها إلى المكتبة الأزهرية بخزائنها، فتمت رغبته سنة 1925، وبها نحو ألف مجلد في مختلف الفنون
7 - مكتبة الشيخ العروسي شيخ الجامع الأزهر المتوفى سنة 1293هـ، وقد أهداها ورثته إلى المكتبة الأزهرية سنة 1938م، وعدد مجلداتها 818 مجلدا. وكتبها كلها تقريبا بخطوط قديمة وحديثة، وبها نوادر في النحو والتاريخ.
8 - مكتبة الشيخ إبراهيم السقا وأخيه الشيخ عبد العظيم السقا، أهديت إلى المكتبة الأزهرية سنة 1927م وعدد مجلداتها 590مجلدا، وبها نوادر من الكتب الخطية.
9 - مكتبة إبراهيم بك حفظي، وقد أهديت إلى المكتبة الأزهرية سنة 1922م، وعدد مجلداتها الآن نحو 392مجلدا، وهي في نمو مستمر وتجدد دائم، فقد وقف عليها مهديها مبلغا سنويا خصص نصفه لشراء كتب برسمها ونصفه للمغيرين بها.
10 - مكتبة المغفور له الشيخ حسونة النواوي شيخ الجامع الأزهر المتوفى سنة 1925م وبها كتب كثيرة في فنون مختلفة، أهداها إلى المكتبة الأزهرية عقب إنشائها لتكون نواة للمكتبة، وليحرك بها همم أهل الخير إلى تعضيد مشروعها.
11 - مكتبة الشيخ الجوهري، وقد أهديت إلى المكتبة سنة 1928م، وعدد مجلداتها 341مجلدا.(2/264)
12 - مكتبة المرحوم الشيخ محمد عبد اللطيف الفحام المتوفى سنة 1943، أهداها ورثته إلى المكتبة إثر وفاته، وبها نحو ألف مجلد.
وبالمكتبة الأزهرية مكتبات أخرى كمكتبة رضوان باشا ومختار باشا وثابت باشا ورشيد باشا وبعض مكتبة مدرسة القضاء وبعض مكتبة زكي باشا ومكتبة رواق الصعايدة.
ومما تختص به المكتبة الأزهرية كثرة المخطوطات بالنسبة إلى مجموع كتبها، وقد بلغت المخطوطات إلى سنة 1943م 24000مجلد تقريبا.(2/265)
61894 - رفاعة الطهطاوي الأزهري رائد الفكر الحديث في 61895 مصر
هو أحد زعماء نهضتنا العربية الحديثة الذي فتح أمامنا آفاقا واسعة للمعرفة وعلى يديه تكونت نواة الطبقة المثقفة المصرية الصحيحة التي حملت لواء التجديد وهو ابن نابه من سلالة أرض الكنانة تفخر الأمة به رفاعة رافع الطهطاوي أحد العباقرة الذين سيخلدهم تاريخ مصر الحديثة.
رجل جاد به الزمان حين شح الزمان بالرجال وجاد هو على الزمان حين شح الرجال بالأعمال استطاع أن يجمع بين حضارة الغرب المتقدمة ومفاخر حضارة العرب القديمة، ولذلك عنى باحياء التراث القديم مثلما عنى بترجمة مآثر الغرب تحقيقا للنهضة الفكرية ودفعا لحركة البعث الجديد وكما كان الطهطاوي مترجما مبدعا في اختيار موتنا وله وليس مجرد ناقل كان أيضا موسوعيا في كتاباته المختلفة وليس مجرد رحالة، كما كان عالما مؤرخا يستند إلى الوقائع ويرجع إلى الكشوف الأثرية، خاصة وأنه من رواد المؤرخين المصريين الذين عرفوا تاريخ مصر القديم وأعنوا بأمجاد هذا التاريخ. عنى بالكشف عن هذه الحقبة الحضارية الأصيلة في تاريخنا، فأرخ أيضا للدعوة الإسلامية والفتح العربي الإسلامي في كتابه الذي صدر بعد عام واحد من وفاته بعنوان نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز ولعل من الجوانب المجهولة في حياة رفاعة هو اهتمامه بحقوق المرأة، وقد كتب
في ذلك كتابا شهيرا أسماه: المرشد الأمين في تربية البنات والبنين(2/267)
رجل جاد به الزمان حين شح الزمان بالرجال وجاد هو على الزمان حين شح الرجال بالأعمال استطاع أن يجمع بين حضارة الغرب المتقدمة ومفاخر حضارة العرب القديمة، ولذلك عنى باحياء التراث القديم مثلما عنى بترجمة مآثر الغرب تحقيقا للنهضة الفكرية ودفعا لحركة البعث الجديد وكما كان الطهطاوي مترجما مبدعا في اختيار موتنا وله وليس مجرد ناقل كان أيضا موسوعيا في كتاباته المختلفة وليس مجرد رحالة، كما كان عالما مؤرخا يستند إلى الوقائع ويرجع إلى الكشوف الأثرية، خاصة وأنه من رواد المؤرخين المصريين الذين عرفوا تاريخ مصر القديم وأعنوا بأمجاد هذا التاريخ. عنى بالكشف عن هذه الحقبة الحضارية الأصيلة في تاريخنا، فأرخ أيضا للدعوة الإسلامية والفتح العربي الإسلامي في كتابه الذي صدر بعد عام واحد من وفاته بعنوان نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز ولعل من الجوانب المجهولة في حياة رفاعة هو اهتمامه بحقوق المرأة، وقد كتب
في ذلك كتابا شهيرا أسماه: المرشد الأمين في تربية البنات والبنين
تبدأ السيرة العطرة للمصري الفذ رفاعة الطهطاوي في صعيد مصر، حينما ولد في طنطا عام 1801في أسرة متواضعة الحال، وجاء إلى القاهرة صغيرا ليتخرج في الجامع الأزهر وينتهز فرصة تعيينه اماما لأول بعثة تعليمية أرسلتها مصر إلى فرنسا فيتعلم الفرنسية ويتقنها، وبعد عودته يعمل مترجما في المدارس الفنية التي أنشأها محمد علي قبل أن يعين مديرا لمدرسة الترجمة وإلى تغير اسمها لمدرسة الألسن فيما بعد، والمؤرخ لتاريخ الصحافة العربية يضع رفاعة وأعماله الصحفية في الصدارة فالرجل وجد في الصحافة منبرا شعبيا وسلطة كبيرة لها خطرها كما لمس حوادث الثورة الفرنسية عام 1820الأمر الذي جعله يأخذ على عاتقه مهمة التجديد في الصحافة التي لم تكن وقتئذ سوى نشرات رسمية، وحينما صدرت جريدة الوقائع الرسمية ظل رفاعة مشرفا عليها لمدة ثماني سنوات في الفترة من عام 1842حتى عام 1850بعد أن كلفه محمد علي بالإشراف على القسم الأدبي فيها، خاصة وأن جزءا كبيرا منها كان يحرر بالتركية، وبعد الوقائع نولى رئاسة تحرير مجلة روضة المدارس عام 1870وكانت لرفاعة الطهطاوي نظرات في السياسة مثلما كانت له نظرات في التربية والاجتماع، وآراؤه السياسية موزعة بين كتبه العديدة: تخليص الابريز، والمرشد الأمين، وأنوار الجليل، ومناهج الألباب المصرية وغيرها وكان فيها جميعا متأثرا بالعلوم السياسية الفرنسية وليس أدل على ذلك من ترجمته للديوان الفرنسي ولم يعش الطهطاوي ليرى بنفسه ثمرات جهوده في بناء الوعي السياسي في مصر فرحل عام 1873بعد أن سجل إسمه في مقدمة قادة نهضة مصر الحديثة في القرن 19.(2/268)
العيد الألفى 61896 للأزهر
احتفل الأزهر بعيده الألفي عام 14003هـ 1983إحتفالا كبيرا شهده الرئيس حسني مبارك. وبدأ الأزهر الشريف احتفالات مرور ألف سنة على انشائه. يشارك العالم الإسلامي في الاحتفالات التي تأخرت 10سنوات عن موعدها الأساسي. تقرر ان تحتفل الهيئات الإسلامية والوزارات والمؤسسات الشعبية والحكومية في الاحتفالات التي تعم مصر تقديرا لدور الأزهر.
كما تنظم وزارة الأوقاف حلقات في المساجد حول هذه الذكرى وكذلك الجامعات في مصر والخارج. وعددا من المنظمات العالمية في أوروبا وآسيا وأمريكا ستحتفل بذكرى مرور ألف سنة على الأزهر الشريف.
ينتظر أن تستمر الاحتفالات الرسمية أكثر من شهر وعلى مدى السنة الهجرية الحالية بما يحفظ للذكرى جلالها.
وكان الأزهر مثابة العلماء والطلاب من أنحاء العالم الاسلامي. كما كان معقل الوطنية وموكل الأحرار لقد قاد الأزهر ثورتين كبيرتين تعدان من أسبق الثورات الدستورية العالمية ومن أعلم معالم الحركة الوطنية
الثورة الأولى كانت بقيادة الإمام أحمد الدردير. والثانية بقيادة شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي في اواخر القرن الثامن عشر الميلادي(2/269)
أما الثورة الاولى فكانت في ربيع الأول من عام 1200هجرية يناير عام 1786. كان سببها ان محافظ القاهرة آنذاك وهو احد المماليك واسمه حسين بك بشفت كان بعث بجنوده فنهبوا دار رجل من الشعب اسمه أحمد سالم الجزار نائب طريقة الشيخ البيومي الصوفي بالحسينية. فثارت ثائرة أهالي الحي وتوجهوا إلى الشيخ الدردير الذي أعلن أنه سيخرج مع الجماهير من كل أنحاء القاهرة لينهب بيوت المماليك كما نهبوا بيوت الشعب وأمر الشيخ بدق الطبول على المنارات إيذانا بالاستعداد.
وأصبحت القاهرة على أبواب ثورة شعبية وأصبح المماليك يحيط بهم الرعب. وبلغ ذلك إبراهيم بك والي مصر. فأرسل نائبه في الحكم.
ومعه أحد الأمراء من المماليك إلى الإمام الدردير يعتذر له عما حدث ويعده بأن أبدى الامراء عن الناس وبرد كل ما نهب إلى صاحبه وقبل الشيخ الدردير ذلك وتم كل ما أراده وهكذا وضع هذا الإمام الجليل قاعدة دستورية فحواها «وجوب احترام الحاكم لادارة المحكومين».
وأما الثورة الثانية فقد حدثت بعد ذلك بتسع سنوات. في شهر ذي الحجة عام 1209هجرية 1795ميلادية. وكان بطلها هو الإمام الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر الشريف وسببها أن الفلاحين في قرية من قرى بلبيس ذهبوا إلى الشيخ الشرقاوي في الجامع الازهر وشكوا له من ظلم محمد بك الألفي ورجاله لهم، ومن فرضهم على القرية اموالا لا طاقة لها بها.
وتأثر الشيخ الشرقاوي بما بلغه. وبلغ الشكوى الى كل من مراد بك وإبراهيم بك. ولكنهما لم يفعلا شيئا. فعقد مؤتمرا وطنيا في الأزهر حضره العلماء والطلاب والشعب. حيث استقر الرأي على مقاومة الأمراء بالقوة حتى يخضعوا لمطالب الشعب. وعندئذ أمر الامام الشرقاوي باغلاق أبواب الجامع الأزهر. كما أعلن الشعب بإعلان الإضراب العام وإغلاق الأسواق والمحلات.(2/270)
وفي اليوم التالي ركب الشيخ الشرقاوي ومعه العلماء وتبعتهم الجماهير. وسار الموكب إلى منزل الشيخ السادات وهو من كبار العلماء وكان منزله قريبا من قصر إبراهيم بك. فأفزعه مواكب الشعب الثائرة فبادر بإرسال رئيس ديوانه أيوب بك ليسأل العلماء عن مطالبهم وحاول التنصل من إجابة مطلب الشعب ولكن العلماء أصروا على موقفهم وتقاطرت الجماهير صوب الأزهر وبدأت ثورة وطنية عاصفة.
هال ابراهيم بك ما بلغه وأرسل إلى العلماء يعتذر وفي اليوم التالي توجه والي مصر العثماني إلى منزل إبراهيم بك واجتمع مع أمراء المماليك حيث أرسلوا إلى العلماء ليجتمعوا بهم. فحضر الإمام الشرقاوي والسيد عمر مكرم والشيخ السادات والشيخ البكري والشيخ الأمير وانتهى الاجتماع بالموافقة على مطالب الشعب التي قدموها وتتلخص في:
«عدم فرض أية ضريبة إلا إذا أقرها مندوبو الشعب. وينزل الحكام على مقتضى أحكام المحاكم. ولا تمتد يد أي سلطان الى أي فرد إلا بالحق» وتم تحرير وثيقة تتضمن هذه القرارات ورجع العلماء يحيط بهم موكب من الأهالي وبهم يهتفون «حسب ما رسمه ساداتنا العلماء بأن جميع المظالم والمكوس والحوادث لاغية من جميع الديار المصرية».
ويجمع أكثر المؤرخين على أن هذه الوثيقة كانت بمثابة اعلان حقوق الانسان سبقت بها مصر غيرها من الشعوب. وذلك قبل اعلان الثورة الفرنسية لميثاق حقوق الإنسان.
إحتفال 61897 الأزهر بعيده الألفي
ومن إحتفال الأزهر بعيده الألفي وأعلن فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر في كلمته أن رسالة الأزهر ليست من الرسالات المحلية بل رسالته تجاوزت توصيل المعرفة للفرد والجماعة إلى تنمية العلاقات بين الشعوب العربية والإسلامية باعتبارها أمة واحدة تجمعها أخوة الإسلام.(2/271)
وقال فضيلته: لقد تبوأ الأزهر مكانته العالمية المتينة في دراسة علوم القرآن والسنة النبوية وشتى العلوم الاسلامية، والحفاظ على اللغة العربية والقيادة الرشيدة الى العمل بأحكام الاسلام وتعاليمه ونظمه وقوانينه حتى أصبح له جامعة تضم 35كلية تخدم الإسلام والمسلمين، ونمت معاهده فبلغت أكثر من ألف ومائة معهد. وأنه في كنف مصر يستقبل الأزهر أبناء المسلمين من كافة الشعوب والأقطار في أعداد متزايدة حتى بلغت بضعة آلاف يواصلون الدراسة في كافة مراحلها بالمعاهد والكليات.
وأشار فضيلة الدكتور محمد الطيب النجار رئيس جامعة الأزهر في كلمته الى الدور الديني والعلمي والوطني الذي قام به الأزهر في مختلف العصور حتى أصبح منارا للدين الاسلامي وأن رسالة الأزهر تنبثق من رسالات السماء. وأن دعوته تأتي من العبادات السليمة. وتنقية الاسلام من بعض المفاهيم الخاطئة.
وقال فضيلته: إذا ما أجتمع القول بالعمل لعلمائنا فيكونون بحق ورثة الانبياء وحتى يضطلع الأزهر برسالته على أكمل وجه فلابد له من العناية التامة من المسئولين والمزيد من العناية والرعاية والدعم المادي الكبير حتى يؤدي رسالته على أكمل وجه استجابة لمطالب المجتمع الإسلامي.
61898 - الأزهر والحكومة
وأشاد فضيلة الدكتور محمد السعدي فرهود وكيل الأزهر والأمين العام للجنة العليا للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر بالجهود المبذولة لرفع شأن الأزهر والأزهريين والخطوات التي بذلتها الحكومة حتى يشهد جيلنا هذا الحدث التاريخي في حياة الأمة الإسلامية. وضرب الأمثلة لدعم هذا العمل.
وألقى فضيلة الدكتور الحسيني هاشم الأمين العام لمجمع البحوث الاسلامية قال فيها: إن الأزهر الشريف قد فتح أبوابه منذ القدم، وتلاقت
في رحابه جميع الأجناس وألوان المسلمين ينهلون من علمه فأصبح الأزهر المعمور بطلابه وعلمائه الذين يسعون في الارض لنشر الدين الحنيف.(2/272)
وألقى فضيلة الدكتور الحسيني هاشم الأمين العام لمجمع البحوث الاسلامية قال فيها: إن الأزهر الشريف قد فتح أبوابه منذ القدم، وتلاقت
في رحابه جميع الأجناس وألوان المسلمين ينهلون من علمه فأصبح الأزهر المعمور بطلابه وعلمائه الذين يسعون في الارض لنشر الدين الحنيف.
كلمة الوفود
وألقى كلمة الوفود لحضور احتفالات العيد الألفي للأزهر فخامة الرئيس مأمون عبد القيوم رئيس جمهورية مالاديف. ووجه التهنئة باسم جميع الشعوب الإسلامية إلى الأزهر الشريف في احتفاله بالعيد الألفي
وأشاد بالعلاقات الطيبة التي تربط مصر بدول العالم العربي والإسلامي بصفة عامة وبجمهورية مالاديف بصفة خاصة.
وقام الرئيس حسنى مبارك أمس خلال المؤتمر لعلماء المسلمين الذي عقده مجمع البحوث الإسلامية احتفالا بالعيد الألفي للأزهر بتوزيع الأوسمة على بعض علماء الأزهر. فقد سلم الرئيس وشاح النيل إلى فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق. وسلم الرئيس وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى إلى أصحاب الفضيلة الشيوخ إبراهيم الدسوقي وأحمد حسن الباقوري ومحمد متولي الشعراوي وزكريا البري ومحمد السعدي فرهود وحسنين محمد مخلوف ومصطفى محمد الطير وعطيه محمد صقر وأحمد فتحي الزيات وعبد اللطيف خليف وأحمد محمد عمر وعبد الرحمن الكردي والحسيني هاشم وعبد الحكيم حسن نعناع وحامد عبد الحميد جامع.
منح الرئيس حسني مبارك وسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى الى كل اسم المرحوم أصحاب الفضيلة الشيوخ حسون عبد الله النواوي وسليم أبو فرهاد البشري ومحمد أبو الفضل الجيزاوي ومحمد مصطفى محمد المراغي ومحمد الأحمدي إبراهيم الظواهري ومصطفى حسن أحمد عبد الرازق ومحمد مأمون سيد أحمد الشناوي وعبد المجيد سليم وابراهيم ابراهيم حمروش ومحمد الخضر حسين من أصل تونسي وعبد الرحمن سيد علي حسن ومحمود شلتوت وحسن مصطفى مأمون ومحمد محمد الفحام وعبد الحليم محمود علي.(2/273)
ومنح الرئيس حسنى مبارك نفس الوسام للدكتور عبد المنعم أحمد النمر واسم المرحوم الشيخ الدكتور محمد البهي والدكتور محمد حسين الذهبي والدكتور بدوي عبد اللطيف عوض والدكتور عوض الله حجازي وأسماء المرحومين الدكتور محمد حسن فايق والحسيني أحمد سلطان ودسوقي محمد العربي وسيد علي المرصفي وعبد الرحمن حسن عبد المنعم وعبد الرحمن محمد قراعه ومحمد أحمد عرفه ومحمد بخيت المسيري ومحمد الشافعي الظواهري ومحمد عبد اللطيف الفحام ومحمد عبد الله دراز ومحمود اسماعيل الديناري ويوسف أحمد نصر الدجوى.
ومنح الرئيس نفس الوسام للدكتور أحمد فهمي أبوسنة وأصحاب الفضيلة الشيوخ أحمد محمد هريدي وبدر متولي، عبد الباسط وعلي حسن عبد القادر وعبد العزيز هويدي وسليمان حزين وصالح موسى شرف وعبد الحليم الجندي وعبد الله عبد الخالق المشد والدكتور محمد جمال الدين الفندي ومحمد خاطر الشيخ ومحمد شمس الدين ابراهيم ومحمد عبد الله ماضي والدكتور محمد مصطفى شلبي والدكتور محمد مهدي علام.
ومنح نفس الوسام لأعضاء مجمع البحوث الإسلامية من البلاد الشقيقة وهم: الدكتور إسحق موسى الحسيني من فلسطين والدكتور عبد الجليل حسن من ماليزيا والدكتور عبد الله تمام من المغرب وعلى عبد الرحمن الأمين من السودان والدكتور محمد الحبيب الشاذلي من تونس واللواء الركن محمود شيت خطاب من العراق والأستاذ وفيق القطان من لبنان.
ومنح الرئيس حسني مبارك هذا الوسام الى أسماء المرحومين الشيوخ عيسى أحمد متولي وهو من أصل فلسطيني ومحمد أبو زهرة ومحمد أحمد فرج السنهوري ومحمد علي السايس ومحمد نور الحسن وهو من أصل سوداني والمهندس عبد السلام فهمي والشيخ ثابت أبو المعالي معالي عثمان واسم المرحومين الشيخ محمد عبد اللطيف دراز ومحمود أبو
العيون ومنحه لكل من: الشيخ خلف السيد علي وعبد الجليل عبده شلبي واسم المرحوم محمود حب الله خير الله ومنحه للشيخ عبد الحميد عبد الحكيم الغفاري وعبد العزيز عبد الله عبيد وعبد الغنى عبد الله الراجحي ومحمد محمد أبو شهبة واسم المرحوم محمد علي سالم أبو الروس.(2/274)
ومنح الرئيس حسني مبارك هذا الوسام الى أسماء المرحومين الشيوخ عيسى أحمد متولي وهو من أصل فلسطيني ومحمد أبو زهرة ومحمد أحمد فرج السنهوري ومحمد علي السايس ومحمد نور الحسن وهو من أصل سوداني والمهندس عبد السلام فهمي والشيخ ثابت أبو المعالي معالي عثمان واسم المرحومين الشيخ محمد عبد اللطيف دراز ومحمود أبو
العيون ومنحه لكل من: الشيخ خلف السيد علي وعبد الجليل عبده شلبي واسم المرحوم محمود حب الله خير الله ومنحه للشيخ عبد الحميد عبد الحكيم الغفاري وعبد العزيز عبد الله عبيد وعبد الغنى عبد الله الراجحي ومحمد محمد أبو شهبة واسم المرحوم محمد علي سالم أبو الروس.
ومنح الرئيس نفس الوسام الى أصحاب الفضيلة الشيوخ سليمان حسن ربيع والشيخ عبد السلام أبو النجا ومحمد عبد المنعم خفاجي ومحمد نايل حمد ويوسف أبو العلا الجاشع ويوسف البيومي البسيوني واسم المرحومين الشيوخ إمام الخولي ويوسف أحمد عوض.
ومنح الرئيس نفس الوسام إلى الشيوخ محمد قناوي عبد الله ومحمد كامل الفقى وإبراهيم على أبو الخشب وعبد العظيم على الشناوي ومحمد رفعت فتح الله سليمان سيد أحمد دنيا وعبد الغني عبد الخالق.
والى أسماء المرحومين الشيوخ أحمد الشرباصي وعبد الحميد على قادوم وعبد المتعال الصعيدي ومحمد فتح الله بدران ومحمد محمد الاودين ومحمد يوسف موسى ومنحه الى الشيخ زكي إبراهيم سويلم واسم المرحوم الشيخ محمد حسن شبانة.
ومنحه إلى الشيوخ محمد عبد التواب محمد مرسى عامر وأسماء المرحومين الشيوخ محمد محمد التميري وعلي محمود.(2/275)
المدارس العلميّة والأدبية فى 61899 الأزهر الشريف خلال الف عام
1
جامعة الجامعات، وحارس الإسلام، والداعية الأمين إلى دين الله، طيلة ألف عام أو تزيد.
وحدث عن مجد الأزهر العلمي خلال تاريخه الطويل ولا حرج، وعن مواكب العلم والعلماء فيه على امتداد عشرة قرون كاملة، وعن حلقات العلم في أروقته الشم، وعن طلابه وعلمائه الوافدين من قرى مصر ومن كل أنحاء البلاد الإسلامية ولا عجب فالحديث كله عطر وشذى، وكله حقيقة وتاريخ.
الأزهر، هذه الكلمة الجميلة، المقدسة، الطاهرة، ما أجملها، وما أكرمها وما أروعها إنها تاريخ أجيال، وصمود أبطال، ومواكب تاريخ، وهي فلق الصباح، ونور الشمس الباهر، وضوء البدر المسفر، واليقين كل اليقين بعظمة الإسلام وجلاله وخلوده. يقول الشاعر الكبير إبراهيم ناجي من رسالة أدبية له وجهها إلى الدكتور طه حسين (92من كتاب ناجي الشاعر لصالح جودت):
«أرجو بحق الله عليك ألا تذكر الأزهر إلا بالخير، أتعلم لم أحبة؟
أحبه لتلك الحلقات التي تجعل العالم وتلاميذه في صعيد واحد، فلا يعلو عليهم إلا بعلمه وعلى ذكر الأزهر لأجلسن في الحلقات، وأتعلم الصبر على المكاره».(2/276)
«أرجو بحق الله عليك ألا تذكر الأزهر إلا بالخير، أتعلم لم أحبة؟
أحبه لتلك الحلقات التي تجعل العالم وتلاميذه في صعيد واحد، فلا يعلو عليهم إلا بعلمه وعلى ذكر الأزهر لأجلسن في الحلقات، وأتعلم الصبر على المكاره».
ويقول أمير الشعراء. أحمد شوقي: (19321869):
يا معهدا أفنى القرون جداره
وطوى الليالي ركنه والأعصرا
إن الذي جعل العتيق مثابة
جعل الكناني المبارك كوثرا
أمضى الأزهر أحقابا طوالا في حراسة التراث، إذ ظل بيت العلم والعلماء، وموئل المفكرين والرواد، ومجدد الثقافة الإسلامية الخالدة، والنور الوهاّج الذي يضىء ولا يحرق، والملاذ الذي تهوى إليه أفئدة المسلمين من كل صوب وحدب.
ومصر منذ القدم وطن الجامعات، جامعة عين شمس القديمة، وجامعة منف، وجامعة الإسكندرية الأولى، وفي الإسلام جامعة الفسطاط، ثم جامعة الأزهر، ودار الحكمة ثم جامعات مصر الحديثة.
وحين تحتفل مصر، ويحتفل معها العالم الإسلامي بالعيد الألفي للأزهر نذكر كيف أصبح الأزهر منذ إنشائه قلعة الإسلام الثقافية وصرح اللغة العربية الحضاري، ومعقل التراث الإسلامي العربي بكل ذخائره وفنونه وعلومه على امتداد الأجيال ولقد شيده الفاطميون في مطلع حكمهم لمصر، بعد أن شيدوا مدينة القاهرة لتكون حاضرة دولتهم الكبيرة، وقصدوا أن يكون الأزهر المنارة الثقافية والحضارية لمملكتهم الواسعة
2
ويحدثنا التاريخ فيقول:
وضع الحجر الأساسي يوم السبت لست بقين من جمادي الأولى
عام 259هـ 970م في رواية، أو يوم السبت الرابع من رمضان في العام نفسه في رواية أخرى وكمل بناؤه لسبع خلون من رمضان عام (361هـ 22يونيو 972م).(2/277)
وضع الحجر الأساسي يوم السبت لست بقين من جمادي الأولى
عام 259هـ 970م في رواية، أو يوم السبت الرابع من رمضان في العام نفسه في رواية أخرى وكمل بناؤه لسبع خلون من رمضان عام (361هـ 22يونيو 972م).
أختار المعز لدين الله عددا من كبار العلماء والفقهاء في عصره ليتولوا الوعظ والأرشاد في هذا البيت الكريم، وكان عددهم ثلاثين، وأجزل لهم العطاء، وبنى لهم منازل فخمة، ألحقت بالأزهر، وصارت فيما بعد من أروقته.
وفي صفر 365هـ / 976م جلس في الأزهر قاضى القضاة أبو الحسن على بن النعمان بن محمد، يملي ويشرح مختصر أبيه في الفقه على مذهب آل البيت وعنوان هذا المختصر هو «الاقتصار»، وكان جمعا كبيرا أثبت فيه أسماء الحاضرين من شهود هذا الجمع. وكان ذلك بمثابة افتتاح رسمي لحلقات التدريس في الأزهر الشريف.
وكان وزير المعز يعقوب بن كلس يجلس كل يوم جمعة في الأزهر ليدرس. مؤلّفه «الرسالة الوزيرية» في فقه آل البيت في حلقة خاصة به.
كما كان يجتمع فيه كل ثلاثاء بالفقهاء وجماعة المتكلمين وأهل الجدل، وذلك منذ عام 369هـ / 980م وكان يرع إلى مجلسه القضاة والفقهاء والأدباء وأكابر القصر، ورجالات الدولة والدعوة.
وفي عام 378هـ 988م استأذن هذا الوزير الخليفة العزيز بالله في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للتدريس فيه، وكان عددهم سبعة وثلاثين فقيها، وقد رتب لهم العزيز أرزاقا وجرايات شهرية، وأنشأ لهم دار اللسكني بجوار الجامع، وخلع عليهم في يوم الفطر وكان عدد الطلبة خمسة وثلاثين طالبا، كانوا كذلك موضع رعاية العزيز وتشجيعه وبذلك صار الجامع جامعة، وأصبح قبلة العلماء والطلاب، وأخذت حلقاته تنال شهرة عالمية وقامت المدارس الفكرية والعلمية والأدبية فيه.(2/278)
3
والمدرسة الفقهية في الأزهر هي دعامة من أكبر دعاماته، ففي العصر الفاطمي رأينا مدرسة فقه آل البيت يتصدرها القضاة من بني النعمان، وأحيانا داعي الدعاة، والمؤيد الشيرازي داعي الدعاة هو ممن كان يلقي محاضراته في الأزهر في عهد المستنصر الفاطمي (487427هـ:
10941036)، وكان المؤيد شاعرا كبيرا، وأدبيا موهوبا، وله ديوان شعر، ومن كتبه: المجالس المستنصرية نهج الهداية نهج العبادة، وغيرها. وكان يناظر أبا العلاء المعري في بعض محاضراته.
فتحت أبواب الأزهر منذ إنشائه لكل مسلم، وقصده الطلاب من مشارق الأرض ومغاربها. يتلقون العلم فيه، وتجرى عليهم الأرزاق، وتقيم كل جماعة منهم في مكان خاص بهم، وهذا هو نظام الأروقة الذي بدأ ببداية الحلقات العلمية في الأزهر. ومن كتب فقه آل البيت التي كانت تدرس في الأزهر آنذاك: كتاب الاقتصار الرسالة الوزيرية دعائم الإسلام وغيرها. وفي مقدمة الأساتذة المدرسين فيه.
بنو النعمان قضاة مصر، ومنهم: أبو الحسن علي بن النعمان (374هـ) أخوه أبو عبد الله محمد بن النعمان (389هـ) ابنه الحسن ابن علي بن النعمان قاضي الحاكم بأمر الله. وقد ظل فقه آل البيت يدرس حتى جاء الأيوبيون، فمنعوا دراسة الفقه الاسماعيلي فيه.
ومن المرجح أن فقيه مصر ومؤرخها الكبير، الحسن بن زولاق (387) كان من الذين تولوا التدريس فيه، فقد كان صديق المعز لدين الله ومؤرخ سيرته، ثم صديق ولده العزيز من بعده، فمن المعقول ان يكون من الذين اختيروا للتدريس فيه.
وفي العصر الفاطمي كان الأزهر مركزا، ومقرا لمجالس القضاء، ومركز الاحتفال الرسمي بالمولد النبوي الشريف، وبيوم عاشوراء كذلك قبل إنشاء المشهد الحسيني عام 549هـ.(2/279)
ومن أعلام الفكر في الأزهر في العصر الفاطمي: المسبحي الكاتب والمؤرخ المشهور (420366هـ)، وقد أخذ بقسط كبير من ثقافات عصره وعلومه.
ومن كتبه: أخبار مصر، وكتب أخرى مفقودة. وقد نشأ وتعلم في الأزهر وأفاد من علمائه.
ومنهم كذلك أبو عبد الله القضاعي (454390هـ) الذي كان من أقطاب العلماء، وتولى منصب القضاء وغيره من مهام الدولة في عهد المستنصر وأوفده الخليفة سفيرا إلى قيصرة القسطنطينية عام 447هـ / 1055 م للمفاوضة في عقد صلح بينهما. وله كتاب مفقود في تاريخ مصر بعنوان «المختار في ذكر الخطط والآثار». ومنهم الحافظ السلفي (576470 هـ).
وفي العصر الأيوبي عطلت صلاة الجمعة في الأزهر نحو مائة عام، ولكن حلقات الدراسة بقيت مستمرة فيه، وألغى درس الفقه الاسماعيلي، ودرس فقه أهل السنة والمذاهب الفقهية الأخرى. وقام في حلقاته في هذا العصر وما بعده الآلاف من كبار الفقهاء والمفتين، ونذكر منهم:
شيخ الإسلام الحافظ المنذري (660581هـ).
شيخ الإسلام عز الدين عبد السلام (660577هـ).
قطب الدين القسطلاني (666614هـ).
شيخ الإسلام ابن دقيق العيد (702625هـ).
الإمام الزيلعى 743هـ.
الإمام تقي الدين بن السبكي (756683هـ).
الإمام البلقيني (805724هـ) مجدد المائة الثامنة.(2/280)
الإمام السيوطي (911849هـ) مجدد الإسلام في المائة التاسعة.
الإمام الكمال بن الهمام (861هـ).
الإمام شهاب الدين ابن عبد الحق السنباطي (921هـ).
وكان واعظا بالأزهر الشريف.
شيخ الإسلام الرملي.
شيخ الإسلام الشيخ عبد الله الشبراوي (11711091هـ).
شيخ الإسلام الفقيه المحدث المفتي أحمد الخالدي الأزهري الشهير بالجوهري (11821096هـ).
شيخ الإسلام الشيخ الخرشي (1001هـ).
الشيخ على العدوي المالكي (11891112هـ).
الشيخ الدردير (12011127هـ).
وظلت المدرسة الفقهية ممثلة في الأزهر أتم تمثيل، وبها نال مجدا باذخا وصيتا عاليا، في جميع المذاهب الإسلامية الفقهية، فكان شيوخ الأزهر من كبار الفقهاء في العالم الإسلامي، حيث وجدنا:
الشيخ المهدي العباس الحنفي مفتي الديار المصرية، وصاحب الفتاوي المهدية (13151243هـ).
الشيخ حسونه النواوي شيخ الأزهر الشريف (13431255هـ)
الشيخ بخيت المطيعي.
الشيخ عبد المجيد سليم.
الشيخ حسنين مخلوف.
الشيخ محمد حسنين مخلوف.(2/281)
الشيخ محمود شلتوت. وغيرهم.
ولا ريب أن المدرسة الفقهية في الأزهر خلال ألف عام قد رفعت راية الإسلام خفاقة عالية، وحافظت كل المحافظة على روح التشريع الإسلامي. فقها وأصولا وفتيا وقضاء.
4
ومدرسة التفسير والحديث والقراءات في الأزهر الشريف ذات صدى كبير في التراث الإسلامي، وقبل إنشاء الأزهر عاش في مصر نافع (120 هـ)، وورش شيخ القراء، وحسبنا في القراءات الشاطبي (590538 هـ)، والفخر البلببسي أستاذ القراءات وإمام الأزهر ومحمد بن سرافة الشاطبي (663592هـ)، وقد تولى مشيخة دار الحديث الكاملية في القاهرة.
ومن المحدثين من أعلام الأزهر كذلك: أبو العباس أحمد بن هاشم المصري، كان من كبار المحدثين والمقرئين حيث اشتهر بدرسه في القراءات بالأزهر الشريف، وتوفي عام 445هـ)، ومنهم. السخاوي المصري (643558هـ)، وهو صاحب تفسير مشهور، والحافظ المنذري شيخ الإسلام، والحافظ السلفي، وابن المنير وكان إماما في التفسير والنحو والأدب (683602هـ)، وقطب الدين القسطلاني (666614هـ)، وشرف الدين الدمياطي المحدث (715613هـ)، وابن حجر (773 852هـ) وهو مؤلف «فتح الباري في شرح صحيح البخاري» وقد تولى خطابة الأزهر حينا من الزمان، وكذلك بدر الدين العيني (855762هـ) مؤلف «عمدة القارىء بشرح صحيح البخاري»، وكذلك شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي (12271150هـ).
ومن المفسرين الأجلاء: الجلالان: السيوطي، والمحلي، والخطيب الشربيني ومن المفسرين في عصرنا: شلتوت ومخلوف والشيخ عبد الجليل عيسى، والخفاجي وسواهم.(2/282)
وليتنا نجد في جامعة الأزهر كلية للتفسير والحديث خاصة ليستعيد الأزهر مكانته في هذا الجانب العلمي الجليل.
5
وحدث عن مدرسة التصوف في الأزهر الشريف ولا حرج، وأمامنا:
عبد الرحيم القنائي (592هـ)، وأبو العباس المرسي (686616هـ)، وابن الفارض (632476هـ)، وإبراهيم الدسوقي (676633هـ)، والبوصيري (639608هـ)، وابن عطاء الله السكندري (709638 هـ) وابن دقيق العيد (702623هـ)، وشمس الدين الحنفي (847 هـ)، والشعراني (973898هـ)، وعبد الله الشبراوي (1171م)، والشيخ الحفني 1181هـ، والشيخ الدردير وسواهم
6
ومدرسة الأدب والشعر والنقد في الأزهر مدرسة ممتدة على طول الأيام ونحن لا ننسى: ابن شيت من أدباء القرن السادس، وابن الفارض (632هـ)، وابن أبي الأصبع (654)، وابن الساعاتي (604هـ)، والبهاء زهير 656581هـ)، وابن مطروح (649592هـ)، والقلقشندي صاحب صبح الأعشى (821هـ) والنويري، صاحب نهاية الأرب (732هـ) والسيوطي (911هـ)، والعباس صاحب كتاب «معاهد التنصيص»، وابن نباته المصري (768686هـ)، ومحمد جلال الدين الوطواط (818هـ)، وابن الوردي، وشمس الدين النواحي، والشهاب الخفاجي (1069975)، والمحبي (1061 1111هـ)، وعبد الله الشبراوي (1171) وسواهم. وفي العصر الحديث نجد الشيخ حسن العطار والشيخ عبد الهادي نجا الإبياري (1821 1888م) وحسين المرصفي وسيد بن على المرصفي وغيرهم.
ولما ظهر الإمام محمد عبده بدأت النهضة الأدبية تشق طريقها بقوة داخل أروقة الأزهر، وقد ألف الإمام جمعية إحياء علوم العلوم العربية عام
1900 - م وكان فاتحة أعمال هذه الجمعية طبع كتاب المخصص لابن سيده، ثم نهج البلاغة. كما طبع أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز وهما لعبد القاهر الجرجاني، وقد درسهما الإمام محمد عبده في الأزهر.(2/283)
ولما ظهر الإمام محمد عبده بدأت النهضة الأدبية تشق طريقها بقوة داخل أروقة الأزهر، وقد ألف الإمام جمعية إحياء علوم العلوم العربية عام
1900 - م وكان فاتحة أعمال هذه الجمعية طبع كتاب المخصص لابن سيده، ثم نهج البلاغة. كما طبع أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز وهما لعبد القاهر الجرجاني، وقد درسهما الإمام محمد عبده في الأزهر.
ولما ألقى الإمام محمد عبده درسه الأول في كتاب «أسرار البلاغة» في الأزهر قال الشيخ محمد المهدي: لقد اكتشفت معنى البيان هذه الليلة: ومن تلاميذ الإمام في حلقات العلم والفكر: حافظ إبراهيم، ومحمد رشيد رضا: وسعد زغلول، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، وعبد المحسن الكاظمي، وأحمد لطفي السيد، الذي كان يقول عن الإمام: أستاذنا، والشيخ مصطفى عبد الرازق، ومحمد مصطفى المراغي، والشيخ حسين والي، وعباس محمود العقاد الذي كان يقول عن الإمام محمد عبده: إنه أعظم رجل ظهر في مصر منذ خمسة قرون.
ومدرسة الامام هي التي قادت مواكب النهضة والتجديد والاصلاح في مصر. على أن جل أدباء مصر منذ القرن الخامس حتى اليوم، هم من أبناء الأزهر، وفي هذا المقام نذكر الشيخ محمد الخضر حسين، والسيد حسن القاياتي، وشاعر الأزهر الشيخ محمد الأسمر (19561900):
ونذكر الشاعر محمود أبو الوفا وصالحا الشرنوبي.
وأول رائد في النقد في العصر الحديث هو الشيخ الأزهري حسين المرصفي (1889م)، وأول رائد في القصة القصيرة هو الأزهري مصطفى المنفلوطي، وأول رائد في الصحافة المصرية هو الصحفي الأزهري الشيخ على يوسف رحمه الله.
وفي الأزهر ألف المقري كتابه الخالد «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» نحو عام 1020هـ، وكذلك في الأزهر ألف كتاب «وفيات الأعيان» لابن خلكان (681هـ).
7
وفي البلاغة والنقد ظهرت مدرسة كبيرة في الأزهر، ومن أعلامها:(2/284)
ابن أبي الأصبع المصري (654585هـ)، وهو مؤلف كتاب بديع القرآن، وتحرير التحبير.
وتلاه ابن السبكي صاحب كتاب «عروس الأفراح» (756683 هـ)، ثم السيوطي صاحب كتاب «عقود الجمان في المعاني والبيان».
وألف البديعي (1073هـ) كتابه «الصبح المنبى» عن حيثية المتنبي.
وتمتاز مدرسة البلاغة في الأزهر بجمعها بين طريقتي المتكلمين والأدباء وبأنها ترجع إلى الذوق أكثر من احتكامها إلى المنطق.
8
وقامت في الأزهر مدرسة لغوية ونحوية كبيرة، بدأت بالحوفي النحوي الذي كان من أئمة اللغة في عصره، وألف كتبا كثيرة في النحو والأدب، منها كتاب «إعراب القرآن» وتوفي عام 430هـ وقد أخذ عن أبي بكر الأدفوي، وكتابه «الموضح» في النحو استوفى فيه العلل والأصول.
ثم ظهر ابن بابشاذ النحوي المشهور، وكان كاتبا في ديوان الانشاء في خلافة المستنصر الفاطمي، وتوفي عام 469هـ، وله شرح على كتاب الجمل للزجاجي، وشرح على الأصول لابن السراج.
وتلاه أبو عبد الله بن محمد بن بركات النحوي، وهو تلميذ القضاعي، وكان من أئمة اللغة والنحو، وتوفي عام 520هـ.
وتلاهم ابن بري المصري المتوفى عام 582هـ، الذي رأس ديوان الرسائل، كابن بابشاذ، وله في النحو واللغة مؤلفات كثيرة، ثم ابن القطاع اللغوي صاحب كتاب الأفعال.
وفي العصر الأيوبي وعصر المماليك والعصر العثماني في الأزهر طائفة من أعلام اللغويين والنحاة، من أشهرهم:(2/285)
ابن منظور (711362هـ) الذي ألف معجمه «لسان العرب» في الأزهر.
وابن معطى (628هـ) الذي تصدر لقراءة النحو والأدب في الأزهر، وله شرح على الجمل للزجاجي.
وابن الحاجب، الذي نصدر في النحو، وله كتاب الإيضاح وهو شرح على المفصل للزمخشري.
والمرادي المصري (749هـ)، وله شرح كذلك على المفصل، وشرح على كتاب التسهيل لابن مالك.
والفيروز أبادي (817هـ) الذي وضع معجمه «القاموس المحيط» في الأزهر.
كما ظهر ابن هشام النحوي المصري (761708هـ) صاحب الشذور، والقطر، وأوضح المسالك، ومغنى اللبيب، والجامع الكبير، والجامع الصغير، وقواعد الإعراب، وغيرها. وقال عنه ابن خلدون في مقدمته: ما زلنا نسمع ونحن بالمغرب أنه قد ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه.
وتلاه ابن عقيل المصري (769هـ) والدماميني الذي التف حوله الطلاب في الأزهر، وله شرح على التسهيل وشرح على المغنى.
ثم الشمنى (872هـ)، وخالد الأزهري، والسيوطي (911هـ) والأشموني (929هـ)، وابن قاسم (994هـ)، والشنوانى (1019هـ) وعبد القادر البغدادي (1093) صاحب «خزانة الأدب»، والشيخ يس (1061هـ) والحفنى 1178هـ والصبان (1206هـ) وغيرهم.
وفي الأزهر ألف السيد مرتضى الزبيدي (1215هـ) معجمه اللغوي الكبير «تاج العروس».
9
وفي الأزهر ظهرت مدرسة تاريخية ضخمة بدأت بالحسن بن زولاق
المصري (387هـ) الذي كان من أوائل الذيي تولوا التدريس في الأزهر.(2/286)
وفي الأزهر ظهرت مدرسة تاريخية ضخمة بدأت بالحسن بن زولاق
المصري (387هـ) الذي كان من أوائل الذيي تولوا التدريس في الأزهر.
ثم ظهر المسبحّي (420366هـ) الكاتب والمؤرخ الشهير، وكتابه «أخبار مصر» الذي فقدناه كان ثروة كبيرة، وقد اعتمد عليه المؤرخون.
وظهر بعد المسبحي الفضاعي المؤرخ والمحدث والفقيه وله كتب كثيرة منها «المختار في ذكر الخطط والآثار».
وفي الأزهر في العصر الأيوبي وفد على مصر عام 589هـ ظهر عبد اللطيف البغدادي (629557هـ) المؤرخ والأديب والناقد والطبيب، الذي ألقى رجاله في الأزهر، وكان يلقي دروسه فيه على الطلاب أعواما طوالا.
ثم وفد كذلك على مصر ابن خلدون (808737هـ) وذلك عام 784هـ، وألقى رجاله في الأزهر، وأكمل كتابه التاريخي «العبر وديوان المبتدأ والخبر» وهو ستة أجزاء، وانتهى كذلك في الأزهر من كتاب مقدمة هذا التاريخ المعروفة بالمقدمة، وهي في علم الإجتماع، وابن خلدون هو رائد علم الإجتماع في العالم. ونشرت المقدمة في مصر عام 1858م، وقد كان الإمام محمد يدرسها لتلاميذه في الأزهر، وفي مدرسة دار العلوم.
وفي عصر المماليك ظهر أيضا من أعلام المؤرخين في الأزهر:
السخاوي، والمقريزي، وابن إياس، وتقي الدين الفاسي تلميذ ابن خلدون، والسيوطي وسواهم.
10
ولم يقتصر التعليم في الأزهر على المبصرين، بل شمل المكفوفين كذلك، وكان منهم طائفة من كبار العلماء، ومنهم في عصرنا الحديث الشيخ يوسف الدجوي (1946م).(2/287)
وكذلك لم يقتصر على الرجال، بل شمل النساء، ويحدثنا المقريزي عن فقيهة كانت تدرس في الأزهر للنساء واسمها أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية (714هـ). ويحدث الجبرتي عن فقيهة مكفوفة كانت تحضر دروس الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر في المسجد الشريف (4/ 172الجبرتي).
11
وقد شملت ثقافات الأزهر العلوم الرياضية والهندسة والطب والفلسفة غيرها، فقد كانت العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والجغرافية تدرس في الأزهر الشريف منذ العصر الفاطمي.
ومن الفلاسفة لأطباء الأزهريين أبو الحسن علي بن رضوان (543هـ) وشرف الدين عبد الله بن علي (592هـ)، والرشيد بن الزبير، وكان شيخا للأطباء في مصر وتوفي عام 563هـ، والقطب المصري (618هـ).
وكان عبد اللطيف البغدادي يدرس في الأزهر الطب لطلابه وجاء في إجازة الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري (شيخ الأزهر من عام 1768 1776م، والذي توفي عام 1192هـ 1778م أنه تلقى في الأزهر العلوم الآتية، وله تآليف في كثير منها، وهي:
الحساب الميقات الجبر والمقابلة المنحرفات أسباب الأمراض وعلاماتها علم الاسطرلاب الزبج الهندسة الهيئة علم المزاول علم الأعمال الرصدية علم الحيوان والنبات والمعادن علم استنباط المياه علاج البواسير علم التشريح علاج لسع العقرب التاريخ.
وكان الشيخ حسن الجبرتي، وهو والد الجبرتي المؤرخ، ذا شهرة كبيرة في العلوم الرياضية، وقد ذكر ابنه المؤرخ أنه في عام 1159هـ 1746م أتى إليه طلاب من الفرنجة وتلقوا عليه علم الهندسة.
وقد تلقى الشيخ حسن الجبرتي هذه العلوم الرياضية في الأزهر على
الشيخ محمد النجاحي، ثم على الشيخ حسام الدين الهندي الذي كان قدم إلى الأزهر للتعلم، وكان بارعا في العلوم الرياضية والفلسفية، فتلقاها عنه طلاب الأزهر، ومن بينهم الشيخ حسن الجبرتي الذي طارت شهرته بها، وكان عنده كثير من الآلات الفلكية والهندسية وآلات أكثر الصناعات والأسطرلابات وغيرها وآلات الرسم والتقاسيم. وكان يجتمع به مهرة الصناع ليستفيدوا من علمه. وكان يعرف صناعة استخراج المياه.(2/288)
وقد تلقى الشيخ حسن الجبرتي هذه العلوم الرياضية في الأزهر على
الشيخ محمد النجاحي، ثم على الشيخ حسام الدين الهندي الذي كان قدم إلى الأزهر للتعلم، وكان بارعا في العلوم الرياضية والفلسفية، فتلقاها عنه طلاب الأزهر، ومن بينهم الشيخ حسن الجبرتي الذي طارت شهرته بها، وكان عنده كثير من الآلات الفلكية والهندسية وآلات أكثر الصناعات والأسطرلابات وغيرها وآلات الرسم والتقاسيم. وكان يجتمع به مهرة الصناع ليستفيدوا من علمه. وكان يعرف صناعة استخراج المياه.
وفي سنة 1172هـ / 1758م وقع خلل في الموازين فصححها
ولم ينقص ذلك من إلمامه بالعلوم الدينية والعربية، بل كان حجة في الفقه وغيره. وتوفي عام 1188هـ / 1874م.
ولقد نعى والي مصر العثماني منذ عام 1161هـ أحمد كور باشا إهمال مصر والأزهر للعلوم الرياضية وذلك أمام الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر الشريف.
كما كان الشيخ حسن العطار ينعي على الأزهر أيضا إهمال هذه العلوم وله مؤلفات في الطب والتشريح.
والوالي أحمد كور باشا هو الذي روى عنه قوله:
إن مصر منبع العلوم والفضائل كما هو مسموع عندنا فى الديار الرومية العثمانية (1/ 187الجبرتي).
وفي وثيقة رسمية لمشيخة الأزهر عام 1282هـ / 1864م أن من العلوم التي كانت تدرس في الأزهر آنذاك: التصوف والفلسفة والهندسة والموسيقى والمنطق والحساب والجبر والفلك والهيئة.
وفي عام 1310هـ / 1892م كان من العلوم التي تدرس فيه:
التصوف.
وقد أصدر الشيخ الإنبابي فتوى بجواز تعلم العلوم الرياضية وعلم الطب وغيرهما(2/289)
12
وبعد فهذا هو الأزهر، وهذه صورة للمدارس العلمية التي كانت سائدة فيه طيلة عشرة قرون.
الأزهر العظيم الذي وصفه المقريزي بأنه دار الإسلام، وأن الزائر له يجد فيه من الأنس بالله والارتياح له ونزوع النفس إليه ما لا يجده في غيره.
وحينما وفد ابن خلدون من تونس إلى القاهرة للإقامة فيها هاله أمر القاهرة ومسجدها العظيم وجامعتها الكبرى فقال مشدوها. انتقلت إلى القاهرة فرأيت محشر الأمم وإيوان الإسلام وكرسى العلم وحاضرة الدنيا (نفح الطيب للمقري 3/ 133). وروى ابن خلدون عن قاضي الجماعة بفاس: من لم ير القاهرة وأزهرها لم يعرف عزة الإسلام.
وحين وصف ابن بطوطة مصر قال: إنها أم البلاد وإن قاهرتها قهرت الأمم.
وفي عصرنا كتب أمير الشعراء أحمد شوقي في صحيفة الأخبار القديمة عدد اليوم السادس من سبتمبر 1924يقول: سأظل فخورا بأن من أساتذتي شيوخا من صميم الأزهر الشريف وكبار علمائه. ولقد سد الأزهر فراغا كبيرا في التعليم في مصر والبلاد الشرقية جميعا.
وحين زار سعد زغلول الأزهر عام 1921بعد عودته من منفاه لاداء صلاة الجمعة فيه خطب في علمائه وطلابه، فقال فيما قال:
«جئت اليوم لأودى في هذا المكان الشريف فريضة صلاة الجمعة، وأقدم واجب الاحترام لمكان نشأت فيه، وكان له فضل كبير في النهضة الحاضرة وتلقنت فيه مبادىء الحرية والاستقلال» ص 61سعد زغلول العقاد(2/290)
وفي اليوم الأول للاحتفال بالعيد الألفي للأزهر الشريف خطب الرئيس حسني مبارك في الأزهر، فقال:
كان الأزهر على مر العصور القلعة الشامخة التي حفظت للقرآن لغته، وللحديث مكانته، وللدين تعاليمه وللشريعة أحكامها، وللفقه أصوله وضوابطه، وللأمة الإسلامية تراثها الحضاري الفريد، وأصالتها الفكرية الراسخة في مواجهة الغزو الثقافي من الخارج.
وقال رئيس جمهورية المالاديف: إن تاريخ الأزهر ليس هو تاريخ مصر وحدها، بل هو تاريخ الأمة الإسلامية جمعاء.
وصدقوا فيما قالوا ويقولون عن الأزهر الشريف، النغم الحلو في فم الزمان، واللواء المرفوع في مواكب التاريخ، والسهم المسدد في صدور أعداء الإسلام.(2/291)
علماء أزهريون من العصر المملوكي
العصر المملوكي بشقيه التركي والجركسي كان زاخرا بعلماء متصوفة وقد شجع على ذلك كثير من السلاطين والأمراء والمماليك، فكانوا في حجج وقصرا على مؤسساتهم العلمية والدينية والصحية وغيرها يشترطون لتولي وظائفها أن يكون الطلاب والمدرسون من الصوفية، حتى ولو كانوا يدرسون علوما أخرى كالفقه والحديث والتفسير وغيرها. بجانب عملهم بالتصوف.
ولم يكتف السلاطين والأمراء بهذا، بل إن غالبية كبيرة منهم كانوا من كبار الصوفية، وفي مقدمتهم السلطان قايتباى نفسه.
وقد انسحب ذلك المعنى على الجامع الأزهر، بل إن ذلك كان أصيلا فيه، فمعالم علمائه نشئوا على الزهد في الدنيا مع شظف العيش والبساطة في المأكل والملبس ومعظمهم أيضا تصدروا الدروس بالأزهر بدون ما أجر طلبا لثواب الله ورضاه
وكان الأمراء والمماليك كانوا يرتبون دروسا للتصوف بالجامع الأزهر، وأوقفوا عليها الأوقاف الوفيرة التي تضمن لها الدوام والاستمرار وكان منهم الأمير خشقدم الزمام الذي رتب أربعين طالبا وشيخهم من المتصوفين بالجامع الأزهر، وكذلك الأمير فيروز الناصري وغيرهما من الأمراء.(2/292)
والحقيقة أن رجال الأزهر من المتصوفين قاموا بدور بارز، بجلد وصبر منقطع النظير في الحفاظ على التراث الموجود الآن بالأزهر وغيره من مكتبات مصر والهند وتركيا، فإن السلطان سليم قد نقل من تراث الأزهر وملأ به مكتبات استنبول وغيرها.
ولقد عكف المتصوفون بالجامع الأزهر ليل نهار، يكتبون وينسخون المخططات التي كادت تبل من القدم، وكذلك يبيضون بخطوط جميلة الأمالي التي أملاها عليهم شيوخهم في الحلقات العلمية.
وفضل الصوفية في الحفاظ على التراث الإسلامي، والتمسك بعقيدتهم ومبادئهم ومثلهم ووقوفهم في وجه التيارات المعادية للوطن في كل العصور، وحبهم لطلابهم ومشايخهم وأزهرهم ومصرهم، بالاضافة الى حب الله ورسوله وصحابته وآله والتابعين لا ينكره إلا مكابر
1 - قنبر بن عبد الله العجمي الشيزواري ثم القاهري الأزهري الشافعي المتوفى سنة 801هـ 1398م مهر في العلوم العقلية، تصدر بالأزهر مدة يدرس للطلبة بعد قدومه للديار المصرية قبيل سنة 790هـ.
2 - محمد بن ابراهيم الشمسي بن عبد الله الشافعي المولود سنة 747هـ مات سنة 811هـ، قدم القاهرة فقطنها وأقبل على الزهد والعبادة، فكان لا يضع جنبه بالارض بل يصلي بالليل ويتلو القرآن، فان نعس أغفى اغفاءة، ثم يعود فيواصل الصلاة والقراءة.
3 - إبراهيم بن عمر الادكاوي الأزهري المتوفى سنة 834هـ.
ومن تلاميذ الادكاوي وممن لبسوا منه خرقة التصوف العلامة العاصفي شيخ رواق الريافة بالأزهر، والشمس السكندري المولود سنة 818هـ مات سنة 906هـ، كما صحبه الابناسى والشهاب اللامي المعروف بالصندلي مات سنة 889هـ وغيرهم.(2/293)
4 - الشيخ خليفة المغربي المعتقد نزيل جامع الأزهر الذي كان يزوره السلاطين بالجامع الأزهر.
5 - الشيخ سعيد المغربي المعتقد الصالح نزيل الجامع الأزهر جاور به عدة سنين. وله مريدون وللناس في صلاحه اعتقاد كبير، زاره وزميله السابق السلطان برسباي.
6 - سليمان بن شعيب البحيري: تصدر لتدريس الفقه المالكي بالأزهر وغيره.
7 - محمد بن موسى اللقاني ولد سنة 772هـ ومات بمنزله بالقرب من الأزهر سنة 840هـ، ضبط الاسماء وقرأ الجوق وكان ذا صوت حسن.
8 - شمس الدين أبو عبد الله الغمري ثم المحلي الشافعي قدم القاهرة فأقام بالجامع الأزهر فأخذ الفقه والفرائض والميقات وغيرها عن شيوخ الجامع، وكان يتكسب بالعطر حرفة أبيه.
9 - محمد بن عبد الله الرشيدي المولود بالقاهرة سنة 767هـ كان بيده درس اسماع بالأزهر وكان خطيبا كأسلافه ينشىء الخطبة المناسبة لمقام الحال، وبرع فيها حتى ان الناس كانوا يأتون لسماعه من أماكن بعيدة.
10 - على بن عمر بن القاهري الأزهري الشافعي المولود سنة 825هـ وانتقل منها الى القاهرة سنة 841هـ فأقام ومات سنة 890بالجامع الأزهر.
وكان أحد من يلبسون الصوف، وتنزل في صوفية سعيد السعداء والبيبرسيه وغيرهما، ثم آل أمره بالذهاب الى الريف بنواحي المنصورة، فأقام ببعض الجوامع وانتفع الناس بعلمه وصلاحه.
11 - محمد بن موسى الشمس الفيومي ثم القاهري الأزهري الشافعي درس لبعض الطلبة، وكان خيرا ذا فضيلة.
12 - حسن بن علي حسن البدر السفطي الأزهري الشافعي ممن تتلمذ على يد السخاوي.(2/294)
13 - عبد اللطيف بن عيسى بن الحصباي الأزهري الشافعي، تكسب بالشهادة أولا ثم أصبح قاضيا درس بالمدرسة الباسطية وغيرها.
14 - ومن أئمة الصوفية: الشيخ الدردير رحمه الله.
بقى أن نذكر بعض أمراء المماليك درسوا بالأزهر وتأثروا بعلمائه وحملوا علم التصوف ومنهم الامير الصوفي صاحب المبرات المقصود بالشفاعات «اينال» كان حنفيا جركسيا من مماليك «نوروز الحافظي» نائب الشام، تجرد «اينال» هذا في أيام أستاذه، وجال في بلاد الروم وغيرها بعد اشتغاله ودراسته بالجامع الازهر ثم قدم القاهرة، وافتدى به تلميذه الصوفي الأمير «خجابردي» مات اينال سنة 864هـ ودفن بزاوية خجابردي المذكور.
وهذا يؤكد ما قلناه سابقا من أن أمراء المماليك، تأثروا بالتصوف في هذا العصر الذي نؤرخ له، وكانت لهم بالأزهر وغيره خيرات ومبرات (1).
__________
(1) راجع مجلة التصوف الإسلامي 1983د. مجاهد توفيق الجندي.(2/295)
الإمام السيوطي
الإمام جلال الدين السيوطي من أشهر علماء عصره (911849هـ) الموافق (15051445م) كان نادرة عصره، بقية السلف وعمدة الخلف كما يقول عنه معاصره «ابن اياس» في كتابه «بدائع الزهور» بل كان جلال الدين والدنيا ومعدن التدريس والفتيا، جمّل الله به ملة الإسلام كما يقول الشهاب المنصوري الشاعر المعاصر له.
ولقد عاش السيوطي في أواخر عصر المماليك الذين أمتد نفوذهم في كل مكان، وقامت لمصر في أيامهم دولة عظمى وامبراطورية كبرى كان لها الرأي الفاصل في كل القضايا العالمية آنذاك، وامتدت هيبتهم من الهند إلى شواطىء المحيط الأطلسي، وشمل حكمهم ما بين برقة وضفاف الفرات وما بين قبرص إلى مجاهل أفريقيا، كما شمل اليمن والحجاز وسواحل المحيط الهندي، بل امتد إلى حدود الحبشة وجهات سواكن وجزائرها وحدث عن مجد المماليك ومصر بعد هزيمة الجيش المصري للتتار في عين جالوت عام 658هـ / 1260م، ثم بعد اجلائهم الكامل للصليبيين من سواحل الشام عام 691هـ / 1290م، بل حدث عن أثر نقل الخلافة العباسية إلى القاهرة عام 659هـ / 1261م ولا حرج حتى ليقول السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة»: «اعلم أن مصر حين صارت دار
الخلافة عظم أمرها وصارت محل سكني العلماء ومحط رحال الفضلاء» (2/ 65حسن المحاضرة).(2/296)
ولقد عاش السيوطي في أواخر عصر المماليك الذين أمتد نفوذهم في كل مكان، وقامت لمصر في أيامهم دولة عظمى وامبراطورية كبرى كان لها الرأي الفاصل في كل القضايا العالمية آنذاك، وامتدت هيبتهم من الهند إلى شواطىء المحيط الأطلسي، وشمل حكمهم ما بين برقة وضفاف الفرات وما بين قبرص إلى مجاهل أفريقيا، كما شمل اليمن والحجاز وسواحل المحيط الهندي، بل امتد إلى حدود الحبشة وجهات سواكن وجزائرها وحدث عن مجد المماليك ومصر بعد هزيمة الجيش المصري للتتار في عين جالوت عام 658هـ / 1260م، ثم بعد اجلائهم الكامل للصليبيين من سواحل الشام عام 691هـ / 1290م، بل حدث عن أثر نقل الخلافة العباسية إلى القاهرة عام 659هـ / 1261م ولا حرج حتى ليقول السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة»: «اعلم أن مصر حين صارت دار
الخلافة عظم أمرها وصارت محل سكني العلماء ومحط رحال الفضلاء» (2/ 65حسن المحاضرة).
وكانت دولة آل عثمان بعد فتح القسطنطينية عام 857هـ / 1453م تتطلع وهي في آسيا الصغرى إلى هذا المجد الكبير وإلى مكانة مصر العالمية الكبرى بعين الحدث وتتربص بامبراطوريتها ريب الأحداث.
وصارت حضارة مصر آنذاك مضرب الأمثال، فمفاتيح التجارة العالمية بين الشرق والغرب في يدي الشعب المصري والأموال تتدفق عليه بلا حساب والرخاء والازدهار تبلغ القاهرة كل أحلامها منهما وكان سلطان المماليك يلقب بسلطان البرين والبحرين أي البر المصري والبر الشامي، والبحر الأبيض والبحر الأحمر وكان لقب قلاوون «ملك البرين والبحرين وصاحب القبلتين وخادم الحرمين الشريفين». وأحيانا كان يلقب بسلطان الشام واليمن ملك البحرين خادم الحرمين الشريفين صاحب القبلتين ملك الديار المصرية والجهات الحجازية والبلاد الشامية والأعمال الفراتية والديار البكرية بل لقد خطب للسلطان برقوق باسمه في توريز من بلاد العجم وفي الموصل وماردين وسنجار وضربت النقود باسمه في جميع هذه البقاع.
وكان عصر السيوطي عصر ازدهار الثقافة الإسلامية والعربية، وحدث عن جامعة مصر الكبرى الأزهر. ويقول المقريزي فيه الزائر له يجد من الأنس بالله والارتياح ونزوع النفس ما لا يجد في غيره ومع أن المماليك كانوا ينتمون إلى أصول غير عربية إلا أنهم بإقامتهم في أرض العروبة اعتبروا أنفسهم عربا، بل حماة للعرب حتى كان من ألقاب سلاطينهم «سيد ملوك العرب» (1) وعدوا أنفسهم مصريين بما اكتسبوا من الروح المصرية لحياتهم الطويلة على ضفاف النيل قبل وبعد قيام دولتهم، ومع أن لغتهم الأولى كانت هي التركية المملوءة بألفاظ فارسية وعربية فإنهم كانوا يتعلمون
__________
(1) ابن اياس: بدائع الزهور 3/ 129.(2/297)
العربية ويتقنونها حتى صار كبارهم وأمراؤهم بل جمهرتهم يتكلمون العربية الفصحى ويتخاطبون بها وكان السلطان الأشرف خليل يعقد المجالس الأدبية ويطارح الأدباء والشعراء مع معرفته بصناعة الانشاء، واشتهر كذلك السلطان «جقمق» و «خشقدم» بفصاحة اللسان بالعربية الفصحى البليغة
وكذلك جاني بك (868هـ) وخاير بك (887هـ) وحبيب العلائي الإينالي (893هـ) وكذلك السلطان قانصوه الغوري حيث كان يجيد العربية، شديد الولع بعلومها وآدابها وله فيها مشاركة كبيرة، كما كان يتذوق الشعر وإلى ما شهر عنه من غرامه بقراءة السير والتواريخ، وله مجالس عرفت باسمه عنوانها «مجالس الغوري» وهي مناظرات كانت تجري في مجلسه.
وفي القاهرة كانت المدارس العلمية والخوانق (البيوت) الصوفية تنهض برسالة دينية وثقافية وعلمية كبرى وتعمل من أجل نشر الثقافة الإسلامية وحمايتها ومن بينها: المدرسة الصالحية والكاملية والظاهرية والمنصورية والناصرية والمؤيدية والخانقاه البيبرسية والمدرسة الشيخونية التي درس فيها السيوطي على شيخه البلقيني ومنحه فيها إجازة علمية عام 864هـ / 1460م ثم كان أستاذا فيها ذاتها كذلك عام 872هـ / 1467م.
وكان الأزهر يشد أزر هذه المدارس ويغذيها بالأساتذة الأعلام، فهو وجه مصر الروحي والفكري والحضاري، وهو أبرز معاهد العلم والدراسات الإسلامية والعربية في «دولة البرين والبحرين» وإليه يفد طلاب العلم وشيوخه من مشارق الأرض ومغاربها للتعمق في دراسة علوم الدين والعربية وفيه كانت تعقد مجالس الوعظ وحلقات التدريس، وقد أكسب مصر سمعة إسلامية عالمية، حتى صارت حاملة مشاعل الثقافة الإسلامية بعد بغداد التي صارت أطلالا دارسة، فالأزهر هو الذي رفع المشاعل وأوقد المصابيح، وأضاء الدنيا وتصدر حلقاته العلمية الأئمة والأعلام من العلماء، أولى المناهج العلمية وقد عرفت طريقتهم باسم «الطريقة المصرية» (2).
__________
(2) ابن خلدون: المقدمة 442.(2/298)
وعاصر السيوطي ثلاثة عشر من سلاطين المماليك الجراكسة، كما عاصر السيوطي كذلك أئمة كبارا من العلماء وبحسبك ابن حجر (853هـ / 1449م)، ولقد طلب والد السيوطي منه أن يدعو لابنه بالبركة والتوفيق، وكان السيوطي يرى في هذا العالم المصري العظيم مصدر اشعاع روحي له، وكذلك الإمام العيني (855/ 1451م) والقسطلاني (923هـ / 1517م) والسخاوي (902هـ / 1497م) والمقريزي وابن إياس وغيرهم من أعلام عصره.
ولقد صار السيوطي واحدا من بينهم وعلما من كبار علمائهم، واحتل مركز الصدارة في القاهرة في عصره، وصار في مقدمة الذين أثروا الثقافة الإسلامية العربية ورفعوا من شأنها وأحلوها مكانا عاليا ومنزلة شاهقة تبوأتها من ذلك الحين حتى يومنا هذا، فهو أحد الذين قادوا مواكب الثقافة الإسلامية في عصره بشخصيته الإسلامية الجليلة وبموسوعيته العلمية التي ليس لها نظير في تاريخ العقل العربي في عصر نهايات دولة المماليك.
ولد جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في القاهرة أول رجب عام 849هـ الثالث من أكتوبر عام 1445م في منزل والده بالروضة. وهو من أسرة بغدادية الأصل استقر بها المقام في أسيوط قبل ميلاد السيوطي بعدة قرون، وذلك منذ عصر الدولة الأيوبية واشتهر منها العلماء والعديد من الرجال، وكان والده كمال الدين أبو بكر السيوطي (المولود بعد عام 800هـ والمتوفى في صفر عام 855هـ) من أجلة العلماء وقد نزح من أسيوط إلى القاهرة قبل ميلاد ابنه بأربعة وعشرين عاما وانقطع لطلب العلم في الأزهر وغيره ثم للتعليم والافادة وتدريس الفقه في الجامع الشيخوني وللخطابة في الجامع الطولوني، وكان بيته بجزيرة الروضة مقصد الطلاب والعلماء، وكان الخليفة المستكفي بالله يجله ويعظمه، ولعل عطف الخلفاء العباسيين عليه مما يؤيد أصله البغدادي.
وتوفى والد جلال الدين وهو طفل صغير في السادسة من عمره فكفل
الابن الصغير عبد الرحمن صديق لوالده وزميل له في المدرسة الشيخونية وهو كمال الدين الهمام الحنفي (861هـ) الذي أخذ يتعهده ويرعى شئونه، وكان ابن الهمام محققا جدليا ولي مشيخة المدرسة الشيخونية وله كتب مشهورة في الفقه وفي الأصول منها كتابه فتح القدير وشرح الهداية.(2/299)
وتوفى والد جلال الدين وهو طفل صغير في السادسة من عمره فكفل
الابن الصغير عبد الرحمن صديق لوالده وزميل له في المدرسة الشيخونية وهو كمال الدين الهمام الحنفي (861هـ) الذي أخذ يتعهده ويرعى شئونه، وكان ابن الهمام محققا جدليا ولي مشيخة المدرسة الشيخونية وله كتب مشهورة في الفقه وفي الأصول منها كتابه فتح القدير وشرح الهداية.
وظهرت على الابن الصغير مخايل النبوغ والذكاء وقوة الحافظة حتى لقد حفظ القرآن الكريم وهو دون الثمانية من عمره، وحفظ فنون العلوم الإسلامية والعربية وهو دون الخامسة عشرة، وأقبل عبد الرحمن على حضور دروس مشايخ عصره وتلقى العلم على أيدي علماء عصره منذ مستهل عام 864هـ وهو في الخامسة عشرة، وكان من بين هؤلاء الأساتذة:
1 - شيخ الإسلام البلقيني (791هـ / 868هـ) إمام العلماء في المائة الثامنة وهو من أساتذته في الفقه، وهو الذي أجازه بالتدريس والافتاء وكان التصدير الذي ألقاه لما باشر التدريس بجامع شيخون يحضره أستاذه البلقيني هو الكلام على أول سورة الفتح، كما كان الكلام على حديث ابن عباس، «احفظ الله يحفظك» هو التصدير الذي ألقاه لما ولى درس الحديث بالشيخونية، ولما مات البلقيني لازم عبد الرحمن ولده عليا حتى توفى أيضا بعد وفاة والده العظيم بقليل.
2 - شهاب الدين الشارماصي، الذي أخذ عنه الفرائض.
3 - شيخ الإسلام شرف الدين المناوي (871798هـ) الذي تتلمذ عليه في الفقه ولما مات رثاه السيوطي بشعر له.
4 - محيي الدين الكافيجي (879788هـ) وقد تلقى على يديه التفسير والأصول والمعاني العربية ولزمه أربع عشرة سنة.
5 - تقي الدين الشبلي الحنفي وكان أستاذه في علوم العربية.
6 - سيف الدين الحنفي: وهو أستاذه في البلاغة.
7 - ابن الهمام (861هـ).(2/300)
8 - تقي الدين الشمني (871801هـ): وهو أستاذه في التفسير والحديث وفي العربية وقد لازمه أربع سنين ولما مات الشمنى رثاه السيوطي بقصيدة طويلة من شعره.
وغير هؤلاء، وهم كثير وذكر السيوطي أن شيوخه الذين أخذ عنهم نحو المائة والخمسين. وقد ترجم لهم في معجم خاص وواصل السيوطي مسيرته العلمية حتى تفقه في علوم عصره وألف أول كتبه وهو في الخامسة عشرة وهو تفسير للاستعاذة والبسملة وذلك عام 864هـ وهو دليل على طموح علمي كبير وهذا النهم العلمي الذي لا يقف عند غاية هو أحد معالم شخصية عالمنا الكبير حتى لقد أجيز بتدريس العربية وهو في الخامسة عشرة، وروى عنه علماء عصره الحديث وهو في الثانية والعشرين من عمره وذلك عام 871هـ وأجيز بتدريس الفقه وبالفتيا وهو في السابعة والعشرين من سنى حياته المباركة وكان أول درس ألقاه في الأزهر الشريف في تفسير سورة الفاتحة.
لقد أحب السيوطي الكتاب منذ صغره، وكان يرى في الإمامين البلقيني وابن حجر مثله الأعلى فدعا الله وهو يشرب من ماء زمزم أن يجعله في الفقه مثل البلقيني وفي الحديث مثل ابن حجر، وكان والده قد ترك له مكتبة كبيرة زاخرة بالمخطوطات، فكان يطالع فيها فوق تردده على مكتبة المدرسة المحمودية الحافلة بمختلف المؤلفات في شتى الفنون والعلوم، وكانت من أنفس خزائن الكتب بالقاهرة وبها نحو أربعة آلاف مجلد، وقد قام ابن حجر بفهرستها ثم تلاه السيوطي فكتب فهارس لها جمعها في كتاب سماه «بذل المجهود في خزانة محمود» وأخذ السيوطي يبحث عن خزائن الكتب المختلفة ويطالع فيها، ثم أخذ يطوف في أنحاء مصر يلقى العلماء ويحادثهم ويأخذ عنهم ويأخذون عنه، وبعد أن كان يتولى تدريس الفقه بالجامع الشيخوني خلفا لوالده صار يتولى منصب المشيخة في المدرسة الشيخونية وهو المنصب الذي كان يشغله أبوه من قبل، كما شغله أيضا أستاذه الكحال بن الهمام (861هـ) وتصدى للافتاء
واملاء الحديث بالجامع الطولوني ودرس الحديث بالخانقاه الشيخونية وتولى مشيخة الصوفية بمدفن برقوق الناصري، ثم تولى مشيخة المدرسة البيبرسية وهي أكبر خوانق (بيوت الصوفية) بالقاهرة وبيوتها الصوفية وأكثرها أوقافا في عصره (3)، ثم نحاه عنها السلطان محمد بن قايتباي (4) وكان آنذاك في الأربعين من عمره فاعتزل الناس وزهد في الدنيا وعكف على التأليف طيلة عشرين عاما في منزله بالروضة ورفض أن يستقبل أحدا من زائريه ومريديه حتى لقد أغلق نوافذ منزله بالروضة المطلة على النيل وكتب في ذلك رسالة سماها «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة».(2/301)
لقد أحب السيوطي الكتاب منذ صغره، وكان يرى في الإمامين البلقيني وابن حجر مثله الأعلى فدعا الله وهو يشرب من ماء زمزم أن يجعله في الفقه مثل البلقيني وفي الحديث مثل ابن حجر، وكان والده قد ترك له مكتبة كبيرة زاخرة بالمخطوطات، فكان يطالع فيها فوق تردده على مكتبة المدرسة المحمودية الحافلة بمختلف المؤلفات في شتى الفنون والعلوم، وكانت من أنفس خزائن الكتب بالقاهرة وبها نحو أربعة آلاف مجلد، وقد قام ابن حجر بفهرستها ثم تلاه السيوطي فكتب فهارس لها جمعها في كتاب سماه «بذل المجهود في خزانة محمود» وأخذ السيوطي يبحث عن خزائن الكتب المختلفة ويطالع فيها، ثم أخذ يطوف في أنحاء مصر يلقى العلماء ويحادثهم ويأخذ عنهم ويأخذون عنه، وبعد أن كان يتولى تدريس الفقه بالجامع الشيخوني خلفا لوالده صار يتولى منصب المشيخة في المدرسة الشيخونية وهو المنصب الذي كان يشغله أبوه من قبل، كما شغله أيضا أستاذه الكحال بن الهمام (861هـ) وتصدى للافتاء
واملاء الحديث بالجامع الطولوني ودرس الحديث بالخانقاه الشيخونية وتولى مشيخة الصوفية بمدفن برقوق الناصري، ثم تولى مشيخة المدرسة البيبرسية وهي أكبر خوانق (بيوت الصوفية) بالقاهرة وبيوتها الصوفية وأكثرها أوقافا في عصره (3)، ثم نحاه عنها السلطان محمد بن قايتباي (4) وكان آنذاك في الأربعين من عمره فاعتزل الناس وزهد في الدنيا وعكف على التأليف طيلة عشرين عاما في منزله بالروضة ورفض أن يستقبل أحدا من زائريه ومريديه حتى لقد أغلق نوافذ منزله بالروضة المطلة على النيل وكتب في ذلك رسالة سماها «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة».
ولما تولى «طومان باي» الحكم خاف السيوطي أن يضطهده فاختفى حتى توفي هذا السلطان، ولحسن الحظ لم يمكث هذا السلطان في الحكم إلا شهورا قلائل عاد السيوطي بعدها إلى منزله في الروضة، وكان قد تولى حكم مصر السلطان قانصوه الغوري، وقد عرض هذا السلطان عليه العودة إلى المشيخة في المدرسة البيبرسية فاعتذر وآثر العزلة عن الناس.
حج السيوطي عام 887هـ 1482م، وجاور في مكة المكرمة عاما كاملا (5) وطاف في أنحاء العالم الإسلامي دارسا ومدرسا وموجها، فرحل إلى الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب وبلاد التكرور، وتصدر مجالس العلم والعلماء في الأزهر وفي غير الأزهر من أمهات المدارس الإسلامية حتى غدا علم الأعلام ورائدا عظيما من رواد الثقافة الإسلامية.
وبعد عمر غير طويل وعن اثنين وستين عاما هجريا أو ستين عاما ميلاديا توفي الإمام جلال الدين السيوطي في التاسع عشر من جمادي
__________
(3) ابن العماد: شذرات الذهب: 8/ 52
(4) السيوطي: طبقات المفسرين: 26
(5) السخاوي: الضوء اللامع: 4/ 65(2/302)
الأولى عام 911هـ التاسع عشر من أكتوبر سنة 1505هـ، وقال فيه تلميذه عبد الباسط بن خليل الحنفي (920هـ):
مات جلال الدين غيث الوري ... مجتهد العصر، أمام الوجود
كانت الثقافة الإسلامية قد أصيبت بنكبات كبيرة في بغداد على أيدي التتار وفي الأندلس على أيدي الأسبان المتعصبين، وسلمت مصر بهزيمتها للتتار في عين جالوت فسلمت لها مجالس العلم ومدارسه وجامعته الكبرى الأزهر وسلمت خزائن الكتب في القاهرة، وبقيت حلقات الثقافة وأنديتها لم يمسها سوء، وظلت القاهرة ترسل أشعتها إلى كل مكان وتوالى أداء رسالتها في خدمة الثقافة الإسلامية، ووفد عليها العلماء والأدباء والشعراء من كل مكان.
وقد شمر علماء مصر عن ساعد الجد لتعويض ما بدد من التراث الإسلامي في بغداد والأندلس وصقلية وغيرها، فألفوا الكتب وصنفوا الموسوعات وكتبوا في كل العلوم والفنون، وجمعوا ما وصلهم من روايات ومأثورات من مختلف المصادر، ورأوا أن هذه المهمة هي فريضة إسلامية كبيرة ألقيت على كاهلهم فنهضوا بها وقاموا بأدائها خير قيام، فرأينا المؤلفات الضخمة من مثل: صبح الأعشى ونهاية الأرب والنجوم الزاهرة وفتح الباري وبدائع الزهور والدر المنثور وغيرها من أمهات الكتب التي خلفها لنا أمثال: القلقشندي والنويري وابن تغري بردى والمقريزي وابن حجر وابن اياس والسخاوي والقسطلاني والعيني والدماميني والشمني وابن الكمال والسبكي وابن فضل الله العسمري والدميري والأسنوي والمناوي والبلقيني والشعراني وغيرهم وكذلك فعل السيوطي بل لقد فاقهم جميعا في عظمة التحصيل وغزارة التأليف وروعة التحقيق، وظلت القاهرة تتصد عواصم العالم الإسلامي حضاريا وثقافيا، وظلت أنديتها العلمية والأدبية حافلة بالعلم والعلماء والطلاب.
لقد عكف السيوطي على الكتاب والكتابة والتأليف طيلة حياته فأثرى
المكتبة العربية بنفائس المؤلفات وبذخائر المصنفات مما شهد لها المحققون وأقروا لصاحبها بطول الباع وسعة الاطلاع وبوفرة المحصول وموسوعية المعرفة وبغزارة العلم والرواية وبالوقوف على مختلف مصادر البحث والإحاطة بكل ما تشتمل عليه خزائن الكتب في القاهرة وغيرها(2/303)
لقد عكف السيوطي على الكتاب والكتابة والتأليف طيلة حياته فأثرى
المكتبة العربية بنفائس المؤلفات وبذخائر المصنفات مما شهد لها المحققون وأقروا لصاحبها بطول الباع وسعة الاطلاع وبوفرة المحصول وموسوعية المعرفة وبغزارة العلم والرواية وبالوقوف على مختلف مصادر البحث والإحاطة بكل ما تشتمل عليه خزائن الكتب في القاهرة وغيرها
وذهل الناس لما رأوا من باهر تحصيله ومن وقوفه على دقائق العلوم وحقائق المعرفة وخفايا المخطوطات.
ويقول السيوطي عن نفسه: «لقد رزقت التبحر في سبعة علوم هي التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب البلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي اعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والتفول التي اطلعت عليها فيها لم يصل اليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي فضلا عمن هو دونهم» وهو في كتابه حسن المحاضرة يذكر أن مؤلفاته آنذاك بلغت ثلاثمائة، ويذكر ابن اياس أنها في جملتها تبلغ ستمائة، ويذكر بروكلمان أنها أكثر من أربعمائة (6) وأحصى له المستشرق فلوكل 561مؤلفا، وقد تكون بعض كتبه وريقات قليلات، ككتابه «المتوكلي» مثلا، وقد تكون أجزاء كثيرة مثل: الدر المنثور والجامع الكبير وغيرهما وقد جمع السيوطي في كتابه «الحاوي للفتاوي» الذي يقع في نحو ألف صفحة ثمانية وسبعين مؤلفا منفردا أغلبها من الفتاوي والبحوث المنفردة (7) وجمع في كتابه «النقابة» أربعة عشر علما، هي: التفسير والحديث وأصول الدين والمعاني والبيان والبديع والتشريع والخط والصرف والنحو والفرائض وأصول الفقه والتصوف والطب وله شرح عليه.
وليس في العالم من بلغ ما بلغه السيوطي في كثرة المؤلفات سوى رامون لول الأسباني وأحد كتاب العصور الوسطى الذي بلغت مؤلفاته نحو
__________
(6) بروكلمان: تاريخ الأدب العربي: 2/ 145
(7) الحاوي: 1/ 14699(2/304)
الخمسمائة (8) ويقول الداودي تلميذ السيوطي (945هـ) الشافعي المصري العلامة المحدث في انبهار بعظمة شيخه: كان السيوطي في سرعة الكتابة آية كبرى من آيات الله وهكذا كان جلال الدين السيوطي أرفع علماء عصره همة وأعظمهم نشاطا وأكثرهم تأليفا وأغزرهم مادة.
وعلى ما سبق نقول إن السيوطي كان أغزر علماء العربية قاطبة تصنيفا حتى لقد ضرب به المثل على طول العصور في غزارة التأليف، ومن أجل ذلك لقب بابن الكتاب وبصديق الكتب والكتاب
وكان التأليف عند جلال الدين هواية وفنا تبحر فيه حتى لقد اتخذ منه سلاحا يدافع به عن نفسه ضد مخالفيه في الرأي من منافسيه وخصومه والحاقدين عليه، يقول: خالفني أهل عصري في خمسين مسألة فألفت في كل مسألة مؤلفا بينت فيه وجه الحق (9).
واختصر السيوطي الكثير من نفائس كتب التراث حتى لنجد من كتبه:
1 - مختصر الأحكام للماوردي.
2 - مختصر الروضة في الفقه.
3 - مختصر التنبيه في الفقه.
4 - مختصر الأحياء للغزالي.
5 - مختصر معجم البلدان لياقوت الحموي.
6 - مختصر تهذيب الأسماء للنواوي.
7 - مختصر تاريخ ابن عساكر: سماه تحفة المذاكر في المنتقى من تاريخ ابن عساكر.
8 - وله كتاب سماه «ديوان الحيوان» وهو خلاصة لكتاب حياة الحيوان للدميري، (ت 808هـ).
__________
(8) د. محمد مصطفى زيادة: المؤرخون 60
(9) 2/ 281بدائع الزهور لابن اياس(2/305)
وألف مئات الكتب في شتى الفنون والعلوم، فمنها في التفسير: الدر المنثور لباب النقول في أسباب النزول تكملة تفسير الجلالين الذي كتب نصفه الأخير الجلال المحلي (791هـ 864هـ) وكتب هو نصفه الأول الاتقان وغير ذلك وللسيوطي الباع الطويل في التفسير بالمأثور
وتبلغ مؤلفاته في الحديث أكثر من مائة وستين كتابا من أشهرها الجامع الكبير والجامع الصغير، ويقول السيوطي عن نفسه: ليس على وجه الأرض من مشرقها إلى مغربها من هو أعلم بالحديث والعربية مني (10).
وله في الفقه عشرات المؤلفات ومنها: جمع الجوامع وكتاب الجامع في الفرائض، وكتاب «أدب الفتيا».
وفي علوم العربية: كان له القدح المعلي وله فضل السبق في ابتكار علم أصول اللغة والنحو وكان يعد من كبار المصنفين في العربية. ويقول عن علم أصول اللغة: هو علم اخترعته لم أسبق إليه، لم يسبقني إليه ولا طرق سبيله طارق، ومن أجل كتبه في هذا المجال: شرح ألفية ابن مالك، الفتح القريب على «مغني اللبيب» الاقتراح في أصول النحو، الأشباه والنظائر، المزهر
وفي علوم البلاغة: ألف الكثير من الكتب ومن بينها: عقود الجمان في المعاني والبيان
وفي الأدب له عشرات الكتب: من بينها: ديوان خطب ديوان شعر المقامات دور الكلم وغرر الحكم شرح بانت سعاد فصل الشتاء
إلخ.
وفي أدب الرحلات نجد له الرحلة المكية الرحلة الدمياطية الرحلة الفيومية.
__________
(10) تدريب الراوي المقدمة.(2/306)
وفي التاريخ: نجده في مقدمة مؤرخي عصره وله في هذا المضمار كتب كثيرة منها: تاريخ الخلفاء حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة تاريخ السلطان الأشرف قايتباي تاريخ أسيوط تاريخ الصحابة. وغير ذلك مما يدل على منهجه التاريخي الذي بلغ فيه وبه غاية التحقيق، وله كتاب في تاريخ جامع عمر وآخر في تاريخ جامع ابن طولون
وفي التراجم: نجد له كتبا كثيرة منها:
1 - طبقات النحويين واللغويين: الكبرى وهي مفقودة والوسطى طبعت في باريس والصغرى هي التي طبعت بعنوان «بغية الوعاة».
2 - طبقات الكتاب.
3 - طبقات شعراء العرب.
4 - طبقات المفسرين.
5 - طبقات الحفاظ.
6 - طبقات الأصوليين.
7 - طبقات الشافعية. وغير ذلك
لقد انتشرت مؤلفات السيوطي في العالم الإسلامي كافة وأقبل عليها الطلاب والدارسون والعلماء بشوق ولذة وأذن السيوطي في حياته لتلميذه الداودي بروايتها وقرئت في بلاد الشام والحجاز واليمن والروم والعجم والحبشة والمغرب وبلاد التكرور وامتدت إلى البحر المحيط وبالمثل سارت فتاواه وعلومه في سائر الأقطار مسير الشمس، ورزق من القبول من علماء عصره ما لم يرزقه أحد سواه
وقد كان لمكانته العلمية والأدبية ولأسلوبه السهل الممتنع ولتحقيقاته الفريدة ولا حاطته الواسعة بشتى المصادر ومختلف المذاهب والآراء ولشخصيته الحرة الشجاعة التي لا تتملق حاكما ولا تتزلف لكبير، كان لذلك كله أثره في عموم النفع بعلمه وكتبه إذ كان الشعب يرى فيه صورة الأمين على الشريعة، والشجاع في قول كلمة الحق والنزيه في أحكامه وفتاواه(2/307)
كان السيوطي مخلصا للعلم وحده صادقا فيه مع نفسه بعيدا عن الملق والتزلف والرياء وحب الدنيا والرياسة والجاه، شديد المراقبة لله عز وجل، وإن غضب عليه الحكام والسلاطين، وكم لاقى في سبيل جرأته وشجاعته ورأية الحر الكثير من العنف
أرسل إليه السلطان الغوري غلاما وألف دينار، فرد الدنانير وأخذ الغلام أعتقه، وقال لرسول السلطان: لا تعد تأتينا قط بهدية فإن الله أغنانا عن مثل ذلك.
وكان الأمراء يزورونه ويعرضون عليه هداياهم وهباتهم فيردها (11) وقد عرض عليه الغوري رياسة مشيخة مدرسته بأول الغورية فرفض وقبل البقاء في عزلته
* ولم يكن يكترث لغضب الأمراء والسلاطين، وكان الحريص على إقامة الحدود وتطبيق الأحكام الشرعية مهما كلفه ذلك من عنت
* رفض جلال الدين الذهاب مع العلماء لتهنئة السلطان بالشفاء من مرض ألم به وألف في ذلك كتابه «رواية الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين».
* ذهب ذات مرة لمقابلة قايتباي في مظلمة لإنسان وعلى رأسه الطيلسان مما خالف فيه التقاليد المرعية آنذاك ومما أخذ عليه عند السلطان فرد على ذلك بكتابه «الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان».
* وحين عزل مشيخة البيبرسية كتب كتابا عنوانه «التنفيس في ترك الفتيا والتدريس».
وكان من أجل تلاميذ جلال الدين: الداودي (945هـ) والشامي المحدث الحافظ (942هـ) وابن طولون الدمشقي المحدث (880 953هـ) وسواهم
__________
(11) 663المزهر(2/308)
وكان السيوطي كثيرا ما ينوه في كتبه. بنفسه وبمؤلفاته وبآرائه فيها حتى لنقرأ في آخر حاشيته على المغنى: فقد أودعتها من الفوائد والفرائد والغرائب والزوائد ما لو رامه غيري لم يكن له إلى ذلك سبيل.
وفي آخر كتابه «بغية الوعاة» يقول عن الكتاب: الجامع من كل شريدة ووريدة العجب العجاب. وكذلك كان في كل كتبه يقول في أنواع البديع:
قررت فيها بضعة عشر نوعا من الأنواع البديعية ثم وقع لي التأمل فيها بعد ذلك ففتح الله بزيادة على ذلك حتى جاوزت الأربعين، ثم قدحت الفكر إلى أن وصلت بحمد الله مائة وعشرين نوعا. وقد استخرج السيوطي هذه الأنواع كلها من الآية الشريفة {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} إلى آخر هذه الآية الكريمة ومن الأنواع التي ابتكرها ما سماه بالتأسيس والتفريع وما سماه بالانسجام (12) أو بالمنتخل أو بحسن الطلب [-12] إلى غير ذلك
وقد دفعت المنافسة إلى إعلان الخصومة بينه وبين السخاوي الذي اتهمه بعدم الأمانة العلمية فيما يكتب، فكتب السيوطي في الرد عليه كتابه المشهور «الكاوي في تاريخ السخاوي» كما عرض باقي كتب له
والسيوطي بخاصة من أكثر العلماء التزاما بالأمانة العلمية حتى لنراه يذكر في مقدمات كتبه دائما المصادر التي رجع إليها وأخذ منها في حرص تام على الأمانة العلمية في كل ما يكتبه
يذكر في كتابه المزهر (14) بابا جعل عنوانه «عزو العلم إلى قائله» ويقول فيه: لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفا الا معزوا لقائله
ومما يذكره السيوطي في مقدمات كتبه من المصادر نجده قد أطلع على كثير من المخطوطات التي لم يطلع عليها الكثير من علماء عصره وبحق
__________
(12) 12، 13بغية الوعاة للسيوطي 460، 155.
(14) 2/ 319المزهر للسيوطي: تحقيق جاد المولى وآخرين.(2/309)
لقد كان مفخرة من مفاخر العالم الإسلامي الثقافية وسيظل أثره وتراثه خالدين على الأيام
والسيوطي كان يرى في نفسه أنه المبعوث على راس القرن التاسع الهجري ليجدد للأمة الإسلامية دينها، مصداقا للحديث الشريف «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة هذه الأمة من يجدد لها دينها».
ويقول السيوطي: ومن اللطائف أن المبعوثين على رأس أكثر القرون مصريون: عمر بن عبد العزيز (15) في المائة الأولى والشافعي في الثانية، وابن دقيق العيد في السابعة والبلقيني في الثامنة وعسى أن يكون المبعوث على رأس المائة التاسعة من أهل مصر (16) وهو يعني بذلك نفسه
وكان السيوطي كثير الاجتهاد في عصره، وكان يرى أن الاجتهاد فرض كفاية مفروض على العلماء أو خاصتهم، وألف في ضرورة الاجتهاد كتابا سماه «من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض» وقد تحدث في هذا الكتاب عن الاجتهاد وضرورته في كل عصر لأنه فرض من فروض الكفاية وواجب على أهل كل عصر أن يقوم طائفة في كل قطر منهم، ويحتوي هذا الكتاب على أربعة أبواب:
الأول: في نصوص العلماء على أن الاجتهاد في كل عصر فرض من فروض الكفاية.
الثاني: في نصوص العلماء على أن الدهر لا يخلو من مجتهد، وأنه لا يجوز عقلا خلو العصر منه.
الثالث: في ذكر من حث على الأجتهاد وأمر به، وذم التقليد ونهى عنه.
__________
(15) كان أبوه عبد العزيز بن مروان أميرا على مصر في عهد أيخ عبد الملك بن مروان وقد نشأ عمر بن عبد العزيز طفولته الأولى في مصر.
(16) 1/ 135حسن المحاضرة.(2/310)
الرابع: في فرائد الاجتهاد.
وهو في هذا الكتاب يقف مع العصر ومع العقل وينأي عن التقليد والمقلدين
كملت عند السيوطي أدوات الاجتهاد على ما اشترطه الأصوليون فكان عالما بآيات الأحكام وأحاديث الأحكام وشروط القياس ومعرفة مواقع الاجماع، غير أنه لم يجتهد بالفعل إلا اجتهاد المذهب بالترجيح على مذهب الإمام الشافعي (17).
ويقول السيوطي: «اجتمع عندي بحمد الله الحديث والفقه والأصول وسائر الآلات من العربية، فأنا أعرف كيف أتكلم وكيف أستدل وكيف أرجح (18).
ويقول: وقد كملت عندي أدوات الاجتهاد بحمد الله ولو شئت أن أكتب في كل مسألة تصنيفا بأقوالها وأدلتها العقلية والقياسية ومداركها ونقوضها وأجوبتها والمقارنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك (19).
ويقول: وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد وبحمد الله تعالى أقول ذلك تحدثا بنعمة الله عز وجل (20).
وبعقلية المجتهد أثرى السيوطي العلم وأثرى التراث الإسلامي وأثرى الثقافة الإسلامية
* * * * وهكذا نرى شخصية الإمام السيوطي الجليلة في كل شيء شخصية
__________
(17) مقدمة كتاب الراوي: تحقيق د. عبد الوهاب عبد اللطيف.
(18) الكاوي في تاريخ السخاوي.
(19) 2/ 248الحاوي للسيوطي
(20) 1/ 141حسن المحاضرة.(2/311)
جعلت منه أعظم رواد الثقافة الإسلامية في القرن التاسع الهجري، وهي شخصية العالم العامل من أجل وطنه وعروبته ودينه، شخصية المعتز بنفسه وكرامته
شخصية المجتهد ما شاء له الاجتهاد المخلص للعلم اخلاصا شديدا الصادق كل الصدق الكاره للنفاق والزلفى والرياء والملق للحكام المتعفف الزاهد في المال لا يقبل شيئا منه وان أتاه من حاكم أو أمير أو غنى شخصية العالم المفكر والفقيه الأصيل والأديب البليغ صاحب الأسلوب البارع الجميل والمضامين الإنسانية الرفيعة مما نجده في رسائله وشعره وفي مقدمات كتبه وفي مقاماته وعلى الأخص مقامته اللؤلؤية التي ذكر فيها أسباب تركه للتدريس
وهكذا تصدر السيوطي مواكب العلماء في عصره حتى كان ظاهرة فكرية فريدة في تاريخنا العلمي والثقافي الطويل.
كتبه المطبوعة والمخطوطة في كل مكتبات العالم وفي مكتبة الأزهر الكثير من مؤلفاته المخطوطة، وفي مكتبة جامعة الرياض أكثر من سبعين مخطوطة له، وقد صدر بها فهرست خاص الدراسات عنه تنمو على مدى الأيام وكتبت عنه رسائل جامعية كثيرة
فليس بعجيب أن يصبح السيوطي في عصره، وبعد عصره رائدا للثقافة الإسلامية الخالدة، وأن يكون في عصره كالجاحظ في عصره كلاهما بعد عن حياة الوظائف والمناصب وكلاهما كان ممثلا لشعبه ولعصره ولحياته نفسها، وكلاهما تصدر زعامة الثقافة الإسلامية العربية في أيامه
أضاف السيوطي إلى سجل تراثنا الخالد من الثقافة الإسلامية حتى عصره اضافات كثيرة في كتبه مما جعل العالم الإسلامي كله يتطلع إليه بكل حب وتقدير وإكبار
لقد أكسب السيوطي العالم الإسلامي أولا ووطنه مصر ثانيا مجدا كبيرا خالدا على مرور الأيام رحمه الله وأجزل مثوبته(2/312)
شمس الدين الحنفي
جامع الحنفي مسجد كبير معروف في القاهرة وشمس الدين شخصية جليلة من أعلام علماء الأزهر في القرن التاسع الهجري
نشأ شمس الدين يتيما من أمه وأبيه وربته خالته. وحفظ القرآن الكريم وكان ابن حجر رفيقه في الكتاب ثم اعتزل الناس للعبادة والاطلاع سبع سنوات وخرج من عزلته وهو أعلى كعبا في علوم الدين، وتعلم في الأزهر الشريف وصار من أنبه طلابه وأكرم خريجيه.
وكان لا يترك حاكما إلا نصحه وأخذ بحق المظلومين منه.
وكان السلطان فجج بن برقوق (815801هـ) من سلاطين المماليك بعد وقفه لزحف تيمور لنك الكبير على الشام قد أخذ يظلم الرعية ويجور في حكمها فكان الإمام شمس الدين الحنفي يعارضه ويندد به ويعنف في نصحه ويغلظ له القول وقال فرج للشيخ يوما بعد أن سمع منه ما ألمه:
المملكة لي أم لك فقال الشيخ: إنها ليست لي ولا لك إنها لله الواحد القهار. وقام الشيخ متغيرا ثائرا فمرض فرج وعجز الأطباء عن علاجه فطلب السلطان الشيخ ليدعو له بالشفاء. وأرسل خلفه الأمراء فوجده بنواحي المطرية خارج القاهرة فطلبوا منه العودة معهم تنفيذا لأمر السلطان، فأبى
فأخذوا يتلطفون بالشيخ حتى قام فصلى وأخذ يدعو للسلطان وقال لهم: قد برىء.(2/313)
المملكة لي أم لك فقال الشيخ: إنها ليست لي ولا لك إنها لله الواحد القهار. وقام الشيخ متغيرا ثائرا فمرض فرج وعجز الأطباء عن علاجه فطلب السلطان الشيخ ليدعو له بالشفاء. وأرسل خلفه الأمراء فوجده بنواحي المطرية خارج القاهرة فطلبوا منه العودة معهم تنفيذا لأمر السلطان، فأبى
فأخذوا يتلطفون بالشيخ حتى قام فصلى وأخذ يدعو للسلطان وقال لهم: قد برىء.
ويقول العيني في تاريخه الكبير: «ما سمعنا أحدا من الشيوخ أعطى من العز والرفعة والكلمة النافذة والشفاعة المقبولة عند الملوك والأمراء وأرباب الدولة والوزراء مثلما أعطى الشيخ، وحسبك إنه لم يقم من مجلسه لأحد من الملوك والأمراء قط، ولا من القضاة الأربع غيرهم».
وكان السلطان بحق يكره شمس الدين، ومع ذلك كان يقضي للشيخ كل حاجاته وشفاعاته في الناس ويقول لحاشيته: كلما أقول لا أقبل لهذا الشيخ شفاعته لا أستطيع بل أقبل شفاعته وذهب الملك «المؤيد» للشيخ ليزوره في زاويته فوجد الشيخ فوق سطح الزاوية فأخبروا الشيخ بقدوم السلطان، فقال لهم: قولوا له إن مما يرضيني عن السلطان أن يكف عن ظلم أحد.
وبعث الأمير للشيخ بأموال فوزعها شمس الدين كلها على الفقراء، وبلغ ذلك الأمير فجاء للشيخ وقبل يده، وكان «ططر» يذهب إلى شمس الدين ويخدمه في جملة أتباعه وخدمه، فلما تولى ططر الملك ظل يذهب للشيخ كعادته والشيخ يقول له: انك صرت سلطانا والزم القلعة فقال له السلطان: لا أستطيع.
وكان «برسباي» يوقر الشيخ ويجله ويقضي له جميع حاجاته وشفاعاته.
وهكذا عاش شمس الدين العالم الأزهري معظما موقرا في قلوب الشعب والحكام حتى توفي إلى رحمة الله عام 847هـ.
شهاب الدين السنباطي
كان لانتصار مصر في موقعة عين جالوت 658هـ 1260م وهزيمتها للتتار، دوي كبير في أنحاء العالم الإسلامي، وامتدت امبراطورية مصر
امتدادا لم تصل إليه من قبل ولا من بعد ولكن مصر فوجئت بالغزو العثماني لها فتوقفت حركة التاريخ وعادت مصر دولة تابعة لاستامبول وكان ذلك أعظم محنة امتحن بها الشعب المصري على طول عصور التاريخ ولكن مقاومة الشعب المصري وعلماء الأزهر للطغاة لم تسكت في يوم من الأيام وكان مظهر هذه المقاومة هو الشيخ الأزهري الخالد شهاب الدين أحمد بن عبد الحق السنباطي(2/314)
كان لانتصار مصر في موقعة عين جالوت 658هـ 1260م وهزيمتها للتتار، دوي كبير في أنحاء العالم الإسلامي، وامتدت امبراطورية مصر
امتدادا لم تصل إليه من قبل ولا من بعد ولكن مصر فوجئت بالغزو العثماني لها فتوقفت حركة التاريخ وعادت مصر دولة تابعة لاستامبول وكان ذلك أعظم محنة امتحن بها الشعب المصري على طول عصور التاريخ ولكن مقاومة الشعب المصري وعلماء الأزهر للطغاة لم تسكت في يوم من الأيام وكان مظهر هذه المقاومة هو الشيخ الأزهري الخالد شهاب الدين أحمد بن عبد الحق السنباطي
كان عالما جليلا وإماما عظيما ومصريا كريما وكان واعظا في الجامع الأزهر، ويذكر أمين سامي عنه إنه كان شيخ الجامع الأزهر تقويم النيل 2/ 16وقال الشعراني عنه لم نر أحدا من الوعاظ أقبل عليه الخلائق مثله.
كان السنباطي ملاذا للشعب المصري المغلوب على أمره، وكان يهدد الوالي التركي باعلان الثورة عليه كلما تحزبت الأمور واشتهر ظلم الأتراك للشعب وكان القضاة الأربعة الذين ولا هم سليم على مصر عام 923هـ لا يستطيعون مجابهة الوالي التركي بشيء فكان السنباطي يحذر الحاكمين المستبدين من ثورة الشعب ويهدد الوالي إن لم يستمع له.
وكان السنباطي يلقب بشيخ الإسلام وهو لقب كان يطلق قبل الفتح العثماني لمصر على قاضي القضاة الشافعي وكان آخر من لقب به من علماء الأزهر قاضي القضاة شهاب الدين احمد بن عبد العزيز (949هـ 1542م) فلما ألغى الأتراك نظام القضاء المصري وأقاموا في رياسة القضاء قاضيا تركيا، أصبح هذا اللقب يطلق على ما نرجح على شيوخ الأزهر وعلى الرغم مما يذهب إليه كثير من المؤرخين من أن الشيخ الخرشي المالكي (1101هـ) هو أول شيخ للأزهر فإنني أرجح أن السنباطي كان هو أول شيخ عرفه التاريخ للأزهر الشريف وبذلك يكون منصب شيخ الأزهر راجعا إلى أواسط القرن العاشر.
وفي شعبان عام 950هـ / 1543م كان والي مصر وهو داود باشا
الذي تولى حكمها قبل ذلك بخمس سنوات وكان داود ظالما متكبرا متعسفا وكان الشعب يئن من مظالم الأتراك ويتحمل كل ذلك بجلد وصبر(2/315)
وفي شعبان عام 950هـ / 1543م كان والي مصر وهو داود باشا
الذي تولى حكمها قبل ذلك بخمس سنوات وكان داود ظالما متكبرا متعسفا وكان الشعب يئن من مظالم الأتراك ويتحمل كل ذلك بجلد وصبر
وكلم الشيخ الإمام السنباطي داود باشا في مظلمة من هذه المظالم فلم يبال داود بنصيحة الشيخ فصادف ان كان داود في موكبه في أواخر شهر شعبان من عام 950هـ فانبرى له السنباطي وجابهه بالقول
يا داود انك عبد مملوك لا يجوز لك أن تتولى الأحكام وان أحكامك باطلة ما لم تحصل على عتقك.
داود لجنده اقبضوا على هذا الشيخ.
الجند ينحازون الى جانب الشيخ.
داود يرفع سيفه ويهم بقتل الشيخ.
الجند: مهلا اطرح الحسام انه شيخ الإسلام، واننا سنقاتلك معه إذا اضطررنا إلى ذلك.
داود: يجن وينحدر الى منزله ويرسل الى الخليفة العثماني يعلمه بما يحدث.
وبعد قليل جاء إلى داود أمر عثماني بعتقه مع تكليفه بتبليغ الشكر للشيخ وذهب داود إلى الشيخ ليبلغه رسالة الخليفة سليمان القانوني واسترضاه واعتذر اليه وقدم هدية الى الشيخ فرفضها.
وأصبح الوالي ذليلا حقيرا بجانب عظمة الشيخ وصموده وصلابته وكبريائه وصار الوالي لا يرد للشيخ رأيا ولا يرفض له شفاعة
وهكذا عاش السنباطي إماما جليلا وشيخا عظيما حتى توفي الى رحمة الله في آخر عام 950هـ ونسينا ذكره إلا من شارع صغير خلف الأوبرا سمي باسمه ومن مسجد متواضع فيه أطلق عليه اسمه ولكن التاريخ
لا ينسى أول شيخ للأزهر وأول مظهر لمقاومة الشعب لبطش الأتراك وأول زعيم للمقاومة الشعبية في أوائل الفتح العثماني لمصر رحمه الله(2/316)
وهكذا عاش السنباطي إماما جليلا وشيخا عظيما حتى توفي الى رحمة الله في آخر عام 950هـ ونسينا ذكره إلا من شارع صغير خلف الأوبرا سمي باسمه ومن مسجد متواضع فيه أطلق عليه اسمه ولكن التاريخ
لا ينسى أول شيخ للأزهر وأول مظهر لمقاومة الشعب لبطش الأتراك وأول زعيم للمقاومة الشعبية في أوائل الفتح العثماني لمصر رحمه الله
الشيخ أحمد الدردير
الشيخ الدردير من أشهر علماء الأزهر الشريف قبيل الحملة الفرنسية على مصر، كان شيخ علماء المالكية في الأزهر. وكان مشهورا بالزهد والورع والتقوى. مشهودا له بالعلم الغزير، والشجاعة الفائقة، ومراقبة الله في السر والعلن.
قاد ثورة شعبية لها شهرتها في تاريخ الوطن ففي يوم من أيام ربيع الأول عام 1200هـ / يناير 1786م نهب أحد أمراء المماليك واسمه حسين بك شفت هو وجنوده دارا لشخص اسمه أحمد سالم الجزار وهو نائب رئيس الطريقة البيومية بالحسينية بالقاهرة ظلما وعدوانا فثارت ثائرة الشعب وتشاوروا فيما بينهم فيما يجب أن يفعلوه، واتفقت كلمتهم أخيرا على الالتجاء إلى أقوى العلماء شخصية، وأوسعهم نفوذا وهو الإمام الدردير، فاجتمع الشعب في اليوم التالي للحادث، ويمموا وجوههم شطر الجامع الأزهر، وقصدوا الشيخ الدردير وهو في حلقته بين طلابه ومريديه وأخبروه بالحادثة فغضب الشيخ لاستهتار الأمراء وتعسفهم.
ونادى الدردير في الجماهير غير هائب ولا خائف قائلا لهم: أنا معكم، وغدا نجمع الشعب من كل مكان في الحارات والضواحي وبولاق ومصر القديمة، وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم.
وأمر الشيخ بدق الطبول على المنارات، إيذانا بالاستعداد للقتال وترامت الأخبار إلى الأهالي فأسرعوا نحو الأزهر للاشتراك مع الثائرين.
وبلغت أخبار الجماهير الثائرة إلى الأمير إبراهيم بك وبلغه تصميم الشيخ الدردير على قيادة الشعب ضد الأمراء، وكان يعلم مقدار ما للشيخ
من مكانة ونفوذ بين الشعب فخشي أن يستفحل الأمر وتصبح هذه الثورة نهاية لحكمهم ونفوذهم وسلطانهم، فأرسل نائبه ومعه أحد الأمراء إلى الإمام الدردير ليعتذر له عما حدث ووعد بأن يكف أيدي الأمراء عن الشعب كما قرر توبيخ حسين بك شفت على صنيعه، وطلب قائمة بجميع ما نهبه ليأمره برد تلك المنهوبات إلى صاحبها ووافق الشيخ الدردير على ذلك.(2/317)
وبلغت أخبار الجماهير الثائرة إلى الأمير إبراهيم بك وبلغه تصميم الشيخ الدردير على قيادة الشعب ضد الأمراء، وكان يعلم مقدار ما للشيخ
من مكانة ونفوذ بين الشعب فخشي أن يستفحل الأمر وتصبح هذه الثورة نهاية لحكمهم ونفوذهم وسلطانهم، فأرسل نائبه ومعه أحد الأمراء إلى الإمام الدردير ليعتذر له عما حدث ووعد بأن يكف أيدي الأمراء عن الشعب كما قرر توبيخ حسين بك شفت على صنيعه، وطلب قائمة بجميع ما نهبه ليأمره برد تلك المنهوبات إلى صاحبها ووافق الشيخ الدردير على ذلك.
وهكذا وضع هذا الإمام الجليل قاعدة دستورية هامة، وهي احترام الحاكمين لارادة المحكومين [2/ 103و 104الجبرتي].
وعاش الإمام الدردير أربعا وستين سنة (12011137هـ) وكان في نهاية حياته العلمية شيخا على المالكية، ومفتيا على المذهب المالكي، وناظرا على وقف الصعايدة، وشيخا على طائفة هذا الرواق.
ويقول فيه الجبرتي: كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويصدع بالحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم وله في السعي على الخير يد بيضاء.
هذا هو الإمام الدردير شيخ من شيوخ الأزهر حرص على أن يؤدي الأمانة ويحافظ على شرف مصر، وشرف الشعب وشرف الأزهر، ومات راضيا مرضيا عنه من الله والملائكة والناس أجمعين.
الشيخ الصعيدي
الشيخ الصعيدي (11891110هـ) من أشهر علماء الأزهر قبيل الحملة الفرنسية على مصر. كان أغلب وقته بين تلاميذه ومريديه متوافرا على درس العلم منقطعا للارشاد والهداية لا يقصد إلى أمير أو حاكم ما لم ير مظلمة يجب عليه أن يسعى لا بطالها.
ذهب في يوم إلى الأمير علي بك وعلم الأمير من حاشيته بقدوم الشيخ، فقام كعادته يستقبله من خارج قصره، ثم دخل الشيخ والأمير
وجلسا في صدر المكان ثم جاءت حاشية الأمير وشغلته عن الشيخ، فبادره الشيخ يقول له «غضبك ورضاك سواء، بل غضبك خير من رضاك» وقام الشيخ، وقام الأمير يحاول إعادة الشيخ الى مكانه معتذرا إليه، فرفض الشيخ.(2/318)
ذهب في يوم إلى الأمير علي بك وعلم الأمير من حاشيته بقدوم الشيخ، فقام كعادته يستقبله من خارج قصره، ثم دخل الشيخ والأمير
وجلسا في صدر المكان ثم جاءت حاشية الأمير وشغلته عن الشيخ، فبادره الشيخ يقول له «غضبك ورضاك سواء، بل غضبك خير من رضاك» وقام الشيخ، وقام الأمير يحاول إعادة الشيخ الى مكانه معتذرا إليه، فرفض الشيخ.
ومرت الأيام، وركب الشيخ في ليلة من ليالي رمضان، مع شيخه الشيخ حسن الجبرتي، والد المؤرخ الكبير، وقال الشيخ حسن الجبرتي له اذهب بنا إلى علي بك نسلم عليه فقال الصعيدي: يا شيخنا انا لا أدخل، وقال الجبرتي: لا بد من دخولك معي، فلم تسعه مخالفة شيخه، ودخلا على الأمير، وكان مصادفة عجيبة ان الأمير مات في تلك الليلة، فاستبشر أهله بالمغفرة له لزيارة الشيخين له.
وكان الشيخ الصعيدي من بني عدي وتلقى العلم على كبار الشيوخ في الأزهر من مثل الديربي، والملوي، وإبراهيم شعيب المالكي، والحنفي، وسواهم وتصدر حلقات العلم في الأزهر الشريف شيخا جليلا وقورا مهيبا، في أدب وتواضع واكباب على الدرس والبحث. فأفاد وأجاد وصار له تلامذة ومريدون. وتخرج على يديه أجيال من العلماء من بينهم القلعي، والفرماوي، والدردير، والجناحي وغيرهم، وكلهم ممن لهم مكانتهم العلمية في الأزهر.
وكان الصعيدي من الراسخين في العلم، والمبرزين فيه. فقد عاش منقطعا له، مستزيدا منه، محصلا لمسائله، غيورا على الدين وأهله ومن فتاواه تحريم شرب الدخان
وكان الشيخ يتردد على محمد بك أبي الذهب يعظه ويذكره بالله ويخوفه من بطشه، وكان يمسك بيدي ابي الذهب ويقول ما أحسنهما لوسلمتا من عذاب جهنم وأرجو ان يغفر الله لك ذنوبك، ويتجاوز عنك.
وكان مريدو الشيخ وتلاميذه كثيرين، وكانوا لا يملون دروس الشيخ ومجالس علمه ووعظه. ويقبل عليه الطلاب والعامة وجماهير المتعلمين
والمستفيدين وكان بيته يعج بالزائرين والوافدين وأصحاب الحاجات والمظالم، والشيخ لا يمل ولا يكل مما يصنعه بالليل والنهار من مآثر وأعمال طيبات(2/319)
وكان مريدو الشيخ وتلاميذه كثيرين، وكانوا لا يملون دروس الشيخ ومجالس علمه ووعظه. ويقبل عليه الطلاب والعامة وجماهير المتعلمين
والمستفيدين وكان بيته يعج بالزائرين والوافدين وأصحاب الحاجات والمظالم، والشيخ لا يمل ولا يكل مما يصنعه بالليل والنهار من مآثر وأعمال طيبات
ومات الشيخ وخلف وراءه تراثا علميا خالدا على الأيام.
عمر مكرم
من أنبه أعلام مصر والأزهر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وأسيرهم ذكرا قضى حياته في خدمة وطنه. وخدمة شعبه، وفي السعي الى تحريره والدفاع عن حريته، وكان من زعماء المقاومة الشعبية ضد الحملة الفرنسية، وكما سعى لرفع الحيف عن الجماهير في بلاده. لتحقيق آمالهم في الحياة.
كان ممن أعلن المقاومة ضد طغيان ابراهيم ومراد من أمراء المماليك منذ عام 1795م، وفي ثورة شعبية ألزم الشعب، وعلى رأسه العلماء ونقيب الأشراف. امراء المماليك بوثيقة مكتوبة وموقعة منهم بالتزام العدل في معاملة الرعية، وهذه الوثيقة يعدها المؤرخون وثيقة حقوق الانسان الأولى وقد سبقت اعلان حقوق الانسان في فرنسا في أعقاب ثورة عام 1798م، وفي هذه الوثيقة الكبرى أعلن أمراء المماليك أنهم يتعهدون بالعدل، ويتوبون عن المظالم، ويعدون بالقيام بالواجبات التي يفرضها عليهم القانون والعرف، من صرف الأموال على مستحقيها ورفع الضرائب الاضافية.
وفي نضال الشعب ضد الغزو الفرنسي لمصر عام 1798قاد مكرم العالم الأزهري الأسيوطي الجماهير، إذ هبط من القلعة الى ساحل بولاق يحمل علما يسميه العامة «البيرق النبوي»، والناس من حوله، آلاف مؤلفة يحملون السلاح، يشدون أزر جيش المماليك الذي كان يقاتل على الضفة الأخرى للنيل.(2/320)
ولما احتل نابليون القاهرة خرج من مصر إلى العريش ثم عاد الى القاهرة واشترك في ثورة القاهرة الأولى والثانية فنفاه الفرنسيون الى دمياط.
وبعد جلاء الجيش الفرنسي، كان محمد علي يلتف حول الوطنيين المصريين ويعدهم بالآمال المعسولة فرشحه عمر مكرم حاكما على مصر، وقاد مكرم الشعب في ثورته ضد الحاكم خورشيد باشا، وفي المناداة باسناد ولاية مصر الى محمد علي.
وقاد بعد ذلك حملة مقاومة الغزو الانجليزي لبلادنا عن طريق رشيد وهزمت حملة فريزر هزيمة ساحقة، رفع بعدها مكرم رأسه للسماء بالحمد والدعاء والشكر.
وتولى محمد علي حكم مصر حسب إرادة الشعب والعلماء وكان محمد علي لا يفتأ يلجأ الى مكرم لأنه يدرك مدى زعامته الشعبية في نفوس العلماء والجماهير وقادة الرأي وجميع الطبقات ولما اطمأن محمد علي الى نفسه وجيشه قلب للزعيم عمر مكرم ظهر المجن وامتنع عن مشاورته وأقصاه عن جميع أمور الدولة وعن مسائل الدفاع عن الوطن.
وأخذ محمد علي يغتصب أرض الأوقاف فاجتمع عمر مكرم بالعلماء، محتجين على مسلك الوالي فكان رده عليهم:
إنني على استعداد لأن أرمي عنق كل من يستظل بلواء المعارضة في وجه سياستي.
وبادر مكرم بجمع العلماء، وفي الاجتماع أعلن أمامهم: إن محمد علي محتال وإذا تمكن فسيصعب ازالته فلنعزله من الآن.
ونفى محمد علي عمر مكرم من مصر، فكان رد هذا الزعيم الشجاع: إن النفي غاية ما أتمناه غير أنني أريد العيش في بلد لايدين بحكم محمد علي.
وفي الثالث عشر من أغسطس عام 1809م احتشدت على ساحل
بولاق طوائف كبيرة من الشعب يودعون زعيمهم المنفي، وهو يبحر في مركبه الى دمياط، وبكى الشعب بكاء مريرا، وهو يودع الرجل الذي اوقف حياته في سبيل الدفاع عن حقوقه ورد المظالم عنه. وهكذا اختفت الزعامة الشعبية من الميدان، وأصبح محمد علي يتحرك بهواه كما يريد دون مراعاة للشعب ولا لحقوقه ومواثيقه.(2/321)
وفي الثالث عشر من أغسطس عام 1809م احتشدت على ساحل
بولاق طوائف كبيرة من الشعب يودعون زعيمهم المنفي، وهو يبحر في مركبه الى دمياط، وبكى الشعب بكاء مريرا، وهو يودع الرجل الذي اوقف حياته في سبيل الدفاع عن حقوقه ورد المظالم عنه. وهكذا اختفت الزعامة الشعبية من الميدان، وأصبح محمد علي يتحرك بهواه كما يريد دون مراعاة للشعب ولا لحقوقه ومواثيقه.
وقضى الشيخ حياته بين العبادة والمطالعة وخاصة أهله. ولما مات بكاه الناس في كل مكان.
الشيخ الشرقاوي
شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي عاصر الحملة الفرنسية على مصر، وقاد الشعب من أجل مقاومتها حينا، ومن أجل التخفيف من شدة وطأتها على الشعب حينا آخر، وطار صيته في كل مكان، وكتب عنه الأوروبيون فصولا طوالا، وذهب كل من كتب عنه مذهبا يتفق ومدى فهمه للأحداث الجسام التي وقعت في هذه الفترة القصيرة الحافلة في تاريخ الوطن.
ولد بالطويلة إحدى قرى بلبيس عام 1150هـ 1737م، وتعلم في الأزهر، وتخرج منه، وصارت له حلقة علمية قيمة، وكثر طلابه، وعم علمه الآفاق.
ولما مات الشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر عام 1208هـ تولى الشرقاوي مشيخة الأزهر بعده، وكان من المرشحين معه لتولي هذا المنصب العلمي والديني الجليل الشيخ مصطفى العروسي، فآلت إليه، وأسندت له، وتولاها وهو موضع ثقة الجميع، وكان شيخ علماء الشافعية ومفتيهم في عصره، وله مؤلفات دالة على سعة فضله في الفقه والحديث والعقائد. ومن مؤلفاته:
مختصر الشمايل مع شرحه وشرح على «الحكم» لابن عطاء الله،
ومختصر على «مغني اللبيب» لابن هشام في النحو، وطبقات فقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين، وتاريخ مصر وهو الذي أنشأ رواق الشراقوة في الجامع الأزهر.(2/322)
مختصر الشمايل مع شرحه وشرح على «الحكم» لابن عطاء الله،
ومختصر على «مغني اللبيب» لابن هشام في النحو، وطبقات فقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين، وتاريخ مصر وهو الذي أنشأ رواق الشراقوة في الجامع الأزهر.
واشترك الشرقاوي في قيادة الشعب في كل الأحداث السياسية والقومية في الحملة الفرنسية كان الناطق أمام الغزاة باسم الشعب، وأذاع نابليون نبأ رياسة الشرقاوي للمجلس المخصوص الذي ألفه، ودون موافقة من الشيخ، ليسكت ثورة الشعب وغضبه ومقاومته، وقبل الحملة الفرنسية قاد ثورة شعبية ضد المماليك تعد من أشهر الثورات الشعبية في مصر ففي شهر ذي الحجة عام 1209هـ / 1795م، وبعد توليه مشيخة الأزهر بعام جاء له الفلاحون من إحدى قرى بلبيس وشكوا له من ظلم محمد بك الألفي وجنوده وأتباعه لهم، وفرضهم على القرية اموالا كثيرة لا طاقة للفلاحين بها، وتأثر الشيخ بما سمع، وبلغ الشكوى الى كل من مراد بك وابراهيم بك، ولكنهما لم يفعلا شيئا، فعقد الشيخ مؤتمرا شعبيا وطنيا في الأزهر، حضره العلماء والطلاب، حيث استقر الرأي على مقاومة الأمراء المماليك بالقوة، حتى يخضعوا لمطالب الشعب، وعندئد امر الإمام الشرقاوي باغلاق أبواب الجامع الأزهر وأعلن للشعب قرارا باضراب العام وباغلاق الأسواق والمحلات.
وفي اليوم التالي ركب الشرقاوي ومعه العلماء، وتبعتهم الجماهير، وسار الموكب الى منزل الشيخ السادات وهو من كبار العلماء، وكان منزله قريبا من قصر ابراهيم بك الذي إفزعته مواكب الشعب الثائرة فبادر إبراهيم بك بارسال رئيس ديوانه ايوب بك ليسأل العلماء عن مطالبهم، وحاول المماطلة في تحقيق مطالب الشعب، ولكن العلماء أصروا على موقفهم. وتقاطرت الجماهير صوب الأزهر وبدأت ثورة وطنية عاصفة.
وهال إبراهيم بك ما بلغه عن الأحداث. فأرسل إلى العلماء يعتذر إليهم، وفي اليوم التالي توجه إلى مصر العثماني الى منزل ابراهيم بك،
واجتمع بأمراء المماليك حيث أرسلوا الى العلماء ليجتمعوا بهم. فحضر الإمام الشرقاوي والسيد عمر مكرم، والشيخ السادات. والشيخ البكري والشيخ الأمير. وانتهى الاجتماع بالموافقة على مطالب الشعب التي قدموها.(2/323)
وهال إبراهيم بك ما بلغه عن الأحداث. فأرسل إلى العلماء يعتذر إليهم، وفي اليوم التالي توجه إلى مصر العثماني الى منزل ابراهيم بك،
واجتمع بأمراء المماليك حيث أرسلوا الى العلماء ليجتمعوا بهم. فحضر الإمام الشرقاوي والسيد عمر مكرم، والشيخ السادات. والشيخ البكري والشيخ الأمير. وانتهى الاجتماع بالموافقة على مطالب الشعب التي قدموها.
وتم تحرير وثيقة تتضمن هذه القرارات، وقع عليها الحاكم العثماني وأمراء المماليك، وكبار العلماء، ورجع العلماء يحيط بهم الشعب بمواكبه الزاخرة.
ويجمع أكثر المؤرخين على أن هذه الوثيقة كانت بمثابة إعلان لحقوق الانسان، سبقت بها مصر غيرها من الشعوب، وسبقت بها إعلان حقوق الإنسان الذي اعلنته الثورة الفرنسية في باريس بسنوات. ومصر دائما هي قائدة المواكب، ورائدة الحرية، وحاملة مشاعل الحضارة في كل مكان وزمان.
ومات الشيخ الشرقاوي رحمه الله يوم الخميس الثاني من شهر شوال عام 1227هـ / 1812م.
الشيخ حسن العطار
ولد الشيخ حسن العطار في أول الثلث الأخير من القرن الثامن عشر 1766أي قبل الحملة الفرنسية على مصر باثنين وثلاثين عاما، فهو يعطينا بمولده هذا صورة لمصر السياسية في القرن الذي كان نهاية لحكم الولاة العثمانيين في مصر.
والحق أن مصر في القرن الثامن عشر كانت تختم القرون الثلاثة من الحكم العثماني الذي ساقه القدر إليها على يد السلطان سليم الأول الذي فتح مصر 1517م وهي قرون شهدت البلاد فيها من الظلام والجهل والضعف والتأخر في كل الميادين ما لا يمكن أن يصار الى أسوأ منه. وكان بادية القرون الثلاثة كنهايتها: سوء حال وضعف آمال.(2/324)
وكان والد الشيخ حسن عطارا ومن هنا جاءه اللقب وكان لهذا الوالد مشاركة في بعض العلوم، فما رأى من ولده إقبالا على العلم، ساعده على تحصيله، فكان يتردد على الأزهر ويحضر حلقات كبار مشايخه في ذلك العصر، فلما جاء الفرنسيون الى مصر 1798هرب حسن إلى الصعيد خوفا على نفسه من أذاهم، ثم عاد الى القاهر بعد قليل فاتصل ببعض رجال الحملة من العلماء فأفاد منهم وأطلع على كتبهم وآلاتهم وتجاربهم العلمية فكان ذلك بدء اتجاهه الى تقدير العلوم الطبيعية والمناداة بضرورتها وقد اشتغل في الوقت نفسه بتعليم اللغة العربية لبعض هؤلاء العلماء الفرنسيين، كما اشتغل بالتدريب في الأزهر.
وقد عرف الشيخ حسن العطار بمؤلفاته الكثيرة، كما عرف بأسلوبه الأدبي وعباراته الانشائية الأنيقة التي كانت تجري على طريقة الزخرف والمحسنات، وله أشعار رقيقة، أما ميله الى العلوم الطبيعية والرياضية والفلك والطب، فيدل عليه كتبه ورسائله في كيفية عمل الأسطرلاب، والربعين المقنطر والمجيب، والطب والتشريح، وأشكال التأسيس في علم الهندسة بالاضافة إلى اتقانه رسم المزاول الليلية والنهارية بيديه.
وقد امتاز حسن العطار بقراءاته الواسعة العميقة للكتب العربية والمعربة في زمانه، ولم يختص بعلم معين، او بفن بعينه من الفنون، ولكنه كان حريصا على الإفادة من كل علم، وكان يطرز الكتب التي يقرؤها بهوامشه وتعليقاته، ويقول في ذلك في تلميذه الشيخ رفاعة الطهطاوي: كان له مشاركة في كثير من العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقديم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة المشهود أيضا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش ايضا وجدتها بأكثر التواريخ وعلى طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلع دائما على الكتب المعربة من تاريخ وغيرها وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية(2/325)
ويعتبر رفاعة الطهطاوي رائد الفكر وإمام النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر أنجب تلاميذ حسن العطار، فأحبه الشيخ لما أنسه فيه من الذكاء والانكباب على العلم، وقربه إليه، وحفه برعايته، وكان التلميذ رفاعة يتردد على شيخه كثيرا في بيته ويأخذ عنه العلم والأدب والجغرافيا والتاريخ، ولما كان العطار ميالا بطبعه الى العلوم العصرية، ولا يرى الانحصار في دائرة كتب الشرع فحسب، فقد أودع هذا الميل في نفس تلميذه رفاعة الطهطاوي، مما أهله بعد ذلك ليكون إماما للبعثة العلمية في باريس، ومما فتح ذهنه إلى البحث وسلامة التفكير والاسهام في نقل العلوم عن الغربيين حتى يفيد منها اهل وطنه، وهنا يظهر فضل العطار على الطهطاوي فهو أول من وجهه إلى الاغتراف من موارد العلم والأدب. وهو أول من دله على قيمة العلوم العلمية الطبيعية وضرورتها بما لا يقل عن أهمية العلوم الشرعية.
والشيخ العطار من القلائل الذين جمعوا بين التدريس في الأزهر في اول عمره ومشيخة الجامع الأزهر في ختام حياته، وكان حلقته بالأزهر تغص بالطلاب، فكان العلماء يتركون حلقات غيره ويتكاثرون على حلقته يستمعون. ولا شك أن تحرر الشيخ العطار الفكري وبعده عن الجمود، ودعوته الجديدة الى الأخذ بالعلوم الحديثة مع الاهتمام بالعلوم القديمة، قد جذب إليه الطلاب من كل فج،، وهداهم إلى مجلسه في أثناء تدريسه بالأزهر، ويستوي في ذلك مقامه بمصر أم بالخارج، ففي مقامه بدمشق لفت إليه أنظار طلبة العلم هناك (فتلقاه اهلها بما لاق، وعقدوا على تفوقه وتفرده بالفضائل كلمة الاتفاق).(2/326)
الشيخ محمّد عياد الطنطاوي
لا يكاد أحد من العرب ممن كان له علاقة بروسيا في القرن التاسع عشر يكون شخصية طريفة كشخصية أستاذ جامعة بطرسبرج الشيخ الطنطاوي، فالدور الذي لعبه الشيخ في تاريخ الاستعراب الأوروبي ليس بيسير (1). كان الطنطاوي رجل الآداب العربية الحديثة العامل في حفل الاستعراب الروسي (2) ويبرز الطنطاوي في تاريخ هذا الاستعراب والآداب الجديدة في صورة فريدة لا نظير لها حتى الآن (3). فشخصية هذا «المستشار» تبرز بروزا فريدا في تاريخ كرسي اللغة العربية وآدابها في مدى قرن ونيف في جامعة بطرسبرج (4).
هكذا يقول المستشرق الروسي كراتشكوفسكي عن الطنطاوي الذي كان شخصية فذة في تاريخ الاستشراق، والذي وضع أصولا ثابتة للدراسات الاستشراقية في الغرب وقد شغل أذهان المستشرقين وكتاباتهم أمدا طويلا.
ويعد استاذ الكثيرين منهم.
__________
(1) ص 114حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي لكراتشكوفسكي
(2) ص 17المرجع نفسه.
(3) ص 108المرجع نفسه.
(4) ص 9المرجع نفسه.(2/327)
2 - كتبت دور الاستشراق عن الطنطاوي كتابات طويلة، ونوهت بدوره الفعال في خدمة اللغة العربية، ووصفت أعماله العجيبة وصفا رائعا، وسجلت دوائر المعارف العالمية الكثير من المعلومات عنه.
وعكف كراتشكوفسكي شيخ المستشرقين الروس عشر سنوات لكتابة دراسة عنه، وأخيرا ألف بالروسية كتابه الرائع «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1)، الذي عهد المجلس الأعلى للفنون والآداب في الجمهورية العربية المتحدة إلى السيدة كلثوم عودة. وهي عربية فلسطينية مقيمة في روسيا، بترجمته الى العربية، وعهد إلى الأستاذين: عبد الحميد حسن ومحمد عبد الغني حسن بمراجعة النص العربي وتحقيقه والتعليق عليه، ثم قام بنشره عام 1384هـ 1964فجاء سفرا نفيسا في نحو 180صفحة ولكنه يمثل جهادا عليا جليلا في الكشف عن حياة الطنطاوي ومواهبه وآثاره وثقافته، وفي تفصيل خدماته للاستشراق والمستشرقين في القرن التاسع عشر.
لقد تناولت الكتاب لقراءاته، فاذا بي أمام بطولة علمية حقة، قام بها كراتشكوفسكي، من أجل تسجيل حياة مواطن عربي، مصري، أزهري اعترافا بفضله على الثقافة الاستشراقية في العصر الحديث
وكنت أقرأ الكتاب وكأنني امام أحداث مصورة كل الألوان والظلال والسمات، وكل خطوة خطاها هذا العالم الأزهري الخالد، منذ ميلاده حتى وفاته، وكل حدث علمي أو فكري أسهم فيه قد أبرزه كراتشكوفسكي بصورة زاهية أمينة، معتمدا على كثير من المصادر والمخطوطات وسجلات المستشرقين ومؤلفاتهم وعلى مجموعة الشيخ محمد عياد الطنطاوي
__________
(1) لكراتشكوفسكي دراسة عن الوأواء الدمشقي، وعدة دراسات أخرى وهو الذي نشر كتاب البديع لابن المعتز وكان كتابه عن الطنطاوي أحب كتبه إلى نفسه وتوفي كراتشكوفسكي بعد الحرب العالمية الثانية بعد ان أنقذ مخطوطات مكتبة ليننجراد من الدمار الذي لحق بالمدينة في الحرب العالمية الثانية.(2/328)
الخطية، التي تبلغ نحو 150مخطوطا عربيا، مودعة في مكتبة جامعة بطرسبرج، والتي نرجو أن تقوم بعثات دار الكتب المصرية في الخارج بتصويرها كلها أو بعضها مما له أهمية خاصة. وكان كراتشكوفسكي يكتب عن الطنطاوي مأخوذا بروعة أعماله، وجهاده العلمي، ويسجل كل رأي فيه، ويزن أعماله بميزان نقدي سليم منصف، ويقول: لقد بدت لي فجأة شخصية شيخنا واضحة مغيرة (1).
وكان عمل المترجمة وعمل المراجعين موازيا لعمل المؤلف نفسه دقة تامة، وأمانة علمية بارزة، وتحر لجميع الحقائق، ووقوف صوفى، كأنه الاستغراق، امام جميع النصوص مما جعلني مذهولا حقا أمام هذا العمل العلمي الفريد، الذي يجب ان ينال تقدير الدولة، وتقدير جامعاتها، وبخاصة الأزهر، وكما أود أن تكون أعمال الطنطاوي في ميدان الاستشراق الحديث مادة للدراسة في جميع معاهدنا وجامعاتنا، وأن يطلق أستاذنا أحمد حسن الباقوري مدير جامعة الأزهر اسم الطنطاوي على احد مدرجات الجامعة، تخليدا لذكرى رجل نشأ بين صفوفه طالبا، وعمل في حلقاته العلمية مدرسا، وقدره العالم كله عالما ومفكرا ومصدرا للحركة الاستشراقية في العالم كله، وأكسب وطنه مصر مجدا علميا باقيا على مر الزمان.
3 - كان الطنطاوي أعظم من ضحوا من العرب في خدمة الثقافة الإنسانية، وخدمة البحث العلمي الحر. ولقد ولد في قرية نجريد المصرية عام 1225هـ: 1810م وكان أبوه تاجرا كثير التجول، من محلة مرحوم بقرب طنطا، وأمه من بلدة الصافية (2).
وذهب الى طنطا في سن السادسة لحفظ القرآن الكريم. وبدأ في تلقي دروس العلم في سن العاشرة في حلقات الجامع الأحمدي. ثم رحل
__________
(1) 112المرجع السابق
(2) قرية تقع الآن في مركز دسوق من أعمال محافظة كفر الشيخ.(2/329)
مع أبيه إلى القاهرة عام 1238هـ: 1823م، ودخل الأزهر، وفيه تتلمذ علي: محمد الكومي، ومحمد أبي النجا، ومصطفى القناوي، وإبراهيم الباجوري شيخ الأزهر (ت 1861م)، وحسن العطار (ت 1835م)، وإبراهيم السقا (ت 1880م).
وكان من زملائه في الدراسة: الشاعر الشيخ شهاب الدين (1857م)، ورفاقه الطهطاوي (1873م)، ومحمد قطة العدوى (1864م)، ومحمد الأشموني، وإبراهيم الدسوقي (1883م)، الذي تتلمذ عليه كثير من المستشرقين.
وفي عام 1827م توفي أبوه فترك الطنطاوي الدراسة في الأزهر، تحت ضغط الظروف القاسية، وعاد إلى طنطا، ومنحه أستاذه مصطفى القناوي شيخ المسجد الأحمدي إجازة في التدريس عام 1828م، ثم عاد ودرس في الأزهر عام 1830م، ثم عاد ودرس في الأزهر عام 1830م، وكان أول من قرأ المعلقات والمقامات في حلقاته العلمية وهو في العشرين من عمره.
وظل في الأزهر عشر سنين، وله تعليقات على مقامات الحريري وشرح الزوزني على المعلقات.
ومن تلاميذ الطنطاوي في الأزهر: يوسف الأسير السوري (1889م)، وإبراهيم مرزوق (1866م)، وعبد الهادي نجا الأبياري.
واشتغل مع عمله في الأزهر بالتدريس في المدرسة الانجليزية بالقاهرة (مدرسة الارسالية البروتستانتية) عام 1835م. وفيها اتصل بكثير من الأوروبيين الوافدين على مصر، ومن بينهم جماعة من المستشرقين مثل فليمانس فريثل الفرنساوي (1855) الذي ترجم لامية العرب للشنفري الى الفرنسية بمساعدة أستاذه الطنطاوي، والذي علم أستاذه اللغة الفرنسية وكذلك بيرون وفيل وبرونر، وأصبح الشيخ أثيرا عندهم، واعتمدوا عليه اعتمادا كليا في بحوثهم وتتلمذوا عليه تلمذة فعلية.
وكتب قرينل يقول: «أنه مدين للطنطاوي الشيخ المصري الوحيد،
الذي يدرس لغته بمحبة واهتمام، ويدرس كتب الآداب العربية القديمة».(2/330)
وكتب قرينل يقول: «أنه مدين للطنطاوي الشيخ المصري الوحيد،
الذي يدرس لغته بمحبة واهتمام، ويدرس كتب الآداب العربية القديمة».
ومن تلاميذه: موخين، وقرين الروسيان وبسببهما سافر الطنطاوي الى روسيا عام 1840.
غادر الطنطاوي القاهرة في 24من المحرم 1256هـ: فبراير 1840 م الى الاسكندرية حيث نزل في ضيافة قنصل روسيا فيها «مديم» وفي 26 مارس ركب باخرة نمساوية الى استامبول، ومنها إلى أوديسا وفي يوم 29 يونيو 1840وصل الى بطرسبرج.
وكانت روسيا آنذاك تهتم باللغات الشرقية، وأنشأت في بلادها دراسات لها. وفي نحو عام 1836أنشأت معهدا للغات الشرقية وألحقته بجامعة بطرسبرج (بتروغراد ثم ليننجراد او لنينجراد فيما بعد)، وخصصت كرسيا فيه لتدريس اللغة العربية، بجانب اللغات الشرقية الأخرى كالفارسية والتركية، والمغولية والصينية، والفضل في ذلك راجع الى م.
بوشكين «وزير المعارف الروسية آنذاك»، وأرادت روسيا شغل كرسي اللغة العربية، فكلفت قنصلها في القاهرة، ليقوم بالاتفاق مع من يعرف فيه القدرة على القيام بهذه المهمة، فاتصل بالشيخ وحبب إليه السفر الى روسيا لهذه الغاية، فتردد الشيخ، إلا أن أصدقاءه رغبوه في القبول، وأضيف الى ذلك إلحاح القنصل وسخاء العرض، فوافق على السفر ليأخذ مكانه بين أساتذة اللغات الشرقية في بطرسبرج.
وقوبل الشيخ هناك بالحفاوة، وجعل له مرتب سخي، واشتغل منذ 2 يوليو 1840بالتدريس في معهد اللغات الشرقية. وبالعمل في ديوان الخارجية في بطرسبرج.
كتب سانيليف الذي صار فيما بعد من أشهر علماء الآثار، وأحد، مؤسسي جمعية الآثار يرحب بالطنطاوي: وبعث بمقال له مذيل بتوقيعه، وبتاريخ 17أغسطس 1840الى جريدة (فدومستي بطرسبرج)، ونشرت الجريدة المقال في عدد 189بتاريخ 22/ 8/ 1840، وجاء فيه:(2/331)
(انت تسألني: من هذا الرجل الجميل، في لباس شرقي، وعمامة بيضاء، وله لحية سوداء كجناح الغراب، وعينان تشعان باشعاع غريب، وعلى وجهه سمة الذكاء، وقد لفحت الشمس بشرته، وليست بالطبع شمس بلادنا الشمالية الباردة، هو ضيف جديد من ضفة النيل، الشيخ الفاضل محمد عياد الطنطاوي. ان إسمه معروف لدى كل من يدرس اللغة العربية، وكل السياح الذين انتفعوا بخدماته والمدنين له بنجاح أبحاثهم يذكرونه بالشكر، ويكنون له المودة، مذيعين شهرته في أوروبا. فمن هنا نرى ما كسبته كليات اللغات الشرقية المحلية التي دعت الشيخ القاهري ليحتل كرسي اللغة العربية الشاغر. ويمكنك الآن أن تتعلم اللغة العربية بدون ان تغادر بطرسبرج، وفي الاسبوع الماضي ألقى الشيخ الطنطاوي اول محاضرة له في قاعة الجامعة حضرها ما عدا تلاميذ المدرسة وبعض المستشرقين غير المنتمين إليها).
خلف الطنطاوي في قسم اللغات الشرقية سلفه (ديمانج) الذي توفي عام 1839م وقضى ما يقرب من سبع سنوات مجاهدا في تدريس اللغة العربية ثم عين بعد ذلك عام 1847أستاذا لكرسي اللغة العربية في جامعة بطرسبرج وعين المستشرق الروسي «نفروتسكي» مساعدا له. وظل أستاذا لهذا الكرسي طيلة أربعة عشر عاما (18611847م)، وعلى يديه تتلمذ كثير من المستشرقين الروس والألمان والفنلنديين الذين كان من أشهرهم «فالين».
وفي سبتمبر عام 1855أصيب الشيخ بشلل في رجليه. وظل يغالب المرض والمرض يغالبه سنوات صعابا على نفسه. وأقام في منزله رهين المرض.
كان يشرف على العناية بالشيخ زوجته المصرية «ام حسن» التي ولدت له في 19مايو 1850ولدا سماه «أحمد».
وتوفيت زوجه المصرية عام 1860وابنه في سن العاشرة، ولما لم
يكن الشيخ بمستطيع القيام على تربية ابنه طلب ادخاله في داخلية احدى المدارس الوسطى، ودخل أحمد جمناز لاريتا في 19نوفمبر 1860على حساب الدولة، ولم يلبث الشيخ غير قليل حتى أحيل على التقاعد في 19/ 1/ 1861، ثم وافاه الأجل في 24ربيع الثاني 1278هـ: 29اكتوبر 1861م، ودفن في قرية فولكوفا بجوار بطرسبرج بجوار مقبرة زوجه المصرية الوفية وكان في هذه القرية مقابر المسلمين. وتسمى المقابر التي دفن في وسطها مقبرة التتر. وعين نفروتسكي خلفا له في كرسي اللغة العربية بالجامعة، وصرفت الدولة معاش الشيخ الى ابنه أحمد، واختير نفروتسكي وصيا عليه، وفي عام 1871باع أحمد مجموعة والده الخطية الى مكتبة الجامعة. ثم تزوج أحمد وخلف بنتا ولم يلبث كذلك الا قليلا وتوفي عام 1881، ودفن بجوار أمه، وألحقت ابنته بدار ايتام الاشراف باسم هيلانة، وصارت مسيحية منذ ذلك التاريخ او اريد لها ذلك، اذ كانت طفلة صغيرة آنذاك، ولا ندري من أخبراها بعد ذلك شيئا.(2/332)
وتوفيت زوجه المصرية عام 1860وابنه في سن العاشرة، ولما لم
يكن الشيخ بمستطيع القيام على تربية ابنه طلب ادخاله في داخلية احدى المدارس الوسطى، ودخل أحمد جمناز لاريتا في 19نوفمبر 1860على حساب الدولة، ولم يلبث الشيخ غير قليل حتى أحيل على التقاعد في 19/ 1/ 1861، ثم وافاه الأجل في 24ربيع الثاني 1278هـ: 29اكتوبر 1861م، ودفن في قرية فولكوفا بجوار بطرسبرج بجوار مقبرة زوجه المصرية الوفية وكان في هذه القرية مقابر المسلمين. وتسمى المقابر التي دفن في وسطها مقبرة التتر. وعين نفروتسكي خلفا له في كرسي اللغة العربية بالجامعة، وصرفت الدولة معاش الشيخ الى ابنه أحمد، واختير نفروتسكي وصيا عليه، وفي عام 1871باع أحمد مجموعة والده الخطية الى مكتبة الجامعة. ثم تزوج أحمد وخلف بنتا ولم يلبث كذلك الا قليلا وتوفي عام 1881، ودفن بجوار أمه، وألحقت ابنته بدار ايتام الاشراف باسم هيلانة، وصارت مسيحية منذ ذلك التاريخ او اريد لها ذلك، اذ كانت طفلة صغيرة آنذاك، ولا ندري من أخبراها بعد ذلك شيئا.
4 - ترك الشيخ آثارا كبيرة تبلغ الواحد والأربعين مؤلفا، أحصاها كراتشكوفسكي، وفي مقدمتها: تاريخ حياته وكتابه المخطوط «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا»، وورد اسمه في مرجع آخر غير كتاب كراتشكوفسكي هكذا «هدية النجباء في تحقيق اقليم روسيا» (1)، وقد ألفه الطنطاوي عام 1850م / 1266هـ، وأهداه إلى السلطان عبد المجيد، وكانت كتابته في دقيقة، وملاحظاته فاحصة، وإحساسه وروحه عاليين ولم يكن الكتاب سردا تاريخيا أو جغرافيا، بل كان وصفا دقيقا حيا بيئيا لرحلته من القاهرة إلى بطرسبرج وزياراته لأقاليم روسيا، وانفعالاته مع الإقليم والشعب فيها خلال إقامته طيلة العشر سنوات التي قضاها هناك منذ هجرته عام 1840حتى تاريخ تأليف الكتاب (1850) ووصف رحلاته في روسيا وفي دول البلطيق وفنلندا من حولها، ويتضمن الكتاب كذلك دراسة مفصلة لتاريخ روسيا
__________
(1) ص 115بين المخطوطات العربية لكراتشكوفسكي طبع ليدن 1953.(2/333)
الحديث وصورا سريعة لطبوغرافية بطبرسبرج في ذلك الحين وهذا العمل مكتوب بصورة لامعة ولا يزال محتفظا بقيمته العلمية إلى اليوم.
وللطنطاوي كتاب عنوانه «النحو العربي» أو قواعد اللغة العربية»، وهو أول كتاب كتبه كاتب عربي باللغة العربية للتدريس في جامعات روسيا ومعاهدها العالية، وهو موضع اهتمام المستشرقين، ونال شهرة كبيرة في كل دوائر الاستشراق الأوروبي. الى كتب أخرى ألفها الشيخ، وأحصاها كلها كراتشكوفسكي في كتابه القيم.
5 - كان الطنطاوي يجيد عدا العربية الفرنسية والروسية والفارسية والتركية واللغة التترية، ويقول كراتشكوفسكي: انه كان إلى جانب اللغة العربية له إلمام بست لغات أخرى، وإن هذا أفق كان بعيدا عن مواطنيه في ذلك الحين (1).
6 - إن هذا الكتاب القيم لتاريخ حي من تاريخ مصر وأزهرها في العصر الحديث فهو ينطق بعظمة الفكر المصري في أول عصر النهضة، ويصور الحياة الثقافية في مصر وحياة الأزهر العلمية في القرن التاسع عشر تصويرا صادقا أمينا وهو من أجمل الكتب التي أخرجتها المطبعة العربية، والفضل في ذلك راجع إلى عمل المؤلف وعمل الترجمة وعمل المراجعين الفاضلين الذي ينم عن جهد كبير بذلاه فيه.
والكتاب مقسم إلى:
1 - توطئة أو مقدمة تحدث فيها المؤلف عن مصادر حياة الطنطاوي وعن ظروف قيامه بهذه الدراسة.
2 - ثم ثلاثة فصول: الأول عن «الطنطاوي في مصر وسفره الى روسيا»، والثاني عن «الطنطاوي في روسيا»، والثالث عن «مصنفات الطنطاوي».
__________
(1) 102تاريخ حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي(2/334)
3 - ويلي ذلك ملحقات بعضها بقلم الطنطاوي نفسه، وبعضها نصوص أخرى للمؤلف وغيره.
4 - ثم رسائل من الطنطاوي إلى غولد المستشرق (1897م) والأستاذ في جامعة قازان.
5 - ويلي ذلك كله تعليقات وتحقيقات بقلم المراجعين كتباها شرحا أو تعليقا على بعض نقاط وردت في الكتاب.
وفي صدر الكتاب صورة للطنطاوي رسمها له مرتينوف عام 1853، وصورة أخرى لقبره أخذها له بعض المستشرقين عام 1923وتقديم بقلم المراجعين الفاضلين.
وبعد فقد مضى على وفاة الطنطاوي أكثر من مائة عام، ومع ذلك فجهوده في خدمة الاستشراق حديث الجامعات في الغرب، فمتى تذكر الجامعات العربية هذا الرجل الفذ، ومتى ترد له بعض ديونه وتعترف بقيمة ما أداه للفكر العالمي والعربي من خدمات جليلة باقية على مر الأيام؟.
ويروي المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه «أعلام الفكر الاسلامي في العصر الحديث» سيرة الشيخ الطنطاوي فيقول إنه من مواليد طنطا، سنة 1810، وقد تلقى تعليمه في الجامع الأحمدي، ثم انتقل الى الأزهر.
وكان يجيد الشعر والنثر والنقد والنحو والفقه وعلم الكلام والحساب والجبر والتاريخ وله أكثر من مائة مؤلف في كل هذه العلوم، أكثرها لا يزال محفوظا بخط يده في مكتبة الكلية البتروغرادية.
وقد قضى الشيخ الطنطاوي في روسيا نحو ربع قرن، الى أن مات، وترك زوجه وولده هناك من بعده، وليدفنا إلى جواره.
وكانت بينه وبين رفاعة الطهطاوي مراسلات أدبية، يقول في إحداها:
«أنا مشغول بكيفية معيشة الاوروبيين وألفاظهم وحسن ادارتهم،
خصوصا ريفهم وبيوتهم المحدقة بالبساتين والأنهار، الى غير ذلك مما شاهدته قبل بباريز، اذ بطرسبرج لا تنقص عنها، بل تفضلها في أشياء، كاتساع الطرق.(2/335)
«أنا مشغول بكيفية معيشة الاوروبيين وألفاظهم وحسن ادارتهم،
خصوصا ريفهم وبيوتهم المحدقة بالبساتين والأنهار، الى غير ذلك مما شاهدته قبل بباريز، اذ بطرسبرج لا تنقص عنها، بل تفضلها في أشياء، كاتساع الطرق.
«أما من جهة البرد، فلم يضرني جدا، وانما الزمني ربط منديل في العنق، وليس فروة اذا خرجت. اما في البيت، فالمداخن المثبتة معدة للادفاء».
على أن إقامته الطويلة في روسيا لم تؤثر في دينه، وله في ذلك قصيدة نذكر منها:
انا بين قوم لا أدين بدينهم
أبدا، ولا يتدينون بديني
ويحدثنا تيمور باشا في هذا الكتاب ان الشيخ الطنطاوي كان تلميذا للشيخ حسن العطار، وهو الآخر علم من أعلام الفكر الإسلامي، عاصر الحملة الفرنسية، وأفاد بها من الناحية العلمية، واستحدث بما أفاده ثورة في الأزهر أثارت عليه أثرة كثير من أصحاب العمائم.
وكان الشيخ حسن العطار في طليعة الرواد فقد كان علم الأزهر في عصره مقصورا على الدين وحده.
وكان الشيخ العطار قد عاشر علماء الحملة الفرنسية، وقرأ ما ترجموا من كتب علمية الى التركية والعربية، في الهندسة والعلوم الطبيعية والفلك والصناعات الحربية، ورأى كيف يحولون العلم الى عمل، فآمن بضرورة الدعوة إلى مثل هذا التحول، ووضع بنفسه المؤلفات في المنطق والفلك والطب والطبيعة والكيمياء والهندسة والعلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية.
وتولى منصب شيخ الأزهر، وأمر بتدريس المواد الممنوعة كالجغرافيا والتاريخ.
وحتى تدريس الأدب كان ممنوعا في الأزهر، فحرض تلميذه الشيخ
الطنطاوي على تدريسه كما حرض تلميذه الآخر رفاعة الطهطاوي على تدريس الحديث والسنة عن طريق المحاضرة، وبلا نص، مما لم تكن له سابقة في تاريخ الأزهر.(2/336)
وحتى تدريس الأدب كان ممنوعا في الأزهر، فحرض تلميذه الشيخ
الطنطاوي على تدريسه كما حرض تلميذه الآخر رفاعة الطهطاوي على تدريس الحديث والسنة عن طريق المحاضرة، وبلا نص، مما لم تكن له سابقة في تاريخ الأزهر.
ويروي تيمور باشا من ان علماء الأزهر غضبوا ايما غضبة عند تعيين الشيخ حسونة النواوى شيخا للأزهر.
وكان لهذه الغضبة أكثر من سبب، ولكن أبرز هذه الأسباب، انه جاء مؤيدا لتدريس الحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان وما إليها في الأزهر، بدعوى أنها علوم مستحدثة، بينما هي في الحق علوم قديمة، اشتغل بها المسلمون الأوائل، وألفوا فيها كثيرا، وكانت تدرس في الأزهر قبل نكسته.
ولكن خصوم الشيخ حسونة زعموا أنها من علوم الفرنجة، وأنها ما أدخلت إلى الأزهر إلا للقضاء على العلوم الشرعية أو تقليل الرغبة فيها.(2/337)
ائمة 61900 الأزهر في القديم والحديث
الشيخ محمّد بن عبد الله الخراشي
ولد ببلدة (أبو خراش) من أعمال شبراخيت بمحافظة البحيرة سنة 1010هـ تلقى تعليمه على يد نخبة من العلماء ودرس علوم الدين واللغة والمنطق وكانوا يهتمون في الأزهر بدراسة (علوم التفسير والحديث والفقه واللغة والفلسفة والمنطق) واستوعب معارف عصره وتخرج على يديه علماء كثيرون جاوزوا المائة من أعلام عصره ومن تلاميذه (الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي) وقد تولى مشيخة الأزهر بعد ذلك وكان بمثابة معيد للشيخ الخراشي يلخص ما قاله الشيخ ويوضح ما غمض (كما هو دور المعيد بالنسبة للأستاذ في الجامعة الآن).
وكان جم الحياء متواضعا يذهب إلى السوق ويشتري حاجياته ويحملها بنفسه وتمسك بالسنة وكان لا يتخلف عن صلاة الجماعة بالجامع الأزهر ووفد عليه الطلاب من كل قطر وذاعت شهرته ووصفه الجبرتي بأنه (الامام العلامة والحبر الفهامة شيخ الإسلام والمسلمين وارث علم سيد المرسلين) وكانت النذور تأتيه من كل الجهات فلا يحتفظ بشيء بل يتركها لمعارفه يتصرفون فيها وكانت له كرامات اشتهرت في عصره وظل في كفاحه العلمي حتى جاوز التسعين ولحق بربه في 27من ذي الحجة سنة 1101هـ.(2/338)
مؤلفاته:
كان رحمه الله واسع الثقافة وخاصة فيما يتعلق بعلوم التفسير والفقه على مذهب الإمام مالك ويمكن إجمال مصنفاته فيما يلي:
1 - رسالة في البسملة في نحو أربعين كراسا
2 - الشرح الكبير لمختصر خليل في ثمانية مجلدات.
3 - منتهى الرغبة في حل ألفاظ النخبة (وهو شرح لكتاب نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني).
4 - الفرائد السنية في حل الفاظ السنوسية
5 - الانوار القدسية في الفرائد الخراشية (وهو شرح للعقيدة السنوسية).
6 - حاشية على شرح الشيخ علي ايساغوجي في (المنطق) وهو كتاب شهير.
7 - إجازة أجاز بها تلميذه الشيخ علي الشبراملسي (ليستحق بها ما يشبه العالمية)
* * *الشيخ إبراهيم بن محمد البرماوي
ينسب الى بلدة (برما) من أعمال محافظة الغربية.
حفظ القرآن ودرس في الأزهر على كبار الشيوخ وعكف على (دروس الشيخ أبي العباس شهاب الدين محمد بن أحمد القليوبي) وكان من أعظم علماء عصره متعدد الثقافات وألف كثيرا من الشروح والحواشي والرسائل ثم أذن له أن يقوم بالتدريس فأقبل الطلاب على علمه وكان من أنجب تلاميذه (الشيخ إبراهيم الفيومي) الذي سبقت الإشارة إليه وترك
مؤلفات عدة تدل على غزارة علمه في (الحديث وفقه الشافعية والمواريث والتصوف).(2/339)
حفظ القرآن ودرس في الأزهر على كبار الشيوخ وعكف على (دروس الشيخ أبي العباس شهاب الدين محمد بن أحمد القليوبي) وكان من أعظم علماء عصره متعدد الثقافات وألف كثيرا من الشروح والحواشي والرسائل ثم أذن له أن يقوم بالتدريس فأقبل الطلاب على علمه وكان من أنجب تلاميذه (الشيخ إبراهيم الفيومي) الذي سبقت الإشارة إليه وترك
مؤلفات عدة تدل على غزارة علمه في (الحديث وفقه الشافعية والمواريث والتصوف).
1 - حاشية على شرح القرافي لمنظومة ابن فرح الأشبيلي (كما شرحها كثيرون لأهميتها).
2 - حاشية على شرح ابن قاسم
3 - رسالة في أحكام القول في (الكلب والخنزير) على مذهب الشافعي.
4 - حاشية على شرح السبط على الرحبية في المواريث.
5 - الميثاق والعهد فيمن تكلم في المهد.
6 - رسالة في الدلائل الواضحات في إثبات الكرامات (في التصوف والتوحيد).
تولى مشيخة الأزهر سنة 1101هـ ولقى ربه سنة 1106هـ.
* * *الشيخ محمد النشرتي
كان من أعلام المالكية ولم يعثر له على ترجمة دقيقة.
ولكنه كان واسع العلم وتتلمذ على يده نخبة من فقهاء عصره منهم (الديربي الشافعي الأزهري) صاحب المؤلفات العديدة (عبد الحي بن الحسن بن زين العابدين) العالم الشهير (والمحدث الأصولي الشهير بالجوهري) وكان بمثابة شيخ لعلماء المالكية.
ولد ببلدة (نشرت) بمحافظة كفر الشيخ وحفظ القرآن ودرس في الأزهر ولما تولى مشيخة الأزهر سنة 1106هـ ظل يواصل الدرس وشغله منصبه وطلابه عن التأليف ولقد سئل جمال الدين الأفغاني لماذا لم تترك
مؤلفات قال: (لقد ألفت رجالا) وهو منطق الشيخ النشرتي وتوفي في الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة 1120هـ.(2/340)
ولد ببلدة (نشرت) بمحافظة كفر الشيخ وحفظ القرآن ودرس في الأزهر ولما تولى مشيخة الأزهر سنة 1106هـ ظل يواصل الدرس وشغله منصبه وطلابه عن التأليف ولقد سئل جمال الدين الأفغاني لماذا لم تترك
مؤلفات قال: (لقد ألفت رجالا) وهو منطق الشيخ النشرتي وتوفي في الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة 1120هـ.
ورغم أنه مات يوم الأحد فقد شيعت جنازته يوم الأثنين ليتمكن العلماء والأعيان وأمراء المماليك من السير فيها مما يدل على مكانته.
وظل في مشيخة الأزهر أربعة عشر عاما وهي مدة طويلة لمن يتولون هذا المنصب.
* * *الشيخ عبد الباقي القليني
ولد في بلدة قلين بمحافظة كفر الشيخ لم يعثر له على ترجمة وافية ولكن المؤكد انه كان ذا سمعة علمية كبيرة وتتلمذ على يديه المشاهير وكان تلميذا للإمامين (البرماوي والنشرتي).
ووجه تلاميذه إلى دراسة الكتب القديمة وعدم الاكتفاء بالشروح والملخصات وكان يشرح ما استغلق فهمه عليهم ويملي الشروح مما يدل على رسوخ قدمه في علوم الدين وتولى مشيخة الأزهر عام 1120هـ.
ولم يترك مصنفات علمية فقد انشغل بالدروس لطلابه كسابقه (الشيخ النشرتي).
* * *الشيخ محمد شنن
لم يعثر له على ترجمة وافية وإنما الواضح أنه تميز عمن سبقه من شيوخ الأزهر بثرائه العريض وكان له مماليك وعبيد وجوار ولكن ذلك لم يصرفه عن العلم واشتهر بغزارة علمه وفقهه وكان علما من أعلام المذهب المالكي، وكان ممن حث على تجديد الجامع الأزهر وأنفق كثيرا من ماله في سبيل ذلك خوفا على طلابه بل ورفع مذكرة للسلطان أحمد الثالث
الذي أوفد بعثة عثمانية رسمية تحمل المال والخبراء لاجراء الاصلاحات.(2/341)
لم يعثر له على ترجمة وافية وإنما الواضح أنه تميز عمن سبقه من شيوخ الأزهر بثرائه العريض وكان له مماليك وعبيد وجوار ولكن ذلك لم يصرفه عن العلم واشتهر بغزارة علمه وفقهه وكان علما من أعلام المذهب المالكي، وكان ممن حث على تجديد الجامع الأزهر وأنفق كثيرا من ماله في سبيل ذلك خوفا على طلابه بل ورفع مذكرة للسلطان أحمد الثالث
الذي أوفد بعثة عثمانية رسمية تحمل المال والخبراء لاجراء الاصلاحات.
وظل يواصل البحث والدرس حتى لقى ربه سنة 1133هـ.
ولم يترك مصنفات لأنه اكتفى بتدريس العلوم لطلابه (كسابقيه).
* * *الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي
ولد سنة 1062هـ وعين شيخا للأزهر سنة 1133هـ وتوفي سنة 1137هـ.
درس في الأزهر على يد الشيخ الخراشي (الرسالة) وهي من أهم كتاب في ذلك العصر في العقيدة الاسلامية وشرحها (وكان كما قدمنا معيدا له) وتلقى على يد علماء عصره كل في تخصصه فكان من كبار رجال الحديث في عصره وتبحر في علوم اللغة حيث ألف شرحا قيما للكتاب (المقدمة العزية للجماعة الأزهرية في علم الصرف) من تأليف ابي الحسن الشاذلي المالكي وكان ذا موهبة خاصة في التدريس فكان المئات يتوافدون عليه ويتلقون عنه وكان يلخص ما قاله في نهاية الدرس ولا يغادر مجلسه حتى يطمئن على فهم تلاميذه له ومن ألمع طلابه (حجة زمانه الشيخ محمد بن عيسى بن يوسف الدمياطي الشافعي) (والشيخ الفيومي المالكي) (والشيخ الصعيدي العدوي المالكي) صاحب المصنفات العديدة.
* * *الشيخ عبد الله بن محمد بن عامر الشبراوي
ولد عام 1091هـ بالقاهرة ونبغ من صغره فكان شاعرا مرموقا وكاتبا فريدا وعالما واسع الاطلاع متعمقا في الفقه والحديث وعلم الكلام.
ورث عن أبيه وجده حب العلم وكان فاتحة لعصر النهضة والتحرر
من الصنعة في الكتابة وتتلمذ على يد (الشيخ الخراشي) (والشيخ حسن البدري) (والشيخ خليل اللقاني) (والشيخ محمد الزرقاني) (والشيخ أحمد النفراوي) وكانوا من الأعلام ولما جلس للتدريس تتلمذ على يديه كبار العلماء من أمثال (علي بن شمس الدين الخضري) (والشيخ الزمزمي المكي الشافعي) (والوالي عبد الله باشا الكوبريلي).(2/342)
ورث عن أبيه وجده حب العلم وكان فاتحة لعصر النهضة والتحرر
من الصنعة في الكتابة وتتلمذ على يد (الشيخ الخراشي) (والشيخ حسن البدري) (والشيخ خليل اللقاني) (والشيخ محمد الزرقاني) (والشيخ أحمد النفراوي) وكانوا من الأعلام ولما جلس للتدريس تتلمذ على يديه كبار العلماء من أمثال (علي بن شمس الدين الخضري) (والشيخ الزمزمي المكي الشافعي) (والوالي عبد الله باشا الكوبريلي).
كانت للشبراوي مكانة عند الحكام وبين العلماء وسجل أحداث عصره شعرا ونثرا وكانت له قصائد تغنى بها أبناء عصره وتولى المشيخة سنة 1137وكان من أعلام الشافعية ونظم قصائد لتيسير العلوم على طلابه وترك مؤلفات عدة منها.
1 - مفاتح الألطاف في مدائح الاشراف.
2 - الاتحاف بحب الاشراف.
3 - الاستغاثة الشبراوية.
4 - درس الآداب وفرحة الألباب (في تقويم الأخلاق ونصائح الحكام).
5 - عنوان البيان وبستان الأذهان (في الأدب والأخلاق).
6 - نزهة الأبصار في رقائق الأشعار.
7 - شرح الصدر في غزوة بدر.
8 - نظم بحور الشعر وأجزائها.
9 - شرح الرسالة العضدية (في علم الوضع).
10 - العقد الفريد في استنباط العقائد من كلمة التوحيد.
11 - منظومة في علم النحو.
12 - عنوان البيان ونسيان الأذهان (في البلاغة).(2/343)
13 - سند الشبراوي (ذكر فيه مشايخه ومروياته).
ومات سنة 1171هـ.
* * *الشيخ محمد بن سالم الحفني
ولد ببلدة (حفنا) من أعمال بلبيس بمحافظة الشرقية في سنة 1100 هـ.
وحفظ القرآن ووفد إلى الأزهر الشريف وأخذ العلم عن أشهر علماء عصره واجتهد حتى أجازه أساتذته للتدريس والافتاء ومن أهم شيوخه (الشيخ محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت) درس عليه (كتاب أحياء علوم الدين للإمام الغزالي) واستوعب كل كتب الحديث الشهيرة وتوافد الطلاب من كل فج.
وكان من الاشراف ينتسب إلى العترة النبوية الشريفة شديد الحياء نقي النفس وبرع في فن النثر ونظم الشعر.
وذاق مرارة الفقر ثم أقبلت عليه الدنيا فكثر ماله لكنه لم يتخل عن واجبه العلمي ومال للصوفية فكان من أقطابها يتردد على (زاوية سيدي شاهين الخلوتي بسفح الجبل) يظل فيها الليالي متعبدا متأملا فسمت به الصوفية.
ووجه طلابه الى دراسة المصادر العلمية العميقة مثل (الأشموني في النحو والصرف) (وجمع الجوامع في أصول الفقه للسبكي) (ومختصر السعد في البلاغة).
وكان ذا مهابة يهابه الأمراء والحكام ولكنه كان متواضعا مع الفقراء سخي اليد وترددت بين الناس كراماته فازداد مكانة في القلوب وتولى المشيخة سنة 1171وتسابق العلماء إلى استجازته وكتبوا عنه وألف
(العلامة الشيخ حسن المكي) كتابا في مناقبه ونسبه وكذلك (الشيخ محمد الدمنهوري المعروف بالهلباوي) ألف كتابا في مدائح الشيخ (وأفرد له الجبرتي صفحات طويلة وامتدحه بما لم يمتدح أحدا).(2/344)
وكان ذا مهابة يهابه الأمراء والحكام ولكنه كان متواضعا مع الفقراء سخي اليد وترددت بين الناس كراماته فازداد مكانة في القلوب وتولى المشيخة سنة 1171وتسابق العلماء إلى استجازته وكتبوا عنه وألف
(العلامة الشيخ حسن المكي) كتابا في مناقبه ونسبه وكذلك (الشيخ محمد الدمنهوري المعروف بالهلباوي) ألف كتابا في مدائح الشيخ (وأفرد له الجبرتي صفحات طويلة وامتدحه بما لم يمتدح أحدا).
ومن مؤلفاته:
الثمرة البهية في أسماء الصحابة البدرية (في التاريخ).
حاشية على شرح الأشموني (لألفية ابن مالك في النحو).
أنفس نفائس الدرر (حاشية على همزية البوصيري).
حاشية على شرح السمرقندي على الرسالة العضدية (في علم الوضع).
رسالة في النقلية في الفروع في أصول الفقه.
حاشية على شرح الفوائد الشنشورية للشنشوري (في المواريث).
رسالة في الأحاديث المتعلقة برؤية النبي صلى الله عليه وسلم.
رسالة في فضل التسبيح والتحميد في الفضائل والآداب.
رسالة على شرح الحفيد على مختصر جده السعد التفتازاني (في البلاغة).
شرح المسألة الملفقة في تحليل المطلقة (ثلاثا).
مجموعة من الإجازات لكثير من تلاميذه إقرارا بقدرتهم على الدرس والفتوى.
ومات في 27ربيع الاول 1181هـ.
* * *
الشيخ عبد الرؤوف بن محمد السجيني(2/345)
* * *
الشيخ عبد الرؤوف بن محمد السجيني
ولد ببلدة (سجين) بمحافظة الغربية عام 1154هـ ولقبه (أبو الجود).
حفظ القرآن ولزم عمه (الشمس السجيني) وكان من العلماء كما كان والده ايضا رغم أنه كفيف من كبار العلماء وأنه كان فقيها نحويا أصوليا شافعيا.
ولما مات عمه خلفه في دراسة المنهج (وهو منهج الطلاب للانصاري) وكان من الكتب المقررة في مذهب الشافعي.
وكان الشيخ السجيني ذا مكانة بين الناس فقد حدث ان أحد التجار تشاجر مع خادم فضربه الخادم فجمع التاجر أعوانه وطارده فلاذ الخادم بمنزل الشيخ السجيني فأطلق التاجر النار فأصابت رصاصة أحد أقارب الشيخ وهرب التاجر فثارت الجماهير من أجل الشيخ وحاصرت الحي الذي اعتصم به التاجر لولا أن تدخل الوالي والأمراء والأعيان وأرضوا الشيخ مما يدل على مكانة العلماء.
وتولى رواق الشراقوة بالأزهر قبل أن يتولى المشيخة سنة 1181هـ.
ولكن لم يطل بها فقد مات سنة 1182هـ.
ولم يعثر له على مؤلفات يبدو لأنه آثر التفرغ للدراسة والاهتمام بطلابه.
الشيخ أحمد بن عبد المنعم بن صيام الدمنهوري
ولد بمدينة (دمنهور) سنة 1101هـ وقدم الأزهر وهو صغير يتيم لم يكفله أحد فاشتغل بالعلم وجد في التحصيل وأجازه علماء المذاهب الأربعة وكان ذا حافظة قوية وقدرة على التأليف وبرع في الافتاء على (المذاهب الأربعة).(2/346)
ولم يكتف بدراسة علوم الدين فقد شغف بدراسة الطب والفلك والهندسة والمنطق رغم نفور الكثيرين من هذه العلوم فسبق أوانه وكأنه تنبأ أن يدرس الأزهر يوما هذه المواد وجلس إلى (الشيخ على الزعتري) وكان عالما بالحساب والهندسة ودرس آثار (ابن الهيثم) في الرياضيات والبصريات وآثار (ابن سينا) في الطب والفلسفة.
ولم يترك كتابا قديما إلا استوعبه وترك مصنفات في كل فن في عصر اشتهر بالتخلف ولما زار مكة حاجا سنة 1177هـ استقبل أعظم الاستقبال وأقبل عليه العلماء إذ سبقته شهرته وأجله (علي بك الكبير) وكان يجلس الى دروسه وتولى المشيخة سنة 1182هـ وكان مهيبا لدى أمراء المماليك فلما نشبت الفتنة بين زعماء المماليك وأتباعهم من طائفتي (العلوية والمحمدية) فر (حسن بك الجداوي) من زعماء العلوية أمام مطارديه فلجأ لبيت الشيخ الدمنهوري فلم يجسر أحد على اقتحامه حتى أجاره (ابراهيم بك) وكان لا يعود من درسه إلا في وقت متأخر من الليل ويحرص على صلاة الفجر وتحدى علماء عصره بما كان يطرح من أسئلة معجزة ثم يقوم بالإجابة عنها مما جعل (علي بك الكبير) يتخذه استاذا ويستشيره في كثير من أمور الدولة وتركزت هذه الاسئلة في خمسة.
1 (في إبطال الجزء الذي لا يتجزأ) وكان السائد أن المادة لا تتجزأ وكأنما سبق علماء الذرة في ذلك واستدل بقول الله (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) والأصغر من الذرة هو نواتها (البروتون) والكويكبات الدائرة حول النواة (الالكترونات).
2 - سأل (ما معنى قول ابن سينا ذات الله نفس الوجود المطلق) وهو سؤال عما يسميه الصوفية (بوحدة الوجود) وعلماء الإسلام ينزهون الله عن (الحلول والاتحاد).
3 - سأل ما معنى قول أبي منصور الماتريدي (معرفة الله واجبة
بالعقل مع أن المجهول من كل وجه يستحيل طلبه) وشرح آراء المعتزلة وفلاسفة اليونان.(2/347)
3 - سأل ما معنى قول أبي منصور الماتريدي (معرفة الله واجبة
بالعقل مع أن المجهول من كل وجه يستحيل طلبه) وشرح آراء المعتزلة وفلاسفة اليونان.
4 - ما معنى قول البرجلي (إن من مات من المسلمين لسنا نتحقق موته على الاسلام) واستدل بحديث رسول الله (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يعرفه حيث يشاء) فالعبرة بالخواتيم.
5 - هل الاستثناء في الكلمة المشرفة (لا إله إلا الله) متصل أو منفصل وقد اختلف النحويون في إعراب (لا إله إلا الله).
ومن مؤلفاته:
1 - كشف اللثام عن مخدرات الافهام في البسملة والحمدلة.
2 - حلية اللب المصون في شرح الجوهر المكنون (في البلاغة).
3 - اللطائف الفورية في المنح الدمنهورية.
4 - نهاية التعريف بأقسام الحديث الضعيف.
5 - درة التوحيد (منظومة في علم التوحيد).
6 - القول المفيد في شرح درة التوحيد.
7 - شرح الأوفاق العددية (وهو بحث في استنباط آفاق المستقبل عن طريق الأعداد.
8 - شفاء الظمآن بسر (يس قلب القرآن).
9 - عقد الفرائد بما للمثلث من فوائد.
10 - منتهى الارادات في تحقيق الاستعارات (في البلاغة).
11 - سبيل الرشاد الى نفع العباد في الأخلاق.(2/348)
12 - الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (في فقه الحنابلة).
13 - رسالة عين الحياة في استنباط المياه (في الجيولوجيا).
14 - القول الصريح في علم التشريح (في الطب).
15 - منهج السلوك في نصيحة الملوك (في السياسة والأخلاق).
16 - الدرة اليتيمة في الصنعة الكريمة (في الكيمياء).
17 - طريق الاهتداء بأحكام الأمانة والاقتداء (على مذهب أبي حنيفة).
18 - إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد (في الحساب).
19 - منع الأثيم الحائر عن التمادي في فعل الكبائر (أخلاق دينية).
20 - الأنوار الساطعات على أشرف المربعات (في الهندسة).
21 - خلاصة الكلام على وقف حمزة وهشام (في القرارات).
22 - تحفة الملوك في علم التوحيد والسلوك (منظومة طويلة).
23 - حسن الانابة في إحياء ليلة الاجابة (ليلة النصف من شعبان).
24 - الزهر الباسم في علم الطلاسم (رموز سحرية).
ومات في 11رجب سنة 1192هـ.
* * *الشيخ أحمد بن موسى العروسي
ولد بقرية (منية عروس) من أعمال أشمون بمحافظة المنوفية سنة
1133 - هـ حفظ القرآن وأحب العلوم على اختلاف أنواعها فتفوق في العلوم الدينية واللغوية كما تفوق في الرياضيات والفلك والمنطق ومال للصوفية فأخذ العهد على يد (الشيخ البكري) ودرس كل علم على مشاهير عصره ولازم (الشيخ أحمد الصعيدي) وكان بمثابة معيدا له يلخص دروسه ويوضح ما غمض منها (وهو عمل المعيد بالنسبة للأستاذ الآن في الجامعة) وكان عالما محققا حقق كثيرا من كتب التراث وكان يكره السطحية في العلم ويوصي تلاميذه بالتعمق وقراءة أمهات الكتب.(2/349)
ولد بقرية (منية عروس) من أعمال أشمون بمحافظة المنوفية سنة
1133 - هـ حفظ القرآن وأحب العلوم على اختلاف أنواعها فتفوق في العلوم الدينية واللغوية كما تفوق في الرياضيات والفلك والمنطق ومال للصوفية فأخذ العهد على يد (الشيخ البكري) ودرس كل علم على مشاهير عصره ولازم (الشيخ أحمد الصعيدي) وكان بمثابة معيدا له يلخص دروسه ويوضح ما غمض منها (وهو عمل المعيد بالنسبة للأستاذ الآن في الجامعة) وكان عالما محققا حقق كثيرا من كتب التراث وكان يكره السطحية في العلم ويوصي تلاميذه بالتعمق وقراءة أمهات الكتب.
وأحبه الشيخ البكري فزوجه إحدى بناته وتولى المشيخة سنة 1192هـ وكان ذا مكانة بين العلماء ولهذا لما أراد (إبراهيم بك) أن يولي (الشيخ عبد الرحمن العريشي) مشيخة الأزهر ثار العلماء واعتصموا بمسجد الأمام الشافعي والتف حولهم الناس وطالبوا ان يكون الشيخ العروسي هو شيخ الأزهر فنزل على رغبتهم ولما عاد (الشيخ محمد المصيلحي الشافعي) من الحجاز أغراه أعوانه أن يطلب المشيخة لنفسه فهو أحق بها وسايرهم واقتحم المدرسة الصلاحية ودرس بها وكانت وقفا على شيخ الأزهر فثار عليه العلماء ولكن الشيخ العروسي هدأ من ثورتهم وترك الشيخ المصيلحي يدرس بها احتراما لعلمه ومنعا للفتنة.
كان الشيخ العروسي قوالا للحق لا يحب الجدال العقيم وكانت شفاعته مقبولة لدى الحكام وكان الأمراء يستشيرونه ويستفتونه في مسائلهم ورفض أن تأتي جنود من خارج مصر لحفظ الأمن وبين للوالي (إسماعيل بك) خطر ذلك فعمل بنصيحته وطالب بزيادة أرزاق الجند المصريين فقاموا بواجبهم ولما طغى (أحمد أغا) الوالي على أهل الحسينية لجأ إليه الناس فقام معهم وأقنع (إسماعيل بك) يعزله اتقاء للفتنة فعزله.
ولما اشتد الغلاء وضج الناس بالشكوى ذهب الى (الوالي حسن باشا) واتفق معه على وضع (تسعيرة للخبز واللحم والسمن) وخرج المحتسب ليعلن في الأسواق السياسة التموينية الجديدة ويهدد من يخرج عليها فزالت الغمة.(2/350)
ورغم صلاحه وتقواه ومهابته فقد كان ينشد الشعر ليسهل به على الطلاب بعض العلوم ولما مات رثاه كثير من الشعراء بروائع القصائد تخليدا لذكره. ومات سنة 1218هـ
ومن آثاره العلمية:
شرح نظم التنوير في اسقاط التدبير للشيخ الملوي (في التصوف).
حاشية على الملوي على السمرقندية (في البلاغة).
* * *الشيخ عبد الله الشرقاوي
ولد بقرية (الطويلة) من ضواحي بلبيس بمحافظة الشرقية سنة 1150هـ.
حفظ القرآن ورحل الى الأزهر حيث درس على مشاهير العلماء مثل (الشهاب الملوي) (الشهاب الصعيدي) (الشيخ الجوهري) (والامام الدمنهوري) ومال بفطرته (للتصوف) واتصل بالصوفي الشهير (الشيخ الكردي) فلازمه وأدبه.
وتقلبت به الأيام بين مرارة الفقر وحلاوة اليسر وعاش مغمورا فترة طويلة ثم رفعته الأقدار إلى مصاف العلماء الكبار.
وأشتهر بالزهد والتقشف في مأكله وملبسه حتى بعد أن أقبلت عليه الدنيا وتولى مشيخة الأزهر بعد موت الشيخ العروسي سنة 1218هـ وعرف بعمامته الكبيرة وفي حياته وقعت أحداث جسام إذ أتت الحملة الفرنسية على مصر وما صحبها من آلام وتعرض لكثير من الدسائس والمؤامرات ولكن الله نصره إذ حاول خصومه إحياء منصب (ناظر الأزهر) وكان يشبه (شيخ الأزهر) وساندهم كبار الشخصيات (كالشيخ السادات)
(والقاضي العثماني) لكن الشيخ بحكمته تغلب على كل هذا ورغم ما عاناه المصريون من المماليك فقد رأوا في الفرنسيين خطرا داهما يجب التصدي له وارتفع الشيخ الشرقاوي إلى مرتبة الزعامة الشعبية فقاوم طغيان (محمد بك الألفي) وجمع المشايخ وأغلق المسجد وأمر الناس بإغلاق الحوانيت وجاء اليه (ابراهيم بك) ليسأله عن سر ذلك فقال (نريد العدل ورفع الظلم وإقامة الشرع وابطال المكوس) واضطر إبراهيم بك إلى تحقيق مطالب الشيخ نيابة عن الأمة وصمم الشيخ أن تكون الاستجابة كتابة يوقع عليها أمراء المماليك (وعرفت بالشرطة) ولما أنشأ نابليون (الديوان الوطني) ضم عشرة من العلماء رأسهم (الشرقاوي) وأمر نابليون أن تؤدى للعلماء التحية العسكرية إجلالا لهم وكان يستقبلهم عند الباب الخارجي لمقر قيادته (وخصص للعلماء الخيل) ككبار رجال الدولة وشارك في الأعياد الدينية وأمر جنوده بإطلاق المدافع في هذه المناسبات لكن الشيخ الشرقاوي أحس أنها مجرد مظاهر لتأليف العلماء ولم ير في نابليون إلا غازيا معتديا لكنه رأى مهادنته حتى تنتظم صفوف الشعب على عكس (الشيخ السادات) وأعوانه الذين رأوا مناوأته.(2/351)
وأشتهر بالزهد والتقشف في مأكله وملبسه حتى بعد أن أقبلت عليه الدنيا وتولى مشيخة الأزهر بعد موت الشيخ العروسي سنة 1218هـ وعرف بعمامته الكبيرة وفي حياته وقعت أحداث جسام إذ أتت الحملة الفرنسية على مصر وما صحبها من آلام وتعرض لكثير من الدسائس والمؤامرات ولكن الله نصره إذ حاول خصومه إحياء منصب (ناظر الأزهر) وكان يشبه (شيخ الأزهر) وساندهم كبار الشخصيات (كالشيخ السادات)
(والقاضي العثماني) لكن الشيخ بحكمته تغلب على كل هذا ورغم ما عاناه المصريون من المماليك فقد رأوا في الفرنسيين خطرا داهما يجب التصدي له وارتفع الشيخ الشرقاوي إلى مرتبة الزعامة الشعبية فقاوم طغيان (محمد بك الألفي) وجمع المشايخ وأغلق المسجد وأمر الناس بإغلاق الحوانيت وجاء اليه (ابراهيم بك) ليسأله عن سر ذلك فقال (نريد العدل ورفع الظلم وإقامة الشرع وابطال المكوس) واضطر إبراهيم بك إلى تحقيق مطالب الشيخ نيابة عن الأمة وصمم الشيخ أن تكون الاستجابة كتابة يوقع عليها أمراء المماليك (وعرفت بالشرطة) ولما أنشأ نابليون (الديوان الوطني) ضم عشرة من العلماء رأسهم (الشرقاوي) وأمر نابليون أن تؤدى للعلماء التحية العسكرية إجلالا لهم وكان يستقبلهم عند الباب الخارجي لمقر قيادته (وخصص للعلماء الخيل) ككبار رجال الدولة وشارك في الأعياد الدينية وأمر جنوده بإطلاق المدافع في هذه المناسبات لكن الشيخ الشرقاوي أحس أنها مجرد مظاهر لتأليف العلماء ولم ير في نابليون إلا غازيا معتديا لكنه رأى مهادنته حتى تنتظم صفوف الشعب على عكس (الشيخ السادات) وأعوانه الذين رأوا مناوأته.
واستغل الشيخ الشرقاوي علاقته الطيبة بالفرنسيين فكان يشفع للأهالي في رد المظالم ومنع جنود الحملة من العبث والخروج على التقاليد الاسلامية وكان نابليون يلبي طلباته، لكن نابليون أحس بعداوة الشرقاوي للحملة فقبض عليه وسجنه في القلعة مع زعماء الجهاد لكنه سرعان ما أخرجه لحاجته إليه وحاول التقرب إليه بكل السبل وتنبه الشيخ الشرقاوي الى المدنية الحديثة والعلوم المتطورة التي جاءت بها الحملة الفرنسية وقارنها بالتخلف الذي عليه مصر وكل الولايات الخاضعة للحكم العثماني وكان نابليون دائما يقول لرجاله (إذا كسبتم ثقة العلماء وخاصة هذا الشيخ يقصد الشيخ الشرقاوي فستكسبون الرأي العام في مصر كلها).
وعلم نابليون أن الشيخ الشرقاوي يتلقى رسائل سرية من الخليفة
العثماني ولكنه لم يستطع إثبات ذلك ولا الوصول الى طريقة تسللها للبلاد ولما قتل (سليمان الحلبي) القائد كليبر قبض على (الشيخ الشرقاوي والشيخ العريشي) واتهما بأنهما المحرضان على ذلك ولكن خاف قادة الحملة من آثار ذلك فسرعان ما أطلقوا سراحهما ويعتبر (الشيخ الشرقاوي) رجل السياسة الهادى الذي جنب شعبه كثيرا من النكبات ولو تشدد لفقد هذا الخيط الرفيع.(2/352)
وعلم نابليون أن الشيخ الشرقاوي يتلقى رسائل سرية من الخليفة
العثماني ولكنه لم يستطع إثبات ذلك ولا الوصول الى طريقة تسللها للبلاد ولما قتل (سليمان الحلبي) القائد كليبر قبض على (الشيخ الشرقاوي والشيخ العريشي) واتهما بأنهما المحرضان على ذلك ولكن خاف قادة الحملة من آثار ذلك فسرعان ما أطلقوا سراحهما ويعتبر (الشيخ الشرقاوي) رجل السياسة الهادى الذي جنب شعبه كثيرا من النكبات ولو تشدد لفقد هذا الخيط الرفيع.
وبعد رحيل الحملة الفرنسية عانت البلاد من ظلم وطغيان الفرق الأجنبية والقوى المتعددة (العسكر العثمانيون) (فرقة الانكشارية) (فرقة الارناءود) (فريق الدلاة وهو الاكراد) الذين استجلبهم (خورشيد) لضرب الفرق الأخرى وأخذوا جميعا ينهبون ويستبيحون الحرمات فضج الناس بالشكوى ولجأوا (للشيخ الشرقاوي) فقاد مجموعة العلماء وآلاف المواطنين وذهب الى الوالي فكتب الى رؤساء الفرق للكف عن النهب والسلب لكنهم لم يسمعوا إليه فأعلن العلماء وعلى رأسهم الشرقاوي (عزل خورشيد) وتولية (محمد علي) ورفض (خورشيد العزل) لكن السلطان أقر ما فعله العلماء وعلل سبب الموافقة بقوله (حيث رضى العلماء والرعية) فكانت هذه فاتحة للشعب ليقرر مصيره وليختار زعامته.
وبينما كان (محمد علي) يطارد المماليك في الصعيد جاءت (حملة فريزر 1807م) واحتلت الاسكندرية وزحفت الى رشيد فحمس (الشيخ الشرقاوي) ومجموعة العلماء الشعب للمقاومة فهزموها ورحلت بعد أن تكبدت خسائر فادحة.
وأصبح كل من (الشيخ الشرقاوي وعمر مكرم) بمثابة زعيمين للشعب واضطر (محمد علي) إلى مهادنة الشيخ الشرقاوي حتى لقى ربه ثم فرق العلماء ونفى (عمر مكرم) إلى دمياط ولقى ربه في 2شوال سنة 1227هـ.
وكان ذا رأي مسموع فلما حدث أن القاضي العثماني اعلن ان يوم
الأثنين متمم لشهر شعبان ثم جاءت جماعة للشيخ الشرقاوي وأكدوا له انهم رأوا الهلال فأعلن الصيام وصامت الأمة.(2/353)
وكان ذا رأي مسموع فلما حدث أن القاضي العثماني اعلن ان يوم
الأثنين متمم لشهر شعبان ثم جاءت جماعة للشيخ الشرقاوي وأكدوا له انهم رأوا الهلال فأعلن الصيام وصامت الأمة.
وترك مؤلفات عدة منها:
1 - التحفة البهية في طبقات الشافعية.
2 - العقائد المشرقية في علم التوحيد
حاشية الشرقاوي على كتاب التحرير للشيخ أبي زكريا الانصاري.
حاشية على شرح الهدهدي على أم البراهن السمات بالصغرى لأبي عبد الله بن يوسف السنوسي.
شرح جكم ابن عطاء الله السكندري.
ثبت الشرقاوي (ذكر فيه شيوخه).
مختصر الشمائل وشرح المختصر.
رسالة في (لا إله إلا الله).
رسالة في مسألة أصولية (في جمع الجوامع).
شرح رسالة عبد الفتاح العادل (في العقائد).
شرح مختصر في العقائد والفقه والتصوف.
شرح الحكم والوصايا الكردية (في التصوف).
شرح ورد السحر للبكري.
مختصر مغنى اللبيب لابن هشام (في النحو والاعراب).
فتح الميدي شرح مختصر الزبيدي (في الحديث).
تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين.
* * *
الشيخ محمد بن علي بن منصور الشنواني(2/354)
* * *
الشيخ محمد بن علي بن منصور الشنواني
ولد بقرية (شنوان) بالغربية وتلقى تعليمه على أيدي أشهر علماء عصره في الحديث والفقه والتفسير واللغة وعرف بالتواضع والسماحة وشدة الحياء وكان مولعا بالنظافة وخاصة المسجد فكان يخلع ثيابه ويقوم بتنظيف المسجد حتى المراحيض (ويحث الناس على النظافة وأنها قاعدة من قواعد الدين).
ولما مات الشيخ الشرقاوي تطلعت إليه العيون لكنه عاف المنصب واختبأ ولكن الباشا جمع العلماء وطلب منهم ان يختاروا واحدا بعيدا عن كل شبهة فوقع الاختيار عليه فأمر جنده بالبحث عنه حتى وجده فأوكل إليه المشيخة لكنه حاول الاعتذار فأصر الوالي وأصر العلماء ولما كانت داره صغيرة لا تستوعب مهام المنصب فقد نزل في دار أوسع وكان ذلك سنة 1227هـ.
وكان عزوفا عن زيارة الامراء وكبار الشخصيات ولكنه كان من قادة الشعب وشارك في مقاومة الحملة الفرنسية وقد حاول الوالي أن يستولي على كل اراضي الدولة وان يتخذ العلماء مطية حيث افهمهم أنه سيترك اراضيهم لهم يزرعونها بمعرفتهم ويستغلونها وتصدى له الامام الشنواني وطالبه بالافراج عن الاوقاف المحبوسة للطلبة فوافقه ثم طالبه بالغاء أمر الاستيلاء على بقية الأراضي فرفض.
ولم يترك مكانه في الدرس بعد تولي المشيخة وكان متبحرا في علوم اللغة كما كان مولعا بعلم الكلام والرياضيات. ومات سنة 1233هـ.
ومن مؤلفاته:
1 - حاشية على شرح الجوهري (جوهرة التوحيد).
2 - الجواهر السنية بمولد خير البرية.
3 - حاشية الشنواني على مختصر البخاري.(2/355)
4 - ثبت الشنواني (إجازة أجاز بها تلميذه المبلط الشهير).
5 - حاشية على السمرقندية (في علوم البلاغة).
6 - حاشية على (العضدية في آداب البحث).
* * *الشيخ محمد بن أحمد بن مرسى بن داود العروسي
ولد بالقاهرة وكان أبوه شيخا للأزهر كما قدمنا وكان مزاحما للشيخ الشنواني لولا أن (محمد علي) فضل عليه (الشيخ الشنواني) لأنه ضاق بالمشايخ الشعبيين (كالشرقاوي وعمر مكرم) واشتغل بالدرس فكان يقضي وقته من الصباح للمساء لا يقوم إلا للصلاة وهذا ما عوقه عن التأليف الذي يحتاج الى وقت وتولى المشيخة سنة 1233هـ وحدثت في عهده (فتنة حول أكل ذبائح أهل الكتاب) ذلك أن (الشيخ إبراهيم المالكي الشهير بإبراهيم باشا) قرأ في درس الفقه (إن ذبائح أهل الكتاب في حكم الميتة لا يجوز أكلها) وسمع (فقهاء الثغر) بذلك فانكروه وناقشوه فقال اني اخذت ذلك عن الشيخ على الميلي المغربي وهو عالم جليل ورع فأرسلوا اليه فبعث برسالة مفصلة ساق فيها الاسانيد على رأيه واستند هو ايضا لرأي (الشيخ الطرطوشي) في المنع وعدم الحل وأمر الوالي بجمع العلماء والنظر في هذه المسألة الخطيرة.
وتقدم الشيخ العروسي وامتدح (الشيخ علي الميلي المغربي) ووصفه بأنه عالم جليل ولكنه حاد المزاج وبعقله بعض الخلل (اعتذارا عن طعنه في العلماء المعاصرين) وطلب الاجتماع به لمناظرته لكن (الشيخ علي) رفض فذهب إليه الجند فوجدوه قد اختفى وأصدر الأمير أمرا بنفي (الشيخ ابراهيم المالكي) إلى بني غازي.
وظل الامام موضع التكريم من الطلبة والعلماء والامراء.
ولم يترك مصنفات لانشغاله بالتدريس ومهام المنصب. ومات سنة 1245هـ.(2/356)
الشيخ أحمد زين علي بن أحمد الدمهوجي
ولد بقرية (دمهوج) بمحافظة المنوفية سنة 1170هـ ولى مشيخة الأزهر سنة 1246وظل بها ستة اشهر حتى لقى ربه في نفس العام سنة 1246.
ولم يعرف عن حياته إلا القليل وذلك لشدة زهده وبعده عن مظاهر الدنيا وانقطاعه للدرس والعبادة فكان يدرس من الصباح حتى المساء لا يخلو إلا في اوقات الصلاة فاذا ما عاد لبيته لزم الصلاة متعبدا متهجدا ولما مات خرجت جماهير غفيرة لوداعه في مشهد مهيب.
* * *الشيخ حسن بن محمد بن العطار
أصله مغربي ولكنه ولد بالقاهرة سنة 1182هـ كان أبوه عطارا وأراد أن يعاونه ولده في حانوته لكنه مال لطلب العلم فتركه ابوه وكان ذا حافظة قوية وشغف بالعلم وخاصة لما رأى اترابه يروحون ويغدون للأزهر وفي زمن قصير أجازه أساتذته للتدريس والفتوى ولم يقنع بالعلوم الدينية بل أقبل على العلوم العصرية ودرس الفلك والهندسة وكان حاد البصر يقرأ أدق الخطوط في ضوء القمر أو الشموع الضعيفة ولا يترك الكتاب حتى يستوعبه وكان كثير الاستعارة وبذلك استوعب علوم عصره وامتدحه (رفاعه الطهطاوي) واعتبره سابقا لعصره.
وله هوامش على كتب الطب غاية في الروعة واتقن الرصد للنجوم ودرس التشريح فكان (موسوعة علمية) واتصل (بعلماء الحملة الفرنسية) واتقن الفرنسية ودرس علومهم الحديثة رغم انه فر عند مجىء الحملة الى أسيوط وعانى من الفقر والاضطراب ومرض الطاعون الذي اجتاح اسيوط
وكتب في ذلك إلى (العلامة الجبرتي رسالة غاية في الأهمية ووصف الطاعون وأعراضه وآراءه في مقاومته).(2/357)
وعاد للقاهرة بعد أن استقر الأمن وكان يرى في مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر مكسبا علميا وبركة لأنها فتحت أعين العلماء على حقائق خفية وبهذا جمع الشيخ بين الثقافة العربية والثقافة الغربية ورحل كثيرا الى الخارج وأجاد عدة لغات منها التركية والفرنسية والالبانية وزار كثيرا من أوطان العرب وكان في كل بلد يلقي محاضراته ويقبل عليه العلماء وكان شاعرا مجيدا وكاتبا عميقا ولهذا اسندت اليه (جريدة الوقائع المصرية) فرأس تحريرها وأعلن آراءه ودعا الى ادخال العلوم الحديثة وجلاء التراث العربي، وحث على الرجوع الى أمهات الكتب وعدم الاكتفاء بالحواشي والمتون (ومنه تلقى رفاعة الطهطاوي) الذي أسهم في نقل مصر من عصر التخلف الى عصر النهضة والاحتكاك بالثقافات العالمية وكان شعار الشيخ العطار (ان بلادنا يجب ان تتغير احوالها وتتجدد بها المعارف) وهو الذي وجه تلميذه (رفاعة الطهطاوي) لتسجيل كل ما تقع عليه عينه في فرنسا وان يستجلب معه كل ما تقع عليه يده من ذخائر الكتب وهو الذي شجعه على الترجمة (وتأسيس مدرسة الالسن)
وعالج علم الجغرافيا معالجة جديدة واهتم بالخرائط واستفاد من خبرة علماء الحملة واكب على عيون الكتب المهجورة وبسطها لطلابه وبدأ أول خطوة في (فن الفهرسة) بحيث يعود الطلاب الى المراجع القديمة بسهولة.
وكان خلية دائبة يدرس ويصنف المؤلفات ويشرح الكتب ودفع طلابه الى الخروج من التراكيب اللغوية العقيمة وتحرير الكتابة من قيود الصنعة التي شاعت في عصور الانحطاط ورغم طغيان محمد علي فقد كان يجله ويستشيره واطلق يده في النهضة العلمية ففتح الابواب للعلوم الحديثة وأشرف على انشاء المدارس المتعددة (ثم ولاه مشيخة الأزهر) سنة 1246هـ وجدد في الشعر العربي وفتح الطريق أمام شعراء النهضة (كالبارودي وشوقي وحافظ) وأراد الرحيل إلى مكة ولكن طلابه تعلقوا به وهددوا بترك الدراسة حتى رضخ لهم وبقي في مصر.(2/358)
ومن مصنفاته:
حاشية العطار على الجواهر المنتظمات في عقود المقولات.
حاشية العطار على التهذيب للامام الخبيصي (شرح على تهذيب المنطق والكلام).
حاشية العطار على شرح ايساغوجي في المنطق (وكان من أهم الكتب).
حاشية العطار على شرح العصام على الرسالة العضدية.
حاشية العطار على كتاب نيل السعادات في علم المقولات.
حاشية العطار على جمع الجوامع في أصول الفقه.
رسالة في علم الكلام.
حاشية العطار على شرح الكتاب المسمى (بموصل الطلاب الى قواعد الاعراب).
حاشية علي العطار على جمع الجوامع في أصول الفقه.
حاشية في علم الكلام.
حاشية العطار على شرح.
حاشية على شرح الاجرودية (في النحو).
شرح السمرقندية في علم البيان.
منظومة العطار في علم النحو.
انشاء العطار في المراسلات.
ديوان العطار (ويجمع مئات القصائد).
مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس.(2/359)
رسالة في كيفية العمل (بالاسطرلاب) وهو علم الرصد.
جمع وترتيب وشرح ديوان ابن سهل الاندلسي.
شرح كتاب الكامل للمبرد.
نبذة في علم الجراحة.
ولقى ربه سنة 1250هـ.
* * *الشيخ حسن بن درويش القويسني
ولد (بقويسنا) ولم يعرف تاريخ مولده وان عرف تاريخ وفاته حيث مات سنة 1254هـ وتميز عن سائر شيوخ الأزهر بانه كان كفيف البصر واشتهر بلقب (البرهان القويسني الشافعي) وكان مهيبا عند العلماء والأمراء ونافس الشيخ العطار في علمه وشعره ومال للتصوف وبلغ فيه منزلة سامية وكان يعتبر حجة في فقه الشافعي وكان عزيز النفس عازفا عن الدنيا حاول (محمد علي) كثيرا أن يتقرب اليه بالعطايا فكان يأبى وعابه أنه استغرق في الصوفية لدرجة الشطحات فكان اذا ما استغرق لا يدري بما حوله ويظل فيما يشبه الغيبوبة حتى يفيق.
وتخرج على يديه كبار العلماء (كالشيخ ابراهيم الباجوري) (والسيد مصطفى الذهبي) وكان من ألمع تلاميذه (رفاعة الطهطاوي) وتولى المشيخة سنة 1250هـ وحدثت جفوة بينه وبين (الشيخ الامير) وبلغت الجفوة أسماع الحاكم فاستدعى الحاكم (الشيخ الامير) وسأله عن الشيخ القويسني فقال (ليس بيننا إلا الخير) فأتى الى الشيخ القويسني فسمع منه نفس الاجابة (اتباعا للحفاظ على عروة الاسلام).
ومن مؤلفاته:
1 - شرح السلم المنورق لعبد الرحمن الاخضري.
2 - سند القويسني (جمع فيه أصح الأحاديث).(2/360)
رسالة في المواريث.
الشيخ احمد بن عبد الجواد السفطي
ولد (بسفط العرفاء) من ضواحي مدينة (الفشن) بمحافظة بني سويف واشتهر (بالشيخ أحمد الصائم) ولم يعرف تاريخ مولده.
وتلقى العلم على نخبة من العلماء فتلقى على (الشيخ السنباوي الشهير بالامير) والشيخ الدمهوجي وتولى مشيخة الأزهر سنة 1254.
وكان شاعرا موهوبا وسجل كثيرا من الاحداث في شعره واشتهر بالعفة والصلاح ولم يعثر على مؤلفاته اللهم الا اجازتين (الاولى للشيخ أحمد الجرجاوي) (والثانية للشيخ حسنين الملط الحنفي)، لكن شهرته كفقيه طبقت الآفاق وكان دءوبا على دراسة أمهات الكتب بعيدا عن زخرف الدنيا. وتوفي سنة 1263هـ.
* * *الشيخ ابراهيم بن محمد احمد الباجوري
ولد ببلدة (الباجور) بالمنوفية سنة 1198هـ وقدم الأزهر سنة 1212.
واجتهد في دراسته وتتلمذ على مشاهير عصره مثل (الشيخ الأمير) (والشيخ الشرقاوي) (والشيخ القويسني) (والشيخ القلعاوي).
وكان يقضي النهار وجزءا من الليل في طلب العلم او التدريس ثم يقضي وقتا من الليل في ترتيل القرآن بصوت شجي يسعى لسماعه المئات.
تولى مشيخة الأزهر سنة 1263هـ وظل يدرس لطلابه مع مهام المشيخة وكان مهيبا يسعى (عباس الاول) لزيارته والجلوس للاستماع الى دروسه فلا يقوم له عند حضوره أو انصرافه وكان يقبل يده.(2/361)
ثم مرض في عهد (سعيد باشا) فقام أربعة من العلماء بشئون المشيخة حتى مات سنة 1277هـ.
وقد تعرض في حياته لعدة احداث منها:
ثورة المغاربة لامور تتعلق بالجراية واساءوا الادب معه ولما علم عباس الأول أرسل الجند ونفاهم.
وهرب كثير من الشباب من التجنيد وسعوا الى دروسه وطاردهم الجند لكنهم لم يجرؤا على اقتحام مجلسه ولما علم طرد هؤلاء الشباب وحثهم على الجندية وأنها خير من طلب العلم دفاعا عن الوطن.
وحدث أن وقع نزاع بين فريق الشوام وفريق الصعايدة من طلبة العلم فأرسل الحاكم فرقة اعتدت على الصعايدة بدون تحقيق وانتهكوا حرمة المسجد فلما عاد سعيد باشا من الحج أخبره الشيخ فعزل الحاكم واعتذر لما وقع.
ومن مؤلفاته:
1 - مجموعة من الاجازات لتلاميذه النجباء.
2 - المسلسلات (تعرض فيه لعلم الاحاديث وتبويبها).
3 - حاشية على متن الجوهرة سماها تحفة المريد على جوهر التوحيد.
4 - حاشية على متن السنوسية المسماة أم البراهين.
5 - حاشية على تحقيق المقام على كفاية العوام.
6 - حاشية على شرح السعد للعقائد النسفية (للإمام النسفي).
7 - فنح القريب المجيد على شرح بداية المريد.
8 - منح الفتاح على ضوء المصباح في النطاح (فقه شافعي).(2/362)
9 - تعليق على الكشاف (في تفسير القرآن الكريم).
10 - الدرر الحسان فيما يحصل به الاسلام والايمان.
* * *الشيخ مصطفى بن محمد بن احمد بن موسى بن داود العروسي
ولد في سنة 1213هـ ولي مشيخة الأزهر سنة 1281هـ كما وليها من قبل أبوه وجده فنشأ في بيت علم وأدب ومناخ أزهري اشتهر بحبه للنظام وترك التدريس وكان لا تأخذه في الحق لومة لائم، قوي الشخصية وتتبع البدع المعاصرة التي جرت في البلاد وأعاد الناس الى الدين الصحيح ومنع التسول وكان كثير من المتسولين يتخذون من ساحة الأزهر مجالا لحرفتهم.
ولم يسمح أن يقوم أحد بالتدريس الا بعد اجتياز امتحان من لجنة كان يرأسها بنفسه وان يكون ملما بكل علوم الدين واللغة مما أوغر صدور أدعياء التدريس فأوعزوا الى الحاكم فتعذر عزله بدون مقدمات في سنة 1287هـ. ويقال ان (إسماعيل باشا) كان وراء العزل فقد خشى من شخصية الإمام الذي كان يندد بالظلم في خطبه ودروسه وخشى الخديوي أن يقود ثورة ضده بعد أن ارتفع صوت الشعب بالشكوى عند ما عرض البلاد للإفلاس ومكن الأجانب من السيطرة على تقاليد البلاد.
ومن مصنفانه:
1 - حاشية على شرح الشيخ زكريا الأنصاري للرسالة القشيرية (في التصوف).
2 - كشف الغمة وتفنيد معاني أدعية سيد الأمة.
3 - رسالة الاكتساب سماها (القول الفصل في مذهب ذوي الفضل).(2/363)
4 - العقود الفرائد في بيان معاني العقائد.
5 - أحكام المفاكهات في أنواع الفنون المتفرقات.
6 - الأنوار البهية في بيان أحقية المذهب الشافعي.
7 - الفرائد المستحسنة فيما يتعلق بالبسملة والحمد له.
8 - الهداية بالولاية.
* * *الشيخ محمد المهدي العباس الحنفي
ولد بالأسكندرية سنة 1243هـ.
وكان جده مسيحيا وأسلم على يد (الشيخ محمد الحفني) وهو صغير فضمه لاسرته وأقبل على حفظ القرآن ودراسة الإسلام ورشحه (الشيخ الشرقاوي) لمشيخة الإسلام، ولكن (محمد علي) آثر بها (الشيخ الشنواني).
وانجب ابنه (محمد الأمين) من خيرة العلماء الذي أنجب (الشيخ محمد المهدي) الذي كان ذكيا واعيا، فدرس على خيرة العلماء وأحبه (إبراهيم باشا) فأوكل إليه منصب (الافتاء) سنة 1264هـ وهو في نحو العشرين دليل تقديره ولكنها أثارت العلماء عليه لصغر سنه ثم تولى مشيخة الأزهر سنة 1287هـ.
واشتهر بالحزم وحب العلم وعدم ممالاة الحكام، وكانت فتاواه دليل ذلك وتصدي (العباس الأول) حينما أراد أن يصادر كل أملاك أسرة محمد علي بحجة أنه جاء الى مصر ولم يكن يملك شيئا، ويجب ان ترد هذه الأموال للدولة (وهي كلمة حق أريد بها باطل) وطلب من الشيخ المهدي ان يصدر فتوى بذلك فرفض فهدده بالعقاب الرادع ولكنه لم يلن وارتفع قدره عند الحاكم وعند العلماء لموقفه هذا ويعتبر أول (حنفي) يتولى مشيخة الأزهر إذ كانت وقفا على (الشافعيين).(2/364)
وكان أول شيخ للأزهر يقوم بتنظيمات مالية وإدارية وأعاد للأزهر كل الأوقاف والمخصصات التي سلبت منه وكان موفقا في انفاق الأموال على مستحقيها وصمم على ألا يقوم بالتدريس في الأزهر إلا من تجيزه لجنة من العلماء فكان أول من سن (قانون تنظيم الامتحان) وجعل الامتحان في أحد عشر علما من علوم الدين واللغة وهي الأساس الآن للدراسة في الأزهر، وكان يحرص ان يشهد بنفسه الامتحان ويناقش الممتحن مما حفز الطلاب على استيعاب هذه العلوم فتخرج جيل عالم. ولما قامت (الثورة العرابية) لم يتجاوب معها فطلب (عرابي) من الخديوي عزله فأجابه لطلبه سنة 1299هـ وتولى (الشيخ الأنبابي) مكانه.
وظل الشيخ المهدي على الافتاء فطلب منه قادة الثورة فتوى بعزل الخديوي فرفض لأنه رأى ان الذي يملك عزل الخديوي هو الخليفة العثماني فوضعه العرابيون تحت المراقبة ولما فشلت الثورة العرابية اعاده الخديوي الى المشيخة بجانب الافتاء حتى سنة 1304هـ عند ما علم الخديوي ان الشيخ يستقبل في بيته بعض من يتكلمون في السياسة ويظهرون سخطهم على الاحتلال البريطاني.
والتقى الشيخ بالخديوي فقابله مقابلة جافة فطلب اعفاءه من المنصب فقال الخديوي: (ومن الافتاء ايضا) فقبل ذلك. ويقال ان الخديوي حنق عليه لعدة فتاوي اضرت بمركز الخديوي وظل ملازما بيته حتى مات سنة 1315هـ.
ومن مؤلفاته:
1 - الفتاوي المهدية في الوقائع المصرية.
2 - رسالة في مسألة الحرام (على مذهب الحنفية).
* * *
الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن حسين الأنبابي(2/365)
* * *
الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن حسين الأنبابي
ولد بمدينة (انبابة) المعروفة الآن (بامبابه) بمحافظة الجيزة سنة 1240هـ وكان والده يعمل بالتجارة وله وكالة بالغورية. لكن الولد مال للعلم فحفظ القرآن ودرس بالأزهر وتتلمذ على أيدي (الشيخ الباجوري)، الشيخ ابراهيم السقا)، (الشيخ البولاقي) ولفت الانظار إلى علمه وسعة مداركه فأجازه الأساتذة للتدريس الأزهر سنة 1267وكان رجلا خيرا جوادا سمح النفس فانتخب أمينا للفتوى عن الشيخ العروسي ووكيلا عنه في إدارة الأزهر.
وكان اذا ما درس كتابا وضع حاشيته وشروحا وتعليقات افادت طلابه.
وتخرج على يديه علماء كبار (الشيخ حسونه النواوي) (والشيخ الببلاوي)، (والامام ابو الفضل الجيزاوي)، (والشيخ الطويل)، (والشيخ القاياتي).
ثم عين شيخا للأزهر سنة 1299هـ اثناء الثورة العرابية وكرمه السلطان العثماني، ولكنه استقال لما رأى من إقبال الخديوي توفيق على الشيخ المهدي (كما أشرنا) ثم صدر تعيينه ثانية سنة 1304هـ وظل إلى أن استقال سنة 1312لاعتلال صحته ونال (النيشان المجيدي) (والنيشان العثماني) من الدرجة الأولى وتوفي سنة 1313هـ.
وكان جريئا في الحق ورغم طغيان (اللورد كرومر) فقد كان لا يقوم له وسأله (لماذا تقوم للخديوي ولا تقوم لنا) قال: (لأنه ولي الامر وأنت أجنبي عنا) فزاد (كرومر) احتراما له وكتب بهذه الاجابة لحكومته.
ومن مكارم الشيخ الانبابي انه افتى بجواز دراسة العلوم الحديثة وكان الشيوخ يحرمونها.(2/366)
من مصنفاته:
مجموعة إجازات لتلاميذه الذين تأهلوا للتدريس.
تقرير الانبابي على حاشية الصبان.
رسالة في علم الوضع.
تقرير على مختصر السعد وحواشيه.
رسالة في بيان الربا وأقسامه.
فتاوي فقهية.
مجموعة تقارير وحواشي على أهم المؤلفات القديمة.
* * *الشيخ حسونة بن عبد الله النواوي
ولد بقرية (نواي) من أعمال ملوى محافظة أسيوط سنة 1255هـ وحفظ القرآن ووفد إلى الأزهر وحضر دروسه على العلماء الكبار (كالشيخ الأنبابي)، (والشيخ البحري)، (والشيخ الأسيوطي) وعمل استاذا بدار العلوم ومدرسة الحقوق ثم ألف كتابا هاما هو (سلم المسترشدين في أحكام الفقه والدين) أوضح فيه المشكلات الفقهية وتقرر تدريسه بكل المدارس ولما مرض الشيخ الانبابي انتدب للقيام بشئون الأزهر سنة 1311هـ وعين في لجنة خماسية كان من أعضائها (الشيخ محمد عبده)، (والشيخ سليمان العبد)، (والشيخ أبو الفضل الجيزاوي) للبحث في إصلاح الأزهر سنة 1312هـ ثم عين شيخا للأزهر سنة 1313هـ ثم أخذ الافتاء أيضا سنة 1315وانتخب عضوا في المجلس العالي بالمحكمة الشرعية إلى أن عزل من مشيخة الأزهر سنة 1317هـ وتولاها ابن عمه (الشيخ عبد الرحمن النواوي) لأنه عارض اصلاح المحاكم الشرعية وعرض على مجلس شورى القوانين اقتراح بندب قاضيين مدنيين من محكمة الاستئناف
الاهلية ليشاركا قضاة المحكمة الشرعية العليا في الحكم فوقف ضد هذا الاقتراح وأشيع أن الحكومة تريد هدم الشريعة وحاول الخديوي أن يقنع الشيخ بقبول هذا الاقتراح فرفض فتم عزله وبعد محاولة تعيين نحو ستة في منصب المشيخة لم يستقروا في المنصب، عاد الشيخ حسونة الى مشيخة الأزهر سنة 1324لكنه آثر ترك المنصب بعد قليل لاختلال الاحوال واستقال سنة 1327هـ حتى لقى ربه سنة 1343هـ.(2/367)
ولد بقرية (نواي) من أعمال ملوى محافظة أسيوط سنة 1255هـ وحفظ القرآن ووفد إلى الأزهر وحضر دروسه على العلماء الكبار (كالشيخ الأنبابي)، (والشيخ البحري)، (والشيخ الأسيوطي) وعمل استاذا بدار العلوم ومدرسة الحقوق ثم ألف كتابا هاما هو (سلم المسترشدين في أحكام الفقه والدين) أوضح فيه المشكلات الفقهية وتقرر تدريسه بكل المدارس ولما مرض الشيخ الانبابي انتدب للقيام بشئون الأزهر سنة 1311هـ وعين في لجنة خماسية كان من أعضائها (الشيخ محمد عبده)، (والشيخ سليمان العبد)، (والشيخ أبو الفضل الجيزاوي) للبحث في إصلاح الأزهر سنة 1312هـ ثم عين شيخا للأزهر سنة 1313هـ ثم أخذ الافتاء أيضا سنة 1315وانتخب عضوا في المجلس العالي بالمحكمة الشرعية إلى أن عزل من مشيخة الأزهر سنة 1317هـ وتولاها ابن عمه (الشيخ عبد الرحمن النواوي) لأنه عارض اصلاح المحاكم الشرعية وعرض على مجلس شورى القوانين اقتراح بندب قاضيين مدنيين من محكمة الاستئناف
الاهلية ليشاركا قضاة المحكمة الشرعية العليا في الحكم فوقف ضد هذا الاقتراح وأشيع أن الحكومة تريد هدم الشريعة وحاول الخديوي أن يقنع الشيخ بقبول هذا الاقتراح فرفض فتم عزله وبعد محاولة تعيين نحو ستة في منصب المشيخة لم يستقروا في المنصب، عاد الشيخ حسونة الى مشيخة الأزهر سنة 1324لكنه آثر ترك المنصب بعد قليل لاختلال الاحوال واستقال سنة 1327هـ حتى لقى ربه سنة 1343هـ.
وفي عهده صدر قانون شامل باصلاح الأزهر نظمت بمقتضاه ادارته واجهزته وفي عهده أيضا تم جمع (مكتبات الأزهر والمساجد الاخرى) في مكتبة واحدة وساعده (الشيخ محمد عبده) في كل محاولات الاصلاح.
ومن مصنفاته:
غير كتاب (سلم المسترشدين) الذي سبقت الاشارة إليه.
قانون تنظيم الأزهر.
* * *الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي
ابن عم الشيخ حسونه ومن بلدة (نواي) ولد سنة 1255هـ وتتلمذ على نفس الاساتذة وتخرج فشغل عدة مناصب هامة قضائية منها:
أمانة فتوى مجلس الاحكام مساعدا للشيخ البقلي سنة 1280هـ.
قضاء مديرية الجيزة سنة 1290ثم قضاء الغربية سنة 1296.
ثم نقل الى المحكمة الشرعية بالقاهرة سنة 1306ثم الى الى قضاء الاسكندرية.
ثم تولى الافتاء بوزارة العدل سنة 313هـ.
وأخيرا تولى مشيخة الأزهر سنة 1317هـ.(2/368)
وانشغل بمهام هذه المناصب عن التأليف فلم يعثر له على مؤلفات.
* * *الشيخ سليم بن أبي فراج البشري
ولد (بمحلة بشر) من قرى (شبراخيت) بمحافظة البحيرة 1248هـ.
وقدم القاهرة للدراسة في الأزهر ونزل على خاله، وكان يعمل بمسجد السيدة زينب فدرس القراءات وعلوم الدين واللغة ودرس فقه الامام مالك وتتلمذ على يد (الشيخ الباجوري) و (الشيخ عليش).
ولما مرض شيخه (الخنانى) أوكل إليه أن يقوم مكانه بالتدريس لما أنس فيه من علم وأقبل الطلاب على دروسه ونبغ في علوم كثيرة وكان يجد لكل مسألة حلا حتى قصده العلماء ثم عين شيخا لمسجد السيدة زينب فقرأ على الناس أمهات.
ثم عين شيخا للسادة المالكية وهو منصب كبير بالأزهر.
ووقع عليه الاختيار ضمن من قاموا بالإصلاح في الأزهر، ثم عين شيخا للأزهر سنة 1317هـ وكان معتزا برأيه فقد حدث أن ولى (الشيخ أحمد المنصوري) شيخا لأحد أروقة الأزهر وتدخلت الحكومة في هذا وأصر على رأيه فهدده بعزله فرحب بذلك وقدم استقالته.
ثم عين مرة ثانية سنة 1327هـ وظل الى أن مات سنة 1335هـ.
وواصل قيادة حركة الإصلاح وإلقاء الدروس والتصنيف العلمي.
وكان جريئا لما قدم استقالته أول مرة لم يترك درس العلم ولم يحاول أحد أن يزحزحه من مكانه وفي عهده طبق نظام امتحان الراغبين في التدريس بالأزهر، وكان أول من طالب بزيادة مقررات العلماء والطلاب ورخص لكل طالب أو عالم بالسفر بالسكة الحديدية بنصف الأجر ولم
يقبض مرتبه بنفسه أبدا، ولم يدر عنه شيئا وكان كثيرا ما يعطي لأصحاب الحاجات وعرف بالحزم الإداري.(2/369)
وكان جريئا لما قدم استقالته أول مرة لم يترك درس العلم ولم يحاول أحد أن يزحزحه من مكانه وفي عهده طبق نظام امتحان الراغبين في التدريس بالأزهر، وكان أول من طالب بزيادة مقررات العلماء والطلاب ورخص لكل طالب أو عالم بالسفر بالسكة الحديدية بنصف الأجر ولم
يقبض مرتبه بنفسه أبدا، ولم يدر عنه شيئا وكان كثيرا ما يعطي لأصحاب الحاجات وعرف بالحزم الإداري.
وترك مصنفات عدة منها:
1 - حاشية تحفة الطلاب على شرح رسالة الآداب.
2 - حاشية على رسالة الشيخ عليش في التوحيد.
3 - المقامات السنية في الرد على القادح في البعثة النبوية.
4 - عقود الجمان في عقائد اهل الايمان.
5 - الاستئناس في بيان الاعلام وأسماء الاجناس.
6 - شرح نهج البردة لشوقي.
* * *الشيخ علي بن محمد الببلاوي
ولد بقرية (ببلا) من أعمال ديروط بمحافظة أسيوط سنة 1251هـ وحفظ القرآن ثم وفد للأزهر ودرس فيه واختار حلقات خيرة الأساتذة (كالشيخ الانباني) (والشيخ عليش) وكان صديقا حميما (للشيخ حسونة النواوي) وباشر التدريس بالمسجد الحسيني والجامع الأزهر وأقبل عليه الطلاب.
وسافر للحجاز سنة 1280هـ والتقى بمجموعة من كبار العلماء وناقشهم ثم عين بدار الكتب حتى رأسها سنة 1299في وزارة محمود سامي البارودي فنظم الفهارس ونهض بها نهضة عظيمة ولما فشلت الثورة فصله الخديوي توفيق ولكنه ظل خطيبا للمسجد الحسيني ثم عين سنة 1311شيخا لمسجد الحسين لنسبه الشريف ثم اختير نقيبا للاشراف سنة 1312هـ ثم عين شيخا للأزهر سنة 1320هـ.(2/370)
ورغم اكرام الخديوي له الا انه لم يرض ان يقف ضد الشيخ محمد عبده ارضاء للخديوي ووافقه في كل مساعيه الاصلاحية ولكن الخديوي اضطهده فقدم استقالته سنة 1323هـ ومات في نفس السنة 1323هـ.
ومن مصنفاته:
1 - رسالة في فضائل ليلة النصف من شعبان.
2 - إجازة الى الشيخ محمد بن حامد المراغي المالكي.
3 - إعجاز القرآن وهو مجموعة مقالات.
4 - الأنوار الحسينية في شرح الحديث المسلسل يوم عاشوراء.
* * *الشيخ عبد الرحمن بن محمد ابن أحمد الشربيني
حفظ القرآن وتلقى المذهب الشافعي على أساتذته وأحب التعميق في المصادر القديمة وأجيز للتدريس في الأزهر.
ولما انقسم العلماء فريقين (فريق يريد الإصلاح)، (وفريق يتمسك بالتقاليد الأزهرية) ويعارض التجديد انضم (الشيخ عبد الرحمن) إلى الفريق الثاني مما لفت نظر الحكام إليه وكانوا يتوجسون خيفة من الإصلاح ورأوا فيه رجلا صالحا عازفا عن الدنيا فعرضوا عليه مشيخة الأزهر مرارا لكنه كان يعتذر وكان الخديوي يطمع أن تطلق يديه بعد توليه الشيخ عبد الرحمن وكان يعمد إلى استئجار الأقلام لشن حملة ضد الإصلاح ودعاته مما دفع الشيخ محمد عبده إلى الاستقالة من منصبه سنة 1905م وحاول الخديوي زحزحته عن (الافتاء) أيضا وعارض (كرومر) ذلك لأنه يخشى من آثار اضطهاد الشيخ محمد عبده من ناحية ولا يريد للخديو أن تطلق يديه من ناحية أخرى ولأن (كرومر) يريد جذب الطبقة المثقفة إليه.(2/371)
وأخيرا قبل الشيخ الشربيني تولى منصب شيخ الأزهر سنة 1323هـ وشن حملة شديدة على حركة الإصلاح واضطهد كل من يتعاون فيها ولم يكن هدفه إلا الخوف من تهاون الطلبة في دراسة العلوم الدينية.
وحدث أن (الشيخ الظواهري) الذي تولى مشيخة الأزهر فيما بعد ألف كتابا أسماه (العلم والعلماء) ودعا إلى اصلاح الأزهر فقام (الشيخ الشربيني) بحرقه وجمع كل نسخه وكان يعزل كل من يثبت أن لديه نسخة منه مما جعل الخديوي يزداد تمسكا به واضطر (الشيخ محمد عبده) إلى مهاجمته في جريدة المقطم وتفنيد آرائه لكن الشيخ الشربيني رفض أن يكون العوبة في يد الخديوي واستقال من منصبه سنة 1324هـ وأعيد الشيخ حسونة النواوي
ومات الشيخ الشربيني سنة 1326هـ.
ومن مؤلفاته:
تقرير على حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع للسبكى في أصول الفقه.
تقرير على حاشية ابن قاسم.
تقرير على حاشية عبد الحكيم.
فيض الفتاح على شرح المفتاح في البلاغة.
* * *الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي
ولد (برواق الحضر) من أعمال مركز امبابة محافظة الجيزة سنة 1264هـ وحفظ القرآن الكريم والتحق بالأزهر ودرس القراءات وفقه الإمام مالك وتلقى علوم الدين واللغة على يد (الشيخ عليش)، (والشيخ العدوي) (والشيخ السقا)، (والشيخ الأنبابي) وقام بالتدريس وتخرج على يديه جيل من العلماء.(2/372)
وفي سنة 1313عين عضوا في ادارة الأزهر في مدة (مشيخة الشيخ البشري) ثم وكيلا للأزهر سنة 1326هـ. وعين شيخا لمعهد الإسكندرية ومكث 8سنوات وأخيرا عين شيخا للأزهر في سنة 1335هـ وأضيفت اليه مشيخة السادة المالكية سنة 1336هـ.
وعاصر أحداث 1919وكان علما بارزا واستطاع أن يقود السفينة في غمار هذه العواصف حتى لقى ربه سنة 1346هـ.
وقد خطا بالأزهر خطوات نحو الاصلاح فقد أصدر قانون سنة 1923م.
بمقتضاه انقضت مدة الدراسة في كل المراحل إلى 4سنوات وانشىء (قسم التخصص) وكان رحمه الله واسع الاطلاع في العلوم الفقهية والفلسفية وتاريخ الإسلام.
ومن مصنفاته:
1 - إجازة للشيخ محمد بن محمد المراغي المالكي الجرجاوي.
2 - الطراز الحديث في فن مصطلح الحديث.
3 - تعليقات على شرح العضد.
4 - كتاب تحقيقات شريفة.
* * *الشيخ محمد بن مصطفى ابن محمد المراغي
ولد (بمراغة) من أعمال جرجا سنة 1881م وكان والده عالما جليلا واسع الثقافة وظهرت نجابته فأرسله والده إلى الأزهر واتصل بالشيخ (محمد عبده) وتأثر بفكره وانتفع بمحاضراته في (البلاغة) (والتوحيد) (والتفسير).
وشجعه الشيخ محمد عبده على أن يعود للمصادر الأصيلة وألا يكتفي
بالقشور ونال العالمية سنة 1332هـ رغم أنه كان مريضا أثناء الإمتحان.(2/373)
وشجعه الشيخ محمد عبده على أن يعود للمصادر الأصيلة وألا يكتفي
بالقشور ونال العالمية سنة 1332هـ رغم أنه كان مريضا أثناء الإمتحان.
ولما طلبت حكومة السودان من الشيخ محمد عبده اختيار قضاة السودان رشح المراغي سنة 1904م فتولى قضاء الخرطوم ولم تنقطع صلته بأستاذه الذي لم ينسه حتى الممات وأكرم أرملته وهو شيخ للأزهر وفاء للإمام محمد عبده.
وفي سنة 1907اختلف وقاضي القضاة في وجهة نظر فقدم استقالته وعاد إلى مصر ثم عين في نفس العام مفتشا للدروس الدينية بديوان عموم الأوقاف (وزارة الأوقاف) وواصل التدريس بالأزهر.
ثم صدر أمر من الخديوي بتعيينه قاضيا لقضاة السودان سنة 1908ولما أرادت حكومة السودان تعديل لائحة المحاكم الشرعية تمسك بأن من سلطته أن يختار للقضاة الآراء الفقهية التي يحكمون بها وأبى السكرتير القضائي فاحتكما للحاكم فنصره على السكرتير القضائي.
ثم قامت ثورة 1919وامتدت آثارها إلى السودان وحاول الانجليز قمعها في مصر بأساليب وحشية فأصدر الإمام المراغي نشرة ثائرة عنوانها (اكتتاب لمنكوبي الثورة بمصر) ووصف المآسي التي لحقت بمصر واستجاب السودانيون للنداء ولم يستطع الحاكم السوداني إيقاف هذه الثورة.
وكان معتزا بكرامته وحدث أن مر (جورج الخامس) بالسودان وطلب من الموظفين أن يكونوا بانتظاره على ألا يصعد إلى الباخرة إلا الحاكم العام وأصر المراغي أن يصعد إلى الباخرة قبل الحاكم العام وإلا فلن يستقبله وتم له ما أراد.
وحدث أن الخديوي عباس الثاني ذهب للصلاة في المسجد فرأى الإمام أعمى فغضب وسأل الشيخ المراغي فقال (إن الإسلام لا يفرق ما بين البصير والأعمى) وكان الشيخ الأعمى هو (الشيخ يوسف الدجوي) فاعتبرها الخديوي إهانة.(2/374)
وتولى كرئيس للتفتيش بوزارة العدل سنة 1919ثم رئيسا لمحكمة مصر الكلية الشرعية سنة 1920فرئيسا للمحكمة الشرعية العليا سنة 1923.
وأمر بإجراء إصلاحات هامة حيث شكل لجنة لتنظيم الأحوال الشخصية ووجه اللجنة إلى عدم التقيد بمذهب الإمام أبي حنيفة.
وأصدر عام 1920قانون الأحوال الشخصية وعدل (قانون الطلاق) ونادى بفتح باب الاجتهاد ودعا إلى (توحيد المذاهب).
وحدث أنه كان ينظر قضية كبيرة تتعلق بملايين الجنيهات ولوح له أصحابها بآلاف الجنيهات إن حكم لصالحهم ورفض فألقوا عليه ماء نار فأصاب عنقه ووصف المجرم وقبض عليه ونال العقاب.
ومن المحن التي تعرض لها أن (الملك فاروق) لما طلق زوجته (الملكة فريدة) أراد أن يحرم عليها الزواج بعده. ورفض الإمام المراغي أن يصدر فتوى. بذلك. وذهب الملك إليه وكان يعالج في مستشفى المواساة فقال كلمته المشهورة: (فأما الطلاق فلا أرضاه وأما التحريم فلا أملكه) ولما غلظ عليه فاروق صاح الشيخ (إن المراغي لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله) وفي سنة 1928م تولى مشيخة الأزهر وقام بأعمال جليلة.
ونادى بالعناية بحفظ القرآن والاهتمام بدراسة علومه ودراسة السنة وحرص على منع التعصب لمذهب، ودعا إلى دراسة الأديان الأخرى والمقارنة بينها.
وكان من الداعين ألا تجر البلاد إلى الحرب بين الحلفاء والمحور (فإنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل) ولما احتد عليه رئيس الوزراء خوفا من غضب انجلترا صاح به (أتهددني وأنا شيخ الأزهر).
(إن شيخ الأزهر أقوى بنفوذه من رئيس الوزراء) (ولو شئت لا رتقيت المنبر وأثرت عليك الجماهير حتى تجد نفسك معزولا عن الشعب).(2/375)
وكتبت عنه (التايمز البريطانية) (أن هذا الرجل أخطر على بلادنا وحياتنا من ويلات الحرب).
وكان صديقا لمحمد محمود باشا وقد سأله السفير البريطاني يوما (من سيفوز في الانتخابات) قال: (الوفد) فعجب وقال: (إني أعلم أنك صديق لمحمد باشا محمود) فقال: (إن الصداقة لا تدفعني للكذب والنفاق) ومات عام 1945.
ومن مؤلفاته:
1 - الأولياء والمحجورون (نال بها عضوية هيئة كبار العلماء).
2 - تفسير جزء تبارك (وتكملة لتفسير جزء عم للشيخ محمد عبده).
3 - بحث في وجوب ترجمة القرآن الكريم.
4 - رسالة الزمالة الإنسانية.
5 - بحوث في التشريع الإسلامي وأسانيد قانون الزواج.
6 - مباحث لغوية بلاغية.
7 - الدروس الدينية (مجموعة دروس وتفسير لآيات وسور قصار).
وكتب مقالات عدة في كثير من الصحف والمجلات.
* * *الشيخ محمد الأحمدي إبراهيم الظواهري
ولد بقرية (كفر الظواهري) بمحافظة الشرقية سنة 1887م وكان أبوه من خيرة علماء الأزهر المتصوفين وكان ذا بركات وذاعت شهرته كما كان زميلا (للشيخ محمد عبده).
ورغم صداقتهما فقد كان الشيخ محمد عبده يؤمن بالعقل والفكر ولا يميل لما يجري عليه أهل التصوف وكان يوصى بدراسة (كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي) الذي ينقى الدين.(2/376)
وأعجب الابن بالشيخ محمد عبده ولكنه لم يتخل عن تقاليد الأسرة الصوفية واحترام الأولياء وقرأ كتاب (حكم ابن عطاء الله السكندري) وتأثر بهذه الحكم فزكت نفسه.
وكانت لجنة الإمتحان لنيل العالمية على رأسها (الشيخ محمد عبده) فأعجب بعلمه وهنأه وأوصاه بعدة وصايا ليظل على تفوقه.
ولما تم إنشاء المعهد الأحمدي حشد له خيرة العلماء فاختير الشيخ الظواهري فلفت الأنظار واتسعت حلقته وكان إلى جانب التدريس يباشر معهم الصوفية على نهج (الطريقة الشاذلية).
ولما ألف كتاب (العلم والعلماء) ودعا فيه للإصلاح وجد معارضته من (الشيخ الشربيني) الذي أوصى بحرقه (كما سبق وأن أشرنا).
ثم عين شيخا للمعهد الأحمدي سنة 1914م وأنشأ عدة جمعيات للنهوض بالدعوة والخطابة واللغة والرحلات وأصدر مجلة (مجلة معهد طنطا) وألف لجنة لمراقبة سلوك الطلاب خارج المعهد ولجنة للفت أنظار الزائرين إلى البعد عن البدع والتمسح بالضريح، ونظم مكتبة الجامع الأحمدي وحشد فيها عيون الكتب وكان صديقا (للسلطان حسين) فلما تولى الحكم عينه عضوا بالمجلس الأعلى للأزهر.
ثم شكلت لجان للنظر في أمر الخلافة الإسلامية ودعى إلى مؤتمر بالقاهرة وارتابت الدول الإسلامية وظنت أن مصر تريد أن تكون لها الخلافة وعقد المؤتمر سنة 1926ولكنه انفض دون أن يؤدي لشىء.
وفي سنة 1925م تجددت الدعوة للنهوض بالأزهر وكان له دور بارز.
وفي سنة 1926رأس وفد مصر لزيارة السعودية وحضور المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه الملك عبد العزيز، واستطاع الشيخ الظواهري في هذا المؤتمر أن يوفق بين أعضاء الوفود فيما يتعلق بحرية المذاهب وفي هذا
المؤتمر انتزع الشيخ الظواهري قرارا أعلن فيه (وحدة مصر والسودان) ولما علم عبد الخالق ثروت بذلك قال (لم أكن أعلم أن الأزهر يخرج سفراء في السياسة).(2/377)
وفي سنة 1926رأس وفد مصر لزيارة السعودية وحضور المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه الملك عبد العزيز، واستطاع الشيخ الظواهري في هذا المؤتمر أن يوفق بين أعضاء الوفود فيما يتعلق بحرية المذاهب وفي هذا
المؤتمر انتزع الشيخ الظواهري قرارا أعلن فيه (وحدة مصر والسودان) ولما علم عبد الخالق ثروت بذلك قال (لم أكن أعلم أن الأزهر يخرج سفراء في السياسة).
وتولى مشيخة الأزهر سنة 1929م وسار على منهجه الذي أوضحه في كتابه (العلم والعلماء) وكان متأثرا بفلسفة الشيخ محمد عبده والإمام المراغي في السير نحو الإصلاح الديني وخطا خطوة عظيمة في اصدار القانون سنة 1930م وبمقتضاه.
انشاء كلية الشريعة لتخريج علماء يتولون الافتاء والقضاء الشرعي.
إنشاء كلية لأصول الدين لتخريج مدرسي الدين في الأزهر والمعاهد الدينية وكلية اللغة العربية لتخريج مدرسين للغة العربية.
كما اهتم بالدراسات العليا فأنشأ (تخصص الدعوة والإرشاد) (تخصص المادة للتدريس).
وأصدر (مجلة الأزهر) التي كانت تعرف قديما (بنور الإسلام) لتعبر عن الأزهر وتنشر الثقافة الدينية (وهي الآن تصدر بالعربية والانجليزية).
وكان رحمه الله متواضعا لما ناداه العلماء (بالإمام الأكبر) قال (ما أنا إلا واحد من المشايخ) وقرأ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
ومن مؤلفاته:
1 - العلم والعلماء (سبقت الإشارة إليه).
2 - رسالة الأخلاق الكبرى.
3 - خواص المعقولات في أول المنطق وسائر العقليات.
5 - الوصايا والآداب.
6 - صفوة الأساليب.
7 - حكم الحكماء.
8 - براءة الإسلام من أوهام العوام.(2/378)
9 - مقادير الأخلاق.
* * *الشيخ مصطفى بن أحمد ابن محمد بن عبد الرزاق
ولد سنة 1885م (أبي جرج) تابعة لبني مزار بمحافظة المنيا من أسرة عريقة في الجاه والعلم والثراء وكان جده صديقا (لسعيد باشا) وصحبه إلى (استانبول).
وأبوه كان رفيقا للشيخ محمد عبده واشترك معه في انشاء (الجمعية الخيرية الإسلامية) وحفظ القرآن وشغف بالعلم وأحب الصحافة من صغره فأنشأ مع أخواته وأقاربه صحيفة كان يطبعها (بالبالوظة) وأنشأ جمعية (غرس الفضائل) سنة 1900.
ثم نشرت له الصحف العامة مقالات وبحوثا وقصائد وتأثر بفكر الشيخ محمد عبده.
ولما مات الإمام اتفق مع تلاميذه على أن يواصلوا سياسته الإصلاحية وألفوا (الجمعية الأزهرية) ورأسها ونال العالمية سنة 1908وأنتدب للتدريس بمدرسة القضاء الشرعي واشترك في (جمعية تضامن العلماء) التي تطالب بالاصلاح وغضب الخديوي وأوعز إلى مدرسي مدرسة القضاء أن يستقيلوا منها فاستقال الشيخ مصطفى من المدرسة وظل بالجمعية وسافر إلى باريس سنة 1909وصحبه (أحمد لطفي السيد) حيث درس بالسربون تاريخ الفلسفة وترجم كتاب (العقيدة الإسلامية) للشيخ محمد عبده إلى الفرنسية وعاد سنة 1914.
في عام سنة 1915عين موظفا في مجلس الأزهر الأعلى وكان (السلطان حسين) معجبا بعلمه وأدبه وحسن لغته وترجم لبنت السلطان العثماني كتابا بالفرنسية إلى العربية (طيف خيال ملكي).(2/379)
في سنة 1916عين سكرتيرا لمجلس الأزهر الأعلى واستطاع أن يتعرف على كبار العلماء وأصبح بيته ندوة يومية يؤمها الأدباء والشعراء.
وفي سنة 1917أنشأ رجل سويدي ما سمى (بجامعة الشعب) وألقى فيها الشيخ مصطفى عدة محاضرات ثم انضم إلى حزب (الأحرار الدستوريين) ثم صدر قرار بتعيينه مفتشا بالمحاكم الشرعية سنة 1920م.
وفي سنة 1927نقل أستاذا مساعدا في الجامعة ولما خلا كرسي الفلسفة شغله عن جدارة وأعطى طلابه علما متجددا متفتحا ثم أختير وزيرا للأوقاف سنة 1938م.
كما عين عضوا بالمجمع اللغوي سنة 1940ونال رتبة الباشوية سنة 1941.
وشغل منصب وزير الأوقاف (سبع مرات) وهو ما لم يحدث لأحد وكان أول أزهري يتولى هذا المنصب.
وصدر قانون خاص له ليتولى مشيخة الأزهر سنة 1945ومات سنة 1947.
وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق أول من وضع مصنفا في العلوم الدينية على منهج علمي بتصنيفه (أصول الفقه).
وكان متعدد المواهب يكتب في الفقه الحديث والتفسير والفلسفة والاجتماع وكان شاعرا مبدعا وصحفيا بارزا.
ومن مصنفاته:
1 - ترجمة فرنسية لرسالة التوحيد للشيخ محمد عبده.
2 - رسائل موجزة بالفرنسية عن الأثرى الكبير بهجت بك.
3 - رسائل موجزة بالفرنسية عن معنى الإسلام ومعنى الدين.
4 - التمهيد لتاريخ الفلسفة.(2/380)
5 - فيلسوف العرب والمعلم الشافي.
6 - الدين والوحي في الإسلام.
7 - الإمام الشافعي.
8 - الإمام الشيخ محمد عبده.
9 - مذكرات مسافر ومذكرات مقيم.
10 - بحث في دراسة حياة البهاء زهير وشعره.
11 - من آثار مصطفى عبد الرازق (مجموعة مقالات وأحاديث).
12 - مؤلف كبير في المنطق.
13 - مؤلف كبير في التصوف.
14 - فصول في الأدب.
15 - مذكراته اليومية.
* * *الشيخ محمد مأمون الشناوي
ولد في (الزرقا) بمحافظة الدقهلية سنة 1878م وحفظ القرآن ثم رحل الى الأزهر وعاش مع أخيه (سيد الشناوي) الذي سبقه للدراسة.
وضاق في بادىء الأمر بالمتون والحواشي وأراد أن يعود لقريته ويعيش فلاحا ولكن والده خفف عنه حتى عاد وانتظم وظهر نبوغه وأصبح موضع إعجاب شيوخه.
واتصل (بالإمام الشيخ محمد عبده) وتأثر بفكره.
وقد ضايقه العلماء عند امتحان العالمية لأنه اتهم بقرض الشعر وهي تهمة شنيعة في ذلك الوقت ولكنه اجتازها بفضل توجيهات (الشيخ أبو الفضل الجيزاوي) سنة 1906.
عين مدرسا بمعهد الاسكندرية وفي عام 1917تم اختياره قاضيا شرعيا.
واختير في سنة 1930م شيخا لكلية الشريعة وفي سنة 1934نال
عضوية كبار العلماء وفي سنة 1944عين وكيلا للأزهر وتولى منصب (رئاسة لجنة الفتوى).(2/381)
واختير في سنة 1930م شيخا لكلية الشريعة وفي سنة 1934نال
عضوية كبار العلماء وفي سنة 1944عين وكيلا للأزهر وتولى منصب (رئاسة لجنة الفتوى).
ثم تولى المشيخة سنة 1948واستقبل من رجال الأزهر بفرحة غامرة لما يعلمونه من صلاحه وتقواه وعلمه.
وبدأ نشاطا واسعا ليخرج الأزهر من المحلية الى العالمية وعمل على تقوية الصلات مع العالم الإسلامي وأوفد البعوث الإسلامية.
كما أرسل نوابغ العلماء في بعثة إلى انجلترا لاجادة اللغة ثم كلفوا بنشر الدعوة في العالم الإسلامي.
وحرص ألا تخلوا عاصمة من معهد ديني. وسعى جاهدا حتى صدر (قانون تحريم البغاء) في مصر الذي كان سبة ومات سنة 1950م.
كان رحمه الله ذا موهبة فذة وشاعرية أصيلة وكانت فيه نزعة صوفية سامية وأسهم في الحركة الوطنية 1919بقلمه ولسانه وكان ينتقل بين المساجد والكنائس ويكتب في الصحف.
وشغلته الأحداث ومهام المناصب عن التأليف وإن كانت له مقالات متعددة جمعها تلميذه (الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي) في كتابه (الاسلام ومبادئه الخالدة).
* * *الشيخ عبد المجيد سليم
ولد في قرية (ميت شهالة) من أحياء مدينة (الشهداء) منوفية سنة 1882م.
وحفظ القرآن ثم درس في الأزهر فنبغ في الفلسفة حتى لقب (بابن سينا).
وحضر دروس خيرة العلماء وعلى رأسهم (الشيخ محمد عبده) الذي فقهه في البلاغة وحضر دروس (الشيخ حسن الطويل) وعرف منه فنون
أساليب الجدل والقياس ودرس الفقه على فقيه عصره (الشيخ أبو خطوة).(2/382)
وحضر دروس خيرة العلماء وعلى رأسهم (الشيخ محمد عبده) الذي فقهه في البلاغة وحضر دروس (الشيخ حسن الطويل) وعرف منه فنون
أساليب الجدل والقياس ودرس الفقه على فقيه عصره (الشيخ أبو خطوة).
نال شهادة العالمية سنة 1908واشتغل بالتدريس بالمعاهد ثم بمدرسة القضاء الشرعي وعمق فكره وآراء الأئمة واهتم بالتقريب بين المذاهب الاسلامية.
وعمل بالافتاء وترك تراثا رائعا لفتاوى غاية في الجرأة والأصالة.
وتولى مشيخة الأزهر سنة 1950م ولما ضغطت الحكومة ميزانية الأزهر ثار ثورة عارمة وقال عبارته المشهورة (قصد هنا وإسراف هناك) وأعفي من المشيخة عام 1951ثم عاد إليها عام 1952ثم استقال وحاول (الوزير فتحي رضوان) في وزارة الثورة ان يثنيه فرفض.
كان فقيها دارسا لآراء الأئمة واسع الأطلاع ولما تألفت لجنة الإصلاح في قوانين الأحوال الشخصية انتفعت بفكره وآرائه ولما أدلى (اللواء محمد نجيب) رئيس الجمهورية وقتئذ بحديث صحفي يرضي أنصار المرأة اتصل به وحمله على تكذيب الحديث وعمل جاهدا على النهوض بالأزهر ورسالته عالميا ووجه العلماء إلى وضع مؤلفات باللغات المختلفة لنشر الاسلام ورد مزاعم المستشرقين ودعا إلى ترجمة القرآن إلى اللغات الحية.
وكتب عنه كبار العلماء والأدباء والمفكرين يثنون على علمه وجرأته.
ولم يترك الشيخ عبد المجيد سليم ثروة علمية إلا فتاواه ومقالاته
وانتقل الى ربه في سنة 1954م.
* * *الشيخ إبراهيم حمروش
ولد في قرية (الخوالد) التابعة لمركز (إيتاي البارود) بحيرة سنة 1880م.
وكان أبوه رجلا ورعا فحفظه القرآن وأرسله إلى الأزهر وأوصاه
بالمحافظة على الصلاة، درس على أيدي كبار العلماء (الفقه على الشيخ أبو خطوة) (والنحو على الشيخ الصالحي المالكي)، وأخذ (أسرار البلاغة عن الشيخ محمد عبده).(2/383)
وكان أبوه رجلا ورعا فحفظه القرآن وأرسله إلى الأزهر وأوصاه
بالمحافظة على الصلاة، درس على أيدي كبار العلماء (الفقه على الشيخ أبو خطوة) (والنحو على الشيخ الصالحي المالكي)، وأخذ (أسرار البلاغة عن الشيخ محمد عبده).
وأقبل على دراسته الرياضية وتفوق فيها ونال العالمية سنة 1906م.
وكان (الشيخ إبراهيم الشربيني) حريصا على إنشاء جيل قوي متعمق فكان يباغت اللجان وأعجب بهذا الشاب وظل يحاوره حتى شهد له بالكفاية.
وعمل بمدرسة القضاء الشرعي سنة 1908م ثم عين قاضيا فشيخا لمعهد أسيوط ثم مفتشا بالمعاهد الدينية سنة 1929ونال عضوية كبار العلماء سنة 1934بعد أن عين شيخا لكلية اللغة في سنة 1931ثم عين شيخا لكلية الشريعة سنة 1949.
وفي سنة 1951عين شيخا للأزهر فدعا إلى الجهاد ومقاومة المحتل.
ولما حاصر الانجليز الشرطة بالاسماعيلية حرض الطلاب واستشار الرأي العام العالمي لتحمل تبعاته هذه في مواجهة هذه المآسي ولكن الملك أعفاه من منصبه سنة 1952قبل قيام الثورة بقليل.
وقد عارض فضيلته كتابة المصحف بالطريقة الاملائية مخافة تحريفه ومات سنة 1960م.
ومن مؤلفاته:
1 - عوامل نمو اللغة (ونال به عضوية كبار العلماء).
2 - فصول عديدة ودراسات قيمة.
3 - وله مقالات وأبحاث عديدة نشرتها الصحف.
* * *الشيخ محمد الخضر حسين
ولد بمدينة (نفطة) بتونس سنة 1293هـ وأسرته كريمة أصلها من
الجزائر وتنتمي إلى أسرة (الأدراسة) التي كونت دولة بالمغرب.(2/384)
ولد بمدينة (نفطة) بتونس سنة 1293هـ وأسرته كريمة أصلها من
الجزائر وتنتمي إلى أسرة (الأدراسة) التي كونت دولة بالمغرب.
حفظ القرآن والتحق بجامع الزيتونة سنة 1889م وهو يشبه (الجامع الأزهر) ونال شهادة العالمية سنة 1317هـ وفي سنة 1324هـ ولي قضاء بنزرت ومنطقتها والتدريس والخطابة بجامعها وعاد إلى جامع الزيتونة حيث نظم كتبه واشترك في تأسيس (الجمعية الزيتونية).
وكان شاعرا مجيدا نظم روائع القصائد وندد بالاستعمار الفرنسي.
ولما قامت الحرب بين الطليان والعثمانيين رحل إلى الجزائر وألقى بها دروسه العظيمة.
ثم أكرهه الاستعمار على أن يرحل إلى (مصر ودمشق ومكة) وفي مصر تعرف (بالشيخ رشيد رضا) ووصل إلى دمشق فعين مدرسا للغة العربية في المدرسة السلطانية سنة 1912ثم سافر إلى الآستانة وأمضى فيها وقتا ولكنه هجرها ورحل.
ورحل إلى (برلين) سنة 1332هـ وأجاد الألمانية ثم عاد إلى الآستانة وضاق بها فرحل إلى دمشق فأعتقله حاكمها سنة 1334ونال ألوان العذاب ورحل إلى ألمانيا فالتقى بزعماء الحركة الإسلامية من أمثال (الدكتور عبد الحميد سعيد، وعبد العزيز جاويش) وهكذا لا يستقر به الحال في بلد حتى يرحل إلى آخر إلى ان استقر في مصر سنة 1339وألف رسالته القيمة (الخيال في الشعر العربي) ثم تجنس بالجنسية المصرية ونال شهادة العالمية.
ثم أسس جمعية (تعاون جاليات أفريقيا الشمالية) وكان دائب الحركة يحاضر ويسطر المقالات ويكتب البحوث.
وفي سنة 1344هـ ظهر كتاب (أصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق وأحدث ثورة وتصدى له (الشيخ الخضر) ونقده نقدا شديدا وفند آراءه ثم تصدى لكتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) سنة 1345وقسا
عليه وأرجع آراءه إلى أساتذته المستشرقين ثم تولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر سنة 1349هـ وعين أستاذا بكلية أصول الدين فأفاد طلابه وجمع مجموعة رسائل في كتاب أسماه (رسائل الإصلاح).(2/385)
وفي سنة 1344هـ ظهر كتاب (أصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق وأحدث ثورة وتصدى له (الشيخ الخضر) ونقده نقدا شديدا وفند آراءه ثم تصدى لكتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) سنة 1345وقسا
عليه وأرجع آراءه إلى أساتذته المستشرقين ثم تولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر سنة 1349هـ وعين أستاذا بكلية أصول الدين فأفاد طلابه وجمع مجموعة رسائل في كتاب أسماه (رسائل الإصلاح).
واشترك في كثير من لجان المجمع اللغوي وفي سنة 1370هـ نال عضوية جماعة كبار العلماء برسالته (القياس في اللغة العربية).
وتولى مشيخة الأزهر سنة 1371هـ ولكنه استقال لعدة أسباب سنة 1373هـ ولقى ربه سنة 1377هـ سنة 1958م.
ومن مؤلفاته:
1 - رسائل الإصلاح (في ثلاثة مجلدات) أبرز فيها مناهج الدعوة الإسلامية.
2 - الخيال في الشعر الغربي.
3 - القياس في اللغة العربية.
4 - ديوان شعر (خواطر الحياة).
5 - نقض كتاب (الإسلام وأصول الحكم).
6 - نقض كتاب (في الشعر الجاهلي).
7 - آداب الحرب في الإسلام.
8 - أبحاث ومقالات عديدة نشرتها مجلة الأزهر ولواء الإسلام والهداية الإسلامية.
9 - تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي.
* * *الشيخ عبد الرحمن تاج
ولد بأسيوط سنة 1896م فحفظ القرآن وانتقلت أسرته إلى الإسكندرية فدخل المعهد الديني ونال شهادة العالمية سنة 1923.
التحق بقسم التخصص للقضاء الشرعي ونال شهادة التخصص سنة
1926 - وعين مدرسا في معهد أسيوط الديني ثم نقل إلى معهد القاهرة وفي سنة 1933عين مدرسا بقسم تخصص القضاء.(2/386)
التحق بقسم التخصص للقضاء الشرعي ونال شهادة التخصص سنة
1926 - وعين مدرسا في معهد أسيوط الديني ثم نقل إلى معهد القاهرة وفي سنة 1933عين مدرسا بقسم تخصص القضاء.
وفي سنة 1935عين عضوا بلجنة الفتوى للمذهب الحنفي.
وفي سنة 1936وقع الاختيار عليه ليكون عضوا في بعثة الأزهر فرحل إلى السربون ورغم قيام الحرب فقد واصل الدراسة في ظروف قاسية ونال الدكتوراه عن بحثه القيم (البابية والإسلام) والبابية أساس البهائية.
وعاد من باريس سنة 1943وعين مدرسا بكلية الشريعة ثم مفتشا للعلوم الدينية ثم عين شيخا للقسم العام والبحوث الإسلامية بالأزهر.
ونال عضوية كبار العلماء سنة 1951ببحثه القيم (السياسة الشرعية).
ثم أختير أستاذا للشريعة الإسلامية بكلية الحقوق وعضوا في لجنة الدستور ثم عين شيخا للأزهر سنة 1954.
ومن أهم أعماله أنه قرر تدريس اللغات بالأزهر وعنى بالإصلاحات الإدارية وفي عهده سعى لبناء مدينة البعوث الإسلامية لسكنى طلاب العالم الإسلامي بدل الأروقة وكان أول من أدخل التربية العسكرية في الأزهر.
وعين عام 1958وزيرا في اتحاد الدول العربية.
وواصل الكتابة في الصحف وأصدر عدة بحوث هامة في تفسير القرآن الكريم وطاف بكثير من بلاد العالم الإسلامي.
وتوفي سنة 1975م.
ومن مصنفاته:
1 - البابية وعلاقتها بالإسلام بالفرنسية.
2 - السياسة الشرعية (في الفقه الإسلامي).
3 - الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية.(2/387)
4 - مذكرة في الفقه المقارن.
5 - تاريخ التشريع الإسلامي.
6 - مناسك الحج وحكمها.
7 - الاسراء والمعراج.
8 - حكم الربا في الشريعة الإسلامية.
9 - شركات التأمين من وجهة النظر الإسلامية.
10 - بحوث في اللغة العربية متعددة.
11 - من الدراسات اللغوية في بعض الآيات القرآنية.
12 - بحوث في بعض الآيات القرآنية من الناحية العلمية.
* * *الشيخ محمود شلتوت
ولد في (مدينة منصور) من أعمال مركز أيتاي البارود بحيرة سنة 1893وحفظ القرآن ودخل معهد الإسكندرية والتحق بالكليات الأزهرية ونال العالمية سنة 1918م ثم عين مدرسا بمعهد الإسكندرية سنة 1919م وشارك في أعمال الثورة بقلمه ولسانه وجرأته ثم نقله الإمام المراغي مدرسا بالقسم العالي لعلمه الغزير وناصر حركة الإصلاح في الأزهر وفصل من منصبه فاشتغل بالمحاماة ثم عاد للأزهر سنة 1935م.
ثم اختير عضوا في الوفد الذي حضر (مؤتمر لاهاي) للقانون الدولي المقارن سنة 1937وألقى بحثا قيما تحت عنوان (المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية) ونال البحث استحسان أعضاء المؤتمر فأقروا صلاحية الشريعة الإسلامية للتطور واعتبروها مصدرا من مصادر التشريع الحديث وأنها أصيلة وليست مقتبسة من غيرها من الشرائع الوضعية ولا متأثرة بها وقرر المؤتمر أيضا اعتبار (اللغة العربية) لغة رسمية من لغات المؤتمر وأن يدعى في المؤتمر القادم أكبر عدد من علماء الشريعة الإسلامية.(2/388)
وبهذا البحث نال (عضوية جماعة كبار العلماء).
ونادى بتكوين مكتب علمي للرد على مفتريات أعداء الإسلام وتنقية كتب الدين من البدع والضلالات وكانت مقدمة لإنشاء مجمع البحوث الإسلامية.
وفي سنة 1946عين عضوا في مجمع اللغة العربية وانتدبته الجامعة لتدريس فقه القرآن والسنة لطلبة دبلوم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق.
وفي سنة 1950عين مراقبا عاما لمراقبة البحوث الإسلامية فوثق الصلات بالعالم الإسلامي.
وفي سنة 1957اختير سكرتيرا عاما للمؤتمر الإسلامي ثم عين وكيلا للأزهر.
وفي سنة 1958صدر قرار بتعيينه شيخا للأزهر.
وقد سعى جاهدا إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية.
ورحل إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي ولاقى كل إجلال.
وسعى جاهدا للإصلاح بالأزهر وصدر القانون في سنة 1961.
ودخلت العلوم الحديثة للأزهر وانشئت كليات متعددة وارتفعت مكانة شيخ الأزهر ووجد كل إجلال وتقدير من القادة.
وترك الشيخ مؤلفات عدة منها:
1 - فقه القرآن والسنة.
2 - مقارنة المذاهب.
3 - يسألونك (وهي إجابات عن أسئلة في شتى الموضوعات).
4 - منهج القرآن في بناء المجتمع.
5 - المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية.
6 - القرآن والقتال.(2/389)
7 - القرآن والمرأة.
8 - تنظيم العلاقات الدولية في الإسلام.
9 - الإسلام والوجود الدولي للمسلمين.
10 - تنظيم النسل.
11 - رسالة الأزهر.
12 - إلى القرآن الكريم.
13 - الإسلام عقيدة وشريعة.
14 - من توجيهات الإسلام.
15 - الفتاوي.
16 - تفسير القرآن الكريم (العشرة أجزاء الأولى).
وتوفى رحمه الله سنة 1383هـ.
* * *الشيخ حسن مصطفى
ولد بالقاهرة في سنة 1894وكان والده شيخا لمسجد الفتح بقصر عابدين الذي يصلي فيه الملك وحفظ القرآن الكريم واتجه إلى المعهد الديني ثم مدرسة القضاء الشرعي وتخرج سنة 1918وأتقن اللغة الفرنسية.
في سنة 1919عين موظفا قضائيا بمحكمة الزقازيق الشرعية ثم انتقل لمحكمة القاهرة الشرعية سنة 1920ورقى بعد ذلك إلى قاض وتنقل بين عدة محاكم إلى أن ارتقى إلى منصب قاض عام سنة 1939ثم صدر مرسوم ملكي بتعيينه قاضيا لقضاة السودان سنة 1941.
وكانت له مواقف وطنية أغضبت الانجليز ثم تمت ترقيته إلى عضو بالمحكمة الشرعية العليا سنة 1947ثم عين مفتيا سنة 1955ثم عين شيخا للأزهر سنة 1964.
وظل حريصا على إلقاء دروسه على طلاب قسم التخصص بكلية الشريعة.(2/390)
وكان عالما فقيها وقاضيا نزيها.
وأشرف على إصدار الموسوعة الفقهية الكبرى وكتب بعض موادها.
ومات سنة 1973م.
وقد وقف من الإستعمار مواقف كريمة فناهضه في السودان وقاوم قيام دولة إسرائيل وشارك في مقاومة الاحتلال وناشد (الملك السنوسي) ألا يسمح بأقامة قواعد استعمارية عسكرية على أرضه لأنها خنجر مصوب لمصر ولما دبرت إسرائيل حرق المسجد الأقصى وجه الإمام نداء لكل المسلمين يدعو فيه للجهاد.
وأصدر مجموعة من الفتاوي القيمة نقى بها الإسلام من البدع والخرافات.
ومن مصنفاته:
1 - الفتاوي.
2 - دراسات وأبحاث فقهية متنوعة نشرها أو راجعها.
3 - السيرة العطرة.
4 - الجهاد في الإسلام.
5 - تفسير لقصار السور.
* * *الشيخ محمد محمد الفحام
ولد (برمل الإسكندرية) في سنة 1894وحفظ القرآن والتحق بمعهد الإسكندرية الديني وولع إلى جانب العلوم الدينية بالعلوم الأخرى (علم المنطق وعلم الجغرافيا) ثم نال العالمية في سنة 1922ومن العجيب أنه تفوق في الرياضيات لدرجة أنه اشتغل مدرسا للرياضيات إلى جانب العلوم الدينية.(2/391)
وفي سنة 1935نقل إلى كلية الشريعة لتدريس المنطق.
وفي سنة 1936رحل إلى فرنسا ومعه زوجته وأبناؤه في بعثة تعليمية ولكن الحرب شبت ولم يستطع العودة وعانى ويلات الحرب ومطالب الدراسة ونال دبلوم مدرسة اللغات الشرقية الحية في الأدب العربي سنة 1941.
ونال شهادة الدكتوراه من السربون وكان موضوع الرسالة (إعداد معجم عربي فرنسي للمصطلحات العربية في علمي النحو والصرف) ونال تقدير الأساتذة المستشرقين وعاد من فرنسا وعمل مدرسا بكلية الشريعة ثم نقل إلى كلية اللغة العربية للأدب المقارن وللنحو والصرف.
واشترك سنة 1947في لجنة المؤتمر الثقافي العربي الأول المنعقد في بيت مرعي في لبنان أجاد جميع اللهجات السورية واللبنانية ثم زار نيجيريا سنة 1951وهي أكبر دولة إسلامية وأمضى فيها خمسة أشهر وقابل علماءها ثم سنة 1952زار الباكستان ثم صدر تعيينه عميدا لكلية اللغة العربية سنة 1959واشترك في وضع منهج تدريس اللغة العربية في باكستان.
ثم سافر إلى موريتانيا سنة 1963لدراسة أحوال المسلمين هناك.
وشارك في المؤتمر الإسلامي التمهيدي في باندونج سنة 1964.
وفي سنة 1967زار الجزائر وليبيا وإسبانيا وفي سنة 1971زار إيران.
وقد نصب شيخا للأزهر في سنة 1969م.
وفي سنة 1972عين عضوا في مجمع اللغة العربية ثم أعفى من منصب المشيخة لاعتلال صحته سنة 1973.
ومن مؤلفاته:
1 - رسالة الموجهات في المنطق (ألفها وهو طالب).(2/392)
2 - سيبويه وآراؤه.
3 - مقالات عديدة في مجلة المعرفة.
4 - المسلمون واسترداد بيت المقدس.
5 - محاضرات ألقاها في معهد الدراسات العليا للشرطة.
* * *الشيخ عبد الحليم محمود
ولد في مدينة (أبو حمد) تابعة لبلبيس شرقية سنة 1910.
نشأ في أسرة متدينة مشهورة بالكرم وحفظ القرآن الكريم والتحق بالأزهر ولما فتح معهد الزقازيق التحق به كما التحق بمعهد المعلمين ونجح في المعهدين معا ثم رحل إلى القاهرة حيث نال العالمية سنة 1932وكان رحمه الله عالما إسلاميا كبيرا فسيح الآفاق بعيد الأغوار متصوفا زاهدا وجمع بين الثقافة العربية والثقافة الغربية حين رحل إلى السربون وظل في فرنسا ملتزما بالآداب الإسلامية والتقاليد العربية وآثر أن يدرس تاريخ الأديان واستعد للدكتوراه في التصوف الإسلامي واختار شخصية (الحارث بن أسد المحاسبي) وكان بينهما تشابه في المسلك الصوفي وكلاهما يرى أن الكتاب والسنة هما أساس المسلك الصوفي.
وفي أثناء الدراسة قامت الحرب وآثر البقاء حتى نال الدكتوراه سنة 1940في ظروف صعبة بعد انقطاعه عن الوطن وقررت الجامعة الفرنسية طبع الرسالة على نفقتها وهو شرف لم ينله إلا القليل.
وحاول العودة إلى مصر ولكن الطرق كانت مغلقة وما زال ينتقل من بلد إلى بلد حتى اضطر أن يلف حول رأس الرجاء الصالح إلى أن وصل بعد عام.
بدأ مدرسا بكلية اللغة ثم نقل أستاذا بكلية أصول الدين سنة 1951 فعميدا للكلية سنة 1964وقد ألزم الطلبة بحفظ القرآن الكريم.(2/393)
ووضع القواعد لمجمع البحوث الإسلامية وظل حريصا على نشر الإسلام عالميا وإعداد الكفايات القادرة على توصيل الدعوة الإسلامية وشكل عدة لجان هامة للنهوض بهذه الرسالة ومنها:
لجنة بحوث القرآن الكريم:
لوضع تفسير وسيط مبسط لمعاني القرآن.
لجنة السنة النبوية:
لوضع موسوعة مفهرسة للسنة النبوية.
لجنة المسجد الأقصى:
لجمع كل ما يفيد القضية الفلسطينية.
لجنة التعريف بالإسلام:
للرد على خطط التبشير المعاصر.
لجنة إحياء التراث الإسلامي:
لكشف النقاب عن أمهات الكتب.
لجنة البحوث الفقهية:
لمواجهة كل ما استجد في هذا العصر.
لجنة الحضارة والمجتمعات الإسلامية:
لحصر العالم الإسلامي وبيان الاستفادة من مواقعه.
لجنة العقيدة والفلسفة:
لدراسة التحديات والانحرافات في العقيدة والفلسفة.
لجنة دائرة المعارف الإسلامية:
لوضع دائرة على نسق دائرة المعارف البريطانية وفي سنة 1970صدر قرار بتعيينه وكيلا للأزهر وقام برحلات متعددة في الداخل والخارج وكان
يلقي كل الحفاوة والتكريم أينما حل والتقى بشخصيات عالمية كبيرة مثل (الرئيس كارتر) (وفالدهايم سكرتير الأمم المتحدة).(2/394)
لوضع دائرة على نسق دائرة المعارف البريطانية وفي سنة 1970صدر قرار بتعيينه وكيلا للأزهر وقام برحلات متعددة في الداخل والخارج وكان
يلقي كل الحفاوة والتكريم أينما حل والتقى بشخصيات عالمية كبيرة مثل (الرئيس كارتر) (وفالدهايم سكرتير الأمم المتحدة).
وساعده في لقاءاته هذه إجادته للفرنسية والانجليزية.
ثم تولى وزارة الأوقاف وأخيرا مشيخة الأزهر سنة 1973وكأنما أعدته العناية الالهية ليكون عالما دارسا باحثا ومؤلفا ومصنفا ومصلحا اجتماعيا كبيرا وحاول تحقيق أهدافه وتحرك في كل اتجاه ينشىء المدارس والمعاهد الدينية ويقيم المساجد وينادي بالبذل وإقامة المؤسسات الإسلامية بالجهود الذاتية تخفيفا عن الدولة.
ونادى بأن ترد الأوقاف للأزهر حتى يستطيع أن ينهض برسالته.
ودعا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وأن فيها النجاة من براثن الاستعمار والدواء من أمراض العصر ونادى أيضا بالدفاع عن اللغة العربية والنهوض بها حتى لا يستعجم اللسان العربي وتنفصل الأمة عن كتاب ربها الذي لا يفهم إلا بالعربية.
وسعى للصلح بين الدول العربية المتنازعة ودعا إلى وحدة الصف وناشد حكام العالم العربي خاصة والإسلامي عامة أن يرأبوا الصدع وأن ينبذوا الخلاف فيما بينهم لتعود للأمة الإسلامية قوتها وتستطيع أن تواجه الأخطار المحدقة بها.
وهاجم الشيوعية وحذر من شرورها وخطورة الالحاد الذي يهدم الأمم.
ولم تغب عنه أحداث العصر فكان يصدر بيانا في كل مناسبة ويستخدم المنطق في ذلك وواجه الفتنة الطائفية بحزم وأوضح أن الاسلام يحمي أهل الأديان الأخرى وأن الأقليات تتمتع بحقوقها كاملة على سيادة الوطن.
وحرص أن تكون لشيخ الأزهر هيبته فهو الإمام الأكبر وصاحب الرأي
في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام وله الرسالة والتوجيه في كل ما يتضمن الدراسات الإسلامية في الأزهر وهيئاته ويرأس المجلس الأعلى للأزهر.(2/395)
وحرص أن تكون لشيخ الأزهر هيبته فهو الإمام الأكبر وصاحب الرأي
في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام وله الرسالة والتوجيه في كل ما يتضمن الدراسات الإسلامية في الأزهر وهيئاته ويرأس المجلس الأعلى للأزهر.
وكان جريئا يكتب دون خوف على منصبه أو حرص على مكاسب أو محالاة في الحق وعرف بصراحته وصدقه مما جعله موضع احترام الجميع وهاجم كل من يريد المساس بالشريعة أو أن يبدل الحلال حراما أو يعبث بالمقدسات الدينية.
وقد حرص أيضا على أن يكون أسوة حسنة ويعلن أن النبي ما نجح في دعوته إلا بالقدوة ولهذا كان زاهدا عابدا متفانيا في خدمة الإسلام وعرض في مؤلفاته لمجموعة من الرجال الذين اعتز بهم الإسلام وخلدهم التاريخ وخلف ثروة طائلة من التراث الديني.
ولحق بالرفيق الأعلى في سنة 1978.
ومن مؤلفاته:
1 - الحارث بن أسد المحاسبي بالفرنسية.
2 - وازن الأرواح مترجم عن الفرنسية.
3 - الفلسفة اليونانية مترجم عن الفرنسية.
4 - المشكلة الأخلاقية والفلسفية مترجم عن الفرنسية.
5 - الأخلاق في الفلسفة الحديثة مترجم عن الفرنسية.
6 - محمد رسول الله مترجم عن الفرنسية.
7 - الفيلسوف المسلم دينية.
8 - التصوف عند ابن سينا.
9 - أوربا والإسلام.
10 - فلسفة ابن طفيل ورسالته.
11 - الرسول صلى الله عليه وسلم.(2/396)
12 - التوحيد الخالص أو الإسلام والعقل.
13 - السنة في تاريخها وفي مكانها.
14 - الإيمان.
15 - أسرار العبادات في الإسلام.
16 - التصوف الإسلامي.
17 - التفكير الفلسفي في الإسلام.
18 - جهادنا المقدس.
19 - القرآن والنبي.
20 - الإسلام والإيمان.
21 - العبادة.
22 - المدرسة الشاذلية الحديثة.
23 - الاسراء والمعراج.
24 - شهر رمضان كيف يستقبله المسلمون.
25 - وتناول في كتب عدة مشاهير رجال الصوفية.
26 - وحقق نحو خمسين كتابا في التراث.
27 - في رحاب الكون.
28 - القرآن في شهر القرآن.
29 - الإسلام والشيوعية.
30 - دلائل النبوة ومعجزات الرسول.
* * *الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار
ولد بمدينة (السالمية) من أعمال مركز فوه التابع لكفر الشيخ سنة 1910م.
حفظ القرآن والتحق بمعهد دسوق الديني ثم التحق بمعهد طنطا والتحق بكلية أصول الدين ونال العالمية سنة 1939ثم نال درجة الأستاذية
في (العقيدة والفلسفة) سنة 1945وتم تعيينه مدرسا في سنة 1949رحل في بعثة إلى إنجلترا ودرس في جامعة كمبردج ثم استقر في جامعة أدنبرة.(2/397)
حفظ القرآن والتحق بمعهد دسوق الديني ثم التحق بمعهد طنطا والتحق بكلية أصول الدين ونال العالمية سنة 1939ثم نال درجة الأستاذية
في (العقيدة والفلسفة) سنة 1945وتم تعيينه مدرسا في سنة 1949رحل في بعثة إلى إنجلترا ودرس في جامعة كمبردج ثم استقر في جامعة أدنبرة.
ونال الدكتوراه بتفوق في الفلسفة مع التركيز على (حجة الإسلام الغزالي) والفيلسوف الفرنسي (ديكارت) وكلاهما اتخذ الشك وسيلة لليقين.
وعاد أستاذا في سنة 1955بكلية أصول الدين ثم رشحته مواهبه ليكون مديرا للمركز الإسلامي بواشنطن واستطاع أن يحظى بالاحترام من كل الطوائف وعاد سنة 1959إلى كلية أصول الدين ثم رأس البعثة التعليمية بليبيا سنة 1963.
ثم عين أمينا عاما للمجلس الأعلى للأزهر مما أتاح له المشاركة والتوجيه وتحقيق الأهداف ثم عين سنة 1970أمينا عاما لمجمع البحوث الإسلامية فحرص على أن يجدد الثقافة الإسلامية وأن يجردها من الشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي.
ثم عين وكيلا للأزهر سنة 1974وساعد الدكتور عبد الحليم محمود في كل ما يعن له.
ثم عين وزيرا للأوقاف سنة 1978وشيخا للأزهر سنة 1979.
ولما كان يجيد الفرنسية والانجليزية فقد أطل على الثقافة الأوروبية وغذى علوم الإسلام وهو الذي نظم الدراسات العليا بجامعة أم درمان الإسلامية.
كان حييا شديد التواضع مبتسما وهو إداري من الطراز الأول منظم الفكر.
وعرض على المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1970 والذي يضم خيرة علماء المسلمين بحثا فياضا حول (إثبات العقائد الإسلامية بين السنيين والعقليين).(2/398)
وكما عنى بالدراسة الفلسفية فقد عنى بالسلوك وألقى محاضرات قيمة في هذا.
ومن مؤلفاته:
1 - الوجود والخلود في فلسفة ابن رشد.
2 - العقيدة والأخلاق في الفلسفة اليونانية.
3 - الحقيقة والمعرفة على نهج العقائد النسفية.
4 - تأملات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
5 - العالم بين القدم والحدوث.
6 - الإسلام بين العقائد والإيمان.
7 - الإسلام والمسيحية.
8 - رسالة (بالانجليزية) عن الحرب والسلام في الإسلام.
9 - رجلان في التفكير الإسلامي.
هذا عدا ما نشر من مقالات وبحوث في مجلات علمية.
* * *الشيخ جاد الحق علي جاد الحق
ولد ببلدة (بطرة) مركز طلخا بمحافظة الدقهلية سنة 1917.
حفظ القرآن الكريم والتحق بالمعهد الأحمدي بطنطا ودرس المذهب الحنفي.
والتحق بكلية الشريعة ونال العالمية سنة 1943.
ودخل تخصص القضاء الشرعي ونال إجازته سنة 1945.
وقد عين موظفا بالمحاكم الشرعية فأمينا للفتوى بدار الإفتاء المصرية
بدرجة (موظف قضائي) ثم مستشارا بمحاكم الاستئناف فمفتشا أولا بوزارة العدل ثم عين مفتيا للديار المصرية سنة 1978وعضوا بمجمع البحوث الإسلامية سنة 1980.(2/399)
وقد عين موظفا بالمحاكم الشرعية فأمينا للفتوى بدار الإفتاء المصرية
بدرجة (موظف قضائي) ثم مستشارا بمحاكم الاستئناف فمفتشا أولا بوزارة العدل ثم عين مفتيا للديار المصرية سنة 1978وعضوا بمجمع البحوث الإسلامية سنة 1980.
وظل مفتيا حتى اختير وزير دولة للأوقاف سنة 1982ثم شيخا للأزهر في نفس العام.
مكانته العلمية:
أصدر أحكاما قضائية استندت إلى البحوث في الشريعة.
كما أصدر مجموعة من الفتاوي الهامة في كل مجالات الشريعة.(2/400)
بعض الزعماء من 61901 الأزهر
1 - الزعيم أحمد عرابي تلقى تعليمه الأزهري ثم التحق بالجيش وقاد نورة كبرى ما زال صداها يرن في أذن التاريخ وكانت مقدمة للثورات الكبرى في المنطقة.
2 - الزعيم الوطني سعد زغلول الذي درس في الأزهر وتأثر بفكر الامامين الجليلين (جمال الدين لأفغاني والشيخ محمد عبده) وكان قائد ثورة 1919وخطيبها المفوه ووصل إلى رئاسة الوزراء وأسس (حزب الوفد).
3 - السيد / محمد صديق خان بن حسن البخاري القنوجي أمير بهوبال درس بالأزهر وكان منتسبا لرواق البخارية ثم عاد إلى امارته فأصلح شئونها وأقام فيها المعاهد العلمية والمجالس الثقافية وتزويج ملكة بهوبال وحكم المملكة واشتغل بالتأليف والدراسة وترك أكثر من سبعين كتابا وتوفى عام 1307هـ.
4 - الأمير محمد بن علي الادريسي مؤسس دولة الادارسة في (صبيا وعسير) باليمن تعلم بالأزهر ثم عاد إلى اليمن واستولى على اقليم صبيا واستولى على الحديدة وتوفي عام 1311هـ.(2/401)
5 - الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن الشهير بالملا الصومالي
ولما عاد للصومال عمل على توحيد القبائل الصومالية وفي سنة 1897نزلت البعثات التبشيرية إلى الصومال فقاد الكفاح ضد الاستعمارين الانجليزي والايطالي ونال انتصارات عظيمة وظل يناضل حتى مات 1921م ولم يشغله الكفاح عن التأليف وأصدر عدة رسائل كان أشهرها (مباحث المنافقين) وسجل فيها كيف (تعاون الانجليز والفرنسيون والايطاليون والقبائل المرتدة) ضده.
6 - المجاهد الكبير السيد عبد القيوم الرئيس الحالي لجمهورية جزر ملديف الواقعة جنوب غربي جزيرة سيلان (سيري لانكا) بالمحيط الهندي.
7 - الزعيم الجزائري هواري بومدين الذي درس في الأزهر وقاد الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي حتى تحررت بلاده وتولى رئاسة الجمهورية.(2/402)
61902 - الأزهر الجامعة الإسلامية الكبرى
1
نستطيع أن نقول: إن أقدم الجامعات الإسلامية هي الحلقات العلمية التي كانت تنعقد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد صاحب الرسالة العظمى بعد هجرته إلى المدينة المنورة صلى الله عليه وسلم، وفي مختلف العصور الإسلامية حتى العصر الحديث.
وقد قامت الحلقات العلمية في المسجد الحرام بعد فتح مكة في العام الثامن للهجرة النبوية، وتصدرها كبار الصحابة ثم التابعون من بعدهم، ثم تابعوا التابعين، واستمرت هذه الحلقات تؤدي رسالتها في خدمة الثقافة الإسلامية، والفكر الإسلامي، وشباب المسلمين، في مختلف العصور حتى العصر الحديث، وكانت هذه الحلقات العلمية تشكل ثاني جامعة إسلامية كبرى.
ثم بعد أن بنيت الفسطاط وبنى فيها جامع الفتح، الذي سمى تاج الجوامع، أو جامع عمرو بن العاص، لم يلبث أن قامت فيه حلقات علمية كبيرة، كان منها مثلا حلقة عبد الله بن عمرو بن العاص، ثم حلقة الليث بن سعد، وحلقة الإمام الشافعي، وغيرهم، فكانت هذه الحلقات العلمية تشكل ثالث جامعة إسلامية كبيرة في بلاد الإسلام.(2/403)
وقبل انشاء الأزهر كان جامع عمرو هو المكان المختار لالقاء الدروس العلمية، فقد كان مركزا اتخذه الصحابة والتابعون لنشر الدين والعلم ولاقامة الحلقات العلمية فيه، وأخذت الحركة العلمية في هذا المسجد تنمو وتتسع حتى أمه الكثير من العلماء والاعلام الذين تركوا ثروة جليلة من الكتب والتأليف، كما كان لتلك الحلقات فضل اخراج عدد كبير من الفقهاء والمحدثين حتى أوائل القرن الرابع الهجري، وأشهر هؤلاء عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن وهب وسعيد بن الصلت ويحيى بن أزهر سعيد بن عبد الرحمن.
وكانت الدراسة في أول أمرها دراسة دينية فقهية قامت في الزوايا التي أنشئت على مر السنين بالجامع العتيق. وأشهر تلك الزوايا، زاوية الامام الشافعي التي كان الناس يهرعون إليها لسماع شروح الامام ومحاضراته والتي تخرج فيها عدد من أعظم الفقهاء والعلماء في ذلك العهد. ثم بنى محمد الدين أبو المحاسن الأزدي البهنسي الشافعي وزير الملك الأشرف موسى بن العادل أيوب، زاوية سميت الزاوية المحمدية، ورتب في تدريسها قاضي القضاة وجيه الدين عبد الوهاب البهنسي وأوقف عليها عدة أوقاف بمصر والقاهرة، ثم الزاوية الصاحبية التي أنشأها صاحب التاج محمد بن فخر الدين، وجعل لها مدرسين احدهما مالكي والآخر شافعي وجعل عليها وقفا بظاهر، ثم حذا حذوه كثير من الأمراء وذوي اليسار المهتمين بالعلم، فما وافى عام 749هـ حتى زادت حلقات جامع عمرو على الأربعين حلقة.
وكانت هذه الحلقات العامة والخاصة منها تؤدي رسالتها، فالعامة منها ما كان يقام يوميا بجامع عمرو، والخاصة في يوم الجمعة الذي كانت حلقته تفوق حلقات بقية الأيام أهمية، اذ كان يوم الجمعة هذا يعد موسما علميا هاما، يهرع الناس فيه لسماع أكبر عدد من الفقهاء والشعراء والأدباء وهم يتناقشون ويتباحثون في الفقه واللغة ويتطارحون الشعر ويروون الأخبار.(2/404)
أما الحلقات الخاصة فهي التي كانت تعقد في منازل أكابر العلماء والفقهاء حيث كانوا يجتمعون بتلاميذهم وأصدقائهم يقرأون عليهم بعض شروح الفقه الاسلامي وبعض كتب العبادات ويروون بعض الأشعار. وقد تألفت بعض تلك الحلقات، اشتهر منها حلقة بيت عبد الله بن الحكم الفقيه المالكي وولديه عبد الرحمن ومحمد وكانوا من أنبغ الفقهاء المحدثين حتى أوائل القرن الثالث. وكانت حلقاتهم موضع التقاء أكابر العلماء والأدباء المعاصرين الذين كانوا يفدون على مصر من مختلف الأقطار، فما أن وفد الامام الشافعي إلى مصر، حتى وجد من تلك الأسرة كل عناية ورعاية وإكرام. فلما أقام حلقته في جامع عمرو، كانوا هم أول من شجعه وحضر درسه.
وظل التدريس في جامع عمرو على هذا المنوال عامر الحلقات، وموضعا لنشر العلم والتعليم مدة طويلة، واقتفى أثره كثير من الجوامع الشهيرة كجامع أحمد بن طولون، فلم يأت القرن الرابع حتى كان العلم في جامع عمرو قد وصل إلى مرحلة مثلى بفضل من كان يؤمه من أقطاب الفقه واللغة، وأشهرهم أبو القاسم بن قديد وتلميذه الكندي الذي ترك كتابا عظيما في تاريخ ولاة مصر ومن تولى قضاءها وأبو القاسم بن طباطبا الحسنى الشاعر.
فلما أن كان عصر الأمير محمد بن طغج الأخشيدي، أصبحت مجالس الدراسة والحلقات الأدبية الخاصة من تقاليد الحياة الرفيعة، وقد لقيت العلوم والآداب، بفضل هذا الأمير وولده أنوجور ووزيره كافور، وكثير من أمراء الدولة كل حماية ورعاية. وكانت حلقة الشاعر أبي الطيب المتنبي الذي وفد على مصر عام 346هـ (957م) على أثر مفارقته لبلاط سيف الدولة في حلب، من أهم حلقات الشعر والأدب واللغة في ذلك العهد.
ثم قامت حلقات للمسجد الأموي بدمشق، وفي مساجد البصرة
والكوفة وبغداد وفي مسجد القيروان، وفي مسجد القرويين (1)، وفي غيرها من المساجد الكبرى، ولكن هذه الحلقات لم يكتب لها الدوام والاستمرار ما عدا حلقات مسجد القرويين بفاس بالمغرب.(2/405)
ثم قامت حلقات للمسجد الأموي بدمشق، وفي مساجد البصرة
والكوفة وبغداد وفي مسجد القيروان، وفي مسجد القرويين (1)، وفي غيرها من المساجد الكبرى، ولكن هذه الحلقات لم يكتب لها الدوام والاستمرار ما عدا حلقات مسجد القرويين بفاس بالمغرب.
وكان انشاء الأزهر عام 361هـ وقيام الحلقات العلمية فيه منذ انشائه حتى اليوم وطيلة ألف عام معجزة الثقافة الاسلامية التليدة الخالدة، لأن الأزهر اليوم هو أم الجامعات الاسلامية، وهو الذي يمدها بالتوجيه وبالأساتذة، وبالخطط العلمية المدروسة.
وقامت بعد ذلك الجامعة النظامية التي أسسها الوزير نظام الملك وزير السلطان السلجوقي الب أرسلان وصديق الشاعر الصوفي الكبير عمر الخيام، وذلك عام 457هـ، ثم الجامعة المستنصرية في بغداد، كما قامت جامعات إسلامية أخرى في نيسابور ودمشق وبيت المقدس والاسكندرية والقاهرة وغيرها من عواصم العالم الاسلامي، ولكنها اندثرت ولم يبق منها شيء.
والأزهر على أية حال هو الصورة المشرقة لكل الجامعات الاسلامية، وهو الذي يلخص تاريخ الحضارة الاسلامية كلها طيلة ألف عام، فقد ازدهر بازدهارها وضعف بضعفها، ولأنه لم يكن جامعة اسلامية لمصر وحدها، بل كان جامعة اسلامية للعالم الاسلامي كافة، يؤمه طلاب العلم من كل مكان في بلاد الاسلام، وهو مفخرة المفاخر حظا، لأنه روح الحضارة الاسلامية ودرعها الواقي. وبحسبنا انه كان موئل العربية وملاذها الأمين.
2
والفاطميون هم الذين أنشأوا الأزهر في مصر، اثر فتحهم لها مباشرة،
__________
(1) نوقشت في كلية اللغة العربية في 13/ 3/ 1974رسالة دكتوراة عن (جامعة القرويين ودورها في حفظ ثقافة الاسلام قدمها أحمد البهي الحفناوي) باشراف د. عبد الحميد بخيت وعضوية الدكتورين محمد الطيب النجار والسيد عبد العزيز سالم.(2/406)
حيث أمر قائد الفتح جوهر الصقلي عام 359هـ بالبدء فورا في انشائه، لا ليكون مكانا للعبادة والصلاة فحسب، ولكن ليكون منبرا دينيا للدولة الفاطمية لنشر مذهبها وعقائدها مع ذلك أيضا.
وقد شرع في بناء الأزهر في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 359هـ 970م وأقيمت الصلاة فيه أول مرة في اليوم السابع أو التاسع من رمضان عام 361هـ 972م، واختير لبنائه مكان في الجنوب الشرقي من القاهرة بالقرب من القصر الكبير بين حي الديلم وحي الترك.
وسمي الأزهر لأنه كان محاطا بقصور زاهرة، ولأنه كان أكبر الجوامع على الاطلاق فخامة ورواء، وقد ذهب بعض المؤرخين الى القول بأنه سمي باسم فاطمة الزهراء التي ينتسب اليها الفاطميون، ويقال إنه كذلك تفاؤلا بما سيكون له من الشأن والمكانة بازدهار العلوم فيه.
وما كاد جوهر يضع أساس القاهرة اذن، حتى كان بعد تسعة شهور بناء المسجد يتلقى الناس فيه عقائد المذهب الفاطمي.
والأزهر أول مسجد أنشىء بالقاهرة المعزية، وعند ما أنشأه جوهر الصقلي ترك امامه رحبة واسعة فكان الخلفاء حين يصلون بالناس بالجامع الأزهر، تدخل العساكر كلها وتقف في هذه الرحبة حتى يدخل الخليفة الى الجامع. وبقيت هذه الرحبة الى وقت الدولة الأيوبية، ثم شرع الناس بالعمارة فيها حتى لم يبق لها أثر. وكان الأزهر كسائر الجوامع الاسلامية في العصر الذي بنى فيه يشتمل على محل مسقوف للصلاة يسمى مقصورة وآخر غير مسقوف يسمى صحنا.
ويقول المقريزي إن أول ما درس في الأزهر من العلوم، هو الفقه الفاطمي على مذهب الشيعة، ففي صفر عام 365هـ جلس قاضي مصر أبو الحسن علي بن النعمان بن محمد بن حتون بالجامع الأزهر وأملي مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت (فقه الشيعة)، ويعرف هذا المختصر
(بالاقتصار) وقد حضر هذا الدرس عدد عظيم من الناس. وأثبت أسماء الحاضرين(2/407)
ويقول المقريزي إن أول ما درس في الأزهر من العلوم، هو الفقه الفاطمي على مذهب الشيعة، ففي صفر عام 365هـ جلس قاضي مصر أبو الحسن علي بن النعمان بن محمد بن حتون بالجامع الأزهر وأملي مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت (فقه الشيعة)، ويعرف هذا المختصر
(بالاقتصار) وقد حضر هذا الدرس عدد عظيم من الناس. وأثبت أسماء الحاضرين
وذكر لنا المقريزي وصفا حيا لصلاة الجمعة، كما كان يقيمها الخلفاء الفاطميون في الجامع الأزهر في شهر رمضان: فكان صاحب بيت المال يذهب مبكرا إلى الأزهر ليشرف بنفسه على تنظيفه وتنظيمه واعداده لصلاة الجمعة للخليفة، فيفرش الحرم بالسجادات اللطيفة والحصر، ثم تغلق أبواب المسجد ويجعل عليها الحجاب والبوابون. وكانت توضع في المقصورة ثلاث طنافس دمقسية او سامانية بيضاء بعضها فوق بعض، وتوضع فوق الجميع الحصيرة التي يقال انها كانت لجعفر الصادق وأحضرت الى مصر سنة 400هـ (1009م) في عهد الحاكم بأمر الله، وكان ينصب على جانبي المنبر ستران احمران رقيقان كتب على الأيمن البسملة والفاتحة وسورة الجمعة وعلى الآخر البسملة والفاتحة وسورة المنافقين، ويقوم قاضي القضاة قبل قدوم الخليفة بتبخير القبة التي يقف تحتها الخليفة وقت إلقاء الخطبة، وكان يضعها أحد كتاب البلاد. وكان الخليفة في هذا اليوم يرتدي ثوبا من الحرير الأبيض، ويتعمم بعمامة من الحرير الأبيض الدقيق كذلك، ويحمل في يده قضيب الملك ويحف به عدد كبير من الأشراف والعلماء والعسس وحرسه الخاص.
وكان الخليفة يركب بين قرع الطبول ورنين الصنوج وقراءة القرآن بنغمات شجية، بعد ان يسلم لكل واحد من مقدمي الركاب أكياس الذهب والفضة، ويستمر الحال كذلك إلى أن يصل الخليفة الى قاعة الخطابة ويظل في القاعة حتى ينتهي الأذان. حينئذ يخرج ويأخذ مكانه تحت قبة المنبر، فيقف الوزير على باب المنبر ووجهه للخليفة، فاذا أومأ إليه صعد فقبل يدي مولاه ورجليه وزر سترى الحرير عليه، وبذلك يكون المنبر والقبة كالهودج، ثم ينزل الوزير وينتظر على باب المنبر، فاذا لم يكن الوزير صاحب السيف، فان قاضي القضاة هو الذي يزر السترين. وكانت الخطبة التي يلقيها الخليفة قصيرة تشتمل على آية من القرآن. ثم يذكر الخليفة
نفسه بعد الآية، ثم قومه بعبارة موجزة فيقول: (رب اوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) ويدعو بعد ذلك لوالده وجده ولمحمد صلى الله عليه وسلم، ولعلي رضي الله عنه. ثم يختم الخليفة الخطبة بالدعاء للوزير وبنصر الجيش وخذلان الكفار والمشركين فاذا فرغ من خطبته قال) «اذكروا الله يذكركم» ثم يصعد الوزير فيحل السترين، ثم يأخذ الخليفة في الصلاة، فيبلغ الوزير عنه، ثم قاضي القضاة، ثم المؤذنون، فاذا ما انتهت الصلاة، يخلو الجامع من الناس، ويخرج الخليفة يحيط به الوزير عن يمينه وقاضي القضاة عن يساره ويعود بموكبه الى قصره.(2/408)
وكان الخليفة يركب بين قرع الطبول ورنين الصنوج وقراءة القرآن بنغمات شجية، بعد ان يسلم لكل واحد من مقدمي الركاب أكياس الذهب والفضة، ويستمر الحال كذلك إلى أن يصل الخليفة الى قاعة الخطابة ويظل في القاعة حتى ينتهي الأذان. حينئذ يخرج ويأخذ مكانه تحت قبة المنبر، فيقف الوزير على باب المنبر ووجهه للخليفة، فاذا أومأ إليه صعد فقبل يدي مولاه ورجليه وزر سترى الحرير عليه، وبذلك يكون المنبر والقبة كالهودج، ثم ينزل الوزير وينتظر على باب المنبر، فاذا لم يكن الوزير صاحب السيف، فان قاضي القضاة هو الذي يزر السترين. وكانت الخطبة التي يلقيها الخليفة قصيرة تشتمل على آية من القرآن. ثم يذكر الخليفة
نفسه بعد الآية، ثم قومه بعبارة موجزة فيقول: (رب اوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) ويدعو بعد ذلك لوالده وجده ولمحمد صلى الله عليه وسلم، ولعلي رضي الله عنه. ثم يختم الخليفة الخطبة بالدعاء للوزير وبنصر الجيش وخذلان الكفار والمشركين فاذا فرغ من خطبته قال) «اذكروا الله يذكركم» ثم يصعد الوزير فيحل السترين، ثم يأخذ الخليفة في الصلاة، فيبلغ الوزير عنه، ثم قاضي القضاة، ثم المؤذنون، فاذا ما انتهت الصلاة، يخلو الجامع من الناس، ويخرج الخليفة يحيط به الوزير عن يمينه وقاضي القضاة عن يساره ويعود بموكبه الى قصره.
وقد كانت الخطابة في عصور الأزهر الأولى من مهام الخليفة فنجد المعز لدين الله يلقي الخطبة بنفسه مكتسبا صفة الامامة، متخليا بعض الشيء عن صفة الخلافة، بل نجده في كثير من الأحيان وأثناء قيامه بواجباته الدينية حريصا على امامته، ضنينا من أن يؤديها غيره، بل نراه يحاول ان يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الذين كانوا يقومون بأنفسهم بالقاء خطبة الجمعة في الجامع. ومما ساعده على ذلك ما كان عليه المعز من صفات الخطباء، فقد كان مفوها فصيحا ذا تأثير سريع قوي في سامعيه، وكثيرا ما ذهب بالناس الى حد البكاء بقوة وعظة وعظم بلاغته.
وحذا حذو المعز كثير من الخلفاء الفاطميين، فكانوا يلقون الخطبة بأنفسهم، وعلى الرغم من حب الحاكم بأمر الله للمواكب العظيمة، كان ينيب عنه وزيره في صلاة الجمعة، لأنه كان يرتج عليه في الخطبة، وكذلك كان في العصور المتأخرة، ايام الخلفاء الضعاف، فأصبح للجامع الأزهر خطيب خاص به يلقي الخطبة بين يدي الخليفة في أيام الجمع والموالد التي كانت تحتفل بها مصر في كل عام، وهي المولد النبوي ومولد علي بن أبي طالب ومولد زوجه فاطمة الزهراء ومولد ولديها الحسن والحسين، ثم مولد الخليفة القائم. ولم يقتصر خطيب الأزهر على ذلك، بل كان يخطب في ليالي الوفود الأربعة متقدما على خطباء المساجد الأخرى.(2/409)
وكانت وظيفة خطيب الجامع الأزهر تعد من الوظائف الدقيقة التي يحاول أن يرتفع اليها كثير ممن يتولون مناصب الدولة الكبيرة، وذكر ابن ميسر ان وظيفة الخطابة بالجامع الأزهر قد أسندت عام 517هـ إلى داعي الدعاة أبي الفخر صالح.
وكان نظام الحلقات الذي كان متبعا في تلك الحقبة من الزمن هو النظام الوحيد للدراسة الممتازة، وكان أساس الحياة العلمية والفكرية في مصر. فلما أن تحول الجامع الأزهر الى جامعة منذ انشائه، اتخذت الدراسة فيه طابع الحلقات الموجودة في ذلك الوقت، اذ لم يكن قد استعيض عنه بنظام آخر. وبانتقال هذا النظام الى الأزهر انتقلت معه دراسة العلوم بمختلف أنواعها، فازدهرت فيه وترعرعت
3
واستمر الأزهر كذلك الى نهاية القرن السادس حينما ابتدأ ملوك مصر وسلاطينها في انشاء المدارس. فأنشأ صلاح الدين الأيوبي عام 566هـ المدرسة الناصرية بجوار جامع عمرو لتدريس الفقه الشافعي، كما أنشأ بجانبها المدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، وكان من أشهر من درسوا فيها العالم المؤرخ ابن خلدون، وحذا حذو صلاح الدين كثير من أمراء البلاد وأعيانها، فأنشأوا كثيرا من مدارس للتخصص، بعضها شافعي والبعض الآخر حنفي أو حنبلي، أو لتدريس الفقه والحديث.
وتعد المدرسة الصالحية التي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 641هـ، أول مدرسة درس فيها الفقه على المذاهب الأربعة.
ولقد عانى الأزهر منافسة شديدة من جراء وجود أمثال تلك المدارس التي كانت مكتظة بالطلاب، مستأثرة بأعظم وأحسن الأساتذة والعلماء، متمتعة بعناية الأمراء وذوي اليسار وثقتهم. فوهبوها المال والهدايا، وأجروا
عليها الأوقاف والرباع. فكان التدريس بتلك المدارس من الأماني التي يصبو إليها كل أستاذ وعالم. فكانت موضع منافستهم الدائمة.(2/410)
ولقد عانى الأزهر منافسة شديدة من جراء وجود أمثال تلك المدارس التي كانت مكتظة بالطلاب، مستأثرة بأعظم وأحسن الأساتذة والعلماء، متمتعة بعناية الأمراء وذوي اليسار وثقتهم. فوهبوها المال والهدايا، وأجروا
عليها الأوقاف والرباع. فكان التدريس بتلك المدارس من الأماني التي يصبو إليها كل أستاذ وعالم. فكانت موضع منافستهم الدائمة.
وما وافت نهاية القرن الثامن الهجري حتى كان الانتاج العلمي في أزهى عصوره، وكثر عدد المدارس ومعاهد العلم التي كانت تقوم برسالتها بأمانة واخلاص بجانب الأزهر الذي لم يكن يستطيع مطاولتها في المرتبة، فقد كان نصيبه من الأساتذة والعلماء لا يزال ضئيلا وكانت المدارس قد استأثرت بهم. وخلا الأزهر في تلك الحقبة من أعاظم العلماء المعاصرين أمثال سراج الدين البلقيني والمقريزي وجلال الدين السيوطي الذين كانوا يقومون بالتدريس في تلك المدارس. على ان الأزهر في ذلك الزمن لم يفقد ماله من عظيم الهيبة والمكانة، بل كان لا يزال يحتفظ بمكانته العظيمة في النفوس، لما كان يلقاه فيه الطلاب من الراحة واتساع الحلقات.
ثم أخذت الحركة الفكرية تضمحل شيئا فشيئا، فما وافى القرن العاشر حتى كانت المدارس قد أغلقت بذهاب دولة السلاطين حيث لم تجد من يرعاها بماله وهباته، فقلت مواردها فهجرها مدرسوها وطلابها.
ومما زاد الحال سوءا ضياع استقلال مصر ووقوعها تحت الحكم العثماني فقد قضى سليم شاه على ما بقي من مصر من حضارة وعلم وفن.
وانتزع منها تحفها وآثارها وكتبها النفيسة، وسلبها عمالها وعلماءها فتلاشت طبقتهم وانحط العلم والتعليم.
ولم يكن نصيب الأزهر من ذلك بأقل من غيره، فدبت فيه عوارض الضعف وأهملت فيه دراسة كثير من العلوم. وان كانت اللغة العربية قد وجدت فيه ملجأ ترتاح إليه وتستكن فيه، الى ان قيض الله لها الظهور والانتعاش بعد انقشاع الحكم العثماني عن مصر الذي رزحت تحت عبئه أمدا طويلا.
كان لكل مذهب من المذاهب الأربعة عمود معين من عمد الجامع لا يتعدى عليه أحد ولا نشب عراك شديد. وكان شيخ المذهب هو المنوط
بالدفاع عن العمود، فاذا تفاقم الخلاف رفع الأمر الى شيخ الجامع الذي كان الفيصل في كل خلاف، وكان من عادة شيخ المذهب أثناء القاء الدرس أن يجلس على الأرض بجانب العمود مستقبلا القبلة، ثم استعاض المشايخ عن ذلك بالجلوس على كراسي من خشب أو جريد بعد أن كانت تلك الكراسي من أخص امتيازات كبار العلماء فيه.(2/411)
كان لكل مذهب من المذاهب الأربعة عمود معين من عمد الجامع لا يتعدى عليه أحد ولا نشب عراك شديد. وكان شيخ المذهب هو المنوط
بالدفاع عن العمود، فاذا تفاقم الخلاف رفع الأمر الى شيخ الجامع الذي كان الفيصل في كل خلاف، وكان من عادة شيخ المذهب أثناء القاء الدرس أن يجلس على الأرض بجانب العمود مستقبلا القبلة، ثم استعاض المشايخ عن ذلك بالجلوس على كراسي من خشب أو جريد بعد أن كانت تلك الكراسي من أخص امتيازات كبار العلماء فيه.
وكان الطلبة يجلسون حول أستاذهم على هيئة حلقة. ولكل طالب في الحلقة مكان لا يتعداه، وكانت طريقة التعليم اذ ذاك هي الطريقة الاملائية، يبتدىء الشيخ الدرس بالبسملة والحمد لله والصلاة على النبي، ثم يأخذ في املاء الدرس على تلاميذه. وأثناء ذلك يقوم الطلبة بسؤال أستاذهم فيما غمض عليهم. فقد كان عماد الدراسة اذ ذاك المناقشة والحوار بين الطلبة وأستاذهم بما يثقف العقل وينمي ملكة الفهم، فاذا انتهى الدرس قبل الطلبة يد شيخهم.
ولم يكن بالأزهر نظام امتحانات في عهده البدائي، بل كانت الاجازة التي يعطيها الشيخ لتلميذه، ولها قيمة عظيمة في تلك الأزمان القديمة، تدل على أن الطالب قد فهم نصا معينا، وتجعله أهلا للتدريس، وكان الطالب يتلقى العلم زمنا طويلا، فاذا أنس في نفسه القدرة على التصدر للعلم، أعلن ذلك بين زملائه وشيوخه. فتعقد في إيوان الأزهر حلقة من العلماء النابهين، يجلس الطالب في صدرها ويناقش نقاشا حادا في المادة التي يدرسها وفي جميع المواد التي تجرها المناسبات، فاذا أثبت الطالب كفاءة ممتازة أعطى حق التدريس.
وكانت المواد الأساسية التي تدرس إحدى عشرة مادة كلها من العلوم الدينية والعربية، يزيد عليها علم المنطق لمن يمتحن من طلاب العالمية، ونورد هنا مثلا لتلك الإجازات التي كانت تمنح لطلاب الأزهر. فقد جاء في سند إجازة الشيخ عبد المنعم الدمنهوري المتوفى عام 1192هـ ما ملخصه إنه تلقى في الأزهر العلوم الآتية: وله تأليف في كثير منها، وهي الحساب
والميقات والجبر والمقابلة والمنحرفات وأسباب الأمراض وعلامتها، وعلم الاسطرلاب والزيج والهندسة والهيئة وعلم الايماطيفي وعلم المزاول وعلم الأعمال الرصيدية وعلم المواليد الثلاثة وهي الحيوان والنبات والمعادن، وعلم «استنباط المياه وعلاج البواسير وعلم التشريح وعلاج لسع العقرب، وتاريخ العرب والعجم.(2/412)
وكانت المواد الأساسية التي تدرس إحدى عشرة مادة كلها من العلوم الدينية والعربية، يزيد عليها علم المنطق لمن يمتحن من طلاب العالمية، ونورد هنا مثلا لتلك الإجازات التي كانت تمنح لطلاب الأزهر. فقد جاء في سند إجازة الشيخ عبد المنعم الدمنهوري المتوفى عام 1192هـ ما ملخصه إنه تلقى في الأزهر العلوم الآتية: وله تأليف في كثير منها، وهي الحساب
والميقات والجبر والمقابلة والمنحرفات وأسباب الأمراض وعلامتها، وعلم الاسطرلاب والزيج والهندسة والهيئة وعلم الايماطيفي وعلم المزاول وعلم الأعمال الرصيدية وعلم المواليد الثلاثة وهي الحيوان والنبات والمعادن، وعلم «استنباط المياه وعلاج البواسير وعلم التشريح وعلاج لسع العقرب، وتاريخ العرب والعجم.
ومن مأثور ذلك الزمن عن علماء الأزهر، ان العلم مقصود لذاته وان طالبه يجب أن يتجرد عن ملاهي الدنيا، ولا يتطلع لحطامها، وهو قول كان له قديما أحسن الأثر في نفوس الأزهريين، الذين أحبوا العلم حبا جما، وقنعوا بما ساق الله إليهم من الرزق، وعاشوا عيشة راضية يحدوها التقشف والزهد، وكلهم موضع احترام الكبير والصغير.
وهذا التصور يتمثل في تقديم العلوم، ففي رأسها توجد العلوم النقلية مثل علم التوحيد والفقه والحديث والتصوف، ثم تأتي بعدها العلوم العقلية مثل علوم اللغة والعروض والبلاغة والمنطق وعلم الهيئة، ولم يدرس علم الهيئة إلا لأغراض عملية، مثل علم التقاويم وتحديد مواقيت الصلاة، ومن العلوم العقلية أيضا الأدب والتاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والرياضة، ولكن أهملت دراستها منذ القرون الوسطى، وإذا درست فإنما تدرس في الأزهر حوالي عام 1827م قبل سفره إلى «سانت بطرسبرج» إنه لا يعرف أحدا قبله، قرأ في الأزهر ما قرأه هو من مقامات الحريري والمعلقات مع شرح الزوزني، ولم تتأثر الجامعة الأزهرية بالعلوم المدنية التي جاءت إلى مصر من أوروبا في القرن التاسع عشر وأثرت فيها تأثيرا قويا.
وأخذ القول بحرمة بعض العلوم العقلية يتسرب شيئا فشيئا إلى الأزهر كما تسرب إلى غيره من الجوامع الاسلامية الأخرى حتى انتهى الأمر باهمال تدريسها اهمالا تاما، ويخبرنا الجبرتي بذلك فيقول: انه تولى حكم مصر عام 1161هـ أحمد باشا كور، وكان ولعا بالعلوم الرياضية «فلما استقر
بقلعة مصر، قابل صدور العلماء، ومنهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر فتكلم معهم في الرياضيات، فقالوا له لا نعرف هذه العلوم، فتعجب وسكت» وكان الشبراوي يتردد على الباشا يوم الجمعة، اذ كان خطيب جامع السراي فقال له الباشا «المسموع عندنا بالديار التركية ان مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنا في غاية الشوق الى المجيء اليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل «تسمع بالمعيدي خير من ان تراه»، فقال له الشيخ: يا مولاي، هي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف»، فقال: «واين هي وانتم اعظم علمائها وقد سألتكم عن بعض العلوم فلم تجيبوني، وغاية تحصيلكم الفقه والوسائل، ونبذتم المقاصد»، فقال الشيخ: «نحن لسنا أعظم علمائها، وانما نحن المتصدرون لقضاء حوائجهم، وأغلب أهل الأزهر لا يشتغلون بالرياضيات، الا بقدر الحاجة لعلم المواريث».(2/413)
وأخذ القول بحرمة بعض العلوم العقلية يتسرب شيئا فشيئا إلى الأزهر كما تسرب إلى غيره من الجوامع الاسلامية الأخرى حتى انتهى الأمر باهمال تدريسها اهمالا تاما، ويخبرنا الجبرتي بذلك فيقول: انه تولى حكم مصر عام 1161هـ أحمد باشا كور، وكان ولعا بالعلوم الرياضية «فلما استقر
بقلعة مصر، قابل صدور العلماء، ومنهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر فتكلم معهم في الرياضيات، فقالوا له لا نعرف هذه العلوم، فتعجب وسكت» وكان الشبراوي يتردد على الباشا يوم الجمعة، اذ كان خطيب جامع السراي فقال له الباشا «المسموع عندنا بالديار التركية ان مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنا في غاية الشوق الى المجيء اليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل «تسمع بالمعيدي خير من ان تراه»، فقال له الشيخ: يا مولاي، هي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف»، فقال: «واين هي وانتم اعظم علمائها وقد سألتكم عن بعض العلوم فلم تجيبوني، وغاية تحصيلكم الفقه والوسائل، ونبذتم المقاصد»، فقال الشيخ: «نحن لسنا أعظم علمائها، وانما نحن المتصدرون لقضاء حوائجهم، وأغلب أهل الأزهر لا يشتغلون بالرياضيات، الا بقدر الحاجة لعلم المواريث».
واستمر الحال كذلك من اهمال تدريس العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية، فقد نهى أهل الأزهر عن قراءتها ونسبوا الكفر لمن يطالعها، وفعلوا ذلك مع جمال الدين الأفغاني عند حضوره الى مصر عام 1288هـ، وكان قد رأى ما آلت اليه حالة تلك العلوم، فأوقف جهوده على نشرها، مستعينا في ذلك بتلميذيه الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الله وافي الفيومي.
وقد تنبه لتلك الحالة في الأزهر كثير من الأساتذة والعلماء وكثير من أمراء مصر ووزرائها، فسعوا الى إعادة تدريس تلك العلوم ولكنهم خشوا الطفرة ونتائجها، فتحايلوا باستطلاع رأي بعض كبار العلماء تمهيدا لذلك.
فأوعزوا الى الشيخ محمد بيرم قاضي محكمة مصر حينذاك بمقابلة المرحومين الشيخ محمد الأنبابي شيخ الإسلام والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية. واتفقوا على أن يفتى لهما الشيخ محمد الأنبابي في الأمثلة الآتية: «ما قولكم رضي الله عنكم، هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء وغيرها من سائر المعارف، ولا سيما ما ينبني عليه زيادة القوة
في الأمة، بما تجاري به الأمم، المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد، بل هي تجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة بمعنى ان يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الاسلام الغزالي في احياء العلوم ونقله علماء الحنفية وأقروه. وإذا كان الحكم فيها كذلك، فهل يجوز قراءتها مثلما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين وغيرها؟(2/414)
فأوعزوا الى الشيخ محمد بيرم قاضي محكمة مصر حينذاك بمقابلة المرحومين الشيخ محمد الأنبابي شيخ الإسلام والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية. واتفقوا على أن يفتى لهما الشيخ محمد الأنبابي في الأمثلة الآتية: «ما قولكم رضي الله عنكم، هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء وغيرها من سائر المعارف، ولا سيما ما ينبني عليه زيادة القوة
في الأمة، بما تجاري به الأمم، المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد، بل هي تجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة بمعنى ان يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الاسلام الغزالي في احياء العلوم ونقله علماء الحنفية وأقروه. وإذا كان الحكم فيها كذلك، فهل يجوز قراءتها مثلما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين وغيرها؟
افيدوا: الجواب، لا زلتم مقصد لأولي الألباب».
فأجابه الشيخ الأنبابي عام 1305هـ بالفتوى الآتية:
يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافيا لأنه لا تعرض فيها لشيء من الأمور الدينية، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا، كما يجب علم الطب كذلك، كما أفاد الغزالي في موضع من الأحياء. وان ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة التمكن في القدر الواجب فتعلمه فضيلة، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب ومسيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم، وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكيلات الفلكية على الحوادث السفلية فانه حرام، كما قال الغزالي وعلل ذلك بما محصله انه يخشى من ممارسة نسبة التأثير للكواكب والتعرض للاحياء بالمغيبات، مع كون الناظر قد يخطىء لخفاء بعض الشروط أو الأسباب عليها لدقتها.
وأما الطبيعيات، وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها، وكيفية استحالتها وتغييرها كما في الأحياء في الباب الثاني من كتاب العلم. فان كان هذا البحث عن طريق أهل الشرع فلا مانع منها كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي في جزء الفتاوى الجامع للمسائل المنتشرة، بل لها حينئذ أهمية ثمرتها كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة علم الآلات النافعة في مصالح
العباد. وان كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام، لأنه يؤدي الى الوقوع في العقائد المخالفة للشرع، كما أفاده العلامة المذكور. نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة للأمن عليه مما ذكر قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة.(2/415)
وأما الطبيعيات، وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها، وكيفية استحالتها وتغييرها كما في الأحياء في الباب الثاني من كتاب العلم. فان كان هذا البحث عن طريق أهل الشرع فلا مانع منها كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي في جزء الفتاوى الجامع للمسائل المنتشرة، بل لها حينئذ أهمية ثمرتها كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة علم الآلات النافعة في مصالح
العباد. وان كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام، لأنه يؤدي الى الوقوع في العقائد المخالفة للشرع، كما أفاده العلامة المذكور. نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة للأمن عليه مما ذكر قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة.
ثانيها الجواز مطلقا وثالثها المنع مطلقا
وأما علم تركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء فان كان المراد به مجرد البحث عن التركيب والتحليل بدون تعرض لما يخشى منه على العقيدة الاسلامية، فلا بأس به، بل له أهميته حسب ثمرته وإلا جرت فيه الأقوال الثلاثة المقدمة.
وأما العلم المعروف بعلم جابر وسمي أيضا علم الصنعة وعلم الكاف وهو أيضا الذي ينصرف اليه علم الكيمياء عند غالب الناس، فقد أفاد العلامة ابن حجر في شرحه على المنهاج انه ان قلنا بالمعتمد من جواز انقلاب الجسم عن حقيقته، وكان العلم الموصل لذلك يقينا، جاز تعلمه والعمل به، والا حرم، ولفقد هذا الشرط لم يتحصل المشتغلون به فيما رأينا إلا على ضياع الأموال وتشتت البال وتغيير الأحوال.
نعلم أن العلوم الرياضية لا بأس من قراءتها كما تقرأ علوم الآلات، وكذلك الطبيعيات وعلم تركيب الأجزاء حيث كانت تقرأ على طريقة لا يفهم منها جهابذة الشرع بحال كيفية العلوم العقلية مثل المنطق والكلام والجدل.
بل يجب كفاية من هذه الثلاثة ما يحتاج إليه في الحجاج عن العقائد الدينية.
وكتب العلامة الشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية عام 1205 الفتوى الرسمية الآتية رقم 171ما أفاده حضرة الأستاذ شيخ الإسلام موافق لمذهبنا وما استظهره من أن الخلاف الجاري في علم المنطق يجري في علم الطبيعة أيضا.
وهذه الردود نفسها تشف عن عدم رضاء رؤساء الأزهر في ذلك العهد
عن هذه العلوم وعن عداوتهم لها، والريبة فيها، ولكن الجهر هكذا بوجوب ادخالها الى الأزهر، برهان ساطع على أن روحا جديدة قد ابتدأت تجتاح الأزهر في ذلك الوقت وان كان دخول تلك العلوم لم يتم إلا في عصر عباس الثاني بن إسماعيل.(2/416)
وهذه الردود نفسها تشف عن عدم رضاء رؤساء الأزهر في ذلك العهد
عن هذه العلوم وعن عداوتهم لها، والريبة فيها، ولكن الجهر هكذا بوجوب ادخالها الى الأزهر، برهان ساطع على أن روحا جديدة قد ابتدأت تجتاح الأزهر في ذلك الوقت وان كان دخول تلك العلوم لم يتم إلا في عصر عباس الثاني بن إسماعيل.
أما في تلك الحقبة من الزمن فقد كانت أهمية كل علم من العلوم تقف لا باعتبار قيمته الموروثة، بل باعتبار شيوعه واقبال الطلاب عليه، فإننا نرى ان اعلاها مرتبة وهو علم الفقه لأهميته في الحياة العلمية ولكثرة الوظائف التي يؤهل لها.
كما عظم اقبال الطلبة على علوم اللغة والبلاغة ودروس المبادىء التي كانت تخصص الناشئة من الأغراب والأجانب، وكان أهم العلوم دراسة هو علم الكلام أو التوحيد ويليه تفسير القرآن والحديث الشريف.
وكان لمذاهب اهل السنة دائما أثر كبير في الأزهر وبخاصة في ادارته، فقد أخرج الشيعة منذ ايام الفاطميين، أما الحنابلة فلم يعين واحد منهم شيخا لقلة عددهم وضعف نفوذهم، وكان للمالكية الذين يعيشون غالبا في صعيد مصر وفي بلاد الدلتا مقام كبير محترم وان قل منهم من تولى مشيخة الأزهر، ولم يعلموا قط الاحتفاظ بالنفوذ الذي يخوله لهم كثرة عددهم فظلت المنافسة محصورة دائما بين الشافعية أتباع المذهب السائد وأتباع المذهب الحنفي الذي كان مذهب الباب العالي واتباعه التتر والقوقاز والترك والذين كانوا ذوي نفوذ كبير عدة قرون. وهذا الخلاف استغله الحكام لبسط نفوذهم على البلاد، ولتحويل الأزهريين الذين كانوا يتقربون اليهم إلى المذهب الحنفي.
وقد قامت بين رجال الدين والمتصوفة كثير من المشاحنات هددت مراكز رجال الدين في كثير من الأحيان. وان كان المتصوفة قد تعرضوا لمهاجمات شديدة من رجال الدين عندما كان المتصوفة يحاولون تجريح آراء رجال الدين أو تعطيل أصول بعض العقائد، وكانت الغلبة في النهاية لرجال
الدين، وان تركوا الصوفية احرارا في الاشتغال بالتصوف ومناسكه عائشين عيشة وادعة يلطفها الزهد.(2/417)
وقد قامت بين رجال الدين والمتصوفة كثير من المشاحنات هددت مراكز رجال الدين في كثير من الأحيان. وان كان المتصوفة قد تعرضوا لمهاجمات شديدة من رجال الدين عندما كان المتصوفة يحاولون تجريح آراء رجال الدين أو تعطيل أصول بعض العقائد، وكانت الغلبة في النهاية لرجال
الدين، وان تركوا الصوفية احرارا في الاشتغال بالتصوف ومناسكه عائشين عيشة وادعة يلطفها الزهد.
ولم يكن بالأزهر حتى آخر العقد الأول من القرن العشرين قانون بضبط أوقات الدروس وعدد الحصص اليومية ولكن جرت العادة من زمن قديم أو تكون كما يلي:
بعد الفجر: التفسير والحديث
بعد الشروق: الفقه
بعد الظهر: النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والأصول.
بعد العصر: الحساب والتاريخ والجغرافيا وسائر العلوم الحديثة.
بعد الغروب: المنطق وآداب البحث والهيئة.
ومدة الدرس عادة ساعة أو ساعتان وأغلب الطلبة يتلقى كل منهم درسين صباحا ودرسين مساء، وبعضهم يتلقى اكثر من ذلك، وبعضهم اقل حسب نشاط كل منهم وعدد العلوم التي يرغب في تلقيها.
4
انتهت الدولة الفاطمية التي كانت تولي الأزهر كل عنايتها، وجاء عهد الدولة الأيوبية، وفي عهد صلاح الدين الأيوبي اهمل الأزهر وقطع الكثير مما أوقفه عليه الحاكم بأمر الله، ويذكر لنا المقريزي ان صلاح الدين سيف بن أيوب قلد وظيفة القضاء للقاضي صدر الدين بن عبد الملك بن درباس الشافعي فعمل بمقتضى مذهبه وهو امتناع اقامة الخطبتين في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعي، فأبطل الخطبة والتدريس في الجامع الأزهر، وأقر الخطبة بالجامع الحاكمي، بحجة انه أوسع. فأهمل الأزهر منذ ذلك التاريخ وامتدت يد المغتصبين الى معظم أوقافه، وأخذت جدرانه وأركانه في التداعي.(2/418)
ثم أعيد الى الجامع الدرس، واول ما درس به من مذاهب أهل السنة مذهب الامام الشافعي رضي الله عنه، ثم ادخلت اليه المذاهب الأخرى تباعا، وانقضى نحو قرن من الزمان قبل ان يستعيد الجامع الأزهر عطف الولاة ووجوه البلاد عليه، فلما تولى الملك الظاهر بيبرس سلطنة مصر تحدث في مسألة اعادة الخطبة الى الجامع الأزهر. ولكن قاضي القضاة ابن ثبت العز الشافعي امتنع عن اعادتها فعزله السلطان وولى مكانه قاضيا حنفيا فأعيدت الخطبة عام 665هـ (12671266م) وزاد بيبرس في بناء الجامع، وشجع العلم والتعليم فيه، كما حذا حذوه كثير من أمرائه، أشهرهم الأمير عز الدين أيدمر الحلي، الذي أقام احتفالا رسميا عظيما في الجامع الأزهر، ابتهاجا بعودة الخطبة اليه، كما أقام احتفالا فاخرا في داره حضره رجال الدولة والأمراء والكبراء وكان هذا الأمير يجاور الأزهر بسكناه، فلمس ما وصل اليه حاله من التأخر والاضمحلال، فعزم على اصلاحه، فانتزع له ما اغتصب مما أوقف عليه، وتبرع له بمبلغ كبير من ماله الخاص، وجمع له من الأمراء الكثير من المال، بجانب ما أطلق من يد السلطان، وشرع في عمارته، فأعاد بناء الواهي من أركانه وجدرانه وسقوفه وبلطه وفرشه بالحصر وكساه فعاد إلى عظمته الأولى كما استجد به مقصورة حسنة الصنع. وقد عاد اثر ذلك ومنذ ذلك العهد الى الجامع الأزهر ما كان له من صيت قديم وأصبح معهدا علميا يؤمه الناس من كل فج ولقي الأزهر من عناية الشعب الشيء الكثير، وزاد في مجده ان غزوات المغول في الشرق قضت على معاهد العلم فيه، وان الإسلام أصابه في المغرب من التفكك العلمي المادي الذي نقلته وأهملت الجانب الروحي فعليها وزرها.
ويأتي الخطر هنا من ان القارىء العادي هذه الأيام وقد شغلته مقتضيات الحياة المعقدة المعاشة لا يجد وقتا للتقصي والتتبع والقراءة الدقيقة المتخصصة، ومن هنا تسود البلبلة وتضطرب أفكار الناس وأحوالهم، ومن هنا تخطىء اجتهادات الفقهاء الهدف، ويبرز الخطر الذي يسببه ما يلي:(2/419)
* انفراد فقهاء الشريعة وحدهم بالرأي دون الاستعانة بالمتخصصين في مختلف العلوم.
والانحلال ما أدى الى دمار مدارسه الزاهرة، وان المدارس التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي لتنافس الأزهر بدأت في الاضمحلال.
وفي عام 802هـ (13031302م) ضرب مصر زلزال عنيف فسقطت معظم جوامع مصر ومن ضمنها الجامع الأزهر والجامع الحاكمي وجامع عمرو. فتسارع امراء الدولة الى تجديدها، فكان الأزهر من نصيب الأمير سيف الدين سلار (من رجال دولة المماليك البحرية) وكان ثريا، فجدد مبانيه وأعاد ما تهدم منها.
وفي عام 809هـ (13101309م) انتهى الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداري (نقيب الجيوش) من انشاء المدرسة الطيبرسية (دار الكتب الأزهرية الآن) وجعلها مسجدا، وقرر بها درسا لفقهاء الشافعية، وتأنق في رخامها وتذهيب سقوفها، على أشكال المحاريب، وفرشها ببسط منقوشة بشكل المحاريب كذلك، وجعل في المدرسة خزانة كتب كبيرة.
وفي العهد العثماني نال الأزهر ما ناله من الاهمال. فقد قضى السلطان سليم على معالم الحضارة الشرقية عامة والمصرية خاصة، فانتزع من مصر جميع نفائسها وكتبها، وأرسلها إلى القسطنطينية. على ان الأزهر نال بعض الاهتمام من الفاتح سليم، وأظهر له بعض الرعاية، وأكثر من زيارته والصلاة فيه، وأمر بتلاوة القرآن به. وتصدق على فقراء المجاورين، كما زاره السلطان عبد العزيز خان فيما بعد. وفي عام 1004هـ (1595م) جدد الشريف محمد باشا والي مصر في عهد السلطان العثماني محمد الثالث الأزهر، ورتب لطلبته الفقراء طعاما يجهز كل يوم، فكان ذلك حافزا للطلبة على ان يؤموه من جميع البلاد. شرقا وغربا، وفي عام 1115هـ (1692م) أوقف عليه محمد باي بن مراد حاكم ولاية تونس أوقافا جليلة، كما جدد الأمير إسماعيل بك القاسمي ابن الأمير ايواظ بك القاسمي
المتوفي عام 1336هـ (1723م) سقف الجامع وكان قد آل الى السقوط.(2/420)
وفي العهد العثماني نال الأزهر ما ناله من الاهمال. فقد قضى السلطان سليم على معالم الحضارة الشرقية عامة والمصرية خاصة، فانتزع من مصر جميع نفائسها وكتبها، وأرسلها إلى القسطنطينية. على ان الأزهر نال بعض الاهتمام من الفاتح سليم، وأظهر له بعض الرعاية، وأكثر من زيارته والصلاة فيه، وأمر بتلاوة القرآن به. وتصدق على فقراء المجاورين، كما زاره السلطان عبد العزيز خان فيما بعد. وفي عام 1004هـ (1595م) جدد الشريف محمد باشا والي مصر في عهد السلطان العثماني محمد الثالث الأزهر، ورتب لطلبته الفقراء طعاما يجهز كل يوم، فكان ذلك حافزا للطلبة على ان يؤموه من جميع البلاد. شرقا وغربا، وفي عام 1115هـ (1692م) أوقف عليه محمد باي بن مراد حاكم ولاية تونس أوقافا جليلة، كما جدد الأمير إسماعيل بك القاسمي ابن الأمير ايواظ بك القاسمي
المتوفي عام 1336هـ (1723م) سقف الجامع وكان قد آل الى السقوط.
ماشت مصر في أعقاب غزو العثمانيين لها في ظلام دامس زهاء الثلاثة قرون. ففي مدة الثمانية اشهر التي قضاها الفاتح سليم في مصر، سلب البلاد جميع نفائسها وآثارها وكتبها ومؤلفاتها الخطية لأعلام فقهائها مثل ابن اياس والمقريزي والسخاوي والسيوطي، كما أرسل الى بلاده أمهر العمال والفنانين والكتاب في مصر.
ولم يكن الأزهر أقل من غيره تأثرا بتلك الحركة فقل فيه العلماء النابهون، وانعدم الانتاج الفكري والأدبي، وأهملت فيه دراسة العلوم الرياضية اهمالا تاما.
ولكنا لا نستطيع أن ننسى أن الأزهر قد بذل مجهودا جبارا في الاحتفاظ بمكانته التليدة وهيبته العظيمة حتى في نفوس الغزاة أنفسهم، فنرى الفاتح سليم يؤدي له الزيارة مرارا، بل كان حكام مصر الأتراك يلجأون وقت الشدة الى علماء الأزهر وشيوخه يلتمسون منهم العون والمساعدة عند شبوب الثورات أو قيام الفتن.
وقد وجدت اللغة العربية لنفسها مأوى في الأزهر طيلة الحكم العثماني لمصر. ثم ابتدأت بمجرد انتهاء ذلك الحكم في الظهور والنمو.
فقد استمر الأزهر ملاذا لطلاب العلوم الاسلامية واللغة العربية يؤمه هؤلاء الطلاب من جميع البلاد الاسلامية. واستطاع الأزهر منذ أوائل القرن التاسع عشر ان يحيا حياة جديدة. وكانت مهمة الأزهر في الاحتفاظ باللغة من الصعوبة بمكان. بل يعتبرها المؤرخون أعظم ما وفق الأزهر لاسدائه من خدمات لعلوم الدين واللغة والفقه خلال القرون الثلاثة الأخيرة، بل لعلها أعظم ما قام به الأزهر منذ انشائه الى الآن.
وقضت حملة نابليون عام 1798م على الحكم التركي في مصر، وعلى الرغم من أنها لم تستمر في مصر أكثر من عامين إلا انها تركت أثرا عميقا في جميع النواحي العقلية والعلمية. فقد ضمت الحملة العلماء
والأطباء والمهندسين. خلفوا لنا بعد ان بارحوا الأرض المصرية كثيرا من الأبحاث والدراسات كانت دعامة لمن أتى بعدهم من الباحثين فأنشأوا معامل كيميائية ورسموا خرطا جغرافية وعملوا أبحاثا طبية لمس فيها علماء مصر ومفكروها مظاهر حضارة جديدة لم يعرفوها من قبل. كما احضرت الحملة المطبعة، وأنشأت الصحف والمدارس والمكتبات العامة، وعنيت بالفنون الجميلة والبحث عن الآثار القديمة، فتيقظ في الناس الشعور بحاجتهم الى التهذيب الخلقي والرقي الفكري والعلمي. ثم الى الانفصال الذي شغلوا به في هذا العهد الحديث.(2/421)
وقضت حملة نابليون عام 1798م على الحكم التركي في مصر، وعلى الرغم من أنها لم تستمر في مصر أكثر من عامين إلا انها تركت أثرا عميقا في جميع النواحي العقلية والعلمية. فقد ضمت الحملة العلماء
والأطباء والمهندسين. خلفوا لنا بعد ان بارحوا الأرض المصرية كثيرا من الأبحاث والدراسات كانت دعامة لمن أتى بعدهم من الباحثين فأنشأوا معامل كيميائية ورسموا خرطا جغرافية وعملوا أبحاثا طبية لمس فيها علماء مصر ومفكروها مظاهر حضارة جديدة لم يعرفوها من قبل. كما احضرت الحملة المطبعة، وأنشأت الصحف والمدارس والمكتبات العامة، وعنيت بالفنون الجميلة والبحث عن الآثار القديمة، فتيقظ في الناس الشعور بحاجتهم الى التهذيب الخلقي والرقي الفكري والعلمي. ثم الى الانفصال الذي شغلوا به في هذا العهد الحديث.
5
فلما جاء محمد علي وجه عنايته الى التعليم العملي وحمل الناس عليه حملا، ولم يكن في مصر كلها في ابتداء عهده معهد محترم إلا الأزهر حيث كانت تدرس العلوم اللغوية والدينية بذلك الأسلوب العتيق، والا تلك (الكتاتيب) المنبثة في القرى حيث تحفظ القرآن وتدرس الكتابة والقراءة بالرهبة لا بالرغبة. فأنشأ محمد علي المدارس المختلفة، وأرسل البعوث العلمية إلى أوروبا.
ومن المدارس التي أنشأها: الطب والهندسة والالسن والفنون والصنائع وكثيرا من المدارس الابتدائية والتجهيزية فأضر ذلك بالأزهر ضررا بليغا، فنافست تلك المدارس الأزهر منافسة قوية، وحولت عنه كثيرا من طالبي العلم.
وكان الأزهريون يعتبرون من عاد من أعضاء البعثات الاوروبية متفرنجا، وظلوا يسخرون من المصريين الذي تعلموا في أوروبا.
وظل الحال على هذا المنوال في عهد إبراهيم باشا وعباس الأول وسعيد باشا، إلا أن حركة الاصلاح كانت قد فترت وظهرت فكرة الجمود والاستبداد في الحياة العلمية والأدبية والفكرية، فقد كان عباس باشا لا يهتم كثيرا بشئون التعليم وان كان الأزهر قد حظي ببعض زياراته، الى ان حدث الانقلاب الكبير في عهد إسماعيل.(2/422)
وربما كان اسماعيل مدفوعا الى هذا الانقلاب بتلك النزعة القوية التي كانت تختلج في نفسه والتي كانت ترمي الى اقامة دولة عربية مصبوغة بالصبغة الاوروبية مكان تلك الدولة التي تتألف من رعية عربية وراع عثماني.
وكان لا بد لتحقيق أغراضه، من اصلاح الأزهر اصلاحا يتفق والآراء الجديدة، فقام إسماعيل، بتأييد الشيخ محمد العباسي المهدي الحنفي، شيخ الجامع الأزهر وكان فقهيا ذكيا مستنيرا واسع الخبرة، بإصدار قانون للأزهر بتاريخ 22من ذي القعدة 1387هـ 3فبراير 1872م، ونص هذا القانون على ما يلي:
1 - ان يكون نيل العالمية بالامتحان على يد لجنة من العلماء يختارهم شيخ الجامع.
2 - وإن ينقسم العلماء الى ثلاث درجات اولى وثانية وثالثة.
3 - وإن يصدر بذلك بيور ولدى عال.
4 - وإن يمتاز أرباب الدرجة الأولى بكسوة تشريف ينعم بها من لدن الجناب العالي.
5 - وإن العلوم التي يمتحن فيها الطلاب هي:
الفقه الاصول التوحيد الحديث التفسير النحو الصرف المعاني البيان البديع المنطق.
وأراد الشيخ العباسي المهدي بهذا القانون ان يبعد عن الأزهر العناصر التي لا تتميز بالكفاءة والجدارة. وكان لا بد من تحسين حال الأساتذة بتقرير رواتب ثابتة لهم.
وتأثرت تلك الاصلاحات بالافكار الاوروبية، وعلى وجه أدق بالآراء الفرنسية التي تبدو في برامج الدراسة وفي تقرير أداء الامتحان عند التخرج، وكان هذا امرا جديدا بل حدثا بالنسبة للأزهر. وقد ألفت لجنة من ستة
أعضاء وعينت المواد التي يجب أداء الامتحان فيها وتقرر للطلاب مكافآت دراسية، وأخذ التنافس والتشاحن على الأمور التافهة يقل بعد ان كان شائعا بين جميع الطوائف الأزهرية.(2/423)
وتأثرت تلك الاصلاحات بالافكار الاوروبية، وعلى وجه أدق بالآراء الفرنسية التي تبدو في برامج الدراسة وفي تقرير أداء الامتحان عند التخرج، وكان هذا امرا جديدا بل حدثا بالنسبة للأزهر. وقد ألفت لجنة من ستة
أعضاء وعينت المواد التي يجب أداء الامتحان فيها وتقرر للطلاب مكافآت دراسية، وأخذ التنافس والتشاحن على الأمور التافهة يقل بعد ان كان شائعا بين جميع الطوائف الأزهرية.
والحق أن عصر إسماعيل كان عصرا رائعا في تاريخ الأزهر. فقد تفتحت فيه ثمار النهضة الحديثة وابتدأ الأزهر يفيق من سباته الطويل ويتطلع بدوره الى فهم الروح الجديدة وان كان ببطء. وكان للسيد جمال الدين الافغاني أثر كبير في انماء هذه النهضة، فقد كان لحلقاته الشهيرة التي كان يشرح فيها كثيرا من علوم الكلام والفقه والفلسفة والمنطق بأسلوبه العصري المبتكر أثر عظيم في نفوس من استمع إليه في ذلك الحين من طلاب الأزهر وشويخه.
وكانت الشهادة التي تعطي للعالم في نهاية دراسته تكتب في المعية السنية متوجة بختم الخديوي كما يخلع عليه الخديوي (فراجية) وشريطا مقصبا يجعله في عمامته في مواضع تشريف، ويكتب للجهات باحترامه وتوقيره، ولم يكن يسمح بالامتحان إلا لستة طلبة، فإذا ازداد العدد يرجح منهم من امتاز بالشهرة او بالوجاهة او كبر السن.
ولما جاء الأفغاني إلى مصر، تتلمذ على يده وعلى حلقته العلمية الخاصة الطالب الأزهري محمد عبده، وصادفت تعاليم الأفغاني في نفس الأزهري الصغير أرضا خصبة. فأخذ عنه كل مبادئه وأغراضه. ثم أصبح وهو ما زال طالبا يقرأ دروسا في الأزهر على أسلوب أستاذه، موضوعها التوحيد والمنطق والحكمة والفلسفة. وكان يؤم تلك الدروس الجم الغفير من العلماء والمجاورين، فيرون كتبا جديدة وروحا جديدة وأسلوبا جديدا، فيه بلاغة وحرية فكر، وهنا ظهر الاصطدام بين مذهبين، مذهب الأزهر القديم الذي كان ينادي به الشيخ عليش، ومذهب محمد عبده وأستاذه، يجهر به هذا الطالب موفقا قادرا يبهر به الناس. كما ظهرت للشيخ الامام المقالات الصحفية في التصوف والتوحيد الممزوجين بالحكمة والفلسفة والمنطق،
لفتت اليه الأنظار فعضده الكثير من الطبقة النابهة وشجعوه على كتابة المقالات الدينية والأدبية والاجتماعية كلها تدعو الى ادخال العلوم العصرية في الأزهر. ولما بلغ الثامنة والعشرين تقدم لامتحان العالمية. فنالها عام 1294هـ بعد تلكؤ العلماء وتبرمهم به لعلمهم بنزعته التجديدية وتأثره بآراء جمال الدين الأفغاني. وكلاهما ثائر في وجه الجمود، داعية الى حرية الفكر.(2/424)
ولما جاء الأفغاني إلى مصر، تتلمذ على يده وعلى حلقته العلمية الخاصة الطالب الأزهري محمد عبده، وصادفت تعاليم الأفغاني في نفس الأزهري الصغير أرضا خصبة. فأخذ عنه كل مبادئه وأغراضه. ثم أصبح وهو ما زال طالبا يقرأ دروسا في الأزهر على أسلوب أستاذه، موضوعها التوحيد والمنطق والحكمة والفلسفة. وكان يؤم تلك الدروس الجم الغفير من العلماء والمجاورين، فيرون كتبا جديدة وروحا جديدة وأسلوبا جديدا، فيه بلاغة وحرية فكر، وهنا ظهر الاصطدام بين مذهبين، مذهب الأزهر القديم الذي كان ينادي به الشيخ عليش، ومذهب محمد عبده وأستاذه، يجهر به هذا الطالب موفقا قادرا يبهر به الناس. كما ظهرت للشيخ الامام المقالات الصحفية في التصوف والتوحيد الممزوجين بالحكمة والفلسفة والمنطق،
لفتت اليه الأنظار فعضده الكثير من الطبقة النابهة وشجعوه على كتابة المقالات الدينية والأدبية والاجتماعية كلها تدعو الى ادخال العلوم العصرية في الأزهر. ولما بلغ الثامنة والعشرين تقدم لامتحان العالمية. فنالها عام 1294هـ بعد تلكؤ العلماء وتبرمهم به لعلمهم بنزعته التجديدية وتأثره بآراء جمال الدين الأفغاني. وكلاهما ثائر في وجه الجمود، داعية الى حرية الفكر.
وعمل الامام محمد عبده جهده على اصلاح الأزهر وبمساعيه صدر القانون المعروف بقانون عام 1895م ومن ذلك التاريخ دخل الأزهر في طور جديد.
ولا يمكننا ان ننكر فضل الامام محمد عبده في اخراج هذا القانون الى حيز الوجود. ففي حكم الخديوي توفيق بذل مجهودا كبيرا في اقناع الشيخ محمد الأنبابي شيخ الجامع في ذلك الحين بأن يوسع منهاج الدراسة بالجامع وان يدخل بعض العلوم الحديثة على منهاج التعليم فيه. ولكن شيوخ الأزهر عارضوه معارضة شديدة فحاول أن ينال تأييدا من الخديوي ولكنه لم ينل منه عطفا كافيا.
فلما ولي الحكم عباس باشا الثاني. حاول ان ينجح معه حيث فشل مع سلفه، فرفع اليه تقريرا مسهبا عن الأزهر وطرق اصلاحه فصادف ذلك التقرير رضاء عاليا من سمو الخديوي فأصدر القانون السالف الذكر في 17 رجب عام 1312هـ (15يناير سنة 1895م) فألف مجلسا لادارة الأزهر من أكابر شيوخه الذين يمثلون المذاهب الأربعة ومثل الحكومة فيه الشيخ محمد عبده نفسه وصديقه الشيخ عبد الكريم سليمان دون ان يكون لشيخ الجامع ولمجلس ادارته رأي في انتخابهما.
وعلى الرغم من أن الإمام كان مؤيدا في آرائه الإصلاحية من الخديوي وحكومته، فقد أراد ألا يعمل أي تغيير في الأزهر إلا برضاء شيوخه.
واستصدر الامام قانون كساوى التشريف التي كان يلبسها العلماء في
مناسبات معينة تميزهم عن غيرهم، فصارت تعطى لمستحقيها بمراعاة الاقدمية وغيرها من المؤهلات وكان الرأي فيها من قبل لشيخ الجامع يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، والأصل في هذه الكساوى ان أكابر العلماء وبعض مشايخ الحارات من أهل الحسب والنسب كانوا يزورون محمد علي باشا الكبير في قصره في اول يوم من رمضان تبريكا بحلول شهر الصوم، فيخلع عليهم خلعا هي الكساوى المذكورة وبعد وفاته تنوسيت تلك العادة الى زمن الخديوي إسماعيل فأحياها. ثم اهتم الامام محمد عبده بتنظيمها، فصدر امر الخديوي عباس الثاني، بربط بدلها نقودا باسم طائفة اهل العلم بالجامع الأزهر على الدوام.(2/425)
واستصدر الامام قانون كساوى التشريف التي كان يلبسها العلماء في
مناسبات معينة تميزهم عن غيرهم، فصارت تعطى لمستحقيها بمراعاة الاقدمية وغيرها من المؤهلات وكان الرأي فيها من قبل لشيخ الجامع يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، والأصل في هذه الكساوى ان أكابر العلماء وبعض مشايخ الحارات من أهل الحسب والنسب كانوا يزورون محمد علي باشا الكبير في قصره في اول يوم من رمضان تبريكا بحلول شهر الصوم، فيخلع عليهم خلعا هي الكساوى المذكورة وبعد وفاته تنوسيت تلك العادة الى زمن الخديوي إسماعيل فأحياها. ثم اهتم الامام محمد عبده بتنظيمها، فصدر امر الخديوي عباس الثاني، بربط بدلها نقودا باسم طائفة اهل العلم بالجامع الأزهر على الدوام.
وعني الامام كذلك عناية كبيرة بشئون الأزهر الادارية فابتنى مكاتب قريبة من الجامع يقوم بالخدمة بها عدد من الكتاب لمعاونة شيخ الجامع، بعد ان كان الشيخ في الماضي يدير الأزهر من منزله حيث كان المدرسون والمجاورون يجتمعون اليه تاركا امور الأزهر العادية الهامة في يد كاتبه الخاص يبت فيها.
ولم تجذب مبادىء الامام الأزهريين كما اجتذبت طبقة المتأثرين بالحضارة الاوروبية، وكان العدد الاكبر من مريديه وتلاميذه من أرباب المناصب العالية في القضاء وأساتذة المدارس العليا أو رؤساء المصالح الحكومية. وكان بعض هؤلاء قد تعلم في الأزهر، ولكن أكثرهم كانوا ممن تلقوا شيئا من علوم الغرب وبعضهم ممن جلس الى جمال الدين الأفغاني.
وانتقل الأزهر بالقانون رقم 60لسنة 1911إلى مرحلة أخرى من النظام. فقد أوضح القانون واجب الجامع الأزهر من حيث القيام على حفظ الشريعة الغراء وفهم علومها ونشرها على وجه يفيد الأمة ويخرج علماء يوكل إليهم أمر التعليم الديني ويتولون الوظائف الشرعية في مصالح الأمة، وقد زيد في هذا القانون من اختصاصات شيخ الجامع الأزهر فهو زيادة على كونه الإمام الأكبر لجميع رجال الدين والرئيس العام للتعليم فيه وفي معاهده
الملحقة به فهو المشرف الأعلى على السيرة الشخصية الملائمة لشرف العلم وحملة القرآن الشريف من مصريين وغير مصريين. وهو المنفذ الفعلي العام لجميع القوانين واللوائح والقرارات المختصة بالجامع الأزهر والمعاهد.(2/426)
وانتقل الأزهر بالقانون رقم 60لسنة 1911إلى مرحلة أخرى من النظام. فقد أوضح القانون واجب الجامع الأزهر من حيث القيام على حفظ الشريعة الغراء وفهم علومها ونشرها على وجه يفيد الأمة ويخرج علماء يوكل إليهم أمر التعليم الديني ويتولون الوظائف الشرعية في مصالح الأمة، وقد زيد في هذا القانون من اختصاصات شيخ الجامع الأزهر فهو زيادة على كونه الإمام الأكبر لجميع رجال الدين والرئيس العام للتعليم فيه وفي معاهده
الملحقة به فهو المشرف الأعلى على السيرة الشخصية الملائمة لشرف العلم وحملة القرآن الشريف من مصريين وغير مصريين. وهو المنفذ الفعلي العام لجميع القوانين واللوائح والقرارات المختصة بالجامع الأزهر والمعاهد.
وجعل لكل مذهب من المذاهب الأربعة شيخ بالجامع الأزهر وكذا لكل معهد من المعاهد الأخرى. وأجيز تعيين وكيل للجامع والكليات عند مسيس الحاجة، وجعل لكل قسم من أقسام الأزهر شيخ ومراقبون وكتبه، أما انشاء الوظائف فيكون من اختصاص مجلس الأزهر الاعلى.
وأنشىء للأزهر مجلس تحت ادارة شيخه ورئاسته كما أنشئت مجالس ادارة ممائلة للمعاهد التابعة للأزهر. وقد أنشىء مجلس الأزهر الأعلى من شيخ الجامع بصفته رئيسا، ومن أعضاء ثمانية هم: شيخ السادة الحنفية، وشيخ السادة المالكية، وشيخ السادة الشافعية، وشيخ السادة الحنابلة، ومدير عموم الأوقاف المصرية، وثلاثة ممن يكون لوجودهم بالمجلس فائدة لترقية التعليم وحسن انتظام ادارته بشرط ان يكونوا حائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، ويكون تعيينهم بارادة سنية بناء على قرار مجلس النظار. وفي غياب شيخ الجامع ينوب عنه في الرئاسة شيخ السادة الحنفية.
وقد عدلت تلك المادة في القانون رقم 6لعام 1916.
وطرأ على هذا القانون كثير من التعديلات في عام 1920، 1923، 1924شملت مجلس ادارة الجامع الأزهر وشروط العضوية فيه والعلوم التي تدرس في الجامع وتقسيم التعليم الى أولى وثانوي وعال وقد أنشىء قسم التخصص في قانون عام 1933م.
وصار الأزهر بعد الاحتلال الانجليزي لمصر مقصورا على وظائف الفتاوي والقضاء، وحتى الأخير كاد يسلب منه حين أنشئت مدرسة القضاء الشرعي.
ولا شك ان هذه الفترة في تاريخ الأزهر الشريف الى وقت صدور قانون 1911كانت فترة تسامح، اذ لم يكن الأزهر في هذه الآونة قد استقر
إلى قرار فان كان الأزهر في هذه الفترة قد خرج فطاحل أمثال الشيخ الإمام محمد عبده، وسعد زغلول، والشيخ القباني، والشيخ علي يوسف، ومصطفى الباجوري، والشيخ النواوي وغيرهم إلا أن القوانين التي كانت قد صدرت لمصلحة الأزهر لم تصل به إلى حد الكمال.(2/427)
ولا شك ان هذه الفترة في تاريخ الأزهر الشريف الى وقت صدور قانون 1911كانت فترة تسامح، اذ لم يكن الأزهر في هذه الآونة قد استقر
إلى قرار فان كان الأزهر في هذه الفترة قد خرج فطاحل أمثال الشيخ الإمام محمد عبده، وسعد زغلول، والشيخ القباني، والشيخ علي يوسف، ومصطفى الباجوري، والشيخ النواوي وغيرهم إلا أن القوانين التي كانت قد صدرت لمصلحة الأزهر لم تصل به إلى حد الكمال.
ثم صدر في 24جمادى الآخر عام 1349هـ (15نوفمبر عام 1930م) مرسوم بقانون رقم 49باعادة تنظيم الأزهر والمعاهد الدينية والكليات وبدىء العمل به في عام 1931م.
بدأ القانون بإصلاح مجلس الأزهر الأعلى الذي كان حجر عثرة في سبيل كل إصلاح يدق باب الأزهر فأدخل كثير من المعاهد في عواصم الأقاليم وان كانت لم تصل الى مكانة الجامع الأزهر أو معهد طنطا. وقد لاحظ الملك فؤاد ان كثيرا من الطلاب يفضلون الالتحاق بهذين المعهدين.
فحارب جلالته هذه النزعة ليخفف الضغط على الأزهر والمعهد الاحمدي، فأنشأ معهدي الزقازيق وأسيوط في أبنية رائعة فاخرة تسع كل منها ما يزيد على ألف طالب. كما تكلف كل بناء منها ما يزيد على الأربعين ألفا من الجنيهات.
وكان من أهم مميزات الجامعة الأزهرية انها انفردت بجمعها بين مراحل التعليم الثلاث، الابتدائي والثانوي والعالي، في حين كانت المعاهد الدينية مقصورة على المرحلتين الابتدائية والثانوية.
ثم صار الأزهر جامعة عصرية تجمع كليات حديثة منظمة على احدث الطرق، وهو وان لم يكن قد وصل بعد إلى طريق الاستقرار والوضوح، فقد نظمت الدراسة فيه وفي معاهده في مراحل عدة وأنشئت معاهد جيدة وإجازت تخصص، وأعدت للطلبة أبنية صحية جميلة للدرس والسكنى، بدل الأروقة، وقد وضع تصميم لمشروع إنشاء مدينة جامعة أزهرية في حي الأزهر لانشاء مساكن على نطاق واسع تسع جميع الطلبة كما عمل تصميم لإنشاء مكتبة عامة تجمع ما تكدس من كتب قيمة ومؤلفات ومخطوطات ثمينة بدل تلك التي تضيق بما فيها من كتب وتفتقر إلى قاعة مطالعة فسيحة.(2/428)
ويجب ألا ننسى ذكر ما أدخل على برامج التعليم من التغييرات والتعديلات والكثير من المواد العصرية لصالحه كتاريخ التشريع والنظام الدستوري ومبادىء الاقتصاد ونظم التربية والاخلاق وعلم النفس واللغات الأجنبية والشرقية. كما أرسل عدد عظيم من خريجي الجامعة الأزهرية في بعثات الى باريس ولندن وبرلين. وقد عاد بعض هؤلاء الطلبة الى الأزهر لينشروا فيه ما تلقوه في تلك المعاهد من علوم حديثة وأفكار جريئة.
ولما مات الشيخ محمد مصطفى المراغى، رحمه الله اختير الشيخ مصطفى عبد الرازق لما عرف عنه من سمعة طيبة وكونه حائزا للشهادة العالمية الأزهرية وانه قام بالتدريس مدة ليست بالقصيرة بجامعة فؤاد وله مؤلفات قيمة في الفلسفة والأدب والتاريخ. وقد طلب الشيخ مصطفى عند تعيينه ان يعفي من حمل لقب الباشوية تواضعا وذلك لأنه لم يجر العرف في أن يحمل شيخ الجامع الأزهري اي لقب من ألقاب التشريف سوى لقب شيخ.
وفي عام 1961وضعت الثورة قانونا جديدا لتطوير الأزهر فأنشأت فيه كليات جديدة للطب والصيدلة والهندسة والزراعة والعلوم وكلية للبنات، وصار الأزهر جامعة كبرى تشمل كل علوم الدين والدنيا، وتغير وجه الأزهر القديم، وصار الأزهر الحديث هو المائل بيننا الآن.
هذا هو الأزهر بيت العلم العتيق، ومثابة الثقافة الاسلامية، والذي حمل لواء المعرفة في مصر وفي الشرق الاسلامي قرونا متصلة، وحفظ التراث الاسلامي في الدين واللغة والعلوم ونشره على الآفاق طيلة ألف سنة أو يزيد. وقد تخرج فيه أفواج من العلماء خلال عصور التاريخ ممن انتشروا في بقاع الأرض وحملوا معهم مشاعل المعرفة والثقافة التي تزودوا بها في الأزهر فأضاءوا الأرض علما ونورا ورشادا.
وما يزال الأزهر حتى اليوم كعبة العلوم والآداب ومعقل آمال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.(2/429)
الفهرس
الموضوع الصفحة
الأزهر للشاعر عزيز أباظة 7
الباب الرابع: أعلام من الأزهر في العصر الحديث 9411
الإمام محمد عبده 13
الشيخ محمد رشيد رضا 34
الشيخ محمد شاكر 42
مشايخ السادة المالكية 43
الشيخ البحراوي 45
الشيخ محمد نجيب المطيعي 46
الشيخ حسين والي 48
الشيخ محمد الفحام 50
الشيخ الدجوي 51
الشيخ الديناري 58
الشيخ السرتي 59
الشيخ اللبان 60
الشيخ النجار 61
الشيخ الجزيري 62(2/430)
الشيخ أبو النجا 63
الشيخ أبو العيون 64
الشيخ قادوم 76
الشيخ عبد العزيز المراغي 77
الشيخ فكري ياسين 81
الشيخ نافع الخفاجي 83
ازهريون في سجل التاريخ 93
الباب الخامس: صور من الأزهر القديم والحديث 15695
اول درس للسيوطي 97
الحفني شيخ الأزهر 100
الاجازات العلمية في الأزهر القديم 102
الاجازات العلمية في الأزهر الحديث 122
اصلاحات جديدة في الأزهر 127
في صحائف الذكرى 134
اروقة الأزهر 147
الباب السادس: صورة عن النشاط العلمي في الأزهر 429157
الأزهر والحركة الفكرية المعاصرة 159
بعوث الأزهر 164
نهج الدراسة بالأزهر 169
قوانين الأزهر 175
قانون الأزهر لعام 1881961
التعليم في الأزهر 228
جماعة كبار العلماء 230
الدراسات العليا في الأزهر 235
حياة الأزهر الثقافية 242
مكتبة الأزهر 257
رفاعة الطهطاوي 267(2/431)
العيد الألفي للأزهر 269
المدارس العلمية في الأزهر 276
ازهريون في العصر المملوكي 292
الإمام السيوطي 296
شمس الدين الحنفي 313
الشيخ السنباطي 314
الشيخ الدردير 317
الشيخ الصعيدي 318
الشيخ عمر مكرم 320
الشيخ الشرقاوي 322
الشيخ حسن العطار 324
الشيخ محمد عياد الطنطاوي 327
أئمة الأزهر في القديم والحديث 338
بعض الزعماء من الأزهر 401
الأزهر الجامعة الإسلامية الكبرى 403(2/432)
الجزء الثالث
الباب السابع
حول 61903 الأزهر ورسالته
1
كانت الغفوة الكبرى التي أصابت العالم الإسلامي في القرون الوسطى ذات أثر بعيد في حياته السياسية والعقلية والاجتماعية في القرن التاسع عشر.
لم يبعد المسلمون هذه الحقبة الطويلة كثيرا عن تقاليد الشرق، وإنما جافوا روح الإسلام، وجهلوا مبادئه وأهدافه، ووقفوا أمام تيار النهضة الغريبة جاهلين عاجزين أذلاء. وبادرهم المستعمرون بتحطيم ما بقي في أجسامهم من منعة، وفي قلوبهم من إيمان، وفي أرواحهم من عزة ومثل عليا وكانت الأحداث الكبرى التي هزت العالم الإسلامي هزا عنيفا داعية للمفكرين والمصلحين أن يجاهدوا في سبيل البعث والإحياء وتجديد الحياة والأمل في نفوس المسلمين. واقترن ذلك بدعوات جريئة للإصلاح، انبعثت من رجال الدين حينا، ومن غيرهم حينا آخر. من أمثال محمد بن عبد الوهاب م 1206هـ، والسيد أحمد خان الهندي 1898م، والسيد أمير علي، والكواكبي 1902م، وجمال الدين الأفغاني 1897م، ومحمد عبده 1905م، وسواهم من دعاة الإصلاح، وحملة رسالته.
كان السيد جمال الدين الأفغاني يريد تحرير الشعوب الإسلامية من
العبودية والاستعمار، وتكوين حكومة إسلامية موحدة تهتدي بهدى الإسلام، وبعث الروح القومي في الشرق عن طريق الإصلاح الديني العام وكان محمد عبده يريد النهوض بالشرق الإسلامي سياسيا عن طريق النهضة الثقافية به، ويرى أن الإسلام هو السبيل لتمهيد حركة الإصلاح وتغذيتها، وأنه هو والعقل والعلم إخوة، ولذلك دأب على الدعوة إلى تصحيح العقيدة، وإذاعة رسالة الإسلام، وإيقاظ الشعور العام بإيقاظ الروح الديني وخفتت بعد محمد عبده دعوة الإصلاح في الشرق، وإن لمعت جذوتها حينا في أفكار الشيخ مصطفى المراغي، رحمه الله، الذي كان يعمل للنهوض بالأزهر الحديث حتى يصل إلى مستوى الجامعات الكبرى في الشرق والغرب كما أضاءت الشعلة حينا آخر في آراء الشيخ مصطفى عبد الرازق وحمروش وعبد المجيد سليم، الذين كانوا يحرصون على إحياء التعارف والتعاون بين المسلمين عامة. ولكن هذه الآثار لم تكن على جانب خطير من الأهمية في الإصلاح الديني في الشعوب الإسلامية في القرن العشرين.(3/5)
كان السيد جمال الدين الأفغاني يريد تحرير الشعوب الإسلامية من
العبودية والاستعمار، وتكوين حكومة إسلامية موحدة تهتدي بهدى الإسلام، وبعث الروح القومي في الشرق عن طريق الإصلاح الديني العام وكان محمد عبده يريد النهوض بالشرق الإسلامي سياسيا عن طريق النهضة الثقافية به، ويرى أن الإسلام هو السبيل لتمهيد حركة الإصلاح وتغذيتها، وأنه هو والعقل والعلم إخوة، ولذلك دأب على الدعوة إلى تصحيح العقيدة، وإذاعة رسالة الإسلام، وإيقاظ الشعور العام بإيقاظ الروح الديني وخفتت بعد محمد عبده دعوة الإصلاح في الشرق، وإن لمعت جذوتها حينا في أفكار الشيخ مصطفى المراغي، رحمه الله، الذي كان يعمل للنهوض بالأزهر الحديث حتى يصل إلى مستوى الجامعات الكبرى في الشرق والغرب كما أضاءت الشعلة حينا آخر في آراء الشيخ مصطفى عبد الرازق وحمروش وعبد المجيد سليم، الذين كانوا يحرصون على إحياء التعارف والتعاون بين المسلمين عامة. ولكن هذه الآثار لم تكن على جانب خطير من الأهمية في الإصلاح الديني في الشعوب الإسلامية في القرن العشرين.
2 - رسالة الأزهر في رأي المراغي:
رسالة الأزهر عنده هي حمل رسالة الإسلام ومتى عرفت رسالته عرفت رسالة الأزهر. والإسلام دين جاء لتهذيب البشر ورفع مستوى الإنسانية والسمو بالنفوس إلى أرفع درجات العزة والكرامة، طوح الإسلام بالوسطاء بين الناس وربهم، ووصل بين العبد وربه، ولم يجعل لأحد فضلا على أحد إلا بالتقوى، وقد العلم والعلماء، وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات، وما قرره في ذلك هو منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل، وفرض عبادات كلها ترجع إلى تهذيب النفس
وتلطيف الوجدان، وإبان أصول الأخلاق، وقرر التمتع بالطيبات ولم يحرم إلا الخبائث، ووضع حدودا تحد من طغيان النفوس ونزوات الشهوات، ووضع أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين: قواعد كلها لخير البشر وسعادة المجتمع الإنساني هذه صورة مصغرة جدا للدين الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى الأزهر هذه الرسالة على وجهها فقد أدى نصيبا عظيما من السعادة والخير للجمعية الإنسانية. وفي القرآن الكريم حث شديد على العلم، وعلى معرفة الله وعلى تدبر ما في الكون، وليس هناك علم يخرج موضوعه عن الخالق والمخلوق. فالدين الإسلامي يحث على تعلم جميع المعارف الحقة. وليس في المعارف الصحيحة المستقرة شيء يمكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها، نعم قد توجد معارف تناقض ما وضعه العلماء في شرح القرآن والحديث والفقه وغير ذلك، ولكنا لا نهتم لهذا. فليسر العلم في طريقه، ولنصحح معارف الماضين، ولكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني المستقر، ولم يقصد من هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية للكيمياء أو ما يشبه هذا: ولكنه يعني أن هناك علوما ومعارف لها صلة وثيقة بالدين، تعين على فهمه، وتبرهن على صحته، ويدفع بها عنه الشبهات. فهذه العلوم يجب أن يتعلمها العالم الديني أو يتعلم منها القدر الضروري لما يوجه إليه.(3/6)
رسالة الأزهر عنده هي حمل رسالة الإسلام ومتى عرفت رسالته عرفت رسالة الأزهر. والإسلام دين جاء لتهذيب البشر ورفع مستوى الإنسانية والسمو بالنفوس إلى أرفع درجات العزة والكرامة، طوح الإسلام بالوسطاء بين الناس وربهم، ووصل بين العبد وربه، ولم يجعل لأحد فضلا على أحد إلا بالتقوى، وقد العلم والعلماء، وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات، وما قرره في ذلك هو منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل، وفرض عبادات كلها ترجع إلى تهذيب النفس
وتلطيف الوجدان، وإبان أصول الأخلاق، وقرر التمتع بالطيبات ولم يحرم إلا الخبائث، ووضع حدودا تحد من طغيان النفوس ونزوات الشهوات، ووضع أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين: قواعد كلها لخير البشر وسعادة المجتمع الإنساني هذه صورة مصغرة جدا للدين الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى الأزهر هذه الرسالة على وجهها فقد أدى نصيبا عظيما من السعادة والخير للجمعية الإنسانية. وفي القرآن الكريم حث شديد على العلم، وعلى معرفة الله وعلى تدبر ما في الكون، وليس هناك علم يخرج موضوعه عن الخالق والمخلوق. فالدين الإسلامي يحث على تعلم جميع المعارف الحقة. وليس في المعارف الصحيحة المستقرة شيء يمكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها، نعم قد توجد معارف تناقض ما وضعه العلماء في شرح القرآن والحديث والفقه وغير ذلك، ولكنا لا نهتم لهذا. فليسر العلم في طريقه، ولنصحح معارف الماضين، ولكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني المستقر، ولم يقصد من هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية للكيمياء أو ما يشبه هذا: ولكنه يعني أن هناك علوما ومعارف لها صلة وثيقة بالدين، تعين على فهمه، وتبرهن على صحته، ويدفع بها عنه الشبهات. فهذه العلوم يجب أن يتعلمها العالم الديني أو يتعلم منها القدر الضروري لما يوجه إليه.
وقد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها ضروريا لنشرها وترغيب الناس فيها. ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة الحديثة، فقارنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب النفوس إليها، وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر النفس منها. وقد توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفا وأكثر قيمة وأمتن مادة، ومع ذلك فهي في كساد، وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي عنه الملل والسأم، حدثت هذه الطرق في إلقاء
الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب أيضا، وهذا المثل ينطبق علينا، ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي جميع العلوم التي تدرس في الأزهر، أعلاق نفيسة لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس الآن من غير حرج، وهي تحقق العدالة في أكمل صورها. ولكن هذه النظريات البالغة منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم.(3/7)
وقد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها ضروريا لنشرها وترغيب الناس فيها. ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة الحديثة، فقارنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب النفوس إليها، وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر النفس منها. وقد توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفا وأكثر قيمة وأمتن مادة، ومع ذلك فهي في كساد، وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي عنه الملل والسأم، حدثت هذه الطرق في إلقاء
الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب أيضا، وهذا المثل ينطبق علينا، ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي جميع العلوم التي تدرس في الأزهر، أعلاق نفيسة لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس الآن من غير حرج، وهي تحقق العدالة في أكمل صورها. ولكن هذه النظريات البالغة منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم.
على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس، وأن ييسر لهم هذه المعارف، وأن يعرضها عرضا حديثا جذابا مشوقا، ومسألة أخرى يجب أن يعني الأزهر بها: هي تطهير الدين الإسلامي من البدع، وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده، فهناك آراء منثورة في كتب المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها ضنا بكرامة الفقه والدين.
من الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها، وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب الولاة والقضاة للكندي: «كان في مصر قاض شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي. وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب. وكان مرضى الأحكام لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه، سأل ذلك القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الوقعات. فقال الطحاوي: أتسألني عن رأيي أم عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي: ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي: ظننتك تحسبني مقلدا. فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟»، فتخير الأحكام نوع من الاجتهاد، ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه، فإصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم
الإسلامية على مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن نرجو الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في ذلك إخلاصا لله ولرسوله وللمؤمنين وللدين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر ونصيحة أقدمها إلى العلماء وطلاب العلم في الأزهر راجيا تدبرها، وهي احترام حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر، ولا نطالب بشيء يعد بدعة، ولا نحدث في الدين حدثا بهذه النصيحة، فهي موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأمة رضى الله عنهم. وترونها مبسوطة واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي، وحاصلها على ما أذكر أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها كالصلاة والزكاة وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا، أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقا، على شرط أن يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع.(3/8)
من الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها، وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب الولاة والقضاة للكندي: «كان في مصر قاض شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي. وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب. وكان مرضى الأحكام لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه، سأل ذلك القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الوقعات. فقال الطحاوي: أتسألني عن رأيي أم عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي: ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي: ظننتك تحسبني مقلدا. فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟»، فتخير الأحكام نوع من الاجتهاد، ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه، فإصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم
الإسلامية على مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن نرجو الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في ذلك إخلاصا لله ولرسوله وللمؤمنين وللدين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر ونصيحة أقدمها إلى العلماء وطلاب العلم في الأزهر راجيا تدبرها، وهي احترام حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر، ولا نطالب بشيء يعد بدعة، ولا نحدث في الدين حدثا بهذه النصيحة، فهي موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأمة رضى الله عنهم. وترونها مبسوطة واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي، وحاصلها على ما أذكر أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها كالصلاة والزكاة وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا، أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقا، على شرط أن يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع.
على هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه الأئمة، ولم يعرف أن بعضهم أثم بعضا، وعلى الجملة فما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئا منه، ولا يكذب ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم بطريق قاطعة، فهو مسلم لا يحل لأحد أن يتهمه بالكفر عرضنا لهذه النصيحة لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس، والعمل بها يمّكن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة، والعمل على خلافها منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة.
وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم، فمن أول واجب على أهله أن يعدوا أنفسهم لتعلم اللغات، لغات الأمم الإسلامية وغير الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم، فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلا يفقهونهم في دينهم بلسانهم وقد عنى
المراغي بهذه المسألة كما عنى بتثقيف إخواننا الذين أسماهم القانون «أغرابا»، فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، ونرجو أن يفكروا طويلا فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع.(3/9)
وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم، فمن أول واجب على أهله أن يعدوا أنفسهم لتعلم اللغات، لغات الأمم الإسلامية وغير الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم، فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلا يفقهونهم في دينهم بلسانهم وقد عنى
المراغي بهذه المسألة كما عنى بتثقيف إخواننا الذين أسماهم القانون «أغرابا»، فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، ونرجو أن يفكروا طويلا فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع.
3
وكان الشيخ عبد المجيد سليم يرى وهو في أول مشيخته الأولى اقتران الإصلاح الديني في العالم الإسلامي بإصلاح الأزهر الشريف.
ومهمة الأزهر في رأيه جد خطيرة، فهي تشتمل: «تعليم أبناء الأمة الإسلامية دينهم ولغة كتابهم، تعليما قويا مثمرا، يجعلهم حملة للشريعة، أئمة في الدين واللغة، حفّاظا حرّاسا لكتاب الله وسنة رسوله وتراث السلف الصالح والقيام بما أوجبه الله على الأمة من تبليغ دعوته، وإقامة حجته، ونشر دينه فعلى رعاية هذين الجانبين يجب أن تقوم خطة الإصلاح في الأزهر، وأن يعمل العاملون على تحقيق آمال الأمة فيه (1)».
ووسائل إصلاح هذه الجامعة الإسلامية العتيدة تتلخص في رأيه فيما يلي:
1 - مراجعة الكتب الدراسية، وإبقاء الصالح منها، واختيار لون جديد يوجه الطلاب توجيها حسنا إلى العلم النافع من أقرب طريق وأيسره.
2 - تشجيع حركة التأليف والتجديد عن طريق الجوائز العلمية وغيرها حتى يتصل حبل العلم وتوجيه العلماء إلى وضع بحوث في الفقه والتشريع تساير الروح العلمي الحاضر.
3 - إعداد جيل قوي من أبناء الأزهر يستطيع أن يحمل الرسالة، فإن
__________
(1) من حديث له في المؤتمر الصحفي بإدارة الأزهر في أول نوفمبر عام 1950.(3/10)
الأمة تريد من الأزهر أن يخرج لها علماء في الدين والشريعة واللغة وسائر العلوم العقلية والاجتماعية المتصلة بها، على أن يكون هؤلاء العلماء مزودين مع هذا بقدر صالح من العلوم الأخرى التي تفيدهم في مجتمعهم ثقافة عامة، وفي هذا يقول أيضا موجها كلمته إلى الأزهريين: نصيحتي إليكم أن تعلموا أنكم مجندون في سبيل الله، فأقبلوا على دراستكم، وتجملوا بالفضيلة بينكم وبين الناس، لتحقيق آمال الأمة فيكم، وإعلاء كلمة الدين والعلم بكم (1).
4 - تشجيع حركة البعوث العلمية التي يرسلها الأزهر إلى جامعات أوروبا للتزود من شتى الثقات ولا بدع فإن العلم رحم «بين الناس كافة» كما يقول الأستاذ سليم لعلماء جامعات أوروبا الذين زاروا مكتبه في زيارتهم للأزهر الشريف.
5 - تنظيم هذه الجامعة الكبرى تنظيما يتفق مع خطر رسالتها، ويساعدها على أداء هذه الرسالة، بإنشاء مكتبة كبرى، ودار كبيرة للطباعة، وإكمال مباني الأزهر الجامعي، تمهيدا للاحتفال بعيده الألفي، إلى غير ذلك من وسائل الإصلاح:
أما مهمة الأزهر في سبيل الإصلاح الديني في مصر والشرق الإسلامي فتتلخص فيما يلي:
1 - العناية بإصلاح حالة الأسر بإصلاح شئونها، ودعم كيانها، عن طريق بحث التشريعات اللازمة لها: في الزواج، والطلاق، والنفقة، والحضانة، والولاية، وما إليها (2).
2 - نشر الدين والثقافة في كل ناحية.
__________
(1) من كلمة أذاعها في أول العام الهجري 1370هـ.
(2) من حديث له نشر في الأهرام في 19501028.(3/11)
3 - إرسال البعوث الأزهرية إلى شتى أرجاء البلاد الإسلامية لدراسة أحوالها وتهذيب أبنائها.
4 - تشجيع البعوث الوافدة على الأزهر، وبناء دار كبرى لإقامتهم، ورعاية شئونهم العلمية والخلقية والدينية.
5 - ربط الأزهر بشتى الجامعات الشرقية، وإنشاء مراكز ثقافية له في عواصم البلاد الإسلامية.
وأما مهمة الأزهر في الدعوة إلى الدين في العالم، فهي كما يرى تشمل ما يأتي:
1 - توجيه العلماء إلى وضع مؤلفات باللغات الأجنبية، لبيان حقيقة الإسلام ومزاياه.
2 - إنشاء إدارة للدعاية الإسلامية، تتولى توجيه الناس إلى الإسلام ومبادئه الخالدة.
3 - ترجمة تفسير القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية.
4
ويرى الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش أن رسالة الأزهر تقوم على دعامة التوجيه العلمي لنظم الدراسة فيه، لتكوين جيل قوي كفء من أبنائه يتحلى بصفات العلماء، ومواهب وأخلاق رجال الدين، دون نظرة إلى الكثرة والعدد، وأن هذا الجيل القوي يستطيع أن يؤدي رسالة الأزهر العلمية والدينية في مصر والشرق الإسلامي، وقد بدأ الشيخ في مشيخته بالتفكير في طبع رسائل للتعريف بالدين بشتى اللغات، وبفتح القاعة الكبرى للأزهر لمحاضرات علمية وتوجيهية يلقيها كبار شيوخ الأزهر.(3/12)
وقد نشر الأستاذ الكبير الشيخ محمد عرفة عضو جماعة كبار العلماء كتابا عنوانه «رسالة الأزهر في القرن العشرين»، ذهب فيه إلى أن رسالة الأزهر هي أن يفهم الناس الدين على وجهه وأن ننقيه من التفسيرات الخاطئة التي دخلت عليه، وفوق ذلك عليه أن يعني بأخلاق الأمة وتقاليدها.
وقد أخذ الأستاذ على الأزهر أن التعليم في الأزهر لم يعن بالخلق كما يجب، وأن الإقبال على العلم بين جدرانه أصبح ضعيفا، وأن المادية قد دخلت فيه وأفسدت الكثير من حياته.
وإبان أن ثقة الأمة في الأزهر تضعف شيئا لعوامل كثيرة: منها قلة الإنتاج العلمي في محيطه، وانقلاب الأزهريين إلى موظفين لا غير، وضعف نفسية الأزهري وثقافته وأفق تفكيره، وعدم وجود بيئة صالحة في وسط الأزهر.
كما ترجع إلى الفساد الذي استشرى في الأزهر من الناحية الإدارية وغيرها، وإلى بعد الأزهر عن الحياة العامة، وإلى عدم انتظام الأمور فيه في الكثير، وانعدام تنفيذ قوانين الأزهر، وعدم أخذ الأمور بالحزم، والسياسة الحزبية التي تفسد على الأزهر كل شيء، وتدخل في وسطه للهدم والتدمير.
6
وفي عام 1362هـ 1944ألقى الأستاذ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء محاضرة في دار كلية الشريعة عنوانها «السياسة التوجيهية العلمية في الأزهر» تتصل برسالة الأزهر، وجاء فيها:
الغرض من الجامع الأزهر، كما جاء في المادة الأولى من القانون
رقم 26لسنة 1936بإعادة تنظيم الجامع الأزهر، وهو آخر تعديل لهذا التنظيم:(3/13)
الغرض من الجامع الأزهر، كما جاء في المادة الأولى من القانون
رقم 26لسنة 1936بإعادة تنظيم الجامع الأزهر، وهو آخر تعديل لهذا التنظيم:
1 - القيام على حفظ الشريعة الغراء: أصولها، وفروعها، واللغة العربية، وعلى نشرهما.
2 - تخريج علماء يوكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة في مختلف المعاهد والمدارس ويلون الوظائف الشرعية في الدولة.
وهذا هو الغرض من الجامع الأزهر، لا من تاريخ هذا القانون فقط، ولا من تاريخ أول قانون وضع لتنظيم الأزهر، ولكنه غرضه من يوم أن انسلخت عن الأزهر الصبغة الشيعية التي أنشىء لتركيزها وتنميتها والقضاء بها على المذاهب الأخرى. من يوم أن تولى الظاهر بيبرس ملك مصر سنة 658هجرية، وأعاد إلى الأزهر حياته العلمية التي أبطلها صلاح الدين الأيوبي عملا منه على إزالة كل أثر للفاطميين، فمن ذلك الحين فقط تبتدىء حياة الأزهر العلمية التي لا تتقيد برأي ولا مذهب، ولا تقتصر على علم من العلوم، فقد درست فيه جميع العلوم الشرعية على اختلاف المذاهب والأصول، ودرست فيه علوم اللغة العربية بجميع مذاهبها وآرائها، ودرست فيه آراء علماء العقيدة لا فرق بين فرقة وفرقة، كما درس فيه كثير من العلوم الرياضية والعقلية، مما رأى سلفنا أن له نفعا في تكوين الفكرة الإسلامية، وخدمة الشريعة والعقلية، مما رأى سلفنا أن له نفعا في تكوين الفكرة الإسلامية، وخدمة الشريعة واللغة، كان هذا هو الغرض من الجامع الأزهر منذ ذلك الحين، ولم يكن موزعا على طلاب العلم بحيث يختص كل فريق منهم بناحية معينة على نحو ما نرى اليوم، بل كان جميع طلابه ينهلون من جميع علومه، لا اختصاص لأحد بعلم، إلا ما كان عن طريق الاستعداد الفطري، والميل النفسي، وقد مرت بالأزهر أطوار مختلفة، كان فيها بين الصحة والمرض، والتقدم والتأخر، والنهوض
والتقاعد، والإنتاج والعقم، ولسنا بصدد الكلام عن هذه الأطوار التي طواها التاريخ بما لها أو عليها، ولكن مما يهمنا في هذا الحديث، أن نعرف أن هذه الأطوار ختمت بعهد تجمعت فيه علل ماض طويل، وأخذت تعمل عملها في صرف الأزهر عن التفكير والإنتاج، وعن كل نافع من العلوم العقلية والكونية، وانتهت مظاهر العلم والتفكير فيه إلى أن تغلبت المبادىء الآتية:(3/14)
وهذا هو الغرض من الجامع الأزهر، لا من تاريخ هذا القانون فقط، ولا من تاريخ أول قانون وضع لتنظيم الأزهر، ولكنه غرضه من يوم أن انسلخت عن الأزهر الصبغة الشيعية التي أنشىء لتركيزها وتنميتها والقضاء بها على المذاهب الأخرى. من يوم أن تولى الظاهر بيبرس ملك مصر سنة 658هجرية، وأعاد إلى الأزهر حياته العلمية التي أبطلها صلاح الدين الأيوبي عملا منه على إزالة كل أثر للفاطميين، فمن ذلك الحين فقط تبتدىء حياة الأزهر العلمية التي لا تتقيد برأي ولا مذهب، ولا تقتصر على علم من العلوم، فقد درست فيه جميع العلوم الشرعية على اختلاف المذاهب والأصول، ودرست فيه علوم اللغة العربية بجميع مذاهبها وآرائها، ودرست فيه آراء علماء العقيدة لا فرق بين فرقة وفرقة، كما درس فيه كثير من العلوم الرياضية والعقلية، مما رأى سلفنا أن له نفعا في تكوين الفكرة الإسلامية، وخدمة الشريعة والعقلية، مما رأى سلفنا أن له نفعا في تكوين الفكرة الإسلامية، وخدمة الشريعة واللغة، كان هذا هو الغرض من الجامع الأزهر منذ ذلك الحين، ولم يكن موزعا على طلاب العلم بحيث يختص كل فريق منهم بناحية معينة على نحو ما نرى اليوم، بل كان جميع طلابه ينهلون من جميع علومه، لا اختصاص لأحد بعلم، إلا ما كان عن طريق الاستعداد الفطري، والميل النفسي، وقد مرت بالأزهر أطوار مختلفة، كان فيها بين الصحة والمرض، والتقدم والتأخر، والنهوض
والتقاعد، والإنتاج والعقم، ولسنا بصدد الكلام عن هذه الأطوار التي طواها التاريخ بما لها أو عليها، ولكن مما يهمنا في هذا الحديث، أن نعرف أن هذه الأطوار ختمت بعهد تجمعت فيه علل ماض طويل، وأخذت تعمل عملها في صرف الأزهر عن التفكير والإنتاج، وعن كل نافع من العلوم العقلية والكونية، وانتهت مظاهر العلم والتفكير فيه إلى أن تغلبت المبادىء الآتية:
1 - تغلبت العناية بالمناقشات اللفظية، وتتبع كلمات المؤلفين في المصنفات والشروح والحواشي والتقارير على الروح العلمية الموضوعية التي من شأنها أن تخدم الفكرة، بقطع النظر عما يتصل بها من لفظ وعبارات.
2 - تغلبت روح التقديس للآراء والأفهام التي دونها السابقون، والسمو بها على مستوى النقد، وعدم الاكتراث بما قد يظهر من آراء جديدة، ولو كان لها من السداد والقوة ما لها.
3 - تغلبت نزعة الإشتغال بالفروض والاحتمالات العقلية التي لا تقع وما يتصل بها من أحكام، فتراهم يقولون: لو طلقها نصف تطليقة أو ربع تطليقة، ولو قال لها أنت طالق إن شئت، فقالت له: شئت إن شئت، وتراهم يقولون: لو تزوج جنية، فالحكم في النسب والميراث كذا
ولقد أكثروا من هذا في العبادات والمعاملات، وأنفقوا فيه من الوقت والتفكير ما كان جديرا بهم أن يدخروه للنافع المفيد، ووصل الأمر في ذلك إلى أن الكمال بن الهمام وهو من أفذاذ علماء القرن التاسع يقول: ومن مسائل قبل وبعد ما قيل منظوما.
رجل علق الطلاق بشهر ... قبل ما بعد قبله رمضان
ثم يندفع في تخريج هذا الفرض وبيان حكمه، ثم يأتي بعده ابن نجيم الحنفي صاحب البحر والأشباه فيتولى الشرح والبيان والتكميل
ويقول: «إن هذا البيت يمكن إنشاده على ثمانية أوجه، الخ.(3/15)
رجل علق الطلاق بشهر ... قبل ما بعد قبله رمضان
ثم يندفع في تخريج هذا الفرض وبيان حكمه، ثم يأتي بعده ابن نجيم الحنفي صاحب البحر والأشباه فيتولى الشرح والبيان والتكميل
ويقول: «إن هذا البيت يمكن إنشاده على ثمانية أوجه، الخ.
ويشاركه في ذلك علماء عصره ثم يأتي من بعدهم ابن عابدين من علماء القرن الثالث عشر فيضع رسالة في هذا الفرض تحت عنوان «إتحاف الذكي النبيه، بجواب ما يقول الفقيه»، يشرح فيها أبياتا أولها:
ما يقول الفقيه أيده الل ... هـ ما ولا زال عنده الاحسان
في فتى علق الطلاق بشهر ... قبل ما بعده قبله رمضان
ويورد في الرسالة آراء جميع من تقدمه من العلماء في الشرح والحكم، ولا بد أن يجعل الجواب نظما كالسؤال، وهكذا اشتغل المتأخرون بمثل هذه الفروض وأعرضوا بها عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم وقضيتهم.
4 - تغلبت نزعة الاشتغال باختراع الحيل التي يتخلص بها من الحكم الشرعي، ولقد تناولت هذه الحيل كثيرا من أبواب الفقه، ولم تقف عند الحد الذي أثر عن الأئمة من جعلها وسيلة للتخلص من ضرر أو مكروه، بل افترضوا حيلا يسقطون بها الواجبات، ويفسدون بها الالتزامات، فتجد حيلا لإسقاط الزكاة وحيلا لإسقاط حق الشفعة، وحيلا لإسقاط عدة المطلقة، وحيلا لإسقاط الحدود وهكذا مما لا يتفق ومقاصد الشريعة ولقد أطنب ابن القيم أحد أفذاذ علماء القرن الثامن في كتابيه «أعلام الموقعين، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» في الرد على فكرة الاحتيال على هذا النحو، وبين أنها مضادة لروح التشريع، وقال: «إن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ونسبوها إليهم وهم مخطئون»، وإذا علمنا أن العناية بالاحتيال الفقهي وصل أمرها إلى أن جعلوه فنا من كتبهم، وبابا من أبوابها، لأخذ منا العجب مأخذه، فهذا ابن نجيم من علماء القرن العاشر يضع عنوانا في كتابه (الأشباه والنظائر) فيقول «الفن الخامس من الأشباه والنظائر وهو فن الجبل».(3/16)
5 - تغلبت روح التعصب المذهبي الشديد، حتى وصل الأمر في ذلك بين أتباع الأئمة إلى المناقشة في صحة الاقتداء بالمخالف في المذهب، وأخذت هذه المسألة في كل مذهب مجالا واسعا في البحث والتفريع، ووصل الأمر أيضا إلى البحث عن حكم التزوج من الشافعية، فترى الكمال بن الهمام وهو في الكلام على حكم التزوج بالوثنيات ينقل عن أحد علماء الحنفية: أنه لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال، ثم يقول بعد هذا النقل: «ومقتضاه منع مناكحة الشافعية»، واختلف فيها هكذا: قيل يجوز، وقيل يتزوج بنتهم ولا يزوجهم بنته». وترى أثر هذه النزعة في حكم الحاكم بحل متروك التسمية عمدا، وفي حكم العقد الذي يشترط فيه بعض المذاهب ما لا يشترط البعض الآخر وهكذا وصل التعصب المذهبي إلى مثل هذا الحد، وصارت المذاهب بين المسلمين وبين أبناء الأزهر أديانا يتقاتل أهلها، ويضلل بعضهم بعضا، وهي لا تخرج عن أنها آراء وأفهام حذر أئمتها الأولون من تقليدها والعمل بها دون الاطمئنان إليها بمعرفة الحجة والبرهان.
6 - تغلبت الفكرة القائلة بتحريم تقليد غير المذاهب الأربعة، فحجروا واسعا، ومنعوا رحمة اختص الله بها هذه الأمة، ولقد ظهرت هذه الفكرة على وجه أوضح منذ عهد قريب، يوم وضع الأستاذ الشيخ المراغي، مشروع الزواج والطلاق، فقام ثلاثة من علماء الأزهر بعمل مذكرة تناهض هذا المشروع، وتبني مناهضتها على أنه لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة فكتب المراغي مذكرة قيمة، لها خطرها في التوجيه الفقهي والتشريعي، بين فيها كثيرا من مسائل الاجتهاد والتقليد، كما بين آراء العلماء في تأثر الفقه بالعرف والعادة، ويجدر بنا في هذا المقام أن نعلم أن العلماء الذين تناولوا هذه المسألة قديما واستساغوا أن يحكموا بمنع تقليد غير الأربعة لم ينظروا إلى خصوصية في ذات المذاهب الاربعة، وإنما جعلوا مناط التقليد على وجه العموم الثقة بالمذهب الذي يقلد، واطمئنان النفس إلى صحة النقل
عنه، فمن ثبت عنده رأي من آراء الأئمة أو الصحابة جاز له تقليده والعمل بمقتضاه، لا فرق بين إمام وإمام، ولا بين الأربعة وغيرهم، ولهذا يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام «لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده، وفاقا، وإلا فلا»، ويقول أيضا «إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله»، ومن هنا يقول القرافي: «انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهما من غير نكير، فمن ادعى دفع هذين الإجماعين فعليه الدليل» أه، هذا هو أصل الفكرة فانظروا كيف حرفت وجعل التقليد خاصا بالمذاهب الأربعة، بل جعل واجبا يذكر تبيين ما يجب على المكلف أن يدين به ويعتقده، فيقول بعض المؤلفين في منظومته: «وواجب تقليد حبر منهم».(3/17)
6 - تغلبت الفكرة القائلة بتحريم تقليد غير المذاهب الأربعة، فحجروا واسعا، ومنعوا رحمة اختص الله بها هذه الأمة، ولقد ظهرت هذه الفكرة على وجه أوضح منذ عهد قريب، يوم وضع الأستاذ الشيخ المراغي، مشروع الزواج والطلاق، فقام ثلاثة من علماء الأزهر بعمل مذكرة تناهض هذا المشروع، وتبني مناهضتها على أنه لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة فكتب المراغي مذكرة قيمة، لها خطرها في التوجيه الفقهي والتشريعي، بين فيها كثيرا من مسائل الاجتهاد والتقليد، كما بين آراء العلماء في تأثر الفقه بالعرف والعادة، ويجدر بنا في هذا المقام أن نعلم أن العلماء الذين تناولوا هذه المسألة قديما واستساغوا أن يحكموا بمنع تقليد غير الأربعة لم ينظروا إلى خصوصية في ذات المذاهب الاربعة، وإنما جعلوا مناط التقليد على وجه العموم الثقة بالمذهب الذي يقلد، واطمئنان النفس إلى صحة النقل
عنه، فمن ثبت عنده رأي من آراء الأئمة أو الصحابة جاز له تقليده والعمل بمقتضاه، لا فرق بين إمام وإمام، ولا بين الأربعة وغيرهم، ولهذا يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام «لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده، وفاقا، وإلا فلا»، ويقول أيضا «إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله»، ومن هنا يقول القرافي: «انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهما من غير نكير، فمن ادعى دفع هذين الإجماعين فعليه الدليل» أه، هذا هو أصل الفكرة فانظروا كيف حرفت وجعل التقليد خاصا بالمذاهب الأربعة، بل جعل واجبا يذكر تبيين ما يجب على المكلف أن يدين به ويعتقده، فيقول بعض المؤلفين في منظومته: «وواجب تقليد حبر منهم».
ورث الأزهر أيضا فكرة أن من قلد إماما من الأئمة الأربعة فليس له أن يحيد عنه، بل يجب عليه أن يلتزمه بدون حجة ولا بحث وراء دليل، ولا يصح أن يقلد غيره ولو في غير ما قلده فيه، ومذكرة الثلاثة التي أشرنا إليها قد تأثرت بهذه الفكرة أيضا فأوجبت على القاضي أن يحكم بمذهبه، وحظرت عليه أن يحكم بغيره، وذلك على الرغم من أن علماء الأصول يقولون في هذه المسألة «والأصح أنه لا يلزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة فيقلده في دينه وفي كل ما يأتي ويذر دون غيره».
ورث الأزهر أيضا القول بحرمة تتبع رخص المذاهب حتى جعلوا عدم تتبع ذلك شرطا في صحة تقليد غير الإمام، وصاحب التحرير يقول أيضا في هذه المسألة: «ولا يمنع منه مانع شرعي» إذ للإنسان أن يسلك الأخف
عليه إذا كان له إليه سبيل، ولا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما يخف على أمته».(3/18)
ورث الأزهر أيضا القول بحرمة تتبع رخص المذاهب حتى جعلوا عدم تتبع ذلك شرطا في صحة تقليد غير الإمام، وصاحب التحرير يقول أيضا في هذه المسألة: «ولا يمنع منه مانع شرعي» إذ للإنسان أن يسلك الأخف
عليه إذا كان له إليه سبيل، ولا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما يخف على أمته».
وورث الأزهر فكرة كان لها أثر خطير في انحرافه عن سبيل التفكير الصحيح وتقدير الآراء بقيمتها العلمية: هي خطة المعاداة لطائفة من العلماء نضجت عقولهم وأدركوا أسرار الشريعة، وخالفوا الناس في كثير مما درجوا عليه، وتحرروا من الإغلال التي قيد المقلدون بها أنفسهم، حكم الأزهر عليهم بأحكام جائرة، وشكك في تدينهم وإخلاصهم وآرائهم، وشوهوا في الكتب وعلى ألسنة الدعاة بغير حق، وجعل ذلك سبيلا إلى رفض العمل بآرائهم، وعدم الاعتداد بأفكارهم فصرفت الأنظار عنهم، وصرنا نسمع من أسباب رفض الرأي: هذا رأي ابن تيمية، وابن تيمية ضال مضل، وهذا قول ابن القيم تلميذه، كما يقال: هذا رأي الزمخشري وهو معتزلي، أو ابن رشد وهو فيلسوف وهكذا، كأن هؤلاء ليسوا من أهل العلم، ولا من رجال البحث أو كأن الحق وقف على طائفة من الناس لا يعدوها
وأخيرا ورث الأزهر في ذلك العهد: القول بتحريم الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية وأخذ يحارب المشتغلين بها جيلا من الزمن، ولعل من الطريق في ذلك أن نشير إلى الاستفتاء الذي تقدم به بعض الناس إلى الشيخ الانبابي شيخ الجامع الأزهر، وإلى مفتي الديار المصرية الشيخ محمد البنا سنة 1305هـ يسألون فيه: هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية، مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وغيرها من سائر المعارف؟ وهل يجوز قراءتها كما تقرأ العلوم الآلية من نحو وغيره في الجامع الأزهر؟
هذه هي التركة المثقلة التي خلقتها العصور المظلمة، واحتملها الأزهر في طور مرضه الشديد كعقائد دينية، وواجبات يرى أن يتمسك بها
وأن يذود عنها، وأن يرمي خارج محيطه بمن يفكر في التحلل منها، ولقد كانت النتيجة الحتمية لهذا الميراث الثقيل أن وقفت حركة التفكير العلمي في الأزهر، وحرم نفسه لذة البحث والنقد، وانحصرت مظاهر التبريز والنبوغ فيه في القدرة على حل المشاكل اللفظية في المتون والشروح والحواشي التي تعود على العلم بكبير فائدة، وبهذا انقطعت علاقة الأزهر بالأمة في تفكيره وعلومه وتشريعه، وأصبحت النظرات المتبادلة بينهما كالنظرات المتبادلة بين طائفتين ضاقت كل منهما ذرعا بصاحبتها، وأخذت تتربص بها الأحداث والدوائر.(3/19)
هذه هي التركة المثقلة التي خلقتها العصور المظلمة، واحتملها الأزهر في طور مرضه الشديد كعقائد دينية، وواجبات يرى أن يتمسك بها
وأن يذود عنها، وأن يرمي خارج محيطه بمن يفكر في التحلل منها، ولقد كانت النتيجة الحتمية لهذا الميراث الثقيل أن وقفت حركة التفكير العلمي في الأزهر، وحرم نفسه لذة البحث والنقد، وانحصرت مظاهر التبريز والنبوغ فيه في القدرة على حل المشاكل اللفظية في المتون والشروح والحواشي التي تعود على العلم بكبير فائدة، وبهذا انقطعت علاقة الأزهر بالأمة في تفكيره وعلومه وتشريعه، وأصبحت النظرات المتبادلة بينهما كالنظرات المتبادلة بين طائفتين ضاقت كل منهما ذرعا بصاحبتها، وأخذت تتربص بها الأحداث والدوائر.
ظل الأزهر كذلك حتى هيأ الله له على سنة الله سبحانه: من عدم إخلاء الأمم ممن يعرف الحق ويدعو إليه واحدا من أبنائه لا ينسى التاريخ فضله، هو الاستاذ الإمام المصلح له الشيخ محمد عبده رحمه الله ورضي عنه. صاح بالأزهر صيحة أيقظته من نومه، ونبهته بعض الشيء إلى واجبه، وكانت مبادئه وأفكاره بمثابة شعاع انبثق في أفق الأزهر، انتفع به من انتفع، وأزور عنه من أزور، ولكنه مع ما قوبل به من محاولات متعددة لإطفائه، ظل قويا وهاجا يجذب إليه أنظار المؤمنين، وينفذ إلى بصائر المخلصين، ويعلو ويتسع أنفه شيئا بعد شيء. ومنذ ذلك الحين اتجهت الأنظار إلى وضع نظم من شأنها أن تمكن الأزهر من الانتفاع بهذا النور، والسير على هداه حتى يقوم برسالته، ويصل إلى غرضه المنشود، فوضعت نظم متلاحقة متشابهة ضمت إلى العلوم الشرعية والعربية كثيرا من العلوم العقلية والرياضية فاتسع لها صدر الأزهر، وهضمتها عقليته الجديدة.
والأزهر الآن في كلياته ومعاهدة والقضاء الشرعي والإفتاء، والوعظ والإرشاد في المساجد وغيرها، كل أولئك ينتفعون بطائفة كبيرة من العلماء الذين تخرجوا في ظلال هذه النظم، لهم أثر واضح في حياة الأمة من جميع نواحيها، واستمر الأزهر كذلك إلى أن تولى مشيخة الأزهر للمرة الأولى الشيخ محمد مصطفى المراغي، وهو من أبناء الأزهر الذين عرفوا تاريخه
وأدركوا علله وأمراضه، وهو إلى جانب ذلك تلميذ بروحه وعلمه وعقله وتفكيره للأستاذ الإمام عبده، فوضع مذكرته التي تصف علل الأزهر وأداواءه وتصف الدواء الناجح لهذه العلل.(3/20)
والأزهر الآن في كلياته ومعاهدة والقضاء الشرعي والإفتاء، والوعظ والإرشاد في المساجد وغيرها، كل أولئك ينتفعون بطائفة كبيرة من العلماء الذين تخرجوا في ظلال هذه النظم، لهم أثر واضح في حياة الأمة من جميع نواحيها، واستمر الأزهر كذلك إلى أن تولى مشيخة الأزهر للمرة الأولى الشيخ محمد مصطفى المراغي، وهو من أبناء الأزهر الذين عرفوا تاريخه
وأدركوا علله وأمراضه، وهو إلى جانب ذلك تلميذ بروحه وعلمه وعقله وتفكيره للأستاذ الإمام عبده، فوضع مذكرته التي تصف علل الأزهر وأداواءه وتصف الدواء الناجح لهذه العلل.
«ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة، وظنوا أن لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه، ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم، وابتعدوا عن الناس فجهلوا الحياة وجهلهم الناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة، وطرق البحث الحديث، وجهلوا ما جد في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنهم، ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة، وبلا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين». ويقول في شأن النظم المتقدمة: «وإني أقرر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم، وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه، وقد صار من الحتم لحماية الدين، لا لحماية الأزهر، أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة، يقصد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ، فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة».
ويقول في وصف الكتب: «هي كتب معقدة لها طريقة خاصة في التأليف، لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية، وإنما يفهمها من مارسها ومرن على فهمها، وعرف إصلاح مؤلفتها». ويقول فيما يختص بدراسة الفقه:
«يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة، والأحكام المجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها
ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم المختلفة، كما كان يفعل السلف من الفقهاء». ويقول فيما يختص بدراسة التفسير والحديث:(3/21)
«يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة، والأحكام المجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها
ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم المختلفة، كما كان يفعل السلف من الفقهاء». ويقول فيما يختص بدراسة التفسير والحديث:
«يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة، وأن تدرس السنة دراسة جيدة، وأن يفهمها على وفق ما تتطلبه اللغة العربية، وعلى وفق قواعد العلم الصحيحة، وأن يبتعد في تفسيرهما عن كل ما أظهر العلم بطلانه، وعن كل ما لا يتفق وقواعد اللغة العربية».
هذه هي مذكرة المراغي التي جعلها دستوره في الإصلاح، والتي علقت عليه الأمة من أجلها آمالها في إعلاء شأن الدين وانهاض أهله، وقد رأى تنفيذا لأغراض هذه المذكرة الإصلاحية، توزيع التعليم العالي في الأزهر على شعب ثلاث: شعبة للتفسير والتوحيد وتعرف باسم كلية أصول الدين، وشعبة للغة العربية وتعرف باسم كلية اللغة العربية، وشعبة للفقه والأصول وتعرف باسم كلية الشريعة. تنوع التعليم العالي إلى هذه الكليات الثلاث، ووضعت مناهج لكل كلية تبين علومها الأساسية والإضافية، وجعل وراء ذلك تخصصات «وإجازات» موزعة على هذه الكليات الثلاث.
7
ويرى الدكتور محمد عبد الله دراز: أن أبدع طابع تمتاز به الجامعة الأزهرية، ليس هو أنها قد جمعت في تعليمها بين هذين العنصرين الروحي والزمني، اللذين نراهما منفصلين في سائر الجامعات، بل ميزتها الكبرى هي أن الميدان الذي تتدفق فيه حيوتها يتجاوز كل حدود التعليم والتثقيف، ويرتقي إلى دور من أهم الأدوار في توجيه حياة الجماعة. إن رسالة الأزهر على الجملة، إنما هي امتداد لرسالة الإسلام، ألا وإن الإسلام ليس مجموعة مبادىء نظرية تغرس في الأذهان فحسب، وإنما هو قوة دافعة خلاقة، غايتها أن تنظم السلوك الإنساني تنظيما فعليا، طبقا لاسمي المثل وأسلسها قيادا على التنفيذ العملي. فليس يكفيه إذا أن يبين هذه المبادىء
دون أن يسهر على تطبيقها وهذا التطبيق لا يخص سلوك الفرد في نفسه، أو في أماكن عبادته وكفى، لأن قانون الإسلام، الذي هو موضوع التطبيق، لا يعرف هذا الفصل بين الدين وشئون الحياة، بل إن قواعده العملية تمتد إلى جميع ميادين النشاط الاقتصادي والأخلاقي، في حياة الفرد، والأسرة. والأمة، بل في حياة الجماعة الإنسانية كلها.(3/22)
ويرى الدكتور محمد عبد الله دراز: أن أبدع طابع تمتاز به الجامعة الأزهرية، ليس هو أنها قد جمعت في تعليمها بين هذين العنصرين الروحي والزمني، اللذين نراهما منفصلين في سائر الجامعات، بل ميزتها الكبرى هي أن الميدان الذي تتدفق فيه حيوتها يتجاوز كل حدود التعليم والتثقيف، ويرتقي إلى دور من أهم الأدوار في توجيه حياة الجماعة. إن رسالة الأزهر على الجملة، إنما هي امتداد لرسالة الإسلام، ألا وإن الإسلام ليس مجموعة مبادىء نظرية تغرس في الأذهان فحسب، وإنما هو قوة دافعة خلاقة، غايتها أن تنظم السلوك الإنساني تنظيما فعليا، طبقا لاسمي المثل وأسلسها قيادا على التنفيذ العملي. فليس يكفيه إذا أن يبين هذه المبادىء
دون أن يسهر على تطبيقها وهذا التطبيق لا يخص سلوك الفرد في نفسه، أو في أماكن عبادته وكفى، لأن قانون الإسلام، الذي هو موضوع التطبيق، لا يعرف هذا الفصل بين الدين وشئون الحياة، بل إن قواعده العملية تمتد إلى جميع ميادين النشاط الاقتصادي والأخلاقي، في حياة الفرد، والأسرة. والأمة، بل في حياة الجماعة الإنسانية كلها.
وقد عنى الأزهر إلى جانب تكوينه لأسرة التدريس بتخريج جماعة من المصلحين الاجتماعيين، ليكونوا في صلة دائمة بالشعب، ويتجهوا إليه بإرشاداتهم في كل مناسبة. ولدى الأزهر منهم الآن أكثر من 250واعظا، موزعون توزيعا متناسبا بين العاصمة وسائر الأقاليم، وإن «العدالة» و «الأمن» لمدينان أعظم الدين لجميل نصائحهم التي يوجهونها إلى الجماهير، وإلى الأسوة الحسنة التي يقدمونها لهم في سيرتهم الشخصية، وإلى طرق الإصلاح التي يمهدونها لهم في المنازعات، كما تشهد بذلك السجلات الرسمية. وفي الوقت نفسه نجد في الأزهر لجنة دائمة من العلماء تتلقى المكاتبات من كل سائل، عما أشكل عليه من أحوال السلوك وشئون المعاملات، وتجيبه بما يزل شبهته، وينير له السبيل السوي.
ومن وراء ذلك كله وفوق كل هذه الخدمات الجليلة يتمتع الأزهر بسلطة معنوية أكثر عمقا، وأبعد حدودا، يستعملها في توجيه المجتمع الإسلامي، لا في مصر وحدها، بل في سائر البلاد الإسلامية. وهاهنا أيضا لا تعوزنا الشواهد لإبراز هذه الحقيقة. فلقد أتى على عرش مصر لحظة من الزمن، في سنة 1805م، كان فيها يبدو مترددا بين «خورشيد» و «محمد علي». فكان الثقل الذي وضعه نفوذ الأزهر هو الذي رجح كفة الميزان في جانب محمد علي، ووضع الباب العالي أمام الأمر الواقع في اختياره واليا على مصر. وفي سنة 1919كان الأزهر هو المنبر الذي ارتفع منه أقوى صوت في المطالبة بإلغاء الحماية الانجليزية، وكان حرم الأزهر هو المهد الذي ولدت فيه الوحدة التي لا تنفصم عراها بين أقباط مصر
ومسلميها، لاحباط الدسائس البريطانية التي حيكت للتفريق بين العنصرين: أما نفوذ الأزهر في الأقطار الإسلامية فليس من نوع ذلك النفوذ الغامض البعيد، الذي يتمتع به الأزهر بفضل مهابة اسمه وجلال مركزه فحسب، بل إن له في تحقيقه وسائل حية، وأدوات ناطقة. نعم، أليس للأزهر ممثلوه في أقطار الإسلام، ولتلك الأقطار ممثلوها فيه؟ أو ليس هؤلاء الممثلون من الجانبين هم حلقة الاتصال المتبادل الذي يحفظ وينمي هذه العلاقات الوثيقة بين الطرفين في مختلف النواحي الثقافية والأدبية والروحية؟(3/23)
ومن وراء ذلك كله وفوق كل هذه الخدمات الجليلة يتمتع الأزهر بسلطة معنوية أكثر عمقا، وأبعد حدودا، يستعملها في توجيه المجتمع الإسلامي، لا في مصر وحدها، بل في سائر البلاد الإسلامية. وهاهنا أيضا لا تعوزنا الشواهد لإبراز هذه الحقيقة. فلقد أتى على عرش مصر لحظة من الزمن، في سنة 1805م، كان فيها يبدو مترددا بين «خورشيد» و «محمد علي». فكان الثقل الذي وضعه نفوذ الأزهر هو الذي رجح كفة الميزان في جانب محمد علي، ووضع الباب العالي أمام الأمر الواقع في اختياره واليا على مصر. وفي سنة 1919كان الأزهر هو المنبر الذي ارتفع منه أقوى صوت في المطالبة بإلغاء الحماية الانجليزية، وكان حرم الأزهر هو المهد الذي ولدت فيه الوحدة التي لا تنفصم عراها بين أقباط مصر
ومسلميها، لاحباط الدسائس البريطانية التي حيكت للتفريق بين العنصرين: أما نفوذ الأزهر في الأقطار الإسلامية فليس من نوع ذلك النفوذ الغامض البعيد، الذي يتمتع به الأزهر بفضل مهابة اسمه وجلال مركزه فحسب، بل إن له في تحقيقه وسائل حية، وأدوات ناطقة. نعم، أليس للأزهر ممثلوه في أقطار الإسلام، ولتلك الأقطار ممثلوها فيه؟ أو ليس هؤلاء الممثلون من الجانبين هم حلقة الاتصال المتبادل الذي يحفظ وينمي هذه العلاقات الوثيقة بين الطرفين في مختلف النواحي الثقافية والأدبية والروحية؟
فأما من أحد الجانبين، فإن الدولة الإسلامية لا تفتأ تلتمس من الأزهر في كل عام، عددا من علمائه ليبصروا شعوبها بحقائق الإسلام، أو ليكونوا أعضاء في هيئات التدريس في جامعاتها ومعاهدها، ولا يسع الأزهر إلا أن يرحب دائما بندائهم فلا يرد لهم ملتمسا. وقد بلغ الآن عدد المندوبين من علماء الأزهر في خارج القطر 125مدرسا في الأقطار الممتدة من جزائر الفيليبين إلى مملكة ليبيا. بل إن الدول الغربية قد أفادت من نظام الانتداب المذكور، سواء لتغذية جامعاتها، أو لإدارة مراكز الإسلام الثقافية فيها. وما نحن أولاء نرى من أساتذة الأزهر مندوبين بالفعل في «لوندره» و «واشنطن» و «سان فرانسيسكو» وقد نرى قريبا وصول هذا المدد إلى «باريس» أيضا
ونعود إلى الأقطار الإسلامية فنقول: إن صلتها الوثيقة بالأزهر تقوم من جهة أخرى على تلك الألوف من شباب المتعلمين الوافدين منها، والذين يتبناهم الأزهر فيطبعهم بطابعه، ويصنعهم على طرازه. وإن الحفاوة التي يقدمها لهم لمفعمة بأنواع الكرم والضيافة. فهو يؤويهم بالمجان، ويمنح كلا منهم شهريا مقدارا من المال كافيا لمعيشته، وعلى الرغم من زيادة عددهم عاما بعد عام، فإن هذه المرتبات يجدونها مكفولة لهم على الدوام، كما أن الجامعة تهيء لهم في أثناء العام رحلات مدرسية بالمجان
إلى الأماكن الأثرية ومعالم السياحة، وتعد لهم في الصيف مقاما هادئا على شواطىء البحر في الأسكندرية. وفي نهاية دراستهم تمنحهم شهادات ينتفعون بها عند عودتهم، لا في التدريس فحسب، بل في مختلف المناصب في بلادهم. ولقد بلغ عدد هؤلاء الضيوف في هذا العام اكثر من ثلاثة آلاف طالب، هم سفراء الأزهر غدا إلى بلادهم. فإذا سارت الأمور على هذا المنوال لم تمض بضع عشرات من السنين حتى يكون الأزهر قد جعل من جميع الشعوب الإسلامية أمة واحدة متجانسة في ثقافتها، كما هي متجانسة في عقيدتها وآدابها.(3/24)
ونعود إلى الأقطار الإسلامية فنقول: إن صلتها الوثيقة بالأزهر تقوم من جهة أخرى على تلك الألوف من شباب المتعلمين الوافدين منها، والذين يتبناهم الأزهر فيطبعهم بطابعه، ويصنعهم على طرازه. وإن الحفاوة التي يقدمها لهم لمفعمة بأنواع الكرم والضيافة. فهو يؤويهم بالمجان، ويمنح كلا منهم شهريا مقدارا من المال كافيا لمعيشته، وعلى الرغم من زيادة عددهم عاما بعد عام، فإن هذه المرتبات يجدونها مكفولة لهم على الدوام، كما أن الجامعة تهيء لهم في أثناء العام رحلات مدرسية بالمجان
إلى الأماكن الأثرية ومعالم السياحة، وتعد لهم في الصيف مقاما هادئا على شواطىء البحر في الأسكندرية. وفي نهاية دراستهم تمنحهم شهادات ينتفعون بها عند عودتهم، لا في التدريس فحسب، بل في مختلف المناصب في بلادهم. ولقد بلغ عدد هؤلاء الضيوف في هذا العام اكثر من ثلاثة آلاف طالب، هم سفراء الأزهر غدا إلى بلادهم. فإذا سارت الأمور على هذا المنوال لم تمض بضع عشرات من السنين حتى يكون الأزهر قد جعل من جميع الشعوب الإسلامية أمة واحدة متجانسة في ثقافتها، كما هي متجانسة في عقيدتها وآدابها.
على أن الرسالة الحقيقة للأزهر لن تتحقق على وجهها الأكمل إلا إذا تجاوزت حدودها الإقليمية في الشرق الإسلامي، وأسمعت صوتها من وراء تلك الحدود.
نعم إننا اليوم وقد تنازعت العالم قوى متناحرة، وآراء متنافرة، قد عجزت أطرافها أن تلتقي عند حد وسط يوفق بينها. وقد أخذت في صراعها تسرع بنا الخطا نحو الكارثة الكبرى أقول إننا اليوم لفي أمس الحاجة إلى قوة ثالثة تتسم بطابع التعادل والتوازن، لا عن طريق التلفيق بين عناصر متناكرة، بل عن طريق وحدة طبيعية متماسكة يتألف فيها عنصر المادة والروح، وتتساند فيها مطامح المنفعة وعواطف الإيثار، وتتعانق فيها حرية الفرد وسلطان الدولة، وتندرج بها المصالح القومية في نطاق الرحمة الإنسانية العالمية، وبالجملة فإننا اليوم في أشد الحاجة إلى تلك الحكمة الشرقية الإسلامية التي يعد الأزهر خير ممثل لآدابها، ويوم يتمكن الأزهر من أن يصوغ هذه السياسة الرشيدة في أسلوب واضح سائغ محدد، ويتيسر له من الوسائل ما ينشر به هذه المبادىء في الميدان العالمي، ويبدي فيه المعسكران المتصارعان في الوقت نفسه من حسن النية وقوة العزيمة ما يجعلهما يصغيان إلى ندائه الحكيم، يومئذ يكون لنا أن نتحدث بحق وصدق
عن «السلام الشامل» و «الأمن العالمي الكامل» لا حلما من نسيج الأوهام، ولكن حقيقة حية صالحة للبقاء.(3/25)
نعم إننا اليوم وقد تنازعت العالم قوى متناحرة، وآراء متنافرة، قد عجزت أطرافها أن تلتقي عند حد وسط يوفق بينها. وقد أخذت في صراعها تسرع بنا الخطا نحو الكارثة الكبرى أقول إننا اليوم لفي أمس الحاجة إلى قوة ثالثة تتسم بطابع التعادل والتوازن، لا عن طريق التلفيق بين عناصر متناكرة، بل عن طريق وحدة طبيعية متماسكة يتألف فيها عنصر المادة والروح، وتتساند فيها مطامح المنفعة وعواطف الإيثار، وتتعانق فيها حرية الفرد وسلطان الدولة، وتندرج بها المصالح القومية في نطاق الرحمة الإنسانية العالمية، وبالجملة فإننا اليوم في أشد الحاجة إلى تلك الحكمة الشرقية الإسلامية التي يعد الأزهر خير ممثل لآدابها، ويوم يتمكن الأزهر من أن يصوغ هذه السياسة الرشيدة في أسلوب واضح سائغ محدد، ويتيسر له من الوسائل ما ينشر به هذه المبادىء في الميدان العالمي، ويبدي فيه المعسكران المتصارعان في الوقت نفسه من حسن النية وقوة العزيمة ما يجعلهما يصغيان إلى ندائه الحكيم، يومئذ يكون لنا أن نتحدث بحق وصدق
عن «السلام الشامل» و «الأمن العالمي الكامل» لا حلما من نسيج الأوهام، ولكن حقيقة حية صالحة للبقاء.
8
ويرى مصطفى صادق الرافعي أن أول شيء في رسالة الأزهر في القرن العشرين عنده، أن يكون أهله قوة إلهية معدة للنصر، مهيأة للنضال، مسددة للإصابة، مقدرة في طبيعتها أحسن تقدير، تشعر الناس بالاطمئنان إلى عملها، وتوحي إلى كل من يراها الإيمان الثابت بمعناها، ولن يأتى لهم هذا إلا إذا انقلبوا إلى طبيعتهم الصحية، فلا يكون العلم تحرفا ولا مهنة، ولا يكون في أوراق الكتب خيال بل تظهر فيهم العظمة الروحانية آمرة ناهية في المادة لا مأمورة منهية بها ويرتفع كل منهم بنفسه، فيكون مقرر خلق في الحياة قبل أن يكون معلم علم، لينبث منهم مغناطيس النبوة يجذب النفوس بهم أقوى مما يجذبها ضلالات العصر، فما يحتاج الناس في هذا الزمن إلى العالم وإن الكتب والعلوم لتملأ الدنيا وإنما يحتاجون إلى ضمير العالم، وقد عجزت المدنية أن توجد هذا الضمير، مع أن الإسلام في حقيقته ليس شيئا إلا قانون هذا الضمير، إذ هو دين قائم على أن الله لا ينظر من الإنسان إلى صورته ولكن إلى عمله، فأول ما ينبغي أن يحمله الأزهر من رسالته ضمائر أهله.
والناس خاضعون للمادة بقانون حياتهم، وبقانون آخر هو قانون القرن العشرين فهم من ثم في أشد الحاجة إلى أن يجدوا بينهم المتسلط على المادة بقانون حياته ليروا بأعينهم القوى الدنيئة مغلوبة، ثم ليجدوا في هذا الإنسان أساس القدوة والاحتذاء فيتصلوا منه بقوتين: قوة التعليم وقوة التحويل هذا هو سر الإسلام الأول الذي نفذ به من أمة إلى أمة ولم يقم له شيء يصده إذ كان ينفذ في الطبيعة الإنسانية نفسها.
ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء
لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم، فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد الإسلام. والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا، بل هي من أسباب هذا الشر لأن لها وجودا سياسيا ووجودا مدنيا، أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب، وهو وحده الذي يسعه ما تعجز عنه، وأسباب نجاحه مهيأة ثابتة إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية، وكانت فيه عند المسلمين بقية الوحي على الأرض، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض، بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة وفقد القوة التي كان يحكم بها وهي قوة المثل لأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة، إنسانا تتخيره المعاني الإنسانية تظهر فيه بأسلوب عملي فيكون في قومه ضربا من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحة بهذا المثال نفسه، والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوة الحياة لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر، ولذلك فهم يتبعونهم ويتأنسون بهم ويمنحونهم الطاعة وينزلون على حكمهم ويلتمسون في سيرتهم التفسير لمشكلات النفس ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة، وكان غنى العالم الديني شيئا غير المال بل شيئا أعظم من المال إذ كان يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه ملك لا فقير، وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو وفيها كل سلطان الخير والشر لأن فيها كل النزعات الاستقلالية، ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق متروكة لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها، وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها، فيجب عليهم أن يحققوا
وجودهم وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يعدوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة لا طلابا يرتزقون بالعلم. أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة العصرية لا خبر تاريخي فيها.؟ لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه، ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وان ينقى عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر وقانونها العملي الذي فيه سعادتها وقوتها، ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئا في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئا في عمله لهذه القيادة، آخذا بأسباب هذا العمل، ملحا في طلب هذه الأسباب. مصرا على هذا الطلب. وكل هذا يكون عبثا إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلة من الأمثلة القوية في الدين والخلق والصلابة لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف، والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية مطاع بحكمه فيها. محبوب بطاعتها له. والمادة المطهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس وأن يدفع الحركة الدينية دفعا بوسائل مختلفة: أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها، وأن يقود مدرسة حرية الفكر والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا. وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة: {«ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»} دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل. وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية
في الدعوة، العلماء ورثة الأنبياء. وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة. فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط.(3/26)
ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء
لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم، فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد الإسلام. والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا، بل هي من أسباب هذا الشر لأن لها وجودا سياسيا ووجودا مدنيا، أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب، وهو وحده الذي يسعه ما تعجز عنه، وأسباب نجاحه مهيأة ثابتة إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية، وكانت فيه عند المسلمين بقية الوحي على الأرض، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض، بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة وفقد القوة التي كان يحكم بها وهي قوة المثل لأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة، إنسانا تتخيره المعاني الإنسانية تظهر فيه بأسلوب عملي فيكون في قومه ضربا من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحة بهذا المثال نفسه، والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوة الحياة لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر، ولذلك فهم يتبعونهم ويتأنسون بهم ويمنحونهم الطاعة وينزلون على حكمهم ويلتمسون في سيرتهم التفسير لمشكلات النفس ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة، وكان غنى العالم الديني شيئا غير المال بل شيئا أعظم من المال إذ كان يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه ملك لا فقير، وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو وفيها كل سلطان الخير والشر لأن فيها كل النزعات الاستقلالية، ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق متروكة لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها، وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها، فيجب عليهم أن يحققوا
وجودهم وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يعدوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة لا طلابا يرتزقون بالعلم. أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة العصرية لا خبر تاريخي فيها.؟ لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه، ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وان ينقى عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر وقانونها العملي الذي فيه سعادتها وقوتها، ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئا في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئا في عمله لهذه القيادة، آخذا بأسباب هذا العمل، ملحا في طلب هذه الأسباب. مصرا على هذا الطلب. وكل هذا يكون عبثا إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلة من الأمثلة القوية في الدين والخلق والصلابة لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف، والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية مطاع بحكمه فيها. محبوب بطاعتها له. والمادة المطهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس وأن يدفع الحركة الدينية دفعا بوسائل مختلفة: أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها، وأن يقود مدرسة حرية الفكر والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا. وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة: {«ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»} دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل. وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية
في الدعوة، العلماء ورثة الأنبياء. وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة. فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط.(3/27)
ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء
لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم، فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد الإسلام. والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا، بل هي من أسباب هذا الشر لأن لها وجودا سياسيا ووجودا مدنيا، أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب، وهو وحده الذي يسعه ما تعجز عنه، وأسباب نجاحه مهيأة ثابتة إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية، وكانت فيه عند المسلمين بقية الوحي على الأرض، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض، بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة وفقد القوة التي كان يحكم بها وهي قوة المثل لأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة، إنسانا تتخيره المعاني الإنسانية تظهر فيه بأسلوب عملي فيكون في قومه ضربا من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحة بهذا المثال نفسه، والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوة الحياة لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر، ولذلك فهم يتبعونهم ويتأنسون بهم ويمنحونهم الطاعة وينزلون على حكمهم ويلتمسون في سيرتهم التفسير لمشكلات النفس ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة، وكان غنى العالم الديني شيئا غير المال بل شيئا أعظم من المال إذ كان يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه ملك لا فقير، وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو وفيها كل سلطان الخير والشر لأن فيها كل النزعات الاستقلالية، ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق متروكة لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها، وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها، فيجب عليهم أن يحققوا
وجودهم وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يعدوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة لا طلابا يرتزقون بالعلم. أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة العصرية لا خبر تاريخي فيها.؟ لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه، ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وان ينقى عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر وقانونها العملي الذي فيه سعادتها وقوتها، ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئا في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئا في عمله لهذه القيادة، آخذا بأسباب هذا العمل، ملحا في طلب هذه الأسباب. مصرا على هذا الطلب. وكل هذا يكون عبثا إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلة من الأمثلة القوية في الدين والخلق والصلابة لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف، والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية مطاع بحكمه فيها. محبوب بطاعتها له. والمادة المطهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس وأن يدفع الحركة الدينية دفعا بوسائل مختلفة: أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها، وأن يقود مدرسة حرية الفكر والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا. وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة: {«ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»} دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل. وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية
في الدعوة، العلماء ورثة الأنبياء. وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة. فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط.(3/28)
ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء
لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم، فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد الإسلام. والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا، بل هي من أسباب هذا الشر لأن لها وجودا سياسيا ووجودا مدنيا، أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب، وهو وحده الذي يسعه ما تعجز عنه، وأسباب نجاحه مهيأة ثابتة إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية، وكانت فيه عند المسلمين بقية الوحي على الأرض، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض، بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة وفقد القوة التي كان يحكم بها وهي قوة المثل لأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة، إنسانا تتخيره المعاني الإنسانية تظهر فيه بأسلوب عملي فيكون في قومه ضربا من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها مشروحة بهذا المثال نفسه، والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوة الحياة لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر، ولذلك فهم يتبعونهم ويتأنسون بهم ويمنحونهم الطاعة وينزلون على حكمهم ويلتمسون في سيرتهم التفسير لمشكلات النفس ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة، وكان غنى العالم الديني شيئا غير المال بل شيئا أعظم من المال إذ كان يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه ملك لا فقير، وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو وفيها كل سلطان الخير والشر لأن فيها كل النزعات الاستقلالية، ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق متروكة لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها، وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها، فيجب عليهم أن يحققوا
وجودهم وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يعدوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة لا طلابا يرتزقون بالعلم. أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة العصرية لا خبر تاريخي فيها.؟ لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه، ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وان ينقى عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر وقانونها العملي الذي فيه سعادتها وقوتها، ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئا في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئا في عمله لهذه القيادة، آخذا بأسباب هذا العمل، ملحا في طلب هذه الأسباب. مصرا على هذا الطلب. وكل هذا يكون عبثا إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلة من الأمثلة القوية في الدين والخلق والصلابة لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف، والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية مطاع بحكمه فيها. محبوب بطاعتها له. والمادة المطهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس وأن يدفع الحركة الدينية دفعا بوسائل مختلفة: أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها، وأن يقود مدرسة حرية الفكر والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا. وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة: {«ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»} دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل. وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية
في الدعوة، العلماء ورثة الأنبياء. وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة. فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط.
وإذا قامت رسالة الأزهر على هذه الحقائق، وأصبح وجوده هو المعنى المتمم للحكومة المعاون لها في ضبط الحياة النفسية للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها اتجهت طبيعته إلى أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين بعد أن يكون قد حقق الذرائع إلى هذه الرسالة من فتح باب الاجتهاد وتنقية التاريخ الفقهي وتهذيب الروح الإسلامي والسمو به عن المعاني الكلامية الجدلية السخيفة، ثم استخرج أسرار القرآن الكريم المكتنة فيه لهذه العصور العلمية الأخيرة، وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القوة التي تمسك الإسلام على سنته بين القديم والجديد، لا ينكره هذا ولا بغيره ذاك، وبعد أن يكون الأزهر قد استفاض على العالم العربي بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه.
أما تلك الرسالة الكبرى فهي بث الدعوة الإسلامية في أوروبا وأمريكا واليابان، بلغات الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين في ألسنة أزهرية مرهفة مصقولة لها بيان الأدب ودقة العلم وإحاطة الفلسفة، وإلهام الشعر، وبصيرة الحكمة، وقدرة السياسة، ألسنة أزهرية لا يوجد الآن منها لسان واحد في الأزهر، ولكنها لن توجد إلا في الأزهر، ولا قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها فتكون المتكلمة عنه والحاملة لرسالته، وما هذه البعثات التي قرر الأزهر ابتعاثها إلى أوروبا إلا أول تاريخ تلك الألسنة.
أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينتشر الدين على يده في أوروبا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر، وما كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية، وسيكون
عمل فلاسفة الأزهر استخراج قانون السعادة لتلك الأمم من آداب الإسلام وأعماله ثم مخاطبة الأمم بأفكارها وعواطفها والإفضاء من ذلك إلى ضميرها الاجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به.(3/29)
أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينتشر الدين على يده في أوروبا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر، وما كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية، وسيكون
عمل فلاسفة الأزهر استخراج قانون السعادة لتلك الأمم من آداب الإسلام وأعماله ثم مخاطبة الأمم بأفكارها وعواطفها والإفضاء من ذلك إلى ضميرها الاجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به.
هذه هي رسالة الأزهر في القرن العشرين يتحقق بوسائلها من الآن، ومن وسائلها أن يعالن بها لتكون موثقا عليه، ويحسن بالأزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكر إسلامي ذي إلهام أو بحث دقيق أو إحاطة شاملة، فتكون له ألقاب علمية يمنحهم إياها وإن لم يتخرجوا فيه، ثم يستعين بعلمهم وإلهامهم وآرائهم، وبهذه الالقاب يمتد الأزهر إلى حدود فكرية بعيدة ويصبح أوسع في أثره على الحياة الإسلامية ويحقق لنفسه المعنى الجامعي، وفي تلك السبيل يجب على الأزهر أن يختار أياما في كل سنة يجمع فيها من المسلمين (قرش الإسلام) ليجد مادة النفقة الواسعة في نشر دين الله. وليس على الأرض مسلم ولا مسلمة لا يبسط يده، فما يحتاج هذا التدبير لأكثر من إقراره وتنظيمه وإعلانه في الأمم الإسلامية ومواسمها الكبرى وخاصة موسم الحج.
9
ونشر العقاد كلمة عام 1947عن الأزهر وإصلاح ورسالته قال فيها:
خير ما يطلب للأزهر هو أن يزداد نصيبه من الجامعية العلمية، وأن يزدان نصيبه من المشاركة في الأعمال الدنيوية، وأن يحال بينه وبين العزلة والانقطاع، ونحن من المؤمنين بماضي الأزهر العظيم، ولكننا أشد إيمانا بمستقبله بنا بماضيه، لأن وظيفته في الماضي كانت وظيفة واحدة لا منازع فيها، أما وظيفته في المستقبل فوظيفتان ينهض بهما فيكون له شأنان متعادلان في حكمة الإسلام وحكمة العلم الذي يعمل به المسلمون وغير المسلمين، فالجامع الأزهر أحق مكان بأن يحيي الفلسفة القديمة التي عاشت فيه وحده يوم ماتت في جوانب الدنيا بأسرها، ومن إحياء هذه
الفلسفة أن يزاوج بينها وبين مستحدثات التفكير في كل عصر وبين كل قبيل، والجامع الأزهر أحق مكان بتوسيع المنطق الذي تمكنت فيه أسسه وتهيأت لما يضاف إلى هذه الأسس من أركان جديدة، في مذاهب المناطقة المحدثين، والجامع الأزهر أحق مكان بأن يعرض العقيدة الإسلامية المستنيرة على أهل المشرق والمغرب لأنه أقدر على هذه الرسالة من الآحاد أو الجماعات التي تصدت لها في غير مصر من الأقطار الإسلامية، والجامع الأزهر أحق مكان بأن يقصده الصيني من أقصى الشرق كما يقصده «الفندلاندي» من أقصى الشمال، أو يقصده الزنجباري من أقصى الجنوب لأنهم يتعلمون فيه ما لا يجدونه في غيره من الجامعات المعصورة على العلوم الطبيعية. والجامع الأزهر أحق مكان بأن يتدارك عيب العصر الحاضر وهو العيب الجسام الذي يتمثل في العزل بين عالم العقل وعالم الروح.(3/30)
خير ما يطلب للأزهر هو أن يزداد نصيبه من الجامعية العلمية، وأن يزدان نصيبه من المشاركة في الأعمال الدنيوية، وأن يحال بينه وبين العزلة والانقطاع، ونحن من المؤمنين بماضي الأزهر العظيم، ولكننا أشد إيمانا بمستقبله بنا بماضيه، لأن وظيفته في الماضي كانت وظيفة واحدة لا منازع فيها، أما وظيفته في المستقبل فوظيفتان ينهض بهما فيكون له شأنان متعادلان في حكمة الإسلام وحكمة العلم الذي يعمل به المسلمون وغير المسلمين، فالجامع الأزهر أحق مكان بأن يحيي الفلسفة القديمة التي عاشت فيه وحده يوم ماتت في جوانب الدنيا بأسرها، ومن إحياء هذه
الفلسفة أن يزاوج بينها وبين مستحدثات التفكير في كل عصر وبين كل قبيل، والجامع الأزهر أحق مكان بتوسيع المنطق الذي تمكنت فيه أسسه وتهيأت لما يضاف إلى هذه الأسس من أركان جديدة، في مذاهب المناطقة المحدثين، والجامع الأزهر أحق مكان بأن يعرض العقيدة الإسلامية المستنيرة على أهل المشرق والمغرب لأنه أقدر على هذه الرسالة من الآحاد أو الجماعات التي تصدت لها في غير مصر من الأقطار الإسلامية، والجامع الأزهر أحق مكان بأن يقصده الصيني من أقصى الشرق كما يقصده «الفندلاندي» من أقصى الشمال، أو يقصده الزنجباري من أقصى الجنوب لأنهم يتعلمون فيه ما لا يجدونه في غيره من الجامعات المعصورة على العلوم الطبيعية. والجامع الأزهر أحق مكان بأن يتدارك عيب العصر الحاضر وهو العيب الجسام الذي يتمثل في العزل بين عالم العقل وعالم الروح.
فيتعلم فيه الرجل وهو مؤمن ويؤمن فيه وهو عالم، ويحسن قيادة المتدينين المتعلمين، ونحن كبير والرجاء في إنجاز هذه المهمة العظمى بعد أن صارت مشيخة الأزهر إلى أستاذ الفلسفة الإسلامية على أحدث المناهج العصرية، فإنه أقدر الناس على أن يحقق للجامع الأزهر وظيفتيه في ثقافة العقل وثقافة الروح، وأعوانه من الأزهريين غير قليلين.
10
ويقول الاستاذ مصطفى حبيب من كلمة له ألقاها في المؤتمر الثقافي العربي عام 1950، وقد كان من المندوبين فيه عن الأزهر: الاتجاهات التعليمية السائدة في الأزهر الآن هي:
1 - العمل على تعميم التعليم الديني في البلاد بافتتاح المعاهد الدينية في جميع العواصم والمراكز الكبيرة، وتيسير هذا التعليم على الناس بمتابعة ما جرى عليه عرف الأزهر من قديم، من مجانية التعليم الديني، وتشجيع الطلاب بتقرير مكافآت مادية تعينهم على مواصلة الدرس، وقد قطع الأزهر في هذا الاتجاه شوطا بعيدا فافتتح في السنوات الأخيرة خمسة معاهد،
هي: قنا وسوهاج والمنيا والمنصورة وسمنود، وأعان على أن تنشر المعاهد الحرة في البلاد بما قدمه لها من العون العلمي والمادي. فقد تعهد الأزهر بتزويد كل معهد حر بالمدرسين على حساب ميزانيته فضلا عن تقرير إعانة استيفاء لكل معهد، مما حفز على انتشار التعليم الديني في البلاد وإنشاء المعاهد الحرة.(3/31)
1 - العمل على تعميم التعليم الديني في البلاد بافتتاح المعاهد الدينية في جميع العواصم والمراكز الكبيرة، وتيسير هذا التعليم على الناس بمتابعة ما جرى عليه عرف الأزهر من قديم، من مجانية التعليم الديني، وتشجيع الطلاب بتقرير مكافآت مادية تعينهم على مواصلة الدرس، وقد قطع الأزهر في هذا الاتجاه شوطا بعيدا فافتتح في السنوات الأخيرة خمسة معاهد،
هي: قنا وسوهاج والمنيا والمنصورة وسمنود، وأعان على أن تنشر المعاهد الحرة في البلاد بما قدمه لها من العون العلمي والمادي. فقد تعهد الأزهر بتزويد كل معهد حر بالمدرسين على حساب ميزانيته فضلا عن تقرير إعانة استيفاء لكل معهد، مما حفز على انتشار التعليم الديني في البلاد وإنشاء المعاهد الحرة.
2 - تشجيع التعاون الثقافي بين الأزهر والمعاهد الإسلامية في البلاد الإسلامية جميعها، ليوحد بين ثقافة أبناء هذه الشعوب وثقافة الأزهر، وليعاون على إيجاد رأى عام إسلامي موحد، وليدخل على هذه المدارس الأنظمة الإصلاحية التي قام بتجربتها الأزهر، ليساهم بنصيب في الرقي الفكري والعلمي للشعوب العربية والإسلامية، وللأزهر الآن في جميع البلاد الإسلامية والعربية مدرسون من خيرة أبنائه المتأثرين بالأفكار الحديثة يبثون تعاليم الأزهر ورسالته الإصلاحية في نجد والحجاز وسوريا ولبنان والعراق والكويت وأسمرة، ويساهم الأزهر بنصيب كبير في تمويل هذه الحركة العلمية، إيمانا منه بفائدتها لمصر والعالم الإسلامي كله.
3 - نشر الثقافة الإسلامية في البلاد المتخلفة علميا والتي هي في مسيس الحاجة إلى التنوير في شئون دينها، والأزهر معنى بهذه الناحية أشد العناية، وقد وجه مبعوثين من رجاله لدراسة أحوال المناطق الأفريقية في جنوب السودان وأوغندة وأرتيريا وشرق أفريقيا، وقد وضعت تقارير مفصلة عن أوجه المساعدة المثمرة لهذه الجهات، وأرسل الأزهر فعلا بعثة علمية إلى أرتيريا وجوبا، وهو بسبيله إلى إرسال بعثات جديدة إلى الصومال ونيجيريا وأوغندة وشرق أفريقيا.
4 - العناية بنشر الإسلام وتعاليمه الصحيحة في جميع البلاد، وإيجاد صلة قوية ورابطة متينة بين المسلمين في كافة أقطار الأرض عن طريق التبادل الثقافي، وإنشاء مراكز إسلامية تزود بالمكتبات والعلماء الباحثين والوعاظ
لسد حاجات الناس في هذه البلاد الى الثقافة الإسلامية، ويسير الأزهر في هذا الاتجاه بخطى حثيثة، وأستطيع القول بأن الأزهر اليوم متصل بجميع الهيئات العلمية والإسلامية في أوروبا وأمريكا وآسيا، وله مكتب ثقافي في لندن، وآخر في الباكستان، وثالث في الفلبين، وهو يدرس اليوم مشروعات متعددة لإنشاء مكاتب أخرى في الولايات المتحدة والأرجنتين والملايو وأندونيسيا، ولكنه على أية حال لم يحقق بعد كل ما يرجوه من التوسع في هذه الناحية لأنها تحتاج إلى المال والرجال:(3/32)
4 - العناية بنشر الإسلام وتعاليمه الصحيحة في جميع البلاد، وإيجاد صلة قوية ورابطة متينة بين المسلمين في كافة أقطار الأرض عن طريق التبادل الثقافي، وإنشاء مراكز إسلامية تزود بالمكتبات والعلماء الباحثين والوعاظ
لسد حاجات الناس في هذه البلاد الى الثقافة الإسلامية، ويسير الأزهر في هذا الاتجاه بخطى حثيثة، وأستطيع القول بأن الأزهر اليوم متصل بجميع الهيئات العلمية والإسلامية في أوروبا وأمريكا وآسيا، وله مكتب ثقافي في لندن، وآخر في الباكستان، وثالث في الفلبين، وهو يدرس اليوم مشروعات متعددة لإنشاء مكاتب أخرى في الولايات المتحدة والأرجنتين والملايو وأندونيسيا، ولكنه على أية حال لم يحقق بعد كل ما يرجوه من التوسع في هذه الناحية لأنها تحتاج إلى المال والرجال:
5 - العناية بالبعوث الإسلامية الوافدة الى الأزهر من كل بقاع الأرض وتعليمها وتثقيفا دينيا وعلميا، ليكونوا هذاة لقومهم يرشدونهم إذا رجعوا إليهم، ولا يدخر الأزهر وسعا في هذا السبيل، فهو يشجع الطلاب الراغبين على الوفود، كما يحض الهيئات الإسلامية والحكومات الإسلامية على إرسال أبنائها إلى الأزهر، وهو يعد لهؤلاء الطلاب أماكن صحية للسكن، ويمدهم بمعونة مادية تيسر لهم طلب العلم وتعينهم على الحياة في مصر. وفي الأزهر الآن ألفان من طلاب البعوث الإسلامية يمثلون كافة البلاد الإسلامية. وقد أعد لهم الأزهر دراسات خاصة تعينهم على معرفة اللغة العربية معرفة تؤهلهم للاندماج في سلك الدراسة مع إخوانهم المصريين.
وقد بلغت البعوث الإسلامية اليوم حدا لم تبلغه في عصور الأزهر الذهبية في القرن الثامن الهجري حين سقطت بغداد وفر أبناء المسلمين إلى الأزهر بدينهم. فقد كان تعدادهم حينذاك كما روى المقريزي 750طالبا. وكان هذا يعتبر رقما قياسيا، أما اليوم فهم يربون على الألفين، والباب ما يزال مفتوحا على مصاريعه لتقبل كل من يريد العلم والتفقه فيه. فالأزهر لا يرد عن رحابة طالب علم.
6 - إعداد بيئة من العلماء النابغين في علوم الدين إعدادا يؤهلهم لنشر الدعوة الإسلامية والثقافة الإسلامية في البلاد التي تتكلم باللغات الأجنبية بتمكينهم من الدراسة في الجامعات الأوروبية، ليتصلوا بالحياة العقلية في
الغرب، ويجيدوا اللغات الأجنبية كتابة وخطابة، ويكونوا مزاجا جديدا من الدراسة يلائم، حاجة العصر، ويسد حاجات البلاد الإسلامية الناطقة باللغات الأجنبية الى مدرسين وأساتذة. وقد أدرك الأزهر قيمة هذا العمل العظيم فأرسل بعثة مكونة من عشرة من خيرة أبنائه إلى بريطانيا ليدرسوا في جامعاتها، وما يزال الأزهر في حاجة إلى المزيد من هذه البعثات ليكثر بين أساتذته ومدرسيه من يجمعون بين الثقافتين الأزهرية والغربية، ليكونوا في المستقبل القريب نواة لهيئة التدريس الجامعية.(3/33)
6 - إعداد بيئة من العلماء النابغين في علوم الدين إعدادا يؤهلهم لنشر الدعوة الإسلامية والثقافة الإسلامية في البلاد التي تتكلم باللغات الأجنبية بتمكينهم من الدراسة في الجامعات الأوروبية، ليتصلوا بالحياة العقلية في
الغرب، ويجيدوا اللغات الأجنبية كتابة وخطابة، ويكونوا مزاجا جديدا من الدراسة يلائم، حاجة العصر، ويسد حاجات البلاد الإسلامية الناطقة باللغات الأجنبية الى مدرسين وأساتذة. وقد أدرك الأزهر قيمة هذا العمل العظيم فأرسل بعثة مكونة من عشرة من خيرة أبنائه إلى بريطانيا ليدرسوا في جامعاتها، وما يزال الأزهر في حاجة إلى المزيد من هذه البعثات ليكثر بين أساتذته ومدرسيه من يجمعون بين الثقافتين الأزهرية والغربية، ليكونوا في المستقبل القريب نواة لهيئة التدريس الجامعية.
7 - يتجه الأزهر منذ سنوات إلى التخلص من الكتب التقليدية القديمة في الدراسة، وتشجيع الأساتذة على تأليف كتب جديدة تتناسب مع العصر الحديث في حسن العرض والتبويب، ليسهل على الناس الاطلاع عليها، لأن الكتب القديمة على وضعها الحالي كتب معقدة لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها إلا من مارسها ومرن على فهمها وقد بدأ الأزهريون يكتبون ويؤلفون، ولكنهم لم يحققوا بعد الآمال المعقودة عليهم، إذ لا يزال في أعناقهم للعالم الإسلامي وأبناء هذا الجيل دين يجب أن يوفوه: هو تبسيط الحقائق العلمية وتقريبها إلى الأذهان، وتشويق الناس للاطلاع على ما في الدين الإسلامي والتشريع الإسلامي من كنوز في المعرفة.
8 - يدرس الأزهر الآن الفقه الإسلامي دراسة خالية من التعصب لمذهب بعينه، بل ويدرس المقارنات بين المذاهب، وقد أتاحت هذه الروح التي تسود الأزهر الآن النظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصر والعرف وتطور الأمم والشعوب، واستنباط الأحكام التي تتمشى مع سير الزمن. وقد أصبح بفضل هذه الروح في الأزهر جماعة من أفاضل العلماء تعمل على تزويد رجال التشريع بالأحكام الاجتهادية من كافة الأئمة غير مقيدين بمذهب بعينه أو إمام بعينه. وقد صدرت القوانين الأخيرة في أحكام الوقف والوصية بعد دراسة حرة لجميع الآراء، وأخذت الأحكام من جميع المذاهب ومن آراء الأئمة والمجتهدين بما يلائم مصلحة الأئمة ويسد
حاجات الجيل. وتلك خطوة جريئة إن أغضبت المتزمتين، فقد أرضت الله ورسوله. ويتجه الأزهر في هذه الأيام إلى إنشاء معهد للفقه المقارن يقوم على هذه الدراسات الحرة وينميها، لينتفع العالم بآثار الاجتهاد، مما يحفز العقل البشري على التقدم لخدمة الإنسانية.(3/34)
8 - يدرس الأزهر الآن الفقه الإسلامي دراسة خالية من التعصب لمذهب بعينه، بل ويدرس المقارنات بين المذاهب، وقد أتاحت هذه الروح التي تسود الأزهر الآن النظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصر والعرف وتطور الأمم والشعوب، واستنباط الأحكام التي تتمشى مع سير الزمن. وقد أصبح بفضل هذه الروح في الأزهر جماعة من أفاضل العلماء تعمل على تزويد رجال التشريع بالأحكام الاجتهادية من كافة الأئمة غير مقيدين بمذهب بعينه أو إمام بعينه. وقد صدرت القوانين الأخيرة في أحكام الوقف والوصية بعد دراسة حرة لجميع الآراء، وأخذت الأحكام من جميع المذاهب ومن آراء الأئمة والمجتهدين بما يلائم مصلحة الأئمة ويسد
حاجات الجيل. وتلك خطوة جريئة إن أغضبت المتزمتين، فقد أرضت الله ورسوله. ويتجه الأزهر في هذه الأيام إلى إنشاء معهد للفقه المقارن يقوم على هذه الدراسات الحرة وينميها، لينتفع العالم بآثار الاجتهاد، مما يحفز العقل البشري على التقدم لخدمة الإنسانية.
9 - يعني الأزهر بإحياء كتب السنة وجمعها في كتاب واحد حسن التبويب، تيسيرا للسنة على الراغبين في الاطلاع عليها. وتقوم بالأزهر الآن لجنة برئاسة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر للعمل على إخراج هذا المشروع.
10 - يعني الأزهر أشد العناية بدراسة اللغة العربية والنهوض بأساليبها التعليمية وإبراز كنوزها للناس. وقد نهض بكلية اللغة العربية نهضة كبيرة أصبحت بفضلها تنافس معاهد اللغة العربية في مصر منافسة قوية، أفادت العلم واللغة في مصر والشرق. وها هم أولاء أبناء كلية اللغة العربية منبثون في جميع المدارس والمعاهد الأزهرية والحكومية يؤدون رسالة الأزهر في خدمة اللغة والنهوض بها على نمط يثير الإعجاب والتقدير من الجميع.
11 - عمل الأزهر جادا على تقرير تعليم الدين في المدارس الحكومية وجعله مادة أساسية، لينشأ ناشيء الفتيان منا على التمسك بأحكام الدين والرعاية لفضائله، إيمانا منه بأن ما ينطبع في نفس الطفل منذ نعومة أظافره من إيمان وتدين، لا يمكن أن تؤثر فيه الأيام، بل يظل أساسا صالحا يوجه رجال المستقبل الى الخير، ويحفزهم على البر بأنفسهم وأهليهم وأوطانهم. وقد نجح الأزهر بتقرير دراسة الدين بالمدارس.
12 - يعني الأزهر بإحياء الشعور الديني، وتنمية روح التدين بين الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين، وتنويرهم في شئون دينهم، وتعريفهم بفضائله، لتتقوى فيهم روح المحبة والتآلف ويبعد عن صفوفهم المبادىء المنحرفة التي تتنافى مع الدين والخلق. وينبث اليوم عشرات
الوعاظ من أبنائه في صفوف الشعب يخاطبونه بالأسلوب القريب إلى نفسه، ويعالجونه علاجا نفسيا يقوي عزائمه ويثبت إيمانه.(3/35)
12 - يعني الأزهر بإحياء الشعور الديني، وتنمية روح التدين بين الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين، وتنويرهم في شئون دينهم، وتعريفهم بفضائله، لتتقوى فيهم روح المحبة والتآلف ويبعد عن صفوفهم المبادىء المنحرفة التي تتنافى مع الدين والخلق. وينبث اليوم عشرات
الوعاظ من أبنائه في صفوف الشعب يخاطبونه بالأسلوب القريب إلى نفسه، ويعالجونه علاجا نفسيا يقوي عزائمه ويثبت إيمانه.
13 - يعني الأزهر عناية جدية بوعظ السيدات وتعليمهن شئون دينهن، ليكن خير مربيات لأبنائهن، وليغرس في نفوسهن منذ الحداثة الإيمان بالله وحب الوطن، وهو يعقد لذلك مئات الدروس كل يوم من أقصى الصعيد إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى البحر الأبيض المتوسط، للوعظ والإرشاد والتعليم.
وفي نفوس رجال الأزهر مشروع لإنشاء معهد لتعليم البنات والسيدات العلوم الدينية والعربية، إحياء لسنن السلف الصالح من العناية بتثقيف السيدات وإتاحة الفرصة لهن ليتفقهن في الدين، نرجو أن يتحقق في القريب العاجل. وليس تعليم السيدات بالأزهر بجديد، فقد سبق الأزهر العالم كله منذ إنشائه حين كانت تعقد فيه دروس خاصة للسيدات، وكان بعضهن يحضرن الدروس العامة ليتفقهن في الدين كالرجال سواء بسواء.
هذه بعض جهود الأزهر في ربع قرن، وهذه هي خطواته بعد الإصلاح، وهي إن لم تكن أوفت على الغاية فقد جاوزت البداية القلقة، وثبتت أقدام الإصلاح. والأزهر بعد يسير بخطى جبارة، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يجمع فيها أنفاسه بعد هذا الجهد الشاق إلا ويستبق الزمن ويفقز إلى الطليعة يقود البلاد كعهده في الثقافة واللغة وعلوم الدين، ويهيء للمجتمع الإسلامي كله حياة طيبة نافعة تسلكه مع أمم الأرض في الرقي والحضارة.
11
وقد ألقى الشيخ عباس الجمل في أبريل عام 1936محاضرة موضوعها رسالة الأزهر، كان خلاصتها أن الأزهر إنما قام لنشر فقه الشيعة وعقائدهم ومبادئهم الدينية والسياسية. وأن الفرنسيين حين دخلوا مصر
اتخذوا شيوخ الأزهر صنائع للدعاية لهم، ولكن الذي جنى ثمرة ذلك هو محمد علي لا الفرنسيون. ثم ذكر أن الأزهر أدى رسالته العلمية في القرن التاسع عشر أداء مناسبا، وكانت زعامة الأدب العربي في الكتابة والخطابة إلى ابن من أبنائه هو محمد عبده، ثم سعد زغلول ولكن الأزهر لم يظفر بأن ينال من زعامة الشعر شيئا وقد رفض الأزهر ما طلبه منه الخديوي إسماعيل من تشريع قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية لتكون قوانين للمحاكم الأهلية، فرجع الخديوي وحكومته الى القوانين الفرنسية تأخذ منها ما تشاء، وبذلك تحمل الأزهر هذا الإثم الشديد، ولكنه عاد فقدم للمحاكم الشرعية قوانين وقضاة.(3/36)
وقد ألقى الشيخ عباس الجمل في أبريل عام 1936محاضرة موضوعها رسالة الأزهر، كان خلاصتها أن الأزهر إنما قام لنشر فقه الشيعة وعقائدهم ومبادئهم الدينية والسياسية. وأن الفرنسيين حين دخلوا مصر
اتخذوا شيوخ الأزهر صنائع للدعاية لهم، ولكن الذي جنى ثمرة ذلك هو محمد علي لا الفرنسيون. ثم ذكر أن الأزهر أدى رسالته العلمية في القرن التاسع عشر أداء مناسبا، وكانت زعامة الأدب العربي في الكتابة والخطابة إلى ابن من أبنائه هو محمد عبده، ثم سعد زغلول ولكن الأزهر لم يظفر بأن ينال من زعامة الشعر شيئا وقد رفض الأزهر ما طلبه منه الخديوي إسماعيل من تشريع قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية لتكون قوانين للمحاكم الأهلية، فرجع الخديوي وحكومته الى القوانين الفرنسية تأخذ منها ما تشاء، وبذلك تحمل الأزهر هذا الإثم الشديد، ولكنه عاد فقدم للمحاكم الشرعية قوانين وقضاة.
وفي قوانين الأزهر الأخيرة ما يرشد إلى رسالة الأزهر، فهو المعهد الديني العلمي الإسلامي الأكبر، والغرض منه القيام على حفظ الشريعة الإسلامية الغراء وأصولها وفروعها واللغة العربية، وعلى نشرها تخريج من يوكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة ويلون وظائف الدولة الشرعية
واستطرد من ذلك إلى أن الأزهر أمامه طريق شائك وليل مظلم، وأنه لا يستطيع بحالته أن يسير لأداء رسالته، وطلب أن يرتفع الأزهر بأئمته وعلمائه ومفتيه، وأن يجتهد الأزهر فيصلح ما فسد فيه، ويسير لأداء رسالته الصحيحة، رسالة الهدى والإصلاح.
12
وفي عام 1936أعلن علي ماهر عن عدة مسابقات تمنح الحكومة فيها مكافات سخية للفائزين، وكان من موضوعات هذه المسابقة «رسالة الأزهر في القرن العشرين» وقد فاز بالجائزة الأولى فيها الأستاذ أحمد خاكي. وقد ذهب هذا الباحث فيما ذهب إليه إلى أن تاريخ الأزهر يتصل اتصالا وثيقا بالحركات الفكرية التي قامت في مصر منذ السنة التي أنشيء فيها، ويتمثل فيه من ناحية أخرى مبادىء الإسلام وما كان لها من سلطان، لأن الأزهر
معهد ديني كانت رسالته دائما رسالة الإسلام، وكانت لشيوخه الزعامة الفكرية في القديم، حتى أن بونابرت لما دخل مصر ووجد للأزهر الزعامة الدينية والاجتماعية والسياسية تقرب إلى شيوخه، وجعل أعضاء «الديوان» الذي أنشأه منه، وهذا اعتراف بسلطان الأزهر على الشعب.(3/37)
وفي عام 1936أعلن علي ماهر عن عدة مسابقات تمنح الحكومة فيها مكافات سخية للفائزين، وكان من موضوعات هذه المسابقة «رسالة الأزهر في القرن العشرين» وقد فاز بالجائزة الأولى فيها الأستاذ أحمد خاكي. وقد ذهب هذا الباحث فيما ذهب إليه إلى أن تاريخ الأزهر يتصل اتصالا وثيقا بالحركات الفكرية التي قامت في مصر منذ السنة التي أنشيء فيها، ويتمثل فيه من ناحية أخرى مبادىء الإسلام وما كان لها من سلطان، لأن الأزهر
معهد ديني كانت رسالته دائما رسالة الإسلام، وكانت لشيوخه الزعامة الفكرية في القديم، حتى أن بونابرت لما دخل مصر ووجد للأزهر الزعامة الدينية والاجتماعية والسياسية تقرب إلى شيوخه، وجعل أعضاء «الديوان» الذي أنشأه منه، وهذا اعتراف بسلطان الأزهر على الشعب.
ووسط الزوابع السياسية التي تلت عصر نابليون وسبقت ولاية محمد علي قام الأزهريون يثبتون حق الشعب ويؤيدون ما يذهبون إليه بنصوص من الدين الحنيف، ولقد كان للسيد عمر مكرم نقيب الأشراف حينئذ المكانة الأولى بين ممثلي الشعب، وكان الشعب غاضبا على خورشيد باشا راغبا في تولية محمد علي، وفي تاريخ الجبرتي نقاش بين السيد عمر مكرم وبين عمر بك أحد أنصار خورشيد، فقد كان عمر يذكره بالآية الكريمة {أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فلم يكن من السيد عمر إلا أن قال: «أولو الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل»، ألسنا نحس في ذلك الرد وحده تلك القوة الوليدة التي شعر بها زعماء الأزهر وألسنا نستطيع أن ندرك دهاء محمد علي حينما اجتذب الشيوخ إلى جانبه فتغلب على القوى التي كانت تنافسه؟ وسلطان هؤلاء الأزهريين هو الذي ظاهره على المماليك وهو الذي أرغم الخليفة على أن يعترف بولايته، كانت هذه إذن سابقة للأزهر أعلنت من مكانه فظل زعيما للجماعة المصرية بعد ذلك. وما برح الأزهر يساير الحركة الفكرية في مصر حتى تمخض في أواخر القرن التاسع عشر عن حركة شاملة من حركات الإصلاح توجهت ضد العناصر الدخيلة التي مشت بالسوء في أمم الشرق، وقد رفع هذه الحركة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، ولعل خير ما يذكر من أيادي الاستاذ الإمام أنه خرج الى فلاسفة الغرب يرد الحجة بالحجة ويقرع البرهان بالبرهان، ولم يكن الجدل الذي نشب بينه وبين هانوتو إلا ناحية من الصراع الفكري بين الشرق والغرب، وكان المؤرخ الفرنسي يفتعل الذرائع والمسوغات التي تحلل ما اقترفته السياسة المادية التي استحلت لنفسها كل
ما تحرمه الشرائع والقوانين، ولم يكن الإمام المصري في ردوده إلا مدافعا عن أصول الإسلام الأولى يلحق البينة بالبينة يميز بين ما هو من صلب الدين وبين ما هو دخيل على الدين على أن ذلك الكفاح الذي تولاه الأستاذ الإمام والذي خلق بعد ذلك مدرسة بأسرها من مدارس الفكر لم يزل حتى أصاب ساعدا قويا في أفراد من المتخرجين في الأزهر ثاروا على حكومة الدخلاء، واتصلوا بالجيش آملين أن يحققوا بعض مثلهم العليا، فكانت الثورة التي اتصلت باسم عرابي باشا، وقد نجح التفكير الأزهري في هذه المرة إلى ثورة عسكرية لم تكن موفقة لأنها لم تكن من طبيعة الأزهر، وعرابي نفسه كان أزهريا لكنه لم يكن بالأزهري الرشيد، وقد جمعت هذه الثورة العسكرية إلى العناصر الواهية التي أنهكتها كثيرا من العناصر السامية التي خلقت في مصر أثرا بليغا، وكانت على الرغم مما انتابها من وهن نهضة قومية ما زالت تنمو حتى كانت شاملة بعد الحرب الكبرى، ولسنا ننسى أن الأزهر كان محطا لركاب هذه النهضة، فالأزهر كان مركزا للزعامة في أوائل القرن التاسع عشر وقد ظل مصدر للزعماء حتى بداية القرن العشرين، وقد ظهرت قوة الأزهر في الحالات التي احتكت بها مصر بالدخلاء الأجانب، ظهرت تلك القوة أمام الفرنسيين بزعامة السيد عمر مكرم، ثم انتظمت في جسم الأمة حتى وضحت مرة أخرى بزعامة الشيخ محمد عبده، وكانت موجهة في هذه المرة إلى الذين بسطوا أقلامهم في الدين من الفلاسفة والمؤرخين الأجانب، ثم كان لها بعد ذلك وجه قومي بدأ بقيادة عرابي وانتهى سلميا بزعامة سعد زغلول، وقد حاولت الحركة الأولى أن تتخلص من دخلاء الشركس، وحاولت الثانية أن تستقل عن كل أجنبي:(3/38)
ووسط الزوابع السياسية التي تلت عصر نابليون وسبقت ولاية محمد علي قام الأزهريون يثبتون حق الشعب ويؤيدون ما يذهبون إليه بنصوص من الدين الحنيف، ولقد كان للسيد عمر مكرم نقيب الأشراف حينئذ المكانة الأولى بين ممثلي الشعب، وكان الشعب غاضبا على خورشيد باشا راغبا في تولية محمد علي، وفي تاريخ الجبرتي نقاش بين السيد عمر مكرم وبين عمر بك أحد أنصار خورشيد، فقد كان عمر يذكره بالآية الكريمة {أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فلم يكن من السيد عمر إلا أن قال: «أولو الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل»، ألسنا نحس في ذلك الرد وحده تلك القوة الوليدة التي شعر بها زعماء الأزهر وألسنا نستطيع أن ندرك دهاء محمد علي حينما اجتذب الشيوخ إلى جانبه فتغلب على القوى التي كانت تنافسه؟ وسلطان هؤلاء الأزهريين هو الذي ظاهره على المماليك وهو الذي أرغم الخليفة على أن يعترف بولايته، كانت هذه إذن سابقة للأزهر أعلنت من مكانه فظل زعيما للجماعة المصرية بعد ذلك. وما برح الأزهر يساير الحركة الفكرية في مصر حتى تمخض في أواخر القرن التاسع عشر عن حركة شاملة من حركات الإصلاح توجهت ضد العناصر الدخيلة التي مشت بالسوء في أمم الشرق، وقد رفع هذه الحركة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، ولعل خير ما يذكر من أيادي الاستاذ الإمام أنه خرج الى فلاسفة الغرب يرد الحجة بالحجة ويقرع البرهان بالبرهان، ولم يكن الجدل الذي نشب بينه وبين هانوتو إلا ناحية من الصراع الفكري بين الشرق والغرب، وكان المؤرخ الفرنسي يفتعل الذرائع والمسوغات التي تحلل ما اقترفته السياسة المادية التي استحلت لنفسها كل
ما تحرمه الشرائع والقوانين، ولم يكن الإمام المصري في ردوده إلا مدافعا عن أصول الإسلام الأولى يلحق البينة بالبينة يميز بين ما هو من صلب الدين وبين ما هو دخيل على الدين على أن ذلك الكفاح الذي تولاه الأستاذ الإمام والذي خلق بعد ذلك مدرسة بأسرها من مدارس الفكر لم يزل حتى أصاب ساعدا قويا في أفراد من المتخرجين في الأزهر ثاروا على حكومة الدخلاء، واتصلوا بالجيش آملين أن يحققوا بعض مثلهم العليا، فكانت الثورة التي اتصلت باسم عرابي باشا، وقد نجح التفكير الأزهري في هذه المرة إلى ثورة عسكرية لم تكن موفقة لأنها لم تكن من طبيعة الأزهر، وعرابي نفسه كان أزهريا لكنه لم يكن بالأزهري الرشيد، وقد جمعت هذه الثورة العسكرية إلى العناصر الواهية التي أنهكتها كثيرا من العناصر السامية التي خلقت في مصر أثرا بليغا، وكانت على الرغم مما انتابها من وهن نهضة قومية ما زالت تنمو حتى كانت شاملة بعد الحرب الكبرى، ولسنا ننسى أن الأزهر كان محطا لركاب هذه النهضة، فالأزهر كان مركزا للزعامة في أوائل القرن التاسع عشر وقد ظل مصدر للزعماء حتى بداية القرن العشرين، وقد ظهرت قوة الأزهر في الحالات التي احتكت بها مصر بالدخلاء الأجانب، ظهرت تلك القوة أمام الفرنسيين بزعامة السيد عمر مكرم، ثم انتظمت في جسم الأمة حتى وضحت مرة أخرى بزعامة الشيخ محمد عبده، وكانت موجهة في هذه المرة إلى الذين بسطوا أقلامهم في الدين من الفلاسفة والمؤرخين الأجانب، ثم كان لها بعد ذلك وجه قومي بدأ بقيادة عرابي وانتهى سلميا بزعامة سعد زغلول، وقد حاولت الحركة الأولى أن تتخلص من دخلاء الشركس، وحاولت الثانية أن تستقل عن كل أجنبي:
لقد رأينا كيف كان الأزهر مصدرا للزعامة والكفاح، وقد رأينا كيف استعان الفكر المصري في كفاحه السياسي والديني والاجتماعي بسلطان الأزهر فقضى على المبادىء الخربة التي تربصت بالشرق الدوائر، وقد تزعم شيوخ الأزهر المصريين لأن هؤلاء كانوا يستوحونهم الشعور الديني وكان
يتمثل في خلقهم وإرشادهم تلك القوى الحية التي نماها الإسلام وقواها فإن نحن أردنا أن نضرب بسهم في سبيل التقدم وجب علينا أن نرجع إلى أصول الإسلام الأولى فنحي تراثه وتلك الرجعة إلى ديننا الحنيف هي من رسالة الأزهر لحمتها وسداها، وجدير بالأزهر إذا أراد إحياء لذلك المجد الأثيل أن يعود سيرته الأولى من حيث الكفاح والزعامة وأن تتمثل فيه كل المثل العليا التي بسطنا القليل منها فيما تقدم، وبذلك يستطيع أن يلهم الناس دينهم خالصا نقيا، بل خليق به بعد ذلك إذا أراد أن يكون في الرأس أن يتصل أتصالا وثيقا بالحركات الاجتماعية التي تدب بين المصريين وقد بينا كيف كانت رسالة الأزهر دائما مزدوجة، فهي دينية من ناحية واجتماعية من ناحية أخرى ذلك بأن الإسلام كما أسلفنا دين يجمع بين العقائد والشرائع يسعى لخير الجماعة في شتى الصور ويؤلف بين خلق الفرد خاصة وبين الأمة بوجه عام، لقد كان اهتمام الأزهر بالحركات الاجتماعية في مصر وحد به عليها أساسا لزعامته التي ظل الجميع يعترفون بها حتى أواخر القرن التاسع عشر وفي اليوم الذي يعتزل الأزهر فيه الحياة العامة يضحي من سلطانه الذي كفله الدين نفسه والذي عنا له المصريون خلال الأحداث التي اكتظ بها تاريخهم الطويل الحافل، ويعتزل الأزهر الحياة العامة إذا هو اطمأن إلى القيود التي تعوق التقدم فإن ذلك لا يتفق مع روح الإسلام نفسه ومصر ككل جزء من أجزاء الأرض ما زالت تنشد الإيمان والخير والحرية لكل المصريين إذ يتشبثون بتلك المبادىء يتلفتون ذات اليمين وذات اليسار يريدون أن يجدوا ملجأ فيطمئنوا إليه ويعتصموا به.(3/39)
لقد رأينا كيف كان الأزهر مصدرا للزعامة والكفاح، وقد رأينا كيف استعان الفكر المصري في كفاحه السياسي والديني والاجتماعي بسلطان الأزهر فقضى على المبادىء الخربة التي تربصت بالشرق الدوائر، وقد تزعم شيوخ الأزهر المصريين لأن هؤلاء كانوا يستوحونهم الشعور الديني وكان
يتمثل في خلقهم وإرشادهم تلك القوى الحية التي نماها الإسلام وقواها فإن نحن أردنا أن نضرب بسهم في سبيل التقدم وجب علينا أن نرجع إلى أصول الإسلام الأولى فنحي تراثه وتلك الرجعة إلى ديننا الحنيف هي من رسالة الأزهر لحمتها وسداها، وجدير بالأزهر إذا أراد إحياء لذلك المجد الأثيل أن يعود سيرته الأولى من حيث الكفاح والزعامة وأن تتمثل فيه كل المثل العليا التي بسطنا القليل منها فيما تقدم، وبذلك يستطيع أن يلهم الناس دينهم خالصا نقيا، بل خليق به بعد ذلك إذا أراد أن يكون في الرأس أن يتصل أتصالا وثيقا بالحركات الاجتماعية التي تدب بين المصريين وقد بينا كيف كانت رسالة الأزهر دائما مزدوجة، فهي دينية من ناحية واجتماعية من ناحية أخرى ذلك بأن الإسلام كما أسلفنا دين يجمع بين العقائد والشرائع يسعى لخير الجماعة في شتى الصور ويؤلف بين خلق الفرد خاصة وبين الأمة بوجه عام، لقد كان اهتمام الأزهر بالحركات الاجتماعية في مصر وحد به عليها أساسا لزعامته التي ظل الجميع يعترفون بها حتى أواخر القرن التاسع عشر وفي اليوم الذي يعتزل الأزهر فيه الحياة العامة يضحي من سلطانه الذي كفله الدين نفسه والذي عنا له المصريون خلال الأحداث التي اكتظ بها تاريخهم الطويل الحافل، ويعتزل الأزهر الحياة العامة إذا هو اطمأن إلى القيود التي تعوق التقدم فإن ذلك لا يتفق مع روح الإسلام نفسه ومصر ككل جزء من أجزاء الأرض ما زالت تنشد الإيمان والخير والحرية لكل المصريين إذ يتشبثون بتلك المبادىء يتلفتون ذات اليمين وذات اليسار يريدون أن يجدوا ملجأ فيطمئنوا إليه ويعتصموا به.
فجدير بالأزهر إذا أن يساهم في كل نواحي الحياة المصرية وأن يكون كما كان في القرن التاسع عشر قوة دافعة تستمد من قوة الدين والحق، إن زعامة الأزهر لنواحي النشاط في مصر سوف تنتج خيرا شاملا، ذلك لأن التقدم المادي ينتهي دائما بكفاح يخلو من المثل الأعلى، وكل كفاح يخلو من المثل الأعلى يؤدي حتما إلى الفناء كالنار تأكل نفسها، وقد
تقنعنا نظرة عجلى إلى تاريخ أوروبا بكل ذلك فقد تناست ممالكها في تنازعها كل المثل العليا التي جاء بها دينها وهي لا تزال تتناساها إلى اليوم في نزاعها مع القارات الأخرى.(3/40)
فجدير بالأزهر إذا أن يساهم في كل نواحي الحياة المصرية وأن يكون كما كان في القرن التاسع عشر قوة دافعة تستمد من قوة الدين والحق، إن زعامة الأزهر لنواحي النشاط في مصر سوف تنتج خيرا شاملا، ذلك لأن التقدم المادي ينتهي دائما بكفاح يخلو من المثل الأعلى، وكل كفاح يخلو من المثل الأعلى يؤدي حتما إلى الفناء كالنار تأكل نفسها، وقد
تقنعنا نظرة عجلى إلى تاريخ أوروبا بكل ذلك فقد تناست ممالكها في تنازعها كل المثل العليا التي جاء بها دينها وهي لا تزال تتناساها إلى اليوم في نزاعها مع القارات الأخرى.
وقد كفل الإسلام الحرية بما رفع من مقام الإنسان والنظام بما أتى من أحكام الشرع وجعل طاعة الله ورسوله وأولى الأمر واجبات نقوم بها ونحن راضون، وبذل النصح لأولي الأمر بأن يترفقوا بالناس، ثم أنه قد جعل الناس كلهم إخوة فكان خير الناس عند الله أتقاهم فضمن بذلك حق العامة أمام الخاصة، كل هذا أتى به الإسلام ونزله مبادىء دستورية يستطيع الفقهاء أن يلائموا بينها في بيئاتهم وبذلك كفل للإنسان أن يتقدم دائما. ولسنا نرى تقدما أرشد من هذا الذي يقوم على مثل المبادىء، على أن التوفيق بينها أجمعين كان دائما أس التقدم عند دول الإسلام. يقول النفسيون: إن الإنسان لا يبلغ حدا من الكمال إلا إذا وازن بين القوى والملكات التي يكسبها، وقد ذهب الى ذلك أفلاطون وقال مثل ذلك قوم آخرون قبل أن يدرس علم النفس، لكن التوازن بين قوى الإنسان وملكاته أصبح حقيقة علمية في العصر الحديث وينشأ كثير من أنواع الجنون إذا اختل هذا التوازن بل نحسب أن الانسجام محبب إلى النفس من الوجهة الجمالية وقد حاول كثير من الفلاسفة وقد كانوا موفقين أن يبحثوا في مثل هذا التوازن في المجتمع ويحدث جنون الفرد إذا هو أفرط في الأخذ بفكرة من الأفكار أو خيال من الخيالات وكذلك يحدث جنون الجماعة إذا هي أخذت بمبدأ واحد تمادت فيه مهما كان هذا المبدأ سليما، وما نظن إلا أن الإسلام كفيل بأن يؤلف بين كل تلك المبادىء فيرسل الانسجام فيها إرسالا.
ثم خلص من تلك الى أن رسالة الأزهر هي نشر رسالة التقدم الروحي والفكري والاجتماعي في البلاد الإسلامية.(3/41)
13
ويقول الدكتور حسين الهمداني الباكستاني حول رسالة الأزهر:
حفلت البلاد الإسلامية منذ انبثق فجر الإسلام بدور العلم ومعاهد العرفان في وقت كانت ظلمات الجهل تجثم فيه فوق ربوع العالم العربي، ومع أن هذه الدرر كانت تتسم بطابع خاص هو الطابع الإسلامي فإنها كانت تتوسم في نظامها واتجاهاتها الحرص على توفير أسباب الطمأنينة في نفوس طلاب العلم وتوثيق الصلة بينهم وبين أساتذتهم وإشاعة تلك الروح الجامعية التي يجب توافرها في معاهد العلم العليا مثل ما يشاهده المرء الآن في أعرق الجامعات العربية. ويلوح أنه لم يكن ثمة مناص من أن تغدوا المساجد والجوامع مقرا لنشر المعرفة كما كانت وما زالت مصدرا لبث الهداية والرشد في نفوس الناس في الوقت ذاته. ولم يكن هناك تعارض في اضطلاعها بالمهمتين، فإن الدين الإسلامي الذي يأمر بالتسامح والمساواة ويحث على طلب المعرفة ولو اقتضى الأمر الاغتراب في مشارق الأرض ومغاربها ما كان ليجد خيرا من المساجد بجوها القدسي لغرس العلم والمعرفة في نفوس المسلمين، بل إن اختيار المساجد لهذا الغرض يحمل في طياته الإقرار بقداسة العلم ووجوب تطهيره من حمأة الأغراض الدنيوية والبعد به عن كل جو ينحرف به عن قدسيته. وقد ظهر في الإسلام معاهد علمية عظيمة القدر رفيعة الاسم، وكان الحكام يتنافسون في إنشائها، فأنشىء الأزهر في عام 361هـ (971م) وأنشئت الكلية النظامية في عام 459هـ (1066م)، وأنشئت الصالحية في القدس عام 583هـ (1187م). وكان الغرض من إنشاء هذه المعاهد هي وغيرها بادىء الأمر وباستثناء المستنصرية هو تدريس المذاهب الدينية والدعوة لها، فأنشىء الأزهر لتدعيم المذهب الشيعي في مصر بعد فتحها على يد الفاطميين.
وأنشئت النظامية هي والصلاحية لدعم المذهب الشافعي بينما أنشئت المستنصرية لتدريس المذاهب الأربعة وكان بها كلية لتدريس الطب وأخرى
لتدريس الرياضيات واللغات وقد اختفت هذه المعاهد العظيمة واندثرت وعفا عليها الدهر فيما عدا الأزهر الذي ظل راسخا كالطود بالرغم مما مر به من أحداث بل واضطهاد في بعض العصور. ولعمري أن المرء ليتساءل ماذا كان يصيب اللغة العربية وآدابها وما يتصل بهما من علوم ومعرفة لو أن الأزهر أصابه ما أصاب غيره من معاهد ولم يصمد للحوادث طيلة هذه الأجيال؟(3/42)
وأنشئت النظامية هي والصلاحية لدعم المذهب الشافعي بينما أنشئت المستنصرية لتدريس المذاهب الأربعة وكان بها كلية لتدريس الطب وأخرى
لتدريس الرياضيات واللغات وقد اختفت هذه المعاهد العظيمة واندثرت وعفا عليها الدهر فيما عدا الأزهر الذي ظل راسخا كالطود بالرغم مما مر به من أحداث بل واضطهاد في بعض العصور. ولعمري أن المرء ليتساءل ماذا كان يصيب اللغة العربية وآدابها وما يتصل بهما من علوم ومعرفة لو أن الأزهر أصابه ما أصاب غيره من معاهد ولم يصمد للحوادث طيلة هذه الأجيال؟
لقد كان هذا الأزهر ولا يزال وأرجو أن يظل على ذلك أبد الدهر دعاية العلوم والمعارف في العالم الإسلامي. وقد أراد الله بالأمم الإسلامية خيرا حين كلأ هذا الجامع بعنايته ورعايته وصانه من غوائل الدهر ومن الانهيار.
ولم يكن الأزهر بناء أو جدرانا لا حياة فيها. بل كان على الدوام فكرة نابضة وروحا متسامية وحياة فكرية ومبادىء حية. بدأ جامعا فانقلب جامعة لها خصائصها وتقاليدها وسمتها وطابعها. وقد ظلت هذه التقاليد والخصائص والطابع والسمة تلازمه على مر العصور. وكان من خير هذه التقاليد أن الطالب يظل يتلقى العلم حتى إذا / آنس في نفسه القدرة على التصدر للعلم أذاع ذلك بين زملائه وشيوخه فتعقد في ديوان الأزهر حلقة من العلماء النابهين يجلس الطالب في صدرها ويناقش نقاشا حادا في المادة التي تدرسها وفي جميع المواد المتصلة بها، فإذا أثبت الطالب كفاءة ممتازة منح حق التدريس. وهذا التقليد يذكرنا بما هو متبع في الجامعات العريقة وفي مناقشة رسالات الدكتوراه فيها في عصرنا الحديث. وإذا كان الأزهر قد صعد نيفا وألف عام للأحداث وظل راسخا في أداء رسالته في دعم أركان الدين الإسلامي ونشر العلوم الإسلامية، واستطاع أن يحتفظ بمكانته المرموقة كدعامة قوية للإسلام ومنارة لنشر العلم والعرفان، فإن منهجه يجب أن يحتذى في كافة الأمصار الإسلامية فليس في وسع سكان الباكستان أو غيرها من البلاد الإسلامية أن يفدوا بقضهم وقضيضهم ليتزودوا من منهل الأزهر الذي لا ينضب وينهلوا من مورده العذب، عل أن الباكستان وغيرها من البلاد الإسلامية لا تستطيع أن تترسم الروح الأزهرية الفذة دون أن تنوه
ببعض ما يجول في نفوس بعض العلماء من مخاوف بشأن اضمحلال هذه الروح بسبب تلك النظم الحديثة التي أدخلت في الأزهر مثل نظام الامتحانات وتحديد المقررات وكثرة المواد الدراسية التي لا تتصل بالدراسات الإسلامية حتى أن البعض يعتقد أن مستوى التحصيل في الأزهر قد اخفض انخفاضا ملموسا بسبب انصراف الطلبة إلى إحراز الإجازات التي تعتبر سلاحا للتوظف دون الرغبة في التزود بالعلم لذاته والتعمق في المعرفة. وقد كان النظام الذي سلكه الأزهر خلال القرون الماضية نظاما جامعيا بحتا وكانت الروح العلمية تسيطر على جوه، فكانت صلة الطالب بمدرسته صلة وثيقة دعامتها العلم والرغبة في اعتراف مناهله وحسبك أن تعلم أن الجامعات الغربية تتهيأ الآن هذا التهيؤ لتأدية رسالتها.(3/43)
ولم يكن الأزهر بناء أو جدرانا لا حياة فيها. بل كان على الدوام فكرة نابضة وروحا متسامية وحياة فكرية ومبادىء حية. بدأ جامعا فانقلب جامعة لها خصائصها وتقاليدها وسمتها وطابعها. وقد ظلت هذه التقاليد والخصائص والطابع والسمة تلازمه على مر العصور. وكان من خير هذه التقاليد أن الطالب يظل يتلقى العلم حتى إذا / آنس في نفسه القدرة على التصدر للعلم أذاع ذلك بين زملائه وشيوخه فتعقد في ديوان الأزهر حلقة من العلماء النابهين يجلس الطالب في صدرها ويناقش نقاشا حادا في المادة التي تدرسها وفي جميع المواد المتصلة بها، فإذا أثبت الطالب كفاءة ممتازة منح حق التدريس. وهذا التقليد يذكرنا بما هو متبع في الجامعات العريقة وفي مناقشة رسالات الدكتوراه فيها في عصرنا الحديث. وإذا كان الأزهر قد صعد نيفا وألف عام للأحداث وظل راسخا في أداء رسالته في دعم أركان الدين الإسلامي ونشر العلوم الإسلامية، واستطاع أن يحتفظ بمكانته المرموقة كدعامة قوية للإسلام ومنارة لنشر العلم والعرفان، فإن منهجه يجب أن يحتذى في كافة الأمصار الإسلامية فليس في وسع سكان الباكستان أو غيرها من البلاد الإسلامية أن يفدوا بقضهم وقضيضهم ليتزودوا من منهل الأزهر الذي لا ينضب وينهلوا من مورده العذب، عل أن الباكستان وغيرها من البلاد الإسلامية لا تستطيع أن تترسم الروح الأزهرية الفذة دون أن تنوه
ببعض ما يجول في نفوس بعض العلماء من مخاوف بشأن اضمحلال هذه الروح بسبب تلك النظم الحديثة التي أدخلت في الأزهر مثل نظام الامتحانات وتحديد المقررات وكثرة المواد الدراسية التي لا تتصل بالدراسات الإسلامية حتى أن البعض يعتقد أن مستوى التحصيل في الأزهر قد اخفض انخفاضا ملموسا بسبب انصراف الطلبة إلى إحراز الإجازات التي تعتبر سلاحا للتوظف دون الرغبة في التزود بالعلم لذاته والتعمق في المعرفة. وقد كان النظام الذي سلكه الأزهر خلال القرون الماضية نظاما جامعيا بحتا وكانت الروح العلمية تسيطر على جوه، فكانت صلة الطالب بمدرسته صلة وثيقة دعامتها العلم والرغبة في اعتراف مناهله وحسبك أن تعلم أن الجامعات الغربية تتهيأ الآن هذا التهيؤ لتأدية رسالتها.
ولكن ما لبث النظام «المدرسي» الجديد الذي أدخل على الأزهر أن أضعف من هذه الرابطة العلمية بين الطالب وأستاذه. ثم إن النظام يعمل على شحن ذهن الطالب بعلوم لا طائل تحتها ولا يدع له وقتا ولا ميلا للتعمق في نوع عين من المعرفة الإسلامية تعمق من شأنه أن يخلق لنا علماء من طراز الشيخ محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرزاق والشيخ المراغي وإضرابهم من جهابذة العلماء الذين يفخر العالم الإسلامي بهم. والحق أن النواة لأمثال هؤلاء العلماء موجودة فإن الطلبة الأزهريين ما زالوا يتسمون بالروح العلمية، وقد علمت من أحد القائمين على إدارة المعهد البريطاني في القاهرة أنه وجد في الطلبة الأزهريين الذين يتلقون اللغة الانجليزية في المعهد المذكور استعدادا وإدراكا وتعمقا وغيرة وإقبالا على العلم بما هو جدير بطلبة هذه الجامعة العريقة، ونعتقد أن خير ما يمكن أن يفعله الأزهر هو أن يعمل جاهدا للعودة لذلك الجو العلمي البحث الذي عرف به وأن يقضي على نظام الامتحانات أو يعد له، بحيث ينصرف الطلاب للعلم وحده دون النظر للإجازات العلمية كهدف يتعين عليهم تحقيقه للحصول على الوظائف.(3/44)
وبودنا لو عنى رجال الأزهر الأعلام الألمعيون بأمر جدير بعنايتهم وهو تعليم الفتيات، فالشاهد أن الأسر الإسلامية كثيرا ما تدخل فتياتها في المعاهد الأجنبية التبشيرية، ولسنا نجد مبررا لحرمان الفتيات المسلمات من الثقافة الدينية الإسلامية ما لم يمد يده لمعونتها. والواقع أن رسالة الأزهر لا تقتصر ولا يجب أن تقتصر على مصر وحدها بل رسالته أعم وأشمل. ومن حق البلاد الإسلامية أن تطالبه بأن يمد رسالته عبر البحار لا إلى البلاد الإسلامية فحسب بل وللبلاد غير الإسلامية أيضا. ومن حسن الطالع ألا يكون هذا هو رأينا وحدنا بل هو رأي الحكومة المصرية نفسها بدليل ما وافق عليه مجلس الوزراء في إحدى جلساته الأخيرة من فتح الاعتمادات لإنشاء معهدين إسلاميين في مدريد وطنجة. وفي وسع الأزهر أن يساهم مساهمة أدبية ومادية في إنشاء معاهد العلوم الإسلامية والدينية في البلاد الإسلامية فيبعث بعلمائه إلى هذه الأمصار التي ستلقاهم بصدر رحب وتحلهم منها مكانة الصدر والأعزاز، يبثون فيها تلك الروح الفقهية والعلمية العميقة التي انفرد الأزهر بها منذ حوالي عشرة قرون ويضعون برامج الدراسة في هذه المعاهد وفق النهج الذي مارسه الأزهر منذ إنشائه ويعملون على نشر اللغة العربية ودعمها في البلاد الإسلامية غير العربية. ولسعادة علوبة باشا مشروع في هذا الشأن يستطيع علماء الأزهر دراسته وتنفيذه كله او بعضه. أما بالنسبة للبلاد غير الإسلامية فإن واجب الأزهر يقتضيه بوصفه دعامة العلوم الإسلامية ومنارة الدين والهدى أن ينشىء المعاهد الإسلامية في عواصمها ومدنها الكبرى وأن يزودها ببعض زملائه الذين يتقنون اللغات حتى يكون في مقدورهم نشر العلوم الإسلامية في هذه البلاد. وإذا كانت بعض الجميعات الإسلامية قد أحرزت توفيقا في هذا المضمار فأحرى بالأزهر وهو المؤسسة التليدة العريقة أن يصيب نجاحا عظيما بما يتوافر لديه من اعتبارات وعوامل تكفل له التوفيق والنجاح في القيام برسالته. ويستطيع الأزهر مثلا أن ينشىء معاهد في لندن وبرلين وباريس وروما وواشنطون وغيرها من المدن الكبرى
على غرار ما نراه من المعاهد الأجنبية التي تنشئها الدول الغربية بين ظهرانينا ونعتقد أن مثل هذا العمل يستدعي إنشاء معهد خاص للغات الأجنبية في الأزهر نفسه يدرس فيه العلماء والطلاب تلك اللغات بتوسيع وتعمق في وسط ازهري يكفل لهم تغلغل الروح الأزهرية العالية في نفوسهم.(3/45)
وبودنا لو عنى رجال الأزهر الأعلام الألمعيون بأمر جدير بعنايتهم وهو تعليم الفتيات، فالشاهد أن الأسر الإسلامية كثيرا ما تدخل فتياتها في المعاهد الأجنبية التبشيرية، ولسنا نجد مبررا لحرمان الفتيات المسلمات من الثقافة الدينية الإسلامية ما لم يمد يده لمعونتها. والواقع أن رسالة الأزهر لا تقتصر ولا يجب أن تقتصر على مصر وحدها بل رسالته أعم وأشمل. ومن حق البلاد الإسلامية أن تطالبه بأن يمد رسالته عبر البحار لا إلى البلاد الإسلامية فحسب بل وللبلاد غير الإسلامية أيضا. ومن حسن الطالع ألا يكون هذا هو رأينا وحدنا بل هو رأي الحكومة المصرية نفسها بدليل ما وافق عليه مجلس الوزراء في إحدى جلساته الأخيرة من فتح الاعتمادات لإنشاء معهدين إسلاميين في مدريد وطنجة. وفي وسع الأزهر أن يساهم مساهمة أدبية ومادية في إنشاء معاهد العلوم الإسلامية والدينية في البلاد الإسلامية فيبعث بعلمائه إلى هذه الأمصار التي ستلقاهم بصدر رحب وتحلهم منها مكانة الصدر والأعزاز، يبثون فيها تلك الروح الفقهية والعلمية العميقة التي انفرد الأزهر بها منذ حوالي عشرة قرون ويضعون برامج الدراسة في هذه المعاهد وفق النهج الذي مارسه الأزهر منذ إنشائه ويعملون على نشر اللغة العربية ودعمها في البلاد الإسلامية غير العربية. ولسعادة علوبة باشا مشروع في هذا الشأن يستطيع علماء الأزهر دراسته وتنفيذه كله او بعضه. أما بالنسبة للبلاد غير الإسلامية فإن واجب الأزهر يقتضيه بوصفه دعامة العلوم الإسلامية ومنارة الدين والهدى أن ينشىء المعاهد الإسلامية في عواصمها ومدنها الكبرى وأن يزودها ببعض زملائه الذين يتقنون اللغات حتى يكون في مقدورهم نشر العلوم الإسلامية في هذه البلاد. وإذا كانت بعض الجميعات الإسلامية قد أحرزت توفيقا في هذا المضمار فأحرى بالأزهر وهو المؤسسة التليدة العريقة أن يصيب نجاحا عظيما بما يتوافر لديه من اعتبارات وعوامل تكفل له التوفيق والنجاح في القيام برسالته. ويستطيع الأزهر مثلا أن ينشىء معاهد في لندن وبرلين وباريس وروما وواشنطون وغيرها من المدن الكبرى
على غرار ما نراه من المعاهد الأجنبية التي تنشئها الدول الغربية بين ظهرانينا ونعتقد أن مثل هذا العمل يستدعي إنشاء معهد خاص للغات الأجنبية في الأزهر نفسه يدرس فيه العلماء والطلاب تلك اللغات بتوسيع وتعمق في وسط ازهري يكفل لهم تغلغل الروح الأزهرية العالية في نفوسهم.
14
وفي عام 1952نشر الأستاذ أمين الخولي في جريدة المصري مقالات متعددة عن «الدين والحياة» عرض فيها للأزهر بالتحليل والنقد، وندد بحيرته في أداء رسالته، فقال في المقال الأول الذي نشره له المصري في 28من أبريل من هذا العام:
هل أدى الأزهر رسالته، بما هو بيئة التربية الدينية والتوجيه الديني؟
أن ذلك ليقتضيني أن أرجع بالذاكرة إلى ما قبل اثنين وأربعين عاما، إذ أعود إلى عهد من النشاط دخلت فيه «مدرسة القضاء الشرعي، لا تلقي تلك التجربة، السياسية والعلمية، والاجتماعية، التي أرادتها مدرسة الإصلاح الديني الحديث، من شيعة «محمد عبده» وعلى رأسهم، سعد زغلول باشا، فأرادوا في السياسة تجربة استقلالية مصرية، في معهد لا تمتد إليه يد أجنبية ويتولى أمر نفسه، في استقلال إداري وثقافي، لا صلة له بوزارة المعارف، ومستشارها العتيد إذ ذاك كما أرادوا تجربة علمية تلتقي فيها الثقافتان: القديمة والحديثة، والشرقية والغربية، إلتقاء معتدلا رزينا، لا تجوز فيه واحدة على صاحبتها، ولا تنكر واحدة منهما أختها وأرادوا مع ذلك كله تجربة اجتماعية، في الإصلاح بالقدوة والمثل، يشهدهما المجتمع، فيرى مبصر، ويسمع واع فعانيت في دار تلك التجربة ما عانيت أعواما دارسا ومدرسا، ورئيس تحرير مجلة القضاء الشرعي، أعود بالذاكرة إلى سنة 1342هـ 1923م حين انطلقت أرقب الحياة الدينية، والتعليم الديني في أوروبا، وأرصد شئونها، لأقيد نتائج مقابلة
ذلك كله بما في مصر، متتبعا ذلك، في إيطاليا مقر البابوية، بمعاهدها الدينية وفي المانيا وغيرها، بالجامعات المدنية. ثم أعود بالذاكرة إلا ما بعد ذلك، إذ أرجع إلى مصر فأشارك في هذه الشئون بها، مشاركة مفكرة منظمة، مشرعة معلمة إلى حوالي سنة 1940م نحو سنة 1360هـ ثم إلى ما بعد ذلك في تجربة معانية، مراقبة، عنيفة(3/46)
أن ذلك ليقتضيني أن أرجع بالذاكرة إلى ما قبل اثنين وأربعين عاما، إذ أعود إلى عهد من النشاط دخلت فيه «مدرسة القضاء الشرعي، لا تلقي تلك التجربة، السياسية والعلمية، والاجتماعية، التي أرادتها مدرسة الإصلاح الديني الحديث، من شيعة «محمد عبده» وعلى رأسهم، سعد زغلول باشا، فأرادوا في السياسة تجربة استقلالية مصرية، في معهد لا تمتد إليه يد أجنبية ويتولى أمر نفسه، في استقلال إداري وثقافي، لا صلة له بوزارة المعارف، ومستشارها العتيد إذ ذاك كما أرادوا تجربة علمية تلتقي فيها الثقافتان: القديمة والحديثة، والشرقية والغربية، إلتقاء معتدلا رزينا، لا تجوز فيه واحدة على صاحبتها، ولا تنكر واحدة منهما أختها وأرادوا مع ذلك كله تجربة اجتماعية، في الإصلاح بالقدوة والمثل، يشهدهما المجتمع، فيرى مبصر، ويسمع واع فعانيت في دار تلك التجربة ما عانيت أعواما دارسا ومدرسا، ورئيس تحرير مجلة القضاء الشرعي، أعود بالذاكرة إلى سنة 1342هـ 1923م حين انطلقت أرقب الحياة الدينية، والتعليم الديني في أوروبا، وأرصد شئونها، لأقيد نتائج مقابلة
ذلك كله بما في مصر، متتبعا ذلك، في إيطاليا مقر البابوية، بمعاهدها الدينية وفي المانيا وغيرها، بالجامعات المدنية. ثم أعود بالذاكرة إلا ما بعد ذلك، إذ أرجع إلى مصر فأشارك في هذه الشئون بها، مشاركة مفكرة منظمة، مشرعة معلمة إلى حوالي سنة 1940م نحو سنة 1360هـ ثم إلى ما بعد ذلك في تجربة معانية، مراقبة، عنيفة
أعود بالذاكرة إلى ذلك كله، لأرقب سير التطور في هذه الناحية من صلة الدين بالحياة، وإصلاح الدين، والإصلاح به فأجيب عن أسئلتك، بما يحدث به اتجاه ذلك التطور، ودلالة سيره، على هذه الرسالة الأزهرية وأدائها وعلى غير ذلك من الشئون الدينية الحيوية وإذ أعود إلى هذه المذكرات المحفوظة أو المكتوبة أذكر سنة 1355هـ 1936م إذ التقى ثلاثة من جلة الأشياخ، ومنهم رابع وآخر جامعي لتقدير ما كتب من أبحاث، في مسابقة من تلك المسابقات التي أثارها على ماهر، ومن بينها مسابقة عن رسالة الأزهر في القرن العشرين اجتمع هؤلاء المجتمعون ليروا كيف يقدرون ما كتب عن هذه الرسالة وبأي ميزان يزنونه فانتهى الأمر بعد لأي إلى أن للأزهر رسالات ثلاثا: رسالة اجتماعية وأخرى دينية وثالثة علمية وقبل الانتهاء إلى هذه الرسالات الثلاث كانت الرسالة الاجتماعية من بين هذه الثلاث موضع اعتراضات ومناقشات حادة طويلة من أحد أولئك الذين عهد إليهم الدهر بعد بالإشراف على أدائها فقيل: ماذا تكون الرسالة الاجتماعية إلى جانب الدينية؟ وكيف تتغايران؟ وبم تختلفان؟ وهل للأزهر رسالة وراء وجوده الديني الإسلامي؟! وقيل في ذلك شيء كثير، سجل بعضه بحث عن تلك الرسالة الأزهرية لصاحب هذه الكلمات، بيانا لما كان من أمر الأزهر أول إنشائه دعاية لسياسة معينة وعقيدة معينة، فعرف بذلك التوجيه الاجتماعي في نشأته، فكيف به الآن، وقد عمر في قومه أكثر من عمر نوح بخمسين سنة وأكثر ثم هذا الأزهر بعد ذلك وغير بيئة دينية قد تهيأ لها من أسباب المناعة والصيانة ما تستطيع به
حماية الشخصية المصرية خاصة والشرقية عامة والإسلامية جملة وقد كتب حول هذه المعاني وما إليها ما دفعته مطبعة الأزهر نفسه، في ذلك الحين، إلى أيدي القراء وخزائن الكتب تحت عنوان: رسالة الأزهر في القرن العشرين، وفيه أن رسالة الأزهر الاجتماعية إنما هي: حماية الروح القومية لمصر والشرق الإسلامي. جماعة عاقلة. متبصرة متدينة لا تقف عند القشور ولا تعني بالتافه. وفي سبيل هذه الحماية يحتفظ هو لنفسه بالطابع المصري الإسلامي. ثم الشرقي. النافع، الذي لا يعوق الحياة في تجددها ونشاطها العمل. مقدرا نواميس الاجتماع. وقوانين الحياة غير واقف في طريق شيء من ذلك. أو معارض إلا على أساس من النظر البعيد. والوزن الدقيق. أذاع الأزهر الحديث هذه الرسالة الاجتماعية على الناس شرقا وغربا. والأزهريون بالأمس. يعرفون العالم بأنه: العاكف على دينه العارف بحال قومه وللأزهر صحافة غنية راتبة. فما الذي كان من بحث تفاصيل هذه الرسالة الاجتماعية؟ وما الذي درس من اتجاه التطور الاجتماعي. والتجدد الدائم للحياة المصرية. والنشاط العملي لها؟ أما أنا فلا أعرف من ذلك شيئا. ولعل غيري يهديني إلى شيء من هذا التعرف للواجب الاجتماعي على الأزهر لحياة الأمة التي ساير حياتها ألف عام.(3/47)
أعود بالذاكرة إلى ذلك كله، لأرقب سير التطور في هذه الناحية من صلة الدين بالحياة، وإصلاح الدين، والإصلاح به فأجيب عن أسئلتك، بما يحدث به اتجاه ذلك التطور، ودلالة سيره، على هذه الرسالة الأزهرية وأدائها وعلى غير ذلك من الشئون الدينية الحيوية وإذ أعود إلى هذه المذكرات المحفوظة أو المكتوبة أذكر سنة 1355هـ 1936م إذ التقى ثلاثة من جلة الأشياخ، ومنهم رابع وآخر جامعي لتقدير ما كتب من أبحاث، في مسابقة من تلك المسابقات التي أثارها على ماهر، ومن بينها مسابقة عن رسالة الأزهر في القرن العشرين اجتمع هؤلاء المجتمعون ليروا كيف يقدرون ما كتب عن هذه الرسالة وبأي ميزان يزنونه فانتهى الأمر بعد لأي إلى أن للأزهر رسالات ثلاثا: رسالة اجتماعية وأخرى دينية وثالثة علمية وقبل الانتهاء إلى هذه الرسالات الثلاث كانت الرسالة الاجتماعية من بين هذه الثلاث موضع اعتراضات ومناقشات حادة طويلة من أحد أولئك الذين عهد إليهم الدهر بعد بالإشراف على أدائها فقيل: ماذا تكون الرسالة الاجتماعية إلى جانب الدينية؟ وكيف تتغايران؟ وبم تختلفان؟ وهل للأزهر رسالة وراء وجوده الديني الإسلامي؟! وقيل في ذلك شيء كثير، سجل بعضه بحث عن تلك الرسالة الأزهرية لصاحب هذه الكلمات، بيانا لما كان من أمر الأزهر أول إنشائه دعاية لسياسة معينة وعقيدة معينة، فعرف بذلك التوجيه الاجتماعي في نشأته، فكيف به الآن، وقد عمر في قومه أكثر من عمر نوح بخمسين سنة وأكثر ثم هذا الأزهر بعد ذلك وغير بيئة دينية قد تهيأ لها من أسباب المناعة والصيانة ما تستطيع به
حماية الشخصية المصرية خاصة والشرقية عامة والإسلامية جملة وقد كتب حول هذه المعاني وما إليها ما دفعته مطبعة الأزهر نفسه، في ذلك الحين، إلى أيدي القراء وخزائن الكتب تحت عنوان: رسالة الأزهر في القرن العشرين، وفيه أن رسالة الأزهر الاجتماعية إنما هي: حماية الروح القومية لمصر والشرق الإسلامي. جماعة عاقلة. متبصرة متدينة لا تقف عند القشور ولا تعني بالتافه. وفي سبيل هذه الحماية يحتفظ هو لنفسه بالطابع المصري الإسلامي. ثم الشرقي. النافع، الذي لا يعوق الحياة في تجددها ونشاطها العمل. مقدرا نواميس الاجتماع. وقوانين الحياة غير واقف في طريق شيء من ذلك. أو معارض إلا على أساس من النظر البعيد. والوزن الدقيق. أذاع الأزهر الحديث هذه الرسالة الاجتماعية على الناس شرقا وغربا. والأزهريون بالأمس. يعرفون العالم بأنه: العاكف على دينه العارف بحال قومه وللأزهر صحافة غنية راتبة. فما الذي كان من بحث تفاصيل هذه الرسالة الاجتماعية؟ وما الذي درس من اتجاه التطور الاجتماعي. والتجدد الدائم للحياة المصرية. والنشاط العملي لها؟ أما أنا فلا أعرف من ذلك شيئا. ولعل غيري يهديني إلى شيء من هذا التعرف للواجب الاجتماعي على الأزهر لحياة الأمة التي ساير حياتها ألف عام.
وفي المقالة الثانية التي نشرت في أول مايو 1952عن «الأزهر في حياة مصر الدينية» ذكر أن الأزهر هو الذي يحمي إحساس مصر، والشرق الإسلامي بذاتهما إحساسا قويا واضحا، وهو الذي يحمي روح مصر والشرق الإسلامي الخاصة، وهو الذي يحمي الذوق المصري الشرقي، الصالح، ويحييه. وهو الذي يحمي الفضائل العملية المصرية والشرقية، ويغري الناس بها، وهو الذي يحمي العادات المصرية الشرقية الصالحة للبقاء، ويقف بها في وجه العادات الغربية التي لا تلائم البيئة المصرية والشرقية، وهو الذي ينظلأ فيما تقتبسه الحياة من جديد، ويتدخل في هذا الاقتباس، بتعقل ولباقة، ليقاوم الضار منه، على ضوء الهدى الإسلامي،
والخبرة الاجتماعية والفهم الجيد لشئون الحياة فكل هذا وما إليه هو ما دعته تلك الهيئة الأزهرية رسالة الأزهر الاجتماعية، وبالنظر في هذه الرسالة، وجدناها حينا غير واضحة في أذهان رجال هذه البيئة، وحينا ير معتنى بتعرفها، وفهمها الفهم الصحيح، وآنا قد غلبت البيئة الأزهرية غير شخصيتها ذاتها فاندمجت في التيار الغالب بغربيته وطورا يعوز هذه البيئة الاتصال بالحياة، اتصالا قويا فعالا، مؤثرا في سيرها وتوجيهها.(3/48)
وفي المقالة الثانية التي نشرت في أول مايو 1952عن «الأزهر في حياة مصر الدينية» ذكر أن الأزهر هو الذي يحمي إحساس مصر، والشرق الإسلامي بذاتهما إحساسا قويا واضحا، وهو الذي يحمي روح مصر والشرق الإسلامي الخاصة، وهو الذي يحمي الذوق المصري الشرقي، الصالح، ويحييه. وهو الذي يحمي الفضائل العملية المصرية والشرقية، ويغري الناس بها، وهو الذي يحمي العادات المصرية الشرقية الصالحة للبقاء، ويقف بها في وجه العادات الغربية التي لا تلائم البيئة المصرية والشرقية، وهو الذي ينظلأ فيما تقتبسه الحياة من جديد، ويتدخل في هذا الاقتباس، بتعقل ولباقة، ليقاوم الضار منه، على ضوء الهدى الإسلامي،
والخبرة الاجتماعية والفهم الجيد لشئون الحياة فكل هذا وما إليه هو ما دعته تلك الهيئة الأزهرية رسالة الأزهر الاجتماعية، وبالنظر في هذه الرسالة، وجدناها حينا غير واضحة في أذهان رجال هذه البيئة، وحينا ير معتنى بتعرفها، وفهمها الفهم الصحيح، وآنا قد غلبت البيئة الأزهرية غير شخصيتها ذاتها فاندمجت في التيار الغالب بغربيته وطورا يعوز هذه البيئة الاتصال بالحياة، اتصالا قويا فعالا، مؤثرا في سيرها وتوجيهها.
وقد تألفت لجنة بحث المسابقة عن رسالة الأزهر في القرن العشرين، من الشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ عبد المجيد سليم، والمرحوم عبد العزيز فهمي، ومعهم كاتب هذه الكلمات، الذي عرض عليهم بعد الحكم في المسابقة، ما كتبه قبلها ولم يدخل التحكيم، وقررت اللجنة أنه الصورة المطلوبة في ذلك، ونشره الأزهر مطبوعا وفي الناحية الدينية، من رسالة الأزهر، أقرت اللجنة من هذا المكتوب نواحي ثلاثا:
1 - بيان التدين الإسلامي المرجو اليوم.
2 - الهيئة الدينية التي تقوم به وتحققه في هذا العصر.
3 - الهدف الذي تعمل لتحقيقه، أو الرسالة الدينية للأزهر.
ومن الحق أن أعتمد على ما أقرته اللجنة من ذلك، فيما أحدث عنه، من أمر الأزهر في حياة مصر الدينية الآن، وأول ذلك أن تعرف الرأي في التدين الإسلامي المرجو اليوم، كما اطمأنت إليه تلك الهيئة الأزهرية، منذ ذلك الزمن غير القريب، فهل ترى، أنه تدين إنساني القلب، نبيل العاطفة، يؤيد التعاون البشري، ولا يعوق الإخاء الإنساني، وأنه ليس العصبية المقيتة، المتعمقة الأفق التي تحتقر الآخرين وتنزلهم من مرتبة الإنسانية، وتنكر صفتهم البشرية، وأنه تدين لا يعرف تلك السلطة الغاشمة التي ترهب العقل الطليق، وتفت في العزم الوثيق، وتفسد الذوق الدقيق.(3/49)
وتحتكم بجبروت لاهوتي في حياة الدنيا، وتسد الطريق إلى الآخرة، وإنه تدين لا يخلق تلك الطبقة التي تحتكر الدين، وتسد المسالك إلى الله ولا يعترف بتلك الطبقة أن خلقتها الظروف، لأنه لا رياسة في الإسلام، وكلهم قريب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن التدين على هذا الوجه، ترى الهيئة الجليلة أن يشتق الأزهر صنعته الدينية، ومن التدين على هذا الوجه يتبين الأزهر رسالته الدينية، وما أخال مفكرا يشك، في أن هذا التدين هو أولا، أقرب ما يكون من حقيقة الإسلام، وجوهره، ثم هو ثانيا ما تتطلع إليه الروح الصافية، الطامحة المخلصة، البارئة من كل وهم، أو جهل، أو تعصب أو جحود أو حمق يسيء إلى الحياة، وأعود بالذاكرة إلى سنة 1355هـ 1936م، فأرى مؤتمر الأديان العالمي يعقد في 3يوليو من سنة 1936نفسها، ويدعى إليه الأزهر، فيبعث إليه حضرة صاحب الفضيلة المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر برسالة. في موضوع الزمالة الإنسانية، تنشر بمصر في شهر يوليو من السنة ذاتها.
وترى في هذه الرسالة أنوار من آفاق التدين الإسلامي الوضيء، الذي قرأت آنفا وصفه، فهي تحدثك عن زمالة عالمية يتعاون فيها أصحاب الأديان جميعا، تعاونا حقا جادا على تحقيق أغراض معنوية، وأغراض عملية جليلة مسعدة للإنسانية المعناة بالبغضاء والجهل والبؤس،. فأما الأغراض المعنوية التي تسعى هذه الزمالة الإنسانية لتحقيقها فهي في إجمال إزاحة العلل التي حالت دون تأثير الشعور الديني، في تقريب ما بين الناس وأما الأغراض العملية فهي على الإجمال جعل التدين أداة فعالة في تهذيب الجماعة وتمكين العوامل المعنوية، التي تشترك فيها الأديان، من التأثير في الحياة الإنسانية الواقعية، وتصيير الفضائل العملية التي تدعو إليها الأديان كلها نظما عملية كما أنها تعد الوسائل المختلفة لتحقيق تلك الأغراض النظرية والعملية من الدرس والتوجيه، وإيجاد الهيئات وو مما تجده واضحا في تلك الرسالة التي نشرها الأزهر
نفسه، بالعربية والانجليزية في يولية سنة 1936م والتي نشر في أبريل منها ما كتبه عن رسالة الأزهر.(3/50)
وترى في هذه الرسالة أنوار من آفاق التدين الإسلامي الوضيء، الذي قرأت آنفا وصفه، فهي تحدثك عن زمالة عالمية يتعاون فيها أصحاب الأديان جميعا، تعاونا حقا جادا على تحقيق أغراض معنوية، وأغراض عملية جليلة مسعدة للإنسانية المعناة بالبغضاء والجهل والبؤس،. فأما الأغراض المعنوية التي تسعى هذه الزمالة الإنسانية لتحقيقها فهي في إجمال إزاحة العلل التي حالت دون تأثير الشعور الديني، في تقريب ما بين الناس وأما الأغراض العملية فهي على الإجمال جعل التدين أداة فعالة في تهذيب الجماعة وتمكين العوامل المعنوية، التي تشترك فيها الأديان، من التأثير في الحياة الإنسانية الواقعية، وتصيير الفضائل العملية التي تدعو إليها الأديان كلها نظما عملية كما أنها تعد الوسائل المختلفة لتحقيق تلك الأغراض النظرية والعملية من الدرس والتوجيه، وإيجاد الهيئات وو مما تجده واضحا في تلك الرسالة التي نشرها الأزهر
نفسه، بالعربية والانجليزية في يولية سنة 1936م والتي نشر في أبريل منها ما كتبه عن رسالة الأزهر.
وفي مقالة أخرى نشرت بعنوان «الأزهر والعمل الديني» ذكر فيها فيما ذكره أن الأزهر هو هذه البيئة الدينية الأولى والكبرى، في مصر والشرق
هذه البيئة التي لبثت كثيرا، تؤدي في مصر والشرق رسالة دينية، هذه البيئة التي ستظل دهرا طويلا تؤدي في مصر والشرق رسالة دينية وللدين عمله في الحياة، منذ دبت الحياة على ظهر الأرض وسيكون للدين أثره على الحياة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
في هذه البيئة آلاف مؤلفة كما تعرف ما بين طلبة دراسين وأساتذة مدرسين، وعلماء منقطعين للبحث، ورجال إدارة في مراكز مختلفة، بالأزهر، وموظفين موكلين بأعمال دينية لمصر كالواعظ ونحوهم وكل أولئك أهل للنشاط العملي، والتدبير الديني لحياة مصر، بل هم أحق بالتدبير العامل لحياة مصر، من أهل أية بيئة أخرى علمية أو عملية بها وذلك أن ما يقوم به الآخرون، غير الأزهريين إنما يدفعهم إليه شعور الوحدة الاجتماعية، التي تربطهم بقومهم، ويحتاجون في إثارة هذا الشعور بتلك الوحدة، إلى معان بعيدة، لإدراك أنهم بإصلاح حال قومهم إنما يهيئون المجال الحيوي، الذي يجدون فيه فرصة تكميل أنفسهم وترقية وجودهم، والحياة السعيدة الكريمة التي يطمعون فيها، وبدون هذا المجال الحيوي، من المجتمع الصالح الخير، يستحيل على الفرد أن يجد فرصة لكمال نفسه هو، وتحقيق وجوده الصالح السعيد، وحين يتنادى أهل البيئات غير الدينية بهذه المعاني الاجتماعية، ويجهدون في العمل لتقوية الشعور بها، تجد أهل الدين يشعرون بمثل تلك الحقائق شعورا قويا، تمده عقيدة وجدانية، أصيلة بأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو ما به دون غيره، تكون الأمة خير الأمم، وبدونه تكون الأمة ملعونة وهذا هو ما يتعبدون بتلاوته، ويتفقهون بدرسه، ويتواصون باتباعه، والأمر بالمعروف
الزام بكل خير، والنهي عن المنكر تجنيب لكل شر، وعمل الفرد فيه يفيد الناس جميعا. وإهمال الفرد له يضر الناس جميعا ومن هنا تكون تلك الآلاف المؤلفة بالأزهر، إذا سلمت فطرتها، وصحت عقيدتها، مصدر قوة كبرى في الشعور بوحدة الجماعة، ومبعث نشاط عامل للمعروف، مانع من المنكر، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، ويقلد فيهم لاحق سابقا، ويفتدى آخر بأول فهم جميعا يتنفسون في الجو الديني، وهم إما معلمون يقررون هذه الأسس الدينية، أو متعلمون يستمعون لهذا التقرير، أو مديرون قوامون على توجيه هذه البيئة نحو غايتها، والإشراف على خطوات سيرها إلى تلك الغاية(3/51)
في هذه البيئة آلاف مؤلفة كما تعرف ما بين طلبة دراسين وأساتذة مدرسين، وعلماء منقطعين للبحث، ورجال إدارة في مراكز مختلفة، بالأزهر، وموظفين موكلين بأعمال دينية لمصر كالواعظ ونحوهم وكل أولئك أهل للنشاط العملي، والتدبير الديني لحياة مصر، بل هم أحق بالتدبير العامل لحياة مصر، من أهل أية بيئة أخرى علمية أو عملية بها وذلك أن ما يقوم به الآخرون، غير الأزهريين إنما يدفعهم إليه شعور الوحدة الاجتماعية، التي تربطهم بقومهم، ويحتاجون في إثارة هذا الشعور بتلك الوحدة، إلى معان بعيدة، لإدراك أنهم بإصلاح حال قومهم إنما يهيئون المجال الحيوي، الذي يجدون فيه فرصة تكميل أنفسهم وترقية وجودهم، والحياة السعيدة الكريمة التي يطمعون فيها، وبدون هذا المجال الحيوي، من المجتمع الصالح الخير، يستحيل على الفرد أن يجد فرصة لكمال نفسه هو، وتحقيق وجوده الصالح السعيد، وحين يتنادى أهل البيئات غير الدينية بهذه المعاني الاجتماعية، ويجهدون في العمل لتقوية الشعور بها، تجد أهل الدين يشعرون بمثل تلك الحقائق شعورا قويا، تمده عقيدة وجدانية، أصيلة بأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو ما به دون غيره، تكون الأمة خير الأمم، وبدونه تكون الأمة ملعونة وهذا هو ما يتعبدون بتلاوته، ويتفقهون بدرسه، ويتواصون باتباعه، والأمر بالمعروف
الزام بكل خير، والنهي عن المنكر تجنيب لكل شر، وعمل الفرد فيه يفيد الناس جميعا. وإهمال الفرد له يضر الناس جميعا ومن هنا تكون تلك الآلاف المؤلفة بالأزهر، إذا سلمت فطرتها، وصحت عقيدتها، مصدر قوة كبرى في الشعور بوحدة الجماعة، ومبعث نشاط عامل للمعروف، مانع من المنكر، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، ويقلد فيهم لاحق سابقا، ويفتدى آخر بأول فهم جميعا يتنفسون في الجو الديني، وهم إما معلمون يقررون هذه الأسس الدينية، أو متعلمون يستمعون لهذا التقرير، أو مديرون قوامون على توجيه هذه البيئة نحو غايتها، والإشراف على خطوات سيرها إلى تلك الغاية
وقد رد على الأستاذ أمين الخولي وآرائه الأستاذ الكبير الشيخ محمد عرفة عضو جماعة كبار العلماء في سلسلة طويلة من المقالات الممتعة، كما رد عليه الأستاذ الشيخ محمد الشربيني عضو الجماعة ورئيس جبهة علماء الأزهر في مقالة واحدة.
ويقول الأستاذ الجليل الشيخ محمد كامل حسن وكيل كلية اللغة العربية معبرا عن رأية في رسالة الأزهر:
رسالة الأزهر هي رسالة نبي الإسلام وإنما ينجح العلماء في أداء هذه الرسالة بما نجح به نبي الإسلام على عاملين لا ينفك أحدهما عن الآخر عامل البيان وعامل السلطان فقد بدأ الرسول صلوات الله وسلامه عليه الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يزل يتنقل بالعقول التي خضعت للوثنية، ويذلل لها طريق الهداية إلى المبادىء الإسلامية ويوجهها إلى النظر في الآفاق والاعتبار بالآيات ويتعدها بالأدلة المقنعة في أسلوب الحكيم الماهر حتى استطاع بحكمته السامية وحجته الباهرة أن يقنع الناس بصدق الوحدانية وأن يبين لهم أمر دينهم ودنياهم معا، حتى وضح لهم ما أحل الله لهم وما حرم عليهم ودخلوا في دين الله أفواجا عن بينة واختيار {«لََا إِكْرََاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»}. ومن طريق هذا البيان أصبح
الحلال بينا والحرام بينا كما قال عليه الصلاة والسلام ومع ما قام به الرسول من بيان أوضح معالم الحلال والحرام فقد اعترضه في سبيل الدعوة إلى الله صناديد قومه الذين أكل الحقد قلوبهم فعز عليهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم برغم ما لمسوه من أنه نبي حقا وأن ما دعا إليه هو الحق وعرفوه كما يعرفون أبناءهم. وقف هؤلاء في سبيل دعوته وحرضوا على قتله وأذوا أصحابه بأنواع الأذى وكادت هذه الفتنة تزلزل أثر الدعوة التي قامت على الحجة والبيان لولا أن تداركه مولاه بالعناية وأمره بالجهاد وأمده بالعامل الثاني عامل القوة والسلطان فأعطاه السيف لا حبا في إراقة الدماء ولكن ليزيل من طريق الدعوة هذه العقبات وليسعد العالم بالإسلام رغم أنوف هؤلاء المعاندين المعترضين سبيل الدعوة إلى الله، فلما وضع السيف في أعناقهم محا الله صولة الكفر والكافرين ورسخت دعوته التي قامت على الحجة والبيان بعد أن عززه الله بالقوة والسلطان لذلك يقول سيدنا عثمان بن عفان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» إنه لقول حق وفيه الموقف الفصل ومنه يتبين للمنصفين أن رسالة الإسلام إذا قامت على البيان فإنها لا تكمل ولا تتم إلا بالعامل الثاني عامل السلطان الذي غير معالم ظلم الظالمين وأزال صولة الكافرين والمعاندين ومهد للإسلام والمسلمين نعمة التمام والكمال في قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً}.(3/52)
رسالة الأزهر هي رسالة نبي الإسلام وإنما ينجح العلماء في أداء هذه الرسالة بما نجح به نبي الإسلام على عاملين لا ينفك أحدهما عن الآخر عامل البيان وعامل السلطان فقد بدأ الرسول صلوات الله وسلامه عليه الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يزل يتنقل بالعقول التي خضعت للوثنية، ويذلل لها طريق الهداية إلى المبادىء الإسلامية ويوجهها إلى النظر في الآفاق والاعتبار بالآيات ويتعدها بالأدلة المقنعة في أسلوب الحكيم الماهر حتى استطاع بحكمته السامية وحجته الباهرة أن يقنع الناس بصدق الوحدانية وأن يبين لهم أمر دينهم ودنياهم معا، حتى وضح لهم ما أحل الله لهم وما حرم عليهم ودخلوا في دين الله أفواجا عن بينة واختيار {«لََا إِكْرََاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»}. ومن طريق هذا البيان أصبح
الحلال بينا والحرام بينا كما قال عليه الصلاة والسلام ومع ما قام به الرسول من بيان أوضح معالم الحلال والحرام فقد اعترضه في سبيل الدعوة إلى الله صناديد قومه الذين أكل الحقد قلوبهم فعز عليهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم برغم ما لمسوه من أنه نبي حقا وأن ما دعا إليه هو الحق وعرفوه كما يعرفون أبناءهم. وقف هؤلاء في سبيل دعوته وحرضوا على قتله وأذوا أصحابه بأنواع الأذى وكادت هذه الفتنة تزلزل أثر الدعوة التي قامت على الحجة والبيان لولا أن تداركه مولاه بالعناية وأمره بالجهاد وأمده بالعامل الثاني عامل القوة والسلطان فأعطاه السيف لا حبا في إراقة الدماء ولكن ليزيل من طريق الدعوة هذه العقبات وليسعد العالم بالإسلام رغم أنوف هؤلاء المعاندين المعترضين سبيل الدعوة إلى الله، فلما وضع السيف في أعناقهم محا الله صولة الكفر والكافرين ورسخت دعوته التي قامت على الحجة والبيان بعد أن عززه الله بالقوة والسلطان لذلك يقول سيدنا عثمان بن عفان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» إنه لقول حق وفيه الموقف الفصل ومنه يتبين للمنصفين أن رسالة الإسلام إذا قامت على البيان فإنها لا تكمل ولا تتم إلا بالعامل الثاني عامل السلطان الذي غير معالم ظلم الظالمين وأزال صولة الكافرين والمعاندين ومهد للإسلام والمسلمين نعمة التمام والكمال في قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً}.
فتعالوا أيها السائلون عن رسالة الأزهر، وهل أدى العلماء رسالتهم أو لا؟ تعالوا لنقول لكم كلمة الحق والحق أحق أن يتبع. لقد قام العلماء بواجبهم بالنسبة للعامل الأول عامل البيان وتذكير الناس بمواطن الحلال والحرام ففريق منهم يعلم أبناء المسلمين أحكام دينهم في كلياتهم ومعاهدهم ليتخرجوا للناس دعاة إلى الله ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم وفريق منهم يقوم بالوعظ والإرشاد وإصلاح ذات البين وما شجر بين الناس في البلاد وما زالوا يجاهدون ويتنقلون لهذا في كل وادّ.(3/53)
وفريق من العلماء يقوم بتعليم العامة في بيوت الله تعالى حين يجتمعون للصلاة وإذا كان في كل مسجد عالم يدعو إلى دين الله فكثير ما هم. وإذا أردت أن تعرف صدق القول في ذلك فاسأل أي رجل في عرض الطريق عما يعرف من واجبات دينه فيقول لك مثلا الصلاة الزكاة الحج الصوم صلة الأرحام وكل ما يعز دين الله ويسعد الأوطان ثم سله عما حرم الله فيقول لك: الربا الزنى الخمر الغيبة والتميمة وكل سعى بالفساد بين الناس وهكذا والعامي الذي يجيبك بهذا لم يولد من بطن أمه عالما بهذه الأحكام ولكنه مدين في علمه بذلك لبيان العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
بعد هذا اعترف للسائل بأن العلماء وإن أدوا رسالتهم بالنسبة لعامل البيان وعليه تقوم نصف الرسالة فإنهم لم يقوموا بتنفيذ ما بينوا للناس من معالم الحلال والحرام، فهم يرون شارب الخمر يشربها ولا يكسرون كأسه ويرون الربا قد فشا التعامل به، ولم يقضوا على آثاره ويرون النساء العاريات متبذلات ولا يتعرضون للقضاء على هذه المظاهر الخلقية بالقوة والسلطان.
ويرون كثيرا من النكرات يقوم بها العام والخاص ولا يستطيعون تغيير هذه المنكرات إلا بقلوبهم وذلك أضعف الإيمان. أتدري أيها المنصف لماذا؟ لماذا ضعف العلماء عن تغيير هذه المنكرات؟ لأن زمام الأمور لما تولاه في الماضي قوم وهنوا في أمر دينهم استطاع المستعمرون أن يستخدموهم في نزع السلطة الدينية من العلماء ومكنوا لهم حتى شرعوا للناس قوانين وقفت عقبة في سبيل الدعوة إلى الله، وحالت دون تغيير ما حرم الله فالعالم إذا تعرض مثلا لكسر الكأس الذي بيد شارب الخمر أدين في القانون الذي رخص بشرائها وشربها والتجارة فيها وإذا تعرض لبيان قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللََّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبََا} اعترضه المشروع الذي أحل الربا ورخص للقضاء أن يحكم به.
وإذا نهى العالم عن مظاهر الفتنة التي يتسابق فيها النساء الفاجرات رموه بالرجعية وأنه عدو الحرية وإذا أبان للناس ما كرم الله به المرأة من قوامة
الرجل عليها والقيام بخدمتها ونفقتها ووضعها دون الحجاب الذي يحفظ لها كرامتها ويديم عليها بهجتها لا يجد في المجتمع ما يؤيده ويساعده لأن الناس مغرمون بالتشريعات التي تبيح للمرأة الاختلاط بالرجال ومثل هذه التشريعات تحمل المرأة على أن تترجل وتحمل الرجل على أن يتخنث.(3/54)
وإذا نهى العالم عن مظاهر الفتنة التي يتسابق فيها النساء الفاجرات رموه بالرجعية وأنه عدو الحرية وإذا أبان للناس ما كرم الله به المرأة من قوامة
الرجل عليها والقيام بخدمتها ونفقتها ووضعها دون الحجاب الذي يحفظ لها كرامتها ويديم عليها بهجتها لا يجد في المجتمع ما يؤيده ويساعده لأن الناس مغرمون بالتشريعات التي تبيح للمرأة الاختلاط بالرجال ومثل هذه التشريعات تحمل المرأة على أن تترجل وتحمل الرجل على أن يتخنث.
الحق أقول لك أيها السائل: إن في النفس شيئا كثيرا، ويكفي أن أقول لك: إن الرسالة الأزهرية لا يتم أداؤها إلا إذا تعاون معهم أهل السلطان، وهذا هو المنتظر بعد أن يتم القضاء على الاستعمار وأذنابه.
الأزهري وواجبه الديني والروحي
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم ونوره ولو كره الكافرون. ضلت الإنسانية وذلت البشرية، إن لم تهتد بنور الإسلام المشرق. وترو سحابة المغدق وتستظل بظله الوارف الأمين. وساء مثل الأمم والشعوب إن لم تؤمن بهذه الشريعة الباقية الخالدة، وذلك الكتاب السماوي الحكيم، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم نورا وهدى للناس وروحا وذكرى للعالم وللمؤمنين. وشاهت وجوه أولئك الوارثين لمجد الإسلام الخالد وتراثه التليد. إن لم يضربوا أروع المثل في سبيل الله ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون كما ضرب أسلافهم الأرواع المشابيب أكرم الأمثال وقاموا بأروع التضحيات والجهاد، لتكون كلمة الله هي العليا. لقد وقعت المعجزة منذ أربعة عشر قرنا: على يدي هادي الإنسانية وناشر السلام وعلم الدنيا والآخرة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أيدي أصحابه الأبطال الميامين، فعلت كلمة الحق، ونشرت راية الفضيلة، ورفع لواء الحضارة والمدنية والثقافة، وظهرت على دول العالم القديم الأمة الإسلامية المؤمنة، فكان لها الفوز الأكبر، والنصر المؤزر، والكلمة العليا، والشرف العظيم. فلم لا يقوم الأزهر بمثل تلك المعجزة من جديد؟
فيقودها ثورة صارمة في وجه الباطل، وهداية حكيمة تملأ مشارق الأرض
ومغاربها نورا، حتى يطمئن العقل الحائر، ويسعد العالم الشقي، وتنعم الإنسانية المعذبة، وتسود كلمة الحق والخير والفضيلة، وتعود الحياة سيرتها الأولى. ولم لا يستصغر المشقات في جانب روح الأبد، وراحة الضمير لا يأس في الدعوة، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا ونى في الهداية، فإنه لا يبني في ميدان الجهاد إلا من لبس إيمانه بظلم، ولا عمل إلا لله ورسوله، فإن أجدر عمل بالظفر والسداد ما كانت غايته الله ورسوله. فإما أن يحيى للدعوة مجاهدا لإظهار كلمة الله، وإما أن يموت في ميدانها شهيدا.(3/55)
فيقودها ثورة صارمة في وجه الباطل، وهداية حكيمة تملأ مشارق الأرض
ومغاربها نورا، حتى يطمئن العقل الحائر، ويسعد العالم الشقي، وتنعم الإنسانية المعذبة، وتسود كلمة الحق والخير والفضيلة، وتعود الحياة سيرتها الأولى. ولم لا يستصغر المشقات في جانب روح الأبد، وراحة الضمير لا يأس في الدعوة، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا ونى في الهداية، فإنه لا يبني في ميدان الجهاد إلا من لبس إيمانه بظلم، ولا عمل إلا لله ورسوله، فإن أجدر عمل بالظفر والسداد ما كانت غايته الله ورسوله. فإما أن يحيى للدعوة مجاهدا لإظهار كلمة الله، وإما أن يموت في ميدانها شهيدا.
أين الأزهري الذي يدعو الناس بخلقه وأدبه وطريقته، إلى ما يدعوهم إليه بقوله وبيانه وحجته؟ وهل تكون العظة ذات أثر إلا إذا صدرت من مؤمن عامل بها، وممن يأمر بالمعروف ولا ينسى نفسه؟ فما أفحم الداعي إلى مكرمة لم يندب نفسه لها وإن كان بليغا منطقيا. على الأزهري أن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، والآية المبصرة
يأخذ الناس على حسب عقولهم، ويكلمهم بما يؤثر في نفوسهم ويعرض عليه نواحي الجمال في العقيدة الإسلامية، ويبين لهم ما فيها من دعوة إلى الحق والخير والجمال والعدالة، ومن إعزاز للنفس الإنسانية وسمو بها، وتكريم لقدر الإنسان في الحياة، وما فيها من ألوان الإصلاح في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلم والعمران، ومن سماحة في المبادىء وسهولة في التشريع، ويسر في الشعائر، وما فيها من ديمقراطية عالية، وروحية سامية، وإخاء كريم وعدالة ومساواة وإيثار ضربت بها الأمثال بين الناس.
وعليه أن يضرب لهم الأمثال بالأسلاف الأولين، وما كان لهم من المواقف الرائعة، والمشاهد الماجدة، والصفحات الناصعة في كل ميدان وأن يفصل لهم المدى الذي بلغته الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، وما كان لهما من آثار بعيدة في النهضة الغربية الحديثة. وأن يعاضد رجال الفكر والثقافة والصحافة، ويتخذهم أصدقاء يساعدونه على أداء رسالته الدينية
ونشرها بين الناس، وأن ينشىء الجمعيات الدينية التي تسهم بنشاط في نواحي المجتمع ومرافق الأمة، وعلى الأزهر أن يهضم الثقافة الإسلامية القديمة، ويحيلها غذاء عقليا جديدا بأسلوب يتفق وروح العصر والزمن، إن الأزهر داعية للدين والخير فعليه أن ينهض بالعبء ويحمل الرسالة، ويؤدي الأمانة. وأن يرشد الناس من جديد إلى كل ما في الدين من حق وخير وجمال.(3/56)
وعليه أن يضرب لهم الأمثال بالأسلاف الأولين، وما كان لهم من المواقف الرائعة، والمشاهد الماجدة، والصفحات الناصعة في كل ميدان وأن يفصل لهم المدى الذي بلغته الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، وما كان لهما من آثار بعيدة في النهضة الغربية الحديثة. وأن يعاضد رجال الفكر والثقافة والصحافة، ويتخذهم أصدقاء يساعدونه على أداء رسالته الدينية
ونشرها بين الناس، وأن ينشىء الجمعيات الدينية التي تسهم بنشاط في نواحي المجتمع ومرافق الأمة، وعلى الأزهر أن يهضم الثقافة الإسلامية القديمة، ويحيلها غذاء عقليا جديدا بأسلوب يتفق وروح العصر والزمن، إن الأزهر داعية للدين والخير فعليه أن ينهض بالعبء ويحمل الرسالة، ويؤدي الأمانة. وأن يرشد الناس من جديد إلى كل ما في الدين من حق وخير وجمال.
والتصوف والسمو الروحي في الإسلام جدير بتأمله ودراسته وإذاعته بين الناس، ليفهموا رسالة الروحية الحقة، والسلام الأبدي، والطمأنينة النفسية العميقة، التي هي «الطب الروحي» و «العلاج النفسي» الصحيح، الذي سبق بالكشف عنه فلاسفة الإسلام ومتصوفوه منذ أجيال مديدة في تاريخ الحياة.
الأزهري كما ينبغي أن يكون
كتب الأستاذ الأكبر المرحوم محمد مصطفى المراغي حول هذا الموضوع يقول:
أول ما يجب أن يكون عليه الأزهري: هو المحافظة على الشعائر الإسلامية محافظة تامة بحيث لا يقصر في شيء منها، ولا يمكن غيره من الاحتفاظ عليه بزلة، حتى يكون قدوة بعمله لا بقوله فحسب، والقدوة العملية تترك في النفوس أثرا صالحا، تؤثر فيها ما لا تؤثره الأقوال، والشعائر الدينية في جملتها من أكبر الوسائل لطمأنينة النفس والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وهي التي توجد الصلة بين العبد وربه، وتقوي صلات الأفراد، وتحسن حال الجماعات، ويصاحب هذا ملازمة الأخلاق النبوية، والتبصر في هدى القرآن والسنة، ومجاهدة النفس ورياضتها على احتمال الأذى والمكروه في سبيل العمل بالأخلاق الدينية وأداء الشعائر الإسلامية،
حتى تصير الفضيلة شعارا وملكة، وحتى تصدر أعمال الخير من غير تعمل وروية. ومن لوازم الداعي والمرشد أن يكون شجاعا صادقا قوي الإيمان بما يدعو إليه يرى في الإقدام لذة، وحقا للنفس الخيرة يؤديه احتسابا لله لا على أنه مكلف به، يؤديه للأجر وزيادة الدرجات والمرتبات، ومن حق الداعي أن يكون بصيرا بالوسط الذي يعيش فيه، خبيرا بأحوال النفوس، واسع الحيلة في التنقل من طريق إلى طريق، يقصد إلى الهداية المطلوبة من طريقها النافع. وليس أفعل في النفوس من جلال تسكبه التقوى وملازمة حدود الله، ومن جمال يلقيه العلم الناضج على صاحبه، ومن هيبة يوجدها الإعراض عن الدنيا وعدم الحرص عليها، وقد شاهدنا فقراء ليس لهم جاه رسمي، ولا عزة عصبية، يهابهم أصحاب المقامات الرفيعة والأموال المكنوزة، وينكمشون أمام هيبتهم التي بسطتها التقوى وزانهم بها العزيز الحكيم.(3/57)
أول ما يجب أن يكون عليه الأزهري: هو المحافظة على الشعائر الإسلامية محافظة تامة بحيث لا يقصر في شيء منها، ولا يمكن غيره من الاحتفاظ عليه بزلة، حتى يكون قدوة بعمله لا بقوله فحسب، والقدوة العملية تترك في النفوس أثرا صالحا، تؤثر فيها ما لا تؤثره الأقوال، والشعائر الدينية في جملتها من أكبر الوسائل لطمأنينة النفس والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وهي التي توجد الصلة بين العبد وربه، وتقوي صلات الأفراد، وتحسن حال الجماعات، ويصاحب هذا ملازمة الأخلاق النبوية، والتبصر في هدى القرآن والسنة، ومجاهدة النفس ورياضتها على احتمال الأذى والمكروه في سبيل العمل بالأخلاق الدينية وأداء الشعائر الإسلامية،
حتى تصير الفضيلة شعارا وملكة، وحتى تصدر أعمال الخير من غير تعمل وروية. ومن لوازم الداعي والمرشد أن يكون شجاعا صادقا قوي الإيمان بما يدعو إليه يرى في الإقدام لذة، وحقا للنفس الخيرة يؤديه احتسابا لله لا على أنه مكلف به، يؤديه للأجر وزيادة الدرجات والمرتبات، ومن حق الداعي أن يكون بصيرا بالوسط الذي يعيش فيه، خبيرا بأحوال النفوس، واسع الحيلة في التنقل من طريق إلى طريق، يقصد إلى الهداية المطلوبة من طريقها النافع. وليس أفعل في النفوس من جلال تسكبه التقوى وملازمة حدود الله، ومن جمال يلقيه العلم الناضج على صاحبه، ومن هيبة يوجدها الإعراض عن الدنيا وعدم الحرص عليها، وقد شاهدنا فقراء ليس لهم جاه رسمي، ولا عزة عصبية، يهابهم أصحاب المقامات الرفيعة والأموال المكنوزة، وينكمشون أمام هيبتهم التي بسطتها التقوى وزانهم بها العزيز الحكيم.
والحرص على الدنيا يفسد على العالم لذة العلم، ويفسد عليه الغاية التي يطلبها، وهي الهداية، والناس لا شك زاهدون في العلماء إذا رأوهم مقبلين عليها معرضين عن الآخرة. فلتكن الدنيا مطلوبة بالقدر الذي تستحقه، وفي الدرجة التالية لدراسة العلم وتحصيله واللذة به نفسه، وباعتباره وسيلة من وسائل الآخرة، وطريقا لرضي الله ورسوله. ولقد كانت للأزهريين تقاليد متوارثة محمودة، وهي عطف الكبير على الصغير، وتوقير الصغير للكبير، واحترام الأسلاف، والصبر على الدرس والتحصيل، وتفهم المسائل بعللها وأسبابها وما يتفرع عنها ويتولد منها، لا يبالون في سبيل ذلك بالوقت والجهد ويرونه أكبر لذة للنفس وأكبر متاع للعقل، ويرونه واسطة المجد وطريق الشرف والكرامة، وكان طالب العلم إذا لم يفهم كتابا أعاده، وإذا لم يفهم مسألة فتش عمّن يفهمها منه، وكانت اجتماعاتهم لا تخلو من المذاكرة في مسألة من مسائل العلم، وقد رأينا منهم من كان أهلا للتدريس وللتقدم للامتحان وكان يحجم لأنه يريد الاستزادة وتكميل النفس،
فالعلم نفسه تفوق لذته لذة الحصول على الدرجة، والدخول في مضمار الحياة. كانوا يجيدون تحضير الدروس قبل إلقائها على التلاميذ بقدر ما بسمح به الجهد. وكان الطلبة يجيدون تحضير الدروس وفهمها قبل تلقيها عن الشيوخ بل كان نوابغ الطلبة لا يذهبون إلى تلقي الدروس إلا لحل مشكلة عرضت لهم. أو انتظار لتحقيق مسألة من مسائلها كانوا يفعلون هذا مع الطمأنينة واللذة وسعة الصدر، لا للنجاح في الامتحان، ولا لطلب الرزق. وكانت القناعة تجمل فقرهم وتزين علمهم، لا يمكن أن يمر في خاطر أحدهم أن الفقر نقيصة، وأن الإسراف في البحث مضيعة للوقت.(3/58)
والحرص على الدنيا يفسد على العالم لذة العلم، ويفسد عليه الغاية التي يطلبها، وهي الهداية، والناس لا شك زاهدون في العلماء إذا رأوهم مقبلين عليها معرضين عن الآخرة. فلتكن الدنيا مطلوبة بالقدر الذي تستحقه، وفي الدرجة التالية لدراسة العلم وتحصيله واللذة به نفسه، وباعتباره وسيلة من وسائل الآخرة، وطريقا لرضي الله ورسوله. ولقد كانت للأزهريين تقاليد متوارثة محمودة، وهي عطف الكبير على الصغير، وتوقير الصغير للكبير، واحترام الأسلاف، والصبر على الدرس والتحصيل، وتفهم المسائل بعللها وأسبابها وما يتفرع عنها ويتولد منها، لا يبالون في سبيل ذلك بالوقت والجهد ويرونه أكبر لذة للنفس وأكبر متاع للعقل، ويرونه واسطة المجد وطريق الشرف والكرامة، وكان طالب العلم إذا لم يفهم كتابا أعاده، وإذا لم يفهم مسألة فتش عمّن يفهمها منه، وكانت اجتماعاتهم لا تخلو من المذاكرة في مسألة من مسائل العلم، وقد رأينا منهم من كان أهلا للتدريس وللتقدم للامتحان وكان يحجم لأنه يريد الاستزادة وتكميل النفس،
فالعلم نفسه تفوق لذته لذة الحصول على الدرجة، والدخول في مضمار الحياة. كانوا يجيدون تحضير الدروس قبل إلقائها على التلاميذ بقدر ما بسمح به الجهد. وكان الطلبة يجيدون تحضير الدروس وفهمها قبل تلقيها عن الشيوخ بل كان نوابغ الطلبة لا يذهبون إلى تلقي الدروس إلا لحل مشكلة عرضت لهم. أو انتظار لتحقيق مسألة من مسائلها كانوا يفعلون هذا مع الطمأنينة واللذة وسعة الصدر، لا للنجاح في الامتحان، ولا لطلب الرزق. وكانت القناعة تجمل فقرهم وتزين علمهم، لا يمكن أن يمر في خاطر أحدهم أن الفقر نقيصة، وأن الإسراف في البحث مضيعة للوقت.
ولا ننكر مع هذا أن ملازمة بعض المؤلفات المختصرة، وترك المناهل العذبة من كتب الأسلاف، وعدم التوسع في الاطلاع على تراث الأقدمين، ضيق دائرة التفكير، وأوجد إسرافا في تحليل الألفاظ وإبداء ما تحتمله من الوجوه، وأوجد انحرافا عن الجادة القويمة في طلب العلم وبحث مسائله وتحقيقها، وبعدا عن أساليب اللغة العربية الصحية، وإعراضا عن مسايرة الناس في الحياة وإدراك ما تتطلبه الحياة بل وشغلهم عن القرآن والسنة من ناحية الهداية التي جاء لها القرآن، إلى نواح أخرى متكلفة. وتلك هي الأدواء التي ألم منها الناس وسعوا لإزالتها.
لكن في الوقت الذي نريد فيه إزالة هذه الأدواء، لا يصح أن ينسى الأزهري جوهر تقاليده، بل يجب عليه أن يحافظ عليها، وأن يصرفها إلى وجوه الخير، وما يعود على دينه وأمته وملته بالصلاح والفلاح.
حول رسالة 61904 الأزهر
في مساء الاثنين 5من جمادى الأولى سنة 1375هـ (19من ديسمبر 1955) عقد في دار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين مؤتمر
إسلامي كبير ليبحث فيه «رسالة الأزهر الشريف اليوم».(3/59)
في مساء الاثنين 5من جمادى الأولى سنة 1375هـ (19من ديسمبر 1955) عقد في دار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين مؤتمر
إسلامي كبير ليبحث فيه «رسالة الأزهر الشريف اليوم».
افتتح المؤتمر فضيلة الأستاذ أحمد الشرباصي الرائد الديني لجمعيات الشبان المسلمين فقال: الأزهر اليوم في محنة، وما أكثر المحن التي مرت عليه، ولكن محنة اليوم كبطون الليالي المثقلات بالعجائب، وذكر أن مهاجمة الناس للأزهريين لم يقصد بها ذلك، وإنما قصد بها محاربة رسالتهم، وقال: والناس في شأن الأزهر ثلاثة أصناف: صديق محب، وناقد منصف، وعدو حقود. فالصديق المحب يفضل مقام المؤيد على مقام المحاسب المؤاخذ، والناقد المنصف يروم الكمال ويبغي الرفعة، وأما العدو الحقود فهو الداء الذي يستعصي على الدواء.
ثم قال: وكبر مقتا عند الله أن ننكر ما بالأزهر من حاجة ملحة إلى الإصلاح، ولكنه جامعة كبرى يعروها ما يعرو كل كريم من تقلبات الزمن، وقد يكون لبعض المنتسبين إليه ذنوب تحتاج إلى التهذيب. ثم ذكر فضيلته: الفرق بين كلمتي «الأزهر» و «الأزهريين» وقال: إن الأزهريين طائفة يجوز عليهم الخطأ والزلل، ولكن خطأ الأزهري يكون أوضح مما سواه لأنه مطالب بأن ينفي غاية جهده مواطن الشر من نفسه، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولقد يغدو الأزهري أو يروح على كلمة ثناء أو تقدير، ولكنه يغدو على سهام التجريح من مواطنيه.
وفكر فضيلته: أن الأزهر في غير وطنه حصن الإسلام الحصين، وأبناء الإسلام في جميع البلاد يتطلعون إليه كما يتطلعون إلى المساجد الثلاثة، وإذا كانت الرحال تشد إلى هذه المساجد تعبدا فإنها تشد إلى الأزهر تفقها وتدبرا، لينذر أصحابها أقوامهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، والتعبد لا يكون صحيحا إلا إذا قام على التفقه في الدين.
ثم قال: لعل الذين أنشأوا الأزهر أرادوا أن يكون مظهرا من مظاهر الطائفية في الملة، ولكن الله لم يرد للأزهر إلا أن يكون للإسلام
والمسلمين، ولقد زال دعاة الطائفية المذهبية، وبقيت للأزهر عربيته وإسلاميته. ثم ذكر فضيلته أن الناس يرون في الأزهري أنه رجل الدين، وأن واجبه أن يقول للمخطىء: أخطأت. مهما كان شأن هذا المخطىء، وأن يغار على حرمات الله، ولكن الواجب على المجتمع أن يمكنه من ذلك. وذكر: أن البرلمانات في الدول الحديثة تعطي حصانة للنائب تمنع عنه الأذى، فإذا أريد لرجل الدين ذلك كان من واجب المجتمع أن يضمن له حصانة حتى يأمن على نفسه وأهله وكرامته.(3/60)
ثم قال: لعل الذين أنشأوا الأزهر أرادوا أن يكون مظهرا من مظاهر الطائفية في الملة، ولكن الله لم يرد للأزهر إلا أن يكون للإسلام
والمسلمين، ولقد زال دعاة الطائفية المذهبية، وبقيت للأزهر عربيته وإسلاميته. ثم ذكر فضيلته أن الناس يرون في الأزهري أنه رجل الدين، وأن واجبه أن يقول للمخطىء: أخطأت. مهما كان شأن هذا المخطىء، وأن يغار على حرمات الله، ولكن الواجب على المجتمع أن يمكنه من ذلك. وذكر: أن البرلمانات في الدول الحديثة تعطي حصانة للنائب تمنع عنه الأذى، فإذا أريد لرجل الدين ذلك كان من واجب المجتمع أن يضمن له حصانة حتى يأمن على نفسه وأهله وكرامته.
وإذا كنا نغار على الأزهر أشد الغيرة، ونذود عنه سهام الكائدين له فإننا في الوقت نفسه نذكر ما على أبنائه من واجبات ضخام ومسئوليات جسام، فما كان لهم أن يرضوا بموروث الذكر الحكيم ولا يمنوا أنفسهم بمقام كريم ما لم يؤدوا لذلك حقه، فعليهم أن يحسنوا القوامة، وأن يبرهنوا قولا وعملا على أنهم أهل لذلك، وإلا مكنوا غيرهم من مهاجمتهم، وأن يتقولوا عليهم بالحق والباطل.
واختتم فضيلته حديثه بقوله: فليحذر الأزهريون زائد الثناء، وليتذكروا دائما أن بقاءهم في الحياة لا يكون إلا بأداء الواجب. وليحذر أعداء الأزهر لعنة التاريخ ونقمة الجبار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عميد كلية اللغة العربية عن «الأزهر والعالم الإسلامي» فقال: إن صلة الأزهر بالعالم الإسلامي بدأت منذ بدأ الأزهر، واستمرت في كل طور من أطوار تاريخه. الأزهر ذلك المعهد العتيد دارت الأزمان المتطاولة وعلوم الأمم المختلفة ما هو في أقصى الشرق وما هو في أقصى الغرب. الأزهر هو ذلك المعهد الخالد الباقي وإن رغمت أنوف وعفرت جباه. ثم ذكر فضيلته أن المسلمين كانوا يعيشون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون، ويتهذبون حتى
انتقل إلى الرفيق الأعلى، ثم تفرقوا في البلاد غازين فاتحين معلمين للناس ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أن هذه البلاد استفادت منهم وتخرج عليهم علماء كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، وأن الأزهر جمع علم هؤلاء جميعا وعلم مدارسهم كلها من مكة والشام والمغرب وغيرها من البلاد.(3/61)
ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عميد كلية اللغة العربية عن «الأزهر والعالم الإسلامي» فقال: إن صلة الأزهر بالعالم الإسلامي بدأت منذ بدأ الأزهر، واستمرت في كل طور من أطوار تاريخه. الأزهر ذلك المعهد العتيد دارت الأزمان المتطاولة وعلوم الأمم المختلفة ما هو في أقصى الشرق وما هو في أقصى الغرب. الأزهر هو ذلك المعهد الخالد الباقي وإن رغمت أنوف وعفرت جباه. ثم ذكر فضيلته أن المسلمين كانوا يعيشون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون، ويتهذبون حتى
انتقل إلى الرفيق الأعلى، ثم تفرقوا في البلاد غازين فاتحين معلمين للناس ما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أن هذه البلاد استفادت منهم وتخرج عليهم علماء كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، وأن الأزهر جمع علم هؤلاء جميعا وعلم مدارسهم كلها من مكة والشام والمغرب وغيرها من البلاد.
وقال بعد ذلك: إن الأزهر منذ بدأ وله علاقته بالعالم الإسلامي لا في الثقافات والمؤلفات فقط ولكن في عالم الأشخاص، وإلا فما هذه الأروقة الكثيرة من أروقة اليمن، والأتراك، والجاويين، والهنود، إلى غير ذلك.
إن الأزهر يبدو كما يقولون منطويا على نفسه، ولعمري إن هذه فرية، متى كان الأزهر منطويا على نفسه؟ الآن؟ أم في أعماق التاريخ؟ لا أريد أن أقول: إن محمدا عبده قد ذهب إلى بيروت وأوروبا وغيرهما ولكني أريد ضرب مثل برجلين من رجال الأزهر القديم هما الشيخان حسن العطار، والدرديري، وذكر ما كان لهما من أثر جليل في محاربة الفرنسيين، وقيادة الشعب وتأليبه على الغاصب.
أما رجال الأزهر حديثا فهم أكثر من أن يحصوا، فعلماؤنا اليوم في كل صوب وبلد، ثم أشار إلى فضيلة الأستاذ عبد المنعم النمر وقال: وهذا مثل قريب منا فضيلة الأستاذ النمر سيذهب إلى الهند في الأيام القليلة المقبلة مبعوثا من الأزهر إليها.
ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش بالأزهر الشريف فقال: أستطيع أن أحصر كلمتي في سؤالين ثم أجيب عنهما أولا: لم كان الأزهر؟؟ ثانيا: ولم كان في مصر وعاش بمصر؟. ثم ذكر أن الدعوة الإسلامية كانت تمتد في أعماق البلاد على ألسنة من يرتحلون من قطر إلى قطر وأن هذا ليس بكاف للتعليم ظلت كذلك مرحلة من الزمن حتى جاء الفاطميون، وأقاموا الأزهر.(3/62)
ويقول المؤرخون: إن الأزهر ولد لحاجة سياسية وهي الطائفية، وأعتقد غير هذا. وهبوا أنهم كذلك! فهل قصدوا من إيجاده أن يستأثروا به دون غيرهم، وأن يستخدموه للقضاء على المذاهب الأخرى؟ هم شيعة ولا شك أنهم مسلمون على أية حال لاشتراكهم معنا في الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا وإن الختلف مذهبهم الفقهي عنا أقول: إن مصر دخلها الإسلام سنة 20هجرية، وقبل دخوله كانت مسيحية، وقبلها كانت يهودية أفلا يجوز في نظر العقل أن يكون قصدهم اكتساح اليهودية والنصرانية بإقامة الأزهر؟. تأكدوا أن الأزهر لو كان موجودا لفكرة خبيثة لفني بفنائهم
ولكنه بقي وبقي وسيظل بإذن الله باقيا ثم بين فضيلته أن الأزهر بقي على رسالته العلمية مع تطوره بتطور الزمن وأنه لم تبعث نهضة وطنية إلا والأزهر باعثها ومتعهدها. وان الأزهر له مكانته العلمية في جميع البلاد، وما زالت الفتوى ترد إليه من جميع الأقطار لأنه قبلتهم الثانية وأن الأزهر يرسل علماءه إلى البلاد حسب إمكاناته. ثم قال: هم يظلمون الأزهر بقولهم إنه جامد لا يجدد.
وقال فضيلته: إنه لا بد وأن يكون للأزهر أعداء وخصوم لأن هذا شأن كل عظيم ثم اختتم كلمته بقوله: أعلن أن الأزهر كما أنه في ماضيه وأمام العقبات الوكداء لم يتخلف ولم يغلق أبوابه، ولم يسرح علماءه هو في حاضره كذلك، وسيظل فاتحا بابه ناشرا كتابه معلما أبناءه.
ثم تحدث فضيلة الأستاذ الشيخ كامل محمد حسن وكيل كلية اللغة العربية فبين أن رسالة الأزهر هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن علماء الأزهر لا ينجحون في دعوتهم إلا إذا سلكوا مسلك صاحب الدعوة، وبين أن هذا المسلك ينحصر في شيئين: الأول: البيان للناس وتعليمهم أمور الدين.
والثاني: القوة. وبين فضيلته: أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعامل الأول فكشف الحجب، وطهر العقيدة حتى آمن الناس عن رغبة، ولما تخلف عن ذلك قوم حقدا لا عن جهل، وحسدا لا عن عقيدة أعطاه الله العامل الثاني
ليسعد الناس بالإسلام رغم أنوفهم (والمرء يثاب رغم أنفه).(3/63)
والثاني: القوة. وبين فضيلته: أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعامل الأول فكشف الحجب، وطهر العقيدة حتى آمن الناس عن رغبة، ولما تخلف عن ذلك قوم حقدا لا عن جهل، وحسدا لا عن عقيدة أعطاه الله العامل الثاني
ليسعد الناس بالإسلام رغم أنوفهم (والمرء يثاب رغم أنفه).
ثم قال: لقد علق أحد الغيورين على ذلك بقوله: إذا كانت للعلماء قوة التأثير فهم ليسوا بحاجة إلى القوة. وجوابي أن ذلك ممكن لقوم يريدون معرفة الحق، ولكن قوما عاندوا لا بد لهم من القوة فقد عميت بصائرهم.
وليس العلماء مهما بلغوا من قوة التأثير بمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك احتاج الرسول إلى الجهاد ليخرج به المعاندين إلى حكم الإسلام. وقال فضيلته:
وأخيرا أعود فأقول: هل أدى الأزهر رسالته؟ الحق أن الأزهريين أدوا نصف رسالتهم التي تتعلق بالبيان، وعجزوا عن النصف الآخر، وهو العمل. ثم ذكر أن المسئول عن ذلك هو الاستعمار فإنه وضع العقبات في طريق الأزهر، وأيضا القوانين التي تحمي الخارجين على الدين.
واختتم فضيلته كلمته بقوله: لا بد من العلاج لنؤدي النصف الآخر، وإن من حق الأزهر أن يتطلع إلى رجال الثورة في مد يد المساعدة على ذلك، ويوم أن يتم يكون العلماء كالماء يساق إلى الأرض الجرز فينبتها ويخرج ثمراتها يانعة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ثم تكلم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي فشرح كلمتي «المجتمع» و «الأزهر» فذكر أن المجتمع يطلق على الأسرة والقبيلة والشعب والأمة والعالم، وأن كلمة «الأزهر» كانت تطلق على الجامع ثم أطلقت على المعهد ثم على الجامعة العلمية ثم على الجامعة العلمية الإسلامية. وقال فضيلته: فهل هذا التطور في كلمتي الأزهر والمجتمع له تطور في التلازم بينهما؟ أرى أن كلمة الأزهر تعني كلمة الإسلام، فالصلة بين الأزهر والمجتمع هي الصلة بينهما الإسلام والمجتمع ثم تساءل: هل يؤخذ على الأزهر ما يقع في المجتمع من الرقص التوقيعي والأغاني الخسيسة التي تغزو قلوب الشبان والشابات؟ هل يؤخذ عليه الحملات التي توجد في الصحف من صور عارية وقصص مثيرة؟ ليس الأزهر من القوة
بحيث يطور هذا المجتمع أو يخلع عليه تلك القوة إلا إذا كان هناك تجاوب بينه وبين المسلمين. ثم ذكر فضيلته: أن الأزهر في العرف التاريخي هو كالمسجد الذي ينشأ قبل المدينة ثم تبنى المدينة بعده، وضرب أمثلة لذلك بمسجد عمرو بن العاص ومدينة الفسطاط، وجامع طولون ومدينة القطائع، والمسجد الأموي ومدينة دمشق الخ.(3/64)
ثم تكلم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي فشرح كلمتي «المجتمع» و «الأزهر» فذكر أن المجتمع يطلق على الأسرة والقبيلة والشعب والأمة والعالم، وأن كلمة «الأزهر» كانت تطلق على الجامع ثم أطلقت على المعهد ثم على الجامعة العلمية ثم على الجامعة العلمية الإسلامية. وقال فضيلته: فهل هذا التطور في كلمتي الأزهر والمجتمع له تطور في التلازم بينهما؟ أرى أن كلمة الأزهر تعني كلمة الإسلام، فالصلة بين الأزهر والمجتمع هي الصلة بينهما الإسلام والمجتمع ثم تساءل: هل يؤخذ على الأزهر ما يقع في المجتمع من الرقص التوقيعي والأغاني الخسيسة التي تغزو قلوب الشبان والشابات؟ هل يؤخذ عليه الحملات التي توجد في الصحف من صور عارية وقصص مثيرة؟ ليس الأزهر من القوة
بحيث يطور هذا المجتمع أو يخلع عليه تلك القوة إلا إذا كان هناك تجاوب بينه وبين المسلمين. ثم ذكر فضيلته: أن الأزهر في العرف التاريخي هو كالمسجد الذي ينشأ قبل المدينة ثم تبنى المدينة بعده، وضرب أمثلة لذلك بمسجد عمرو بن العاص ومدينة الفسطاط، وجامع طولون ومدينة القطائع، والمسجد الأموي ومدينة دمشق الخ.
ثم حي فضيلته كثيرا من رجال الأزهر أمثال عز الدين قائد الجيوش ضد التتار، والشيخ الدرديري وعمر مكرم الذي وقف أمام نابليون 37يوما، والشيخ عليش وغيرهم وغيرهم وغيرهم وحي كذلك منبر الأزهر الحر الذي عامت جثث الضحايا حوله في بحر من الدماء.
ثم تساءل مرة أخرى: من الذين يباعدون بين الأزهر والمجتمع؟
أهؤلاء الذين لا يعرفون في هذه الأمة إلا التضليل، والحديث عن الوجودية؟ أم هؤلاء الذين يلبسون لكل عهد حلة ليأكلوا على كل مائدة؟
أهؤلاء هم الذين يرددون أن الأزهر بعيد عن المجتمع؟؟.
واختتم فضيلته حديثه بقوله: أرجو الله أن يكون الأزهر في هذا الجور الحر ونحن في وقت تتكتل فيه الجهود لمحاربة الاستعمار أن يدفع بالأزهر إلى الرعيل الأول ليدافع عن كل نافع، وأن تتجه أمم العرب والمسلمين جميعا إلى الإسلام.
ثم تحدث فضيلة الأستاذ عبد المنعم النمر مبعوث الأزهر إلى الهند قائلا: إن الحديث عن الأزهر في الماضي، وعن تاريخه وجهاده في العلم والدين والاجتماع، شيء جميل نحب أن نكرره لنعرف الماضي فنصله بالمستقبل. وإننا إذا دافعنا عن الأزهر فلأنه فكرة، وتاريخ مجيد، ولأنه دفاع عن الإسلام وكيانه، وليس معنى هذا أن الأزهر قد بلغ غايته من النضج. ثم ذكر أن الأزهر له روحيته وشخصيته الموجهة، وله كذلك تربويته وعلمه. أما روحيته ومركزه في العالم الإسلامي فهو أقل مما يجب
أن يكون. فنحن نريد أن يكون موجها حاكما بروحيته ونفوذه.(3/65)
ثم تحدث فضيلة الأستاذ عبد المنعم النمر مبعوث الأزهر إلى الهند قائلا: إن الحديث عن الأزهر في الماضي، وعن تاريخه وجهاده في العلم والدين والاجتماع، شيء جميل نحب أن نكرره لنعرف الماضي فنصله بالمستقبل. وإننا إذا دافعنا عن الأزهر فلأنه فكرة، وتاريخ مجيد، ولأنه دفاع عن الإسلام وكيانه، وليس معنى هذا أن الأزهر قد بلغ غايته من النضج. ثم ذكر أن الأزهر له روحيته وشخصيته الموجهة، وله كذلك تربويته وعلمه. أما روحيته ومركزه في العالم الإسلامي فهو أقل مما يجب
أن يكون. فنحن نريد أن يكون موجها حاكما بروحيته ونفوذه.
ثم قام الشاعر محمد بدر الدين فألقى قصيدة حرة جريئة بعنوان «الأزهر» مطلعها:
ركع الزمان ببابك استرضاء ... وسعى إليك ليقبس الأضواء
والشمس تطوي ليلها في لهفة ... لتطوف حولك في النهار ولاء
ثم أجاب بعد ذلك فضيلة الأستاذ أحمد الشرباصي عن أسئلة السامعين وتلا بعدها قرارات المؤتمر وهي:
أولا: إن السهام التي توجه إلى الأزهر محاولة النيل منه أو الغض من شأنه ليست موجهة إلى أبناء الأزهر بقدر ما هي موجهة إلى رسالة الأزهر الكبرى التي تدور حول الإسلام ولغة القرآن.
ثانيا: الأزهر الشريف هو المفخرة الكبرى لمصر العربية الإسلامية، وكل تعويق للأزهر عن السير في طريقه يعد تعويقا لمصر وإساءة لسمعتها الكريمة بين أبناء البلاد العربية والإسلامية.
ثالثا: من واجب الدولة أن تبسط للأزهر ورجاله الأسباب الموصلة لتحقيق رسالته وليتم التعاون بين ولاة الأمر في الدولة وفي الأزهر، لبناء الوطن المؤمن السليم في عقائده وأخلاقه وتفكيره.
رابعا: قد يكون من وسائل التمكين للعماء في أداء رسالتهم أن تصدر الدولة تشريعا يقضي بتجنيد بعض الأزهريين المختارين من معسكرات الأزهر التدريبية لتكون مهمتهم أن يقاوموا المنكرات الشائعة في المجتمع بصورة عملية، ويكون لهم الامتيازات المكفولة لبوليس الآداب ويسمون «الحرس الخلقي الاجتماعي» كما يكون لهم شعار خاص يعرفون به بين الجمهور.(3/66)
خامسا: من واجب الأزهر أن يسارع إلى الأخذ بأسباب الإصلاح الجدي الصحيح حتى يستقيم الركب الأزهري على الطريق الموصل إلى تحقيق رسالته الإسلامية والعربية والقومية.
سادسا: يأمل الأزهر من الدولة أن تفسح أمام الأزهريين مجال العمل في المدارس وفي القضاء وفي الإذاعة وفي كل مجتمع يحتاج إلى دعاة ومرشدين.
رسالة 61905 الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين
1
هذا المعهد العريق، والبيت العتيق، والمنارة الشماء، لم يعد لمصر وحدها، ولا للعرب فحسب، وإنما صار مجدا للعالم الإسلامي كافة، وأصبح بعد ذلك كله خير مظهر للإسلام، شريعة الله المنزلة على رسوله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، والتي كان كتابها المطهر هو القرآن الكريم
ومصر في انتفاضتها الحاضرة، ووثبتها الراهنة، ونهضتها الباهرة، وفي زعامتها العالم العربي، وفي قيادتها الروحية للعالم الإسلامي وفي حملها لواء القومية العربية المجيدة، مصر هذه مدينة للأزهر بديون كثيرة في ماضيها وحاضرها، وهي مع ذلك كله في ظلال ثورتها الكبرى محتاجة إليه أشد الاحتياج، لتوطيد منزلتها في العالمين العربي والإسلامي، وليسهم معها في نشر الثقافة ورسالة الإسلام في ربوع أفريقيا وآسيا، وليكون الدعامة الأولى للقومية العربية، ولقيادة مصر الثقافية والروحية لشعوب العروبة والإسلام.
وعند ما نفكر في رسالة الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين،
لا بد أن نفكر أولا في طلاب الأزهر وخريجيه ومدرسيه، لا بد أن نكفل لهم الطمأنينة والاستقرار في حياتهم، وأن نفتح أمامهم الأبواب للمستقبل، وأن نستعين بهم في كل الميادين الثقافية والروحية والإدارية، حتى يستطيعوا في ظل هذه الرعاية أن ينصرفوا بكل جهودهم إلى أداء رسالة الأزهر العلمية والروحية في كل مكان ولا بد مع ذلك كله أن نفكر في احتياجات الأزهر المالية، التي تعينه على أداء مهمته على الوجه الأكمل، والتي تساعد على رفع المستوى العلمي في معاهده وكلياته، وتعين على خلق نهضة فكرية وروحية في أروقته التي عاشت على مرور الأجيال تكافح في سبيل نشر ثقافة الإسلام وعلومه وآدابه وحضارته في كل مكان.(3/67)
وعند ما نفكر في رسالة الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين،
لا بد أن نفكر أولا في طلاب الأزهر وخريجيه ومدرسيه، لا بد أن نكفل لهم الطمأنينة والاستقرار في حياتهم، وأن نفتح أمامهم الأبواب للمستقبل، وأن نستعين بهم في كل الميادين الثقافية والروحية والإدارية، حتى يستطيعوا في ظل هذه الرعاية أن ينصرفوا بكل جهودهم إلى أداء رسالة الأزهر العلمية والروحية في كل مكان ولا بد مع ذلك كله أن نفكر في احتياجات الأزهر المالية، التي تعينه على أداء مهمته على الوجه الأكمل، والتي تساعد على رفع المستوى العلمي في معاهده وكلياته، وتعين على خلق نهضة فكرية وروحية في أروقته التي عاشت على مرور الأجيال تكافح في سبيل نشر ثقافة الإسلام وعلومه وآدابه وحضارته في كل مكان.
2
وعند ما نتحدث عن رسالة الأزهر لا نستطيع أن نقول إنها يجب أن تتجه إلى العناية بالدراسات الإسلامية فحسب، ولا إلى الدعوة إلى الإسلام فحسب، ولكن يجب أن تبنى هذه الرسالة على أصول هاتين الغايتين الكبيرتين معا، على أن نلاحظ هذه الحقائق التي قام عليها الأزهر طول عصور التاريخ التي شاهدها:
1 - الأزهر رمز للفكر الإسلامي، لأنه أقدم الجامعات الإسلامية في بلاد المسلمين، ولأن ماضيه أهله لحمل رسالة الفكر الإسلامي
2 - الأزهر جامعة أمم عربية وإسلامية، ففيه يجلس الطلاب من كل بلاد المسلمين بل من كل شعوب العالم تقريبا، جنبا إلى جنب، يتعلمون العلوم الإسلامية والعربية والفلسفية.
3 - الأزهر ليس ملكا لمصر وحدها، وإنما هو ملك العالم الإسلامي عامة، ومن ثم يجب أن تسهم الدول الإسلامية في نفقاته ليقوم الأزهر بنشر رسالة الإسلام في كل جهة.
4 - الأزهر ليس في عزلة ثقافية أو فكرية عن المجتمع في مصر ولا
في البلاد العربية، إنه قطعة حية من صميم المجتمع الإسلامي، وهو مركز ثقافي ضخم، يسهم في النهوض بالثقافة في مصر خاصة وفي العالم الإسلامي عامة عن طريق بعثاته العلمية التي يوفدها الأزهر إلى الأمم العربية والإسلامية في أفريقيا وآسيا وغيرهما ولا يمكن أن يكون في عزلة وأبناؤه من طلاب وأساتذة هم من مختلف طبقات الوطن على أن التاريخ قد وعى اشتراك الأزهر في كل الثورات القومية والوطنية في مصر خلال تاريخها الطويل، وعلى أن ثورات التحرر في العالمين العربي والإسلامي إنما كان قادتها في أغلب الأحيان من أبناء الأزهر وخريجيه.(3/68)
4 - الأزهر ليس في عزلة ثقافية أو فكرية عن المجتمع في مصر ولا
في البلاد العربية، إنه قطعة حية من صميم المجتمع الإسلامي، وهو مركز ثقافي ضخم، يسهم في النهوض بالثقافة في مصر خاصة وفي العالم الإسلامي عامة عن طريق بعثاته العلمية التي يوفدها الأزهر إلى الأمم العربية والإسلامية في أفريقيا وآسيا وغيرهما ولا يمكن أن يكون في عزلة وأبناؤه من طلاب وأساتذة هم من مختلف طبقات الوطن على أن التاريخ قد وعى اشتراك الأزهر في كل الثورات القومية والوطنية في مصر خلال تاريخها الطويل، وعلى أن ثورات التحرر في العالمين العربي والإسلامي إنما كان قادتها في أغلب الأحيان من أبناء الأزهر وخريجيه.
5 - تاريخ الأزهر مرتبط بتاريخ الإسلام، فلا يمكن أن يقول قائل:
إن الأزهر لم تعد له ضرورة: فما دام دين الله باقيا على الأرض، فإن الأزهر باق بإذن الله لدراسة علوم الإسلام ولنشر هدايته في الأرض جميعا.
ورسالة الأزهر لا بد أن تقوم أولا على خلق وعي فكري إسلامي داخل بيئة الأزهر العلمية، وهذا الوعي جدير بتكوين شخصية فكرية مستقلة للأزهر أولا ولكل من يتخرج منه ثانيا. ولكي نعاون على خلق هذا الوعي يجب أن نفكر أولا: في مناهج الأزهر التي يسير عليها، ففي رأيي أنها لم تعد صالحة كل الصلاحية للسير بالثقافة الإسلامية فيه إلى ما يتمناه لها وله المخلصون.
ثانيا: في الدراسات العليا في الأزهر الجامعي: هذه الدراسات التي لم يعد لها وجود في الأزهر، والتي ترجع بالأزهر من صبغته الجامعية الواسعة النطاق إلى صبغة مدرسية محدودة.
ثالثا: في قوانين الأزهر كلها، المنظمة له، والموجهة للثقافة فيه ولا بد من الاستعانة في هذه السبيل بنظم الجامعات ولوائحها في مصر وفي كل مكان، على ألا يفقد ذلك الأزهر طابعه الإسلامي، وشخصيته التي عرف بها منذ أجيال بعيدة.(3/69)
2
ورسالة الأزهر يجب أن تتناول كل شيء يتصل بفهم الإسلام ونشر هدايته في الآفاق، ومن ثم يجب أن يكون من أهم ما تتناوله:
1 - خلق جيل جديد متثقف ثقافة واسعة من أبناء الأزهر، ليستطيع حمل رسالته إلى كل مكان.
2 - عرض الثقافة الإسلامية القديمة في أسلوب جديد، يلائم أسلوب العصر في الفهم والبحث والدراسة، وكتابة ونشر بحوث جديدة عميقة عن الإسلام وعلومه وثقافاته.
3 - فتح مراكز ثقافية إسلامية في كل عاصمة من عواصم العالم في الشرق والغرب، تكون مراكز الدعاية للإسلام عن طريق المحاضرة وعن طريق معاونة المشرقين للمترددين عليها من أبناء الإسلام وغيرهم في البحث والدراسة وعن طريق طبع رسائل للتعريف بالإسلام تقوم هذه المراكز بتوزيعها على الجامعات وعلى المفكرين والعلماء والمهتمين بالبحوث الإسلامية، وسوى ذلك من الطرق وتكون هذه المراكز بمثابة مأوى للمبعوثين من الأزهر إلى مختلف هذه الجهات، على أن تزود بجميع المصادر والكتب الإسلامية، وبشتى الأجهزة اللازمة لها
4 - العمل بكل وسيلة على وحدة المسلمين الفكرية والروحية والدينية ليكون ذلك معينا على إمكان قيام وحدة سياسية بينهم في المستقبل.
5 - الاتصال بشتى المفكرين في مصر والعالم ليكونوا بمثابة أصدقاء وأنصار للأزهر ولرسالته، بشتى طرق هذا الاتصال.
6 - الإشراف على التعليم الديني وعلى الهيئات الدينية جميعها في مصر، والعمل على توجيه الجماعات الإسلامية في مصر وفي كل مكان توجيها صالحا.(3/70)
7 - إرسال بعثات أزهرية إلى كل مكان في العالم بقصد دراسة أحوال المسلمين وتفهم كل ما يحيط بهم من مشكلات، للعمل على معاونتهم في حلها، وخاصة في الجانب الروحي.
8 - الإشراف على ترجمة القرآن الكريم إلى الانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وعلى ترجمة طائفة مختارة من الحديث النبوي كذلك إلى هذه اللغات.
9 - إقامة مواسم ثقافية على نمط عال في «قاعة محاضرات الأزهر» يتحدث فيها كبار علماء الأزهر وكبار المهتمين بالدراسات الإسلامية من غير الأزهريين.
10 - التفكير حاليا في الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر (1)، ليمكن عن هذا السبيل ربط الأزهر من جديد بشتى جامعات العالم، على أن يمهد لذلك بطبع مائة مؤلف من خير ما ألف الأزهريون في القديم والحديث لتوزيعها على الجامعات المختلفة وممثليها، وبطبع رسالة عن تاريخ الأزهر تترجم إلى شتى اللغات.
__________
(1) احتفل فعلا بهذا العيد بعد كتابة المؤلف لهذا الكتاب القيم.(3/71)
الباب الثامن
آراء للأزهر في مشكلاتنا الفكريّة
1
أصدر الاستاذ علي عبد الرازق العالم الأزهري، والقاضي الشرعي، عام 1925كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وكان على رأس الوزارة في ذلك الحين زيور باشا يسنده حزب الأحرار الدستوريين برئاسة عبد العزيز فهمي باشا وحزب الاتحاد برئاسة يحيى باشا إبراهيم وكان الوفد في المعارضة برئاسة سعد.
وقد أثار الكتاب معركة اشترك فيها كل صاحب رأي أو قلم وقبل أن نعرض الصراع الذي دار حول هذا الكتاب نوضح فكرته الأساسية التي ذهب إليها المؤلف وفكرته هي: أن الإسلام لم يقرر نظاما معينا للحكومة، ولم يفرض على المسلمين نظاما خاصا يجب أن يحكموا بمقتضاه. بل ترك لنا مطلق الحرية في أن ننظم الدولة طبقا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي توجد فيها، مع مراعاة تطورنا الاجتماعي ومقتضيات الزمن. وأن الإسلام بريء من نظام الخلافة، والأدواء التي عصفت به. فإن الخلافة شلت كل تطور في شكل الحكومة عند المسلمين نحو النظم الحرة، خصوصا بسبب العسف الذي أنزله بعض الخلفاء بتقدم العلوم السياسية والاجتماعية، إذ صاغوها في قالب يتفق مع مصالحهم.(3/73)
وقد أثار الكتاب ضجة كبرى في محيط الأحزاب والشعب ورجال الأزهر، فجمع شيخ الأزهر الشيخ أبو الفضل الجيزاوي هيئة كبار العلماء وقررت أن ما في الكتاب من آراء هي كفر وإلحاد وخروج على الدين، كما قررت استدعاء الشيخ علي عبد الرازق باعتباره من العلماء لمحاكمته، عن تهم سبع وجهتها إليه، وانعقدت الجلسة في 5أغسطس سنة 1925.
وجلس العلماء على مائدة كبيرة، واستدعى الشيخ علي عبد الرازق، فدخل الحجرة، وأشار إليه شيخ الأزهر بالجلوس.
ودفع المؤلف دفعا فرعيا، هو أنه لا يعتبر نفسه أمام هيئة تأديبية وطلب من الهيئة أن لا تعتبر حضوره أمامها اعترافا منه بأن لها حقا قانونيا في محاكمته.
وفي 25أغسطس، أصدرت هيئة العلماء حكمها، «بتجريد الشيخ علي عبد الرازق من العالمية، لأنه أتى بأمور تخالف الدين والقرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة!. وقد تساءلت «الأخبار» عن موقف عبد العزيز فهمي وحزبه بعد أن أحرجته جريدته بدفاعها عن الكتاب. وأما «السياسة» فقد نشرت كلمة الشيخ علي عبد الرازق يقول فيها: «لا جرم أننا تقبلنا مسرورين إخراجنا من زمرة العلماء، وقلنا كما يقول القوم الذين إذا خلصوا من الأذى قالوا «الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وعافانا»
ومن هذا اليوم، هجر علي عبد الرازق ملابس الشيوخ، وأصبح «أفنديا»!
أيه أيها الطريد من الأزهر، تعالى إلى نتحدث عن هذه القصة المضحكة، قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر. ما بال رجال الأزهر لم يقضوا على كتابك بالتمزيق، فقد كان يلذ لنا أن نرى نسخه في صحن الأزهر أو أمام «باب المزينين» أو في ناحية من هذه الأنحاء التي لا يأتيها الباطل ولا يصل إليها المنكر، ولا يسعى إليها إلا الأخيار والأبرار
ثم تضرم فيها النار.! دعنا نتحدث في حرية ولا تكن أزهريا، فقد أخرجت من الأزهر!.(3/74)
أيه أيها الطريد من الأزهر، تعالى إلى نتحدث عن هذه القصة المضحكة، قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر. ما بال رجال الأزهر لم يقضوا على كتابك بالتمزيق، فقد كان يلذ لنا أن نرى نسخه في صحن الأزهر أو أمام «باب المزينين» أو في ناحية من هذه الأنحاء التي لا يأتيها الباطل ولا يصل إليها المنكر، ولا يسعى إليها إلا الأخيار والأبرار
ثم تضرم فيها النار.! دعنا نتحدث في حرية ولا تكن أزهريا، فقد أخرجت من الأزهر!.
2
وجاء في قرار هيئة كبار العلماء في محاكمته:
من حيث أن الشيخ عليا جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا فقد قال في ص 87و 79والدنيا من أولها لآخرها وجمع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول وحبانا من عواطف وشهوات وعلمنا من أسماء ومسميات هي أعون عند الله من أن يبعث لها رسولا وأهون عند رجل الله من أن يشغلوا بها وينصبوا لتدبيرها»، وقال في ص 85أن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وأوضح من كلامه أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة جاءت لتنظيم العلاقة بين الانسان وربه فقط أما ما بين الإنسان من المعاملات الدنيوية وتدبير الشئون العامة فلا شأن للشريعة به وليس من مقاصدها. وهل فيه استطاعة الشيخ على يشطر الدين الإسلامي شطرين يلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا ويضرب بآيات الكتاب العزيز وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط؟
وماذا يعمل الشيخ علي في مثل قوله تعالى {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ} وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، وقوله تعالى: {لََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً عَنْ تَرََاضٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقََاقَ بَيْنِهِمََا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهََا إِنْ يُرِيدََا إِصْلََاحاً يُوَفِّقِ اللََّهُ بَيْنَهُمََا}. وقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتََّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى ََ أَهْلِهََا}.وماذا يعمل الشيخ علي في ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن ابنة النضر أخت
الربيع لطمت جارية فكسر سنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص.(3/75)
وماذا يعمل الشيخ علي في مثل قوله تعالى {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ} وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، وقوله تعالى: {لََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً عَنْ تَرََاضٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقََاقَ بَيْنِهِمََا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهََا إِنْ يُرِيدََا إِصْلََاحاً يُوَفِّقِ اللََّهُ بَيْنَهُمََا}. وقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتََّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى ََ أَهْلِهََا}.وماذا يعمل الشيخ علي في ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن ابنة النضر أخت
الربيع لطمت جارية فكسر سنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص.
فقالت أم الربيع يا رسول الله أنقص من فلانة؟ لا والله. فسبحان الله. يا أم الربيع كتاب الله القصاص ومثل ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وما رواه أيضا عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق اذرع وما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعي عليه وما رواه أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.
ومن حيث أنه زعم الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين. فقد قال في ص 53 «وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله» ثم قال في ص 53 «وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك، فالشيخ علي في كلامه هذا يقطع بأن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين، وفي كلامه يزعم أن الدين لا يمنع من أن جهاده كان في سبيل الملك فعلم من كلامه هذا أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين وهذا أقل ما يؤخذ عليه في مجموعة نصوصه. على أنه لم يقف عند هذا الحد بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك ومن الشئون الملكية جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم ونحو ذلك في سبيل الملك أيضا وجعل كل ذلك على هذا خارجا على حدود رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل به وحي ولم يأمر به الله تعالى.
ومن حيث أنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع
غموض أو إبهام أو اضطراب ونقض، وموجبا للحيرة فقد قال في ص 40 «لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم غامضة ومبهمة من كل جانب».(3/76)
ومن حيث أنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع
غموض أو إبهام أو اضطراب ونقض، وموجبا للحيرة فقد قال في ص 40 «لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم غامضة ومبهمة من كل جانب».
وإذا كان قد اعترف ببعض أنظمة الحكم في الشريعة الإسلامية فإنه نقض الاعتراف وقرر أن هذه الأنظمة ملحقة بالعدم.
وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم.
ومن حيث أنه زعم أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغا للشريعة مجردا عن الحكم والتنفيذ، فقد قال الشيخ علي في ص 71: «ظواهر القرآن المجيد تؤيد القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له شأن في الملك السياسي وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان. ثم عاد فأكد ذلك فقال ص 73 «القرآن كما رأيت صريح في أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى الناس وأنه لم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه ولو كان الأمر كما زعم هو كان ذلك رفضا لجميع آيات الأحكام الكثيرة في القرآن الكريم. ودون ذلك خرط القتاد.
وقد قال الشيخ علي في دفاعه: «إنه قرر في مكان آخر من الكتاب بصراحة لا موارية فيها أن للنبي صلى الله عليه وسلم سلطانا عاما وأنه ناضل في سبيل الدعوة بلسانه وسنانه. وهذا دفاع لا يجدي إذ لو كان معنى الذي قرره في ص 66 و 70كما أشار إليه أن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السماوي يتجاوز حدود البلاغ المجرد عن كل معاني السلطان لما كان سائغا أن يقول بعد ذلك في صفحة 71إن آيات الكتاب متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، وأن يقول بعد ذلك في صفحة 73 «إن القرآن صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه شيء غير بلاغ رسالة الله إلى الناس ولم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه. والواقع أن السلطان الذي أثبته إنما هو
السلطان الروحي. كما صرح به في مذكرة دفاعه حيث قال فيها: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستولي على كل ذلك السلطان لا من طريق القوة المادية وإخضاع الجسم كما هو شأن الملوك والحكام ولكن من طريق الإيمان له إيمانا قلبيا والخضوع له خضوعا روحيا»، لكان دفاعه إثباتا للتهمة لا نفيا لها، على أنه قد نسب في ص 65و 66السلطان إلى عوامل أخرى من نحو الكمال الخلقي والتمييز الاجتماعي لا إلى وحي الله وآيات كتابه الكريم، كما أنه جعل الجهاد في موضع آخر من كتابه وسيلة كان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إليها لتأييد الدعوة ولم ينسبه إلى وحي له، وكلام الشيخ علي مخالف لصريح كتاب الله تعالى الذي يرد عليه زعمه ويثبت أن مهمته صلى الله عليه وسلم تجاوزت البلاغ إلى غيره من الحكم والتنفيذ فقد قال الله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ} وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ إِلَيْكَ}.(3/77)
وقد قال الشيخ علي في دفاعه: «إنه قرر في مكان آخر من الكتاب بصراحة لا موارية فيها أن للنبي صلى الله عليه وسلم سلطانا عاما وأنه ناضل في سبيل الدعوة بلسانه وسنانه. وهذا دفاع لا يجدي إذ لو كان معنى الذي قرره في ص 66 و 70كما أشار إليه أن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السماوي يتجاوز حدود البلاغ المجرد عن كل معاني السلطان لما كان سائغا أن يقول بعد ذلك في صفحة 71إن آيات الكتاب متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، وأن يقول بعد ذلك في صفحة 73 «إن القرآن صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه شيء غير بلاغ رسالة الله إلى الناس ولم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه. والواقع أن السلطان الذي أثبته إنما هو
السلطان الروحي. كما صرح به في مذكرة دفاعه حيث قال فيها: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستولي على كل ذلك السلطان لا من طريق القوة المادية وإخضاع الجسم كما هو شأن الملوك والحكام ولكن من طريق الإيمان له إيمانا قلبيا والخضوع له خضوعا روحيا»، لكان دفاعه إثباتا للتهمة لا نفيا لها، على أنه قد نسب في ص 65و 66السلطان إلى عوامل أخرى من نحو الكمال الخلقي والتمييز الاجتماعي لا إلى وحي الله وآيات كتابه الكريم، كما أنه جعل الجهاد في موضع آخر من كتابه وسيلة كان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إليها لتأييد الدعوة ولم ينسبه إلى وحي له، وكلام الشيخ علي مخالف لصريح كتاب الله تعالى الذي يرد عليه زعمه ويثبت أن مهمته صلى الله عليه وسلم تجاوزت البلاغ إلى غيره من الحكم والتنفيذ فقد قال الله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ} وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ إِلَيْكَ}.
وروى عن ابن سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال اضربوه. وروي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت وقالوا من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترىء عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع في حد من من حدود الله. ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وإيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد صلى الله عليه وسلم إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان وأنه لم يكلف أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه؟
وهل يجوز أن يقال بعد ذلك في القرآن الكريم أنه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله إلى الناس وليس عليه أن يأخذ
الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه.(3/78)
وهل يجوز أن يقال بعد ذلك في القرآن الكريم أنه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله إلى الناس وليس عليه أن يأخذ
الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه.
ومن حيث أنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا فقد قال في ص 22 «أما دعوى الإجماع في هذه المسألة وجوب نصب الإمام فلا تجد مساغا لقبولها بأية حال ومحال إذا طالبناهم بالدليل أن يظفروا بدليل، على أننا مثبتون لك أن دعوى الإجماع هنا غير صحيحة ولا مسموعة سواء أرادوا بها إجماع الصحابة وحدهم أم الصحابة والتابعين أم علماء المسلمين أم المسلمين كلهم». ادعى الشيخ علي أن حظ العلوم السياسية في العصر الإسلامي كان سيئا على الرغم من توافر الدواعي التي حمل على البحث فيها، وأهمها إن مقام الخلافة منذ زمن الخليفة الأول كان عرضة للخارجين عليه، غير ان حركة المعارضة كانت تضعف وتقوي، ثم ساق بعد أمثلة يؤيد بها ما يدعيه من أن الخلافة كانت قائمة على السيف والقوة لا على البيعة والرضا ولو سلم للشيخ علي ذلك جدلا لما تم له ما يزعمه من إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب إمام للمسلمين. فإن إجماعهم على ذلك شيء وإجماعهم بيعة إمام معين شيء آخر واختلافهم في بيعة إمام معين لا يقدح في اتفاقهم على وجوب نصب الإمام، أي إمام كان. وقد ثبت إجماع المسلمين على امتناع خلو الوقت من إمام. ونقل إلينا ذلك بطريق التواتر فلا سبيل إلى الإنكار.
ومن حيث أنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية فقد قال في ص 103 «والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها فهو لم يعرفها، ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة». وكلام الشيخ علي في دفاعه يقضي بأن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعا عن الخلافة فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.(3/79)
وقال الشيخ علي في دفاعه: «إن الذي أنكر أنه خطة شرعية إنما هو جعل القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة واتخاذه مقاما ذا أنظمة معينة وأساليب خاصة».
وما زعمه الشيخ علي من إنكار أن القضاء وظيفة شرعية وخطة دينية باطل ومصادم لآيات الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ حَتََّى يُحَكِّمُوكَ فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لََا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمََّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ عَمََّا جََاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} وقال تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ} وقال تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}.
ومن حيث أنه يزعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا دينية فقد قال في ص 9: «طبيعي معقول إلى درجة البداهة ألا توجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم زعامة دينية. وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين، هو إذا نوع لا ديني». وهذه جرأة لا دينية فإن الطبيعي والمعقول عند المسلمين إلى درجة البداهة أن زعامة أبي بكر رضي الله عنه كانت دينية يعرف ذلك المسلمون سلفهم وخلفهم جيلا بعد جيل.
ومن حيث أن التهمة الموجهة ضد الشيخ علي عبد الرازق ثابتة عليه وهي مما لا يناسب وصف العالمية وفاقا للمادة (101) من القانون رقم 10 لسنة 1911، فبناء على هذه الأسباب حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالما معنا من هيئة كبار العلماء باخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» من زمرة العلماء.(3/80)
3
وكانت الثورة الثانية عند ما أخرج الدكتور طه حسين عام 1926كتابه «الشعر الجاهلي» فأحدث ضجة هائلة في مصر وبين رجال الدين، استمر صداها أمدا طويلا. وكان أول أثر لهذا الصدى هو مصادرة الكتاب، وقد حققت النيابة العامة مع الدكتور واتخذت النيابة أخيرا قرارا بحفظ أوراق التحقيق إداريا لأن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل أن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها».
وقد أخرج الدكتور طه كتابه بعنوان جديد هو «في الأدب الجاهلي» وحذف منه بعض الفقرات التي كانت سببا لثورة الجماهير ورجال الدين على الكتاب، وقد بسطت المسائل الأدبية التي أوردها الدكتور في كتابه (الشعر الجاهلي)، وناقشتها مناقشة تحليلية في كتابي (الحياة الأدبية في العصر الجاهلي)، فلا داعي للعودة إليها في هذا الكتاب.
4
وفي عهد الشيخ المراغي فكر في ترجمة القرآن سنة 1936، وقد ثار الكثير على الشيخ المراغي وعارضوا مشروع الترجمة، وقدم الشيخ إلى رئيس مجلس الوزراء مذكرة بشأن المشروع جاء فيها:
اشتغل الناس قديما وحديثا بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات المختلفة وتولى ترجمته أفراد يجيدون لغاتهم ولكنهم لا يجدون اللغة العربية ولا يفهمون الاصطلاحات الإسلامية الفهم الذي يمكنهم من أداء معاني القرآن على وجه صحيح، لذلك وجدت في التراجم أخطاء كثيرة وانتشرت تلك التراجم ولم يجد الناس غيرها فاعتمدوا عليها في فهم أغراض القرآن
الكريم وفهم قواعد الشريعة الإسلامية فأصبح لزاما على أمة إسلامية كالأمة المصرية لها المكان الرفيع في العالم الإسلامي أن تبادر إلى إزاحة هذه الأخطاء وإلى إظهار معاني القرآن الكريم نقية في اللغات الحية لدى العالم، ولهذا العمل أثر بعيد في نشر هداية الإسلام بين الأمم التي لا تدين بالإسلام ذلك أن أساس الدعوة إلى الدين الإسلامي إنما هو الإدلاء بالحجة الناصعة والبرهان المستقيم، وفي القرآن الكريم من الحجج الباهرة والأدلة الدامغة ما يدعو الرجل المنصف إلى التسليم بالدين والإذعان له. وفائدة أخرى للأمم الإسلامية التي لا تعرف العربية وتشرئب أعناقها إلى اقتطاف ثمرات الدين من مصدرها الرفيع فلا تجد أمامها إلا تراجم قد ملئت بالاخطاء، فإذا ما قدمت لها ترجمة صحيحة تصدرها هيئة لها مكانتها الدينية في العالم اطمأنت إليها وركنت إلى أنها تعبر عن الوحي الإلهي تعبيرا دقيقا.(3/81)
اشتغل الناس قديما وحديثا بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات المختلفة وتولى ترجمته أفراد يجيدون لغاتهم ولكنهم لا يجدون اللغة العربية ولا يفهمون الاصطلاحات الإسلامية الفهم الذي يمكنهم من أداء معاني القرآن على وجه صحيح، لذلك وجدت في التراجم أخطاء كثيرة وانتشرت تلك التراجم ولم يجد الناس غيرها فاعتمدوا عليها في فهم أغراض القرآن
الكريم وفهم قواعد الشريعة الإسلامية فأصبح لزاما على أمة إسلامية كالأمة المصرية لها المكان الرفيع في العالم الإسلامي أن تبادر إلى إزاحة هذه الأخطاء وإلى إظهار معاني القرآن الكريم نقية في اللغات الحية لدى العالم، ولهذا العمل أثر بعيد في نشر هداية الإسلام بين الأمم التي لا تدين بالإسلام ذلك أن أساس الدعوة إلى الدين الإسلامي إنما هو الإدلاء بالحجة الناصعة والبرهان المستقيم، وفي القرآن الكريم من الحجج الباهرة والأدلة الدامغة ما يدعو الرجل المنصف إلى التسليم بالدين والإذعان له. وفائدة أخرى للأمم الإسلامية التي لا تعرف العربية وتشرئب أعناقها إلى اقتطاف ثمرات الدين من مصدرها الرفيع فلا تجد أمامها إلا تراجم قد ملئت بالاخطاء، فإذا ما قدمت لها ترجمة صحيحة تصدرها هيئة لها مكانتها الدينية في العالم اطمأنت إليها وركنت إلى أنها تعبر عن الوحي الإلهي تعبيرا دقيقا.
لذلك اقترح أن يقرر مجلس الوزراء ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسمية على أن تقوم بذلك مشيخة الأزهر بمساعدة وزارة المعارف وأن يقرر مجلس الوزراء الاعتماد اللازم لذلك المشروع الجليل، فأرجو النظر في هذا.
وقد أرفق المراغي بمذكرته نص فتوى كبار العلماء، وقد وجه إليهم سؤالا جاء فيه.
ما قول السادة حضرات أصحاب الفضيلة جماعة كبار العلماء في السؤال الآتي؟ بعد ملاحظة المقدمات الآتية:
1 - لا شبهة في أن القرآن الكريم اسم للنظم العربي الذي نزل على سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وعلى آله.
ولا شبهة أيضا في أنه إذا عبر عن معاني القرآن الكريم بعد فهمها من
النص العربي بأية لغة من اللغات لا تسمى هذه المعاني ولا العبارات التي تؤدي هذه المعاني قرآنا.(3/82)
ولا شبهة أيضا في أنه إذا عبر عن معاني القرآن الكريم بعد فهمها من
النص العربي بأية لغة من اللغات لا تسمى هذه المعاني ولا العبارات التي تؤدي هذه المعاني قرآنا.
2 - ومما لا محل للخلاف فيه أيضا أن الترجمة اللفظية بمعنى نقل المعاني مع خصائص النظم العربي المعجز مستحيلة.
3 - وضع الناس تراجم القرآن الكريم بلغات مختلفة اشتملت على أخطاء كثيرة واعتمد على هذه التراجم بعض المسلمين الذين لا يعرفون اللغة العربية، وبعض العلماء من غير المسلمين ممن يريد الوقوف على معاني القرآن الكريم.
4 - وقد دعا هذا إلى التفكير في نقل معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى على الوجه الآتي:
يراد أولا فهم معاني القرآن الكريم بوساطة رجال من خيرة علماء الأزهر الشريف بعد الرجوع لآراء كبار أئمة المفسرين وصوغ هذه المعاني بعبارات دقيقة محدودة، ثم نقل هذه المعاني التي فهمها العلماء إلى اللغات الأخرى بوساطة رجال موثوق بأمانتهم واقتدارهم في تلك اللغات بحيث يكون ما يفهم في تلك اللغات من المعاني هو ما تؤديه العبارات العربية التي يصنعها العلماء، فهل الإقدام على هذا العمل جائز شرعا أو غير جائز؟.
هذا مع العلم بأنه سيوضع تعريف شامل يتضمن أن الترجمة ليست قرآنا وليس لها خصائص القرآن وليست هي ترجمة كل المعاني التي يحتملها النظم العربي وإنما هي ترجمة للمعاني التي فهمها العلماء وأنه ستوضع الترجمة وحدها بجوار النص العربي للقرآن الكريم.
وقد أجاب السادة العلماء على ذلك بالفتوى الشرعية الآتي نصها:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فقد أطلعنا على جميع ما
ذكر بالاستفتاء المدون بباطن هذا ونفيد بأن الإقدام على الترجمة على الوجه المذكور تفصيلا في السؤال جائز شرعا والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/83)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فقد أطلعنا على جميع ما
ذكر بالاستفتاء المدون بباطن هذا ونفيد بأن الإقدام على الترجمة على الوجه المذكور تفصيلا في السؤال جائز شرعا والله سبحانه وتعالى أعلم.
إمضاءات: محمود الديناري عضو جماعة كبار العلماء وشيخ معهد طنطا، عبد المجيد اللبان شيخ كلية أصول الدين وعضو جماعة كبار العلماء، إبراهيم حمروش شيخ كلية اللغة العربية وعضو جماعة كبار العلماء، محمد مأمون الشناوي شيخ كلية الشريعة وعضو جماعة كبار العلماء، عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية وعضو جماعة كبار العلماء، محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الجامع الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء، دسوقي عبد الله البدوي عضو جماعة كبار العلماء، أحمد الدلبشاني عضو جماعة كبار العلماء، يوسف الدجوي عضو جماعة كبار العلماء، محمد سبع الذهبي شيخ الحنابلة وعضو جماعة كبار العلماء، عبد المعطي الشرشيمي عضو جماعة كبار العلماء، عبد الرحمن قراعة عضو هيئة كبار العلماء، أحمد نصر عضو جماعة كبار العلماء، محمد الشافعي الظواهري عضو جماعة كبار العلماء:
حيث أن الترجمة المرادة هي ترجمة لمعاني التفسير الذي يضعه العلماء فهي جائزة شرعا بشرط طبع التفسير المذكور بحوار الترجمة المذكورة، كتبه بيده الفانية: عبد الرحمن عليش الحنفي من جماعة كبار العلماء.
ولما تلقى المراغي هذه الفتوى الشرعية أرفقها بكتاب منه هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم. وجهت هذا السؤال إلى حضرات أصحاب الفضيلة جماعة كبار العلماء وأنا أوافقهم على ما رأوه ولا أرى داعيا للحفظ الذي أبداه فضيلة الشيخ عبد الرحمن عليش وهو طبع التفسير مع الترجمة لعدم الحاجة الى ذلك بعد مراعاة الشروط المدونة في السؤال. رئيس جماعة كبار العلماء: محمد مصطفى المراغي.(3/84)
ومع ذلك فقد بدأت لجنة في عهد الشيخ المراغي في ترجمة القرآن، ثم توقفت عن العمل، ولم تنجز شيئا من مهمتها.
ولما تولى المشيخة الأستاذ الأكبر إبراهيم حمروش فكر في طبع رسائل إسلامية للتعريف بالإسلام بشتى اللغات، ومع ذلك لم ينجز شيء من هذا العمل.
وفي أكتوبر عام 1954كتب الدكتور طه حسين يطالب بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الحية، وأجابت مشيخة الأزهر على تساؤله بأن المشيخة تفكر في وضع وطبع رسائل إسلامية تكتب بشتى اللغات العالمية الحية.
5
وفي عام 1947ألف الأستاذ محمد أحمد خلف الله رسالة سماها «الفن القصصي من القرآن الكريم» وقدمها إلى كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول للحصول على الدكتوراه.
وقد ثار على هذه الرسالة علماء الأزهر، وفي مقدمتهم الشيخ عبد المجيد سليم، والمرحوم الشيخ عبد الفتاح بدوي الأستاذ بكلية اللغة العربية سابقا، والشيخ شلتوت وكان معهم أحمد أمين، وبعضهم أساتذة الجامعة.
ووقف الأستاذ أمين الخولي وصاحب الرسالة يدافعان عن الكتاب
وقد كانت أخبار اليوم وبعض الصحف والمجلات تنشر بين الحين والحين أنباء المعركة حول هذه الرسالة، وقد قررت الجامعة عدم صلاحية الرسالة، وطالبت المؤلف بتقديم رسالة أخرى، وقد نشر كتابه بعد ذلك.
6
وفي عام 1950أخرج الدكتور طه حسين كتابه (الوعد الحق)، واتفقت معه بعض شركات السينما على إخراجه في (فيلم سينمائي)(3/85)
فوافق على ذلك بعض العلماء، وثار آخرون على هذا الفيلم الذي تعرض فيه للصحابة على الشاشة البيضاء، ومنهم المرحوم الشيخ محمود الغمراوي عضو جماعة كبار العلماء الذي كتب في الأهرام يوم 10/ 8/ 1950يقول:
قرأت ما أملاه الدكتور طه حسين وزير المعارف على مندوب الأهرام جوابا عن سؤاله الخاص بوضع سيادته سيناريو عن الدين الإسلامي عند ظهوره، وقد جاء فيما أملاه الدكتور علي المندوب أنه أصدر في شهر يناير الماضي كتابا عنوانه «الوعد الحق» وإن هذا الكتاب يصور الاضطهاد الذي لقيه المسلمون عند ظهور الإسلام، وكيف ثبت المسلمون لهذا الاضطهاد وصبروا عليه وانتصروا على الذين كانوا يضطهدونهم. وإن هذا الكتاب ظهر وتلقاه القراء لقاء حسنا، ثم قص ما عرضه عليه الأستاذ عز الدين من رجائه للدكتور أن يأذن له في أن يستقي من هذا الكتاب سيناريو لفيلم سينمائي، فاستغرب الدكتور الأمر واستبعد أن يكون تحقيقه ممكنا ولكنه لما كلمه فيه مرة ومرة اقتنع بإمكان ذلك، وطلب إليه أن يستأذن من رجال الدين شيخين عينهما، فلما جاءه منهما كتابان أذنا فيهما بهذا العمل وأظهر استحسانا شديدا له، أخذ الدكتور في مراجعة السيناريو الذي كان قد وضعه المخرج، وانتهيا أخيرا إلى إقراره بعد جهد طويل.
تلك هي قصة وضع ذلك السيناريو الذي اعتزم الدكتور طه حسين أن يبرز به المسلمين وخلفاءه الراشدين وأصحابه الأبرار المجاهدين مصورين في فيلم سينمائي، فيزلزل إيمان العامة، ويفتن جماهير المسلمين إذ يكون النظارة من الدهماء وغيرهم عند عرض هذا الفيلم عليهم بين أمرين لا ثالث لهما: فإما أن يستقبلوه كعادتهم عند عرض ما يستغرب عليهم فيتلقوه بالصفير والنعير، ولازمة ذلك الإستهزاء والتحقير وذلك هو الإثم البواح والكفر الصراح.(3/86)
أو يتلقوا هذه الصور الكريمة بما يليق لأصحابها من احترام وتوقير، وتعظيم وتقدير، فيدخلوا في باب من أبواب التشبه بعبدة الصور، وحينئذ يلجون على الشرك أو يلج عليهم الشرك من باب أمرنا الإسلام بسده، ونهى الدين عن ولوجه، أو أن يحوم المسلمون حوله بتحريم التصوير ولعن المصورين وحظره اتخاذ الصور، هذا إلى أن تصوير النبي وصحبه وخلفائه (وهم الذين يحرمون التصوير ويحظرون اتخاذ الصور) مؤذن باستخفاف المصور وكل من يقره أو يرضى عن عمله بأصحاب هذه الصور.
فمن أبرز إنسانا على هيئة أو صورة يكره اتخاذها لغيره، بله أن يكون قد جاء بدين يحرم اتخاذ الصور فهو مزدر بصاحب هذا الدين ومستخف به.
ولو أن إنسانا رسم الدكتور طه حسين الآن في زي: فوق رأسه عمامة وعليه قفطان وجبة وبيده مسبحة، فإني أحكم بأن الذي فعل ذلك مستخف بالدكتور مستهزىء به، ذلك بأني أعلم أن الدكتور طه نبذ الزي منذ أعوام وحرمه على نفسه، فمن يصور النبي وهو يعلم أن النبي قد حرم التصوير ونهى عن اتخاذ الصور، فقد اقترف إثما مبينا، واقترب من الكفر بهذا النبي وشريعته ودينه. إن للدكتور طه أن يكتب للناس ويخلبهم بسحر بيانه وأن يعرض على القراء من صفحات التاريخ الإسلامي صفحات رائعات يبين لهم فيها أن المسلمين في أول ظهور الإسلام لم يكسبوا حريتهم إلا بالجهد والصبر والمقاومة والثبات، تلك الخلال المجيدة التي كسبهم إياها أيمانهم ومكنها من قلوبهم صدقهم في الإيمان، وأن يصور لهم في ذلك ما يشاء بأسلوبه الطلي وبيانه الساحر الوحي، لعلهم يرجعون إلى نفوسهم، ويتعرفون مكامن الداء في قلوبهم فيداووها، فإن الله ليشكر له ويجزل ثوابه على ما يقدم من عمل على حسب نيته، غير أني أرباء بالدكتور عن أن يخرج عن طبيعته ويعدل عن صنعته وأن يحاول أن يجحد بيانه ويبدل سحره وإحسانه، ويجعل من ذلك صورا ميتة ورسوما جامدة لا فائدة من ورائها، فإن أبى لنفسه إلا ذلك فإني أنصح له ألا يسيء إلى المسلمين وألا يمتهن
قداسة النبيين والصديقين، يروج الوزير لمشروعه الخطير بأنه سيكون له أثر حسن جدا من ناحيتين ذكرهما! فأما عن الناحية الأولى فقد قدمنا ما سيكون من النظارة عند ما يعرض عليهم هذا الفيلم وذكرنا ما ينجم عنه من خطر على عقيدتهم ودينهم.(3/87)
ولو أن إنسانا رسم الدكتور طه حسين الآن في زي: فوق رأسه عمامة وعليه قفطان وجبة وبيده مسبحة، فإني أحكم بأن الذي فعل ذلك مستخف بالدكتور مستهزىء به، ذلك بأني أعلم أن الدكتور طه نبذ الزي منذ أعوام وحرمه على نفسه، فمن يصور النبي وهو يعلم أن النبي قد حرم التصوير ونهى عن اتخاذ الصور، فقد اقترف إثما مبينا، واقترب من الكفر بهذا النبي وشريعته ودينه. إن للدكتور طه أن يكتب للناس ويخلبهم بسحر بيانه وأن يعرض على القراء من صفحات التاريخ الإسلامي صفحات رائعات يبين لهم فيها أن المسلمين في أول ظهور الإسلام لم يكسبوا حريتهم إلا بالجهد والصبر والمقاومة والثبات، تلك الخلال المجيدة التي كسبهم إياها أيمانهم ومكنها من قلوبهم صدقهم في الإيمان، وأن يصور لهم في ذلك ما يشاء بأسلوبه الطلي وبيانه الساحر الوحي، لعلهم يرجعون إلى نفوسهم، ويتعرفون مكامن الداء في قلوبهم فيداووها، فإن الله ليشكر له ويجزل ثوابه على ما يقدم من عمل على حسب نيته، غير أني أرباء بالدكتور عن أن يخرج عن طبيعته ويعدل عن صنعته وأن يحاول أن يجحد بيانه ويبدل سحره وإحسانه، ويجعل من ذلك صورا ميتة ورسوما جامدة لا فائدة من ورائها، فإن أبى لنفسه إلا ذلك فإني أنصح له ألا يسيء إلى المسلمين وألا يمتهن
قداسة النبيين والصديقين، يروج الوزير لمشروعه الخطير بأنه سيكون له أثر حسن جدا من ناحيتين ذكرهما! فأما عن الناحية الأولى فقد قدمنا ما سيكون من النظارة عند ما يعرض عليهم هذا الفيلم وذكرنا ما ينجم عنه من خطر على عقيدتهم ودينهم.
وإذا كنا نئن ونتوجع مما تأتيه الجماهير من الآهات المكررة والأصوات المنكرة حين سماعها للقرآن وهو الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فتراهم حين يسمعون القرآن من قارىء متكسر في تلاوته يصيحون ويكثرون من التأوه بالنغمة واستحسانا للوحدة ذاهلين عن معاني الآيات التي تقرع أسماعهم فلا تخشع لها جوارحهم أو تلين قلوبهم فكيف يكون الحال عند ما يشاهدون أبطال المسلمين ونبي الإسلام في ثياب بالية مهلهلة وفي هيئة تنبو عنها أبصارهم وتنفر منها أذواقهم، وهل يبقى لواحد من هؤلاء الدهماء دينه، أو يثبت معه أيمانه ويقينه عند ما يهجم على قلبه الاشمئزاز والنفور من تلك الهيئة البدوية والصورة العربية الوحشية التي ينكرها ذوقه ويشمئز منها حسه. أيظن معالي الدكتور أن يكون الدهماء فلاسفة عند ما يشاهدون السيناريو الذي يعده معاليه لهم فتقتحم أبصارهم تلك الصور وتتخطى ما يحيط بها من الأستار ويطفرون بعقولهم ويشبون بأفكارهم إلى ما وراء هذه الصور الشوهاء الملخبطة فيدركون ما تخفي ورائها من المعاني والأسرار.
أما الناحية الثانية التي يروج بها الدكتور لمشروعه وهي الناحية الفنية ونهوض صاحبه بها وتقدمه فإنا نتمنى لصاحبه ما يتمناه هو له من النبوغ والتقدم، وأن يكون في فنه من العبقريين على أن لا يجري ريشته في رءوس المسلمين.
أما بعد فإن عهدي بالدكتور طه حسين أنه من أولئك الرجال الذين لا يستفتون غيرهم وإنما يستفتون قلوبهم وإن أفتاهم المفتون لا يدفعه إلى أمر
دافع، ولا يرجعه أو يثنيه عن رغيبة أرادها راجع، فما باله اليوم ينزل عن مطيته، ولا يمضي لطيته حتى يجيزه اثنان ارتضاهما من بين رجال الدين.(3/88)
أما بعد فإن عهدي بالدكتور طه حسين أنه من أولئك الرجال الذين لا يستفتون غيرهم وإنما يستفتون قلوبهم وإن أفتاهم المفتون لا يدفعه إلى أمر
دافع، ولا يرجعه أو يثنيه عن رغيبة أرادها راجع، فما باله اليوم ينزل عن مطيته، ولا يمضي لطيته حتى يجيزه اثنان ارتضاهما من بين رجال الدين.
ثم أقول لحضرتي الشيخين اللذين أجازا في كتابيهما هذا العمل وأظهرا استحسانهما الشديد له: على أي أساس بنيتما هذا الأذن وكيف كان هذا الاستحسان؟ فهل غاب عنكما وأنتما من أعرف الناس بروح هذا العصر، وما يغلب على أهله من التمرد على الدين والإلحاد فيه ما يترتب على هذا العمل من خطر، وما ينشأ عنه من فتن تفتح أبوابها وتفغر أفواهها، وهل نسيتما سد الذرائع؟ عسى أن تعدا في العصريين، وألا تكونا مثلنا عن ركب الحياة متخلفين!
خدعونا بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء
ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا يا أرحم الراحمين.
7
حول كتاب من هنا نبدأ:
وقد أخرج الشيخ خالد محمد خالد من العلماء كتابا عام 1950سماه «من هنا نبدأ» وقد ثار العلماء على هذا الكتاب، وكثرت حركة النقد حوله مما هو مشهور ومعروف.
وقد صودر الكتاب ونظرت قضية مصادرته أمام القضاء، فحكم بإلغاء أمر مصادرته، لأن حرية الرأي مكفولة في حدود القانون، والكتاب لا ينطوي على جريمة ما، وقد كتب خالد محمد خالد مقالة في المصري بعنوان «شموع لا حراب» قال في آخرها: «لقد احتكم الأزهر إلى القضاء، وقال القضاء كلمته، فلننحن لها في خشوع وإعجاب، فإنها كضوء الفجر منيرة هادية».(3/89)
8
وطالبت الهيئات النسائية بإعطاء المرأة حقوقها السياسية، وأيدها في ذلك بعض الأفراد، فنشر مفتي الديار المصرية الشيخ مخلوف عام 1952 فتوى جاء فيها:
عني الإسلام أتم عناية بإعداد المرأة الصالحة للمساهمة مع الرجل في بناء المجتمع على أساس من الدين والفضيلة والخلق القويم وفي حدود الخصائص الطبيعية لكل من الجنسين فرفع شأنها وكون شخصيتها وقرر حريتها وفرض عليها كالرجل طلب العلم والمعرفة، ثم ناط بها من شئون الحياة ما تهيؤها لها طبيعة الأنوثة وما تحسنه حتى إذا نهضت بأعبائها كانت زوجة صالحة وأما مربية وربة منزل مدبرة وكانت دعامة قوية في بناء الأسرة والمجتمع.
وكان من رعاية الإسلام لها حق الرعاية أن حاط عزتها وكرامتها بسياج منيع من تعاليمه الحكيمة وحمى أنوثتها الظاهرة من العبث والعدوان وباعد بينها وبين مظان الزيف وبواعث الافتتان فحرم على الرجل الأجنبي الخولة بها، والنظرة العارمة إليها، وحرم عليها أن تبدي زينتها إلى ما ظهر منها، وأن تخالط الرجال في مجامعهم، وأن تتشبه بهم فيما هو من خواص شئونهم، وأعفاها من وجوب صلاة الجمعة والعيدين مع ما عرف عن الشارع من شديد الحرص على اجتماع المسلمين وتواصلهم، وأعفاها في الحج من التجرد للإحرام، ومنعها الإسلام من الأذان العام، وإمامة الرجال للصلاة، والإمامة العامة للمسلمين، وولاية القضاء بين الناس، وأثم من يوليها، بل حكم ببطلان قضائها على ما ذهب إليه جمهور الأئمة، ومنع المرأة ولاية الحروب وقيادة الجيوش ولم يبح لها من معونة الجيش إلا ما يتفق وحرمة أنوثتها.
وقد قال تعالى للمؤمنين بعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي
الأمر (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى القرآن والسنة، وقال تعالى: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فليس للمرأة المؤمنة أن تترك ما حدده لها الشارع الحكيم وتأخذ بما نهاها عنه، وقد قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلََا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجََاهِلِيَّةِ الْأُولى ََ وَأَقِمْنَ الصَّلََاةَ وَآتِينَ الزَّكََاةَ وَأَطِعْنَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} عن أنس رضي الله عنه أن بعض النساء قلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله فما لنا من عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى والجهاد سنام الإسلام وعموده وما دونه لا يدانيه فضلا وأجرا)، وقال تعالى: {وَإِذََا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتََاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ}. قال القرطي ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا للضرورة القصوى وفي الحديث (المرأة عورة وإذا خرجت استشرفها الشيطان وإنها تكون أقرب إلى الله منه في بيتها)، وفي الحديث الصحيح (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي رحم) وفيه (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) وفيه (لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) وفيه (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) وهذا من أعلام النبوة التي وقعت. ولا سبيل الى استقصاء الآيات والأحاديث الواردة في ذلك لكثرتها، بل ما كنا في حاجة إلى ذكرها وهي من بديهيات التشريع وفيها الدلالة القاطعة على أن الشريعة الإسلامية لا تبيح للمرأة ما تطالب به الآن مما سمته حقوقا لها وهو اعتداء منها على الحقوق التي خص بها الرجال. وكل ما أباحه لها الشارع وما
منعها إنما هو لخيرها وصونها وسد ذرائع الفتنة منها والافتتان بها حذرا من أن يحيق بالمجتمع ما يفضي إلى انحلاله وانهيار بنائه والله أعلم بما للطبائع البشرية من سلطان ودوافع وبما للنفوس من ميول ونوازع والناس يعلمون والحوادث تصدق. ولقد بلغ من أمر الحيطة للمرأة أن أمر الله تعالى نساء نبيه صلى الله عليه وسلم بالحجاب وهن أمهات المؤمنين حرمة واحتراما وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تمس يده وهو المعصوم أيدي النساء اللاتي بايعنه وأن المرأة لم تول ولاية من الولايات الإسلامية في عهده ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهود من بعدهم من الملوك والأمراء ولا حضرت مجالس تشاوره صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من المهاجرين والأنصار.(3/90)
وقد قال تعالى للمؤمنين بعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي
الأمر (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى القرآن والسنة، وقال تعالى: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فليس للمرأة المؤمنة أن تترك ما حدده لها الشارع الحكيم وتأخذ بما نهاها عنه، وقد قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلََا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجََاهِلِيَّةِ الْأُولى ََ وَأَقِمْنَ الصَّلََاةَ وَآتِينَ الزَّكََاةَ وَأَطِعْنَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} عن أنس رضي الله عنه أن بعض النساء قلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله فما لنا من عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى والجهاد سنام الإسلام وعموده وما دونه لا يدانيه فضلا وأجرا)، وقال تعالى: {وَإِذََا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتََاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ}. قال القرطي ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا للضرورة القصوى وفي الحديث (المرأة عورة وإذا خرجت استشرفها الشيطان وإنها تكون أقرب إلى الله منه في بيتها)، وفي الحديث الصحيح (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي رحم) وفيه (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) وفيه (لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) وفيه (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) وهذا من أعلام النبوة التي وقعت. ولا سبيل الى استقصاء الآيات والأحاديث الواردة في ذلك لكثرتها، بل ما كنا في حاجة إلى ذكرها وهي من بديهيات التشريع وفيها الدلالة القاطعة على أن الشريعة الإسلامية لا تبيح للمرأة ما تطالب به الآن مما سمته حقوقا لها وهو اعتداء منها على الحقوق التي خص بها الرجال. وكل ما أباحه لها الشارع وما
منعها إنما هو لخيرها وصونها وسد ذرائع الفتنة منها والافتتان بها حذرا من أن يحيق بالمجتمع ما يفضي إلى انحلاله وانهيار بنائه والله أعلم بما للطبائع البشرية من سلطان ودوافع وبما للنفوس من ميول ونوازع والناس يعلمون والحوادث تصدق. ولقد بلغ من أمر الحيطة للمرأة أن أمر الله تعالى نساء نبيه صلى الله عليه وسلم بالحجاب وهن أمهات المؤمنين حرمة واحتراما وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تمس يده وهو المعصوم أيدي النساء اللاتي بايعنه وأن المرأة لم تول ولاية من الولايات الإسلامية في عهده ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهود من بعدهم من الملوك والأمراء ولا حضرت مجالس تشاوره صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من المهاجرين والأنصار.(3/91)
وقد قال تعالى للمؤمنين بعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي
الأمر (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى القرآن والسنة، وقال تعالى: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فليس للمرأة المؤمنة أن تترك ما حدده لها الشارع الحكيم وتأخذ بما نهاها عنه، وقد قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلََا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجََاهِلِيَّةِ الْأُولى ََ وَأَقِمْنَ الصَّلََاةَ وَآتِينَ الزَّكََاةَ وَأَطِعْنَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} عن أنس رضي الله عنه أن بعض النساء قلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله فما لنا من عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى والجهاد سنام الإسلام وعموده وما دونه لا يدانيه فضلا وأجرا)، وقال تعالى: {وَإِذََا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتََاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ}. قال القرطي ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا للضرورة القصوى وفي الحديث (المرأة عورة وإذا خرجت استشرفها الشيطان وإنها تكون أقرب إلى الله منه في بيتها)، وفي الحديث الصحيح (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي رحم) وفيه (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) وفيه (لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) وفيه (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) وهذا من أعلام النبوة التي وقعت. ولا سبيل الى استقصاء الآيات والأحاديث الواردة في ذلك لكثرتها، بل ما كنا في حاجة إلى ذكرها وهي من بديهيات التشريع وفيها الدلالة القاطعة على أن الشريعة الإسلامية لا تبيح للمرأة ما تطالب به الآن مما سمته حقوقا لها وهو اعتداء منها على الحقوق التي خص بها الرجال. وكل ما أباحه لها الشارع وما
منعها إنما هو لخيرها وصونها وسد ذرائع الفتنة منها والافتتان بها حذرا من أن يحيق بالمجتمع ما يفضي إلى انحلاله وانهيار بنائه والله أعلم بما للطبائع البشرية من سلطان ودوافع وبما للنفوس من ميول ونوازع والناس يعلمون والحوادث تصدق. ولقد بلغ من أمر الحيطة للمرأة أن أمر الله تعالى نساء نبيه صلى الله عليه وسلم بالحجاب وهن أمهات المؤمنين حرمة واحتراما وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تمس يده وهو المعصوم أيدي النساء اللاتي بايعنه وأن المرأة لم تول ولاية من الولايات الإسلامية في عهده ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهود من بعدهم من الملوك والأمراء ولا حضرت مجالس تشاوره صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من المهاجرين والأنصار.
ذلك شأن المرأة في الإسلام ومبلغ تحصينها بالوسائل الواقية، فهل تريد المرأة الآن أن تخترق آخر الأسوار وتقتحم على الرجال قاعة البرلمان فتزاحم في الانتخاب والدعاية والجلسات واللجان والحفلات والتردد على الوزارات والسفر إلى المؤتمرات والجذب والدفع وما إلى ذلك مما هو أكبر إثما وأعظم خطرا من ولاية القضاء بين خصمين وقد حرمت عليها واتفق أئمة المسلمين على تأثيم من يوليها تاركة زوجها وأطفالها وبيتها وديعة في يد من لا يرحم. إن ذلك لا يرضاه أحد ولا يقره الإسلام بل ولا الأكثرية الساحقة من النساء اللهمّ إلا من يدفعه تملق المرأة أو الخوف من غضبتها إلى مخالفة الضمير والدين ومجاراة الأهواء ولا حسبان في ميزان الحق لهؤلاء على المسلمين عامة أن يتعرفوا حكم الإسلام فيما يعتزمون الإقدام عليه من عمل، فهو مقطع الحق وفصل الخطاب، ولا خفاء في أن دخول المرأة في معمعة الانتخاب والنيابة غير جائز لما بيناه.
وإننا ننتظر من السيدات الفضليات أن يعملن بجد وصدق لرفعة شأن المرأة من النواحي الدينية والأخلاقية والاجتماعية والعلمية الصحيحة في حدود طبيعة الأنوثة والتعاليم الإسلامية قبل أن يحرصن على خوض غمار الانتخاب والنيابة وأن نسمع منهن صيحة مدوية للدعوة إلى وجوب تمسك
النساء عامة بأهداب الدين والفضيلة في الأزياء والمظاهر والاجتماعات النسائية وغير ذلك مما هو كمال وجمال للمرأة المهذبة الفاضلة.(3/92)
وإننا ننتظر من السيدات الفضليات أن يعملن بجد وصدق لرفعة شأن المرأة من النواحي الدينية والأخلاقية والاجتماعية والعلمية الصحيحة في حدود طبيعة الأنوثة والتعاليم الإسلامية قبل أن يحرصن على خوض غمار الانتخاب والنيابة وأن نسمع منهن صيحة مدوية للدعوة إلى وجوب تمسك
النساء عامة بأهداب الدين والفضيلة في الأزياء والمظاهر والاجتماعات النسائية وغير ذلك مما هو كمال وجمال للمرأة المهذبة الفاضلة.
وأصدرت لجنة الفتوى في الأزهر حول هذا الموضوع هذه الفتوى:
إن لجنة الفتوى تتوخى جهدها هذه الأصول والمبادىء في بحث ما يعرض لها من المسائل وتسير على هذا النهج في بحث المسألة الحاضرة:
مسألة حق المرأة في الانتخاب. وهي تقرر أن هذه المسألة ذات شقين:
الأول: أن تكون المرأة عضوا في البرلمان.
الثاني: أن تشترك في انتخاب من يكون عضولا فيه.
ولمعرفة الحكم في هذين الأمرين اللذين يتضمن أولهما نوعا من ولاية التصرف في شئون عامة، يلزم بيان أن الولاية نوعان. ولاية عامة وولاية خاصة.
فالولاية العامة: هي السلطة الملزمة في شأن من شئون الجماعة، كولاية من القوانين والفصل في الخصومات، وتنفيذ الأحكام، والهيمنة على القائمين بذلك.
والولاية الخاصة، هي السلطة التي يملك بها صاحبها التصرف في شأن من الشئون الخاصة بغيره كالوصاية على الصغار، والولاية على المال، والنظارة على الأوقاف. وقد فسحت الشريعة للمرأة في هذا النوع الثاني من الولاية فهي تملك منها ما يملكه الرجل كما تملك التصرف في شئون نفسها الخاصة بها. فلها حق التصرف في أموالها بالبيع والهبة والرهن والإجارة وغيرها من التصرفات وليس لزوجها ولا لأحد من أهلها حق معها في ذلك.
ملكتها الشريعة ذلك كله مع إرشادها إلى ما يحفظ كرامتها وحياطتها بما فيه ضمان شرفها ومكانتها.
أما الولاية العامة ومن أهمها مهمة عضو البرلمان وهي ولاية سن
القوانين والهيمنة على تنفيذها فقد قصرتها الشريعة الإسلامية على الرجال إذا توافرت فيهم شروط معينة.(3/93)
أما الولاية العامة ومن أهمها مهمة عضو البرلمان وهي ولاية سن
القوانين والهيمنة على تنفيذها فقد قصرتها الشريعة الإسلامية على الرجال إذا توافرت فيهم شروط معينة.
وقد جرى التطبيق العملي على هذا من فجر الإسلام إلى الآن. فإنه لم يثبت أن شيئا من هذه الولايات العامة قد أسند إلى المرأة، لا مستقلة ولا مع غيرها من الرجال وقد كان في نساء الصدر الأول مثقفات فضليات، وفيهن من تفضل كثيرا من الرجال كأمهات المؤمنين.
ومع أن الدواعي لاشتراك النساء مع الرجال في الشئون العامة كانت متوافرة لم تطلب المرأة أن تشترك في شيء من تلك الولايات ولم يطلب منها هذا الاشتراك، ولو كان لذلك مسوغ من كتاب أو سنة لما أهملت مراعاته من جانب الرجال والنساء بإطراد. وهذه قصة سقيفة بني ساعدة في اختيار الخليفة الأول بعد الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ فيها الخلاف أشده ثم استقر الأمر لأبي بكر وبويع بعد ذلك البيعة العامة في المسجد، ولم تشترك امرأة مع الرجال في مداولة الرأي في السقيفة ولم تدع لذلك، كما أنها لم تدع ولم تشترك في تلك البيعة العامة.
وكم من اجتماعات شورية من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن الخلفاء وإخوانهم في شئون عامة لم تدع إليها المرأة ولم تشترك فيها.
والدليل الشرعي على هذا المنع هو ما رواه البخاري في صحيحه وأخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سنته والترمذي في جامعه قال البخاري: حدثنا عثمان بن الهيثم قال حدثنا عوف عن الحسن البصري عن أبي بكر قال «لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس ملكوا ابنة كسرى قال «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة». وظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقصد بهذا الحديث مجرد الأخبار عن عدم فلاح القوم الذين يولون المرأة أمرهم، لأن وظيفته عليه الصلاة والسلام بيان ما يجوز لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح. وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم
من الشر والخسار، وإنما يقصد نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة. وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على فلاحهم وانتظام شملهم على الامتثال. وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمرا من أمورهم. ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه كما يفيده المعنى الذي من أجله كان هذا المنع، وهذا هو ما فهمه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع أئمة السلف لم يستثنوا من ذلك امرأة ولا قوما ولا شأنا من الشئون العامة. فهم جميعا يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء وقيادة الجيوش وما إليها من سائر الولايات العامة. هذا الحكم المستفاد من الحديث وهو منع المرأة من الولايات العامة ليس حكما تعبديا يقصد مجرد امتثاله دون أن تعلم حكمته وإنما هو من الأحكام المعللة بمعان واعتبارات لا يجهلها الواقفون على الفروق الطبيعية بين نوعي الإنسان: «الرجل والمرأة». ذلك أن هذا الحكم لم ينط بشيء وراء «الأنوثة» التي جاءت كلمة «امرأة» في الحديث عنوانا لها. وإذا فالأنوثة وحدها هي العلة فيه.(3/94)
والدليل الشرعي على هذا المنع هو ما رواه البخاري في صحيحه وأخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سنته والترمذي في جامعه قال البخاري: حدثنا عثمان بن الهيثم قال حدثنا عوف عن الحسن البصري عن أبي بكر قال «لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس ملكوا ابنة كسرى قال «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة». وظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقصد بهذا الحديث مجرد الأخبار عن عدم فلاح القوم الذين يولون المرأة أمرهم، لأن وظيفته عليه الصلاة والسلام بيان ما يجوز لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح. وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم
من الشر والخسار، وإنما يقصد نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة. وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على فلاحهم وانتظام شملهم على الامتثال. وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمرا من أمورهم. ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه كما يفيده المعنى الذي من أجله كان هذا المنع، وهذا هو ما فهمه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع أئمة السلف لم يستثنوا من ذلك امرأة ولا قوما ولا شأنا من الشئون العامة. فهم جميعا يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء وقيادة الجيوش وما إليها من سائر الولايات العامة. هذا الحكم المستفاد من الحديث وهو منع المرأة من الولايات العامة ليس حكما تعبديا يقصد مجرد امتثاله دون أن تعلم حكمته وإنما هو من الأحكام المعللة بمعان واعتبارات لا يجهلها الواقفون على الفروق الطبيعية بين نوعي الإنسان: «الرجل والمرأة». ذلك أن هذا الحكم لم ينط بشيء وراء «الأنوثة» التي جاءت كلمة «امرأة» في الحديث عنوانا لها. وإذا فالأنوثة وحدها هي العلة فيه.
وواضح أن الأنوثة ليس من مقتضاها الطبيعي عدم العلم والمعرفة ولا عدم الذكاء والفطنة حتى يكون شيء من ذلك هو العلة، لأن الواقع يدل على أن للمرأة علما وقدرة على أن تعلم كالرجل بل قد تفوق الرجل في العلم والذكاء والفهم؟ فلا بد أن يكون الموجب لهذا الحكم شيئا وراء ذلك كله.
إن المرأة بمقتضى الخلق والتكوين مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لأجلها، وهي مهمة الأمومة وحضانة النشء وتربيته وهذه قد جعلتها ذات تأثر خاص بدواعي العاطفة وهي مع هذا تعرض لها عوارض طبيعية تتكرر عليها في الأشهر والأعوام من شأنها أن تضعف قوتها المعنوية
وتوهن من عزيمتها في تكوين الرأي والتمسك به والقدرة على الكفاح والمقاومة في سبيله وهذا شأن لا تنكره المرأة من نفسها. ولا تعوزنا الأمثلة الواقعية التي تدل على أن شدة الانفعال والميل مع العاطفة من خصائص المرأة في جميع أطوارها وعصورها. فقد دفعت هذه الغرائز المرأة في أسمى بيئة نسوية إلى تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة، وآيات من سورة الأحزاب: تشير إلى ما كان من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتطبعهن إلى زينة الدنيا ومنعتها ومطالبتهن الرسول أن يغدق عليهن مما أفاء الله به من الغنائم حتى يعشن كما تعيش زوجات الملوك ورؤساء الأمم. لكن القرآن قد ردهن إلى مقتضى العقل والحكمة في ذلك {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا وَزِينَتَهََا فَتَعََالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرََاحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَالدََّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللََّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنََاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}، وآية أخرى من سورة التحريم تحدث عن غيرة بعض نسائه عليه الصلاة والسلام وما كان لها من الأثر في تغليبهن العاطفة على العقل، مما جعلهن يدبرن ما يتظاهرن به على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ردهن القرآن إلى الجادة {إِنْ تَتُوبََا إِلَى اللََّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا وَإِنْ تَظََاهَرََا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ مَوْلََاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصََالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ}.(3/95)
إن المرأة بمقتضى الخلق والتكوين مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لأجلها، وهي مهمة الأمومة وحضانة النشء وتربيته وهذه قد جعلتها ذات تأثر خاص بدواعي العاطفة وهي مع هذا تعرض لها عوارض طبيعية تتكرر عليها في الأشهر والأعوام من شأنها أن تضعف قوتها المعنوية
وتوهن من عزيمتها في تكوين الرأي والتمسك به والقدرة على الكفاح والمقاومة في سبيله وهذا شأن لا تنكره المرأة من نفسها. ولا تعوزنا الأمثلة الواقعية التي تدل على أن شدة الانفعال والميل مع العاطفة من خصائص المرأة في جميع أطوارها وعصورها. فقد دفعت هذه الغرائز المرأة في أسمى بيئة نسوية إلى تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة، وآيات من سورة الأحزاب: تشير إلى ما كان من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتطبعهن إلى زينة الدنيا ومنعتها ومطالبتهن الرسول أن يغدق عليهن مما أفاء الله به من الغنائم حتى يعشن كما تعيش زوجات الملوك ورؤساء الأمم. لكن القرآن قد ردهن إلى مقتضى العقل والحكمة في ذلك {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا وَزِينَتَهََا فَتَعََالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرََاحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَالدََّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللََّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنََاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}، وآية أخرى من سورة التحريم تحدث عن غيرة بعض نسائه عليه الصلاة والسلام وما كان لها من الأثر في تغليبهن العاطفة على العقل، مما جعلهن يدبرن ما يتظاهرن به على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ردهن القرآن إلى الجادة {إِنْ تَتُوبََا إِلَى اللََّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا وَإِنْ تَظََاهَرََا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ مَوْلََاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصََالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ}.
هذه هي المرأة في أسمى البيئات النسوية لم تسلم من التأثر الشديد بدواعي العاطفة ولم تنهض قوتها المعنوية على مغالبة نوازع الغيرة مع كمال إيمانها ونشأتها في بيت النبوة والوحي، فكيف بامرأة غيرها لم تؤمن إيمانها ولم تنشأ نشأتها وليس لها ما تطمع به أن تبلغ شاؤها أو تقارب منزلتها؟!
فالحق إن المرأة بأنوثتها عرضة للانحراف عن مقتضى الحكمة والاعتدال في الحكم، وهذا هو ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بنقصان العقل ورتب عليه كما جاء في القرآن الكريم إن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل وقد بنت الشريعة على هذا الفرق الطبيعي بين الرجل والمرأة التفريق بينهما في كثير من الأحكام:(3/96)
جعلت القوامة على النساء للرجال؟ {الرِّجََالُ قَوََّامُونَ عَلَى النِّسََاءِ بِمََا فَضَّلَ اللََّهُ بَعْضَهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ}، وجعلت حتى طلاق المرأة للرجل دونها ومنعتها السفر دون محرم أو زوج أو رفقة مأمونة ولو كان سفرها لأداء فريضة الحج. وجعلت لها حق الحضانة للصغار دون الرجل، وأوجبت على الرجل حضور الجمعة والجماعات والجهاد ولم توجب عليها شيئا من ذلك.
وإذا كان الفرق الطبيعي بين الرجل والمرأة قد أدى في نظر الشريعة إلى التفرقة بينهما في هذه الأحكام التي لا تتعلق بالشئون العامة للأمة فإن التفرقة بينهما بمقتضاه في الولايات العامة التي يجب أن تكون بمنأى عن مظان التأثر بدواعي العاطفة تكون في نظر الحكمة أحق وأوجب.
ومن هنا تقرر لجنة الفتوى، أن الشريعة الاسلامية تمنع المرأة كما جاء في الحديث الشريف أن تلي شيئا من هذه الولايات، وفي مقدمتها ولاية سن القوانين التي هي مهمة أعضاء البرلمان. هذا وليس من الولايات العامة التي تمنع منها المرأة ما يعهد به إلى بعض النساء من الوظائف والأعمال كالتدريس للبنات وعمل الطبيبة والممرضة في علاج المرضى من النساء وتمريضهن، فإن هذه الأعمال وما شابهها ليس فيها معنى الولاية العامة، الذي هو سلطان الحكم وقوة الإلزام، وقد استند دعاة حق المرأة في الانتخاب إلى بعض وقائع حسبوها من الولاية العامة التي تولتها المرأة على حين أنها ليست من هذه الولاية في شيء، فقد قالوا إن السيدة عائشة رضي الله عنها تولت قيادة الجيش في واقعة الجمل لمقاتلة حزب علي رضي الله عنه، وإيراد هذه الوقعة على هذا الوجه ليس فيه إنصاف للحقيقة والتاريخ. فإن السيدة عائشة لم تخرج محاربة ولا قائدة لجيش محارب، وإنما خرجت داعية للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، وقد دفعها إلى ذلك أنها كانت ساخطة كغيرها من أهل عثمان وأشياعهم على خطة التريث والتمهل وعدم المبادرة بالبحث قبل كل شيء عن قتلة عثمان والاقتصاص منهم، وهذا أمر ليس من الولاية العامة في شيء كما قلنا. على أن صنيع
السيدة عائشة هذا ليس فيه دليل شرعي يصح الاستناد إليه، فإن كان عن اجتهاد منها. وكانت مخطئة فيه. وقد أنكر عليها بعض الصحابة هذا الخروج فاعترفت بخطئها وندمت على خروجها. وفي ذلك يروي الحافظ بن حجر في شرح صحيح البخاري يقول: أخرج عمر بن شبة من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة تدعوه إلى الخروج معها فقال: إنك لأم وإن حقك لعظيم. ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يفلح قوم تملكهم امرأة» ولم يخرج معها أبو بكرة.(3/97)
ومن هنا تقرر لجنة الفتوى، أن الشريعة الاسلامية تمنع المرأة كما جاء في الحديث الشريف أن تلي شيئا من هذه الولايات، وفي مقدمتها ولاية سن القوانين التي هي مهمة أعضاء البرلمان. هذا وليس من الولايات العامة التي تمنع منها المرأة ما يعهد به إلى بعض النساء من الوظائف والأعمال كالتدريس للبنات وعمل الطبيبة والممرضة في علاج المرضى من النساء وتمريضهن، فإن هذه الأعمال وما شابهها ليس فيها معنى الولاية العامة، الذي هو سلطان الحكم وقوة الإلزام، وقد استند دعاة حق المرأة في الانتخاب إلى بعض وقائع حسبوها من الولاية العامة التي تولتها المرأة على حين أنها ليست من هذه الولاية في شيء، فقد قالوا إن السيدة عائشة رضي الله عنها تولت قيادة الجيش في واقعة الجمل لمقاتلة حزب علي رضي الله عنه، وإيراد هذه الوقعة على هذا الوجه ليس فيه إنصاف للحقيقة والتاريخ. فإن السيدة عائشة لم تخرج محاربة ولا قائدة لجيش محارب، وإنما خرجت داعية للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، وقد دفعها إلى ذلك أنها كانت ساخطة كغيرها من أهل عثمان وأشياعهم على خطة التريث والتمهل وعدم المبادرة بالبحث قبل كل شيء عن قتلة عثمان والاقتصاص منهم، وهذا أمر ليس من الولاية العامة في شيء كما قلنا. على أن صنيع
السيدة عائشة هذا ليس فيه دليل شرعي يصح الاستناد إليه، فإن كان عن اجتهاد منها. وكانت مخطئة فيه. وقد أنكر عليها بعض الصحابة هذا الخروج فاعترفت بخطئها وندمت على خروجها. وفي ذلك يروي الحافظ بن حجر في شرح صحيح البخاري يقول: أخرج عمر بن شبة من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة تدعوه إلى الخروج معها فقال: إنك لأم وإن حقك لعظيم. ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يفلح قوم تملكهم امرأة» ولم يخرج معها أبو بكرة.
وورد كذلك من طريق قيس بن أبي عاصم قال: لما أقبلت عائشة فنزلت ببعض مياه بني عامر نبحث عليها الكلاب فقالت: أي ماء هذا؟ فقالوا:
الحواب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة فقالت لها بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم. فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا ذات يوم: «كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحواب؟» وأخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم وصححه بن حبان وسنده على شرط الصحيح. وورد عن طريق عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: «أيتكن صاحبة الجمل الأدبب (1) تخرج حتى تنبحها كلاب الحواب يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة وتنجو بعد ما كادت»، وأخرج أحمد والبزار بسند حسن من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: «إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر» قال:
فأنا أشقاهم يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها.
من هذه الأحاديث المتعددة الطرق يتضح لمن اشتبه عليهم الأمر أن موقف السيدة عائشة رضي الله عنها في واقعة الجمل كان عن اجتهاد منها لم يقرها عليه كثير من الصحابة وإنها تذكرت ما أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم فندمت على خروجها واعترفت بخطئها.
وقد روى الطبراني بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال عمار بن
ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكن يشير إلى قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فقالت: «أبو اليقظان؟ قال نعم قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق، قال الحمد لله الذي قضى لي على لسانك» فهي تعترف بخطئها وتقر عمارا على إنكاره لصنيعها وتوافقه على أن الخروج لمثل ذلك الشأن لا يجوز للنساء.(3/98)
وقد روى الطبراني بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال عمار بن
ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكن يشير إلى قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فقالت: «أبو اليقظان؟ قال نعم قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق، قال الحمد لله الذي قضى لي على لسانك» فهي تعترف بخطئها وتقر عمارا على إنكاره لصنيعها وتوافقه على أن الخروج لمثل ذلك الشأن لا يجوز للنساء.
ويجدر أن نسوق هنا ما رواه أبو يعلي والبزار عن أنس قال: أتت النساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله فما لنا عمل ندرك به عمل الجهاد في سبيل الله؟ فقال:
«مهنة إحداكن في بيتها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله»، هذا إلى ما قدمناه من أن خروج السيدة عائشة في هذه الواقعة ليس من الولاية العامة، فلا يتصل بموضوع اليوم في شيء.
وأبعد من ذلك عن الموضوع ما يستدل به أنصار حق المرأة في الانتخاب من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع النساء كما بايع الرجال. ومبايعة النساء هذه، هي التي جاء بها القرآن الكريم في قول الله تعالى في سورة الممتحنة: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا جََاءَكَ الْمُؤْمِنََاتُ يُبََايِعْنَكَ عَلى ََ أَنْ لََا يُشْرِكْنَ بِاللََّهِ شَيْئاً وَلََا يَسْرِقْنَ وَلََا يَزْنِينَ وَلََا يَقْتُلْنَ أَوْلََادَهُنَّ وَلََا يَأْتِينَ بِبُهْتََانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلََا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبََايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»}، هذه هي المبايعة التي يستدل بها أنصار حق المرأة في الانتخاب وهي عهد من الله ورسوله قد أخذ على النساء ألا يخالفن أحكام الله وأن يتجنبن تلك الموبقات المهلكات التي كان أمرها شائعا فاشيا في العرب قبل الإسلام، فأي شيء في هذا يصلح مستندا لأنصار هذا الرأي؟. إنه لم يدع أحد أن المرأة ممنوعة من تلقي دروس العلم والمعرفة أو من حضور مجالس العلم محتشمة لسماع تعاليم الدين والوعظ والارشاد، بل إن الإسلام يحتم عليها أن تتعلم وتتثقف وتتأدب بآداب الدين الصحيحة كما يحتم ذلك على الرجل، فهذا حق لها وواجب عليها. حق لها على
الأمة أن تمكنها من أن تتعلم كل ما يصلح لها في دينها ودنياها. وواجب عليها أن تبذل جهدها في سبيل هذه المعرفة، ولا يجب عليها أن تسأل في ذلك عما تجهل وأن تناقش فيما لا تقتنع به مما تسمع ومما هي في حاجة إليه من العلوم والمعارف. ولها في ذلك أسوة ببعض نساء السلف إذا اعترضت إحداهن على عمر وقد كان يخطب الناس في المسجد ينهاهم عن المغالاة في المهور فقالت: أيعطينا الله ويمنعنا عمر؟ تشير إلى قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدََالَ زَوْجٍ مَكََانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدََاهُنَّ قِنْطََاراً فَلََا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}، وفي هذا يروي ابن أبي يعلي عن مسروق أن عمر لما راجعته تلك المرأة بعد ما نزل من المنبر قال: كل الناس أفقه من عمر ثم صعد المنبر فقال: كنت نهيتكم أن تزيدوا على أربعمائة، فمن طابت نفسه فليفعل، كل هذا لائق بالمرأة وهو كما قلنا حق لها وواجب عليها لكنه لا نسبة له بما تطالب به اليوم من الولاية العامة وما تدعيه من حق الاشتراك في الانتخاب.(3/99)
وأبعد من ذلك عن الموضوع ما يستدل به أنصار حق المرأة في الانتخاب من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع النساء كما بايع الرجال. ومبايعة النساء هذه، هي التي جاء بها القرآن الكريم في قول الله تعالى في سورة الممتحنة: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا جََاءَكَ الْمُؤْمِنََاتُ يُبََايِعْنَكَ عَلى ََ أَنْ لََا يُشْرِكْنَ بِاللََّهِ شَيْئاً وَلََا يَسْرِقْنَ وَلََا يَزْنِينَ وَلََا يَقْتُلْنَ أَوْلََادَهُنَّ وَلََا يَأْتِينَ بِبُهْتََانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلََا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبََايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»}، هذه هي المبايعة التي يستدل بها أنصار حق المرأة في الانتخاب وهي عهد من الله ورسوله قد أخذ على النساء ألا يخالفن أحكام الله وأن يتجنبن تلك الموبقات المهلكات التي كان أمرها شائعا فاشيا في العرب قبل الإسلام، فأي شيء في هذا يصلح مستندا لأنصار هذا الرأي؟. إنه لم يدع أحد أن المرأة ممنوعة من تلقي دروس العلم والمعرفة أو من حضور مجالس العلم محتشمة لسماع تعاليم الدين والوعظ والارشاد، بل إن الإسلام يحتم عليها أن تتعلم وتتثقف وتتأدب بآداب الدين الصحيحة كما يحتم ذلك على الرجل، فهذا حق لها وواجب عليها. حق لها على
الأمة أن تمكنها من أن تتعلم كل ما يصلح لها في دينها ودنياها. وواجب عليها أن تبذل جهدها في سبيل هذه المعرفة، ولا يجب عليها أن تسأل في ذلك عما تجهل وأن تناقش فيما لا تقتنع به مما تسمع ومما هي في حاجة إليه من العلوم والمعارف. ولها في ذلك أسوة ببعض نساء السلف إذا اعترضت إحداهن على عمر وقد كان يخطب الناس في المسجد ينهاهم عن المغالاة في المهور فقالت: أيعطينا الله ويمنعنا عمر؟ تشير إلى قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدََالَ زَوْجٍ مَكََانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدََاهُنَّ قِنْطََاراً فَلََا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}، وفي هذا يروي ابن أبي يعلي عن مسروق أن عمر لما راجعته تلك المرأة بعد ما نزل من المنبر قال: كل الناس أفقه من عمر ثم صعد المنبر فقال: كنت نهيتكم أن تزيدوا على أربعمائة، فمن طابت نفسه فليفعل، كل هذا لائق بالمرأة وهو كما قلنا حق لها وواجب عليها لكنه لا نسبة له بما تطالب به اليوم من الولاية العامة وما تدعيه من حق الاشتراك في الانتخاب.
وفي رأينا أن مبايعة النساء للرسول صلى الله عليه وسلم إن دلت على شيء يصح التمسك به في المسألة الحاضرة فذلك هو التفرقة في الأعمال بين ما ينبغي أن يكون للرجال أو للنساء، فهي حجة على أنصار دعوى المساواة بين الرجل والمرأة وليست دليلا لهم، ذلك أن مبايعة النساء هذه كانت عقب فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من مبايعة الرجال عند الصفا يوم فتح مكة. فقد بايع هؤلاء الرجال أولا ولكن على ماذا؟ على الإسلام والجهاد. فإن هذا الأمر الذي يليق بهم وينتظر منهم. كما بايعهم قبل ذلك في الحديبية سنة ست من الهجرة على ألا يفروا من الموت، وكما بايع نقباء الأنصار في منى قبل الهجرة على السمع والطاعة والنصرة وأن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.
أما مبايعة النساء فكانت على ما قدمنا مما وردت به الآية الكريمة من سورة الممتحنة. ولله الحكمة البالغة، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. إذا
لا شيء مما يستدل به دعاة حق المرأة في الانتخاب يصح أن يكون دليلا لهم. ولا شيء منه يمكن أن يكون من الولاية العامة.(3/100)
أما مبايعة النساء فكانت على ما قدمنا مما وردت به الآية الكريمة من سورة الممتحنة. ولله الحكمة البالغة، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. إذا
لا شيء مما يستدل به دعاة حق المرأة في الانتخاب يصح أن يكون دليلا لهم. ولا شيء منه يمكن أن يكون من الولاية العامة.
أما الذي هو من الولايات العامة فهو تولى شجرة الدر ملك مصر. لكنا لا نظن أحدا من أهل الجد في القول يلجأ إلى هذا الأمر فيجعل منه دليلا شرعيا على أن الإسلام يجيز في الملك أن تتولاه امرأة، هذا ما رأته اللجنة في حكم أحد الأمرين وهو الخاص بانتخاب المرأة لتكوين عضوا في البرلمان.
أما الأمر الثاني وهو اشتراكها في انتخاب من يكون عضوا فيه، فاللجنة ترى أنه باب تريد المرأة أن تنفذ منه إلى تلك الولاية العامة التي حظرتها عليها الشريعة ذلك أن من يثبت له حق الاشتراك في الانتخاب فإنه يثبت له حق ترشيح نفسه لعضوية البرلمان متى توافرت فيه الشروط القانونية لهذه العضوية. وبعيد أن ينشأ للمرأة قانون يبيح لها الاشتراك في التصويت ثم يمنعها لأنوثتها من ترشيح نفسها للعضوية وهي التي لا تقنع بأن الأنوثة تمنعها من شيء ولا ترضى إلا بأن تكون مساوية للرجل في كل شيء.
وإذا لا يصح أن يفتح لها باب التصويت عملا بالمبدأ المقرر في الشريعة والقانون.
إن وسيلة الشيء تأخذ حكمه. فالشيء الممنوع بسبب ما يلازمه أو ما يترتب عليه من ضرر أو مفسدة تكون الوسيلة إليه ممنوعة لهذا السبب نفسه، فإنه لا يسوغ في عقل ولا شرع أن يمنع شيء لما يترتب عليه أو يلازمه من مضار ويسمح في الوقت نفسه بالوسائل التي يعلم أنها تتخذ طريقا إليه، وبهذا يتبين أن حكم الشريعة في اشتراك المرأة في انتخاب عضو البرلمان هو كحكمها في اختيارها لتكون عضوا فيه. كلاهما ممنوع. هذا ويتبين مما قدمنا أن الحكم في المسألة بشقيها على هذا الوجه لم ينظر فيه إلى شيء آخر وراء طبيعة هذين الأمرين، أما إذا نظرنا إلى ما يلازم عملية
الانتخاب المعروفة والترشيح لعضوية البرلمان من مبدأ التفكير فيه إلى نهايته. فإنا نجد سلسلة من الاجتماعات والاختلاطات والأسفار للدعاية والمقابلات وما إلى ذلك مما تتعرض المرأة فيه لأنواع من الشر والأذى، ويتعرض لها فيه أرباب القلوب المريضة الذين ترتاح أهواؤهم وتطمئن أنفسهم لمثل هذا الاختلاط بين الرجال والنساء فهذه مواقف لا ينبغي للمرأة أن تزج بنفسها في معتركها غير المأمون. ويجب عليها أن تنادي بنفسها عنها حفظا لكرامتها وصونا لسمعتها. وهذا واقع لا ينبغي إغفاله أو التغافل عنه ويجب تقدير الأمور وتقرير الأحكام على أساسه، وقد تكفي هذه الإشارة في التنبيه إلى مضار الاختلاط في اجتماعات الرجال والنساء، وآيات من الكتاب العزيز ترسم لنا الطرق الصالحة في التربية الاجتماعية والتهذيب الخلقي والأدب الديني الصحيح، فعلينا أن نعتبر بها ونقيس بتعاليهما ما هو واقع في اجتماعاتنا لنعرف مدى قربنا أو بعدنا من هذه التعاليم: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ وَبَنََاتِكَ وَنِسََاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذََلِكَ أَدْنى ََ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلََا يُؤْذَيْنَ وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً}، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذََلِكَ أَزْكى ََ لَهُمْ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا يَصْنَعُونَ} {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلََا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلََّا مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى ََ جُيُوبِهِنَّ وَلََا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلََّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبََائِهِنَّ أَوْ آبََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنََائِهِنَّ أَوْ أَبْنََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوََاتِهِنَّ أَوْ نِسََائِهِنَّ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُنَّ أَوِ التََّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجََالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى ََ عَوْرََاتِ النِّسََاءِ} {وَلََا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مََا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللََّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، بإمضاء: محمد عبد الفتاح العناني رئيس لجنة الفتوى بالأزهر.(3/101)
إن وسيلة الشيء تأخذ حكمه. فالشيء الممنوع بسبب ما يلازمه أو ما يترتب عليه من ضرر أو مفسدة تكون الوسيلة إليه ممنوعة لهذا السبب نفسه، فإنه لا يسوغ في عقل ولا شرع أن يمنع شيء لما يترتب عليه أو يلازمه من مضار ويسمح في الوقت نفسه بالوسائل التي يعلم أنها تتخذ طريقا إليه، وبهذا يتبين أن حكم الشريعة في اشتراك المرأة في انتخاب عضو البرلمان هو كحكمها في اختيارها لتكون عضوا فيه. كلاهما ممنوع. هذا ويتبين مما قدمنا أن الحكم في المسألة بشقيها على هذا الوجه لم ينظر فيه إلى شيء آخر وراء طبيعة هذين الأمرين، أما إذا نظرنا إلى ما يلازم عملية
الانتخاب المعروفة والترشيح لعضوية البرلمان من مبدأ التفكير فيه إلى نهايته. فإنا نجد سلسلة من الاجتماعات والاختلاطات والأسفار للدعاية والمقابلات وما إلى ذلك مما تتعرض المرأة فيه لأنواع من الشر والأذى، ويتعرض لها فيه أرباب القلوب المريضة الذين ترتاح أهواؤهم وتطمئن أنفسهم لمثل هذا الاختلاط بين الرجال والنساء فهذه مواقف لا ينبغي للمرأة أن تزج بنفسها في معتركها غير المأمون. ويجب عليها أن تنادي بنفسها عنها حفظا لكرامتها وصونا لسمعتها. وهذا واقع لا ينبغي إغفاله أو التغافل عنه ويجب تقدير الأمور وتقرير الأحكام على أساسه، وقد تكفي هذه الإشارة في التنبيه إلى مضار الاختلاط في اجتماعات الرجال والنساء، وآيات من الكتاب العزيز ترسم لنا الطرق الصالحة في التربية الاجتماعية والتهذيب الخلقي والأدب الديني الصحيح، فعلينا أن نعتبر بها ونقيس بتعاليهما ما هو واقع في اجتماعاتنا لنعرف مدى قربنا أو بعدنا من هذه التعاليم: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ وَبَنََاتِكَ وَنِسََاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذََلِكَ أَدْنى ََ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلََا يُؤْذَيْنَ وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً}، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذََلِكَ أَزْكى ََ لَهُمْ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا يَصْنَعُونَ} {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلََا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلََّا مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى ََ جُيُوبِهِنَّ وَلََا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلََّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبََائِهِنَّ أَوْ آبََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنََائِهِنَّ أَوْ أَبْنََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوََاتِهِنَّ أَوْ نِسََائِهِنَّ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُنَّ أَوِ التََّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجََالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى ََ عَوْرََاتِ النِّسََاءِ} {وَلََا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مََا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللََّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، بإمضاء: محمد عبد الفتاح العناني رئيس لجنة الفتوى بالأزهر.
وقد كتب الدكتور أحمد زكي بك والأستاذ إسماعيل مظهر يؤيدان
قضية المرأة، ورد عليهما علماء الوعظ بالأزهر بآيات وأحاديث شريفة، مغزاها خلاف ما ذهب إليه الدكتور زكي والأستاذ مظهر.(3/102)
وقد كتب الدكتور أحمد زكي بك والأستاذ إسماعيل مظهر يؤيدان
قضية المرأة، ورد عليهما علماء الوعظ بالأزهر بآيات وأحاديث شريفة، مغزاها خلاف ما ذهب إليه الدكتور زكي والأستاذ مظهر.
وقد نشر الشيخ علام نصار المفتي آراء له حول: تعدد الزوجات، والطلاق وسواها وقد قامت معركة حول هذه الآراء، واشتركت في مناقشتها والرد عليها «جبهة علماء الأزهر» في كتاب نشرته.
9 - فكرة توحيد التعليم:
هذه الفكرة أيدها الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة»، فرأى أن يكون التعليم موحدا في الدولة وأن تكون المعاهد الثانوية مدارس ثانوية خاضعة لوزارة المعارف، وتستقل كليات الأزهر بالدراسات الدينية.
وقد كتب الدكتور محمد يوسف موسى في 6اغسطس 1950كلمة في الأهرام يؤيد فيها هذا الرأي، ورد عليه الأستاذ الشيخ الطيب النجار عضو جماعة كبار العلماء وغيره من أساتذة الأزهر.
10
لمناسبة الاحتفال بسفر المحمل والكسوة الشريفة عام 1952وما يلازم هذا الاحتفال عادة من تقاليد والطقوس بعث علي ماهر رئيس الوزراء سابقا إلى فضيلة مفتي الديار المصرية بكتاب يستفتيه في حكم الشريعة في هذه التقاليد والطقوس وقد جاء فيه: جرت العادة في حفلة المحمل السنوية على نظم وتقاليد وطقوس نرجو التفضل ببيان الحكم الشرعي فيها قبل الموعد المحدد للحفلة في هذا العام، مع الإحاطة بأننا نعتبر هذه لا تعدوا أن تكون إيذانا بافتتاح موسم الحج، وإذا رأيتم فضيلتكم الاتصال بصاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وصاحب الفضيلة رئيس المحكمة الشرعية
ليكون الرأي إجماعيا نكون لكم من الشاكرين.(3/103)
لمناسبة الاحتفال بسفر المحمل والكسوة الشريفة عام 1952وما يلازم هذا الاحتفال عادة من تقاليد والطقوس بعث علي ماهر رئيس الوزراء سابقا إلى فضيلة مفتي الديار المصرية بكتاب يستفتيه في حكم الشريعة في هذه التقاليد والطقوس وقد جاء فيه: جرت العادة في حفلة المحمل السنوية على نظم وتقاليد وطقوس نرجو التفضل ببيان الحكم الشرعي فيها قبل الموعد المحدد للحفلة في هذا العام، مع الإحاطة بأننا نعتبر هذه لا تعدوا أن تكون إيذانا بافتتاح موسم الحج، وإذا رأيتم فضيلتكم الاتصال بصاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وصاحب الفضيلة رئيس المحكمة الشرعية
ليكون الرأي إجماعيا نكون لكم من الشاكرين.
وقد قدم حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية فتواه في الرد على رئيس الوزراء مؤيدة برأي فضيلة شيخ الجامع الأزهر وفضيلة رئيس المحكمة العليا الشرعية إلى الرئيس علي ماهر، وجاء فيها ما يلي بعد الديباجة: تشرفت اليوم بتلقي كتابكم المؤرخ 18/ 8/ 1952الذي تطلبون فيه الرأي الشرعي في النظم والتقاليد والطقوس التي تجري في الحفلة السنوية للمحمل، ونفيد أننا منذ مدة قد بينا الحكم في ذلك بيانا واضحا واستنكرنا بعض هذه التقاليد استنكارا صريحا لمخالفتها لتعاليم الإسلام، وقد جرت العادة على إقامة هذه الحفلة كل عام عند سفر المحمل وعند عودته بما في ذلك هذه التقاليد التي ينكرها الشرع والتي هي بدع سيئة لا أصل لها في الدين ويجب إزالتها والقضاء عليها، من ذلك:
1 - الطواف بالمحمل سبع مرات حول الدائرة التي ترسم له أمام السرادق المعد للاجتماع الرسمي رمزا إلى الطواف حول الكعبة سبعة أشواط مع أن الطواف لم يشرع إلا حول الكعبة في مناسك الحج والعمرة، ولا يجوز الرمز إلى ذلك بأية حال.
2 - دوران عدة من الجمال حول هذه الدائرة وعليها رجال يطبلون ويزمرون بملابس خاصة وصورة مزرية.
3 - تقبيل أمير الحج والعظماء المدعوين إلى الحفلة مقود الجمل الذي يحمل الهودج المرموز به إلى هودج شجرة الدر حين حجت في عهد دولة المماليك وليس لهذا أصل في الدين فضلا عن أنه مما تأباه النفوس الكريمة. فالتقبيل لم يؤذن به شرعا في المناسك أو غيرها إلا في الحجر الأسود وفيه قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك».(3/104)
4 - وقوف جماعة من مشايخ الطرق وأتباعهم أمام السرادق يقرأون الفاتحة ويبتهلون بأصوات صاخبة مزعجة وما كانت تلاوة القرآن لذلك وعلى هذا الوجه.
وقد تأصلت هذه الأعمال في النفوس حتى ظن عامة الناس أنها من الدين أو على الأقل من البدع الحسنة، والدين يأباها ويرشد إلى أنها من السوء بمكان وفي إقراره تضليل للعامة باعتقادهم أنها من الدين وهي ليست من الدين في شيء. وبما أن الواجب شرعا رد المسلمين إلى الحق والهدى وإرشاد العامة إلى ترك المعتقدات الباطلة والبدع السيئة وقد صح من المأثور أن من أمات بدعة فقد أحيا سنة.
لهذا كله نرجو أن يفتتح هذا العهد الإصلاحي بتطهير العقائد والأعمال من شوائب المنكرات، والله يوفقكم ويصلح بكم ويسدد خطاكم(3/105)
الباب التاسع
ألوان ثقافية في 61906 حياة الأزهر العلميّة
1
كان الأزهر لا يعني كثيرا بالعلوم العقلية في عهد الانحطاط العثماني، ومن شواهد ذلك أن أحمد كور باشا الذي تولى ولاية مصر عام 1161هـ في عهد مشيخة الشيخ عبد الله الشبراوي، ناقش شيخ الأزهر الشيخ الشبراوي، في إهمال الأزهر ومصر للعلوم الرياضية (1).
ومع ذلك فقد كان هناك قلة من العلماء تعني بهذه العلوم وتدرسها، ومن هؤلاء الشيخ حسن الجبرتي الذي كان ذا شهرة عظيمة في العلوم الرياضية، وقد ذكر ابنه المؤرخ في حديثه عنه في تاريخه أنه في سنة 1159هـ 1805م أتي إليه طلاب من الفرنجة، وتلقوا عليه علم الهندسة، وأهدوا إليه من مصنوعاتهم وآلاتهم أشياء نفيسة ثم رجعوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت، وأخرجوه من القوة إلى الفعل، واستخرجوا به صناعات بديعة، مثل طواحين الهواء، وجر الأثقال، واستنباط المياه، وما إلى هذا من الصناعات، فأي شيء بعد هذا يحتاج إليه في إثبات فضل الأزهر على العلم؟ وأية يد أثيمة بعد هذا تحاول
__________
(1) 192و 93ج 1الجبرتي.(3/107)
أن تناله بسوء، وأن تقابل فضله بالجحود؟ وقد تلقى الشيخ حسن الجبرتي هذه العلوم الرياضية في الأزهر، وكذلك غيرها من العلوم الدينية والعربية، وهو في الأصل من أهل الحبشة الذين رحلوا إلى الأزهر لطلب العلم، ولهم رواق فيه يسمى رواق الجبرتية، وقد تلقى العلوم الدينية والعربية على السيد محمد البنوفري والشيخ عمر الأسقاطي والشيخ أحمد الجوهري وغيرهم، وبدأ تلقي العلوم الرياضية على الشيخ محمد النجاحي، ثم قدم الشيخ حسام الدين الهندي إلى الأزهر، وكان بارعا في العلوم الرياضية والفلسفية، فتلقاها عليه بعض طلاب الأزهر، مثل الشيخ الوسيمي، والشيخ أحمد الدمنهوري، فذهب إليه الشيخ حسن الجبرتي ولازمه، وتلقى عليه كتبا نفيسة في هذه العلوم، مثل أشكال التأسيس في الهندسة، وتحرير أقليدس، والمتوسطات والمبادىء والغايات، والأكر، وعلم الأرتماطيقي، والجغرافيا، وعلم المساحة، ولم يزل يطلب هذه العلوم حتى برع فيها، وطارت شهرته بها، وكان يعرف اللغة التركية والفارسية، ويتكلم بهما كأهلهما، ثم اشتغل بالتدريس في الأزهر، وتلقى عليه فيه الشيخ أحمد الشيخ عبد الرحمن البنان والشيخ محمد الصبان والشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ محمد الأمير، وغيرهم من أفاضل علماء الأزهر.
وكان يقتنى كثيرا من الكتب النفيسة في العربية والفارسية والتركية، ومما كان يقتنيه من الكتب الفارسية كتاب الكلستان، وديوان حافظ، وشاه نامه، وكان بها من الصور العجيبة ما يكسبها رونقا وبهاء، وكان عنده كثير من الآلات الفلكية، والكرات النحاسية، والآلات الإرتفاعية، والميالات، وحلق الأرصاد، والأسطرلابات، والعدد الهندسية، وآلات أكثر الصناعات كالنجارة وغيرها، وآلات الرسم والتقاسيم، وكان كل ماهر في صناعته يجتمع به ليتسفيد منه، وكان مع هذا يعرف صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المايه، وقد رسم في أيام اشتغاله ما لا يحصى من المنحرفات والمزاول، وفي سنة 1172هـ 1758م، وقع الخلل في الموازين
فتحركت همته لتصحيحها، وأحضر الحدادين والسباكين، وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار، ورسمها بطريق الاستخراج على أصل العلم العملي والوضع الهندسي، ولم ينقص هذا من إلمامه بالعلوم الدينية، بل كان حجة في الفقه وغيره من هذه العلوم، حتى إن القضاة لم يكونوا يثقون إلا بفتواه، وكانت وفاة هذا العالم الأزهري سنة 1188هـ 1774م(3/108)
وكان يقتنى كثيرا من الكتب النفيسة في العربية والفارسية والتركية، ومما كان يقتنيه من الكتب الفارسية كتاب الكلستان، وديوان حافظ، وشاه نامه، وكان بها من الصور العجيبة ما يكسبها رونقا وبهاء، وكان عنده كثير من الآلات الفلكية، والكرات النحاسية، والآلات الإرتفاعية، والميالات، وحلق الأرصاد، والأسطرلابات، والعدد الهندسية، وآلات أكثر الصناعات كالنجارة وغيرها، وآلات الرسم والتقاسيم، وكان كل ماهر في صناعته يجتمع به ليتسفيد منه، وكان مع هذا يعرف صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المايه، وقد رسم في أيام اشتغاله ما لا يحصى من المنحرفات والمزاول، وفي سنة 1172هـ 1758م، وقع الخلل في الموازين
فتحركت همته لتصحيحها، وأحضر الحدادين والسباكين، وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار، ورسمها بطريق الاستخراج على أصل العلم العملي والوضع الهندسي، ولم ينقص هذا من إلمامه بالعلوم الدينية، بل كان حجة في الفقه وغيره من هذه العلوم، حتى إن القضاة لم يكونوا يثقون إلا بفتواه، وكانت وفاة هذا العالم الأزهري سنة 1188هـ 1774م
2
وقد نعى الشيخ حسن العطار على الأزهر إهماله هذه العلوم وسواها وذلك في حاشيته على شرح جمع الجوامع في أصول الفقه (1) وكان من تلامذة العطار رفاعة رافع الطهطاوي الأزهري، الذي سافر مع بعثات محمد علي إلى باريس، وله كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وكتاب مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، الذي يقول فيه عن محمد علي وعهده (2) إنه جدد دروس العلوم بعد اندراسها، وأوجدت بعد العدم رؤساء العلماء والفضلاء نتيجة قياسها، لقصد انتشار العلم والزيادة في الفضائل، فأتى من ذلك بما لم تستطعه الأوائل، غير أنه حفظه الله وأبقاه ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه. لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور، ولم يجذب طلابه إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحكمية التي كبير نفعها في الوطن ليس ينكر، نعم إن لهم اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الإثني عشر، وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر، غير أن هذا وحده لا يفي للوطن بقضاء الوطر، والكامل يقبل الكمال كما هو متعارف عند أهل النظر، ومدار سلوك جادة الرشاد والإصابة، منوط بعدول الأمر، بهذه العصابة، التي ينبغي أن
__________
(1) 461/ 2.
(2) 28تاريخ الإصلاح في الأزهر للصعيدي، 250247مناهج الألباب المصرية لرفاعة.(3/109)
تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة، ورفع أعلام الشريعة المنيفة، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية، التي لها مدخل في تقديم الوطنية، من كل ما يحمد على تعلمه وتعليمه علماء الأمة المحمدية، فإنه بانضمامه إلى علوم الشريعة والأحكام، يكون من الأعمال الباقية على الدوام، ويقتدى بهم في اتباعه الخاص والعام، حتى إذا دخلوا في أمور الدولة، يحسن كل منهم في إبداء المحاسن المدنية قوله، فإن سلوك طريق العلم النافع من حيث هو مستقيم، ومنهجه الأبهج هو القويم، يكون بالنسبة للعلماء سلوكه أقوم، وتلقيه من أفواههم أتم وأنظم، لا سيما أن هذه العلوم الحكمية العملية التي يظهر الآن أنها أجنبية هي علوم إسلامية نقلها الأجانب الى لغاتهم من الكتب العربية، ولم تزل كتبها إلى الآن في خزائن ملوك الإسلام كالذخيرة، بل لا زال يتشبث بقراءتها ودراستها من أهل أوروبا حكماء الأزمنة الأخيرة، فإن من اطلع على سند شيخ الجامع الأزهر الشيخ أحمد الدمنهوري (11921101هـ) الذي كانت مشيخته قبل شيخ الإسلام أحمد العروسي الكبير (12081132هـ) جدّ شيخ شيوخ الجامع الأزهر، السيد المصطفوي العلم الشهير (1) رأى أنه أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير، وأنه له فيها المؤلفات الجمة، وأن تلقيها إلى أيامه كان عند الجامع الأزهر من الأمور المهمة، فإنه يقول فيه بعد سرد ما تلقاه من العلوم الشرعية وآلاتها معقولا ومنقولا:
أخذت عن أستاذنا الشيخ المعمر الشيخ علي الزعتري.
خاتمة العارفين بعلم الحساب واستخراج المجهولات وبما توقف عليها.
كالفرائض والميقات، وسيلة ابن الهائم ومعونته كلاهما في الحساب والمقنع لابن الهائم، ومنظومة الياسمين في الجبر والمقابلة، ودقائق الحقائق في حساب الدرج والدقائق لسبط المارديني في علم حساب الأزياج، ورسالتين إحداهما على ربع المقنطرات وأخراهما على ربع
__________
(1) يعني بذلك الشيخ مصطفى العروسي (12931213هـ).(3/110)
المجيب كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط ونتيجة الشيخ اللاذقي المحسوبة لعرض مصر، والمنخرفات لسبط المارديني في علم وضع المزاول، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز واللمحة العفيفة في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي، وبعضا من قانون ابن سينا، وبعضا من كامل الصناعة، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى والجميع في الطب وقرأت على استاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في الحدود والدوائر لسبط المارديني في الهيئة السماوية، ورسالة ابن الشاطر في علم الاضطراب، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها، والدر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضا من الجغميني في علم الهيئة، وبعضا من رفع الأشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة، وقرأت على الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب، منها رسالة في علم الأرتماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ الشهير بالسحيمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على علم التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب، ورسالة اخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسيط المارديني، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن صاعد الأنصاري، وهي كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علما، أولهما علم الحرف وآخرها علم الطلاسم، ورسالة للإسرائيلي، ورسالة للسيد الطحان كلاهما في علم الطالع ورسالة للخازن في علم المواليد أعني الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في علم الحكمة، ومتن الجغميني في علم الهيئة بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم
الكواكب السبعة. ولما ذكر ما تلقاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ فقال: طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرتماطيقي، في نحو كراسين، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه، ورسالة الكلام اليسير في علام البواسير، في نحو كراسين، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح، في نحو كراسين، وكتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب، في نحو خمسة كراريس، ورسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب، في نحو كراس، وكتاب منهج السلوك في نصيحة الملوك، في نحو عشرة كراريس، وكتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب معنونا باسم السلطان مصطفى خان بن السلطان أحمد خان، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس، الجالس على سرير الملك في سابع عشر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف يوم الأحد قبل الشمس. ويقول رفاعة: فانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام، فضلا عن كون أشياخه كانوا أزهرية، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفضل العلامة الجبرتي المتوفي في أثناء هذا القرن في هذه العلوم، وفي فن التاريخ أمر معلوم، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي، وكان للمرحوم العلامة الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضا مشاركة في كثير من هذه العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة، المشهور أيضا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ، وعلى طبقات لأطباء وغيرها، كان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية،
مع غاية الديانة والصيانة، وله بعض تآليف في الطب وغيره، زيادة عن تآليفه المشهورة، فلو تشبث من الآن فصاعدا نجباء أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جددها الخديو بمصر، بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته، لفازوا بدرجة الكمال، وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة، والحال أن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، فترجع المسألة دورية، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل، ليغتنم فرصة(3/111)
المجيب كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط ونتيجة الشيخ اللاذقي المحسوبة لعرض مصر، والمنخرفات لسبط المارديني في علم وضع المزاول، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز واللمحة العفيفة في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي، وبعضا من قانون ابن سينا، وبعضا من كامل الصناعة، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى والجميع في الطب وقرأت على استاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في الحدود والدوائر لسبط المارديني في الهيئة السماوية، ورسالة ابن الشاطر في علم الاضطراب، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها، والدر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضا من الجغميني في علم الهيئة، وبعضا من رفع الأشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة، وقرأت على الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب، منها رسالة في علم الأرتماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ الشهير بالسحيمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على علم التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب، ورسالة اخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسيط المارديني، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن صاعد الأنصاري، وهي كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علما، أولهما علم الحرف وآخرها علم الطلاسم، ورسالة للإسرائيلي، ورسالة للسيد الطحان كلاهما في علم الطالع ورسالة للخازن في علم المواليد أعني الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في علم الحكمة، ومتن الجغميني في علم الهيئة بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم
الكواكب السبعة. ولما ذكر ما تلقاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ فقال: طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرتماطيقي، في نحو كراسين، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه، ورسالة الكلام اليسير في علام البواسير، في نحو كراسين، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح، في نحو كراسين، وكتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب، في نحو خمسة كراريس، ورسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب، في نحو كراس، وكتاب منهج السلوك في نصيحة الملوك، في نحو عشرة كراريس، وكتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب معنونا باسم السلطان مصطفى خان بن السلطان أحمد خان، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس، الجالس على سرير الملك في سابع عشر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف يوم الأحد قبل الشمس. ويقول رفاعة: فانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام، فضلا عن كون أشياخه كانوا أزهرية، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفضل العلامة الجبرتي المتوفي في أثناء هذا القرن في هذه العلوم، وفي فن التاريخ أمر معلوم، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي، وكان للمرحوم العلامة الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضا مشاركة في كثير من هذه العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة، المشهور أيضا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ، وعلى طبقات لأطباء وغيرها، كان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية،
مع غاية الديانة والصيانة، وله بعض تآليف في الطب وغيره، زيادة عن تآليفه المشهورة، فلو تشبث من الآن فصاعدا نجباء أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جددها الخديو بمصر، بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته، لفازوا بدرجة الكمال، وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة، والحال أن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، فترجع المسألة دورية، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل، ليغتنم فرصة(3/112)
المجيب كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط ونتيجة الشيخ اللاذقي المحسوبة لعرض مصر، والمنخرفات لسبط المارديني في علم وضع المزاول، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز واللمحة العفيفة في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي، وبعضا من قانون ابن سينا، وبعضا من كامل الصناعة، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى والجميع في الطب وقرأت على استاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في الحدود والدوائر لسبط المارديني في الهيئة السماوية، ورسالة ابن الشاطر في علم الاضطراب، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها، والدر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضا من الجغميني في علم الهيئة، وبعضا من رفع الأشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة، وقرأت على الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب، منها رسالة في علم الأرتماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ الشهير بالسحيمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على علم التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب، ورسالة اخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسيط المارديني، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن صاعد الأنصاري، وهي كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علما، أولهما علم الحرف وآخرها علم الطلاسم، ورسالة للإسرائيلي، ورسالة للسيد الطحان كلاهما في علم الطالع ورسالة للخازن في علم المواليد أعني الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في علم الحكمة، ومتن الجغميني في علم الهيئة بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم
الكواكب السبعة. ولما ذكر ما تلقاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ فقال: طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرتماطيقي، في نحو كراسين، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه، ورسالة الكلام اليسير في علام البواسير، في نحو كراسين، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح، في نحو كراسين، وكتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب، في نحو خمسة كراريس، ورسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب، في نحو كراس، وكتاب منهج السلوك في نصيحة الملوك، في نحو عشرة كراريس، وكتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب معنونا باسم السلطان مصطفى خان بن السلطان أحمد خان، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس، الجالس على سرير الملك في سابع عشر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف يوم الأحد قبل الشمس. ويقول رفاعة: فانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام، فضلا عن كون أشياخه كانوا أزهرية، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفضل العلامة الجبرتي المتوفي في أثناء هذا القرن في هذه العلوم، وفي فن التاريخ أمر معلوم، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي، وكان للمرحوم العلامة الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضا مشاركة في كثير من هذه العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة، المشهور أيضا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ، وعلى طبقات لأطباء وغيرها، كان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية،
مع غاية الديانة والصيانة، وله بعض تآليف في الطب وغيره، زيادة عن تآليفه المشهورة، فلو تشبث من الآن فصاعدا نجباء أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جددها الخديو بمصر، بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته، لفازوا بدرجة الكمال، وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة، والحال أن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، فترجع المسألة دورية، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل، ليغتنم فرصة
ذلك كل طالب وسائل، وكل من سار على الدرب وصل، وإنما المكافأة على تمام العمل.
3
وقد ازدهر القرن التاسع عشر بكوكبة من المصلحين، من أمثال الأفغاني (18971839م) وعلى مبارك (18931823م) والسيد عبد الرحمن الكواكبي (19021848م) والشيخ محمد عبده (19051849م)، وكان هؤلاء المصلحون يتجهون أول ما يتجهون إلى إيقاظ الفكر المصري والعربي، وإلى تجديد النهضة الدينية.
ولما حضر جمال الدين الأفغاني إلى مصر لأول مرة سنة 1286هـ أقام في القاهرة أربعين يوما، تردد فيها على الجامع الأزهر، واتصل به كثير من العظماء والطلاب، ثم ترك القاهرة إلى الأستانة، فوصل إليها في سنة 1287هـ، ولكن الدسائس أحاطت من كل جانب، ومن أجل ذلك عاد جمال الدين إلى القاهرة في أوائل سنة 1288هـ، فأكرمه إسماعيل، وأجرى عليه راتبا يليق به، فجعل من بيته مدرسة يقصدها النابهون من طلاب العلم في الأزهر وغيره، وكان يدرس لهم أمهات الكتب في علم الكلام والحكمة والهيئة والتصوف وأصول الفقه، ولم يكن يقصد من دروسه
التعليم فقط، بل كان يقصد منها الدعوى إلى الإصلاح، وفتح باب الاجتهاد في الدين والعلم وبث الأخلاق العالية في النفوس، وكان إلى هذا يرشد الطلاب إلى مطالعة كتب الأدب، ليتعلموا منها حسن الكتابة والإنشاء، ويستطيعوا أن ينهضوا بالأمة بالكتابة في الجرائد وغيرها، فأيقظ النفوس من غفلتها، وفتح عيون الطلاب في الأزهر لضعف التعليم فيه، حتى ألفوا من بينهم جماعة تسعى في إصلاحه، وكان أول ما عملوه كتابة منشور علقوه على أعمدة الأزهر في سواد الليل، وبينوا فيه مواضع الخلل في التعليم بالأزهر، وشرحوا الوسائل التي تؤدي إلى إصلاحه، فبدأ جمال الدين بدروسه في الإصلاح، الجهاد في إصلاح الأزهر، وأوجد من أبنائه وغيرهم من يعمل فيه بكل ما يمكنه من الوسائل التي توصل إليه.(3/113)
ولما حضر جمال الدين الأفغاني إلى مصر لأول مرة سنة 1286هـ أقام في القاهرة أربعين يوما، تردد فيها على الجامع الأزهر، واتصل به كثير من العظماء والطلاب، ثم ترك القاهرة إلى الأستانة، فوصل إليها في سنة 1287هـ، ولكن الدسائس أحاطت من كل جانب، ومن أجل ذلك عاد جمال الدين إلى القاهرة في أوائل سنة 1288هـ، فأكرمه إسماعيل، وأجرى عليه راتبا يليق به، فجعل من بيته مدرسة يقصدها النابهون من طلاب العلم في الأزهر وغيره، وكان يدرس لهم أمهات الكتب في علم الكلام والحكمة والهيئة والتصوف وأصول الفقه، ولم يكن يقصد من دروسه
التعليم فقط، بل كان يقصد منها الدعوى إلى الإصلاح، وفتح باب الاجتهاد في الدين والعلم وبث الأخلاق العالية في النفوس، وكان إلى هذا يرشد الطلاب إلى مطالعة كتب الأدب، ليتعلموا منها حسن الكتابة والإنشاء، ويستطيعوا أن ينهضوا بالأمة بالكتابة في الجرائد وغيرها، فأيقظ النفوس من غفلتها، وفتح عيون الطلاب في الأزهر لضعف التعليم فيه، حتى ألفوا من بينهم جماعة تسعى في إصلاحه، وكان أول ما عملوه كتابة منشور علقوه على أعمدة الأزهر في سواد الليل، وبينوا فيه مواضع الخلل في التعليم بالأزهر، وشرحوا الوسائل التي تؤدي إلى إصلاحه، فبدأ جمال الدين بدروسه في الإصلاح، الجهاد في إصلاح الأزهر، وأوجد من أبنائه وغيرهم من يعمل فيه بكل ما يمكنه من الوسائل التي توصل إليه.
وكان نشاطه التعليمي ذا شعبتين: دروس علمية منظمة يلقيها في بيته (في خان الخليلي)، وكان يتلقاها أمثال الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سلمان، والشيخ سعد زغلول، والشيخ إبراهيم الهلباوي من مجاوري الأزهر وعلمائه، وكان يدرس لهم كتب منطق وفلسفة وتصوف وهيئة، ويظهر أن هذه الكتب لم تكن لها قيمة في ذاتها، وإنما قيمتها كانت فيما يضيفه عليها الشيخ في شرح آرائه وأفكاره، والتبسط في مناحي الفكر، والتطبيق على الحياة الواقعية، بربط الحياة العملية بالعلمية، هذا إلى أنه كان يأخذ بيد تلاميذه، فيجعلهم يسيطرون على الكتاب، ويسمون عن قيود الألفاظ والجمل إلى معرفة الحقائق ذاتها، يحدد لهم موضوع الدرس من الكتاب، ويفيض عليهم في شرحه من عنده حتى يحيطوا به، ويتفهموه من جميع أطرافه.
وكانت مدرسته الثانية غير النظامية أكبر أترا وأعم نفعا، وكان تلاميذه فيها زواره في بيته أو في بيوتهم حين يزورهم، ومن يلتقي بهم في (قهوة البوستة) وفي المجتمعات من أمثال: محمود سامي البارودي، وعبد السلام المويلحي وأخيه إبراهيم المويلحي وسعد زغلول، ومحمد عبده
وعلي مظهر، وأديب إسحق وغيرهم. وفي هذه المدرسة حول مجرى الأدب ونقله من حال إلى حال، كان الأدب عند الحكام لا هم له إلا مدح الملوك والأمراء، والتغني بأفعالهم وصفاتهم، فأتى جمال الدين وسخّر الأدب في خدمة الشعب، يطالب بحقوقه، ويدافع عنه من ظلمه، يبين للناس سوء حالتهم، ويبصرهم بمن كان سبب فقرهم، ويحرضهم أن يخرجوا من بؤسهم وضلالهم وألا يخشوا بأس الحاكم فليست قوته إلا بهم، فكان أدبه ينظر للشعب أكثر مما ينظر إلى الحاكم، وينشد الحرية ويفيض في حقوق الناس وواجبات الحاكم، ويجعل من الأديب مشرفا على الأمراء، لا سائلا يمد يده للأغنياء، كنت تتصفح آثار الأدباء أمثال: السيد على أبي النصر، والشيخ علي الليثي وعبد الله باشا فكري، فلا ترى موضوعاتهم غير غزل في حبيب، أو رسالة إلى صديق، أو مدح لأمير، أو استعطاف له، أو اعتذار إليه، أو وصف سفينة، أو شكر على هدية. أما مصر وحال شعبها، وبؤس أهلها، وظلم حكامها، وحقوق الناس، وواجبات الحكام، فلا ترى لذلك أثرا. فقلب جمال الدين هذا الوضع وفتح للأدباء منافذ القول، وكانت خطته في ذلك ما يأتي:(3/114)
وكانت مدرسته الثانية غير النظامية أكبر أترا وأعم نفعا، وكان تلاميذه فيها زواره في بيته أو في بيوتهم حين يزورهم، ومن يلتقي بهم في (قهوة البوستة) وفي المجتمعات من أمثال: محمود سامي البارودي، وعبد السلام المويلحي وأخيه إبراهيم المويلحي وسعد زغلول، ومحمد عبده
وعلي مظهر، وأديب إسحق وغيرهم. وفي هذه المدرسة حول مجرى الأدب ونقله من حال إلى حال، كان الأدب عند الحكام لا هم له إلا مدح الملوك والأمراء، والتغني بأفعالهم وصفاتهم، فأتى جمال الدين وسخّر الأدب في خدمة الشعب، يطالب بحقوقه، ويدافع عنه من ظلمه، يبين للناس سوء حالتهم، ويبصرهم بمن كان سبب فقرهم، ويحرضهم أن يخرجوا من بؤسهم وضلالهم وألا يخشوا بأس الحاكم فليست قوته إلا بهم، فكان أدبه ينظر للشعب أكثر مما ينظر إلى الحاكم، وينشد الحرية ويفيض في حقوق الناس وواجبات الحاكم، ويجعل من الأديب مشرفا على الأمراء، لا سائلا يمد يده للأغنياء، كنت تتصفح آثار الأدباء أمثال: السيد على أبي النصر، والشيخ علي الليثي وعبد الله باشا فكري، فلا ترى موضوعاتهم غير غزل في حبيب، أو رسالة إلى صديق، أو مدح لأمير، أو استعطاف له، أو اعتذار إليه، أو وصف سفينة، أو شكر على هدية. أما مصر وحال شعبها، وبؤس أهلها، وظلم حكامها، وحقوق الناس، وواجبات الحكام، فلا ترى لذلك أثرا. فقلب جمال الدين هذا الوضع وفتح للأدباء منافذ القول، وكانت خطته في ذلك ما يأتي:
1 - كون جماعة حبب إليهم الكتابة، ورسم لها خطتها وأوحى إليهم بالمعاني وشجعهم على إنشاء الجرائد، يكتب فيها، ويستكتب القادر منهم، فأنشأ أديب إسحق جريدة «مصر» في القاهرة، و «التجارة» بالأسكندرية، وكان جمال يكتب فيها أحيانا باسم مستعار أو باسمه الحقيقي وقد كتب مقالين: أحدهما في الحكومات الشرقية وأنواعها، والثاني سماه «روح البيان في الأنجليز والأفغان» كان لهما صدى بعيد، ولقيت الصحيفتان رواجا كبيرا، ثم أغلقهما رياض باشا وكذلك وجه الكتاب في «الوقائع المصرية» وغيرها، وبذلك ربى طائفة من الكتاب تحسن الكتابة» واختيار الموضوعات، ووضع النواة الأولى للصحافة الشرقية والكتاب الذين يعالجون شئون وطنهم وحالة شعوبهم، والذي ساعده على النجاح في ذلك
حال مصر المالية والسياسية وتدخل الأجنبي فيهما وجزع الشعب والحاكم معا لذلك فشجعوا هذا النقد من الصحافة، ولولا ذلك لخابت دعوة جمال الدين في مصر كما خابت في غيرها.(3/115)
1 - كون جماعة حبب إليهم الكتابة، ورسم لها خطتها وأوحى إليهم بالمعاني وشجعهم على إنشاء الجرائد، يكتب فيها، ويستكتب القادر منهم، فأنشأ أديب إسحق جريدة «مصر» في القاهرة، و «التجارة» بالأسكندرية، وكان جمال يكتب فيها أحيانا باسم مستعار أو باسمه الحقيقي وقد كتب مقالين: أحدهما في الحكومات الشرقية وأنواعها، والثاني سماه «روح البيان في الأنجليز والأفغان» كان لهما صدى بعيد، ولقيت الصحيفتان رواجا كبيرا، ثم أغلقهما رياض باشا وكذلك وجه الكتاب في «الوقائع المصرية» وغيرها، وبذلك ربى طائفة من الكتاب تحسن الكتابة» واختيار الموضوعات، ووضع النواة الأولى للصحافة الشرقية والكتاب الذين يعالجون شئون وطنهم وحالة شعوبهم، والذي ساعده على النجاح في ذلك
حال مصر المالية والسياسية وتدخل الأجنبي فيهما وجزع الشعب والحاكم معا لذلك فشجعوا هذا النقد من الصحافة، ولولا ذلك لخابت دعوة جمال الدين في مصر كما خابت في غيرها.
2 - أحاديثه في المقهى وفي المحافل وبيوت الزيارة، تواتيه المعاني، ويطاوعه اللسان، فيخلق أمتع الأحاديث، ويحدث كل من بمجلسه بلسان عربي مبين، فيدهش السامعين، ويفحم السائلين، ويبكم المعترضين، وبذلك خرج مدرسة عجيبة تحسن السمر والحديث والاستطراد، وتملك على السامع لبه من أمثال محمد عبده، وسعد زغلول، والهلباوي، ولطفي السيد، وغيرهم.
وهكذا بدأ جمال الدين تعليمه في حجرة ثم في مقهى أو مجتمع، ثم في محفل يريد توسيع العقول، وتعليم الحرية في البحث والنقد، وتبصير الشعب بحقوقه وواجبات الحاكم نحوه، ويضع يده في صميم السياسة فيريد أن يسيطر على الوزارات والحكومة بمحفله، ورأى أول أمره أن لا قيمة لمجلس النواب ما دام الشعب غافلا جاهلا، فلما نضجت الأمة واستبد الحكام، غير رأيه وألح في طلب الحكم النيابي وحرض عليه. وكان يلتقي بالأمير توفيق في المحفل فيقدره ويدين بمبادئه، ولكنه لما تولى الحكم بعد إسماعيل دس له الدساسون، فاجتمع مجلس الوزراء وقرر نفي جمال الدين فقبض عليه في 24أغسطس سنة 1871، ونفى إلى بمباي في الهند، وكان ذلك آخر عهد له بمصر.
وسافر الأفغاني إلى لندن عام 1883ومنها إلى فرنسا، ووافاه إليها تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده وكان منفيا في بيروت. وأخذا يتشاوران فيما يعملان من وجوه الإصلاح، وكان من رأى الشيخ محمد عبده بعد ما رأى من غدر الناس في ثورة عرابي أن يذهبا إلى مكان بعيد، ينشئان فيه مدرسة للزعماء يختاران لها أنجب التلاميذ من الأقطار الإسلامية،
ويعدانهم للزعامة ونشر الإصلاح، ولكن لم يعجب السيد هذا الرأي، ورأى فيه خورا وضعفا ويأسا، ووضع خطته بإنشاء جريدة في باريس للعالم الإسلامي تبصره بحقوقه وواجباته ووظيفته، وكانت جريدة «العروة الوثقي» للسيد فيها الأفكار والمعاني، وللشيخ التحرير والصياغة، وميرزا محمد باقر يعرب لها عن الصحف الأجنبية ما يهم الشرق، وكان وراءها جمعية سرية في جميع أقطار الإسلام، ولها فروع في بلدانه يجتمعون للمذاكرة، ويتبرعون بالمال ينفق منه على الجريدة والقائمين بها، فقد كانت ترسل بالمجان أكثر أعدادها، وكان الأعضاء يقسمون اليمين لأحياء الأخوة الإسلامية، وتقوية الإسلام بقدر ما يستطيعون. وكان أهم أغراض الجريدة كما لخصت هي ذلك في أول عدد لها:(3/116)
وسافر الأفغاني إلى لندن عام 1883ومنها إلى فرنسا، ووافاه إليها تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده وكان منفيا في بيروت. وأخذا يتشاوران فيما يعملان من وجوه الإصلاح، وكان من رأى الشيخ محمد عبده بعد ما رأى من غدر الناس في ثورة عرابي أن يذهبا إلى مكان بعيد، ينشئان فيه مدرسة للزعماء يختاران لها أنجب التلاميذ من الأقطار الإسلامية،
ويعدانهم للزعامة ونشر الإصلاح، ولكن لم يعجب السيد هذا الرأي، ورأى فيه خورا وضعفا ويأسا، ووضع خطته بإنشاء جريدة في باريس للعالم الإسلامي تبصره بحقوقه وواجباته ووظيفته، وكانت جريدة «العروة الوثقي» للسيد فيها الأفكار والمعاني، وللشيخ التحرير والصياغة، وميرزا محمد باقر يعرب لها عن الصحف الأجنبية ما يهم الشرق، وكان وراءها جمعية سرية في جميع أقطار الإسلام، ولها فروع في بلدانه يجتمعون للمذاكرة، ويتبرعون بالمال ينفق منه على الجريدة والقائمين بها، فقد كانت ترسل بالمجان أكثر أعدادها، وكان الأعضاء يقسمون اليمين لأحياء الأخوة الإسلامية، وتقوية الإسلام بقدر ما يستطيعون. وكان أهم أغراض الجريدة كما لخصت هي ذلك في أول عدد لها:
1 - بيان الواجب على الشرقيين، وأسباب فساد حالهم.
2 - إشراب النفوس عقيدة الأمل وترك اليأس.
3 - الدعوة إليالتمسك بالأصول التي كان عليهم أسلافهم وعزوا بها.
4 - الدفاع عما يتهم به الشرقيون عموما والمسلمون خصوصا من أنهم لن يتقدموا ما داموا متمسكين بدينهم.
5 - إخبارهم بما يهمهم من حوادث السياسة العامة والخاصة.
6 - تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية، ومناصرة من لا يجحف بحقوقهم من أمم الخارج.
وأخذ يكتب في ذلك في الجريدة ويفصل هذه الأسباب في مقالات، وكان مثله الأعلى حكومة إسلامية موحدة للجميع، ولما رأى عدم إمكان ذلك دعا إلى أن تحكم الأقطار الاسلامية بحكومات إمامها القرآن، وأساسها العدل والشورى وترتبط جميعا بروابط محكمة.
وقد قاده هذا التفكير في الحكومة الإسلامية وأخلاق الشعب التي
يجب أن يكون عليها إلى أن يناهض في الجريدة الاحتلال الأجنبي في الأقطار الإسلامية وخاصة في مصر، وشغل هذا حيزا كبيرا منها بأسلوب مهيج وعبارات شديدة، كما استخدم بجانبها رسلا متخفين إلى الأقطار المختلفة ينشرون التعاليم التي لا يستطيع نشرها في الجريدة، وكان منهم الشيخ محمد عبده وهو محكوم عليه بالنفي فجاء إلى مصر وتونس وكان من نتائج هذا أن روقبت الجريدة من أصحاب السيادة على حكومات الهند ومصر، فمنعت من دخولهما، واستحال وصولها إلى أصحابها وقرائها فاحتجبت عن أداء رسالتها.(3/117)
وقد قاده هذا التفكير في الحكومة الإسلامية وأخلاق الشعب التي
يجب أن يكون عليها إلى أن يناهض في الجريدة الاحتلال الأجنبي في الأقطار الإسلامية وخاصة في مصر، وشغل هذا حيزا كبيرا منها بأسلوب مهيج وعبارات شديدة، كما استخدم بجانبها رسلا متخفين إلى الأقطار المختلفة ينشرون التعاليم التي لا يستطيع نشرها في الجريدة، وكان منهم الشيخ محمد عبده وهو محكوم عليه بالنفي فجاء إلى مصر وتونس وكان من نتائج هذا أن روقبت الجريدة من أصحاب السيادة على حكومات الهند ومصر، فمنعت من دخولهما، واستحال وصولها إلى أصحابها وقرائها فاحتجبت عن أداء رسالتها.
وقد كان يدعو إلى الاجتهاد وترك التقليد في الدين، فإن الأئمة اجتهدوا وأحسنوا ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. ويرى أن التفرقة بين أهل السنة والشيعة سببها مطامع الملوك، فالفريقان يؤمنان بالقرآن ورسالة محمد، ففيم الخلاف والقتال؟. ويرى أن الإشتراكية في الإسلام ملتحمة مع الدين، ملتصقة مع الخلق، يبعث عليها حب الخير، على النقيض من إشتراكية الغرب التي يبعث عليها جور الحكام وعوامل الحسد في العمال لأرباب الغنى. كما يرى أن المرأة تساوي الرجل في تكوينها العقلي والتفاوت بينهما أتى من التربية وإطلاق السراح للرجل، وتقييد المرأة في البيت.
ومهمتها في هذا أسمى، ولا تقل عن مهمة الرجل، ومن يطلب مساواتها فهو مخطي، ولا مانع من أن تعمل في الخارج إذا فقدت عائلها، واضطرتها ظروفها ولكن بطهارة. كما أنه لا مانع عنده من رفع الحجاب إذا لم يتخذ وسيلة للفجور. ويرى كذلك أن الدين لا يخالف الحقائق العلمية، وإذا ظهر غير ذلك وجب تأويله، فالقرآن أعظم من أن يخالف العلم الحقيقي خصوصا في الكليات.
وقد أجمع معاصروه ومن درسوا تاريخ حياته على أن له غرضين واضحين:(3/118)
1 - بث الروح في الشرق لينهض بثقافته وعلمه وتربيته، وتنقية عقيدته من الخرافات واستعادة عزه ومكانته.
2 - مناهضة الاحتلال الأجنبي حتى تعود الأقطار الشرقية إلى استقلالها مرتبطة بروابط على أي شكل، لتلقي ما يحيط بها من أخطار.
ولما مات حمل المصلحون بعده لواء هذين الغرضين متفرقين وقد كان يحمل لواءهما معا، فحمل الشيخ محمد عبده لواء الإصلاح الثقافي، فإن الواجب الأول على المصلح في رأيه تثقيف الشعب وتهذيبه، ثم الاستقلال يكون الخاتمة. وقد رفع العلم الآخر وهو العلم السياسي لمناهضة الحكم الأجنبي عبد الله نديم، ثم مصطفى كامل وفريد، ثم سعد زغلول. وكذلك كان في غير مصر من أقطار الشرق من حملوا لواء الإصلاحين وساروا على هداه ولكن في بطء لا يعجبه فقد كان طموحا إلى مقصده، شجاعا مقداما لا يهاب الموت، حديد المزاج، لا يريد الحق إلا من طريق الحق، يريده غاية ويريده وسيلة، ولكن سياسة الدنيا غير ذلك تقوم على المصالحة، وأخذ شيء بترك شيء، ومن أراد الحق كاملا فليطلب ذلك في المثل الأعلى للخلق لا في السياسة أو فلينتظر حتى تخضع السيادة للخلق ولن يكون.
4
ويقول. في إهمال العلوم الرياضية والفلسفية في الأزهر الأستاذ مصطفى بيرم من رسالة له عن الأزهر قدمها لمؤتمر علماء اللغات الشرقية المنعقد بمدينة همبورج بالمانيا عام 1902: إن تلك العلوم الرياضية والجغرافية والعقلية والفلسفية مهجورة من الأزهر ينظر إليها بعين السخط، ويفر من سماعها فرار الصحيح من الأجرب، ولكن بفضل الله وكرمه لم يطل الأمر على ذلك كثيرا، حتى قيض الله لنا علماءنا الأعلام من ثنيه لأسباب تأخرنا العلمي، وأخذوا في السعي لإعادة تدريس تلك العلوم
النافعة المقوية للملكة الذهنية، ولخشية المفاجأة بإعادة تدريسها للجامع بعد ما رسخ في أذهان الكثير من أن بها ما يعدوا على الدين، رأى ولاة الأمور أن يمهدوا السبيل لادخالها في الجامع الأزهر بأخذ آراء أفاضل العلماء الأزهريين، فكلفوا والدي المرحوم السيد محمد بيرم بهاته المهمة العلمية، وبعد أخذ وعطاء بينه وبين المرحومين: العلامة الشيخ محمد الأنبابي شيخ الإسلام بمصر وشيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية في ذلك العهد، استقر الرأي أن يكتب لهما استفتاء صورته، بعد الديباجة: «ما قولكم رضى الله عنكم؟ هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية؟ مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء، وغيرها من سائر المعارف، لا سيما ما ينبني عليه منها من زيادة القوة في الأمة، بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة؟ بمعنى أن يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الإسلام الغزالي في إحياء العلوم، ونقله علماء الحنفية أيضا وأقروه، وإذا كان الحكم فيها كذلك، فهل يجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين؟ أفيدوا الجواب، لا زلتم مقصدا لأولى الألباب: فأجابه العلامة الشيخ محمد الأنبابي بالفتوى الآتية بعد الديباجة: يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافيا، لأنه لا تعرض فيها شيء من الأمور الدينية، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا، كما يجب علم الطب لذلك «كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء، وإن ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة التمكن في القدر الواجب فتعلمه فضيلة، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وغيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية، فإنه حرام كما
قال الغزالي، وعلل ذلك بما محصله أنه يخشى من ممارسته نسبة التأثير للكواكب، والتعرض للإخبار بالمغيبات، مع كون الناظر قد يخطىء لخفاء بعض الشروط، وأما الطبيعيات وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغييرها كما في الإحياء في الباب الثاني من كتاب العلم فإن كان ذلك البحث على طريق أهل الشرع فلا منع منها، كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي في جزء الفتاوي الجامع للمسائل المنتشرة بل لها حينئذ أهمية بحسب أهمية ثمرتها، كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة عمل الآلات النافعة في مصلحة العباد، وإن كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام، لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع، كما أفاده العلامة المذكور، نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة، للأمن عليه مما ذكرنا، قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة، على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة، ثانيها الجواز مطلقا، ونسبه الملوى في شرح السلم للجمهور، وثالثها المنع مطلقا، ونسبه صاحب السلم لابن الصلاح والنووي، قال الملوي: ووافقهما على ذلك كثيرا من العلماء.(3/119)
ويقول. في إهمال العلوم الرياضية والفلسفية في الأزهر الأستاذ مصطفى بيرم من رسالة له عن الأزهر قدمها لمؤتمر علماء اللغات الشرقية المنعقد بمدينة همبورج بالمانيا عام 1902: إن تلك العلوم الرياضية والجغرافية والعقلية والفلسفية مهجورة من الأزهر ينظر إليها بعين السخط، ويفر من سماعها فرار الصحيح من الأجرب، ولكن بفضل الله وكرمه لم يطل الأمر على ذلك كثيرا، حتى قيض الله لنا علماءنا الأعلام من ثنيه لأسباب تأخرنا العلمي، وأخذوا في السعي لإعادة تدريس تلك العلوم
النافعة المقوية للملكة الذهنية، ولخشية المفاجأة بإعادة تدريسها للجامع بعد ما رسخ في أذهان الكثير من أن بها ما يعدوا على الدين، رأى ولاة الأمور أن يمهدوا السبيل لادخالها في الجامع الأزهر بأخذ آراء أفاضل العلماء الأزهريين، فكلفوا والدي المرحوم السيد محمد بيرم بهاته المهمة العلمية، وبعد أخذ وعطاء بينه وبين المرحومين: العلامة الشيخ محمد الأنبابي شيخ الإسلام بمصر وشيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية في ذلك العهد، استقر الرأي أن يكتب لهما استفتاء صورته، بعد الديباجة: «ما قولكم رضى الله عنكم؟ هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية؟ مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء، وغيرها من سائر المعارف، لا سيما ما ينبني عليه منها من زيادة القوة في الأمة، بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة؟ بمعنى أن يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الإسلام الغزالي في إحياء العلوم، ونقله علماء الحنفية أيضا وأقروه، وإذا كان الحكم فيها كذلك، فهل يجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين؟ أفيدوا الجواب، لا زلتم مقصدا لأولى الألباب: فأجابه العلامة الشيخ محمد الأنبابي بالفتوى الآتية بعد الديباجة: يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافيا، لأنه لا تعرض فيها شيء من الأمور الدينية، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا، كما يجب علم الطب لذلك «كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء، وإن ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة التمكن في القدر الواجب فتعلمه فضيلة، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وغيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية، فإنه حرام كما
قال الغزالي، وعلل ذلك بما محصله أنه يخشى من ممارسته نسبة التأثير للكواكب، والتعرض للإخبار بالمغيبات، مع كون الناظر قد يخطىء لخفاء بعض الشروط، وأما الطبيعيات وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغييرها كما في الإحياء في الباب الثاني من كتاب العلم فإن كان ذلك البحث على طريق أهل الشرع فلا منع منها، كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي في جزء الفتاوي الجامع للمسائل المنتشرة بل لها حينئذ أهمية بحسب أهمية ثمرتها، كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة عمل الآلات النافعة في مصلحة العباد، وإن كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام، لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع، كما أفاده العلامة المذكور، نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة، للأمن عليه مما ذكرنا، قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة، على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة، ثانيها الجواز مطلقا، ونسبه الملوى في شرح السلم للجمهور، وثالثها المنع مطلقا، ونسبه صاحب السلم لابن الصلاح والنووي، قال الملوي: ووافقهما على ذلك كثيرا من العلماء.(3/120)
ويقول. في إهمال العلوم الرياضية والفلسفية في الأزهر الأستاذ مصطفى بيرم من رسالة له عن الأزهر قدمها لمؤتمر علماء اللغات الشرقية المنعقد بمدينة همبورج بالمانيا عام 1902: إن تلك العلوم الرياضية والجغرافية والعقلية والفلسفية مهجورة من الأزهر ينظر إليها بعين السخط، ويفر من سماعها فرار الصحيح من الأجرب، ولكن بفضل الله وكرمه لم يطل الأمر على ذلك كثيرا، حتى قيض الله لنا علماءنا الأعلام من ثنيه لأسباب تأخرنا العلمي، وأخذوا في السعي لإعادة تدريس تلك العلوم
النافعة المقوية للملكة الذهنية، ولخشية المفاجأة بإعادة تدريسها للجامع بعد ما رسخ في أذهان الكثير من أن بها ما يعدوا على الدين، رأى ولاة الأمور أن يمهدوا السبيل لادخالها في الجامع الأزهر بأخذ آراء أفاضل العلماء الأزهريين، فكلفوا والدي المرحوم السيد محمد بيرم بهاته المهمة العلمية، وبعد أخذ وعطاء بينه وبين المرحومين: العلامة الشيخ محمد الأنبابي شيخ الإسلام بمصر وشيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية في ذلك العهد، استقر الرأي أن يكتب لهما استفتاء صورته، بعد الديباجة: «ما قولكم رضى الله عنكم؟ هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية؟ مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء، وغيرها من سائر المعارف، لا سيما ما ينبني عليه منها من زيادة القوة في الأمة، بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة؟ بمعنى أن يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الإسلام الغزالي في إحياء العلوم، ونقله علماء الحنفية أيضا وأقروه، وإذا كان الحكم فيها كذلك، فهل يجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين؟ أفيدوا الجواب، لا زلتم مقصدا لأولى الألباب: فأجابه العلامة الشيخ محمد الأنبابي بالفتوى الآتية بعد الديباجة: يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافيا، لأنه لا تعرض فيها شيء من الأمور الدينية، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا، كما يجب علم الطب لذلك «كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء، وإن ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة التمكن في القدر الواجب فتعلمه فضيلة، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وغيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية، فإنه حرام كما
قال الغزالي، وعلل ذلك بما محصله أنه يخشى من ممارسته نسبة التأثير للكواكب، والتعرض للإخبار بالمغيبات، مع كون الناظر قد يخطىء لخفاء بعض الشروط، وأما الطبيعيات وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغييرها كما في الإحياء في الباب الثاني من كتاب العلم فإن كان ذلك البحث على طريق أهل الشرع فلا منع منها، كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي في جزء الفتاوي الجامع للمسائل المنتشرة بل لها حينئذ أهمية بحسب أهمية ثمرتها، كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة عمل الآلات النافعة في مصلحة العباد، وإن كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام، لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع، كما أفاده العلامة المذكور، نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة، للأمن عليه مما ذكرنا، قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة، على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة، ثانيها الجواز مطلقا، ونسبه الملوى في شرح السلم للجمهور، وثالثها المنع مطلقا، ونسبه صاحب السلم لابن الصلاح والنووي، قال الملوي: ووافقهما على ذلك كثيرا من العلماء.
ولما كان الإمام النووي ممن يقول في المنطق بالمنع مطلقا مشى على نظير ذلك في الطبيعة، فعد في كتاب السير من الروضة من العلوم المحرمة علوم الطبيعيات بدون أن يفصل، لكن حيث يعتمد التفصيل هناك فلنعتمده هنا، إذ لا فرق في ذلك، فإن مظنة الضرر والنفع موجودة في كل منهما، والظاهر أن موضوع كلام الروضة ما كان على طريقة الفلاسفة، إذ غيره لا محظور فيه اتفاقا كالمنطق الخالص، كما يشعر بذلك تعبيرها بعلوم الطبائعيين دون علوم الطبيعة. وأما علم تركيب الأجزاء المعبر عنه بالكيمياء فإن كان المراد به البحث عن التركيب والتحليل بدون تعرض لما يخشى منه على العقيدة الإسلامية. فلا بأس به، بل له أهمية حسب ثمرته، وإلا جرت فيه الأقوال الثلاثة المتقدمة، وأما العلم المعروف بعلم جابر، ويسمى أيضا
علم الصنعة وعلم الكاف، وهو الذي ينصرف إليه علم الكيمياء عند غالب الناس، فقد أفاد العلامة ابن حجر في شرحه على المنهاج أنه إن قلنا بالمعتمد من جواز انقلاب الجسم عن حقيقته وكان العلم الموصل لذلك يقينا جاز تعلمه والعمل به، وإلا حرم، ولفقد هذا الشرط لم يتحصل المشتغلون به فيما رأينا إلا على ضياع الأموال، وتشتت البال، وتغيير الأحوال فعلم أن العلوم الرياضية لا بأس من قراءتها كما تقرأ علوم الآلات. وكذا الطبيعيات وعلم تركيب الأجزاء، حيث كانت تقرأ على طريقة لا يفهم منها منابذة الشرع بحال، كبقية العلوم العقلية مثل المنطق والكلام والجدل، بل يجب كفاية من هذه الثلاثة ما يحتاج إليه في الحجاج عن العقائد الدينية.(3/121)
ولما كان الإمام النووي ممن يقول في المنطق بالمنع مطلقا مشى على نظير ذلك في الطبيعة، فعد في كتاب السير من الروضة من العلوم المحرمة علوم الطبيعيات بدون أن يفصل، لكن حيث يعتمد التفصيل هناك فلنعتمده هنا، إذ لا فرق في ذلك، فإن مظنة الضرر والنفع موجودة في كل منهما، والظاهر أن موضوع كلام الروضة ما كان على طريقة الفلاسفة، إذ غيره لا محظور فيه اتفاقا كالمنطق الخالص، كما يشعر بذلك تعبيرها بعلوم الطبائعيين دون علوم الطبيعة. وأما علم تركيب الأجزاء المعبر عنه بالكيمياء فإن كان المراد به البحث عن التركيب والتحليل بدون تعرض لما يخشى منه على العقيدة الإسلامية. فلا بأس به، بل له أهمية حسب ثمرته، وإلا جرت فيه الأقوال الثلاثة المتقدمة، وأما العلم المعروف بعلم جابر، ويسمى أيضا
علم الصنعة وعلم الكاف، وهو الذي ينصرف إليه علم الكيمياء عند غالب الناس، فقد أفاد العلامة ابن حجر في شرحه على المنهاج أنه إن قلنا بالمعتمد من جواز انقلاب الجسم عن حقيقته وكان العلم الموصل لذلك يقينا جاز تعلمه والعمل به، وإلا حرم، ولفقد هذا الشرط لم يتحصل المشتغلون به فيما رأينا إلا على ضياع الأموال، وتشتت البال، وتغيير الأحوال فعلم أن العلوم الرياضية لا بأس من قراءتها كما تقرأ علوم الآلات. وكذا الطبيعيات وعلم تركيب الأجزاء، حيث كانت تقرأ على طريقة لا يفهم منها منابذة الشرع بحال، كبقية العلوم العقلية مثل المنطق والكلام والجدل، بل يجب كفاية من هذه الثلاثة ما يحتاج إليه في الحجاج عن العقائد الدينية.
وكتب الشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية في ذلك لعهد هذه الفتوى: «ما أفاده حضرة شيخ الإسلام موافق لمذهبنا، وما استظهروه من أن الخلاف الجاري في علم المنطق يجري في علم الطبيعة أيضا وجيه.
والله سبحانه وتعالى أعلم». وكانت فتوى الشيخ الأنبابي في غرة ذي الحجة سنة 1305هـ، وكانت فتوى الشيخ البنا في 17من هذا الشهر (1).
5
كانت العلوم والكتب التي تدرس بالأزهر في القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين كما جاء بيانها في رسالة مقدمة من شيخ الأزهر إلى الخديو في سنة 1310هـ، هي كما اشتملت عليه هذه الرسالة (2):
1 - علم التوحيد، والكتب التي تدرس فيه هي أم البراهين الصغرى للشيخ محمد يوسف السنوسي بشرح المؤلف والهدهدي والباجوري، وأم
__________
(1) 39تاريخ الإصلاح في الأزهر.
(2) ص 50تاريخ الاصلاح في الأزهر.(3/122)
البراهين الكبرى للسنوسي، وجوهرة التوحيد للشيخ إبراهيم اللقاني بشرح عبد السلام اللقاني، والعقائد النسفية بشرح السعد التفتازاني، والخريدة للشيخ أحمد الدردير، والمقاصد لسعد الدين التفتازاني، والمواقف للشيخ عبد الرحمن العضد بشرح الجرجاني، وطوالع الأنوار للبيضاوي بشرح الأصفهاني، ومتن السباعي بشرح الباجوري.
2 - التصوف، والكتب التي تدرس فيه هي الإبرير للشيخ عبد العزيز، والأنوار القدسية للشيخ عبد الوهاب الشعراني، وبستان العارفين للشيخ نصر السمرقندي، وتاج العروس لابن عطاء الله السكندري، والتجليات الإلهية للشيخ محي الدين بن عربي، وتحفة الإخوان للشيخ الدردير، وتفليس إبليس لعز الدين بن عبد السلام، وتنبيه الغافلين للشيخ نصر السمرقندي، والتنوير في إسقاط التدبير لابن عطاء الله السكندري، والإحياء للغزالي، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، والمنن الكبرى للشيخ الشعراني.
3 - التفسير، والكتب التي تدرس فيه هي الكشاف للزمخشري.
وتفسير الجلالين بحاشية الشيخ الجمل، وتفسير الخطيب الشربيني، وتفسير عبد الله بن عمر البيضاوي، وتفسير أبي السعود، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير الخازن، وتفسير النسفي، والاتقان للسيوطي.
4 - التجويد والقراءات، والكتب التي تدرس فيه هي تحفة الأطفال للشيخ سليمان الجنزوري، والجزرية للشيخ الجزري، والتمهيد له أيضا، وجهد المقل للشيخ علي زاده، وإرشاد الرحمن للشيخ عطية الأجهوري، والشاطبية للشاطبي، والوقف والابتداء للشيخ الأشموني.
5 - الحديث، والكتب التي تدرس فيه هي صحيح البخاري بشرح والعسقلاني والعيني وزكريا الأنصاري، ومختصر البخاري للشيخ ابن أبي حمزة، وصحيح مسلم بشرح النووي، والشفاء للقاضي عياض
بشرح الخزرجي ومنلا على قاري، وموطأ الإمام مالك بشرح الزرقاني وابن عبد البر، والجامع الصغير للسيوطي بشرح العزيزي والمناوى والأبياري، والأذكار للنووي بشرح ابن علان، والتجريد للزبيدي، والشمائل المحمدية للترمذي بشرح الجمل، والترغيب والترهيب للمنذري، والأربعين للنووي، وصحيح الترمذي، وصحيح النسائي، وصحيح الأشعث وصحيح ابن ماجه، والمواهب اللدنية للقسطلاني، والسيرة الحلبية للحلبي.(3/123)
5 - الحديث، والكتب التي تدرس فيه هي صحيح البخاري بشرح والعسقلاني والعيني وزكريا الأنصاري، ومختصر البخاري للشيخ ابن أبي حمزة، وصحيح مسلم بشرح النووي، والشفاء للقاضي عياض
بشرح الخزرجي ومنلا على قاري، وموطأ الإمام مالك بشرح الزرقاني وابن عبد البر، والجامع الصغير للسيوطي بشرح العزيزي والمناوى والأبياري، والأذكار للنووي بشرح ابن علان، والتجريد للزبيدي، والشمائل المحمدية للترمذي بشرح الجمل، والترغيب والترهيب للمنذري، والأربعين للنووي، وصحيح الترمذي، وصحيح النسائي، وصحيح الأشعث وصحيح ابن ماجه، والمواهب اللدنية للقسطلاني، والسيرة الحلبية للحلبي.
6 - مصطلح الحديث، والكتب التي تدرس فيه هي ألفية الحافظ العراقي بشرح شيخ الإسلام العدوي. وتقريب النووي بشرح الجلال السيوطي، والنخبة لابن حجر العسقلاني، والبيقونية للشيخ عمر البيقوني بشرح الزرقاني ومنظومة الصبان.
7 - فقه الحنفية، والكتب التي تدرس فيه هي نور الإيضاح بشرح الشرنبلالي، والكنز للنسفي بشرح الطائي وابن نجيم والزيلعي والعيني ومثلا، وتنوير الأبصار للتمرتاش بشرح الحصفكي، والبداية للمرغيناني، والهداية، والغاية، وفتح القدير، والأشباه والنظائر لابن نجيم، والخراج للإمام أبي يوسف، وملتقى الأبحر للحلبي بشرح الحصفكي، ومجمع البحرين لابن الساعاتي، ومتن القدوري للبغدادي، وجامع الفصولين، والسراجية للسجاوندي.
8 - فقه المالكية، والكتب التي تدرس فيه هي العشماوية للشيخ العشماوي بشرح ابن تركي، والعزية لأبي الحسن علي الشاذلي بشرح الزرقاني، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني بشرح الحسن الصعيدي، وأقرب المسالك للدردير، ومختصر خليل بشرح الدردير والخرسي والزرقاني والحطاب والشبراخيتي، والمجموع للشيخ الأمير، والعاصمية، والتبصرة لابن فرحون، والقلصاوي للقرسي.
9 - فقه الشافعية، والكتب التي تدرس فيه هي التقريب لأبي شجاع
بشرح ابن قاسم والخطيب الشربيني، والأشباه والنظائر للسيوطي، والتحرير للشيخ زكريا الأنصاري، ومنهج الطلاب له أيضا، والروض لابن المقري، ومنهاج الطالبين للنووي، والعباب لابن المدحجي، ونهج الطلاب للجوهري، والبهجة لابن الوردي، والوجيز للغزالي، والروض للنووي، والإرشاد لابن المقري، وكشف النقاب للونائي، وفتاوى ابن حجر، وفتاوى الرملي، والرحبية، والترتيب للمارديني، وكشف الغوامض للسبط، وألفية ابن الهائم.(3/124)
9 - فقه الشافعية، والكتب التي تدرس فيه هي التقريب لأبي شجاع
بشرح ابن قاسم والخطيب الشربيني، والأشباه والنظائر للسيوطي، والتحرير للشيخ زكريا الأنصاري، ومنهج الطلاب له أيضا، والروض لابن المقري، ومنهاج الطالبين للنووي، والعباب لابن المدحجي، ونهج الطلاب للجوهري، والبهجة لابن الوردي، والوجيز للغزالي، والروض للنووي، والإرشاد لابن المقري، وكشف النقاب للونائي، وفتاوى ابن حجر، وفتاوى الرملي، والرحبية، والترتيب للمارديني، وكشف الغوامض للسبط، وألفية ابن الهائم.
10 - فقيه الحنبلية، والكتب الذي تدرس فيه هي الدليل للشيخ مرعي، وزاد المستقنع للبهوتي، والمنتهي للفتوحي، والإقناع للحجاوي، والمقنع لابن قدامة، ومختصر المقنع للحجاوي، والإنصاف للمرداوي، ومختصر الشطي.
11 - أصول الفقه، والكتب التي تدرس فيه هي جمع الجوامع للسبكي بشرح المحلي، ومختصر ابن الحاجب بشرح العضد. ومنار الأنوار للنسفي بشرح بن مالك والحصفكي وابن نجيم، والتنقيح لصدر الشريعة، وتنقيح الفصول للقرافي، والورقات لإمام الحرمين بشرح المحلي وابن القاسم، والورقات للحطاب، والتحرير للكمال ابن الهمام، وفصول البدائع، والمرآة.
12 - اللغة، والكتب التي تدرس فيها هي القاموس للفيروزبادي بشرح السيد مرتضى، والصحاح للجوهري، ومختار الصحاح للرازي، والمصباح المنير للفيومي، وفقه اللغة للثعالي، والأساس للزمخشري، والمزهر للسيوطي، ولسان العرب للأنصاري.
13 - النحو، والكتب التي تدرس فيه هي الأجرومية للصنهاجي بشرح الكفراوي. والشيخ خالد، والأزهرية وشرحها للشيخ خالد، وقطر الندى لابن هشام، وشذور الذهب له أيضا، وألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل
والأشموني، ومغنى اللبيب لابن هشام، والكافية لابن الحاجب، والتسهيل لابن مالك.(3/125)
13 - النحو، والكتب التي تدرس فيه هي الأجرومية للصنهاجي بشرح الكفراوي. والشيخ خالد، والأزهرية وشرحها للشيخ خالد، وقطر الندى لابن هشام، وشذور الذهب له أيضا، وألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل
والأشموني، ومغنى اللبيب لابن هشام، والكافية لابن الحاجب، والتسهيل لابن مالك.
14 - الصرف، والكتب التي تدرس فيه هي المراح لأحمد بن علي بن مسعود، الشافية لابن الحاجب بشرح شيخ الإسلام والرضى، والتصريف للغزي بشرح السعد التفتازاني، والترصيف للأخضري، ونظم العقود للطحاوي بشرح الشيخ عليش، ولامية الأفعال لابن مالك، ورسالة الجوهري في الإشتقاق.
15 - علوم البلاغة، والكتب التي تدرس فيها هي التلخيص للخطيب القزويني بشرح السعد، والمفتاح للسكاكي بشرح السعد والسيد، والجوهر المكنون للأخضري بشرح الدمنهوري، وعقود الجمان وشرحه للسيوطي، ومنظومة ابن الشحنة، والرسالة البيانية للصبان، والسمرقندية.
16 - العروض والقوافي، والكتب التي تدرس فيه هي الكافي للقنائي، والخزرجية ومنظومة الصبان.
17 - الوضع والكتب التي تدرس فيه هي: الرسالة العضدية بشرح السمرقندي، وعنقود الزواهر.
18 - المنطق والكتب التي تدرس فيه هي السلم للأخضري بشرح المؤلف والقويسني والملوي والباجوري، وإيساغوجي للأبهري بشرح الشيخ زكريا الأنصاري، والتهذيب للسعد التفتازاني بشرح الخبيصي، والشمسية للكاتبي بشرح القطب الرازي والمختصر للسنوسي، والمطالع للأرموي بشرح الرازي.
19 - أدب البحث والمناظرة، والكتب التي تدرس فيه هي آداب الكلنبوي بشرح حسن باشازاده، وآداب السمرقندي بشرح الشيرواني وشيخ الإسلام، وآداب الساجقلي للمرعشي، وآداب الجرجاني.(3/126)
20 - التاريخ والكتب الذي تدرس فيه هي تاريخ الخميس للقاضي حسين الديار بكري، وإسعاف الراغبين للصبان، ومقدمة ابن خلدون، وتاريخه العبر وديوان المبتدأ والخبر، والكامل لابن الأثير، والخطط للمقريزي، ونفح الطيب للمقري، وتحفة الناظرين للشرقاوي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والطبقات الصغرى لابن السبكي، وطبقات الشعراني، ولواقح الأنوار له أيضا، وخلاصة الأثر للحلبي، وأخبار الأول للإسحاقي.
21 - الحساب والجبر، والكتب التي تدرس فيهما هي الوسيلة لابن الهائم، والتحفة السنية للسبط، والسخاوية للسخاوي، والياسمينية لابن الهائم، ومنظومة في الحساب للأخضري، ونزهة النظار لابن الهائم، والدرة البيضاء للأخضري، والخلاصة للعاملي، والتخليص للدمياطي، واللمعة لابن الهائم.
22 - الميقات والهيئة، والكتب التي تدرس فيهما هي دقائق الحقائق للسبط، وخلاصة المختصرات لابن عائشة، ورسالة في العمل بالربع للجبرتي، والمقدمة لمحمد المجدي، وتحفة الإخوان لابن قاسم، والوضع على الجهات للمالكي الأندلسي، وهداية الحائر للسبط، ورسالة الوقت والقبلة للقليوبي، ورسالة في معرفة التواريخ لابن مهدي، ودستور علم الميقات لرضوان أفندي، وزاد المسافرين لأحمد بن المجدي، وتسهيل الدقائق لخليل الفرازي، ورسالة المنحرفات له أيضا، والتذكرة للطوسي، والمطلع السعيد لحسين زائد.
23 - الحكمة، والكتب التي تدرس فيها هي الإشارات لابن سينا، والهداية لأثير الدين الأبهري، وحكمة العين للكاتبي، ومقولات السجاعي، ومقولات البليدي، ومقولات المرصفي، وغالية النشر لعبد الجواد القباني.(3/127)
24 - الرسم والكتب التي تدرس فيه هي منظومة في الرسم العثماني رسم مصحف عثمان ومنظومة في الرسم القياسي.
من صحائف الذكرى
في سنة 1280هـ (1) 1863م، أراد السلطان عبد العزيز أن يزور الديار المصرية، وكان هذا في عهد إسماعيل باشا خديوي مصر، فلما وصل إلى القاهرة اختار إسماعيل باشا أربعة من علماء الأزهر، ليذهبوا إلى تهنئة نيابة عن إخوانهم، وهم السيد مصطفى العروسي شيخ الجامع الأزهر، والشيخ السقا، والشيخ عليش، والشيخ حسن العدوي، وكان لمقابلة سلاطين آل عثمان آداب لا يعرفها علماء الأزهر فطلب إسماعيل باشا من قاضي قضاة مصر وكان يختار من علماء دولة آل عثمان أن يعلمهم آداب المثول بين يدي السلطان، فذكر لهم أن المقابلة ستكون في حجرة يقف السلطان في صدرها على منصة مرتفعة، وأنه يجب إذا ما وصلوا إلى باب الحجرة ووقعت أعينهم على السلطان أن ينحنوا انحناء عظيما، ثم يلقوا عليه السلام، ثم يكرروا الانحناء والتسليم إلى أن يرد السلطان عليهم تحيتهم، فينحنوا ويسلموا مرة أخرى، ويرجعوا متقهقرين إلى الوراء إلى أن يصلوا إلى باب الحجرة، فينحنوا مرة أخرى، ثم ينصرفوا إلى خارج الحجرة. وقد وقعت هذه الآداب من العلماء الأربعة موقع الاستغراب، فقال لهم قاضي القضاة: إن هذا لا بد منه، فقالوا قد فهمنا. ثم ذهبوا إلى مقابلة السلطان، فدخل الشيخ العروسي أولا، وأدى المقابلة بالشكل الذي ذكره قاضي القضاة، ثم أداها مثله الشيخ السقا والشيخ عليش، وكان الخديوي إسماعيل واقفا وراء السلطان وعينه ترقب حركاتهم، فسر لإتقانهم آداب المقابلة، وظهورهم بهذا المظهر الذي كان موقع استغراب منهم، ثم دخل بعدهم الشيخ العدوي وكان عالما شجاعا لا يخشى إلا الله، ولا يقيم
__________
(1) ص 155تاريخ الاصلاح في الأزهر.(3/128)
وزنا لعظمة سواه، فانحنى انحناءة خفيفة عند الباب، ثم أقبل نحو السلطان منتصب القامة، ولم يكرر الانحناء أمامه، فخفق قلب إسماعيل باشا لما فعل، ولا سيما حين رآه يجاوز الحاجز ويصل إلى السلطان، ثم يقول له:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله. فيبتسم السلطان له ويرد عليه تحيته، وينحني له انحناء خفيفا، فيكلمه الشيخ العدوي فيما يجب على السلطان لرعيته، ويبين له عظم المسئولية الملقاة على عاتقه، وأن ثوابه عند الله سيكون بقدر تلك المسؤولية وحسن قيامه بها، وأن عقابه عنده سيكون بقدر تقصيره فيها. فلما رأى ذلك إسماعيل باشا إصفر لونه، وأخذ يتوقع غضب السلطان عليه لهذه المقابلة، ولكن وجد السلطان لم يبد عليه أي أثر للغضب، بل وجده مرتاحا للكلام الذي سمعه. وقد خرج الشيخ العدوي بعد أن انتهى من موعظته، ولم يخرج بظهره كما خرج غيره، بل ولى وجهه نحو الباب وخرج، فوجد العلماء الثلاثة ينتظرونه أمام الباب فأخبرهم بما فعل مع السلطان، فأخذوا يلومونه على ما فعل، ويخوفونه عاقبة هذا الأمر: فقال لهم: أما أنا فقد قابلت أمير المؤمنين، وأما أنتم فكأنكم قابلتم صنما، وكأنكم عبدتم وثنا، ولما انصرف الشيخ العدوي سأل السلطان عبد العزيز إسماعيل باشا عنه، فقال له: هذا شيخ من أفاضل العلماء، ولكنه مجذوب، وأستميح جلالتكم عفوا عن سقطته، فقال له السلطان: كلا، بل إني لم أنشرح لمقابلة أحد انشراحي لمقابلته.
ثم أمر له بخلعة سنية، وألف جنيه.
شعلة لا تنطفىء
لما استولى صلاح الدين على مصر، وأبطل منها مذهب الشيعة الفاطمية أبطل الخطبة في الجامع الأزهر، وأقرها بالجامع الحاكمي لسعته وبقي الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه زمن الدولة الأيوبية، وبعضا من عصر المماليك البحرية أي نحو مائة سنة وأهمل أمره مدة تعطيل الجمعة
فيه، وأنشئت مدارس أخرى لتدريس فقه الشافعية والتفسير والحديث وغيرها.(3/129)
لما استولى صلاح الدين على مصر، وأبطل منها مذهب الشيعة الفاطمية أبطل الخطبة في الجامع الأزهر، وأقرها بالجامع الحاكمي لسعته وبقي الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه زمن الدولة الأيوبية، وبعضا من عصر المماليك البحرية أي نحو مائة سنة وأهمل أمره مدة تعطيل الجمعة
فيه، وأنشئت مدارس أخرى لتدريس فقه الشافعية والتفسير والحديث وغيرها.
ولما ولي ملك مصر الظاهر بيبرس البندقداري كان من أمراء دولته الأمير عز الدين أيدمر الحلي، وكانت داره بالقرب من الأزهر، فرعى فيه حرمة الجوار، واستعان بماله وجاهه عند السلطان في عمارته، فجمع بعض ما بددته أيدي الفاطميين من أوقافه، وأمده السلطان بالمساعدة، فعمر الواهي من أركانه، ورفع سقوفه، وبلطه، وفرشه، وأثر فيه آثارا حسنة، حتى عاد حرما آمنا في وسط المدينة. وأنشأ بيلبك الخازندار مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء، ومحدثا يتلو الحديث النبوي ويلقي المواعظ ومقرئين للقرآن، ووقف على ذلك الغلات الدارة.
ولما كانت الدراسة معطلة في الأزهر من بدء الدولة الأيوبية فقد أريد إعادة الخطبة فيه، فامتنع قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز من إقامة خطبتين للجمعة، فيه وفي الجامع الحاكمي، وفقا لمذهبه، وهو مذهب الإمام الشافعي. فولي السلطان قاضيا حنفيا فأذن في إعادتها، وأخذ بذلك خطوط العلماء. وأعيدت إقامة الجمعة فيه باحتفال عظيم حضره أكابر الدولة، وعاد مسجدا جامعا، ومدرسة عظيمة. وكان هذا الإذن أساسا اعتمد عليه سلاطين المماليك وكبراؤهم في صحة بناء مساجد جامعة كثيرة في القاهرة وغيرها. وعظمت عناية المماليك بالأزهر فجددوه مرارا، ورفعوا حواليه المنارات السامية، وأضافوا إليه بضع عشرة مدرسة، حبست عليها الحبوس الجليلة، وفتحوا أبوابه للعلم، وأجروا على قاصديه الجرايات من الطعام والحلوى، فقصده الطلاب والعباد من أقاصي البلاد. وبلغ عدد طالبي العلم به سنة 818هـ نحو سبعمائة وخمسين طالبا من مصريين ومغاربة وأعاجم، وهم عدد عظيم بالإضافة إلى ما كان ينافسه في الشهرة وينازعه هذه المكرمة، نحو مائة مدرسة وجامع أنشأها سلاطين المماليك
وأمراؤهم، ووقفوا عليها أضعاف ما وقف على الأزهر.(3/130)
ولما كانت الدراسة معطلة في الأزهر من بدء الدولة الأيوبية فقد أريد إعادة الخطبة فيه، فامتنع قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز من إقامة خطبتين للجمعة، فيه وفي الجامع الحاكمي، وفقا لمذهبه، وهو مذهب الإمام الشافعي. فولي السلطان قاضيا حنفيا فأذن في إعادتها، وأخذ بذلك خطوط العلماء. وأعيدت إقامة الجمعة فيه باحتفال عظيم حضره أكابر الدولة، وعاد مسجدا جامعا، ومدرسة عظيمة. وكان هذا الإذن أساسا اعتمد عليه سلاطين المماليك وكبراؤهم في صحة بناء مساجد جامعة كثيرة في القاهرة وغيرها. وعظمت عناية المماليك بالأزهر فجددوه مرارا، ورفعوا حواليه المنارات السامية، وأضافوا إليه بضع عشرة مدرسة، حبست عليها الحبوس الجليلة، وفتحوا أبوابه للعلم، وأجروا على قاصديه الجرايات من الطعام والحلوى، فقصده الطلاب والعباد من أقاصي البلاد. وبلغ عدد طالبي العلم به سنة 818هـ نحو سبعمائة وخمسين طالبا من مصريين ومغاربة وأعاجم، وهم عدد عظيم بالإضافة إلى ما كان ينافسه في الشهرة وينازعه هذه المكرمة، نحو مائة مدرسة وجامع أنشأها سلاطين المماليك
وأمراؤهم، ووقفوا عليها أضعاف ما وقف على الأزهر.
وكانت الدراسة فيه مقصورة أول الأمر على علوم اللغة والدين، ثم أدخلت فيه بعض علوم الرياضة والنجوم والطبيعة، ولكنها لم تعش طويلا، وعادت الدراسة فيه سيرتها الأولى. وظل كذلك تتوالى عليه أحوال عسر ويسر، إلى أن نهض المصلحون لأخذ طلابه بقسط من علوم الحياة:
كالتاريخ، وتقويم البلدان، والعلوم الرياضية، فلقوا شيئا من المعارضة.
على أن الأزهريين لم يلبثوا أن اطمأنوا إلى هذه العلوم، وأقبلوا جاهدين على دراستها طالبين المزيد منها، والإصلاح في جميع أنواع التعليم بمعهدهم الجليل فعولج الإصلاح بعدة مشروعات، وتم لهم ما أرادوا وسن للأزهر قانون جعل التعليم فيه على ثلاث مراحل: هي مراحل التعليم الابتدائي ثم الثانوي، ثم العالي، وأنشىء للمرحلة الأخيرة ثلاث كليات، بكل منها أقسام للتخصص. واقتضى النظام الجديد أن يختص كل مدرس بنوع من العلم لطائفة من الطلاب محدودة العدد من طبقة واحدة، فضاق نطاق الأزهر عن فرق الدراسة، فوزعت على كثير من الأمكنة. وألحق بالأزهر في نظامه وإدارته العليا كثير من المعاهد العلمية، كمعهد الأسكندرية، والجامع الأحمدي، والجامع الدسوقي، ومعهد دمياط، ومعهد أسيوط، ومعهد شبين الكوم، ومعهد الزقازيق.
وللأزهر الفضل الذي لا يجحد في حفظ علوم الدين واللغة في تلك الحقبة الطويلة، التي ابتليت فيها مصر بالفقر والجهل وسائر ألوان الفساد.
وكان ملاذ القاصدين من أبناء اللغة العربية، وغياث المتعطشين لورود مناهلها من سائر الممالك الإسلامية، ومصباحا ينبعث منه نور الهداية إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي، وله عظيم الأثر في النهضة الحديثة، إذ كان الملجأ الذي لجأ إليه محمد علي في نهضته، فاختار من بين طلابه بعوثه الى البلاد الأوروبية للتوسع في العلوم والفنون، فعادوا وكانوا أئمة المصلحين. واستعان بعلمائه في القيام بكثير من شئون مملكته، كتعليم
اللغة والدين بالمدارس التي أنشأها، والإشراف على طبع الكتب وتصحيحها، وتحرير الوقائع المصرية، والمشاركة في وضع مصطلحات العلوم المترجمة. ومن الأزهر استمدت مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم طلابها، وتخرج من المدرسة الأولى طائفة من رجال الشريعة، نهضوا بأعباء القضاء في المحاكم الشرعية، وأعمالها الكتابية، كما تخرج من الثانية كثير من مدرسي المدارس المصرية في العصر الحديث، وإلى الأزهر يرجع الفضل في توسيع نطاق التعليم. فقد أمد مدارس المعلمين الأولية بما تحتاج إليه من التلاميذ، وساعد المدارس الحكومية والأهلية برجاله، وعمل طلابه على إزالة الأمية، ونشر الثقافة العامة في قرى القطر المختلفة لإنبثائهم بها، وإقامتهم فيها، وبه أصبحت مصر مركز الثقافة العربية، والمثابة الأخيرة لعلوم الدين واللغة.(3/131)
وكان ملاذ القاصدين من أبناء اللغة العربية، وغياث المتعطشين لورود مناهلها من سائر الممالك الإسلامية، ومصباحا ينبعث منه نور الهداية إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي، وله عظيم الأثر في النهضة الحديثة، إذ كان الملجأ الذي لجأ إليه محمد علي في نهضته، فاختار من بين طلابه بعوثه الى البلاد الأوروبية للتوسع في العلوم والفنون، فعادوا وكانوا أئمة المصلحين. واستعان بعلمائه في القيام بكثير من شئون مملكته، كتعليم
اللغة والدين بالمدارس التي أنشأها، والإشراف على طبع الكتب وتصحيحها، وتحرير الوقائع المصرية، والمشاركة في وضع مصطلحات العلوم المترجمة. ومن الأزهر استمدت مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم طلابها، وتخرج من المدرسة الأولى طائفة من رجال الشريعة، نهضوا بأعباء القضاء في المحاكم الشرعية، وأعمالها الكتابية، كما تخرج من الثانية كثير من مدرسي المدارس المصرية في العصر الحديث، وإلى الأزهر يرجع الفضل في توسيع نطاق التعليم. فقد أمد مدارس المعلمين الأولية بما تحتاج إليه من التلاميذ، وساعد المدارس الحكومية والأهلية برجاله، وعمل طلابه على إزالة الأمية، ونشر الثقافة العامة في قرى القطر المختلفة لإنبثائهم بها، وإقامتهم فيها، وبه أصبحت مصر مركز الثقافة العربية، والمثابة الأخيرة لعلوم الدين واللغة.
علماء من 61907 الأزهر القديم والحديث
1
ليس في وسعي في هذا الكتاب إحصاء جميع العلماء الذين تخرجوا من الأزهر أو درسوا فيه أو تولوا مناصبه الدينية والعلمية الكبرى، فذلك شيء لا يمكن أن يحيط به باحث.
وقد ذكرت في فصول الكتاب أشهر الأعلام في الأزهر، خلال عصور التاريخ المختلفة، ونذكر الآن أسماء عديدة، بعضهم ممن سبق ذكرهم، ولكن هنا تحقيق دقيق لتاريخ ميلادهم ووفاتهم، ومن الأعلام الأزهريين:
1 - الشيخ محمد بن عمر الخفاجي المصري المتوفى عام 1019 هـ، وهو والد الشهاب الخفاجي، وكان من جلة العلماء وله آثار علمية كبيرة (1).
__________
(1) 411ج 7دائرة معارف البستاني، 116الريحانة للشهاب الخفاجي، 58ج 2بنو خفاجة.(3/132)
2 - الشهاب الخفاجي المصري (1) (1069975هـ 1658م) وكان من جلة العلماء والمؤلفين، وتولى رياسة القضاء في مصر، ورحل إلى الحرمين والشام والقسطنطينية، ومن مؤلفاته: الريحانة، وطراز المجالس، وشفاء الغليل وشرح درة الغواص، وحاشية على الشفاء، وحاشيته المشهورة على البيضاوي، وسواها، كما أن له كثيرا من الكتب المخطوطة (2).
والشهاب اسمه أحمد بن محمد شهاب الدين الخفاجي المصري، وقد ولد بسرياقوس وتلقى دروسه بالقاهرة ثم رحل مع أبيه إلى الحرمين، ثم الآستانة، وعين قاضيا على الروملي في سلانيك، وعينه السلطان مراد قاضيا للعسكر بمصر، ثم استقال وسافر إلى دمشق فحلب فالآستانة، وتوفي سنة 1069هـ. وكان أديب عصره، عالما باللغة وعلومها، كاتبا شاعرا مؤلفا. ومن شعره قوله:
إن وجدي بمصر وجد مقيم ... وحنيني كما ترون حنيني
لم يزل في خيالي النيل حتى ... زاد عن فكرتي ففاضت عيوني
وقوله:
فديتك يا من بالشجاعة يرتدي ... وليس لغير السمر في الحرب يغرس
فإن عشق الناس المها وعيونها ... من الدل في روض المحاسن تنعس
فدرعك قد ضمتك ضمة عاشق ... وصارت جميعا أعينا لك تحرس
وقوله مضمنا:
يا صاح إن وافيت روضة نرجس ... إياك فيها المشي فهو محرم
__________
(1) الريحانة (309272) و 343331ج 1خلاصة الأثر، 407420سلافة العصر، وسوى ذلك من المرجع، كما ترجمت له شتى الكتب المؤلفة في تاريخ الأدب العربي.
(2) راجع ترجمته بتفصيل في 7258ج 2بنو خفاجة.(3/133)
حاكت عيون معذبي بذبولها ... (ولأجل عين ألف عين تكرم)
وقال يتغزل ويتطرق إلى مدح محمد بن القاسم الحلبي:
حتام يغزوني صدوده ... والصبر قد كثرت جنوده (1)
لم أدر: فاتر جفنه ... والخصر، أسقم أم عهوده (2)
نشوان يعبث بي كما ... عبثت بآمالي وعوده (3)
لولا مياه الحسن جا ... لت فيه لاحترقت خدوده
كالصب لولا دمعه ... يهمي لأحرقه وقوده (4)
يخفي الهوى وعيونه ... بغرامه المضني شهوده
فسقي رياض الحسن من ... دمعي حيا يهمي مديده (5)
زمن يجيد اللهو قد ... نظمت على نسق عقوده (6)
إذ دوح أنسى يانع ... بكئوسنا انفتحت وروده (7)
والكأس نجم لاح في ... فلك المسرة لي سعوده
يصفو فيحلو ذكر من ... قد زين الدنيا وجوده
ذاك ابن قاسم الذي ... ما زال في تعب حسوده
3 - الشيخ محمد الأمير الكبير (12321154هـ 1741 1817م)، وقد تولى مشيخة السادة المالكية في الأزهر.
4 - الشيخ محمد بن عرفة الدسوقي صاحب حاشية البلاغة المشهورة
__________
(1) حتام أصلها (حتى ما) فخدمت ألف ما الاستفهامية لجرها بحتى. يغزوني: يسير إلى قتالي وانتهابي. والصدود: الإعراض.
(2) جفن فاتر: غير حاد النظر. والخصر: وسط الانسان. والعهود: المواعيد.
(3) النشوان: السكران. ويعبث بي: يلعب بي.
(4) الصب: المشتاق الذي يكابد حرارة الشوق. يهمى: يسيل. وقوده: اتقاده واشتعاله.
(5) الحيا: المطر. المديد: الممدود المتصل.
(6) نسق: نظام واحد.
(7) الدوح: الأشجار العظيمة. الورود: جمع ورد.(3/134)
على شرح التلخيص وتوفي سنة 1230هـ.
5 - الشيخ عبد الله الشرقاوي (21150شوال سنة 1227هـ 18121737م) وقد تولى مشيخة الأزهر الشريف.
6 - الشيخ مصطفى بن أحمد الصاوي من الأزهريين الذين اشتهر ذكرهم أيام غزو نابليون لمصر وكان من أدباء الأزهريين (1).
7 - الشيخ محمد الخالدي المعروف بابن الجوهري قرأ الدروس في الأزهر وطار صيته، وتوفي في 12155411هـ 1801م.
8 - الشيخ حسن العطار (21180ذي القعدة 1250هـ 1766 1835م).
9 - الشيخ حسن قويدر (12621204هـ 18461785م).
10 - الشيخ شهاب الدين الشاعر المصري (12741218هـ 18571803م) وقد درس في الأزهر.
11 - الشيخ إبراهيم البيجوري شيخ الإسلام (12771198هـ 18601784)، وقد ولد بمديرية المنوفية وطلب العلم في الأزهر.
واشتهر بالنبوغ بين طلابه، وألف كتبا عديدة، وتولى التدريس في الأزهر، وطار صيته، وذاعت شهرته، وله كتب مشهورة في الفقه الشافعي.
12 - الشيخ رفاعة الطهطاوي وقد درس في الأزهر، وسافر في بعثة أرسلها محمد علي إلى فرنسا، وعاد منها وتولى كبريات المناصب في الدولة (12901216هـ 18731801م).
13 - الشيخ محمد الأنبابي شيخ الأزهر (13131240هـ 18961824م).
__________
(1) 315313ج 3الجبرتي.(3/135)
14 - الشيخ عليش أحد مشايخ السادة المالكية (12191237هـ 18821802).
15 - الشيخ حسين بن أحمد المرصفي المتوفى سنة 1307هـ 1889م.
وهو العلامة اللغوي الأديب المحقق الشيخ حسين بن أحمد المرصفي. ولد بمصر ونشأ فيها. وبعد أن حفظ القرآن الكريم، وكان مكفوف البصر، جيء به إلى الأزهر، فأخذ العلم عن كبار شيوخه، حتى أدرك منه قدرا جليلا، وتصدر للتدريس فيه. وكان شديد الشغف بعلوم العربية وآدابها، فجد في دراستها، وأطال النظر في وجوه بلاغاتها. ولم يطمئن إلى ذلك الأدب الذي كان شائعا في عصره. بل كان من أوائل من تفطنوا في هذه البلاد إلى قدر الأدب القديم. فأقبل على كتب اعلام البلاغة السابقين، ودواوين فحول الشعراء المتقدمين. وجعل يقرأ ويحفظ ويتدبر، ما اتسع له الوقت للقراءة والحفظ والتدبير. كما جعل يروض قلمه على البيان الصحيح المتين، حتى أصبح الأديب التام الأداة. ودرس الأدب في دار العلوم للسابقين من طلابها. وكان منهم حفني ناصف وأترابه. وأخذ عنه كبار المتأدبين في عصره من أمثال البارودي، وعبد الله فكري، وصاحبوه ولازموه، وعرضوا عليه بيانهم في منظومهم ومنثورهم، فهذب ونقح، وهدى إلى الأجمل الأصلح. وكتب في مجلة (روضة المدارس) فعلم الأدب علما، كما درب بالعمل والقدرة، على صحيح البيان. وقد ألف في البلاغة كتابا جليلا دعاه (الوسيلة الأدبية). فشاع الانتفاع به، ولا يزال هذا الكتاب مرجع المتأدبين إلى اليوم. وله كذلك رسالة دعاها (الكلم الثمان)، تحدث فيها عن معاني: الأمة، والوطن، والحكومة، والعدل، والنظام، والسياسة، والحرية، والتربية.
وعلى كل حال، فالشيخ حسين المرصفي، رحمه الله، يعد من
أقوى الدعائم التي قامت عليها النهضة الحديثة في اللغة والأدب.(3/136)
وعلى كل حال، فالشيخ حسين المرصفي، رحمه الله، يعد من
أقوى الدعائم التي قامت عليها النهضة الحديثة في اللغة والأدب.
16 - الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري الأديب الأزهري المؤلف النابه (13061236هـ 18881821م).
2
ويذكر أحمد أمين هذه الأغنية الشعبية المصرية، وهي بعد حذف ديباجتها: «حصاني في الخزانة، والخزانة «عاوزة» سلم، والسلم عند النجار، والنجار عاوز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عاوز بيضة، والبيضة في بطن الفرخة، والفرخة عاوزة قمحة، والقمحة عند القماح، والقماح عاوز فلوس، والفلوس عند الصريف، والصريف عاوز عصافير، والعصافير في الجنة، والجنة عاوزة حنا» الخ
ويقول عنها: إنها أغنية لطيفة حقا، لا يزال أطفالنا إلى الآن يتغنون بها بتوقيعهم الظريف، وصوتهم الشجي، وهم إذ ينشدونها لم يدروا أنهم يتغنون بفلسفة عالية، وفكرة سامية، قد يلاحظ عليها أن الربط في بعضها محكم كحاجة السلم إلى النجار والنجار إلى المسمار، وبعضها غير محكم كحاجة الحداد إلى البيضة، وحاجة الصريف إلى العصافير، ولكن أظن أن تحكيم المنطق الدقيق الحاد في الأدب كالشعر والأغاني وسار الفنون مجاوزة للحد، فالأغنية لطيفة رغم المنطق، ومن أسباب جمالها هذا النوع البديع الذي يصح أن أسميه «جمال الدوران» أو جمال التسلسل، مثل قولهم «لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل».
وقولهم: الحجر يكسر الزجاج، والحديد يكسر الحجر، والنار تذيب الحديد، والماء يطفيء النار، والريح تلعب بالماء. والإنسان يتقي الريح.
والخوف يغلب الإنسان. والخمر تزيل الخوف. والنوم يغلب الخمر.(3/137)
والموت يغلب النوم». ومثل قولهم: «العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلا. والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما» الخ وبعد فما تاريخ هذه الأغنية ومن واضعها؟ لا بد أن يكون فيلسوفا أو حكيما بعيد النظر. ومما يؤسف له أن هذه الأغاني والأزجال والمواويل لم يعن بها عناية الأدب الأرستقراطي. فبينا يعني العلماء والأدباء بنسبة بيت الشعر إلى قائله. والقصيدة إلى منشئها. ويحتدم بينهم القتال على ذلك. إذ بنا لا نجد هذه العناية ولا بعضها في الأغاني والأزجال الشعبية. وهذا نوع مما أصاب الأدب الشعبي من الظلم. وكم أصابه من أنواع! وها هي ذي الأغاني التي تخترع في عصرنا نجدها على الأفواه ونستعذبها، وتهش لها نفوسنا. ولا نكلف أنفسنا مؤنة البحث عن منشئها ولكن من حسن حظ هذه الأغنية أو من حسن حظنا نحن، أننا نجد ظلا لتاريخها فقد ذكرها الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة 1143هجرية. فيكون عمرها أكثر من قرنين وربع وظلت الأجيال تتعاقبها إلى يومنا. ويظهر من كلام الجبرتي أن واضعها عالم كبير جليل من أكابر علماء الأزهر في القرن الثاني عشر. هو الشيخ الحفناوي أو الحفني، كان سيد الأزهر في أيامه، له حلقات الدروس الحافلة بنوابغ الطلبة، يقرأ فيها أغوص الكتب وأصعبها، كجمع الجوامع والأشموني وحاشية السعد، وله التآليف الكثيرة في البلاغة والميراث والجبر والمقابلة. كما كان بيته ساحة كرم يغشاه أعيان مصر وعلماؤها وأدباؤها، ويلجأ إليه الفقراء وذوو الحاجات وكان راتب بيته من الخبز كل يوم نحو الأردب، وطاحون بيته دائر ليل نهار، ويجتمع على مائدته الأربعون والخمسون والستون، إلى هيبة ووقار، حتى يهاب العلماء سؤاله لجلاله.
وهو مع هذا كله ظريف أديب، سمع تلميذا له يوما يقول:
قالوا تحب المدمس؟ قلت بالزيت حار
والعيش الأبيض تحبه؟ قلت والكشكار
فضحك الشيخ وقال أنا لا أحبه بالزيت الحار. وإنما أحبه بالسمن ثم قال:(3/138)
قالوا تحب المدمس؟ قلت بالزيت حار
والعيش الأبيض تحبه؟ قلت والكشكار
فضحك الشيخ وقال أنا لا أحبه بالزيت الحار. وإنما أحبه بالسمن ثم قال:
قالوا تحب المدمس؟ قلت بالمسلى ... والبيض مشوي تحبه؟ قلت والمقلي
وله المواويل الظريفة كقوله:
بحياة يا ليل قوامك وصوم الحر ... تحجز لنا الفجر دا فوت الرفاقه حر
لما يجي الفجر يصبح ركبهم منجر ... أزداد لوعة ولا عمري بقيت أنسر
إلى غير ذلك، فيحدث تلميذه أن الشيخ الحفني قال له يوما «أحدتك حدوتة بالزيت ملتوتة، حلفت ما آكلها، حتى يجي التاجر، والتاجر فوق السطوح والسطوح عاوز سلم الخ» فحكاية التلميذ ولم يكن يسمعها من قبل وروايته لها عن شيخه، ترجع الظن أنها من عمل الشيخ الحنفي. وقد زاد الشيخ على ذلك فشرح الأغنية على طريقة الصوفية ففسر التاجر بالمرشد الكامل والمربي الواصل، والتاجر فوق السطوح في مستوى عال. والسطوح لا يمكن صعوده إلا بمعراج الخ. وقد كان للشيخ جانب آخر صوفي عظيم. فالأشموني وجمع الجوامع، والحواشي والتقارير كلها لم تمنع الشيخ العالم الأزهري الجليل من أن يكون أديبا وزجالا، يضع الأغاني والمواويل يتغنى بها الشعب. وهذا يذكرني بما سمعت عن الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة المفتي الأسبق من أنه واضع الدور المشهور: الله يصون دولة حسنك».
أموال المسلمين الموقوفة على 61908 الأزهر
رصد المسلمون على الأزهر أوقافا كثيرة طول العصر الإسلامية.
ولما جاء محمد علي اغتصب الكثير من هذه الأوقاف وأهداها لأسرته وقد كان شيخ الأزهر يشرف على هذه الأوقاف ونظارتها، وفي العهود الأخيرة
تولت وزارة الأوقاف المصرية النظارة على هذه الأوقاف، وقد أنشئت وزارة الأوقاف (وكانت تسمى ديوان الأوقاف) قبل إنشاء الأزهر بأكثر من مائتين وأربعين عاما، ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام 118هـ، ويروي أن إنشاءه كان في عهد هشام بن عبد الملك فقد تولى قضاء مصر توبة بن نمر في زمن هشام بن عبد الملك، وكانت أوقاف المسلمين في أيدي أهلها وفي أيدي أوصيائهم، فقال توبة: ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين، فأرى أن أضع يدي عليها حفظا لها من الإلتواء والتوارث، وصنع ذلك عام 118هـ، فكان ذلك أول إنشاء ديوان الأوقاف في مصر ولم يمت توبة حتى صارت الأحباس ديوانا عظيما.(3/139)
ولما جاء محمد علي اغتصب الكثير من هذه الأوقاف وأهداها لأسرته وقد كان شيخ الأزهر يشرف على هذه الأوقاف ونظارتها، وفي العهود الأخيرة
تولت وزارة الأوقاف المصرية النظارة على هذه الأوقاف، وقد أنشئت وزارة الأوقاف (وكانت تسمى ديوان الأوقاف) قبل إنشاء الأزهر بأكثر من مائتين وأربعين عاما، ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام 118هـ، ويروي أن إنشاءه كان في عهد هشام بن عبد الملك فقد تولى قضاء مصر توبة بن نمر في زمن هشام بن عبد الملك، وكانت أوقاف المسلمين في أيدي أهلها وفي أيدي أوصيائهم، فقال توبة: ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين، فأرى أن أضع يدي عليها حفظا لها من الإلتواء والتوارث، وصنع ذلك عام 118هـ، فكان ذلك أول إنشاء ديوان الأوقاف في مصر ولم يمت توبة حتى صارت الأحباس ديوانا عظيما.
وفي العهد الأخير وبعد حل الأوقاف الأهلية صودرت جميع أوقاف الأزهر وحول مصرفها إلى جهات خيرية، وأبعد عنها العلماء المدرسون بالأزهر، على خلاف نصوص الواقفين وشروطهم.
بعض آراء في الإصلاح
الأزهر جامعة دينية كبرى، يؤمه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وهو أمانة في يدي مصر ائتمنه عليه الشرق الإسلامي كله، ومصر مسئولة أمام الله والتاريخ عن هذه الجامعة العتيدة الخالدة، وعن النهوض بها وتمكينها من أداء رسالتها.
وأول خطوة للإصلاح في رأيي هي جعل جماعة كبار العلماء ممثلة تمام التمثيل لكبار رجال الدين، وفي مقدمتهم شيوخ الكليات والمعاهد الثانوية، وأساتذة الكليات حرف ا، ورئيس المحكمة العليا الشرعية ومفتي الديار المصرية وشيخ الطرق الصوفية وشيخ الأزهر ووكيله، وشيوخ الأزهر السابقين، وشيوخ المذاهب الأربعة وتكون مهمة الجماعة ما يلي:
(1) الافتاء في المسائل الدينية والشرعية، بتكوين لجنة من بين
الجماعة لهذا الغرض، يساعدها بعض الأساتذة المتخرجين من تخصص المادة والمدرسين في كلية الشريعة الإسلامية وتحل هذه اللجنة محل لجنة الفتوى الحالية في الأزهر.(3/140)
(1) الافتاء في المسائل الدينية والشرعية، بتكوين لجنة من بين
الجماعة لهذا الغرض، يساعدها بعض الأساتذة المتخرجين من تخصص المادة والمدرسين في كلية الشريعة الإسلامية وتحل هذه اللجنة محل لجنة الفتوى الحالية في الأزهر.
(ب) بحث نظام الإسلام الاجتماعي والاقتصادي بحثا كافيا ووضع أصول التشريعات اللازمة للحياة الحاضرة في مصر والعالم الإسلامي
ونشر البحوث المتصلة بذلك على أن تقوم بذلك لجنة تختار لهذه المهمة من بين أعضاء الجماعة، ويختار لها أساتذة مساعدون من أساتذة الكليات (حرف ب وج).
(ج) بحث نظم التعليم في الأزهر، ووجوه الإصلاح فيه ويقوم بذلك لجنة تختار من أعضاء الجماعة، ولها أن تختار مساعدين لها من بين أعضاء هيئات التدريس في الأزهر، أو من كبار الموظفين الإداريين في الأزهر.
(د) الإشراف على الجماعات الدينية الإسلامية في مصر، إشراف توجيه وإصلاح، ويقوم بهذا الإشراف جماعة تختار من بين أعضاء الجماعة، يكون من بينها: شيخ الأزهر، والمفتي، ورئيس المحكمة العليا الشرعية.
ويقوم التعليم في الأزهر الآن على تخريج عالم لا على تخريج رجل دين. وأرى أن يعالج هذا النقص علاجا سريعا بما يلي:
1 - تعميم دراسة أحاديث وآيات قرآنية مختارة في جميع مراحل الدراسة في الابتدائي والثانوي ودراسة مادة «قصص الأنبياء» ومادة «التصوف»، ومادة «الأخلاق الإسلامية» في جميع سني الدراسة الابتدائية والثانوية.
ودراسة أصول الإسلام وأهدافه ومناهجه في الإصلاح الديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي في كليات الأزهر.(3/141)
2 - جعل حفظ القرآن ضروريا للنجاح في شهادات الأزهر، واحتساب عامين من مدة التعليم الابتدائي في الأزهر لحفظ القرآن الكريم.
3 - تنظيم طلاب البعوث الإسلامية، وإعدادها إعدادا يليق بمهمتها الجليلة.
4 - تنظيم محاضرات أسبوعية في كل معهد أو كلية أزهرية يلقيها الأساتذة.
5 - حسن أختيار الكتب الدراسية في الأزهر.
6 - جعل اختيار شيوخ الكليات الأزهرية عن طريق انتخاب هيئات التدريس في هذه الكليات.
7 - العناية بدراسة الآثار الإسلامية والتاريخ الإسلامي دراسة كاملة صحيحة.
8 - الإكثار من بعثات الأزهر التعليمية إلى أوروبا، ويختار أعضاؤها للسفر في بعثات منظمة إلى معاهد التعليم في أوروبا وفق الحاجة.
9 - فتح أقسام الدراسات العليا في كليات الأزهر التي أغلقت أبوابها منذ عام 1940إلى غير ذلك من شتى الإصلاحات التعليمية، ومن بين الإصلاحات الواجبة:
1 - إصلاح مجلة الأزهر.
2 - مساواة أساتذة الكليات بأساتذة الجامعات المصرية، ومساواة أساتذة المعاهد بنظرائهم في وزارة المعارف.
3 - إنشاء اتحاد عام لطلاب الأزهر على غرار اتحاد طلبة الجامعة المصرية.
4 - التفكير جديا في الاحتفال بالذكرى الألفية للأزهر.
5 - قيام الأزهر بنشر أصول كتب الشريعة والحديث واللغة ورسائل المتخصصين من أبنائه ونشرها في العالم الإسلامي.(3/142)
61909 - الأزهر والذكريات القومية
يشارك الأزهر الأمة الفرح بالأعياد القومية، ومن أول هذه الأعياد عيد الجلاء، بمناسبة توقيع الاتفاقية المصرية الانجليزية عام 1954الخاصة بجلاء الجيوش الانجليزية عن مصر.
وقد وقعت اتفاقية الجلاء بين مصر وانجلترا الساعة 10مساء يوم الثلاثاء 19أكتوبر 211954صفر 1374هـ في البهو الفرعوني بدأ مجلس النواب في القاهرة، وقد وقعها بالنيابة عن حكومة مصر الرئيس جمال عبد الناصر، واحتفلت البلاد احتفالات قومية بتوقيعها، ومن الطريف أن يوم 19أكتوبر 1801وقعت فيه اتفاقية جلاء الجيوش الفرنسية عن مصر.
وقد دعا شيخ الأزهر إلى حفلة ابتهاج باتفاقية الجلاء، وذلك بقاعة المحاضرات بمبنى الكليات الأزهرية في الساعة السادسة يوم الاثنين 27من صفر 1374هـ 25أكتوبر 1954، وقد تحدث فيها شيخ الأزهر، الشيخ عبد الرحمن تاج والشيخ عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش بالأزهر، وألقى الأستاذ حسن جاد قصيدة بليغة من عيون الشعر.
قال شيخ الأزهر من كلمته:
الآن وقد مكنتم بحمد الله لمصر أمرها، وثبتم لها عزتها، وأزحتم الأجنبي عن ديارها، وأعدتم إليها كامل استقلالها.
الآن وقد حللتم مشكلة مصر الخارجية فعليكم أن تعملوا على حل مشاكلها الداخلية، وأن تسيروا في خطة الإصلاح والإنشاء الذي بدأتم فيها، وقطعتم منها شوطا كبيرا بنفس العزم والقوة كي تنهض مصر إلى المستوى الجدير بها والجديرة به، أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ولينصرن الله من ينصره، والله قوي عزيز.(3/143)
وألقى الاستاذ الشيخ عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش بالأزهر وعضو هيئة كبار العلماء كلمة حيا فيها قادة الثورة، وقارن بين حياة مصر وشعبها المجيد الذي حكمه أبناؤه بعد أجيال من الاضطهاد والعذاب، وبين ما كان عليه في العصور التي ابتلينا فيها بالغرباء الطغاة ثم قال:
وتهيأ لمصر، الوطن الإسلامي الكبير، نخبة من أبناء جيشها، وتملكتهم العزة القومية، وجاشت في صدورهم الوطنية، وقوى فيهم الإحساس بما تقاسيه مصر، فأصبح كل منهم يسمع في أعماق نفسه هاتفا ينادي: أن أنقذ مصر من عثرتها، فاتحدت عزائمهم، واستمدوا من هدى الرسالة المحمدية ما أوضح لهم السبيل، ودفهم إلى الغاية النبيلة فصرخوها صرخة مدوية: لبيك لبيك يا مصر، وكان لهم من جانب الله تأييد وتوفيق فبارك الله لمصر يومها العظيم 23يوليو، وأبقاهم لشعب مصر حراسا أمناء، ومصلحين أكفاء.
وهذه هي قصيدة الشاعر حسن جاد:
سنا فجره المأمول لاحت بواكره ... وهزت ربوع المشرقين بشائره
أطل على ليل الحيارى وأشرقت ... على ظلمات اليأس غرا منائره
وخف إليه الدهر يرهف سمعه ... ويزحم ركب النور فيمن يسايره
وطالعت النيل السعيد بصبحه ... متى طالما جاشت بهن خواطره
تزف بها بشرى الجلاء وعيده ... فترقص في شطيه نشوى أزاهره
وتعتنق الأرواح فوق ضفافه ... عرائس واد جن بالحسن سامره
على لهوات الطير من صبواتها ... طرائف شدو أبدعتها حناجره
هو النيل والبشرى استخفت وقاره ... ترنح عطفاه وجاشت هوادره
وما فاض في شطأنه غير فرحة ... تضيق بها يوم الجلاء سرائره
وما هو ماء ما يفيض وإنما ... عواطفه جياشة ومشاعره
ثوى في قيود الذل سبعين حجة ... يكاتم غيظا أو تثور ثوائره
وصابر الاستعباد مستأسد المنى ... يؤمل يوما أن تقال عواثره
تداركه فجر الخلاص بيمنه ... فصحت أمانيه وقرت نواظره
فمن رام الاستقلال فليشهد الحمى ... تغنت به أريافه وحواضره
ومن ضاق بالأغلال فالقيد حطمت ... سلاسله والغل لانت مكاسره
ومن ضل في ليل المظالم سعيه ... فقد هتكت أستاره وستائره
ومن سره أن يشهد البعث ماثلا ... فهذي معانيه وتلك مظاهره
ومن شاقه يوم الجلاء وعيده ... فهذي مجاليه وتلك مناظره
كفى يومه أن الزمان بأسره ... أوائله يحسدنه وأواخره
رعى الله للوادي جمالا وصحبه ... أسوأ جرح وادي النيل فالتأم ناغره
لقد صيروا حلم الجلاء حقيقة ... وكان سرابا يخدع العين ظاهره
وكان لتجار السياسة مغنما ... على سوقه السوداء قامت متاجره
وكم من ندى كان قصة لهوه ... يرددها مخموره ومقامره
فساد وظلم وانحلال ونكسة ... أصيب بها الوادي فضلت مصائره
وما كحمى الأخلاق حصن لأمة ... إذا نكبت فيه فماذا تحاذره؟
وقد ينهض الشعب الجريح بروحه ... وليس يقوم الشعب ماتت ضمائره
تدارك رحمن السماء مصيره ... وطاحت بعرش الظالمين مقادره
مضوا يتساقون الندامة علقما ... وباءوا بشؤم طار بالنجس طائره
وأضحى كناس النيل غابا ممنعا ... تهاب بوازيه وتخشى قساوره
صناديد راع الظلم بأس زئيرهم ... فزلزل مغناه ودكت مقاصره
هي الثورة البيضاء ما شابها دم ... ولا فارقت غمد الكمي بواتره
فقد بعثوا من رقدة الموت واديا ... أعدت له أكفانه ومقابره
فحل هراء المرجفين فما ثنى ... أخا العزم يوما جاحد الفضل ناكره
وقل للذي تعيشه أضواء نهضة ... مضى ليلك الداجي وولت دياجره
يحث الخطا للمجد موكب نورها ... ويدفعه قلب الحمى ويؤازره
سيبنى فلا يثنيه هدم معوق ... ويمضي فلا يلوى على من يكابره
ومن يجعل الإخلاص رائد عزمه ... إلى رفعة الأوطان فالله ناصره
بنى الشرق هذا الغرب ضل ضلاله ... وأعمته أطماع تظل تساوره
ودان بشرع الغاب بغيا وشرة ... فضلت عن الحق القويم بصائره
يعد أساليب الفناء بعلمه ... هل العلم أن يفنى من الكون عامره؟
لقد عزه في الشرق قوة روحه ... فراح بأنواع السلاح يفاخره
إذا العرب الأمجاد فيه توحدت ... صفوفهمو عادت أمانا مخاطره
وهذا زمان ليس فيه لأعزل ... مكان ولا يصغي لشكواه قاهره
فما ينفع المظلوم منطق حقه ... ومنطق سفاك الحقوق بواتره
إذا الذئب لم يسمع لغير ضراعة ... من الحمل الواني فما هو عاذره
هو الحق لا يعطي لذلة طالب ... ولكن إذا ضجت غضابا كواسره
به مشعل النور استفاض على الحمى ... سناه وجاب المشرقين مسافره
وفي ساحة شب الجهاد تحوطه ... شريعة حق ما تزال تؤازره
تماثل للبعث الجديد وقد صحت ... أمانيه واهتزت رجاء منابره
ألح عليه السقم من طول يأسه ... وشقت من الحرمان مطلا مرائره
وأوهن عهد الظلم بأس شيوخه ... وكان أعز المالكين يحاذره
وصار يلقي الأمر من كل تابع ... وكانت على الحكام تلقى أوامره
أتنساه مصر وهي تفخر باسمه ... ويذكره بالقول لا الفعل ذاكره
وتمنع دون الجامعات حقوقه ... وتعطي كما شاءت مناها نظائره
إذا ما شكا قالوا عهدناه قانعا ... تقشفه في العيش تروى مآثره
وإن ضاق بالحرمان قيل له اتئد ... وعلله بالزهد من لا يصابره
أليس لنا حق الحياة كغيرنا ... وأين سبيل العدل إن جار جائره؟
مضى عهد تفريق الطوائف وانقضى ... وراح زمان الظلم، لا عاد غابره
وأدركه عهد المساواة منصفا ... فهل يرتجى في ظله اليوم كادره؟
متى ينصفوه ينصفوا خير معهد ... موارده محمودة ومصادره
وإن تنهضوه تنهضوا بحماكمو ... ويزهى على الماضي، ويعتز حاضره
وقال جمال عبد الناصر بعد انتهاء كلمات المتحدثين: إخواني رجال الأزهر:(3/144)
سنا فجره المأمول لاحت بواكره ... وهزت ربوع المشرقين بشائره
أطل على ليل الحيارى وأشرقت ... على ظلمات اليأس غرا منائره
وخف إليه الدهر يرهف سمعه ... ويزحم ركب النور فيمن يسايره
وطالعت النيل السعيد بصبحه ... متى طالما جاشت بهن خواطره
تزف بها بشرى الجلاء وعيده ... فترقص في شطيه نشوى أزاهره
وتعتنق الأرواح فوق ضفافه ... عرائس واد جن بالحسن سامره
على لهوات الطير من صبواتها ... طرائف شدو أبدعتها حناجره
هو النيل والبشرى استخفت وقاره ... ترنح عطفاه وجاشت هوادره
وما فاض في شطأنه غير فرحة ... تضيق بها يوم الجلاء سرائره
وما هو ماء ما يفيض وإنما ... عواطفه جياشة ومشاعره
ثوى في قيود الذل سبعين حجة ... يكاتم غيظا أو تثور ثوائره
وصابر الاستعباد مستأسد المنى ... يؤمل يوما أن تقال عواثره
تداركه فجر الخلاص بيمنه ... فصحت أمانيه وقرت نواظره
فمن رام الاستقلال فليشهد الحمى ... تغنت به أريافه وحواضره
ومن ضاق بالأغلال فالقيد حطمت ... سلاسله والغل لانت مكاسره
ومن ضل في ليل المظالم سعيه ... فقد هتكت أستاره وستائره
ومن سره أن يشهد البعث ماثلا ... فهذي معانيه وتلك مظاهره
ومن شاقه يوم الجلاء وعيده ... فهذي مجاليه وتلك مناظره
كفى يومه أن الزمان بأسره ... أوائله يحسدنه وأواخره
رعى الله للوادي جمالا وصحبه ... أسوأ جرح وادي النيل فالتأم ناغره
لقد صيروا حلم الجلاء حقيقة ... وكان سرابا يخدع العين ظاهره
وكان لتجار السياسة مغنما ... على سوقه السوداء قامت متاجره
وكم من ندى كان قصة لهوه ... يرددها مخموره ومقامره
فساد وظلم وانحلال ونكسة ... أصيب بها الوادي فضلت مصائره
وما كحمى الأخلاق حصن لأمة ... إذا نكبت فيه فماذا تحاذره؟
وقد ينهض الشعب الجريح بروحه ... وليس يقوم الشعب ماتت ضمائره
تدارك رحمن السماء مصيره ... وطاحت بعرش الظالمين مقادره
مضوا يتساقون الندامة علقما ... وباءوا بشؤم طار بالنجس طائره
وأضحى كناس النيل غابا ممنعا ... تهاب بوازيه وتخشى قساوره
صناديد راع الظلم بأس زئيرهم ... فزلزل مغناه ودكت مقاصره
هي الثورة البيضاء ما شابها دم ... ولا فارقت غمد الكمي بواتره
فقد بعثوا من رقدة الموت واديا ... أعدت له أكفانه ومقابره
فحل هراء المرجفين فما ثنى ... أخا العزم يوما جاحد الفضل ناكره
وقل للذي تعيشه أضواء نهضة ... مضى ليلك الداجي وولت دياجره
يحث الخطا للمجد موكب نورها ... ويدفعه قلب الحمى ويؤازره
سيبنى فلا يثنيه هدم معوق ... ويمضي فلا يلوى على من يكابره
ومن يجعل الإخلاص رائد عزمه ... إلى رفعة الأوطان فالله ناصره
بنى الشرق هذا الغرب ضل ضلاله ... وأعمته أطماع تظل تساوره
ودان بشرع الغاب بغيا وشرة ... فضلت عن الحق القويم بصائره
يعد أساليب الفناء بعلمه ... هل العلم أن يفنى من الكون عامره؟
لقد عزه في الشرق قوة روحه ... فراح بأنواع السلاح يفاخره
إذا العرب الأمجاد فيه توحدت ... صفوفهمو عادت أمانا مخاطره
وهذا زمان ليس فيه لأعزل ... مكان ولا يصغي لشكواه قاهره
فما ينفع المظلوم منطق حقه ... ومنطق سفاك الحقوق بواتره
إذا الذئب لم يسمع لغير ضراعة ... من الحمل الواني فما هو عاذره
هو الحق لا يعطي لذلة طالب ... ولكن إذا ضجت غضابا كواسره
به مشعل النور استفاض على الحمى ... سناه وجاب المشرقين مسافره
وفي ساحة شب الجهاد تحوطه ... شريعة حق ما تزال تؤازره
تماثل للبعث الجديد وقد صحت ... أمانيه واهتزت رجاء منابره
ألح عليه السقم من طول يأسه ... وشقت من الحرمان مطلا مرائره
وأوهن عهد الظلم بأس شيوخه ... وكان أعز المالكين يحاذره
وصار يلقي الأمر من كل تابع ... وكانت على الحكام تلقى أوامره
أتنساه مصر وهي تفخر باسمه ... ويذكره بالقول لا الفعل ذاكره
وتمنع دون الجامعات حقوقه ... وتعطي كما شاءت مناها نظائره
إذا ما شكا قالوا عهدناه قانعا ... تقشفه في العيش تروى مآثره
وإن ضاق بالحرمان قيل له اتئد ... وعلله بالزهد من لا يصابره
أليس لنا حق الحياة كغيرنا ... وأين سبيل العدل إن جار جائره؟
مضى عهد تفريق الطوائف وانقضى ... وراح زمان الظلم، لا عاد غابره
وأدركه عهد المساواة منصفا ... فهل يرتجى في ظله اليوم كادره؟
متى ينصفوه ينصفوا خير معهد ... موارده محمودة ومصادره
وإن تنهضوه تنهضوا بحماكمو ... ويزهى على الماضي، ويعتز حاضره
وقال جمال عبد الناصر بعد انتهاء كلمات المتحدثين: إخواني رجال الأزهر:(3/145)
سنا فجره المأمول لاحت بواكره ... وهزت ربوع المشرقين بشائره
أطل على ليل الحيارى وأشرقت ... على ظلمات اليأس غرا منائره
وخف إليه الدهر يرهف سمعه ... ويزحم ركب النور فيمن يسايره
وطالعت النيل السعيد بصبحه ... متى طالما جاشت بهن خواطره
تزف بها بشرى الجلاء وعيده ... فترقص في شطيه نشوى أزاهره
وتعتنق الأرواح فوق ضفافه ... عرائس واد جن بالحسن سامره
على لهوات الطير من صبواتها ... طرائف شدو أبدعتها حناجره
هو النيل والبشرى استخفت وقاره ... ترنح عطفاه وجاشت هوادره
وما فاض في شطأنه غير فرحة ... تضيق بها يوم الجلاء سرائره
وما هو ماء ما يفيض وإنما ... عواطفه جياشة ومشاعره
ثوى في قيود الذل سبعين حجة ... يكاتم غيظا أو تثور ثوائره
وصابر الاستعباد مستأسد المنى ... يؤمل يوما أن تقال عواثره
تداركه فجر الخلاص بيمنه ... فصحت أمانيه وقرت نواظره
فمن رام الاستقلال فليشهد الحمى ... تغنت به أريافه وحواضره
ومن ضاق بالأغلال فالقيد حطمت ... سلاسله والغل لانت مكاسره
ومن ضل في ليل المظالم سعيه ... فقد هتكت أستاره وستائره
ومن سره أن يشهد البعث ماثلا ... فهذي معانيه وتلك مظاهره
ومن شاقه يوم الجلاء وعيده ... فهذي مجاليه وتلك مناظره
كفى يومه أن الزمان بأسره ... أوائله يحسدنه وأواخره
رعى الله للوادي جمالا وصحبه ... أسوأ جرح وادي النيل فالتأم ناغره
لقد صيروا حلم الجلاء حقيقة ... وكان سرابا يخدع العين ظاهره
وكان لتجار السياسة مغنما ... على سوقه السوداء قامت متاجره
وكم من ندى كان قصة لهوه ... يرددها مخموره ومقامره
فساد وظلم وانحلال ونكسة ... أصيب بها الوادي فضلت مصائره
وما كحمى الأخلاق حصن لأمة ... إذا نكبت فيه فماذا تحاذره؟
وقد ينهض الشعب الجريح بروحه ... وليس يقوم الشعب ماتت ضمائره
تدارك رحمن السماء مصيره ... وطاحت بعرش الظالمين مقادره
مضوا يتساقون الندامة علقما ... وباءوا بشؤم طار بالنجس طائره
وأضحى كناس النيل غابا ممنعا ... تهاب بوازيه وتخشى قساوره
صناديد راع الظلم بأس زئيرهم ... فزلزل مغناه ودكت مقاصره
هي الثورة البيضاء ما شابها دم ... ولا فارقت غمد الكمي بواتره
فقد بعثوا من رقدة الموت واديا ... أعدت له أكفانه ومقابره
فحل هراء المرجفين فما ثنى ... أخا العزم يوما جاحد الفضل ناكره
وقل للذي تعيشه أضواء نهضة ... مضى ليلك الداجي وولت دياجره
يحث الخطا للمجد موكب نورها ... ويدفعه قلب الحمى ويؤازره
سيبنى فلا يثنيه هدم معوق ... ويمضي فلا يلوى على من يكابره
ومن يجعل الإخلاص رائد عزمه ... إلى رفعة الأوطان فالله ناصره
بنى الشرق هذا الغرب ضل ضلاله ... وأعمته أطماع تظل تساوره
ودان بشرع الغاب بغيا وشرة ... فضلت عن الحق القويم بصائره
يعد أساليب الفناء بعلمه ... هل العلم أن يفنى من الكون عامره؟
لقد عزه في الشرق قوة روحه ... فراح بأنواع السلاح يفاخره
إذا العرب الأمجاد فيه توحدت ... صفوفهمو عادت أمانا مخاطره
وهذا زمان ليس فيه لأعزل ... مكان ولا يصغي لشكواه قاهره
فما ينفع المظلوم منطق حقه ... ومنطق سفاك الحقوق بواتره
إذا الذئب لم يسمع لغير ضراعة ... من الحمل الواني فما هو عاذره
هو الحق لا يعطي لذلة طالب ... ولكن إذا ضجت غضابا كواسره
به مشعل النور استفاض على الحمى ... سناه وجاب المشرقين مسافره
وفي ساحة شب الجهاد تحوطه ... شريعة حق ما تزال تؤازره
تماثل للبعث الجديد وقد صحت ... أمانيه واهتزت رجاء منابره
ألح عليه السقم من طول يأسه ... وشقت من الحرمان مطلا مرائره
وأوهن عهد الظلم بأس شيوخه ... وكان أعز المالكين يحاذره
وصار يلقي الأمر من كل تابع ... وكانت على الحكام تلقى أوامره
أتنساه مصر وهي تفخر باسمه ... ويذكره بالقول لا الفعل ذاكره
وتمنع دون الجامعات حقوقه ... وتعطي كما شاءت مناها نظائره
إذا ما شكا قالوا عهدناه قانعا ... تقشفه في العيش تروى مآثره
وإن ضاق بالحرمان قيل له اتئد ... وعلله بالزهد من لا يصابره
أليس لنا حق الحياة كغيرنا ... وأين سبيل العدل إن جار جائره؟
مضى عهد تفريق الطوائف وانقضى ... وراح زمان الظلم، لا عاد غابره
وأدركه عهد المساواة منصفا ... فهل يرتجى في ظله اليوم كادره؟
متى ينصفوه ينصفوا خير معهد ... موارده محمودة ومصادره
وإن تنهضوه تنهضوا بحماكمو ... ويزهى على الماضي، ويعتز حاضره
وقال جمال عبد الناصر بعد انتهاء كلمات المتحدثين: إخواني رجال الأزهر:(3/146)
سنا فجره المأمول لاحت بواكره ... وهزت ربوع المشرقين بشائره
أطل على ليل الحيارى وأشرقت ... على ظلمات اليأس غرا منائره
وخف إليه الدهر يرهف سمعه ... ويزحم ركب النور فيمن يسايره
وطالعت النيل السعيد بصبحه ... متى طالما جاشت بهن خواطره
تزف بها بشرى الجلاء وعيده ... فترقص في شطيه نشوى أزاهره
وتعتنق الأرواح فوق ضفافه ... عرائس واد جن بالحسن سامره
على لهوات الطير من صبواتها ... طرائف شدو أبدعتها حناجره
هو النيل والبشرى استخفت وقاره ... ترنح عطفاه وجاشت هوادره
وما فاض في شطأنه غير فرحة ... تضيق بها يوم الجلاء سرائره
وما هو ماء ما يفيض وإنما ... عواطفه جياشة ومشاعره
ثوى في قيود الذل سبعين حجة ... يكاتم غيظا أو تثور ثوائره
وصابر الاستعباد مستأسد المنى ... يؤمل يوما أن تقال عواثره
تداركه فجر الخلاص بيمنه ... فصحت أمانيه وقرت نواظره
فمن رام الاستقلال فليشهد الحمى ... تغنت به أريافه وحواضره
ومن ضاق بالأغلال فالقيد حطمت ... سلاسله والغل لانت مكاسره
ومن ضل في ليل المظالم سعيه ... فقد هتكت أستاره وستائره
ومن سره أن يشهد البعث ماثلا ... فهذي معانيه وتلك مظاهره
ومن شاقه يوم الجلاء وعيده ... فهذي مجاليه وتلك مناظره
كفى يومه أن الزمان بأسره ... أوائله يحسدنه وأواخره
رعى الله للوادي جمالا وصحبه ... أسوأ جرح وادي النيل فالتأم ناغره
لقد صيروا حلم الجلاء حقيقة ... وكان سرابا يخدع العين ظاهره
وكان لتجار السياسة مغنما ... على سوقه السوداء قامت متاجره
وكم من ندى كان قصة لهوه ... يرددها مخموره ومقامره
فساد وظلم وانحلال ونكسة ... أصيب بها الوادي فضلت مصائره
وما كحمى الأخلاق حصن لأمة ... إذا نكبت فيه فماذا تحاذره؟
وقد ينهض الشعب الجريح بروحه ... وليس يقوم الشعب ماتت ضمائره
تدارك رحمن السماء مصيره ... وطاحت بعرش الظالمين مقادره
مضوا يتساقون الندامة علقما ... وباءوا بشؤم طار بالنجس طائره
وأضحى كناس النيل غابا ممنعا ... تهاب بوازيه وتخشى قساوره
صناديد راع الظلم بأس زئيرهم ... فزلزل مغناه ودكت مقاصره
هي الثورة البيضاء ما شابها دم ... ولا فارقت غمد الكمي بواتره
فقد بعثوا من رقدة الموت واديا ... أعدت له أكفانه ومقابره
فحل هراء المرجفين فما ثنى ... أخا العزم يوما جاحد الفضل ناكره
وقل للذي تعيشه أضواء نهضة ... مضى ليلك الداجي وولت دياجره
يحث الخطا للمجد موكب نورها ... ويدفعه قلب الحمى ويؤازره
سيبنى فلا يثنيه هدم معوق ... ويمضي فلا يلوى على من يكابره
ومن يجعل الإخلاص رائد عزمه ... إلى رفعة الأوطان فالله ناصره
بنى الشرق هذا الغرب ضل ضلاله ... وأعمته أطماع تظل تساوره
ودان بشرع الغاب بغيا وشرة ... فضلت عن الحق القويم بصائره
يعد أساليب الفناء بعلمه ... هل العلم أن يفنى من الكون عامره؟
لقد عزه في الشرق قوة روحه ... فراح بأنواع السلاح يفاخره
إذا العرب الأمجاد فيه توحدت ... صفوفهمو عادت أمانا مخاطره
وهذا زمان ليس فيه لأعزل ... مكان ولا يصغي لشكواه قاهره
فما ينفع المظلوم منطق حقه ... ومنطق سفاك الحقوق بواتره
إذا الذئب لم يسمع لغير ضراعة ... من الحمل الواني فما هو عاذره
هو الحق لا يعطي لذلة طالب ... ولكن إذا ضجت غضابا كواسره
به مشعل النور استفاض على الحمى ... سناه وجاب المشرقين مسافره
وفي ساحة شب الجهاد تحوطه ... شريعة حق ما تزال تؤازره
تماثل للبعث الجديد وقد صحت ... أمانيه واهتزت رجاء منابره
ألح عليه السقم من طول يأسه ... وشقت من الحرمان مطلا مرائره
وأوهن عهد الظلم بأس شيوخه ... وكان أعز المالكين يحاذره
وصار يلقي الأمر من كل تابع ... وكانت على الحكام تلقى أوامره
أتنساه مصر وهي تفخر باسمه ... ويذكره بالقول لا الفعل ذاكره
وتمنع دون الجامعات حقوقه ... وتعطي كما شاءت مناها نظائره
إذا ما شكا قالوا عهدناه قانعا ... تقشفه في العيش تروى مآثره
وإن ضاق بالحرمان قيل له اتئد ... وعلله بالزهد من لا يصابره
أليس لنا حق الحياة كغيرنا ... وأين سبيل العدل إن جار جائره؟
مضى عهد تفريق الطوائف وانقضى ... وراح زمان الظلم، لا عاد غابره
وأدركه عهد المساواة منصفا ... فهل يرتجى في ظله اليوم كادره؟
متى ينصفوه ينصفوا خير معهد ... موارده محمودة ومصادره
وإن تنهضوه تنهضوا بحماكمو ... ويزهى على الماضي، ويعتز حاضره
وقال جمال عبد الناصر بعد انتهاء كلمات المتحدثين: إخواني رجال الأزهر:
أحييكم وأعبر لكم عن سعادتي في هذه الفرصة التي جمعتنا للاحتفال بجلاء قوات الاحتلال عن أرض الوطن في رحبات الأزهر.
وفي هذه المناسبة العظيمة، لا يسعني إلا أن أذكر لهذا الأزهر جهاده على مر السنين، فقد حمل الأزهر دائما الرسالة ولم يتخل مطلقا عن الأمانة، وكافح كفاحا مريرا في سبيل الحصول على أهداف الوطن. وكفاح الأزهر أيام الحملة الفرنسية معروف، وكم قاسى رجاله، وعذبوا وقتلوا وشردوا، واقتحم المحتلون الأزهر فلم يتوان عن المطالبة بحقوق الوطن واستمر الأزهر يحمل الرسالة حتى سلمها إلى الجيش، وإلى عرابي الذي قام متسلحا بروح الأزهر المعنوية إلى جانب القوات المادية، يطالب بحقوق البلاد وعند ما وطئت أقدام المستعمر أرض مصر، حاول بكل قواته أن يقضي على رسالة الأزهر، كما حاولوا القضاء على الجيش وقوته ورسالته، ورغم هذا، استمر الأزهر على مر السنين يكافح ففي ثورة 1919حمل الأزهر العلم، وقام بأداء الرسالة والأمانة مرة أخرى.
وعمل المستعمر على تفريق الشعب شيعا وأحزابا وتحطم الجيش وفصله وفصل الأزهر عن الوطن.
واليوم وبعد أن قامت الثورة أقول لكم عليكم حمل الرسالة والأمانة مرة أخرى فإن أمامنا عملا شاقا طويلا، وهذا العمل يطالبكم بأن تجاهدوا من أجل الأهداف الكبرى التي كافح من أجلها السابقون. ورجال الأزهر على طول السنين.
61910 - الأزهر ومعارك التحرير الأولى
في أوائل القرن الثالث عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) افتتح رجال الأزهر أولى حركات التحرير في تاريخنا القومي، فاشترك كبار العلماء
في إعداد الثورات ورسم خطط المقاومة الشعبية مضحين في سبيل الدفاع عن الوطن بأموالهم وأنفسهم فمنهم من صودرت أملاكه، ومنهم من عذب، ومنهم من استشهد، وقد كان لهذه التضحيات أكبر أثر في بعث روح المقاومة في الشعب الذي نهض ليواجه قوات الاحتلال في شجاعة نادرة المثال.(3/147)
في أوائل القرن الثالث عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) افتتح رجال الأزهر أولى حركات التحرير في تاريخنا القومي، فاشترك كبار العلماء
في إعداد الثورات ورسم خطط المقاومة الشعبية مضحين في سبيل الدفاع عن الوطن بأموالهم وأنفسهم فمنهم من صودرت أملاكه، ومنهم من عذب، ومنهم من استشهد، وقد كان لهذه التضحيات أكبر أثر في بعث روح المقاومة في الشعب الذي نهض ليواجه قوات الاحتلال في شجاعة نادرة المثال.
إعلان الجهاد:
اضطرب المماليك حين وصلهم نبأ احتلال نابليون للأسكندرية في صفر 1213هـ (1798م)، وعقدوا اجتماعا للتشاور في الأمر ودعوا العلماء لحضوره وكانوا قادة الرأي العام إذ ذاك فحضر منهم السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ السادات، والشيخ الشرقاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ الصاوي، والشيخ المهدي، والشيخ العربي، والشيخ محمد الجوهري. وجرت أثناء الاجتماع مناقشة حادة بين العلماء والأمراء حتى قام الشيخ السادات ووجه الكلام إلى الأمراء قائلا «إن كل هذا من سوء مقالكم وظلمكم. وآخر أمرنا معكم أنكم ملكتمونا للأفرنج» ثم نظر إلى مراد بك قائلا له: «وخصوصا بأفعالك وتعديك أنت وأمراؤك على متاجرهم وأخذ بضائعهم». وأخيرا اتفق المجتمعون على إخطار الدولة العثمانية بالأمر وتجهيز العساكر للحرب.
من هذا الاجتماع نستطيع أن ندرك لأول وهلة موقف الأزهر بالنسبة للفرنسيين، فهو موقف المقاومة المسلحة كما أن العلماء بصفتهم وكلاء عن الشعب وضعوا قاعدة دستورية هامة، وهي محاسبة الحكام على تفريطهم في حقوق الشعب (1).
ولما وصل نابليون إلى إمبابة أعلن السيد عمر مكرم والعلماء الجهاد
__________
(1) مجلة الأزهر من مقال لاحمد عز الدين خلف الله.(3/148)
واستنفروا الشعب ودعوا إلى التطوع العام، وسار السيد عمر مكرم في مقدمة المتطوعين للقتال، وقام بعرض شعبي في شوارع القاهرة استجاب له جميع الأهالي، ولكن إذا كان العلماء قد نجحوا في تعبئة الشعب إلا أن تخاذل المماليك أسرع بالبلاد نحو الخاتمة المنتظرة.
بين 61911 الأزهر ونابليون:
استفز الفرنسيون المصريين بفرض الضرائب الثقيلة والقتل ومصادرة الأملاك والاعتداءات المتوالية، مما عجل بقيام ثورة القاهرة الأولى في (جمادى الأول سنة 1213أكتوبر سنة 1798). فقام العلماء وعلى رأسهم الشيخ السادات يدعون إلى الجهاد ضد الفرنسيين، وانتخبوا مجلسا للثورة كي ينظم حركات المقاومة ويمونها بالأسلحة والذخائر، وفي ذلك يقول نابليون في مذكراته: «إن الشعب قد انتخب ديوانا للثورة، ونظم المتطوعين للقتال، واستخرج الأسلحة المخبوءة. وأن الشيخ السادات انتخب رئيسا لهذا الديوان». وذكر في تقريره إلى حكومة الدير كتوار أن لجنة الثورة كانت تنعقد في الأزهر.
انتشر رجال الأزهر في القاهرة يبثون الثورة في النفوس ويدعون الشعب إلى الجهاد ويعاهدونه على المقاومة، بينما كان مجلس الثورة يوزع الأسلحة على أحياء العاصمة، حتى اقترب الوعد فعقد المجلس اجتماعا ليلة الأحد (10جمادى الأولى 211213أكتوبر سنة 1798) لرسم خطة العمل في صبيحة ذلك اليوم.
يقول الكولونيل ديتروا في يومياته وصفا للثورة كما شهدها: في الساعة السادسة صباحا من يوم 21أكتوبر احتشدت الجموع في كثير من أحياء القاهرة وكان المؤذنون يدعون إلى الجهاد على المآذن، وكان المعسكر العام للثائرين الجامع الكبير المسمى بالأزهر ذلك المسجد الجميل الذي
طارت شهرته في أنحاء المشرق وقد قام الثوار بإقامة المتاريس في الطرق والأزقة المفضية إليه حتى أصبح من المستحيل أن تقتحمه المدفعية أو الجنود المشاة.(3/149)
يقول الكولونيل ديتروا في يومياته وصفا للثورة كما شهدها: في الساعة السادسة صباحا من يوم 21أكتوبر احتشدت الجموع في كثير من أحياء القاهرة وكان المؤذنون يدعون إلى الجهاد على المآذن، وكان المعسكر العام للثائرين الجامع الكبير المسمى بالأزهر ذلك المسجد الجميل الذي
طارت شهرته في أنحاء المشرق وقد قام الثوار بإقامة المتاريس في الطرق والأزقة المفضية إليه حتى أصبح من المستحيل أن تقتحمه المدفعية أو الجنود المشاة.
وفي الساعة العاشرة صباحا اصطدم الثوار بكتيبة من الفرسان يقودها الجنرال ديبوي قومندان القاهرة وتغلب الأهالي على الكتيبة وقتل الجنرال ديبوي أثناء المعركة. وامتدت الثورة حتى اشتبكت الجماهير بدوريات الجنود في كل مكان.
كان نابليون في ذلك الوقت يطوف بسرعة ليتفقد الاستحكامات العسكرية في مصر القديمة والروضة ولما عاد إلى بولاق بلغة مصرع الجنرال ديبوي فأصدر أمرا بتعيين الجنرال بون خلفا له وكلفه بإجراء اللازم لإعادة النظام إلى المدينة.
هال الجنرال بون تفاقم الحالة في العاصمة فكتب إلى نابليون في الساعة العاشرة مساء من يوم الثورة يطلب اتخاذ إجراءات في غاية الشدة والصرامة مع حي العرب حيث يوجد الجامع الأكبر (الأزهر).
وفي صباح يوم 11جمادى الأولى 1213 (22أكتوبر 1798م) بلغت حماسة الثوار مبلغا عظيما حتى حاولوا ضرب الاستحاكات الفرنسية في القلعة من مسجد السلطان حسن، كما تمكنوا من قتل الكولونيل سلكوسكي في معركة عند باب النصر.
وفي هذا اليوم أرسل نابليون الجنرال (برتييه) رئيس أركان حربه في الساعة الثانية بعد الظهر ومعه أمر بضرب الأزهر بالمدافع سلمه للجنرال بون وقد أوصى نابليون بوضع المدافع في أصلح المواقع ليكون تدميرها شديدا.
كما أصدر أمرا إلى الجنرال (دومارتان) بالاستيلاء على جميع المنافذ المفضية الى الأزهر ومما جاء في هذا الأمر (وعليكم أن تقتحموه بجنودكم
تحت حماية المدافع وأن تقتلوا كل من تلقونه في المسجد وأن تضعوا فيه حرسا قويا من الجنود).(3/150)
كما أصدر أمرا إلى الجنرال (دومارتان) بالاستيلاء على جميع المنافذ المفضية الى الأزهر ومما جاء في هذا الأمر (وعليكم أن تقتحموه بجنودكم
تحت حماية المدافع وأن تقتلوا كل من تلقونه في المسجد وأن تضعوا فيه حرسا قويا من الجنود).
وابتدأ الضرب من بعد الظهر حتى الساعة الثامنة مساء، وأخذت رسائل الوحشية المقنعة بالمدينة تهال في صورة آلاف من القنابل على الأزهر حتى قال ريبو: أوشك الجامع أن يتداعى من شدة الضرب فيدفن تحت أنقاضه الجماهير الحاشدة فيه وأصبح الحي المجاور للأزهر صورة من الخراب والتدمير. ولما وجد العلماء أن الاستمرار في المقاومة سيفضي إلى كارثة محققة، شرعوا في مفاوضة نابليون لإيقاف الضرب.
محاكمة العلماء الثائرين:
في 12جمادى الأولى 1213هـ (23أكتوبر 1798م) أصدر الجنرال (برتييه) أمرا باسم نابليون إلى الجنرال (بون) قومندان القاهرة بهدم الأزهر ليلا إذا أمكن، ومن هذا نرى أن نابليون أراد أن يقضي على المقاومة الشعبية بهدم مركزها، ثم عدل عن هذه الفكرة خوفا من إثارة الحماس الديني.
وفي 24أكتوبر توجه وفد من العلماء إلى نابليون يسأله العفو عن الأهالي ليسكن روعهم، فطالبهم نابليون بإرشاده عمن تسبب في الثورة من العلماء، فلم يرشدوه إلى أحد فقال لهم: «نحن نعرفهم واحدا واحدا».
قبض نابليون على ثمانين من أعضاء لجنة الثورة أعدموا سرا وألقيت جثثهم في النيل أما الذين حوكموا رسميا من المقبوض عليهم باعتبارهم زعماء الثورة فهم الشيخ إسماعيل البراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة المكفوفين والشيخ أحمد الشرقاوي وكلهم من العلماء وقد حكم عليهم بالإعدام ونفذ
الحكم في الساعة الثامنة صباحا من 23جمادى الأولى 1213هـ (نوفمبر 1798م).(3/151)
قبض نابليون على ثمانين من أعضاء لجنة الثورة أعدموا سرا وألقيت جثثهم في النيل أما الذين حوكموا رسميا من المقبوض عليهم باعتبارهم زعماء الثورة فهم الشيخ إسماعيل البراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة المكفوفين والشيخ أحمد الشرقاوي وكلهم من العلماء وقد حكم عليهم بالإعدام ونفذ
الحكم في الساعة الثامنة صباحا من 23جمادى الأولى 1213هـ (نوفمبر 1798م).
وفي كتاب تحفة الناظرين للشيخ عبد الله الشرقاوي أن الفرنسيين قتلوا في هذه الثورة ثلاثة عشر عالما.
بين 61912 الأزهر والجنرال كليبر:
لم تكد تدوي مدافع معركة عين شمس في 23شوال 1214هـ (20 مارس 1800م) حتى دوى في القاهرة نداء الحرية فلبت العاصمة النداء مستمدة قوتها من إيمان أهلها وحماستها من وطنيتهم واستبسالها من تضحيتهم وهب السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي والشيخ السادات والشيخ الجوهري وغيرهم من زعماء الثورة يحرضون الناس على القتال.
ولما رجع كليبر بعد انتصاره على الجيش العثماني في معركة عين شمس وجد العاصمة أشبه ببركان ثائر لا يهدأ فاشتبك مع الثوار في معارك طاحنة دامت أكثر من ثلاثين يوما دمرت خلالها بولاق تدميرا تاما. وللمرة الثانية شرع العلماء في مفاوضة الفرنسيين على أساس العفو عن جميع سكان القاهرة فوافق كليبر على هذا الشرط ولكنه سرعان ما نقضه وفرض على الأهالي غرامة فادحة قدرها (إثنا عشر مليونا من الفرنكات) وألزم الأهالي بتسليمه عشرين ألف بندقية وعشرة آلاف سيف. وكانت أشد الغرامات المفروضة غرامة الشيخ السادات وقدرها ثمانمائة ألف فرنك هذا فضلا عما تعرض له من التعذيب والإهانة إذ كان يجلد صباحا ومساء في معتقله، وكانت غرامة الشيخ الصاوي (000، 260من الفرنكات) والشيخ محمد الجوهري وأخيه فتوح الجوهري مثل ذلك.
مصرع الجنرال كليبر:
كان إسراف كليبر في الأنتقام وإهانته للعترة النبوية ممثلة في شخص
الشيخ محمد السادات من أهم الأسباب التي أدت إلى مصرعه في 20 المحرم 1215هـ (14يونيه 1800م) بيد سليمان الحلبي، وسرعان ما اتجهت أنظار الفرنسيين نحو الأزهر فقاموا بتفتيشه وتفتيش أروقته وقبضوا على من ذكرهم سليمان الحلبي في التحقيق كما قبضوا على العلماء المعروفين بقيادة الثورات الوطنية. ورأى كبار العلماء أن الفرنسيين سيتخذون من تفتيش الأزهر بين حين وآخر ذريعة للإيقاع بهم فتوجه الشيخ الشرقاوي والشيخ الصاوي والشيخ المهدي إلى الجنرال مينو واستأذنوه في إغلاق الأزهر فأغلق في 27المحرم 1215هـ (21يونيه 1800م). وكان هذا ما يريده الفرنسيون وقد استمر الأزهر مغلقا حتى تم جلاء الفرنسيين عن مصر.(3/152)
كان إسراف كليبر في الأنتقام وإهانته للعترة النبوية ممثلة في شخص
الشيخ محمد السادات من أهم الأسباب التي أدت إلى مصرعه في 20 المحرم 1215هـ (14يونيه 1800م) بيد سليمان الحلبي، وسرعان ما اتجهت أنظار الفرنسيين نحو الأزهر فقاموا بتفتيشه وتفتيش أروقته وقبضوا على من ذكرهم سليمان الحلبي في التحقيق كما قبضوا على العلماء المعروفين بقيادة الثورات الوطنية. ورأى كبار العلماء أن الفرنسيين سيتخذون من تفتيش الأزهر بين حين وآخر ذريعة للإيقاع بهم فتوجه الشيخ الشرقاوي والشيخ الصاوي والشيخ المهدي إلى الجنرال مينو واستأذنوه في إغلاق الأزهر فأغلق في 27المحرم 1215هـ (21يونيه 1800م). وكان هذا ما يريده الفرنسيون وقد استمر الأزهر مغلقا حتى تم جلاء الفرنسيين عن مصر.
يقول تيير: «لو بقي كليبر حيا لاستمرت مصر خاضعة للحكم الفرنسي حتى انهيار نابليون على الأقل، فقد ضاع أكبر قائد وأكفأ من يؤسس الاستعمار الفرنسي في الشرق».
وهنا لا بد من أن نقول كلمة عن المنشورات التي كان يصدرها الفرنسيون على لسان أعضاء الديوان من العلماء: إذ كان الغرض من هذه المنشورات تضليل الشعب وبث التفرقة بينه وبين زعمائه، وأكبر دليل على براءة من اشترك من العلماء في الديوان أنهم كانوا من المعروفين لدى الفرنسيين بقيادة الثورات والتحريض عليها.
61913 - الأزهر يحرض على قتال الحملة الإنجليزية الأولى:
في المجرم 1222هـ (مارس 1807م) نزل الإنجليز الأسكندرية بقيادة الجنرال فريزر وما كادت تصل أنباؤهم إلى العاصمة حتى قام السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير يدعون الناس إلى الدفاع عن الوطن، وحث الخطباء في المساجد الناس على القتال، فأقبل هؤلاء يتطوعون في حماس نادر المثال وانضم إليهم طلبة الأزهر والعلماء وكان
المتطوعون يذهبون يوميا لضرب الاستحكامات خارج القاهرة تحت إشراف السيد عمر مكرم وكبار الشيوخ، كما تطوع البعض الآخر للسفر ليشترك في فك حصار الإنجليز لرشيد.(3/153)
في المجرم 1222هـ (مارس 1807م) نزل الإنجليز الأسكندرية بقيادة الجنرال فريزر وما كادت تصل أنباؤهم إلى العاصمة حتى قام السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير يدعون الناس إلى الدفاع عن الوطن، وحث الخطباء في المساجد الناس على القتال، فأقبل هؤلاء يتطوعون في حماس نادر المثال وانضم إليهم طلبة الأزهر والعلماء وكان
المتطوعون يذهبون يوميا لضرب الاستحكامات خارج القاهرة تحت إشراف السيد عمر مكرم وكبار الشيوخ، كما تطوع البعض الآخر للسفر ليشترك في فك حصار الإنجليز لرشيد.
وأمام هذا التضامن الشعبي الرائع وجد الإنجليز أنفسهم عاجزين عن متابعة احتلال البلاد فقرروا الجلاء عن القطر المصري في 10رجب سنة 1222هـ (14سبتمبر 1807م).
هذا هو الدور الذي قام به الأزهر في معارك التحرير الأولى، وقد كان لهذه المعارك أكبر أثر في تكوين الوعي القومي الذي بدأ منذ ذلك الوقت يوجه تاريخنا الحديث.
إنتاج 61914 الأزهر العلمي في العصر الحديث
في مكتبات كليات الأزهر الثلاث مجموعة كبيرة من الرسائل القيمة التي نوقشت في الأزهر، وقدمها أصحابها للحصول على العالمية من درجة أستاذ، ونال مقدموها هذه الدرجة العلمية الرفيعة، وشغل بعضهم مناصب التدريس في الكليات الأزهرية.
وكذلك في مكتبات الكليات توجد طوائف كبيرة من رسائل حاملي شهادة التخصص القديم، الذين تولى أكثرهم المناصب الإدارية في الأزهر ومناصب التدريس في الكليات والمعاهد الثانوية الأزهرية.
وفي مكتب شيخ الأزهر يوجد رسائل علمية قدمت لنيل عضوية جماعة كبار العلماء في الأزهر الشريف، وهذه الرسائل على جانب كبير من الأهمية العلمية والدينية.
ولو عني الأزهر بنشر هذه الرسائل كلها، أو جلها لسدت فراغا كبيرا في الثقافة الإسلامية، ومثلت إنتاج الأزهر العلمي في العصر الحاضر في صورة مشرقة زاهية وهذه الرسائل إلى جانب ما نشره أساتذة كليات الأزهر
من دراسات وبحوث وكتب ثقافية وعلمية، تمثل الأزهر تمام التمثيل في فترة من أعجب الفترات التي مر بها في تاريخه الطويل.(3/154)
ولو عني الأزهر بنشر هذه الرسائل كلها، أو جلها لسدت فراغا كبيرا في الثقافة الإسلامية، ومثلت إنتاج الأزهر العلمي في العصر الحاضر في صورة مشرقة زاهية وهذه الرسائل إلى جانب ما نشره أساتذة كليات الأزهر
من دراسات وبحوث وكتب ثقافية وعلمية، تمثل الأزهر تمام التمثيل في فترة من أعجب الفترات التي مر بها في تاريخه الطويل.
والذين يشككون في أهمية الأزهر الثقافية والعلمية، عليهم أن يطلعوا على إنتاج شيوخه العلمي قبل أن يحكموا له أو عليه، وللأسف فإن جل إنتاج الأزهر العلمي لا يزال مخطوطا، وتحوى مكتبة الأزهر على الكثير من المؤلفات المخطوطات التي ألفها علماء الأزهر في العصور السابقة، وأغلب مؤلفات الأزهريين المتقدمين قد ضاع أو بدد، وما بقي منه يحتوى على كنوز ثمينة عظيمة القيمة العلمية.
وإذا كانت بعض مؤلفات علماء الأزهر في العصور القديمة قد كتبت بأسلوب عتيق، على الرغم مما فيها من ثورة علمية لا تقدر بقيمة، فإن الأمل معقود على أساتذة كليات الأزهر ومعاهده لكي ينهضوا لتحقيق هذه الكتب، وإخراجها في ثوب علمي جديد، حتى يتسنى للأمة وللعالم الإسلامي الانتفاع بما فيها من ثقافات واسعة ذات قيمة كبيرة، ولا بد أن تقوم مطبعة الأزهر الثمينة على نشر تراث الأزهر العلمي القديم والحديث بإشراف وتوجيه جماعة من أفذاذ علمائه.
ومن بين رسائل الأستاذية المخطوطة رسالة نفيسة عنوانها: «أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة» للأستاذ محمد كامل الفقي المدرس في كلية اللغة العربية. ورسائل في الأدب والبلاغة وأصول النحو ومذاهب النحويين لاساتذة يحملون شهادة العالمية من درجة أساتذة ويتولون التدريس في كلية اللغة العربية اليوم ورسائل أخرى في الفلسفة الإسلامية وأصول الدين، وفي علوم الشريعة الإسلامية.
كلية اللغة العربية تنشىء صحافة أزهرية
أخرج الأديب موسى صالح شرف الطالب بكلية اللغة العربية مجلة باسم صوت لأزهر في 3يناير سنة 1953الموافق 17ربيع الأول سنة
1372 - ولا تزال هذه المجلة توالي الصدور وكتب المؤلف كلمة في عددها الأول بعنوان «صوت الأزهر الخالد» وكانت المجلة تنشر مقالات وأحاديث للمؤلف أيضا، وقد خرج على أثرها مجلة أخرى في كلية اللغة باسم «النهار» وفي الأزهر قبل هذه المجلة «مجلة الأزهر» وهي مجلة رسمية تمثل الأزهر، وينشر على صفحاتها شيوخ الأزهر وأساتذته المقالات والأحاديث العلمية والدينية، ويرأس تحرير هذه المجلة كبار العلماء في الأزهر، وهناك (مجلة نور الإسلام) وهي لسان حال وعاظ الأزهر الشريف وتؤدي رسالتها في محيط الوعظ والإرشاد وكونت في العام الماضي أسرة للصحافة بكلية اللغة العربية وأصدرت جريدة حائط، وفي هذا العام تخرج مجلة شهرية لأبناء كلية اللغة العربية، وكونت لجنة للإشراف على هذه المجلة من حضرات الأساتذة أصحاب الفضيلة: الشيخ كامل حسن وكيل الكلية، ومحمد عبد المنعم خفاجي، وعبد الخالق سليمان، وحسن جاد، ويوسف البيومي(3/155)
أخرج الأديب موسى صالح شرف الطالب بكلية اللغة العربية مجلة باسم صوت لأزهر في 3يناير سنة 1953الموافق 17ربيع الأول سنة
1372 - ولا تزال هذه المجلة توالي الصدور وكتب المؤلف كلمة في عددها الأول بعنوان «صوت الأزهر الخالد» وكانت المجلة تنشر مقالات وأحاديث للمؤلف أيضا، وقد خرج على أثرها مجلة أخرى في كلية اللغة باسم «النهار» وفي الأزهر قبل هذه المجلة «مجلة الأزهر» وهي مجلة رسمية تمثل الأزهر، وينشر على صفحاتها شيوخ الأزهر وأساتذته المقالات والأحاديث العلمية والدينية، ويرأس تحرير هذه المجلة كبار العلماء في الأزهر، وهناك (مجلة نور الإسلام) وهي لسان حال وعاظ الأزهر الشريف وتؤدي رسالتها في محيط الوعظ والإرشاد وكونت في العام الماضي أسرة للصحافة بكلية اللغة العربية وأصدرت جريدة حائط، وفي هذا العام تخرج مجلة شهرية لأبناء كلية اللغة العربية، وكونت لجنة للإشراف على هذه المجلة من حضرات الأساتذة أصحاب الفضيلة: الشيخ كامل حسن وكيل الكلية، ومحمد عبد المنعم خفاجي، وعبد الخالق سليمان، وحسن جاد، ويوسف البيومي
وتألفت لجنة من طلاب الكلية لإصدار هذه المجلة مكونة من الأدباء:
موسى صالح شرف وحسن عفيفي ومحمود محجوب ورشيد أبو الفتوح الليثي وعمر عطية ومنجود محمد وكمال كامل حسن وأحمد الصاوي، ويصدر العدد الأول من هذه المجلة في يناير عام 1955!!
وقد أخذت المعاهد تسير على ضوء كلية اللغة العربية، فصدرت مجلات أخرى لمعهد أسيوط ومعهد طنطا ومعهد دمياط.
61915 - الأزهر ورسالة الإسلام
في يونيو سنة 972ألقى إمام الأزهر من منبره الشريف، أول درس جامعي فيما يسمى اليوم بالعلوم الإنسانية، ومنذ ذلك اليوم إلى الآن، وإلى ما شاء الله لم تنقطع ينابيع الحكمة، والعلم والمعرفة، ينهل منها الوافدون
إلى الأزهر من أبناء مصر، وأبناء كل شعوب العالم في مختلف أرجاء الدنيا.(3/156)
في يونيو سنة 972ألقى إمام الأزهر من منبره الشريف، أول درس جامعي فيما يسمى اليوم بالعلوم الإنسانية، ومنذ ذلك اليوم إلى الآن، وإلى ما شاء الله لم تنقطع ينابيع الحكمة، والعلم والمعرفة، ينهل منها الوافدون
إلى الأزهر من أبناء مصر، وأبناء كل شعوب العالم في مختلف أرجاء الدنيا.
وأحب أن ألخص الرسالة التي كان يؤديها الأزهر في هذا الشعب، وينقلها عنه الوافدون إليه من مختلف أرجاء الدنيا إلى شعوبهم وأممهم فيستيقظ بها الغافي، ويتنبه الغافل، ويعرف الجاهل، ويمضي إلى غايته المعرفة النافعة، أصحاب العزائم لخير شعوبهم وخير الإنسانية في كل مكان.
وهذه الرسالة كانت تقوم ولا تزال على دعامتين: الأولى: الحرية، والثانية: العدالة الاجتماعية.
فأما الحرية فإنها في رسالة الأزهر تنبع من الإسلام، الذي قام على نشره والدعوة اليه والانتفاع به الوافدون عليه، والمعتزون بالانتساب إليه.
والحرية التي تنبع من الإيمان بالله والاعتزاز به والتأمل فيه والالتجاء إليه هي أمنع وأعز وأسمى ما يتطاول إليه أعناق طلاب الحرية في كل عصر وفي كل مكان.
وعن هذه العقيدة الإسلامية مضى فقهاء الإسلام الى تقويم الحرية تقويما يرتفع بها في أحيان كثيرة الى منازل لم يقدرها أحد كما قدرها هؤلاء الفقهاء.
وإليكم هذه الصورة من صور الاعتزاز بالحرية عند فقهاء المسلمين وهي قاعدة فقهية معروفة:
إذا ترافع مسلم ومسيحي أمام قاضي المسلمين في وليد لا يعرف أبوه فقرر المسلم أمام القاضي أن هذا الوليد عبد له، وقرر المسيحي أن هذا الوليد ولد له، فإن على قاضي المسلمين أن يحكم به للمسيحي ولدا ولا يحكم به للمسلم عبدا.(3/157)
والذين يتأملون هذه الصورة الفقهية ويقيسونها إلى ما يتراءونه اليوم في دنيا الناس من الحديث عن الحرية والتشدق بها. لا يكادون يجدون لها مثيلا في خيال شاعر أو قلم كاتب أو واقع شعب.
ووجه القوة هنا أن الفقيه المسلم وضع تعصبه للحرية قبل تعصبه لدينه على ما في التعصب للدين من قوة قاهرة وسلطان عظيم.
وأما الدعامة الثانية: وهي العدالة الاجتماعية فإنها تستند في نفس المسلم الى العقيدة التي يدين الله عليها. وتطرق سمعه كل يوم آيات الله في الدعوة الى العدل واحترامه وتكريمه بحيث يرى الدنيا بغير عدل شبحا بغير حقيقة وجسما بغير روح.
ومن أفضل ألوان العدل التي جاء بها الإسلام العدل في توزيع الثروة ويعتبر من أدق صور العدل في المجال الاقتصادي. وكذلك من أجل ألوان العدل التي جاء بها الإسلام أيضا العدل الذي يقوم على التفاضل بين الناس على قدر ما يقدم الإنسان للمجتمع من خير وليس على قدر انتسابه إلى لون خاص أو جنس خاص أو عرق خاص. فذلك قول الله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ََ وَجَعَلْنََاكُمْ شُعُوباً وَقَبََائِلَ لِتَعََارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ}.
فهذه الصورة من العدل الذي دعا إليه الإسلام وقامت بالدعوة إليه جامعة الأزهر مدة ألف عام أمانة في أعناقنا، لا لشعوبنا وحدها ولكن للإنسانية جمعاء.
فإن الإنسانية لم تتعرض لمحنة بالغة وابتلاء شديد كما تعرضت لمحنة التفاضل بالألوان والأجناس والعروق. فإذا كان لا بد للناس أن يطلبوا السعادة وأن يحرصوا عليها فلا بد لهم قبل كل شيء أن يعملوا على وأد هذه الثغرة، وخنق الدعوة إلى العنصرية القائمة على الأجناس والألوان والعروق.(3/158)
وإن أحوج ما يحتاج إليه الإنسان ليتم له بده سعادته، وتتوافر به طمأنينته، لا يعدو هذه الأمور الثلاثة:
الأساس العقيدي الذي يملأ قلبه بالإيمان والسكينة.
والأساس الاقتصادي الذي يكسوه من عدرى ويطعمه من جوع.
والأساس الإنساني الذي يجعله فاضلا بما يؤدي من عمل لا بما بنتسب إليه جنس أو لون أو عرق.
وإن من حق شعوبنا على جامعاتنا مديرين وأساتذة أن نسعى دائبين لكي نوفر لها جوا تحيا فيه راضية مطمئنة موفورة الحاجات التي لا بد من توافرها لحياة الإنسان.
الشيخ أحمد حسن الباقوري من كلمة له نشرت في الأخبار(3/159)
الباب العاشر
شخصيّات أزهريّة معاصرة
الشيخ محمد عرفة
هو شيخ جليل، ومفكر نابه، له مكانته العلمية في الأزهر، وتلاميذه الكثيرون ولا نجد في تاريخ حياته خيرا مما أرخ به هو لنفسه في مقالة نشرتها له المصري بعنوان «الدين والحياة والأزهر» في يونيو عام 1952وهي من سلسلة مقالاته التي كتبها يرد فيها على الأستاذ أمين الخولي الذي نشر سلسلة مقالات في «المصري» ندد فيها بالأزهر وتأخره عن أداء رسالته، قال الشيخ محمد عرفة:
كنت بصدد أن أثبت أن الأزهر شعر بحقيقة الدين المشرقة المتسامحة التي تدعو إلى الإخاء الإنساني والتعاون البشري وأنه تعدى دائرة الشعور إلى دائرة التنفيذ، واستدللت ببحث كنت كتبته في العلة في مشروعية الجهاد، أهي الكفر أم عدوان الكافرين على المسلمين، فاستخلصت من بين الأقوال المختلفة إن العلة هي العدوان فما لم يعتد المخالفون في الدين على المسلمين فلا جهاد ولا قتال، وبذلك كانت العلاقة الخارجية بين المسلمين وأمم الأرض هي السلم لا الحرب ويتبع ذلك ما يتبعه مما يكون بين المسالمين من المحبة والتعاون والإخاء، وجمعت بين الأدلة المتعارضة
الظاهرة على هذا الأساس من كتاب الله وأحاديث رسول الله، فاستقامت ككعوب الرمح على توال واتساق، وإني أعتز بهذا البحث وأراني قد خدمت به المسلمين بخاصة والإنسانية بعامة، وكنت أذيع هذا البحث في دروسي ومجالسي وإنما كنت بهذا الصدد لأرد على من قال إن الأزهر لم يشعر بالدين الإسلامي المنتظر الذي يدعو إلى الإخاء والتعاون، وقد نبهته فلم يتنبه وهو لا يطمع في التنفيذ. فكتب الأستاذ الشرقاوي في «المصري» يشكك في قيمة هذا الدليل دون أن يبين الأسباب، ونقل الكلام إلى أن الأزهر لا يشارك في المواضيع التي تهم الأمة وليس كغيره من علماء الأديان الأخرى الذين يشاركون مشاركة فعلية وقولية في كل شأن من الشئون وضرب أمثلة برجال الدين في جزيرة قبرص حيث خطب أحدهم يطلب الانضمام إلى اليونان ودقت الكنائس أجراسها احتفالا بالخطيب، وذكر أن الباب تعاون الإسلام والمسيحية لمقاومة الشيوعية وتحدث بذلك سفير مصر في الفاتيكان ولم يحرك الأزهر ساكنا، والبعثة التي جاءت إلى الأديرة في سينا لتحقيق الوثائق التاريخية لم يدرسها معها ولم يشارك في هذا التحقيق.(3/161)
كنت بصدد أن أثبت أن الأزهر شعر بحقيقة الدين المشرقة المتسامحة التي تدعو إلى الإخاء الإنساني والتعاون البشري وأنه تعدى دائرة الشعور إلى دائرة التنفيذ، واستدللت ببحث كنت كتبته في العلة في مشروعية الجهاد، أهي الكفر أم عدوان الكافرين على المسلمين، فاستخلصت من بين الأقوال المختلفة إن العلة هي العدوان فما لم يعتد المخالفون في الدين على المسلمين فلا جهاد ولا قتال، وبذلك كانت العلاقة الخارجية بين المسلمين وأمم الأرض هي السلم لا الحرب ويتبع ذلك ما يتبعه مما يكون بين المسالمين من المحبة والتعاون والإخاء، وجمعت بين الأدلة المتعارضة
الظاهرة على هذا الأساس من كتاب الله وأحاديث رسول الله، فاستقامت ككعوب الرمح على توال واتساق، وإني أعتز بهذا البحث وأراني قد خدمت به المسلمين بخاصة والإنسانية بعامة، وكنت أذيع هذا البحث في دروسي ومجالسي وإنما كنت بهذا الصدد لأرد على من قال إن الأزهر لم يشعر بالدين الإسلامي المنتظر الذي يدعو إلى الإخاء والتعاون، وقد نبهته فلم يتنبه وهو لا يطمع في التنفيذ. فكتب الأستاذ الشرقاوي في «المصري» يشكك في قيمة هذا الدليل دون أن يبين الأسباب، ونقل الكلام إلى أن الأزهر لا يشارك في المواضيع التي تهم الأمة وليس كغيره من علماء الأديان الأخرى الذين يشاركون مشاركة فعلية وقولية في كل شأن من الشئون وضرب أمثلة برجال الدين في جزيرة قبرص حيث خطب أحدهم يطلب الانضمام إلى اليونان ودقت الكنائس أجراسها احتفالا بالخطيب، وذكر أن الباب تعاون الإسلام والمسيحية لمقاومة الشيوعية وتحدث بذلك سفير مصر في الفاتيكان ولم يحرك الأزهر ساكنا، والبعثة التي جاءت إلى الأديرة في سينا لتحقيق الوثائق التاريخية لم يدرسها معها ولم يشارك في هذا التحقيق.
وإني أقبل أن ينقل الحوار إلى هذه الناحية وأذكر أن الأزهر شارك في الأحداث الجسام فكان مهد الحركة الوطنية ومنبع الثورة في سنة 1919وظل مدة الثورة يلهب النفوس بالحماسة الوطنية، وكان منبرا للخطابة وتوجيه الثورة، وكان أهل الأقاليم يأتون إليه فيعمر قلوبهم بالإيمان الوطني، ويزودهم بالرأي الناصح والمشورة النافعة، وقد نبه إلى ذلك اللورد ملنر في تقريره. أما مسألة الشيوعية فإني أذكر أني قرأت في الجرائد أن أساقفة الكنائس اجتمعوا تحت رياسة رئيس أساقفة كانتربري وقرروا أن الشيوعية تخالف المسيحية لأنها تنكر وجود الله والحياة الآخرة وتوقد نار الحرب بين الطبقات الخ فما أن قرأت ذلك حتى عرضت مبادئها على قواعد الدين الإسلامي وذكرت مواضع الخلاف ونشرت ذلك بعض الصحف.(3/162)
وأرى المساجلة ستضطرني إلى ذكر بعض ما شارك به الأزهر في المسائل التي تهم الأمة في شخص أحد أبنائه كاتب هذه السطور، ولولا موضع الحجة لما استبحت أن أنطق بكلمة، وإني أذكرها مع الخجل والاستحياء:
1 - رأيت الأسر المصرية كما قلت في حينها سنة 1922بمدرجة السيول، ومهب الرياح، تقوضها الريح إذا هبت ويذهب بها السيل إذا جرى، يبيع الرجل أو يشتري فيقسم على سلعته بالطلاق كذبا لترويج سلعته فإذا امرأته طالق يغضب الرجل والغضب غول يغتال العقل فيطلق زوجته ثم يبقى نادما على بيت هدمه وأبناء شتتهم يطلق الرجل امرأته ثلاثا في لفظ واحد فتبين منه، ويندم ولات ساعة مندم.
رأيت ذلك فنظرت في الشريعة الإسلامية وأقوال الماضين فرأيت الرسول يقول: لا طلاق في إغلاق أي غضب وإذا من الأئمة من يرى أن يمين الطلاق التي الغرض منها الحث على شيء أو النهي عنه لا تقع طلاقا وإذا القرآن يوجب أن تطلق المرأة لعدتها طلقة واحدة وأن تبقى في بيت الزوجية، فإذا بلغت الأجل فأما أن يعاشرها بالمعروف أو يفارقها بالمعروف، وعلل ذلك بقوله لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فيعطف قلبه بعد نفور، فجعل الله له سعة في مراجعة ما كان منه، وكان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث طلقة واحدة فأمضاه عليهم عمر فكتبت ذلك كله في مقال ونشرته بإمضاء م. ع فثارت ثائرة بعض المحافظين وردوا على ذلك، ولكنها كانت حجرا ألقي في الماء الراقد فنبهت الأذهان وفعلت فعلها حتى صدر قانون المحاكم الشرعية بعد ذلك مطابقا لكل ما اقترحته فإن كان ذلك قد خفظ الأسرة المصرية من التداعي والانهيار وحفظ الأبناء من الشتات والضياع، فعند الله احتسب ما صنعت وأدخر ما قدمت.(3/163)
2 - كتبت في فتنة القبعة وكنت أريد أن أحفظ على المسلمين شخصيتهم، ورددت على القائلين أنها لباس المتقدمين في العلم والحضارة، فقلت ليس التقدم بتغيير لباس الرأس وإنما هو بتغيير ما في الرأس، واعمدوا إلى رءوسكم فنظفوها من الخرافات وحلوها بالعلوم والمعارف بذلك وبذلك وحده تتقدمون.
3 - حاضر الدكتور فخري فهاجم الاسلام في أمور كثيرة: منها جعله المرأة على النصف من الرجل في الميراث، فدعا الأزهر الشيوخ والنواب ورجالات العلم إلى سماع محاضرة في قاعة المحاضرات بدار العلوم، فقمت فألقيت هذه المحاضرة، وكتب المرحوم الهباوي في شأنها يقول:
هذه أول مرة يستمع الناس فيها إلى محاضرة تمكث ساعتين بدون سأم ولا ملل.
4 - زعم مرقص باشا سميكة في التقويم السنوي للحكومية أن المعز لدين الله الفاطمي تنصر وقضى بقية أيامه في كنيسة سيفين، فكتبت أرد هذه الفرية بالأدلة التاريخية القاطعة فلم يسع الباشا إلا أن يعلن في الصحف أنه أمام هذه الأدلة يرجع عن رأيه.
5 - كتبت في تفسير آيات الأحكام وعرضت للوصية وما ثبت من أنه لا وصية لوارث، وبينت أن صاحب المال قد يكون بعض أبنائه بررة به، وبعضهم يعقونه، فيريد أن يوصي للبررة بفضل في ماله، وهذه إرادة مشروعة عقلا فكيف يحرم منها وبينت بعض المذاهب التي تجيز ذلك وقد نشرت أمثال هذه البحوث بجريدة البلاغ، فجاءني المرحوم أحمد بك قمحة وكيل مدرسة الحقوق وقتئذ وقال: جئتك على غير معرفة سابقة لأتعرف بك، وقال لو كتبت الشريعة بهذا القلم لرفع الخلاف بين الشريعة والقانون.
6 - كتبت كتاب نقض مطاعن القرآن الكريم للرد على الأفكار التي
كانت تذاع في الجامعة مما تطعن في القرآن الكريم، ورددت على كتاب الشعر الجاهلي، وكتبت مقالات في الرد على ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة.(3/164)
6 - كتبت كتاب نقض مطاعن القرآن الكريم للرد على الأفكار التي
كانت تذاع في الجامعة مما تطعن في القرآن الكريم، ورددت على كتاب الشعر الجاهلي، وكتبت مقالات في الرد على ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة.
7 - أخرجت كتاب «النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة» للرد على كتاب إحياء النحو، وكتب بعض شيوخ الأزهر السابقين له مقدمة يظهر فيها الإعجاب والتقدير، وذكر لي بعض أصدقائي أن رحالة من النحويين جاء إلى مصر، وبحث عني وقال: جئت إلى مصر وغايتي منها أن أرى صاحب كتاب النحو والنحاة
8 - كتبت السر في انتشار الإسلام وهي رسالة كلفتني بها جماعة كبار العلماء لحماية الإسلام وقد طبعها الأزهر وترجمت إلى اللغة الفارسية والصينية.
9 - أخرجت كتاب اللغة العربية لماذا أخفقنا في تعليمها وكيف نعلمها هديت فيه إلى الطريق الطبيعي لتعليم اللغات عامة واللغة العربية خاصة وقد نشر قبل ذلك مقالات في مجلة الرسالة وقد لخصه العالم الجليل عبد القادر المغربي ونشره في مجلة المجمع العلمي بدمشق، وقدم له بحث المدارس في بلاد العرب على الأخذ بما فيه ليكسبوا ملكة التكلم والكتابة باللغة العربية
10 - حملت على الشعر الفاسق حملة شعواء، لأنه يزين الرذيلة والخمر ويفسد الشباب، وكان ذلك في حفل تأبين المرحوم شوقي بك وفي مؤتمر الثقافة العربية المنعقد بلبنان سنة 1947، وطلبت أن تكون المختارات للطلاب في دور العلم من الشعر العفيف وكان أيضا في محاضرات ألقيتها في مشاكل الشباب في محطة الشرق الأدنى، وحملت على الأغاني الخليعة والروايات المفسدة للأخلاق والصور العارية في المجلات والجرائد والنساء الكاسيات العاريات في النوادي والشوارع،
وناشدت المجتمع أن يرفق بالشباب إذ يعرض أمامه كل هذه المفاتن ويطلب منه الصون والعفاف.(3/165)
10 - حملت على الشعر الفاسق حملة شعواء، لأنه يزين الرذيلة والخمر ويفسد الشباب، وكان ذلك في حفل تأبين المرحوم شوقي بك وفي مؤتمر الثقافة العربية المنعقد بلبنان سنة 1947، وطلبت أن تكون المختارات للطلاب في دور العلم من الشعر العفيف وكان أيضا في محاضرات ألقيتها في مشاكل الشباب في محطة الشرق الأدنى، وحملت على الأغاني الخليعة والروايات المفسدة للأخلاق والصور العارية في المجلات والجرائد والنساء الكاسيات العاريات في النوادي والشوارع،
وناشدت المجتمع أن يرفق بالشباب إذ يعرض أمامه كل هذه المفاتن ويطلب منه الصون والعفاف.
11 - واليت أحداث مصر فكنت أكتب في كل مناسبة أرى الرأي النافع فأدلي به وأدعو إليه فكتب في فتنة الزقازيق ودعوت إلى الصفاء والوئام بين عنصري الأمة، وبينت أن الإسلام جعل لهم مالنا من حقوق وعليهم ما علينا من واجبات، وكنت أكتب في المناسبات الدينية كالهجرة والمولد، وأحث على فضيلة أجعلها نصيحة العام، وكنت أؤمن بالوحدة ويمنها وأكره الفرقة والانقسام فكنت أخوف منهما وأحث على التعاون والوحدة، ولقد قلت في بعض ما كتبت إنكم لو خسرتم كل شيء وربحتم الوحدة فقد ربحتم كل شيء، وإذا ربحتم كل شيء وخسرتم الوحدة فقد خسرتم كل شيء.
12 - كتبت رسالة الأزهر في القرن العشرين ودرست فيها الأزهر وعلله ووصفت له أداء رسالته، وكان فيما عرضت له فيها إضراب الشباب فقد رأيت الشباب في الأزهر وفي دور العلم والجامعات قد هجر الدروس واعتاد المظاهرات والاعتداء على الأملاك العامة، ورأيت أن هذه الحالة تخرج جيلا جاهلا اعتاد الفوضى وعدم احترام القانون من حيث تجعل المدارس مكانا للتعليم والتربية والتعود على النظام واحترام حقوق الغير، فإذا خرج هؤلاء وأولئك عن الجادة فمن سنة الله أن يغلب العلم الجهل، والنظام الفوضى، والفضيلة الرذيلة، وبحثت في سبب ذلك وعلته فإذا هي السياسة الحزبية دخلت دور العلم وأخذ كل حزب فريقا يشغب به إذا أراد الشغب.
وعلمت إني بذكر ذلك أغضب الأحزاب والحكومات التي تستند إليها فترفقت وبينت أن ذلك واجب ديني، وإني أكون من الخائنين للأمة وللشباب وممن يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى إذا كتمت هذه النصيحة، فلم يجد كل ذلك فعزلت من وظيفة مدير الوعظ والارشاد في سنة 1948لقيامي بهذا الغرض الديني. النصيحة لله وللرسول ولأئمة المسلمين
وعامتهم، وقد تبدلت العهود وولى الوزارة حزبيون ومستقلون ولم يغير هذا الظلم حزبي ولا مستقل، كأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جرم لا تقال عثرته ولا تقبل توبته، ولست في ذلك بغاضب ولا متسخط بل ربما كنت راضيا بالقضاء فيه لما أرجو من ثوابه وجليل جزائه:(3/166)
وعلمت إني بذكر ذلك أغضب الأحزاب والحكومات التي تستند إليها فترفقت وبينت أن ذلك واجب ديني، وإني أكون من الخائنين للأمة وللشباب وممن يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى إذا كتمت هذه النصيحة، فلم يجد كل ذلك فعزلت من وظيفة مدير الوعظ والارشاد في سنة 1948لقيامي بهذا الغرض الديني. النصيحة لله وللرسول ولأئمة المسلمين
وعامتهم، وقد تبدلت العهود وولى الوزارة حزبيون ومستقلون ولم يغير هذا الظلم حزبي ولا مستقل، كأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جرم لا تقال عثرته ولا تقبل توبته، ولست في ذلك بغاضب ولا متسخط بل ربما كنت راضيا بالقضاء فيه لما أرجو من ثوابه وجليل جزائه:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وإنما الذي أريد أن أقدم نصيحة أخرى ولا أدري ما عاقبة هذه النصيحة أيضا.
إن المنافسة كثيرا ما تكون بين أبناء الطائفة الوحيدة وكثيرا ما تكون غير مشروعة فيكيد بعضهم لبعض عند أولى الأمر، ويصورون الناصح الشفيق بصورة العدو الضار، ويزعمون الخير الصرف شرا بحتا، ولو تنبه أولو الأمر لهذا الباب لما أصابوا بريثا.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام كالصلاة والصوم، فالعقوبة عليهما كالعقوبة على أداء الصوم والصلاة، ولا يصح أن يكون ذلك في بلد إسلامي كمصر.
إن العصر الحاضر لا يحترم شيئا كحرية الرأي، لأنه يراها السبيل الوحيد لتقدم الإنسانية، وليس أدل على تأخر بلد من الحجر على الحريات، فإذا شاءت مصر أن تكسب احترام الدول فلتعمل على احترام الآراء فيها
إن أولى الأمر في مصر إذا ظلوا يخنقون الرأي ويضيقون بالنقد، فإن ليل التأخر باق وطويل وفجر الاصلاح بعيد جد بعيد.
تلك شقشقة هدرت ثم قرت، وثورة هاجتها الذكرى ثم سكنت فلأرجع إلى ما كنت فيه.
ماذا أريد أن أقول أريد أن أقول هذه بعض مشاركات شارك بها فرد
واحد من أفراد الأزهر فهل ترونها مشاركة عن فهم وإدراك وتبصر وشجاعة حتى إنها عصفت بصاحبها، ورمت به خارج الأزهر، هل ترونها حركات إصلاحية تولى صاحبها قيادتها وقام بتوجيهها، وهل ترون فيها إنتاجا عقليا ينير عقول الناس ويتركهم خيرا مما كانوا؟.(3/167)
ماذا أريد أن أقول أريد أن أقول هذه بعض مشاركات شارك بها فرد
واحد من أفراد الأزهر فهل ترونها مشاركة عن فهم وإدراك وتبصر وشجاعة حتى إنها عصفت بصاحبها، ورمت به خارج الأزهر، هل ترونها حركات إصلاحية تولى صاحبها قيادتها وقام بتوجيهها، وهل ترون فيها إنتاجا عقليا ينير عقول الناس ويتركهم خيرا مما كانوا؟.
فإذا كان هذا ما قام به أزهري واحد فهل يسوغ أن يقول قائل: إن الأزهر لا يشارك الأمة في عواطفها، ولا يقوم بحركة من حركات الإصلاح فيها، ولا ينتج إنتاجا عقليا ينير العقول ويرضي النفوس
هذا والشيخ محمد عرفة من أكثر علمائنا نشاطا وإنتاجا وجهادا وبلاء في سبيل الدين والأزهر.
خدم الثقافة في الأزهر مدة طويلة، ومنذ عام 1930اختير أستاذا للشريعة الإسلامية بكلية الشريعة، ثم وكيلا للكلية، ثم عضوا في هيئة كبار العلماء التي ألفت لنشر الدعوة في سبيل الله ولمقاومة التبشير، ثم اختير أستاذا للفلسفة بكلية اللغة العربية، ثم أستاذا للبلاغة في تخصص الأستاذية بالكلية نفسها، واختير عضوا في مجلس إدارتها، ومنح عضوية جماعة كبار العلماء، ثم اختير مديرا للوعظ عام 1946وأنعم عليه بكسوة التشريف العلمية من الدرجة الأولى، ثم اختير مديرا لمجلة الأزهر ثم اختير أستاذا ذا كرسي في كليات الأزهر الشريف.
وله كثير من المؤلفات والبحوث الذائعة، كنقض مطاعن في القرآن الكريم، ومؤلف في تفسير آيات الأحكام، والسر في انتشار الاسلام، والنحو والنحاة، الذي منح به عضوية جماعة كبار العلماء، وآخر كتاب له «مشكلة اللغة العربية»، هذا إلى كثير من البحوث والمحاضرات والمقالات.(3/168)
والأستاذ «عرفة» بحق عالم متضلع، وباحث دقيق، ومفكر واسع التفكير كثير الإحاطة بآثار القدامى وبشتى الثقافات الحديثة، وهو من صفوة العلماء الذين يفخر بهم الأزهر، ويعتز بجهادهم العلمي ومكانتهم العلمية الكبيرة، وبجمع إلى ذلك كله التواضع والنبل وعظمة الخلق وجلال العلماء ووقار المرشدين. وتوفي يوم الثلاثاء 5من ذي الحجة 1392هـ 9يناير 1973.
الشيخ علي محفوظ
حفظ الشيخ علي محفوظ القرآن في كتاب قريته ثم رحل إلى مدينة طنطا لتجويد القرآن وتلقي العلم في معهدها الديني وبالمعهد أتم تعليمه الابتدائي والثانوي وتلقى من العلوم ما كان مقررا فيه ثم أشار إليه شيوخه أن يستكمل دراسته العالية بالأزهر فجاء إليه بالقاهرة وأخذ عن كبار شيوخه إذ ذاك. أخذ عن الشيخ محمد عبده والشيخ أحمد أبي خطوة والشيخ بخيت المطيعي والشيخ الحلبي وغيرهم وحصل على الشهادة العالمية سنة 1324هـ. واشتغل في التدريس فيه ولما أنشىء قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر اختير للتدريس فيه ووكل إليه أمر الإشراف عليه ووجد الشيخ في هذا القسم ضالته ووقف عليه فكرة ووقته وجهده وبفضله أصبح هذا القسم معهدا لتخريج الدعاة والمرشدين الذين برزوا في فنون الدعوة في مصر والأقطار الإسلامية. وقد حمله منهج الدراسة في هذا القسم أن يضع كتبا تلائم الدراسة المقررة على طلابه فوضع بذلك كتابين هامين في طرق الدعوة ومادتها يعتبران من أهم الكتب التي وضعت في فنون الدعوة الحديثة وهما كتابا (الإبداع في مضار الإبتداع) «وهداية المرشدين» إلى طريق الوعظ والخطابة أما الأول فهو كما يدل عليه اسمه في بيان البدع التي شاعت ونسبت خطأ إلى الدين وقد تتبع كثيرا من البدع في العقائد والعبادات والمعاشرة والعادات وبين أصل الخطأ فيها ووضعها من الدين وقدم لذلك
بمقدمات في بيان السنة والبدعة وأقسامها واختلاف أنظار العلماء إليها من جهة كونها مستحسنة أو غير مستحسنة.(3/169)
حفظ الشيخ علي محفوظ القرآن في كتاب قريته ثم رحل إلى مدينة طنطا لتجويد القرآن وتلقي العلم في معهدها الديني وبالمعهد أتم تعليمه الابتدائي والثانوي وتلقى من العلوم ما كان مقررا فيه ثم أشار إليه شيوخه أن يستكمل دراسته العالية بالأزهر فجاء إليه بالقاهرة وأخذ عن كبار شيوخه إذ ذاك. أخذ عن الشيخ محمد عبده والشيخ أحمد أبي خطوة والشيخ بخيت المطيعي والشيخ الحلبي وغيرهم وحصل على الشهادة العالمية سنة 1324هـ. واشتغل في التدريس فيه ولما أنشىء قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر اختير للتدريس فيه ووكل إليه أمر الإشراف عليه ووجد الشيخ في هذا القسم ضالته ووقف عليه فكرة ووقته وجهده وبفضله أصبح هذا القسم معهدا لتخريج الدعاة والمرشدين الذين برزوا في فنون الدعوة في مصر والأقطار الإسلامية. وقد حمله منهج الدراسة في هذا القسم أن يضع كتبا تلائم الدراسة المقررة على طلابه فوضع بذلك كتابين هامين في طرق الدعوة ومادتها يعتبران من أهم الكتب التي وضعت في فنون الدعوة الحديثة وهما كتابا (الإبداع في مضار الإبتداع) «وهداية المرشدين» إلى طريق الوعظ والخطابة أما الأول فهو كما يدل عليه اسمه في بيان البدع التي شاعت ونسبت خطأ إلى الدين وقد تتبع كثيرا من البدع في العقائد والعبادات والمعاشرة والعادات وبين أصل الخطأ فيها ووضعها من الدين وقدم لذلك
بمقدمات في بيان السنة والبدعة وأقسامها واختلاف أنظار العلماء إليها من جهة كونها مستحسنة أو غير مستحسنة.
وقد قال عنه العلامة المرحوم الشيخ يوسف الدجوي: هذا السفر الجليل المسمى بالإبداع الذي وضعه العلامة الفاضل الشيخ علي محفوظ فيما رأيت خير كتاب جمع إلى تحقيق الباحث عذوبة الألفاظ وحسن الترتيب ولا غرو فالأستاذ من أجل علماء البرهان وفرسان حلبة الميدان وخير المرشدين وأجل الواعظين وأما الكتاب الثاني هداية المرشدين فهو كما يدل عليه اسمه أيضا وضعه ليهتدي به المرشدون والدعاة في رسالتهم ويستعينوا به على أداء مهمتهم ويقول في مقدمته: هذا مختصر في الوعظ والخطابة جعلته نبراسا للدعاة الناصحين وسراجا يضيء للخطباء الراشدين وقد تكلم في مقدمته على الدعوة وتعريفها وهدى المصطفى صلى الله عليه وسلم فيها سواء بالخطابة أو الكتابة إلى الرؤساء والملوك وتكلم عن تاريخ الوعظ وألم بتاريخ القصص والقصاص وعرض لشخصية الداعي وما ينبغي أن يكون عليه من الصفات العلمية والخلقية والطريق التي يستحسن أن يسلكها في اختيار الموضوعات والأساليب وذكر نماذج المحاضرات في موضوعات مختلفة. وقد تأثر في هذين الكتابين بالإمام الغزالي في كتاب الأحياء وبالإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام وبابن الحاج في كتاب المدخل وظهر هذا التأثر بالشاطبي في كلامه عن البدعة والسنة وبالغزالي في كلامه عن آداب الداعي وصفاته والمنهج الذي ينبغي أن ينتهجه في دعوته. ولا زال هذان الكتابان منذ وضعا مرجعا لعلماء الوعظ وطلبته، وقد طبع في مصر مرات عديدة وللشيخ غير هذين كتب ورسائل منها مجموعة الخطب والجواهر السنية في الأخلاق الدينية والدرة البهية في الأخلاق الدينية. وسبيل الحكمة وقد كان الشيخ عضوا في جماعة كبار العلماء وهي أكبر هيئة علمية في مصر فيما سبق ومنح الإمتيازات التي كانت لأعضائها.
ويعتبر الشيخ محفوظ صاحب مدرسة جديدة في الوعظ فقد جاء على
فترة اضمحل فيها الوعظ وقل الوعاظ لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله. والوعظ كما تعرف أهم الوسائل لنشر الدين بأحكامه وآدابه وتقويم من انحرف عن سبيله وقد أثارت هذه الحال انتباه المصلحين فحاولوا علاجها وفكر جماعة منهم في سد الفراغ فأنشئوا مدرسة لتخريج الدعاة وتأهيلهم فنيا وسموها دار الدعوة والإرشاد ولكنها لم تلبث طويلا ولم تحقق الغرض منها فلما بدأ النشاط للشيخ في ميادين الوعظ أحس الناس بشغل كثير من ذلك الفراغ. فقد كان رحمه الله أمة في فرد يقوم بما تقوم به جماعة وفيرة العدد ولقد امتلأ إيمانا بوجوب حمل تلك الرسالة وحبب الله إليه هداية الناس حتى غدا ذلك الحب جزءا من طبيعته. فأنى رمت الهداية وجدت الشيخ يحمل مشاعلها في النوادي والجمعيات وفي العواصم والقرى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ولا يشغله عن رسالته شاغل. وكان الشيخ أسلوب خاص في وعظه وكان له أثر في نجاحه فقد كان يحاول أن يربط وعظه بأحداث المجتمع ومشاكله ويستمد منها العظة والعبرة ويتخير الأسلوب المناسب لمستمعيه محاولا أن يضفي عليه وسائل التشويق والإثارة من فكاهة طريفة أو نادرة لطيفة أو قصة ذات مغزى وهدف ليبعث نشاطهم ويجذبهم إليه وقد تأثر في طريقته بالإمام الغزالي وابن الجوزي فليس الوعظ عنده سرد الأحكام والتحذير الجاف المنفرد وإنما كان منهجه قول الله تعالى {ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(3/170)
ويعتبر الشيخ محفوظ صاحب مدرسة جديدة في الوعظ فقد جاء على
فترة اضمحل فيها الوعظ وقل الوعاظ لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله. والوعظ كما تعرف أهم الوسائل لنشر الدين بأحكامه وآدابه وتقويم من انحرف عن سبيله وقد أثارت هذه الحال انتباه المصلحين فحاولوا علاجها وفكر جماعة منهم في سد الفراغ فأنشئوا مدرسة لتخريج الدعاة وتأهيلهم فنيا وسموها دار الدعوة والإرشاد ولكنها لم تلبث طويلا ولم تحقق الغرض منها فلما بدأ النشاط للشيخ في ميادين الوعظ أحس الناس بشغل كثير من ذلك الفراغ. فقد كان رحمه الله أمة في فرد يقوم بما تقوم به جماعة وفيرة العدد ولقد امتلأ إيمانا بوجوب حمل تلك الرسالة وحبب الله إليه هداية الناس حتى غدا ذلك الحب جزءا من طبيعته. فأنى رمت الهداية وجدت الشيخ يحمل مشاعلها في النوادي والجمعيات وفي العواصم والقرى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ولا يشغله عن رسالته شاغل. وكان الشيخ أسلوب خاص في وعظه وكان له أثر في نجاحه فقد كان يحاول أن يربط وعظه بأحداث المجتمع ومشاكله ويستمد منها العظة والعبرة ويتخير الأسلوب المناسب لمستمعيه محاولا أن يضفي عليه وسائل التشويق والإثارة من فكاهة طريفة أو نادرة لطيفة أو قصة ذات مغزى وهدف ليبعث نشاطهم ويجذبهم إليه وقد تأثر في طريقته بالإمام الغزالي وابن الجوزي فليس الوعظ عنده سرد الأحكام والتحذير الجاف المنفرد وإنما كان منهجه قول الله تعالى {ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا وقاربوا وسددوا.
وبالموعظة الحسنة والعرض اللطيف كان يبلغ غايته وهذه هي اللباقة في التبليغ وهذا هدى الأنبياء والمرسلين. ولقد تأثر بطريقة الشيخ تلامذته ففي كثير منهم ملامح من منهج الشيخ وأسلوبه وكان الشيخ سلفيا يحرص على المأثور ويحارب البدع لا يتسمح في شيء منها وألف فيها كتابا خاصا سبقت الإشارة إليه وقد أسهم بقلمه وجهده في أكثر الجمعيات الدينية التي وجدت أو كانت موجودة. أسهم في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية
وجمعية الهداية الإسلامية وجمعية نشر الفضائل الإسلامية كما أسهم في جمعية الرد على المبشرين وفي جمعية تحفيظ القرآن الكريم هذا إلى جهوده في اجتماعات خاصة في منزله وفي عيادات الأطباء ومكاتب المحامين وغيرهم. ولما استخدمت محطة الإذاعة بالقاهرة في نشر الوعي الديني والثقافة الإسلامية كان للشيخ نصيب فيها وكان من عادته أن يقوم بإلقاء الدروس الدينية بالأزهر عصر كل يوم من شهور رمضان وظل محافظا على ذلك حتى انتقل إلى جوار ربه رحمه الله.(3/171)
وبالموعظة الحسنة والعرض اللطيف كان يبلغ غايته وهذه هي اللباقة في التبليغ وهذا هدى الأنبياء والمرسلين. ولقد تأثر بطريقة الشيخ تلامذته ففي كثير منهم ملامح من منهج الشيخ وأسلوبه وكان الشيخ سلفيا يحرص على المأثور ويحارب البدع لا يتسمح في شيء منها وألف فيها كتابا خاصا سبقت الإشارة إليه وقد أسهم بقلمه وجهده في أكثر الجمعيات الدينية التي وجدت أو كانت موجودة. أسهم في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية
وجمعية الهداية الإسلامية وجمعية نشر الفضائل الإسلامية كما أسهم في جمعية الرد على المبشرين وفي جمعية تحفيظ القرآن الكريم هذا إلى جهوده في اجتماعات خاصة في منزله وفي عيادات الأطباء ومكاتب المحامين وغيرهم. ولما استخدمت محطة الإذاعة بالقاهرة في نشر الوعي الديني والثقافة الإسلامية كان للشيخ نصيب فيها وكان من عادته أن يقوم بإلقاء الدروس الدينية بالأزهر عصر كل يوم من شهور رمضان وظل محافظا على ذلك حتى انتقل إلى جوار ربه رحمه الله.
وكان الشيخ مثلا في الخلق والتواضع سمحا لطيفا تؤمن بوادره ويغضي عما لا يروقه وكان ألفا مألوفا أحبه تلاميذه وزملاؤه وكل من عرفه.
وكان وسيم الطلعة مشرق الوجه تبدو عليه سمات الصالحين، فكان مرجو البركة مطروق الرحاب كما كان موضع التقدير من الكبراء والعظماء جمعته والمرحوم الشيخ محمد الخضر حسين التونسي المحبة في الله والرغبة في إحياء دينه فأنشأ جمعية الهداية الإسلامية التي قامت بجهد مشكور في التبصير بالدين والأخذ بيد الغافلين وقد هدى الله على يديه خلقا كثيرا. وقد ولد الشيخ في قرية محلة روح من قرى مدينة طنطا وتوفي سنة 1361هـ واسمه الكامل علي بن عبد الرحمن بن محفوظ.
الشيخ صالح شرف
1 - وهو الشيخ الأستاذ الكبير صالح موسى حسن أحمد شرف عضو جماعة كبار العلماء والسكرتير العام للأزهر الشريف.
ولد في بني عديات الوسطانية مركز منفلوط مديرية أسيوط يوم 4يوليو سنة 1894، والتحق في السابعة من عمره بمكتب الدردير وتعلم القرآن الكريم وحفظه وفهم أحكامه وتجويده وسنه لا تتجاوز الثالثة عشرة، التحق بالأزهر الشريف في المحرم 1327الموافق 1908، وتلقى العلوم الدينية
والعربية على أفاضل العلماء، ومنهم الشيخ عبد الحكم عطا والشيخ حسن الحواتكي والشيخ أحمد هيكل والشيخ محمد حسنين والشيخ حسنين محمد مخلوف والشيخ يوسف الدجوي والشيخ حسن مدكور والشيخ البراد والشيخ عطا المرصفي والشيخ محمد البرادي، ثم نال الشهادة الأهلية عام 1335هـ، ونال جوائز مالية كانت تعدها مشيخة الأزهر للمتفوقين في علوم التوحيد والفقه والأصول والإنشاء، ونال الشهادة العالمية 1341الموافق 1924وكان لجنة الامتحان مكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عطا المرصفي رئيسا والشيخ محمد السرتي والشيخ البرد والشيخ الغريبي والشيخ المرشدي والشيخ عبد المقصود الفشني، وحضر الامتحان الشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ صادق عزام وحصل على الشهادة العالمية وكان ترتيبه الثالث من 143متخرجا، وعين إماما ومدرسا وخطيبا في مسجد بمديرية المنيا، ثم نقل من هذا المسجد إلى المسجد الأموي بأسيوط في يناير 1926ودخل مسابقة امتحان في التاريخ أعلنها الأزهر لاختيار مدرسين بالأزهر ونجح فيها بتفوق، ثم عين مدرسا بمعهد أسيوط الديني في عام 1927ونقل في عام 1931إلى معهد الزفاريق ولكنه لم يمكث به إلا شهرا، ثم عاد إلى معهد أسيوط مرة ثانية، ومكث مدرسا بمعهد أسيوط منذ تعيينه حتى عام 1938، ونقل في عام 1938إلى كلية أصول الدين للتدريس بها، ثم انتدب وكيلا لمعهد الأسكندرية الديني في عام 1944 ومكث بالمعهد سنتين، وعاد إلى كلية أصول الدين مرة ثانية في 1946، ثم عين شيخا لرواق الصعايدة في عام 1948، وانتدب شيخا لمعهد أسيوط الديني في عام 1950حتى عام 1952، وعين عضوا في جماعة كبار العلماء في عام 1951ورجع إلى كلية أصول الدين في عام 1952.(3/172)
ولد في بني عديات الوسطانية مركز منفلوط مديرية أسيوط يوم 4يوليو سنة 1894، والتحق في السابعة من عمره بمكتب الدردير وتعلم القرآن الكريم وحفظه وفهم أحكامه وتجويده وسنه لا تتجاوز الثالثة عشرة، التحق بالأزهر الشريف في المحرم 1327الموافق 1908، وتلقى العلوم الدينية
والعربية على أفاضل العلماء، ومنهم الشيخ عبد الحكم عطا والشيخ حسن الحواتكي والشيخ أحمد هيكل والشيخ محمد حسنين والشيخ حسنين محمد مخلوف والشيخ يوسف الدجوي والشيخ حسن مدكور والشيخ البراد والشيخ عطا المرصفي والشيخ محمد البرادي، ثم نال الشهادة الأهلية عام 1335هـ، ونال جوائز مالية كانت تعدها مشيخة الأزهر للمتفوقين في علوم التوحيد والفقه والأصول والإنشاء، ونال الشهادة العالمية 1341الموافق 1924وكان لجنة الامتحان مكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عطا المرصفي رئيسا والشيخ محمد السرتي والشيخ البرد والشيخ الغريبي والشيخ المرشدي والشيخ عبد المقصود الفشني، وحضر الامتحان الشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ صادق عزام وحصل على الشهادة العالمية وكان ترتيبه الثالث من 143متخرجا، وعين إماما ومدرسا وخطيبا في مسجد بمديرية المنيا، ثم نقل من هذا المسجد إلى المسجد الأموي بأسيوط في يناير 1926ودخل مسابقة امتحان في التاريخ أعلنها الأزهر لاختيار مدرسين بالأزهر ونجح فيها بتفوق، ثم عين مدرسا بمعهد أسيوط الديني في عام 1927ونقل في عام 1931إلى معهد الزفاريق ولكنه لم يمكث به إلا شهرا، ثم عاد إلى معهد أسيوط مرة ثانية، ومكث مدرسا بمعهد أسيوط منذ تعيينه حتى عام 1938، ونقل في عام 1938إلى كلية أصول الدين للتدريس بها، ثم انتدب وكيلا لمعهد الأسكندرية الديني في عام 1944 ومكث بالمعهد سنتين، وعاد إلى كلية أصول الدين مرة ثانية في 1946، ثم عين شيخا لرواق الصعايدة في عام 1948، وانتدب شيخا لمعهد أسيوط الديني في عام 1950حتى عام 1952، وعين عضوا في جماعة كبار العلماء في عام 1951ورجع إلى كلية أصول الدين في عام 1952.
عين سكرتيرا عاما للجامع الأزهر والمعاهد الدينية في عام 1953 وعين عضوا بالمجلس الأعلى للأزهر في أكتوبر 1954، ولا يزال يلقى المحاضرات العلمية على طلبة كلية أصول الدين.(3/173)
الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد
من كبار الشيوخ الأزهريين، وأكثرهم إنتاجا وتأليفا، وأذيعهم شهرة وذكرا في العالم الإسلامي، والكتب التي حققها ونشرها وألفها تزيد اليوم على مائة كتاب ومن بينها العديد من الكتب الدراسية في الأزهر الشريف، وطائفة من أصول كتب البلاغة والتاريخ والأدب والنقد.
والشيخ محمد محي الدين يتولى اليوم مشيخة كلية اللغة العربية إحدى كليات الأزهر الشريف، وقد تخرج في الأزهر الشريف عام 1925، وتولى التدريس في الأزهر ثم اختير أستاذا في كلية اللغة العربية منذ إنشائها ثم وكيلا لها، ثم ندب مفتشا بالأزهر الشريف، فاستاذا لكرسي الشريعة الإسلامية في كلية غردون بالخرطوم، ثم أستاذا للفلسفة في كلية أصول الدين، ثم رئيسا للتفتيش على العلوم العربية والدينية في الأزهر، ثم عميدا لكلية اللغة العربية، وكان والده من خيار الشيوخ الأزهريين وتولى قبل وفاته منصب مفتي وزارة الأوقاف وكانت له في الناحية الدينية والإسلامية آثار عديدة.
وقد مثل الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد الأزهر في كثير من المؤتمرات الأدبية والثقافية والدينية، وهو في طليعة الشيوخ الذين لهم فقه باللغة العربية وأصولها وآدابها، وفي مقدمة الأساتذة الذين شاركوا في دعم كيان الأزهر العلمي في نهضته الحاضرة.
وتوفي رحمه الله يوم السبت 25من ذي القعدة 1392هـ 30ديسمبر 1972م.
الشيخ شلتوت
هو أحد أعضاء جماعة كبار العلماء البارزين، وله الكثير من الإنتاج العلمي والديني القيم، وطائفة من المقالات والأحاديث الإسلامية الجديدة
في أسلوبها ومنهجها وطريقة تفكيرها والشيخ محمود شلتوت من أسر علماء الأزهر ذكرا، وأذيعهم شهرة، وأكثرهم تقديرا من شتى البيئات العربية والإسلامية، وقد تخرج في الأزهر من نحو ثلاثين عاما، وعين مدرسا فيه، ثم أستاذا في كلية الشريعة الإسلامية، فوكيلا لها، فمفتشا في الأزهر الشريف، فعضوا في جماعة كبار العلماء، وعضوا في لجنة الفتوى بالأزهر، فمراقبا عاما للبحوث والثقافة في الأزهر، وقد مثل الأزهر في كثير من المؤتمرات العربية والإسلامية، وهو من تلامذة الشيخ عبد المجيد سليم الأوفياء، وممن درسوا أفكار الإمام محمد عبده الإصلاحية التجديدية وتأثروا بها.(3/174)
هو أحد أعضاء جماعة كبار العلماء البارزين، وله الكثير من الإنتاج العلمي والديني القيم، وطائفة من المقالات والأحاديث الإسلامية الجديدة
في أسلوبها ومنهجها وطريقة تفكيرها والشيخ محمود شلتوت من أسر علماء الأزهر ذكرا، وأذيعهم شهرة، وأكثرهم تقديرا من شتى البيئات العربية والإسلامية، وقد تخرج في الأزهر من نحو ثلاثين عاما، وعين مدرسا فيه، ثم أستاذا في كلية الشريعة الإسلامية، فوكيلا لها، فمفتشا في الأزهر الشريف، فعضوا في جماعة كبار العلماء، وعضوا في لجنة الفتوى بالأزهر، فمراقبا عاما للبحوث والثقافة في الأزهر، وقد مثل الأزهر في كثير من المؤتمرات العربية والإسلامية، وهو من تلامذة الشيخ عبد المجيد سليم الأوفياء، وممن درسوا أفكار الإمام محمد عبده الإصلاحية التجديدية وتأثروا بها.
الشيخ محمد كامل حسن
في عام 1936اختير الشيخ أستاذا في كلية اللغة العربية من بين زملائه أساتذة المعاهد الدينية، وسمعنا منه الكثير من المحاضرات في شتى العلوم العربية، وتلقى عليه كثير من الذين تخرجوا في الكلية والتحقوا بشتى المعاهد والمدارس، وقد راعنا من الشيخ سعة أفقه، ودماثة خلقه، ووداعة نفسه.
وفي عام 1948أختير ثقة به للتفتيش في الأزهر في العلوم الدينية والعربية، وفي عام 1949اختير وكيلا لكلية اللغة العربية بعد وفاة وكيلها الخالد الذكر المغفور له الشيخ محمد أبي النجا، وبعد أن ذهب وفد من أساتذة الكلية وعميدها آنذاك إلى شيخ الأزهر المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي يطلبون منه اختياره لوكالة الكلية، وقالوا له:
إنه سيكون خير خلف لخير سلف، فاستجاب شيخ الأزهر مسرورا لهذه الرغبة، وتم ذلك بقرار مجلس الأزهر الأعلى الصادر في مارس سنة 1949.(3/175)
وقد وقف الشيخ حياته على خدمة الكلية، ورفع مستواها العلمي والأدبي في إخلاص ومحبة وصدق وتعاون مع الجميع، وقد عدلت مناهج الكلية مرارا بإشرافه حتى سايرت أحدث المناهج في كليات الآداب والتربية الجامعية المختلفة وقد مثل الأزهر والكلية في كثير من المناسبات وكثير من اللجان، فكان يرفع دائما من كرامة الأزهري، ويعزز الثقة فيه، مع تواضع المعتز بنفسه. وكثيرا ما يعلل الشيخ فلسفته في التواضع بهذه الحكمة: «إنما يتدلى من الشجرة فرعها المثمر».
وقد ولد الشيخ في يوم 6من يونيه سنة 1895وكان والده أزهري النشأة، فعني بتربيته وتحفيظه القرآن الكريم ليكون طالبا بالأزهر، وأتم تجويد القرآن في الأزهر سنة 1910.
وفي سنة 1911انتسب إلى الأزهر طالبا في بدء النظام الذي وضع له القانون رقم 10عام 1911وعرف بنظام الشيخ محمد شاكر، لأنه الذي وضع أسسه ورسم خططه وبدأ بتنفيذه واختار له المدرسين النابهين النابغين، وكان لهذا النظام ثلاث مراحل (ابتدائي وثانوي وعال) ومدة كل مرحلة خمس سنوات دراسة لهذا كان أول فوج تخرج في هذا النظام سنة 1924، وكان الشيخ من أوائل الناجحين في جميع سني دراسته بهذا النظام.
وعين مدرسا سنة 1925عقب تخرجه بمعهد طنطا، ثم نقل إلى معهد دسوق ثم الزقازيق.
وكان في كل مكان قدوة عالية لرجل الدين المثقف المستنير، الحريص على أداء رسالته، وعلى تعزيز ثقة المجتمع به، ورأس لجان الامتحان للشهادات الأزهرية الكبرى، فكان مثالا عاليا للنزاهة والكفاية وحسن السمعة بين الناس، ومع أعماله الإدارية الكثيرة فهو يشغل كرسيا
علميا في الكلية ويقوم بنشاط علمي كبير محمود بين الأستاذة والطلبة، ويعده الطلاب أبا روحيا، كا يعده الأساتذة زميلا حميما لهم، وقد حاز ثقة شيوخ الأزهر على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم ونوهوا بكفايته وأمانته وحرصه على أداء الواجب في مناسبات كثيرة، وقد شهدت الكلية منذ عام 1953نشاطا رائعا بفضله وتوجيهه، وشهدت في أوائل عام 1954ميلاد صحيفة يومية داخلية كاملة يكتبها الطلبة بأيديهم، وميلاد صحف مطبوعة، وذلك بفضل يقظته وتوجيهه ورعايته والشيخ من أحب علماء الأزهر إلى قلوب الناس والطلاب، وهو في ورعه وتقواه قدوة طيبة.(3/176)
وكان في كل مكان قدوة عالية لرجل الدين المثقف المستنير، الحريص على أداء رسالته، وعلى تعزيز ثقة المجتمع به، ورأس لجان الامتحان للشهادات الأزهرية الكبرى، فكان مثالا عاليا للنزاهة والكفاية وحسن السمعة بين الناس، ومع أعماله الإدارية الكثيرة فهو يشغل كرسيا
علميا في الكلية ويقوم بنشاط علمي كبير محمود بين الأستاذة والطلبة، ويعده الطلاب أبا روحيا، كا يعده الأساتذة زميلا حميما لهم، وقد حاز ثقة شيوخ الأزهر على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم ونوهوا بكفايته وأمانته وحرصه على أداء الواجب في مناسبات كثيرة، وقد شهدت الكلية منذ عام 1953نشاطا رائعا بفضله وتوجيهه، وشهدت في أوائل عام 1954ميلاد صحيفة يومية داخلية كاملة يكتبها الطلبة بأيديهم، وميلاد صحف مطبوعة، وذلك بفضل يقظته وتوجيهه ورعايته والشيخ من أحب علماء الأزهر إلى قلوب الناس والطلاب، وهو في ورعه وتقواه قدوة طيبة.
وقد توفي الى رحمة الله في 29من شعبان 1389هـ نوفمبر 1969م.
الشيخ حسين خفاجي
كان والده السيد محمد خفاجي (1277هـ 1940م) من كبار الصوفيين الزاهدين في ثغر دمياط وقد ولد الشيخ حسين في يونيو عام 1896، وتخرج من الأزهر في فبراير عام 1923بعد أن نال العالمية بتفوق، وتنقل في الوظائف الإدارية بالأزهر الشريف، وهو اليوم كبير المراقبين في كلية الشريعة الإسلامية، التي اختير لها منذ إنشائها، وله فيها أياد تذكر بالتقدير من جميع شيوخ الأزهر الشريف
الشيخ عبد المتعال الصعيدي
من الشيوخ الثائرين في الأزهر، ذوي الآراء الإصلاحية التقدمية، وهو من بينهم يمتاز بميل إلى التجديد، وعكوف على البحث والتأليف.
ولد (1) في قرية «كفر النجبا» من أعمال مركز أجا بمديرية الدقهلية
__________
(1) ص 90تاريخ الإصلاح في الأزهر للصعيدي الطبعة الأولى.(3/177)
عام 1313هـ 1894م ومات والده وهو ابن شهر، فكفلته والدته، وتعلم في كتاب القرية.
ثم انتسب إلى الجامع الأحمدي، فدرس فيه على النظام الحديث وأظهر تفوقا في الدراسة، ويقول في ترجمته لنفسه في تاريخ الإصلاح في الأزهر: (1)
تابعت دراستي في جد واجتهاد، حتى كنت أول الناجحين في أغلب سني الدراسية، فإذا لم أكن الأول كنت الثاني أو الثالث، لأني كنت على انتقادي الآن لطريقة التدريس القديمة آخذ نفسي بأقصى ما نصل إليه في البحث اللفظي والمعنوي، حتى كان الدرس يمضي في عراك علمي بيني وبين المدرس، ولهذا كنت موضع تقدير أساتذتي وحبهم، ومن أشهرهم الشيخ محمد الشافعي الظواهري، والشيخ محمد الأحمدي الظواهري.
ولكني كنت مع هذا شديد الشغف بمطالعة كل ما تظهره المطبعة من كتب الأدب والفلسفة وغيرها، فكنت أطالع كل كتاب قديم أو حديث تظهره المطبعة، وأطالع المجلات العلمية والأدبية، وكذلك الجرائد اليومية، ولا سيما جرائد الحزب الوطني الذي كان يقوم بالجهاد السياسي في ذلك الوقت، فكنت أتلقى في هذه الجرائد دروس الوطنية، وكانت تغرس في نفسي حب الجهاد في سبيل الوطن، ولقد كنت وأنا تلميذ بالكتاب آخذ نفسي بالمطالعة، فكنت أطالع الكتب القصصية الشائعة في القرى، ولا سيما قصة عنترة العبسي، فقد طالعت فيها كثيرا، وأعدت قراءتها نحو أربع مرات، ولعل هذا هو الذي ربى في حب المطالعة بعد أن صرت طالبا بالجامع الأحمدي، وقد أخذت شهادة العالمية على النظام الحديث في سنة 1918م (1336هـ)، وعينت فيها مدرسا بالجامع الأحمدي بعد امتحان
__________
(1) ص 93.(3/178)
مسابقة جرى بين أكثر من مائة عالم نظامي في نحو عشر وظائف، فنجحت فيه أنا وعالم آخر، وسقط فيه الباقون لصعوبته.
وألف كتابا سماه «نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف»، وأهم بحوثه كما يقول الشيخ نفسه:
1 - كلمة في نقد قانون التخصص.
2 - تمهيد في بيان الحاجة إلى الإصلاح، وفائدة العلوم الحديثة في الدفاع عن الدين، وفي بيان قصور النظام الحديث عن الإصلاح المطلوب.
3 - الموازنة بين العهد القديم والنظام الحديث، وخلاصتها أن الفرق قليل جدا بينهما، لأن النظام الحديث لا يزال يعتمد على كتب العهد القديم، وعلى طريقة التدريس القديمة، ولا يمتاز النظام الحديث عن العهد القديم إلا بدراسة بعض العلوم الحديثة التي تدرس في المدارس الابتدائية والثانوية، وهي دراسة ناقصة لا تناسب المعاهد الدينية، ولا تحقق الغرض المقصود منها فيها، وهو استخدامها في الدفاع عن الدين، وكان الواجب أن تدرس على نحو ما تدرس في الجامعات الكبيرة في أوروبا، لأنها تدس فيها دراسة جامعية، ولا يصح أن يقصر الأزهر في دراستها عن هذه الدراسة، لأنها هي التي تليق بأقدم جامعة علمية دينية.
4 - نقد كتب الدراسة، وخلاصة نقدها أنها من كتب المتأخرين ذات المتون والشروح والحواشي والتقارير، ولما كانت متونها غامضة معقدة فدراستها تقوم على أساس فهم عبارات هذه المتون، فهو الذي يقصد فيها أولا وبالذات، أما فهم مسائل العلوم والتمرين عليها فلا يهتم بها كما يهتم بفهم عبارات المتون، وهذا إلى أن هذه الكتب تسلك طريقة واحدة في
التأليف، وخلط مسائل العلوم بعضها ببعض، فلا تتدرج في هذا للطلاب بل تأخذ المبتدئين بما تأخذ به المنتهين، وقد كان لتعقيدها أسوأ أثر في طلاب المعاهد الدينية، لأنه يظهر في أسلوب كتابتهم، ويحول دون النهوض به بتعليم الإنشاء ومطالعة كتب الأدب، ولا يراد من هذا أن نرجع إلى كتب المتقدمين، بل يجب أن نعتمد في الدراسة على كتب تؤلف في هذا العصر الحديث، وتفتح باب الاجتهاد في الدين والعلم.(3/179)
4 - نقد كتب الدراسة، وخلاصة نقدها أنها من كتب المتأخرين ذات المتون والشروح والحواشي والتقارير، ولما كانت متونها غامضة معقدة فدراستها تقوم على أساس فهم عبارات هذه المتون، فهو الذي يقصد فيها أولا وبالذات، أما فهم مسائل العلوم والتمرين عليها فلا يهتم بها كما يهتم بفهم عبارات المتون، وهذا إلى أن هذه الكتب تسلك طريقة واحدة في
التأليف، وخلط مسائل العلوم بعضها ببعض، فلا تتدرج في هذا للطلاب بل تأخذ المبتدئين بما تأخذ به المنتهين، وقد كان لتعقيدها أسوأ أثر في طلاب المعاهد الدينية، لأنه يظهر في أسلوب كتابتهم، ويحول دون النهوض به بتعليم الإنشاء ومطالعة كتب الأدب، ولا يراد من هذا أن نرجع إلى كتب المتقدمين، بل يجب أن نعتمد في الدراسة على كتب تؤلف في هذا العصر الحديث، وتفتح باب الاجتهاد في الدين والعلم.
5 - نقد طريقة التدريس، وخلاصة نقدها أنها طريقة تلقينية تقليدية، لا تعنى بتربية ملكة الفهم الصحيح، ولا بإعداد الطلاب ليكون منهم علماء وحكماء يرفعون منار العلم في الدنيا، ويتحدث العالم بعلمهم، كما كان يتحدث بعلم أسلافنا في الماضي، وكما يتحدث اليوم بعلم أهل أوروبا.
6 - نقد العلوم القديمة، وخلاصة نقدها أنها علوم جامدة لا تزال على حالها منذ سبعة قرون، وليس فيها أثر للتجديد الذي تناول كل شيء في عصرنا، وقد كان علماؤنا الأولون يجتهدون فيها ويجددون في كل عصر من عصورهم، فيجب أن نجتهد فيها ونعمل على تجديدها في عصرنا.
7 - نقد نظام التعليم، وخلاصة نقده أنه لا يتدرج بالطلاب في مراحل التعليم، بل يبدأ بالكتاب الأقل حجما وإن كان أصعب فهما، ويبدأ بالعلوم التي اعتيد البدء بها في العهد القديم، وإن كان الواجب تأخيرها والبدء بغيرها، وكذلك يجعل مدة الدرس واحدة في كل مراحل التعليم، ويأخذ المبتدئين في هذا بما يأخذ به المنتهين.
8 - إهمال التخصص في العلوم، وخلاصة ما جاء فيه أن النظام الحديث اتبع العهد القديم في تخريج علماء يأخذون كل العلوم التي يدرسونها بنسبة واحدة، فلم يحاول أن يوزعها في آخر مراحل التعليم على الطلاب، ويجعل منها شعبا يتخصص الطلاب فيها، ليعيدوا عهد
التخصص في علمائنا الأولين، ويتخرج منهم أئمة نابغون فيما تخصصوا فيه، ولا يكون هذا على نحو ما جاء في قانون التخصص السابق، لأنه لا يفيد في تخريج أولئك العلماء النابغين.(3/180)
8 - إهمال التخصص في العلوم، وخلاصة ما جاء فيه أن النظام الحديث اتبع العهد القديم في تخريج علماء يأخذون كل العلوم التي يدرسونها بنسبة واحدة، فلم يحاول أن يوزعها في آخر مراحل التعليم على الطلاب، ويجعل منها شعبا يتخصص الطلاب فيها، ليعيدوا عهد
التخصص في علمائنا الأولين، ويتخرج منهم أئمة نابغون فيما تخصصوا فيه، ولا يكون هذا على نحو ما جاء في قانون التخصص السابق، لأنه لا يفيد في تخريج أولئك العلماء النابغين.
9 - نقد طريقة الانتساب إلى المعاهد الدينية، وخلاصة نقدها أنها تجري على الطريقة القديمة من الاكتفاء بحفظ القرآن، ومعرفة القراءة والكتابة ولو أقل معرفة، فيجتمع بها في السنة الأولى أصناف من الطلاب يتفاوتون تفاوتا كبيرا في استعدادهم، ولا يمكن أن ينتظم سير التعليم بمثلهم.
10 - نقد طريقة الامتحان، وخلاصة نقدها أنه يجري على طريقة التدريس، فالامتحان الشفوي يقصد منه اختبار الطلاب في فهم عبارات الكتب، والامتحان التحريري يقصد منه معرفة تحصيلهم لها، وحفظهم لمسائلها.
11 - إهمال تعليم اللغات، وإرسال بعثات إلى أوروبا، وإنشاء ناد ومجلة للأزهر والمعاهد الدينية، وإنشاء مجمع علمي ولجنة تأليف، وإنشاء مطبعة لطبع كتب الدراسة طبعا صحيحا. وهذه هي أهم أبواب ذلك الكتاب، وهو يقع في ستين ومائة صفحة، وقد طبع عام 1342هـ.
وقد سبق الشيخ الأحمدي الظواهري أن نقد نظام التعلم في الأزهر في كتابه «العلم والعلماء ونظام التعليم»، الذي كان من أهم بحوثه أبواب أربعة:
فالباب الأول في العلماء، أخذ المؤلف فيه على العلماء أنهم لا يعرفون شيئا سوى مناقشات الفنون والكتب التي يدرسونها، فلا يعنون بمطالعة الجرائد والمجلات العلمية، ولا يعرفون شيئا من اصطلاحات الناس وعاداتهم وغير ذلك من أمورهم، ولا يميلون إلا إلى ما وجدوا عليه
من قبلهم، لأنهم لا يرون الكمال إلا في علومهم ومعتقداتهم وكتبهم وطرق تدريسهم وسائر أحوالهم.(3/181)
فالباب الأول في العلماء، أخذ المؤلف فيه على العلماء أنهم لا يعرفون شيئا سوى مناقشات الفنون والكتب التي يدرسونها، فلا يعنون بمطالعة الجرائد والمجلات العلمية، ولا يعرفون شيئا من اصطلاحات الناس وعاداتهم وغير ذلك من أمورهم، ولا يميلون إلا إلى ما وجدوا عليه
من قبلهم، لأنهم لا يرون الكمال إلا في علومهم ومعتقداتهم وكتبهم وطرق تدريسهم وسائر أحوالهم.
والباب الثاني في المدارس الدينية الأزهر والمدارس الملحقة به وخلاصة ما جاء فيه أن هذه المدارس صارت لا فائدة فيها، وأصبحت لا تؤدي وظيفتها للعالم الإسلامي، لاختلال نظامها، وفساد طرق التعليم فيها، فيجب إصلاحها بحمل طلابها على المطالعة ومعرفة نظم الأشياء وحقائقها، وما في هذا العالم من شرائع وديانات، وما إلى هذا من الاصطلاحات التي جاءت في هذا الباب.
والباب الثالث في العلوم، وقد عاب فيه طرق دراستها، ورأى أن يضاف إليها كثير من العلوم الحديثة وتاريخ الملل والمذاهب والآراء واللغات الأجنبية، ورأى أيضا أن يؤلف فيها كتب حديثة ملائمة لهذا العصر، وذكر أن الكتب التي تدرس فيها لا تختار من جيد ما ألفه السلف، وإنما تختار من الرديء القليل الفائدة.
والباب الرابع في طرق التعليم، وخلاصة ما جاء فيه أن منتهى الكمال في هذه الطرق هو التفنن في فهم عبارات المتون، وإيراد ما لا يحصى من المعاني في فهمها، والإكثار من الاعتراضات والأجوبة عنها، وهي طريقة معيبة لا تهتم إلا بهذه المباحث اللفظية، ولا يعنيها تفهيم الطلاب مسائل العلوم في ذاتها (1) وقد تخرج الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من الأزهر عام 1902وتولى المشيخة عام 1929واستقال منها عام 1935، وتوفي في 20جمادى الأولى 1363هـ 13مايو 1944.
وقد استمر الشيخ عبد المتعال الصعيدي مثابرا على البحث والتأليف، وأخرج العديد من الكتب، ولما أنشئت كلية اللغة العربية نقل إليها مدرسا بعد قليل، ومن إنتاجه كتبه هذه.
__________
(1) 120تاريخ الإصلاح في الأزهر.(3/182)
بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح أربعة أجزاء، الكميت بن زيد شاعر العصر المرواني تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي على التهذيب، شباب قريش في العهد السري للإسلام، الميراث في الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية، لماذا أنا مسلم، النحو الجديد، القضايا الكبرى في الإسلام، السياسة الإسلامية في عهد النبوة، النظم الفني في القرآن، في ميدان الاجتهاد، الوسيط في تاريخ الفلسفة الإسلامية، المنطق المنظم في شرح الملوى على السلم، تعليقات على شرح السراجية في الميراث، دراسات إسلامية، المجتهدون في الإسلام، تاريخ الإصلاح في الأزهر، الآجرومية العصرية، زبد العقائد النسفية مع شرحها وحواشيه، البلاغة العالية في علوم البلاغة، أبو العتاهية الشاعر العالمي، الفقه المصور في أحكام العبادات، زعامة الشعر الجاهلي بين امرىء القيس وعدي بن زيد، روائع النظم والنثر، نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف.
إلى كتب أخرى مخطوطة لم تقدم للطبع، وكتب أخرى لم ينته من تأليفها.
السيد حسن القاياتي
من علماء الأزهر الشريف، ومن الشعراء النابهين في الشعر العربي الحديث، وهو (1) حسن بن محمد بن عبد الجواد بن عبد اللطيف، زعيم بيت القاياتي، بيت مصر الوسطى: الجيزة، وبني سويف، والمنيا، والفيوم. وعضو المجمع اللغوي، وشيخ رواق الفشنية في الأزهر الشريف، ينتهي نسبه من جهة أبيه، إلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي هريرة رضي الله عنه. ومن جهة الأم إلى الحسن السبط رضي الله عنه.
وبيت القاياتي أشبه البيوت الدينية بالزوايا التي كان لها بالأوطان الإسلامية
__________
(1) من بحث نشر عنه في مجلة الأزهر بقلم الشيخ عبد الجواد رمضان.(3/183)
في العهود المتوسطة شأن مذكور ولا زال محط رجال الوافدين من الواحات، ومن بلاد المغرب، ومن أقاليم مصر الوسطى. يلقون في ربوعه الكريمة، وفي رحابة الفيح وفي سماحته الطبيعية، عودة الغريب إلى وطنه والنازع إلى عطنه، والطائر إلى فننه. وهو إلى أنه بيت دين وكرم بيت علم وأدب وسياسة، فمن أعلام علمائه: السيد أحمد عبد الجواد أحد علماء الأزهر وشيخ الفشنية في القرن التاسع عشر، والسيد عبد العظيم محمد زعيمه السابق، وكل رجاله أدباء، ولهم في السياسة المصرية مقام مشهود، فالسيدان: محمد وأحمد عبد الجواد في الصف الأول من زعماء الثورة العرابية، وكان حظهم من آثارها النفي إلى سوريا الشقيقة لمدة أربع سنوات. والشيخ مصطفى القاياتي، وخلفه شقيقه السيد إبراهيم شيخ الفشنية السابق: وعلى الجملة: لم نجد في مصر حركة وطنية أو دينية، لم يبذل فيها بيتا القاياتي في القاهرة وفي «القايات» أو في قسط من الجهود الأدبية والمادية بذل السخي المسماح. والسيد حسن القاياتي، من لدات الشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ محمود أبي العيون.
وتمر الأيام، وذكرى الشاعر حسن القاياتي لا تزال ملء القلوب والأذهان، هذا الشاعر الذي استحدث ديباجة خاصة متميزة في الشعر المعاصر، والذي امتاز شعره بروعة الفكرة وعمقها، وبجمال الأسلوب وعذوبته، وكان شعر القاياتي كأنه وشى منمنم، وكان يميزه صفاء الطبع وجمال الموهبة وجلالها بطابع خاص.
والقاياتي من أسرة عربية تنتمي إلى أبي هريرة رضي الله عنه، ومنها شمس الدين القاياتي قاضي مصر المتوفي عام 800هـ، وفي الخطط التوفيقية لعلي مبارك نخبة من القاياتيين، وفي أحداث الثورة العرابية يذكر والد السيد حسن القاياتي وعمه، وقد نفيا إلى الشام، وكان السيد مصطفى القاياتي من زعماء ثورة 1919.(3/184)
وبيت القاياتي يستوطن إقليم المنيا، وهو من بيوت الدين والتصوف في مصر.
ولد السيد حسن القاياتي عام 1300هـ والتحق بالأزهر، ونبغ في لأدب والكتابة، وأحب الشعر ونظمه، حتى صار قرين المنفلوطي والكاشف، والهراوي والرافعي.
طبع الجزء الأول من ديوانه عام 1910م، وهو في نحو العشرين من عمره، ومع كثرة شعره فلم يطبع له غير هذا الديوان حتى اليوم.
واشترك في الأحداث الوطنية، وكتب في الصحف والمجلات المقالات الرنانة، ونشرت له القصائد الرفيعة، وانضم إلى كتاب الوفد في الثورات الوطنية، ثم صار عضوا في مجلس النواب المصري، ثم عضوا في المجمع اللغوي في القاهرة من عام 1943، وظل يعاني في آخر حياته آلام المرض حتى توفاه الله إلى رحمته في ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من اكتوبر عام 1957.
ولقد مضى السيد حسن القاياتي في شعره بجزالة الأسلوب الشعري وفخامته، وشرف المعنى ودقته.
ومن شعر يتناول القاياتي فيه بيت عبد الرازق، فيقول:
يا مصطفى أمل الحجا ... في أمة خطبت حجاها
فطر الملائك ربها ... في مثل خيمك، واحتذاها
الشمس بيتك، والعلا ... تنهل عارفة وجاها
عرفوا أباك فسدتهم ... والشمس ما عرفوا أباها
إن تعل أسرة نابه ... فتعرفوا: من والداها؟
للدين بيت ثقافة ... للجامعات وما بناها
في هدى طه يعتلى ... ناديك، أم في علم طه؟!
ويعرض القاياتي للازهر فيقول في القصيدة نفسها(3/185)
يا سيدا عصفت به ... شيم الجلالة وابتناها
فتكت بنفسك عزة ... كالنار يتلفها لظاها
كرم أحل بربه ... تلف الأزاهر في نداها
ضحك الغواة لنبله ... فبكى الفضيلة وافتداها
أنف الهوان بساحة ... البدر يشرق في ذراها
ومن شعره في الغزل:
إن في الغادين مني طفلة ... قام بدع الحسن منها وقعد
صورت من جوهر الشمس فما ... هي إلا ريق النور جمد
أوقد الحسن على وجنتها ... جمر قلبي، فتلظى واتقد
يعكف الطرف عليها مغضيا ... قد رأى قبلة حسن فسجد!
لا يراني الله إلا ذاكرا ... ليلة التوديع، والبين يعد
أقبلت والليل يرنو نجمه ... نظرة الزنجي حقدا أو كمد
لا أذم البين ظلما، وفم ... من فم دان، وخد فوق خد
تمسح الدمع غزيرا بيد ... ثم تدنيني إلى الصدر بيد
أرشفتني ريقة قد بردت ... من ثناياها بحبات البرد
ومن وطنياته قوله في حرب طرابلس «من مقصورة»:
أكيدا لنا يا باعثات العدا؟ ... دعوا البيض مركوزة والقنا
نصحا لكم. لا تهبجوا الأسود ... وقد يرسل النصح لا عن هوى
جنيتم وغى، فاجتنوا صابها ... فإن لكل امرىء ما جنى
أبينا سوى خطتي عزة ... فإما المعالي، وإما الردى
نجود بأرواحنا لاثنتين ... غداة الوغي وغداة الندى
زعمتم طرابلس ملكا لكم ... ألا ما أحب حديث المنى!
ترون السماء، فهل تدنى ... لأيديكمو؟ هي تلك السما!
أجدتم طعان المواسي الرقاق ... فأما طعان العوالي فلا
وقد تحسنون لقاء الظباء ... ولا تحسنون لقاء الظبا
رويدا عديد الدبي، تمطروا ... من النبل مشل عديد الدبي
كأن تدارك وقع النبال ... عليكم تدارك وقع الحيا
ومنها:(3/186)
أكيدا لنا يا باعثات العدا؟ ... دعوا البيض مركوزة والقنا
نصحا لكم. لا تهبجوا الأسود ... وقد يرسل النصح لا عن هوى
جنيتم وغى، فاجتنوا صابها ... فإن لكل امرىء ما جنى
أبينا سوى خطتي عزة ... فإما المعالي، وإما الردى
نجود بأرواحنا لاثنتين ... غداة الوغي وغداة الندى
زعمتم طرابلس ملكا لكم ... ألا ما أحب حديث المنى!
ترون السماء، فهل تدنى ... لأيديكمو؟ هي تلك السما!
أجدتم طعان المواسي الرقاق ... فأما طعان العوالي فلا
وقد تحسنون لقاء الظباء ... ولا تحسنون لقاء الظبا
رويدا عديد الدبي، تمطروا ... من النبل مشل عديد الدبي
كأن تدارك وقع النبال ... عليكم تدارك وقع الحيا
ومنها:
ألا يضحك الناس من زائغ ... يرى المهتدين سبيل الهدى؟
ومن مستطيل كفور الفؤاد ... يحاول مسعاة أهل التقي؟
أللعدل جئتم؟ معاذ الأباء ... متى عرف العدل فيكم، متى؟
أجودا على العرب الطاعمين ... وفي داركم كل بادي الطوى؟
وبرا بقاصية العالمين ... والبر أولى به من دنا؟
وما أصدق ما قال السيد، في أمم الغرب بعامة، لا في الطليان بخاصة!
والسيد حسن إلى أنه شاعر فحل كاتب بليغ، يتوخى طريقة مزاجا من مذهبي الجاحظ وابن العميد في الكتابة: جزالة فخمة، مع الترسل حينا، ومع السجع المطبوع حينا، وببطىء بقلمه عن المرانة والسرعة التي تستدعيها طبيعة العصر، إباؤه على التبذل، وسموه عن الاتجار في أسواق الحياة. ولولا ذلك في العشرة الأوائل من كتاب الشرق العربي.
ويقول فيه الشيخ عبد العزيز البشري: لو تهيأ للبيان أن يتمثل خلقا، لما جمع بيان السيد حسن القاياتي، إلا على صورة صاحبه، وفي مثل شكله ودله، سواء بسواء ولو لم يكن قدر لي أن أرى السيد حسنا، ثم رأيته، بعد أن نهلت من بيانه، لخيل إلى أني أتهدى وحدي إلى أن هذا الإنسان، صاحب هذا البيان! عرفت السيد من صدر أيام الطلب في الأزهر، وسرعان ما امتد بيننا حبل المودة فكان من يوم منجمه وصل الله في عمره برسل الكلام، ويقرض الشعر، إذ شعره وإذ نثره صورة صادقة حق الصدق، لسهولة نفسه، وجزالة طبعه، وحلاوة خلقه، بل إنك لتحس
في بيانه بالحياء الذي تحسه فيه نفسه.(3/187)
ويقول فيه الشيخ عبد العزيز البشري: لو تهيأ للبيان أن يتمثل خلقا، لما جمع بيان السيد حسن القاياتي، إلا على صورة صاحبه، وفي مثل شكله ودله، سواء بسواء ولو لم يكن قدر لي أن أرى السيد حسنا، ثم رأيته، بعد أن نهلت من بيانه، لخيل إلى أني أتهدى وحدي إلى أن هذا الإنسان، صاحب هذا البيان! عرفت السيد من صدر أيام الطلب في الأزهر، وسرعان ما امتد بيننا حبل المودة فكان من يوم منجمه وصل الله في عمره برسل الكلام، ويقرض الشعر، إذ شعره وإذ نثره صورة صادقة حق الصدق، لسهولة نفسه، وجزالة طبعه، وحلاوة خلقه، بل إنك لتحس
في بيانه بالحياء الذي تحسه فيه نفسه.
بعد هذا ضع بيان السيد حسن القاياتي، حيث يحلو لتقديرك. ضعه في الدرجة الأولى أو ما فوقها، أو تخلف به عنها، فلكل من الناس مذهبه في تقدير أصحاب الفنون، ولكنك على أية حال تراك مرغما على أن تقضي بأن بيان السيد حسن إنما هو صورة تامة الصدق لما يعتلج في نفسه، وما يتدسى في أطواء قلبه، وهذا الضرب من أهل البيان قليل!! وهذه المزية ولك أن تدعوها الموهبة، إنما تنشأ في أصلها بالفطرة، وتنجم مع الطبع، ما يجدي في خلقها تفكير ولا تهذيب، على أنها تربو وتستحصد بد ذلك بطول التدريب والتمرين، حتى ما يجد صاحبها فكاكا من صدق التعبير عما يحيك في نفسه من نزعات الإحساس، وكذلك السيد حسن القاياتي، ولعل مما أبلغ السيد حسنا هذه المنزلة، بعد توافر الأمرين له، أنه نشأ في بيت حسب، فهو يأنف من أن يرائي الناس، ويبادلهم بما يراه حقا، وأن الله تعالى بسط له في الرزق فهو غني عن ترضي الناس بالحق وبالباطل!!! طلبا للمنزلة فيهم، والتماسا للمعروف عندهم. هذا إلى أنه رجل رقيق الحس، مهذب العاطفة، جميل منزع النفس، ومن كان له كل هذا، فهو أجل محلا من أن يكذب على عواطفه، ويفتري على ما يجول في صدره من نوازع الوجدان. يدلك على هذا من بيان السيد، إن كنت محتاجا فيه إلى بيان، أنك تراه يتغزل، وأكثر شعره في الغزل، فيطلع عليك بأرق الكلام، وأعذبه، حتى ليخيل إليك أنه لا يقول شعرا، ولكنه ينفث سحرا!!! ومع هذا لا ترى في نسيبه عنفا ولا عربدة، على نحو ما يصنع متكلفو الغزل من الشعراء!!!، ذلك بأنه ترجم عن حسه فحسب، فلم يتكلف، ولم يتعمل لاصطياد المعاني النائية، ولم يتعمد المبالغات النابية، ليزين بها نظم القريض، وإذا كنت ممن يعرفون السيد القاياتي وما أوتي من وداعة الطبع، وارتياح النفس، آمنت من فورك بصحة هذا الكلام. ومن مميزات شعره:(3/188)
التأنق في اختيار اللفظ مع صفائه وعذوبته. وابتداع صور من المعاني لم يسبق إلى أكثرها. وجمال التشبيهات المنتزعة من المدركات الحسية.
واستقلال كل بيت من قصيدة بفكرة مستقلة. وتخير الأوزان والقوافي التي لم يطرقها كثير من الشعراء.
ومن غزل القاياتي في صدر قصيدة وطنية، وهو في شرعة الأدب بدع من البدع لا شعر من الشعر، قوله:
هتفت باكية يوم الظعن ... ليت هذا البين لم يملك حسن
غضبة الله على يوم النوى ... إنه دل على القلب الشجن
آه من وقفة بين لم تذر ... دمعة في مقلة الظبي الأغن
مقلة ملأى بسحر لم تبت ... ليلة في الدهر ملأى من وسن
وفؤاد أسكنته لوعة ... ود من طول خفوق لو سكن
أقبلت مطلقة من قرطها ... زهرة أولى بها ذاك الفنن
تخلط الدل بمضنى حزن ... حر قلبي، من دلال في حزن (1)
الشيخ محمد الأسمر
الأسمر معروف في شتى الأوساط الدينية، فهو عالم من علماء الأزهر، وموظف فيه، كما هو معروف في الأوساط الأدبية، حيث يحبه الناس ويعرفونه بزيه الأزهري الأنيق، وبظرفه المشهور، وبأدبه وشعره الذائعين.
وقد ولد بمدينة دمياط في 6نوفمبر سنة 1900ميلادية.
وفي الثامنة من عمره تقريبا دخل تلميذا بإحدى المدارس الأهلية بمدينة دمياط وكان من العلوم التي يتلقاها في المدرسة حفظ القرآن وقد
__________
(1) من كلمة للأديب السيد العناني عن الشاعر في مجلة الأزهر.(3/189)
حفظ نصفه بها. وبعض المحفوظات الأدبية شعرا ونثرا، والنحو، والإملاء والحساب.
وتخرج في هذه المدرسة سنة 1914وزاول التدريس بها شهورا.
لم يسترح إلى التدريس، وكان في قطرته حب الشعر والميل إليه، ومما ساعد على إظهار ذلك الميل للمحفوظات الأدبية التي كان يدرسها بالمدرسة الأهلية، وما كان يسمعه من قصة أبو زيد الهلالي على الربابة بمقاهي دمياط، حيث كان يستمع إليها وهو في طفولته مع بعض الأطفال الواقفين بجوار المقهى وهو لا يجرؤ على دخوله ولا تسمح له تربيته المنزلية والمدرسية بذلك الدخول، فلما شب قليلا استغنى عن ذلك الوقوف بشراء قصة أبي زيد وغيرها من القصص المعروفة في ذلك الحين مثل قصة سيف بن ذي يزن، وغيرها وكان يقرأ هذه الأشعار وهذه القصص في نهم شديد ونشوة تأخذ عليه كل مشاعره.
ثم أحس برغبته إلى الاستذادة من التعلم وحدث أن قابل بعض طلبة معهد دمياط الديني وأطلع على ما بأيديهم من الكتب فرأى علوما جديدة بالنسبة له فشاقه ذلك إلى دراستها فالتحق بالمعهد طالبا في سنة 1915.
وفي سنة 1920غادر معهد دمياط ليلتحق بمدرسة القضاء الشرعي وقد نجح في امتحان المسابقة لدخول هذه المدرسة وظل بها ثلاث سنوات ثم ألغت الحكومة المصرية لأسباب سياسية هذه المدرسة وكانت من خير المعاهد العلمية فالتحق طالبا بالأزهر بعد ذلك.
وزاول في أثناء التحاقه طالبا بالأزهر التصحيح بجريدة السياسة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين بمصر يعمل بها مساء حتى الساعة الثانية بعد نصف الليل وفي الصباح يحضر دروسه طالبا بالأزهر، واستمر على ذلك ثلاث سنوات كان فيها يجمع بين العمل ليلا ونهارا، في الليل مصحح بجريدة السياسة، وفي النهار طالبا بالأزهر وفي ذلك الحين
كانت تنشر له جريدة «السياسة الأسبوعية» قصائده الشعرية ومقالاته الأدبية، وكان يحبه ويعجب به المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق في ذلك الحين مفتشا بالمحاكم الشرعية.(3/190)
وزاول في أثناء التحاقه طالبا بالأزهر التصحيح بجريدة السياسة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين بمصر يعمل بها مساء حتى الساعة الثانية بعد نصف الليل وفي الصباح يحضر دروسه طالبا بالأزهر، واستمر على ذلك ثلاث سنوات كان فيها يجمع بين العمل ليلا ونهارا، في الليل مصحح بجريدة السياسة، وفي النهار طالبا بالأزهر وفي ذلك الحين
كانت تنشر له جريدة «السياسة الأسبوعية» قصائده الشعرية ومقالاته الأدبية، وكان يحبه ويعجب به المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق في ذلك الحين مفتشا بالمحاكم الشرعية.
تخرج من الأزهر ونال العالمية النظامية سنة 1930.
ثم عين بعد ذلك أمين المحفوظات بإدارة المعاهد الدينية، ثم معاونا لمكتبة الأزهر، ثم أمينا لمكتبة المعهد الديني بالأسكندرية مع بقائه بالقاهرة منتدبا للعمل بمكتبة الأزهر، ثم أمينا لمكتبة الأزهر.
حينما غادر دمياط إلى القاهرة سنة 1920، وجد أمامه آفاقا جديدة فاتصل بأدبائها وشعرائها كما اتصل بالكثيرين من رجال السياسة بها وعكف على قراءة الكثير من الكتب الأدبية ودواوين الشعراء قديمهم وحديثهم، واستطاع بمثابرته أن يكون وهو طالب من شعراء مصر النابهين.
دخل مسابقات شعرية كثيرة نال فيها الجائزة الأولى ومن هذه المسابقات المسابقة التي أقامتها إذاعة لندن بين شعراء البلاد العربية أثناء الحرب العالمية الثانية فقد فازت قصيدته «الديمقراطية» بالجائزة الأولى بين شعراء العالم العربي، وقالت عنها جريدة الأهرام إن هذا الفوز الأدبي فوز لمصر، وهذه القصيدة في ديوان الأسمر ص 441في باب اجتماعيات.
كان بينه وبين انطون الجميل رئيس تحرير جريدة الأهرام صداقة ومودة وكان أنطون الجميل يعجب بشعره كثيرا، وكان لهذا الإعجاب ولجريدة الأهرام الأثر المحمود في نفس الشاعر، كما كان للمغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق ولجريدة السياسة الأسبوعية أثرها المحمود في أدبه قبل ذلك حينما كان الشاعر طالبا بالأزهر.
ندب مرتين وهو موظف بالأزهر للعمل بوزارة الداخلية في قسم
مراجعة الكتب لإبداء رأيه فيها من الناحية الدينية والاجتماعية، كما كان يؤخذ رأيه في بعض الأفلام السينمائية الأجنبية قبل عرضها.(3/191)
ندب مرتين وهو موظف بالأزهر للعمل بوزارة الداخلية في قسم
مراجعة الكتب لإبداء رأيه فيها من الناحية الدينية والاجتماعية، كما كان يؤخذ رأيه في بعض الأفلام السينمائية الأجنبية قبل عرضها.
واختير عضوا في لجنة النصوص بالإذاعة المصرية، وعمل هذه اللجنة بحث الأغاني من الناحية الأدبية والاجتماعية لإقرار أو اختيار الصالح للإذاعة أو تعديله أو استبعاده.
كما اختير عضوا في كثير من لجان المسابقات الشعرية.
وأنشأ في جريدة الزمان المصرية بابا أسماء ركن الأدب كان يشرف على تحريره، وكانت الرسالة الأولى لهذا الركن الأخذ بيد الناشئين من الأدباء وتمهيد الطريق أمامهم وأمام الشعراء المغمورين للظهور، وقد لاحت لهذا الركن ثمرات طيبة في وقت قصير، وكان له أثره المحمود. وتوفي في 6نوفمبر عام 1956.
والأسمر لا يتعصب لأي لون من ألوان الشعر بل يرى أنه من الحق الطبيعي لكل شاعر أن يغرد بما يتفق مع ميوله وفطرته. ولكنه يرى أن الشعر لا بد له من أمرين: أولهما وضوح المعنى وثانيهما البراعة الفنية في صياغة التعبير وهو يعد هذين الأمرين جناحي الشاعر الذين يحلق بهما في سماء الشعر، مثله في ذلك مثل الطائر لا يستطيع التحليق بغير جناحين، لا بجناح واحد.
ومن شعره الذي طبع: ديوان «تغريدات الصباح» طبعته ونشرته على نفقتها دار المعارف وقد نفدت كل نسخه، وكتب مقدمة هذا الديوان المغفور له أنطوان الجميل وأخرج بعد ذلك مجموعته الكبرى المعروفة باسم ديوان الأسمر وهو يقع في سبعمائة صفحة تقريبا وقد تناولته بالبحث جميع الصحف والمجلات في العالم العربي، جمع الشاعر في هذا الديوان
كل شعره تقريبا حتى سنة 1950ميلادية: والذي وضع مقدمة هذا الديوان صديقه الشاعر القائمقام عبد الحميد فهمي مرسي.(3/192)
ومن شعره الذي طبع: ديوان «تغريدات الصباح» طبعته ونشرته على نفقتها دار المعارف وقد نفدت كل نسخه، وكتب مقدمة هذا الديوان المغفور له أنطوان الجميل وأخرج بعد ذلك مجموعته الكبرى المعروفة باسم ديوان الأسمر وهو يقع في سبعمائة صفحة تقريبا وقد تناولته بالبحث جميع الصحف والمجلات في العالم العربي، جمع الشاعر في هذا الديوان
كل شعره تقريبا حتى سنة 1950ميلادية: والذي وضع مقدمة هذا الديوان صديقه الشاعر القائمقام عبد الحميد فهمي مرسي.
ولدى الشاعر مجموعة من الشعر معدة للطبع عنوانها بين الأعاصير وهي مجموعة ما نظمه بعد سنة 1950.
وأما نثر الشاعر فالمعد للطبع لديه كتاب «صور ومشاهدات» وهو مجموعة مقالات اجتماعية وكتاب تعليقات أدبية.
ومن شعر الأسمر قصيدته «الإنسان» أو «ورحلة شهوة».
من شهوة، من دافق بعدها ... من دودة، من ذلك الدافق
أودعها الخالق في ظلمة ... لم يدر ما فيها سوى الخالق
تحيا وتنمو في دياجيرها ... في كنف المبدع والرازق
حتى إذا ما تم تكوينها ... وأقبلت من بيتها الضائق
وانحدرت من غيبها قطرة ... تهوى لبحر العيش من حالق
تعجب الكون لها دودة ... تجيئه في منظر رائق
أصبحت الدودة طفلا له ... ما لزهور الروضة الناضره
تراه في المهد له نظرة ... باسمة، مشرقة، باهره
يدير في غرفته عينه ... يسأل عما حوله ناظره
محدق فيما يراه بها ... يجيل فيها المقلة الحائره
كأنه في مهده فاحص ... فكم له من نظرة سابره
ينظر في عيني مستغربا ... يا لجمال النظرة الساحره
بغامة أجمل في مسمعي ... من بلبل غرد فوق الشجر
في صوته العذب وأنغامه ... ما لا أراه في رنين الوتر
يبسم للدنيا ويشدو لها ... لم يدر من أحوالها ما استتر
محرك أطرافه راجيا ... إن لم أبادر محله لو طفر
أشرب راحا من سروري به ... لم يحسها في حانة من سكر
فإن بكى كاد فؤادي له ... يقفز من جنبيه أو ينفطر
ثم حبا، ثم مشى عابثا ... بكل ما في البيت لا يفتر
يردد الأقوال كالببغا ... وفعله تقليد ما ينظر
تضحكنا منه محاكاته ... لكل ما يسمع أو يبصر
وهو على ما فيه من رقة ... عناده الصخرة لا تكسر
فطبعه غير مطاع فما ... أحلاه إذ ينهى وإذ يأمر
أصغر من في البيت لكنه ... كأنه عائله الأكبر
ثم إذا بالطفل وهو الفتى ... مسترسل الوفرة غض الأهاب
يرنو إلى آماله باسما ... يمرح في جيئته والذهاب
مكتمل الصحة، بادي القوى ... مؤتلق كالسيف، أو كالشهاب
في خفة الظبي ولكنه ... كأنه من عزمه أسد غاب
يجري كما شاء، وشاء الهوى ... له، وينقض انقضاض العقاب
يضحك للدنيا ابتهاجا بها ... وإنما يضحك فيه الشباب
وربما أغرق في كأسه ... وأذبل الزاهر من عمره
يعاقر الخمر وفيها له ... أنياب ظمآن إلى عقره
يشربها جمرا مذابا ولا ... يحسس لذع الجمر من سكره
نشوتهما أقدر من ساحر ... يودع ما يودع من سحره
فهو عليها عاكف غافل ... عن شر ما يحسوه من خمره
شاربة شاربها!! لو درى ... ما أقرب الكأس الى ثغره
وربما ألفيته في الدجى ... مقامرا أعصابه تحرق
بينا تراه آملا باسما ... تراه وهو اليائس المحنق
فرحان حزنان معا، إن طفا ... فإنه في لحظة يغرق
في حيرة، مضطرب، خائف ... فليس يدري ما هو الأوفق؟!
كأنه يغشى عليه لما ... يلقى من التفكير أو يخنق
ومن يقامر فهو في غنمه ... أو غرمه يسرق أو يسرق
وربما ألفيته في الهوى ... العوبة تلعب أنثى به
كأنه في عشه كوكب ... يدور حول الشمس من جذبه
يسير في آفاقه قابعا ... لسيرها يسبح في صبه
هام بها فهو لها خاضع ... في شرقه إن لاح أو غربه
يحيا على هامشها مثلما ... يحيا سواء، وهي في قلبه؟؟
فهي له دنياه: إن أعرضت ... ضاق به الكون على رحبه
إن وأصلته فهو في وصلها ... يضمها أفعى إلى صدره
أو باعدته فهو في بعدها ... يلقى الذي يلقاه من جمره
الحب، ما الحب؟ وما سره؟ ... أعياني المكنون من سره
فأي شيء هو في خيره؟ ... وأي شيء هو في سره؟
كل غرام فهو ليل له ... بدر فلا تأمن إلى بدره
كم خدعت أنواره عاشقا ... حتى رأى الصادق من فجره
وربما لام الفتى معشر ... يقال عنهم إنهم أتقياء
أطرق في مجلسهم صامتا ... وصاح فيهم منه طين وماء
قال لهم إني أنا داؤه ... فهل لديكم للمريض الدواء؟
ألم يكن في أصله دودة ... فكيف لا يغمره الاشتهاء
في الأكل والشرب، وفي لبسه ... وجاه دنياه، ودنيا النساء؟
ومرت الأعوام في سيرها ... مسرعة، في صمتها والسبات
على جوادين لها: أبيض ... وأسود، لا يعرفان الثبات (1)
كرهما أصبح منه الفتى ... يذوي كما يذوى نضير النبات
وراحت العلات تنتابه ... حتى إذا صاح غراب الشتات
أدركه ما ليس يخشى الفوات ... ورفرف الموت عليه فمات
وانتهت الرحلة بعد الذي ... كان بها من متعة أو عذاب
قد فعل الموت به مثلما ... تفعله شمس الضحى بالضباب(3/193)
من شهوة، من دافق بعدها ... من دودة، من ذلك الدافق
أودعها الخالق في ظلمة ... لم يدر ما فيها سوى الخالق
تحيا وتنمو في دياجيرها ... في كنف المبدع والرازق
حتى إذا ما تم تكوينها ... وأقبلت من بيتها الضائق
وانحدرت من غيبها قطرة ... تهوى لبحر العيش من حالق
تعجب الكون لها دودة ... تجيئه في منظر رائق
أصبحت الدودة طفلا له ... ما لزهور الروضة الناضره
تراه في المهد له نظرة ... باسمة، مشرقة، باهره
يدير في غرفته عينه ... يسأل عما حوله ناظره
محدق فيما يراه بها ... يجيل فيها المقلة الحائره
كأنه في مهده فاحص ... فكم له من نظرة سابره
ينظر في عيني مستغربا ... يا لجمال النظرة الساحره
بغامة أجمل في مسمعي ... من بلبل غرد فوق الشجر
في صوته العذب وأنغامه ... ما لا أراه في رنين الوتر
يبسم للدنيا ويشدو لها ... لم يدر من أحوالها ما استتر
محرك أطرافه راجيا ... إن لم أبادر محله لو طفر
أشرب راحا من سروري به ... لم يحسها في حانة من سكر
فإن بكى كاد فؤادي له ... يقفز من جنبيه أو ينفطر
ثم حبا، ثم مشى عابثا ... بكل ما في البيت لا يفتر
يردد الأقوال كالببغا ... وفعله تقليد ما ينظر
تضحكنا منه محاكاته ... لكل ما يسمع أو يبصر
وهو على ما فيه من رقة ... عناده الصخرة لا تكسر
فطبعه غير مطاع فما ... أحلاه إذ ينهى وإذ يأمر
أصغر من في البيت لكنه ... كأنه عائله الأكبر
ثم إذا بالطفل وهو الفتى ... مسترسل الوفرة غض الأهاب
يرنو إلى آماله باسما ... يمرح في جيئته والذهاب
مكتمل الصحة، بادي القوى ... مؤتلق كالسيف، أو كالشهاب
في خفة الظبي ولكنه ... كأنه من عزمه أسد غاب
يجري كما شاء، وشاء الهوى ... له، وينقض انقضاض العقاب
يضحك للدنيا ابتهاجا بها ... وإنما يضحك فيه الشباب
وربما أغرق في كأسه ... وأذبل الزاهر من عمره
يعاقر الخمر وفيها له ... أنياب ظمآن إلى عقره
يشربها جمرا مذابا ولا ... يحسس لذع الجمر من سكره
نشوتهما أقدر من ساحر ... يودع ما يودع من سحره
فهو عليها عاكف غافل ... عن شر ما يحسوه من خمره
شاربة شاربها!! لو درى ... ما أقرب الكأس الى ثغره
وربما ألفيته في الدجى ... مقامرا أعصابه تحرق
بينا تراه آملا باسما ... تراه وهو اليائس المحنق
فرحان حزنان معا، إن طفا ... فإنه في لحظة يغرق
في حيرة، مضطرب، خائف ... فليس يدري ما هو الأوفق؟!
كأنه يغشى عليه لما ... يلقى من التفكير أو يخنق
ومن يقامر فهو في غنمه ... أو غرمه يسرق أو يسرق
وربما ألفيته في الهوى ... العوبة تلعب أنثى به
كأنه في عشه كوكب ... يدور حول الشمس من جذبه
يسير في آفاقه قابعا ... لسيرها يسبح في صبه
هام بها فهو لها خاضع ... في شرقه إن لاح أو غربه
يحيا على هامشها مثلما ... يحيا سواء، وهي في قلبه؟؟
فهي له دنياه: إن أعرضت ... ضاق به الكون على رحبه
إن وأصلته فهو في وصلها ... يضمها أفعى إلى صدره
أو باعدته فهو في بعدها ... يلقى الذي يلقاه من جمره
الحب، ما الحب؟ وما سره؟ ... أعياني المكنون من سره
فأي شيء هو في خيره؟ ... وأي شيء هو في سره؟
كل غرام فهو ليل له ... بدر فلا تأمن إلى بدره
كم خدعت أنواره عاشقا ... حتى رأى الصادق من فجره
وربما لام الفتى معشر ... يقال عنهم إنهم أتقياء
أطرق في مجلسهم صامتا ... وصاح فيهم منه طين وماء
قال لهم إني أنا داؤه ... فهل لديكم للمريض الدواء؟
ألم يكن في أصله دودة ... فكيف لا يغمره الاشتهاء
في الأكل والشرب، وفي لبسه ... وجاه دنياه، ودنيا النساء؟
ومرت الأعوام في سيرها ... مسرعة، في صمتها والسبات
على جوادين لها: أبيض ... وأسود، لا يعرفان الثبات (1)
كرهما أصبح منه الفتى ... يذوي كما يذوى نضير النبات
وراحت العلات تنتابه ... حتى إذا صاح غراب الشتات
أدركه ما ليس يخشى الفوات ... ورفرف الموت عليه فمات
وانتهت الرحلة بعد الذي ... كان بها من متعة أو عذاب
قد فعل الموت به مثلما ... تفعله شمس الضحى بالضباب(3/194)
من شهوة، من دافق بعدها ... من دودة، من ذلك الدافق
أودعها الخالق في ظلمة ... لم يدر ما فيها سوى الخالق
تحيا وتنمو في دياجيرها ... في كنف المبدع والرازق
حتى إذا ما تم تكوينها ... وأقبلت من بيتها الضائق
وانحدرت من غيبها قطرة ... تهوى لبحر العيش من حالق
تعجب الكون لها دودة ... تجيئه في منظر رائق
أصبحت الدودة طفلا له ... ما لزهور الروضة الناضره
تراه في المهد له نظرة ... باسمة، مشرقة، باهره
يدير في غرفته عينه ... يسأل عما حوله ناظره
محدق فيما يراه بها ... يجيل فيها المقلة الحائره
كأنه في مهده فاحص ... فكم له من نظرة سابره
ينظر في عيني مستغربا ... يا لجمال النظرة الساحره
بغامة أجمل في مسمعي ... من بلبل غرد فوق الشجر
في صوته العذب وأنغامه ... ما لا أراه في رنين الوتر
يبسم للدنيا ويشدو لها ... لم يدر من أحوالها ما استتر
محرك أطرافه راجيا ... إن لم أبادر محله لو طفر
أشرب راحا من سروري به ... لم يحسها في حانة من سكر
فإن بكى كاد فؤادي له ... يقفز من جنبيه أو ينفطر
ثم حبا، ثم مشى عابثا ... بكل ما في البيت لا يفتر
يردد الأقوال كالببغا ... وفعله تقليد ما ينظر
تضحكنا منه محاكاته ... لكل ما يسمع أو يبصر
وهو على ما فيه من رقة ... عناده الصخرة لا تكسر
فطبعه غير مطاع فما ... أحلاه إذ ينهى وإذ يأمر
أصغر من في البيت لكنه ... كأنه عائله الأكبر
ثم إذا بالطفل وهو الفتى ... مسترسل الوفرة غض الأهاب
يرنو إلى آماله باسما ... يمرح في جيئته والذهاب
مكتمل الصحة، بادي القوى ... مؤتلق كالسيف، أو كالشهاب
في خفة الظبي ولكنه ... كأنه من عزمه أسد غاب
يجري كما شاء، وشاء الهوى ... له، وينقض انقضاض العقاب
يضحك للدنيا ابتهاجا بها ... وإنما يضحك فيه الشباب
وربما أغرق في كأسه ... وأذبل الزاهر من عمره
يعاقر الخمر وفيها له ... أنياب ظمآن إلى عقره
يشربها جمرا مذابا ولا ... يحسس لذع الجمر من سكره
نشوتهما أقدر من ساحر ... يودع ما يودع من سحره
فهو عليها عاكف غافل ... عن شر ما يحسوه من خمره
شاربة شاربها!! لو درى ... ما أقرب الكأس الى ثغره
وربما ألفيته في الدجى ... مقامرا أعصابه تحرق
بينا تراه آملا باسما ... تراه وهو اليائس المحنق
فرحان حزنان معا، إن طفا ... فإنه في لحظة يغرق
في حيرة، مضطرب، خائف ... فليس يدري ما هو الأوفق؟!
كأنه يغشى عليه لما ... يلقى من التفكير أو يخنق
ومن يقامر فهو في غنمه ... أو غرمه يسرق أو يسرق
وربما ألفيته في الهوى ... العوبة تلعب أنثى به
كأنه في عشه كوكب ... يدور حول الشمس من جذبه
يسير في آفاقه قابعا ... لسيرها يسبح في صبه
هام بها فهو لها خاضع ... في شرقه إن لاح أو غربه
يحيا على هامشها مثلما ... يحيا سواء، وهي في قلبه؟؟
فهي له دنياه: إن أعرضت ... ضاق به الكون على رحبه
إن وأصلته فهو في وصلها ... يضمها أفعى إلى صدره
أو باعدته فهو في بعدها ... يلقى الذي يلقاه من جمره
الحب، ما الحب؟ وما سره؟ ... أعياني المكنون من سره
فأي شيء هو في خيره؟ ... وأي شيء هو في سره؟
كل غرام فهو ليل له ... بدر فلا تأمن إلى بدره
كم خدعت أنواره عاشقا ... حتى رأى الصادق من فجره
وربما لام الفتى معشر ... يقال عنهم إنهم أتقياء
أطرق في مجلسهم صامتا ... وصاح فيهم منه طين وماء
قال لهم إني أنا داؤه ... فهل لديكم للمريض الدواء؟
ألم يكن في أصله دودة ... فكيف لا يغمره الاشتهاء
في الأكل والشرب، وفي لبسه ... وجاه دنياه، ودنيا النساء؟
ومرت الأعوام في سيرها ... مسرعة، في صمتها والسبات
على جوادين لها: أبيض ... وأسود، لا يعرفان الثبات (1)
كرهما أصبح منه الفتى ... يذوي كما يذوى نضير النبات
وراحت العلات تنتابه ... حتى إذا صاح غراب الشتات
أدركه ما ليس يخشى الفوات ... ورفرف الموت عليه فمات
وانتهت الرحلة بعد الذي ... كان بها من متعة أو عذاب
قد فعل الموت به مثلما ... تفعله شمس الضحى بالضباب
__________
(1) المراد بالجوادين هنا النهار والليل.(3/195)
فأين طفل الأمس؟ أين الفتى؟ ... وأين من كان شبابا فشاب؟
أصبح في جوف الثرى جثة ... حتى إذا طال عليها الغياب
عادت إلى الأصل ثرى في الثرى ... وحلت الفطرة بين العباب
وقرت الشهوة في قبرها ... وهي تراب أصله من تراب
هيئات التدريس في كليات الجامعة الأزهرية
في 24مارس سنة 1951اعتمد مجلس الأزهر الأعلى تكوين هيئات التدريس في كليات الأزهر، وقد راعى الأزهر في تكوينها الأسس الآتية:
أولا: أن يرتب الأساتذة والأساتذة المساعدون حسب الأقدمية مع مراعاة الصلاحية والكفاية على أن يختار الأساتذة من بين مدرسي الدرجة الأولى والثانية والثالثة حسبما تقضي المصلحة.
ثانيا: التوسع في عدد الأساتذة المساعدين بحيث لا يتجاوز في اختيارهم مدرسي الدرجة الرابعة على أن يقسم الأساتذة المساعدون إلى:
(أ)، (ب) بنسبة 3: 4حسب ترتيبهم في الأقدمية.
ثالثا: يحتفظ للمندوبين خارج البلاد من الأساتذة ذوي الكراسي بكراسيهم، ويشغل مجلس الكلية هذه الكراسي بمندوبين حتى يعود أصحابها.
رابعا: تكون هيئة التدريس على الوضع الآتي.
1 - أستاذ حرف (أ)، أستاذ حرف (ب)، أستاذ حرف (ج).
2 - أستاذ مساعد حرف (أ)، أستاذ مساعد حرف (ب).
3 - مدرس (أ) مدرس (ب).
وعلى هذا الأساس نظمت هيئات التدريس في كل كلية.(3/196)
وعلى هذا أقر المجلس الأعلى أن تتألف هيئات التدريس في كل كلية على حدة على النحو الآتي:
في كلية أصول الدين
الأساتذة حرف (أ) محمد حبيب والدكتور محمد ماضي.
والأساتذة حرف (ب) عبد العزيز حطاب ومحمد الشافعي الظواهري والدكتور محمود حب الله (1) والدكتور عبد الحليم محمود وعبد القادر خليف.
وعين الأستاذ حسن أبو عرب والأستاذ أحمد حسيب الريس أستاذين حرف (ج)
وتتألف هيئة الأساتذة المساعدين حرف (أ) في كلية أصول الدين من الأساتذة: إبراهيم جمال الدين ومحمود الخضيري ومحمود شاكر عبد الله والشيخ محمد عبد الرحيم سلام وأحمد عيسى الجرجاوي وبركات أحمد بركات والطيب النجار ومحمود سليمان سعد وأحمد علي وإبراهيم البرمبالي وعبده محمد عيسى وحسن شحاته والسيد القناوي والإمام مصطفى وبسيوني نجم الشرقبالي وصالح شرف ومحمد الديناري وإبراهيم المحيص.
وتتألف هيئة الأساتذة المساعدين حرف (ب) في هذه الكلية من الأساتذة. حسن المشد ومحمد الأودن والسنوسي أحمد وعبد الفتاح السرنجاوي والدكتور محمد يوسف موسى (2) ومحمد أحمدين وعبد الحميد شقير وإبراهيم زيدان وعبد الحميد الشاذلي وأبو بكر ذكرى ومحمد يوسف الشيخ والدكتور محمد غلاب ويوسف عبد الرازق وعبد الرازق سليمان وعبد الرحمن شاهين وأحمد صقر وحامد زين الدين وعبد السلام الزنفلي ومحمود
__________
(1) توفي في 12/ 7/ 1974.
(2) توفي في 18ربيع الأول 1383هـ 8أغسطس 1963.(3/197)
العيسوي ومنصور رجب ومحمد سليمان بدير وأبو زيد شلبي ومحمد فتح بدران وطه الدسوقي العربي ومحمد أبو العيون.
وتتألف هيئة المدرسين حرف (أ) في هذه الكلية من الأساتذة:
عبد الحميد إبراهيم ومصطفى يوسف موسى وصالح بكير خورشيد ومحمد المتولي سعد وعلي حموده وعبد الوهاب غزلان وبدوي عبد اللطيف وعبد الحميد بخيت وعبد الفتاح شحاته وعلي مصطفى الغرابي ومحمد علي أبو الروس وسليمان دنيا ومحمد السماحي ومحمد بيصار وحمودة غرابة ومحمد أبو شهبة، وعين المشايخ: علي حبر ومحمود فياض وسليمان خميس مدرسين حرف (ب).
في كلية اللغة العربية
وتتألف هيئة التدريس في كلية اللغة العربية من حضرات الأساتذة:
أستاذ حرف (أ) محمد محي الدين عبد المجيد وعبد الحميد ناصف والدكتور محمد البهي.
أستاذ حرف (ب) أحمد شرف والدكتور محمد الفحام.
أستاذ حرف (ج) محمد علي النجار (1) ومحمد كامل حسن النفاض.
أستاذ مساعد حرف (أ) عبد المتعال الصعيدي وإبراهيم سليم وحامد مصطفى ويوسف شبانه وعبد المعطي الفضالي وعبد السلام يوسف وأحمد عمارة ومحمد طنطاوي كبيش وأحمد الجبالي الجنجيهي وعبد الهادي العدل وأحمد شفيع ومحمود رزق سليم ومحمد صلاح الدين أبو علي.
أستاذ مساعد حرف (ب): عمر مرغني وعبد الحميد عوض وحامد
__________
(1) توفي في 4/ 12/ 1965.(3/198)
عوني وعبد الله الشربيني (1) ومحمد المبارك عبد الله ومحمد سليمان البحري وأحمد ابو غنيم وعبد الغنى إسماعيل ومحمد داود البيهي وعبد السميع شبانه (2) ومحمد عبد الجواد خضير ومحمود مكاوي وجابر إسماعيل ويوسف حسن عمر وإبراهيم أبو عطية وأحمد إبراهيم موسى.
مدرسون حرف (أ): أحمد رياض وعلي عبد الجليل وعبد الخالق سليمان وعبد العزيز أحمد وفهمي العناني وبدير عبد اللطيف وأحمد الحجار وحامد البلتاجي ومحمد مصطفى شحاته ومحمود جميلة ويوسف الضبع وأحمد كحيل ويوسف البيومي البسيوني وعبد الحميد المسلوت وعبد اللطيف سرحان وحنفي عبد المتجلي وحنفي حسنين ومحمد أبو النجا سرحان وزكي غيث ومحمد أحمد عبد الرحيم وأحمد إبراهيم شعراوي وأحمد السيد غالي وعبد الحسيب طه حميده ومحمد نايل أحمد ومحمد عبد الخالق عضيمة ومحمد كامل الفلاح وأحمد عبد العال أبو طالب وعلي إبراهيم البطشة ومحمد قناوي عبد الله وعبد المقصود السعداوي وإبراهيم علي شعوط وسليمان ربيع ومحمد رفعت فتح الله وإبراهيم محمد نجا وحسن محمد الشافعي الظواهري ومحمد يوسف وأمين عبد الله فكري ويحيى محمد عبد العاطي ومحمد جمعة حسنين وصادق خطاب ومحمد السيد نعيم ومحمد كامل الفقي وعبد الحميد عبده عطوه وعبد العاطي محمد مصطفى ورياض هلال ومحمود محمد زيادة وحسن جاد حسن ومحمد عبد المنعم خفاجي، وجاد محمد رمضان وعبد العظيم الشناوي وعبد السلام أبو النجا سرحان ومحمد مصطفى النجار وأحمد مجاهد مصباح وعوض الله جاد حجازي ومحمود فرج العقدة (3).
__________
(1) توفي في 10/ 5/ 1380هـ 31/ 10/ 1960م.
(2) توفي في 21/ 5/ 1968م.
(3) توفي إلى رحمة الله يوم السبت 17من ربيع الثاني 1388هـ 13من يوليو 1968م.(3/199)
في كلية الشريعة (1)
وتتألف هيئة التدريس في كلية الشريعة من حضرات الأساتذة:
أستاذ حرف (أ): محمد الجهني وحامد جاد وعبد الحفيظ الدفتار.
وأستاذ حرف (ب): الدكتور علي عبد القادر ومحمد الشايب وطه سلطان وعبد الله عامر.
وأستاذ حرف (ج): محمد عبد السلام القياني وعثمان صبره ومحمد عبد اللطيف السبكي.
أستاذ مساعد حرف (أ): محمد عبد المجيد الشرنوبي وحسن علي مرزوق ومحمد عبد الله الجزار وعبد الوهاب فره ومحمد سامون وعبد ربه زيادة ومحمد سيد أحمد جاد ومحمد هاشم الشيخ وحسين علي إدريس ومحمد البسيوني زغلول وعبد المجيد دراز وموسى اللباد وشبل يحيى ومحمود عبد الغفار ومحمود عبد الدايم وطه ناصر وسليمان داود وأحمد نور الدين ومحمد حبشي السعداوي ومحمود شهاب وإسماعيل الدوي وسيد شاهين ومحمد يوسف البريري وعبد العزيز نور الدين وإبراهيم سعده.
أستاذ مساعد حرف (ب): محمد بدران وقطب سلامة وعلي عبد المجيد وعلي الجنزوري ومحمد جيرة الله ومحمد علي السايس وحسن المرصفي ومحمد الكشكي وسليمان عبد الفتاح ومحمد عيسى الشنتلي وعبد الحفيظ فرغلي وعبد الله المشد ويوسف المنياوي وسيد شرف وعبد الحميد حمدي ومحمد إسحاق الحداد ومحمد إبراهيم المحمودي ومحسن أبو دقيقة وأحمد المسلمي وطه الديناري ومحمد حسن شبانه ومحمد سليمان حرب وعبد الرحيم فرغلي وعبد العظيم الرولي وعبد العظيم بركه ومصطفى عبد الخالق ويوسف علي يوسف ومحمود خليفة وعبد الحكيم علي مصطفى
__________
(1) كان من عمدائها الشيخ محمد محمد المدني وقد توفي في 3/ 5/ 1968م.(3/200)
ومحمد أبو النور زهير ومحمد السيد طه.
مدرس حرف (أ): محمد محي الدين رزق وأبو العنين شحاته ومصطفى ماجد وعبد العزيز عيسى وبدر المتولى عبد الباسط وجاد الرب رمضان وإبراهيم أبو الخشب وطاهر عبد المجيد عبد الله وشمس الدين عبد الحافظ ومحمد عبد الوهاب بحيري وأحمد أبو سنه وسيد جهلان وعبد الحكم عمارة وعبد الغنى عكاشة وعيسوى أحمد عيسوى وأحمد ندا وعبد الغنى عبد الخالق وإبراهيم الدسوقي الشهاوي ومحمد عبد النبي عبد السلام وطنطاوي مصطفى وحسن مصطفى وهدان وعبد السميع إسماعيل ويوسف شلبي وعبد الوهاب عبد اللطيف وعثمان مريزق ومحمد عبد اللطيف الشافعي وعبد العظيم فياض وعبد العال عطوه وزكي الدين شعبان ومحمد مصطفى شلبي وأحمد محمود الصاوي وإبراهيم عبد المجيد.
مدرس حرف (ب): محمد حسن فايد ومحمد أنيس عباده وعبد القوى عامر الزغبي وأحمد البهي وسيد خليل الجراحي وأحمد محمد سيد الحصري ومحمد محمد فرج سليم وقد وافق المجلس بعد ذلك على ما اقترحته اللجنة من نقل جميع المندوبين من المعاهد في الكليات إلى الكليات بصفة نهائية وقبولهم ضمن هيئة التدريس بالكليات وكذلك وافق على تنظيم هيئة تدريس بالكليات، على أن يختار الأساتذة من بين مدرسي الدرجات الأولى والثانية والثالثة، ثم قرر الوسع في عدد الأساتذة المساعدين بحيث لا يتجاوز في اختيارهم مدرسي الدرجة الرابعة كما قرر أن يكون اختيار المدرسين من الدرجتين الخامسة والسادسة.
أما المدرسون الذين ليست لموادهم كراسي فقد وافق المجلس على أن يوضع لهم كادر مستقل عن الكادر الجامعي يطلق عليه اسم كادر المدرسين النظراء، وأن يكون حكمه في الترقية على أساس الأقدمية المشتركة بينهم.(3/201)
ومنذ تكوين هيئات التدريس حتى اليوم وأساتذة الكليات يطالبون بأن يكون لهم كادر جامعي على غرار كادر الجامعات، وللأسف لم يستجب لطلبهم العادل حتى اليوم.
ومع ذلك فلم يحقق رجاؤهم في فتح أقسام الدراسات العليا المغلقة منذ 1940حتى اليوم، وكان من المأمول افتتاحها لتظل صبغة الأزهر الجامعية موفورة له، ولكن سياسة الأزهر لا تزال هي سياسة الرجعية الثقافية والعلمية، وتعطيل شباب الأزهر من أداء رسالتهم.
أهداف 61916 الأزهر الجامعي
إن هدف الأزهر الجامعي يجب أن يكون هو حمل نصيبه من المسئولية في ترقية العلوم الإسلامية والعربية، والمساهمة في نهضة البلاد العامة، والعناية بالبحث العلمي ومتابعة تطوره على أتم وجه، وتنمية الاستقلال الفكري، وأداء رسالته الدينية أداء كاملا.
ويتصل بهذا أن يعمل الطالب الأزهري بنفسه لنفسه، وألا يكون اعتماده على الأستاذ إلا للتوجيه أو لتوضيح ما استعصى عليه من المسائل.
وأن يبذل الأزهر مزيدا من العناية لتهيئة البيئة الجامعية الصالحة للطلاب، وتوفير أسباب النشاط الديني والروحي والثقافي والاجتماعي والرياضي لهم، وتكوين اتحاد عام ينظم شئونهم الاجتماعية والثقافية.
ويجب أن يكون في كل كلية مجلس للأساتذة والأساتذة المساعدين والمدرسين بإشراف عميد كل كلية، ويكون من اختصاص هذا المجلس ما يلي:
الاختصاصات الإدارية:
(أ) ترشيح المعيدين والأساتذة المساعدين والأساتذة غير ذوي الكراسي.(3/202)
(ب) إعلان خلو مناصب المدرسين والأساتذة ذوي الكراسي.
الاختصاصات الدراسية:
(أ) وضع مناهج التدريس وتوزيعها على سني الدراسة.
(ب) ترتيب الأعمال الدراسية التي يقوم بها أعضاء هيئة التدريس في كل عام.
(ج) الإشراف على التدريس عن طريق الأساتذة وعن طريق تقديم كل عضو تقريرا سنويا عن سير الدراسة في مادته، وما عنده من مقترحات في هذا الشأن.
(د) القيام بأعمال الامتحانات ومتابعة أحوال الطلاب في دراساتهم.
الاختصاصات العلمية:
(أ) تهيئة المحيط العلمي والمكتبات واستقدام أساتذة زائرين للمحاضرة توجيها للبحث العلمي.
(ب) اقتراح البعثات والإجازات المدرسية لاعضاء هيئة التدريس، والإجازات الدراسية تكون إما داخلية يتخفف بها العضو من التدريس، أو ينقطع عنه لبحث علمي بعده. وإما خارجية يسافر إلى بلد أجنبي، لإعداد بحث علمي بعينه ويرسم خطته قبل السفر. وتخصص جوائز لمن يقوم ببحوث علمية ممتازة. ويجوز تفرغ بعض قدماء الأساتذة للبحث العلمي والاقتصار على التدريس في أقسام الدراسات العليا، لتكوين الطلبة في هذه الأقسام، بشرط أن يكون الأستاذ قد سبق له إنتاج علمي ممتاز متكرر، وأن يكون قد بلغ من العمر الستين. وأن توافق اللجنة العلمية الدائمة على تفرغه.
(ج) القيام على نشر البحوث العلمية.
ومن الضروري كذلك فتح أقسام الدراسات العليا في الأزهر وتكون
الدراسة فيها على مرحلتين: مرحلة التحضير للشهادة العالمية، ومرحلة التحضير لشهادة الأستاذية (الدكتوراه) وأن يختار الناجحون من المرحلة الأولى معيدين في الكليات.(3/203)
ومن الضروري كذلك فتح أقسام الدراسات العليا في الأزهر وتكون
الدراسة فيها على مرحلتين: مرحلة التحضير للشهادة العالمية، ومرحلة التحضير لشهادة الأستاذية (الدكتوراه) وأن يختار الناجحون من المرحلة الأولى معيدين في الكليات.(3/204)
الباب الحادي عشر
من تاريخ 61917 الأزهر الأزهر جامعا وجامعة
1
أعرق الجامعات العلمية في العالم، فهي أطولها عمرا، وأجلها أثرا في تاريخ الفكر الإنساني، وفي تاريخ العقل العربي والإسلامي بل في تاريخ العلم وميراث الحضارة كافة.
والأزهر منذ نشأته حارس التراث العربي، وحامل مشعل الثقافة الإسلامية، والملاذ الذي تأوي إليه العلماء، وتهوي إليه أفئدة المسلمين في كل مكان، والضوء الذي ينير لهم الطريق، ويبصرهم سواء السبيل.
وللأزهر مكانته الخالدة في مصر والعالم الإسلامي جميعه، وآراؤه وفتاوى علمائه تقابل من كل مسلم في جميع الشعوب الإسلامية بالتقدير والإجلال والحب العميق.
ولم تقم في مصر الإسلامية جامعة علمية بالمعنى الصحيح قبل الأزهر، صاحب التاريخ الطويل، والذكريات المجيدة، والآثار العلمية والدينية والعقائدية.
وتاريخ العلم في الإسلام يرتبط بالمسجد ارتباطا روحيا وثيقا
فالمسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة، والجامع الأموي في دمشق، وجامع الفسطاط وجامع القيروان، ومسجد البصرة الجامع، ومسجد الزيتونة، ومسجد قرطبة الجامع، ومسجد القرويين بفاس، والأزهر، وسواها كلها كانت مأوى الحلقات العلمية الجامعية في تاريخ الإسلام، والجامعة كذلك نسبة إلى الجامع بمعنى المسجد، وفي ذلك تفسير واضح لصلة المسجد بالثقافة، ولأهمية الثقافة في الإسلام.(3/205)
وتاريخ العلم في الإسلام يرتبط بالمسجد ارتباطا روحيا وثيقا
فالمسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة، والجامع الأموي في دمشق، وجامع الفسطاط وجامع القيروان، ومسجد البصرة الجامع، ومسجد الزيتونة، ومسجد قرطبة الجامع، ومسجد القرويين بفاس، والأزهر، وسواها كلها كانت مأوى الحلقات العلمية الجامعية في تاريخ الإسلام، والجامعة كذلك نسبة إلى الجامع بمعنى المسجد، وفي ذلك تفسير واضح لصلة المسجد بالثقافة، ولأهمية الثقافة في الإسلام.
2
والأزهر، أو جامع القاهرة، كما كان يقال، هذا المسجد الجامعي، قاهري البيئة، فاطمي التأسيسي، أنشأه جوهر العقلي قائد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، بعد قيام دولة الفاطميين في مصر بنحو عام، وقد شرع في بنائه يوم السبت لست بقين من جمادي الأولى سنة 359هـ 970م، ويذكر بعض المؤرخين أنه شرع في بنائه يوم السبت الرابع من رمضان من العام نفسه وكمل بناؤه لسبع خلون من رمضان عام 361هـ 22يونيو 972م. وكان الغرض من إنشائه أن يكون رمزا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية، ومنبرا للدعوة التي حملتها هذه الدولة الجديدة إلى مصر، وأطلق عليه اسم الأزهر نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون، أو لأنه كان يحيط به قصور فخمة تسمى الزهراء، أو لأنه كان يظن أنه أكثر الجوامع فخامة ورواء، أو للتفاؤل بأنه سيكون أعظم المساجد ضياء ونورا. وقد احتفل بافتتاحه في رمضان عام 361هـ، وأصبح مسجد الدولة الرسمي.
وقد حرص وزير المعز والعزيز يعقوب بن كلس على أن يقيما حلقة علمية في الأزهر، حيث كان يقرأ على الناس في مجلس خاص يوم الجمعة مصنفاته في الفقه الفاطمي، كما كان يجتمع يوم الثلاثاء بالفقهاء وجماعة المتكلمين وأهل الجدل.(3/206)
وحرص الخليفة المعز الفاطمي كذلك على تكليف كبار العلماء بإقامة حلقات علمية في أروقة الأزهر لتدريس الفقه الفاطمي، وكان يمنحهم مرتبات شهرية، ومن ثم صار الأزهر جامعة علمية، وظهر ذلك جليا واضحا حينما بدأت حلقاته تتحول إلى دراسات جامعية علمية مستقرة، وذلك عام 378هـ 988م حيث استأذن ابن كلس الخليفة الفاطمي العزيز بالله (386365هـ) في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس من كل جمعة يعين بعد الصلاة حتى العصر، وكان عددهم 37فقيها
وفي عام 380هـ 990م رتب المتصدرون لقراءة العلم بالأزهر وبذلك استكمل الأزهر صبغته الجامعية، وأصبح معهدا جامعيا للعلم والتعليم والدراسة. ومن هذا التاريخ بدأ الأزهر حياته العلمية الخصبة المنتجة.
واستمرت الحركة العلمية والدينية في الأزهر قوية مزدهرة طيلة العصر الفاطمي، ووقفت عليه الدولة الأوقاف الضخمة، وأحاطته برعايتها واهتمامها، وكان في مقدمة وأوائل أساتذته المدرسين فيه بنو النعمان قضاة مصر.
وأول درس ألقي في الأزهر كان في صفر 365هـ في نهاية حكم المعز لدين الله، ألقاه قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان، حيث قرأ فيه مختصر أبيه في فقه آل البيت المسمى «الاقتصار» وحضره العلماء والأمراء، وأثبتت أسماء الحاضرين في سجل خاص أما دروس ابن كلس فبدأت في رمضان عام 369هـ، ولكن جهوده في سبيل تطوير الدراسة في الأزهر كانت سابقة على هذا التاريخ.
ولما أنشأ الحاكم الفاطمي دار العلم (دار الحكمة) لم تزدهر إلا قليلا، وبخاصة في عصر الحاكم نفسه. وبقيت للأزهر منزلته العلمية الرفيعة، وقصده الطلاب من كل مكان، وكان العالم يفخر بأنه أحد أساتذته
أو أنه قد حاضر فيه يوما من الأيام.(3/207)
ولما أنشأ الحاكم الفاطمي دار العلم (دار الحكمة) لم تزدهر إلا قليلا، وبخاصة في عصر الحاكم نفسه. وبقيت للأزهر منزلته العلمية الرفيعة، وقصده الطلاب من كل مكان، وكان العالم يفخر بأنه أحد أساتذته
أو أنه قد حاضر فيه يوما من الأيام.
ويذكر المقريزي في خططه أن النساء كن يحضرن حلقات العلم في الجامع الأزهر [2: 226الخطط للمقريزي].
وممن ألقى محاضراته في الأزهر: المؤيد الشيرازي داعي الدعاة في عهد المستنصر الفاطمي، وأولى محاضراته فيه تقرؤها في كتاب «الأزهر في ألف عام» [1: 32].
ومن أوائل الكتب التي درست في الأزهر: الاقتصار للنعمان القيرواني (363هـ)، وكان يدرسه ابنه علي بن النعمان والرسالة الوزيرية التي ألفها ابن كلس.
وكان التدريس فيه يجري وفق المذهب الشيعي، وشدد على ذلك في باديء الأمر، حتى أنه في عام 381هـ في عهد العزيز قبض على رجل وجد عنده كتاب «الموطأ» للإمام مالك، وجلد من أجل إحرازه [2: 157 الخطط للمقريزي]. وفي عام 416هـ أمر الخليفة الفاطمي بتدريس كتاب «دعائم الإسلام».
ومن أساتذته في العصر الفاطمي كذلك: العلامة الحوفي (ت:
430 - هـ) إمام العربية، وصاحب كتاب «إعراب القرآن» وابن بايشاذ النحوي (469هـ) صاحب كتاب «المقدمة» و «شرح الجمل» وابن القطاع اللغوي صاحب كتاب «الأفعال»، والمسبّحي الوزير الكاتب (420هـ)، والقضاعي (454هـ) وهو من أقطاب الحديث والفقه، وابن زولاق المؤرخ (387هـ)، وابن يونس المنجم (399هـ) وغيرهم.
3
كانت بيئة العلم في مصر قبل الأزهر تتركز في حلقات جامع عمرو، ففيها يتعلم الطلبة، ويحاضر الأساتذة، ويتخرج العلماء والأدباء، وكان من
أوائل الأساتذة الذين درسوا فيه: عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن لهيعة، ثم الليث بن سعد، وعثمان بن سعيد المصري وهو أصحاب القراءات.(3/208)
كانت بيئة العلم في مصر قبل الأزهر تتركز في حلقات جامع عمرو، ففيها يتعلم الطلبة، ويحاضر الأساتذة، ويتخرج العلماء والأدباء، وكان من
أوائل الأساتذة الذين درسوا فيه: عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن لهيعة، ثم الليث بن سعد، وعثمان بن سعيد المصري وهو أصحاب القراءات.
وكان للأمام الشافعي حلقة علمية فيه، يدرس فيها مذهبه، ويدوّن آراءه وعلى يديه تخرج كثير من تلامذته الذين نشروا مذهبه، كالربيع بن سليمان، والمزني والبويطي، وغيرهم، ومن ثم أصبحت السيادة للمذهب الشافعي بعد أن كانت للمذهب المالكي، الذي كان أول من أدخله إلى مصر عثمان بن الحكم الجذامي (163هـ).
وقد تخرج أبو تمام (231هـ) في الأدب والشعر في حلقات مسجد عمرو العلمية، وكان ذو النون المصري (245هـ) ممن تخرج في حلقاته.
ولما أنشىء جامع ابن طولون عام 263هـ في عهد أحمد بن طولون (270252هـ) شارك هذا المسجد الجديد جامع عمرو في رفع مشاعل العلم والثقافة، وأملى الحديث فيه الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي، وصلى فيه القاضي بكار إماما، وخطب فيه أبو يعقوب البلحي.
وكان من أشهر العلماء قبيل انشاء الأزهر ممن كانوا يدرسون في جامع عمرو (المسجد العتيق) وفي المسجد الطولوني: أبو القاسم بن قرير، وتلميذه الكندي المؤرخ المشهور، وأبو القاسم بن طباطبا.
ولما وفد المتنبي إلى مصر عام 346هـ كانت له حلقة في مسجد عمرو، وكانت من أحفل حلقات العلم والأدب والشعر واللغة.
ولما قام الأزهر في عاصمة مصر القاهرة بدأ بفرض سيادته العلمية على كل البيئات الثقافية في مصر، وتأكدت هذه السيادة كذلك على بيئات العلم في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.(3/209)
4
وانتهى العصر الفاطمي بعد أن بلغ الأزهر فيه قمة مجده العلمي.
ولم يكد العصر الأيوبي يبدأ حتى بدأت مكانة الأزهر الدينية تتعرض لضغط الحكام والأمراء، إذ كان الأيوبيون يحاولون القضاء على كل مظاهر التشيع في مصر، ولكن حلقات الأزهر العلمية الجامعية لم تتعرض لمثل ما تعرض له الأزهر جامعا ومسجدا فقد حولت عنه صلاة الجمعة وخطبتها إلى مسجد الحاكم، ولم تعد خطبة الجمعة إلى الأزهر إلا عام 665هـ في عهد بيبرس، وظلت الشخصية العلمية للأزهر قوية.
وكان موسى بن ميمون طبيب صلاح الدين الأيوبي يلقي دروسا في الرياضة والفلك والطب في الأزهر، وكذلك كان عبد اللطيف البغدادي يحاضر في الكلام والبيان والمنطق والطب. وكان لابن الفارض حلقة صوفية فيه.
ومن أشهر علمائه في هذا العصر: الإمام المنذري المحدث وكان يلقب بشيخ الإسلام، وابن أبي الإصبع، والقضطي الوزير، وغيرهم.
5
وفي عصر المماليك، ازدهرت حلقات الأزهر الجامعية، وقصده أعلام الفكر العربي لذلك الحين من أمثال السهروردي، وابن خلدون، وابن منظور، والفيروز أبادي، وغيرهم. كما أمّة الطلاب من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، يقيمون حوله، ويقطنون في أروقته، ويجلسون في حلقاته، ويشاركون في نشاطه العلمي، وقد بلغ عددهم في أوائل القرن الثامن الهجري زهاء 750طالبا، ويقول عالم سوداني من خريجي الأزهر يمدح أحد ملوك الفونج في سنار، وهو السلطان بادي أبو دقن:
أيا راكبا يسري على متن ضامر ... إلى صاحب العلياء والجود والبر
ويطوي إليه شقة البعد والنوى ... ويقتحم الأوعار في المهمة القفر
وينهض من مصر وشاطىء نيلها ... وأزهرها المعمور بالعلم والذكر
ومن أشهر علمائه في ذلك الحين: العز بن عبد السلام الإمام العالم الثائر، صاحب المواقف المجيدة في التاريخ الإسلامي، وابن هشام النحوي، وابن دقيق العيد، والسبكي، والسيوطي، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وكذلك ازدان الأزهر بآلاف العلماء البارزين في علوم الدين والعربية والأدب، ومن بين من تخرج فيه في ذلك العهد: القلقشندي، والدميري، والمقريزي، وغيرهم.(3/210)
أيا راكبا يسري على متن ضامر ... إلى صاحب العلياء والجود والبر
ويطوي إليه شقة البعد والنوى ... ويقتحم الأوعار في المهمة القفر
وينهض من مصر وشاطىء نيلها ... وأزهرها المعمور بالعلم والذكر
ومن أشهر علمائه في ذلك الحين: العز بن عبد السلام الإمام العالم الثائر، صاحب المواقف المجيدة في التاريخ الإسلامي، وابن هشام النحوي، وابن دقيق العيد، والسبكي، والسيوطي، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وكذلك ازدان الأزهر بآلاف العلماء البارزين في علوم الدين والعربية والأدب، ومن بين من تخرج فيه في ذلك العهد: القلقشندي، والدميري، والمقريزي، وغيرهم.
واستكمل الأزهر سيره في العهد العثماني كذلك، محافظا على تراثه، اللغة وعلومها، وعلى الآداب وفنونه، إلى دراساته الإسلامية العتيدة. ومن كبار شيوخه في هذا العهد: الإمام السنباطي (950هـ) ومواقفه في مقاومة طغيان الحكام خالدة، والإمام المهناوي (950هـ)، والعلامة البرماوي (1106هـ)، والشيخ الخرش المالكي أول شيخ للأزهر، ومن عهده صار منصب مشيخة الأزهر من أكبر المناصب العلمية في العالم الإسلامي، وتوفي عام 1101هـ. وخلفه البرماوي [1106هـ]، فالتشرتي (1120هـ)، فالقليني، فالشيخ محمد شثن (1133هـ)، فالشيخ الفيومي (11371062هـ)، فالشيخ عبد الله الشبراوي (1171هـ) وله شعر صوفي رفيع، فالشيخ الحفتي (1100 1181هـ)، وله شعر صوفي رمزي باللغة العربية واللغة الشعبية الدارجة ثم الإمام السجيني (1182هـ)، فالدمنهوري (1192هـ).
وفي عصر الأتراك العثمانيين قاد الأزهر حركات التحرر الكبرى، ومن بينها: ثورة الإمام الشيخ الدردير التي قادها عام (1200هـ يناير 1786م)، وثورة الإمام الشيخ عبد الله الشرقاوي عام 1209هـ 1795 وقد كسب الشعب المصري من الثورة الأولى مبدأ دستوريا جليلا هو وجوب
احترام الحاكم لإرادة المحكومين، وكسب من الثانية مبدأ آخر هو أن الأمة مصدر السلطات، وكانت بمثابة إعلان لحقوق الإنسان سبق به شعب مصر غيره من الشعوب، كما اعترف بذلك المؤرخون في الشرق والغرب.(3/211)
وفي عصر الأتراك العثمانيين قاد الأزهر حركات التحرر الكبرى، ومن بينها: ثورة الإمام الشيخ الدردير التي قادها عام (1200هـ يناير 1786م)، وثورة الإمام الشيخ عبد الله الشرقاوي عام 1209هـ 1795 وقد كسب الشعب المصري من الثورة الأولى مبدأ دستوريا جليلا هو وجوب
احترام الحاكم لإرادة المحكومين، وكسب من الثانية مبدأ آخر هو أن الأمة مصدر السلطات، وكانت بمثابة إعلان لحقوق الإنسان سبق به شعب مصر غيره من الشعوب، كما اعترف بذلك المؤرخون في الشرق والغرب.
وقد حمل علماء الأزهر وطلابه عبء الجهاد لتحرير مصر من الاحتلال الفرنسي منذ دخل جيش نابليون بلادنا فاتحا.
كما قام الأزهر بثورة أخرى بقيادة عمر مكرم في صفر 1220هـ:
1805 - م لإنهاء النفوذ التركي من مصر، وهي الثورة التي استغلها محمد علي، فحولها إلى مغانم شخصية له ولأسرته.
والثورة العرابية هي في الحقيقة ثورة قام بها أحد أبناء الأزهر وخريجيه، وهو الزعيم أحمد عرابي، ووقف علماء الأزهر معه يؤيدونه ويدعمون ثورته، ولكن خيانة توفيق جرت على الوطن الاحتلال الانجليزي البغيض.
وقامت ثورة شعبية بقيادة أزهري آخر هو سعد زغلول، وذلك في مارس من عام 1919، لإنهاء الاحتلال الانجليزي لمصر.
ومن أعظم حركات الإصلاح في العالم الإسلامي في العصر الحديث حركة الإمام محمد عبده، وهو من أجل شيوخ الأزهر، وأعظم علمائه، ومن تلامذته: محمد مصطفى المراغي، عبد المجيد سليم، محمد الأحمدي الظواهري، مصطفى عبد الرزاق، إبراهيم حمروش، محمد مأمون الشناوي، وهم من أشهر شيوخ الأزهر في العصر الحديث.
6
وقد أكد صبغة الأزهر الجامعية شيخان جليلان من كبار شيوخه في العصر الحديث هما: الشيخ محمد الأحمدي الظواهري الذي أصدر قانون رقم 49لسنة 1930بإنشاء كليات جامعية في الأزهر، والشيخ محمد
مصطفى المراغي، الذي أصدر قانون رقم 26لسنة 1936بشأن إصلاح الأزهر وتأكيد الصبغة الجامعية له وإنشاء دراسات عليا فيه.(3/212)
وقد أكد صبغة الأزهر الجامعية شيخان جليلان من كبار شيوخه في العصر الحديث هما: الشيخ محمد الأحمدي الظواهري الذي أصدر قانون رقم 49لسنة 1930بإنشاء كليات جامعية في الأزهر، والشيخ محمد
مصطفى المراغي، الذي أصدر قانون رقم 26لسنة 1936بشأن إصلاح الأزهر وتأكيد الصبغة الجامعية له وإنشاء دراسات عليا فيه.
وكان أعظم حدث علمي في تاريخ الأزهر الحديث هو صدور قانون تطوير الأزهر المعروف بقانون رقم 103لعام 1961، وبمقتضى هذا القانون قامت في الأزهر الجامعة العلمية الكبرى، تضم كليات إسلامية، وكليات علمية، وأخذت من القانون سند وجودها الرسمي، وإن كان لها من التاريخ سند وجودها الفعلي.
وكما تولى مشيخة الأزهر الشيخ حسن مأمون، وإدارة جامعة الأزهر الدكتور محمد البهي، والشيخ أحمد حسن الباقوري
وحلقات الأزهر العلمية الجليلة تعيش اليوم كما كانت تعيش خلال الأجيال، لتحمل عن العالم الإسلامي رسالة الإسلام الروحية والدينية والثقافية، ولتؤديها ناصعة بيضاء كخيوط الفجر، مشرقة هادية كضوء الشمس، ومن هذه الحلقات تخرج زعماء العالم الإسلامي القديم، ويتخرج شباب المسلمين اليوم، لأن هذه الحلقات هي عن جدارة بمثابة مصنع يصنع الرجال والأبطال في كل عصر، وكل مكان من بلاد الإسلام والمسلمين.(3/213)
الجامع 61918 الأزهر (1)
كان بناء (المسجد) أول ما يفكر فيه المسلمون عند إنشاء مدينة جديدة، أو استيلائهم على مدائن غيرهم، وقد وضع هذه السياسة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كتب إلى ولاة الأمصار باتخاذ مساجد للجماعة في العاصمة.
وقد نفذت هذه السياسة في مصر منذ الفتح الإسلامي، حيث أسس عمرو بن العاص مدينة (الفسطاط) سنة 21هـ، وبنى فيها جامعة العتيق.
ولما جاء العباسيون أسس صالح بن العباسي مدينة (العسكر) سنة 133هـ، وبنى الفضل ابنه مسجد العسكر سنة 169هـ، وكان قد ولى مصر من قبل الخليفة المهدي على صلاتها وخراجها، فدخلها سلخ المحرم سنة 169هـ.
فلما استقل أحمد بن طولون بمصر بنى مدينة (القطائع) لتكون عاصمة لدولته سنة 256هـ، ثم أنشأ بها جامعه المشهور سنة 263هـ.
ولما استولى جوهر الصقلى قائد المعز لدين الله الفاطمي على مصر
__________
(1) الوعي الإسلامي ذو الحجة 1388هـ.(3/215)
أسس (القاهرة وبنى بها (الجامع الأزهر) سنة 359هـ، فأنشىء الأزهر غداة ظفر الفاطميين بملك مصر، ومع قيام القاهرة العاصمة الجديدة (1)، فكان الأزهر خير ما خلفه الفاطميون لمصر، بل وللعالم الإسلامي أجمع، فكان بيتا من بيوت الله، يعمر النفوس بالإيمان، ويهديها سواء السبيل، ثم صار جامعة دينية إسلامية كبرى، يؤمها طلاب العلم من جميع الأقطار الإسلامية، ويتخرج فيها العلماء والأئمة في جميع العلوم والفنون.
تاريخ إنشائه
وقد بدىء بإنشاء الأزهر في 24من جمادي الأولى سنة 359هـ (970م)، وتم بناؤه في عامين وبضعة أشهر، وافتتح للصلاة في يوم الجمعة السابع، أو التاسع من رمضان سنة 361هـ (972م)، وسمى (بجامع القاهرة) اسم العاصمة الجديدة، أما تسميته (بالجامع الأزهر) فقد جاءت متأخرة بعد إنشاء القصور الفاطمية في عهد العزيز بالله (365 386هـ) التي أطلق عليها اسم (القصورة الزاهرة) ومن ثم أطلق اسم (الجامع الأزهر)، أو أنه سمي (الجامع الأزهر) تفاؤلا بما سيكون له من مستقبل زاهر، ومكانة سامية بازدهار العلوم فيه، وإن كان المرجح أن هذه التسمية مشتقة من لفظ (الزهراء) لقب السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وزوج الإمام علي رضي الله عنه التي نسبت إليها الدولة الجديدة، وسميت باسمها، وقد ظل المسجد الجديد يعرف (بجامع القاهرة، والجامع الأزهر) ثم تلاشى الاسم الأول مع الزمن وغلب عليه اسم (الجامع الأزهر) إلى اليوم.
__________
(1) دخل جوهر مصر في يوم الثلاثاء 17من شعبان سنة 358هـ، واختط مدينة القاهرة يوم السبت لست بقين من جمادي الآخرة سنة 359هـ بعد عام من فتحه لمصر، وحينما انتقل إليها المعز لدين الله سنة 363هـ أصبحت عاصمة الخلافة الفاطمية.(3/216)
والغرض منه
وكان الغرض من إنشائه أن يكون المسجد الرسمي للدولة في حاضرتها الجديدة، وليكون موطن الدعوة الشيعية، ورمز سيادة الدولة الروحية، وكانت له فوق ذلك أهمية رسمية خاصة، ففيه كان جلوس قاضي القضاة، وفيه مركز المحتسب العام، وفيه كان يعقد كثير من المجالس الخلاقية والقضائية.
فالجامع الأزهر عند إنشائه كانت له الصفة الدينية والرسمية كسائر المساجد الأخرى، غير أنه لم يلبث أن اتخذ له صفة أخرى هي الصفة (العلمية التعليمية)، وذلك عند ما فكر الخلفاء الفاطميون في نشر مذهبهم الجديد، عن طريق دروس تلقى في حلقاته، لأن جامع عمرو، وجامع ابن طولون قد جرت الدراسة فيهما، وفق تقاليد علمية، لا تساير تعاليم المذهب الشيعي الجديد فكان من المناسب أن يكون المسجد الجديد (الأزهر) هو المكان المختار، لنشر تعاليم مذهبهم، وأصبح (الجامع الأزهر) مدرسة علمية يتلقى فيها طلاب العلم ورواده الذين قصدوه من كل صوب مختلف العلوم والفنون، بجانب نشر دعوتهم، ومذهبهم الشيعي الجديد، وسبق الأزهر بصفته العلمية غيره من المساجد الأخرى، التي كانت تقوم إلى جانبه، وظل مدى قرون، ولا يزال مقصد طلاب العلم من كافة أرجاء العالم الإسلامي.
أول درس فيه
وأول درس ألقي في (الجامع الأزهر) ألقاه قاضي القضاة (أبو الحسن علي بن النعمان) في صفر سنة 365هـ في أواخر أيام المعز الفاطمي، قرأ فيه مختصر أبيه في فقه آل البيت المسمى (الاقتصار)، وحضر درسه جمع حافل من العلماء، والكبراء، وأثبتت أسماء الحاضرين
في سجل تخليدا لهذا الحدث الجديد، ثم توالت حلقات بني النعمان، وقد أسهمت هذه الأسرة في نشر المذهب الشيعي، وخدمت الفاطميين في بث دعوتهم، ونشر مذهبهم في المغرب ومصر (1)، وكانت في الواقع دروسا مذهبية خالصة أعدت للدعاية السياسية والمذهبية.(3/217)
وأول درس ألقي في (الجامع الأزهر) ألقاه قاضي القضاة (أبو الحسن علي بن النعمان) في صفر سنة 365هـ في أواخر أيام المعز الفاطمي، قرأ فيه مختصر أبيه في فقه آل البيت المسمى (الاقتصار)، وحضر درسه جمع حافل من العلماء، والكبراء، وأثبتت أسماء الحاضرين
في سجل تخليدا لهذا الحدث الجديد، ثم توالت حلقات بني النعمان، وقد أسهمت هذه الأسرة في نشر المذهب الشيعي، وخدمت الفاطميين في بث دعوتهم، ونشر مذهبهم في المغرب ومصر (1)، وكانت في الواقع دروسا مذهبية خالصة أعدت للدعاية السياسية والمذهبية.
ابن كلس
وفي رمضان سنة 369هـ جلس (يعقوب بن كلس (2)) وزير الخليفة العزيز بالله في الجامع الأزهر، وقرأ على الناس كتابا ألفه في الفقه الشيعي على مذهب الإسماعيلية، وتوالى جلوسه بعد ذلك لقراءته في الأزهر، وكان يحضر دروسه الفقهاء والقضاة، وكبار رجال الدولة، كما كانت له مجالس علم في داره، يجتمع فيها الفقهاء وغيرهم من أهل العلم والمعرفة في سائر العلوم والفنون.
ولم تقف جهود ابن كلس عند هذا الحد، فأراد أن يجعل (الجامع الأزهر) معهدا للدراسة المنظمة المنتظمة، فطلب من الخليفة العزيز بالله تعيين جماعة من الفقهاء للدرس والقراءة في أوقات منتظمة مستمرة وذلك سنة 378هـ، على أن تعقد حلقاتهم في الأزهر، وأن يجري عليهم الأرزاق، فاستحسن الخليفة الفكرة، وأجابه إلى ما طلب، وكانوا
__________
(1) عميد هذه الأسرة هو. النعمان بن محمد الفقيه الشيعي المعروف (بأبي حنيفة النعمان) قدم القاهرة مع المعز وتوفى بها سنة 363هـ، وقد ولى القضاء بعده أبناؤه وأحفاده وأبناء اخوته. (انظر كتاب. التعليم في مصر في العصر الفاطمي الأول للأستاذ خطاب عطية علي، طبعة 1947م، هامش 2ص 105).
(2) ابن كلس، هو أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، كان يهوديّا من أهل بغداد، اتصل بخدمة كافور الأخشيدي بمصر فأظهر خبرة وبراعة، ثم أسلم بعد ذلك فارتفعت مكانته في بلاط كافور، ونال حظوته، ثم أنه رحل إلى المغرب فرارا من وجه الوزير. أبي الفضل جعفر بن الفرات الذي استبد بالأمر في مصر بعد موت كافور، واتصل بالمعز فقر به وأكرمه، ثم وزر لابنه العزيز بالله، وكان يحظى عنده بمكانة ممتازة، فلما اعترته علة الموت عاده الخليفة العزيز بالله، ولما توفى سنة 380هـ صلى عليه، وظهر الحزن في وجهه لفقده، وأمر بغلق الدواوين أياما بعده.(3/218)
نيفا وثلاثين فقيها، فكانوا يحضرون في كل يوم جمعة للصلاة بالأزهر، ويأخذون في قراءة الفقه، ومدارسة الحكمة، وعقائد الدين إلى صلاة العصر.
وهكذا بدأت الدراسة في (الجامع الأزهر)، واتخذ منذ ذلك التاريخ صفته التعليمية، وقصده الطلاب من كل صوب، وأصبح به طلبة متفرغون للدراسة، وقد وفرت الدولة للمدرسين والطلاب ما يعينهم على الدراسة والتحصيل حتى لا تشغلهم مطالب الحياة، أو السعي وراء الرزق، فرتبت لهم الأرزاق والجرايات، وبنت لهم المساكن، وقدمت لهم الكسوة في كل عيد، ويسرت لهم سبل الركوب والانتقال احتراما لهم، وتقديرا لعلمهم، واستطاع (الأزهر) بما فيه من أساتذة رسميين، وطلاب منتسبين تجري عليهم جميعا الأرزاق الدائمة أن يكون معهدا للدرس، وأن يبدأ حياته العلمية الحافلة المديدة.
وكان الصبغة المذهبية هي الغالبة على الدراسة في الأزهر ولا سيما في أول عهده، لأنه كان مركزا لمجالس الحكمة التي كان يعقدها الدعاة فيه، والتي كانت غايتها بث الدعوة الفاطمية، وتوطيد إمامتها، فكانت علوم الشيعة وفقه آل البيت تحتل من حلقاته الدينية المقام الأول، غير أن هذا لم يمنع من تدريس علوم الدين، واللغة وفروعها، وكان للعلوم الدينية بنوع خاص أوفر نصيب، كما كانت تدرس به علوم: الفلسفة، والمنطق، والطب، والرياضيات وإن كان ذلك في حدود ضيقة.
61919 - دار العلم أو دار الحكمة
ظل الجامع الأزهر المركز العلمي الرئيسي للثقافة الشيعية، والعلوم الدينية، والعربية، والكونية حتى ظهر له منافس خطير هو (دار العلم) التي أنشأها الخليفة الفاطمي الحاكم سنة 395هـ (1)، فقد انتزعت منه الكثير من
__________
(1) وقيل انشئت دار العلم سنة 400هـ، وقد عنى الخليفة الحاكم بها عناية بالغة، وألحق بها(3/219)
رواده، وتفوقت عليه، وأثرت في سير الدراسة به، بسبب ما وجد بها من دراسات مختلفة للغة، والمنطق، والفلسفة، والطب والرياضيات في حرية وانطلاق، ولتشجيع الخليفة الحاكم لطلابها، غير أن ازدهار (دار العلم) كان قصيرا، لما انتابها من اضطرابات أخلت بالتعليم فيها، وبقي الأزهر ملاذا للعلوم الدينية، والعربية، ولم يقلل قيام (دار العلم) من شأنه كمعهد للقراءة، والدرس.
وبقيت الصفة (التعليمية) مميزة للجامع الأزهر طوال العصر الفاطمي، فزاد عدد طلابه وأساتذته، وكثرت أروقته، وحلقات التعليم به، ونمت الدراسة فيه وازدهرت، حتى بدأ يجتذب إليه الطلاب والعلماء من خارج مصر، واستطاع أن يكون (جامعة علمية) جليلة القدر، وأن يسدي إلى الدين واللغة أجل الخدمات على مر السنين، حتى غدا كعبة لقصاده من سائر الأقطار الإسلامية، كما قال المقريزي في خططه. «ولم يزل في هذا الجامع الأزهر منذ بني عدة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه، وبلغت عدتهم في هذه الأيام سنة 818هـ سبعمائة وخمسين رجلا ما بين عجم، وزيالعة نسبة إلى زيلع ومن أهل ريف مصر، ومغاربة ولكل طائفة رواق يعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن، ودراسته، وتلقينه، والاشتغال بأنواع العلوم، والفقه، والحديث، والتفسير، والنحو، ومجالس الوعظ، وحلق الذكر، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الأنس بالله، والارتياح، وترويح النفس ما لا يجده في غيره، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البر من الذهب والفضة
__________
مكتبة نقل إليها من قصور الخلافة الكثير من الكتب في سائر العلوم والفنون، وكانت تعرف المكتبة، بدار الحكمة، فدار العلم كانت. مدرسة، ومكتبة، وكذا عرفت. «بدار العلم حينا، وبدار الحكمة حينا آخر»، لأنها جمعت بين ما كانت تقوم به خزائن الحكمة كدور للكتب، وما كانت تقوم به دور العلم من تعليم، وظلت تؤدي رسالتها حتى زالت الدولة الفاطمية سنة 567هـ، على يد صلاح الدين الأيوبي فجعلها مدرسة سنية لدراسة المذهب الشافعي طبقا لسياسته في محاربة التشيع.(3/220)
والفلوس، إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى، وكل قليل تحمل إليه أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات لا سيما في المواسم.
في عهد الدولة الأيوبية
استمر الأزهر في أداء رسالته العلمية، يحمل مشعل المعرفة الوهاج، حتى غدا منار العلم وموئل العلماء طوال العهد الفاطمي، فلما قامت الدولة الأيوبية بدأ نجمه في الأفول، لأن السلطان صلاح الدين الأيوبي قد عمل منذ اللحظة التي استقل فيها بحكم مصر سنة 567هـ على محاربة التشيع، ونشر المذهب السني، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر مركز الدعوة الشيعية أبطلها قاضي القضاة الشافعي في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، المسمى: (صدر الدين عبد الملك بن درباس)، لأن الشافعية لا يجيزون إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد، وأقرها في جامع الحاكم، وبقي الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه نحو مائة عام، إلى أن أعيدت إليه في عهد المماليك (الظاهر بيبرس البندقداري) سنة 665هـ.
في أيام المماليك
غير أن هذه المحنة لم تؤثر فيه، فقد تابع حياته العلمية، ووجد في ظل المماليك الرعاية الكاملة، وبرزت صفته العلمية بروزا واضحا في عصرهم، وتمكن من المحافظة على التراث الإسلامي خلال المحنة التي حلت بالشرق الإسلامي من جراء الغزو المغولي، ثم ما أصيبت به معاهد العلم والمساجد في الأندلس، وبلاد المغرب من ذبول وضعف، مما جعله مقصد العلماء والطلاب من المشرق والمغرب، يجدون في رحابه الملجأ والملاذ، وغدت القاهرة مقر الجامع الأزهر، وكرسي الخلافة الإسلامية قلب العالم الإسلامي النابض، وأمل العروبة والإسلام، واعتبر عصر المماليك بحق. «العصر الذهبي للجامع الأزهر» من حيث الإنتاج العلمي
الممتاز، ومحافظته على التراث الإسلامي، وقيامه على أداء رسالته العلمية والتعليمية للمسلمين كافة، واحتلاله مركز الزعامة.(3/221)
غير أن هذه المحنة لم تؤثر فيه، فقد تابع حياته العلمية، ووجد في ظل المماليك الرعاية الكاملة، وبرزت صفته العلمية بروزا واضحا في عصرهم، وتمكن من المحافظة على التراث الإسلامي خلال المحنة التي حلت بالشرق الإسلامي من جراء الغزو المغولي، ثم ما أصيبت به معاهد العلم والمساجد في الأندلس، وبلاد المغرب من ذبول وضعف، مما جعله مقصد العلماء والطلاب من المشرق والمغرب، يجدون في رحابه الملجأ والملاذ، وغدت القاهرة مقر الجامع الأزهر، وكرسي الخلافة الإسلامية قلب العالم الإسلامي النابض، وأمل العروبة والإسلام، واعتبر عصر المماليك بحق. «العصر الذهبي للجامع الأزهر» من حيث الإنتاج العلمي
الممتاز، ومحافظته على التراث الإسلامي، وقيامه على أداء رسالته العلمية والتعليمية للمسلمين كافة، واحتلاله مركز الزعامة.
في عهد الأتراك
وأصل الأزهر سيره، يؤدي واجبه في خدمة الدين والثقافة بهمة فائقة، ونشاط كبير، حتى منيت البلاد بالفتح التركي العثماني سنة 923هـ (1517م) فحلت بالديار المصرية الكارثة، واغتصب السلطان سليم الأول خير ما فيها من تحف وآثار، وكتب نفيسة، وسلب البلاد عمالها وصناعها، وبعث بكل ذلك إلى القسطنطينية العاصمة، وكان طبيعيا أن يصيب الأزهر ما أصاب البلاد من أضرار جسيمة، فاختفت من رحابه الصفوة الممتازة من علمائه الأعلام، وخفت صوته وانكمشت أهدافه وبرامجه الدراسية، واقتصرت الدراسة فيه على العلوم الدينية، والعربية، واختفت العلوم الرياضية، والفلسفية، والطبية وغيرها من سائر العلوم الكونية، وخيم عليه ركود طويل كاد يقضي عليه، ويخمد أنفاسه.
وحين جاءت الحملة الفرنسية
وعلى غير انتظار احتل الفرنسيون الديار المصرية سنة 1213هـ (1798م) فأيقظت حملتهم الأزهر من سباته، ونبهته من غفوته، ووجد نفسه تحت ضغط الظروف والحوادث، تشارك في الحركة القومية بتعبئة قوى الكفاح الشعبي ضد المستعمر الجديد، وغرس الكراهية في النفوس ضد الفرنسيين، الدخلاء، فلعب دورا سياسيا خطيرا إبان الاحتلال الفرنسي، واحتل موضع القيادة الروحية، والزعامة السياسية في البلاد، فكانت يقظة قومية وطنية قبل أن تكون يقظة علمية، قادها كبار رجال الأزهر بزعامة شيخ الأزهر (الشيخ عبد الله الشرقاوي)، وثارت القاهرة مرتين في وجه الفرنسيين، ثم قتل (كليبر) نائب نابليون بيد (سليمان الحلبي) المنتمي
إلى الأزهر وازعجت هذه الأحداث الفرنسيين، فنزحوا عن البلاد نهائيا بتسليم الجنرال (مينو) في شهر ربيع الآخر سنة 1216هـ (سبتمبر سنة 1801م) بعد أن مكثوا بها ثلاث سنوات وبضعة أشهر، أرهقوا فيها أهل البلاد عامة من أمرهم عسرا، ونالوا من قداسة الجامع الأزهر وكرامة أهله.(3/222)
وعلى غير انتظار احتل الفرنسيون الديار المصرية سنة 1213هـ (1798م) فأيقظت حملتهم الأزهر من سباته، ونبهته من غفوته، ووجد نفسه تحت ضغط الظروف والحوادث، تشارك في الحركة القومية بتعبئة قوى الكفاح الشعبي ضد المستعمر الجديد، وغرس الكراهية في النفوس ضد الفرنسيين، الدخلاء، فلعب دورا سياسيا خطيرا إبان الاحتلال الفرنسي، واحتل موضع القيادة الروحية، والزعامة السياسية في البلاد، فكانت يقظة قومية وطنية قبل أن تكون يقظة علمية، قادها كبار رجال الأزهر بزعامة شيخ الأزهر (الشيخ عبد الله الشرقاوي)، وثارت القاهرة مرتين في وجه الفرنسيين، ثم قتل (كليبر) نائب نابليون بيد (سليمان الحلبي) المنتمي
إلى الأزهر وازعجت هذه الأحداث الفرنسيين، فنزحوا عن البلاد نهائيا بتسليم الجنرال (مينو) في شهر ربيع الآخر سنة 1216هـ (سبتمبر سنة 1801م) بعد أن مكثوا بها ثلاث سنوات وبضعة أشهر، أرهقوا فيها أهل البلاد عامة من أمرهم عسرا، ونالوا من قداسة الجامع الأزهر وكرامة أهله.
في عهد محمد علي
فلما آل حكم الديار المصرية إلى «محمد علي» سنة 1220هـ (1805م) لم يجد الأزهر عطفا من النهضة القومية في بادىء الأمر، ولم يحفظ سيد البلاد الجديد الجميل لعلماء الأزهر الذين ارتقى على أكتافهم إلى منصب الولاية، وابتدأ عهده بالاستيلاء على أملاك الأزهر الخاصة الواسعة، وفقد الأزهر بسبب اغتصاب أوقافه أهم موارده المالية، ومع ذلك فإن رغبة محمد علي في الإصلاح، وفي إقامة بناء دولته الجديدة على أسس سليمة جعلته يرغب في الاسترشاد بالأفكار الأوروبية، فاتجه إلى إرسال البعوث العلمية إلى الخارج، فأنشأ في سنة 1242هـ (1826م) البعثة العلمية إلى باريس، واختار لها نخبة من أنجب طلاب الأزهر ليتلقوا العلم على أساليب جديدة (1)، فكانت هذه خطوة عملية نحو إصلاح الأزهر وإدخال أساليب البحث الحديث فيه، والاهتمام بالعلوم الحديثة التي كانت مهملة، غير أن الأزهر لم يستجب لهذه المحاولة، وظل متمسكا بأسلوبه القديم، كما عارض رجاله بشدة دعوة الزعيمين جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده في إصلاح الأزهر، وضاعت جهودهما في سبيل إصلاح الأزهر هباء، وإن كانت دعوتهما قد أثمرت في خارجه حيث وجدت استجابة من بعض شباب البلاد، ونشأ جيل من المفكرين الأحرار شارك فيما بعد في إصلاح الأزهر.
__________
(1) من بين أعضاء هذه البعثة، رفاعة بك الطهطاوي الذي عد شيخ المترجمين، وإبراهيم بك النبراوي أحد نوابغ البعثة الطبية، وأحمد حسن الرشيدي بك من أكابر خريجي مدرسة الطب، والبعثات، وغيرهم كثير، كان لهم جميعا على النهضة المصرية فضل كبير.(3/223)
لم يحل جهود الأزهريين دون بذل عدة محاولات لإصلاح الأزهر بإصدار القوانين المنظمة له، فصدر أول قانون سنة 1288هـ (1872م) في عهد مشيخة الشيخ محمد العباسي المهدي، وأدخلت بمقتضاه عدة إصلاحات على مناهج الدراسة، ونظام الإدارة، ويقرر إدخال (امتحان الشهادة العالمية، وامتحان الطلاب الراغبين في الحصول عليها، أمام لجنة بعينها شيخ الجامع الأزهر من بين علمائه).
ثم في عهد مشيخة الشيخ سليم البشري صدر القانون رقم 10لسنة 1911م الذي يعتبر من أهم قوانين إصلاح الأزهر في حينه، وأكثرها عناية بمناهجه، وخطة الدراسة فيه، وبمقتضاه حددت اختصاصات شيخ الأزهر، وأنشىء مجلس الأزهر الأعلى، وجماعة كبار العلماء، وشيوخ المذاهب الأربعة، وأدخلت العلوم الحديثة فيه.
كما صدر في عهد مشيخة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري المرسوم بقانون رقم 49لسنة 1930م، الخاص بإعادة تنظيم الجامع الأزهر، والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية، والذي حولت بموجبه الدراسة العالية بالأزهر (القسم العالي) إلى كليات ثلاث، وإلى إنشاء أقسام للتخصص في المادة، والمهنة بعد الحصول على الشهادة العالية من إحدى الكليات، ولذا فإن هذا القانون يعتبر بحق أول خطوة رسمية في تمكين الجامع الأزهر من مسايرة التقدم العلمي والاجتماعي في العصر الحاضر في تزويد طلابه بما يجب أن يحيط به رجل الدين الحديث من العلوم ومن الاتجاهات.
مشيخة الشيخ المراغي
ثم كانت خطوة أوسع نحو الإصلاح على عهد مشيخة الشيخ محمد مصطفى المراغي الثانية (19451935م) بصدور المرسوم بقانون رقم 26لسنة 1936م، وقد نجح هذا القانون في معالجة الكثير من مشاكل
الإصلاح في الأزهر، وفي النهوض بالأزهر إلى مستوى الجامعات الحديثة الكبرى، وقد أرفق الشيخ المراغي مشروع هذا القانون بمذكرة أوضح فيها وجهة نظره، وأنه يريد للأزهر أن يساير الحياة المعاصرة عن فهم وإدراك، كما أنه يريد بهذا الإصلاح أن يفي الأزهر بالأغراض التي تحقق آمال المسلمين فيه، وترجع به إلى عصوره الزاهرة من البحث العلمي السليم، والتفكير الحر، ودراسة الفنون التي تتفق مع طابعه القديم، وتطابق مقتضيات العصر، وتلبي رغباته، وأن يتصل بالنهضة الحديثة في الغرب عن طريق تعلم اللغات الأجنبية ليرد شبهات المضللين، ويدفع التهم الموجهة إلى الدين في كتابات الأجانب المغرضين، ويفيد من طريقة وضعهم للكتب، ومعالجتهم للمسائل العلمية، ونورد فيما يلي بعض فقرات من تلك المذكرة، فقد جاء فيها. «ونحن إذ نحاول إصلاح الأزهر نريد أن نوجد طالبا يفهم مسائل العلم فهما صحيحا، ويفهم أغراضها، وصلتها بأدلتها، وصلتها بعضها ببعض، ويستطيع التطبيق على الجزئيات، ويستطيع الاستنباط والتدليل، ويستطيع فهم الكتب القديمة التي ألفت في العصور المختلفة في جميع الفنون الإسلامية،، وأحب أن توجد كتب في جمع الفنون الحديثة على أسلوب عربي صحيح مناسب لأذواق الأجيال الحاضرة، تهذب فيه المسائل على أحسن ما وصل إليه التحقيق العلمي، وأن تحيا الكتب القديمة الجيدة في الأسلوب والوضع،، هذا الذي نحاوله بالتجديد. يجب على ما أرى أن يضعه الناس أمامهم، وأن يجدوا للوصول إليه،، ولقد كان أسلافنا أشد الناس عناية بالعلم، فلم يمض الزمن القليل حتى أخذوا علم اليونان، وأدب الفرس، وحكمة الهند واستعانوا بذلك كله في تفسير القرآن، وفي وضع علم الكلام على الأسس التي نراها في مثل المواقف والمقاصد، واستعانوا به في تنظيم مسائل العلوم جميعها، فلم يخل علم من أثر الفلسفة والمنطق، ولقد كانت لهم محاولات جديرة بالإعجاب في التوفيق بين الدين
ونظريات الفلسفة، وتغيرت نظريات الفلسفة، وحدثت نظريات أخرى، وكان من شأن هذا كله أن توجه على الأديان جملة، وعلى الإسلام خاصة حملات، وصار من الواجب الحتم على علماء المسلمين أن يحيطوا علما بكل ما يوجه إلى الأديان عامة، وإلى الإسلام خاصة من مطاعن، وأن يردوا تلك المطاعن التي توجه إلى الإسلام، ويذودوا عن عقيدتهم بأدلة ناصعة، وأسلوب مقنع ممتع، ليجنبوا المتعلمين تعليما مدنيا الشبه الزائفة، وليضموا إلى الإسلام أفرادا وشعوبا من الأمم التي تتطلع إلى الإسلام، وتبتغي الوقوف على خصائصه ومزاياه، وهذا لا يتم لهم على ما ينبغي إلا بالاتصال بغيرهم اتصالا علميا، وبتعرف اللغات الحية التي يكثر فيها الانتاج العلمي، والتي يتناول بها العلماء مسائل الإسلام، ومسائل اللغة العربية، لذلك وجب أن يكون لأهل الأزهر نصيب من هذه اللغات، وهنالك فائدة أخرى لتعلم اللغات، وهي أنها تساعد على معرفة طريقة وضع الكتب، وعلى معرفة الأسلوب الحديث في التأليف والتفكير، وطريقة عرض المسائل على أنظار المتعلمين الخ».(3/224)
ثم كانت خطوة أوسع نحو الإصلاح على عهد مشيخة الشيخ محمد مصطفى المراغي الثانية (19451935م) بصدور المرسوم بقانون رقم 26لسنة 1936م، وقد نجح هذا القانون في معالجة الكثير من مشاكل
الإصلاح في الأزهر، وفي النهوض بالأزهر إلى مستوى الجامعات الحديثة الكبرى، وقد أرفق الشيخ المراغي مشروع هذا القانون بمذكرة أوضح فيها وجهة نظره، وأنه يريد للأزهر أن يساير الحياة المعاصرة عن فهم وإدراك، كما أنه يريد بهذا الإصلاح أن يفي الأزهر بالأغراض التي تحقق آمال المسلمين فيه، وترجع به إلى عصوره الزاهرة من البحث العلمي السليم، والتفكير الحر، ودراسة الفنون التي تتفق مع طابعه القديم، وتطابق مقتضيات العصر، وتلبي رغباته، وأن يتصل بالنهضة الحديثة في الغرب عن طريق تعلم اللغات الأجنبية ليرد شبهات المضللين، ويدفع التهم الموجهة إلى الدين في كتابات الأجانب المغرضين، ويفيد من طريقة وضعهم للكتب، ومعالجتهم للمسائل العلمية، ونورد فيما يلي بعض فقرات من تلك المذكرة، فقد جاء فيها. «ونحن إذ نحاول إصلاح الأزهر نريد أن نوجد طالبا يفهم مسائل العلم فهما صحيحا، ويفهم أغراضها، وصلتها بأدلتها، وصلتها بعضها ببعض، ويستطيع التطبيق على الجزئيات، ويستطيع الاستنباط والتدليل، ويستطيع فهم الكتب القديمة التي ألفت في العصور المختلفة في جميع الفنون الإسلامية،، وأحب أن توجد كتب في جمع الفنون الحديثة على أسلوب عربي صحيح مناسب لأذواق الأجيال الحاضرة، تهذب فيه المسائل على أحسن ما وصل إليه التحقيق العلمي، وأن تحيا الكتب القديمة الجيدة في الأسلوب والوضع،، هذا الذي نحاوله بالتجديد. يجب على ما أرى أن يضعه الناس أمامهم، وأن يجدوا للوصول إليه،، ولقد كان أسلافنا أشد الناس عناية بالعلم، فلم يمض الزمن القليل حتى أخذوا علم اليونان، وأدب الفرس، وحكمة الهند واستعانوا بذلك كله في تفسير القرآن، وفي وضع علم الكلام على الأسس التي نراها في مثل المواقف والمقاصد، واستعانوا به في تنظيم مسائل العلوم جميعها، فلم يخل علم من أثر الفلسفة والمنطق، ولقد كانت لهم محاولات جديرة بالإعجاب في التوفيق بين الدين
ونظريات الفلسفة، وتغيرت نظريات الفلسفة، وحدثت نظريات أخرى، وكان من شأن هذا كله أن توجه على الأديان جملة، وعلى الإسلام خاصة حملات، وصار من الواجب الحتم على علماء المسلمين أن يحيطوا علما بكل ما يوجه إلى الأديان عامة، وإلى الإسلام خاصة من مطاعن، وأن يردوا تلك المطاعن التي توجه إلى الإسلام، ويذودوا عن عقيدتهم بأدلة ناصعة، وأسلوب مقنع ممتع، ليجنبوا المتعلمين تعليما مدنيا الشبه الزائفة، وليضموا إلى الإسلام أفرادا وشعوبا من الأمم التي تتطلع إلى الإسلام، وتبتغي الوقوف على خصائصه ومزاياه، وهذا لا يتم لهم على ما ينبغي إلا بالاتصال بغيرهم اتصالا علميا، وبتعرف اللغات الحية التي يكثر فيها الانتاج العلمي، والتي يتناول بها العلماء مسائل الإسلام، ومسائل اللغة العربية، لذلك وجب أن يكون لأهل الأزهر نصيب من هذه اللغات، وهنالك فائدة أخرى لتعلم اللغات، وهي أنها تساعد على معرفة طريقة وضع الكتب، وعلى معرفة الأسلوب الحديث في التأليف والتفكير، وطريقة عرض المسائل على أنظار المتعلمين الخ».(3/225)
ثم كانت خطوة أوسع نحو الإصلاح على عهد مشيخة الشيخ محمد مصطفى المراغي الثانية (19451935م) بصدور المرسوم بقانون رقم 26لسنة 1936م، وقد نجح هذا القانون في معالجة الكثير من مشاكل
الإصلاح في الأزهر، وفي النهوض بالأزهر إلى مستوى الجامعات الحديثة الكبرى، وقد أرفق الشيخ المراغي مشروع هذا القانون بمذكرة أوضح فيها وجهة نظره، وأنه يريد للأزهر أن يساير الحياة المعاصرة عن فهم وإدراك، كما أنه يريد بهذا الإصلاح أن يفي الأزهر بالأغراض التي تحقق آمال المسلمين فيه، وترجع به إلى عصوره الزاهرة من البحث العلمي السليم، والتفكير الحر، ودراسة الفنون التي تتفق مع طابعه القديم، وتطابق مقتضيات العصر، وتلبي رغباته، وأن يتصل بالنهضة الحديثة في الغرب عن طريق تعلم اللغات الأجنبية ليرد شبهات المضللين، ويدفع التهم الموجهة إلى الدين في كتابات الأجانب المغرضين، ويفيد من طريقة وضعهم للكتب، ومعالجتهم للمسائل العلمية، ونورد فيما يلي بعض فقرات من تلك المذكرة، فقد جاء فيها. «ونحن إذ نحاول إصلاح الأزهر نريد أن نوجد طالبا يفهم مسائل العلم فهما صحيحا، ويفهم أغراضها، وصلتها بأدلتها، وصلتها بعضها ببعض، ويستطيع التطبيق على الجزئيات، ويستطيع الاستنباط والتدليل، ويستطيع فهم الكتب القديمة التي ألفت في العصور المختلفة في جميع الفنون الإسلامية،، وأحب أن توجد كتب في جمع الفنون الحديثة على أسلوب عربي صحيح مناسب لأذواق الأجيال الحاضرة، تهذب فيه المسائل على أحسن ما وصل إليه التحقيق العلمي، وأن تحيا الكتب القديمة الجيدة في الأسلوب والوضع،، هذا الذي نحاوله بالتجديد. يجب على ما أرى أن يضعه الناس أمامهم، وأن يجدوا للوصول إليه،، ولقد كان أسلافنا أشد الناس عناية بالعلم، فلم يمض الزمن القليل حتى أخذوا علم اليونان، وأدب الفرس، وحكمة الهند واستعانوا بذلك كله في تفسير القرآن، وفي وضع علم الكلام على الأسس التي نراها في مثل المواقف والمقاصد، واستعانوا به في تنظيم مسائل العلوم جميعها، فلم يخل علم من أثر الفلسفة والمنطق، ولقد كانت لهم محاولات جديرة بالإعجاب في التوفيق بين الدين
ونظريات الفلسفة، وتغيرت نظريات الفلسفة، وحدثت نظريات أخرى، وكان من شأن هذا كله أن توجه على الأديان جملة، وعلى الإسلام خاصة حملات، وصار من الواجب الحتم على علماء المسلمين أن يحيطوا علما بكل ما يوجه إلى الأديان عامة، وإلى الإسلام خاصة من مطاعن، وأن يردوا تلك المطاعن التي توجه إلى الإسلام، ويذودوا عن عقيدتهم بأدلة ناصعة، وأسلوب مقنع ممتع، ليجنبوا المتعلمين تعليما مدنيا الشبه الزائفة، وليضموا إلى الإسلام أفرادا وشعوبا من الأمم التي تتطلع إلى الإسلام، وتبتغي الوقوف على خصائصه ومزاياه، وهذا لا يتم لهم على ما ينبغي إلا بالاتصال بغيرهم اتصالا علميا، وبتعرف اللغات الحية التي يكثر فيها الانتاج العلمي، والتي يتناول بها العلماء مسائل الإسلام، ومسائل اللغة العربية، لذلك وجب أن يكون لأهل الأزهر نصيب من هذه اللغات، وهنالك فائدة أخرى لتعلم اللغات، وهي أنها تساعد على معرفة طريقة وضع الكتب، وعلى معرفة الأسلوب الحديث في التأليف والتفكير، وطريقة عرض المسائل على أنظار المتعلمين الخ».
بهذا الإصلاح يكون الشيخ المراغي قد أتم ما بدأه الشيخ محمد عبده، وقد كرس الشيخ المراغي فترة السنوات العشر التي أعقبت صدور القانون رقم 26لسنة 1936م على تنفيذ هذه الإصلاحات حتى لقي ربه في الثاني والعشرين من أغسطس سنة 1945م رحمه الله.
وقد تعاقب على كرسي مشيخة الجامع الأزهر بعد الشيخ المراغي عدد من جلة شيوخ الأزهر هم. الشيخ مصطفى عبد الرزاق، وكان مؤمنا بالإصلاحات التي أدخلها الشيخ المراغي، غير أن المنية قد عاجلته سنة 1947م ثم الشيخ محمد مأمون الشناوي، والشيخ عبد المجيد سليم للمرة الأولى، والشيخ إبراهيم حمروش، والشيخ عبد المجيد سليم للمرة الثانية، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ محمود شلتوت، وقد صدرت خلال هذه الحقبة عدة قوانين معدلة للقانون
رقم 26لسنة 1936م، والقانون رقم 40لسنة 1956م، ثم القرار الجمهوري رقم 1525لسنة 1959م، وكلها تستهدف إصلاح الأزهر والنهوض به، والارتفاع بمستواه العلمي والمادي.(3/226)
وقد تعاقب على كرسي مشيخة الجامع الأزهر بعد الشيخ المراغي عدد من جلة شيوخ الأزهر هم. الشيخ مصطفى عبد الرزاق، وكان مؤمنا بالإصلاحات التي أدخلها الشيخ المراغي، غير أن المنية قد عاجلته سنة 1947م ثم الشيخ محمد مأمون الشناوي، والشيخ عبد المجيد سليم للمرة الأولى، والشيخ إبراهيم حمروش، والشيخ عبد المجيد سليم للمرة الثانية، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ محمود شلتوت، وقد صدرت خلال هذه الحقبة عدة قوانين معدلة للقانون
رقم 26لسنة 1936م، والقانون رقم 40لسنة 1956م، ثم القرار الجمهوري رقم 1525لسنة 1959م، وكلها تستهدف إصلاح الأزهر والنهوض به، والارتفاع بمستواه العلمي والمادي.
وهكذا تقلبت الأحوال بالأزهر من عسر ويسر، وذاق خلالها حلاوة العزة والقوة، ومرارة الوهن والضعف خلال فترة تجاوزت الألف عام من عمره المديد، ورغم الظروف والأحداث التي مرت به لم يقصر في أداء واجبه، وظل عامرا بالطلاب، زاخرا بالعلماء يؤدي رسالته العلمية والوطنية في ثقة واطمئنان، وأخيرا صدر القانون رقم 103لسنة 1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر، والهيئات التي يشملها في عهد الشيخ محمود شلتوت، وأصبح الجامع الأزهر لأول مرة بموجب هذا القانون (جامعة)، وأضيف إليه عدد من الكليات بجانب كلياته الثلاث السابقة، وأصبحت كليات (جامعة الأزهر) الجديدة اليوم هي، المعاملات والإدارة (التجارة) والبنات الإسلامية، والهندسة والصناعات، والطب، والزراعة، والتربية، وقد ترك الباب مفتوحا لإنشاء كليات أخرى غير الكليات التسع ومعاهد عالية طبقا لحاجة التطور ومسايرته.
وكان هذا التطور الجديد ضرورة تحتمها الحياة المعاصرة، وتقتضيها ظروف المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي الذين ينظرون إلى الأزهر على أنه من بين مقدساتهم، لجليل نفعه، وعظيم أثره في خدمة علوم الدين واللغة، وحفظ تراث الإسلام والعروبة.
وقد نوهت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 103لسنة 1961م بمكانة الأزهر، وما يرجى له من مستقبل، وبما يمكن أن يؤديه من خدمات جليلة في جميع أجراء العالم الإسلامي بعد إعداد أهله وفق أهداف هذا القانون، فقد جاء فيها: «لقد قام الأزهر بدور عظيم في تاريخ العلم، وفي تاريخ الإسلام، وفي تاريخ العروبة، وفي تاريخ الكفاح القومي على توالي
العصور، ووقف قلعة شامخة في وجه كل المحاولات لاستعبادنا، والسيطرة علينا، وتحطيم كياننا القومي والروحي»، «وكانت التقاليد العلمية في الأزهر أساسا للنظام الجامعي، والتقاليد الجامعية في كل بلاد الدنيا، فهو أقدم جامعة في العالم، وإن لم يكن اسمه بين أسماء جامعاتنا».(3/227)
وقد نوهت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 103لسنة 1961م بمكانة الأزهر، وما يرجى له من مستقبل، وبما يمكن أن يؤديه من خدمات جليلة في جميع أجراء العالم الإسلامي بعد إعداد أهله وفق أهداف هذا القانون، فقد جاء فيها: «لقد قام الأزهر بدور عظيم في تاريخ العلم، وفي تاريخ الإسلام، وفي تاريخ العروبة، وفي تاريخ الكفاح القومي على توالي
العصور، ووقف قلعة شامخة في وجه كل المحاولات لاستعبادنا، والسيطرة علينا، وتحطيم كياننا القومي والروحي»، «وكانت التقاليد العلمية في الأزهر أساسا للنظام الجامعي، والتقاليد الجامعية في كل بلاد الدنيا، فهو أقدم جامعة في العالم، وإن لم يكن اسمه بين أسماء جامعاتنا».
(ومن علم الأزهر شع نور الإسلام في بلاد كثيرة من أفريقيا، ومن آسيا، وأزداد عدد المسلمين عشرات الملايين، وكانت بعوث الأمم المختلفة إلى الأزهر سببا لتوثيق علاقاتنا ببلاد كثيرة، وشعوب كثيرة منذ أقدم العصور إلى اليوم، وقد اكتسب اسم الأزهر بذلك قدسية، واكتسب المنتسبون إليه احتراما، وصار رأيه هو الرأي في كل ما يتعلق بالعقيدة والشريعة، وصار هو الجامعة الإسلامية الكبرى في الشرق والغرب، لا يطلب أحد علوم الإسلام إلا عن طريق الأزهر، ولا تتجه قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى معهد يفد إليه أولادهم للتزود من أسباب المعرفة غير الأزهر الخ).
ثم تناولت المذكرة بالتفصيل المبادىء التي تحقق ما يهدف إليه القانون من إصلاح الأزهر حتى يعود إليه شبابه، وترتفع مكانته، وينهض برسالته في الداخل والخارج ويصبح ابن الأزهر قادرا على المشاركة بدور إيجابي نافع لمجتمعه خاصة، والمجتمع الإسلامي عامة، «وحتى يتوافر للأمة نوع من الخبرات التي تملك إلى جانب العقيدة الواعية كفاية عملية ومهنية وعلمية، تشارك في مجالات العلم والإنتاج في نفس الوقت الذي تدعو فيه إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة».
فالأزهر اليوم سيد جامعات الإسلام دون منازع، وإليه يرجع الفضل في صيانة الثقافة الإسلامية العربية في ظلمات العصر التركي العثماني بمصر، وفي مقدور الأزهر اليوم أن يشق طريقه في ظل هذا التطوير، وتلك الرعاية التي تظله بها الدولة ليؤدي إلى العالم الإسلامي أعظم الخدمات،
ويضيف إلى مآثره القديمة مجدا جديدا إذا جدد نفسه، وفهم رسالة الإسلام العلمية كما كان يفهمها سلفنا العظيم، حتى تتأكد زعامته، وتتألق مشاعل المعرفة من أرجائه، حتى يعم نورها أرجاء المعمورة، ذلك ما نرجوه، والله ولي التوفيق.(3/228)
فالأزهر اليوم سيد جامعات الإسلام دون منازع، وإليه يرجع الفضل في صيانة الثقافة الإسلامية العربية في ظلمات العصر التركي العثماني بمصر، وفي مقدور الأزهر اليوم أن يشق طريقه في ظل هذا التطوير، وتلك الرعاية التي تظله بها الدولة ليؤدي إلى العالم الإسلامي أعظم الخدمات،
ويضيف إلى مآثره القديمة مجدا جديدا إذا جدد نفسه، وفهم رسالة الإسلام العلمية كما كان يفهمها سلفنا العظيم، حتى تتأكد زعامته، وتتألق مشاعل المعرفة من أرجائه، حتى يعم نورها أرجاء المعمورة، ذلك ما نرجوه، والله ولي التوفيق.(3/229)
بين 61920 الأزهر وجامعة القرويين
هناك التشابه بين الأزهر الذي قام بالقاهرة وجامع القرويين الذي قام بفاس في نقطة البداية. كل منهما قام على أنه مسجد، ثم أصبح بعد ذلك مسجدا جامعا لفترة من الفترات، ثم مقرا للدراسات الإسلامية والعربية.
وعند ما صار كل منهما مقرا للدراسات الإسلامية والعربية تناولت الدراسة فيهما جميع فروع المعرفة المختلفة التي يتكون منها التراث الإسلامي والعربي.
فبجانب علوم اللغة والفقه وعلوم التفسير والحديث والعلوم الأخرى الدينية كانت الطبيعة وكان الطب وكانت الرياضة وكانت الفلسفة، كل منها يكون جانبا من جوانب فروع المعرفة التي عنى بها الأزهر وجامع القرويين.
وكان لكل فرع من هذه الفروع علماء مبرزون هنا وهناك يرحل إليهم طلاب العلم ويقيمون لديهم فترة طويلة أو قصيرة للتلمذة عليهم في موضوع المعرفة والتعرف على منهجهم في البحث. وكان من أشهر العلماء في الأزهر الأئمة العلماء: ابن الحاجب، وخليل والخرشي، والزرقاني، والعدوي، والدرديري، والأمير، والبناني، وابن السبكي، وجلال الدين المحلي، والسيوطي، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وابن حجر، والعيني،
والأسنوي، والأشموني، والصبان، والملوي، وابن الهيثم الذي وضع الأسس العلمية لنظريات نيوتن في علم الطبيعة. وكان من أشهرهم في القرويين: الأئمة العلماء الحافظ أحمد بن علي بن قاسم الزقاق، والمفتي محمد بن قاسم القصار، والفقيه أحمد بن محمد بن يوسف الصنهاجي، والمتكلم أبو عمرو السلالجي وهو من طبقة أبي المعالي الجويني في الشرق، والمحدث ابن رشيد السبتي والحافظ أبو العلاء العراقي، واللغوي ابن زاكور، والرياضي ابن البناء المراكشي، والطبيب أبو القاسم الوزير(3/231)
وكان لكل فرع من هذه الفروع علماء مبرزون هنا وهناك يرحل إليهم طلاب العلم ويقيمون لديهم فترة طويلة أو قصيرة للتلمذة عليهم في موضوع المعرفة والتعرف على منهجهم في البحث. وكان من أشهر العلماء في الأزهر الأئمة العلماء: ابن الحاجب، وخليل والخرشي، والزرقاني، والعدوي، والدرديري، والأمير، والبناني، وابن السبكي، وجلال الدين المحلي، والسيوطي، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وابن حجر، والعيني،
والأسنوي، والأشموني، والصبان، والملوي، وابن الهيثم الذي وضع الأسس العلمية لنظريات نيوتن في علم الطبيعة. وكان من أشهرهم في القرويين: الأئمة العلماء الحافظ أحمد بن علي بن قاسم الزقاق، والمفتي محمد بن قاسم القصار، والفقيه أحمد بن محمد بن يوسف الصنهاجي، والمتكلم أبو عمرو السلالجي وهو من طبقة أبي المعالي الجويني في الشرق، والمحدث ابن رشيد السبتي والحافظ أبو العلاء العراقي، واللغوي ابن زاكور، والرياضي ابن البناء المراكشي، والطبيب أبو القاسم الوزير
وكان هناك تشابه بين الأزهر وجامع القرويين في طريقة الدرس وفي منهاج البحث: فكانت هناك الحلقة، وكانت هناك المناقشة، وكانت هناك المحاضرة والتعقيب عليها، وكان أسلوب الدراسة في واقع أمره أسلوبا لتربية العقل، وتخطيط طريق التفكير والوصول إلى الحق في ذاته. وما كان للجامع الأزهر ولجامع القرويين من أسلوب في البحث إذ ذاك هو ما للجامعات المعاصرة اليوم في منهج البحث.
وهناك التشابه فيما طرأ على التعليم في كل منهما من تغيير وما أصابه من تقلبات، تبعا للعهود السياسية التي مرت على كل من القاهرة وفاس:
فنجد تشابها في طابع التعليم أيام أن حكم الفاطميون في مصر والأدارسة في المغرب، وتشابها في طابع التعليم أيام حكم الأيوبيون بمصر والموحدون بالمغرب. كما نجد تشابها في إطار المعرفة نفسه: اتسع فترة فشمل جميع الفروع المختلفة التي يضمها اسم التراث الإسلامي والعربي، وضاق في فترة أخرى فلم يشمل علوم الرياضة والطبيعة والطب والفلسفة.
وهناك تشابه كذلك بين الأزهر والقرويين فيما مر على التعليم في كل منهما من مراحل الإصلاح والتطور: سواء في طريقة التعليم أو في نظام الاختبار أو في تعدد المراحل أو في منهاج المواد، أو في تغيير الكتاب:
فقسمت مراحل التعليم في كل منهما إلى ثلاث، وأخذ بنظام المحاضرة
بجانب نظام الحلقة في طريقة التدريس، ورتبت كتب التعليم على حسب ما بينها من اختلاف في الحجم وفي أسلوب التعبير، وعلى أية حال لم ينتقل التعليم في كل منهما طفرة ليساير الوضع الغربي سواء بسواء بسبب ما لكل منهما من طابع المحافظة على ما ورثناه من تراث روحي وفكري وعلمي، وما لهما من طابع التمسك بالقيم التي خلفها آباؤنا في حياتنا وتوارثناها جيلا بعد جيل. وربما كان لهذا الطابع الذي للأزهر وجامع القرويين على السواء دخل كبير في مقاومة الغزو الفكري، والغزو السياسي والاقتصادي للوطن العربي.(3/232)
فقسمت مراحل التعليم في كل منهما إلى ثلاث، وأخذ بنظام المحاضرة
بجانب نظام الحلقة في طريقة التدريس، ورتبت كتب التعليم على حسب ما بينها من اختلاف في الحجم وفي أسلوب التعبير، وعلى أية حال لم ينتقل التعليم في كل منهما طفرة ليساير الوضع الغربي سواء بسواء بسبب ما لكل منهما من طابع المحافظة على ما ورثناه من تراث روحي وفكري وعلمي، وما لهما من طابع التمسك بالقيم التي خلفها آباؤنا في حياتنا وتوارثناها جيلا بعد جيل. وربما كان لهذا الطابع الذي للأزهر وجامع القرويين على السواء دخل كبير في مقاومة الغزو الفكري، والغزو السياسي والاقتصادي للوطن العربي.
ويسوقنا من أجل ذلك الحديث عن وجه التشابه بين الأزهر وجامع القرويين في موقف كل منهما تجاه المستعمرين الغازين، وفيما قام به كل منهما من حمل راية الجهاد والكفاح ضد المستعمر الأجنبي، وفيما أصاب كلا منهما من نقمة المستعمر وعنته، وفيما سببه المستعمر لحملة التراث الإسلامي والعربي في كل منهما من أذى وأضرار مادية وأدبية في المجتمع العربي الخاص والعام، وفيما ضيقه من خناق على هؤلاء وأقامه من عقبات في سبيل سعيهم في الحياة، وفي الحصول على وضع في المجتمع يجعل منهم مواطنين لهم ما لمواطنيهم الآخرين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات.
وهناك التشابه بين الأزهر والقرويين في حفظ التراث الإسلامي والعربي وصيانته من التبديد والضياع، فلم تفتر عناية كل منهما عن رعاية حفظ القرآن الكريم ودرسه وتفهم معانيه ولم تفتر رعاية كل منهما عن نقل ما كان للأولين العرب والمسلمين إلى خلفائهم من بعد جيلا بعد جيل من أفهام في القرآن، ومن حلول لمشاكل الحياة ومن معارف كانت تدور في محيطهم الثقافي. وقد كانت صدور علماء وطلاب كل من الأزهر وجامع القرويين مقرا للقرآن الكريم، وكانت عقولهم مرجعا لتفكير المسلمين، وكانت
ألسنتهم تنطق بأسلوب كتاب الله، وهو الأسلوب العربي المبين، فحفظوا القرآن من التحريف، وحفظوا التفكير من الضياع.(3/233)
وهناك التشابه بين الأزهر والقرويين في حفظ التراث الإسلامي والعربي وصيانته من التبديد والضياع، فلم تفتر عناية كل منهما عن رعاية حفظ القرآن الكريم ودرسه وتفهم معانيه ولم تفتر رعاية كل منهما عن نقل ما كان للأولين العرب والمسلمين إلى خلفائهم من بعد جيلا بعد جيل من أفهام في القرآن، ومن حلول لمشاكل الحياة ومن معارف كانت تدور في محيطهم الثقافي. وقد كانت صدور علماء وطلاب كل من الأزهر وجامع القرويين مقرا للقرآن الكريم، وكانت عقولهم مرجعا لتفكير المسلمين، وكانت
ألسنتهم تنطق بأسلوب كتاب الله، وهو الأسلوب العربي المبين، فحفظوا القرآن من التحريف، وحفظوا التفكير من الضياع.
وهناك التشابه بين الأزهر والقرويين في تأثر الأزهر بعلماء بغداد الذين وفدوا في عهد المماليك إلى القاهرة في سنة 656هـ بعد سقوط بغداد، وفي تأثر القرويين بعلماء الأندلس الذين وفدوا إلى المغرب بعد سقوط الأندلس في القرن الرابع عشر الميلادي.
وهناك التشابه في حركة الإصلاح القوية التي قام بها محمد عبده في الأزهر في نهاية القرن التاسع عشر والشيخ أبو شعيب الدكالي في القرويين في أوائل القرن العشرين.
وهناك التشابه بين الأزهر وجامع القرويين في تربية الحماس القومي، وننمية الروح الوطني، والقيام بالحركات المعبرة عن سخط الوطن وتكوين الرأي العام، والدفع إلى بقائه في النضال بين الدخلاء الغاضبين وبين أصحاب الوطن المعتدي عليهم.
كل هذه الأوجه من التشابه بين الأزهر وجامع القرويين تجعل لجامع القرويين في القاهرة صدى قويا لا يتضاءل ولا يضعف مهما فرق الاستعمار فيما مضى بين أجزاء الوطن الواحد ومهما حاول بأساليبه المختلفة أن يضعف من الصلات الثقافية والترابط الروحي بين فاس والقاهرة، ومهما حاول وبذل في وضع العقبات المادية والمعنوية في طريق لقاء العربي القاهري بالعربي المغربي.
وجامعة القرويين من أقدم جامعات العالم بعد الأزهر إذ أن مسجد القرويين لم يتحول إلى جامعة للتدريس إلا سنة 538، أما الأزهر فقد هيىء لتدريس الفقه والعلوم في الرابع الأخير من القرن الرابع الهجري. وعلى ذلك تكون الجامعة الأزهرية أقدم جامعات العالم على الإطلاق. ويعزي إليها وإلى شقيقتها: «الزيتونة» في تونس، و «الأزهر الشريف» في
القاهرة، أكبر الفضل في نشر الإسلام الحنيف والحفاظ على تعاليمه السمحة وحماية لغة القرآن وآدابها والعمل على إثرائها في جميع فروع المعرفة بالإضافة إلى ما قامت به هذه الجامعات الإسلامية الكبرى من تزويد شعوبنا العربية خلال مراحل تطورها بالقادة والعلماء والمرشدين الروحيين طوال القرون الماضية.(3/234)
وجامعة القرويين من أقدم جامعات العالم بعد الأزهر إذ أن مسجد القرويين لم يتحول إلى جامعة للتدريس إلا سنة 538، أما الأزهر فقد هيىء لتدريس الفقه والعلوم في الرابع الأخير من القرن الرابع الهجري. وعلى ذلك تكون الجامعة الأزهرية أقدم جامعات العالم على الإطلاق. ويعزي إليها وإلى شقيقتها: «الزيتونة» في تونس، و «الأزهر الشريف» في
القاهرة، أكبر الفضل في نشر الإسلام الحنيف والحفاظ على تعاليمه السمحة وحماية لغة القرآن وآدابها والعمل على إثرائها في جميع فروع المعرفة بالإضافة إلى ما قامت به هذه الجامعات الإسلامية الكبرى من تزويد شعوبنا العربية خلال مراحل تطورها بالقادة والعلماء والمرشدين الروحيين طوال القرون الماضية.
وتاريخ جامعة القرويين بالذات يرتبط أوثق ارتباط بتاريخ مدينه «فاس» التي كانت منذ إنشائها عاصمة للدولة المغربية في عهد الآدارسة ومن خلفهم إلى مستهل القرن الهجري الحالي، حيث أخذ الاستعمار يتسلل إليها. وقد سارت هذه الجامعة في تاريخها الطويل العامر، ككل كائن حي، تنهض وتنمو آنا، وتجمد وتتعثر آنا آخر ولكن الأمر الذي لا يمكن أن ينكره أحد عليها، أنها ظلت في كل الأحوال تحمل علم الدراسات الإسلامية وما يتصل بها عن جدارة، في هذا الجزء الهام من وطننا العربي الكبير. واستطاعت أن تثبت حقا أنها منارة الهدى والعرفان، وأساس الارتكاز الروحي عند المسلمين كافة في المغرب العربي.
والفصول الأولى لقصة إنشاء القرويين، تبدأ كما يجمع المؤرخون مع هجرة ثمانمائة عائلة أندلسية، تبعتها هجرة ثلاثة آلاف عربي من القيروان بتونس، إلى مدينة فاس، واتخاذهم لها وطنا ثانيا في أوائل القرن الثالث للهجرة.
وقد استقر المغتربون من الأندلس في شرقي المدينة بضاحية عرفت فيما بعد، باسم «عدوة الأندلسيين». أما المغتربون من القيروان، فقد استقر بهم المقام في الجهة المقابلة بضاحية على الضفة اليسرى كانت تسكنها القبائل، وسميت أيضا باسم «عدوة القرويين».
وكان بين المغتربين التونسيين رجل ورع، يعيش في بسطة من الرزق بسبب ما حمله معه من المال، هو «محمد بن عبد الله الفهري
القيرواني». وقد توفى عقب فترة وجيزة من وصوله إلى فاس. وخلف ثروة طائلة لابنته «فاطمة أم البنين» وشقيقتها «مريم».(3/235)
وكان بين المغتربين التونسيين رجل ورع، يعيش في بسطة من الرزق بسبب ما حمله معه من المال، هو «محمد بن عبد الله الفهري
القيرواني». وقد توفى عقب فترة وجيزة من وصوله إلى فاس. وخلف ثروة طائلة لابنته «فاطمة أم البنين» وشقيقتها «مريم».
وعقدت الشقيقتان العزم على إنفاق جزء كبير مما ورثتاه عن أبيهما في بناء مسجد يخلد اسم أسرتهما واسم البلاد التي نزحتا منها. وكان من أهم الدوافع لهما على ذلك علمهما بحاجة الناس الملحة في كل «عدوة» من فاس إلى مساجد يؤدون فيها الصلاة، نظرا لضيق المسجدين القديمين القائمين فيها بالناس.
ولم يطل تفكير الشقيقتين، فشرعت «مريم» في بناء مسجد «الأندلس» في شرق المدينة. وبدأت «فاطمة» في بناء مسجد «القرويين» في جنوبها. وكان ذلك في يوم سبت وهو يصادف غرة رمضان من سنة 245الموافق 30نوفمبر من سنة 859وهو المسجد الذي عرف بعد ذلك باسم «جامعة القرويين».
ولقد كانت الطريقة التي سلكها البناءون في البناء أنهم التزموا أن يأخذوا كل حاجاتهم من الرمال والحجارة من نفس البقعة دون غيرها. كما أنهم عثروا على عين ماء غزيرة تجاور الموقع الذي اختير لإقامة المسجد.
وكان ذلك كله تحريا من المشرفين على البناء كي لا تدخل في بناء المسجد شبهة على ما يقول «ابن أبي زرع» في كتاب «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى». وظلت «فاطمة» صائمة منذ أن شرع في بنائه، إلى أن تم واكتمل وأقيمت فيه الصلاة.
وقرويين الأمس، ليست هي قرويين اليوم إذ لم تكن القرويين عند نشأتها الأولى، تشتمل إلا على أربع صحون وعلى محراب وفناء غرست فيه بعض الأشجار وحينما بنيت لم تكن بها حلقات للدرس كما أصبحت فيما بعد، بل كانت مجرد مسجد يحضره الناس الذين يؤدون فيه صلاة الجمعة، وكانت الفكرة في إنشائها كما يروي «أبو الحسن علي
الجزنائي» في كتابه «زهرة الآس في بناء مدينة فاس» هي ضيق المساجد التي يصلي فيها أهل العدوة وافتقارهم إلى مسجد جامع يلم شعثهم ويجمع شملهم وتلقى من فوق منبره الخطبة الرسمية.(3/236)
وقرويين الأمس، ليست هي قرويين اليوم إذ لم تكن القرويين عند نشأتها الأولى، تشتمل إلا على أربع صحون وعلى محراب وفناء غرست فيه بعض الأشجار وحينما بنيت لم تكن بها حلقات للدرس كما أصبحت فيما بعد، بل كانت مجرد مسجد يحضره الناس الذين يؤدون فيه صلاة الجمعة، وكانت الفكرة في إنشائها كما يروي «أبو الحسن علي
الجزنائي» في كتابه «زهرة الآس في بناء مدينة فاس» هي ضيق المساجد التي يصلي فيها أهل العدوة وافتقارهم إلى مسجد جامع يلم شعثهم ويجمع شملهم وتلقى من فوق منبره الخطبة الرسمية.
ولقد تطلب تزايد عدد السكان واتساع نطاق المدينة إدخال إصلاحات جمة على مباني القرويين القديمة واستحداث مبان وصحون جديدة ألحقت بها فلم يكد ينقضي إلا نحو قرن حتى أصبحت مساحتها أربعة أضعاف ما كانت عليه بعد بنائها. كما ذكر مؤلف كتاب «القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ فاس».
وكان من أوائل الذين لهم فضل السبق في إدخال هذه الإصلاحات على مسجد القرويين الخليفة عبد الرحمن الأموي الذي أسهم بمال كثير في تجديده، وكان شديد الشغف بالمباني والمنشآت، وكذلك السلطان علي بن يوسف بن تاشفين، وغيرهما من الأمراء الذين عملوا على توسعة رقعته بشراء الأملاك والأراضي المجاورة له وضمها إلى القرويين، حتى صار أعظم مسجد في أفريقيا الشمالية. وبدأت مع حلول سنة 538هجرية، تعقد فيه حلقات التدريس في علوم الفقه والشريعة على أيدي علماء أجلاء وفدوا من القيروان ونقلوا معهم جل العلوم الدينية، وإليهم يعزى الفضل في تحقيق هذه الخطوة التي تأخرت قرنين أو يزيد!
وتدور عجلة الأيام دوراتها السريعة ويزداد ازدهار القرويين في عهد المرابطين الذين بنوا فيها للعلم أمجادا وصروحا شامخة خلدها التاريخ.
واستطاعت الجامعة أن تخرج عظماء وعلماء أحالوا المغرب في مدى قصير من «دويلة» كانت تتهاوى من الضعف، وأمة يشيع فيها التأخر والجهالة، إلى دولة يحكمها دستور السماء الكريم الذي أنزل على محمد عليه السلام.
وظلت القرويين معهد دراسة وعلم، وتخرج فيها ملايين من المغاربة
في أجيال مختلفة. وظلت على مر القرون حصنا للعروبة والإسلام.(3/237)
وظلت القرويين معهد دراسة وعلم، وتخرج فيها ملايين من المغاربة
في أجيال مختلفة. وظلت على مر القرون حصنا للعروبة والإسلام.
واجتذبت شهرتها التي طبقت الآفاق عددا كبيرا من العلماء الأجانب من أنحاء أوروبا ومنهم الرحالة «جريريتا» والبابا «سلفستر» الذي نقل الأرقام العربية إلى الغرب، كما نقل نظريات الفقه الإسلامي واستخدمها في تطوير القانون الروماني، وكثير غيرهم من العلماء الأوروبيين الذين توافدوا على مر السنين على القرويين للإفادة من خزانتها التاريخية المملوءة بالمؤلفات والكتب والمخطوطات النفيسة النادرة، في مختلف فروع العلوم والمعرفة، وأطلعوا العالم بعد عودتهم إلى بلادهم على الحضارة التي تغمر البلاد الإفريقية والمغرب العربي بنوع خاص!.
ولعل أزهر عهد تحقق فيه للقرويين ما كانت تصبو إليه من أسباب النمو والتقدم، كان عهد السلطان «أبي عنان المريني» ففيه أنشأت الجامعة أضخم مكتبة مزودة بالمخطوطات النادرة، وشيدت مساكن خاصة للطلاب الذين يردون عليها من أطراف البلاد، كما أجرى السلطان عليهم «جرايات» شهرية تكفيهم ليتفرغوا لطلب العلم كما كان للعلماء دور خاصة لسكناهم، وخدم معينون يوفرون لهم كل وسائل الراحة حتى يستطيعوا التوفر على أداء رسالتهم نحو طلابهم على أكمل وجه.
وكان علماء القرويين من أغنى طبقات الشعب، بسبب ما كان يسبغه عليهم الملوك من الهدايا وما يجرونه عليهم من الرواتب الضخمة!.
واستمرت جامعة القرويين تقوم بواجبها، في حرية تامة إلى أن ابتلى المغرب بالاستعمار الفرنسي، وأوجس الفرنسيون منها خيفة
أرادوا في مبدأ الأمر أن يوصدوا أبوابها أمام الطلاب، أو يحددوا عددهم، زاعمين أن في ذلك ترقية للبلاد ولكنهم اصطدموا بمعارضة شديدة إذ فطن «المولى يوسف» الجالس على عرش البلاد لغرض المستعمرين من ذلك وأدى الصراع بينه وبينهم إلى انتباه جماعة من
العلماء واتجاههم إلى بعث الحركة السلفية ومحاربة الجمود، وتطوير الدراسات لتساير روح العصر وكانت الخطوة الإيجابية لتحقيق ذلك الغرض، عند ما عين جلالة الملك محمد الخامس في سنة 1937، الأستاذ «محمد الفاسي»، وهو من علماء القرويين، ومن الذين استكملوا دراستهم في جامعة باريس، مديرا للقرويين فأدخل العلوم العصرية واللغات الأجنبية في مناهج التعليم، إلى جانب المواد الدينية، كما أنشأ قسما خاصا بالقرويين لتعليم الفتيات، وقد تخرجت فيه إلى الآن عشرات منهن يحملن شهادة «العالمية»!.(3/238)
أرادوا في مبدأ الأمر أن يوصدوا أبوابها أمام الطلاب، أو يحددوا عددهم، زاعمين أن في ذلك ترقية للبلاد ولكنهم اصطدموا بمعارضة شديدة إذ فطن «المولى يوسف» الجالس على عرش البلاد لغرض المستعمرين من ذلك وأدى الصراع بينه وبينهم إلى انتباه جماعة من
العلماء واتجاههم إلى بعث الحركة السلفية ومحاربة الجمود، وتطوير الدراسات لتساير روح العصر وكانت الخطوة الإيجابية لتحقيق ذلك الغرض، عند ما عين جلالة الملك محمد الخامس في سنة 1937، الأستاذ «محمد الفاسي»، وهو من علماء القرويين، ومن الذين استكملوا دراستهم في جامعة باريس، مديرا للقرويين فأدخل العلوم العصرية واللغات الأجنبية في مناهج التعليم، إلى جانب المواد الدينية، كما أنشأ قسما خاصا بالقرويين لتعليم الفتيات، وقد تخرجت فيه إلى الآن عشرات منهن يحملن شهادة «العالمية»!.
ويزدان تاريخ الحركة الوطنية في المغرب بأنصع الصفحات التي سجلها كفاح علماء القرويين وطلابها ضد القوى الاستعمارية ودورها في تحرير المغرب يماثل تماما دور الأزهر الشريف في ثورة سنة 1919وما بعدها
وأصبحت اليوم تضم ألافا من الطلاب، فضلا عن فروعها التي تتمثل في المعاهد الدينية المنتشرة في أنحاء المغرب، سواء في «تطوان» أو «طنجة» أو «مراكش» أو منطقة «سوس».(3/239)
بين الزيتونة و 61921 الأزهر
الزيتونة أزهر تونس، والزيتونيون أزهريون كما يقول الزيتونيون أنفسهم اعتزازا بالأزهر وكما يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وأنفاس من الأزهر ما تزال تسري وتداخل جسم الزيتونة، وأخرى من الزيتونة ما تزال ترجع على الأزهر (1).
وجامع الزيتونة أقيم في أوائل القرن الثاني للهجرة على يد بانيه عبيد الله بن الحبحاب السلولي، وقد كان واليا على مصر، ومنها قدم إلى تونس، بعد أن استخلف ابنه أبا القاسم على مصر (2) وكانت مدينة الفسطاط، دار ابن الحبحاب، وجامعها، جامع عمرو، الذي هو أبو الجامع الأزهر، قد كان ابن الحبحاب إمام محرابه، وخطيب منبره، فلا ضير أن ابن الحبحاب كان واقفا على تخطيط جامع الزيتونة بتونس، وفي ذهنه صورة جامع الفسطاط، وفي قلبه حنين إليه، واهتمام به، وحنين واهتمام بابنه أبي القاسم، وقد خلفه فيه.
وكانت صحبة علي بن زياد التونسي لليث بن سعد، وروايته عنه
__________
(1) ص 85التوجيه الاجتماعي في الإسلام من مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية.
(2) ابن خلدون 189ج 4بولاق.(3/241)
بمصر، ثم انتصابه بجامع الزيتونة محدثا ومدرسا في منتصف القرن الثاني (1) حلقة أولى في سلسلة من الاتصالات العلمية، ظهرت في مصر القديمة ثم امتدت إلى القاهرة وأزهرها، وارتبطت بها حلقات كان منها ما هو واضح إشعاعا، وأتم ظهورا. فالإمام سحنون: عبد السلام بن سعيد التنوخي (2)، والقاضي أسد بن الفرات، بعد أن تخرجا بابن زياد في تونس بجامع الزيتونة، قد شدا الرحلة إلى مصر. فأخذا عن ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، وابن الحكم، وتكونت بذلك المدونة، فكانت أصل المذهب المالكي، وانعكست الرحلة من القيروان على مصر، وتتابع العلماء من تونس والقيروان وغيرهما من البلاد الإفريقية، على الرحلة إلى مصر يسمعون ويهتفون، مثل: عبد الله بن أحمد التميمي، نسيب بني الأغلب، وحمد يس الأشعري، والقاضي عيسى بن مسكين، وجبلة بن حمود، وغيرهم من أهل القرن الثالث الذين أخذوا في مصر عن بني عبد الحكم، ويونس بن عبد الأعلى، وابن المواز، على ما فصله القاضي عياض في «المدارك» ومن بعده في كتب الطبقات.
وقامت الدولة العبيدية في أواخر القرن الثالث، وكان الاتصال بين علماء تونس وعلماء مصر، مقويا أهل السنة، ولا سيما المالكية بتونس وبمصر، وبدأ العبيديون يحاولون إغراء العلماء بموالاتهم.
نقل عياض في المدارك عن أبي الحسن القابسي: «أن المعز الفاطمي أرسل قبل دخوله مصر إلى أبي إسحاق بن شعبان صلة من مائة مثقال وكتابا، فقرض ابن شعبان من الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم» وأحرق باقيه في الشمعة أمام الرسول. ورد المائة عليه.
__________
(1) الديباج لابن فرحون ص 192ط السعادة وأعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي ص 37.
(2) الديباج 98و 160.(3/242)
وجاء القرن الرابع: قرن أبي عثمان الحداد (1) وابن أبي زيد (2)
والجبلياني (3) والقابسي (4) وابن شبلون (5) وربيع القطان (6) وتأكدت الصلات بين مصر وتونس والقيروان بما كان بين ابن شعبان وابن أبي زيد، وبين التلباني المصري (7) وأبي الحسن القابسي وبين أبي بكر الحويكي (8) وأبي الحسن القابسي أيضا، والتهبت نار الثورة بمدينة تونس، على العبيدين، وعلى أمير القيروان باديس الصنهاجي لموالاته إياهم وطاعتهم، وتولى أمر أهل تونس في ذلك صالح المدينة وعالمها وعابدها الشيخ محرز بن خلف الصديقي (9) فكان لفقهاء مصر في وجه بني عبيد مثل ما كان لفقهاء تونس والقيروان، وأصبح القول المتردد على ألسنة المتفقهين في حلق جامع الزيتونة وجامع القيروان وجامع الفسطاط قولا متصادقا متجاوبا وكان بعضه صدى لبعض، فكانت حلقات أبي بكر بن نصر، أبي الذكر التمار، وأخيه مؤمل وابن الأسواني، وابن أبي حجرة القرطبي. في جامع الفسطاط بمصر القديمة، وقد ذكرها عياض في الطبقة الخامسة، صورة من حلقات أبي عثمان الحداد بالقيروان والشيخ محرز بن خلف والشيخ معاوية بن عتيق بتونس. وهكذا امتدت فكرة مقاومة الدعوة العبيدية، والامتناع عن مطاوعتها، من المغرب إلى المشرق، حتى بلغت البلاد الشامية.
ذكر عياض في المدارك ترجمة أبي بكر النابلسي، شهيد مصر سنة
__________
(1) ترجمته في المدارك من أهل أفريقيا من الطبقة الرابعة وفي أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي.
(2) المدارك أهل أفريقيا من الطبقة السادسة والديباج ص 136ط السعادة وأعلام الفكر الإسلامي.
(3) المدارك أهل أفريقيا الطبقة السادسة والديباج ص 86ط السعادة.
(4) المدارك أهل أفريقيا الطبقة السابعة والديباج ص 199السعادة.
(5) الديباج ص 158ط السعادة.
(6) المدارك أهل أفريقيا الطبقة الخامسة وشجرة النور 161.
(7) المدارك أهل مصر من الطبقة الخامسة.
(8) المرجع السابق.
(9) المدارك أهل أفريقيا الطبقة الثامنة.(3/243)
364 - هـ: «كان شديدا على بني عبيد حين ملكوا مصر والشام ذامّا لهم، منفرا العامة منهم، قاليا لهم، ونقل عن الرقيق أن أبا بكر «كان يفتي في المحافل باستحلال دم من أتى من المغرب، ويستنفر الناس لقتالهم». يريد بني عبيد، ثم قال عياض: «وإنما سلك في هذا مسلك شيوخ القيروان في خروجهم عليهم ولم يستقر للفاطميين بسبب ذلك قرار، ففرضت ثورة تونس على خليفتهم المعز بن باديس الصنهاجي أن ينقض طاعتهم حتى فعل (1) وتتابعت مظاهر التمرد عليهم، والاستخفاف بهم في مصر من ولاية العزيز بن المعز الفاطمي (2) ثم ولاية الحاكم واغتياله (3) بعد أن أعلن الرضوخ لقوة الأمة في الدفاع عن عقيدتها، وصلابتها في التمسك بسنتها فكتب سجله بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه، يطوي ما كان فيما مضى، فلا ينشر، ويعرض عما انقضى، فلا يذكر، ولا يقبل على ما مر وأدبر، من إجراء الأمور على ما كانت عليه في الأيام الخالية: أيام آبائنا (4)»
ثم كانت ولاية الظاهر الذي بدأت الدولة تتضعضع في مدته، إلى أن انتهى حكمهم الحقيقي في ولاية المستنصر واستبداد بدر الجمالي بأمرهم، وتلاشى سيادتهم في ظلمة العدوان الصليبي (5).
والروح التي كانت تعمر الزيتونة بتونس وجامع الفسطاط في مصر، هي الروح التي ملأت الأزهر وإن كانت السلطة التي أمرت ببنائه نابية عن تلك الروح لنستنتج من ذلك كله: إن الإخاء قد كان تاما وثيقا بين جامع الزيتونة والجامع الأزهر من يوم أنشىء الأزهر، إخاء كان في الباطن والروح، وإن لم يبد في الظاهر والشكل، فيبقى الأزهر وفيا لروح العابدين العاكفين فيه، مزورّا عن روح الحاكمين المباهين به.
__________
(1) المؤنس لابن أبي دينار ص 65ط تونس الأولى.
(2) خطط المقريزي ص 167ج 2وما بعدها ط المليجي بالقاهرة.
(3) المقريزي ج 4من ص 68حتى ص 74المليجي القاهرة.
(4) ابن خلدون ص 60ج 4بولاق.
(5) المقريزي ج 4ص 49، ص 193ط المليجي.(3/244)
وكذلك أقام بنو عبيد بالقاهرة ما أقاموا، وزال ملكهم عنها بعد استقراره فيها مائتي سنة وخمس سنين من دخول المعز إليها سنة 362هـ إلى وفاة العاضد سنة 567هـ فبقيت القاهرة بعدهم، وبقي جامعها الأزهري كما قال أبو العلاء:
تفنى الملوك ومصر بعد فقدهم ... مصر على العهد والإحساء إحساء
وقام حكم السلطان صلاح الدين، وعاد التواصل والامتزاج بين الأزهر وجامع الزيتونة، وأنشئت المدارس الصلاحية والخوانق، وانتظمت الدراسة العلمية على الخطة الجامعة بين السنة والكلام والفقه والتصوف، وهي الخطة التي درج عليها، منذ القرن الرابع، الأشعري، والماتريدي، والباقلاني، وإمام الحرمين، والقشيري: يجمعون بين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والجنيدي، وهي التي برزت واضحة مستعلنة في حكمة الغزالي وبخاصة في كتابه «إحياء علوم الدين».
وكانت المدارس التي أنشأها صلاح الدين في مصر على مثال المدرسة النظامية في بغداد، والمدارس التي أنشأها الملك العادل نور الدين في دمشق. أما الذي أنشأه العبيديون بمصر فلم يكن يعدو مجالس مرتبة في الجامع الأزهر وجامع الفسطاط، وكان يظلها حكم الدولة، ويتحين لها اجتماع الناس يوم الجمعة (1) فعمرت المدارس، وتوافر فيها الشيوخ والطلاب، وانتظمت حلق العلم في جامع الفسطاط، وشاع الفقه على المذاهب الأربعة، وسارت الدراسة في العلوم على المناهج المتصلة بتلك المذاهب.
ولكن الجامع الأزهر قد اعتراه انطواء امتد إلى أواسط القرن السابع، فلم يكن لهذه الحركة العلمية فيه مجال. وطال كسوف الأزهر قرنا كاملا، إذ لم تقم فيه الجمعة إلا سنة 765هـ أيام الملك الظاهر بيبرس وبدأ من
__________
(1) المقريزي ج 4ص 4، ص 193المليجي.(3/245)
يومئذ يستعيد مجده، حتى انتظم أمره، وعلا شأنه في منتصف القرن الثامن على يد الأمير بشير الجامدار في عهد الناصر بن قلاوون (1).
أما في تونس ففي نحو عام 441هـ جاء خطاب الخليفة العباسي من بغداد بتقليد المعز بن باديس ولاية أفريقية (2). وأعقب ذلك زحف العرب الهلالية، فسقطت القيروان، وخربت، وجلا عنها المعز وآوى إلى المدينة. وانتشر الاضطراب في البلاد، وقامت إمارات الطوائف: في صفاقس، وسوسة، وقابس، وقفصة، وبنزرت، وطبرقة، والكفاف، وغيرها، أما مدينة تونس فقد خلعت طاعة المعز، وقرر أهلها الانضمام إلى ملك الفرع الصنهاجي الآخر الدي كانت عاصمته قلعة بني حماد، جنوبي بجاية، فتوجه وفد من مشيخة مدينة تونس إلى بجاية، ولقوا ملكها الناصر بن حماد، فولى بإشاراتهم على مدينة تونس أحد أبنائها وهو عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان (3) فقامت به في تونس دولة أساسها الشورى، وعمادها إسناد الأمر إلى أهل المدينة لتدبير حمايتها من هجمات القبائل، ومن غزوات الولاة. وعظم شأن بني خراسان، وسما مظهر ملكهم بتونس، وكان لعلمائها عندهم منزلة مرعية. فكان أهل تونس وبخاصة علماؤها، وهم أهل جامع الزيتونة، في منعة وظهور أمر، إلى أن مضى الثلث الأول من القرن السادس، إذ امتدت إليهم يد أمير بجاية، ثم كانت الطامة الكبرى باحتلال النصارى الترمانديين أصحاب صقلية السواحل الشرقية للبلاد الأفريقية، فتحركت الثورة من جديد، للاستعداد لمقاومة الاحتلال الأجنبي، وانعكست روح الثورة على المدينة، فتقاتل ربضاها:
الجنوبي ربض باب الجزيرة، والشمالي ربض باب السويقة إلى أن دخلها عبد المؤمن بن علي سنة 552هـ، ثم استنقذ جميع البلاد الساحلية من
__________
(1) المقريزي أيضا ج 4ص 53.
(2) ابن خلدون ص 159ج 6بولاق.
(3) ابن خلدون ج 6ص 165وما بعدها بولاق.(3/246)
المغيرين الإفرنج، واستنقذ بقية البلاد من أمراء الطوائف، ووحد البلاد المغربية كلها في ملكه الذي امتد من الأندلس إلى حدود برقة (1).
وفي صدر القرن السابع كانت البلاد الإفريقية قد ازدهرت برد غارات الإفرانج النرمانديين، وصارت تونس عاصمة البلاد باستقرار الدولة الحفصية وصارت حلق الوعظ والتعليم القائمة بجامع الزيتونة مزدهرة وكذلك كان شأن مدينة القاهرة قبل ذلك بخمسين سنة تقريبا. لما ردت عنها الغارات الصليبية، وقامت فيها الدولة الأيوبية، وصارت الحلق في الجامع الأزهر لا تختلف عن الحلق التي يقبلون عليها في جامع الفسطاط: كلها حلق سنية، لا شائبة فيها للأهواء، ترعاها الدولة، ويغشاها الناس غير مكرهين، ولا وجلين. إلا أن هذا المعنى لم يظهر ظهوره التام في الجامع الأزهر، وإن ظهر حواليه، فلم يظهر في الأزهر بذاته إلا في منتصف القرن السابع لما جددت عمارته، وأقيمت فيه الجمعة على مذهب أهل السنة والجماعة، ورتبت فيه دروس الحديث والفقه (2).
فجامع الزيتونة لما قام الأزهر في منتصف القرن السابع برسالته العلمية السنية، قد كان قائما على تلك الرسالة نفسها، شديد الساعد في الاضطلاع بها فالتحمت بذلك الصلات بين الجامعين، وزاد في تأكيد اللحمة تشابه المناهج العلمية، وتقارب الأساليب التدريسية، والاتحاد في أكثر مواد الدراسة، والتفاضل المطرد بين شيوخ المعهدين: أخذا وعطاء.
فالمذهب المالكي بعد أن انقطع علماؤه من الديار المصرية، في أواخر القرن الرابع تحت حكم الفاطميين، بدأ يعاود منزلته في أواخر القرن السادس (3) بمن رحل إلى مصر من الأفارقة والأندلسيين والصقليين الذين رفعوا لواء المذهب المالكي فيها من جديد، مثل أبي محمد التونسي
__________
(1) ص 163نفس الجزء.
(2) المقريزي ص 52ج 4ط المليجي.
(3) شجرة النور ص 93.(3/247)
ومحمد بن الفرح القروي الطليلي وقد ذكرهما عياض في المدارك، ومثل أبي بكر الطرطوشي (1) محمد بن مسلم الصقلي المازري (2) وابن الحكار العقلي (3) وغيرهم. فشاعت بذلك الكتب المغربية، ومناهج الدراسة الأفريقية والأندلسية، مثل المدونة، وتهذيبها، وكتب ابن أبي زيد، وكتب أبي الوليد الباجي، وانبعثت في أصول الدين وأصول الفقه طريقة الأشعري، والباقلاني وإمام الحرمين، والغزالي، والمازري، وتوصلت بذلك المذاهب السنية ولا سيما المذهبان المالكي والشافعي وكان لشيوع دعوة الغزالي إلى وصل التصوف بعلوم الشريعة، أثرها في تقريب المحدثين والفقهاء والمتكلمين من الصوفية، وتأثر هؤلاء بهؤلاء، تأثرا ظهر في طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني وانتشر في المغرب كله بأبي مدين وأصحابه، ثم تأصل بتونس في طريقة الشيخ أبي الحسن الشاذلي التي أوصلها هو أصحابه إلى مصر، وعم انتشارها من تونس ومن مصر غربا وشرقا.
فهذه الأسس هي التي كانت قوام طريقة التخرج في مصر وتونس على السواء، عليها مضى القرن السادس، وعليها سار القرن السابع حتى منتصفه لما قامت الدراسة في الجامع الأزهر، واستمرت عليها مناهج الدراسة في الأزهر بقية القرن السابع والقرون بعده.
فكانت الدراسات بالأزهر وبالزيتونة طيلة هذه القرون، تسير على منهج واحد، وتعتمد مادة من الكتب مشتركة، وسندا من العلماء متحدا:
فيهم المصريون، وفيهم الأفارقة وفيهم غير المصريين وغير الأفارقة: من الأندلسيين والمغاربة، أو من الشاميين والعراقيين والأعاجم وعلماء الروم.
__________
(1) ترجمته في الديباج لابن فرحون ص 276ط السعادة وفي وفيات الأعيان لابن خلكان «محمد».
(2) ترجمته في نيل الابتهاج هامش الديباج ص 277ط السعادة.
(3) من شراح المدونة ترجمته في شجرة النور الزكية رقم 125.(3/248)
ففي فجر القرن السابع ظهرت المدارس بمصر (1) واتسع إليها نطاق التدريس بعد أن كان مقصورا على المساجد. وكان إنشاء المدارس الأولى بمصر في الفسطاط حول جامع عمرو. فهنالك أنشئت المدرسة الصلاحية، والمدرسة القمحية فكان فيها مدارس أنشئت للفقهاء المالكية مثل القمحية، وكانت الدراسة فيها بالاعتماد على أمهات المذهب المالكي المشهورة: من كتب العراقيين والأفريقيين والأندلسيين، ومن بينها كتب ابن أبي زيد والقابسي والمازري وابن بشير وغيرهم من أبناء البلاء التونسية. يشهد لذلك ما ذكره ابن فرحون في الديباج في ترجمة أبي محمد ابن شاس (2) المتوفى سنة 610هـ أنه كان مدرسا بالمدرسة المجاورة للجامع العتيق، مع ما ورد في كتاب الجواهر الثمينة لابن شاس من اعتماد على ابن أبي زيد ويسميه الشيخ، وابن بشير ويسميه أبا الطاهر، والمازري ويسميه الإمام أبا عبد الله، زيادة على أمثال أبي الوليد الباجي، وابن رشد، وابن العربي، من الأندلسيين وعبد الوهاب والأبهري، وابن القصار، من العراقيين.
فلما ظهرت المدارس بتونس في أوائل القرن السابع، كانت الدروس فيها، وفي حلق جامع الزيتونة، سائرة على نفس ذلك المنهج، ومعتمدة نفس تلك الدواوين. زيادة على ما كانت تتلافى فيه المناهج العلمية بين مصر وتونس، في الفنون الأخرى غير الفقه المالكي، من الحديث والأصول والتصوف، وفنون العربية، مما زاد له تأكد الصلات، وقوة الامتزاج، ورواج الأخذ والعطاء، طردا وعكسا، بين المركزين.
وظهر في ذلك القرن في مصر العلامة ابن دقيق العيد، والإمام عز الدين بن عبد السلام والحافظ المنذري، فصربت سمعتهم إلى تونس، وأخذ عنهم من رجال الزيتونة مشاهير منهم أبو يحيى بن جماعة التونسي أخذ
__________
(1) المقريزي ج 4ص 191وما بعدها.
(2) الديباج ص 40السعادة بمصر.(3/249)
عن ابن دقيق العيد (1) والقاضي أبو القاسم بن زيتون أخذ عن المنذري وعن عز الدين بن عبد السلام (2) والقاضي عبد الحميد بن أبي الدنيا أخذ عن عز الدين بن عبد السلام (3) وظهر في تلك الحقبة بتونس الإمام النحوي أبو الحسن بن عصفور، وظهر كتابه «المقرب» في النحو وكتابه «الممتع» في التصريف، وغيرها من كتبه فطار صيتها إلى مصر، وتلقاها عنه بتونس الشيخ أبو حيان، فروجها في مصر والتزمها وهو الذي اختصر المقرب (4)
ووفد على مصر الإمام الصوفي الشهير أبو الحسن الشاذلي بطريقته التي كان قد أسسها بتونس من أواخر القرن السادس وفيها ربى أصحابه، ولقن أحزابه وكان له مجلس بجامع الزيتونة، ثم تردد هو بنفسه على مصر وأخذ عنه فيها وصارت الأسكندرية المركز الثاني لطريقته واستقر بها خليفته أبو العباس المرسي، وعنه أخذها ابن عطاء الله وانتقل بها إلى مصر، واشتهرت الطريقة الشاذلية في مصر، وانتشرت منها انتشارها الشرقي كما انتشرت انتشارها الغربي من تونس (5).
وكذلك استمر هذا التواصل بين القاهرة وتونس يزيد ثباتا وتوثقا بابن الحاجب، والقرافي، وابن جماعة، إذ كان من الآخذين عليهم: ابن راشد، أخذ عن القرافي (6) وابن جابر الوادناشي، أخذ عن ابن جماعة (7)
وناصر الدين الزواوي، أخذ عن ابن الحاجب. الذي نشر مختصره الفرعي في أفريقيا والمغرب (8) وإبراهيم التنسي المطماطي، أخذ عن القرافي
__________
(1) شجرة النور الزكية رقم 714.
(2) الديباج ص 99ط السعادة القاهرة.
(3) شجرة النور 45.
(4) ترجمة أبي حيان في بغية الوعاة للسيوطي (محمد بن يوسف) وكذلك ترجمة ابن عصفور (علي بن مؤمن).
(5) الدكتور عبد الحليم محمود الإمام أبو الحسن الشاذلي وطريقته.
(6) نيل الابتهاج هامش الديباج ص 235ط السعادة.
(7) الديباج ص 312ط السعادة.
(8) شجرة النور 764وابن خلدون ص 376ج 1بولاق.(3/250)
وقابل ظهور هؤلاء بمصر أن ظهر بتونس أمثال ابن هارون الطائي، وابن الغماز، والتجاني وابن هارون الكناني، وابن عبد السلام، فاعتمدوا كتب المصريين ورووا عنهم، ورووا عن المتخرجين بهم، مثل ابن زيتون، وابن راشد.
وكان، في القرن السابع، والذي بعده، للرحالين المشاهير، الذين رحلوا من تونس إلى مصر أثر في إشاعة أسماء الأعلام من القطرين، كل في القطر الآخر ونعني بهؤلاء أمثال ابن جابر الوادناشي، صاحب الفهرس المفصل الممتع الذي يوجد مخطوطا بالأسكوريال، جمع فيه تراجم شيوخه والكتب التي أخذها عنهم، وأسانيدهم في تلك الكتب إلى مؤلفها، وبواسطته اتصل كثير من شيوخ مصر بالتونسيين، كما اتصل كثير من شيوخ تونس بالمصريين من طريقه مباشرة أو بواسطة (1) ابن رشيد الفهري السبتي المتوفى بفاس سنة 721، صاحب الرحلة الشهيرة التي شملت الأندلس والمغرب الأقصى والقطر الجزائري والقطر التونسي ومصر والشام والحرمين الشريفين، فاتسعت رواياته، وكثرت لقاءاته، وجمع أحاديث ذلك كله في رحلته الحافلة التي سماها «ملء العيبة بما جمع طول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة» (2) وقد جمع في مشايخه أعلاما من التونسيين: مثل ابن هارون الطائي وابن زيتون، وأعلاما من المصريين:
مثل الحافظ المنذري وابن دقيق العيد، وتواصلت بواسطته أسانيد هؤلاء، كما تلاقت فيه كثير من الأسانيد المغربية والأسانيد المشرقية، وخالد البلوري الذي رحل أواسط القرن الثامن بعد أن أقام بتونس، ودخل مصر، وجمع من أخبار مشيخته في القطرين، وأورد عنهم من فوائد العلوم ونكت
__________
(1) ترجمته في الديباج ص 311ط السعادة.
(2) ترجم له المقري في أزهار الرياض أثناء ترجمة ابن الحكيم في الكلام علي ابن خميس أواخر الروضة الأولى: روضة الورد، وقال عن رحلته أنه جمع فيها من الفوائد الحديثة والفوائد الأدبية، كل قريبة وغريبة، وتوجد رحلة ابن رشيد منقوصة في الأسكوريال ويقوم على تحقيقها ودراستها وفهرستها ابنتا الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة.(3/251)
الآداب ما طفحت به رحلته التي سماها «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق» وتوجد منها نسخ عديدة في مصر وفي تونس وغيرهما مراجع أيضا للمدرسين والقضاة والمفتين.
وفي القرن الثامن بلغ التواصل العلمي بين مصر وتونس أوجه، فتأكد اشتراك المشيخات، وتبادل الإفادة والاستفادة، وتناقل التأليف والروايات، واستمر ذلك ممتدا متسعا مغرقا في القرون الموالية. فكان ظهور الشيخ خليل بن إسحاق، الفقيه المالكي، في القرن الثامن، وبروز شرحه على مختصر ابن الحاجب، الذي سماه «التوضيح» ثم بروز مختصره الفقهي الجامع الذي نال إعجاب أهل المغرب، ممكنا لمصر منزلتها عند فقهاء المالكية بتونس، كما كان في كتاب التوضيح أثر ظاهر للمشيخة التونسية في اعتماده على شراح ابن الحاجب الزيتونيين: ابن عبد السلام وابن هارون، وابن وليد (1) وفي المختصر أثر واضح لمتقدمي الفقهاء الأفارقة، مثل:
اللخمي، وابن يونس، والمطرزي، وهم ثلاثة من الأربعة الذين بني على اختياراتهم مختصر خليل، كما هو مبين في خطبته.
وما ظهر مختصر خليل حتى أقبل الناس عليه بالحفظ والدراسة، وتعليق الشروح ورسخت مكانته في دراسات جامع الزيتونة، رسوخا لم ينقطع بعد. وشرح مختصر خليل أول ما شرح، في مصر: شرحه القاضي بهرام الدميري (2): شرحيه الكبير والصغير، فاقترن الشرحان بالأصل في اتساع السعة، حتى أصبح بهرام يلقب بين جميع الكاتبين على مختصر خليل، من بعد، بلقب «الشارح» ودرس المختصر بتونس وجميع البلاد المغربية، فكان من أشهر من اعتنى به تدريسا وشرحا: العلامة ابن مرزوق الحفيد (3) وهو تونسي زيتوني، بالطلب والمجاورة والتدريس، وتتابع عليه
__________
(1) تراجمهم الثلاثة في شجرة النور 722، 731، 736.
(2) ترجمته في نيل الابتهاج ص 101هامش الديباج ط السعادة.
(3) ترجمته في نيل الابتهاج أيضا ص 293.(3/252)
الشراح والدارسون والمعلقون من بعد، فكان من أصول كتب الدراسة بجامع الزيتونة، قرونا متتالية، ومرجع القضاء والفتوى الذي لا محيد عنه وكان حفظه متنا عن ظهر قلب شائعا بين الطلبة. وصارت شروحه التي صنفت من بعد بمصر.
وقابل ظهور خليل بمصر ظهور شيخ الزيتونة وإمامها: ابن عرفة بتونس (1) واشتهاره بتحقيق الفقه المالكي، نظرا ونقلا، وتصنيفه المختصر الذي قال فيه الأبي: «ما وضع في الإسلام مثله لضبطه فيه المذهب مسائل وأقوالا مع زوائد مكملة والتنبيه على مواضع مشكلة وتعريف الحقائق الشرعية»: فكانت سمعة ابن عرفة وشهرة كتبه بالغة إلى مصر، ثم كانت رحلته بنفسه، وأخذ الكثيرين بمصر عنه، ومنهم الحافظ ابن حجر، ورحلة طلبته من بعده، وأخذهم عن المصريين، وأخذ المصريين عنهم، ذات أثر في وصل ما بين الطريقتين طريقة ابن عرفة، وطريقة خليل، وصلا ظهر بصورة جليلة في شرح ابن مرزوق على المختصر، إذ كثيرا ما اعتمد في شرح كلام خليل على استظهارات ابن عرفة، كما ظهر الاتصال بين الطريقتين أيضا في كتاب الشامل للشيخ بهرام، كثيرا ما أشار إلى تحقيقات ابن عرفة، كما نبه على ذلك شراحه (2) ومن يومئذ أصبح لا يرى شرح لمختصر خليل، ولا حاشية على شرح له، إلا ومدار التحقيق على كلام ابن عرفة.
وهذا الذي حصل في الفقه المالكي، في القرن الثامن، من التواصل الأزهري الزيتوني قد حصل مثله أيضا في علوم العربية. فقد ظهر بمصر، في ذلك القرن، إمام العربية: أثير الدين أبو حيان، وقد مر ذكر أخذه عن ابن عصفور بتونس، وجمال الدين بن هشام، فأظهرا في علم النحو آثارهما
__________
(1) ترجمته في الديباج ص 337ونيل الابتهاج ص 274ط السعادة وفي نيل الابتهاج أخذ ابن حجر عنه بنقل تصريح ابن حجر بذلك في أنباء الغمر.
(2) الكامل على الشامل للسخاوي مخطوط.(3/253)
الجليلة جمعا وتحقيقا وحسن تصنيف فكانا فرسي رهان في خدمة العربية مواصلة لطريق ابن مالك، واتقانا لأثره، وكان ما بينهما. من كثرة المخالفة وتراد المباحث عتنا مع أبي حيان بابن عصفور، يضع مباحث ابن عصفور بينهما على بساط المجادلة.
واختصت كتب ابن هشام بالإقبال عليها، ولا سيما كتاب «مغنى اللبيب» فقد اشتهر وذاع صيته بالزيتونة منذ القرن الثامن، في حياة مؤلفه الذي يقول ابن خلدون عنه (1): «وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب فأتى من ذلك بشيء عجيب دل على قوة ملكته واطلاعه» فدخل «مغنى اللبيب» في كتب الدراسة بالزيتونة من أوائل القرن التاسع، درسه الحفيد ابن مرزوق، وكان قد تلقاه بمصر عن ابن المؤلف الشيخ محيى الدين بن هشام (2) واشتهرت دراسة المغنى والاعتماد عليه، وقد ألف الشيخ محمد الرصاع، في منتصف القرن التاسع كتابه في ترتيب آي مغنى اللبيب، فنوه فيه باشتهار كتب ابن هشام، ولا سيما المغنى، وتتابع العلماء على التسليم بعظيم قيمته من قديم، كما صرح بما يشهد لرواج كتب أبي حيان، وخصوصا تفسيره البحر المحيط، والاعتناء بما في جامع الزيتونة واعتماد المدرسين عليه وعلى الزمخشري في تفسير القرآن (3) وكان ذلك في الوقت الذي يدرس فيه المغنى بالجامع الأزهر: فقد ذكر بدر الدين الدماميني في حاشيته على المغنى، المعروفة بالحواشي المصرية (4) أنه قرأ المغنى بالأزهر في مدة مائة وثلاثين يوما سنة 812هـ.
__________
(1) ص 481ج 1بولاق.
(2) نيل الابتهاج ص 297هامش الديباج ط السعادة.
(3) ذكر من ذلك بحثه مع شيخه ابن عقاب في درسه للتفسير سورة آل عمران قوله تعالى:
{شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} والكتاب مخطوط.
(4) مخطوط المكتبة العبدلية بتونس.(3/254)
وكذلك كان القرن الثامن أيضا ظرفا للتواصل الأزهري الزيتوني في مجال العلوم العقلية والأدب فكانت شهرة آل السبكي، بمصر، حاملة أهل العلوم على الرغبة في الاتصال بهم، والأخذ عنهم كما ترى ذلك في رحلة خالد البلوي، وكانت شهرة ابن خلدون في تونس والمغرب، ثم رحلته إلى مصر، وتصدره للاقراء بالجامع الأزهر (1) مهيأة لأخذ أعلام الأزهر عنه مثل ابن حجر والمقريزي والأقفهسي، وزائدة في ذيوع شهرته وشهرة الزيتونة، وعلمائها بالمشرق.
وجاء القرن التاسع بأعلامه الذين علا بهم مجد الأزهر فكان للزيتونيين تطلع إليهم، واتصال بهم، فظهر الحافظ ابن حجر، الذي أخذ عن ابن عرفة وابن خلدون، فشدت إليه الرحلة من المشرق والمغرب وكان مدرس الأزهر وخطيبه. وقد اتصل به من التونسيين الزيتونيين وأخذ عنه: أبو عبد الله التريكي (2) وأبو الحسن القلصادي (3) الأندلسي الأصل، والكفيف ابن مرزوق (4) وهو كأبيه ابن مرزوق الحفيد، زيتوني بالطلب وظهر الجلال المحلي، والسراج البلقيني وغيرهما من الذين حفل بدروسهم وتآليفهم وإسنادهم القرن التاسع، فكان رجوع كثير من الزيتونيين إليهم، وأخذهم عنهم ملاقيا بينهم وبين أعلام الزيتونة من أهل أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع. فقد أخذ الحفيد ابن مرزوق عن الجلال المحلي (5) وجمع بينه وبين ابن عرفة وأخذ القاضي ابن فرحون المدني، وهو تونسي الأصل (6) عن ابن عرفة في حجته (7) كما أخذ عن السراج البلقيني، واعتمده في مواضع
__________
(1) ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي رقم 386ص 145ج 4ط القدسي.
(2) ترجمته في نيل الابتهاج ص 323ط السعادة وشجرة النور 953.
(3) نيل الابتهاج ص 209.
(4) نيل الابتهاج.
(5) نيل الابتهاج.
(6) وفيات ابن قنفذ.
(7) نيل الابتهاج 31.(3/255)
كثيرة من كتابه «تبصير الحكام».
وخلف القرن التاسع لمطلع القرن العاشر الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي بمجده العالي في ذيوع التآليف الكثيرة المهمة، فتأثرت الدراسة في جامع الزيتونة في القرن العاشر باسمه تأثرا قويا امتد إلى القرون التالية، وحطت الرحال على كتبه، وثار تحقيق المباحث من رسالته، ودارت الروايات على أسانيده وتأثرت الدراسة الزيتونية في القرن العاشر، بأعلام القرن التاسع من الأزهريين وكتبهم، فشاع تفسير الجلالين، وكثير من كتب المحلي، ولا سيما شرحه على جمع الجوامع، وشرح العيني على البخاري، وكتب الشيخ خالد الأزهري، مثل التصريح وشرح الأجرومية، وقد ورد ذكرهما كلها في المشيخات والإجازات والتراجم، كما شاع التحديث في الإجازات بأسانيد شيخ الإسلام زكرياء الأنصاري: آنا برواية التونسيين عن تلاميذه المصريين مثل رواية الشيخ أحمد بن إبراهيم الأندلسي عن الشيخ زين العابدين البكري عن أبيه عن الشيخ زكرياء. وآنا برواية التونسيين عمن لقوا الشيخ زكرياء من الفاسيين مثل رواية الشيخ خروف عن سقين العاصمي، كما في كثير من الإجازات التونسية، والمغربية بعامة، بسند الشيخ عبد القادر الفاسي المشهور. وظهر بالأزهر في القرن العاشر أيضا أمثال الناصر اللقاني، والبدر القرافي، والقسطلاني، وابن نجيم، فشاعت كتبهم بتونس في القرن نفسه، ولا سيما شرح القسطلاني على البخاري، وكتاب المواهب اللدنية له وشرح العلامة الشنشوري، خطيب الجامع الأزهر على متن الرحبية في الفرائض.
وكان من الذين طلعوا بتونس في أفق الزيتونة في القرن العاشر:
الشيخ محمد خروف والشيخ محمد مغوش. أما الشيخ خروف فقد رحل إلى مصر، وأخذ عن الناصر اللقاني، والشمس اللقاني والشيخ أبي الحسن شارح الرسالة، بعد أن أخذ عن جماعة من التونسيين مثل الزنديري، وسليطن ومحمد مغوش وقد شاع الأخذ عن الشيخ خروف في الأسانيد
الفاسية برواية أبي عبد الله القصاري وأبي المحاسن الفاسي وبواسطة خروف تتصل الأسانيد الفاسية بكثير من الشيوخ الأزهريين وكتبهم (1) وأما الشيخ مغوش فقد نشأ بتونس وعظم شأنه فيها أواخر العهد الحفصي، ثم خرج إلى المشرق قبل منتصف القرن العاشر، واستقر بمصر، وتوفى فيها، وقد انتشرت سمعته العلمية، في المشرق والمغرب، وأخذ عنه المشارقة والمغاربة. ومن أشهر المصريين الذين أخذوا عنه شهاب الدين الخفاجي (2).(3/256)
الشيخ محمد خروف والشيخ محمد مغوش. أما الشيخ خروف فقد رحل إلى مصر، وأخذ عن الناصر اللقاني، والشمس اللقاني والشيخ أبي الحسن شارح الرسالة، بعد أن أخذ عن جماعة من التونسيين مثل الزنديري، وسليطن ومحمد مغوش وقد شاع الأخذ عن الشيخ خروف في الأسانيد
الفاسية برواية أبي عبد الله القصاري وأبي المحاسن الفاسي وبواسطة خروف تتصل الأسانيد الفاسية بكثير من الشيوخ الأزهريين وكتبهم (1) وأما الشيخ مغوش فقد نشأ بتونس وعظم شأنه فيها أواخر العهد الحفصي، ثم خرج إلى المشرق قبل منتصف القرن العاشر، واستقر بمصر، وتوفى فيها، وقد انتشرت سمعته العلمية، في المشرق والمغرب، وأخذ عنه المشارقة والمغاربة. ومن أشهر المصريين الذين أخذوا عنه شهاب الدين الخفاجي (2).
فهؤلاء هم الذين زادوا بتلاواتهم وكتبهم وأسانيدهم، في تقوية الصلة وكان انتظام القطرين المصري والتونسي، في سلك الخلافة العثمانية في هذا القرن، معينا على زيادة التواصل بين الأزهر والزيتونة، كما كان ظهور المذهب الحنفي في تونس، باستقرار النظام العثماني، مهيئا لأسباب الاتصال بأعلام من فقهاء المذهب وأساتذته بالأزهر، وممهدا لانتشار كتبهم في تونس ودخولها في مناهج الدراسة مثل كتب ابن نجيم التي كان بعضها متابعة لدروسه بالأزهر مثل شرحه على المنار. وكتب الشيخ حسن الشرنبلالي التي كانت كذلك ناشئة من دروسه في الأزهر.
وبذلك كان كثير من مدرسي الزيتونة في القرن الحادي عشر تلاميذ لأعلام الأزهر: الشيخ إبراهيم اللقاني، والشيخ عبد الباقي الزرقاني، وابنه الشيخ محمد، والشيخ الشبراخيتي، وشيخ الإسلام محمد الخرشي، فالشيخ المفتي محمد بن مصطفى كان تلميذ الشيخ إبراهيم اللقاني (3)
والشيخ محمد بن شعبان قرأ على الشيخ إبراهيم اللقاني جوهرته في التوحيد
__________
(1) ترجمته في فهرس الفهارس ص 279ط فاس وشجرة النور الزكية رقم 1061والإسناد عنه في إجازة الشيخ عبد القادر الفاسي.
(2) أخباره في كتاب المؤنس لابن أبي دينار ص 154ط تونس الأولى ترجمته في نيل الابتهاج ص 336والشقائق النعمانية ص 52ج 2هامش وفيات الأعيان.
(3) ذيل بدائر أهل الإيمان لحسين خوجه ص 77تونس.(3/257)
بالجامع الأزهر (1) وهو الذي أقرأها بتونس، كما ذكر ذلك متلقيها عنه الشيخ محمد قويسم، في خاتمة كتابه: «سمط للآل» (2).
وكذلك الشيخ محمد زيتونة (3) والشيخ محمد الصفار (4) والشيخ محمد العواني (5) والشيخ أحمد برنار (6) والشيخ محمد سعادة (7) والسيد أحمد الشريف إمام دار الباشا (8) والشيخ علي النوري الصفاقسي إمام القراءات المشهور (9) والشيخ محمود مقديش الصفاقس (10) كانوا كلهم من تلاميذ أولئك الأعلام الأزهريين وبواسطتهم دخلت كتب هؤلاء الأئمة إلى تونس، وشاعت دراستها، ولا سيما شروح الشبراخيتي والزرقاني والخرشي على مختصر خليل وشرح الزرقاني على الموطأ، وشرحه على المواهب، وتوجد خطوط هؤلاء الشيوخ إلى الآن في المكاتب بتونس: ففي المكتبة العبدلية إجازة الشيخ إبراهيم اللقاني بخطه، وفي المكتبة العبدلية أيضا نسخة من شرح الأبي على صحيح مسلم بخطه أيضا كتبها سنة 1012هـ، وفي تونس نسخة بخط الشيخ إبراهيم من كتاب مغنى اللبيب لابن هشام، ونسخة من شرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني على المختصر هي أصله الذي بخطه.
وفي المكتبة العبدلية جزء من شرح المواهب اللدنية للشيخ محمد الزرقاني، كانت من أملاك الأمير حسين باشا وقد قوبلت بإذنه على نسخة منسوخة من أصل المؤلف، المكتوب بخطه، الذي قرأه بدرسه على طلبته بالأزهر في آخر عمود.
__________
(1) الذيل ص 80.
(2) مخطوط.
(3) ذيل 134.
(4) ذيل 120.
(5) ذيل 100.
(6) ذيل 140.
(7) ذيل 161.
(8) شجرة النور 1188.
(9) شجرة النور 1255.
(10) شجرة النور 1462.(3/258)
وكذلك شاعت الرواية بأسانيد أعلام المحدثين بالأزهر في ذلك القرن: مثل أسانيد الشيخ الطولوني يروى بها الشيخ محمد زيتونة، وأسانيد الشيخ الشبراوي يروى بها السيد أحمد الشريف (1) والشيخ علي النوري (2).
وكان للعلامة التونسي محمد زيتونة رحلتان إلى مصر سنة 1114هـ وسنة 1124هـ خلفا صدى بعيدا وأثرا حميدا، في توثيق الصلات بين علماء الأزهر وعلماء الزيتونة، بما عرف أهل الأزهر وعلماء الأسكندرية من فضله وعلمه، وما أظهر في دروسه ومجالسه، مما نال ثناءهم، وجلب اعتناءهم لا سيما درسه في تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء ليلة المعراج في رجب من سنة 1114هـ بجامع تربانة بالأسكندرية، الدرس الذي نوه بذكره حسين خوجه في ذيل كتابه بشائر أهل الإيمان (3) وكان ممن أخذ عن الشيخ زيتونة من علماء مصر المحدث الشيخ أحمد الصباغ الأسكندري، صاحب الثبت المشهور.
وكثيرا ما تصدت رحاب الأزهر بطلب الفتوى، في حوادث تنزل بالبلاد التونسية، أو قضايا يدق محل النظر فيها، كما وقع سنة 1046هـ في إمارة يوسف داي، أن وجه سؤال إلى علماء الأزهر في قضية حال تتعلق بتوريث زوجة شهد بطلاقها بعد موت الزوج، وكتب في (المسألة) رسالة الشيخ عمر بن علي الفكروني الأزهري، وهو تونسي الأصل، من مدينة سوسة، وكان قاضيا مالكيا بمصر شيخا لرواق المغاربة بالأزهر ومن تلاميذ الشيخ سالم السنهوري.
واتصلت سلاسل الرواية، والملاقاة، وتلقى الدروس، كامل القرن
__________
(1) فهرس الفهارس ج 2ص 79ط فاس.
(2) شجرة النور 1225.
(3) ص 134ط تونس.(3/259)
الثاني عشر، قوية نامية متتالية، وفيه شد كثير من التونسيين الرحلة إلى الأزهر لاستكمال تخرجهم فيه بالأساتذة الأعلام الذين كانت سمعتهم السائرة تجلب إليهم الشادين في طلب العلم من الآفاق، لا سيما وقد أثرت القرون الماضية في تشابه مناهج الدراسة، واتحاد الكتب التي يزاولها الدارسون، ويعتني بتقريرها والتعليق عليها المدرسون، والشراح، والمحشون، فمختصر خليل، وكتب القرافي، والبيضاوي، وكتب ابن هشام، وشرح الأشموني على الألفية، وكتب العضد، والتفتازاني، وكتب ابن حجر والسيوطي، والقاضي زكرياء، وأسانيد هؤلاء الثلاثة الأخيرين ذكرا، هي التي كان عليها مدار الدراية والرواية، على السواء، بمصر وبتونس، وعليها عكف الطلبة، وبها تخرج العلماء في المعهدين العظيمين: الأزهر والزيتونة. ففي الوقت الذي أقبل فيه الشيخ محمد بن سعيد الحجري، الملقب بالنحم الثاني على جامع الزيتونة، آتيا من قرية أبي حجر، في الساحل الشرقي التونسي، كان اثنان من تلك البلاد الساحلية نفسها قد وفدا على الجامع الأزهر: وهما الشيخ محمد سعادة والشيخ عبد الرحمن بن جاد الله البناني. أما الشيخ محمد سعادة فقد رجع إلى تونس مملوء الوطاب، متين الأسباب، من دروس الشيخ محمد الزرقاني، والشيخ أحمد الفقهيه، والشيخ عبد الرءوف البشبيشي، ومن أسانيد الشيخ علي الطولوني، والشيخ عبيد النمرسي (1).
وأما الشيخ البناني فقد أقام بمصر، وكان من أعظم علماء الأزهر وأكثرهم طلبة وأبعدهم شهرة، ناهيكم بشرحه على المحلي، وتقريراته على شرح التفتازاني على التلخيص.
ولقد كانت الكتب التي اعتنى بها كل واحد من هؤلاء الثلاثة: هي الكتب التي اعتنى بها بقيتهم في الزيتونة وفي الأزهر: الأشموني، ومختصر
__________
(1) ترجمته في ذيل البشائر ص 160ط تونس.(3/260)
السعد، وتهذيب المنطق. فقد كتب الشيخ أبي سعيد والشيخ سعادة كل منهما، حاشية علي الأشموني. أما حاشية الشيخ سعادة فكانت قبل حاشية الصبان، ولكنا لا نعرفها إلا ذكرا. وأما الشيخ ابن سعيد، وحاشيته مشهورة مطبوعة، فقد كان تدريسه الأشموني بتونس، وكتابته «حاشيته عليه في مدة تدريس الشيخ الصبان الأشموني بالأزهر، ووضع حاشيته عليه، فقد أتم الصبان حاشيته سنة 93وأتم ابن سعيد حاشيته سنة 97وكان الاتصال بين الحلقتين، بتردد الطلبة محققا، حتى أن الشيخ ابن سعيد كثيرا ما يجاذب الشيخ الصبان أبحاثه، ويعرض طريقته، وزيادة على اعتماد كل منهما على حاشية الشيخ يوسف.
وتوجد بتونس كتب من ممتلكات الشيخ الصبان عليها خطة يقرب أن يكون هو رحمه الله مكن منها بعض طلبته وفي مكتبتنا نسخة من كتاب النكت للسيوطي عليها تمليك الصبان سنة 1187وبقيت صلات الود وثيقة بين الشيخ ابن سعيد والشيخ البناني، والمراسلة بينهما متسقة وهما من قريتين متجاورتين (زينان، وبو حجر). ففي ديوان الشيخ ابن سعيد الذي سماه «الفلك المشحون» (1) رسالة من الشيخ البناني إليه بمناسبة سفر والده الشيخ ابن سعيد للحج ومروره بمصر، يجيبه فيها عن طلبه نسخة من حاشيته على المحلي بأنه سيكتبها بيده ويوجهها إليه فيما بعد، إلى أغراض أخرى. كل ذلك في أسلوب بليغ من خطاب المودة والتعظيم. وكذلك كان جواب ابن سعيد الذي تضمن، فيما تضمن من ثناء وتنويه استنجازا للوعد بإرسال حاشية المحلي.
وقد اشتهر اسم الشيخ ابن سعيد بمصر، واعتنى بكتبه، مع أنه لم يعمر طويلا، حتى أن الشيخ حسن العطار، في منتصف القرن الثاني عشر اعتمد على حاشيته على شرح الخبيصي على التهذيب وجاذبه كثيرا من
__________
(1) مخطوط مكتبتنا الماسورية.(3/261)
مباحثها، في ما كتب هو أيضا على نفس الكتاب، كما صرح بذلك في خطبة حاشيته وفي ختامها.
وقد طبعت الحاشيتان معا، كتابا واحدا، في بولاق سنة 1296.
ولم يكن الراحلون إلى الأزهر من الزيتونيين في هذا القرن الثاني عشر محصورين في البناني وسعادة، بل غيرهما كثيرون. منهم الشيخ محمد بن علي الغرياني (1) الطرابلسي الأصل الذي أخذ عن الشيخ محمد بن سالم الحفناوي، والسيد البليدي، والشيخ محمد العشماوي والشيخ أحمد العماري، وبعد زيارة الحرمين الشريفين، والأخذ عن أعلام البلد الحرام أمثال الجمال الأخير الطبري، وتاج الدين القلعي، وابن عقيلة، رجع إلى الزيتونة وانتصب للتدريس وكان أستاذ الأساتذة وبه اتصلت رواية الزيتونة بالأزهريين، وعنه يروى بتلك الأسانيد الشيخ عمر المحجوب في إجازته شيخ الإسلام محمد بن الخوجه التي في ثبته (2)، ومنهم الشيخ محمد بن حسين الهدة، صاحب الحاشية على شرح الورقات فقد أخذ عن الشيخ علي الصعيدي والسيد البليدي، والشيخ الدمنهوري.
وانتصب للتدريس بجامع الزيتونة (3)، وكان يروي عن الشيخ الحفناوي وأجاز بسنده وعنه يروى به الشيخ عمر المحجوب كما في ثبت الشيخ ابن الخوجه أيضا. ومنهم الشيخ إبراهيم بن علي شعيب الذي روى عن الحفناوي أيضا، وعنه روى الموطأ والصحيحان بذلك السند في جامع الزيتونة، روى عنه الشيخ حمودة إدريس، الذي حدث عنه الشيخ المحجوب، كما في إجازة الشيخ إسماعيل التميمي (4).
__________
(1) ترجمته في فهرس الفهارس ص 252ج 2.
(2) مخطوط بمكتبتنا.
(3) ترجمته في أخبار أبناء الزمان لابن أبي الضياف ج 2ص 15ط تونس.
(4) ترجمة في ذيل البشائر ص 54.(3/262)
وزاد في قوة انجذاب الزيتونيين إلى الأزهر في هذا القرن الثاني عشر أن حفلت مصر بمقدم أسانيد في البلاد الشرقية بلغت سمعتهم عنان السماء، يعتبر في مقدمتهم شهرة وعلو مقام الحافظ محمد مرتضى الزبيدي فقد تسابق الناس للأخذ عنه، وتزاحموا على مجالس إملائه، حتى كان القاصدون إلى الحج ولو من غير خاصة الطلبة يغتنمون إقامتهم بمصر عابرين لحضور مجالسه الجامعة ويكتب لهم الشهادة بالسماع، والإجازة، وبذلك شاعت الرواية عنه، وانتشر خطه في الإجازات والأثبات وكتب السنة المقروءة عليه. ومن أخص تلاميذه من شيوخ الزيتونة الشيخ عمر بن المؤدب، والشيخ محمد بن حمودة الصفار، وأبناء الشيخ الغرياني، بل إن عامة طلبة جامع الزيتونة في ذلك العصر يعتبرون طلبة له، لأنه كتب في إجازته لأبناء الشيخ الغرياني: كذا أجزت لطلبة العلم الملازمين في حلقة دروس والدهم وسائر أحبابهم وأصحابهم ممن فيه أهلية التحمل لهذا العلم (1) وقد كان الشيخ مرتضى أخذ عن الشيخ الغرياني، كما أخذ عن الشيخ أحمد بن عبد الله السوسي من علماء الزيتونة وعن هذا الاتصال المحكم بين الأزهر والزيتونة، في القرن الثاني عشر، تولدت صلات أشد إحكاما، وروابط أتم انتظاما، في القرن الثالث عشر فقد استهل ذلك القرن وسمعة أعلام من الأزهريين قد ضربت ما بين المشرق والمغرب بكتبهم القيمة التي شاعت في عصرهم وعم الإقبال عليها: مثل الشيخ محمد بن عرفة الدسوقي، الذي عظمت شهرة دروسه وأسانيده وكتبه واعتمدت حواشيه، ولا سيما حاشيته على شرح الدردير على المختصر الخليلي، التي اعتمدها فقهاء الزيتونة، في الدروس والفتاوى والأحكام، وعلقوا عليها، وجاذبوا مؤلفها بحوثه ونقوله: وتحقيقاته فكان شيخ الإسلام أحمد بن حسين، والشيخ المفتي محمد الشاهد، وغيرهما من شيوخ المذهب المالكي في أواسط القرن الثالث عشر، يعتمدون كلام الشيخ
__________
(1) بخطه في مكتبتنا.(3/263)
الدسوقي، ويستندون إليه في فتاويهم وتحاريرهم، كما هو ثابت في الوثائق ومنقول في الأخبار وكان للطباعة في القرن الثالث عشر، ولا سيما في النصف الأخير منه، أثر في سرعة ايصال الكتب وبسط شهرتها فعرفت كتب الشيخ الخضري، والشيخ علي الصعيدي، والشيخ الباجوري، والشيخ العطار، وشاعت في مناهج الدراسة الزيتونية فقوي بذلك تشابه المناهج بين الزيتونة والأزهر، حتى لم يبق فرق يذكر، لا في المناهج، ولا في صورة التكوين العلمي للخريجين. ففي الربع الأخير من القرن الماضي كان شيخ الإسلام سالم أبو حاجب (1) يدرس الأشموني بجامع الزيتونة، درسا اشتهر وشدت له الرحال، وكان يتتبع حاشية الصبان. ويكثر البحث فيها ويكتب بحوثه وتقريراته، أو يكتبها طلبته، وكان الشيخ الأنباني، في تلك الأيام نفسها، يدرس الأشموني بالجامع الأزهر، ويكتب على حاشية الصبان وكان بعض الطلبة يتردد بين الدرسين: مثل الشيخ مصطفى بن خليل، فكانت المباحث التي تثار في أحد الدرسين يبلغ صداها إلى الآخر حتى أنه لما طبعت تقريراته الشيخ الإنبابي على الصبان، قضى الشيخ سالم العجب من توارد الخواطر، حتى عدل عن طبع تقريراته، إذ أصبح غالبها مستغنى عنه بما طبع من تقريرات شيخ الإسلام المصري، سمعت ذلك من كثير من أساتذتنا تلاميذ الشيخ سالم، كما سمعت منه شيئا يرجع إلى هذا المعنى في أسلوب حديثه الفكه وهو في العقد العاشر من حياته رحمه الله وانتهى القرن الثالث عشر بما كان من الروابط موصولا بين الأزهر والزيتونة في ذات الفقيه الكبير الشيخ محمد عليش، الذي أخذ عن الشيخ محمود مقديش (2)
وروى عن الشيخ محمد بن ملوكة (3) وعنه أخذ كثير من الزيتونيين منهم الشيخ مصطفى بن خليل وكثيرا ما كانت تعرض المسائل عن الحوادث
__________
(1) شجرة النور 1689.
(2) شجرة النور 1544.
(3) شجرة النور 1559.(3/264)
والأحكام على الشيخ محمد عليش لأخذ فتواه فيها.
وقد كان من أجل الراجلين من الزيتونة إلى الأزهر في القرن الثالث عشر: الشيخ مصطفى بن خليل فقد كان أكمل تحصيله بالزيتونة وسمى عدلا بتونس، ثم سافر إلى مصر، فقرأ بالأزهر على الشيخ إبراهيم السقاء، والشيخ عليش، والشيخ الإنبابي، وأجازة الشيخ أحمد بن عبد الرحيم الطهطاوي. ويوجد نص إجازته له بخطه في دار الكتب المصرية، ثم رجع الشيخ مصطفى إلى تونس في أواخر القرن الثالث عشر، وسمي مدرسا من الطبقة العليا بجامع الزيتونة، وعلت منزلته، وأخذ عنه وتخرج به كثير من علماء النصف الأول من القرن الحاضر.
وإنه ليكفي لإظهار الامتزاج الذي اكتمل في القرن الماضي بين الأزهر والزيتونة الرجوع إلى قوانين التعليم في المعهدين، حتى يتبين أن الكتب التي تدرس في مراتب التعليم الثلاث: الابتدائية والمتوسطة، والعالية، إنما كانت متحدة بصفة غالبة، لا يستثنى من ذلك إلا عدد قليل جدا، على ما جاء في الفصول 3، 4، 5، من الأمر العالي الصادر بضبط قانون التعليم في جامع الزيتونة سنة 1262مع مقارنتها بما أثبته المرحوم الشيخ منصور رجب من أسماء أشهر الكتب التي تدرس بالأزهر في كتابه: «الأزهر بين الماضي والحاضر» علاوة على أن الكتب التي كانت تدرس بجامع الزيتونة وضبطها قانون 1292وهي مائة وخمسون كتابا يوجد من بينها ستة وأربعون كتابا هي مصرية أزهرية وكذلك ارتبط القرن الحاضر بالقرن قبله، إذ انعقدت من القرنين أسباب امتدت من السابق منهما وشدت باللاحق».
نعم «كانت العروة الوثقى لا انفصام لها» الجمعية التي أنشأها السيد جمال الدين الأفغاني، بعد خروجه من مصر سنة 1299الوثاق الذي شدت به الصلات المتينة بين رجال من علماء الأزهر، انتصبوا لقيادة حركة الإصلاح في العالم الإسلامي، وآخرين من علماء الزيتونة، ساروا معهم
في ذلك السبيل (1) فيهم الشيخ محمد بيرم، والشيخ محمد السنوسي، والشيخ أحمد الورباني، واستمر ذلك الاتصال يملأ قرننا الحاضر حركات متحدة المصادر، متشابهة المظاهر. بين الأزهر والزيتونة وزار الشيخ محمد عبده تونس زيارته الأولى سنة 1302وامتزج بعلمائها ثم عاد بعد عشرين سنة وألقى محاضرته القيمة «العلم لطرق التعليم» وكان لمجلة المنار رواج واسع في تونس وأثر قوي في إشاعة دعوة الشيخ محمد عبده الإصلاحية.(3/265)
نعم «كانت العروة الوثقى لا انفصام لها» الجمعية التي أنشأها السيد جمال الدين الأفغاني، بعد خروجه من مصر سنة 1299الوثاق الذي شدت به الصلات المتينة بين رجال من علماء الأزهر، انتصبوا لقيادة حركة الإصلاح في العالم الإسلامي، وآخرين من علماء الزيتونة، ساروا معهم
في ذلك السبيل (1) فيهم الشيخ محمد بيرم، والشيخ محمد السنوسي، والشيخ أحمد الورباني، واستمر ذلك الاتصال يملأ قرننا الحاضر حركات متحدة المصادر، متشابهة المظاهر. بين الأزهر والزيتونة وزار الشيخ محمد عبده تونس زيارته الأولى سنة 1302وامتزج بعلمائها ثم عاد بعد عشرين سنة وألقى محاضرته القيمة «العلم لطرق التعليم» وكان لمجلة المنار رواج واسع في تونس وأثر قوي في إشاعة دعوة الشيخ محمد عبده الإصلاحية.
ولا نريد أن ندخل في صلة هذه الحركة بالأزهر: وما كان بين المنار والأزهر، مما كتب فيه صاحب المنار كتابا خاصا. ولكننا نكتفي بأمرين هامين يتضح بهما ما كان لهذه الحركة من انتساب متين إلى الأزهر يجعل انتشار دعوتها بتونس داخلا في موضوعنا أولهما أن قوام مجلة المنار، وأعظم مادتها، إنما كان ما تنشره من تلخيص دروس الشيخ محمد عبده في تفسير القرآن العظيم، وهي دروس أزهرية كانت تلقى في الرواق العباسي، وثانيهما أن أهم ما تحدده المنار، من دعوة الشيخ محمد عبده، هي دعوته إلى إصلاح التعليم في الأزهر، وأقصى ما تقصد إلى تحقيقه هو أن يتولى الأستاذ الإمام أمر الأزهر، أو أن يكون مشاركا فيه مشاركة ذات نال، فكان من هنالك منشأ الأحداث التي شطرت الأزهر شطرين: بين مناصرين لدعوة الشيخ محمد عبده، ومعارضين لها. وكان ذلك الانقسام ساريا إلى جامع الزيتونة فنشأت فيه حركة (2) فكرية قوية شطرت رجاله أيضا إلى شطرين بين أنصار دعوة الشيخ محمد عبده والمنار وخصومها، وجعلت أكثر الطلبة من شيعة مفتي الديار المصرية، ومطالبين بإصلاح التعليم الزيتوني على المبادىء التي طالب بها لإصلاح التعليم الأزهري، وكانت حركات الطلبة في الأزهر مثالا موجها لحركات الطلبة في الزيتونة فلما أضرب الطلبة في
__________
(1) فهرس الفهارس ص 280ج 1.
(2) كتاب الحركة الفكرية والأدبية بتونس ص 43ط معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة سنة 1956.(3/266)
الأزهر سنة 1327لم يتأخر الطلبة الزيتونيون أكثر من أربعة أشهر حتى ابتدأوا المظاهرات والاضرابات ودخلت بذلك الحياة الزيتونية، تبعا للحياة الأزهرية في طور جديد (1).
وإلى جانب هذا التواصل في الحركة الإصلاحية، كان جانب آخر من التواصل الزيتوني الأزهري يتمثل في ما كان متمثلا فيه من قبل من البحث العلمي والدراسة لقد استمر طلبة من الزيتونة يقصدون الأزهر، وآخرون من الأزهر يأتون الزيتونة وأصبحت الحياة النظامية في المعهدين تمهد لهؤلاء وهؤلاء سبيل الالتحاق بكل من المعهدين باعتبار ما بلغ إليه الطالب من درجة في المعهد الآخر. وإن من أشهر الأزهريين الذين آووا إلى الزيتونة فاعتبرت له دراسته الأزهرية. وسمح له بذلك الاعتبار أن يتقدم إلى امتحان «التطويع» مباشرة بدون أن يتدرج في مراحل الدراسة العلامة المرحوم، شهيد حركة العلماء المسلمين في الجزائر الشيخ محمد العربي التبسي الذي تخرج بشهادة التطويع عقب رجوعه من الأزهر سنة 1340.
كما استمرت آثار الدروس الأزهرية العليا محل الاعتناء والإقبال من الأساتذة الزيتونيين، والرواية متصلة الأسانيد بينهم أيضا.
فكان لشيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني في حياته، رواج عظيم لكتبه في الزيتونة حتى أن حاشيته على البناني على المحلي على جمع الجوامع كان يدرسها تدريسا شيخ شيوخ الزيتونة يومئذ أستاذنا شيخ الإسلام محمد بن يوسف فضلا عن أعلام الزيتونة من تلاميذه مثل أستاذنا المحقق الشيخ محمد الصادق القاضي، كان ذلك والشيخ الشربيني حي، وقد علت سمعة تلك الحاشية، واهتم الناس بها، وأصبحت مناط البحث والتحليل، حتى أن اتقان تدريس المحلي كان يقاس في الزيتونة باتقان تحليل الشربيني وتأصل ذلك في مقايس دروس المناظرات التي يتقدم بها خريجو الزيتونة
__________
(1) الحركة الفكرية ص 97.(3/267)
لنيل منصب التدريس من الطبقة الثانية. وكذلك كان مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت معتني بتحاريره وأسانيده متلقاة من أكفائه سنا ومقاما فقد اجتمع به الشيخ محمد بن يوسف في رحلته إلى مصر والشام سنة 1327وروى عنه، وحدث بسنده وقد حدثني به رضي الله عنه في إجازته إياي المكتوبة بخطه سنة 1342عن الشيخ عبد الرحمن الشربيني عن الشيخ إبراهيم السقا عن الشيخ الأمير الصغير عن الشيخ الأمير الكبير
وأخذت سهولة الموصلات، وتيسير وسائل الحج تنمو بعد الحرب العالمية الأولى، فنمت معها الاتصالات الأزهرية الزيتونية وكثر سفر شيوخ الزيتونة للحج والعمرة، وكثرت بذلك زياراتهم للأزهر والتقاؤهم بعلمائه.
وحدثت بعد الحرب العالمية الثانية صور من التلاقي لم تكن تعرف من قبل، إذ نشأ التواصل الرسمي بين الجامعتين الأزهرية والزيتونية فيما ربطت المواصلات بين الشيخين على عهد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ مصطفى عبد الرازق، وما اتسق من صور التعاون الرسمي بين الجامعتين حتى أنه لما توفى شيخ الأزهر سنة 1367أعلن شيخ جامع الزيتونة نعيه في الصحف ببلاغ رسمي، وعطلت الدروس في جميع المعاهد الزيتونية بالقطرين التونسي والجزائري وكذلك اتبع الأمر في المناسبات المشابهة.
ولم تزل مظاهر الاتصال تبرز فيما بين المعهدين متعاقبة فقد ولى الشيخ محمد الخضر حسين التونسي مشيخة الأزهر الشريف عام 1374هـ، ثم كانت زيارة الأستاذ مدير الجامعة الأزهرية الشيخ أحمد حسن الباقوري، والتف حوله علماء الزيتونة وعظموا مقدمه، وقد خطب في جامع الزيتونة وقد انتدب غير مرة أستاذا زائرا للكلية الزيتونية المرحوم الشيخ منصور رجب الذي وافاه الأجل في مدينة تونس في ذي الحجة 151384 أبريل 1965بعد أن ترك فيها جمهورا من التلاميذ والأحبة، وقد صلى عليه
شيوخ الزيتونة صفوفا بإمامة شيخهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور قبل نقل جنازته إلى مصر.(3/268)
ولم تزل مظاهر الاتصال تبرز فيما بين المعهدين متعاقبة فقد ولى الشيخ محمد الخضر حسين التونسي مشيخة الأزهر الشريف عام 1374هـ، ثم كانت زيارة الأستاذ مدير الجامعة الأزهرية الشيخ أحمد حسن الباقوري، والتف حوله علماء الزيتونة وعظموا مقدمه، وقد خطب في جامع الزيتونة وقد انتدب غير مرة أستاذا زائرا للكلية الزيتونية المرحوم الشيخ منصور رجب الذي وافاه الأجل في مدينة تونس في ذي الحجة 151384 أبريل 1965بعد أن ترك فيها جمهورا من التلاميذ والأحبة، وقد صلى عليه
شيوخ الزيتونة صفوفا بإمامة شيخهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور قبل نقل جنازته إلى مصر.
وطالما اعتزت الكلية الزيتونية بتوالي زيارة الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود الذي كانت زيارته الأولى سنة 1382، وجلس تحت قبة جامع الزيتونة الأعظم. ثم ترادف فضيلته على الكلية وأبنائها حتى أصبحت مشيخته للزيتونيين لا تضيق عن مشيخته للأزهريين.(3/269)
الباب الثاني عشر
شخصيّات ومواقف
ابن السّبكى
عرف تاريخ الثقافة العربية كثيرا من البيوتات العلمية التي استفاض العلم فيها، وكان إرثا طيبا يؤول إلى الأبناء فيما يؤول إليهم من عقار وحطام، فكان علم الأبناء امتدادا ناضجا لعلم الآباء. وقد صان هؤلاء الأبناء ذلك الموروث العلمي العظيم، وعملوا على إثرائه وإخصابه.
وبحسبنا في هذا المقام أن نذكر الامام أبا حاتم الرازي، محمد بن إدريس بن المنذر، المتوفي سنة 277هـ. وابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم، المتوفي سنة 327، من أئمة علم الجرح والتعديل. والإمام ضياء الدين خطيب الري، عمر بن الحسين بن الحسن، وابنه الفخر الرازي، محمد بن عمر، المتوفي سنة 606هـ من فرسان علم الكلام.
على أنه لم يستعلن تأثير والد في ولده كما استعلن في تاريخ الإمام العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، المولود في سنة 683هـ والمتوفى في سنة 756هـ. وولده العلامة تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي، المولود في سنة 727هـ، والمتوفى في سنة 771هـ.
وقد أجمع المؤرخون على فضل الوالد وسعة علمه، فيقول عنه
الذهبي فيما ينقل عنه السبكي:(3/271)
وقد أجمع المؤرخون على فضل الوالد وسعة علمه، فيقول عنه
الذهبي فيما ينقل عنه السبكي:
«القاضي الإمام العلامة الفقيه المحدث الحافظ فخر العلماء، كان صادقا ثبتا خيرا دينا، من أوعية العلم، يدري الفقه ويقرره، وعلم الحديث ويحرره، والأصول ويقربها، والعربية ويحققها». ويكفي دليلا على علم هذا الرجل أنه كان الوحيد من بين علماء عصره الذي تصدى لابن تيمية على عنفه وشدته ورد عليه في مسألتي الطلاق، وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهما المسألتان اللتان زعزع بهما ابن تيمية كيان العلماء في عصره. فرد عليه الإمام السبكي في مسألة الطلاق برسالتين: رافع الشقاق في مسألة الطلاق. والتحقيق في مسألة التعليق. ورد عليه في الزيارة برسالة: شفاء السقام في زيارة خير الأنام. أو شن الغارة على من أنكر السفر للزيارة. ويقول فيه ابن تيمية: «لقد برز هذا على أقرانه».
وقد نبغ صاحبنا تاج الدين في منتصف القرن الثامن الهجري عصر الموسوعات العلمية، هذا العصر الذي كان بمثابة الصحوة الفارهة بعد النكسة التي أصابت العالم الاسلامي، والتي كادت تأتي على تراثه الضخم العريض، إبان الغزو التتري الكاسح.
وقد ولد تاج الدين بالقاهرة، ونسب إلى قرية سبك من أعمال المنوفية. ولم ينصرف الفتى في صباه إلى اللهو واللعب، كما يفعل لداته وأترابه، فقد هدهد سمعه في سن تفتحه وفود العلماء، تفد إلى بيت أبيه، تنشد العلم وتطلب الفتيا. فأقبل على ألوان المعرفة يحصلها على مهل واتئاد في الأزهر الشريف حتى اكتملت له أدوات العالم المجتهد. وكان مجلى هذه الثقافة الواسعة العريضة في نهاية الشوط موسوعة علمية ضخمة، لمت أطراف الثقافة العربية، وجلتها على نحو معجب خلاب، على امتداد سبعة قرون في كتابه الخالد «طبقات الشافعية الكبرى».
لقد انفسح هذا الكتاب العظيم من خلال ترجمته لرجال المذهب
الشافعي لكثير من المباحث الفقهية والفتاوي الشرعية، والمقالات، والمناظرات، والنوادر والملح، كما حفل بالضوابط اللغوية ومسائل علم الكلام والأصول. كما كان مصدرا أدبيا لكثير من الكتب التي عالجت شؤون الحب.(3/272)
لقد انفسح هذا الكتاب العظيم من خلال ترجمته لرجال المذهب
الشافعي لكثير من المباحث الفقهية والفتاوي الشرعية، والمقالات، والمناظرات، والنوادر والملح، كما حفل بالضوابط اللغوية ومسائل علم الكلام والأصول. كما كان مصدرا أدبيا لكثير من الكتب التي عالجت شؤون الحب.
وكان أيضا مرجعا أصيلا في جمع أشعار الشعراء. على أن أهميته الكبرى بعد كل ذلك ترجع إلى أنه حفظ لنا كثيرا من النصوص التي ضاعت أصولها. كتاريخ نيسابور، للحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله، المعروف بابن البيع، المتوفى سنة 405هـ وتاريخ مصر لابن يونس، عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة 347هـ، وغير هذين الكتابين كثير من هذه الأمهات التي عبث بها الزمان.
وقد عالج ابن السبكي في كتابه هذا ذلك المنهج العلمي، الذي عرف فيما بعد، ونسب إلى ابن خلدون، ذلك المنهج القائم على تمحيص الأخبار، والتنبه لما تفعله المعاصرة والعصبية في المذهب.
استمع إليه يقول في ترجمة أحمد بن صالح المصري، في الطبقة الثانية: «ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد، واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة، فجرحه لذلك». ولم تقف تلمذته للإمام الذهبي حائلا دون نقده مر النقد لمخالفته هذا المنهج القائم على الحيدة والتجرد، فيقول عنه: «وهو شيخنا ومعلمنا، غير أن الحق أحق أن يتبع، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يسخر منه».
ولكن هذه الحياة العلمية المخلصة لم تشغل صاحبنا عن أن يلمس مظاهر الضعف والعسف التي استعلنت في الحكم المملوكي الجائر.
فظهرت دعواته الإصلاحية النقدية في كتابه القيم: «معيد النعم ومبيد النقم». لقد كان هذا الكتاب ثورة عاتية على نظم الحكم، وأخلاق الناس
فقد أتيح لابن السبكي من خلال مشاركته في الحياة العامة مدرسا وخطيبا وقاضيا أن يرى وبحس مدى التمزق الذي شمل الأمة نتيجة للحكم المملوكي البغيض، الذي نبتت فيه فكرة «تركي وفلاح». والذي استأثر فيه المماليك بالمناصب الكبرى، وتركوا أصحاب الأرض الحقيقيين يشربون العرق ويقتاتون السهد. وقد وضع ابن السبكي كتابه هذا ردا على سؤال ورد عليه، أو وضعه هو بين يدي كتابه، موضوعه: «هل من طريق لمن سلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه، وردت عليه» وأجابه عن هذا السؤال راح ابن السبكي ينقد بقسوة وصراحة طوائف الأمة، ابتداء من السلطان إلى أرباب الحرف، آخذا في طريقة نواب السلطان والقضاة والمدرسين ورجال الدين من العلماء والصوفية.(3/273)
فظهرت دعواته الإصلاحية النقدية في كتابه القيم: «معيد النعم ومبيد النقم». لقد كان هذا الكتاب ثورة عاتية على نظم الحكم، وأخلاق الناس
فقد أتيح لابن السبكي من خلال مشاركته في الحياة العامة مدرسا وخطيبا وقاضيا أن يرى وبحس مدى التمزق الذي شمل الأمة نتيجة للحكم المملوكي البغيض، الذي نبتت فيه فكرة «تركي وفلاح». والذي استأثر فيه المماليك بالمناصب الكبرى، وتركوا أصحاب الأرض الحقيقيين يشربون العرق ويقتاتون السهد. وقد وضع ابن السبكي كتابه هذا ردا على سؤال ورد عليه، أو وضعه هو بين يدي كتابه، موضوعه: «هل من طريق لمن سلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه، وردت عليه» وأجابه عن هذا السؤال راح ابن السبكي ينقد بقسوة وصراحة طوائف الأمة، ابتداء من السلطان إلى أرباب الحرف، آخذا في طريقة نواب السلطان والقضاة والمدرسين ورجال الدين من العلماء والصوفية.
استمع إليه يلخص رأيه في الأتراك عموما، فيقول: «وقد اعتبرت كثيرا من الأتراك يميلون إلى أول شاك، وما ذاك إلا للغفلة المستولية على قلوبهم» ثم يسخر من هؤلاء الأتراك وتعلقهم من الإسلام بالمظاهر الفارغة، فيقول: «وأما أنك ترتكب ما نهى الله عنه وتترك ما أمر به، ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا، ليقال: هذا جامع فلان، فلا والله لن يتقبله الله تعالى أبدا». ثم يتكلم عن السلطان ويحدد اختصاصاته فيقول:
«إن الله لم يوله على المسلمين ليكون رئيسا آكلا شاربا مستريحا، بل لينصر الدين ويعلي الكلمة». وحين يتحدث عن العلماء والمفتين يأخذ على بعض هؤلاء وأولئك تعصبهم لمذاهبهم، وأضاعتهم الوقت في الخلافيات، فيقول مخاطبا العلماء: «لو أن الشافعي وأبا حنيفة ومالكا وأحمد أحياء يرزقون لشددوا النكير عليكم وتبرأوا منكم فيما تفعلون» ثم يأتي إلى المفتين فيقول: «ومنهم طائفة تصلبت في أمر دينها، فجزاها الله خيرا، تنكر المنكر وتتشدد فيه، وتأخذ بالأغلظ، وتتوقى مظان التهم، غير أنها تبالغ فلا تذكر لضعفة الايمان من الأمراء والعوام إلا أغلظ المذاهب، فيؤدي ذلك إلى عدم انقيادهم وسرعة نفورهم. فمن حق هذه الطائفة
الملاطفة وتسهيل ما في تسهيله فائدة لمثل هؤلاء إلى الخير، إذا كان الشرع قد جعل لتسهيله طريقا، كما أن من حقها التشديد فيما ترى أن في تسهيله ما يؤدي إلى ارتكاب شيء من حرمات الله».(3/274)
«إن الله لم يوله على المسلمين ليكون رئيسا آكلا شاربا مستريحا، بل لينصر الدين ويعلي الكلمة». وحين يتحدث عن العلماء والمفتين يأخذ على بعض هؤلاء وأولئك تعصبهم لمذاهبهم، وأضاعتهم الوقت في الخلافيات، فيقول مخاطبا العلماء: «لو أن الشافعي وأبا حنيفة ومالكا وأحمد أحياء يرزقون لشددوا النكير عليكم وتبرأوا منكم فيما تفعلون» ثم يأتي إلى المفتين فيقول: «ومنهم طائفة تصلبت في أمر دينها، فجزاها الله خيرا، تنكر المنكر وتتشدد فيه، وتأخذ بالأغلظ، وتتوقى مظان التهم، غير أنها تبالغ فلا تذكر لضعفة الايمان من الأمراء والعوام إلا أغلظ المذاهب، فيؤدي ذلك إلى عدم انقيادهم وسرعة نفورهم. فمن حق هذه الطائفة
الملاطفة وتسهيل ما في تسهيله فائدة لمثل هؤلاء إلى الخير، إذا كان الشرع قد جعل لتسهيله طريقا، كما أن من حقها التشديد فيما ترى أن في تسهيله ما يؤدي إلى ارتكاب شيء من حرمات الله».
ويرسم ابن السبكي المعلم للمدرس منهجا تربويا راشدا حين يقول:
«وحق عليه أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه للحاضرين، ثم أن كانوا مبتدئين فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات، بل يدربهم ويأخذهم بالأهون فالأهون، إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق وإن كانوا منتهين فلا يلقي عليهم الواضحات، بل يدخل بهم في المشكلات». وتتجلى دعوة صاحبنا الإصلاحية في أبهى صورها حين يأسى للفلاح الذي يستهلك في السخرة والإقطاع. فحين يتكلم عن منصب ناظر الجيش وتحديد اختصاصاته يقول: «ومن قبائح ديوان الجيش الزامهم الفلاحين في الإقطاعات بالفلاحة. والفلاح حر، لا يد لآدمي عليه، وهو أمير نفسه».
وبعد ألا تعتقد معي أيها القارىء الكريم أن هذا الرجل إنما يتكلم بلغة عصرنا، كمصلح اجتماعي، وكعالم نفساني، بصير بالنفس الإنسانية، عالم بضعفها.
وكان طبيعيا بعد هذا النقد المر الجارح لنظام الحكم وأخلاق الناس أن تتعرض حياة الرجل ومصير أسرته للزوابع والأعاصير. فيعزل عن منصب القضاء، لأسباب واهية ذكرها الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» وتجري له محاكمة، يحكم عليه فيها بالحبس سنة. ولكن هل ضعف ابن السبكي، أو تخاذل؟ استمع إلى معاصره الحافظ ابن كثير يقول: «جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله. وحصل له من المناصب والرياسة ما لم يحصل لأحد قبله، وإبان في أيام محنته عن شجاعة وقوة على المناظرة، حتى أفحم خصومه، ثم لما عاد عفا عنهم، وصفح عمن قام عليه».(3/275)
وبعد هذه الحياة الخصبة الزاخرة بالعلم والإصلاح انطفأت هذه الشعلة التي توهجت عبر أربع وأربعين سنة. وحق لابن السبكي أن يقول في زهو ورضا، في ورقة كتبها إلى نائب الشام: «وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق، لا يقدر أحد يرد على هذه الكلمة».
توفي تاج الدين شهيدا بالطاعون (بالدهشة) ظاهر دمشق، في ذي الحجة. خطب يوم الجمعة، وطعن ليلة السبت رابعه، ومات ليلة الثلاثاء سابعه سنة 771هـ ودفن بتربة السبكية بسفح قاسيون، عن أربع وأربعين سنة، بعد أن جلا صفحة مشرقة في تاريخ علماء المسلمين.(3/276)
الشيخ محمد الحفني شيخ الأزهر
الشيخ (1) الإمام العلامة، أوحد زمانه علما وعملا، المشهود له بالتحقق والكمال، والمجمع على تقدمه في كل مجال أبو الأنوار شمس الدين محمد الحفني بن السيد سالم بن علي الحفناوي، الأزهري، الشافعي الخلوتي، الذي ينتسب إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهو الثامن من الأئمة الكبار، الذين تولوا مشيخة الأزهر الشريف.
ولد رضي الله عنه على رأس سنة 1100هـ بقرية حفنا التابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية، ونسب إليها، حتى صارت هذه النسبة علما عليه بالغلبة، وصار لا يذكر إلا بها.
نشأ بقريته، وحفظ بها من القرآن الكريم إلى سورة الشعراء، وكان أبوه وكيلا لأحد الأمراء، ويقطن بالقاهرة. مقر عمله، فأبقاه لديه. ولما أكمل حفظ القرآن الكريم، اشتغل بحفظ المتون: كألفية ابن مالك، والسلم، والجوهرة، وغيرها، ثم جاور بالأزهر الشريف وأخذ عن شيوخه العلم وكلهم أئمة بنورهم ينجلي الظلام، وأقطاب ببركتهم يدرك المرام منهم: محيي السنة الشيخ أحمد الخليفي، والشيخ أحمد الملوي،
__________
(1) عن مجلة الأزهر الأستاذ أحمد نصار.(3/277)
والشيخ محمد الديربي، والشيخ عبد الرءوف البشبيشي، والشيخ محمد السجاعي، والشيخ يوسف الملوي، والشيخ عبده الديوي، والشيخ محمد الصغير.
ومن أجل شيوخه، الذين سمع منهم: شيخ المحدثين الشيخ محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت. أخذ عنه التفسير والحديث والإحياء للإمام الغزالي، وصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه والموطأ والمعجم الكبير والأوسط والصغير للطبراني، وصحيح ابن حبان، والحلية للحافظ أبي نعيم، وغير ذلك.
واجتهد ولازم، حتى شهد له شيوخه جميعا بالتفوق، وأثنوا على دقة فهمه، ورجحان عقله، وسعة معرفته وأجازوه بالإفتاء والتدريس، وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره المبارك، فكان أمره عجبا يلفت النظر، لقصر هذه المدة، التي حفظ فيها القرآن، وأتم طلب العلم فصار أهلا للإفتاء والجلوس للتدريس، ولكن ابن العناية ملحوظ فأقرأ الكتب الدقيقة في حياة شيوخه، وشهد له معاصروه بالبراعة، والإجادة في الإفادة ولازم درسه أكثر طلبة العلم.
وكان إذ ذاك في ضيق من العيش. وفي ذلك يقول:
إني أقول لنفسي وهي ضيقة ... وقد أناخ عليها الدهر بالتعب
صبرا على شدة الأيام، إن لها ... وقتا وما الصبر إلا عند ذي الحسب
ولكن هذا الحال، لم يخرجه عن القناعة والرضا، ولم يبد منه أن لدنيا عنده قدرا فقد أنشد:
خبز وماء وظل ... هو النعيم الأجل
جحدت نعمة ربي ... إن قلت إني مقل
ثم أخذ بالأسباب لزيادة دخله، فاشتغل بنسخ الكتب بالأجر، وإن كان ذلك
قد شق عليه، خوفا من أن يشغله النسخ عن متابعة إقراء العلم، ولكنه لم يستمر طويلا حتى أذن الله فجاءه الفرج وأقبلت الدنيا عليه، وصار رزقه فيضا إلهيا، فاتجه بكليته إلى العلم وعقد الدروس، وقرأ جمع الجوامع للعلامة السبكي، والأشموني على الألفية ومختصر السعد، وحاشية حفيده عليه. وابن عبد الحق على البسملة، وغيرها.(3/278)
خبز وماء وظل ... هو النعيم الأجل
جحدت نعمة ربي ... إن قلت إني مقل
ثم أخذ بالأسباب لزيادة دخله، فاشتغل بنسخ الكتب بالأجر، وإن كان ذلك
قد شق عليه، خوفا من أن يشغله النسخ عن متابعة إقراء العلم، ولكنه لم يستمر طويلا حتى أذن الله فجاءه الفرج وأقبلت الدنيا عليه، وصار رزقه فيضا إلهيا، فاتجه بكليته إلى العلم وعقد الدروس، وقرأ جمع الجوامع للعلامة السبكي، والأشموني على الألفية ومختصر السعد، وحاشية حفيده عليه. وابن عبد الحق على البسملة، وغيرها.
واشتغل بعلم العروض، حتى برع فيه وأجاد نظما ونثرا، حتى عرف بالفصاحة، وجودة البيان، وكثيرا ما كان يرتجل الشعر، فمن ذلك قوله:
أتطلبون رضائي الآن عن نفر ... قلوبهم بنفاق لم تزل مرضى
تجاهروا بقبيح الفسق، لا ربحوا ... إن كنت أرضى، فإن الله لا يرضى
ومن نثره: من رسالة لبعض تلاميذه في الطريق، وقد جمعت بين قوة الأسلوب وعذوبة اللفظ، وضمت إلى حسن التوجيه، نهجا عاليا في التربية والتهذيب، قال فيها:
«ومن زاد عليك إقباله، وتوجهت إليك بالصدق آماله، فاصرف قلبك إليه، وعول في التربية عليه، ومن عنك بهواه صد، بعد أخذك عليه وثيق العهد، فدعه ولا تشغل به البال، وأنشده قول أستاذنا (أي السيد مصطفى البكري) لمن عن طريقنا قد مال:
ألم تدر أنا من قلانا سفاهة ... تركناه غب الوصل يعمى بصده
ومن صدعنا حسبه الصد والجفا ... وإن الردى أصماه من بعد بعده
ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته ... وأنا نكافيه على ترك حمده
وإنا غدا لما نعد محبنا ... واتباعنا لسنا نهم بعده
ومن أردت زجره للتربية وإرشاده، فليكن ذلك على انفراد، إذ هو أرجى لإسعاده، ولا تزجر بضرب ولا نهر بين الناس، فإن ذلك ربما أوقع المريد من اليأس، ولا تلتفت لمن أعرض، ولا لمن يصحبك لغرض،
وعليك بالرفق للإخوان، سيما أخوك فلان، فالخير لمن صاحب بإحسان، والأدب واللطف محمودان، والغلظة والحقد موبقان، فاصرح القال والقيل، واصفح الصفح الجميل، ولك ولكل من أخذ عنك أو حبك، منا ومن أهل سلسلة طريقتنا ما سرك، فابشر إن عملت بما أشرنا بكل خير، ومزيد الفتح، والمسير في السير».(3/279)
ألم تدر أنا من قلانا سفاهة ... تركناه غب الوصل يعمى بصده
ومن صدعنا حسبه الصد والجفا ... وإن الردى أصماه من بعد بعده
ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته ... وأنا نكافيه على ترك حمده
وإنا غدا لما نعد محبنا ... واتباعنا لسنا نهم بعده
ومن أردت زجره للتربية وإرشاده، فليكن ذلك على انفراد، إذ هو أرجى لإسعاده، ولا تزجر بضرب ولا نهر بين الناس، فإن ذلك ربما أوقع المريد من اليأس، ولا تلتفت لمن أعرض، ولا لمن يصحبك لغرض،
وعليك بالرفق للإخوان، سيما أخوك فلان، فالخير لمن صاحب بإحسان، والأدب واللطف محمودان، والغلظة والحقد موبقان، فاصرح القال والقيل، واصفح الصفح الجميل، ولك ولكل من أخذ عنك أو حبك، منا ومن أهل سلسلة طريقتنا ما سرك، فابشر إن عملت بما أشرنا بكل خير، ومزيد الفتح، والمسير في السير».
وقد تخرج عليه غالب أهل عصره وطبقته، ومن دونهم: كأخيه الشيخ يوسف الحفناوي، والشيخ إسماعيل الغنيمي صاحب التآليف البديعة، والتحريرات الرفيعة، وشيخ الشيوخ على الصعيدي العدوي، والشيخ محمد الغيلاني، والشيخ محمد الزهار، وغيرهم، وكانت على مجالسه هيبة ووقار قلما يسأله أحد لجلالته.
ومن مؤلفاته المشهورة التي أتحف بها المكتبة العربية في كل علم وفن:
1 - الثمرة البهية في أسماء الصحابة البدرية: في التاريخ.
2 - حاشية على شرح الأشموني على الألفية: في النحو.
3 - حاشيته على شرح الهمزية لابن حجر الهيثمي: في الأدب.
4 - رسالة في التسبيح والتحميد: في الفضائل والآداب.
5 - رسالة في التقليد في الفروع: في أصول الفقه.
6 - رسالة في الأحاديث المتعلقة برؤية النبي صلى الله عليه وسلم.
7 - حاشية على الجامع الصغير للسيوطي في جزءين: في الحديث.
8 - حاشية على شرح الشنشوري على الرحبية: في المواريث.
9 - حاشية على مختصر الشيخ التفتازاني.(3/280)
10 - حاشية على شرح الحفيد على مختصر جده التفتازاني: في البلاغة.
وكان الشيخ الحفني، حسن السمت، مهيب الطلعة، معتدل القامة، لا بالطويل البائن ولا بالقصير، عظيم الهامة، كث اللحية أبيضها، مقوس الحاجبين، رحب الراحتين، سواء الظهر والبطن، أبيض اللون مشرب بحمرة، كأن على وجهه قنديلا من النور.
وكان كريم الطبع، جميل، السجايا لم يضبط عليه مكروه، على جانب عظيم من الحلم، ما جهل عليه أحد إلا قابل السيئة بالحسنة. يعظم كل الناس، ويتمثل قائما لكل قادم، ويخاطب كل إنسان على قدر عقله، ويصغي لكلام كل متكلم ولو كان تافها، ولا يضجر إن أطال عليه، بل يظهر له المحبة، حتى يظن أنه أعز الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه. وكان لا يعلق نفسه بشيء من الدنيا فلو سأله إنسان أعز حاجة عليه أعطاها له، كائنة ما كانت ويجد لذلك أنسا وانشراحا وإذا دعى أجاب، إلا أنه كان يعتذر من عدم حضور الولائم. لأنه يرى أنها غير مضبوطة بالأمور الشرعية.
وله صدقات وصلات خفية، وكان يتولى الصرف على بيوت كثير من أتباعه المنتسبين إليه ولا ينقطع ورود الواردين عليه ليلا ونهارا، وقد قيل إن راتب بيته من الخبز كل يوم نحو الأردب. ويجتمع على مائدته ما لا يقل عن الأربعين.
ولما بلغ الثلاثين من عمره، كثر انقطاعه للعبادة. وتهيأ للسلوك والاندماج في الطريق فأخذ عن الشيخ أحمد الشاذلي المعروف بالمقري وتلقى منه بعض الأحزاب والأوراد وكان يتردد على زاوية سيدي شاهين الخلوتي بسفح المقطم ويمكث فيها الليالي متحنثا. وقد ذكر الشيخ حسن شمه: أنه كثيرا ما كان ينشد في الدياجي.
خل الغرام لصب دمعة دمه ... حيران توجده الذكرى وتعدمه
واسمح له بعلاقات علقن به ... لو اطلعت عليها كنت ترحمه
وقال: سمعته مرة ينشد من شعره:(3/281)
خل الغرام لصب دمعة دمه ... حيران توجده الذكرى وتعدمه
واسمح له بعلاقات علقن به ... لو اطلعت عليها كنت ترحمه
وقال: سمعته مرة ينشد من شعره:
لو فتشوا قلبي لا لفوا به ... سطرين قد خطا بلا كاتب
العلم والتوحيد في جانب ... وحب آل البيت في جانب
ولما قدم السيد مصطفى البكري عمدة أهل الطريقة الخلوتية من الشام سنة 1133هـ اجتمع عليه وحصل بينهما الارتباط القلبي حال المشاهدة، فأخذ عليه العهد في أول لقاء، ثم اشتغل بالذكر والمجاهدة ولما علم السيد صدق حاله، وحسن فعاله، قدمه على خلفائه، وأولاه حسن ولائه، ودعاه بالأخ الصادق.
وفي سنة 1149هـ حن إلى زيارة شيخه البكري، فسافر إلى القدس الشريف، وأقام عنده أربعة أشهر، عاد بعدها إلى القاهرة، وأدار مجالس الأذكار، بالليل والنهار، وأحيا طريق الخلوتية، المؤيدة بالشريعة الغراء، في الديار المصرية ولم، يزل أمره في ازدياد وانتشار حتى شاع ذكره وأقبل عليه الوافدون من كل فج، وصار الكبار والصغار، والرجال والنساء، يذكرون الله بطريقته، وأصبح قطب الوقت بحق، ولم يبق ولي من أهل عصره إلا أذعن له.
وكان من تلاميذه: شيخ القراء المحدثين، وصدر الفقهاء المتكلمين العابد الزاهد الشيخ محمد السمنودي المعروف بالمنير، وعلامة وقته الشيخ حسن الشبيني، والشيخ محمد السنهوري والشيخ محمد الزعيري، والشيخ خضر رسلان، والشيخ محمود الكردي. والشيخ عبد الله الشرقاوي الذي تولى مشيخة الأزهر، والإمام الأوحد الشيخ محمد بدير، والشيخ محمد الهلباوي الشهير بالدمنهوري، والشيخ محمد السقا، والشيخ محمد الفشني، والشيخ عبد الكريم المسيري الشهير بالزيات، وأبو البركات الشيخ
أحمد محمد الدرير العدوي، والشيخ حسن بن علي المكي المعروف بشمة.(3/282)
وكان من تلاميذه: شيخ القراء المحدثين، وصدر الفقهاء المتكلمين العابد الزاهد الشيخ محمد السمنودي المعروف بالمنير، وعلامة وقته الشيخ حسن الشبيني، والشيخ محمد السنهوري والشيخ محمد الزعيري، والشيخ خضر رسلان، والشيخ محمود الكردي. والشيخ عبد الله الشرقاوي الذي تولى مشيخة الأزهر، والإمام الأوحد الشيخ محمد بدير، والشيخ محمد الهلباوي الشهير بالدمنهوري، والشيخ محمد السقا، والشيخ محمد الفشني، والشيخ عبد الكريم المسيري الشهير بالزيات، وأبو البركات الشيخ
أحمد محمد الدرير العدوي، والشيخ حسن بن علي المكي المعروف بشمة.
قوم إذا جن الظلام عليهم ... قاموا هنالك سجدا وقياما
وللشيخ الحفني رضي الله عنه، كرامات وبشارات وخوارق وعادات يطول شرحها ذكر بعضها تلميذه الشيخ حسن شمه، الناظم الناثر في كتابه الذي ألفه في نسبه مناقبه وقد ضمنه مقامة في مدحه، أسماها: فيض المغني في مدح الحفني، جمع فيها سائر فنون الشعر، ولتلميذه العلامة الشيخ محمد الهلباوي الدمنهوري كذلك مؤلف في مناقبه ومن قصيدة له في مدحه:
سبحانك الله ما الحفني ذا بشر ... لكنه ملك قد جاء للبشر
محجب عن عيون الواصلين فما ... بال الخليين من سر ومن ثمر
هذا الفريد الذي نادى الرفاق به ... فسار كل أسير نحو مقدر
جلت محاسنه عن كل ما وصفوا ... فليس يحصرها لب من الغرر
وهو الذي ورثته الأنبيا رتبا ... فضلا من الله لا بالجد والسهر
علما وحلما وتوفيقا ومكرمة ... وحسن حال مع التسليم للقدر
وقد تولى مشيخة الأزهر في سنة 1171هـ ومكث فيها حتى وافاه داعي السماء، بعد أن ملأ الدنيا نورا وبركة، قبل ظهر يوم السبت 27ربيع الأول سنة 1181هـ، وصلى عليه في الأزهر يوم الأحد، في مشهد عظيم جدا ودفن بقرافة المجاورين القديمة مع أخيه العلامة الشيخ يوسف الحفناوي المتوفى سنة 1178هـ.(3/283)
أزهريون خالدون
كانت للعلماء، في جميع عصور الإسلام، الريادة والقيادة: يرودون الحياة أمام الناس ويقدمون لهم ثمرة هذه الريادة من العلم والتجربة والثقافة والفضائل والتقوى. ويقودونهم أفرادا وجماعات إلى طريق الخير والفلاح. وفي بعض عصور التاريخ نجد لهؤلاء العلماء ريادة أخرى وقيادة للسياسة والثورة في سبيل رفع الظلم ورد العدوان. كان ذلك أوضح ما يكون الوضوح في مصر في القرن الثامن عشر، حين أفحش الظالمون في ظلمهم واعتدى المعتدون على وطنهم.
في هذا القرن كانت تقوم ثورات شعبية كثيرة يهب فيها أهل مصر لرد عدوان الظالمين وعقابهم أيضا وكان علماء الأزهر (1) يشاركون الشعب إحساسه وثورته، بل كثيرا ما كانوا يقودونه في ثورته، ويحرضونه.
الشيخ الدردير يقود ثورة:
وللشيخ أحمد الدردير وكان مفتيا للمالكية ومن أكبر علماء عصره في ذلك مواقف كريمة نذكر بعضا منها:
__________
(1) الاستاذ محمود الشرقاوي عن مجلة الأزهر.(3/285)
في يوم من أيام ربيع الأول من سنة 1200هـ (يناير 1786م) قام حسين بك شفت (1) أحد كبار المماليك، ومعه طائفة من جنوده قاصدا منطقة الحسينية واقتحم دار رجل اسمه أحمد سالم الجزار، كان رئيسا على دراويش الشيخ البيومي، ونهب الأمير حسين دار هذا الشيخ. وفي صباح اليوم التالي ثار جماعة من الحسينية، وخرجوا إلى الأزهر، وشكوا أمرهم إلى الشيخ أحمد الدردير، فشجعهم في ثورتهم، وغضب لهم وقال لهم: أنا معكم. فقام الغاضبون إلى أبواب الأزهر فغلقوها، وصعدت طائفة منهم على المآذن يصيحون، ويدقون الطبول، وانتشر الناس في الأسواق وقد ظهر عليهم الغضب والتحفز، وأقفل التجار متاجرهم. فلما رأى الشيخ الدردير ثورتهم هذه قال لهم: موعدنا غدا لنجمع الناس من أطراف المدينة، وبولاق ومصر القديمة، وأسير معكم إلى بيوت هؤلاء الأمراء ننهبها كما ينهبون بيوتنا. وسينصرنا الله عليهم، أو نموت شهداء. وبعد ساعات من النهار أرسل إبراهيم بك: شيخ البلد وكبير المماليك، نائبه، وأميرا آخر إلى الشيخ الدردير يرجوه أن يرسل إليه قائمة بجميع ما نهب من بيت الشيخ الجزار حتى يرده إليه.
وفي شهر جمادى الآخرة من السنة نفسها كان مولد السيد البدوي، في طنطا، وكان الشيخ الدردير في المولد، وجاء كاشف (2) الغربية، من قبل إبراهيم بك، ففرض على الناس مغارم ثقيلة، وأخذ إبلا لبعض الأعراب كانوا يبيعونها في المولد، فشكوا أمرهم إلى الشيخ، فأمر بعض أتباعه أن يذهبوا إلى الكاشف، فخشوا بطشه ولم يذهبوا، فركب الشيخ بنفسه ومعه بعض أتباعه، وكثير من العامة. فلما أقبل على خيمة الكاشف ناداه فحضر إليه. وكلمه الشيخ، وهو على ظهر بغلته، وقال له: إنكم لا تخافون الله، واشتد عليه بالزجر والتأنيب. فلما رأى الناس ذلك خرجوا عن
__________
(1) يقول الجبرتي إن «شفت» معناها اليهودي والأرجح انها محرفة من كلمة «جفت» التركية.
بهذا المعنى.
(2) كاشف: حاكم.(3/286)
طورهم، وضربوا نائب الكاشف، وقامت فتنة بينهم وبين الجند ضرب فيها وأسر واحد من أتباع الشيخ، وذهب كاشف المنوفية وكاشف الغربية بعد ذلك يعتذران إلى الشيخ، ولما عاد إلى القاهرة قدم إبراهيم بك بنفسه إلى منزله معتذرا ومعه كبار المماليك.
الشيخ عباس ووقف المغاربة:
وقبل ذلك بعشر سنوات آلت بعض الأوقاف المحبوسة على طلبة العلم إلى طلبة المغاربة، ولكن واضع اليد جحد هذه الأيلولة وأبى أن يسلم الحق لأصحابه، ولجأ في ذلك إلى الأمير يوسف بك أمير الحج فنصره هذا على باطله، وأقام المغاربة دعواهم أمام القاضي فأثبت لهم حقهم، ولكن الأمر كبر على يوسف بك، وأبى أن يمتثل لحكم القضاء، بل أمر بالشيخ عباس زعيم المطالبين بوقف المغاربة أن يساق إلى السجن. فلما ذهب رسل الأمير يوسف بك إلى الأزهر لأخذ الشيخ عباس طردهم الأزهريون وسبوهم ولم يمكنوهم منه، ثم قصدوا إلى الشيخ أحمد الدردير فأخبروه الخبر، فكتب الشيخ إلى يوسف بك ألا يتعرض لأهل العلم، وألا يعاند في حكم أصدره القاضي، وأرسل الشيخ كتابه هذا إلى يوسف بك مع شيخين اختارهما لذلك. فلما وصل الشيخان برسالة الدردير أمر يوسف بك بالقبض عليهما وزجرهما زجرا شديدا ثم سجنهما.
ووصل خبر ذلك إلى الشيخ الدردير، وأهل الأزهر، فاجتمعوا عند الصباح وأبطلوا دروس العلم، والأذان، والصلاة. وأقفلوا أبواب الجامع.
وجلس العلماء عند القبلة القديمة. وكان الأزهر يموج بالناس، فصعد الصغار منهم إلى المنارات والمآذن يكثرون من الدعاء على الأمراء. وشارك الشعب أهل الأزهر شعورهم بالسخط واحتجاجهم على الظلم، فغلقت الحوانيت والمتاجر، وعرف الأمراء ما جرى فأرسلوا إلى يوسف بك ليطلق سراح الشيخين، فأطلقهما، وأرسل شيخ البلد إبراهيم بك، كبيرا من
رجاله إلى العلماء، فلم يستطع إرضاءهم، وجاء كبير آخر يطلب إلى الناس أن يفتحوا متاجرهم، وينصرفوا لشأنهم. فذهب إليه طلبة الأزهر، وجموع من الشعب بأيديهم العصى والمساوق، وضربوا أتباع هذا الكبير ورجموهم بالحجارة. فأطلق عليهم هو ورجاله الرصاص. وقتل ثلاثة من الطلبة، وجرح بعض أفراد الشعب وخشى الأمراء بعد ذلك أن يتفاقم الخطب، وتزيد ثورة الشعب والعلماء اشتعالا، فأرسلوا في اليوم التالي كبيرا منهم، مع الشيخ السادات، وآخرين من الأمراء. ورأوا من الحكمة ألا يذهبوا إلى الأزهر، في وسط هذه الفتنة فجلسوا في مسجد الأشرف، وأرسلوا إلى أهل الأزهر ومن معهم من الثائرين، أن طلباتهم أجيبت، فلم يقنعهم ذلك، ولم يتركوا أماكنهم. فلم ير إسماعيل بك، كبير الأمراء، بدا من أن يذهب بنفسه إليهم، فنزل مع الشيخ السادات، ولم يستطع أن يواجه الثائرين داخل الأزهر، فجلس مع السادات في مسجد المؤيد، وأرسلا إليهم كتابا تعهد فيه إسماعيل بك أن يجيب رغائبهم ويقبل جميع ما يطلبون، وقال: إن ضمينه في ذلك الشيخ السادات، وظل إسماعيل بك يراسل المتترسين داخل الأزهر يوما كاملا حتى استجابوا، وفتحوا أبواب الأزهر، وكان مما شرطوه على إسماعيل بك ألا يمر الأغا، ولا الوالي، ولا المحتسب قريبا من الأزهر.(3/287)
وجلس العلماء عند القبلة القديمة. وكان الأزهر يموج بالناس، فصعد الصغار منهم إلى المنارات والمآذن يكثرون من الدعاء على الأمراء. وشارك الشعب أهل الأزهر شعورهم بالسخط واحتجاجهم على الظلم، فغلقت الحوانيت والمتاجر، وعرف الأمراء ما جرى فأرسلوا إلى يوسف بك ليطلق سراح الشيخين، فأطلقهما، وأرسل شيخ البلد إبراهيم بك، كبيرا من
رجاله إلى العلماء، فلم يستطع إرضاءهم، وجاء كبير آخر يطلب إلى الناس أن يفتحوا متاجرهم، وينصرفوا لشأنهم. فذهب إليه طلبة الأزهر، وجموع من الشعب بأيديهم العصى والمساوق، وضربوا أتباع هذا الكبير ورجموهم بالحجارة. فأطلق عليهم هو ورجاله الرصاص. وقتل ثلاثة من الطلبة، وجرح بعض أفراد الشعب وخشى الأمراء بعد ذلك أن يتفاقم الخطب، وتزيد ثورة الشعب والعلماء اشتعالا، فأرسلوا في اليوم التالي كبيرا منهم، مع الشيخ السادات، وآخرين من الأمراء. ورأوا من الحكمة ألا يذهبوا إلى الأزهر، في وسط هذه الفتنة فجلسوا في مسجد الأشرف، وأرسلوا إلى أهل الأزهر ومن معهم من الثائرين، أن طلباتهم أجيبت، فلم يقنعهم ذلك، ولم يتركوا أماكنهم. فلم ير إسماعيل بك، كبير الأمراء، بدا من أن يذهب بنفسه إليهم، فنزل مع الشيخ السادات، ولم يستطع أن يواجه الثائرين داخل الأزهر، فجلس مع السادات في مسجد المؤيد، وأرسلا إليهم كتابا تعهد فيه إسماعيل بك أن يجيب رغائبهم ويقبل جميع ما يطلبون، وقال: إن ضمينه في ذلك الشيخ السادات، وظل إسماعيل بك يراسل المتترسين داخل الأزهر يوما كاملا حتى استجابوا، وفتحوا أبواب الأزهر، وكان مما شرطوه على إسماعيل بك ألا يمر الأغا، ولا الوالي، ولا المحتسب قريبا من الأزهر.
الشيخ السادات يقود الثورة:
كان الشيخ السادات، من أكبر الشيوخ مقاما، وأعظمهم شأنا، وأوسعهم جاها وثروة، وأعزهم منزلة لدى الناس، ولدى الأمراء على السواء. ولكنه، مع اختيار نابليون له عضوا في الديوان، وزيارته له في بيته، كان من أكبر خصوم الفرنسيين، والمحرضين على الثورة عليهم.
فعند ما قامت ثورة القاهرة الأولى تبين أن زعيمها الأول هو الشيخ السادات. وثبت لديهم ذلك حتى أمر الجنرال كليبر بإعدامه، ولكن نابليون
رده عن ذلك، مع يقينه من زعامته للثورة، وقال: إن قتل شيخ في مكانة السادات يضر أبلغ الضرر بمركز الفرنسيين، ويزيد في حقد المصريين وكراهتهم له.(3/288)
فعند ما قامت ثورة القاهرة الأولى تبين أن زعيمها الأول هو الشيخ السادات. وثبت لديهم ذلك حتى أمر الجنرال كليبر بإعدامه، ولكن نابليون
رده عن ذلك، مع يقينه من زعامته للثورة، وقال: إن قتل شيخ في مكانة السادات يضر أبلغ الضرر بمركز الفرنسيين، ويزيد في حقد المصريين وكراهتهم له.
ثم قامت ثورة القاهرة الثانية على الجنرال كليبر. وكان السادات من المحرضين عليها. فجاءت فرصة كليبر لشفاء ما في نفسه من السادات.
وكان يذكر نصيحة نابليون فلم يقتله. ولكنه أوقع به من العذاب والمهانة شيئا كثيرا. حيث فرض عليه ضريبة فادحة، قدرها مائة وخمسون ألف فرنك. فلما رفض أن يدفعها أمر بسجنه في القلعة. وكان ينام على التراب، ويمشون به على قدميه في شوارع القاهرة، ويضرب في صباح كل يوم خمس عشرة عصا، ومثلها في كل مساء وحبسوا أتباعه وخدمه. وطلبوا زوجه وابنه فلم يجدوهما. فعذبوا خادما له عذابا شديدا حتى دل على مكانهما، فسجنوهما. ووضعوا معه زوجته في سجن واحد، فكانوا يضربونه أمامها، وهي تبكي. وهاجموا داره، ففتشوها ونهبوا ما كان فيها من مال ومتاع وحفروا أرضها للبحث عما فيها من سلاح ومال. وجعلوا على بيته عشرين حارسا. وعندما أعادوا تشكيل «الديوان» (1) أخرجوه منه.
وبعد أن أنزلوه من القلعة عادوا فسجنوه فيها مرة أخرى خمسين يوما، ثم أخرجوه بعد أن أتم دفع ما فرضوا عليه، ولكنهم عادوا فصادروا جميع ممتلكاته وإقطاعياته وكانت شيئا كثيرا وحبسوا مرتباته وأوقافه وأوقاف زوجاته، وريع الأوقاف التي كانت محبوسة على زوجة أجداده. وشرطوا عليه ألا يجتمع بالناس، وألا يخرج إلا بإذنهم، وأن يقتصد في نفقاته، وينقص عدد أتباعه وخدمه.
__________
(1) عند ما دخل نابليون القاهرة ألف «الديوان» من طبقتين «العمومي» و «الخصوصي» وكان الأخير يتألف من كبار العلماء والتجار وأهل الرأي والمنزلة من المصريين. وكان رئيسه الشيخ عبد الله الشرقاوي ومن أبرز أعضائه الشيخ السادات.(3/289)
ويخاف منه الأتراك أيضا:
وعند ما قدمت الحملة التركية الإنجليزية لحرب الفرنسيين وإخراجهم من مصر، سنة 1801، وعلم الجنرال مينو، نائب نابليون وقائد الجيوش الفرنسية، أنها نزلت أبي قير في الأسكندرية، أمر، للمرة الرابعة، بالقبض على الشيخ السادات حتى لا يثير المصريين عليهم. وسجن في القلعة، وبقي فيها سجينا حتى بارح الفرنسيون مصر.
وقد مات ابن الشيخ السادات وهو في السجن فلم يسمحوا له بالخروج ليراه، بل أذنوا له بالسير في جنازته تحت الحراسة، ثم أعادوه إلى السجن.
ومن مواقف الشيخ السادات الوطنية الكريمة، أنه عند ما ضرت الحرب والحصار بالثائرين في القاهرة، التزم بالإنفاق على المحاربين والمجاهدين في المنطقة التي كان يقيم فيها، عند قناطر السباع.
ومات الشيخ السادات بعد ذلك في مارس سنة 1813في عهد محمد على بعد أن عرف له الناس وسجل التاريخ هذه الشجاعة وهذا البذل.(3/290)
الأزهري الشيخ سليمان الجوسقي
فرغ الشيخ سليمان الجوسقي (1) من صلاة الفجر في الجامع الأزهر على عادته في كل يوم، ولكنه في ذلك اليوم كان يبدو على غير عادته في كل شيء، فهو ساهم واجم يستغرقه تفكير عميق ثقيل، وهو في تفكيره منصرف عن كل شيء من حوله، حتى كان إخوانه يتلقونه بتحية الصباح فلا يجيبهم، وكان طلابه يكبون على يده يقبلونها فيلقيها إليهم في إغفال واستسلام كأنه لا يبالي شيئا من أمرهم.
ومضى الشيخ الجوسقي إلى حلقة الدرس وهو على هذه الحال، ساهم واجم، مستغرق في ذلك التفكير العميق الثقيل، ولقد أخذ مكانه في حلقة الدرس والطلاب يحفون به منصتين، ولكنه جلس صامتا واجما لم يتكلم بكلمة، ولم يعنه أن يسأل الطلاب فيما حققوا من مسائل الدرس أو صادفوا من مصاعبه كشأنه معهم في كل يوم.
وما كان الشيخ الجوسقي هكذا أبدا، ولا عرف طلابه عنه هذه الحال في يوم من الأيام، فقد كان شيخا مكفوف البصر، يتولى شئون طائفة العميان والتدريس لهم في الأزهر، ولكنه لم يكن يرى في تلك المحنة حدا
__________
(1) مجلة الأزهر الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف.(3/291)
يعوقه عن أي شأن من شئون الحياة، فكان معروفا بين إخوانه بقوة الشكيمة والصرامة في الحق، يحرص كل الحرص على مصالح طائفته، ويبذل كل الجهد لاستخلاص حقوقهم، ولو أدى ذلك إلى الاعتماد على القوة، والالتحام في المعركة، وكان إلى جانب هذا متفتح النفس، يهش للدعابة، ويطيب له التبسط في الحديث مع طلابه ومريديه، ويعنيه أن يتحقق بنفسه شئونهم العامة، ومسائلهم الخاصة، ومن ثم كان طلابه يخشونه أشد الخشية، ويحبونه أعظم الحب، وكان إذا ما أقبل على الدرس في كل يوم بعد الصلاة الأولى أقبلوا عليه، فيفضون إليه بما في نفوسهم، ويسمعون منه بما يشير به عليهم، ثم يفرغون معه لدرس التفسير في كتاب الله الكريم، وما يزالون حتى ترتفع الشمس، ثم ينصرفون للاستعداد لدرس آخر.
ولكن الشيخ أقبل على طلابه في ذلك اليوم، وهو على تلك الحال التي لم يألفوها منه، ولم يعرفوها عنه، وأشفق الطلاب أن يكون قد نزل بشيخهم مكروه في نفسه أو في أسرته، فقال قائل منهم: لا بأس على مولانا الشيخ فيما نرى، فقد فات موعد الدرس وهو منصرف عنا!
قال الشيخ في صوت محتبس أجش: كيف وهذا هو اليأس يأخذ بنواصينا وأقدامنا، وهذا هو الكرب يشد على خناقنا شدا عنيفا، فليس لنا منه متنفس. وفيم أنتم وهذا الدرس، وما هو إلا كلام تلو كونه بألسنتكم، وتخورون به خوار البقر، ولكنكم والله لا تحسونه بقلوبكم، ولا تعرفون فيه حق دينكم، وهل حسبتم أن الإسلام هو تلك الكلمات التي ترددونها وتناقشونها ثم تنصرفون بها إلى الناس، وكأنها تجارة كلامية، حسبكم من الربح فيها تلك الفضلات التي تقيم أودكم، وتمسك رمقكم، إذن فيا ضيعة الإسلام فيكم، ويا خسارته بكم، ولست أدرى أهي نهاية الزمان، أم أن الله مقيض لهذا الأمر من ينهض به ويبعثه بعثا جديدا في عقول هذه الأمة وقلوبها؟!(3/292)
قال الطالب: وهل عرف شيخنا على أحد منا سوءا في دينه، أو تفريطا في حق من حقوقه؟!
قال الشيخ: وماذا بقي هناك من حقوق دينكم؟ وأي أثر لذلك في نفوسكم؟ لقد جل الخطب حتى أوشك أن لا يبقى من هذا الدين بقية تتصل بأرواحكم، هؤلاء هم الفرنسيون الكفار قد وطأوا بلادكم فسكتم، ثم انتهبوا دوركم وأموالكم فأذعنتم، ثم انتهكوا حرماتكم وأعراضكم فرضيتم وصبرتم، وها هم أولاء فيما عرفت يعمدون إلى تغيير نظام المواريث في دينكم، فيجعلون حق الإرث كله للبنت وليس للولد منه شيء كما هو شرعهم، ومتى بطل جزء من الشريعة فإنها جميعها لا بد صائرة إلى المسخ والزوال، وإنكم لصائرون غدا أرقاء في خدمة هؤلاء الفرنسيس الكفار، وبكم تكون نهاية هذا الدين، وزوال الملة، ونعوذ بالله من هذا الزمان.
وسرت بين الطلاب همهمة وغمغمة، وارتفعت الصيحات استنكارا لتلك النازلة الساحقة التي حلت بالمسلمين في دارهم، ووقف بعض الطلاب يتكلمون، فمنهم من يلقي اللوم على أولئك المماليك الجبناء الذين فروا من مواجهة العدو وتركوا الشعب يتلظى في أتون المعركة، ومنهم من يعتب على دولة بني عثمان التي تركت الفرنسيين يصلون إلى فتح هذه الديار، ومنهم من يسب الخائنين والمارقين من أبناء الطوائف الدخيلة على البلاد لأنهم تعاونوا مع العدو ومكنوه من رقاب الشعب، ومنهم من يقول:
إنه غضب الله على المسلمين جزاء ما فرطوا في دينهم، وحقوق ملتهم.
وعاد الشيخ الجوسقي يتكلم فقال: حسبكم يا أبنائي هذا الضجيج على غير طائل، إننا اليوم لسنا في مقام توزيع التبعات وليس من الحكمة أن نترك السفينة تهوي إلى القاع ونحن مشغولون بمعرفة الملوم في هذه الكارثة، وإنما الواجب أن نفزع لدفع النازلة التي حلت بنا ثم نصفي أمورنا
إذا بقي لنا أمر بعد ذلك، فحرام عليكم طعامكم وشرابكم، وحرام عليكم أن تقيموا على الضيم في وطنكم، وأن تجلسوا في هذا المكان باسم الإسلام والفرنسيون يصنعون بإسلامكم ما شاءوا أن يصنعوا.(3/293)
وعاد الشيخ الجوسقي يتكلم فقال: حسبكم يا أبنائي هذا الضجيج على غير طائل، إننا اليوم لسنا في مقام توزيع التبعات وليس من الحكمة أن نترك السفينة تهوي إلى القاع ونحن مشغولون بمعرفة الملوم في هذه الكارثة، وإنما الواجب أن نفزع لدفع النازلة التي حلت بنا ثم نصفي أمورنا
إذا بقي لنا أمر بعد ذلك، فحرام عليكم طعامكم وشرابكم، وحرام عليكم أن تقيموا على الضيم في وطنكم، وأن تجلسوا في هذا المكان باسم الإسلام والفرنسيون يصنعون بإسلامكم ما شاءوا أن يصنعوا.
قال قائل منهم: وماذا في طاقتنا أن نصنع إزاء حرب الفرنسيين. وقد حرمنا نعمة البصر فما ندري إلى أين نسير، والله يقول: «ليس على الأعمى حرج».
ولم يكد الطالب بتم قولته حتى انفجر الشيخ كالبركان قائلا: ألا لعنة الله عليكم إن كان هذا هو مدى إدراككم ويقينكم، نعم لا حرج عليكم فيما هو من شئونكم الخاصة، ولكنكم اليوم إزاء كارثة حلت بدار الإسلام، وإنها لآخذة برقابكم جميعا، والله يقول: {«فَإِنَّهََا لََا تَعْمَى الْأَبْصََارُ وَلََكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»}، فانفروا إلى الناس في دورهم، وحيث هم في أعمالهم، وتفرقوا على أبواب الطرق والحارات، وقولوا لكل من لقيتم إنكم اليوم بين شقي الرحى، وإن الفرنسيين قد استباحوا حرماتكم، وأهانوا شرفكم، ونهبوا أموالكم، وبدلوا دينكم، فلا عزة لكم بين الأمم، ولا كرامة لكم عند ربكم إذا ما رضيتم بهذا الأمر فيكم.
ووقف الشيخ في انفعال وقوة، وأخذ يصرخ قائلا والدموع تنحدر على خديه: والله ما قام عمود هذا الدين إلا بالجهاد، ولا أزهرت شجرة الإسلام إلا بدماء الشهداء، ولقد خاض رسول الله الحرب حتى شج وجهه وكسرت رباعيته، وفي سبيل الله استشهد سادتنا من الصحابة والتابعين، فلعنة الله علينا إن كنا من القاعدين بعد اليوم ثم اندفع الشيخ واندفع معه طلابه إلى الخارج وهم يصيحون: إلى الجهاد والاستشهاد، إلى الموت في سبيل الله وكانت الثورة.
كانت الشمس ترتفع للضحى، وكانت القاهرة تبدو هامدة واجمة
تحت وطأة ذلك الكابوس الفرنسي الذي جثم على قلبها فجأة، وكان الناس يغدون ويروحون وهم لا يدرون من أمرهم شيئا لليوم أو الغد، فما هي إلا ساعات من نهار حتى كانت القاهرة تغلي كالمرجل، وكان الناس يقفون فيها على قدم وساق متوثبين متحفزين لأمر له ما بعده، فقد تفرق شيوخ الأزهر وطلابه على أبواب الطرق، وتغلغلوا في الحارات والأزقة بحي الأزهر والحسينية، وراحوا يتحدثون إلى الناس بشأن هؤلاء الفرنسيين الذين استعمروا بلادهم ونهبوا أموالهم، واسباحوا حرماتهم، وأخذوا يذكرونهم بحق الدين في الجهاد والاستشهاد، وكأنها كانت الشرارة قد اندلعت في الهشيم، فإذا بالجموع تتداعى من كل ناحية، والصيحات ترتفع من كل جانب: إلى الجهاد، إلى الاستشهاد، النصر للإسلام.(3/294)
كانت الشمس ترتفع للضحى، وكانت القاهرة تبدو هامدة واجمة
تحت وطأة ذلك الكابوس الفرنسي الذي جثم على قلبها فجأة، وكان الناس يغدون ويروحون وهم لا يدرون من أمرهم شيئا لليوم أو الغد، فما هي إلا ساعات من نهار حتى كانت القاهرة تغلي كالمرجل، وكان الناس يقفون فيها على قدم وساق متوثبين متحفزين لأمر له ما بعده، فقد تفرق شيوخ الأزهر وطلابه على أبواب الطرق، وتغلغلوا في الحارات والأزقة بحي الأزهر والحسينية، وراحوا يتحدثون إلى الناس بشأن هؤلاء الفرنسيين الذين استعمروا بلادهم ونهبوا أموالهم، واسباحوا حرماتهم، وأخذوا يذكرونهم بحق الدين في الجهاد والاستشهاد، وكأنها كانت الشرارة قد اندلعت في الهشيم، فإذا بالجموع تتداعى من كل ناحية، والصيحات ترتفع من كل جانب: إلى الجهاد، إلى الاستشهاد، النصر للإسلام.
واتصل الخبر بالسلطات الفرنسية، فركب الضابط «ديوي» على رأس قوة كبيرة من الفرسان والجنود، ومر بشارع الغورية، وعطف على خط الصنادقية، ثم قصد إلى بيت القاضي فوجد جموعا كبيرة من المصريين وهم يصيحون ويتوعدون، فتراجع أمامهم وأراد أن يخرج من بين القصرين، ولكنهم أدركوه والتحموا به في معركة عنيفة أسفرت عن جرح «ديوي» بجراح بالغة وقتل أكثر فرسانه وجنوده، ولم يفلت القائد الفرنسي من براثنهم إلا بأعجوبة وأيقن أبناء القاهرة أن هذه المعركة ليست إلا بداية موقف حاسم بينهم وبين الفرنسيين، وأخذوا من وقتهم يستعدون لهذا الموقف، فرابطت الجموع عند الأطراف وعلى مداخل القاهرة عند باب الفتوح وباب النصر والبرقية وباب زويلة وباب الشعرية، وأقاموا المتاريس في كل مكان مفتوح للهجوم، وأخرجوا ما عندهم من السلاح والذخيرة، وباتوا الليل ساهرين منتظرين.
وأصبح الصباح، وكانت القوات الفرنسية قد أخذت أماكنها فوق تلال البرقية والقلعة، وهي مستعدة بالعتاد الكامل، والمدافع الثقيلة، ثم أخذت تقصف القاهرة بالقنابل وركزت الضرب على حي الأزهر بصفة خاصة،
وتساقطت القنابل على الدور وفوق السكان، ولم يكن دوي القنابل مألوفا لعامة الشعب، فسار بينهم الفزع والرعب، ولكن المرابطين على المتاريس وقفوا ثابتين يدافعون في شجاعة وعناد، وأمضت القاهرة ليلة مظلمة لم تعهدها من قبل، فكنت لا تسمع في وسط ذلك الظلام الخانق الرهيب، إلا دوي القنابل وهي تتساقط في كل مكان، وإلا صيحات المجاهدين والمدافعين وهي تتجاوب بالثبات والإقدام، وطال الترقب، والفريقان يتبادلان الرمي والضرب، وأرسل الفرنسيون إلى شيوخ الأزهر أكثر من مرة لعلهم يتدخلون لتهدئة الثورة، ولكن المواطنين أصروا على الكفاح إلى آخر رمق من حياتهم.(3/295)
وأصبح الصباح، وكانت القوات الفرنسية قد أخذت أماكنها فوق تلال البرقية والقلعة، وهي مستعدة بالعتاد الكامل، والمدافع الثقيلة، ثم أخذت تقصف القاهرة بالقنابل وركزت الضرب على حي الأزهر بصفة خاصة،
وتساقطت القنابل على الدور وفوق السكان، ولم يكن دوي القنابل مألوفا لعامة الشعب، فسار بينهم الفزع والرعب، ولكن المرابطين على المتاريس وقفوا ثابتين يدافعون في شجاعة وعناد، وأمضت القاهرة ليلة مظلمة لم تعهدها من قبل، فكنت لا تسمع في وسط ذلك الظلام الخانق الرهيب، إلا دوي القنابل وهي تتساقط في كل مكان، وإلا صيحات المجاهدين والمدافعين وهي تتجاوب بالثبات والإقدام، وطال الترقب، والفريقان يتبادلان الرمي والضرب، وأرسل الفرنسيون إلى شيوخ الأزهر أكثر من مرة لعلهم يتدخلون لتهدئة الثورة، ولكن المواطنين أصروا على الكفاح إلى آخر رمق من حياتهم.
واستمرت المعركة دائرة يومين وليلة وتساقط القتلى من الجانبين في الشوارع والطرقات وتهدمت الدور في كثير من المواقع، وبقي المواطنون في أماكنهم صامدين، يناضلون ويدافعون حتى فقدت الذخيرة منهم، فوقفوا عن الضرب والرمي، وانفتحت الأبواب أمام الفرنسيين، فانحدروا إلى القاهرة بخيلهم ورجلهم وهم يمعنون في الأهالي العزل قتلا وفتكا، وعاثوا في حي الأزهر جميعه، ثم اقتحموا الجامع الأزهر بخيولهم، واستباح أولئك الذين جاءوا يبشرون في الشرق بمبادىء الثورة الفرنسية ذلك الحرم المقدس، فربطوا فيه خيولهم، وشربوا فيه الخمور، وعاثوا بكل ما فيه من المصاحف والكتب والخزائن فسادا وتلفا وداسوها بنعالهم.
وأصبح الصباح في اليوم التالي، وكانت القوات الفرنسية كلها قد تجمعت في حي الأزهر وفي جميع الأحياء التي عضدت الثورة، وأخذوا ينهبون الدور ويبحثون عن السلاح في كل مكان، ثم أخذوا يبحثون عن الشيوخ الذين تزعموا الثورة واعتقلوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البراوي، وحبسوهم في بيت البكري
بعض الوقت، ثم نقلوهم إلى القلعة(3/296)
وأصبح الصباح في اليوم التالي، وكانت القوات الفرنسية كلها قد تجمعت في حي الأزهر وفي جميع الأحياء التي عضدت الثورة، وأخذوا ينهبون الدور ويبحثون عن السلاح في كل مكان، ثم أخذوا يبحثون عن الشيوخ الذين تزعموا الثورة واعتقلوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البراوي، وحبسوهم في بيت البكري
بعض الوقت، ثم نقلوهم إلى القلعة
وقصد الشيخ السادات ومعه بعض كبار المشايخ بالأزهر إلى القائد الفرنسي وطلبوا منه العفو عن الشيوخ المعتقلين فأمهلهم بعض الوقت، وفي كل يوم كانوا يذهبون إليه متشفعين فيمهلهم حتى يستقر الأمن، وبعد خمسة عشر يوما انكشفت الحقيقة في صنع الاستعماريين، فقد وجدت جثث الشيوخ الخمسة وراء سور القلعة، بعد أن قتلهم الفرنسيون ومثلوا بهم أشنع تمثيل، ذلك لأنهم ارتكبوا أشنع جرم في حق أبناء المدنية الفرنسية، فطالبوا بحق أمتهم في الحرية والحياة(3/297)
رفاعة رافع الطهطاوي
* رفاعة رافع الطهطاوي ولد في ديسمبر سنة 1801ببلدة طهطا محافظة جرجا ويختلف المؤرخون حول يوم مولده.
* كان والده تاجرا صغيرا توفي ورفاعة في سن الخامسة عشرة فرحل إلى القاهرة طلبا للعلم والتحق بالأزهر وقد كانت وسيلة سفره سفينة شراعية فاستغرقت الرحلة أسبوعين.
* في عام 1824عين واعظا وإماما لإحدى فرق الجيش النظامي الذي أسسه محمد علي وكان قائدا لفرقة حسن المانسترلي «بك».
* سافر إلى فرنسا عام 1826إماما للبعثة التعليمية المصرية بباريس وتقرر له مرتب يوزباشي وحضر قيام الثورة الفرنسية ضد شارل العاشر سنة 1830.
* تأثر بالعلوم السياسية الفرنسية فترجم الدستور الفرنسي «دستور 1814» معلقا على مواده بما يدل على فهم دستوري صحيح.
* عاد إلى مصر سنة 1831فتولى منصب أستاذ ترجمة وتدريس اللغة الفرنسية بمدرسة الطب.(3/299)
* في عام 1833نقل من مدرسة الطب إلى المدفعية برتبة أميرلاي وعهد إليه بترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية.
* أنشأ مدرسة الألسن سنة 1836بسراي الألفي بالأزبكية.
* في عام 1851أرسله الخديو عباس الأول إلى السودان بعد أن أغلق مدرسة الألسن بحجة توليه إدارة مدرسة أنشئت بالسودان وكان القصد إبعاده.
* عاد من السودان عام 1854بعد وفاة الخديو عباس وتقلب في عدة وظائف حتى أسندت إليه سنة 1855وكالة المدرسة الحربية.
* أسس أول مدرسة لتعليم البنات سنة 1873.
* من أشهر كتبه «تخليص الإبريز في تلخيص باريس».
* توفي في 27مايو سنة 1873ونشر نعيه بالوقائع السرية جريدة الدولة الرسمية.
إن أول صحفي في مصر (1) بل وفي العالم العربي كله، كان أزهريا وهو المرحوم الشيخ إسماعيل بن سعد الشهير بالخشاب قال عنه:
(الفيكونت فيليب دي ترازي) في كتابه (تاريخ الصحافة العربية) عند حديثه عن البعثة العلمية التي رافقت حملة نابليون بونابرت إلى مصر أنها أحضرت معها مطبعة من باريس ثم يقول:
(وأول عمل باشرته هذه البعثة العلمية أنها نشرت ثلاث جرائد في المطبعة المذكورة إحداها (الحوادث اليومية) كان يحررها إسماعيل بن سعد الخشاب وهي جدة الصحف في لغة الناطقين بالضاد).
ويقول عنه الجبرتي في كتابه التاريخي المعروف: (تولع السيد إسماعيل بحفظ القرآن ثم بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي
__________
(1) مجلة الأزهر الأستاذ محمد علي غريب.(3/300)
وغيره من أفاضل الوقت وأنجب في الفقه الشافعي والمعقول وتثقيف اللسان والفروع الفقهية الواجبة والفرائض.
إلى أن يقول:
ولما رتب الفرانساوية ديوانا لقضايا المسلمين تعين المترجم في كتابة لتاريخ لحوادث الديوان، وما يقع فيه من ذلك اليوم لأن القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم وأماكن أحكامهم ثم يجمعون المتفرق في ملخص، يرفع في سجلهم، بعد أن يطبعوا منه نسخا عديدة يوزعونها في جميع الجيش حتى لمن يكون منهم في غير المصر من قرى الأرياف، فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم.
فلما رتبوا ذلك الديوان، كما ذكر كان هو المتقيد برقم كل ما يصدر في المجلس: من أمر ونهي، أو خطاب أو جواب، أو خطأ أو صواب، وقرروا له في كل شهر سبعة آلاف ونصف فضة.
فلم يزل متقيدا في تلك الوظيفة مدة ولاية عبد الله جاك مينو، حتى ارتحلوا من الإقليم. ولقد جمع من سجلات الحوادث عدة كراريس ولا أدري ما فعل بها.
هذا هو إسماعيل الخشاب، أول صحفي عربي على الإطلاق، خرج من الأزهر إلى الصحافة، وكانت صحيفته صغيرة لا يقرؤها إلا القليلون.
ويجيىء من بعده المغفور له الشيخ (رفاعة رافع الطهطاوي) وهو المقصود بحديثنا وصاحب أكبر فضل على النهضة العلمية والأدبية والاجتماعية في مصر، ولقد ولد عام 1801وتوفي عام 1873وكانت مسقط رأسه مدينة (طهطا) في الصعيد ولقد نشأ في أسرة كانت من أهل اليسار ثم أخنى عليها الدهر فمضى والده في طلب الرزق إلى مدينة (قنا) وبعدها إلى مدينة (فرشوط).(3/301)
وقد سافر إلى فرنسا ورأى حرية هناك جعلته يشعر بالطغيان الذي يعانيه أبناء وطنه مصر ورأى ما يمكن أن يقدمه الفكر الراجح من أساليب النشاط الإنساني في شتى مناحي الحياة، وفي فرنسا رأى الصناعة الزاخرة بالخير والنفع على الفرنسيين أجمعين فدعا إلى التصنيع في بلاده.
ولقد دعا رفاعة الطهطاوي، المصريين إلى الحفاظ على نعمة الحرية وإعلاء شأن الفكر وإنشاء المصانع لتنافس أمتهم أرقى شعوب العالم في الحضارة والمدنية، ولتعود إليها سيرتها الأولى في التقدم والازدهار.
وعاد رفاعة الطهطاوي إلى مصر وكله شعلة من الوطنية المتأججة، فأشار على محمد علي بأن يصدر صحيفة «الوقائع المصرية» وتولى الشيخ رفاعة رياسة تحريرها وراح يكتب فيها المقالات التي تحث على استنهاض الهمم وبعث الشعور القومي وشحذ العزائم في سبيل خدمة الوطن.
وهي أقدم جريدة عربية على الإطلاق إذ لم تسبقها جريدة عربية أنشأها عربي في وطننا العربي الكبير.
وما صنعه رفاعة الطهطاوي لأمته يكثر إحصاؤه على المغرمين بالأرقام، فقد ترجم عشرات الكتب من الفرنسية إلى العربية وأودع ثمراتها عقول أولئك المتعطشين إلى العلم والمعرفة، وبارك الله في جهوده فألف وصنف، وكانت غاية جهاده أن يرتقي بأمته إلى المكان الذي رأى فيه فرنسا.
ولقد خلف رفاعة الطهطاوي وراءه ثروة أدبية ضخمة هي طراز لما يجب أن يقوم به الرائد العظيم نذكر منها: (خلاصة الإبريز) والديوان النفيس) و (التعريبات الشافية لمريد الجغرافية) و (جغرافية ملطبرون) و (قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر) و (المرشد الأمين في تربية البنات والبنين) و (التحفة المكتبية) و (مواقع الأفلاك في أخبار تليماك) و (مباهج الألباب المصرية في مناهج الألباب العصرية)
و (مختصر معاهد التنصيص) و (المذاهب الأربعة) و (شرح لامية العرب) و (القانون المدني الإفرنجي) و (توفيق الجليل وتوثيق بني إسماعيل) و (هندسة ساسير) و (رسالة في الطب) و (جمال الأجرومية) و (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز).(3/302)
ولقد خلف رفاعة الطهطاوي وراءه ثروة أدبية ضخمة هي طراز لما يجب أن يقوم به الرائد العظيم نذكر منها: (خلاصة الإبريز) والديوان النفيس) و (التعريبات الشافية لمريد الجغرافية) و (جغرافية ملطبرون) و (قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر) و (المرشد الأمين في تربية البنات والبنين) و (التحفة المكتبية) و (مواقع الأفلاك في أخبار تليماك) و (مباهج الألباب المصرية في مناهج الألباب العصرية)
و (مختصر معاهد التنصيص) و (المذاهب الأربعة) و (شرح لامية العرب) و (القانون المدني الإفرنجي) و (توفيق الجليل وتوثيق بني إسماعيل) و (هندسة ساسير) و (رسالة في الطب) و (جمال الأجرومية) و (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز).
وهكذا عاش رفاعة الطهطاوي حياته كلها خادما أمينا للدين وللعلم وللمعرفة باذلا غاية جهده في تحريك موجات الفكر في بحرنا الآدمي المتلاطم.(3/303)
صورة عن الامام الشيخ محمد عبده
نسبه ومولده ونشأته:
هو محمد بن عبده بن حسن خير الله، من أسرة مصرية ريفية متوسطة الثراء، في قرية من إقليم البحيرة بشمال مصر تسمى محلة نصر، وكان أبوه يشتغل بالزراعة شأنه شأن سكان الريف جميعا. وولد له ابنه محمد في عام 1266هـ. ونشأ في أول الأمر مدللا ثائرا على وضعه الاجتماعي، فأبى أن يشارك أباه في عمله، وعزف عن التعليم في مكتب القرية على عادة أمثاله ولداته، وظل كذلك حتى بلغ العاشرة من عمره، واشتد القلق بوالده فأحضر له فقيها لازمه حتى حفظ القرآن الكريم. وتعلم مبادىء القراءة والكتابة، ثم أرسل به إلى طنطا فجود القرآن وأحسن تلاوته، ثم ألحقه بمعهدها الديني. وقد بلغت سنة خمسة عشر عاما، ولكن محمدا لم يتفتح قلبه لطرق الدراسة حينذاك، ففر من معهده مرارا، وأبوه يحاوله ويعالجه، وهو يلج في العناد والإباء. وأخيرا نزل ضيفا على خال لأبيه في إحدى القرى المجاورة لبلدته، وكان عالما ذكيا استطاع أن ينفذ إلى قلبه، وأن يحبب إليه العلم والدراسة، فلقنه تفسير القرآن. وقرأ عليه عدة كتب في الحديث من أشهرها موطأ الإمام مالك، ثم عاد بعد ذلك إلى معهده فأتم الدراسة فيه، وانتقل إلى الأزهر في عام 1282هـ ورأى أن ينتقل من
مذهب مالك إلى مذهب أبي حنيفة لأنه المذهب الرسمي للحكومة وعليه القضاء والفتيا، وظل ينازع نفسه، ويغالب السأم والملال من الدراسات المعقدة والأساليب الملتوية، حتى حصل على شهادة العالمية في عام 1294هـ، وقد انتزعها انتزاعا بعد معارضة بعض العلماء في منحة إياها لجرأته وصراحته، وزرايته بنظم الأزهر وطريقة التدريس فيه في ذلك الوقت، واصطدامه ببعض شيوخه ومخالفتهم في كثير من الآراء والعقائد.(3/305)
هو محمد بن عبده بن حسن خير الله، من أسرة مصرية ريفية متوسطة الثراء، في قرية من إقليم البحيرة بشمال مصر تسمى محلة نصر، وكان أبوه يشتغل بالزراعة شأنه شأن سكان الريف جميعا. وولد له ابنه محمد في عام 1266هـ. ونشأ في أول الأمر مدللا ثائرا على وضعه الاجتماعي، فأبى أن يشارك أباه في عمله، وعزف عن التعليم في مكتب القرية على عادة أمثاله ولداته، وظل كذلك حتى بلغ العاشرة من عمره، واشتد القلق بوالده فأحضر له فقيها لازمه حتى حفظ القرآن الكريم. وتعلم مبادىء القراءة والكتابة، ثم أرسل به إلى طنطا فجود القرآن وأحسن تلاوته، ثم ألحقه بمعهدها الديني. وقد بلغت سنة خمسة عشر عاما، ولكن محمدا لم يتفتح قلبه لطرق الدراسة حينذاك، ففر من معهده مرارا، وأبوه يحاوله ويعالجه، وهو يلج في العناد والإباء. وأخيرا نزل ضيفا على خال لأبيه في إحدى القرى المجاورة لبلدته، وكان عالما ذكيا استطاع أن ينفذ إلى قلبه، وأن يحبب إليه العلم والدراسة، فلقنه تفسير القرآن. وقرأ عليه عدة كتب في الحديث من أشهرها موطأ الإمام مالك، ثم عاد بعد ذلك إلى معهده فأتم الدراسة فيه، وانتقل إلى الأزهر في عام 1282هـ ورأى أن ينتقل من
مذهب مالك إلى مذهب أبي حنيفة لأنه المذهب الرسمي للحكومة وعليه القضاء والفتيا، وظل ينازع نفسه، ويغالب السأم والملال من الدراسات المعقدة والأساليب الملتوية، حتى حصل على شهادة العالمية في عام 1294هـ، وقد انتزعها انتزاعا بعد معارضة بعض العلماء في منحة إياها لجرأته وصراحته، وزرايته بنظم الأزهر وطريقة التدريس فيه في ذلك الوقت، واصطدامه ببعض شيوخه ومخالفتهم في كثير من الآراء والعقائد.
ثقافته وأساتذته:
كان الإمام ذكيا ألمعيا يتمتع بذهن متوقد، وفكر ثاقب، ونفس طلعة متحررة، لا تحب القيود، ولا تخضع لما تواضع عليه الناس، فمال إلى التزود بجميع أنواع الثقافات، وفتن بالعلوم العقلية واللسانية والأدبية، واستقى الدين من منابعه الأولى، ضاربا صفحا عما ابتدعه العلماء من مذاهب وعقائد، وما أدخلوه في الدين من بدع وأساطير وخرافات.
اقتنع الشيخ بانحراف العلماء عن سنة السلف، ومال إلى الدراسة الاستقلالية الحرة، وشغف بالتاريخ والمنطق والفلسفة الإسلامية، والرياضة والفلك، وتلمس السبل لفهم ما استعصى عليه، فاتصل وهو طالب بعالم فحل اسمه الشيخ حسن الطويل، ولازمه وأفاد منه، ووجد عنده ما افتقده عند غيره من العلماء فلم يظفر به، واتصل كذلك بجمال الدين الأفغاني منذ وفد علي مصر وأخذ عنه الأدب والتوحيد والمنطق وأصول الفقه والفلسفة وغير ذلك من العلوم كما أخذ عنه آراءه في السياسة والاجتماع، وثورته على ظلم الحكام واستبداد الولاة، ودعوته إلى نظام شورى إسلامي يقضي على المطامع والنفعية والاستغلال.
بيئته وأثرها في حياته:
نشأ الشيخ في عصر يموج بالأحداث والأعاصير، وتتوالى فيه الكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد كبل إسماعيل البلاد
بأغلال الدّين، ومكن للأجانب من التدخل في شئونها، والإشراف على مواردها ومنحهم امتيازات سيطروا بها على الوطنيين وانتشروا في المدن والقرى يبيعون الخمر والسموم، ويتعاملون بالربا، وتسقط الثروات في أيديهم كما تسقط أوراق الشجر أدركه الخريف، ثم كان عهد توفيق وقيام الثورة العرابية، واستعانة هذا الحاكم الخائن بالإنجليز ليحتلوا البلاد وينكلوا بقادتها وزعمائها، ويلقوا بهم في السجون والمعتقلات، ويقذفوا ببعضهم إلى خارج البلاد ليذوقوا مرارة النفي وألم البعاد والتشريد، وكان للشيخ دور بارز في مقاومة البغي والعدوان، وجاهد بقلمه ولسانه في صفوف الثورة، وأفتى بخلع الخديو فحكم عليه بالنفي، وقضى عدة سنوات بسوريا وفرنسا وتونس، ولقي من الشدائد والأهوال ما الله به عليم.(3/306)
نشأ الشيخ في عصر يموج بالأحداث والأعاصير، وتتوالى فيه الكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد كبل إسماعيل البلاد
بأغلال الدّين، ومكن للأجانب من التدخل في شئونها، والإشراف على مواردها ومنحهم امتيازات سيطروا بها على الوطنيين وانتشروا في المدن والقرى يبيعون الخمر والسموم، ويتعاملون بالربا، وتسقط الثروات في أيديهم كما تسقط أوراق الشجر أدركه الخريف، ثم كان عهد توفيق وقيام الثورة العرابية، واستعانة هذا الحاكم الخائن بالإنجليز ليحتلوا البلاد وينكلوا بقادتها وزعمائها، ويلقوا بهم في السجون والمعتقلات، ويقذفوا ببعضهم إلى خارج البلاد ليذوقوا مرارة النفي وألم البعاد والتشريد، وكان للشيخ دور بارز في مقاومة البغي والعدوان، وجاهد بقلمه ولسانه في صفوف الثورة، وأفتى بخلع الخديو فحكم عليه بالنفي، وقضى عدة سنوات بسوريا وفرنسا وتونس، ولقي من الشدائد والأهوال ما الله به عليم.
ولكن الإمام أفاد من هذا الكفاح، واكتسب خبرة بشئون الحياة لم تتهيأ لغيره من القادة والزعماء، ولم يكّف عن أداء رسالته الدينية والوطنية، فتولى التدريس بسوريا وتونس، واشترك مع جمال الدين الأفغاني في إنشاء صحيفة العروة الوثقى بفرنسا، وعاد من النفي أمر عودا وأصلب مكسرا، وكانت له بعد ذلك جولات وصولات.
تقلبه في مناصب الدولة:
تولى الشيخ عقب تخرجه في الأزهر دراسة التاريخ الإسلامي بدار العلوم، ودراسة اللغة العربية بمدرسة الألسن، ثم عزلته الحكومة من عمله مخافة انتشار آرائه وأفكاره بين التلاميذ، وقوة تأثيره في الأوساط الوطنية والشعبية، ثم اختير بعد ذلك لرياسة تحرير الوقائع المصرية، وبعد عودته من النفي أبعد عن التدريس، وعين قاضيا بالمحاكم الأهلية، وعضوا في مجلس الأزهر الأعلى، ثم اختير لمنصب الإفتاء وعضوية مجلس الأوقاف الأعلى، كما كان عضوا بمجلس الشورى، ورأس جمعية إحياء العلوم
العربية التي أسست سنة 1318هـ، وإليه يرجع الفضل في نشاط هذه الجمعية وإحياء كثير من كتب الأدب والدين وغيرهما.(3/307)
تولى الشيخ عقب تخرجه في الأزهر دراسة التاريخ الإسلامي بدار العلوم، ودراسة اللغة العربية بمدرسة الألسن، ثم عزلته الحكومة من عمله مخافة انتشار آرائه وأفكاره بين التلاميذ، وقوة تأثيره في الأوساط الوطنية والشعبية، ثم اختير بعد ذلك لرياسة تحرير الوقائع المصرية، وبعد عودته من النفي أبعد عن التدريس، وعين قاضيا بالمحاكم الأهلية، وعضوا في مجلس الأزهر الأعلى، ثم اختير لمنصب الإفتاء وعضوية مجلس الأوقاف الأعلى، كما كان عضوا بمجلس الشورى، ورأس جمعية إحياء العلوم
العربية التي أسست سنة 1318هـ، وإليه يرجع الفضل في نشاط هذه الجمعية وإحياء كثير من كتب الأدب والدين وغيرهما.
وطنيته ودعوته للحرية السياسية والفكرية:
عاش الشيخ طول حياته مجاهدا مكافحا، داعيا للتحرر الوطني، وإرساء قواعد الحكم الشورى، ومقاومة المحتلين وأذنابهم، وعمل على نشر الوعي القومي في نفوس النشء، وتحرير الفكر العربي من شوائب الجهالة، وتكوين مجتمع إسلامي يتعاون أبناؤه لإقامة وحدة تعمل على ترقية شئونهم السياسية والاجتماعية، وقد ألهب عواطف الوطنيين بقلمه ولسانه، وبث بذور الثورة على الطغيان التركي، وفساد أداة الحكم في مصر. ولو أن العرابيين استمعوا لنصحه، وتريثوا قليلا حتى يستكملوا عدتهم وعتادهم لبلغت الثورة هدفها، وآل حكم البلاد إلى بنيها، ونجت مصر من الاحتلال الإنجليزي الذي جثم على صدرها طويلا.
إصلاحاته وآراؤه. والصراع بينه وبين علماء عصره:
كان الشيخ يرى أن إصلاح المجتمع الاسلامي يجب أن ينبع من الأزهر، وأن يكون علماء الدين هم رسل النهضة وقادة الإصلاح، ولكي يقوم الأزهر برسالته لا بد له من الخروج عن عزلته وجموده، وأن يوثق صلته بالشعب، ويجدد في نظمه وطرق التدريس فيه، ويطهر الدين من الشوائب والخرافات، وأن يعيد النظر في الآراء الاجتهادية التي أثبت العلم بطلانها، ويعالج المشاكل التي نبتت في العصور الحديثة ويبين حكم الدين فيها، وأن يعني بالتقويم الخلقي ومحاربة البدع والضلالات، والرد على ما أثاره خصوم الإسلام من شبه تتناول أصوله وفروعه، وأن يعد أبناءه للاضطلاع بوظائف الدولة، وتولى شئون القضاء والتدريس على النظم الحديثة.
وقد وضع رحمه الله نظاما لإصلاح المحاكم الشرعية، ومشروعا
لإصلاح الأزهر في النواحي الإدارية والعلمية، وأراد أن يجدد في منهج التدريس بطريقة عملية بارعة حببت إلى الناس طلب العلم، وغشى حلقته كثير من الأزهريين وغيرهم، كما درس التفسير والمنطق والحكمة والفلسفة وعلم الكلام بأسلوب بليغ وعبارات جزلة فياضة. وقوة في الدليل والترجيح بين الآراء، ونفي ما يثبت بطلانه وعدم جدواه.(3/308)
وقد وضع رحمه الله نظاما لإصلاح المحاكم الشرعية، ومشروعا
لإصلاح الأزهر في النواحي الإدارية والعلمية، وأراد أن يجدد في منهج التدريس بطريقة عملية بارعة حببت إلى الناس طلب العلم، وغشى حلقته كثير من الأزهريين وغيرهم، كما درس التفسير والمنطق والحكمة والفلسفة وعلم الكلام بأسلوب بليغ وعبارات جزلة فياضة. وقوة في الدليل والترجيح بين الآراء، ونفي ما يثبت بطلانه وعدم جدواه.
وقد ثار بعض المتزمتين من الأزهريين والمتصوفة على الشيخ ورموه بالإلحاد والزندقة، والخروج عما تواضع عليه العلماء والمؤلفون. وأقاموا من حوله سياجا من الشك والشبهات، ولجوا في معارضته والطعن عليه، وهو صابر محتسب، يقابل أذاهم بالتسامح، ومعارضتهم بالحجج الدامغة والبراهين الواضحة. وإلى هذا يشير حافظ إبراهيم في رثائه للإمام إذ يقول:
وآذوك في دين الإله وأنكروا ... مكانك حتى سودوا الصفحات
رأيت الأذى في جانب الله لذة ... ورحت ولم تهمم لهم بشكاة
لقد كنت فيهم كوكبا في غياهب ... ومعرفة في أنفس نكرات
أبنت لنا التنزيل حكما وحكمة ... وفرقت بين النور والظلمات
ووفقت بين الدين والعلم والحجا ... فأطلعت نورا في ثلاث جهات
وقفت لهانوتو ورينان وقفة ... أمدك فيها الروح بالنفحات
وإنما كان غضب بعض الأزهريين عليه لأنه كشف عن جهلهم وعجزهم عن أداء رسالة الدين والعلم كما كان غضب الصوفية عليه لأنه سلفه طرقهم وأوضح دجلهم وتضليلهم لعقول الناس، حتى أحالوا الدين إلى خرافات وأوهام لا تتصل به من قريب أو بعيد.
ويعد الأستاذ الإمام مجدد الأدب النثري في العصر الحديث. ومحرره من القيود التي أثقلته وجنت عليه في العصور الوسطى. جدد الشيخ في أسلوب النثر، وفي معانيه وموضوعاته، وامتازت كتابته بالوضوح وحسن
الترتيب وسلامة التراكيب، والبراءة من الغريب والحشو والتوعر.(3/309)
ويعد الأستاذ الإمام مجدد الأدب النثري في العصر الحديث. ومحرره من القيود التي أثقلته وجنت عليه في العصور الوسطى. جدد الشيخ في أسلوب النثر، وفي معانيه وموضوعاته، وامتازت كتابته بالوضوح وحسن
الترتيب وسلامة التراكيب، والبراءة من الغريب والحشو والتوعر.
والمتأمل في أدبه يراه قد تنقل في أطوار عدة، فقد كان أول أمره يميل إلى السجع والتكلف والصنعة، وبعض المحسنات البديعية والمصطلحات العلمية. ويستعمل ألفاظا دخيلة من اللغات الأوروبية أو التركية، ثم أخذ يتحلل من قيود الصنعة شيئا فشيئا بعد تضلعه في الأدب العربي، والإكثار من قراءة الكتب القديمة، ثم سما وعذب ورق بعد دراسته اللغة الفرنسية والآداب الأوروبية الحديثة وقد شاعت طريقته بين المتأدبين في هذا العصر فترسموا خطاه وساروا على نهجه.
مؤلفاته العلمية والأدبية:
لم تدع الأحداث السياسية والحركات الإصلاحية لدى الأستاذ الإمام متسعا من الوقت للإنتاج والتأليف، ولكنه استرق من وقته فترات ألف فيها رسالة التوحيد وتفسير جزء عم، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، وشرح نهج البلاغة، ومقامات البديع، وهو في جميع هذه الكتب محقق، واسع الأفق، عميق الفكرة، واضح الحجة، فخم العبارة، قوي الأسلوب.
ولم يعن الإمام بقرض الشعر مع كثرة حفظه له، واستشهاده به، ولم يسمع عنه سوى أبيات نسبت إليه، وزعم بعض المتصلين به أنه قالها وهو يستقبل الموت، وهي:
ولست أبالي أن يقال محمد ... أبلّ أو اكتظت عليه المآتم
ولكن دينا قد أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
فيا رب إن قدرت رجعي قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدا ... رشيدا يضيء النهج والليل قاتم
وإنما كانت عنايته منصرفة إلى النثر في جميع فنونه وأغراضه، وهذه نماذج منه:(3/310)
ولست أبالي أن يقال محمد ... أبلّ أو اكتظت عليه المآتم
ولكن دينا قد أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
فيا رب إن قدرت رجعي قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدا ... رشيدا يضيء النهج والليل قاتم
وإنما كانت عنايته منصرفة إلى النثر في جميع فنونه وأغراضه، وهذه نماذج منه:
1 - كتب في رسالة إخوانية إلى بعض أصدقائه، وفيها سجع متخير مقبول، قال:
تناولت كتابك ولم يذكر مني ناسيا، ولم ينبه لذكرك لاهيا، فإني من يوم عرفتك لم يغب عني مثالك، ولا تزال تتمثل لي خلالك، ولو كشف لك من نفسك ما كشف لنا منها لفتنت بها، ولحق لك أن تتيه على الناس أجمعين، ولكن ستر الله عنك منها خير ما أودع لك فيها لتزينها بالتواضع، وتجملها بالوداعة، ولتسعى إلى ما لم يبلغه ساع، فتكون قدوة في علو الهمة، وبذل ما يعز على النفس من نفع الأمة، زادك الله من نعمه، وأوسع لك من فضله وكرمه، ومتعنى بصدق ولائك، وجعلك لي عونا على الحق الذي أدعو إليه، ولا أحيا إلا به وله. والسلام.
2 - وكتب إلى حافظ إبراهيم حين أهداه كتاب «البؤساء»، ومعه رسالة تقدير وإطراء، فقال:
لو كان لي أن أشكرك لفن بالغت في تحسينه، أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت في تزيينه، لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك، ويجري في الشكر إلى الغاية كما يطلبه فضلك، لكنك لم تقف بعرفك عندنا، بل عممت من حولنا، وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.
زففت إلى العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية، سحرت قومها، وملكت فيهم يومها، ولا تزال تنبه منهم خامدا، وتهز فيهم جامدا، بل لا تنفك تحيى من قلوبهم ما أماتته القسوة، وتقوم من نفوسهم ما أعذرت فيه الأسوة، كلمة أفاضها الله على رجل منهم فهدى إلى التقاطها رجلا منا، فجردها من ثوبها الغريب، وكساها حلة من نسج الأديب، وجلاها للناظر،
وجلاها للطالب، بعد ما أصلح من خلقها، وزان من معارفها، حتى ظهرت محببة للقلوب، رشيقة في مؤانسة البصائر، تهش للفهم، وتبش للطف الذوق، وتسابق الفكر إلى مواطن العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي من النفس في مكان الإلهام، فما أعجز قلمي عن الشكر لك، وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.(3/311)
زففت إلى العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية، سحرت قومها، وملكت فيهم يومها، ولا تزال تنبه منهم خامدا، وتهز فيهم جامدا، بل لا تنفك تحيى من قلوبهم ما أماتته القسوة، وتقوم من نفوسهم ما أعذرت فيه الأسوة، كلمة أفاضها الله على رجل منهم فهدى إلى التقاطها رجلا منا، فجردها من ثوبها الغريب، وكساها حلة من نسج الأديب، وجلاها للناظر،
وجلاها للطالب، بعد ما أصلح من خلقها، وزان من معارفها، حتى ظهرت محببة للقلوب، رشيقة في مؤانسة البصائر، تهش للفهم، وتبش للطف الذوق، وتسابق الفكر إلى مواطن العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي من النفس في مكان الإلهام، فما أعجز قلمي عن الشكر لك، وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.
3 - وكتب إلى أحد أصحابه وهو في السجن كتابا يفيض بالألم، استهله بقول الشاعر:
تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم
ثم قال بعد قليل:
رأيت نفس اليوم في مهمه لا يأتي البصر على أطرافه، في ليلة داجية غطى فيها وجه السماء بغمام سوء، فتكاثف ركاما ركاما، لا أرى إنسانا، ولا أسمع ناطقا، ولا أتوهم مجيبا، أسمع ذئابا تعوي، وسباعا تزأر، وكلابا تنبح، كلها يطلب فريسة واحدة، هي ذات الكاتب، ذهب ذوو السلطان في بحور الحوادث الماضية يغوصون لطلب أصداف من الشبه، ومقذوفات من التهم، وسواقط من اللمم، ليموهوها بمياه السفسطة، ويغشّوها بأغشية من معادن القوة، ليبرزوها في معرض السطوة، ويغشوا بها أعين الناظرين.
وقال في آخره:
آه ما أطيب هذا القلب الذي يملي هذه الأحرف، ما أشد خطبه للولاء، وما أغيره على حقوق الأولياء، وما أثبته على الوفاء، هذا القلب الذي يؤلمونه بأكاذيبهم، هو الذي سر قلوبهم بالترقية، وملأها فرحا بالتقدم.(3/312)
4 - ومن رسالة له إلى بعض علماء الشام حين هنأه بمنصب الإفتاء، قال:
أما قومي فأبعدهم عني أشدهم قربا مني، وما أبعد الإنصاف منهم، يظنون بي الظنون، بل يتربصون بي ريب المنون، تسرعا منهم في الأحكام، وذهابا مع الأوهام، وولعا بكثرة الكلام، وتلذذا بلوك الملام، أدعو فلا يستجيبون، وأعمل فلا يهتدون، وأريهم مصالحهم فلا يبصرون، وأضع أيديهم عليها فلا يحسون بل يفرون إلى حيث يهلكون، شأنهم الصياح والعويل، والصخب والتهويل، حتى إذا جاء حين العمل صدق فيهم قول القائل:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
وأقول: ولا في الخير
وإنما مثلي فيهم مثل أخ جهله إخوته، أو أب عقته ذريته، أو ابن لم يحن عليه أبواه وعمومته، مع حاجة الجميع إليه، وقيام عمدهم عليه، يهدمون منافعهم بإيذائه، ولو شاءوا لاستبقوا باستبقائه، وهو يسعى ويدأب، ليطعم من يلهو ويلعب، على أني أحمد الله على الصبر، وسعة الصدر، إذا ضاق الأمر، وقوة العزم، وثبات الحلم، إذا اشتد الظلم، وإن كنت في خوف من حلول الأجل، قبل بلوغ الأمل الخ.
5 - ومن أمثلة كتابته العلمية قوله في أحد فصول رسالة التوحيد:
جاء القرآن فنهج بالدين منهجا لم يكن عليه ما سبقه من الكتب المقدسة، منهجا يمكن لأهل الزمن الذي أنزل فيه ولمن يأتي بعدهم أن يقوموا عليه، فلم يقصر الاستدلال على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بما عهد الاستدلال به على النبوات السابقة، بل جعل الدليل في حال النبي مع نزول الكتاب عليه في شأن من البلاغة يعجز البلغاء عن محاكاته، ولو في مثل أقصر سورة منه، وقص علينا من صفات الله ما أذن الله لنا، أو ما أوجب علينا أن
نعلم، لكن لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، ولكنه أقام الدعوى وبرهن، وحكى مذاهب المخالفين وكر عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والإتقان على أنظار العقول، وطالبها بالإمعان فيها لتصل إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه، حتى أنه في سياق قصص أحوال السابقين. كان يقرر أن للخلق سنة لا تغير، وقاعدة لا تتبدل فقال تعالى: {سُنَّةَ اللََّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللََّهِ تَبْدِيلًا} وصرح سبحانه {إِنَّ اللََّهَ لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ}، {فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ}.(3/313)
جاء القرآن فنهج بالدين منهجا لم يكن عليه ما سبقه من الكتب المقدسة، منهجا يمكن لأهل الزمن الذي أنزل فيه ولمن يأتي بعدهم أن يقوموا عليه، فلم يقصر الاستدلال على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بما عهد الاستدلال به على النبوات السابقة، بل جعل الدليل في حال النبي مع نزول الكتاب عليه في شأن من البلاغة يعجز البلغاء عن محاكاته، ولو في مثل أقصر سورة منه، وقص علينا من صفات الله ما أذن الله لنا، أو ما أوجب علينا أن
نعلم، لكن لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، ولكنه أقام الدعوى وبرهن، وحكى مذاهب المخالفين وكر عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والإتقان على أنظار العقول، وطالبها بالإمعان فيها لتصل إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه، حتى أنه في سياق قصص أحوال السابقين. كان يقرر أن للخلق سنة لا تغير، وقاعدة لا تتبدل فقال تعالى: {سُنَّةَ اللََّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللََّهِ تَبْدِيلًا} وصرح سبحانه {إِنَّ اللََّهَ لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ}، {فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ}.
واعتضد بالدليل في باب الأدب فقال (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل بتصريح لا يقبل التأويل، وتقرر بين المسلمين كافة إلا من لاثقة بعقله ولا بدينه أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل، وعلمه بما يوحى به إليهم، وإرادته لاختصاصهم برسالته، وما يتبع ذلك مما يتوقف عليه فهم معنى الرسالة، وكالتصديق بالرسالة نفسها، كما أجمعوا على أن الدين إن جاء بشيء قد يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل.
دفاع الشيخ عن الإسلام، وتفنيد مزاعم المبشرين:
شمر الشيخ عن ساعد الجد، وانبرى للمبشرين المسيحيين الذين تناولوا الإسلام بالطعن والتجريح، وسفهوا عقائد المسلمين، وحاولوا النيل من الرسول وصحبه، وشوهوا تعاليمه ومبادئه، ومن ورائهم جمعيات مزودة بالمال والمطابع والصحف، كي يزعزعوا يقين المسلمين في دينهم، ويصدوا عنه من أراد الدخول فيه من غير أهله انبرى الشيخ لهؤلاء جميعا
ومن بينهم رينان وهانوتو وإضرابهما، وأخذ يفند مزاعمهم، ويبطل حججهم ويبين أكاذيبهم وخدعهم، حتى صرعهم وفضحهم في المجال الدولي، وعرف العالم الإسلام على حقيقته، وقال بعض فلاسفتهم: إذا كان الإسلام كما يقول الشيخ محمد عبده فأحرى بنا جميعا أن ندخل فيه، ونستظل برايته.(3/314)
شمر الشيخ عن ساعد الجد، وانبرى للمبشرين المسيحيين الذين تناولوا الإسلام بالطعن والتجريح، وسفهوا عقائد المسلمين، وحاولوا النيل من الرسول وصحبه، وشوهوا تعاليمه ومبادئه، ومن ورائهم جمعيات مزودة بالمال والمطابع والصحف، كي يزعزعوا يقين المسلمين في دينهم، ويصدوا عنه من أراد الدخول فيه من غير أهله انبرى الشيخ لهؤلاء جميعا
ومن بينهم رينان وهانوتو وإضرابهما، وأخذ يفند مزاعمهم، ويبطل حججهم ويبين أكاذيبهم وخدعهم، حتى صرعهم وفضحهم في المجال الدولي، وعرف العالم الإسلام على حقيقته، وقال بعض فلاسفتهم: إذا كان الإسلام كما يقول الشيخ محمد عبده فأحرى بنا جميعا أن ندخل فيه، ونستظل برايته.
كتب رحمة الله حين سخر هانوتو من تشريع الحج عند المسلمين، وكتب بعض الكاتبين مقالة يرد بها عليه ورأى الأستاذ الإمام أنها تحتاج إلى دعم وتوضيح فكتب يقول:
يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج، ويقول:
إنه صلة بين المسلمين في جميع اقطار الأرض، ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم، فعليهم أن يستفيدوا منه وهو كلام حق، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه، فإن الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين، حتى يستعين بعضهم ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم، أو أضل من أعمالهم، وفي مدافعة ما ينزل بهم من قحط أو ظلم أو بلاء، وهو معهود عند جميع الأمم التي تدين بدين واحد، خصوصا عند الأوربيين.
وكتب إلى الفيلسوف تولستوي حين حرمته الكنيسة لدعوته إلى التوحيد:
أيها الحكيم، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكنا لم نحرم التعارف مع روحك، لقد سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في أفقنا شموس من آرائك، ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، ونظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد، ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك إليه الله.
وحقا لقد كان الشيخ محمد عبده عالما فذا، ومصلحا قديرا،
ومجاهدا إسلاميا عظيما، وقد عاش مسلما صادقا، ومات وهو في صفوف المجاهدين المؤمنين وقد توفي رحمه الله في عام 1323هـ، 1905م ولا يزال المصلحون يترسمون خطاه إلى اليوم.(3/315)
وحقا لقد كان الشيخ محمد عبده عالما فذا، ومصلحا قديرا،
ومجاهدا إسلاميا عظيما، وقد عاش مسلما صادقا، ومات وهو في صفوف المجاهدين المؤمنين وقد توفي رحمه الله في عام 1323هـ، 1905م ولا يزال المصلحون يترسمون خطاه إلى اليوم.(3/316)
الشيخ مصطفى عبد الرازق 151885فبراير 1947
ولد رحمه الله عام 1304هـ 1885م بأبي جرج من أعمال مديرية المنيا، وهو الابن الثاني من أولاد المرحوم حسن عبد الرازق (باشا)، وبعد أن أتم تعليمه الأولى حفظ القرآن الكريم وجوّده، ثم التحق لطلب العلم بالأزهر الشريف، وتخرج في سنة 1906، وحصل على شهادة العالمية من الدرجة الأولى بين زملائه الشافعية، وعين للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي، وفي سنة 1909سافر إلى فرنسا والتحق بجامعة السربون ليضم إلى ثقافة الشرق ثقافة الغرب، وندبه مسيو لابيير لتدريس بعض المباحث الإسلامية بجامعة ليون، ثم عاد من فرنسا في أوائل الحرب الكبرى، وعين سكرتيرا لمجلس الأزهر، وكان ذلك في سنة 1916، وفي سنة 1921عين مفتشا في المحاكم الشرعية، ثم عين سنة 1927أستاذ للفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وظل في كرسي الأستاذية، حتى اختير في سنة 1938وزيرا للأوقاف في وزارة محمد محمود (باشا) الثانية، اختير عدة مرات في وزارات مختلفة لتولي هذا المنصب، حتى انتقل المغفور له الشيخ المراغي شيخ الأزهر إلى جوار ربه، فاختير لهذا المنصب وهو وزير للأوقاف، وصدر الأمر بتعيينه شيخا للأزهر في 27 ديسمبر سنة 1945، واختير أميرا للحج في العام الذي توفي فيه، فكان
خير مبعوث لمصر بين أبناء البلاد الإسلامية عند البيت الحرام، وتوفي في 15فبراير سنة 1947، ويقول عنه محمد فريد وجدي:(3/317)
ولد رحمه الله عام 1304هـ 1885م بأبي جرج من أعمال مديرية المنيا، وهو الابن الثاني من أولاد المرحوم حسن عبد الرازق (باشا)، وبعد أن أتم تعليمه الأولى حفظ القرآن الكريم وجوّده، ثم التحق لطلب العلم بالأزهر الشريف، وتخرج في سنة 1906، وحصل على شهادة العالمية من الدرجة الأولى بين زملائه الشافعية، وعين للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي، وفي سنة 1909سافر إلى فرنسا والتحق بجامعة السربون ليضم إلى ثقافة الشرق ثقافة الغرب، وندبه مسيو لابيير لتدريس بعض المباحث الإسلامية بجامعة ليون، ثم عاد من فرنسا في أوائل الحرب الكبرى، وعين سكرتيرا لمجلس الأزهر، وكان ذلك في سنة 1916، وفي سنة 1921عين مفتشا في المحاكم الشرعية، ثم عين سنة 1927أستاذ للفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وظل في كرسي الأستاذية، حتى اختير في سنة 1938وزيرا للأوقاف في وزارة محمد محمود (باشا) الثانية، اختير عدة مرات في وزارات مختلفة لتولي هذا المنصب، حتى انتقل المغفور له الشيخ المراغي شيخ الأزهر إلى جوار ربه، فاختير لهذا المنصب وهو وزير للأوقاف، وصدر الأمر بتعيينه شيخا للأزهر في 27 ديسمبر سنة 1945، واختير أميرا للحج في العام الذي توفي فيه، فكان
خير مبعوث لمصر بين أبناء البلاد الإسلامية عند البيت الحرام، وتوفي في 15فبراير سنة 1947، ويقول عنه محمد فريد وجدي:
«كان الأستاذ الأكبر بشخصيته الممتازة، وسعة أفقه الثقافي، خير من يدرك آثار هذا العهد في حياة الأمم، وأصلح من يوكل إليه أمر التوفيق بينهما لمصلحة الدين والدنيا معا، فلا غرو إن ساور الهلع كل نفس تنتظر عهد الاستقرار والهدوء والتقدم، لم أر فيمن قابلت من القادة والأعلين. أكرم خلقا في غير استكانة، ولا أهدأ نفسا في غير وهن، ولا أكثر بشاشة في غير رخوة، من الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكل ذلك إلى حزم لا يعتوره لوث، واحتياط لا يشوبه تنطع، وأناة لا يفسدها فتور، وإدمان على العمل ينسى معها نفسه، وهي صفات كبار القادة، وعلية المصلحين، ممن خلقوا لمعالجة الشئون المعقدة، وحسم المنازعات الشائكة، والتوفيق بين المطالب المتنافرة، وهذه مواقف كما تقتضي مضاء العزيمة، تحتاج إلى هوادة الأناة، وكما تستدعي سرعة البت، لا بد لها من القدرة على إزالة الحوائل، وقديما قالوا: رب عجلة أورثت ريثا، ورب إقدام جر إلى نكوص، فكان بما حباه بارئه من هذه المواهب النادرة، كفاء المهمة التي وفق المسئولون في إسنادها إليه، وكنت لا أشك في أنه بما جبل عليه من حب الإصلاح، وما اتصف به من الصفات التي سردناها آنفا، سيصل إلى حل مشكلة الأزهر حلا حاسما، يعيش تحت نظامه آمنا شر العوادي، وفي منجاة من عوامل القلق والاضطراب، ذلك أنه بما تضلع من إلمام بنظم الجامعات، وما حصل من علم بمقوماتها وحاجاتها، لتمضيته في صميمها سنين طوالا من حياته طالبا ومدرسا، يعرف من أسرار حياتها وبقائها وبواعث عللها وأعراضها، ما لا يعلمه إلا الأقلون، والأزهر لا يخرج عن جامعة قديمة في دور انتقال، تتفاعل لتتناسب والعهد الذي تعيش فيه، فهي في حاجة إلى أن تحصل على المقومات التي تؤاتيها بهذا التناسب، وهو لا ينحصر في زيادة ميزانيتها، ولا في تهذيب برامج دراستها، ولكنه يتعداهما
إلى ما هو إيجاد المجال الحيوي لخريجيها، وهو أمر لا يستطاع حله إلا بعد تمهيد الطريق إليه، ورفع العقبات دونه. والشيخ الراحل لما اتصف به من بعد النظر، وتخير الظروف، كان أجدر الناس بإصابة هذا الغرض البعيد، ولكن الله آثر له الدار الآخرة، فكان ما أراد، وترك الأمر لمن يخلفه، ولله في ذلك حكمة، وهو يتولى الصالحين.(3/318)
«كان الأستاذ الأكبر بشخصيته الممتازة، وسعة أفقه الثقافي، خير من يدرك آثار هذا العهد في حياة الأمم، وأصلح من يوكل إليه أمر التوفيق بينهما لمصلحة الدين والدنيا معا، فلا غرو إن ساور الهلع كل نفس تنتظر عهد الاستقرار والهدوء والتقدم، لم أر فيمن قابلت من القادة والأعلين. أكرم خلقا في غير استكانة، ولا أهدأ نفسا في غير وهن، ولا أكثر بشاشة في غير رخوة، من الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكل ذلك إلى حزم لا يعتوره لوث، واحتياط لا يشوبه تنطع، وأناة لا يفسدها فتور، وإدمان على العمل ينسى معها نفسه، وهي صفات كبار القادة، وعلية المصلحين، ممن خلقوا لمعالجة الشئون المعقدة، وحسم المنازعات الشائكة، والتوفيق بين المطالب المتنافرة، وهذه مواقف كما تقتضي مضاء العزيمة، تحتاج إلى هوادة الأناة، وكما تستدعي سرعة البت، لا بد لها من القدرة على إزالة الحوائل، وقديما قالوا: رب عجلة أورثت ريثا، ورب إقدام جر إلى نكوص، فكان بما حباه بارئه من هذه المواهب النادرة، كفاء المهمة التي وفق المسئولون في إسنادها إليه، وكنت لا أشك في أنه بما جبل عليه من حب الإصلاح، وما اتصف به من الصفات التي سردناها آنفا، سيصل إلى حل مشكلة الأزهر حلا حاسما، يعيش تحت نظامه آمنا شر العوادي، وفي منجاة من عوامل القلق والاضطراب، ذلك أنه بما تضلع من إلمام بنظم الجامعات، وما حصل من علم بمقوماتها وحاجاتها، لتمضيته في صميمها سنين طوالا من حياته طالبا ومدرسا، يعرف من أسرار حياتها وبقائها وبواعث عللها وأعراضها، ما لا يعلمه إلا الأقلون، والأزهر لا يخرج عن جامعة قديمة في دور انتقال، تتفاعل لتتناسب والعهد الذي تعيش فيه، فهي في حاجة إلى أن تحصل على المقومات التي تؤاتيها بهذا التناسب، وهو لا ينحصر في زيادة ميزانيتها، ولا في تهذيب برامج دراستها، ولكنه يتعداهما
إلى ما هو إيجاد المجال الحيوي لخريجيها، وهو أمر لا يستطاع حله إلا بعد تمهيد الطريق إليه، ورفع العقبات دونه. والشيخ الراحل لما اتصف به من بعد النظر، وتخير الظروف، كان أجدر الناس بإصابة هذا الغرض البعيد، ولكن الله آثر له الدار الآخرة، فكان ما أراد، وترك الأمر لمن يخلفه، ولله في ذلك حكمة، وهو يتولى الصالحين.
ومما هو جدير بالذكر أن جميع مدرسي الفلسفة في عهدنا الحاضر بجامعتي القاهرة والأسكندرية من تلاميذه، لم تنقطع صلتهم به، وقد أسندت إليه وزارة الأوقاف مرتين، ولما توفي الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي، وعز وجود من يملأ مكانه، أسندت المشيخة إليه في 27من ديسمبر سنة 1945، ومن مؤلفاته العديدة:
1 - ترجمة فرنسية لرسالة التوحيد تأليف الشيخ محمد عبده، وضعها بالاشتراك مع الأستاذ ميشيل، وحلاها هو بمقدمة طويلة.
2 - رسائل صغيرة بالفرنسية عن المرحوم الأثري الكبير بهجت بك، وعن معنى الإسلام ومعنى الدين في الإسلام.
3 - كتاب التمهيد لتاريخ الفلسفة.
4 - فيلسوف العرب والمعلم الثاني.
5 - الدين والوحي في الإسلام.
6 - الإمام الشافعي.
7 - الإمام محمد عبده، وهو مجموعة محاضرات ألقيت في الجامعة الشعبية سنة 1919، وكلها مؤلفات تعتبر غاية في الإفادة.
وله كتب لم تنشر، منها: مؤلف كبير في المنطق، وكتاب في التصوف، وفصول في الأدب تقع في مجلدين كبيرين، وكان رئيسا لمجلس إدارة الجمعية الخيرية، التي كان والده من مؤسسيها، وكان عضوا في مجمع اللغة العربية، والمجمع العالمي المصري.(3/319)
وفي 27مارس عام 1947أقيمت حفلة لتأبينه في جامعة القاهرة، ألقى فيها لطفي السيد، وعبد العزيز فهمي، والدكتور حسين هيكل، ومنصور فهمي، وإبراهيم دسوقي أباظة، وطه حسين، وأمين الخولي، والعقاد وغيرهم كلمات وقصائد في الإشادة بمناقبه.
ومن كلمات الشيخ كلمة ألقاها بمناسبة اختياره رئيسا فخريا لجمعيات المحافظة على القرآن الكريم بعد وفاة الشيخ المراغي، قال فيها: القرآن مصقلة القلوب كما ورد في الحديث، وما أحوج قلوبنا إلى ما يصقلها، ويجلو منها الصدأ، والقرآن هدى ونور، فهل إلا القرآن لما يغشى العالم اليوم من ظلام وضلال؟ والقرآن من بعد هذا ثقاف للألسن، يقوم عوجها، ويصلح عجمتها، ويغذي من البلاغة مادتها، فمن عملى على تنشئة أطفالنا على حفظ القرآن وترتيله ومدارسته، فإنما يصلح القلوب، ويقوم الأخلاق، ويخدم العربية، وما أشرف ذلك مقصدا وأعظمه نفعا! ويتقاضانا الوفاء بمناسبة أول احتفال سنوي بعد وفاة الرئيس الفخري السابق رضي الله عنه أن نذكر مآثره الباقيات في خدمة القرآن الكريم: كان رحمه الله مسلما صادقا، وكان يحب القرآن حبا جما، وقد عنى في أكثر دروسه الدينية بالتفسير في أسلوب يلائم جلال كتاب الله، ويوطد أسباب فهمه لأذواق الأجيال الحاضرة، كما كان يصنع من قبل أستاذنا الإمام «الشيخ محمد عبده»، ووجه الأزهر إلى العناية بالدراسات العالمية لعلوم القرآن، وقد أنشأ معهد القراءات والتجويد، والمرجو أن يتابع الأزهر السير في هذه السبيل، فيقوي معهد القراءات ويكمله، وينشىء إلى جانبه دراسات عالية للحديث وعلومه، حتى يستوفي الأزهر جميع الوسائل التي تعده لأن يكون كعبة المسلمين في كل ما يتصل بالقرآن والحديث وفي مجلة الأزهر دراسة عن الشيخ مصطفى عبد الرازق الشاعر (1)
__________
(1) عدد شعبان 1370.(3/320)
الأزهري يرد على اسماعيل باشا
نشبت الحرب بين مصر والحبشة في عصر الخديو إسماعيل وعلى غير ما كان يتوقع الخديو توالت الهزائم على مصر وتواردت الأخبار كل يوم من ميادين المعارك تحمل إليه مزيدا من الأسى واليأس والخلاف والخلاف الذي يدب بين قواده!!
وضاق صدر الخديو يوما بما يتلقاه من أنباء سيئة فاستدعى شريف باشا وركب معه محاولا أن يرفه عن نفسه وفجأة التفت الخديو إلى شريف باشا وقال له:
ماذا تصنع حينما تلم بك ملمة تريد أن تدفعها؟!
قال شريف باشا:
يا أفندينا إن الله عودني إذا حاق بي شيء من هذا أن ألجأ إلى صحيح البخاري يقرأه لي علماء أطهار الأنفاس فيفرج الله عني!
انزاح الهم عن صدر الخديو واتسعت الابتسامة على وجهه فإذا كان الأمر كما يقول شريف باشا فبمقدوره أن يحول الهزائم إلى انتصارت دون أن يكلف خزانته شيئا!!
عاد الخديو إلى قصره وأرسل في استدعاء الشيخ العروسي شيخ
الأزهر وقتئذ وطلب منه أن يجمع له جمعا من العلماء الصالحين ليقوموا بتلاوة البخاري إمام القبلة القديمة في الجامع الأزهر بنية دفع الهزيمة عن مصر!(3/321)
عاد الخديو إلى قصره وأرسل في استدعاء الشيخ العروسي شيخ
الأزهر وقتئذ وطلب منه أن يجمع له جمعا من العلماء الصالحين ليقوموا بتلاوة البخاري إمام القبلة القديمة في الجامع الأزهر بنية دفع الهزيمة عن مصر!
نفذ الشيخ العروسي أمر الخديو وجلس جمع العلماء، المختارين بعناية أمام القبلة يتلون البخاري أناء الليل والنهار، ولكن دون جدوى فالهزائم لم تتوقف ساعة واحدة وأخبارها تتوالى دون انقطاع!!
واستبد الغضب بالخديو فصحب شريف باشا إلى العلماء وقال لهم.
أما أن هذا الذي تقرأونه ليس صحيح البخاري، أو أنكم لستم العلماء الذين نعهدهم من رجال السلف الصالح فإن الله لم يدفع بكم ولا بتلاوتكم شيئا؟!
وجم العلماء ولم يجد أحدهم جوابا ووسط الصمت الرهيب الذي ساد المكان ارتفع صوت شيخ من أخر الصف موجها حديثه للخديو:
منك يا إسماعيل فإنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم»!
ركب الفزع وجوه المشايخ لهذه الجرأة من صاحبهم وتوقعوا عقابا صارما يشملهم جميعا إلا أن الخديو لم ينبس بكلمة وسارع بالانصراف هو وشريف باشا!
التف العلماء حول صاحبهم وأخذوا في تأنيبه ولومه وبينما هم كذلك أقبل شريف باشا يسأل عن الشيخ الذي رد على الخديو ثم صحبه معه وزملاؤه يودعونه وداع الذاهب إلى حتفه(3/322)
دخل شريف باشا ومعه الشيخ على الخديو في قصره فطلب من الشيخ أن يجلس على كرسي بجواره وقال له: أعد يا أستاذ ما قلته لي في الأزهر، فأعاد العالم قوله وشرح للخديو حديث الرسول الكريم فقال الخديو:
وماذا صنعنا حتى ينزل بنا هذا البلاء؟
قال الشيخ:
يا أفنديا أليست المحاكم المختلطة قد فتحت بقانون يبيح الربا؟
أليس الفجور برخصة، أليس الخمر مباحة
وأخذ يعدد للخديو أنواع المنكرات التي تجري دون أن ينكرها أحد ثم قال: فكيف تنتظر النصر من السماء؟!
قال الخديو:
وماذا نصنع وقد عاشرنا الأجانب وهذه مدينتهم؟!
إذن فما ذنب البخاري وما حيلة العلماء؟!
قال الشيخ:
سكت الخديو وأطرق طويلا ثم قال له:
صدقت صدقت عاد الشيخ إلى زملائه بعد أن يئسوا من لقائه في الدنيا، وقد رتب له الخديو مبلغا كبيرا يتقاضاه كل شهر!!!
وانتهت قصة الشيخ الذي حقق قول رسول الله: «لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه»
أما التاريخ فلم ينته إنه ماض في طريقه يضع بصمته على مصير الشعوب!!(3/323)
مفتي قبرص!
عاش طالبا في الأزهر منذ سنوات وعاد هذا الشهر إلى القاهرة يحمل لقب مفتي قبرص خامس مفتي للأتراك رشح لمنصبه بالانتخاب في الجزيرة الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط عاد يحمل لقب دكتور في الشريعة الإسلامية من جامعة أنقرة دكتور مصطفى رفعت مصطفى 43سنة، أحد الوجوه التي اشترك لأول مرة في القاهرة في المؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر.
«بدأ التاريخ الإسلامي في قبرص أيام الخليفة عثمان بن عفان عند ما أرسل معاوية إلى الشام في حملة استولت على جزيرة قبرص عام 28هـ.
وكانت الحملة تضم السيدة أم حرم بنت ملحان خالة النبي في الرضاعة والتي كان النبي يجلها كثيرا ويعتبرها كأمه وكممرضة أولى في الإسلام كما جاء في الحديث النبوي الشريف وعند ما تقدم الجيش الإسلامي الذي فتح الجزيرة من سواحلها الجنوبية سقطت بنت ملحان من فوق فرسها وماتت على الفور ودفنت في المكان الذي توفيت فيه وأصبح ضريحها هذا منذ ذلك التاريخ البعيد مكانا مقدسا يحج إليه المسلمين ويتبركون به ثم جلب معاوية إلى الجزيرة 12ألفا من المسلمين وأسكنهم فيها وأنشأ مدنا إسلامية مختلفة
في الجزيرة وبعد الأمويين جاء العباسيون والفاطميون والأيوبيون إلى أن جاءت دولة المماليك حيث فتحوا الجزيرة وأسروا ملكها وأخذوه معهم إلى مصر وبعد مدة أعادوه ملكا على الجزيرة عند ما تأكدوا من إخلاصه لهم وأصبح كل الملوك الذين حكموا بعده تابعين لأوامر المماليك في مصر حتى عام 571عند ما استولى العثمانيون على قبرص وبقيت تحت حكمهم وإدارتهم أكثر من ثلاثة قرون».(3/325)
وكانت الحملة تضم السيدة أم حرم بنت ملحان خالة النبي في الرضاعة والتي كان النبي يجلها كثيرا ويعتبرها كأمه وكممرضة أولى في الإسلام كما جاء في الحديث النبوي الشريف وعند ما تقدم الجيش الإسلامي الذي فتح الجزيرة من سواحلها الجنوبية سقطت بنت ملحان من فوق فرسها وماتت على الفور ودفنت في المكان الذي توفيت فيه وأصبح ضريحها هذا منذ ذلك التاريخ البعيد مكانا مقدسا يحج إليه المسلمين ويتبركون به ثم جلب معاوية إلى الجزيرة 12ألفا من المسلمين وأسكنهم فيها وأنشأ مدنا إسلامية مختلفة
في الجزيرة وبعد الأمويين جاء العباسيون والفاطميون والأيوبيون إلى أن جاءت دولة المماليك حيث فتحوا الجزيرة وأسروا ملكها وأخذوه معهم إلى مصر وبعد مدة أعادوه ملكا على الجزيرة عند ما تأكدوا من إخلاصه لهم وأصبح كل الملوك الذين حكموا بعده تابعين لأوامر المماليك في مصر حتى عام 571عند ما استولى العثمانيون على قبرص وبقيت تحت حكمهم وإدارتهم أكثر من ثلاثة قرون».
وجميع الأتراك مسلمون في الجزيرة على مذهب السنية ويقيمون جميع شعائر الإسلام بل أن ركعات صلاتهم كثيرة فهي تضم الفروض والسنن المؤكدة والسنن غير المؤكدة فمثلا ركعات صلاة الجمعة 16ركعة.
وأسماؤهم محمد وأحمد وإبراهيم ومصطفى وعائشة وأم كلثوم وفاطمة.
أكبر التزامات الأسرة التي تنجب أنثى أن تدخر من أجلها الكثير لتقدم بها عقد زواجها منزلا مستقلا وعربة لتنقلاتها مع زوجها والطفل يبدأ صلاته في سن الخامسة وصيام رمضان في السابعة المرأة غير محجبة لكنها لا تذهب إلى الجامع بل تصلي في بيتها صلواتهم ودعاؤهم باللغة العربية الفصحى وتحيتهم «السلام عليكم».(3/326)
مسيرة الألف عام مجلة الاذاعة المصريّة 25/ 11/ 1972
كل مسيرة تبدأ بخطوة كذلك بدأت رحلة الألف عام من 14 رمضان سنة 359هجرية عند ما بدأ القائد جوهر الصقلي بعد التمكين للفاطميين في مصر من بناء الجامع الأزهر
وهذه الألف سنة، ليست عمر المآذن والصحن والقباب فحسب، ولكنها عمر مصر أيضا، بكل ما تمثله من ريادة في مختلف نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية، وكمركز إشعاع يفيض بنوره الذي يصل إلى أركان الدنيا، فقد امتزج تاريخ الأزهر امتزاجا عضويا بتاريخ «الشعب المصري» على توالي الحقب والقرون، بحيث يصعب الفصل بينهما
وشمخ الأزهر طوال حياته المديدة والعامرة بوصفه أقدم وأعظم جامعة في دنيا الإسلام، وكان أعتي المتاريس التي تصدت لكل احتلال طمع في مصر، ومعقلا من أهم معاقل القومية العربية، ثم ها هو يستجيب لدواعي التطور وأسبابه فيصبح جامعة عصرية تضم جنباته مختلف الكليات العلمية، وتستوعب مدرجاته طلابا من 65دولة إسلامية
ولم يكن دور الأزهر، مقصورا منذ البداية، على إقامة الشعائر فقط، بل كان مدرسة لعلوم الدين والفقه وارتبط في أذهان العالم الإسلامي
كجامعة إسلامية حملت لواء الفكر الإسلامي والإنساني، ومشعلا من المشاعل التي أضاءت للبشرية طريقها على امتداد القرون، ولمع في صحنه وأروقته كثير من الأسماء الخالدة التي أعطت وألهمت وغذت مسيرة الإسلام مثل «ابن الفارض» و «ابن خلكان» و «البوصيري»، و «ابن دقمان» المؤرخ المصري، و «المقريزي» صاحب الخطط و «السيوفي» وله 500مؤلف من بينها تاريخ الخلفاء، و «ابن إياس» المؤرخ المصري وتألق بجانب هؤلاء مفكرون جاءوا إلى مصر ليتلقوا العلم في الأزهر مثل «ابن خلدون» و «ابن بطوطة»(3/327)
ولم يكن دور الأزهر، مقصورا منذ البداية، على إقامة الشعائر فقط، بل كان مدرسة لعلوم الدين والفقه وارتبط في أذهان العالم الإسلامي
كجامعة إسلامية حملت لواء الفكر الإسلامي والإنساني، ومشعلا من المشاعل التي أضاءت للبشرية طريقها على امتداد القرون، ولمع في صحنه وأروقته كثير من الأسماء الخالدة التي أعطت وألهمت وغذت مسيرة الإسلام مثل «ابن الفارض» و «ابن خلكان» و «البوصيري»، و «ابن دقمان» المؤرخ المصري، و «المقريزي» صاحب الخطط و «السيوفي» وله 500مؤلف من بينها تاريخ الخلفاء، و «ابن إياس» المؤرخ المصري وتألق بجانب هؤلاء مفكرون جاءوا إلى مصر ليتلقوا العلم في الأزهر مثل «ابن خلدون» و «ابن بطوطة»
و «الجبرتي».
ولا شك أن الفكر المصري والإسلامي يدين بالكثير للأزهر
الذي تخرج فيه «ابن الهيثم» العالم الذي يشيد بفضله الأوروبيون خصوصا في الطبيعة وطب العيون. و «الشعراني» إمام المتصوفة في مصر، ومؤرخ! «رفاعة الطهطاوي» مؤسس الفكر المصري الحديث
خصوصا في الترجمة والصحافة. و «الشيخ محمد عبده» و «عبد الله النديم» و «أحمد عرابي» زعيم الثورة العرابية و «سعد زغلول» قائد ثورة 1919. و «الدكتور طه حسين» عميد الأدب العربي
وو(3/328)
وفي رسالة الدكتوراه عن دور الأزهر في الحياة المصرية أثناء الحملة الفرنسية التي كتبها د. مصطفى رمضان
أبرز الباحث حركة علماء الأزهر قبل الحملة في مجالين: المعارضة الدستورية في الديوان العثماني، مما يدل على أن علماء الأزهر شاركوا في قضايا المجتمع، وقيادة علماء الأزهر للحركات الشعبية الثورية ضد الحكام الظالمين من العثمانيين والمماليك، وبذلك نظموا كفاح الشعب المصري قبل مجيء الحملة الفرنسية
وأبرزت الرسالة شخصية الأزهر أثناء الحملة الفرنسية، وبروز الزعامة الشعبية في مجال الدفاع الداخلي، واستشهاد عدد كبير من زعماء الأزهر:
وقد دبرت خطة لاغتيال كليبر قائد الحملة الفرنسية وكان المنفذ سليمان الحلبي، وهو من أبناء حلب بالشام.
وتتضمن الرسالة عدة نقاط أهمها:
إبراز دور الأزهر بعد الحملة الفرنسية حيث عاشت مصر في ظل عهد من الفوضى السياسية والاجتماعية وتعددت مراكز القوى في البلاد وحمل الأزهر لواء المعارضة وإظهار الكيان المصري مهما كان الثمن:
حارب الأزهر الابتزاز التركي للشعب.(3/329)
عارض علماء الأزهر سياسة الممالك في استغلال الشعب، وتزعموا حركة لطردهم من القاهرة سنة 1804.
عند ما جاء «خورشيد» إلى الحكم، يدفعه جشع شديد لابتزاز الأموال، نظم الأزهر حركة ثورية بقيادة «عمر مكرم»، وحاصرت خورشيد بالقلعة 1805، وأجبرته على التخلي عن الحكم، وعينت «محمد علي» واليا على مصر، متوسمة فيه الحرص على مطالب الشعب ولكن «محمد علي» خان مبادىء الشعب وزعماءه، ولعب دورا في تصفية الزعامة الشعبية، بعد أن استفاد بها في المجالات الآتية:
جمع الضرائب وخداع المماليك وعدم السماح لهم بدخول القاهرة.
مقاومة الحملة الانجليزية بقيادة فريزر عام 1807.(3/330)
حوار بين العلماء والوالي
في عام 189جاء إلى مصر وال تركي جديد هو «أحمد باشا» المعروف بكور وزيرا وكان الوزير كما يقول الجبرتي من «أرباب الفضائل وله رغبة في العلوم الرياضية وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر، والشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا: لا نعرف هذه العلوم فتعجب وسكت».
ويواصل الجبرتي رواية هذه الحادثة الهامة الطريفة معا «في الجزء الأول من عجائب الآثار ص 194، وقد نقل الدكتور حسين فوزي النجار هذه الفقرة عن الجبرتي في كتابه عن رفاعة الطهطاوي ص 9» يقول الجبرتي:
إن الشيخ الشبراوي دخل على الباشا في يوم جمعة يحادثه كعادته فقال له الباشا: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال له الشيخ هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف: فقال وأين هي وأنتم أعظم علمائها وقد
سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئا، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد، فقال له: نحن لسنا أعظم علمائها وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفراض والمواريث كعلم الحساب والغيار فقال له: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية بل هو من شروط صحة العبادة كالعلم بدخول الوقت واستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك فقال: نعم معرفة ذلك من فروض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل. والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك، فقال: وأين البعض، فقال: موجودون في بيوتهم يسعى إليهم، ثم أخبره عن الشيخ الوالد «يقصد أباه الشيخ حسن الجبرتي» وعرفه عنه وأطنب في ذكره، فقال التمس منكم إرساله عندي، فقال يا مولانا إنه عظيم القدر وليس هو تحت أمري فقال: وكيف الطريق إلى حضوره؟ قال: تكتبون له ارسالية مع بعض خواصكم فلا يسعه الامتناع ففعل ذلك، وطلع إليه ولبى دعوته وسر برؤياه واغتبط به كثيرا وكان يتردد عليه يومين في الجمعة وهما السبت والأربعاء، وأدرك منه مأموله وواصله بالبر والإكرام الزائد».(3/331)
إن الشيخ الشبراوي دخل على الباشا في يوم جمعة يحادثه كعادته فقال له الباشا: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال له الشيخ هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف: فقال وأين هي وأنتم أعظم علمائها وقد
سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئا، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد، فقال له: نحن لسنا أعظم علمائها وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفراض والمواريث كعلم الحساب والغيار فقال له: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية بل هو من شروط صحة العبادة كالعلم بدخول الوقت واستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك فقال: نعم معرفة ذلك من فروض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل. والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك، فقال: وأين البعض، فقال: موجودون في بيوتهم يسعى إليهم، ثم أخبره عن الشيخ الوالد «يقصد أباه الشيخ حسن الجبرتي» وعرفه عنه وأطنب في ذكره، فقال التمس منكم إرساله عندي، فقال يا مولانا إنه عظيم القدر وليس هو تحت أمري فقال: وكيف الطريق إلى حضوره؟ قال: تكتبون له ارسالية مع بعض خواصكم فلا يسعه الامتناع ففعل ذلك، وطلع إليه ولبى دعوته وسر برؤياه واغتبط به كثيرا وكان يتردد عليه يومين في الجمعة وهما السبت والأربعاء، وأدرك منه مأموله وواصله بالبر والإكرام الزائد».
ثم يقول الجبرتي بعد ذلك «وكان المرحوم الشيخ الشبراوي كلما تلاقى مع المرحوم الوالد يقول له: سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا فإنه لولا وجودك كنا جميعا عنده حمير».
هذه هي القصة الواقعية التي يرويها الجبرتي عن مصر في منتصف القرن الثامن عشر، فمصر آنذاك لم يكن فيها سوى عالم واحد استطاع
باجتهاده الخاص أن يتعلم بعض أصول الرياضيات، أما بقية علماء مصر فلم يكونوا يعرفون أكثر من العلوم التي تدور حول اللغة والدين مثل الفقه والنحو وما إلى ذلك.(3/332)
هذه هي القصة الواقعية التي يرويها الجبرتي عن مصر في منتصف القرن الثامن عشر، فمصر آنذاك لم يكن فيها سوى عالم واحد استطاع
باجتهاده الخاص أن يتعلم بعض أصول الرياضيات، أما بقية علماء مصر فلم يكونوا يعرفون أكثر من العلوم التي تدور حول اللغة والدين مثل الفقه والنحو وما إلى ذلك.(3/333)
61922 - الأزهر أكسفورد الشرق (1)
تذكرت الأزهر وأنا أطوف في أرجاء «أوكسفورد» صور الأساقفة ذكرتني بشيوخ الأزهر الذين عاصروا الحملة الفرنسية، وسجنتهم الثورة الفرنسية في القلعة، وانتهز فنان الجيش المناسبة، فخلدهم في لوحات، قبيل إعدامهم أو جلدهم أو تغريمهم.
المدينة حول الجامعة، يعيش فيها الطلاب والأساتذة، ذكرتني بجو الأزهر في عصور سالفة يوم كان قلب القاهرة النابض يعيش فيه العلماء في منازل مستقلة، طابقها الأسفل مفتوح باستمرار للضيوف من العلماء أو الطلبة (المجاورين) يتجادلون ويتبادلون المعرفة والأحاجي
القاعات والخزائن والردهات، وبقايا مساكن الطلبة في القرون الماضية كلها منقولة عن أروقة الأزهر
«فأوكسفورد» التي قامت بعد الأزهر بقرنين إنما أنشئت على نظام الأزهر ووفق تقاليده، بل وبكتب مترجمة عن مؤلفات علماء الأزهر، بعد أن عاد الصليبيون من الشرق، وقد تعلموا عادتين: الاستحمام والعلم
وحملوا أول ورقة كتابة إلى أوروبا من إنتاج مصانع الورق العربية!.
__________
(1) جريدة النهضة الكويتية عام 1973.(3/335)
فلم تكن «أوكسفورد» في البداية، إلا مكانا يلتقي فيه بعض العارفين، ببعض الراغبين في المعرفة ثم تطورت إلى جامعة لعلوم اللاهوت، تنقسم إلى أروقة لكل رواق «ماستر» أو «شيخ الرواق»، كما كان الحال في الأزهر، ويسكن فيها الطلبة الذين كان سنهم لا يزيد على 13 سنة عند الالتحاق وقد استمر نظام الأروقة حتى القرن الخامس عشر
ولكن الكليات كانت قد ظهرت منذ أواسط القرن ال 13بينما استمر نظام الأروقة في الأزهر إلى القرن العشرين.
وكان لكل رواق شيخ يضم الرواق أبناء جهة واحدة، فهناك رواق للمغاربة ورواق للشوام، وآخر للصعايدة وكان لكل رواق جراية (أي راتب) خاصة، يوقفها عليه الأمراء والأغنياء، ونفس النظام في «أوكسفورد»
وكانت الجراية في الأزهر تدفع خبزا، وهي درجات: رغيفان للطالب المنتسب، والذي يتحقق انتسابه بحصوله على خزانة يضع فيها كتبه، وانتسابه إلى رواق ينام فيه، وجراية «أوتوزبير» (اسم مملوك) وهي أربعة أرغفة لا تعطى إلا لمن يجتاز امتحانا خاصا وجراية زينب هانم خمسة وعشرون رغيفا وتعطى للعلماء وكانت هناك جرايات نقدية بعضها يصل إلى ثلاثمائة جنيه في السنة، وأبطل الجراية الشيخ المراغي
وهذه الوقفيات، مكنت الأساتذة من التفرغ للعلم، والعيش مع الطلبة وكانت الدراسة حرة على أحدث النظم الجامعية الحالية، أو بمعنى أصح، كما نقلت النظم الجامعية المعاصرة عن الأزهر
فالأستاذ ذو الكرسي أو بتعبير العصر القديم: «من له عامود في الأزهر» هو الذي امتحنته لجنة من العلماء وأجازت له حق التدريس، ويتم الامتحان علنا أمام جمهور من الطلبة، وعلى يد لجنة من شيوخه
فإذا جاز الطالب الامتحان سمح له بأن يضع مقعدا بجوار أحد أعمدة
المسجد وبدأ في تلاوة درسه، وينضم لحلقته من يشاء من الطلبة الذين يحضرون ما يحلو لهم من دروس بلا تقييد ويتقدمون للامتحانات متى وجدوا في أنفسهم استعدادا وكانت تدرس في الأزهر شتى العلوم من الفقه إلى ضرب العود والكمان كما كان يفعل الشيخ العطار في مطلع القرن التاسع عشر(3/336)
فإذا جاز الطالب الامتحان سمح له بأن يضع مقعدا بجوار أحد أعمدة
المسجد وبدأ في تلاوة درسه، وينضم لحلقته من يشاء من الطلبة الذين يحضرون ما يحلو لهم من دروس بلا تقييد ويتقدمون للامتحانات متى وجدوا في أنفسهم استعدادا وكانت تدرس في الأزهر شتى العلوم من الفقه إلى ضرب العود والكمان كما كان يفعل الشيخ العطار في مطلع القرن التاسع عشر
أبراج الكنائس التي يعتليها طلبة «أوكسفورد» في شهر مايو (أيار) من كل عام يتلون من فوقها صلاة لاتينية تمجد الثالوث المقدس ذكرتني بمآذن الأزهر التي كان يعتليها المجاورون (الطلبة) يتلون الابتهالات والمدائح النبوية في أيام الرضا ويكبرون في غير أوقات الصلاة، إذا ما نشب خلاف بين الأزهر وسلطات المدينة، أو قاد الأزهر ثورة الأهالي ضد استبداد السلطة تماما كمعارك طلاب «أوكسفورد» و «كمبريدج» مع سلطات المدينة منذ سبعة قرون لقد نشأت أوكسفورد في القرن الثاني عشر بينما وضع حجر الأساس في بناء الأزهر في نيسان (ابريل) 970 وتم بناؤه في حزيران (يونيو) 972، أي أنه أكمل ألف عام شهد فيها الفصل الدرامي من تاريخ حضارتنا تألقها فجمودها ثم انهيارها
ولا شك أن كل الذين قارنوا بين تاريخ الأزهر، و «أوكسفورد»، وعرفوا كيف قامت جامعات أوروبا الحديثة على غرار الأزهر ووفق نظمه، بل وبالمعرفة التي نقلتها أوروبا عن الأزهر.
يدركون أن أقدم كتاب في جامعة «أوكسفورد» مكتوب سنة 1379
وعند ما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وهي أكبر فصل في تاريخ الأزهر كمؤسسة قيادية كان أحدث الكتب التي تدرس فيه قد كتبت حول هذا التاريخ!(3/337)
فالأزهر كان ذروة تألق حضارة بدأت رحلة الانهيار أما «أوكسفورد»، فكانت بداية حضارة جديدة في طريق النمو والازدهار
فنمت الجامعات مع المجتمع النامي من حولها.
عند ما بني الأزهر كانت الحضارة العربية قد امتلكت كل أسس المعرفة اللازمة لانطلاق الثورة الصناعية، لولا أن هب على العالم الإسلامي اعصاران الحروب الصليبية، ثم الخراب المغولي فتحول المجتمع المدني المتحضر، إلى مجتمع عسكري خشن وتراجع العلماء ليحكم العسكر وحشدت موارد البلاد واستنزفت في القتال وأحرقت المدن والمزارع وكل آثار الحضارة على يد الفاتح المتقدم، أو المنهزم المنسحب
وانتقلت شعلة الحضارة من الشرق المغزو، إلى الغرب الغازي وهناك افرخت ونمت، وتطورت إلى الحضارة الحديثة
وكان الثمن فادحا:
تخلفت مسيرة الحضارة العالمية، حوالي خمسة قرون، قضتها أوروبا في النقل الحذر المستريب للعلوم الإسلامية مع حصر المعرفة بها في دوائر خاصة ثم التوسع في الترجمة والدرس والفهم والتمثل وأخيرا التطور ولو استمرت شعلة الحضارة في النمو على شواطئنا، لما كانت هناك هذه الفجوة
كذلك اقترن النمو الحضاري الجديد بالاستعمار، ولو مضت حضارتنا في نموها لما كانت البشرية قد عرفت الاستعمار، ولا كان التخلف قد فرض على ثلاثة أرباع شعوب العالم، من أجل تقدم ورفاهية الربع
فحضارتنا لم تعرف الاستعمار، بل قامت مراكز المدنية والرفاهية في كل البلدان، وعلى قدم المساواة، ووفق إمكانات كل بلد، ولعل أقلها حظا كانت الجزيرة، بلاد الفاتحين(3/338)
ألف عام بدايتها الأزهر الجامع الجامعة، والأصل في المسجد أنه جامعة ومن المسجد وفي المسجد ظهر ونبغ كل العلماء، ودرست كل العلوم
وإن كان الجيل المعاصر، يحفظ أسماء طلاب أوكسفورد وكمبريدج عن ظهر قلب من اسحق نيوتن إلى سبنسر، وجون ميلتون فليسمحوا لنا في الذكرى الألفية للأزهر أن نقدم لهم أحد العلماء الذين درسوا فيه سنة (1038) تعرفنا به كاتبة ألمانية هي الدكتورة «سيجريد هونكة» فتقول:
«إن الحسن بن الهيثم توصل إلى نظرية في علم الضوء خاصة بالأشعة وانكسارها كانت نقطة تحول في أبحاث الطبيعة وبخاصة علم الضوء وهو الذي أثر في أوروبا تأثيرا بعيدا وعرفته باسم «الهزن» وكان أشهر الأساتذة العرب الذين أخذوا بيدها في هذا المضمار من البحوث. فقد وضع نظرية حول حركة الأفلاك وقد ظلت هذه النظرية تدرس بغير تعديل في أوروبا أربعة قرون، فوجدت مائدة في ألمانيا محفورة سنة 1428عليها نظرية «الحسن» في حركة الأفلاك».
«وقد نقد الحسن سنة 1038نظرية اقليدس وبطلميوس في علم الضوء، فقال: إن الأجسام المرئية هي التي يصدر منها شعاع الضوء فتراه العين وليس العكس». «وكانت هذه النظرية قفزة في علم الضوء. وهو مؤسس العلم التجريبي وليس روجيه بيكون أو باكوفون فرولام أو ليوناردو دهفينشي أو جاليليو وأصبح اسم الحسن بن الهيثم هو النجم الذي أضاء الطريق ومهد لقيام الأبحاث الحديثة بعد أن سبق أوروبا إليها» وهو الذي فسر خسوف الشمس والقمر، واكتشف أن القمر جسم مظلم بعكس النجوم، وهو أول من اخترع صندوقا للضوء يشبه آلة التصوير، وهو أول إنسان رأى صورة العالم مقلوبا من خلال مرور الصورة في جهازه العجيب وهو الذي فسر انكسار الضوء في الهواء والماء واستطاع تحديد
ارتفاع الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الأرضية. «والجدير بالذكر أنه توصل إلى تحديدها بدقة، وعرف أنها خمسة عشر كيلومترا»(3/339)
«وقد نقد الحسن سنة 1038نظرية اقليدس وبطلميوس في علم الضوء، فقال: إن الأجسام المرئية هي التي يصدر منها شعاع الضوء فتراه العين وليس العكس». «وكانت هذه النظرية قفزة في علم الضوء. وهو مؤسس العلم التجريبي وليس روجيه بيكون أو باكوفون فرولام أو ليوناردو دهفينشي أو جاليليو وأصبح اسم الحسن بن الهيثم هو النجم الذي أضاء الطريق ومهد لقيام الأبحاث الحديثة بعد أن سبق أوروبا إليها» وهو الذي فسر خسوف الشمس والقمر، واكتشف أن القمر جسم مظلم بعكس النجوم، وهو أول من اخترع صندوقا للضوء يشبه آلة التصوير، وهو أول إنسان رأى صورة العالم مقلوبا من خلال مرور الصورة في جهازه العجيب وهو الذي فسر انكسار الضوء في الهواء والماء واستطاع تحديد
ارتفاع الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الأرضية. «والجدير بالذكر أنه توصل إلى تحديدها بدقة، وعرف أنها خمسة عشر كيلومترا»
«وفسر قوس قزح الذي عجز أرسطو عن تفسيره، واخترع أول نظارة للقراءة وحتى يومنا هذا تعرف في جامعات أوروبا المسألة المعقدة المتصلة بالإلمام بالطبيعة والرياضة معا والتي حلها الحسن بن الهيثم بمعادلة من الدرجة الرابعة أظهرت نبوغه الرياضي في الجبر إذ حسب البعد البؤري لمرآة مقعرة تعرف هذه المسألة باسم «مسألة الهزن» (الحسن)».
وكتابه المتضمن لهذه النظريات لا وجود له بالعربية، بل بقت ترجمته اللاتينية ضاع الأصل العربي مع ضياع الحضارة، ونفي العالم العربي وكتابه: «كتاب المناظر» إلى أوروبا حيث ساهم في بناء العلم الحديث.
وإذا كانت جامعة «أوكسفورد» قد بدأت مكتبتها بكتابين لا زالا مربوطين بالسلال إلى الآن كما كان وضعهما في القرن الثالث عشر فإن مكتبة الأزهر في القرن العاشر كان بها مليون وستمائة ألف كتاب ولكن الانهيار الحضاري جعل الخليفة يسدد مرتبات الجند والموظفين بالكتب
وكان «الفرنجة» يشترون هذه الكتب بالرطل، وينقلونها إلى كنائس وأديرة فجامعات أوروبا.
فالأزهر لم يبدأ بالفقه والنحو والعروض وحدهم كما يتصور البعض، بل كانت تدرس فيه كل علوم العصر، من علوم الدين والفلسفة والمنطق إلى الرياضيات والطب والهندسة والفلك واستمر الحال على ذلك رغم التدهور الحضاري ذلك أن الإسلام، بطبيعته، يحتم دراسة حد أدنى من العلوم التطبيقية، فنظام الميراث يحتم دراسة الحساب بل ويقود إلى الجبر وكذلك الزكاة، وضبط الكيل والميزان يفتح الباب لدراسة الأثقال والحجوم والروافع وخواص المواد التي تصنع منها. ومراقبة الهلال لمعرفة
أوائل الشهور ودراسة حركة الشمس والظل لتحديد مواقيت الصلاة، وتحديد العدة، والقبلة كلها تحتم دراسة الفلك وتقسيم الزمن، وتفتح الباب لدراسات عن الجغرافيا والهندسة والطب، وقادت إلى اكتشاف البوصلة.(3/340)
فالأزهر لم يبدأ بالفقه والنحو والعروض وحدهم كما يتصور البعض، بل كانت تدرس فيه كل علوم العصر، من علوم الدين والفلسفة والمنطق إلى الرياضيات والطب والهندسة والفلك واستمر الحال على ذلك رغم التدهور الحضاري ذلك أن الإسلام، بطبيعته، يحتم دراسة حد أدنى من العلوم التطبيقية، فنظام الميراث يحتم دراسة الحساب بل ويقود إلى الجبر وكذلك الزكاة، وضبط الكيل والميزان يفتح الباب لدراسة الأثقال والحجوم والروافع وخواص المواد التي تصنع منها. ومراقبة الهلال لمعرفة
أوائل الشهور ودراسة حركة الشمس والظل لتحديد مواقيت الصلاة، وتحديد العدة، والقبلة كلها تحتم دراسة الفلك وتقسيم الزمن، وتفتح الباب لدراسات عن الجغرافيا والهندسة والطب، وقادت إلى اكتشاف البوصلة.
وقد تمركزت الزعامة الشعبية في العلماء، وكان الأزهر هو مركز القيادة الشعبية، وحلقة الوصل بين السلطة والعامة، وقائد مقاومة الجماهير ضد استبداد السلطة وانحرافها وقد سلمت السلطة بهذه المكانة لشيوخ الأزهر، والتفت الجماهير حول الشيوخ الذين قادوها في أكثر من معركة سجل منها تاريخ القرن الثامن عشر معارك تتعلق باستقلال الجامعة الأزهرية، فعند ما حاول السلطان والأمراء تعيين شيخ للأزهر من المذهب الحنفي، وهو المذهب الرسمي للدولة، رفض الشيوخ، لأن ذلك اعتداء على استقلال الأزهر، والعرف المقرر فيه أن يكون شيخ الأزهر شافعيا
وفشلت كل جهود الدولة في حماية مرشحها ومذهبها الرسمي، وانتصرت إرادة المشايخ وإذا كان عمدة «أوكسفورد» قد أحرق كل وثائق الملكية الخاصة بعلماء وطلبة جامعة «أوكسفورد» عام 1381فإن علماء الأزهر في ذلك التاريخ كانوا يملكون بيع سلطان مصر في المزاد العلني (حادثة العز بن عبد السلام) وبعد ذلك بأربعة قرون (1735) حاول السلطان العثماني أن يعيد تنظيم الأوضاع المالية، بما يشكل اعتداء على الحقوق المكتسبة لبعض الفئات، وليس المشايخ منهم. فاعترض المشايخ وألغوا قرار السلطان معلنين أنه «ليس من حق السلطان تجاوز التشريعات لقائمة». وكان ذلك قبل سقوط الباستيل بنصف قرن وقبل أن يفكر عقل في لقارة الأوروبية بتحدي سلطة الملوك الإلهية.
وأخيرا قاد المشايخ ثورة فلاحين لانتزاع أول دستور مكتوب
1794 - في الوقت نفسه الذي كان العامة في فرنسا يبحثون هل دم لأمراء أزرق؟).(3/341)
فعند ما جاء نابليون بأول احتلال غربي للوطن العربي كان الأزهر هو القلعة التي اصطدم بها، بعد انهيار المؤسسة العسكرية (المماليك)، وقاد الأزهر المقاومة العربية ضد الاحتلال الفرنسي، فكانت ثورة القاهرة الأولى، التي قادتها لجنة من مشايخ الأزهر بقيادة الشيخ السادات استطاعت أن تشكل تنظيما دقيقا يمتد من صحن الأزهر إلى أصغر قرية في الريف المصري، وهو تنظيم عجز العالم العربي عن تكرار مثله لأكثر من قرن بعد تنحي الأزهر وعرف نابليون، ممثل الثورة الفرنسية، خصمه الحقيقي، فصب هجومه على الأزهر، وضرب المسجد الجامعة القيادة
التراث التاريخ وأهم من ذلك أنه كان إمكانية المستقبل ضرب ذلك كله بالمدافع، واحتله الجنود ودخلته الخيل لأول مرة في تاريخه
معلنة هزيمة الحضارة التي يمثلها
وأصدر نابليون أمره بأن «يباد كل من في الجامع»، ودخلت الجند المسجد: «وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين، والكتبة. ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ورشقوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهعم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوطوا، وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب، وكسروا آوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه».
وأعدم نابليون ثمانين شيخا من قيادة الثورة
صحيح أن عدوان نابليون على الأزهر، قضى على كل آماله في الشرق، ولكنه أيضا كشف للأمة العربية أنها عزلاء، لا تستطيع حماية قيادتها، ومقدساتها(3/342)
وأصبحت القضية مطروحة على النحو التالي: من وجهة نظر الاستعمار الغربي لا بد أن تتحطم قيادة الأزهر لكي تخضع الأمة العربية للاستعمار.
ومن وجهة نظر الأمة العربية، لا بد من حركة بعث قادرة على مواجهة الغرب الاستعماري.
وأدرك الاستعمار أن تحطيم الأزهر بالمدافع لا يجدي فبعد ضربه واحتلاله في الثورة الأولى، عاد ونظم ثورة القاهرة الثانية (1800)، وهي الثورة الكبرى المعروفة.(3/343)
61923 - الأزهر وأثره في الحياة الإنسانية
إن الأزهر الشريف (1) يرجع في قيامه إلى ألف سنة مضت. وقام ليؤدي رسالة ويحتفظ بتراث. أما الرسالة فهي تنوير المسلمين بمبادىء الإسلام. وأما التراث الذي يحتفظ به فهو تراث المسلمين العقلي والروحي والأدبي على السواء.
وظل يقوم بهذه الرسالة ويحتفظ بهذا التراث طوال هذه المدة الطويلة التي مضت على قيامه. وقد مرت به أحداث، وعاصر ظروفا وخرج من هذه وتلك دون أن يفقد هذه الرسالة، ودون أن يبدد هذا التراث.
فهو مدرسة وسجل للتاريخ معا. ترى في بحوثه ودراساته آثار المسلمين الذهنية، وتسمع من خلال هذه الآثار مبادىء الإسلام كما ذكرنا.
ولأنه قام لمهمة مرتبطة بالبحوث الإسلامية كان لا يحتك به من الأحداث إلا تلك التي تتصل بكيان الأمة الإسلامية والشعوب العربية، وفي مقدمة هذه الشعوب شعب الاقليم المصري.
والتحول الذي طرأ على التوجيه فيه من أنه كان مدرسة لتعاليم
__________
(1) د. محمد البهي مجلة قافلة الزيت.(3/345)
الفاطميين ثم تغير الوضع فيه إلى أن يكون التوجيه الذي يباشره يتصل بتوجيه أهل السنة هذا التحول لا يغير من مهمته الأصلية وهي العناية بنشر مبادىء الإسلام والاحتفاظ بتراث المسلمين العقلي والروحي. ولذا فمحاولة وضع هوة في تاريخه بين عهدين له، وإبراز مراحل تطوره على أنه كان لاتجاه معين انقلب إلى ضده فيما بعد لا تقلل من شأن رسالته في واقع الأمر من حيث أنها رسالة الأمة الإسلامية والشعب العربي.
والأزهر بما له من هذا الماضي الطويل وبما وضع لنفسه من رسالة احتل في العالم الإسلامي منزلة كبيرة وخالدة في الوقت نفسه. وأصبح مركز تنوير المسلمين بمبادىء دينهم وأصبح أمر الاحتفاظ بالتراث الثقافي والروحي والأدبي للمسلمين مرتبطا ارتباطا قويا بمهمة الأزهر وبما يباشره من وظيفة ورسالة.
وإذا كان قد مرت على الأزهر أحداث تأثر بها وهي الأحداث التي تتصل بالوطن الإسلامي أو العربي، وإذا كانت هذه الأحداث قد غيرت من اتجاهه وتحول بسببها من جانب إلى جانب، فإن الشيء الذي يمكن الوقوف عنده في تاريخه هو سير الحركة العلمية وتغير طريقة البحث والدرس فيه. فحركة التأليف العربي التي وجدت في آخر القرن الأول الهجري وازدهرت في القرنين التاليين له مالت رويدا رويدا إلى الضعف من جانب والركود من جانب آخر، وكان للأحداث الخارجية وهي أحداث المغول والتتار في الشرق وأحداث الصليبيين من الغرب أثر آخر بجانب ما لضعف حركة التأليف وركود النشاط فيه. وهذا الأثر سواء أكان عن طريق الأحداث الخارجية أم طريق العوامل الداخلية والمحلية هو تقوية روح التبعية للخصومات المذهبية وللمؤلفين فيما كتبوا في العهود المتأخرة في تاريخ التأليف العربي.
والأزهر عند ما قام يؤدي رسالة تنوير المسلمين اعتمد في ارسال
إشعاعه وفي بحوثه ونشر تعاليمه على قسط كبير من كتب أولئك المؤلفين الذين تأخر بهم الزمن في تاريخ التأليف وتأثروا بموجة الضعف والركود الداخلية والخارجية. ولأن مهمة الأزهر تتصل بالدين، أخذ خصيصة التقاليد وهي عدم قبوله لمبدأ التطور لا في الدين نفسه ولكن فيما صنعه الإنسان المسلم المفكر حول الدين وفيما سطره من آراء يخرج بها بعض أفكاره. وهنا كان تقبل الأزهر للخروج عن نطاق هذه الكتب التي تمثل ظاهرة الضعف والركود الفكري في تاريخ التأليف العربي أمرا ليس هينا، وإن تقبل مبدأ التغير والانتقال من عهد إلى عهد في التعرف على مبادىء الإسلام وآراء المسلمين فإنه يتقبلها في احتياط وفي بطء.(3/346)
والأزهر عند ما قام يؤدي رسالة تنوير المسلمين اعتمد في ارسال
إشعاعه وفي بحوثه ونشر تعاليمه على قسط كبير من كتب أولئك المؤلفين الذين تأخر بهم الزمن في تاريخ التأليف وتأثروا بموجة الضعف والركود الداخلية والخارجية. ولأن مهمة الأزهر تتصل بالدين، أخذ خصيصة التقاليد وهي عدم قبوله لمبدأ التطور لا في الدين نفسه ولكن فيما صنعه الإنسان المسلم المفكر حول الدين وفيما سطره من آراء يخرج بها بعض أفكاره. وهنا كان تقبل الأزهر للخروج عن نطاق هذه الكتب التي تمثل ظاهرة الضعف والركود الفكري في تاريخ التأليف العربي أمرا ليس هينا، وإن تقبل مبدأ التغير والانتقال من عهد إلى عهد في التعرف على مبادىء الإسلام وآراء المسلمين فإنه يتقبلها في احتياط وفي بطء.
ومن ثم كانت مسايرة الأزهر لا أقول لمبدأ التطور، وإنما أقول لفكرة الانتقال من عهد إلى عهد في تاريخ التأليف العربي، أي الانتقال من عهد الضعف والركود مثلا إلى عهد القوة والأصالة في العصور السابقة على هذا العهد مسايرة تجمد تارة وتبطىء في سيرها تارة أخرى.
ومن هنا كان لتوجيهه أثر على الشعوب الإسلامية ينعكس في هذا الأثر ما يتلزمه هو في دائرة التوجيه من الركون إلى آراء معينة أو الوقوف في استمداد التعاليم الإسلامية من بعض مصادر التأليف في الحقبة الأخيرة.
وبمقدار ما يتحرك الأزهر في دائرة التأليف العربي الإسلامي بمقدار ما يكون لتوجيهه من أثر إيجابي أو سلبي.
والحركات الإصلاحية التي قامت فيه والتي باشرها بعض شيوخ الأزهر من أمثال الشيخ محمد عبده لم تقصد إلى الخروج عن دائرة التراث الثقافي والروحي للمسلمين كلية. وإنما قصدت إلى شيء واحد هو محاولة الانتقال كي يفهم الإسلام فهما صحيحا من عهد الركود إلى عهد الإمامة والأصالة في تاريخ التأليف العربي الإسلامي. إذ أن تأليف المتقدمين من علماء المسلمين كان أقرب إلى أصول الإسلام وإلى التعبير عما يهدف إليه القرآن مما كان للمؤلفين المتأخرين.(3/347)
وهذا معناه أن يكون للعالم الأزهري فرصة في اختيار الرأي من بين آراء المسلمين. كما تكون له فرصة عرض بعض آراء المسلمين اعتمادا على القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وأي الآراء من بينها أقرب إلى روح القرآن والسنة الصحيحة هو أقواها وضوحا في التعبير عن رأي الإسلام وأكثرها قبولا للمسلم في حياته اليومية.
والنتيجة الحتمية لهذه الحركة الإصلاحية هي وضع العلماء في مواجهة القرآن وضعا مباشرا دون وسيط يلتزم رأيه وينفذ حكمه على أداء القرآن لأحكام الله وللطريق العملي الذي يسلكه المسلم. وهنا يكون مبدأ التوجيهات حقيقة واقعية يمارسها القادرون في فهم القرآن أو تحت ضوء القرآن وضوء السنة الصحيحة.
وبمقدار ما تعبر التعاليم التي يرسلها الأزهر إلى خارجه في نطاق الشعوب العربية والإسلامية بمقدار ما تتحقق روح الإسلام في حياة المسلمين. وروح الإسلام هي روح الإنسانية الصافية في معاملة المسلم للمسلم ومعاملة المسلم لغير المسلم من أهل الكتاب ومعاملة المسلم لمن ليس بذي دين أو لمنكر الدين والإيمان.
ومعاملة المسلم للمسلم كما تملي روح الإسلام هي معاملة الأخ للأخ والصديق للصديق ومعاملة الإنسان للإنسان في دائرة دفع الأذى والضرر وتحقيق السلم والرخاء العام. ومعاملة المسلم لغير المسلم ممن ليس بذي دين أو لمنكر الدين هي معاملة الإنسان لمن يتحدى خصائص الإنسانية ويتحدى علاقة السلم وتبادل النفع والرخاء بين الناس جميعا. إذ الذي ينكر الدين والإيمان بالله ينكر على البشر أن يسلكوا طريق الحق، وسبيل الاستقامة وسبيل الإنسانية مذعنين لتوجيه القادر العليم مدبر الكون كله.
ينكر على البشر أن يطيعوا الله خشية منه، ويحرضهم في الوقت نفسه على أن يتمردوا على القيم البشرية بدعوى ممارسة الحرية الفردية، أو بدعوى
سمو الإنسان عن خالقه، أو بدعوى الاستجابة لوحي الطبيعة وما تمليه من توجيه وما ترسمه من قدر ومصير.(3/348)
ينكر على البشر أن يطيعوا الله خشية منه، ويحرضهم في الوقت نفسه على أن يتمردوا على القيم البشرية بدعوى ممارسة الحرية الفردية، أو بدعوى
سمو الإنسان عن خالقه، أو بدعوى الاستجابة لوحي الطبيعة وما تمليه من توجيه وما ترسمه من قدر ومصير.
والإنسان مهما سما في تفكيره وإدراكه لا يصل إلى تحديد المنهج المستقيم تحديدا واضحا لا خلط فيه، أو تحديدا مستمرا صالحا لجماعة معينة فضلا عن أن يكون صالحا لجماعات وشعوب كثيرة. والطبيعة أن ترك الإنسان نفسه يطيع ما ترسمه من توجيه فإنها ستجعله يطيع دوما ما تمليه مظاهر الحس المختلفة وعندئذ يكون شأن الإنسان شأن الحيوان في تبعيته لما يحس وعدم ارتفاعه عن هذا الذي يحس للسيطرة عليه وتوجيهه.
ومن هنا كان أثر الأزهر الديني في توجيه المسلمين أثرا إيجابيا في علاقة المسلم بالمسلم، وفي علاقة المسلم بأهل الكتاب، وفي موقف المسلم من الالحاد والتحدي بإنكار الإيمان، ما يعبر في تعاليمه التي، ينشرها عن الإسلام في صفاء آرائه ووضوح هدفه.
أما الأثر الأدبي للأزهر ورسالته فهو خدمة الإنسانية وخدمة المستوى الفاضل لها. فالإسلام إذا سار المسلمون على مبادئه يكون من الدعائم القوية في تركيز خصائص الإنسانية في نفوس البشرية. فهو رسالة كرسالة الله فيما أوحاه إلى موسى وإلى عيسى عليهما السلام تساوق الطبيعة الإنسانية في أخص صفاتها ومقوماتها. وأخص هذه الصفات والمقومات التي تدعو إليها الرسالة الإلهية هي: المحبة، الأخوة، السلام. ولا شك أن هذه الغايات لا تتحق إلا إذا ارتفع الإنسان عن مستوى الخصومة ومستوى الحقد والضغينة بسبب التهالك على المادة أو بسبب الانطواء تحت مظاهر الحس التي يدعو إليها الالحاد، ويدعو إليها التحدي للإيمان.
والدين الإلهي لذلك ضرورة لضمان تحقيق هذه الأهداف الثلاثة في حياة الإنسان. وإذا ما تحققت هذه الأهداف في حياة الإنسان أصبحت البشرية في أوضح مظاهرها حقيقة عملية، وبالتالي أصبح الناس سعداء لأن
الشر أو الشقاء لا يكمن إلا في الخصومة وفي القلق والاضطراب والحيرة.(3/349)
والدين الإلهي لذلك ضرورة لضمان تحقيق هذه الأهداف الثلاثة في حياة الإنسان. وإذا ما تحققت هذه الأهداف في حياة الإنسان أصبحت البشرية في أوضح مظاهرها حقيقة عملية، وبالتالي أصبح الناس سعداء لأن
الشر أو الشقاء لا يكمن إلا في الخصومة وفي القلق والاضطراب والحيرة.
وليس من أسباب الخصومة والقلق والاضطراب والحيرة سوى تنافس الناس على ما في أيدي بعضهم بعضا، وهنا كان الطمع والجشع أمرا مكروها لذلك في كل رسالة إلهية. وكان البر والإحسان أمرا مطلوبا في كل رسالة إلهية.
إن رسالة الأزهر في تمكين السلام العالمي واستقرار النفوس البشرية وتوكيد الترابط الأخوي والإنساني ودفع شرور الالحاد وتحدي الإيمان بالله، وهو لذلك ضرورة في حياة مجموعة الشعوب العربية والإسلامية كضرورة الدين نفسه في حياة الإنسانية.(3/350)
قرارات لمؤتمر البحوث الإسلاميّة
في الدورة الثانية لمؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الذي عقد بالأزهر واستمر شهرا كاملا كانت هذه الدورة مقصورة على أعضاء المجمع في المؤتمر الذين عهد إليهم بدراسة صورة المجتمع الإسلامي. وانتهت الدراسات إلى حصر المشكلات التي تواجه المجتمع الإسلامي المعاصر تحت أربعة عناصر رئيسية هي: مقاومة العدو المشترك للإسلام والمسلمين.
وتجريد الإسلام مما علق به من الفضول والشوائب.
وتنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين على أساس إسلامي سليم العمل على توحيد كلمة المسلمين ومحو أسباب التقاطع بينهم وإزالة أسباب الخلافات المذهبية.
وقد اتخذ المؤتمر أربعة قرارات هامة تدور حول هذه العناصر، وهي:
أولا: يقرر المؤتمر أن الاستعمار سواء في البلاد التي لم تزل ترزح تحت نيره أو في البلاد التي جلا عنها مخلفا آثاره هو الخطر الأول الذي يجب على المسلمين أفرادا وجماعات ودولا أن يجاهدوه بالمقاومة الجادة
المستمرة حتى يتم تحرير المسلم قلبا وضميرا ووطنا ومعرفة، وأن كل تقصير في ذلك هو عصيان لله تعالى وإثم كبير لأنه يقوي يد العدو على إنزال الأذى بالمسلمين.(3/351)
أولا: يقرر المؤتمر أن الاستعمار سواء في البلاد التي لم تزل ترزح تحت نيره أو في البلاد التي جلا عنها مخلفا آثاره هو الخطر الأول الذي يجب على المسلمين أفرادا وجماعات ودولا أن يجاهدوه بالمقاومة الجادة
المستمرة حتى يتم تحرير المسلم قلبا وضميرا ووطنا ومعرفة، وأن كل تقصير في ذلك هو عصيان لله تعالى وإثم كبير لأنه يقوي يد العدو على إنزال الأذى بالمسلمين.
وإن الصهيونية التي يحاول الاستعمار بعد أن تحطمت أسبابه الظاهرة أن يغلف بها أهدافه تحت ستار جديد، هي داء استعماري خبيث يستهدف به الاستعمار أن يتمكن بآثاره في حياة المسلمين لاستمرار سيطرته عليهم، ومن ثم كانت مجاهدتها فرضا كذلك على كل مسلم حيثما كان وكل تخلف عن ذلك عصيان لله
ثانيا: يقرر المؤتمر أن الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان للأحكام الشرعية، وأن الاجتهاد لاستنباط الأحكام منهما حق لكل من استكمل شروط الاجتهاد المقررة، كما أن السبيل لمراعاة المصالح ومواجهة الحوادث المتجددة هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به فالاجتهاد الجماعي المذهبي، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق.
ثالثا: أن موضوع الزكاة والموارد المالية في الإسلام وطرق الاستثمار وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات وحقوق الملكية الخاصة والعامة، هي موضوعات الساعة لأنها ملتقى شعبتين من شعب الشريعة الإسلامية وهما العبادة والسلوك الاجتماعي.
ومن أجل ذلك يقرر المؤتمر أن تكون هذه الموضوعات محور نشاط المجمع في دورته المقبلة.
ويقرر المؤتمر، بعد الدراسة المستفيضة لموضوع الملكية، أن حق التملك والملكية الخاصة من الحقوق التي قررها الإسلام وكفل حمايتها
وأن من حق أولياء الأمر في كل شلدان يحدوا من حرية التملك بالقدر الذي يكفل درء المفاسد وتحقيق المصالح وأن أموال المظالم وسائر الأموال
المشبوهة يجب أن ترد إلى ذويها أو إلى الدولة بل أن المال الطيب، إذا احتاجت المصلحة العامة إلى شيء منه، أخذ من صاحبه نظير قيمته يوم أخذه وأن تقدير المصلحة من حق أولياء الأمور(3/352)
وأن من حق أولياء الأمر في كل شلدان يحدوا من حرية التملك بالقدر الذي يكفل درء المفاسد وتحقيق المصالح وأن أموال المظالم وسائر الأموال
المشبوهة يجب أن ترد إلى ذويها أو إلى الدولة بل أن المال الطيب، إذا احتاجت المصلحة العامة إلى شيء منه، أخذ من صاحبه نظير قيمته يوم أخذه وأن تقدير المصلحة من حق أولياء الأمور
رابعا: يقرر المؤتمر أن واقع المجتمع الإسلامي المعاصر يفرض على مجمع البحوث الإسلامية أن يلتمس الوسائل لتوثيق الصلة بين المسلمين في شتى بلادهم ليجمعهم كلمة ويوحدهم رئيسا وينظمهم للتعاون أفرادا وجماعات على ما فيه خيرهم وخير الإنسانية من غير إقليمية ولا مذهبية ولا تنازع.
كما يقرر أن استكمال المجمع لأجهزته اللازمة لنشر المبادىء الإسلامية وتجليتها أمر ضروري تجب المبادرة إليه لينهض المجتمع الإسلامي بمسئولياته التي يفرضها عليه واقعه.(3/353)
قصّة 61924 الأزهر الجامعي بعد عشرين عاما (1)
الأزهر القديم حافل بالذكريات المجيدة الخالدة المشهورة، التي فصل الحديث فيها المؤرخون والباحثون.
أما «أزهرنا» اليوم فلا حول ولا قوة إلا بالله، فليس فيه من الأزهر القديم شبه، وليس بينه وبينه صلة، وهو حائر الرأي، متبعثر الخطى، كأنما يريد أن ينقض إشفاقا على حملة تراثه، من جسامة المئولية، وفداحة التبعة، وهول الحساب وأما «أزهرنا» في الغد، فأتخيله منارة مشرقة، وجامعة تعود إلى فهم رسالتها، وإلى أدائها، وإلى الجهاد مرة أخرى من أجل الإسلام والمسلمين وتقدم النهضة الفكرية، ومن أجل ازدهار حركة الأحياء والتجديد والإصلاح الديني وسيكون الفضل في ذلك راجعا إلى يقظة الرأي العام في الأزهر بعد سبات، وإلى انتباه الشباب فيه بعد غفلة، وإلى حرص الأمة والمسئولين على إصلاح الأزهر وتجديد معالم النهضة الدينية والعلمية في أروقته ومحاربيه.
سيكون الأزهر بعد عشرين عاما جامعة هيكلا وروحا ورسالة، بعد أن كان في القديم جامعة بهيكله، وبعد أن كان في عصرنا الراهن جامعة اسما
__________
(1) ص 155قصص من التاريخ للمؤلف.(3/355)
فحسب وستؤدي هذه الجامعة الأمانة العلمية والدينية الملقاة على كاهلها على خير الوجوه وأجلها، وستعود حلقات الدرس في الأزهر إلى نشاطها العلمي من جديد، منقحة ومحققة ومجددة مبتدعة، وسيحفل الأزهر آنذاك بعديد الأعلام من بنيه، الذين سيكونون خير سند لنهضته الفكرية والروحية.
وستمتلىء نفوس الأزهريين بعد عشرين عاما بالعزة والكرامة، فلا تجد فيهم ضعيف الرأي، أو منافق اللسان، أو هداما يستر عيوبه بالحقد على الناس، أو أنانيا يسعى لنفسه ولو كان في ذلك الهلاك للجماعة
وستقوى صلة الأزهر بالأمة، فتنزله منها منزلة الرائد الأمين، ويحلها من نفسه مكانة عزيزة بالتوجيه والإيثار والنصح، والدعوة إلى المثل العليا الكريمة التي يدعو إليها الإسلام الكريم.
أما مناهج الأزهر وكتبه وكنوزه القديمة فسينالها ثورة العصر الجديد، فتعود كنوزنا العلمية إلى التأثير في العقل العربي الحديث تأثيرا قويا نافعا، وتصبح مناهج الأزهر وكتبه ونظمه محققة لرسالته الجامعية الصحيحة
وسيكون منصب «شيخ الأزهر» بالانتخاب من حملة الدكتوراه أو ما يعادلها من الأزهر، وسيعود لمنصب المشيخة سالف مجده وعظمته وهيمنته الروحية الكبيرة على العالم الإسلامي كافة، وستنال جماعة كبار العلماء ولجنة الإفتاء ومجلة الأزهر ومكتبته وأروقته ومعاهده وكلياته وبعوثه الإسلامية نصيبها من الإحياء والبعث والتجديد، وستسهم البعوث الإسلامية الأزهرية في ميادين النشاط الديني والعلمي بنصيب كبير، وستحمل مدرجات الأزهر أسماء الخالدين من أبنائه ويطلق على الكراسي العلمية المنشأة في كلياته كذلك أسماء الأعلام من علمائه وسنرى مدينة الأزهر الجامعية، واتحاد الأزهر الجامعي، وحفلات الذكرى الألفية لإنشاء الأزهر، واللغات الحية التي تدرس في جميع أقسامه وفروعه، وقلوبنا يملؤها البشر والفخر والإعجاب.(3/356)
وسوف تقيم كليات الأزهر مواسم علمية وأدبية ضخمة، وسيعلن آنذاك عن رحلات لطلبة كليات الأزهر في البلاد العربية والإسلامية خلال إجازة نصف السنة وفي الإجازة الصيفية.
وسيكون في كلية اللغة العربية عدة كراسي علمية، للنقد الأدبي ومذاهب الأدب وأصول النحو والبلاغة واللغات السامية واللهجات القديمة والحديثة وسيتبعها معهد للصحافة، وتنطق باسمها مجلة علمية ضخمة، وسيعلن عن مناقشة رسالة للدكتوراه فيها آنذاك، عنوانها: «مذهب أدبي جديد» يبشر صاحبها فيها بالمثالية الأدبية. وفي كلية أصول الدين ستنشأ كراسي أخرى للفلسفة والتصوف الإسلامي وعلم الأخلاق الديني وعلم الاجتماع ومناهج الوعظ، وسواها. وسيعلن آنذاك عن مناقشة رسالة للدكتوراه. فيها موضوعها «فلسفة الشك بين ابن عربي وديكارت»، وعن مناقشة رسالة ثانية موضوعها «علم الاجتماع بين أرسطو والفارابي وابن خلدون وغوستاف لوبون» وسيعكف أحد طلبة الدكتوراة فيها آنذاك على كتابة رسالة عن «الذرة عند فلاسفة الإسلام» وفي كلية الشريعة ستنشأ كذلك كراسي علمية جديدة لأصول الاجتهاد والقانون «المقارن» والشريعة الإسلامية ومذاهب المجتهدين وسواها، وسيعلن عن قيام طلبة الدكتوراة في الكلية بنشر مجموعات القوانين الجنائية والمدنية والاقتصادية والقانون الدولي في الشريعة الإسلامية، وستناقش رسالة للدكتوراه عنوانها أصول مذهبي الأوزاعي والليث بن سعد وستتبادل الجامعات في الشرق والغرب رسائل الأزهر العلمية.
ومن أهم حركات التجديد في الأزهر توطيد النظام الجامعي ورفع مستوى الكادر الجامعي في كلياته وتبادل الأساتذة بين الأزهر وشتى جامعات العالم، وستقوم الدول الإسلامية بعبء الأموال اللازمة للبعوث الإسلامية الأزهرية، وسيتولى الأزهر الإشراف على المساجد والمعاهد الكبرى في
العالم الإسلامي، وستعلن جامعة «هارفرد» عن قدوم أستاذ أزهري زائر فيها لتدريس «أصول التشريع الإسلامي وأثرها في نشأة علم الاجتماع وفي الحضارة العالمية».(3/357)
ومن أهم حركات التجديد في الأزهر توطيد النظام الجامعي ورفع مستوى الكادر الجامعي في كلياته وتبادل الأساتذة بين الأزهر وشتى جامعات العالم، وستقوم الدول الإسلامية بعبء الأموال اللازمة للبعوث الإسلامية الأزهرية، وسيتولى الأزهر الإشراف على المساجد والمعاهد الكبرى في
العالم الإسلامي، وستعلن جامعة «هارفرد» عن قدوم أستاذ أزهري زائر فيها لتدريس «أصول التشريع الإسلامي وأثرها في نشأة علم الاجتماع وفي الحضارة العالمية».
ويومذاك سيكون للأزهر معاهد علمية ثقافية في الخرطوم وإشبيلية والقدس وكراتشي وبغداد ولندن وبرلين وباريس ونيويورك، وسترسل ثلاثون بعثة علمية لشتى جامعات الغرب وستستعين جامعة إيران وجامعة موسكو وبرلين ولندن والسوربون وجامعات الهند والصين وباكستان وسواها بأساتذة من الأزهر. ومن أهم ما سنراه في الأزهر بعد عشرين عاما تبادل الطلاب بين كلية اللغة وكليات الآداب في مصر والغرب، وبين كليات الشريعة وكليات الحقوق، وبين كلية أصول الدين وكليات الفلسفة في العرب، وكذلك اعتراف الجامعات في العالم بشهادات الأزهر العلمية، وسيدرس الطب العربي القديم في الأزهر، وسيباح لخريجي كلية أصول الدين فتح «عيادات» نفسية للطب النفسي العلاجي. وسيكون لخريجي الأزهر دخول الكلية الحربية عاما واحدا يمنحون بعده رتبة عسكرية ويعملون في الجيش في شتى وحداته، وسيكون القائد العام للجيش المصري آنذاك أزهري التعليم، وسينشىء الأزهر كلية الجامعية للفتاة المصرية وستنال المعاهد الابتدائية حظها من الرعاية والتجديد والإصلاح، ويباح تبادل الطلاب بين الأزهر والمدارس الابتدائية والثانوية، وسيوحد الزي بين الأزهر والجامعات المصرية.
ويومئذ سيكون الأزهر الصرح الإسلامي الأكبر في البلاد الإسلامية.(3/358)
61925 - الأزهر حصن العربية
يعني الأزهر فيما (1) يعني المعقل الذي حفظ الثقافة العربية ألف سنة ونيفا، يسهر عليها ويزيد فيها وينفق منها على طلاب المعرفة في الشرق والغرب، على حين دمر الجهل والكفر حصونها في بغداد والأندلس.
ويعني الأزهر فيما يعني، الحصن الذي اعتصمت به اللغة العربية من عدوان الشعوبية والعامية والتركية حين استعجم اللسان واستترك السلطان وفشت الجهالة، وضعفت الخلافة وعز الناصر وذل الأهل.
ويعني الأزهر فيما يعني القبلة الثانية التي يوجه المسلمون في جميع أقطار الأرض قلوبهم إليها يتلمسون على هداها الطريق إلى الحق والسبيل إلى الله.
ويعني الأزهر فيما يعني الملاذ للشعب المظلوم كلما عسفه الطغيان وبغي عليه الحكم فيأوي منه إلى ركن شديد وحام قادر.
ويعني الأزهر فيما يعني الجامعة العالمية التي يؤمها الطلاب من كل أرض ومن كل جنس ومن كل لون ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
__________
(1) محلة الأزهر عدد رمضان 1380هـ احمد حسن الزيات.(3/359)
رجعوا إليهم، لا يبغون من وراء ذلك مالا ولا جاها ولا شهرة.
ويعني الأزهر فيما يعني الخانقاة التي آوت العباد والزهاد والوعاظ وحفظة القرآن وحملة البركة.
ويعني الأزهر فيما يعني القاعدة الروحية التي كان يخشاها المستعمرون فحاولوا سرا وعلنا أن يدمروها ليتقوها، فلما استيأسوا من تدميرها أو إضعاف تأثيرها سالموها ونافقوها. ثم جهدوا أن يستميلوها ليستغلوها.
ويعني الأزهر فيما يعني، الصرح الوطني الذي أجج الثورات على الفساد، وخرّج القيادات للجهاد، وقام من نهضة العرب الحديثة مقام الرأس واليد، يمدها بالروح ويرفدها بالقوة. ثار على الغزو الفرنسي بقيادة ستة من علمائه، وثار على الطغيان التركي بقيادة شيخه عبد الله الشرقاوي، وثار على الظلم الخديو بقيادة ابنه أحمد عرابي، وثار على الاحتلال البريطاني بقيادة ابنه سعد زغلول.
كل أولئك يعنيه لفظ الأزهر، وأكثر من أولئك يلازم معنى الأزهر، ولكني بسبيل الحديث عن نصيب اللغة العربية من فضل الأزهر فلا أخوض في حديث غيره.
إن فضل الأزهر على اللغة العربية مستمد من فضل القرآن الكريم عليها وبعض فضله أنه كسبها عذوبة في اللفظ ورقة في التركيب ودقة في الأداء وقوة في المنطق وثروة في المعانى. وكان سببا في استحداث العلوم الشرعية والأدبية التي حفظت مادتها بالقواعد وفي المعجمات، ووسعت دائرتها بالألفاظ والمصطلحات، كالنحو والصرف والاشتقاق لدفع اللحن عنه، والمعاني والبيان والبديع لتقرير الإعجاز فيه، وعلى اللغة والأدب لتفسير غريبه وتوضيح مشكله، والحديث والأصول والفقه والتفسير لاستنباط أحكام الشرع منه، وهو الذي وحدها على كل لسان، ونشرها معه في كل
مكان. وحفظها أربعة عشر قرنا إلا قليلا لا تفسد ولا تجمد ولا تتغير مصداقا لقول الله تعالى: {«إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ»} وحفظ القرآن يستلزم حفظ لغته، والناظر في تاريخ الأديان السماوية والأرضية لا يجد دينا حملته لغته التي أنزل بها أو كتب فيها إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب في مدى 1380سنة ثم بقيت محافظة على قوتها وجدتها ووحدتها وطبيعتها إلا دين الإسلام ولغة العرب، أما سائر الأديان فلا تقرأ كتبها الأصلية إلا في لغة البلد الذي ظهرت فيه. فإذا نقلت إلى بلد آخر عن طريق الدعوة قرئت مترجمة إلى لغته، واختص بمعرفة الأصل طائفة قليلة من رجال ذلك الدين، فمدونة الأسفار البوذية المسماة بالسلات الثلاث لا يقرأها أتباع هذه الملة في الصين واليابان إلا منقولة إلى الصينية واليابانية، والتوراة والإنجيل وهما كتابان منزلان لا يقرآن في العالم المسيحي إلا في لغة كل قطر من أقطاره، لذلك ظل تأثيرهما في الآداب الأخرى ضئيلا حتى ترجما إلى اللاتينية والتوتونية القديمة فظهر أثرهما قويا في الآداب الأوروبية.(3/360)
إن فضل الأزهر على اللغة العربية مستمد من فضل القرآن الكريم عليها وبعض فضله أنه كسبها عذوبة في اللفظ ورقة في التركيب ودقة في الأداء وقوة في المنطق وثروة في المعانى. وكان سببا في استحداث العلوم الشرعية والأدبية التي حفظت مادتها بالقواعد وفي المعجمات، ووسعت دائرتها بالألفاظ والمصطلحات، كالنحو والصرف والاشتقاق لدفع اللحن عنه، والمعاني والبيان والبديع لتقرير الإعجاز فيه، وعلى اللغة والأدب لتفسير غريبه وتوضيح مشكله، والحديث والأصول والفقه والتفسير لاستنباط أحكام الشرع منه، وهو الذي وحدها على كل لسان، ونشرها معه في كل
مكان. وحفظها أربعة عشر قرنا إلا قليلا لا تفسد ولا تجمد ولا تتغير مصداقا لقول الله تعالى: {«إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ»} وحفظ القرآن يستلزم حفظ لغته، والناظر في تاريخ الأديان السماوية والأرضية لا يجد دينا حملته لغته التي أنزل بها أو كتب فيها إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب في مدى 1380سنة ثم بقيت محافظة على قوتها وجدتها ووحدتها وطبيعتها إلا دين الإسلام ولغة العرب، أما سائر الأديان فلا تقرأ كتبها الأصلية إلا في لغة البلد الذي ظهرت فيه. فإذا نقلت إلى بلد آخر عن طريق الدعوة قرئت مترجمة إلى لغته، واختص بمعرفة الأصل طائفة قليلة من رجال ذلك الدين، فمدونة الأسفار البوذية المسماة بالسلات الثلاث لا يقرأها أتباع هذه الملة في الصين واليابان إلا منقولة إلى الصينية واليابانية، والتوراة والإنجيل وهما كتابان منزلان لا يقرآن في العالم المسيحي إلا في لغة كل قطر من أقطاره، لذلك ظل تأثيرهما في الآداب الأخرى ضئيلا حتى ترجما إلى اللاتينية والتوتونية القديمة فظهر أثرهما قويا في الآداب الأوروبية.
وليس كذلك الحال في القرآن، فإن المسلمين اعتقدوا بحق أن لغته جزء من حقيقة الإسلام، لأنها كانت ترجمانا لوحي الله ولغة لكتابه ومعجزة لرسوله ولسانا لدعوته، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشاره وخلدها القرآن بخلوده. فالقرآن لا يسمى قرآنا إلا فيها، والصلاة لا تكون صلاة إلا بها، لذلك سارعوا إلى تعلمها والتكلم بها والتأليف فيها والتعصب لها والدفاع عنها والدعوة إليها حتى حلت محل الفارسية في العراق والرومية في الشام والقبطية في مصر والبربرية في المغرب، وأصبحت في عصر بني العباس وهو عصرها الذهبي لغة الدين والأدب والعلم والسياسة والإدارة والحضارة في أكثر الدنيا القديمة، وأصبح المسلم على اختلاف جنسه ينتقل من قطر إلى قطر في عالمه الإسلامي كما ينتقل من بلد إلى بلد في وطنه الأصلي، لا يجد مشقة في التفاهم، ولا صعوبة في التعامل، ولا شدة في المعيشة ثم شغل المسلمون عربهم وعجمهم بالقرآن وفرغوا له، فكان
دعاءهم في المسجد، ونظامهم في البيت، ومنهاجهم في العمل، ودستورهم في الحكومة، فسري هدية منهم مسرى الروح، وجري وحية فيهم مجرى الطبع، وأثر في ألسنتهم وأفئدتهم وأنظمتهم تأثيرا لم يؤثره كتاب سماوي آخر في أهله ومن هنا كانت ثقافة الإسلام قائمة على ركنين أساسيين هما الدين بعلومه المختلفة واللغة بفنونها المعروفة، وهذان الركنان يشد احدهما الآخر ويمسكه، فالإسلام بغير العربية ينبهم ويضمحل، والعربية من غير الإسلام تنكمش وتزول، واللغات السامية مدينة ببقائها للدين، فلولا اليهودية ما بقيت العبرية، ولولا المسيحية ما بقيت السريانية، ولولا الإسلام ما بقيت العربية، ولكن الفرق بين بقاء العربية وبقاء العبرية والسريانية هو الفرق بين الروح والذماء أو بين العين والأثر. والأزهر وهو وارث النبوة وحامي العقيدة وناشر الدعوة لا يمكن أن تقوم رسالته إلا على هذين الركنين، وقد أداها بتأييد الله وتوفيقه تأدية أحلته من العالم الإسلامي كله محل الزعامة.(3/361)
وليس كذلك الحال في القرآن، فإن المسلمين اعتقدوا بحق أن لغته جزء من حقيقة الإسلام، لأنها كانت ترجمانا لوحي الله ولغة لكتابه ومعجزة لرسوله ولسانا لدعوته، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشاره وخلدها القرآن بخلوده. فالقرآن لا يسمى قرآنا إلا فيها، والصلاة لا تكون صلاة إلا بها، لذلك سارعوا إلى تعلمها والتكلم بها والتأليف فيها والتعصب لها والدفاع عنها والدعوة إليها حتى حلت محل الفارسية في العراق والرومية في الشام والقبطية في مصر والبربرية في المغرب، وأصبحت في عصر بني العباس وهو عصرها الذهبي لغة الدين والأدب والعلم والسياسة والإدارة والحضارة في أكثر الدنيا القديمة، وأصبح المسلم على اختلاف جنسه ينتقل من قطر إلى قطر في عالمه الإسلامي كما ينتقل من بلد إلى بلد في وطنه الأصلي، لا يجد مشقة في التفاهم، ولا صعوبة في التعامل، ولا شدة في المعيشة ثم شغل المسلمون عربهم وعجمهم بالقرآن وفرغوا له، فكان
دعاءهم في المسجد، ونظامهم في البيت، ومنهاجهم في العمل، ودستورهم في الحكومة، فسري هدية منهم مسرى الروح، وجري وحية فيهم مجرى الطبع، وأثر في ألسنتهم وأفئدتهم وأنظمتهم تأثيرا لم يؤثره كتاب سماوي آخر في أهله ومن هنا كانت ثقافة الإسلام قائمة على ركنين أساسيين هما الدين بعلومه المختلفة واللغة بفنونها المعروفة، وهذان الركنان يشد احدهما الآخر ويمسكه، فالإسلام بغير العربية ينبهم ويضمحل، والعربية من غير الإسلام تنكمش وتزول، واللغات السامية مدينة ببقائها للدين، فلولا اليهودية ما بقيت العبرية، ولولا المسيحية ما بقيت السريانية، ولولا الإسلام ما بقيت العربية، ولكن الفرق بين بقاء العربية وبقاء العبرية والسريانية هو الفرق بين الروح والذماء أو بين العين والأثر. والأزهر وهو وارث النبوة وحامي العقيدة وناشر الدعوة لا يمكن أن تقوم رسالته إلا على هذين الركنين، وقد أداها بتأييد الله وتوفيقه تأدية أحلته من العالم الإسلامي كله محل الزعامة.
على أن فضله على علوم القرآن وعلوم اللسان قد يشاركه فيه بالكثير أو بالقليل طائفة من المدارس والجوامع أنشأها السلاطين في القاهرة ودمشق وحلب وبغداد والنجف وقرطبة والقيروان والزيتونة، كالناصرية والقمحية والصلاحية والمؤيدية والمنصورية والشيخونية والظاهرية والكاملية والنظامية ولكن هذه المدارس التي عفى على أكثرها الزمن لم تستطع في حياتها منفردة أو مجتمعة أن ت (اول الأزهر فضله الخالد على اللغة العربية في بقائها لسانا للعلم ورباطا للمسلمين إلى اليوم.
تحيفت الخطوب السود لغة القرآن في محنتين أشفت فيهما على الموت لولا أن تداركها الله بفضله: محنة الغزو المغولي في منتصف القرن السابع حين انتكث فتل العباسيين في العراق بتنافس الفرس والترك، وتحارب الشيعة والسنة، وذهاب جلال الخلافة من النفوس، فقوص هولاكو عرشها سنة 656هـ، وتضعضع أمر الأمويين في الأندلس بتغلب
البربر والموالي على ملكهم وتقسيمه بينهم إلى دويلات سهل على الفرنج ازدرادها قطعة قطعة حتى ابتلعوها لقمة سائغة سنة 898هـ ودالت دولة الفاطميين في مصر والشام فوقعتا في أيدي الأيوبيين، ثم صارتا إلى المماليك وظلتا تحت سلطانهم حتى دخلتا في حكم الأتراك العثمانيين سنة 923هـ، فأتى على العرب ستون وخمسمائة عام لم يكن لهم فيها سلطان ولا ملك، فأصبحت ديارهم وآثارهم نهبا مقسما بين المغول والترك والفرس والجركس ثم الأسبان بعد قليل، وكان أكثر هؤلاء الأعجام وحشيين أميين فخربوا الدور وهتكوا الخدور وفجعوا اللغة وآدابها وعلومها بتحريق المكاتب وتعطيل المدارس وتقويض المراصد وتقتيل العلماء. ناهيكم بما فعله التتار في بخاري وبغداد، والصليبيون بالشام، والإفرنج بالأندلس، فلو أن الزمان عفى على اللغة العربية وألحقها بأخواتها السامية لما كان ذلك خارقا لطبيعة الأشياء ولا بدعا في منطق التاريخ، ولكنها بقيت على الرغم من هذه الخطوب لسانا للدين والعلم، ولغة للحكومة والأمة في بلاد المغرب ومصر والشام وبلاد العرب والجزيرة، ولولا نعرة الترك وعصبية الفرس لكانت لغة المسلمين كافة. والفضل في بقائها بعد إدبار الزمان والسلطان عن أبنائها، إنما كان لهذا الأزهر الجليل الذي اختصه الله بمزايا تميز بها على غيره، منها صبغته العربية الخالصة بحكم نشأته وبيئته، وموقعه الوسط بين الشرقين الأدنى والأوسط، فكان ملتقى المسلمين من هنا ومن هناك، ومنها قربه من الحجاز فكان طريق الحجاج والرحالين من علماء إفريقية والأندلس. ومنها تخريجه طائفة كبيرة من أعلام الفقه وأعيان الأدب جمعوا شتات اللغة والعلوم والآداب في أسفار أشبه بدوائر المعارف، ومنها مكانته التي بلغت من قلوب المسلمين والحاكمين مبلغ القداسة وكان لها أثر بالغ في حل بعض المشكلات السياسية والاجتماعية، ومنها كفايته الأساتذة والطلاب مؤونة العيش بأن كفل لهم الغذاء والكساء والمأوى والكتاب، ومنها إيواؤه الناجين بحياتهم ودينهم وعلمهم وأدبهم وكتبهم من غارة المغول حين
اكتسحوا خراسان والفرس والعراق، فكان من مهاجرة هؤلاء العلماء من الشرق والغرب إلى القاهرة من البحث والابتكار ما كان لمهاجرة علماء المسيحية من القسطنطينية إلى روما من البعث والازدهار. ومنها مناصرة الأيوبيين له بالمال والتعضيد لأنهم وإن كانوا أكرادا قد تكلموا بلغة العرب وتأدبوا بأدب العرب ونبغ من بينهم الشاعر والعالم والمؤرخ، كالملك المؤيد عماد الدين أبي الفداء، والملك الأفضل علي بن صلاح الدين، وكان هذا الملك ضعيف الرأي كثير الغفلة فغلبه عمه العادل أبو بكر وأخوه العزيز عثمان على ملك الشام ومصر، فكتب إلى الخليفة الناصر العباسي كتابا يشكو إليه فيه ذلك وقد بدأه ببيتين من الشعر أجاد في نظمهما كل الإجادة وهما:(3/362)
تحيفت الخطوب السود لغة القرآن في محنتين أشفت فيهما على الموت لولا أن تداركها الله بفضله: محنة الغزو المغولي في منتصف القرن السابع حين انتكث فتل العباسيين في العراق بتنافس الفرس والترك، وتحارب الشيعة والسنة، وذهاب جلال الخلافة من النفوس، فقوص هولاكو عرشها سنة 656هـ، وتضعضع أمر الأمويين في الأندلس بتغلب
البربر والموالي على ملكهم وتقسيمه بينهم إلى دويلات سهل على الفرنج ازدرادها قطعة قطعة حتى ابتلعوها لقمة سائغة سنة 898هـ ودالت دولة الفاطميين في مصر والشام فوقعتا في أيدي الأيوبيين، ثم صارتا إلى المماليك وظلتا تحت سلطانهم حتى دخلتا في حكم الأتراك العثمانيين سنة 923هـ، فأتى على العرب ستون وخمسمائة عام لم يكن لهم فيها سلطان ولا ملك، فأصبحت ديارهم وآثارهم نهبا مقسما بين المغول والترك والفرس والجركس ثم الأسبان بعد قليل، وكان أكثر هؤلاء الأعجام وحشيين أميين فخربوا الدور وهتكوا الخدور وفجعوا اللغة وآدابها وعلومها بتحريق المكاتب وتعطيل المدارس وتقويض المراصد وتقتيل العلماء. ناهيكم بما فعله التتار في بخاري وبغداد، والصليبيون بالشام، والإفرنج بالأندلس، فلو أن الزمان عفى على اللغة العربية وألحقها بأخواتها السامية لما كان ذلك خارقا لطبيعة الأشياء ولا بدعا في منطق التاريخ، ولكنها بقيت على الرغم من هذه الخطوب لسانا للدين والعلم، ولغة للحكومة والأمة في بلاد المغرب ومصر والشام وبلاد العرب والجزيرة، ولولا نعرة الترك وعصبية الفرس لكانت لغة المسلمين كافة. والفضل في بقائها بعد إدبار الزمان والسلطان عن أبنائها، إنما كان لهذا الأزهر الجليل الذي اختصه الله بمزايا تميز بها على غيره، منها صبغته العربية الخالصة بحكم نشأته وبيئته، وموقعه الوسط بين الشرقين الأدنى والأوسط، فكان ملتقى المسلمين من هنا ومن هناك، ومنها قربه من الحجاز فكان طريق الحجاج والرحالين من علماء إفريقية والأندلس. ومنها تخريجه طائفة كبيرة من أعلام الفقه وأعيان الأدب جمعوا شتات اللغة والعلوم والآداب في أسفار أشبه بدوائر المعارف، ومنها مكانته التي بلغت من قلوب المسلمين والحاكمين مبلغ القداسة وكان لها أثر بالغ في حل بعض المشكلات السياسية والاجتماعية، ومنها كفايته الأساتذة والطلاب مؤونة العيش بأن كفل لهم الغذاء والكساء والمأوى والكتاب، ومنها إيواؤه الناجين بحياتهم ودينهم وعلمهم وأدبهم وكتبهم من غارة المغول حين
اكتسحوا خراسان والفرس والعراق، فكان من مهاجرة هؤلاء العلماء من الشرق والغرب إلى القاهرة من البحث والابتكار ما كان لمهاجرة علماء المسيحية من القسطنطينية إلى روما من البعث والازدهار. ومنها مناصرة الأيوبيين له بالمال والتعضيد لأنهم وإن كانوا أكرادا قد تكلموا بلغة العرب وتأدبوا بأدب العرب ونبغ من بينهم الشاعر والعالم والمؤرخ، كالملك المؤيد عماد الدين أبي الفداء، والملك الأفضل علي بن صلاح الدين، وكان هذا الملك ضعيف الرأي كثير الغفلة فغلبه عمه العادل أبو بكر وأخوه العزيز عثمان على ملك الشام ومصر، فكتب إلى الخليفة الناصر العباسي كتابا يشكو إليه فيه ذلك وقد بدأه ببيتين من الشعر أجاد في نظمهما كل الإجادة وهما:(3/363)
تحيفت الخطوب السود لغة القرآن في محنتين أشفت فيهما على الموت لولا أن تداركها الله بفضله: محنة الغزو المغولي في منتصف القرن السابع حين انتكث فتل العباسيين في العراق بتنافس الفرس والترك، وتحارب الشيعة والسنة، وذهاب جلال الخلافة من النفوس، فقوص هولاكو عرشها سنة 656هـ، وتضعضع أمر الأمويين في الأندلس بتغلب
البربر والموالي على ملكهم وتقسيمه بينهم إلى دويلات سهل على الفرنج ازدرادها قطعة قطعة حتى ابتلعوها لقمة سائغة سنة 898هـ ودالت دولة الفاطميين في مصر والشام فوقعتا في أيدي الأيوبيين، ثم صارتا إلى المماليك وظلتا تحت سلطانهم حتى دخلتا في حكم الأتراك العثمانيين سنة 923هـ، فأتى على العرب ستون وخمسمائة عام لم يكن لهم فيها سلطان ولا ملك، فأصبحت ديارهم وآثارهم نهبا مقسما بين المغول والترك والفرس والجركس ثم الأسبان بعد قليل، وكان أكثر هؤلاء الأعجام وحشيين أميين فخربوا الدور وهتكوا الخدور وفجعوا اللغة وآدابها وعلومها بتحريق المكاتب وتعطيل المدارس وتقويض المراصد وتقتيل العلماء. ناهيكم بما فعله التتار في بخاري وبغداد، والصليبيون بالشام، والإفرنج بالأندلس، فلو أن الزمان عفى على اللغة العربية وألحقها بأخواتها السامية لما كان ذلك خارقا لطبيعة الأشياء ولا بدعا في منطق التاريخ، ولكنها بقيت على الرغم من هذه الخطوب لسانا للدين والعلم، ولغة للحكومة والأمة في بلاد المغرب ومصر والشام وبلاد العرب والجزيرة، ولولا نعرة الترك وعصبية الفرس لكانت لغة المسلمين كافة. والفضل في بقائها بعد إدبار الزمان والسلطان عن أبنائها، إنما كان لهذا الأزهر الجليل الذي اختصه الله بمزايا تميز بها على غيره، منها صبغته العربية الخالصة بحكم نشأته وبيئته، وموقعه الوسط بين الشرقين الأدنى والأوسط، فكان ملتقى المسلمين من هنا ومن هناك، ومنها قربه من الحجاز فكان طريق الحجاج والرحالين من علماء إفريقية والأندلس. ومنها تخريجه طائفة كبيرة من أعلام الفقه وأعيان الأدب جمعوا شتات اللغة والعلوم والآداب في أسفار أشبه بدوائر المعارف، ومنها مكانته التي بلغت من قلوب المسلمين والحاكمين مبلغ القداسة وكان لها أثر بالغ في حل بعض المشكلات السياسية والاجتماعية، ومنها كفايته الأساتذة والطلاب مؤونة العيش بأن كفل لهم الغذاء والكساء والمأوى والكتاب، ومنها إيواؤه الناجين بحياتهم ودينهم وعلمهم وأدبهم وكتبهم من غارة المغول حين
اكتسحوا خراسان والفرس والعراق، فكان من مهاجرة هؤلاء العلماء من الشرق والغرب إلى القاهرة من البحث والابتكار ما كان لمهاجرة علماء المسيحية من القسطنطينية إلى روما من البعث والازدهار. ومنها مناصرة الأيوبيين له بالمال والتعضيد لأنهم وإن كانوا أكرادا قد تكلموا بلغة العرب وتأدبوا بأدب العرب ونبغ من بينهم الشاعر والعالم والمؤرخ، كالملك المؤيد عماد الدين أبي الفداء، والملك الأفضل علي بن صلاح الدين، وكان هذا الملك ضعيف الرأي كثير الغفلة فغلبه عمه العادل أبو بكر وأخوه العزيز عثمان على ملك الشام ومصر، فكتب إلى الخليفة الناصر العباسي كتابا يشكو إليه فيه ذلك وقد بدأه ببيتين من الشعر أجاد في نظمهما كل الإجادة وهما:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد أخذا بالسيف حق على
فانظر إلى حرف هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول
يريد بأبي بكر عمه، وبعثمان أخاه، وبعلي نفسه، فأجابه الخليفة الناصر بقوله:
وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالصدق يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا عليا حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر
فاصبر فإن غدا عليه حسابهم ... وأبشر فناصرك الإمام الناصر
والجزالة ظاهرة في شعر الملك الكردي ظهور الركاكة في شعر الخليفة العربي!.
كذلك أقول في المماليك فقد أيدوه وأمدوه لأنهم اتخذوا مصر وطنا، والإسلام دينا، والعربية لغة، وكان من بينهم شعراء عالجوا القريض وأجادوه كالسلطان الغوري، هؤلاء المماليك قد عضدوا العلماء وقربوا الأدباء، وشدوا أزر المعلمين والمؤلفين، حتى خرّج الأزهر في ظلمهم أولئك الأئمة الذين استودع الله صدورهم ذخائر العلم والحكمة فأودعوها
الكتب، وأخرجوها للناس: كجمال الدين بن منظور، وجمال الدين بن هشام، وشمس الدين النويري، وابن فضل الله العمري، وشمس الدين الذهبي، والحافظ بن حجر العسقلاني، وأبي العباس القلقشندي، وتقي الدين المقريزي، وبدر الدين العيني، وسراج الدين البلقيني، وبدر الدين الدماميني وشمس الدين السخاوي، وكمال الدين الدميري، وجلال الدين السيوطي، وتقي الدين الدميري، وجلال الدين السيوطي، وتقي الدين القشيري المعروف بابن دقيق العيد.(3/364)
كذلك أقول في المماليك فقد أيدوه وأمدوه لأنهم اتخذوا مصر وطنا، والإسلام دينا، والعربية لغة، وكان من بينهم شعراء عالجوا القريض وأجادوه كالسلطان الغوري، هؤلاء المماليك قد عضدوا العلماء وقربوا الأدباء، وشدوا أزر المعلمين والمؤلفين، حتى خرّج الأزهر في ظلمهم أولئك الأئمة الذين استودع الله صدورهم ذخائر العلم والحكمة فأودعوها
الكتب، وأخرجوها للناس: كجمال الدين بن منظور، وجمال الدين بن هشام، وشمس الدين النويري، وابن فضل الله العمري، وشمس الدين الذهبي، والحافظ بن حجر العسقلاني، وأبي العباس القلقشندي، وتقي الدين المقريزي، وبدر الدين العيني، وسراج الدين البلقيني، وبدر الدين الدماميني وشمس الدين السخاوي، وكمال الدين الدميري، وجلال الدين السيوطي، وتقي الدين الدميري، وجلال الدين السيوطي، وتقي الدين القشيري المعروف بابن دقيق العيد.
لهذه المزايا انتهت إلى الأزهر في القرون الثلاثة السابع والثامن والتاسع زعامة الثقافة في جميع البلاد العربية والإسلامية، فحفظ وجود اللغة، ورفع سقوط الأدب، وجمع شمل العلم، ولولاه لا انقطع ما بين الأدبين القديم والحديث.
أما المحنة الأخرى التي امتحنت بها العربية وكان للأزهر الفضل في وقايتها وسلامتها فهي محنة الغزو التركي في أوائل القرن العاشر حين استولى السلطان سليم على مصر والشام سنة 923هـ فأصبحت الخلافة عثمانية لا عباسية، وعاصمة الإسلام القسطنطينية لا القاهرة، واللغة الرسمية التركية لا العربية، ومكث الغازي سليم في مصر بعد الغزو ثمانية أشهر سلبها فيها أنفس أعلاقها من الكتب والتحف والآثار لنوابغ الفنانين والمؤلفين الذين تخرجوا في الأزهر وأنتجوا في مصر مدى القرون الثلاثة التي سبقت الغزو العثماني، وأخذ الغزاة يغلبون لغتهم على اللغة العربية في الدواوين، ويطاردونها في المدارس، حتى كانوا يعلمون قواعد اللغة العربية باللغة التركية في الشام والعراق! ففشا في اللغة العامي والدخيل، وذهبت أساليبها من النظم والنثر، وخيم الظلم والظلام على النفوس فخمدت القرائع، وضعفت رغبة الحكام في العلم، وانقطعت أسباب الطلب له، واستطاع الترك أن يترّكوا كل شيء في مصر من سياسة وإدارة وتعليم وجيش إلا الأزهر، فقد راعهم ما أحسوا من جلاله وما سمعوا عن مجده، فوقفوا على
أبوابه خاشعين يلتمسون منه العون على ما ينجم من أحداث، والرأي فيما يشكل من الأمور.(3/365)
أما المحنة الأخرى التي امتحنت بها العربية وكان للأزهر الفضل في وقايتها وسلامتها فهي محنة الغزو التركي في أوائل القرن العاشر حين استولى السلطان سليم على مصر والشام سنة 923هـ فأصبحت الخلافة عثمانية لا عباسية، وعاصمة الإسلام القسطنطينية لا القاهرة، واللغة الرسمية التركية لا العربية، ومكث الغازي سليم في مصر بعد الغزو ثمانية أشهر سلبها فيها أنفس أعلاقها من الكتب والتحف والآثار لنوابغ الفنانين والمؤلفين الذين تخرجوا في الأزهر وأنتجوا في مصر مدى القرون الثلاثة التي سبقت الغزو العثماني، وأخذ الغزاة يغلبون لغتهم على اللغة العربية في الدواوين، ويطاردونها في المدارس، حتى كانوا يعلمون قواعد اللغة العربية باللغة التركية في الشام والعراق! ففشا في اللغة العامي والدخيل، وذهبت أساليبها من النظم والنثر، وخيم الظلم والظلام على النفوس فخمدت القرائع، وضعفت رغبة الحكام في العلم، وانقطعت أسباب الطلب له، واستطاع الترك أن يترّكوا كل شيء في مصر من سياسة وإدارة وتعليم وجيش إلا الأزهر، فقد راعهم ما أحسوا من جلاله وما سمعوا عن مجده، فوقفوا على
أبوابه خاشعين يلتمسون منه العون على ما ينجم من أحداث، والرأي فيما يشكل من الأمور.
والسلطان سليم نفسه قد زاره مرارا فصلى فيه وتبرك به. ومن قبل قد غزا الأزهر بلاد الأتراك بعلمه وأدبه وكتبه فعرب طائفة منهم تعلموا العربية وتكلموا بها وألفوا فيها كالفيروز أبادي وأبي السعود والفناري وملا خسرو والجامي والخيالي وخوجه زادة وملا مسكين وملا لطفي وحاجي خليفة وطاشكيري زاده وابن كمال باشا وكان سلاطين العثمانيين أنفسهم يدرسون العربي وآدابها كما كانوا يدرسون التركية وآدابها، ومنهم من قرض الشعر العربي ورواه كالسلطان أحمد الأول فقد رووا له قصيدة غزلية مطلعها.
ظبي يصول ولا وصول إليه ... جرح الفؤ بصارمي لحظيه
ولم تضعف عناية علماء الترك بالعربية إلا في عهد السلطان محمود الثاني وابنه السلطان عبد المجيد الأول حين أحييا اللغة التركية وقربا مواردها وبسطا قواعدها وسمياها اللغة العثمانية، فأنتم ترون أن اللغة العربية قد أتى عليها ستة قرون قضتها بين الاحتضار والموت، ثلاثة منها في العصر المغولي، وثلاثة أخرى في العصر العثماني، أمحت فيها من الهند وخراسان والعراق وبلاد الروم والأندلس، وبقيت في الأقطار العربية بقاء المريض أشرف على الموت ولم يبق منه إلا رمق ذلك الرمق هو الذي كفله الأزهر وتعهده فغذاه وقواه ورعاه، حتى إذا انجاب عن مصر قتام الحكم العثماني وأراد الله لشمس الحضارة أن تشرق مرة أخرى على وادي النيل زايل اللغة الوهن وسرت فيها الحياة، ففي الأزهر كان ملاذها وغياثها، وفي الأزهر كان بقاؤها وانبعاثها.
كان الأزهر بعد انتهاء تلك الغمرة باحتلال نابليون، وابتداء هذه النهضة باستقلال محمد علي، قائد الشعب في الكفاح ورائد الحكومة في الإصلاح، تمثلت قيادته في شيوخه الأجلاء خليل البكري، وعبد الله
الشرقاوي، ومحمد المهدي وسليمان الفيومي، وحسن العطار. وتجلت ريادته في طلابه النجباء الذين أرسلوا إلى أوروبا ليستفيدوا ويستزيدوا، كإبراهيم النبراوي، وأحمد حسن الرشيدي، ومحمد علي البقلي، ورفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وتلك يد أخرى لهذا المعهد الجليل على اللغة العربية، ساعدها على النهوض، كما حماها من قبل دون السقوط.(3/366)
كان الأزهر بعد انتهاء تلك الغمرة باحتلال نابليون، وابتداء هذه النهضة باستقلال محمد علي، قائد الشعب في الكفاح ورائد الحكومة في الإصلاح، تمثلت قيادته في شيوخه الأجلاء خليل البكري، وعبد الله
الشرقاوي، ومحمد المهدي وسليمان الفيومي، وحسن العطار. وتجلت ريادته في طلابه النجباء الذين أرسلوا إلى أوروبا ليستفيدوا ويستزيدوا، كإبراهيم النبراوي، وأحمد حسن الرشيدي، ومحمد علي البقلي، ورفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وتلك يد أخرى لهذا المعهد الجليل على اللغة العربية، ساعدها على النهوض، كما حماها من قبل دون السقوط.
هاتان هما المحنتان اللتان عانتهما العربية في عهدين متواليين، ثم جعل الله نجاتها منهما بفضل الأزهر حفظا لكتابه وصونا لدينه.
وهناك محنة ثالثة تجتازها اللغة اليوم وتوشك أن تبلبل اللسان وتعطل القرآن وتقطع الدين عن أصله، وتفصل العربي عن أهله، وتهبط بالأدب من جبل الوحي وهيكل عطارد حيث الترفع والسمو والنبل، إلى حضيض المادية حيث التسفل والتبذل والفحش.
تلك هي محنة الإباحية اللغوية التي تغلب العامية على الفصحى، وتؤثر أدب العامة على أدب الخاصة، وتفضل الموضوع المثير على الموضوع المنير، وتريد أن يكتب الكاتب وينظم الشاعر كما يشاء، لا يتقيد بقاعدة من نحو ولا قياس من صرف ولا نظام من بلاغة ولا وزن من عروض ولا مثال من خلق. ولهذه المحنة أو المشكلة أصلان: الاستعمار والجهل.
أما الاستعمار فلأنه رأى أن الرابطة بين المسلمين على اختلاف أقطارهم وتباعد ديارهم هي الدين واللغة، وما دامت أمة محمد روحا واحدا بالإسلام، ولسانا واحدا بالعربية، فإن استغلالها موقوت وإن طال، وإن استقلالها آت وإن تأخر، لذلك سعت فرنسا سعيها الدائب في الجزائر لفتنة البربر عن دينهم بإصدار الظهير المعروف، وقطع العرب عن لغتهم بطردها من المدارس والدواوين. ولكن دين الله كان أقوى من ظهير فرنسا، ولغة المصحف كانت أمضى من لغة السيف. واكتفت انجلترا على عادتها من الدهاء والكياسة بمحاربة الفصحى فدعت إلى العامية بلسان موظفيها
ومبشريها ومستشرقيها لأن اللغات العامية تختلف في البلاد العربية اختلافا شديدا يكاد يجعل من كل لهجة منها لغة مستقلة. وإذا انهزمت أمامها اللغة المشتركة وهي الفصحى استحال التفاهم وضعفت العقيدة وانقطعت الصلة وتفرقت الوحدة وتبددت القوة واستطاع المستعمر أن يلتقمها لقمة لقمة فلا يغص ولا يشجى. ولكن هذه الدعوة فشلت بضعف الاستعمار في الشرق، وقوة الوعي في العرب. وأما الجهل وهو الأصل الآخر لمحنة اللغة العربية فقد خلف الاستعمار في هذه الدعوة المجرمة، والمراد بالجهل جهل أبناء العربية بها، وعزوفهم عن علومها وأدبها، وهو جناية المدرسة المدنية الحديثة، فقد فشلت بعد طول الزمن وكثرة التجارب في تخريج القارىء الذي يقرأ بفهم، والكاتب الذي يكتب عن علم، والمفكر الذي يفكر عن أصالة، وليس أدل على هذا الفشل من أن الطالب يتعلم النحو عشر سنين دأبا ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يعبر عن فكره تعبيرا صحيحا لا بلسانه ولا بقلمه، فإذا دفعه استعداده الأدبي إلى الكتابة آثر العامية على الفصحى ودعا إلى التحلل من القواعد والقيود ليجعل الفوضى نظاما والخطأ مذهبا والعجز شركة. كانت علوم العربية تدرس في الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وفيما يجري على منهجه من معاهد لبنان وسورية والعراق والمغرب دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ وفقه ما يعلم وتعليل ما ينقد وتحليل ما يذوق. فإذا اتصل النظر بالعمل واقترن الحكم بالتطبيق وصادف ذلك استعدادا في المتعلم ظهر الكاتب الذي يكتب فيجيد، والشاعر الذي ينظم فيبدع، والناقد الذي يحكم فيصيب، أما إذا فتر الاجتهاد وضعف الاستعداد ظهر الأديب العالم الذي يهيء الوسائل ويقرب المناهل ويوجه المواهب ويسدد الخطى، ومن هاتين الفئتين تستمد الحركة الأدبية عناصرها الحيوية فتقوى لتزدهر وتنمو لتنتشر وتسمو لتخلد.(3/367)
أما الاستعمار فلأنه رأى أن الرابطة بين المسلمين على اختلاف أقطارهم وتباعد ديارهم هي الدين واللغة، وما دامت أمة محمد روحا واحدا بالإسلام، ولسانا واحدا بالعربية، فإن استغلالها موقوت وإن طال، وإن استقلالها آت وإن تأخر، لذلك سعت فرنسا سعيها الدائب في الجزائر لفتنة البربر عن دينهم بإصدار الظهير المعروف، وقطع العرب عن لغتهم بطردها من المدارس والدواوين. ولكن دين الله كان أقوى من ظهير فرنسا، ولغة المصحف كانت أمضى من لغة السيف. واكتفت انجلترا على عادتها من الدهاء والكياسة بمحاربة الفصحى فدعت إلى العامية بلسان موظفيها
ومبشريها ومستشرقيها لأن اللغات العامية تختلف في البلاد العربية اختلافا شديدا يكاد يجعل من كل لهجة منها لغة مستقلة. وإذا انهزمت أمامها اللغة المشتركة وهي الفصحى استحال التفاهم وضعفت العقيدة وانقطعت الصلة وتفرقت الوحدة وتبددت القوة واستطاع المستعمر أن يلتقمها لقمة لقمة فلا يغص ولا يشجى. ولكن هذه الدعوة فشلت بضعف الاستعمار في الشرق، وقوة الوعي في العرب. وأما الجهل وهو الأصل الآخر لمحنة اللغة العربية فقد خلف الاستعمار في هذه الدعوة المجرمة، والمراد بالجهل جهل أبناء العربية بها، وعزوفهم عن علومها وأدبها، وهو جناية المدرسة المدنية الحديثة، فقد فشلت بعد طول الزمن وكثرة التجارب في تخريج القارىء الذي يقرأ بفهم، والكاتب الذي يكتب عن علم، والمفكر الذي يفكر عن أصالة، وليس أدل على هذا الفشل من أن الطالب يتعلم النحو عشر سنين دأبا ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يعبر عن فكره تعبيرا صحيحا لا بلسانه ولا بقلمه، فإذا دفعه استعداده الأدبي إلى الكتابة آثر العامية على الفصحى ودعا إلى التحلل من القواعد والقيود ليجعل الفوضى نظاما والخطأ مذهبا والعجز شركة. كانت علوم العربية تدرس في الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وفيما يجري على منهجه من معاهد لبنان وسورية والعراق والمغرب دراسة عميقة تمكن الطالب المجتهد المستعد من فهم ما يقرأ وفقه ما يعلم وتعليل ما ينقد وتحليل ما يذوق. فإذا اتصل النظر بالعمل واقترن الحكم بالتطبيق وصادف ذلك استعدادا في المتعلم ظهر الكاتب الذي يكتب فيجيد، والشاعر الذي ينظم فيبدع، والناقد الذي يحكم فيصيب، أما إذا فتر الاجتهاد وضعف الاستعداد ظهر الأديب العالم الذي يهيء الوسائل ويقرب المناهل ويوجه المواهب ويسدد الخطى، ومن هاتين الفئتين تستمد الحركة الأدبية عناصرها الحيوية فتقوى لتزدهر وتنمو لتنتشر وتسمو لتخلد.
وكان من خريجي هذا المنهج القديم أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة وجددوا شباب الأدب وأسسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة، ولا
يزال من هذه الطبقة الكريمة فئة قليلة في أقطار العروبة تستبطن لغتها وتتعمق أدبها وتعرف لماذا تكتب الجملة على وضع دون آخر، فإذا خلا المجتمع بعد أجل طويل أو قصير فهل يخلف من بعدهم خلف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟(3/368)
وكان من خريجي هذا المنهج القديم أولئك الأدباء الأصلاء الذين حفظوا تراث اللغة وجددوا شباب الأدب وأسسوا هذه النهضة الأدبية الحديثة، ولا
يزال من هذه الطبقة الكريمة فئة قليلة في أقطار العروبة تستبطن لغتها وتتعمق أدبها وتعرف لماذا تكتب الجملة على وضع دون آخر، فإذا خلا المجتمع بعد أجل طويل أو قصير فهل يخلف من بعدهم خلف يحملون أمانة اللغة ويبلغون رسالة الأدب؟
الجواب عن هذا السؤال عند الأزهر وحده فهو بحكم طبيعته وعلة وجوده معتصم اللغة ومنجاها في الماضي والمستقبل، أما المعاهد الأخرى فكل شيء فيها يبعث على التشاؤم: منهج تطبيقي يكاد يخلو من القواعد، وتعليم سطحي مقتضب لا هدف له إلا اجتياز الامتحان العام بأية وسيلة، فالمطولات تختصر، والمختصرات تختزل، فلا يبقى بعد ذلك في ذاكرة الطالب إلا رموز على معان عائمة غائمة لا هي مستقرة ولا هي واضحة.
ذلكم إلى زهادة في الجدي النافع من ثقافة اللسان والقلم تقعد النشء عن تعمق الأصول وتقصى الفروع، وتقنعهم بالقدر الذي ينقلهم من سنة إلى سنة أو من شهادة إلى شهادة، فإذا ما تخرج الناشىء بهذا الحظ المنكود من اللغة وكان في نفسه ميل إلى الأدب، وفي طبعه استعداد للكتابة، انصرف عن كنوز الأدب العربي، لأن مفاتيحها ليست عنده، وأقبل على روائع الأدب الغربي يحاكيها ويستوحيها حتى إذا امتلأ ذهنه وفاض شعوره وأراد أن ينتج شيئا يفيد الناس وجد في نفسه الملكة التي تخلق وفي حسه الصورة التي تمتع، ولكنه لا يجد في لسانه اللغة التي تعبر، ولا في قلبه الأسلوب الذي يؤثر، فيضيق ويسخط ويثور، ويزعم أن قواعد اللغة غصة لا تساغ، وأن إعراب الكلمة عقبة لا تذلل، ثم يتطرف فيدعو إلى إطلاق الحرية للكاتب فيكتب كما يشاء.
تلك حال المتخرج الأديب بطبعه أما المتخرج العادي فإنه يعود أميا كما بدأ، لا يقرأ إذا قرأ إلا السهل، ولا يطلب هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة، حتى نشأ من إفراط القراء في هذا الطلب، إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ
الذي لا ينفع، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع، ذلكم إلى طغيان الأدب الأوروبي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول النائين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة ففتنتهم عن أدبهم وصرفتهم عن تاريخهم، فالمتفرنسون منهم يعرفون هوجو ولا يعرفون المتنبي، ويدرسون فولتير ولا يدرسون الجاحظ، ويقرءون لا مرتين ولا يقرءون البديع، ومن هنا نشأت هذه التبعية التي فرضها الشباب على أدبنا لأدب الغرب، فأساليبهم الكتابية اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب، ومذاهبهم الأدبية هي مذاهب الأدب في الغرب، ومقاييسهم النقدية هي مقاييس النقد في الغرب، حتى الرمزية وهي بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان المغمغم يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح، وحتى الوجودة وهي بنت الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته من سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل، ولا يتحداها وهو مؤمن.(3/369)
تلك حال المتخرج الأديب بطبعه أما المتخرج العادي فإنه يعود أميا كما بدأ، لا يقرأ إذا قرأ إلا السهل، ولا يطلب هذا السهل إلا في قصة عامية تخدر الشعور، أو في مجلة فكاهية تنبه الشهوة، حتى نشأ من إفراط القراء في هذا الطلب، إفراط الكتاب الخفاف في عرض الأدب اللذيذ
الذي لا ينفع، أو الأدب الماجن الذي لا يرفع، ذلكم إلى طغيان الأدب الأوروبي بمذاهبه ونزعاته وترهاته على عقول النائين الذين ثقفوا هذه الثقافة الأدبية الهشة ففتنتهم عن أدبهم وصرفتهم عن تاريخهم، فالمتفرنسون منهم يعرفون هوجو ولا يعرفون المتنبي، ويدرسون فولتير ولا يدرسون الجاحظ، ويقرءون لا مرتين ولا يقرءون البديع، ومن هنا نشأت هذه التبعية التي فرضها الشباب على أدبنا لأدب الغرب، فأساليبهم الكتابية اليوم هي أساليب الكتابة في الغرب، ومذاهبهم الأدبية هي مذاهب الأدب في الغرب، ومقاييسهم النقدية هي مقاييس النقد في الغرب، حتى الرمزية وهي بنت الأفق الغائم والنفس المعقدة واللسان المغمغم يريدون أن تتبناها العربية بنت الصحراء المكشوفة والشمس المشرقة والطبع الصريح، وحتى الوجودة وهي بنت الخلق المنحل والذوق المنحرف والغريزة الحرة، يحاولون أن تتقبلها العربية لغة الرسالة الإلهية التي كرمت الإنسان وفصلته من سائر الحيوان بحدود من الدين والخلق لا يتعداها وهو عاقل، ولا يتحداها وهو مؤمن.
ليس الأمر في الأدب كالأمر في العلم، الأدب للنفس والعلم للناس، الأدب مواطن والعلم لا وطن له الأدب روح في الجسد ودم في العروق يكون شخصية الفرد فيحيا مستقلا بنفسه، ويبرز شخصية الشعب فيحيا متميزا بأفراده، الأدب جنس ولغة وذوق وبيئة وعقلية وعقيدة وتاريخ وتقاليد. والعلم شيء غير أولئك كله، فإذا جاز طبعا أن نأخذ من غيرنا ما يكمل نقصنا من العلم، فلا يجوز قطعا أن نأخذ من هذا الغير ما يمثل أنفسنا من الأدب.
إن دراسة العربية على النهج الصحيح المنتج بعد المدرسة لا يكلف المتأدبين من الجهد والزمن أكثر مما تكلفهم دراسة الفرنسية والإنجليزية:
ولكنهم في عصر السرعة يطلبون القريب ويتوخون السهل ويتخطفون العلم ويتعجلون الإنتاج، ثم يحقدون على من يلزمونهم التأني ويجشمونهم الدرس ويقولون لهم إن أحدا لا يعرف في تاريخ الآداب القديمة والحديثة
من يعد في لغته كاتبا أو شاعرا أو قصاصا أو مؤلفا، وهو لا يعرف من قواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه، وإذا كان الناس يقرءون الصحيفة أو الكتاب ولا يقعون فيها على الخطأ الذي يفضح المستور ويكشف الغش فالفضل لأولئك الجنود المجهولين من الأزهريين الذين يرابطون ليل نهار في دور الصحافة والنشر ويسمونهم المصححين فإنهم يمرون بأقلامهم الحمر على المعوج فيستقيم، وعلى المعجم فيعرب، وعلى الركيك فيقوى.(3/370)
ولكنهم في عصر السرعة يطلبون القريب ويتوخون السهل ويتخطفون العلم ويتعجلون الإنتاج، ثم يحقدون على من يلزمونهم التأني ويجشمونهم الدرس ويقولون لهم إن أحدا لا يعرف في تاريخ الآداب القديمة والحديثة
من يعد في لغته كاتبا أو شاعرا أو قصاصا أو مؤلفا، وهو لا يعرف من قواعدها الأساسية ما يقيم لسانه وقلمه، وإذا كان الناس يقرءون الصحيفة أو الكتاب ولا يقعون فيها على الخطأ الذي يفضح المستور ويكشف الغش فالفضل لأولئك الجنود المجهولين من الأزهريين الذين يرابطون ليل نهار في دور الصحافة والنشر ويسمونهم المصححين فإنهم يمرون بأقلامهم الحمر على المعوج فيستقيم، وعلى المعجم فيعرب، وعلى الركيك فيقوى.
لا بأس أن ييسر النحو والصرف والبلاغة على الطلاب: ولكن البأس كله في المدى الذي بلغه هذا التيسير، لا بأس أن نخفف على غير المتخصصين من عبء التقديرات والتعليلات التي فلسف بها النحاة النحو، ومن حفظ وجوه الإعراب التي بقيت في اللغة أثرا لاختلاف اللهجات في الجاهلية فهو شت القواعد وجعلت كل خطأ صوابا وكل صواب خطأ، ولكن البأس كله في أن تجرد علوم العربية من خصائص القوة والخصوبة والبراعة لتصبح أشبه بالهيكل العظمي، فيه الخفة والبساطة والشكل، وليس فيه العضل والعصب والروح. إن ما يبقى من هذا المنقوص بعد النسيان، لا تحيا به لغة ولا يبقى عليه أدب، فإذا استطاع يوما أن يجيز امتحانا أو ينيل شهادة فلن يستطيع أبدا أن يخرج أمثال من خرجهم الأزهر بشيوخه وكتبه، كمحمد عبده، وسعد زغلول، والمنفلوطي، والبشري، وطه حسين، ولا أمثال من خرجتهم دار العلوم كشاويش، والمهدي، والخضري والسكندري والجارم ولا أمثال من خرجتهم مدرسة القضاء الشرعي. كأحمد أمين وعزام والخولي. ولا أمثال من خرجتهم دار المعلمين العليا، كالمازني وشكري وأبو حديد. ولا أمثال من خرجتهم كتب الأزهر كالعقاد، والرافعي، وشوقي، وحافظ في مصر. وكالبستانيين واليازجيين والشدياق ومطران والخوري في لبنان. وكالمغربي والشهابي، وجبري، والطنطاوي، في سوريا. وكالرصافي، والزهاوي وكاشف الغطاء، والشبيبي، والأثري في العراق، وكالنشاشيبي والسكاكيني في فلسطين.(3/371)
إني أدعو إلى التوفيق بين الفصحى والعامية، ومذهبي في مجمع اللغة العربية إمداد الفصحى بما تزخر به العامية من ألفاظ الحضارة وتراكيبها التي دخلت في الحياة العامة حتى تضيق مسافة الخلف بين اللهجتين وينتهي بهما الأمر بفضل الصحافة والإذاعة والتعليم إلى لغة واحدة عامة فيها من الفصحى السلامة والجزالة والبلاغة والسمو، وفيها من العامية الدقة والطبيعية والحيوية والتجدد والوضوح. أما أن تكون لغتنا كلغة الهمج لا تقوم على قواعد، ولا تجري على أنظمة، ولا تشعرنا بجمال، ولا تحفزنا لكمال، ولا تربطنا بماض، ولا تصلنا بمستقبل، ولا تجمعنا في وحدة، فذلك مذهب لا يقول به رجل وهو جاد، ودعوة لا يستجيب لها إنسان وهو عاقل.
فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية لأن أساليبها غالبة على السمع، وقواعدها جارية على الطبع، فلا يحتاج تحصيلها إلى كتاب ومعلم ومدرسة، وإنما يحتاج إلى بواب وخادم وشارع وتغلب الأساليب العامية معناه كما قلت فصل الأدب عن الدين وقطع الحاضر عن الماضي وتوهين الصلات بين العرب. وفي يقيني أن أمر العربية لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله: فقه أسرارها كل الفقه، وفهم قواعدها أدق الفهم، وحفظ أدبها أشد الحفظ، وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم، والعلم والخبرة في وضع المنهج، والمنطق والذوق في تأليف الكتاب، والكتاب الأزهري الذي تخرجنا عليه وما زلنا نرجع إليه كنز من المعارف لا يعوزه إلا سهولة مأخوذة وحسن تنسيقه وجمال عرضه، فالفرق بينه وبين الكتاب الحديث في العرض كالفرق بين حانوت من حوانيت العطارة في الغورية، وبيت من بيوت التجارة في قصر النيل، قد يكون في الحانوت القديم ما ليس في المتجر الحديث من السلع التواجر والطرف النوادر ولكن اختفاءها في ركن غير ظاهر، وعرضها في معرض غير لائق، يضعف الإقبال عليها ويقلل الاستفادة منها، فإذا عرضت الكنوز
الأزهرية عرضا جميلا مشوقا في الدروس والمحاضرات والمذكرات والكتب كان ذلك عسيا أن يدنى قطوفها من الطلاب على غير مؤونة ولا كد ذهن.(3/372)
فإذا تركنا الأمور تجري كما تجري انتهت بنا إلى تغلب العامية لأن أساليبها غالبة على السمع، وقواعدها جارية على الطبع، فلا يحتاج تحصيلها إلى كتاب ومعلم ومدرسة، وإنما يحتاج إلى بواب وخادم وشارع وتغلب الأساليب العامية معناه كما قلت فصل الأدب عن الدين وقطع الحاضر عن الماضي وتوهين الصلات بين العرب. وفي يقيني أن أمر العربية لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله: فقه أسرارها كل الفقه، وفهم قواعدها أدق الفهم، وحفظ أدبها أشد الحفظ، وذلك يستلزم الجهد والجد في إعداد المعلم، والعلم والخبرة في وضع المنهج، والمنطق والذوق في تأليف الكتاب، والكتاب الأزهري الذي تخرجنا عليه وما زلنا نرجع إليه كنز من المعارف لا يعوزه إلا سهولة مأخوذة وحسن تنسيقه وجمال عرضه، فالفرق بينه وبين الكتاب الحديث في العرض كالفرق بين حانوت من حوانيت العطارة في الغورية، وبيت من بيوت التجارة في قصر النيل، قد يكون في الحانوت القديم ما ليس في المتجر الحديث من السلع التواجر والطرف النوادر ولكن اختفاءها في ركن غير ظاهر، وعرضها في معرض غير لائق، يضعف الإقبال عليها ويقلل الاستفادة منها، فإذا عرضت الكنوز
الأزهرية عرضا جميلا مشوقا في الدروس والمحاضرات والمذكرات والكتب كان ذلك عسيا أن يدنى قطوفها من الطلاب على غير مؤونة ولا كد ذهن.
إن رسالة الأزهر قائمة كما قلت على ركنين من دين ولغة، ولكن الأمر في تأديته إياها جد مختلف. الدين كامل لأنه من عمل الله، واللغة ناقصة لأنها من عمل الإنسان، والكامل الإلهى لا يتأثر بالمكان ولا بتغير بالزمان ولا يضيق بالحضارة ولا يبرم بالعلم، فهو جديد أبدا، صالح أبدا، ثابت أبدا. أما الناقص فهو عرضة للفساد والجمود والتخلف، وموضع للزيادة والتجديد والتطور، لذلك كان الاجتهاد في اللغة وعلومها أمرا تحتمه الضرورة وتقتضيه الطبيعة لأن اللغة لا يمكن أن تثبت ثبوت الدين، ولا أن تستقل استقلال الحي، فهي ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والأغراض لا تنتهي، والمعاني لا تنفذ، والناس لا يستطيعون أن يظلوا خرسا، وهم يرون الأغراض تتجدد والمعاني تتولد، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان لم يتنبأوا بحدوث هذه الأشياء، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء.
نشأ من إنكار حق الوضع اللغوي على المولدين وحصره فيمن يعتد بعربيتهم من عرب الأمصار حتى آخر المائة الثانية، أو أعراب البوادي حتى آخر المائة الرابعة، أن طغت اللغة العامية طغيانا جارفا حصر اللغة الفصحى في طبقات العلماء والأدباء والشعراء والكتاب يكتبون بها للملوك، ويؤلفون فيها للخاصة، وسيطرت على حياة الأمة في شئونها العامة وأغراضها المختلفة لأن العامية حرة تنبو على القيد، وطبيعية تنفر من الصنعة، فهي تقبل من كل إنسان، وتستمد من كل لغة، وتصوغ على كل قياس. والناس في سبيل التفاهم يؤثرون السهل، ويستعملون الشائع، ويتناولون القريب.
وتخلف اللغة عن مسايرة الزمن وملاءمة الحياة معناه الجمود. والنهاية
المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها، وقد تنبه مجمع اللغة العربية لهذا الخطر فقرر فيما قرر استجابة لاقتراح عرضته، فتح باب الوضع اللغوي للمحدثين بوسائله المعروفة من الاشتقاق والتجوز والارتجال، وإطلاق القياس ليشمل ما قيس من قبل وما لم يقس. وتحرير السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالبنائين والنجارين وغيرهم من أرباب الحرف والصناعات، واعتماد الألفاظ المولدة وتسويتها بالألفاظ القديمة، وعلى هذه المبادىء وغيرها وضع معجمه الوسيط الذي سيظهر قريبا.(3/373)
وتخلف اللغة عن مسايرة الزمن وملاءمة الحياة معناه الجمود. والنهاية
المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها، وقد تنبه مجمع اللغة العربية لهذا الخطر فقرر فيما قرر استجابة لاقتراح عرضته، فتح باب الوضع اللغوي للمحدثين بوسائله المعروفة من الاشتقاق والتجوز والارتجال، وإطلاق القياس ليشمل ما قيس من قبل وما لم يقس. وتحرير السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالبنائين والنجارين وغيرهم من أرباب الحرف والصناعات، واعتماد الألفاظ المولدة وتسويتها بالألفاظ القديمة، وعلى هذه المبادىء وغيرها وضع معجمه الوسيط الذي سيظهر قريبا.
أما الاجتهاد في الدين فقد فتحت أبوابه أول الأمر لمن تجهز بجهازه واعتد له بعدته، حتى إذا زخر الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه مدى عصوره بالآراء المحكمة والوجوه المحيطة، وجد فيه المسلمون جوابا شافيا عن كل سؤال يخطر على الذهن، وحلا جامعا لكل إشكال يعرض في المجتمع، وحكما عادلا في كل قضية ترفع إلى القضاء، فاستغنوا بغزارته وإحاطته عن الاجتهاد فيه، وانصرفوا إلى اجتهاد من نوع آخر هو الاجتهاد في اختيار الرأي المناسب، وترجيح الحكم الموفق. جاء في كتاب الولاة والقضاة للكندي أن قاضيا شافعي المذهب كان بمصر في عصر الإمام الطحاوي وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه يحقق العدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب من المذاهب، وكان مرضي الأحكام لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه ولا في خلقه ولا في حكمه، سأل هذا القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الوقائع فقال الطحاوي: أتسألني عن رأيي أو عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي: ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي ظننتك تحسبني مقلدا فقال القاضي: لا يقلد إلا عصبي أو غبي. هذه الثروة الفقهية الضخمة لم يحجبها عن الناس إلا أسلوب التأليف القديم، واليوم وقد تطورت المدينة وتغيرت العقلية ينبغي أن يطابق التعليم والكتاب مقتضيات العصر. هذه هي المحنة الثالثة التي تعانيها اللغة العربية اليوم.(3/374)
وهي لا تختلف عن سابقتيها إلا في أن موقف الأزهر منها يجب أن يكون إيجابيا: يقابل العمل بالعمل، ويرد الكيد بالكيد، ويقاوم الدعاية بالدعاية، ويقف بالمرصاد لكل من يسول له جهله أو هواه أن يبعث بلغة الإسلام، ويوهن رابطة العرب. والأزهريون الذي حملوا أمانة الله، وبلغوا رسالة نبيه أكثر من عشرة قرون يستطيعون أن يدرءوا خطر هذه الإباحية عن اللغة والدين متى صدقوا الجهاد وذكروا أنهم جند الله يرمي بهم العدو في كل وقت وفي كل أرض وعلى أية صورة، فيعيشون للموت كالجنود، ويعملون للحياة كالقادة، ويعزفون عن الدنيا كالرسل، والله سبحانه وتعالى قد ضمن للعربية بقاء البيان ببقاء القرآن وعلى أيدي أبناء الأزهر المؤمنين برسالته صدق الله وعده، إن الله لهو خير الصادقين؟(3/375)
61926 - الأزهر من بعيد ومن قريب
كتب محمد زكي عبد القادر في يومياته في الأخبار عام 1961 يقول:
الأزهر عزيز عليّ جدا، لا لأنه منارة الإسلام والمسلمين عبر قرون طويلة فحسب، ولكن لأنه اقترن بصباي، فقد كان عمي طالبا في الأزهر وكنت تلميذا بالمدارس الثانوية أقيم معه ويرعى شئوني وأنا وهو مغتربان في القاهرة لطلب العلم وكنت لهذا ألتمسه في فناء الأزهر، وأراه يشهد الدروس، فأجلس معه أستمع فلا أفهم ولكنني أعجب لطول الدرس وطول الأناة ويشوقني أن أرى الشيخ يلقي ما يلقي ويسأل من وقت إلى آخر:
ظاهر ظاهر فيسمع همهمة تقول: ظاهر ياسي الشيخ
وكنت أخشى الأزهر في عبض الامسيات حين أكره وحدتي في مسكني، فيقول عمي: لا عليك هات كتبك واجلس معنا ذاكر دروسك وكنت في سن صغيرة أخشى فيها الوحدة، فأوثر أن أحمل كتبي، وآخذ مقعدي كما كان يفعل طلاب الأزهر حينئذ، جالسين على الحصر الممدودة، ومن فوقهم قناديل بيضاء جميلة، ترسل نورا كليلا، ولكنه كاف لكي أرى وأقرأ من غير صوت ولكي يروا ويقرءوا بصوت،
يجتمع مع الأصوات الأخرى، فإذا الأزهر كله خلية نحل لا تكف عن الهمهمة، بل ما يشبه الضجيج وكان كلاهما يحول بيني وبين أن يأخذني النوم الذي كان يطاردني إذا آثرت أن أبقى في البيت.(3/377)
وكنت أخشى الأزهر في عبض الامسيات حين أكره وحدتي في مسكني، فيقول عمي: لا عليك هات كتبك واجلس معنا ذاكر دروسك وكنت في سن صغيرة أخشى فيها الوحدة، فأوثر أن أحمل كتبي، وآخذ مقعدي كما كان يفعل طلاب الأزهر حينئذ، جالسين على الحصر الممدودة، ومن فوقهم قناديل بيضاء جميلة، ترسل نورا كليلا، ولكنه كاف لكي أرى وأقرأ من غير صوت ولكي يروا ويقرءوا بصوت،
يجتمع مع الأصوات الأخرى، فإذا الأزهر كله خلية نحل لا تكف عن الهمهمة، بل ما يشبه الضجيج وكان كلاهما يحول بيني وبين أن يأخذني النوم الذي كان يطاردني إذا آثرت أن أبقى في البيت.
وفرغت من دراستي الثانوية، والتحقت بكلية الحقوق، وعمي يرعاني، وصلتي بالأزهر لا تنقطع، أغشاه لكي أقرأ وأدرس، وأغشاه لكي أجلس إلى زملاء عمي من طلاب الأزهر، وأنصت أحيانا إلى ما يقرأون فلا أفهم شيئا أيضا على الرغم من أنني حينئذ كنت قد بلغت من الفهم والدرس ما أفضي بي إلى الدراسة الجامعية
ومرت الأيام وتخرجت، وافترقت الحظوظ بيني وبين من عرفت من طلاب الأزهر، ولكن صورة الأزهر ظلت خيالا يلازمني طوال حياتي، وقرأت ما قرأت ووعيت ما وعيت وأدركت من تاريخ الأزهر الكثير، واقترنت القراءة عنه بالصورة التي كابدتها وعرفتها وثبتت في خيالي
وكنت أزوره بين الوقت والآخر، صحيح أن الفترات بين زياراتي كانت متباعدة، ولكنني كنت أزوره لكي تظل صورة هذا المسجد العتيق العريق الأمين حية في خاطري وقد اقترنت في حياتي بمطلع صباي، وقرأت تاريخه منعما متأملا، وقارنت بين مراحل تاريخه والمرحلة التي كان يعيش فيها، فوجدت الفرق الكبير بين الصورتين كان الأزهر فيما مضى ومنذ إنشائه إلى تاريخه الوسيط منارة العلوم الدينية والدنيوية، كان ينبوع المعرفة في الطب والفلك والهندسة والكيمياء والجغرافيا إلى جانب المعرفة في علوم الدين. كان يقدم للوطن والإسلام خلاصة الرجال الذين رفعوا ذكره ورفعوا عنه العدوان كان المنارة التي تشع المعرفة بكل أنواعها في العالم الإسلامي والعالم العربي. ثم شاءت ظروف الحكم والسياسة وقهر الشعب أن ترد الأزهر بعض الشيء عن المشاركة الفعلية في حياة البلاد، فقصرته
على دراسة الدين وفصلته أو كادت عن شئون الدنيا المتطورة من حوله.(3/378)
وكنت أزوره بين الوقت والآخر، صحيح أن الفترات بين زياراتي كانت متباعدة، ولكنني كنت أزوره لكي تظل صورة هذا المسجد العتيق العريق الأمين حية في خاطري وقد اقترنت في حياتي بمطلع صباي، وقرأت تاريخه منعما متأملا، وقارنت بين مراحل تاريخه والمرحلة التي كان يعيش فيها، فوجدت الفرق الكبير بين الصورتين كان الأزهر فيما مضى ومنذ إنشائه إلى تاريخه الوسيط منارة العلوم الدينية والدنيوية، كان ينبوع المعرفة في الطب والفلك والهندسة والكيمياء والجغرافيا إلى جانب المعرفة في علوم الدين. كان يقدم للوطن والإسلام خلاصة الرجال الذين رفعوا ذكره ورفعوا عنه العدوان كان المنارة التي تشع المعرفة بكل أنواعها في العالم الإسلامي والعالم العربي. ثم شاءت ظروف الحكم والسياسة وقهر الشعب أن ترد الأزهر بعض الشيء عن المشاركة الفعلية في حياة البلاد، فقصرته
على دراسة الدين وفصلته أو كادت عن شئون الدنيا المتطورة من حوله.
وليس هذا في شيء من الدين ولا هو في شيء من الإسلام، فالدين لا يفرق بين شئون الدين والدنيا، والإسلام منذ وجد منهج للحياة، ومشاركة خالصة في سعادة الإنسان في الدنيا بحسبانه عضوا في جماعة متطورة لا بد أن يأخذ حظه من العلم والحضارة والتقدم المادي(3/379)
61927 - الأزهر الخالد
تمهيد: الأزهر هو أعرق الجامعات العلمية في العالم، فهو أطولها عمرا وأجلها أثرا في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، بل في تاريخ العلم كله.
والأزهر طوال عصور التاريخ حارس التراث العربي وحامل مشعل الثقافة الدينية، والملاذ الذي تهوي إليه أفئدة المسلمين من كل مكان، والضوء الذي ينير لهم الطريق ويبصرهم سواء السبيل.
وللأزهر مكانة كبرى في مصر والعالم الإسلامي جميعه، وآراؤه فتاوي علمائه تقابل من كل مسلم في العالم الاسلامي بمزيد من التقدير والإجلال والطاعة.
ولم تقم في مصر جامعة علمية بالمعنى الصحيح قبل الأزهر، الذي له تاريخ طويل وذكريات مجيدة وآثار علمية ودينية عديدة.
من تاريخ 61928 الأزهر:
أنشأ الجامع الأزهر جوهر الصقلى قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بعد فتحه مصر بنحو عام، وقد شرع في بنائه يوم السبت لست بقين من
جمادي الأولى سنة 359هـ 970م، ويذكر بعض المؤرخين أنه شرع في بنائه في يوم السبت الرابع من شهر رمضان في العام نفسه. وقد كمل بناؤه لسبع خلون من شهر رمضان سنة 361هـ 22يونيو سنة 972م، وكان الغرض من إنشائه أن يكون رمزا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية ومنبرا للدعوة التي حملتها هذه الدولة الجديدة إلى مصر.(3/381)
أنشأ الجامع الأزهر جوهر الصقلى قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بعد فتحه مصر بنحو عام، وقد شرع في بنائه يوم السبت لست بقين من
جمادي الأولى سنة 359هـ 970م، ويذكر بعض المؤرخين أنه شرع في بنائه في يوم السبت الرابع من شهر رمضان في العام نفسه. وقد كمل بناؤه لسبع خلون من شهر رمضان سنة 361هـ 22يونيو سنة 972م، وكان الغرض من إنشائه أن يكون رمزا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية ومنبرا للدعوة التي حملتها هذه الدولة الجديدة إلى مصر.
وقد أطلق على هذا المسجد اسم الأزهر نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون، أو لأنه كان يحيط به قصور فخمة تسمى بالقصور الزهراء، أو لأنه كان يظن أن هذا الجامع أكثر الجوامع فخامة ورواء، أو للتفاؤل بأنه سيكون أعظم المساجد ضياء ونورا وقد احتفل بافتتاحه في أول جمعة من رمضان عام 361هـ.
وأصبح هذا الجامع مسجد الدولة الرسمي، وقد حرص وزير المعز يعقوب بن كلس على أن يقيم حفلة علمية في الأزهر، حيث كان يقرأ على الناس في مجلس خاص يوم الجمعة مصنفاته في الفقه الفاطمي، كما كان يجتمع يوم الثلاثاء بالفقهاء وجماعة لمتكلمين وأهل الجدل، وحرص الخليفة كذلك على تكليف كبار العلماء بإقامة حلقات علمية في أروقة الأزهر لتدريس الفقه الفاطمي، وكان يمنحهم مرتبات شهرية. ولهذا صار الأزهر جامعة علمية، وظهر ذلك جليا حينما بدأت حلقاته تتحول إلى دراسة جامعية علمية مستقرة. وذلك عام 378هـ 988م حينما استأذن ابن كلس الخليفة العزيز بالله في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس في كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر، وكان عددهم 37فقيها.
وفي عام 380هـ رتب المتصدون لقراءة العلم بالأزهر وبذلك صار الأزهر معهدا جامعيا للعلم والتعليم والدراسة. ومن هذا التاريخ يبدأ الأزهر حياته العلمية الجامعية الصحيحة.
وقد استمرت الحركة العلمية والدينية في الأزهر قوية مزدهرة في عهد
الفاطميين الذين وقفوا عليه الوقوف وأحاطوه بالرعاية، وكان في مقدمة الأساتذة المدرسين في الأزهر بنو النعمان قضاة مصر.(3/382)
وقد استمرت الحركة العلمية والدينية في الأزهر قوية مزدهرة في عهد
الفاطميين الذين وقفوا عليه الوقوف وأحاطوه بالرعاية، وكان في مقدمة الأساتذة المدرسين في الأزهر بنو النعمان قضاة مصر.
ولما قامت الدولة الأيوبية في مصر عام 567هـ. على يدي مؤسسها السلطان صلاح الدين الأيوبي، محا من مصر المذهب الفاطمي وأحل محله المذهب السني، وغالى الأيوبيون في القضاء على كل أثر للشيعة وأفتوا بإبطال إقامة الجمعة في الأزهر، فلبثت معطلة فيه نحو مائة عام، فقضى الأزهر هذه المدة في ركود طويل، وقد ظلت حلقات الدراسة فيه على الرغم من ذلك مستمرة دون أن تحظى هذه الحلقات في ذلك العصر بكثير من رعاية الدولة.
وفي عام 665هـ أعيد افتتاح الأزهر لصلاة الجمعة في عهد بيبرس الذي شجع العلم فيه هو ولأمراء والقواد، ووقفوا عليه الأوقاف الطائلة
واستمر الأزهر يؤدي واجبه الديني والعلمي في عهد المماليك وعهد الدولة العثمانية وعهد النهضة المصرية الحديثة.
وأول شيخ تولى مشيخة الأزهر كما يحدثنا التاريخ هو الشيخ الخرشي المالكي المتوفى عام 1101هـ وتولى بعده الكثير من مشايخ الأزهر حتى بلغوا حتى اليوم 41شيخا آخرهم شيخ الأزهر الحالي الشيخ عبد الرحمن تاج.
وفي عهد محمد علي وأسرته انتقصت أوقاف الأزهر وحقوقه، ولكنه ظل يؤدي واجبه العلمي والديني بنشاط كبير. ومن الأزهر كان طلبة البعوث الذين بعث بهم محمد علي إلى أوروبا وعادوا إلى مصر ينشرون العلم والمعرفة والنهضة في كل مكان، وكانت جل المدارس التي أنشأها محمد علي تأخذ طلبتها من طلبة الأزهر الشريف، ولما أنشئت دار العلوم عام 1871م ومدرسة القضاء الشرعي عام 1907م استمدتا طلبتهما من الأزهر. وكان مدرسو الدين واللغة العربية في جميع مدارس الدولة
ومعاهدها من خريجي الأزهر الشريف. وكذلك كان طلبة مدرسة المعلمين الأولية وأساتذتها.(3/383)
وفي عهد محمد علي وأسرته انتقصت أوقاف الأزهر وحقوقه، ولكنه ظل يؤدي واجبه العلمي والديني بنشاط كبير. ومن الأزهر كان طلبة البعوث الذين بعث بهم محمد علي إلى أوروبا وعادوا إلى مصر ينشرون العلم والمعرفة والنهضة في كل مكان، وكانت جل المدارس التي أنشأها محمد علي تأخذ طلبتها من طلبة الأزهر الشريف، ولما أنشئت دار العلوم عام 1871م ومدرسة القضاء الشرعي عام 1907م استمدتا طلبتهما من الأزهر. وكان مدرسو الدين واللغة العربية في جميع مدارس الدولة
ومعاهدها من خريجي الأزهر الشريف. وكذلك كان طلبة مدرسة المعلمين الأولية وأساتذتها.
وقد قام لأزهر بنشاط كبير، وأسهم بنصيب ضخم من الجهاد الوطني في جميع المواقف القومية الوطنية فهو الذي قاوم الاحتلال الفرنسي لمصر وهو الذي أذكى لهيب الثورة العرابية، وهو الذي غذي ثورة عام 1919، وله في كل موقف وطني جهاد مذكور مشكور.
ومنذ آخر القرن التاسع عشر إلى عصرنا وضعت قوانين منظمة لشئون الأزهر. ومن أشهر هذه القوانين قانون عام 1930م بإصلاح الأزهر الشريف، وآخر هذه القوانين قانون عام 1936م الذي يسير الأزهر عليه اليوم في نظامه الجامعي والعلمي، وفي تقسيمه إلى معاهد وكليات (1).
فضل 61929 الأزهر على العلوم والآداب:
الأزهر بيت العلم العتيق ومثابة الثقافة الإسلامية. حمل لواء المعرفة في مصر وفي الشرق الإسلامي قرونا متصلة وحفظ التراث الإسلامي في الدين واللغة والعلوم ونشره على الآفاق طيلة ألف سنة أو يزيد. وقد تخرج فيه أفواج من العلماء خلال عصور التاريخ ممن انتشروا في بقاع الأرض وحملوا معهم مشاعل المعرفة والثقافة التي تزودوا بها في الأزهر فأضاءوا الأرض علما ونورا ورشادا.
ولا يزال الأزهر حتى اليوم كعبة العلوم والآداب ومعقد آمال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
والأزهر هو الذي حفظ العلوم الإسلامية واللغة العربية من الضياع والاندثار وهو الذي حفظ للأدب العربي، في شتى بلاد العروبة، رونقه
__________
(1) راجع الأزهر في ألف عام 3أجزاء تأليف محمد خفاجي.(3/384)
وبهاءه. وقد تخرج فيه العديد من العلماء والأدباء والكتاب والخطباء والشعراء في كل عصر وكل جيل.
أثر 61930 الأزهر في التوجيه الديني:
والأزهر منذ أنشىء حتى اليوم هو الذي يتولى قيادة الحركة الدينية في العالم الإسلامي، وآراء شيوخه في الحجة القوية التي يقابلها المسلمون في شتى بقاع الأرض بالطاعة والامتثال والقبول. وقد خرج الأزهر الكثير من رجال الدين منذ أنشىء إلى اليوم، وخريجوه هم الذين تولوا قيادة الحركة الدينية في كل مكان من بلاد العالم الإسلامي.
وفي الأزهر هيئة كبار العلماء التي أنشئت بمقتضى قانون عام 1911م. وفيه كذلك لجنة للفتوى عام 1937م. وهاتان الهيئتان لهما أثر كبير في التوجيه الديني في العالم الاسلامي.
ومن أعلام الأزهر وأئمته في التوجيه الديني الإمام محمد عبده (1266هـ 1905م) وله فضل كبير في الإصلاح الديني وفي إصلاح الأزهر.
ومن أعلامه كذلك محمد مصطفى المراغي، ومصطفى عبد الرازق وسواهما، ممن قادوا الحركة الدينية ووجهوها توجيها قويا في العالم الاسلامي كافة.
والأزهر بحق قائد الحركة الدينية في العالم الإسلامي قاطبة.
مكانة 61931 الأزهر في العالم الإسلامي:
ولقد ورث الأزهر الحديث ميراثا روحيا وثقافيا ضخما جليلا عن الأزهر القديم، ورث عنه الرسالة الدينية التي قام منذ أن أنشىء لحمل أمانتها، والتي أخذها بكلتا يديه ليؤديها إلى العالم شعلة مضيئة هادية، ومثلا إنسانيا
رفيعا، ومذهبا فكريا قادرا على قيادة الحياة والبشرية جميعا إلى السلام والإخاء والأمن والرفاهية.(3/385)